البحر المحيط في التفسير

أبو حيّان الأندلسي

مقدمة الناشر

[الجزء الاول] مقدمة الناشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد النبي الأمي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سلكوا وساروا على منهاجهم إلى يوم الدين. وبعد.. فقد رسمت دار الفكر لها منذ انطلاقتها في عالم الحرف والكتاب معالم منهج علمي في نشر وطبع كتاب التراث الذي تزخر به وبمخطوطاته كبريات المكتبات في العالم وتفخر كل مكتبة بما لديها من هذه المخطوطات التي تكتنز في طياتها تراث أمة وحضارة شعوب ومبادئ نظام متطور أودعت فيه من العقائد والعبادات والأحكام والمعاملات والتشريعات الحقوقية والعلاقات الدولية والنظرة العلمية إلى الكون والحياة والإنسان وبناء المجتمعات البشرية ما أثرى الإنسانية على مر العصور والأيام، وهو الملاذ الأخير لها في نهاية المطاف. وكان هدفنا إحياء كتاب التراث وإيصاله إلى كل طالب افتقده وإلى كل دارس وعالم تهفو إليه نفسه لاقتنائه، وذلك بالشكل والمضمون الذي أراده له مؤلفه. وكان سبيلنا إلى ذلك المحافظة على نص الكتاب من الأخطاء، بعيدا عن التحريف وسهو النساخ والمصححين وليكون الكتاب خاليا من الأخطاء المطبعية نجتهد في إعمال يراع التصحيح والتنقيح فيه، وبذلك يكون بين أيدينا نصا صحيحا معافى من العيوب كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ نقدمه للطالب للاستفادة منه وللعالم ليعمل فيه فكره شرحا وتعليقا واستنباطا لفوائد ومعاني ربما تكون قد فاتت مؤلفه الأول. وهذا هو مفهومنا في التحقيق، هذه الكلمة التي فقدت معناها وأصبحت في كثير من الأحيان رمزا دعائيا يوظفها تاجر الكتاب لترويج كتابه حتى صارت كلمة تحقيق، ومحقق، وطبعة محققة، وحققه وقرأه فلان ... ألفاظا خاوية بلا حقيقة.

فإذا صحح أحدهم تجربة مطبعة صار منقحا وإذا نقح كتابا صار محققا وإذا عزا بعض الآيات في النص سمي شارحا وإذا كتب شروح وهوامش عن كتب أخرى جمع الصفات كلها فهو محقق وموثق ومعلق وشارح ... إلخ ونسأل الله العفو والعافية. بعد هذا، يسرنا أن نقدم للقارىء العزيز كتاب البحر المحيط في التفسير مجردا مصححا ومنقحا مع إدخال الآيات القرآنية من المصحف وعزو الآيات المستدل بها في الشرح كما وضعه مؤلفه ابي حيان رحمه الله. وذلك بعد أن ساءت الطبعات السابقة وبليت حروفها ومسحت سطورها وأصبحت مانعة من الفائدة المرجوة من هذا التفسير النفيس. وصاحب البحر المحيط هو: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن يُوسُفُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَيَّان الْأَنْدَلُسِيُّ الْجَيَّانِيُّ الغرناطي، الإمام الكبير في العربية والبلاغة والتفسير. ولد سنة 654 ستمائة وأربع وخمسون، ونشأ في غرناطة الأندلس، ويحدثنا هو عن نفسه فيقول: ... مِنْ لَدُنْ مَيَّزْتُ أَتَّلْمَذُ للعلماء وانحاز للفقهاء وأرغب في مجالستهم، أسلك طريقهم وأتبع فريقهم ... وما زال يتنقل بين العلماء ويقتبس من أنوارهم ويقطف من أزهارهم، ويلتقط من نثارهم، يتوسد أبواب العلماء مؤثرا الْعِلْمَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ والولد، ويرتحل مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حتى القت به بمصر عصا التسيار. قرأ كتب النحو واللغة ودواوين مشاهير العرب فأخذ معرفة الأحكام للكلم العربية عن أبي جعفر إبراهيم الثقفي من كتاب سيبويه وغيره. وأخذ علم البيان والبديع عن تصانيف كثيرة أجمعها كتاب أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ سليمان النقيب، وعن أبي الْحَسَنِ حَازِمُ بْنُ مُحَمَّدِ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْقَرْطَاجَنِّيُّ، مُقِيمُ تونس. وأخذ أيضا هذا الفن عن استاذه أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وسمع وروى الكتب الأمهات في الحديث والسنن وسمع من علم الكلام مسائل عَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الأصفهاني. أما القراءات وهو الإمام فيها، فقد تلاها إفرادا وجمعا على مشايخ الأندلس، فقرأ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ بِجَزِيرَةِ الأندلس، وقرأ الثمان بثغر الاسكندرية، وقرأ القرآن ثانية بالقراءات السبعة بمصر، وألف في القراءات كتابة عقد اللآلئ على وزن الشاطبية وقافيتها. ومشايخه كثير حتى قال: إن عدة من أخذ عنه أربعمائة وخمسون عالما، ومنهم الوجيه الدهان والقطب القسطلاني وابن الأنماطي، ولازم ابن النحاس.

منهج التفسير:

وأما من أجاز له فكثير جدا، قال الصفدي: لم أره قط إلا يسمع ويشتغل أو يكتب أو ينظر في كتاب ولم أره غير ذلك. وكان كثير النظم، والإمام المطلق في النحو والتصريف وله اليد الطولى في التفسير والحديث وتراجم الناس ومعرفة طبقاتهم خصوصا المغاربة. وله التصانيف التي سارت في الآفاق واشتهرت في حياته، وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة وصار تلاميذه أئمة وأشياخا في حياته، وهو الذي رغب الناس إلى قراءة كتب مالك وشرح لهم غامضها وألزم نفسه أن لا يقرىء أحدا إلا كتب سيبويه أو في كِتَابُ تَسْهِيلِ الْفَوَائِدِ لِأَبِي مَالِكٍ الْجَيَّانِيِّ الطَّائِيِّ مُقِيمِ دمشق. أما مصنفاته فكثيرة في النحو والصرف واللغة والفقه والاعراب والقراءات وتاج مصنفاته البحر المحيط في التفسير. يقول رحمه الله: ما زَال يَخْتَلِجُ فِي ذِكْرِي، ويعتلج في فكري أنه إذ أبلغ الْعِقْدُ الَّذِي يَحُلُّ عُرَى الشباب ألوذ بجنان الرَّحْمَنِ وَأَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ في تفسير القرآن ... وقد سهل له ذلك العمل الجليل بانتصابه مُدَرِّسًا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ فِي قُبَّةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ المنصور ... وكان عمره سبع وخمسين في آخر سنة عشر وسبعمائة وعند ما عكف على تصنيف كتابه: البحر المحيط الذي نقدم له. منهج التفسير: لقد اختار عالمنا الجليل اسما لتفسيره هو: البحر المحيط، فكان لفظا ومعنى ومضمونا، فالبحر معروف، وهو أيضا الرجل الكريم الجواد، والجواد الواسع الجري، وبحر الأرض أي شقها فكأنما غاص إلى أعمق المعاني في تفسيره، وأما المحيط فهو البحر المحدق، فقد أحاط بالعلوم التي تمكنه من الغوص في بحار حكم كلام الله القرآن الكريم ومن ثمّ ليحيط بكتاب العزيز العليم فهو العروة الوثقى والحبل المتين. قال: فَعَكَفْتُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَانْتِخَابِ الصَّفْوِ وَاللُّبَابِ، أُجِيلُ الْفِكْر فِيمَا وَضَع الناس في تصانيفهم، وأمعن النَّظَر فِيمَا اقْتَرَحُوهُ مِنْ تَآلِيفِهِمْ، فَأُلَخِّصُ مُطَوَّلَهَا وَأَحُلُّ مُشْكِلَهَا، وَأُقَيِّدُ مُطْلَقَهَا، وَأَفْتَحُ مغلقها، واجمع مبدّدها ... وَأُضِيفُ إِلَى ذَلِك مَا استخرجته مِنْ لَطَائِفِ عِلْمِ الْبَيَانِ الْمُطْلِعِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، العروة الوثقى والحبل المتين والصراط المستقيم. وقد حدد لنا منهجه في التفسير، فقال:

عمل دار الفكر

1- أَنِّي أَبْتَدِئُ أَوَّلًا بِالْكَلَامِ عن مفردات الآية التي أفسر لَفْظَةً لَفْظَةً فِيمَا يُحْتَاجُ فيه إلى اللُّغَةِ وَالْأَحْكَامِ النَّحْوِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ قَبْلَ التَّرْكِيبِ ... فإذا كَانَ لِلْكَلِمَةِ مَعْنَيَانِ أَوْ معان ذكر ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَوْضِعٍ من تِلْكَ الْكَلِمَةُ، لِيُنْظَرَ مَا يُنَاسِبُ لَهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تقع فيه فتحمل عليه، ويحيل ما يذكره من القواعد النحوية على كتب النحو. 2- ثم يشرع فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذَاكِرًا سَبَبَ نُزُولِهَا إِذَا كَانَ لها سبب، ونسخها ومناسباتها وارتباطها بما قبلها. 3- ولا يبخل عليها بما فيها من قراءات فيحشد منها شاذها ومستعملها، ويذكر أَقَاوِيلَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي فهم معانيها. 4- وهو العالم في العربية وخبير الاعراب، فيشرح بيان مَا فِيهَا مِنْ غَوَامِضِ الاعراب، ودقائق الآداب من بديع وبيان، محيلا في أكثر الأحيان عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُكُلِّمَ فيه عن تِلْكَ اللَّفْظَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ أو الآية مبتعدا فِي الْإِعْرَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا، مبينا أنه يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى أَحْسَنِ إِعْرَابٍ وَأَحْسَنِ تَرْكِيبٍ، فكلام اللَّهِ تَعَالَى أَفْصَحُ الْكَلَامِ. 5- وينقل أَقَاوِيلَ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ في الأحكام الشرعية بما فيه تعلقه باللفظ القرآني، محيلا كل ذلك على الدلائل في كتب الفقه. وهكذا لم يترك شاردة ولا واردة إلا بيّنها جلية واضحة ومن الصعب الإحاطة بخصائص هذا التفسير العظيم في هذه السطور المتواضعة غير أننا سنترك للقارىء العزيز أن يكتشف بنفسه خلال دراسته ومطالعته عجائب هذا التفسير وغرائبه ومصنفه العالم البحر أبي حيان رحمه الله. عمل دار الفكر كان اعتمادنا في إخراج هذه الطبعة للكتاب على النسخة الوحيدة المطبوعة له منذ ما يقارب المائة عام، وقد توخينا في إخراجنا لهذا التفسير البحر بثوبه الجديد، كما قدمنا، أن نضعه امام العالم والدارس والطالب صحيحا سليما سهل التناول، وقد رعينا من أجل ذلك ما يلي: 1- إدخال الآيات المفسرة من المصحف دفعا لأي خطأ في التصحيح أو التباس في النسخ، ومن ناحية ثانية يكون أمام القارئ مصحف كامل مع تفسير شامل. 2- راعينا قواعد التبويب وذلك بتحديد الفقرات والمقاطع والبدايات المناسبة لموضوع الآية أو لموضوع مجموعة الآيات المفسرة في السورة الواحدة مع التنسيق الكامل بينها وبين الشرح.

3- ولكي نبلغ الغاية التي ننشدها التزمنا قواعد التنقيح من وضع فواصل ونقاط وإشارات.. إلخ وذلك بعد قراءة النص بكل تمعن وإتقان. 4- عزونا الآيات القرآنية المستدل بها في الشرح. 5- أثبتنا القرآن في الشرح بالرسم الإملائي في معظم الأحيان وهو جائز لأنه خارج المصحف. 6- أشرنا إلى الأحاديث النبوية التي يستشهد بها الشارح خلال تفسيره وجعلناها بحرف مميز بين هلالين صغيرين. 7- وضعنا فهرس تفصيلي للموضوعات يساعد القارئ على الوصول إلى مبتغاه بيسر وسهولة، كما وضعنا في رأس كل صفحة (ترويسة) عنوان ينبئ القارئ عن الآية التي يتناولها الشارح في تلك الصفحة. 8- صنعنا فهارس شاملة للكتاب تضمنت هذه الفهارس: أ- فهرس للآيات القرآنية المستشهد بها. ب- فهرس للأحاديث النبوية: القولية والفعلية والتقريرية والأوامر والنواهي النبوية التي استشهد بها الشارح في تفسيره. ج- فهرس الأعلام. د- فهرس الأماكن والمعالم الجغرافية. هـ- فهرس القبائل والشعوب والمذاهب والأديان والفرق. وفهرس الشعر والرجز والأمثال التي يذكرها الشارح ليستدل بها في معنى لفظ أو إعراب كلمة ... وهكذا نكون قد وفينا ما وعدنا القارئ به في مطلع هذه المقدمة وهو تسهيل الفائدة من هذا التفسير القيم بإخراجه الجديد راجين من الله الثواب وحسن الجزاء ومن إخواننا المؤازرة بالإغضاء وحسن الدعاء. بيروت يوم الأحد: 27 شعبان 1412 هـ 1 آذار 1992 م. وكتبه الراجي عفو ربه صدقي محمد جميل غفر الله له الناشر

خطبة الكتاب

[خطبة الكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، الْبَحْرُ الْفَهَّامَةُ، الْمُحَقِّقُ الْمُدَقِّقُ، حُجَّةُ الْبُلَغَاءِ، وَقُدْوَةُ النُّحَاةِ وَالْأُدَبَاءِ، الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن يُوسُف بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَيَّان الْأَنْدَلُسِيُّ الْجَيَّانِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمْتَع بِعُلُومِهِ الْمُسْلِمِين آمِين. الْحَمْدُ لِلَّهِ، مبدىء صُوَرِ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي مَرَايَا الْعُقُولِ، وَمُبْرِزِهَا مِنْ مَحَالِّ الْأَفْكَارِ إِلَى مَحَالِّ الْمَقُولِ، وَحَارِسِهَا بِالْقُوَّتَيْنِ الذَّاكِرَةِ لِلْمَنْقُولِ، وَالْمُفَكِّرَةِ لِلْمَعْقُولِ، وَمُفِيضِ الْخَيْرِ عَلَيْهَا مِنْ نَتِيجَةِ مُقَدِّمَاتِ الْوُجُودِ، السَّائِرِ رُوحُ قُدُسِهِ فِي بُطُونِ التَّهَائِمِ وَظُهُورِ النُّجُودِ، الْمُبَرِّزِ فِي الِاتِّصَالَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ على كل موجود، مُحَمَّدٍ ذِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، الْمُبْتَعَثِ بِالْحَقِّ الْأَبْهَجِ لِلْأَنَامِ دَاعِيًا، وَبِالطَّرِيقِ الْأَنْهَجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُنَادِيًا، الصَّادِعِ بِالْحَقِّ، الْهَادِي لِلْخَلْقِ، الْمَخْصُوصِ بِالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالْكِتَابِ الْمُسْتَبِينِ، الَّذِي هُو أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَكْبَرُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، السَّائِرَةِ فِي الْآفَاقِ، الْبَاقِي بَقَاء الْأَطْوَاقِ فِي الْأَعْنَاقِ، الْجَدِيدُ عَلَى تَقَادُمِ الْأَعْصَارِ، اللَّذِيذُ عَلَى تَوَالِي التَّكْرَارِ، الْبَاسِقُ فِي الْإِعْجَازِ إِلَى الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، الْجَالِي بِأَنْوَارِهِ ظُلَم الْإِلْحَادِ، الْحَالِي بِجَوَاهِرِ مَعَانِيهِ طَلَى الْأَجْيَادِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ أُنْزِل عَلَيْهِ، وَأَهْدَى أَرَج تَحِيَّةٍ وَأَزْكَاهَا إِلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْمُخْتَصِّين بِالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَرَضِي اللَّهُ عَنْ صَحْبِهِ الَّذِين نَقَلُوا عَنْهُ كِتَاب اللَّهِ أَدَاءً وَعَرْضًا، وَتَلَقَّوْهُ مِنْ فِيهِ جَنِيًّا وَغَضًّا، وَأَدَّوْهُ إِلَيْنَا صَرِيحًا مَحْضًا. وَبَعْدُ، فَإِنّ الْمَعَارِف جَمَّةٌ، وَهِي كُلُّهَا مُهِمَّةٌ، وَأَهَمُّهَا مَا بِهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَالسَّعَادَةُ السَّرْمَدِيَّةُ، وَذَلِك عِلْمُ كِتَابِ اللَّهِ هُو الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَغَيْرُهُ مِن الْعُلُومِ لَهُ كَالْأَدَوَاتِ، هُو

الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَالْوَزَرُ الْأَقْوَى الْأَوْقَى، وَالْحَبْلُ الْمَتِينُ، وَالصِّرَاطُ الْمُبِينُ، وَمَا زَال يَخْتَلِجُ فِي ذِكْرِي، وَيَعْتَلِجُ فِي فِكْرِي، أَنِّي إِذَا بَلَغْتُ الْأَمَد الَّذِي يَتَغَضَّدُ فِيهِ الْأَدِيمُ، وَيَتَنَغَّصُ بِرُؤْيَتِي النَّدِيمُ، وَهُو الْعِقْدُ الَّذِي يَحُلُّ عُرَى الشَّبَابِ، الْمَقُولُ فِيهِ إِذَا بَلَغ الرَّجُلُ السِّتِّين، فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابّ، أَلُوذُ بِجَنَابِ الرَّحْمَنِ، وَأَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَأَتَاح اللَّهُ لِي ذَلِك قَبْل بُلُوغِ ذَلِك الْعِقْدِ، وَبَلَّغَنِي مَا كُنْتُ أَرُومُ مِنْ ذَلِك الْقَصْدِ، وَذَلِك بِانْتِصَابِي مُدَرِّسًا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ فِي قُبَّةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، قَدَّس اللَّهُ مَرْقَدَهُ، وَبَلّ بِمُزْنِ الرَّحْمَةِ مَعْهَدَهُ، وَذَلِك فِي دَوْلَةِ وَلَدِهِ السُّلْطَانِ الْقَاهِرِ، الْمَلِكِ النَّاصِرِ، الَّذِي رَدّ اللَّهُ بِهِ الْحَقّ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَسْبَغ عَلَى الْعَالَمِ وَارِف ظِلِّهِ، وَاسْتَنْقَذ بِهِ الْمُلْك مِنْ غُصَّابِهِ، وَأَقَرَّهُ فِي مُنِيفِ مَحَلِّهِ وَشَرِيفِ نِصَابِهِ، وَكَان ذَلِك فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَهِي أَوَائِلُ سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِين مِنْ عُمُرِي، فَعَكَفْتُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ، وَانْتِخَابِ الصَّفْوِ وَاللُّبَابِ، أُجِيلُ الْفِكْر فِيمَا وَضَع النَّاسُ فِي تَصَانِيفِهِمْ، وَأُنْعِمُ النَّظَر فِيمَا اقْتَرَحُوهُ مِنْ تَآلِيفِهِمْ، فَأُلَخِّصُ مُطَوَّلَهَا، وَأَحُلُّ مُشْكِلَهَا، وَأُقَيِّدُ مُطْلَقَهَا، وَأَفْتَحُ مُغْلَقَهَا، وَأَجْمَعُ مُبَدَّدَهَا، وَأُخْلِصُ مَنْقَدَهَا، وَأُضِيفُ إِلَى ذَلِك مَا اسْتَخْرَجَتْهُ الْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ مِنْ لَطَائِفِ عِلْمِ الْبَيَانِ، الْمُطْلِعِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ دَقَائِقِ عِلْمِ الْإِعْرَابِ، الْمُغْرِبِ فِي الْوُجُودِ أَيّ إِغْرَابٍ، الْمُقْتَنِصِ فِي الْأَعْمَارِ الطَّوِيلَةِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَبَيَانِ الْأَدَبِ، فَكَمْ حَوَى مِنْ لَطِيفَةٍ فِكْرِي مُسْتَخْرِجُهَا، وَمِنْ غَرِيبَةٍ ذِهْنِي مُنْتِجُهَا، تَحَصَّلَتْ بِالْعُكُوفِ عَلَى عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالنَّظَرِ فِي التَّرَاكِيبِ النَّحْوِيَّةِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَسَالِيبِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَالتَّقَلُّبِ فِي أَفَانِينِ الْخُطَبِ وَالشِّعْرِ، لَمْ يَهْتَدِ إِلَى إِثَارَتِهَا ذِهْنٌ، وَلَا صَاب بِرِيقِهَا مُزْنٌ، وَأَنَّى ذَلِك وَهِي أَزَاهِرُ خَمَائِل غُفْلٍ، وَمَنَاظِرُ مَا لِمُسْتَغْلَقِ أَبْوَابِهَا مِنْ قُفْلٍ. فِي إِدْرَاكِ مِثْلِهَا تَتَفَاوَتُ الْأَفْهَامُ، وَتَتَبَارَى الْأَوْهَامُ، وَلَيْس الْعِلْمُ عَلَى زَمَانٍ مَقْصُورًا، وَلَا فِي أَهْلِ زَمَانٍ مَحْصُورًا، بَلْ جَعَلَهُ اللَّهُ حَيْثُ شَاء مِن الْبِلَادِ، وَبَثَّهُ فِي التَّهَائِمِ وَالنِّجَادِ، وَأَبْرَزَهُ أَنْوَارًا تُتَوَسَّمُ، وَأَزْهَارًا تُتَنَسَّمُ، وَمَا زَال بِأُفُقِنَا الْمَغْرِبِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ، عَلَى بُعْدِهِ مِنْ مَهْبِطِ الْوَحْيِ النَّبَوِيِّ، عُلَمَاءُ بِالْعُلُومِ الإسلامية وغيرها. وَفُهَمَاءُ تَلَامِيذُ لَهُمْ دُرَاةٌ نَقَلَةٌ، يُرْوَوْن فَيَرْوُون وَيُسْقَوْن فَيَرْتَوُونَ، وَيُنْشَدُونَ فَيُنْشِدُونَ، وَيُهْدَوْنَ فَيَهْدُونَ، هَذَا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مَدَارِكِ الْعُلُومِ، وَتَبَايَنُوا فِي الْمَفْهُومِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَزِيَّةٌ لَا يُجْهَلُ قَدْرُهَا، وَفَضِيلَةٌ لَا يُسَرُّ بَدْرُهَا.

وَمِمَّا بَرَعُوا فِيهِ عِلْمُ الْكِتَابِ، انْفَرَدُوا بِإِقْرَائِهِ مُذْ أَعْصَارٍ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْآدَابِ، أَثَارُوا كُنُوزَهُ، وَفَكُّوا رُمُوزَهُ، وَقَرَّبُوا قَاصِيَهُ، وَرَاضُوا عَاصِيَهُ، وَفَتَحُوا مُقْفَلَهُ، وَأَوْضَحُوا مُشْكِلَهُ، وَأَنْهَجُوا شِعَابَهُ، وَذَلَّلُوا صِعَابَهُ، وَأَبْدَوْا مَعَانِيَهُ في صورة التَّمْثِيلِ، وَأَبْدَعُوهُ بِالتَّرْكِيبِ وَالتَّحْلِيلِ. فَالْكِتَابُ هُوَ الْمِرْقَاةُ إِلَى فَهْمِ الْكِتَابِ، إِذْ هُوَ الْمُطْلِعُ عَلَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ، وَالْمُبْدِي مِنْ مَعَالِمِهِ مَا دَرَسَ، وَالْمُنْطِقُ مِنْ لِسَانِهِ مَا خَرُسَ، وَالْمُحْيِي مِنْ رُفَاتِهِ مَا رَمَسَ، وَالرَّادُّ مِنْ نَظَائِرِهِ مَا طُمِسَ. فَجَدِيرٌ لِمَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَتَرَقَّتْ إِلَى التَّحْقِيقِ فِيهِ وَالتَّحْرِيرِ، أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْفَنِّ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَنَدُ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ إِلَيْهِ. وَلَمْ أَلْقَ فِي هَذَا الْفَنِّ مَنْ يُقَارِبُ أَهْلَ قُطْرِنَا الْأَنْدَلُسِيِّ فَضْلًا عَنِ المماثلة، ولا من يناضلهم فَيُدَانِي فِي الْمُنَاضَلَةِ، وَمَا زِلْتُ مِنْ لَدُنْ مَيَّزْتُ أَتَّلْمَذُ لِلْعُلَمَاءِ، وَأَنْحَازُ لِلْفُهَمَاءِ، وَأَرْغَبُ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَأُنَافِسُ فِي نَفَائِسِهِمْ، وَأَسْلُكُ طَرِيقَهُمْ، وَأَتْبَعُ فَرِيقَهُمْ، فَلَا أَنْتَقِلُ إِلَّا مِنْ إِمَامٍ إِلَى إِمَامٍ، وَلَا أَتَوَقَّلُ إِلَّا ذِرْوَةَ عَلَّامٍ. فَكَمْ صَدْرٍ أَوْدَعْتُ عِلْمَهُ صَدْرِي، وَحَبْرٍ أَفْنَيْتُ فِي فَوَائِدِهِ حِبْرِي، وَإِمَامٍ أَكْثَرْتُ بِهِ الْإِلْمَامَ، وَعَلَّامٍ أَطَلْتُ مَعَهُ الِاسْتِعْلَامَ، أُشَنِّفُ الْمَسَامِعَ بِمَا تَحْسُدُ عَلَيْهِ الْعُيُونُ، وَأُذَيِّلُ فِي تَطْلَابِ ذَلِكَ الْمَالِ الْمَصُونِ، وَأَرْتَعُ فِي رِيَاضٍ وَارِفَةِ الظِّلَالِ، وَأَكْرَعُ فِي حِيَاضٍ صَافِيَةِ السَّلْسَالِ، وَأَقْتَبِسُ بِهَا مِنْ أَنْوَارِهِمْ، وَأَقْتَطِفُ مِنْ أَزْهَارِهِمْ، وَأَبْتَلِجُ مِنْ صَفَحَاتِهِمْ، وَأَتَأَرَّجُ مِنْ نَفَحَاتِهِمْ، وَأَلْقُطُ مِنْ نُثَارِهِمْ، وَأَضْبُطُ مِنْ فُضَالَةِ إِيثَارِهِمْ، وَأُقَيِّدُ مِنْ شَوَارِدِهِمْ، وَأَنْتَقِي مِنْ فَرَائِدِهِمْ. فَجَعَلْتُ الْعِلْمَ بِالنَّهَارِ سَحِيرِي، وَبِاللَّيْلِ سَمِيرِي، زَمَانَ غَيْرِي يَقْصُرُ سَارِيَهُ عَلَى الصِّبَا، وَيَهُبُّ لِلَّهْوِ وَلَا كَهُبُوبِ الصَّبَا، وَيَرْفُلُ فِي مَطَارِفِ اللَّهْوِ، وَيَتَقَمَّصُ أَرْدِيَةَ الزَّهْوِ، وَيُؤْثِرُ مَسَرَّاتِ الْأَشْبَاحِ، عَلَى لَذَّاتِ الْأَرْوَاحِ، وَيَقْطَعُ نَفَائِسَ الْأَوْقَاتِ، فِي خَسَائِسِ الشَّهَوَاتِ، مِنْ مَطْعَمٍ شَهِيٍّ، وَمَشْرَبٍ رَوِيٍّ، وَمَلْبَسٍ بَهِيٍّ، وَمَرْكَبٍ خَطِيٍّ، وَمَفْرَشٍ وَطِيٍّ، وَمَنْصِبٍ سَنِيٍّ، وَأَنَا أَتَوَسَّدُ أَبْوَابَ الْعُلَمَاءِ، وَأَتَقَصَّدُ أَمَاثِلَ الْفُهَمَاءِ، وأسهر فِي حَنَادِسِ الظَّلَامِ، وَأَصْبِرُ عَلَى شَظَفِ الْأَيَّامِ، وَأُوثِرُ الْعِلْمَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَأَرْتَحِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى أَلْقَيْتُ بِمِصْرَ عَصَا التَّسْيَارِ، وَقُلْتُ مَا بَعْدَ عَبَّادَانَ مِنْ دَارٍ، هَذِهِ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَبِهَا طَوَالِعُ شُمُوسِهَا وَغَوَارِبُهَا، بَيْضَةُ الْإِسْلَامِ، وَمُسْتَقَرُّ الْأَعْلَامِ، فَأَقَمْتُ بِهَا لِمَعْرِفَةٍ أُبْدِيهَا، وَعَارِفَةِ عِلْمٍ أُسْدِيهَا، وَثَأْيٍ أَرَأَبُهُ، وَفَاضِلٍ أَصْحَبُهُ، وَبِهَا صَنَّفْتُ تَصَانِيفِي، وَأَلَّفْتُ تَآلِيفِي، وَمِنْ بَرَكَاتِهَا عَلَيَّ تَصْنِيفِي لِهَذَا الْكِتَابِ، الْمُقَرِّبِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، الْمَرْجُوِّ أَنْ يَكُونَ نُورًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيَّ، وَسِتْرًا مِنَ النار يضفو عليّ. فما لْمَخْلُوقٍ بِتَأْلِيفِهِ قَصَدْتُ، وَلَا غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ بِهِ

أَرَدْتُ. جَعَلْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَالتَّدْبِيرَ لِمَعَانِيهِ أَنِيسِي، إِذْ هُوَ أَفْضَلُ مُؤَانِسٍ، وَسَمِيرِي إِذَا أَخْلُو لِكُتُبٍ ظُلَمِ الْحَنَادِسِ: نِعْمَ السَّمِيرُ كِتَابُ اللَّهِ إِنَّ لَهُ ... حَلَاوَةً هِيَ أَحْلَى مِنْ جَنَى الضَّرَبِ بِهِ فُنُونُ الْمَعَانِي قَدْ جُمِعْنَ فَمَا ... يُفْتَنُ مِنْ عَجَبٍ إِلَّا إِلَى عَجَبِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَأَمْثَالٌ وَمَوْعِظَةٌ ... وَحِكْمَةٌ أُودِعَتْ فِي أَفْصَحِ الْكُتُبِ لَطَائِفٌ يَجْتَلِيهَا كُلُّ ذِي بَصَرٍ ... وَرَوْضَةٌ يَجْتَنِيهَا كُلُّ ذِي أَدَبِ وَتَرْتِيبِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، أني أبتدىء أَوَّلًا بِالْكَلَامِ عَلَى مُفْرَدَاتِ الْآيَةِ الَّتِي أُفَسِّرُهَا، لَفْظَةً لَفْظَةً، فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ اللُّغَةِ وَالْأَحْكَامِ النَّحْوِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ قَبْلَ التَّرْكِيبِ. وَإِذَا كَانَ لِلْكَلِمَةِ مَعْنَيَانِ أَوْ مَعَانٍ، ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَوْضِعٍ فِيهِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، لِيُنْظَرَ مَا يُنَاسِبُ لَهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَقَعُ فِيهِ، فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، ذَاكِرًا سَبَبَ نُزُولِهَا، إِذَا كَانَ لَهَا سبب، ونسخها وَمُنَاسَبَتَهَا وَارْتِبَاطَهَا بِمَا قَبْلَهَا، حَاشِدًا فِيهَا الْقِرَاءَاتِ، شَاذَّهَا وَمُسْتَعْمَلَهَا، ذَاكِرًا تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، نَاقِلًا أَقَاوِيلَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي فَهْمِ مَعَانِيهَا، مُتَكَلِّمًا عَلَى جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، بِحَيْثُ إِنِّي لَا أُغَادِرُ مِنْهَا كَلِمَةً، وَإِنِ اشْتُهِرَتْ، حَتَّى أَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا، مُبْدِيًا مَا فِيهَا مِنْ غَوَامِضِ الْإِعْرَابِ وَدَقَائِقِ الآداب مِنْ بَدِيعٍ وَبَيَانٍ، مُجْتَهِدًا أَنِّي لَا أُكَرِّرُ الْكَلَامَ فِي لَفْظٍ سَبَقَ، وَلَا فِي جُمْلَةٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَلَا فِي آيَةٍ فُسِّرَتْ، بَلْ أَذْكُرُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا الْحِوَالَةَ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُكُلِّمَ فِيهِ عَلَى تِلْكَ اللَّفْظَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ أَوِ الْآيَةِ، وَإِنْ عَرَضَ تَكْرِيرٌ فَبِمَزِيدِ فَائِدَةٍ، نَاقِلًا أَقَاوِيلَ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا فِيهِ تَعَلُّقٌ بِاللَّفْظِ الْقُرْآنِيِّ، مُحِيلًا عَلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ مَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ النَّحْوِيَّةِ أُحِيلُ فِي تَقَرُّرِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا عَلَى كُتُبِ النَّحْوِ، وَرُبَّمَا أَذْكُرُ الدَّلِيلَ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ غَرِيبًا، أَوْ خِلَافَ مَشْهُورِ مَا قَالَ مُعْظَمُ النَّاسِ، بَادِئًا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ من حجا لَهُ لِذَلِكَ مَا لَمْ يَصُدَّ عَنِ الظَّاهِرِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِهِ عَنْهُ، مُنْكَبًّا فِي الْإِعْرَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا، مُبَيِّنًا أَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحْسَنِ إِعْرَابٍ وَأَحْسَنِ تَرْكِيبٍ، إِذْ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَفْصَحُ الْكَلَامِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يُجَوِّزُهُ النُّحَاةُ فِي شِعْرِ الشَّمَّاخِ وَالطِّرِمَّاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سُلُوكِ التَّقَادِيرِ الْبَعِيدَةِ وَالتَّرَاكِيبِ الْقَلِقَةِ وَالْمَجَازَاتِ الْمُعَقَّدَةِ. ثُمَّ أَخْتَتِمُ الْكَلَامَ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فَسَّرْتُهَا إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا بِمَا ذَكَرُوا فِيهَا مِنْ

عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، مُلَخِّصًا، ثُمَّ أُتْبِعُ آخِرَ الْآيَاتِ بِكَلَامٍ مَنْثُورٍ أَشْرَحُ بِهِ مَضْمُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ عَلَى مَا أَخْتَارُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، مُلَخِّصًا جُمَلَهَا فِي أَحْسَنِ تَلْخِيصٍ، وَقَدْ يَنْجَرُّ مَعَهَا ذِكْرُ مُعَانٍ لَمْ تَتَقَدَّمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَصَارَ ذَلِكَ أَنَمُوذَجًا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْلُكَ ذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ سَائِرِ الْقُرْآنِ. وَسَتَقِفُ عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ الَّذِي سَلَكْتُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرُبَّمَا أَلْمَمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ مِمَّا فِيهِ بَعْضُ مُنَاسَبَةٍ لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَتَجَنَّبْتُ كَثِيرًا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَمَعَانِيهِمُ الَّتِي يُحَمِّلُونَهَا الْأَلْفَاظَ، وَتَرَكْتُ أَقْوَالَ الْمُلْحِدِينَ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُخْرِجِينَ الْأَلْفَاظَ الْقَرِيبَةَ عَنْ مَدْلُولَاتِهَا فِي اللُّغَةِ إِلَى هَذَيَانٍ افْتَرَوْهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ، وَيُسَمُّونَهُ عِلْمَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى تفسير لبعض رؤوسهم، وَهُوَ تَفْسِيرٌ عَجِيبٌ يَذْكُرُ فِيهِ أَقَاوِيلَ السَّلَفِ مُزْدَرِيًا عَلَيْهِمْ وَذَاكِرًا أَنَّهُ مَا جَهِلَ مَقَالَاتِهِمْ، ثُمَّ يُفَسِّرُ هُوَ الْآيَةَ عَلَى شَيْءٍ لَا يَكَادُ يَخْطُرُ فِي ذِهْنِ عَاقِلٍ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ رَدَّ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَقَاوِيلَهُمْ وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ فِي عُقُولِنَا وَأَدْيَانِنَا وَأَبْدَانِنَا، وَكَثِيرًا مَا يَشْحَنُ الْمُفَسِّرُونَ تَفَاسِيرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ، بِعِلَلِ النَّحْوِ وَدَلَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَدَلَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَكُلُّ هَذَا مُقَرَّرٌ فِي تَآلِيفِ هَذِهِ العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مُسَلَّمًا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ دُونَ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا ذَكَرُوا مَا لَا يَصِحُّ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولٍ وَأَحَادِيثَ فِي الْفَضَائِلِ وَحِكَايَاتٍ لَا تُنَاسِبُ وَتَوَارِيخَ إِسْرَائِيلِيَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي ذِكْرُ هَذَا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ. وَمَنْ أَحَاطَ بِمَعْرِفَةِ مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ وَأَحْكَامِهَا قَبْلَ التَّرْكِيبِ، وَعَلِمَ كَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِهَا فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، وَارْتَقَى إِلَى تَمْيِيزِ حُسْنِ تَرْكِيبِهَا وَقُبْحِهِ، فَلَنْ يَحْتَاجَ فِي فَهْمِ مَا تَرَكَّبَ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إِلَى مُفَهِّمٍ وَلَا مُعَلِّمٍ، وَإِنَّمَا تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي إِدْرَاكِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ أَفْهَامُهُمْ وَتَبَايَنَتْ أقوالهم. وقد جرينا الْكَلَامَ يَوْمًا مَعَ بَعْضٍ مَنْ عَاصَرْنَا، فَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مُضْطَرٌّ إِلَى النَّقْلِ فِي فَهْمِ مَعَانِي تَرَاكِيبِهِ بِالْإِسْنَادِ إِلَى مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَضْرَابِهِمْ، وَأَنَّ فَهْمَ الْآيَاتِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ لَهُ أَنَّهُ يَرَى أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ كَثِيرَةَ الِاخْتِلَافِ، مُتَبَايِنَةَ الْأَوْصَافِ، مُتَعَارِضَةً، يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْمُعَاصِرُ أَنَّهُ لَوْ تَعَلَّمَ أَحَدُنَا مَثَلًا لُغَةَ التُّرْكِ إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا حَتَّى صَارَ يَتَكَلَّمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا نَثْرًا وَنَظْمًا، وَيَعْرِضُ مَا تَعَلَّمَهُ عَلَى كَلَامِهِمْ فَيَجِدُهُ مُطَابِقًا لِلُغَتِهِمْ قَدْ شَارَكَ فِيهَا فُصَحَاءَهُمْ، ثُمَّ جَاءَهُ كِتَابٌ بِلِسَانِ التُّرْكِ فَيُحْجِمُ عَنْ تَدَبُّرِهِ وَعَنْ فَهْمِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعَانِي حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ ذلك سنقرا التركي

أو سنجرا، تَرَى مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَكَانَ هَذَا الْمُعَاصِرُ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ نَقَلَ فِيهَا التَّفْسِيرَ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ بِالسَّنَدِ إِلَى أَنْ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَى الصَّحَابَةِ، وَمِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِيرِهَا هَذَا، وَهُمُ الْعَرَبُ الْفُصَحَاءُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الصحيفة أو فهما يُؤْتَاهُ الرَّجُلُ فِي كِتَابِهِ. وَقَوْلُ هَذَا الْمُعَاصِرِ يُخَالِفُ قَوْلَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْمُعَاصِرِ يَكُونُ مَا اسْتَخْرَجَهُ النَّاسُ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِنْ عُلُومِ التَّفْسِيرِ وَمَعَانِيهِ وَدَقَائِقِهِ، وَإِظْهَارِ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا حَتَّى يُنْقَلَ بِالسَّنَدِ إِلَى مُجَاهِدٍ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ. وَإِذْ قَدْ جُرَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا، فَلْنَذْكُرْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرِ مِنَ الْعُلُومِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَنُنَبِّهُ عَلَى أَحْسَنِ الْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي فِي تِلْكَ الْعُلُومِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِيهِ فَنَقُولُ: النَّظَرُ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ- عِلْمُ اللُّغَةِ اسْمًا وَفِعْلًا وحرفا: الحروف لِقِلَّتِهَا تَكَلَّمَ عَلَى مَعَانِيهَا النُّحَاةُ، فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ، وَأَكْثَرُ الْمَوْضُوعَاتِ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ كِتَابُ ابْنِ سِيدَهْ، فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي مِائَةِ سِفْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِالْفَلَكِ وَخَتَمَ بِالذَّرَّةِ. وَمِنَ الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ فِيهِ: كِتَابُ الْأَزْهَرِيِّ، وَالْمُوعَبُ لِابْنِ التَّيَّانِيِّ، وَالْمُحْكَمُ لِابْنِ سِيدَهْ، وَكِتَابُ الْجَامِعِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ التَّمِيمِيِّ الْقَيْرَوَانِيِّ، عُرِفَ بِالْقَزَّازِ، وَالصِّحَاحُ لِلْجَوْهَرِيِّ، وَالْبَارِعُ لِأَبِي عَلِيٍّ التالي، وَمَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ لِلصَّاغَانِيِّ. وَقَدْ حَفِظْتُ فِي صِغَرِي فِي عِلْمِ اللُّغَةِ كِتَابَ الْفَصِيحِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الشَّيْبَانِيِّ، وَاللُّغَاتِ الْمُحْتَوِي عَلَيْهَا دَوَاوِينُ مَشَاهِيرِ الْعَرَبِ السِّتَّةِ: امْرِئِ الْقَيْسِ، وَالنَّابِغَةِ، وَعَلْقَمَةَ، وَزُهَيْرٍ، وَطَرَفَةَ، وَعَنْتَرَةَ، وَدِيوَانُ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ لِحِفْظِي عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ لِهَذِهِ الدَّوَاوِينِ. وَحَفِظْتُ كَثِيرًا مِنَ اللُّغَاتِ الْمُحْتَوِي عَلَيْهَا نَحْوُ الثُّلُثِ مِنْ كِتَابِ الْحَمَاسَةِ وَاللُّغَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَصَائِدُ مُخْتَارَةٌ مِنْ شِعْرِ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ لِحِفْظِي ذَلِكَ. وَمِنَ الْمَوْضُوعَاتِ فِي الْأَفْعَالِ: كِتَابُ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ، وَكِتَابُ ابن طريف، وكتاب السرقنطي الْمَنْبُوزِ «1» بِالْحِمَارِ. وَمِنْ أَجْمَعِهَا: كِتَابُ ابْنِ الْقَطَّاعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي- مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لِلْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا وَمِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهَا: وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَحْسَنُ مَوْضُوعٍ فِيهِ وَأَجَلُّهُ كِتَابُ أَبِي بِشْرٍ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ

_ (1) المنبوز: المسمّى على وجه السخرية. وفي التنزيل العزيز: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.

قَنْبَرٍ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَحْسَنُ مَا وَضَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُخْتَصَرَاتِ وَأَجْمَعُهُ لِلْأَحْكَامِ كِتَابُ تَسْهِيلِ الْفَوَائِدِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْجَيَّانِيِّ الطَّائِيِّ، مُقِيمِ دِمَشْقَ. وَأَحْسَنُ مَا وُضِعَ فِي التَّصْرِيفِ كِتَابُ الممنع لِأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُؤْمِنِ بْنِ عُصْفُورٍ الْحَضْرَمِيِّ الشُّبَيْلِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَخَذْتُ هَذَا الْفَنَّ عَنْ أُسْتَاذِنَا الْأَوْحَدِ الْعَلَّامَةِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن الزبير الثقفي فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ- كَونِ اللَّفْظِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَحْسَنَ وَأَفْصَحَ: وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفَ كَثِيرَةً، وَأَجْمَعُهَا مَا جَمَعَهُ شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الصَّالِحُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن سُلَيْمَانَ النَّقِيبُ، وَذَلِكَ فِي مُجَلَّدَيْنِ قَدَّمَهُمَا أَمَامَ كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمَا وَضَعَهُ شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْحَافِظُ الْمُتَبَحِّرُ أَبُو الْحَسَنِ حَازِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْقَرْطَاجَنِّيُّ، مُقِيمُ تُونِسَ، الْمُسَمَّى مِنْهَاجُ الْبُلَغَاءِ وَسِرَاجُ الْأُدَبَاءِ. وَقَدْ أَخَذْتُ جُمْلَةً مِنْ هَذَا الْفَنِّ عَنْ أُسْتَاذِنَا أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ- تَعْيِينُ مُبْهَمٍ، وَتَبْيِينُ مُجْمَلٍ، وَسَبَبُ نُزُولٍ وَنَسْخٍ: وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْكُتُبُ وَالْأُمَّهَاتُ الَّتِي سَمِعْنَاهَا وَرَوَيْنَاهَا ذَلِكَ، كَالصَّحِيحَيْنِ، وَالْجَامِعِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَسُنَنِ الشَّافِعِيِّ، وَمَسْنَدِ الدَّارِمِيِّ، وَمُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ، وَمُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَسُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ، وَالْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ لَهُ، وَمُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ- مَعْرِفَةُ الْإِجْمَالِ، وَالتَّبْيِينِ، وَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ، وَالْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدِ، وَدَلَالَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا: وَيَخْتَصُّ أَكْثَرُ هَذَا الْوَجْهِ بِجُزْءِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُؤْخَذُ هُنَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمُعْظَمِهِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِعِلْمِ اللُّغَةِ، إِذْ هُوَ شَيْءٌ يُتَكَلَّمُ فِيهِ عَلَى أَوْضَاعِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ اللُّغَوِيِّينَ أَوِ النَّحْوِيِّينَ وَمَزَجُوهُ بِأَشْيَاءَ مِنْ حُجَجِ الْعُقُولِ. وَمِنْ أَجْمَعَ مَا فِي هَذَا الْفَنِّ في كِتَابُ الْمَحْصُولِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عمر الرَّازِيِّ. وَقَدْ بَحَثْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ فِي كِتَابِ الْإِشَارَةِ لِأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ عَلَى الشَّيْخِ الْأُصُولِيِّ الْأَدِيبِ أَبِي الْحَسَنِ فَضْلِ بْنِ إبراهيم العافري، الْإِمَامِ بِجَامِعِ غَرْنَاطَةَ، وَالْخَطِيبِ بِهِ، وَعَلَى الْأُسْتَاذِ الْعَلَّامَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي كِتَابِ الْإِشَارَةِ، وَفِي شَرْحِهَا لَهُ، وَذَلِك بِالْأَنْدَلُسِ. وَبَحَثْتُ أَيْضًا فِي هَذَا الْفَنِّ عَلَى الشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ علي بن عمر الأنصاري، المعروف بابن بنت العراقي، فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي اخْتَصَرَهُ مِنْ كِتَابِ الْمَحْصُولِ،

وَعَلَى الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيُّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَطَّابٍ الْبَاجِيِّ، فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي اخْتَصَرَهُ مِنْ كِتَابِ الْمَحْصُولِ، وَعَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، صَاحِبِ شَرْحِ الْمَحْصُولِ، بَحَثْتُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْقَوَاعِدِ، مِنْ تَأْلِيفِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْوَجْهُ السَّادِسُ- الْكَلَامُ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَجِبُ لَهُ، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرُ فِي النُّبُوَّةِ: وَيَخْتَصُّ هَذَا الْوَجْهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ النَّظَرَ فِي الْبَارِي تَعَالَى، وَفِي الْأَنْبِيَاءِ، وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَيُؤْخَذُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَدْ صَنَّفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ فِي هَذَا كُتُبًا كَثِيرَةً، وَهُوَ عِلْمٌ صَعْبٌ، إِذِ الْمَزَلَّةُ فِيهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، مُفْضٍ إِلَى الْخُسْرَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْهُ مَسَائِلَ تُبْحَثُ عَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ- اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، أَوْ تَغْيِيرِ حَرَكَةٍ، أَوْ إِتْيَانٍ بِلَفْظٍ بَدَلَ لَفْظٍ، وَذَلِكَ بِتَوَاتُرٍ وَآحَادٍ: وَيُؤْخَذُ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ. وَقَدْ صَنَّفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ كُتُبًا لَا تَكَادُ تُحْصَى، وَأَحْسَنُ الْمَوْضُوعَاتِ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ كِتَابُ الْإِقْنَاعِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَاذِشِ، وَفِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرَةِ كِتَابُ الْمِصْبَاحِ لِأَبِي الْكَرَمِ الشَّهْرَزُورِيِّ. وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ، بِجَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، عَلَى الْخَطِيبِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرُّعَيْنِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ الطَّبَّاعِ، بِغَرْنَاطَةَ، وَعَلَى الْخَطِيبِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ الْوَادِي تِشِبْتِي، بِمِطِحْشَارِشَ، مِنْ حَضْرَةِ غَرْنَاطَةَ، وَعَلَى غَيْرِهِمَا بِالْأَنْدَلُسِ. وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ الثَّمَانِ، بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، عَلَى الشَّيْخِ الصَّالِحِ رَشِيدِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ النَّصِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْهَمْدَانِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ الْمَرْبُوطِيِّ. وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، بِمِصْرَ، حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى، عَلَى الشَّيْخِ الْمُسْنِدِ الْعَدْلِ فَخْرِ الدِّينِ أَبِي الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَلِيجِيِّ، وَأَنْشَأْتُ فِي هَذَا العلم كتاب عقد اللآلي، قَصِيدًا فِي عَرُوضِ قَصِيدِ الشَّاطِبِيِّ، وَرَوِيِّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفِ بَيْتٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَيْتًا، صَرَّحْتُ فِيهَا بِأَسَامِي الْقُرَّاءِ مِنْ غَيْرِ رَمْزٍ وَلَا لُغْزٍ وَلَا حُوشِيِّ لُغَةٍ، وَأَنْشَأْتُهُ مِنْ كُتُبٍ تِسْعَةٍ، كَمَا قُلْتُ: تَنَظَّمَ هَذَا الْعِقْدُ مِنْ دُرِّ تِسْعَةٍ ... مِنَ الْكُتْبِ فَالتَّيْسِيرُ عُنْوَانُهُ انْجَلَا بِكَافٍ لِتَجْرِيدٍ وَهَادٍ لِتَبْصِرَهْ ... وَإِقْنَاعِ تَلْخِيصَيْنِ أَضْحَى مُكَمَّلَا جَنَيْتُ لَهُ إِنْسِيَّ لَفْظِ لَطِيفَهُ ... وَجَانَبْتُ وَحْشِيًّا كَثِيفًا مُعَقَّلَا

فَهَذِهِ سَبْعَةُ وُجُوهٍ، لَا ينبغي أن يُقْدِمُ عَلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِجُمْلَةِ غَالِبِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَرْتَقِي مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ ذِرْوَتَهُ، وَلَا يَمْتَطِي مِنْهُ صَهْوَتَهُ، إِلَّا مَنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي عِلْمِ اللِّسَانِ، مُتَرَقِّيًا مِنْهُ إِلَى رُتْبَةِ الْإِحْسَانِ، قَدْ جُبِلَ طَبْعُهُ عَلَى إِنْشَاءِ النَّثْرِ وَالنَّظْمِ دُونَ اكْتِسَابٍ، وَإِبْدَاءِ مَا اخْتَرَعَتْهُ فِكْرَتُهُ السَّلِيمَةُ فِي أَبْدَعِ صُورَةٍ وَأَجْمَلِ جِلْبَابٍ، وَاسْتَفْرَغَ فِي ذَلِكَ زَمَانَهُ النَّفِيسَ، وَهَجَرَ الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ وَالْأَنِيسَ، ذَلِكَ الَّذِي لَهُ فِي رِيَاضِهِ أَصْفَى مَرْتَعٍ، وَفِي حِيَاضِهِ أَصْفَى مَكْرَعٍ، يَتَنَسَّمُ عُرْفَ أَزَاهِرَ طال ما حجبتها الكمام، ويترشف كؤوس رَحِيقٍ لَهُ الْمِسْكُ خِتَامٌ، وَيَسْتَوْضِحُ أَنْوَارَ بُدُورٍ سَتَرَتْهَا كَثَائِفُ الْغَمَامِ، وَيَسْتَفْتِحُ أَبْوَابَ مَوَاهِبِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، يُدْرِكُ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ بِالْوِجْدَانِ لَا بِالتَّقْلِيدِ، وَيَنْفَتِحُ لَهُ مَا اسْتَغْلَقَ إِذْ بِيَدِهِ الْإِقْلِيدُ. وَأَمَّا مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا مِنَ الْعُلُومِ، أَوْ قَصَّرَ فِي إِنْشَاءِ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ، فَإِنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ فَهْمِ غَوَامِضِ الْكِتَابِ، وَعَنْ إِدْرَاكِ لِطَائِفِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ، وَحَظُّهُ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ إِنَّمَا هُوَ نَقْلُ أَسْطَارٍ، وَتَكْرَارُ مَحْفُوظٍ عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، وَلِتَبَايُنِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي إِدْرَاكِ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ، وما به تكون الرّجاجة فِي النِّظَامِ، اخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ، فَمَنْ تَوَغَّلَ فِي أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ وَأَفَانِينِهَا، وَتَوَقَّلَ فِي مَعَارِفِ الْآدَابِ وَقَوَانِينِهَا، أَدْرَكَ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا، وَنِهَايَةٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَامَ عَلَيْهَا، فَمُعَارَضَتُهُ عِنْدَهُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لِلْبَشَرِ، وَلَا دَاخِلَةٍ تَحْتَ الْقَدَرِ. وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ هَذَا الْمُدْرَكَ، وَلَا سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ، رَأَى أَنَّهُ مِنْ نَمَطِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ مِثْلَهُ مَقْدُورٌ لِمُنْشِئِ الْخُطَبِ. فَإِعْجَازُهُ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ بِصَرْفِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَمُنَاضَلَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مُمَاثَلَتِهِ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِالصَّرْفِ، هُمْ مِنْ نُقْصَانِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي رُتْبَةِ بَعْضِ النِّسَاءِ حِينَ رَأَتْ زَوْجَهَا يطؤ جَارِيَةً فَعَاتَبَتْهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاقْرَأْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْشَدَهَا بَيْتَ شِعْرٍ قَالَهُ، ذَكَرَ اللَّهَ فِيهِ وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ، فَصَدَّقَتْهُ، فَلَمْ تُرْزَقْ مِنَ الرِّزْقِ مَا تُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ كَلَامِ الْخَلْقِ وَكَلَامِ الْحَقِّ. وَحَكَى لَنَا أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْعُلُومِ الْقَدِيمَةِ، وَمَعْرِفَةٌ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، لَا أُدْرِكُ فَرْقًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ. فَهَذَا الرَّجُلُ وَأَمْثَالُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ مِنَ الطَّائِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِالصِّرْفَةِ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا مِمَّنْ لَهُ تَحَقُّقٌ

بِالْمَعْقُولِ، وَتَصَرُّفٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْقُولِ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فَقَرَأَ فَصِيحَةً، أَتَى لِبَعْضِ تَلَامِذَتِهِ وَكَلَّفَهُ أَنْ يُنْشِئَهَا لَهُ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، مِمَّنْ لَهُ التَّبَحُّرُ فِي عِلْمِ لُغَةِ الْعَرَبِ، إِذَا أَسْقَطَ مِنْ بَيْتِ الشِّعْرِ كَلِمَةً أَوْ رُبْعَ الْبَيْتِ، وَكَانَ الْمُعَيَّنُ بِدُونِ مَا أَسْقَطَ لَا يُدْرَكُ مَا أَسْقَطَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَيْنَ هَذَا فِي الْإِدْرَاكِ مِنْ آخَرَ إِذَا حَرَّكْتَ لَهُ مُسَكَّنًا أَوْ سَكَّنْتَ لَهُ مُحَرَّكًا فِي بَيْتٍ أَدْرَكَ ذَلِكَ بِالطَّبْعِ وَقَالَ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ مَكْسُورٌ، وَيُدْرَكُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ، إِذَا كَانَ فِيهِ زِحَافٌ مَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لَكِنْ يَجِدُ مِثْلَ هَذَا طَبْعُهُ يَنْبُو عَنْهُ وَيَقْلَقُ لِسَمَاعِهِ. هَذَا، وإن كان لا يفهم مَعْنَى الْبَيْتِ، لِكَوْنِهِ حُوشِيَّ اللُّغَاتِ أَوْ مُنْطَوِيًا عَلَى حُوشِيٍّ. فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَوَاهِبِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا تُؤْخَذُ بِاكْتِسَابٍ، لَكِنَّ الِاكْتِسَابَ يُقَوِّيهَا، وَلَيْسَ الْعَرَبُ مُتَسَاوِينَ فِي الْفَصَاحَةِ، وَلَا فِي إِدْرَاكِ الْمَعَانِي، وَلَا فِي نَظْمِ الشِّعْرِ، بَلْ فِيهِ مَنْ يَكْسِرُ الْوَزْنَ، وَمَنْ لَا يَنْظِمُ وَلَا بَيْتًا وَاحِدًا، وَمَنْ هُوَ مُقِلٌّ مِنَ النَّظْمِ، وَطِبَاعُهُمْ كَطِبَاعِ سَائِرِ الْأُمَمِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى فَحَوْلِ شُعَرَائِهِمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْفَصَاحَةِ، وَيُنَقِّحُ الشَّاعِرُ مِنْهُمُ الْقَصِيدَةَ حَوْلًا حَتَّى يُسَمَّى قَصَايِدَ الْحَوْلِيَّاتِ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ لِلْوَقْتِ، فَوُفِّقَ وَأَسْلَمَ، وَآخَرُ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ فَكَفَرَ، وَلَجَّ فِي عِنَادِهِ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَنَسَبَهُ تَارَةً إِلَى الشِّعْرِ وَتَارَةً إِلَى الْكَهَانَةِ وَالسِّحْرِ، وَآخَرُ لَمْ يُدْرِكْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، كَتِلْكَ الْمَرْأَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، وَكَحَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ. فَمَنْ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ، فَوُفِّقَ وَأَسْلَمَ بِأَوَّلِ سَمَاعٍ سَمِعَهُ، أَبُو ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مِنْ أَوَائِلِ فُصِّلَتْ آيَاتٍ فَأَسْلَمَ لِلْوَقْتِ، وَخَبَرُهُ فِي إِسْلَامِهِ مَشْهُورٌ. وَمِمَّنْ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ وَكَفَرَ عِنَادًا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الْكُفَّارِ، حَتَّى كَانَ يَتَوَهَّمُ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ أَنَّهُ هُوَ، يَعْنِي عُتْبَةَ يَكُونُ النَّبِيَّ الْمُنْبَعَثَ فِي قُرَيْشٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَسَدَهُ عُتْبَةُ وَأَضْرَابُهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُعْجِزٌ. وَكَذَلِكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي مَخْزُومٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ آنِفًا كَلَامًا مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّهُ يَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَمَعَ هَذَا الِاعْتِرَافِ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَسَدُ وَالْأَشَرُ، حَتَّى قَالَ، مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. وَمِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ إِعْجَازَهُ، أَوْ أَدْرَكَ وَعَانَدَ وَعَارَضَ، مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، أَتَى بِكَلِمَاتٍ زَعَمَ أَنَّهَا أُوحِيَتْ إِلَيْهِ، انْتَهَتْ فِي الْفَهَاهَةِ وَالْعِيِّ وَالْغَثَاثَةِ، بِحَيْثُ صَارَتْ هُزْأَةً لِلسَّامِعِ،

وكذلك أبو الطيب المتنبئ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ، فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، شَيْئًا مِنْ كَلَامِ أَبِي الطَّيِّبِ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ. وَذَكَرَ لَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ وَهْبٍ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَاتَّبَعَهُ نَاسٌ مِنْ عَبْسٍ وَكَلْبٍ، وَأَنَّهُ اخْتَلَقَ شَيْئًا ادَّعَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ سُوَرًا سَمَّاهَا الْعِبَرَ، وَأَنَّ شِعْرَهُ لَا يُنَاسِبُهَا لِجَوْدَةِ أَكْثَرِهِ وَرَدَاءَتِهَا كُلِّهَا، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْكَلَامِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ أَذْهَانَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْإِدْرَاكِ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعْطَى كُلَّ أَحَدٍ. وَلِنُبَيِّنَ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ لَيْسَ مُتَوَقِّفًا عَلَى عِلْمِ النَّحْوِ فَقَطْ، كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ هُمْ بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلِذَلِكَ قَلَّتْ تَصَانِيفُهُمْ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَقَلَّ أَنْ تَرَى نَحْوِيًّا بَارِعًا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، كَمَا قَلَّ أَنْ تَرَى بَارِعًا فِي الْفَصَاحَةِ يَتَوَغَّلُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ رَأَيْنَا مَنْ يُنْسَبُ لِلْإِمَامَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَنْطِقَ بِأَبْيَاتٍ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفَ مَدْلُولَهَا، أَوْ يَتَكَلَّمَ عَلَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ. فَأَنَّى لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَعَاطَى عِلْمَ التَّفْسِيرِ؟. وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ مَا نَصُّهُ: إِنَّ إملاء الْعُلُومِ بِمَا يَغْمُرُ الْقَرَائِحَ، وَأَنْهَضَهَا بِمَا يُبْهِرُ الْأَلْبَابَ الْقَوَارِحَ، مِنْ غَرَائِبِ نُكَتٍ يَلْطُفُ مَسْلَكُهَا، وَمُسْتَوْدَعَاتِ أَسْرَارٍ يدق سلكها. عِلْمُ التَّفْسِيرِ الَّذِي لَا يَتِمُّ لِتَعَاطِيهِ، وَإِجَالَةِ النَّظَرِ فِيهِ، كُلُّ ذِي عِلْمٍ، كَمَا ذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ نَظْمِ الْقُرْآنِ، فَالْفَقِيهُ، وَإِنْ بَرَّزَ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي عِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ، وَالْمُتَكَلِّمُ، وَإِنْ بَزَّ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي صِنَاعَةِ الْكَلَامِ، وَحَافِظُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ مِنِ ابْنِ الْقِرِّيَّةِ أَحْفَظَ، وَالْوَاعِظُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَوْعَظَ، وَالنَّحْوِيُّ، وَإِنْ كَانَ أَنْحَى مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَاللُّغَوِيُّ، وَإِنْ عَلَكَ اللُّغَاتِ بِقُوَّةِ لَحْيَيْهِ، لَا يَتَصَدَّى مِنْهُمْ أَحَدٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ الطَّرَائِقِ، وَلَا يَغُوصُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، إِلَّا رَجُلٌ قَدْ بَرَعَ فِي عِلْمَيْنِ مُخْتَصَّيْنِ بِالْقُرْآنِ، وَهُمَا الْمَعَانِي وَعِلْمُ الْبَيَانِ، وَتَمَهَّلَ فِي ارْتِيَادِهِمَا آوِنَةً، وَتَعِبَ فِي التَّنْقِيرِ عَنْهُمَا أَزْمِنَةً، وَبَعَثَتْهُ عَلَى تَتَبُّعِ مَظَانِّهِمَا هِمَّةٌ فِي مَعْرِفَةِ لَطَائِفِ حُجَّةِ اللَّهِ، وَحَرِصَ عَلَى اسْتِيضَاحِ مُعْجِزَةِ رَسُولِ اللَّهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ آخِذًا مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ بِحَظٍّ، جَامِعًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ تَحْقِيقٍ وَحِفْظٍ، كَثِيرَ الْمُطَالَعَاتِ، طَوِيلَ الْمُرَاجَعَاتِ، قَدْ رَجَعَ زَمَانًا وَرُجِعَ إِلَيْهِ، وَرَدَّ وَرُدَّ عَلَيْهِ، فَارِسًا فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، مُقَدَّمًا فِي جُمْلَةِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَرْسِلَ الطَّبِيعَةِ مُنْقَادَهَا، مُشْتَعِلَ الْقَرِيحَةِ وقادها، يقظان النفس درا كاللمحجة وَإِنْ لَطُفَ شَأْنُهَا، مُنْتَبِهًا عَلَى الرَّمْزَةِ وَإِنْ خَفِيَ مَكَانُهَا، لَا كَزًّا جَاسِيًا، وَلَا غَلِيظًا جَافِيًا، مُتَصَرِّفًا ذَا

دُرْبَةٍ بِأَسَالِيبِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، مُرْتَاضًا غَيْرَ رَيِّضٍ بِتَلْقِيحِ نَبَاتِ الْفِكْرِ، قَدْ عَلِمَ كَيْفَ يُرَتِّبُ الْكَلَامَ وَيُؤَلِّفُ، وَكَيْفَ يَنْظِمُ وَيَرْصُفُ، طَالَمَا دُفِعَ إِلَى مَضَايِقِهِ، وَوَقَعَ فِي مَدَاحِضِهِ وَمَزَالِقِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي وَصْفِ مُتَعَاطِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا الْكَلَامَ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ التَّرْصِيفِ الَّذِي يُبْهِرُ بِجِنْسِهِ الْأُدَبَاءَ، وَيَقْهَرُ بِفَصَاحَتِهِ الْبُلَغَاءَ، وَهُوَ شَاهِدٌ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ لِلنَّظَرِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَاسْتِخْرَاجِ لَطَائِفِ الْفُرْقَانِ. وَهَذَا أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الْمَشْرِقِيُّ الْخَوَارِزْمِيُّ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو محمد عبد الحق بن غَالِبِ بْنِ عَطِيَّةَ الْأَنْدَلُسِيُّ الْمَغْرِبِيُّ الْغَرْنَاطِيُّ، أَجَلُّ مَنْ صنف في علم التفسير، وَأَفْضَلُ مَنْ تَعَرَّضَ لِلتَّنْقِيحِ فِيهِ وَالتَّحْرِيرِ. وَقَدِ اشْتُهِرَا وَلَا كَاشْتِهَارِ الشَّمْسِ، وَخُلِّدَا فِي الْأَحْيَاءِ وَإِنْ هَدَانِي فِي الرَّمْسِ، وَكَلَامُهُمَا فِيهِ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِهِمَا فِي عُلُومٍ، مِنْ مَنْثُورٍ وَمَنْظُومٍ، وَمَنْقُولٍ وَمَفْهُومٍ، وَتَقَلُّبٍ فِي فُنُونِ الْآدَابِ، وَتَمَكُّنٍ مِنْ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْإِعْرَابِ، وَفِي خُطْبَتَي كِتَابَيْهِمَا وَفِي غُضُونِ كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا فَارِسَا مَيْدَانٍ، وَمُمَارِسَا فَصَاحَةٍ وَبَيَانٍ. وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ تَصَانِيفُ غَيْرَ تَفْسِيرِهِ، مِنْهَا: الْفَائِقُ فِي لُغَاتِ الْحَدِيثِ، وَمُخْتَلِفُ الْأَسْمَاءِ وَمُؤْتَلِفُهَا، وَرَبِيعُ الْأَبْرَارِ، وَالرَّائِضُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْمُفَصَّلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ الْفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ الْأَشْبِيلِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى قَلَائِدُ الْعِقْيَانِ وَمَحَاسِنُ الْأَعْيَانِ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: فِيهِ نَبْعَةُ رُوحِ الْعُلَا، وَمُحْرِزُ مَلَابِسِ الثَّنَا، فَذُّ الْجَلَالَةِ، وَوَاحِدُ الْعَصْرِ وَالْأَصَالَةِ، وَقَارٌ كَمَا رَسَا الْهَضْبُ، وَأَدَبٌ كَمَا اطَّرَدَ السَّلْسَلُ الْعَذْبُ، أَثَرُهُ فِي كُلِّ مَعْرِفَةٍ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ، وَطَوَالِعُهُ فِي آفَاقِهَا صُبْحٌ وَنَهَارٌ. وَقَدْ أَثْبَتَ مِنْ نَظْمِهِ مَا يَنْفَحُ عَبِيرًا، وَيَتَّضِحُ مُنِيرًا، وَأَوْرَدَ لَهُ نَثْرًا كَمَا نَظَمَ قَلَائِدَ، وَنَظْمًا تَزْدَانُ بِمِثْلِهِ أَجْيَادُ الْوَلَائِدِ، مِنْ أَلْفَاظٍ عَذْبَةٍ تَسْتَنْزِلُ بِرِقَّتِهَا الْعَصِمَ، وَمَعَانٍ مُبْتَكَرَةٍ تُفْحِمُ الْأَلَدَّ الْخَصِمَ، أَبْقَتْ لَهُ ذِكْرًا مُخَلَّدًا عَلَى جَبِينِ الدَّهْرِ، وَعُرْفًا أَرِجًا كَتَضَوُّعِ الزَّهْرِ. وَلَمَّا كَانَ كِتَابَاهُمَا فِي التَّفْسِيرِ قَدْ أَنْجَدَا وَأَغَارَا، وَأَشْرَقَا فِي سَمَاءِ هَذَا الْعِلْمِ بَدْرَيْنِ وَأَنَارَا، وَتَنَزَّلَا مِنَ الْكُتُبِ التَّفْسِيرِيَّةِ مَنْزِلَةَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْعَيْنِ، وَالذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنَ الْعَيْنِ، وَيَتِيمَةِ الدر من اللآلي، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّيَالِي، فَعَكَفَ النَّاسُ شَرْقًا وَغَرْبًا عَلَيْهِمَا، وَثَنَوْا أَعِنَّةَ الِاعْتِنَاءِ إِلَيْهِمَا. وَكَانَ فِيهِمَا عَلَى جَلَالَتِهِمَا مَجَالٌ لِانْتِقَادِ ذَوِي التَّبْرِيزِ، وَمَسْرَحٌ لِلتَّخْيِيلِ فِيهِمَا وَالتَّمْيِيزِ، ثَنَيْتُ إِلَيْهِمَا عَنَانَ الِانْتِقَادِ، وَحَلَلْتُ مَا تَخَيَّلَ النَّاسُ فِيهِمَا مِنَ الِاعْتِقَادِ. أَنَّهُمَا

فِي التَّفْسِيرِ الْغَايَةُ الَّتِي لَا تُدْرَكُ، وَالْمَسْلَكُ الْوَعِرُ الَّذِي لَا يَكَادُ يُسْلَكُ، وَعَرَضْتُهُمَا عَلَى مَحْكِ النَّظَرِ، وَأَوْرَيْتُ فِيهِمَا نَارَ الْفِكْرِ، حَتَّى خَلُصَ دَسِيسُهُمَا، وَبَرَزَ نَفِيسُهُمَا، وَسَيَرَى ذَلِكَ مَنْ هُوَ لِلنَّظَرِ أَهْلٌ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ إِنْصَافٌ وَعَدْلٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنَ التَّوَلُّجِ عَلَى الضَّرَاغِمِ، وَالتَّحَرُّزِ لِأَشْبَالِهَا وَالْأَنْفُ رَاغِمٌ، إِذْ هَذَانِ الرَّجُلَانِ هُمَا فَارِسَا عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَمُمَارِسَا تَحْرِيرَهُ وَالتَّحْبِيرَ. نَشَرَاهُ نَشْرًا، وَطَارَ لَهُمَا بِهِ ذِكْرًا، وَكَانَا مُتَعَاصِرَيْنِ فِي الْحَيَاةِ، مُتَقَارِبِينَ فِي الْمَمَاتِ. وُلِدَ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِزَمَخْشَرَ، قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى خُوَارِزْمَ، يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، السَّابِعَ عَشَرَ لِرَجَبٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وأربعمائة، وتوفي بگرگانج، قَصَبَةِ خُوَارِزْمَ، لَيْلَةَ عَرَفَةَ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَوُلِدَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَالِبِ بْنِ تَمَّامِ بْنِ عَبْدِ الرؤوف بن عبد الله بن تَمَّامِ بْنِ عَطِيَّةَ الْمُحَارِبِيُّ، مِنْ أَهْلِ غَرْنَاطَةَ، سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بِلُورْقَةَ، فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ لِرَمَضَانَ، سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي وَفَاةِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بَشْكُوَالٍ: تُوُفِّيَ، يَعْنِي ابْنَ عَطِيَّةَ، سَنَةَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَكِتَابُ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنْقَلُ وَأَجْمَعُ وَأَخْلَصُ، وَكِتَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَلْخَصُ وَأَغْوَصُ، إِلَّا أن الزمخشري قائل بالطفرة، وَمُقْتَصِرٌ مِنَ الذُّؤَابَةِ عَلَى الْوَفْرَةِ، فَرُبَّمَا سَنَحَ لَهُ آبِي الْمَقَادَةِ فَأَعْجَزَهُ اغْتِيَاصُهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ لِتَأَنِّيهِ اقْتِنَاصُهُ، فَتَرَكَهُ عَقْلًا لِمَنْ يَصْطَادُهُ، وَغَفْلًا لِمَنْ يَرْتَادُهُ، وَرُبَّمَا نَاقَضَ هَذَا الْمَنْزَعَ، فَثَنَى الْعِنَانَ إِلَى الْوَاضِحِ، وَالسَّهْلِ اللَّائِحِ، وَأَجَالَ فِيهِ كَلَامًا، وَرَمَى نَحْوَ غَرَضِهِ سِهَامًا، هَذَا مَعَ مَا فِي كِتَابِهِ مِنْ نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، وَتَقَحُّمِ مُرْتَكِبِهِ، وَتَجَشُّمِ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَنِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَمُغْتَفَرٌ إِسَاءَتُهُ لِإِحْسَانِهِ، وَمَصْفُوحٌ عَنْ سَقْطِهِ فِي بَعْضٍ لِإِصَابَتِهِ فِي أَكْثَرِ تِبْيَانِهِ، فما كان في كِتَابِي هَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَخْبَرَنِي بِهِ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِجَازَةً أَيَّامَ كُنْتُ أَبْحَثُ مَعَهُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، عَنِ الْقَاضِي ابْنِ الْخَطَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلِيلٍ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي طَاهِرٍ بَرَكَاتِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طاهر الخشوعي وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَالِيًا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِهِ إِلَيَّ مِنْ دِمَشْقَ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الْخُشُوعِيِّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ.

وَمَا كَانَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، فَأَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْقُرَشِيُّ، قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ لِبَعْضِهِ. وَمُنَاوَلَةً عَنِ الْحَافِظِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ سَالِمٍ الْكُلَاعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِهِ مُصَنِّفُهُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ لِجَمِيعِهِ، وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَالِيًا الْقَاضِي الْأُصُولِيُّ الْمُتَكَلِّمُ أَبُو الْحَسَنِ محمد بن الْقَاضِي الْأُصُولِيِّ الْمُتَكَلِّمِ أَبِي عَامِرٍ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْعَرِيِّ نَسَبًا وَمَذْهَبًا، إِجَازَةً كَتَبَهَا لِي بِخَطِّهِ بِغَرْنَاطَةَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْغَافِقِيِّ الشَّقُورِيِّ بِقُرْطُبَةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ. وَاعْتَمَدْتُ، فِي أَكْثَرِ نَقُولِ كِتَابِي هَذَا، عَلَى كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ لِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ، مِنْ جَمْعِ شَيْخِنَا الصَّالِحِ الْقُدْوَةِ الْأَدِيبِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ الْمَقْدِسِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ، رَحِمَهُ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ أَكْبَرُ كِتَابٍ رَأَيْنَاهُ صُنِّفَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، يَبْلُغُ فِي الْعَدَدِ مِائَةَ سِفْرٍ أَوْ يَكَادُ، إِلَّا أَنَّهُ كَثِيرُ التَّكْرِيرِ، قَلِيلُ التَّحْرِيرِ، مُفْرِطُ الْإِسْهَابِ، لَمْ يُعَدَّ جَامِعُهُ مِنْ نَسْخٍ كُتِبَ فِي كِتَابِهِ، كَذَلِكَ كَانَ فِيهِ بِحَالِ التَّهْذِيبِ وَمُرَادِ التَّرْتِيبِ. وَهَذَا الْكِتَابُ رِوَايَتِي بِالْإِجَازَةِ مِنْ جَامِعِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ شَاهَدْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ حِينَ جَمَعَهُ يَقُولُ لِلنَّاسِخِ: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: اكْتُبْ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا. وَيَنْقُلُ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي اعْتَمَدَهَا، وَيَعْزُو فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ مَا يُنْقَلُ مِنْهَا إِلَى مُصَنِّفِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. وَكَانَ فِيهِ فَضِيلَةُ أَدَبٍ، وَلَهُ نَثْرٌ وَنَظْمٌ مُتَوَسِّطٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنِّي قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمَاعَةٍ من المقرءين، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَا الْآنَ أُسْنِدُ قِرَاءَتِي الْقُرْآنَ، مِنْ بَعْضِ الطُّرُقِ، وَأَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا وَرَدَ فِي القرآن وفضائله وتفسيره، على سبيل الاختصار، فأقول: قرأت الْقُرْآنِ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي نَنْشَأُ عَلَيْهَا بِبِلَادِنَا وَنَتَعَلَّمُهَا أَوَّلًا فِي الْمَكْتَبِ عَلَى الْمُسْنِدِ الْمُعَمَّرِ الْعَدْلِ أَبِي طَاهِرٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ علي المليجي، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي الْجُودِ غِيَاثِ بْنِ فَارِسِ بْنِ مَكِّيٍّ المنذري، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي الْفُتُوحِ نَاصِرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزيدي، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي الْحَسَنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الفرج الخشاب، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نَفِيسٍ، بمصر. وقرأتها عَلَى ابْنِ عَدِيٍّ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ

مُحَمَّدٍ، عُرِفَ بِابْنِ الْإِمَامِ، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن مالك بن سيف، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَيَّارٍ، وَيُقَالُ يَسَارٍ الْأَزْرَقِ، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي عَمْرٍو عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَدِيٍّ، الملقب بورش، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، بِمَدِينَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ يَزِيدُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْمُنْذِرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ دَائِرٌ بَيْنَ مِصْرِيٍّ وَمَدَنِيٍّ. فَمِنْ شَيْخِي إِلَى وَرْشٍ مِصْرِيُّونَ، وَمِنْ نَافِعٍ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مَدَنِيُّونَ. وَمِثْلُ هَذَا الْإِسْنَادِ عَزِيزُ الْوُجُودِ، بَيْنِي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عَشَرَ رَجُلًا، وَهَذَا مِنْ أَعْلَى الْأَسَانِيدِ الَّتِي وَقَعَتْ لِي. وَقَدْ وَقَعَ لِي فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَى عَشَرَ رَجُلًا، وَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَنْشَأُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ أَعْلَى مَا وَقَعَ لِأَمْثَالِنَا. وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى أَبِي الطاهر بن الْمَلِيجِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْجُودِ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْفُتُوحِ الزَّيْدِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أحمد الْأَبْهَرِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَهْوَازِيِّ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُثْمَانَ الغضايري، وقرأ الغضائري عَلَى أَبِي بَكْرٍ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مِهْرَانَ الْوَاسِطِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ الْعُلَيْمِيِّ الْكُوفِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَاصِمٍ، وَقَرَأَ عاصم على ابني عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ السُّلَمِيِّ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وعبد الله بن مسعود، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَفَضَائِلِهِ، فَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، كَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ، وَغَيْرِهِ. وَمِمَّا رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، قِيلَ: فَمَا النجاة منها يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ فَصْلٌ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ تَجَبُّرًا قَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَنُورُهُ الْمُبِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالصِّرَاطُ

الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَتَشَعَّبُ مَعَهُ الْآرَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَمَلُّهُ الْأَتْقِيَاءُ، مَنْ عَلِمَ عِلْمَهُ سَبَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عُصِمَ بِهِ فَقَدَ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتْلُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْجُرُكُمْ بِالْحَرْفِ عَشْرَ حسنات، وأما إِنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنِ الْأَلِفُ حَرْفٌ وَاللَّامُ حَرْفٌ وَالْمِيمُ حَرْفٌ» . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ، فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، إِنَّهُ لَنْ تَعْمَى أَبْصَارُكُمْ، وَلَنْ تَضِلَّ قُلُوبُكُمْ، وَلَنْ تَزِلَّ أَقْدَامُكُمْ، وَلَنْ تَقْصُرَ أَيْدِيكُمْ، كِتَابُ اللَّهِ سَبَبٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، طَرَفُهُ بِيَدِهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، أَلَا وَأَهْلُ بَيْتِي وَعِتْرَتِي، وَهُوَ الثَّقَلُ الْآخَرُ، فَلَا تَسُبُّوهُمْ فَتَهْلِكُوا» . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُوتِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُوتِيَ، فَقَدِ اسْتَصْغَرَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ شَفِيعٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقُرْآنِ، لَا نَبِيَّ وَلَا مَلِكَ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي بالقرآن» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَشْرَفُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَرَأَ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ لَمْ يُحَاجَّهُ الْقُرْآنُ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَا حَلَّ مُصَدِّقٌ، مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ نَجَا، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَأَحَقُّ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ أَهْلُهُ وَحَمَلَتُهُ، وَأَوْلَى مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مَنْ عَدَلَ عَنْهُ وَضَيَّعَهُ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَصْغَرَ الْبُيُوتِ بَيْتٌ صِفْرٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَتَعَاهَدُ الْقُرْآنَ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرَانِ، والذي يقرأه وَهُوَ خَفِيفٌ عَلَيْهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ تَرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ لَمْ تَزَلْ دَارُهُ الْبَارِحَةَ تُزْهِرُ، وَحَوْلَهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: «فَلَعَلَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ» . فَسُئِلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ فِي الظُّلْمَةِ لِصَوْتِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ» . وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عَنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قِرَاءَةً أَوْ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ: «الَّذِي إِذَا سَمِعْتَهُ رَأَيْتَهُ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى» . وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ، فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ عِلْمِ

الْقُرْآنِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «عَرَبِيَّتُهُ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الشِّعْرِ» . وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ، وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُعْرَبَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحِكْمَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ «1» بِأَنَّهَا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً» . وَقَالَ الْحَسَنُ: أَهْلَكَتْهُمُ الْعُجْمَةُ، يَقْرَأُ أَحَدُهُمُ الْآيَةَ، فَيَعْيَا بِوُجُوهِهَا حَتَّى يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يُفَسِّرُ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي يَهُذُّ الشِّعْرَ. وَوَصَفَ عَلِيٌّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ يَعْرِفُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» . وَرَحَلَ مَسْرُوقٌ الْبَصْرَةَ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: الَّذِي يُفَسِّرُهَا رَجَعَ إِلَى الشَّامِ، فَتَجَهَّزَ وَرَحَلَ إِلَيْهِ حَتَّى عَلِمَ تَفْسِيرَهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَمُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ. وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ كَوْنِهِ لَا يُفَسِّرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ عَلَّمَهُ إِيَّاهُنَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» . مَحْمُولٌ ذَلِكَ عَلَى مُغَيِّبَاتِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ لِمُجْمَلِهِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قَوْلِهِ: «مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَسَوَّرَ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِرَأْيِهِ، دُونَ نَظَرٍ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَقَوَانِينِ الْعُلُومِ، كَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْأُصُولِ، وَلَيْسَ مَنِ اجْتَهَدَ فَفَسَّرَ عَلَى قَوَانِينِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ بِدَاخِلٍ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ يُفَسَّرُ بِرَأْيِهِ وَلَا يُوصَفُ بِالْخَطَأِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: عَلِيُّ بن أبي طالب، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. فَهَؤُلَاءِ مَشَاهِيرُ مَنْ أُخِذَ عَنْهُ التَّفْسِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَا شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ. وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي التَّفْسِيرِ مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَطْعَنُ عَلَى السُّدِّيِّ وَأَبِي صَالِحٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَاهُمَا مُقَصِّرِينَ فِي النَّظَرِ. ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي التَّفْسِيرِ وَأَلَّفُوا فِيهِ التَّآلِيفَ. وَكَانَتْ تَآلِيفُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَكْثَرُهَا، إِنَّمَا هِيَ شَرْحُ لُغَةٍ، وَنَقْلُ سَبَبٍ، وَنَسْخٌ، وَقَصَصٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْعَرَبِ، وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ. فَلَمَّا فَسَدَ اللِّسَانُ، وَكَثُرَتِ الْعَجَمُ، وَدَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْوَاعُ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفُو الألسنة، والناقصو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 269. (2) سورة القصص: 28/ 85.

الْإِدْرَاكِ، احْتَاجَ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى إِظْهَارِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ غَرَائِبِ التَّرْكِيبِ، وَانْتِزَاعِ الْمَعَانِي، وَإِبْرَازِ النُّكَتِ الْبَيَانِيَّةِ، حَتَّى يُدْرِكَ ذَلِكَ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِي طَبْعِهِ، وَيَكْتَسِبَهَا مَنْ لَمْ تَكُنْ نَشْأَتُهُ عَلَيْهَا، وَلَا عُنْصُرُهُ يُحَرِّكُهُ إِلَيْهَا، بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الْعَرَبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْكُوزًا فِي طِبَاعِهِمْ، يُدْرِكُونَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، مِنْ غَيْرِ مُوَقِّفٍ وَلَا مُعَلِّمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ لِسَانُهُمْ وَخُطَّتُهُمْ وَبَيَانُهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاوَتُونَ أَيْضًا فِي الْفَصَاحَةِ وَفِي الْبَيَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ سَمِعَ كَلَامَ عَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ فِي الزِّبْرِقَانِ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» . وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى تَفَاوُتِ الْعَرَبِ فِي الْفَصَاحَةِ. وَقَدْ آنَ أَنْ نَشْرَعَ فِيمَا قَصَدْنَا، وَنُنْجِزَ مَا بِهِ وَعَدْنَا، وَنَبْدَأَ بِرَسْمٍ لِعِلْمِ التَّفْسِيرِ، فَإِنِّي لَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى رَسْمٍ لَهُ، فَنَقُولُ: التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِبَانَةُ وَالْكَشْفُ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَاءِ الَّذِي يَنْظُرُ فِيهِ الطَّبِيبُ تَفْسِرَةٌ وَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَصْدَرَ فَعَّلَ جَاءَ أَيْضًا عَلَى تَفْعِلَةٍ، نَحْوَ جَرَّبَ تَجْرِبَةً، وَكَرَّمَ تَكْرِمَةً، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ فَعَّلَ التَّفْعِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً «1» . وَيَنْطَلِقُ أَيْضًا التَّفْسِيرُ عَلَى التَّعْرِيَةِ لِلِانْطِلَاقِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: تَقُولُ فَسَّرْتُ الْفَرَسَ عَرَّيْتُهُ لِيَنْطَلِقَ فِي حَصْرِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْكَشْفِ، فَكَأَنَّهُ كَشَفَ ظَهْرَهُ لِهَذَا الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْهُ مِنَ الْجَرْيِ. وَأَمَّا الرَّسْمُ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَنَقُولُ: التَّفْسِيرُ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَمَدْلُولَاتِهَا، وَأَحْكَامِهَا الْإِفْرَادِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِيَّةِ، وَمَعَانِيهَا الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا حَالَةُ التَّرْكِيبِ، وَتَتِمَّاتٍ لِذَلِكَ. فَقَوْلُنَا عُلِمٌ هُوَ جِنْسٌ يَشْمَلُ سَائِرَ الْعُلُومِ. وَقَوْلُنَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ هَذَا هُوَ عِلْمُ الْقِرَاءَاتِ. وَقَوْلُنَا وَمَدْلُولَاتِهَا، أَيْ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا هُوَ عِلْمُ اللُّغَةِ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ. وَقَوْلُنَا وَأَحْكَامِهَا الْإِفْرَادِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِيَّةِ هَذَا يَشْمَلُ عِلْمَ التَّصْرِيفِ، وَعِلْمَ الْإِعْرَابِ، وَعِلْمَ الْبَيَانِ، وَعِلْمَ الْبَدِيعِ، وَمَعَانِيهَا الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا حَالَةُ التَّرْكِيبِ شَمِلَ بُقُولِهِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا مَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ، وَمَا دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ بِالْمَجَازِ، فَإِنَّ التَّرْكِيبَ قَدْ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ شَيْئًا، وَيَصُدُّ عَنِ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ صَادٌ، فَيَحْتَاجُ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَجَازُ. وَقَوْلُنَا، وَتَتِمَّاتٍ لِذَلِكَ، هُوَ مَعْرِفَةُ النَّسْخِ، وَسَبَبِ النُّزُولِ، وَقِصَّةٍ تُوَضِّحُ بَعْضَ مَا انْبَهَمَ فِي الْقُرْآنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

_ (1) سُورَةُ الفرقان: 25/ 33.

سورة الفاتحة 1

سورة الفاتحة 1 [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) () بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بَاءُ الْجَرِّ تَأْتِي لِمَعَانٍ: لِلْإِلْصَاقِ، وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالْقَسَمِ، وَالسَّبَبِ، وَالْحَالِ، وَالظَّرْفِيَّةِ، وَالنَّقْلِ. فَالْإِلْصَاقُ: حَقِيقَةً مَسَحْتُ بِرَأْسِي، وَمَجَازًا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ. وَالِاسْتِعَانَةُ: ذَبَحْتُ بِالسِّكِّينِ. وَالسَّبَبُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا «1» . وَالْقَسَمُ: بِاللَّهِ لَقَدْ قَامَ. وَالْحَالُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ. وَالنَّقْلُ: قُمْتُ بِزَيْدٍ. وَتَأْتِي زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ: شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ. وَالْبَدَلُ: فَلَيْتَ لِي بِهِمْ قَوْمًا أَيْ بَدَلَهُمْ. وَالْمُقَابَلَةُ: اشْتَرَيْتُ الْفَرَسَ بِأَلْفٍ. وَالْمُجَاوَزَةُ: تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ. وَالِاسْتِعْلَاءُ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ. وَكَنَّى بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَالِ بِالْمُصَاحَبَةِ، وَزَادَ فِيهَا كَوْنَهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَكَنَّى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالسَّبَبِ، وَعَنِ الْحَالِ، بِمَعْنَى مَعَ، بِمُوَافَقَةِ مَعْنَى اللَّامِ. وَيُقَالُ اسْمٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّهَا، وَسِمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا، وَسُمًى كَهُدًى، وَالْبَصْرِيُّ يَقُولُ: مَادَّتُهُ سِينٌ وَمِيمٌ وَوَاوٌ، وَالْكُوفِيُّ يَقُولُ: وَاوٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ. وَالِاسْتِدْلَالُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ: أَلْ لِلْعَهْدِ فِي شَخْصٍ أَوْ جِنْسٍ، وَلِلْحُضُورِ، وَلِلَمْحِ الصِّفَةِ، وَلِلْغَلَبَةِ، وَمَوْصُولَةٌ. فَلِلْعَهْدِ فِي شَخْصٍ: جَاءَ الْغُلَامُ، وَفِي جِنْسٍ: اسْقِنِي الْمَاءَ، وَلِلْحُضُورِ: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ، وَلِلَمْحٍ: الْحَارِثُ، وَلِلْغَلَبَةِ: الدَّبَرَانِ. وَزَائِدَةٌ لَازِمَةٌ، وَغَيْرُ لَازِمَةٍ، فَاللَّازِمَةُ: كَالْآنَ، وَغَيْرُ اللَّازِمَةِ: بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِ مِنْ أَسِيرِهَا، وَهَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ أَمْ هِيَ حَرْفٌ وَاحِدٌ؟ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ حَرْفَيْنِ، فَهَلِ الْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ أَمْ لَا؟ مَذَاهِبُ. وَاللَّهُ علم لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى المعبود بحق مرتحل غَيْرِ مُشْتَقٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وقيل مشتق، ومادته

_ (1) سورة النساء: 4/ 160.

قِيلَ: لَامٌ وَيَاءٌ وَهَاءٌ، مِنْ لَاهَ يَلِيهُ، ارْتَفَعَ. قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الشَّمْسُ إِلَاهَةً، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَقِيلَ: لَامٌ وَوَاوٌ وَهَاءٌ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ لَوْهًا، احتجب أو استتار، وَوَزْنُهُ إِذْ ذَاكَ فَعَلَ أَوْ فَعِلَ، وَقِيلَ: الْأَلِفُ زَائِدَةٌ وَمَادَّتُهُ هَمْزَةٌ وَلَامٌ، مِنْ أَلِهَ أَيْ فَزِعَ، قاله ابن إسحاق، أو أَلَّهَ تَحَيَّرَ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَأَلَّهَ عَبَدَ، قَالَهُ النَّضْرُ، أَوْ أَلَهَ سَكَنَ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ اعْتِبَاطًا، كَمَا قِيلَ فِي نَاسٍ أَصْلُهُ أُنَاسٌ، أَوْ حُذِفَتْ لِلنَّقْلِ وَلَزِمَ مَعَ الْإِدْغَامِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ شَاذٌّ. وَقِيلَ: مَادَّتُهُ وَاوٌ وَلَامٌ وَهَاءٌ، مِنْ وَلِهَ، أَيْ طَرِبَ، وَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ مِنَ الْوَاوِ نَحْوَ أَشَاحَ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالْقَنَّادُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِلُزُومِ الْبَدَلِ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ آلِهَةٌ، وَتَكُونُ فِعَالًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْكِتَابِ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ. وَأَلْ فِي اللَّهِ إِذَا قُلْنَا أَصْلُهُ الْإِلَاهُ، قَالُوا لِلْغَلَبَةِ، إِذِ الْإِلَهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَاللَّهُ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ، فَصَارَ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا. وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَالنَّجْمِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْحَذْفِ وَالنَّقْلِ أَوِ الْإِدْغَامِ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى كُلِّ إِلَهٍ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَوَزْنُهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ فِعَالٌ، فَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عَالٌ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَقَاوِيلِ السَّابِقَةِ، فَأَلْ فِيهِ زَائِدَةٌ لَازِمَةٌ، وَشَذَّ حَذْفُهَا فِي قَوْلِهِمْ لَاهَ أَبُوكَ شُذُوذَ حَذْفِ الْأَلِفِ فِي أَقْبَلَ سَيْلٌ. أَقْبَلَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَلْ فِي اللَّهِ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَوَصَلَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَالسُّهَيْلِيِّ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ وَزْنَهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ فَعَّالًا، وَامْتِنَاعُ تَنْوِينِهِ لَا مُوجِبَ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَلْ حَرْفٌ دَاخِلٌ عَلَى الْكَلِمَةِ سَقَطَ لِأَجْلِهَا التَّنْوِينُ. وَيَنْفَرِدُ هَذَا الِاسْمُ بِأَحْكَامٍ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَاهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَعُرِّبَ، قَالَ: كحلفة من أبي رياح ... يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكِبَارُ قَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَلْخِيِّ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ لَاهَا، وَأَخَذَتِ الْعَرَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَغَيَّرُوهَا فَقَالُوا اللَّهُ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ فِي اللَّهِ أَنَّهُ صِفَةٌ وَلَيْسَ اسْمَ ذَاتٍ، لِأَنَّ اسْمَ الذَّاتِ يُعْرَفُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُدْرَكُ حِسًّا وَلَا بَدِيهَةً، وَلَا تُعْرَفُ ذَاتُهُ بِاسْمِهِ، بَلْ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِصِفَاتِهِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلذَّاتِ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ. وَكَانَ الْعِلْمُ قَائِمًا مُقَامَ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ الْأَخِيرَةُ مِنَ اللَّهِ لِئَلَّا يُشْكِلَ بِخَطِّ اللَّاهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ لَهَا يَلْهُو، وَقِيلَ طُرِحَتْ تَخْفِيفًا، وَقِيلَ هِيَ لُغَةٌ فَاسْتُعْمِلَتْ فِي الْخَطِّ. الرَّحْمنِ: فَعْلَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَصْلُ بِنَائِهِ مِنَ اللَّازِمِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَشَذَّ مِنَ

الْمُتَعَدِّي، وَأَلْ فِيهِ لِلْغَلَبَةِ، كَهِيَ فِي الصَّعْقِ، فَهُوَ وَصْفٌ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا لَمْ يُسْتَعْمَلِ اسْمُهُ فِي غَيْرِهِ، وَسَمِعْنَا مَنَاقِبَهُ، قَالُوا: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوَصْفُ غَيْرِ اللَّهِ بِهِ مِنْ تَعَنُّتِ الْمُلْحِدِينَ، وَإِذَا قُلْتَ اللَّهُ رَحْمَنٌ، فَفِي صَرْفِهِ قَوْلَانِ لِيُسْنَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى أَصْلٍ عَامٍّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الِاسْمِ الصَّرْفُ، وَالْآخَرُ إِلَى أَصْلٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ فَعْلَانَ الْمَنْعُ لِغَلَبَتِهِ فِيهِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ أَعْجَمِيٌّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَعُرِّبَ بِالْحَاءِ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. الرَّحِيمِ: فَعِيلٌ مُحَوَّلٌ مِنْ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ: فَعَّالٌ، وَفَعُولٌ، وَمِفْعَالٌ، وَفَعِيلٌ، وَفَعِلٌ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِعِّيلًا فِيهَا: نَحْوَ سِكِّيرٍ، وَلَهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ، قِيلَ: وَجَاءَ رَحِيمٌ بِمَعْنَى مَرْحُومٍ، قَالَ الْعَمَلَّسُ بْنُ عَقِيلٍ: فَأَمَّا إِذَا عَضَّتْ بِكَ الْأَرْضُ عَضَّةً ... فَإِنَّكَ مَعْطُوفٌ عَلَيْكَ رَحِيمٌ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ، الْفَاتِحَةُ مَكِّيَّةٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «1» . وَالْحِجْرُ مَكِّيَّةٌ، بِإِجْمَاعٍ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالسَّبْعُ الطِّوَالُ، أُنْزِلَتْ بَعْدَ الْحِجْرِ بِمُدَدٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ، وَمَا حُفِظَ أَنَّهُ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ صَلَاةٌ بِغَيْرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَوَادُ بْنُ زِيَادٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقِيلَ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ. الْبَاءُ فِي بِسْمِ اللَّهِ لِلِاسْتِعَانَةِ، نَحْوَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ، أَيْ بَدَأْتُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَكَذَا كُلُّ فاعل بدىء فِي فِعْلِهِ بِالتَّسْمِيَةِ كَانَ مضمرا لا بدأ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِعْلًا غَيْرَ بَدَأْتُ وَجَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا، قَالَ: تَقْدِيرُهُ بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ أَوْ أَتْلُو، إِذِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ مَقْرُوءٌ، وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الْعَامِلِ عِنْدَهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ضَرَبْتُ زَيْدًا مَا نَصُّهُ: وَإِذَا قَدَّمْتَ الِاسْمَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كَمَا كَانَ ذَلِكَ، يَعْنِي تَأْخِيرُهُ عَرَبِيًّا جَيِّدًا وَذَلِكَ قَوْلُكَ زَيْدًا ضَرَبْتُ. وَالِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ هُنَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، سَوَاءٌ مِثْلُهُ فِي ضرب زيد عمر، أو ضرب زيدا عمر، وانتهى، وَقِيلَ مَوْضِعُ اسْمٍ رَفْعٌ التقدير ابتدائي بأبت، أَوْ مُسْتَقِرٌّ بِاسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَيُّ التَّقْدِيرَيْنِ أَرْجَحُ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِلْفِعْلِ، أَوِ الثَّانِي لِبَقَاءِ أحد جزأي الإسناد.

_ (1) سورة الحجر: 15/ 85.

وَالِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْعِيَانِ، إِنْ كَانَ مَحْسُوسًا، وَفِي الْأَذْهَانِ، إِنْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ بِبِنْيَتِهِ لِلزَّمَانِ، وَمَدْلُولُهُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: (فَالْكُلُّ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ) ، وَالتَّسْمِيَةُ جَعْلُ ذَلِكَ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَقَدِ اتَّضَحَتِ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى وَالتَّسْمِيَةِ. فَإِذَا أَسْنَدْتَ حُكْمًا إِلَى اسْمٍ، فَتَارَةً يَكُونُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، نَحْوَ: زَيْدٌ اسْمُ ابْنِكَ، وَتَارَةً لَا يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ إِلَّا مَجَازًا، وَهُوَ أَنْ تُطْلِقَ الِاسْمَ وَتُرِيدَ بِهِ مَدْلُولَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ «1» ، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ «2» ، وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ «3» . وَالْعَجَبُ مِنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ، هَلِ الِاسْمُ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّيِّدِ، وَالسُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرُوا احْتِجَاجَ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَأَطَالُوا فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَأَوَّلَ السُّهَيْلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ بِأَنَّهُ أَقْحَمَ الِاسْمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِقَلْبِكَ وَلِسَانِكَ حَتَّى لَا يَخْلُوَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ مِنَ اللَّفْظِ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ مُتَعَلِّقُهُ الْمُسَمَّى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مُتَعَلِّقُهُ اللَّفْظُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً بِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ كَاذِبَةٌ غَيْرُ وَاقِعَةٍ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا إِلَّا الْأَسْمَاءَ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ الْبَدِيعِ. وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ بِسْمِ هُنَا فِي الْخَطِّ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَوْ كُتِبَتْ بِاسْمِ الْقَاهِرِ أَوْ بِاسْمِ الْقَادِرِ. فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: تُحْذَفُ الْأَلِفُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تُحْذَفُ إِلَّا مَعَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ إِنَّمَا كَثُرَ فِيهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ الْأَلِفِ. وَالرَّحْمَنُ صِفَةٌ الله عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. وَذَهَبَ الْأَعْلَمُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، وَزَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَمٌ، وإن كان مشتقا من الرَّحْمَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِيمِ وَلَا الرَّاحِمِ، بَلْ هُوَ مِثْلُ الدَّبَرَانِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ دَبَرَ صِيغَ لِلْعَلَمِيَّةِ، فَجَاءَ عَلَى بِنَاءٍ لَا يَكُونُ فِي النُّعُوتِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى عَلَمِيَّتِهِ وَوُرُودِهِ غَيْرَ تَابِعٍ لِاسْمٍ قَبْلَهُ، قَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «4» الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «5» وَإِذَا ثَبَتَتِ الْعَلَمِيَّةُ امْتَنَعَ النَّعْتُ، فَتَعَيَّنَ الْبَدَلُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: الْبَدَلُ فِيهِ عِنْدِي مُمْتَنِعٌ، وَكَذَلِكَ عَطْفُ الْبَيَانِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لا يفتقر

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 78. (2) سورة طه: 20/ 5. (3) سورة الأعلى: 87/ 1. (4) سورة الرحمن: 55/ 1. (5) سورة يوسف: 12/ 40.

إِلَى تَبْيِينٍ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْأَعْلَامِ كُلِّهَا وَأَبْيَنُهَا، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ، وَلَمْ يَقُولُوا: وَمَا اللَّهُ، فَهُوَ وَصْفٌ يُرَادُ بِهِ الثَّنَاءُ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْلَامِ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قِيلَ دَلَالَتُهُمَا وَاحِدٌ نَحْوَ نَدْمَانَ وَنَدِيمٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَالرَّحْمَنُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَكَانَ الْقِيَاسُ التَّرَقِّي، كَمَا تَقُولُ: عَالِمٌ نِحْرِيرٌ، وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ، لَكِنْ أَرْدَفَ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ الرَّحِيمُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جِهَةَ الْمُبَالَغَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ. فَمُبَالَغَةُ فَعْلَانَ مِثْلَ غَضْبَانَ وَسَكْرَانَ مِنْ حَيْثُ الِامْتِلَاءُ وَالْغَلَبَةُ، وَمُبَالَغَةُ فَعِيلٍ مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارُ وَالْوُقُوعُ بِمَحَالِّ الرَّحْمَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى فَعْلَانُ، وَيَتَعَدَّى فَعِيلٌ. تَقُولُ زَيْدٌ رَحِيمُ الْمَسَاكِينِ كَمَا تَعَدَّى فَاعِلًا، قَالُوا زَيْدٌ حَفِيظُ عِلْمِكَ وَعِلْمِ غَيْرِكَ، حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ عَنِ الْعَرَبِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى تَوْكِيدِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، احْتَاجَ أَنَّهُ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُ وَاحِدًا لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: رحمن الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرحمن رحمن الدُّنْيَا وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ» . وَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّفْسِيرُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ القرطبي: رحمن الْآخِرَةِ وَرَحِيمُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بِرَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِمِائَةِ رَحْمَةٍ. وَقَالَ الْمَزْنِيُّ: بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَقَالَ الْعَزِيزِيُّ: الرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الْأَمْطَارِ، وَنِعَمِ الْحَوَاسِّ، وَالنِّعَمِ الْعَامَّةِ، الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْهِدَايَةِ لَهُمْ وَاللُّطْفِ بِهِمْ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: بِرَحْمَةِ النُّفُوسِ وَرَحْمَةِ الْقُلُوبِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لِمَصَالِحِ الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ. وَقَالَ الصَّادِقُ: خَاصُّ اللَّفْظِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ فِي الرِّزْقِ، وَعَامُّ اللَّفْظِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَغْفِرَةِ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الرَّحْمَنُ أَمْدَحُ، وَالرَّحِيمُ أَلْطَفُ، وَقِيلَ: الرَّحْمَنُ الْمُنْعِمُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ جِنْسُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالرَّحِيمُ الْمُنْعِمُ بِمَا يُتَصَوَّرُ جِنْسُهُ مِنَ الْعِبَادِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ، يَخْتَصُّ بِهِ اللَّهُ، وَالرَّحِيمُ إِنَّمَا هُوَ فِي جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «1» . وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ مَجَازٌ عَنْ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَرَقَّ لَهُمْ، أَصَابَهُمْ إِحْسَانُهُ فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ إِذْ ذَاكَ صِفَةَ فِعْلٍ؟ وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا صِفَةَ ذَاتٍ، وينبني على هذا

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 43.

الْخِلَافِ خِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الذَّاتِيَّةَ وَالْفِعْلِيَّةَ أَهِيَ قَدِيمَةٌ أَمْ صِفَاتُ الذَّاتِ قَدِيمَةٌ وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مُحْدَثَةٌ قَوْلَانِ؟ وَأَمَّا الرَّحْمَةُ الَّتِي مِنَ الْعِبَادِ فَقِيلَ هِيَ رِقَّةٌ تَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ، وَقِيلَ هِيَ قَصْدُ الْخَيْرِ أَوْ دَفْعُ الشَّرِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَدْفَعُ الشَّرَّ عَمَّنْ لَا يَرِقُّ عَلَيْهِ، وَيُوصِلُ الْخَيْرَ إِلَى مَنْ لَا يَرِقُّ عَلَيْهِ. وَفِي الْبَسْمَلَةِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحَذْفُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي بِسْمِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ، وَالْحَذْفُ قِيلَ لِتَخْفِيفِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِمْ بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ، بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، فَقُلْتُ إِلَى الطَّعَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي تِسْعِ آيَاتٍ أَيْ أَعْرَسْتُ وَهَلُمُّوا وَاذْهَبْ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيِّ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِظْهَارُهُ وَإِضْمَارُهُ فِي كُلِّ مَا يُحْذَفُ تَخْفِيفًا، وَلَكِنْ فِي حَذْفِهِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَوْطِنٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ فِيهِ سِوَى ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ ذُكِرَ الْفِعْلَ، وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ فَاعِلِهِ، لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ اللَّهِ مُقَدَّمًا، وَكَانَ فِي حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يُحْذَفُ لِيَكُونَ اللَّفْظُ فِي اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَقْصُودِ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ ذِكْرٌ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنَ الْحَذْفِ أَيْضًا حَذْفُ الْأَلِفِ فِي بِسْمِ اللَّهِ وَفِي الرَّحْمَنِ فِي الْخَطِّ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. النَّوْعُ الثَّانِي: التَّكْرَارُ فِي الْوَصْفِ، وَيَكُونُ إِمَّا لِتَعْظِيمِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ لِلتَّأْكِيدِ، لِيَتَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ لِحُكْمِ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرُوا اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَأَطَالُوا التَّفَارِيعَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَمَوْضُوعُ، هَذَا كُتُبُ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّعَوُّذِ، وَعَلَى حُكْمِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ بِإِجْمَاعٍ. وَنَحْنُ فِي كِتَابِنَا هَذَا لَا نَتَعَرَّضُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، إِلَّا إِذَا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُهُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِ الرَّحِيمِ بِالْحَمْدِ، فَقَرَأَ قَوْمٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَيَقِفُونَ عَلَيْهَا وَيَبْتَدِئُونَ بِهَمْزَةٍ مَقْطُوعَةٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَرِّ الْمِيمِ وَوَصْلِ الْأَلِفِ مِنَ الْحَمْدِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ إِنَّهُ يَقْرَأُ الرَّحِيمَ الْحَمْدُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَصِلَةِ الْأَلِفِ، كَأَنَّكَ سَكَّنْتَ الْمِيمَ وَقَطَعْتَ الْأَلِفَ، ثُمَّ أَلْقَيْتَ حَرَكَتَهَا عَلَى الميم وحذفت ولم تر، وهذه قِرَاءَةً عَنْ أَحَدٍ. الْحَمْدُ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، وَنَقِيضُهُ الذَّمُّ، وَلَيْسَ مَقْلُوبَ مَدَحَ، خِلَافًا لِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، إِذْ هُمَا فِي التَّصْرِيفَاتِ مُتَسَاوِيَانِ، وَإِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ

الْمَدْحُ بِالْجَمَادِ، فَتَمْدَحُ جَوْهَرَةً وَلَا يُقَالُ تَحْمَدُ، وَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَوِ الْحَمْدُ أَعَمُّ، وَالشُّكْرُ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِهِ، وَالْحَمْدُ ثَنَاءٌ بِأَوْصَافِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ أَعَمُّ، فَالْحَامِدُ قِسْمَانِ: شَاكِرٌ وَمُثْنٍ بِالصِّفَاتِ. لِلَّهِ اللَّامُ: لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ، وَلِلتَّمْلِيكِ وَشِبْهِهِ، وَلِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلِلنَّسَبِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَلِلتَّبْلِيغِ، وَلِلتَّعَجُّبِ، وَلِلتَّبْيِينِ، وَلِلصَّيْرُورَةِ، وَلِلظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى فِي أَوْ عِنْدَ أَوْ بَعْدُ، وَلِلِانْتِهَاءِ، وَلِلِاسْتِعْلَاءِ مِثْلُ: ذَلِكَ الْمَالُ لِزَيْدٍ، أَدُومُ لَكَ مَا تَدُومُ لِي، وَوَهَبْتُ لَكَ دِينَارًا، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «1» ، الْجِلْبَابُ لِلْجَارِيَةِ، لِزَيْدٍ عَمٌّ، لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ «2» ، قُلْتُ لَكَ، وَلِلَّهِ عَيْنًا، مَنْ رَأَى، مَنْ تَفَوَّقَ، هَيْتَ، لَكَ «3» ، لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» ، الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «5» ، كُتِبَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ، لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ «6» ، يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ «7» . رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّبُّ: السَّيِّدُ، وَالْمَالِكُ، وَالثَّابِتُ، وَالْمَعْبُودُ، وَالْمُصْلِحُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: فَدَنَا لَهُ رَبُّ الْكِلَابِ بِكَفِّهِ ... بِيضٌ رِهَافٌ رِيشُهُنَّ مُقَزَّعُ وَبَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْخَالِقِ الْعَالِمِ لَا مُفْرِدَ لَهُ، كَالْأَنَامِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعِلْمِ أَوِ الْعَلَامَةِ، وَمَدْلُولُهُ كُلُّ ذِي رُوحٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ النَّاسُ، قَالَهُ الْبَجَلِيُّ، أَوِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ، أَوِ الثَّقَلَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بَنُو آدَمَ، قَالَهُ أَبُو مُعَاذٍ، أَوْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ الصَّادِقُ، أَوِ الْمُرْتَزِقُونَ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ كُلُّ مَصْنُوعٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، أَوِ الرَّوحَانِيُّونَ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَنُقِلَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَعْدَادٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَالَمِينَ وَفِي مَقَارِّهَا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ. والجمهور قرأوا بِضَمِّ دَالِّ الْحَمْدِ، وَأَتْبَعَ إبراهيم بن أبي عبلة مِيمَهُ لَامَ الْجَرِّ لِضَمَّةِ الدَّالِ، كَمَا أَتْبَعَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَسْرَةَ الدَّالِ لِكَسْرَةِ اللَّامِ، وَهِيَ أَغْرَبُ، لِأَنَّ فِيهِ إِتْبَاعُ حَرَكَةِ مُعْرَبٍ لِحَرَكَةِ غَيْرِ إِعْرَابٍ، وَالْأَوَّلُ بِالْعَكْسِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْبَاعُ فِي مَرْفُوعٍ أَوْ مَنْصُوبٍ، وَيَكُونُ الْإِعْرَابُ إِذْ ذَاكَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مقدرا منع من

_ (1) سورة النمل: 16/ 72. (2) سورة النساء: 4/ 105. [.....] (3) سورة يوسف: 12/ 23. (4) سورة القصص: 28/ 8. (5) سورة الأنبياء: 21/ 47. (6) سورة الأعراف: 7/ 57. (7) سورة الإسراء: 17/ 107.

ظُهُورِهِ شَغْلَ الْكَلِمَةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ، كَمَا فِي الْمَحْكِيِّ وَالْمُدْغَمِ. وَقَرَأَ هَارُونُ الْعَتَكِيُّ، وَرُؤْبَةُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْحَمْدَ بِالنَّصْبِ. وَالْحَمْدُ مَصْدَرٌ مُعَرَّفٌ بِأَلْ، إِمَّا لِلْعَهْدِ، أَيِ الْحَمْدُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ لِلَّهِ، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، كالدينار خَيْرٌ مِنَ الدِّرْهَمِ، أَيْ: أَيُّ دِينَارٍ كَانَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَيِّ دِرْهَمٍ كَانَ، فَيَسْتَلْزِمُ إِذْ ذَاكَ الْأَحْمِدَةَ كُلَّهَا، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَحْمِدَةِ كُلِّهَا بِالْمُطَابَقَةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَمْدِ لَا يُجْمَعُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: جَمْعَهُ عَلَى أَحْمَدَ كَأَنَّهُ رَاعَى فِيهِ جَامِعُهُ اخْتِلَافَ الْأَنْوَاعِ، قَالَ: وَأَبْلَجَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ ... بِأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلَ أَحْمُدِي وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى، وَلِهَذَا أَجْمَعَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَمْدِ وَاسْتِقْرَارِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ مُسْتَقِرٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ حَمْدُهُ وَحَمْدُ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى اللَّامُ فِي لِلَّهِ الِاسْتِحْقَاقُ، وَمَنْ نَصَبَ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَامِلٍ تَقْدِيرُهُ أَحْمَدُ اللَّهَ أَوْ حَمِدْتُ اللَّهَ، فَيَتَخَصَّصُ الْحَمْدُ بِتَخْصِيصِ فَاعِلِهِ، وَأَشْعَرَ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَيَكُونُ فِي حَالَةِ النَّصْبِ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي حُذِفَتْ أَفْعَالُهَا، وَأُقِيمَتْ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ، نَحْوَ شُكْرًا لَا كُفْرًا. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمُ الْعَامِلَ لِلنَّصْبِ فِعْلًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ مِنَ الْحَمْدِ، أَيْ أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوِ الْزَمُوا الْحَمْدَ لِلَّهِ، كَمَا حَذَفُوهُ مِنْ نَحْوِ اللَّهُمَّ ضَبْعًا وَذِئْبًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَفِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، كَمَا قَالَ أَعْنِي لِلَّهِ، وَلَا تَكُونُ مُقَوِّيَةً لِلتَّعْدِيَةِ، فَيَكُونُ لِلَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَصْدَرِ لِامْتِنَاعِ عَمَلِهِ فِيهِ. قَالُوا سُقْيًا لِزَيْدٍ، وَلَمْ يَقُولُوا سُقْيًا زَيْدًا، فَيُعْمِلُونَهُ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ، بَلْ صَارَ عَلَى عَامِلٍ آخَرَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٌ رَبِّ الْعالَمِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَهِيَ فَصِيحَةٌ لَوْلَا خَفْضُ الصِّفَاتِ بَعْدَهَا، وَضَعُفَتْ إِذْ ذَاكَ. عَلَى أَنَّ الْأَهْوَازِيَّ حَكَى فِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا ضَعْفَ إِذْ ذَاكَ، وَإِنَّمَا تَضْعُفُ قِرَاءَةُ نَصْبِ رَبٍّ، وَخَفْضِ الصِّفَاتِ بَعْدَهَا لِأَنَّهُمْ نَصُّوا أَنَّهُ لَا إِتْبَاعَ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي النُّعُوتِ، لَكِنَّ تَخْرِيجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّحْمَنُ بَدَلًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَعْلَمِ، إِذْ لَا يُجِيزُ فِي الرَّحْمَنِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، وَحَسَّنَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ، كَوْنُهُ وَصْفًا خَاصًّا، وَكَوْنُ الْبَدَلِ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى، فَحَسُنَ النَّصْبُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نَصَبَ رَبِّ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ نَحْمَدُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ مُرَاعَاةُ التَّوَهُّمِ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْعَطْفِ، وَلَا يَنْقَاسُ فِيهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ

نَصَبَهُ عَلَى الْبَدَلِ فَضَعِيفٌ لِلْفَصْلِ بِقَوْلِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَرَبُّ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ عَلَى أَحَدِ وُجُوهِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، أَوِ اسْمُ فَاعِلٍ حُذِفَتْ أَلِفُهُ، فَأَصْلُهُ رَابٌّ، كَمَا قَالُوا رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ، وَأَطْلَقُوا الرَّبَّ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَفِي غَيْرِهِ قُيِّدَ بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ رَبِّ الدَّارِ. وَأَلْ فِي الْعَالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَجَمْعُ الْعَالَمِ شَاذٌّ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَجَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَشَذُّ لِلْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ الَّتِي لِهَذَا الْجَمْعِ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ «1» ، وَقِرَاءَةُ حَفْصٍ بِكَسْرِ اللَّامِ تُوَضِّحُ ذَلِكَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ رَبِّ الْعالَمِينَ صِفَاتُ مَدْحٍ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُمَا عَلَمٌ لَمْ يَعْرِضْ فِي التَّسْمِيَةِ بِهِ اشْتَرَاكٌ فَيُخَصَّصُ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْوَصْفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الرَّبُّ بِمَعْنَى السَّيِّدِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَالِكِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ، كَانَ صِفَةَ فِعْلٍ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا التَّصْرِيفُ فِي الْمَسُودِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْعَابِدِ بِمَا أَرَادَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَانِيَّةِ وَالرَّحِيمِيَّةِ، لِيَنْبَسِطَ أَمَلُ الْعَبْدِ فِي الْعَفْوِ إِنْ زَلَّ، وَيَقْوَى رَجَاؤُهُ إِنْ هَفَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ بِمِعْنَى الثَّابِتِ، وَلَا بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، لِامْتِنَاعِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْعَالَمِينَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُصْلِحِ، كَانَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَةِ مُشْعِرًا بِقِلَّةِ الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ لِلشَّخْصِ عَلَى إِصْلَاحِ حَالِ الشَّخْصِ رَحْمَتُهُ لَهُ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَالْوَصْفِ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِلْمَرْبُوبِينَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ. وَخَفَضَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْجُمْهُورُ، وَنَصَبَهُمَا أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَعِيسَى بْنُ عَمْرٍو، وَرَفَعَهُمَا أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجُونِيُّ، فَالْخَفْضُ عَلَى النَّعْتِ، وَقِيلَ فِي الْخَفْضِ إِنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ لِلْقَطْعِ. وَفِي تَكْرَارِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَتَأْكِيدُ أَمْرِهِمَا، وَجَعَلَ مَكِّيٌّ تَكْرَارَهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ، قَالَ: إِذْ لَوْ كَانَتْ آيَةً لَكُنَّا قَدْ أَتَيْنَا بِآيَتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا بِفَوَاصِلَ تَفْصِلُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. قَالَ: والفصل بينهما بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَا فَصْلٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْدِيمُ تَقْدِيرُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّ مُجَاوَرَةَ الرَّحْمَةِ بِالْحَمْدِ أَوْلَى، وَمُجَاوَرَةَ الْمَلِكِ بِالْمُلْكِ أَولَى. قَالَ: وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامُ مَكِّيٍّ مَدْخُولٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَلَوْلَا جَلَالَةُ قَائِلِهِ نَزَّهْتُ كِتَابِي هَذَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَالتَّرْتِيبُ الْقُرْآنِيُّ جَاءَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بصفة الربوبية وصفة

_ (1) سورة الروم: 30/ 22.

الرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا مِلْكُهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَالثَّانِي الْعِبَادَةُ. فَنَاسَبَ الرُّبُوبِيَّةَ للملك، وَالرَّحْمَةَ الْعِبَادَةُ. فَكَانَ الْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ الْوَقْفَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَقْسَامِهِ، فَقِيلَ تَامٌّ وَكَافٌّ وَقَبِيحٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كُتُبًا مُرَتَّبَةً عَلَى السور، ككتاب أبي عمر، والداني، وَكِتَابِ الْكِرْمَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ حَظٌّ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ. مالِكِ قَرَأَ مَالِكِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ بِالْخَفْضِ، عَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَيَعْقُوبُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَشَرَةِ إِلَّا طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَقِرَاءَةُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ: قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَ مَلِكِ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ بِالْخَفْضِ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْمِسْوَرُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَرَأَ مَلْكِ عَلَى وَزْنِ سَهْلٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَرَوَاهَا الْجُعْفِيُّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهِيَ لُغَةُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَقَرَأَ مَلِكِي بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الْكَافِ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ وَرْشٍ، عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ مِلْكِ عَلَى وَزْنِ عِجْلٍ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطِيَّةُ، ونسبها ابن عطية إلى أَبِي حَيَاةَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو نَوْفَلٍ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ مَلِكَ يَوْمَ الدِّينِ، بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي حَيَاةَ، انْتَهَى. وَقَرَأَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ الْكَافَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةُ، وَمُورِقٌ الْعِجْلِيِّ. وَقَرَأَ مَلَكَ فِعْلًا مَاضِيًا أَبُو حَيَاةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مَطْعِمٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَأَبُو الْمَحْشَرِ عَاصِمُ بْنُ مَيْمُونٍ الْجَحْدَرِيُّ، فَيَنْصِبُونَ الْيَوْمَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَالْحَسَنِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَرَأَ مَالِكَ بِنَصْبِ الْكَافِ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ قَاضِي الْهِنْدِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، وَأَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الشَّامِيِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ الْيَمَانِ مَلِكًا بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ مَالِكٌ بِرَفْعِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ عَوْنٌ الْعُقَيلِيِّ، وَرُوِيَتْ عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَبِنَصْبِ الْيَوْمِ. وَقَرَأَ مَالِكُ يَوْمِ بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَيَاةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَنَسَبَهَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ إِلَى أَبِي رَوْحٍ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ الْعُقَيلِيِّ، سَاكِنِ الْبَصْرَةِ. وَقَرَأَ مَلِيكِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أُبَيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو رَجَاءَ الْعُطَارِدِيُّ. وَقَرَأَ مَالِكِ بِالْإِمَالَةِ الْبَلِيغَةِ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَبَيْنَ بَيْنَ قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَجَهِلَ النَّقْلَ، أَعْنِي فِي قِرَاءَةِ الْإِمَالَةِ، أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ

فَقَالَ: لَمْ يُمِلْ أَحَدٌ من القراء أَلِفَ مَالِكٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ بِمَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ أَثَرٌ مُسْتَفِيضٌ. وذكر أيضا أنه قرىء فِي الشَّاذِّ مَلَّاكِ بِالْأَلِفِ وَالتَّشْدِيدِ لِلَّامِ وَكَسْرِ الْكَافِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قِرَاءَةً، بَعْضُهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَلْكِ، وَبَعْضُهَا إِلَى الْمِلْكِ، قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى الْمَلْكِ، وَهُوَ الرَّبْطُ، وَمِنْهُ مَلْكُ الْعَجِينِ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قائما مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا وَالْإِمْلَاكُ رَبْطُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَمِنْ مُلَحِ هَذِهِ الْمَادَّةِ أَنَّ جَمِيعَ تَقَالِيبِهَا السِّتَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي اللِّسَانِ، وَكُلُّهَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَبَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهَذَا يُسَمَّى بِالِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ غَيْرُ أَبِي الْفَتْحِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يَأْنَسُ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَتِلْكَ التَّقَالِيبُ: مَلَكَ، مَكَلَ، كَمْكَلَ، لَكَمَ، كَمُلَ، كَلَمَ. وَزَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ تَقْلِيبَ كَمْكَلَ مُهْمَلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ بِدَلِيلِ مَا أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَمَّا رَآنِي قَدْ حَمَمْتُ ارْتِحَالَهُ ... تَمَلَّكَ لَوْ يُجْدِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكُ وَالْمُلْكُ هُوَ الْقَهْرُ وَالتَّسْلِيطُ عَلَى مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقٍ وَبِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَالْمَلْكُ هُوَ الْقَهْرُ عَلَى مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَمَنْ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقٍ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ مَلَكَ مِنَ الْمُلْكِ، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَمَالِكِ مِنَ الْمِلْكِ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، وَزَعَمُوا أَنَّ ضَمَّ الْمِيمِ لُغَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ لِي فِي هَذَا الْوَادِي مُلْكٌ وَمِلْكٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. يَوْمِ، الْيَوْمُ هُوَ الْمُدَّةُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَتَرْكِيبُهُ غَرِيبٌ، أَعْنِي وُجُودَ مَادَّةٍ تَكُونُ فَاءُ الْكَلِمَةِ فِيهَا يَاءً وَعَيْنُهَا وَاوًا لَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ سِوَى يَوْمٍ وَتَصَارِيفِهِ وَيُوحُ اسْمٌ لِلشَّمْسِ، وَبَعْضُهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ بُوجٌ بِالْبَاءِ، وَالْمُعْجَمَةِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلَ. الدِّينِ الْجَزَاءُ دَنَاهُمْ كَمَا دَانُوا، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحِسَابُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ «1» ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْقَضَاءُ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «2» ، وَالطَّاعَةُ فِي دِينِ عَمْرٍو، وَحَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ فَدَكٌ، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ وَالْعَادَةُ، كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحويرث

_ (1) سورة التوبة: 9/ 36، وسورة الروم: 30/ 30. (2) سورة النور: 24/ 2.

قَبْلَهَا، وَكَنَّى بِهَا هُنَا عَنِ الْعَمَلِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمِلَّةُ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «2» ، وَالْقَهْرُ، وَمِنْهُ الْمَدِينُ لِلْعَبْدِ، وَالْمَدِينَةُ لِلْأُمَّةِ، قَالَهُ يَمَانُ بْنُ رِئَابٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ: وَإِنْ أَطَاعَ وَعَصَى وَذَلَّ وَعَزَّ وَقَهَرَ وَجَارَ وَمَلَكَ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: دِنْتُهُ بفعله دينا ودينا بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا جَازَيْتُهُ. وَقِيلَ: الدَّينُ الْمَصْدَرُ، وَالدِّينُ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَالدِّينُ السِّيَاسَةُ، وَالدَّيَّانُ السَّايَسُ. قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ عَنْهُ: وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُوَنِي، وَالدِّينُ الْحَالُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَعْرَابِيًّا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَوْ لَقِيتَنِي عَلَى دِينٍ غَيْرَ هَذَا لَأَخْبَرْتُكَ، وَالدِّينُ الدَّاءُ عَنِ اللِّحْيَانِي وَأَنْشَدَ: يَا دِينُ قَلْبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا وَمَنْ قَرَأَ بِجَرِّ الْكَافِ فَعَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ مِلْكٍ عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَوْ إِسْكَانِهَا، أَوْ مَلِيكٌ بِمَعْنَاهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ مَعْرِفَةً بِمَعْرِفَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ مَالِكِ أَوْ مَلَّاكِ أَوْ مَلِيكِ مُحَوَّلَيْنِ مِنْ مَالِكٍ لِلْمُبَالَغَةِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ فِعْلًا مَاضِيًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْيَوْمَ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنَّهُ تَكُونُ إِضَافَتُهُ غَيْرَ مَحْضَةٍ فَلَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ صِفَةً، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ وَلَا بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ بِالصِّفَاتِ ضَعِيفٌ. وَحَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ هُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ، إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ، جَازَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، إِذْ يَكُونُ مَنْوِيًّا فِيهِ الِانْفِصَالُ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَلِأَنَّهُ عَمِلَ النَّصْبَ لَفْظًا. الثَّانِي: أَنْ يَتَعَرَّفَ بِهِ إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، فَيَلْحَظُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ، وَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِالزَّمَانِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَرِيبُ النَّقْلِ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَتَنْقِيبٌ عَنْ لَطَائِفِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَزَعَمَ يُونُسُ وَالْخَلِيلُ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةَ الَّتِي صَارَتْ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ قَدْ يَجُوزُ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مَعْرِفَةً، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، انْتَهَى. وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَابَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ حَسَنِ الْوَجْهِ. وَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ وَنَوَّنَ أَوْ لَمْ يُنَوِّنْ فَعَلَى الْقَطْعِ إِلَى الرَّفْعِ. وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الْقَطْعِ إِلَى النَّصْبِ، أَوْ عَلَى النِّدَاءِ وَالْقَطْعُ أَغْرَبُ لِتَنَاسُقِ الصِّفَاتِ، إِذْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْقَطْعِ عَنْهَا. وَمَنْ قَرَأَ مَلَكَ فِعْلًا مَاضِيًا فَجُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَمَنْ أَشْبَعَ كَسْرَةَ الْكَافِ فَقَدْ قَرَأَ بِنَادِرٍ أَوْ بِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَإِضَافَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْمُلْكِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 3. (2) سورة آل عمران: 3/ 19.

إِلَى يَوْمِ الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، إِذْ مُتَعَلِّقُهُمَا غَيْرَ الْيَوْمِ. وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، لَا عَلَى مَعْنَى فِي، خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَ الْإِضَافَةَ بِمَعْنَى فِي، وَيُبْحَثُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا فِي النَّحْوِ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمِلْكِ كَانَ مِنْ بَابِ. طَبَّاخِ سَاعَاتِ الْكَرَى زَادَ الْكَسِلْ وَظَاهِرُ اللُّغَةِ تَغَايُرُ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ هَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالتَّغَايُرِ فَقِيلَ مَالِكٌ أَمْدَحُ لِحُسْنِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَنْ لَا تَحْسُنُ إِضَافَةُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ، نَحْوَ مَالِكِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالطَّيْرِ، فَهُوَ أَوْسَعُ لِشُمُولِ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ ... مَلِكِ الْمُلُوكِ ومالك العفر قاله الْأَخْفَشُ، وَلَا يُقَالُ هُنَا مِلْكُ، وَلِقَوْلِهِمْ مَالِكُ الشَّيْءِ لِمَنْ يَمْلِكُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَلِكًا لَا مَالِكًا نَحْوَ مِلِكِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَلِزِيَادَتِهِ فِي الْبِنَاءِ، وَالْعَرَبُ تُعَظِّمُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْبِنَاءِ، وَلِلزِّيَادَةِ فِي أَجْزَاءِ الثَّانِي لِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ، وَلِكَثْرَةِ مَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلِتُمَكِّنَ التَّصَرُّفَ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَتَمْلِيكٍ، وَلِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ إِذَا تَصَرَّفَ بِجَوْرٍ أَوِ اعْتِدَاءٍ أَوْ سَرَفٍ، وَلِتَعَيُّنِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِعَدَمِ قُدْرَةِ المملوك عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنَ الْمَلِكِ، وَلِكَثْرَةِ رَجَائِهِ فِي سَيِّدِهِ بِطَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ يَطْمَعُ فِيهِ، وَالْمَلِكَ يَطْمَعُ فِيكَ، وَلِأَنَّ لَهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَالْمَلِكُ لَهُ هَيْبَةً وَسِيَاسَةً. وَقِيلَ مَلِكٌ أَمْدَحُ وَأَلْيَقُ إِنْ لَمْ يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى لِإِشْعَارِهِ بِالْكَثْرَةِ وَلِتَمَدُّحِهِ بِمَالِكِ الْمُلْكِ، وَلَمْ يَقُلْ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَلِتُوَافِقَ الِابْتِدَاءَ وَالِاخْتِتَامَ فِي قَوْلِهِ مَلِكِ النَّاسِ «1» ، وَالِاخْتِتَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَشْرَفِ الْأَسْمَاءِ، وَلِدُخُولِ الْمَالِكِ تَحْتَ حُكْمِ الْمِلْكِ، وَلِوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالْمُلْكِ فِي مَوَاضِعَ، وَلِعُمُومِ تَصَرُّفِهِ فِيمَنْ حَوَتْهُ مملكته، وقصر المالك عَلَى مِلْكِهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَلِعَدَمِ احْتِيَاجِ الْمِلْكِ إِلَى الْإِضَافَةِ، أَوْ مَالِكٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الإضافة إلى مملوك، ولكونه أَعْظَمُ النَّاسِ، فَكَانَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِكِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَكَى ابْنُ السَّرَّاجِ عَمَّنِ اخْتَارَ قِرَاءَةَ مَلِكِ كُلِّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَقِرَاءَةُ مَالِكِ تَقْرِيرٌ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا، لِأَنَّ فِي التَّنْزِيلِ تَقَدَّمَ الْعَامُّ، ثُمَّ ذُكِرَ الْخَاصُّ مِنْهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «2» ، فَالْخَالِقُ يَعُمُّ، وَذُكِرَ الْمُصَوِّرُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الصَّنْعَةِ وَوُجُوهِ الْحِكْمَةِ، وَمِنْهُ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «3» ، بَعْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «4» ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ اعتقادها،

_ (1) سورة الناس: 114/ 2. (2) سورة الحشر: 59/ 24. (3) سورة البقرة: 2/ 4. (4) سورة البقرة: 2/ 3. [.....]

وَالرَّدِّ عَلَى الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ، وَمِنْهُ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ذِكْرُ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ، وَذِكْرُ الرَّحِيمِ بَعْدَهُ لِتَخْصِيصِ الرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «1» ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّبَّ يَتَصَرَّفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْمِلْكِ، كَقَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلُ رَبَّيْتِنِي فَصَفَتْ رُبُوبُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَتَنْعَكِسُ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ قَرَأَ مَلَكَ. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مَالِكُ أَوْ مَلِكُ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْحِسَابُ وَيَسْتَقِرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا، وَأَهْلُ النَّارِ فِيهَا، وَمُتَعَلَّقُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأَمْرُ، كَأَنَّهُ قَالَ مَالِكُ أَوْ مَلِكُ الْأَمْرِ فِي يَوْمِ الدِّينِ. لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ، جَازَ أَنْ يَتَّسِعَ فَيَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ أَوِ الْمَالِكُ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الظَّرْفِ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْمَظْرُوفِ. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكَ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا وَالْأَمْكِنَةِ وَمَنْ حَلَّهَا وَالْمِلْكُ فِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْيَوْمِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَهْوَالِ الْجِسَامِ مِنْ قِيَامِهِمْ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِشْفَاعِ لِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَاسْتِقْرَارِهِمَا فِيمَا وَعَدَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ يَوْمٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ جَمِيعُ مَا مَلَّكَهُ لِعِبَادِهِ وَخَوَّلَهُمْ فِيهِ وَيَزُولُ فِيهِ مِلْكُ كُلِّ مَالِكٍ قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «2» ، وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «3» . قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: إِنْ مَعْنَى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِنَّهُ يَمْلِكُ مَجِيئَهُ وَوُقُوعَهُ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْيَوْمِ عَلَى قَوْلِهِ إِضَافَةٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ ظَرْفًا اتَّسَعَ فِيهِ، وَمَا فُسِّرَ بِهِ الدِّينُ مِنَ الْمَعَانِي يَصِحُّ إِضَافَةُ الْيَوْمِ إِلَيْهِ إِلَى مَعْنَى كُلٍّ مِنْهَا إِلَّا الْمِلَّةَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْحِسَابِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «4» ، والْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «5» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْحِسَابِ مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ دَلَالَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ، وَلَمَّا اتَّصَفَ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ، انْبَسَطَ الْعَبْدُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ، فَنَبَّهْ بِصِفَةِ الْمَلِكِ أَوِ الْمَالِكِ لِيَكُونَ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى وَجَلٍ، وَأَنَّ لِعَمَلِهِ يَوْمًا تَظْهَرُ لَهُ فِيهِ ثَمَرَتُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. إِيَّاكَ، إِيَّا تَلْحَقُهُ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَكَافُ الْمُخَاطَبِ وَهَاءُ الغائب وفروعها، فيكون

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 43. (2) سورة مريم: 19/ 95. (3) سورة الأنعام: 6/ 94. (4) سورة غافر: 40/ 17. (5) سورة الجاثية: 45/ 28.

ضَمِيرَ نَصْبٍ مُنْفَصِلًا لَا اسْمًا ظَاهِرًا أُضِيفَ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَهَلِ الضَّمِيرُ هُوَ مَعَ لَوَاحِقِهِ أَوْ هُوَ وَحْدَهُ؟ وَاللَّوَاحِقُ حُرُوفٌ، أَوْ هُوَ وَاللَّوَاحِقٌ أَسْمَاءٌ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهَا، أَوِ اللَّوَاحِقُ وَحْدَهَا، وَإِيَّا زَائِدَةٌ لِتَتَّصِلَ بِهَا الضَّمَائِرُ، أَقْوَالٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا لُغَاتُهُ فَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ، عَنْ أُبَيٍّ، وَبِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ هَاءً، وَبِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ هَاءً، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ، وَذَهَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى أَنَّ إِيَّا مُشْتَقٌّ ضَعِيفٌ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَاتِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ. وَإِذَا قِيلَ بِالِاشْتِقَاقِ، فَاشْتِقَاقُهُ مِنْ لَفْظِ، آوِ مِنْ قَوْلِهِ: فَآوِ لِذِكْرَاهَا إِذَا مَا ذَكَرْتَهَا فَتَكُونُ مِنْ بَابِ قُوَّةٍ، أَوْ مِنَ الْآيَةِ فَتَكُونُ عَيْنُهَا يَاءً كَقَوْلِهِ: لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ إِيَّائِهِ قَوْلَانِ، وَهَلْ وَزْنُهُ افْعَلْ وَأَصْلُهُ إِأْوَوْ أَوْ إِأْوَى أَوْ فَعِيلٌ فَأَصْلُهُ إِوْيَوْ أَوْ إِوْيَي أَوْ فَعُولٌ، وَأَصْلُهُ إِوْوَوْ أَوْ إِوْيَى أَوْ فعلى، فأصله أووى أواويا، أَقَاوِيلُ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَالْكَلَامُ عَلَى تَصَارِيفِهَا حَتَّى صَارَتْ إِيَّا تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِضَافَةُ إِيَّا لِظَاهِرٍ نَادِرٌ نَحْوُ: وَإِيَّا الشَّوَابِّ، أَوْ ضَرُورَةٌ نَحْوُ: دَعْنِي وَإِيَّا خَالِدٍ، وَاسْتِعْمَالُهُ تَحْذِيرًا معروف فيحتمل ضَمِيرًا مَرْفُوعًا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ بِالرَّفْعِ نَحْوَ: إِيَّاكَ أَنْتَ نَفْسَكَ. نَعْبُدُ، الْعِبَادَةُ: التَّذَلُّلُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ التَّجْرِيدُ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَتَعَدِّيهِ بِالتَّشْدِيدِ مُغَايِرٌ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّخْفِيفِ، نَحْوَ: عَبَّدْتُ الرَّجُلَ ذَلَّلْتُهُ، وَعَبَدْتُ اللَّهَ ذَلَلْتُ لَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو مِجْلِزٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ: إِيَّاكَ يُعْبَدُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ نَعْبُدْ بِإِسْكَانِ الدَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: نَعْبُدُ بِكَسْرِ النُّونِ. نَسْتَعِينُ، الِاسْتِعَانَةُ، طَلَبُ الْعَوْنِ، وَالطَّلَبُ أَحَدُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مَعْنًى، وَهِيَ: الطَّلَبُ، وَالِاتِّحَادُ، وَالتَّحَوُّلُ، وَإِلْقَاءُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ وَعَدُّهُ كَذَلِكَ، وَمُطَاوَعَةُ أَفْعَلَ وَمُوَافَقَتُهُ، وَمُوَافَقَةُ تَفَعَّلَ وَافْتَعَلَ وَالْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ وَعَنْ فَعَلَ مِثْلُ ذَلِكَ اسْتَطْعَمَ، وَاسْتَعْبَدَهُ، وَاسْتَنْسَرَ وَاسْتَعْظَمَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَاسْتَشْلَى مُطَاوِعُ أَشْلَى، وَاسْتَبَلَّ مُوَافِقٌ مُطَاوِعٌ أَبَلَّ، وَاسْتَكْبَرَ مُوَافِقُ تَكَبَّرَ، وَاسْتَعْصَمَ مُوَافِقُ

اعْتَصَمَ، وَاسْتَغْنَى مُوَافِقُ غِنًى، وَاسْتَنْكَفَ وَاسْتَحْيَا مُغْنِيَانِ عَنِ الْمُجَرَّدِ، وَاسْتَرْجَعَ، وَاسْتَعَانَ حَلَقَ عَانَتَهُ، مُغْنِيَانِ عَنْ فَعَلَ، فَاسْتَعَانَ طَلَبَ الْعَوْنَ، كَاسْتَغْفَرَ، وَاسْتَعْظَمَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَقَدْ جَاءَ فِيهِ وِيَّاكَ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ وَاوًا، فَلَا أَدْرِي أَذَلِكَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَمْ عَنِ الْعَرَبِ، وَهَذَا عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا فَرُّوا إِلَيْهِ فِي نَحْوِ أَشَاحَ فِيمَنْ هَمَزَ لِأَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ إِلَى الْهَمْزَةِ، وَاسْتِثْقَالًا لِلْكَسْرَةِ عَلَى الْوَاوِ. وُفِي وَيَّاكَ فَرُّوا مِنَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْوَاوِ، وَعَلَى لُغَةِ مَنْ يَسْتَثْقِلُ الْهَمْزَةَ جُمْلَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ شَبَهِ التَّهَوُّعِ، وَبِكَوْنِ اسْتَفْعَلَ أَيْضًا لِمُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ وَفَعَلَ. حَكَى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ: تَمَاسَكْتُ بِالشَّيْءِ وَمَسَكْتُ بِهِ وَاسْتَمْسَكَ بِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيِ احْتَبَسْتُ بِهِ، قَالَ وَيُقَالُ: مَسَكْتُ بِالشَّيْءِ وَأَمْسَكْتُ وَتَمَسَّكْتُ، احْتَبَسْتُ، انْتَهَى. فَتَكُونُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ حِينَئِذٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِزِيَادَةِ مُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ وَتَفَعَّلَ. وَفَتْحُ نُونِ نَسْتَعِينُ قَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْفُصْحَى. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَتَمِيمٍ، وَأَسَدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: هِيَ لُغَةُ هَذِيلٍ، وَانْقِلَابُ الْوَاوِ أَلِفًا فِي اسْتَعَانَ وَمُسْتَعَانٍ، وَيَاءً فِي نَسْتَعِينُ وَمُسْتَعِينٍ، وَالْحَذْفُ فِي الِاسْتِعَانَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ، وَيُعَدَّى اسْتَعَانَ بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ. إِيَّاكَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِلِ إِلَّا لِلتَّخْصِيصِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ بِسْمِ اللَّهِ أَتْلُوا، وَذَكَرْنَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ هُنَاكَ. فَالتَّقْدِيمُ عِنْدَنَا إِنَّمَا هُوَ لِلِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْمَفْعُولِ. وَسَبَّ أَعْرَابِيٌّ آخَرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ: إِيَّاكَ أَعْنِي، فَقَالَ لَهُ: وَعَنْكَ أُعْرِضُ، فَقَدَّمَا الْأَهَمَّ، وَإِيَّاكَ الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْغَيْبَةِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نسق وَاحِدٍ لَكَانَ إِيَّاهُ. وَالِانْتِقَالُ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ لِلْخِطَابِ أَوِ التَّكَلُّمِ، وَمِنَ الْخِطَابِ لِلْغَيْبَةِ أَوِ التَّكَلُّمِ، وَمِنَ التَّكَلُّمِ لِلْغَيْبَةِ أَوِ الْخِطَابِ. وَالْغَيْبَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالظَّاهِرِ، وَتَارَةً بِالْمُضْمَرِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ وَاحِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِإِيَّاكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَقَالُوا فَائِدَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِظْهَارُ الْمَلَكَةِ فِي الْكَلَامِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَزِيدًا عَلَى هَذَا، وَهُوَ إِظْهَارُ فَائِدَةٍ تخص كل موضع مَوْضِعٍ، وَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَفَائِدَتُهُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ الْمُتَّصِفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُلْكِ وَالْمَلِكِ لِلْيَوْمِ الْمَذْكُورِ، أَقْبَلَ الْحَامِدُ مُخْبِرًا بِأَثَرِ ذِكْرِهِ الْحَمْدَ الْمُسْتَقِرَّ لَهُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ وَغَيْرُهُ يَعْبُدُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ. وَكَذَلِكَ أَتَى بِالنُّونِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَسْتَغْرِقُ الْحَامِدِينَ،

كَذَلِكَ الْعِبَادَةُ تَسْتَغْرِقُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّكَ تَذْكُرُ شَخْصًا مُتَّصِفًا بِأَوْصَافٍ جَلِيلَةٍ، مُخْبِرًا عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ حَاضِرًا مَعَكَ، فَتَقُولُ لَهُ: إِيَّاكَ أَقْصِدُ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْخِطَابِ مِنَ التَّلَطُّفِ عَلَى بُلُوغِ الْمَقْصُودِ مَا لَا يَكُونُ فِي لَفْظِ إِيَّاهُ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِلدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ اهْدِنَا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَلِكَ مُنَادًى، فَلَا يَكُونُ إِيَّاكَ الْتِفَاتًا لِأَنَّهُ خِطَابٌ بَعْدَ خِطَابٍ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَعْدَ النِّدَاءِ الْغَيْبَةُ، كَمَا قَالَ: يَا دارمية بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ وَمِنَ الْخِطَابِ بَعْدَ النِّدَاءِ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دارمي عَلى الْبِلَى ... وَلَا زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ وَدَعْوَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَبْيَاتِ امْرِئِ الْقَيْسِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ الْتِفَاتَاتٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُمَا الْتِفَاتَانِ: الْأَوَّلُ: خُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بِالْإِثْمِدِ ... وَنَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ ... كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائِرِ الْأَرْمَدِ الثَّانِي: خُرُوجٌ مِنْ هَذِهِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي. وَخَبَّرْتُهُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ وَتَأْوِيلُ كَلَامِهِ أَنَّهَا ثَلَاثٌ خَطَأٌ وَتَعْيِينُ. أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ أَشَدُّ خَطَأً لِأَنَّ هَذَا الِالْتِفَاتَ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ لَا مِنَ التَّقَادِيرِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَإِضْمَارُ قُولُوا قَبْلَ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَإِضْمَارُهَا أَيْضًا قَبْلَ إِيَّاكَ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْتِفَاتٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وَقَدْ عَقَدَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْبَدِيعِ بَابًا لِلِالْتِفَاتِ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِهِمْ كَلَامًا فِيهِ ابْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ إِيَّاكَ يُعْبَدُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشْكِلَةٌ، لِأَنَّ إِيَّاكَ ضَمِيرُ نَصْبٍ وَلَا نَاصِبَ لَهُ وَتَوْجِيهُهَا أَنَّ فِيهَا اسْتِعَارَةً وَالْتِفَاتًا، فَالِاسْتِعَارَةُ إِحْلَالُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَخْبَرَ عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ لَمَّا كَانَ إِيَّاكَ هُوَ الْغَائِبَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَقَالَ يُعْبَدُ، وَغَرَابَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ كَوْنُهُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَأَنْتَ الْهِلَالِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً ... سَمِعْنَا بِهِ وَالْأَرْحَبِيُّ الْمُغَلِّبُ

وَإِلَى قَوْلِ أَبِي كَثِيرٍ الْهُذَلِيِّ: يَا لَهْفَ نَفْسِيَ كان جلدة خَالِدٍ ... وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للتُّرَابِ الْأَعْفَرِ وَفُسِّرَتِ الْعِبَادَةُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِأَنَّهَا التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَهُوَ أَصْلُ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَوِ الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ «1» ، أَوِ التَّقَرُّبُ بِالطَّاعَةِ أَوِ الدُّعَاءِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، أَيْ عَنْ دُعَائِي، أَوِ التَّوْحِيدِ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَيْ لِيُوَحِّدُونِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقُرِنَتِ الِاسْتِعَانَةُ بِالْعِبَادَةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَقُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ لِتَقْدِيمِ الْوَسِيلَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ لِتَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَأَطْلَقَ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ لِتَتَنَاوَلَ كُلَّ مَعْبُودٍ بِهِ وَكُلَّ مُسْتَعَانٍ عَلَيْهِ. وَكَرَّرَ إِيَّاكَ لِيَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ سِيقَا فِي جُمْلَتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودَةٌ، وَلِلتَّنْصِيصِ عَلَى طَلَبِ الْعَوْنِ مِنْهُ بِخِلَافِ لَوْ كَانَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا بِطَلَبِ لعون، أَيْ وَلِيَطْلُبَ الْعَوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَ مِمَّنْ يَطْلُبُ.. وَنُقِلَ عَنِ الْمُنْتَمِينَ لِلصَّلَاحِ تَقْيِيدَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: نَعْبُدُ قَالُوا رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَفِي نَسْتَعِينُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَمَقَامُ الْعِبَادَةِ شَرِيفٌ، وَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ «2» اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «3» ، والكناية به عَنْ أَشْرَفِ الْمَخْلُوقِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «4» ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا «5» ، وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ عِيسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ «6» ، وَقَالَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «7» فَذَكَرَ الْعِبَادَةَ عَقِيبَ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْعِبَادَةُ فَرْعُهُ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ. رَدٌّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِمَوْجُودٍ حَاضِرٍ. اهْدِنَا، الْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ وَالدَّلَالَةُ وَالتَّقَدُّمُ وَمِنْهُ الْهَوَادِي أَوِ التَّبْيِينُ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «8» أو الإلهاء أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «9» ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معناه ألهم

_ (1) سورة يس: 36/ 60. (2) سورة الحجر: 15/ 99. (3) سورة البقرة: 2/ 21. (4) سورة الإسراء 17/ 1. (5) سورة الأنفال: 8/ 41. (6) سوة مريم: 19/ 30. (7) سورة طه: 20/ 14. (8) سورة فصلت: 41/ 13. (9) سورة طه: 20/ 50. [.....]

الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا إِلَى مَنَافِعِهَا، أَوِ الدُّعَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَيْ دَاعٍ وَالْأَصْلُ فِي هَدَى أَنْ يَصِلَ إِلَى ثَانِي مَعْمُولِهِ بِاللَّامِ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1» أَوْ إِلَى لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» ثُمَّ يَتَّسِعُ فِيهِ فَيُعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ اهْدِنَا الصِّراطَ، وَنَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ مُعْظَمُ نَفْسِهِ. وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ. الصِّراطَ الطَّرِيقَ، وَأَصْلُهُ بِالسِّينِ مِنَ السَّرْطِ، وَهُوَ اللَّقْمُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّرِيقُ لَقْمًا، وَبِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ قرأ قبل وَرُوَيْسٌ، وَإِبْدَالُ سِينِهِ صَادًا هِيَ الْفُصْحَى، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِهَا كُتِبَتْ فِي الْإِمَامِ، وَزَايًا لُغَةٌ رَوَاهَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَإِشْمَامُهَا زَايًا لُغَةُ قَيْسٍ وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ بِخِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عَنْ رُوَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو علي: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، السين وَالصَّادُ وَالْمُضَارَعَةُ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْعُرْيَانُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَهَا بِزَايٍ خَالِصَةٍ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَطَأٌ مِنْهُ إِنَّمَا سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو يَقْرَؤُهَا بِالْمُضَارَعَةِ فَتَوَهَّمَهَا زَايًا، وَلَمْ يَكُنِ الْأَصْمَعِيُّ نَحْوِيًّا فَيُؤْمَنَ عَلَى هَذَا. وَحَكَى هَذَا الْكَلَامَ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِمَامِيَّةِ: الصِّرَاطُ بِالصَّادِ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ، وَعَامَّةُ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَهَا سِينًا، وَالزَّايُ لُغَةٌ لِعُذْرَةَ، وَكَعْبٍ، وَبَنِي الْقَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ تَكَلُّفُ حَرْفٍ بَيْنَ حَرْفَيْنِ، وَذَلِكَ صَعْبٌ عَلَى اللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِحَرْفٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَلَا هُوَ مِنْ حروف المعجم. لست أَدْفَعُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنَّ الصَّادَ أَفْصَحُ وَأَوْسَعُ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَتَذْكِيرُهُ أَكْثَرُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ الصِّرَاطَ كَالطَّرِيقِ، وَالسَّبِيلِ وَالزُّقَاقِ وَالسُّوقِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يُذَكِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَيُجْمَعُ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى سُرُطٍ، نَحْوِ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَفِي الْقِلَّةِ قِيَاسُهُ أَسْرِطَةٌ، نَحْوُ حِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، هَذَا إِذَا كَانَ الصِّرَاطُ مُذَكَّرًا، وَأَمَّا إِذَا أُنِّثَ فَقِيَاسُهُ أَفْعُلٌ نَحْوُ ذِرَاعٍ وَأَذْرُعٍ وَشِمَالٍ وَأَشْمُلٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْحَسَنِ: اهْدِنَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، بِالتَّنْوِينِ مِنْ غَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ «3» . الْمُسْتَقِيمَ، اسْتَقَامَ: اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الزَّوَائِدِ، وهذا أحد معاني

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 9. (2) سورة الشورى: 42/ 52. (3) سورة الشورى: 42/ 52- 53.

اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ قَامَ، وَالْقِيَامُ هُوَ الِانْتِصَابُ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاجٍ. صِراطَ الَّذِينَ اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَالْأَفْصَحُ كَوْنُهُ بِالْيَاءِ فِي أَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَجْعَلُهُ بِالْوَاوِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، وَاسْتِعْمَالُهُ بِحَذْفِ النُّونِ جَائِزٌ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، إِلَّا إِنْ كَانَ لِغَيْرِ تَخْصِيصٍ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَسُمِعَ حَذْفُ أَلْ منه فقالوا: لذين، وَفِيمَا تُعَرَّفُ بِهِ خِلَافٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ، وَيُخَصُّ الْعُقَلَاءُ بِخِلَافِ الَّذِي، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى ذِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ. أَنْعَمْتَ، النِّعْمَةُ: لِينُ الْعَيْشِ وَخَفْضُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْجَنُوبِ النُّعَامَى لِلِينِ هُبُوبِهَا، وَسُمِّيَتِ النَّعَامَةُ لِلِينِ سَهْمِهَا: نَعِمَ إِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ، وَأَنْعَمْتُ عَيْنَهُ أَيْ سَرَرْتُهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بَالَغَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ، أَيْ وَالْهَمْزَةُ فِي أَنْعَمَ بِجَعْلِ الشيء صاحب ما صيغ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى التَّفَضُّلِ، فَعُدِّيَ بِعَلَى، وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ. أَنْعَمْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ صَاحِبَ نِعْمَةٍ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي لِأَفْعَلَ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى، هَذَا أَحَدُهَا. وَالتَّعْدِيَةُ، وَالْكَثْرَةُ، وَالصَّيْرُورَةُ، وَالْإِعَانَةُ، وَالتَّعْرِيضُ، وَالسَّلْبُ، وَإِصَابَةُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ، وَبُلُوغُ عَدَدٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَمُوَافَقَةُ ثُلَاثِيٍّ، وَإِغْنَاءٌ عَنْهُ، وَمُطَاوَعَةُ فِعْلٍ وَفِعْلٍ، وَالْهُجُومُ، وَنَفْيُ الْغَرِيزَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ، وَالدُّعَاءُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَالْوُصُولُ، وَالِاسْتِقْبَالُ، وَالْمَجِيءُ بِالشَّيْءِ وَالتَّفْرِقَةُ، مِثْلَ ذَلِكَ، أَدْنَيْتُهُ وَأَعْجَبَنِي الْمَكَانَ، وَأَغَدَّ الْبَعِيرُ وَأَحْلَيْتُ فُلَانًا، وَأَقْبَلْتُ فُلَانًا، وَاشْتَكَيْتُ الرَّجُلَ، وَأَحْمَدْتُ فُلَانًا، وَأَعْشَرْتُ الدَّرَاهِمَ، وَأَصْبَحْنَا، وَأَشْأَمَ الْقَوْمُ، وَأَحْزَنَهُ بِمَعْنَى حَزَّنَهُ، وَأَرْقَلَ، وَأَقْشَعَ السَّحَابُ مُطَاوِعُ قَشَعَ الرِّيحُ السَّحَابَ، وَأَفْطَرَ مُطَاوِعُ فَطَّرْتُهُ، وَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْتَرِيحُ، وَأَخْطَيْتُهُ سَمَّيْتُهُ مُخْطِئًا، وَأَسْقَيْتُهُ، وَأَحْصَدَ الزَّرْعُ، وَأَغْفَلْتُهُ وَصَلَتْ غَفْلَتِي اليه، وافقته اسْتَقْبَلْتُهُ بِأُفٍّ هَكَذَا مِثْلُ هَذَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَفْعَلَ فَعَلَ، وَمُثِّلَ الِاسْتِقْبَالُ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: أَسْقَيْتُهُ أَيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِقَوْلِكَ سُقْيًا لَكَ، وَكَثَّرْتُ جِئْتُ بِالْكَثِيرِ، وَأَشْرَقَتِ الشَّمْسُ أَضَاءَتْ، وَشَرَقَتْ طَلَعَتْ. التَّاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَنْعَمَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ الْمُفْرَدِ، وَهِي حَرْفٌ فِي أَنْتَ، وَالضَّمِيرَانِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ. عَلَيْهِمْ، عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، إِلَّا إِذَا جُرَّتْ بِمَنْ، أَوْ كَانَتْ فِي نَحْوِ هَوِّنْ عَلَيْكَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا إِذَا جُرَّتِ اسْمُ ظَرْفٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا فِي حُرُوفِ الْجَرِّ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَمَعْنَاهَا الِاسْتِعْلَاءُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَزَيْدٌ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى عَنْ، وَبِمَعْنَى الْبَاءِ، وَبِمَعْنَى فِي، وَلِلْمُصَاحِبَةِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَبِمَعْنَى مِنْ، وَزَائِدَةٌ،

مِثْلَ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «1» فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «2» ، بَعْدَ عَلَى كَذَا حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ «4» ، حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ «5» . أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ ... عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ الْعِضَاهِ تَرُوقُ أَيْ تَرُوقُ كُلُّ أَفْنَانِ الْعِضَاهِ. هُمْ ضَمِيرُ جَمْعٍ غَائِبٍ مُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ. وَحَكَى اللُّغَوِيُّونَ فِي عَلَيْهِمْ عَشْرَ لُغَاتٍ ضَمُّ الْهَاءِ، وَإِسْكَانُ الْمِيمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ. وَكَسْرُهَا وإسكان الميم، وهي قراءة الْجُمْهُورِ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وياء بعدها، وهي قراءة الْحَسَنِ. وَزَادَ ابْنُ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ فَائِدٍ. وَكَذَلِكَ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَمْرِو بْنِ فَائِدٍ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ وَوَاوٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَالُونَ بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ بِغَيْرِ وَاوٍ وَضَمُّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَوَاوٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَالْخَفَّافِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَكَذَلِكَ بِدُونِ وَاوٍ وَضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بِيَاءٍ بَعْدَهَا. كَذَلِكَ بِغَيْرِ يَاءٍ. وقرىء بِهِمَا، وَتَوْضِيحُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ بِالْخَطِّ وَالشَّكْلِ: عَلَيْهُمْ، عَلَيْهِمْ، عَلَيْهِمُوا، عَلَيْهِمُ، عَلَيْهِمِي، عَلَيْهِمِ، عَلَيْهُمُ، عَلَيْهُمِي، عَلَيْهُمِ، عَلَيْهُمُوا. وَمُلَخَّصُهَا ضَمُّ الْهَاءِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ، أَوْ ضَمُّهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ كَسْرُهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ وَكَسْرُ الْهَاءِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ، أَوْ كَسْرُهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ ضَمُّهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. اهْدِنَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ وَالرَّغْبَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ لِنَحْوِ هَذِهِ الصِّيغَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَحْمَلًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الطَّلَبِ، لَا عَلَى فَوْرٍ، وَلَا تَكْرَارٍ، وَلَا تَحَتُّمٍ، وَهَلْ مَعْنَى اهْدِنَا أَرْشِدْنَا، أَوْ وَفِّقْنَا، أَوْ قَدِّمْنَا، أَوْ أَلْهِمْنَا، أَوْ بَيِّنْ لَنَا أَوْ ثَبِّتْنَا؟ أَقْوَالٌ أَكْثَرُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَآخِرُهَا عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيٍّ. وَقَرَأَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَصِّرْنَا الصِّرَاطَ، وَمَعْنَى الصِّرَاطِ الْقُرْآنُ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: وذكر الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوِ الْإِيمَانِ وَتَوَابِعِهِ، أَوِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، أَوِ السَّبِيلِ الْمُعْتَدِلِ، أَوْ طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ، أَوْ طَرِيقِ الْحَجِّ، قَالَهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، أَوِ السُّنَنِ، قَالَهُ عُثْمَانُ، أَوْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 26. (2) سورة البقرة: 2/ 253. (3) سورة البقرة: 2/ 177. (4) سورة البقرة: 2/ 185. (5) سورة المؤمنون: 23/ 5- 6.

طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ، أَوْ طَرِيقِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ جِسْرِ جَهَنَّمَ، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَقْوَالٌ، مِنْهَا: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْغَيْبُوبَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لِئَلَّا يَكُونَ مَرْبُوطًا بِالصِّرَاطِ، وَقَوْلُ الْجُنَيْدِ إِنَّ سُؤَالَ الْهِدَايَةِ عِنْدَ الْحَيْرَةِ مِنْ إِشْهَارِ الصِّفَاتِ الْأَزَلِيَّةِ، فَسَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى أَوْصَافِ الْعُبُودِيَّةِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقُوا فِي الصِّفَاتِ الْأَزَلِيَّةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَنْبُو عَنْهَا اللَّفْظُ، وَلَهُمْ فِيمَا يَذْكُرُونَ ذَوْقٌ وَإِدْرَاكٌ لَمْ نَصِلْ نَحْنُ إِلَيْهِ بَعْدُ. وَقَدْ شُحِنَتِ التَّفَاسِيرُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَنَحْنُ نُلِمُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّا إِنَّمَا تَرَكْنَا ذِكْرَهَا لِكَوْنِنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهَا. وَقَدْ رَدَّ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْقُرْآنُ أَوِ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ وَلَا الْإِسْلَامُ، يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمِلَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْمُخْتَصَّةَ بِتَكَالِيفَ لم تكن تقدمتها. وهذه الرَّدُّ لَا يَتَأَتَّى لَهُ إِلَّا إِذَا صَحَّ أَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ مُتَقَدِّمُونَ، وَسَتَأْتِي الْأَقَاوِيلُ فِي تَفْسِيرِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَاتِّصَالُ نَا بِاهْدِ مُنَاسِبٌ لِنَعْبُدَ وَنَسْتَعِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَسْتَعِينُونَهُ سَأَلَ لَهُ وَلَهُمُ الْهِدَايَةَ إِلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، لِأَنَّهُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ تَصِحُّ مِنْهُمُ الْعِبَادَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ لِمَقْصُودِهِ لَا يَصِحُّ لَهُ بُلُوغَ مَقْصُودِهِ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا دُونَ تَعْرِيفٍ. وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: صِرَاطَ مُسْتَقِيمٍ بِالْإِضَافَةِ، أَيِ الدِّينَ الْمُسْتَقِيمَ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ يَكُونُ صِرَاطَ الَّذِينَ بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الصَّادِقِ وَقِرَاءَاتِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ بَدَلَ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةِ صِرَاطَ الَّذِينَ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وهما بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَجِيءَ بِهَا لِلْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ كَانَ فِيهِ بَعْضُ إِبْهَامٍ، فَعَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ لِيَكُونَ الْمَسْئُولُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ، قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَصَارَ بِذَلِكَ الْبَدَلُ فِيهِ حَوَالَةً عَلَى طَرِيقٍ مِنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَثْبَتُ وَأَوْكَدُ، وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ نَحْوِ هَذَا الْبَدَلِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ التَّأْكِيدِ، فَكَأَنَّهُمْ كَرَّرُوا طَلَبَ الْهِدَايَةِ. وَمِنْ غَرِيبِ الْقَوْلِ أَنَّ الصِّرَاطَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْأَوَّلَ، بَلْ هُوَ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُ قرىء فِيهِ حَرْفُ الْعَطْفِ، وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ. قِيلَ هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَالْفَهْمُ عَنْهُ، قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَقِيلَ الْتِزَامُ الْفَرَائِضِ وَاتِّبَاعُ السُّنَنِ، وَقِيلَ هُوَ مُوَافَقَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ فِي إِسْبَاغِ النِّعْمَةِ. قَالَ

تَعَالَى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَقَرَأَ: صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوْ أُمَّةُ مُوسَى وَعِيسَى الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا، أو النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، أَوِ الْمُسْلِمُونَ، قَالَهُ وَكِيعٌ، أَقْوَالٌ، وَعَزَا كَثِيرًا مِنْهَا إِلَى قَائِلِهَا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْجُمْهُورُ أَرَادَ صِرَاطَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، انْتَزَعُوا ذَلِكَ مِنْ آيَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هم الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مُؤْمِنُو بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْحَابُ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُبَدِّلُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَنْبِيَاءُ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَلَمْ يُقَيِّدِ الْأَنْعَامَ لِيَعُمَّ جَمِيعَ الْأَنْعَامِ، أَعْنِي عُمُومَ الْبَدَلِ. وَقِيلَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِمْ لِلسَّعَادَةِ، وَقِيلَ بِأَنْ نَجَّاهُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَقِيلَ بِالْهِدَايَةِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَرُوِيَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ تَقْيِيدَاتٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ قَيْدٍ. وَاخْتُلِفَ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ؟ فَأَثْبَتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهَا غَيْرُهُمْ. وَمَوْضِعُ عَلَيْهِمْ نَصْبٌ، وَكَذَا كُلُّ حَرْفِ جَرٍّ تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، غَيْرَ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ. وَبِنَاءُ أَنْعَمْتُ لِلْفَاعِلِ اسْتِعْطَافٌ لِقَبُولِ التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَتَحْصِيلِهَا، أَيْ طَلَبْنَا مِنْكَ الْهِدَايَةَ، إِذْ سَبَقَ إِنْعَامُكَ، فَمِنْ إِنْعَامِكَ إِجَابَةُ سُؤالِنَا وَرَغْبَتِنَا، كَمِثْلِ أَنْ تَسْأَلَ مِنْ شَخْصٍ قَضَاءَ حَاجَةٍ ونذكره بِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ الْإِحْسَانُ بِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدُ فِي اقْتِضَائِهَا وَأَدْعَى إلى قضائها. وَانْقِلَابُ الْفَاعِلِ مَعَ الْمُضْمَرِ هِيَ اللُّغَةُ الشُّهْرَى، وَيَجُوزُ إِقْرَارُهَا مَعَهُ عَلَى لُغَةٍ، وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَلَبُ اسْتِمْرَارِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ من أنعم الله عليهم، لِأَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ، لَكِنْ يَسْأَلُ دَوَامَهَا وَاسْتِمْرَارَهَا. غَيْرِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ دَائِمًا وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُؤَنَّثَ جَازَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ، وَتَأْنِيثُهُ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَمَدْلُولُهُ الْمُخَالَفَةُ بِوَجْهٍ مَا، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ، وَيُسْتَثْنَى بِهِ وَيَلْزَمُ الْإِضَافَةَ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَإِدْخَالُ أَلْ عَلَيْهِ خَطَأٌ وَلَا يَتَعَرَّفُ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ. وَمَذْهَبُ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُغَايِرُ وَاحِدًا تَعَرَّفَ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، قَدْ يُقْصَدُ بِهَا التَّعْرِيفُ، فَتَصِيرُ مَحْضَةً، فَتَتَعَرَّفُ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ بِمَا تُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا كُلِّهِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَزَعَمَ الْبَيَانِيُّونَ أَنَّ غير أَوْ مِثْلًا فِي بَابِ

الْإِسْنَادِ إِلَيْهِمَا مِمَّا يَكَادُ يَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ، قَالُوا نَحْوَ قَوْلِكَ غَيْرُكَ يُخْشَى ظُلْمَهُ، وَمِثْلُكَ يَكُونُ لِلْمَكْرُمَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُقْصَدُ فِيهِ بِمِثْلٍ إِلَى إِنْسَانٍ سِوَى الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَمُوجَبِ الْعُرْفِ أَنْ يَفْعَلَ مَا ذُكِرَ، وَقَوْلُهُ: غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسُ يَنْخَدِعُ غَرَضُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَنْخَدِعُ وَيَغْتَرُّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِمَا إِذَا لَمْ يُقَدَّمَا نَحْوَ: يَكُونُ لِلْمَكْرُمَاتِ مِثْلُكَ، وَيَنْخَدِعُ بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسُ غَيْرِي، فَأَنْتَ تَرَى الْكَلَامَ مَقْلُوبًا عَلَى جِهَتِهِ. الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، الْغَضَبُ: تَغَيُّرُ الطَّبْعِ لِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَتِهِ. لَا حَرْفٌ يَكُونُ لِلنَّفْيِ وَلِلطَّلَبِ وَزَائِدًا، وَلَا يَكُونُ اسْمًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. وَلَا الضَّالِّينَ، وَالضَّلَالُ: الْهَلَاكُ، وَالْخَفَاءُ ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْغَيْبُوبَةُ فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي، وَضَلَلْتُ الشَّيْءَ جَهِلْتُ الْمَكَانَ الَّذِي وَضَعْتُهُ فِيهِ، وَأَضْلَلْتُ الشَّيْءَ ضَيَّعْتُهُ، وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَضَلَّ غَفَلَ وَنَسِيَ، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما، والضلال سلوك سبيل غَيْرَ الْقَصْدِ، ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ سَلَكَ غَيْرَ جَادَّتِهَا، وَالضَّلَالُ الْحَيْرَةُ، وَالتَّرَدُّدُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِحَجَرٍ أَمْلَسٍ يُرَدِّدُهُ الْمَاءُ فِي الْوَادِي ضَلْضَلَهُ، وَقَدْ فُسِّرَ الضَّلَالُ فِي الْقُرْآنِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَفْصِيلِ الْأُمُورِ وَبِالْمَحَبَّةِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَالْجَرُّ فِي غَيْرِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَرَوَى الْخَلِيلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ النَّصْبَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ غَيْرًا أَصْلُ وَضْعِهِ الْوَصْفُ، وَالْبَدَلُ بِالْوَصْفِ ضَعِيفٌ، أَوْ عَلَى النَّعْتِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ تَعَرَّفَتْ بِمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، إِذْ هُوَ مَعْرِفَةٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ سِيبَوَيْهِ، فِي أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ تَتَمَحَّضُ فَيَتَعَرَّفُ إِلَّا فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، أَوْ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّرَّاجِ، إِذْ وَقَعَتْ غَيْرُ عَلَى مَخْصُوصٍ لَا شَائِعٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُرِيدَ بِهِمُ الْجِنْسُ لَا قَوْمَ بِأَعْيَانِهِمْ. قَالُوا كَمَا وَصَفُوا الْمُعَرَّفَ بَأَلِ الْجِنْسِيَّةِ بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِمَا اعْتَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَا أَخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَبَ وَتَقْرِيرُ فَسَادِهِ فِي النَّحْوِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ مِنَ الَّذِينَ قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّذِي لَا مَوْضِعَ لَهُ لَا يَجُوزُ، أَوْ

عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إِذْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللفظ السابق، ومنعه القراء مِنْ أَجْلِ لَا فِي قَوْلِهِ وَلَا الضَّالِّينَ، وَلَمْ يُسَوِّغْ فِي النَّصْبِ غَيْرَ الْحَالِ، قَالَ لِأَنَّ لَا، لَا تُزَادُ إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَ النَّفْيُ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ جَعْلَ لَا صِلَةً، أَيْ زائدة مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» وَقَوْلِ الرَّاجِزِ: فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تسخرا وقول الأحوص: ويلجئني فِي اللَّهْوِ أَنْ لَا أحبه ... واللهو دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلٍ قَالَ الطَّبَرِيُّ أَيْ أَنْ تَسْخَرَ وَأَنْ أُحِبَّهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ إِرَادَةُ أَنْ لَا أُحِبَّهُ، فَلَا فِيهِ مُتَمَكِّنَةٌ، يَعْنِي فِي كَوْنِهَا نَافِيَةً لَا زَائِدَةً، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا عَلَى زِيَادَتِهَا بِبَيْتٍ أَنْشَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ: أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يمنع الجود قائله وَزَعَمُوا أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَالْبُخْلَ مَفْعُولٌ بِأَبَى، أَيْ أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ، وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّ لَا مَفْعُولٌ بِأَبَى، وَأَنَّ لَفْظَةَ لَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَصَارَ إِسْنَادًا لَفْظِيًّا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ، فَجَعَلَ نَعَمْ فَاعِلَةً بِقَوْلِهِ اسْتَعْجَلَتْ، وَهُوَ إِسْنَادٌ لَفْظِيٌّ، وَالْبُخْلُ بَدَلٌ مِنْ لَا أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ انْتَصَبَ غَيْرُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي وَعَزَى إِلَى الْخَلِيلِ، وَهَذَا تَقْدِيرٌ سَهْلٌ، وَعَلَيْهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالْمَغْضُوبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي إِقَامَةِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، إِذَا حُذِفَ خِلَافٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَمِنْ دَقَائِقِ مَسَائِلِهِ مَسْأَلَةٌ يُغْنِي فِيهَا عَنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ ذُكِرَتْ فِي النحو، وَلَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، لِأَنَّ غَيْرَ فِيهِ النَّفْيَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَعَيَّنَ دُخُولَهَا الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لِمُنَاسَبَةِ غَيْرَ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِتَرْكِهَا عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ. وَقَرَأَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا فِي الرَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ النَّصْبُ وَالْخَفْضُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمْ غَيْرُ الضَّالِّينَ، وَالتَّأْكِيدُ فِيهَا أَبْعَدُ، وَالتَّأْكِيدُ فِي لَا أَقْرَبُ، وَلِتَقَارُبِ مَعْنَى غَيْرِ مِنْ مَعْنَى لَا، أَتَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَسْأَلَةٍ لِيُبَيِّنَ بِهَا تَقَارُبَهُمَا فَقَالَ: وَتَقُولُ أَنَا زَيْدًا غَيْرُ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 12.

ضَارِبٍ، مَعَ امْتِنَاعِ قَوْلِكَ أَنَا زَيْدًا مِثْلُ ضَارِبٍ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ أَنَا زَيْدًا لَا ضَارِبٌ، يُرِيدُ أَنَّ الْعَامِلَ إِذَا كَانَ مَجْرُورًا بِالْإِضَافَةِ فَمَعْمُولُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُضَافِ، لَكِنَّهُمْ تَسَمَّحُوا فِي الْعَامِلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ غَيْرُ، فَأَجَازُوا تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَى غَيْرِ إِجْرَاءً لِغَيْرِ مَجْرَى لَا، فَكَمَا أَنَّ لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ غَيْرُ. وَأَوْرَدَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُقَرَّرَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا، لِيُقَوِّيَ بِهَا التَّنَاسُبَ بَيْنَ غَيْرِ وَلَا، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافًا. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، بَنَاهُ عَلَى جَوَازِ أَنَا زَيْدًا لَا ضَارِبٌ، وَفِي تَقْدِيمِ مَعْمُولِ مَا بَعْدَ لَا عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَكَوْنُ اللَّفْظِ يُقَارِبُ اللَّفْظَ فِي الْمَعْنَى لَا يَقْضِي لَهُ بِأَنْ يُجْرَى أَحْكَامُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ تَرْكِيبٌ إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَا زَيْدًا غَيْرُ ضَارِبٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَرَدُّوهُ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ مَحْذُوفًا، قَالَ التَّقْدِيرُ غير صراط المغضوب عليهم، وَأَطْلَقَ هَذَا التَّقْدِيرَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِجَرِّ غَيْرَ وَلَا نَصْبِهِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِنَصْبِ غَيْرَ، فَيَكُونُ صِفَةً لِقَوْلِهِ الصِّرَاطَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَقَدُّمِ الْبَدَلِ عَلَى الْوَصْفِ، وَالْأَصْلُ الْعَكْسُ، أَوْ صِفَةٌ لِلْبَدَلِ، وَهُوَ صِرَاطَ الَّذِينَ، أَوْ بَدَلًا مِنَ الصِّرَاطِ، أَوْ مِنْ صِرَاطَ الَّذِينَ، وَفِيهِ تَكْرَارُ الْإِبْدَالِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ أَحَدٍ فِيهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي بَدَلِ النِّدَاءِ، أَوْ حَالًا مِنَ الصِّرَاطِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي. وَقَرَأَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: وَلَا الضَّأْلِينَ، بِإِبْدَالِ الْأَلِفِ هَمْزَةً فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ دَأْبَةٌ وَشَأْبَةٌ فِي كِتَابِ الْهَمْزِ، وَجَاءَتْ مِنْهُ أُلَيْفَاظٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْقَاسُ هَذَا الْإِبْدَالُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً تُوجِبُ الْقِيَاسَ، نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقْرَأُ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، فَظَنَنْتُهُ قَدْ لَحَنَ حَتَّى سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ دَأْبَةً وَشَأْبَةً. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: إِذَا مَا الْعَوَالِي بِالْعَبِيطِ احْمَأَرَّتِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلِلْأَرْضِ إِمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّتِ ... بَيَاضًا وَإِمَا بِيضُهَا فَادَّهْأَمَّتِ وَعَلَى مَا قَالَ أَبُو الْفَتْحِ إِنَّهَا لُغَةٌ، يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَاسَ ذَلِكَ، وَجُعِلَ الْإِنْعَامُ فِي صِلَةِ الَّذِينَ، وَالْغَضَبُ فِي صِلَةِ أَلْ، لِأَنَّ صِلَةَ الَّذِينَ تَكُونُ فِعْلًا فَيَتَعَيَّنُ زَمَانُهُ، وَصِلَةُ أَلْ تَكُونُ اسْمًا فَيَنْبَهِمُ زَمَانُهُ، وَالْمَقْصُودُ طَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِ مَنْ ثَبَتَ إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَحَقَّقَ

ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَتَى بِالْفِعْلِ مَاضِيًا وَأَتَى بِالِاسْمِ فِي صِلَةِ أَنَّ لِيَشْمَلَ سَائِرَ الْأَزْمَانِ، وَبِنَاهِ لِلْمَفْعُولِ، لِأَنَّ مَنْ طُلِبَ مِنْهُ الْهِدَايَةُ وَنُسِبَ الْإِنْعَامُ إِلَيْهِ لَا يُنَاسِبُ نِسْبَةَ الْغَضَبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَقَامُ تَلَطُّفٍ وَتَرَفُقٍ وَتَذَلُّلٍ لِطَلَبِ الْإِحْسَانِ، فَلَا يُنَاسِبُ مُوَاجَهَتَهُ بِوَصْفِ الِانْتِقَامِ، وَلِيَكُونَ الْمَغْضُوبُ تَوْطِئَةً لِخَتْمِ السُّورَةِ بِالضَّالِّينَ لِعَطْفِ مَوْصُولٍ عَلَى مَوْصُولٍ مِثْلَهُ لِتَوَافُقِ آخِرِ الْآيِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْعَامِ، الْإِنْعَامُ الدِّينِيُّ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ غُضِبَ عَلَيْهِ وَضَلَّ. وَقِيلَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ النَّصَارَى، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ فِي الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ قُيُودٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، بِتَرْكِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي أَوْقَاتِ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، وَلَا الضَّالِّينَ، بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ مِنَ الْعَاصِي لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَبْدِ قَبْلَ خَلْقِهِ وَقَبْلَ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ إِحْلَالُ الْعُقُوبَةِ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَقَدَّمَ الْغَضَبَ عَلَى الضَّلَالِ، وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مِنْ نَتِيجَةِ الضَّلَالِ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ فَغَضِبَ عَلَيْهِ لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْعَامِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ قَرِينَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْعَامَ يُقَابَلُ بِالِانْتِقَامِ، وَلَا يُقَابِلُ الضَّلَالُ الْإِنْعَامَ فَالْإِنْعَامُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَالِانْتِقَامُ إِيصَالُ الشَّرِّ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَبَيْنَهُمَا تَطَابُقٌ مَعْنَوِيٌّ، وَفِيهِ أَيْضًا تَنَاسُبُ التَّسْجِيعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا الضَّالِّينَ، تَمَامُ السُّورَةِ، فَنَاسَبَ أَوَاخِرَ الْآيِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الْغَضَبُ، وَمُتَعَلِّقُهُ لَمَا نَاسَبَ أَوَاخِرَ الْآيِ. وَكَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ الَّتِي لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِحُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُغَايَرَةِ جَمْعِ الْوَصْفَيْنِ، الْغَضَبِ عَلَيْهِ، وَالضَّلَالِ لِمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ فُسِّرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَالتَّقْدِيمُ إِمَّا لِلزَّمَانِ أَوْ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ أَقْدَمُ وَأَشَدُّ عَدَاوَةً مِنَ النصارى. وقد أنجز فِي غُضُونِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ لَا يَهْتَدِي إِلَى اسْتِخْرَاجِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ تَوَغَّلَ فِي فَهْمِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَرُزِقَ الْحَظَّ الْوَافِرَ مِنْ عِلْمِ الْأَدَبِ، وَكَانَ عَالِمًا بِافْتِنَانِ الْكَلَامِ، قَادِرًا عَلَى إِنْشَاءِ النِّثَارِ الْبَدِيعِ وَالنِّظَامِ. وَأَمَّا مَنْ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَسَا طَبْعُهُ حَتَّى عَنِ الْفِقْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَدَبِ، فَسَمْعُهُ عَنْ هَذَا الْفَنِّ مَسْدُودٌ، وَذِهْنُهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنْوَاعٌ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: حُسْنُ الِافْتِتَاحِ وَبَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ، فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ عَدَّهَا مِنْهَا، فَنَاهِيكَ بِذَلِكَ حُسْنًا إِذْ كَانَ مَطْلَعُهَا، مُفْتَتَحًا بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمْدُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَوَصْفُهُ بماله مِنَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ أَحْسُنُ مَا افْتُتِحَ بِهِ الْكَلَامُ، وَقُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ النَّثْرَ وَالنِّظَامَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ الِافْتِتَاحُ بِالْحَمْدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ، وَالْمَطَالِعُ تَنْقَسِمُ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَالْحَسَنُ إِلَى ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ عَلَى مَا قُسِّمَ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْمُبَالَغَةُ فِي الثَّنَاءِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ أَلْ فِي الْحَمْدِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي مَرَّ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَلْوِينُ الْخِطَابِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ «1» وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ بِاللَّامِ الَّتِي فِي لِلَّهِ، إِذْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهَا وَبِالْإِضَافَةِ فِي مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ لِزَوَالِ الْأَمْلَاكِ وَالْمَمَالِكِ عَنْ سِوَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَتَفَرُّدِهِ فِيهِ بِالْمُلْكِ وَالْمِلْكِ، قَالَ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «2» ، وَلِأَنَّهُ لَا مُجَازِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْأَعْمَالِ سِوَاهُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَذْفُ، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الْحَمْدَ ظَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ، هَلْ يُقَدَّرُ مِنْ لَفْظِ الْحَمْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ؟ وَمِنْهُ حَذْفُ الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ عَنِ الْحَمْدِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَدَّرُ بِكَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، قَالَ: وَمِنْهُ حَذْفُ صِرَاطٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ، التَّقْدِيرُ غَيْرِ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ صِرَاطِ الضَّالِّينَ، وَحَذْفُ سُورَةٍ إِنْ قَدَّرْنَا الْعَامِلَ فِي الْحَمْدِ إِذَا نَصَبْنَاهُ، اذْكُرُوا أَوِ اقرأوا، فتقديره اقرأوا سُورَةَ الْحَمْدِ، وَأَمَّا مَنْ قَيَّدَ الرَّحْمَنَ، وَالرَّحِيمَ، وَنَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ، وَأَنْعَمْتُ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالِّينَ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ فِي سُورَةِ مَحْذُوفَاتٍ كَثِيرَةٍ. النَّوْعُ السَّادِسُ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ نَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالِّينَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. النَّوْعُ السَّابِعُ: التَّفْسِيرُ، وَيُسَمَّى التَّصْرِيحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ، وَذَلِكَ فِي بَدَلِ صِرَاطَ الَّذِينَ مِنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: الِالْتِفَاتُ، وَهُوَ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا. النَّوْعُ التَّاسِعُ: طَلَبُ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَهُ بَلْ دَوَامَهُ، وَذَلِكَ فِي اهْدِنَا. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: سَرْدُ الصِّفَاتِ لِبَيَانِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَوْصُوفِ أَوْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ. النَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ: التَّسْجِيعُ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّسْجِيعِ الْمُتَوَازِي، وَهُوَ اتِّفَاقُ الْكَلِمَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فِي الْوَزْنِ وَالرَّوِيِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَسْتَعِينُ وَلَا الضَّالِّينَ، انْقَضَى كَلَامُنَا عَلَى تفسير الفاتحة.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2. (2) سورة غافر: 40/ 16.

وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يُقَالَ لَهَا أُمُّ الْكِتَابِ، وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يُقَالَ لَهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ إِلَّا مَا شَذَّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ خِلَافَهُ. عَدَّ الْجُمْهُورُ الْمَكِّيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آيَةً، وَلَمْ يَعُدُّوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَسَائِرُ العادين، ومنهم كَثِيرٍ مِنْ قُرَّاءِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ لَمْ يَعُدُّوهَا آيَةً، وَعَدُّوا صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةً، وَشَذَّ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَجَعَلَ آيَةً إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فَهِيَ عَلَى عَدِّهِ ثَمَانِ آيَاتٍ، وَشَذَّ حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّهَا سِتُّ آيَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» هُوَ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَيْسَتْ آيَةً، وَشَذَّ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: إِنَّهَا آيَةٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ، وَلَا أَدْرِي مَا الْمَلْحُوظُ فِي مِقْدَارِ الْآيَةِ حَتَّى نَعْرِفَ الْآيَةَ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَدَدَ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِهَا مَا لَا يُعَدُّ سَبَبَ نُزُولٍ. وَذَكَرُوا أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَذَكَرُوا لِلتَّسْمِيَةِ أيضا نزول مَا لَا يُعَدُّ سَبَبًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْفَاتِحَةَ تُسَمَّى الْحَمْدَ، وَفَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَأُمَّ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعَ الْمَثَانِي، وَالْوَاقِيَةَ، وَالْكَافِيَةَ، وَالشِّفَاءَ، وَالشَّافِيَةَ، وَالرُّقْيَةَ، وَالْكَنْزَ، وَالْأَسَاسَ، وَالنُّورَ، وَسُورَةَ الصَّلَاةِ، وَسُورَةَ تَعْلِيمِ الْمَسْأَلَةِ، وَسُورَةَ الْمُنَاجَاةِ، وَسُورَةَ التَّفْوِيضِ. وَذَكَرُوا أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْفَاتِحَةِ، وَالْكَلَامِ عَلَى هَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ التَّذْيِيلَاتِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَعْيِينِ مُبْهَمٍ أَوْ سَبَبِ نُزُولٍ أَوْ نَسْخٍ بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَضْطَرُّ إِلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرُ. وَكَذَلِكَ تَكَلَّمُوا عَلَى آمِينَ وَلُغَاتِهَا، وَالِاخْتِلَافِ فِي مَدْلُولِهَا، وَحُكْمِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَتْ مِنَ القرآن، فلذلك أضربنا عن الْكَلَامِ عَلَيْهَا صَفْحًا، كَمَا تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ كُتُبَهُمْ بِأَشْيَاءَ خَارِجَةٍ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ حَذَفْنَاهَا مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إذا كَانَ مَقْصُودُنَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْخُطْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

_ (1) سُورَةُ الحجر: 15/ 85.

سورة البقرة 2

سورة البقرة 2 [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) الم أَسْمَاءٌ مَدْلُولُهَا حُرُوفُ الْمُعْجَمِ، وَلِذَلِكَ نُطِقَ بِهَا نُطْقَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهِيَ مَوْقُوفَةُ الْآخِرِ، لَا يُقَالُ إِنَّهَا مُعْرَبَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا عَامِلٌ فَتُعْرَبُ وَلَا يُقَالُ إِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لِعَدَمِ سَبَبِ الْبِنَاءِ، لَكِنَّ أَسْمَاءَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ قَابِلَةٌ لِتَرْكِيبِ الْعَوَامِلِ عَلَيْهَا فَتُعْرَبُ، تَقُولُ هَذِهِ أَلِفٌ حَسَنَةٌ وَنَظِيرُ سَرْدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَوْقُوفَةً، أَسْمَاءُ الْعَدَدِ، إِذَا عَدُّوا يَقُولُونَ: وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ، خَمْسَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَا، وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذلِكَ، ذَا: اسْمُ إِشَارَةٍ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ لَفْظًا، ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ، لَا أُحَادِيُّ الْوَضْعِ، وَأَلِفُهُ لَيْسَتْ زَائِدَةً، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَالسُّهَيْلِيِّ، بَلْ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، وَلَامُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ مِنْ بَابِ طَوَيْتُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ. وَيُقَالُ فِيهِ: ذَا وَذَائِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْكَافُ فَقُلْتَ: ذَاكَ دَلَّ عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِذَا أَدْخَلْتَ اللَّامَ فَقُلْتَ: ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْبُعْدِ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ رُتْبَةُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عِنْدَهُ قُرْبٌ وَبُعْدٌ. فَمَتَى كَانَ مُجَرَّدًا مِنَ اللَّامِ وَالْكَافِ كَانَ لِلْقُرْبِ، وَمَتَى كَانَتَا فِيهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا كَانَ لِلْبُعْدِ، وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ تُبَيِّنُ أَحْوَالَ الْمُخَاطَبِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ كَمَا تُبَيِّنُهَا إِذَا كَانَ ضَمِيرًا، وَقَالُوا: أَلِكَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؟ وَلِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. الْكِتابُ، يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مُعَانِ الْعَقْدِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ لِلْعِتْقِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «1» ، وَعَلَى الْفَرْضِ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى

_ (1) سورة النور: 24/ 33.

الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «1» ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «2» كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «3» وَعَلَى الْحُكْمِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَلَى الْقَدْرِ: يَا ابْنَةَ عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا أَيْ قَدَرُ اللَّهِ وَعَلَى مَصْدَرِ كَتَبْتُ تَقُولُ: كَتَبْتُ كِتَابًا وَكُتُبًا، وَمِنْهُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَعَلَى الْمَكْتُوبِ كَالْحِسَابِ بِمَعْنَى الْمَحْسُوبِ، قَالَ: بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا لَا نَافِيَةٌ، وَالنَّفْيُ أَحَدُ أَقْسَامِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. رَيْبَ، الرَّيْبُ: الشَّكُّ بِتُهْمَةٍ رَابَ حَقَّقَ التُّهْمَةَ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيَّةَ رَيْبُ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْكَذُوبُ وَحَقِيقَةُ الرَّيْبِ قَلَقُ النَّفْسِ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الشَّكَّ رِيبَةٌ وَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَمِنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِظَنِّي خَافِقٌ فَقَالَ لَا يَرِبْهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ، وَرَيْبُ الدَّهْرِ: صَرْفُهُ وَخَطْبُهُ. فِيهِ: فِي لِلْوِعَاءِ حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللموافقة عَلَى، وَالْبَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ زَيْدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «4» ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ «5» لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ «6» ، ي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ «7» فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «8» يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ «9» ، أَيْ يُكَثِّرُكُمْ بِهِ. الْهَاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِفِي مِنْ فِيهِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ مُذَكَّرٌ مُفْرَدٌ، وَقَدْ يُوصَلُ بِيَاءٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْهَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَالْإِسْكَانِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْإِشْبَاعِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. هُدىً، الْهُدَى: مَصْدَرُ هَدَى، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهِدَايَةِ، وَالْهُدَى مُذَكَّرٌ وَبَنُو أَسَدٍ يُؤَنِّثُونَهُ، يَقُولُونَ: هَذِهِ هَدًى حَسَنَةٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ فِي كِتَابِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْهُدَى لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ، وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هُوَ مُذَكَّرٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَالْهُدَى اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّهَارِ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: حَتَى اسْتَبَنْتُ الْهُدَى وَالْبِيدُ هَاجِمَةُ ... يَخْضَعْنَ فِي الْآلِ غُلْفًا أَو يُصَلِّينَا

_ (1) سورة النساء: 4/ 103. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 187. (3) سورة البقرة: 2/ 183. (4) سورة البقرة: 2/ 179. (5) سورة الأعراف: 7/ 38. (6) سورة النور: 24/ 14. (7) سورة يونس: 10/ 64. (8) سورة طه: 20/ 71. (9) سورة الشورى: 42/ 11.

وهو على وزن فعلى، كَالسُّرَى وَالْبُكَى. وَزَعَمَ بَعْضُ أَكَابِرِ نُحَاتِنَا أَنَّهُ لَمْ يجئ من فعلى مَصْدَرٌ سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ ذَكَرَ لِي شَيْخُنَا اللُّغَوِيُّ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ رَضِيُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يوسف الشَّاطِبِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ: لَقِيتُهُ لُقًى، وَأَنْشَدَنَا لِبَعْضِ الْعَرَبِ: وَقَدْ زَعَمُوا حُلْمًا لِقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ ... بِحَمَدِ الَّذِي أَعْطَاكَ حِلْمًا وَلَا عَقْلًا وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ وَفُعَلٌ يَكُونُ جَمْعًا مَعْدُولًا وَغَيْرَ مَعْدُولٍ، وَمُفْرَدًا وَعَلَمًا مَعْدُولًا وَغَيْرَ مَعْدُولٍ، وَاسْمَ جِنْسٍ لِشَخْصٍ وَلِمَعْنًى وَصِفَةً مَعْدُولَةً وَغَيْرَ مَعْدُولَةٍ، مِثْلُ ذَلِكَ: جُمَعٌ وَغُرَفٌ وَعُمَرٌ وَأُدَدٌ وَنُغَرٌ وَهُدًى وَفُسَقٌ وَحُطَمٌ. لِلْمُتَّقِينَ الْمُتَّقِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اتَّقَى، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ وَقَى بِمَعْنَى حَفَظَ وَحَرَسَ، وَافْتَعَلَ هُنَا: لِلِاتِّخَاذِ أَيِ اتَّخَذَ وِقَايَةً، وَهُوَ أحد المعاني الاثنى عشر الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَهُوَ: الِاتِّخَاذُ، وَالتَّسَبُّبُ، وَفِعْلُ الْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَالتَّخَيُّرُ، وَالْخَطْفَةُ، وَمُطَاوَعَةُ افَّعَلَ، وَفَعَّلَ، وَمُوَافَقَةُ تَفَاعَلَ، وَتَفَعَّلَ، وَاسْتَفْعَلَ، وَالْمُجَرَّدُ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ، مِثْلُ ذَلِكَ: اطَّبَخَ، وَاعْتَمَلَ وَاضْطَرَبَ، وَانْتَخَبَ، وَاسْتَلَبَ، وَانْتَصَفَ مُطَاوِعُ أَنْصَفَ، وَاغْتَمَّ مُطَاوِعُ غَمَمْتُهُ، وَاجْتَوَرَ، وَابْتَسَمَ، وَاعْتَصَمَ، وَاقْتَدَرَ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ. وَإِبْدَالُ الْوَاوِ فِي اتَّقَى تَاءً وَحَذْفُهَا مَعَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ قَبْلَهَا فَيَبْقَى تَقَى مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. فَأَمَّا هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ أَوَائِلُ السُّوَرِ، فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ وَمُفْرَدَةٌ، وَغَيْرُهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ عُبِّرَ بِهَا عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي يُنْطَقُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْهَا فِي نَحْوِ: قَالَ، وَالْمِيمِ فِي نَحْوِ: مَلَكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا فَوَاتِحُ لِلتَّنْبِيهِ وَالِاسْتِئْنَافِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ قَدِ انْقَضَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْإِنْشَادِ لِشَهِيرِ الْقَصَائِدِ. بَلْ وَلَا بَلْ نَحَا هَذَا النَّحْوَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ وَفَوَاتِحُهَا، وَقَوْمٌ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْمٍ: هِيَ حُرُوفٌ مُتَفَرِّقَةٌ دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي فَقَالَ قَوْمٌ: يَتَأَلَّفُ مِنْهَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا، أَوِ اسْمُ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، لَكِنْ جَهِلْنَا طَرِيقَ التَّأْلِيفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مُقَطَّعَةٌ، لَوْ أَحْسَنَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا تَعَلَّمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ كَالْفُرْقَانِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقِيلَ: هِيَ حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى مُدَّةِ الْمِلَّةِ، وَهِيَ حِسَابُ أَبِي جَادٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: مُدَّةُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَقِيلَ: مُدَّةُ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَيْضًا: لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ قَوْمٍ وَآجَالِ آخَرِينَ، وَقِيلَ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْعَرَبِ: إِنَّمَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِنَظْمٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ وغيره وَغَيْرُهُ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْعَرَبِ: إِنَّمَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِنَظْمٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ فَقَوْلُهُ: الم بِمَنْزِلَةِ: أب ت ث، لِيَدُلَّ بِهَا عَلَى التِّسْعَةِ وَعِشْرِينَ حَرْفًا. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ تَنْبِيهٌ كَمَا فِي النِّدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعَهُمْ فَيَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ بَعْدَهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ. وَقِيلَ: هِيَ أَمَارَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كِتَابٌ فِي أَوَّلِ سُوَرٍ مِنْهُ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، وَقِيلَ: حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى ثَنَاءٍ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ألم أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمُرَادُ أَنَا اللَّهُ أرى. والمص أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَلِفُ: مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ: مِنْ جِبْرِيلَ، والميم: مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ مَبَادِئُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ بِالْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَةِ وَمَبَانٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأُصُولِ كَلَامِ الْأُمَمِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا يَتَضَمَّنُ أمورا كثيرة ذارت فِيهَا الْأَلْسُنُ، وَلَيْسَ فِيهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي الْأَبَدِ وَلِلْأَبَدِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا فِي مُدَّةِ قَوْمٍ وَآجَالِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعَانِيهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَلِهَذَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي كِتَابِ اللَّهِ سِرٌّ، وَسِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَبِهِ قَالَ الشعب. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْقَاسِمِ: مَا قَامَ الْوُجُودُ كُلُّهُ إِلَّا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَأَسْمَاءِ اللَّهِ الْمُعْجَمَةِ الْبَاطِنَةِ أَصْلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ خِزَانَةُ سِرِّهِ وَمَكْنُونُ عِلْمِهِ، وَمِنْهَا تَتَفَرَّعُ أَسْمَاءُ اللَّهِ كُلُّهَا، وَهِيَ الَّتِي قَضَى بِهَا الْأُمُورَ وَأَوْدَعَهَا أُمَّ الْكِتَابِ، وَعَلَى هَذَا حَوَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِعُلُومِ الْحُرُوفِ، وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بُرْجَانَ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ، وَالْبَوْنِيُّ، وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ وَالطَّائِيُّ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْجَلَالِيُّ، وَابْنُ حَمُّوَيْهِ، وَغَيْرُهُمْ، وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ كهيعص فَقَالَ لِلسَّائِلِ: لَوْ أُخْبِرْتَ بِتَفْسِيرِهَا لَمَشَيْتَ عَلَى الْمَاءِ لَا يُوَارِي قَدَمَيْكَ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعَانِيهَا مَعْلُومَةٌ وَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ حَرْفٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: اخْتَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الاختلاف المنتشر الذي لا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ

عَلَيْهَا. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَسَائِرُ كَلَامِهِ تَعَالَى مُحْكَمٌ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْيَزِيدِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحْدَثِينَ، قَالُوا: هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا وَتَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ يَجِبُ أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا وَتُلْتَمَسَ الْفَوَائِدُ الَّتِي تَحْتَهَا، وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَ الْجُمْهُورُ، فَنُفَسِّرُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَنَلْتَمِسُ لَهَا التَّأْوِيلَ لِأَنَّا نَجِدُ الْعَرَبَ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ نَظْمًا وَوَضْعًا بَدَلَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي الْحُرُوفُ مِنْهَا، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ ... أَرَادَ قَالَتْ وَقَفْتُ وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرُفَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَآ أَرَادَ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَرَادَ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ: وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ فَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا، فَيَنْبَغِي إِذَا كَانَ مِنْ مَعْهُودِ كَلَامِ الْعَرَبِ، أَنْ يُطْلَبَ تَأْوِيلُهُ وَيُلْتَمَسَ وَجْهُهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا أَنْشَدَ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَقَدْ أَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ بِمَا لَيْسَ يَحْصُلُ مِنْهُ كَبِيرُ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ دَعَاوِيهِ بُرْهَانٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُعْرِبُونَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ فَقَالُوا: لَمْ تُعْرَبْ حُرُوفُ التَّهَجِّي لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ مَا يُلْفَظُ، فَهِيَ كَالْأَصْوَاتِ فَلَا تُعْرَبُ إِلَّا إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْهَا أَوْ عَطَفْتَهَا فَإِنَّكَ تُعْرِبُهَا، وَيَحْتَمِلُ مَحَلُّهَا الرَّفْعَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ، وَالنَّصْبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْجَرَّ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ، هَذَا إِذَا جَعَلْنَاهَا اسْمًا لِلسُّوَرِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ اسْمًا لِلسُّوَرِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَحُرُوفِ الْمُعْجَمِ أو ردت مُفْرَدَةً مِنْ غَيْرِ عَامِلٍ فَاقْتَضَتْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَكِنَّةً كأسماء الأعداد، أو ردتها لِمُجَرَّدِ الْعَدَدِ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَتَكَلَّمُوا عَلَى مَا يُمْكِنُ إِعْرَابُهُ مِنْهَا وَمَا لَا يُمْكِنُ، وَعَلَى مَا إِذَا أُعْرِبَ فَمِنْهُ مَا يُمْنَعُ الصَّرْفَ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْنَعُ الصَّرْفَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ نُقِلَ خِلَافٌ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْحُرُوفِ آيَةً، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الم آيَةٌ، وَكَذَلِكَ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ذُكِرَتْ فِيهَا، وَكَذَلِكَ المص وطسم وأخواتها وطه ويس

وحم وَأَخَوَاتُهَا إِلَّا حم عسق فإنها آيتان وكهيعص آيَةُ، وَأَمَّا المر وَأَخَوَاتُهَا فَلَيْسَتْ بِآيَةٍ، وَكَذَلِكَ طس وص وق ون وَالْقَلَمِ وق وص حُرُوفٌ دَلَّ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى كَلِمَةٍ، وَجَعَلَوْا الْكَلِمَةَ آيَةً، كَمَا عَدُّوا: الرَّحْمنُ ومُدْهامَّتانِ آيَتَيْنِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ آيَةً. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الِاقْتِصَارَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ كَانَ لِوُجُوهٍ ذَكَرُوهَا لَا يَقُومُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِرِهَانٌ فَتَرَكْتُ ذِكْرَهَا. وَذَكَرُوا أَنَّ التَّرْكِيبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ انْتَهَى إِلَى خَمْسَةٍ، وَهُوَ: كهيعص، لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الِاسْمُ الْمُجَرَّدُ، وَقَطَعَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ حَرْفًا حَرْفًا بِوَقْفَةٍ وَقْفَةٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرَ حُرُوفِ التَّهَجِّي مِنَ الْفَوَاتِحِ، وَبَيْنَ النُّونِ مِنْ طسم وَيس وَعسق وَنُونٍ إِلَّا فِي طس تِلْكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ، وَذَلِكَ اسْمُ مُشَارٍ بَعِيدٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ عَلَى بَابِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطْلَاقِهِ بِمَعْنَى هَذَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَيَكُونُ لِلْقَرِيبِ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ فَالْمُشَارِ إِلَيْهِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَغَيْرُهُ، أَوِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، أَوْ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، أَوْ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنْ أَنَّهُ يُنَزِّلُ إِلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدَ بِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، أَوِ الْكِتَابُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالَهُ ابْنُ رِئَابٍ، أَوِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوِ الْبُعْدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُنْزَلِ وَالْمُنْزَلِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي تَحَدَّيْتُكُمْ بِالنَّظْمِ مِنْهَا. وَسَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ شَيْخَنَا يَقُولُ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّرَاطِ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ «1» ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ تَبَيَّنَ وَجْهُ ارْتِبَاطِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَولَى لِأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لَا إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وَقَدْ رَكَّبُوا وُجُوهًا مِنَ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ الْكِتابُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ إِضْمَارٍ وَلَا افْتِقَارٍ، كَانَ أَولَى أَنْ يَسْلُكَ بِهِ الْإِضْمَارَ وَالِافْتِقَارَ، وَهَكَذَا تَكُونُ عَادَتُنَا فِي إِعْرَابِ الْقُرْآنِ، لَا نَسْلُكُ فِيهِ إِلَّا الْحَمْلَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَأَبْعَدِهَا مِنَ التَّكَلُّفِ، وَأَسْوَغِهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَلَسْنَا كَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ تعالى كشعر امرئ

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 6.

الْقَيْسِ، وَشِعْرِ الْأَعْشَى، يُحَمِّلُهُ جَمِيعَ مَا يَحْتَمِلَهُ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالَاتِ. فَكَمَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ أَفْصَحِ كَلَامٍ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إِعْرَابُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَفْصَحِ الْوُجُوهِ، هَذَا عَلَى أَنَّا إِنَّمَا نَذْكُرُ كَثِيرًا مِمَّا ذَكَرُوهُ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ الْمُتَأَمِّلِينَ تَرْجِيحُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالْكِتَابُ صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ خَبَرًا. وَفِي موضع خبر الم ولا رَيْبَ جُمْلَةٌ تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خبر لذلك، وَالْكِتَابُ صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفٌ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، إِذَا كَانَ الْكِتَابُ خَبَرًا، وَقُلْتُ بِتَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَوْلَى بِالْبُعْدِ لِتَبَايُنِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُفْرَدٌ وَالثَّانِي جُمْلَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ مُبَرَّأٍ مِنَ الرَّيْبِ، وَبَنَّاءُ رَيْبٍ مَعَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْعَامِلَةُ عَمَلَ إن، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَلَا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، فَالْمَرْفُوعُ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِسْنَادِ خَبَرٌ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ فَلَمْ تَعْمَلْ حَالَةُ الْبِنَاءِ إِلَّا النَّصْبَ فِي الِاسْمِ فَقَطْ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَأَمَّا الْأَخْفَشُ فَذَلِكَ الْمَرْفُوعُ خَبَرٌ لِلَا، فَعَمِلَتْ عِنْدَهُ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَإِذَا عَمِلَتْ عَمَلَ إِنْ أَفَادَتِ الِاسْتِغْرَاقَ فَنَفَتْ هُنَا كُلَّ رَيْبٍ، وَالْفَتْحُ هُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: لَا رَيْبَ فِيهِ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ حيث وقع، وَالْمُرَادُ أَيْضًا هُنَا الِاسْتِغْرَاقُ، لَا مِنَ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْيَ رَيْبٍ وَاحِدٍ عَنْهُ، وَصَارَ نَظِيرَ مَنْ قَرَأَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ «1» بِالْبِنَاءِ وَالرَّفْعِ، لَكِنَّ الْبِنَاءَ يَدُلُّ بِلَفْظِهِ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ، وَالرَّفْعَ لَا يَدُلُّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَيَحْتَمِلُ نَفْيَ الْوَحْدَةِ، لَكِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُمُومُ، وَرَفْعُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَيْبٌ مُبْتَدَأً وَفِيهِ الْخَبَرُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ تَكْرَارِ لَا، أَوْ يَكُونُ عَمَلُهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، فَيَكُونُ فِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ لَا إِذَا عَمِلَتْ عَمَلَ لَيْسَ رَفَعَتِ الِاسْمَ وَنَصَبَتِ الْخَبَرَ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَنْسِبُ الْعَمَلَ لَهَا فِي رَفْعِ الِاسْمِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَرْفُوعٌ لِأَنَّهَا وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ كَحَالِهَا إِذَا نَصَبَتْ وَبُنِيَ الِاسْمُ مَعَهَا، وَذَلِكَ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مُشَبَّعًا فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2» ، وَحَمْلُ لَا فِي قِرَاءَةِ لَا رَيْبَ عَلَى أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ إِعْمَالِ لَا عَمَلَ لَيْسَ، فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ضَعِيفَةً. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، فيه:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 197. (2) سورة البقرة: 2/ 197.

بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَبِهِ وَنُصْلِهِ وَنُوَلِّهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: فَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِوَاوٍ، وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَخَبَرًا لَهَا مَعَ اسْمِهَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ صِلَةِ رَيْبَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُضْمَرُ عَامِلٌ مِنْ لَفْظِ رَيْبَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ لَا رَيْبَ، إِذْ يَلْزَمُ إِذْ ذَاكَ إِعْرَابُهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْمَ لَا مُطَوَّلًا بِمَعْمُولِهِ نَحْوَ لَا ضَارِبًا زَيْدًا عِنْدَنَا، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي بَابِ لَا الْعَامِلَةِ عَمَلَ إِنَّ إِذَا عُلِمَ لَمْ تَلْفِظْ بِهِ بَنُو تَمِيمٍ، وَكَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ هُنَا مَعْلُومٌ، فَأَحْمِلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فِي الْإِعْرَابِ، وَإِدْغَامُ الْبَاءِ مِنْ لَا رَيْبَ فِي فَاءِ فِيهِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْإِظْهَارُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْيَزِيدِيِّ عَنْهُ. وَقَدْ قَرَأْتُهُ بِالْوَجْهَيْنِ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الطَّبَّاعِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَنَفْيُ الرَّيْبِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَاهِيَّةِ، أَيْ لَيْسَ مِمَّا يَحِلُّهُ الرَّيْبُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الِارْتِيَابِ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ارْتِيَابٌ مِنْ نَاسٍ كَثِيرِينَ. فَعَلَى مَا قُلْنَاهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى نَفْيِ التَّعْلِيقِ وَالْمَظِنَّةِ، كَمَا حَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ «1» لِاخْتِلَافِ الْحَالِ وَالْمَحَلِّ، فَالْحَالُ هُنَاكَ الْمُخَاطَبُونَ، وَالرَّيْبُ هُوَ الْمَحَلُّ، وَالْحَالُ هُنَا مَنْفِيٌّ، وَالْمَحَلُّ الْكِتَابُ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَوْنِ الرَّيْبَ مَنْفِيًّا عَنِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الرَّيْبَ فَقَالَ: لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ عُمُومٌ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، أَيْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَا سَبَبَ فِيهِ لِوُضُوحِ آيَاتِهِ وَإِحْكَامِ مَعَانِيهِ وَصِدْقِ أَخْبَارِهِ. وَهَذِهِ التَّقَادِيرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا. وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَبِذَلِكَ بَنَى عَلَيْهِ سُؤَالًا وَهُوَ أَنْ قَالَ: هَلَّا قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى الرَّيْبِ كَمَا قُدِّمَ عَلَى الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا فِيها غَوْلٌ «2» ؟ وَأَجَابَ: بِأَنَّ التَّقْدِيمَ يُشْعِرُ بِمَا يَبْعُدُ عَنِ الْمُرَادِ، وَهُوَ أَنَّ كِتَابًا غَيْرُهُ فِيهِ الرَّيْبُ، كَمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ تَفْضِيلُ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا بِأَنَّهَا لَا تَغْتَالُ الْعُقُولَ كَمَا تَغْتَالُهَا هِيَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَيْسَ فِيهَا مَا فِي غَيْرِهَا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ وَالنَّقِيصَةِ. وَقَدِ انْتَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ إِلَى دَعْوَاهُ بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُفَرِّقُ بَيْنَ: لَيْسَ فِي الدَّارِ رَجُلٌ، وَلَيْسَ رَجُلٌ فِي الدَّارِ، وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لَا يَغْتَالُ، وَقَدْ وَصَفَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ خَمْرَ الدُّنْيَا، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 23. (2) سورة الصافات: 37/ 47.

تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلَا يُؤْذِيكَ طَالِبُهَا ... وَلَا يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمٌ وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا رَيْبَ صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الرَّيْبِ. وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَفِيهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، أَوِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي هُوَ هُدًى، أَوْ عَلَى فِيهِ مُضْمَرَةً إِذَا جَعَلْنَا فِيهِ مِنْ تَمَامِ لَا رَيْبَ، أَوْ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ فَتَكُونُ قَدْ أَخْبَرْتَ بِالْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَبِقَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا خَبَرًا ثَالِثًا، أَوْ كَانَ الْكِتَابُ تَابِعًا وَهُدًى خَبَرٌ ثَانٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَبُولِغَ بِجَعْلِ الْمَصْدَرِ حَالًا وَصَاحِبُ الْحَالِ اسْمُ الْإِشَارَةِ، أَوِ الْكِتَابُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ أَوِ الضَّمِيرِ فِي فِيهِ، وَالْعَامِلُ مَا فِي الظَّرْفِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْحَالَ تَقْيِيدٌ، فَيَكُونُ انْتِقَالُ الرَّيْبِ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ إِذْ لَا رَيْبَ فِيهِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَكِنْ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ أَنَّهَا حَالٌ لَازِمَةٌ. وَالْأَوْلَى: جَعْلُ كُلِّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَذَلِكَ الْكِتَابُ جُمْلَةٌ، وَلَا رَيْبَ جُمْلَةٌ، وَفِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ جُمْلَةٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَرْفِ عَطْفٍ لِأَنَّ بَعْضَهَا آخِذٌ بِعُنُقِ بَعْضٍ. فَالْأُولَى أَخْبَرَتْ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، أَيِ الْكَامِلُ فِي الْأَوْصَافِ. وَالثَّانِيَةُ نَعْتٌ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مَا مِنْ رَيْبَ. وَالثَّالِثَةُ أَخْبَرَتْ أَنَّ فِيهِ الْهُدَى لِلْمُتَّقِينَ. وَالْمَجَازُ إِمَّا فِي فِيهِ هُدًى، أَيِ اسْتِمْرَارُ هُدًى لِأَنَّ الْمُتَّقِينَ مُهْتَدُونَ فَصَارَ نَظِيرَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ، وَإِمَّا فِي الْمُتَّقِينَ أَيِ الْمُشَارِفِينَ لِاكْتِسَابِ التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ: إِذَا مَا مَاتَ مَيِّتُ مِنْ تَمِيمٍ وَالْمُتَّقِي فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ أَنْ يَتَعَاطَى مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةٍ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، وَهَلِ التَّقْوَى تَتَنَاوَلُ اجْتِنَابَ الصَّغَائِرِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ الْكِتَابُ أَيِ الْكَامِلُ فِي الْكُتُبِ، وَهُوَ المنزل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «1» ، فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ فِيهِ، فَلَا كِتَابَ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَيْبٌ وَأَنَّهُ فِيهِ الْهُدَى. فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى الْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ كَامِلَةَ الْأَجْزَاءِ حَقِيقَةً لَا مَجَازَ فِيهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ مجازا لحذف لأنا

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 38. [.....]

اخْتَرْنَا حَذْفَ الْخَبَرِ بَعْدَ لَا رَيْبَ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَنْزِيلُ الْمَعَانِي مَنْزِلَةَ الْأَجْسَامِ، إِذْ جَعَلَ الْقُرْآنَ ظَرْفًا وَالْهُدَى مَظْرُوفًا، فَأَلْحَقَ الْمَعْنَى بِالْعَيْنِ، وَأَتَى بِلَفْظَةٍ فِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْوِعَاءِ كَأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْهُدَى وَمُحْتَوٍ عَلَيْهِ احْتِوَاءَ الْبَيْتِ عَلَى زَيْدٍ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الْبَيْتِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: الْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «1» ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صَدَّقَهُ، وَأَمِنَ بِهِ: وَثِقَ بِهِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَمِنَ لِلصَّيْرُورَةِ كَأَعْشَبَ، أَوْ لِمُطَاوَعَةِ فِعْلٍ كَأَكَبَّ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الِاعْتِرَافِ أَوِ الْوُثُوقِ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَاللَّامِ فَما آمَنَ لِمُوسى «2» ، وَالتَّعْدِيَةُ بِاللَّامِ فِي ضِمْنِهَا تَعَدٍّ بِالْبَاءِ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ. الْغَيْبُ: مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ إِذَا تَوَارَى، وَسُمِّي الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ غَيْبًا لِذَلِكَ أَوْ فَعِيلٌ مِنْ غَابَ فَأَصْلُهُ غَيَّبَ، وَخُفِّفَ نَحْوَ: لَيِّنٍ فِي لِينٍ، وَالْفَارِسِيُّ لَا يَرَى ذَلِكَ قِيَاسًا فِي بنات الْيَاءِ، فَلَا يُجِيزُ فِي لِينٍ التَّخْفِيفَ وَيُجِيزُهُ فِي ذوات الواو، نحو: سَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَغَيْرُهُ قَاسَهُ فِيهِمَا. وَابْنُ مَالِكٍ وَافَقَ أَبَا عَلِيٍّ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ. وَخَالَفَ الْفَارِسِيُّ فِي ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ لَا مَقِيسٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَالْإِقَامَةُ: التَّقْوِيمُ، أَقَامَ الْعَوْدَ قَوَّمَهُ، أَوِ الْإِدَامَةُ أَقَامَتِ الْغَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ، أَيْ أَدَامَتْهَا مِنْ قَامَتِ السُّوقُ، أَوِ التَّشَمُّرُ وَالنُّهُوضُ مِنْ قَامَ بِالْأَمْرِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَقَامَ لِلتَّعْدِيَةِ. الصَّلَاةُ: فَعَلَةٌ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الصَّلَى، وَهُوَ عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بِالظَّهْرِ يَفْتَرِقُ مِنْ عِنْدِ عَجْبِ الذَّنَبِ، وَيَمْتَدُّ مِنْهُ عِرْقَانِ فِي كُلِّ وَرِكٍ، عِرْقٌ يُقَالُ لَهُمَا الصَّلَوَانِ فَإِذَا رَكَعَ الْمُصَلِّي انْحَنَى صَلَاهُ وَتَحَرَّكَ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ مَصْلِيًّا، وَمِنْهُ أُخِذَ الْمُصَلِّي فِي سَبْقِ الْخَيْلِ لِأَنَّهُ يَأْتِي مَعَ صِلْوَيِ السَّابِقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَاشْتُقَّتِ الصَّلَاةُ مِنْهُ إِمَّا لِأَنَّهَا جَاءَتْ ثَانِيَةَ الْإِيمَانِ فَشُبِّهَتْ بِالْمُصَلَّى مِنَ الْخَيْلِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الرَّاكِعَ وَالسَّاجِدَ يَنْثَنِي صَلَوَاهُ، وَالصَّلَاةُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَنْتَظِمُ مِنْ أَقْوَالٍ وَهَيْئَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَصَلَّى فَعَلَ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا صَلَّى دَعَا فَمَجَازٌ وَعِلَاقَتُهُ تَشْبِيهُ الدَّاعِي فِي التَّخَشُّعِ وَالرَّغْبَةِ بِفَاعِلِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الصَّلَاةَ مِمَّا أُخِذَ مِنْ صَلَّى بِمَعْنَى دَعَا، كَمَا قَالَ: عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا وَقَالَ: لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا

_ (1) سورة يوسف: 12/ 17. (2) سورة يونس: 10/ 83.

قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ دُعَاءً، وَانْضَافَ إِلَيْهِ هَيْئَاتٌ وَقِرَاءَةٌ، سُمِّيَ جَمِيعُ ذَلِكَ بِاسْمِ الدُّعَاءِ وَالْقَوْلُ إِنَّهَا مِنَ الدُّعَاءِ أَحْسَنُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ ذكر أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَنَا، وَذَكَرْنَا الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الدَّاعِي وَفَاعِلِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ حَرْفُ جَرٍّ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ أَصْلَهَا مِنَا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ بَعْضِ قُضَاعَةَ: بَذَلْنَا مَارِنَ الْخَطِّيِّ فِيهِمْ ... وَكُلَّ مُهَنَّدٍ ذَكَرٍ حُسَامِ مِنَا أَنْ ذَرَّ قَرْنُ الشَمْسِ حَتَّى ... أغاب شريدهم قتر الظَّلَامِ وَتَأَوَّلَ ابْنُ جِنِّي، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى فِعَلٍ مِنْ مَنَى يُمْنَى أَيْ قَدَرَ. وَاغْتَرَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ: وَقَدْ يُقَالُ مِنَا. وَقَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَلِلتَّبْعِيضِ، وَزَائِدَةً وَزِيدَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَلِلْبَدَلِ، وَلِلْمُجَاوَزَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَلِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلِلْفَصْلِ، وَلِمُوَافَقَةِ الْبَاءِ، وَلِمُوَافَقَةٍ فِي. مِثْلَ ذَلِكَ: سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «1» ، فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ «2» ، بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «3» ، غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ «4» ، قَرُبْتَ مِنْهُ، وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «5» ، يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ «6» يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ «7» مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» . مَا تَكُونُ مَوْصُولَةً، وَاسْتِفْهَامِيَّةً، وَشَرْطِيَّةً، وَمَوْصُوفَةً، وَصِفَةً، وَتَامَّةً. مَثَلُ ذَلِكَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، مَرَرْتُ بِمَا مُعْجَبٍ لَكَ، لِأَمْرٍ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ، مَا أَحْسَنَ زَيْدًا. رَزَقْناهُمْ الرِّزْقُ: الْعَطَاءُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْزَقُ كَالطَّحْنِ، وَالرِّزْقُ الْمَصْدَرُ، وَقِيلَ الرِّزْقُ أَيْضًا مَصْدَرُ رَزَقْتَهُ أَعْطَيْتَهُ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً وَقَالَ: رُزِقْتَ مَالًا وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ ... إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا وَقِيلَ: أَصْلُ الرِّزْقِ الْحَظَّ، وَمَعَانِي فَعَلَ كَثِيرَةٌ ذُكِرَ مِنْهَا: الْجَمْعُ، وَالتَّفْرِيقُ، وَالْإِعْطَاءُ، وَالْمَنْعُ، وَالِامْتِنَاعُ، وَالْإِيذَاءُ، وَالْغَلَبَةُ، وَالدَّفْعُ، وَالتَّحْوِيلُ، وَالتَّحَوُّلُ، وَالِاسْتِقْرَارُ، وَالسَّيْرُ، وَالسَّتْرُ، وَالتَّجْرِيدُ، وَالرَّمْيُ، وَالْإِصْلَاحُ، والتصويت. مثل ذلك:

_ (1) سورة الكهف: 18/ 31. (2) سورة البقرة: 2/ 19. (3) سورة التوبة: 9/ 38. (4) سورة آل عمران: 3/ 121. (5) سورة الأنبياء: 21/ 77. (6) سورة البقرة: 2/ 220. (7) سورة الشورى: 43/ 45. (8) سورة فاطر: 35/ 40.

حَشَرَ، وَقَسَمَ، وَمَنَحَ، وَغَفَلَ، وَشَمَسَ، وَلَسَعَ، وَقَهَرَ، وَدَرَأَ، وَصَرَفَ، وَظَعَنَ، وَسَكَنَ، وَرَمَلَ، وَحَجَبَ، وَسَلَخَ، وَقَذَفَ، وَسَبَحَ، وَصَرَخَ. وَهِيَ هُنَا لِلْإِعْطَاءِ نَحْوُ: نَحَلَ، وَوَهَبَ، وَمَنَحَ. يُنْفِقُونَ، الْإِنْفَاقُ: الْإِنْفَاذُ، أَنْفَقْتُ الشَّيْءَ وَأَنْفَذْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ نَفَقَ الشَّيْءُ نَفَذَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ تَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ، وَمِنْهُ: نَافَقَ، وَالنَّافِقَاءُ، وَنَفَقَ ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، الَّذِينَ ذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ الْخَفْضَ عَلَى النَّعْتِ لِلْمُتَّقِينَ، أَوِ الْبَدَلَ وَالنَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى الْقَطْعِ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي عَلَى التَّفْسِيرِ قَالُوا، أَوْ عَلَى مَوْضِعِ الْمُتَّقِينَ، تَخَيَّلُوا أَنَّ لَهُ مَوْضِعًا وَأَنَّهُ نُصِبَ، وَاغْتَرُّوا بِالْمَصْدَرِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ مَعْمُولٌ لَهُ عُدِّيَ بِاللَّامِ، وَالْمَصْدَرُ هُنَا نَابَ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَلَا يَعْمَلُ، وَإِنْ عَمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ وَأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى مَصْدَرِيَّتِهِ فَلَا يَعْمَلُ، لِأَنَّهُ هُنَا لَا يَنْحَلُّ بِحَرْفِ مَصْدَرٍ وَفِعْلٍ، وَلَا هُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ، بَلْ لِلْمُتَّقِينَ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ هُدًى، أَيْ هُدًى كَائِنٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأُولَئِكَ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، وَهَذَا الْأَخِيرُ إِعْرَابٌ مُنْكَرٌ لَا يَلِيقُ مِثْلُهُ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُخْتَارُ فِي الْإِعْرَابِ الْجَرُّ عَلَى النَّعْتِ وَالْقَطْعُ، إِمَّا لِلنَّصْبِ، وَإِمَّا لِلرَّفْعِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ جَاءَتْ لِلْمَدْحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِالْهَمْزَةِ سَاكِنَةً بَعْدَ الْيَاءِ، وَهِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَحَذَفَ هَمْزَةَ أَفْعَلَ حَيْثُ وَقَّعَ ذلك ورش وأبو عمر، وَإِذَا أُدْرِجَ بِتَرْكِ الْهَمْزِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ رَزِينٌ بِتَحْرِيكِ الْهَمْزَةِ مِثْلَ: يُؤَخِّرُكُمْ، وَوَجْهُ قِرَاءَتِهِ أَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ لِسُكُونِهَا، وَأَقَرَّ هَمْزَةَ أَفْعَلَ لِتَحَرُّكِهَا وَتَقَدُّمِهَا وَاعْتِلَالِهَا فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ، وَالْيَاءُ مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى الِاسْمِ، كَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، أَوْ لِلْحَالِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ مُلْتَبِسِينَ بِالْغَيْبِ عَنِ الْمُؤْمَنِ بِهِ، فَيَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْمَصْدَرُ، وَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ فَعَلَى مَعْنَى الْغَائِبِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْفَاعِلِ، قَالُوا: وَعَلَى مَعْنَى الْغَيْبِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ نَحْوُ: هَذَا خَلْقٌ الله، وَدِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْغَيْبَ مَصْدَرُ غَابَ اللَّازِمِ، أَوْ عَلَى التَّخْفِيفِ مِنْ غَيَّبَ كَلَيَّنَ، فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ التَّخْفِيفَ، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْغَيْبِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا يُصَارُ إِلَى ذَلِكَ حتى يسمع منقلا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْغَيْبُ هُنَا الْقُرْآنُ، قَالَهُ عَاصِمُ بن أبي الجود، أَوْ مَا لَمْ يَنْزِلْ

مِنْهُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ أَوْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوْ عِلْمُ الْوَحْيِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ وَافِدٍ، أَوْ أَمْرُ الْآخِرَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ مَا غَابَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَانِئٍ، أَوِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ مَا غَابَ عَنِ الْحَوَاسِّ مِمَّا يُعْلَمُ بِالدَّلَالَةِ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، أَوِ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، أَوْ مَعْنَى بِالْغَيْبِ بِالْقُلُوبِ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، أَوِ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ، قَالَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ وَهُوَ: اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر والقدر ، خَيْرُهُ وَشَرُّهُ، وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ لِأَنَّهُ شَرَحَ حَالَ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وَالْإِيمَانُ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا هُوَ ذَاكَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا تَضَمَّنَ الِاعْتِقَادَ الْقَلْبِيَّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَالْفِعْلُ الْبَدَنِيُّ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَإِخْرَاجُ الْمَالِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ عُمُدُ أَفْعَالِ الْمُتَّقِي، فَنَاسَبَ أَنْ يُشْرَحَ الْغَيْبُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا فُسِّرَ بِهِ الْإِقَامَةُ قَبْلُ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ قَوْلُهُ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَقَالُوا: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْإِقَامَةِ عَنِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ لَهَا، قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ أَرْكَانِهَا، كَمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْقُنُوتِ، وَالْقُنُوتُ الْقِيَامُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالُوا: سَبَّحَ إِذَا صَلَّى لِوُجُودِ التَّسْبِيحِ فِيهَا، فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا يَصِحُ إِلَّا بِارْتِكَابِ مَجَازٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قَامَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهَا قِيَامٌ ثُمَّ دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ فَقُلْتُ: أَقَمْتُ الصَّلَاةَ، أَيْ جَعَلْتُهَا تَقُومُ، أَيْ يَكُونُ مِنْهَا الْقِيَامُ، وَالْقِيَامُ حَقِيقَةٌ مِنَ الْمُصَلِّي لَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَجُعِلَ مِنْهَا عَلَى الْمَجَازِ إِذَا كَانَ مِنْ فَاعِلِهَا. وَالصَّلَاةُ هُنَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ: أَوِ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَالرِّزْقُ قِيلَ: هُوَ الْحَلَالُ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحَلَالُ لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ وَصْفِ الْمُتَّقِي. وَمَنْ كُتِبَتْ مُتَّصِلَةً بِمَا مَحْذُوفَةَ النُّونِ مِنَ الْخَطِّ، وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً لِأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، لَكِنَّهَا وُصِلَتْ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهَا قَدْ أُخْفِيَتْ نُونُ مَنْ فِي اللَّفْظِ فَنَاسَبَ حَذْفُهَا فِي الْخَطِ، وَهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، إِذِ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ إِخْرَاجَ جَمِيعِ مَا رُزِقُوا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ. وَالنَّفَقَةُ الَّتِي فِي الْآيَةِ هِيَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ نَفَقَةُ الْعِيَالِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ التَّطَوُّعُ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ مَعْنَاهُ، أَوِ النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ أَوِ النَّفَقَةُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ الْفَرْضُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُمْسِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَيُفَرِّقَ بَاقِيَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَرُجِّحَ كَوْنُهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ لِاقْتِرَانِهَا بِأُخْتِهَا الصَّلَاةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ

الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِتَشَابُهِ أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ وَأَوَّلِ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ طُهْرَةٌ لِلْبَدَنِ، وَالزَّكَاةَ طُهْرَةٌ لِلْمَالِ وَالْبَدَنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ، وَالزَّكَاةَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ أَعْظَمَ مَا لِلَّهِ عَلَى الْأَبْدَانِ مِنَ الْحُقُوقِ الصَّلَاةُ، وَفِي الْأَمْوَالِ الزَّكَاةُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ تَمْثِيلًا لِلْمُتَّفَقِ لَا خِلَافًا فِيهِ. وَكَثِيرًا مَا نَسَبَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ، أَوْ أَخْبَرَ بِهِ، وَلَمْ يَنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى كَسْبِ الْعَبْدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُهُ الْعَبْدُ وَيُعْطِيهِ هُوَ بَعْضُ مَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهُ وَنَحَلَهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ صِلَاتِ الَّذِينَ أَفْعَالًا مُضَارِعَةً، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمَوْصُولَ أَلْ فَيَصِلَهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ فِيمَا ذَكَرَ الْبَيَانِيُّونَ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ بِخِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُشْعِرٌ بِالثُّبُوتِ وَالْأَمْدَحُ فِي صِفَةِ الْمُتَّقِينَ تَجَدُّدُ الْأَوْصَافِ، وَقَدَّمَ الْمُنْفَقَ مِنْهُ عَلَى الْفِعْلِ اعْتِنَاءً بِمَا خَوَّلَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ وَإِشْعَارًا أَنَّ الْمُخْرَجَ هُوَ بَعْضُ مَا أَعْطَى الْعَبْدَ، وَلِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ وَحَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمُوهُ، وَاجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَعَيَّنًا لِلرَّبْطِ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مُتَصَرِّفٍ تَامٍّ. وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً وَقَدَّرَ، ومن شيء رزقناهمو لِضَعْفِ الْمَعْنَى بَعْدَ عُمُومِ الْمَرْزُوقِ الَّذِي يُنْفَقُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ التمدح الذي يحصل يجعل مَا مَوْصُولَةً لِعُمُومِهَا، وَلِأَنَّ حَذْفَ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ أَوْ جَعْلَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَلَا يَكُونُ فِي رَزَقْنَاهُمْ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ بَلْ مَا مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، فَيُضْطَرُّ إِلَى جَعْلِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْمَصْدَرِ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ إِنَّمَا يُنْفَقُ مِنَ الْمَرْزُوقِ، وَتَرْتِيبُ الصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ الْإِلْزَامِ. فَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ دَائِمًا، وَالصَّلَاةُ لَازِمَةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَالنَّفَقَةُ لَازِمَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. الْإِنْزَالُ: الْإِيصَالُ وَالْإِبْلَاغُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أعلا، فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أَيْ وَصَلَ وَحَلَّ، إِلَى حَرْفُ جَرٍّ مَعْنَاهُ انْتِهَاءُ الْغَايَةِ وَزِيدَ كَوْنُهَا لِلْمُصَاحَبَةِ وَلِلتَّبْيِينِ وَلِمُوَافَقَةِ اللَّامِ وَفِي وَمِنْ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ زِيَادَتَهَا، مِثْلَ ذَلِكَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ، كَأَنَّنِي إِلَى النَّاسِ مَطْلَبِي، أَيْ فِي النَّاسِ. أَيَسْقِي فَلَا يَرْوِي إِلَى ابْنِ أَحْمَرَا، أَيْ مَتَى تَهْوِي إِلَيْهِمْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ تَهْوَاهُمْ، وَحُكْمُهَا فِي ثُبُوتِ الْفَاءِ، وَقَلْبِهَا حُكْمُ عَلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِهَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ، وَتُكْسَرُ لِلْمُؤَنَّثِ، وَيَلْحَقُهَا مَا يَلْحَقُ أَنْتَ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَيْهِمَا، وَرُبَّمَا فُتِحَتْ لِلْمُؤَنَّثِ، أَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهَا مَكْسُورَةً فِي جَمْعِهَا نَحْوَ: وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي ... أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ

قَبْلُ وَبَعْدُ ظَرْفَا زَمَانٍ وَأَصْلُهُمَا الْوَصْفُ وَلَهُمَا أَحْكَامٌ تُذْكَرُ فِي النَّحْوِ، وَمَدْلُولُ قَبْلُ مُتَقَدِّمٌ، كَمَا أَنَّ مَدْلُولَ بَعْدُ مُتَأَخِّرٌ. الْآخِرَةُ تَأْنِيثُ الْآخِرِ مُقَابِلِ الْأَوَّلِ وَأَصْلُ الْوَصْفِ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ «1» ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ «2» ، ثُمَّ صَارَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَسْكِينِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَإِقْرَارِ الْهَمْزَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَهَا لِلْقَطْعِ، وَوَرْشٌ يَحْذِفُ وَيَنْقُلُ الْحَرَكَةَ إِلَى اللَّامِ. الْإِيقَانُ: التَّحَقُّقُ لِلشَّيْءِ لِسُكُونِهِ وَوُضُوحِهِ، يُقَالُ يَقِنَ الْمَاءُ سَكَنَ وَظَهَرَ مَا تَحْتَهُ، وَأَفْعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ كَأَبَلَّ بِمَعْنَى اسْتَبَلَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُمَا النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ مبنيا للفاعل. وقرىء شَاذًّا بِمَا أُنْزِلَّ إِلَيْكَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَسْكَنَ لَامَ أَنْزَلَ كَمَا أَسْكَنَ وَضَّاحٌ آخِرَ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا شِعْرِي قَيْدٌ، قَدْ خُلِطْ بحلجان ثُمَّ حَذَفَ هَمْزَةَ إِلَى وَنَقَلَ كَسْرَتَهَا إِلَى لَامِ أَنْزَلَ فَالتَّقَى الْمِثْلَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَالْإِدْغَامُ جَائِزٌ فَأَدْغَمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوقِنُونَ بِوَاوٍ ساكنة بعد الياء وهي مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءٍ لِأَنَّهُ مِنْ أَيْقَنَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَرِيُّ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَدَلَ الْوَاوِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لحب المؤقذان إِلَيَّ مُوسَى ... وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الضَّرُورَةِ، وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ لَمَّا جَاوَرَتِ الْمَضْمُومَ فَكَأَنَّ الضَّمَّةَ فِيهَا، وَهُمْ يُبْدِلُونَ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً، قَالُوا وَفِي وُجُوهٍ وَوُقِّتَتْ أُجُوهٌ وَأُقِّتَتْ، فَأَبْدَلُوا مِنْ هَذِهِ هَمْزَةً، إِذْ قَدَّرُوا الضَّمَّةَ فِيهَا وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ يَحْتَمِلُ الْمُغَايَرَةَ فِي الذَّاتِ وَهُوَ الْأَصْلُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ لِإِيمَانِهِمْ بِكُلِّ وَحْيٍ، فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَوْصُولَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَوْصُولِ انْدَرَجُوا فِي جُمْلَةِ الْمُتَّقِينَ، إِنْ لَمْ يُرِدْ بِالْمُتَّقِينَ بِوَصْفِهِ مُؤْمِنُو الْعَرَبِ، وَذَلِكَ لِانْقِسَامِ الْمُتَّقِينَ إِلَى الْقِسْمَيْنِ. وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُتَّقِينَ لَمْ يَنْدَرِجْ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ قَسِيمٌ لِمَنْ لَهُ الْهُدَى لَا قِسْمٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَيُحْتَمَلُ الْمُغَايَرَةُ فِي الْوَصْفِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَاتِ، وَلَا تَغَايُرَ فِي الذوات بِالنِّسْبَةِ لِلْعَطْفِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَبُنِيَ الفعلان للمفعول للعلم

_ (1) سورة القصص: 28/ 83. (2) سورة يوسف: 12/ 109، وسورة النحل: 16/ 130.

بِالْفَاعِلِ، نَحْوَ: أُنْزِلَ الْمَطَرُ، وَبِنَاؤُهُمَا لِلْفَاعِلِ فِي قِرَاءَةِ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ قُطَيْبٍ، فَاعِلُهُ مُضْمَرٌ، قِيلَ: اللَّهُ أَوْ جِبْرِيلُ. قَالُوا: وَقُوَّةُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ عِنْدِي مِنَ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ، فَخَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى الْأَوَّلِ لَجَاءَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلَ صِلَةَ مَا الْأُولَى مَاضِيَةً لِأَنَّ أَكْثَرَهُ كَانَ نَزَلَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، أَوْ غُلِّبَ الْمَوْجُودُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْمُتَقَدِّمِ الْمَاضِي يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالْمُتَأَخِّرِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِيمَانِ وَاحِدٌ. وَأَمَّا صِلَةُ الثَّانِيَةِ فَمُتَحَقِّقَةُ الْمُضِيِّ وَلَمْ يُعَدْ حَرْفُ الْجَرِّ فيما الثَّانِيَةِ لِيَدُلَّ أَنَّهُ إِيمَانٌ وَاحِدٌ، إِذْ لَوْ أَعَادَ لَأَشْعَرَ بِأَنَّهُمَا إِيمَانَانِ. وَبِالْآخِرَةِ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَا الدَّارُ الْآخِرَةُ لِلتَّصْرِيحِ بِالْمَوْصُوفِ فِي بَعْضِ الْآيِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، إِذْ قَدْ جَاءَ أَيْضًا مُصَرَّحًا بِهَذَا الْمَوْصُوفِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَعْثِ. وَأَكَّدَ أَمْرَ الْآخِرَةِ بِتَعَلُّقِ الْإِيقَانِ بِهَا الَّذِي هُوَ أَجْلَى وَآكَدُ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَفَاوُتَ فِي الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ دَفْعًا لِمَجَازِ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ، وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ، فَذَكَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ بِالْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِيقَانًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ. وَغَايَرَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْمُنَزَّلِ وَالْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ فِي اللَّفْظِ لِزَوَالِ كُلْفَةِ التَّكْرَارِ، وَكَانَ الْإِيقَانُ هُوَ الَّذِي خُصَّ بِالْآخِرَةِ لِكَثْرَةِ غَرَائِبِ مُتَعَلِّقَاتِ الْآخِرَةِ، وَمَا أُعِدَّ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ السَّرْمَدِيَّيْنِ، وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ التَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ، وَنَشْأَةُ أَصْحَابِهَا عَلَى خِلَافِ النَّشْأَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْآخِرَةُ أَغْرَبُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، فَلِذَلِكَ خَصَّ بِلَفْظِ الْإِيقَانِ، وَلِأَنَّ الْمُنَزَّلَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مُشَاهَدٌ أَوْ كَالْمُشَاهَدِ، وَالْآخِرَةُ غَيْبٌ صِرْفٌ، فَنَاسَبَ تَعْلِيقَ الْيَقِينِ بِمَا كَانَ غَيْبًا صِرْفًا. قَالُوا: وَالْإِيقَانُ هُوَ الْعِلْمُ الْحَادِثُ سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورِيًّا أَوِ اسْتِدْلَالِيًّا، فَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِهِ الْبَارِي تَعَالَى، لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُوقِنُ وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ اعْتِنَاءً بِهِ وَلِتَطَابُقِ الْأَوَاخِرِ. وَإِيرَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ آكَدُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ هَؤُلَاءِ بِالْإِيقَانِ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فَعَلَ آكَدُ مِنْ فَعَلَ زَيْدٌ لِتَكْرَارِ الِاسْمِ فِي الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُضْمَرًا، وَتَصْدِيرِهِ مُبْتَدَأٌ يُشْعِرُ بِالِاهْتِمَامِ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ التَّقْدِيمَ لِلْفِعْلِ مُشْعِرٌ بِالِاهْتِمَامِ بِالْمَحْكُومِ بِهِ. وَذَكَرَ لَفْظَةَ هُمْ فِي قَوْلِهِ: هُمْ يُوقِنُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ هُمْ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ لِأَنَّ وَصْفَ إِيقَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ أَعْلَى مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْإِنْفَاقِ، فَاحْتَاجَ هَذَا إِلَى التَّوْكِيدِ وَلَمْ يَحْتَجْ ذَلِكَ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَهُمْ هُنَاكَ لَكَانَ فِيهِ قَلَقٌ لَفْظِيٌّ، إِذْ كَانَ يَكُونُ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ هُمْ

يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ لِلرُّتْبَةِ الْوُسْطَى، قَاسَهُ عَلَى ذَا حِينَ لَمْ يَزِيدُوا فِي الْوُسْطَى عَلَيْهِ غَيْرَ حَرْفِ الخطاب، بخلاف أولالك. وَيَضْعُفُ قَوْلُهُ كَوْنَ هَاءِ التنبيه لا ندخل عَلَيْهِ. وَكَتَبُوهُ بِالْوَاوِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلَيْكَ، وَبُنِيَ لِافْتِقَارِهِ إِلَى حَاضِرٍ يُشَارُ إِلَيْهِ بِهِ، وَحُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَائِهِمَا. الْفَلَاحُ: الْفَوْزُ وَالظَّفْرُ بِإِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ، أَوِ الْبَقَاءِ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ: إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ وَفِي تَشَارُكِهِ فِي مَعْنَى الشَّقِّ مُشَارَكَةً فِي الْفَاءِ وَالْعَيْنِ نَحْوَ: فَلَى وَفَلَقَ وَفَلَذَ، تَقَدَّمَ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، أَنَّ مِنْ وَجْهَيْ رَفْعِهِ كَوْنَهُ مُبْتَدَأً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أُولَئِكَ مَعَ مَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الَّذِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا وَعَطْفَ بَيَانٍ، وَيَمْتَنِعُ الْوَصْفُ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ. وَيَكُونُ خَبَرَ الَّذِينَ إِذْ ذَاكَ قَوْلُهُ: عَلى هُدىً، وَإِنْ كَانَ رَفْعُ الَّذِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ كَانَ مَجْرُورًا أَوْ مَنْصُوبًا، كَانَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ عَلى هُدىً، وقد تقدم أنا لا نَخْتَارُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِانْفِلَاتِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَالذَّهَابِ بِهِ مَذْهَبَ الِاسْتِئْنَافِ مَعَ وُضُوحِ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلتَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ فِي الِاسْتِئْنَافِ فِيمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهُ وَالِارْتِبَاطِ بِهِ. وَقَدْ وَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَ الِاسْتِئْنَافِ بِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الكتاب اختص المتقون بِكَوْنِهِ هُدًى لَهُمْ، اتَّجَهَ لِسَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا بَالُ الْمُتَّقِينَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْجَلِيلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَالْإِيمَانِ بِالْمُنْزَلِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ عَلَى هُدًى فِي الْعَاجِلِ، وَذَوُو فَلَاحٍ فِي الْآجِلِ. ثُمَّ مَثَّلَ هَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ بِقَوْلِهِ: أَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ الَّذِينَ قَارَعُوا دُونَهُ، فَكَشَفُوا الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِهِ، أُولَئِكَ أَهْلٌ لِلْمَحَبَّةِ، يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَأْنَفَ فَابْتَدَأَ بِصِفَةِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا اسْتَأْنَفَ بِصِفَةِ الْأَنْصَارِ. وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الِاتِّصَالِ يَكُونُ قَدْ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِصِفَاتِ مَدْحٍ فَضَلَتْ جِهَاتِ التَّقْوَى، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ وَأَعْلَمَ بِأَنَّ مَنْ حَازَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الشَّرِيفَةَ هُوَ عَلَى هُدًى، وَهُوَ الْمُفْلِحُ وَالِاسْتِعْلَاءُ الَّذِي أَفَادَتْهُ فِي قَوْلِهِ: عَلى هُدىً، هُوَ مَجَازٌ نَزَّلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا تَمَكَّنَ رُسُوخُهُمْ فِي الْهِدَايَةِ جُعِلُوا كَأَنَّهُمُ اسْتَعْلَوْهُ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْهُدَى بِمَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ

الْمَذْكُورَةِ فِي وَصْفِ الْهُدَى بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ، أَيْ كَائِنٌ مِنْ رَبِّهِمْ، تَعْظِيمٌ لِلْهُدَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الرَّبِّ هُنَا وَاضِحَةٌ، أَيْ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ بِأَيِّ تَفَاسِيرِهِ فَسَّرْتَ نَاسَبَ أَنْ يُهَيِّئَ لَهُمْ أَسْبَابَ السَّعَادَتَيْنِ: الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَجَعَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى هُدًى، وَفِي الْآخِرَةِ هُمُ مفلحون. وَقَدْ تَكُونُ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ عَلَى هُدًى، وَحَذْفُ الصِّفَةِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي مُطْلَقُ الْهُدَى المنسوب إلى الله تعالى. وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ هُدَى رَبِّهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: مِنْ رَبِّهُمْ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا آتٍ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا سَبْقُ كَسْرٍ أَوْ يَاءٍ، وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِخَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَرَّرَ أُولَئِكَ لِيَقَعَ كُلُّ خَبَرٍ مِنْهُمَا فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَهُوَ آكَدُ فِي الْمَدْحِ إِذْ صَارَ الْخَبَرُ مَبْنِيًّا عَلَى مُبْتَدَأٍ. وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ هُمَا نَتِيجَتَا الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ إِذْ كَانَتِ الْأَوْصَافُ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقُهُ أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا مَا مُتَعَلِّقُهُ أَمْرُ الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى فِي الدُّنْيَا وَبِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَتَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ فِي الْمُبْتَدَأِ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ، لَمْ يُدْخِلِ الْعَاطِفَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «1» بَعْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ «2» كَيْفَ جَاءَ بِغَيْرِ عَاطِفٍ لِاتِّفَاقِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ لِلْمُبْتَدَأَيْنِ فِي الْمَعْنَى؟ وَيُحْتَمَلُ هُمْ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا أَوْ بدلا فيكون المفلحون خيرا عَنْ أُولَئِكَ، أَوِ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُفْلِحُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ أُولَئِكَ، وَأَحْكَامُ الْفَصْلِ وَحِكْمَةُ الْمَجِيءِ بِهِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَقَدْ جُمِعَتْ أَحْكَامُ الْفَصْلِ مُجَرَّدَةً مِنْ غَيْرِ دَلَائِلَ فِي نَحْوٍ مِنْ سِتِّ وَرَقَاتٍ، وَإِدْخَالُ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَأْكِيدٍ وَرَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَشَكَّكُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْخَبَرُ أَوْ يُنَازِعُ فِيهِ، أَوْ مَنْ يَتَوَهَّمُ التَّشْرِيكَ فِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا «3» ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى «4» ، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «5» ، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى «6» ، كَيْفَ أَثْبَتَ هُوَ دَلَالَةً عَلَى مَا ذُكِرَ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي نِسْبَةِ خَلْقِ الزَّوْجَيْنِ وَإِهْلَاكِ عَادٍ، إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ إِسْنَادُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الله تعالى ولا

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 179. (2) سورة الأعراف: 7/ 179. [.....] (3) سورة النجم: 53/ 43- 44. (4) سورة النجم: 53/ 48. (5) سورة النجم: 53/ 45. (6) سورة النجم: 53/ 50.

الشَّرِكَةُ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِضْحَاكُ وَالْإِبْكَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِغْنَاءُ وَالْإِقْنَاءُ فَقَدْ يَدَّعِي ذَلِكَ، أَوِ الشَّرِكَةَ فِيهِ مُتَوَاقِحٌ كَذَّابٌ كَنُمْرُوذَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى «1» ، فَدُخُولُ هُوَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّ هَذَا النَّجْمِ، وَإِنْ كَانَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ هَذَا النَّجْمَ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَاتُّخِذَ إِلَهًا، فَأَتَى بِهِ لِيُنَبِّهَ بِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَبِدٌّ بِكَوْنِهِ رَبًّا لِهَذَا الْمَعْبُودِ، وَمَنْ دُونَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ فِي الْخَارِجِ أَوْ فِي الذِّهْنِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ، فَالْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ وُجُودَ ذَاتِ صَدْرٍ مِنْهَا انْطِلَاقٌ، وَيَعْرِفُ زَيْدًا وَيَجْهَلُ نِسْبَةَ الِانْطِلَاقِ إِلَيْهِ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ كُلَّ ذَلِكَ فَتَقُولُ لَهُ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ، فَتُفِيدُهُ مَعْرِفَةَ النِّسْبَةَ الَّتِي كَانَ يَجْهَلُهَا، وَدَخَلَتْ هُوَ فِيهِ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ، لِتَأْكِيدِ النِّسْبَةِ، وَإِنَّمَا تُؤَكِّدُ النِّسْبَةَ عِنْدَ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يُنَازِعُ أَوْ يَتَوَهَّمُ الشِّرْكَةَ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم إِلَى قَوْلِهِ: الْمُفْلِحُونَ أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ضروب الفصاحة أَنْوَاعًا: الْأَوَّلُ: حُسْنُ الِافْتِتَاحِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ بِمَا فِيهِ غُمُوضٌ وَدِقَّةٌ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. الثَّانِي: الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ أَدْخَلَ اللَّامَ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ الْمَنَازِلِ. الثَّالِثُ: مَعْدُولُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ صِيغَتُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. الرَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ هُوَ فِي قَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْخَامِسُ: التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ، والَّذِينَ إِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ وَاحِدًا فَهُوَ تَكْرَارُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَمِنَ التَّكْرَارِ أُولئِكَ، وأُولئِكَ. السَّادِسُ: تَأْكِيدُ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: هُمْ يُوقِنُونَ. السَّابِعُ: الْحَذْفُ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ أَحَدُهَا هَذِهِ الم عِنْدَ مَنْ يُقَدِّرُ ذَلِكَ، وَهُوَ هُدًى، وَيُنْفِقُونَ في الطاعة، وبِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ومِنْ قَبْلِكَ، أَيْ قَبْلَ إِرْسَالِكَ، أَوْ قَبْلَ الْإِنْزَالِ، وَبِالْآخِرَةِ، أَيْ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ، ويُوقِنُونَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا، وعَلى هُدىً، أَيْ أَسْبَابِ هُدًى، أَوْ عَلَى نُورٍ هُدًى، والْمُفْلِحُونَ، أَيِ الْبَاقُونَ فِي نعيم الآخرة.

_ (1) سورة النجم: 53/ 49.

[سورة البقرة (2) : الآيات 6 إلى 7]

[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ، إِنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ يَتَشَبَّثُ بِالْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ، فَيُنْصِبُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، وَيَرْتَفِعُ الْمَسْنَدُ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَهَا وَلِأَخَوَاتِهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. وَتَأْتِي أَيْضًا حَرْفَ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ. الْكُفْرُ: السَّتْرُ، وَلِهَذَا قِيلَ: كَافِرٌ لِلْبَحْرِ، وَمَغِيبُ الشَّمْسِ، وَالزَّارِعِ، وَالدَّافِنِ، وَاللَّيْلِ، وَالْمُتَكَفِّرِ، وَالْمُتَسَلِّحِ. فَبَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَهُوَ السَّتْرُ، سَوَاءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى اسْتِوَاءٍ مَصْدَرِ اسْتَوَى، وَوُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، فَتَحْمِلُ الضَّمِيرَ. قَالُوا: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ، وَالْعَدَمُ قَالُوا: أَصْلُهُ الْعَدْلُ، قال زهير: يستوي بَيْنَهَا فِيهَا السِّوَاءُ. وَلِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْمَصْدَرِ لَا يُثَنَّى، قَالُوا: هُمَا سَوَاءٌ اسْتَغْنَوْا بِتَثْنِيَةِ سَيٍّ بِمَعْنَى سُواءٍ، كَقِيٍّ بِمَعْنَى قِوَاءٌ، وَقَالُوا: هُمَا سِيَّانِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ تَثْنِيَتَهُ عَنْ بَعْضِ العرب. قالوا: هذان سواءان، وَلِذَلِكَ لَا تُجْمَعُ أَيْضًا، قَالَ: وَلَيْلٍ يَقُولُ النَّاسُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا وَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ طَوَيْتُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ سَوَاءُ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، فَيَجُوزُ أَنَّهُ أَخَلَصَ الْوَاوَ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَ الْهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ. وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ فِيمَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ الْمُلَيَّنَةِ مِنَ الْمَدِّ، انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَوَاءٌ لَيْسَ لَامُهُ يَاءً بَلْ وَاوًا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوَاءٍ. وَعَنِ الْخَلِيلِ: سُوءٍ عَلَيْهِمْ بِضَمِّ السِّينِ مَعَ وَاوٍ بَعْدَهَا مَكَانَ الْأَلِفِ، مِثْلَ دَائِرَةِ السَّوْءِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ ضَمَّ السِّينَ، وَفِي ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ إِلَى مَعْنَى الْقُبْحِ وَالسَّبِّ، وَلَا يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَهُ تَعَلُّقُ إِعْرَابٍ بِالْجُمْلَةِ بَعْدَهَا بَلْ يَبْقَى. أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِخْبَارٌ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْذَارِكَ وَعَدَمِ إِنْذَارِكَ، وَأَمَّا سَوَاءٌ الْوَاقِعُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِمْ قَامُوا سِوَاكَ بِمَعْنَى قَامُوا غَيْرَكَ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا فِي اللَّفْظِ، مُخَالِفٌ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَهُ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءَ. الْهَمْزَةُ لِلنِّدَاءِ، وَزِيدَ وَلِلِاسْتِفْهَامِ الصِّرْفِ، وَذَلِكَ مِمَّنْ يَجْهَلُ النِّسْبَةَ فَيَسْأَلُ عَنْهَا، وَقَدْ يَصْحَبُ الْهَمْزَةَ التَّقْرِيرُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ؟ وَالتَّحْقِيقُ، أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا. وَالتَّسْوِيَةُ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ، وَالتَّوْبِيخُ أَذْهَبْتُمْ

طَيِّباتِكُمْ «1» ، والإنكار أن يدنيه لِمَنْ قَالَ جَاءَ زَيْدٌ، وَتَعَاقُبُ حَرْفِ الْقَسَمِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. الْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ مَعَ التَّخْوِيفِ فِي مُدَّةٍ تَسَعُ التَّحَفُّظَ مِنَ الْمُخَوَّفِ، وَإِنْ لَمْ تَسْعَ سُمِّي إِعْلَامًا وَإِشْعَارًا وَإِخْبَارًا، وَيَتَعَدَّى إِلَى اثنين: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً «2» ، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً «3» ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: نَذَرَ الْقَوْمُ إِذَا عَلِمُوا بِالْعَدُوِّ. وَأَمْ حَرْفُ عَطْفٍ، فَإِذَا عَادَلَ الهمزة وجاء بعده مفردا أَوْ جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ سُمِّيَتْ أَمْ مُتَّصِلَةً، وَإِذَا انْخَرَمَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا سُمِّيَتْ مُنْفَصِلَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي النَّحْوِ، وَلَا تُزَادُ خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ. لَمْ حَرْفُ نَفْيٍ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ، اللَّفْظُ الْمَاضِي مَعْنَى، فَعَمِلَ فِيهِ مَا يَخُصُّهُ، وَهُوَ الْجَزْمُ، وَلَهُ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ الْخَتْمُ: الْوَسْمُ بِطَابَعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُوسَمُ بِهِ. الْقَلْبُ: مَصْدَرُ قَلَّبَ، وَالْقَلْبُ: اللُّحْمَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ، وَكُنِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْعَقْلِ، وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى لُبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِصِهِ. السَّمْعُ: مَصْدَرُ سَمِعَ سَمْعًا وَسَمَاعًا وَكُنِّيَ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنِ الْأُذُنِ. الْبَصَرُ: نُورُ الْعَيْنِ، وَهُوَ مَا تُدْرَكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ. الْغِشَاوَةُ: الْغِطَاءُ، غَشَّاهُ أَيْ غَطَّاهُ، وَتُصَحَّحُ الْوَاوُ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ بُنِيَتْ عَلَى تَاءِ التَّأْنِيثِ، كَمَا صَحَّحُوا اشْتِقَاقَهُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ مِنَ الْغِشَاوَةِ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا بِالْوَاوِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْنَى مَا اللَّامُ مِنْهُ الْيَاءُ، غَشِيَ يَغْشَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِمُ: الْغَشَيَانُ وَالْغِشَاوَةُ مِنْ غَشِيَ، كَالْجِبَاوَةِ مِنْ جَبَيْتُ فِي أَنَّ الْوَاوَ كَأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ إِذَا لَمْ يُصْرَفْ مِنْهُ فِعْلٌ، كَمَا لَمْ يُصْرَفْ مِنَ الْجِبَاوَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. الْعَذَابُ: أَصْلُهُ الِاسْتِمْرَارُ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَسُمِّيَ بِهِ كُلُّ اسْتِمْرَارِ أَلَمٍ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ فَقَالُوا: عَذَّبْتُهُ، أَيْ دَاوَمْتُ عَلَيْهِ الْأَلَمَ، وَقَدْ جَعَلَ النَّاسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَذْبِ: الَّذِي هُوَ الْمَاءُ الْحُلْوُ، وَبَيْنَ عَذُبَ الْفَرَسُ: اسْتَمَرَّ عَطَشُهُ، قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِمْرَارِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُهُ الْمَنْعُ، يُقَالُ عَذُبَ الْفُرْسُ: امْتَنَعَ مِنَ الْعَلَفِ. عَظِيمٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَظُمَ غَيْرُ مَذْهُوبٍ بِهِ مَذْهَبَ الزَّمَانِ، وَفَعِيلٌ اسْمٌ، وَصِفَةٌ الِاسْمُ مُفْرَدٌ نَحْوُ: قَمِيصٍ، وَجَمْعٌ نَحْوُ: كَلِيبٍ، وَمَعْنًى نَحْوُ: صَهِيلٍ، وَالصِّفَةُ مُفْرَدُ فَعْلَةٍ كَقُرَى، وَفُعَلَةٍ كَسَرِيٍّ، وَاسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فَعُلَ كَكَرِيمٍ، وَلِلْمُبَالَغَةِ مِنْ فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ، وَبِمَعْنَى أَفْعَلٍ كَشَمِيطٍ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَجَرِيحٍ، وَمُفْعِلٍ كَسَمِيعٍ وَأَلِيمٍ، وَتَفَعَّلَ كَوَكِيدٍ،

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 20. (2) سورة النبأ: 78/ 40. (3) سورة فصلت: 41/ 13.

وَمُفَاعِلٍ كَجَلِيسٍ، وَمُفْتَعَلٍ كَسَعِيرٍ، وَمُسْتَفْعِلٍ كَمَكِينٍ، وَفَعَلَ كَرَطِيبٍ، وَفَعُلَ كَعَجِيبٍ، وَفَعَّالٍ كَصَحِيحٍ، وَبِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَصَرِيحِ، وَبِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَخَلِيطٍ وَجَمْعِ فَاعِلٍ كَغَرِيبٍ. مُنَاسِبَةُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صِفَةً مِنَ الْكِتَابِ لَهُ هُدًى وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الْجَامِعُونَ لِلْأَوْصَافِ الْمُؤَدِّيَةِ إلى الفور، ذَكَرَ صِفَةً ضِدَّهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ الْمَحْتُومُ لَهُمْ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَافْتَتَحَ قِصَّتَهُمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قِصَّةِ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الِانْجِرَارِ، إِذِ الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْكِتَابِ ثُمَّ أَنْجَزَ ذِكْرَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْكِتَابِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ إِعْرَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُبْتَدَأٌ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مِنْ تَمَامِ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ مَلْحُوظًا فِيهِ قَيْدٌ، وَهُوَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْوَفَاةِ عليه، وأن يكون لمعينين كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا. وَسَوَاءٌ وَمَا بَعْدَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَيَكُونَ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، بِجَعْلِ سَوَاءٍ الْمُبْتَدَأَ وَالْجُمْلَةِ بَعْدَهُ الْخَبَرَ أَوِ الْعَكْسِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَكُونُ قَدْ دَخَلَتْ جُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ اسْتَوَى إِنْذَارُهُ وَعَدَمُ إِنْذَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، فَيَحْتَمِلُ لَا يُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، إِمَّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هم لَا يُؤْمِنُونَ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ فَتَكُونُ جُمْلَةً تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ هُوَ اسْتِوَاءُ الْإِنْذَارِ وَعَدَمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ «1» ، أَوْ يَكُونُ جُمْلَةً دِعَائِيَّةً وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِذَا كَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ خَبَرَ إِنَّ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَقَدِ اعْتُمِدَ بِكَوْنِهِ خَبَرَ الَّذِينَ، وَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ إِنْذَارُهُمْ وَعَدَمُهُ. وَفِي كَوْنِ الْجُمْلَةِ تَقَعُ فَاعِلَةً خِلَافَ مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمًا أَوْ مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِهِ، وَمَذْهَبُ هِشَامٍ وَثَعْلَبٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ كَونِ الْجُمْلَةَ تَكُونُ فَاعِلَةً، وَأَجَازُوا يُعْجِبُنِي يَقُومُ زَيْدٌ، وَظَهَرَ لِي أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو، أَيْ قِيَامُ أَحَدِهِمَا، وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْمُولَةً لِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَعَلَّقَ عَنْهَا، جَازَ أَنْ تقع في

_ (1) سورة المائدة: 5/ 9.

مَوْضِعِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَنُسِبَ هَذَا لِسِيبَوَيْهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي الْمَبْسُوطَاتِ مِنْ كُتُبِ النَّحْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا إِذَا كَانَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، وَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَالتَّقْدِيرَانِ الْمَذْكُورَانِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا سَوَاءً الْمُبْتَدَأَ وَالْجُمْلَةَ الْخَبَرَ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ لِأَنَّهَا الْمُبْتَدَأُ فِي الْمَعْنَى وَالتَّأْوِيلِ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ سَوَاءٌ بَعْدَهُ الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالْهَمْزَةِ الْمُعَادَلَةُ بِأَمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «1» ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «2» ، وَقَدْ تُحْذَفُ تِلْكَ الْجُمْلَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ «3» أَيْ أَصَبَرْتُمْ أَمْ لَمْ تَصْبِرُوا، وَتَأْتِي بَعْدَهُ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ الْمُتَسَلِّطَةُ عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْوُ: سَوَاءٌ عَلَيَّ أَيُّ الرِّجَالِ ضَرَبْتُ، قَالَ زُهَيْرٌ: سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتُهُ ... أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بِأَسْعَدِ وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُ مَا عُرِّيَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ: سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العيون وعورها وَأَخْبَرَ عَنِ الْجُمْلَةِ بِأَنْ جُعِلَتْ فَاعِلًا بِسَوَاءٍ أَوْ مُبْتَدَأَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُصَدَّرَةً بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى وَكَلَامُ الْعَرَبِ مِنْهُ مَا طَابَقَ فِيهِ اللَّفْظُ الْمَعْنَى، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ، وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ مَا غُلِّبَ فِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، نَحْوَ: عَلِمْتُ أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْجُمْلَةِ عَلَى عَلِمْتُ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَا بَعْدَ عَلِمْتُ اسْتِفْهَامًا، بَلِ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ. وَمِنْهُ مَا غَلَبَ فِيهِ الْمَعْنَى عَلَى اللَّفْظِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْإِضَافَةِ لِلْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ نَحْوِ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ على الصِّبَا إِذْ قِيَاسُ الْفِعْلِ أَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ، لَكِنْ لُوحِظَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْمَصْدَرُ، فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَيْهِ لَفَظُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ فِيهِ التَّسْوِيَةَ الَّتِي هِيَ فِي الِاسْتِفْهَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ مُخْبِرًا سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أَمْ قَعَدْتَ أَمْ ذَهَبْتَ؟ وَإِذَا قُلْتَ مُسْتَفْهِمًا أَخَرَجَ زَيْدٌ أَمْ قَامَ؟ فَقَدِ

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 21. (2) سورة الأعراف: 7/ 193. (3) سورة الطور: 52/ 16.

اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَكَ، هَذَانِ فِي الْخَبَرِ، وَهَذَانِ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَعَدَمُ عِلْمِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا عَمَّمَتْهَمَا التَّسْوِيَةُ جَرَى عَلَى الْخَبَرِ لَفَظُ الِاسْتِفْهَامِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْإِبْهَامِ، وَكُلُّ اسْتِفْهَامٍ تَسْوِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ تَسْوِيَةٍ اسْتِفْهَامًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ فِي أَوَّلِهِ مُنَاقَشَةٌ، وَهُوَ قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي صُورَتُهُ صُورَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْخَبَرَ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمُفْرَدِ إِمَّا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ سَوَاءٌ أَوِ الْعَكْسُ، أَوْ فَاعِلُ سَوَاءٍ لِكَوْنِ سَوَاءٍ وَحْدَهُ خَبَرًا لِأَنَّ، وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنَّمَا سَوَاءٌ، وَمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا أَوْ مُبْتَدَأً مَعْنَاهُ الْخَبَرَ. وَلُغَةُ تَمِيمٍ تَخْفِيفُ الْهَمْزَتَيْنِ فِي نَحْوِ أَأَنْذَرْتَهُمْ، وَبِهِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يَرَوْنَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَقَرَأَ الْحَرَمِّيَانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُشَامٌ: بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرٍو، وَقَالُونَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَهُشَامٍ، يُدْخِلُونَ بَيْنَهُمَا أَلِفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ لَا يُدْخِلُ. وَرُوِيَ تَحْقِيقًا عَنْ هِشَامٍ وَإِدْخَالُ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ وَرْشٍ، كَابْنِ كَثِيرٍ، وَكَقَالُونَ وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ أَلِفًا فَيَلْتَقِي سَاكِنَانِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِمَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ وَخُرُوجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنِينَ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ. الثَّانِي: إِنَّ طَرِيقَ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمَفْتُوحِ مَا قَبْلَهَا هُوَ بِالتَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ لَا بِالْقَلْبِ أَلِفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ أَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنِينَ عَلَى غَيْرِ الْحَدِّ الَّذِي أَجَازَهُ الْبَصْرِيُّونَ. وَقِرَاءَةُ وَرْشٍ صَحِيحَةُ النَّقْلِ لَا تُدْفَعُ بِاخْتِيَارِ الْمَذَاهِبِ وَلَكِنَّ عَادَةَ هَذَا الرَّجُلِ إِسَاءَةُ الْأَدَبِ عَلَى أَهْلِ الْأَدَاءِ وَنَقْلَةِ لقرآن. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَنْذَرْتَهُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، حَذْفُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، وَلِأَجْلِ ثُبُوتِ مَا عاد لها، وَهُوَ أَمْ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ أَيْضًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْمِيمِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَنْذَرَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ أَأَنْذَرْتَهُمُ الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمُوهُ؟ وَفَائِدَةُ الْإِنْذَارِ مَعَ تَسَاوِيهِ مَعَ الْعَدَمِ أَنَّهُ قَاطِعٌ لِحُجَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ دُعُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَلِئَلَّا يَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ، وَأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرَ الْأَجْرِ بِمُعَانَاةِ مَنْ لَا قَبُولَ لَهُ لِلْإِيمَانِ وَمُقَاسَاتِهِ، وَإِنَّ فِي ذَلِكَ عُمُومَ إِنْذَارِهِ لِأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلْخَلْقِ كَافَّةً. وَهَلْ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرٌ عَنْهُمْ أَوْ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ أَوْ ذَمٌّ لَهُمْ أَوْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقْوَالٌ، وَظَاهِرُ قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخَتْمِهِ وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَكَنَّى بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ عَنْ كَوْنِهَا لَا تَقْبَلُ

شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ وَلَا تَعِيهِ لِإِعْرَاضِهَا عَنْهُ، فَاسْتَعَارَ الشيء المحسوس والشيء الْمَعْقُولِ، أَوْ مَثَّلَ الْقَلْبَ بِالْوِعَاءِ الَّذِي خُتِمَ عَلَيْهِ صَوْنًا لِمَا فِيهِ وَمَنْعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ: مَجَازُ الِاسْتِعَارَةِ، وَالثَّانِي: مَجَازُ التَّمْثِيلِ. وَنُقِلَ عَمَّنْ مَضَى أَنَّ الْخَتْمَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ انْضِمَامُ الْقَلْبِ وَانْكِمَاشُهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَذْنَبْتَ ضُمَّ مِنَ الْقَلْبِ هَكَذَا، وَضَمَّ مُجَاهِدٌ الْخِنْصَرَ، ثُمَّ إِذَا أَذْنَبْتَ ضُمَّ هَكَذَا، وَضَمَّ الْبِنْصِرَ، ثُمَّ هَكَذَا إِلَى الْإِبْهَامِ، وَهَذَا هُوَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالرَّيْنُ. وَقِيلَ: الْخَتْمُ سِمَةٌ تَكُونُ فِيهِمْ تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: حَفِظَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ لِيُجَازِيَهُمْ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ وَنِسْبَةُ الْخَتْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَيِّ مَعْنَى فُسِّرَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، إِذْ هُوَ إِسْنَادٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا الْإِسْنَادَ، إِذْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ، إِذْ ذَاكَ قَبِيحٌ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ التَّأْوِيلِ عَشَرَةً، مُلَخَّصُهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَتْمَ كَنَّى بِهِ عَنِ الْوَصْفِ الَّذِي صَارَ كَالْخُلُقِيِّ وَكَأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بهم ذلك. الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِمْ: طَارَتْ بِهِ الْعَنْقَاءُ، إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ، وَكَأَنَّهُمْ مُثِّلَتْ حَالُ قُلُوبِهِمْ بِحَالِ قُلُوبٍ خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى السَّبَبِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الشَّيْطَانَ وَمَكَّنَهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ الْخَتْمَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مَقْطُوعًا بِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ طَوْعًا وَلَمْ يَبْقَ طَرِيقُ إِيمَانِهِمْ إِلَّا بِإِلْجَاءٍ وَقَسْرٍ وَتَرْكُ الْقَسْرِ عَبَّرَ عَنْ تَرْكِهِ بِالْخَتْمِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ تَهَكُّمًا كَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ. السَّادِسُ: أَنَّ الْخَتْمَ مِنْهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ الشَّهَادَةُ مِنْهُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. السَّابِعُ: أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا عَاجِلًا، كَمَا عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَعَلَهُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لِضِيقِ صُدُورِهِمْ عُقُوبَةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «1» . الْعَاشِرُ: مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَالْقَاضِي، أَنَّ ذَلِكَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَسَمْعِهِ، تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. انْتَهَى مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالْمَسْأَلَةُ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَقَدْ وَقَعَ قَوْلُهُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أشرك في

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 97.

الْخَتْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُلُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَكَ فِي الْغِشَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبْصَارِ. لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِلتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «1» . وَتَكْرِيرُ حَرْفِ الْجَرِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَتْمَ خَتْمَانِ، أَوْ عَلَى التَّوْكِيدِ، إِنْ كَانَ الْخَتْمُ وَاحِدًا فَيَكُونُ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْخَتْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَسْمَاعِهِمْ فَطَابَقَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فقرأوا عَلَى التَّوْحِيدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ فَلُمِحَ فِيهِ الْأَصْلُ، وَإِمَّا اكْتِفَاءً بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا حَقِيقَةً وَحَذْفُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى أَيْ حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَيِّ الْحَاسَّتَيْنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَفْضَلُ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ لَا يُجْدِي كَبِيرَ شَيْءٍ. وَالْإِمَالَةُ فِي أبصارهم جائزة، وقد قرىء بِهَا، وَقَدْ غَلَبَتِ الرَّاءُ الْمَكْسُورَةُ حَرْفَ الِاسْتِعْلَاءِ، إِذْ لَوْلَاهَا لَمَا جَازَتِ الْإِمَالَةُ، وَهَذَا بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غِشَاوَةٌ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَرَفْعِ التَّاءِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةً لِيَشْمَلَ الْكَلَامُ الْإِسْنَادَيْنِ: إِسْنَادَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَإِسْنَادَ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدَ لِأَنَّ الْفِعْلِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَالِاسْمِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الْفِعْلِيَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مُطَابَقَةً بِالْجُمْلَةِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمَحْكُومُ بِهِ. وَهَذِهِ كَذَلِكَ الْجُمْلَتَانِ تُؤَوَّلُ دَلَالَتُهُمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَنَصَبُ الْمُفَضِّلِ غِشَاوَةً يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مَا أَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، أَيْ وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، أَوْ إِلَى عَطْفِ أَبْصَارِهِمْ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَنَصْبِهَا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِغِشَاوَةٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ اسْمًا وُضِعَ مَوْضِعَ مَصْدَرٍ مِنْ مَعْنَى خَتَمَ، لِأَنَّ مَعْنَى خَتَمَ غَشِيَ وَسَتَرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ تُغَشِّيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ وَسَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ مَخْتُومًا عَلَيْهَا مُغَشَّاةً. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَوْلَى لِأَنَّ النَّصْبَ إِمَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى خَتْمِ الظَّاهِرِ فَيَعْرِضَ فِي ذَلِكَ أَنَّكَ حُلْتَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ، وما أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ خَتَمَ تَقْدِيرُهُ وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَيَجِيءُ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ: مُتَقَلِّدًا سيفا ورمحا

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 23. [.....]

وَقَوْلِ الْآخَرِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَلَا تَكَادُ تَجِدُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِي حَالِ سَعَةٍ وَاخْتِيَارٍ، فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَحْسَنُ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جملة. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا أَدْرِي مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ النَّصْبَ إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى خَتْمِ الظَّاهِرِ، وَكَيْفَ تَحْمِلُ غِشَاوَةً الْمَنْصُوبَ عَلَى خَتْمِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ؟ هَذَا مَا لَا حَمْلَ فِيهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ لَا خَبَرًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ مَذْهَبَهُ لِاعْتِزَالِهِ، وَيَكُونُ غِشَاوَةً فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمَدْعُوِّ بِهِ عَلَيْهِمُ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفِعْلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَغَشَّى اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْطُوفًا عَلَى خَتَمَ عَطْفَ الْمَصْدَرِ النَّائِبِ مَنَابَ فِعْلِهِ فِي الدُّعَاءِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: رَحِمَ اللَّهُ زَيْدًا وَسُقْيًا لَهُ، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ حُلْتَ بَيْنَ غِشَاوَةٍ الْمَعْطُوفِ وَبَيْنَ خَتَمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ ذَلِكَ خَبَرًا مَحْضًا وَجَعَلْتَ غِشَاوَةً فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْبَدَلِ عَنِ الْفِعْلِ فِي الْخَبَرِ فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَنْقَاسُ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: غُشَاوَةٌ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَرَفْعِ التَّاءِ، وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ التَّاءَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ غِشْوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالرَّفْعِ، وَبَعْضُهُمْ غِشْوَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ، وَالْأَعْمَشُ قَرَأَ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ الله يقرأونها غَشْيَةٌ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْيَاءِ وَالرَّفْعِ. اه. وَقَالَ يَعْقُوبُ: غُشْوَةٌ بِالضَّمِّ لُغَةٌ، وَلَمْ يُؤْثِرْهَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ القراءة. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَأَصْوَبُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمَقْرُوءِ بِهَا مَا عَلَيْهِ السَّبْعَةُ مِنْ كَسْرِ الْغَيْنِ عَلَى وَزْنِ عِمَامَةٍ، وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي هِيَ أَبَدًا مُشْتَمِلَةٌ، فَهَذَا يَجِيءُ وَزْنُهَا: كَالصِّمَامَةِ، وَالْعِمَامَةِ، وَالْعِصَابَةِ، وَالرَّيَّانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: غِشَاوَةٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالرَّفْعِ مِنَ الْعَشِيِّ، وَهُوَ شِبْهُ الْعَمَى فِي الْعَيْنِ. وَتَقْدِيمُ الْقُلُوبِ عَلَى السَّمْعِ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ وَتَقْدِيمُ الْجُمْلَةِ الَّتِي انْتَظَمَتْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الْأَبْصَارَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَهْلُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَكُونُ بِاعْتِبَارَاتٍ خَمْسَةٍ: تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَالْمُسَبَّبِ، كَتَقْدِيمِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ «1» ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَشْرَعُ فِي النِّكَاحِ عند قدرته على المئونة، فَهِيَ سَبَبٌ إِلَى التَّزَوُّجِ، وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلتَّنَاسُلِ. وَالْعِلَّةُ: كَتَقَدُّمِ الْمُضِيءِ عَلَى الضَّوْءِ، وَلَيْسَ تَقَدُّمُ زَمَانٍ، لِأَنَّ جرم الشمس

_ (1) سورة التغابن: 64/ 15.

لَا يَنْفَكُّ عَنِ الضَّوْءِ. وَتَقَدُّمٌ بِالذَّاتِ، كَالْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ، وَلَيْسَ الْوَاحِدُ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَتَقَدُّمٌ بِالشَّرَفِ، كَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ. وَتَقَدُّمٌ بِالزَّمَانِ، كَتَقَدُّمِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ بالوجود، وزاد بعضهم سادسا وَهُوَ: التَّقَدُّمُ بِالْوُجُودِ حَيْثُ لَا زَمَانَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَخْبَرَ بِمَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْعَذَابَ صَيَّرَ كَأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ لَازِمٌ، وَالْعَظِيمُ هُوَ الْكَبِيرُ. وَقِيلَ: الْعَظِيمُ فَوْقُ، لِأَنَّ الْكَبِيرَ يُقَابِلُهُ الصَّغِيرُ، وَالْعَظِيمُ يُقَابِلُهُ الْحَقِيرُ. قِيلَ: وَالْحَقِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ، وَأَصْلُ الْعِظَمِ فِي الْجُثَّةِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى، وَعِظَمُ العذاب بالنسبة لي عَذَابٍ دُونَهُ يَتَخَلَّلُهُ فُتُورٌ، وَبِهَذَا التَّخَلُّلِ الْمُتَصَوَّرِ يَصِحُّ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْعَرَضَانِ كَسَوَادَيْنِ أحدهما شبع مِنَ الْآخَرِ، إِذْ قَدْ تَخَلَّلَ الْآخَرَ مَا لَيْسَ بِسَوَادٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: عَظِيمٌ، أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يُسَمِّيهِمُ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. الثَّالِثُ: فِي أَبِي جَهْلِ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ: فِي أَصْحَابِ الْقَلِيبِ: وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. الْخَامِسُ: فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا. السَّادِسُ: فِي الْمُنَافِقِينَ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَافَوْا عَلَى الْكُفْرِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا مَعْهُودُونَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا فِي نَاسٍ مَخْصُوصِينَ وَافَوْا عَلَى الْكُفْرِ، فَيَكُونُ عَامًّا مَخْصُوصًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمِنَ الْيَهُودِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بَعْدَ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟. وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ أَنْوَاعًا. الْأَوَّلُ: الْخِطَابُ الْعَامُّ اللَّفْظِ الْخَاصُّ الْمَعْنَى. الثَّانِي: الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ تَقْرِيرُ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ، أَيْ يَتَقَرَّرُ أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ. الثَّالِثُ: الْمَجَازُ، وَيُسَمَّى: الِاسْتِعَارَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ وَضْعُ مَحْسُوسٍ عَلَى مَحْسُوسٍ يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا رَقْمٌ يَكُونُ عَلَامَةً لِلْخَاتَمِ، وَالْخَتْمُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ الْقَلْبَ لَمَّا لَمْ يَقْبَلِ الْحَقَّ مَعَ ظُهُورِهِ اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ. الرَّابِعُ: الْحَذْفُ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ إِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ. وَمِنْهَا: لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرْتَهُمْ بِهِ عَنْهُ. وَمِنْهَا: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا تَعِي وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ فَلَا تُصْغِي. وَمِنْهَا: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَلَى مَنْ نَصَبَ، أَيْ وَجَعَلَ عَلَى

[سورة البقرة (2) : الآيات 8 إلى 10]

أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً فَلَا يُبْصِرُونَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ. وَمِنْهَا: وَلَهُمْ عَذَابٌ، أَيْ وَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ دَائِمٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْ بِالْإِذْلَالِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. الْخَامِسُ: التَّعْمِيمُ: وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ عَذَابٌ وَلَمْ يَقُلْ عَظِيمٌ لَاحْتَمَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْعَظِيمِ تَمَّمَ الْمَعْنَى وَعَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَظِيمٌ، إِمَّا فِي الْمِقْدَارِ وَإِمَّا فِي الْإِيلَامِ وَالدَّوَامِ. السَّادِسُ: الْإِشَارَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّوَاءَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِمْ وَبَالُهُ وَنَكَالُهُ عَلَيْهِمْ وَمُسْتَعْلٍ فَوْقَهُمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بَيَانَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِمْ فَحَسْبُ لَقَالَ: سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ أَنَّ عَلَى تُشْعِرُ بِالِاسْتِعْلَاءِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ تَضَّمَنَ مَعْنَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْمَعْنَى فِي قَوْلِكَ سَوَاءٌ عَلَيْكَ وَعِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ بِعَلَى، قَالَ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ «1» ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «2» ، سَوَاءٌ عَلَيْهَا رِحْلَتِي وَمَقَامِي، وَكُلُّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ عَلَيْهِمْ. السَّابِعُ: مَجَازُ التَّشْبِيهِ شَبَّهَ قُلُوبَهُمْ لِتَأَبِّيهَا عَنِ الْحَقِّ، وَأَسْمَاعَهُمْ لِإِضْرَابِهَا عَنْ سَمَاعِ دَاعِيَ الْفَلَاحِ، وَأَبْصَارَهُمْ لِامْتِنَاعِهَا عَنْ تَلَمُّحِ نُورِ الْهِدَايَةِ بِالْوِعَاءِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِ الْمَسْدُودِ مَنَافِذُهُ الْمُغَشَّى بِغِشَاءٍ يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا يُصْلِحُهُ، لَمَّا كَانَتْ مَعَ صِحَّتِهَا وَقُوَّةِ إِدْرَاكِهَا مَمْنُوعَةً عَنْ قَبُولِ الْخَيْرِ وَسَمَاعِهِ وَتَلَمُّحِ نُورِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، إِذِ الْخَتْمُ وَالْغِشَاوَةُ لَمْ يُوجَدَا حَقِيقَةً، وَهُوَ بِالِاسْتِعَارَةِ أَوْلَى، إِذْ مِنْ شَرْطِ التَّشْبِيهِ أَنْ يُذْكَرَ المشبه والمشبه به. [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ، النَّاسُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لفظه،

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 136. (2) سورة إبراهيم: 14/ 21.

وَمُرَادِفُهُ: أَنَاسِيُّ، جَمْعُ: إِنْسَانٍ أَوْ إِنْسِيٍّ. قَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، حَكَاهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَهُوَ مَجَازٌ إِذْ أَصْلُهُ فِي بَنِي آدَمَ، وَمَادَّتُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْفَرَّاءِ: هَمْزَةٌ وَنُونٌ وَسِينٌ، وَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ شُذُوذًا، وَأَصْلُهُ أُنَاسٌ وَنُطِقَ بِهَذَا الْأَصْلِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «1» ، فَمَادَّتُهُ وَمَادَّةُ الْإِنْسِ وَاحِدَةٌ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إِلَى أَنَّ مَادَّتَهُ نُونٌ وَوَاوٌ وَسِينٌ، وَوَزْنُهُ فَعَلَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوَسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ، يُقَالُ: نَاسَ يَنُوسُ نَوَسًا إِذَا تَحَرَّكَ، وَالنَّوَسُ: تَذَبْذُبُ الشَّيْءِ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُ نَوَسَ الْقِرْطُ فِي الْأُذُنِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَرَكَتِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ نَسِيَ، وَأَصْلُهُ نَسِيَ ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ نَيِسَ، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا فَقِيلَ: نَاسٌ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْأَلِفُ واللام. والكلام على هذا الْأَقْوَالِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. مَنْ: مَوْصُولَةٌ، وَشَرْطِيَّةٌ، وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَنَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَتَقَعُ عَلَى ذِي الْعِلْمِ، وَتَقَعُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ ذِي الْعِلْمِ إِذَا عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعَالِمِ، أَوِ اخْتَلَطَ بِهِ فِيمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ أَوْ فِيمَا فُصِلَ بِهَا، وَلَا تَقَعُ عَلَى آحَادِ مَا لَا يَعْقِلُ مُطْلَقًا خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، كَقَوْلِ سُوَيْدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ: رَبِّ مَنْ أَنْضَجْتَ غَيْظًا صَدْرَهُ ... لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ وَيَقِلُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرَنَا ... حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ مِنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِلَّا بِشَرْطِ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَقَعُ فِيهِ إِلَّا النَّكِرَةَ، وَزَعَمَ هُوَ وَأَبُو الْحَسَنِ الْهُنَائِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ زَائِدَةً، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تُزَادُ. وَتَقَعُ مِنْ عَلَى الْعَاقِلِ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودٌ، تَتَوَهَّمُهُ، مَوْجُودًا خِلَافًا لِبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وفاقا للقراء، وَصَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا. فَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: أَصْبَحْتَ كَمَنْ لَمْ يخلق فنزيد: كَمَنْ قَدْ مَاتَ، وَأَكْثَرُ الْمُعْرِبِينَ لِلْقُرْآنِ مَتَى صَلَحَ عِنْدَهُمْ تَقْدِيرُ مَا أَوْ مَنْ بِشَيْءٍ جَوَّزُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَإِثْبَاتُ كَوْنِ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ قَاطِعٌ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِمَا مُعْجِبٌ لَكَ لِإِمْكَانِ الزِّيَادَةِ، فَإِنِ اطَّرَدَ ذَلِكَ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، كَأَنْ سَرَّنِي مَا مُعْجِبٌ لَكَ وَأَحْبَبْتُ مَا مُعْجِبًا لَكَ، كَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِمَا دَعَى النَّحْوِيُّونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ سُمِعَ لَأَمْكَنَتِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ زَادُوا مَا بَيْنَ الْفِعْلِ ومرفوعه والفعل ومنصوبه. الزيادة أَمْرٌ ثَابِتٌ لِمَا، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فِيهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ ولا

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 71.

يُثْبَتُ لَهَا مَعْنًى إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَأَمْعَنْتُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ. الْقَوْلُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى وَيَنْطَلِقُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى النِّسْبَةِ الْإِسْنَادِيَّةِ، وَهُوَ الْكَلَامُ وَعَلَى الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ «1» ، وَتَرَاكِيبُهُ السِّتُّ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخِفَّةِ وَالسُّرْعَةِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ وَقَعَتْ جُمْلَةٌ مَحْكِيَّةٌ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْقَوْلِ فَصْلٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. الْخِدَاعُ: قِيلَ إِظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي النَّفْسِ، وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَيْتُ الْمُفْرَدُ فِي الْمَنْزِلِ مَخْدَعًا لِتَسَتُّرِ أَهْلَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ فِيهِ، وَمِنْهُ الْأَخْدَعَانِ: وَهُمَا الْعِرْقَانِ الْمُسْتَبْطِنَانِ فِي الْعُنُقِ، وَسُمِّيَ الدَّهْرُ خَادِعًا لِمَا يُخْفِي مِنْ غَوَائِلِهِ، وَقِيلَ الْخَدْعُ أَنْ يُوهِمَ صَاحِبَهُ خِلَافَ مَا يُرِيدُ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَبٌّ خَادِعٌ وَخَدِعٌ إِذَا أَمَرَّ الْحَارِثُ، وَهُوَ صَائِدُ الضَّبِّ، يده على باب حجره أَوْهَمَهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْفَسَادُ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أبيض اللون لذيذ طَعْمُهُ ... طَيِّبَ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ أَيْ فَسَدَ. إِلَّا: حَرْفٌ، وَهُوَ أَصْلٌ لِذَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَصْفًا، وَشَرْطُ الْوَصْفِ بِهِ جَوَازُ صَلَاحِيَةِ الْمَوْضِعِ لِلِاسْتِثْنَاءِ. وَأَحْكَامُ إِلَّا مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. النَّفْسُ: الدَّمُ، أَوِ النَّفْسُ: الْمُودَعُ فِي الْهَيْكَلِ الْقَائِمُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَالنَّفْسُ: الْخَاطِرُ، مَا يَدْرِي أَيُّ نَفْسَيْهِ يُطِيعُ، وَهَلِ النَّفْسُ الرُّوحُ أَمْ هِيَ غَيْرُهُ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَفِي حَقِيقَةِ النفس خلاف كثير ومجمع عَلَى أَنْفُسٍ وَنُفُوسٍ، وَهُمَا قِيَاسُ فَعْلٍ الِاسْمِ الصَّحِيحِ العين في جميعه الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الشُّعُورُ: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ مِنْ وَجْهٍ يَدِقُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّعْرِ، وَالْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّعَارِ، وهو ثوب بلى الْجَسَدَ وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ حَوَاسُّهُ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ، الْمَرَضُ: مَصْدَرُ مَرِضَ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فُلَانٌ يُمْرِضُ الْحَدِيثَ أَيْ يُفْسِدُهُ وَيُضْعِفُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْمَرَضُ فِي الْقَلْبِ: الْفُتُورُ عَنِ الْحَقِّ، وَفِي الْبَدَنِ: فُتُورُ الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْعَيْنِ: فُتُورُ النَّظَرِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظُّلْمَةُ، قَالَ: فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ ناحية ... فما يحس به نجم ولا قمر

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 8.

وَقِيلَ: الْمَرَضُ: الْفَسَادُ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَرَضُ وَالْأَلَمُ والوجع نظائر. الزيادة: قبلها يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى وَكَسَى، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لَازِمًا نَحْوَ: زَادَ الْمَالُ. أَلِيمٌ: فَعِيلٌ مِنَ الْأَلَمِ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ، أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَصْلُهُ أَلَمٌ. كَانَ: فِعْلٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، فَيَدُلُّ عَلَى زَمَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فَقَطْ، أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى الصَّيْرُورَةِ، وَتُسَمَّى نَاقِصَةً وَتَكْتَفِي بِمَرْفُوعٍ فَتَارَةً تَكُونُ فِعْلًا لَازِمًا وَتَارَةً مُتَعَدِّيًا، بِمَعْنَى كَفَلَ أَوْ غَزَلَ: كُنْتُ الصَّبِيَّ كَفَلْتُ، وَكُنْتُ الصُّوفَ غَزَلْتُهُ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ اللُّغَاتِ، وَقَدْ تُزَادُ وَلَا فَاعِلَ لَهَا إِذْ ذَاكَ خِلَافًا لِأَبِي سَعِيدٍ، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي النَّحْوِ. التَّكْذِيبُ: مَصْدَرُ كَذَّبَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلرَّمْيِ بِهِ كَقَوْلِكَ: شَجَّعْتُهُ وَجَبَّنْتُهُ، أَيْ رَمَيْتُهُ بِالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ، وَهِيَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَعَّلَ وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَةَ: الرَّمْيُ، وَالتَّعْدِيَةُ، وَالتَّكْثِيرُ، وَالْجَعْلُ عَلَى صِفَةٍ، وَالتَّسْمِيَةُ، وَالدُّعَاءُ لِلشَّيْءِ أَوْ عَلَيْهِ، وَالْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْإِزَالَةُ، وَالتَّوَجُّهُ، وَاخْتِصَارُ الْحِكَايَةِ، وَمُوَافَقَةُ تَفَعَّلَ وَفَعَّلَ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُمَا، مِثْلُ ذَلِكَ: جَبَّنْتُهُ، وَفَرَّحْتُهُ، وَكَثَّرْتُهُ، وَفَطَّرْتُهُ، وَفَسَّقْتُهُ، وَسَقَّيْتُهُ، وَعَقَّرْتُهُ، وَمَرَّضْتُهُ، وَقَذَّيْتُ عَيْنَهُ، وَشَوَّقَ، وَأَمَّنَ، قَالَ: آمِينَ، وَوَلَّى: مُوَافِقُ تَوَلَّى، وَقَدَّرَ: مُوَافِقُ قَدَرَ، وَحَمَّرَ: تَكَلَّمَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَعَرَّدَ فِي الْقِتَالِ. وَأَمَّا الْكَذِبُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْكِتَابِ هُدًى لَهُمْ، وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ جَمَعُوا أَوْصَافَ الْإِيمَانِ مِنْ خُلُوصِ الإعتقاد وَأَوْصَافِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا آلَ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْهُدَى وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْفَلَاحِ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ خُتِمَ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَخُتِمَ لَهُمْ بِمَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي النِّيرَانِ. وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ مُقَالًا وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ اعْتِقَادًا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، أَخَذَ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ مُبْهَمٌ فَيُبَيِّنُ جِنْسَهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ الْكُفَّارِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمْ مَنْ يَقُولُ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَخْتُومٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتُ كَيْفَ يَجْعَلُونَ بَعْضَ أُولَئِكَ وَالْمُنَافِقِينَ غَيْرَ مَخْتُومٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْكُفْرَ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ وَصَيَّرَهُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، وَكَوْنُ الْمُنَافِقِينَ نَوْعًا مِنْ نَوْعَيْ هَذَا الْجِنْسِ مُغَايِرًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ بِزِيَادَةٍ زَادُوهَا عَلَى الْكُفْرِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَدِيعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا بَعْضًا مِنَ الْجِنْسِ، انْتَهَى. لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ دَاخِلُونَ فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْكُفَّارِ مِنِ اسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ، وَكَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَكَوْنِهِمْ مَخْتُومًا عَلَى

قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَمَجْعُولًا عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَمُخْبَرًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَهُمْ قَدِ انْدَرَجُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَزَادُوا أَنَّهُمْ قَدِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ. وَسَأَلَ سَائِلٌ: مَا مَعْنَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يَقُولُ هُوَ مِنَ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِهَذَا الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وُقُوعُهُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ بَعْدَهُ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا تَفْصِيلٌ مَعْنَوِيٌّ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذِكْرُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، فَصَارَ نَظِيرَ التَّفْصِيلِ اللَّفْظِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ تَفْصِيلِ النَّاسِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، كَمَا فَصَّلُوا إِلَى مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، وَمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، وَمَنْ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَقُولُ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الْمُتَقَدِّمُ الذِّكْرِ. وَيَقُولُ: صِفَةٌ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْبَقَاءِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْوَجْهَ. وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ نَاسٌ يَقُولُونَ كَذَا، كَقَوْلِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا «1» قَالَ: إِنْ جَعَلْتَ اللَّامَ لِلْجِنْسِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَإِنْ جَعْلَهَا لِلْعَهْدِ فَمَوْصُولَةٌ كَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ «2» . وَاسْتَضْعَفَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي قَالَ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْإِبْهَامِ وَالتَّقْدِيرُ، وَمِنَ النَّاسِ فَرِيقٌ يَقُولُ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي النَّاسِ، إِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ كَانَتْ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ كَانَتْ مَوْصُولَةً، أَمْرٌ لَا تَحْقِيقَ لَهُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ مُنَاسَبَةَ الْجِنْسِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ لِلْعَهْدِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْجِنْسِ وَمَنْ مَوْصُولَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَمَنْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ. وَأَمَّا اسْتِضْعَافُ أَبِي الْبَقَاءِ كَوْنَ مَنْ مَوْصُولَةً وَزَعْمُهُ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِبْهَامِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ مَعْرُوفِينَ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سَلُولَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَذَكَرَ عَنْهُمْ أَقَاوِيلَ مُعَيَّنَةً قالوها، فلا يكون ذَلِكَ صَادِرًا إِلَّا مِنْ مُعَيَّنٍ فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ. وَالَّذِي نَخْتَارُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَمِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ. أَلَا تَرَى جَعْلَ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانٍ يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ فِي أَكْثَرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهَذَا الْكَلَامُ ليس

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 23. (2) سورة التوبة: 9/ 61.

مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، وَأَمَّا أَنْ تَقَعَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، حَتَّى أَنَّ الْكِسَائِيَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهُوَ إِمَامُ نَحْوٍ وَسَامِعُ لُغَةٍ، فَلَا نُحَمِّلُ كِتَابَ اللَّهِ مَا أَثْبَتَهُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَلِيلٍ وَأَنْكَرَ وُقُوعَهُ أَصْلًا الْكِسَائِيُّ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. وَمَنْ: مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَفَظُهَا مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ دَائِمًا، وَتَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا كَذَلِكَ فَتَارَةً يُرَاعَى اللَّفْظُ فَيُفْرَدُ مَا يَعُودُ عَلَى مَنْ مُذَكَّرًا، وَتَارَةً يُرَاعَى الْمَعْنَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُطْلِقُ الْمُعْرِبُونَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا رَجَعَ مِنْ لَفْظِ الْوَاحِدِ إِلَى لَفْظِ الْجَمْعِ بِحَسَبِ لَفْظِ مَنْ وَمَعْنَاهَا وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الْجَمْعِ فِي الرُّتْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ مُتَكَلِّمٌ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ إِلَى تَوَحُّدٍ، لَوْ قُلْتَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ وَيَتَكَلَّمُ لَمْ يَجُزْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ إِلَى تَوَحُّدٍ خَطَأٌ، بَلْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى جَوَازِ الْجُمْلَتَيْنِ، لَكِنَّ الْبَدْءَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى أَوْلَى مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَمِمَّا رَجَعَ فِيهِ إِلَى الْإِفْرَادِ بَعْدَ الْجَمْعِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو ... نَ إِذَا كَافَحَتْهُ خَيْلُ الْأَعَادِي وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَيَقُولُ: أُفْرِدَ فِيهِ الضَّمِيرُ مُذَكَّرًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَآمَنَّا: جُمْلَةٌ هِيَ الْمَقُولَةُ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ وَأَتَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ رَعْيًا لِلْمَعْنَى، إِذْ لَوْ رَاعَى لَفَظَ مَنْ قَالَ آمَنْتُ. وَاقْتَصَرُوا مِنْ مُتَعَلَّقِ الْإِيمَانِ عَلَى اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَيْدَةً مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِيهَامًا أَنَّهُمْ مِنْ طَائِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ، كَمَا زَعَمَ الزمخشري، يهودا. فَإِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، كَقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ، وَهُمْ لَوْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ عَقِيدَتِهِمْ لَكَانَ كُفْرًا، فَكَيْفَ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ النِّفَاقِ خَدِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتِهْزَاءً بِهِمْ؟ وَفِي تَكْرِيرِ الْبَاءِ دَلِيلٌ عَلَى مَقْصُودِ كُلِّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بِالْإِيمَانِ. وَالْيَوْمُ الْآخِرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ مِنَ الْبَعْثِ إِلَى اسْتِقْرَارِ كُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِيمَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْأَبَدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. وَسُمِّيَ آخِرًا لِتَأَخُّرِهِ، إِمَّا عَنِ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنِ الأوقات

_ (1) سورة التوبة: 9/ 30.

الْمَحْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَالْبَاءُ فِي بِمُؤْمِنِينَ زَائِدَةٌ وَالْمَوْضِعُ نَصْبٌ لِأَنَّ مَا حِجَازِيَّةٌ وَأَكْثَرُ لِسَانِ الْحِجَازِ جَرُّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَجَاءَ النَّصْبُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا بَشَراً «1» وما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ. وَأَمَّا فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ أَيْضًا إِلَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِلُ الْجُيُوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا أَبْنَاؤُهَا متكفون أَبَاهُمُ ... حَنِقُوا الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلَادُهَا وَلَا تَخْتَصُّ زِيَادَةُ الْبَاءِ بِاللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ، بَلْ تُزَادُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُ حِينَ حُذِفَتِ الْبَاءُ مِنَ الْخَبَرِ ظَهَرَ النَّصْبُ فِيهِ، وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي بَابٍ مَعْقُودٍ فِي النَّحْوِ. وَإِنَّمَا زِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ، وَلِأَجْلِ التَّأْكِيدِ فِي مُبَالَغَةِ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ اسْمِيَّةً مُصَدَّرَةً بهم، وَتَسَلُّطُ النَّفْيِ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي لَيْسَ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ لِيَشْمَلَ النَّفْيُ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ، إِذْ لَوْ جَاءَ اللَّفْظُ مُنْسَحِبًا عَلَى اللَّفْظِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي هُوَ: آمَنَّا، لَكَانَ: وَمَا آمَنُوا، فَكَانَ يَكُونُ نَفْيًا لِلْإِيمَانِ الْمَاضِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَلَبِّسِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ فِي وَقْتٍ مَا مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْيِيدِ الْإِيمَانِ الْمَنْفِيِّ، أَيْ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَمْ يَرُدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا، إِنَّمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقَ الْقَوْلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْكَرَّامِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَقَدْ بِالْقَلْبِ. وَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ، إذ أَعَادَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يَقُولُ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَى الْمَعْنَى فَجَمَعَ. وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اللفظ والمعنى بدىء بِاللَّفْظِ ثُمَّ أُتْبِعَ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا «2» ، وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ «3» الْآيَةَ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً «4» . وَذَكَرَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الكريم بن علي بن عُمَرَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَصْلَ الْمِصْرِيُّ الْمَوْلِدَ وَالْمَنْشَأَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ الْعِرَاقِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ جَاءَ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ فِي الْقُرْآنِ بدىء فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا ثُمَّ أُتْبِعَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى

_ (1) سورة يوسف: 12/ 31. (2) سورة التوبة: 9/ 49. (3) سورة التوبة: 9/ 75. (4) سورة الأحزاب: 33/ 31.

أَزْواجِنا «1» ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ فِي الشَّاذِّ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ متخيلا أنه مما بدىء فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَا يُجِيزُ الْكُوفِيُّونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا بِفَاصِلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْبَصْرِيُّونَ الْفَاصِلَ، قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ، وَلَمْ يَرِدِ السَّمَاعُ إِلَّا بِالْفَصْلِ، كَمَا ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ بِصَحِيحٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» ؟ فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي كَانَ، إِذْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ جَاءَ جَمْعًا وَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ أَكْثَرُ ذَلِكَ بِالْفَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ قَلَقِ التَّنَافُرِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ، مُضَارِعُ خَادَعَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو حَيَاةَ يَخْدَعُونَ اللَّهَ، مُضَارِعُ خدع لمجرد، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: يُخادِعُونَ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: لِمَ يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِيمَانِ وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي الْحَقِيقَةِ؟ فَقِيلَ: يُخَادِعُونَ، وَيُحْتَمَلُ أن يكون بدلا من قَوْلِهِ: يَقُولُ آمَنَّا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخَادَعَةٌ، فَيَكُونُ بَدَلَ فِعْلٍ مِنْ فِعْلٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَقُولُ، أَيْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا، مُخَادِعِينَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ: بِمُؤْمِنِينَ، وَذُو الْحَالِ: الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ. وَهَذَا إِعْرَابٌ خَطَأٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ فَنَفَتْ نِسْبَةَ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا قَيَّدْتَ تِلْكَ النِّسْبَةَ بِحَالٍ تَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ الْقَيْدُ، فَنَفَتْهُ، وَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَنْ يَنْتَفِيَ ذَلِكَ الْقَيْدُ فَقَطْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ ثَبَتَ الْعَامِلُ فِي ذَلِكَ الْقَيْدِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا زَيْدٌ أَقْبَلَ ضَاحِكًا فَمَفْهُومُهُ نَفْيُ الضَّحِكِ وَيَكُونُ قَدْ أَقْبَلَ غَيْرَ ضَاحِكٍ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا، إِذْ لَا يَنْفِي عَنْهُمُ الْخِدَاعَ فَقَطْ، وَيُثْبِتُ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ خِدَاعٍ، بَلِ الْمَعْنَى: نُفِيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقَلُّ، أَنْ يَنْتَفِيَ الْقَيْدُ وَيَنْتَفِيَ الْعَامِلُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: لَمْ يُقْبِلْ زَيْدٌ وَلَمْ يَضْحَكْ: أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْبَالٌ وَلَا ضَحِكٌ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَنَفْيُ الخداع.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 139. (2) سورة البقرة: 2/ 111. [.....]

وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي الْبَقَاءِ كَيْفَ تَنَبَّهَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ يُخَادِعُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَقَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الصِّفَةِ لِمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نَفْيَ خِدَاعِهِمْ، وَالْمَعْنَى عَلَى إِثْبَاتِ الْخِدَاعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي الصِّفَةِ، وَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالِ وَالصِّفَةِ فِي ذَلِكَ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا قَيْدٌ يَتَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَمُخَادَعَةُ الْمُنَافِقِينَ اللَّهَ هُوَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ تَظَاهُرِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَهُمْ مُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ، أَوْ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ عِرْفَانِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ خِدَاعُهُ. فَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ مَجَازٌ وَالثَّانِي حَقِيقَةٌ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ يُخَادِعُونَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَتَارَةً يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مُرَادًا وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، بَلْ نَزَّلَ مُخَادَعَتَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ مُخَادَعَةِ اللَّهِ، فَجَاءَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ. وَإِذَا صَحَّ نِسْبَةُ مُخَادَعَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهَا، فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنْ نَذْهَبَ إِلَى أَنَّ اسْمَ مُقْحَمٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يُخَادِعُونَ الَّذِينَ آمَنُوا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: يَكُونُ مِنْ بَابِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، الْمَعْنَى هَذَا أَعْجَبَنِي كَرَمُ زَيْدٍ، وَذِكْرُ زَيْدٍ تَوْطِئَةٌ لِذِكْرِ كَرَمِهِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْإِعْجَابِ إِلَى كَرَمِهِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْمَثَلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ. وَلِلْآيَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ مَحَامِلُ تَأْتِي فِي مَكَانِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَا أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، فَإِنَّ الْإِعْجَابَ أُسْنِدَ إِلَى زَيْدٍ بِجُمْلَتِهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بَعْضُ صِفَاتِهِ تَمْيِيزًا لِصِفَةِ الْكَرَمِ مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي انْطَوَى عَلَيْهَا لِشَرَفِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَصَارَ مِنَ الْمَعْنَى نَظِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» ، فَلَا يُدَّعَى كَمَا ادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاسْمَ مُقْحَمٌ، وَأَنَّهُ ذُكِرَ تَوْطِئَةً لِذِكْرِ الْكَرَمِ. وَخَادَعَ الَّذِي مُضَارِعُهُ يُخَادِعُ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ، وَفَاعَلَ يَأْتِي لِخَمْسَةِ مَعَانٍ: لِاقْتِسَامِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَفْعُولِيَّةِ فِي اللَّفْظِ، وَالِاشْتِرَاكِ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِمُوَافَقَةِ أَفْعَلَ الْمُتَعَدِّي، وَمُوَافَقَةِ الْمُجَرِّدِ لِلْإِغْنَاءِ عَنْ أَفْعَلَ وَعَنِ الْمُجَرَّدِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ: ضَارِبُ زَيْدًا عُمَرُ، وَبَاعَدْتُهُ، وَوَارَيْتُ الشَّيْءَ، وَقَاسَيْتُ. وَخَادَعَ هُنَا إِمَّا لِمُوَافَقَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى خَدَعَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْدَعُونَ اللَّهَ، وَيُبَيِّنُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي حَيَاةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَادَعَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، فَمُخَادَعَتُهُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ لَهُمْ حَيْثُ أَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَاكْتَفَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 98.

مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَبْطَنُوا خِلَافَهُ، وَمُخَادَعَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ كَوْنُهُمُ امْتَثَلُوا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. وَفِي مُخَادَعَتِهِمْ هُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَوَائِدُ لَهُمْ، مِنْ تَعْظِيمِهِمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّطَلُّعِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ فَيُغَشُّونَهَا إِلَى أَعْدَائِهِمْ، وَرَفْعُ حُكْمِ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَنَالُونَ مِنَ الْإِحْسَانِ بِالْهِدَايَةِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمَ. وَقَرَأَ: وَمَا يُخَادِعُونَ، الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَمَا يَخْدَعُونَ. وَقَرَأَ الْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَأَبُو طَالُوتَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ شَدَّادٍ: وَمَا يَخْدَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَمَا يُخَادَعُونَ، بِفَتْحِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَمُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: وَمَا يُخَدِّعُونَ، مِنْ خَدَّعَ الْمُشَدِّدِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبَعْضُهُمْ يَفْتَحُ الْيَاءَ وَالْخَاءَ وَتَشْدِيدُ الدَّالِّ الْمَكْسُورَةِ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ تَوْجِيهُ: الْأُولَى: أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْخِدَاعِ إِنَّمَا هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَخْدُوعِ، بِأَنْ يَنْفَعِلَ لَهُ فِيمَا يُخْتَارُ، وَيُنَالُ مِنْهُ مَا يُطْلَبُ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ الْمَخْدُوعِ وَتَمَكُنٍ مِنْهُ وَتَفَعُّلٍ لَهُ، وَوَبَالُ ذَلِكَ لَيْسَ رَاجِعًا لِلْمَخْدُوعِ، إِنَّمَا وَبَالُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَادِعِ، فَكَأَنَّهُ مَا خَادَعَ وَلَا كَادَ إِلَّا نَفْسَهُ بِإِيرَادِهَا مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُ بِقَبِيحِ انْتِحَالِهِ وَسُوءِ مَآلِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْمُخَادَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ، وَتَسْمِيَةِ الْفِعْلِ الثَّانِي بِاسْمِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ الْمُسَبِّبِ لَهُ، كَمَا قَالَ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا جَعَلَ انْتِصَارَهُ جَهْلًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَنْزَعَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ يَجِيءُ مِنْ وَاحِدٍ: كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَادَعَةُ عَلَى بَابِهَا مِنِ اثْنَيْنِ، فَهُمْ خَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ مَنَّوْهَا الْأَبَاطِيلَ، وَأَنْفُسُهُمْ خَادِعَتُهُمْ حَيْثُ مَنَّتْهُمْ أَيْضًا ذَلِكَ، فَكَأَنَّهَا مُجَاوَرَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَذَكَّرَ مِنْ أَنَّى ومن أين شربه ... يؤامر نَفْسَيْهِ لِذِي الْبَهْجَةِ الْأَبِلْ وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ تَدْرِ مَا وَلَسْتُ قَائِلَهَا ... عُمْرُكَ مَا عِشْتَ آخِرَ الأبد ولم تؤامر نَفْسَيْكَ مُمْتَرِيًا ... فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدْ وَقَالَ: يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وَفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ ... أَيَستَوبِعُ الذَّوَبَانَ أَمْ لَا يُطَوِّرُهَا

وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: وَكُنْتُ كَذَاتِ الضَّيِّ لَمْ تَدْرِ إِذْ بَغَتْ ... تُؤَامِرُ نَفْسَيْهَا أَتَسْرِقُ أَمْ تَزْنِي فَفِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قَدْ جُعِلَ لِلشَّخْصِ نَفْسَيْنِ عَلَى مَعْنَى الْخَاطِرَيْنِ، وَلَهَا جِنْسَيْنِ، أَوْ يَكُونُ فَاعَلُ بِمَعْنَى فَعَلَ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقِرَاءَةِ: وَمَا يَخْدَعُونَ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: خَادَعْتُ الرَّجُلَ، أَعْمَلْتُ التَّحَيُّلَ عَلَيْهِ فَخَدَعْتُهُ، أَيْ تَمَّتْ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ وَنَفَذَ فِيهِ الْمُرَادُ، خِدَعًا، بِكَسْرِ الْخَاءِ فِي الْمَصْدَرِ وَخَدِيعَةً، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ. فَالْمَعْنَى: وَمَا يَنْفُذُ السُّوءُ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ هُنَا: ذَوَاتِهِمْ. فَالْفَاعِلُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا يُخَادِعُهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ قَالَ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ، بَلْ نَفْسُهُ هِيَ الَّتِي تَخْدَعُهُ وَتُسَوِّلُ لَهُ وَتَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ. وَأَوْرَدَ أَشْيَاءً مِمَّا قَلَبَتْهُ الْعَرَبُ، وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي الْقَلْبِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَالشِّعْرِ اتِّسَاعًا وَاتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَيَجُوزُ فِي الشِّعْرِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا، وَكَانَ هَذَا الَّذِي ادَّعَى الْقَلْبَ لَمَّا رَأَى قَوْلَهُمْ: مَنَّتْكَ نَفْسُكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ «1» تَخَيَّلَ أَنَّ الْمُمَنِّيَ وَالْمُسَوِّلَ غَيْرُ الْمُمَنَّى وَالْمُسَوَّلِ لَهُ، وَلَيْسَ عَلَى مَا تَخَيَّلَ، بَلِ الْفَاعِلُ هُنَا هُوَ الْمَفْعُولُ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَحَبَّ زَيْدٌ نَفْسَهُ، وَعَظَّمَ زَيْدٌ نَفْسَهُ؟ فَلَا يُتَخَيَّلُ هُنَا تَبَايُنُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمَدْلُولُ فَهُوَ وَاحِدٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا دُونَ قَلْبٍ، فَأَيُّ حَاجَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا؟ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ. وَمَنْ قَرَأَ: وَمَا يُخَادِعُونَ أَوْ يَخْدَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَانْتِصَابُ مَا بَعْدَ إِلَّا عَلَى مَا انْتُصِبَ عَلَيْهِ زَيْدٌ غُبِنَ رَأْيُهُ، إِمَّا عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَإِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ ضَمَّنَ الْفِعْلَ مَعْنَى يَنْتَقِضُونَ وَيَسْتَلِبُونَ، فَيَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، كَمَا ضَمَّنَ الرَّفَثَ مَعْنَى الْإِفْضَاءَ فَعُدِّي بِإِلَى فِي قَوْلِهِ: الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «2» ، وَلَا يُقَالُ رَفَثَ إِلَى كَذَا، وَكَمَا ضَمَّنَ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «3» ، مَعْنَى أَجْذِبُكَ، وَلَا يُقَالُ: أَلَا هَلْ لَكَ فِي كَذَا. وَفِي قِرَاءَةٍ: وَمَا يَخْدَعُونَ، فَالتَّشْدِيدُ إِمَّا لِلتَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِلَيْنِ أَوْ للمبالغة في

_ (1) سورة يوسف: 12/ 18 و 83. (2) سورة البقرة: 2/ 187. (3) سورة النازعات: 79/ 18.

نَفْسِ الْفِعْلِ، إِذْ هُوَ مَصِيرٌ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَإِمَّا لِمُوَافَقَةِ فَعَلَ نَحْوَ: قَدَرَ اللَّهُ وَقَدَّرَ، وَقَدْ تقدم ذكر معاني فعل. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَمَا يَخْدَعُونَ، أَصْلُهَا يَخْتَدِعُونَ فَأُدْغِمَ، وَيَكُونُ افْتَعَلَ فِيهِ مُوَافِقًا لِفَعَلَ نَحْوُ: اقْتَدَرَ عَلَى زَيْدٍ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَما يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ معطوفة على: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَمَفْعُولُ يَشْعُرُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِطْلَاعُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَى خِدَاعِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ تَقْدِيرُهُ هَلَاكُ أَنْفُسِهِمْ وَإِيقَاعِهَا فِي الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَمَا يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ شَاعِرِينَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ شَعَرُوا أَنَّ خِدَاعَهُمْ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ خِدَاعٌ لِأَنْفُسِهِمْ لَمَّا خَادَعُوا اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَجَاءَ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ لَا بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُضِيَّ يُشْعِرُ بِالِانْقِطَاعِ بِخِلَافِ الْمُضَارِعِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ بِالدَّيْمُومَةِ، نَحْوُ: زَيْدٌ يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَعَمْرٌو يَقْرِي الضَّيْفَ. وَالْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ رَاءِ مَرَضَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا الْأَصْمَعِيَّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْحَلَبِ وَالْحَلْبِ، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، وَلِهَذَا قَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَضِ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي هُوَ الْفَسَادُ أَوِ الظُّلْمَةُ أَوِ الضَّعْفُ أَوِ الْأَلَمُ كَائِنٌ فِي قُلُوبِهِمْ حَقِيقَةً، وَسَبَبُ إِيجَادِهِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ ظُهُورُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ، وَفُشُوُّ الْإِسْلَامِ وَنَصْرُ أَهْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ، فَيَكُونُ قَدْ كَنَّى بِهِ عَمَّا حَلَّ الْقَلْبَ مِنَ الشَّكِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنِ الْحَسَدِ وَالْغِلِّ، كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سَلُولَ، أَوْ عَنِ الضَّعْفِ وَالْخَوْرِ لِمَا رَأَوْا مِنْ نَصْرِ دِينِ اللَّهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَرَضٌ لَكَانَتْ أَجْسَامُهُمْ مَرِيضَةً بِمَرَضِهَا، أَوْ كَانَ الْحِمَامُ عَاجَلَهُمْ، قَالَ: بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ وَالْقَانُونُ الطِّبِّيُّ، أَمَّا الْحَدِيثُ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ لَمُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ جَمِيعُهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ جَمِيعُهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَأَمَّا الْقَانُونُ الطِّبِّيُّ، فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ وَصَفُوا الْقَلْبَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ التَّشْرِيحِ، ثُمَّ قَالُوا: إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ مَادَّةٌ غَلِيظَةٌ، فَإِنْ تَمَلَّكَتْ مِنْهُ وَمِنْ غُلَافِهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ حَيَاةٌ وَعَاجَلَتِ الْمَنِيَّةُ صَاحِبَهُ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَتْ تَأْخِيرًا يَسِيرًا، وَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْهُ الْمَادَّةُ الْمُنْصَبَّةُ إِلَيْهِ وَلَا مِنْ غُلَافِهِ، أُخِّرَتِ الْحَيَاةُ مُدَّةً يَسِيرَةً؟ وَقَالُوا: لَا سَبِيلَ إِلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ مَعَ مَرَضِ الْقَلْبِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا تَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَرِيضَةً حَقِيقَةً. وَقَدْ تَلَخَّصَ فِي الْقُرْآنِ

مِنَ الْمَعَانِي السَّبَبِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مَرَضًا، وَهِيَ: الرَّيْنُ، وَالزَّيْغُ، وَالطَّبْعُ، وَالصَّرْفُ، وَالضِّيقُ، وَالْحَرَجُ، وَالْخَتْمُ، وَالْإِقْفَالُ، وَالْإِشْرَابُ، وَالرُّعْبُ، وَالْقَسَاوَةُ، وَالْإِصْرَارُ، وَعَدَمُ التَّطْهِيرِ، وَالنُّفُورُ، وَالِاشْمِئْزَازُ، وَالْإِنْكَارُ، وَالشُّكُوكُ، وَالْعَمَى، وَالْإِبْعَادُ بِصِيغَةِ اللَّعْنِ، وَالتَّأَبِّي، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْغَفْلَةُ، وَالْغَمْزَةُ، وَاللَّهْوُ، وَالِارْتِيَابُ، وَالنِّفَاقُ. وَظَاهِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ مَعَانٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ، وَلِلْقَلْبِ أَمْرَاضٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُضَافَةً إِلَى جُمْلَةِ الْكُفَّارِ. وَالزِّيَادَةُ تَجَاوُزُ الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ، وَعِلْمُ اللَّهِ محيط بما أضمروه من سُوءِ الِاعْتِقَادِ وَالْبُغْضِ وَالْمُخَادَعَةِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ «1» ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ شَيْئًا مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَقْذِفُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا آخَرَ، فَيَصِيرُ الثَّانِي زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ، إِذَا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ لَمَا تَحَقَّقَتِ الزِّيَادَةُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُحْمَلُ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2» . وَزِيَادَةُ الْمَرَضِ إِمَّا مِنْ حَيْثُ أَنَّ ظُلُمَاتِ كُفْرِهِمْ تَحِلُّ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ «3» ، أَوْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَرَضَ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْحَسَدِ أَوِ الْهَمِّ، بِمَا يُجَدِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِدِينِهِ مِنْ عُلُوِّ الْكَلِمَةِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ، أَوْ لِمَا يَحْصُلُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً «4» . وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ الْمَرَضِ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، إِذِ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ هُوَ الْكُفْرُ، فَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمَرَضُ عَلَى الْغَمِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَمُّونَ بِعُلُوِّ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى مَنْعِ زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ، أَوْ عَلَى أَلَمِ الْقَلْبِ، أَوْ عَلَى فُتُورِ النِّيَّةِ فِي الْمُحَارَبَةِ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ أَوَّلًا قُلُوبُهُمْ قَوِيَّةً عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ كَانَ يَزْدَادُ بِسَبَبِ ازْدِيَادِ التَّكْلِيفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً خَبَرًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ دُعَاءً فَلَا، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ دُعَاءٌ بِوُقُوعِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، أَوْ مَجَازًا فَلَا تُقْصَدُ بِهِ الْإِجَابَةَ لِكَوْنِ الْمَدْعُوِّ بِهِ وَاقِعًا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ السَّبُّ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 8. (2) سورة التوبة: 9/ 125. (3) سورة النور: 24/ 40. (4) سورة التوبة: 9/ 124.

وَاللَّعْنُ وَالنَّقْصُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «1» ، ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ «2» ، وَكَقَوْلِهِ: لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَأَخْزَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَأَنَّهُ قَدْ بَاءَ بِخِزْيٍ وَلَعْنٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا انْتِهَاءَ لَهُ، وَتَنْكِيرُ مَرَضٍ مِنْ قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الْمَرَضِ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ دَلَالَةَ النَّكِرَةِ عَلَى مَا وُضِعَتْ لَهُ إِنَّمَا هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ، لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ تَنْتَظِمُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى جَمْعِ مَرَضٍ لِأَنَّ تَعْدَادَ الْمُحَالِ يَدُلُّ عَلَى تَعْدَادِ الْحَالِ عَقْلًا، فَاكْتَفَى بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ، وَتَعْدِيَةُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى الْقُلُوبِ، إِذْ قَالَ تَعَالَى: فَزادَهُمُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَزَادَهَا، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فَزَادَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مَرَضًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ زَادَ ذَوَاتَهُمْ مَرَضًا لِأَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ مَرَضٌ لِسَائِرِ الْجَسَدِ، فَصَحَّ نِسْبَةُ الزِّيَادَةِ إِلَى الذَّوَاتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي ذَوَاتِهِمْ مَرَضًا، وَإِنَّمَا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ. وَأَمَالَ حَمْزَةُ فَزَادَهُمْ فِي عَشَرَةِ أَفْعَالٍ أَلِفُهَا مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ وَوَزْنُهُ فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، إِلَّا ذَلِكَ الْفِعْلَ فَإِنَّ وَزْنَهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي بَيْتَيْنِ فِي قَصِيدَتِي الْمُسَمَّاةِ، بِعِقْدِ اللَّآلِي فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الْعَوَالِي، وَهُمَا: وَعَشْرَةُ أَفْعَالٍ تُمَالُ لِحَمْزَةٍ ... فَجَاءَ وَشَاءَ ضَاقَ رَانَ وَكَمِّلَا بِزَادَ وَخَابَ طَابَ خَافَ مَعًا ... وَحَاقَ زَاغَ سِوَى الْأَحْزَابِ مَعْ صَادِهَا فَلَا يَعْنِي أَنَّهُ قَدِ اسْتَثْنَى حَمْزَةَ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ «3» ، فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ «4» ، فِي سُورَةِ ص، فَلَمْ يُمِلْهَا. وَوَافَقَ ابْنُ ذَكْوَانَ حَمْزَةَ عَلَى إِمَالَةِ جَاءَ وَشَاءَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى زَادَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَعَنْهُ خِلَافٌ فِي زَادَ هَذِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَبِالْوَجْهَيْنِ قَرَأْتُهُ لَهُ، وَالْإِمَالَةُ لِتَمِيمٍ، وَالتَّفْخِيمُ لِلْحِجَازِ. وَأَلِيمٌ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ مُحَوَّلًا مِنْ فِعْلٍ لَهَا وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْعَذَابِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَأْلَمُ، إِنَّمَا يَأْلَمُ صَاحِبُهُ، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: شِعْرُ شَاعِرٍ، وَالشِّعْرُ لَا يُشْعِرُ إِنَّمَا الشَّاعِرُ نَاظِمُهُ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ بِمَعْنَى: مُؤْلِمٍ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كرب:

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 4. (2) سورة التوبة: 9/ 127. (3) سورة الأحزاب: 33/ 10. (4) سورة ص: 38/ 63.

أمن ريحانة الداعي السميع أَيِ الْمُسْمِعِ، وَفَعِيلٌ: بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مَجَازٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ أَفْعَلُ مَفْعَلٌ، فَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْإِفْرَادِ. وَقَدْ حَصَلَ لِلْمُنَافِقِينَ مَجْمُوعُ الْعَذَابَيْنِ: الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، قِيلَ لِانْخِرَاطِهِمْ مَعَهُمْ وَلِانْتِظَامِهِمْ فِيهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ؟ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَصَارَ الْمُنَافِقُونَ أَشُدَّ عَذَابًا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، بِالنَّصِّ عَلَى حُصُولِ الْعَذَابَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «1» ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كَيْنُونَةَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِهَؤُلَاءِ سَبَبُهَا كَذِبُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ وما منسوية أَيْ بِكَوْنِهِمْ يَكْذِبُونَ، وَلَا ضَمِيرَ يَعُودُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا حَرْفٌ، خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ كَانَ النَّاقِصَةَ لَا مَصْدَرَ لَهَا، فَمَذْهَبُهُ مَرْدُودٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الْمَجِيءُ بِمَصْدَرِ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلْفَظُ بِهِ مَعَهَا، فَلَا يُقَالُ: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا كَوْنًا، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، فَالْعَائِدُ عِنْدَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يُكَذِّبُونَهُ أَوْ يَكْذِبُونَهُ. وَزَعَمَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ كَوْنَ مَا مَوْصُولَةً أَظْهَرُ، قَالَ: لِأَنَّ الْهَاءَ الْمُقَدَّرَةَ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِي دُونَ الْمَصْدَرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ، ثَمَّ هَاءٌ مُقَدَّرَةٌ، بَلْ مَنْ قَرَأَ: يَكْذِبُونَ، بِالتَّخْفِيفِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ، فَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمُ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ فَكَوْنُهُمْ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ فِي أَخْبَارِهِ وَالرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَدَّدُ فِي مَعْنَى الْمُخَفَّفِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالُوا فِي: صَدَقَ صَدَّقَ، وَفِي: بَانَ الشَّيْءُ بَيَّنَ، وَفِي: قَلُصَ الثَّوْبُ قَلَّصَ. وَالْكَذِبُ لَهُ مَحَامِلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهَا: الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ عَالِمًا بِالْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَكَلَّمُوا عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الثَّانِي: الْإِخْبَارُ بِالَّذِي يُشْبِهُ الْكَذِبَ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا الْحَقُّ، قَالُوا: وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا. الثَّالِثُ: الْخَطَأُ، كَقَوْلِ عُبَادَةَ فِيمَنْ زَعَمَ: أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْ أَخْطَأَ. الرَّابِعُ: الْبُطُولُ، كَقَوْلِهِمْ: كُذِّبَ الرَّجُلُ، أَيْ بَطَلَ عَلَيْهِ أَمَلُهُ وَمَا رَجَا وَقَدَّرَ. الْخَامِسُ: الْإِغْرَاءُ بِلُزُومِ الْمُخَاطَبِ الشَّيْءَ الْمَذْكُورَ، كَقَوْلِهِمْ: كَذَبَ عَلَيْكَ الْعَسَلُ، أَيْ أَكْلُ الْعَسَلِ، وَالْمُغْرَى بِهِ مرفوع بكذب،

_ (1) سورة النساء: 4/ 145.

[سورة البقرة (2) : الآيات 11 إلى 16]

وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ نَصْبُهُ إِلَّا فِي حَرْفٍ شَاذٍّ، وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَالْمُؤَثَّمُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْكَذِبُ كُلُّهُ قَبِيحٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقَالُوا: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَكْذِبُ لِزَوْجَتِهِ وَلِابْنِهِ تَطْيِيبًا لِلْقَلْبِ فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَذِبُ مُحَرَّمٌ وَمُبَاحٌ، فَالْمُحَرَّمُ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مُرَاعَاتِهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَالْمُبَاحُ مَا كَانَ فِيهِ ذَلِكَ، كَالْكَذِبِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ خِلَافًا، قَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، حِينَ قَالُوا: تَعَالَوْا إِلَى خَلَّةٍ نَسْلَمُ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَنَتَمَسَّكُ مَعَ ذَلِكَ بِدِينِنَا، فَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ، وابن زيد. [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 16] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) إِذَا: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَيَغْلِبُ كَوْنُهَا شَرْطًا، وَتَقَعُ لِلْمُفَاجَأَةِ ظَرْفَ زَمَانٍ وِفَاقًا لِلرِّيَاشِيِّ، وَالزَّجَّاجِ، لَا ظَرْفَ مَكَانٍ خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، وَلِظَاهِرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَلَا حَرْفًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. وَإِذَا كَانَتْ حَرْفًا، فَهِيَ لِمَا تُيُقِّنَ أَوْ رُجِّحَ وُجُودُهُ، وَيُجْزَمُ بِهَا فِي الشِّعْرِ، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الْفِعْلُ الثُّلَاثِيُّ الَّذِي انْقَلَبَ عَيْنُ فِعْلِهِ أَلِفًا فِي الْمَاضِي، إِذَا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، أَخْلَصَ كَسْرَ أَوَّلِهِ وَسَكَنَتْ عَيْنُهُ يَاءً فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَمُجَاوِرِيهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَضُمَّ أَوَّلُهَا عِنْدَ

كَثِيرٍ مِنْ قَيْسٍ وَعَقِيلٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ، وَعَامَّةِ بَنِي أَسَدٍ. وَبِهَذِهِ اللُّغَةُ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَهُشَامٌ فِي: قِيلَ، وغيض، وحيل، وسيىء، وَسِيئَتْ، وَجِيءَ، وَسِيقَ. وَافَقَهُ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ فِي: سيىء، وَسِيئَتْ. زَادَ ابْنُ ذَكْوَانَ: حِيلَ، وَسَاقَ. وَبِاللُّغَةِ الْأُولَى قرأ باقي القراءة، وَفِي ذَلِكَ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ إِخْلَاصُ ضَمِّ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَسُكُونِ عَيْنِهِ وَاوًا، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِهُذَيْلٍ، وَبَنِي دُبَيْرٍ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَوْجِيهِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَتَكْمِيلِ أَحْكَامِهَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الْفَسَادُ: التَّغَيُّرُ عَنْ حَالَةِ الِاعْتِدَالِ وَالِاسْتِقَامَةِ. قَالَ سُهَيْلٌ فِي الْفَصِيحِ: فَسَدَ، وَنَقِيضُهُ: الصَّلَاحُ، وَهُوَ اعْتِدَالُ الْحَالِ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ. الْأَرْضُ: مُؤَنَّثَةٌ، وَتُجْمَعُ عَلَى أُرْضٍ وَأَرَاضٍ، وَبِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَبِالْيَاءِ وَالنُّونِ نَصْبًا وَجْرًا شُذُوذًا، فَتُفْتَحُ الْعَيْنُ، وَبِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، قَالُوا: أَرِضَاتٍ، وَالْأَرَاضِي جَمْعُ جَمْعٍ كَأَوَاظِبِ. إِنَّمَا: مَا: صِلَةٌ لِإِنَّ وَتَكُفُّهَا عَنِ الْعَمَلِ، فَإِنْ وَلِيَتْهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ كَانَتْ مُهَيَّئَةً، وَفِي أَلْفَاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ، وَكَوْنُهَا مُرَكَّبَةً مِنْ مَا النَّافِيَةِ، دَخَلَ عَلَيْهَا إِنَّ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ فَأَفَادَتِ الْحَصْرَ، قَوْلٌ رَكِيكٌ فَاسِدٌ صَادِرٌ عَنْ غَيْرِ عَارِفٍ بِالنَّحْوِ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ بِالْوَضْعِ، كَمَا أَنَّ الْحَصْرَ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَخَوَاتِهَا الَّتِي كُفَّتْ بِمَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ: لَعَلَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَلَعَلَّ مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَإِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَإِذَا فُهِمَ حَصْرٌ، فإما يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا أَنَّ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدُوهُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ «1» ، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ «2» ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. وَإِعْمَالُ إِنَّمَا قَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ. نَحْنُ: ضَمِيرُ رَفْعٍ مُنْفَصِلٌ لِمُتَكَلِّمٍ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لِمُعْظَمِ نَفْسِهِ، وَفِي اعْتِلَالِ بِنَائِهِ عَلَى الضَّمِّ أَقْوَالٌ تُذْكَرُ فِي النَّحْوِ. أَلَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ زَعَمُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَ تَحْقِيقًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ «3» ، وَلِكَوْنِهَا مِنَ الْمُنْصَبِّ فِي هَذِهِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، وَقَالَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ أَلَا التَّنْبِيهِيَّةَ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 7، وسورة النازعات: 79/ 45. [.....] (2) سورة الكهف: 18/ 110. (3) سورة القيامة: 75/ 40.

حَرْفٌ بَسِيطٌ، لِأَنَّ دَعْوَى التَّرْكِيبِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ مَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا، إِلَى آخِرِهِ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَوَاقِعَ أَلَا تَدُلَّ عَلَى أَنَّ لَا لَيْسَتْ لِلنَّفْيِ، فَيَتِمُّ مَا ادَّعَوْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، لَيْسَ أَصْلُهُ لَا أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ تَرَاكِيبِ الْعَرَبِ بِخِلَافِ مَا نُظِرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ «1» ، لِصِحَّةِ تَرْكِيبِ، لَيْسَ زَيْدٌ بِقَادِرٍ، وَلِوُجُودِهَا قَبْلَ رُبَّ وَقَبْلَ لَيْتَ وَقَبْلَ النِّدَاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ فِيهِ أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ فَأَفَادَتِ التَّحْقِيقَ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٌ ... وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ وَقَالَ الْآخَرُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَادِثُ وَصْلِهَا ... وَكَيْفَ تُرَاعِي وَصْلَةَ الْمُتَغَيِّبِ وَقَالَ الْآخَرُ: أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلْخَيَالِ الْمُشَوِّقِ ... وَلِلدَّارِ تَنْأَى بِالْحَبِيبِ وَنَلْتَقِي وَقَالَ الْآخَرُ: أَلَا يَا قَيْسُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمْرَ الطَّرِيقِ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ دُخُولُ لَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يَلْتَقِي بِهِ الْقَسَمُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا تُسْتَفْتَحُ، بِرُبَّ، وَبِلَيْتَ، وَبِفِعْلِ الْأَمْرِ، وَبِالنِّدَاءِ، وَبِحَبَّذَا، فِي قَوْلِهِ: أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ وَلَا يَلْتَقِي بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَسَمُ وَعَلَامَةُ أَلَا هَذِهِ الَّتِي هِيَ تَنْبِيهٌ وَاسْتِفْتَاحٌ صِحَّةُ الْكَلَامِ دُونَهَا، وَتَكُونُ أَيْضًا حَرْفَ عَرْضٍ فَيَلِيهَا الْفِعْلُ، وَإِنْ وَلِيَهَا الِاسْمُ فَعَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ، وَحَرْفِ جَوَابٍ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: أَلَمْ تَقُمْ فَتَقُولُ: أَلَا بِمَعْنَى بَلَى؟ نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ (وَصْفِ الْمَبَانِي فِي حُرُوفِ الْمَعَانِي) قَالَ: وَهُوَ قَلِيلٌ شَاذٌّ، وَأَمَّا أَلَا الَّتِي لِلتَّمَنِّي فِي قَوْلِهِمْ: أَلَا مَاءً، فَذَكَرَهَا النُّحَاةُ فِي فَصْلِ لَا الدَّاخِلِ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ. لَكِنْ: حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مُوَافِقًا لِمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ نَقِيضًا أَوْ ضِدًّا جَازَ، أَوْ خلافا ففي الجواز

_ (1) سورة القيامة: 75/ 40.

خِلَافٌ، وَفِي التَّصْحِيحِ خِلَافٌ. وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الرَّمَّالِ جَوَازَ إِعْمَالِهَا مُخَفَّفَةً عَنْ يُونُسَ، وَحَكَى ذَلِكَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَلَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا إِلَّا وَوَاوُ الْعَطْفِ قَبْلَهَا، وَمِمَّا جَاءَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ «1» لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ «2» ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ: إِنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لَا تُخْشَى غَوَائِلُهُ ... لَكِنْ وَقَائِعَهُ فِي الْحَرْبِ تُنْتَظَرُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِ لَكِنْ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. الْكَافُ: حَرْفُ تَشْبِيهٍ تَعْمَلُ الْجَرَّ وَاسْمِيَّتُهَا مُخْتَصَّةً عِنْدَنَا بِالشِّعْرِ، وَتَكُونُ زَائِدَةً وَمُوَافِقَةً لِعَلَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: كَخَيْرٍ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، وَيَحْدُثُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ في النحو. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ، السَّفَهُ: الْخِفَّةُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلثَّوْبِ الْخَفِيفِ النَّسْجِ سَفِيهٌ، وَفِي النَّاسِ خِفَّةُ الْحِلْمِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ الْبُهْتُ وَالْكَذِبُ وَالتَّعَمُّدُ خِلَافَ مَا يُعْلَمُ، قَالَهُ مُؤَرِّجٌ، أَوِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ، وَهُوَ جَمْعٌ مُطَّرِدٌ فِي فَعِيلٍ الصَّحِيحِ الْوَصْفِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَنَّثِهِ التَّاءُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ سَفِهَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَجْلِ اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالُوا: وَنَقِيضُ السَّفَهِ: الرُّشْدُ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ، يُقَالُ رَجُلٌ حَكِيمٌ، وَفِي ضِدِّهِ سَفِيهٌ، وَنَظِيرُ السَّفَهِ النَّزَقُ وَالطَّيْشُ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللِّقَاءُ: اسْتِقْبَالُ الشَّخْصِ قَرِيبًا مِنْهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ لَقِيَ يَلْقَى، وَقَدْ يُقَالُ لَاقَى، وَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَسُمِعَ لِلَقِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَصْدَرًا، قَالُوا: لَقِيَ، لُقْيًا، وَلُقْيَةً، وَلَقَاةً، وَلِقَاءً، وَلُقَاءً، وَلَقًى، وَلُقًى، وَلُقْيَاءَ، وَلِقْيَاءَ، وَلُقِيًّا، وَلُقْيَانًا، وَلِقْيَانَةً، وَتِلْقَاءً. الْخُلُوُّ: الِانْفِرَادُ، خَلَا بِهِ أَيِ انْفَرَدَ، أَوِ الْمُضِيُّ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ «3» . الشَّيْطَانُ، فَيْعَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، فَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ مِنْ شَطَنَ، أَيْ بَعُدَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ شَاطِنٌ، قَالَ أُمَيَّةُ: أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ... ثُمَّ يُلْقَى فِي السجن والأكبال

_ (1) سورة الزمر: 39/ 20. (2) سورة النساء: 4/ 166. (3) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 137.

وَقَالَ رُؤْبَةُ: وَفِي أَخَادِيدِ السِّيَاطِ الْمُتَّنِ ... شَافٍ لِبَغْيِ الْكَلْبِ الْمُشَيْطَنِ وَوَزْنُهُ فَعْلَانُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَنُونُهُ زَائِدَةٌ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ إِذَا هَلَكَ، قَالَ الشَّاعِرَ: قَدْ تَظْفَرُ الْعِيرُ فِي مَكْنُونِ قَائِلَةٍ ... وَقَدْ تَشْطُو عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ وَالشَّيْطَانُ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُنْثَاهُ شَيْطَانَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: هِيَ الْبَازِلُ الْكَوْمَاءُ لَا شَيْءَ غَيْرُهَا ... وَشَيْطَانَةٌ قَدْ جُنَّ مِنْهَا جُنُونُهَا وَشَيَاطِينُ: مع شَيْطَانَ، نَحْوُ غَرَاثِينَ فِي جَمْعٍ غَرْثَانَ، وَحَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ نُونَهُ زَائِدَةٌ تَكُونُ نَحْوَ: غَرْثَانَ، مَعَ اسْمٍ مَعْنَاهُ الصُّحْبَةُ اللَّائِقَةُ بِالْمَذْكُورِ، وَتَسْكِينُهَا قَبْلَ حَرَكَةٍ لُغَةُ رَبِيعَةَ وَغَنْمٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَإِذَا سَكَنَتْ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا اسْمٌ، وإذ ألقيت أَلِفَ اللَّامِ أَوْ أَلِفَ الْوَصْلِ، فَالْفَتْحُ لُغَةُ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ رَبِيعَةَ، وَتَوْجِيهُ اللُّغَتَيْنِ فِي النَّحْوِ، وَيُسْتَعْمَلُ ظَرْفَ مَكَانٍ فَيَقَعُ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ وَالْأَحْدَاثِ، وَإِذَا أُفْرِدَ نُوِّنَ مَفْتُوحًا، وَهِيَ ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْمَقْصُورِ، إِذْ ذَاكَ لَا مِنْ بَابِ يَدٍ، خِلَافًا لِيُونُسَ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ مَعًا حَالٌ، نَحْوُ: جَمِيعًا، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ جَمِيعٍ لِأَنَّهَا تُشْرِكُ فِي الزَّمَانِ نَصًّا، وَجَمِيعُ تَحْتَمِلُهُ. وَقَدْ سَأَلَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى أَحْمَدَ بْنَ قَادِمٍ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ. قَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدٌ مَعًا، وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدٌ جَمِيعًا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْكُضُ فِيهَا إِلَى اللَّيْلِ، وَفَرَّقَ ابْنُ يَحْيَى: بِأَنَّ جَمِيعًا يَكُونُ الْقِيَامُ فِي وَقْتَيْنِ وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إِذَا قُلْتَ: مَعًا، فَيَكُونُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. الِاسْتِهْزَاءُ: الِاسْتِخْفَافُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ فَعَلَ، تَقُولُ: هَزَأْتُ بِهِ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ اسْتَعْجَبَ: بِمَعْنَى عَجِبَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا اسْتَفْعَلَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الْمَدُّ: التَّطْوِيلُ، مَدَّ الشَّيْءَ: طَوَّلَهُ وَبَسَطَهُ، أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «1» ، وَأَصْلُ الْمَدِّ: الزِّيَادَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ دَخَلَ فِي شَيْءٍ فَكَثَّرَهُ فَقَدْ مَدَّهُ، قَالَهُ اللِّحْيَانِيُّ. وَأَمَدَّ بِمَعْنَى مَدَّ، مَدَّ الْجَيْشَ، وَأَمَدَّهُ: زَادَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَدَّ زَادَ مِنَ الْجِنْسِ، وَأَمَدَّ: زَادَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَقَالَ يُونُسُ: مَدَّ فِي الْخَيْرِ وَأَمَدَّ فِي الشَّرِّ. انْتَهَى قَوْلُهُ. وَيُقَالُ: مدّ النهر وأمدّه.

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 45.

نَهْرٌ آخَرٌ، وَمَادَّةُ الشَّيْءِ مَا يَمُدُّهُ، الْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَدَدْتُ الدَّوَاةَ وَأَمْدَدْتُهَا بِمَعْنًى، وَيُقَالُ: مَدَدْنَا الْقَوْمَ: صِرْنَا لَهُمْ أَنْصَارًا وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِغَيْرِنَا. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَمَدَّ الْأَمِيرُ جُنْدَهُ بِالْخَيْلِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «1» . الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ، يُقَالُ طَغَى الْمَاءُ، وَطَغَتِ النَّارُ. الْعَمَهُ. التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْعَمَى، إِلَّا أَنَّ الْعَمَى تُوصَفُ بِهِ الْعَيْنُ الَّتِي ذَهَبَ نُورُهَا، وَالرَّأْيُ الَّذِي غَابَ عَنْهُ الصَّوَابُ. يُقَالُ: عَمَهَ، يَعْمَهُ، عَمَهًا، وَعَمَهَانًا فَهُوَ: عَمِهٌ، وَعَامِهٌ. وَيُقَالُ: بَرِيَّةٌ عَمْهَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا عِلْمٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعَمَهُ أَنْ يَرْكَبَ رَأْسَهُ وَلَا يُبْصِرُ مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: الْعَمَهُ: الْعَمَى عَنِ الرُّشْدِ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ، الِاشْتِرَاءُ وَالشِّرَاءُ بِمَعْنَى: الِاسْتِبْدَالِ بِالشَّيْءِ وَالِاعْتِيَاضِ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّ الِاشْتِرَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي الِابْتِيَاعِ وَالْبَيْعِ، وَهُوَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا افْتَعَلَ. الرِّبْحُ: هُوَ مَا يَحْصُلُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ. التِّجَارَةُ: هِيَ صِنَاعَةُ التَّاجِرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْمَالِ لِطَلَبِ النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ. الْمُهْتَدِي: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اهْتَدَى وَافْتَعَلَ فِيهِ لِلْمُطَاوَعَةِ، هَدَيْتُهُ فَاهْتَدَى، نَحْوُ: سَوَّيْتُهُ فَاسْتَوَى، وَغَمَمْتُهُ فَاغْتَمَّ. وَالْمُطَاوَعَةُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا أَفْعَلُ، وَلَا تَكُونُ افْتَعَلَ لِلْمُطَاوَعَةِ مَبْنِيَّةً إِلَّا مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، وَقَدْ وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ اللَّازِمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِيهَا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: حَتَّى إِذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ فِي السَّحَرْ ... كَشُعْلَةِ الْقَابِسِ تَرْمِي بِالشَّرَرْ لِأَنَّ افْتَعَلَ فِي الْبَيْتِ بِمَعْنَى، فَعَلَ. تَقُولُ: شَالَ يَشُولُ، وَاشْتَالَ يَشْتَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا تَتَعَقَّلُ الْمُطَاوَعَةُ، إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُطَاوِعُ مُتَعَدِّيًا. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ اسْتِئْنَافًا يَنْعِي عَلَيْهِمْ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا، وَفِي الثَّانِي جُزْءُ كَلَامٍ لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى يَكْذِبُونَ، فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ النَّصْبُ، لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ جُزْءٌ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقَّوْا بِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا تَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي أَجَازَاهُ عَلَى أَحَدِ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 6.

وَجْهَيْ مَا مِنْ قَوْلِهِ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ خَطَأٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، فَيَكْذِبُونَ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَا ضَمِيرَ فِيهِ يَعُودُ عَلَى مَا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بالذي كَانُوا، إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ لِعَدَمِ الْعَائِدِ. وَأَمَّا وَجْهُهَا الْآخَرُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَعَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ يَكُونُ هَذَا الْإِعْرَابُ أَيْضًا خَطَأً، إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ اسْمٌ يَعُودُ عَلَيْهَا مِنْ صِلَتِهَا ضَمِيرٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَارِيَةٌ مِنْهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، فَهَذَا الْإِعْرَابُ شَائِعٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ إِعْرَابَ هَذَا سِوَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يَكْذِبُونَ، أَوْ عَلَى يَقُولُ، وَزَعَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وَجْهٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، إِذْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَهَا هِيَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْكَذِبِ وَنَتَائِجِ التَّكْذِيبِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ وَقَوْلَهُمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، وَقَوْلَهُمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا كَذِبٌ مَحْضٌ؟ فَنَاسَبَ جَعَلَ ذَلِكَ جُمَلًا مُسْتَقِلَّةً ذُكِرَتْ لِإِظْهَارِ كَذِبِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَنِسْبَةِ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، فَكَثُرَ بِهَذِهِ الْجُمَلِ وَاسْتِقْلَالِهَا ذَمُّهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا سِيقَتْ صِلَةَ جُزْءِ كَلَامٍ لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ لَا تَكُونُ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا، إِنَّمَا جِيءَ بِهَا مُعَرِّفَةً لِلْمَوْصُولِ إِنْ كَانَ اسْمًا، وَمُتَمِّمَةً لِمَعْنَاهُ إِنْ كَانَ حَرْفًا. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِذَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَوَابُ، فَإِذَا فِي الْآيَةِ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا تَلِيهَا هِيَ النَّاصِبَةُ لِإِذَا لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الظُّرُوفِ الَّتِي يُجَازَى بِهَا وَإِنْ قَصُرَتْ عَنْ عَمَلِهَا الْجَزْمَ. عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَجَازَ الْجَزْمَ بِهَا حَمْلًا عَلَى مَتَى مَنْصُوبًا بِفِعْلِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ إِذَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ بَعْدَهَا، وَالَّذِي يُفْسِدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ جواز: إِذَا قُمْتَ فَعَمْرٌو قَائِمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَجَوَازُ وُقُوعِ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ جَوَابًا لِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ «1» إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا، وَمَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَحَذْفُ فَاعِلِ الْقَوْلِ هُنَا لِلْإِبْهَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا قَدْ قِيلَ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهَا الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِحَرْفِ النَّهْيِ وَهِيَ: لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، إِلَّا إِنْ

_ (1) سورة يونس: 10/ 21.

ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ وُقُوعَ الْفَاعِلِ جُمْلَةً، وَلَيْسَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْمَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْفَاعِلِ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ، يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ كَمَا فَسَّرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» سِيَاقُ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ قَوْلٌ شَدِيدٌ فَأُضْمِرَ هَذَا الْقَوْلُ الْمَوْصُوفُ وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةً، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ الشَّدِيدُ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ مِنْهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ كَلَامٌ، لِأَنَّهُ يَبْقَى لَا تُفْسِدُوا لَا ارْتِبَاطَ لَهُ، إِذْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْقَوْلِ مُفَسِّرًا لَهُ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ: لَا تُفْسِدُوا، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِكَ أَلِفٌ حَرْفٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، وَمِنْهُ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ، قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا الْكَلَامُ، انْتَهَى. فَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ إِلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، فَعُدِلَ إِلَى الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِهِ الِاسْمُ بَلْ يُوجَدُ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ وَالْجُمْلَةِ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْإِسْنَادُ الْمَعْنَوِيُّ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالتَّخْرِيجِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ، لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي السَّبْعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّامِ عِنْدَ كَلَامِنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ بِهِمَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَوْ بِتَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ بِالنِّفَاقِ الَّذِي صَافَوْا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَوْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ أَوْ بِقَصْدِهِمْ تَغْيِيرَ الْمِلَّةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكَ، أَوْ بِاتِّبَاعِهِمْ هَوَاهُمْ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ مَعَ وُضُوحِهِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ تَهْيِيجُ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، قَالَ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادُ مَا فِي الْأَرْضِ وَانْتِفَاءُ الِاسْتِقَامَةِ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَالزُّرُوعِ وَالْمَنَافِعِ الدينية والدنيوية،

_ (1) سورة ص: 38/ 32.

قَالَ تَعَالَى: لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ «1» ، أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «2» ، وَمِنْهُ قِيلَ لحرب كانت بين طيء: حَرْبُ الْفَسَادِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وُوَجْهُ الْفَسَادِ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ أَنَّهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ عَظِيمَةٌ وَمَعَاصٍ جَسِيمَةٌ، وَزَادَهَا تَغْلِيظًا إِصْرَارُهُمْ عَلَيْهَا، وَالْأَرْضُ مَتَى كَثُرَتْ مَعَاصِي أَهْلَهَا وَتَوَاتَرَتْ، قَلَّتْ خَيْرَاتُهَا وَنُزِعَتْ بَرَكَاتُهَا وَمُنِعَ عَنْهَا الْغَيْثُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، فَكَانَ فِعْلُهُمُ الْمَوْصُوفُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِفَسَادِ الْأَرْضِ وَخَرَابِهَا. كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ وَنُزُولِ الْبَرَكَاتِ وَنُزُولِ الْغَيْثِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ «3» ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ «4» ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا «5» ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ «6» ، الْآيَاتِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْفَاجِرَ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، إِنَّ مَعَاصِيَهِ يَمْنَعُ اللَّهُ بِهَا الْغَيْثَ، فَيَهْلِكُ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ لِعَدَمِ النَّبَاتِ وَانْقِطَاعِ الْأَقْوَاتِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ. فَمُتَعَلِّقُ النَّهْيِ حَقِيقَةً هُوَ مُصَافَاةُ الْكُفَّارِ وَمُمَالَأَتُهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِفْشَاءِ السِّرِّ إِلَيْهِمْ وَتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ مَا رُتِّبَ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَقِيقَةً مَنْهِيًّا عَنْهُ لَفْظًا. وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ هُنَا كَالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «7» . وَلَيْسَ ذِكْرُ الْأَرْضِ لِمُجَرَّدِ التَّوْكِيدِ بَلْ فِي ذلك تنبيه على أن هَذَا الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ نَشْأَتُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ، وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ، وَهُوَ سُتْرَةُ أَمْوَاتِكُمْ، جَدِيرٌ أَنْ لَا يُفْسَدَ فِيهِ، إِذْ مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها» وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ «9» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ «10» ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «11» ، الْآيَةَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَبِّهَةِ عَلَى الِامْتِنَانِ عَلَيْنَا بِالْأَرْضِ، وَمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَكَادُ تحصى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 205. (2) سورة البقرة: 2/ 30. (3) سورة نوح: 71/ 10. (4) سورة الجن: 72/ 16. [.....] (5) سورة الأعراف: 7/ 96. (6) سورة المائدة: 5/ 66. (7) سورة البقرة: 2/ 60. (8) سورة الأعراف: 7/ 56. (9) سورة الملك: 67/ 15. (10) سورة النازعات: 79/ 30- 33. (11) سورة عبس: 80/ 25.

وَقَابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الْإِفْسَادِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فَأَخْرَجُوا الْجَوَابَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِتَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ لَهُمْ، وَأَكَّدُوهَا بِإِنَّمَا دَلَالَةً عَلَى قُوَّةِ اتِّصَافِهِمْ بِالْإِصْلَاحِ. وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ. أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قول ابن عباس: أن مُمَالَأَتِنَا الْكُفَّارَ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ: أَنَّ تِلْكَ الْمُمَالَأَةَ هُدًى وَصَلَاحٌ وَلَيْسَتْ بِفَسَادٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُمَالَأَةَ النَّفْسِ وَالْهَوَى صَلَاحٌ وَهُدًى. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ فِي مُمَالَأَةِ الْكُفَّارِ صَلَاحًا لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ ظَفِرُوا بِهِمْ لَمْ يُبْقُوا عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ مُمَالَأَةِ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ بِاجْتِنَابِ مَا نُهِينَا عَنْهُ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، بَلْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى كل فرد من أنواع الْإِفْسَادِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَأَعْلَمَ بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مُخَادَعَةٌ، كَانُوا يَكُونُونَ بَيْنَ حَالَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ مُوَادِعِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَالَةُ الْأُخْرَى أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ يَسْعَوْنَ بِالْإِفْسَادِ بِالْأَرْضِ لِتَفَرُّقِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَشَتَاتِ نِظَامِ الْمِلَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُنِعَ مِنْكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يُجِيبُوا بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِفْسَادِ، بَلْ أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْإِفْسَادِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ نَحْوَهُمْ لِاتِّصَافِهِمْ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ. كُلُّ ذَلِكَ بُهْتٌ مِنْهُمْ وَكَذِبٌ صِرْفٌ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْكَذِبِ وَقَوْلِهِمْ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَلَمَّا كَانُوا قَدْ قَابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الْإِفْسَادِ بِدَعْوَى الْإِصْلَاحِ الْكَاذِبَةِ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، فَأُثْبِتَ لَهُمْ ضِدُّ مَا ادَّعَوْهُ مُقَابِلًا لَهُمْ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّأْكِيدِ مِنْهَا: التَّصْدِيرُ بِإِنَّ وَبِالْمَجِيءِ بِهِمْ، وَبِالْمَجِيءِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْحَصْرَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: دَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْمُفْسِدُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّفْظَةِ فِي قَوْلِهِ لَا تُفْسِدُوا، فَكَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَهْدِ، وَلَوْ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنَ اللَّفْظَةِ ذِكْرٌ، لَكَانَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَاسْتُفْتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَلَا مُنَبِّهَةً عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا لِتَكُونَ الْأَسْمَاعُ مُصْغِيَةً لِهَذَا الْإِخْبَارِ الَّذِي جَاءَ فِي حَقِّهِمْ، وَيَحْتَمِلُ هُمْ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ فِي أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فَصْلًا، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْمُفْسِدُونَ خَبَرًا لِأَنَّ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ

الْمُفْسِدُونَ خَبَرَهُ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِإِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ فَائِدَةِ الْفَصْلِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَتَحْقِيقُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، هُوَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ يَتَضَمَّنُ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَوَقَعَتْ لَكِنْ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَجِهَةُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُمْ لَمَّا نُهُوا عَنْ إِيجَادِ مِثْلِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ الْإِفْسَادِ فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، كَانُوا حَقِيقِينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي فَاتَهُمْ مِنْ عَدَمِ الشُّعُورِ بِذَلِكَ. تَقُولُ: زَيْدٌ جَاهِلٌ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اتَّصَفَ بِالْجَهْلِ وَصَارَ وَصْفًا قَائِمًا بِزَيْدٍ، كَانَ يَنْبَغِي لِزَيْدٍ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِلَكِنْ، لِأَنَّهُ مِمَّا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ وَيَغْمُضُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِدْرَاكُهُ. قَالُوا: وَمَفْعُولُ يَشْعُرُونَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ، أَوْ أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ، أَوْ أَنَّهُمْ يَنْزِلُ بِهِمُ الْمَوْتُ فَتَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ، وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُنْوَى مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ وَلَا نِيَّةٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، جَعَلُوا لِدَعْوَاهُمْ مَا هُوَ إِفْسَادٌ إِصْلَاحًا مِمَّنِ انْتَفَى عَنْهُ الشُّعُورُ وَكَأَنَّهُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِدْرَاكِ شَيْءٍ فَأَهْمَلَ الْفِكْرَ وَالنَّظَرَ حَتَّى صَارَ يَحْكُمُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْفَاسِدَةِ بِأَنَّهَا صَالِحَةٌ، فَقَدِ انْتَظَمَ فِي سِلْكِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ وَلَا إِدْرَاكَ، أَوْ مَنْ كَابَرَ وَعَانَدَ فَجَعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا، فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ تَسْلِيَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يُدْرِكُونَ الْحَقَّ، إِذْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ لَا يَكْتَرِثَ بِمُخَالَفَتِهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا مِنْ حَيْثُ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَطْفُهَا عَلَى صِلَةٍ مَنْ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ، أَوْ عَطْفُهَا عَلَى يَكْذِبُونَ، وَمِنْ حَيْثُ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَمِنْ حَيْثُ حُكْمُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ إِذَا، وَمِنْ حَيْثُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْقَائِلِ لَهُمْ آمِنُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّحَابَةُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ مِنْهُمْ وَهُمْ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْكَمَالَ يَحْصُلُ بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وبفعل ما ينبغي، وبدىء بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ عَنْهَا هِيَ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، وَالتُّرُوكُ أَسْهَلُ فِي الِامْتِثَالِ مِنِ امْتِثَالِ

الْمَأْمُورَاتِ بِهَا. وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَأَكْثَرُ الْمُعْرِبِينَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: آمِنُوا إِيمَانًا كَمَا آمَنَ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: فِي سير عليه شديد، أَوْ: سِرْتُ حَثِيثًا، إِنَّ شَدِيدًا وَحَثِيثًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: سِيرَ عَلَيْهِ سَيْرًا شَدِيدًا، وَسِرْتُ سَيْرًا حَثِيثًا. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُضْمَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّسَاعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا. وَتِلْكَ الْمَوَاضِعُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ خَاصَّةً بِجِنْسِ الْمَوْصُوفِ، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِكَاتِبٍ وَمُهَنْدِسٍ، أَوْ وَاقِعَةً خَبَرًا، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، أَوْ حَالًا، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَاكِبًا، أَوْ وَصْفًا لِظَرْفٍ، نَحْوَ: جَلَسْتُ قَرِيبًا مِنْكَ، أَوْ مُسْتَعْمَلَةً اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، وَهَذَا يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، نَحْوَ: الْأَبْطَحِ وَالْأَبْرَقِ. وَإِذَا خَرَجَتِ الصِّفَةُ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا تَابِعَةً لِلْمَوْصُوفِ، وَلَا يُكْتَفَى عَنِ الْمَوْصُوفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سِيبَوَيْهِ مَنَعَ: أَلَا مَاءً وَلَوْ بَارِدًا وَإِنْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَأَجَازَ: وَلَوْ بَارِدًا، لِأَنَّهُ حَالٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَمَا، مِنْ: كَمَا آمَنَ النَّاسُ، مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ كَإِيمَانِ النَّاسِ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ مَا، وَالْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِكَافِ التَّشْبِيهِ الَّتِي هِيَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ حَالٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً فَصِلَتُهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُصَدَّرَةٌ بِمَاضٍ مُتَصَرِّفٍ أَوْ مُضَارِعٍ، وَشَذَّ وَصْلُهَا بِلَيَسَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ وَلَا تُوصَلُ بِالْجُمْلَةِ الْأَسْمِيَةِ خِلَافًا لِقَوْمٍ، مِنْهُمْ: أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ: وَجَدْنَا الْحُمْرَ مِنْ شَرِّ الْمَطَايَا ... كَمَا الْحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ فِي مَا مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا آمَنَ، أَنْ تَكُونَ كَافَّةً لِلْكَافِ عَنِ الْعَمَلِ مِثْلَهَا فِي: رُبَّمَا قَامَ زَيْدٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُجْعَلَ كَافَّةً إِلَّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَا تَتَقَدَّرُ فِيهِ مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّ إِبْقَاءَهَا مَصْدَرِيَّةً مُبْقٍ لِلْكَافِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، وَتَكُونُ الْكَافُ إِذْ ذَاكَ مِثْلَ حُرُوفِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي: كَمَا آمَنَ النَّاسُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ كَافَّةً. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:

الْكَامِلُونَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، أَوْ عَبَّرَ بِالنَّاسِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ صُورَتُهُ صُورَةُ النَّاسِ، وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ، كَمَا قال الشاعر: ليس من النَّاسِ وَلَكِنَّهُ ... يَحْسَبُهُ النَّاسُ مِنَ النَّاسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَيُعْنَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَنَحْوُهُ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْأَنْصَارِ عَدَّهُمُ الْكَلْبِيُّ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى الْعَهْدِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ سَبَقَ إِيمَانُهُ قَبْلَ قَوْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، فَيَكُونُ حَوَالَةً عَلَى مَنْ سَبَقَ إِيمَانُهُ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مَعْهُودُونَ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي: كَمَا آمَنَ النَّاسُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَإِلَّا فَهُمْ نَاطِقُونَ بِكَلِمَتِي الشَّهَادَةِ غَيْرَ مُعْتَقِدِيهَا. أَنُؤْمِنُ: مَعْمُولٌ لِقَالُوا، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ أَوِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُشَبَّهًا كَانَ جَوَابُهُمْ مُشَبَّهًا فِي قَوْلِهِمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، وَالْقَوْلُ فِي الْكَافِ وَمَا فِي هَذَا كَالْقَوْلِ فِيهِمَا فِي: كَما آمَنَ النَّاسُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي السُّفَهَاءِ لِلْعَهْدِ، فَيُعْنَى بِهِ الصَّحَابَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وأصحابه، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَنْ فُسِّرَ بِهِ النَّاسُ مِنَ الْمَعْهُودِينَ، أَوِ الْكَامِلُونَ فِي السَّفَهِ، أَوْ لِأَنَّهُمُ انْحَصَرَ السَّفَهُ فِيهِمْ إِذْ لَا سَفِيهَ غَيْرُهُمْ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلصِّفَةِ الْغَالِبَةِ نَحْوِ: الْعَيُّوقِ وَالدَّبَرَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُغَلِّبْ هَذَا الْوَصْفَ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا إِذَا قِيلَ: السُّفَهَاءُ، فَهُمْ مِنْهُ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْعَيُّوقِ نَجْمٌ مَخْصُوصٌ. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُمْ: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أن يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ وَالتَّجَلُّدِ حَذَرًا مِنَ الشَّمَاتَةِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِسُفَهَاءَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ من بَابِ الِاعْتِقَادِ الْجَزْمِ عِنْدَهُمْ، فَيَكُونُوا قَدْ نَسَبُوهُمْ لِلسَّفَهِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ، وَذَلِكَ لِمَا أَخَلُّوا بِهِ مِنَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ، وَهُمْ كَانُوا فِي رِئَاسَةٍ وَيَسَارٍ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ إِذْ ذَاكَ أَكْثَرُهُمْ فُقَرَاءُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مُوَالٍ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مِنَ السُّفَهَاءِ لِأَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا مَا لَا يُجْدِي عِنْدَهُمْ وَكَسِلُوا عَنْ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْغِنَى وَمَا بِهِ السُّؤْدُدُ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ غَايَةُ السَّفَهِ عِنْدَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ إِثْبَاتٌ مِنْهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ بِسَفَهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ السَّفَهِ، وَهُوَ رَزَانَةُ الْأَحْلَامِ وَرُجْحَانُ الْعُقُولِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَثْبَتَ أَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ، وَصَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِأَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ لِيُنَادِي عَلَيْهِمُ الْمُخَاطِبِينَ بِأَنَّهُمُ السُّفَهَاءُ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِنَّ وَبِلَفْظِ هُمْ.

وَإِذَا الْتَقَتِ الْهَمْزَتَانِ وَالْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوُ: السُّفَهاءُ أَلا، فَفِي ذَلِكَ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ. وَالثَّانِي: تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَخْفِيفُ الثَّانِيَةِ بِإِبْدَالِهَا وَاوًا كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً قَبْلَهَا ضَمَّةٌ في كلمة نحو: أو اتي مُضَارِعُ آتَى، فَاعِلٌ مِنْ أَتَيْتُ، وَجُؤَنٍ تَقُولُ: أُوَاتِي وَجُوَنٌ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَالثَّالِثُ: تَسْهِيلُ الأولى بجعلها بين الهمزة وَالْوَاوِ، وَتَحْقِيقُ الثَّانِيَةِ. وَالرَّابِعُ: تسهيل الأولى بجعلها بين الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ وَإِبْدَالُ الثَّانِيَةِ وَاوًا. وَأَجَازَ قَوْمٌ وَجْهًا. خَامِسًا: وَهُوَ جَعْلُ الْأُولَى بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، وَجَعْلُ الثانية بين الهمزة والواو، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ جَعْلَ الثَّانِيَةَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ تَقْرِيبًا لَهَا مِنَ الْأَلِفِ، وَالْأَلِفُ لَا تَقَعُ بَعْدَ الضَّمَّةِ، وَالْأَعَارِيبُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي جَازَتْ فِي: هُمْ، فِي قَوْلِهِ: هُمُ الْمُفْسِدُونَ، جَائِزَةٌ فِي: هُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: هُمُ السُّفَهاءُ. وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ، مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ هُنَاكَ لَا يَشْعُرُونَ وَهُنَا لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ لَهُمْ هُنَاكَ هُوَ الْإِفْسَادُ، وَهُوَ مِمَّا يُدْرَكُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ كَثِيرٍ، فَنَفَى عَنْهُمْ مَا يُدْرَكُ بِالْمَشَاعِرِ، وَهِيَ الْحَوَاسُّ، مُبَالَغَةً فِي تَجْهِيلَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الشُّعُورَ الَّذِي قَدْ يَثْبُتُ لِلْبَهَائِمِ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ، وَالْمُثْبَتُ هُنَا هُوَ السَّفَهُ، وَالْمُصَدَّرُ بِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى إِمْعَانِ فِكْرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ تَامٍّ يُفْضِي إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ هُوَ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَالْجَهْلُ بِالْمَأْمُورِ، قَالَ السَّمَوْأَلُ: نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا ... فَنَجْهَلُ الْجَهْلَ مَعَ الْجَاهِلِ وَالْعِلْمُ نَقِيضُ الْجَهْلِ، فَقَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ جَهْلٌ بِهِ. قَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ الْيَمَانِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: وَإِذَا لَاقَوُا الَّذِينَ وَهِيَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي فَاعِلٍ الْخَمْسَةِ، وَالْوَاوُ الْمَضْمُومَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هِيَ وَاوُ الضَّمِيرِ تَحَرَّكَتْ لِسُكُونِ مَا بَعْدَهَا، وَلَمْ تَعُدْ لَامُ الْكَلِمَةِ الْمَحْذُوفَةُ لِعُرُوضِ التَّحْرِيكِ فِي الْوَاوِ، وَاللِّقَاءُ يَكُونُ بِمَوْعِدٍ وَبِغَيْرِ مَوْعِدٍ، فَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ مَوْعِدٍ سُمِّيَ مُفَاجَأَةً وَمُصَادَفَةً، وَقَوْلُهُمْ لِمَنْ لَقُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا، بِلَفْظِ مُطْلَقِ الْفِعْلِ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ بِشَيْءٍ تَوْرِيَةً مِنْهُمْ وَإِيهَامًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَبِمَا جَاءَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مِنْ خُبْثِهِمْ وَبُهْتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ

الْإِيمَانَ الْمُقَيَّدَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ مَا أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمِنِ اعْتِرَافِهِمْ حِينَ اللِّقَاءِ، وَسَمَّوْا ذَلِكَ إِيمَانًا، وَقُلُوبُهُمْ عَنْ ذَلِكَ صَارِفَةٌ مُعْرِضَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلَوْا إِلَى بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ: بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْوَاوِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَيَتَعَدَّى خَلَا بِالْبَاءِ وَبِإِلَى، وَالْبَاءُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَعُدِلَ إِلَى إِلَى لِأَنَّهَا إِذَا عُدِّيَتْ بِالْبَاءِ احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِانْفِرَادُ، وَالثَّانِي: السُّخْرِيَةُ، إِذْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: خَلَوْتُ بِهِ، أَيْ سَخِرْتُ مِنْهُ، وَإِلَى لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَإِلَى هُنَا عَلَى مَعْنَاهَا مِنِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ عَلَى مَعْنَى تَضْمِينَ الْفِعْلِ، أَيْ صَرَفُوا خَلَاهُمْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، قَالَ الْأَخْفَشُ: خَلَوْتُ إِلَيْهِ، جَعَلْتُهُ غَايَةَ حَاجَتِي، وَهَذَا شَرْحُ مَعْنًى، وَزَعَمَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَنَّ إِلَى هُنَا بِمَعْنَى مَعَ أَيْ: وَإِذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، كَمَا زَعَمُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» ، ومَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «2» ، أَيْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ وَمَعَ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي ... إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، إِذْ نِيَابَةُ الْحَرْفِ عَنِ الْحَرْفِ لَا يَقُولُ بِهَا سِيبَوَيْهِ، وَالْخَلِيلُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي النَّحْوِ. وَشَيَاطِينُهُمْ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي الْكُفْرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: أَوْ كَهَنَتُهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَجَمَاعَةٌ. وَكَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْكَهَنَةِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَبُو بُرْدَةَ فِي بَنِي أَسْلَمَ، وَعَبْدُ الدَّارِ فِي جُهَيْنَةَ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَابْنُ السَّوْدَاءِ فِي الشَّامِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، وَيَعْرِفُونَ الْأَسْرَارَ، وَيُدَاوُونَ الْمَرْضَى، وَسُمُّوا شَيَاطِينَ لِتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، أَوْ بِاسْمِ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، إِنْ فُسِّرُوا بِالْكَهَنَةِ، أَوْ لِشَبَهِهِمْ بِالشَّيَاطِينِ فِي وَسْوَسَتِهِمْ، وَغُرُورِهِمْ، وَتَحْسِينِهِمْ لِلْفَوَاحِشِ، وَتَقْبِيحِهِمْ لِلْحَسَنِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيكِ الْعَيْنِ مِنْ مَعَكُمْ، وقرىء فِي الشَّاذِّ: إِنَّا مَعْكُمْ، وهي لغة غنم

_ (1) سورة النساء: 4/ 2. (2) سورة آل عمران: 3/ 52، وسورة الصف: 61/ 14.

وَرَبِيعَةَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلَانِ مِنْهُمْ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا، وَلِشَيَاطِينِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ. فَانْظُرْ إِلَى تَفَاوُتِ الْقَوْلَيْنِ، فَحِينَ لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا آمَنَّا، أَخْبَرُوا بِالْمُطْلَقِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمُ الْإِخْبَارُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ وَنَشْئِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ، لَا فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ أَوْحَدِيُّونَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا تُطَوِّعُ بِذَلِكَ أَلْسِنَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَا بَاعِثَ لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ حَقِيقَةً، أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَّدُوهُ مَا رَاجَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاكْتَفَوْا بِمُطْلَقِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا، وَحِينَ لَقُوا شَيَاطِينَهُمْ، أَوْ خَلَوْا إِلَيْهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ مُوَافِقُوهُمْ، وَأَخْرَجُوا الْأَخْبَارَ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِإِنَّ لِيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلَى ثَبَاتِهِمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِخْبَارِ بِالْمُوَافَقَةِ، بَلْ بَيَّنُوا أَنَّ سَبَبَ مَقَالَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالِاسْتِخْفَافُ، لَا أَنَّ ذَلِكَ صَادِرٌ مِنْهُمْ عَنْ صِدْقٍ، وَجِدٍّ، وَأَبْرَزُوا هَذَا فِي الأخبار في جملة اسمية مُؤَكَّدَةٍ بِإِنَّمَا مُخْبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا بِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُمْ، لَا أَنَّ ذَلِكَ تَجَدُّدٌ عِنْدَهُمْ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ جَوَابًا لِمُنْكِرٍ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّا مَعَكُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ مَعَنَا وَأَنْتُمْ مُسَالِمُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، تُصَدِّقُونَهُمْ، وَتُكَثِّرُونَ سَوَادَهُمْ، وَتَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَهُمْ، وَتَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ؟ فَأَجَابُوهُمْ بقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، أَيْ مُسْتَخِفُّونَ بِهِمْ، نُصَانِعُ بِمَا نُظْهِرُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، فَنَحْنُ نُوَافِقُهُمْ ظَاهِرًا وَنُوَافِقُكُمْ بَاطِنًا، وَالْقَائِلُ إِنَّا مَعَكُمْ، إِمَّا الْمُنَافِقُونَ لِكِبَارِهِمْ، وَإِمَّا كل المنافقين للكافرين، وقرىء: مستهزءون، بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَبِقَلْبِهَا يَاءً مَضْمُومَةً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُ الْيَاءَ تَشْبِيهًا بِالْيَاءِ الْأَصْلِيَّةِ فِي نَحْوِ: يَرْمُونَ، فَيَضُمُّ الرَّاءَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي تَحْقِيقِهَا: أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ: أَنْ تُقْلَبَ يَاءً قَلْبًا صَحِيحًا. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: حَالُ الْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ مُنْكَرٌ، كَحَالِ الْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ. وَالْعَرَبُ تَعَافُ يَاءً مَضْمُومَةً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى مَا ذهب إلى سِيبَوَيْهِ، انْتَهَى. وَهَلِ الِاجْتِمَاعُ وَالْمَعِيَّةُ فِي الدِّينِ، أَوْ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، أَوْ فِي اتِّفَاقِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَأَخْفَوْهُ مِنَ الْمَكَايِدِ، أَوْ فِي اتِّفَاقِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِهِمْ بِهِمُ الدَّوَائِرَ وَفَرَحِهِمْ بِمَا يَسُوءُ الْمُسْلِمِينَ وَحُزْنِهِمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَقَصْدِهِمْ إِخْمَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالدَّوَاعِي إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ: خَوْفُ الْأَذَى، وَاسْتِجْلَابُ النَّفْعِ،

وَالْهَزْلُ، وَاللَّعِبُ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَةُ الِاسْتِهْزَاءِ الَّذِي هَذِهِ دَوَاعِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِهْزَاءُ الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ مُجَازَاتِهِ لَهُمْ، وَأُطْلِقَ اسْمُ الِاسْتِهْزَاءِ عَلَى الْمُجَازَاةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ الِاسْتِهْزَاءِ، أَوْ عَنْ مُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَصَوْنِ الْمَالِ، وَالْإِشْرَاكِ فِي الْمَغْنَمِ، مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِمْ. وَأُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ مَا أَشْبَهَهُ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ عَنِ التَّوْطِئَةِ وَالتَّجْهِيلِ، لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَسَمَّى التَّوْطِئَةَ لَهُمُ اسْتِهْزَاءً لِأَنَّهُ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ، بَلْ أَمْلَى، وَأَخَّرَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، أَوْ عَنْ فَتْحِ بَابِ الْجَنَّةِ فَيُسْرِعُونَ إِلَيْهِ فَيُغْلَقُ، فَيَضْحَكُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ عَنْ خُمُودِ النَّارِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ، أَوْ عَنْ ضَرْبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ السُّورُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيدِ، أَوْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» ، أَوْ عَنْ تَجْدِيدِ اللَّهِ لَهُمْ نِعْمَةً كُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، أَوْ عَنِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَ النُّورِ الَّذِي يُعْطَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ عَنْ طَرْدِهِمْ عَنِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَمَرَ بِنَاسٍ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَدَنَوْا مِنْهَا وَوَجَدُوا رِيحَهَا وَنَظَرُوا إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا، وَهُوَ حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ، رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَنَحَا هَذَا الْمَنْحَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَفِي مُقَابَلَةِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِهْزَاءِ اللَّهِ بِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ، وَلِيَعْلَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَذُبُّ عَنْهُمْ وَيُحَارِبُ مَنْ حَارَبَهُمْ. وَفِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ اللَّهِ التَّفْخِيمُ الْعَظِيمُ، حَيْثُ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِهِ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ فِعْلًا مُضَارِعًا يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي النِّسْبَةِ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ، ثُمَّ فِي ذَلِكَ التَّنْصِيصِ عَلَى الذين يستهزىء اللَّهُ بِهِمْ، إِذْ عَدَّى الفعل إليهم فقال: يستهزىء بِهِمْ وَهُمْ لَمْ يَنُصُّوا حِينَ نَسَبُوا الِاسْتِهْزَاءَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ، فَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّمَا نحن مستهزءون بِهِمْ وَذَلِكَ لِتَحَرُّجِهِمْ مِنْ إِبْلَاغِ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَنْقِمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبْقَوُا اللَّفْظَ مُحْتَمِلًا أَنْ لَوْ حُوقِقُوا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ لَهُمْ مَجَالٌ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ أنهم لم يستهزءوا بِالْمُؤْمِنِينَ. أَلَا تَرَى إِلَى مُدَارَاتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِقَوْلِهِمْ: إِذَا لَقُوهُمْ قَالُوا آمَنَّا، فَهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِظْهَارَ الْمُدَارَاةِ، وَلَا مُشَارَكَتِهِمْ بِمَا يَكْرَهُونَ، بَلْ يُظْهِرُونَ الطَّوَاعِيَةَ وَالِانْقِيَادَ.

_ (1) سورة الدخان: 44/ 49.

وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَشِبْلٌ: يَمُدُّهُمْ. وَتُرْوَى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: وَنِسْبَةُ الْمَدِّ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةٌ، إِذْ هُوَ مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ وَالْمُنْفَرِدُ بِاخْتِرَاعِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطَوِّلُ لَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ. وَقَدْ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى تَأْوِيلِ الْمَدِّ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَنْعُ الْأَلْطَافِ وَخُذْلَانُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ، بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ تَتَزَايَدُ الظُّلْمَةُ فِيهَا تَزَايُدَ النُّورِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ التَّزَايُدُ مَدًّا وَأُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أَوْ بِأَنَّ الْمَدَّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ. قَالَ: أَوْ عَلَى أَنْ يُسْنِدَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ بِتَمْكِينِهِ وَإِقْدَارِهِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِغْوَاءِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي الْمَدِّ لِأَنَّ مَدَّ اللَّهِ لَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ قَبِيحٌ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُ الْكَعْبِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: هُوَ الْمَدُّ فِي الْعُمُرِ، وَعِنْدَنَا نَحْنُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ الْهَادِي وَالْمُضِلُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَمَدُّ اللَّهِ فِي طُغْيَانِهِمْ، التَّمْكِينُ مِنَ الْعِصْيَانِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوِ الْإِمْلَاءُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الزِّيَادَةُ مِنَ الطُّغْيَانِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْإِمْهَالُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَابْنُ كَيْسَانَ، أَوْ تَكْثِيرُ الْأَمْوَالِ، وَالْأَوْلَادِ، وَتَطْيِيبُ الْحَيَاةِ، أَوْ تَطْوِيلُ الْأَعْمَارِ، وَمُعَافَاةُ الْأَبْدَانِ، وَصَرْفُ الرَّزَايَا، وَتَكْثِيرُ الْأَرْزَاقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فِي طُغْيَانِهِمْ بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ: طُغْيَانٌ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، كَمَا قالوا: القيان، وغينان، بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ. وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ فِي طُغْيَانِهِمْ، وَأَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ فِعْلُهُمْ وَكَسْبُهُمْ، وَكُلُّ فِعْلٍ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ صَحَّتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَإِلَى اللَّهِ بِالِاخْتِرَاعِ. وَمَا فُسِّرَ بِهِ الْعَمَهُ يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْمَهُونَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَتَرَدَّدُونَ وَيَتَحَيَّرُونَ، أَوْ يَعْمَوْنَ عَنْ رُشْدِهِمْ، أو يركبون رؤوسهم وَلَا يُبْصِرُونَ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْأَخِيرُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَرَدِّدِينَ فِي كُفْرِهِمْ، بَلْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا سِوَاهُ الْبَاطِلُ. يَعْمَهُونَ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَمُدُّهُمْ وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي طُغْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ، وَفِي طُغْيَانِهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَمُدُّهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَعْمَهُونَ. وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي طُغْيَانِهِمْ وَيَعْمَهُونَ حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَمُدُّهُمْ، قَالَ: لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَعْمَلُ فِي حَالَيْنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْحَالَانِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ

كَانَا لِذَوِي حَالٍ جَازَ، نَحْوَ: لَقِيتُ زَيْدًا مُصْعِدًا مُنْحَدِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَا لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَفِي إِجَازَةِ ذَلِكَ خِلَافٌ. ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْضِيَ مَصْدَرَيْنِ، وَلَا ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَلَا ظَرْفَيْ مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْضِي حَالَيْنِ. وَخَصَّصَ أَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ لَا يَكُونَ الثَّانِي عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، أَوْ مَعْطُوفًا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَا كَذَلِكَ جَازَتِ الْمَسْأَلَةُ. قَالَ: بَعْضُهُمْ: إِلَّا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَإِنَّهَا تَعْمَلُ فِي ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَظَرْفَيْ مَكَانٍ، وَحَالَيْنِ لِذِي حَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ اخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ فِي حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَإِلَى هَذَا أَذْهَبُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْ فَاعِلٍ، أَوِ الْوَاقِعَ بِمَفْعُولٍ، يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ فِي زَمَانَيْنِ، وَفِي مَكَانَيْنِ. وَأَمَّا الْحَالَانِ فَلَا يَسْتَحِيلُ قِيَامُهُمَا بِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، إِلَّا إِنْ كَانَا ضِدَّيْنِ، أَوْ نَقِيضَيْنِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جَاءَ زيد ضاحكا راكبا، لأنه لَا يَسْتَحِيلُ مَجِيئُهُ وَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِهَذَيْنِ الْحَالَيْنِ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ يَجُوزُ أَنْ يَجِيءَ الْحَالَانِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا وَاحِدٌ. أُولَئِكَ: اسم أُشِيرَ بِهِ إِلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، الْجَامِعِينَ لِلْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مِنْ دَعْوَى الْإِصْلَاحِ، وَهُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَنِسْبَةُ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ وَهُمْ مَعَ الْكُفَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ، بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ قَعْنَبٌ الْعَدَوِيُّ: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْفَتْحِ. وَلِاعْتِلَالِ ضَمَّةِ الْوَاوِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، نَحْوُ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «1» ، وَوَجْهُ الْفَتْحِ اتِّبَاعُهَا لِحَرَكَةِ الْفَتْحِ قَبْلَهَا. وَأَمَالَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْهُدَى، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ كَنَّى بِهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلشَّيْءِ مُخْتَارٌ لَهُ مُؤْثِرٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَجَعَلَ تَمَكُّنَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى كَالثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فِي الْمُشْتَرَى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ فِي الِاشْتِرَاءِ إِلَى الْمَجَازِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَضَةِ، إِذْ هِيَ اسْتِبْدَالُ شَيْءٍ فِي يَدِكَ لِشَيْءٍ فِي يَدِ غَيْرِكَ، وَهَذَا مَفْقُودٌ هُنَا. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاءَ هُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ مُتَحَقِّقَةٌ، ثُمَّ رَامُوا يُقَرِّرُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ لِأَنَّهُ على كل تقدير يؤول الشِّرَاءُ فِيهِ إِلَى الْمَجَازِ، قَالُوا: إِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، فَقَدْ كَانَ لَهُمْ هُدًى ظَاهِرٌ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَةِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْغَزْوِ، وَالْقِتَالِ. فلما لم تصدق

_ (1) سورة الجن: 72/ 16.

بَوَاطِنُهُمْ ظَوَاهِرَهُمْ وَاخْتَارُوا الْكُفْرَ، اسْتَبْدَلُوا بِالْهُدَى الضَّلَالَ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ، وَحَصَلَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَقِيقَةً، وَكَانَ مِنْ بُيُوعِ الْمُعَاطَاةِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى اللَّفْظِ، وَقَالُوا: لَمَّا وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَاسْتَمَرَّ لَهُمْ حُكْمُهَا إِلَى الْبُلُوغِ وجد التَّكْلِيفِ، اسْتَبْدَلُوا عَنْهَا بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ، وَقَالُوا: لَمَّا كَانُوا ذَوِي عُقُولٍ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ مِنَ الْخَطَأِ، اسْتَبْدَلُوا بِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ النَّفِيسِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَالتَّقْلِيدَ لِلْآبَاءِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلَ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، فَقَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُصَدِّقِينَ بِبَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُسْتَفْتِحِينَ بِهِ، وَيَدْعُونَ بِحُرْمَتِهِ، وَيُهَدِّدُونَ الْكُفَّارَ بِخُرُوجِهِ، فَكَانُوا مُؤْمِنِينَ حَقًا. فَلَمَّا بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، خَافُوا عَلَى رِئَاسَتِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ وَانْصِرَافِ الِاتِّبَاعِ عَنْهُمْ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا الْمَذْكُورَ عِنْدَنَا، وَغَيَّرُوا صِفَتَهُ، وَاسْتَبْدَلُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَرَادَ سَائِرَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَالْمُعَاوَضَةُ أَيْضًا مُتَحَقِّقَةٌ، إِمَّا بِالْمُدَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ كَفَرُوا، أَوْ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانَ فِي مَحْصُولِهِمُ الْمَدَارِكُ الثَّلَاثَةُ: الْحِسِّيُّ وَالنَّظَرِيُّ وَالسَّمْعِيُّ، وَهَذِهِ الَّتِي تُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ، فَاسْتَبْدَلُوا بِهَا الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِ الْآبَاءِ فِي الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: خَلَقَهُمْ لِطَاعَتِهِ، فَاسْتَبْدَلُوا عَنْ هَذِهِ الْخِلْقَةِ الْمُرْضِيَةِ كُفْرَهُمْ وَضَعْفَ قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ بَرَّأَهُمْ لِطَاعَتِهِ، لَمَا كَفَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لِشَيْءٍ وَيَتَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» ، وَعَلَى وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: الضَّلَالَةُ: الْكُفْرُ، وَالْهُدَى: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ، وَقِيلَ الْجَهْلُ وَالْعِلْمُ، وَقِيلَ الْفِرْقَةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَقِيلَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ النَّارُ وَالْجَنَّةُ. وَعَطْفُ: فَمَا رَبِحَتْ، بِالْفَاءِ، يَدُلُّ عَلَى تَعَقُّبِ نَفْيِ الرِّبْحِ لِلشِّرَاءِ، وَأَنَّهُ بِنَفْسِ مَا وَقَعَ الشِّرَاءُ تَحَقَّقَ عَدَمُ الرِّبْحِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ دَخَلَتْ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الجزاء والتقديران اشْتَرَوْا. وَالَّذِينَ إِذَا كَانَ فِي صِلَةِ فِعْلٍ، كَانَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، وَمِثْلُهُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ «2» ، وَقَعَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ «3» ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَدْخُلُ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الَّذِينَ لَيْسَ مُبْتَدَأً، فَيُشَبَّهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ مُبْتَدَأً، فَتَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، كما تدخل

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 56. (2) سورة البقرة: 2/ 262. (3) سورة البقرة: 2/ 274. [.....]

فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الَّذِينَ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وَقَوْلُهُ: فَمَا رَبِحَتْ لَيْسَ بِخَبَرٍ، فَتَدْخُلُهُ الْفَاءُ، وَإِنَّمَا هِيَ جُمْلَةٌ فَعَلَيْةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، فَهِيَ صِلَةٌ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ، وَقَوْلُهُ وَقَعَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ، إِنَّمَا الْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ يُنْفِقُونَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أولئك مبتدأ، والذين اشْتَرَوْا مُبْتَدَأٌ، وَفَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، وَالَّذِينَ وَخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ لِعَدَمِ الرَّابِطِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأُولَئِكَ. وَلِتَحَقُّقِ مُضِيِّ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الصِّلَةُ مَاضِيَةً، مَعْنًى لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ مَوْصُولِهَا الْمُبْتَدَأِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، وَالَّذِينَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَفَمَا رَبِحَتْ خَبَرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ لِعُمُومِ الْمَوْصُولِ، وَلِإِبْدَالِ الَّذِينَ مِنْ أُولَئِكَ، صَارَ الَّذِينَ مَخْصُوصًا لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَخْصُوصٍ، وَخَبَرُ الْمَخْصُوصِ لَا تُدْخُلُهُ الْفَاءُ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى كَوْنِ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً وَالَّذِينَ خَبَرًا عَنْهُ. وَنِسْبَةُ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الَّذِي يَرْبَحُ أَوْ يَخْسَرُ إِنَّمَا هُوَ التَّاجِرُ لَا التِّجَارَةُ، وَلَمَّا صَوَّرَ الضَّلَالَةَ وَالْهُدَى مُشْتَرًى وَثَمَنًا، رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ الْبَدِيعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَرْشِيحِ الْمَجَازِ، وَهُوَ أَنْ يُبْرِزَ الْمَجَازَ فِي صُورَةِ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْضَافُ مَجَازٌ إِلَى مَجَازٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ الْمَطَارِفُ أَقَامَ الْخَزَّ مَقَامَ شَخْصٍ حِينَ بَاشَرَ رَوْحًا بَكَى مِنْ عَدَمِ مَلَامَتِهِ، ثُمَّ رَشَّحَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ، ثُمَّ زَادَ فِي تَرْشِيحِ المجاز بقوله: وعجب، أَيْ وَصَاحَتْ مَطَارِفُ الْخَزِّ مِنْ قَبِيلِ رَوْحٍ هَذَا، وَهِيَ: جُذَامُ. وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَّ رَوْحًا وَقَبِيلَتَهُ جُذَامَ لَا يَصْلُحُ لَهُمْ لِبَاسُ الْخَزِّ وَمَطَارِفُهُ، لِأَنَّهُمْ لَا عَادَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَنَّى عَنِ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا بِمَا كَنَّى فِيهِ فِي الْبَيْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيَا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هَامَتِي ... عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طَارَ غُرَابُهَا لَمَّا كَنَّى عَنِ الشَّيْبِ بِالْبُومَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا وَنَادَاهَا، رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَشَّشَتْ، لِأَنَّ الطَّائِرَ مِنْ أَفْعَالِهِ اتِّخَاذُ الْعَشَّةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَرْشِيحِ الْمَجَازِ فِي كَشَّافِهِ مَثَلًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تِجَارَاتُهُمْ، عَلَى الْجَمْعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ تِجَارَةً، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى الْإِفْرَادِ أَنَّهُ اكْتَفَى بِهِ عَنِ الْجَمْعِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ، إِشْعَارٌ بِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَمْ يَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى الرِّبْحَ، وَنَفْيُ الرِّبْحِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِقَاصِ رَأْسِ الْمَالِ. وأجيب عن هذا بأنه اكْتَفَى بِذِكْرِ عَدَمِ الرِّبْحِ عَنْ

ذِكْرِ ذَهَابِ الْمَالِ، لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الضَّلَالَ نَقِيضُ الْهُدَى، وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَاسْتِبْدَالُهُمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْهُدَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَتَخَرَّجُ عِنْدِي عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ قوله: علي لا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ، فَنَفَى الْهِدَايَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ نَفْيَ الْمَنَارِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمَنَارِ نَفْيُ الْهِدَايَةِ بِهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا ذَكَرَ شِرَاءَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، تَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ هُوَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ، إِذِ التِّجَارَةُ لَيْسَ نَفْسُ الِاشْتِرَاءِ فَقَطْ، وَلَيْسَ بِتَاجِرٍ، إِنَّمَا التِّجَارَةُ: التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ لِتَحْصِيلِ النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ فَنَفَى الرِّبْحَ. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ التِّجَارَةِ أَيْ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ الَّذِي وَقَعَ هُوَ تِجَارَةٌ فَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تِجَارَةً انْتَفَى الرِّبْحَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تِجَارَةَ لَهُمْ وَلَا رِبْحَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي يَطْلُبُهُ التُّجَّارُ فِي مُتَصَرَّفَاتِهِمْ شَيْئَانِ: سَلَامَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحُ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَضَاعُوا الطِّلْبَتَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَالُهُمْ كَانَ هُوَ الْهُدَى، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَ الضَّلَالَةِ، وَحِينَ لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَّا الضَّلَالَةُ لَمْ يُوصَفُوا بِإِصَابَةِ الرِّبْحِ، وَإِنْ ظَفِرُوا بِمَا ظَفِرُوا بِهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ خَاسِرٌ دَامِرٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ قَدْ رَبِحَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخْلَصٍ فِي الْجَوَابِ لِأَنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ عَنِ التِّجَارَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ كُلِّ الْمَالِ، وَلَا عَلَى الْخُسْرَانِ فِيهِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْفَضْلُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا نَفَى الْفَضْلَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَهَابِ رَأْسِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا عَلَى الِانْتِقَاصِ مِنْهُ، وَهُوَ الْخُسْرَانُ. قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ مفيدا لذهاب رؤوس أَمْوَالِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فَكَمَّلَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ، وَتَمَّ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَيَانِ يُقَالُ لَهُ: التَّتْمِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ عُيُونَ الْوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا ... وأرحلنا الْجَزْعُ الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ تَمَّمَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ، وَكَمَّلَ الْوَصْفَ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى اعْتِيَاضَهُمُ الضَّلَالَةَ عَنِ الْهُدَى تِجَارَةً، وَإِنْ كَانَتِ التِّجَارَةُ هِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ الْمُتَحَقِّقُ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، أَوِ الْمُتَرَجَّى ذَلِكَ مِنْهُ. وَهَذَا الِاعْتِيَاضُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا «1» الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ:

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 23.

وَهَلْ يَنْفَعُهُ وَصْلُهُ الرَّحِمَ وَإِطْعَامُ الْمَسَاكِينِ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَاضُوا ذَلِكَ إِلَّا لَمَّا تَحَقَّقُوا وَارْتَجَوْا مِنَ الْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلِهِمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «1» . وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَبَعْضُهُمْ عَشْرًا، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَزْعُمُ أَنَّهَا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهَا عَلَى الْبَاطِلِ. فَلِحُصُولِ الرَّاحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرَجَاءَ الرَّاحَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، سَمَّى اشْتِرَاءَهُمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى تِجَارَةً، وَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَوْنَهُمْ مُهْتَدِينَ. وَهَلِ الْمَعْنَى مَا كَانُوا فِي عِلْمِ اللَّهِ مُهْتَدِينَ، أَوْ مُهْتَدِينَ مِنَ الضَّلَالَةِ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، أَوْ فِي اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ، أَوْ نَفَى عَنْهُمُ الْهِدَايَةَ وَالرِّبْحَ، لِأَنَّ مِنَ التُّجَّارِ مَنْ لَا يَرْبَحُ فِي تِجَارَتِهِ وَيَكُونُ عَلَى هُدًى، وَعَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا بَيْنَ نَفْيِ الرِّبْحِ وَالْهِدَايَةِ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا سَبَقَتْ لَهُمْ هِدَايَةٌ بِالْفِعْلِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْهُدَى، أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى فِيمَا مَضَى، فَبَيَّنَ قَوْلُهُ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ مَجَازَ قَوْلِهِ: بِالْهُدَى، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي اعْتَاضُوا الضَّلَالَةَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ إِدْرَاكِ الْهُدَى، فَالْمُثْبَتُ فِي الِاعْتِيَاضِ غَيْرُ الْمَنْفِيِّ أَخِيرًا، لِأَنَّ ذَاكَ بِالْقُوَّةِ وَهَذَا بِالْفِعْلِ. وَانْتِصَابُ مُهْتَدِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِهَا وَحْدَهَا خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بَكَانَ وَالِاسْمِ مَعًا، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَ انْتِصَابِهِ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: لِشَغْلِ الِاسْمِ بِرَفْعِ كَانَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ حَالًا خَبَرًا فَأَتَى مَعْرِفَةً، فَقِيلَ: كَانَ أَخُوكَ زَيْدًا تغليبا للخير، لَا لِلْحَالِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. الثَّانِي: فِي قَوْمٍ أَعْلَمَ اللَّهُ بِوَصْفِهِمْ قَبْلَ وُجُودِهِمْ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِالْمُغَيَّبَاتِ. الثَّالِثُ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَأَصْحَابِهِ نَزَلَ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرُوا مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَقِيَ نَفَرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا كَيْفَ أَرُدُّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ عَنْكُمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مَدَحَ وَأَثْنَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ، فَوَبَّخَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ لَهُ: لَا تُنَافِقْ، فَقَالَ: إِلَيَّ تَقُولُ هَذَا، وَاللَّهِ إِنَّ إِيمَانَنَا كَإِيمَانِكُمْ، ثُمَّ افْتَرَقُوا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَقَاوِيلُ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي غُضُونِ الْكَلَامِ قَبْلَ هذا.

_ (1) سورة سبأ: 34/ 35.

[سورة البقرة (2) : الآيات 17 إلى 18]

[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ: الْمَثَلُ فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَالْمَثِيلِ، كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ، وَهُوَ النَّظِيرُ، وَيُجْمَعُ الْمَثَلُ وَالْمِثْلُ عَلَى أَمْثَالٍ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: الْأَمْثَالُ: الْأَشْبَاهُ، وَأَصْلُ الْمَثَلِ الْوَصْفُ، هَذَا مِثْلُ كَذَا، أَيْ وَصْفُهُ مُسَاوٍ لِوَصْفِ الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَالْمَثَلُ: الْقَوْلُ السَّائِرُ الَّذِي فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: الْمَثَلُ، ذِكْرُ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مَحْسُوسٍ وَغَيْرِ مَحْسُوسٍ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وَصْفٍ مُشَابِهٍ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْخَفَاءِ لِيَصِيرَ فِي الذِّهْنِ مُسَاوِيًا لِلْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْمَثَلِ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ مَا لَا يُؤَثِّرُهُ وَصْفُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَالْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ، فَيَتَأَكَّدُ الْوُقُوفُ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَيَصِيرُ الْحِسُّ مُطَابِقًا لِلْعَقْلِ. وَالَّذِي: اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مُبْهَمٌ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مُفْرَدٌ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الَّذِينَ، قَالَ: وَيُغْنِي عَنْهُ الَّذِي فِي غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَثِيرًا وَفِيهِ لِلضَّرُورَةِ قَلِيلًا وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ النُّونُ مِنَ الَّذِينَ فَيَبْقَى الَّذِي، وَإِذَا كَانَ الَّذِي لِمُفْرَدٍ فَسُمِعَ تَشْدِيدُ الْيَاءِ فِيهِ مَكْسُورَةً أَوْ مَضْمُومَةً، وَحَذْفُ الْيَاءِ وَإِبْقَاءُ الذَّالِ مَكْسُورَةً أَوْ سَاكِنَةً، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ تِلْكَ لُغَاتٌ فِي الَّذِي. وَالِاسْتِيقَادُ: بِمَعْنَى الْإِيقَادِ وَاسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ، وَوَقُودُ النَّارِ ارْتِفَاعُ لَهِيبِهَا. وَالنَّارُ: جَوْهَرٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ حَارٌّ مُحْرِقٌ. لَمَّا: حَرْفُ نَفْيٍ يَعْمَلُ الجزم وبمعنى إلا، وظرفا بِمَعْنَى حِينَ عِنْدَ الْفَارِسِيِّ، وَالْجَوَابُ عَامِلٌ فِيهَا إِذِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَحَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى مَا نُفِيَ بِمَا، وَلِمَجِيءِ جَوَابِهَا مُصَدَّرًا بِإِذَا الْفُجَائِيَّةِ. الْإِضَاءَةُ: الْإِشْرَاقُ، وَهُوَ فَرْطُ الْإِنَارَةِ. وَحَوْلَهُ: ظَرْفُ مَكَانٍ لَا يَتَصَرَّفُ، وَيُقَالُ: حَوَالٍ بِمَعْنَاهُ، وَيُثَنَّيَانِ وَيَجْمَعُ أَحْوَالٌ، وَكُلُّهَا لَا تَتَصَرَّفُ وَتَلْزَمُ الْإِضَافَةَ. الذَّهَابُ: الِانْطِلَاقُ. النُّورُ: الضَّوْءُ مِنْ كُلِّ نَيِّرٍ وَنَقِيضُهُ الظُّلْمَةُ، وَيُقَالُ نَارَ يَنُورُ إِذَا نَفَرَ، وَجَارِيَةٌ نَوَارٌ: أَيْ نَفُورٌ، وَمِنْهُ اسْمُ امْرَأَةِ الْفَرَزْدَقَ، وَسَمِّيَ نُورًا لِأَنَّ فِيهِ اضْطِرَابًا وَحَرَكَةً. التَّرْكُ: التَّخْلِيَةُ، اتْرُكْ هَذَا أَيْ خَلِّهِ وَدَعْهُ، وَفِي تَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى اثْنَيْنِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ جَوَازُ ذَلِكَ. الظُّلْمَةُ: عَدَمُ النُّورِ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَضٌ يُنَافِي النُّورَ، وَهُوَ

الْأَصَحُّ لِتَعَلُّقِ الْجَعْلِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ بِهِ، وَالْأَعْدَامُ لَا تُوصَفُ بِالْخَلْقِ، وَقَدْ رَدَّهُ بَعْضُهُمْ لِمَعْنَى الظُّلْمِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، قَالَ: لِأَنَّ الظُّلْمَةَ تَسُدُّ الْبَصَرَ وَتَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ. الْإِبْصَارُ: الرُّؤْيَةُ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ جُمُوعُ كَثْرَةٍ عَلَى وَزْنِ فُعْلٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي جَمْعِ فَعْلَاءَ وَأَفْعَلَ الْوَصْفَيْنِ سَوَاءٌ تَقَابَلَا، نَحْوَ: أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ، أَوِ انْفَرَدَ الْمَانِعُ فِي الْخِلْقَةِ، نَحْوَ: عَذَلَ وَرَتَقَ. فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا لَكِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلَا عَلَى نِظَامِ أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ، وَذَلِكَ نَحْوُ: رَجُلٍ آلَى وَامْرَأَةٍ عَجْزَاءَ، لَمْ يَنْقَسْ فِيهِ فَعَلَ بَلْ يُحْفَظُ فِيهِ. وَالصَّمَمُ: دَاءٌ، يَحْصُلُ فِي الْأُذُنِ يَسُدُّ الْعُرُوقَ فَيَمْنَعُ مِنَ السَّمْعِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّلَابَةِ، قَالُوا: قَنَاةٌ صَمَّاءُ، وَقِيلَ أَصْلُهُ السَّدُّ وَصَمَمْتُ الْقَارُورَةَ: سَدَدْتُهَا. وَالْبَكَمُ: آفَةٌ تَحْصُلُ فِي اللِّسَانِ تَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَقِيلَ: الَّذِي يُولَدُ أَخْرَسَ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَفْهَمُ الْكَلَامَ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاءٌ فِي الْفُؤَادِ لَا فِي اللِّسَانِ. وَالْعَمَى: ظُلْمَةٌ فِي الْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ إِدْرَاكِ الْمُبْصَرَاتِ، وَالْفِعْلُ مِنْهَا عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى أَفْعَلَ، وَهُوَ قِيَاسُ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ. وَالرُّجُوعُ، إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ، فَهُوَ بِمَعْنَى: الْعَوْدِ، وَإِنْ تَعَدَّى فَبِمَعْنَى: الْإِعَادَةِ. وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: إِنَّهَا تُضَمَّنُ مَعْنَى صَارَ فَتَصِيرُ مِنْ بَابِ كَانَ، تَرْفَعُ الِاسْمَ وَتَنْصِبُ الْخَبَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا جَاءَ بِحَقِيقَةِ صِفَتِهِمْ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ ضَرْبِ الْمَثَلِ زِيَادَةً فِي الْكَشْفِ وَتَتْمِيمًا لِلْبَيَانِ، وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيئَاتِ الْمَعَانِي وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ، حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُحَقَّقِ وَالْمُتَوَهَّمِ فِي مَعْرِضِ الْمُتَيَقَّنِ وَالْغَائِبَ بِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْخَصْمِ الْأَلَدِّ وَقَمْعٌ لِسُورَةِ الجامع الْآبِي، وَلِأَمْرٍ مَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَمْثَالَهُ، وَفَشَتْ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» ، وَمِنْ سُوَرِ الْإِنْجِيلِ سُوَرُ الْأَمْثَالِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَثَلُهُمْ: مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ كَائِنٌ كَمَثَلٍ، كَمَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْخَبَرُ الْكَافُ، وَهِيَ عَلَى هَذَا اسْمٌ، كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى: أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ انْتَهَى.

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 43.

وهذا الذي اختاره وينبأ بِهِ غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ اسْمًا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّا لَا نُجِيزُهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْوَجْهَ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: فَصُيِّرُوا مِثْلَ: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «1» . وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ بِمَعْنًى، صَارَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ عَلَى الزِّيَادَةِ، إِذِ الْمَعْنَى تَشْبِيهُ الْمَثَلِ بِالْمِثْلِ، لا يمثل الْمِثْلِ وَالْمَثَلُ هُنَا بِمَعْنَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، فَشَبَّهَ شَأْنَهُمْ وَوَصَفَهُمْ بِوَصْفِ الْمُسْتَوْقِدِ نَارًا، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْكَافُ زَائِدَةً. وَفِي جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وُجُوهٌ ذَكَرُوهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ يَدْفَعُ بِهَا الْأَذَى، فَإِذَا انْطَفَأَتْ عَنْهُ وَصَلَ الْأَذَى إِلَيْهِ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَحْقِنُ دَمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَيُبِيحُهُ بِالْكُفْرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَهْتَدِي بِهَا، فَإِذَا انْطَفَأَتْ ضَلَّ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَهْتَدِي بِالْإِسْلَامِ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى نِفَاقِهِ ذَهَبَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَعَادَ إِلَى ظُلْمَةِ كُفْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُدَّهَا بِالْحَطَبِ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، إِذَا لَمْ يَسْتَدِمِ الْإِيمَانَ ذَهَبَ إِيمَانُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُسْتَضِيءَ بِهَا نُورُهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لَا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النَّارُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ لَمَّا أَقَرَّ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ قَلْبِهِ كَانَ نُورُ إِيمَانِهِ كَالْمُسْتَعَارِ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ شَبَّهَ إِقْبَالَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِضَاءَةِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ الذهاب، قَالَهُ مُجَاهِدٌ: السَّادِسُ: شَبَّهَ الْهُدَى الَّذِي بَاعُوهُ بِالنُّورِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُسْتَوْقِدِ، وَالضَّلَالَةَ الْمُشْتَرَاةَ بِالظُّلُمَاتِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَحَقَنَ بِهِ دَمَهُ وَمَشَى فِي حُرْمَتِهِ وَضِيَائِهِ ثُمَّ سَلَبَهُ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَيَمَانِ بْنِ رِئَابٍ، أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ، فَتَكُونُ فِي الْمُمَاثَلَةِ إِذْ ذَاكَ وُجُوهٌ ذَكَرُوهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ يَسْتَضِيءُ بِنُورِهَا وَيَتَأَنَّسُ وَتَذْهَبُ عَنْهُ وَحْشَةُ الظَّلْمَةِ، وَالْيَهُودُ لَمَّا كانوا يبشرون بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِ فَيُنْصَرُونَ، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ، فَلَمَّا بُعِثَ وَكَفَرُوا بِهِ، أَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ النُّورَ عَنْهُمْ. الثَّانِي: شَبَّهَ نَارَ حَرْبِهِمُ الَّتِي شَبُّوهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَارِ الْمُسْتَوْقِدِ، وَإِطْفَاءَهَا بِذَهَابِ النُّورِ الَّذِي لِلْمُسْتَوْقِدِ. الثَّالِثُ: شَبَّهَ مَا كَانُوا يَتْلُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنِ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصِفَتِهِ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِمْ بِاتِّبَاعِهِ بِالنُّورِ الْحَاصِلِ لِمَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا

_ (1) سورة الفيل: 105/ 5.

غَيَّرُوا اسْمَهُ وَصِفَتَهُ وَبَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَجَحَدُوا أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ نُورَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الَّذِي، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ فِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ فِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ أَنَّهُ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى نَعْتًا لِمَا تَحْتَهُ أَفْرَادٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ كَمَثَلِ الْجَمْعِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا كَأَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُفْرَدِ لَفْظًا وَمَعْنًى بِجَمْعِ الضَّمِيرِ فِي ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَجَمْعِهِ فِي دِمَائِهِمْ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي هُنَا هُوَ الَّذِينَ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِطُولِ الصِّلَةِ، فَهُوَ خَطَأٌ لإفراد الضمير في الصلة، وَلَا يَجُوزُ الْإِفْرَادُ لِلضَّمِيرِ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ. أَلَا تَرَى جَمْعَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «1» عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَجَمْعَهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا رَبَّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ وَأَمَّا قَوْلُ الْفَارِسِيِّ: إِنَّهَا مِثْلُ مَنْ، لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي صِيغَةُ مُفْرَدٍ وَثُنِّيَ وَجُمِعَ بِخِلَافِ مَنْ، فَلَفْظُ مَنْ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ أَبَدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الَّذِي، وَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «2» ، وَأَعَلَّ لِتَسْوِيغِ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ، قَالَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي لِكَوْنِهِ وَصْلَةً إِلَى وَصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ وَاسْتِطَالَتُهُ بِصِلَتِهِ حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ نَهَكُوهُ بِالْحَذْفِ، فَحَذَفُوا يَاءَهُ ثُمَّ كَسْرَتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا عَلَى اللَّامِ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُمْ حَذَفُوهُ حَتَّى اقْتَصَرُوا بِهِ عَلَى اللَّامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ اللَّامُ بَقِيَّةَ الَّذِي لَكَانَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَمَا كَانَ لِلَّذِي، وَلَمَا تَخَطَّى الْعَامِلُ إِلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ الصِّلَةِ فَيَرْفَعُهَا وَيَنْصِبُهَا وَيَجُرُّهَا، وَيُجَازُ وَصْلُهَا بِالْجُمَلِ كَمَا يَجُوزُ وَصْلُ الَّذِي إِذَا أُقِرَّتْ يَاؤُهُ أَوْ حُذِفَتْ، قَالَ: وَالثَّانِي: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَامَةٌ لِزِيَادَةِ الدَّلَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْمَوْصُولَاتِ لَفْظُ الْجَمْعِ وَالْوَاحِدِ فِيهِنَّ سَوَاءٌ؟ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ جمعه ليس بمنزلة جمع غَيْرِهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاقِعًا إِلَّا عَلَى مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ مَا يُجْمَعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مِنَ الذُّكُورِيَّةِ وَالْعَقْلِ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ وَالْفَاعِلِينَ من جهة أنه

_ (1- 2) سورة التوبة: 9/ 69.

لَا يَكُونُ إِلَّا جَمْعًا لِمُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا الْتُزِمَ فِيهِ طَرِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي اللَّفْظِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَهُذَيْلٌ أَتَتْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِيهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَالْيَاءِ وَالنُّونِ نَصْبًا وَجَرًّا، وَكُلُّ الْعَرَبِ الْتَزَمَتْ جَمْعَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ مِنْ صِلَتِهِ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِمُسَوِّغٍ لِأَنْ يُوضَعَ الَّذِي مَوْضِعَ الَّذِينَ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمْعِ أَوِ النَّوْعِ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَخِيرًا. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: كَمَثَلِ الَّذِينَ، عَلَى الْجَمْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِي إِذَا كَانَ أَصْلُهُ الَّذِينَ فَحُذِفَتْ نُونُهُ تَخْفِيفًا لَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهِ؟ وَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَتَخْرِيُجَهَا عِنْدِي عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ حَمْلًا عَلَى التَّوَهُّمِ الْمَعْهُودِ مِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، كَأَنَّهُ نَطَقَ بِمَنِ الَّذِي هُوَ لَفْظٌ وَمَعْنًى، كَمَا جَزَمَ بِالَّذِي مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ نَطَقَ بِمَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ التَّوَهُّمُ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْحَدِّ، وَهُوَ إِجْرَاءُ الْمَوْصُولِ فِي الْجَزْمِ مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ مُتَّفِقِي الْحَدِّ، وَهُوَ الَّذِينَ، وَمَنِ الْمَوْصُولَانِ مِثَالُ الْجَزْمِ بِالَّذِي، قَوْلُ الشَّاعِرِ، أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا ... تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى جَمْعٍ اكْتِفَاءً بِالْإِفْرَادِ عَنِ الْجَمْعِ كَمَا تَكْتَفِي بِالْمُفْرَدِ الظَّاهِرِ عَنِ الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ: وَبِالْبَدْوِ مِنَّا أُسْرَةٌ يَحْفَظُونَنَا ... سِرَاعٌ إِلَى الدَّاعِي عِظَامٌ كَرَاكِرُهْ أَيْ كَرَاكِرُهُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الَّذِي فِي اسْتَوْقَدَ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الْمَفْهُومِ مِنِ اسْتَوْقَدَ، التَّقْدِيرُ اسْتَوْقَدَ هُوَ، أَيِ الْمُسْتَوْقِدُ، فَيَكُونُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ «1» أَيْ هُوَ أَيِ الْبَدَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ بَدَا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْفَاعِلِ فِي الْآيَةِ، وَفِي الْعَائِدِ عَلَى الَّذِينَ وَجْهَانِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُذِفَ وَأَصْلُهُ لَهُمْ، أَيْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ لَهُمُ الْمُسْتَوْقِدُ نَارًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

_ (1) سورة يوسف: 12/ 35.

وَلَوْ أَنَّ مَا عَالَجْتُ لِينَ فُؤَادِهَا ... فَقَسَا اسْتَلْيِنُ بِهِ لَلَانَ الْجَنْدَلُ يُرِيدُ مَا عَالَجْتُ بِهِ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَالضَّمِيرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَبْسُوطَاتِ كُتُبِ النَّحْوِ، وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مَجْرُورًا بِحَرْفِ جَرٍّ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ، أَوِ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْمَوْصُولَ، أَوِ الْمُضَافُ لِلْمَوْصُولِ قَدْ جُرَّ بِحَرْفٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَرْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفُ الَّذِي جَرَّ الضَّمِيرَ، مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفُ السَّابِقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الأولى الواقعة لَا عَائِدَ فِيهَا، لَكِنْ عَطَفَ عَلَيْهَا جُمْلَةً بِالْفَاءِ، وَهِيَ جُمْلَةُ لَمَّا وَجَوَابُهَا، وَفِي ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي، فَحَصَلَ الرَّبْطُ بِذَلِكَ الْعَائِدِ الْمُتَأَخِّرِ، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِمَا أَجَازُوهُ مِنَ الرَّبْطِ فِي بَابِ الِابْتِدَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ جَاءَتْ هِنْدٌ فَضَرَبْتُهَا، وَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي جَوَابِ لَمَّا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ تَخْرِيجَ قِرَاءَةِ ابْنِ السَّمَيْفَعِ. وَاسْتَوْقَدَ: اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ. حَكَى أَبُو زَيْدٍ: أَوْقَدَ وَاسْتَوْقَدَ بِمَعْنًى، وَمِثْلُهُ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ، وَأَخْلَفَ لِأَهْلِهِ وَاسْتَخْلَفَ أَيْ خَلَّفَ الْمَاءَ، أَوْ لِلطَّلَبِ، جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى أَوْقَدَ، قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّ جَعْلَهَا لِلطَّلَبِ يَقْتَضِي حَذْفَ جُمْلَةٍ حَتَّى يَصِحَّ الْمَعْنَى، وَجَعْلُهَا بِمَعْنَى أَوْقَدَ لَا يَقْتَضِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الطَّلَبِ اسْتَدْعَوْا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا، فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، لِأَنَّ الْإِضَاءَةَ لَا تَتَسَبَّبُ عَنِ الطَّلَبِ، إِنَّمَا تَتَسَبَّبُ عَنِ الِاتِّقَادِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ الطَّلَبِ أَرْجَحَ، وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ بَيْنَ قِصَّةٍ وَقِصَّةٍ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي نَحْوِ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى مُقَابَلَةِ جَمَاعَةٍ بِجَمَاعَةٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «1» ، وَعَلَى أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ أَيْضًا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ كَمَثَلِ الْجَمْعِ؟ أَوِ الْفَوْجِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، فَهُوَ مِنَ الْمُفْرَدِ اللَّفْظِ الْمَجْمُوعِ الْمَعْنَى. عَلَى أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَخَيَّلَ أَنَّهُ مُفْرِدٌ وَرَامَ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ، كَمَثَلِ أَصْحَابِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَاهُ مُفْرَدًا لَفْظًا وَمَعْنًى لَمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ إِنَّمَا جَرَى فِي قِصَّةٍ بِقِصَّةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُقَابَلَةُ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَنَكَّرَ نَارًا وَأَفْرَدَهَا،

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 5.

لِأَنَّ مُقَابِلَهَا مِنْ وَصْفِ الْمُنَافِقِ إِنَّمَا هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْإِسْلَامِ، وَجَوَانِحُهُ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الْكُفْرِ والنفاق مملوءة بِهِ، فَشَبَّهَ حَالَهُ بِحَالِ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا مَا إِذْ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْمُطْلَقِ، لَا عَلَى كَثْرَةٍ وَلَا عَلَى عَهْدٍ، وَالْفَاءُ فِي فَلَمَّا لِلتَّعْقِيبِ، وَهِيَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا دَخَلَتْ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَقَدَّرَهُ إِنِ اسْتَوْقَدَ فَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا الزَّعْمَ فِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَأَضَاءَتْ: قِيلَ مُتَعَدٍّ وَقِيلَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، قَالُوا: وَهُوَ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، فَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، إِذْ يُقَالُ: ضَاءَ الْمَكَانُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفْقُ. وَالْفَاعِلُ إِذْ ذَاكَ ضَمِيرُ النَّارِ وَمَا مَفْعُولَةٌ وَحَوْلَهُ صِلَةٌ مَعْمُولَةٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ لَا نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَحَوْلَهُ صِفَةٌ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، أَيْ فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ الْمَكَانَ الَّذِي حَوْلَهُ، وَإِذَا كَانَ لَازِمًا فَقَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي أَضَاءَتْ لِلنَّارِ، وَمَا زَائِدَةٌ، وَحَوْلَهُ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لَيْسَ ضَمِيرَ النَّارِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا الْمَوْصُولَةُ وَأُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: فَلَمَّا أَضَاءَتِ الْجِهَةُ الَّتِي حَوْلَهُ، كَمَا أَنَّثُوا عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ: مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ. وَقَدْ أَلَمَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: جَلَسْتُ مَا مَجْلِسًا حَسَنًا، وَلَا قُمْتُ مَا يَوْمَ الْجُمْعَةَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى مَحْفُوظٌ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ سُمِعَ زِيَادَةً فِي مَا نَحْوَ هَذَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ اطِّرَادِ زِيَادَةِ مَا، وَالْأَوْلَى فِي الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَضَاءَتْ مُتَعَدِّيَةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ زِيَادَةٍ، وَلَا حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَلَمَّا ضاءت ثُلَاثِيًّا فَيَتَخَرَّجُ عَلَى زِيَادَةِ مَا وَعَلَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْفَاعِلَةُ، إِمَّا مَوْصُولَةً وَإِمَّا مَوْصُوفَةً، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا جَوَابُهَا: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي: بِنُورِهِمْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الَّذِي، إِذْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْمَعْنَى كَالْجَمْعِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، أَوْ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ كَمَثَلِ أَصْحَابِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حَذَفُوهُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا «1» ، الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ مَعَ أَمْنِ الْإِلْبَاسِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ لم يستطل

_ (1) سورة يوسف: 12/ 15.

الْكَلَامَ، لِأَنَّهُ قَدَّرَهُ خُمِدَتْ، وَأَيُّ اسْتِطَالَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، خُمِدَتْ؟ بَلْ هَذَا لَمَّا وَجَوَابُهَا، فَلَا اسْتِطَالَةَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ بِذِكْرِ الْمَعَاطِيفِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَى الْفِعْلِ وَذِكْرِ مُتَعَلَّقَاتِهَا بَعْدَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلِي لَمَّا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَذْفُ سَائِغًا لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ أَمْنِ الْإِلْبَاسِ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَيُّ أَمْنِ إِلْبَاسٍ فِي هَذَا وَلَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ؟ بَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ وَصِحَّتُهُ وَوَضْعُهُ مَوَاضِعَهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ هُوَ الْجَوَابُ، فَإِذَا جَعَلْتَ غَيْرَهُ الْجَوَابَ مَعَ قُوَّةِ تَرَتُّبِ ذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ عَلَى الْإِضَاءَةِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اللُّغْزِ، إِذْ تَرَكْتَ شَيْئًا يُبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ وَأَضْمَرْتَ شَيْئًا يَحْتَاجُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى وَحْيٍ يُسْفِرُ عَنْهُ، إِذْ لَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ اللَّفْظَ مَعَ وُجُودِ تَرْكِيبِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَلَمْ يَكْتَفِ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنْ جَوَّزَ حَذْفُ هَذَا الْجَوَابِ حَتَّى ادَّعَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى، قَالَ: وَكَانَ الْحَذْفُ أَوْلَى مِنَ الْإِثْبَاتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَجَازَةِ مَعَ الْإِعْرَابِ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْقِدُ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ لِلَّفْظِ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ خُمِدَتْ، فَبَقُوا خَابِطِينَ فِي ظَلَامٍ، مُتَحَيِّرِينَ مُتَحَسِّرِينَ عَلَى فَوْتِ الضَّوْءِ، خَائِبِينَ بَعْدَ الْكَدْحِ فِي إِحْيَاءِ النَّارِ، انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ نَوْعٌ مِنَ الْخَطَابَةِ لَا طائل تحتها، لأنه كان يُمْكِنُ لَهُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَلِي قَوْلَهُ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَأَمَّا مَا فِي كَلَامِهِ بَعْدَ تَقْدِيرِ خُمِدَتْ إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ مِمَّا يُحَمِّلُ اللَّفْظَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَيُقَدِّرُ تَقَادِيرَ وَجُمَلًا مَحْذُوفَةً لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ، وَذَلِكَ عَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَا كَلَامٍ فِي مُعْظَمِ تَفْسِيرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ كَلَامُ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَا أَنْ يُزَادَ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ الشَّرْحُ طِبْقَ الْمَشْرُوحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نقص منه. ولما جوز واحذف الْجَوَابِ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، فَخَرَّجُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنِفًا جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ حَالُهُمْ حَالَ هَذَا الْمُسْتَوْقِدِ؟ فَقِيلَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَمًّا مَحْذُوفٌ، وَقَدِ اخْتَرْنَا غَيْرَهُ وَأَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّخْرِيجَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلِ، عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، لَا يَظْهَرُ فِي صِحَّتِهِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ التَّمْثِيلِ هِيَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعْلُهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بَدَلًا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ فِي الْجُمَلِ

إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فَعِلْيَةً تُبْدَلُ مِنْ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، فَقَدْ ذَكَرُوا جَوَازَ. ذَلِكَ. أَمَّا أَنْ تُبْدَلَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مِنْ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ ذَلِكَ، وَالْبَدَلُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ. وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، إِذْ لَا عَامِلَ فِي الْأُولَى فَتُكَرَّرُ فِي الثَّانِيَةِ فبطلت جهة البدء فِيهَا، وَمَنْ جَعَلَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي بِنُورِهِمْ عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَالْبَاءَ فِي بِنُورِهِمْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَهِيَ إِحْدَى الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَاءَ تَجِيءُ لَهَا، وَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ تُرَادِفُ الْهَمْزَةَ. فَإِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ بِزَيْدٍ فَمَعْنَاهُ أَخْرَجْتُ زَيْدًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ خَرَجْتَ، وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ، دَلَّ عَلَى أَنَّكَ قُمْتَ وَأَقَمْتَهُ، وَإِذَا قُلْتَ: أَقَمْتُ زَيْدًا، لَمْ يَلْزَمْ أَنَّكَ قُمْتَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ فِي التَّعْدِيَةِ. وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ ذَهَبَ السُّهَيْلِيُّ، قَالَ: تَدْخُلُ الْبَاءُ، يَعْنِي الْمُعَدِّيَةَ، حَيْثُ تَكُونُ مِنَ الْفَاعِلِ بَعْضُ مُشَارَكَةٍ لِلْمَفْعُولِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ نَحْوَ: أَقْعَدْتُهُ، وَقَعَدْتُ بِهِ، وَأَدْخَلْتُهُ الدَّارَ، وَدَخَلْتُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا فِي مِثْلِ: أَمْرَضْتُهُ، وَأَسْقَمْتُهُ. فَلَا بُدَّ إِذَنْ مِنْ مُشَارَكَةٍ، وَلَوْ بِالْيَدِ، إِذَا قُلْتَ: قَعَدْتُ بِهِ، وَدَخَلْتُ بِهِ. وَرُدَّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِالذَّهَابِ مَعَ النُّورِ؟ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَبَا الْعَبَّاسِ: إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالذَّهَابِ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِالْمَجِيءِ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ «1» ، وَالَّذِي يُفْسِدُ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنًى ... تَحِلُّ بِنَا لَوْلَا نِجَاءُ الرَّكَائِبِ أَيْ تَحُلُّنَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى تُصَيِّرُنَا حَلَالًا غَيْرَ مُحْرِمِينَ، وَلَيْسَتْ تَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، فَتَصِيرُ حَلَالًا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَلِكَوْنِ الْبَاءِ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُقَالُ: أَذْهَبْتُ بِزَيْدٍ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «2» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ رُبَاعِيًّا تَخْرِيجٌ يُذْكَرُ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِبَاءِ التَّعْدِيَةِ أَحْكَامٌ غَيْرُ هَذَا ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادَفَةِ الْبَاءِ لِلْهَمْزَةِ، وَنِسْبَةُ الْإِذْهَابِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ، إِذْ هُوَ فَاعِلُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَفِي مَعْنَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مثل ضرب

_ (1) سورة الفجر: 89/ 22. (2) سورة المؤمنون: 23/ 20.

لِلْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَنَاكَحَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ الْعِزَّ، كَمَا سَلَبَ مُوقِدَ النَّارِ ضَوْءَهُ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ، أَيْ فِي عَذَابٍ. الثَّانِي: إِنَّ ذَهَابَ نُورِهِمْ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَقَدْ ذَهَبَ مِنْهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ كُفْرِهِمْ. الثَّالِثُ: أَبْطَلَ نُورَهُمْ عِنْدَهُ، إِذْ قُلُوبُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرُوا، فَهُمْ كَرَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ طُفِئَتْ فَعَادَ فِي ظُلْمَةٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي بنورهم عائدا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ عَادَ عَلَى الْمُسْتَوْقِدِينَ، فَذَهَابُ النُّورِ هُوَ إِطْفَاءُ النَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَيَكُونُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ فِعْلٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا عَاصِفًا فَأَطْفَأَهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَأْتِي عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنها نَارٌ حَقِيقَةٌ أَوْقَدَهَا أَهْلُ الْفَسَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا وَبِنُورِهَا إِلَى فَسَادِهِمْ وَعَبَثِهِمْ، فَأَخْمَدَ اللَّهُ نَارَهُمْ وَأَضَلَّ سَعْيَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذِكْرَ النَّارِ هُنَا مَثَلٌ لَا حَقِيقَةٌ لَهَا، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَارُ الْعَدَاوَةِ وَالْحِقْدِ، فَإِذْهَابُ اللَّهِ لَهَا دَفْعُ ضَرَرِهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا كَانَتِ النَّارُ مَجَازِيَّةً، فَوَصْفُهَا بِالْإِضَاءَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ هُوَ مِنْ مَجَازِ التَّرْشِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَإِذْهَابُ النُّورِ أَبْلَغُ مِنْ إِذْهَابِ الضَّوْءِ لِانْدِرَاجِ الْأَخَصِّ فِي نَفْيِ الْأَعَمِّ، لَا الْعَكْسِ. فَلَوْ أَتَى بِضَوْئِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ ذَهَابُ النُّورِ. وَالْمَقْصُودُ إِذْهَابُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ؟ وَإِضَافَةُ النُّورِ إِلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، إِذْ إِضَافَتُهُ إِلَى النَّارِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، لَكِنْ مِمَّا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ صَحَّ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظُلُمَاتٍ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو السَّمَّاكِ: بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: بِفَتْحِهَا. وَهَذِهِ اللُّغَى الثَّلَاثُ جَائِزَةٌ فِي جَمْعِ فُعْلَةٍ الِاسْمُ الصَّحِيحُ الْعَيْنِ، غَيْرُ الْمُضَعَّفِ، وَلَا الْمُعَلِّ اللَّامِ بِالتَّاءِ. فَإِنِ اعْتُلَتْ بِالْيَاءِ نَحْوَ: كُلِّيَّةٍ، امْتَنَعَتِ الضَّمَّةُ، أَوْ كَانَ مُضَعَّفًا نَحْوَ: دُرَّةٍ، أَوْ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ نَحْوَ: سُورَةٍ، أَوْ وَصْفًا نَحْوَ: بُهْمَةٍ امْتَنَعَتِ الْفَتْحَةُ وَالضَّمَّةُ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: إِنَّ ظُلَمَاتٍ، بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ ظُلَمٍ، الَّذِي هُوَ جَمْعُ ظُلْمَةٍ. فَظُلُمَاتٌ عَلَى هَذَا جَمْعُ جَمْعٍ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْفَتْحِ تَخْفِيفًا أَسْهَلُ مِنِ ادِّعَاءِ جَمْعِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْعُدُولَ إِلَيْهِ قَدْ جَاءَ فِي نَحْوِ: كِسْرَاتٍ جَمْعُ كِسْرَةٍ جَوَازًا، وَإِلَيْهِ فِي نَحْوِ: جَفْنَةٍ وُجُوبًا. وَفُعْلَةُ وَفِعْلَةُ أَخَوَاتٌ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهَا الْفَتْحُ بِالْقُيُودِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: فِي ظُلْمَةٍ، عَلَى التَّوْحِيدِ لِيُطَابِقَ بَيْنَ إِفْرَادِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَقِرَاءَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ ظُلْمَةٌ تَخُصُّهُ، فَجُمِعَتْ لِذَلِكَ. وَحَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ عَلَى هَذَا الْمَنْزَعِ مِنْ إِفْرَادِ النُّورِ وَجَمْعِ

الظُّلُمَاتِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنُكِّرَتِ الظُّلُمَاتُ وَلَمْ تُضَفْ إلى ضميرهم كَمَا أُضِيفَ النُّورُ اكْتِفَاءً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَاخْتِصَارِ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مُتَعَدِّيًا لِوَاحِدٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: فِي ظُلُمَاتٍ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَلَا يُبْصِرُونَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَرْكِهِمْ وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْمَجْرُورِ فَيَكُونُ حَالًا مُتَدَاخِلَةً، وَهِيَ فِي التَّقْدِيرَيْنِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تُرِكَ فِي ظُلْمَةٍ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُبْصِرُ؟ وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ كَانَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَلَا يُبْصِرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا يُبْصِرُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ ظَنَنْتُ زَيْدًا مُنْفَرِدًا لَا يَخَافُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ ظَنَنْتُ زَيْدًا فِي حَالِ انْفِرَادِهِ لَا يَخَافُ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثاني أصله خبر الْمُبْتَدَأِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَأْتِي الْخَبَرُ عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا الْأَخْبَارِ. فَإِذَا جَعَلْتَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَانَ قَدْ فُهِمَ مِنْهَا أَنَّ مَنْ هُوَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، فَلَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ لَا يُبْصِرُونَ مِنَ الْفَائِدَةِ إِلَّا التَّوْكِيدُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ. أَلَا تَرَى إِلَى تَخْرِيجِ النَّحْوِيِّينَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ عَلَى أَنَّ وَشِقٌّ مُبْتَدَأٌ وَعِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَمْ يُحَوَّلْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَفَادَتِ التَّأْكِيدَ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مَجِيءِ الْخَبَرِ مُؤَكَّدًا، لِأَنَّ نَفْيَ التَّحْوِيلِ مَفْهُومٌ مِنْ كَوْنِ الشِّقِّ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُحَوَّلْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالظُّلُمَاتُ هُنَا الْعَذَابُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظُلْمَةُ الْكُفْرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ظُلْمَةٌ يُلْقِيهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ظُلْمَةُ النِّفَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ لَا يُبْصِرُونَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْوَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْإِبْصَارِ عَنْهُمْ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، بِالرَّفْعِ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هُمْ صُمٌّ، وَهِيَ أَخْبَارٌ مُتَبَايِنَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ، لَكِنَّهَا فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ واحد، إذ يؤول مَعْنَاهَا كُلُّهَا إِلَى عَدَمِ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ وَهُمْ سُمَعَاءُ الْآذَانِ، فُصَّحُ الْأَلْسُنِ، بُصَرَاءُ الْأَعْيُنِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَصِيخُوا إِلَى الْحَقِّ وَلَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَا تَلَمَّحُوا أَنْوَارَ الْهِدَايَةِ، وُصِفُوا بِمَا وُصِفُوا مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، وَقَدْ سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ لِهَذَا نَظَائِرُ، أَنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ ذَلِكَ أَبْيَاتًا، وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ:

أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ وَأَصُمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا ... أُذُنِي وَمَا فِي سَمْعِهَا وَقْرُ وَهَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالِاسْتِعَارَةُ إِنَّمَا تُطْلَقُ حَيْثُ يُطْوَى ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خُلُوًّا عَنْهُ، صَالِحًا لِأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ لَوْلَا دَلَالَةُ الْحَالِ أَوْ فَحْوَى الْكَلَامِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ وَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ هُنَاكَ لِذِكْرِهِ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، إِذْ هُوَ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى هُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ التَّصَامُمَ وَالتَّبَاكُمَ وَالتَّعَامِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَبَّهَ عَلَى سُوءِ اعْتِمَادِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ. وَالْعَرَبُ إِذَا سَمِعَتْ مَا لَا تُحِبُّ، أَوْ رَأَتْ مَا لَا يُعْجِبُ، طَرَحُوا ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ وَلَا رَأَوْهُ. قَالَ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «1» ، وَقَالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «2» الْآيَةَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي ذَمِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالْبَلَادَةِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهَائِمِ وَأَشْبَهُ حَالًا مِنَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تُبْصِرُ. فَمَنْ عُدِمَ هَذِهِ الْمَدَارِكَ الثَّلَاثَةَ كَانَ مِنَ الذَّمِّ فِي الرُّتْبَةِ الْقُصْوَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، الْمُبَالَغَةَ فِي ذَمِّ آلِهَةِ أَبِيهِ قَالَ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً «3» ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الدُّعَاءُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ: دُعَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَعَاطِيهِمْ ذَلِكَ، فَحَقَّقَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «4» . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا، بِالنَّصْبِ، وَذَكَرُوا فِي نَصْبِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مفعولا. ثانيا لترك، وَيَكُونَ فِي ظُلُمَاتٍ مُتَعَلِّقًا بتركهم، أو في موضع

_ (1) سورة لقمان: 31/ 7. (2) سورة فصلت: 41/ 5. (3) سورة مريم: 19/ 42. (4) سورة الإسراء: 17/ 97. [.....]

الحال، ولا يُبْصِرُونَ. حَالٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي تَرَكَهُمْ، عَلَى أَنْ تَكُونَ لَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَوْ تَكُونَ تَعَدَّتْ إِلَيْهِمَا وَقَدْ أَخَذَتْهُمَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَعْنِي. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُبْصِرُونَ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، صُمًّا بُكْمًا، فَيَكُونَ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهُ قُرُودٍ تَبْتَغِي من تخادع وَفِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، إِذْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْعَمَلِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَا قَبْلَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُسْتَوْقِدِينَ، إِلَّا إِنْ جُعِلَ الْكَلَامُ فِي حَالِ الْمُسْتَوْقِدِ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، وَكَانَ الضَّمِيرُ فِي نُورِهِمْ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِذْ ذَاكَ تَكُونُ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ لَهُمْ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهَا حَالَةُ الرَّفْعِ مِنْ أَوْصَافِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّقْدِيرَ هُمْ صُمٌّ، أَيِ الْمُنَافِقُونَ؟ فَكَذَلِكَ فِي النَّصْبِ. وَنَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ضعف النصب على الذم، وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الضَّعْفِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الذَّمِّ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُذْكَرُ الِاسْمُ السَّابِقُ فَتَعْدِلُ عَنِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْإِعْرَابِ إِلَى الْقَطْعِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمٌ سَابِقٌ تَكُونُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ مُوَافِقَةً لَهُ فِي الْإِعْرَابِ فَتُقْطَعُ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا ضَعُفَ النَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ. فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ: جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ، وَهِيَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَمُتَعَقِّبَتُهَا، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ، الَّتِي هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ الْحَقِّ، جَدِيرٌ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى إِيمَانٍ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي معنيين، فَذَلِكَ وَاضِحٌ، لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِيمَانِ لا يرجع إليه أَبَدًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غير معنيين فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالدَّيْمُومَةِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا. قَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ: لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَنِ التَّمَسُّكِ بِالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: إِلَى الْهُدَى بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ، أَوْ عَنِ الضَّلَالَةِ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَوْهَا، وَأَسْنَدَ عَدَمَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ تَعَالَى لَهُمْ عُقُولًا لِلْهِدَايَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَعَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَالْجَرْيِ عَلَى مَأْلُوفِ آبَائِهِمْ، كَانَ عَدَمُ الرُّجُوعِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ اخْتِرَاعًا وَإِلَى الْعَبْدِ لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، فَأَضَافَ هَذِهِ

[سورة البقرة (2) : آية 19]

الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وَقَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ «1» ، فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوجِدِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لَازِمًا، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ فَهُمْ لَا يرجعون جوابا. [سورة البقرة (2) : آية 19] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أَوْ، لَهَا خَمْسَةُ مَعَانٍ: الشَّكُّ، وَالْإِبْهَامُ، وَالتَّخْيِيرُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالتَّفْصِيلُ. وَزَادَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَبِمَعْنَى بَلْ، وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّائِغِ يَقُولُ: أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فِي الْخَبَرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، لَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لِلشَّكِّ، فَقَدْ تَكُونُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا شَكَّ إِذَا أُبْهِمَتْ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَأَمَّا الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ فعلى أصلها لأن المخبر إِنَّمَا يُرِيدُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ، وَأَمَّا الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ فَلَمْ تُؤْخَذِ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ أَوْ وَلَا مِنْ مَعْنَاهَا، إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِغَلَبَةِ الْعَادَةِ فِي أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُبَاحَيْنِ لَمْ يَعْصِ، عِلْمًا بِأَنَّ أَوْ لَيْسَتْ مُعْتَمَدَةً هُنَا. الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ، يُقَالُ: صَابَ يَصُوبُ فَهُوَ صَيِّبٌ إِذَا نَزَلَ وَالسَّحَابُ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى عَفَاهَا صَيِّبُ وَدْقِهِ ... دَانِي النَّوَاحِي مُسْبِلُ هَاطِلُ وَقَالَ الشَّمَّاخُ: وَأَشْحَمَ دَانٍ صَادِقَ الرَّعْدِ صَيِّبُ وَوَزْنُ صَيِّبٍ فَيْعِلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ مِنَ الْأَوْزَانِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُعْتَلِّ الْعَيْنِ، إِلَّا مَا شَذَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَيْقِلٌ بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَمٌ لِامْرَأَةٍ، وَلَيْسَ وَزْنُهُ فَعِيلًا، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ لِلْكُوفِيِّينَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَخْفِيفِ مِثْلِ هَذَا. السَّمَاءُ: كُلُّ مَا عَلَاكَ مِنْ سَقْفٍ وَنَحْوِهِ، وَالسَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ ذَاتُ الْبُرُوجِ،

_ (1) سورة محمد: 47/ 23.

وَأَصْلُهَا الْوَاوُ لِأَنَّهَا مِنَ السُّمُوِّ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُفْرَدِ تَاءُ تَأْنِيثٍ. قَالُوا: سَمَاوَةٌ، وَتَصِحُّ الْوَاوُ إِذْ ذَاكَ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْكَلِمَةُ، قَالَ الْعَجَّاجُ: طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا ... سَمَاوَةَ الْهِلَالِ حَتَّى احْقَوْقَفَا وَالسَّمَاءُ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ يُذَكَّرُ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا ... لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ وَالْجِنْسُ الَّذِي مُيِّزَ وَاحِدُهُ بِتَاءٍ، يُؤَنِّثُهُ الْحِجَازِيُّونَ، وَيُذَكِّرُهُ التَّمِيمِيُّونَ وَأَهْلُ نَجْدٍ، وَجَمْعُهُمْ لها على سموات، وعلى اسمية، وعلى سماء. قَالَ: فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِنَا شَاذٌّ لِأَنَّهُ، أَوَّلًا: اسْمُ جِنْسٍ فَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ، وَثَانِيًا: فَجَمْعُهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لَيْسَ فِيهِ شَرْطُ مَا يُجْمَعُ بِهِمَا قِيَاسًا، وَجَمْعُهُ عَلَى أَفْعِلَةٍ لَيْسَ مِمَّا يَنْقَاسُ فِي الْمُؤَنَّثِ، وَعَلَى فَعَائِلَ لَا يَنْقَاسُ فِي فِعَالٍ. الرَّعْدُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَعِكْرِمَةُ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِهَذَا الصَّوْتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَةٌ صَاحَ بِهَا، وَالرَّعْدُ اسْمُهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْخَلِيلُ: صَوْتُ مَلَكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْضًا صَوْتُ مَلِكٍ يَسْبَحُ، وَقِيلَ: رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّحَابِ فَتُصَوِّتُ ذَلِكَ الصَّوْتَ، وَقِيلَ: اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ السَّحَابِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّهُ اسْمُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ، وَقَالَهُ عَلِيٌّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ، وَالْمَسْمُوعُ صَوْتُهُ يُسَبِّحُ وَيَزْجُرُ السَّحَابَ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ صَوْتُ تَحْرِيكِ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِزَجْرِ السَّحَابِ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ، الثَّانِي: أَنَّهُ صَوتٌ. قَالُوا: وَسُمِّيَ هَذَا الصَّوْتُ رَعْدًا لِأَنَّهُ يُرْعِدُ سَامِعَهُ، وَمِنْهُ رَعَدَتِ الْفَرَائِصُ، أَيْ حُرِّكَتْ وَهُزَّتْ كَمَا تَهُزُّهُ الرِّعْدَةُ. وَاتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ: أَرْعَدَ، أَيْ هَدَّدَ وَأَوْعَدَ لأنه ينشأ عن الإيعاد. وَالتَّهَدُّدِ: ارْتِعَادُ الْمُوعَدِ وَالْمُهَدَّدِ. الْبَرْقُ: مِخْرَافٌ حَدِيدٌ بِيَدِ الْمَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ بِذَلِكَ الْمِخْرَافِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَوْ سَوْطُ نُورٍ بِيَدِ الْمَلَكِ يَزْجُرُهَا بِهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ ضَرْبُ ذَلِكَ السَّوْطِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَوْ مَلَكٌ يَتَرَاءَى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْمَاءُ، قَالَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو الْجَلَد جِيلَانُ بْنُ فَرْوَةَ الْبَصْرِيُّ،

أَوْ تَلَأْلُؤُ الْمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ، أَوْ نَارٌ تَنْقَدِحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ اللُّغَةِ: أَنَّ الرَّعْدَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الصَّوْتِ الْمُزْعِجِ الْمَسْمُوعِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْبَرْقَ هُوَ الْجِرْمُ اللَّطِيفُ النُّورَانِيُّ الَّذِي يُشَاهَدُ وَلَا يَثْبُتُ. يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ جَعَلَ: يَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ أَوْ بِمَعْنَى أَلْقَى فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى صَيَّرَ أَوْ سَمَّى فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَلِلشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ فَتَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِهَا. الْأُصْبُعُ: مَدْلُولُهَا مَفْهُومٌ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَكَرُوا فِيهَا تِسْعَ لُغَاتٍ وَهِيَ: الْفَتْحُ لِلْهَمْزَةِ، وَضَمُّهَا، وَكَسْرُهَا مَعَ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ لِلْبَاءِ. وَحَكَوْا عَاشِرَةً وَهِيَ: أُصْبُوعٌ، بِضَمِّهَا، وَبَعْدَ الْبَاءِ وَاوٌ. وَجَمِيعُ أَسْمَاءِ الْأَصَابِعِ مُؤَنَّثَةٌ إِلَّا الْإِبْهَامَ، فَإِنَّ بَعْضَ بَنِي أَسَدٍ يَقُولُونَ: هَذَا إِبْهَامٌ، وَالتَّأْنِيثُ أَجْوَدُ، وَعَلَيْهِ الْعَرَبُ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ. الْأُذُنُ: مَدْلُولُهَا مَفْهُومٌ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، كَذَلِكَ تَلْحَقُهَا التَّاءُ فِي التَّصْغِيرِ قَالُوا: أُذَيْنَةٌ، وَلَا تَلْحَقُ فِي الْعَدَدِ، قَالُوا: ثَلَاثُ آذَانٍ، قَالَ أَبُو ثَرْوَانَ فِي أُحْجِيَّةٍ لَهُ: مَا ذُو ثَلَاثِ آذَانٍ ... يَسْبِقُ الْخَيْلَ بِالرَّدَيَانِ يريد السهم وآذانه وقدده. الصَّاعِقَةُ: الْوَقْعَةُ الشَّدِيدَةُ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ مَعَهَا قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ تَسْقُطُ مَعَ صَوْتِ الرَّعْدِ، قَالُوا: تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحَابِ إِذَا اصْطَكَّتْ أَجْرَامُهُ، وَهِيَ نَارٌ لَطِيفَةٌ حَدِيدَةٌ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا أَتَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَعَ حِدَّتِهَا سَرِيعَةُ الْخُمُودِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ. قَالَ لَبِيدٌ يَرْثِي أَخَاهُ أَرْبَدَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَحْرَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ: فَجَعَنِي الْبَرْقُ والصواعق بالفارس يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ وَيُشَبِّهُ بِالْمَقْتُولِ بِهَا مَنْ مَاتَ سَرِيعًا، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ: كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ وَرَوَى الْخَلِيلُ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ: السَّاعِقَةُ بِالسِّينِ، وَقَالَ النَّقَّاشُ: صَاعِقَةٌ وَصَعْقَةٌ وَصَاقِعَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الصَّاقِعَةُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ أَصَابَهُمْ ... صَوَاقِعَ لَا بَلْ هُنَّ فَوْقَ الصَّوَاقِعِ وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ: يُحِلُّونَ بِالْمَقْصُورَةِ الْقَوَاطِعَ ... تَشَقُّقُ الْبُرُوقِ بِالصَّوَاقِعِ

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لُغَةً، وَقَدْ حَكَوْا تَصْرِيفَ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَنُقِلَ الْقَلْبُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: صَعَقَتْهُ وَأَصْعَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ، إِذَا أَهْلَكَتْهُ، فَصُعِقَ: أَيْ هَلَكَ. وَالصَّاعِقَةُ أَيْضًا الْعَذَابُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَالصَّاعِقَةُ وَالصَّاقِعَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِصَوْتِ الرَّعْدِ أَوْ لِلرَّعْدِ، فَتَكُونُ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: رَاوِيَةٌ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا، كَمَا قَالُوا فِي الْكَاذِبَةِ. الْحَذَرُ، وَالْفَزَعُ، وَالْفَرَقُ، وَالْجَزَعُ، وَالْخَوْفُ: نَظَائِرُ الْمَوْتِ، عَرْضٌ يَعْقُبُ الْحَيَاةَ. وَقِيلَ: فَسَادُ بِنْيَةِ الْحَيَوَانِ، وَقِيلَ: زَوَالُ الْحَيَاةِ. الْإِحَاطَةُ: حَصْرُ الشَّيْءِ بِالْمَنْعِ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَالثُّلَاثِيُّ مِنْهُ مُتَعَدٍّ، قَالُوا: حَاطَهُ، يُحُوطُهُ، حَوْطًا. أَوْ كَصَيِّبٍ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَحَذْفُ مُضَافَانِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَوْ: كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «1» ، أَيْ كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ. وَأَوْ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ، وَكَانَ مَنْ نَظَرَ فِي حَالِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِحَالِ الْمُسْتَوْقِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِحَالِ ذَوِي صَيِّبٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى كَوْنِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ. وَأَنَّ الْمَعْنَى أَيُّهُمَا شِئْتَ مَثِّلْهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَى أَنَّ أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ هُنَا. وَلَا إِلَى كَوْنِ أَوْ لِلشَّكِّ بِالنِّسْبَةِ للمتخاطبين، إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا إِلَى كَوْنِهَا بِمَعْنَى بَلْ، وَلَا إِلَى كَوْنِهَا لِلْإِبْهَامِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالْإِبَاحَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ فِي الْأَمْرِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ صِرْفٌ. وَلِأَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُثْبِتُ ذَلِكَ مُؤَوَّلٌ، وَلِأَنَّ الشَّكَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، أَوِ الْإِبْهَامَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لَا مَعْنًى لَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الظَّاهِرُ فِيهَا كَوْنُهَا لِلتَّفْصِيلِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ الثَّانِي أَتَى كَاشِفًا لِحَالِهِمْ بَعْدَ كَشْفِ الْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ التَّفْصِيلَ وَالْإِسْهَابَ بِحَالِ الْمُنَافِقِ، وَشَبَّهَهَ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ بِمُسْتَوْقِدِ النَّارِ، وَإِظْهَارُهُ الْإِيمَانُ بِالْإِضَاءَةِ، وَانْقِطَاعُ جَدْوَاهُ بِذَهَابِ النُّورِ. وَشَبَّهَ فِي الثَّانِي دِينَ الْإِسْلَامِ بِالصَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْإِفْزَاعِ وَالْفِتَنِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّوَاعِقِ، وَكِلَا التَّمْثِيلَيْنِ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُفَرَّقَةُ، كَمَا شَرَحْنَاهُ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ الْمُفَرَّقَةِ، فَلَا تَتَكَلَّفُ مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، فَوَصَفَ وُقُوعَ الْمُنَافِقِينَ فِي ضَلَالَتِهِمْ وما حبطوا فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طُفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 19.

ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَبِحَالِ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ وَخَوْفٍ مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي يَجْعَلُونَ. وَالتَّمْثِيلُ الثَّانِي أَبْلَغُ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ فَصَارَ ارْتِقَاءً مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَرَتُّبَ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمُوَازَنَتَهَا فِي الْمَثَلِ مِنَ الصَّيِّبِ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ، فَقَالَ: مَثَّلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِالصَّيِّبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَشْكَالِ، وَعَمَّا هُمْ بِالظُّلُمَاتِ وَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ بِالرَّعْدِ وَالنُّورِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَكَادُ أَحْيَانًا أَنْ تُبْهِرَهُمْ بِالْبَرْقِ وَتُخَوِّفَهُمْ بِجَعْلِ أَصَابِعِهِمْ، وَفَضْحِ نِفَاقِهِمْ وَتَكَالِيفِ الشَّرْعِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا مِنَ الْجِهَادِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا بِالصَّوَاعِقِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمُفَرَّقِ الَّذِي يُقَابِلُ مِنْهُ شَيْءٌ شَيْئًا مِنَ الْمُمَثَّلِ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقرىء: أَوْ كَصَايِبٍ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ صَابَ يَصُوبُ وَصَيِّبٌ، أَبْلَغُ مِنْ صَايِبٍ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا مَوْضِعُهُ رَفْعٌ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إِذَا قُلْنَا لَيْسَتْ جَوَابٌ لِمَا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ فُصِلَ بِهَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَتَانِ جُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَعَمْرُكَ وَالْخُطُوبُ مُغِيرَاتٌ ... وَفِي طُولِ الْمُعَاشَرَةِ التَّقَالِي لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أَوْفَى ... وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لَا تُبَالِي فَفَصْلَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ بِجُمْلَتَيِ الِاعْتِرَاضِ. مِنَ السَّمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِصَيِّبٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَمِنْ فِيهِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتُعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، وتكون من إذ ذاك لِلتَّبْعِيضِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ، أَوْ كَمَطَرٍ صَيِّبٍ مِنْ أَمْطَارِ السَّمَاءِ، وَأَتَى بِالسَّمَاءِ مَعْرِفَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الصَّيِّبَ نَازِلٌ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، فَهُوَ مُطَبَّقٌ عَامٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ السَّحَابَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْحَدِرُ، وَمِنْهَا يَأْخُذُ مَاءَهُ، لَا كَزَعْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «1» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْشَأَ الْمَطَرِ مِنَ الْبَحْرِ، إِنَّمَا تَدُلُّ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ تَنَافٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطَرُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ مَنْشَأَهُ مِنَ الْبَحْرِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ بَنَاتُ بَحْرٍ، يَعْنِي أَنَّهَا تَنْشَأُ مِنَ البحار، قال طرفة:

_ (1) سورة النور: 24/ 43.

لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ ... رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزَرْ كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدَنَّ كَمَا ... أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ وَقَدْ أَبْدَلُوا الْبَاءَ مِيمًا فَقَالُوا: بَنَاتُ الْمَحْرِ، كَمَا قَالُوا: رَأَيْتُهُ مِنْ كَثَبٍ وَمِنْ كَثَمٍ. وَظُلُمَاتٌ: مُرْتَفِعٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ إِذَا وَقَعَ صِفَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الْمُخَصَّصَةِ بِقَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ، إِمَّا تَخْصِيصُ الْعَمَلِ، وَإِمَّا تَخْصِيصُ الصِّفَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي إِعْرَابِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ ظُلُمَاتٌ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْجُمَلِ، كَانَ الْأَوْلَى جَعْلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ وَجَمْعَ الظُّلُمَاتِ، لِأَنَّهُ حَصَلَتْ أَنْوَاعٌ مِنَ الظُّلْمَةِ. فَإِنْ كَانَ الصَّيِّبُ هُوَ الْمَطَرُ، فَظُلُمَاتُهُ ظُلْمَةُ تَكَاثُفِهِ وَانْتِسَاجِهِ وَتَتَابُعِ قَطْرِهِ، وَظُلْمَةُ: ظِلَالِ غَمَامِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَإِنْ كَانَ الصَّيِّبُ هُوَ السَّحَابُ، فَظُلْمَةُ سَجْمَتِهِ وَظُلْمَةُ تَطْبِيقِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الصَّيِّبِ، فَإِذَا فُسِّرَ بالمطر، فكان ذَلِكَ السَّحَابُ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ مُلْتَبِسَيْنِ بِالْمَطَرِ جُعِلَا فِيهِ عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ، وَلَمْ يُجْمَعِ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جُمِعَتْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمَصْدَرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِرْعَادٌ وَإِبْرَاقٌ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَيْنَانِ فَلِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مَصْدَرَيْنِ فِي الْأَصْلِ، إِذْ يُقَالُ: رَعَدَتِ السَّمَاءُ رَعْدًا وَبَرَقَتْ بَرْقًا، رُوعِيَ حُكْمُ أَصْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ، كَمَا قَالُوا: رَجُلٌ خَصْمٌ، وَنُكِّرَتْ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الْعُمُومَ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ اشْتِمَالُ الصَّيِّبِ عَلَى ظُلُمَاتٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ. وَالضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ، فَتَارَةً يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَلْفُوظٌ بِهِ فَتَعُودُ الضَّمَائِرُ عَلَيْهِ كَحَالِهِ مَذْكُورًا، وَتَارَةً يُطْرَحُ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ «1» ، التَّقْدِيرُ، أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: يَغْشَاهُ. وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الِالْتِفَاتُ وَالْإِطْرَاحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ «2» الْمَعْنَى مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ فَقَالَ: فَجَاءَهَا، فَأَطْرَحَ الْمَحْذُوفَ وقال: أو هم، فَالْتَفَتَ إِلَى الْمَحْذُوفِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ

_ (1) سورة النور: 24/ 40. (2) سورة الأعراف: 7/ 4.

الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مَثَلِ ذَلِكَ الرَّعْدِ؟ فَقِيلَ: يَجْعَلُونَ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَهُوَ الْجَرُّ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَوِي الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَاعِلِينَ، وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ فِي فِيهِ. وَالرَّاجِعُ عَلَى ذِي الْحَالِ مَحْذُوفٌ نَابَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنْهُ التَّقْدِيرُ مِنْ صَوَاعِقِهِ. وَأَرَادَ بِالْأَصَابِعِ بَعْضَهَا، لِأَنَّ الأصبع كُلَّهَا لَا تُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ، إِنَّمَا تُجْعَلُ فِيهَا الْأُنْمُلَةُ، لَكِنَّ هَذَا مِنَ الِاتِّسَاعِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِفَرْطِ مَا يَهُولُهُمْ مِنْ إِزْعَاجِ الصَّوَاعِقِ كَأَنَّهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِالْأُنْمُلَةِ، بَلْ لَوْ أمكنهم السد بالأصبع كُلِّهَا لَفَعَلُوا، وَعُدِلَ عَنِ الِاسْمِ الْخَاصِّ لِمَا يُوضَعُ فِي الْأُذُنِ إِلَى الِاسْمِ الْعَامِّ، وَهُوَ الْأُصْبُعُ، لِمَا فِي تَرْكِ لَفْظِ السَّبَّابَةِ مِنْ حُسْنِ أَدَبِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِ الْكِنَايَاتِ فِيهِ تَكُونُ بِأَحْسَنَ لَفْظٍ، لِذَلِكَ مَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِ السَّبَّابَةِ إِلَى الْمِسْبَحَةِ وَالْمُهَلِّلَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَلَمْ تَأْتِ بِلَفْظِ الْمِسْبَحَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ، لَمْ يَتَعَارَفْهَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ العهد، وإنما أحدثت بعدا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مِنَ الصَّوَاقِعِ، وقد تقدم أنها لغة تَمِيمٍ، وَأَخْبَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَالْوَضْعِ كَأَنَّهُ قَالَ: يَضَعُونَ أَصَابِعَهُمْ، وَمَنْ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَجْعَلُونَ، وَهِيَ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَجْلِ الصَّوَاعِقِ وَحَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ مُتَّحِدٌ بِالْعَامِلِ فَاعِلًا وَزَمَانًا، هَكَذَا أَعْرَبُوهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الصَّوَاعِقِ هُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْطُوفًا لَجَازَ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «1» وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ: يَرْكَبُ كُلَّ عَاقِرٍ جُمْهُورِ ... مَخَافَةً وَزَعَلَ الْمَحْبُورِ وَالْهَوْلَ مِنْ تَهَوُّلِ الْهُبُورِ وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ يَحْذَرُونَ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: حَذَارَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَاذَرَ، قَالُوا وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. الْإِحَاطَةُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُونَهُ، كَمَا لَا يَفُوتُ الْمُحَاطَ الْمُحِيطُ بِهِ، فَقِيلَ: بالعلم، وَقِيلَ: بِالْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: بِالْإِهْلَاكِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّهَا دخلت بين

_ (1) سورة البقرة: 2/ 207 و 265.

هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ، ويَكادُ الْبَرْقُ «1» ، وَهُمَا مِنْ قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ هَذَا التَّمْثِيلَ مِنَ التَّمِثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، وَهُوَ الَّذِي تُشَبَّهُ فِيهِ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آحَادُ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ شَبِيهَةٌ بِآحَادِ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهَ حَيْرَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِحَيْرَةِ مَنِ انْطَفَأَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا، وَبِحَيْرَةِ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ. وَهَذَا الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَقَالُوا أَيْضًا: يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ مُرَكَّبًا مِنْ أُمُورٍ، وَالْمُمَثَّلُ يَكُونُ مُرَكَّبًا أَيْضًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَثَلِ مُشْبِهٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُمَثَّلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلَانِ مِنْ جَعْلِ هَذَا الْمَثَلِ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمُفَرَّقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّيِّبَ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتِ، مَثَلٌ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، مَثَلَانِ لِمَا يُخَوَّفُونَ بِهِ. وَالرَّابِعُ: الْبَرْقُ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتُ، مَثَلٌ لِلْفِتْنَةِ وَالْبَلَاءِ. وَالْخَامِسُ: الصَّيِّبُ: الْغَيْثُ الَّذِي فِيهِ الْحَيَاةُ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتُ، مَثَلٌ لِإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ وَمَا فِيهِ مِنْ إِبِطَانِ الْكُفْرِ، وَالرَّعْدُ مَثَلٌ لما في الإسلام من حَقْنِ الدِّمَاءِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالْمُسْلِمِينَ في المناكحة والموازنة، وَالْبَرْقُ وَمَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ مَثَلٌ لِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الزَّجْرِ بِالْعِقَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيُرْوَى مَعْنَى هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الصَّيِّبَ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ وَالصَّوَاعِقَ كَانَتْ حَقِيقَةً أَصَابَتْ بَعْضَ الْيَهُودِ، فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِقِصَّتِهِمْ لِبَقِيَّتِهِمْ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ الَّذِي أَصَابَ الْمُنَافِقِينَ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَوَلَدُهُمُ الْغِلْمَانُ، أَوْ أَصَابُوا غَنِيمَةً أَوْ فَتْحًا قَالُوا: دِينُ مُحَمَّدٍ صِدْقٌ، فَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ قَالُوا: هَذَا مِنْ أَجْلِ دِينِ مُحَمَّدٍ، فَارْتَدُّوا كُفَّارًا. الثَّامِنُ: أَنَّهُ مَثَّلَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْبَلَاءِ بِالصَّيِّبِ الَّذِي يَجْمَعُ نَفْعًا بِإِحْيَائِهِ الْأَرْضَ وَإِنْبَاتِهِ النَّبَاتَ وَإِحْيَاءِ كُلِّ دَابَّةٍ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِلتَّطْهِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَضَرًّا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْإِغْرَاقِ وَالْإِشْرَاقِ، وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالصَّوَاعِقِ بِالْإِرْعَادِ وَالْإِبْرَاقِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ يَدْفَعُ آجِلًا بِطَلَبِ عَاجِلِ النَّفْعِ، فَيَبِيعُ آخِرَتَهُ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ بِالدُّنْيَا الَّتِي صَفُّوهَا كَدِرٌ وَمَآلُهُ بَعْدُ إِلَى سَقَرَ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْقِيَامَةِ لِمَا يَخَافُونَهُ مِنْ وَعِيدِ الْآخِرَةِ لِشَكِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْقِ، بِمَا فِي إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَمَثَّلَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ بِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الزَّوَاجِرِ بِالْعِقَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. الْعَاشِرُ: ضَرْبُ الصَّيِّبِ مَثَلٌ لِمَا أظهر المنافقون

_ (1) سورة البقرة: 2/ 20.

[سورة البقرة (2) : آية 20]

مِنَ الْإِيمَانِ وَالظُّلُمَاتِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الَّذِي أَبَطَنُوهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْقِ بِمَا عَلَاهُمْ مِنْ خَيْرِ الْإِسْلَامِ وَعَلَتْهُمْ مِنْ بَرَكَتِهِ، وَاهْتِدَائِهِمْ بِهِ إِلَى مَنَافِعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمْنِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ، بِمَا اقْتَضَاهُ نِفَاقُهُمْ وَمَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا أَقْوَالًا كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى التَّمْثِيلِ التَّرْكِيبِيِّ: الْأَوَّلُ: شَبَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالَّذِينَ اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ظُلْمَةُ السَّحَابِ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدُّ لِحَيْرَتِهِمْ، إِذْ لَا يَرَوْنَ طَرِيقًا، وَلَا مَنْ أَضَاءَ لَهُ الْبَرْقَ ثُمَّ ذَهَبَ كَانَتِ الظُّلْمَةُ عِنْدَهُ أَشَدُّ مِنْهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَرْقٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَطَرَ، وَإِنْ كَانَ نَافِعًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ صَارَ النَّفْعُ بِهِ زَائِلًا، كَذَلِكَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ نَافِعٌ لِلْمُنَافِقِ لَوْ وَافَقَهُ الْبَاطِنُ، وَأَمَّا مَعَ عدم الموافقة فهو ضر. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَثَّلَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ نَافِعُهُمْ وَلَيْسَ بِنَافِعِهِمْ بِمَنْ نَزَلَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعَ الصَّوَاعِقِ، فَإِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ الْمُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا جَعْلُ أَصَابِعِهِ فِي آذَانِهِ وَهُوَ لَا يُنْجِيهِ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَّلَ لِتَأَخُّرِ الْمُنَافِقِ عَنِ الْجِهَادِ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ بِمَنْ أَرَادَ دَفْعَ هَذِهِ الْأُمُورِ بِجَعْلِ أَصَابِعِهِمْ فِي آذَانِهِمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَثَّلَ لعدم إخلاص الْمُنَافِقِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِالْجَاعِلِينَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، فإنهم وإن تخلصوا عن الْمَوْتِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْ وَرَائِهِمْ. [سورة البقرة (2) : آية 20] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَكَادُ: مُضَارِعُ كَادَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَوَزْنُهَا فَعَلَ يَفْعَلُ، نَحْوَ خَافَ يَخَافُ، مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَفِيهَا لُغَتَانِ: فَعَلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَفَعُلَ، وَلِذَلِكَ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرُ الرَّفْعِ لِمُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أَوْ نُونِ إِنَاثٍ ضَمُّوا الْكَافَ فَقَالُوا: كُدْتُ، وَكُدْتَ، وَكُدْنَ، وَسُمِعَ نَقْلُ كَسْرِ الْوَاوِ إِلَى الْكَافِ، مَعَ مَا إِسْنَادِهِ لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكِيدَتْ ضِبَاعُ الْقُفِّ يَأْكُلْنَ جُثَّتِي ... وَكِيدَ خَرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يُيْتِمُ يُرِيدُ، وَكَادَتْ، وَكَادَ، وَلَيْسَ، مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا مضارع إِلَّا: كَادَ، وَأَوْشَكَ. وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ هِيَ مِنْ بَابِ كَانَ، تَرْفَعُ الِاسْمَ وَتَنْصِبُ الْخَبَرَ، إِلَّا أَنَّ خَبَرَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُضَارِعًا، وَلَهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فِعْلًا ذَكَرَهَا أَبُو

إِسْحَاقَ الْبَهَارِيُّ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ جُمَلِ الزَّجَّاجِيِّ) . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَكَادُ فِعْلٌ يَنْفِي الْمَعْنَى مَعَ إِيجَابِهِ وَيُوجِبُهُ مَعَ النَّفْيِ، وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ شِعْرًا يُلْغِزُ فِيهِ بِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هَذَا الْمُفَسِّرُ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّ نَفْيَهَا نَفْيٌ وَإِيجَابُهَا إِيجَابٌ، وَالِاحْتِجَاجُ لِلْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْخَطْفُ: أَخْذُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. كُلَّ: لِلْعُمُومِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَازِمٍ لِلْإِضَافَةِ، إِلَّا أَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَيُعَوَّضُ مِنْهُ التَّنْوِينُ، وَقِيلَ: هُوَ تَنْوِينُ الصَّرْفِ، وَإِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَعْرِفَةً بَقِيَتْ كُلٌّ عَلَى تَعْرِيفِهَا بِالْإِضَافَةِ، فَيَجِيءُ مِنْهَا الْحَالُ، وَلَا تُعَرَّفُ بِاللَّامِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَالْفَارِسِيُّ، وَرُبَّمَا انْتَصَبَ حَالًا، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَتْبَعَ تَوْكِيدًا كَأَجْمَعَ، وَتُسْتَعْمَلُ مُبْتَدَأً، وَكَوْنُهَا كَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ كَوْنِهَا مَفْعُولًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْصُورٍ عَلَى السَّمَاعِ وَلَا مُخْتَصًّا بِالشِّعْرِ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَإِذَا أُضِيفَتْ كُلٌّ إِلَى نكرة أو معرفة بلام الْجِنْسِ حَسُنَ أَنْ تَلِيَ الْعَوَامِلَ اللَّفْظِيَّةَ، وَإِذَا ابْتُدِئَ بِهَا مُضَافَةً لَفْظًا إِلَى نَكِرَةٍ طَابَقَتِ الْأَخْبَارَ وَغَيْرِهَا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَعْرِفَةٍ، فَالْأَفْصَحُ إِفْرَادُ الْعَائِدِ أَوْ مَعْنَى لَا لَفْظًا، فَالْأَصْلُ، وَقَدْ يُحَسَّنُ الْإِفْرَادُ وَأَحْكَامُ كُلٌّ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَكْثَرَهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالتَّذْكِرَةِ، وَسَرَدْنَا مِنْهَا جُمْلَةً لِيُنْتَفَعَ بِهَا، فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا. الْمَشْيُ: الْحَرَكَةُ الْمَعْرُوفَةُ. لَوْ: عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ، إِنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ إِنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ لِاطِّرَادِ تَفْسِيرِ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كُلِّ مَكَانٍ جَاءَتْ فِيهِ لَوْ، وَانْخِرَامِ تَفْسِيرِهِمْ فِي نَحْوِ: لَوْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا لَكَانَ حَيَوَانًا، إِذْ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِمَامِ يَكُونُ الْمَعْنَى ثُبُوتُ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، إِذِ الْأَخَصُّ مُسْتَلْزِمٌ الْأَعَمَّ، وَعَلَى تَفْسِيرِهِمْ يَنْخَرِمُ ذَلِكَ، إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى مُمْتَنِعُ الْحَيَوَانِيَّةِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْإِنْسَانِيَّةِ انْتِفَاءُ الْحَيَوَانِيَّةِ، إِذْ تُوجَدُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَلَا إِنْسَانِيَّةَ. وَتَكُونُ لَوْ أَيْضًا شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى أَنْ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِهَا خِلَافًا لِقَوْمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلَّا مُظْهِرًا ... خُلُقَ الْكِرَامِ وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمَا وَتَشْرَبُ لَوْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تَكُونُ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى أَنَّ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ. شَاءَ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 167.

بِمَعْنَى أَرَادَ، وَحَذْفُ مَفْعُولِهَا جَائِزٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَأَكْثَرُ مَا يُحْذَفُ مَعَ لَوْ، لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ تَكَاثَرَ هَذَا الْحَذْفُ فِي شَاءَ وَأَرَادَ، يَعْنِي حَذْفُ مَفْعُولَيْهِمَا، قَالَ: لَا يَكَادُونَ يُبْرِزُونَ هَذَا الْمَفْعُولَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ «1» ، ولَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى «2» ، انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ صَاحِبُ التِّبْيَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَنْشَدَ قَوْلَهُ: فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ ... عَلَيْهِ وَلَكِنَّ سَاحَةَ الصَّبْرِ أَوْسَعُ مَتَى كَانَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ عَظِيمًا أَوْ غَرِيبًا، كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُذْكَرَ نَحْوُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَلْقَى الْخَلِيفَةَ كُلَّ يَوْمٍ لَقِيتُهُ، وَسِرُّ ذِكْرِهِ أَنَّ السَّامِعَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ، فَأَنْتَ تَقْصِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا فَالْحَذْفُ نَحْوُ: لَوْ شِئْتُ قُمْتُ. وَفِي التَّنْزِيلِ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا «3» ، انْتَهَى. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ غَرَابَةٌ حَسُنَ ذِكْرَهُ، وَإِنَّمَا حُسْنُ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ مِنْ حَيْثُ عَوْدِ الضَّمِيرِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ، فَهُمَا تَرْكِيبَانِ فَصِيحَانِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ. فَأَحَدُهُمَا الْحَذْفُ وَدَلَالَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْمَحْذُوفِ، إِذْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مَصْدَرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ حَذَفُوا أَحَدَ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ الْخَبَرُ فِي نَحْوِ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، لِلطُّولِ بِالْجَوَابِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فَلِأَنْ يُحْذَفَ الْمَفْعُولُ الَّذِي هُوَ فَضْلَةٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ دَلِيلٌ فَلَا يُحْذَفُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ولِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. الشَّيْءُ: مَا صَحَّ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ وَجْهِ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ التَّأْنِيثُ مِنَ التَّذْكِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْءَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا أُخْبِرَ عَنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعْلَمَ أَذَكَرٌ هُوَ أَوْ أُنْثَى؟ وَالشَّيْءُ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا مُرَادِفٌ لِلْمَوْجُودِ،

_ (1) سورة الأنبياء: 2/ 17. (2) سورة الزمر: 39/ 4. (3) سورة الأنفال: 8/ 31.

وَفِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ، وَمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْكَرُ النَّكِرَاتِ، إِذْ يُطْلَقُ عَلَى الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَالْقَدِيمِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمُسْتَحِيلِ. الْقُدْرَةُ: الْقُوَّةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ، وَالْفِعْلُ قَدَرَ وَمَصَادِرُهُ كَثِيرَةٌ: قَدَرٌ، قُدْرَةٌ، وَبِتَثْلِيثِ الْقَافِ، وَمَقْدِرَةٌ، وَبِتَثْلِيثِ الدَّالِ: وَقُدْرٌ، أَوْ قِدْرٌ، أَوْ قُدَرٌ، أَوْ قَدَارٌ، أَوْ قِدَارٌ، أَوْ قُدْرَانًا، وَمَقْدَرًا، وَمَقْدُرًا. الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ إِذْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ قَائِلٍ قَالَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْبَرْقِ؟ فَقِيلَ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِذَوِي الْمَحْذُوفَةِ التَّقْدِيرُ كَائِدُ الْبَرْقِ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْبَرْقِ لِلْعَهْدِ، إِذْ جَرَى ذِكْرُهُ نَكِرَةً فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَصَارَ نَظِيرُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» . وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَيَحْيَى بْنُ زَيْدٍ: يَخْطِفُ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَأَظُنُّهُ غَلَطًا وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْرَأْ بِالْفَتْحِ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَتْحُ، يَعْنِي فِي الْمُضَارِعِ أَفْصَحُ، انْتَهَى. وَالْكَسْرُ فِي طَاءِ الْمَاضِي لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَهِيَ أَفْصَحُ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: خَطَفَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، يَخْطِفُ بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَنَسَبَ الْمَهْدَوِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَى الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ، وَذَلِكَ وَهْمٌ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: يَخْتَطِفُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَتَخَطَّفُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: يَخَطَّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: يَخَطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَأَصْلُهُ يَخْتَطِفُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة: يَخِطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ أَيْضًا الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ: يِخِطِّفُ، بِكَسْرِ الثَّلَاثَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُخَطِّفُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ خَطَفَ، وَهُوَ تَكْثِيرُ مُبَالَغَةٍ لَا تَعْدِيَةٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: يَخْطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ اخْتِلَاسٌ لِفَتْحَةِ الْخَاءِ لَا إِسْكَانَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حَدِّ الْتِقَائِهِمَا. فَهَذَا الحرف قرىء عَشْرَ قِرَاءَاتٍ: السَّبْعَةُ يَخْطَفُ، وَالشَّوَاذُّ: يَخَطِفُ يَخْتَطِفُ يَتَخَطَّفُ يَخَطَّفُ وَأَصْلُهُ يَتَخَطَّفُ، فَحَذَفَ التَّاءَ مَعَ الْيَاءِ شُذُوذًا، كَمَا حَذَفَهَا مَعَ التَّاءِ قياسا. يخطف

_ (1) سورة المزمل: 73/ 15- 16.

يَخْطِّفُ يُخَطِّفُ يَخَطِّفُ، وَالْأَرْبَعُ الْأُخَرُ أَصْلُهَا يُخْتَطَفُ فَعُرِضَ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الطَّاءِ فَسَكَنَتِ التَّاءُ لِلْإِدْغَامِ فَلَزِمَ تَحْرِيكُ مَا قَبْلَهَا، فَإِمَّا بِحَرَكَةِ التَّاءِ، وَهِيَ الْفَتْحُ مُبَيَّنَةً أَوْ مُخْتَلَسَةً، أَوْ بِحَرَكَةِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهِيَ الْكَسْرُ. وَكَسْرُ الْيَاءِ إِتْبَاعٌ لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ إِدْغَامٍ اخْتُصِمَ بِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَصْرِيفِيَّةٌ يَخْتَلِفُ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرُ، وَتَبْيِينُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَمَنْ فَسَّرَ الْبَرْقَ بِالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ قَالَ: يَكَادُ ذَلِكَ يُصِيبُهُمْ. وَمَنْ مَثَّلَهُ بِحُجَجِ الْقُرْآنِ وَبَرَاهِينِهِ السَّاطِعَةِ قَالَ: الْمَعْنَى يَكَادُ ذَلِكَ يَبْهِرُهُمْ. وَكُلَّ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَسَرَتْ إِلَيْهِ الظَّرْفِيَّةُ مِنْ إِضَافَتِهِ لِمَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا صَحِبْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، فَالْمَعْنَى مُدَّةَ صُحْبَتِكَ لِي أُكْرِمُكَ، وَغَالِبُ مَا تُوصَلُ بِهِ مَا هَذِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَمَا الظَّرْفِيَّةُ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ، فَإِذَا قُلْتَ: أَصْحَبُكَ مَا ذَرَّ لِلَّهِ شَارِقٌ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ الْعُمُومَ. فَكُلُّ هَذِهِ أَكَّدَتِ الْعُمُومَ الَّذِي أَفَادَتْهُ مَا الظَّرْفِيَّةُ، وَلَا يُرَادُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مُطْلَقُ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ صِلَةً لِمَا، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِدَلَالَتِهَا عَلَى عُمُومِ الزَّمَانِ جَزَمَ بِهَا بَعْضُ الْعَرَبِ. وَالتَّكْرَارُ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفُقَهَاءُ فِي كُلَّمَا، إِنَّمَا ذَلِكَ فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، لَا إِنَّ لَفْظَ كُلَّمَا وُضِعَ لِلتَّكْرَارِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ كُلٌّ تَوْكِيدًا لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَا الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: كُلَّمَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، فَالْمَعْنَى أُكْرِمُكَ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ جيئاتك إِلَيَّ. وَمَا أَضَاءَ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، إِذِ التَّقْدِيرُ كُلُّ إِضَاءَةٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْضًا، مَعْنَاهُ: كُلَّ وَقْتِ إِضَاءَةٍ، فَقَامَ الْمَصْدَرُ مَقَامَ الظَّرْفِ، كَمَا قَالُوا: جِئْتُكَ خُفُوقَ النَّجْمِ. وَالْعَامِلُ فِي كُلَّمَا قَوْلُهُ: مَشَوْا فِيهِ، وَأَضَاءَ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ هُنَا مُتَعَدٍّ التَّقْدِيرُ، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ الطَّرِيقَ. فَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْبَرْقِ، أَيْ مَشَوْا فِي نُورِهِ وَمَطْرَحِ لَمَعَانِهِ، وَيَتَعَيَّنُ عَوْدُهُ عَلَى الْبَرْقِ فِيمَنْ جَعَلَ أَضَاءَ لَازِمًا، أَيْ: كُلَّمَا لَمَعَ الْبَرْقُ مَشَوْا فِي نُورِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: كُلَّمَا ضَاءَ ثُلَاثِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: مَرُّوا فِيهِ، وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَضَوْا فِيهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَضَاءَ لَهُمْ فِي حَالَتَيْ وَمِيضِ الْبَرْقِ وَخَفَائِهِ، قِيلَ: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ وَالضَّحَّاكُ: وَإِذَا أَظْلَمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَأَصْلُ أَظْلَمَ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، يُقَالُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ. وظاهر كلام الزمخشري أن أَظْلَمَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ لِمَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُبْنَى لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَظْلَمَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَجَاءَ فِي شِعْرِ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ:

هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلَامَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمَرَدَ أَشْيَبِ وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحْدَثًا لَا يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِهِ فِي اللُّغَةِ، فَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، فَاجْعَلْ مَا يَقُولُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرْوِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ، فَيَقْتَنِعُونَ بِذَلِكَ لِوُثُوقِهِمْ بِرِوَايَتِهِ وَإِتْقَانِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ كَمَا قُلْنَا أَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَبِنَاؤُهُ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِذَلِكَ اسْتُأْنِسَ بِقَوْلِ أَبِي تَمَامٍ: هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ، وَلَهُ عِنْدِي تَخْرِيجٌ غَيْرَ مَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَظْلَمَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِمَفْعُولٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ. أَلَا تَرَى كَيْفَ عُدِّيَ أَظْلَمَ إِلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى؟ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ أَوْ حُذِفَ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَكَانَ الْأَصْلُ: وَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ حُذِفَ، فَقَامَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَهُ، نَحْوُ: غَضِبَ زَيْدٌ عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ تَحْذِفُ زَيْدًا وَتَبْنِي الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ فَتَقُولُ: غُضِبَ عَلَى عَمْرٍو، فَلَيْسَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ إِذْ ذَاكَ: وَإِذَا أَظْلَمَ اللَّهُ اللَّيْلَ، فَحُذِفَتِ الْجَلَالَةُ وَأُقِيمَ ضَمِيرُ اللَّيْلِ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ حَبِيبٍ فَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ، وَقَدْ نُقِدَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ الِاسْتِشْهَادُ بِقَوْلِ حَبِيبٍ: مَنْ كَانَ مَرْعَى عَزْمِهِ وَهُمُومِهِ ... رَوضُ الْأَمَانِي لَمْ يَزَلْ مَهْزُولًا وَكَيْفَ يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ مُوَلِّدٌ، وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِيمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ فِي شِعْرِهِ؟ وَمَعْنَى قَامُوا: ثَبَتُوا وَوَقَفُوا، وَصُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى بِكُلَّمَا، وَالثَّانِيَةُ بِإِذَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُمْ حُرَّاصٌ عَلَى وُجُودِ مَا هِمَمُهُمْ بِهِ مَعْقُودَةٌ مِنْ إِمْكَانِ الْمَشْيِ وَتَأْتِيهِ، فَكُلَّمَا صَادَفُوا مِنْهُ فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّوَقُّفُ وَالتَّحَبُّسُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدِي بَيْنَ كُلَّمَا وَإِذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مَتَى فُهِمَ التَّكْرَارُ مِنْ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ لَزِمَ مِنْهُ أَيْضًا التَّكْرَارُ فِي أَنَّهُ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا، لِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ إِضَاءَةِ الْبَرْقِ وَالْإِظْلَامِ، فَمَتَى وُجِدَ هَذَا فُقِدَ هَذَا، فَيَلْزَمُ مِنْ تَكْرَارِ وُجُودِ هَذَا تَكْرَارِ عَدَمِ هَذَا، عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِذَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ كَكُلَّمَا، وَأَنْشَدَ: إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الْحُبِّ فِي كَبِدِي ... أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ قَالَ: فَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى كُلَّمَا. وَفِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: كُلَّمَا أَتَاهُمُ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَهُ تَابَعُوهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِضَاءَةُ الْبَرْقِ حُصُولُ مَا يَرْجُونَهُ مِنْ سَلَامَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَرْقُ الْإِسْلَامُ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ إِهْتِدَاؤُهُمْ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ وَقَعُوا فِي

ضَلَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِضَاءَتُهُ لَهُمْ: تَرْكُهُمْ بِلَا ابْتِلَاءٍ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ بِإِظْهَارِ مَا يُظْهِرُونَهُ، وَقِيلَ: كُلَّمَا سَمِعَ الْمُنَافِقُونَ الْقُرْآنَ وَحُجَجَهُ أُنْسُوا وَمَشَوْا مَعَهُ، فَإِذَا نَزَلَ مَا يُعْمَوْنَ فِيهِ أَوْ يُكَلَّفُونَهُ قَامُوا، أَيْ ثَبَتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: كُلَّمَا تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ قَالُوا: دِينُ حَقٍّ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ سَخِطُوا وَثَبَتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: كُلَّمَا خَفِيَ نِفَاقُهُمْ مَشَوْا، فَإِذَا افْتُضِحُوا قَامُوا، وَقِيلَ: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ اتَّبَعُوهُ، فَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَوَى تَرَكُوهُ. وَقِيلَ: يَنْتَفِعُونَ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا وَرَدَتْ مِحْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَحَيَّرُوا، كَمَا قَامَ أُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ مُتَحَيِّرِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ، إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً مَعَ خَوْفٍ أَنْ يَخْطَفَ أَبْصَارَهُمْ، انْتَهَزُوا تِلْكَ الخفقة فرصة فحطوا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةٍ، فَإِذَا خَفِيَ وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ بَقُوا وَاقِفِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَفْعُولُ شَاءَ هُنَا مَحْذُوفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ إِذْهَابَ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. وَالْكَلَامُ فِي الْبَاءِ فِي بِسَمْعِهِمْ كَالْكَلَامِ فِيهَا فِي: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَوْحِيدُ السَّمْعِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَأَذْهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ التَّقْدِيرُ لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ، يُرِيدُ رَأْسَهُ، وَخَشُنْتُ بِصَدْرِهِ، يُرِيدُ صَدْرَهُ، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ قِيَاسِ زِيَادَةِ الْبَاءَ، وَجَمْعُهُ الْأَسْمَاعُ مُطَابِقٌ لِجَمْعِ الْأَبْصَارِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: أَنَّ ذَهَابَ اللَّهِ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ كَانَ يَقَعُ عَلَى تَقْدِيرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِإِهْلَاكِهِمْ، لِأَنَّ فِي هَلَاكِهِمْ ذَهَابُ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. وَقِيلَ: وَعِيدٌ بِإِذْهَابِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ حَتَّى لَا يَتَوَصَّلُوا بِهِمَا إِلَى مَا لَهُمْ، كَمَا لَمْ يَتَوَصَّلُوا بِهِمَا إِلَى مَا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَأَظْهَرَ عَلَيْهِمْ بِنِفَاقِهِمْ فَذَهَبَ مِنْهُمْ عِزُّ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الصَّوَاعِقَ فَيَحْذَرُونَ، وَلَأَذْهَبَ أَبْصَارَهَمْ فَلَا يَرَوْنَ الضَّوْءَ لِيَمْشُوا. وَقِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ. وَقِيلَ: لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، فَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي الْحَقِّ فَيَنْتَفِعُوا بِهَا فِي أُخْرَاهُمْ. وَقِيلَ: لَزَادَ فِي قَصِيفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ وَفِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ. وَقِيلَ لَأَوْقَعَ بِهِمْ مَا يَتَخَوَّفُونَهُ مِنَ الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ. وَقِيلَ: لَفَضَحَهُمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَلَّطَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَذَهَبَ سَمْعُهُمْ بِقَصِيفِ الرَّعْدِ وَأَبْصَارُهُمْ بِوَمِيضِ الْبَرْقِ.

وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَوِي صَيِّبٍ، فَصَرْفُ ظَاهِرِهِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنَافِقِينَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَحَيُّرِ هَؤُلَاءِ السَّفْرِ وَشِدَّةِ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الصَّيِّبِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى ظُلُمَاتٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، بِحَيْثُ تَكَادُ الصَّوَاعِقُ تُصِمُّهُمْ وَالْبَرْقُ يُعْمِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ سَبَقَتِ الْمَشِيئَةُ بِذَهَابِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَتْ، وَكَمَا اخْتَرْنَا فِي قَوْلِهِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إِلَى آخِرِهِ أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي حَالِ الْمُسْتَوْقِدِ، كَذَلِكَ اخْتَرْنَا هُنَا أَنَّ هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَشِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُبَالَغَةِ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتُ الَّتِي لِلْمُشَبَّهِ بِهِ ثَابِتَةً لِلْمُشَبَّهِ بِنَظَائِرِهَا ثَابِتَةً لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ التَّمْثِيلُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُفْرَدَةِ. وَأَمَّا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّشْبِيهِ بِمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ قَبْلُ، وَخَصَّ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ فِي قَوْلِهِ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ: فِي آذانِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ، وَمُدْرِكُهُمَا السَّمْعُ، وَالظُّلُمَاتِ وَالْبَرْقِ، وَمُدْرِكُهُمَا: الْبَصَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ شَاءَ أَذْهَبَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، أَعْقَبَ تَعَالَى مَا عَلَّقَهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ بِالْإِخْبَارِ عنه تعالى بالمقدرة لِأَنَّ بِهِمَا تَمَامَ الْأَفْعَالِ، أعني القدرة وَالْإِرَادَةِ وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِذْ لَا أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ تَعَالَى. وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: قَدِيرٌ، وَفِي لَفْظِ قَدِيرٌ مَا يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، إِذِ الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا بَعْضُ كَلَامٍ عَلَى تَنَاسُقِ الْآيِ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ نُلَخِّصُ ذَلِكَ هُنَا، فَنَقُولُ: افْتَتَحَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِوَصْفِ كَلَامِهِ الْمُبِينِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ هُدًى لِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَدَحَهُمْ، ثُمَّ مَدَحَ مَنْ سَاجَلَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَتَلَاهُمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى فِي الْحَالِ وَمِنَ الظَّفَرِ فِي الْمَآلِ، ثُمَّ تَلَاهُمْ بِذِكْرِ أَضْدَادِهِمُ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمُ الْمُغَطَّى أَبْصَارُهُمُ الْمَيْئُوسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ أَتْبَعَ هَؤُلَاءِ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُخَادِعِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَأَخَّرَ ذِكْرَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَسْوَأَ أَحْوَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا فِي الظَّاهِرِ بِصِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي الْبَاطِنِ بِصِفَاتِ الْكَافِرِينَ، فَقَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَنَّى بِذِكْرِ أَهْلِ الشَّقَاءِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَّثَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ، وَأَمْعَنَ فِي ذِكْرِ مَخَازِيهِمْ فَأَنْزَلَ فِيهِمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، كُلُّ ذَلِكَ تَقْبِيحٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَخَازِي أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَبْرَزَ أَحْوَالَهُمْ فِي صُورَةِ الأنفال، فَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلتَّنْفِيرِ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَفْعَالِ. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 22]

هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي نُوقِلَ فِي ذَرْوَةِ الْإِحْسَانِ وَتَمَكَنَ فِي بَرَاعَةِ أَقْسَامِ الْبَدِيعِ وبلاغة معاني البيان. [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) يَا: حَرْفُ نِدَاءٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهَا: أُنَادِي، وَعَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِ النِّدَاءِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَقَعْ نِدَاءً إِلَّا بِهَا، وَهِيَ أَعَمُّ حُرُوفِ النِّدَاءِ، إِذْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْمُسْتَغَاثُ وَالْمَنْدُوبُ. وَأَمَالَهَا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ تَتَجَرَّدُ لِلتَّنْبِيهِ فَيَلِيهَا الْمُبْتَدَأُ وَالْأَمْرُ وَالتَّمَنِّي وَالتَّعْلِيلُ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يُنْوَى بَعْدَهَا مُنَادِي. أَيْ: اسْتِفْهَامٌ وَشَرْطٌ وَصِفَةٌ وَوَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامِ، وَمَوْصُولَةٌ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، إِذْ أَنْكَرَ مَجِيئَهَا مَوْصُولَةً، وَلَا تَكُونُ مَوْصُوفَةً خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ. هَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا مَعَ ضَمِيرِ رَفْعٍ مُنْفَصِلٍ مُبْتَدَأٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِاسْمِ إِشَارَةٍ غَالِبًا، أَوْ مَعَ اسْمِ إِشَارَةٍ لَا لِبُعْدٍ، وَيُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ أَيْ فِي النِّدَاءِ وَبَيْنَ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهُ، وَضَمُّهَا فِيهِ لُغَةُ بَنِي مَالِكٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يَقُولُونَ: يَا أَيُّهَ الرَّجُلُ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ. الْخَلْقُ: الِاخْتِرَاعُ بِلَا مِثَالِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ، خَلَقَتِ الْأَدِيمَ قُدْرَتُهُ، قَالَ زُهَيْرٌ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي قَالَ قُطْرُبٌ: الْخَلْقُ هُوَ الْإِيجَادُ عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَرْتِيبٍ، وَالْخَلْقُ وَالْخَلِيقَةُ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَمَعْنَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِحْدَاثِ، وَالْإِبْدَاعِ، وَالِاخْتِرَاعِ، والإنشاء، متقارب. قبل: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا عَامِلٌ فَيُخْرِجُهَا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا مِنْ، وَأَصْلُهَا وَصْفٌ نَابَ عَنْ مَوْصُوفِهِ لُزُومًا، فَإِذَا قُلْتَ: قُمْتُ قَبْلَ زَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ قُمْتُ زَمَانًا قَبْلَ زَمَانِ قِيَامِ زَيْدٍ، فَحُذِفَ هَذَا كُلُّهُ وَنَابَ عَنْهُ قَبْلَ زَيْدٍ. لَعَلَّ: حَرْفُ تَرَجٍّ فِي المحبوبات، وتوقع في المحدورات، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمُمْكِنِ، لَا يُقَالُ: لَعَلَّ الشَّبَابَ يَعُودُ، وَلَا تَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ، خِلَافًا لِقُطْرُبٍ وَابْنِ كَيْسَانَ، وَلَا اسْتِفْهَامًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَفِيهَا لُغَاتٌ لَمْ يَأْتِ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْفُصْحَى، وَلَمْ يُحْفَظْ بَعْدَهَا نَصْبُ الِاسْمَيْنِ، وَحَكَى الْأَخْفَشُ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يجر بِلَعَلَّ، وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ. الْفِرَاشُ: الْوِطَاءُ الَّذِي يُقْعَدُ عَلَيْهِ وَيُنَامُ وَيُتَقَلَّبُ عَلَيْهِ. الْبِنَاءُ: مَصْدَرٌ، وَقَدْ براد بِهِ الْمَنْقُولُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قُبَّةٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ طِرَافٍ وَأَبْنِيَةُ الْعَرَبِ أَخْبِيَتِهِمْ. الْمَاءُ: مَعْرُوفٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَوْهَرٌ سَيَّالٌ بِهِ قِوَامُ الْحَيَوَانِ وَوَزْنُهُ

فَعَلَ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ وَهَمْزَتُهُ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ: مُوَيْهٌ، وَمِيَاهٌ، وَأَمْوَاهٌ. الثَّمَرَةُ: مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ مَطْعُومٍ أَوْ مَشْمُومٍ. النِّدُّ: الْمُقَاوِمُ الْمُضَاهِي مَثَلًا كَانَ أَوْ ضِدًّا أَوْ خِلَافًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُفَضَّلُ: النِّدُّ: الضِّدُّ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ تَمْثِيلٌ لَا حَصْرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّدُّ: الضد المبغض المناوي مِنَ النُّدُودِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: النِّدُّ: الْكُفُؤُ وَالْمِثْلُ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ اللُّغَةِ سِوَى أَبِي عُبَيْدَةَ. فَإِنَّهُ قَالَ: الضِّدُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النِّدُّ: الْمِثْلُ، وَلَا يُقَالُ إِلَّا للمثل المخالف للبارىء، قَالَ جَرِيرٌ: أَتَيَّمًا تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا ... وَمَا تَيَّمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ وَنَادَدْتُ الرَّجُلَ: خَالَفْتُهُ وَنَافَرْتُهُ، مِنْ نَدَّ نُدُودًا إِذَا نَفَرَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَيْسَ لِلَّهِ نِدٌّ وَلَا ضِدٌّ، نَفَى ما يسد مسد وَنَفَى مَا يُنَافِيهِ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَعْقِلُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُنَافِقِينَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ لِكُفَّارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَالظَّاهِرُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ دَعْوَى الْخُصُوصِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَمَا يؤول إِلَيْهِ حَالُ كُلٍّ مِنْهُمْ، انْتَقَلَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إِلَى خِطَابِ النِّدَاءِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، بَعْدَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ فِيهِ هَزٌّ لِلسَّامِعِ وَتَحْرِيكٌ لَهُ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ صِنْفٍ إِلَى صِنْفٍ، وَلَيْسَ هَذَا انْتِقَالًا مِنَ الْخِطَابِ الْخَاصِّ إِلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ خِطَابٌ خَاصٌّ إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ تَجَوُّزًا فِي الْخِطَابِ بِأَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْكَلَامُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ الْخَاصِّ إِلَى الْكَلَامِ الْعَامِّ، قال هذا المفسر، وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ، فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَ ثُمَّ يَعُمُّونَ. وَلِهَذَا لَمَا نَزَلَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَصَّ وَعَمَّ، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ عَمُّ مُحَمَّدٍ لا أغني عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَا بَنِيَّ انْدُبُوا وَيَا أَهْلَ بَيْتِي ... وَقَبِيلِي عَلَيَّ عاما فعاما

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 214.

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَلْقَمَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكي، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ مَدَنِيٌّ. أَمَّا فِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ. وَأَيٌّ فِي أَيُّهَا مُنَادَى مُفْرَدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، وَلَيْسَتِ الضَّمَّةُ فِيهِ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَالرِّيَاشِيِّ، وَهِيَ وَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الألف واللام مَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُنَادَى تَوَصُّلٌ بِنِدَاءِ أَيْ إِلَى نِدَائِهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهَاءُ التَّنْبِيهِ كَأَنَّهَا عِوَضٌ مِمَّا مُنِعَتْ مِنَ الْإِضَافَةِ وَارْتَفَعَ النَّاسُ عَلَى الصِّفَةِ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ بِنَاءَ أَيْ شَبِيهٌ بِالْإِعْرَابِ، فَلِذَلِكَ جَازَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَوْضِعِ، خِلَافًا لِأَبِي عُثْمَانَ. وَزَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّ أَيًّا فِي النِّدَاءِ مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ الْمَرْفُوعَ بَعْدَهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِذَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَتَقْدِيرُهُ: يَا مَنْ هُوَ الرَّجُلُ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ مُسْتَقْصًى فِي النَّحْوِ. اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: وَلَمَّا وَاجَهَ تَعَالَى النَّاسَ بِالنِّدَاءِ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ شَمِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. لَا يُقَالُ: الْمُؤْمِنُونَ عَابِدُونَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْأَمْرُ بِمَا هُمْ مُلْتَبِسُونَ بِهِ؟ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ أَمْرٌ بِالِازْدِيَادِ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَصَحَّ مُوَاجَهَةُ الْكُلِّ بِالْعِبَادَةِ، وَانْظُرْ لِحُسْنِ مَجِيءِ الرَّبِّ هُنَا، فَإِنَّهُ السَّيِّدُ وَالْمُصْلِحُ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُصْلِحًا أَحْوَالَ الْعَبْدِ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ وَلَا يُشْرِكَ مَعَ غَيْرِهِ فِيهَا. وَالْخِطَابُ، إِنْ كَانَ عَامًّا، كَانَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكُمْ صِفَةَ مَدْحٍ، وَإِنْ كَانَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ، إِذْ لَفْظُ الرَّبِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ آلِهَتِهِمْ، وَنَبَّهَ بِوَصْفِ الْخَلْقِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ دُونَ غَيْرِهِ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «1» ، أَوْ عَلَى امْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِالْخَلْقِ عَلَى الصُّورَةِ الْكَامِلَةِ، وَالتَّمْيِيزِ عَنْ غَيْرِهِمْ بِالْعَقْلِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، أَوْ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَوَصْفُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَلْقِ مُوجِبٌ لِلْعِبَادَةِ، إِذْ هُوَ جَامِعٌ لِمَحَبَّةِ الِاصْطِنَاعِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَالْمُحِبُّ يَكُونُ عَلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الطَّاعَةِ لِمَنْ يُحِبُّ. وَقَالُوا: الْمَحَبَّةُ ثَلَاثٌ، فَزَادُوا مَحَبَّةَ الطِّبَاعِ كَمَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِوَلِدِهِ، وَأَدْغَمَ أَبُو عمرو خلقكم، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَلْقِ فِي اللُّغَةِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ وَالْإِنْشَاءِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

_ (1) سورة النمل: 16/ 17. [.....]

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَمُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنَّهُ قَدْ يُوصَفُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، كَبَيْتِ زُهَيْرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ «2» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، أُسْتَاذُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَالِقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِكْرِ وَالظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَكَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَكَلَامُ الْبَصْرِيِّ مُصَادِمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ «3» ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ اسم الخالق على الله، وَفِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَعَطَفَ قوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي خَلَقَكُمْ، وَالْمَعْطُوفُ مُتَقَدِّمٌ فِي الزَّمَانِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَبَدَأَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الزَّمَانِ، لِأَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ غَيْرِهِ، إِذْ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلِأَنَّهُمُ الْمُوَاجَهُونَ بِالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، فَتَنْبِيهُهُمْ أَوَّلًا عَلَى أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ آكَدُ وَأَهَمُّ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِصِفَةِ الْخَلْقِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ مُقِرَّةٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ، إِذْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، جَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِفَتْحِ مِيمِ مِنْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ وَوَجْهُهَا عَلَى إِشْكَالِهَا أَنْ يُقَالَ: أَقْحَمَ الْمَوْصُولَ الثَّانِيَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَصِلَتِهِ تَأْكِيدًا، كَمَا أَقْحَمَ جَرِيرٌ فِي قَوْلِهِ: يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لَا أَبَا لَكُمُ تَيْمًا الثَّانِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَكَإِقْحَامِهِمْ لَامَ الْإِضَافَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي لَا أَبَا لَكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي خَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةُ زَيْدٍ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بَعْدَ الْمَوْصُولِ بِمَوْصُولٍ آخَرَ فِي مَعْنَاهُ مُؤَكِّدٍ لَهُ، لَمْ يَحْتَجِ الْمَوْصُولُ الثَّانِي إِلَى صِلَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: مِنَ النَّفَرِ اللَّائِي الَّذِينَ أَذَاهُمُ ... يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ الْبَابِ قَعْقَعُوا

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 14. (2) سورة المائدة: 5/ 110. (3) سورة الحشر: 59/ 24.

فَإِذَا وَجَوَابُهَا صِلَةُ اللَّائِي، وَلَا صِلَةَ لِلَّذِينَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا أُكِّدَ الْمَوْصُولُ أَنْ تُكَرِّرَهُ مَعَ صِلَتِهِ لِأَنَّهَا مِنْ كَمَالِهِ، وَإِذَا كَانُوا أَكَّدُوا حَرْفَ الْجَرِّ أَعَادُوهُ مَعَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يُعِيدُونَهُ وَحْدَهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، فَالْأَحْرَى أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي الصِّلَةُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهُ. وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا الْبَيْتَ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ لِلْمَوْصُولِ الثَّانِي وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمَوْصُولُ فِي مَوْضِعِ الصِّلَةِ لِلْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ من النفر اللائي هُمُ الَّذِينَ أَذَاهُمْ، وَجَازَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ وَإِضْمَارِهِ لِطُولِ خَبَرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ قِرَاءَةُ زَيْدٍ أَنْ يَكُونَ قَبْلَكُمْ صِلَةَ مِنْ، وَمِنْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ وَخَبَرُهُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِينَ، التَّقْدِيرُ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ صِلَةُ الَّذِينَ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِكُمْ، وَفِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَعْيَانٌ، وَمِنْ قَبْلِكُمْ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ نَاقِصٌ لَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الْأَعْيَانِ فَائِدَةٌ، فَكَذَلِكَ الْوَصْلُ بِهِ إِلَّا عَلَى تأويل، وتأويله أنه يؤول إِلَى أَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ إِذَا وُصِفَ صَحَّ وُقُوعُهُ خَبَرًا نَحْوَ: نَحْنُ فِي يَوْمٍ طَيِّبٍ، كَذَلِكَ يُقَدَّرُ هَذَا وَالَّذِينَ كَانُوا مِنْ زَمَانٍ قَبْلَ زَمَانِكُمْ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِبَادَةَ عَلَيْنَا لِأَنَّهُمْ كَالْأُصُولِ لَهُمْ، فَخَلْقُ أُصُولِهِمْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى فُرُوعِهِمْ، فَذَكَّرَهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُصُولِهِمْ بِالْإِيجَادِ. وَلَيْسَتْ لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى كَيْ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنَّهَا لِلتَّرَجِّي وَالْإِطْمَاعِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَقَعُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ «1» ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا عَبَدْتُمْ رَبَّكُمْ رَجَوْتُمُ التَّقْوَى، وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ تَعَلُّقُهَا بِخَلَقَكُمْ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُوجَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ بِحَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ تَعَلُّقِهَا بِخَلَقَكُمْ، قَالَ: لَعَلَّ وَاقِعَةٌ فِي الْآيَةِ مَوْقِعَ الْمَجَازِ لَا الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيَتَعَبَّدَهُمْ بِالتَّكْلِيفِ، وَرَكَّبَ فِيهِمُ الْعُقُولَ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ فِي أَقْدَارِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ، وَهَدَاهُمُ النَّجْدَيْنِ، وَوَضَعَ فِي أَيْدِيهِمْ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ، وَأَرَادَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ وَالتَّقْوَى، فَهُمْ فِي صُورَةِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوا لِتَرَجُّحِ أَمْرِهِمْ، وَهُمْ مُخْتَارُونَ بَيْنَ الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ، كَمَا تَرَجَّحَتْ حَالُ الْمُرْتَجِي بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَارٌ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ اللَّهَ مِنْهُ إِلَّا فِعْلَ الْخَيْرِ، وهي مسألة

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 73.

يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ أَنْ يَكُونَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. فَالَّذِي نُودُوا لِأَجْلِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا ذَلِكَ وَأَتَى بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْضِيحِ أَوِ الْمَدْحِ لِلَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْعِبَادَةُ، فَلَمْ يجأ بِالْمَوْصُولِ لِيُحَدِّثَ عَنْهُ بَلْ جَاءَ فِي ضِمْنِ الْمَقْصُودِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَمَّا صِلَتُهُ فَلَمْ يجأ بِهَا لِإِسْنَادٍ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِتَتْمِيمِ مَا قَبْلَهَا. وَإِذَا كَانَ كذلك فكونها لم يجأ بِهَا لِإِسْنَادٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُهْتَمَّ بِهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا تَرَجٍّ أَوْ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اعْبُدُوا، فَإِنَّهَا الْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا أَوَّلًا وَالْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ. وَإِذَا تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا، كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا، إِذْ قَوْلُهُ: اعْبُدُوا خِطَابٌ، وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ خِطَابٌ. وَلَمَّا اخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَعَلُّقَهُ بِالْخَلْقِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ كَمَا خَلَقَ الْمُخَاطَبِينَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَكَذَلِكَ خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لِذَلِكَ قَصَرَهُ عَلَيْهِمْ دُونَ مَنْ قَبْلَهُمْ، قُلْتُ: لَمْ يَقْصُرْهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ غَلَّبَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَائِبِينَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عَلَى إِرَادَتِهِمْ جَمِيعًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا، فَيَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: لَعَلَّ مُتَّصِلَةٌ بِاعْبُدُوا لَا بِخَلَقَكُمْ، لِأَنَّ مَنْ دَرَأَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَهَنَّمَ لَمْ يَخْلُقْهُ لِيَتَّقِيَ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: افْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ أَنْ تَتَّقُوا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمَّا جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَلْقِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قِيلَ: تَعْبُدُونَ لِأَجْلِ اعْبُدُوا أَوِ اتَّقُوا الْمَكَانَ تَتَّقُونَ لِيَتَجَاوَبَ طَرَفَا النَّظْمِ؟ قُلْتُ: لَيْسَتِ التَّقْوَى غَيْرَ الْعِبَادَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَنَافُرِ النَّظْمِ، وَإِنَّمَا التَّقْوَى قُصَارَى أَمْرِ الْعَابِدِ وَمُنْتَهَى جُهْدِهِ، فَإِذَا قَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَقْصَى غَايَاتِ الْعِبَادَةِ كَانَ أَبْعَثُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَأَشَدُّ إِلْزَامًا لَهَا وَأَثْبَتُ لَهَا فِي النُّفُوسِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كَانَ لِأَجْلِ التَّقْوَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِيَتَجَاوَبَ طَرَفَا النَّظْمِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُنَا تَجَاوُبُ طَرَفَيِ النَّظْمِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَوِ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ مِثْلُ: اضْرِبْ زَيْدًا لَعَلَّكَ تَضْرِبُهُ، وَاقْصِدْ خَالِدًا لَعَلَّكَ تَقْصِدُهُ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ غَثَاثَةِ اللَّفْظِ وَفَسَادِ الْمَعْنَى، والقرآن متنزه عَنْ ذَلِكَ. وَالَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْعِبَادَةِ عَلَى رَجَائِهِمْ عِنْدَ حُصُولِهَا حُصُولَ التَّقْوَى لَهُمْ، لِأَنَّ التَّقْوَى مَصْدَرُ اتَّقَى، وَاتَّقَى مَعْنَاهُ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهَذَا مَرْجُوٌّ حُصُولُهُ عِنْدَ حُصُولِ الْعِبَادَةِ. فَعَلَى هَذَا، الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ نَفْسَ التَّقْوَى، لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ هُوَ الاحتزاز عَنِ الْمَضَارِّ، وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ نَفْسُ

الِاحْتِرَازِ بَلْ يُوجِبُ الِاحْتِرَازَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اعْبُدُوهُ فَتَحْتَرِزُوا عَنْ عِقَابِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ اتِّقَاءً فَهُوَ مَجَازٌ، وَمَفْعُولُ يَتَّقُونَ مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّارُ، أَوْ مَعْنَاهُ تُطِيعُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ قَالَ الْمَعْنَى الَّذِي خَلَقَكُمْ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ خَلَقَهُمْ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى كَانُوا مُطِيعِينَ مَجْبُولِينَ عَلَيْهَا، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي أَنَّهُمْ لَوْ خُلِقُوا وَهُمْ رَاجُونَ لِلتَّقْوَى لَكَانَ ذَلِكَ مَرْكُوزًا فِي جِبِلَّتِهِمْ، فَكَانَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ غَيْرُ التَّقْوَى وَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعَاصِي هِيَ الْوَاقِعَةُ كَثِيرًا، وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، وَقَدْ يُخْلَقُ الْإِنْسَانُ رَاجِيًا لِشَيْءٍ فَلَا يَقَعُ مَا يَرْجُوهُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا يَفْعَلُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ، بَلْ نَجِدُ الْإِنْسَانَ يَعْتَقِدُ رُجْحَانَ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ ثُمَّ هُوَ يَفْعَلُهُ، وَلَقَدْ صَدَقَ الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ: عِلْمِي بِقُبْحِ الْمَعَاصِي حِينَ أَرْكَبُهَا ... يَقْضِي بِأَنِّي مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رَجَاءِ الْإِنْسَانِ لِشَيْءٍ وُقُوعُ مَا يُرْتَجَى، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ، أَعْنِي تَقْدِيرَ الْحَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ لعل للا يشاء، فَهِيَ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَيْسَتْ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً فَيَصِحُّ وُقُوعُهَا حَالًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هذه الآية، يريد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَالْمَوْصُولُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ يَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ، فَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الْقَطْعِ، إِذْ هُوَ صِفَةُ مَدْحٍ، قَالُوا: أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِلَةَ الَّذِي وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا قَدْ مَضَيَا، فَلَا يُنَاسِبُ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، لِأَنَّ مِنَ الرَّوَابِطِ عِنْدَهُ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِمَعْنَاهُ، فَالَّذِي مُبْتَدَأٌ، وفَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَالرَّابِطُ لَفْظُ اللَّهِ مِنْ لِلَّهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، وَهَذَا مِنْ تَكْرَارِ الْمُبْتَدَأِ بِمَعْنَاهُ. وَلَا نَعْرِفُ إِجَازَةَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ. أَجَازَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ قَامَ أَبُو عَمْرٍو، إِذَا كَانَ أَبُو عَمْرٍو كُنْيَةً لِزَيْدٍ، وَنَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ. وَأَمَّا نَصْبُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَطْعِ، إِذْ هُوَ وُصْفُ مَدْحٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَا كَانَ لَهُ وَصْفًا الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَهُوَ رَبُّكُمْ، قَالُوا: وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَيَكُونُ نَعْتًا لِلنَّعْتِ وَنَعْتُ النَّعْتِ مِمَّا يُحِيلُ تَكْرَارَ النُّعُوتِ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ النَّعْتَ لَا يُنْعَتُ، بَلِ النُّعُوتُ كُلُّهَا

رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعُوتٍ وَاحِدٍ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّعْتُ لَا يُمْكِنُ تَبَعِيَّتُهُ لِلْمَنْعُوتِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ نَعْتًا لِلنَّعْتِ الْأَوَّلِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: يَا أَيُّهَا الْفَارِسُ ذُو الْجُمَّةِ. وَأَجَازَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ نَصْبَهُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِمُلْتَبِسٍ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مُفَسِّرٍ لَهُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَأَجَازَ أَيْضًا نَصْبَهُ بِتَتَّقُونَ، وَهُوَ إِعْرَابٌ غَثٌّ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَإِنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ الَّذِي دُونَ وَاوٍ لِتَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ وَمَا قَبْلَهَا رَاجِعِينَ إِلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا آخَرَ، لِأَنَّ الْعَطْفَ أَصْلُهُ الْمُغَايَرَةُ. وَجَعَلَ: بِمَعْنَى صَيَّرَ، لِذَلِكَ نُصِبَتِ الْأَرْضُ. وَفِرَاشًا، وَلَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَنْتَصِبَ فِرَاشًا وَبِنَاءً عَلَى الْحَالِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَغَايَرَ اللَّفْظَ كَمَا غَايَرَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «1» ، لِأَنَّهُ قَصَدَ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ فِي الْفَصَاحَةِ، كَاخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَالْمَدْلُولِ وَاحِدٌ. وَأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو لَامَ جَعَلَ فِي لَامِ لَكُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ الْخَاصِّ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ أَرْضًا مَخْصُوصَةً، وَهِيَ كُلُّ مَا تَمَهَّدَ وَاسْتَوَى مِنَ الْأَرْضِ وَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِرَاشِ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ وَاللُّبْثِ لِكُلِّ حَيَوَانٍ. فَالْوَهْدُ مُسْتَقَرُّ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْجِبَالُ وَالْحُزُونُ مُسْتَقَرٌّ لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ بُيُوتًا أَوْ حُصُونًا وَمَنَازِلَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَحْشًا وَطَيْرًا يَفْتَرِشُونَ مِنْهَا أَوْكَارًا، وَيَكُونُ الِامْتِنَانُ عَلَى هَذَا مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ لَهُ قَرَارًا. وَغَلَبَ خِطَابُ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ، أَوْ يَكُونُ خِطَابُ الِامْتِنَانِ وَقَعَ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُعَدٌّ لِمَنَافِعِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، فَخَلَقَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمِنَّةِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ. وَقَرَأَ يَزِيدٌ الشَّامِيُّ: بِسَاطًا، وَطَلْحَةُ: مِهَادًا. وَالْفِرَاشُ، وَالْمِهَادُ، وَالْبِسَاطُ، وَالْقَرَارُ، وَالْوِطَاءُ نَظَائِرُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ بِقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً عَلَى أَنَّ الأرض مبسوطة لا كرية، وبأنها لو كانت كرية مَا اسْتَقَرَّ مَاءُ الْبِحَارِ فِيهَا. أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ مسطحة ولا كرية، إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَفْتَرِشُونَهَا كَمَا يَتَقَلَّبُونَ بِالْمَفَارِشِ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى شَكْلِ السَّطْحِ أَوْ عَلَى شَكْلِ الْكُرَةِ، وَأَمْكَنَ الِافْتِرَاشُ فِيهَا لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِهَا وَاتِّسَاعِ جِرْمِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا كَانَ يَعْنِي الِافْتِرَاشُ سَهْلًا فِي الْجَبَلِ، وَهُوَ وَتَدٌ مِنْ أَوْتَادِ الْأَرْضِ، فَهُوَ أَسْهَلُ فِي الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 1.

وَالْعَرْضِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِاسْتِقْرَارِ مَاءِ الْبِحَارِ فِيهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أن تكون كرية وَيَكُونُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا مُنْسَطَحٌ يَصْلُحُ لِلِاسْتِقْرَارِ، وَمَاءُ الْبَحْرِ مُتَمَاسِكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمُقْتَضَى الْهَيْئَةِ، انْتَهَى قَوْلُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون بعض الشكل الكري مَقَرًّا لِلْمَاءِ إِذَا كَانَ ذلك الشَّكْلُ ثَابِتًا غَيْرَ دَائِرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ دَائِرًا فَيَسْتَحِيلُ عَادَةً قَرَارُهُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الشكل الكريّ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بِناءً: هُوَ تَشْبِيهٌ بِمَا يُفْهَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ «1» ، شُبِّهَتْ بِالْقُبَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُقَالُ لِسَقْفِ الْبَيْتِ بِنَاءٌ، وَالسَّمَاءُ لِلْأَرْضِ كَالسَّقْفِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقِيلَ: سَمَّاهَا بِنَاءً، لِأَنَّ سَمَاءَ الْبَيْتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً غَيْرَ بِنَاءٍ، كَالْخِيَامِ وَالْمَضَارِبِ وَالْقِبَابِ، لَكِنَّ الْبَنَاءَ أَبْلَغُ فِي الْإِحْكَامِ وَأَتْقَنُ فِي الصَّنْعَةِ وَأَمْنَعُ لِوُصُولِ الْأَذَى إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، فَوَصَفَ السَّمَاءَ بِالْأَبْلَغِ وَالْأَتْقَنِ وَالْأَمْنَعِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ حِكْمَتِهِ، إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ كُلَّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا بِأَسَاسٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ بِعَمْدٍ وَأَطْنَابٍ مَرْكُوزَةٍ فِيهَا، وَالسَّمَاءُ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِظَمِ، وَهِيَ سَبْعُ طِبَاقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَعَلَيْهَا مِنْ أَثْقَالِ الْأَفْلَاكِ وَأَجْنَاسِ الْأَمْلَاكِ وَأَجْرَامِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي لَا يُعَبَّرُ عَنْ عِظَمِهَا وَلَا يُحْصَى عَدَدُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَسَاسٍ يُمْسِكُهَا وَلَا عَمَدٍ تُقِلُّهَا وَلَا أَطْنَابَ تَشُدُّهَا، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ بِعَمَدٍ وَأَسَاسٍ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَحْكَمِ الْمُبْدِعَاتِ، فَكَيْفَ وَهِيَ عَارِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ مُمْسَكَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «2» . وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِنَاءً لِتَمَاسُكِهَا كَمَا يَتَمَاسَكُ الْبِنَاءُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ السَّحَابُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنَ السُّمُوِّ، وَلَا يَجُوزُ الْإِضْمَارُ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي فَحُسْنُ الْإِظْهَارِ دُونَ الْإِضْمَارِ هُنَا كَونُ السَّمَاءِ الْأُولَى فِي ضِمْنِ جُمْلَةٍ، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ بِنَفْسِهَا أَنْ تَكُونَ صِلَةً تَامَّةً لَوْلَا عَطْفُهَا، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْزَلَ وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَاءٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ نَعْتًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهَا إِذْ ذَاكَ التَّبْعِيضُ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مضاف محذوف أي من مِيَاهِ السَّمَاءِ وَنَكَّرَ. مَاءً لِأَنَّ الْمَنْزِلَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَإِنَّمَا هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ. فَأُخْرِجَ بِهِ: وَالْهَاءُ فِي بِهِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَاءِ، وَالْبَاءُ معناها

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 47. (2) سورة فاطر: 35/ 41.

السَّبَبِيَّةُ. فَالْمَاءُ سَبَبٌ لِلْخُرُوجِ، كَمَا أَنَّ مَاءَ الْفَحْلِ سَبَبٌ فِي خَلْقِ الْوَلَدِ، وَهَذِهِ السَّبَبِيَّةُ مَجَازٌ، إِذِ الْبَارِي تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أن ينشىء الْأَجْنَاسَ، وَقَدْ أَنْشَأَ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَدَ خَلْقَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ أَمْرٍ مَا، أَجْرَى ذَلِكَ الْأَمْرَ مَجْرَى السَّبَبِ لَا أَنَّهُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ. وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي إِنْشَاءِ الْأُمُورِ مُنْتَقِلَةً مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حِكَمٌ يُسْتَنْصَرُ بِهَا، لَمْ يَكُنْ فِي إِنْشَائِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ أَطْوَارٍ، لِأَنَّ فِي كُلِّ طَوْرٍ مُشَاهَدَةَ أَمْرٍ مِنْ عَجِيبِ التَّنَقُّلِ وَغَرِيبِ التَّدْرِيجِ تَزِيدُ الْمُتَأَمِّلَ تَعْظِيمًا لِلْبَارِي. مِنَ الثَّمَرَاتِ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الثَّمَرَاتِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ارْتِكَابِ أَنَّ الثَّمَرَاتِ مِنْ بَابِ الْجُمُوعِ الَّتِي يَتَفَاوَتُ بَعْضُهَا مَوْضِعَ بَعْضٍ لِالْتِقَائِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ، نَحْوُ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ «1» ، وثَلاثَةَ قُرُوءٍ «2» ، فَقَامَتِ الثَّمَرَاتُ مَقَامَ الثَّمَرِ أَوِ الثِّمَارِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَهُوَ وإن كان جمع قلة، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي لِلْعُمُومِ تَنْقِلُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ لِجَمْعِ الْقِلَّةِ لِلْعُمُومِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَرَاتِ وَالثِّمَارِ، إِذِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِيهِمَا، وَلِذَلِكَ رَدَّ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْ نَقَدَ عَلَى حَسَّانَ قَوْلَهُ: لَنَا الْجَفَنَاتُ الغر يا معن فِي الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا بِأَنَّ هَذَا جَمْعَ قِلَّةٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى زَعْمِهِ أَنْ يَقُولَ: الْجِفَانُ وَسُيُوفُنَا، وَهُوَ نَقْدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ يَنْقِلُهُ، وَأَبْعَدُ مَنْ جَعَلَ مِنْ زَائِدَةً، وَجَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زِيَادَةَ مِنْ فِي الْوَاجِبِ، وَقِيلَ مَعْرِفَةً، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ إِلَّا الْأَخْفَشُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الثَّمَرَاتِ الَّتِي أَخْرَجَهَا رِزْقًا لَنَا، وَكَمْ مِنْ شَجَرَةٍ أَثْمَرَتْ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رِزْقًا لَنَا، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ كَانَ بَعْضُ الثِّمَارِ رِزْقًا لَنَا وَبَعْضُهَا لَا يَكُونُ رِزْقًا لَنَا، وَهُوَ الْوَاقِعُ. وَنَاسَبَ فِي الْآيَةِ تَنْكِيرُ الْمَاءِ وَكَوْنُ مِنْ دَالَّةٍ عَلَى التَّبْعِيضِ وَتَنْكِيرُ الرِّزْقِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ الْمَاءِ فَأَخْرَجَ بِهِ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ بَعْضَ رِزْقٍ لَكُمْ، إِذْ لَيْسَ جَمِيعُ رِزْقِهِمْ هُوَ بَعْضُ الثَّمَرَاتِ، إِنَّمَا ذَلِكَ بَعْضُ رِزْقِهِمْ، وَمِنَ الثَّمَرَاتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ بِأَخْرَجَ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا رِزْقًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَرْزُوقُ كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ، أَوْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ لَهُ فِيهِ مَوْجُودَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَخْرَجَ، وَيَكُونُ رِزْقًا مَفْعُولًا بِأَخْرَجَ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: مِنَ الثَّمَرَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، يُرِيدُ به

_ (1) سورة الدخان: 44/ 25. (2) سورة البقرة: 2/ 228.

الْجَمْعَ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ أُدْرِكَتْ ثَمَرَةُ بُسْتَانِهِ، يُرِيدُونَ ثِمَارَهُ. وَقَوْلُهُمْ: لِلْقَصِيدَةِ كَلِمَةً، وَلِلْقَرْيَةِ مَدَرَةً، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْإِفْرَادَ. وَلَكُمْ: إِنْ أُرِيدَ بِالرِّزْقِ الْمَصْدَرُ كَانَتِ الْكَافُ مَفْعُولًا بِهِ وَاللَّامُ مَنَوِيَّةً لِتَعَدِّي الْمَصْدَرِ إِلَيْهِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ ابْنِي تَأْدِيبًا لَهُ، أَيْ تَأْدِيبَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَرْزُوقَ كَانَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنًا لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مُتَعَلِّقًا بِأَخْرَجَ، أَيْ فَأَخْرَجَ لَكُمْ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا. وَانْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: رِزْقًا لَكُمْ ذَكَرَ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ: اثْنَيْنِ مِنَ الْأَنْفُسِ خَلْقَهُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَثَلَاثَةً مِنْ غَيْرِ الْأَنْفُسِ كَوْنُ الْأَرْضِ فِرَاشًا وَكَوْنُ السَّمَاءِ بِنَاءً، وَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا تَقَدُّمُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَثَنَّى بِخَلْقِ الْآبَاءِ، وَثَلَّثَ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدَّمَ السَّمَاءَ عَلَى نُزُولِ الْمَطَرِ وَإِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ، لِأَنَّ هَذَا كَالْأَمْرِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْأَثَرُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمُؤَثِّرِ. وَقِيلَ: قَدَّمَ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ خَلْقَهُمْ أَحْيَاءً قَادِرِينَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ. وَأَمَّا خَلْقُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالثَّمَرِ، فَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِشَرْطِ حُصُولِ الْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعَقْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَمَنْ قَالَ السَّمَاءَ أَفْضَلُ قَالَ: لِأَنَّهَا مُتَعَبَّدُ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ بُقْعَةٍ عصى الله فيها، وَلِأَنَّ آدَمَ لَمَّا عَصَاهُ قَالَ: لَا تَسْكُنُ جِوَارِي، وَلِتَقْدِيمِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، وَلِأَنَّ فِيهَا الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَاللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ وَالْقَلَمَ، وَأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ. وَمَنْ قَالَ الْأَرْضُ أَفْضَلُ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ مِنْهَا بِقَاعًا بِالْبَرَكَةِ، وَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَخْلُوقُونَ مِنْهَا، وَلِأَنَّهَا مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَسُمُّوا أَنْدَادًا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ أَشْرَكُوهُمْ مَعَهُ تَعَالَى فِي التَّسْمِيَةِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْعِبَادَةُ صُورَةٌ لَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ لِذَوَاتِهِمْ بَلْ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يُسَمُّونَ اللَّهَ إِلَهَ الْآلِهَةِ وَرَبَّ الْأَرْبَابِ، وَمَنْ شَابَهَ شَيْئًا فِي وَصْفِ مَا قِيلَ: هُوَ مِثْلُهُ وَشَبَهُهُ وَنِدُّهُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ دُونَ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ بِصُورَةِ الْجَمْعِ هُوَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا لَهُ تَعَالَى نِدًّا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا جَعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا كَثِيرَةً، فَجَاءَ النَّهْيُ عَلَى مَا كَانُوا اتَّخَذُوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ ... أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الْأُمُورُ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَيْفَعِ: نِدًّا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَاحِدًا بَلْ أَنْدَادًا، وَهَذَا

النَّهْيُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، أَيْ فَوَحِّدُوهُ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، لِأَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ هُوَ التَّوْحِيدُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِلَعَلَّ، عَلَى أَنْ يَنْتَصِبَ تَجْعَلُوا انْتِصَابَ فَأَطَّلِعَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى «1» ، فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، أَيْ خَلَقَكُمْ لِكَيْ تَتَّقُوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ فَلَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ لَا نَاهِيَةً بَلْ نَافِيَةً، وَتَجْعَلُوا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ التَّرَجِّي، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، أَجْرَوْا لَعَلَّ مَجْرَى هَلْ. فَكَمَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَنْصِبُ الْفِعْلَ فِي جَوَابِهِ فَكَذَلِكَ التَّرَجِّي. فَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْلِيقُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بِخَلَقَكُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى تَقْدِيرِهِ أَيْ خَلَقَكُمْ لِكَيْ تَتَّقُوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ؟ فَلَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالَّذِي إِذَا جَعَلْتَهُ خبر مبتدأ محذوف، أي هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّلَائِلِ النَّيِّرَةِ الشَّاهِدَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا. وَالظَّاهِرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَفِيهَا مِنَ التَّحْرِيكِ إِلَى تَرْكِ الْأَنْدَادِ وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مَا لَا يَخْفَى، أَيْ أَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالْإِدْرَاكِ لِلَطَائِفِ الْأَشْيَاءِ وَالِاسْتِخْرَاجِ لِغَوَامِضِ الدَّلَائِلِ، فِي الرُّتْبَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ لِمَنْ تَحَلَّى بِهَا أَنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَهُ. إِذْ ذَاكَ فِعْلَ مَنْ كَانَ أَجْهَلَ الْعَالَمِ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْفِطْنَةِ وَأَكْثَرَهُمْ تَجْوِيزًا لِلْمُسْتَحِيلَاتِ. وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالتَّمْيِيزُ تَخْصِيصُ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ تَعْلَمُونَ بِمَعْنَى تَعْقِلُونَ، وَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خلق السموات وَأَنْزَلَ الْمَاءَ، وَفَعَلَ مَا شَرَحَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمَعْنَى هَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ، أَوْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابَيْكُمُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حِجَارَةٌ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنَ التَّفَاوُتِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَا تَفْعَلُ مِثْلَ أَفْعَالِهِ كَقَوْلِهِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ «2» ؟ قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلنَّاسِ الْمَأْمُورِينَ بِاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ في ذلك.

_ (1) سورة غافر: 40/ 36- 37. (2) سورة الروم: 30/ 40.

قَالَ ابْنُ فُورَكَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، الْمَعْنَى: فَلَا تَرْتَدُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا بَعْدَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ نَفْيُ الْجَهْلِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ، هَذِهِ الْآيَةُ تُعْطِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى الْإِنْسَانَ بِنِعَمِهِ هَذِهِ عَنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَمَنْ أَحْوَجَ نَفْسَهُ إِلَى بِشَرٍ مِثْلِهِ بِسَبَبِ الْحِرْصِ وَالْأَمَلِ وَالرَّغْبَةِ فِي زُخْرُفِ الدُّنْيَا، فَقَدْ أَخَذَ بِطَرَفِ مَنْ جَعَلَ نِدًّا، انْتَهَى. وَقَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ يُعْطِي أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى الْإِنْسَانَ، خَطَأٌ فِي التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ أَعْطَى لَا تَنُوبُ أَنَّ وَمَعْمُولَاهَا مَنَابَ مَفْعُولَيْهَا، بِخِلَافِ ظَنَّ، فَإِنَّهَا تَنُوبُ مَنَابَ مَفْعُولَيْهَا، وَلِذَلِكَ سِرٌّ ذُكِرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ: الْخِلْقَةُ الْبَشَرِيَّةُ، وَالْبِنْيَتَانِ الْأَرْضِيَّةُ وَالسَّمَاوِيَّةُ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ وَمَسْرَحُ الْإِبْصَارِ وَمَوَاطِنُ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَبِهَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَقَدَّمَ الْخِلْقَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَالَمِ الْأَصْغَرِ، لِمَا فِيهَا مِنْ بَدَائِعِ الصَّنْعَةِ مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ وَصْفُ لِسَانٍ وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ فِكْرُ جَنَانٍ، وَظُهُورُ حُسْنِ الصَّنْعَةِ فِي الْأَشْيَاءِ اللَّطِيفَةِ الْجِرْمِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْأَجْرَامِ الْعِظَامِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِي تَقَلُّبِ أَحْوَالِهِ أَقْرَبُ إِلَى ذِهْنِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «1» ، أَوْ لِأَنَّ الْعَرَبَ عَادَتُهَا تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ عِنْدَهَا وَالْمُعْتَنَى بِهِ، قَالَ: وَهُوَ تَعَالَى بِإِصْلَاحِ حَالِ الْبِنْيَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَكْثَرُ اهْتِمَامًا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «2» الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَنَافِعَ لِبَنِي آدَمَ وَأَعَدَّهَا نِعَمًا يَمْتَنُّ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَذِكْرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذِكْرِ النِّعْمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مَكَانًا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَتْ حِكْمَتُهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، فَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ جُلُوسًا وَنَوْمًا وَتَصَرُّفًا فِي مَعَايِشِهِمْ، وَجَعَلَ مِنْهُ سَهْلَا لِلْقَرَارِ وَالزَّرْعِ، وَوَعْرًا لِلِاعْتِصَامِ، وَجِبَالًا لِسُكُونِ الْأَرْضِ مِنَ الِاضْطِرَابِ. ثُمَّ لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْمُسْتَقَرِّ أَخْبَرَهُمْ بِجَعْلِ مَا يَقِيهِمْ وَيُظِلُّهُمْ، وَجَعَلَهُ كَالْخَيْمَةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ فِيهَا مِنْ غَرَائِبِ الْحِكْمَةِ بِأَنْ أَمْسَكَهَا فَوْقَهُمْ بِلَا عَمَدٍ وَلَا طَنَبٍ لِتَهْتَدِيَ عُقُولُهُمْ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، ثُمَّ نَبَّهْهُمْ عَلَى النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَهِيَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ وَسَبَبُ اهْتِزَازِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَأَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَمْكَنُ فِي الْحِكْمَةِ، وَأَتَمُّ فِي النِّعْمَةِ وأكبر في

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 21. (2) سورة الإسراء: 17/ 70.

[سورة البقرة (2) : الآيات 23 إلى 24]

الْمِقْدَارِ، لِأَنَّ السَّقْفَ وَالْبُنْيَانَ، فِيمَا يُعْهَدُ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَسَاسٍ وَعَمَدٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى الْأَرْضِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهَا، إِذْ عَلَى مَتْنِهَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ وَتَسْتَقِرُّ الْقَوَاعِدُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُ السَّقْفِ أَوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ الْأَرْضِ الَّتِي تَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا قَوَاعِدُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ خَلْقَهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ وَمَهَّدَ رَوَاسِيهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ «1» إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي بِذِكْرِ الْأَدْنَى إِلَى ذِكْرِ الْأَعْلَى. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّنْعَةِ، وَدَقَائِقِ الْحِكْمَةِ، وَظُهُورِ الْبَرَاهِينِ، مَا اقْتَضَى تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِيجَادِ، الْمُتَكَفِّلُ لِلْعِبَادِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ وَلَا لَهَا نَفْعٌ وَلَا ضَرٌّ، أَلَا لِلَّهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ: لَمَّا امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِمْ، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُتَوَالِدِينَ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، مَخْلُوقِينَ مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى، هُوَ تَعَالَى خَالِقُهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمُصَوِّرُهُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَمُخْرِجُهُمْ طِفْلًا، وَمُرَبِّيهِمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ غِذَاءٍ وَشَرَابٍ وَلِبَاسٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَدْعُو حَاجَتَهُمْ إِلَيْهَا فَجَعَلَ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ فِرَاشٌ مِثْلَ الْأُمِّ الَّتِي يَفْتَرِشُهَا الزَّوْجُ، وَهِيَ أَيْضًا تُسَمَّى فِرَاشًا، وَشَبَّهَ السَّمَاءَ الَّتِي عَلَتْ عَلَى الْأَرْضِ بِالْأَبِ الَّذِي يَعْلُو عَلَى الْأُمِّ وَيَغْشَاهَا، وَضَرَبَ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ مَثَلًا لِلنُّطْفَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مَنْ صُلْبِ الْأَبِ، وَضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ، يُؤْنِسُ تَعَالَى بِذَلِكَ عُقُولَهُمْ وَيُرْشِدُهَا إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ التَّخْلِيقِ، وَيُعَرِّفُهَا أَنَّهُ الْخَالِقُ لِهَذَا الْوَلَدِ وَالْمُخْرِجُ لَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، كَمَا أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلثَّمَرَاتِ وَمُخْرِجُهَا مِنْ بُطُونِ أَشْجَارِهَا، وَمُخْرِجُ أَشْجَارِهَا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَوْضَحَ ذَلِكَ لَهُمْ أَفْرَدُوهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَخَصُّوهُ بِالْعِبَادَةِ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ. قَوْلُهُ تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) إِنْ: حَرْفٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ يَكُونُ شَرْطًا، وَهُوَ أَصْلُ أَدَوَاتِهِ، وَحَرْفُ نَفْيٍ، وَفِي إِعْمَالِهِ إِعْمَالَ مَا الْحِجَازِيَّةِ خِلَافٌ، وَزَائِدًا مُطَّرِدًا بَعْدَ مَا النَّافِيَةِ، وَقَبْلَ مُدَّةِ الْإِنْكَارِ، وَلَا تَكُونُ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 9. [.....]

بِمَعْنَى إِذْ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَلَا يُعَدُ مِنْ مَوَاضِعِهِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّهَا ثُلَاثِيَّةُ الْوَضْعِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُهَا فِي التَّصْغِيرِ. الْعَبْدُ: لُغَةً الْمَمْلُوكُ الذَّكَرُ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا. الْإِتْيَانُ: الْمَجِيءُ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ: ائْتِ، كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَشَذَّ حَذْفُ فَائِهِ فِي الْأَمْرِ قِيَاسًا وَاسْتِعْمَالًا، قَالَ الشَّاعِرُ: تِ لِي آلَ عَوْفٍ فَانَدُّهُمْ لِي جَمَاعَةً ... وَسَلْ آلَ عَوْفٍ أَيُّ شَيْءٍ يُضِيرُهَا وَقَالَ آخَرُ: فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبِرُّكُمْ ... فُتُونًا قِفُوا دُونًا إِذَنْ بِالْجَرَائِمِ السُّورَةُ: الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً؟ وَسُمِّيَتْ سُورَةُ الْقُرْآنِ بِهَا لِأَنَّ قَارِئَهَا يُشْرِفُ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، كُسُورِ الْبِنَاءِ. وَقِيلَ: لِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ التَّامَّةِ: سُورَةٌ، أَوْ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْ أَسْأَرَتْ، وَالسُّؤْرِ فَأَصْلُهَا الْهَمْزُ وَخُفِّفَتْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْهَمْزُ فِيهَا لُغَةٌ. مِنْ مِثْلِهِ: الْمُمَاثَلَةُ تَقَعُ بِأَدْنَى مُشَابَهَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ مِثْلِكَ، يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً، وَلَفْظَةُ مَثَلٍ لَازِمَةُ الْإِضَافَةِ لَفْظًا، وَلِذَلِكَ لَحَنَ بَعْضُ الْمُوَلَّدِينَ فِي قَوْلِهِ: وَمِثْلُكَ مَنْ يَمْلِكُ النَّاسَ طُرًّا ... عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّاسِ مَثَلُ وَلَا يَكُونُ مَحَلًّا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. وَلَهُ فِي بَابِ الصِّفَةِ، إِذَا جَرَى عَلَى مُفْرَدٍ وَمُثَنَّى وَمَجْمُوعٍ، حُكْمٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. الدُّعَاءُ: الْهَتْفُ بِاسْمِ الْمَدْعُوِّ. الشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، لِلْمُبَالَغَةِ، كَعَلِيمٍ وَعُلَمَاءُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَاهِدٍ، كَشَاعِرٍ وَشُعَرَاءَ، وَلَيْسَ فُعَلَاءُ بَابَ فَاعِلٍ، دُونَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُلَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْمَجَازِيَّةِ، وَلَا يتصرف فيه بغير من. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا دُونَكَ فَلَا يُرْفَعُ أَبَدًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ ذَكَرَ دُونَكَ وَظُرُوفًا نَحْوَهَا لَا تُسْتَعْمَلُ أَسْمَاءً مَرْفُوعَةً عَلَى اخْتِيَارٍ، وَرُبَّمَا رَفَعُوا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْأَخْفَشِ: جَوَازُ تَصَرُّفِهِ، خَرَّجَ قَوْلَهُ تَعَالَى وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنِي، وَقَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا فِي الشِّعْرِ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَرَنِي أَنِّي حَمَيْتُ حَقِيبَتِي ... وَبَاشَرْتُ حَدَّ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ دُونَهَا وَتَجِيءُ دُونَ صِفَةٍ بِمَعْنَى رَدِيءٍ، يُقَالُ: ثَوْبٌ دُونَ، أَيْ رَدِيءٌ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يُعْرَبُ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ وَيَكُونُ دُونَ مُشْتَرَكًا. الصِّدْقُ: يُقَابِلُهُ الْكَذِبُ، وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ. لَنْ: حَرْفُ نَفْيٍ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ بَسِيطٌ، لَا مُرَكَّبٌ مِنْ لا إن خِلَافًا

لِلْخَلِيلِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَلَا نُونُهَا بَدَلٌ مِنْ أَلِفٍ، فَيَكُونُ أَصْلُهَا لَا خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَلَا يَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، ولا هِيَ أَقْصَرُ نَفْيًا مِنْ لَا إِذْ لَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ، وَلَا يَمْتَدُّ مَعْنَى النَّفْيِ فِيهَا كَمَا يَمْتَدُّ فِي لَا خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَلَا يَكُونُ دُعَاءً خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَعَمَلُهَا النَّصْبُ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْجَزْمَ بِهَا لُغَةٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ: لَنْ يَخِبِ الْآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ ... حَرَّكَ دُونَ بَابِكَ الْحَلَقَةْ وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. الْوَقُودُ: اسْمٌ لِمَا يُوقَدُ بِهِ، وَقَدْ سُمِعَ مَصْدَرًا، وَهُوَ أَحَدُ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، لَمْ يُحْفَظْ مِنْهَا، فِيمَا ذَكَرَ، الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ سِوَى هَذَا، وَالْوُضُوءُ وَالطَّهُورُ وَالْوُلُوعُ وَالْقَبُولُ، الْحِجَارَةُ: جَمْعُ الْحَجَرِ، وَالتَّاءُ فِيهَا لِتَأْكِيدِ تَأْنِيثِ الْجَمْعِ كَالْفُحُولَةِ. أُعِدَّتْ: هُيِّئَتْ. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا بِهِ مُحَمَّدٌ لَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا يُثْبِتُ الْوَحْدَانِيَّةَ وَيُبْطِلُ الإشراك، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَهُوَ بِمَعْزِلٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ، أَخَذَ يَحْتَجُّ عَلَى مَنْ شَكَّ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ، وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً، وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِهِ، بِأَنْ يَأْتُوا هُمْ وَمَنْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ بِسُورَةِ هَذَا، وَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْبُلَغَاءُ الْمُجِيدُونَ حَوْكَ الْكَلَامِ، مِنَ النِّثَارِ والنظام والمتقلبون فِي أَفَانِينِ الْبَيَانِ، وَالْمَشْهُودُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانُوا فِي رَيْبٍ حَقِيقَةً، وَكَانَتْ إِنِ الشَّرْطِيَّةُ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُمْكِنِ أَوِ الْمُحَقَّقِ الْمُبْهَمِ زَمَانَ وُقُوعِهِ، ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ إِنْ هُنَا مَعْنَاهَا: إِذَا، لِأَنَّ إِذَا تُفِيدُ مُضِيَّ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ إِنْ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى إِذَا. وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ لِكَانَ الْمَاضِيَةِ النَّاقِصَةِ مَعَانٍ حُكْمًا لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ، فَلِقُوَّةِ كَانَ زَعَمَ أَنَّ إِنْ لَا يُقْلَبُ مَعْنَاهَا إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، بَلْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِنْ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ كَانَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَتَأَوَّلُوا مَا ظَاهِرُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، إِمَّا عَلَى إِضْمَارٍ يَكُنْ بَعْدَ إِنْ نَحْوَ: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ «1» أَيْ إِنْ يَكُنْ كَانَ قَمِيصُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّبْيِينُ، أَيْ أَنْ يَتَبَيَّنَ كَوْنُ قَمِيصِهِ قدّ.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 26.

فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ كَوْنُهُمْ فِي رَيْبٍ مَاضِيًا، وَيَصِيرُ نَظِيرَ مَا لَوْ جَاءَ إِنْ كُنْتَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَقَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، إِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَمْ يُتَأَوَّلْ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ: جَرَى كَلَامُ اللَّهِ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، مِثَالُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ، قَالَ: وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْيَهُودِ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَجَعَلَهَا بِمَعْنَى إِذَا وَكَانَ مَاضِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَوْ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، فِرَارًا مِنْ جَعْلِ مَا بَعْدَ إِنْ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِنْ كَانُوا فِي رَيْبٍ فِيمَا مَضَى وَإِنْ تَعَلَّقَ عَلَى كَوْنِهِمْ فِي رَيْبٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُسْتَدَامَ، بِأَنْ يَظْهَرَ لِمُعْتَقَدِ الرَّيْبِ فِيمَا مَضَى خِلَافَ ذَلِكَ فَيَزُولُ عَنْهُ الرَّيْبُ، فَقِيلَ: وَإِنْ كُنْتُمْ، أَيْ: وَإِنْ تَكُونُوا فِي رَيْبٍ، بِاسْتِصْحَابِ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَكُمْ، فَأَتَوْا، وَهَذَا مِثْلُ مَنْ يَقُولُ لِوَلَدِهِ الْعَاقِّ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَعْصِينِي فَارْحَلْ عَنِّي، فَمَعْنَاهُ: إِنْ تَكُنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْصِينِي فَارْحَلْ عَنِّي، لَا يُرِيدُ التَّعْلِيقَ عَلَى الْمَاضِي، وَلَا أَنَّ إِنْ بِمَعْنَى إِذَا، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعِصْيَانِ وَتَعْلِيقِ الرَّحِيلِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ مَا يَثْبُتُ حَرْفِيَّتُهُ بِمَعْنَى إِذَا الظَّرْفِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ. وَفِي رَيْبٍ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَعَانِي مَنْزِلَةَ الْأَجْرَامِ. وَمِنْ تَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَمَا مَوْصُولَةً، أي من الذي نزلنا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ نَزَّلْنَاهُ، وَشَرْطُ حَذْفِهِ مَوْجُودٌ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً موصوفة، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى مَا النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَنَزَّلْنَا التَّضْعِيفَ فِيهِ هُنَا لِلنَّقْلِ، وَهُوَ الْمُرَادِفُ لِهَمْزَةِ النَّقْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى مُرَادِفَتِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِرَاءَةُ يَزِيدَ بْنِ قَطِيبٍ مِمَّا أَنْزَلَنَا بِالْهَمْزَةِ، وَلَيْسَ التَّضْعِيفُ هُنَا دَالًّا عَلَى نُزُولِهِ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ: مِمَّا نَزَّلَنَا عَلَى لَفْظِ التَّنْزِيلِ دُونَ الْإِنْزَالِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُرَادَ النُّزُولُ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّنْجِيمِ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِهِ لِمَكَانِ التَّحَدِّي. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَضْعِيفِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ هُنَا، هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّكْثِيرِ، أَيْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّضْعِيفِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَثْرَةِ. وَذَهَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً، نَحْوَ: جَرَحْتُ زَيْدًا، وَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَقَطَعْتُ، وَذَبَحْتُ، لَا يُقَالُ: جَلَّسَ زَيْدٌ، وَلَا قعد عمرو، وَلَا صَوَّمَ جَعْفَرٌ، وَنَزَّلْنَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا قَبْلَ التَّضْعِيفِ إِنَّمَا كَانَ لَازِمًا، وَتَعَدِّيهِ إِنَّمَا

يُفِيدُهُ التَّضْعِيفُ أَوِ الْهَمْزَةُ، فَإِنْ جَاءَ فِي لَازِمٍ فَهُوَ قَلِيلٌ. قَالُوا: مَاتَ الْمَالُ، وَمَوَّتَ الْمَالَ، إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ فِيهِ، وَأَيْضًا، فَالتَّضْعِيفُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، أَمَّا أَنْ يَجْعَلَ اللَّازِمَ مُتَعَدِّيًا فَلَا، وَنَزَّلْنَا قَبْلَ التَّضْعِيفِ كَانَ لَازِمًا وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا، فَيَكُونُ التَّعَدِّي الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّضْعِيفِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلتَّكْثِيرِ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّكْثِيرِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى اللَّازِمِ، بَقِيَ لَازِمًا نَحْوَ: مَاتَ الْمَالُ، وَمَوَّتَ الْمَالُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ التَّضْعِيفُ فِي نَزَلَ مُفِيدًا لِلتَّنْجِيمِ لَاحْتَاجَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» إِلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ دَالٌّ عَلَى التَّنْجِيمِ وَالتَّكْثِيرِ، وَقَوْلُهُ: جُمْلَةً واحِدَةً يُنَافِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَاتُ بِالْوَجْهَيْنِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَيْضًا مَجِيءُ نَزَلَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّكْثِيرُ وَالتَّنْجِيمُ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جَدًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ «2» ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «3» ، لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا تَكْرِيرَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا أَنَّهُ عَلَّقَ تَكْرِيرَ نُزُولِ مَلَكٍ رَسُولٍ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَلَائِكَةٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مُطْلَقُ الْإِنْزَالِ. وَفِي نَزَّلْنَا الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ قبله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وفَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. فَلَوْ جَرَى الْكَلَامُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ لَكَانَ مِمَّا نَزَلَ عَلَى عَبْدِهِ، لَكِنَّ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّفْخِيمِ لِلْمُنَزَّلِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مَا لَا يُؤَدِّيهِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ، لَا سِيَّمَا كَوْنُهُ أَتَى بنا الْمُشْعِرَةِ بِالتَّعْظِيمِ التَّامِّ وَتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَنَظِيرُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا «4» ، وَتَعَدِّي نَزَّلَ بِعَلَى إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْلَاءِ الْمُنَزَّلِ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالْمُلَابِسِ لَهُ، بِخِلَافِ إِلَى فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ وَالْوُصُولِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أفادته على تكرار ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ «5» طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «6» ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ «7» . وَفِي إِضَافَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ تَعَالَى تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ بخالص

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 32. (2) سورة الأنعام: 6/ 37. (3) سورة الإسراء: 17/ 95. (4) سورة الأنعام: 6/ 99. (5) سورة آل عمران: 3/ 3. (6) سورة طه: 20/ 20. (7) سورة آل عمران: 3/ 7.

الْعُبُودِيَّةِ، وَرَفْعِ مَحَلِّهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى، وَاسْمُ الْعَبْدِ عَامٌّ وَخَاصٌّ، وَهَذَا مِنَ الْخَاصِّ: لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَمَنْ قَرَأَ: عَلَى عِبَادِنَا بِالْجَمْعِ، فَقِيلَ: يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم وأمته، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَارَ نَظِيرَ قوله تعالى: أن يقولوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا «1» ، لِأَنَّ جَدْوَى الْمُنْزِلِ وَالْهِدَايَةَ الْحَاصِلَةَ بِهِ مِنِ امْتِثَالِ التَّكَالِيفِ، وَالْمَوْعُودِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَتْبُوعُونَ وَالتُّبَّاعُ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ يُجْعَلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ بَاشَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ، وَالْكُتُبَ وَالرَّسُولُ أَوَّلُ مَقْصُودٍ بِذَلِكَ، وَأَسْبَقُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُعَانِدُوهُ بِالتَّحَدِّي فِي كِتَابِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ بَعْضِهِمْ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «2» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُفْرَدِ الْجَمْعُ. وَتُبَيِّنُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ «3» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَفْرَدَ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ لِلْجِنْسِ. فَأْتُوا بِسُورَةٍ: طَلَبَ مِنْهُمُ الْإِتْيَانَ بِمُطْلَقِ سُورَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، فَلَمْ يَقْتَرِحْ عَلَيْهِمُ الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ طويلة فتعنتوا فِي ذَلِكَ، بَلْ سَهَّلَ عَلَيْهِمْ وَأَرَاحَ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مَا، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ التَّبْكِيتِ وَالتَّخْجِيلِ لَهُمْ. فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ وَلَا مُعَاضِدُوكُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِكُمْ؟ وَكَيْفَ يَلْحَقُكُمْ فِي ذَلِكَ ارْتِيَابٌ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ وَقَدْ تَعَرَّضَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا لِذِكْرِ فَائِدَةِ تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ وَتَقْطِيعِهِ سُوَرًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَوَائِدِ التَّفْصِيلِ وَالتَّسْوِيرِ. مِنْ مِثْلِهِ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا، أَوْ عَلَى عَبْدِنَا، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَرُجْحَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِارْتِيَابَ أَوَّلًا إِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُنْصَبًّا عَلَى الْمُنَزَّلِ لَا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّيْبُ فِي الْمُنَزَّلِ رَيْبًا فِي الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، فَكَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي نظير هذه

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 156. (2) سورة الأنعام: 6/ 91. (3) سورة ص: 38/ 45.

الْآيَةِ وَهَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «2» الثَّالِثُ: اقْتِضَاءُ ذَلِكَ كَوْنُهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ، سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا أَوِ انْفَرَدُوا، وَسَوَاءٌ كَانُوا أُمِّيِّينَ أَمْ كَانُوا غَيْرَ أُمِّيِّينَ، وُعَوْدُهُ عَلَى الْمُنَزَّلِ يَقْتَضِي كَوْنَ آحَادِ الْأُمِّيِّينَ عَاجِزًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِثْلَهُ إِلَّا الشَّخْصَ الْوَاحِدَ الْأُمِّيَّ. فَأَمَّا لَوِ اجْتَمَعُوا أَوْ كَانُوا قَارِئِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعْجَازَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَقْوَى، فَإِذَا جَعَلْنَا الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، فَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِسُورَةٍ أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ تَنَاقُضٌ فِي مِنْ هَذِهِ قَالَ: مِنْ مِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَقَوْلُهُ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَهَا، وَقَوْلُهُ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَعْمُولًا لَهَا فَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَدَافَعَ آخِرُهُ أَوَّلَهُ، لكن يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ التَّعَلُّقَ الصِّنَاعِيَّ كَتَعَلُّقِ الْبَاءِ فِي نَحْوِ: مُرُورِي بِزَيْدٍ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ يُرِيدُ التَّعَلُّقَ الْمَعْنَوِيَّ، أَيْ تَعَلُّقُ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، وَاحْتَرَزَ مِنَ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَأَتَوْا، فَلَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِهِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَبْيِينُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَجَازَ الْمَهْدَوِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، وَتُفَسَّرُ الْمِثْلِيَّةُ بِنَظْمِهِ وَرَصْفِهِ وَفَصَاحَةِ مَعَانِيهِ الَّتِي تَعْرِفُونَهَا، وَلَا يُعْجِزُهُمْ إِلَّا التَّأْلِيفُ الَّذِي خُصَّ بِهِ الْقُرْآنُ، أَوْ فِي غُيُوبِهِ وَصِدْقِهِ، وَأَجَازَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، وَسَتَأْتِي الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ الْمِثْلِيَّةِ عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُنَزَّلِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهَا لِلتَّبْعِيضِ وَلِبَيَانِ الْجِنْسِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا زائدة في هذا الموضع فَلَا يَجُوزُ، عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَفِي الْمِثْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، وَبَدِيعِ الرَّصْفِ، وَعَجِيبِ السَّرْدِ، وَغَرَابَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِيجَازِهِ وَإِتْقَانِ مَعَانِيهِ. الثَّانِي: مِنْ مِثْلِهِ فِي غُيُوبِهِ مِنْ إِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ. الثَّالِثُ: فِي احْتِوَائِهِ عَلَى الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْقَصَصِ، وَالْحِكَمِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْأَمْثَالِ. الرَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي صِدْقِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ. الْخَامِسُ: مِنْ مِثْلِهِ، أَيْ كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ جنسه.

_ (1) سورة هود: 11/ 13. (2) سورة الإسراء: 17/ 88.

السَّادِسُ: فِي أَنَّهُ لَا يخلق على كثرة الرد، وَلَا تَمَلُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَلَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا تُغْنَى عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْتَهِي غَرَائِبُهُ، وَلَا تَزُولُ طَلَاوَتُهُ عَلَى تَوَالِيهِ، وَلَا تَذْهَبُ حَلَاوَتُهُ مِنْ لَهَوَاتِ تَالِيهِ. السَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي دَوَامِ آيَاتِهِ وَكَثْرَةِ مُعْجِزَاتِهِ. الثَّامِنُ: مِنْ مِثْلِهِ، أَيْ مِثْلِهِ فِي كَوْنِهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، تَشْهَدُ لَكُمْ بِأَنَّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» وَإِنْ جَعَلْنَا الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، فَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَتَوْا مِنْ مِثْلِ الرَّسُولِ بِسُورَةٍ. وَمَعْنَى مِنْ عَلَى هَذَا أوجه ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَهِيَ أَيْضًا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِ الرَّسُولِ، أَيِ ابْتِدَاءِ كَيْنُونَتِهَا مِنْ مِثْلِهِ. وَفِي الْمِثْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ مِثْلِهِ مِنْ أُمِّيٍّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ. الثَّانِي: مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يُدَارِسِ الْعُلَمَاءَ، وَلَمْ يُجَالِسِ الْحُكَمَاءَ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَعَاطِي الْأَخْبَارِ، وَلَمْ يَرْحَلْ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْصَارِ. الثَّالِثُ: مِنْ مِثْلِهِ عَلَى زَعْمِكُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ. الرَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ مُدْرَتِهِ، وَذِكْرُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ، إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، وَعَلَى بَعْضِهَا لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمِثْلِ: كَلَامَ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، لِوُجُودِ أُمِّيٍّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلِوُجُودِ مَنْ لَمْ يُدَارِسِ الْعُلَمَاءَ، وَلِوُجُودِ مَنْ هُوَ سَاحِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ ذَلِكَ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ لَا مِثْلَ وَلَا نَظِيرَ. قَالَ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ الْمِثْلَ عَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى المنزل: فائتوا بِسُورَةٍ مِمَّا هُوَ عَلَى صِفَتِهِ فِي الْبَيَانِ الْغَرِيبِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَةِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِهِ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، أَوْ فَأْتُوا مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ بَشَرًا عَرَبِيًّا أَوْ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا قَصْدَ إِلَى مِثْلٍ وَنَظِيرٍ هُنَالِكَ، وَلَكِنَّهُ نَحْوُ قَوْلِ الْقَبَعْثَرِيِّ لِلْحَجَّاجِ، وَقَالَ لَهُ: لَأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْأَدْهَمِ مِثْلَ الْأَمِيرِ حُمِلَ عَلَى الْأَدْهَمِ وَالْأَشْهَبِ. أَرَادَ مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةِ الْأَمِيرِ مِنَ السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَبَسْطَةِ الْيَدِ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَحَدًا يَجْعَلُهُ مَثَلًا لِلْحَجَّاجِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَعَلَى مَا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 111. [.....]

فُسِّرَتْ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ إِذْ جُعِلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُودِ الْمَثَلِ، وَعَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَزَّلِ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي بَعْضِ تَفَاسِيرِ الْمُمَاثَلَةِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لَا مِثْلَ وَلَا نَظِيرَ مَعَ تَفْسِيرِهِ الْمُمَاثَلَةَ فِي كَوْنِهِ بَشَرًا عَرَبِيًّا أَوْ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُمَاثِلَ فِي هَذَا الشَّيْءِ الْخَاصِّ مَوْجُودٌ. وَلَمَّا طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُعَارَضَةَ بِسُورَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِمْ فِي رَيْبٍ مِنْ كونه من عند الله، لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، حَتَّى طَلَبَ مِنْهُمْ أن يدعوا شُهَدَاءَهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّظَافُرِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، فَقَالَ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، وَفَسَّرَ هُنَا ادْعُوَا: بِاسْتَغِيثُوا. قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الدُّعَاءُ طَلَبُ الْغَوْثِ، دَعَا: اسْتَغَاثَ وَبِاسْتَحْضِرُوا دَعَا فُلَانٌ فُلَانًا إِلَى الْحَاكِمِ، اسْتَحْضَرَهُ، وَشُهَدَاؤُهُمْ: آلِهَتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، أَوْ مَنْ يَشْهَدُهُمْ وَيَحْضَرُهُمْ مِنَ الْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ، أَنَّ مَا تَأْتُونَ بِهِ مِثْلَ الْقُرْآنِ، رُوِيَ عَنْ مجاهد وكونه جمع شهيد أحسن مِنْ جَمْعِ شَاهِدٍ لِجَرَيَانِهِ عَلَى قِيَاسِ جَمْعِ فَعِيلٍ نَحْوَ: هَذَا وَلِمَا فِي فَعِيلٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِشُهَدَاءَ بَالِغِينَ فِي الشَّهَادَةِ يَصْلُحُونَ أَنْ تُقَامَ بِهِمُ الْحُجَّةُ. مِنْ دُونِ اللَّهِ: تَتَعَلَّقُ بِادْعُوا، أَيْ وَادْعُوَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُهَدَاءَكُمْ، أَيْ لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ فَتَقُولُوا: اللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ مَا نَدَّعِيهِ حَقٌّ، كَمَا يَقُولُ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ: بَلِ ادْعُوا مِنَ النَّاسِ الشُّهَدَاءَ الَّذِينَ شَهَادَتُهُمْ تُصَحَّحُ بِهَا الدَّعَاوَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَادْعُوَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَنْ دون الله بشهدائكم. وَالْمَعْنَى: ادْعُوا مَنِ اتَّخَذْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ أَعْوَانُكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ دُونِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِهِمْ دُونَ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَى مِنْ دُونِ اللَّهِ: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ أَيْ تُرِيكَ الْقَذَى قُدَّامَهَا، وَهِيَ قُدَّامُ الْقَذَى لِرِقَّتِهَا وَصَفَائِهَا. وَأَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ وَبِدُعَاءِ الْأَنْصَارِ وَالْأَعْوَانِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، أَمْرُ تَهَكُّمٍ وَتَعْجِيزٍ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ سِيَّمَا تَفْسِيرُ الشُّهَدَاءِ بِآلِهَتِهِمْ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَنْطِقُ، فَالْأَمْرُ بِأَنْ يَسْتَعِينُوا بِمَا لَا يَنْطِقُ فِي مُعَارَضَةِ الْمُعْجِزِ غَايَةُ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مَعْنَاهُ: فِي كَوْنِكُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْمُنَزَّلِ عَلَى عَبْدِنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِنَا، وَقِيلَ: فِيمَا تَقْتَدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى: لَوْ نَشاءُ

لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا «1» ، لَكِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ الْمُعَارَضَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُمْ فِي رَيْبٍ يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَمَكُّنُ مُعَارَضَتِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَمْرَ تَهَكُّمٍ وَتَعْجِيزٍ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، انْتَقَلَ إِلَى إِرْشَادِهِمْ، إِذْ لَيْسُوا بِقَادِرِينَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَنْ كَذَّبَ، وَأَتَى بِإِنْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَوَاضِعِ إِذَا تَهَكُّمًا بِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ غَلَبْتُكَ لَمْ أُبْقِ عَلَيْكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبٌ، أَوْ أَتَى بِإِنْ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِمْ، وَإِنَّ الْمُعْجِزَ مِنْهُمْ كَانَ قَبْلَ التَّأَمُّلِ، كَالْمَشْكُوكِ فِيهِ عِنْدَهُمْ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى فَصَاحَتِهِمْ. وَمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا، وَعَبَّرَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، فَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ، وَيُغْنِيكَ عَنْ طُولِ مَا تَكَنَّى عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ لَفْظِ الْإِتْيَانِ إِلَى لَفْظِ الْفِعْلِ لَاسْتُطِيلَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا، كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذُكِرَ وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا، كَمَا حُذِفَ اخْتِصَارًا مَفْعُولُ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَفْعَلُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْحَذْفِ؟ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ تَعْلِيلٌ غَرِيبٌ لِعَمَلِ لَمْ الْجَزْمَ، قَالَ: وَجَزَمَتْ لَمْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ لَا فِي التَّبْرِئَةِ فِي أَنَّهُمَا يَنْفِيَانِ، فَكَمَا تَحْذِفُ لَا تَنْوِينَ الِاسْمِ، كَذَلِكَ تَحْذِفُ لَمْ الْحَرَكَةَ أَوِ الْعَلَامَةَ مِنَ الْفِعْلِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا إِثَارَةٌ لِهِمَمِهِمْ لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْلَغُ وَأَبْدَعُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ عَلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ. أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ كَوْنِ الْمُتَحَدَّى بِهِ مُعْجِزًا، الثَّانِي: الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ مِنْ أَنَّهُمْ لا لَنْ يَفْعَلُوا، وَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ عَارَضُوهُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ خُصُوصًا مِنَ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ وَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزُهُ. وَأَمَّا مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ فِي هَذْرِهِ، وَأَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي فِي عِبَرِهِ وَنَحْوُهُمَا، فَلَمْ يَقْصِدُوا بِهِ الْمُعَارَضَةَ، إِنَّمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيٌ بِذَلِكَ، فَأَتَوْا مِنْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ الْغَثِّ، وَالْمَعْنَى السَّخِيفِ، وَاللُّغَةِ الْمُهْجَنَةِ، وَالْأُسْلُوبِ الرَّذْلِ، وَالْفِقْرَةِ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَالْمَطْلَعِ الْمُسْتَقْبَحِ، وَالْمَقْطَعِ الْمُسْتَوْهَنِ، بِحَيْثُ لَوْ قُرِنَ ذَلِكَ بكلامهم في غير

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 31.

مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ وَحْيٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْبَلَاغَةِ مَا لَا يَخْفَى عَمَّنْ لَهُ يَسِيرُ تَمْيِيزٍ فِي ذَلِكَ. فَكَيْفَ الْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ وَالْبُلَغَاءُ الْفُصَحَاءُ، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ فَصَاحَتَهُمْ بِادِّعَائِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَفِيهَا مِنْ تَأْكِيدِ الْمَعْنَى مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكَانَ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُخْرِجًا ذَلِكَ مَخْرَجَ الْمُمْكِنِ، أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ، وَهُوَ إِخْبَارُ صِدْقٍ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَأْكِيدُ أَنَّهُمْ لَا يُعَارِضُونَهُ. وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِلَنْ مُمَيِّزٌ لِجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَالِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا لَنْ، وَكَانَ النَّفْيُ بِلَنْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ لَا، وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ فِي لَنْ تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: لَا أُقِيمُ غَدًا، فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْكَ قُلْتَ: لَنْ أُقِيمَ غَدًا، كَمَا تَفْعَلُ فِي: أَنَا مُقِيمٌ، وَإِنَّنِي مُقِيمٌ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مُخَالِفٌ لِمَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ لَنْ تَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ خَطِيبٍ زَمْلَكِيٌّ مِنْ أَنَّ لَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ وَأَنَّ لَا يَمْتَدُّ النَّفْيُ فِيهَا، فَكَادَ يَكُونُ عَكْسَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ، أَعْنِي التَّوْكِيدَ وَالتَّأْبِيدَ وَنَفْيَ مَا قَرُبَ: أَقَاوِيلُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّمَا الْمَرْجُوعُ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَصَرُّفَاتِهَا لِأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَمَقَانِعِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَى أَقَاوِيلِهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَنْ نَفِيٌ لِقَوْلِهِ: سَيَفْعَلُ، وَقَالَ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ: تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلِ الْمُسْتَقْبَلَ، فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ أَنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْمُسْتَقْبَلَ إِلَّا أَنَّ لَنْ نَفْيٌ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا نَفْيٌ لِلْمُضَارِعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ. فَلَنْ أَخَصُّ، إِذْ هِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مَا ظَهَرَ فِيهِ دَلِيلُ الِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا. وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي لَا: هَلْ تَخْتَصُّ بِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ تَنْفِي بِهَا الْحَالَ؟ وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هُنَا أَنَّهَا لَا تَنْفِي الْحَالَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَدَوَاتِهِ لَا يَكُونُ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى إِلَّا، فَهُوَ لِلْإِنْشَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِنْشَاءِ فَهُوَ حَالٌ، فَيُفِيدُ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ يَفْعَلُ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَوَّلًا: مِنْ أَنَّ فِيهَا تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لِأَنَّهَا تَنْفِي مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالْأَدَاةِ، بِخِلَافِ لَا، فَإِنَّهَا تَنْفِي الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ مِمَّا لَا أَدَاةَ فِيهِ تُخَلِّصُهُ لَهُ، وَلِأَنَّ لَا قَدْ يُنْفَى بِهَا الْحَالُ قَلِيلًا، فَلَنْ أَخَصُّ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَخَصُّ بِالْمُضَارِعِ، وَلِأَنَّ وَلَنْ تَفْعَلُوا أَخْصَرُ مِنْ وَلَا تفعلون، فلهذا كله ترجح النَّفْيِ بِلَنْ عَلَى النَّفْيِ بِلَا.

فَاتَّقُوا النَّارَ: جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ تَرْكِ العناد، لأن من عائد بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ لَهُ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ بِالنَّارِ. وَاتِّقَاءُ النَّارِ مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ الْعِنَادِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ. وَعَرَّفَ النَّارَ هُنَا لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا نَكِرَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَإِذَا كُرِّرَتِ النَّكِرَةُ سَابِقَةً ذُكِرَتْ ثَانِيَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَصَارَتْ مَعْرِفَةً لِتَقَدُّمِهَا فِي الذِّكْرِ وَوُصِفَتْ بِالَّتِي وَصِلَتِهَا. وَالصِّلَةُ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ قَوْلِهِ: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «1» ، أَوْ لِسَمَاعِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْوَاوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ، وَمُجَاهِدٌ وَطَلْحَةُ وَأَبُو حَيَاةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَقَيَّدَهَا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ عُمَيْرٍ هُوَ الْحَطَبُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ هُوَ الْمَصْدَرُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذُو وَقُودِهَا لِأَنَّ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ لَيْسَا هُمَا الْوَقُودَ، أَوْ عَلَى أَنْ جُعِلُوا نَفْسَ الْوَقُودِ مُبَالَغَةً، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ فَخْرُ بَلَدِهِ، وَهَذِهِ النَّارُ مُمْتَازَةٌ عَنْ غَيْرِهَا بِأَنَّهَا تَتَّقِدُ بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، وَهُمَا نَفْسُ مَا يُحْرَقُ، وَظَاهِرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّهَا نَارٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نِيرَانٌ شَتَّى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «2» ، وَلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى «3» ، لِأَنَّ الْوَصْفَ قَدْ يَكُونُ بِالْوَاقِعِ لَا لِلِامْتِيَازِ عَنْ مُشْتَرَكٍ فِيهِ، وَالنَّاسُ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهَا، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا، وَالْحِجَارَةُ الْأَصْنَامُ، وَكَانَا وَقُودًا لِلنَّارِ مَقْرُونَيْنِ مَعًا، كَمَا كَانَا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ نَحَتُوهَا وَعَبَدُوهَا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «4» ، أَوْ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَاخْتَصَّتْ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ سُرْعَةِ الِالْتِهَابِ، وَنَتَنِ الرَّائِحَةِ، وَعِظَمِ الدُّخَانِ، وَشِدَّةِ الِالْتِصَاقِ بِالْبَدَنِ، وَقُوَّةِ حَرِّهَا إِذَا حَمِيَتْ. وَقِيلَ: هُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَسْوَدُ، أَوْ حِجَارَةٌ مَخْصُوصَةٌ أُعِدَّتْ لِجَهَنَّمَ، إِذَا اتَّقَدَتْ لَا يَنْقَطِعُ وَقُودُهَا. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذَا عِيلَ صبرهم بكوا وشكوا، فينشىء اللَّهُ سَحَابَةً سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، فيرجون الفرج، ويرفعون رؤوسهم إِلَيْهَا، فَتُمْطِرُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً عِظَامًا كَحِجَارَةِ الرَّحَى، فَتَزْدَادُ النار إيقادا والتهابا أو الْحِجَارَةُ مَا اكْتَنَزُوهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُقْذَفُ مَعَهُمْ فِي النَّارِ وَيُكْوَوْنَ بِهَا. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحِجَارَةِ لِلْعُمُومِ بَلْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ التي

_ (1) سورة التحريم: 66/ 6. (2) سورة التحريم: 66/ 6. (3) سورة الليل: 92/ 14. (4) سورة الأنبياء: 21/ 98.

وُعِدُوا بِهَا صَالِحَةً لِأَنْ تَحْرِقَ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، فَعَبَّرَ عَنْ صَلَاحِيَتِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا بِالْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ جَهَنَّمَ وَتَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ وَقُودِهَا، لِيَقَعَ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوسِ أَعْظَمَ مَوْقِعٍ، وَيَحْصُلُ بِهِ مِنَ التَّخْوِيفِ مَا لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَقِيقَةُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الذَّاهِبُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ هُوَ بِالصَّلَاحِيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ الْوَصْفُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَوْنِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فِيهَا، وَقَدَّمَ النَّاسَ عَلَى الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ يُدْرِكُونَ الْآلَامَ وَالْمُعَذَّبُونَ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ أَكْثَرَ إِيقَادًا لِلنَّارِ مِنَ الْجَمَادِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْجُلُودِ وَاللُّحُومِ وَالشُّحُومِ وَالْعِظَامِ وَالشُّعُورِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي التَّخْوِيفِ. فَإِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا يُحْرَقُ، اقْشَعَرَّ بَدَنُكَ وَطَاشَ لُبُكَّ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُعِدَّتْ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ حَتَّى الْآنَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي سَقَطَ فِيهِ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْإِعْدَادَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمَوْجُودِ، لِأَنَّ الْإِعْدَادَ هُوَ التَّهْيِئَةُ وَالْإِرْصَادُ لِلشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَعْدَدْتُ لِلْحَدَثَانِ سَابِغَةً وَعَدَاءً علبدا أَيْ هَيَّأْتُ. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمَوْجُودِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَوْجُودِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً «1» وَمُنْذِرٌ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ كَانَ يُعْرَفُ بِالْبَلُّوطِيِّ، وَكَانَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ ظَاهِرِيًّا فِي الْفُرُوعِ، وَلَهُ ذِكْرٌ وَمَنَاقِبُ فِي التَّوَارِيخِ، وَهُوَ أَحَدُ رِجَالَاتِ الْكَمَالِ بِالْأَنْدَلُسِ. وَسَرَى إِلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَهُوَ: أَنَّ مذهب أهل السنة أن الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالنَّجَاوَمِيَّةِ إِلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُخْلَقَا بَعْدُ، وَأَنَّهُمَا سَيُخْلَقَانِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ اعْتَدَّتْ: مِنَ الْعَتَادِ بِمَعْنَى الْعُدَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا يَدُلُّ إِعْدَادُهَا لِلْكَافِرِينَ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِهَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ أَنَّ نَارَ الْعُصَاةِ غَيْرُ نَارِ الْكُفَّارِ، بَلْ إِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْكَافِرِينَ لِانْتِظَامِ الْمُخَاطَبِينَ فِيهِمْ، إِذْ فِعْلُهُمْ كُفْرٌ. وقد ثبت في

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 35.

[سورة البقرة (2) : آية 25]

الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِدْخَالُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْكُفَّارِ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ، أو لأن الكافر لن يَشْتَمِلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَفَرَ بِأَنْعُمِهِ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ أُخْرِجَ مِنْهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ مُعَدَّةً لَهُ دَائِمًا بِخِلَافِ الْكُفَّارِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّارِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: فَاتَّقُوا، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَعْلَهُ الْجُمْلَةَ حَالًا يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا النَّارَ فِي حَالِ إِعْدَادِهَا لِلْكَافِرِينَ، وَهِيَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ، اتَّقَوُا النَّارَ أَوْ لَمْ يَتَّقُوهَا، فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَالًا لَازِمَةً. وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلتَّأْكِيدِ أَنْ تَكُونَ مُنْتَقِلَةً، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّهَا سُؤَالُ جَوَابٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ لَمَّا وُصِفَتْ بِأَنَّ وَقُودَهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ قِيلَ: لِمَنْ أُعِدَّتْ؟ فَقِيلَ: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) الْبِشَارَةُ: أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ كَانَ أَوْ شَرٍّ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَيْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تَأَوَّلَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالنَّقْلِ. قِيلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: هُوَ خَبَرٌ يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ مِنْ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِذَا يُقَيَّدُ فِي الْحُزْنِ، وَالْبِشَارَةُ: الْجَمَالُ، وَالْبَشِيرُ: الْجَمِيلُ، قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَتَبَاشِيرُ الْفَجْرِ: أَوَائِلُهُ. وَفِي الْفِعْلِ لُغَتَانِ: التَّشْدِيدُ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْعُلْيَا، وَالتَّخْفِيفُ: وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ. وَقَدْ قرىء بِاللُّغَتَيْنِ فِي الْمُضَارِعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الصَّلَاحُ: يُقَابِلُهُ الْفَسَادُ. الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ الَّذِي سَتَرَتْ أَشْجَارُهُ أَرْضَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَتَرَ شَيْئًا فَقَدَ أَجَنَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجِنَّةُ وَالْجَنَّةُ وَالْجِنُّ وَالْمِجَنُّ وَالْجَنِينُ. الْمُفَضَّلُ الْجَنَّةُ: كُلُّ بُسْتَانٍ فِيهِ ظِلٌّ، وَقِيلَ: كُلُّ أَرْضٍ كَانَ فِيهَا شَجَرٌ وَنَخْلٌ فَهِيَ جَنَّةً، فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَرْمٌ فَهِيَ: فِرْدَوْسُ. تَحْتَ: ظَرْفُ مَكَانٍ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِغَيْرِ مِنْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ. قَالَ الْعَرَبُ: تَقُولُ تَحْتَكَ رِجْلَاكَ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي نَصْبِ التَّحْتِ. النَّهْرُ: دُونَ الْبَحْرِ وَفَوْقَ الْجَدْوَلِ، وَهَلْ هُوَ نَفْسُ مَجْرَى الْمَاءِ أَوِ الْمَاءِ فِي الْمَجْرَى الْمُتَّسِعِ قولان، وفيه

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 21، وسورة التوبة: 9/ 24، وسورة الانشقاق: 84/ 24.

لُغَتَانِ: فَتْحُ الْهَاءَ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ، وَالسُّكُونُ، وَعَلَى الْفَتْحِ جَاءَ الْجَمْعُ أَنْهَارًا قِيَاسًا مُطَّرِدًا إِذْ أَفْعَالٌ في فعل الاسم الصحيح الْعَيْنِ لَا يَطَّرِدُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، وَسُمِّي نَهْرًا لاتساعه، وأنهر: وَسِعَ، وَالنَّهَارُ لِاتِّسَاعِ ضَوْئِهِ. التَّشَابُهُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الشَّبَهِ وَالشَّبَهُ الْمَثَلُ. وَتَفَاعُلٌ تَأْتِي لِسِتَّةِ مَعَانٍ: الِاشْتِرَاكُ فِي الْفَاعِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَفِيهَا وَفِي الْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ حيث المعنى، والإبهام، وَالرَّوْمُ، وَمُطَاوَعَةُ فَاعَلَ الْمُوَافِقِ أَفْعَلَ، وَلِمُوَافَقَةِ الْمُجَرَّدِ وَلِلْإِغْنَاءِ عَنْهُ. الزَّوْجُ: الْوَاحِدُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ آخَرُ، وَاثْنَانِ: زَوْجَانِ. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: زَوْجٌ، وَلِامْرَأَتِهِ أَيْضًا زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ أَقَلُّ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ زَوْجًا الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ فِيهِ لُغَتَانِ: زَوْجٌ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَزَوْجَةٌ لُغَةُ تَمِيمٍ وَكَثِيرٍ مِنْ قَيْسٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قُرِنَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ زَوْجٌ لَهُ، وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ وَمِنْهُ: زَوْجٌ بَهِيجٌ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. الطَّهَارَةُ: النَّظَافَةُ، وَالْفِعْلُ طَهَرَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَطَهُرَ بِالضَّمِّ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُمَا طَاهِرٌ. فَعَلَى الْفَتْحِ قِيَاسٌ وَعَلَى الضَّمِّ شَاذٌّ نَحْوَ: حَمُضَ فَهُوَ حَامِضٌ، وَخَثُرَ فَهُوَ خَاثِرٌ. الْخُلُودُ: الْمُكْثُ فِي الْحَيَاةِ أَوِ الْمُلْكِ أَوِ الْمَكَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً لَا انْتِهَاءَ لَهَا وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَهَا انْتِهَاءٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: فَلَوْ كَانَ حمد يخلد الناس لم تَمُتْ ... وَلَكِنَّ حَمْدَ النَّاسِ لَيْسَ بِمُخَلِّدِ وَيُقَالُ: خَلُدَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، وَأَخْلَدَ إِلَى كَذَا، سَكَنَ إِلَيْهِ، وَالْمُخَلَّدُ: الَّذِي لَمْ يَشِبَّ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى، أَعْنِي مِنَ السُّكُونِ وَالِاطْمِئْنَانِ، سُمِّيَ هَذَا الْحَيَوَانُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَرْضِ خُلْدًا. وَظَاهِرُهُ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَغَيْرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْدَ هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمُكْثِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ: أَنَّهُ الْبَقَاءُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، تَقْوِيَةً لِمَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا بَلْ يَبْقَى فِيهَا أَبَدًا. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ دَلَّتْ عَلَى خُرُوجِ نَاسٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ بِالشَّفَاعَةِ مِنَ النَّارِ، وَمُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرْ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا تَضَمَّنَ ذكر الكفار وما تؤول إِلَيْهِ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَبْلَغِ التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ، أَعْقَبَ مَا تَضَمَّنَ ذِكْرُ مُقَابِلِيهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ. وَهَكَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا مَتَى جَرَى ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَمَا لَهُمْ أُعْقِبَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ

وَبِالْعَكْسِ، لِتَكُونَ الْمَوْعِظَةُ جَامِعَةً بَيْنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ وَاللُّطْفِ وَالْعُنْفِ، لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَجْذِبُهُ التَّخْوِيفُ وَيَجْذِبُهُ اللُّطْفُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِالْعَكْسِ. وَالْمَأْمُورُ بِالتَّبْشِيرِ قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْبِشَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَجْزَلُ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِعِظَمِهِ وَفَخَامَةِ شَأْنِهِ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يُبَشِّرَ بِهِ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبِشَارَةِ بِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى، لِأَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُصُوصِيَّتِهِ بِالْبِشَارَةِ أَفْخَمُ وَأَجْزَلُ، وَكَأَنَّهُ مَا اتَّكَلَ عَلَى أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّ سَامِعٍ، بَلْ نَصَّ عَلَى أَعْظَمِهِمْ وَأَصْدَقِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوثَقُ عِنْدَهُمْ وَأَقْطَعُ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْعَظِيمَةِ، إِذْ تَبْشِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْشِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَشِّرْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ الَّذِي اعْتُمِدَ بِالْعَطْفِ هُوَ الْأَمْرُ حَتَّى يُطْلَبَ مُشَاكِلُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ يُعْطَفُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ بِالْعَطْفِ هُوَ جُمْلَةُ وَصْفِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ يُعَاقَبُ بِالْقَيْدِ وَالْإِزْهَاقِ، وَبَشِّرْ عَمْرًا بِالْعَفْوِ وَالْإِطْلَاقِ، قَالَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: الْوَاوُ فِي وَبَشِّرْ عُطِفَ بِهَا جُمْلَةُ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى جُمْلَةِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتُلَخِّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ عَطْفَ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ نتفق مَعَانِي الْجُمَلِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ غَيْرِ الْخَبَرِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا اخْتِلَافٌ. ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى اشْتِرَاطِ اتِّفَاقِ الْمَعَانِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. فَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ يَتَمَشَّى إِعْرَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ، لِيَكُونَ عَطْفَ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ يَا بَنِي تَمِيمٍ احْذَرُوا عُقُوبَةَ مَا جَنَيْتُمْ، وَبَشِّرْ يَا فُلَانُ بَنِي أَسَدٍ بِإِحْسَانٍ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ خَطَأٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاتَّقُوا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ وَمَوْضِعُهُ جَزْمٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْبِشَارَةِ وَمُطْلَقًا، لَا عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، بَلْ أَمَرَ أَنْ يُبَشِّرَ الَّذِينَ آمَنُوا أَمْرًا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرْ عَلَى إِعْرَابِهِ مِثْلَ مَا مُثِّلَ بِهِ مِنَ قَوْلِهِ: يَا بَنِي تَمِيمٍ إِلَخْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: احْذَرُوا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا. فَلِذَلِكَ أَمْكَنَ فِيمَا مُثِّلَ بِهِ الْعَطْفُ وَلَمْ يُمْكِنْ فِي وَبَشِّرْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَبَشِّرْ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى أُعِدَّتْ انْتَهَى. وَهَذَا الْإِعْرَابُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ أُعِدَّتْ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَلَا يَتَأَتَّى

أَنْ يَكُونَ وَبَشِّرْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَالْأَصَحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ مَعَانِي الْجُمَلِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: تُنَاغِي غَزَالًا عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ ... وَكَحِّلْ مَآقِيكَ الْحِسَانَ بِإِثْمَدِ وَبِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا ... وَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ، وَمَنْ أَخُوكَ الْعَاقِلَانِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ العاقلان خبر ابتداء مضر. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَخُصُّ الْبِشَارَةَ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُظْهِرُ سُرُورَ الْمُخْبَرِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَغْلَبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ مُقَيَّدًا بِهِ مَنْصُوصًا عَلَى الشَّرِّ لِلْمُبَشَّرِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . وَمَتَى أَطْلَقَ لَفْظَ الْبِشَارَةِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْخَيْرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا مَا يُخَالِفُ قَوْلَيْهِمَا مِنْ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ كَانَ أَوْ شَرٍّ، قَالُوا: وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْبَشْرَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا أَثَّرَ الْمَسَرَّةَ وَالِانْبِسَاطَ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا أَثَّرَ الْقَبْضَ وَالِانْكِمَاشَ. قَالَ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ «2» ، وَقَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْعَكْسَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ اسْتِهْزَاءُ الزَّائِدِ فِي غَيْظِهِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ وَتَأَلُّمُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ضَعْ هَذَا مَوْضِعَ الْبِشَارَةِ مِنْهُمْ، قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ غَيْرَ الْبُشْرَةِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا بِشَارَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِ ... فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ وَقَالَ آخَرُ: وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي ... جَفُونِي وَأَنَّ الْوُدَّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ وَالتَّضْعِيفُ فِي بَشِّرْ مِنَ التَّضْعِيفِ الدَّالِّ عَلَى التَّكْثِيرِ فِيمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَلَا يَتَأَتَّى التَّكْثِيرُ فِي بَشِّرْ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفَاعِيلِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَسُرُّ أَوْ يُحْزِنُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَلَا يَتَأَتَّى التَّكْثِيرُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ يَكُونُ فِعْلٌ فِيهِ مُغْنِيًا عَنْ فِعْلٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ مُشَدَّدًا غَيْرُ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَنْطِقُونَ بِهِ مُخَفَّفًا، كَمَا بَيَّنَّا قَبْلُ. وَكَوْنُ مَفْعُولِ بَشِّرْ مَوْصُولًا بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضِيَةٍ وَلَمْ يَكُنِ اسْمَ فَاعِلٍ، دَلَالَةً عَلَى أن مستحق التبشير

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 21. (2) سورة التوبة: 9/ 21.

بِفَضْلِ اللَّهِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَتَحَقَّقَ بِهِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالصَّالِحَاتُ: جَمْعُ صَالِحَةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ فِي إِيلَائِهَا الْعَوَامِلَ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا يَنْفَكُّ صَالِحَةً ... مِنْ آلِ لَامَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي فَعَلَى هَذَا انْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الصَّالِحَاتِ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعُمُومِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، لَكِنْ يَعْمَلُ جُمْلَةً مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي الدِّينِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُؤْمِنِ فِي مَوَاجِبِ التَّكْلِيفِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ لَامِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَبَيْنَهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، أَنَّهَا فِي الْمُفْرَدِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ، وَفِي الْجَمْعِ لَا يَحْتَمِلُهُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: الصَّالِحُ مَا أَخْلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: مَا احْتَوَى عَلَى أَرْبَعَةٍ: الْعِلْمُ وَالنِّيَّةُ وَالصَّبْرُ وَالْإِخْلَاصُ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الصَّلَوَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَعْدِيلُ أَرْكَانِهَا وهيآتها ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ، وَقِيلَ: التَّوْبَةُ وَالِاخْتِيَارُ، قَوْلُ الْجُمْهُورِ: وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَفْظَةَ الْإِيمَانِ بِمَجْرَدِهَا تَقْتَضِي الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا أَعَادَهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُبَشَّرُوا هُمْ مَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ دُونَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لَا يَكُونُ مُبَشَّرًا. مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَبَشِّرْ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. فَقَوْلُهُ: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ هُوَ فِي مَوْضِعِ هَذَا الْمَفْعُولِ، وَجَازَ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنَّ قِيَاسًا مُطَّرِدًا، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ حَذْفِ الْحَرْفِ، هَلْ مَوْضِعُ أَنَّ وَمَعْمُولَيْهَا جَرٌّ أَمْ نَصْبٌ؟ فَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ: أَنَّ مَوْضِعَهُ جَرٌّ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ: أَنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ فِي كتب النحو. وجنات: جُمَعُ جَنَّةٍ، جَمْعُ قِلَّةٍ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا سَبْعُ جَنَّاتٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ ثَمَانِ جَنَّاتٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ فِي تَضَاعِيفِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ «1» ، وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «2» ،

_ (1) سورة القمر: 54/ 54. (2) سورة الرحمن: 55/ 46.

وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «1» ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «2» ، جَنَّاتِ عَدْنٍ «3» . وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ هَذَا الْمُفَسِّرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْجَنَّةُ اسْمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جِنَانٍ كَثِيرَةٍ مَرَتَّبَةٍ مَرَاتِبَ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِينَ، لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ جَنَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ دَسَّ فِيهِ مَذْهَبَهُ الِاعْتِزَالِيَّ بِقَوْلِهِ: عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِينَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ مُفْرَدَةً وَمَجْمُوعَةً، فَإِذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً فَالْمُرَادُ الْجِنْسُ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ هُنَا آكَدُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ لِقُرْبِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، فَهُوَ أَسَرُّ لِلسَّامِعِ، وَالشَّائِعُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِاسْمُ نَكِرَةً تَعَيَّنَ تقديمه أإِنَّ لَنا لَأَجْراً «4» ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُهُ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَجَرَى عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، أَنْ لَا يُحْبِطَهُمَا الْمُكَلَّفُ بِالْكُفْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَأَنْ لَا يَنْدَمَ عَلَى مَا أَوْجَدَهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ كَالدَّاخِلِ تَحْتَ الذِّكْرِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ وَافَى عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُرْتَكِبًا كَبِيرَةً أَمْ غَيْرَ مُرْتَكِبٍ، تَائِبًا أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مِنْ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ تَجْرِي تَحْتَهَا، أَوْ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي تَحْتِهَا، فَغَيْرُ جَارٍ عَلَى مَأْلُوفِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَجْرِي، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَإِذَا فَسَّرْنَا الْجَنَّاتِ بِأَنَّهَا الْأَشْجَارُ الْمُلْتَفَّةُ ذَوَاتُ الظِّلِّ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ. وَإِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْأَرْضِ ذَاتِ الْأَشْجَارِ، احْتَاجَ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا أَوْ غُرَفِهَا وَمَنَازِلِهَا. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِتَحْتِهَا عَنْ أَسَافِلِهَا وَأُصُولِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا: أَيْ بِأَمْرِ سُكَّانِهَا وَاخْتِيَارِهِمْ، فَعَبَّرَ بِتَحْتِهَا عَنْ قَهْرِهِمْ لَهَا وَجَرَيَانِهَا عَلَى حُكْمِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «5» ، أَيْ بِأَمْرِي وَقَهْرِي. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ إِلَّا لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، فَيَكُونُ نَظِيرَ مِنْ تَحْتِي إِذَا جُعِلَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ من

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 62. (2) سورة النجم: 53/ 15. (3) سورة التوبة: 9/ 72. [.....] (4) سورة الشعراء: 26/ 41. (5) سورة الزخرف: 43/ 51.

تَحْتِ أَهْلِهَا، اسْتَقَامَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى بِأَمْرِ الْجَنَّاتِ وَاخْتِيَارِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي مِنْ تَحْتِهَا: مِنْ جِهَتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ، وَأَنَّهَا تَجْرِي عَلَى سَطْحِ أَرْضِ الْجَنَّةِ مُنْبَسِطَةً. وَإِذَا صَحَّ هَذَا النَّقْلُ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي النُّزْهَةِ، وَأَحْلَى فِي الْمَنْظَرِ، وَأَبْهَجُ لِلنَّفْسِ. فَإِنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ يَنْبَسِطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَوْهَرُهُ فَيَحْسُنُ انْدِفَاعُهُ وَتَكَسُّرُهُ، وَأَحْسَنُ الْبَسَاتِينِ مَا كَانَتْ أَشْجَارُهُ مُلْتَفَّةً وَظِلُّهُ ضَافِيًا وَمَاؤُهُ صَافِيًا مُنْسَابًا عَلَى وَجْهِ أَرْضِهِ، لَا سِيَّمَا الْجَنَّةُ، حَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فَتَتَكَسَّرُ تِلْكَ الْمِيَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَصَى، وَيَجْلُو صَفَاءُ الْمَاءِ بَهْجَةَ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ، وَتَسْمَعُ لِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُتَكَسِّرِ عَلَى تِلْكَ الْيَوَاقِيتِ وَاللَّآلِئِ لَهُ خَرِيرًا، قَالَ شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْبَارِعُ أَبُو الْحَكَمِ مَالِكُ بْنُ الْمُرَحَّلِ الْمَالِقِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ كَلِمَةٍ: وَتَحَدَّثَ الْمَاءُ الزُّلَالُ مَعَ الْحَصَى ... فَجَرَى النَّسِيمُ عَلَيْهِ يَسْمَعُ مَا جَرَى خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ اللَّبَنِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تُشَقَّقُ الْأَنْهَارُ بَعْدَهُ» . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «1» الْآيَةَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ لَا تَشُوقُ، وَالرَّوْضُ لَا يَرُوقُ إِلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي يَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْأَرْوَاحِ لِلْأَشْبَاحِ، مَا كَادَ مَجِيءُ ذِكْرِهَا إِلَّا مَشْفُوعًا بِذِكْرِ الْأَنْهَارِ، مُقَدِّمًا هَذَا الْوَصْفَ فِيهَا عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نُسِبَ الْجَرْيُ إِلَى النَّهْرِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْمَاءُ وَحْدَهُ تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا، كَمَا قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ ... وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَاقَضَ قَوْلُهُ هَذَا مَا شَرَحَ بِهِ الْأَنْهَارَ قَبْلَهُ بِنَحْوٍ مِنْ خَمْسَةِ أَسْطُرٍ قَالَ: وَالْأَنْهَارُ الْمِيَاهُ فِي مَجَارِيهَا الْمُتَطَاوِلَةِ الْوَاسِعَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَنْهَارِ لِلْجِنْسِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يُرَادُ أَنْهَارُهَا، فَعَوَّضَ التَّعْرِيفَ بِاللَّامِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «3» ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو أن الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَكُونُ عِوَضًا من الإضافة، ليس مذهب الْبَصْرِيِّينَ، بَلْ شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ، وَعَلَيْهِ خَرَّجَ

_ (1) سورة محمد: 47/ 15. (2) سورة يوسف: 12/ 82. (3) سورة مريم: 19/ 4.

بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «1» أَيْ أَبْوَابُهَا. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَيَجْعَلُونَ الضَّمِيرَ مَحْذُوفًا، أَيِ الْأَبْوَابُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا مِنَ الْإِضَافَةِ لَمَا أَتَى بِالضَّمِيرِ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: قُطُوبُ رَحِيبِ الْجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ ... بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةَ الْمُتَجَرِّدِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الثَّابِتِ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَجَاءَ هَذَا الْجَمْعُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ إِشَارَةً إِلَى الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الألف واللام فيها للعهد، أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنْهَارِ الْمَاءِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ، فِي الصَّحِيحِ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «نَهْرَانِ بَاطِنَانِ: الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ: سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ» . وَفِي رِوَايَةٍ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن مَاءِ الْكَوْثَرِ قَالَ: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» الْحَدِيثَ. وَإِنْ كَانَتْ أَنْهَارًا كَثِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَجْرَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، كَمَا جَاءَ الْعَكْسُ عَلَى جِهَةِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ. كُلَّما رُزِقُوا، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّكْرَارِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا يَفْهَمُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَالْأَحْسَنُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ صِفَتُهَا كَذَا، هَجَسَ فِي النُّفُوسِ حَيْثُ ذُكِرَتِ الْجَنَّةُ الْحَدِيثُ عَنْ ثِمَارِ الْجَنَّاتِ، وَتَشَوَّقَتْ إِلَى ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ: نَصْبٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا صِفَةً لِلْجَنَّاتِ، وَرَفْعٌ: عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْجَنَّاتِ، أَيْ هِيَ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها، أَوْ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ هُمْ كُلَّمَا رُزِقُوا، وَالْأَوْلَى الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ فِيهِ لِأَنَّهَا فِي الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ تَتَقَدَّرُ بِالْمُفْرَدِ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَوْ إِلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تكون حالا من الَّذِينَ آمَنُوا تَقْدِيرُهُ مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَا يَتِمُ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مَقْدِرَةً، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ التَّبْشِيرِ لَمْ يَكُونُوا مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَّاتٍ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي، فَقَرُبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَتُؤَوَّلُ أَيْضًا إِلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مُصَاحِبَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرَ مَا ذكره أبو

_ (1) سورة ص: 38/ 50.

الْبَقَاءِ. وَمِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْهَا، هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَفِي: مِنْ ثَمَرَةٍ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْهَا، أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها «1» ، عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَكِلْتَاهُمَا تَتَعَلَّقُ بِرُزِقُوا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقْضِي حَرْفَيْ جَرٍّ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا بِالْعَطْفِ، أَوْ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ، وَهَذَا الْبَدَلُ هُوَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. وَقَدْ طَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: مِنْ ثَمَرَةٍ، وَلَمْ يُفْصِحْ بِالْبَدَلِ، لَكِنَّ تَمْثِيلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثَمَرَةٍ بَيَانًا عَلَى مِنْهَاجِ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا، تُرِيدُ أَنْتَ أَسَدٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ مِنْ لِلْبَيَانِ لَيْسَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ تَأَوَّلُوا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ، وَلَوْ فَرَضْنَا مَجِيءَ مِنْ لِلْبَيَانِ، لَمَا صَحَّ تَقْدِيرُهَا لِلْبَيَانِ هُنَا، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مِنْ لِلْبَيَانِ قَدَّرُوهَا بِمُضْمَرٍ وَجَعَلُوهُ صَدْرًا لِمَوْصُولِ صِفَةٍ، إِنْ كَانَ قَبْلَهَا مَعْرِفَةٌ، نَحْوُ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «2» ، أَيِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا نَكِرَةٌ، فَهُوَ يَعُودُ عَلَى تِلْكَ النَّكِرَةِ نَحْوَ: مَنْ يَضْرِبُ مِنْ رَجُلٍ، أَيْ هُوَ رجل، ومن هَذِهِ لَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُ، لَا نَكِرَةً وَلَا مَعْرِفَةً، إِلَّا إِنْ كَانَ يَتَمَحَّلُ لِذَلِكَ أَنَّهَا بَيَانٌ لِمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا رِزْقًا مِنْ ثَمَرَةٍ، فَتَكُونُ مِنْ مُبَيِّنَةً لِرِزْقًا، أَيْ: رِزْقًا هُوَ ثَمَرَةٌ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْ مِثْلِهِ. وَأَمَّا: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا، فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلْغَايَةِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، نَحْوُ: أَخَذْتُهُ مِنْكَ، وَلَا يُرَادُ بِثَمَرَةٍ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مِنَ التُّفَّاحِ أَوِ الرُّمَّانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَى هَذَا، أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانًا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ النَّوْعُ مِنَ الثِّمَارِ، وَالْجَنَّاتِ الْوَاحِدَةُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدِ اخْتَرْنَا أَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ بَيَانًا فَلَا نَخْتَارُ مَا ابْتَنَى عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْجَنَّاتُ الْوَاحِدَةُ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ فَهْمُهُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَرِزْقًا هُنَا هُوَ المرزوق، والمصد فيه بَعِيدٌ جِدًّا لِقَوْلِهِ: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُؤْتَى بِهِ مُتَشَابِهًا، إِنَّمَا هَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَرْزُوقِ لَا عَنِ الْمَصْدَرِ. قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، قَالُوا: هُوَ الْعَامِلُ فِي كُلَّمَا، وَهَذَا الَّذِي: مُبْتَدَأٌ مَعْمُولٌ لِلْقَوْلِ. فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ، وَالْمَعْنَى: هَذَا، مِثْلُ: الَّذِي رُزِقْنَا، فَهُوَ من باب أما الْخَبَرُ شُبِّهَ بِهِ الْمُبْتَدَأُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنْ رُزِقُوهُ، ثُمَّ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةُ الْمُقَدَّرَةُ حذفت

_ (1) سورة الحج: 22/ 22. (2) سورة الحج: 22/ 30.

لِاسْتِحْكَامِ الشَّبَهِ، حَتَّى كَأَنَّ هَذِهِ الذَّاتَ هِيَ الذَّاتُ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِي مَحْذُوفٌ، أَيْ رُزِقْنَاهُ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ برزقا، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ: مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِهِ: أَيْ مِنْ قَبْلِ الْمَرْزُوقِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ رِزْقُ الْغَدَاةِ كَرِزْقِ الْعَشِيِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو عَبِيدَ: ثَمَرُ الْجَنَّةِ إِذَا جُنِيَ خَلَفَهُ مِثْلُهُ، فَإِذَا رَأَوْا مَا خَلَفَ الْمَجْنِيَّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقَنَا مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الصُّورَةِ، فَالْقَبْلِيَّةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ نُرْزَقَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ، هُوَ نَفْسُ الْخَبَرِ، وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ مِثْلَ: وَعَبَّرَ عَنِ الْوَعْدِ بِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الرِّزْقُ، وَهُوَ مَجَازٌ، فَلِصِدْقِ الْوَعْدِ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُمْ رُزِقُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُ الْخَبَرِ يَكُونُ غَيْرَ الْمُبْتَدَأِ أَيْضًا مَجَازٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَجَازَ أَكْثَرُ وَأَسْوَغُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْقَبْلِيَّةُ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْوَعْدَ وَقَعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ كَوْنَ الْقَبْلِيَّةِ فِي الدُّنْيَا يُبْعِدُهُ دُخُولُ مِنْ عَلَى قَبْلُ لِأَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَهَذَا مَوْضِعُ قَبْلُ لَا مَوْضِعُ مِنْ، لِأَنَّ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ تَرَاخِيًا كَثِيرًا، وَمَنْ تُشْعِرُ بِابْتِدَاءِ الْقَبْلِيَّةِ فَتُنَافِي التَّرَاخِيَ وَالِابْتِدَاءَ. وَإِذَا كَانَتِ الْقَبْلِيَّةُ فِي الْآخِرَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرِّزْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي رُزِقُوهُ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ رُزِقُوهُ قَبْلُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ أَوَّلُ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ رُزِقُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، أَيْ هَذَا مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، بَلْ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الرِّزْقِ. وَكَيْفَ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْجِنْسِ وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ بَعْدَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا التَّرْكِيبَ كَيْفَ هُوَ. وَلَعَلَّ النَّاقِلَ صَحَّفَ مِثْلَ بِمِنْ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا الْجِنْسُ مِثْلَ الْجِنْسِ الَّذِي رزقنا من قبل، وإلا ظهر أنه تصحيف، لأن لتقدير مِنَ الْجِنْسِ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ مِنْ إِطْلَاقِ كُلٍّ، وَيُرَادُ بِهِ بَعْضٌ فَتَقُولُ: هَذَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ تَتَجَوَّزُ فَتَقُولُ: هَذَا بَنُو تَمِيمٍ، تَجْعَلُهُ كُلُّ بَنِي تَمِيمٍ مَجَازًا تَوَسُّعًا. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ يُخَاطِبُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ: جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ الثَّمَرَةَ ثُمَّ يُرْزَقُونَ بَعْدَهَا مِثْلَ صُورَتِهَا، وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ، فَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ لِذَلِكَ وَيُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الدُّنْيَا سِوَى الْأَسْمَاءُ، وَأَمَّا الذَّوَاتُ فَمُتَبَايِنَةٌ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: وَأُتُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ الْخَدَمُ وَالْوِلْدَانُ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ هَارُونَ الْأَعْوَرِ وَالْعَتَكِيِّ. وَأُتُوا بِهِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ إِضْمَارٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ «1» إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ «2» ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلْدَانَ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْفَاكِهَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى الرِّزْقِ، أَيْ: وَأُتُوا بِالرِّزْقِ الَّذِي هُوَ مِنَ الثِّمَارِ، كَمَا أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِلَامَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ؟ قُلْتُ: إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ انْطَوَى تَحْتَهُ ذِكْرُ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. أَيْ لَمَّا كَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا مِثْلُ الَّذِي رُزِقْنَاهُ كَانَ قَدِ انْطَوَى عَلَى الْمَرْزُوقَيْنِ مَعًا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قِيلَ: زَيْدٌ مِثْلُ حَاتِمٍ، كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَى ذِكْرِ زَيْدٍ وَحَاتِمٍ؟ وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا على مَرْزُوقِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَالْمُشَبَّهُ بِالَّذِي رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا فُسِّرَتِ الْقَبْلِيَّةُ بِمَا فِي الْجَنَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَّا إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأُتُوا بِالْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَعْرَبْتَ الْجُمْلَةَ حَالًا، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ قَالُوا: هَذَا مِثْلُ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَكَانَ الْحَامِلُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ كَوْنَهُ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا. وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِمَاضٍ حَالًا وَمَعَهَا الْوَاوُ عَلَى إِضْمَارٍ قَدْ جَائِزٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ. قَالَ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «3» أَيْ وَقَدْ كُنْتُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا، أَيْ وَقَدْ قَعَدُوا. وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «4» أَيْ وَقَدِ ادَّكَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَسْتَقِيمُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدَّارَيْنِ إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ إِذْ ذَاكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا مَعْنًى لَازِمًا فِي حَيِّزِ كُلَّمَا، وَالْعَامِلُ فِيهَا يَتَعَيَّنُ هُنَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مَاضِيَ اللَّفْظِ لِأَنَّهَا لَا تخلوا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مستأنفة تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الَّذِي رُزِقُوهُ مُتَشَابِهًا. وقول

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 17- 18. (2) سورة الواقعة: 56/ 20. (3) سورة البقرة: 2/ 28. (4) سورة يوسف: 12/ 45.

الزمخشري في عوده الضَّمِيرِ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا يَظْهَرُ أَيْضًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُحَدَّثًا بِهَا عَنِ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَكَوْنُهُ يُخْبِرُ عَنِ الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ. فَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ بِهَذَا فَقَطْ، وَانْتَصَبَ مُتَشَابِهًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ التَّشَابُهَ ثَابِتٌ لَهُ، أُتُوا بِهِ أو لم يؤتوا، وَالتَّشَابُهُ قِيلَ: فِي الْجَوْدَةِ وَالْخِيَارِ، فَإِنَّ فَوَاكِهَ الْجَنَّةِ لَيْسَ فِيهَا رَدِيءٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً «1» ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ مُتَنَاسِبًا فِي أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ هُوَ أَعْلَى جِنْسِهِ، فَهَذَا تَشَابُهٌ مَا أَوْ فِي اللَّوْنِ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الِاسْمِ مُخْتَلِفٌ فِي اللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالطَّعْمِ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْقَدْرِ وَالطَّعْمِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا يَرْفَعُهُ. قَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ. أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ: السِّدْرَةُ، فَإِنَّ لَهَا شَوْكًا مُؤْذِيًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أليس يَقُولُ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، خَضَدَ اللَّهُ الشَّوْكَ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثَمَرًا يُفْتَقُ مِنَ الثَّمَرَةِ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا طَعَامًا مَا فِيهِ لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ؟» وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ كَانَ مَشَابِهًا لِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُنْ أَجْنَاسًا أُخَرَ. وَمُلَخَّصُ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْنَسُ بِالْمَأْلُوفِ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْمَأْلُوفِ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ، وَإِذَا ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا أَلِفَهُ وَظَهَرَ لَهُ فِيهِ مِزْيَةٌ، وَتَفَاوُتٌ فِي الْجِنْسِ، سُرَّ بِهِ وَاغْتَبَطَ بِحُصُولِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي مِقْدَارِ الرُّمَّانَةِ وَالنَّبْقَةِ وَالشَّجَرَةِ وَكَيْفِيَّةِ نَخْلِ الْجَنَّةِ وَالْعُنْقُودُ وَالْأَنْهَارُ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ثُبُوتُ التَّشَابُهِ لَهُ، وَلَمْ يُقَيِّدِ التَّشَابُهَ بَلْ أَطْلَقَ، فَتَقْيِيدُهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَلَمَّا كَانَتْ مَجَامِعُ اللَّذَّاتِ فِي الْمَسْكَنِ الْبَهِيِّ وَالْمَطْعَمِ الشَّهِيِّ وَالْمَنْكَحِ الْوَضِيِّ، ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يُبَشَّرُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَدْ بَدَأَ بِالْمَسْكَنِ لِأَنَّ بِهِ الِاسْتِقْرَارَ فِي دَارِ الْمَقَامِ، وَثَنَّى بِالْمَطْعَمِ لأن به قوام

_ (1) سورة الزمر: 39/ 23.

الْأَجْسَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا الْأَزْوَاجَ لِأَنَّ بِهَا تَمَامُ الِالْتِئَامِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مستأنفة. كَمَا اخْتَرْنَا فِي قَوْلِهِ: كُلَّما رُزِقُوا لِأَنَّ جَعْلَهَا اسْتِئْنَافًا يَكُونُ فِي ذَلِكَ اعْتِنَاءٌ بِالْجُمْلَةِ، إِذْ سِيقَتْ كَلَامًا تَامًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِبَاطٍ صِنَاعِيٍّ، وَمَنْ جَعَلَهَا صِفَةً فَقَدْ سَلَكَ بها مسلك غَيْرَ مَا هُوَ أَصْلٌ للحمل. وَارْتِفَاعُ أَزْوَاجٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعَامِلِ فِي جَنَّاتٍ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ أَيْضًا، وَخَبَرُ أَزْوَاجٍ فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ لَهُمْ وَفِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ فِي لَهُمْ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ. وَالْأَزْوَاجُ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، لِأَنَّ زَوْجًا جُمِعَ عَلَى زَوْجَةٍ نَحْوَ: عَوْدُ وَعَوْدَةٌ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْكَلَامِ مُسْتَعْمَلًا، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْحُورِ وَغَيْرِهِمْ. وَأُرِيدَ هُنَا بِالْأَزْوَاجِ: الْقُرَنَاءُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَمُطَهَّرَةٌ: صِفَةٌ لِلْأَزْوَاجِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَهُرَتْ كَالْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُطَهَّرَاتٌ، فَجُمِعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ عَلَى طَهُرْنَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، يُقَالُ: النِّسَاءُ فَعَلْنَ، وَهُنَّ فَاعِلَاتٌ، وَالنِّسَاءُ فَعَلَتْ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ: وإذا العذارى بالدخان تقنت ... وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتِ وَالْمَعْنَى: وَجَمَاعَةُ أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ تَعَقُّبٌ أَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِلَّةٍ، أَوْ جَمْعَ كَثْرَةٍ إِنْ كَانَ جَمْعَ كَثْرَةٍ فَمَجِيءُ الضَّمِيرِ عَلَى حَدِّ ضَمِيرِ الْوَاحِدَةِ أَوْلَى مِنْ مَجِيئِهِ عَلَى حَدِّ ضَمِيرِ الْغَائِبَاتِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ قِلَّةٍ فَالْعَكْسُ، نَحْوُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرْنَ، وَيَجُوزُ انْكَسَرَتْ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى جَمْعِ الْعَاقِلَاتِ الْأَوْلَى فِيهِ النُّونُ مِنَ التَّاءِ، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَمَا فَرَّقُوا فِي جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ تَكُونُ قِرَاءَةُ زَيْدٍ الْأَوْلَى إِذْ جَاءَتْ فِي الظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى. وَمَجِيءُ هَذِهِ الصِّفَةِ مَبْنِيَّةٌ لِلْمَفْعُولِ، وَلَمْ تَأْتِ ظَاهِرَةً أَوْ ظَاهِرَاتٍ، أَفْخَمُ لِأَنَّهُ أفهم أن لها مظهرا وَلَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقِرَاءَةُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ مُطَهِّرَةٌ، وَأَصْلُهُ مُتَطَهِّرَةٌ، فَأُدْغِمَ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَرَبِ مَا أَحْوَجَنِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَطَّهَّرُ بِهِ أَطْهُرَةً، أَيْ: فَأَتَطَهَّرُ بِهِ تَطَهُّرَةً، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُنَاسِبَةٌ لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُطَاوِعًا نَحْوَ: طَهَّرْتُهُ فَتَطَهَّرَ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَهَّرَهُنَّ فَتَطَهَّرْنَ. وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الَّتِي وصفها الله بالتطهيران كُنَّ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. فَمَعْنَى التَّطْهِيرِ:

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 29]

خَلَقَهُنَّ عَلَى الطَّهَارَةِ لَمْ يَعْلُقْ بِهِنَّ دَنَسٌ ذَاتِيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ وَإِنْ كُنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: عَنْ عجائزكم الرمص العمص يَصِرْنَ شَوَابَّ، فَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِ الذَّاتِيَّةِ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ وَالطَّبَائِعِ الرَّدِيئَةِ، كَالْغَضَبِ وَالْحِدَّةِ وَالْحِقْدِ وَالْكَيْدِ المكر، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْخَنَا وَالتَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَدْنَاسِ الذَّاتِيَّةِ، مِثْلَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَالْبَوْلِ وَالتَّغَوُّطِ وغير ذلك من المقاذير الْحَادِثَةِ عَنِ الْأَعْرَاضِ الْمُنْقَلِبَةِ إِلَى فَسَادٍ: كَالْبَخْرِ وَالذَّفَرِ وَالصُّنَانِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فَسَادٍ: كَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ. وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لَا طَمُحَاتٍ وَلَا مُرُجِاتٍ وَلَا يَغِرْنَ وَلَا يَعُزْنَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْوَلَدُ. وَقَالَ يَمَانٌ: مِنَ الْإِثْمِ وَالْأَذَى، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطَهَّرَةٌ لَكِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ مُطَهَّرَاتٌ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ، لِأَنَّ مَنْ طَهَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِالتَّطْهِيرِ كَانَ فِي غَايَةِ النَّظَافَةِ وَالْوَضَاءَةِ. ولما ذكر تعاليم سكن الْمُؤْمِنِينَ وَمَطْعَمَهُمْ وَمَنْكَحَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَلَاذُ لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الْكَمَالِ مَعَ تَوَقُّعِ خَوْفِ الزَّوَالِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ ارْتِحَالًا أَعْقَبَ ذَلِكَ تَعَالَى بِمَا يُزِيلُ تَنْغِيصَ التَّنَعُّمِ بِذِكْرِ الْخُلُودِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْخُلُودِ، وَأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْبَقَاءُ الطَّوِيلُ، انْقَطَعَ أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَأَنَّ كَوْنَ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابِ أَهْلِ النَّارِ سَرْمَدِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ، لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنْ لَفْظِ الْخُلُودِ بَلْ مِنْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثَ صِحَاحٍ مِنَ السُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً «1» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «2» . وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ» . وَفِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: «وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا» . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الآي والأحاديث. [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29] إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

_ (1) سورة التغابن: 64/ 9. [.....] (2) سورة الحجر: 15/ 48.

الحياء: تغير وإنكار يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيَذُمُّ، وَمَحَلُّهُ الْوَجْهُ، وَمَنْبَعُهُ مِنَ الْقَلْبِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَضِدُّهُ: الْقَحَةُ، وَالْحَيَاءُ، وَالِاسْتِحْيَاءُ، وَالِانْخِزَالُ، وَالِانْقِمَاعُ، وَالِانْقِلَاعُ، مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، فَتَنُوبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَنَابَ الْأُخْرَى. أَنْ: حَرْفٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ يَنْسَبِكُ مِنْهُ مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ مَصْدَرٌ، وَعَمَلُهُ فِي الْمُضَارِعِ النَّصْبَ، إِنْ كَانَ مُعْرَبًا، وَالْجَزْمُ بِهَا لُغَةٌ لِبَنِي صَبَاحٍ، وَتُوصَلُ أَيْضًا بِالْمَاضِي الْمُتَصَرِّفِ، وَذَكَرُوا أَنَّهَا تُوصَلُ بِالْأَمْرِ، وَإِذَا نَصَبَتِ الْمُضَارِعَ فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الْفَصْلَ بِالظَّرْفِ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْفَصْلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا بِالشَّرْطِ. وَأَجَازُوا أَيْضًا إِلْغَاءَهَا وَتَسْلِيطُ الشَّرْطِ عَلَى مَا كَانَ يَكُونُ مَعْمُولًا لَهَا لَوْلَاهُ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ مَعْمُولِهَا عَلَيْهَا، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَأَحْكَامُ أَنْ الْمَوْصُولَةِ كَثِيرَةٌ، وَيَكُونُ أَيْضًا حَرْفَ تَفْسِيرٍ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَأْتِي تَفْسِيرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّفْسِيرِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ» ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَكُونُ أَنْ أَيْضًا زَائِدَةً وَتُطَّرَدُ زِيَادَتُهَا بَعْدَ لَمَّا، وَلَا تُفِيدُ إِذْ ذَاكَ غَيْرَ التَّوْكِيدِ، خِلَافًا لِمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُفِيدُ اتِّصَالَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابًا بِالْفِعْلِ الَّذِي زِيدَتْ قَبْلَهُ، وَبَعْدَ الْقَسَمِ قَبْلَ لَوْ وَالْجَوَابِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا إِذْ ذَاكَ رَابِطَةٌ لِجُمْلَةِ الْقَسَمِ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَوْ وَالْجَوَابُ، وَلَا تَكُونُ أَنْ لِلْمُجَازَاةِ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَا بِمَعْنَى إِنِ الْمَكْسُورَةِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ خِلَافًا لِلْفَارِسِيِّ، وَلَا لِلنَّفْيِ، وَلَا بِمَعْنَى إِذْ، وَلَا بِمَعْنَى لِئَلَّا خِلَافًا لِزَاعِمِي ذَلِكَ. وَأَمَّا أَنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَحَرْفٌ ثُلَاثِيُّ الْوَضْعِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يُذْكَرُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 125.

وَالضَّرْبُ: إِمْسَاسُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ بِعُنْفٍ وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ السَّفَرِ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الصُّنْعِ وَالِاعْتِمَالِ. وَرُوِيَ اضطرب رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ. وَالْبَعُوضَةُ: وَاحِدُ الْبَعُوضِ، وَهِيَ طَائِرٌ صَغِيرٌ جِدًّا مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ عَلَى فُعُولٍ كَالْقُطُوعِ فَغُلِّبَتْ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَعْضِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ. أَمَّا: حَرْفٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِحَرْفِ تَفْصِيلٍ، وَبَعْضُهُمْ بِحَرْفِ إِخْبَارٍ، وَأَبْدَلَ بَنُو تَمِيمٍ الْمِيمَ الْأُولَى يَاءً فَقَالُوا: أَيَّمَا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ أَمَّا: أَنَّ الْمَعْنَى مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ ذَاهِبٌ، وَالَّذِي يَلِيهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَتَلْزَمُ الْفَاءُ فِيمَا وَلِيَ الْجَزَاءُ الَّذِي وَلِيَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ دُعَاءً فَالْفَاءُ فِيمَا يَلِيهَا وَلَا يُفْصَلُ بِغَيْرِهَا مِنَ الْجُمَلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَاءِ، وَإِذَا فُصِلَ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ بِمَعْمُولٍ يَلِي أَمَّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ أَمَّا وَبَيْنَ الْفَاءِ بِمَعْمُولِ خَبَرِ أَنَّ وِفَاقًا لِسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُثْمَانَ، وَخِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ وَابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ، وَلَا بِمَعْمُولِ خَبَرِ لَيْتَ وَلَعَلَّ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَمَسْأَلَةُ أَمَّا عِلْمًا، فَعَالِمٌ يَلْزَمُ أَهْلُ الْحِجَازِ فِيهِ النَّصْبَ وَتَخْتَارُهُ تَمِيمٌ، وَتَوْجِيهُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ. حَقَّ الْأَمْرُ ثَبَتَ وَوَجَبَ وَمِنْهُ: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ «1» ، وَالْبَاطِلُ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ الْمُضْمَحِلُّ الزَّائِلُ، مَاذَا: الْأَصْلُ فِي ذَا أَنَّهَا اسْمُ إِشَارَةٍ، فَمَتَى أُرِيدَ مَوْضُوعُهَا الْأَصْلِيُّ كَانَتْ مَاذَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَتَكُونُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَذَا خَبَرُهُ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ مَاذَا ثَلَاثَةَ اسْتِعْمَالَاتٍ غَيْرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا وَذَا مَوْصُولًا بِدَلِيلِ وقوع الاسم جوابا لها مَرْفُوعًا فِي الْفَصِيحِ، وَبِدَلِيلِ رَفْعِ الْبَدَلِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أَنُحِبُّ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ: إِنَّ ذَا لَغْوٌ وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الزِّيَادَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا رُكِّبَتْ مَعَ مَا وَصَارَتْ كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وقوع الاسم جوابا لها مَنْصُوبًا فِي الْفَصِيحِ، وَقَوْلُ الْعَرَبِ: عَمَّاذَا تَسْأَلُ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ مَا، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ ... لَا يَسْتَفِقْنَ إلى الديرين تحتانا

_ (1) سورة يونس: 10/ 33، وسورة غافر: 40/ 6.

وَلَا يَصِحُّ مَوْصُولِيَّةُ ذَا هُنَا، الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَا مَعَ ذَا اسْمًا مَوْصُولًا، وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ ... وَلَكِنْ بِالْمَغِيبِ نَبِّئِينِي فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالْأَوَّلُ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَى مَاذَا: وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَتَسَلَّطُ عَلَى مَاذَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّطَ. وَأَجَازَ الْفَارِسِيُّ أَنْ تَكُونَ مَاذَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَجَعَلَ مِنْهُ: دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ. الْإِرَادَةُ: طَلَبُ نَفْسِكَ الشَّيْءَ وَمَيْلُ قَلْبِكَ إِلَيْهِ، وهي نقيض الكرهة، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُضَافَةً إلى الله تعالى، إن شَاءَ اللَّهُ. الْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ، فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ: خَرَجَتْ، وَالْفَاسِقُ شَرْعًا: الْخَارِجُ عَنِ الْحَقِّ، وَمُضَارِعُهُ جَاءَ عَلَى يَفْعَلُ وَيَفْعُلُ. النَّقْضُ: فَكُّ تَرْكِيبِ الشَّيْءِ وَرَدُّهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَنَقْضُ الْبِنَاءِ هَدْمُهُ، وَنَقْضُ الْمُبْرَمِ حَلُّهُ. وَالْعَهْدُ: الْمَوْثِقُ، وَعَهَدَ إِلَيْهِ فِي كَذَا: أَوْصَاهُ بِهِ وَوَثَّقَهُ عَلَيْهِ. وَالْعَهْدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى سِتَّةِ مَحَامِلٍ: الْوَصِيَّةُ، وَالضَّمَانُ، وَالْأَمْرُ، وَالِالْتِقَاءُ، وَالرُّؤْيَةُ، وَالْمَنْزِلُ. وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ. وَالْمِيثَاقُ وَالتَّوْثِقَةُ: كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة. الْخَسَارُ: النُّقْصَانُ أَوِ الْهَلَاكُ، كَيْفَ: اسْمٌ، وَدُخُولُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا شَاذٌّ، وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِفْهَامًا، وَالشَّرْطُ بِهَا قَلِيلٌ، وَالْجَزْمُ بِهَا غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا نُجِيزُهُ قِيَاسًا، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَقُطْرُبٍ، وَقَدْ ذُكِرَ خِلَافٌ فِيهَا: أَهِيَ ظَرْفٌ أَمِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ؟ وَالْأَوَّلُ عَزَوْهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ، والثاني إلى الأخفش والسيرافي، وَالْبَدَلُ مِنْهَا وَالْجَوَابُ إِذَا كَانَتْ مَعَ فِعْلٍ مُسْتَغْنٍ مَنْصُوبَانِ، وَمَعَ مَا لَا يُسْتَغْنَى مَرْفُوعٌ إِنْ كَانَ مُبْتَدَأً، وَمَنْصُوبٌ إِنْ كَانَ نَاسِخًا. أَمْوَاتًا: جَمْعُ مَيِّتٍ، وَهُوَ أَيْضًا جُمَعُ مَيْتَةٍ، وَجَمْعُهُمَا عَلَى أَفْعَالٍ شُذُوذٍ، وَالْقِيَاسُ فِي فَيْعَلٍ إِذَا كُسِرَ فَعَائِلٍ. الِاسْتِوَاءُ: الِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِقَامَةُ، اسْتَوَى الْعُودُ وَغَيْرُهُ: إِذَا اسْتَقَامَ وَاعْتَدَلَ، ثُمَّ قِيلَ: اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ، إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عَلَى شَيْءٍ، وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ وَالتَّعْدِيلُ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْثَالَ فِي كِتَابِهِ بِالْعَنْكَبُوتِ، وَالذُّبَابِ، وَالتُّرَابِ، وَالْحِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَحْقَرُ وَيُطْرَحُ. قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَعَزُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُحَقَّرَاتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا: لَمَّا ضَرَبَ

اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لا بال لها، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، إِذِ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ إِنَّمَا هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى الْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا فِي إيذائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِقِينَ. وَقَدْ نَصَّ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا ذِكْرَ ثَلَاثِ طَوَائِفَ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، قَالَهُ الْقَفَّالُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَأَنَّ الْبَعُوضَةَ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا شَبِعَتْ وَامْتَلَأَتْ مَاتَتْ. كَذَلِكَ مَثَلُ أهل الدنيا إذا امتلأوا مِنْهَا كَانَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: ضَرَبَ ذَلِكَ تَعَالَى مَثَلًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ مَا قَلَّ مِنْهَا أَوْ كثير لِيُجَازِيَ عَلَيْهَا ثَوَابًا أَوْ عقابا، وإلا ظهر فِي سَبَبِ النُّزُولِ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذِكْرِ الْمَثَلِ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ، وَنَزَلَ التَّمْثِيلُ بِالْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهَلَةُ وَأَهْلُ الْعِنَادِ، وَاسْتَغْرَبُوا مَا لَيْسَ بِمُسْتَغْرَبٍ وَلَا مُنْكَرٍ، إِذِ التَّمْثِيلُ يَكْشِفُ الْمَعْنَى وَيُوَضِّحُ الْمَطْلُوبَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَائِدَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «2» ، وَالْعَاقِلُ إِذَا سَمِعَ التَّمْثِيلَ اسْتَبَانَ لَهُ بِهِ الْحَقُّ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ الْأَمْثَالَ بِالْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي لَأَلْقَى مِنْ ذَوِي الضِّغْنِ مِنْهُمُ ... وَمَا أَصْبَحَتْ تَشْكُو مِنَ الْوَجْدِ سَاهِرَهُ كَمَا لَقِيَتْ ذَاتُ الصَّفَا مِنْ حَلِيفِهَا ... وَمَا انْفَكَّتِ الْأَمْثَالُ فِي النَّاسِ سَائِرَهُ فَذَكَرَ قِصَّةَ ذَاتِ الصَّفَا، وَهِيَ حَيَّةٌ كَانَتْ قَدْ قُتِلَتْ قُرَابَةَ حَلِيفِهَا، فَتَوَاثَقَا بِاللَّهِ على أنها تدي ذَلِكَ الْقَتِيلِ وَلَا تُؤْذِيهَا، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الشِّعْرِ. وَالْأَمْثَالُ مَضْرُوبَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ كَالنُّخَالَةِ وَالدُّودِ وَالزَّنَابِيرِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَرَأْتُ أَمْثَالًا فِي الزَّبُورِ. فَإِنْكَارُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ جَهَالَةٌ مُفْرِطَةٌ أَوْ مُكَابَرَةٌ وَاضِحَةٌ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُصَدَّرَةٌ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَحْيِي بِيَاءَيْنِ، وَالْمَاضِي: اسْتَحْيَا، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا جَاءَ لِلْإِغْنَاءِ عَنِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ: كَاسْتَنْكَفَ، واستأثر، واستبد، واستعبر،

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 12. (2) سورة البقرة: 2/ 17.

وَهُوَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، وَهَذَا هُنَا مِنَ الْحَيَاءِ. وَفِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنِ اسْتَحْيَا لَيْسَ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي أَيْضًا الَّذِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ حَيِيَ الرَّجُلُ كَمَا يُقَالُ: نَسِيَ وَخَشِيَ وَشَظِيَ الْفَرَسُ، إِذَا اعْتَلَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ جُعِلَ الْحَيِيُّ لِمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِانْكِسَارِ، وَالتَّغَيُّرِ مُنْكَسِرُ الْقُوَّةِ مُنْتَقِضُ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ هَلَكَ حَيَاءً مِنْ كَذَا، وَمَاتَ حَيَاءً، وَرَأَيْتُ الْهِلَالَ فِي وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَذَابَ حَيَاءً، وَجَمُدَ فِي مَكَانِهِ خَجَلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ: مِنَ الْحَيَاءِ حَيِيَ الرَّجُلُ، فَيَكُونُ اسْتَحْيَا عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ، وَعَلَى مَا نَقَلْنَاهُ قَبْلُ يَكُونُ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ: يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يُجْرُونَهَا مَجْرَى يَسْتَبِي. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا تَسْتَحِي مِنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي ... مَحَارِمُنَا لَا يَبُوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ وَالْمَاضِي: اسْتَحَى، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كَرِعْنَ بست فِي إِنَاءٍ مِنَ الْوَرْدِ وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي الْمَحْذُوفَةِ، فَقِيلَ لَامُ الْكَلِمَةِ، فَالْوَزْنُ يَسْتَفِعُ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْعَيْنِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ الْعَيْنُ فَصَارَتْ يَسْتَفِعُ. وَقِيلَ الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، فَالْوَزْنُ يَسْتَيْفِلُ ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ اللَّامِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ اللَّامُ فَصَارَتْ يَسْتَفِلُ. وَأَكْثَرُ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْعَيْنُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَذْفُ مُخْتَصًّا بِالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، بَلْ يَكُونُ أَيْضًا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا نَقَلُوا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ، يُقَالُ: اسْتَحْيَيْتُهُ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَضْرِبَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ تَعَدَّى إِلَيْهِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَفِي ذَلِكَ الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ «2» ، أَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ أَمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُهُ، فَقِيلَ: المعنى

_ (1) سورة الفاتحة 1/ 5. (2) سورة البقرة: 2/ 25.

لَا يَتْرُكُ، فَعَبَّرَ بِالْحَيَاءِ عَنِ التَّرْكِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْحَيَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَحْيَا مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ تَرَكَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخْشَى، وَسُمِّيَتِ الْخَشْيَةُ حَيَاءً لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ «1» ، أن معناه تستحيي مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ هِيَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى التَّأْوِيلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا فِي اللُّغَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَمُرَّ عَلَى مَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَتَأَوَّلُهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ صِفَاتَهُ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَاهِيَّتِهَا الْخَلْقُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، فَمَا صَحَّ فِي الْعَقْلِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نَسَبْنَاهُ إِلَيْهِ، وَمَا اسْتَحَالَ أَوَّلْنَاهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، كَمَا نُؤَوِّلُ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَالْحَيَاءُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَدْ جَاءَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ مُثْبَتًا فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ يَدَيْهِ أَنْ بردهما صِفْرًا حَتَّى يَضَعَ فِيهِمَا خَيْرًا» ، وَأُوِّلَ بِأَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ مِثْلُ تَرْكِهِ تَخْيِيبِ الْعَبْدِ مِنْ عَطَائِهِ لِكَرَمِهِ بِتَرْكِ مَنْ تَرَكَ رَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَيْضًا فِي الِاسْتِحْيَاءِ، فَنُسِبَ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ بِحَالٍ، كَالْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ قَبْلُ وَهُوَ: إذا ما استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ قَالَ أبو التمام: هُوَ اللَّيْثُ لَيْثُ الْغَابِ بَأْسًا وَنَجْدَةً ... وَإِنْ كَانَ أَحْيَا مِنْهُ وَجْهًا وَأَكْرَمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَحْيِي عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: مَا يستحيي رَبُّ مُحَمَّدٍ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَمَجِيءُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا قُوبِلَ بِهِ، شَائِعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» ، وَجَاءَ ذِكْرُ الِاسْتِحْيَاءِ مَنْفِيًّا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُهُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُهُ، يَصِحُّ أَنْ ينفى

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 37. (2) سورة الشورى: 42/ 40.

عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ «1» ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ «2» مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ «3» ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «4» ؟ وَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ. فَالْإِخْبَارُ بِانْتِفَاءِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ، وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الشَّيْءِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِهِ عَلَى مَنْ نُفِيَ عَنْهُ، وَلَا صِحَّةُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. زَعَمَ أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ إِثْبَاتًا يَجِبُ أَنْ لَا يُطْلَقَ عَلَى طَرِيقِ النَّفْيِ، قَالَ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ بِصُورَةِ النَّفْيِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَثْرَةِ ذَلِكَ، أَعْنِي نَفْيَ الشَّيْءِ عَمَّا لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ، لَهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ لَا يُحْصَرُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ. وَيَضْرِبُ: قِيلَ مَعْنَاهُ: يُبَيِّنُ، وَقِيلَ: يَذْكُرُ، وَقِيلَ: يَضَعُ، مَنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَضُرِبَ الْبَعْثُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَيَكُونُ يَضْرِبُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَقِيلَ يَضْرِبُ: فِي مَعْنَى يَجْعَلُ وَيَصِيرُ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِنًا، وَضَرَبْتُ الْفِضَّةَ خَاتَمًا. فَعَلَى هَذَا يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ضَرَبَ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَبُطْلَانُ هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَمَا: إِذَا نَصَبْتَ بَعُوضَةً زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ صِفَةٌ لِلْمَثَلِ تزيد الكرة شَيَاعًا، كَمَا تَقُولُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ مَا، أَيْ: أَيُّ رَجُلٍ كَانَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَالزَّجَّاجُ: أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً، وَيَنْتَصِبُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ بَعُوضَةً. وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَا، إِذَا جَعَلْنَا ما بدلا من مثل، وَمَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبُ، وَتَكُونُ مَا إِذْ ذَاكَ قَدْ وُصِفَتْ بِاسْمِ الْجِنْسِ الْمُتَنَكِّرِ لِإِبْهَامِ مَا، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةً عَطْفُ بَيَانٍ، وَمَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبَ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَثَلَ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ، وَانْتَصَبَ مَثَلًا حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ ثَانِيًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَثَلُ عَلَى أَنَّ يَضْرِبَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِيَضْرِبَ، وَمَثَلًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَالسَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ إِسْقَاطِ الْجَارِّ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، وَحَكَوْا لَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَنَسَبَهُ الْمَهْدَوِيُّ لِلْكُوفِيِّينَ، وَنَسَبَهُ غَيْرُهُمَا لِلْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَيَكُونُ: مَثَلًا مَفْعُولًا بِيَضْرِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنْكَرَ هَذَا النَّصْبَ، أَعْنِي نَصْبَ بَعُوضَةٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَبُو الْعَبَّاسِ. وَتَحْرِيرُ نَقْلِ هَذَا المذهب: أن الكوفيين

_ (1) سورة البقرة: 2/ 255. (2) سورة الإخلاص: 112/ 3. (3) سورة المؤمنون: 23/ 91. (4) سورة الأنعام: 6/ 14.

يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا تَكُونُ جَزَاءً فِي الْأَصْلِ وَتُحَوُّلُ إِلَى لَفْظِ الَّذِي، فَيَنْتَصِبُ مَا بَعْدَهَا، سَوَاءٌ كَانَ نَكِرَةً أَمْ غَيْرَ نَكِرَةٍ، وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فَقَطْ، وَتَلْزَمُ وَلَا يَصْلُحُ مَكَانَهَا الْوَاوُ، وَلَا ثُمَّ، وَلَا أَوْ، وَلَا لَا، وَيَجْعَلُونَ النَّصْبَ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ بَيْنَ. فَلَمَّا حَذَفَ بَيْنَ، قَامَ هَذَا مَقَامَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَيُقَدِّرُونَ الْفَاءَ بِإِلَى، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. حَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: مُطِرْنَا مَا زُبَالَةٍ فَالثَّعْلَبِيَّةُ، وَمَا مَنْصُوبَةٌ بِمُطِرْنَا. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: هِيَ أحسن الناس ما قرنا، وَانْتِصَابُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَتَقُولُ: هِيَ حَسَنَةٌ مَا قَرَنَهَا إِلَى قَدَمِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْشَدَنَا أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْنًا إِلَى قَدَمٍ ... وَلَا حِبَالِ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا نَظَرَ إِلَى الْهِلَالِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا إِهْلَالُكَ إِلَى سِرَارِكَ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: الشَّنْقُ مَا خُمَّا فَعِشْرِينَ. وَالْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا، وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تَسْقُطُ، فَخَطَأٌ أَنْ يَقُولَ: مُطِرْنَا زُبَالَةً فَالثَّعْلَبِيَّةُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ لَا يَعْرِفُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَرَدُّهُ إِلَى قَوَاعِدِ الْبَصْرِيِّينَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ أَنَّ ضَرَبَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَلِكَ الواحد هُوَ مَثَلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضُرِبَ مَثَلٌ، وَلِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي التَّرْكِيبِ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَنْتَصِبَ بِيَضْرِبَ. وَمَا: صِفَةٌ تَزِيدُ النَّكِرَةَ شَيَاعًا، لِأَنَّ زِيَادَتَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا تَنْقَاسُ. وَبَعُوضَةً: بَدَلٌ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي النَّكِرَاتِ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ، وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا تَنْقَاسُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ، وَرُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ، وَقُطْرُبٌ: بَعُوضَةٌ بِالرَّفْعِ، وَاتَّفَقَ الْمُعْرِبُونَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ عَنْهُ خَبَرًا، فَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ بَعُوضَةٌ، وَفِي هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صِلَةٌ لِمَا، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَحَذْفُ هَذَا الْعَائِدِ وَهَذَا الْإِعْرَابُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي جَوَازِ حَذْفِ هَذَا الضَّمِيرِ طُولَ الصِّلَةِ. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ أَيٍّ مِنَ الْمَوْصُولَاتِ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمْ تَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ شَاذَّةٌ، وَيَكُونُ إِعْرَابُ مَا عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ بَدَلًا، التَّقْدِيرُ: مَثَلًا الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَا زَائِدَةٌ أَوْ صِفَةٌ وَهُوَ بَعُوضَةٌ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ، كَالتَّفْسِيرِ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَلْفُوظٌ بِهِ وَهُوَ مَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لَمَّا اسْتَنْكَفُوا مِنْ تَمْثِيلِ اللَّهِ لِأَصْنَامِهِمْ بِالْمُحَقَّرَاتِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ لِلْأَنْدَادِ مَا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحَقَّرَةِ بَلْهَ فَمَا فَوْقَهَا، كَمَا يُقَالُ، فُلَانٌ لَا يُبَالِي بِمَا وَهَبَ مَا دِينَارٌ وَدِينَارَانِ، وَالْمُخْتَارُ الْوَجْهُ الثَّانِي لِسُهُولَةِ تَخْرِيجِهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ فَصِيحًا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالثَّانِي فِيهِ غَرَابَةٌ وَاسْتِبْعَادٌ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وما مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ بَعُوضَةً إِنْ نصبنا لما مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا الظَّرْفُ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَصِفَتُهَا الظَّرْفُ، وَالْمَوْصُوفَةُ أَرْجَحُ. وَإِنْ رَفَعْنَا بَعُوضَةً، وَكَانَتْ مَا مَوْصُولَةً فَعَطَفَ مَا الثَّانِيَةَ عَلَيْهَا أَوِ اسْتِفْهَامًا، فَذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، أَوْ كَانَتِ الْبَعُوضَةُ خَبَرًا لِهُوَ مَحْذُوفَةً، وَمَا زَائِدَةٌ، أَوْ صِفَةٌ فَعَطَفَ عَلَى الْبَعُوضَةِ، إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمَا فَوْقَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي فِي الْحَجْمِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيَكُونُ ذِكْرُ الْبَعُوضَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الصِّغَرِ، وَمَا فَوْقَهَا تَنْبِيهًا عَلَى الْكِبَرِ، وَبِهِ قَالَ أَيْضًا قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ، أَيْ وَمَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي الصِّغَرِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ أَنْذَلُ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَكَ: هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ، أَيْ أَبْلَغَ وَأَعْرَقَ فِي النَّذَالَةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْكِسَائِيُّ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَوْقَ مَنِ الْأَضْدَادِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يُحْمَلُ عَلَى مَعَانِيهِ، يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْبَعُوضَةِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا فَوْقَهَا وَمَا دُونَهَا، فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَنِ الْآخَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، كَمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» عَنْ قَوْلِهِ: وَالْبَرْدَ، وَرُجِّحَ الْقَوْلُ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الصِّغَرِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّمْثِيلِ تَحْقِيرُ الْأَوْثَانِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ حَقَارَةً كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَكْمَلَ، وَبِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَمْتَنِعُ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَبِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَصْغَرُ كَانَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِهِ أَصْعَبَ. فَإِذَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الصِّغَرِ لَمْ يُحِطْ بِهِ إِلَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْكَبِيرِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِجَرَيَانِ فَوْقَ عَلَى مَشْهُورِ مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي أَسْنَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَدَمُ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ أَجْلِهِ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَذِهِ الْمُصَغَّرَاتِ وَالْمُسْتَضْعَفَاتِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَعُوضَةَ قَدْ أَوْجَدَهَا عَلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْإِحْكَامِ وَحُسْنِ التَّأْلِيفِ وَالنِّظَامِ، وَأَظْهَرَ فِيهَا، مَعَ صِغَرِ حَجْمِهَا، مِنْ بَدَائِعِ الْحِكْمَةِ كَمِثْلِ مَا أَظْهَرَهُ فِي النيل الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وَعِظَمِ الْخِلْقَةِ. وَإِذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اسْتَوْفَى نِصَابَ حُسْنِ الصَّنْعَةِ وَبَدَائِعِ التَّأْلِيفِ وَالصَّنْعَةِ، فَضَرْبُ المثل بالصغير

_ (1) سورة النحل: 16/ 81. [.....]

وَالْكَبِيرِ سِيَّانِ عِنْدَهُ إِذَا كَانَا فِي تَوْفِيَةِ الْحِكْمَةِ سَوَاءً. الثَّانِي: أَنَّ الْبَعُوضَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَصْغَرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَصَّهَا بِالذِّكْرِ فِي الْقِلَّةِ، فلا يستحيي أَنْ يَضْرِبَ الْمَثَلَ فِي الشَّيْءِ الْكَبِيرِ بِالْكَبِيرِ وَالْحَقِيرِ بِالْحَقِيرِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْبَعُوضَةِ، مَعَ صِغَرِ حَجْمِهَا وَضَعْفِ بُنْيَانِهَا، مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ وَدَقِيقِ الصُّنْعِ، مِنِ اخْتِصَارِ الْخَصْرِ وَدِقَّةِ الْخُرْطُومِ وَلَطِيفِ تَكْوِينِ الْأَعْضَاءِ وَلِينِ الْبَشَرَةِ، مَا يُعْجِزُ أَنْ يُحَاطَ بِوَصْفِهِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَبْضَعُ بِشَوْكَةِ خُرْطُومِهَا، مَعَ لِينِهَا، جِلْدَ الْجَامُوسِ وَالْفِيلِ، وَتَهْتَدِي إِلَى مُرَاقِ الْبَشَرَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَسْتَحْيِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَ بِهَا الْمَثَلَ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهَا وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «1» . الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، أَتَى بِهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَأَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَهَا مَثَلًا لَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَقَارَةِ، وَضَعْفِ الْقُوَّةِ، وَخِسَّةِ الذَّاتِ وَالْفِعْلِ، فَلَوْ شَبَّهَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَا حَسُنَ مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ، وَلَا عَذُبَ مَذَاقُ التَّمْثِيلِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُشَبَّهُ إِلَّا بِمَا يُمَاثِلُهُ وَيُشَاكِلُهُ، وَمَنْ أَتَى بِالشَّيْءِ عَلَى وَجْهِهِ فَلَا يَسْتَحَيَا مِنْهُ. وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَتَيْنِ بِأَمَّا الَّتِي مَعْنَاهَا الشَّرْطُ مُشْعِرٌ بِالتَّوْكِيدِ، إِذْ هِيَ أَبْلَغُ مِنْ: فَالَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُونَ، إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا بَرَزَ فِي حَيِّزِ أَمَّا مِنَ الْخَبَرِ كَانَ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ، وَمَا مُفِيدُ ذَلِكَ وَمُثِيرُهُ إِلَّا تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَضْرِبُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَعْلَمُونَ أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ من لَا يَسْتَحْيِي، أَيْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ انْتِفَاءَ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ ذكر الحق، وإلا ظهر الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فَمَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا بِالْمَثَلِ. وَالتَّقْسِيمُ وَرَدَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِلْمِ لِأَنَّهُ الْجَزْمُ الْمُطَابِقُ لِدَلِيلٍ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْجَارِي عَلَى اللِّسَانِ، وَجَعَلَ مُتَعَلِّقَهُ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ مَاذَا، وَهِيَ هَاهُنَا تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرٌ عَنْ مَا. وَأَرَادَ صِلَةً لِذَا الْمَوْصُولَةِ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، إِذْ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ ما الذي

_ (1) سورة الحج: 22/ 73.

أَرَادَهُ اللَّهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَتَرْكِيبُ ذَا مَعَ مَا، وَتَكُونُ مَفْعُولًا بِإِرَادَةِ التَّقْدِيرِ، أَيْ شَيْءٌ أَرَادَهُ اللَّهُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فَصِيحَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي مَاذَا فَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ اللَّهُ، وقيل: ما اسم وذا اسْمٌ آخَرُ بِمَعْنَى الَّذِي، فَمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وذا خبره. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَظَاهِرُهُ اخْتِلَافُ النَّحْوِيِّينَ فِي مَاذَا هُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ هُمَا وَجْهَانِ سَائِغَانِ فَصِيحَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةَ خِلَافٍ عِنْدِ النَّحْوِيِّينَ، بَلْ كُلُّ مَنْ شَدَا طَرَفًا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ يُجَوِّزُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَاذَا هُنَا، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ ذَكَرُوا الْوَجْهَيْنِ فِي مَاذَا هُنَا. وَالْإِرَادَةُ بِالتَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ، يَسْتَحِيلُ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْإِرَادَةُ مَاهِيَّةٌ يَجِدُهَا الْعَاقِلُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ الْبَدِيهِيَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَأَلَمِهِ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: إِنَّهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي رُجْحَانَ طَرَفَيِ الْجَائِزِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْإِيقَاعِ، لَا فِي الْوُقُوعِ، وَاحْتَرَزَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقُدْرَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ أَزَلِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ بِذَاتِهِ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَبَعْضُ الرَّافِضَةِ نَفَوُا الصِّفَاتِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَالْبَهْشَمِيَّةُ وَالْبَصْرِيُّونَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي مَحَلٍّ، وَالْكَرَّامِيَّةُ تَقُولُ بِحُدُوثِهَا فِيهِ تَعَالَى، وَإِنَّهَا إِرَادَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُهُمْ زَعَمُوا مَعَ الْقَوْلِ بِالْحُدُوثِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِيهَا الْعَدَمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ عَدَمُهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، أَيْ مِنْ مَثَلٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ مُتَمَثِّلًا بِهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لِمَنْ حَمَلَ سِلَاحًا رَدِيئًا، مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا سِلَاحًا، فَنَصْبُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: التَّمْيِيزُ وَالْحَالُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مُتَمَثِّلًا. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْقَطْعِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ بِإِعْرَابِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا لَمْ تُتْبِعْهُ فِي الْإِعْرَابِ وَقَطَعْتَهُ عَنْهُ نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ، وَجَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ. وَعَالَيْنَ قُنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا فَأَحْمَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْبُسْرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَطَعْتَهُ عَنْ إِعْرَابِهِ نَصَبْتَهُ عَلَى الْقَطْعِ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْبُسْرِ الْأَحْمَرِ، كَذَلِكَ قَالُوا: مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ. فَلَمَّا لَمْ يُجَرَّ عَلَى إِعْرَابِ هَذَا، انْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى الْقَطْعِ، وَإِذَا قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ فِي الْحَمَّامِ عُرْيَانًا، وَيَجِيءُ زَيْدٌ رَاكِبًا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ. وَفَرَّقَ الْفَرَّاءُ فَزَعَمَ أَنَّ مَا كَانَ فِيمَا قَبْلَهُ دَلِيلٌ

عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْقَطْعِ، وَمَا لَا فَمَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يُثْبِتِ الْبَصْرِيُّونَ النَّصْبَ عَلَى الْقَطْعِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ مَذْكُورٌ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ، وَالْمُخْتَارُ انْتِصَابُ مثل عَلَى التَّمْيِيزِ، وَجَاءَ عَلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُشِيرَ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فَجَاءَ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ مُؤَكِّدًا لِلِاسْمِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ. يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً: جُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ جَارِيَتَانِ مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِلْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ الْمُصَدَّرَتَيْنِ بِإِمَّا، وَوَصَفَ تَعَالَى الْعَالِمِينَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَالسَّائِلِينَ عَنْهُ سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1» ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ، فَالْمُهْتَدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ كَثِيرٌ، وَإِذَا وُصِفُوا بِالْقِلَّةِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الضَّلَالِ، أَوْ تَكُونُ الْكَثْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْقِلَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ، فَسُمُّوا كَثِيرًا ذَهَابًا إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً في موضع الصفة لمثل، وَكَانَ الْمَعْنَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُفَرِّقُ بِهِ النَّاسَ إِلَى ضَلَالٍ وَإِلَى هِدَايَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ مَا، أَيُّ مَثَلٍ: كَانَ بَعُوضَةً، أَوْ مَا فَوْقَهَا، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا سَأَلُوا سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ وَلَيْسُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، إِلَّا إِنْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيُمْكُنُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ كَمَا أَنَّ إِسْنَادَ الْهِدَايَةِ كَذَلِكَ، فَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ وَالْهِدَايَةِ، وقد تؤول هُنَا الْإِضْلَالُ بِالْإِضْلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَالْإِضْلَالُ عَنِ الدِّينِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَقْبِيحِ الدِّينِ وَتَرْكِهِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ الْمُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَالْإِضْلَالُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ يَقُولُ: إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ إِلَى السَّبَبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فَضَلَّ بِهِ قَوْمٌ وَاهْتَدَى بِهِ قَوْمٌ تَسَبَّبَ لِضَلَالِهِمْ وَهُدَاهُمْ.

_ (1) سورة سبأ: 34/ 13. (2) سورة الشعراء: 26/ 227.

وَقِيلَ: يُضِلُّ بِمَعْنَى يُعَذِّبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ «1» ، قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَرَدَّ الْقَفَّالُ هَذَا وَقَالَ: بَلِ الْمُرَادُ فِي الشَّاهِدِ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّهُ إِلْبَاسٌ فِي التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، أَوْ يَجْرِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَأَمَّا أَنْ يَجْرِيَ بَعْضُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِلْبَاسًا فِي التَّرْكِيبِ، وَكِتَابُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُضَلُّ بِهِ كَثِيرٌ وَيُهْدَى بِهِ كَثِيرٌ وَمَا يُضَلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقُونَ، فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ، فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ الظَّاهِرِ، مَفْتُوحَ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ: هَذِهِ قِرَاءَةُ الْقَدَرِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: يُضَلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَمَا يَضِلُّ بِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْفَاسِقُونَ بِالْوَاوِ، وَكَذَا أَيْضًا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَاتٌ مُتَّجِهَةٌ إلى أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ فِي الثَّلَاثَةِ عَائِدٌ عَلَى مَثَلًا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ يَضْرِبُ الْمَثَلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ، أَيْ بِالتَّكْذِيبِ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، أَيْ بِالتَّصْدِيقِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قُوَّةُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ. وَمَعْنَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، أَيْ: وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلضَّلَالَةِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى يُضِلُّ وَيَهْدِي: الزِّيَادَةُ فِي الضَّلَالِ وَالْهُدَى، لَا أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ سَبَبٌ لِلضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: نَزِيدُ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ وَكَفَرَ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِ. وَالْفَاسِقِينَ: مَفْعُولُ يُضِلُّ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ منصوبا على الاستثناء. ويكون مَفْعُولُ يُضِلُّ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ أَحَدًا إِلَّا الْفَاسِقِينَ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ بَعْدَ إِلَّا: إِمَّا أَنْ يُفَرَّغَ لَهُ الْعَامِلُ، فَيَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَامِلِ نَحْوَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَمَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا بِزَيْدٍ، إِذَا جَعَلْتَ زَيْدًا وَبِزَيْدٍ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ قَبْلَ لَا، أَوْ لَا يُفَرَّغُ. وَإِذَا لَمْ يُفَرَّغْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ طَالِبًا مَرْفُوعًا، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا ذِكْرُهُ قَبْلَ إِلَّا، وَإِضْمَارُهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَرُ، أَوْ مَنْصُوبًا، أَوْ مَجْرُورًا، فَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِأَنَّهُ فَضْلَةٌ وَإِثْبَاتُهُ. فَإِنْ حذفته كان الاسم

_ (1) سورة القمر: 54/ 47.

الَّذِي بَعْدَ إِلَّا مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَتَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، تُرِيدُ ما ضربت أحدا إلا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا عَمْرًا، تُرِيدُ مَا ضَرَبَتْ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا عَمْرًا، قَالَ الشَّاعِرُ: نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ... وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرًا يُرِيدُ وَلَمْ يَنْجُ بِشَيْءٍ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ، وَإِنْ أثبته، ولم يحذفه، فَلَهُ أَحْكَامٌ مَذْكُورَةٌ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَدْ قَعَّدَهُ النَّحْوِيُّونَ يَجُوزُ فِي الْفَاسِقِينَ أن يكون معمولا ليضل، وَيَكُونَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَكُونَ مَعْمُولُ يُضِلُّ قَدْ حُذِفَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَالْفَاسِقُ هُوَ الْخَارِجُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ بِكُفْرٍ وَتَارَةً يَكُونُ بِعِصْيَانٍ غَيْرِ الْكُفْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَاسِقُ فِي الشَّرِيعَةِ: الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، وَهُوَ النَّازِلُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَيْ بَيْنِ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَالُوا: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ لَهُ هَذَا الْحَدَّ أَبُو حُذَيْفَةَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَشْيَاعِهِ. وَكَوْنُهُ بَيْنَ بَيْنَ، أَيْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ فِي أَنَّهُ يُنَاكَحُ، وَيُوَارَثُ، وَيُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ كَالْكَافِرِ فِي الذَّمِّ، وَاللَّعْنِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَاعْتِقَادِ عَدَاوَتِهِ، وَأَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ. وَمَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالزَّيْدِيَّةِ أَنَّ الصلاة لا تجزي خَلْفَهُ، وَيُقَالُ لِلْخُلَفَاءِ الْمَرَدَةِ مِنَ الْكُفَّارِ الْفَسَقَةِ، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِعْمَالَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ «1» ، يُرِيدُ اللَّمْزَ وَالتَّنَابُزَ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَالَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَفَسَقَ بِمَعْصِيَةٍ دُونَ الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ فَاسِقٌ بِفِسْقِهِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِفِسْقِهِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا بَلَغَ حَدَّ الْكُفْرِ. وَذَهَبَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَصَى وَأَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ أَذْنَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَدْ أَشْرَكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ نِفَاقٌ، وَإِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بَعْدَ التَّصْدِيقِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ. وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذُكِرَ أَنَّ لِأَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سُمُّوا مُعْتَزِلَةً، فَإِنَّهُمُ اعْتَزَلُوا قَوْلَ الأمة فيها، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كَانُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَحْدَثُوا قَوْلًا ثَالِثًا فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً لِذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي أُصُولِ الدين.

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 11. (2) سورة التوبة: 9/ 67.

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ: يَحْتَمِلُ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ. فَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الِاتِّبَاعِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ أَذُمُّ الَّذِينَ. وَالرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا إِلَّا عَلَى بُعْدٍ، فَالْأَوْلَى مِنْ هَذَا الْإِعْرَابِ الْأَعَارِيبُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَوْلَاهَا الْإِتْبَاعُ، وَتَكُونُ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةَ ذَمٍّ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، إِذْ كُلُّ فَاسِقٍ يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيَقْطَعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَهْدِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلَةِ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ «1» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ كُفْرُ، بَعْضِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَبَعْضِهِمْ بِحُقُوقِ نِعْمَتِهِ. الثَّالِثُ: مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ وَالتَّصْدِيقِ لأنبيائه ورسله، وبما جاؤوا بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «2» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ نَبْذُهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَبْدِيلُ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الرَّابِعُ: مَا أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَمُتَّبِعِيهِمْ أَنْ لَا يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَلَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَنْصُرُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ «3» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ إِنْكَارُهُمْ لِنُبُوَّتِهِ وَتَغْيِيرُهُمْ لِصِفَتِهِ. الْخَامِسُ: إِيمَانُهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَتِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ وَنَقْضُهُمْ لَهُ جَحْدُهُمْ لِنُبُوَّتِهِ وَلِصِفَتِهِ. السَّادِسُ: مَا جَعَلَهُ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، بِالنَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَصِدْقِهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَنَقْضُهُمْ هُوَ تَرْكُهُمُ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَقْلِيدُهُمْ لِآبَائِهِمْ. السَّابِعُ: الْأَمَانَةُ الْمَعْرُوضَةُ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ الَّتِي حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ، وَنَقْضُهُمْ تَرْكُهُمُ الْقِيَامَ بِحُقُوقِهَا. الثَّامِنُ: مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَنَقْضُهُمْ عَوْدُهُمْ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ. التَّاسِعُ: هُوَ الْإِيمَانُ وَالْتِزَامُ الشَّرَائِعِ، وَنَقْضُهُ كُفْرُهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ التِّسْعَةُ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي وقع في

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 172. (2) سورة آل عمران: 3/ 187. (3) سورة آل عمران: 3/ 81.

سَبَبِ النُّزُولِ، وَالْعُمُومِ هُوَ الظَّاهِرُ. فَكُلُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ أَوْ مُشْرِكٍ أَوْ كِتَابِيٍّ تَنَاوَلَهُ هَذَا الذم، ومن مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَنْقُضُونَ، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ حَصَلَ عَقِيبَ تَوَثُّقِ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْعَهْدِ، فَأَثَرُ مَا اسْتَوْثَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ نَقَضُوهُ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْمِيثَاقُ مَفْعُولٌ مِنَ الْوَثَاقَةِ، وَهُوَ الشَّدُّ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَنَى بِهِ عَنِ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ اسْمٌ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ شُيَيْمٍ: أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرُّتَاعَا أَرَادَ بَعْدَ إِعْطَائِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ قَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْثِقَةِ، كَمَا أَنَّ الْمِيعَادَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَالْمِيلَادَ بِمَعْنَى الْوِلَادَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالْأَصْلُ فِي مِفْعَالٍ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا نَحْوَ: مِطْعَامٍ وَمِسْقَامٍ وَمِذْكَارٍ. وَقَدْ طَالَعْتُ كَلَامَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَاجِّ، وَكَلَامَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا مِنْ أَوْعَبِ النَّاسِ لِأَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ، فَلَمْ يَذْكُرَا مِفْعَالًا فِي أَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِيثَاقِهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَهْدِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَأُجِيزَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنْ تَوْثِيقِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا وَثَّقَ بِهِ عَهْدَهُ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْمِيثَاقِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنْ أَعَدْتَ الْهَاءَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ أَعَدْتَهَا إِلَى الْعَهْدِ كَانَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ عِنْدَهُ مَصْدَرٌ. وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ: وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَفِيهِ ضَعْفٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ مِنْ مَكَانِ مَا. الثَّانِي: الْقَوْلُ: أَمَرَ اللَّهِ أَنْ يُوصَلَ بِالْعَمَلِ فَقَطَعُوا بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وَلَمْ يَعْمَلُوا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «1» . الثَّالِثُ: التَّصْدِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، أُمِرُوا بِوَصْلِهِ فَقَطَعُوهُ بِتَكْذِيبِ بَعْضٍ وَتَصْدِيقِ بَعْضٍ. الرَّابِعُ: الرَّحِمُ وَالْقَرَابَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ، لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَدْلُولِهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَا دَلِيلَ واضح على الخصوص.

_ (1) سورة الفتح: 48/ 11.

وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا تَكُونُ مَوْصُوفَةً خُصُوصًا هُنَا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَيَقْطَعُونَ شَيْئًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصل، فَهُوَ مُطْلَقٌ وَلَا يَقَعَ الذَّمُّ الْبَلِيغُ وَالْحُكْمُ بِالْفِسْقِ وَالْخُسْرَانِ بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ مَا، وَالْأَمْرُ هُوَ اسْتِدْعَاءُ الْأَعْلَى الْفِعْلَ مِنَ الْأَدْنَى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبَعْثهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ نُكْتَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ لَطِيفَةٌ، قَالَ: وَبِهِ سُمِّيَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ لَا يَتَوَلَّاهُ شُبِّهَ بِآمِرٍ يَأْمُرُهُ بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَمْرٌ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، كَمَا قِيلَ لَهُ: شَأْنٌ، وَالشَّأْنُ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ، يُقَالُ شَأَنْتُ شَأْنَهُ، أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَهُ، وَأَمْرٌ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وأن يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ تَقْدِيرُهُ بِهِ وَصْلُهُ، أَيْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بوصله، نحو قال الشَّاعِرِ: أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتُقَصِّرُ عَنْهَا حِقْبَةً وَتَبُوصُ أَيْ أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى نَأْيُهَا. وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ أَنْ يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ مَا، أَيْ وَصْلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَقْطَعُونَ وَصْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدَّرَهُ الَمَهْدَوِيُّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُوصَلَ، فَيَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى الْقَطْعِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُوصَلَ. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ وَجْهَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدَّرَهُ لِئَلَّا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أَنْ يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ هُوَ أَنْ يُوصَلَ. وَهَذِهِ الْأَعَارِيبُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَوْلَا شُهْرَةُ قَائِلِهَا لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَالْأَوَّلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَسِوَاهُ مِنَ الْأَعَارِيبِ، بَعِيدٌ عَنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ بَلْهَ أَفْصَحِ الْكَلَامِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: اسْتِدْعَاؤُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: إِخَافَتُهُمُ السَّبِيلَ، وَقَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ. الثَّالِثُ: نَقْضُ الْعَهْدِ. الرَّابِعُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ تَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَيُجَوِّزُونَ فِي الْأَفْعَالِ، إِذْ هِيَ بِحَسَبَ شَهَوَاتِهِمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الرَّابِعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا مَعْنَى فِي الْأَرْضِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى ذِكْرِ الْأَرْضِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» ، فَأَغْنَى عَنْ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 11.

إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَبِيرَةُ نَوْعًا مِنَ الْبَدِيعِ يُسَمِّيهِ أَرْبَابُ الْبَيَانِ: بِالطِّبَاقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَإِنَّهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى الْحَقِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَفِي قَوْلِهِ: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَجَاءَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ مُنَاسَبَةُ الطِّبَاقِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَوَّلٍ مِنْهَا كَائِنٌ بَعْدَ مُقَابِلِهِ، فَالضَّلَالُ بَعْدَ الْهِدَايَةِ لِقَوْلِهِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَلِدُخُولِ أَوْلَادِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْجَنَّةَ إِذَا مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالنَّقْضُ بَعْدَ التَّوْثِقَةِ، وَالْقَطْعُ بَعْدَ الْوَصْلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ تَنَاسَبَتْ فِي الطِّبَاقِ. وَفِي وَصْلِ الَّذِينَ بِالْمُضَارِعِ وَعَطْفِ الْمُضَارِعَيْنِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى تَجَدُّدِ النَّقْضِ وَالْقَطْعِ وَالْإِفْسَادِ، وَإِشْعَارٌ أَيْضًا بِالدَّيْمُومَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، وَبِنَاءُ يُوصَلُ لِلْمَفْعُولِ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ بنائه للفاعل، لأنه يشتمل مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يَصِلُوهُ أَوْ يَصِلَهُ غَيْرُهُمْ. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّلَاتِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَدَأَ أَوَّلًا بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ أَخَصُّ هَذِهِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ ثَنَّى بِقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْإِفْسَادِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقَطْعِ، وَكُلُّهَا ثَمَرَاتُ الْفِسْقِ، وَأَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ لِيَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِهِمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ وَصْفُ الْفِسْقِ لَهُمْ ثَابِتًا، وَتَكُونُ النَّتَائِجُ عَنْهُ مُتَجَدِّدَةً مُتَكَرِّرَةً، فَيَكُونُ الذَّمُّ لَهُمْ أَبْلَغَ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ وَتَجَدُّدِ فُرُوعِهِ وَنَتَائِجِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَوْصَافَ الْفَاسِقِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ، أَيْ: أُولَئِكَ الْجَامِعُونَ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مِنَ النَّقْضِ وَالْقَطْعِ وَالْإِفْسَادِ. هُمُ الْخاسِرُونَ: وَفُسِّرَ الْخَاسِرُونَ بَالنَّاقِصِينَ حُظُوظَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَبِالْهَالِكِينَ، وَسَبَبُ خُسْرَانِهِمُ اسْتِبْدَالُهُمُ النَّقْضَ بِالْوَفَاءِ، وَالْقَطْعَ بِالْوَصْلِ، وَالْإِفْسَادَ بِالْإِصْلَاحِ، وَعِقَابَهَا بِالثَّوَابِ، وَقِيلَ: الْخَاسِرُونَ الْمَغْبُونُونَ بِفَوْتِ الْمَثُوبَةِ وَلُزُومِ الْعُقُوبَةِ وَقِيلَ: خَسِرُوا نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: خَسِرُوا حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا، أَحْبَطُوهَا بِكُفْرِهِمْ. وَالْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ وَفِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي الظَّاهِرِ عَمَلَ الْمُخْلِصِينَ. قَالَ الْقَفَّالُ: الْخَاسِرُ اسْمٌ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُجْزَى عَلَيْهِ. كَيْفَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ حَالٍ، وَصَحِبَهُ مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، فَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقِيلَ: صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّعَجُّبُ، أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهِ آخِرًا فَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، لَا يَلِيقُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ. وَالْإِنْكَارُ بِالْهَمْزَةِ إِنْكَارٌ لِذَاتِ

الْفِعْلِ، وَبِكَيْفَ إِنْكَارٌ لِحَالِهِ وَإِنْكَارُ حَالِهِ إِنْكَارٌ لِذَاتِهِ، لِأَنَّ ذَاتَهُ لَا تَخْلُو مِنْ حَالٍ يَقَعُ فِيهَا، فَاسْتَلْزَمَ إِنْكَارُ الْحَالِ إِنْكَارَ الذَّاتِ ضَرُورَةً، وَهُوَ أَبْلَغُ، إِذْ يَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ حَيْثُ قُصِدَ إِنْكَارُ الْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ إِنْكَارُ وُقُوعِ ذَاتِ الْكُفْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ إِذَا أُنْكِرَ أَنْ يَكُونَ لِكُفْرِهِمْ حَالٌ يُوجَدُ عَلَيْهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَا يَنْفَكُّ مِنْ حَالٍ وَصِفَةٍ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ تَغَيُّرُ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ، كَانَ إِنْكَارًا لِوُجُودِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْخِطَابُ فِيهِ الْتِفَاتٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلُ كَانَ بِصُورَةِ الْغَيْبَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهِ؟ وَفَائِدَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّ الْإِنْكَارَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَانَ أَبْلَغَ مَنْ تُوَجُّهِهِ إِلَى الْغَائِبِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَصِلَهُ الْإِنْكَارُ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا، فَإِنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ أَرْدَعُ لَهُ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ. والناصب ل كَيْفَ تَكْفُرُونَ. وَأَتَى بِصِيغَةِ تَكْفُرُونَ مُضَارِعًا وَلَمْ يَأْتِ بِهِ مَاضِيًا وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الَّذِي أُنْكِرَ أَوْ تُعُجِّبَ مِنْهُ الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُضَارِعُ هُوَ الْمُشْعِرُ بِهِ وَلِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ ثُمَّ آمَنَ، إِذْ لَوْ جَاءَ كَيْفَ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ لَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ مَنْ كفرتم آمَنَ كَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالْوَاوُ فِي قوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ: وَاوُ الْحَالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «1» ، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ «2» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَهُوَ مَاضٍ؟ وَلَا يُقَالُ: جِئْتُ وقام الأسير، وَلَكِنْ: وَقَدْ قَامَ، إِلَّا أَنْ يُضْمَرَ قَدْ. قُلْتُ: لَمْ تَدْخُلِ الْوَاوُ عَلَى كُنْتُمْ أَمْوَاتًا وَحْدَهُ، وَلَكِنْ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ أَمْوَاتًا إِلَى تَرْجِعُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَقِصَّتُكُمْ هَذِهِ وَحَالُكُمْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ فَجَعَلَكُمْ أَحْيَاءً؟ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يُحَاسِبُكُمْ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، أَيْ وَقَدْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ. وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ عِنْدَنَا فِعْلِيَّةٌ. وَأَمَّا أَنْ نَتَكَلَّفَ وَنَجْعَلَ تِلْكَ الْجُمْلَةَ اسْمِيَّةً حَتَّى نَفِرَّ مِنْ إِضْمَارِ قَدْ، فَلَا نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ جميع الجمل مندرجة في الْحَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ، بَعْضُ الْقِصَّةِ مَاضٍ وَبَعْضُهَا مُسْتَقْبَلٌ، وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ حَالًا حَتَّى يَكُونَ فِعْلًا حَاضِرًا وَقْتَ وُجُودِ مَا هُوَ حَالٌ عَنْهُ، فما الحاضر الذي

_ (1) سورة يوسف: 12/ 45. (2) سورة هود: 11/ 42.

وَقَعَ حَالًا؟ قُلْتُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْقِصَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَبِأَوَّلِهَا وَبِآخِرِهَا؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْجُمَلِ مُنْدَرِجَةً فِي الْحَالِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم، وَيَكُونَ الْمَعْنَى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَقَدْ خَلَقَكُمْ فَعَبَّرَ عَنِ الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» أَيْ أَنَّ مَنْ أَوْجَدَكَ بَعْدَ العدم الصرف حر أَنْ لَا تَكْفُرَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الِاخْتِرَاعَ، ثُمَّ نِعْمَةِ الِاصْطِنَاعِ، وَقَدْ شَمِلَ النِّعْمَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ لِأَنَّ بِالْإِحْيَاءِ حَصَلَتَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْإِيجَادَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْكَ بِالتَّرْبِيَةِ وَالنِّعَمِ إِلَى زَمَانِ أَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْكَ إِنْكَارُ الْكُفْرِ؟ وَلَمَّا كَانَ مَرْكُوزًا فِي الطِّبَاعِ وَمَخْلُوقًا فِي الْعُقُولِ أَنْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» ، كَانَتْ حَالًا تَقْتَضِي أَنْ لَا تُجَامِعَ الْكُفْرَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ. أَنَّ الْحَالَ هُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَعَلَى هَذَا الَّذِي شَرَحْنَاهُ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ جُمَلًا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مُسْتَأْنَفَةً لَا دَاخِلَةً تَحْتَ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ غَايَرَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَبِصِيغَةِ الْفِعْلِ عَمَّا قَبْلَهَا مِنَ الْحَرْفِ وَالصِّيغَةِ. وَمَنْ جَعَلَ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمَلِ هُوَ الْحَالَ، جَعَلَ تَمَكُّنَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي وَالرُّجُوعِ لِمَا نُصِبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ الْعِلْمِ. فَحُصُولُهُ بِالْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءِ الْأَوَّلِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلِمُوا ثُمَّ عَانَدُوا، وَفِي تَرْتِيبِ هَاتَيْنِ الْمَوْتَتَيْنِ وَالْحَيَاتَيْنِ اللَّاتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: الْعَدَمُ السَّابِقُ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: الْخَلْقُ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَالْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ: الْبَعْثُ لِلْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: الْمَعْهُودُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: هُوَ فِي الْقَبْرِ لِلْمَسْأَلَةِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: فِي الْقَبْرِ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: كَوْنُهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: الْإِخْرَاجُ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: هُوَ الَّذِي اعْتَقَبَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ نَسَمًا كَالذَّرِّ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: إِخْرَاجُهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: مُفَارَقَةُ نطفة الرجل إلى

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 9. [.....]

الرَّحِمِ فَهِيَ مَيِّتَةٌ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فَيُحْيِيهَا بِالنَّفْخِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ هُوَ الْخُمُولُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: الذِّكْرُ وَالشَّرَفُ بِهَذَا الدِّينِ وَالنَّبِيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. السَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: كَوْنُ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ فَحَيِيتُمْ بِحَيَاتِهِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ لِلْكُفَّارِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي أَوَّلِ تَرْتِيبِهِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا، وَإِسْنَادَهُ آخِرًا الْإِمَاتَةَ إِلَيْهِ، مِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَإِذَا أَذْعَنَتْ نُفُوسُ الْكُفَّارِ لِكَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا مَعْدُومِينَ ثُمَّ لِلْإِحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لِلْإِمَاتَةِ فِيهَا، قَوِيَ عَلَيْهِمْ لُزُومُ الْإِحْيَاءِ الْآخَرِ وَجَاءَ جَحْدُهُمْ لَهُ دَعْوَى لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَلِلْمَنْسُوبِينَ إِلَى عِلْمِ الْحَقَائِقِ أَقْوَالٌ تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ: أَحَدُهَا: أَمْوَاتًا بِالشِّرْكِ فَأَحْيَاكُمْ بِالتَّوْحِيدِ. الثَّانِي: أَمْوَاتًا بِالْجَهْلِ فَأَحْيَاكُمْ بِالْعِلْمِ. الثَّالِثُ: أَمْوَاتًا بِالِاخْتِلَافِ فَأَحْيَاكُمْ بِالِائْتِلَافِ. الرَّابِعُ: أَمْوَاتًا بِحَيَاةِ نُفُوسِكُمْ وَإِمَاتَتُكُمْ بِإِمَاتَةِ نُفُوسِكُمْ وَإِحْيَاءِ قُلُوبِكُمْ. الْخَامِسُ: أَمْوَاتًا عَنْهُ فَأَحْيَاكُمْ بِهِ، قَالَهُ الشِّبْلِيُّ. السَّادِسُ: أَمْوَاتًا بِالظَّوَاهِرِ فَأَحْيَاكُمْ بِمُكَاشَفَةِ السَّرَائِرِ، قَالَهُ ابْنُ عَطَاءٍ. السَّابِعُ: أَمْوَاتًا بِشُهُودِكُمْ فَأَحْيَاكُمْ بِمُشَاهَدَتِهِ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عَنْ شَوَاهِدِكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِقِيَامِ الْحَقِّ عَنْهُ ثم إليه ترجعون من جَمِيعِ مَا لَكُمْ، قَالَهُ فَارِسٌ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ كَوْنُهُمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَجَعَلَهُمْ أَحْيَاءً، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي: الْإِحْيَاءَ فِي الْقَبْرِ، وَبِالرُّجُوعِ: النُّشُورَ، وَأَنْ يُرَادَ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي أَيْضًا النُّشُورُ، وَبِالرُّجُوعِ: الْمَصِيرُ إِلَى الْجَزَاءِ. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِحْيَاءُ فِي الْقَبْرِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْيَا لِلْمَسْأَلَةِ فِي الْقَبْرِ، وَلَا لِأَنْ يُنَعَّمَ فِيهِ أَوْ يُعَذَّبَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَهُ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَأَتْبَاعَهُمْ أَنْكَرُوا عَذَابَ الْقَبْرِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةُ أَثْبَتُوهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: يَحْيَا الْمَيِّتُ الْكَافِرُ فَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ، وَالْفَاسِقُ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ، وَالْكَرَّامِيَّةُ تَقُولُ: يُعَذَّبُ وَهُوَ مَيِّتٌ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ قَدِ اسْتَفَاضَتْ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَمْوَاتًا أَيْ تُرَابًا وَنُطَفًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِ آدَمَ

مِنَ التُّرَابِ، وَخُلِقَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ، إِلَّا عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، مِنَ النُّطَفِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَمَادِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَنْ يَحُلُّهُ الْمَوْتُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فِي الْعَادَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمَادِ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَفْسِيرُهُ الْأَمْوَاتَ بِالتُّرَابِ وَالنُّطَفِ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التُّرَابِ، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ التُّرَابِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَةِ الَّتِي أُنْكِرَتْ أَوْ تُعُجِّبَ مِنْهَا وَقْتًا قَطُّ، فَكَيْفَ يَنْدَرِجُ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً؟ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ كَوْنَهُمْ أمواتا، مِنْ وَقْتِ اسْتِقْرَارِهِمْ نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِلَى تَمَامِ الْأَطْوَارِ بَعْدَهَا، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْأُولَى نَفْخُ الرُّوحِ بَعْدَ تِلْكَ الْأَطْوَارِ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ وَاكْتِسَاءِ الْعِظَامِ لَحْمًا. وَالْإِمَاتَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمَعْهُودَةُ، وَالْإِحْيَاءُ هُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيَكُونُ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ وَالْمَوْتُ الْأَوَّلُ، وَالْإِحْيَاءُ الثَّانِي حَقِيقَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أَمْوَاتًا، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجَمَادَ يُوصَفُ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَقِيقَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَجَازِ فَهُوَ مَجَازٌ سَائِغٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَوْجُودٌ، فَقَرُبَ اتِّصَافُهُ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُ مَعْدُومًا وَكَوْنُهُ فِي الصُّلْبِ. أَوْ حِينَ كَانَ آدَمُ طِينًا، فَإِنَّ الْمَجَازَ فِي ذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ عَدَمٌ صِرْفٌ، وَالْعَدَمُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودٌ يَبْعُدُ فِيهِ أَنْ يُسَمَّى مَوْتًا، أَلَا تَرَى مَا أَطْلَقَ عليه في اللغة لَفْظُ الْمَوْتِ مِمَّا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَيْفَ يَكُونُ مَوْجُودًا لَا عَدَمًا صِرْفًا؟ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «1» ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «2» ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى «3» ، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «4» ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَوَاتٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أن الموت الأول: هو الْخُمُولُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: هُوَ التَّنْوِيهُ وَالذِّكْرُ، فَمَجَازٌ بَعِيدٌ هُنَا، لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ الْقَرِيبِ كَانَ أَوْلَى. وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ أَكْثَرُ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ يَبْعُدُ فِيهَا التَّعْقِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَحْيَاكُمْ، لِأَنَّ بَيْنَ ذَاكَ الْمَوْتِ وَالْإِحْيَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ تَكُونُ الْفَاءُ دَالَّةً عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ التَّعْقِيبِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: هُوَ الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ الْمَاضِي قَدْ وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وُقُوعِهِ، أَيْ وَتَكُونُونَ أَمْوَاتًا فَيُحْيِيكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمٌ عَلَى نَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَعَالَى مَوْتَتَيْنِ وَحَيَاتَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَيَاةً بَيْنَ إِحْيَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَإِحْيَائِهِمْ فِي الآخرة.

_ (1) سورة يس: 36/ 33. (2) سورة فصلت: 41/ 39. (3) سورة فصلت: 41/ 39. (4) سورة الأنبياء: 21/ 30.

قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ «1» ، لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَثْبَتُوا حَيَاةَ الذَّرِّ فِي صُلْبِ آدَمَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَيَاةِ لِلْمَسْأَلَةِ عَدَمُهَا قَبْلُ، وَأَيْضًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَعَطَفَ بِثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ. وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَاصِلٌ عَقِبَ الْحَيَاةِ الَّتِي لِلْبَعْثِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ لِلْمَسْأَلَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: ذِكْرُ الموت مرتين هذا لِأَكْثَرِ النَّاسِ، وَأَمَّا بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَمَاتَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «3» ، فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ «4» ، الْآيَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَدَلِيلٌ عَلَى النَّشْرِ وَالْحَشْرِ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ الضَّمَائِرَ السَّابِقَةَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِلَى جَزَائِهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ. وَقِيلَ: عَائِدَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: عَائِدَةٌ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَلَّى اللَّهُ الْحُكْمَ بَيْنَكُمْ فِيهِ. وَقِيلَ: عَائِدَةٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَأَحْيَاكُمْ. وَشَرْحُ هَذَا أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ بَعْدَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْحَالِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَيَاةِ الْأُولَى، مِنْ كَوْنِكُمْ لَا تَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِكُمْ شَيْئًا. وَاسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ رَجَعَ الْمُتَعَدِّي. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رَجَعَ اللَّازِمِ، لِأَنَّ رَجَعَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَفْصَحُ، لِأَنَّ الْإِسْنَادَ فِي الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، فَكَانَ سِيَاقُ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الرُّجُوعِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ كَانَ يُفَوِّتُ تَنَاسُبَ الْفَوَاصِلِ وَالْمَقَاطِعِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ: ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ «5» ، فَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى لَا يَفُوتَ

_ (1) سورة غافر: 40/ 11. (2) سورة البقرة: 2/ 259. (3) سورة البقرة: 2/ 243. (4) سورة البقرة: 2/ 260. (5) سورة الأنعام: 6/ 60.

التَّنَاسُبُ اللَّفْظِيُّ. وَقَدْ حَصَلَ التَّنَاسُبُ الْمَعْنَوِيُّ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، إِذْ هُوَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يَفُوتُ التَّنَاسُبُ الْمَعْنَوِيُّ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِ الشَّخْصِ إِلَى شَيْءٍ أَنَّ غَيْرَهُ رَجَعَهُ إِلَيْهِ، إِذْ قَدْ يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ رَادٍّ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ بِنِسْبَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ فَاعِلُ الْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مِنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ مَا يَزِيدُ الْمُسِيءَ خَشْيَةً وَيَرُدُّهُ عَنْ بَعْضِ مَا يَرْتَكِبُهُ، وَيَزِيدُ الْمُحْسِنَ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَيَدْعُوهُ رَجَاؤُهُ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ، إِذْ هُوَ بِيَدِهِ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْبَعْثُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لما ذكر أن مَنْ كَانَ مُنْشِئًا لَكُمْ بَعْدَ الْعَدَمِ وَمُفْنِيًا لَكُمْ بَعْدَ الْوُجُودِ وَمُوجِدًا لَكُمْ ثَانِيَةً، إِمَّا فِي جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، كَانَ جَدِيرًا أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يجحد، ويشرك وَلَا يُكْفَرَ. ثُمَّ أَخَذَ يُذَكِّرُهُمْ عَظِيمَ إِحْسَانِهِ وَجَزِيلَ امْتِنَانِهِ مِنْ خَلْقِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالْعَالَمَ السُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَلَفْظَةُ هُوَ مِنَ الْمُضْمَرَاتِ وُضِعَ لِلْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ، وَهُوَ كُلِّيٌّ فِي الْوَضْعِ كَسَائِرِ الْمُضْمَرَاتِ، جَرَى فِي النِّسْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ، فَمَا مِنْ مُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ غَائِبٍ إِلَّا وَيَصِحُّ أَنْ يطلق عليه هو، لكن إِذَا أُسْنِدَ لِهَذَا الِاسْمِ شَيْءٌ تَعَيَّنَ. وَمَشْهُورُ لُغَاتِ الْعَرَبِ تَخْفِيفُ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً، وَشَدَّدَتْهَا هَمْدَانُ، وَسَكَّنَتْهَا أَسَدٌ وَقَيْسٌ، وَحَذْفُ الْوَاوِ مُخْتَصٌّ بِالشِّعْرِ. وَلِهَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى عِلْمِ الْحَقَائِقِ وَإِلَى التَّصَوُّفِ كَلَامٌ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَعْقُولِنَا، رَأَيْتُ أَنْ أَذْكُرَهُ هُنَا لِيَقَعَ الذِّكْرُ فِيهِ. قَالُوا: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُظْهَرَاتٌ، وَمُضْمَرَاتٌ، وَمُسْتَتِرَاتٌ. فَالْمُظْهَرَاتُ: أَسْمَاءُ ذَاتٍ، وَأَسْمَاءُ صِفَاتٍ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ، وَأَسْمَاءُ الذَّاتِ مُشْتَقَّةٌ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَغَيْرُ الْمُشْتَقِّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ، وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، بَلِ اسْمٌ مُرْتَجَلٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ. وَأَمَّا الْمُضْمَرَاتُ فَأَرْبَعَةٌ: أَنَا فِي مِثْلِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا «1» ، وأنت فِي مِثْلِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ «2» ، وهو فِي مِثْلِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ «3» ، ونحن فِي مِثْلِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ «4» . قَالُوا: فَإِذَا تَقَرَّرَ هذا فالله أعظم

_ (1) سورة النحل: 16/ 2. (2) سورة الأنبياء: 21/ 87. (3) سورة البقرة: 2/ 29. (4) سورة يوسف: 12/ 3.

أَسْمَائِهِ الْمُظْهَرَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ، وَلَفْظَةُ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْمَائِهِ الْمُظْهَرَاتِ وَالْمُضْمَرَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَاتِهِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ الْمُشْتَقَّةَ كُلَّهَا لَفْظُهَا متضمن جواز الاشتراك لاجتماعها فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا مِنَ الِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ينبىء عَنْ كُنْهِ حَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ. فَلَفْظَةُ هُوَ تُوَصِّلُكَ إِلَى الْحَقِّ وَتَقْطَعُكَ عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ يُشْرَكَ مَعَ النَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا الِاسْمُ لِأَجْلِ دَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ يَنْقَطِعُ مَعَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَاهُ، اخْتَارَهُ الْجِلَّةُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ مَدَارًا لِذِكْرِهِمْ وَمَنَارًا لِكُلِّ أَمْرِهِمْ فَقَالُوا: يَا هُوَ، لِأَنَّ لَفْظَةَ هُوَ إِشَارَةٌ بِعَيْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْضُرَ هُنَاكَ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَالْمُقَرَّبُونَ لَا يَخْطُرُ فِي عُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ مَوْجُودٌ آخَرُ سِوَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ إِشَارَتُهُ، وَهُوَ اسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا: الْهَاءُ وَالْوَاوُ، وَالْهَاءُ أَصْلٌ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ سُقُوطِهَا فِي التَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ فِي هُمَا وَهُمْ، وَالْأَصْلُ حَرْفٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ. انْتَهَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرْنَاهُ فِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِمَا ذَكَرُوهُ وَمُعْتَقَدًا لِمَا خبروه. وَلَهُمْ فِي لَفْظَةِ أَنَا وَأَنْتَ وَهُوَ كَلَامٌ غَرِيبٌ جِدًّا بَعِيدٌ عَمَّا تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَحَدِيثُ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ لَمْ يُفْتَحْ لِي فِيهِ بِبَارِقَةٍ، وَلَا أَلْمَمْتُ فِيهِ إِلَى الْآنِ بِغَادِيَةٍ وَلَا طَارِقَةٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنَوِّرَ بَصَائِرَنَا بِأَنْوَارِ الْهِدَايَةِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَسَالِكَ الْغِوَايَةِ، وَأَنْ يُلْهِمَنَا إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا اتِّبَاعَ الْأَمْرَيْنِ النَّيِّرَيْنِ: السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ. ولكم: متعلق بخلق، وَاللَّامُ فِيهِ، قِيلَ: لِلسَّبَبِ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ وَلِانْتِفَاعِكُمْ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ لِاعْتِبَارِكُمْ. وَقِيلَ: لِلتَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ، فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ خَاصًّا، وَهُوَ تَمْلِيكُ مَا يَنْتَفِعُ الْخَلْقُ بِهِ وَتَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لِلِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّمْلِيكِ، وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهَا عَلَى السَّبَبِ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ الدِّينِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ. فَالدِّينِيُّ: النَّظَرُ فِيهِ وَفِيمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الصُّنْعِ وَلَطَائِفِ الْخَلْقِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ الصَّانِعِ وَحِكْمَتِهِ وَمِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَزَاءِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيُّ: فَظَاهِرٌ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَنْكَحِ وَالْمَرْكَبِ وَالْمَنَاظِرِ الْبَهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ لَكُمْ، مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا، وَإِذَا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِغَيْرِ التَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْحَظْرِ، فَلَا يُقْدَمُ

عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الوقف لنا تَعَارَضَ عِنْدَهُمْ دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ، وَدَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْحَظْرِ قَالُوا بِالْوَقْفِ. وَحَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ عَنِ ابْنِ الصَّائِغِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخْلُ الْعَقْلُ قَطُّ مِنَ السَّمْعِ، فَلَا نَازِلَةٌ إِلَّا وَفِيهَا سَمْعٌ، أَوْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهِ أَثَرٌ لَهَا حَالٌ تُسْتَصْحَبُ، وَإِذَا جَعَلْنَا اللَّامَ لِلسَّبَبِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَعَلَ شَيْئًا لِسَبَبٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَفَعَلَهُ لَسَبَبٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ السَّبَبِ وَانْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، جَمِيعُ مَا كَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَقَرًّا لَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالْجِبَالِ، وَجَمِيعُ مَا كَانَ بِوَاسِطَةٍ مِنَ الْحِرَفِ وَالْأُمُورِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الطِّينِ، قَالَ: لِأَنَّهُ خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ دُونَ نَفْسِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا الِامْتِنَانِ بِجَعْلِ الْأَرْضِ لَنَا فِرَاشًا، وَهُنَا امْتَنَّ بِخَلْقِ مَا فِيهَا لَنَا وَانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ لَفْظَةَ مَا فِي الْأَرْضِ عَامٌّ، وَمَعْنَى جَمِيعًا الْعُمُومُ. فَهُوَ مُرَادِفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلَفْظَةِ كُلُّ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ مَعًا وَجَمِيعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَعَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ، الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا، فَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، لَكِنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً «1» ، فَانْتَظَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا خَلَقَ اللَّهِ ذَلِكَ لَنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةَ دُونَ الْغَبْرَاءِ، كَمَا تُذْكَرُ السَّمَاءُ، وَيُرَادُ بِهَا الْجِهَاتُ الْعُلْوِيَّةُ، جَازَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَبْرَاءَ وَمَا فِيهَا وَاقِعَةٌ فِي الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَنْسُوبِينَ لِلْحَقَائِقِ: خَلَقَ لَكُمْ لِيَعُدَّ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ، فَتَقْتَضِي الشُّكْرَ مِنْ نَفْسِكَ لِتَطْلُبَ الْمَزِيدَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَهَبَ لَكَ الْكُلَّ وَسَخَّرَهُ لَكَ لِتَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى سِعَةِ جُودِهِ وَتَسْكُنَ إِلَى مَا ضَمِنَهُ لَكَ مِنْ جَزِيلِ الْعَطَاءِ فِي الْمَعَادِ، وَلَا تَسْتَكْثِرَ كَثِيرَ بِرِّهِ عَلَى قَلِيلِ عَمَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدِ ابْتَدَأَكَ بِعَظِيمِ النِّعَمِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَقَبْلَ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: خَلَقَ لَكُمْ لِيَكُونَ الْكَوْنُ كُلُّهُ لَكَ وَتَكُونَ لِلَّهِ فَلَا تَشْتَغِلْ بِمَا لَكَ عَمَّا أَنْتَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِهَا، فَإِنَّ الْخَلْقَ عَبَدَةُ النِّعَمِ لِاسْتِيلَاءِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ ظَهَرَ لِلْحَضْرَةِ أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُنْعِمُ رُؤْيَةَ النِّعَمِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: أَعْلَى مَقَامَاتِ أَهْلِ الْحَقَائِقِ الِانْقِطَاعُ عَنِ العلائق ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ: وَالْعَطْفُ بِثُمَّ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ، وَلَا زَمَانَ إِذْ ذَاكَ، فَقِيلَ: أَشَارَ بِثُمَّ إِلَى التَّفَاوُتِ الْحَاصِلِ بَيْنَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ في القدر، وقيل:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 22. [.....]

لَمَّا كَانَ بَيْنَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَعْمَالٌ مِنْ جَعْلِ الرَّوَاسِي وَالْبَرَكَةِ فِيهَا وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ عَطَفَ بِثُمَّ، إِذْ بَيْنَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ تَرَاخٍ يَدُلُّ عَلَى ذلك: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «1» ، الْآيَةَ. اسْتَوَى أَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى الْفَتْحِ، ونجد على الإمالة. وقرىء فِي السَّبْعَةِ بِهِمَا، وَفِي الِاسْتِوَاءِ هُنَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَقْبَلَ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهَا وَقَصَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ خَلْقَ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ، إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَيَّنَ مَا الَّذِي اسْتُعِيرَ مِنْهُ. الثَّانِي: عَلَا وَارْتَفَعَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْدِيدٍ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَا أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِلَى بِمَعْنَى عَلَى، أَيِ اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ، أَيْ تَفَرَّدَ بِمِلْكِهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا كَالْأَرْضِ مِلْكًا لِخَلْقِهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: فلما علونا واستوينا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِيلَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى تَحَوَّلَ أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالِاسْتِوَاءُ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ثُمَّ اسْتَوَى أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ، أَيِ اسْتَقَرَّ لِأَنَّ أَوَامِرَهُ وَقَضَايَاهُ تَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمَعْنَى اسْتَوَى بِخَلْقِهِ وَاخْتِرَاعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، ويؤول الْمَعْنَى إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَعْنَى كَمُلَ صُنْعُهُ فِيهَا، كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَى الْأَمْرُ، وَهَذَا يَنْبُو اللَّفْظُ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. السَّابِعُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي اسْتَوَى عَائِدٌ عَلَى الدُّخَانِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ «2» ، وَاخْتِلَافُ الضَّمَائِرِ وَعَوْدُهُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَلَا يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا فِرَارٌ عَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ مِنْ أَنَّ الله تعالى يستحيل أن يَتَّصِفَ بِالِانْتِقَالِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَحِلَّ فِيهِ حَادِثٌ أَوْ يَحِلَّ هُوَ فِي حَادِثٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ: تعديل خلقهن وتقويمه وإحلاؤه مِنَ الْعِوَجِ وَالْفُطُورِ، أَوْ إِتْمَامُ خَلْقِهِنَّ وَتَكْمِيلُهُ مِنْ قولهم: درهم

_ (1) سورة فصلت: 41/ 9. (2) سورة فصلت: 41/ 11.

سَوَاءٌ، أَيْ وَازِنٌ كَامِلٌ تَامٌّ، أَوْ جَعْلُهُنَّ سَوَاءً مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» أَوْ تَسْوِيَةُ سُطُوحِهَا بِالْإِمْلَاسِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ سَمَاوَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَصْدُقُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ، وَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ هُنَا الْجَمْعُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم. وسَبْعَ سَماواتٍ تَفْسِيرُهُ كَقَوْلِهِمْ: رُبَّهُ رَجُلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِهِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ. وَهَذَا الَّذِي يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ: مِنْهُ مَا يُفَسَّرُ بِجُمْلَةٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ أَوِ الْقِصَّةِ، وَشَرْطُهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُصَرَّحَ بِجُزْأَيْهَا، وَمِنْهُ مَا يُفَسَّرُ بِمُفْرِدٍ، أَيْ غَيْرِ جُمْلَةٍ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِنِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِرُبَّ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِأَوَّلِ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ خَبَرُهُ مُفَسِّرًا لَهُ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي أبدل منه مفسره في إِثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ خِلَافٌ، وَذَلِكَ نَحْوَ: ضَرَبْتُهُمْ قَوْمُكَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِرِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا، إِلَّا أَنْ تَخَيَّلَ فِيهِ أن يكون سبع سموات بَدَلًا مِنْهُ وَمُفَسِّرًا لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَشْبِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُ بِرُبَّهُ رَجُلًا، وَأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، لَكِنَّ هَذَا يُضَعَّفُ بِكَوْنِ هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِمَا قَبْلَهُ ارْتِبَاطًا كُلِّيًّا، إِذْ يَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَضَمَّنُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ سوى سبع سموات عَقِيبَ اسْتِوَائِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِإِخْبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا اسْتِوَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ والآخر: تسويته سبع سموات. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الَّذِي اسْتَوَى إِلَيْهِ هُوَ بِعَيْنِهِ المستوي سبع سموات. وَقَدْ أَعْرَبَ بَعْضُهُمْ سَبْعَ سموات بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ إِعْرَابٌ صَحِيحٌ، نَحْوَ: أَخُوكَ مَرَرْتُ بِهِ زَيْدٌ، وَأَجَازُوا فِي سبع سموات أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَسَوَّى منهن سبع سموات، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّ سَوَّى لَيْسَ مِنْ بَابِ اخْتَارَ، فَيَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مِنْهُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يدل على أن السموات كَثِيرَةٌ، فَسَوَّى مِنْهُنَّ سَبْعًا، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذِ المعلوم أن السموات سَبْعٌ. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَوَّى، وَيَكُونُ مَعْنَى سَوَّى: صَيَّرَ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ تَعَدِّي سَوَّى لِوَاحِدٍ هُوَ الْمَعْلُومُ فِي اللُّغَةِ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ «2» ، قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ «3» . وَأَمَّا جَعْلُهَا

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 98. (2) سورة الانفطار: 82/ 7. (3) سورة القيامة: 75/ 4.

بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ. وَأَجَازُوا أَيْضًا النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ، فَتَلَخَّصَ فِي نصب سموات أَوْجُهُ الْبَدَلِ بِاعْتِبَارَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ، وَمَفْعُولٌ ثَانٍ، وَحَالٌ، وَالْمُخْتَارُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْحَالُ، وَيَتَرَجَّحُ الْبَدَلُ بِعَدَمِ الِاشْتِقَاقِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَيِّهِمَا خُلِقَ قَبْلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: السَّمَاءُ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَرْضُ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَكُلٌّ تَعَلَّقَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ لَنَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَسْوِيَةِ السَّمَاءِ سَبْعًا لَا غَيْرُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ جِرْمَ الْأَرْضِ خُلِقَ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَخُلِقَتِ السَّمَاءُ بَعْدَهَا، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ بَعْدَ خلق السماء، وبهذا يحصل الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بعضهم: وإنما خلق السموات سَبْعًا، لِأَنَّ السَّبْعَةَ وَالسَبْعِينَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَضَاعِيفِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ ضُوعِفَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يُبَالِغُوا بِالسَّبْعَةِ وَالسَبْعِينَ مِنَ الْعَدَدِ، لِمَا فِي ذِكْرِهَا مِنْ دَلِيلِ الْمُضَاعَفَةِ. قَالَ تَعَالَى: ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «1» ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «2» ، وَالسَّبْعَةُ تُذْكَرُ فِي جَلَائِلِ الْأُمُورِ: الأيام سبعة، والسموات سبع، والأرض سَبْعٌ، وَالنُّجُومُ الَّتِي هِيَ أَعْلَامٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا سَبْعَةٌ: زُحَلُ، وَالْمُشْتَرَى، وَعُطَارِدُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالزُّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالْبِحَارُ سبعة، وأبواب جهنم سبعة. وَتَسْكِينُ الْهَاءِ فِي هُوَ وَهِيَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ وَثُمَّ جَائِزٌ، وَقَلَّ بَعْدَ كَافِ الْجَرِّ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَنَدُرَ بَعْدَ لَكِنْ، فِي قِرَاءَةِ أَبِي حَمْدُونَ، لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي، وَهُوَ تَشْبِيهٌ بِتَسْكِينِ سَبْعٍ وَكَرْشٍ، شُبِّهَ الْكَلِمَتَانِ بِالْكَلِمَةِ. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ : وَقَرَأَ بِتَسْكِينِ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَقَالُونُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَوَقَفَ يَعْقُوبُ عَلَى وَهُوَ بِالْهَاءِ نَحْوَ: وَهْوَهْ بِكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ التَّعَدِّي بِاللَّامِ حَالَةَ التَّقْدِيمِ، أَوْ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا حَالَةُ التَّأْخِيرِ فَبِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ حَدَثَ فِيهَا بِسَبَبِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَيْسَ فِي فِعْلِهَا وَلَا فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَبْنِيَّ لِلْمُبَالَغَةِ الْمُتَعَدِّيَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ تَعَدَّى الْمِثَالُ بِحَرْفِ الْجَرِّ نَحْوَ: زَيْدٌ صَبُورٌ عَلَى الْأَذَى زَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ صَبَرَ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَزَهَدَ يَتَعَدَّى بِفِي، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يُفْهِمُ عِلْمًا وَجَهْلًا، أَوْ لَا. إِنْ كَانَ مِمَّا يُفْهِمُ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا تَعَدَّى الْمِثَالُ بِالْبَاءِ نَحْوَ: زَيْدٌ عَلِيمٌ بِكَذَا، وَجَهُولٌ بِكَذَا، وَخَبِيرٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفْهِمُ عِلْمًا ولا جهلا

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 32. (2) سورة التوبة: 9/ 80.

فَيَتَعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «1» وَفِي تَعَدِّيهَا لِمَا بَعْدَهَا بِغَيْرِ الْحَرْفِ وَنَصْبِهَا لَهُ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، وَإِنَّمَا خَالَفَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ الَّتِي لِلْمُبَالَغَةِ أَفْعَالَهَا الْمُتَعَدِّيَةَ بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَشْبَهَتْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ حُكْمُهُ هَكَذَا. قَالَ تَعَالَى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ «2» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَعْطَى لِفَارِهَةٍ حُلْوٌ مَرَاتِعُهَا وَقَالَ: أَكِرُّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ فَإِنْ جَاءَ بَعْدَهُ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «3» ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا أُوِّلَ بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. شَيْءٍ: قَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مَدْلُولِ شَيْءٍ. فَمَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ كَانَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرًا، وَمَنْ خَصَّهُ بِالْمَوْجُودِ فَقَطْ كَانَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمَعْدُومِ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. عَلِيمٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِعَالِمٍ وَعَلِيمٍ وَعَلَّامٍ، وَهَذَانِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدْ أَدْخَلَتِ الْعَرَبُ الْهَاءَ لِتَأْكِيدِ الْمُبَالَغَةِ فِي عَلَّامَةٍ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ تَعَالَى. وَالْمُبَالَغَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْرِيرِ وُقُوعِ الْوَصْفِ سَوَاءٌ اتَّحَدَ مُتَعَلِّقُهُ أَمْ تَكَثَّرَ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الْمُتَعَلِّقِ لَا تَكْثِيرِ الْوَصْفِ. وَمِنْ هَذَا الثَّانِي الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا تَكْثِيرَ فِيهِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِالْجَمِيعِ كُلِّيِّهِ وَجُزْئِيِّهِ دَقِيقِهِ، وَجَلِيلِهِ مَعْدُومِهِ وَمَوْجُودِهِ، وَصَفَ نَفْسَهَ تَعَالَى بِالصِّفَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَنَاسَبَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْوَصْفِ بِمُبَالَغَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْعِلْمِ الْكَامِلِ التَّامِّ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْعَلِيمُ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَالْعَالِمُ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ مُتَعَدِّيًا مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ نفسه بالعالم، ولم

_ (1) سورة هود: 11/ 107. (2) سورة الإسراء: 17/ 54. (3) سورة الأنعام: 6/ 117.

[سورة البقرة (2) : الآيات 30 إلى 33]

يَكُنْ عِلْمُهُ بِتَعَلُّمٍ. وَفِي تَعْمِيمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِالْكُلِّيَّاتِ لَا بِالْجُزْئِيَّاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَتَمَيَّزُ عَلَى عِلْمِ عِبَادِهِ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا يَعْلَمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ، وَبِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِهَا، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ حَاسَّةٍ وَلَا فِكْرٍ، وَبِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لِثُبُوتِ امْتِنَاعِ زَوَالِهِ، وَبِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، وَبِأَنَّ مَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَفِي قَوْلِهِمْ لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، يُرِيدُونَ، مَعْلُومٌ عَنْ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَلَا يَشْغَلُهُ تَعَلُّقُ عِلْمِ شَيْءٍ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ. وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي إِلَى آخِرِ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: أَنَّ مَا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ: مِنْ مُسْتَوْقِدِ النَّارِ، وَالصَّيِّبِ، وَالذُّبَابِ، وَالْعَنْكَبُوتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، فِيهِ عَجَائِبُ مِنَ الْحِكَمِ الْخَفِيَّةِ، وَالْجَلِيَّةِ، وَبَدَائِعِ الْفَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمُوَافَقَةِ الْمَثَلِ لِمَا ضُرِبَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي مثله إلا مثله، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَمَدْحُ مَنْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَذَمُّ مَنْ أَنْكَرَهُ وَعَابَهُ، وَأَنَّ فِي ضَرْبِهِ هُدًى لِمَنْ آمَنَ، وَضَلَالًا لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ، وَذَمُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَقَطَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، وَإِعْلَامُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ خُسْرَانِهِ، وَالْإِعْلَامُ أَنَّ نَاقِضِي عَهْدِهِ هُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَنَّهُ جَامِعُهُمْ وَبَاعِثُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ أَشَدُّ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ. ثُمَّ بَعْدَ التَّخْوِيفِ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ: مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ الْمُقِلَّةِ، وَالسَّمَاءِ الْمُظِلَّةِ، وَالْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، لِيَجْمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَوْعِظَةُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا ذُو الْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالذِّهْنِ الْمُسْتَقِيمِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بالفصل الْأَكْبَرِ مِنْ إِعْلَامِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الابتداء إلى الانتهاء. [سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

إِذْ: اسْمٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ مَبْنِيٌّ لِشَبَهِهِ بِالْحَرْفِ وَضْعًا أَوِ افْتِقَارًا، وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ فَعِلْيَةً قَبُحَ تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُصَدَّرَةِ بِالْمُضَارِعِ، وَعَمَلُ الْمُضَارِعِ فِيهِ مِمَّا يَجْعَلُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ إِلَّا أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ زَمَانٌ، وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَلَا حَرْفًا لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْمُفَاجَأَةِ، وَلَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَلَا زَائِدَةً، خِلَافًا لِزَاعِمِي ذَلِكَ، وَلَهَا أَحْكَامٌ غَيْرُ هَذَا ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. الْمَلَكُ: مِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَهُوَ فَعَلٌ مِنَ الْمَلْكِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَلَا حَذْفَ فِيهِ، وَجُمِعَ عَلَى فَعَائِلَةٍ شُذُوذًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ مَلَاكٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ، وَقَدْ جَمَعُوا فَعَالًا الْمُذَكَّرَ، وَالْمُؤَنَّثَ عَلَى فَعَائِلَ قَلِيلًا. وَقِيلَ وَزْنُهُ فِي الْأَصْلِ فَعْأَلٌ نَحْوَ شَمْأَلٍ ثُمَّ نَقَلُوا الْحَرَكَةَ وَحَذَفُوا، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ مَلْأَكٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَأَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً فِي فَاءِ الْكَلِمَةِ وَعَيْنِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ هَمْزَةٌ، مِنْ لَاكَ إِذَا أَرْسَلَ، وَهِيَ لُغَةٌ مَحْكِيَّةٌ، فَمَلَكٌ أَصْلُهُ مَلْأَكٌ، فَخُفِّفَ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ وَالْحَذْفِ إِلَى فَعَلٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ فَجَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْفَاءُ هَمْزَةٌ، وَالْعَيْنُ لَامٌ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا أَصُلُهُ مَأْلُكًا، وَيَكُونُ مَلْأَكٌ مَقْلُوبًا، جُعِلَتْ فَاؤُهُ مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي وَزْنِهِ مَعْلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ وَاوٌ، مِنْ لَاكَ الشَّيْءَ: أَدَارَهُ فِي فِيهِ، وَصَاحِبُ الرِّسَالَةِ يُدِيرُهَا فِي فِيهِ، فَهُوَ مَفَعْلٌ مِنْ ذَلِكَ، نَحْوَ: مَعَاذٌ، ثُمَّ حَذَفُوا الْعَيْنَ تَخْفِيفًا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ وَزْنُهُ مَعْلًا، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ، وَالْهَمْزَةُ أُبْدِلَتْ مِنْ وَاوٍ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي مَصَائِبَ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمَلَكُ لَا تَشْتَقُّ الْعَرَبُ فِعْلَهُ وَلَا تَصْرِفُهُ، وَهُوَ مِمَّا فَاتَ عِلْمُهُ، انْتَهَى. وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ وَرَدَ بِغَيْرِ تَاءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَنَا خَالِدٌ صَلَّتْ عَلَيْكَ الْمَلَائِكُ خَلِيفَةً: فَعِيلَةً، وَفَعِيلَةٌ تَأْتِي بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْعَلِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالنَّطِيحَةِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. السَّفْكُ: الصَّبُّ وَالْإِرَاقَةُ، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الدَّمِ، وَيُقَالُ:

سَفَكَ وَسَفَّكَ وَأَسْفَكَ بِمَعْنًى، وَمُضَارِعُ سَفَكَ يَأْتِي عَلَى يَفْعِلُ وَيَفْعُلُ. الدِّمَاءَ: جَمْعُ دَمٍ، وَلَامُهُ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ مَحْذُوفَةٌ لِقَوْلِهِمْ: دَمَيَانِ وَدَمَوَانِ، وَقَصْرُهُ وَتَضْعِيفُهُ مَسْمُوعَانِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْمَحْذُوفُ اللَّامُ، قِيلَ: أَصْلُهُ فَعِلَ، وقيل: فعل، التسبح: تَنْزِيهُ اللَّهِ وَتَبْرِئَتُهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّبْحِ، وَهُوَ الْجَرْيُ. وَالْمُسَبِّحُ جَارٍ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، التَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَمِنْهُ الْقَدَسُ: السَّطْلُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَالْقُدَاسُ: الْجُمَانُ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَنَظْمِ قُدَاسٍ سِلْكُهُ مُتَقَطِّعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَدَسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ. عَلَّمَ: مَنْقُولٌ مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فِي النَّقْلِ، فَعَدُّوا تِلْكَ بِالتَّضْعِيفِ، وَهَذِهِ بِالْهَمْزَةِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشُّلُوبِينُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّرْحِ. آدَمَ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ كَآزَرَ وَعَابَرَ، مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَفْعَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُدْمَةِ، وَهِيَ كَالسُّمْرَةِ، أَوْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَجْهُهَا، فَغَيْرُ صَوَابٍ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ نَصَّ التَّصْرِيفِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبْرِيٌّ مِنَ الْإِدَامِ، وَهُوَ التُّرَابُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ أديم الأرض فخطؤه ظاهر لِعَدَمِ صَرْفِهِ، وَأَبْعَدَ الطَّبَرِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ فِعْلٌ رُبَاعِيٌّ سُمِّيَ بِهِ. الْعَرْضُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ حَتَّى تُعْرَفَ جِهَتُهُ. الْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ، وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ الْوَاحِدُ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَيُضَمَّنُ مَعْنَى أَعْلَمَ فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ. هَؤُلَاءِ: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْقَرِيبِ، وَهَا: لِلتَّنْبِيهِ، وَالِاسْمُ أُولَاءِ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ، وَقَدْ تُبْدَلُ هَمْزَتُهُ هَاءً فَيُقَالُ: هلاء، قد يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ فَيُقَالُ: أُولَاءُ، وَقَدْ تُشْبَعُ الضَّمَّةُ قَبْلَ اللَّامِ فَيُقَالُ: أُولَاءِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَدْ يُقَالُ: هؤلاء بِحَذْفِ أَلِفِ هَا وَهَمْزَةِ أُولَاءِ وَإِقْرَارِ الْوَاوِ الَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الْهَمْزَةِ، حَكَاهُ الأستاذ أبو علي الشلوبين، وَأَنْشَدَ قَوْلَهُ: تَجَلَّدْ لَا تَقُلْ هَوْلَاءِ هَذَا ... بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفًا عَلَيْكَا وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ: أَنَّ الْمَدَّ فِي أُولَاءِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْقَصْرَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةُ بَعْضِ قَيْسٍ وَأَسَدٍ، وَأَنْشَدَ لِلْأَعْشَى: هؤلاء ثم هؤلاء كُلًّا ... أَعْطَيْتَ نِعَالًا مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ وَالْهَمْزَةُ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ لَامُ الْفِعْلِ، فَفَاؤُهُ وَلَامُهُ هَمْزَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ

وَقَعَتْ بَعْدَ أَلِفٍ فَقُلِبَتْ هَمْزَةً. سُبْحَانَكَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهُكَ، وَسُبْحَانَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَزِمَتِ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَيُضَافُ وَيُفْرَدُ، فَإِذَا أُفْرِدَ كَانَ مُنَوَّنًا، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: سُبْحَانَهُ ثُمَّ سَبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ فَقِيلَ: صَرَفَهُ ضَرُورَةً، وَقِيلَ: لِجَعْلِهِ نَكِرَةً وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أقول لما جاءني فخبره ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ جَعَلَهُ عَلَمًا فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كَانَ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَعَادَ إِلَيْهِ التَّنْوِينُ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْحَكِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلِ، مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ: أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَمَّا يُرِيدُهُ. الْإِبْدَاءُ: الْإِظْهَارُ، وَالْكَتْمُ: الْإِخْفَاءُ. وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: لَمْ يَرِدْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَكَانَ قَبْلَهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَشْرِيفِ أَبِيهِمْ وَتَكْرِيمِهِ وَجَعْلِهِ خَلِيفَةً وَإِسْكَانِهِ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَإِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَكَانِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِلْمِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الذَّاتِ وَتَمَامُ الصِّفَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْأَصْلِ إِحْسَانٌ إِلَى الْفَرْعِ، وَشَرَفُ الْفَرْعِ بِشَرَفِ الْأَصْلِ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي إِذْ، فَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى زِيَادَتِهَا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ ضَعِيفَيْنِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ، التَّقْدِيرُ: وَقَدْ قَالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ بِاذْكُرْ، أَيْ وَاذْكُرْ: إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاجَهَا عَنْ بَابِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الظَّرْفِيَّةِ، أَوْ بِإِضَافَةِ ظَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهَا. وَأَجَازَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَنَاسٌ قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ. وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: ابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، التَّقْدِيرُ: وَابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ، إِذْ قَالَ رَبُّكَ. وَنَاسَبَ هَذَا التَّقْدِيرَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا تَحْرِيرَ فِيهِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِنَا لَمْ يَكُنْ وقت قول الله لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْعَامِلَ في

_ (1) سورة البقرة: 2/ 29.

الظَّرْفِ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَمَّا أَنْ يَسْبِقَهُ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ ظَرْفًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ إِذْ مَنْصُوبٌ يقال بَعْدَهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ إِذْ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ نَصْبَهَا بأحياكم، تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ «1» ، إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ حَذْفٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَيْسَ وَاقِعًا فِي وقت قول الله للملائكة، وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِ الصِّلَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ معمول لخلقكم مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ «2» إِذْ قالَ رَبُّكَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ زَائِدَةً، وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي كَادَتْ أَنْ تَكُونَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ، لِاسْتِبْدَادِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا بِمَا سِيقَتْ لَهُ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا التَّعَلُّقَ الْإِعْرَابِيَّ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهَا. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ، أَيْ وَقْتَ قَوْلِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَتَجْعَلُ، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: إِذْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، أَيْ وَقْتَ مَجِيئِكَ أَكْرَمْتُكَ، وَإِذْ قُلْتَ لِي كَذَا قُلْتُ لَكَ كَذَا. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْوَجْهِ السَّهْلِ الْوَاضِحِ، وَكَيْفَ لَمْ يُوَفَّقْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَارْتَبَكُوا فِي دَهْيَاءَ وَخَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاءَ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى الرَّبِّ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْبَيَانِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ، كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِخِطَابِهِ، وَهَزٌّ لِاسْتِمَاعِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَرِيبِ افْتِتَاحِ هَذَا الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ، وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَمَآلِهِ. وَهَذَا تَنْوِيعٌ فِي الْخِطَابِ، وَخُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الْخِطَابِ الْخَاصِّ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ لَهُ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ وَالْقِسْمُ الْأَوْفَرُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، إِذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْظَمُ خُلَفَائِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ وَدُعَائِهِ وَجَعْلِ أَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ أَمَّ بِهِمْ لَيْلَةَ إِسْرَائِهِ، وَجَعَلَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِهِ، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ وَفِي دَارَيْ تَكْلِيفِهِ وَجَزَائِهِ. وَاللَّامُ فِي لِلْمَلَائِكَةِ: لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا اللَّامُ، فَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ الْعُمُومُ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَامٌّ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ الْجَانِّ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُحَارِبُونَ مَعَ إِبْلِيسَ. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ إِنِّي جَاعِلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مُصَدَّرًا بأن، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، وَأَنَّ هَذَا واقع لا محالة وإن تُكْسَرُ بَعْدَ الْقَوْلِ، وَلِفَتْحِهَا بعده عند

_ (1) سورة الحج: 22/ 66. (2) سورة البقرة: 2/ 21.

أَكْثَرِ الْعَرَبِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَفْتَحُونَهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ: إِذَا قلت إني آئب أَهْلَ بَلْدَةٍ ... نَزَعْتُ بِهَا عَنْهَا الْوَلِيَّةَ بِالْهَجْرِ جَاعِلٌ: اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ إِلَّا إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا كَهَذَا، فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ إِعْمَالُهُ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْإِضَافَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ اخْتِيَارِنَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي الْجَعْلِ هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالثَّانِي هُوَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ سَائِغٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَجْوَدُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَوْ كَانَ الْجَعْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَى التَّصْيِيرِ لَذَكَرَهُ ثَانِيًا، فَكَانَ: أَتَجْعَلُ فِيهَا خَلِيفَةً مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟ وَإِذَا لَمْ يَأْتِ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْخَلْقِ أَرْجَحَ. وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ خَلِيفَةً لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ، وَكَلَامٌ بِغَيْرِ إِضْمَارٍ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامٍ بِإِضْمَارٍ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ دُونَ التَّجَدُّدِ شَيْئًا شَيْئًا. وَالْجَعْلُ: سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ أَوِ التَّصْيِيرِ، وَكَانَ آدَمُ هُوَ الْخَلِيفَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْفُهُومِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا تَكَرُّرَ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُ أَوْ لَمْ يُصَيِّرْهُ خَلِيفَةً إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ: ظَاهِرُهُ الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: أَرْضُ مَكَّةَ. وَرَوَى ابْنُ سَابِطٍ هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ، قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ وَسَطُهَا بَكَّةَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ بُكَّتْ من تحتها، واختصت بلا ذكر لِأَنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَدُفِنَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ، وَتَكُونُ الألف واللام فيها للعهد نَحْوَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «1» ، وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ «2» اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «3» ، وقال الشاعر:

_ (1) سورة يوسف: 12/ 80. [.....] (2) سورة يوسف: 12/ 21. (3) سورة القصص: 28/ 5.

يَقُولُونَ لِي أَرْضُ الْحِجَازِ حديثة ... فَقُلْتُ وَمَا لِي فِي سِوَى الْأَرْضِ مَطْلَبُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلِيفَةً، بِالْفَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَالِفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَخْلُوفِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَانَ مَعْنَاهُ: الْقَائِمُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي جُعِلَ إِلَيْهِ. وَالْخَلِيفَةُ، قِيلَ: هُوَ آدَمُ لِأَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ الْجِنِّ بَنِي الْجَانِّ، أَوْ عَنْ إِبْلِيسَ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابن عباس. وَالْأَنْبِيَاءُ هُمْ خَلَائِفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ أَبُو الْخَلَائِفِ، كَمَا اقْتُصِرَ عَلَى مُضَرٍ وَتَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَالْمُرَادُ الْقَبِيلَةُ. وَقِيلَ: وَلَدُ آدَمَ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: إِذَا هَلَكَتْ أُمَّةٌ خَلَفَتْهَا أُخْرَى، قَالَهُ الْحَسَنُ، فَيَكُونُ مُفْرَدًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، كَمَا جَاءَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «1» لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «2» . وَقِيلَ: الْخَلِيفَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ الرُّومَ: قَيْصَرٌ، وَالْفُرْسَ: كِسْرَى، وَالْيَمَنَ: تُبَّعٌ. وَفِي الْمُسْتَخْلَفِ فِيهِ آدَمُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ. الثَّانِي: عِمَارَةُ الْأَرْضِ، يَزْرَعُ وَيَحْصُدُ وَيَبْنِي وَيُجْرِي الْأَنْهَارَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو البرهسم عِمْرَانُ: خَلِيقَةً، بِالْقَافِ وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ. وَخِطَابُ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إِنْ كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَارَبُوا مَعَ إِبْلِيسَ الْجِنَّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَامَّا بِأَنَّهُ رَافِعُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَمُسْتَخْلَفٌ فِي الْأَرْضِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَرُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَ الْمَلَائِكَةَ السَّمَاءَ، وَالْجِنَّ الْأَرْضَ، فَعَبَدُوا دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ أَفْسَدُوا وَحَسَدُوا، فَاقْتَتَلُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَأَسَهُمْ إِبْلِيسُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ، فَهَبَطُوا الْأَرْضَ وَطَرَدُوا الْجِنَّ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَسَكَنُوهَا، وَخَفَّفَ عَنْهُمُ الْعِبَادَةَ، وَأَعْطَى اللَّهُ إِبْلِيسَ مُلْكَ الْأَرْضِ وَمُلْكَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَخِزَانَةَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَعْبُدُ تَارَةً فِي الْأَرْضِ وَتَارَةً فِي الْجَنَّةِ، فَدَخَلَهُ الْعُجْبُ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا أَنِّي أَكْرَمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِجُنُودِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً بَدَلًا مِنْكُمْ وَرَافِعُكُمْ إِلَيَّ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْوَنَ الْمَلَائِكَةِ عِبَادَةً، وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ الْمَلَائِكَةُ، جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ. فَسَبَبُ الْقَوْلِ: إِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ وَأَنْ يُظْهِرَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 165. (2) سورة النور: 24/ 55.

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ: وَأَنْ يَبْلُوَ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ، أَوْ أَنْ يُعَظِّمَ آدَمَ بِذِكْرِ الْخِلَافَةِ قَبْلَ وُجُودِهِ، لِيَكُونُوا مُطْمَئِنِّينَ لَهُ إذا وجدوا، أَوْ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِخَلْقِهِ لِيَسْكُنَ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا أَنْ نُشَاوِرَ ذَوِي الْأَحْلَامِ مِنَّا وَأَرْبَابَ الْمَعْرِفَةِ إِذِ اسْتَشَارَ الْمَلَائِكَةَ اعْتِبَارًا لَهُمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْخِطَابَ بِمَا ذُكِرَ فَيَحْصُلُ مِنْهُمُ الِاعْتِرَافُ وَالرُّجُوعُ عَمَّا كَانُوا يَظُنُّونَ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عُلُوَّ قَدْرِ آدَمَ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لِآدَمَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، أَوْ أَنْ يُعَلِّمَنَا الْأَدَبَ مَعَهُ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ، عَقَلْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْقِلْهُ، لِتَحْصُلَ بِذَلِكَ الطَّاعَةُ الْمَحْضَةُ أَوْ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُ الْمَلَائِكَةِ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ فَخَافَتْ وَسَأَلَتْ: لِمَنْ خَلَقْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِمَنْ عَصَانِي. إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَ خَلْقٍ سِوَاهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً: سَابِقُ الْعِنَايَةِ، لَا يُؤَثِّرْ فِيهِ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَحُطُّ عَنْ رُتْبَةِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّبَ آدَمَ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي أَرْضِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا يَحْدُثُ عنه مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ الْإِخْرَاجَ مِنْ دَارِ الْكَرَامَةِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَكْدَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلُبْهُ مَا أَلْبَسَهُ مِنْ خُلَعِ كَرَامَتِهِ، وَلَا حَطَّهُ عَنْ رُتْبَةِ خِلَافَتِهِ، بَلْ أَجْزَلَ لَهُ فِي الْعَطِيَّةِ فَقَالَ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «1» ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ كَانَ عُمَرُ يَنْقُلُ الطَّعَامَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَاللَّهُ يُحِبُّهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَظُنُّنِي مِنْ زَلَّةٍ أَتَعَتَّبُ ... قَلْبِي عَلَيْكَ أَرَقُّ مِمَّا تَحْسَبُ وَيُقَالُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ وَلَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا قَالَ فِي حَدِيثِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَظَاهِرُ هَذَا الْخِطَابِ تَنْبِيهٌ لِشَرَفِ خَلْقِ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا، وَالْعَرْشِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ انْتِظَامِ الْأَجْزَاءِ وَكَمَالِ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي خَالِقٌ عَرْشًا أَوْ جَنَّةً أَوْ مُلْكًا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا لِآدَمَ. قَالُوا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي الْعَامِلِ إِذْ هُوَ، قَالُوا: وَمَعْمُولُهُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَجْعَلُ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا تَسْبِقُ بِالْقَوْلِ، لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، إِلَّا عَنْ نَبَأٍ وَمُقَدَّمَةٍ، فَقِيلَ: الْهَمْزَةُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ قَدْ صَحِبَهُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ مَكِّيٌّ وغيره، كأنهم

_ (1) سورة طه: 20/ 122.

تَعَجَّبُوا مِنَ اسْتِخْلَافِ اللَّهِ مَنْ يَعْصِيهِ أَوْ مَنْ يعصيان مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فِي أَرْضِهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْظَامِ، وَالْإِكْبَارِ لِلِاسْتِخْلَافِ وَالْعِصْيَانِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ قَدْ سَبَقَ، إِمَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِمُشَاهَدَةٍ فِي اللَّوْحِ، أو يكون ومخلوق غَيْرُهُمْ وَهُمْ مَعْصُومُونَ، أَوْ قَالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ فَأَفْسَدَ قَبْلَ سُكْنَى الْمَلَائِكَةِ، أَوِ اسْتَنْبَطُوا ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ خَلِيفَةً، إِذِ الْخَلِيفَةُ مَنْ يَكُونُ نَائِبًا فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ التَّظَالُمِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْضٌ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَقَدَّرَهُ: أَتَجْعَلُ هَذَا الْخَلِيفَةَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنِّ أَمْ لَا؟ وَفَسَّرَهُ أَبُو الْفَضْلِ التجلي: أَيْ أَمْ تَجْعَلُ مَنْ لَا يُفْسِدُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُمَا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ تتغير؟ فَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَا مُعَادِلَ لِلِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ مَذْهَبَ التَّعَجُّبِ أَوْ الِاسْتِعْظَامِ أَوِ التَّقْرِيرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ يَكُونُ الْمُعَادِلُ مَفْعُولَ أَتَجْعَلُ، وَهُوَ مَنْ يُفْسِدُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْخَامِسِ تَكُونُ الْمُعَادَلَةُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ قوله، ونحن نسبح بحمدك. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَسْفِكُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الْكَافِ. وَقَرَأَ أبو حياة وابن أبي عبلة: بصم الفاء. وقرىء: وَيَسْفِكُ مِنْ أَسْفَكُ وَيُسَفِّكُ مَنْ سَفَّكَ مُشَدَّدُ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: وَيَسْفِكُ بِنَصْبِ الْكَافِ، فَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ عَطَفَ عَلَى يُفْسِدُ، وَمَنْ نَصَبَ فَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: هُوَ نَصْبٌ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ الْوَاوِ بِإِضْمَارِ أَنْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ تُقَدَّرُ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، فَإِذَا قُلْتَ: أَتَأْتِينَا وَتُحَدِّثَنَا وَنَصَبْتَ، كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُحَدِّثَنَا، أَيْ وَيَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ مَعَ حَدِيثٍ، وكذلك قوله: أبيت رَيَّانَ الْجُفُونِ مِنَ الْكَرَى ... وَأَبِيتُ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ مَعْنَاهُ: أَيَكُونُ مِنْكَ مَبِيتٌ رَيَّانٌ مَعَ مَبِيتِي مِنْكَ بِكَذَا، وَكَذَلِكَ هَذَا يَكُونُ مِنْكَ جَعْلُ مُفْسِدٍ مَعَ سَفْكِ الدِّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: النَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ مَنْ يَجْمَعُ أَنْ يُفْسِدَ وَأَنْ يَسْفِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالنَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَمَعْنَى وَاوِ الصَّرْفِ: أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ يَسْتَحِقُّ وَجْهًا مِنَ الْإِعْرَابِ غَيْرَ النَّصْبِ فَيُصْرَفُ بِدُخُولِ الْوَاوِ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ إِلَى النَّصْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ

يُجادِلُونَ «1» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وَكَذَلِكَ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «2» . فَقِيَاسُ الْأَوَّلِ الرَّفْعُ، وَقِيَاسُ الثَّانِي الْجَزْمُ، فَصَرَفَتِ الْوَاوُ الْفِعْلَ إِلَى النَّصْبِ، فَسُمِّيَتْ وَاوَ الصَّرْفِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ. وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ أَوَّلًا وَثَنَّى بِقَوْلِ الَمَهْدَوِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَكَيْفَ يَكُونُ أَحْسَنَ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَقُولُ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ وَفَسَادُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الصِّلَةُ يُفْسِدُ، وَهُوَ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْفَسَادِ. نَصُّوا عَلَى أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، لِأَنَّهُ بِهِ تَلَاشِي الْهَيَاكِلِ الْجُسْمَانِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهِ لَجَازَ أَنْ لَا يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ: يُفْسِدُ، وَكَرَّرَ فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْعِبَادَةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَيْفَ يَصِيرُ مَحَلًّا لِلْفَسَادِ؟ كَمَا مَرَّ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «3» وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْرِيرِ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَسْفِكُ، اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ وَتَنَكُّبًا أَنْ يكرروا فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ نَقَدُوا عَلَى أَبِي الطِّيبِ قَوْلَهُ: وَنَهْبُ نُفُوسِ أَهْلِ النَّهْبِ أَوْلَى ... بِأَهْلِ النَّهْبِ مِنْ نَهْبِ الْقُمَاشِ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ: أَوْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ: وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوِ الصَّلَاةُ، أَيْ نُصَلِّي لَكَ، مِنَ الْمُسَبِّحِينَ: أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ التَّعْظِيمُ، أَيْ وَنَحْنُ نُعَظِّمُكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ تَسْبِيحٌ خَاصٌّ، وَهُوَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَيُعْرَفُ هَذَا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِقَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهُ وَبِحَمْدِهِ» . بِحَمْدِكَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْحَالِ، أَيْ نُسَبِّحُ مُلْتَبِسِينَ بِحَمْدِكَ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ، وَهِيَ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِأَنَّهَا حَالٌ فِي حَالٍ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ حَمْدِكَ، وَالْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ، وَالثَّنَاءُ نَاشِيءٌ عَنِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ وَالْإِنْعَامِ عَلَى الْمُثَنَّى، فَنَزَلَ النَّاشِئُ عَنِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ فَقَالَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ بِحَمْدِكَ، أَيْ بِتَوْفِيقِكَ وَإِنْعَامِكَ، والحمد مصدر مضاف

_ (1) سورة الشورى: 42/ 35. (2) سورة آل عمران: 3/ 142. (3) سورة البقرة: 2/ 11.

إِلَى الْمَفْعُولِ نَحْوَ قَوْلِهِ: مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ بِحَمْدِنَا إِيَّاكَ. وَالْفَاعِلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَحْذُوفٌ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يحذف وليس ممنوع فِي الْمَصْدَرِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ لَا يُضْمَرُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَرُ إِلَّا فِيمَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، إِذِ الْإِضْمَارُ أَصِلٌ فِي الْفِعْلِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ وَنُقَدِّسُ لَكَ بِحَمْدِكَ، فَاعْتُرِضَ بِحَمْدِكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ مِمَّا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَمْدِكَ بَعْدَ نُسَبِّحُ لِاخْتِلَاطِ التَّسْبِيحِ بِالْحَمْدِ. وَجَاءَ قَوْلُهُ بَعْدَ: وَنُقَدِّسُ لَكَ كَالتَّوْكِيدِ، لِأَنَّ التَّقْدِيسَ هُوَ: التَّطْهِيرُ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ: التَّنْزِيهُ وَالتَّبْرِئَةُ مِنَ السُّوءِ، فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَى التَّقْدِيسِ كَمَا ذَكَرْنَا التَّطْهِيرُ، وَمَفْعُولُهُ أَنْفُسَنَا لَكَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، أَوْ أَفْعَالَنَا مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، أَوِ الْمَعْنَى: نُكَبِّرُكَ وَنُعَظِّمُكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ، أَوْ نُصَلِّي لَكَ، أَوْ نَتَطَهَّرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَعْنُونَ بَنِي آدَمَ. حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ نُطَهِّرُ قُلُوبَنَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ، واللام في لك قيل زَائِدَةٌ، أَيْ نُقَدِّسُكَ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُقَدِّسُ، قِيلَ: أَوْ بَنُسَبِّحُ وَقِيلَ: معدية للفعل، كهي في سَجَدْتُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْبَيَانِ كَاللَّامِ بَعْدَ سَقْيًا لَكَ، فَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، أَيْ تَقْدِيسُنَا لَكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْدِيَةً لِلْفِعْلِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ «1» ، وسَبَّحَ لِلَّهِ» . وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ، أَوْ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ نَتَغَيَّرُ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَيَحْذِفُ مُعَادِلَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَمْ نَتَغَيَّرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَعَمْرِكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يُرِيدُ: أَبِسَبْعٍ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّقَ قَبْلَ بِسَبْعٍ وَالْجُزْءَ الْمُعَادِلَ بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مِمَّا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجَاوِبُوا بِهِ اللَّهَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَكَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالِاعْتِرَاضِ، لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَشَوِيَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 1، وسورة التغابن: 64/ 1. (2) سورة الحديد: 57/ 1، وسورة الحشر 59/ 1، وسورة الصف: 61/ 1.

عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَدَلَائِلُهَا مَبْسُوطَةٌ هُنَاكَ، احْتَاجَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا وَحَمَلَهَا كُلُّ قَائِلٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَى مَا سَبَّحَ لَهُ، وَقَوِيَ عِنْدَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ سَائِغٌ فِي عِلْمِ اللِّسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الْمَلَائِكَةُ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَهُمْ فِي مَقَامِ الْمَشُورَةِ بِأَنَّ لَهُمْ وَجْهَ الْمُصْلِحَةِ فِي بَقَاءِ الْخِلَافَةِ فِيمَنْ يُسَبِّحُ وَيُقَدِّسُ، وَأَنْ لَا يَنْقُلَهَا إِلَى مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ، فَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ النُّصْحِ فِي الِاسْتِشَارَةِ، وَالنُّصْحُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَشَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْحَكَمُ فِيمَا يَمْضِي مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ. وَمِنْ أَنْدَرِ مَا وَقَعَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ (كِتَابِ فَكِّ الْأَزْرَارِ) ، وَهُوَ الشَّيْخُ صِفِيُّ الدِّينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحسين ابن الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْمَنْصُورِ الْخَزْرَجِيُّ، قال: في ذلك الكتاب ظَاهِرِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ يُشْعَرُ بِنَوْعٍ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْبَيَانُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا حِينَ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِمْ مُجْمَلِينَ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مُنْدَرِجًا فِي جُمْلَتِهِمْ، فَوَرَدَ مِنْهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا. فَلَمَّا انْفَصَلَ إِبْلِيسُ عَنْ جُمْلَتِهِمْ بِإِبَائِهِ وَظُهُورِ إِبْلِيسِيَّتِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ، انْفَصَلَ الْجَوَابُ إِلَى نَوْعَيْنِ: فَنَوْعُ الِاعْتِرَاضِ مِنْهُ كَانَ عَنْ إِبْلِيسَ، وَأَنْوَاعُ الطَّاعَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ كَانَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. فَانْقَسَمَ الْجَوَابُ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَانْقِسَامِ الْجِنْسِ إِلَى جِنْسَيْنِ، وَنَاسَبَ كُلُّ جَوَابٍ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «1» ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ كُلُّهَا مَقُولَةٌ، وَالْقَائِلُ نَوْعَانِ، فَرُدَّ كُلُّ قَوْلٍ لِمَنْ نَاسَبَهُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ التَّمَدُّحِ إِلَى مَنْ لَهُ الْحُكْمُ فِي التَّوْلِيَةِ مِمَّنْ يَقْصِدُ الْوِلَايَةَ، إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْجَوْرَ وَالْحَيْفَ، وَرَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً. وَلِذَلِكَ جَازَ لِيُوسُفَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، طَلَبَهُ الْوِلَايَةَ، وَمَدَحَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا فَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «2» ، قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ، مُضَارِعُ عَلِمَ وَمَا مَفْعُولَةٌ بِهَا مَوْصُولَةٌ، قِيلَ: أَوْ نكرة موصوفة، وقد تقدم: أَنَا لَا نَخْتَارُ، كَوْنَهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَأَجَازَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنْ تَكُونَ أَعْلَمُ هُنَا اسْمًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِي مَا أَنْ تَكُونَ مَجْرُورَةً بِالْإِضَافَةِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَنْصَرِفُ، وأجاز بعضهم أن تكون أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَمَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَعْلَمُ، أَيْ عَلِمْتُ، وَأَعْلَمُ مَا لا تعلمون.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 135. (2) سورة يوسف: 12/ 55.

وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَادِّعَاءُ حَذْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَذْفُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْكُمْ. وَالثَّانِي: الْفِعْلُ النَّاصِبُ لِلْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ مَكِّيُّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ غَيْرِ صَحِيحَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ادِّعَاءُ أَنَّ أَفْعَلَ تَأْتِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهَذَا قَالَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَخَالَفَهُ النَّحْوِيُّونَ وَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا: لا يخلو أَفْعَلُ مِنَ التَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ مَسْأَلَةِ يُوسُفُ أَفْضَلُ إِخْوَتِهِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي جَوَازِ اقْتِيَاسِهِ خِلَافًا، تَسْلِيمًا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مَسْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ: وَاسْتِعْمَالُهُ عَارِيًا دُونَ مِنْ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التفضيل، مؤولا بَاسِمِ فَاعِلٍ أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ، مُطَّرِدٌ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَالْأَصَحُّ قَصْرُهُ عَلَى السَّمَاعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ وُجُودُ أَفْعَلِ عَارِيًا مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَمْ لَا وَالْقَائِلُونَ بِوُجُودِ ذَلِكَ لَا يَقُولُونَ بِإِعْمَالِهِ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَّا بَعْضُهُمْ، فَأَجَازَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ كَوْنِ أَفْعَلَ لَا يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِخِلَافِ أَبِي عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ كَانَ يُضَعِّفُ فِي النَّحْوِ، وَلَا بِخِلَافِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ بِمَا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، ولو سلمنا إسماع ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا نُسَلِّمُ اقْتِيَاسَهُ، لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أُورِدَتْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ، مَعَ أَنَّهَا قَدْ تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَكَيْفَ نُثْبِتُ قَانُونًا كُلِّيًّا وَلَمْ نَسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِ تَرْكِيبَاتِهِ لَا يُحْفَظُ: هَذَا رَجُلٌ أَضْرَبُ عُمَرًا، بِمَعْنَى ضَارِبٌ عُمَرًا، وَلَا هَذِهِ امْرَأَةٌ أَقْتَلُ خَالِدًا، بِمَعْنَى قَاتِلَةٌ خَالِدًا، وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَكْسَى زَيْدًا جُبَّةً، بِمَعْنَى: كَاسٍ زَيْدًا جُبَّةً. وَهَلْ هَذَا إِلَّا إِحْدَاثُ تَرَاكِيبَ لَمْ تَنْطِقِ الْعَرَبُ بِشَيْءٍ مِنْ نَظِيرِهَا؟ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَكَيْفَ يَعْدِلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ الْوَاضِحِ مَنْ كَوْنِ أَعْلَمُ فِعْلًا مُضَارِعًا إِلَى هَذَا الَّذِي هُوَ؟ كَمَا رَأَيْتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا طَوَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَجَنَّبَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ أَفْعَلَ عَارِيَةً مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَشْهُورٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَنَبَّهْتُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةُ الدلائل. تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مَا لَا تَعْلَمُونَ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنُ الْعِلْمِ دُونَهُمْ عِلْمُهُ مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَعَ الْبَغْيِ وَالْمَعْصِيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءٌ وَصَالِحُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ عِلْمُهُ بِمَنْ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ عِلْمُهُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَيَبْتَلِي مَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ مُطِيعٌ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ،

وَمَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاصٍ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الطَّاعَةِ فَيُطِيعُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلْمُهُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَاطِنُهَا، جَلِيُّهَا وَدَقِيقُهَا، عَاجِلُهَا وَآجِلُهَا، صَالِحُهَا وَفَاسِدُهَا، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ عِلْمًا حَقِيقِيًّا، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أَوْ عِلْمُهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ وَلَا نَظَرَ وَلَا تَدَبُّرَ وَلَا فِكْرَ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ. أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّ مَعَهُمْ إِبْلِيسَ، أَوْ عِلْمُهُ بِاسْتِعْظَامِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أَتُجْعَلُ فِيهَا بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ. وَأَبْهَمَ فِي إِخْبَارِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَعْلَمُهَا دُونَهُمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ لَهُ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ فِيمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَالرِّضَا بِذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ عَالِمٍ، جَلَّ اللَّهُ وَعَزَّ. وَالْأَحْسَنُ أَنَّ يُفَسَّرَ هَذَا الْمُبْهَمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها: لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِ آدَمَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ لِيُظْهِرَ فَضْلَهُ وَقُصُورَهُمْ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ، فَتَأَكَّدَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ بِالتَّفْضِيلِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّهُ بِهَا يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَصِحُّ هَذَا الْعَطْفُ، وَهِيَ: فَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْخَلِيفَةِ مَحْذُوفًا مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ، أَبْرَزَهُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ، نَاصًّا عَلَيْهِ وَمُنَوِّهًا بِذِكْرِهِ بِاسْمِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ، قَالَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ. وَهَلِ التَّعْلِيمُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ أَوْ بِالْإِلْهَامِ؟ أَقْوَالٌ أُظْهَرُهَا أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُعَلِّمُ، لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا إِلْهَامٍ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَيَزِيدُ الْيَزِيدِيُّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ به وَالتَّضْعِيفِ فِي عُلِّمَ لِلتَّعْدِيَةِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ التَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَعَدَّى بِهِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَلَيْسَتِ التَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ مَقِيسَةً، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، سَوَاءً كَانَ الْفِعْلُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ لَازِمًا أَمْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، نَحْوَ: عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى وَاحِدٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يُحْفَظُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى ثَلَاثٍ. وَقَدْ وَهِمَ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيُّ فِي زَعْمِهِ فِي شَرْحِ الْمُلْحَةِ لَهُ أَنَّ عَلِمَ تَكُونُ مَنْقُولَةً مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَتَصِيرُ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى اقْتِيَاسِ التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ

أَبِي الرَّبِيعِ فِي (كِتَابِ التَّلْخِيصِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ: الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ النَّقْلَ بِالتَّضْعِيفِ سَمَاعٌ فِي الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمِ، وَفِيمَا عَلَّمَهُ أَقْوَالٌ: أَسْمَاءُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوِ اسْمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعُزِيَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ جَمِيعُ اللُّغَاتِ، ثُمَّ كَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ بِلُغَةٍ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَاخْتَصَّ كُلَّ فِرْقَةٍ بِلُغَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَفَرَّعَ مِنْهَا جَمِيعُ اللُّغَاتِ، أَوْ أَسْمَاءُ النُّجُومِ فَقَطْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوْ أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ فَقَطْ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ وَالْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ أَوْ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي خَلَقَهَا، علما أَنَّ هَذَا اسْمُهُ فَرَسٌ، وَهَذَا اسْمُهُ بَعِيرٌ، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَعَلَّمَهُ أَحْوَالَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوِ الْأَسْمَاءُ بِلُغَةٍ ثُمَّ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي سِوَاهَا، أَوْ عَلَّمَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى نَحْوَ سِيبَوَيْهِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ الله عز وجل، قاله الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ أَسْمَاءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمَخْزُونَةِ، فَعَلِمَ بِهَا جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، قَالَهُ الْجَرِيرِيُّ، أَوِ التَّسْمِيَّاتُ. وَمَعْنَى هَذَا عَلَّمَهُ أَنْ يُسَمِّيَ الْأَشْيَاءَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ الِاسْمِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَحَالَةُ تَعْلِيمِهِ تَعَالَى آدَمَ، هَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْمُسَمَّيَاتِ أَوْ وَصَفَهَا لَهُ وَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: قَالَ بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ: الْمُخْتَارُ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، وَعَرَّفَهُ الْعَاصِي وَالْمُطِيعَ لِيَعْرِفَ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ رَدًّا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا يَحْتَمِلُ أَسْمَاءُ الْمُسَمَّيَاتِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِوَضٌ مِنْهُ اللَّامُ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1» ، انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ اللَّامَ عِوَضٌ مِنَ الإضافة ليس مذهب البصريين، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مقامه، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ التَّعْلِيمِ بِالْأَسْمَاءِ تَعَلَّقَ الْإِنْبَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، وَالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلَمْ يَقِلْ: أَنْبَئُونِي بِهَؤُلَاءِ، وَلَا أَنْبِئْهُمْ بِهِمْ. وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ إِذَا حَمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تَجْمَعُ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى عُودِهِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ «2» ، التَّقْدِيرُ: أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، فَعَادَ الضَّمِيرُ مِنْ يَغْشَاهُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفَةِ، الْقَائِمِ مَقَامَهَا فِي الْإِعْرَابِ ظُلُمَاتٍ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ

_ (1) سورة مريم: 19/ 4. (2) سورة النور: 24/ 40. [.....]

اللَّفْظِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَسْمَاءً مَخْصُوصَةً، بَلْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّها عَلَى الشُّمُولِ، وَالْحِكْمَةُ حَاصِلَةٌ بِتَعْلِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ مُسَمَّيَاتُهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَيُرَادُ بِهِ مَدْلُولُهُ. ثُمَّ عَرَضَهُمْ: ثُمَّ: حَرْفُ تَرَاخٍ، وَمَهَلَةٍ عَلَّمَ آدَمَ ثُمَّ أَمْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى أَنْ قَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ لِيَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْمَعْلُومُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَمَّا تَحَقَّقَ بِهِ وَاسْتَيْقَنَهُ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ دُونَ مُهْلَةٍ أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ لَمْ يُخْبِرُوا، وَلَمَّا تَقَدَّمَ لِآدَمَ التَّعْلِيمَ أَجَابَ وَأَخْبَرَ وَنَطَقَ إِظْهَارًا لِعِنَايَتِهِ السَّابِقَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ. عَرَضَهُمْ خَلَقَهُمْ وَعَرَضَهَمْ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ صَوَّرَهُمْ لِقُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ عَرَضَهُمْ وَهُمْ كَالذَّرِّ، أَوْ عَرَضَ الْأَسْمَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ جَمْعُهَا بِلَفْظَةِ هُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي عِرَضَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْعُقَلَاءِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنِيُ بِالْأَسْمَاءِ أَسْمَاءُ الْعَاقِلِينَ، أَوْ يَكُونَ فِيهِمْ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ. وَقَرَأَ أُبَيُّ ثُمَّ عَرَضَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ عَرَضَهُنَّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ، فَتَكُونُ هِيَ الْمَعْرُوضَةَ، أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْرُوضُ الْمُسَمَّيَاتُ لَا الْأَسْمَاءُ. عَلَى الْمَلائِكَةِ: ظَاهَرُهُ الْعُمُومُ، فَقِيلَ: هُوَ مُرَادٌ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ فِي الْأَرْضِ. فَقالَ: الْفَاءُ: لِلتَّعْقِيبِ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْعَرْضِ وَالْأَمْرِ مُهْلَةٌ بِحَيْثُ يَقَعُ فِيهَا تَرَوٍّ أَوْ فِكْرٍ، وَذَلِكَ أَجْدَرُ بِعَدَمِ الْإِضَافَةِ. أَنْبِئُونِي: أَمْرُ تَعْجِيزٍ لَا تَكْلِيفٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَنْبُونِي، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: أَنْبَئُونِي عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بِأَسْماءِ هؤُلاءِ: ظَاهِرُهُ حُضُورُ أَشْخَاصٍ حَالَةَ الْعَرْضِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْمَعْرُوضَ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ فَقَطْ، جَعَلَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَشْخَاصِ الْأَسْمَاءِ وَهِيَ غَائِبَةٌ، إِذْ قَدْ حَضَرَ مَا هُوَ مِنْهَا بِسَبَبٍ وَذَلِكَ أَسْمَاؤُهَا وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: فِي كُلِّ اسْمٍ لِأَيِّ شَخْصٍ هَذَا الِاسْمَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرٍ دَاعِيَةٍ إِلَى ذَلِكَ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: شَرْطُ جَوَابِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ فَأَنْبِئُونِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْبَئُونِي السَّابِقُ، وَلَا يَكُونُ أَنْبِئُونِي السَّابِقُ هُوَ الْجَوَابُ، هَذَا مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، فَزَعَمُوا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا هُوَ النَّقْلُ الْمُحَقَّقُ، وَقَدْ وَهِمَ الَمَهْدَوِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَزَعَمَا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبِئُونِي، إِلَّا إِنْ كَانَا اطَّلِعَا عَلَى نَقْلٍ آخَرَ غَرِيبٍ عَنِ

الْمُبَرِّدِ يُخَالِفُ مَشْهُورَ مَا حكان النَّاسُ، فَيُحْتَمَلُ. وَكَذَلِكَ وَهِمَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، فَزَعَمَا أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ تَقْدِيمُ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْبِئُونِي الْمُتَقَدِّمِ هُوَ الْجَوَابُ. وَالصِّدْقُ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُصِيبِينَ، كَمَا يُطْلَقُ الْكَذِبُ عَلَى الْخَطَأِ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ الصِّدْقُ عَلَى الصَّوَابِ. وَمُتَعَلِّقُ الصِّدْقِ فِيهِ أَقْوَالٌ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» ، إِنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا، لَا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ هَجَسٌ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ فِيمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ خُلَفَائِيَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَوْ بِأُمُورِ مَنْ أَسْتَخْلِفُهُمْ بَعْدَكُمْ، أَوْ إِنِّي إِنِ اسْتَخْلَفْتُكُمْ فِيهَا سَبَّحْتُمُونِي وَقَدَّسْتُمُونِي، وَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكُمْ فِيهَا عَصَانِي، أَوْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الْخَلْقُ إِلَّا وَأَنْتُمْ تَصْلُحُونَ لَهُ وَتَقُومُونَ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ فِي ذَلِكَ إِنْبَاءٌ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ بِالْأَسْمَاءِ. رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَتْ: يَخْلُقُ رَبُّنَا مَا شَاءَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَعْلَمُ مَنًّا وَلَا أَكْرَمُ عَلَيْهِ. فَأَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ مِنْ عِلْمِ آدَمَ وَكَرَامَتِهِ خِلَافَ مَا ظَنُّوا ، قَالُوا: وَلِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ، إِذْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّدْقِ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ، لَجَازَ الِاجْتِهَادُ، كَمَا جَازَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ الْإِصَابَةَ فَلَمْ يُصِبْ وَلَمْ يُعَنَّفْ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصِّدْقَ هُنَا ضِدُّ الْكَذِبِ الْمُتَعَارَفِ لِعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، فَأَخْرَجَهَا عَنِ الشَّرْطِيَّةِ إِلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَإِذَا الْتَقَتْ هَمْزَتَانِ مَكْسُورَتَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ، فَوَرْشٌ وَقَنْبُلُ يُبَدِّلَانِ الثَّانِيَةَ يَاءً مَمْدُودَةً، إِلَّا أَنَّ وَرْشًا فِي: هَؤُلَاءِ إن كنتم، وعلى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ، يَجْعَلُ الْيَاءَ مَكْسُورَةً، وَقَالُونَ وَالْبَزِّيَ يَلِينَانِ الْأُولَى وَيُحَقِّقَانِ الثَّانِيَةَ، وَعَنْهُمَا فِي بِالسُّوءِ إِلَّا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَقَرَّرَ لَهُمَا. الثَّانِي: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَاوًا مَكْسُورَةً وَإِدْغَامُ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا فِيهَا وَتَحْقِيقُ الثَّانِيَةِ. الثَّالِثُ: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى يَاءً، نَحْوَ: بِالسُّويِ. الرَّابِعُ: إِبْدَالُهَا وَاوًا مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، نَحْوَ: السُّووُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِحَذْفِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ. قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا: أَيْ تَنْزِيهُكَ عَنِ الِادِّعَاءِ وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهٌ لَكَ بَعْدَ تَنْزِيهٍ لَفْظُهُ لَفْظُ تَثْنِيَةً، وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي لَبَّيْكَ، وَمَعْنَاهُ: تَلْبِيَةً بَعْدَ تَلْبِيَةٍ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ مُفْرَدَهُ يَكُونُ سُبْحَا، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْصُوبًا بَلْ مَرْفُوعًا، وَأَنَّهُ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، وَأَنَّهُ الْتَزَمَ فَتْحَهَا. وَالْكَافُ فِي سُبْحَانَكَ مَفْعُولٌ بِهِ أضيف

_ (1) سورة البقرة: 2/ 23.

إِلَيْهِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَنَزَّهْتَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، حِينَ تكملنا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ بِفِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ وَاجِبُ الْحَذْفِ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ، وَيُبْطِلُهُ أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ دُخُولَ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُنَادَى لِجَازَ دُخُولُ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ لَنَا. وَلَمَّا سَأَلَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِالْجَوَابِ، وَكَانُوا قَدْ سَبَقَ مِنْهُمْ قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الْآيَةَ، أَرَادُوا أَنْ يُجِيبُوا بِعَدَمِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، فَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الْجَوَابِ تَنْزِيهَ اللَّهِ اعْتِذَارًا وَأَدَبًا مِنْهُمْ فِي الْجَوَابِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ قَبْلُ يَمْحُوهُ هَذَا التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ، ثُمَّ أَجَابُوا بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِلَفْظٍ لَا الَّتِي بُنِيَتْ مَعَهَا النَّكِرَةُ، فَاسْتَغْرَقَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَّمَهُمْ هُوَ تَعَالَى، فَقَالُوا: إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا، وَهَذَا غَايَةٌ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى وَالِاسْتِسْلَامِ التَّامِّ لِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو عُثْمَانُ الْمَغْرِبِيُّ: مَا بَلَاءُ الخلق إلا الدعاوى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، كَيْفَ رُدُّوا إِلَى الْجَهْلِ حَتَّى قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا؟ وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ، وَخَبَرُ: لَا عُلِمَ، فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا عُلِمَ مِثْلُهُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع عَلَى الْبَدَلِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْرَاوِيِّ: أَنَّ مَوْضِعَ مَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا عَلَّمَتْنَا، نَصْبٌ بِعَلَّمْتَنَا، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّ الصِّلَةَ: عَلَّمَتْنَا، وَأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَعْمَلُ فِي الموصول ولكن يتكلف له وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَيَكُونُ مَعْنَى إِلَّا: لَكِنْ، عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَتَكُونُ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِعَلَّمْتَنَا، وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُمْ نَفَوْا أَوَّلًا سَائِرَ الْعُلُومِ ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيَّ شَيْءٍ عَلَّمَهُمْ عَلِمُوهُ، وَيَكُونُ هَذَا أَبْلَغُ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى، إِذْ مَحُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ وَنَفُوا جَمِيعَهَا، فَلَمْ يَسْتَثْنُوا لَهُمْ شيئا سابقا ماضيا تحلوا بِهِ، بَلْ صَارُوا إِلَى الْجَهْلِ الصِّرْفِ وَالتَّبَرِّي مِنْ كُلِّ عِلْمٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَافِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمُهُمْ تَعَالَى، أَوْ عَلِمُوا بِاطِّلَاعٍ مِنَ اللَّوْحِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي نَفْيِ كُلِّ عِلْمٍ عَنْهُمْ، وَجَعَلُوا هَذَا الْعِلْمَ الْخَاصَّ كَالْمَعْدُومِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ، لَا عِلْمَ لَنَا تَوْبَةً، وَمَنِ اعْتَقَدَ بِعِصْمَتِهِمْ قَالَ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلِمُوا، أَوْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، لِأَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَكَيْفَ

يَعْلَمُونَهَا وَمَا أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ؟ وَلَمَّا نَفُوا الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَثْبَتُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ أَوْصَافِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ أَرْدَفُوا الْوَصْفَ بِالْعِلْمِ، الْوَصْفَ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَمَّا صَدَرَ مِنْ هَذَا الْمَجْعُولِ خَلِيفَةً، مَا صَدَرَ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ تَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْجَوَابِ كَيْفَ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ تَنْزِيهَ اللَّهِ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِالْجَهْلِ، ثُمَّ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ، وَنَاسِبَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ، أَنْبِئُونِي، لَا عِلْمَ لَنا. فَالَّذِي ظَهَرَتْ بِهِ الْمَزِيَّةُ لآدم والفضيلة هو العلم، فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ مُتَّصِلًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا هِيَ آثار العلم وَنَاشِئَةٌ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ. وَلِأَنْ يَكُونَ آخِرُ مَقَالِهِمْ مُخَالِفًا لِأَوَّلِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ رُجُوعَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ ذُو الْحِكْمَةِ، يَكُونُ الْحَكِيمُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْمُحْكِمُ لِصَنْعَتِهِ يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ. وَأَنْتَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ مُبْتَدَأً فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْعَلِيمُ خَبَرُهُ، أَوْ فَضْلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. فَعِنْدَ الْفَرَّاءِ مَوْضِعُهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ قَبْلَهُ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ بَعْدَهُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْعَلِيمُ بِمَا أَمَرْتَ وَنَهَيْتَ، الْحَكِيمُ فِيمَا قَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ. وَقَالَ آخر: العلم بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْحَكِيمُ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: نَادَى آدَمَ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَنْبِيَائِهِ، قَالَ تعالى: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا «1» ، يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «2» ، يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «3» ، يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «4» ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «5» ، وَنَادَى مُحَمَّدًا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْبَاءِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ «6» يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ «7» . فَانْظُرْ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ هَذَا النداء

_ (1) سورة هود: 11/ 48. (2) سورة هود: 11/ 46. (3) سورة الصافات: 37/ 104- 105. (4) سورة القصص: 28/ 30. (5) سورة المائدة: 5/ 110. (6) سورة المائدة: 5/ 41. (7) سورة الأنفال: 8/ 64 و 65 و 67.

وَذَاكَ النِّدَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْبِئْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَفِي بِأَسْمَائِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَعْرُوضِينَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ آثَارِ الْعِنَايَةِ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: أَنْبِئُونِي، دَاخَلَهُمْ مِنْ هَيْبَةِ الْخِطَابِ مَا أَخَذَهُمْ عَنْهُمْ، لَا سِيَّمَا حِينَ طَالَبَهُمْ بِإِنْبَائِهِمْ إِيَّاهُ مَا لَمْ تَحِطْ بِهِمْ عُلُومُهُمْ. وَلِمَا كَانَ حَدِيثُ آدَمَ رَدَّهُ فِي الْإِنْبَاءِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، وَمُخَاطَبَةُ آدَمَ لِلْمَلَائِكَةِ لَمْ تُوجِبْ الِاسْتِغْرَاقَ فِي الْهَيْبَةِ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَسْمَاءِ مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُهُمْ، ظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ، يَعْنِي مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ الْخَلْقِ وأسلم مَا تَبْدُونَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَكْتُمُونَ مِنَ اعْتِقَادِ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيِّ. وَالْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى، فَالْأَصَحُّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا يُؤْتَى فِيهَا بِحَرْفِ تَرَتُّبٍ، اكْتِفَاءً بِالتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها، أَتَى بَعْدَهُ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ، وَنَحْوَ: قالُوا سُبْحانَكَ، قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ، وَنَحْوَ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ «1» ، قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ «2» ، قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ «3» ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ «4» . وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ مَوْضِعًا فِي قِصَّةِ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمُحَاوَرَتِهِ مَعَهُ، وَمُحَاوَرَةِ السَّحَرَةِ، إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ، دُونَ ثَلَاثَةٍ، جَاءَ مِنْهَا اثْنَانِ جَوَابًا وَوَاحِدٌ كَالْجَوَابِ، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَضَمَّ الْهَاءَ، وَهَذَا الْأَصْلُ كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَكَسَرِ الْهَاءَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الْهَاءِ لِحَرَكَةِ الْبَاءِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِالْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ، فَهِيَ حَاجِزٌ غَيْرُ حصين. وقرىء: أنبيهم، بإبدال الهمزة ياء وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَوَّاسِ: أَنْبِهِمْ، عَلَى وَزْنِ أَعْطِهِمْ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا عَلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، عَلَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَنْبَيْتُ، كَأَعْطَيْتُ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ لَا تَخْفِيفٌ. وَالْبَدَلُ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. حَكَى الْأَخْفَشُ فِي الْأَوْسَطِ: أَنَّ الْعَرَبَ تَحَوِّلُ مِنَ الْهَمْزَةِ مَوْضِعَ اللَّامِ يَاءٌ، فيقولون:

_ (1) سورة المائدة: 5/ 27. (2) سورة البقرة: 2/ 259. (3) سورة البقرة: 2/ 259. (4) سورة البقرة: 2/ 260.

قُرَيْتُ، وَأُخْطَيْتُ، وَتَوَضَّيْتُ، قَالَ: وَرُبَّمَا حَوَّلُوهُ إِلَى الْوَاوِ، وَهُوَ قَلِيلٌ، نَحْوَ: رَفَوْتُ، وَالْجَيِّدُ: رَفَأْتُ، وَلَمْ أَسْمَعْ: رَفَيْتُ. انْتَهَى كَلَامُ الْأَخْفَشِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبَئَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ حُذِفَتْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ آدَمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا لَمْ يُعْلِمْهُمْ مِنْ حَالِهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَبْلَ النَّفْخِ مُصَوَّرًا، فَلَمْ يَعْلَمُوا مَا هُوَ، وَعَلَى أَنَّهُ رَفَعَ دَرَجَةَ آدَمَ عِنْدَهُمْ، لِكَوْنِهِ قَدْ عَلَّمَ لِآدَمَ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُمْ، وَعَلَى إِقَامَتِهِ مَقَامَ الْمُفِيدِ الْمُعَلَّمِ، وَإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَسْمَاءَ الَّذِينَ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَدَبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْأَدَبِ مِنْ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها، فَإِنَّ الطَّوَاعِيَةَ الْمَحْضَةَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحِكْمَةِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَصْلَحَتِهِ وَمَفْسَدَتِهِ كَهُمْ مَعَ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ. وَكَانَ الِامْتِثَالُ وَالتَّسْلِيمُ، بِغَيْرِ تَعَجُّبٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ، أَلْيَقَ بِمَقَامِهِمْ لِطَهَارَةِ ذَوَاتِهِمْ وَكَمَالِ صِفَاتِهِمْ. وَفِي كِتَابِ بَعْضِ مَنْ عَاصَرْنَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عِلْمِهِ بِالْأَسْمَاءِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى حَوَّاءَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَبْعُوثًا إِلَى مَنْ تُوَجِّهُ التَّحَدِّيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا رُسُلًا، فَقَدْ يَجُوزُ الْإِرْسَالُ إِلَى الرَّسُولِ، كَبَعْثِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجُّوا بِكَوْنِهِ نَاقِضًا لِلْعَادَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُصُولُ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ وَعَدَمُ حُصُولِهِ لِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْعَادَةِ. وَأَيْضًا، فَالْمَلَائِكَةُ أَمَّا أَنْ عَلِمُوا وَضْعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ للمسميات فلا مزية أو لا، فَكَيْفَ عَلِمُوا إِصَابَتَهُ فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ لُغَةً، ثُمَّ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إِصَابَتَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ بِأُسَرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِأَسْرِهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُمُ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَلِمَ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ؟ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: صُدُورُ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ بَعْدُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّبِيِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَبْعُوثًا لَكَانَ إِلَى أَحَدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّبْلِيغُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمَلَائِكَةَ، لِأَنَّهُمْ أَفْضَلَ، وَلَا حَوَّاءَ، لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِلَا وَاسِطَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا، وَلَا الْجِنَّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي السَّمَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِبَاءَ كَانَ بَعْدَ الزَّلَّةِ، وَالنَّبِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَبًى وَقْتَ كَوْنِهِ نَبِيًّا.

قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ جَوَابُ فَلَمَّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي لَمَّا المقتضية للجواب، أهي حَرْفٌ أَمْ ظَرْفٌ؟ وَرَجَّحْنَا الْأَوَّلَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ سيبويه. وألم: أَقُلْ تَقْرِيرٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ كَانَ الْكَلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تَقْرِيرًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» ؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «2» ؟ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «3» ؟ وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةٍ إِثْبَاتِيَّةٍ نَحْوَ: وَوَضَعْنَا، وَلَبِثْتَ، وَلَكُمْ فِيهِ، تَنْبِيهُهُمْ بِالْخِطَابِ وَهَزُّهُمْ لِسَمَاعِ الْمَقُولِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً «4» نَبَّهَهُ فِي الثَّانِيَةِ بِالْخِطَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّامَ فِي نَحْوِ: قُلْتُ لَكَ، أَوْ لِزَيْدٍ، لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيهَا. إِنِّي أَعْلَمُ: يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُتَحَرِّكِ مَا قَبْلُهَا، إِذَا لَقِيَتْ هَمْزَةَ الْقَطْعِ الْمَفْتُوحَةَ، جَازَ فِيهَا وَجْهَانِ: التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ، وقرىء بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ. وَسَكَّنُوا فِي السَّبْعَةِ إِجْمَاعًا: تَفْتِنِّي أَلَا، أَرِنِي أَنْظُرْ «5» ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ «6» وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ «7» ، وَلَا يَظْهَرُ بِشَيْءٍ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ عِلَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الرِّوَايَةِ. وَالْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ منصوبا أو مجرورا جار هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ هُنَاكَ فَلَا نُعِيدُهُ هُنَا. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَعْلَمُ اسْمًا بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ فِي الْعِلْمِ، فَتَكُونُ مَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا قُدِّرَ الْأَوَّلُ اسما، فلا بد بعده مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ يَنْصِبُ غَيْبَ، تَقْدِيرُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ كُلٍّ أَعْلَمُ غَيْبَ، وَكَوْنُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِعْلًا مُضَارِعًا أَخْصَرُ وَأَبْلَغُ. انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ وَهْمٌ. وَالَّذِي ذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ، يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ مَا بِأَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَالِمٍ، أَوْ يَكُونُ مَا جَرًّا بِالْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ التَّنْوِينُ فِي أَعْلَمُ إِذَا قَدَّرْتَهُ بِمَعْنَى عَالِمٍ وَتَنْصِبُ مَا بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى حَوَاجِ بَيْتِ اللَّهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى أَنْ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزِ الْجَرُّ فِي مَا وَالنَّصْبُ، وَتَكُونُ أَفْعَلُ اسْمًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا أَفْعَلَ تفضيل، ولا

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 172. (2) سورة الشرح: 94/ 1. [.....] (3) سورة الشعراء: 26/ 18. (4) سورة الكهف: 18/ 75. (5) سورة الأعراف: 7/ 141. (6) سورة مريم: 19/ 43. (7) سورة هود: 11/ 47.

يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا نقله ابن عطية عن الَمَهْدَوِيِّ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمُ أَفْعَلَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَخَفْضُ مَا بِالْإِضَافَةِ أَلْبَتَّةَ. غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْغَيْبِ هُنَا، فَقِيلَ: غَيْبُ السموات: أَكْلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ فِي السَّمَاءِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ: قَتَلُ قَابِيلَ هَابِيلَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: غَيْبُ السموات مَا قَضَاهُ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا فَعَلُوهُ فِيهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وقيل: غيب السموات مَا غَابَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ أَسْرَارِ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا أَخْفَاهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ مِنْ أَسْرَارِ مَلَكُوتِهِ الْأَدْنَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ الأولى. وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: مَا تُبْدُونَ: الضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ: يَعْنِي إِبْلِيسَ. فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْجَمْعِ، وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ نَحْوَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ «1» . وَرُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَرَّ عَلَى جَسَدِ آدَمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَالَ: لِأَمْرٍ مَا خُلِقَ هَذَا، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ لِأَنَّهُ أَجْوَفُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ فُضِّلَ هَذَا عَلَيْكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِطَاعَتِهِ مَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: نُطِيعُ اللَّهَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ، وَلَئِنْ سُلِّطَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّهَ ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ الْآيَةَ، يَعْنِي: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ وَكَتْمِ إِبْلِيسَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَمَا كَتَمُوهُ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا، وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وما كتموه أَضْمَرُوهُ مِنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْعَجْزِ، وَمَا كَتَمُوهُ الْكَرَاهِيَةُ لِاسْتِخْلَافِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِيمَا أَبْدَوْهُ وَمَا كَتَمُوهُ مِنْ كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَأَبْرَزَ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ جُمْلَةً مَقْصُودَةً بِالْعَامِلِ، فَلَا يَكُونُ مَعْمُولُهَا مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ، إِذْ جُعِلَ مُفْرَدًا بِعَامِلٍ غَيْرِ الْعَامِلِ، وَعَطْفُ قَوْلِهِ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فِي الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، جَهْرًا كَانَ أَوْ سِرًّا، وَوَصْلُ مَا بَكُنْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَتْمَ وَقَعَ فيما

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 4.

[سورة البقرة (2) : آية 34]

مَضَى، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَتَمُوا عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَأَعْلَمُ، فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ هَجَسَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ لَمْ يُظْهِرْهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ إِبْلِيسَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْسِهِ: ما حكيناه قبل عَنْهُ، فَكَتَمَ ذَلِكَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ آخِرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ الطِّبَاقَ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قوله: [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) السُّجُودُ: التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ الْمَيْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَجَدَ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ، وَأَسْجَدَ: مَيَّلَ رَأَسَهُ وَانْحَنَى، وَقَالَ الشاعر: ترى ألا كم فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ يُرِيدُ أَنَّ الْحَوَافِرَ تَطَأُ الْأُكْمَ، فَجَعَلَ تَأَثُّرَ الْأُكْمِ لِلْحَوَافِرِ سُجُودًا مَجَازًا، وَقَالَ آخَرُ: كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تُحَنَّفِ وَقَالَ آخَرُ: سُجُودُ النَّصَارَى لِأَحْبَارِهَا يُرِيدُ الِانْحِنَاءَ. إِبْلِيسُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَوَزْنُهُ فِعْلِيلُ، وَأَبْعَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْلَاسِ، وَهُوَ الْإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَوَزْنُهُ عَلَى هَذَا، إِفْعِيلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ أَنَّ الِاشْتِقَاقَ الْعَرَبِيَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَاعْتَذَرَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِقَاقِ فِيهِ عَنْ مَنْعِ الصَّرْفِ بِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الأسماء، وردّنا: غريض، وَإِزْمِيلٍ، وَإِخْرِيطٍ، وَإِجْفِيلٍ، وَإِعْلِيطٍ، وَإِصْلِيتٍ، وَإِحْلِيلٍ، وَإِكْلِيلٍ، وَإِحْرِيضٍ. وَقَدْ قِيلَ: شُبِّهَ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَشِبْهِ الْعُجْمَةِ، وَشِبْهُ الْعُجْمَةِ هُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنَ الْإِبْلَاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَصَارَ خَاصًّا بِمَنْ أَطْلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ دَلِيلٌ فِي لِسَانِهِمْ، وَهُوَ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ. وَقَدْ رُوِيَ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِبْلَاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، وَمَا إِخَالُهُ يَصِحُّ. الْإِبَاءُ: الِامْتِنَاعُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَمَّا أَنْ تَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا ... فَشَرُّ مُوَاطِنِ الْحَسَبِ الْإِبَاءُ

وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَبَى يَأْبَى، وَلَمَّا جَاءَ مُضَارِعُهُ عَلَى يَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَلَيْسَ بقياس أحرى، كَأَنَّهُ مُضَارِعُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَقَالُوا فِيهِ: يِئْبِي بِكَسْرِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهِ أَبِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ يَأْبِي عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قِيَاسًا، وَوَافَقَ مَنْ قَالَ أَبَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَدْ زَعَمَ أَبُو الْقَاسِمِ السعدي أن أبي يأتي بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَكَى أَبِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. وَقَدْ جَاءَ يَفْعَلُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِعْلًا وَمَاضِيهَا فَعَلَ، وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ وَلَا لَامُهُ حَرْفَ حَلْقٍ. وَفِي بَعْضِهَا سُمِعَ أَيْضًا فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفِي بَعْضِ مُضَارِعِهَا سُمِعَ أَيْضًا يَفْعِلُ وَيَفْعُلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، ذَكَرَهَا التَّصْرِيفِيُّونَ. الِاسْتِكْبَارُ وَالتَّكَبُّرُ: وَهُوَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى تَفَعَّلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الاثنى عشر التي جاءت لَهَا اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي شَرْحِ نَسْتَعِينُ. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ لَمْ يُؤْثَرْ فِيهَا سَبَبُ نُزُولٍ سَمْعِيٌّ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَّفَ آدَمَ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمًا لِلْمَلَائِكَةِ وَهُمْ مُسْتَفِيدُونَ مِنْهُ مَعَ قَوْلِهِمُ السَّابِقِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُكَرِّمَ هَذَا الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ بِأَنْ يُسْجِدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ مَزِيَّةَ الْعِلْمِ عَلَى مَزِيَّةِ الْعِبَادَةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قِصَّةُ إِبْلِيسَ تَقْرِيعٌ لِمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَمَعَ قِدَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ. وَإِذْ: ظَرْفٌ كَمَا سَبَقَ فَقِيلَ بِزِيَادَتِهَا. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا فِعْلٌ مضمر يشيرون إلى ادكر. وَقِيلَ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، يَعْنِي قَوْلَهُ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ، وَيُضَعَّفُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ، وَالثَّانِي أَنَّهَا لَازِمٌ ظَرْفِيَّتُهَا، وَالثَّالِثُ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الْعَامِلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي إِذِ الْأُولَى فِي إِذْ هَذِهِ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا أَبَى، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إذ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَسَجَدُوا، تَقْدِيرُهُ: انْقَادُوا وَأَطَاعُوا، لِأَنَّ السُّجُودَ كَانَ نَاشِئًا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ. وَفِي قَوْلِهِ: قُلْنا الْتِفَاتٌ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، إِذْ كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِصُورَةِ الْغَائِبِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وأتى بنا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وعلوّ القدر وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ، لِتَعَدُّدِ صِفَاتِهِ الْحَمِيدَةِ وَمَوَاهِبِهِ الْجَزِيلَةِ. وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ وَكَوْنُهُ بِنُونِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ الْأَمْرُ لِلْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الِامْتِثَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَدْعَى لِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ وَلَا تَأَوُّلٍ لِشَغْلِ خَاطِرِهِ بِوُرُودِ مَا صَدَرَ

مِنَ الْمُعَظَّمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ لِهَذَا، منها: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «1» ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا «2» ، قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً «3» ، وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ «4» ، وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ «5» ، وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا «6» . فَأَنْتَ تَرَى هَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا النَّهْيَ كَيْفَ تَقَدَّمَهُمَا الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، لِأَنَّ الْآمِرَ اقْتَضَى الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَظَهَرَ لِلْمَأْمُورِ بِصِفَةِ الْعَظَمَةِ، وَلَا أَعْظَمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَأْمُورُونَ بِالسُّجُودِ، قَالَ السُّدِّيُّ: عَامَّةُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْمَلَائِكَةِ بِجَرِّ التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ: بِضَمِّ التَّاءِ، إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْجِيمِ وَنُقِلَ أنها لغة أزدشنوءة. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: لِأَنَّ كَسْرَةَ التَّاءِ كَسْرَةُ إِعْرَابٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ سَاكِنًا صَحِيحًا نَحْوَ: وَقالَتِ اخْرُجْ «7» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لاستهلاك الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ إِلَّا فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ كَقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ نقل أنها لغة أزدشنوءة، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَطَّأَ الْقَارِئُ بِهَا وَلَا يُغَلَّطَ، وَالْقَارِئُ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَرْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ شَيْخُ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ عَلَّلَ ضَمَّ التَّاءِ لِشِبْهِهَا بِأَلِفِ الْوَصْلِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْهَمْزَةَ تَسْقُطُ فِي الدَّرَجِ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ، وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ تَسْقُطُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ. أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكُ؟ وَقِيلَ: ضُمَّتْ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكْرَهُ الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ لِثِقَلِهَا. اسْجُدُوا: أَمْرٌ، وَتَقْتَضِي هَذِهِ الصِّيغَةُ طَلَبَ إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُطْلَقِ اسْتِقْبَالُهُ، وَلَا تُدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُتَّبِعِيهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الفقه، وهذ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا تَدُلُّ قَرِينَةٌ عَلَى فَوْرٍ أَوْ تَأْخِيرٍ. وَأَمَّا هُنَا فَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى تَعْقِيبِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، فَتَكُونُ الملائكة قد

_ (1) سورة البقرة: 2/ 35. (2) سورة البقرة: 2/ 36. (3) سورة الأنبياء: 21/ 69. (4) سورة الإسراء: 17/ 104. (5) سورة النساء: 4/ 150. (6) سورة النساء: 4/ 154. (7) سورة يوسف: 12/ 31.

فَهِمُوا الْفَوْرَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ، فَلِذَلِكَ بَادَرُوا بِالْفِعْلِ وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا. وَالسُّجُودُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَفْعُولُ إِيمَاءٌ وَخُضُوعٌ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ التَّذَلُّلِ، أَوْ إِقْرَارُهُمْ لَهُ بِالْفَضْلِ وَاعْتِرَافُهُمْ لَهُ بِالْمَزِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى السُّجُودِ اللُّغَوِيِّ، قَالَ: فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ لَكَ بِالْفَضْلِ فَقَدْ خَضَعَ لَكَ. لِآدَمَ: مَنْ قَالَ بِالسُّجُودِ الشَّرْعِيِّ قَالَ: كَانَ السُّجُودُ تَكْرِمَةً وَتَحِيَّةً لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، كَسُجُودِ أَبَوَيْ يُوسُفَ، لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَنَصَبَهُ اللَّهُ قِبْلَةً لِسُجُودِهِمْ كَالْكَعْبَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِلَى آدَمَ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَجَدَ وَسَجَدُوا مُؤْتَمِّينَ بِهِ، وَشَرَّفَهُ بِأَنْ جَعَلَهُ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ. وَالْمَعْنَى فِي: لِآدَمَ أَيْ مَعَ آدَمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، فَالسُّجُودُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالسُّجُودِ لَهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَالْقُرْآنُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: وَالْإِجْمَاعُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُوَ بِالْجَبْهَةِ لِقَوْلِهِ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» . وَقِيلَ: لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَاثِيَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاقِعٌ، وَأَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِمَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: السُّجُودُ لِلَّهِ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ، وَلِلْبَشَرِ بِالِانْحِنَاءِ، انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْبَشَرِ غَيْرَ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ السُّجُودَ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا هُوَ التَّحِيَّةُ، وَنُسِخَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: كَانَ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ جَائِزًا إِلَى زَمَنِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَمْ يُنْسَخْ إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثٍ عَرَضَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ، وَأَنَّ مُعَاذًا سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: لَمَّا اسْتَعْظَمُوا تَسْبِيحَهُمْ وَتَقْدِيسَهُمْ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ لِيُرِيَهُمْ بِذَلِكَ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْهُمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ. فَسَجَدُوا، ثَمَّ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَجَدُوا لَهُ، أَيْ لِآدَمَ. دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَاللَّامُ فِي لِآدَمَ لِلتَّبْيِينِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي السَّبْعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ شَرْحِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. إِلَّا إِبْلِيسَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَسَجَدُوا، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَتَرَجَّحُ النَّصْبُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وابن المسيب وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَالطَّبَرِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَلَكًا ثُمَّ أُبْلِسَ وَغُضِبَ عَلَيْهِ وَلُعِنَ فَصَارَ شَيْطَانًا. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنِ

_ (1) سورة الحجر: 15/ 29. [.....]

ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: عَزَّازِيلُ، وَقِيلَ: الحرث. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَأَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ مَلَكًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَقَاتَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَسَبَوْهُ صَغِيرًا وَتَعَبَّدَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَخُوطِبَ مَعَهُمْ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1» فَعَمَّ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْكُفْرُ وَلَا الْفِسْقُ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَبِقَوْلِهِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «2» ، وَبِقَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ «3» وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَلَوْ لم يكن منهم لَمَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ ذَمٌّ لِتَرْكِهِ فِعْلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَأَمَّا جَاعِلِ الملائكة رسلا، ولا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، فَهُوَ عَامٌ مَخْصُوصٌ، إِذْ عِصْمَتُهُمْ لَيْسَتْ لِذَاتِهِمْ، إِنَّمَا هِيَ بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَسَلَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى الصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةَ وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ الصِّفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنَّةُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: سَبْطٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ، وَإِبْلِيسُ مِنْهُمْ، أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِنِّ لِأَنَّهُ لَا يُرَى، كَمَا سَمَّى الْمَلَائِكَةَ جِنَّةً، أَوْ لِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَمَّى جِنًّا. قَالَ الْأَعْشَى فِي ذِكْرِ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ أَبى: امْتَنَعَ وَأَنِفَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ. وَاسْتَكْبَرَ: تَكَبَّرَ وَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ وَقَدَّمَ الْإِبَاءَ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِكْبَارُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ التَّعَاظُمُ، وَيَنْشَأُ عَنْهُ الْإِبَاءُ مِنَ السُّجُودِ اعْتِبَارًا بِمَا ظَهَرَ عَنْهُ أَوَّلًا، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ السُّجُودِ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ، فَلَمَّا اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ كَانَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَرَكَ السُّجُودَ، أَوْ بِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَالَفَ حَالُهُ حَالَ الْمَلَائِكَةِ. فَنَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلًا بِتَأْكِيدِ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ بِإِنْشَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالَّذِي يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِبَاءُ مِنَ السُّجُودِ. وَالْخِلَافُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَمَذْهَبُ

_ (1) سورة فاطر: 35/ 1. (2) سورة التحريم: 66/ 6. (3) سورة الكهف: 18/ 50.

الْكِسَائِيُّ أَنَّ التَّخْرِيجَ مِنَ الِاسْمِ، وَأَنَّ زَيْدًا غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَائِمٍ. وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا، وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ مُسْتَثْنًى مِنَ الِاسْمِ وَأَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْفِعْلِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَمَفْعُولُ أَبَى مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ معاقله وَالتَّقْدِيرُ: أَبَى السُّجُودَ، وَأَبَى مِنَ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا النَّفْيُ، وَلِهَذَا يُفَرَّغُ مَا بَعْدَ إِلَّا كَمَا يُفَرَّغُ لِفِعْلِ الْمَنْفِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ «1» ، وَلَا يَجُوزُ: ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا لِأَنَّ إِلَّا لَا تَدْخُلُ فِي الْوَاجِبِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَبَى اللَّهُ إِلَّا عَدْلَهُ وَوَفَاءَهُ ... فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعُرْفُ ضَائِعُ وَأَبَى زَيْدٌ الظُّلْمَ: أَبْلَغُ مِنْ لَمْ يَظْلِمْ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّخْصِ قَدْ يَكُونُ لِعَجْزٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: أَبَى زَيْدٌ كَذَا، دَلَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِامْتِنَاعِ وَالْأَنَفَةِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبى، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ إِبْلِيسَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَخَلُّفُهُ عَنِ السُّجُودِ لِأَمْرٍ غَيْرِ الْإِبَاءِ، فَنَصَّ عَلَى سَبَبِ كَوْنِهِ لَمْ يَسْجُدْ وَهُوَ الْإِبَاءُ وَالْأَنَفَةُ. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قِيلَ: كَانَ بِمَعْنَى صَارَ، وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا أَيْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ قَبْلَ كُفْرِهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مِنَ الْعَاصِينَ، وَصِلَةُ أَلْ هُنَا ظَاهِرُهَا الْمَاضِي، فَيَكُونُ قَدْ سَبَقَ إِبْلِيسَ كُفَّارٌ، وَهُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ يَكُونُ إِبْلِيسُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ مُطْلَقًا، إِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ كُفَّارٌ قَبْلَهُ، وَإِنْ صَحَّ، فَيُفِيدُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، أَوْ يُرَادُ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ التَّغْطِيَةُ لِلْحَقِّ، وَكَفَرَ إِبْلِيسُ قِيلَ: جَهِلَ سَلَبَهُ اللَّهُ مَا كَانَ وَهَبَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَخَالَفَ الْأَمْرَ وَنَزَعَ يَدَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: كُفْرُ عِنَادٍ وَلَمْ يُسْلَبِ الْعِلْمَ بَلْ كَانَ الْكِبْرُ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكُفْرُ عِنَادًا مَعَ بَقَاءِ الْعِلْمِ مُسْتَبْعَدٌ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدِي جَائِزٌ لَا يَسْتَحِيلُ مَعَ خَذْلِ اللَّهِ لِمَنْ شَاءَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَوَازُهُ وَاقِعٌ بِالْفِعْلِ. هَذَا فِرْعَوْنُ كَانَ عَالِمًا بوحدانية الله وربوبيته

_ (1) سورة التوبة: 9/ 32.

[سورة البقرة (2) : آية 35]

دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ حَمَلَهُ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَالْإِعْجَابُ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْمُلْكِ، فَادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ مَعَ عِلْمِهِ. وَأَبُو جَهْلٍ، كَانَ يَتَحَقَّقُ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ، وَأَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ. وَكَذَلِكَ الْأَخْنَسُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَفَرَ عِنَادًا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِ الرُّسُلِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْكُفَّارَ إِلَى كَافِرٍ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، كَالدَّهْرِيَّةِ وَالْمُنْكِرِينَ رِسَالَةَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكَافِرٌ بِقَلْبِهِ مُؤْمِنٌ بِلِسَانِهِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ كَافِرٌ بِلِسَانِهِ، كَفِرْعَوْنَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَلَا يُنْكَرُ الْكُفْرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُنَافِقٌ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَإِنَّمَا كَفَرَ لِاسْتِكْبَارِهِ وَاعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ التَّمَرُّدِ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ «1» . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ مُدَّةً فِي دَلَالِ طَاعَتِهِ يَخْتَالُ فِي مُرَادِ مُوَافَقَتِهِ، سَلَّمُوا لَهُ رُتْبَةَ التَّقَدُّمِ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ اسْتِحْقَاقَ التَّخَصُّصِ، فَصَارَ أَمْرُهُ كَمَا قِيلَ: وَكَانَ سِرَاجَ الْوَصْلِ أَزْهَرَ بَيْنَنَا ... فَهَبَّتْ بِهِ رِيحٌ مِنَ الْبَيْنِ فَانْطَفَا سُئِلَ أَبُو الْفُتُوحِ أَحْمَدُ، أَخُو أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَالَ: لَمْ يَدْرِ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ أَنَّ أَظَافِيرَ الْقَضَاءِ إِذَا حَكَّتْ أَدْمَتْ وَقِسِيَّ الْقَدَرِ إِذَا رَمَتْ أَصَمَّتْ، ثُمَّ أَنْشَدَ: وَكُنَّا وَلَيْلَى فِي صُعُودٍ مِنَ الْهَوَى ... فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ [سورة البقرة (2) : آية 35] وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) اسْكُنْ، أَقِمْ، وَمَصْدَرُهُ السُّكْنَى كَالرُّجْعَى، وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى السُّكُونِ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَرَكَةِ. وَكَانَ السَّاكِنُ فِي الْمَكَانِ لِلُبْثِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمَاكِنِ. رَغَدًا: أَيْ وَاسِعًا كثير الاعناء فِيهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمًا ... يَأْمَنُ الْأَحْدَاثَ فِي عَيْشٍ رَغَدْ وَتَمِيمٌ تُسَكِّنُ الْغَيْنَ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ ثُلَاثِيٍّ حَلْقِيِّ الْعَيْنِ صَحِيحِ اللَّامِ يَجُوزُ فِيهِ تَحْرِيكُ عَيْنِهِ وَتَسْكِينُهَا، مِثْلَ: بَحْرٍ وَبَحَرٍ، وَنَهْرٍ وَنَهَرٍ، فَأُطْلِقَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَا وُضِعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّسْكِينُ نَحْوَ: السحر

_ (1) سورة ص: 38/ 76.

لَا يُقَالُ فِيهِ السَّحْرُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي فَعْلٍ الْمَفْتُوحِ الْفَاءِ السَّاكِنِ الْعَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ. ذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ فَتْحَ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا وُضِعَ عَلَى لُغَتَيْنِ، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَصْلٌ لِلْآخَرِ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُ ذُو لُغَتَيْنِ، وَبَعْضَهُ أَصْلُهُ التَّسْكِينُ ثُمَّ فُتِحَ. وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو الْفَتْحِ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ، وَالِاسْتِدْلَالُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. حَيْثُ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ لَازِمُ الظَّرْفِيَّةِ، وَجَاءَ جَرُّهُ بِمِنْ كَثِيرًا وَبِفِي، وَإِضَافَةُ لَدَى إِلَيْهِ قَلِيلًا، وَلِإِضَافَتِهَا لَا يَنْعَقِدُ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا كَلَامٌ، وَلَا يَكُونُ ظَرْفَ زَمَانٍ خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ، وَلَا تَرْفَعُ اسْمَيْنِ نَائِبَةً عَنْ ظَرْفَيْنِ، نَحْوَ: زِيدٌ حَيْثُ عُمَرَ، وَخِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَا يُجْزَمُ بِهَا دُونَ مَا خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَلَا تُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ حَكَمْنَا بِشُذُوذِهِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ وَتُعْتَقَبُ عَلَى آخِرِهَا الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ، وَيَجُوزُ: حَوْثَ، بِالْوَاوِ وبالحركات الثلاثة. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ إِعْرَابَهَا لُغَةُ بَنِي فَقْعَسٍ. الْقُرْبَانُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الدُّنُوُّ مِنَ الشَّيْءِ. هَذِهِ: تُكْسَرُ الْهَاءُ بِاخْتِلَاسٍ وَإِشْبَاعٍ، وَتُسَكَّنُ، وَيُقَالُ: هَذِي بِالْيَاءِ، وَالْهَاءِ فِيمَا ذكروا بدل مِنْهَا، وَقَالُوا: ذِ بِكَسْرِ الذَّالِ بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَا هَاءٍ، وَهِيَ تَأْنِيثُ ذَا، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا التَّاءَ لِتَأْنِيثِ ذَا فَقَالُوا ذَاتِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْكَسْرِ. الشَّجَرَةَ: بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْجِيمِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ تَكْسِرُ الشِّينَ، وَإِبْدَالُ الْجِيمِ يَاءً مَعَ كَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا مَنْقُولٌ، وَخَالَفَ أَبُو الْفَتْحِ فِي كَوْنِ الْيَاءِ بَدَلًا، وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَأْلِيفِنَا (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . وَالشَّجَرُ: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ، وَالنَّجْمُ: مَا نَجَمَ وَانْبَسَطَ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ سَاقٌ. الظُّلْمُ: أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ، وَعَلَى الْجَحْدِ، وَعَلَى النَّقْصِ. وَالْمَظْلُومَةُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُمْطَرْ، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إلى النقص. وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ الْآيَةَ: لَمْ يُؤْثَرْ فِيهَا سَبَبُ نُزُولٍ سَمْعِيٌّ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَرَّفَ آدَمَ بِرُتْبَةِ الْعِلْمِ وَبِإِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، امْتَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ أَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ. أَبَاحَ لَهُ جَمِيعَ مَا فِيهَا إِلَّا الشَّجَرَةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِيهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقُلْنَا: مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا: لَا عَلَى قُلْنَا وَحْدَهُ لِاخْتِلَافِ زَمَانَيْهِمَا، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ الْمُنَادَى وَمَا بَعْدَهُ، وَفَائِدَةُ النِّدَاءِ تَنْبِيهُ الْمَأْمُورِ له يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَتَحْرِيكُهُ لِمَا يُخَاطَبُ بِهِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لَهَا الْبَالُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ. قَالُوا: وَمَعْنَى الْأَمْرِ هُنَا إِبَاحَةُ السُّكْنَى وَالْإِذْنُ فِيهَا، مِثْلُ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «2» ، لأن الاستقرار

_ (1) سورة المائدة: 5/ 2. (2) سورة الجمعة: 62/ 10.

فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرُ وُجُوبٍ وَتَكْلِيفٍ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ، وَبِأَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَنَهَاهُ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّكْنَى وَمَا بَعْدَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ إِبَاحَةٌ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى مَا هُوَ تَكْلِيفٌ، وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا نُهِى عَنْهُ. وَأَنْتَ: تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَسْتَكِنُ فِيهَا الضَّمِيرُ وُجُوبًا. وَزَوْجُكَ: مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ، وَحَسَّنَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ تَأْكِيدُهُ بِأَنْتَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ دُونَ تَأْكِيدٍ أَوْ فَصْلٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ، أَوْ فَصْلٍ بِلَا بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ، وَمَا سوى ذلك ضرورة وشاذ. وَقَدْ رُوِيَ: قُمْ وَزَيْدٌ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْعَطْفَ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ وَلَا فَصْلٍ. وَتَظَافَرَتْ نُصُوصُ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُعْرِبِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ وَزَوْجُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، التَّقْدِيرُ: وَلْتُسْكِنْ زَوْجَكَ، وَحَذَفَ: وَلْتُسْكِنْ، لِدَلَالَةِ اسْكُنْ عَلَيْهِ، وَأَتَى بِنَظَائِرَ مِنْ هَذَا الْبَابِ نَحْوَ: لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَنَحْوَ: تَقُومُ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَنَحْوَ: ادْخُلُوا أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَقَوْلُهُ: نَطُوفُ مَا نَطُوفُ ثُمَّ يَأْوِي ... ذَوُو الْأَمْوَالِ مِنَّا وَالْعَدِيمُ إِذَا أَعْرَبْنَاهُ بَدَلًا لَا تَوْكِيدًا، هُوَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، فَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ، وَلَا تُخْلِفُهُ أَنْتَ، وَيَقُومُ زَيْدٌ، وَلْيَدْخُلْ أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَيَأْوِي ذَوُو الْأَمْوَالِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَطْفِ فِي كِتَابِهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا مَا يَقْبُحُ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ فَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ، وَذَلِكَ فَعَلْتُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأَفْعَلُ وَعَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيلَ الْخَلِيلِ لِقُبْحِهِ، ثم قال: فإن نَعْتُهُ حَسَنٌ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ، وَذَلِكَ قَوْلُكَ: ذَهَبْتَ أَنْتَ وَزَيْدٌ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «1» واسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، انْتَهَى. فَهَذَا نَصٌّ مِنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى جَوَازِ: تَقُومُ عَائِشَةٌ وَزَيْدٌ، وَلَا يُمْكِنُ لِزَيْدٍ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَامِلَ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَلِتَكْمِيلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا، وَتَوَجُّهُ الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى عَلَى زَوْجِ آدَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 24.

وَقْتِ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْأَسْمَاءَ وَأَنْبَأَهُمْ هُوَ إِيَّاهَا. نَامَ نَوْمَةً فَخُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَأَكْثَرُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا خُلِقَتْ بَعْدَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ. اسْتَوْحَشَ بَعْدَ لَعْنِ إِبْلِيسَ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ فَوَجَدَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ قَدْ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ، فَسَأَلَهَا: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: تَسْكُنُ إِلَيَّ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ، يَنْظُرُونَ مَبْلَغَ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ. قَالُوا: لَمْ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ زِيَادَاتٌ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا مَدْلُولُ الْآيَةِ وَلَا تَفْسِيرُهَا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ عَلَى الْمَعْدُومِ، لِأَنَّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مَوْجُودٌ، وَيَكُونُ آدَمُ قَدْ سَكَنَ الْجَنَّةَ لَمَّا خُلِقَتْ أُمِرَا مَعًا بِالسُّكْنَى، لِتَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ وتطمئن بالقرآن فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَحْكَامِ السُّكْنَى، وَالْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى، وَذُكِرَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَاخْتِلَافُهُمْ حِينَ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ. الْجَنَّةَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، قِيلَ: بِأَرْضِ عَدْنٍ. وَالْهُبُوطُ: الِانْتِقَالُ مِنْ بُقْعَةٍ إِلَى بُقْعَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً «1» ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَارَ الْخُلْدِ لَمَا لَحِقَهُ الْغُرُورُ مِنْ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ «2» ، وَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «3» ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ مَلْعُونٌ، فَلَا يَصِلُ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ، وَلِأَنَّ دَارَ الثَّوَابَ لَا يَفْنَى نَعِيمُهَا لِقَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ «4» ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم، وَلِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَلَوْ كَانَ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ لَكَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: كَانَتْ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ لِقَوْلِهِ: اهْبِطُوا، ثُمَّ الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ كَانَ مِنْ تِلْكَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ الْأُولَى، وَالْهُبُوطُ الثَّانِي كَانَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَتِ الْجُمْهُورُ: هِيَ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ دَارُ الثَّوَابِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْجَنَّةِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، لِأَنَّ سُكْنَى جَمِيعِ الْجِنَانِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ دَارُ الثَّوَابُ، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي مَحَاجَّةِ آدَمَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَشْقَيْتَ بَنِيكَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَلَمْ يُنَازِعْهُ آدَمُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: هِيَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 61. (2) سورة طه: 20/ 120. (3) سورة الحجر: 15/ 48. (4) سورة الرعد: 13/ 35.

السَّمَاءُ وَلَيْسَتْ دَارَ الثَّوَابِ، بَلْ هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ. وَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ جَنَّةٌ غَيْرُ دَارِ الثَّوَابِ وَغَيْرُ جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بُسْتَانٌ فِي السَّمَاءِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ فِي السَّمَاءِ بَسَاتِينَ غَيْرَ بَسَاتِينِ الْجَنَّةِ. وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي الْأَرْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «1» ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «2» ، وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «3» . وَقَدْ لَغَا إِبْلِيسُ فِيهَا وَكَذَبَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَارَ الْخُلْدِ لَمَا وَصَلَ إِلَيْهَا إِبْلِيسُ وَوَسْوَسَ لَهُمَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا، وَلِأَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ دَارُ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ وَلَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ. وَقَدْ تكلف آدَمُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ نَارِ السَّمُومِ. وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الْكُفَّارِ الَّذِينَ طُرِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتْ جنة الخلد لما دخلتها، وَلِأَنَّهَا مَحَلُّ تَطْهِيرٍ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْعِصْيَانُ وَالْمُخَالَفَةُ وَيَحِلَّ بِهَا غَيْرُ الْمُطَهَّرِينَ؟. وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَاتِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِهِمْ بَعْدَ دُخُولِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْخُلُودِ، لَا عَلَى دُخُولِهِمْ على سبيل المرور والجوار. فَقَدْ صَحَّ دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنَّةَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَفِي غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ رَآهَا فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ. وَأَمَّا دُخُولُ إِبْلِيسَ إِلَيْهَا فدخول تسليط تَكْرِيمٍ، وَذَلِكَ إِنْ صَحَّ قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ بَلْ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا وَكَلَّمَهُمَا، وَأَرَادَ الدُّخُولَ فَرَدَّتْهُ الْخَزَنَةُ، وَقِيلَ: دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ مُسْتَتِرًا. وَأَمَّا كَوْنُهَا لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ، فَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا لِلْإِقَامَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَالْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَمَّا الدُّخُولُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْخُرُوجُ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ بَلْ لَا يَكُونُ خَالِيًا مِنْهُ. وَكُلا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا بَعْدَ وُجُودِ حَوَّاءَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ لِلْمَعْدُومِ فِيهِ بُعْدٌ، إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، وَالْأَصْلُ فِي: كُلْ أُؤْكُلْ. الْهَمْزَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُجْتَلَبَةُ لِلْوَصْلِ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، فَحُذِفَتِ الثَّانِيَةُ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ حَذْفَ شُذُوذٍ، فَوَلِيَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ الْكَافَ، وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ، وَإِنَّمَا اجْتُلِبَتْ لِلسَّاكِنِ، فَلَمَّا زَالَ مُوجِبُ اجْتِلَابِهَا زَالَتْ هِيَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: وَحُذِفَتِ النُّونُ مِنْ كُلَا لِلْأَمْرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرٌ بَارِزٌ كَانَتْ حَرَكَةُ آخِرِهِ مُنَاسِبَةٌ لِلضَّمِيرِ، فَتَقُولُ: كُلِي، وَكُلَا، وَكُلُوا، وَفِي الْإِنَاثِ

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 25- 26. (2) سورة الطور: 52/ 23. [.....] (3) سورة الحجر: 15/ 48.

يَبْقَى سَاكِنًا نَحْوَ: كُلْنَ. وَلِلْمُعْتَلِّ حُكْمٌ غَيْرُ هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَقَوْلُهُ: وَكُلَا، لَمْ تَكُنْ فِيهِ نُونٌ فَتُحْذَفُ لِلْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ مُعْرَبٌ، وَأَنَّ أَصْلَ: كُلْ لِتَأْكُلَ، ثُمَّ عَرَضَ فِيهِ مِنَ الْحَذْفِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ صَارَ: كُلْ. فَأَصْلُ كُلَا: لِتَأْكُلَا، وَكَانَ قَبْلَ دُخُولِ لَامِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فِيهِ نُونٌ، إِذْ كَانَ أَصْلُهُ: تَأْكُلَانِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَتِمُّ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ النُّونَ مِنْ كُلَا حُذِفَتْ لِلْأَمْرِ. مِنْها: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَطَاعِمِهَا، مِنْ ثِمَارِهَا وَغَيْرِهَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ لَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ، إِذْ لَمْ يُحْظَرُ عَلَيْهِمَا أَكْلٌ مَا، إِذْ قَالَ: رَغَداً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْغَيْنِ. وقرأ إبراهيم النخعي وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِسُكُونِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَانْتِصَابُ رَغَدًا، قَالُوا: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوف تقديره أَكْلًا رَغَدًا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِي كِلَا الْإِعْرَابَيْنِ نَظَرٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ جَعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّغَدُ الْكَثِيرُ الَّذِي لا يعنيك، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْوَاسِعُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي لَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: السَّالِمُ مِنَ الْإِنْكَارِ الْهَنِيُّ، يُقَالُ: رَغِدَ عَيْشُ الْقَوْمِ، وَرَغُدَ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا، إِذَا كَانُوا فِي رِزْقٍ وَاسِعٍ كَثِيرٍ، وَأَرْغَدَ الْقَوْمُ: أَخْصَبُوا وَصَارُوا فِي رَغَدٍ مِنَ الْعَيْشِ. وَقَالُوا عِيشَةٌ رَغْدٌ بِالسُّكُونِ أَيْضًا. حَيْثُ شِئْتُما: أَبَاحَ لَهُمَا الْأَكْلَ حَيْثُ شَاءَا فَلَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا مَكَانًا مِنْ أَمَاكِنِ الْجَنَّةِ، كَمَا لَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا مَأْكُولًا إِلَّا مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ. وشاء فِي وَزْنِهِ خِلَافٌ، فَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ وَزْنَهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الشِّينِ فَسُكِّنَتْ، وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ لِلضَّمِيرِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ، فَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَكُسِرَتِ الشِّينُ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ يَاءٌ، كَمَا صُنِعَتْ فِي بِعْتُ. وَلا تَقْرَبا: نَهَاهُمَا عَنِ الْقُرْبَانِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنِ الْقُرْبَانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَكْلُ مِنْهَا؟ وَالْمَعْنَى: لَا تَقْرَبَاهَا بِالْأَكْلِ، لَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَقَعَتْ فِي الْأَكْلِ. وَحَكَى بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، يَعْنِي الماضي أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ يَقُولُ: إِذَا قُلْتَ: لَا تَقْرَبْ، بِفَتْحِ الراء معناه: لا تلبس بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ معنى: لا تقرب زيد: ألا تَدْنُ مِنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ التَّخْلِيطِ مَا يُتَعَجَّبُ مِنْ حَاكِيهَا، وَهُوَ

قَوْلُهُ: سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَبَيْنَ النَّضْرِ وَالشَّاشِيِّ مِنَ السِّنِينَ مِئُونٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ ثَمَّ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِمَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ فيمكن. وقرىء: وَلَا تِقْرَبَا بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ فِي فَعَلَ يَفْعَلُ، يَكْسِرُونَ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ التَّاءَ وَالْهَمْزَةَ وَالنُّونَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَكْسِرُ الْيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ: يوحل، وكاسر، وَفَاتِحٌ، مَعَ إِقْرَارِ الْوَاوِ وَقَلْبِهَا أَلِفًا. هذِهِ: إِشَارَةٌ لِلْحَاضِرِ الْقَرِيبِ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: هَذِيِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْهَاءِ. الشَّجَرَةَ: نَعْتٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُحْتَمَلُ الْإِشَارَةُ أَنْ تَكُونَ إِلَى جِنْسٍ مِنَ الشَّجَرِ مَعْلُومٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِلَى شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِنْسِ الْمَعْلُومِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لِشَخْصِ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وابن جُبَيْرٍ وَجَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ: هِيَ الْكَرْمُ، وَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: السُّنْبُلَةُ، وَكَانَ حَبُّهَا كَكُلَى الْبَقَرِ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَهْبٍ. وَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ جَعَلَهَا غِذَاءً لِبَنِيهِ. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَقَتَادَةُ: التِّينُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: شَجَرَةُ الْكَافُورِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: شَجَرَةُ الْعِلْمِ، عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا عَلِمَ الْخَيْرِ وَالشَّرَّ. وَقَالَ وَهْبٌ: شَجَرَةُ الْخُلْدِ، تَأْكُلُ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: شَجَرَةٌ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ: شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ. وقال أبو مالك: النخلة. وَقِيلَ: شَجَرَةُ الْمِحْنَةِ. وَقِيلَ: شَجَرَةٌ لَمْ يُعْلِمْنَا اللَّهُ مَا هِيَ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِعِرْفَانِهَا كَبِيرُ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ إِعْلَامُنَا أَنَّ فِعْلَ ما نهينا عنه سبب للعقوبة. وقرىء: الشِّجَرَةَ بِكَسْرِ الشِّينِ، حَكَاهَا هَارُونُ الْأَعْوَرُ عَنْ بَعْضِ القراء. وقرىء أَيْضًا الشِّيَرَةَ، بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا، وَكَرِهَ أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ: يَقْرَأُ بِهَا بَرَابِرُ مَكَّةَ وَسُودَانُهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْرَهَهَا، لِأَنَّهَا لُغَةٌ مَنْقُولَةٌ، فِيهَا قَالَ الرِّيَاشِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا زَيْدٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الْمُفَضَّلِ وَعِنْدَهُ أَعْرَابٌ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ شِيَرَةٌ، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ لَهُمْ يُصَغِّرُونَهَا، فَقَالُوا شُيَيْرَةٌ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ: نَحْسَبُهُ بَيْنَ الْأَنَامِ شِيَرَهْ وَفِي نَهْيِ اللَّهِ آدَمَ وَزَوْجَهُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهُمَا فِي الْجَنَّةِ لَا تَدُومُ، لِأَنَّ الْمُخَلَّدَ لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى وَلَا يُمْنَعُ مِنْ شَيْءٍ. فَتَكُونَا مَنْصُوبُ جَوَابِ النَّهْيِ، وَنَصْبُهُ عِنْدَ سيبويه والبصريين بأن مُضْمَرَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَعِنْدَ الْجَرْمِيِّ بِالْفَاءِ نَفْسِهَا، وَعِنْدَ

[سورة البقرة (2) : الآيات 36 إلى 39]

الْكُوفِيِّينَ بِالْخِلَافِ. وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ يُذْكَرُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ فَتَكُونَا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَقْرَبَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقُلْتُ لَهُ صَوِّبْ وَلَا تَجْهَدَنَّهُ ... فَيَذَرْكَ مِنْ أَعْلَى الْقَطَاةِ فَتَزْلَقِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِظُهُورِ السَّبَبِيَّةِ، وَالْعَطْفُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، مِنَ الظَّالِمِينَ: قِيلَ لِأَنْفُسِكُمَا بِإِخْرَاجِكُمَا مِنْ دَارِ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ، أَوْ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيتُمَا عَنْهَا، أَوْ بِالْفَضِيحَةِ بَيْنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، أَوْ بِمُتَابَعَةِ إِبْلِيسَ، أَوْ بِفِعْلِ الْكَبِيرَةِ، قَالَهُ الْحَشَوِيَّةُ، أَوْ بِفِعْلِ الصَّغِيرَةِ، قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ بِإِلْزَامِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّلَافِي، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، أَوْ بِحَطِّ بَعْضِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ، قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ، أَوْ بِتَرْكِ الْأَوْلَى، قَالَ قَوْمٌ: هُمَا أَوَّلُ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ قَبْلَهُمْ ظَالِمُونَ شُبِّهُوا بِهِمْ وَنُسِبُوا إِلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ لَا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، لِأَنَّ تَارِكَهُ لَا يُسَمَّى ظَالِمًا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ عَدَمُ السُّكُونِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمَا زَالَ آدَمُ وَحْدَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ وَبِكُلِّ عَافِيَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الشَّكْلُ وَالزَّوْجُ، ظَهَرَ إِتْيَانُ الْفِتْنَةِ وَافْتِتَاحُ بَابِ الْمِحْنَةِ، وَحِينَ سَاكَنَ حَوَّاءَ أَطَاعَهَا فِيمَا أَشَارَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ. وَلَقَدْ قِيلَ: دَاءٌ قَدِيمٌ فِي بَنِي آدَمَ ... صَبْوَةُ إِنْسَانٍ بِإِنْسَانٍ وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: كُلُّ مَا مُنِعَ مِنْهُ تَوَفَّرَتْ دَوَاعِي ابْنِ آدَمَ لِلِاقْتِرَابِ مِنْهُ. هَذَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُبِيحَ لَهُ الْجَنَّةُ بِجُمْلَتِهَا، وَنُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ أَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُبِيحَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ عِيلَ صَبْرُهُ حَتَّى ذَاقَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، هَكَذَا صِفَةُ الْخَلْقِ. وَقَالَ: نَبَّهَ عَلَى عَاقِبَةِ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ مِنِ ارْتِكَابِهِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَإِذَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِجَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ فِي الْجَنَّةِ؟ كَانَ آدَمُ لَا أَحَدَ يُوَفِّيهِ فِي الرُّتْبَةِ يَتَوَالَى عَلَيْهِ النِّدَاءُ: يَا آدَمُ! وَيَا آدَمُ! فَأَمْسَى وَقَدْ نُزِعَ عَنْهُ لِبَاسُهُ وَسُلِبَ اسْتِئْنَاسُهُ، وَالْقُدْرَةُ لَا تُكَابَرُ، وَحُكْمُ اللَّهِ لَا يُعَارَضُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: لِلَّهِ دَرِّهِمْ مِنْ فِتْيَةٍ بَكَّرُوا ... مِثْلَ الْمُلُوكِ وَرَاحُوا كالمساكين [سورة البقرة (2) : الآيات 36 الى 39] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

أَزَلَّ: مِنَ الزَّلَلِ، وَهُوَ عُثُورُ الْقَدَمِ. يُقَالُ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، وَزَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ. وَالزَّلَلُ فِي الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ مَجَازٌ، وَأَزَالَ: مِنَ الزَّوَالِ، وَأَصْلُهُ التَّنْحِيَةُ. وَالْهَمْزَةُ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ. الْهُبُوطُ: هُوَ النُّزُولُ، مَصْدَرُ هَبَطَ، وَمُضَارِعُهُ يَهْبِطُ وَيَهْبُطُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَالْهَبُوطُ بِالْفَتْحِ: مَوْضِعُ النُّزُولِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الْهَبُوطُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْبَلْدَةِ، وَهُوَ أَيْضًا الدُّخُولُ فِيهَا مِنَ الْأَضْدَادِ، وَيُقَالُ فِي انْحِطَاطِ الْمَنْزِلَةِ مَجَازًا، وَلِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَبُوطُ: الذُّلُّ، قال لبيد: إن يقنطوا يُهْبَطُوا يَوْمًا وَإِنْ أَمِرُوا بَعْضٌ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ بَعَضَ يَبْعَضُ بَعْضًا، أَيْ قَطَعَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْجُزْءِ، وَيُقَابِلُهُ كُلُّ، وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ لِصُدُورِ الْحَالِ مِنْهُمَا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، قَالُوا: مَرَرْتُ بِبَعْضٍ قَائِمًا، وَبِكُلٍّ جَالِسًا، وَيُنْوَى فِيهِمَا الْإِضَافَةُ، فَلِذَلِكَ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِمَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ، ولذلك خطئوا أَبَا الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيَّ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْدَلُ الْبَعْضُ مِنَ الْكُلِّ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ جَمْعٌ مُفْرَدًا وَمَجْمُوعًا. وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ وَالْحَالُ وَالْوَصْفُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ إِذْ ذَاكَ وَجَمْعُهُ. الْعَدُوُّ: مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، يُقَالُ: عَدَا فُلَانٌ طَوْرَهُ إِذَا جَاوَزَهُ، وَقِيلَ: الْعَدَاوَةُ، التَّبَاعُدُ بِالْقُلُوبِ مِنْ عُدْوَيِ الْجَبَلِ، وَهُمَا طَرَفَاهُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: مِنْ عَدَا: أَيْ ظَلَمَ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْعَدُوُّ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَقَدْ جُمِعَ فَقِيلَ: أَعْدَاءٌ، وَقَدْ أُنِّثَ فقالوا: غدوة، وَمِنْهُ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَتِ الْعَرَبُ لِلْمَرْأَةِ: عَدُوَّةُ اللَّهِ، وَطَرَحَ بَعْضُهُمُ الْهَاءَ. الْمُسْتَقَرُّ: مُسْتَفْعَلٌ مِنَ الْقَرَارِ، وَهُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ زَائِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفِ، فَيَكُونُ لِمَا ذُكِرَ بِصُورَةِ الْمَفْعُولَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأَرْضُ: الْقَرَارَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ وَاسْتَفْعَلَ فِيهِ: بِمَعْنَى فَعَلَ اسْتَقَرَّ وَقَرَّ بِمَعْنًى. الْمَتَاعُ: الْبُلْغَةُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَتَعَ

النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ، فَيَنْطَلِقُ عَلَى مَا يَتَحَصَّلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الزَّادِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِالنِّسَاءِ، وَمِنْهُ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ «1» ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَعَلَى الْكُسْوَةِ، وَمَتِّعُوهُنَّ «2» ، وَعَلَى التَّعْمِيرِ، يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً «3» ، قَالُوا: وَمِنْهُ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، أَيْ أَطَالَ اللَّهُ الْإِينَاسَ بِكَ، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْبُلْغَةِ، الْحِينُ: الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِمُدَّةٍ، بَلْ وُضِعَ الْمُطْلَقُ مِنْهُ. تلقى: تفعل من اللقاء، نَحْوَ تَعَدَّى مِنَ الْعَدْوِ، قَالُوا: أَوْ بِمَعْنَى اسْتَقْبَلَ، وَمِنْهُ: تَلَقَّى فُلَانٌ فُلَانًا اسْتَقْبَلَهُ. وَيَتَلَقَّى الْوَحْيَ: أَيْ يَسْتَقْبِلُهُ وَيَأْخُذُهُ وَيَتَلَقَّفُهُ، وَخَرَجْنَا نَتَلَقَّى الْحَجِيجَ: نَسْتَقْبِلُهُمْ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ وَقَالَ الْقَفَّالُ: التَّلَقِّي التَّعَرُّضُ لِلِّقَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْقَبُولِ وَالْأَخْذِ، وَمِنْهُ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ، تَلَقَّيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ فُلَانٍ: أَخَذْتُهَا مِنْهُ. الْكَلِمَةُ: اللَّفْظَةُ الموضوعة المعنى، وَالْكَلِمَةُ: الْكَلَامُ، وَالْكَلِمَةُ: الْقَصِيدَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ، وَيُجْمَعُ بِحَذْفِ التَّاءِ فَيَكُونُ اسْمَ جِنْسٍ، نَحْوَ: نَبْقَةٍ وَنَبْقٍ. التَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ، تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وَتَوْبَةً وَمَتَابًا، فَإِذَا عُدِّيَ بِعَلَى ضُمِّنَ مَعْنَى الْعَطْفِ. تَبِعَ: بِمَعْنَى لَحِقَ، وَبِمَعْنَى تَلَا، وَبِمَعْنَى اقْتَدَى. وَالْخَوْفُ: الْفَزَعُ، خَافَ، يَخَافُ خَوْفًا وتخوف تخوفا، فزع، وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزِ وَبِالتَّضْعِيفِ، وَيَكُونُ لِلْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَصْلُ الْحُزْنِ: غِلَظُ الْهَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُزْنِ: وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ: حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْنًا وَحَزَنًا، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَبِالْفُتْحَةِ، نَحْوَ: شُتِرَتْ عَيْنُ الرَّجُلِ، وَشَتَرَهَا اللَّهُ، وَفِي التَّعْدِيَةِ بِالْفَتْحَةِ خِلَافٌ، وَيَكُونُ لِلْأَمْرِ الْمَاضِي. الْآيَةُ: العلامة، ويجمع آيات وَآيَاتٍ، قَالَ النَّابِغَةُ: تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ وَوَزْنُهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: فَعْلَةٌ، فَأُعِلَّتِ الْعَيْنُ وَسَلِمَتِ اللَّامُ شُذُوذًا وَالْقِيَاسُ الْعَكْسُ. وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ: فَاعِلَةٌ، حُذِفَتِ الْعَيْنُ لِئَلَّا يَلْزَمُ فِيهِ مِنَ الْإِدْغَامِ مَا لَزِمَ فِي دَابَّةٍ، فَتَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ: فَعْلَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْعَيْنُ أَلِفًا اسْتِثْقَالًا لِلتَّضْعِيفِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قِيرَاطٍ وَدِيوَانٍ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ: فِعْلَةٌ: اسْتُثْقِلَ التَّضْعِيفُ فَقُلِبَتِ الْفَاءُ الْأُولَى أَلِفًا لِانْكِسَارِهَا وَتَحَرُّكِ مَا قَبْلَهَا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُنْهَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. الصُّحْبَةُ: الِاقْتِرَانُ،

_ (1) سورة النساء: 4/ 24. (2) سورة البقرة: 2/ 236. (3) سورة هود: 11/ 3.

صَحِبَ يَصْحَبُ، وَالْأَصْحَابُ: جَمْعُ صَاحِبٍ، وَجَمْعُ فَاعِلٍ: عَلَى أَفْعَالٍ شَاذٌّ، وَالصُّحْبَةُ وَالصَّحَابَةُ: أَسْمَاءُ جُمُوعٍ، وَكَذَا صَحِبَ عَلَى الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ، وَهِيَ لِمُطْلَقِ الِاقْتِرَانِ فِي زَمَانٍ مَا. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها: الْهَمْزَةُ: كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَزَلَّ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: جَعَلَهُمَا زَلَّا بِإِغْوَائِهِ وَحَمَلَهَمَا عَلَى أَنْ زَلَّا وَحَصَلَا فِي الزَّلَّةِ، هَذَا أَصْلُ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى جَعَلَ أَسْبَابَ الْفِعْلِ، فَلَا يَقَعُ إِذْ ذَاكَ الْفِعْلُ. تَقُولُ: أَضْحَكْتُ زَيْدًا فَمَا ضَحِكَ وَأَبْكَيْتُهُ فَمَا بَكَى، أَيْ جَعَلْتُ لَهُ أسباب الضحك وأسباب البقاء فَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَحِكُهُ وَلَا بُكَاؤُهُ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالْمُتَنَزِّلِ مَعْنَاهُ: فِيمَا يَشْرَحُ الشُّرَّاحُ، يَزِلُّ اللِّبْدُ: يَزْلِقُهُ عَنْ وَسَطِ ظَهْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَزِلُّ الْغُلَامُ الْخُفَّ عَنْ صَهَوَاتِهِ: أَيْ يَزْلِقُهُ. وَقِيلَ أَزَلَّهُمَا: أَبْعَدَهُمَا. تَقُولُ: زَلَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، وَزَلَّ عَنِّي ذَاكَ، وَزَلَّ مِنَ الشَّهْرِ كَذَا: أَيْ ذَهَبَ وَسَقَطَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الزَّلَّةَ هِيَ سُقُوطٌ فِي الْمَعْنَى، إِذْ فِيهَا خُرُوجُ فَاعِلِهَا عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ، وَبُعْدُهُ عَنْهَا. فَهَذَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ تَعْدِيَةِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحَمْزَةُ: فَأَزَالَهُمَا، وَمَعْنَى الْإِزَالَةِ: التَّنْحِيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ إِمَالَةُ فَأَزَالَهُمَا. وَالشَّيْطَانُ: هُوَ إِبْلِيسُ بِلَا خِلَافٍ هُنَا. وَحَكَوْا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَرَأَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا، وَكَذَا مَا وَرَدَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّا خَالَفَ سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَأَكْثَرُ قِرَاءَاتِ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّمَا تُنْسَبُ لِلشِّيعَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ صَحَّ عِنْدَنَا بِالتَّوَاتُرِ قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِمَّا وَافَقَ السَّوَادَ، فَتِلْكَ إِنَّمَا هِيَ آحَادٌ، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا، فَلَا تُعَارِضُ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوَصُّلِ إِبْلِيسَ إِلَى إِغْوَائِهِمَا حَتَّى أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ أَقَاوِيلُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وَالْجُمْهُورُ: شَافَهَهُمَا بِدَلِيلِ، وَقَاسَمَهُمَا، قِيلَ: فَدَخَلَ إِبْلِيسُ الْجَنَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ ابْتِلَاءً لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقِيلَ: دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ. وَذَكَرُوا كَيْفَ كَانَتْ خِلْقَةُ الْحَيَّةِ وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ مُكَالَمَةُ إِبْلِيسَ لِآدَمَ. وَقَدْ قَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَأَصْدَقَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلْ إِبْلِيسُ الْجَنَّةَ، بَلْ كَانَ يَدْنُو مِنَ السَّمَاءِ فَيُكَلِّمُهُمَا. وَقِيلَ: قَامَ عِنْدَ الْبَابِ فَنَادَى. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِسُلْطَانِهِ الَّذِي

ابْتُلِيَ بِهِ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» . وَقِيلَ: خَاطَبَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَلَمْ يَصْعَدْ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ الطَّرْدِ وَاللَّعْنِ، وَكَانَ خِطَابُهُ وَسْوَسَةً، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي نَقْلِ قَصَصٍ كَثِيرٍ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَتَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَالِهِ حِينَ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّعَمُّدِ، أَمْ فِي حَالِ غَفْلَةِ الذِّهْنِ عَنِ النَّهْيِ بِنِسْيَانٍ، أَمْ بِسُكْرٍ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ، كَمَا ذَكَرُوا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، لِأَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ «1» إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجَنَّةُ فِي الْأَرْضِ، عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ، فَيُمْكِنُ أن يكون خمرها يسكر. وَالَّذِينَ قَالُوا: بِالْعَمْدِ، قَالُوا: كَانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ: كَانَ مَعَهُ مِنَ الْفَزَعِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ مَا صَيَّرَ هَذَا الْفِعْلَ صَغِيرَةً. وَقِيلَ: فَعَلَهُ اجْتِهَادًا، وَخَالَفَ لأنه تقدم الْإِشَارَةَ إِلَى الشَّخْصِ لَا إِلَى النَّوْعِ، فَتَرَكَهَا وَأَكَلَ أُخْرَى. وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ لَا يُوجِبُ الْعِقَابَ. وَقِيلَ كَانَ الْأَكْلُ كَبِيرَةً، وَقِيلَ: أَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفَانِهَا، فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، وَحَلِفَ لَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ. وَقِيلَ: نَسِيَ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ آدَمُ وَلا تَقْرَبا أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْقُرْبَانِ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَقْرَبَ، وَالَّذِي يُسْلَكُ فِيمَا اقْتَضَى ظَاهِرُهُ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَحْسَنِ مَحْمَلٍ، وَتَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ النَّقَائِصِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على ما يرد من ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ أبي الفضل المرسي مَا مُلَخَّصُهُ: مَنَعَتِ الْأُمَّةُ وُقُوعَ الْكُفْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا الْفَضِيلِيَّةَ مِنَ الْخَوَارِجِ، قَالُوا: وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ، وَأَجَازَ الْإِمَامِيَّةُ إِظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلَا يَجُوزُ عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا وَأَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ خَطَئِهِمْ فِي الْفُتْيَا عَمْدًا وَاخْتَلَفُوا فِي السَّهْوِ. وَأَمَّا أَفْعَالُهُمْ فَقَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: بِجَوَازِ الصَّغَائِرِ عَمْدًا إِلَّا فِي الْقَوْلِ، كَالْكَذِبِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ، وَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ. وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ فَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: مِنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: مِنْ وَقْتِ النُّبُوَّةِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ذَنْبٌ حَالَةَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ، لا

_ (1) سورة الصافات: 37/ 47.

الْكَبِيرَةَ وَلَا الصَّغِيرَةَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ صَدَرَ عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ، لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَلِئَلَّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهَادَةِ، وَلِئَلَّا يَجِبُ زَجْرُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ، وَلِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، وَلِئَلَّا يَفْعَلُونَ ضِدَّ مَا آمرون بِهِ، لِأَنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْإِغْوَاءِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ الْمُنْتَخَبِ. وَالْقَوْلُ فِي الدَّلَائِلِ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَفِي إِبْطَالِ مَا يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ مِنْهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. عَنْهَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَالْمَعْنَى: فَحَمَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِهَا. وَتَكُونُ عَنْ إِذْ ذَاكَ لِلسَّبَبِ، أَيْ أَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنِ الشَّجَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي «1» ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «2» . وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَذْكُورٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ: فَأَزَالَهُمَا، إِذْ يَبْعُدُ فَأَزَالَهُمَا الشَّيْطَانُ عَنِ الشَّجَرَةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الطَّاعَةِ، قَالُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ «3» ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا «4» لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَطِيعَانِي بِعَدَمِ قُرْبَانِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّفَكُّهِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَالتَّبَوُّءِ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيْثُ شَاءَا، وَمَتَى شَاءَا، وَكَيْفَ شَاءَا، بِدَلِيلِ، وَكُلا مِنْها رَغَداً «5» . وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ. فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ مِنْ نِعْمَةِ الْجَنَّةِ إِلَى شَقَاءِ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ رِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ إِلَى سُفْلِ مَكَانَةِ الذَّنْبِ، أَوْ رِضْوَانِ اللَّهِ، أَوْ جِوَارِهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: إِذَا جُعِلَ أَزَلَّهُمَا مِنْ زَلَّ عَنِ الْمَكَانِ، فَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ تَوْكِيدٌ. إِذْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَا عَنْ مَكَانٍ كَانَا فِيهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْجَنَّةِ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَسْبِهِمَا الزَّلَّةَ لَا يَكُونُ بِإِلْقَاءٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُنَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: فَأَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَيَعْنِي أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَتَقَدَّرُ قَبْلَ قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ، وَنَسَبَ الْإِزْلَالَ وَالْإِزَالَةَ وَالْإِخْرَاجَ لِإِبْلِيسَ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَالْفَاعِلُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقُلْنَا اهْبِطُوا: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أبو حياة: اهْبُطُوا بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ. وَالْقَوْلُ فِي: وَقُلْنَا اهْبِطُوا مِثْلُ القول في: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «6» .

_ (1) سورة الكهف: 18/ 82. (2) سورة التوبة: 9/ 114. (3) سورة طه: 20/ 121. (4) سورة البقرة: 2/ 35. (5) سورة البقرة: 2/ 35. (6) سورة البقرة: 2/ 35.

وَلَمَّا كَانَ أَمْرًا بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ انْحِطَاطُ رُتْبَةِ الْمَأْمُورِ، لَمْ يُؤْنِسْهُ بِالنِّدَاءِ، وَلَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِتَنْوِيهِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ. وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ، وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْحَيَّةُ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس، أو هَؤُلَاءِ وَإِبْلِيسُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ آدَمُ وَإِبْلِيسُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ هُمَا وَحَوَّاءُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ فَحَسْبُ. وَيَكُونُ الْخِطَابُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ نَحْوَ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «1» ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَسْوَسَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَذُرِّيَّتُهُمَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَالْمُرَادُ هُمَا وَذُرِّيَّتُهُمَا، وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ الْأِنْسِ وَمُتَشَعَّبَهُمْ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْأِنْسُ كُلُّهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «2» ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الْآيَةَ، وَمَا هُوَ إِلَّا حُكْمٌ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ، انْتَهَى. وَفِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ خِطَابُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، لِأَنَّ ذُرِّيَّتَهُمَا كَانَتْ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وَفِي قَوْلِ مَنْ أَدْخَلَ إِبْلِيسَ مَعَهُمَا فِي الْأَمْرِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ كَانَ خَرَجَ قَبْلَهُمَا، وَيَجُوزُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ. قَالَ كَعْبٌ وَوَهْبٌ: أُهْبِطُوا جُمْلَةً وَنَزَلُوا فِي بِلَادٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَقَالَ مُقَاتِلُ: أُهْبِطُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَهَبَطَ إِبْلِيسُ، قِيلَ بِالْأُبُلَّةِ، وَحَوَّاءُ بِجَدَّةَ، وَآدَمُ بِالْهِنْدِ، وَقِيلَ: بِسَرَنْدِيبَ بِجَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: وَاسِمٌ. وَقِيلَ: كَانَ غِذَاؤُهُ جَوْزَ الْهِنْدِ، وَكَانَ السَّحَابُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ صُلْعًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحَيَّةَ أُهْبِطَتْ بِنَصِيبِينَ. وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ: بِأَصْبَهَانَ، وَالْمَسْعُودِيُّ: بِسِجِسْتَانَ، وَهِيَ أَكْثَرُ بِلَادِ اللَّهِ حَيَّاتٍ. وَقِيلَ: بِبِيسَانَ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الْهُبُوطَ الأول من الجنة إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ آدَمُ بِسَرَنْدِيبَ مِنَ الْهِنْدِ وَمَعَهُ رِيحُ الْجَنَّةِ، عَلِقَ بِشَجَرِهَا وَأَوْدِيَتِهَا، فَامْتَلَأَ مَا هُنَاكَ طِيبًا، فَمِنْ ثَمَّ يُؤْتَى بِالطِّيبِ مِنْ رِيحِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي إِخْرَاجِهِ كَيْفِيَّةً ضَرَبْنَا صَفْحًا عَنْ ذِكْرِهَا، قَالَ: وَأُدْخِلَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ ضَحْوَةً، وَأُخْرِجَ مِنْهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَمَكَثَ فِيهَا نِصْفَ يَوْمٍ، وَالنِّصْفُ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، مِمَّا يَعُدُّ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطُوا أَمْرُ تَكْلِيفٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً بِسَبَبِ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ، إِلَى مَكَانٍ لَا تَحْصُلُ فِيهِ الْمَعِيشَةُ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّكْلِيفِ يَكُونُ بِسَبَبِ الثَّوَابِ. فَكَيْفَ يَكُونُ عِقَابًا مَعَ مَا فِي هُبُوطِهِ وَسُكْنَاهُ الْأَرْضَ مِنْ ظُهُورِ حِكْمَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ نشر

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 78. (2) سورة طه: 20/ 123.

نَسْلِهِ فِيهَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فِي جَنَّةٍ وَنَارٍ. وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَكْلَةُ سَبَبَ هُبُوطِهِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَأَمَرَهُ بِالْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ لقوله ثانية: قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، إِنْ كَانَ الْمُخَاطِبُونَ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتَهُمَا، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، فَالْمُرَادُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ التَّعَادِي وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْبَعْضِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّهُمْ يُعَادِي كُلَّهُمْ، بَلِ الْبَعْضُ يُعَادِي الْبَعْضَ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا إِبْلِيسُ أَوِ الْحَيَّةُ، كَمَا قَالَهُ مُقَاتِلُ، فَلَيْسَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِمَا يُعَادِي ذُرِّيَّةَ آدَمَ، بَلْ كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ. ولكن بتحقق هَذَا بِأَنْ جَعَلَ الْمَأْمُورُونَ بالهبوط شيئا واحدا وجزّؤوا أَجْزَاءً، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنَ الَّذِينَ هَبَطُوا، وَالْجُزْءُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْبَعْضُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: كُلُّ جِنْسٍ مِنْكُمْ مُعَادٍ لِلْجِنْسِ الْمُبَايِنِ لَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِبْلِيسُ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: عَدَاوَةُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَهُ وَجَوَارِحُهُ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ اهْبِطُوا مُتَعَادِينَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا اهْبِطُوا. فَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي اهْبِطُوا، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْوَاوِ لِإِغْنَاءِ الرَّابِطِ عَنْهَا، وَاجْتِمَاعُ الْوَاوِ وَالضَّمِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا أَكْثَرُ مِنَ انْفِرَادِ الضَّمِيرِ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» ، وَلَيْسَ مَجِيئَهَا بِالضَّمِيرِ دُونَ الْوَاوِ شَاذًّا، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَدْ رَوَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ كَلِمَتَهُ: فُوهُ إِلَى فِيَّ، وَرَجَعَ عُودُهُ عَلَى بَدْئِهِ، وَخَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُودُهُ مبتدأ وعلى بَدْئِهِ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، نُظْمُهَا وَنَثْرُهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَاذًّا. وَأَجَازَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أن تكون الجملة مستأنفة إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَأَنَّهُ فَرَّ مِنَ الْحَالِ، لِأَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَيْدِ فِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، أَوْ كَالْمَأْمُورِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ قُمْ ضَاحِكًا كَانَ الْمَعْنَى الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ الْقِيَامِ مَصْحُوبًا بِالْحَالِ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا أَوْ كَالْمَأْمُورِ، لِأَنَّكَ لَمْ تُسَوِّغْ لَهُ الْقِيَامَ إِلَّا فِي حَالِ الضَّحِكِ وَمَا يُتَوَصَّلُ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ إِلَّا بِهِ مَأْمُورٌ بِهِ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْعَدَاوَةِ وَلَا يَلْزَمُ مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحَالُ مَأْمُورًا بِهَا، لِأَنَّ النِّسْبَةَ الْحَالِيَّةَ هِيَ لَنِسْبَةٍ تَقْيِيدِيَّةٍ لَا نِسْبَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ. فَلَوْ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَلَا يُسَوَّغُ ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِذَا كَانَ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِذَلِكَ الْقَيْدِ، وَلَا يُمْكِنُ خِلَافُهُ، لم يكن ذلك

_ (1) سورة الزمر: 39/ 60. [.....]

الْقَيْدُ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ التَّكْلِيفِ، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنَ الْأَحْوَالِ اللَّازِمَةِ. وَقَوْلُهُ: لِبَعْضٍ مُتَعَلِّقٌ بُقُولِهِ عَدُوٌّ، وَاللَّامُ مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ عَدُوٌّ إِلَيْهِ، وَأَفْرَدَ عَدُوٌّ عَلَى لَفْظِ بَعْضُ أَوْ لِأَنَّهُ يُصْلِحُ لِلْجَمْعِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضُ وَعَلَى عَدُوٌّ حَالَةَ الْإِفْرَادِ. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. لَكُمْ هُوَ الْخَبَرُ، وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِلْعَامِلِ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُنَا مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بمستقر، سَوَاءً كَانَ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْمَصْدَرُ، أَيْ اسْتِقْرَارٌ، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ لَا يَعْمَلُ، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَوْصُولَ لَا يُجَوِّزُ بَعْضُهُمْ تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، ولكم متعلق بمستقرّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُسْتَقَرٌّ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذْ ذَاكَ فِيهَا يَكُونُ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالْحَالُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَصَارَ نَظِيرَ: قَائِمًا زَيْدٌ فِي الدَّارِ، أَوْ قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ. مُسْتَقَرٌّ: أَيْ مَكَانُ اسْتِقْرَارِكُمْ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَبْرُ، أَوِ اسْتِقْرَارٌ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَمَتاعٌ: الْمَتَاعُ مَا اسْتُمْتِعَ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، أَوِ الزَّادِ، أَوِ الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، أَوِ التَّعْمِيرِ. إِلى حِينٍ: إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَيَتَعَلَّقُ إِلَى بِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَمَتَاعٌ كَائِنٌ إِلَى حِينٍ، أَوْ بِمَتَاعٍ، أَيْ وَاسْتِمْتَاعٍ إِلَى حِينٍ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، أُعْمِلُ فِيهِ الثَّانِي وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِضْمَارٍ فِي الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ فَضْلَةٌ، فَالْأَوْلَى حَذْفُهُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحْذَفَ مِنَ الثَّانِي وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَوْلَى. وَالْأَفْصَحُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ يَقْتَضِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ أَنَّ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إِلَى حِينٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْمَعْطُوفِ، وَالْمَصْدَرُ مَوْصُولٌ فلا يفصل بينه وبن مَعْمُولِهِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا لَا يَكُونُ مَوْصُولًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَصْدَرَ مِنْهُ مَا يُلْحَظُ فِيهِ الْحُدُوثُ فَيُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ مَعَ الْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْصُولُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْصُولًا بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِهِ بِذَلِكَ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ مَوْصُولٌ بِالْفِعْلِ، وَإِلَّا فَالْمَصْدَرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يَكُونُ مَوْصُولًا، وَمِنْهُ مَا لَا يُلْحَظُ فِيهِ الْحُدُوثُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: لِزَيْدٍ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، وَبَصَرٌ بِالطِّبِّ، وَلَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ. فَمِثْلَ هَذَا لَا يُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، حَتَّى ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ هَذَا

الْمَصْدَرَ إِذَا أُضِيفَ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الِاسْمِ بَعْدَهُ، لَا بِرَفْعٍ وَلَا بِنَصْبٍ، قَالُوا: فَإِذَا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ، فَزَيْدٌ فَاعِلُ الْقِيَامِ تَأْوِيلُهُ يُعْجِبُنِي أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وَمُمْكِنٌ أَنَّ زَيْدًا يَعْرَا مِنْهُ الْقِيَامُ، وَلَا يُقْصَدُ فِيهِ إِلَى إِفَادَةِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ فَعَلَ الْقِيَامَ فِيمَا مَضَى، أَوْ يَفْعَلُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، بَلْ تَكُونُ النِّيَّةُ فِي الْإِخْبَارِ كَالنِّيَّةِ فِي: يُعْجِبُنِي خَاتَمُ زَيْدٍ الْمَحْدُودُ الْمَعْرُوفُ بِصَاحِبِهِ وَالْمَخْفُوضُ بِالْمَصْدَرِ. عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِرَفْعٍ، وَلَا يُؤَكَّدُ، وَلَا يُنْعَتُ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمِثْلٍ مَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْمَخْفُوضَاتِ الصِّحَاحِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى تَجْوِيزَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْصُولًا مَعَ الْمَصْدَرِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ، فَكَيْفَ مَعَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا نَحْوَ: مَا مَثَّلْنَا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ، وَبَصَرٌ بِالطِّبِّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَكُونُ مَوْصُولًا. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، كَمَا مَثَّلْنَا فِي قَوْلِهِ: لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ يَعْمَلُ فِيهِمَا رَوَائِحُ الْأَفْعَالِ، حَتَّى الْأَسْمَاءُ الْأَعْلَامُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ، وَأَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إِذْ جَدَّ النَّقْرُ. وَأَمَّا أَنْ تَعْمَلَ فِي الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ بِهِ فَلَا. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا نُوِّنَ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، تَحَقَّقَتْ لَهُ الِاسْمِيَّةُ وَزَالَ عَنْهُ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَنْ يُحْدِثَ إِعْرَابًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهُ قِصَّةَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَالرَّجُلِ وَالثَّوْبِ، فَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَعَلُّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ إِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ بِأَبْعَدَ فِي الْعَمَلِ فِي الظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ مِنَ الِاسْمِ الْعَلَمِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ: مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ بِقَوْلِهِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ «1» ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلى حِينٍ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعَادِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّحْذِيرُ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ بِقَصْدٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تُزِيلُ عَنْ مَقَامِ الْوِلَايَةِ. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، تلقى: تفعل من اللقاء، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّجَرُّدِ، أَيْ لَقِيَ آدَمُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: تَعَدَّاكَ هَذَا الْأَمْرُ، بِمَعْنَى عَدَّاكَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا تَفَعَّلَ، وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى مُطَاوِعَةً فَعَّلَ، نَحْوَ: كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَالتَّكَلُّفُ نَحْوَ: تَحَلَّمَ، وَالتَّجَنُّبُ نَحْوَ: تَجَنَّبَ، وَالصَّيْرُورَةُ نَحْوَ: تَأَلَّمَ، وَالتَّلَبُّسُ بِالْمُسَمَّى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ نَحْوَ:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 25.

تَقَمَّصَ، وَالْعَمَلُ فِيهِ نَحْوَ: تَسَحَّرَ، وَالِاتِّخَاذُ نَحْوَ: تَبَنَّيْتُ الصَّبِيَّ، وَمُوَاصَلَةُ الْعَمَلِ فِي مَهَلَةٍ نَحْوَ: تَفَهَّمَ، وَمُوَافَقَةُ اسْتَفْعَلَ نَحْوَ: تَكَبَّرَ، وَمُوَافَقَةُ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ: تَعَدَّى الشَّيْءَ، أَيْ عَدَّاهُ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ نَحْوَ: تَكَلَّمَ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْ فِعْلٍ نَحْوَ: تَوْبَلَ، وَمُوَافَقَةُ فَعَّلَ نَحْوَ: تَوَلَّى، أَيْ وَلَّى، وَالْخِتْلُ، نَحْوَ: تَعَقَّلْتُهُ، وَالتَّوَقُّعُ نَحْوَ: تَخَوَّفَهُ، وَالطَّلَبُ نَحْوَ: تُنْجَزُ حَوَائِجُهُ، وَالتَّكْثِيرُ نَحْوَ: تُعْطِينَا. وَمَعْنَى تَلَقِّي الْكَلِمَاتِ: أَخْذُهَا وَقَبُولُهَا، أَوِ الْفَهْمُ، أَوِ الْفَطَانَةُ، أَوِ الْإِلْهَامُ أَوِ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَلُ بِهَا، أَوْ الِاسْتِغْفَارُ وَالِاسْتِقَالَةُ مِنَ الذَّنْبِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ: تَلَقَّنَ، فَأُبْدِلَتِ النُّونُ أَلِفًا ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّا كَانَ عَيْنُهُ وَلَامُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ نَحْوَ: تَظَنَّى، وَتَقَضَّى، وَتَسَرَّى، أَصْلُهُ: تَظَنَّنَ، وَتَقَضَّضَ، وَتَسَرَّرَ. وَلَا يُقَالُ فِي تَقَبَّلَ: تَقَبَّى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ آدَمُ وَنَصْبِ الْكَلِمَاتِ، وَعَكَسَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَمَعْنَى تَلَقِّي الْكَلِمَاتِ لِآدَمَ: وُصُولُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّاكَ فَقَدْ تَلَقَّيْتَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَجَاءَتْ آدم من ربه كلمات. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كَلِمَاتٍ، أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَلِمٍ، أَوْ جُمَلٌ مِنَ الْكَلَامِ قَالَهَا آدَمُ، فَلِذَلِكَ قَدَّرُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: كَلِمَاتٍ، جُمْلَةً مَحْذُوفَةً وَهِيَ فَقَالَهَا فَتَابَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَقَدْ طَوَّلُوا بِذِكْرِهَا، وَلَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ بِهَا إِلَّا مُبْهَمَةً، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا كَمَا ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَعْبٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا «1» ، الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى الله ما قاله أبو ناحين: «اقْتَرَفَ الْخَطِيئَةَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» . وَسُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ الْمُذْنِبُ فَقَالَ: يَقُولُ مَا قَالَهُ أَبَوَاهُ: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» وَمَا قَالَهُ يُونُسُ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبٍ أَنَّهَا: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هِيَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . وَحَكَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبُكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رب إن

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 23.

تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَزَادَ قَتَادَةُ فِي هَذَا: «وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ إِلَيَّ قَبْلَ غَضَبِكَ؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، قَالَ: رَبِّ هَلْ كَتَبْتَ هَذَا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، فَقَالَ: رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قِيلَ لَهُ: «نَعَمْ» . وَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ: «أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: «يَا رَبِّ خَطِيئَتِي الَّتِي أَخْطَأَتُهَا أَشَيْءٌ كَتَبْتَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ أَوْ شَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي؟ قَالَ: بَلْ شَيْءٌ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ، قَالَ: «فَكَمَا كَتَبْتَ عَلَيَّ فَاغْفِرْ لِي» . وَقِيلَ إِنَّهَا: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ» . وَقِيلَ: رَأَى مَكْتُوبًا عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَتَشَفَّعَ بِذَلِكَ فَهِيَ الْكَلِمَاتُ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ حِينَ عَطَسَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» . وَقِيلَ: هِيَ الدُّعَاءُ وَالْحَيَاءُ وَالْبُكَاءُ. وَقِيلَ: الِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ وَالْحُزْنُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَمَّاهَا كَلِمَاتٍ، مَجَازًا لِمَا هِيَ فِي خَلْقِهَا صَادِرَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ، وَهِيَ: «كُنْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ» ، وَهَذَا قَوْلٌ يَقْتَضِي أَنَّ آدَمَ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إِلَّا الِاسْتِغْفَارَ الْمَعْهُودَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَتابَ عَلَيْهِ: أَيُّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَأَفْرَدَهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مُشَارِكَةً لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى وَالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ وَتَلَقِّي الْكَلِمَاتِ وَالتَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَاجَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَكَمُلَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِهِ وَحْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخِضْرِ، إِذْ جَاءَ حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ «1» ، فحملاهما بِغَيْرِ نَوْلٍ، وَكَانَ مَعَ مُوسَى يُوشَعُ، لَكِنَّهُ كَانَ تَابِعًا لِمُوسَى فَلَمْ يُذْكُرْهُ وَلَمْ يُجْمَعْ مَعَهُمَا فِي الضَّمِيرِ، أَوِ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، إِذْ كَانَ فِعْلُهُمَا وَاحِدًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «3» ، أَوْ طَوَى ذَكَرَهَا كَمَا طَوَاهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «4» . وَقَدْ جَاءَ طَيُّ ذِكْرِ النِّسَاءِ فِي أَكْثَرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «5» ، وَإِنَّمَا لَمْ يُرَاعِ هَذَا السَّتْرَ فِي امْرَأَتَيْ نوح ولوط لأنهما كانتا كَافِرَتَيْنِ، وَقَدْ ضَرَبَ بِهِمَا الْمَثَلَ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذُنُوبَهُمَا كَانَتْ غَايَةً فِي الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ. وَالْكَافِرُ لَا يُنَاسِبُ السَّتْرَ عَلَيْهِ وَلَا الْإِغْضَاءَ عَنْ ذَنْبِهِ، بَلْ يُنَادِي عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَخْزَى له وأحط

_ (1) سورة الكهف: 18/ 71. (2) سورة التوبة: 9/ 62. (3) سورة طه: 20/ 117. (4) سورة طه: 20/ 121. (5) سورة الأعراف: 7/ 23.

لِدَرَجَتِهِ. وَحَوَّاءُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمَا تَكَرَّرَتْ وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمَا الْكُفْرُ وَالْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّوْبَةُ مُتَعَذِّرَةٌ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمَا لَا يَتُوبَانِ، وَلَيْسَتْ حَوَّاءُ كَذَلِكَ لِخِفَّةِ مَا وَقَعَ مِنْهَا، أَوْ لِرُجُوعِهَا إِلَى رَبِّهَا، وَلِأَنَّ التَّبْكِيتَ لِلْمُذْنِبِ شَرْعُ رَجَاءِ الْإِقْلَاعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْقُودٌ فِيهِمَا، وَذِكْرُهُمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى زَوْجَيْهِمَا فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي ذِكْرِ اسْمَيْهِمَا غَيْرَ مُضَافَيْنِ إِلَيْهِمَا. وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ: رُجُوعُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: رُجُوعُهُ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي التَّوْبَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَبْدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ النَّدَمُ، أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَقَالَ قَوْمٌ: شُرُوطُهَا ثَلَاثَةٌ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ. وَتَأَوَّلُوا: النَّدَمَ تَوْبَةً عَلَى مُعْظَمِ التَّوْبَةِ نَحْوَ: الْحَجُّ عَرَفَةٌ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي الشُّرُوطِ، يرد الْمَظَالِمِ إِذَا قَدَرَ عَلَى رَدِّهَا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْمَطْعَمُ الْحَلَّالُ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا بُدَّ مَعَ تِلْكَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِشْفَاقِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ أَتَى بِهَا كَمَا لَزِمَهُ، فَيَكُونُ خَائِفًا. وَلِهَذَا جَاءَ يُحَذِّرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ بَكَيَا عَلَى مَا فَاتَهُمَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ مِائَتَيْ سَنَةٍ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي كَثْرَةِ دُمُوعِ آدَمَ وَدَاوُدَ شَيْئًا يَفُوتُ الْحَصْرَ كَثْرَةً. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَلَغَنِي أَنَّ آدَمَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مَكَثَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَ عَلَى آدَمَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّهُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نَوْفَلُ بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ فَتَحَ عَلَى التَّعْلِيلِ، التَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ، فَالْمَفْتُوحَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا فَضْلَةٌ، إِذْ هِيَ فِي تَقْدِيرٍ مُفْرَدٍ ثَابِتٍ وَاقِعٍ مَفْرُوغٍ مِنْ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعُ مُنَازِعٍ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَهِيَ جُمْلَةٌ ثَابِتَةٌ تَامَّةٌ أُخْرِجَتْ مَخْرَجِ الْإِخْبَارِ الْمُسْتَقِلِّ الثَّابِتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهَا رَبْطٌ مَعْنَوِيٌّ بِمَا قَبْلَهَا، كَمَا جَاءَتْ فِي: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ «1» ، اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ «2» ، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ «3» ، حَتَّى لَوْ وُضِعَتِ الْفَاءُ الَّتِي تُعْطِي الرَّبْطَ مَكَانَهَا أَغْنَتْ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ إِنَّ إِنَّمَا تَجِيءُ لِتَثْبِيتِ مَا يَتَرَدَّدُ الْمُخَاطَبُ فِي ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ، فَإِنْ قُطِعَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَيْسَ مِنْ مَظَانِّهَا، فَإِنْ وُجِدَتْ دَاخِلَةً عَلَى مَا قُطِعَ فِيهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 53. (2) سورة الحج: 22/ 1. (3) سورة التوبة: 9/ 103.

الْمُتَرَدِّدِ فِيهِ لِأَمْرٍ مَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي نحو: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَمَّا دَخَلَتْ لِلتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، قَوِيَ التَّأْكِيدُ بِتَأْكِيدٍ آخَرَ، وَهُوَ لَفْظُهُ: هُوَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَتَهُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» . وَبُولِغَ أَيْضًا فِي الصِّفَتَيْنِ بَعْدَهُ، فَجَاءَ التَّوَّابُ: عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ، وَالرَّحِيمُ: عَلَى وَزْنٍ فَعِيلٍ، وَهُمَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي صِيغَتْ لِلْمُبَالَغَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَرْغِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ فِي التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَإِطْمَاعٌ فِي عَفْوِهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ. وَالتَّوَّابُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْقَبُولُ لِتَوْبَةِ الْعَبْدِ، أَوِ الْكَثِيرِ الْإِعَانَةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الِاسْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا، وَوَصَفَ بِهِ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ تَعَالَى بتائب ولا آئب وَلَا رَجَّاعٍ وَلَا مُنِيبٍ، وَفُرِّقَ بَيْنَ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ صِلَتَيْهِمَا. أَلَا تَرَى: فَتَابَ عَلَيْهِ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ؟ فَالتَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ هِيَ الْعَطْفُ وَالتَّفَضُّلُ عَلَيْهِ، وَمِنَ الْعَبْدِ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى، لِطَلَبِ ثَوَابٍ، أَوْ خَشْيَةِ عِقَابٍ، أَوْ رَفْعِ دَرَجَاتٍ. وَأَعْقَبَ الصِّفَةَ الْأَوْلَى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ سَبَبُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، وَتَقَدُّمُ التَّوَّابِ لِمُنَاسَبَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ، وَلِحُسْنِ خَتْمِ الْفَاصِلَةِ بِقَوْلِهِ: الرَّحِيمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَسْمَلَةِ عَلَى لَفْظَةِ الرَّحِيمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. قُلْنَا اهْبِطُوا، كَرَّرَ الْقَوْلَ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ الْمَحْضِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْهُبُوطَ كَانَ أَوَّلَ مُخَالَفَةٍ، فَكَرَّرَ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ عُلِّقَ بِهِ الْعَدَاوَةُ، وَالثَّانِي عُلِّقَ بِإِتْيَانِ الْهُدَى. وَأَمَّا لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، بَلْ هُمَا هُبُوطَانِ حَقِيقَةً، الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ فِي الْهُبُوطِ الْأَوَّلِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، وَلَمْ يَحْصُلْ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ إِلَّا بِالْهُبُوطِ الثَّانِي، فَكَانَ يَنْبَغِي الِاسْتِقْرَارُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ وَبِقَوْلِهِ فِي الْهُبُوطِ الثَّانِي مِنْهَا، وَظَاهِرُ الضَّمِيرِ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْهُبُوطَ الثَّانِي منها. جَمِيعاً: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظَةِ جَمِيعًا وَأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي الْحُكْمِ، لَا الْمُقَارَنَةَ فِي الزَّمَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 15. (2) سورة التوبة: 9/ 88.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» ، فَهُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ خُوطِبُوا بِالْهُبُوطِ، فَقَدْ دَلَّا عَلَى اتِّحَادِ زَمَانِ الْهُبُوطِ. وَأَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُ قَالَ هبوطا جميعا، أو هابطين جَمِيعًا، فَجَعَلَهُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ لِاسْمِ فَاعِلٍ مَحْذُوفٍ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ. قَالَ: لِأَنَّ جَمِيعًا لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ، مَعَ مُنَافَاةِ مَا قَدَّرَهُ لِلْحُكْمِ الَّذِي صَدَّرَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَوَّلًا وَجَمِيعًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا. فَإِذَا كَانَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا عَلَى مَا قَرَّرَ أَوَّلًا، فَكَيْفَ يُقَدَّرُ ثَانِيًا؟ كَأَنَّهُ قَالَ: هُبُوطًا جَمِيعًا، أَوْ هَابِطِينَ جَمِيعًا. فَكَلَامُهُ أَخِيرًا يُعَارِضُ حُكْمَهُ أَوَّلًا، وَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ وُقُوعُهُ حَالًا حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ. وَأَبْعَدَ غَيْرَهُ أَيْضًا فِي زَعْمِهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا مُجْتَمِعِينَ، فَهَبَطُوا جَمِيعًا، فَجَعَلَ ثُمَّ حَالًا مَحْذُوفَةً لِدِلَالَةِ جَمِيعًا عَلَيْهَا، وَعَامِلًا مَحْذُوفًا لِدِلَالَةِ اهْبِطُوا عَلَيْهِ. وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا التَّقْدِيرُ مَعَ مَا بَعْدَهُ إِلَّا عَلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ: أَيْ فَقُلْنَا: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَأْمُورِينَ بِالْهُبُوطِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هُبُوطًا ثَانِيًا، فَقِيلَ يَخُصُّ آدَمَ وَحَوَّاءَ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَا يَأْتِيهِ هُدًى، وَخُصَّا بِخِطَابِ الْجَمْعِ تَشْرِيفًا لَهُمَا. وَقِيلَ: يَنْدَرِجُ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ مُخَاطَبٌ بِالْإِيمَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ وَمَا زَائِدَةٌ بَعْدَهَا لِلتَّوْكِيدِ، وَالنُّونُ فِي يَأْتِيَنَّكُمْ نُونُ التَّوْكِيدِ، وَكَثُرَ مَجِيءُ هَذَا النَّحْوِ فِي الْقُرْآنِ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ «2» ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ «3» ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ «4» . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الَمَهْدَوِيِّ: إِنَّ: هِيَ، الَّتِي لِلشَّرْطِ زِيدَتْ عَلَيْهَا مَا لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ لِلتَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ، وَلَوْ سَقَطَتْ، يَعْنِي مَا لَمْ تَدْخُلِ النُّونُ، فَمَا تُؤَكَّدْ أَوَّلَ الْكَلَامِ، وَالنُّونُ تُؤَكَّدُ آخِرَهُ. وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ هِيَ لِلشَّرْطِ، دَخَلَتْ مَا عَلَيْهَا مُؤَكِّدَةً لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ لَامِ الْقَسَمِ الَّتِي تَجِيءُ لِمَجِيءِ النُّونِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ النُّونَ لَازِمَةٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ إِذَا وصلت إن بما، هُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، زَعَمَا أَنَّهَا تَلْزَمُ تَشْبِيهًا بِمَا زِيدَتْ لِلتَّأْكِيدِ فِي لَامِ الْيَمِينِ نَحْوَ: وَاللَّهِ لَأَخْرُجَنَّ. وَزَعَمُوا أَنَّ حَذْفَ النُّونِ إِذَا زِيدَتْ مَا بَعْدَ إِنَّ ضَرُورَةٌ. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَارِسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِثْبَاتُ أَحْسَنَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ حَذْفُ مَا وَإِثْبَاتُ النُّونِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ، كَمَا أَنَّكَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 29. (2) سورة مريم: 29/ 29. [.....] (3) سورة الأعراف: 7/ 200. (4) سورة الزخرف: 43/ 41.

إن شئت لم تجىء بما، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ كَثُرَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ إِمَّا، قَالَ الشَّنْفَرَى: فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا ... عَلَى رِقَّةٍ أَحْفَى وَلَا أَتَنَعَّلُ وَقَالَ آخَرُ: يَا صَاحِ إِمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ ذِي جَدَّةٍ ... فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الْإِخْوَانِ مِنْ شِيَمِي وَقَالَ آخَرُ: زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أنني إما أمت ... تسددا بينوها الْأَصَاغِرُ خُلَّتِي وَالْقِيَاسُ يَقْبَلُهُ، لِأَنَّ مَا زِيدَتْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ دُخُولُ النُّونِ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِمَّا أَقَمْتُ وَإِمَّا كُنْتُ مُرْتَحِلًا ... فَاللَّهُ يَحْفَظُ مَا تُبْقِي وَمَا تَذَرُ فَكَمَا جَاءَتْ هُنَا زَائِدَةً بَعْدَ إِنَّ، فَكَذَلِكَ فِي نَحْوِ: إِمَّا تَقُمْ يَأْتِيَنَّكُمْ، مَبْنِيٌّ مَفْتُوحُ الْآخِرِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْفَتْحَةِ أَهِيَ لِلْبِنَاءِ، أَمْ بُنِيَ عَلَى السُّكُونِ وَحُرِّكَ بِالْفَتْحَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . مِنِّي: مُتَعَلِّقٌ بِيَأْتِيَنَّكُمْ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِالِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلْجَمْعِ، أَوِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، إِلَى الضَّمِيرِ الْخَاصِّ بِالْمُتَكَلِّمِ الْمُفْرَدِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حِكْمَةَ ذَاكَ الضَّمِيرِ فِي: قُلْنَا، عِنْدَ شرح قوله: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «1» ، وَحِكْمَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ هُنَا أَنَّ الْهُدَى لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ وَحْدَهُ تَعَالَى، فَنَاسَبَ الضَّمِيرُ الْخَاصُّ كَوْنَهُ لَا هَادِيَ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَأَعْطَى الْخَاصَّ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ الضَّمِيرَ الْخَاصَّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ: مِنِّي، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» ، وقَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ «3» ، فَأَتَى بِكَلِمَةِ: مِنْ، الدَّالَّةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي الْأَشْيَاءِ، لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَادِرٌ مِنْهُ وَمُبْتَدَأٌ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، وَأَتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى مَا يُتَرَدَّدُ فِي وُقُوعِهِ، وَالَّذِي أنبهم زَمَانُ وُقُوعِهِ، وَإِتْيَانُ الْهُدَى وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ أنبهم وَقْتَ الْإِتْيَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ إِتْيَانُ رُسُلٍ مِنْهُ، وَلَا إِنْزَالُ كُتُبٍ بِذَلِكَ، بَلْ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ رُسُلًا، وَلَا أَنْزَلَ كُتُبًا، لَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا، وَذَلِكَ لِمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ، وَنَصَّبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَكَّنَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، كَمَا قَالَ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 35. (2) سورة النساء: 4/ 174. (3) سورة يونس: 10/ 57.

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ إِنْشَادِ الشِّعْرِ، هُدىً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» ، وَنَكَّرَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُطْلَقُ، وَلَمْ يَسْبِقْ عَهْدٌ فِيهِ فَيُعَرَّفَ. وَالْهُدَى. الْمَذْكُورُ هُنَا: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، أَوِ الرُّسُلُ، أَوِ الْبِيَانُ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، أَوْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَالٌ. فَمَنْ تَبِعَ: الْفَاءُ مَعَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ. وَقَالَ السَّجَاوِنْدِي: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَاتَّبِعُوهُ، انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ عَلَى رَأْيِهِ حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. وَتَظَافَرَتْ نُصُوصُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ عَلَى أَنَّ: مَنْ، فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ، شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ جَوَابَ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِيهَا شَرْطَانِ. وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا خَوْفٌ جَوَابٌ لِلشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَتْقَنَّا مَسْأَلَةَ اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِيَّةً، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، بَلْ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِي قَسِيمِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا «2» ، فَأَتَى بِهِ مَوْصُولًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا، فَإِنَّ الشُّرُوطَ الْمُسَوِّغَةَ لِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ هُنَا. وَفِي قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، تَنْزِيلُ الْهُدَى مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ الْمُتَّبَعِ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَتَكُونُ حَرَكَاتُ التَّابِعِ وَسَكَنَاتُهُ مُوَافَقَةً لِمَتْبُوعِهِ، وَهُوَ الْهُدَى، فَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ. وَفِي إِضَافَةِ الْهُدَى إِلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْهُدَى مَا لَا يَكُونُ فِيهِ لَوْ كَانَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَإِنْ كَانَ سَبِيلُ مِثْلِ هَذَا أَنْ يَعُودَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «3» ، وَالْإِضَافَةُ تُؤَدِّي مَعْنَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ التَّعْرِيفِ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِمَزِيَّةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: هُدَايْ بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَمَحْيَايْ، وَذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ أَبِي عمر: هديّ، بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ لَمْ يُمْكِنْ كَسْرُ مَا قَبْلَ الْيَاءِ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، يَقْلِبُونَ أَلِفَ الْمَقْصُورِ يَاءً وَيُدْغِمُونَهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ: سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتَخَرَّمُوا وَلِكُلِّ قَوْمٍ مَصْرَعُ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الزهري وعيسى الثقفي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2. (2) سورة البقرة: 2/ 29. (3) سورة المزمل: 73/ 15- 16.

وَيَعْقُوبُ بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ الرَّفْعِ فِي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، فَرَفَعُوا لِلتَّعَادُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالرَّفْعُ عَلَى إِعْمَالِهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِعْمَالَ لَا عَمَلَ لَيْسَ قَلِيلٌ جِدًّا، وَيُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي صِحَّتِهِ، وَإِنْ صَحَّ فَيُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي اقْتِيَاسِهِ. وَالثَّانِي: حُصُولُ التَّعَادُلِ بَيْنَهُمَا، إِذْ تَكُونُ لَا قَدْ دَخَلَتْ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مُبْتَدَأٍ وَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِمَا. وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، فَيَنْفِي كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ مَدْلُولِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَيُجَوِّزُهُ وَلَيْسَ نَصًّا، فَرَاعَوْا مَا دَلَّ عَلَى الْعُمُومِ بِالنَّصِّ دُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالظَّاهِرِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ فَخَرَّجَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِعْمَالِ لَا عَمَلَ لَيْسَ، وَأَنَّهُ حَذَفَ التَّنْوِينَ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي إعمال لا عمل ليس، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، إِذَا كَانَ مَرْفُوعًا مُنَوَّنًا، وَحُذِفَ تَنْوِينُهُ كَمَا قَالَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِّيَ مِنَ التَّنْوِينِ لِأَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَلَا الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ مِثْلَ مَا حَكَى الْأَخْفَشُ عَنِ الْعَرَبِ: سَلَامُ عَلَيْكُمْ، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. قَالُوا: يُرِيدُونَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ هَذَا التَّخْرِيجُ أَوْلَى، إِذْ يَحْصُلُ التَّعَادُلُ فِي كَوْنِ لَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَعَارِفِ لَمْ تُجْرَ مَجْرَى لَيْسَ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ ذَلِكَ بَيْتٌ لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَتَأَوَّلَهُ النُّحَاةُ وَهُوَ: وَحَلَّتْ سَوَادَ الْقَلْبِ لَا أَنَا بَاغِيًا ... سِوَاهَا وَلَا فِي حُبِّهَا مُتَرَاخِيًا وَقَدْ لَحَّنُوا أَبَا الطِّيبِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا الْحَمْدُ مَكْسُوبًا وَلَا الْمَالُ بَاقِيًا وَكَنَّى بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحَاطَةِ، وَنَزَلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْجُرْمِ، وَنَفَى كَوْنَهُ مُعْتَلِيًا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَوْفَ لَا يَنْتَفِي بِالْكُلِّيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى انْصِبَابِ النَّفْيِ عَلَى كَيْنُونَةِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَيْنُونَةِ اسْتِعْلَاءِ الْخَوْفِ انْتِفَاءُ الْخَوْفِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَخَوْفِهَا عَنِ الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ عَنِ الْمُطِيعِينَ. فَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا، وَقَدَّمَ عَدَمَ الْخَوْفِ عَلَى عَدَمِ الْحُزْنِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ فِيمَا هُوَ آتٍ آكَدُ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ

عَلَى مَا فَاتَ، وَلِذَلِكَ أُبْرِزَتْ جُمْلَتُهُ مُصَدَّرَةً بِالنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ أَوْغَلُ فِي بَابِ النَّفْيِ، وَأُبْرِزَتِ الثَّانِيَةُ مُصَدَّرَةً بِالْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يَحْزَنُ، وَلَوْ لَمْ يُشِرْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ: وَلَا يَحْزَنُونَ، كَافِيًا. وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ نَفْيَ الْحُزْنِ عَنْهُمْ وَإِذْهَابَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ «1» إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «2» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَمَا قَبْلَهُمَا مِنَ الْخَبَرِ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «3» ، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ يُحْزِنُهُ الْفَزَعُ، وَلَا يَذْهَبُ عَنْهُمُ الْحَزَنُ. وَحُكِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَحْزَنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ. الثَّانِي: لَا يَتَوَقَّعُونَ مَكْرُوهًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لِفَوَاتِ الْمَرْغُوبِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ. الثَّالِثُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِيمَا خَلْفَهُ. الرَّابِعُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا. الْخَامِسُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عِقَابٍ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى فَوَاتِ ثَوَابٍ. السَّادِسُ: إِنَّ الْخَوْفَ اسْتِشْعَارُ غَمٍّ لِفَقْدِ مَطْلُوبٍ، وَالْحُزْنَ اسْتِشْعَارُ غَمٍّ لِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ. السَّابِعُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْهَا. الثَّامِنُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِيهَا. التَّاسِعُ: أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ السُّرُورِ وَالْأَمْنِ، لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَلَا حُزْنٌ. الْعَاشِرُ: مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَمَامَهُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ فِي صَدْرِ الَّذِي يَمُوتُ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّنَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، ثُمَّ سَلَّاهُمْ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. الْحَادِي عَشَرَ: لَا خَوْفٌ حِينَ أَطْبَقَتِ النَّارُ، وَلَا حُزْنٌ حِينَ ذُبِحَ الْمَوْتُ فِي صُورَةِ كَبْشٍ عَلَى الصِّرَاطِ، فَقِيلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: خلود لا مَوْتٌ. الثَّانِي عَشَرَ: لَا خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ عَلَى الدَّوَامِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عُمُومُ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، لَكِنْ يُخَصُّ بِمَا بَعْدَ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَدْ يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا من العموم لذلك.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 101. (2) سورة الأنبياء: 21/ 103. (3) سورة فاطر: 35/ 34.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا: قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، وَهُوَ أبلغ من قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ «1» ، وَإِنْ كَانَ التَّقْسِيمُ اللَّفْظِيُّ يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ يَكُونُ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا: عَدَمُ الْقَابِلِيَّةِ بِخِلْقَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَمِنْهَا تَعَمُّدُ تَرْكِ الشَّيْءِ، فَأُبْرِزَ الْقَسِيمُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فِي صُورَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ لِيَكُونَ مُزِيلًا لِلِاحْتِمَالِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ قَدْ يَعْنِي كُفْرَ النِّعْمَةِ وَكُفْرَ الْمَعْصِيَةِ بَيَّنَ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الشِّرْكُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، وَبِآيَاتِنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا، وَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ كَفَرُوا، يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَطْلُبُهُ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْإِعْمَالِ، وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْآيَاتُ هُنَا: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَوْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وأو الْقُرْآنُ، أَوْ دَلَائِلُ اللَّهِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، أَقْوَالٌ. وأُولئِكَ: مُبْتَدَأٌ، وأَصْحابُ: خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ بَدَلًا وَعَطْفَ بَيَانٍ، فَيَكُونُ أَصْحَابُ النَّارِ، إِذْ ذَاكَ، خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَفِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالنَّارِ. فَيُفْهَمُ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ. وَكَانَ التَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى لَا خَوْفٌ وَلَا حَزْنٌ يَلْحَقُهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَذَّبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ. فَكَأَنَّهُ حُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذَاكِرٍ فَتْرَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ وَفِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الذَّوَاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَكَأَنَّ فِيهَا تَكْرِيرًا وَتَوْكِيدًا لِذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ السَّابِقِ. وَالصُّحْبَةُ مَعْنَاهَا: الِاقْتِرَانُ بِالشَّيْءِ، وَالْغَالِبُ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَى الْمُلَازَمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: أَنْ تَنْطَلِقَ عَلَى مُطْلَقِ الِاقْتِرَانِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْمُلَازَمَةُ الدَّائِمَةُ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً، كَمَا جَاءَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها «2» ، فَيَكُونُ، إِذْ ذَاكَ، لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ نَصْبٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُفَسِّرَةً لِمَا أَنَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، فَفَسَّرَ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الصُّحْبَةَ لَا يُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ الِاقْتِرَانِ، بَلِ الْخُلُودُ، فَلَا يَكُونُ لَهَا إِذْ ذَاكَ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانيا للمبتدأ

_ (1) سورة فاطر: 35/ 34. (2) سورة الأحقاف: 46/ 14.

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 إلى 43]

الَّذِي هُوَ: أُولَئِكَ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِخِبْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُفْرَدٌ، وَالْآخَرُ جُمْلَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخُلُودِ، وَهَلْ هُوَ الْمُكْثُ زَمَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، أَوْ زَمَانًا له نهاية؟ [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ابْنُ: مَحْذُوفُ اللَّامِ، وَقِيلَ: الْيَاءُ خِلَافٌ، وَفِي وَزْنِهِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: فِعْلٌ، وَقِيلَ: فَعِلٍ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ يَاءٌ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْبِنَاءِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ. وَالِابْنُ فَرْعٌ عَنِ الْأَبِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ قَوْلُهُمْ: الْبُنُوَّةُ شَاذٌّ كَالْفُتُوَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ وَاوٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ، جَعَلَ الْبُنُوَّةَ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَلِكَوْنِ اللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ وَاوًا أَكْثَرَ مِنْهَا يَاءٌ. وَجَمْعُ ابْنٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَقَالُوا: أَبْنَاءٌ، وَجَمْعُ سَلَامَةٍ، فَقَالُوا: بَنُونَ، وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، إِذْ لَمْ يَسْلَمْ فِيهِ بِنَاءُ الْوَاحِدِ، فَلَمْ يَقُولُوا: ابْنُونَ، وَلِذَلِكَ عَامَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْجَمْعَ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا مُعَامَلَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَأُلْحِقَتِ التَّاءُ فِي فِعْلِهِ، كَمَا أُلْحِقَتْ فِي فِعْلِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، قَالَ النَّابِغَةُ: قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُو بَنِي أَسَدٍ ... يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لِأَقْوَامِ وَقَدْ سُمِعَ الْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِيهِ مُصَغَّرًا، قَالَ يُسَدِّدُ: أَبَيْنُوهَا الْأَصَاغِرَ خُلَّتِي وَهُوَ شَاذٌّ أَيْضًا. إِسْرَائِيلَ: اسْمٌ عَجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ إِسْرَا: وَهُوَ الْعَبْدُ، وَإِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ، فَيَكُونُ مِثْلَ: جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِسْرَا: صَفْوَةٌ، وَإِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى، فَمَعْنَاهُ: صَفْوَةُ اللَّهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْرَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْرِ، وَهُوَ الشَّدُّ، فَكَأَنَّ إِسْرَائِيلَ مَعْنَاهُ: الَّذِي

شَدَّهُ اللَّهُ وَأَتْقَنَ خَلْقَهُ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسُمِّيَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: أَسَرَ جِنِّيًّا كان يطفىء سُرُجَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ اسْمُ الْجِنِّيِّ: إِيلَ، فَسُمِّيَ إِسْرَائِيلُ، وَكَانَ يَخْدُمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ، وَآخِرَ مَنْ يَخْرُجُ، قَالَهُ كَعْبٌ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ هَارِبًا مِنْ أَخِيهِ عَيْصُو إِلَى خَالِهِ، فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرُوهَا، فَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ أَقَاوِيلٌ ضِعَافٌ، وَفِيهِ تَصَرُّفَاتٌ لِلْعَرَبِ بقوله: إِسْرَائِيلُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ وياء بعدها، وهي قراءة الْجُمْهُورِ. وَإِسْرَايِيلُ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالْأَعْشَى وَعِيسَى بْنُ عمر. وإسرائيل بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ ثُمَّ لَامٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ وَرْشٍ. وَإِسْرَاءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَلَامٌ، وَإِسْرِئِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ خَفِيفَةٌ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ غَيْرِ مُمَالَةٍ، قَالَ أُمَيَّةَ: لَا أَرَى مَنْ يُعَيِّشُنِي فِي حَيَاتِي ... غَيْرَ نَفْسِي إِلَّا بَنِي إِسْرَالَا وَهِيَ رِوَايَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وغيرهم: وإسرائين بَنُونٍ بَدَلَ اللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْرَائِينَا كَمَا قَالُوا: سِجِّيلٌ، وَسِجِّينٌ، وَرَفْلٌ، وَرَفْنٌ، وَجِبْرِيلُ، وَجِبْرِينُ، أُبْدِلَتْ بِالنُّونِ كَمَا أُبْدِلَتِ النُّونُ بِهَا فِي أَصِيلَانِ قَالُوا: أَصِيلَالِ، وَإِذَا جَمَعْتَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ قُلْتَ: أَسَارِيلُ، وَحُكِيَ: أَسَارِلَةٌ وَأَسَارِلٌ. الذِّكْرُ: بِكَسْرِ الذَّالِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَبِالْكَسْرِ ضِدُّهُ: الصَّمْتُ، وَبِالضَّمِّ ضِدُّهُ: النِّسْيَانُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّيَقُّظِ وَالتَّنَبُّهِ، وَيُقَالُ: اجْعَلْهُ مِنْكَ عَلَى ذِكْرٍ. النِّعْمَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ: كالذبح، والنقض، وَالرَّعْيِ، وَالطَّحْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ. أَوْفَى، وَوَفَى، وَوَفَّى: لُغًى ثَلَاثٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَأْتِي أَوْفَى بِمَعْنَى: ارْتَفَعَ، قَالَ: رُبَّمَا أَوْفَيْتُ فِي عِلْمٍ ... تَرْفَعْنَ ثَوْبِي شَمَالَاتٍ وَالْمِيفَاتُ: مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَوْفَيْتُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: وَفَّيْتُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَى بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَى بِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَّى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ وَفَّيْتُ بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَيْتُ بِهِ، وَأَوْفَيْتُ الْكَيْلَ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ. وَفَى الشَّيْءُ: تَمَّ، وَوَفَّى الْكَيْلَ وَأَوْفَيْتُهُ: أَتْمَمْتَهُ، وَوَفَّى رِيشُ الطَّائِرِ: بَلَغَ التَّمَامَ،

وَدِرْهَمٌ وَافٍ: أَيْ تَامٌّ كَامِلٌ. الرَّهَبُ، وَالرُّهْبُ، وَالرَّهْبُ، وَالرَّهْبَةُ: الْخَوْفُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهَابَةِ، وَهُوَ عَظْمُ الصَّدْرِ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْخَوْفُ. وَالرَّهَبُ: النَّصْلُ، لِأَنَّهُ يُرْهَبُ مِنْهُ، وَالرَّهْبَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالْمَخَافَةُ نَظَائِرُ. التَّصْدِيقُ: اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَالتَّكْذِيبُ يُقَابِلُهُ. أَوَّلُ: عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: أَفْعَلُ، وَفَاؤُهُ وَعَيْنُهُ وَاوَانِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ فِعْلٌ لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ، فَهُوَ مِمَّا فَاؤُهُ وَعَيْنُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ إِلَّا: ددن، وقفس، وَبُبَنٌ، وَبَابُوسٌ. وَقِيلَ: إِنَّ بَابُوسًا أَعْجَمِيٌّ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَفْعَلُ مِنْ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ، فَأَصْلُهُ أَوْأَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ، وَهَذَا تَخْفِيفٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، إِذْ تَخْفِيفُ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ أَفْعَلُ من آل يؤل، فَأَصْلُهُ أَأُولُ، ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ أَوْأَلُ أَعْفَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَيُسْتَعْمَلُ أَوَّلُ اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، فَيَكُونَ مَصْرُوفًا، وَتَلِيهِ الْعَوَامِلُ نَحْوَ: أَفْكَلُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَدِيمٍ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ: ما تَرَكْتُ لَهُ أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ لَهُ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا. وَالِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي: أَنْ يُجْرَى مَجْرَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَيُسْتَعْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَائِهِ مِنْ كَوْنِهِ بِمَنْ مَلْفُوظًا بِهَا، أَوْ مُقَدَّرَةً، وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَبِالْإِضَافَةِ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: ابْدَأْ بِهَذَا أَوَّلُ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ بِاتِّفَاقٍ، وَالْخِلَافُ فِي عِلَّةِ بِنَائِهِ ذَلِكَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ الْأَشْيَاءِ، أَمْ لِشِبْهِ الْقَطْعِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ مَنْ كَذَا. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْقَطْعَ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْخِلَافُ إِذَا بُنِيَ، أَهْوَ ظَرْفٌ أَوِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ؟ وَهُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُبْنَى لِلْقَطْعِ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِ، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الثَّمَنُ: الْعِوَضُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ، وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ ظَفِرْتَ بِهَا ... فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ أَيْ مِنْ عِوَضٍ. الْقَلِيلُ: يُقَابِلُهُ الْكَثِيرُ، وَاتَّفَقَا فِي زِنَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاخْتَلَفَا فِي زِنَةِ الْفِعْلِ، فَمَاضِي الْقَلِيلِ فَعَلَ، وَمَاضِي الْكَثِيرِ فَعُلَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَنْ قَلَّ عَلَى فَاعِلٍ نَحْوَ: شَذَّ يَشِذُّ، فَهُوَ شَاذٌّ، لَكِنْ حُمِلَ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَمِثْلُ قَلَّ فَهُوَ قَلِيلٌ، صَحَّ فَهُوَ صَحِيحٌ. اللَّبْسُ: الْخَلْطُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَبَسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطْتَهُ، وَالْتَبَسَ بِهِ: اخْتَلَطَ، وَقَالَ الْعَجَّاجُ:

لِمَا لَبِسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي وَجَاءَ أَلْبَسَ بِمَعْنَى لَبَّسَ. وَقَالَ آخَرُ: وَكَتِيبَةٍ أَلْبَسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي الْكَتْمُ، وَالْكِتْمَانُ: الْإِخْفَاءُ، وَضِدُّهُ: الْإِظْهَارُ، وَمِنْهُ الْكَتْمُ: وَرَقٌ يُصْبَغُ بِهِ الشَّيْبُ. الرُّكُوعُ: لَهُ مَعْنَيَانِ فِي اللُّغَةِ: أَحَدُهُمَا: التّطَامُنُ وَالِانْحِنَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَأَبِي زَيْدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أُخَبِّرُ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ... أَدُبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ وَالثَّانِي: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُفَضَّلِ وَالْأَصْمَعِيِّ، قَالَ الْأَضْبَطُ السَّعْدِيُّ: لَا تُهِينُ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا افْتِتَاحُ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُنَاسَبَةُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ هُنَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَذِكْرِ جُمَلٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ قَاطِبَةً بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ بِذِكْرِ أَصْلِهِمْ آدَمَ، وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِبْلِيسُ. وَكَانَتْ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ: أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىَ، أَهْلَ كِتَابٍ، مُظْهِرِينَ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ وَالِاقْتِدَاءَ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدِ انْدَرَجَ ذِكْرُهُمْ عُمُومًا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا «1» ، فَجَرَّدَ ذِكْرَهُمْ هُنَا خُصُوصًا، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ هُنَا، وَذَكَرُوا مَا يَقْتَضِي لَهُمُ الْإِيمَانَ بِهَذَا الْكِتَابِ، كَمَا آمَنُوا بِكُتُبِهِمُ السَّابِقَةِ، إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ عَلَى مَا سَيَأْتِي جُمْلَةً مُفَصَّلَةً. وَنَاسَبَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ قِصَّةَ آدَمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصلاة والسلام، لأنهم بعد ما أُوتُوا مِنَ الْبَيَانِ الْوَاضِحِ وَالدَّلِيلِ اللَّائِحِ، الْمَذْكُورِ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، ظَهَرَ مِنْهُمْ ضِدُّ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّدَاءِ لِيُحَرِّكَهُمْ لِسَمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، نَحْوَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا، وَيا آدَمُ اسْكُنْ «2» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 121. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 35.

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى لَفْظِ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَعْقُوبُ، وَلَمْ يَقُلْ: يَا بَنِي يَعْقُوبَ، لِمَا فِي لَفْظِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ صَفْوَةُ اللَّهِ، وَذَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ تَفَاسِيرِهِ، فَهَزَّهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ يَا بَنِي صَفْوَةِ اللَّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ أَبِيهِمْ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: يَا ابْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَطِعِ اللَّهَ، فَتُضِيفُهُ إِلَى مَا يُحَرِّكُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ آبَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَحْمُودًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَحْمُودًا؟ أَلَا تَرَى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1» ، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا «2» ، وَفِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ انْتَمَى إِلَى شَخْصٍ، وَلَوْ بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ، يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَعَلَيْهِ يَا بَنِي آدَمَ «3» وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَبًا. قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «4» ، وَفِي إِضَافَتِهِمْ إِلَى إِسْرَائِيلَ تَشْرِيفٌ لَهُمْ بِذِكْرِ نِسْبَتِهِمْ لِهَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ، وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خليل الرحمن. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ نبينا محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَانِ إِلَّا يَعْقُوبُ، فَإِنَّهُ يَعْقُوبُ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ. وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: أَنَّ الْمَسِيحَ اسْمُ عَلَمٍ لِعِيسَى، لَا اشْتِقَاقَ لَهُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ خَمْسَةً من الأنبياء ذو واسمين: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِيسَى وَالْمَسِيحُ، وَإِسْرَائِيلُ وَيَعْقُوبُ، وَيُونُسُ وَذُو النُّونِ، وَإِلْيَاسُ وَذُو الْكِفْلِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَمَا وَالَاهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَآمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَسْلَافُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُدَمَاؤُهُمْ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ لَا يُقَالُ لَهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، إِلَّا عَلَى ضَرْبٍ بَعِيدٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ لَا يُقَالُ لَهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: اذْكُرُوا الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَمِرُّوا النِّعَمَ عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهَا، فَإِنَّ إِمْرَارَهَا عَلَى اللِّسَانِ وَمُدَارَسَتَهَا سَبَبٌ فِي أَنْ لَا تُنْسَى. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: تَنَبَّهُوا لِلنِّعَمِ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ شُكْرِهَا. وَفِي النِّعْمَةِ الْمَأْمُورِ بِشُكْرِهَا أَوْ بِحِفْظِهَا أَقْوَالٌ: مَا اسْتُودِعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَإِيتَائِهِمُ التَّوْرَاةَ ونحو

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 22 و 23. (2) سورة البقرة: 2/ 170. (3) سورة الأعراف: 7/ 26 و 27 و 31 و 35. (4) سورة الحج: 22/ 78.

ذَلِكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ، أَوْ إِدْرَاكُهُمْ مُدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أَوْ عِلْمُ التَّوْرَاةِ، أَوْ جَمِيعُ النِّعَمِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَعَلَى سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى تَصَارِيفِ الْأَحْوَالِ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا اخْتَصَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ النِّعَمِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَنِعَمُ اللَّهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ: اسْتَنْقَذَهُمْ مِنْ بَلَاءِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ الْمُعَظَّمَةَ، وَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطَاهُمْ عَمُودًا مِنَ النُّورِ لِيُضِيءَ لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لَا تَتَشَعَّثُ، وَثِيَابُهُمْ لَا تَبْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِّرُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ لِأَنَّ فِي جُمْلَتِهَا مَا شَهِدَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَهُوَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ، ولئن يَحْذَرُوا مُخَالَفَةَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ يُطْمِعُ فِي النِّعَمِ الْخَالِفَةِ، وَذَلِكَ الطَّمَعُ يَمْنَعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ. وَهَذِهِ النِّعَمُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى آبَائِهِمْ، فَهِيَ أَيْضًا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ حَصَلَ بِهَا النَّسْلُ، وَلِأَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى آبَاءٍ شُرِّفُوا بِنِعَمٍ تَعْظِيمٌ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ، وَعَبِيدُ الْمُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ذكر المنعم فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِيَ، نَوْعُ الْتِفَاتٍ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَفِي إِضَافَةِ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِهَا وَسَعَةِ بَرِّهَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهَا، وَيَجُوزُ فِي الْيَاءِ مِنْ نِعْمَتِي الْإِسْكَانُ وَالْفَتْحُ، وَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَتْحِ. وَأَنْعَمْتُ: صِلَةُ الَّتِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. الْعَهْدُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لُغَةً فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ «2» ، وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمُعَاهِدِ وَإِلَى الْمُعَاهَدِ. وَفِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. الثَّانِي: مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: مَا ذُكِرَ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَعَهْدُهُمْ قَبُولُهَا وَالْمُجَازَاةُ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: تَرْكُ الْكَبَائِرِ وَعَهْدُهُمْ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ. السَّادِسُ: إِصْلَاحُ الدِّينِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ آخِرَتِهِمْ. السَّابِعُ: مُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ وَعَهْدُهُمُ الْمَعُونَةُ عَلَى ذَلِكَ. الثَّامِنُ: إِصْلَاحُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 152. (2) سورة البقرة: 2/ 27.

السَّرَائِرِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ الظَّوَاهِرِ. التَّاسِعُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» ، قَالَهُ الْحَسَنُ. الْعَاشِرُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «2» . الْحَادِي عَشَرَ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَاتِ وَعَهْدُهُمْ إِيصَالُهُمْ إِلَى مَنَازِلِ الرِّعَايَاتِ. الثَّانِي عَشَرَ: الْإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ عَلَى الْحَسَنَاتِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: حِفْظُ آدَابِ الظَّوَاهِرِ وَعَهْدُهُمْ فِي السَّرَائِرِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: عَهْدُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي بَاعِثٌ من بني إسماعيل نَبِيًّا فَمَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ غَفَرْتُ لَهُ وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. الْخَامِسَ عَشَرَ: شَرْطُ الْعُبُودِيَّةِ وَعَهْدُهُمْ شَرْطُ الرُّبُوبِيَّةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَوْفُوا فِي دَارِ مِحْنَتِي عَلَى بِسَاطِ خِدْمَتِي بِحِفْظِ حُرْمَتِي، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي دَارِ نِعْمَتِي عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِي بِقُرْبِي وَرُؤْيَتِي، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ. السَّابِعَ عَشَرَ: لَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ أُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ، قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ. الثَّامِنَ عَشَرَ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا «3» الْآيَةَ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَهْدُهُمْ إِدْخَالُهُمُ الْجَنَّةَ. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَوَصَايَاهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. الْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي التَّوَكُّلِ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي كِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ، قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي حِفْظِ حُدُودِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بِحِفْظِ أَسْرَارِكُمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ غَيْرِي. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: عَهْدُهُ حِفْظُ الْمَعْرِفَةِ وَعَهْدُنَا إِيصَالُ الْمَعْرِفَةِ، قاله القشيري. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي الَّذِي قَبِلْتُمْ يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أُوفِ بِعَهْدِكُمُ الَّذِي ضَمِنْتُ لَكُمْ يَوْمَ التَّلَاقِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي اكْتَفُوا مِنِّي بِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَرْضَ عَنْكُمْ بِكُمْ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الْمَعْنَى طَلَبُ الْإِيفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَرْتِيبُ إِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ عَهْدًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، أَوْ إِبْرَازًا لِمَا تَفَضَّلَ بِهِ تَعَالَى فِي صُورَةِ الْمَشْرُوطِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ فَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِيفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ «4» ، إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «5» ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ لَهُ عَهْدًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ مُشَدَّدًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 93. (2) سورة آل عمران: 3/ 187. (3) سورة المائدة: 5/ 12. (4) سورة التوبة: 9/ 111. (5) سورة مريم: 19/ 87.

التَّكْثِيرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ عَلَى لَفْظِ أُوفِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُبَالِغْ فِي إِيفَائِكُمْ، فَضَمِنَ تَعَالَى إِعْطَاءَ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» . وَانْجِزَامُ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْأَمْرِ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَمْرِ وَهُوَ طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا آخَرَ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَبِ بِمَا هُوَ طَلَبُ شَيْءٍ أَصْلًا، لَكِنْ إِذَا لُوحِظَ مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَإِذَا قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ضُمِّنَ اضْرِبْ مَعْنَى: إِنْ تَضْرِبْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ نَابَتْ مَنَابَ الشَّرْطِ، وَمَعْنَى النِّيَابَةِ أَنَّهُ كَانَ التَّقْدِيرُ: اضْرِبْ زَيْدًا، إِنْ تَضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ثُمَّ حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَأُنِيبَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ مَنَابَهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، بَلْ عَمِلَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِ الشَّرْطِ، كَمَا عَمِلَتْ مِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَمِلَتِ الْجَزْمَ لِنِيَابَتِهَا مَنَابَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ، الْعَمَلُ إِنَّمَا هُوَ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَارِسِيِّ وَالسِّيرَافِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. إِيَّايَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرًا بَعْدَهُ لِانْفِصَالِ الضَّمِيرِ، وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ قَبْلَهُ، وَهُمْ مِنَ السَّجَاوِنْدِيِّ، إِذْ قَدَّرَهُ وَارْهَبُوا إِيَّايَ، وَفِي مَجِيئِهِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُنَاسَبَةً لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ أَمْرٌ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا، إِذِ الْكَلَامُ مَفْرُوغٌ فِي قَالَبِ جُمْلَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ ضَمِيرَ رَفْعٍ لَجَازَ، لَكِنْ يَفُوتُ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ. وَحُذِفَتِ الْيَاءُ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ فَارْهَبُونِ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فِي التَّقْدِيرِ، وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ، جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ عِنْدَهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّا لَا نَذْهَبُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَارْهَبُونِ، دَخَلَتْ فِي جَوَابِ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مَا نَصُّهُ: تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، لِأَنَّ يَأْتِيكَ صفة هاهنا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: كُلُّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَاضْرِبْ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: قَوْلُهُ كُلَّ رجل

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 160.

يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، بِمَنْزِلَةِ زَيْدًا فَاضْرِبْ، إِلَّا أَنَّ هُنَا مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَجْلِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْفِعْلِ، فَانْتَصَبَ كُلَّ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ لِي وجه إلا حسنية الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ خَرُوفٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ، أَعْنِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الَّذِي ظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْبَحْثِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَنَبَّهْ: فَاضْرِبْ زَيْدًا، ثُمَّ حُذِفَ تَنَبَّهْ فَصَارَ: فَاضْرِبْ زَيْدًا. فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفَاءُ صَدْرًا قَدَّمُوا الِاسْمَ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ هُنَا لِتَرْبِطَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِهِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ دَخَلَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَتْ مُؤَخَّرَةً مِنْ تَقْدِيمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَتُنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ فَانْفَصَلَ، وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ حِينَ قُدِّمِ الْمَفْعُولُ وَفِعْلُ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ تَنَبَّهُوا مَحْذُوفٌ، فَالْتَقَى بَعْدَ حَذْفِهِ حَرْفَانِ: الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَالْفَاءُ، الَّتِي هِيَ جَوَابُ أَمْرٍ، فَتَصَدَّرَتِ الْفَاءُ، فَقُدِّمَ الْمَفْعُولَ وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، ثُمَّ أُعِيدَ الْمَفْعُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَلِتَكْمِيلِ الْفَاصِلَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْأَخِيرِ لَا يَكُونُ إِيَّايَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، بَلْ مَعْمُولًا لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، وَلَا يَبْعُدُ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بِالضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، كَمَا أُكِّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ فِي نَحْوِ: ضَرَبْتُكَ إِيَّاكَ، وَالْمَعْنَى: ارْهَبُونِ أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنْزَلَتُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ مَعْنَى فَارْهَبُونِ: أَنْ لَا تَنْقُضُوا عَهْدِي، وَفِي الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَعِيدٌ بَالِغٌ، وَلَيْسَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «2» ، تَشْدِيدٌ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَطْلُوبٌ، وَاعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فَافْتَرَقَا. وَقِيلَ: الْخَوْفُ خَوْفَانِ، خَوْفُ الْعُقَابِ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَيَزُولُ، وَخَوْفُ جَلَالٍ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الْقَلْبِ، وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: الرَّهْبَةُ: خَشْيَةُ الْقَلْبِ مِنْ رَدِيءِ خَوَاطِرِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، مَوْضِعُ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، مَوْضِعُ الْعِلْمِ السَّابِقِ وَمَوْضِعُ الْمَكْرِ وَالِاسْتِدْرَاجِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَفْرِدُونِي بِالْخَشْيَةِ لِانْفِرَادِي بِالْقُدْرَةِ عَلَى الإيجاد.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 66. [.....] (2) سورة فصلت: 41/ 40.

وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْمَأْمُورِينَ قَبْلُ هُمْ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَظَاهِرُهُ اتِّحَادُ الْمَأْمُورِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ كَعْبٌ وَمَنْ معه. وما فِي قَوْلِهِ: بِما أَنْزَلْتُ مَوْصُولَةٌ، أَيْ بِالَّذِي أَنْزَلْتُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْزَلْتُهُ، وَشُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَالَّذِي أَنْزَلَ تَعَالَى هُوَ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي مَعَهُمْ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِما أَنْزَلْتُ: مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَآمِنُوا بِإِنْزَالِي لِمَا مَعَكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَتَكُونُ اللَّامُ فِي لِمَا مِنْ تَمَامِ الْمَصْدَرِ لَا مِنْ تَمَامِ. مُصَدِّقاً. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ لِما مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِ مُصَدِّقاً، وَاللَّامُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِي لِمَا مُقَوِّيَةٌ لِلتَّعْدِيَةِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «1» . وَإِعْرَابُ مُصَدِّقًا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: لِما مَعَكُمْ. وَلَا نَقُولُ: يَبْعُدُ ذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ مُقَوٍّ لِلتَّعْدِيَةِ، فَهُوَ كَالْحَرْفِ الزَّائِدِ، وَصَارَ نَظِيرَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ، مُجَرَّدَةً لِهِنْدٍ، التَّقْدِيرُ: ضَارِبٌ هِنْدًا مُجَرَّدَةً، ثُمَّ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحَالُ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ الْحَالُ الْمُصَدَّرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْعُدُ وَصْفُ الْإِنْزَالِ بِالتَّصْدِيقِ إِلَّا أَنَّ يُتَجَوَّزَ بِهِ، وَيُرَادُ بِهِ الْمُنَزَّلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِمَا مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُنَزَّلُ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُصَدِّقًا حال مِنَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمَحْذُوفِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَنْزَلْتُ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ أَيْضًا. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ غَيْرِ صِفَةٍ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَالنَّكِرَةُ تُطَابِقُ مَا قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَانَ مُفْرَدًا، وَإِنْ كَانَ تَثْنِيَةً كَانَ تَثْنِيَةً، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا كَانَ جَمْعًا، فَتَقُولُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ، وَهِنْدٌ أَفْضَلُ امْرَأَةٍ، وَالزَّيْدَانِ أَفْضَلُ رَجُلَيْنِ، وَالزَّيْدُونَ أَفْضَلُ رِجَالٍ. وَلَا تَخْلُو تِلْكَ النَّكِرَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنْ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أَوْ غَيْرَ صِفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صِفَةٍ فَالْمُطَابَقَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إِخْوَتُكَ أَفْضَلُ رَجُلٍ، بِالْإِفْرَادِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ. وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ جَازَتِ الْمُطَابَقَةُ وَجَازَ الْإِفْرَادُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أنشده الفراء:

_ (1) سورة هود: 11/ 107.

وَإِذَا هُمْ طَعِمُوا فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ ... وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ فَأَفْرَدَ بِقَوْلِهِ: طَاعِمٍ، وَجَمَعَ بُقُولِهِ: جِيَاعِ. وَإِذَا أُفْرِدَتِ النَّكِرَةُ الصِّفَةُ، وَقَبْلَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ، فَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مُتَأَوَّلٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ مَنْ طَعِمَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَدَّرُ وَصْفًا لِمُفْرَدٍ يُؤَدِّي مَعْنَى جَمْعٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ، وَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، فَيَكُونُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ فِي التَّقْدِيرِ وَفْقَ مَا تَقَدَّمَهُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَكُونُ التَّجَوُّزُ فِي الْجَمْعِ، فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا الزَّيْدُونَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَالْمَعْنَى: كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّيْدِينَ أَفْضَلُ عَالِمٍ. وَهَذِهِ النَّكِرَةُ أَصْلُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ التَّعْرِيفُ وَالْجَمْعُ، فَاخْتَصَرُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَبِنَاءَ الْجَمْعِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ هُوَ النَّكِرَةُ فِي الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ: أَبُوكَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَتَقْدِيرُهُ: عِنْدَهُمْ أَبُوكَ الْأَفْضَلُ الْعَالِمُ، وَأُضِيفَ أَفْضَلُ إِلَى مَا هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنَى. وَجَمِيعُ أَحْكَامِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ تَأَوَّلُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِمَنْ كَفَرَ، أَوْ أَوَّلَ حِزْبٍ كَفَرَ، أَوْ لَا يَكُنْ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ. وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْكُفْرِ لَهُمْ ثَانِيًا أَوْ آخِرًا، فَمَفْهُومُ الصِّفَةِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَلَمَّا أُشْكِلَتِ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَوَّلَ صِلَةٌ يَعْنِي زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا آخِرَ كَافِرٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَخَصَّ الْأَوَّلِيَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَفْحَشُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: مِنْ أُنَاسٍ لَيْسَ فِي أَخْلَاقِهِمْ ... عَاجِلُ الْفُحْشِ وَلَا سُوءُ جَزَعْ لَا يُرِيدُ أَنَّ فِيهِمْ فُحْشًا آجِلًا، بَلْ أَرَادَ لَا فُحْشَ عِنْدَهُمْ، لَا عَاجِلًا، وَلَا آجِلًا، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ مَوْصُوفًا مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَا كِتَابَ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَوَّلُ كَافِرٍ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ هُمْ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ صِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ كُفْرَ قُرَيْشٍ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ شَبِيهٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ. وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَ صِلَةً غَيْرَ هَذِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِكُمْ لِذِكْرِهِ، بَلْ تَثَبَّتُوا فِيهِ وَرَاجِعُوا عُقُولَكُمْ فِيهِ. وَقِيلَ: ذِكْرُ الْأَوَّلِيَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مُؤْمِنٍ بِهِ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَبِصِفَتِهِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُبَشِّرِينَ بِزَمَانِهِ وَالْمُسْتَفْتِحِينَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ أَمْرُهُمْ عَلَى

الْعَكْسِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَسُنُّوا الْكُفْرَ سُنَّةً، فَإِنَّ وِزْرَ الْمُبْتَدِئِينَ فِيمَا يَسُنُّونَ أَعْظَمُ مِنْ وِزْرِ الْمُقْتَدِينَ فِيمَا يَتَّبِعُونَ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهُوَ القرآن، قاله ابن جريج، أَوْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُنَزَّلِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ عَلَى النِّعْمَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِمَا يُصَدِّقُهُ، فَقَدْ كَفَرُوا بِهِ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَهُوَ مَنْطُوقٌ بِهِ مَقْصُودٌ لِلْحَدِيثِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. الِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِبْدَالُ، كَمَا قَالَ: كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا وَقَالَ آخَرُ: فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحُلْمَ بَعْدَكَ بِالْجَهْلِ وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِبْدَالِ، جَازَ أَنْ تَدْخُلَ الْبَاءُ عَلَى الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَا كَانَ ثَمَنًا، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ، لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ جَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ يَكُونُ الْمَنْصُوبُ فِيهِ هُوَ الْحَاصِلَ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الزَّائِلُ، بِخِلَافِ مَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْلَكَ: بَدَّلْتُ أَوْ أَبْدَلْتُ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ مَعْنَاهُ: أَخَذْتُ الدِّينَارَ بَدَلًا عَنِ الدِّرْهَمِ، وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَلَا تَسْتَبْدِلُوا بِآيَاتِي الْعَظِيمَةِ أَشْيَاءَ حَقِيرَةً خَسِيسَةً. وَلَوْ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الثَّمَنِ دُونَ الْآيَاتِ لَانْعَكَسَ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هُمْ بَذَلُوا ثَمَنًا قَلِيلًا وَأَخَذُوا الْآيَاتِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَدُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْآيَاتِ كَدُخُولِهَا عَلَى الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَا عَيْنَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ دَخَلَتِ الْبَاءُ عَلَى الثَّمَنِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. انْتَهَى كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَنَانِيرُ وَلَا دَرَاهِمُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبْذُولِ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا، لَكِنْ يَخْتَلِفُ دُخُولُ الْبَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ نَسَبَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمُتَعَاقِدِينَ جَعَلَ مَا حَصَّلَ هُوَ الْمُثَمَّنَ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَجَعْلَ مَا بَذَلَ هُوَ الثَّمَنَ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَنَفْسُ الْآيَاتِ لَا يُشْتَرَى بِهَا، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: بِتَعْلِيمِ آيَاتِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ: بِتَغْيِيرِ آيَاتِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: بِكِتْمَانِ آيَاتِي، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ كَنَى بِالْآيَاتِ عَنِ الْأَوَامِرِ والنواهي.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 89.

وَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَاتُ، مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَا أَوْضَحَ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى الْأَقَاوِيلِ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ، وَالْقَوْلِ بَعْدَهَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ثَمَنًا قَلِيلًا. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُضَافَ هُوَ التَّعْلِيمُ، قَالَ: الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الْأُجْرَةُ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي شَرِيعَتِهِمْ، أَوِ الرَّاتِبُ الْمُرْصَدُ لَهُمْ عَلَى التَّعْلِيمِ، فَنُهُوا عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ التَّغْيِيرُ، قَالَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِهِمْ خَافُوا فَوَاتَهَا لَوْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ كِنَايَةً عَنِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، جَعَلَ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ هُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي اشْتَغَلُوا بِهَا عَنْ إِيقَاعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَوَصَفَ الثَّمَنَ بِالْقَلِيلِ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ عِوَضًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1» ، فَلَيْسَ وَصْفُ الثَّمَنِ بِالْقِلَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُخَصِّصُ النَّكِرَاتِ، بَلْ مِنَ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلثَّمَنِ الْمُحَصَّلِ بِالْآيَاتِ، إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَلَى مَنْعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْخُذُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ: «إِنَّ خَيْرَ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» . وَقَدْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً، وَلَا دَلِيلَ لِذَلِكَ الذَّاهِبِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ: الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِعْرَابًا، كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَيَقْرُبُ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ مَعْنَى الرَّهْبَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الِاتِّقَاءُ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِحُصُولِ مَا يُتَّقَى مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالرَّهْبَةِ لِأَجْلِ أَنَّ جَوَازَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى جَوَازِ الْعِقَابِ هُنَاكَ وَتَعْيِينِهِ هُنَا: أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُجَوِّزُ الْعِقَابَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرْكُ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشِرَاءُ الثَّمَنِ الْيَسِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُحَتِّمُ العقاب وتعينه، إذ

_ (1) سورة النساء: 4/ 77.

لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ: فَارْهَبُونِ، وَقِيلَ فِي هَذَا: فَاتَّقُونِ، أَيِ اتَّخِذُوا وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ ارْهَبُونِ وَاتَقُونِ بِشَيْءٍ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ بِخَوْفِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا سِيقَ الْأَمْرُ عَقِيبَهُ دُخُولًا وَاضِحًا، فَكَانَ الْمَعْنَى: ارْهَبُونِ، إِنْ لَمْ تَذْكُرُوا نِعْمَتِي وَلَمْ تُوفُوا بِعَهْدِي، وَاتَّقَوْنِ، إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ وَإِنِ اشْتَرَيْتُمْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ: أَيِ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ التَّوْرَاةَ بِمَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ بِمَا بَدَّلُوا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ لِأَنَّهُمُ ائْتُمِنُوا عَلَى إِبْدَاءِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَخَانُوا فِي ذَلِكَ بِكِتْمَانِهِ وَتَبْدِيلِهِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَيْرِهِمْ وَجَحْدِهِمْ أَنَّهُ مَا بُعِثَ إِلَيْهِمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ إِيمَانَ مُنَافِقِي الْيَهُودِ بِإِبْطَانِ كُفْرِهِمْ، أَوْ صفة النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الدَّجَّالِ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْبَاطِلِ لِلْإِلْصَاقِ، كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ، فَكَأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فلا يتيمز الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَهِيَ فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، قَالَ: كَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا الْحَقَّ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا بِبَاطِلِكُمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ عَنْ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَصَرْفٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ: مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى تَلْبِسُوا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا قَالُوا: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، بِالْجَزْمِ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَجُوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا على إِضْمَارِ أَنْ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَيُسَمَّى عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ النَّصْبُ عَلَى الصَّرْفِ. وَالْجَرْمِيُّ يَرَى أَنَّ النَّصْبَ بِنَفْسِ الْوَاوِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَمَا جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، مَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ بِالْمَفْهُومِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِالْتِبَاسِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ رُجِّحَ الْجَزْمُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَاتِمِينَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُثْبَتَةَ الْمُصَدَّرَةَ بِمُضَارِعٍ، إِذَا وَقَعَتْ حَالًا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، وَالتَّقْدِيرُ الْإِعْرَابِيُّ هُوَ أَنْ تُضْمِرَ قَبْلَ

الْمُضَارِعِ هُنَا مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَلَا يَظْهَرُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْحَالِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَالُ لَازِمَةً، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقَعُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ إِلَّا وَيَكُونُ الْحَقُّ مَكْتُومًا، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَعَى عَلَيْهِمْ كَتْمَهُمُ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ، عَلَى مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ سِيبَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّنَاسُبُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. وَالْحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ هُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، أَوِ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ عَامًّا فَيَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ، وَمَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتْمَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُظْهِرُونَ خِلَافَهُ. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا، إِذِ الْمَقْصُودُ: وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ كَانَ عَالِمًا أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ وَيُلْبِسَهُ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ قَدَّرُوا حَذْفَهُ حَذْفَ اخْتِصَارٍ، وَفِيهِ أَقَاوِيلُ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ هُوَ وَصِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. الثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً. الرَّابِعُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي حَالِ عِلْمِكُمْ أَنَّكُمْ لَابِسُونَ كَاتِمُونَ، فَجَعَلَ مَفْعُولَ الْعِلْمِ اللَّبْسَ وَالْكَتْمَ الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ أَقْبَحُ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْقَبِيحِ رُبَّمَا عُذِرَ رَاكِبُهُ، انْتَهَى. فَكَانَ مَا قَدَّرَهُ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ أَوْ تَحْرِيمَ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَمْ يَشْهَدْ تَعَالَى لَهُمْ بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ كِتْمَانِ مَا عَلِمُوا، انْتَهَى. وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ هُوَ الْحَقَّ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَهُ، لِأَنَّ الْمَكْتُومَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَغَيْرَ حَقٍّ، فَإِذَا كَانَ حَقًّا وَعَلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ، كَانَ كِتْمَانُهُ لَهُ أشد معصية وَأَعْظَمَ ذَنْبًا، لِأَنَّ الْعَاصِيَ عَلَى عِلْمٍ أَعْصَى مِنَ الْجَاهِلِ الْعَاصِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ حَقٍّ مَخْصُوصٍ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُمْ بِعِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَالَ: وَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ تَكُونُ مَعْطُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ ثُبُوتِيَّةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنَاسِبَةً فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي تَخْرِيجِنَا لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ. وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ كَوْنِ الْعِلْمِ حُذِفَ مَفْعُولُهُ حَذْفَ اقْتِصَارٍ،

إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، لَا يَصْلُحُ لَهُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَلَا كِتْمَانُهُ. وَهَذِهِ الْحَالُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا أَنَّهَا قَيْدٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، فَلَا تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى جَوَازِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ حَالَةَ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِحَالِ الشَّيْءِ لَا يَدْرِي كَوْنَهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا: أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَتَوَهَّمُوا، أَنْ يَلْتَئِمَ لَكُمْ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ وَالْكَوْنُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحَلَّيْنِ، فَإِمَّا مَبْسُوطَةٌ بِحَقٍّ، وَإِمَّا مَرْبُوطَةٌ بِحَطٍّ، وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، تَدْلِيسٌ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ تَلْبِيسٌ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ تَقْدِيسٌ، انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كِتْمَانُهُ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1» ، وَيَعْنِي بِذَلِكَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ، فَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: جِنْسُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قِيلَ: أَرَادَ الْمَفْرُوضَةَ، وَقِيلَ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ: احْفَظُوا أَدَبَ الْحَضْرَةِ، فَحِفْظُ الْأَدَبِ لِلْخِدْمَةِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، زَكَاةَ الْهِمَمِ، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النِّعَمِ، قَالَ قَائِلُهُمْ: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ زَكَاةٌ تُؤَدَّى ... وَزَكَاةُ الْجَمَالِ رَحْمَةُ مِثْلِي. وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ: الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الرُّكُوعُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ، وَأُمِرُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوعُ مُنْدَرِجًا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهُ رُكُوعٌ فِي صَلَاتِهِمْ، فَنَبَّهَ بِالْأَمْرِ بِهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: كَنَى بِالرُّكُوعِ عَنِ الصَّلَاةِ: أَيْ وَصَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ، كَمَا يُكْنَى عَنْهَا بِالسَّجْدَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِالْجُزْءِ، وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ مَعَ دَلَالَةٌ عَلَى إِيقَاعِهَا فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِيقَاعُهَا فِي جَمَاعَةٍ. وَالرَّاكِعُونَ: قِيلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْجِنْسَ مِنَ الرَّاكِعِينَ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَاتٍ بِالْوَاوِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي فِي الْوَضْعِ تَرْتِيبًا ترتيب

_ (1) سورة التوبة: 9/ 71.

[سورة البقرة (2) : الآيات 44 إلى 46]

عَجِيبٌ، مِنْ حَيْثُ الْفَصَاحَةِ وَبِنَاءِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، إِذْ فِي ذَلِكَ مَا يَدْعُو إِلَى مَحَبَّةِ الْمُنْعِمِ وَوُجُوبِ إِطَاعَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْعَهْدِ الَّذِي الْتَزَمُوهُ لِلْمُنْعِمِ، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ بِتَرْتِيبِ إِيفَائِهِ هُوَ تَعَالَى بِعَهْدِهِمْ فِي الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخَوْفِ مِنْ نِقْمَاتِهِ إِنْ لَمْ يُوفُوا، فَاكْتَنَفَ الْأَمْرَ بِالْإِيفَاءِ أَمْرٌ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمْرٌ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ، فَلَيْسَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْمُوَافِقِ أَقْرَبُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُخَالِفِ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ اسْتِبْدَالِ الْخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِاتِّقَائِهِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ أَمْرًا بِتَرْكِ الضَّلَالِ، وَالنَّهْيُ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكِتْمَانِ الْحَقِّ تَرْكًا لِلْإِضْلَالِ. وَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ نَاشِئًا عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ حَقًّا إِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ بَلَغَتِ الْمُسْتَتْبِعَ، وَإِمَّا عَنْ كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُ، أَشَارَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِلَا تَلْبِسُوا وَتَكْتُمُوا، ثُمَّ قَبَّحَ عَلَيْهِمْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، إِذِ الصَّلَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالزَّكَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى مَعَ جُمْلَةِ الْخَاضِعِينَ الطَّائِعِينَ. فَكَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَاخْتِتَامُهَا بِالِانْقِيَادِ لِلْمُنْعِمِ، وَمَا بَيْنَهُمَا تَكَالِيفٌ اعْتِقَادِيَّةٌ وَأَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ. وَبِنَحْوِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الِافْتِتَاحِ وَالْإِرْدَافِ وَالِاخْتِتَامِ يَظْهَرُ فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فِي الصُّورَةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا هِيَ عَامَّةٌ فِي الْمَعْنَى، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ذِكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَالْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا. [سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) الْأَمْرُ: طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّأْنِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَمَرَ يَأْمُرُ، عَلَى: فَعَلَ يَفْعُلُ، وَتُحْذَفُ فَاؤُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ لَامٍ، فَتَقُولُ: مُرْ زَيْدًا وَإِتْمَامُهُ قَلِيلٌ، أَوْ مُرْ زَيْدًا،

فَإِنْ تَقَدَّمَ الْأَمْرَ وَاوٌ أَوْ فَاءٌ، فَإِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ أَجْوَدُ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِحَرْفِ جَرٍّ. وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالٍ مَحْصُورَةٍ تُحْذَفُ مِنْ ثَانِي مَفْعُولَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ جَوَازًا تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. الْبِرُّ: الصِّلَةُ، وَأَيْضًا: الطَّاعَةُ. قَالَ الرَّاجِزُ: لا همّ رَبِّ إِنَّ بَكْرًا دُونَكَا ... يَبَرُّكُ النَّاسُ وَيَفْخَرُونَكَا وَالْبِرُّ: الْفُؤَادُ، وَوَلَدُ الثَّعْلَبِ وَالْهِرُّ، وَبَرَّ وَالِدَهُ: أَجَلَّهُ وَأَعْظَمَهُ. يَبَرُّهُ: عَلَى وَزْنِ فَعَلَ يَفَعْلُ، وَرَجُلٌ بَارٌّ، وَبَرٌّ، وَبَرَّتْ يَمِينُهُ، وَبَرَّ حَجُّهُ: أَجَلَّهَا وَجَمَعَ أَنْوَاعًا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْبِرُّ سَعَةُ الْمَعْرُوفِ وَالْخَيْرِ، وَمِنْهُ: الْبَرُّ وَالْبَرِّيَّةُ لِلسَّعَةِ. وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ خَيْرٍ، وَالْإِبْرَارُ: الْغَلَبَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَيَبَرُّونَ عَلَى الْآبِي الْمُبِرِّ النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ، وَهُوَ السَّهْوُ الْحَادِثُ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّرْكِ، وَضِدُّهُ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ: نَسِيَ يَنْسَى عَلَى فَعِلَ يَفْعَلُ، وَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَقَدْ يُعَلَّقُ نَسِيَ حَمْلًا عَلَى عَلِمَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ انْتُمُ ... وَرِيحُكُمُ مِنْ أَيِّ رِيحِ الْأَعَاصِرِ وَفِي الْبَيْتِ احْتِمَالٌ، التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ الْآيَاتِ أَوِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْحُرُوفَ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الذِّكْرِ. والتلو: التبع، وناقة مثل: يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا. الْعَقْلُ: الْإِدْرَاكُ الْمَانِعُ مِنَ الْخَطَأِ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَالْمَعْقِلُ: مَكَانٌ يُمْتَنَعُ فِيهِ، وَالْعَقْلُ: الدِّيَةُ لِأَنَّ جِنْسَهَا إِبِلٌ تُعْقَلُ فِي فِنَاءِ الْوَلِيِّ، أَوْ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ الْجَانِي، وَالْعَقْلُ: ثَوْبٌ مُوَشًّى، قَالَ الشَّاعِرُ: عَقْلًا وَرَقْمًا تَظَلُّ الطَّيْرُ تَتْبَعُهُ ... كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الْأَجْوَافِ مَدْمُومُ وَالْعِقَالُ: زَكَاةُ الْعَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ: سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا ... فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ وَرَمْلٌ عَقَنْقَلٌ: مُتَمَاسِكٌ عَنِ الِانْهِيَارِ. الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَالْفِعْلُ: صَبَرَ يَصْبِرُ عَلَى فَعَلَ يَفْعِلُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. الكبيرة: مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ

فِي الْجِرْمِ وَفِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيَّ كَذَا، أَيْ شَقَّ، وَكَبُرَ يَكْبُرُ، فَهُوَ كَبِيرٌ مِنَ السِّنِّ. قَالَ الشَّاعِرُ: صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر وَلَمْ يَكْبُرِ الْبَهْمُ الْخُشُوعُ: قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ، وَأَصْلُهُ: اللِّينُ وَالسُّهُولَةُ، وَقِيلَ: الِاسْتِكَانَةُ وَالتَّذَلُّلُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْخُضُوعُ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعُ فِي الْبَدَنِ وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ، وَالْخُشْعَةُ: الرَّمْلَةُ الْمُتَطَامِنَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَتِ الْكَعْبَةُ خُشْعَةً عَلَى الْمَاءِ» . الظَّنُّ: تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ بِالشَّكِّ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّيَقُّنِ. وَفِي كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ يَدْخُلُ عَلَى مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ السُّهَيْلِيِّ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَوَاسِخِ الِابْتِدَاءِ. وَالظَّنُّ أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: التُّهْمَةِ، فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ لِوَاحِدٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الظَّنُّ يَقَعُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الْهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ وَضْعًا، وَشَابَهَا هُنَا التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْإِنْكَارُ، وعليهم توبيخهم عَلَى أَنْ يَأْمُرَ الشَّخْصُ بِخَيْرٍ، وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ وَنَظِيرُهُ فِي النَّهْيِ، قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَيَقْبُحُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَأْمُرَ الْإِنْسَانُ بِخَيْرٍ وَهُوَ لَا يَأْتِيهِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنْ سُوءٍ وَهُوَ يَفْعَلُهُ. وَفِي تَفْسِيرِ الْبِرِّ هُنَا أَقْوَالٌ: الثَّبَاتُ عَلَى دِينِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، أَوِ اتِّبَاعُ التَّوْرَاةِ وَهُمْ يُخَالِفُونَهَا فِي جَحْدِهُمْ صِفَتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيِّ: أَوْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَبْخَلُونَ، أَوْ عَلَى الصِّدْقِ وَهُمْ لَا يَصْدُقُونَ، أَوْ حَضُّ أَصْحَابِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلَا يَأْتُونَهُمَا. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: أَتُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَنْتُمْ قُلُوبُكُمْ خَالِيَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِ رُسُومِهَا؟ وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَتُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى الْبِدَارِ وَتَرْضَوْنَ بِالتَّخَلُّفِ؟ وَقَالَ: أَتَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْنَا وَتَقْعُدُونَ عَنَّا؟ وَأَلْفَاظًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ فِي: أَتَأْمُرُونَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ: الدَّيْمُومَةُ وَكَثْرَةُ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ فِعْلِهِمْ بِالنِّسْيَانِ مُبَالَغَةً فِي

التَّرْكِ، فَكَأَنَّهُ لَا يَجْرِي لَهُمْ عَلَى بَالٍ، وَعَلَّقَ النساء بِالْأَنْفُسِ تَوْكِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَفْلَةِ الْمُفْرِطَةِ. وَتَنْسَوْنَ: مَعْطُوفٌ عَلَى تَأْمُرُونَ، وَالْمَنْعِيُّ عَلَيْهِمْ جَمْعُهُمْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ الَّذِي فِي فِعْلِهِ النَّجَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَتَرْكِ فِعْلِهِ حَتَّى صَارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ. أَنْفُسَكُمْ، وَالْأَنْفُسُ هُنَا: ذَوَاتُهُمْ، وَقِيلَ: جَمَاعَتُهُمْ وَأَهْلُ مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ قُيِّدَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ: أَيْ أَنَّكُمْ مُبَاشِرُو الْكِتَابِ وَقَارِئُوهُ، وَعَالِمُونَ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ، فَكَيْفَ امْتَثَلْتُمُوهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِكُمْ؟ وخالفتموه أَنْفُسِكُمْ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» . وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِي تَصْدِيرِهَا بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ ، مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبَةِ بِخِلَافِهَا لَوْ كَانَتِ اسْمًا مُفْرَدًا. وَالْكِتَابُ هُنَا: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَفِيهِمَا النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، قَالُوا: وَيَكُونُ قَدِ انْصَرَفَ مِنْ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ «2» ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ بُعْدٌ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِطَابٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ كَانَ تَقْدِيمَ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى الْهَمْزَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِثْلِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْهَمْزَةُ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، قُدِّمَتْ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ هَلْ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ وَثُمَّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا، وَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ، وَيَجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ جُمْلَةً مُقَدَّرَةً يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ. فَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأَلَا تَعْقِلُونَ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَتَعْقِلُونَ فَلَا تَعْقِلُونَ، أَمَكَثُوا فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ مَا كَانَ شِبْهَ هَذَا الْفِعْلِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَنَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ، عَلَى أَنَّ فِيهِمْ إِدْرَاكًا شَرِيفًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ قَبِيحِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِمْ بِالْخَيْرِ وَنِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ عَنْهُ، وَإِنَّ هَذِهِ حَالَةُ مَنْ سُلِبَ الْعَقْلَ، إِذِ الْعَاقِلُ سَاعٍ فِي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 42. (2) سورة يوسف: 12/ 29.

تَحْصِيلِ مَا فِيهِ نَجَاتُهُ وَخَلَاصُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي خَلَاصِ غَيْرِهِ، ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ. وَمَرْكُوزٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يُحَصِّلْ لِنَفْسِهِ مَصْلَحَةً، فَكَيْفَ يُحَصِّلُهَا لِغَيْرِهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ ... فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ فَإِذَا صَدَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ لِغَيْرِهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، كَانَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، خُصُوصًا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُرْجَى بِسُلُوكِهَا النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ. وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ بِأَقْوَالٍ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ: أَفَلَا تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذِهِ الْحَالِ الْمُرْدِيَةِ بِكُمْ، أَوْ أَفَلَا تَفْهَمُونَ قُبْحَ مَا تَأْتُونَ مِنْ مَعْصِيَةِ رَبِّكُمْ فِي اتِّبَاعِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ، أَوْ أَفَلَا تَنْتَهُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ، أَوْ أَفَلَا تَرْجِعُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُرَادُ إِلَى الْأَحْسَنِ، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّهُ حَقٌّ فَتَتَّبِعُونَهُ، أَوْ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ رَاجِعٌ، أَوْ أَفَلَا تَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمَعَاصِي، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، إِذْ لَيْسَ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ أَنْ تَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا تَأْتِيَهُ، أَوْ أَفَلَا تَفْطِنُونَ لِقُبْحِ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَصُدَّكُمُ اسْتِقْبَاحُهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَكَأَنَّكُمْ فِي ذَلِكَ مَسْلُوبُو الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعُقُولَ تَأْبَاهُ وَتَدْفَعُهُ. وَشَبِيهٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ «1» الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: الْإِرْشَادُ إِلَى الْمَنْفَعَةِ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ، فَمَنْ وَعَظَ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مُتَنَاقِضٍ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْوَعْظُ سَبَبًا لِلرَّغْبَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: لَوْلَا اطِّلَاعُ الْوَاعِظِ عَلَى أَنْ لَا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَتَكُونُ النَّفْسُ نَافِرَةً عَنْ قَبُولِ وَعْظِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ، وَأَنْشَدُوا: مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلَا ... حَتَّى يعيها قبله أَوَّلَا وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ. وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَاصِي أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَلَا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: التَّوْبِيخُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانُوا فَاعِلِي أَفْعَالِهِمْ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهُوَ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعُوا عَلَى

_ (1) سورة الصف: 61/ 2.

نَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا لَهُمْ: قَدْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَنَا بِأَشْيَاءَ عَمِلْنَاهَا فَدَخَلْنَا الْجَنَّةَ، قَالُوا: كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِهَا وَنُخَالِفُ إِلَى غَيْرِهَا. وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، وَأَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الطَّلَبَ، وَأَنَّ اسْتَعَانَ مَعْنَاهُ طَلَبَ الْمَعُونَةَ، وَظَاهِرُ الصَّبْرِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ: الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ: صَبْرٌ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ، وَسُمِّيَ رَمَضَانُ: شَهْرَ الصَّبْرِ. وَالصَّلَاةُ: هِيَ الْمَفْرُوضَةُ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أضمر، والصبر صِلَةً تُقَيِّدُهُ، فَقِيلَ: بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ نُفُوسُكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ، أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنِ الْمَعَاصِي، أَوْ عَلَى تَرْكِ الرِّيَاسَةِ، أَوْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ، أَوْ عَلَى حَوَائِجِكُمْ إِلَى اللَّهِ، أَوْ عَلَى الصَّلَاةِ. وَلَمَّا قُدِّرَ هَذَا التَّقْدِيرُ، أَعْنِي بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ، تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ، أَنَّ الْوَاوَ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ هُنَا بِمَعْنَى عَلَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُ قَائِلُ هَذَا: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وبالصلاة، لِأَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى عَلَى، وَيَكُونُ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «2» وَأُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يُتْلَى فِيهَا مَا يُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ تَمْحِيصِ الذُّنُوبِ وَتَرْقِيقِ الْقُلُوبِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ إِزَالَةِ الْهُمُومِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حز به أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نُعِيَ إِلَيْهِ قُثَمٌ أَخُوهُ، فَقَامَ يُصَلِّي، وَتَلَا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ ذَكَرُوهَا. وَقُدِّمَ الصَّبْرُ عَلَى الصَّلَاةِ، قِيلَ: لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّبْرِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَتَأْثِيرَ الصَّلَاةِ فِي حُصُولِ مَا يَنْبَغِي، وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَدَّمَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ تَكَالِيفٍ عَظِيمَةٍ شَاقٍّ فِرَاقُهَا عَلَى مَنْ أَلِفَهَا وَاعْتَادَهَا مِنْ ذِكْرِ مَا نَسُوهُ وَالْإِيفَاءِ بِمَا أَخْلَفُوهُ وَالْإِيمَانِ بِكِتَابٍ مُتَجَدِّدٍ وَتَرْكِ أَخْذِهِمُ الرِّشَا عَلَى آيَاتِ اللَّهِ وَتَرْكِهِمْ إِلْبَاسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكَتْمِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُمْ بِذَلِكَ الرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِتْبَاعُ لِعَوَامِّهِمْ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَكَانَتِ الْبَدَاءَةُ بِالصَّبْرِ لِذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ هُوَ الصَّلَاةَ، وَبِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُشْرِكِ، أَتْبَعَ الصَّبْرَ بِهَا، إِذْ يَحْصُلُ بِهَا الِاشْتِغَالُ عَنِ الدُّنْيَا، وَبِالتِّلَاوَةِ فِيهَا الْوُقُوفُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ، وَمَصِيرُ الخلق

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 5. (2) سورة طه: 20- 132.

إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، فَيَرْغَبُ الْمُشْتَغِلُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَرْغَبُ عَنِ الدُّنْيَا. وَنَاهِيكَ مِنْ عِبَادَةٍ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَيَسْتَغْفِرُ ذَنْبَهُ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَيَبْعُدُ دَعْوَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ يُنْكِرُهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ لَهُ اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ أَوَّلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ يَقَعُ بَعْدُ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ صَرْفَ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ نَظْمِ الْفَصَاحَةِ. وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الصَّلَاةِ. هَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْقَاعِدَةُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ ضَمِيرَ الْغَائِبِ لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهُوَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا، فَيَكُونُ مِثْلَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1» ، أَيْ الْعَدْلُ أَقْرَبُ، قَالَهُ الْبَجَلِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى إِجَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ مِمَّا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: عَلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا بِالْمَعْنَى ذِكْرُ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنُهُوا عَنْهَا، مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِلَى وَاسْتَعِينُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَاكْتَفَى بِعَوْدِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّهُمَا كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «2» فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ، وَكَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنْ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأسود مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرُهَا مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، قَالَ مُؤَرِّجٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: انْفَضُّوا إِلَيْها «3» ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ مَيْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا فِي الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ مِنْ مَيْلِهِمْ إِلَى اللَّهْوِ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ يَعْنِي أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْعَوْدِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُخَالِفُ الْعَطْفَ بَأَوْ، فَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ مُطَابَقَةُ الضَّمِيرِ لِمَا قَبْلَهُ فِي تَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، وَأَمَّا الْعَطْفُ بَأَوْ فَلَا يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ إِلَّا عَلَى أَحَدِ مَا سَبَقَ. وَمَعْنَى كِبَرِ الصَّلَاةِ: ثِقَلُهَا وصعوبتها

_ (1) سورة المائدة: 5/ 8. (2) سورة التوبة: 9/ 34. (3) سورة الجمعة: 62/ 11.

عَلَى مَنْ يَفْعَلُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «1» ، أَيْ شَقَّ ذَلِكَ وَثَقُلَ. إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، وَهُمُ الْمُتَوَاضِعُونَ الْمُسْتَكِينُونَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، لِأَنَّهَا مُنْطَوِيَةٌ عَلَى أَوْصَافٍ هُمْ مُتَحَلُّونَ بِهَا لِخُشُوعِهِمْ مِنَ الْقِيَامِ لِلَّهِ وَالرُّكُوعِ لَهُ وَالسُّجُودِ لَهُ وَالرَّجَاءِ لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ. فَلَمَّا كَانَ مَآلُ أَعْمَالِهِمْ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، سَهُلَ عَلَيْهِمْ مَا صَعُبَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لَهَا نَفْعًا. وَيَجُوزُ فِي الَّذِينَ الْإِتْبَاعُ وَالْقَطْعُ إِلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ، وَذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ، فَالْقَطْعُ أَوْلَى بِهَا. ويَظُنُّونَ مَعْنَاهُ: يُوقِنُونَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ مَنْ وُصِفَ بِالْخُشُوعِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ مُلَاقٍ رَبَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الْحُسْبَانُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى مُصَحِّحٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَا قَدَّرُوهُ مِنَ الْحَذْفِ، وَهُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ مُذْنِبِينَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمِثْلُهُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «2» ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا. وَقَالَ دُرَيْدُ: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سُرَاتُهُمْ فِي السَّائِرِيِّ الْمُسْرَدِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوقَعُ الظَّنُّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَحَقِّقَةِ، لَكِنَّهُ لَا يُوقَعُ فِيمَا قَدْ خَرَجَ إِلَى الْحِسِّ. لَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ مَرْئِيٍّ حَاضِرٍ: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا، وَإِنَّمَا نَجِدُ الِاسْتِعْمَالَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ، انْتَهَى. وَالظَّنُّ فِي كِلَا اسْتِعْمَالَيْهِ مِنَ الْيَقِينِ، أَوِ الشَّكِّ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَتَأْتِي بَعْدَ الظَّنِّ أن الناصبة للفعل وإنّ النَّاصِبَةُ لِلِاسْمِ الرَّافِعَةُ لِلْخَبَرِ فَتَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنْ تَقُومَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَقُومُ. وَفِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ خِلَافٌ. مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ أَنْ وَإِنَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَذَلِكَ بِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ: أَنَّ أَنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ أَوَّلٍ، وَالثَّانِي مُقَدَّرٌ، فَإِذَا قُلْتَ: ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، فَتَقْدِيرُهُ: ظَنَنْتُ قِيَامَ زَيْدٍ كَائِنًا أَوْ وَاقِعًا. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، الْمُلَاقَاةُ: مُفَاعَلَةٌ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ لَاقَاكَ فَقَدْ لَاقَيْتَهُ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمُلَاقَاةُ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهَا تقتضي التشريك،

_ (1) سورة الشورى: 42/ 13. [.....] (2) سورة الحاقة: 69/ 20.

فَهِيَ مِنَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِمْ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَعَافَاكَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَقِيَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى لَاقَى، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا، بَلْ فَعَلَ خِلَافٌ فِي الْمَعْنَى لِفَاعَلَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ مِنْ حَيْثُ أن مادة لقي تتضمن مَعْنَى الْمُلَاقَاةِ، بِمَعْنَى أَنَّ وَضْعَ هَذَا الْفِعْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مُجَرَّدًا أَوْ عَلَى فَاعِلٍ، مَعْنَاهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ لَقِيَكَ فَقَدْ لَقِيتَهُ، فَهُوَ لِخُصُوصِ مادته يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةِ، وَيَسْتَحِيلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعَلَ يَكُونُ لِمُوَافَقَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي فَاعَلَ، وَهُوَ أَنْ يُوَافِقَ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، أَيْ لَيْسَتِ الْأَفْعَالُ مُجَرَّدُهَا بِمَعْنَى فَاعَلَ، بَلْ فَاعَلَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَ خِلَافُ فَاعَلَ يَعْنِي بَلِ الْمُجَرَّدُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهُوَ خِلَافُ فاعل، لأنه يدل على الِاشْتِرَاكِ، فَضُعِّفَ بِأَنْ يَكُونَ فَاعَلَ مِنَ اللِّقَاءِ مِنْ بَابِ: عَاقَبْتُ اللِّصَّ، حَيْثُ إِنَّ مَادَّةَ اللِّقَاءِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ أَوْ بِصِيغَةِ فَاعَلَ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِأَنَّهَا إِضَافَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَوْ الِاسْتِقْبَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِعْمَالِهِ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ، وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ عَلَى أَيِّ مَحَامِلِهِ حَمَلْتَهُ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى الْإِحْسَانِ لِمَنْ يَرُبُّهُ، وَتَعَطُّفٌ بَيِّنٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الرَّبِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى مُلَاقَاةِ رَبِّهِمْ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَلَا كِنَايَةٍ بِأَنَّ اللِّقَاءَ هُوَ رُؤْيَةُ الْبَارِي تَعَالَى، وَلَا لِقَاءَ أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَإِلَى اعْتِقَادِهَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جَزَاءُ رَبِّهِمْ، لِأَنَّ الْمُلَاقَاةَ بِالذَّوَاتِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي غَيْرِ الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْقِضَاءِ أَجْلِهِمْ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ ... مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ وَكَنَى بِالْمُلَاقَاةِ عَنِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ ملاقات اللَّهِ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الْمَوْتِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُسَبَّبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَخَصَّ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الثَّوَابُ، أَيْ ثَوَابُ رَبِّهِمْ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ مِنْ كَوْنِهِ يُرَادُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، أَوْ كَوْنِ الْمُلَاقَاةِ يُرَادُ بِهَا انْقِضَاءُ الْأَجَلِ، يَكُونُ الظَّنُّ يُرَادُ بِهِ التَّيَقُّنُ. وَقَدْ نَازَعَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَوْنِ لَفْظِ اللِّقَاءِ لَا يُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ وَلَا يُفِيدُهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة البقرة (2) : الآيات 47 إلى 49]

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ «1» وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ؟ «2» وَيَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ؟ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرُوهُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا. وَمَسْأَلَةُ الرُّؤْيَةِ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ: اخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي إِلَيْهِ عَلَى مَنْ يَعُودُ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ وَالتَّرْكِيبِ الْفَصِيحِ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الرَّبِّ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَلْفُوظٍ بِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللِّقَاءِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ مُلَاقُو رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَوْتِ. وَقِيلَ: عَلَى الْإِعَادَةِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُلَاقُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الرُّجُوعِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقِيلَ: بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ، فَيُحْتَاجُ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: إِلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. وَقِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِالرُّجُوعِ: الْمَوْتُ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ بِالْإِعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ إِلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا لِغَيْرِهِ، كَمَا كَانُوا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ، فَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ دَلَالَةٌ لِلْمُجَسِّمَةِ وَالتَّنَاسُخِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْوَاحِ قَدِيمَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ. قَالُوا: لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّيْءِ الْمَسْبُوقِ بِالْكَوْنِ عِنْدَهُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 49] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) الْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ، وَفِعْلُهُ فَعَلَ يفعل، وأصله أن يتعدى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى ثُمَّ بِحَذْفِ عَلَى، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ: وَجَدْنَا نهشلا فضلت فقيما ... كفضل ابْنِ الْمَخَاضِ عَلَى الْفَصِيلِ وَأَمَّا فِي الْفَضْلَةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهِيَ الْبَقِيَّةُ، فَيُقَالُ: فَضَلَ يَفْضُلُ، كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ،

_ (1) سورة التوبة: 9/ 77. (2) سورة البقرة: 2/ 223.

وَفَضِلَ يَفْضَلُ، نَحْوَ: سَمِعَ يَسْمَعُ، وَفَضِلَ يَفْضُلُ، بِكَسْرِهَا مِنَ الْمَاضِي، وَضَمِّهَا مِنَ الْمُضَارِعِ، وَقَدْ أُولِعَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ بِإِجَازَةِ فَتْحِ ضَادِ فَضَلْتُ فِي الْبَيْتِ وَكَسْرِهَا، وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ. الْجَزَاءُ: الْقَضَاءُ عَنِ الْمُفَضَّلِ وَالْمُكَافَأَةُ، قَالَ الرَّاجِزُ: يَجْزِيِهِ رَبُّ الْعَرْشِ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا وَالْإِجْزَاءُ: الْإِغْنَاءُ. قَبُولُ الشَّيْءِ: التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَالْفِعْلُ قَبِلَ يَقْبَلُ، وَالْقِبَلُ: مَا وَاجَهَكَ، قَالَ الْقُطَامِيُّ: فَقُلْتُ لِلرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلَا بِهِمُ ... مِنْ عَنْ يَمِينِ الْحُبَيَّا نَظْرَةٌ قَبَلُ الشَّفَاعَةُ: ضَمُّ غَيْرِهِ إِلَى وَسِيلَتِهِ، وَالشُّفْعَةُ: ضَمُّ الْمِلْكِ، الشَّفْعُ: الزَّوْجُ، وَالشَّفَاعَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ: شَفْعٌ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ: كَانَ مَنْ لَامَنِي لِأَصْرِمَهَا ... كَانُوا لِلَيْلَى بِلَوْمِهِمْ شَفَعُوا وَنَاقَةٌ شَفُوعٌ: خَلْفُهَا وَلَدٌ. وَقِيلَ: خَلْفُهَا وَلَدٌ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ. الْأَخْذُ: ضِدُّ التَّرْكِ، وَالْأَخْذُ: الْقَبْضُ وَالْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: أَخِيذٌ، وَتُحْذَفُ فَاؤُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ لَامٍ، وَقَلَّ الْإِتْمَامُ. الْعَدْلُ: الْفِدَاءُ، وَالْعَدْلُ: مَا يُسَاوِيهِ قِيمَةً وَقَدَرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ: الْمُسَاوِي فِي الْجِنْسِ وَالْجِرْمِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ الْعَيْنَ مِنْ مَعْنَى الْفِدْيَةِ، وَوَاحِدُ الْأَعْدَالِ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرُ، وَالْعَدْلُ: الْمَقْبُولُ الْقَوْلِ مِنَ النَّاسِ، وَحُكِيَ فِيهِ أَيْضًا كَسْرُ الْعَيْنِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْعَدْلُ: الْكَفِيلُ وَالرَّشْوَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يَقْبَلُ الصَّرْفَ فِيهَا نَهَابُ الْعَدْلَا النَّصْرُ: الْعَوْنُ، أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ: مَمْدُودَةٌ بِالْمَطَرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَبُوكَ الَّذِي أَجْدَى عَلَيَّ بِنَصْرِهِ ... وَأَمْسَكَ عَنِّي بَعْدَهُ كُلُّ قَاتِلِ وَقَالَ الْآخَرُ: إِذَا وَدَّعَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي ... بِلَادَ تَمِيمٍ وانصري أرض عامر والصبر: الْعَطَاءُ، وَالِانْتِصَارُ: الِانْتِقَامُ. النَّجَاةُ: التَّنْجِيَةُ مِنَ الْهَلَكَةِ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالْأَصْلُ: الْإِلْقَاءُ بِنَجْوَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَرَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ بِنَجْوَةٍ ... مِنَ الشَّرِّ لَوْ أَنَّ امْرَأً كَانَ نَاجِيَا الْآلُ: قِيلَ بِمَعْنَى الْأَهْلِ، وَزُعِمَ أَنَّ أَلِفَهُ بَدَلٌ عَنْ هَاءٍ، وَأَنَّ تَصْغِيرَهُ أُهَيْلٌ، وَبَعْضُهُمْ

ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَلِفَهُ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَتِلْكَ الْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَهْلِ لِأَنَّ الْأَهْلَ الْقَرَابَةُ، والآل من يؤول مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ مَذْهَبٍ، فَأَلِفُهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ يُونُسُ: فِي تَصْغِيرِهِ أُوَيْلٌ، وَنَقَلَهُ الْكِسَائِيُّ نَصًّا عَنِ الْعَرَبِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْبَاذِشِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْبَدَلِ أَنَّ الْهَاءَ تُبْدَلُ هَمْزَةً، كَمَا ذَكَرَ أَنَّ الْهَمْزَةَ تُبْدَلُ هَاءً فِي: هَرَقْتُ، وَهَيَا، وَهَرَحْتُ، وَهِيَّاكَ. وقد خصوا آلا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَلَمِ ذِي الْخَطَرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ غَالِبًا، فَلَا يُقَالُ: آلُ الْإِسْكَافِ وَالْحَجَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ: نَحْنُ آلُ اللَّهِ فِي بَلْدَتِنَا ... لَمْ نَزَلْ آلًا عَلَى عَهْدِ إِرَمَ قَالَ الْأَخْفَشُ: لا يضاف آل إِلَى الرَّئِيسِ الْأَعْظَمِ، نَحْوَ: آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ فِي الضَّلَالَةِ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْبُلْدَانِ فَقَالُوا: آلُ الْمَدِينَةِ، وَآلُ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ مِنْ آلِ الْبَصْرَةِ، وَلَا مِنْ آلِ الْكُوفَةِ، بَلْ يُقَالُ: مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، انْتَهَى قَوْلُهُ. وَقَدْ سُمِعَ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ وَإِلَى الضَّمِيرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكَ وَقَالَ هُدْبَةُ: أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي ... وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اقْتِبَاسِ جَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُضْمَرِ، فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَأَبُو بَكْرٍ الزَّبِيدِيُّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَجُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَبِالْيَاءِ وَالنُّونِ جَرًّا وَنَصْبًا، كَمَا جُمِعَ أَهْلُ فَقَالُوا: آلُونَ. وَالْآلُ: السَّرَابُ، يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ، قَالُوا: أَأْوَالٌ، وَالْآلُ: عَمُودُ الْخَيْمَةِ، وَالْآلُ: الشَّخْصُ، وَالْآلَةُ: الْحَالَةُ الشَّدِيدَةُ. فِرْعَوْنُ: لَا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. سَامَهُ: كَلَّفَهُ الْعَمَلَ الشَّاقَّ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا الْمَلِكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُعَلِّمُونَكُمْ مِنَ السِّيمَاءِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ: تَسْوِيمُ الْخَيْلِ. وَقِيلَ: يُطَالِبُونَكُمْ مِنْ مُسَاوَمَةِ الْبَيْعِ. وَقِيلَ: يُرْسِلُونَ عَلَيْكُمْ مِنْ إِرْسَالِ الْإِبِلِ لِلرَّعْيِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُوَلُّونَكُمْ، يُقَالُ سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ: أَيْ أَوْلَاهُ إِيَّاهَا. السُّوءُ: مَصْدَرُ أَسَاءَ، يُقَالُ: سَاءَ يَسُوءُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَأَسَاءَ الرَّجُلُ: أَيْ صَارَ ذَا سُوءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتِنِي بمساءة ... لقد سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ وَمَعْنَى سَاءَهُ: أَحْزَنَهُ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُسْتَقْبَحُ، وَيُقَالُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَسُوءِ الْفِعْلِ: يُرَادُ قُبْحُهُمَا. الذَّبْحُ: أَصْلُهُ الشِّقُّ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ ... فَأْرَةُ مِسْكٍ ذُبِحَتْ فِي سَكِّ وَقَالَ: كَأَنَّمَا الصَّابُ فِي عَيْنَيْكَ مَذْبُوحُ وَالذَّبْحَةُ: دَاءٌ فِي الْحَلْقِ، يُقَالُ مِنْهُ: ذَبَحَهُ يَذْبَحُهُ ذَبْحًا، وَالذِّبْحُ: الْمَذْبُوحُ. الِاسْتِحْيَاءُ: هُنَا الْإِبْقَاءُ حَيًّا، وَاسْتَفْعَلَ فِيهِ بِمَعْنَى أَفْعَلَ: اسْتَحْيَاهُ وَأَحْيَاهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَبَلَّ وَاسْتَبَلَّ، أَوْ طَلَبَ الْحَيَاءَ، وَهُوَ الْفَرْجُ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، نَحْوَ: اسْتَغْفَرَ، أَيْ تَطَلَّبَ الْغُفْرَانَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اسْتَحْيَا مِنَ الْحَيَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا «1» النِّسَاءُ: اسْمٌ يَقَعُ لِلصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِنِسْوَةٍ، وَنِسْوَةٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ، وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ، خِلَافًا لِابْنِ السَّرَّاجِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ فِعْلَةً اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُلْفَظْ لَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ لَفْظِهِ. وَالْوَاحِدَةُ: امْرَأَةٌ. الْبَلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، بَلَاهَ يَبْلُوهُ بَلَاءً: اخْتَبَرَهُ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَالشِّدَّةِ، يُقَالُ: أَصَابَ فُلَانًا بَلَاءٌ: أَيْ شِدَّةٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْبِلَى، كَأَنَّ الْمُبْتَلَى يؤول حَالُهُ إِلَى الْبِلَى، وَهُوَ الْهَلَاكُ وَالْفَنَاءُ. وَيُقَالُ: أَبْلَاهُ بِالنِّعْمَةِ، وَبَلَاهُ بِالشِّدَّةِ. وَقَدْ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيُقَالُ: بَلَاهُ بِالْخَيْرِ، وَأَبْلَاهُ بِالشَّرِّ، قَالَ الشَّاعِرُ: جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو فَاسْتَعْمَلَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُبْنَى مِنْهُ افْتُعِلَ فَيُقَالُ: ابْتُلِيَ. يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ هَذَا، وَأُعِيدَ نِدَاؤُهُمْ ثَانِيًا عَلَى طَرِيقِ التَّوْكِيدِ، وَلِيُنَبَّهُوا لِسَمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَتَفْصِيلِهَا نِعْمَةً نِعْمَةً، فَالنِّدَاءُ الْأَوَّلُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَالنِّدَاءُ الثَّانِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ: ثُمَّ عُطِفَ التَّفْضِيلُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ النِّعْمَةَ انْدَرَجَ تَحْتَهَا التَّفْضِيلُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ مَا انْفَرَدَتْ بِهِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 26.

الْوَاوُ دُونَ سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَكَانَ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بن الزبير الثقفي يَذْكُرُ لَنَا هَذَا النَّحْوَ مِنَ الْعَطْفِ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ، كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجًا وَلَبَانُهُ ... إِذَا مَا اشْتَكَى وَقْعَ الْقَنَاةِ تَحَمْحَمَا دَعْلَجٌ: هُنَا اسْمُ فُرْسٍ، وَلَبَانُهُ: صَدْرُهُ، وَلِأَبِي الْفَتْحِ بْنِ جِنِّي كَلَامٌ فِي ذَلِكَ يَكْشِفُ مِنْ سِرِّ الصِّنَاعَةِ لَهُ. عَلَى الْعالَمِينَ: أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، أَوْ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعَلَهُمْ مُلُوكًا وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ خَاصَّةً لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَيَكُونُ عَامًّا وَالنِّعْمَةُ مَخْصُوصَةٌ. قَالُوا: وَيَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «1» ، أَوْ عَلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ النَّاسِ، يُقَالُ: رَأَيْتُ عَالَمًا مِنَ النَّاسِ، يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ. وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْضِيلُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ خَصَّ النِّعْمَةَ، وَلَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ عَلَى كُلِّ عَالَمٍ بِشَيْءٍ خَاصٍّ التَّفْضِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْخُصُوصِ فَوَجْهُ عَدَمِ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا ظَاهِرٌ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَشْهَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضْلَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، وَأَشْهَدَ الْمُسْلِمِينَ فَضْلَ نَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «2» ، فَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ مَشْهُودُهُ فَضْلُ رَبِّهِ، وَمَنْ مَشْهُودُهُ فَضْلُ نَفْسِهِ. فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي الثَّنَاءَ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي الْإِعْجَابَ، انْتَهَى. وَآخِرُهُ مُلَخَّصٌ مِنْ كَلَامِهِ. وَاتَّقُوا يَوْماً أَمْرٌ بِالِاتِّقَاءِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذِكْرِ النِّعَمِ وَتَفْضِيلِهِمْ نَاسَبَ أَنَّ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ وَفُضِّلَ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلتَّقْوَى. فَأُمِرُوا بِالْإِدَامَةِ عَلَى التَّقْوَى، أَوْ بِتَحْصِيلِ التَّقْوَى، إِنْ عَرَضَ لَهُمْ خَلَلٌ وَانْتِصَابٌ يَوْمًا، إِمَّا عَلَى الظَّرْفِ وَالْمُتَّقَى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا الْعَذَابَ يَوْمًا، وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ اتِّسَاعًا أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَذَابَ يَوْمٍ، أَوْ هَوْلَ يَوْمٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: جِيئُوا مُتَّقِينَ، وَكَأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْحَظْ مُتَعَلِّقَ الِاتِّقَاءِ، فَإِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبُ يَوْمًا عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْعَوَامُّ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِهِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْماً، وَاتَّقُوا النَّارَ «3» . وَالْخَوَاصُّ خَوَّفَهُمْ بِصِفَاتِهِ، فَقَالَ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ «4» ، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ الْآيَةَ. وَخَوَاصُّ الْخَوَاصِّ خَوَّفَهُمْ بنفسه، فقال:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 110. (2) سورة يونس: 10/ 58. (3) سورة البقرة: 2/ 48. (4) سورة التوبة: 9/ 105.

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «1» وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَّاكِ الْعَدَوِيُّ لَا تَجْزِي مِنْ أَجْزَأَ، أَيْ أَغْنَى، وَقِيلَ جَزَا، وَأَجْزَأَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْيَوْمِ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَا تَجْزِي فِيهِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ، فَيَكُونُ الْحَذْفُ بِتَدْرِيجٍ أَوْ عَدَّاهُ إِلَى الضَّمِيرِ أَوَّلًا اتِّسَاعًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ، وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَالْوَجْهَانِ، يَعْنِي تَقْدِيرَهُ: لَا تَجْزِي فِيهِ وَلَا تَجْزِيهِ جَائِزَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا يَكُونُ الْمَحْذُوفُ إِلَّا لهاء، قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: هَذَا رَجُلٌ قَصَدْتُ، وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَرْغَبُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ قَصَدْتُ إِلَيْهِ وَأَرْغَبُ فِيهِ، انْتَهَى. وَحَذْفُ الضَّمِيرِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً جَائِزٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَمَا أَدْرِي أَغَيْرُهُمْ تَنَاءَ ... وَطُولُ الْعَهْدِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا يُرِيدُ: أَصَابُوهُ، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ تَعْيِينِ الرَّبْطِ أَنَّهُ فِيهِ، أَوِ الضَّمِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ رَابِطٌ، وَلَا تَكُونَ الْجُمْلَةُ صِفَةً، بَلْ مُضَافٌ إِلَيْهَا يَوْمَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا يَوْمًا يَوْمَ لَا تَجْزِي، فَحُذِفَ يَوْمُ لِدَلَالَةِ يَوْمًا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَحْذُوفُ فِي الْإِضَافَةِ نَظِيرُ الْمَلْفُوظِ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ «2» ، وَنَظِيرُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ، لَا تَحْتَاجُ الْجُمْلَةُ إِلَى ضَمِيرٍ، وَيَكُونُ إِعْرَابُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ فِي رِوَايَةِ مَنْ خَفَضَ التَّقْدِيرُ أَعْظُمِ طَلْحَةَ. وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: يُعْجِبُنِي الْإِكْرَامُ عِنْدَكَ سَعْدٌ، بِنِيَّةِ: يُعْجِبُنِي الْإِكْرَامُ إِكْرَامُ سَعْدٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: أَطْعَمُونَا لَحْمًا سَمِينًا شَاةً ذَبَحُوهَا، أَيْ لَحْمَ شَاةٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ الْعِلْمَ الْكَبِيرَةَ سِنُّهُ، الدَّقِيقَ عَظْمُهُ، على تقديره: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْكَبِيرَةِ سِنُّهُ، فَحُذِفَ الثَّانِي اعْتِمَادًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُجِزِ الْبَصْرِيُّونَ مَا أَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَتَرْكِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى خَفْضِهِ فِي: يُعْجِبُنِي الْقِيَامُ زَيْدٍ، وَلَا يَبْعُدُ تَرْجِيحُ حَذْفِ يَوْمَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَسْمُوعِ الَّذِي حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ. وَيُحَسِّنُ هَذَا التَّخْرِيجَ كَوْنُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ جُمْلَةً، فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا إِعْرَابٌ، فَيَتَنَافَرُ مَعَ إِعْرَابِ مَا قَبْلَهُ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي نَثْرِهِمْ مَعَ التَّنَافُرِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ مَعَ عَدَمِ التَّنَافُرِ أَوْلَى. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 28. (2) سورة المرسلات: 77/ 35.

خَرَّجُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ هَذَا التَّخْرِيجَ، بَلْ هُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِيَوْمٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الرَّابِطِ أَيْضًا مِنَ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى لَا تَجْزِي، أَيْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فِيهِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فِيهِ، وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ فِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّخْرِيجِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ هَذِهِ الرَّوَابِطِ. نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً كِلَاهُمَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ. وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ: أَنَّ نَفْسًا مِنَ الْأَنْفُسِ لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ إِقْنَاطٌ كُلِّيٌّ قَاطِعٌ مِنَ الْمَطَامِعِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنْ لَا شَفَاعَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّقْدِيرُ عَنْ نَفْسٍ كَافِرَةٍ، فَقَيَّدَهَا بِالْكُفْرِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وَذَلِكَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو السِّرَارِ الْغَنَوِيُّ: لَا تَجْزِي نَسَمَةٌ عَنْ نَسَمَةٍ، وَانْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ لَا يَقْضِي شَيْئًا، أَيْ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَلَا تَجْزِي شَيْئًا مِنَ الْجَزَاءِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِلَّةِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ شَيْئًا مِنَ الضَّرْبِ. وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَلَا تُقْبَلُ بِالتَّاءِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَالْأَكْثَرُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ فَصِيحٌ لِمَجَازِ التَّأْنِيثِ، وَحَسَّنَهُ أَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ. وَقَرَأَ سُفْيَانُ: وَلَا يَقْبَلُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَنَصْبِ شَفَاعَةً عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفِي ذَلِكَ الْتِفَاتٌ وَخُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ فِي اللَّفْظِ أَعَمُّ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى نَفْسٍ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيْ لَا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ الْمُسْتَشْفِعَةِ شَفَاعَةَ شَافِعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى نَفْسٍ الْأُولَى، أَيْ وَلَا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ الَّتِي لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا شَفَاعَةً، هِيَ بِصَدَدِ أَنْ لَوْ شَفَعَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَقَدْ يَظْهَرُ تَرْجِيحُ عَوْدِهَا إِلَى النَّفْسِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، وَالنَّفْسُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلَةِ لَا الْعُمْدَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ نَفْيُ الْقَبُولِ وَوُجُودِ الشَّفَاعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ نَفَى الْقَبُولَ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا شَفَاعَةَ، فَتُقْبَلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ

الْمُفَسِّرُونَ فِي فَهْمِ هَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَالْمُرَادُ: الَّذِينَ قَالُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ، وَأَبْنَاءُ أَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأُويِسُوا مِنْهُ لِكُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ النَّفْسُ الْأَوْلَى مُؤْمِنَةً، وَالثَّانِيَةُ كَافِرَةً، وَالْكَافِرُ لَا تَنْفَعُهُ شَفَاعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «1» . الثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا يَجِدُونَ شَفِيعًا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ، لِعَجْزِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ لَا يُجِيبُ الشَّافِعُ الْمَشْفُوعَ فِيهِ إِلَى الشَّفَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ شَفَعَ لَشُفِّعَ. الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِذَنٍ مِنَ اللَّهِ بِتَقَدُّمِ الشَّافِعِ بِالشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» ، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «3» . الْخَامِسُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا شَفَاعَةٌ، فَيَكُونُ لَهَا قَبُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ نَفْيٌ عَامٌّ، أَيْ لَا يُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا، لَا مُؤْمِنَةً وَلَا كَافِرَةً، فِي مُؤْمِنَةٍ وَلَا كَافِرَةٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَأَجْمَعُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ شَفَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ تُقْبَلُ فِي الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: الْكَبِيرَةُ تُخَلِّدُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ، وَأَنْكَرُوا الشَّفَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: طَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الشَّفَاعَةَ إِنْكَارًا كُلِّيًّا وَقَالُوا: لَا تُقْبَلُ شَفَاعَةُ أَحَدٍ فِي أَحَدٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ، وَخَصَّ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ أَصْحَابُنَا بِالْكُفَّارِ لِثُبُوتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الشَّفَاعَةِ. وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا تُقْبَلُ فِي الصَّغَائِرِ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةً فِي الْآخِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا لِمَنْ تَكُونُ. فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ الثَّوَابَ، وَتَأْثِيرُهَا فِي أَنْ تُحَصِّلَ زِيَادَةً مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى قَدْرِ مَا اسْتَحَقُّوهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَأْثِيرُهَا فِي إِسْقَاطِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ، إِمَّا بِأَنْ لَا يَدْخُلُوا النَّارَ، وَإِمَّا فِي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا ويدخلون الْجَنَّةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْكُفَّارِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوًا مِنْ سِتِّ أَوْرَاقٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِلطَّائِفَتَيْنِ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ. وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الْعَدْلُ: الْفِدْيَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَسُمِّيتْ عَدْلًا لِأَنَّ الْمُفْدَى يُعْدَلُ بِهَا: أَيْ يُسَاوِيهَا، أَوِ الْبَدَلُ: أَيْ رَجُلٌ مَكَانَ رَجُلٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ حَسَنَةٌ مَعَ الشِّرْكِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: أَتَى بِالضَّمِيرِ مجموعا على معنى

_ (1) سورة المدثر: 74/ 48. (2) سورة سبأ: 34/ 23. (3) سورة الأنبياء: 21/ 28.

نَفْسٍ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» ، وَأَتَى بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالنُّفُوسِ الْأَشْخَاصُ كَقَوْلِهِمْ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، وَجُعِلَ حَرْفُ النَّفْيِ مُنْسَحِبًا عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِيَكُونَ الضَّمِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ، فَيَتَأَكَّدُ ذِكْرُ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ النَّصْرُ بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ، وَحَسَّنَ الْحَمْلَ عَلَى الْمَعْنَى كَوْنُ ذَلِكَ فِي آخِرِ فَاصِلَةٍ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّنَاسُبُ فِي الْفَوَاصِلِ، بِخِلَافِ أَنْ لَوْ جَاءَ وَلَا تُنْصَرُ، إِذْ كَانَ يَفُوتُ التَّنَاسُبُ. وَيَحْتَمِلُ رَفْعُ هَذَا الضَّمِيرِ وَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَغْمَضُ الْوَجْهَيْنِ وَأَغْرَبُهُمَا أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، يُفَسِّرُ فِعْلَهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَا هِيَ مِنَ الْأَدَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى بِالْفِعْلِ، كَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. فَكَمَا يَجُوزُ فِي: أَزْيَدٌ قَائِمٌ، وَأَزْيَدٌ يَضْرِبُ، الرَّفْعُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً. وَالْحُكْمُ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَعُطِف عَلَيْهَا بِشَرْطِ الْعَطْفِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، فَالْأَفْصَحُ الْحَمْلُ عَلَى الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى نَفْسٍ الثَّانِيَةِ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، إِذْ لَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى نَفْسٍ الْأُولَى لَكَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَجْزِي. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي وَلَا هُمْ عَائِدًا عَلَى النَّفْسَيْنِ مَعًا، قَالَ: لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ قَالُوا، وَفِي مَعْنَى النَّصْرِ لِلْمُفَسِّرِينَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. الثَّانِي: لَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ وَلَا شَافِعًا يَشْفَعُ لَهُمْ. الثَّالِثُ: لَا يُعَاوَنُونَ عَلَى خَلَاصِهِمْ وَفِكَاكِهِمْ مِنْ مُوبِقَاتِ أَعْمَالِهِمْ. وَثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ هَذِهِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَجَاءَ النَّفْيُ لِهَذِهِ الْجُمَلِ هنا بلا الْمُسْتَعْمَلَةِ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْأَكْثَرِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مُسْتَقْبَلَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، وَهِيَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحَقٍّ، إِمَّا أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ الْحَقُّ فَيَخْلُصُ، أَوْ لَا يُقْضَى عَنْهُ فَيُشْفَعُ فِيهِ، أَوْ لَا يُشْفَعُ فِيهِ فَيُفْدَى، أَوْ لَا يُفْدَى فَيُتَعَاوَنُ بِالْإِخْوَانِ عَلَى تَخْلِيصِهِ. فَهَذِهِ مَرَاتِبٌ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. فَلِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، جَاءَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي الذِّكْرِ هَكَذَا. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مُخْتَلِفًا عِنْدَ النَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْفِدْيَةِ، فَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ قَدَّمَ الشَّفَاعَةَ عَلَى الْفِدْيَةِ، وَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ قَدَّمَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ، جاءت هذه

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 47. [.....]

الْجُمَلُ هُنَا مُقَدَّمًا فِيهَا الشَّفَاعَةُ، وَجَاءَتِ الْفِدْيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى اختلاف الأمرين. وبدىء هُنَا بِالشَّفَاعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِعُلُوِّ النَّفْسِ، وَجَاءَ هُنَا بِلَفْظِ الْقَبُولِ، وَهُنَاكَ بِلَفْظِ النَّفْعِ، إِشَارَةٌ إِلَى انْتِفَاءِ أَصْلِ الشَّيْءَ، وَانْتِفَاءِ ما يترتب عليه. وبدىء هُنَا بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلشَّيْءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ، فَأَعْطَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرَ الْمُتَقَدَّمِ وُجُودًا، وَأَخَّرَ هُنَاكَ النَّفْعَ إِعْطَاءً لِلْمُتَأَخِّرِ ذِكْرَ الْمُتَأَخَّرِ وُجُودًا. وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ «1» . وَمَنْ أَجَازَ نَصْبَ إِذْ هُنَاكَ مَفْعُولًا بِهِ بإضمار اذكر أو ادّعى زِيَادَتَهَا، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ هُنَاكَ إِجَازَتُهُ هُنَا، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ إِذْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَعْمُولِ اذْكُرُوا، كَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَتَفْضِيلِي إِيَّاكُمْ، وَوَقْتَ تَنْجِيَتِكُمْ وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ الَّتِي هِيَ: وَاتَّقُوا يَوْماً. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّا لَا نَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ بِاذْكُرْ، لَا ظَاهِرَةً وَلَا مُقَدَّرَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِيهَا، وَهِيَ عِنْدَنَا مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا بِإِضَافَةِ اسْمِ زَمَانٍ إِلَيْهَا عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، تَقْدِيرُهُ: وَأَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَتَقْدِيرُ هَذَا الْفِعْلِ أَوْلَى مَنْ كُلِّ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: أَنْجَيْنَاكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمٍ فِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ، لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَدُوِّهِمْ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ، أَوْ أَعْظَمُ النِّعَمِ، فَنَاسَبَ الْأَعْظَمَ نِسْبَتُهُ لِلْمُعَظِّمِ نفسه. وقرىء: بأنجيناكم، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِلنَّخَعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَرَأَ: أَنْجَيْتُكُمْ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ مُوَافِقًا لِلضَّمِيرِ فِي نِعْمَتِي، وَالْمَعْنَى: خَلَّصْتُكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَجَعَلَ التَّخْلِيصَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُبَاشِرُونَهُمْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وَآلُ فِرْعَوْنَ هُنَا أَهْلُ مِصْرَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ أَهْلُ بَيْتِهِ خَاصَّةً، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، أَوْ أَتْبَاعُهُ عَلَى ذَنْبِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَمِنْهُ: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ «2» ، وَهُمْ أَتْبَاعُهُ عَلَى ذَنْبِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَلَا بِنْتٌ، وَلَا ابْنٌ، وَلَا عَمٌّ، وَلَا أَخٌ، وَلَا عَصَبَةٌ، وَأَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ آلُكَ؟ فَقَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ» . وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. وَالْمُرَادُ بِالْآلِ هُنَا: آلُ عَقِيلٍ، وَآلُ عباس، وآل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30. (2) سورة البقرة: 2/ 50، وسورة الأنفال: 8/ 54.

الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ. وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّ آلَهُ: أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم آلٌ عَامٌّ وَآلٌ خَاصٌّ. وَفِرْعَوْنُ: عَلَمٌ لِمَنْ مَلَكَ الْعَمَالِقَةَ، كَمَا قِيلَ: قَيْصَرُ لِمَنْ مَلَكَ الرُّومَ، وَكِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَتُبَّعٌ لِمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ اسْمٌ لِكُلَّ مَنْ مَلَكَ الْقِبْطَ وَمِصْرَ، وَقَدِ اشْتُقَّ مِنْهُ: تَفَرْعَنَ الرَّجُلُ، إِذَا تَجَبَّرَ وَعَتَا، وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ فُنْطُوسُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، أَوْ مُغِيثٌ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ قَابُوسُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُرَّةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِيَ عَمْلِيقَ بْنِ لَاوِذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ، وَرُدَّ إِلَى مِصْرَ فَصَارَ بِهَا مَلِكًا، لَا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، قَالَهُ الْمَسْعُودِيُّ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: فِرْعَوْنُ مُوسَى هُوَ فِرْعَوْنُ يُوسُفَ، قَالُوا: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ بَيْنَ دُخُولِ يُوسُفَ مِصْرَ وَدُخُولِ مُوسَى أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ. يَسُومُونَكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَهِيَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الحال: أي سَائِمِيكُمْ، وَهِيَ حَالٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. وسُوءَ الْعَذابِ: أَشَقُّهُ وَأَصْعَبُهُ وَانْتِصَابُهُ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُرَادِ بِيَسُومُونَكُمْ، وَفِيهِ لِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ: السَّوْمُ: بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ أَوِ الْإِبْلَاءِ، فَيَكُونُ سُوءَ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَامَ، أَيْ يُكَلِّفُونَكُمْ، أَوْ يُوَلُّونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَوْ بِمَعْنَى: الْإِرْسَالِ، أَوِ الْإِدَامَةِ، أَوِ التَّصْرِيفِ، أَيْ: يُرْسِلُونَكُمْ، أَوْ يُدِيمُونَكُمْ، أَوْ يَصْرِفُونَكُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، أَوْ بِمَعْنَى الرَّفْعِ، أَيْ يَرْفَعُونَكُمْ إِلَى سُوءِ الْعَذَابِ، أَوِ الْوَسْمِ، أَيْ: يُعَلِّمُونَكُمْ مِنَ الْعَلَامَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ لِكَثْرَةِ مُزَاوَلَتِهَا تَصِيرُ عَلَيْهِمْ عَلَامَةً بِتَأْثِيرِهَا فِي جُلُودِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ، كَالْحِدَادَةِ وَالنِّجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ وَسْمًا لَهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: يُعَلِّمُونَكُمْ بِسُوءِ الْعَذَابِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَسِمُونَكُمْ، وَهَذَا التَّضْعِيفُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَسْمِ، وَهُوَ مِنَ السيمياء، والسيماء مسوّمين فِي أَحَدِ تَفَاسِيرِهِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَأُصُولُ هَذَا سِينٌ وَوَاوٌ وَمِيمٌ، وَهِيَ أُصُولُ يَسُومُونَكُمْ، وَيَكُونُ فَعَلَ الْمُجَرَّدُ بِمَعْنَى فَعِلَ، وَهُوَ مَعَ الْوَسْمِ مِمَّا اتَّفَقَ مَعْنَاهُ وَاخْتَلَفَتْ أُصُولُهُ: كَدَمِثَ، وَدَمْثَرَ، وَسَبِطَ، وَسَبْطَرَ، أَوْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ بِالزِّيَادَةِ مِنَ السَّوْمِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ: يَطْلُبُونَكُمْ بِازْدِيَادِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ.

وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَكُونُ سُوءَ الْعَذابِ مَفْعُولًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَنْتَصِبُ سُوءَ الْعَذَابِ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ قَدَّرَهُ سَوْمًا شَدِيدًا. وَسُوءُ الْعَذَابِ: الْأَعْمَالُ الْقَذِرَةُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوِ الْحَرْثُ وَالزِّرَاعَةُ وَالْبِنَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ: وَكَانَ قَوْمُهُ جُنْدًا مُلُوكًا، أَوِ الذَّبْحُ، أَوْ الِاسْتِحْيَاءُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَرُدَّ ذَلِكَ بِثُبُوتِ الْوَاوِ فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: وَيُذَبِّحُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِالذَّبْحِ وَبِغَيْرِ الذَّبْحِ. وَحُكِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدَمًا فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالتَّخْرِيبِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَمَنْ لَا يَعْمَلُ فَالْجِزْيَةُ، فَذَوُو الْقُوَّةِ يَنْحِتُونَ السَّوَارِيَ مِنَ الْجِبَالِ حَتَّى قُرِّحَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَدُبِّرَتْ ظُهُورُهُمْ مِنْ قَطْعِهَا وَنَقْلِهَا، وَطَائِفَةٌ يَنْقُلُونَ لَهُ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ وَيَبْنُونَ لَهُ الْقُصُورَ، وَطَائِفَةٌ يَضْرِبُونَ اللَّبِنَ وَيَطْبُخُونَ الْآجُرَّ، وَطَائِفَةٌ نَجَّارُونَ وَحَدَّادُونَ، وَالضَّعَفَةُ جُعِلَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجُ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا كُلَّ يَوْمٍ. فَمَنْ غَرُبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا غُلَّتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ شَهْرًا. وَالنِّسَاءُ يَغْزِلْنَ الْكَتَّانَ وَيَنْسِجْنَ. وَأَصْلُ نَشْأَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِصْرَ نُزُولُ إِسْرَائِيلَ بِهَا زَمَانَ ابْنِهِ يُوسُفَ بها عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا السَّلَامُ. يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ أَوْلَى لِظُهُورِ تَكْرَارِ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يَذْبَحُونَ خَفِيفًا مِنْ ذَبَحَ الْمُجَرَّدِ اكْتِفَاءً بِمُطْلَقِ الْفِعْلِ، وَلِلْعِلْمِ بِتَكْرِيرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يُقَتِّلُونَ بِالتَّشْدِيدِ مَكَانَ يُذَبِّحُونَ، وَالذَّبْحُ قَتْلٌ، وَيُذَبِّحُونَ بَدَلٌ مَنْ يَسُومُونَكُمْ، بَدَلُ الْفِعْلِ مِنَ الفعل، نحو: قوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْعَطْفِ لِثُبُوتِهِ فِي إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ لِحَذْفِهَا هُنَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي حُذِفَتْ فِيهِ الْوَاوُ تَفْسِيرٌ لِصِفَاتِ الْعَذَابِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْوَاوُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهُمُ الْعَذَابُ، غَيْرُ الذَّبْحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُذَبِّحُونَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، مِنَ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي: يَسُومُونَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأَنَفًا. وَفِي سَبَبِ الذَّبْحِ وَالِاسْتِحْيَاءِ أَقْوَالٌ وَحِكَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَمُعْظَمُهَا يَدُلُّ عَلَى خَوْفِ فِرْعَوْنَ مِنْ ذَهَابِ مُلْكِهِ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَبْنَاءُ: الْأَطْفَالُ الذُّكُورُ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَبْنَاءِ: الرّجال، وسموا

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 68 و 69.

أَبْنَاءً بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا قَبْلُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَالنِّسَاءُ هُنَا: الْبَنَاتُ، وَسُمُّوا نِسَاءً بِاعْتِبَارٍ مَا يَؤُلْنَ إِلَيْهِ، أَوْ بِالِاسْمِ الَّذِي فِي وَقْتِهِ يُسْتَخْدَمْنَ وَيُمْتَهَنَّ، وَقِيلَ: أَرَادَ: النِّسَاءَ الْكِبَارَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ: وَفُسِّرَ الِاسْتِحْيَاءُ بِالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عِنْدَ كَلَامِنَا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَتْرُكُونَ بَنَاتَكُمْ أَحْيَاءً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ يُفَتِّشُونَ أَرْحَامَ نِسَائِكُمْ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُهُ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِذَلِكَ، ذُكِرَ أَنَّهُ وَكَّلَ بِكُلِّ عَشْرِ نِسَاءٍ رَجُلًا يَحْفَظُ مَنْ تَحْمِلُ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ: وَكَّلَ بِذَلِكَ الْقَوَابِلَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ هُنَا مِنَ الْحَيَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقِحَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ النِّسَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْهُ الْحَيَاءُ، وَقُدِّمَ الذَّبْحُ عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ الْأُمُورِ وَأَشَقُّهَا، وَهُوَ أَنْ يُذْبَحَ وَلَدُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ كَانَا يَرْجُوَانِ النَّسْلَ مِنْهُ، وَالذَّبْحُ أَشَقُّ الْآلَامِ. وَاسْتِحْيَاءُ النِّسَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِعَذَابٍ، لَكِنَّهُ يَقَعُ الْعَذَابُ بِسَبَبِهِ مِنْ جِهَةِ إِبْقَائِهِنَّ خَدَمًا وَإِذَاقَتِهِنَّ حَسْرَةَ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، إِنْ أُرِيدَ بِالنِّسَاءِ الْكِبَارُ، أَوْ ذَبْحُ الْإِخْوَةِ، إِنْ أُرِيدَ الْأَطْفَالُ، وَتَعَلُّقُ الْعَارِ بِهِنَّ، إِذْ يَبْقَيْنَ نِسَاءً بِلَا رِجَالٍ فَيَصِرْنَ مُفْتَرَشَاتٍ لِأَعْدَائِهِنَّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْمُبَاشِرَ لَهُ شَرِيكَانِ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ الْآمِرُ، وَآلَهُ وَهُمُ الْمُبَاشِرُونَ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ «1» ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبَلَاءِ: الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ يَسُومُونَكُمْ مَعَ مَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْبَلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى التَّنْجِيَةِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: نَجَّيْنَاكُمْ، فَيَكُونُ الْبَلَاءُ هُنَا: النِّعْمَةُ وَيَكُونُ ذَلِكُمْ قَدْ أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ وَالْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ هو الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهُمَا. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنَ الشَّيْطَانِ وَوَصْفُهُ بِعَظِيمٍ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكُمْ إِشَارَةً إِلَى التَّنْجِيَةِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَلَا يَخْفَى مَا في ذلك

_ (1) سورة الشورى: 42/ 43.

[سورة البقرة (2) : الآيات 50 إلى 53]

مِنْ عِظَمِ النِّعْمَةِ وَكَثْرَةِ الْمِنَّةِ، وَإِنْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى مَا بَعْدَ التَّنْجِيَةِ مِنَ السَّوْمِ، أَوِ الذَّبْحِ، وَالِاسْتِحْيَاءِ، فَذَلِكَ ابْتِلَاءٌ عَظِيمٌ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ، يُقَالُ إِنَّهُ سَخَّرَهُمْ فَبَنَوْا سَبْعَةَ حَوَائِطَ جَائِعَةً أَكْبَادُهُمْ عَارِيَةً أَجْسَادُهُمْ، وَذَبَحَ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفِ صَبِيٍّ. فَأَيُّ ابْتِلَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَكَوْنُهُ عَظِيمًا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اتِّصَافُهُ بِالِاسْتِعْظَامِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ صَبَرَ فِي اللَّهِ عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ صُحْبَةَ أَوْلِيَائِهِ. هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ صَبَرُوا عَلَى مُقَاسَاةِ الضُّرِّ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ مُلُوكًا، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، انْتَهَى. وَلَمْ تَزَلِ النِّعَمُ تَمْحُو آثَارَ النِّقَمِ، قَالَ الشَّاعِرُ: نَأْسُوا بِأَمْوَالِنَا آثار رائدينا وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِذِكْرِ النِّعَمِ مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ، أَمَرَهُمْ بِذِكْرِهَا ثَانِيَةً مُفَصَّلَةً، فَبَدَأَ مِنْهَا بِالتَّفْضِيلِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ يَوْمٍ لَا خَلَاصَ فِيهِ، لَا بِقَاضٍ حَقٍّ، وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا فِدْيَةٍ، وَلَا نَصْرٍ، لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ نِعَمَهُ، وَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَهْيَهُ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاتِّقَاءِ مُهِمًّا هُنَا، لِأَنَّ مَنْ أُخْبِرَ بِأَنَّهُ فُضِّلَ عَلَى الْعَالَمِينَ رُبَّمَا اسْتَنَامَ إِلَى هَذَا التَّفْضِيلِ، فَأُعْلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ التَّقْوَى وَعَدَمِ الِاتِّكَالِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَأَكَ بِسَوَابِقِ نِعَمِهِ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَّقِيَ لَوَاحِقَ نِقَمِهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْإِنْجَاءِ الَّذِي بِهِ كَانَ سَبَبُ الْبَقَاءِ بَعْدَ شِدَّةِ اللَّأْوَاءِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ تَفَاصِيلَ النَّعْمَاءِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ «1» ، فَكَانَ تَعْدَادُ الْآلَاءِ مِمَّا يُوجِبُ جَمِيلَ الذِّكْرِ وَجَلِيلَ الثَّنَاءِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ النِّعَمِ، نِعْمَةً نِعْمَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 53] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) الْفَرْقُ: الْفَصْلُ، فَرَقَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا: فَصَلَ، وَفَرَّقَ كَذَا: فَصَلَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ: الْفَرْقُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ، وَالْفَرِيقُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالتَّفَرُّقُ، وَالْفَرْقُ، الْمَفْرُوقُ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 61.

كَالطَّحْنِ. وَالْفَرْقُ ضِدُّهُ: الْجَمْعُ، وَنَظَائِرُهُ: الْفَصْلُ، وَضِدُّهُ: الْوَصْلُ، وَالشِّقُّ وَالصَّدْعُ: وَضِدُّهُمَا اللَّأْمُ، وَالتَّمْيِيزُ: وَضِدُّهُ الِاخْتِلَاطُ. وَقِيلَ: يُقَالُ فَرَقَ فِي الْمَعَانِي، وَفَرَّقَ فِي الْأَجْسَامِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. الْبَحْرُ: مَكَانٌ مُطَمْئِنٌّ مِنَ الْأَرْضِ يَجْمَعُ الْمِيَاهَ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَبْحُرٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى بُحُورٍ وَبِحَارٍ، وَأَصْلُهُ قِيلَ: الشِّقُّ، وَقِيلَ: السَّعَةُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: الْبَحِيرَةُ، وَهِيَ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَمِنَ الثَّانِي: الْبُحَيْرَةُ، الْمَدِينَةُ الْمُتَّسِعَةُ، وَفَرَسٌ بَحْرٌ: وَاسْعُ الْعَدْوِ، وَتَبَحَّرَ فِي الْعِلْمِ: أَيِ اتَّسَعَ، وَقَالَ: انْعِقْ بِضَأْنِكَ فِي بَقْلٍ تُبَحِّرُهُ ... مِنَ الْأَبَاطِحِ وأحبسها بخلدان وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ الْحُلْوِ وَالْمَاءِ الْمِلْحِ، قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ «1» ، وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْمِلْحِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْأَصْلُ، فِيهِ أَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: وَقَدْ عَادَ عَذْبُ الْمَاءِ بَحْرًا فَزَادَنِي ... عَلَى مَرَضٍ أَنْ أَبْحَرَ الْمَشْرَبُ الْعَذْبُ أَيْ صَارَ مِلْحًا. الْغَرَقُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَفْعَلُ بِالْفَتْحِ، قَالَ: وَتَارَاتٍ يَجِمُّ فَيَغْرَقُ وَالتَّغْرِيقُ، وَالتَّعْوِيصُ، وَالتَّرْسِيبُ، وَالتَّغْيِيبُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. النَّظَرُ: تَصْوِيبُ الْمُقْلَةِ إلى المرثيّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى، وَيُعَلَّقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا، وَنَظَرَهُ وَانْتَظَرَهُ وَأَنْظَرَهُ: أَخَّرَهُ، وَالنَّظِرَةُ: التَّأْخِيرُ. وَعَدَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْوَعْدُ فِي الْخَيْرِ، وَأَوْعَدَ فِي الشَّرِّ، وَالْإِيعَادُ وَالْوَعِيدُ فِي الشَّرِّ. مُوسَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. يُقَالُ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ مُو: وهو الماء، وشاو: هو الشَّجَرُ. فَلَمَّا عُرِّبَ أَبْدَلُوا شِينَهُ سِينًا، وَإِذَا كَانَ أَعْجَمِيًّا فَلَا يَدْخُلُهُ اشْتِقَاقٌ عَرَبِيٌّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ، فَقَالَ مَكِّيٌّ: مُوسَى مُفْعَلٌ مَنْ أَوْسَيْتُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَاسَ يَمِيسُ، وَوَزْنُهُ: فُعْلًى، فأبدلت الياء واو الضمة مَا قَبْلَهَا، كَمَا قَالُوا: طُوبَى، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، لِأَنَّهَا مِنْ طَابَ يَطِيبُ. وَكَوْنُ وَزْنِهُ فُعْلًى هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْرِبِينَ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ وَزْنَ مُوسَى مُفْعَلٌ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَنْصَرِفُ. وَاحْتَجَّ سِيبَوَيْهِ فِي الْأَبْنِيَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ زِيَادَةَ الْمِيمِ أَوَّلًا أَكْثَرُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَلِفِ آخِرًا، وَاحْتَجَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُفْعَلًا لَا فُعْلًى، بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صَرْفِهِ نَكِرَةً، وَلَوْ كَانَ فُعْلًى لَمْ يَنْصَرِفْ نَكِرَةً لِأَنَّ الْأَلِفَ كَانَتْ تَكُونُ لِلتَّأْنِيثِ، وألف

_ (1) سورة فاطر: 35/ 12.

التَّأْنِيثِ وَحْدَهَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ. الْأَرْبَعُونَ: لَيْسَ بِجَمْعِ سَلَامَةٍ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ الَّذِي هُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَمَدْلُولُهُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ أُعْرِبَ إِعْرَابَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ. اللَّيْلَةُ: مَدْلُولُهَا مَعْرُوفٌ، وَتُكْسَرُ شَاذًّا عَلَى فَعَالِى، فَيُقَالُ: اللَّيَالِي، وَنَظِيرُهُ: الْكَيْكَةَ وَالْكَيَاكِي، كَأَنَّهُ جَمْعُ لَيْلَاهُ وَكَيْكَاهُ، وَأَهْلٍ وَالْأَهَالِي. وَقَدْ شَذُّوا فِي التَّصْغِيرِ كَمَا شَذُّوا فِي التَّكْسِيرِ، قَالُوا: لُيَيْلَةٌ. الِاتِّخَاذُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُبْدَلَ الْهَمْزَةُ إِلَّا يَاءً، فَتَقُولُ: إِيتَخَذَ كَهَمْزَةِ إِيمَانٍ إذ أصله: إئمان، وَكَقَوْلِهِمْ: ائْتَزَرَ: افْتَعَلَ مِنَ الْإِزَارِ، فَمَتَّى كَانَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ وَاوًا أَوْ يَاءً، وَبُنِيَتِ افْتَعَلَ مِنْهَا، فَاللُّغَةُ الْفُصْحَى إِبْدَالُهَا تَاءً وَإِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ، فَتَقُولُ: اتَّصَلَ وَاتَّسَرَ مِنَ الْوَصْلِ وَالْيُسْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ هَمْزَةً، وَبَنَيْتَ افْتَعَلَ، أَبْدَلْتَ تِلْكَ الْهَمْزَةَ يَاءً وَأَقْرَرْتَهَا. هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ تُبْدَلُ هَذِهِ الْيَاءُ تَاءً فَتُدْغَمُ، قَالُوا: اتَّمَنَ، وَأَصْلُهُ: ائْتَمَنَ. وَعَلَى هَذَا جَاءَ: اتَّخَذَ. وَمِمَّا عَلِقَ بِذِهْنِي مِنْ فَوَائِدِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بن أَبِي نَصْرٍ الْحَلَبِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ النَّحَّاسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَانَ الْمُشْتَهِرَ بِعِلْمِ النَّحْوِ فِي دِيَارِ مِصْرَ: أَنَّ اتَّخَذَ مِمَّا أُبْدِلَ فِيهِ الْوَاوُ تَاءً عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى، لِأَنَّ فِيهِ لُغَةً أَنَّهُ يُقَالُ: وَخَذَ بِالْوَاوِ، فَجَاءَ هَذَا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ اتَّمَنَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُغْرِبُ بِنَقْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْفَارِسِيُّ مَسْأَلَةَ اتَّخَذَ عَلَى أَنَّ التاء الأولى أصلية، إذ قُلْتَ: قَالَتِ الْعَرَبُ تَخِذَ بِكَسْرِ الْخَاءِ، بِمَعْنَى: أَخَذَ، قال: تعالى: لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً «1» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ، وَأَنْشَدَ الْفَارِسِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسِيفًا كَأُفْحُوصِ الْقَطَاةِ الْمُطَوَّقِ فَعَلَى قَوْلِهِ: التَّاءُ أَصْلٌ، وَبَنَيْتَ مِنْهُ افْتَعَلَ، فَقُلْتَ: اتَّخَذَ، كَمَا تَقُولُ: اتَّبَعَ، مَبْنِيًّا مِنْ تَبِعَ، وَقَدْ نَازَعَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ فِي تَخِذَ، فَزَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ: اتَّخَذَ، وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ اتَّقَى، فَقَالُوا: تَقَيَ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: تَخِذَ بِفَتْحِ التَّاءِ مُخَفَّفَةً، كَمَا قَالُوا: يَتَّقِي وَيَتَّسِعُ بِحَذْفِ التَّاءِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ فَاءِ الْكَلِمَةِ. وَرَدَّ السِّيرَافِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ مَحْذُوفًا مِنْهُ مَا كُسِرَتِ الْخَاءُ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً، كَقَافِ تَقَيَ، وَأَمَّا يَتَّخِذُ فَمَحْذُوفٌ مِثْلَ: يَتَّسِعُ، حُذِفَ مِنَ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي، وَتَخِذَ بِنَاءٌ أَصْلِيٌّ، انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 77.

الْفَارِسِيُّ وَالسِّيرَافِيُّ مِنْ أَنَّهُ بِنَاءٌ أَصْلِيٌّ عَلَى حَدِّهِ هُوَ الصَّحِيحُ، بِدَلِيلِ مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ وَهُوَ: تَخِذَ يَتْخَذُ تَخْذًا، قَالَ الشاعر: ولا تكثرن اتخذ العشار فإنها ... تريد مباآت فَسِيحًا بِنَاؤُهَا وَذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَنَّ الْأَصْلَ وَاوٌ مُبْدَلَةٌ مِنْ هَمْزَةٍ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي التَّاءِ، فَصَارَ فِي اتَّخَذَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: التَّاءُ الْأُولَى أَصْلٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ أَصْلِيَّةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ تَاءٍ أُبْدِلَتْ مِنْ هَمْزَةٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ أُبْدِلَتْ مِنْ هَمْزَةٍ، وَاتَّخَذَ تَارَةً يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذَتْ بَيْتاً «1» ، وَتَارَةً لِاثْنَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «2» : بِمَعْنَى صَيَّرَ. الْعِجْلُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ وَلَدُ الْبَقَرَةِ الصَّغِيرُ الذَّكَرُ. بَعْدَ: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ، كَقَبْلَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ إِذَا قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَيُعْرَبُ بِحَرَكَتَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ: جِئْتُ بَعْدَ زَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ: جِئْتُ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانِ مَجِيءِ زَيْدٍ، وَلَا يُحْفَظُ جَرُّهُ إِلَّا بِمِنْ وَحْدَهَا. عَفَا: بِمَعْنَى كَثُرَ، فَلَا يَتَعَدَّى حَتَّى عَفَوْا، وَقَالُوا: وَبِمَعْنَى دَرَسَ، فَيَكُونُ لَازِمًا مُتَعَدِّيًا نَحْوَ: عَفَتِ الدِّيَارُ، وَنَحْوَ: عَفَاهَا الريح، وعفى عَنْ زَيْدٍ: لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِجَرِيمَتِهِ، وَاعْفُوا عَنِ اللِّحَى، أَيِ اتْرُكُوهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَرَجُلٌ عَفُوٌّ، وَالْجَمْعُ عُفْوٌ عَلَى فُعْلٍ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، وَالْعِفَاءُ: الشَّعَرُ الْكَثِيرُ، قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عِفَاءٌ وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الشَّخْصِ: عَلَيْهِ الْعَفَاءُ، قَالَ: عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ يُرِيدُ الدُّرُوسَ، وَتَأْتِي عَفَا: بِمَعْنَى سَهُلَ مِنْ قَوْلِهِمْ: خُذْ مَا عَفَا وَصَفَا، وَأَخَذْتُ عَفْوَهُ: أَيْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ، مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «3» : أَيِ الْفَضْلَ الَّذِي يَسْهُلُ إِعْطَاؤُهُ، وَمِنْهُ: خُذِ العفو، وأي السَّهْلَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَالْعَافِيَةُ: الْحَالَةُ السَّهْلَةُ السَّمْحَةُ. الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى إِسْدَاءِ النِّعَمِ، وَفِعْلُهُ: شَكَرَ يَشْكُرُ شُكْرًا وَشُكُورًا، وَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قِسْمٌ بِرَأْسِهِ، تَارَةً يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ استحالة ذلك. وكان

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 41. (2) سورة الجاثية: 45/ 23. (3) سورة البقرة: 2/ 219.

شَيْخُنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ شَكَرَ أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، ثُمَّ أُسْقِطَ اتِّسَاعًا. وَقِيلَ: الشُّكْرُ: إِظْهَارُ النِّعْمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَكَرَتِ الرَّمْكَةُ مُهْرَهَا إِذَا أَظْهَرَتْهُ، وَالشَّكِيرُ: صِغَارُ الْوَرَقِ يَظْهَرُ مِنْ أَثَرِ الْمَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَبَيْنَا الْفَتَى يَهْتَزُّ لِلْعَيْشِ نَاضِرًا ... كَعُسْلُوجَةٍ يَهْتَزُّ مِنْهَا شَكِيرُهَا وَأَوَّلُ الشَّيْبِ، قَالَ الرَّاجِزُ: أَلَانَ ادِّلَاجٌ بِكَ الْعَتِيرُ ... وَالرَّأْسُ إِذْ صَارَ لَهُ شَكِيرُ وناقة شكور تذر أَكْثَرَ مِمَّا رَعَتْ الْفُرْقَانُ: مَصْدَرُ فَرَّقَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَرَقَ. وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ: مَعْطُوفٌ عَلَى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ الْعَامِلُ فِي إِذْ تِلْكَ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: فَرَّقْنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَيُفِيدُ التَّكْثِيرُ لِأَنَّ الْمَسَالِكَ كَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ مَسْلَكًا عَلَى عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَنْ قَرَأَ: فَرَقْنَا مُجَرَّدًا، اكْتَفَى بِالْمُطْلَقِ، وَفُهِمَ التَّكْثِيرُ مِنْ تَعْدَادِ الْأَسْبَاطِ. بِكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِفَرَقْنَا، وَالْبَاءُ مَعْنَاهَا: السَّبَبُ، أَيْ بِسَبَبِ دُخُولِكُمْ، أَوِ الْمُصَاحَبَةِ: أَيْ مُلْتَبِسًا، كَمَا قَالَ: تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا أَيْ مُلْتَبِسَةً بِنَا، أَوْ: أَيْ جَعَلْنَاهُ فَرْقًا بِكُمْ كَمَا يُفْرَقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ، أَوْ مَعْنَاهَا اللَّامُ، أَيْ فَرَقْنَا لَكُمُ الْبَحْرَ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، وَمَعْنَاهَا رَاجِعٌ لِلسَّبَبِ. وَيَحْتَمِلُ الْفَرْقُ أَنْ يَكُونَ عَرْضًا مِنْ ضَفَّةٍ إِلَى ضَفَّةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طُولًا، وَنُقِلَ كُلٌّ: وَعَلَى هَذَا الثَّانِي قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ بِقُرْبٍ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاةِ، وَلَا يُلْحَقُ فِي الْبِرِّ إِلَّا فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ بِسَبَبِ جِبَالٍ وَأَوْعَارٍ حَائِلَةٍ. وَذَكَرَ الْعَامِرِيُّ: أَنَّ مَوْضِعَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ بَرِيَّةِ فَلَسْطِينَ، وَهِيَ كَانَتْ طَرِيقَهُمْ. الْبَحْرُ: قِيلَ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ مِنْ بِحَارِ فَارِسَ، وَكَانَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ أَرْبَعَةُ فراسخ، وقيل: بَحْرٍ مِنْ بِحَارِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ أَسَافُ، وَيُعْرَفُ الْآنَ بِبَحْرِ الْقُلْزُمِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنْ فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ بِعَدَدِ الْأَسْبَاطِ، اثَّنَي عَشَرَ مَسْلَكًا. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْمَفْرُوقِ بِهِمْ، وَعَدَدِ آلِ فِرْعَوْنَ، عَلَى أَقْوَالٍ يُضَادُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَحَكَوْا فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَعَنُّتِهِمْ وَهُمْ فِي الْبَحْرِ مُقْتَحِمُونَ، وَفِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِ فِرْعَوْنَ بِجُنُودِهِ، حِكَايَاتٍ مُطَوَّلَةٍ جِدًّا لَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَيْهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا.

فَأَنْجَيْناكُمْ: يَعْنِي مِنَ الْغَرَقِ، وَمِنْ إِدْرَاكِ فِرْعَوْنَ لَكُمْ وَالْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفَرْقُ وَالنَّجَاةُ وَالْغَرَقُ كَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟ وَاسْتَطْرَدُوا إِلَى الْكَلَامِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَفِي صَوْمِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي الْفِقْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَنْجَيْناكُمْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ وَتَبِعَكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فِي تَقَحُّمِهِ فَأَنْجَيْنَاكُمْ. وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَالْهَمْزَةُ فِي أَغْرَقْنَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَيُعَدَّى أَيْضًا بِالتَّضْعِيفِ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِرْعَوْنُ فِيمَنْ غَرَقَ، لِأَنَّ وُجُودَهُ مَعَهُمْ مُسْتَقِرٌّ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْآلِ هُنَا، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، وَنَسَبَ تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَبِيحَةَ إِلَيْهِمْ مَنْ سَوْمِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَذَابَ، وَذَبْحِهِمْ أَبْنَاءَهُمْ، وَاسْتِحْيَائِهِمْ نِسَاءَهُمْ، فَنَاسَبَ هَذَا إِفْرَادَهُمْ بِالْغَرَقِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى غَرَقَ فِرْعَوْنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مِنْهَا: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «1» ، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ «2» ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «3» . وَنَاسَبَ نَجَاتُهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ بِإِلْقَائِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ سَالِمِينَ، نَجَاةَ نَبِيِّهِمْ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الذَّبْحِ، بِإِلْقَائِهِ وَهُوَ طِفْلٌ فِي الْبَحْرِ، وَخُرُوجِهِ مِنْهُ سَالِمًا. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ نَصِيبٌ مِنْ نَبِيِّهَا. وَنَاسَبَ هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالْغَرَقِ، هَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالذَّبْحِ، لِأَنَّ الذَّبْحَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ بِإِنْهَارِ الدَّمِ، وَالْغَرَقُ فِيهِ إِبْطَاءُ الْمَوْتِ، وَلَا دَمَ خَارِجٌ، وَكَانَ مَا بِهِ الْحَيَاةُ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «4» سَبَبًا لِإِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ. وَلَمَّا كَانَ الْغَرَقُ مِنْ أَعْسَرِ الْمَوْتَاتِ وَأَعْظَمِهَا شِدَّةً، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَكَالًا لِمَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «5» ، إِذْ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ يَكُونُ الْعِقَابُ، وَيُنَاسِبُ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالِاعْتِلَاءِ انْحِطَاطُ الْمُدَّعِي وَتَغْيِيبُهُ فِي قَعْرِ الْمَاءِ. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ مِنَ النَّظَرِ: بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ. وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ الْعَظِيمَةَ مِنْ فَرْقِ الْبَحْرِ بِكُمْ، وَإِنْجَائِكُمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَمِنْ أَعْدَائِكُمْ، وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِكُمْ بِالْغَرَقِ، وَقَعَ وَأَنْتُمْ تُعَايِنُونَ ذَلِكَ وَتُشَاهِدُونَهُ، لَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ بِنَقْلٍ، بَلْ بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَدِ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ لِقُرْبِ بَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: إِلَى طَفْوِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ غَرْقَى. وَقِيلَ: إِلَيْهِمْ وَقَدْ لَفِظَهُمُ الْبَحْرُ وَهُمُ الْعَدَدُ الَّذِي لَا يَكَادُ

_ (1) سورة القصص: 28/ 40، وسورة الذاريات: 51/ 40. (2) سورة يونس: 10/ 90. (3) سورة طه: 20/ 78. (4) سورة الأنبياء: 21/ 30. [.....] (5) سورة النازعات: 79/ 24.

يَنْحَصِرُ، لَمْ يَتْرُكِ الْبَحْرُ فِي جَوْفِهِ مِنْهُمْ وَاحِدًا. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ أَيْ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ بَعْضَ قَوْمِ مُوسَى قَالُوا لَهُ: أَيْنَ أَصْحَابُنَا؟ فَقَالَ: سِيرُوا، فَإِنَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِ طَرِيقِكُمْ، قَالُوا: لَا نَرْضَى حَتَّى نَرَاهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قُلْ بِعَصَاكَ هَكَذَا، فَقَالَ بِهَا عَلَى الْحِيطَانِ، فَصَارَ بِهَا كُوًى، فَتَرَاءَوْا وَتَسَامَعُوا كَلَامَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ النَّظَرُ فِيهَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ: النَّظَرُ تَجَوَّزَ بِهِ عَنِ الْقُرْبِ، أَيْ وَأَنْتُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، أَيْ بِحَالٍ لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَيْهِمْ لَرَأَيْتُمُوهُمْ كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ مِنِّي بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ، أَيْ قَرِيبٌ بِحَيْثُ أَرَاكَ وَأَسْمَعُكَ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ نَظَرِ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ، وَمَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ بِمَصْرَعِهِمْ وَتَتَّعِظُونَ بِمَوَاقِعِ النِّقْمَةِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: النَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ عَنِ النَّظَرِ، فَكَنَى بِهِ عَنْهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاعَدْنَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ هُنَا، وَفِي الْأَعْرَافِ وَطَهَ، وَيَحْتَمِلُ وَاعَدْنَا، أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى وَعَدْنَا، وَيَكُونُ صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ، ويحتمل أن يكون من اثْنَيْنِ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاعَلَةِ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ وَعَدَ مُوسَى الْوَحْيَ، وَيَكُونُ مُوسَى وَعَدَ اللَّهَ الْمَجِيءَ لِلْمِيقَاتِ، أَوْ يَكُونُ الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ وَقَبُولُهُ كَانَ مِنْ مُوسَى، وَقَبُولُ الْوَعْدِ يُشْبِهُ الْوَعْدَ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْآدَمِيُّ يَعِدُ اللَّهَ بِمَعْنَى يُعَاهِدُهُ. وَقِيلَ: وَعَدَ إِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَوَاعَدَ إِذَا كَانَ عَنْ طَلَبٍ. وَقَدْ رَجَّحَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: وَاعَدْنَا بِالْأَلِفِ، وافقه عَلَى مَعْنَى مَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَمَكِّيٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُوَاعَدَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَكْثَرُ مَا تَكُونُ الْمُوَاعَدَةُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَكَافِئِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعِدُ صَاحِبَهُ، وَقَدْ مَرَّ تَخْرِيجُ وَاعَدَ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ السَّابِقَةِ، وَلَا وَجْهَ لِتَرْجِيحِ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَوَاتِرٌ، فَهُمَا فِي الصِّحَّةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِأَلِفٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَنَافِعٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ. مُوسَى: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بن لاوي بن يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ. وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِوَّانِيُّ النَّسَّابَةُ: أَنَّ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ: مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بن قَاهِثَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظِ مُوسَى الْعَلَمِ. وَأَمَّا مُوسَى الْحَدِيدَةُ، الَّتِي يُحْلَقُ بِهَا الشَّعَرُ، فَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ عَرَبِيَّةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ: أَسَوْتُ الشَّيْءَ، إِذَا أَصْلَحْتَهُ، وَوَزْنُهَا مُفْعَلٌ، وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ، وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ: أَوْسَيْتُ إِذَا حَلَقْتُ، وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ أَشْبَهُ بِهَا، وَلَا أَصْلَ لِلْوَاوِ فِي الْهَمْزِ عَلَى هَذَا. أَرْبَعِينَ لَيْلَةً: ذُو

الْحِجَّةِ وَعَشْرٌ مِنَ الْمُحَرَّمِ، أَوْ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِكَسْرِ بَاءِ أَرْبِعِينَ شَاذًّا اتِّبَاعًا، وَنُصِبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَاعَدْنَا، عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمَوْعُودَةُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ تَمَامَ، أَوِ انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ إِعْرَابَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قوله: فواعديه سر حتى مَالِكِ ... أَوِ النَّقَا بَيْنَهُمَا أسهلا أي إتيان سر حتى مَالِكٍ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ أَرْبَعِينَ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مَعْدُودٌ، فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْعَامِلِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْمُوَاعَدَةُ لَمْ تَقَعْ كَذَلِكَ. وَلَيْلَةً: مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ الْجَائِي بَعْدَ تَمَامِ الِاسْمِ، وَالْعَامِلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّمْيِيزِ اسْمُ الْعَدَدِ قَبْلَهُ شَبَّهَ أَرْبَعِينَ بِضَارِبِينَ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّمْيِيزِ عَلَى اسْمِ الْعَدَدِ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالْمَجْرُورِ إِلَّا ضَرُورَةً، نَحْوَ: على أنني بعد ما قَدْ مَضَى ... ثَلَاثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلًا كَمِيلَا وَعِشْرِينَ مِنْهَا أُصْبُعًا مِنْ وَرَائِنَا وَلَا تَعْرِيفَ لِلتَّمْيِيزِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الطَّرَاوَةِ. وَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدِ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَا فَعَلَتِ الْعِشْرُونَ الدِّرْهَمَ، وَمَا جَاءَ نَحْوَ: هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعْرِيفِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَكَانَ تَفْسِيرُ الْأَرْبَعِينَ بِلَيْلَةٍ دُونَ يَوْمٍ، لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ لَيْلَةُ الْهِلَالِ، وَلِهَذَا أُرِّخَ بِاللَّيَالِي، وَاعْتِمَادُ الْعَرَبِ عَلَى الْأَهِلَّةِ، فَصَارَتِ الْأَيَّامُ تَبَعًا لِلَّيَالِي، أَوْ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ أَقْدَمُ مِنَ الضَّوْءِ بِدَلِيلِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» ، أَوْ دَلَالَةً عَلَى مُوَاصَلَتِهِ الصَّوْمَ لَيْلًا وَنَهَارًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّفْسِيرُ بِالْيَوْمِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا نَصَّ عَلَى اللَّيَالِي اقْتَضَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ وَاصَلَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِأَيَّامِهَا. وَهَذِهِ الْمُوَاعَدَةُ لِلتَّكَلُّمِ، أَوْ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جَاوَزَ الْبَحْرَ، وَسَأَلَهُ قَوْمُهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ إِلَى الطُّورِ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَعِدَ الْجَبَلَ وَوَاعَدَهُمْ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَعَدُوا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ عِشْرِينَ يَوْمًا وَعَشَرَةَ لَيَالٍ، فَقَالُوا: قَدْ أَخْلَفَنَا مَوْعِدَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِصْرَ، بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، وَعَدَ اللَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةَ، وَضَرَبَ لَهُ مِيقَاتًا، انتهى.

_ (1) سورة يس: 36/ 37.

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ: الْجُمْهُورُ عَلَى إِدْغَامِ الذَّالِ فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ مِنَ السَّبْعَةِ: بِالْإِظْهَارِ، وَيَحْتَمِلُ اتَّخَذَ هُنَا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً لِوَاحِدٍ، أَيْ صَنَعْتُمْ عِجْلًا، كَمَا قَالَ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ «1» ، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهَا: وَعَبَدْتُمُوهُ إِلَهًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، وَالْأَرْجَحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَوْ كَانَ مِمَّا يَتَعَدَّى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِاثْنَيْنِ لَصَرَّحَ بِالثَّانِي، وَلَوْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ إِلَى اثْنَيْنِ بَلْ إِلَى وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى، وَفِي: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ «2» ، وَفِي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ «3» ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ «4» ، لَكِنَّهُ يُرَجَّحُ الْقَوْلُ الثَّانِي لِاسْتِلْزَامِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَذْفَ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الثَّانِي إِلَّا حَذْفَ الْمَفْعُولِ، وَحَذْفُ الْمُفْرَدِ أَسْهَلُ مِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيهِ ذَمُّ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الَّذِي عَمِلَ الْعِجْلَ هُوَ السَّامِرِيُّ، وَسَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي اسْمِهِ وَحِكَايَةِ إِضْلَالِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «5» ، وَذَلِكَ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ الْقَبِيلَةَ بِمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِيهِ ذَمُّهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعِجْلِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ فِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْعَهْدِ السَّابِقِ، إِذْ كَانُوا قَدْ صَنَعُوا عِجْلًا ثُمَّ اتَّخَذُوا ذَلِكَ الْعِجْلَ إِلَهًا، وَكَوْنُهُ عِجْلًا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، فَيَكُونُ عِجْلًا حَقِيقَةً وَيَكُونُ نِسْبَةُ الْخُوَارِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ، أَيْ عِجْلًا فِي الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، لِأَنَّ السَّامِرِيَّ صَاغَهُ عَلَى شَكْلِ الْعِجْلِ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرُوا صَائِغًا، وَيَكُونُ نِسْبَةُ الْخُوَارِ إِلَيْهِ مَجَازًا، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا ذُهِبَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِجْلِ أَنَّهُ سُمِّيَ عِجْلًا لِأَنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ قَبْلَ قُدُومِ مُوسَى، فَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ سُمِّي هَذَا عِجْلًا، لِقِصَرِ مُدَّتِهِ. مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ: تُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، وَيَتَعَارَضُ مَدْلُولُهَا مَعَ مَدْلُولِ ثُمَّ، لِأَنَّ ثُمَّ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 148. (2) سورة الأعراف: 7/ 148. (3) سورة الأعراف: 7/ 152. (4) سورة البقرة: 2/ 54. (5) سورة طه: 20/ 85.

تَقْتَضِي وُقُوعَ الِاتِّخَاذِ بَعْدَ مهلة من المواعدة، ومن تَقْتَضِي ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ فِي التَّعْدِيَةِ الَّتِي تَلِي الْمُوَاعَدَةَ، إِذِ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مُوسَى، وَلَا تُتَصَوَّرُ التَّعْدِيَةُ فِي الذَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ، وَأَقْرَبُ مَا يُحْذَفُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ وَاعَدْنَا، أَيْ مِنْ بَعْدِ مُوَاعَدَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَجَازِ فِي أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ مَحْذُوفٌ غَيْرُ الْمُوَاعَدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِهِ إِلَى الطُّورِ، فَيَزُولُ التَّعَارُضُ، إِذِ الْمُهْلَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ وَالِاتِّخَاذِ. وَيُبَيِّنُ الْمُهْلَةَ قِصَّةُ الْأَعْرَافِ، إِذْ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ وَالِاتِّخَاذِ هُنَاكَ جُمَلٌ كَثِيرَةٌ، وَابْتِدَاءُ الْغَايَةِ يَكُونُ عَقِيبَ الذَّهَابِ إِلَى الطُّورِ، فَلَمْ تَتَوَارَدِ الْمُهْلَةُ وَالِابْتِدَاءُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَزَالَ التَّعَارُضُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَعْدِهِ يَعُودُ عَلَى الذَّهَابِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الذَّهَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ تَقْتَضِي الذَّهَابَ، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بَلْ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» ، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «2» أَيْ تَوَارَتِ الشَّمْسُ، إِذْ يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: بِالْعَشِيِّ، وَأَيْ فَأَثَرْنَ بِالْمَكَانِ، إِذْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْعادِياتِ «3» فَالْمُورِياتِ «4» ، فَالْمُغِيراتِ «5» ، إِذْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي مَكَانٍ فَاقْتَضَتْهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْإِنْجَاءِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْإِنْجَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْهُدَى، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْهُدَى، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ الظُّلْمِ. قِيلَ: ظَالِمُونَ بِوَضْعِ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَقِيلَ: بِتَعَاطِي أَسْبَابِ هَلَاكِهَا، وَقِيلَ: بِرِضَاكُمْ فِعْلَ السَّامِرِيِّ فِي اتِّخَاذِهِ الْعِجْلَ، وَلَمْ تُنْكِرُوا عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ غَيْرَ حَالٍ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ: أَيْ سَجِيَّتُهُمُ الظُّلْمُ، وَهُوَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. وَكَانَ الْمَعْنَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَكُنْتُمْ ظَالِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ. وَأَبْرَزَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي صُورَةِ ابْتِدَاءٍ وَخَبَرٍ، لِأَنَّهَا أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَلِمُوَافَقَةِ الْفَوَاصِلِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعُمُومُ، وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ إِلَّا هَارُونَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ثَمَانِيَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: كُلُّهُمْ عَبَدُوهُ إِلَّا هَارُونَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، قِيلَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: إِلَّا هَارُونَ وَالسَّبْعِينَ رَجُلًا الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى. وَاتِّخَاذُ السَّامِرِيِّ الْعِجْلَ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يعكفون

_ (1) سورة ص: 38/ 32. (2) سورة العاديات: 100/ 4. (3) سورة العاديات: 100/ 1. (4) سورة العاديات: 100/ 2. (5) سورة العاديات: 100/ 3.

عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ وَكَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ، فَقَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً، فَهَجَسَ فِي نَفْسِ السَّامِرِيِّ أَنْ يَفْتِنَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَاتَّخَذَ لَهُمُ الْعِجْلَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، وَكَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِمُوسَى، فَاتَّخَذَ عِجْلًا مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَعْبُدُهُ، وَفِي اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجَسِّمَةً أَوْ حُلُولِيَّةً، إِذْ مَنِ اعْتَقَدَ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَاسْتِحَالَةَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ، تَبَيَّنَ لَهُ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ فَسَادُ دَعْوَى أَنَّ الْعِجْلَ إِلَهٌ. وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وغيرهما قَصَصًا كَثِيرًا مُخْتَلِفًا فِي سَبَبِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَكَيْفِيَّةِ اتِّخَاذِهِ، وَانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، إِذْ لَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّتِهَا كِتَابٌ وَلَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَتَرَكْنَا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ: تَقَدَّمَتْ مَعَانِي عَفَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَفَا عَنْهُ مِنْ بَابِ الْمَحْوِ وَالْإِذْهَابِ، أَوْ مِنْ بَابِ التَّرْكِ، أَوْ مِنْ بَابِ السُّهُولَةِ، وَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُسْتَعْمَلُ الْعَفْوُ بِمَعْنَى الصَّفْحِ إِلَّا فِي الذَّنْبِ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ أَوِ التَّسْهِيلِ، فَيَكُونُ عَنْكُمْ عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا كَانَ عَمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَحْوِ، كَانَ عَامًّا لَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَى مَنْ قُتِلَ، وَعَلَى مَنْ بَقِيَ، قَالَ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1» . وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى بَعْدَ قَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَنِّي قَبِلْتُ تَوْبَتَهُمْ فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ لَمْ يُقْتَلْ فَقَدْ تُبْتُ عَلَيْهِ وَغَفَرْتُ لَهُ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: عَفَوْنَا عَنْكُمْ، أَيْ بِسَبَبِ إِتْيَانِكُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَقِيلَ: إِلَى قَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. لَعَلَّكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لُغَةً وَدَلَالَةَ مَعْنًى بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. تَشْكُرُونَ: أَيْ تُثْنُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى بِإِسْدَائِهِ نِعَمَهُ إِلَيْكُمْ، وَتُظْهِرُونَ النِّعْمَةَ بِالثَّنَاءِ، وَقَالُوا: الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَبِالْقَلْبِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ حَقِّ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَبِالْعَمَلِ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «2» ، وَبِاللَّهِ أَيْ شُكْرًا لِلَّهِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْكُرُهُ حَقَّ شُكْرِهُ إِلَّا هُوَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَشُكْرُ ذَوِي الْإِحْسَانِ بِالْقَوْلِ تَارَةً ... وَبِالْقَلْبِ أُخْرَى ثُمَّ بِالْعَمَلِ الْأَسَنَّى وَشُكْرِي لِرَبِّي لَا بِقَلْبِي وَطَاعَتِي ... وَلَا بِلِسَانِي بَلْ بِهِ شُكْرُهُ عنا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 54. (2) سورة سبأ: 34/ 13. [.....]

وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: أَيْ عَفْوَ اللَّهِ عَنْكُمْ، لِأَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي الشُّكْرَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ تُظْهِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي الْعَفْوِ، أَوْ تَعْتَرِفُونَ بِنِعْمَتِي، أَوْ تُدِيمُونَ طَاعَتِي، أَوْ تُقِرُّونَ بِعَجْزِكُمْ عَنْ شُكْرِي أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشُّكْرُ طَاعَةُ الْجَوَارِحِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الشُّكْرُ هُوَ الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: التَّوَاضُعُ تَحْتَ رُؤْيَةِ الْمِنَّةِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَنْ لَا تَعْصِيَ اللَّهَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ أَنْ تَعْرِفَ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الشُّكْرُ لِمَنْ فَوْقَكَ بِالطَّاعَةِ، وَلِنَظِيرِكَ بِالْمُكَافَأَةِ، وَلِمَنْ دُونَكَ بِالْإِحْسَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سُرْعَةُ الْعَفْوِ عَنْ عَظِيمِ الْجُرْمِ دَالَّةٌ عَلَى حَقَارَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1» ، وَهُؤَلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» ، وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «3» ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَاسَبَ تَرَجِّي الشُّكْرِ إِثْرَ ذِكْرِ الْعَفْوِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الزَّلَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَهًا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ، أَوْ أَعْظَمُ إِسْدَاءِ النِّعَمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: هُوَ التَّوْرَاةُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْفُرْقانَ: هُوَ التَّوْرَاةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ آتَاهُ جَامِعًا بَيْنَ كَوْنِهِ كِتَابًا وَفُرْقَانَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ: الْمَكْتُوبُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِذِكْرِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: كَرَّرَ الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّهُ زَادَ مَعْنَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَفْظَةُ كِتَابٍ لَا تُعْطِي ذَلِكَ، أَوِ الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، أَيْ زَائِدَةٌ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلْكِتَابِ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ، وَابْنِ الْهُمَامِ، وَلَيْثِ: مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلِذَلِكَ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي، أَوِ النَّصْرُ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْوَلِيِّ فِي الْغَرَقِ وَالنَّجَاةِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِيَوْمِ بَدْرٍ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ، قاله ابن عباس، أو سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ، أَوِ الشَّرْعُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوِ الْبُرْهَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ،

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 30. (2) سورة البقرة: 2/ 52. (3) سورة الزلزلة: 99/ 8.

قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ وَابْنُ زيد، أو الفرح مِنَ الْكُرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ مَعَ الْقِبْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «1» ، أَيْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى النَّصْرِ أَوِ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ آتَى مُوسَى ذِكْرَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى آمَنَ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوِ الْقُرْآنُ عَلَى حَذْفِ مَفْعُولٍ، التَّقْدِيرُ: وَمُحَمَّدًا الْفُرْقَانَ، وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْفَرَّاءِ وَقُطْرُبٍ وَثَعْلَبٍ، وَقَالُوا: هُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا التَّقْدِيرُ: وَكَحَّلْنَ الْعُيُونَ. وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ مَكِّيٌّ وَالنَّحَّاسُ وَجَمَاعَةٌ، لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، وَيَصِيرُ نَظِيرَ: أَطْعَمْتُ زَيْدًا خُبْزًا وَلَحْمًا، وَيَكُونُ: اللَّحْمُ أَطْعَمْتَهُ غَيْرَ زَيْدٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ أَنَّهُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ، إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْحُرُوفِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِثْلَ مَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ: وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَ، لِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَاءَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً «2» ، وَذَكَرُوا جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوِ انْفِرَاقُ الْبَحْرِ، قَالَهُ يَمَانٌ وَقُطْرُبٌ، وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ بِسَبْقِ ذِكْرِ فَرْقِ الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ فَرَقْنا «3» ، وَبِذِكْرِ تَرْجِيَةِ الْهِدَايَةِ عَقِيبَ الْفُرْقَانِ، وَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكِتَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ، وَإِنْ سَبَقَ ذِكْرُ الِانْفِلَاقِ، فَأُعِيدَ هُنَا وَنُصَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ آيَةٌ لِمُوسَى مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ فَرْقِ الْبَحْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِدْقِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ هُوَ الْهِدَايَةُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ، وَبِفَرْقِ الْبَحْرِ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ لَهُمْ نِعْمَةَ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّيَانَاتِ لَهُمْ، وَنِعْمَةَ النَّجَاةِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. فَهَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَقَالَةً لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالْفُرْقَانِ هُنَا. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: تَرْجِيَةٌ لِهِدَايَتِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَعَلَّ. وَفِي لَفْظِ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي لَعَلَّ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ قَبْلُ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَنَّهُ تَوَقُّعٌ، وَالَّذِي تَقَرَّرَ فِي النَّحْوِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُ لَعَلَّ مَحْبُوبًا، كَانَتْ لِلتَّرَجِّي، فَإِنْ كَانَ مَحْذُورًا، كَانَتْ لِلتَّوَقُّعِ، كَقَوْلِكَ: لَعَلَّ الْعَدُوَّ يُقْدِمُ. وَالشُّكْرُ وَالْهِدَايَةُ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَبَّرَ عَنْ مَعْنَى لَعَلَّ هُنَا إِلَّا بِالتَّرَجِّي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فُرْقَانُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي اخْتُصُّوا بِهِ نُورٌ فِي قُلُوبِهِمْ، يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 29. (2) سورة الأنبياء: 21/ 38. (3) سورة البقرة: 2/ 50.

الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، اتَّقُوا فَرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «1» ، وَذَلِكَ الْفُرْقَانُ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْإِحْسَانِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَاسَبَ تَرَجِّي الْهِدَايَةِ إِثْرَ ذِكْرِ إِتْيَانِ مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ، لِأَنَّ الْكِتَابَ بِهِ تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «2» ، ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً «3» ، وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ «4» . وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذِكْرِ الِامْتِنَانِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا مِنْهَا: فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ كَوْنِهِ صَارَ اثْنَيْ عَشَرَ مَسْلَكًا عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ وَبَيْنَ كُلِّ سِبْطٍ حَاجِزٌ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِازْدِحَامِ دُونَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ فِي ذَلِكَ اسْتِيحَاشٌ، لِأَنَّهُ صَارَ فِي كُلِّ حَاجِزٍ كُوًى بِحَيْثُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى مَا نُقِلَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا الْفَرْقُ هُوَ النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ، لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ التَّفْضِيلُ، وَالثَّانِيَةَ هِيَ الْإِنْجَاءُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَالثَّالِثَةَ هِيَ هَذَا الْفَرْقُ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَإِغْرَاقِ أَعْدَائِهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّونَ فِي هَلَاكِهِمْ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ النِّعْمَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ اتَّفَقَ ذَلِكَ لِغَيْبَةِ مُوسَى عَنْهُمْ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى قِصَرِ مُدَّةِ غَيْبَتِهِ انْخَدَعُوا بِمَا فَعَلَهُ السَّامِرِيُّ هَذَا، وَلَمْ يَطُلْ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَخَلِيفَةُ مُوسَى فِيهِمْ أَخُوهُ هَارُونُ يَنْهَاهُمْ فَلَا يَنْتَهُونَ، وَمَعَ هَذِهِ الزَّلَّةِ الْعَظِيمَةِ عَفَا عَنْهُمْ وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ النِّعْمَةَ الْخَامِسَةَ، وَهِيَ ثَمَرَةُ الْوَعْدِ، وَهُوَ إِتْيَانُ مُوسَى التَّوْرَاةَ الَّتِي بِهَا هِدَايَتُهُمْ، وَفِيهَا مَصَالِحُ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَجَاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ النِّعَمِ مُتَنَاسِقًا يَأْخُذُ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَهُوَ تَرْتِيبٌ زَمَانِيٌّ، وَهُوَ أَحَدُ التَّرْتِيبَاتِ الخمس الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، فَهُوَ أَوَّلٌ ثُمَّ وَقَعَتِ النِّعَمُ بَعْدَهُ، وَهِيَ أَفْعَالٌ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. فَأَوَّلُهَا الْإِنْجَاءُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ، ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ بِإِخْرَاجِ مُوسَى إِيَّاهُمْ مِنْ مِصْرَ، بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْهِمْ تَسْلِيطٌ بَعْدَ هَذَا الْخُرُوجِ، وَالْإِنْجَاءِ، ثُمَّ فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ وَإِرَائِهِمْ عِيَانًا هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ وَعْدُ اللَّهُ لِمُوسَى بِمُنَاجَاتِهِ وَذَهَابُهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ الْعَفْوُ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِيتَاءُ مُوسَى التَّوْرَاةَ. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذِهِ الْفُصُولِ الَّتِي انْتَظَمَتِ انْتِظَامَ الدُّرِّ فِي أَسْلَاكِهَا، وَالزَّهْرِ فِي أَفْلَاكِهَا، كُلُّ فَصْلٍ مِنْهَا قَدْ ختم

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 29. (2) سورة المائدة: 5/ 44. (3) سورة البقرة: 2/ 2. (4) سورة المائدة: 5/ 46.

[سورة البقرة (2) : الآيات 54 إلى 57]

بِمُنَاسِبِهِ، وَارْتَقَى فِي ذُرْوَةِ الفصاحة إلى أعلا مَنَاصِبِهِ، وَارِدًا مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ أَمِينِهِ لِسَانِ مَنْ لَمْ يَتْلُ مِنْ قَبْلُ كِتَابًا وَلَا خطه بيمينه. [سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) الْقَوْمُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا وَاحِدُهُ امْرُؤٌ، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ، وَشَذَّ جَمْعُهُ، قَالُوا: أَقْوَامٌ، وَجَمْعُ جَمْعِهِ قَالُوا: أَقَاوِيمٌ فَقِيلَ يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ. قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ «1» ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ «2» . وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَقَالَ آخَرُ: قَوْمِي هُمْ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي ... فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي وَقَالَ آخَرُ: لَا يَبْعُدُنَّ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ وَقِيلَ: لَا يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ بَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ «3» ، وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ «4» . كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: أَمَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَيَبْطُلُ الْعُمُومُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُخَصَّصَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَيَكُونُ انْدِرَاجُ النِّسَاءِ فِي الْقَوْمِ على سبيل الاستتباع

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 11. (2) سورة الحجرات: 49/ 11. (3) سورة نوح: 71/ 1. (4) سورة غافر: 40/ 41. [.....]

وَتَغْلِيبِ الرِّجَالِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ. وَسُمِّيَ الرِّجَالُ قَوْمًا لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ. الْبَارِئُ: الْخَالِقُ، بَرَأَ يَبْرَأُ: خَلَقَ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْبَارِئِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «1» ، مَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَايُنِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: الْبَارِئُ هُوَ الْمُبْدِعُ الْمُحْدِثُ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ النَّاقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بَرَأَ وَأَنْشَأَ وَأَبْدَعَ نَظَائِرُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ، فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، انْتَهَى. وَقَالَ أُمَيَّةُ: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فِي الْأَرْحَامِ مَاءً حَتَّى يَصِيرَ دَمًا. الْقَتْلُ: إِزْهَاقُ الرُّوحِ بِفِعْلِ أَحَدٍ، مِنْ طَعْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ ذَبْحٍ أَوْ خَنْقٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ فَهُوَ مَوْتُ هَلَاكٍ، وَالْمُقَتَّلُ: الْمُذَلَّلُ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: بِسَهْمَيْكَ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ شَرَحُوهُ: بِالْمُذَلَّلِ. خَيْرٌ: هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهَا شُذُوذًا فِي الْكَلَامِ فَنَقَصَ بِنَاؤُهَا فَانْصَرَفَتْ، كَمَا حَذَفُوهَا شُذُوذًا فِي الشِّعْرِ مِنْ أحب للتي لِلتَّفْضِيلِ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ: وَزَادَنِي كَلَفًا بِالْحُبِّ أَنْ مُنِعْتُ ... وَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا وَقَدْ نَطَقُوا بِالْهَمْزَةِ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: بِلَالٌ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الْأَخْيَرِ وَتَأْتِي خَيْرٌ أَيْضًا لَا، بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، تَقُولُ: فِي زَيْدٍ خَيْرٌ، تُرِيدُ بِذَلِكَ خَصْلَةً جَمِيلَةً، وَمُخَفَّفًا مِنْ خَيِّرٍ: رَجُلٌ خَيْرٌ، أَيْ فِيهِ خَيْرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. حَتَّى: حَرْفٌ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ، فِيهِ الْغَايَةُ، وَتَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِبْدَالُ حَائِهَا عَيْنًا لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَسُمِعَ فِيهَا الْإِمَالَةُ قَلِيلًا، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي النَّحْوِ. الرُّؤْيَةُ الْإِبْصَارُ، وَالْمَاضِي رَأَى، عَيْنُهُ هَمْزَةٌ تُحْذَفُ فِي مُضَارِعِهِ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ وَبِنَاءِ أَفْعَلَ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ، وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، تَقُولُ: يَرَى وَتَرَى وَنَرَى وَأَرَى زَيْدًا، وَأَرَيْتُ زَيْدًا، وَرِ زَيْدًا، وَمَرِ زَيْدًا، وَمَرِيَ. وَتَثْبُتُ فِي الرُّؤْيَةِ وَالرَّأْيِ وَالرُّؤْيَا وَالْمَرْأَى وَالْمَرْئِيِّ وَالْمَرْأَةُ وَاسْتَرْأَى وَأَرْأَى مِنْ كَذَا، وَفِي مَا أَرْأَهُ وَأَرْئِهِ فِي التَّعَجُّبِ. وَهَذَا الْحَذْفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ إِذَا كَانَ مَدْلُولُ رَأَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِبْصَارِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ الِاعْتِقَادِ، فَإِنْ كَانَتْ رَأَى بِمَعْنَى أَصَابَ رِئَتَهُ، فلا تحذف

_ (1) سورة الحشر: 59/ 24.

الْهَمْزَةُ، بَلْ تَقُولُ: رَآهُ يَرْآهُ: أَيْ أَصَابَ رِئَتَهُ، نَقَلَهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْأَمْرِ. وَلُغَةُ تَمِيمٍ إِثْبَاتُ الْهَمْزِ فِيمَا حَذَفَ مِنْهُ غَيْرُهُمْ، فَيَقُولُونَ: يَرْأَى وَأَرْئَى؟ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: فَجَمَعَ بَيْنَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ وَالْإِثْبَاتِ: أَلَمْ تَرَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصَرُ ... وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ الْجَهْرَةُ: الْعَلَانِيَةُ، وَمِنْهُ الْجَهْرُ: ضِدُّ السِّرِّ، وَفَتْحُ عَيْنِ هَذَا النَّحْوِ مَسْمُوعٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، مَقِيسٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيُقَالُ: جَهَرَ الرَّجُلُ الْأَمْرَ: كَشَفَهُ، وَجَهَرَتِ الرَّكْيَةُ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْحَمْأَةِ وَأَظْهَرَتِ الْمَاءَ، قَالَ: إِذَا وَرَدْنَا آجنا جهرنا ... أو حاليا من أهله عمزنا والجمهوري: الْعَالِي الصَّوْتِ، وَصَوْتٌ جَهِيرٌ: عَالٍ، وَوَجْهٌ جَهِيرٌ: ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، وَالْأَجْهَرُ: الْأَعْمَى، سُمِّيَ عَلَى الضِّدِّ. الْبَعْثُ: الْإِحْيَاءُ، وَأَصْلُهُ الْإِثَارَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أُنِيخُهَا مَا بَدَا لِي ثُمَّ أَبْعَثُهَا ... كَأَنَّهَا كَاسِرٌ فِي الْجَوِّ فَتْخَاءُ وَقَالَ آخَرُ: وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحرَةٍ ... فَقَامُوا جَمِيعًا بين عان وَنَشْوَانِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِرْسَالُ، وَمِنْهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا «1» ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى الْإِفَاقَةِ مِنَ الْغَشْيِ أَوِ النَّوْمِ، وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ «2» ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي هُوَ إِزَالَةُ مَا يَمْنَعُ عَنِ التَّصَرُّفِ. ظَلَّلَ: فَعَّلَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظِّلِّ، وَالظِّلُّ أَصْلُهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالسَّحَابَةُ ظُلَّةٌ لِمَا يَحْصُلُ تَحْتَهَا مِنَ الظِّلِّ، وَمِنْهُ قِيلَ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ كُنْتَ مَوْلَى الظل أَوْ فِي ظِلَالِهِ ... ظَلَمْتَ وَلَكِنْ لَا يَدَيْ لَكَ بِالظُّلْمِ الْغَمَامُ: اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ، تَقُولُ: غَمَامَةٌ وَغَمَامٌ، نَحْوَ: حَمَامَةٍ وَحَمَامٍ، وَهُوَ السَّحَابُ. وَقِيلَ: مَا ابْيَضَّ مِنَ السَّحَابِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَبْرَدُ مِنَ السَّحَابِ وَأَرَقُّ، وَسُمِّيَ غَمَامًا لِأَنَّهُ يَغُمُّ وَجْهَ السَّمَاءِ: أَيْ يَسْتُرُهُ، وَمِنْهُ: الْغَمُّ وَالْغَمَمُ وَالْأَغَمُّ وَالْغُمَّةُ وَالْغُمَّى وَالْغَمَّاءُ، وَغُمَّ الْهِلَالُ: سُتِرَ، وَالنَّبْتُ الْغَمِيمُ: هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ مَا يُسَامِتُهُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ. الْمَنُّ: مَصْدَرُ مَنَنْتُ، أَيْ قَطَعْتُ، وَالْمَنُّ: الْإِحْسَانُ، وَالْمَنُّ: صَمْغَةٌ تَنْزِلُ عَلَى الشجر حلوة،

_ (1) سورة النحل: 16/ 36. (2) سورة الكهف: 18/ 19.

وَفِي الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ سَتَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّلْوَى: اسْمُ جِنْسٍ، وَاحِدُهَا سَلْوَاةٌ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَالْأَلِفُ فِيهَا لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ نَحْوَ: عَلْقَى وَعَلْقَاةٌ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلتَّأْنِيثِ لَمَا أُنِّثَ بِالْهَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ، وَجَمْعُهَا سَلَاوًى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَمْعُهُ وَوَاحِدُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وقال مؤرح السُّدُوسِيُّ: السَّلْوَى هُوَ الْعَسَلُ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ طَائِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ غَلِطَ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ: أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا فَظَنَّ السَّلْوَى الْعَسَلَ. وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ يُبَيِّنَانِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ غَلَطًا: أَحَدُهُمَا: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ مُؤَرِّجٍ مِنْ كَوْنِهِ الْعَسَلَ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: نَشُورُهَا لِأَجْلِ الْقَافِيَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَكْلِ بِالشَّوْرِ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالُوا: وَاشْتِقَاقُ السَّلْوَى مِنَ السَّلْوَةِ، لِأَنَّهُ لِطِيبِهِ يُسْلِي عَنْ غَيْرِهِ. الطَّيِّبُ: فَيْعَلٌ مِنْ طَابَ يَطِيبُ، وَهُوَ اللَّذِيذُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اخْتِصَاصِ هَذَا الْوَزْنِ بِالْمُعْتَلِّ، إِلَّا مَا شَذَّ، وَفِي تَخْفِيفِ هَذَا النَّوْعِ وَبِالْمُخَفَّفِ مِنْهُ سُمِّيَتْ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْبَةَ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: عَدَّ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ هَذَا إِنْعَامًا خَامِسًا، وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُنْقَطِعَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ نِعْمَةً، وَضُعِّفَ بِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا بِهِ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ عِقَابِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوْبَةُ. وَإِذَا كَانَ قَدْ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ، فَلَأَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدِّينِيَّةَ أَوْلَى. وَلَمَّا لَمْ يَكْمُلْ وَصْفُ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِلَّا بِمُقَدَّمَةِ مَا تَسَبَّبَتْ عَنْهُ، قَدَّمَ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْخِطَابُ هُوَ مُحَاوَرَةُ مُوسَى لِقَوْمِهِ حِينَ رَجَعَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِقَوْمِهِ، لِلتَّبْلِيغِ، وَإِقْبَالِ مُوسَى عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ، وَنِدَاؤُهُ بِلَفْظِ يَا قَوْمِ، مُشْعِرٌ بِالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا أَخِي، وَيَا صَدِيقِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَبُولِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ، بِخِلَافِ أَنْ لَوْ نَادَاهُ بِاسْمِهِ، أَوْ بِالْوَصْفِ الْقَبِيحِ الصَّادِرِ مِنْهُ. وَفِي ذَلِكَ أيضا هزلهم لِقَبُولِهِمُ

الْأَمْرَ بِالتَّوْبَةِ، بَعْدَ تَقْرِيعِهِمْ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ مِنِ اتِّخَاذِ إِلَهٍ غَيْرِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» . وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَإِذَا ظَلَمَهَا، كَانَ ذَلِكَ أَفْحَشَ مِنْ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ. وَيَا قَوْمِ: مُنَادًى مُضَافٌ إِلَى يَاءِ المتكلم، وقد حذفت واجتزى بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا، وَهَذِهِ اللُّغَةُ أَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَ إِثْبَاتُهَا كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِ، بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ سَاكِنَةً، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامِيَ، وَفَتْحُ مَا قَبْلَهَا وَقَلْبُ الْيَاءِ أَلِفًا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامًا. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ حَذْفَ الْأَلِفِ وَالِاجْتِزَاءَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامَ، وأجازوا ضَمَّهُ وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْإِضَافَةِ فَتَقُولُ: يَا غُلَامُ، تُرِيدُ: يَا غُلَامِي. وَعَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «2» ، قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ «3» ، هَكَذَا أَطْلَقُوا، وَفَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا أَوِ اسْمًا، إِنْ كَانَ فِعْلًا فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الضَّمِّ، وَمَثَّلَ الْفِعْلَ بِمِثْلِ: يَا ضَارِبِيَّ، فَلَا يُجِيزُ فِي هَذَا يَا ضَارِبُ، وَظَاهِرُ الْخِطَابِ اخْتِصَاصُهُ بِمُتَّخِذِي الْعِجْلَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: مَنْ عَبَدَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ جُعِلُوا ظَالِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَمْنَعُوهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ. وَالْبَاءُ فِي بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ سَبَبِيَّةٌ، وَاحْتِمَالُ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ «4» جَاءَ هُنَا أَيْ بِعَمَلِكُمُ الْعِجْلَ وَعِبَادَتِهِ، أَوْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا. قَالَ السُّلَمِيُّ: عِجْلُ كُلِّ وَاحِدٍ نَفْسُهُ، فَمَنْ أَسْقَطَ مُرَادَهُ وَخَالَفَ هواه فقد برىء مِنْ ظُلْمِهِ. فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ الْفَاءُ فِي فَتُوبُوا مَعَهَا التَّسْبِيبُ، لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِلتَّوْبَةِ، وَلَمَّا كَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ عَمِلَ لَهُمْ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا، قِيلَ لَهُمْ: تُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ، أَيْ مُنْشِئِكُمْ وَمُوجِدِكُمْ مِنَ الْعَدَمِ، إِذْ مُوجِدُ الْأَعْيَانِ هُوَ الْمُوجِدُ حَقِيقَةً. وَأَمَّا عَمَلُ الْعِجْلِ وَاتِّخَاذُهُ فَلَيْسَ فِيهِ إِبْرَازُ الذَّوَاتِ مِنَ الْعَدَمِ، إِنَّمَا ذَلِكَ تَأْلِيفٌ تَرْكِيبِيٌّ لَا خَلْقَ أَعْيَانٍ، فَنُبِّهُوا بِلَفْظِ الْبَارِي عَلَى الصَّانِعِ، أَيِ الَّذِي أَوْجَدَكُمْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، لَا الَّذِي صَنَعَهُ، مَصْنُوعٌ مِثْلَهُ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَانَ ذِكْرُ الْبَارِي هُنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِظُهُورِ حَرَكَةِ الْإِعْرَابِ فِي بَارِئِكُمْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الِاخْتِلَاسُ، رَوَيَ ذَلِكَ عَنْهُ سِيبَوَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: الْإِسْكَانُ، وَذَلِكَ إِجْرَاءٌ لِلْمُنْفَصِلِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ مِنْ كَلِمَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَسْكِينُ مِثْلَ إِبِلٍ، فَأَجْرَى الْمَكْسُورَانِ فِي بَارِئِكُمْ مَجْرَى إِبِلٍ، وَمَنَعَ الْمُبَرِّدُ التسكين في حركة

_ (1) سورة لقمان: 31/ 13. (2) سورة الأنبياء: 21/ 112. (3) سورة يوسف: 12/ 33. (4) سورة البقرة: 2/ 92.

الْإِعْرَابِ، وَزَعَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو لَحْنٌ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَبَا عَمْرٍو لَمْ يَقْرَأْ إِلَّا بِأَثَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلُغَةُ الْعَرَبِ تُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْكَارُ الْمُبَرِّدِ لِذَلِكَ مُنْكَرٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ وَقَالَ آخَرُ: رُحْتَ وَفِي رِجْلَيْكَ مَا فِيهِمَا ... وَقَدْ بَدَا هَنُكَ مِنَ الْمِئْزَرِ وَقَالَ آخَرُ: أَوْ نَهْرُ تَيْرَى فَمَا تَعْرِفْكُمُ الْعَرَبُ وَقَدْ خَلَطَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَأَنْشَدُوا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْكِينِ مِمَّا لَيْسَتْ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: أَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُّحَاةُ فِي جَوَازِ تَسْكِينِهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ «1» . وَقِرَاءَةُ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ «2» . وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو: أَنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ تَسْكِينُ الْمَرْفُوعِ مِنْ يَعْلَمُهُ وَنَحْوِهِ، وَمِثْلُ تَسْكِينِ بَارِئِكُمْ، قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ «3» . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بَارِيِكُمْ، بِكَسْرِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَخْرِيجَانِ أَحَدُهُمَا: أن الأصل الهمز، وَأَنَّهُ مِنْ بَرَأَ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِالْإِبْدَالِ الْمَحْضِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ قِيَاسُ هَذَا التَّخْفِيفِ جَعْلُهَا بَيْنَ بَيْنٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بَارِيكُمْ، بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَيْتُ الْقَلَمَ، إِذَا أَصْلَحْتَهُ، أَوْ مِنَ الْبَرِيِّ: وَهُوَ التُّرَابُ، ثُمَّ حُرِّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُهُ تَقْدِيرًا لِحَرَكَةٍ فِي مِثْلِ هَذَا رَفْعًا وَجَرًّا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَيَوْمًا تَوَافَيْنَا الْهَوَى غَيْرَ مَاضِي وَقَالَ آخَرُ: وَلَمْ تُخْتَضَبْ سُمُرُ الْعَوَالِي بِالدَّمِ وَقَالَ آخر:

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 80. (2) سورة البقرة: 2/ 228. (3) سورة فاطر: 35/ 43.

خَبِيثُ الثَّرَى كَأَبِي الْأَزِيدِ وَهَذَا كُلُّهُ تَعْلِيلُ شُذُوذٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي اخْتِصَاصِ ذِكْرِ الْبَارِئِ هُنَا كَلَامًا حَسَنًا هَذَا نَصُّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ اخْتُصَّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِذِكْرِ الْبَارِئِ؟ قُلْتُ: الْبَارِئُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ، مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «1» ، وَمُتَمَيِّزًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالصُّوَرِ الْمُتَبَايِنَةِ، فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيعٌ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَرْكِ عِبَادَةِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ الَّذِي بَرَأَهُمْ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ عَلَى الْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَبْرِيَاءٌ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّنَافُرِ إِلَى عِبَادَةِ الْبَقَرِ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْغَبَاوَةِ وَالْبَلَادَةِ. فِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: أَبْلَدُ مِنْ ثَوْرٍ، حَتَّى عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِسَخَطِ اللَّهِ وَنُزُولِ أَمْرِهِ بِأَنْ يَفُكَّ مَا رَكَّبَهُ مِنْ خَلْقِهِمْ وَيَنْثُرَ مَا نَظَمَ مِنْ صُوَرِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ حِينَ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ فِي ذَلِكَ وَغَبَطُوهَا بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ الْقَتْلُ الْمَعْرُوفُ مِنْ إِزْهَاقِ الرُّوحِ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يُبَاشِرُونَ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ. وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ مِنْ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا بِكَوْنِهِ كَانَتِ التَّوْرَاةُ فِي شَرِيعَتِهِ مُتَقَرِّرَةً بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ أَمَرَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ عُقُوبَةً لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَالْمَأْمُورُ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عُبَّادُ الْعِجْلِ، أَوْ مَنْ عَبَدَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ. وَالْمَعْنَى: اقْتُلُوا الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مَنْ أَهْلِكُمْ، كَقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «2» ، أَيْ مِنْ أَهْلِكُمْ وَجِلْدَتِكُمْ، أَوِ الْجَمِيعُ مَأْمُورُونَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أُمِرُوا بِأَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْقَتْلِ، وَسُمِّيَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَتْلِ قَتْلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ذَلِّلُوا أَهْوَاءَكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّقْتِيلَ بِمَعْنَى التَّذْلِيلِ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ حَسَّانَ: إِنَّ الَّتِي عَاطَيْتَنِي فَرَدَدْتُهَا ... قُتِلَتْ قُتِلْتَ فَهَاتِهَا لَمْ تَقْتُلْ فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. الثَّانِي: الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَتْلِ. وَالثَّالِثُ: التَّذْلِيلُ لِلْأَهْوَاءِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَقِيلَ: وَقَعَ الْقَتْلُ هَكَذَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَقِيلَ: قتل بعضهم بعضا من غَيْرِ تَعْيِينِ قَاتِلٍ وَلَا مَقْتُولٍ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُونَ هُمُ الَّذِينَ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ، وَالْمَقْتُولُونَ عُبَّادُ الْعِجْلِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مع

_ (1) سورة الملك: 67/ 3. (2) سورة التوبة: 9/ 128.

مُوسَى فِي الْمُنَاجَاةِ بِطُورِ سَيْنَاءَ، وَالْمَقْتُولُونَ مَنْ عَدَاهُمْ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ بَعْضَهُمْ قَتَلَ بَعْضًا، فَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ، فَقِيلَ: اصْطَفُّوا صَفَّيْنِ، فَاجْتَلَدُوا بِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا، فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ، وَتَوْبَةً لِلْقَاتِلِ، وَقِيلَ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظَلَامًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: وَقَفَ عُبَّادُ الْعِجْلِ صَفًّا، وَدَخَلَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ فَقَتَلُوهُمْ. وَقِيلَ: احْتَبَى عُبَّادُ الْعِجْلِ فِي أَفَنِيَةِ دُورِهِمْ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَهُمْ مُحْتَبُونَ فَقَالَ: مَلْعُونٌ مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ، أَوْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَى قَاتِلِهِ، أَوِ اتَّقَاهُ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَيَقُولُونَ: آمِينَ. فَمَا حَلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَبْوَتَهُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ لَهُمْ: مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّعْنَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُبْصِرُ وَلَدَهُ وَوَالِدَهُ وَجَارَهُ وَقَرِيبَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ ضَبَابَةً وَسَحَابَةً سَوْدَاءَ لَا يَتَبَاصَرُونَ تَحْتَهَا، وَأُمِرُوا أَنْ يَحْتَبُوا بِأَفْنِيَةِ بُيُوتِهِمْ، وَيَأْخُذَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ سُيُوفَهُمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: اصْبِرُوا، فَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَدَّ طَرْفَهُ، أَوْ حَلَّ حَبْوَتَهُ، أَوِ اتَّقَى بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَيَقُولُونَ: آمِينَ، فَقَتَّلُوهُمْ إِلَى الْمَسَاءِ، حَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ، قَالَا: يَا رَبِّ! هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ، فَكُشِفَتِ السَّحَابَةُ وَنَزَلَتِ التَّوْبَةُ، فَسَقَطَتِ الشِّفَارُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَتِ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا. انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ بَعْضِ مَا أَوْرَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَفِي الْقَاتِلِينَ وَالْمَقْتُولِينَ. وَفِي ذَلِكَ مِنَ الِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ مَا يُوجِبُ مُبَادَرَةَ الِازْدِجَارِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ. وَانْظُرْ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، إِذْ جَعَلَ تَوْبَتَهَا فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَيْهِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّوْبَةَ هِيَ نَفْسُ الْقَتْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتُهَمْ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ، فَتُوبُوا، وَالْفَاءُ كَهِيَ فِي فَتُوبُوا مَعَهَا السَّبَبِيَّةُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنِ الْقَتْلَ هُوَ تَمَامُ تَوْبَتِهِمْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْمَعْنَى فَأَتْبِعُوا التَّوْبَةَ الْقَتْلَ، تَتِمَّةً لِتَوْبَتِكُمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ فِي الْمُنْتَخَبِ كَوْنَ الْقَتْلِ يَكُونُ تَوْبَةً وَجَعَلَ الْقَتْلَ شَرْطًا فِي التَّوْبَةِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مَجَازًا، كَمَا يُقَالُ لِلْغَاصِبِ إِذَا قَصَدَ التَّوْبَةَ: تَوْبَتُكَ رَدُّ مَا غَصَبْتَ، يَعْنِي أَنَّهُ لا تنم تَوْبَتُكَ إِلَّا بِهِ، فَكَذَلِكَ هنا. وتعدية التوبة بإلى مَعْنَاهُ الِانْتِهَاءُ بِهَا إِلَى اللَّهِ، فَتَكُونُ بَرِيئَةً مِنَ الرِّيَاءِ فِي التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ رَاءَوْا بِهَا لَمْ تَكُنْ إِلَى اللَّهِ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْمُنْتَخَبِ مِنْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، إِذْ قَدْ نَقَلْنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَأَمَّا مَنْعُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، بِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ إِنَّمَا

يُسَمَّى قَتِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ لِكَوْنِهَا مَصَالِحُ لِذَلِكَ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يَكُونُ مَصْلَحَةً إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْقَتْلِ حَالُ تَكْلِيفٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَتْلُ مَصْلَحَةً فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِمَاتَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَحْسُنُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لِمُكَلَّفٍ آخَرَ، وَبِخِلَافِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِأَنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا يَحْصُلَ الْمَوْتُ عَقِيبَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَيًّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ صَلَاحًا فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الِاعْتِزَالِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ. وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِالْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ وَالرَّوَادِعِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُكَلَّفِ، بَلْ يَصْنَعُ الزَّوَاجِرَ لِازْدِجَارِ غَيْرِهِ. وَإِذَا فَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ بِمَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، اتَّعَظَ بِهِ غَيْرُهُ وَانْكَفَّ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ فِيمَا نَقَلَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالتَّبْرِيزِيُّ وَغَيْرُهُمْ: فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَرَأَ قَتَادَةُ: فاقتلوا أَنْفُسَكُمْ. فَأَمَّا فَأَقِيلُوا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْإِقَالَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ أَنْفُسَكُمْ قَدْ تَوَرَّطَتْ فِي عَذَابِ اللَّهِ بِهَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَعَاطَيْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَدْ هَلَكَتْ فَأَقِيلُوهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْتِزَامِ الطَّاعَةِ، وَأَزِيلُوا آثَارَ تِلْكَ الْمَعَاصِي بِإِظْهَارِ الطَّاعَاتِ. وَأَمَّا فَاقْتَالُوا أَنْفُسَكُمْ، فَقَالُوا: هُوَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، أَيْ فَاسْتَقِيلُوهَا، وَالْمَشْهُورُ اسْتَقَالَ لَا اقْتَالَ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُهَا وَاوًا كَاقْتَادُوا، وَيُحْتَمَلُ أْنَ تَكُونَ يَاءً كَأَقْيَاسٍ، وَالتَّصْرِيفُ يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاسْتِقَالَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي، فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا شَكَّ مَسْمُوعَةٌ بِدَلِيلِ نَقْلِ قَتَادَةَ لَهَا وَيَكُونُ مِمَّا جَاءَتْ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَذَلِكَ نَحْوَ: اعْتَصَمَ وَاسْتَعْصَمَ. قَالَ السُّلَمِيُّ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ. ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِأَسْرَارِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالتَّبَرِّي مِنْهَا، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِبِسَاطِ الْأُنْسِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: كَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَشَدُّ، وَهُوَ إِفْنَاءُ نُفُوسِهِمْ عَنْ مُرَادِهَا مَعَ بَقَاءِ رُسُومِ الْهَيَاكِلِ. وَقَالَ فَارِسٌ: التَّوْبَةُ مَحْوُ الْبَشَرِيَّةِ بِمُبَايَنَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقِيلَ: تُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَطَاعَاتِكُمْ، وَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي طَاعَاتِهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ عَمَّا دُونَ اللَّهِ وَعَنِ اللَّهِ بِالْفَرَاغِ مِنْ طَلَبِ الْجَزَاءِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَيَبْقَى الْحَقُّ كَمَا لَمْ يَزَلْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: التَّوْبَةُ بِقَتْلِ النَّفْسِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَهُمْ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ جَهْرًا، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ فِي

أَنْفُسِهِمْ، وَأَوَّلُ قَدَمٍ فِي الْقَصْدِ إِلَى اللَّهِ الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ تَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ أَشَقَّ، وَلَا كَمَا تَوَهَّمُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُقَاسَاةَ الْقَتْلِ مَرَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْخُصُوصِ فَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ قَتْلٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بميت ... إنما الميت ميت الْأَحْيَاءِ ذلِكُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيِ الْقَتْلُ: خَيْرٌ لَكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتُوبُوا وَاقْتُلُوا، فَأَوْقَعَ الْمُفْرَدَ مَوْقِعَ التَّثْنِيَةِ، أَيْ فَالتَّوْبَةُ وَالْقَتْلُ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» أَيْ بَيْنَ ذَيْنِكَ أَيِ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلُ أَيْ: وَكِلَا ذَيْنِكَ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاقْتُلُوا، هَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلتَّوْبَةِ؟ فَتَكُونُ التَّوْبَةُ هِيَ الْقَتْلَ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ مُفْرَدًا أُشِيرَ بِهِ إِلَى مُفْرَدٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ، أَوْ يَكُونُ الْقَتْلُ مُغَايِرًا لِلتَّوْبَةِ، فَيَحْتَمِلُ هَذَا الَّذِي قاله هذا الْقَائِلُ، وَلَكِنَّ الْأَرْجَحَ خَيْرٌ، إِنْ كَانَتْ لِلتَّفْضِيلِ فَقِيلَ: الْمَعْنَى خَيْرٌ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ. وَقِيلَ: خَيْرٌ مِنْ ثَمَرَةِ الْعِصْيَانِ، وَهُوَ الْهَلَاكُ الَّذِي لَهُمْ، إِذِ الْهَلَاكُ الْمُتَنَاهِي خَيْرٌ مِنَ الْهَلَاكِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، إِذِ الْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ. وَكِلَا هَذَيْنِ التَّوْجِيهَيْنِ لَيْسَ التَّفْضِيلُ عَلَى بَابِهِ، إِذِ الْعِصْيَانُ وَالْهَلَاكُ غَيْرُ الْمُتَنَاهِي لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيُوصَفُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ أَزْيَدُ فِي الْخَيْرِيَّةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ بَلْ أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ. لَكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِخَيْرٍ إِنْ كَانَ لِلتَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ خير كَائِنٌ لَكُمْ. وَالتَّخْرِيجَانِ يَجْرِيَانِ فِي نَصْبِ قَوْلِهِ: عِنْدَ بارِئِكُمْ. وَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ، إِذْ هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ وَتُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَعْنَى حُصُولِ ثَوَابِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ الْبَارِئَ بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ تَوْكِيدًا، وَلِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَنَاسَبَ الْإِظْهَارُ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ هُوَ رَاجِحٌ عِنْدَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، فَكَمَا رَأَى أَنَّ إِنْشَاءَكُمْ رَاجِحٌ، رَأَى أَنَّ إِعْدَامَكُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنَ الْقَتْلِ رَاجِحٌ، فَيَنْبَغِي التَّسْلِيمُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَتَلَقِّي مَا يَرِدُ مِنْ قبله بالقبول والامتثال.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 68.

فَتابَ عَلَيْكُمْ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ عُطِفَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ فَامْتَثَلْتُمْ ذَلِكَ فَتَابَ عَلَيْكُمْ. وَتَكُونُ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُنْدَرِجَتَيْنِ تَحْتَ الْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ: إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ قَوْلِ مُوسَى عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ إِذْ ذَاكَ رَابِطَةً لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفَةِ، هِيَ وَحَرْفُ الشَّرْطِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَوَابَ يَجُوزُ حَذْفُهُ كَثِيرًا لِلدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَدَاةِ فَيَجُوزُ حَذْفُهُ إِذَا كان منفيا بلا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْؤٍ ... وَإِنْ لَا يَعْلُ مِفْرَقَكَ الْحُسَامُ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ لَا تُطَلِّقْهَا يَعْلُ، فَإِنْ كان غير منفي بلا، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: سَقَتْهُ الرَّوَاعِدُ مِنْ صَيْفٍ وَإِنْ ... مِنْ خَرِيفٍ فَلَنْ يُعْدَمَا التَّقْدِيرُ: وَإِنْ سَقَتْهُ مِنْ خَرِيفٍ فَلَنْ يُعْدَمَ الرِّيَّ، وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ فِي الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلِ الْجَوَابِ دُونَ أَنْ يَجُوزَ فِي الضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ عَيِيًّا مُعْدِمًا قَالَتْ وَإِنْ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَ عَيِيًّا مُعْدِمًا أَتَزَوَّجُهُ. وَأَمَّا حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَأَدَاةِ الشَّرْطِ مَعًا، وَإِبْقَاءُ الْجَوَابِ، فَلَا يَجُوزُ إذا لَمْ يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَخَوَاتِهِمَا فَلَهُ. وَلِتَعْلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ مَكَانٌ آخَرُ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا: إِخْبَارٌ عَنِ الْمَأْمُورِينَ بِالْقَتْلِ الْمُمْتَثِلِينَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ عَلَى الْبَاقِينَ، وَجَعَلَ اللَّهُ الْقَتْلَ لِمَنْ قُتِلَ شَهَادَةً، وَتَابَ عَلَى الْبَاقِينَ وَعَفَا عَنْهُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ آدَمَ: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «1» ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى: هَذِهِ مُحَاوَرَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاوَرَتِهِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا. وَالضَّمِيرُ فِي قُلْتُمْ قِيلَ لِلسَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ، وَذُكِرَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 37. [.....]

فِي اخْتِيَارِ السَّبْعِينَ كَيْفِيَّةٌ سَتَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَكَانِهَا فِي الْأَعْرَافِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الَّذِينَ انْفَرَدُوا مَعَ هَارُونَ وَلَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ: تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَصَابَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ هُمُ السَّبْعُونَ رَجُلًا الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى وَمَضَى بِهِمْ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ وَمُنَاجَاتِهِ، وَمَا ذُكِرَ لَا يُمْكِنُ مَعَ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْتُمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، وَهُوَ هُنَا بَعِيدٌ. وَفِي نِدَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِنَبِيِّهِمْ بِاسْمِهِ سُوءُ أَدَبٍ مِنْهُمْ مَعَهُ، إِذْ لَمْ يَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ يَا كَلِيمَ اللَّهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُشْعِرُ بِصِفَاتِ التَّعْظِيمِ، وَهِيَ كَانَتْ عادتهم معه: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طعام واحد، يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلها، يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا.. لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ: قِيلَ مَعْنَاهُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْإِيمَانِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ لَكَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِكَ نَحْوَ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «1» ، أَيْ بِمُصَدِّقٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَنْ نُقِرَّ لَكَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ وَعَدَّاهُ بِاللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «2» ، قَالُوا: أَقْرَرْنَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَنْ نُقِرَّ لَكَ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لَنْ نُؤْمِنَ لِأَجْلِ قَوْلِكَ بِالتَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ، أَيْ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُنَا لَكَ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى: هُنَا حَرْفُ غَايَةٍ، أَخْبَرُوا بِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ مُسْتَصْحَبًا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَمَفْهُومُهَا أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا اللَّهَ جَهْرَةً آمَنُوا، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا: هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي لَا حِجَابَ دُونَهَا وَلَا سَاتِرَ، وَانْتِصَابُ جَهْرَةً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مُزِيلٌ لِاحْتِمَالِ الرُّؤْيَةِ أَنْ تَكُونَ مَنَامًا أَوْ عِلْمًا بِالْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى حَتَّى نَرَى اللَّهَ عِيَانًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ وَبِالدُّعَاءِ، أَيْ أَعْلَنَ بِهَا فَأُرِيدَ بِهَا نَوْعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَانْتِصَابُهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ، وَفِي: نَصْبِ هَذَا النَّوْعِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَالْأَصَحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفِعْلِ السَّابِقِ يُعَدَّى إِلَى النَّوْعِ، كَمَا تَعَدَّى إِلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ الْمُلَاقَى مَعَ الْفِعْلِ فِي الِاشْتِقَاقِ، وَقِيلَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَذْفِ، أَيْ ذوي

_ (1) سورة يوسف: 12/ 17. (2) سورة آل عمران: 3/ 81.

جَهْرَةٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: رَجُلٌ صَوْمٌ، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَا تُرَادُ هُنَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْجَهْرَةُ مِنْ صِفَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا لِمَعْنَى الْقَوْلِ، أَوِ الْقَائِلِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِذْ قُلْتُمْ كَذَا قَوْلًا جَهْرَةً أَوْ جَاهِرِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، لَمْ يُسِرُّوهُ وَلَمْ يَتَكَاتَمُوا بِهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِهِ وَجَهَرُوا بِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مغيابا لرؤية. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَهْرَةَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِالرُّؤْيَةِ لَا بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَهَرَةً، بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَهَرَةً مَصْدَرًا كَالْغَلَبَةِ، فَتَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى جَهْرَةً الْمُسَكَّنَةِ الْهَاءِ سَوَاءً، وَيَجْرِي فِيهَا مِنَ الْإِعْرَابِ الْوُجُوهُ الَّتِي سَبَقَتْ فِي جَهْرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لَجَاهِرٍ، كَمَا تَقُولُ: فَاسِقٌ وَفَسَقَةٌ، فَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادَّهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ رُؤْيَةَ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ مُحَالٌ، وَأَنَّ مَنِ اسْتَجَازَ عَلَى اللَّهِ الرُّؤْيَةَ، فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ أَوِ الْإِعْرَاضِ، فَرَادُّوهُ بَعْدَ بَيَانِ الْحُجَّةِ وَوُضُوحِ الْبُرْهَانِ، وَلَجُّوا فَكَانُوا فِي الْكُفْرِ كَعَبَدَةِ الْعِجْلِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّاعِقَةَ، كَمَا سَلَّطَ عَلَى أُولَئِكَ الْقَتْلَ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ، وَدَلَالَةً عَلَى عِظَمِهَا بِعِظَمِ الْمِحْنَةِ. اهـ. كَلَامُهُ. وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِاسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. ذَهَبَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ شَارَكَهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ. فَقَالَ الْكَرَّامِيَّةُ: يُرَى فِي جِهَةِ فَوْقَ وَلَهُ تَحْتٌ، وَيُرَى جِسْمًا، وَقَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ: يُرَى عَلَى صُورَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَا مُقَابِلًا، وَلَا مُحَاذِيًا، وَلَا مُتَمَكِّنًا، وَلَا مُتَحَيِّزًا، وَلَا مُتَلَوِّنًا، وَلَا عَلَى صُورَةٍ وَلَا هَيْئَةٍ، وَلَا عَلَى اجْتِمَاعٍ وَجِسْمِيَّةٍ، بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا عَلِمُوهُ كَذَلِكَ قَبْلُ. وَقَدِ اسْتَفَاضَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِمَامِيَّةِ فِيهَا مُجَلَّدَةً كَبِيرَةً، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ اسْتِحَالَةِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنَّ عَادَتَهُ تَحْمِيلُ الْأَلْفَاظِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، خُصُوصًا مَا يَجُرُّ إِلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، نُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي. وَكَذَلِكَ

اخْتَلَفُوا فِي رُؤْيَةِ الْحَقِّ نَفْسَهُ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرَى نَفْسَهُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ، وَذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ النَّجَّارِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ: أَيِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْكُمْ وَأَحَاطَتْ بِكُمْ. وَأَصْلُ الْأَخْذِ: الْقَبْضُ بِالْيَدِ. وَالصَّاعِقَةُ هُنَا: هَلْ هِيَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ أَحْرَقَتْهُمْ، أَوِ الْمَوْتُ، أَوْ جُنْدٌ سَمَاوِيٌّ سَمِعُوا حِسَّهُمْ فَمَاتُوا، أَوِ الْفَزَعُ فَدَامَ حَتَّى مَاتُوا، أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِمْ، أَوِ الْعَذَابُ الَّذِي يَمُوتُونَ مِنْهُ، أَوْ صَيْحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ؟ أَقْوَالٌ، أَصَحُّهَا: أَنَّهَا سَبَبُ الْمَوْتِ، لَا الْمَوْتُ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ، قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ «1» . وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّةَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الصَّعْقِ كَانَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقِيلَ: أَصَابَ مُوسَى مَا أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ صُعِقَ وَلَمْ يَمُتْ، قَالُوا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ جَاءَ، فَلَمَّا أَفَاقَ فِي حَقِّ مُوسَى وَجَاءَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ في حقهم، وأكثر استعماله الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ بَعْثُ الْأَمْوَاتِ. وَقِيلَ: غُشِيَ عَلَيْهِمْ كَهُوَ وَلَمْ يَمُوتُوا، وَالصَّعْقُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْمَوْتِ، وَقَالَ جَرِيرٌ: وَهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ ... أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ سبب أخذ الصاعقة إياهم قَوْلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، إِذْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَيَسْأَلُوا الرُّؤْيَةَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَقِيلَ: سَبَبُ أخذ الصعقة إِيَّاهُمْ هُوَ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُوسَى، أَوْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ أَوْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَقَرَأَ عَمْرٌو عَلَى الصَّعْقَةِ، وَاسْتَعْظَمَ سُؤَالَ الرُّؤْيَةِ حَيْثُ وَقَعَ، لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، فَطَلَبُهَا فِي الدُّنْيَا هُوَ مُسْتَنْكَرٌ، أَوْ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَاهُ، فَكَانَ طَلَبُهَا طَلَبًا لِإِزَالَةِ التَّكْلِيفِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي كَانَ طَلَبُ الدَّلَائِلِ الزَّائِدَةِ تَعَنُّتًا وَلِأَنَّ فِي مَنْعِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا ضَرْبًا مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ لِلْخَلْقِ، فَلِذَلِكَ اسْتُنْكِرَ. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ النَّظَرِ: أَخْذُ الصَّعْقَةِ إِيَّاكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْهَا أَوْ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَخِرُّ مَيِّتًا، أَوْ إِلَى الْأَحْيَاءِ، أَوْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا تَأْخُذُكُمْ. فَعَبَّرَ بِالنَّظَرِ عَنِ الْعِلْمِ، أَوْ إِلَى آثَارِ الصَّاعِقَةِ فِي أَجْسَامِكُمْ بَعْدَ أَنْ بُعِثْتُمْ، أَوْ يَنْظُرَ كُلٌّ مِنْكُمْ إِلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْعُزَيْرِ، قَالُوا: حَيِيَ عُضْوًا بعد

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 155.

عُضْوٍ، أَوْ إِلَى أَوَائِلِ مَا كَانَ يَنْزِلُ مِنَ الصَّاعِقَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، أَوْ أَنْتُمْ يُقَابِلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ دُورُ آلِ فُلَانٍ تَتَرَاءَى، أَيْ يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِجَابَةُ السُّؤَالِ فِي حُصُولِ الرُّؤْيَةِ لَهُمْ، لَكَانَ وَجْهًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُ الرَّجُلَ، أَيِ انْتَظَرْتُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فإنكما إن تنظراني ساعة ... مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ لَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ، فَلَا أَجْسُرُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ. وَقَدْ عَدَّ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ هَذَا إِنْعَامًا سَادِسًا، وَذَكَرَ فِي كَوْنِهِ إِنْعَامًا وُجُوهًا: مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِ ذَلِكَ إِنْعَامًا، وَهُوَ أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ لِأَنْ يَتُوبُوا عَنِ التَّعَنُّتِ، وَلِأَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَيَفُوزُوا بِجَزِيلِ الثَّوَابِ مَنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ كُلِّفَ عَبَدَةُ الْعِجْلِ بِالْقَتْلِ وَلَا قَبْلَهُ. وَقَدْ قِيلَ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ، وَالْوَاوُ لَا تَدُلُّ بِوَضْعِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا أَحَلَّهُمُ اللَّهُ مَحَلَّ مُنَاجَاتِهِ، وَأَسْمَعَهُمْ لَذِيذَ خِطَابِهِ، اشْرَأَبَّتْ نُفُوسُهُمْ لِلْفَخْرِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ، فَعَامَلَهُمُ اللَّهُ بِنَقِيضِ مَا حَصَلَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالصَّعْقَةِ الَّتِي هِيَ خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ. «1» ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ، وَدَلَّ الْعَطْفُ بِثُمَّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ وَالْبَعْثِ زَمَانًا تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُهْلَةُ وَالتَّأْخِيرُ، هُوَ زَمَانُ مَا نَشَأَ عَنِ الصَّاعِقَةِ مِنَ الْمَوْتِ، أَوِ الْغَشْيِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَرَّ. وَالْبَعْثُ هُنَا: الْإِحْيَاءُ، ذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا لَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ فِي إَحْيَائِهِمْ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُونَ قَتَلْتَ خِيَارَنَا حَتَّى أَحْيَاهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْبَعْثِ الْإِرْسَالُ، أَيْ أَرْسَلْنَاكُمْ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَحْيَاهُمُ اللَّهُ سَأَلُوا أَنْ يَبْعَثَهُمْ أَنْبِيَاءَ فَبَعَثَهُمْ أَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْبَعْثِ: الْإِفَاقَةُ مِنَ الْغَشْيَةِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنهم صُعِقُوا وَلَمْ يَمُوتُوا. وَقِيلَ: الْبَعْثُ هُنَا: الْقِيَامُ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَصَارِعِهِمْ، وَمِنْهُ قَالُوا: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «2» ؟ وَقِيلَ مَعْنَى الْبَعْثِ هُنَا، التَّعْلِيمُ، أَيْ ثُمَّ عَلَّمْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ جَهْلِكُمْ، وَالْمَوْتُ هُنَا ظَاهِرُهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَكَانَ إِحْيَاؤُهُمْ لِأَجْلِ اسْتِيفَاءِ أَعْمَارِهِمْ. وَمَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ غَشْيًا وَهُمُودًا كَانَ الْمَوْتُ مَجَازًا، قَالَ تَعَالَى:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 13. (2) سورة يس: 36/ 52.

وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» ، وَالَّذِي أَتَاهُ مُقَدِّمَاتُهُ سُمِّيَتْ مَوْتًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ جَعَلَ نَفْسَهُ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حُمِلَ الْمَوْتُ عَلَى الْجَهْلِ كَانَ مَجَازًا، وَقَدْ كَنَى عَنِ الْعِلْمِ بِالْحَيَاةِ، وَعَنِ الْجَهْلِ بِالْمَوْتِ. قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «2» ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحْمَةُ اللَّهِ: إنما النفس كالزجاجة والعلم سِرَاجٌ وَحِكْمَةُ اللَّهِ زَيْتُ فَإِذَا أَبْصَرْتَ فَإِنَّكَ حَيٌّ ... وَإِذَا أَظْلَمْتَ فَإِنَّكَ مَيْتُ وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ... وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى ... يُظَنُّ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيمُ وَلَا يَدْخُلُ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خِطَابِ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، لِأَنَّهُ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ لِلَّذِينِ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، وَلِقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَفاقَ «3» ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْمَوْتِ. وَأَخْطَأَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ مُوسَى قَدْ مَاتَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: وَفِي مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ أَقْوَالٌ يَنْبَنِي أَكْثَرُهَا عَلَى الْمُرَادِ بِالْبَعْثِ وَالْمَوْتِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ قَالَ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَتَهُ بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَسَائِرِ نِعَمِهِ الَّتِي أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مَجَازًا عَنْ إِرْسَالِهِمْ أَنْبِيَاءَ، أَوْ إِثَارَتِهِمْ مِنَ الْغَشْيِ، أَوْ تَعْلِيمِهِمْ بَعْدَ الْجَهْلِ، جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ أَحَدَ هَذِهِ الْمَجَازَاتِ. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ تَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَفْصِيلِ شَرَائِعِهِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَرَائِعُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ الله بعد ما كَفَرْتُمُوهَا إِذَا رَأَيْتُمْ بَأْسَ اللَّهِ فِي رَمْيِكُمْ بِالصَّاعِقَةِ وَإِذَاقَتِكُمُ الْمَوْتَ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَلِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَلَافِي مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ. أَمَّا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ، فَلِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَفْظُ الشُّكْرِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ لِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «4» ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ تَكْلِيفِ مَنْ أعيد بعد موته،

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 17. (2) سورة الأنعام: 6/ 122. (3) سورة الأعراف: 7/ 143. (4) سورة سبأ: 34/ 13.

وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَضْطَرُّهُ وَتُلْجِئُهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بَعْدَ الِاقْتِرَافِ. فَقَالَ قَوْمٌ: سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ لِيَكُونَ تَكْلِيفُهُمْ مُعْتَبَرًا بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَبْقَى تَكْلِيفُهُمْ لِئَلَّا يَخْلُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مِنْ تَعَبُّدٍ، وَلَا يُمْنَعُ حُكْمُ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ «1» ، وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ، فَلَمَّا نَتَقَ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ آمَنُوا وَقَبِلُوهَا، فَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِهَا إِيمَانَ اضْطِرَارٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ، وَمِثْلُهُمْ قَوْمُ يُونُسَ فِي إِيمَانِهِمْ. اه كَلَامُهُ. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ: مَفْعُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِالْغَمَامِ، كَمَا تَقُولُ: ظَلَّلْتُ عَلَى فلان بالرداء، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لَا عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى جَعَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ ظُلَلًا. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ، بِجَعْلِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ كَقَوْلِهِمْ: عَدَلْتُ زَيْدًا، أَيْ جَعَلْتُهُ عَدْلًا، فَكَذَلِكَ هَذَا مَعْنَاهُ: جَعَلْنَا الْغَمَامَ عَلَيْكُمْ ظُلَّةً، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، فَيَكُونُ التَّضْعِيفُ أَصْلُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ يُعَدَّى بِعَلَى، فَكَانَ الْأَصْلُ: وَظَلَّلْنَاكُمْ، أَيْ أَظْلَلْنَاكُمْ بِالْغَمَامِ، نَحْوَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» ، ثُمَّ ضُمِّنَ ظَلَّلَ مَعْنَى كَلَّلَ أَوْ شِبْهَهُ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى، فَعَدَّاهُ بِعَلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعَانِي فَعَّلَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، إِذْ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أن الغمام ظلل علينا، فَيَكُونُ قَدْ جُعِلَ عَلَى الْغَمَامِ شَيْءٌ يَكُونُ ظُلَّةً لِلْغَمَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَمَامِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْغَمَامُ الَّذِي أَتَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ «2» ، وَلَيْسَ بِغَمَامٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ غَمَامًا لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الْغَمَامَ. وَقِيلَ: الَّذِينَ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يُحْدِثُ فِيهَا ذَنْبًا أَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ. وَحُكِيَ أَنَّ شَخْصًا عَبَدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَلَمْ تُظِلُّهُ غَمَامَةٌ، فَجَاءَ إِلَى أَصْحَابِ الْغَمَائِمِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ فَقَالُوا: لَعَلَّكَ أَحْدَثْتَ ذَنْبًا، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنِّي رَفَعْتُ طَرْفِي إِلَى السَّمَاءِ وَأَعَدْتُهُ بِغَيْرِ فِكْرٍ، فَقَالُوا لَهُ: ذَلِكَ ذَنْبُكَ، وَكَانَتْ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَ الْغَمَائِمِ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ فِيهِمْ مَنْ لَهُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ الظَّاهِرَةُ الْبَاهِرَةُ. وَالْمَكَانُ الَّذِي أَظَلَّتْهُمْ فِيهِ الْغَمَامَةُ كَانَ فِي التِّيهِ بَيْنَ الشَّامِ وَمِصْرَ لَمَّا شَكَوْا حَرَّ الشَّمْسِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 171. (2) سورة البقرة: 2/ 210.

قِصَّتِهِمْ. وَقِيلَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَلَا ظِلٌّ، وَقَعُوا فِيهَا حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَأَظَلَّهُمُ اللَّهُ بِالْغَمَامِ، وَوَقَاهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى الْمَنُّ: اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَفِي الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ: مَا يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، أَوْ صَمْغَةٌ طَيِّبَةٌ حُلْوَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْ شَرَابٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَشْرَبُونَهُ بَعْدَ مَزْجِهِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةَ أَوْ عَسَلٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ أَوِ الرُّقَاقُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الذُّرَةِ أَوْ مِنَ النِّقْيِ، وَهُوَ قَوْلُ وَهْبٍ أَوِ الزَّنْجَبِيلُ، وَهُوَ قو السُّدِّيُّ، أَوِ التَّرَنْجَبِينُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ عَسَلٌ حَامِضٌ، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَوْ جَمِيعُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ وَجَاءَهُمْ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى مُوسَى. وَفِي السَّلْوَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ: طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى، أَوْ هُوَ السُّمَانَى نَفْسُهُ، أَوْ طُيُورٌ حُمْرٌ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا سَحَابَةً فَمُطِرَتْ فِي عَرْضِ مِيلٍ وَطُولِ رُمْحٍ فِي السَّمَاءِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ أَوْ طَيْرٌ يَكُونُ بِالْهِنْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَوْ طَيْرٌ سَمِينٌ مِثْلُ الْحَمَامِ أَوِ الْعَسَلُ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمُ السَّلْوَى مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، فَيَخْتَارُونَ مِنْهَا السَّمِينَ وَيَتْرُكُونَ الْهَزِيلَ وَقِيلَ: كَانَتْ رِيحُ الْجَنُوبِ تَسُوقُهَا إِلَيْهِمْ فَيَخْتَارُونَ مِنْهَا حَاجَتَهُمْ وَيَذْهَبُ الْبَاقِي. وَقِيلَ: كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَنْطَبِخُ نِصْفُهَا وَيَنْشَوِي نِصْفُهَا. وَكَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالسَّلْوَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَقِيلَ: دَائِمًا، وَقِيلَ: كُلَّمَا أَحَبُّوا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ حِكَايَاتٍ فِي التَّظْلِيلِ وَنُزُولِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَتَظَافَرَتْ أَقَاوِيلُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي فَحْصِ التِّيهِ، وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ لَنَا من حر الشَّمْسِ؟ فَظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِالطَّعَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِالْمَاءِ؟ فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِضَرْبِ الْحَجَرِ، وَهَذِهِ دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ. وَزِيدَ فِي تِلْكَ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُمْ قَالُوا: بِمَ نَسْتَصْبِحُ؟ فَضُرِبَ لَهُمْ عَمُودٌ مِنْ نُورٍ فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ نَارٍ، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِاللِّبَاسِ؟ فَأُعْطُوا أَنْ لَا يَبْلَى لَهُمْ ثَوْبٌ، وَلَا يَخْلَقَ، وَلَا يَدْرَنَ، وَأَنْ تَنْمُوَ صِغَارُهَا حَسَبَ نُمُوِّ الصِّبْيَانِ. كُلُوا: أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَإِذْنٍ كَقَوْلِهِ: فَاصْطادُوا «1» ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «2» ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن الأصل

_ (1) سورة المائدة: 5/ 2. (2) سورة الجمعة: 62/ 10.

فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ، أَوْ دُومُوا عَلَى الْأَكْلِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْأَصْلُ فيها الإباحة، وهاهنا قَوْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَقُلْنَا: كُلُوا، وَالْقَوْلُ يُحْذَفُ كَثِيرًا وَيَبْقَى الْمَقُولُ، وَذَلِكَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ: أَكَفَرْتُمْ؟ أَيْ فَيُقَالُ: أَكَفَرْتُمْ؟ وَحَذْفُ الْمَقُولِ وَإِبْقَاءُ الْقَوْلِ قَلِيلٌ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، قَالَ الشَّاعِرُ: لَنَحْنُ الْأُلَى قُلْتُمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ ... بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبًا التَّقْدِيرُ: قُلْتُمْ نُقَاتِلُهُمْ. مِنْ طَيِّباتِ: مِنْ: لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَلَا يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لِلْجِنْسِ، لِأَنَّ الَّتِي لِلْجِنْسِ فِي إِثْبَاتِهَا خِلَافٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَهُ مَوْصُولٌ يَكُونُ صِفَةً لَهُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لِلْبَدَلِ، إِذْ هُوَ مَعْنًى مُخْتَلَفٌ فِي إِثْبَاتِهِ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ هُنَا مَا يُرَجِّحُ ذَلِكَ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا قِيلَ: الْحَلَالُ، وَقِيلَ: اللَّذِيذُ الْمُشْتَهَى. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ كُلُوا مِنْ عِوَضِ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، عَوَّضَهُمْ عَنْ جَمِيعِ مَآكِلِهِمْ الْمُسْتَلَذَّةِ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، فَكَانَا بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَنَّهُ لَا يَكْفِي وَضْعُ الْمَالِكِ الطَّعَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلٌ. وَقِيلَ: يُمْلَكُ بِالْوَضْعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ، وَقِيلَ: لَا يُمْلَكُ بِحَالٍ، بَلْ يُنْتَفَعُ بِهِ وَهُوَ عَلَى ملك المالك. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا رَزَقْناكُمْ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا رَزَقْنَاكُمُوهُ، وَشُرُوطُ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجَوِّزَ مُجَوِّزٌ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ، وَيَكُونُ يُطْلَقُ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَسْبَقُ إِلَى الذِّهْنِ. وَما ظَلَمُونا نَفْيٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَقَعْ منهم ظلم لله تَعَالَى، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنه ليس من شرط نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ أَلْبَتَّةَ. قِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا ظَلَمُونَا بِقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا قَابَلْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الصَّاعِقَةِ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِادِّخَارِهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِفَسَادِ طَعَامِهِمْ وَتَقْلِيصِ أَرْزَاقِهِمْ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِإِبَائِهِمْ عَلَى مُوسَى أَنْ يَدْخُلُوا قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِاسْتِحْبَابِهِمُ الْعَذَابَ وَقَطْعِهِمْ مَادَّةَ الرِّزْقِ عَنْهُمْ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِكُفْرِ النِّعَمِ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِحُلُولِ النِّقَمِ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.

وَاتَّفَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَعَصَوْا وَلَمْ يُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى وَمَا وَضَعُوا فِعْلَهُمْ فِي مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَنَا، وَلَكِنْ وَضَعُوهُ فِي مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَجِبُ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَظَلَمُوا بِأَنْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعَمَ، وَمَا ظَلَمُونَا، قَالَ: فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِحَذْفِهِ لِدَلَالَةِ وَمَا ظَلَمُونَا عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ، كَمَا زَعَمَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَ مِنْهُمُ ارْتِكَابُ قَبَائِحَ مِنِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ إِلَهًا، وَمِنْ سُؤَالِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُقَصَّ هُنَا. فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما ظَلَمُونا جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِحِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا بِذَلِكَ نَقْصٌ وَلَا ضَرَرٌ، بَلْ وَبَالُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَمُخْتَصٌّ بِهِمْ، لَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: لَكِنْ هُنَا وَقَعَتْ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا نَفْيٌ وَجَاءَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «1» ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ «2» ، أَعْنِي أَنْ يَتَقَدَّمَ إِيجَابٌ ثُمَّ يَجِيءُ بَعْدَهَا نَفْيٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ الْحَاصِلَ بِهَا إنما يكون يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلِهَا بِوَجْهٍ مَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ، فَلَمَّا نُفِيَ ذَلِكَ الظُّلْمُ أَنْ يَصِلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَقِيَتِ النَّفْسُ مُتَشَوِّفَةً وَمُتَطَلِّعَةً إِلَى ذِكْرِ مَنْ وَقَعَ بِهِ الظُّلْمُ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ الظُّلْمَ الْحَاصِلَ مِنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ وَاقِعًا بِهِمْ، وَأَحْسَنُ مَوَاقِعِهَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَيَلِيهِ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَيَلِيهِ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. أَذَلِكَ تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَكِنْ هُوَ ضَاحِكٌ، وَقَدْ تُكُلِّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ نَحْوَ: مَا خَرَجَ زَيْدٌ وَلَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَمْرٌو. وَطِبَاقُ الْكَلَامِ أَنْ يُثْبَتَ مَا بَعْدَ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ مَا نُفِيَ قَبْلَهَا، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، لَكِنْ دَخَلَتْ كَانُوا هُنَا مُشْعِرَةً بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَمِنْ طَرِيقَتِهِمْ، وَلِأَنَّهَا أَيْضًا تَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُسْنَدُ لَا يَنْقَطِعُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً «3» فَكَانَ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ لَمْ يَزَالُوا ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِكَثْرَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ المخالفات. ويظلمون: صُورَتُهُ صُورَةُ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ مَاضٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الماضي.

_ (1) سورة هود: 11/ 101. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 13. (3) سورة الأحزاب: 33/ 40.

وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ وَلَا فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَقُدِّمَ مَعْمُولُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْفُسَهُمْ، لِيَحْصُلَ بذلك توافق رؤوس الْآيِ وَالْفَوَاصِلِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْإِخْبَارِ عَمَّنْ حَلَّ بِهِ الْفِعْلُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَارَ الْعَامِلُ فِي الْمَفْعُولِ تَوْكِيدًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. فَلَيْسَ ذِكْرُهُ ضَرُورِيًّا، وَبِأَنَّ التوكيد أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُؤَكَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَكِنْ ضَرَبْتُ عَمْرًا، فَذِكْرُ ضَرَبْتُ الثَّانِيَةِ أَفَادَتِ التَّأْكِيدَ، لِأَنَّ لَكِنْ مَوْضُوعُهَا أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُنَافِيًا لِمَا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَكِنْ عَمْرًا، فَلَسْتَ مُضْطَرًّا لِذِكْرِ الْعَامِلِ. فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلُهُ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فِي مَعْنَى: وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، كَانَ ذِكْرُ الْعَامِلِ فِي الْمَفْعُولِ لَيْسَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ قِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ، لَكَانَ كَلَامًا عَرَبِيًّا، وَيُكْتَفَى بِدَلَالَةِ لَكِنْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُنَافٍ لِمَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْمُحَسِّنَاتُ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ كَانَ تَقْدِيمُهُ هُنَا الْأَفْصَحَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذِكْرِ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا مِنْهَا: أَمْرُ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، إِيَّاهُمْ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُقَارَفَةِ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الْعِجْلِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَالتَّلَطُّفُ بِهِمْ فِي نِدَائِهِمْ بِيَا قَوْمِ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى عِلَّةِ الظُّلْمِ الَّذِي كَانَ وَبَالُهُ رَاجِعًا عَلَيْهِمْ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَابِقِ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ التَّوْبِيخُ لَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ مَا كَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ، وَهُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ عِيَانًا، لِأَنَّهُ كَانَ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ. ثُمَّ ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ الْعَظِيمَةِ أَنْ يُحْيَى الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ مَاتَ. ثُمَّ إِسْعَافُهُمْ بِمَا سَأَلُوهُ، إِذْ وَقَعُوا فِي التِّيهِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى مَا يُزِيلُ ضَرَرَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ مَنْ لَفْحِ الشَّمْسِ، وَتَغْذِيَةِ أَجْسَادِهِمْ بِمَا يَصْلُحُ لَهَا، فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَكْبَرِ الْمُعْجِزَاتِ حَيْثُ يُسَخَّرُ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِ، فَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ: تُظِلُّهُمْ بِالنَّهَارِ وَتَذْهَبُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُنَوِّرَ عَلَيْهِمُ الْقَمَرُ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَهَذَا مِنْ أَشْرَفِ الْمَأْكُولِ، إِذْ جَمَعَ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ، بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَلَاوَةِ الَّتِي فِي الْمَنِّ وَالدَّسَمِ الَّذِي فِي السَّلْوَى، وَهُمَا مُقْمِعَا الْحَرَارَةِ وَمُثِيرَا الْقُوَّةِ لِلْبَدَنِ. ثُمَّ الْأَمْرُ لَهُمْ بِتَنَاوُلِ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مُطْلَقٌ. ثُمَّ التَّنْصِيصُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَبِحَقِّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. ثُمَّ ذِكْرُ أَنَّهُ رِزْقٌ مِنْهُ لَهُمْ لَمْ يَتْعَبُوا فِي تَحْصِيلِهِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 58 إلى 61]

وَلَا اسْتِخْرَاجِهِ وَلَا تَنْمِيَتِهِ، بَلْ جَاءَ رِزْقًا مُهَنَّأً لَا تَعَبَ فِيهِ ثُمَّ إِرْدَافُ هَذِهِ الْجُمَلِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، إِذْ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِافْتِتَاحِ هَذِهِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَخَتَمَهَا بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. فَجَاءَتْ هَذِهِ الجمل في غاية الفصاحة لَفْظًا وَالْبَلَاغَةِ مَعْنًى، إِذْ جَمَعَتِ الْأَلْفَاظَ الْمُخْتَارَةَ وَالْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ مُتَعَلِّقًا أَوَائِلُ أَوَاخِرِهَا بِأَوَاخِرِ أَوَائِلِهَا، مَعَ لُطْفِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ. فَحَيْثُ ذَكَرَ النِّعَمَ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ، وَقَالَ: وَظَلَّلْنَا وَأَنْزَلْنَا، وَحَيْثُ ذَكَرَ النِّقَمَ لَمْ يَنْسُبْهَا إِلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ. وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّهُ مَوْضِعُ تَعْدَادٍ لِلنِّعَمِ، فَنَاسَبَ نِسْبَةَ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِيُذَكِّرَهُمْ آلَاءَهُ، وَلَمْ يَنْسُبِ النِّقَمَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ حَقِيقَةً، لِأَنَّ فِي نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ تَخْوِيفًا عَظِيمًا رُبَّمَا عَادَلَ ذَلِكَ الْفَرَحَ بِالنِّعَمِ. وَالْمَقْصُودُ: انْبِسَاطُ نُفُوسِهِمْ بِذِكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ قَدِ انْطَوَى عَلَى تَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ، فَالتَّرْغِيبُ أغلب عليه. [سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 61] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) الدُّخُولُ: مَعْرُوفٌ، وَفِعْلُهُ: دَخَلَ يَدْخُلُ، وَهُوَ مِمَّا جَاءَ عَلَى يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَكَانَ

الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُفْتَحَ، لِأَنَّ وَسَطَهُ حَرْفُ حَلْقٍ، كَمَا جَاءَ الْكَسْرُ فِي يَنْزِعُ وَقِيَاسُهُ أَيْضًا الْفَتْحُ. الْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ، مِنْ قَرَيْتُ: أَيْ جَمَعْتُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُجْتَمَعُ النَّاسِ عَلَى طَرِيقِ الْمُسَاكَنَةِ. وَقِيلَ: إِنْ قَلُّوا قِيلَ لَهَا قَرْيَةٌ، وَإِنْ كَثُرُوا قِيلَ لَهَا مَدِينَةٌ. وَقِيلَ: أَقَلُّ الْعَدَدِ الَّذِي تُسَمَّى بِهِ قَرْيَةٌ ثَلَاثَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَمِنْهُ، قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، وَالْمَقْرَاةُ: الْحَوْضُ، وَمِنْهُ الْقِرَى: وَهُوَ الضِّيَافَةُ، وَالْقَرِيُّ: الْمَجْرَى، وَالْقَرَى: الظَّهْرُ. وَلُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ: الْقِرْيَةُ، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَيَجْمَعُونَهَا عَلَى قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ نَحْوَ: رِشْوَةٍ وَرِشًا. وأما قرية بالفتح فجمت عَلَى قُرًى بِضَمِّ الْقَافِ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قِيلَ: وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ فِعْلِهِ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ إِلَّا قَرْيَةً وَقُرًى، وَتُرْوَةً وَتُرًى، وَشَهْوَةً وَشُهًى. الْبَابُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ، وَجَمْعُهُ أَبْوَابٌ، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ، وَجَاءَ جَمْعُهُ عَلَى أَبْوِبَةٍ فِي قَوْلِهِ: هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبْوِبَةٍ لِتَشَاكُلِ أَخْبِيَةٍ، كَمَا قَالُوا: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَأَصْلُهُ تَلَوْتَ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُشَاكِلَ دَرَيْتَ. سُجَّدًا: جَمْعُ سَاجِدٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي فَاعِلٍ وَفَاعِلَةٍ الْوَصْفَيْنِ الصَّحِيحَيِ اللَّامِ. وَقُولُوا: كُلُّ أَمْرٍ مِنْ ثُلَاثِيٍّ اعْتَلَّتْ عَيْنُهُ فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا فِي الْمَاضِي، تَسْقُطُ تِلْكَ الْعَيْنُ مِنْهُ إِذَا أُسْنِدَ لِمُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ نَحْوَ: قُلْ وَبِعْ، أَوْ لِضَمِيرٍ مُؤَنَّثٍ نَحْوَ: قُلْنَ وَبِعْنَ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرُ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ: قُولِي، أَوْ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ نَحْوَ: قُولَا، أَوْ ضَمِيرُ الذُّكُورِ نَحْوَ: قُولُوا، ثَبَتَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ، وَعِلَّةُ الْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَاءَ حَذْفُهَا فِي الشِّعْرِ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: قُلَى وَعِشَا. حِطَّةٌ: عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ مِنَ الْحَطِّ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْحَطِّ، وَقِيلَ: هُوَ هَيْئَةٌ وَحَالٌ: كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ، وَالْحَطُّ: الْإِزَالَةُ، حَطَطْتُ عَنْهُ الْخَرَاجَ: أَزَلْتُهُ عَنْهُ. وَالنُّزُولُ: حَطَطْتُ. وَحُكِيَ: بِفِنَاءِ زَيْدٍ نَزَلْتُ بِهِ، وَالنَّقْلُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْهُ انْحِطَاطُ الْقَدْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، الْحِطَّةُ: التَّوْبَةُ. وَأَنْشَدُوا: فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ ... بِهَا ذَنْبَ عَبْدِهِ مَغْفُورًا أَيْ فَازَ بِالتَّوْبَةِ، وَتَفْسِيرُهُمَا الْحِطَّةَ بِالتَّوْبَةِ إِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ لَا بِالْمُرَادِفِ، لِأَنَّ مَنْ حُطَّ عَنْهُ الذَّنْبُ فَقَدْ تِيبَ عَلَيْهِ. الْغَفْرُ وَالْغُفْرَانُ: السَّتْرُ، وَفِعْلُهُ غَفَرَ يَغْفِرُ، بِفَتْحِ الْغَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ. والغيرة: الْمَغْفِرَةُ، وَالْغِفَارَةُ: السَّحَابُ وَمَا يُلْبَسُ بِهِ سِيَةُ الْقَوْسِ، وَخِرْقَةٌ تُلْبَسُ تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمِثْلُهُ الْمِغْفَرُ وَالْجَمَّاءُ، الْغَفِيرُ: أَيْ جَمَاعَةٌ يَسْتُرُ بَعْضُهُمْ بعضا من الكثرة. وقوله عُمَرَ لِمَنْ قَالَ لَهُ: لَمْ حَصَّبْتَ الْمَسْجِدَ؟ هُوَ أَغْفَرُ لِلنُّخَامَةِ، كُلُّ هَذَا رَاجِعٌ لِمَعْنَى السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ. الْخَطِيئَةُ: فَعِيلَةٌ مِنَ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ: الْعُدُولُ عَنِ

القصد، يقال خطىء الشَّيْءَ: أَصَابَهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَأَخْطَأَ: إِذَا تَعَمَّدَ، وَأَمَّا خَطَايَا: فَجَمْعُ خَطِيَّةٍ مُشَدَّدَةً عِنْدَ الْفَرَّاءِ، كَهَدِيَّةٍ وَهَدَايَا، وَجَمْعُ خَطِيئَةٍ الْمَهْمُوزِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ. فَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُهُ خَطَائِيُّ، مِثْلُ: صَحَائِفُ، وَزْنُهُ، فَعَائِلٌ، ثُمَّ أُعِلَّتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ بِقَلْبِهَا يَاءً، ثُمَّ فُتِحَتِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ أَصْلُهَا يَاءَ الْمَدِّ فِي خَطِيئَةٍ فَصَارَ: خَطَأَى، فَتَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، فَصَارَ: خَطَآءَ، فَوَقَعَتْ هَمْزَةٌ بَيْنَ أَلِفَيْنِ، وَالْهَمْزَةُ شَبِيهَةٌ بِالْأَلِفِ فَصَارَ: كَأَنَّهُ اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ أَمْثَالٍ، فَأَبْدَلُوا مِنْهَا يَاءً فَصَارَ خَطَايَا، كَهَدَايَا وَمَطَايَا. وَعِنْدَ الْخَلِيلِ أصله: خطايىء، ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ خَطَائِي عَلَى وَزْنِ فَعَالِي، الْمَقْلُوبِ مِنْ فَعَائِلَ، ثُمَّ عُمِلَ فِيهِ الْعَمَلُ السَّابِقُ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ: أَنَّ الْيَاءَ فِي خَطَايَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْهَمْزَةِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الْيَاءِ بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ الَّتِي كَانَتْ مَدَّةً زَائِدَةً فِي خَطِيئَةٍ، عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وَالْأَلِفُ بَعْدَهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْيَاءِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الْهَمْزَةِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ، وَمُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْهَمْزَةِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ فِي الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدِ، وَالْأَلِفُ بَعْدَهَا هِيَ الْيَاءُ الَّتِي كَانَتْ يَاءً بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ الَّتِي كَانَتْ مَدَّةً فِي الْمُفْرَدِ، عَلَى رَأْيِ الْخَلِيلِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. الْإِحْسَانُ وَالْإِنْعَامُ وَالْإِفْضَالُ: نَظَائِرُ، أَحْسَنَ الرَّجُلُ: أَتَى بِالْحَسَنِ، وَأَحْسَنَ الشَّيْءَ: أَتَى بِهِ حَسَنًا: وَأَحْسَنَ إِلَى عَمْرٍو أَسْدَى إِلَيْهِ خَيْرًا. التَّبْدِيلُ: تَغْيِيرُ الشَّيْءِ بِآخَرَ. تَقُولُ: هَذَا بَدَلُ هَذَا: أَيْ عِوَضُهُ، وَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، الثَّانِي أَصْلُهُ حَرْفُ جَرٍّ: بَدَّلْتُ دِينَارًا بِدِرْهَمٍ: أَيْ جَعَلْتُ دِينَارًا عِوَضَ الدِّرْهَمِ، وَقَدْ يَتَعَدَّى لِثَلَاثَةٍ فَتَقُولُ: بَدَّلْتُ زَيْدًا دِينَارًا بِدِرْهَمٍ: أَيْ حَصَّلْتُ لَهُ دِينَارًا عِوَضًا مِنْ الدرهم، وَقَدْ يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ «1» ، أَيْ يُجْعَلُ لَهُمْ حَسَنَاتٍ عِوَضَ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ وَهِمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَجَعَلُوا مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الْحَاصِلُ، وَالْمَنْصُوبُ هُوَ الذَّاهِبُ، حَتَّى قَالُوا: وَلَوْ أَبْدَلَ ضَادًا بِظَاءٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَصَوَابُهُ: لَوْ أُبْدِلَ ظَاءٌ بِضَادٍ. الرِّجْزُ: الْعَذَابُ، وَتُكْسَرُ رَاؤُهُ وَتُضَمُّ، وَالضَّمُّ لُغَةُ بَنِي الصعدات، وقد قرىء بِهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، قَالَ رُؤْبَةُ: كَمْ رَامَنَا مِنْ ذِي عَدِيدٍ مُبْزِي ... حَتَّى وُقِينَا كَيْدَهُ بِالرُّجْزِ وَالرُّجْزُ، بِالضَّمِّ: اسْمُ صَنَمٍ مَشْهُورٍ، وَالرَّجْزَاءُ: نَاقَةٌ أَصَابَ عَجُزَهَا دَاءٌ، فَإِذَا نَهَضَتِ ارْتَعَشَتْ أَفْخَاذُهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 70.

هَمَمْتَ بِخَيْرٍ ثُمَّ قَصَّرْتَ دُونَهُ ... كَمَا نَاءَتِ الرَّجْزَاءُ شُدَّ عِقَالُهَا قِيلَ: الرِّجْزُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّجَازَةِ، وَهِيَ صُوفٌ تُزَيَّنُ بِهِ الْهَوَادِجُ، كَأَنَّهُ وَسَمَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَوْ ثَقِفَاهَا ضُرِّجَتْ بِدِمَائِهَا ... كَمَا ضُرِّجَتْ نِضْوُ الْقِرَامِ الرَّجَائِزُ الِاسْتِسْقَاءُ: طَلَبُ السَّقْيِ، وَالطَّلَبُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الِاسْتِفْعَالِ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» . الْعَصَا: مُؤَنَّثٌ، وَالْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، قَالُوا: عَصَوَانِ، وَعَصَوْتُهُ: أَيْ ضَرَبْتُهُ بِالْعَصَا، وَيُجْمَعُ عَلَى أَفْعِلٍ شُذُوذًا، قَالُوا: أَعْصٍ، أَصْلُهُ أعْصُوٍ، وَعَلَى فِعِوْلٍ قِيَاسًا، قَالُوا: عِصِيٌّ، أَصْلُهُ عِصِوْوٌ، وَيَتْبَعُ حَرَكَةَ الْعَيْنِ حَرَكَةُ الصَّادِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى ... كَأَنَّ قُرُونَ جُلَّتِهَا الْعِصِيُّ الْحَجَرُ: هُوَ هَذَا الْجِسْمُ الصُّلْبُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ، وَجُمِعَ عَلَى أَحْجَارٍ وَحِجَارٍ، وَهُمَا جَمْعَانِ مَقِيسَانِ فِيهِ، وَقَالُوا: حِجَارَةٌ بِالتَّاءِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ، قَالُوا: اسْتَحْجَرَ الطِّينُ، وَالِاشْتِقَاقُ مِنَ الْأَعْيَانِ قَلِيلٌ جِدًّا. الِانْفِجَارُ: انْصِدَاعُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَمِنْهُ انْفَجَرَ، وَالْفُجُورُ: وَهُوَ الِانْبِعَاثُ فِي الْمَعْصِيَةِ كَالْمَاءِ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فِعْلِ فَجَرَهُ فَانْفَجَرَ، وَالْمُطَاوَعَةُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا انْفَعَلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. اثْنَتَا: تَأْنِيثُ اثْنَيْنِ، وَكِلَاهُمَا لَهُ إِعْرَابُ الْمُثَنَّى، وَلَيْسَ بِمُثْنًى حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُفْرَدُ، فَيُقَالُ: اثْنُ، ولا اثنة، ولا مهما مَحْذُوفَةٌ، وَهِيَ يَاءٌ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَنَّيْتُ. الْعَشْرَةَ، بِإِسْكَانِ الشِّينِ، لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِكَسْرِهَا لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْفَتْحُ فِيهَا شَاذٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَوَّلُ الْعُقُودِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ فَقَالُوا: عَشَّرَهُمْ يُعَشِّرُهُمْ، وَمِنْهُ الْعَشْرُ وَالْعَشَرُ، وَالْعَشْرُ: شَجَرٌ لَيِّنٌ، وَالْأَعْشَارُ: الْقِطَعُ لَا وَاحِدَ لَهَا، وَوُصِلَ بِهَا الْمُفْرَدُ، قَالُوا: بِرْمَةُ أَعْشَارٍ. الْعَيْنُ: لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَنْبَعِ الْمَاءِ وَالْعُضْوِ الْبَاصِرِ، وَالسَّحَابَةُ تُقْبِلُ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَطَرُ يُمْطِرُ خَمْسًا أَوْ سِتًّا، لَا يُقْلِعُ، وَمَنْ لَهُ شَرَفٌ فِي النَّاسِ، وَالثُّقْبُ فِي الْمَزَادَةِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجُمِعَ عَلَى أَعْيُنٍ شَاذٌّ، أَوْ غيون قِيَاسًا، وَقَالُوا: فِي الْأَشْرَافِ مِنَ النَّاسِ: أَعْيَانٌ، وَجَاءَ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي الْعُضْوِ الْبَاصِرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَسْمَلُ أعيانا لها ومآقيا

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 5.

أُنَاسٌ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِذَا سُمِّيَ بِهِ مُذَكَّرٌ صُرِفَ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أُرَحِّلُ نَاقَتِي مَنَعَ صَرْفَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى مُؤَنَّثٍ، وَإِمَّا ضَرُورَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. مَشْرَبٌ: مَفْعَلٌ مِنَ الشَّرَابِ يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَيَطَّرِدُ مِنْ كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُتَصَرِّفٍ مُجَرَّدٍ، لَمْ تُكْسَرْ عَيْنُ مُضَارِعِهِ سَوَاءٌ صَحَّتْ لَامُهُ: كَسِرْتَ وَدَخَلَ، أَوْ أُعِلَّتْ: كَرَمَى وَغَزَا. وَشَذَّ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ. الْعُثُوُّ، وَالْعَثْيُ: أَشَدُّ الْفَسَادِ، يُقَالُ: عَثَا يَعْثُو عُثُوًّا، وَعَثَى يَعْثِي عِثِيًّا، وَعَثَا يَعْثِي عَثْيًا: لُغَةٌ شَاذَّةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْلَا الْحَيَاءُ وَأَنَّ رَأْسِي قَدْ عَثَا ... فِيهِ الْمَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ الْقَاسِمِ وَثُبُوتُ الْعَثْيِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ عَثَى لَيْسَ أَصْلُهَا عَثَوَ، كَرَضِيَ الَّذِي أَصْلُهُ رَضَوَ، خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَمَعَاثًا، وَعَثَّ يَعِثُّ كَذَلِكَ، وَمِنْهُ عُثَّةُ الصُّوفِ: وَهِيَ السُّوسَةُ الَّتِي تَلْحَسُهُ. الطَّعَامُ: اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ، كَالْعَطَاءِ، اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَهُوَ جِنْسٌ. الْوَاحِدُ: هُوَ الَّذِي لَا يَتَبَعَّضُ، وَالَّذِي لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ ثَانٍ. يُقَالُ: وَحَدَ يَحِدُ وَحْدًا وَحِدَةً إِذَا انْفَرَدَ. الدُّعَاءُ: التَّصْوِيتُ بِاسْمِ الْمَدْعُوِّ عَلَى سَبِيلِ النِّدَاءِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ دَعَا يَدْعُو دُعَاءً. الْإِنْبَاتُ: الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، وَهُوَ: الْإِخْرَاجُ لِمَا شَأْنُهُ النُّمُوُّ. الْبَقْلُ: جِنْسٌ يَنْدَرِجُ فِيهِ النَّبَاتُ الرَّطْبُ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ، يُقَالُ مِنْهُ بِقَلَتِ الْأَرْضُ وَأَبْقَلَتْ: أَيْ صَارَتْ ذَاتَ بَقْلٍ، وَمِنْهُ: الْبَاقِلَاءُ، قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ. الْقِثَّاءُ: اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ قِثَّاءَةُ، بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ هَذَا الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ الْخِيَارُ، وَيُقَالُ: أَرْضٌ مَقْثَأَةٌ: أَيْ كَثِيرَةُ الْقِثَّاءِ. الْفُومُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أمية بن وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الثُّومُ، أُبْدِلَتِ الثَّاءُ فَاءً، كَمَا قَالُوا، فِي مَغْفُورٍ: مَغْثُورٍ، وَفِي جَدَّثَ: جَدَّفَ، وَفِي عَاثُورٍ: عَافُورٍ. قَالَ الصَّلْتُ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً ... فِيهَا الْقَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ وَأَنْشَدَ مُؤَرِّجٌ لِحَسَّانَ: وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ الفول وَالْحَوْقَلُ يَعْنِي: الْفُومَ وَالْبَصَلَ، وَهَذَا كَمَا أَبْدَلُوا بِالْفَاءِ الثَّاءَ، قَالُوا فِي الْأَثَافِيِّ: الْأَثَاثِيُّ، وَكِلَا الْبَدَلَيْنِ لَا يَنْقَاسُ، أَعْنِي إِبْدَالَ الثَّاءِ فَاءً وَالْفَاءِ ثَاءً. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ: الْفُومُ: الْحِنْطَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ:

قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ ... قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ مِصْرَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ: هِيَ الْحُبُوبُ التي توكل. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ دُرَيْدٍ: هِيَ السُّنْبُلَةُ، زَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِلُغَةِ أَسَدٍ. وَقِيلَ: الْحُبُوبُ الَّتِي تُخْبَزُ. وَقِيلَ: الْخُبْزُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُومُوا لَنَا، أَيِ اخْبِزُوا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: تَلْتَقِمُ الْفَالِحَ لَمْ يُفَوِّمِ ... تَقَمُّمًا زَادَ عَلَى التَّقَمُّمِ وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْفُومُ: كُلُّ عُقْدَةٍ فِي الْبَصَلِ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ عَظِيمَةٍ فِي اللَّحْمِ، وَكُلُّ لُقْمَةٍ كَبِيرَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحِمَّصُ، وَهِيَ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، وَيُقَالُ لِبَائِعِهِ: فَامِيٌّ، مُغَيَّرٌ عَنْ فُومِيٍّ لِلنَّسَبِ، كَمَا قَالُوا: شَهْلِيٌّ وَدَهْرِيٌّ. الْعَدَسُ: مَعْرُوفٌ، وَعُدَسٌ وَعُدُسٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَعَدَسْ: زَجْرٌ لِلْبَغْلِ. الْبَصَلُ: مَعْرُوفٌ. أَدْنَى: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ، يُقَالُ: مِنْهُ دَنَا يَدْنُو دُنُوًّا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشُ: هُوَ أَفْعَلُ مِنَ الدَّنَاءَةِ، وَهِيَ: الْخِسَّةُ وَالرَّدَاءَةُ، خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي الْمَهْمُوزِ: دَنُؤَ الرَّجُلُ، يَدْنَأُ دَنَاءَةً وَدِنَاءً، وَدَنَأَ يَدْنَأُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَفْعَلُ مِنَ الدُّونِ، أَيْ أَحَطُّ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَأَصْلُهُ أَدْوَنُ، فَصَارَ وَزْنُهُ: أَفْلَعُ، نَحْوَ: أَوْلَى لَكَ، هُوَ أَفْعَلُ مِنَ الْوَيْلِ، أَصْلُهُ أَوْيَلُ فَقُلِبَ. الْمِصْرُ: الْبَلَدُ، مُشْتَقٌّ مَنْ مَصَرْتُ الشَّاةَ، أَمْصُرُهَا مَصْرًا: حَلَبْتُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ضَرْعِهَا، وَقِيلَ الْمِصْرُ: الْحَدُّ بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، وَهَجَرٌ يَكْتُبُونَ: اشْتَرَى الدَّارَ بِمُصُورِهَا: أَيْ بِحُدُودِهَا. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا السُّؤَالُ: الطَّلَبُ، وَيُقَالُ: سَأَلَ يَسْأَلُ سُؤَالًا، وَالسُّؤْلُ: الْمَطْلُوبُ، وَسَالَ يَسَالُ: عَلَى وَزْنِ خَافَ يَخَافُ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ فِعْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ، قَالُوا: لِأَنَّ السُّؤَالَ سَبَبٌ إِلَى الْعِلْمِ فَأُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلْمِ. الذِّلَّةُ: مَصْدَرُ ذَلَّ يَذِلُّ ذِلَّةً وَذُلًّا، وَقِيلَ: الذِّلَّةُ كَأَنَّهَا هَيْئَةٌ مِنَ الذُّلِّ، كَالْجِلْسَةِ، وَالذُّلُّ: الْخُضُوعُ وَذَهَابُ الصُّعُوبَةِ. الْمَسْكَنَةُ: مَفْعَلَةٌ مِنَ السُّكُونِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِسْكِينُ لِقِلَّةِ حَرَكَاتِهِ وَفُتُورِ نَشَاطِهِ، وَقَدْ بُنِيَ مِنْ لَفْظِهِ فَعَّلَ، قَالُوا: تَمَسْكَنَ، كَمَا قَالُوا: تَمَدْرَعَ مِنَ الْمَدْرَعَةِ، وَقَدْ طُعِنَ عَلَى هَذَا النَّقْلِ وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ وَإِنَّمَا الَّذِي صَحَّ تَسَكَّنَ وَتَدَرَّعَ. بَاءَ بِكَذَا: أَيْ رَجَعَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ: أَوِ اعْتَرَفَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةُ، وَاسْتَحَقَّ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ أَوْ نَزَلَ وَتَمَكَّنَ، قَالَهُ

الْمُبَرِّدُ أَوْ تَسَاوَى، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَأَنْشَدُوا لِكُلِّ قَوْلٍ ما يستدل به أمن كَلَامِ الْعَرَبِ، وَحَذَفْنَا نَحْنُ ذَلِكَ. النَّبِيءُ: مَهْمُوزٌ مِنْ أنبأ، فعيل: بمعنى فعل، كَسَمِيعٍ مِنْ أَسْمَعَ، وَجُمِعَ عَلَى النُّبَآءِ، وَمَصْدَرُهُ النُّبُوءَةُ، وَتَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ، كُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّامَ هَمْزَةٌ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: نَبُؤَ، إِذَا ظَهَرَ فَهُوَ نَبِيءٌ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ: نَبِيئًا. فَعَلَى هَذَا هُوَ فَعِيلٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فَعُلَ، كَشَرِيفٍ مِنْ شَرُفَ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ فَقِيلَ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، ثُمَّ سُهِّلَ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ نَبَا يَنْبُو، إِذَا ظَهَرَ وَارْتَفَعَ، قَالُوا: وَالنَّبِيُّ: الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَمَّا وَرَدْنَ نَبِيًّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا ... مُسْحَنْفِرٌ لِخُطُوطِ الْمَسْحِ مُنْسَحِلُ قَالَ الْكِسَائِيُّ: النَّبِيُّ: الطَّرِيقُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ، قَالُوا: وَبِهِ سُمِّيَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْعِصْيَانُ: عَدَمُ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْفِعْلُ، مِنْهُ: عَصَى يَعْصِي، وَقَدْ جَاءَ الْعَصْيُ فِي معنى العصيان. أنشد بن حَمَّادٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْبَاذِشِ مِمَّا أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ: فِي طَاعَةِ الرَّبِّ وَعَصْيِ الشَّيْطَانِ الِاعْتِدَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْعَدْوِ، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «1» . وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ. الْقَائِلُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَلْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَوْ يُوشَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَوْلَانِ: وَانْتِصَابُ هَذِهِ عَلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ، لِأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ، كَمَا تَنْتَصِبُ أَسْمَاءُ الْإِشَارَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَعَلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ إِذَا كُنَّ إِشَارَةً إِلَيْهِمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ هَذَا الضَّرْبَ، وَصُمْتُ هَذَا الْيَوْمَ. هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي دَخَلَ، أنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى الْمُخْتَصِّ مِنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ فِي، فَإِنْ كَانَ الظَّرْفُ مَجَازِيًّا تَعَدَّتْ بِفِي، نَحْوَ: دَخَلْتُ فِي غِمَارِ النَّاسِ، وَدَخَلْتُ فِي الْأَمْرِ الْمُشْكَلِ. وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْجَرْمِيِّ أَنَّ مِثْلَ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ، مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقَرْيَةَ لِلْحُضُورِ، وَانْتِصَابُ الْقَرْيَةَ عَلَى النَّعْتِ، أَوْ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ، كَمَا مَرَّ فِي إِعْرَابِ الشَّجَرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ «2» ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الْإِعْرَابِ فِي هَذِهِ، فَهِيَ فِي: وَلا تَقْرَبا هذِهِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهِيَ هُنَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالْقَرْيَةُ هُنَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 36. (2) سورة البقرة: 2/ 35.

وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: أَرِيحَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَهِيَ بِأَرْضِ الْمَقْدِسِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النَّمَرِيُّ: كَانَتْ قَاعِدَةً وَمَسْكَنَ مُلُوكٍ، وَفِيهَا مَسْجِدٌ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَفِي الْمَسْجِدِ بَيْتٌ يُسَمَّى إِيلِيَا. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: أَرِيحَا قَرْيَةُ الْجَبَّارِينَ، كَانُوا مِنْ بَقَايَا عَادٍ، يُقَالُ لَهُمُ: العمالية وَرَأْسُهُمْ: عَوْجُ بْنُ عُنُقٍ، وَقِيلَ: الرَّمْلَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقِيلَ: أَيْلَةُ وَقِيلَ: الْأُرْدُنُّ وَقِيلَ: فَلَسْطِينُ وَقِيلَ: الْبَلْقَاءُ وَقِيلَ: تَدْمُرُ، وَقِيلَ: مِصْرُ وَقِيلَ: قَرْيَةٌ بِقُرْبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ أُمِرُوا بِدُخُولِهَا وَقِيلَ: الشَّامُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَيْسَانَ، وَقَدْ رُجِّحَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ فِي الْمَائِدَةِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ «1» . قِيلَ: وَلَا خِلَافَ، أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِهِ: فَبَدَّلَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي حَيَاةِ مُوسَى، لَكِنَّهُ مَاتَ فِي أَرْضِ التِّيهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَجَابَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ كَانَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، وَهَذَا الْجَوَابُ وَهْمٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وَاحِدٌ، وَالْقَائِلُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ قَطْعًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَقَوْلِهِمْ: قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ «2» ؟ قَالَ وَهْبٌ: كَانُوا قَدِ ارْتَكَبُوا ذُنُوبًا، فَقِيلَ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْآيَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَقِيلَ لَهُمْ: اهْبِطُوا مِصْرًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَا لَقُوا أَرِيحَا. وَفِي قَوْلِهِ: هذِهِ الْقَرْيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَارَبُوهَا وَعَايَنُوهَا، لِأَنَّ هَذِهِ إِشَارَةٌ لِحَاضِرٍ قَرِيبٍ. قِيلَ: وَالَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى مَعَهُمْ حِينَ دَخَلُوهَا، فَإِنَّهُ مَاتَ هُوَ وَأَخُوهُ فِي التِّيهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلَا التِّيهَ لِأَنَّهُ عَذَابٌ، وَاللَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ. فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ وَهُنَا بِالْفَاءِ، وَهُنَاكَ تَقْدِيمُ الرَّغَدِ عَلَى الظَّرْفِ، وَهُنَا تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى الرَّغَدِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْوَاوَ هُنَاكَ جَاءَتْ بِمَعْنَى الْفَاءِ، قِيلَ: وَهُوَ الْمَعْنَى الْكَثِيرُ فِيهَا، أَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ الْمُتَقَدِّمَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَعْطُوفُ بِهَا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي الزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَرِدُ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ قَلِيلٌ. وَلِلْمَعِيَّةِ وَالزَّمَانِ، وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَيَدُلُّ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ مَا جَاءَ فِي الْأَعْرَافِ مِنْ قَوْلِهِ: فَكُلا بِالْفَاءِ، وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الرَّغَدِ هُنَاكَ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ مِنْ صفات الأكل أو

_ (1) سورة المائدة: 5/ 25. (2) سورة المائدة: 5/ 22.

الْآكِلِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الْعَامِلِ فِيهِ وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهُ، وَيُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِظَرْفٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاصِلًا مُؤَثِّرًا الْمَنْعَ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَعْمُولِيَّةِ لِعَامِلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ أُخِّرَ لِمُنَاسَبَةِ الْفَاصِلَةِ بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَقَوْلَهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، فَهُمَا سَجْعَتَانِ مُتَنَاسِبَتَانِ؟ فَلِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَانَ هَذَانِ التَّرْكِيبَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَضْعَيْنِ. وَادْخُلُوا الْبابَ: الْخِلَافُ فِي نَصْبِ الْبَابَ كَالْخِلَافِ فِي نَصْبِ الْقَرْيَةَ، وَالْبَابُ أَحَدُ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُدْعَى الْآنَ: بَابُ حِطَّةَ، قاله ابن عباس أو الثَّامِنُ، مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُدْعَى بَابُ التَّوْبَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ أَوْ بَابُ الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِدُخُولِهَا، أَوْ بَابُ الْقُبَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُوسَى وَهَارُونُ يَتَعَبَّدَانِ، أَوْ بَابٌ فِي الْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى. سُجَّداً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ادْخُلُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ رُكَّعًا، وَعُبِّرَ عَنِ الرُّكُوعِ بِالسُّجُودِ، كَمَا يُعَبَّرُ عَنِ السُّجُودِ بِالرُّكُوعِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْبَابَ كَانَ صَغِيرًا ضَيِّقًا يَحْتَاجُ الدَّاخِلُ فِيهِ إِلَى الِانْحِنَاءِ، وَبَعُدَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَيِّقًا لَكَانُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى دُخُولِهِ رُكَّعًا، فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ لَازِمَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الدُّخُولُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَالْحَالُ اللَّازِمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خُضَّعًا مُتَوَاضِعِينَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن أبي الفضل فِي الْمُنْتَخَبِ، وَنَذْكُرُ وَجْهَ اخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: ادْخُلُوا سَاجِدِينَ شُكْرًا لِلَّهِ تعالى، إذ ردهم إِلَيْهَا. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدُّخُولِ حَالَ السُّجُودِ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَامْتَنَعَ ذَلِكَ، فَلَمَّا تعذر حمله عَلَى حَقِيقَةِ السُّجُودِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَاضُعِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي التَّوْبَةِ، فَالتَّائِبُ عَنِ الذَّنْبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَاشِعًا مُسْتَكِينًا، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ أَخْذَ الْحَالِ مُقَارَنَةٌ، فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ أُمِرُوا بِالدُّخُولِ وَهُمْ سَاجِدُونَ، فَيَضَعُونَ جِبَاهَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَهُمْ دَاخِلُونَ. وَتَصْدُقُ الْحَالُ الْمُقَارِنَةُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا دَخَلُوا. وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْحَالَ مُقَدَّرَةً فَيَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ السُّجُودَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مُتَرَاخِيًا عَنِ الدُّخُولِ، وَالْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ مَوْجُودَةٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. مِنْ ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا. وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ السُّجُودِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِيهِ كَثِيرًا، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ يَكُونُ الْحَالُ مُقَارِنَةً أَوْ مَقَدَّرَةً، كَانَ أَوْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمِرُوا بِالسُّجُودِ عِنْدَ

الِانْتِهَاءِ إِلَى الْبَابِ، شُكْرًا لِلَّهِ وَتَوَاضُعًا، وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مَدْلُولَ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّجُودِ فِي الْآيَةِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْبَابِ، بَلْ أُمِرُوا بِالدُّخُولِ فِي حَالِ السُّجُودِ. فَالسُّجُودُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، بَلْ هُوَ قَيْدٌ فِي وُقُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الدُّخُولُ، وَالْأَحْوَالُ نِسَبٌ تَقْيِيدِيَّةٌ، وَالْأَوَامِرُ نِسَبٌ إِسْنَادِيَّةٌ، فَتَنَاقَضَتَا، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ تَقْيِيدِيًّا إِسْنَادِيًّا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ التَّقْيِيدِ لَا يَكْتَفِي كَلَامًا وَمِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ يَكْتَفِي، فَظَهَرَ التَّنَاقُضُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ دُخُولِهِمُ الْبَابَ أَقْوَالٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: دَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: دَخَلُوا مقنعي رؤوسهم، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دَخَلُوا عَلَى حُرُوفِ أَعْيُنِهِمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: دَخَلُوا مُسْتَلْقِينَ، وَقِيلَ: دَخَلُوا مُنْزَحِفِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ عِنَادًا وَكِبْرًا، وَالَّذِي ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. فَاضْمَحَلَّتْ هَذِهِ التَّفَاسِيرُ، وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا حِطَّةٌ، حطة: مفرد، وَمَحْكِيُّ الْقَوْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً، فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرٍ مُصَحِّحٍ لِلْجُمْلَةِ، فَقُدِّرَ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ هَذَا تقديرا لحسن بْنِ أَبِي الْحَسَنِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ دُخُولُنَا الْبَابَ كَمَا أُمِرْنَا حِطَّةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: التَّقْدِيرُ أَمْرُكَ حِطَّةٌ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَمْرُنَا حِطَّةٌ، أَيْ أَنْ نَحُطَّ فِي هذه القرية ونستقر فيها. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَصْلُ النَّصْبُ بِمَعْنَى حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ لِتُعْطِيَ مَعْنَى الثَّبَاتَ كَقَوْلِهِ: صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَالْأَصْلُ صَبْرًا. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ: حِطَّةً بِالنَّصْبِ، كَمَا رُوِيَ: صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى بِالنَّصْبِ. وَالْأَظْهَرُ مِنَ التَّقَادِيرِ السَّابِقَةِ فِي إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي تَعْلِيقِ الْغُفْرَانِ عَلَيْهِ هُوَ سُؤَالُ حَطِّ الذُّنُوبِ لَا شَيْءَ مِنْ تِلْكَ التَّقَادِيرِ الْأُخَرِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِضْمَارِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا ذُقْتُ فَاهًا قُلْتُ طَعْمُ مُدَامَةٍ ... مُعَتَّقَةٍ مِمَّا تَجِيءُ بِهِ التُّجُرُ رُوِيَ بِرَفْعِ طَعْمُ عَلَى تَقْدِيرِ: هَذَا طَعْمُ مُدَامَةٍ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: ذُقْتُ طَعْمَ مذامة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ حِطَّةٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ نصبها بقولوا عَلَى مَعْنَى قُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ؟ قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ، انْتَهَى. وَمَا جَوَّزَهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ

لَا يَعْمَلُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى الْجُمَلِ لِلْحِكَايَةِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ، إلا إن كَانَ الْمُفْرَدُ مَصْدَرًا نَحْوَ: قُلْتُ قَوْلًا، أَوْ صِفَةً لِمَصْدَرٍ نَحْوَ: قُلْتُ حَقًّا، أَوْ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ جُمْلَةٍ نَحْوَ: قُلْتُ شِعْرًا وَقُلْتُ خُطْبَةً، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الشِّعْرَ وَالْخُطْبَةَ نَوْعَانِ مِنَ الْقَوْلِ، فَصَارَ كَالْقَهْقَرَى مِنَ الرُّجُوعِ، وَحِطَّةٌ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ. وَلِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ حِطَّةٌ مَنْصُوبَةً بِلَفْظِ قُولُوا، كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ وَعُرِّيَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْإِسْنَادُ الْمَعْنَوِيُّ. وَإِذَا كَانَ مِنَ الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى النُّطْقِ بِهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا إِلَّا مُجَرَّدُ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِالنُّطْقِ بِلَفْظٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْغُفْلِ الَّتِي لَمْ تُوضَعْ لِدَلَالَةٍ عَلَى مَعْنَى. وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَتَّبَ الْغُفْرَانُ لِلْخَطَايَا عَلَى النُّطْقِ بِمُجَرَّدِ لَفْظٍ مُفْرَدٍ لَمْ يَدُلَّ بِهِ عَلَى مَعْنَى كَلَامٍ. أَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ حِطَّةٌ مُفْرَدٌ، وَأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ وَلَيْسَ مُقْتَطَعًا مِنْ جُمْلَةٍ، بَلْ أُمِرُوا بِقَوْلِهَا هَكَذَا مَرْفُوعَةً، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ لِأَنَّهُ يُبْقِي حِطَّةٌ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ رَافِعٍ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ إِنَّمَا وُضِعَ فِي بَابِ الْحِكَايَةِ لِيُحْكَى بِهِ الْجُمَلُ لَا الْمُفْرَدَاتُ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ «1» إِلَى تَأْوِيلٍ، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيْثًا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ بَنِي تَمِيمٍ ... أَحَقُّ الْخَيْلِ بِالرَّكْضِ الْمُعَارِ فَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ سَمِعَ وَوَجَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ، لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ وَالْمَوْجُودَ فِي الْكِتَابِ قَدْ يَكُونُ مُفْرَدًا وَقَدْ يَكُونُ جُمْلَةً. وَأَمَّا الْقَوْلُ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الْجُمَلِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ إِلَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَلَيْسَ حِطَّةٌ مِنْهَا. وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي حِطَّةٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَوَهْبٌ: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ وَقُولُوا هَذَا الْأَمْرَ الْحَقَّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَحْنُ لَا نَزَالُ تَحْتَ حُكْمِكَ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِكَ، كَمَا يُقَالُ قَدْ حَطَطْتُ فِي فِنَائِكَ رَحْلِي. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ التَّقَادِيرُ فِي إِضْمَارِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَ حِطَّةٌ وَهِيَ أَقَاوِيلُ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ بِعَيْنِهَا، قِيلَ: وَالْأَقْرَبُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَرَبِيَّةٌ وَهُمْ مَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا، وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا دَالًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْخُضُوعِ، حَتَّى لَوْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إليك، لكان

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 60.

الْخُضُوعُ حَاصِلًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّوْبَةِ أَمَّا بِالْقَلْبِ فَبِالنَّدَمِ وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَبِذِكْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ النَّدَمِ فِي الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذِكْرِ لَفْظَةٍ بِعَيْنِهَا. يَغْفِرُ، نَافِعٌ: بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً، ابْنُ عَامِرٍ: بِالتَّاءِ، أَبُو بَكْرٍ مِنْ طَرِيقِ الْجُعْفِيِّ: يَغْفِرْ، الْبَاقُونَ: نَغْفِرْ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً فَلِأَنَّ الْخَطَايَا مُؤَنَّثٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ وَإِذْ قُلْنَا ثُمَّ قَالَ: يَغْفِرْ، فَانْتَقَلَ مِنْ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ مُعَظِّمٍ نَفْسَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَقُولُوا، أَيْ نَغْفِرُ الْقَوْلَ وَنَسَبَ الْغُفْرَانَ إِلَيْهِ مَجَازًا لِمَا كَانَ سَبَبًا لِلْغُفْرَانِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ، فَهُوَ الْجَارِي عَلَى نِظَامِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنَا، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَنَزِيدُ، فَالْكَلَامُ بِهِ فِي أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِنَ السَّبْعَةِ إِلَّا بِلَفْظِ خَطاياكُمْ، وَأَمَالَهَا الْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ: تَغْفِرْ بِفَتْحِ التَّاءِ، قِيلَ: كَأَنَّ الْحِطَّةَ تَكُونُ سَبَبَ الْغُفْرَانِ، يَعْنِي قَائِلُ هَذَا وَهُوَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلْحِطَّةِ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ نَفْسَ اللَّفْظَةِ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْغُفْرَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ قَبْلُ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَقَالَةِ الْمَفْهُومَةِ مَنْ: وَقُولُوا، وَنُسِبَ الْغُفْرَانُ إِلَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتْ سَبَبًا لِلْغُفْرَانِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ: تُغْفَرْ بِضَمِّ التَّاءِ وَإِفْرَادِ الْخَطِيئَةِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: يُغْفَرْ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَغْفِرْ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً وَإِفْرَادُ الْخَطِيئَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يَغْفِرْ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً وَالْجَمْعِ الْمُسَلَّمِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: تُغْفَرْ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً وَبِالْجَمْعِ الْمُسَلَّمِ. وَحَكَى الْأَهْوَازِيُّ أَنَّهُ قَرَأَ: خَطَأْيَاكُمْ بِهَمْزِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْأَلِفِ الْأَخِيرَةِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا الْعَكْسُ. وَتَوْجِيهُ هَذَا الْهَمْزِ أَنَّهُ اسْتَثْقَلَ النُّطْقَ بِأَلِفَيْنِ مَعَ أَنَّ الْحَاجِزَ حَرْفٌ مَفْتُوحٌ وَالْفَتْحَةُ تَنْشَأُ عَنْهَا الْأَلِفُ، فَكَأَنَّهُ اجْتَمَعَ ثَلَاثُ أَلِفَاتٍ، فَهَمَزَ إِحْدَى الْأَلِفَيْنِ لِيَزُولَ هَذَا الِاسْتِثْقَالُ، وَإِذْ كَانُوا قَدْ هَمَزُوا الْأَلِفَ الْمُفْرَدَةَ بَعْدَ فَتْحِهِ فِي قَوْلِهِ: وَخِنْدِفٍ هَامَةُ هَذَا الْعَأْلَمِ فَلَأَنْ يَهْمِزُوا هَذَا أَوْلَى، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْيَاءِ أَوِ التَّاءِ كَانَ: خَطَايَاكُمْ، أَوْ خَطِيَّاتِكُمْ، أَوْ خَطِيَّتِكُمْ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ التَّاءِ أَوِ الْيَاءِ أَوْ بِالنُّونِ، كَانَ ذَلِكَ مَفْعُولًا، وَجُزِمَ هَذَا الْفِعْلُ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَهُنَا تقدمت

_ (1) سورة البقرة: 2/ 40.

أَوَامِرُ أَرْبَعَةٌ: ادْخُلُوا، فَكُلُوا، وَادْخُلُوا الْبابَ، وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَوَابًا إِلَّا لِلْآخِرَيْنِ، وَعَلَيْهِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْغُفْرَانِ لَا يَكُونُ عَلَى دُخُولِ الْقَرْيَةِ وَلَا عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى دُخُولِ الْبَابِ لِتَقْيِيدِهِ بِالْحَالِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَهِيَ السُّجُودُ، وَبِقَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ لِأَنَّ فِيهِ السُّؤَالَ بِحَطِّ الذُّنُوبِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَلِلْمُجَاوَرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى تَرَتُّبِ ذَلِكَ عَلَيْهَا مَا فِي الْأَعْرَافِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، نَغْفِرْ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ. فَرَتَّبَ الْغُفْرَانَ هُنَاكَ عَلَى قَوْلِهِمْ حِطَّةٌ، وَعَلَى دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا، لِمَا تَضَمَّنَهُ الدُّخُولُ مِنَ السُّجُودِ. وَفِي تَخَالُفِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ وَأَنَّهَا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ مِنَ الْجُمْهُورِ: بِإِظْهَارِ الرَّاءِ مِنْ نَغْفِرْ عِنْدَ اللَّامِ، وَأَدْغَمَهَا قَوْمٌ قَالُوا وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَسَنَزِيدُ: هُنَا بِالْوَاوِ، وَفِي الْأَعْرَافِ سَنَزِيدُ، وَالَّتِي فِي الْأَعْرَافِ مُخْتَصَرَةٌ. أَلَا تَرَى إِلَى سُقُوطِ رَغَدًا؟ وَالْوَاوُ مِنْ: وَسَنَزِيدُ، وَقَوْلُهُ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ «1» ، بَدَلُ، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ هُنَا، وَنَاسَبَ الْإِسْهَابَ هُنَا وَالِاخْتِصَارَ هُنَاكَ. وَالزِّيَادَةُ ارْتِفَاعٌ عَنِ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ، وَضِدُّهُ النَّقْصُ. الْمُحْسِنِينَ، قِيلَ: الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ، وَقِيلَ: الْمُحْسِنِينَ مِنْهُمْ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ من أحسن منهم بعد ذَلِكَ زِدْنَاهُ ثَوَابًا وَدَرَجَاتٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا مِنْهُمْ زِدْنَا فِي إِحْسَانِهِ، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا بَعْدَ ذَلِكَ زِدْنَاهُ ثَوَابًا وَدَرَجَاتٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا مِنْهُمْ زِدْنَا فِي إِحْسَانِهِ، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا مُخْطِئًا نَغْفِرُ لَهُ خَطِيئَتَهُ، وَكَانُوا عَلَى هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دُخُولِهِمُ الْبَابَ سُجَّدًا وَقَوْلِهِمْ حِطَّةً يَغْفِرُ وَيُضَاعِفُ ثَوَابَ مُحْسِنِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُحْسِنُونَ مَنْ دَخَلَ، كَمَا أُمِرَ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمُحْسِنِينَ إِمَّا مِنْ غَيْرِهِمْ أَوْ مِنْهُمْ. فَمِنْهُمْ إِمَّا مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْمَاضِي، أَيْ كَانَ مُحْسِنًا، أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ من أحسن منهم بعد، أَوْ فِي الْحَالِ، أَيْ وَسَنَزِيدُكُمْ بِإِحْسَانِكُمْ فِي امْتِثَالِكُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا وَالْقَوْلِ حِطَّةً. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى نَغْفِرْ فَتَكُونُ جَوَابًا، أَلَا تَرَاهَا جَاءَتْ مُنْقَطِعَةً عَنِ الْعَطْفِ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ سَنَزِيدُ؟ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ الإعرابية ترتيب عَلَى دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا. وَالْقَوْلِ حِطَّةً، لَكِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْإِخْبَارِ الْمَحْضِ الَّذِي لَمْ يُرَتَّبْ عَلَى شَيْءٍ قبله.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 133 و 162، وسورة فصلت: 41/ 16.

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا: ظَاهِرُهُ انْقِسَامُهُمْ إِلَى ظَالِمِينَ وَغَيْرِ ظَالِمِينَ، وَأَنَّ الظَّالِمِينَ هُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا، فَإِنْ كَانَ كُلُّهُمْ بَدَّلُوا، كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِالْعِلَّةِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَبَدَّلُوا، لَكِنَّهُ أَظْهَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ التَّبْدِيلِ، وَهُوَ الظُّلْمُ، أَيْ لَوْلَا ظُلْمُهُمْ مَا بَدَّلُوا، وَالْمُبْدَلُ بِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِقَوْلِهِمْ حِطَّةً. قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ: وَلَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا نَاسَبَ إِضَافَةُ غَيْرَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ بَعْدَهَا. وَالَّذِي قِيلَ لَهُمْ هُوَ أَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ، فَلَوْ لَمْ يُحْذَفْ لَكَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِقَوْلِهِمْ حِطَّةً قَوْلًا غَيْرَهُ، لَكِنَّهُ لَمَّا حُذِفَ أَظْهَرَ مُضَافًا إِلَيْهِ غَيْرَ لِيَدُلَّ، عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ هَذَا الْمُظْهَرُ، وَهُوَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ هُوَ عَلَى وَضْعِ بَدَلٍ إِذِ الْمَجْرُورُ هُوَ الزَّائِلُ، وَالْمَنْصُوبُ هُوَ الْحَاصِلُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ بَدَلَ أَنْ يَقُولُوا: حِطَّةٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَوَهْبٌ وَابْنُ زَيْدٍ: حِنْطَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ، وَقِيلَ: حِنْطَةٌ بَيْضَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: سُنْبُلَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هَطَا شمهاثا، وَقِيلَ: حَطَى شمعاثا، وَمَعْنَاهَا فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ، وَقِيلَ: حِنْطَةٌ بَيْضَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ. وَقِيلَ: حَبَّةٌ فِي شَعِيرَةٍ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شَعِيرٌ، وَقِيلَ: حِنْطَةٌ فِي شَعِيرٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: حَبَّةُ حِنْطَةٍ مَقْلُوَّةٍ فِي شَعْرَةٍ، وَقِيلَ: تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ النِّبَطِيَّةِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ غَيَّرُوا مَا شُرِعَ لَهُمْ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَالَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَاطِّرَاحُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، وَلَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ لَحُمِلَ اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ، فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ قَالَ: كَذَا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: كَذَا، فَلَا يَكُونُ فِيهَا تَضَادٌّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ وَضَعُوا مَكَانَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ قَوْلًا مُغَايِرًا لَهُ مُشْعِرًا بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَكُونُ عنه غفران خطيآتهم. كُلُّ ذَلِكَ عَدَمُ مُبَالَاةٍ بِأَوَامِرِ اللَّهِ، فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ النَّكَالَ. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً: كَرَّرَ الظَّاهِرَ السَّابِقَ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ حَالِهِمْ وَإِشْعَارًا بِعِلِّيَّةِ نُزُولِ الرِّجْزِ. وَقَدْ أُضْمِرَ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ هُوَ الْمُظْهَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: رُجْزًا بِضَمِّ الرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ فِي الرِّجْزِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّجْزِ هُنَا، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: طَاعُونٌ أَهْلَكَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَقَالَ وَهْبٌ: طَاعُونٌ عُذِّبُوا بِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ مَاتُوا بَعْدَ

ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ثَلْجٌ هَلَكَ بِهِ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظُلْمَةٌ وَمَوْتٌ مَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَهَلَكَ سَبْعُونَ أَلْفًا عُقُوبَةً. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ وَلَمْ يُبَيَّنْ نَوْعُهُ، إِذْ لَا كَبِيرَ فَائِدَةٍ فِي تَعْلِيقِ النَّوْعِ. مِنَ السَّماءِ: إِنْ فُسِّرَ الرِّجْزُ بِالثَّلْجِ كَانَ كَوْنُهُ مِنَ السَّمَاءِ ظَاهِرًا، وَإِنْ فُسِّرَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، أَوْ مُبَالَغَةٌ فِي عُلُوِّهِ بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ. بِما كانُوا، مَا: مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ بِكَوْنِهِمْ. يَفْسُقُونَ. وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَغَيْرُهُمَا بِكَسْرِ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الْفِسْقُ هُوَ الظُّلْمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَفَائِدَةُ التَّكْرَارِ التَّأْكِيدُ، لِأَنَّ الْوَصْفَ دَالٌّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّبْدِيلَ سَبَبُهُ الظُّلْمُ، وَأَنَّ إِنْزَالَ الرِّجْزِ سَبَبُهُ الظُّلْمُ أَيْضًا. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي مُسْلِمٍ: لَيْسَ مُكَرَّرَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الصَّغَائِرِ، رَبَّنا ظَلَمْنا «1» ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «2» وَالْفِسْقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ الْكَبَائِرِ. فَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ أَوَّلًا وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ الَّذِي هُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا اسْمَ الظُّلْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ وَنُزُولِ الرِّجْزِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، لَا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ بَلْ بِالْفِسْقِ الَّذِي فَعَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ، وَعَلَى هَذَا يَزُولُ التَّكْرَارُ. انْتَهَى. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَتَرْتِيبُ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا التَّبْدِيلِ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ مِنَ الْأَقْوَالِ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كانت الكلمة تسدّ سدّها، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى، وَفِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي تَجْوِيزِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى. وَذَكَرُوا أَنَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ هُنَا، وَإِذْ قُلْنَا، وَفِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ قِيلَ «3» . وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صُرِّحَ بِالْفَاعِلِ فِي الْبَقَرَةِ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ، وَحُذِفَ فِي الْأَعْرَافِ لِلْعِلْمِ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الثَّانِي: قَالَ هُنَا: ادْخُلُوا، وَهُنَاكَ اسْكُنُوا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدُّخُولَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّكْنَى، فَذَكَرَ الدُّخُولَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالسُّكْنَى فِي الْمُتَأَخِّرَةِ. الثَّالِثُ: هُنَا خَطَايَاكُمْ، وَهُنَاكَ: خطيئتكم. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخَطَايَا جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَنَاسَبَ حَيْثُ قَرَنَ بِهِ مَا يَلِيقُ بِجُودِهِ، وَهُوَ غُفْرَانُ الْكَثِيرِ. وَالْخَطِيئَاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ لَمَّا لَمْ يضف ذلك إلى

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 23. (2) سورة لقمان: 31/ 13. (3) سورة الأعراف: 7/ 161. [.....]

نَفْسِهِ. الرَّابِعُ: ذُكِرَ هُنَا: رَغَدًا وَهُنَاكَ: حُذِفَ. وَأُجِيبَ بِالْجَوَابِ قَبْلُ. الْخَامِسُ: هُنَا قُدِّمَ دُخُولَ الْبَابِ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُنَاكَ عُكِسَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا مُذْنِبُونَ. فَاشْتِغَالُهُ بِحَطِّ الذَّنْبِ مُقَدَّمٌ عَلَى اشْتِغَالِهِ بِالْعِبَادَةِ، فَكُلِّفُوا بِقَوْلِ حِطَّةٍ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالدُّخُولِ وَغَيْرُ مُذْنِبِينَ. فَاشْتِغَالُهُ أَوَّلًا بِالْعِبَادَةِ ثُمَّ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ ثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ هَضْمِ النَّفْسِ وَإِزَالَةِ الْعَجَبِ، فَلَمَّا احْتَمَلَ الِانْقِسَامَ ذُكِرَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سُورَةٍ بِأَيِّهِمَا بَدَأَ. السَّادِسُ: إِثْبَاتُ الْوَاوِ فِي وَسَنَزِيدُ هُنَا، وَحَذْفُهَا هُنَاكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ أَمْرَانِ كَانَ الْمَجِيءُ بِالْوَاوِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ مَجْمُوعَ الْغُفْرَانِ وَالزِّيَادَةِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَحَيْثُ تُرِكَتْ أَفَادَ تَوَزُّعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْغُفْرَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوْلِ، وَالزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ ادْخُلُوا. السَّابِعُ: لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا مِنْهُمْ وَذَكَرَ هُنَاكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَوَّلَ الْقِصَّةِ فِي الْأَعْرَافِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِلَفْظِ مِنْ قَالَ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ «1» ، فَذَكَرَ لَفْظَ مِنْ آخِرًا لِيُطَابِقَ آخِرُهُ أَوَّلَهُ، وَهُنَا لَمْ تُبْنَ الْقِصَّةُ عَلَى التَّخْصِيصِ. الثَّامِنُ: هُنَا فَأَنْزَلْنَا، وَهُنَاكَ: فَأَرْسَلْنَا. وَأُجِيبَ بأن الإنزال مفيد حُدُوثَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَالْإِرْسَالَ يُفِيدُ تَسَلُّطَهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِئْصَالَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْآخِرِ. التَّاسِعُ: هُنَا: يَفْسُقُونَ، وَهُنَاكَ: يَظْلِمُونَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ هُنَا كَوْنَ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِسْقًا اكْتَفَى بِذِكْرِ الظُّلْمِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ هُنَا. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَنُو إِسْرَائِيلَ خَالَفُوا اللَّهَ فِي قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِالْمُجَازَاةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُمْ عَنِ الدُّخُولِ بِصِفَةِ السُّجُودِ. وَأَجَابَ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِأَمْرٍ، وَالْأَمْرُ قَوْلٌ فَحَصَلَ بِالْمُجَازَاةِ عَنِ الْقَوْلِ الْمُجَازَاةُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْجَزَاءُ هُنَا إِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ الْخَاصَّةِ، فَيَفْسُقُونَ يَحْتَمِلُ الْحَالَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي فَسَقُوا بِهَا، فَهُوَ مُضَارِعٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفَصِيحِ الْكَلَامِ. وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ: هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ التَّاسِعُ، وَهُوَ جَامِعٌ لِنِعَمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ أَزَالَ عَنْهُمُ الْحَاجَةَ الشَّدِيدَةَ إِلَى الْمَاءِ، وَلَوْلَا هُوَ لَهَلَكُوا فِي التِّيهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْمَاءِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُمْ فِي مَفَازَةٍ مُنْقَطِعَةٍ. وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ مَنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالِاسْتِسْقَاءُ طَلَبُ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَقِلَّتِهِ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ اسْتَسْقَى مَحْذُوفٌ، أَيِ اسْتَسْقَى مُوسَى رَبَّهُ، فَيَكُونُ الْمُسْتَسْقَى مِنْهُ هُوَ الْمَحْذُوفُ، وَقَدْ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ كَمَا تَعَدَّى إليه في

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 159.

قَوْلِهِ: إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ «1» ، أَيْ طَلَبُوا مِنْهُ السُّقْيَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ تَقْدِيرُهُ اسْتَسْقَى مَاءً، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْمُسْتَسْقَى، وَيَكُونُ الْفِعْلُ قَدْ تَعَدَّى إِلَيْهِ كَمَا تَعَدَّى إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ» . وَيَحْتَاجُ إِثْبَاتُ تَعَدِّيهِ إِلَى اثْنَيْنِ إِلَى شَاهِدٍ من كلام العرب، كأن يُسْمَعُ مِنْ كَلَامِهِمْ: اسْتُسْقَى زيد ربه الْمَاءَ، وَقَدْ ثَبَتَ تَعَدِّيهِ مَرَّةً إِلَى الْمُسْتَسْقَى مِنْهُ وَمَرَّةً إِلَى الْمُسْتَسْقَى، فَيَحْتَاجُ تَعَدِّيهِ إِلَيْهِمَا إِلَى ثَبْتٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنَ الِاسْتِسْقَاءِ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِمَكَانٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ إِذَا قُحِطُوا، وَمَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَفْجِيرِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ فَوْقَ الْإِجَابَةِ بِالسُّقْيَاءِ وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ هَذَا الِاسْتِسْقَاءُ فِي التِّيهِ حِينَ قَالُوا: مَنْ لَنَا بِكَذَا، إِلَى أَنْ قَالُوا: مَنْ لَنَا بِالْمَاءِ، فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِضَرْبِ الْحَجَرِ. وَقِيلَ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ الَّذِي انْفَلَقَ، وَقَعُوا فِي أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ، فَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَسْقِيَ لهم، واللام في لِقَوْمِهِ لَامُ السَّبَبِ، أَيْ لِأَجْلِ قَوْمِهِ وَثَمَّ مَحْذُوفٌ يَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، أَيْ لِقَوْمِهِ إِذْ عَطِشُوا، أَوْ مَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَمَحْذُوفٌ آخَرُ: أَيْ فَأَجَبْنَاهُ. فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ قَالُوا: وَهَذِهِ الْعَصَا هِيَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى «2» ، وَكَانَتْ فِيهَا خَصَائِصُ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا. قِيلَ: كَانَتْ نَبْعَةً، وَقِيلَ: عُلَّيْقِيُّ، وَهُوَ شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ، وَقِيلَ: مِنْ آسِ الْجَنَّةِ طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، طُولُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهَا شُعْبَتَانِ يَتَّقِدَانِ فِي الظُّلْمَةِ، وَكَانَ آدَمُ حَمَلَهَا مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَوَارَثَهَا أَصَاغِرُ عَنْ أَكَابِرَ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى شُعَيْبٍ، فَأَعْطَاهَا مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَرْعَاهُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَخُذْ عَصًا، فَذَهَبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَارَتْ هَذِهِ إِلَى يَدِهِ، فَأَمَرَهُ بِرَدِّهَا، فَأَخَذَ غَيْرَهَا، فَطَارَتْ إِلَى يَدِهِ، فَتَرَكَهَا لَهُ. وَقِيلَ: دَفَعَهَا إِلَيْهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي طَرِيقٍ مَدْيَنَ. الْحَجَرَ: قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَجَرًا مُعَيَّنًا بَلْ أَيُّ حَجَرٍ ضَرَبَ انْفَجَرَ مِنْهُ الْمَاءُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ، حَيْثُ يَنْفَجِرُ الْمَاءُ مِنْ أَيِّ حَجَرٍ ضَرَبَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ فَقَدَ مُوسَى عَصَاهُ مُتْنَا عَطَشًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لَا تَقْرَعِ الْحِجَارَةَ، وكلمها تطعك لعلهم

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 160. (2) سورة طه: 20/ 17.

يَعْتَبِرُونَ، فَكَانَتْ تُطِيعُهُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا. وَقَالِ وَهْبٌ: كَانَ يَقْرَعُ لَهُمْ أَقْرَبَ حَجَرٍ فَيَنْفَجِرُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحَجَرِ لِلْجِنْسِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ حَجَرٌ مُعَيَّنٌ حَمَلَهُ مَعَهُ مِنَ الطُّورِ مُرَبَّعٌ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ، لِكُلِّ سبط عين تسبل فِي جَدْوَلٍ إِلَى السِّبْطِ الَّذِي أُمِرْتَ أَنْ تَسْقِيَهُمْ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ خَارِجًا عَنْ دَوَابِّهِمْ، وَسِعَةُ الْعَسْكَرِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا. وَقِيلَ: حَجَرٌ أَهْبَطَهُ مَعَهُ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَوَارَثُوهُ حَتَّى وَقَعَ لِشُعَيْبٍ، فَدَفَعَهُ إِلَى مُوسَى مَعَ الْعَصَا. وَقِيلَ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ مُوسَى عَلَيْهِ ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ، إِذْ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ، ففز، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بِأَمْرِ اللَّهِ ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ، فَإِنَّ لِي فِيهِ قُدْرَةً وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةً، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: حَجَرٌ أَخَذَهُ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ خَفِيفٌ مُرَبَّعٌ مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثُ أَعْيُنٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ تَسِيلُ فِي جَدْوَلٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَضَعُهُ فِي مِخْلَاتِهِ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ وَضَعَهُ وَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ. وَقِيلَ: كَانَ رُخَامًا فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ حُفْرَةٍ، تَنْبُعُ مِنْ كُلِّ حُفْرَةٍ عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ يَأْخُذُونَهُ، فَإِذَا فَرَغُوا ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ فَذَهَبَ الْمَاءُ. وَقِيلَ: حَجَرٌ أَخَذَهُ مِنْ جَبَلِ زَبِيدٍ، طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: حَجَرٌ مِثْلُ رَأْسِ الشَّاةِ، يُلْقُونَهُ فِي جَانِبِ الْجَوَالِقِ إِذَا ارْتَحَلُوا، فِيهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثُ عُيُونٍ بَعْدَ أَنْ يَسْتَمْسِكَ مَاؤُهَا بَعْدَ رحلتهم، فإذا نزلوا قرعه مُوسَى بِعَصَاهُ فَعَادَتِ الْعُيُونُ بِحَسَبِهَا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ حَجَرٌ يَحْمِلُهُ فِي مِخْلَاتِهِ، أَخَذَهُ، إِذْ قَالُوا: كَيْفَ بِنَا إِذَا أَفَضْنَا إِلَى أَرْضٍ لَيْسَتْ فِيهَا حجارة؟ فحيثما أنزلوا لقاه فَيَنْفَجِرُ مَاءً. وَقِيلَ: حَجَرٌ مِنَ الْكَذَّانِ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، يَسْقِي كُلَّ يَوْمٍ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقِيلَ: حَجَرٌ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: حَجَرٌ مِثْلُ رَأْسِ الثَّوْرِ. وَقِيلَ: حَجَرٌ كَانَ يَنْفَجِرُ لَهُمْ مِنْهُ الْمَاءُ، لَمْ يَكُونُوا يَحْمِلُونَهُ، بَلْ كَانُوا أَيَّ مَكَانٍ نَزَلُوا وَجَدُوهُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ وَأَبْلَغُ فِي الْخَارِقِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا قَضَوْا حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ انْدَرَسَتْ تِلْكَ الْعُيُونُ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ انْفَجَرَتْ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْحَجَرِ، وَظَاهِرُهَا أَوْ ظَاهِرُ أَكْثَرِهَا التَّعَارُضُ. قَالَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ: الْأَلْيَقُ أَنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِيهِ حَرَكَةَ التَّنَقُّلِ وَالسَّعْيِ، أَوْ وَكَّلَ بِهِ مَلَكًا يَحْمِلُهُ وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ. فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ» . وَقَدْ رَامَ هَذَا الرَّجُلُ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِأَنْ يَكُونَ الْحَجَرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ أَيُّ حَجَرٍ وَجَدَهُ ضَرَبَهُ، فَوَجَدَ مَرَّةً مُرَبَّعًا، وَمَرَّةً كَذَّانًا، وَمَرَّةً رخاما، وكذا باقيها. قَالَ: فَرَوَى الرَّاوِي صِفَةَ ذَلِكَ الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ فِي تِلْكَ

الْمَنْزِلَةِ قَالَ: فَيَزُولُ التَّغَايُرُ فِي الْكَيْفِيَّاتِ، وَيَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. وَهَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَرَى. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ حَجَرٍ فَيَكُونُ هَذَا مَعْهُودًا، وَأَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ لَمْ يَتَكَرَّرْ، لَا هُوَ وَلَا الضَّرْبُ وَلَا الِانْفِجَارُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَكَرِّرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْوَاحِدَةُ هِيَ الْمُتَحَقِّقَةُ. فَانْفَجَرَتْ: الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «1» أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ وُجُودُ الِانْفِجَارِ مُرَتَّبًا عَلَى ضَرْبِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ يَتَفَجَّرُ دُونَ ضَرْبٍ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ تَرْكُهُ عِصْيَانًا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْفَاءَ فِي مِثْلِ: فَانْفَلَقَ، هِيَ الْفَاءُ الَّتِي فِي ضَرَبَ، وَأَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، وَحَرْفُ الْعَطْفِ مِنَ الْمَعْطُوفِ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْذُوفُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إِذْ قَدْ أُبْقِيَتْ فَاؤُهُ وَحُذِفَتْ فَاءُ فَانْفَلَقَ، وَاتَّصَلَتْ بَانْفَلَقَ فَاءُ فَضَرَبَ تَكَلُّفٌ وَتَخَرُّصٌ عَلَى الْعَرَبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ الْفَاءُ حَيْثُ لَا مَعْطُوفَ بِالْفَاءِ مَوْجُودٌ، قَالَ تعالى: فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ «2» ، التَّقْدِيرُ: فَأَرْسَلُوهُ فَقَالَ: فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفُ، وَإِذَا جَازَ حَذْفُهُمَا مَعًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ حَذْفُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَحْدَهُ أَوْلَى. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْفَاءَ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ، بَلْ هِيَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ: فَإِنْ ضَرَبْتَ فَقَدِ انْفَجَرَتْ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ «3» ، وَهِيَ عَلَى هَذَا فَاءٌ فَصِيحَةٌ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي كَلَامٍ بَلِيغٍ، اه كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ، بِأَنَّ إِضْمَارَ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ هُنَاكَ، وَفِي قَوْلِهِ أَيْضًا إِضْمَارُ قَدْ: إِذْ يُقَدَّرُ، فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ، وَقَدِ انْفَجَرَتْ، وَلَا يَكَادُ يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِهِمْ ذَلِكَ، إِنَّمَا تَكُونُ بِغَيْرِ فَاءٍ، أَوْ إِنْ دَخَلَتِ الْفَاءُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِ قَدْ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَدْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «4» ، وَإِذَا كَانَ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى، اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَأْوِيلٍ وَإِضْمَارِ جَوَابِ شَرْطٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِانْفِجَارَ عَلَى مَا قُدِّرَ يَكُونُ مُتَرَتِّبًا عَلَى أَنْ يُضْرَبَ، وَإِذَا كَانَ مُتَرَتِّبًا على مستقبل، وجب

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 63. (2) سورة يوسف: 12/ 45 و 46. (3) سورة البقرة: 2/ 54. (4) سورة فاطر: 35/ 4.

أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، وَإِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا امْتَنَعَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ قَدِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا تَدْخُلَ فِي شِبْهِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَاضِي إِلَّا وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَاضِيًا نَحْوَ الْآيَةِ، وَنَحْوَ قَوْلِهِمْ: إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ فَقَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَيْسَ هَذَا الْفِعْلُ بِدُعَاءٍ فَتَدْخُلُهُ الْفَاءُ فَقَطْ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمَاضِي نَحْوَ: إِنْ زُرْتَنِي فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ. وَأَيْضًا فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الِانْفِجَارَ قَدْ وَقَعَ وَتَحَقَّقَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا «1» ، وَجَعْلُهُ جَوَابَ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ يَجْعَلْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ، إِذْ يَصِيرُ مُسْتَقْبَلًا لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ لَا يَقْتَضِي إِمْكَانَهُ فَضْلًا عَنْ وُجُودِهِ، فَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَاسِدٌ فِي التَّرْكِيبِ الْعَرَبِيِّ، وَفَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَوَجَبَ طَرْحُهُ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: وَهِيَ عَلَى هَذَا فَاءٌ فَصِيحَةٌ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي كَلَامٍ بَلِيغٍ؟ وَجَاءَ هُنَا: انفجرت وفي الأعراف: فَانْبَجَسَتْ «2» ، فَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، انْفَجَرَ وَانْبَجَسَ وَانْشَقَّ مُتَرَادِفَاتٌ. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ الِانْبِجَاسَ هُوَ أَوَّلُ خُرُوجِ الْمَاءِ، وَالِانْفِجَارَ اتِّسَاعُهُ وَكَثْرَتُهُ. وَقِيلَ: الِانْبِجَاسُ خُرُوجُهُ مِنَ الصُّلْبِ، وَالِانْفِجَارُ خُرُوجُهُ مِنَ اللَّيِّنِ. وَقِيلَ: الِانْبِجَاسُ هُوَ الرَّشْحُ، وَالِانْفِجَارُ هُوَ السَّيَلَانُ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ. مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَانْفَجَرَتْ، وَمِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَجَرِ الْمَضْرُوبِ، فَانْفِجَارُ الْمَاءِ كَانَ مِنَ الْحَجَرِ لَا مِنَ الْمَكَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ » ، وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَأَمْكَنَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الضَّرْبِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ لِلسَّبَبِ، أَيْ فَانْفَجَرَتْ بِسَبَبِ الضَّرْبِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْتَكَبَ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ إِلَّا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فِي التَّرْكِيبِ وَفِي الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ. وَفِي هَذَا الِانْفِجَارِ مِنَ الْإِعْجَازِ ظُهُورُ نَفْسِ الْمَاءِ مَنْ حَجَرٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِالْأَرْضِ، فَتَكُونُ مَادَّتُهُ مِنْهَا، وَخُرُوجُهُ كَثِيرًا مِنْ حَجَرٍ صَغِيرٍ، وَخُرُوجُهُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، وَخُرُوجُهُ عِنْدَ الضَّرْبِ بِالْعَصَا، وَانْقِطَاعُهُ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. اثْنَتا عَشْرَةَ: التَّاءُ فِي اثْنَتَا لِلتَّأْنِيثِ، وَفِي ثِنْتَا لِلْإِلْحَاقِ، وَهَذِهِ نَظِيرُ ابْنَةٍ وَبِنْتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَشْرَةَ بِسُكُونِ الشِّينِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، ويحيى بن وثاب،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 60. (2) سورة الأعراف: 7/ 160. (3) سورة البقرة: 2/ 74.

وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَيَزِيدُ: بِكَسْرِ الشِّينِ. وَرَوَى ذَلِكَ نُعَيْمٌ السَّعِيدِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْإِسْكَانُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكَسْرُهُمْ لَهَا نَادِرٌ فِي قِيَاسِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُخَفِّفُونَ فَعِلًا، يَقُولُونَ فِي نَمِرٍ: نِمْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: بِفَتْحِ الشِّينِ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ: الْإِسْكَانُ، وَالْكَسْرُ أَيْضًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَتْحُ لُغَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: فَتْحُ الشِّينِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لُغَةً، وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ فَتْحَ الشين شاذ، وعشرة فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ النُّونِ، فَهُوَ مِمَّا أُعْرِبَ فِيهِ الصَّدْرُ وَبُنِيَ الْعَجُزُ. أَلَا تَرَى أَنَّ اثْنَتَيْ مُعْرَبٌ إِعْرَابَ الْمُثَنَّى لِثُبُوتِ أَلِفِهِ رَفْعًا وَانْقِلَابِهَا نَصْبًا وَجَرًّا، وَأَنَّ عَشْرَةَ مَبْنِيٌّ؟ وَلَمَّا تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ نُونِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إِضَافَتُهَا، فَلَا يُقَالُ: اثْنَتَا عَشْرَتَكَ. وَفِي مَحْفُوظِي أَنَّ ابْنَ دَرَسْتَوَيْهِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اثْنَا وَاثْنَتَا وَثِنْتَا مَعَ عَشْرٍ مَبْنِيٌّ، وَلَمْ يَجْعَلْ الِانْقِلَابَ دَلِيلَ الْإِعْرَابِ. عَيْناً: مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِفْرَادُ التَّمْيِيزِ الْمَنْصُوبِ فِي بَابِ الْعَدَدِ لَازِمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنَّ يَكُونَ جَمْعًا، وَكَانَ هَذَا الْعَدَدُ دُونَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، وَكَانَ بَيْنَهُمْ تَضَاغُنٌ وَتَنَافُسٌ، فَأَجْرَى اللَّهُ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنًا يَرِدُهُ، لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ السِّبْطِ الْآخَرِ، وَذِكْرُ هَذَا الْعَدَدِ دُونَ غَيْرِهِ يُسَمَّى التَّخْصِيصَ عِنْدَ أَهْلِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ لِمَعْنًى فِيهِ لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى «1» ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ فِيهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَوْضِعِهَا، وَقَوْلُ الْخَنْسَاءِ: يُذَكِّرُنِي طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْرًا ... وَأَنْدُبُهُ بِكُلِّ مَغِيبِ شَمْسِ اخْتَصَّتْهُمَا مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لِلْغَارَةِ وَالْقِرَى. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: خَلَقَ اللَّهُ الْحِجَارَةَ وَأَوْدَعَهَا صَلَابَةً يُفَرَّقُ بِهَا أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ مِمَّا صَلُبَ مِنَ الْجَوَامِدِ، وَخَلَقَ الْأَشْجَارَ رَطْبَةَ الْغُصُونِ، لَيْسَتْ لَهَا قُوَّةُ الْأَحْجَارِ، فَتُؤَثِّرُ فِيهَا تَفْرِيقًا بأجزائها ولا تفجيرا لعيون مائها، بَلِ الْأَحْجَارُ تُؤَثِّرُ فِيهَا. فَلَمَّا أُيِّدَتْ بِقُوَّةِ النُّبُوَّةِ، انْفَلَقَتْ بِهَا الْبِحَارُ، وَتَفَرَّقَتْ بِهَا أَجْزَاءُ الْأَحْجَارِ، وَسَالَتْ بِهَا الْأَنْهَارُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «2» . قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ: جُمْلَةُ اسْتِئْنَافٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْهُمْ قَدْ صَارَ لَهُ مَشْرَبٌ يَعْرِفُهُ فَلَا يَتَعَدَّاهُ لِمَشْرَبِ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِحِكْمَةِ الِانْقِسَامِ إِلَى اثْنَتَيْ عشرة

_ (1) سورة النجم: 53/ 49. (2) سورة آل عمران: 3/ 13، وسورة النور: 24/ 44.

عينا، وتنبيه عليها. وعلم هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ لِوَاحِدٍ أُجْرِيَتْ مَجْرَى عَرَفَ، وَاسْتِعْمَالُهَا كَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلِسَانِ العرب. وكل أُنَاسٍ مَخْصُوصٌ بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ اسْتَسْقَى لَهُمْ. وَالْمَشْرَبُ هُنَا مَكَانُ الشُّرْبِ وَجِهَتُهُ الَّتِي يَجْرِي مِنْهَا الْمَاءُ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَشْرُوبِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَكَانِ بِالْوَضْعِ، وَدَلَالَتَهُ عَلَى الْمَاءِ بِالْمَجَازِ، وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ وَإِضَافَةُ الْمَشْرَبِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَخَصَّصَ كُلُّ مَشْرَبٍ بِمَنْ تَخَصَّصَ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي مَشْرَبِهِمْ عَلَى مَعْنَى كُلُّ لَا عَلَى لَفْظِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى لَفْظِهَا، فَيُقَالُ: مَشْرَبَهُ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى هُنَا لَازِمَةٌ، لِأَنَّ كُلُّ قَدْ أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ، وَمَتَى أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ وَجَبَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، فَتُطَابِقُ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِي عَوْدِ ضَمِيرٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ حَلَلْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ وَقَالَ: وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... دُوَيْهِيَّةُ تَصْفَرُّ مِنْهَا الْأَنَامِلُ وَقَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «2» ، وَتَقُولُ: كُلُّ رَجُلَيْنِ يَقُولَانِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مُرَاعَاةُ لَفْظِ كُلُّ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَشْرَبُهُمْ مِنْهَا: أَيْ مِنَ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا. وَنُصَّ عَلَى الْمَشْرَبِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ سَرْدُ الْكَلَامِ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ عَيْنَهُمْ، لَكِنْ فِي ذِكْرِ الْمَشْرَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَسْوِيغِ الشُّرْبِ لَهُمْ مِنْهَا أُنْشِئَ لَهُمُ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالشُّرْبِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ، أَوْ أُمِرُوا بِالدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ بِالْوَاقِعِ أَمْرٌ بِدَوَامِهِ، كَقَوْلِكَ لِلْقَائِمِ: قُمْ. كُلُوا وَاشْرَبُوا: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ، وَهَذَا الْأَمْرُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. قَالَ السُّلَمِيُّ: مَشْرَبُ كُلِّ أَحَدٍ حَيْثُ أَنْزَلَهُ رَائِدُهُ، فَمَنْ رَائِدُهُ نَفْسُهُ مَشْرَبُهُ الدُّنْيَا، أَوْ قَلْبُهُ فَمَشْرَبُهُ الْآخِرَةُ، أَوْ سِرُّهُ فَمَشْرَبُهُ الْجَنَّةُ، أَوْ رُوحُهُ فَمَشْرَبُهُ السَّلْسَبِيلُ، أَوْ رَبُّهُ فَمَشْرَبُهُ الْحَضْرَةُ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ حَيْثُ يَقُولُ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «3» ، طَهَّرَهُمْ بِهِ عَنْ كُلِّ مَا سواه، وبدىء بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَثَنَّى بِالشُّرْبِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ حَاصِلٌ عَنِ الْأَكْلِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى مُتَقَدِّمٌ عَلَى انْفِجَارِ الْمَاءِ.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 71. (2) سورة آل عمران: 3/ 185. [.....] (3) سورة الإنسان: 76/ 21.

مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، مِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَلَمَّا كَانَ مَأْكُولُهُمْ وَمَشْرُوبُهُمْ حَاصِلَيْنِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ مِنْهُمْ وَلَا تَكَلُّفٍ، أُضِيفَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْتِفَاتٌ، إِذْ تَقَدَّمَ فَقُلْنَا: اضْرِبْ، وَلَوْ جَرَى عَلَى نَظْمٍ وَاحِدٍ لَقَالَ: مِنْ رِزْقِنَا، إِلَّا إِنْ جَعَلْتَ الْإِضْمَارَ قَبْلَ كُلُوا مُسْنَدًا إِلَى مُوسَى، أَيْ وَقَالَ مُوسَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا فَلَا يَكُونُ فيه التفات، ومن رِزْقِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاشْرَبُوا، وَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ اخْتِيَارِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ لَأُضْمِرَ فِي الثَّانِي مَا يَحْتَاجُهُ، فَكَانَ يَكُونُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْهُ، مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ مِنْهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ عَلَى مَا نَصَّ بَعْضُهُمْ، وَالضَّرُورَةُ وَالْقَلِيلُ لَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَالرِّزْقُ هُنَا هُوَ الْمَرْزُوقُ، وَهُوَ الطَّعَامُ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالْمَشْرُوبُ مِنْ مَاءِ الْعُيُونِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَاءُ يَنْبُتُ مِنْهُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَهُوَ رِزْقٌ يُؤْكَلُ مِنْهُ وَيُشْرَبُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَكُونُ فِيهِ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةٌ، وَالْأَكْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّا نَشَأَ مِنَ الْمَاءِ، لَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةٌ، فَحَمْلُ الرِّزْقِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَلَمَّا كَانَ مَطْعُومُهُمْ وَمَشْرُوبُهُمْ لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا تَعَبَ فِي تَحْصِيلِهِ حَسُنَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعُ الْأَرْزَاقِ مَنْسُوبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَسَبَّبَ الْعَبْدُ فِي كَسْبِهَا أَمْ لَا، وَاخْتُصَّ بِالْإِضَافَةِ لِلَفْظِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، الْجَامِعُ لِسَائِرِ الْأَسْمَاءِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ «1» ، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ «2» ، أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «3» ، ومَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «4» ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ «5» ؟ وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْحَلَالُ، لِأَنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِبَاحَةِ، وَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ مُبَاحًا، فَلَوْ وُجِدَ رِزْقٌ حَرَامٌ لَكَانَ الرِّزْقُ مُبَاحًا وَحَرَامًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالْجَوَابُ: إِنَّ الرِّزْقَ هُنَا لَيْسَ بِعَامٍّ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَالْمَاءُ الْمُنْفَجِرُ مِنَ الْحَجَرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّيَّةِ مُعَيَّنٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ حِلِّيَّةُ جَمِيعِ الرِّزْقِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ على جَوَازِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الطَّعَامِ، وَشُرْبِ الْمُسْتَلَذِّ مِنَ الشَّرَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ وَالْمَطْعُومَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْحِلِّ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ الْعَذْبَ، وَكَانَتْ تُنْبَذُ لَهُ فِيهِ التَّمَرَاتِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْقِثَّاءِ وَالرُّطَبِ، وَسَقَى بَعْضَ نِسَائِهِ الْمَاءَ. وقد نقل

_ (1) سورة الروم: 30/ 40. (2) سورة سبأ: 34/ 24. (3) سورة النمل: 27/ 64. (4) سورة يونس: 10/ 31. (5) سورة النمل: 27/ 60- 64.

عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ اللَّذِيذَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّهِيَّ مِنَ الشَّرَابِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ: لَمَّا أُمِرُوا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَا مِقْدَارٍ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، كَانَ ذَلِكَ إِنْعَامًا وَإِحْسَانًا جَزِيلًا إِلَيْهِمْ، وَاسْتَدْعَى ذَلِكَ التَّبَسُّطَ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ، وَالْقُوَّةُ الِاسْتِعْلَائِيَّةُ. نَهَاهُمْ عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْفَسَادُ، حَتَّى لَا يُقَابِلُوا تِلْكَ النِّعَمَ بِمَا يُكْفِرُهَا، وَهُوَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: مَعْنَاهُ وَلَا تَسْعَوْا. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَا تَسِيرُوا. وَقِيلَ: لَا تَتَظَالَمُوا الشُّرْبَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، لِأَنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْكُمْ قَدْ جُعِلَ لَهُ شِرْبٌ مَعْلُومٌ. وَقِيلَ: معناه: لا تؤخروا الغذاء، فَكَانُوا إِذَا أَخَّرُوهُ فَسَدَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُخَالِطُوا الْمُفْسِدِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَتَمَادَوْا فِي فَسَادِكُمْ. وَقِيلَ: لَا تَطْغَوْا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. فِي الْأَرْضِ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا أَرْضُ التِّيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَهَا وَغَيْرَهَا مِمَّا قدر أن يوصلوا إِلَيْهَا فَيَنَالَهَا فَسَادُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْأَرَضِينَ كُلَّهَا. وأل: لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. وَيَكُونُ فَسَادُهُمْ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَثْرَةَ الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ وَالْبَطَرَ يُؤْذِنُ بِانْقِطَاعِ الْغَيْثِ وَقَحْطِ الْبِلَادِ وَنَزْعِ الْبَرَكَاتِ، وَذَلِكَ انْتِقَامٌ يَعُمُّ الْأَرْضَ بِالْفَسَادِ. مُفْسِدِينَ: حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ اسْتَسْقى الْآيَةَ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنَ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ كَانَ قَادِرًا عَلَى إَرْوَائِهِمْ بِغَيْرِ مَاءٍ، وَلَكِنْ لِإِظْهَارِ أَثَرِ الْمُعْجِزَةِ فِيهِ، وَاتِّصَالِ مَحَلِّ الِاسْتِعَانَةِ إِلَيْهِ، وَلِيَكُونَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي فَضْلِ الْحَجَرِ مَعَ نَفْسِهِ شُغْلٌ، وَلِتَكْلِيفِهِ أَنْ يَضْرِبَ بِالْعَصَا، نَوْعٌ مِنَ الْمُعَالَجَةِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ سِبْطٍ جَارِيًا عَلَى سُنَنِهِ، غَيْرَ مُزَاحِمٍ لِصَاحِبِهِ، وَحِينَ كَفَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ أَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ وَحِفْظِ الْأَمْرِ وَتَرْكِ احْتِقَابِ الْوِزْرِ، فَقَالَ: وَلا تَعْثَوْا. وَالْمَنَاهِلُ مُخْتَلِفَةٌ، وَكُلٌّ يَرِدُ مَشْرَبَهُ: فَمَشْرَبٌ فُرَاتٌ، وَمَشْرَبٌ أُجَاجٌ، وَمَشْرَبٌ صَافٍ، وَمَشْرَبٌ رَنْقٌ، وَسِيَاقُ كُلِّ قَوْمٍ يَقُودُهُمْ، فَالنُّفُوسُ تَرِدُ مَنَاهِلَ الْمُنَى، وَالْقُلُوبُ تَرِدُ مَشَارِبَ التُّقَى، وَالْأَرْوَاحُ تَرِدُ مَنَاهِلَ الْكَشْفِ، وَالْمُشَاهَدَاتُ وَالْأَسْرَارُ تَرِدُ مَنَاهِلَ الْحَقَائِقِ بِالِاخْتِطَافِ مِنْ حَقِيقَةِ الْوَحْدَةِ وَالذَّاتِ. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ: لَمَّا سَئِمُوا مِنَ الْإِقَامَةِ فِي التِّيهِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى مَأْكُولٍ وَاحِدٍ، لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي أَلِفُوهَا، وَعَنِ الْعَوَائِدِ الَّتِي عَهِدُوهَا،

أَخْبَرُوا عَمَّا وَجَدُوهُ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَتَشَوُّفِهِمْ إِلَى مَا كَانُوا يَأْلَفُونَ، وَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُمْ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ مَعْصِيَةً، قَالُوا: لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا إِنْزَالَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَتِلْكَ الْكَرَاهَةُ مَعْصِيَةٌ، وَلِأَنَّ مُوسَى وَصَفَ مَا سَأَلُوهُ بِأَنَّهُ أَدْنَى وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَالْجَوَابُ، أَنَّ قولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِهِ فَقَطْ، بَلِ اشْتَهَوْا أَشْيَاءَ أُخَرَ. وَأَمَّا الْإِنْكَارُ فَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْأَنْفَعِ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْأَنْفَعِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْخَيْرِيَّةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَالًا مُبَاحًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، عِنْدَ إِنْزَالِ الْمَنِّ وَتَفْجِيرِ الْعَيْنِ لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ هُوَ إِبَاحَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ مَعْصِيَةً لِأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ صُنُوفٌ مِنَ الطَّعَامِ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهَا، إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ. وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُ النَّبِيِّ أقرب للإجابة، سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ النَّوْعَ الْوَاحِدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُمَلُّ وَيُشْتَهَى إِذْ ذَاكَ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّهُمْ مَا تَعَوَّدُوا ذَلِكَ النَّوْعَ. وَرَغْبَةُ الْإِنْسَانِ فِيمَا اعْتَادَهُ، وَإِنْ كَانَ خَسِيسًا، فَوْقَ رَغْبَةِ مَا لَمْ يَعْتَدْهُ، وَإِنْ كَانَ شَرِيفًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِانْتِقَالِهِمْ عَنِ التِّيهِ الَّذِي مَلُّوهُ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَطْعِمَةَ لَا تُوجَدُ فِيهِ، فَأَرَادُوا الْحُلُولَ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ سَبَبٌ لِنَقْصِ الشَّهْوَةِ وَضَعْفِ الْهَضْمِ وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ، وَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْأَنْوَاعِ بِعَكْسِ ذَلِكَ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ تَبْدِيلَ نَوْعٍ بِنَوْعٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ هُوَ كَالْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوا. وَلَوْ كَانُوا عَاصِينَ فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ لَكَانَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعْصِيَةً، وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَوَصَفَ الطَّعَامَ بِوَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ طَعَامَيْنِ، لِأَنَّهُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى اللَّذَانِ رُزِقُوهُمَا فِي التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْوَاحِدِ مَا لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَائِدَةِ الرَّجُلِ أَلْوَانٌ عَدِيدَةٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ لَا يُبَدِّلُهَا قِيلَ: لَا يَأْكُلُ فُلَانٌ إِلَّا طَعَامًا وَاحِدًا، يُرَادُ بِالْوَحْدَةِ نَفْيُ التَّبَدُّلِ وَالِاخْتِلَافِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا أَنَّهُمَا ضَرْبٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا مَعًا مِنْ طَعَامِ أَهْلِ التَّلَذُّذِ وَالسَّرَفِ، وَنَحْنُ قَوْمُ فِلَاحَةٍ أَهْلُ زِرَاعَاتٍ، فَمَا نُرِيدُ إِلَّا مَا أَلِفْنَاهُ وَضَرَيْنَا بِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ، كَالْحُبُوبِ وَالْبُقُولِ وَنَحْوِهِمَا. ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى الْوَاحِدِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: أَعَادَ عَلَى لَفْظِ الطَّعَامِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ لَا عَلَى مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مُخْتَلِطَيْنِ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّوْنِ الَّذِي يَجْمَعُ أَشْيَاءَ وَيُسَمَّى لَوْنًا وَاحِدًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: وَقِيلَ:

كَانَ طَعَامُهُمْ يَأْتِيهِمْ بِصِفَةِ الْوَحْدَةِ، نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنُّ فَأَكَلُوا مِنْهُ مُدَّةً حَتَّى سَئِمُوهُ وَمَلُّوهُ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّلْوَى فَأَكَلُوهَا مُدَّةً وَحْدَهَا. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالطَّعَامِ الْوَاحِدِ السَّلْوَى، لِأَنَّ الْمَنَّ كَانَ شَرَابًا، أَوْ شَيْئًا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ، وَمَا كَانُوا يَعُدُّونَ طَعَامًا إِلَّا السَّلْوَى. وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالْوَاحِدِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْاثْنَيْنِ عَنِ الْوَاحِدِ نَحْوَ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ دُونَ الْعَذْبِ. وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى أَنَّنَا كُلَّنَا أَغْنِيَاءُ، فَلَا يَسْتَعِينُ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، وَيَكُونُ قَدْ كَنَى بِالطَّعَامِ الْوَاحِدِ عَنْ كَوْنِهِمْ نَوْعًا وَاحِدًا، وَهُوَ كَوْنُهُمْ ذَوِي غِنًى، فَلَا يَخْدُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي التِّيهِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ عَادُوا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَقْرِ بَعْضٍ وَغِنَى بَعْضٍ. فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلى طَعامٍ واحِدٍ. فَادْعُ لَنا رَبَّكَ: مَعْنَاهُ: اسْأَلْهُ لَنَا، وَمُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ مَحْذُوفٌ، أَيِ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِأَنْ يُخْرِجَ كَذَا وَكَذَا. وَلُغَةُ بَنِي عَامِرٍ: فَادْعِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، جَعَلُوا دَعَا مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، كَرَمَى يَرْمِي، وَإِنَّمَا سَأَلُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوهُ وَلَمْ يدعوا هم، لِأَنَّ إِجَابَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْرَبُ مِنْ إِجَابَةِ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: رَبَّكَ، وَلَمْ يَقُولُوا: رَبَّنَا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِصَاصِ بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَتَكْلِيمِهِ وَإِتْيَانِهِ التَّوْرَاةَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: ادْعُ لَنَا الَّذِي هُوَ مُحْسِنٌ لَكَ، فَكَمَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ فِي أَشْيَاءَ، كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْنَا فِي إِجَابَةِ دُعَائِكَ. يُخْرِجْ لَنا: جَزْمُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ادْعُ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «2» . وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقُلْ لَهُ أَخْرِجْ فَيُخْرِجْ، مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ أَخْرِجْ. وَقِيلَ: جُزِمَ يُخْرِجْ بِلَامٍ مُضْمَرَةٍ، وَهِيَ لَامُ الطَّلَبِ، أَيْ لِيُخْرِجْ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ: مَفْعُولُ يخرج محذوف ومن تَبْعِيضِيَّةٌ: أَيْ مَأْكُولًا مِمَّا تُنْبِتُ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: مَا تُنْبِتُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، تُنْبِتُهُ، وَفِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِنْبَاتِ الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُقَدَّرَ لَا يُوصَفُ بِالْإِنْبَاتِ، لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ مَصْدَرٌ، وَالْمَحْذُوفَ جَوْهَرٌ، وَإِضَافَةَ الْإِنْبَاتِ إِلَى الْأَرْضِ مَجَازٌ، إِذِ الْمُنْبِتُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ فِيهَا قَابِلِيَّةَ الْإِنْبَاتِ نَسَبَ الْإِنْبَاتَ إِلَيْهَا. مِنْ بَقْلِها: هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، عَلَى إِعَادَةِ حَرْفِ الجرّ،

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 22. (2) سورة البقرة: 2/ 40.

وَهُوَ فَصِيحٌ فِي الْكَلَامِ، أَعْنِي أَنْ يُعَادَ حَرْفُ الجرّ في البدل. فمن عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَبْعِيضِيَّةٌ، كَهِيَ فِي مِمَّا تُنْبِتُ، ويتعلق بيخرج، إِمَّا الْأُولَى، وَإِمَّا أُخْرَى مُقَدَّرَةٌ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ، هَلْ هُوَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ، أَوْ ذَلِكَ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ؟ وَالْمَشْهُورُ هَذَا الثَّانِي، وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَقْلِها لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا الَمَهْدَوِيُّ بِأَنَّهَا لِلتَّخْصِيصِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ كَائِنًا مِنْ بَقْلِهَا، وَقَدَّمَ ذِكْرَ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا الْأَوْلَى بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَأَمَّا الَمَهْدَوِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ فَزَعَمَا مَعَ قَوْلِهِمَا: إِنَّ مِنْ فِي مِنْ بَقْلِها بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِمَّا تُنْبِتُ لِلتَّبْعِيضِ، ومن في قوله مِنْ بَقْلِها عَلَى زَعْمِهِمَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مَدْلُولُ الْحَرْفَيْنِ، وَاخْتِلَافُ ذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ إِلَّا إِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّعَ الْقَوْلُ بِالْبَدَلِ عَلَى كَوْنِهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَالْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَقَدْ أَبَاهُ أَصْحَابُنَا وَتَأَوَّلُوا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُثْبِتُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَقْلِ هُنَا: أَطَايِبُ الْبُقُولِ الَّتِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ، كَالنَّعْنَاعِ، وَالْكَرَفْسِ، وَالْكُرَّاثِ، وَأَشْبَاهِهَا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَغَيْرُهُمَا: وَقُثَّائِهَا بِضَمِّ الْقَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَفُومِها: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقَاوِيلُ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الثُّومُ، وَبَيَّنَتْهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَثَوْمِهَا بِالثَّاءِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْبَقْلِ وَالْعَدَسِ وَالْبَصَلِ. الثَّانِي: قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَنَّهُ الْحِنْطَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحُبُوبُ كُلُّهَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخُبْزُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَطَاءٍ وَابْنُ زَيْدٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْحِمَّصُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ السُّنْبُلَةُ. وَعَدَسِها وَبَصَلِها: وَأَحْوَالُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَذَكَرُوا، أَوَّلًا: مَا هُوَ جَامِعٌ لِلْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ، إِذِ الْبَقْلُ مِنْهُ مَا هُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ كَالْهِنْدَبَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ حَارٌّ يَابِسٌ كَالْكَرَفْسِ وَالسَّدَابِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ حَارٌّ وَفِيهِ رُطُوبَةٌ عَرْضِيَّةٌ كَالنَّعْنَاعِ. وَثَانِيًا الْقِثَّاءُ، وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ. وَثَالِثًا: الثُّومُ، وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ. وَرَابِعًا: الْعَدَسُ، وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ. وَخَامِسًا: الْبَصَلُ، وَهُوَ حَارٌّ رَطْبٌ، وَإِذَا طُبِخَ صَارَ بَارِدًا رَطْبًا، فَعَلَى هَذَا جَاءَ تَرْتِيبُ ذِكْرِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ. قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ: الضَّمِيرُ فِي قَالَ ظَاهِرٌ عَوْدُهُ عَلَى مُوسَى، وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ عَلَى

الرَّبِّ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُهُ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَتَسْتَبْدِلُونَ لِلْإِنْكَارِ، وَالِاسْتِبْدَالُ: الِاعْتِيَاضُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَتُبَدِّلُونَ، وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَيْسَ لَهُمْ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَحْصُلُ التَّبْدِيلُ بِسُؤَالِهِمْ جُعِلُوا مُبَدِّلِينَ، وَكَانَ الْمَعْنَى: أَتَسْأَلُونَ تَبْدِيلَ. الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَالَّذِي: مَفْعُولُ أَتَسْتَبْدِلُونَ، وَهُوَ الْحَاصِلُ، وَالَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الزَّائِلُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي غَيْرِ مَكَانٍ. هُوَ أَدْنَى: صِلَةٌ لِلَّذِي، وَهُوَ هُنَا وَاجِبُ الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، إِذْ لَا طُولَ فِي الصِّلَةِ، وَأَدْنَى: خَبَرٌ عَنْ هُوَ، وَهُوَ: أفعل التفضيل، ومن وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَذْفًا لِلْعِلْمِ، وَحَسَّنَ حَذْفَهُمَا كَوْنُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ خَبَرًا، فَإِنْ وَقَعَ غَيْرَ خَبَرٍ مِثْلَ كَوْنِهِ حَالًا أَوْ صِفَةً قَلَّ الْحَذْفُ وَتَقْدِيرُهُ: أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ الْوَاحِدِ، وَحَسَّنَ حَذْفَهُمَا أَيْضًا كَوْنُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ مَذْكُورًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأَفْرَدَ: الَّذِي هُوَ أَدْنى لِأَنَّهُ أَحَالَ بِهِ عَلَى الْمَأْكُولِ الَّذِي هُوَ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَعَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ، فَيَكُونُ قَدْ رَاعَى الْمُبْدَلَ مِنْهُ، إِذْ لَوْ رَاعَى الْبَدَلَ لَقَالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ اللَّاتِي هِيَ أَدْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَدْنَى عِنْدِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَذَكَرْنَا الْأَقَاوِيلَ الثَّلَاثَةَ فِيهَا. وَقَرَأَ زُهَيْرٌ الْفُرْقُبِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ زُهَيْرٌ الْكِسَائِيُّ: أدنأ بالهمز، ووقع البعض مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ، وَهْمٌ فِي نِسْبَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْكِسَائِيِّ، فَقَالَ: وَقَرَأَ زُهَيْرٌ وَالْكِسَائِيُّ شَاذًّا: أَدْنَأُ، فَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيُّ، وَجَعَلَ زُهَيْرًا وَالْكِسَائِيَّ شَخْصَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ زُهَيْرٌ الْكِسَائِيُّ يُعْرَفُ بِذَلِكَ، وَبِالْفُرْقُبِيِّ، فَهُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ. فَأَمَّا تَفْسِيرُ: الْأَدْنَى وَالْخَيْرِ هُنَا فَفِيهِ أَقَاوِيلُ: أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَفَاضُلُ الْأَشْيَاءِ بِالْقِيَمِ، وَهَذِهِ الْبُقُولُ لَا خَطَرَ فِيهَا وَلَا عُلُوَّ قِيمَةٍ، والمنّ والسلوى هما أعلا قِيمَةً وَأَعْظَمُ خَطَرًا، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَقْرَبُ مَنْزِلَةً وَأَهْوَنُ مِقْدَارًا، وَالدُّنُوُّ وَالْقُرْبُ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ قِلَّةِ الْمِقْدَارِ فَيُقَالُ: هُوَ أَدْنَى الْمَحَلِّ وَقَرِيبُ الْمَنْزِلَةِ، كما يعبر بالعبد عَنْ عَكْسِ ذَلِكَ فَيُقَالُ: بَعِيدُ الْمَحَلِّ بَعِيدُ الْمَنْزِلَةِ، يُرِيدُونَ الرِّفْعَةَ وَالْعُلُوَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى هُوَ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ، وَفِي اسْتِدَامَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ أَجْرٌ وَذُخْرٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي طَلَبُوهُ عَارٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَكَانَ أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ التَّفْضِيلَ يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الطِّيبِ وَاللَّذَّةِ، وَالْمَنُّ وَالسَّلْوَى لَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَطْيَبُ مِنَ الْبُقُولِ الَّتِي طَلَبُوهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لَا كُلْفَةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَلَا تَعَبَ وَلَا مَشَقَّةَ، وَالْبُقُولُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ مَشَقَّةِ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ وَالْخِدْمَةِ وَالسَّقْيِ، وَمَا حَصَلَ بِلَا مَشَقَّةٍ خَيْرٌ مِمَّا حَصَلَ بِمَشَقَّةٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لَا شَكَّ فِي حِلِّهِ وَخُلُوصِهِ لِنُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ

اللَّهِ، وَالْحُبُوبُ وَالْأَرْضُ يَتَخَلَّلُهَا الْعُيُوبُ وَالْغُصُوبُ وَيَدْخُلُهَا الْحَرَامُ وَالشُّبْهَةُ، وَمَا كَانَ حِلًّا خَالِصًا أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْحَرَامُ وَالشُّبْهَةُ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى يَفْضُلَانِ مَا سَأَلُوهُ مِنْ جِنْسِ الْغِذَاءِ وَنَفْعِهِ. وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: هَلِ الْأَدْنَوِيَّةُ وَالْخَيْرِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِيمَةِ، أَوِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، أَوِ اللَّذَّةُ، أَوِ الْكُلْفَةُ، أَوِ الْحِلُّ، أَوِ الْجِنْسُ؟ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ زهير فهي من الدناءة. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَدْنَى غَيْرَ الْمَهْمُوزِ قِيلَ إِنَّ أصلها الهمز فَسَهَّلَ كَهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَلْبِ وَإِنَّ أَصْلَهُ أَدْوَنُ، فَالدَّنَاءَةُ وَالدُّونُ رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الخسة، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَحْسَنُ مُقَابَلَةً لِقَوْلِهِ: بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَمَنْ جَعَلَ أَدْنَى بِمَعْنَى أَقْرَبَ، لِأَنَّ الْأَدْوَنَ وَالْأَدْنَأَ يُقَابِلُهُمَا الْخَيْرُ، وَالْأَدْنَى بِمَعْنَى الْأَقْرَبِ يُقَابِلُهُ الْأَبْعَدُ، وَحُذِفَ مِنْ وَمَعْمُولُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: هُوَ خَيْرٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَدْنَى، مِنْ وُقُوعِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ خَبَرًا وَتَقْدِيرُهُ: مِنْهُ، أَيْ مِنْ: الَّذِي هُوَ أَدْنى. وَكَانَتْ هَاتَانِ الصِّلَتَانِ جُمْلَتَيْنِ اسْمِيَّتَيْنِ لِثُبُوتِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَكَانَ الْخَيْرُ أفعل التفضيل، لأنه لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَعْيِينِ زَمَانٍ، بَلْ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْأَدْنَوِّيَةِ وَالْخَيْرِيَّةَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ، بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ، أَوْ يَتَجَوَّزُ فِي ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّعْيِينَ، فَكَانَ الْوَصْلُ بِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْيِينِ أَفْصَحَ، وَكَانَتْ صِلَةُ مَا فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ، جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، لِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَالْإِنْبَاتُ مُتَجَدِّدٌ دَائِمًا، فَنَاسَبَ كُلُّ مَكَانٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّلَةِ. اهْبِطُوا مِصْراً «1» : فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْقَائِلَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ هُوَ مُوسَى، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ، فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَجَابَهُ، قالَ اهْبِطُوا. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوطِ، وَيُقَالُ: هَبَطَ الْوَادِيَ: حَلَّ بِهِ، وَهَبَطَ مِنْهُ: خَرَجَ، وَكَأَنَّ الْقَادِمَ عَلَى بَلَدٍ يَنْصَبُّ عَلَيْهِ. وقرىء اهْبُطُوا، بِضَمِّ الْبَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْأَفْصَحُ الْكَسْرُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى صَرْفِ مِصْرًا هُنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَبَيِّنٌ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبَعْضِ مَصَاحِفِ عُثْمَانَ. فَأَمَّا مَنْ صَرَفَ فَإِنَّهُ يَعْنِي مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْأَمْرِ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ، وَبِأَنَّهُمْ سَكَنُوا الشَّامَ بَعْدَ التِّيهِ، وَبِأَنَّ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْبَقْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَمْصَارِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِصْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ مِنْ أَمْصَارِ الْأَرْضِ المقدسة، بدليل:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 24.

ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مِصْرًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِصْرَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ النَّكِرَةِ، وَيُرَادُ بِهَا الْمُعَيَّنُ، كَمَا تَقُولُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ، وَأَنْتَ تَعْنِي بِهِ زَيْدًا. قَالَ أَشْهَبُ، قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ. وَأَجَازَ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ تَكُونَ مِصْرُ هَذِهِ الْمُنَوَّنَةُ هِيَ الِاسْمَ الْعَلَمَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «1» ، قَالُوا: وَصُرِفَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْعَلَمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ، كَمَا صُرِفَ هِنْدٌ وَدَعْدٌ لِمُعَادَلَةِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ، لِخِفَّةِ الِاسْمِ لِسُكُونِ وَسَطِهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ صُرِفَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِاللَّفْظِ مَذْهَبَ الْمَكَانِ، فَذَكَّرَهُ فَبَقِيَ فِيهِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَانْصَرَفَ. وَشَبَّهَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ، وَهُوَ عَلَمٌ بِنُوحٍ وَلُوطٍ حَيْثُ صُرِفَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ لِخِفَّةِ الِاسْمِ بِكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ، وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ مُشْبِهٌ لِهِنْدٍ، أَوْ مُشْبِهٌ لِنُوحٍ، لِأَنَّ مِصْرَ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ وَهِيَ: التَّأْنِيثُ وَالْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ. فَهُوَ يَتَحَتَّمُ مَنْعُ صَرْفِهِ بِخِلَافِ هِنْدٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سِوَى الْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ خَالَفَ فِي هِنْدٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا مَنْعُ الصَّرْفِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى مَا ادَّعَى النَّحْوِيُّونَ مِنَ الصَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: لم تتلفع بفضل ميزرها دَعْدٌ ... وَلَمْ تُسْقَ دَعْدٌ فِي الْعُلَبِ وَبِخِلَافِ نُوحٍ، فَإِنَّ الْعُجْمَةَ لَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا فِي غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ السَّاكِنِ الْوَسَطِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ فَالصَّرْفُ. وَقَدْ أَجَازَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ مَنْعَ صَرْفِهِ قِيَاسًا عَلَى هِنْدٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مَصْرُوفًا، فَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ مُخَالِفٌ لِنُطْقِ الْعَرَبِ، فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ بَحْرٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِصْرًا، الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ، يَعْنِي أَنَّ اللَّفْظَ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، فَالْمُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً مِصْرَ الْمُعَيَّنَةَ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ مِصْرَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَالْمُرَادُ مِصْرُ الْعَلَمُ، وَهِيَ دَارُ فِرْعَوْنَ. وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مِصْرُ فِرْعَوْنَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ مِنْ مِصْرَ خَرَجُوا، وَأُمِرُوا بِالْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ لِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ فَأَبَوْا، فَعُذِّبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ قتال الجبارين، ولقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «2» ، فَمَاتُوا جَمِيعًا فِي التِّيهِ، وَبَقِيَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَامْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ، وَهَبَطُوا إِلَى الشَّامِ، وَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهُمْ هَبَطُوا من التيه إلى

_ (1) سورة يونس: 10/ 87. (2) سورة المائدة: 5/ 24.

مِصْرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَتَلَخَّصَ مِنْ قِرَاءَةِ التَّنْوِينِ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِصْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَا مِنَ الشَّامِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مِصْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ أَمْصَارِ الشَّامِ، أَوْ مُعَيَّنًا، وهو بيت المقدس، أو مِصْرَ فِرْعَوْنَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ، كَمَا يُجَابُ بِالْفِعْلِ الْمَجْزُومِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْجَارِي فِيهِ: هَلْ ضُمِّنَ اهْبِطُوا مِصْرًا مَعْنَى أَنْ تهبطوا أَوْ أُضْمِرَ الشَّرْطُ؟ وَفِعْلُهُ بَعْدَ فِعْلِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، وَفِي ذَلِكَ مَحْذُوفَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَرْبِطُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمَا قَبْلَهَا، وَتَقْدِيرُهُ: فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا مَا سَأَلْتُمْ. وَالثَّانِي: الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، تَقْدِيرُهُ: مَا سَأَلْتُمُوهُ، وَشُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: سِأَلْتُمْ: بِكَسْرِ السِّينِ، وَهَذَا مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي سَأَلَ لُغَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ هَمْزَةً فَوَزْنُهُ فَعَلَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ وَاوًا تَقُولُ: سَأَلَ يَسْأَلُ، فَتَكُونُ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاوِ، وقولهم: هُمَا يَتَسَاوَلَانِ، كَمَا تَقُولُ: يَتَجَاوَبَانِ، وَحِينَ كَسَرَ السِّينَ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فَتَحَهَا، فَأَتَى بِالْعَيْنِ هَمْزَةً، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا جِئْتَهُمْ وَسَأْيَلْتَهُمْ ... وَجَدَتْ بِهِمْ عِلَّةً حَاضِرَهْ الْأَصْلُ سَاءَلْتَهُمْ، وَالْمَعْرُوفُ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً، فَتَقُولُ: سَايَلْتَهُمْ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَهُوَ الْيَاءُ، وَبَيْنَ الْمُعَوَّضِ مِنْهُ وَهُوَ الْهَمْزَةُ لَكِنَّهُ لَمَّا اضْطُرَّ قَدَّمَ الْهَمْزَةَ قَبْلَ أَلِفِ فَاعِلٍ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ فِي سَأَلْتُمْ يَاءً، كَمَا أُبْدِلَتْ أَلِفًا فِي قَوْلِهِ: سَأَلَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً فَانْكَسَرَ السِّينُ قَبْلَ الْيَاءِ، ثُمَّ تَنَبَّهَ لِلْهَمْزِ فَهَمَزَ. وَالْمَعْنَى: مَا سَأَلْتُمْ مِنَ الْبُقُولِ وَالْحُبُوبِ الَّتِي اخْتَرْتُمُوهَا عَلَى الْمَنِّ وَالسَّلْوَى. وَقِيلَ: مَا سَأَلْتُمْ مِنَ اتِّكَالِكُمْ عَلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسِكُمْ فِي مَصَالِحِ مَعَاشِكُمْ وَأَحْوَالِ أَقْوَاتِكُمْ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ: مَعْنَى الضَّرْبِ هُنَا: الْإِلْزَامُ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، مِنْ ضَرَبَ الْأَمِيرُ الْبَعْثَ عَلَى الْجَيْشِ، وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: ضربة لازم، وَيُقَالُ: ضَرَبَ الْحَاكِمُ عَلَى الْيَدِ، وَضَرَبَ الدَّهْرُ ضَرَبَاتِهِ، أَيْ أَلْزَمَ إِلْزَامَاتِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْإِحَاطَةُ بِهِمْ وَالِاشْتِمَالُ عَلَيْهِمْ مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرَبَ الْقِبَابَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهَا الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْتَصَقَتْ بِهِمْ، مَنْ ضَرَبْتُ الْحَائِطَ بِالطِّينِ: أَلْصَقْتُهُ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جُعِلَتْ مِنْ ضَرَبْتُ الطِّينَ خَزَفًا، أَيْ جُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ. أَمَّا الذِّلَّةُ فَقِيلَ: هِيَ هَوَانُهُمْ بِمَا ضُرِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجِزْيَةِ الَّتِي يُؤَدُّونَهَا عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَقِيلَ: هِيَ مَا أُلْزِمُوا بِهِ مِنْ إِظْهَارِ الزِّيِّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ يَهُودُ، وَلَا يَلْتَبِسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: فَقْرُ النَّفْسِ وَشُحُّهَا، فَلَا تَرَى مِلَّةً مِنَ الْمِلَلِ أَذَلُّ وَأَحْرَصُ مِنَ الْيَهُودِ. وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ: فَالْخُشُوعُ، فَلَا يُرَى يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ بَادِي الْخُشُوعِ، أَوِ الْخَرَاجُ، وَهُوَ الْجِزْيَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، أَوِ الْفَاقَةُ وَالْحَاجَةُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ مَخَافَةَ أَنْ تُضَاعَفَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، أَوِ الضَّعْفُ، فَتَرَاهُ سَاكِنَ الْحَرَكَاتِ قَلِيلَ النُّهُوضِ. وَاسْتَبْعَدَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ قَوْلَ مَنْ فَسَّرَ الذِّلَّةَ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تَكُنْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ، وَالْمَضْرُوبُ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ الْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. والقائلون: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ «1» ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَاءَ، فَعَلَى مَنْ قَالَ: بَاءَ: رَجَعَ، تَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ، أَيْ مَصْحُوبِينَ بِغَضَبٍ، وَمَنْ قَالَ: اسْتَحَقَّ، فَالْبَاءُ صِلَةٌ نَحْوَ: لَا يُقْرَأَنَّ بِالسُّورِ: أَيِ اسْتَحَقُّوا غَضَبًا، وَمَنْ قَالَ: نَزَلَ وَتَمَكَّنَ أَوْ تَسَاوَوْا، وَالْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَعَلَى الثَّانِي لَا تَتَعَلَّقُ، وَعَلَى الثَّالِثِ بِنَفْسِ بَاءَ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِغَضَبٍ لِلسَّبَبِ، فَعَلَى هَذَا تتعلق بباء، وَيَكُونُ مَفْعُولُ بَاءَ مَحْذُوفًا، أَيِ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ بِسَبَبِ غضب الله عليهم. وباء يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» ، وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ «3» ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ «4» . وَفِي الشَّرِّ: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «5» ، أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ «6» ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ «7» . وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْحَدِيثِ: «أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَاءَ لَا تَجِيءُ إِلَّا فِي الشَّرِّ. وَالْغَضَبُ هُنَا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الآخرة. ويكون باؤوا في معنى يبوؤون، نحو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 68- 70، وسورة الأعراف: 7/ 134. (2) سورة العنكبوت: 29/ 58. (3) سورة يونس: 10/ 93. [.....] (4) سورة العنكبوت: 29/ 29. (5) سورة آل عمران: 3/ 112. (6) سورة المائدة: 5/ 29. (7) سورة البقرة: 2/ 90.

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» ، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «2» . مِنَ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِبَاءُوا إِذَا كَانَ بَاءَ بِمَعْنَى رَجَعَ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْبِلِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَبِعِصْيَانِهِمْ رَجَعُوا مِنْهُ، أَيْ مِنْ عِنْدِهِ بِغَضَبٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ بِغَضَبٍ كَائِنٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ظَاهِرٌ إِذَا كَانَ بَاءَ بِمَعْنَى اسْتَحَقَّ، أَوْ بِمَعْنَى نَزَلَ وَتَمَكَّنَ، وَيَبْعُدُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَفِي وَصْفِ الْغَضَبِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ تَعْظِيمٌ لِلْغَضَبِ، وَتَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَبَاءَةِ بِالْغَضَبِ، أَوِ الْمَبَاءَةِ. وَالضَّرْبِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ ذَلِكَ كَائِنٌ بِكُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ. كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ: الْآيَاتُ الْمُعْجِزَاتُ التِّسْعُ وَغَيْرُهَا الَّتِي أَتَى بِهَا مُوسَى، أَوِ التَّوْرَاةُ، أَوْ آيَاتٌ مِنْهَا، كَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِيهَا الرَّجْمُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ جَمِيعُ آيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ: قَتَلُوا يَحْيَى وَشَعِيَا وَزَكَرِيَّا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَتَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَقَامَتْ سُوقُ قَتْلِهِمْ فِي آخِرِهِ. وَعَلَى هَذَا يَتَوَجَّهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: يُقَتِّلُونَ بِالتَّشْدِيدِ لِظُهُورِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَتَقْتُلُونَ بِالتَّاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ. وَرُوِيَ عَنْهُ بِالْيَاءِ كَالْجَمَاعَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي الدَّلَالَةِ بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ الْجَمْعَيْنِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا الْ تَسَاوِيَا بِخِلَافِ حَالِهِمَا إِذَا كَانَا نَكِرَتَيْنِ، لِأَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرٌ فِي الْقِلَّةِ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عَلَى أَفْعِلَاءِ ظَاهِرٌ فِي الْكَثْرَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِهَمْزِ النَّبِيِّينَ وَالنَّبِيءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالنُّبُوءَةِ، إِلَّا أَنَّ قَالُونَ أَبْدَلَ وَأَدْغَمَ فِي الْأَحْزَابِ فِي: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «3» إِنْ أَرَادَ وَفِي لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ «4» ، فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. بِغَيْرِ الْحَقِّ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَتَقْتُلُونَ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَقْتُلُونَ، أَيْ تَقْتُلُونَهُمْ مُبَالَغَةً. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَعَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ تَوْكِيدٌ، وَلَمْ يَرِدْ هَذَا عَلَى أَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّينَ يَنْقَسِمُ إِلَى قَتْلٍ بِحَقٍّ وَقَتْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، بَلْ مَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِمْ إِنَّمَا وَقَعَ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِيهِ الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْنِيعِ لِقَتْلِهِمْ، وَالتَّقْبِيحِ

_ (1) سورة النجم: 53/ 57. (2) سورة القمر: 54/ 1. (3) سورة الأحزاب: 33/ 50. (4) سورة الأحزاب: 33/ 53.

لِفِعْلِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، أَيْ بِغَيْرِ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ، أَيْ لَمْ يَدَّعُوا فِي قَتْلِهِمْ وَجْهًا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْقَتْلَ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ: جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «1» ، إِذْ لَا يَقَعُ قَتْلُ نَبِيٍّ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ يَأْتِ نَبِيٌّ قَطُّ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، وَإِنَّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ كَرَاهَةً لَهُ وَزِيَادَةً فِي مَنْزِلَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ قَطُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالٍ، وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ. قِيلَ: وَعُرِّفَ الْحَقُّ هُنَا لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْمَعْهُودِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ. وَأَمَّا الْمُنَكَّرُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْعُمُومِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَقٌّ لَا مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا غَيْرُهُ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ، ذَلِكَ: رَدٌّ عَلَى الْأَوَّلِ وَتَكْرِيرٌ لَهُ، فَأُشِيرَ بِهِ لِمَا أُشِيرَ بذلك الأول، ويجوز أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَلَا يَكُونُ تَكْرِيرًا وَلَا تَوْكِيدًا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى جُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا هُوَ تَقَدُّمُ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، فَجَسَّرَهَمْ هَذَا عَلَى ذَلِكَ، إِذِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ «2» ، وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ «3» ، وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «4» . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعِصْيَانِ وَالِاعْتِدَاءِ لُغَةً، وَقَدْ فُسِّرَ الِاعْتِدَاءُ هُنَا أَنَّهُ تَجَاوُزُهُمْ مَا حَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: التَّمَادِي عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: الْعِصْيَانُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَالِاعْتِدَاءُ بِكَثْرَةِ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: الِاعْتِدَاءُ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ أُثِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ موسى بخمسائة سنة حين كثير فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ عِيسَى بِمِائَةِ سَنَةٍ» . وَقِيلَ: هُوَ الِاعْتِدَاءُ فِي السَّبْتِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ «5» . وما: فِي قَوْلِهِ بِما عَصَوْا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ ذَلِكَ بِعِصْيَانِهِمْ، وَلَمْ يُعْطَفْ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْعِصْيَانِ لِئَلَّا يَفُوتَ تَنَاسُبُ مَقَاطِعِ الْآيِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَاءَ صَارَ كَالشَّيْءِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ دَائِمًا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُلُولَ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمسكنة والمباءة بالغضب، بين عِلَّةَ ذَلِكَ، فَبَدَأَ بِأَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِمَا يَتْلُو ذَلِكَ فِي الْعِظَمِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَمَا يَتَعَدَّى مِنَ الظُّلْمِ. قَالَ مَعْنَى هَذَا صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ ذلك

_ (1) سورة الحج: 22/ 46. (2) سورة المطففين: 83/ 14. (3) سورة البقرة: 2/ 88. (4) سورة النساء: 4/ 155. (5) سورة النساء: 4/ 154.

بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ وَيَقْتُلُونَ، تَعْلِيلٌ لِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْمَبَاءَةِ بِالْغَضَبِ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ بِما عَصَوْا إشارة إلى الكفر والقتل، وَبِمَا تَعْلِيلٌ لَهُمَا فَيَعُودُ الْعِصْيَانُ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَعُودُ الِاعْتِدَاءُ إِلَى الْقَتْلِ، فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَقَابَلَهُمَا بِشَيْئَيْنِ. كَمَا ذَكَرَ أَوَّلًا شَيْئَيْنِ وَهُمَا: الضَّرْبُ وَالْمَبَاءَةُ، وَقَابَلَهُمَا بِشَيْئَيْنِ وَهُمَا: الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ، فَجَاءَ هَذَا لَفًّا ونشرا في المؤمنين، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَجَوْدَةِ تَرْكِيبِهِ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ الَّذِي لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْسِيسِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ لَطَائِفِ الِامْتِنَانِ وَغَرَائِبِ الْإِحْسَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا، مِنْهَا: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِهَا يَتَحَصَّنُونَ، وَالْأَكْلُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا مَا يَشْتَهُونَ، ثُمَّ كُلِّفُوا النَّزْرَ مِنَ الْعَمَلِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ دُخُولُ بَابِهَا سَاجِدِينَ، وَنُطْقُهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ تَائِبِينَ، وَرُتِّبَ عَلَى هَذَا النَّزْرِ غُفْرَانُ جَرَائِمِهُمُ الْعَظِيمَةِ وَخَطَايَاهُمُ الْجَسِيمَةِ، فَخَالَفُوا فِي الْأَمْرَيْنِ فِعْلًا وَقَوْلًا، جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي عَدَمِ الِامْتِثَالِ، فَعَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَشَدِّ النَّكَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ وَسُؤَالِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ دَعَا اللَّهَ لَهُمْ بِالسُّقْيَا، فَأَحَالَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ أَنْشَأَ لَهُمْ، مِنْ قَرْعِ الصَّفَا بِالْعَصَا، عُيُونًا يَجْرِي بِهَا مَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، مَعِينًا عَلَى الْوَصْفِ الذي ذكره تعالى من كَوْنِ تِلْكَ الْعُيُونِ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ، حَتَّى لَا يَقَعَ مِنْهُمْ مُشَاحَّةٌ وَلَا مُغَالَبَةٌ، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ رِزْقٌ، وَأُمِرُوا بِالْأَكْلِ مِنْهُ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الْفَسَادِ، إِذْ هُوَ سَبَبٌ لِقَطْعِ الرِّزْقِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى تَبَرُّمَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَلَجُّوا فِي طَلَبِ مَا كَانَ مَأْلَوفَهُمْ إِلَى نبيهم فقالوا: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى عَادَتِهِ مَعَهُمْ، إِذْ كَانَ يُنَاجِي رَبَّهُ فِيمَا كَانَ عَائِدًا عَلَيْهِمْ بِصَلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَذَكَرَ تَوْبِيخَهُ لَهُمْ عَلَى مَا سَأَلُوهُ مِنِ اسْتِبْدَالِ الْخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، وَبِمَا لَا نَصَبٌ فِي اكْتِسَابِهِ مَا فِيهِ الْعَنَاءُ الشَّاقُّ، إِذْ مَا طَلَبُوهُ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِفْرَاغِ أَوْقَاتِهِمُ الْمُعَدَّةِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَصَارَتْ أَغْذِيَةً مُضِرَّةً مُؤْذِيَةً جَالِبَةً أَخْلَاطًا رَدِيئَةً، يَنْشَأُ عَنْهَا طَمْسُ أَنْوَارِ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، بِخِلَافِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، إِذْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ جَيِّدٌ، يَنْشَأُ عَنْهُ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَجَوْدَةُ الْإِدْرَاكِ. كَانَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَسْتَفُّ دَقِيقَ الشَّعِيرِ، وَيَشْرَبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْعَذْبَ، وَكَانَ ذِهْنُهُ أَشْرَقَ أَذْهَانِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ يَغْزُو سَنَةً وَيَحُجُّ أُخْرَى. ثُمَّ أُمِرُوا بِالْحُلُولِ فِيمَا فِيهِ مَطْلَبُهُمْ وَالْهُبُوطِ إِلَى مَعْدِنِ مَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ مِنْ جَعْلِهِمْ أذلاء مساكين ومبائتهم بِغَضَبِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَسَبِّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 62 إلى 66]

الْإِيمَانِ، لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْإِنْسَ وَالْجَانَّ، وَعَنْ قَتْلِهِمْ مَنْ كَانَ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِمْ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، إِذْ بِاتِّبَاعِهِمْ يَحْصُلُ الْعِزُّ فِي الدُّنْيَا وَالْفَوْزُ فِي الْأُخْرَى، وَأَنَّ الَّذِي جَرَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ إِلَيْهِمْ هُوَ الْعِصْيَانُ وَالِاعْتِدَاءُ اللَّذَانِ كَانَا سَبَقَا مِنْهُمْ قَبْلَ تَعَاطِي الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ. إِنَّ الْأُمُورَ صَغِيرَهَا ... مِمَّا يَهِيجُ لَهُ الْعَظِيمُ وَقَالَ: وَالشَّرُ تُحَقِّرُهُ وَقَدْ يَنْمَى [سورة البقرة (2) : الآيات 62 الى 66] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) هَادَ: أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَالْمُضَارِعُ يَهُودُ، وَمَعْنَاهُ: تَابَ، أَوْ عَنْ يَاءٍ وَالْمُضَارِعُ يَهِيدُ، إِذَا تَحَرَّكَ. وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِةِ الْيَهُودِ حَيْثُ انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالنَّصَارَى: جَمْعُ نَصْرَانٍ وَنَصْرَانَةٍ، مِثْلُ نَدْمَانٍ وَنَدْمَانَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ وَأَنْشَدَ: وَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأُسْجِدَ رَأْسُهَا ... كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحْنَفِ وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ: يَظَلُّ إِذَا دَارَ الْعَشِيُّ مُحَنَّفًا ... وَيَضْحَى لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شامس

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 156. [.....]

مَنَعَ نَصْرَانًا الصَّرْفَ ضَرُورَةً، وَهُوَ مَصْرُوفٌ لِأَنَّ مُؤَنَّثَهُ عَلَى نَصْرَانَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا بِيَاءِ النَّسَبِ، فَيَكُونُ: كَلِحْيَانٍ وَلِحْيَانِيٍّ وَكَأَحْمَرِيٍّ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُ النَّصَارَى نَصْرِيٌّ، كَمَهْرِيٍّ وَمَهَارَى. قِيلَ: وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى نَصْرَةَ، قَرْيَةٍ نَزَلَ بِهَا عِيسَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: نُسِبُوا إِلَى نَاصِرَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ نَزَلُوهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ. وَالصَّابِئِينَ: الصَّائِبُونَ، قِيلَ: الْخَارِجُونَ مِنْ دِينٍ مَشْهُورٍ إِلَى غَيْرِهِ، مِنْ صُبُوءِ السِّنِّ وَالنَّجْمِ، يُقَالُ: صَبَأَتِ النُّجُومُ: طَلَعَتْ، وَصَبَأَتْ ثَنِيَّةُ الْغُلَامِ: خَرَجَتْ، وَصَبَأَتْ عَلَى الْقَوْمِ بِمَعْنَى: طَرَأَتْ، قَالَ: إِذَا صَبَأَتْ هَوَادِي الْخَيْلِ عَنَّا ... حَسِبْتُ بِنَحْرِهَا شَرْقَ الْبَعِيرِ وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ فَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى قِرَاءَتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَىِ، يحلقون أوساط رؤوسهم وَيَجُبُّونَ مَذَاكِيرَهُمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ أَشْبَاهُ النَّصَارَى، قِبْلَتُهُمْ مَهَبُّ الْجَنُوبِ، يُقِرُّونَ بِنُوحٍ، ويقرؤون الزَّبُورَ، وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: لَا عَيْنَ مِنْهُمْ وَلَا أَثَرَ. وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ، عَنِ الصَّابِي صَاحِبِ الرَّسَائِلِ: هُمْ قَرِيبٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، يَقُولُونَ بِتَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ قَوْمٌ لَا دِينَ لَهُمْ، لَيْسُوا بِيَهُودَ وَلَا نَصَارَى. قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْمٌ يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كِتَابٌ، كَانُوا بِالْجَزِيرَةِ وَالْمُوصِلِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، ويصلون الخمس للقبلة، ويقرؤون الزَّبُورَ، رَآهُمْ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَرَادَ وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قوم من أهل الكتاب، ذَبَائِحُهُمْ كَذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، يقرؤون الزَّبُورَ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي بَقِيَّةِ أَفْعَالِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ: قَوْمٌ كَالْمَجُوسِ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مُوَحِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ. وَأَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ الْقَادِرَ بِاللَّهِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ بِكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّخَاذِهَا قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ. الثَّانِي: أنه تعالى خالق الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، فَيَجِبُ عَلَى الْبَشَرِ تَعْظِيمُهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْآلِهَةُ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَعْبُدُ اللَّهَ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْمَنْسُوبُ لِلَّذِينِ جَاءَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادًّا عَلَيْهِمْ.

الْأَجْرُ: مَصْدَرُ أَجَرَ يَأْجُرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَأْجُورِ بِهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. وَالْأُجُورُ: جَبْرُ كَسْرٍ مُعْوَجٍّ، وَالْإِجَّارُ: السَّطْحُ، قَالَ الشَّاعِرُ: تَبْدُو هَوَادِيهَا مِنَ الْغُبَارِ ... كَالْجَيْشِ الصَّفِّ عَلَى الْإِجَّارِ الرَّفْعُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَعْلَى الشَّيْءِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ رَفَعَ يَرْفَعُ، الطُّورُ: اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. أَوِ الْجَبَلُ الْمُنْبِتُ دُونَ غَيْرِ الْمُنْبِتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ، أَوِ الْجَبَلُ الَّذِي نَاجَى اللَّهَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ الْعَجَّاجُ: دَانِي جناحيه من الطور فر ... تَقَضَّى الْبَازِيُّ إِذَا الْبَازِيُّ كَسَرْ وَقَالَ آخَرُ: وَإِنْ تَرَ سَلْمَى الْجِنُّ يَسْتَأْنِسُوا بِهَا ... وَإِنْ يَرَ سَلْمَى صَاحِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ وَأَصْلُهُ النَّاحِيَةُ، وَمِنْهُ طَوَارُ الدَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ جِنْسُ الْجَبَلِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. الْقُوَّةُ: الشِّدَّةُ، وَهِيَ مَصْدَرُ قَوِيَ يَقْوَى، وطيء تَقُولُ: قَوَى، يَفْتَحُونَ الْعَيْنَ والتاء مَفْتُوحَةٌ فَتَنْقَلِبُ أَلِفًا، يَقُولُونَ فِي بَقِيَ: بَقَى، وَفِي زَهِيَ: زَهَا، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ: زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظل إنسان عينه ... يفيض بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَفِ وَهَذِهِ الْمَادَّةُ قَلِيلَةٌ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ وَاللَّامُ وَاوَيْنِ. التَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ بَعْدَ الْإِقْبَالِ. لَوْلَا: لِلتَّحْضِيضِ بِمَنْزِلَةِ هَلَّا، فَيَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَحَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ فَيَكُونُ لَهَا جَوَابٌ، وَيَجِيءُ بَعْدَهَا اسْمٌ مَرْفُوعٌ بِهَا عِنْدَ الْفَرَّاءِ، وَبِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ، وَبِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ذَكَرْنَاهُ فِي (مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ الْخَبَرَ، خِلَافًا لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الطَّرَاوَةِ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا مُضْمَرٌ فَيَكُونُ ضَمِيرَ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا ضَمِيرُ الْجَرِّ فَتَقُولُ: لَوْلَانِي وَلَوْلَاكَ وَلَوْلَاهُ، إِلَى آخِرِهَا، وَهُوَ في موضع جر بلو لا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عِنْدَ الْأَخْفَشِ، اسْتُعِيرَ ضَمِيرُ الْجَرِّ لِلرَّفْعِ، كَمَا اسْتَعَارُوا ضَمِيرَ الرَّفْعِ لِلْجَرِّ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَنَا كَانَتْ، وَلَا أَنْتَ كَانَا. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَوْلَا نَافِيَةٌ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ «1» ،

_ (1) سورة يونس: 10/ 98.

فَبَعِيدٌ قَوْلُهُ عَنِ الصَّوَابِ. السَّبْتَ: اسْمٌ لِيَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْتِ الَّذِي هُوَ الْقَطْعُ، أَوْ مِنَ السُّبَاتِ، وَهُوَ الدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا خَطَأٌ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سَبَتَ بِمَعْنَى اسْتَرَاحَ، وَالسَّبْتُ: الْحَلْقُ وَالسَّيْرُ، قَالَ الشَّاعِرُ: بِمُقْوَرَّةِ الْأَلْيَاطِ أَمَّا نَهَارُهَا ... فَسَبْتٌ وَأَمَّا لَيْلُهَا فَذَمِيلُ وَالسَّبْتُ: النَّعْلُ، لِأَنَّهُ يُقْطَعُ كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سُمِّيَ يَوْمُ السَّبْتَ لِأَنَّهُ قِطْعَةُ زَمَانٍ، قَالَ لَبِيدُ: وَغَنَيْتُ سَبْتًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كان للنفس اللحوح خُلُودُ الْقِرْدُ: مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ فِعْلُ الِاسْمِ قِيَاسًا عَلَى فُعُولٍ نَحْوَ: قِرْدٍ وَقُرُودٍ، وَجِسْمٍ وَجُسُومٍ، وَقَلِيلًا عَلَى فِعَلَةٍ نَحْوَ: قِرْدٍ وَقِرَدَةٍ، وَحِسْلٍ وَحِسَلَةٍ. الْخَسْءُ: الصَّغَارُ وَالطَّرْدُ، وَالْفِعْلُ: خَسَأَ، وَيَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: خَسَأَ الْكَلْبُ خُسُوًّا: ذَلَّ وَبُعِدَ، وَخَسَأْتُهُ: طَرَدْتُهُ وَأَبْعَدْتُهُ، خَسَأَ: كَرَجَعَ رُجُوعًا، وَرَجَعْتُهُ رَجْعًا. النَّكَالُ: الْعِبْرَةُ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ، وَالنَّكْلُ: الْقَيْدُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: النَّكَالُ: الْعُقُوبَةُ. الْيَدُ: عُضْوٌ مَعْرُوفٌ أَصْلُهُ يَدَيَّ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَقَدْ أَبْدَلُوا يَاءَهُ هَمْزَةً قَالُوا: قَطَعَ اللَّهُ أَدَيْهِ: يُرِيدُونَ يَدَيْهِ، وَجُمِعَتْ عَلَى أَفْعِلٍ، قَالُوا: أَيْدٍ، أَصْلُهُ: أَيْدِي، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ لِلنِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ. وَأَمَّا الْأَيَادِي فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعُ جَمْعٍ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي النِّعْمَةِ أَكْثَرُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ لِلْجَارِحَةِ، كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَيْدِي فِي الْجَارِحَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي النِّعْمَةِ. خَلْفَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ، وَهُوَ مُتَوَسِّطُ التَّصَرُّفِ، وَيَكُونُ أَيْضًا وَصْفًا، يُقَالُ رَجُلٌ خَلْفٌ: بِمَعْنَى رَدِيءٍ، وَسَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا: أَيْ نُطْقًا رَدِيئًا. مَوْعِظَةٌ: مَفْعِلَةٌ، مِنَ الْوَعْظِ، وَالْوَعْظُ: الْإِذْكَارُ بِالْخَيْرِ بِمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَكَسْرُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِيمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ وَعَلَى مُفْعِلٍ هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ شَذَّ: مُوءَلَةٌ وَكَلِمٌ، ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ جَاءَتْ مَفْتُوحَةَ الْعَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ سَلْمَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحِبَ عُبَّادًا مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ: إِنْ زَمَانَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ، فَإِنْ لَحِقْتَهُ فَآمِنْ بِهِ. وَرَأَى مِنْهُمْ عِبَادَةً عَظِيمَةً، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ لَهُ خَبَرَهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، حَكَى هَذِهِ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ بِهَا أَنَّ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ وَنَصْرَانِيَّتِهِ وَصَابِئِيَّتِهِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَهُ أَجْرُهُ، ثُمَّ نَسَخَ مَا قَدَّرَ مِنْ ذَلِكَ

بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1» . وَرُدَّتِ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا إِلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي الْوَاحِدِيُّ، بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ إِلَى مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمَّا قَصَّ سَلْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُ هُمْ فِي النَّارِ، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَظْلَمَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ، فَنَزَلَتْ إِلَى يَحْزَنُونَ، قَالَ: فَكَأَنَّمَا كُشِفَ عَنِّي جَبَلٌ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكَفَرَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، أَخْبَرَ بِمَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، دَالًّا عَلَى أَنَّهُ يَجْزِي كُلًّا بِفِعْلِهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُنَافِقُو هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَيْ آمَنُوا ظَاهِرًا، وَلِهَذَا قَرَنَهُمْ بِمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ آمَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَوِ الْمُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ. وَمَنْ آمَنَ: معناه من دوام عَلَى إِيمَانِهِ، وَفِي سَائِرِ الْفِرَقِ: مَنْ دَخَلَ فِيهِ، أَوِ الْحَنِيفِيُّونَ مِمَّنْ لَمْ يَلْحَقِ الرَّسُولَ: كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُسُّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَمَنْ لَحِقَهُ: كَأَبِي ذر، وسلمان، وبحيرا. وَوَفْدِ النَّجَاشِيِّ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَبْعَثَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَ وَتَابَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَالَّذِينَ هَادُوا كَذَلِكَ، مِمَّنْ لَمْ يَلْحَقْ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِعِيسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَالصَّابِئِينَ كَذَلِكَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوْ أَصْحَابُ سَلْمَانَ، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُهُمْ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ، قاله ابن عباس، أو الْمُؤْمِنُونَ بِمُوسَى، وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ عِيسَى فَآمَنُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ، إِلَى أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، أَوْ مُؤْمِنُو الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ فِي الْمَعْنِيِّ بِالَّذِينِ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَهُمُ الْيَهُودُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَادُوا بِضَمِّ الدَّالِّ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ الْعَدَوِيُّ: بِفَتْحِهَا مِنَ الْمُهَادَاةِ، قِيلَ: أَيْ مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مَادَّتُهَا هَاءٌ وَوَاوٌ وَدَالٌ، أَوْ هَاءٌ وَيَاءٌ وَدَالٌ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ مَادَّتُهَا هَاءٌ وَدَالٌ وَيَاءٌ، وَيَكُونُ فَاعَلَ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَجَاءَ فِيهِ فَاعَلَ مُوَافِقَةً فَعَلَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّذِينَ هَدُوا، أَيْ هَدُوا أَنْفُسَهُمْ نَحْوَ: جَاوَزْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى جُزْتُهُ. وَالنَّصارى: الْأَلِفُ لِلتَّأْنِيثِ، وَلِذَلِكَ مُنِعَ الصَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى «2» ، وَهَذَا الْبِنَاءُ، أَعْنِي فَعَالَى، جَاءَ مَقْصُورًا جَمْعًا، وَجَاءَ مَمْدُودًا مُفْرَدًا، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ أَيْضًا نَحْوَ: بُرَاكَاءَ: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالصَّابِئِينَ مَهْمُوزًا، وَكَذَا وَالصَّابِئُونَ، وتقدم

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 85. (2) سورة المائدة: 5/ 14.

مَعْنَى صَبَأَ الْمَهْمُوزِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَبَأَ: بِمَعْنَى مَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِلَى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي ... وَهِنْدٌ مِثْلُهَا يُصْبِي وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يَكُونُ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، فَسُهِّلَ بِقَلْبِ الْهَمْزِ أَلِفًا فِي الْفِعْلِ وَيَاءً فِي الِاسْمِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدِيَ فِي مَرَابِضِهَا ... وَالنَّاسُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدَا وَقَالَ الْآخَرُ: وَكُنْتُ أَذَلَّ مِنْ وَتَدٍ بِقَاعٍ ... يُشَجَّجُ رَأْسُهُ بِالفَهْرِوَاجِ وَقَالَ آخَرُ: فَارْعِي فَزَارَةَ لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ إِلَّا أَنَّ قَلْبَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَلْبُ الْهَمْزَةِ يَاءً فَبَابُهُ الشِّعْرُ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَسَائِلَ مِنْ أَحْكَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالصَّابِئِينَ: لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ هُنَا، فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَمَوْضِعُهَا كُتُبُ الْفِقْهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، مَنْ: مُبْتَدِأَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، فَالْخَبَرُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا، وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً، فَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ الْمَوْصُولَ قَدِ اسْتَوْفَى شروط جواز دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَاتَّفَقَ الْمُعْرِبُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ إِذَا كَانَ مَنْ مُبْتَدَأً، وَأَنَّ الرَّابِطَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَلَا يَتِمُّ مَا قَالُوهُ إِلَّا عَلَى تَغَايُرِ الْإِيمَانَيْنِ، أَعْنِي: الَّذِي هُوَ صِلَةُ الَّذِينَ، وَالَّذِي هُوَ صِلَةُ مَنْ، إِمَّا فِي التَّعْلِيقِ، أَوْ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فِي الْإِنْشَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَغَايَرَا، فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا: مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، لا يُقَالُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إِلَّا عَلَى التَّغَايُرِ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْحَذْفِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ، وَذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَنْ آمَنَ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَمَنْ أَعْرَبَ مَنْ مُبْتَدَأً، فَإِنَّمَا جَعَلَهَا شَرْطِيَّةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ كَوْنِهَا مَوْصُولَةً، وَأَعْرَبُوا أَيْضًا مَنْ بَدَلًا، فَتَكُونُ مَنْصُوبَةً مَوْصُولَةً. قَالُوا: وَهِيَ بَدَلٌ مِنِ اسْمِ إِنَّ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَا

يَتِمُّ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ تَغَايُرِ الْإِيمَانَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا، إِذَا كَانَتْ مُبْتَدَأَةً. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْمَعَاطِيفِ الَّتِي بَعْدَ اسْمِ إِنَّ، فَيَصِحُّ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَمَنْ آمَنَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ آمَنَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَحُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْعَطْفِ، التَّقْدِيرُ: وَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَقَدِ انْدَرَجَ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ، إِذِ الْبَعْثُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ. وَعَمِلَ صالِحاً: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الصَّلَاحِ وَأَقْوَالِهَا وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، أَوِ التَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَالٌ. الثَّانِي: يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ حُمِلَ الصِّلَةُ أَوْ فِعْلُ الشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، فَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي آمَنَ وَعَمِلَ ثُمَّ قَالَ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَجَمَعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَهَذَانِ الْحَمْلَانِ لَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِإِعْرَابِ مَنْ مُبْتَدَأً، وَأَمَّا عَلَى إِعْرَابِ مَنْ بَدَلًا، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ فَقَطْ. وَلِلْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى قُيُودٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا جَرَى مَا بَعْدَ مَنْ عَلَى اللَّفْظِ فَجَائِزٌ أَنْ يُخَالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلَى الْمَعْنَى، وَإِذَا جَرَى مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَعْنَى، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْإِلْبَاسَ يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ يَجُوزُ إِذَا رَاعَيْتَ الْمَعْنَى أَنْ تُرَاعِيَ اللَّفْظَ بَعْدَ ذَلِكَ. لَكِنَّ الْكُوفِيِّينَ يَشْتَرِطُونَ الْفَصْلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَمْلَيْنِ فَيَقُولُونَ: مَنْ يَقُومُونَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَيَنْظُرُ فِي أُمُورِنَا قَوْمُكَ وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى مَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: تُرْوَى الْأَحَادِيثُ عَنْ كُلِّ مُسَامَحَةٍ ... وَإِنَّمَا لِمُعَانِيهَا مَعَانِيهَا وأجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَعِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ: أَنَّ أَجْرَهُمْ مَرْفُوعٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. عِنْدَ رَبِّهِمْ: ظَرْفٌ يَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِقْرَارُ الَّذِي هُوَ عَامِلٌ فِي لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا خَوْفٌ، بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلَا خَوْفُ، مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» فِي آخِرِ قصة آدم على نبينا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 262 و 274 و 277.

وَمُنَاسَبَةُ خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَقَرَّ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ لَا يَلْحَقُهُ حُزْنٌ عَلَى مَا مَضَى، وَلَا خَوْفٌ عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اخْتِلَافُ الطُّرُقِ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُسْنِ الْقَبُولِ، فَمَنْ صَدَقَ اللَّهَ تَعَالَى فِي إِيمَانِهِ، وَآمَنَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ حَقِّهِ وَصِفَاتِهِ، فَاخْتِلَافُ وُقُوعِ الِاسْمِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّضْوَانِ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ: هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْعَاشِرُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظَةِ الْمِيثَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «1» . وَالْمِيثَاقُ: مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعُقُولَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَصِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، أَوِ الْمَأْخُوذُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «2» ، أَوْ إِلْزَامُ النَّاسِ مُتَابَعَةَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْعَهْدُ مِنْهُمْ لَيَعْمَلُنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فلما جاء موسى قرأوا مَا فِيهَا مِنَ التَّثْقِيلِ فَامْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهَا، أَوْ قَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «3» ، أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. قَالَ الْقَفَّالُ: قَالَ مِيثَاقَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ مَوَاثِيقَكُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ مِيثَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «4» ، أَوْ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَخَذَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ مِيثَاقًا وَاحِدًا، وَلَوْ جَمَعَ لَاحْتَمَلَ التَّغَايُرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا. وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ: سَبَبُ رَفْعِهِ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ دُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، أَوْ مِنَ السُّجُودِ، أَوْ مِنْ أَخْذِ التَّوْرَاةِ وَالْتِزَامِهَا. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. رُوِيَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ قَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا، كَمَا كَلَّمَكَ، فَصَعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا، فَقَالُوا: لَا. فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ فَلَسْطِينَ طُولُهُ فَرْسَخٌ فِي مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَسْكَرُهُمْ، فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الظُّلَّةِ، وَأَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَحْرَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَضْرَمَ نَارًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَاحْتَاطَ بِهِمْ غَضَبُهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَعَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ أَنْ لَا تُضَيِّعُوهَا، وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمُ الْجَبَلُ، وَغَرَّقَكُمُ الْبَحْرُ، وَأَحْرَقَتْكُمُ النَّارُ، فَسَجَدُوا تَوْبَةً لِلَّهِ، وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ بِالْمِيثَاقِ، وَسَجَدُوا عَلَى شِقٍّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْقُبُونَ الْجَبَلَ خَوْفًا. فَلَمَّا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا: لَا سَجْدَةَ أَفْضَلُ مِنْ سَجْدَةٍ تَقَبَّلَهَا اللَّهُ وَرَحِمَ بِهَا، فَأَمَرُّوا سُجُودَهُمْ عَلَى شِقٍّ وَاحِدٍ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ ارْتِفَاعَ الجبل فوق رؤوسهم كَانَ مِقْدَارَ قَامَةِ الرَّجُلِ، وَلَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى هَذَا السُّجُودِ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنَا، وَاوُ الْعَطْفِ: عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 27. (2) سورة الأعراف: 7/ 172. (3) سورة البقرة: 2/ 83. (4) سورة غافر: 40/ 67.

عَبَّاسٍ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ مُتَقَدِّمًا، فَلَمَّا نَقَضُوهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَبُولِ الْكِتَابِ رُفِعَ عَلَيْهِمُ الطُّورُ. وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ: فَإِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ، أَيْ إِنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ فِي حَالِ رَفْعِ الطُّورِ فَوْقَهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ «1» ، أَيْ وَقَدْ كَانَ فِي مَعْزِلٍ. خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقُلْنَا لَكُمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ هُوَ قَوْلٌ، وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ بِأَنْ خُذُوا مَا آتيناكم، وما مَوْصُولٌ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا آتَيْنَاكُمُوهُ، وَيَعْنِي بِهِ الْكِتَابَ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ، وقرىء: مَا آتَيْتُكُمْ، وَهُوَ شِبْهُ التفات، لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: بِقُوَّةٍ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، أَوْ بِعَمَلٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ بِصِدْقٍ وَحَقٍّ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ بِقَبُولٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ أَوْ بِطَاعَةٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ أَوْ بِنِيَّةٍ وَإِخْلَاصٍ، أَوْ بِكَثْرَةِ دَرْسٍ وَدِرَايَةٍ أَوْ بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَرَغْبَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ بِقُدْرَةٍ. وَالْقُوَّةُ: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَالْبَاءُ لِلْحَالِ أَوْ الِاسْتِعَانَةِ. وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِهِ أَمْرًا مِنْ ذَكَرَ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَاذَّكَّرُوا مَا فِيهِ: أَمْرًا مِنِ اذَّكَّرَ، وَأَصْلُهُ: وإذ تكروا، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ دَالٌ، ثُمَّ أُدْغِمَ الذَّالُ فِي الدَّالِ، إِذْ أَكْثَرُ الْإِدْغَامِ يَسْتَحِيلُ فِيهِ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي، وَيَجُوزُ فِي هَذَا أَنْ يَسْتَحِيلَ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ، وَيُدْغَمُ فِيهِ الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: اذَّكَّرَ، وَيَجُوزُ الْإِظْهَارُ فَتَقُولُ: اذْذَكَّرَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَذَكَّرُوا، عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ انْجَزَمَ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ خُذُوا. فَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ قِيلَ: هذا يكون أمرا بالادكار، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الذِّكْرُ مُتَرَتِّبًا عَلَى حُصُولِ الْأَخْذِ بِقُوَّةٍ، أَيْ إِنْ تَأْخُذُوا بِقُوَّةٍ تَذْكُرُوا مَا فِيهِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ قرىء: وَتَذَكَّرُوا أَمْرًا مِنَ التَّذَكُّرِ، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَوَهِمَ الَّذِي نَقَلْنَاهُ مِنْ كِتَابِهِ تَذَكَّرُوا فِي إِسْقَاطِ الْوَاوِ، وَالَّذِي فِيهِ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّوَابِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ احْفَظُوا مَا فِيهِ وَلَا تَنْسُوهُ وَادْرُسُوهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَصِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَوِ اتَّعِظُوا بِهِ لِتَنْجُوا مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْعُقْبَى. وَالذِّكْرُ: قَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا. فَبِاللِّسَانِ مَعْنَاهُ: ادْرُسُوا، وَبِالْقَلْبِ مَعْنَاهُ: تَدَبَّرُوا، وَبِهِمَا مَعْنَاهُ:

_ (1) سورة هود: 11/ 42.

ادْرُسُوا أَلْفَاظَهُ وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ. أَوْ أُرِيدَ بِالذِّكْرِ: ثَمَرَتُهُ، وَهُوَ الْعَمَلُ، فَمَعْنَاهُ: اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ يَعُودُ عَلَى مَا. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْسِ الذِّكْرِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ؟ انْتَهَى. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَحْصُلَ لَكُمُ التَّقْوَى بِذِكْرِ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تَنْزِعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ. وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَفَعَلُوا مُقْتَضَاهُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ وَالِالْتِزَامِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ. وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّهُمْ قَالُوا، لَمَا زَالَ الْجَبَلُ: يَا مُوسَى، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَلَوْلَا الْجَبَلُ مَا أَطَعْنَاكَ. وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ: فَآمَنُوا كَرْهًا، وَظَاهِرُ هَذَا الْإِلْجَاءُ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ وَقْتَ السُّجُودِ، حَتَّى كَانَ إِيمَانُهُمْ طَوْعًا لَا كَرْهًا. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ: أَيْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْمِيثَاقِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَأَصْلُ التَّوَلِّي: أَنْ يَكُونَ بِالْجِسْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأُمُورِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ، اتِّسَاعًا وَمَجَازًا. وَدُخُولُ ثُمَّ مشعر بالمهلة، ومن تُشْعِرُ بِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. لَكِنْ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَأَخَذْتُمْ مَا آتَيْنَاكُمْ، وَذَكَرْتُمْ مَا فِيهِ، وَعَمِلْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ. فَلَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ مجاز فِي مَدْلُولِ مَنْ، وَأَنَّهُ لِسُرْعَةِ التَّوَلِّي مِنْهُمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ مَا تَخَلَّلَ بَيْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَبَيْنَ التَّوَلِّي شَيْءٌ. وَقَدْ علم أنهم بعد ما قَبِلُوا التَّوْرَاةَ، تَوَلَّوْا عَنْهَا بِأُمُورٍ، فَحَرَّفُوهَا، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا، وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا اخْتُصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَمَا عَمِلَهُ أَوَائِلُهُمْ، وَمَا عَمِلَهُ أَوَاخِرُهُمْ. وَلَمْ يَزَالُوا فِي التِّيهِ، مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْأَعَاجِيبَ، يُخَالِفُونَ مُوسَى، وَيُظَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي فِي عَسْكَرِهِمْ، حَتَّى خُسِفَ بِبَعْضِهِمْ، وَأَحْرَقَتِ النَّارُ بَعْضَهُمْ، وَعُوقِبُوا بِالطَّاعُونِ، وَكُلُّ هَذَا مَذْكُورٌ فِي تَرَاجِمِ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَقْرَأُونَ بِهَا، ثُمَّ فَعَلَ سَاحِرُوهُمْ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، حَتَّى عُوقِبُوا بِتَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَرُوا بِالْمَسِيحِ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَالْقُرْآنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانُ مَا تَوَلَّوْا بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ أَسْلَافِهِمْ. فَغَيْرُ عَجِيبٍ إِنْكَارُهُمْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَالُهُمْ فِي كِتَابِهِ مَا ذَكَرَ. والإشارة بذلك فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِلَى قَبُولِ مَا أُوتُوهُ، أَوْ إِلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ، أَوْ خُرُوجِ مُوسَى مِنْ بَيْنِهِمْ، أَوِ الْإِيمَانِ، أَقْوَالٌ.

فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، الْفَضْلُ: الْإِسْلَامُ، وَالرَّحْمَةُ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. أَوِ الْفَضْلُ: قَبُولُ التَّوْبَةِ، وَالرَّحْمَةُ: الْعَفْوُ عَنِ الزَّلَّةِ، أَوِ الْفَضْلُ: التَّوْفِيقُ لِلتَّوْبَةِ، وَالرَّحْمَةُ: الْقَبُولُ. أَوِ الْفَضْلُ والرحمة، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ. أَوِ الْفَضْلُ وَالرَّحْمَةُ: بَعْثَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِدْرَاكُهُمْ لِمُدَّتِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، إِذْ صَارَ هَذَا عَائِدًا عَلَى الْحَاضِرِينَ. وَالْأَقْوَالُ قَبْلَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ مَنْ سَلَفَ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي سِيَاقِ قِصَّتِهِمْ. وَفَضْلُ اللَّهِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ: مَوْجُودٌ، وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يَلِيقُ بِالْمَوْضِعِ. وَعَلَيْكُمْ: متعلق بفضل، أَوْ مَعْمُولٌ لَهُ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَوْجُودَانِ، لَكُنْتُمْ: جَوَابُ لَوْلَا. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُثْبَتًا تَدْخُلُهُ اللام، ولم يجىء فِي الْقُرْآنِ مُثْبَتًا إِلَّا بِاللَّامِ، إِلَّا فِيمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهَمَّ بِها «1» ، جَوَابُ: لَوْلَا قُدِّمَ فَإِنَّهُ لَا لَامَ مَعَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ لَامٍ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَخُصُّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْلَا الْحَيَاءُ وَلَوْلَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ بَعْدَ اللَّامِ، قَدْ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْلَا الْأَمِيرُ وَلَوْلَا حَقُّ طَاعَتِهِ ... لَقَدْ شَرِبْتُ دَمًا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ أَيْضًا حَذْفُ اللَّامِ وَإِبْقَاءُ قَدْ نَحْوَ: لَوْلَا زَيْدٌ قَدْ أَكْرَمْتُكَ. مِنَ الْخاسِرِينَ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْخُسْرَانَ: هُوَ النُّقْصَانُ، وَمَعْنَاهُ مِنَ الْهَالِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ هُنَا بِمَعْنَى: صَارَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَخَذَ سُبْحَانَهُ مِيثَاقَ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَكِنَّ قَوْمًا أَجَابُوهُ طَوْعًا، لِأَنَّهُ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ، فَوَحَّدُوهُ، وَقَوْمًا أَجَابُوهُ كَرْهًا، لِأَنَّهُ سَتَرَ عَلَيْهِمْ، فَجَحَدُوهُ. وَلَا حُجَّةَ أَقْوَى مِنْ عِيَانِ مَا رُفِعَ فَوْقَهُمْ مِنَ الطَّوْرِ، وَلَكِنْ عَدِمُوا نُورَ الْبَصِيرَةِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ عِيَانُ الْبَصَرِ. قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، أَيْ رَجَعْتُمْ إِلَى الْعِصْيَانِ، بَعْدَ مُشَاهَدَتِكُمُ الْإِيمَانَ بِالْعِيَانِ، وَلَوْلَا حُكْمُهُ بِإِمْهَالِهِ، وَحُكْمُهُ بِإِفْضَالِهِ، لَعَاجَلَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَحَلَّ بِكُمْ عَظِيمُ الْمُصِيبَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: كَانَتْ نُفُوسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ ظُلُمَاتِ عصيانها، تخبط

_ (1) سورة يوسف: 12/ 24.

فِي عَشْوَاءَ حَالِكَةَ الْجِلْبَابِ، وَتَخْطُرُ، مِنْ غَلَوَائِهَا وَعُلُوِّهَا، فِي حُلَّتَيْ كِبْرٍ وَإِعْجَابٍ. فَلَمَّا أُمِرُوا بِأَخْذِ التَّوْرَاةِ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنْ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ، ثَارَتْ نُفُوسُهُمُ الْآبِيَةُ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ، فَوَجَدُوهُ أَثْقَلَ مِمَّا كُلِّفُوهُ، فَهَانَ عَلَيْهِمْ حَمْلُ التَّوْرَاةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ التَّكْلِيفِ وَالنَّصَبِ، إِذْ ذَاكَ أَهْوَنُ مِنَ الْهَلَاكِ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِلَى اللَّهِ يُدْعَى بِالْبَرَاهِينِ مَنْ أَبَى ... فَإِنْ لَمْ يُجِبْ نَادَتْهُ بِيضُ الصَّوَارِمِ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللَّامُ فِي لَقَدْ: هِيَ لَامُ تَوْكِيدٍ، وَتُسَمَّى: لَامُ الِابْتِدَاءِ فِي نَحْوِ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ. وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّ مَا كَانَ فِي حَيِّزِهَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ كِتَابًا فِي اللَّامَاتِ ذَكَرَهَا فِيهِ وَأَحْكَامَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِقِسْمٍ مَحْذُوفٍ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَبْهَتُوا فِي إِنْكَارِهَا، وَذَلِكَ لَمَّا نَالَ فِي عُقْبَى أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ مِنْ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً، فَاحْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَوْكِيدٍ، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً. وَعَلِمَ هُنَا كَعَرَفَ، فَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَعْيَانَ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: عَلِمْتُمْ أَحْكَامَ الَّذِينَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: اعْتِدَاءَ الَّذِينَ. وَالِاعْتِدَاءُ كَانَ عَلَى مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ مُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَعَرَّفَهُ فَضْلَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّشَرُّعِ فِيهِ، فَأَبَوْهُ وَتَعَدَّوْهُ إِلَى يَوْمِ السَّبْتِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنْ دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوهُ. وَامْتَحَنَهُمْ فِيهِ، بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ صَيْدَ الْحِيتَانِ. فَكَانَتْ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الْأَفْنِيَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَقِيلَ: حَتَّى تُخْرِجَ خَرَاطِيمَهَا مِنَ الْمَاءِ، وَكَانَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَيْلَةَ عَلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبَتِ الْحِيتَانُ، فَلَمْ يَظْهَرُوا لِلسَّبْتِ الْآخَرِ. فَبَقُوا عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا حَتَّى اشْتَهَوُا الْحُوتَ، فَعَمَدَ رَجُلٌ يَوْمَ السَّبْتِ، فَرَبَطَ حُوتًا بِخَزَمَةٍ، وَضَرَبَ لَهُ وَتَدًا بِالسَّاحِلِ. فَلَمَّا ذَهَبَ السَّبْتُ، جَاءَ فَأَخَذَهُ فَسَمِعَ قَوْمٌ بِفِعْلِهِ، فَصَنَعُوا مِثْلَ مَا صَنَعَ، وَقِيلَ: بَلْ حَفَرَ رَجُلٌ فِي غَيْرِ السَّبْتِ حَفِيرًا يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْبَحْرُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، خَرَجَ الْحُوتُ وَحَصَلَ فِي الْحَفِيرَةِ، فَإِذَا جَزَرَ الْبَحْرُ، ذَهَبَ الْمَاءُ مِنْ طَرِيقِ الْحَفِيرَةِ وَبَقِيَ الْحُوتُ، فَجَاءَ بَعْدَ السَّبْتِ فَأَخَذَهُ. فَفَعَلَ قَوْمٌ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَكَثُرَ ذَلِكَ، حَتَّى صَادُوهُ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَانِيَةً وَبَاعُوهُ فِي الْأَسْوَاقِ. فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ. وَقَدْ رُوِيَتْ زِيَادَاتٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاعْتِدَاءِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَصِحُّ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا صَحَّ عَنْ نَبِيِّهِ. مِنْكُمْ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنِينَ مِنْكُمْ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ.

فِي السَّبْتِ: مُتَعَلِّقٌ بِاعْتَدَوْا، إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ يَوْمَ، أَوْ حُكْمٌ. وَالْحَامِلُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ قِيلَ: الشَّيْطَانُ وَسْوَسَ لَهُمْ وَقَالَ: إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَخْذِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَمْ تُنْهَوْا عَنْ حَبْسِهَا، فَأَطَاعُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، ولم يجعل لَهُ عُقُوبَةٌ، وَتَشَبَّهَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ، وَفَعَلُوا لِفِعْلِهِ، ظَنُّوا أَنَّ السَّبْتَ قَدْ أُبِيحَ لَهُمْ، فَتَمَالَأَ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ كَبِيرٌ، فَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ. وَقِيلَ: أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا نَهَانَا اللَّهُ عَنْ أَسْبَابِ الِاكْتِسَابِ الَّتِي تَشْغَلُنَا عَنِ الْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ. وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ أوباشهم تحريا وَعِصْيَانًا، فَعَمَّ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِالْعَذَابِ. فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا: أَمْرٌ مِنَ الْكَوْنِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُمْ إِلَى مَا ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ تَكَسُّبٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا قَادِرِينَ عَلَى قَلْبِ أَعْيَانِهِمْ قِرَدَةً، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ سُرْعَةُ الْكَوْنِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ، وَمَجَازُهُ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ صَارُوا كَذَلِكَ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً. وَقِيلَ: لَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «2» ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ حَتَّى صَارَتْ كَقُلُوبِ الْقِرَدَةِ، لَا تَقْبَلُ وَعْظًا وَلَا تَعِي زَجْرًا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْقِيَ اللَّهُ لَهُمْ فَهْمَ الْإِنْسَانِيَّةِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ قِرَدَةً. وَرُوِيَ فِي بَعْضِ قَصَصِهِمْ: أَنِ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَأْتِيهِ الشَّخْصُ مِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَكَ؟ فَيَقُولُ لَهُ بِرَأْسِهِ: بَلَى، وَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَذَا الْمَسْخِ شَيْءٌ مِنْهُمْ خَنَازِيرُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الشَّبَابَ صَارُوا قِرَدَةً، وَالشُّيُوخَ صَارُوا خَنَازِيرَ، وَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نُهُوا، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِهِمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَخَ الْعَاصِينَ قِرَدَةً بِاللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّاجُونَ إِلَى مَسَاجِدِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ، فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا مِنَ الْهَالِكِينَ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا، فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الْأَبْوَابَ، كَمَا كَانَتْ مُغْلَقَةً بِاللَّيْلِ، فَوَجَدُوهُمْ قِرَدَةً يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. وَقِيلَ: إِنِ النَّاجِينَ قَدْ قَسَمُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَاصِينَ الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ تَبَرِّيًا مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا وَلَمْ تُفْتَحْ مَدِينَةُ الْهَالِكِينَ، فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمُ الْجِدَارَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ يَثِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَصَارُوا قِرَدَةً تعاوي، لها أذناب، بعد ما كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً. قِرَدَةً خاسِئِينَ: كِلَاهُمَا خَبَرُ كَانَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَدْ جمعوا بين القردة

_ (1) سورة النحل: 16/ 40. (2) سورة الجمعة: 62/ 5.

وَالْخُسُوءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاسِئِينَ صِفَةً لِقِرْدَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من اسْمِ كُونُوا. وَمَعْنَى خَاسِئِينَ: مُبْعَدِينَ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: خَاسِرِينَ، كَأَنَّهُ فَسَّرَ بِاللَّازِمِ، لِأَنَّ مَنْ أَبْعَدَهُ اللَّهُ فَقَدْ خَسِرَ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: عَلَى أَنَّ الَّذِينَ مَسَخَهُمُ اللَّهُ لَمْ يَأْكُلُوا، وَلَمْ يَشْرَبُوا، وَلَمْ يَنْسَلُوا، بَلْ مَاتُوا جَمِيعًا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُمْ عَاشُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَمَاتُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، وَكَانَ هَذَا فِي زَمَنِ دَاوُدَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَكَانُوا فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: أَيْلَةُ، وَقِيلَ: مَدْيَنُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: أَهِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَأَنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ» . وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُمْ عَاشُوا، وَأَنَّ الْقِرَدَةَ الْمَوْجُودِينَ الْآنَ مِنْ نَسْلِهِمْ. فَجَعَلْناها: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ أَوْ عَلَى الْأُمَّةِ، أَوْ عَلَى الْحَالَةِ، أَوْ عَلَى الْمَسَخَةِ، أَوْ عَلَى الْحِيتَانِ، أَوْ عَلَى الْعُقُوبَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ: كُونُوا، أَيْ فَجَعَلْنَا كَيْنُونَتَهُمْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ. نَكالًا: أَيْ عِبْرَةً، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ. لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها: أَيْ مِنَ الْقُرَى، وَالضَّمِيرُ لِلْقَرْيَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَمَا خَلْفَهَا: أَيِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ بَاقِينَ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا: أَيْ مَا دونها، وما خَلْفَهَا يَعْنِي: لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَالضَّمِيرُ لِلْأُمَّةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ ما بين يديها من ذُنُوبِ الْقَوْمِ، وَمَا خَلْفَهَا لِلْحِيتَانِ الَّتِي أَصَابُوا، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا: مَا مَضَى مِنْ خَطَايَاهُمُ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِمَّنْ شَاهَدَهَا، وَمَا خَلْفَهَا مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، قَالَهُ قُطْرُبٌ. أَوْ ما بين يديها من ذُنُوبِ الْقَوْمِ، وَمَا خَلْفَهَا لِمَنْ يُذْنِبُ بَعْدَهَا مِثْلَ تِلْكَ الذُّنُوبِ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا: مَنْ حَضَرَهَا من الناجين، وما خَلْفَهَا مِمَّنْ يَجِيءُ بَعْدَهَا. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا من عقوبة الآخرة، وما خَلْفَهَا فِي دُنْيَاهُمْ، فَيُذْكَرُونَ بِهَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا: لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، وما خَلْفَهَا: وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرَى الَّتِي لَمْ تَكُنْ، لِأَنَّ مَسْخَتَهُمْ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، فَاعْتَبَرُوا بِهَا، وَاعْتَبَرَ بِهَا مَنْ بَلَغَتْهُمْ مِنَ الْآخَرِينَ. أَوْ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ فَجَعَلْنَاهَا وَمَا خَلْفَهَا مِمَّا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ، نَكَالًا وَجَزَاءً، لَا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ لِاعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ. فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْأَقْرَبُ لِلصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: ما بين يديها: من يَأْتِي مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَهَا. وما خَلْفَهَا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ تَنَلْهُمُ الْعُقُوبَةُ، وَمَنْ قَالَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ، فَالْمُرَادُ أَهْلُهَا.

وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ: خَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «1» ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «2» . وَقِيلَ: أَرَادَ نَكَالًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: الْمُتَّقُونَ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ. وَقِيلَ: اللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَّقٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الَّذِينَ نُهُوا وَنَجَوْا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مُؤْمِنِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، وَمُؤْمِنِي غَيْرِهِمْ فِي كَيْنُونَةِ الْأَجْرِ لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُمْ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنْتَجَ لَهُمُ الْأَمْنَ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا خَوْفٌ مِمَّا يُسْتَقْبَلُ، وَلَا حُزْنٌ عَلَى مَا فَاتَ إِذْ مَنِ اسْتَقَرَّ لَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقَدْ أَدْخَلَ هَذِهِ الْآيَةَ بَيْنَ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْفَوْزَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَطَاعَ. وَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ آيَتَيْ عِقَابٍ: إِحْدَاهُمَا تَتَضَمَّنُ ضَرْبَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْأُخْرَى تَتَضَمَّنُ مَا عُوقِبُوا بِهِ مَنْ نَتْقِ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ، وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ، ثُمَّ تَوَلِّيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. فَأَعْلَمَتْ هذه الآية بحسن عَاقِبَةِ مَنْ آمَنَ، حَتَّى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي عُوقِبَ بِهَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ، تَرْغِيبًا فِي الْإِيمَانِ، وَتَيْسِيرًا لِلدُّخُولِ فِي أَشْرَفِ الْأَدْيَانِ، وَتَبْيِينًا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَجْلِبُ إِحْسَانَهُ وَفَضْلَهُ. وَتَضَمَّنَ قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ التَّذْكِيرَ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَنَّهُ رَفَعَ الطُّورَ فَوْقَهُمْ لِأَنْ يَتُوبُوا ويرجوا، وَأَنَّهُمْ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لَخَسِرُوا. ثُمَّ أَخَذَ يُذَكِّرُهُمْ مَا هُوَ فِي طَيِّ عِلْمِهِمْ مِنْ عُقُوبَةِ الْعَاصِينَ، وَمَآلِ اعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَأَنَّهُ بِاسْتِمْرَارِ الْعِصْيَانِ وَالِاعْتِدَاءِ فِي إِبَاحَةِ مَا حَظَرَهُ الرَّحْمَنُ، يُعَاقِبُ بِخُرُوجِ الْعَاصِي مِنْ طَوْرِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى طَوْرِ الْقِرْدِيَّةِ، فَبَيْنَا هُوَ يَفْرَحُ بِجَعْلِهِ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَيَمْرَحُ مُلْتَذًّا بِدَلَالِ الْخِطَابِ، نُسِخَ اسْمُهُ مِنْ دِيوَانِ الْكَمَالِ، وَنُسِخَ شَكْلُهُ إِلَى أَقْبَحِ مِثَالٍ، هَذَا مع ما أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّكَالِ، وَالْعُقُوبَاتُ عَلَى الْجَرَائِمِ جَارِيَةٌ عَلَى الْمِقْدَارِ، نَاشِئَةٌ عَنْ إِرَادَةِ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ، لَيْسَتْ مِمَّا تُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، فَيَخُوضُ فِي تَعْيِينِهَا أَلْبَابُ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ تَكُونُ تَنْبِيهًا لِلْغَافِلِ، عظة للعاقل.

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 55. (2) سورة النازعات: 79/ 45. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 إلى 74]

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) الْبَقَرَةُ: الْأُنْثَى مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ. وَالْبَاقِرُ وَالْبَقِيرُ وَالْبَيْقُورُ وَالْبَاقُورُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بَقَرَةً لِأَنَّهَا تَبْقُرُ الْأَرْضَ، أَيْ تَشُقُّهَا لِلْحَرْثِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْبَاقِرُ. وَكَانَ هُوَ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفُصَحَاءِ. الْعِيَاذُ وَالْمَعَاذُ: الِاعْتِصَامُ. الْفِعْلُ مِنْهُ: عَاذَ يَعُوذُ. الْجَهْلُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: جَهِلَ يَجْهَلُ، قِيلَ: وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَجِهَالٍ، وَهُوَ شَاذٌّ. قَالَ الشَّنْفَرَى: وَلَا تَزْدَهِي الْأَجْهَالُ حِلْمِي وَلَا أَرَى ... سَؤُولًا بِأَطْرَافِ الْأَقَاوِيلِ أَنْمُلُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ جَاهِلٍ، كَأَصْحَابٍ: جَمْعِ صَاحِبٍ. الْفَارِضُ: الْمُسِنُّ الَّتِي انْقَطَعَتْ وِلَادَتُهَا مِنَ الْكِبَرِ. يُقَالُ: فَرَضَتْ وَفَرُضَتْ تَفْرِضُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا، وَالْمَصْدَرُ فَرُوضٌ، وَالْفَرْضُ: الْقَطْعُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

كُمَيْتٍ بَهِيمِ اللَّوْنِ لَيْسَ بِفَارِضٍ ... وَلَا بِعَوَانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا قَدُمَ وَطَالَ أَمْرُهُ: فَارِضٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَا رُبَّ ذِي ضَغَنٍ عَلَيَّ فَارِضٍ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ وَكَأَنَّ الْمُسِنَّ سُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا، أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا، قَالَ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضًا ... تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ وَلَمْ تُعْطِهِ بِكْرًا فَيَرْضَى سَمِينَهُ ... فَكَيْفَ تُجَازَى بِالْمَوَدَّةِ وَالْفَضْلِ الْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ مِنَ الصِّغَرِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الَّتِي وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا. وَالْبِكْرُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا الرَّجُلُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الَّتِي لَمْ تَحْمَلْ. وَالْبِكْرُ مِنَ الْأَوْلَادِ: الْأَوَّلُ، وَمِنَ الْحَاجَاتِ: الْأُولَى. قَالَ الرَّاجِزُ: يَا بِكْرَ بِكْرَيْنِ وَيَا خِلْبَ الْكَبِدِ ... أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرَاعٍ مِنْ عَضُدِ وَالْبَكْرُ، بِفَتْحِ الْبَاءِ: الْفَتَى مِنَ الْإِبِلِ، وَالْأُنْثَى: بَكْرَةٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ، وَمِنْهُ الْبَكْرَةُ وَالْبَاكُورَةُ. وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ، وَقِيلَ: الَّتِي وَلَدَتْ مَرَّةً. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: الْعَوَانُ لَا تَعْلَمُ الْخِمْرَةَ، وَيُقَالُ: عَوَنَتِ الْمَرْأَةُ، وَحَرْبٌ عَوَانٌ، وَهِيَ الَّتِي قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَجُمِعَ عَلَى فُعُلٍ: قَالُوا عُوُنٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُعْتَلِّ مِنْ فَعَأَلٍ، وَيَجُوزُ ضَمُّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي الشِّعْرِ، مِنْهُ: وَفِي الْأَكُفِّ اللَّامِعَاتِ سُوُرٌ بَيْنَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُتَوَسِّطُ التَّصَرُّفِ، تَقُولُ: هُوَ بَعِيدٌ بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَنَقِيٌّ بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «1» ، وَدُخُولُهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا: بَيْنَ مَا تُمْكِنُ الْبَيْنِيَّةُ فِيهِ، وَالْمَالُ بَيْنَ زَيْدٍ وَبَيْنَ عمرو، مسموع مِنْ كَلَامِهِمْ، وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْمَكَانِيَّةِ إِلَى الزَّمَانِيَّةِ إِذَا لَحِقَتْهَا مَا، أَوِ الْأَلِفُ، فَيَزُولُ عَنْهَا الِاخْتِصَاصُ بِالْأَسْمَاءِ، فَيَلِيهَا إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ، وَرُبَّمَا أُضِيفَتْ بينا إلى المصدر. ولبين فِي عِلْمِ الْكُوفِيِّينَ بَابٌ مَعْقُودٌ كَبِيرٌ. اللَّوْنُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ عَلَى الْقِيَاسِ أَلْوَانٌ. وَاللَّوْنُ: النَّوْعُ، وَمِنْهُ أَلْوَانُ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 78.

الطَّعَامِ: أَنْوَاعُهُ. وَقَالُوا: فُلَانٌ مُتَلَوِّنٌ: إِذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى خُلُقٍ وَاحِدٍ وَحَالٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهُ: يَتَلَوَّنُ تَلَوُّنَ الْحِرْبَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِرْبَاءَ، لِصَفَاءِ جِسْمِهَا، أَيُّ لَوْنٍ قَابَلَتْهُ ظَهَرَ عَلَيْهَا، فَتَنْقَلِبُ مِنْ لَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ. الصُّفْرَةُ: لَوْنٌ مَعْرُوفٌ، وَقِيَاسُ الْفِعْلِ مِنْ هَذَا الْمَصْدَرِ: صَفِرَ، فَهُوَ أَصْفَرُ، وَهِيَ صَفْرَاءُ، كَقَوْلِهِمْ: شَهُبَ: فهو أشبه، وَهِيَ شَهْبَاءُ. الْفُقُوعُ: أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَبْلَغُهُ، يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَوَارِسٌ، وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَحَايِكٌ، وأبيض نفق وَلَمُقٌ، وَأَحْمَرُ قَانِيُّ وَزِنْجِيُّ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ وَمُدْهَامٌّ، وَأَزْرَقُ خطباني وأرمك رداني. السُّرُورُ: لَذَّةٌ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ حُصُولِ نَفْعٍ أَوْ تَوَقُّعِهِ أَوْ رُؤْيَةِ أَمْرٍ مُعْجِبٍ رَائِقٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: السُّرُورُ وَالْفَرَحُ وَالْحُبُورُ وَالْجَذَلُ نَظَائِرُ، وَنَقِيضُ السُّرُورِ: الْغَمُّ. الذَّلُولُ: الرَّيِّضُ الَّذِي زَالَتْ صُعُوبَتُهُ، يُقَالُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ، بِكَسْرِ الذَّالِ، وَرَجُلٌ ذَلِيلٌ: بَيِّنُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ، وَالْفِعْلُ: ذَلَّ يَذِلُّ. الْإِثَارَةُ: الِاسْتِخْرَاجُ وَالْقَلْقَلَةُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: يُهِيلُ وَيُذْرِي تُرْبَهَا وَيُثِيرُهُ ... إِثَارَةَ نَبَّاشِ الْهَوَاجِرِ مُخْمِسِ وَقَالَ النَّابِغَةُ: يُثِرْنَ الْحَصَى حَتَّى يُبَاشِرْنَ تُرْبَهُ ... إِذَا الشَّمْسُ مَجَّتْ رِيقَهَا بِالْكَلَاكِلِ الْحَرْثُ: مَصْدَرُ حَرَثَ يَحْرُثُ، وَهُوَ شَقُّ الْأَرْضِ لِيُبْذَرَ فِيهَا الْحَبُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا حُرِثَ وَزُرِعَ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ «1» . وَالْحَرْثُ: الزَّرْعُ، وَالْحَرْثُ: الْكَسْبُ، وَالْحَرَائِثُ: الْإِبِلُ، الْوَاحِدَةُ حَرِيثَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ الْحَارِثُ ، لِأَنَّ الْحَارِثَ هُوَ الْكَاسِبُ، وَاحْتِرَاثُ الْمَالِ: اكْتِسَابُهُ. الْمُسَلَّمَةُ: الْمُخَلَّصَةُ الْمُبَرَّأَةُ مِنَ الْعُيُوبِ، سَلَّمَ لَهُ كَذَا: أَيْ خَلَّصَ، سَلَامًا وَسَلَامَةً مِثْلُ: اللَّذَاذُ وَاللَّذَاذَةُ. الشِّيَةُ: مَصْدَرُ وَشَى الثَّوْبَ، يَشِيَهُ وَشْيًا وَشِيَةً: حَسَّنَهُ وَزَيَّنَهُ بِخُطُوطٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّاعِي فِي الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ: وَاشٍ، لِأَنَّهُ يُحَسِّنُ كَذِبَهُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يُقْبَلَ، وَالشِّيَةُ: اللُّمْعَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلَّوْنِ، وَمِنْهُ ثَوْرٌ مَوْشِيِّ الْقَوَائِمِ، قَالَ الشَّاعِرُ: مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي الْمَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ الْآنَ: ظَرْفُ زَمَانٍ، حَضَرَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْحُضُورِ. وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْفِعْلِ، يُقَالُ: آنَ يَئِينُ أَيْنًا: أَيْ حَانَ. الدَّرْءُ: الدَّفْعُ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ. وقال الشاعر:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 223.

فَنَكَّبَ عَنْهُمُ دَرْءَ الْأَعَادِي وادّار: تَفَاعُلٌ مِنْهُ، وَلِمَصْدَرِهِ حُكْمٌ يُخَالِفُ مَصَادِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَوَّلُهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. الْقَسَاوَةُ: غِلَظُ الْقَلْبِ وَصَلَابَتُهُ. يُقَالُ: قَسَا يَقْسُو قَسْوًا وَقَسْوَةً وَقَسَاوَةً، وَقَسَا وَجَسَا وَعَسَا مُتَقَارِبَةٌ. الشَّقُّ، أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ شِقَّيْنِ، وَتَشَقَّقَ مِنْهُ. الْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ مَعَ تَعَظُّمِ الْمَخْشِيِّ. يُقَالُ: خَشِيَ يَخْشَى. الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ مُتَقَارِبَةٌ. يُقَالُ مِنْهُ: غَفَلَ يَغْفُلُ، وَمَكَانٌ غُفْلٌ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الْآيَةَ. وُجِدَ قَتِيلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْمُهُ عَامِيلُ، وَلَمْ يَدْرُوا قَاتِلَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي سَبَبِ قَتْلِهِ. فَقَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ الْقَاتِلُ ابْنَ عَمِّ الْمَقْتُولِ، وَكَانَ مِسْكِينًا، وَالْمَقْتُولُ كَثِيرَ الْمَالِ. وَقِيلَ: كَانَ أَخَاهُ، وَقِيلَ: ابْنُ أَخِيهِ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ عُمْرُهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: كَانَ تَحْتَ عَامِيلَ بِنْتُ عَمٍّ لَا مِثْلَ لَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَقَتَلَهُ لِيَنْكِحَهَا. وَطَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَالَّذِي سَأَلَ مُوسَى الْبَيَانَ هُوَ الْقَاتِلُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَسَأَلُوا مُوسَى، وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُمْ فِي أَكْثَرِ أَنْبَائِهِمْ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَالتَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ «1» ، وَقَوْمُ مُوسَى أَتْبَاعُهُ وَأَشْيَاعُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَأْمُرُكُمْ، بِضَمِّ الرَّاءِ، وعن أبي عمرو: والسكون وَالِاخْتِلَاسُ وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَارِئِكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَاضِي إِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ بِمَا أَخْبَرَ مُوسَى، وَأَنْ تَذْبَحُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي ليأمر، وَهُوَ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ بِأَنْ تَذْبَحُوا. وَلِحَذْفِ الْحَرْفِ هُنَا مُسَوِّغَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ، إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ مُتَأَثِّرًا بِحَرْفِ الْجَرِّ، أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفُ، كَمَا قَالَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَالثَّانِي: كَوْنُهُ مَعَ إِنَّ، وَهُوَ يَجُوزُ مَعَهَا حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ. وَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَأَيُّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَوْ ذَبَحُوهَا لَكَانَ يَقَعُ الِامْتِثَالُ. وَقَدْ رَوَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 63.

الْحَسَنُ مَرْفُوعًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» . وَإِنَّمَا اخْتُصَّ الْبَقَرُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْبَقَرَ وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَاخْتُبِرُوا بِذَلِكَ، إِذْ هَذَا مِنَ الِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنْ يُؤْمَرَ الْإِنْسَانُ بِقَتْلِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَصِلَ الْخَيْرُ لِلْغُلَامِ الَّذِي كَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ. وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَمْ تَكُنْ مِنْ بَقَرِ الدُّنْيَا، بَلْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْبَقَرُ سَيِّدُ الْحَيَوَانَاتِ الْإِنْسِيَّةِ. وَقَرَأَ: أَتَتَّخِذُنا؟ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ هُوَ لِمُوسَى. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْيَاءِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. هُزُواً، قَرَأَ حَمْزَةُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَالْقَزَّازُ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ وَالْمُفَضَّلُ، بِإِسْكَانِ الزَّايِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: بِضَمِّ الزَّايِ وَالْوَاوِ بَدَلَ الْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ الزَّايِ وَالْهَمْزَةِ، وَفِيهِ ثَلَاثُ لغات التي قرىء بِهَا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ، أَيْ مهزوأ، كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَهَذَا خَلْقُ اللَّهِ، أَوْ يَكُونَ أُخْبِرُوا بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ أَتَتَّخِذُنَا نفس الهزؤ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِهْزَاءِ مِمَّنْ يَكُونُ جَاهِلًا، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مَكَانَ هُزُءٍ، أَوْ ذَوِي هُزُءٍ، وَإِجَابَتُهُمْ نَبِيَّهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، بِقَوْلِهِمْ: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً دَلِيلٌ عَلَى سُوءِ عَقِيدَتِهِمْ فِي نَبِيِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ صَحِيحٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمَا كَانَ جَوَابُهُمْ إِلَّا امْتِثَالَ الْأَمْرِ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا كُفْرٌ بِمُوسَى. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُصَدِّقِينَ، وَلَكِنْ جَرَى هَذَا عَلَى نَحْوِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ غِلَظِ الطَّبْعِ وَالْجَفَاءِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَالْعُذْرُ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى تَعْيِينَ الْقَاتِلِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا، رأوا تباين مَا بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَبُعْدَهُ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُوسَى دَاعَبَهُمْ، وَقَدْ لَا يَكُونُ أَخْبَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنَّ الْقَتِيلَ يُضْرَبُ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ فَيَحْيَا وَيُخْبِرُ بِمَنْ قَتَلَهُ، أَوْ يَكُونُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ إِحْيَاءِ مَيِّتٍ بِبَعْضِ مَيِّتٍ، فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَتَّخِذَنَا هُزُوًا؟ وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ حَقِيقَةً لَيْسَ فِيهِ إِنْكَارٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِرْشَادٍ لَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَعِنَادٍ. قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، لَمَّا فَهِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ إِنَّمَا هِيَ لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهَا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ، أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِاللَّهِ، فَيُخْبِرَ عَنْهُ بِأَمْرٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ تَعَالَى، إِذِ

الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ اللَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، فِيهِ تَصْرِيحٌ أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِينَ، وَاسْتَعَاذَ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ أَكُونَ مِنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا عَلَى مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَخُصُوصًا فِي التَّبْلِيغِ، عَنِ اللَّهِ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ بِالْكَذِبِ. قَالُوا: وَالْجَهْلُ بَسِيطٌ، وَمُرَكَّبٌ الْبَسِيطُ: عَامٌّ وَخَاصٌّ. الْعَامُّ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْخَاصُّ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْمُرَكَّبُ: أَنْ يَجْهَلَ، وَيَجْهَلَ أَنَّهُ يَجْهَلُ. فَالْعَامُّ وَالْمُرَكَّبُ لَا يُوصَفُ بِهِمَا مَنْ لَهُ بَعْضُ عِلْمٍ، فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ شُرِّفَ بِالرِّسَالَةِ وَالتَّكْلِيمِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ. فَالَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ مُوسَى هُوَ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى أَنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَهْزِئًا، أَوِ الْمُقَابِلُ لِجَهْلِهِمْ. فَقَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا لِمَنْ يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ، أَوْ مَعْنَاهُ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ، أَوْ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْجَوَابِ، لَا عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، إِذْ ذَاكَ جَهْلٌ، وَالْأَمْرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَأَنْسُبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ جَوَابِ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ إِلَى الْهُزُءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ السِّتَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى مُوسَى. قِيلَ: وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأَدَبِ، كَمَا اسْتَعَاذَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ «1» ، وَكَمَا فِي: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وَعَلِمُوا أَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانَ عَزِيمَةً وَطَلَبًا، جَازَ مَا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا فِيهِ تَعْنِيتٌ مِنْهُمْ وَقِلَّةُ طَوَاعِيَةٍ، إِذْ لَوِ امْتَثَلُوا فَذَبَحُوا بَقَرَةً، لَكَانُوا قَدْ أَتَوْا بِالْمَأْمُورِ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمَا. وَكَسْرُ الْعَيْنِ مِنِ ادْعُ لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا «2» ، وَجَزْمُ يُبَيِّنْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَمَا هِيَ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: سَلْ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ مَا هِيَ، وَمَفْعُولُ يُبَيِّنْ: هِيَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ، لِأَنَّ مَعْنَى يُبَيِّنْ لَنَا يُعْلِمُنَا مَا هِيَ، لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَلْزَمُهُ الْإِعْلَامُ، وَالضَّمِيرُ فِي هِيَ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يُبَيِّنْ لَنَا مَا الْبَقَرَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِذَبْحِهَا، وَلَمْ يُرِيدُوا تَبْيِينَ مَاهِيَّةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْوَصْفِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: مَا صِفَتُهَا؟ وَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِالْوَصْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ. وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَلَى طَرِيقِ التَّعَنُّتِ، كما

_ (1) سورة هود: 11/ 47. (2) سورة البقرة: 2/ 61.

قَدَّمْنَاهُ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْ بَقَرَةٍ مَيِّتَةٍ يُضْرَبُ بِهَا مَيِّتٌ فَيَحْيَا، إِذْ ذَاكَ فِي غَايَةِ الِاسْتِغْرَابِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْمَأْلُوفِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا قَوْلَهُ: أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ، فَسَأَلُوا تَبْيِينَ ذَلِكَ، إِذْ تَبْيِينُ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ، أَوْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُمْ تَكْلِيفَ الذَّبْحِ، لِثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرُوا بِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، كَيْفَ خَصُّوا لَفْظَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى مُوسَى، وَذَلِكَ لِمَا عَلِمُوا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا مُوسَى اسْتِرْشَادًا لَا عِنَادًا، إِذْ لَوْ كَانَ عِنَادًا لَكَفَرُوا بِهِ وَعُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُمْ، كَمَا عُجِّلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» ، وَفِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَفِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «2» . وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَجَابَهُ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ: صفة لبقرة، وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً بِلَا، وَجَبَ تَكْرَارُهَا، كَمَا قَالَ: وَفِتْيَانُ صِدْقٍ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ فَإِنْ جَاءَتْ غَيْرَ مُكَرَّرَةٍ، فَبَابُهَا الشِّعْرُ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُجْمَلِ، فَقَدَّرَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، أَيْ لَا هِيَ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْوَصْفُ بِالْمُفْرَدِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا حَذْفَ. عَوانٌ: تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ. بَيْنَ ذلِكَ: يَقْتَضِي بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَدْخُلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ التَّثْنِيَةُ فِيهِ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهَا إِلَّا اسْمُ إِشَارَةٍ مُفْرَدٌ، فَقِيلَ: أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مُفْرَدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَوَانٌ بَيْنَ مَا ذُكِرَ، فَصُورَتُهُ صُورَةُ الْمُفْرَدِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُثَنًّى، لِأَنَّ تَثْنِيَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَجَمْعَهُ لَيْسَ تَثْنِيَةً وَلَا جَمْعًا حَقِيقَةً، بَلْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ، قَالُوا: وَقَدْ أُجْرِىَ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، قَالَ رُؤْبَةُ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ كَأَنَّهُ؟ وَهَلَّا قُلْتَ: كَأَنَّهَا، فَيَعُودَ عَلَى الْخُطُوطِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا، فَيَعُودَ عَلَى السَّوَادِ وَالْبَلَقِ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَانَ ذَاكَ، وَقَالَ لَبِيدٌ: إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلَا ذَلِكَ وجه وقبل

_ (1) سورة المائدة: 5/ 24. (2) سورة النساء: 4/ 153.

قيل: أرادوا كلا ذَيْنِكَ، فَأَطْلَقَ الْمُفْرَدَ وَأَرَادَ بِهِ الْمُثَنَّى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَيُرِيدُ بِهِ ذَيْنِكَ، وَهَذَا مُجْمَلٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمَعْطُوفُ، لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَهَذَا، أَيْ بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أَبُو حجر إلا ليال قلائل أَيْ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَاغِيهِ، فَحُذِفَ لِفَهْمِ المعنى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أَيْ وَالْبَرْدَ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ عَوَانًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ أَحْوَالِهَا، فَالصَّغِيرَةُ نَاقِصَةٌ لِتَجَاوُزِهَا حَالَتَهُ. فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ: أَيْ مِنْ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَا تُكَرِّرُوا السُّؤَالَ، وَلَا تَعَنَّتُوا فِي أَمْرِ مَا أُمِرْتُمْ بِذَبْحِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. حرّضتم عَلَى امْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ، شَفَقَةً مِنْهُ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا تُؤْمَرُونَهُ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، إِذْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ، وَلِتَنَاسُبِ أَوَاخِرِ الْآيِ، كَمَا قُصِدَ تَنَاسُبُ الْإِعْرَابِ فِي أَوَاخِرِ الْأَبْيَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنَّ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ إِذْ آخِرُ الْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا قَوْلُهُ: وَمَا يَدْرُونَ أَيْنَ الْمَصَارِعُ وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: فَافْعَلُوا أَمْرَكُمْ، وَيَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَأْمُورَكُمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها لَمَّا تَعَرَّفُوا سِنَّ هَذِهِ، شَرَعُوا فِي تَعَرُّفِ لَوْنِهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، إذ قد تقدّم أمران: أَمْرُ اللَّهِ لَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، وَأَمْرُ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ، النَّاصِحِ لَهُمْ، الْمُشْفِقِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعُوا عَنِ السُّؤَالِ عَنْ لَوْنِهَا، وَالْقَوْلُ فِي: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَفِي جَزْمِ: يُبَيِّنْ، وَفِي الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفْهَمِ بِهَا وَالْمَحْذُوفِ بَعْدَهُ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهُ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ: قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ اللَّوْنُ الْمَعْرُوفُ: وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِالْفُقُوعِ وَالسُّرُورِ، فَهِيَ صَفْرَاءُ حَتَّى الْقَرْنُ وَالظِّلْفُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: عَنَى بِهِ هُنَا السَّوَادَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَصَفْرَاءُ لَيْسَتْ بِمُصْفَرَّةٍ ... وَلَكِنَّ سَوْدَاءَ مِثْلَ الْحُمَمْ

_ (1) سورة النحل: 16/ 81.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: صَفْرَاءُ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ خَاصَّةً. فاقِعٌ: أَيْ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَوِ الْخَالِصُ الصُّفْرَةِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، أَوِ الصَّافِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ. لَوْنُها: ذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَهُ فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ بفاقع، وفاقع صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَاقِعٌ. وَالثَّالِثُ: أنه مبتدأ، وتَسُرُّ النَّاظِرِينَ خَبَرٌ. وَأُنِّثَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِكَوْنِهِ أُضِيفَ إِلَى مُؤَنَّثٍ، كَمَا قَالُوا: ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ، إِذْ هُوَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صُفْرَتُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ: جَاءَتْهُ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا، عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ وَالْوَجْهُ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ إِعْرَابَ لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ، أَوْ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ خَبَرَهُ، فِيهِ تَأْنِيثُ الْخَبَرِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَكَوْنُ لونها فاعلا بفاقع جَارٍ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ، ولا يحتاج إلى تقديم، وَلَا تَأْخِيرٍ، وَلَا تَأْوِيلٍ، وَلَمْ يُؤَنِّثْ فَاقِعًا وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ، لِأَنَّهُ رفع السبي، وَهُوَ مُذَكَّرٌ فَصَارَ نَحْوَ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ حَسَنٌ أَبُوهَا، وَلَا يَصِحُّ هُنَا أَنْ يكون تابعا لصفراء عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُطَابَقَةَ، إِذْ ذَاكَ لِلْمَتْبُوعِ. أَلَاَ تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ أَسْوَدُ حَالِكٌ، وَسَوْدَاءُ حَالِكَةٌ، وَلَا يَجُوزُ سَوْدَاءُ حَالِكٌ؟ فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنِّي لَأَسْقِي الشَّرْبَ صَفْرَاءَ فَاقِعًا ... كَأَنَّ ذَكِيَّ الْمِسْكِ فِيهَا يُفَتَّقُ فَبَابُهُ الشِّعْرُ، إِذَا كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ صَفْرَاءَ فَاقِعَةً، وَجَاءَ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الصُّفْرَةِ، فَحَكَمَ عَلَيْهَا أَنَّهَا صَفْرَاءُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى اللَّوْنِ أَنَّهُ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، فَابْتَدَأَ أَوَّلًا بِوَصْفِ الْبَقَرَةِ بِالصُّفْرَةِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّوْنِ بِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ صَفْرَاءُ، وَلَوْنُهَا شَدِيدُ الصُّفْرَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا تَعَلُّقِ الصُّفْرَةِ لَفْظًا، إِذْ تَعَلَّقَتْ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِالْعَرَضِ الَّذِي هُوَ اللَّوْنُ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ أَيْضًا، لِأَنَّ مُطْلَقَ الصُّفْرَةِ مُخَالِفٌ لِشَدِيدِ الصُّفْرَةِ، وَمَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى التَّوْكِيدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ، فَهَلَّا قِيلَ: صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ؟ قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ، لِأَنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ، وَهِيَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: شَدِيدُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُهَا، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جَدَّ جِدُّهُ، وَجُنُونُكَ جُنُونٌ. اه كَلَامُهُ. وَقَالَ وَهْبٌ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ: أَيْ تُبْهِجُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا مِنْ سِمَنِهَا وَمَنْظَرِهَا وَلَوْنِهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا خَبَرًا، كَقَوْلِهِ: لَوْنُهَا، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَجَاءَ هَذَا الوصف بالفعل، ولم يجىء بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُشْعِرُ بِالْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ. وَلَمَّا

كَانَ لَوْنُهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ، جَاءَ الْوَصْفُ بِهِ بِالِاسْمِ لَا بِالْفِعْلِ، وَتَأَخَّرَ هَذَا الْوَصْفُ عَنِ الْوَصْفِ قَبْلَهُ، لأنه ناشىء عَنِ الْوَصْفِ قَبْلَهُ، أَوْ كالناشىء، لِأَنَّ اللَّوْنَ إِذَا كَانَ بَهِجًا جَمِيلًا، دَهِشَتْ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَعَجِبَتْ مِنْ حُسْنِهِ الْبَصَائِرُ، وَجَاءَ بِوَصْفِ الْجَمْعِ فِي النَّاظِرِينَ، لِيُوَضِّحَ أَنَّ أَعْيُنَ النَّاسِ طَامِحَةٌ إِلَيْهَا، مُتَلَذِّذَةٌ فِيهَا بِالنَّظَرِ. فَلَيْسَتْ مِمَّا تُعْجِبُ شَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ هِيَ بِصَدَدِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سُرَّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ هُنَا مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْفِكْرُ، فَيَكُونُ السُّرُورُ قَدْ حَصَلَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي بَدَائِعِ صُنْعِ اللَّهِ، مِنْ تَحْسِينِ لَوْنِهَا وَتَكْمِيلِ خَلْقِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي تَسُرُّ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَسُرُّ صِفَةٌ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي تَسُرُّ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ التَّأْنِيثِ، وَلِذَلِكَ مَنْ قَرَأَ يَسُرُّ بِالْيَاءِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّوْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْنُهَا مُبْتَدَأً، وَيَسُرُّ خَبَرًا، وَيَكُونَ فاقعا صفة تابعة لصفراء، عَلَى حَدِّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ وَهُوَ: وَإِنِّي لَأَسْقِي الشَّرْبَ صَفْرَاءَ فَاقِعًا عَلَى قِلَّةِ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْنُهَا فَاعِلًا بفاقع، ويسر إخبار مستأنف. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ مِنَ الْأَلْوَانِ السَّارَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهُهُ، يَرْغَبُ فِي النِّعَالِ الصُّفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصُّفْرَةُ تَبْسُطُ النَّفْسَ وَتُذْهِبُ الْهَمَّ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَحُضُّ عَلَى لُبْسِ النِّعَالِ الصُّفْرِ. وَنَهَى ابْنُ الزُّبَيْرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ لِبَاسِ النِّعَالِ السُّودِ، لِأَنَّهَا تُهِمُّ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ المرسي في ري الظَّمْآنِ وَجْهُ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، أَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ لَا تَصْلُحُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ آيَةً، لِمَا عَلِمُوا مِنْ نَاقَةِ صَالِحٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ آيَةً إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ، وَذَلِكَ لَمَّا نُبِّئُوا أَنَّهَا آيَةٌ، سَأَلُوا عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلُوا مُوسَى عَنْ ذَلِكَ، بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِالْآيَاتِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُقْتَضَاهُ الْإِطْلَاقُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِمُطْلَقِهِ لَمْ يَحْصُلِ التَّقَصِّي عَنِ الْأَمْرِ بِيَقِينٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا لَمْ يُمْكِنُ التَّمَاثُلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ، سَاغَ لَهُمُ السُّؤَالُ، فَأُخْبِرُوا بِسِنِّهَا، فَوَجَدُوا مِثْلَهَا فِي السِّنِّ كَثِيرًا، فَسَأَلُوا عَنِ اللَّوْنِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَزُلِ اللَّبْسُ بِذَلِكَ، فَسَأَلُوا عَنِ الْعَمَلِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، وَعَنْ بَعْضِ أَوْصَافِهَا الْخَاصِّ بِهَا، فَزَالَ اللَّبْسُ بِتَبْيِينِ السِّنِّ وَاللَّوْنِ وَالْعَمَلِ وَبَعْضِ

الْأَوْصَافِ، إِذْ وُجُودُ بَقَرٍ كَثِيرٍ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ يَنْدُرُ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى تَكْرَارِ السُّؤَالِ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ. إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا: هَذَا تَعْلِيلٌ لِتَكْرَارِ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى اسْتِقْصَاءِ أَوْصَافِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ تَشَابُهُهَا عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْبَقَرِ يُمَاثِلُهَا فِي السِّنِّ وَاللَّوْنِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: إِنَّ الْبَاقِرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: مَا لِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشًا ... خَلَقًا كَحَوْضِ الْبَاقِرِ الْمُتَهَدِّمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَشَابَهَ، جَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَزْنِ تفاعل، مسند الضمير الْبَقَرِ، عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ مُذَكَّرٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَشَابَهُ، بِضَمِّ الْهَاءِ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا مَحْذُوفَ التَّاءِ، وَمَاضِيهِ تَشَابَهَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ، عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ مُؤَنَّثٌ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ الشِّينَ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا وَمَاضِيهِ تَشَابَهُ، أَصْلُهُ: تَتَشَابَهُ، فَأُدْغِمَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَقَرَأَ مُحَمَّدٌ الْمُعَيْطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِذِي الشَّامَةِ: تُشُبِّهَ عَلَيْنَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: تَشَبَّهَ، جَعَلَهُ مَاضِيًا عَلَى تَفَعَّلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَشَّابَهُ، بِالْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا مِنْ تَفَاعَلَ، وَلَكِنَّهُ أَدْغَمَ التاء في الشين. وقرىء: مُتَشَبِّهٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَشَبَّهَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: يَتَشَابَهُ، مُضَارِعُ تَشَابَهَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تَشَابَهَتْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مُتَشَابِهٌ وَمُتَشَابِهَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: تَشَّابَهَتْ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلًا مَاضِيًا، وَبِتَاءِ التَّأْنِيثِ آخِرَهُ. فهذه اثنا عشر قِرَاءَةً. وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ظَاهِرٌ، إِلَّا قِرَاءَةَ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ تَشَّابَهَتْ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا وَجْهَ لَهَا. وَتَبْيِينُ مَا قَالَهُ: إِنَّ تَشْدِيدَ الشِّينِ إِنَّمَا يكون بإدغام التاء فيها، وَالْمَاضِي لَا يَكُونُ فِيهِ تَاءَانِ، فَتَبْقَى إِحْدَاهُمَا وَتُدْغَمُ الْأُخْرَى. وَيُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: اشَّابَهَتْ، وَالتَّاءُ هِيَ تَاءُ الْبَقَرَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ اشَّابَهَتْ عَلَيْنَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ لِحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي آخِرِ الْفِعْلِ، أَوِ اشَّابَهَتْ أَصْلُهُ: تَشَابَهَتْ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الشِّينِ وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. فَحِينَ أَدْرَجَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْقِرَاءَةَ، صَارَ اللَّفْظُ: أَنَّ الْبَقَرَةَ اشَّابَهَتْ، فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّ تَاءَ الْبَقَرَةِ هِيَ تَاءٌ فِي الْفِعْلِ، إِذِ النُّطْقُ وَاحِدٌ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ: تَشَّابَهَتْ، وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ رَأْسٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَمِمَّنْ أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ مُسْتَنْبِطِ عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ يُزْرِي عَلَى الْعَرَبِ وَعَلَى مَنْ يَسْتَشْهِدُ بِكَلَامِهِمْ، كَالْفَرَزْدَقِ، إِذَا جَاءَ فِي شِعْرِهِمْ مَا لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً لَا وَجْهَ

لَهَا، وَإِنَّ الْبَقَرَ تَعْلِيلٌ لِلسُّؤَالِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْ زَيْدًا إِنَّهُ عَالِمٌ، فَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى السُّؤَالِ هُوَ حُصُولُ تَشَابُهِ الْبَقَرِ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ: أَيْ لَمُهْتَدُونَ إِلَى عَيْنِ الْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا، أَوْ إِلَى مَا خَفِيَ مِنْ أَمْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرْنَا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ. وَفِي تَعْلِيقِ هِدَايَتِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنَابَةٌ وَانْقِيَادٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى نَدَمِهِمْ عَلَى تَرْكِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «ولم يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الْأَبَدِ» . وَجَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ، أَيْ إِنْ شاء الله اهتدينا، وإذ حُذِفَ الْجَوَابُ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ وَمَنْفِيًّا بِلَمْ، وَقِيَاسُ الشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى الْجَوَابِ، فَكَانَ التَّرْتِيبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ قَائِمٌ، لَكِنَّهُ تَوَسَّطَ هُنَا بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، لِيَحْصُلَ تَوَافُقُ رؤوس الْآيِ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِتَعْلِيقِ الْهِدَايَةِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَجَاءَ خَبَرُ إِنَّ اسْمًا، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَعَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ حَاصِلَةٌ لَهُمْ، وَأَكَّدَ بحر في التَّأْكِيدِ إِنَّ وَاللَّامِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِهَذَا الشَّرْطِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَخْبَرُوا بِثُبُوتِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ. وَأَكَّدُوا تِلْكَ النِّسْبَةَ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا لَمَا احْتِيجَ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا صَانِعُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالصُّنْعِ، فَذَكَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: إِنَّ قَوْمَ مُوسَى، مَعَ غِلَظِ أَفْهَامِهِمْ وَقِلَّةِ عُقُولِهِمْ، كَانُوا أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَأَكْمَلَ تَوْحِيدًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يهتدوا، وهم شاؤوا أَنْ لَا يَهْتَدُوا، فَغَلَبَتْ مَشِيئَتُهُمْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى: ما شاؤوا إلا كَمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا كَالْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ. لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، لَا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَمَنْ قَالَ هُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَا هِيَ ذَلُولٌ، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَتُثِيرُ الْأَرْضَ: صِفَةٌ لذلول، وهي صفة دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ إِثَارَتِهَا الْأَرْضَ، أَيْ لَا تُثِيرُ فَتَذِلَّ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمناره اللَّفْظُ نَفْيُ الذِّلِّ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْإِثَارَةِ، فَيَنْتَفِي كَوْنُهَا ذَلُولًا. وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ:

نَفْيَ مُعَادِلٍ لِقَوْلِهِ: لَا ذَلُولٌ. وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ، وَالصِّفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ لَا تَسْقِي مَنْفِيٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهَا لَمْ تُذَلَّلْ بِالْعَمَلِ، لَا فِي حَرْثٍ، وَلَا فِي سَقْيٍ، وَلِهَذَا نُفِيَ عَنْهَا إِثَارَةُ الْأَرْضِ وَسَقْيُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ تِلْكَ الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً، وَلِهَذَا وُصِفَتْ بِأَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ، وَلَا يُسْنَى عَلَيْهَا فَتُسْقِيَ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، فِعْلٌ مُثْبَتٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْبَقَرَةِ أَنَّهَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَتَحْرُثُهَا، وَنَفَى عَنْهَا سَقْيُ الْحَرْثِ. وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَا كَانَ يَحْرُثُ لَا يَنْتَفِي كَوْنُهُ ذَلُولًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى تُثِيرُ الْأَرْضَ بِغَيْرِ الْحَرْثِ بَطَرًا وَمَرَحًا، وَمِنْ عَادَةِ الْبَقَرِ، إِذَا بَطِرَتْ، تَضْرِبُ بِقَرْنِهَا وَأَظْلَافِهَا، فَتُثِيرُ تُرَابَ الْأَرْضِ، وَيَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْغُبَارُ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: لَا ذَلُولٌ، لِأَنَّ وَصْفَهَا بِالْمَرَحِ وَالْبَطَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا ذَلُولٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا ذَلُولٌ، صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ بِمَعْنَى: بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ، يَعْنِي: لَمْ تُذَلَّلْ لِلْحَرْثِ وَإِثَارَةِ الْأَرْضِ، وَلَا هِيَ مِنَ النَّوَاضِحِ الَّتِي يُسْنَى عَلَيْهَا بِسَقْيِ الْحُرُوثِ. وَلَا: الْأُولَى لِلنَّفْيِ، وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ وَتَسْقِي، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ صِفَتَانِ لذلول، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وَسَاقِيَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى جَعْلِ لَا الثَّانِيَةِ مَزِيدَةً صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ، وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا ذَلُولٌ، صِفَةٌ مَنْفِيَّةٌ بِلَا، وَإِذَا كَانَ الْوَصْفُ قَدْ نُفِيَ بِلَا، لَزِمَ تَكْرَارُ لَا النَّافِيَةِ، لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لَا كِرِيمٍ وَلَا شُجَاعٍ، وَقَالَ تَعَالَى: ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ «1» وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ «2» لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ بِغَيْرِ تَكْرَارٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهَا النَّفْيُ، إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَإِذَا آلَ تَقْدِيرُهُمَا إِلَى لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وَسَاقِيَةً، كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَكْرَارِ لَا النَّافِيَةِ، وَعَلَى مَا قَدَّرَاهُ كَانَ نَظِيرَ: جَاءَنِي رَجُلٌ لَا كِرِيمٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي شِعْرٍ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهَا مِنْ نَكِرَةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ قَوْلُهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَالنَّكِرَةُ هِيَ قَوْلُهُ: لَا ذَلُولٌ، أَوْ قَوْلُهُ: بَقَرَةٌ، فَإِنْ عَنَى بِالنَّكِرَةِ بَقَرَةً، فَقَدْ وُصِفَتْ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ جَائِزَةٌ جَوَازًا حَسَنًا، وَإِنْ عَنَى بِالنَّكِرَةِ لَا ذَلُولٌ، فَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، وَلَا أمعن

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 30 و 31. (2) سورة الواقعة: 56/ 43 و 44.

النَّظَرَ فِي كِتَابِهِ، بَلْ قَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فِي مَوَاضِعَ مَجِيءَ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، وَإِنْ لَمْ تُوصَفْ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْبَاعُ هُوَ الْوَجْهَ وَالْأَحْسَنَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَا يَكُونُ الِاسْمُ فِيهِ إِلَّا نَكِرَةً، وَقَدْ يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى نَصْبِ: هَذَا رَجُلٌ مُنْطَلِقًا، يُرِيدُ عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ عِيسَى، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَنَصَبَهُ كَنَصْبِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ جَعَلَهُ حَالًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ صِفَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ: مَرَرْتُ بِرِجُلٍ قَائِمًا، إِذَا جَعَلْتَ الْمُرُورَ بِهِ فِي حَالِ قِيَامٍ، وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا: فِيهَا رَجُلٌ قَائِمًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ: عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضَاءَ، وَالرَّفْعُ الْوَجْهُ، وَعَلَيْهِ مِائَةٌ دَيْنًا، الرَّفْعُ الْوَجْهُ، وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: مَرَرْتُ بِمَاءٍ قَعْدَةَ رَجُلٍ، وَالْوَجْهُ الْجَرُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ، لِأَنَّهُ قَبِيحٌ أَنْ يَكُونَ صِفَةً فَقَالَ: رَاقُودٌ خَلَا وَعَلَيْكَ نِحْيٌ سَمْنًا، وَقَالَ فِي بَابِ نَعَمْ، فَإِذَا قُلْتَ لِي عَسَلٌ مِلْءُ جَرَّةٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ شَعْرُ كَلْبَيْنِ، فَالْوَجْهُ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ، وَالنَّصْبُ يَجُوزُ كَنَصْبِهِ، عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضَاءَ، فَهَذِهِ نُصُوصُ سِيبَوَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لَمَا قَاسَهُ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْجَائِزِ لَا يُقَالُ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَاسَ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْبَاعُ لِلنَّكِرَةِ أَحْسَنَ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ مَا ذهب إليه أبو محمد هُوَ قَوْلُ الضُّعَفَاءِ فِي صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ، الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى كَلَامِ الْإِمَامِ. وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ يَكُونَ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي ذَلُولٌ تَقْدِيرُهُ: لَا تُذَلُّ فِي حَالِ إِثَارَتِهَا، وَالْوَجْهُ مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: لَا ذَلُولَ، بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَعْنَى لَا ذَلُولَ هُنَاكَ، أَيْ حَيْثُ هِيَ، وَهُوَ نَفْيٌ لِذِلِّهَا، وَلِأَنْ تُوصَفَ بِهِ فَيُقَالَ: هِيَ ذَلُولٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَا بَخِيلَ وَلَا جَبَانَ، أَيْ فِيهِمْ، أَوْ حَيْثُ هُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعَلَى مَا قَدَّرَهُ يَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، صِفَةً لِاسْمِ لَا، وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ خَبَرًا، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَنَافَرُ هَذَا التَّرْكِيبُ مَعَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ يَبْقَى كَلَامًا مُنْفَلِتًا مِمَّا بَعْدَهُ، إِذْ لَا تَحْصُلُ بِهِ الْإِفَادَةُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَيَكُونَ مَحَطَّ الْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها، لِأَنَّهَا صِفَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَهِيَ الْخَبَرُ فِي الْمَعْنَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى نَافِيًا ذِلَّةَ هَذِهِ البقر، إِذْ هِيَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْمَنْفِيِّ بِلَا الَّذِي بُنِيَ مَعَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي لَا ذَلُولَ، عَلَى قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ عَلَى

تَقْدِيرِ أَنَّ تُثِيرُ وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ بَقَرَةٌ، إِذِ الْعَائِدُ الَّذِي فِي تُثِيرُ وَفِي تَسْقِي ضَمِيرُ اسْمِ لَا، وَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تُثِيرُ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ يَكُونُ دَالًّا عَلَى نَفْيِ ذَلُولٌ مَعَ الْخَبَرِ عَنِ الْوُجُودِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَا عَلَيْهِ الْوُجُودُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْيُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْضِهِمْ وَإِلَى حَرْثِهَا وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. فَكَمَا يُتَعَقَّلُ انْتِفَاءُ ذَلُولٌ مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِ تُثِيرُ وَمَا بَعْدَهُ صِفَةً، لِأَنَّكَ قَيَّدْتَ الْخَبَرَ بِتَقْدِيرِكَهُ حَيْثُ هِيَ، فَصَلُحَ هَذَا النَّفْيُ، كَذَلِكَ يُتَعَقَّلُ انْتِفَاءُ ذَلُولٌ مَعَ الْخَبَرِ عَنْهُ، حَيْثُ اعْتُقِدَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْخَبَرَيْنِ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْأَرْضُ وَالْحَرْثُ، وَكَمَا تُقَدِّرُ مَا مِنْ ذَلُولٍ مُثِيرَةٍ وَلَا سَاقِيَةٍ حَيْثُ تِلْكَ الْبَقَرَةُ، كَذَلِكَ تُقَدَّرُ مَا مِنْ ذَلُولٍ تُثِيرُ أَرْضَهُمْ وَلَا تَسْقِي حَرْثَهُمْ. فَكِلَاهُمَا نَفْيٌ قَدْ تَخَصَّصَ، إِمَّا بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، وَإِمَّا بِتَعَلُّقِ الْخَبَرِ الْمُثْبِتِ. وَقَدِ انْتَفَى وَصْفُ البقرة بذلول وَمَا بَعْدَهَا، إِمَّا بِكَوْنِ الْجُمْلَةِ صِفَةً وَالرَّابِطُ الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ، وَإِمَّا بِكَوْنِ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، إِذْ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى رَابِطٍ يَرْبُطُهَا بِمَا قَبْلَهَا، إِذَا جَعَلْتَ تُثِيرُ خَبَرًا لَا يُقَالَ إِنَّ الرَّابِطَ هُنَا هُوَ الْعُمُومُ، إِذِ الْبَقَرَةُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ اسْمِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الرَّابِطَ بِالْعُمُومِ إِنَّمَا قِيلَ بِهِ فِي نَحْوِ: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ خِلَافُهُ. وَبَابُ نِعْمَ بَابٌ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، لَوْ قُلْتَ زَيْدٌ لَا رَجُلٌ فِي الدَّارِ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ لا عاقل في الدار، وَأَنْتَ تَعْنِي الْخَبَرَ وَالصِّفَةَ وَتَجْعَلُ الرَّابِطَ الْعُمُومَ، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، انْتَفَى زَيْدٌ فِيهَا، وَإِذَا قُلْتَ: لَا عَاقِلَ فِي الدَّارِ، انْتَفَى الْعَقْلُ عَنِ الْمُرُورِ بِهِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ تُثِيرُ وتسقي خبرا للا ذَلُولٌ، أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَتَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْإِثَارَةِ وَنَفْيِ السَّقْيِ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْجُمْلَتَيْنِ صِفَةً لِلْبَقَرَةِ. وَأَمَّا تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِذَلِكَ، بِمَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَا بَخِيلَ وَلَا جَبَانَ فِيهِمْ، أَوْ حَيْثُ هُمْ، فَتَمْثِيلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ صِفَةً لِقَوْمٍ لَيْسَ الرَّابِطُ فِيهَا الْعُمُومَ، إِنَّمَا الرَّابِطُ هَذَا الضَّمِيرُ، وَكَذَلِكَ مَا قَرَّرَهُ هُوَ الرَّابِطُ فِيهِ الضَّمِيرُ، إِذْ قَدَّرَهُ لَا ذَلُولَ هُنَاكَ، أَيْ حَيْثُ هِيَ، فَهَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، وَحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ كَمَا حَصَلَ فِي تَمْثِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فِيهِمْ، أَوْ: حَيْثُ هُمْ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أن قوله تَعَالَى: لَا ذَلُولٌ فِي قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ خَبَرٍ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. وَكَانَتْ قِرَاءَةُ

الْجُمْهُورِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمُفْرَدِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ فِي قِرَاءَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلَى أَحَدِ تَخْرِيجَيْهَا، تَكُونُ قَدْ بَدَأْتَ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ وَقَدَّمْتَهُ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ لَا ذَلُولٌ الْمَنْفِيُّ مَعَهَا جُمْلَةٌ وَمُسَلَّمَةٌ مُفْرَدٌ، فَقَدْ قَدَّمْتَ الْوَصْفَ بِالْجُمْلَةِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِتَسْقِي مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ سَقَى يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: تُسْقِي بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَسْقَى، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ قرىء: نَسْقِيكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا. مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ مِنَ الشِّيَاتِ وَالْأَلْوَانِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوْ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْحَرْثِ وَالسَّقْيِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَهَا أَعْفَوْهَا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْآخَرُ: أَوْ مُعْبِرُ الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلَيْتَهُ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا أَوْ مِنَ الْحَرَامِ، لَا غَصْبَ فِيهَا وَلَا سَرِقَةَ وَلَا غَيْرُهُمَا، بَلْ هِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ مُسَلَّمَةُ الْقَوَائِمِ وَالْخَلْقِ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، أَوْ مُسَلَّمَةٌ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لِتَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ، بَرِيئَةً مِنَ الْغُصُوبِ، مُكَمَّلَةَ الْخَلْقِ، شَدِيدَةَ الْأَسْرِ، كَامِلَةَ الْمَعَانِي، صَالِحَةً لِأَنْ تَظْهَرَ فِيهَا آيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَةُ رَسُولِهِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَمُسَلَّمَةٌ، بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنَ السَّلَامَةِ، وَقَالَهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ وَزْنَهَا مُفَعَّلَةٌ مِنَ السَّلَامَةِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الَّذِي فِي مُسَلَّمَةٌ لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، بَلْ هُوَ تَضْعِيفُ النَّقْلِ وَالتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: سَلَّمَ كَذَا، ثُمَّ إِذَا عَدَّيْتَهُ بِالتَّضْعِيفِ، فَالتَّضْعِيفُ هُنَا كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: فَرَّحْتُ زَيْدًا، إِذْ أَصْلُهُ: فَرِحَ زَيْدٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا أَصْلُهُ: سَلَّمَ زيد، ثُمَّ يُضَعَّفُ فَيَصِيرُ يَتَعَدَّى. فَلَيْسَ إِذَنْ هُنَا مُبَالَغَةٌ بَلْ هُوَ الْمُرَادِفُ لِلْبِنَاءِ المتعدّي بالهمزة. لاشية فِيهَا: أَيْ لَا بَيَاضَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: لَا وَضَحَ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ لَوْنَيْنِ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، أَوْ لَا عَيْبَ فِيهَا، أَوْ: لَا لَوْنَ يُخَالِفُ لَوْنَهَا مِنْ سَوَادٍ أَوْ بَيَاضٍ، أَوْ: لَا سَوَادَ فِي الْوَجْهِ وَالْقَوَائِمِ، وَهُوَ الشِّيَةُ فِي الْبَقَرِ، يُقَالُ ثَوْرٌ مُوَشًّى، إِذَا كَانَ فِي وَجْهِهِ وَقَوَائِمِهِ سَوَادٌ. وقيل: لا شِيَةَ فِيهَا، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: مُسَلَّمَةٌ، أَيْ خَلُصَتْ صُفْرَتُهَا عَنْ أَخْلَاطِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالثَّوْرُ الْأَشْيَهُ الَّذِي ظَهَرَ بَلَقُهُ، يُقَالُ: فَرَسٌ أَبْلَقُ، وَكَبْشٌ أَخْرَجُ، وَتَيْسٌ أَبْرَقُ، وَكَلْبٌ أَبْقَعُ، وَثَوْرٌ أَشْيَهُ. كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْبَلِقَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ الْأَشْيَهُ مَأْخُوذًا مِنَ الشِّيَةِ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ:

بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ، وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: حَذَفُ وَاوِ قَالُوا، إِذْ لَمْ يَعْتَدَّ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ، إِذْ هُوَ نَقْلٌ عَارِضٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: إِقْرَارُ الْوَاوِ اعْتِدَادًا بِالنَّقْلِ، وَاعْتِبَارًا لِعَارِضِ التَّحْرِيكِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَمْ تُحْذَفْ إِلَّا لِأَجْلِ سُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا. فَإِذَا ذَهَبَ مُوجِبُ الْحَذْفِ عَادَتِ الْوَاوُ إِلَى حَالِهَا مِنَ الثُّبُوتِ. وَانْتِصَابُ الْآنَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُمْ: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ إِلَى لَا شِيَةَ فِيها، وَالْعَامِلُ فِيهِ جِئْتَ، وَلَا يُرَادُ بِجِئْتَ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا فَجَاءَ، وَإِنَّمَا مَجَازُهُ نَطَقْتَ بِالْحَقِّ، فَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِجِئْتَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَأْتَ الْحَقَّ، أَيْ إِنَّ الْحَقَّ كَانَ لَمْ يَجِئْنَا فَأَجَأْتَهُ. وَهُنَا وَصْفٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ، أَيِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِشْكَالٌ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ مُحَاوَرَةٍ حَاوَرَهَا مَعَهُمْ جَاءَ بِالْحَقِّ، فَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ هَذَا الْوَصْفُ لَمَا كَانَ لِتَقْيِيدِهِمْ مَجِيئَهُ بِالْحَقِّ بِهَذَا الطَّرَفِ الْخَاصِّ فَائِدَةٌ. وَقَدْ ذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا وَصْفَ مَحْذُوفٌ هُنَا، وَقَالَ: كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَأْتِيهِمْ إِلَّا بِالْحَقِّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَالُوا: وَمَعْنَى بِالْحَقِّ: بِحَقِيقَةِ نَعْتِ الْبَقَرَةِ، وَمَا بَقِيَ فِيهَا إِشْكَالٌ. فَذَبَحُوها: قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَطَلَبُوهَا وَحَصَّلُوهَا، أَيْ هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْجَامِعَةَ لِلْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، وَتَحْصِيلُهَا كَانَ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ بِأَنَّهَا كَانَتْ وَحْشِيَّةً فَأَخَذُوهَا، أَوْ بِاشْتِرَائِهَا مِنَ الشَّابِّ الْبَارِّ بِأَبَوَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي تَظَافَرَتْ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَقَصَصًا كَثِيرًا مُضْطَرِبًا أَضْرَبْنَا عَنْ نَقْلِهِ صَفْحًا كَعَادَتِنَا فِي أَكْثَرِ الْقِصَصِ الَّذِي يَنْقُلُونَهُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا صَحَّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَنْ رَسُولِهِ فِي قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَما كادُوا يَفْعَلُونَ: كَنَّى عَنِ الذَّبْحِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُكَنَّى بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ. وَكَادَ فِي الثُّبُوتِ تَدُلُّ عَلَى الْمُقَارَبَةِ. فَإِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، فَمَعْنَاهُ مُقَارَبَةُ الْقِيَامِ، وَلَمْ يَتَلَبَّسْ بِهِ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُقَارَبَةِ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وُجُوبًا وَنَفْيًا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهَا إِذَا أُثْبِتَتْ، دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْخَبَرِ، وَإِذَا نُفِيَتْ، دَلَّتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْخَبَرِ، مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَذَبَحُوها يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ زَمَانُ نَفْيِ الْمُقَارَبَةِ وَالذَّبْحِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَمَا قَارَبُوا ذَبْحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ وَقَعَ الذَّبْحُ بَعْدَ أَنْ نَفَى مُقَارَبَتُهُ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَعَسَّرُوا فِي ذَبْحِهَا، ثُمَّ ذَبَحُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ. قِيلَ: وَالسَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ مَا كَادُوا يَذْبَحُونَ هُوَ: إِمَّا غَلَاءُ

ثَمَنِهَا، وَإِمَّا خَوْفُ فَضِيحَةِ الْقَاتِلِ، وَإِمَّا قِلَّةُ انْقِيَادٍ وَتَعَنُّتٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا عُهِدَ مِنْهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ: أَهِيَ الَّتِي أُمِرُوا أَوَّلًا بِذَبْحِهَا، وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا أَوَّلًا لَمَا وَقَعَ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ؟ أَمِ الْمَأْمُورُ بِهَا أَوَّلًا هِيَ بَقَرَةٌ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ مَخْصُوصَةً بِلَوْنٍ وَصِفَاتٍ، فَذَبَحُوا الْمَخْصُوصَةَ؟ فَكَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مَخْصُوصًا لِانْتِقَالِ الْحُكْمِ مِنَ الْبَقَرَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى الْبَقَرَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَيَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْمَخْصُوصَةَ يَتَنَاوَلُهَا الْأَمْرُ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ، فَلَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ، لَكَانُوا مُمْتَثِلِينَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الثَّانِي: هَلِ الْوَاجِبُ كَوْنُهَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهِيَ كَوْنُهَا لَا ذَلُولٌ إِلَى آخِرِهِ؟ أَمْ يَنْضَافُ إِلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي جَوَابِ السُّؤَالَيْنِ قَبْلُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْوَصْفِ الْأَخِيرِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا؟ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ هَذَا الثَّانِي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اشْتِرَاكُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا هي، وما لونها، وما هِيَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اشْتُهِرَ فِي الْإِخْبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ التَّسْهِيلِ بِالْأَشَقِّ، وَعَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «1» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ وَجُودِهِمَا وَنُزُولِهِمَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهِمَا، فَيَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَذَبَحُوهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا لَهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ السِّرِّ، ثُمَّ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرُ الْقَتِيلِ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ مَا كَانَ أَخْفَاهُ عَنْهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، وَلَا شَيْءَ يَضْطَرُّنَا إِلَى اعْتِقَادِ تَقَدُّمِ قَتْلِ الْقَتِيلِ. ثُمَّ سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ قَاتِلِهِ، إِذْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ مُتَقَدِّمًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ، وَيَكُونُ قَتْلُ الْقَتِيلِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَلَا إِلَى اعْتِقَادِ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ وَمَا بَعْدَهُ مُؤَخَّرًا فِي النُّزُولِ، مُتَقَدِّمًا فِي التِّلَاوَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ قَتْلِهِمْ مُقَدَّمًا فِي النُّزُولِ، مُتَأَخِّرًا فِي التِّلَاوَةِ، دُونَ تَعَرُّضٍ لِزَمَانِ وُجُودِ الْقِصَّتَيْنِ. وَإِنَّمَا حَمَلَ مَنْ حَمَلَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، اعْتِبَارَ مَا رَوَوْا مِنَ الْقَصَصِ الَّذِي لَا يَصِحُّ، إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ أَوْلَى، إِذِ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمُرَجِّحٍ، وَلَا مُرَجِّحَ، بَلْ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي تَكْلِيفِهِمْ أَوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ. هَلْ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَامْتِثَالُ التَّكَالِيفِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ حِكْمَةٌ أَعْظَمُ مِنِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 54.

امْتِثَالِ مَا تَظْهَرُ فِيهِ حِكْمَةٌ، لِأَنَّهَا طَوَاعِيَةٌ صِرْفٌ، وَعُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَاسْتِسْلَامٌ خَالِصٌ، بِخِلَافِ مَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، فَإِنَّ فِي الْعَقْلِ دَاعِيَةً إِلَى امْتِثَالِهِ، وَحَضًّا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الْقَتِيلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ، فَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ، وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ. فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى فِي الْوُجُودِ. فَأَمَّا التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّهُ تَارَةً يُقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ، وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفْتُمْ فَإِنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ الْقَاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ، بِأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَكَسَ، لَمَا كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً، وَلَذَهَبَ الْغَرَضُ فِي تَثْنِيَةِ التَّقْرِيعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ أَوَّلًا، ثُمَّ أُمِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَمْلَ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا وَأَنَّ الْقَتْلَ تَأَخَّرَ، كَحَالِهِمَا فِي التِّلَاوَةِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ حَسَنٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، فِي الْجُمَلِ، وَفِي الْكَلِمَاتِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَوْرَدَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا، مِنْ ذَلِكَ: قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَقَوْلُهُ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها «1» ، وَفِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا بِالتَّرَبُّصِ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ، وَبِمَتَاعٍ إِلَى الْحَوْلِ، إِذِ النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ، وَالْمَنْسُوخُ مُتَأَخِّرٌ. وَذَكَرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْكَلِمَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ عَلَى زَعْمِهِ كَثِيرًا، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مِنَ الضَّرَائِرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَنِسْبَةُ الْقَتِيلِ إِلَى جَمْعٍ، إِمَّا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ جَمْعٌ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِيهِمْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْقَبِيلَةِ، إِذَا وُجِدَ مِنْ بَعْضِهَا مَا يُذَمُّ بِهِ أَوْ يُمْدَحُ. فَادَّارَأْتُمْ فِيها قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَتَدَارَأْتُمْ، عَلَى وزن

_ (1) سورة هود: 11/ 41.

تَفَاعَلْتُمْ، وَهُوَ الْأَصْلُ، هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فَتَدَارَأْتُمْ عَلَى الْأَصْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَقَلَ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ أَبَا السَّوَّارِ قَرَأَ: فَدَرَأْتُمْ، بِغَيْرِ أَلِفٍ قَبْلَ الرَّاءِ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا التَّدَارُؤُ، وَهُوَ التَّدَافُعُ، أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَيْدِي، لِشِدَّةِ الِاخْتِصَامِ. وَيَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ طَرَحَ قَتْلَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَدَفَعَ الْمَطْرُوحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِلَى الطَّارِحِ، أَوْ بِأَنْ دَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتُّهْمَةِ وَالْبَرَاءَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهَا عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَتَلَةِ، فَيَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: عَلَى التُّهْمَةِ، فَيَعُودُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ. وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، مَا: مَنْصُوبٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ مَعْهُودٌ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَا تَكْرَارَ، إِذْ لَا تَجَدُّدَ فِيهِ، لِأَنَّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَمْ يَأْتِ بِالْفِعْلِ. وَجَاءَ اسْمُ الْفَاعِلِ مُعْمَلًا، وَلَمْ يُضَفْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَاضِيًا، لِأَنَّهُ حَكَى مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا وَقْتَ التَّدَارُؤِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا حَكَى الْحَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ «1» . وَدَخَلَتْ كَانَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى تَقَدُّمِ الْكِتْمَانِ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ وَقَاتِلِهِ، وَعَلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْقَتِيلِ وَغَيْرِهِ، فَيَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِهِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا كَتَمُوهُ عَنِ النَّاسِ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها : جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ التَّدَارُؤَ لَا يُجْدِي شَيْئًا، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى مُظْهِرٌ مَا كُتِمَ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ. وَالْهَاءُ فِي اضْرِبُوهُ عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، عَلَى تَذْكِيرِ النَّفْسِ، إِذْ فِيهَا التَّأْنِيثُ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَالتَّذْكِيرُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَإِذْ قَتَلْتُمْ ذَا نَفْسٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، فَرُوعِيَ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ: فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا، وَرُوعِيَ الْمَحْذُوفُ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ ،

_ (1) سورة الكهف: 18/ 18.

أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْقَتِيلِ، أَيْ، فَقُلْنَا: اضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا. الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِأَيِّ بَعْضٍ كَانَ، فَقِيلَ: ضَرَبُوهُ بِلِسَانِهَا، أَوْ بِفَخِذِهَا الْيُمْنَى، أَوْ بِذَنَبِهَا، أَوْ بِالْغُضْرُوفِ، أَوْ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ، وَهُوَ أَصْلُ الْأُذُنِ، أَوْ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، أَوْ بِالْعَجْبِ، وَهُوَ أَصْلُ الذَّنَبِ، أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، أَوْ بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِبَعْضِهَا لِلْآلَةِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ بِالْقَدُومِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، أَيْ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ، دَلَّ عَلَى ضَرَبُوهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، وَدَلَّ عَلَى فَحَيِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى. وَنُقِلَ أَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى جِيدِ الْقَتِيلِ، وَذَلِكَ قَبْلَ دَفْنِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مَكَثُوا فِي طَلَبِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَوْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أُمِرُوا بِطَلَبِهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِي صُلْبٍ وَلَا رَحِمٍ، فَلَا يَكُونُ الضَّرْبُ إِلَّا بَعْدَ دَفْنِهِ. قِيلَ: عَلَى قَبْرِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ الْمُبَاشَرُ بِالضَّرْبِ لَا الْقَبْرَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَامَ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ فَقَالَ: قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي، فَقَالَ بَنُو أَخِيهِ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ بَعْدَ مُعَايَنَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ مَكَانَهُ. وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ، لا بني عَمِّهِ، ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا، فَأُخِذَا وَقُتِلَا، وَلَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَ الضَّرْبُ بِمَيِّتٍ لَا حَيَاةَ فِيهِ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى ذِي شُبْهَةٍ أَنَّ الْحَيَاةَ إِنَّمَا انْقَلَبَتْ إِلَيْهِ مِمَّا ضُرِبَ بِهِ لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ وَتَتَأَكَّدَ الْحُجَّةُ. كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى : إِنَّ كَانَ هَذَا خِطَابًا لِلَّذِينِ حَضَرُوا إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ، كَانَ ثَمَّ إضمار قول: أي وقلنا لَهُمْ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدَّرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ خِطَابًا مِنْ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِنْ كَانَ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: كَمَا أُحْيِيَ قَتِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِانْتِظَامِ الْآيِ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَلِئَلَّا يَخْتَلِفَ خِطَابُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَخِطَابُ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قُلُوبُكُمْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْكَافُ مِنْ كَذَلِكَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ محذوف منصوب بقوله: يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى ، أَيْ إِحْيَاءً مِثْلَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ، يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَالْمُمَاثَلَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي مُطْلَقِ الْإِحْيَاءِ لاقى كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى نَفْسِ الْقَتِيلِ، وَيُحْتَاجُ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِثْلَ إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ، يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، فَجَعْلُهُ إِشَارَةً إِلَى الْمَصْدَرِ أَوْلَى وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْحَاضِرِينَ إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ،

فَحِكْمَةُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ، اطْمِئْنَانُ قُلُوبِهِمْ وَانْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ عَنْهُمْ، إِذِ الَّذِي كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ آمَنُوا بِهِ مُشَاهَدَةً. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ : ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ الِاسْتِئْنَافُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يُحْيِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ جَمْعٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهِيَ مَا أَرَاهُمْ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَالْعَصَا، وَالْحَجَرِ، وَالْغَمَامِ، وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالسِّحْرِ، وَالْبَحْرِ، وَالطُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ أَعْمَى النَّاسِ قُلُوبًا، وَأَشَدَّ قَسْوَةً وَتَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي شَاهَدُوا فِيهَا تِلْكَ الْعَجَائِبَ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، الْمُخْتَارِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى بَرَاءَةِ سَاحَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا، وَعَلَى تَعَيُّنِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَتْلَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ : أَيْ لَعَلَّكُمْ تَمْتَنِعُونَ مِنْ عِصْيَانِهِ، وَتَعْمَلُونَ عَلَى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ، مِنْ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا، لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، أَيْ كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ، وَإِنَّمَا شُرِطَ ذَلِكَ لِمَا فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ مِنَ التَّقَرُّبِ، وَأَدَاءِ التَّكْلِيفِ، وَاكْتِسَابِ الثَّوَابِ، وَالْإِشْعَارِ بِحُسْنِ تَقْدِيمِ الْقُرْبَةِ عَلَى الطَّلَبِ، وَمَا فِي التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ، لِتَشْدِيدِهِمْ مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ وَلِآخَرِينَ فِي تَرْكِ التَّشْدِيدِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَارْتِسَامِهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَفْتِيشٍ وَتَكْثِيرِ سُؤَالٍ، وَنَفْعِ الْيَتِيمِ بِالتِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى بَرَكَةِ الْبَرِّ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَتَجْهِيلِ الْهَازِئِ بِمَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ. وَبَيَانِ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُتَقَرِّبِ إِلَى رَبِّهِ: أَنْ يَتَنَوَّقَ فِي اخْتِيَارِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ، وَأَنْ يَخْتَارَهُ فَتِيَّ السِّنِّ غَيْرَ فَخْمٍ وَلَا ضَرِعٍ، حَسَنَ اللَّوْنِ بَرِيئًا مِنَ الْعُيُوبِ، يُونِقُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُغَالِيَ بِثَمَنِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ ضَحَّى بِنَجِيبَةٍ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْخِطَابِ نَسْخٌ لَهُ، وَأَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَإِمْكَانِهِ لِأَدَائِهِ إِلَى الْبَدْءِ، وَلِيَعْلَمَ بِمَا أُمِرَ مِنْ مَسِّ الْمَيِّتِ بِالْمَيِّتِ، وَحُصُولِ الْحَيَاةِ عَقِيبَهُ، وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمُسَبِّبُ لَا الْأَسْبَابُ، لِأَنَّ الْمَوْتَيْنِ الْحَاصِلَيْنِ فِي الْجِسْمَيْنِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا حَيَاةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً، انْتَزَعُوهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا مِنْ قِصَّةِ هذا القتل، وَلَا

يَظْهَرُ اسْتِنْبَاطُهُمْ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى حِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِيرَاثَ الْمَقْتُولِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُهُ. وَأَقُولُ: لَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ، إِنْ صَحَّتْ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي آخِرِهَا: فَمَا وَرِثَ قَاتِلٌ بَعْدَهَا مِمَّنْ قَتَلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وابن عباس وَابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، لَا مِنْ دِيَتِهِ، وَلَا مِنْ سَائِرِ مَالِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا: إِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَرِثَ. وَقَالَ عُثْمَانُ اللَّيْثِيُّ: يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ مِنْ دِيَتِهِ، وَلَا مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً، يَرِثُ مِنْ مَالِهِ دُونَ دِيَتِهِ. وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا قَتَلَ الْبَاغِي الْعَادِلَ، أَوِ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ، لَا يَتَوَارَثَانِ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ. وَقَالُوا: اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ، بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي، وَقَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافَهُ. وَقَالُوا فِي صِفَةِ الْبَقَرَةِ اسْتِدْلَالٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، قَالُوا: فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ بِصِفَاتِهِ، أَنَّهُ إِذَا حُصِرَ بِصِفَةٍ يُعْرَفُ بِهَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ خِلَافِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ اسْتِنْبَاطُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحْيِيَ مَيِّتَهُمْ لِيُفْصِحَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى قَاتِلِهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ لَهُمْ، فَجَعَلَ سَبَبَ حَيَاةِ مَقْتُولِهِمْ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ لَهُمْ صَارَتِ الْإِشَارَةُ مِنْهُ، أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَيَاةَ قَلْبِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِذَبْحِ نَفْسِهِ. فَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَاتِ حَيِيَ قَلْبُهُ بِأَنْوَارِ الْمُشَاهَدَاتِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ حَيَاةً فِي الْأَبَدِ أَمَاتَ فِي الدُّنْيَا ذِكْرَهُ بِالْخُمُولِ. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، مَعْنَى ثُمَّ قَسَتْ: اسْتِبْعَادُ الْقَسْوَةِ بعد ما ذَكَرَ مَا يُوجِبُ لِينَ الْقُلُوبِ وَرِقَّتَهَا وَنَحْوَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. انْتَهَى. وَهُوَ يُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ يَقْتَضِي الِاسْتِبْعَادَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «1» . وَهَذَا الِاسْتِبْعَادُ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعَطْفِ بِثُمَّ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَجِيءِ هذه الجمل ووقوعها بعد ما تَقَدَّمَ مِمَّا لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهَا، وَلِأَنَّ صُدُورَ هَذَا الْخَارِقِ الْعَظِيمِ الْخَارِجِ عَنْ مِقْدَارِ الْبَشَرِ، فِيهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ وَالْعِظَاتِ مَا يَقْتَضِي لِينَ الْقُلُوبِ وَالْإِنَابَةَ إِلَى الله

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 1. [.....]

تَعَالَى، وَالتَّسْلِيمَ لِأَقْضِيَتِهِ، فَصَدَرَ مِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ غِلَظِ الْقُلُوبِ وَعَدَمِ انْتِفَاعِهَا، بِمَا شَاهَدَتْ، وَالتَّعَنُّتِ وَالتَّكْذِيبِ، حتى نقل أنهم بعد ما حَيِيَ الْقَتِيلُ، وَأَخْبَرَ بِمَنْ قَتَلَهُ قَالُوا: كَذَبَ. وَالضَّمِيرُ فِي قُلُوبُكُمْ ضَمِيرُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُ، وَأَنْكَرُوا قَتْلَهُ. وَقِيلَ: قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا قَسَتْ بِمَعَاصِيهِمْ وَمَا ارْتَكَبُوهُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ. وَكَنَّى بِالْقَسْوَةِ عَنْ نُبُوِّ الْقَلْبِ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ الْمَوَاعِظَ لَا تَجُولُ فِيهَا. وَأَتَى بِمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْقَسْوَةَ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا عَقِيبَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ الْخَارِقِ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ يَقْتَضِي الْمُهْلَةَ، فَيَتَدَافَعُ مَعْنَى ثُمَّ، وَمَعْنَى مِنْ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَجَوُّزٍ فِي أَحَدِهِمَا. وَالتَّجَوُّزُ فِي ثُمَّ أَوْلَى، لِأَنَّ سَجَايَاهُمْ تَقْتَضِي الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْمَعَاصِي بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ، فَيَنْحَرِفُونَ إِثْرَهَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ عِنَادًا وَتَكْذِيبًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ قِيلَ: إِلَى إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ، وَقِيلَ: إِلَى كَلَامِ الْقَتِيلِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ، وَانْبِجَاسِ الْمَاءِ، وَإِحْيَاءِ الْقَتِيلِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ: يُرِيدُ فِي الْقَسْوَةِ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ حُكِمَ فِيهَا بِتَشْبِيهِ قُلُوبِهِمْ بِالْحِجَارَةِ، إِذِ الْحَجَرُ لَا يَتَأَثَّرُ بِمَوْعِظَةٍ، وَيَعْنِي أَنَّ قُلُوبَهُمْ صُلْبَةٌ، لَا تُخَلْخِلُهَا الْخَوَارِقُ، كَمَا أَنَّ الْحَجَرَ خُلِقَ صُلْبًا. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اعْتِيَاصَ قُلُوبِهِمْ لَيْسَ لِعَارِضٍ، بَلْ خُلِقَ ذَلِكَ فِيهَا خَلْقًا أَوَّلِيًّا، كَمَا أَنَّ صَلَابَةَ الْحَجَرِ كَذَلِكَ. وَالْكَافُ الْمُفِيدَةُ مَعْنَى التَّشْبِيهِ: حَرْفٌ وَفَاقًا لِسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ، خِلَافًا لِمَنِ ادَّعَى أَنَّهَا تَكُونُ اسْمًا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ عَنِ الْأَخْفَشِ. فَتَعَلُّقُهُ هُنَا بِمَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَهِيَ كَائِنَةٌ كَالْحِجَارَةِ، خِلَافًا لِابْنِ عُصْفُورٍ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ، وَدَلَائِلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحِجَارَةِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَجُمِعَتِ الْحِجَارَةُ وَلَمْ تُفْرَدْ، فَيُقَالَ كَالْحَجْرِ، فَيَكُونَ أَخْصَرَ، إِذْ دَلَالَةُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجِنْسِ كَدَلَالَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ، لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ جَمْعٌ، فَنَاسَبَ مُقَابَلَتَهُ بِالْجَمْعِ، وَلِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقَسْوَةِ، كَمَا أَنَّ الْحِجَارَةَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الصَّلَابَةِ. فَلَوْ قِيلَ: كَالْحَجَرِ، لَأَفْهَمَ ذَلِكَ عَدَمَ التَّفَاوُتِ، إِذْ يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ ذَلِكَ. أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى أَوْ لِلْإِبْهَامِ، أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، أَوْ لِلشَّكِّ، أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، أَقْوَالٌ: وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مَثَلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَالْأَحْسَنُ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ. وَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قُلُوبٌ كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَقُلُوبٌ أشد قسوة من الحجارة، فَأَجْمَلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، ثُمَّ فَصَّلَ وَنَوَّعَ إِلَى مُشَبَّهٍ بِالْحِجَارَةِ، وَإِلَى أَشَدَّ مِنْهَا،

إِذْ مَا كَانَ أَشَدُّ، كَانَ مُشَارِكًا فِي مُطْلَقِ الْقَسْوَةِ، ثُمَّ امْتَازَ بِالْأَشَدِّيَّةِ. وَانْتِصَابُ قَسْوَةً عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى تَقْتَضِيهِ الْكَافُ وَيَقْتَضِيهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْتَصِبُ عَنْهُ التَّمْيِيزُ. تَقُولُ: زيد كعمروا حِلْمًا، وَهَذَا التَّمْيِيزُ مُنْتَصِبٌ بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، مَنْقُولٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ نَقْلٌ غَرِيبٌ، فَتُؤَخِّرُ هَذَا التَّمْيِيزَ وَتُقِيمُ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ مُقَامَهُ. تَقُولُ: زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا مِنْ عَمْرٍو، وَتَقْدِيرُهُ: وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِ عَمْرٍو، فَأَخَّرْتَ وَجْهًا وَأَقَمْتَ مَا كَانَ مُضَافًا مُقَامَهُ، فَارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ، كَمَا كَانَ وَجْهُ مُبْتَدَأً، وَلَمَّا تَأَخَّرَ أَدَّى إِلَى حَذْفِ وَجْهٍ مِنْ قَوْلِكَ: مِنْ وَجْهِ عَمْرٍو، وَإِقَامَةِ عَمْرٍو مُقَامَهُ، فَقُلْتَ: مِنْ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَصْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِزِيَادَةِ الْحُسْنِ حَقِيقَةً لَيْسَ الرَّجُلَ إِنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ، وَنَظِيرُ هَذَا: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْحَسَنِ الْوَجْهِ، أَوِ الْوَجْهُ أَصْلُ هَذَا الرَّفْعِ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحُسْنِ حَقِيقَةً لَيْسَ هُوَ الرَّجُلَ إِنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ، وَإِنَّمَا أَوْضَحْنَا هَذَا، لِأَنَّ ذِكْرَ مَجِيءِ التَّمْيِيزِ مَنْقُولًا مِنَ الْمُبْتَدَأِ غَرِيبٌ، وَأَفْرَدَ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا عَنْ جَمْعٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا هُنَا هُوَ بِمِنْ، لَكِنَّهَا حُذِفَتْ، وَهُوَ مَكَانٌ حَسَّنَ حَذْفَهَا، إِذْ وَقَعَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَعُطِفَ، أَوْ أَشَدُّ، عَلَى قَوْلِهِ: كَالْحِجَارَةِ، فَهُوَ عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ عَلَى سَفَرٍ، أَوْ مُقِيمٌ، فَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي أَشَدُّ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً، فَيَصِيرَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ، التَّقْدِيرُ: أَوْ مِثْلُ أَشَدِّ، فُحُذِفَ مِثْلُ وَأُقِيمَ أَشَدُّ مُقَامَهُ، وَيَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَشَدُّ إِذْ ذَاكَ غَيْرَ عَائِدٍ عَلَى الْقُلُوبِ، إِذْ كَانَ الْأَصْلُ أَوْ مِثْلُ شَيْءٍ أَشَدَّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، فَالضَّمِيرُ فِي أَشَدُّ عَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ بأشدّ الْمَحْذُوفِ. وَيُعَضِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، بِنَصْبِ الدَّالِ عَطْفًا عَلَى، كَالْحِجَارَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَارَ إِلَى هَذَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَاصَّةً. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَلَهَا التَّوْجِيهُ السَّابِقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَا إِضْمَارَ فِيهِ، فَكَانَ أَرْجَحَ. وَقَدْ رَدَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي مُنْتَخَبِهِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، فَقَالَ: هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، لَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، فَكَيْفَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ: أَشَدُّ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ وَهِيَ أَشَدُّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ صَحِيحٌ، وَلَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، أَنَّ الْكَافَ اسْمٌ، إِنَّمَا يُرِيدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ مَرْفُوعٍ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْكَافِ عَنِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَقَوْلَهُ:

فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَشَدُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ هِيَ أَشَدُّ، قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوْلَى غَيْرُ هَذَا، لِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ أَشَدُّ قَسْوَةً؟ وَفِعْلُ الْقَسْوَةِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ، قُلْتُ: لِكَوْنِهِ أَبْيَنَ وَأَدَلَّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقْصَدَ مَعْنَى الْأَقْسَى، وَلَكِنْ قُصِدَ وَصْفُ الْقَسْوَةِ بِالشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اشْتَدَّتْ قَسْوَةُ الْحِجَارَةِ، وَقُلُوبُهُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَفِعْلُ الْقَسْوَةِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ أَنَّ قَسَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ الْمُجَوِّزَةِ لِبِنَاءِ ذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ مُجَرَّدٍ مُتَصَرِّفٍ تَامٍّ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ، وَالنَّقْصِ مُثْبَتٍ. وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَفْعَلَ، أَوْ مِنْ كَوْنٍ، أَوْ مِنْ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ خِلَافٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: أَوْ أَشَدُّ قَسَاوَةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ لِقَسَا أَيْضًا. وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ: لَمَّا شَبَّهَ تَعَالَى قُلُوبَهُمْ بِالْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا أَشَدُّ قَسْوَةً عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي مَفْهُومِ، أَوْ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَلِمَهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ صَلَابَةِ الْأَحْجَارِ، وَأَخَذَ يَذْكُرُ جِهَةَ كَوْنِ قُلُوبِهِمْ أَشَدَّ قَسْوَةً: وَالْمَعْنَى أَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ جَاسِيَةٌ صُلْبَةٌ لَا تُلَيِّنُهَا الْمَوَاعِظُ، وَلَا تَتَأَثَّرُ لِلزَّوَاجِرِ، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَقْبَلُ التَّخَلْخُلَ، وَأَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي قَبُولِ ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ التَّقْسِيمِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ. فَقَدْ فُضِّلَتِ الْأَحْجَارُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي أَنَّ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ التَّخَلْخُلَ، وَأَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ فِي شِدَّةِ الْقَسَاوَةِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ إِلَى آخِرِهِ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَجَرُ مِمَّنْ يَعْقِلُ لَسَقَطَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَشَقَّقَ مِنْ هَيْبَتِهِ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيكُمُ الْعَقْلَ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْأُمُورِ، وَالنَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقُلُوبُكُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَيْرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ: بَلْ أَخْبَرَ عَنِ الْحِجَارَةِ بِعَيْنِهَا، وَقَسَّمَهَا لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ كون قلوبهم أشد قسوة مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنَّ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ قَتَادَةُ: وَإِنْ مُخَفَّفَةً، وَكَذَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُعْمَلَةً، وَيَكُونَ مِنَ الْحِجَارَةِ في موضع خبرها، وما فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَا، وَهُوَ اسْمُهَا، وَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، أُدْخِلَتْ عَلَى الِاسْمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالِاسْمُ إِذَا تَأَخَّرَ جَازَ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً، وَإِعْمَالُهَا مُخَفَّفَةً لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ، وَهُمْ

مَحْجُوجُونَ بِالسَّمَاعِ الثَّابِتِ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ عمرو لَمُنْطَلِقٌ، بِسُكُونِ النُّونِ، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ لَا تَعْمَلُ فِي ضَمِيرِ لَا، تَقُولُ: إِنَّكَ مُنْطَلِقٌ، إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي الشَّعْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مُعْمَلَةً، بَلْ تَكُونُ ملغاة، وما فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. وَاللَّامُ فِي لَمَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لام الِابْتِدَاءِ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ وَإِنِ النَّافِيَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ سليمان الأخفش الصَّغِيرِ. وَأَكْثَرِ نُحَاةِ بَغْدَادَ، وَبِهِ قَالَ: مِنْ نُحَاةِ بِلَادِنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَخْضَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لَامٌ اخْتُلِسَتْ لِلْفَرْقِ، وَلَيْسَتْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَمِنْ كُبَرَاءِ بِلَادِنَا ابْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُعْرِبُونَ فِي إِنِ الْمُخَفَّفَةِ هُنَا إِلَّا هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّهَا الْمُلْغَاةُ، وَأَنَّ اللَّامَ فِي لَمَا لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ خَفَّفَ إِنْ، فَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ لَازِمَةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ الَّتِي بِمَعْنَى مَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ لَامُ التَّوْكِيدِ فِي لَمَا. وقال الزمخشري: وقرىء: وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ الَّتِي يَلْزَمُهَا اللَّامُ الْفَارِقَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ «1» ، وَجَعْلُهُمْ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثقيلة، هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَزَعَمَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، فَإِذَا قُلْتَ: إِنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ، فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَائِمٌ. وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ فَزَعَمَ أَنَّهَا إِنْ وَلِيَهَا فِعْلٌ، كَانَتْ إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ وَلِيَهَا اسْمٌ، كَانَتِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَذَهَبَ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّهَا إِذَا وَلِيَهَا فِعْلٌ، كَانَتْ بِمَعْنَى قَدْ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَا بِمِيمٍ مُخَفَّفَةٍ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، قَالَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَعَلَّهُ سَقَطَتْ وَاوٌ، أَيْ وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَإِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَحِينَئِذٍ يَعْسُرُ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. أَمَّا إِذَا قَرَأَ بِتَخْفِيفِ إِنْ، وَهُوَ الْمَظْنُونُ بِهِ ذَلِكَ، فَيَظْهَرُ تَوْجِيهُهَا بَعْضَ ظُهُورٍ، إِذْ تَكُونُ إِنْ نَافِيَةً، وَتَكُونُ لَمَّا بِمَنْزِلَةِ إِلَّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «2» ، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «3» ، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لما بالتشديد،

_ (1) سورة يس: 36/ 32. (2) سورة الطارق: 86/ 4. (3) سورة يس: 36/ 32. (4) سورة الزخرف: 43/ 35.

وَيَكُونُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُبْتَدَأُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَمَا مِنَ الْحِجَارَةِ حَجَرٌ إِلَّا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَكَذَلِكَ مَا فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» ، أَيْ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ «2» ، أَيْ وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ، وَحَذْفُ هذا المبتدأ أحسن، دلالة الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعْنَى الْحَصْرِ، إِذْ يَظْهَرُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ أَنَّ الْأَحْجَارَ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَمِنْهَا مَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَإِذَا حَصَرْتَ، أَفْهَمَ الْمَفْهُومُ قَبْلَهُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْأَحْجَارِ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، أَيْ تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَيَتَشَقَّقُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَيَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ إِذَا حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى الْقَابِلِيَّةِ، إِذْ كُلُّ حَجَرٍ يَقْبَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِيهِ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ. فَإِذَا تَلَخَّصَ هَذَا كُلُّهُ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مُتَوَجِّهَةً عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَقْرَأَ طَلْحَةُ، وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ. وَأَمَّا إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَإِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَعْسُرُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِنَّ الْمُشَدَّدَةَ هِيَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، مَعَ قِرَاءَةِ إِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، بِأَنْ يَكُونَ اسْمُ إِنَّ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ وَفِي قَوْلِهِ: فَلَيْتَ دَفَعْتَ الْهَمَّ عَنِّي سَاعَةً وَتَكُونُ لَمَّا بِمَعْنَى حِينَ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ، أَوْ حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ مِنْهَا مُنْقَادًا، أَوْ لَيِّنًا، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. فَإِذَا كَانُوا قَدْ حَذَفُوا الِاسْمَ وَالْخَبَرَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ فِي لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ: إِنَّ وَصَاحِبَهَا، فَحَذْفُ الِاسْمِ وَحْدَهُ أَسْهَلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَفَجَّرُ بِالْيَاءِ، مُضَارِعُ تَفَجَّرَ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَنْفَجِرُ بِالْيَاءِ، مُضَارِعُ انْفَجَرَ، وَكِلَاهُمَا مُطَاوِعٌ. أَمَّا يَتَفَجَّرُ فَمُطَاوِعُ تَفَجَّرَ، وَأَمَّا يَنْفَجِرُ فَمُطَاوِعُ فَجَرَ مُخَفَّفًا. وَالتَّفَجُّرُ: التَّفَتُّحُ بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالِانْفِجَارُ دُونَهُ، وَالْمَعْنَى: إن من الحجارة ما فِيهِ خُرُوقٌ وَاسِعَةٌ يَنْدَفِقُ مِنْهَا الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْغَمْرُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالضَّحَّاكُ: مِنْهَا الْأَنْهَارُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْهُ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى حَمْلٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ مَا لَهَا هُنَا لَفْظٌ وَمَعْنًى، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحِجَارَةُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مفردا

_ (1) سورة الصافات: 37/ 164. (2) سورة النساء: 4/ 159.

لِمَعْنًى، فَيَكُونَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَاحِدًا، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَلْحَجَرَ الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ، إِنَّمَا الْمَعْنَى لَلْأَحْجَارَ الَّتِي يَتَفَجَّرُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَنْهَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» الْآيَةَ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَجَرَ الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا. وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، التَّشَقُّقُ: التَّصَدُّعُ بِطُولٍ أَوْ بِعَرْضٍ، فَيَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ بِقِلَّةٍ حَتَّى لَا يَكُونَ نَهْرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَشَّقَّقُ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، وَأَصْلُهُ يَتَشَقَّقُ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الشِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَشَقَّقُ، بِالتَّاءِ وَالشِّينِ الْمُخَفَّفَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَرَأَيْتُهَا مَعْزُوَّةً لِابْنِ مُصَرِّفٍ. وَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. مَا نَصُّهُ: وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: يَنْشَقَّقُ، بِالنُّونِ وَقَافَيْنِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ اللِّسَانُ أَنْ يَكُونَ بِقَافٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَقَدْ يَجِيءُ الْفَكُّ فِي شِعْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِعُ مَجْزُومًا، جَازَ الْفَكُّ فَصِيحًا، وَهُوَ هُنَا مَرْفُوعٌ، فَلَا يَجُوزُ الْفَكُّ، إِلَّا أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيهَا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِعُ بِالنُّونِ مَعَ الْقَافَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْأُولَى مِنْهُمَا، فَلَا يَجُوزُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يجوز لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يجوز لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَتَشَقَّقُ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: تَتَفَجَّرُ فَأَنَّثَهُ لِتَأْنِيثِ الْأَنْهَارِ، وَلَا يَكُونُ فِي تَشَقَّقُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ مَا أَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّ مِنْهَا لَلْحِجَارَةَ الَّتِي تَشَّقَّقُ، وَأَمَّا يَشَّقَّقُ بِالْيَاءِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَلَمْ يُنْقَلْ هُنَا أَنَّ أَحَدًا قَرَأَ مِنْهَا الْمَاءُ، فَيُعِيدُ عَلَى الْمَعْنَى، إِنَّمَا نُقِلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَمَا يتفجر منه الأنهار، فكان قوله يتفجر حملا على اللفظ ومنها حملا على المعنى ومحسن هذا هنا انه ولى الضمير جمع وهو الْأَنْهَارُ، فَنَاسَبَ الْجَمْعُ الْجَمْعَ، وَلِأَنَّ الْأَنْهَارَ مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمْعٌ، يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ حَجَرٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ مِنْ أَحْجَارٍ، فَلِذَلِكَ نَاسَبَ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى هُنَا. وَأَمَّا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، فَالْمَاءُ لَيْسَ جَمْعًا، فَلَا يُنَاسِبُ فِي حَمْلِ مِنْهُ عَلَى الْمَعْنَى، بَلْ أَجْرَى يشقق، ومنه عَلَى اللَّفْظِ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، الْهُبُوطُ هُنَا: التَّرَدِّي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَهْبُطُ، بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَخَشْيَةُ اللَّهِ: خَوْفُهُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا حَقِيقَةٌ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُ: مِنْ خَشْيَةِ الْحِجَارَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنَّ اللَّهَ تعالى جعل لهذه

_ (1) سورة البقرة: 2/ 25.

الْأَحْجَارِ الَّتِي تَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَمْيِيزًا قَامَ لَهَا مَقَامَ الْفِعْلِ الْمُودَعِ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ بِالْخَشْيَةِ، وَبَعْضَهَا بِالْإِرَادَةِ، وَوَصَفَ جَمِيعَهَا بِالنُّطْقِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّأْوِيبِ وَالتَّصَدُّعِ، وَكُلُّ هَذِهِ صِفَاتٌ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «1» الْآيَةَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «2» ، يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «3» ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ وَأَنَّهُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ مَا مَرَّ بِحَجْرٍ وَلَا مُدَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ» . وَفِي حَدِيثِ الْحَجَرِ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَارَ يَعْدُو خَلْفَهُ وَيَقُولُ: «ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ» . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أُحُدٍ: «إِنَّ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . وَفِي حَدِيثِ حِرَاءٍ: «لَمَّا اهْتَزَّ اسْكُنْ حِرَاءُ» . وَفِي حَدِيثِ: «تَسْبِيحِ صِغَارِ الْحَصَى بِكَفِّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَأَحَادِيثُ أُخَرُ عَلَى نُطْقِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَانْقِيَادِ الشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةً مُمَيِّزَةً، وَصِفَةً نَاطِقَةً، وَحَرَكَةً اخْتِيَارِيَّةً، لَمَا صَدَرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا حَسُنَ وَصْفُهَا بِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَجَرِ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْبَرَدُ، وَالْمُرَادُ بِخَشْيَةِ اللَّهِ: إِخَافَتُهُ عِبَادَهُ، فَأَطْلَقَ الْخَشْيَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِخْشَاءَ، أَيْ نُزُولُ الْبَرَدِ بِهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَيَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَكَلَّفٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. وَالْبَرَدُ لَيْسَ بِحِجَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَدَّ عِنْدَ النُّزُولِ، فَهُوَ مَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْعِبَادُ. والمعنى: إن من الحجارة مَا يَنْزِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ عِنْدِ الزَّلْزَلَةِ مِنْ خَشْيَةِ عِبَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَتَحْقِيقُهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا خَشْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَتْ تِلْكَ الْخَشْيَةُ كَالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي ذَلِكَ الْهُبُوطِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَمَا يَهْبِطُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ مِنَ الْقُلُوبِ قُلُوبًا تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ، وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَنَّى بِالْهُبُوطِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ قُلُوبَ الْمُخْلِصِينَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ مِنْها، فَظَاهِرُ الكلام

_ (1) سورة الحشر: 59/ 21. (2) سورة الإسراء: 17/ 44. (3) سورة سبأ: 34/ 10.

التَّقْسِيمُ لِلْحِجَارَةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ، وَالْهُبُوطُ لَا يَلِيقُ بِالْقُلُوبِ، إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْحِجَارَةِ. وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْهُبُوطِ بِأَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْخَشْيَةِ إِنْ تَأَوَّلْنَاهَا. وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ حَمْلَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ جَعَلَهُ دَكًّا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا مَجَازٌ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا اسْتُعِيرَتِ الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ «1» ، وَكَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ: بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حُجُرَاتِهِ ... تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ أَيْ مَنْ رَأَى الْحَجَرَ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، تَخَيَّلَ فِيهِ الْخَشْيَةَ، فَاسْتَعَارَ الْخَشْيَةَ، كِنَايَةً عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا. فَمَنْ يَرَاهَا يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الِانْفِعَالَ السَّرِيعَ هُوَ مَخَافَةُ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ لَا يَحِلَّانِ فِي الْجَمَادَاتِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ. وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَا مَلَائِكَةً، هِيَ الَّتِي تُسَلِّمُ وَتَتَكَلَّمُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تُنَادِي: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي. وَالْأَرْحَامُ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وَلَا لَهَا إِدْرَاكٌ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَسْجُدَ الْمَعَانِي، أَوْ تَتَكَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مَلَكًا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَتَأَوَّلُوا: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونحبه، أي يحبه أَهْلُهُ وَنُحِبُّ أَهْلَهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» . وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْحِجَارَةِ قَدْرًا مَا مِنَ الْإِدْرَاكِ، تَقَعُ بِهِ الْخَشْيَةُ وَالْحَرَكَةُ. وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْخَشْيَةَ مَجَازٌ عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ امْتِنَاعِهَا، وَتَرْتِيبُ تَقْسِيمِ هَذِهِ الْحِجَارَةِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَهُوَ عَلَى حَسَبِ التَّرَقِّي. فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالَّذِي تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، أَيْ خُلِقَ ذَا خُرُوقٍ مُتَّسِعَةٍ، فَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ تَفَعُّلٌ وَلَا فِعْلٌ، أَيْ أَنَّهَا خُلِقَتْ ذَاتَ خُرُوقٍ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا صُدُورُ فِعْلٍ مِنْهَا. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا يَسِيرًا، وَهُوَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ تَشَقُّقٌ بِحَيْثُ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَتَدَهْدَهُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، ثُمَّ رَسَّخَ هَذَا الانفعال التامّ بأن

_ (1) سورة الكهف: 18/ 77. (2) سورة يوسف: 12/ 82.

ذَلِكَ هُوَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ طَوَاعِيَتِهِ وَانْقِيَادِهِ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، فَكَنَّى بِالْخَشْيَةِ عَنِ الطَّوَاعِيَةِ وَالِانْقِيَادِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ أَطَاعَ وَانْقَادَ. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: هَذَا فِيهِ وَعِيدٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَفْهَمَ أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ أَفْعَالٌ فَاسِدَةٌ وَأَعْمَالٌ قَبِيحَةٌ، مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُعَانَدَةِ رُسُلِهِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، بَلْ هُوَ تَعَالَى يُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا كَانَ مُجَازِيًا عَلَيْهَا. وَالْغَفْلَةُ إِنْ أُرِيدَ بِهَا السَّهْوُ، فَالسَّهْوُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا التَّرْكُ عَنْ عَمْدٍ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْغَفْلَةَ عَنْهُ. وَانْتِفَاءُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا، وَلِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ يُوهِمُ جَوَازَ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ «1» ؟ وَقَوْلِهِ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «2» ، فَقَدْ نَفَى عَنْهُ تَعَالَى مَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ لَهُ. وبغافل: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا حِجَازِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا تَمِيمِيَّةً، فَدَخَلَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَسَوَّغَ ذَلِكَ النَّفْيُ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُوجَبِ؟ لَا تَقُولُ: زَيْدٌ بِقَائِمٍ، وَلَا: مَا زَيْدٌ إِلَّا بِقَائِمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِغَافِلٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ مَا، لِأَنَّهَا الْحِجَازِيَّةُ، يُقَوِّي ذَلِكَ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ قَدْ تَجِيءُ شَاذَّةً مَعَ التَّمِيمِيَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ، مِنْ أَنَّ الْبَاءَ مَعَ التَّمِيمِيَّةِ قَدْ تَجِيءُ شَاذَّةً، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، بَلِ الْقَائِلُونَ قَائِلَانِ، قَائِلٌ: بِأَنَّ التَّمِيمِيَّةَ لَا تَدْخُلُ الْبَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ بَعْدَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَائِلٌ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجَرَّ بِالْبَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ وَأَشْعَارُ بَنِي تَمِيمٍ تَتَضَمَّنُ جَرَّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ كَثِيرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى نَسَقِ قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ بَنِي إسرائيل، ويكون ذلك

_ (1) سورة البقرة: 2/ 255. (2) سورة الأنعام: 6/ 14. [.....]

الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنْ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ. وحكمة هذا الالتفات أنه أَعْرَضَ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ، وَأَبْرَزَهُمْ فِي صُورَةِ مَنْ لَا يُقْبَلُ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، وَجَعَلَهُمْ كَالْغَائِبِينَ عَنْهُ، لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الشَّخْصِ وَمُوَاجَهَتَهُ بِالْكَلَامِ إِقْبَالٌ مِنَ الْمُخَاطِبِ عَلَيْهِ، وَتَأْنِيسٌ لَهُ، فَقَطَعَ عَنْهُمْ مُوَاجَهَتَهُ لَهُمْ بِالْخِطَابِ، لِكَثْرَةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ فُصُولًا عَظِيمَةً، وَمُحَاوَرَاتٍ كَثِيرَةً، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، شَافَهَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَلَمْ يُبَادِرُوا لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخْرَجُوا ذَلِكَ مُخْرَجَ الْهُزُؤِ، إِذْ لَمْ يَفْهَمُوا سِرَّ الْأَمْرِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرُوا بِالِامْتِثَالِ، فَأَجَابَهُمْ مُوسَى بِاسْتِعَاذَتِهِ بِاللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَهِلَ، فَيُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، فَرَدَّ عليهم بأن استعمال الهزء فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ تعالى، وفي غيره، وهو يَسْتَعِيذُ مِنْهُ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَتَعَنَّتُوا فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي أَوْصَافِهَا، وَكَانَ يُجْزِئُهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، إِذِ الْمَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُطْلَقَةٌ، فَسَأَلُوا مَا هِيَ؟ وَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَهَا لَهُمْ، إِذْ كَانَ دُعَاؤُهُ أَقْرَبَ لِلْإِجَابَةِ مِنْ دُعَائِهِمْ، فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِسِنِّهَا. ثُمَّ خَافَ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَمِنْ تَعَنُّتِهِمْ، كَمَا جَاءَ، إِنَّمَا أَهْلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَبَادَرَ إِلَى أَمْرِهِمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ، حَتَّى قَطَعَ سُؤَالَهُمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ثَانِيًا عَنْ لَوْنِهَا، إِذْ قَدْ أُخْبِرُوا بِسِنِّهَا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَوْنِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ ثَانِيًا أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، إِذْ عَلِمَ مِنْهُمْ تَعَنُّتَهُمْ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَخَالَفُوا أَمْرَ مُوسَى ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ. فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ أَبْقَاهُمْ عَلَى طَبِيعَتِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَسَأَلُوا ثَالِثًا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ عَنْهَا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ وَبَاقِي الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا، فَحِينَئِذٍ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُوسَى جَاءَ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الَّذِي بَيَّنَ أَمْرَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَالْتَمَسُوهَا حَتَّى حَصَّلُوهَا وَذَبَحُوهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بَعْدَ تَرْدِيدٍ كَثِيرٍ وَبُطْءٍ عَظِيمٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَارَبُوا ذَبْحَهَا، بَلْ بَقُوا مُتَطَلِّبِينَ أَشْيَاءَ لِيَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ تَحْصِيلُهَا وَذَبْحُهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَتَدَافُعِهِمْ فِيمَنْ قَتَلَهَا، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَأُمِرُوا بِأَنْ يَضْرِبُوا ذَلِكَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ، فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَانْكَشَفَ لَهُمْ سِرُّ أَمْرِ اللَّهِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُعْجِزِ الْخَارِقِ، مَا

[سورة البقرة (2) : الآيات 75 إلى 82]

يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الدَّالُّ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِثْلَ هذ الْإِحْيَاءِ يُحْيِي الْمَوْتَى، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْيَاءَيْنِ فِي مُطْلَقِ الْإِحْيَاءِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُرِيهِمْ آيَاتِهِ، لِيَنْتِجَ عَنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ كَوْنُهُمْ يَصِيرُونَ مِنْ أُولِي الْعَقْلِ، النَّاظِرِينَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، الْمُفَكِّرِينَ فِي الْمَعَادِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى مُشَاهَدَتِهِمْ هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، وَرُؤْيَتِهِمُ الْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَتَأَثَّرُوا لِذَلِكَ، بَلْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عَكْسُ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْقَسْوَةِ الشَّدِيدَةِ، حَتَّى شَبَّهَ قُلُوبَهُمْ بِالْحِجَارَةِ، أَوْ هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ لِذِكْرِ الْحِجَارَةِ بِالتَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ، عَلَى أَنَّ الْحِجَارَةَ تَفْضُلُ قُلُوبَهُمْ فِي كَوْنِ بَعْضِهَا يَتَأَثَّرُ تَأْثِيرًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَتَدَهْدَهُ، وَكَوْنِ بَعْضِهَا يَتَشَقَّقُ فَيَتَأَثَّرُ تَأْثِيرًا قَلِيلًا، فَيَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَكَوْنِ بَعْضِهَا خُلِقَ مُنْفَرِجًا تَجْرِي مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَقُلُوبُهُمْ عَلَى سَجِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، لَا تَقْبَلُ مَوْعِظَةً، وَلَا تَتَأَثَّرُ لِذِكْرَى، وَلَا تَنْبَعِثُ لِطَاعَةٍ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَلْ يُجَازِيهِمْ بِذَلِكَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى. وَكَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ، وَاخْتِتَامُهَا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفُلُ. فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَنِ امْتَثَلَ، وَبِمَنْ أَهْمَلَ، فَيُجَازِي مُمْتَثِلَ أَمْرِهِ بِجَزِيلِ ثَوَابِهِ، وَمُهْمِلَ أَمْرِهِ بِشَدِيدِ عقابه. [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 82] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

الطَّمَعُ: تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِإِدْرَاكِ مَطْلُوبٍ، تَعَلُّقًا قَوِيًّا، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الرَّجَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ قُوَّةِ رَغْبَةٍ وَشِدَّةِ إِرَادَةٍ، وَإِذَا اشْتَدَّ صَارَ طَمَعًا، وَإِذَا ضَعُفَ كَانَ رَغْبَةً وَرَجَاءً. يُقَالُ: طَمِعَ يَطْمَعُ طَمَعًا وَطَمَاعَةً وَطَمَاعِيَةً مُخَفَّفًا، كَطَوَاعِيَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: طَمَاعِيَةٌ أَنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ وَاسْمُ الْفَاعِلِ: طَمِعٌ وَطَامِعٌ، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، وَيُقَالُ: طَامَعَهُ مُطَامَعَةً، وَيُقَالُ: طَمُعَ بِضَمِّ الميم، كثر طعمه، وَضِدُّ الطَّمَعِ: الْيَأْسُ، قَالَ كُثَيِّرٌ: لَا خَيْرَ فِي الْحُبِّ وَقْفًا لَا يُحَرِّكُهُ ... عَوَارِضُ الْيَأْسِ أَوْ يَرْتَاجُهُ الطَّمَعُ وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مِطْمَاعٌ، أَيْ تَطْمَعُ وَلَا تُمَكَّنُ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي الطَّمَعِ فَسُمِّيَ بِهِ رِزْقُ الْجُنْدِ، يُقَالُ: أَمَرَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بِأَطْمَاعِهِمْ، أَيْ أَرْزَاقِهِمْ، وَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ. الْكَلَامُ: هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى نِسْبَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْكَلِمَةِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ أَيْضًا عَنِ الْخَطِّ وَالْإِشَارَةِ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَالِ الشَّيْءِ. وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِالذِّهْنِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْكَلَامِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَتَقَالِيبُهُ السِّتُّ مَوْضُوعَةٌ، وَتَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهِيَ: كَلَمَ، كَمَلَ، لَكَمَ، لَمَكَ، مَلَكَ، مَكَلَ. التَّحْرِيفُ: إِمَالَةُ الشَّيْءِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالْحَرْفُ: الْحَدُّ الْمَائِلُ. التَّحْدِيثُ: الْإِخْبَارُ عَنْ حَادِثٍ، وَيُقَالُ مِنْهُ يَحْدُثُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحُدُوثِ، وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَإِلَى آخَرَ بِعَنْ، وَإِلَى ثَالِثٍ بِالْبَاءِ، فَيُقَالُ: حَدَّثْتُ زَيْدًا عَنْ بَكْرٍ بِكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُضَمَّنُ مَعْنَى أَعْلَمَ الْمَنْقُولَةِ مِنْ عَلِمَ المتعدية إلى اثنين، فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ مِنْ إِلْحَاقِ غَيْرِ سِيبَوَيْهِ بِأَعْلَمَ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ غَيْرِ: أَعْلَمَ، وَأَرَى وَنَبَّأَ، وَأَمَّا حَدَّثَ فَقَدْ أَنْشَدُوا بَيْتَ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: أَوْ مَنَعْتُمْ مَا تُسْأَلُونَ فَمَنْ ... حَدَّثْتُمُوهُ لَهُ عَلَيْنَا الْعَلَاءُ وَجَعَلُوا حَدَّثَ فِيهِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: حَدَّثْتُمُوا عَنْهُ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ حَالٌ. كَمَا خَرَّجَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُ: وَنُبِّئْتُ عَبْدَ اللَّهِ، أَيْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ضَمَّنَ نُبِّئْتُ مَعْنَى: أُعْلِمْتُ، لَكِنْ رَجَحَ عِنْدَهُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى التَّضْمِينِ.

وَإِذَا احْتَمَلَ أَنْ يُخَرَّجَ بيت الحرث عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْحَرْفُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ تَعَدِّي حَدَثٍ إِلَى ثَلَاثَةٍ بِنَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لا يذهب إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. الْفَتْحُ: الْقَضَاءُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ «1» . وَالْأَذْكَارُ: فَتْحٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَالظَّفَرُ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «2» . قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَبِمَعْنَى الْقَصَصِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَبِمَعْنَى التَّبْيِينِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَبِمَعْنَى الْمَنِّ. وَأَصْلُ الْفَتْحِ: خَرْقُ الشَّيْءِ، وَالسَّدُّ ضِدُّهُ. الْمُحَاجَّةُ: مِنَ الِاحْتِجَاجِ، وَهُوَ الْقَصْدُ لِلْغَلَبَةِ، حَاجَّهُ: قَصَدَ أَنْ يَغْلِبَ. وَالْحُجَّةُ: الْكَلَامُ الْمُسْتَقِيمُ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ. أَسَرَّ الشَّيْءَ: أَخْفَاهُ، وَأَعْلَنَهُ: أَظْهَرُهُ. الْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَقْرَأُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَكْتُبُ، نُسِبَ إِلَى الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُغْلِ النِّسَاءِ أَنْ يَكْتُبْنَ أَوْ يَقْرَأْنَ فِي كِتَابٍ، أَوْ لِأَنَّهُ بِحَالِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا، أَوْ نُسِبَ إِلَى الْأُمَّةِ، وَهِيَ الْقَامَةُ وَالْخِلْقَةُ، أَوْ إِلَى الْأَمَةِ، إِذْ هِيَ سَاذِجَةٌ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ الْمَعَارِفَ. الْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ أُفْعُولَةٌ، أَصْلُهُ: أُمْنُويَةٌ، اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَهِيَ مِنْ مَنَّى، إِذَا قَدَّرَ، لِأَنَّ الْمُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وَيُحْزِرُ مَا يَتَمَنَّاهُ، أَوْ مِنْ تَمَنَّى: أَيْ كَذَبَ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِابْنٍ دَأَبَ فِي شَيْءٍ حَدَثَ بِهِ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ أَمْ تَمَنَّيْتَهُ؟ أَيِ اخْتَلَقْتَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ: مَا تَمَنَّيْتُ وَلَا تَغَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، أَوْ مِنْ تَمَنَّى إِذَا تَلَا، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «3» ، أَيْ إِذَا تَلَا وَقَرَأَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ وَالتِّلَاوَةُ وَالْكَذِبُ رَاجِعَانِ لِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَالتَّقْدِيرُ أَصْلُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا تَقُولَنْ لِشَيْءٍ سَوْفَ أَفْعَلُهُ ... حَتَّى تَبَيَّنَ مَا يَمْنِي لَكَ الْمَانِي أَيْ يُقَدِّرُ، وَجَمْعُهَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ لِأَنَّهُ أَفَاعِيلُ. وَإِذَا جُمِعَ عَلَى أَفَاعِلَ خُفِّفَتِ الْيَاءُ، وَالْأَصْلُ التَّشْدِيدُ، لِأَنَّ الْيَاءَ الْأُولَى فِي الْجَمْعِ هِيَ الْوَاوُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْمُفْرَدِ الَّتِي انْقَلَبَتْ فِيهِ يَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمْعَ أُمْلُودٍ أَمَالِيدُ؟ وَيْلٌ: الْوَيْلُ مَصْدَرٌ لَا فِعْلَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَأَلَ مَصْنُوعٌ، ولم يجىء مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ الَّتِي فَاؤُهَا وَاوٌ وَعَيْنُهَا يَاءٌ إِلَّا: وَيْلٌ، وَوَيْحٌ، وَوَيْسٌ، وَوَيْبٌ، وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. وَيُقَالُ: وَيْلَهُ، وَيُجْمَعُ على ويلات. قال:

_ (1) سورة سبأ: 34/ 26. (2) سورة الأنفال: 8/ 19. (3) سورة الحج: 22/ 25.

فَقَالَتْ لَكَ الْوَيْلَاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي وَإِذَا أُضِيفَ وَيْلٌ، فَالْأَحْسَنُ فِيهِ النَّصْبُ، قَالَ تَعَالَى: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً «1» . وَزَعَمَ بَعْضٌ أَنَّهُ إِذَا أُضِيفَ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ، وَإِذَا أَفْرَدْتَهُ اخْتِيرَ الرَّفْعُ، قَالَ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ، قَالَ: فَوَيْلًا لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيلِهَا الْخُضْرِ وَالْوَيْلُ: مَعْنَاهُ الْفَضِيحَةُ وَالْحَسْرَةُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْوَيْلُ: شِدَّةُ الشَّرِّ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ وَابْنُ عَرَفَةَ: الْوَيْلُ: الْحُزْنُ، يُقَالُ: تَوَيَّلَ الرَّجُلُ: دَعَا بِالْوَيْلِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْمَكْرُوهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَيْلُ: الْهَلَكَةُ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ دَعَا بِالْوَيْلِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ كَلِمَةُ تَفَجُّعٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَرَحُّمًا، وَمِنْهُ: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ الْأَيْدِي: جَمْعُ يَدٍ، وَيَدٌ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ، وَوَزْنُهُ فَعْلٌ، وَقَدْ صُرِّحَ بِالْأَصْلِ. قَالُوا: يَدْيٌ، وَقَدْ أَبْدَلُوا مِنَ الْيَاءِ الْأُولَى هَمْزَةً، قَالُوا: قَطَعَ اللَّهُ أَدْيَهُ، وَأَبْدَلُوا مِنْهَا أَيْضًا جِيمًا، قَالُوا: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ جَدَ الدَّهْرِ، يُرِيدُونَ يَدَ الدَّهْرِ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَارِحَةِ، مَجَازٌ فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا الْأَيَادِي فَجَمْعُ الْجَمْعِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْأَيَادِي فِي النِّعَمِ، وَالْأَصْلُ: الْأَيْدِي، اسْتَثْقَلْنَا الضَّمَّةَ عَلَى الْيَاءِ فَحُذِفَتْ، فَسَكَنَتِ الْيَاءُ، وَقَبْلَهَا ضَمَّةٌ، فَانْقَلَبَتْ واوا، فصار الأيد. وَكَمَا قِيلَ فِي مُيْقِنٍ مُوقِنٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِهِمْ وَاوٌ سَاكِنَةٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ فِي اسْمٍ، وَإِذَا أَدَّى الْقِيَاسُ إِلَى ذَلِكَ، قُلِبَتْ تِلْكَ الْوَاوُ يَاءً وَتِلْكَ الضَّمَّةُ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، فَصَارَ الْأَيْدِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيْها «2» . الْكَسْبُ: أَصْلُهُ اجْتِلَابُ النَّفْعِ، وَقَدْ جَاءَ فِي اجْتِلَابِ الضُّرِّ، وَمِنْهُ: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، وَالْفِعْلُ مِنْهُ يَجِيءُ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ، تَقُولُ: كَسَبْتُ مَالًا، وَإِلَى اثْنَيْنِ تَقُولُ: كَسَّبْتُ زَيْدًا مَالًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ: كَسَبَ هُوَ نَفْسُهُ وَأَكْسَبَ غَيْرَهُ، وَأَنْشَدَ: فَأَكْسَبَنِي مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ حَمْدَا الْمَسُّ: الْإِصَابَةُ، وَالْمَسُّ: الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى نِهَايَةِ الْقُرْبِ، وَاللَّمْسُ: مِثْلُهُ لَكِنْ مَعَ الْإِحْسَاسِ، وَقَدْ يَجِيءُ الْمَسُّ مَعَ الْإِحْسَاسِ. وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ واللمس باليد. ونقل

_ (1) سورة طه: 20/ 61. (2) سورة البقرة: 2/ 66.

مِنَ الْإِحْسَاسِ إِلَى الْمَعَانِي مِثْلَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ «1» يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «2» ، وَمِنْهُ سُمِّي الْجُنُونُ مَسًّا، وَقِيلَ: الْمَسُّ وَاللَّمْسُ وَالْجَسُّ مُتَقَارِبٌ، إِلَّا أَنَّ الْجَسَّ عَامٌّ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَالْمَسَّ فِيمَا يَخْفَى وَيَدِقُّ، كَنَبْضِ الْعُرُوقِ، وَالْمَسُّ وَاللَّمْسُ بِظَاهِرِ الْبَشْرَةِ، وَالْمَسُّ كِنَايَةٌ عَنِ النِّكَاحِ وَعَنِ الْجُنُونِ. الْمَعْدُودُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ عَدَّ، بِمَعْنَى حَسَبَ، وَالْعَدَدُ هُوَ الْحِسَابُ. الْإِخْلَافُ: عَدَمُ الْإِيفَاءِ بِالشَّيْءِ الْمَوْعُودِ. بَلَى: حَرْفُ جَوَابٍ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ نَفْيٍ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهَا: رَدُّهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَقْرُونًا بِهِ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ وَقَعَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ فِي مِثْلِ: هَلْ يَسْتَطِيعُ زَيْدٌ مُقَاوَمَتِي؟ إِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِمُقَاوَمَةِ زَيْدٍ لَهُ، لِمَا كَانَ مَعْنَاهُ النَّفْيَ، وَمِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ قَوْلُ الْحُجَافِ بْنِ حَكِيمٍ: بَلْ سَوْفَ نُبْكِيهِمْ بِكُلِّ مُهَنَّدٍ ... وَنُبْكِي نُمَيْرًا بِالرِّمَاحِ الْخَوَاطِرِ وَقَعَتْ جَوَابًا لِلَّذِي قَالَ لَهُ، وَهُوَ الْأَخْطَلُ: أَلَا فَاسْأَلِ الْحُجَافَ هَلْ هُوَ ثَائِرٌ ... بِقَتْلَى أُصِيبَتْ مِنْ نُمَيْرِ بْنِ عَامِرِ وَبَلَى عِنْدَنَا ثُلَاثِيُّ الْوَضْعِ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ بَلْ، فَزِيدَتْ عَلَيْهَا الْأَلْفُ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. السَّيِّئَةُ: فَيْعِلَةٌ مِنْ سَاءَ يَسُوءُ مَسَاءَةً، إِذَا حَزِنَ، وَهِيَ تَأْنِيثُ السيّء، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ «3» ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ لِلْيَهُودِ، وَبَيْنَهُمْ جِوَارٌ وَرَضَاعَةٌ، وَكَانُوا يَوَدُّونَ لَوْ أَسْلَمُوا. وَقِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ يَوَدُّونَ إِسْلَامَ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكَانُوا يَغْضَبُونَ لَهُمْ وَيَلْطُفُونَ بِهِمْ طَمَعًا فِي إِسْلَامِهِمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْنَاءِ السَبْعِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطُّورِ، فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ، فَلَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَحَرَّفُوا الْقَوْلَ فِي أَخْبَارِهِمْ لِقَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: سَمِعْنَاهُ يَقُولُ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَافْعَلُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَفْعَلُوا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ، فَيَجْعَلُونَ الْحَلَالَ حَرَامًا، وَالْحَرَامَ حَلَالًا، اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا قَصَبَةَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» . قال كعب بن

_ (1) سورة ص: 38/ 41. (2) سورة البقرة: 2/ 275. (3) سورة البقرة: 2/ 19.

الْأَشْرَفِ وَوَهَبُ بْنُ يَهُوذَا وَأَشْبَاهُهُمَا: اذْهَبُوا وَتَجَسَّسُوا أَخْبَارَ مَنْ آمَنَ، وَقُولُوا لَهُمْ آمَنَّا، وَاكْفُرُوا إِذَا رَجَعْتُمْ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ نُؤْمِنُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، لَكِنْ لَيْسَ إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، فَلَمَّا خَلَوْا، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَتُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِ وَقَدْ كُنَّا قَبْلُ نَسْتَفْتِحُ بِهِ؟ فَهَذَا هُوَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْوَحْيَ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ. وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي اليهود الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الطَّمَعُ أَنْ يُؤْمِنُوا، لِأَنَّ الطَّمَعَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ لِلْيَهُودِ. وَالْمَعْنَى: اسْتِبْعَادُ إِيمَانِ الْيَهُودِ، إِذْ قَدْ تقدّم لأسلافهم أفاعيل، وجزى أَبْنَاؤُهُمْ عَلَيْهَا. فَبَعِيدٌ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ إِقْدَامِ بَعْضِهِمْ عَلَى التَّحْرِيفِ حُصُولُ الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِ الْبَاقِينَ؟ قِيلَ: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ وَهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ وَيَتَعَلَّمُونَهُ مِنْ قَوْمٍ يُحَرِّفُونَ عِنَادًا؟ فَإِنَّمَا يُعَلِّمُونَهُمْ مَا حَرَّفُوهُ وَغَيَّرُوهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَالْمُقَلِّدُونَ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: إِيَاسُهُمْ مِنْ إِيمَانِ فِرْقَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَتَطْمَعُونَ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّقْرِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ طَمِعْتُمْ فِي إِيمَانِ هَؤُلَاءِ وَحَالُهُمْ مَا ذُكِرَ. وَقِيلَ: فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ النَّكِيرِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي إِيمَانِ مَنْ شَوَاهِدُ امْتِنَاعِهِ قَائِمَةٌ. وَاسْتُبْعِدَ إِيمَانُهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُوسَى، مَعَ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدَيْهِ، وَلِأَنَّهُمْ مَا اعْتَرَفُوا بِالْحَقِّ، مَعَ عِلْمِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَالْخِطَابُ فِي أَفَتَطْمَعُونَ، لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. خَاطَبَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ، أَوْ لِلْأَنْصَارِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ، أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَالْفَاءُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ أَصْلُهَا التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَطْمَعُونَ، فَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ، لَكِنَّهُ اعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا. وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، وَيُقِرُّ الْفَاءَ عَلَى حَالِهَا، حَتَّى تُعْطَفَ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ قَبْلَهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَمَحْجُوجٌ بِمَوَاضِعَ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ فِعْلٍ فِيهَا، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ «1» ، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «2» ، أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ «3» . أَنْ يُؤْمِنُوا مَعْمُولٌ لِتَطْمَعُونَ عَلَى إِسْقَاطِ حرف

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 18. (2) سورة الرعد: 13/ 19. (3) سورة الرعد: 13/ 33.

الْجَرِّ، التَّقْدِيرُ: فِي أَنْ يُؤْمِنُوا، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ جَرٍّ، عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ. وَلَكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِيُؤْمِنُوا، عَلَى أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَامُ السَّبَبِ أَيْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَجْلِ دَعْوَتِكُمْ لَهُمْ. وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ، الفريق: قيل: هم الْأَحْبَارُ الَّذِينَ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْوَحْيَ، إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحرفونه، قصدا أَنْ يُدْخِلُوا فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيَحْصُلَ التَّضَادُّ فِي أَحْكَامِهِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ حَرَّفَ حُكْمًا، أَوْ غَيَّرَهُ، كَفِعْلِهِمْ فِي آيَةِ الرَّجْمِ وَنَحْوِهَا. وَقِيلَ: هُمُ السَبْعُونَ الَّذِينَ سَمِعُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامَ اللَّهِ، ثُمَّ بَدَّلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أُنْكِرَ أَنْ يَكُونُوا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنْكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: التِّرْمِذِيُّ، صَاحِبُ النَّوَادِرِ، وَقَالَ: إِنَّمَا خُصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكَلَامِ وَحْدَهُ. وَكَلَامُ اللَّهِ الَّذِي حَرَّفُوهُ، قِيلَ: هُوَ التَّوْرَاةُ، حَرَّفُوهَا بِتَبْدِيلِ أَلْفَاظٍ مِنْ تِلْقَائِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: بالتأول، مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ التَّوْرَاةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي سَمِعُوهُ عَلَى الطُّورِ. وَقِيلَ: مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: كَلِمَ اللَّهِ، جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْكَلِمَةِ: الْكَلَامُ، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ يُرَادُ الْمُفْرَدَاتُ، فَيُحَرِّفُونَ الْمُفْرَدَاتِ، فَتَتَغَيَّرُ الْمُرَكَّبَاتُ، وَإِسْنَادُهَا بِتَغَيُّرِ الْمُفْرَدَاتِ. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ: التَّحْرِيفُ الَّذِي وَقَعَ، قِيلَ: فِي صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِغَيْرِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا تَقُومَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ. وَقِيلَ: فِي صِفَتِهِ، وَفِي آيَةِ الرَّجْمِ. مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ضَبَطُوهُ وَفَهِمُوهُ، وَلَمْ تَشْتَبِهْ عَلَيْهِمْ صِحَّتُهُ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِمْ إِيَّاهُ، وَالضَّمِيرُ فِي عَقَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ: ومتعلق العلم محذوف، أي أَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوهُ، أَوْ مَا فِي تَحْرِيفِهِ مِنَ الْعِقَابِ، أَوْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوْ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ كَاذِبُونَ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَاوُ الْحَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ قَوْلَهُ: أَفَتَطْمَعُونَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: أَنْ يُؤْمِنُوا. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَفَيَكُونُ مِنْكُمْ طَمَعٌ فِي إِيمَانِ الْيَهُودِ؟ وَأَسْلَافِهِمْ مَنْ عَادَتُهُمْ تَحْرِيفُ كَلَامِ اللَّهِ، وَهُمْ سَالِكُو سُنَنِهِمْ وَمُتَّبِعُوهُمْ فِي تَضْلِيلِهِمْ، فَيَكُونُ الْحَالُ قَيْدًا فِي الطَّمَعِ الْمُسْتَبْعَدِ، أَيْ يُسْتَبْعَدُ الطَّمَعُ فِي

إِيمَانِ هَؤُلَاءِ وَصِفَتُهُمْ هَذِهِ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى اسْتِبْعَادُ الطَّمَعِ فِي أَنْ يَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِيمَانٌ، وَقَدْ كَانَ أَسْلَافُهُمْ عَلَى مَا نَصَّ مِنْ تَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَالُ قَيْدًا فِي إِيمَانِهِمْ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا، أَعْنِي مِنْ: أَفَتَطْمَعُونَ، وَمِنْ يُؤْمِنُوا، مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ الْإِعْرَابِ. وَبَيَانُ التَّقْيِيدِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَتَطْمَعُ أَنْ يَتْبَعَكَ زَيْدٌ؟ وَهُوَ مُتَّبِعٌ طَرِيقَةَ أَبِيهِ، فَاسْتِبْعَادُ الطَّمَعِ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَمُتَعَلِّقُ الطَّمَعِ، الَّذِي هُوَ الِاتِّبَاعُ الْمَفْرُوضُ وُقُوعُهُ، مقيد بهذه الحال. فمحصوله أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْحَالِ لَا يُجَامِعُ الِاتِّبَاعَ، وَلَا يُنَاسِبُ الطَّمَعَ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ يُنَاسِبُ الطَّمَعَ وَيُتَوَقَّعُ الِاتِّبَاعُ، مَعَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْحَالِ. وَأَمَّا الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ، أَيْ يَقَعُ التَّحْرِيفُ مِنْهُمْ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ وَتَفَهُّمِهِ، عَالِمِينَ بِمَا فِي تَحْرِيفِهِ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجْتَرِئُونَ عَلَيْهِ. وَالْإِنْكَارُ عَلَى الْعَالِمِ أَشَدُّ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَاهِلِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْعَالِمِ دَوَاعِيَ الطَّاعَةِ، لِمَا عَلِمَ مِنْ ثَوَابِهَا، وَتَوَانِيَ الْمَعْصِيَةِ لِمَا عَلِمَ مِنْ عِقَابِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ، قَوْلُهُ: عَقَلُوهُ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَهُ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا: قَرَأَ ابْنُ السميفع: لَاقَوْا، قَالُوا: عَلَى التَّكْثِيرِ. وَلَا يَظْهَرُ التَّكْثِيرُ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَاعَلَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ. فَمَعْنَى لَاقَوْا، وَمَعْنَى لَقُوا وَاحِدٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مُفْرَدَاتِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً مُنْبِئَةً عَنْ نَوْعٍ مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَاشِفَةً عَمَّا أَكَنُّوهُ مِنَ النِّفَاقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ، أَيْ كَيْفَ يُطْمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ مَنْ يُحَرِّفُ كَلَامَ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ سَالِكُو طَرِيقَتِهِمْ، وَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُنَافِقُونَ، يُظْهِرُونَ مُوَافَقَتَكُمْ إِذَا لَقُوكُمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ كُفَّارٌ. فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، مِنِ اقْتِدَائِهِمْ بِأَسْلَافِهِمُ الضُّلَّالِ، وَمُنَافِقَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَا يُطْمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا هُنَا هُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُؤْمِنُونَ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا وَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي لَقُوا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بَاقِينَ عَلَى دِينِهِمْ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا، أَوْ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ وَيَتَجَسَّسُوا أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: ادْخُلُوا الْمَدِينَةَ وَأَظْهِرُوا الْإِيمَانَ، فَإِنَّهُ نَهَى أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ.

وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أَيْ: وَإِذَا انْفَرَدَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يُنَافِقُوا إِلَى مَنْ نَافَقَ. وَإِلَى، قِيلَ: بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالْأَجْوَدُ أن يضمن خَلَا مَعْنَى فِعْلٍ يُعَدَّى بِإِلَى، أَيِ انْضَوَى إِلَى بَعْضٍ، أَوِ اسْتَكَانَ، أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْ تَضْمِينِ الْحُرُوفِ. قالُوا: أَيْ ذَلِكَ الْبَعْضُ الْخَالِي بِبَعْضِهِمْ. أَتُحَدِّثُونَهُمْ: أَيْ قَالُوا عَاتِبِينَ عَلَيْهِمْ، أَتُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ؟ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِمَا فَتَحَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَوَّزُوا فِي مَا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَالْأَوْلَى الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَالَّذِي حَدَّثُوا بِهِ هُوَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ، أَوْ مَا عَذَّبَ بِهِ أَسْلَافَهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ: «يَا إِخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ» . فَقَالَ الْأَحْبَارُ لِأَتْبَاعِهِمْ: مَا عَرَفَ هَذَا إِلَّا مِنْ عِنْدِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنْ شَيْءٍ قَالُوا: فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا، فَكَرِهَ ذَلِكَ أَحْبَارُهُمْ، وَنَهَوْا فِي الْخُلْوَةِ عَنْهُ. فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ يَكُونُ الْفَتْحُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِذْكَارِ، أَيْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَعْلَمَكُمُ اللَّهُ مِنْ صِفَةِ نَبِيِّهِمْ؟ وَرَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ: يَكُونُ بمعنى الحكم وَالْقَضَاءِ، أَيْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَسْلَافِكُمْ وَقَضَاهُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ؟ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ يَكُونُ بِمَعْنَى: الْإِنْزَالِ، أَيْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي التَّوْرَاةِ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْإِنْزَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وصفته، وَشَرِيعَتِهِ، وَمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَخْذِ الْعُهُودِ عَلَى أَنْبِيَائِكُمْ بِتَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَمِنْ تَأْوِيلِ كِتَابِكُمْ. لِيُحَاجُّوكُمْ: هَذِهِ لَامُ كَيْ، وَالنَّصْبُ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا، وَهِيَ جَائِزَةُ الْإِضْمَارِ، إِلَّا إِنْ جَاءَ بَعْدَهَا لَا، فَيَجِبُ إِظْهَارُهَا. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، فَهِيَ لَامُ جَرٍّ، وَتُسَمَّى لَامَ كَيْ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لِلسَّبَبِ، كَمَا أَنَّ كَيْ لِلسَّبَبِ. وَلَا يَعْنُونَ أَنَّ النَّصْبَ بَعْدَهَا بِإِضْمَارِ كَيْ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ التَّصْرِيحُ بَعْدَهَا بِكَيْ، فَتَقُولَ: لِكَيْ أُكْرِمَكَ، لِأَنَّ الَّذِي يُضْمَرُ إِنَّمَا هُوَ: أَنْ لَا: كَيْ، وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ كَيْسَانَ وَالسِّيرَافِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ كَيْ، أَوْ أَنْ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ النَّصْبَ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ إِنَّمَا هُوَ بِهَا نَفْسِهَا، وَأَنَّ مَا يَظْهَرُ بَعْدَهَا مِنْ كَيْ وَأَنْ، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ إِلَى أَنَّ اللَّامَ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَتَحَ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ،

لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْفَتْحِ، إِنَّمَا الْمُحَاجَّةُ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّحْدِيثِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الصَّيْرُورَةِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَيُمْكِنَ أَنْ يَصِيرَ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ حَدَّثُوا بِهِ، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ حَاجُّوهُمْ بِهِ، فَصَارَ نَظِيرَ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «1» . لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِهَذَا الْأَمْرِ، إِنَّمَا آلَ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، جَعَلَهَا لَامَ كَيْ، عَلَى تَجَوُّزٍ، لِأَنَّ النَّاشِئَ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ، كَالْعِلَّةِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، وَبَيْنَ: بِمَا فَتَحَ، إِلَّا أَنَّ جَعْلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَوَّلِ أَقْرَبُ وَسَاطَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ فَيُحَاجُّوكُمْ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ أَبْعَدَ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهِ، فَحَدَّثْتُمُوهُمْ بِهِ، فَحَاجُّوكُمْ. فَالْأَوْلَى جَعْلُهُ لِأَقْرَبِ وَسَاطَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: بِما فَتَحَ اللَّهُ، وَبِهَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، لِأَنَّ المصدرية لا يعود عليها ضَمِيرٌ. عِنْدَ رَبِّكُمْ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: لِيُحَاجُّوكُمْ، وَالْمَعْنَى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. فَكَنَّى بِقَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ «2» . وَقِيلَ: مَعْنَى عِنْدَ رَبِّكُمْ: فِي رَبِّكُمْ، أَيْ فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهِ جَعَلَ عِنْدَ بِمَعْنَى فِي. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَعَلَ الْمُحَاجَّةَ فِي كِتَابِكُمْ مُحَاجَّةً عِنْدَ اللَّهِ، أَلَا تُرَاكَ تَقُولُ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَذَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَا، بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْذُ مِيثَاقِهِمْ بِتَصْدِيقِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ هُوَ بِمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى حَمْلُ اللفظ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَقَدْ أمكن بحمل قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ عَلَى بَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الذَّاهِبُ، فيبعد جِدًّا، لِأَنَّ لِيُحَاجُّوكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، وَعِنْدَ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونُ قَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَبَيْنَ الْعَامِلِ فِيهِ الَّذِي هُوَ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، بِقَوْلِهِ: لِيُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ هَذَا التَّرْكِيبُ هَكَذَا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَجِيءُ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ؟. أَفَلا تَعْقِلُونَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا يَكُونُ حُجَّةً

_ (1) سورة القصص: 28/ 8. (2) سورة الزمر: 39/ 31.

لَهُمْ عَلَيْكُمْ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَلَا تُحَدِّثُونَهُمْ بِذَلِكَ؟ وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، مِنِ اتِّبَاعِ أَسْلَافِهِمُ الْمُحَرِّفِينَ كَلَامَ اللَّهِ، وَالتَّقْلِيدِ لَهُمْ فِيمَا حَرَّفُوهُ، وَتَظَاهُرِهِمْ بِالنِّفَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَعَى عَلَيْهِمُ ارْتِكَابَهُ؟. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ: هَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، أَيْ إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ مُحِيطًا بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يُنَافِقُوا وَيَتَظَاهَرُوا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُمْ خِلَافَهُ، فَلَا يُجَامِعُ حَالَةَ نِفَاقِهِمْ بِحَالَةِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ عَلَى الْعُمُومِ، إِذْ هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقِيلَ الَّذِي أَسَرُّوهُ الْكُفْرُ، وَالَّذِي أَعْلَنُوهُ الْإِيمَانُ. وَقِيلَ: الْعَدَاوَةُ وَالصَّدَاقَةُ. وَقِيلَ: قَوْلُهُمْ لِشَيَاطِينِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ، وَقَوْلُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا. وَقِيلَ: صِفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَغْيِيرُ صِفَتِهِ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى، حَتَّى لَا تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ. وَقَرَأَ ابْنُ محيصن: أو لا تَعْلَمُونَ بِالتَّاءِ، قَالُوا: فَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ بِعَالِمِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لَهُمْ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى سَمَاعِ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ خِطَابِهِمْ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْغَيْبَةِ، إِهْمَالًا لَهُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَيَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِثْلَ أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَوَلا يَعْلَمُونَ، أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ فِيهِمَا لِلْعَطْفِ، وَأَنَّ أَصْلَهُمَا أَنْ يَكُونَا أَوَّلَ الْكَلَامِ، لَكِنَّهُ اعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَتْ. وَذَكَرْنَا طَرِيقَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ذَلِكَ، فَأَغْنَى عَنْ إعادته. وأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا سَدَّتْ فِيهِ أَنَّ مَسَدَّ الْمُفْرَدِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ يَعْلَمُونَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَعَرَفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا سَدَّتْ فِيهِ أَنَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ يَعْلَمُونَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ، كَظَنَنْتُ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ. وَأَمَّا الْأَخْفَشُ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ عِنْدَهُ مَسَدَّ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيَجْعَلُ الثَّانِيَ مَحْذُوفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ هَذَا الْخِلَافِ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُسِرُّونَهُ وَيُعْلِنُونَهُ. وَظَاهِرُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، أَيْ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ، أَيْ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ، فَلَا يُنَاسِبُهُمُ النِّفَاقُ وَالتَّكْذِيبُ بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَقِيلَ: ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَحَثٌّ عَلَى التَّفَكُّرِ، فَيَعْلَمُونَ بِالتَّفَكُّرِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَزِمَهُمُ الِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَا، أَقْبَحُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُغْضِي عَنِ الْمُنَافِقِينَ، مَعَ

أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهُ عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَأَغْضَى عَنْهُمْ، حَتَّى قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ، وَأَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَ. وَاخْتُلِفَ، هَلْ هَذَا الْحُكْمُ بَاقٍ، أَوْ نُسِخَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: نُسِخَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ. وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْلِيفِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ بَاقٍ إِلَى الْآنَ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَيَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةِ الْأَنْصَارِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْهَرُ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، بَلْ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ: ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: فِي الْمَجُوسِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب. وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: فِي نَصَارَى الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يُحْسِنُونَ الْكِتَابَةَ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، رُفِعَ كِتَابُهُمْ لِذُنُوبٍ ارْتَكَبُوهَا، فَصَارُوا أُمِّيِّينَ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكِتَابٍ وَلَا بِرَسُولٍ، فَكَتَبُوا كِتَابَهُمْ وَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَسُمُّوا: أُمِّيِّينَ، لِجُحُودِهِمُ الْكِتَابَ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْيَهُودِ، فَالضَّمِيرُ لَهُمْ. وَمُنَاسَبَةُ ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ الَّتِي حَرَّفَتْ كِتَابَ اللَّهِ، وَهُمْ قَدْ عَقَلُوهُ وَعَلِمُوا بِسُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَمْرَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ، الْمُنَافِقِينَ، وَأَمْرَ الثَّالِثَةِ: الْمُجَادِلَةِ، أَخَذَ يُبَيِّنُ أَمْرَ الْفِرْقَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ: الْعَامَّةُ الَّتِي طَرِيقُهَا التَّقْلِيدُ، وَقَبُولُ مَا يُقَالُ لَهُمْ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الْمَذْكُورُونَ، فَالْآيَةُ مُنَبِّهَةٌ عَلَى عَامَّتِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يُطْمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أُمِيُّونَ، بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأُمِّيَّ هُوَ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ فِي كِتَابٍ، أَيْ لَا يُحْسِنُونَ الْكُتُبَ، فَيُطَالِعُوا التَّوْرَاةَ وَيَتَحَقَّقُوا ما فيها. ولا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَالْكِتَابُ هُوَ التَّوْرَاةُ. إِلَّا أَمانِيَّ: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ الْأَمَانِيَّ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكِتَابِ، وَلَا مُنْدَرِجَةً تَحْتَ مَدْلُولِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْعَامِلُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا أَمَانِيَّ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا؟ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِتْبَاعُ عَلَى الْبَدَلِ بِشَرْطِ التَّأَخُّرِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. فَنَصْبُ أَمَانِيَّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِخَطَايَاهُمْ، وَأَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ

يَشْفَعُونَ لَهُمْ، أَوْ مَا يُمَنِّيهِمْ أَحْبَارُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، أَوْ لَا يعلمون إلا أكاذيب مختلفة سَمِعُوهَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَنَقَلُوهَا عَلَى التَّقْلِيدِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا تِلَاوَةً، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: حَمْلُهُ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَانِيُّ، بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ جمار، عَنْ نَافِعٍ وَهَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَمَانِيَ بِالتَّخْفِيفِ، جَمْعُهُ عَلَى أَفَاعِلَ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِحَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي فِي الْمُفْرَدِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ وَاحِدُهُ مُشَدَّدٌ، فَلَكَ فِيهِ التَّشْدِيدُ والتخفيف مثل: أثافي، وَأَغَانِيُّ، وَأَمَانِيُّ، وَنَحْوِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ هَذَا، كَمَا يُقَالُ فِي جَمْعِ مِفْتَاحٍ مَفَاتِيحُ وَمَفَاتِحُ، وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْحَذْفُ فِي الْمُعْتَلِّ أَكْثَرُ، كَمَا قَالَ: وَهَلْ رَجَعَ التَّسْلِيمَ أَوْ يَكْشِفُ الْعَمَى ... ثَلَاثُ الْأَثَافِي وَالرُّسُومُ الْبَلَاقِعُ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، إِنْ هُنَا: هِيَ النَّافِيَةُ، بِمَعْنَى مَا، وَهُمْ: مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَإِلَّا يَظُنُّونَ: فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. وَإِذَا كَانَتْ إِنْ نَافِيَةً، فَدَخَلَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَ مَا الْحِجَازِيَّةِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَمَنْ أَجَازَ شَرْطَ نَفْيِ الْخَبَرِ وَتَأْخِيرِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بَيْتٌ نَادِرٌ وَهُوَ: إِنْ هُوَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى أَحَدٍ ... إِلَّا عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ وَقَدْ نَسَبَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ جَوَازَ إِعْمَالِهَا إِعْمَالَ مَا، وَلَيْسَ فِي كِتَابِهِ نَصٌّ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْنَى يَظُنُّونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَكْذِبُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَتَحَدَّثُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَشُكُّونَ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى النَّاظِرِ فِيهِمَا، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْيَقِينِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّرْجِيحِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ، إِنْ كَذَبَ الرُّؤَسَاءُ، أَوْ صَدَقُوا، بَايَعُوهُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَتَى بِالْخَبَرِ فِعْلًا مُضَارِعًا، وَلَمْ يَأْتِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الظَّنِّ وَتَجَدُّدِهِ لَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَيْسُوا ثَابِتِينَ عَلَى ظَنٍّ وَاحِدٍ، بَلْ يَتَجَدَّدُ لَهُمْ ظُنُونٌ دَالَّةٌ عَلَى اضْطِرَابِ عَقَائِدِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ كَسَبِيَّةٌ، وَعَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وعلى أن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 111. [.....]

الْمُغْتَرَّ بِإِضْلَالِ الْمُضِلِّ مَذْمُومٌ، وَعَلَى أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ فِي الْأُصُولِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَاطِلٌ، وَعَلَى أَنَّ مَا تَسَاوَى وَجُودُهُ وَعَدَمُهُ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَتَمَسَّكَ بِهَا أَيْضًا مُنْكِرُو الْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمَا لَا يُفِيدَانِ الْعِلْمَ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ الْآيَةَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ غَيَّرُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَدَّلُوا نَعْتَهُ، فَجَعَلُوهُ آدَمَ سَبْطًا طَوِيلًا، وَكَانَ فِي كِتَابِهِمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا، فَقَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمُ: انْظُرُوا إِلَى صِفَةِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، لَيْسَ يُشْبِهُ نَعْتَ هَذَا، وَكَانَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ يَخَافُونَ أَنْ يَذْهَبَ مَأْكَلَتُهُمْ بِإِبْقَاءِ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَالِهَا، فَلِذَلِكَ غَيَّرُوهَا. وَقِيلَ: خَافَ مُلُوكُهُمْ عَلَى مُلْكِهِمْ، إِذَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَجَاءُوا إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَجَعَلُوا لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَضَائِعَ وَمَآكِلَ، وَكَشَطُوهَا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ كِتَابًا، وَحَلَّلُوا فِيهِ مَا اخْتَارُوا، وَحَرَّمُوا مَا اخْتَارُوا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِنَبِيٍّ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا كِتَابًا، بَلْ كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ كِتَابًا، وَحَلَّلُوا فِيهِ مَا اخْتَارُوا، وَحَرَّمُوا مَا اخْتَارُوا، وَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَرْحٍ، كَاتِبِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، كَانَ يُغَيِّرُهُ فَارْتَدَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ وَيْلٍ عند الكلام على المفردات، وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ جَبَلٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَوَى: أَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، يَهْوِي فِيهِ الْهَاوِي ، وَذُكِرَ أَنَّ سُفْيَانَ وَعَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ رَوَيَا أَنَّهُ وَادٍ يَجْرِي بِفِنَاءِ جَهَنَّمَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَجَمَاعَةٌ: أَنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ صِهْرِيجٌ فِي جَهَنَّمَ. وَقِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إِنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، لَوْ سُجِّرَتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا لَانْمَاعَتْ مِنْ حَرِّهِ، وَلَوْ صَحَّ فِي تَفْسِيرِ الْوَيْلِ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ فِي نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا بِلَفْظَةِ الْوَيْلِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ الْقُرْآنُ، وَلَمْ تُطْلِقْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، وَإِنَّمَا مَدْلُولُهُ مَا فَسَّرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ جَازَ الِابْتِدَاءُ بِهَا، إِذِ الدُّعَاءُ أَحَدُ الْمُسَوِّغَاتِ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَهِيَ تُقَارِبُ ثَلَاثِينَ مُسَوِّغًا، وَذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ (مَنْهَجِ الْمَسَالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَالْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَيُقَالُ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ إِدْرِيسُ، وَقِيلَ: آدَمُ. وَالْكِتَابُ هُنَا قِيلَ: كَتَبُوا أَشْيَاءَ اخْتَلَقُوهَا، وَأَحْكَامًا بَدَّلُوهَا مِنَ التَّوْرَاةِ حَتَّى اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: كَتَبُوا فِي التَّوْرَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وبنوها فِي سُفَهَائِهِمْ، وَفِي الْعَرَبِ، وَأَخْفَوْا تِلْكَ النُّسَخَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ تَبْدِيلٍ، وَصَارَ سُفَهَاؤُهُمْ، وَمَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، إِذَا سَأَلُوهُمْ عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ: مَا هُوَ هَذَا الْمَوْصُوفَ عِنْدَنَا فِي

التوراة المبدلة المغيرة، ويقرأونها عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. بِأَيْدِيهِمْ: تَأْكِيدٌ يَرْفَعُ تَوَهُّمَ الْمَجَازِ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ يَكْتُبُ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُبَاشِرُ الْكِتَابَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ، وَيَكُونَ آمِرًا بِذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كَتَبَ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ فِي كِتَابٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «1» . وَنَظِيرُ هَذَا التَّأْكِيدِ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ، ويَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ، وَقَوْلُهُ: نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنَيْكَ مَنْظَرًا فَهَذِهِ كُلُّهَا أُتِيَ بِهَا لِتَأْكِيدِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلِرَفْعِ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ. وَفِي هَذَا التَّأْكِيدِ أَيْضًا تَقْبِيحٌ لِفِعْلِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكْتَفُوا بِأَنْ يَأْمُرُوا بِالِاخْتِلَاقِ وَالتَّغْيِيرِ، حَتَّى كَانُوا هُمُ الَّذِينَ تَعَاطَوْا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاجْتَرَحُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَالَ ابن السرّاج: ذِكْرُ الْأَيْدِي كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمُ اخْتَلَقُوا ذَلِكَ مِنْ تِلْقَائِهِمْ، وَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الشَّيْءِ بِالْيَدِ لَا تَقْتَضِي الِاخْتِلَاقَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَالٍ مَحْذُوفَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا، التَّقْدِيرُ: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ مُحَرَّفًا، أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ بَعْدُ ثُمَّ: يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ لَا إِنْكَارَ عَلَى مَنْ يُبَاشِرُ الْكِتَابَ بِيَدِهِ إِلَّا إِذَا وَضَعَهُ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا هَذِهِ الْحَالَ. ثُمَّ يَقُولُونَ: أَيْ لِأَتْبَاعِهِمُ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا قرىء لَهُمْ، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا، عِلَّةٌ فِي الْقَوْلِ، وَهِيَ لَامُ كَيْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا قَبْلُ. وَهِيَ مَكْسُورَةٌ لِأَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ، فيتعلق بيقولون. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاسْتِقْرَارِ، وَبَنُو الْعَنْبَرِ يَفْتَحُونَ لَامَ كي، قال مَكِّيٌّ فِي إِعْرَابِ الْقُرْآنِ لَهُ. بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، بِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيَشْتَرُوا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي أَشَارُوا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ الْمُحَرَّفُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الِاشْتِرَاءِ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «2» . وَالثَّمَنُ هُنَا: هُوَ عَرَضُ الدُّنْيَا، أَوِ الرِّشَا وَالْمَآكِلُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، وَوُصِفَ بِالْقِلَّةِ لِكَوْنِهِ فَانِيًا، أَوْ حَرَامًا، أَوْ حَقِيرًا، أَوْ لَا يُوَازِنُهُ شَيْءٌ، لَا ثَمَنٌ، وَلَا مُثَمَّنٌ. وَقَدْ جَمَعُوا فِي هَذَا الْفِعْلِ أَنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 48. (2) سورة البقرة: 2/ 16.

حُبَّ الدُّنْيَا. وَهَذَا الْوَعِيدُ مُرَتَّبٌ عَلَى كِتَابَةِ الْكِتَابِ الْمُحَرَّفِ، وَعَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَكِلَاهُمَا مُنْكَرٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْكَرُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانَ بِرِضَا الْمُعْطِي. فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ: كِتَابَتُهُمْ مُقَدِّمَةٌ، نَتِيجَتُهَا كَسْبُ الْمَالِ الْحَرَامِ، فَلِذَلِكَ كُرِّرَ الْوَيْلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَعِيدَ هُوَ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَقَطْ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ. وَظَاهِرُ الْكَسْبِ هُوَ مَا أَخَذُوهُ عَلَى تَحْرِيفِهِمُ الْكِتَابَ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا يَكْسِبُونَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ، فَيُحْتَاجُ فِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِلَى اخْتِصَاصٍ، لِأَنَّ مَا يَكْسِبُونَ عَامٌّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا أَنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، قَالُوا: إِنَّمَا نُعَذَّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَتَذْهَبَ جَهَنَّمَ وَتَهْلِكَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قَالُوا: نَحْنُ ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا أَنْتُمْ، فَقَالَ: «كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لَا نَخْلُفُكُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، سَبْعَةَ آلَافٍ لِكُلِّ أَلْفٍ يَوْمٌ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ. وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، عَدَدَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ ، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يُنَادَى: أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالضَّمِيرُ فِي: وَقَالُوا، عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ. جَمَعُوا، إِلَى تَبْدِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَحْرِيفِهِ، وَأَخْذِهِمْ بِهِ الْمَالَ الْحَرَامَ، وَكَذِبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الْإِخْبَارَ بِالْكَذِبِ الْبَحْتِ عَنْ مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ فِي النَّارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَّ هُوَ الْإِصَابَةُ، أَيْ لَنْ تُصِيبَنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا، اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أَبَدًا إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَدَدِ فِي الْأَيَّامِ بِأَنَّهَا سَبْعَةٌ أَوْ أَرْبَعُونَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مَعْدُودَةً، أَيْ قلائل يحصرها العدّ، لا أنها مُعَيَّنَةُ الْعَدِّ فِي نَفْسِهَا. ثُمَّ أَخَذَ فِي رَدِّ هَذِهِ الدَّعْوَى وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ فَقَالَ: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أَيْ مِثْلَ هَذَا الْإِخْبَارِ الْجَزْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنِ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا بِذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَتَّخِذُوا بِهِ عَهْدًا، فَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ. وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ مَا قَالُوهُ. وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ مَنِ اتَّخَذَ، انْحَذَفَتْ لِأَجْلِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَنْ سَهَّلَ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا

عَلَى اللَّامِ وَحَذْفِهَا قَالَ: قُلَ اتَّخَذْتُمْ، بِفَتْحِ اللَّامِ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ كَانَتْ مَفْتُوحَةً. وَعِنْدَ اللَّهِ: ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِاتَّخَذْتُمْ، وَهِيَ هُنَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَيَكُونُ الثَّانِي الظَّرْفَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالْعَهْدُ هُنَا: الْمِيثَاقُ وَالْمَوْعِدُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: هَلْ قُلْتُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَآمَنْتُمْ وَأَطَعْتُمْ فَتُدَلُّونَ بِذَلِكَ وَتَعْلَمُونَ خُرُوجَكُمْ مِنَ النَّارِ؟ فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الْمَعْنَى: هَلْ عَاهَدَكُمُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الَّذِي تَدَّعُونَ؟ وَعَلَى الثَّانِي: هَلْ أَسْلَفْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْمَالًا تُوجِبُ مَا تَدَّعُونَ؟. فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، كَقَوْلِكَ: أَيَقْصِدُنَا زَيْدٌ؟ فَلَنْ نُجِيبَ مِنْ بِرِّنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، هَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ أَيْ يُضَمَّنُ الِاسْتِفْهَامُ وَالتَّمَنِّي وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِلَى سَائِرِ بِاقِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ؟ أَمْ يَكُونُ الشَّرْطُ مَحْذُوفًا بَعْدَهَا؟ وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَنْ يُخْلِفَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَهُ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، كَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّرٌ بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ تَقُولُونَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، فَصَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، بَيْنَ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّعَادُلُ، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيُّ هَذَيْنِ وَاقِعٌ؟ أاتخاذكم الْعَهْدَ عِنْدَ اللَّهِ؟ أَمْ قَوْلُكُمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ وَأَخْرَجَ ذَلِكَ مُخْرَجَ الْمُتَرَدَّدِ فِي تَعْيِينِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ وُقُوعَ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَنَظِيرُهُ: وَإِنَّا، أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» . وَقَدْ عُلِمَ أَيُّهُمَا عَلَى هُدًى وَأَيُّهُمَا هُوَ فِي ضَلَالٍ. وَقِيلَ: أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ فَيَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ: عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ صُدُورَ هَذَا مِنْهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَعِيدِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخْلِفُهُ، كَمَا لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى جَوَازِ إِخْلَافِ إيعاده، وقالوا: إخلاف الْوَعْدِ قَبِيحٌ، وَإِخْلَافُ الْوَعِيدِ حَسَنٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. بَلى: حَرْفُ جَوَابٍ يُثْبَتُ بِهِ مَا بَعْدَ النَّفْيِ، فَإِذَا قُلْتُ: مَا قَامَ زَيْدٌ، فَقُلْتَ: نَعَمْ، كَانَ تَصْدِيقًا فِي نَفْيِ قِيَامِ زَيْدٍ. وَإِذَا قُلْتَ: بَلَى، كَانَ نَقْضًا لِذَلِكَ النَّفْيِ. فلما قالوا:

_ (1) سورة سبأ: 34/ 24.

لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ، أُجِيبُوا بقوله: وَمَعْنَاهَا: تَمَسُّكُمُ النَّارُ. وَالْمَعْنَى عَلَى التَّأْبِيدِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِالْخُلُودِ. مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً مَنْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شرطية، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْمُسَوِّغَاتُ لِجَوَازِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَوْصُولًا، مَوْجُودَةٌ هُنَا، وَيُحَسِّنُهُ الْمَجِيءُ فِي قسيمة بِالَّذِينَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ. وَالسَّيِّئَةُ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْمُوجِبَةُ لِلنَّارِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَعَلَيْهِ تَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ السَّيِّئَةَ بِالْكَبَائِرِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ، أَيْ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا النَّارَ إِنْ لَمْ تُغْفَرْ لَهُ. وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِفْرَادِ، وَنَافِعٌ: خَطِيئَاتُهُ جَمْعَ سَلَامَةٍ، وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: خَطَايَاهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَخَذَتْهُ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهِ. وَمَعْنَى الْإِحَاطَةِ بِهِ أَنَّهُ يُوَافَى عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، هَذَا إِذَا فُسِّرَتِ الْخَطِيئَةُ بِالشِّرْكِ. وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْكَبِيرَةِ، فَمَعْنَى الْإِحَاطَةِ بِهِ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الْخُلُودُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمُرَادُ بِهِ الْإِقَامَةُ، لَا إِلَى انْتِهَاءٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الْمُرَادُ بِهِ الْإِقَامَةُ دَهْرًا طَوِيلًا، إِذْ مَآلُهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوْثَقَتْهُ ذُنُوبُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحْبَطَتْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَشِيَتْ قَلْبَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَصَرَّ عَلَيْهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَهُوَ الْخَطِيئَةُ الْمُحِيطَةُ. وَمَنْ، كَمَا تَقَدَّمَ، لَهَا لَفْظٌ وَمَعْنًى، فَحَمَلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ، فَقَالَ: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَحَمَلَ ثَانِيًا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ، إِلَى آخِرِهِ. وَأَفْرَدَ سَيِّئَةً لِأَنَّهُ كَنَّى بِهِ عَنْ مُفْرَدٍ، وَهُوَ الشِّرْكُ. وَمَنْ أَفْرَدَ الْخَطِيئَةَ أَرَادَ بِهَا الْجِنْسَ وَمُقَابَلَةَ السَّيِّئَةِ، لِأَنَّ السَّيِّئَةَ مُفْرَدَةٌ، وَمَنْ جَمَعَهَا فَلِأَنَّ الْكَبَائِرَ كَثِيرَةٌ، فَرَاعَى الْمَعْنَى وَطَابَقَ بِهِ اللَّفْظَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ السَّيِّئَةَ وَالْخَطِيئَةَ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْخَطِيئَةَ وَصْفٌ لِلسَّيِّئَةِ. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: السَّيِّئَةُ الْكُفْرُ، وَالْخَطِيئَةُ مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو وَائِلٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخَطِيئَةَ الشِّرْكُ، وَالسَّيِّئَةُ هُنَا مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الْمَعَاصِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ تِلْكَ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ، كَمَا يُحِيطُ العدو، ولم ينقص عَنْهَا بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا مِنْ دَسَائِسِهِ الَّتِي ضَمَّنَهَا كِتَابَهُ، إِذِ اعْتِقَادُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً، وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَمَاتَ، كَانَ خَالِدًا فِي النَّارِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: الْكُفَّارُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ» . وَقَدْ رُتِّبَ كَوْنُهُمْ أَصْحَابَ النَّارِ عَلَى وُجُودِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، كَسْبُ السَّيِّئَةِ، وَالْآخَرُ: إِحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ.

وَمَا رُتِّبَ عَلَى وُجُودِ شَرْطَيْنِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِ أَحَدِهِمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْسِبْ سَيِّئَةً، وَهِيَ الشِّرْكُ، وَإِنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَهِيَ الْكَبَائِرُ، لَا يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَلَا مِمَّنْ يَخْلُدُ فِيهَا. وَيَعْنِي بِأَصْحَابِ النَّارِ: الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا حَقِيقَةً، لَا مَنْ دَخَلَهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ: أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمُؤْمِنُو الْأُمَمِ قَبْلَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَقَلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ فِي الْوَعِيدِ، إِلَّا وَذُكِرَتْ آيَةٌ فِي الْوَعْدِ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ ظُهُورُ عَدْلِهِ تَعَالَى، وَاعْتِدَالُ رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رَحْمَتِهِ بِوَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ بِوَعِيدِهِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ اسْتِبْعَادَ طَمَعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِيمَانِ مَنْ سَبَقَ مِنْ آبَائِهِ التَّشْرِيفُ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، ثُمَّ مُقَابَلَةَ ذَلِكَ بِعَظِيمِ التَّحْرِيفِ، هَذَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِقَبِيحِ مَا ارْتَكَبُوهُ. وَهَؤُلَاءِ الْمَطْمُوعُ فِي إِيمَانِهِمْ هُمْ أَبْنَاءُ أُولَئِكَ الْمُحَرِّفِينَ، فَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ آبَائِهِمْ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ قَدِ انْطَوَوْا مِنْ حَيْثُ السَّرِيرَةُ عَلَى مُدَاجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، بِحَيْثُ إِذَا لَقُوهُمْ أَفْهَمُوهُمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِخْبَارٍ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ، وَذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَحْتَجَّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ، ثُمَّ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ إِلَّا الِانْقِيَادُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَالْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ، وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَمْرِ، بِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانُ بِمَا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَجَحَدُوا بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَلَمِهِمْ، ذَكَرَ أَيْضًا مُقَلِّدَتَهُمْ وَعَوَامَّهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا أَلْفَاظًا مَسْمُوعَةً، وَأَنَّ طَرِيقَهُمْ فِي أُصُولِ دِيَانَاتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ حُسْنُ ظَنِّهِمْ بِعُلَمَائِهِمُ الْمُحَرِّفِينَ الْمُبَدِّلِينَ. ثُمَّ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهَلَاكِ وَالْحَسْرَةِ، مَنْ حَرَّفَ كَلَامَ اللَّهِ وَادَّعَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِتَحْصِيلِ غَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا تَافِهٍ نَزْرٍ لَا يَبْقَى، فَبَاعَ بَاقِيًا بِفَانٍ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 83 إلى 86]

ثُمَّ كَرَّرَ الْوَعِيدَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْكَذِبِ الْبَحْتِ، بِأَنَّ لُبْثَهُمْ فِي النَّارِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ لَيْسَ صَادِرًا عَنْ عَهْدٍ اتَّخَذُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ تِلْكَ بِقَوْلِهِ: بَلى، ثُمَّ قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى قِسْمَيْنِ كَافِرٍ، وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ، وَمُؤْمِنٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمُ انْدَرَجُوا تَحْتَ قِسْمِ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُمْ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَحَاطَتْ بِهِمُ الْخَطِيئَاتُ، وَنَاهِيكَ مَا اقْتَصَّ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَمَا يَقُصُّ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الكفر والمخالفات. [سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الْوَالِدَانِ: الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَالِدٌ، وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. قَالَ: وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ وَيُقَالُ لِلْأُمِّ: وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ، وَقِيلَ: الْوَالِدُ لِلْأَبِ وَحْدَهُ، وَثُنِّيَا تَغْلِيبًا لِلْمُذَكَّرِ. الْإِحْسَانُ: النَّفْعُ بِكُلِّ حَسَنٍ. ذُو: بِمَعْنَى صَاحِبٍ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي تُرْفَعُ، وَفِيهَا الْوَاوُ، وَتُنْصَبُ وَفِيهَا الْأَلِفُ، وَتُجَرُّ وَفِيهَا الْيَاءُ. وَأَصْلُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، ذَوْيٌ، وَوَزْنُهَا عِنْدَهُ: فَعْلٌ، وَعِنْدَ الْخَلِيلِ: ذُوَّةٌ، مِنْ بَابِ خُوَّةٍ، وَقُوَّةٍ، وَوَزْنُهَا عِنْدَهُ فُعْلٌ، وَهُوَ لَازِمُ الْإِضَافَةِ،

وَتَنْقَاسُ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ، وَفِي إِضَافَتِهِ إِلَى مُضْمَرٍ خِلَافٌ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْعَلَمِ وُجُوبًا، إِذَا اقْتَرَنَا وَضْعًا، كَقَوْلِهِمْ: ذُو جَدَنٍ، وَذُو يَزَنَ، وَذُو رُعَيْنٍ، وَذُو الْكُلَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنَا وَضْعًا، فَقَدْ يَجُوزُ، كَقَوْلِهِمْ: فِي عَمْرٍو، وَقَطَرِيٍّ: ذُو عَمْرٍو، وَذُو قَطَرِيٍّ، وَيَعْنُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذَا الِاسْمِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْعَلَمِ فِي وُجْهَتِهِ مَسْمُوعٌ، وَكَذَلِكَ: أَنَا ذُو بَكَّةَ، وَاللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى ذَوِيهِ. وَمِمَّا أُضِيفَ إِلَى الْعَلَمِ، وَأُرِيدَ بِهِ مَعْنَى: ذِي مَالٍ، وَمِمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْعَلَمِ، وَأُضِيفَ أَيْضًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّا لنرجو عاجلا منك مثل ما ... رجونا قدما من ذويك الأفاضل وَقَدْ أَتَتْ ذُو فِي لغة طيّ مَوْصُولَةً، وَلَهَا أَحْكَامٌ فِي النَّحْوِ. الْقُرْبَى: مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى، وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَهِيَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ وَالصُّلْبِ، قَالَ طَرَفَةُ: وَقَرَّبْتُ بِالْقُرْبَى وَجَدِّكَ أَنَّهُ ... مَتَّى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ وَقَالَ أَيْضًا: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ الْيَتَامَى: فَعَالَى، وَهُوَ جَمْعٌ لَا يَنْصَرِفُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَمُفْرَدُهُ: يَتِيمٌ، كَنَدِيمٍ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَكَذَا جَمْعُهُ عَلَى أَيْتَامٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْيُتْمُ فِي بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ الْيُتْمَ فِي بَنِي آدَمَ يُقَالُ: مَنْ فَقَدَ الْأُمَّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَأَصْلُهُ الِانْفِرَادُ. فَمَعْنَى صَبِيٍّ يَتِيمٍ: أَيْ مُنْفَرِدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَسُمِّيَتِ الدُّرَّةُ الَّتِي لَا مَثِيلَ لَهَا: يَتِيمَةً لِانْفِرَادِهَا، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْيُتْمِ: الْغَفْلَةُ، وَسُمِّيَ الصَّبِيُّ يَتِيمًا، لِأَنَّهُ يُتَغَافَلُ عَنْ بِرِّهِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْيُتْمِ: الْإِبْطَاءُ، وَمِنْهُ أُخِذَ الْيَتِيمُ، لِأَنَّ الْبِرَّ يبطىء عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو. الْمَسَاكِينُ: جَمْعُ مِسْكِينٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ، فَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، كَمِحْضِيرٍ مِنَ الْحَضَرِ. وَقَدْ رُوِيَ: تَمَسْكَنَ فُلَانٌ، وَالْأَصَحُّ فِي اللُّغَةِ تَسَكَّنَ، أَيْ صَارَ مِسْكِينًا، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْفَقِيرِ، وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ. الْحَسَنُ وَالْحُسْنُ، قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ: كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ. وَالْحُسْنُ: مَصْدَرُ حَسُنَ، كَالْقُبْحِ مَصْدَرِ قَبُحَ، مُقَابِلُ حَسُنَ. الْقَلِيلُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَلَّ، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مُقَابِلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَثُرَ. يُقَالُ: قَلَّ يَقِلُّ قِلَّةً وَقَلًّا وَقُلًّا، الْإِعْرَاضُ: التَّوَلِّي، وَقِيلَ: التَّوَلِّي بِالْجِسْمِ، وَالْإِعْرَاضُ بِالْقَلْبِ. وَالْعَرْضُ: النَّاحِيَةُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُكَ: أَعْرَضَ زَيْدٌ عَنْ

عَمْرٍو، أَيْ صَارَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلصَّيْرُورَةِ: الدَّمُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَحْذُوفُ اللَّامِ، وَهِيَ يَاءٌ، لِقَوْلِهِ: جَرَى الدَّمَيَانِ بالخبر الْيَقِينِ أَوْ: وَاوٌ، لِقَوْلِهِمْ: دَمَوَانِ، وَوَزْنُهُ فَعْلٌ. وَقِيلَ: فِعْلٌ، وَقَدْ سُمِعَ مَقْصُورًا، قَالَ: غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَتْ تَطْلُبُهُ ... فَإِذَا هِيَ بِعِظَامٍ وَدِمَا وَقَالَ: وَلَكِنْ عَلَى أَعْقَابِنَا يَقْطُرُ الدِّمَا فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ كَذَلِكَ، وَقَدْ سُمِعَ مُشَدَّدَ الْمِيمِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَهَانَ دَمَّكَ فَرْغًا بَعْدَ عِزَّتِهِ ... يَا عَمْرُو نَعْيُكَ إِصْرَارًا عَلَى الْحَسَدِ الدِّيَارُ: جَمْعُ دَارٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي فِعْلِ الِاسْمِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضَاعَفًا، وَلَا مُعْتَلَّ لَامٍ نَحْوَ: طَلَلٍ، وَفَتًى. وَالْيَاءُ فِي هَذَا الْجَمْعِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، إِذْ أَصْلُهُ دُوَارٌ، وَهُوَ قِيَاسٌ، أَعْنِي هَذَا الْإِبْدَالَ إِذَا كَانَ جمعا لواحد مُعْتَلَّ الْعَيْنِ، كَثَوْبٍ وَحَوْضٍ وَدَارٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِعَالًا صَحِيحَ اللَّامِ. فَإِنْ كَانَ مُعْتَلَّهُ، لَمْ يُبْدَلْ نحو: رواو، قالوا: فِي جَمْعِ طَوِيلٍ: طُوَالٌ وَطِيَالٌ. أَقَرَّ بِالشَّيْءِ: اعْتَرَفَ بِهِ. تَظَاهَرُونَ: تَتَعَاوَنُونَ، كَأَنَّ الْمُتَظَاهِرِينَ يُسْنِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ظَهْرَهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَالظَّهْرُ: الْمُعِينُ. الْإِثْمُ: الذَّنْبُ، جَمْعُهُ آثَامٌ. الْأَسْرَى: جَمْعُ أَسِيرٍ، وَفَعْلَى مَقِيسٌ فِي فَعِيلٍ، بِمَعْنَى: مَمَاتٍ، أَوْ مُوجَعٍ، كَقَتِيلٍ وَجَرِيحٍ. وَأَمَّا الْأُسَارَى فَقِيلَ: جَمْعُ أَسِيرٍ، وَسُمِعَ الْأَسَارَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: أَسَارَى جَمْعُ أَسْرَى، فَيَكُونُ جَمْعَ الْجَمْعِ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْأَسْرَى: مَنْ فِي الْيَدِ، وَالْأُسَارَى: مَنْ فِي الْوِثَاقِ، وَالْأَسِيرُ: هُوَ الْمَأْخُوذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. الْفِدَاءُ: يُكْسَرُ أَوَّلُهُ فَيُمَدُّ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمُ ... وَمَا أَثَمَرُوا مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ وَيُقْصَرُ، قَالَ: فِدًا لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي وَإِذَا فُتِحَ أَوَّلُهُ قُصِرَ، يُقَالُ: قُمْ فَدًا لَكَ أَبِي، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَمَعْنَى فَدَى فُلَانٌ فُلَانًا: أَيْ أَعْطَى عِوَضَهُ. الْمُحَرَّمُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَرَّمَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَنْعِ.

تَقُولُ: حَرَمَهُ يَحْرِمُهُ، إِذَا مَنَعَهُ. الْجَزَاءُ: الْمُقَابَلَةُ، وَيُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. الْخِزْيُ: الْهَوَانُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: خَزِيَ، بِالْكَسْرِ، يَخْزَى خِزْيًا. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: مَعْنَى خَزِيَ: وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ، وَأَخْزَاهُ اللَّهُ أَيْضًا، وَخَزَى الرَّجُلُ فِي نَفْسِهِ يَخْزَى خَزَايَةً، إِذَا اسْتَحْيَا، وَهُوَ خَزْيَانُ، وقوم خزايا، وامرأة خَزْيَا. الدُّنْيَا: تَأْنِيثُ الْأَدْنَى، وَيَرْجِعُ إِلَى الدُّنُوِّ، بِمَعْنَى الْقُرْبِ. وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَلَا تُحْذَفُ مِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِلَّا فِي شِعْرٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: فِي سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتْ وَالدُّنْيَا تَارَةً تُسْتَعْمَلُ صِفَةً، وَتَارَةً تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ صِفَةً، فَالْيَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، إِذْ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدُّنُوِّ، وَذَلِكَ نَحْوُ: الْعُلْيَا. وَلِذَلِكَ جَرَتْ صِفَةً عَلَى الْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «1» ، فَأَمَّا الْقُصْوَى وَالْحَلْوَى فَشَاذٌّ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَكَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ: فِي (الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ) لَهُ الدُّنْيَا مُؤَنَّثَةٌ مَقْصُورَةٌ، تُكْتَبُ بِالْأَلِفِ هَذِهِ لُغَةُ نَجْدٍ وَتَمِيمٍ خَاصَّةً، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ يُلْحِقُونَهَا وَنَظَائِرَهَا بِالْمَصَادِرِ ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَيَقُولُونَ: دُنْوَى، مِثْلَ: شَرْوَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِكُلِّ فُعْلَى مَوْضِعُ لَامِهَا وَاوٌ، يَفْتَحُونَ أَوَّلَهَا وَيَقْلِبُونَ الْوَاوَ يَاءً، لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ الضَّمَّةَ وَالْوَاوَ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ الْآيَةَ، هَذِهِ الْآيَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلْآيَاتِ الْوَارِدَةِ قَبْلَهَا فِي ذِكْرِ تَوْبِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْرِيعِهِمْ، وَتَبْيِينِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ مِيثَاقِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَإِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَالْمُوَاظِبَةِ عَلَى رُكْنَيِ الْإِسْلَامِ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ: ثُمَّ ذِكْرِ تَوَلِّيهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَنَقْضِهِمْ لِذَلِكَ الْمِيثَاقِ، عَلَى عَادَتِهِمُ السَّابِقَةِ وَطَرِيقَتِهِمُ الْمَأْلُوفَةِ لَهُمْ. وَإِذْ: مَعْطُوفٌ عَلَى الظُّرُوفِ السَّابِقَةِ قَبْلَ هَذَا. وَالْمِيثَاقُ: هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَهُمْ فِي صُلْبِ آبَائِهِمْ كَالذَّرِّ، قَالَهُ: مَكِّيٌّ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ الخطاب قد خصص ببني إِسْرَائِيلَ، وَمِيثَاقُ الْآيَةِ فِيهِمْ، أَوْ مِيثَاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عُقَلَاءُ فِي حَيَاتِهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ مِيثَاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، بِأَنْ يَعْبُدُوهُ، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ

_ (1) سورة يونس: 10/ 24.

ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: لَا يَعْبُدُونَ، بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَعْبُدُوا، عَلَى النَّهْيِ. فَأَمَّا لَا يَعْبُدُونَ فَذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ غَيْرَ عَابِدِينَ إِلَّا اللَّهَ أَيْ مُوَحِّدِينَ اللَّهَ وَمُفْرِدِيهِ بِالْعِبَادَةِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ. لَا يُقَالُ إِنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا فِي الْمَعْنَى لِمِيثَاقٍ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَوْ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَصْدَرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ بَعْدَهُ فَاعِلًا فِي الْمَعْنَى، أَوْ مَفْعُولًا لِأَنَّ الَّذِي يُقَدِّرُ فِيهِ الْعَمَلَ هُوَ مَا انْحَلَّ إِلَى حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلُ، وَهُنَا لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَنْحَلَّ، لِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى مَوْضِعِهِ بِرَفْعٍ وَلَا نَصْبٍ، لِأَنَّكَ لَوْ قَدَّرْتَ أَخَذْنَا أَنْ نُوَاثِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ أَنْ يُوَاثِقَنَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، لَمْ يَصِحَّ، بَلْ لَوْ فَرَضْنَا كَوْنَهُ مَصْدَرًا حَقِيقَةً: لَمْ يَجُزْ فِيهِ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: أَخَذْتُ عِلْمَ زَيْدٍ، لَمْ يَنْحَلَّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ: لَا يُقَالُ: أَخَذْتُ أَنْ يَعْلَمَ زَيْدٌ. فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرِ الْمَصْدَرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَلَا كَانَ مِنْ ضَرْبًا زَيْدًا، لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الْأَخِيرِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ فِي تَرْجَمَةِ سِيبَوَيْهِ هَذَا. بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ: أَنْ يَتَقَدَّرَ الْمَصْدَرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَرُدَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَجَازَهُ. وَمِمَّنْ أَجَازَهُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا: الْمُبَرِّدُ وَقُطْرُبٌ، قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَارَنَةً، وَحَالًا مُقَدَّرَةً. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، أَيِ اسْتَحْلَفْنَاهُمْ وَاللَّهِ لَا يَعْبُدُونَ، وَنُسِبَ هَذَا الْوَجْهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَأَجَازَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أَنْ مَحْذُوفَةً، وَتَكُونَ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا مَحْمُولًا عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ جَرٍّ، التَّقْدِيرُ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، إِذْ حَذْفُهُ مَعَ أَنَّ، وَأَنْ جَائِزٌ مُطَّرِدٌ، إِذْ لَمْ يُلْبِسْ، ثُمَّ حَذَفَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَنْ، فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ، فَصَارَ لَا تَعْبُدُونَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ نَثْرِ الْعَرَبِ: مُرْهُ يحفرها، وَمِنْ نَظْمِهَا قَوْلُهُ: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحَضُرَ الْوَغَى أَصْلُهُ: مُرْهُ بِأَنْ يَحْفِرَهَا. وَعَنْ: أَنْ أَحْضُرَ الْوَغَى، فَجَرَى فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ إِضْمَارِ أَنْ فِي مِثْلِ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ مَنَعَهُ، وعلى ذلك متأخر وأصحابنا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: يَجِبُ رَفْعُ الْفِعْلِ إِذْ ذَاكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِنَفْيِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالْكُوفِيِّينَ. وَالصَّحِيحُ: قَصْرُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ، وَمَا

كَانَ هَكَذَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخَرَّجَ الْآيَةُ عَلَيْهِ، لأن فيه حذف حرف مَصْدَرِيٍّ، وَإِبْقَاءَ صِلَتِهِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الْمُنْقَاسِ ذَلِكَ فِيهَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا، فَحُذِفَ أَنْ وَارْتَفَعَ الْفِعْلُ، وَيَكُونَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ اقْتِيَاسِ ذَلِكَ، أَعْنِي حَذْفَ أَنْ وَرَفْعَ الْفِعْلِ وَنَصْبَهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مَحْكِيَّةً بِحَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ قَائِلِينَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ لفظه لفظ الخبر، ومعناه النَّهْيَ، أَيْ قَائِلِينَ لَهُمْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْعَطْفُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ الْقَوْلَ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَهُوَ نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ أَيْضًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا يَقُولُ تَذْهَبُ إِلَى فُلَانٍ، تَقُولُ لَهُ كَذَا، تُرِيدُ الْأَمْرَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِأَنَّهُ كَانَ سُورِعَ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالِانْتِهَاءِ، فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنْ لَا تَعْبُدُونَ، وَتَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَحَذَفَ أَنِ الْمُفَسِّرَةَ وَأَبْقَى الْمُفَسَّرَ. وَفِي جَوَازِ حَذْفِ أَنِ الْمُفَسِّرَةِ نَظَرٌ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةً، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كان في ذلك إيهام لِلْمِيثَاقِ مَا هُوَ، فَأَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُفَسِّرَةً لِلْمِيثَاقِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَلِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَفْظُ غَيْبَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَحِكْمَتُهُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ، وَأَقْرَبَ لِلِامْتِثَالِ، إِذْ فِيهِ الْإِقْبَالُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِالْخِطَابِ. وَمَعَ جَعْلِ الْجُمْلَةَ مُفَسَّرَةً، لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَفْيٌ أُرِيدَ بِهِ نَهْيٌ، إِذْ تَبْعُدُ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ فِيهِ. إلا الله: استثناء مفرّع، لِأَنَّ لَا تَعْبُدُونَ لَمْ يَأْخُذْ مَفْعُولَهُ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ. إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَرَى عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَكَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا إِيَّانَا؟ لَكِنْ فِي الْعُدُولِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ مِنَ الْفَخَامَةِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَالتَّفَرُّدِ بِالتَّسْمِيَةِ بِهِ، مَا لَيْسَ فِي الْمُضْمَرِ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ ظَاهِرَةٌ، فَنَاسَبَ مُجَاوَرَةُ الظَّاهِرِ الظَّاهِرَ. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الْمَعْنَى: الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبِرِّهِمَا وَإِكْرَامِهِمَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ذَلِكَ، حَتَّى عُدَّ الْعُقُوقُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَنَاهِيكَ احْتِفَالًا

بِهِمَا كَوْنُ اللَّهِ قَرَنَ ذَلِكَ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، وَمِنْ غَرِيبِ الْحِكَايَاتِ: أَنَّ عُمَرَ رَأَى امْرَأَةً تَطُوفُ بِأَبِيهَا عَلَى ظَهْرِهَا، وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهَا: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، لَقَدْ وَفَيْتِ بِحَقِّهِ، فَقَالَتْ: مَا وَفَّيْتُهُ ولا أنصفته، لأن كَانَ يَحْمِلُنِي وَيَوَدُّ حَيَاتِي، وَأَنَا أَحْمِلُهُ وَأَوَدُّ مَوْتَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ، وَفِي انْتِصَابِ إِحْساناً عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَا تَعْبُدُونَ، أَعْنِي عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ الْحَرْفِ الْمَصْدَرِيِّ وَالْفِعْلِ، إِذِ التَّقْدِيرُ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَبِالْوَالِدَيْنِ، أَيْ وَبِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ بِإِحْسَانٍ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَيَكُونُ انْتِصَابُ إِحْسَانًا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، فَالْعَامِلُ فِيهِ الْمِيثَاقُ، لِأَنَّهُ بِهِ يَتَعَلَّقُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَرَوَائِحُ الْأَفْعَالِ تَعْمَلُ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِإِحْسَانًا، وَيَكُونَ إِحْسَانًا مَصْدَرًا مَوْضُوعًا مَوْضِعَ فِعْلِ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ. قَالُوا: وَالْبَاءُ تُرَادِفُ إِلَى فِي هَذَا الْفِعْلِ، تَقُولُ: أَحْسَنْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَحْسِنُوا بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، الْمَعْنَى: وَأَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِبِرِّهِمَا. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَلْفُوظًا بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُعْتَرَضُ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَعْمُولٌ لَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ، إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي مَنْعِهِ تَقْدِيمَ مَفْعُولٍ، نَحْوَ: ضَرْبًا زَيْدًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَنْعُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ مَوْصُولًا بِأَنْ يَنْحَلَّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مَوْصُولٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. فَجَائِزٌ أَنْ تَقُولَ: ضَرْبًا زَيْدًا، وَزَيْدًا ضَرْبًا، سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الْعَامِلِ فِي الْمَصْدَرِ، أَوْ لِلْمَصْدَرِ النَّائِبِ عَنِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ هُوَ أَمْرٌ، وَالْمَصْدَرَ النَّائِبَ عَنْهُ أَيْضًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ. فَعَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الْعَامِلِ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَيُقَدَّرُ: وَأَحْسِنُوا، أَوْ وَيُحْسِنُونَ بِالْوَالِدَيْنِ، وَيَنْتَصِبُ إِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، فَتَقْدِيرُهُ: وَأَحْسِنُوا، مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى لَا تَعْبُدُونَ: لَا تَعْبُدُوا، أَوْ تَقْدِيرُهُ: وَيُحْسِنُونَ، مُرَاعَاةً لِلَفْظِ لَا تَعْبُدُونَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأَمْرَ. وَبِهَذَيْنِ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَحْذُوفَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَاسْتَوْصُوا بِالْوَالِدَيْنِ، وَيَنْتَصِبَ إِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، قَالَهُ الَمَهْدَوِيُّ: الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَوَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ، وَيَنْتَصِبَ إِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ وَوَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا مِنَّا، أَيْ لِأَجْلِ إِحْسَانِنَا، أَيْ أَنَّ التَّوْصِيَةَ بِهِمَا سَبَبُهَا إِحْسَانُنَا، إِمَّا لِأَنَّ مِنْ شَأْنِنَا الْإِحْسَانَ، أَوْ

إِحْسَانًا مِنَّا لِلْمُوصَيْنَ، إِذْ يَتَرَتَّبُ لَهُمْ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ، أَوْ إِحْسَانًا مِنَّا لِلْمُوصَى بِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْفِعْلُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «1» . وَالْمُخْتَارُ، الْوَجْهُ الثَّانِي: لِعَدَمِ الْإِضْمَارِ فِيهِ، وَلِاطِّرَادِ مَجِيءِ الْمَصْدَرِ فِي مَعْنَى فَعَلِ الْأَمْرِ. وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُمَا آكَدُ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ اعْتِنَاءً بِمُتَعَلِّقِ الْحَرْفِ، وَهُمَا الْوَالِدَانِ، وَاهْتِمَامًا بِأَمْرِهِمَا. وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ اعْتِنَاءً بِالْأَوْكَدِ. فَبَدَأَ بِالْوَالِدَيْنِ، إِذْ لَا يَخْفَى تَقَدُّمُهُمَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ بِذِي الْقُرْبَى، لِأَنَّ صِلَةَ الْأَرْحَامِ مُؤَكَّدَةٌ أَيْضًا، وَلِمُشَارَكَتِهِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقَرَابَةِ، ثُمَّ بِالْيَتَامَى، لِأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ تَامَّةٌ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَقَدْ جَاءَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ، ثُمَّ بِالْمَسَاكِينِ لِمَا فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَتَأَخَّرَتْ دَرَجَةُ الْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِخْدَامِ، وَيُصْلِحَ مَعِيشَتَهُ، بِخِلَافِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ لِصِغَرِهِمْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمْ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يَنْفَعُهُمْ. وَأَوَّلُ هَذِهِ التَّكَالِيفِ هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، ثُمَّ الْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ إِلَى ذِي الْقُرْبَى، ثُمَّ إِلَى الْيَتَامَى، ثُمَّ إِلَى الْمَسَاكِينِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ تَكَالِيفَ تَجْمَعُ عِبَادَةَ اللَّهِ، وَالْحَضَّ عَلَى الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْمُوَاسَاةَ لِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَفْرَدَ ذَا الْقُرْبَى، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ، وَلِأَنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى الْمَصْدَرِ يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ ذِي قَرَابَةٍ. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً: لَمَّا ذَكَرَ بَعْدَ عِبَادَةِ اللَّهِ الْإِحْسَانَ لِمَنْ ذَكَرَ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْمَطْلُوبِ فِيهِ الْفِعْلُ مِنَ الصِّلَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالِافْتِقَادِ، أَعْقَبَ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، لِيَجْمَعَ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ سَهْلَ الْمَرَامِ، إذ هو بذل لَفْظٍ، لَا مَالٍ، كَانَ مُتَعَلِّقُهُ بِالنَّاسِ عُمُومًا إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: حَسَنًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: حُسُنًا بِضَمِّهِمَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: حُسْنَى، عَلَى وَزْنِ فَعَّلَ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: إِحْسَانًا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ حُسْنًا، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ قَوْلًا حَسَنًا، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا حُسْنٍ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِإِفْرَاطِ حسنه، وقيل: يكون

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 8.

أَيْضًا صِفَةً، لَا أَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، بَلْ يَكُونُ كَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ، فَيَكُونُ الْحُسْنُ وَالْحَسَنُ لُغَتَيْنِ، كَالْحُزْنِ وَالْحَزَنِ، وَالْعُرْبِ وَالْعَرَبِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكُمْ حسنا. وأما من قرأ: حَسَنًا بِفَتْحَتَيْنِ، فَهُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَقُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا حَسَنًا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِضَمَّتَيْنِ، فَضَمَّةُ السِّينِ إِتِّبَاعٌ لِضَمَّةِ الْحَاءِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: حُسْنَى، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَدَّهُ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ وَفُعْلَى لَا يَجِيءُ إِلَّا مَعْرِفَةً، إِلَّا أَنْ يُزَالَ عَنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ وَيَبْقَى مَصْدَرًا، كَالْعُقْبَى، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي كَلَامِهِ ارْتِبَاكٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ أَفْعَلَ وَفُعْلَى لَا يَجِيءُ إِلَّا مَعْرِفَةً، وَلَيْسَ عَلَى مَا ذَكَرَ. أَمَّا أَفْعَلُ فَلَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمِنْ ظَاهِرَةً، أَوْ مُقَدَّرَةً، أَوْ مُضَافًا إِلَى نَكِرَةٍ، فَهَذَا لَا يَتَعَرَّفُ بِحَالٍ، بَلْ يَبْقَى نَكِرَةً. وَالِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ مَعْرِفَةً بِهِمَا. الثَّالِثُ: أَنْ يُضَافَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَفِي التَّعْرِيفِ بِتِلْكَ الْإِضَافَةِ خِلَافٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ: أَفْضَلُ الْقَوْمِ. وَأَمَّا فُعْلَى فَلَهَا اسْتِعْمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَيَكُونُ مَعْرِفَةً بِهِمَا. وَالثَّانِي: بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ نَحْوُ: فُضْلَى النِّسَاءِ. وَفِي التَّعْرِيفِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي أَفْعَلَ، فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: لأن أفعل وفعلى لا يَجِيءُ إِلَّا مَعْرِفَةً، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُزَالَ عَنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَيَبْقَى مَصْدَرًا، فَيَكُونَ فُعْلَى الَّذِي هُوَ مُؤَنَّثُ أَفْعَلُ، إِذَا أَزَلْتَ مِنْهُ مَعْنَى التَّفْضِيلِ يَبْقَى مَصْدَرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَنْقَاسُ مَجِيءُ فُعْلَى مَصْدَرًا إِنَّمَا جاءت منه أليفاظ يَسِيرَةٌ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي فُعْلَى، الَّتِي مُذَكَّرُهَا أَفْعَلُ، أَنَّهَا تَصِيرُ مَصْدَرًا إِذَا زَالَ مِنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُبْرَى وَصُغْرَى وَجُلَّى وَفُضْلَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَا يَنْقَاسُ جَعْلُ شَيْءٍ مِنْهَا مَصْدَرًا بَعْدَ إِزَالَةِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ؟ بَلِ الَّذِي يَنْقَاسُ عَلَى رَأْيٍ أَنَّكَ إِذَا أَزَلْتَ مِنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ، صَارَتْ بِمَعْنَى: كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ وَجَلِيلَةٍ وَفَاضِلَةٍ. كَمَا أَنَّكَ إِذَا أَزَلْتَ مِنْ مُذَكَّرِهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ، كَانَ أَكْبَرُ بِمَعْنَى كَبِيرٍ، وَأَفْضَلُ بِمَعْنَى فَاضِلٍ، وَأَطْوَلُ بِمَعْنَى طَوِيلٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَنْهَا عَائِدًا إِلَى حُسْنَى، لَا إِلَى فُعْلَى، وَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا أَنْ يُزَالَ عَنْ حُسْنَى، وَهِيَ اللَّفْظَةُ الَّتِي قَرَأَهَا أُبَيٌّ وَطَلْحَةُ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَيَبْقَى مَصْدَرًا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَّا إِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا، كَالْعُقْبَى. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِهَا، أَيْ وَالْمَصْدَرُ وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِهَا. وَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَصْدَرُ، كَالْبُشْرَى، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: حَسُنَ حُسْنَى، كَمَا تَقُولُ: رَجَعَ رُجْعَى، وَبَشَّرَ بُشْرَى، إِذْ مَجِيءُ فُعْلَى كَمَا ذَكَرْنَا مصدرا لا يَنْقَاسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةً

لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَقُولُوا لِلنَّاسِ كَلِمَةً حُسْنَى، أَوْ مَقَالَةً حُسْنَى. وَفِي الْوَصْفِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى أَنَّهَا لِلتَّفْضِيلِ، وَاسْتِعْمَالُهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَلَا إِضَافَةٍ لِمَعْرِفَةٍ نَادِرٌ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنْ دَعَوْتَ إِلَى جُلًى وَمُكَرُمَةٍ ... يَوْمًا كِرَامَ سَرَاةِ النَّاسِ فَادْعِينَا فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ هَذَا لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، فَيَكُونَ مَعْنَى حُسْنَى: حَسَنَةٌ، أَيْ وَقُولُوا لِلنَّاسِ مَقَالَةً حَسَنَةً، كَمَا خَرَّجُوا يُوسُفَ أَحْسَنَ إِخْوَتِهِ فِي مَعْنَى: حَسَنُ إِخْوَتِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: إِحْسَانًا فَيَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَوْلًا إِحْسَانًا، وَإِحْسَانًا مَصْدَرٌ مِنْ أَحْسَنَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ قَوْلًا ذَا حُسْنٍ، كَمَا تَقُولُ: أَعْشَبَتِ الْأَرْضُ إِعْشَابًا، أَيْ صَارَتْ ذَاتَ عُشْبٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُولُوا لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمُرُوهُمْ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُولُوا لَهُمْ حُسْنًا فِي الْإِعْلَامِ بِمَا فِي كِتَابِكُمْ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قُولُوا لَهُمُ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ، وَجَاوِبُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَا تُحِبُّونَ أَنْ تُجَاوَبُوا بِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهُوهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا صَدِّقَا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، مَنْ هُوَ؟. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَأَنْ تَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا. وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: لَا يَعْبُدُونَ بِالْيَاءِ، يَكُونُ الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ الْأُمَّةُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِتَكُونَ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِتُنَاسِبَ الْخِطَابَ الَّذِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ، لَا يُمْكِنُ إلا أَنْ يَكُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ لِلنَّاسِ، كَانَ وَاجِبًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْأَمْرِ، وَكَأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى التَّوَلِّي عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ قوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ، أَوْ بِحَسَبِ الْخِطَابِ. وَزَعَمَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ. قِيلَ: وَهَذَا هُوَ الْأَقْوَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، أَنَّ هَارُونَ وَمُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أُمِرَا بِالرِّفْقِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ

لَهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ «1» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «2» ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «4» . وَمَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ الْقَوْلُ الْحَسَنُ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ، اسْتَدَلَّ بِأَنَّا أُمِرْنَا بِلَعْنِهِمْ وَذَمِّهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «5» . وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَالصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا فِي التَّوْرَاةِ، وَهُمْ إِلَى الْآنَ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ كَانَتْ قُرْبَانًا تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ نَارٌ فَتَحْمِلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَقَبُّلَهُ، وَمَا لَا تَفْعَلُ النَّارُ ذَلِكَ بِهِ، كَانَ غَيْرَ مُتَقَبَّلٍ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ هِيَ هَذِهِ الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْنَا، وَالْخِطَابُ لِمَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من أَبْنَاءِ الْيَهُودِ، وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَمْرًا بِالْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِيمَانِ وَالزَّكَاةُ هِيَ هَذِهِ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ هُنَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كُنِّيَ عَنِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ تَوَلِّيَ أَسْلَافِهِمْ، إِذْ هُمْ كُلُّهُمْ بِتِلْكَ السَّبِيلِ، قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَالْمَعْنِيُّ بِالْقَلِيلِ الْقَلِيلُ فِي عَدَدِ الْأَشْخَاصِ. فَقِيلَ: هَذَا الْقَلِيلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: مَنْ آمَنَ قَدِيمًا مِنْ أَسْلَافِهِمْ، وَحَدِيثًا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِلَّةُ فِي الْإِيمَانِ، أَيْ لَمْ يَبْقَ حِينَ عَصَوْا وَكَفَرَ آخِرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا إِيمَانٌ قَلِيلٌ، إِذْ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ، إِذِ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الْفَهْمُ إِنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءُ أَشْخَاصٍ قَلِيلِينَ مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الضَّمِيرُ فِي تَوَلَّيْتُمْ، وَنَصْبُ: قَلِيلًا، على الاستثناء،

_ (1) سورة النحل: 16/ 125. (2) سورة الأنعام: 6/ 108. (3) سورة الفرقان: 25/ 72. (4) سورة الأعراف: 7/ 199. (5) سورة النساء: 4/ 148.

وَهُوَ الْأَفْصَحُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ مُوجَبٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ: إِلَّا قَلِيلٌ، بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْمٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى بَدَلِ قَلِيلٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَوَلَّيْتُمْ، وَجَازَ ذَلِكَ، يَعْنِي الْبَدَلَ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ نَفْيٌ، لِأَنَّ تَوَلَّيْتُمْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَفُوا بِالْمِيثَاقِ إِلَّا قَلِيلٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الْمُوجَبِ لَا يَجُوزُ، لَوْ قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، لَمْ يَجُزْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْبَدَلَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَلَوْ قُلْتَ: قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إِلَّا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُوجَبِ. وَأَمَّا مَا اعْتُلَّ بِهِ مِنْ تَسْوِيغِ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى تَوَلَّيْتُمُ النَّفْيُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَفُوا إِلَّا قَلِيلٌ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كُلَّ مُوجَبٍ، إِذَا أَخَذْتَ فِي نَفْيِ نَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهِ، كَانَ كَذَلِكَ، فَلْيَجُزْ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ بِقَوْلِكَ: لَمْ تَجْلِسُوا إِلَّا زَيْدٌ. وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَعْتَبِرِ الْعَرَبُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَتَبْنِيَ عَلَيْهِ كَلَامَهَا، وَإِنَّمَا أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ بِالرَّفْعِ، عَلَى الصِّفَةِ. وَقَدْ عَقَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ بَابًا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: هَذَا بَابُ مَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا وَمَا بَعْدَهُ وَصْفًا بِمَنْزِلَةِ غَيْرٍ وَمِثْلٍ. وَذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْبَابِ: لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ إِلَّا زِيدٌ لغلبنا، ولَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. وَقَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا وَسَوَّى بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» ، بِرَفْعِ غَيْرٍ، وَجُوِّزَ فِي نَحْوِ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ الْبَدَلُ وَالصِّفَةُ، وَخُرِّجَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ أَخٍ غَيْرُ الْفَرْقَدَيْنِ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ، كَمَا قَالَ الشَّمَّاخُ: وَكُلُّ خليل غيرها ضم نَفْسِهِ ... لِوَصْلِ خَلِيلٍ صَارِمٌ أَوْ مُعَارِزُ وَمِمَّا أَنْشَدَهُ النَّحْوِيُّونَ: لَدَمٌ ضَائِعٌ نَأَتْ أَقْرَبُوهُ ... عَنْهُ إِلَّا الصَّبَا وَإِلَّا الْجَنُوبُ وَأَنْشَدُوا أَيْضًا: وَبِالصَّرِيمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلِقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ إِلَّا النُّؤْيُ وَالْوَتِدُ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: وَيُخَالِفُ الْوَصْفُ بِإِلَّا الْوَصْفَ بِغَيْرِهِ، من حيث

_ (1) سورة النساء: 4/ 95.

إِنَّهَا يُوصَفُ بِهَا النَّكِرَةُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالظَّاهِرُ وَالْمُضْمَرُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَإِنَّمَا يَعْنِي النَّحْوِيُّونَ بِالْوَصْفِ بِإِلَّا: عَطْفَ الْبَيَانِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُوصَفُ بِإِلَّا إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ نَكِرَةً أَوْ مَعْرِفَةً بِلَامِ الْجِنْسِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يُوصَفُ بِإِلَّا إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ. وَمِنْ تَخْلِيطِ بَعْضِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّهُ أَجَازَ رَفْعَهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: امْتَنَعَ قَلِيلٌ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مُسَطَّرَانِ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُمَا. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا قَلِيلٌ مِنْكُمْ لَمْ يَتَوَلَّ، كَمَا قَالُوا: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ خَيْرٌ مِنْهُ. وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي النَّحْوِ. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، قَالُوا: مُؤَكِّدَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ التَّوَلِّيَ هُوَ الْإِعْرَاضَ بِعَيْنِهِ، وَمَنْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ الْحَالُ مُبَيِّنَةً، وَكَذَلِكَ تَكُونُ مُبَيِّنَةً إِذَا اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ عَهْدِ مِيثَاقِكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ اسْمِيَّةً مُصَدَّرَةً بِأَنْتُمْ، لِأَنَّهَا آكَدُ. وَكَانَ الْخَبَرُ اسْمًا، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْتُمْ عَادَتُكُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ وَالتَّوْلِيَةُ عَنْهُ. وَفِي الْمُوَاجَهَةِ بِأَنْتُمْ تَقْبِيحٌ لِفِعْلِهِمْ وَكَوْنِهِمُ ارْتَكَبُوا ذَلِكَ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَقَعَ، كَقَوْلِكَ: يُحْسِنُ إِلَيْكَ زَيْدٌ وَأَنْتَ مُسِيءٌ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ وَاثَقَهُ اللَّهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي أَشْيَاءَ بِهَا انْتِظَامُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، جَدِيرٌ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْعَهْدِ، وَأَنْ لَا يَنْقُضَهُ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ. وَقِيلَ: التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ مَأْخُوذٌ مَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَمَنْ تَرَكَ سُلُوكَ الطَّرِيقِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ عَوْدُهُ عَلَى بَدْئِهِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوَلِّي، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْخُذَ فِي عَرْضِ الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِعْرَاضُ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ، إِلَّا إِنْ قُصِدَ أَنَّ نَاسًا تَوَلَّوْا وَنَاسًا أَعْرَضُوا، وَجَمَعَ ذَلِكَ لَهُمْ، أَوْ يَتَوَلَّوْنَ فِي وَقْتٍ، وَيُعْرِضُونَ فِي وَقْتٍ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: التَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الْخِصَالِ حَاصِلٌ لَنَا فِي شَرْعِنَا، وَأَوَّلُهَا التَّوْحِيدُ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ رَدَّكَ إِلَى مُرَاعَاةِ حَقِّ مِثْلِكَ، إِظْهَارًا أَنَّ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِصُحْبَةِ شَخْصٍ مِثْلِهِ، كَيْفَ يَقُومُ بِحَقِّ مَعْبُودٍ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؟ فَإِذَا كَانَتِ التَّرْبِيَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ حُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ تُوجِبُ عَظِيمَ هَذَا الْحَقِّ، فَمَا حَقُّ تَرْبِيَةِ سَيِّدِكَ لَكَ؟ كَيْفَ تُؤَدِّي شُكْرَهُ؟ ثُمَّ ذَكَرَ

عُمُومَ رَحْمَتِهِ لِذِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ حُسْنًا. وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ الصِّدْقُ مَعَ الْحَقِّ، وَالرِّفْقُ مَعَ الْخَلْقِ. انْتَهَى، وَبَعْضُهُ مُخْتَصَرٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الْأَسْبَابُ الْمُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ. فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، عَلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ، وَاعْتِقَادِ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْخُضُوعِ مُنْفَرِدًا بِذَلِكَ، وَمَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ: الزَّكَاةُ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ: الصَّلَاةُ، وَبَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَهُوَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ: الْكَلَامُ عَلَى: تَسْفِكُونَ، كَالْكَلَامِ عَلَى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ وَكَسْرِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أبي جمزة كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمَا ضَمَّا الْفَاءَ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ: بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ السِّينَ وَخَفَّفَ الْفَاءَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ، أَيْ لَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِكُمْ لِشِدَّةٍ تُصِيبُكُمْ وَحَنَقٍ يَلْحَقُكُمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَمْرُ الَّذِي وَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. وَإِخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَصَحَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. وَتَظَافَرَتْ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمِلَلُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» . وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَسْفِكُوا دِمَاءَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ سَفَكَ دِمَاءَهُمْ سَفَكُوا دَمَهُ، وَقَالَ: سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِارْتِكَابِكُمْ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ، كَالِارْتِدَادِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يُزِيلُ عِصْمَةَ الدِّمَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَسْفِكُ بَعْضُكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وكل أَهْلُ دِينٍ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ مِيثَاقًا أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَنْفِيَهُ، وَلَا يَسْتَرِقَهُ، وَلَا يَدَعَهُ يَسْتَرِقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَالْخِطَابُ فِي أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَعَ أَسْلَافِهِمْ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 29.

وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ مَعْنَاهُ: لَا يُخْرِجْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَوْ لَا تُسِيئُوا جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكُمْ فَتُلْجِئُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِكُمْ، أَوْ لَا تَفْعَلُوا مَا تُخْرِجُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُكُمْ، أَوْ لَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ إِخْوَانَكُمْ، لِأَنَّكُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ لَا تُفْسِدُوا، فَيَكُونَ سَبَبًا لِإِخْرَاجِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى تَغْرِيبِ الْجَانِي، أَوْ لَا تُفْسِدُوا وَتُشَاقُّوا الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْجَلَاءُ. أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ: أَيْ بِالْمِيثَاقِ، وَاعْتَرَفْتُمْ بِلُزُومِهِ، أَوِ اعْتَرَفْتُمْ بِقَبُولِهِ، أَوْ رَضِيتُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ الْبُعَيْثُ: وَلَسْتُ كُلَيْبِيًّا إِذَا سِيمَ خُطَّةً ... أَقَرَّ كَإِقْرَارِ الْحَلِيلَةِ لِلْبَعْلِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُ عَلَيْكُمْ، وَأَرَادَ عَلَى قُدَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنْ كَانَ الْخِطَابُ وَارِدًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَاصِرِيهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ، فَمَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَسْلَافِكُمْ بِمَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ، إِمَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِمَّا بِمَا تَتْلُونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الْحُضُورَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِأَسْلَافِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ عَائِدٌ إِلَى الْخَلَفِ، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَائِدٌ إِلَى السَّلَفِ، لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا سَفْكَ دِمَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَالَ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِأَنَّ الْأَوَائِلَ وَالْأَصَاغِرَ صَارُوا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ خِطَابَ الْحَضْرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِكَ، فُلَانٌ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا، شَاهِدٌ عَلَيْهَا. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ: هَذَا اسْتِبْعَادٌ لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِجْلَاءِ وَالْعُدْوَانِ، بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنْهُمْ، وَإِقْرَارِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ أَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ، وَهَؤُلَاءِ خَبَرٌ، وَتَقْتُلُونَ حَالٌ. وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبٌ: هَا أَنْتَ ذَا قَائِمًا، وَهَا أَنَا ذَا قَائِمًا. وَقَالَتْ أَيْضًا: هَذَا أَنَا قَائِمًا، وَهَا هُوَ ذَا قَائِمًا، وَإِنَّمَا أُخْبِرَ عَنِ الضَّمِيرِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي اللَّفْظِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ الْحَاضِرُ، وَأَنَا الْحَاضِرُ، وَهُوَ الْحَاضِرُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ بِالْحَالِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مَجِيئُهُمْ بِالِاسْمِ الْمُفْرَدِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، فِيمَا قُلْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَا أَنْتَ ذَا قَائِمًا وَنَحْوِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشَاهِدُونَ، يَعْنِي أَنَّكُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ غَيْرُ أُولَئِكَ الْمُقِرِّينَ، تَنْزِيلًا لِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَنْزِلَةَ تَغَيُّرِ الذَّاتِ، كَمَا تَقُولُ: رَجَعْتُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجْتُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: تَقْتُلُونَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ، هُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا، فَلَيْسُوا قَوْمًا آخَرِينَ. أَلَا تَرَى

أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَنْزِيلِ تَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَنْزِلَةَ تَغَيُّرِ الذَّاتِ لَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ: هَا أَنَا ذَا قَائِمًا وَلَا فِي هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ؟ بَلِ الْمُخَاطَبُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْأَجَلُّ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَحْمَدَ: شَيْخُنَا، هَؤُلَاءِ: رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنْتُمْ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَتَقْتُلُونَ حَالٌ، بِهَا تَمَّ الْمَعْنَى، وَهِيَ كَانَتِ الْمَقْصُودَ، فَهِيَ غَيْرُ مُسْتَغْنًى عَنْهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ تَمَّ الْكَلَامُ فِي الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، وَأَنْتَ قَدْ قَصَدْتَ الْإِخْبَارَ بِانْطِلَاقِهِ، لَا الْإِخْبَارَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ زَيْدٌ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ شَيْخِهِ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ الْأَنْصَارِيُّ، مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا غرناظة، يُعْرَفُ بِابْنِ الْبَاذَشِ، وَهُوَ وَالِدُ الْإِمَامِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ، مُؤَلِّفِ (كِتَابِ الْإِقْنَاعِ فِي الْقِرَاءَاتِ) ، وَلَهُ اخْتِيَارَاتٌ فِي النَّحْوِ، حَدَّثَ بِكِتَابِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْوَزِيرِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ الْمُصْحَفِيِّ، وَعَلَّقَ عَنْهُ فِي النَّحْوِ عَلَى (كِتَابِ الْجُمَلِ وَالْإِيضَاحِ) وَمَسَائِلَ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ. تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَلَا أَدْرِي مَا الْعِلَّةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ جَعْلِ أَنْتُمُ الْمُبْتَدَأَ، وَهَؤُلَاءِ الْخَبَرَ، إِلَى عَكْسِ هَذَا. وَالْعَامِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. قَالُوا: وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ اتَّحَدَ ذُو الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مُنَادًى مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَنُقِلَ جَوَازُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْآيَةَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، جُنُوحًا إِلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَقْتُلُونَ خَبَرًا عَنْ أَنْتُمْ. وَفُصِلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالنِّدَاءِ. وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالنِّدَاءِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ صَعْبٌ عِنْدَهُ أَنْ يَنْعَقِدَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ انْعِقَادِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ أَنْشَدُوا أَبْيَاتًا حُذِفَ مِنْهَا حَرْفُ النِّدَاءِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ طَيٍّء: إِنَّ الْأُولَى وَصَفُوا قَوْمِي لهم فيهم ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولَا وَذَهَبَ ابْنُ كَيْسَانَ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ أَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ، وَيَقْتُلُونَ الْخَبَرُ، وَهَؤُلَاءِ تَخْصِيصٌ لِلْمُخَاطِبِينَ، لَمَّا نُبِّهُوا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَنْصُوبًا بِأَعْنِي. وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ بِالنَّكِرَاتِ، وَلَا بِأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ. وَالْمُسْتَقْرَأُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يَكُونُ أَيًّا نَحْوُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ، أَوْ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ

نَحْوُ: نَحْنُ الْعَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ نَحْوُ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَمًا، كَمَا أَنْشَدُوا: بِنَا تَمِيمًا يُكْشَفُ الضَّبَابُ. اه. وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ، كَمَا مَثَّلْنَاهُ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ، كَقَوْلِهِمْ: بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الْفَضْلَ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ أَنْتُمْ، وَيَكُونُ تَقْتُلُونَ صِلَةً لِهَؤُلَاءِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يقتلون، مِنْ قَتَلَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُقَتِّلُونَ مِنْ قَتَّلَ مُشَدَّدًا. هَكَذَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ، وَفِي تَفْسِيرِ الَمَهْدَوِيِّ أَنَّهَا قِرَاءَةُ أَبِي نَهِيكٍ، قَالَ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ: تُقَتِّلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ، مِنْ قَتَّلَ يَعْنِي مُشَدَّدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ ذَلِكَ. وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ: هَذَا نَزَلَ فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ. كَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ أَعْدَاءَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ إِخْوَانٌ، وَالنَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ أَيْضًا إِخْوَانٌ، ثُمَّ افْتَرَقُوا. فَصَارَتِ النَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، وَقُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ. فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْحَرْبُ، فَيَفْدُونَ أَسْرَاهُمْ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، قَالَهُ الَمَهْدَوِيُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يُقَاتِلُ مَعَ حُلَفَائِهِ، وَإِذَا غَلَبُوا خَرَّبُوا دِيَارَهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ، وَإِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَعَيَّرَتْهُمُ الْعَرَبُ وَقَالَتْ: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ ثُمَّ تَفْدُونَهُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ، وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نُذِلَّ حُلَفَاءَنَا. تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ: قَرَأَ بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَصْلُهُ: تَتَظَاهَرُونَ، فَحَذَفَ التَّاءَ، وَهِيَ عِنْدَنَا الثَّانِيَةُ لَا الْأُولَى، خِلَافًا لِهِشَامٍ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هِيَ الَّتِي لِلْمُضَارَعَةِ، الدَّالَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الْخِطَابِ، وَكَثِيرًا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ التَّاءِ. وَقَالَ: تَعَاطَسُونَ جَمِيعًا حَوْلَ دَارِكُمُ ... فَكُلُّكُمْ يَا بَنِي حَمْدَانَ مَزْكُومُ يُرِيدُ: تَتَعَاطَسُونَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ، أَيْ بِإِدْغَامِ الظَّاءِ فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: تُظَاهِرُونَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: تَظَّهَّرُونَ، بِفَتْحِ التَّاءِ، وَالظَّاءِ وَالْهَاءِ مُشَدَّدَيْنِ دُونَ أَلِفٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ:

تَتَظَاهَرُونَ عَلَى الْأَصْلِ. فَهَذِهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ، وَمَعْنَاهَا كُلِّهَا التَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ. وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا اسْتَضْعَفُوا قَوْمًا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ. عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ الذَّمَّ وَاللَّوْمَ، والثاني: أَنَّهُ الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ: الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا يُوجِبُ الْإِثْمَ، وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى مُسَبَّبِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ إِثْمًا، كَمَا قَالَ: شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي وَالْعُدْوانِ: هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِوَزْنِ فُعَالَى، وَحَمْزَةَ بِوَزْنِ فَعْلَى. تُفادُوهُمْ: قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ مِنْ فَادَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: مِنْ فَدَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحُسْنُ لَفْظِ الْإِتْيَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِخْرَاجِ فَيَظْهَرُ التَّضَادُّ الْمُقَبِّحُ لِفِعْلِهِمْ فِي الْإِخْرَاجِ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَنْ أَسَأْتُمْ إِلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ، وَمَعْنَى تُفَادُوهُمْ: تَفْدُوهُمْ، إِذِ الْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْ وَاحِدٍ. فَفَاعَلَ بِمَعْنَى: فَعَلَ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى فَادَى: بَادَلَ أَسِيرًا بِأَسِيرٍ، وَمَعْنَى فَدَى: دَفَعَ الْفِدَاءَ، وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُ الْعَبَّاسِ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا بَادَلَ أَسِيرًا بِأَسِيرٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَفْدُوهُمْ بِالصُّلْحِ، وَتُفَادُوهُمْ بِالْعُنْفِ. وَقِيلَ تُفَادُوهُمْ: تَطْلُبُوا الْفِدْيَةَ مِنَ الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إِنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا وَتَفْدُوهُمْ: تُعْطُوا فِدْيَتَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَعْنَى تُفَادُوهُمْ فِي اللُّغَةِ، تُطْلِقُونَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَأْخُذُوا عَنْهُ شَيْئًا. وَفَادَيْتُ نَفْسِي: أَيْ أَطْلَقْتُهَا بَعْدَ أَنْ دَفَعْتُ شَيْئًا. وَفَادَى وَفَدَى يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَهُوَ هُنَا بِهِ مَحْذُوفٌ. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ: تَقَدَّمَتْ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: قَتْلُ النَّفْسِ، وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَالتَّظَاهُرُ، وَالْمُفَادَاةُ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ. وَاخْتُصَّ هَذَا الْقِسْمُ بِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُحَرَّمَةً، لِمَا فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَلَاءِ وَالنَّفْيِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ شَرُّهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هَدْمُ الْبِنْيَةِ، أَعْظَمُ، لَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعُ الشَّرِّ، وَبِخِلَافِ الْمُفَادَاةِ بِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ جَرِيرَةِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالتَّظَاهُرِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَالتَّظَاهُرُ عَلَيْهِمْ، مَا وَقَعُوا فِي قَيْدِ الْأَسْرِ. وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا مِمَّا حُذِفَ فِيهِ مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ ذِكْرُ التَّحْرِيمِ،

وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا بَاقِيهَا. وَارْتِفَاعُ هُوَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ إِمَّا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْهُ، وَإِعْرَابُهَا أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ مُبْتَدَأً وَمُحَرَّمٌ خَبَرًا، وَفِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ، إِذِ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. وَلَا يُجِيزُ الْكُوفِيُّونَ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ إِذَا كَانَ مُتَحَمِّلًا ضَمِيرًا مَرْفُوعًا. فَلَا يُجِيزُونَ: قَائِمٌ زَيْدٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ قَائِمٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، فَلِذَلِكَ عَدَلُوا إِلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ مُحَرَّمٌ، وَإِخْرَاجُهُمْ مَرْفُوعٌ بِهِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَتَبِعَهُمْ عَلَى هَذَا الَمَهْدَوِيُّ. وَلَا يُجِيزُ هَذَا الْوَجْهَ الْبَصْرِيُّونَ، لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ إِلَّا بِجُمْلَةٍ مُصَرَّحٍ بِجُزْأَيْهَا، وَإِذَا جَعَلْتَ قَوْلَهُ مُحَرَّمٌ خَبَرًا عَنْ هو، وإخراجهم مَرْفُوعًا بِهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ فُسِّرَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ بِغَيْرِ جُمْلَةٍ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُبْتَدَأً، لَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ، وَمُحَرَّمٌ خَبَرٌ عَنْهُ، وَإِخْرَاجُهُمْ بَدَلٌ. وَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ. مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُضْمَرُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ. وَأَجَازَهُ الْكِسَائِيُّ، وَفِي بَعْضِ النُّقُولِ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ عِمَادًا، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْبَصْرِيُّونَ بِالْفَصْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِخْرَاجُهُمْ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا قُدِّمَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، قُدِّمَ مَعَهُ الْفَصْلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّ الْوَاوَ هاهنا تَطْلُبُ الِاسْمَ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَطْلُبُ فِيهِ الِاسْمَ، فَالْعِمَادُ فِيهِ جَائِزٌ. وَلَا يَجُوزُ هَذَا التَّخْرِيجُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ فِيهِ أَمْرَيْنِ لَا يَجُوزَانِ عِنْدَهُمْ: أَحَدُهُمَا: وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَنَكِرَةٍ لَا تُقَارِبُ الْمَعْرِفَةَ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِخْرَاجُهُمْ هُوَ مُحَرَّمٌ، فَمُحَرَّمٌ نَكِرَةٌ لَا تُقَارِبُ الْمَعْرِفَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ الْفَصْلِ، وَشَرْطُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، أَوْ بَيْنَ مَا هُمَا أَصْلُهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَسَائِلُ تُحَقَّقُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ أَقْوَالٌ تُنْتَقَدُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ فِي هُوَ إِنَّهُ ضَمِيرُ الْأَمْرِ، تَقْدِيرُهُ: وَالْأَمْرُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، وَإِخْرَاجُهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ بَدَلٌ مِنْ هُوَ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ ضَمِيرِ الْأَمْرِ بِمُفْرَدٍ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ بَصَرِيٌّ وَلَا كُوفِيٌّ. أَمَّا الْبَصْرِيُّ، فَلِأَنَّ مُفَسِّرَ ضَمِيرِ الْأَمْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً، وَأَمَّا الْكُوفِيُّ، فَلِأَنَّهُ يُجِيزُ الْجُمْلَةَ وَيُجِيزُ الْمُفْرَدَ، إِذَا كَانَ قَدِ انْتَظَمَ مِنْهُ وَمِمَّا بَعْدَهُ مُسْنَدٌ وَمُسْنَدٌ إِلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، نَحْوُ قَوْلِكَ: ظَنَنْتُهُ قَائِمًا الزَّيْدَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ إِخْرَاجَهُمْ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ الْأَمْرِ، وَضَمِيرُ الْأَمْرِ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا يُبْدَلُ مِنْهُ، وَلَا يُؤَكَّدُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ فَاصِلَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّ، وَلَيْسَتْ هُنَا بِالَّتِي هِيَ عِمَادٌ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى هَذَا

ابْتِدَاءٌ، وَإِخْرَاجُهُمْ خَبَرٌ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ عَكْسُ هَذَا الْإِعْرَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ قَدْ قُدِّمَ مَعَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَإِعْرَابُ مُحَرَّمٌ عِنْدَهُمْ خبر مقدم، وَإِخْرَاجُهُمْ مُبْتَدَأٌ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْقَوَاعِدِ، إِذْ لَا يُبْتَدَأُ بِالِاسْمِ إِذَا كَانَ نَكِرَةً، وَلَا مُسَوِّغَ لَهَا، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَعْرِفَةً، بَلِ الْمُسْتَقِرُّ فِي لِسَانِهِمْ عَكْسُ هَذَا، إِلَّا إِنْ كَانَ يَرِدُ فِي شِعْرٍ، فَيُسْمَعُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ فِي مُحَرَّمٌ قُدِّمَ وَأُظْهِرَ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا، إِذْ لَا مُوجِبَ لِتَقَدُّمِ الضَّمِيرِ، وَلَا لِبُرُوزِهِ بَعْدَ اسْتِتَارِهِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى خُلُوِّ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ ضَمِيرٍ، إِذْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مُحَرَّمٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَإِخْرَاجُهُمْ مُبْتَدَأً، وَلَا يُوجَدُ اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ عَارِيًا مِنَ الضَّمِيرِ، إِلَّا إِذَا رَفَعَ الظَّاهِرَ. وَلَا يُمْكِنُ هُنَا أَنْ يَرْفَعَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمُقَدَّمَ هُوَ كَانَ الضَّمِيرَ المرفوع بمحرم، ثُمَّ يَبْقَى هَذَا الضَّمِيرُ لَا يُدْرَى مَا إِعْرَابُهُ، إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُقَدَّمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ ضَمِيرُ الْإِخْرَاجِ، تَقْدِيرُهُ: وَإِخْرَاجُهُمْ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ارْتِفَاعِ إِخْرَاجُهُمْ، وَلَا يَتَأَتَّى عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَهُ، وَيَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ، إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ. وَلَمْ يَذُمَّهُمْ عَلَى الْفِدَاءِ، بَلْ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ، إِذْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ، وَتَرَكُوا بَعْضًا. وَتَكُونُ الْمُنَاقَضَةُ آكَدَ فِي الذَّمِّ، وَلَا يُقَالُ الْإِخْرَاجُ مَعْصِيَةٌ. فَلِمَ سَمَّاهَا كُفْرًا؟ لِأَنَّا نَقُولُ: لَعَلَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ تَرْكَ الْإِخْرَاجِ غَيْرُ وَاجِبٍ، مَعَ أَنَّ صَرِيحَ التَّوْرَاةِ كَانَ دَالًّا عَلَى وُجُوبِهِ. وَالْبَعْضُ الَّذِي آمَنُوا بِهِ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةَ، فَيَكُونُ عَامًّا فِيمَا آمَنُوا بِهِ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَفِدَاءُ الْأَسِيرِ مِنْ جُمْلَتِهِ. وَالْبَعْضُ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ: هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَالْمُظَاهَرَةُ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، مِنْ جُمْلَةِ مَا كَفَرُوا بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَسْتَعْمِلُونَ الْبَعْضَ وَيَتْرُكُونَ الْبَعْضَ، تُفَادُونَ أَسْرَى قَبِيلَتِكُمْ، وَتَتْرُكُونَ أَسْرَى أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَلَا تُفَادُونَهُمْ. وَقِيلَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَرَّ عَلَى رَأْسِ الْجَالُوتِ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ يُفَادِي مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحَرْبُ، وَلَا يُفَادَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَرْبُ. قَالَ: فَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: أَمَا إِنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ فِي كِتَابِكَ أَنْ تُفَادِيَهُنَّ كُلَّهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ إِنْ وَجَدْتَهُ فِي يَدِ غَيْرِكَ فَدَيْتَهُ، وَأَنْتَ تَقْتُلُهُ بِيَدِكَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُوسَى، عَلَى

نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمَا سَوَاءٌ، فَجَرَوْا مَجْرَى سَلَفِهِمْ، أَنْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ، وَيَكْفُرُوا بِبَعْضٍ. قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ، أَيِ الْمَفْرُوضُ، وَالَّذِي آمَنُوا بِهِ مِنْهَا فِدَاءُ الْأَسْرَى، وَالَّذِي كَفَرُوا بِهِ بَاقِي الْأَرْبَعَةِ. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: الْجَزَاءُ يُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا «1» ، وَقَالَ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «2» . وَالْخِزْيُ هُنَا: الْفَضِيحَةُ، وَالْعُقُوبَةُ، وَالْقَصَاصُ فِيمَنْ قُتِلَ أَوْ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ غَابِرَ الدَّهْرِ، أَوْ قَتْلُ قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءُ النَّضِيرِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إِلَى أَرِيحَا، وَأَذْرِعَاتٍ، أَوْ غَلَبَةُ الْعَدُوِّ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَلَا يَتَأَتَّى الْقَوْلُ بِالْجِزْيَةِ وَلَا الْجَلَاءِ إِلَّا إِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا مُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الذَّمَّ الْعَظِيمَ وَالتَّحْقِيرَ الْبَالِغَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وإلّا خِزْيٌ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَنَقْضُ النَّفْيِ هُنَا نَقْضٌ لِعَمَلِ مَا عَلَى خِلَافٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَتَفْصِيلٍ وَذَلِكَ: أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا تَأَخَّرَ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ إِلَّا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوَّلَ، أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَتَهُ، أَوْ وَصْفًا، إِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فِي الْمَعْنَى، أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَتَهُ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ النَّصْبَ فِيمَا كَانَ الثَّانِي فِيهِ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِيهِ النَّصْبَ، وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ. وَنُقِلَ عَنْ يُونُسَ: إِجَازَةُ النَّصْبِ فِي الْخَبَرِ بَعْدَ إِلَّا كَائِنًا مَا كَانَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا أَخُوكَ، إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالرَّفْعِ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ مَا أَنْتَ إِلَّا لِحْيَتُكَ، فَالْبَصْرِيُّونَ يَرْفَعُونَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: مَا فِيكَ إِلَّا لِحْيَتُكَ، وَكَذَا: مَا أَنْتَ إِلَّا عَيْنَاكَ. وَأَجَازَ فِي هَذَا الْكُوفِيُّونَ النَّصْبَ، وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فِي غَيْرِ الْمَصَادِرِ، إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْمَعْنَى، فَتُضْمِرَ نَاصِبًا نَحْوَ: ما أنت إلا لحيتك مَرَّةً وَعَيْنَكَ أُخْرَى، وَمَا أَنْتَ إِلَّا عِمَامَتَكَ تَحْسِينًا وَرِدَاءَكَ تَزْيِينًا. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ إِلَى أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. وَمَعْنَى يُرَدُّونَ: يَصِيرُونَ، فَلَا يَلْزَمُ كَيْنُونَتُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، أَوْ يُرَادُ بِالرَّدِّ: الرُّجُوعُ إِلَى شَيْءٍ كَانُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ «3» ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي أشدّ العذاب أيضا،

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 12. (2) سورة النساء: 4/ 93. [.....] (3) سورة القصص: 28/ 13.

لِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجَلَاءِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُرَدُّونَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا، فَيَكُونَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ، فَيَكُونَ قَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: تُرَدُّونَ بِالتَّاءِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ، فَيَكُونَ قَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَأَشَدُّ الْعَذَابِ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَأَشَدِّيَّتُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا انْقِضَاءَ لَهُ، أَوْ أَنْوَاعُ عَذَابِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّهَا دَرَكَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَفِيهَا أَوْدِيَةٌ وَحَيَّاتٌ، أَوِ الْعَذَابُ الَّذِي لَا فَرَحَ فِيهِ وَلَا رُوحَ مَعَ الْيَأْسِ مِنَ التَّخَلُّصِ، أَوِ الْأَشَدِّيَّةُ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ الدُّنْيَا، أَوِ الْأَشَدِّيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ عَامَّتِهِمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أضلوهم ودلسوا عليهم، أقوال خَمْسَةً. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَذَا الْكَلَامِ، إِذْ وَقَعَ قَبْلَ أَفَتَطْمَعُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. فَبِالْيَاءِ نَاسَبَ يُرَدُّونَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَبِالتَّاءِ تُنَاسِبُ قِرَاءَةَ تُرَدُّونَ بِالتَّاءِ، فَيَكُونُ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا فِي الْآيَةِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ مَضَوْا، وَأَنْتُمُ الَّذِينَ تُعْنَوْنَ بِهَذَا يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَبِمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْ أَوْعَظِ الْآيَاتِ، إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ لِكُلِّ كَافِرٍ وَعَاصٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الَّذِينَ جَمَعُوا الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ الذَّمِيمَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «1» ، وَأَنَّهُ إِذَا عُدِّدَتْ أَوْصَافٌ لِمَوْصُوفٍ، أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ جَامِعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَالَّذِينَ: خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوُا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ يَقْتَضِيَانِ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا أَعْيَانًا. فَتَوَسَّعَتِ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَعَانِي، وَجَعَلَ إِيثَارَهُمْ بَهْجَةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا عَلَى النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ اشْتِرَاءً، إِيثَارًا لِلْعَاجِلِ الْفَانِي عَلَى الْآجِلِ الْبَاقِي، إِذِ الْمُشْتَرِي لَيْسَ هُوَ الْمُؤْثِرَ لِتَحْصِيلِهِ، وَالثَّمَنُ الْمَبْذُولُ فِيهِ مَرْغُوبٌ عَنْهُ عِنْدَهُ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَغْبُونُ الرَّأْيِ فَاسِدُ الْعَقْلِ. قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي: إِنَّ الدُّنْيَا: مَا دَنَا مِنْ شَهَوَاتِ الْقَلْبِ، والآخرة: ما

_ (1) سورة البقرة: 2/ 5.

اتَّصَلَتْ بِرِضَا الرَّبِّ. فَلَا يُخَفَّفُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَلَ الْمَوْصُولُ بِصِلَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ زَمَانًا، تَقُولُ: جَاءَنِي الَّذِي قَتَلَ زَيْدًا بِالْأَمْسِ، وَسَيَقْتُلُ غَدًا أَخَاهُ، إِذِ الصَّلَاةُ هِيَ جُمَلٌ، فَمَنْ يَشْتَرِطُ اتِّحَادَ زَمَانِ أَفْعَالِهَا بِخِلَافِ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْأَفْعَالِ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدَاتِ، فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الزَّمَانِ مُضِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، وَعَلَى اخْتِيَارِ التَّوَافُقِ فِي الصِّيغَةِ، وَجُوِّزَ أَنْ يكون أولئك مبتدأ، والذين بصلته خبرا. وفلا: يُخَفَّفُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَعَلَّلَ دُخُولَ الْفَاءِ لِأَنَّ الَّذِينَ، إِذَا كَانَتْ صِلَتُهُ فِعْلًا، كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشُّرُوطِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ هُنَا أَعْرَبَهُ خَبَرًا عَنْ أُولَئِكَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ فَلَا يُخَفَّفُ خَبَرًا عَنِ الْمَوْصُولِ، إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وَلَا يَسْرِي لِلْمُبْتَدَأِ الشَّرْطِيَّةُ مِنَ الْمَوْصُولِ الْوَاقِعِ خَبَرًا عَنْهُ. وَجُوِّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وفلا يخفف خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، وَالَّذِينَ وَخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ. قِيلَ: وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَائِدٍ، لِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ أُولَئِكَ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ وَقَعَتْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رَابَطٍ، إِلَّا إِنْ كَانَتْ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ الرَّابِطِ. وَقَدْ أَخْبَرْتَ عَنْ أُولَئِكَ بِالْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُولِ وَبِخَبَرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّابِطِ. وَلَيْسَ نَظِيرَ مَا مَثَّلَ بِهِ مِنَ قَوْلِهِ: هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، لأن زيد مُنْطَلِقٌ خَبَرَانِ عَنْ هَذَا، وَهُمَا مُفْرَدَانِ، أَوْ يَكُونُ زَيْدٌ بَدَلًا مِنْ هَذَا، وَمُنْطَلِقٌ خَبَرًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا مُبْتَدَأً، وَزَيْدٌ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَمُنْطَلِقٌ خَبَرًا عَنْ زَيْدٍ، وَيَكُونَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الرَّابِطِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ هُنَا رَابِطٌ، لَمَا جَازَ هَذَا الْإِعْرَابُ، لِأَنَّ الَّذِينَ مَخْصُوصٌ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، فَلَا يُشْبِهُ اسْمَ الشَّرْطِ، إِذْ يَزُولُ الْعُمُومُ بِاخْتِصَاصِهِ، وَلِأَنَّ صِلَةَ الَّذِينَ مَاضِيَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَمَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا. وَالتَّخْفِيفُ هُوَ التَّسْهِيلُ، وَقَدْ حُمِلَ نَفْيُ التَّخْفِيفِ عَلَى الِانْقِطَاعِ، وَحُمِلَ أَيْضًا عَلَى التَّشْدِيدِ. وَالْأَوْلَى جملة عَلَى نَفْيِ التَّخْفِيفِ بِالِانْقِطَاعِ، أَوْ بِالتَّقْلِيلِ مِنْهُ، أَوْ فِي وَقْتٍ، أَوْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلْمَاهِيَّةِ، فَيَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَشْخَاصِهَا وَصُوَرِهَا. وَالظَّاهِرُ مِنَ النَّفْيِ بِلَا، وَالْكَثِيرُ فِيهَا أَنَّهُ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَدْ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَفْيَ التَّخْفِيفِ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا بِنُقْصَانِ الْجِزْيَةِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَعْنَى نَفْيِ النَّصْرِ: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ عَذَابِ اللَّهِ. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً وَتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، فَيَكُونَ هُمْ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:

وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ وَيُحَسِّنُهُ كَوْنُهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَلا يُخَفَّفُ، وَهُوَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، إِذْ لَوْلَا تَقَدُّمُ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَكَانَ الْأَرْجَحُ الرَّفْعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَا لَيْسَتْ مِمَّا تَطْلُبُ الْفِعْلَ، لَا اخْتِصَاصًا وَلَا أَوْلَوِيَّةً، فَتَكُونُ كَانَ وَالْهَمْزَةُ خِلَافًا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ السَّيِّدِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْفِعْلِ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَا، أَوْلَى مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَبِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ أَوْلَى مِنْ بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ، إِلَّا إِنْ جُعِلَ الْفَاعِلُ عَامًّا، فَيَكُونُ وَلَا هُمْ يَنْصُرُهُمْ أَحَدٌ، فَكَانَ يُفَوِّتُ بِذَلِكَ اخْتِتَامَ الْفَوَاصِلِ بِمَا اخْتُتِمَتْ بِهِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَيُفَوِّتُ الْإِيجَازَ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يُفِيدُ ذَلِكَ، أَعْنِي الْعُمُومَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الكريمة أخبار اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِلَى ذِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَبِالْقَوْلِ الْحَسَنِ لِلنَّاسِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا الْمِيثَاقَ بِتَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَأَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ، وَلَا يُخْرِجُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَقَرُّوا وَالْتَزَمُوا ذَلِكَ. فَكَانَ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ الْأَوَامِرَ، وَالْمِيثَاقُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ النَّوَاهِيَ، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْإِلَهِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَكَانَ الْبَدْءُ بِالْأَوَامِرِ آكَدَ، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَفْعَالًا، وَالنَّوَاهِي تَتَضَمَّنُ تُرُوكًا، وَالْأَفْعَالُ أَشَقُّ مِنَ التُّرُوكِ. وَكَانَ مِنَ الْأَوَامِرِ الْأَمْرُ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، وَهُوَ رَأْسُ الْإِيمَانِ، إِذْ مُتَعَلِّقُهُ أَشْرَفُ الْمُتَعَلِّقَاتِ، فَكَانَ الْبَدْءُ بِهِ أَوْلَى. ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِمُ الْتِبَاسَهُمْ بِمَا نُهُوا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِخْبَارُهُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَنْهِيَّاتِ أَقْبَحُ مِنْ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ، لِأَنَّهَا تُرُوكٌ كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ قَرَّعَهُمْ بِمُخَالَفَةِ نَوَاهِي اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَعِينُونَ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، بَلْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَنَاقُضَ آرَائِهِمْ وَسُخْفَ عُقُولِهِمْ، بِفِدَاءِ مَنْ أَتَى إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ هُمُ السَّبَبُ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَأَسْرِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَحْرِيمِ إِخْرَاجِهِمْ، وَبِذِكْرِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْكُفْرَ بِبَعْضٍ، وَالْإِيمَانَ بِبَعْضٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْجَزَاءَ لِفَاعِلِ ذَلِكَ هُوَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا، وَأَشَدُّ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَمَّا عَمِلُوهُ، فَيُجَازِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَنْ تَحَلَّى بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، هُوَ قَدِ اشْتَرَى عَاجِلًا تَافِهًا بِآجِلٍ جَلِيلٍ، وَآثَرَ فَانِيًا مُكَدَّرًا عَلَى بَاقٍ صَافٍ. وَأَنَّ نَتِيجَةَ هَذَا الشِّرَاءِ أَنْ لَا يُخَفَّفَ عَنْهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا يَجِدُوا نَاصِرًا يَدْفَعُ عَنْهُمْ سُوءَ الْعِقَابِ. لَقَدْ خَسِرُوا تِجَارَةً، وَبُدِّلُوا بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 87 إلى 96]

وَالْحِجَارَةُ. وَإِذَا كَانَ التَّخْفِيفُ قَدْ نُفِيَ، فَالرَّفْعُ أَوْلَى. وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى؟. [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 96] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

قَفَوْتُ الْأَثَرَ: اتَّبَعْتُهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَجِيءَ الْإِنْسَانُ تَابِعًا لِقَفَا الَّذِي اتَّبَعَهُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ لِمُطْلَقِ الِاتِّبَاعِ، وَإِنْ بَعُدَ زَمَانُ الْمَتْبُوعِ مِنْ زَمَانِ التَّابِعِ. وَقَالَ أُمَيَّةُ: قَالَتْ لِأُخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ ... وَكَيْفَ تَقْفُو وَلَا سَهْلٌ وَلَا جَدَدُ الرُّسُلُ: جَمْعُ رَسُولٍ، وَلَا يَنْقَاسُ فُعُلٌ فِي فَعَوْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَتَسْكِينُ عَيْنِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّحْرِيكُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. عِيسَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَمٌ لَا يُصْرَفُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَوَزْنُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: فِعْلَى، وَالْيَاءُ فِيهِ مُلْحَقَةٌ بِبَنَاتِ الْأَرْبَعَةِ، بِمَنْزِلَةِ يَاءِ مِعْزَى، يَعْنِي بِالْيَاءِ الْأَلِفَ، سَمَّاهَا يَاءً لِكِتَابَتِهِمْ إِيَّاهَا يَاءً. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، كَالَّتِي فِي ذِكْرَى، بِدَلَالَةِ صَرْفِهِمْ لَهُ فِي النَّكِرَةِ. وَذَهَبَ الحافظ أبو عمر، وعثمان بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ وَغَيْرُهُ، إِلَى أَنَّ وَزْنَهُ فِعْلَلٌ، وَرَدَّ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ البَاذَشِ بِأَنَّ الْيَاءَ وَالْوَاوَ لَا يَكُونَانِ أصلا في بنات الأربعة. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ أَعْجَمِيَّةٌ، وَكُلُّ أَعْجَمِيٍّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ، فَالنَّحْوِيُّونَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى أَحْكَامِهِ فِي التَّصْرِيفِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعَرَبِيِّ، فَعِيسَى مِنْ هَذَا الْبَابِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَيْسِ: وَهُوَ بَيَاضٌ يُخَالِطُهُ شُقْرَةٌ، فَغَيْرُ مُصِيبٍ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ الْعَرَبِيَّ لَا يَدْخُلُ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ. مَرْيَمُ، بِاللِّسَانِ السِّرْيَانِيِّ، مَعْنَاهُ: الْخَادِمُ، وَسُمِّيَتْ بِهِ أُمُّ عِيسَى، فَصَارَ عَلَمًا، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَمَرْيَمُ، بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ: مِنَ النِّسَاءِ، كَالزِّيرِ: مِنَ الرِّجَالِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ رُؤْبَةَ: قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ وَالزِّيرُ: الَّذِي يُكْثِرُ خِلْطَةَ النِّسَاءِ وَزِيَارَتَهُنَّ، وَالْيَاءُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، كَالرِّيحِ، إِذْ هُمَا مِنَ الزَّوْرِ وَالرُّوحِ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللِّسَانَيْنِ. وَوَزْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مَفْعَلٌ، لِأَنَّ فَعْيَلًا، بِفَتْحِ الْفَاءِ، لَمْ يَثْبُتْ فِي الْأَبْنِيَةِ، كَمَا ثَبَتَ نَحْوُ: عَثْيَرٍ وَعَلْبَبٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَثْبَتَ بَعْضُ النَّاسِ فَعْيَلًا، وَجَعَلَ مِنْهُ: ضَهْيَدًا، اسْمُ مَوْضِعٍ، وَمَدْيَنَ، إِذَا جَعَلْنَا مِيمَهُ أَصْلِيَّةً، وَضَهْيَاءَ مَقْصُورَةً مَصْرُوفَةً، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَحِيضُ، وَقِيلَ: الَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: ضَهْيَاةٌ وَضَهْيَاءَةٌ، بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ ضَأْهَأَتْ: أَيْ شَابَهَتْ، لِأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الرَّجُلَ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: أَمَّا ضَهْيَدٌ وَعَثْيَرٌ فَمَصْنُوعَانِ، فَلَا يُجْعَلَانِ دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِ فَعْيَلٍ. انْتَهَى. وَصِحَّةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي مَرْيَمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ نَحْوُ: مَزْيَدٍ. الْبَيِّنُ: الْوَاضِحُ، بَانَ: وَضَحَ وَظَهَرَ. أَيَّدَ: فعل

تأييد، أَوْ أَيَّدَ: أَفْعَلَ إِئْيَادًا، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْأَيْدِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. وَقَدْ أَبْدَلُوا فِي أَفْعَلَ مِنْ يَائِهِ جِيمًا، قَالُوا: أَجَدُّ، أَيْ قَوِيٌّ، كَمَا أَبْدَلُوا يَاءَ يَدٍ، قَالُوا: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ جَدَى الدَّهْرِ، يُرِيدُونَ يَدَ الدَّهْرِ، وَهُوَ إِبْدَالٌ لَا يطرد. والأصل في آية أءية، وَصُحِّحَتِ الْعَيْنُ كَمَا صُحِّحَتْ فِي أَغْيَلَتْ، وَهُوَ تَصْحِيحٌ شَاذٌّ إِلَّا فِي فِعْلِ التَّعَجُّبِ، فَتَقُولُ: مَا أَبْيَنَ! وَمَا أَطْوَلَ! وَرَآهُ أَبُو زَيْدٍ مَقِيسًا، وَلَوْ أُعِلَّ عَلَى حَدِّ أُقِّتَتْ وَأُحِّدَتْ، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْعَيْنِ عَلَى الْفَاءِ، وَحُذِفَتِ الْعَيْنُ، لَوَجَبَ أَنْ تَنْقَلِبَ الْفَاءُ وَاوًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، كَمَا انْقَلَبَتْ فِي أَوَادِمَ جَمْعُ آدَمَ عَلَى أَفَاعِلَ، ثُمَّ تَنْقَلِبُ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. فَلَمَّا أَدَّى الْقِيَاسُ إِلَى إِعْلَالِ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، رُفِضَ وَصُحِّحَتِ الْعَيْنُ. الرُّوحُ، مِنَ الْحَيَوَانِ: اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ، قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَفِي النَّفْسِ، أَهُمَا مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَمْ مِنَ الْمُتَبَايِنِ؟ وَفِي مَاهِيَّةِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ، وقد صنف في ذلك. الْقُدُسُ: الطَّهَارَةُ، وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ «1» ، الرَّسُولُ، فَعُولٌ بِمَعْنَى: الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمُرْسَلُ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَمِنْهُ: الْحَلُوبُ، وَالرَّكُوبُ، بِمَعْنَى: الْمَحْلُوبِ وَالْمَرْكُوبِ. تَهْوَى: تُحِبُّ وَتَخْتَارُ، مَاضِيهِ عَلَى فَعِلَ، وَمَصْدَرُهُ الْهَوَى. غُلْفٌ: جَمْعُ أَغْلَفَ، كَأَحْمَرَ وَحُمْرٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَفْقَهُ، أَوْ جَمْعُ غِلَافٍ، وَهُوَ الْغِشَاءُ، فَيَكُونُ أَصْلُهُ التَّثْقِيلَ، فَخُفِّفَ. اللَّعْنُ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، يُقَالُ: شَأْوٌ لَعِينٌ، أَيْ بَعِيدٌ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ: ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ الْمَعْرِفَةُ: الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُفْرَدَاتِ، وَيَسْبِقُهُ الْجَهْلُ، بِخِلَافِ أَصْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ، وَقَدْ لَا يَسْبِقُهُ الْجَهْلُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوصَفِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَعْرِفَةِ، وَوُصِفَ بِالْعِلْمِ. بِئْسَ: فِعْلٌ جُعِلَ لِلذَّمِّ، وَأَصْلُهُ فَعِلَ، وَلَهُ وَلِنِعْمَ بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. الْبَغْيُ: الظُّلْمُ، وَأَصْلُهُ الْفَسَادُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَغَى الْجُرْحُ: فَسَدَ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ شِدَّةُ الطَّلَبِ، وَمِنْهُ مَا نَبْغِي، وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: أَنْشَدَ وَالْبَاغِي يُحِبُّ الْوِجْدَانْ ... قَلَائِصًا مُخْتَلِفَاتِ الْأَلْوَانْ وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الزَّانِيَةُ بَغِيًّا، لِشِدَّةِ طَلَبِهَا لِلزِّنَا، الْإِهَانَةُ: الْإِذْلَالُ، وَهَانَ هَوَانًا: لَمْ يُحْفَلْ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الذُّلِّ، وَهُوَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَرَاءَ، مِنَ الظُّرُوفِ الْمُتَوَسِّطَةِ التَّصَرُّفِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى: قُدَّامَ، وَبِمَعْنَى: خَلْفَ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فيه. الخالص:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30.

الَّذِي لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ، يُقَالُ: خَلَصَ يَخْلُصُ خُلُوصًا. تَمَنَّى: تَفَعَّلَ مِنَ الْمُنْيَةِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُشْتَهَى، وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَمَنَّى بِاللِّسَانِ بِمَعْنَى: التِّلَاوَةِ، وَمِنْهُ: تَمَنَّى عَلَى زَيْدٍ مِنْهُ حَاجَةً، وَجَدَ: مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْإِصَابَةِ وَالْعِلْمِ وَالْغِنَى وَالْحَرَجِ، وَيَخْتَلِفُ بِالْمَصَادِرِ: كَالْوِجْدَانِ وَالْوَجْدِ وَالْمَوْجِدَةِ. الْحِرْصُ: شِدَّةُ الطَّلَبِ. الْوِدُّ: الْمَحَبَّةُ لِلشَّيْءِ وَالْإِيثَارُ لَهُ، وَفِعْلُهُ: وَدَّ وَهُوَ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: وَدِدْتُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ كَسْرُ الْوَاوِ، إِذْ يَكُونُ فَعِلَ يَفْعَلُ، وَفَكُّ الْإِدْغَامِ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي قُلُوبِهِمْ لَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ ضَرُورَةٌ. عَمَّرَ: التَّضْعِيفُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، إِذْ هُوَ مِنْ عَمَّرَ الرَّجُلُ: أَيْ طَالَ عُمْرُهُ، وَعَمَّرَهُ اللَّهُ: أَطَالَ عُمْرَهُ، وَالْعُمْرُ: مُدَّةُ الْبَقَاءِ. الْأَلْفُ: عَشْرٌ مِنَ الْمِئِينَ، وَقَدْ يُتَجَاوَزُ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ مِنَ الْأُلْفَةِ، إِذْ هُوَ مَا لَفَّ أَنْوَاعَ الْأَعْدَادِ، إِذِ الْعَشَرَاتُ مَا لَفَّ الْآحَادَ، وَالْمِئُونَ مَا لَفَّ الْعَشَرَاتِ، وَالْأَلْفُ مَا لَفَّ الْمِئِينَ. الزَّحْزَحَةُ: الْإِزَالَةُ وَالتَّنْحِيَةُ عَنِ الْمَقَرِّ. بَصِيرٌ: فَعِيلٌ مِنْ بَصُرَ بِهِ إِذَا رَآهُ، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهِ فَيُطْلَقُ عَلَى بَصَرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعِلْمُ. بَصِيرٌ بِكَذَا: أَيْ عَالِمٌ بِهِ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ اللَّامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَنْ تَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ إِيتَاءَ مُوسَى الْكِتَابَ هُوَ نِعْمَةٌ لَهُمْ، إِذْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ وَشَرَائِعُهُمْ. ثُمَّ قَابَلُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، وَذَلِكَ جَرَى عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عَادَتِهِمْ، إِذْ قَدْ أُمِرُوا بِأَشْيَاءَ وَنُهُوا عَنْ أَشْيَاءَ، فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَبْلَهَا. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْإِنْزَالُ، لِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ آتَيْنَاهُ: أَفْهَمْنَاهُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ آتَيْنَا مُوسَى عِلْمَ الْكِتَابِ، أَوْ فَهْمَ الْكِتَابِ. وَمُوسَى: هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْكِتَابُ هُنَا: التَّوْرَاةُ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، إِذْ قُرِنَ بِمُوسَى وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَآتَيْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ، وَمُوسَى هُوَ الثَّانِي عِنْدَهُ. وَقَفَّيْنا: هَذِهِ الْيَاءُ أَصْلُهَا الْوَاوُ، إِلَّا أَنَّهَا مَتَى وَقَعَتْ رَابِعَةً أُبْدِلَتْ يَاءً، كَمَا تَقُولُ: غَزَيْتُ مِنَ الْغَزْوِ. وَالتَّضْعِيفُ الَّذِي فِي قَفَّيْنَا لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّعْدِيَةِ لَكَانَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّ قَفَوْتَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ. تَقُولُ: قَفَوْتُ زَيْدًا، أَيْ تَبِعْتُهُ، فَلَوْ جَاءَ عَلَى

التَّعْدِيَةِ لَكَانَ: وَقَفَّيْنَاهُ مِنْ بَعْدِهِ الرُّسُلَ، وَكَوْنُهُ لَمْ يجىء كَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي جَاءَ مَحْذُوفًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «1» ، وَلَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى جِئْنَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَجِئْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، يَقْفُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمِنْ فِي: مِنْ بَعْدِهِ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يُحْكَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَمُتْ حتى نبىء يُوشَعُ. بِالرُّسُلِ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَثَرِ مُوسَى رُسُلًا وَهُمْ: يُوشَعُ، وَشَمْوِيلُ، وَشَمْعُونُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَشَعْيَا، وَأَرْمَيَا، وَعُزَيْرٌ، وَحَزْقِيلُ، وَإِلْيَاسُ، وَالْيَسْعُ وَيُونُسُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَغَيْرُهُمْ. والباء في بالرسل متعلقة بِقَفَّيْنَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ الْخَاصِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، لِمَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ بُعِثُوا مِنْ بَعْدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّقْفِيَةُ مَعْنَوِيَّةً، وَهِيَ كَوْنُهُمْ يَتَّبِعُونَهُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ وَأَحْكَامِهَا، وَيُأْمَرُونَ بِاتِّبَاعِهَا وَالْبَقَاءِ عَلَى الْتِزَامِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالرُّسُلِ بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: بِتَسْكِينِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَوَافَقَهُمَا أَبُو عَمْرٍو إِنْ أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعٍ نَحْوُ: رُسْلِهِمْ وَرُسْلِكُمْ وَرُسْلِنَا، اسْتُثْقِلَ تَوَالِي أَرْبَعِ مُتَحَرِّكَاتٍ، فَسُكِّنَ تَخْفِيفًا. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ: أَضَافَ عِيسَى إِلَى أُمِّهِ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ فِيمَا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ. الْبَيِّناتِ: وَهِيَ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مُعْجِزَةٍ أُوتِيَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ. وَقِيلَ: الْحُجَجُ الَّتِي أَقَامَهَا اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَالْإِخْبَارُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ: سَامُ بْنُ نُوحٍ، وَالْعَازِرُ، وَابْنُ الْعَجُوزِ، وَبِنْتُ الْعِشَارِ، وَمِنَ الطَّيْرِ: الْخُفَّاشُ، فَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ عِيسَى، بَلْ هُوَ صُورَةٌ، وَاللَّهُ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ. وَقِيلَ: كَانَ قَبْلَهُ، فَوَضَعَ عِيسَى عَلَى مِثَالِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا اخْتُصَّ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الطَّيْرِ أَشَدَّ خَلْقًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَحْمُ كُلُّهُ. وَأَجْمَلَ اللَّهُ ذِكْرَ الرُّسُلِ، وَفَصَّلَ ذِكْرَ عِيسَى، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ كَانُوا مُتَّبِعِينَ شَرِيعَةَ مُوسَى، وَأَمَّا عِيسَى فَنَسَخَ شَرْعُهُ كَثِيرًا مِنْ شَرْعِ مُوسَى. وَأَيَّدْناهُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَى وَزْنِ فَعَّلْنَاهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُسَيْنٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَأْيَدْنَاهُ، عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلْنَاهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَمَّا الْمَدُّ فَمَعْنَاهُ الْقُوَّةُ، وَأَمَّا الْقَصْرُ فَالتَّأْيِيدُ وَالنَّصْرُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا بِمَعْنَى قَوَّيْنَاهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْأَيْدِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. بِرُوحِ الْقُدُسِ:

_ (1) سورة الحديد: 57/ 27.

قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِضَمِّ الْقَافِ وَالدَّالِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: وَابْنُ كَثِيرٍ: بِسُكُونِ الدَّالِ حَيْثُ وَقَعَ، وَفِيهِ لُغَةُ فَتْحِهَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: الْقُدُّوسُ، بِوَاوٍ. وَالرُّوحُ هُنَا: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي كَانَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْإِنْجِيلُ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «1» قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ الرُّوحُ الَّتِي نَفَخَهَا تَعَالَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ «اهْجُ قُرَيْشًا وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» ، وَمَرَّةً قَالَ لَهُ: «وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» . انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالُوا: وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ «2» . وَقَالَ حسان: وجبريل رسول الله فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ وَتَسْمِيَةُ جِبْرِيلَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى جِسْمِهِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْيَا بِهِ الدِّينُ، كَمَا يَحْيَا الْبَدَنُ بِالرُّوحِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ، أَوْ لِتَكْوِينِهِ رُوحًا مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ. وَتَأْيِيدُ اللَّهِ عِيسَى بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِإِظْهَارِ حُجَّتِهِ وَأَمْرِ دِينِهِ، أَوْ لِدَفْعِ الْيَهُودِ عَنْهُ، إِذْ أَرَادُوا قَتْلَهُ، أَوْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: بِالرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ حَاتِمُ الْجُودِ، وَرَجُلُ صِدْقٍ. وَوَصَفَهَا بالقدس كَمَا قَالَ: وَرُوحٌ مِنْهُ، فَوَصَفَهُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالتَّقْرِيبِ لِلْكَرَامَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْقُدُسِ أَنَّهُ الطَّهَارَةُ أَوِ الْبَرَكَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: الْقُدُسُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْقُدُّوسِ. قَالُوا: وَإِطْلَاقُ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ وَعَلَى الْإِنْجِيلِ وَعَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الرِّيحُ الْمُتَرَدِّدُ فِي مَخَارِقِ الْإِنْسَانِ فِي مَنَافِذِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَا كَانَتْ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ كُلًّا مِنْهَا أُطْلِقَ الرُّوحُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الرُّوحَ سَبَبٌ لِلْحَيَاةِ، فَجِبْرِيلُ هُوَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ بِالْعُلُومِ، وَالْإِنْجِيلُ سَبَبٌ لِظُهُورِ الشَّرَائِعِ وَحَيَاتِهَا، وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ سَبَبٌ لِأَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ. وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَالرُّوحِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَيَّدْنَاهُ: قَوَّيْنَاهُ وَأَعَنَّاهُ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى جِبْرِيلَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَى الْإِنْجِيلِ وَالِاسْمِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ. وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ عِيسَى بِجِبْرِيلَ مِنْ آكَدِ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَشَّرَ مَرْيَمَ بِوِلَادَتِهِ، وتولد

_ (1) سورة الشورى: 42/ 52. (2) سورة المائدة: 5/ 110.

عِيسَى بِنَفْخِهِ، وَرَبَّاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَكَانَ يَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَكَانَ مَعَهُ حَيْثُ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ: الْهَمْزَةُ أَصْلُهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَالْفَاءُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَاعْتُنِيَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ فَقُدِّمَ، وَالْأَصْلُ فَأَكُلَّمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، بَلْ يَكُونُ الْعَطْفُ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، آتَيْنَاكُمْ مَا آتَيْنَاكُمْ. فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ تَكْذِيبِ فَرِيقٍ وَقَتْلِ فَرِيقٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلَّمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها «1» ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالنَّاصِبُ لَهَا قوله: اسْتَكْبَرْتُمْ. وَالْخِطَابُ فِي جَاءَكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ كَانُوا عَلَى طَبْعٍ وَاحِدٍ مِنْ سُوءِ الْأَخْلَاقِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَالشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ فِيمَا أَتَوْهُمْ بِهِ، أَوْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ إِلَى مَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من أَبْنَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِهِمْ، وَالرَّاضِي كَالْفَاعِلِ. وَقَدْ كَذَّبُوا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَسَقَوْهُ السُّمَّ لِيَقْتُلُوهُ، وَسَحَرُوهُ. وَبِمَا: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جَاءَكُمْ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا تَهْوَاهُ. وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْهَوَى فِيمَا لَيْسَ بِحَقٍّ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأُسْنِدَ الْهَوَى إِلَى النَّفْسِ، وَلَمْ يُسْنَدْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، فَكَانَ يَكُونُ بِمَا لَا تَهْوَوْنَ إِشْعَارًا بِأَنَّ النَّفْسَ يُسْنَدُ إِلَيْهَا غَالِبًا الْأَفْعَالُ السَّيِّئَةُ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2» ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ «3» ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ «4» . اسْتَكْبَرْتُمْ: اسْتَفْعَلَ هُنَا: بِمَعْنَى تَفَعَّلَ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ. وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِأَنَّهُ سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ. وَالْمَعْنَى قِيلَ: اسْتَكْبَرْتُمْ عَنْ إِجَابَتِهِ احْتِقَارًا لِلرَّسُولِ. أَوِ اسْتِبْعَادًا لِلرِّسَالَةِ، وَفِي ذَلِكَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ طَبِيعَةِ الِاسْتِكْبَارِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النَّقَائِصِ وَنَتِيجَةُ الْإِعْجَابِ. وَهُوَ نَتِيجَةُ الْجَهْلِ بِالنَّفْسِ الْمُقَارِنِ لِلْجَهْلِ بِالْخَالِقِ، وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ بِتَكَرُّرِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا اسْتِكْبَارٌ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّفَعُّلِ، لِذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بِذَلِكَ كُبَرَاءَ عُظَمَاءَ، بَلْ يَتَفَعَّلُونَ ذَلِكَ وَلَا يُبَلِّغُونَ حَقِيقَتَهُ، لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمُحَالٌ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا غيره حقيقة.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 25. (2) سورة يوسف: 12/ 53. (3) سورة المائدة: 5/ 30. (4) سورة يوسف: 12/ 18.

فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَكْبَرْتُمْ، فَنَشَأَ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ مُبَادَرَةُ فَرِيقٍ مِنَ الرُّسُلِ بِالتَّكْذِيبِ فَقَطْ، حَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قَتْلِهِ، وَفَرِيقٍ بِالْقَتْلِ إِذَا قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ. وَتَهَيَّأَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيُضَمَّنُ أَنَّ مَنْ قَتَلُوهُ فَقَدْ كَذَّبُوهُ. وَاسْتَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِتَكْذِيبِهِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ أَقْبَحَ أَفْعَالِهِمْ مَعَهُ، وَهُوَ قَتْلُهُ. وَأَجَازَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ أَنْ يَكُونَ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأَيَّدْناهُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَفَكُلَّمَا مَعَ مَا بَعْدَهُ فَصْلًا بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَالْأَظْهَرُ فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلُ، وَهَذَا أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، وَأُخِّرَ الْعَامِلُ وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ ليتواخى رؤوس الْآيِ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَفَرِيقًا مِنْهُمْ كَذَّبْتُمْ، وَبَدَأَ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلِأَنَّهُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: الْمُكَذَّبِ وَالْمَقْتُولِ. وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ: وَأَتَى بِفِعْلِ الْقَتْلِ مُضَارِعًا، إِمَّا لكونه حكيت أنه الْحَالُ الْمَاضِيَةُ، إِنْ كَانَتْ أُرِيدَتْ فَاسْتُحْضِرَتْ فِي النُّفُوسِ، وَصُوِّرَ حَتَّى كَأَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِهِ مَشْرُوعٌ فِيهِ، وَلِمَا فيه من مناسبة رؤوس الْآيِ الَّتِي هِيَ فَوَاصِلُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، لِأَنَّهُمْ يَرُومُونَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ سَحَرُوهُ وَسَمُّوهُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي» . وَكَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عَادَتَهُمْ قَتْلُ أَنْبِيَائِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْمَكْتُوبَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالنَّصْرِ لَهُ، يَرُومُونَ قَتْلَهُ. فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَقَدُّمُ عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ؟ فَقَتْلُهُ عِنْدَهُمْ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: كَانُوا يَقْتُلُونَ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُهُمْ آخِرَ النَّهَارِ. وَرُوِيَ سَبْعِينَ نَبِيًّا، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُ نَقْلِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ. وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ: الضَّمِيرُ فِي قَالُوا عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا ذَلِكَ بُهْتًا وَدَفْعًا لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ وَظَهَرَتْ لَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَأَعْجَزَتْهُمْ عَنْ مُدَافَعَةِ الْحَقِّ الْمُعْجِزَاتُ. نَزَلُوا عَنْ رُتْبَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى رُتْبَةِ الْبَهِيمِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غُلْفٌ، بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُكُونِ اللَّامِ، أَهُوَ سُكُونٌ أَصْلِيٌّ فَيَكُونُ جَمْعَ أَغْلَفَ؟ أَمْ هُوَ سُكُونُ تَخْفِيفٍ فَيَكُونُ جَمْعَ غِلَافٍ؟ وَأَصْلُهُ الضَّمُّ، كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّخْفِيفَ مِنَ التَّثْقِيلِ قَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَنَصَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْكِينُ فِي نَحْوِ: حُمُرٍ جَمْعَ حِمَارٍ، دُونَ ضَرُورَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، غُلُفٌ: بِضَمِّ اللَّامِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ جَمْعُ غِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمْعَ أَغْلَفَ،

لِأَنَّ تَثْقِيلَ فُعْلٍ الصَّحِيحِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. يُقَالُ غَلَّفْتُ السَّيْفَ: جَعَلْتُ لَهُ غِلَافًا. فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: غُلْفٌ بِالْإِسْكَانِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مَسْتُورَةٌ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا طَابَعٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ذَوَاتُ غُلْفٍ، أَيْ عَلَيْهَا غُلْفٌ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا الْمَوْعِظَةُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: خُلِقَتْ غُلْفًا لَا تَتَدَبَّرُ وَلَا تَعْتَبِرُ. وَقِيلَ: مَحْجُوبَةٌ عَنْ سَمَاعِ مَا تَقُولُ وَفَهْمِ مَا تَبَيَّنَ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْبُهْتِ وَالْمُدَافَعَةِ، حَتَّى يُسْكِتُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنْهُمْ بِحَالِ قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ ذَمُّ أَنْفُسِهِمْ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَسْبَابُ الدَّفْعِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ اللَّامِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، أَقَامُوا الْعِلْمَ مُقَامَ شَيْءٍ مُجَسَّدٍ، وَجَعَلُوا الْمَوَانِعَ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ غُلْفًا لَهُ، لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَحْسُوسِ عَلَى الْمَعْقُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، فَلَوْ كَانَ مَا تَقُولُهُ حَقًّا وَصِدْقًا لوعته، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَنَا غُلْفٌ، أَيْ مَمْلُوءَةٌ عِلْمًا، فَلَا تَسَعُ شَيْئًا، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ الْمُغَلَّفَ لَا يَسَعُ غِلَافُهُ غَيْرَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ دَوَامَ مِلَّتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ لِصَلَابَتِهَا وَقُوَّتِهَا، تَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا غَيْرُ مَا فِيهَا، كَالْغِلَافِ الَّذِي يَصُونُ الْمُغَلَّفَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا بِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَالْغِلَافِ الْخَالِي لَا شَيْءَ فِيهِ. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ: بَلْ: لِلْإِضْرَابِ، وَلَيْسَ إِضْرَابًا عَنِ اللَّفْظِ الْمَقُولِ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يُضْرَبُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْإِضْرَابُ عَنِ النِّسْبَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ، لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، مَفْطُورَةً لِإِدْرَاكِ الصَّوَابِ، فَأَخْبَرُوا عَنْهَا بِمَا لَمْ تُخْلَقْ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لُعِنُوا بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَجَازَاهُمْ بِالطَّرْدِ الَّذِي هُوَ اللَّعْنُ الْمُتَسَبِّبُ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ. فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ: انْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَإِيمَانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: فَيُؤْمِنُونَهُ، أَيِ الْإِيمَانَ فِي حَالِ قِلَّتِهِ. وَجَوَّزُوا انْتِصَابَهُ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَزَمَانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ «1» . وَجَوَّزُوا أَيْضًا انْتِصَابَهُ بِيُؤْمِنُونَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ فَقَلِيلٌ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ لَمَّا أَسْقَطَ الْبَاءَ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَعْمَرٍ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الضَّمِيرُ فِي يُؤْمِنُونَ، الْمَعْنَى: أَيْ فَجَمْعًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، أي المؤمن منهم

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 70.

قَلِيلٌ، وَقَالَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْقِلَّةَ إِمَّا لِلنِّسْبَةِ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ، أَوْ لِلزَّمَانِ، أَوْ لِلْمُؤْمَنِ بِهِ، أَوْ لِلْفَاعِلِ. فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَصْدَرِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَّصِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ حَقِيقَةً. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ فِيهِ لِكَوْنِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَلِيلًا، وَهُوَ زَمَانُ الِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمَنِ بِهِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا تَوْحِيدُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، إِذْ هُمْ مُجَسِّمُونَ، وَقَدْ كَذَّبُوا بِالرَّسُولِ وَبِالتَّوْرَاةِ. وَبِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِلِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ لِكَوْنِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالرَّسُولِ قَلِيلًا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: الْمَعْنَى أَيْ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، يُقَالُ قَلَّ مَا يَفْعَلُ، أَيْ مَا يَفْعَلُ أَصْلًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنِ الْمَعْنَى فَمَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: مَذْهَبُ قَتَادَةَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَأَنْكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ رَفْعُ قَلِيلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِلَّةُ بِمَعْنَى الْعَدَمِ، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ قَلِيلًا يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ صَحِيحٌ، لَكِنْ فِي غَيْرِ هَذَا التَّرْكِيبِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ قَلِيلًا انْتَصَبَ بِالْفِعْلِ الْمُثْبَتِ، فَصَارَ نَظِيرَ: قُمْتُ قَلِيلًا، أَيْ قِيَامًا قَلِيلًا. وَلَا يَذْهَبْ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِفِعْلٍ مُثْبَتٍ، وَجَعَلْتَ قَلِيلًا مَنْصُوبًا نَعْتًا لِمَصْدَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمُثْبَتِ الْوَاقِعِ عَلَى صِفَةِ أَوْ هَيْئَةِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْمُثْبَتِ رَأْسًا وَعَدَمِ وُقُوعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِنَّمَا الَّذِي نَقَلَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْقِلَّةِ النَّفْيُ الْمَحْضُ فِي قَوْلِهِمْ: أَقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَلَّ رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَلَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَقَلِيلٌ مِنَ الرِّجَالِ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَلِيلَةٌ مِنَ النِّسَاءِ تَقُولُ ذَلِكَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَحَمْلُ الْقِلَّةِ هُنَا عَلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ مِنْ مَذْهَبِ قَتَادَةَ، وَإِنْكَارِ النَّحْوِيِّينَ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ كذلك للزم رفع قليل. فَقَوْلُ قَتَادَةَ صَحِيحٌ، وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ، لِأَنَّ قَتَادَةَ إِنَّمَا بَيَّنَ الْمَعْنَى وَشَرَحَهُ، وَلَمْ يُرِدْ شَرْحَ الْإِعْرَابِ فَيَلْزَمَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا انْتِصَابُ قَلِيلًا عِنْدَهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤْمِنُونَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَيُؤْمِنُونَ قَوْمًا قَلِيلًا، أَيْ فِي حَالَةِ قِلَّةٍ. وَهَذَا مَعْنَاهُ: فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُؤْمِنُونَ، زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، دَخَلَتْ بَيْنَ الْمَعْمُولِ وَالْعَامِلِ، نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: رُوَيْدٌ مَا الشِّعْرُ، وَخُرِّجَ مَا أَنِفَ خَاطِبٌ بِدَمٍ. وَلَا يَجُوزُ فِي مَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ رَفْعُ قَلِيلٍ حَتَّى يَنْعَقِدَ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِيمَانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى مَصْدَرِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الزَّمَانِ، وَعَلَى الْهَيْئَةِ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ، وَعَلَى الْفَاعِلِ، وَلِمُوَافَقَتِهِ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلِيلًا

مَا تُنْبِتُ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ قَلِيلًا انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ أَرْضٍ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قَلِيلًا إِنْبَاتُهَا، أَيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وليست ما زائدة، وقليلا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: تُنْبِتُ قَلِيلًا، إِذْ كَانَ التَّرْكِيبُ الْمُقَدَّرُ هَذَا لما صح أَنْ يُرَادَ بِالْقَلِيلِ النَّفْيُ الْمَحْضُ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: تُنْبِتُ قَلِيلًا، لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِنْبَاتِ رَأْسًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا: ضَرَبْتُ ضَرْبًا قَلِيلًا، لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ مَا ضَرَبْتُ أَصْلًا. وَلَمَّا جاءَهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ حِينَ كَانَتْ غَطَفَانُ تُقَاتِلُهُمْ وَتَهْزِمُهُمْ، أَوْ حِينَ كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَرَبِ أَذًى كَثِيرًا، أَوْ حِينَ حَارَبَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فَغَلَبَتْهُمْ. كِتابٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ مَجَازٌ. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَوَصْفُهُ بمن عِنْدِ اللَّهِ جَدِيرٌ أَنْ يُقْبَلَ، وَيُتَّبَعَ مَا فِيهِ، وَيُعْمَلَ بِمَضْمُونِهِ، إِذْ هُوَ وَارِدٌ مِنْ عِنْدِ خَالِقِهِمْ وَإِلَهِهِمُ الَّذِي هُوَ نَاظِرٌ فِي مَصَالِحِهِمْ. مُصَدِّقٌ: صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقُدِّمَتِ الْأَوْلَى عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِكَيْنُونَتِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آكَدُ، وَوَصْفَهُ بالتصديق ناشىء عَنْ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. لَا يُقَالُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِجَاءَهُمْ، فَلَا يَكُونَ صِفَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِمَا هُوَ مَعْمُولٌ لِغَيْرِ أَحَدِهِمَا. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ مُصَدِّقًا، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ كِتَابٌ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ بِلَا شَرْطٍ، فَقَدْ تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ، فَقَرُبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ. لِما مَعَهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَتَصْدِيقُهُ إِمَّا بِكَوْنِهِمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ بِمَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مَنْ ذِكْرِ بَعْثِ الرَّسُولِ وَنَعْتِهِ. وَكانُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جَاءَهُمْ، فَيَكُونَ جَوَابُ لَمَّا مُرَتَّبًا عَلَى الْمَجِيءِ وَالْكَوْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، أَيْ وَقَدْ كَانُوا، فَيَكُونَ الْجَوَابُ مُرَتَّبًا عَلَى الْمَجِيءِ بِقَيْدٍ فِي مَفْعُولِهِ، وَهُمْ كَوْنُهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانُوا أليست مَعْطُوفَةً عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَ لَمَّا، وَلَا حَالًا لِأَنَّهُ قَدَّرَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا قَبْلَ تَفْسِيرِهِ يَسْتَفْتِحُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانُوا، جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ الْمَجِيءِ، وَبُنِيَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ. يَسْتَفْتِحُونَ: أَيْ يَسْتَحْكِمُونَ، أَوْ يَسْتَعْلِمُونَ، أَوْ يَسْتَنْصِرُونَ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. يَقُولُونَ، إِذَا دَهَمَهُمُ الْعَدُوُّ: اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ وَلَمَّا الْأُولَى، فَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدَّرَهُ نَحْوَ: كَذَّبُوا بِهِ وَاسْتَهَانُوا بِمَجِيئِهِ،

وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ: كَفَرُوا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ كَفَرُوا بِهِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ فِي ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ، جَوَابُ لَمَّا الْأُولَى، وَكَفَرُوا، جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ. وَهُوَ عِنْدَهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ «1» . قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ هُنَا لَيْسَتْ بِنَاسِقَةٍ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا. وَذَهَبَ الْمُبَّرِدُ إِلَى أَنَّ جَوَابَ لَمَّا الْأُولَى هُوَ: كَفَرُوا بِهِ، وَكُرِّرَ لَمَّا لِطُولِ الْكَلَامِ، وَيُقَيِّدُ ذَلِكَ تَقْرِيرًا لِلذَّنْبِ وَتَأْكِيدًا لَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ يَكُونُ أَحْسَنَ لَوْلَا أَنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنَ التَّأْكِيدِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْفَرَّاءِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ لِسَانِهِمْ، لَمَّا جَاءَ زَيْدٌ، فَلَمَّا جَاءَ خَالِدٌ أَقْبَلَ جَعْفَرٌ، فَهُوَ تَرْكِيبٌ مَفْقُودٌ فِي لِسَانِهِمْ فَلَا نُثْبِتُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ كذبون، وَيَكُونُ التَّكْذِيبُ حَاصِلًا بِنَفْسِ مَجِيءِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِيهِ وَلَا رَوِيَّةٍ، بَلْ بَادَرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ، أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ، أَوْ يَفْتَحُونَ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُونَهُمْ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ قَدْ قَرُبَ وَقْتُ بَعْثِهِ، فَكَانُوا يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ. فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا: وَمَا سَبَقَ لَهُمْ تَعْرِيفُهُ لِلْمُشْرِكِينَ. كَفَرُوا بِهِ: سَتَرُوهُ وَجَحَدُوهُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي ذَمِّهِمْ، إِذْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْمَعْرُوفُ لَهُمْ، الْمُسْتَقِرُّ فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ مَنْ أَعْلَمُوهُمْ بِهِ كِيَانَهُ وَنَعْتَهُ يَعْمِدُونَ إِلَى سَتْرِهِ وَجَحْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «2» . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ: مَا مُلَخَّصُهُ الِاسْتِفْتَاحُ، طَلَبُ الْفَتْحِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: إِلَهِيٌّ، وَهُوَ النُّصْرَةُ بِالْوُصُولِ إِلَى الْعُلُومِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الثَّوَابِ، وَمِنْهُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ «3» ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ. وَدُنْيَوِيٌّ، وَهُوَ النُّصْرَةُ بِالْوُصُولِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَمِنْهُ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «4» . فَمَعْنَى يَسْتَفْتِحُونَ: أَيْ يَعْلَمُونَ خَبَرَهُ مِنَ النَّاسِ مَرَّةً، وَيَسْتَنْبِطُونَ ذِكْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ مَرَّةً. وَقِيلَ: يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرِهِ الظَّفَرَ. وَقِيلَ: كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّا نُنْصَرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الِاسْتِفْتَاحِ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا عَرَفُوا أَنَّهُ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ مَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ مَا قَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا عَرَفُوهُ مِنَ الْحَقِّ، فَيَنْدَرِجَ فِيهِ مَعْرِفَةُ نُبُوَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وكتابه، وما تضمنه.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 38. (2) سورة النمل: 27/ 14. (3) سورة الفتح: 48/ 1. [.....] (4) سورة الأنعام: 6/ 44.

فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ: لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ جَائِيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوهُ وَسَتَرُوا مَا سَبَقَ لَهُمْ عِرْفَانُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِهَانَةً بِالْمُرْسِلِ وَالْمُرْسَلِ بِهِ. قَابَلَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِهَانَةِ وَالطَّرْدِ، وَأَضَافَ اللَّعْنَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَلْعُونُ حَقِيقَةً. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ «1» ؟ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً «2» . ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِاللَّعْنَةِ حَتَّى جَعَلَهَا مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ شَيْءٌ جَاءَهُمْ مِنْ أَعْلَاهُمْ، فَجَلَّلَهُمْ بِهَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ اللَّعْنَةِ وَسَبَبِهَا، وَهِيَ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ قَبْلُ: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، وَأَقَامَ الظَّاهِرَ مُقَامَ الْمُضْمَرِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَوْ تَكُونُ لِلْعُمُومِ، فَيَكُونُ هَؤُلَاءِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، وَيَكُونَ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَنَعْنِي بِالْجِنْسِ الْعُمُومَ، وَتَخَيُّلُهُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعِلَّةِ عَلَى أَفْرَادِهِ لَيْسَ فِيهَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَهِيَ دَلَالَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ. وَإِذَا كَانَتْ دَلَالَةً مُتَسَاوِيَةً، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ أَوَّلُ وَلَا أَسْبَقُ مِنْ شَيْءٍ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بِئْسَ، وَأَمَّا مَا فَاخْتُلِفَ فِيهَا، أَلَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ أَمْ لَا. فَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّهُ بِجُمْلَتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ رُكِّبَ، كَحَبَّذَا، هَذَا نَقْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ عَنْهُ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَعَ بِئْسَ بِمَنْزِلَةِ كُلَّمَا، فَظَاهِرُ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ أَنَّ مَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهَا مَوْضِعًا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَاخْتُلِفَ، أَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ أَمْ رَفْعٌ؟ فَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَهَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَفَاعِلُ بِئْسَ مُضْمَرٌ مُفَسَّرٌ بِمَا، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ هُوَ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يَكْفُرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، وَبِهِ قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفًا، وَاشْتَرَوْا صِفَةً لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا شَيْءٌ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يَكْفُرُوا بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَنْ يَكْفُرُوا. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، مِنْ أَنَّ مَا مَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَثَمَّ مَا أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ مَوْصُولَةٌ هِيَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا الَّذِي اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. فَالْجُمْلَةُ بَعْدَ مَا الْمَحْذُوفَةِ صِلَةٌ لَهَا، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإعراب. وأن يَكْفُرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَدَلٌ، وَيَجُوزَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 60. (2) سورة النساء: 4/ 52.

مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ كُفْرُهُمْ. فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِ النَّصْبِ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَ مَا أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا هَذِهِ الَّتِي هِيَ تَمْيِيزٌ فَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ، أَوْ صِلَةً لِمَا الْمَحْذُوفَةِ الْمَوْصُولَةِ فَلَا مَوْضِعَ لَهَا، أَوْ صِفَةً لِشَيْءٍ الْمَحْذُوفِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ فَمَوْضِعُهَا رفع، وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَهَا رَفْعٌ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلُ بِئْسَ، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ الشَّيْءُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ عَلَى هَذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ شَيْءٌ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي أَنَّ مَا مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ لَا مَوْصُولَةٌ، إِلَى الْكِسَائِيِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ، فِيمَا نُقِلَ عَنْهُمَا: أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَاشْتَرَوْا: صِلَةٌ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْفَارِسِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَعَزَى ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى سِيبَوَيْهِ قَالَ: فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: بِئْسَ الَّذِي اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا، كَقَوْلِكَ: بِئْسَ الرَّجُلُ زِيدٌ، وَمَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مَوْصُولَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ وَهْمٌ عَلَى سِيبَوَيْهِ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى أَنَّ مَا وبعدها فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ اشْتِرَاؤُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ، لِأَنَّ بِئْسَ لَا تَدْخُلُ عَلَى اسْمٍ مُعَيَّنٍ يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الضَّمِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا قَالَهُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا إِذَا نُصَّ عَلَى أمر مَرْفُوعٌ بِبِئْسَ، أَمَّا إِذَا جَعَلَهُ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ، وَجَعَلَ فَاعِلَ بِئْسَ مُضْمَرًا وَالتَّمْيِيزَ مَحْذُوفًا، لَفُهِمَ الْمَعْنَى. التَّقْدِيرُ: بِئْسَ اشْتِرَاءٌ اشْتِرَاؤُهُمْ، فَلَا يَلْزَمُ الِاعْتِرَاضُ، لَكِنْ يُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي بِهِ عَلَى مَا، وَمَا الْمَصْدَرِيَّةُ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرٌ، لِأَنَّهَا حَرْفٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، إِذِ الْأَخْفَشُ يَزْعُمُ أَنَّهَا اسْمٌ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ تَصْحِيحًا وَإِبْطَالًا يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. اشْتَرَوْا هُنَا: بِمَعْنَى بَاعُوا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ: شَرَى وَاشْتَرَى: بِمَعْنَى بَاعَ، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ إِنَّ الِاشْتِرَاءَ هُنَا عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ، إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعِقَابِ، أَتَى بِأَعْمَالٍ يَظُنُّ أَنَّهَا تُخَلِّصُهُ، وَكَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِهَا. فَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِيمَا أَتَوْا بِهِ أَنَّهُ يُخَلِّصُهُمْ، ظَنُّوا أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ، فَذَمَّهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ مِنَ الْأَوَّلِ، يَعْنِي بِالْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى بَاعَ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ، يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المراد ليس اشتراؤهم أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَخْلُصُونَ مِنَ الْعِقَابِ، بَلْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، لِكَوْنِهِ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَاتَّضَحَ أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ أَوْلَى. أَنْ يَكْفُرُوا: تَقَدَّمَ أَنَّ مَوْضِعَهُ رَفْعٌ، إِمَّا، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالذَّمِّ عِنْدَ مَنْ

جَعَلَ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ غَيْرَ تَامٍّ، وَفِيهِ الْأَعَارِيبُ الَّتِي فِي الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ، إِذَا تَأَخَّرَ، أَهْوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ؟ وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، فَيَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ. بِما أَنْزَلَ اللَّهُ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّفْخِيمِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُضْمَرٌ، بَلْ أَظْهَرَ مَوْصُولًا بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَنْزَلَ الْمُشْعِرُ بِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَنُسِبَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ، لِيَحْصُلَ التَّوَافُقُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْنَ قَوْلِهِ: كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، إِذْ كَفَرُوا بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَالْكُفْرُ بِهِمَا كُفْرٌ بِالتَّوْرَاةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْجَمِيعُ مِنْ قُرْآنٍ وَإِنْجِيلٍ وَتَوْرَاةٍ، لِأَنَّ الْكُفْرَ بِبَعْضِهَا كُفْرٌ بِكُلِّهَا. بَغْياً: أَيْ حَسَدًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ظُلْمًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ يَكْفُرُوا، أَيْ كُفْرُهُمْ لِأَجْلِ الْبَغْيِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عِلَّةُ اشْتَرَوْا، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ اشْتَرَوْا. وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَغَوْا بَغْيًا، وَحُذِفَ الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ: أَنْ: مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ الْمُقَدَّرُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ بَغَوْا لِتَنْزِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بَغْيًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَسَدًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ، أَيْ عَلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، فَحُذِفَتْ عَلَى، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ الَّذِي فِي أَنَّ وَأَنْ، إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مِنْهُمَا، أَهُمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَمْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ؟ وَقِيلَ: أَنْ يُنَزِّلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ بِتَنْزِيلِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ: جَمِيعَ الْمُضَارِعِ مُخَفَّفًا مِنْ أَنْزَلَ، إِلَّا مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَشْدِيدِهِ، وَهُوَ فِي الْحِجْرِ، وَما نُنَزِّلُهُ «1» ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرٍو شَدَّدَ عَلَى أَنْ نُنَزِّلَ آيَةً فِي الْأَنْعَامِ، وَابْنُ كَثِيرٍ شَدَّدَ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ «2» ، وحَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً «3» ، وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ الْمُضَارِعَ حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ فَخَفَّفَا، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ «4» ، فِي آخِرِ لُقْمَانَ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ «5» ، فِي الشُّورَى. وَالْهَمْزَةُ

_ (1) سورة الحجر: 15/ 21. (2) سورة الإسراء: 17/ 82. (3) سورة الإسراء: 17/ 93. (4) سورة لقمان: 31/ 34. (5) سورة الشورى: 42/ 28.

وَالتَّشْدِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَدْ ذَكَرُوا مُنَاسَبَاتٍ لِقِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ وَلَا تَصِحُّ. مِنْ فَضْلِهِ: مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْفَضْلُ هُنَا الْوَحْيُ وَالنُّبُوَّةُ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، فَيَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، أَيْ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ فَضْلَهُ. عَلى مَنْ يَشاءُ. عَلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِيُنَزِّلُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يَشَاءُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ حَسَدُوهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَعِزُّ النُّبُوَّةِ مِنْ يَعْقُوبَ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي إِسْحَاقَ، فَخُتِمَ فِي عِيسَى، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيٌّ غير نبينا محمد صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخُتِمَتِ النُّبُوَّةُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَعَدِمُوا العز والفضل. ومِنْ هُنَا مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ نَكِرَةٌ موصوفة. ويَشاءُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: صِلَةٌ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَصِفَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ أَوِ الْمَوْصُوفِ مَحْذُوفٌ تقديره يشاؤه. مِنْ عِبادِهِ: جَارٌّ وَمَجْرُورٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، تَقْدِيرُهُ كَائِنًا مِنْ عِبَادِهِ، وَأَضَافَ الْعِبَادَ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «1» ، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا «2» . فَباؤُ: أَيْ مَضَوْا، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى باؤوا. بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ: أَيْ مُتَرَادِفٍ مُتَكَاثِرٍ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَشْدِيدِ الْحَالِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: غَضَبَانِ مُعَلَّلَانِ بِقِصَّتَيْنِ: الْغَضَبُ الْأَوَّلُ: لِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَالثَّانِي: لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْأَوَّلُ: كُفْرُهُمْ بِالْإِنْجِيلِ، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوِ الْأَوَّلُ: كُفْرُهُمْ بِعِيسَى، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ، أَوِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْكَافِرِينَ لِلْعَهْدِ، وَأَقَامَ الْمُظْهَرَ مُقَامَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِعِلَّةِ كَوْنِ الْعَذَابِ الْمُهِينِ لَهُمْ، إِذْ لَوْ أَتَى، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ، أَوْ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ، فَيَنْدَرِجُونَ فِي الْكَافِرِينَ. وَوَصَفَ الْعَذَابَ بِالْإِهَانَةِ، وَهِيَ الْإِذْلَالُ، قَالَ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3» . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ، فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً فَقَالَ: «فَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» . فَهَذَا الْعَذَابُ إِنَّمَا هُوَ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْخُلُودَ خُلُودًا لَا يَنْقَطِعُ، أَوْ لِشِدَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى تَكَبُّرِهِمْ عن اتباع

_ (1) سورة الزمر: 39/ 7. (2) سورة البقرة: 2/ 23. (3) سورة النور: 24/ 2.

الْحَقِّ. وَقَدِ احْتَجَّ الْخَوَارِجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَعْذِيبُهُ، وَاحْتَجَّ بِهَا الْمُرْجِئَةُ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُعَذَّبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: الْإِخْبَارُ عَمَّنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آبَاؤُهُمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاضِيَ بِالشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ، وَأَنَّهُمْ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَهُمْ وَمُعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، فَهُمْ مِنْهُمْ. آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُطْلَقٌ فَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ. قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا: يُرِيدُونَ التَّوْرَاةَ، وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الرِّسَالَاتِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لِجَرَيَانِهِ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَحُذِفَ إِيجَازًا إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذُمُّوا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فَأَجَابُوا بِأَنْ آمَنُوا بِمُقَيَّدٍ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ عَامٌّ، فَلَمْ يُطَابِقْ إِيمَانُهُمُ الْأَمْرَ. وَيَكْفُرُونَ: جُمْلَةٌ اسْتُؤْنِفَ بِهَا الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ، أَوْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا قَالُوا: أَيْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ. بِما وَراءَهُ، أَيْ بِمَا سِوَاهُ، وَبِهِ فُسِّرَ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» ، وفَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ «2» ، أَيْ بِمَا بَعْدَهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَيْ وَيَكْفُرُونَ بِمَا بَعْدَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، أَوْ بِمَا وَرَاءَهُ، أَيْ بِبَاطِنِ مَعَانِيهَا الَّتِي وَرَاءَ أَلْفَاظِهَا، وَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِظَاهِرِ لَفْظِهَا. وَهُوَ الْحَقُّ، هُوَ: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. مُصَدِّقاً: حال مؤكدة، إِذْ تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ لَازِمٌ لَا يَنْتَقِلُ. لِما مَعَهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ، أَوِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، لِأَنَّهُمَا أُنْزِلَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ مَا وَافَقَ التَّوْرَاةَ، لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا. وَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، فَالْإِيمَانُ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مُتَنَاقِضٌ. قُلْ: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ، وَقُلْ يَا مَنْ يُرِيدُ جِدَالَهُمْ. فَلِمَ: الْفَاءُ: جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ؟ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالتَّوْرَاةِ وَاسْتِحْلَالَ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَقَوْلُكُمْ: إِنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِالتَّوْرَاةِ كَذِبٌ وَبُهْتٌ، لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ. وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَتْ أَلِفُهَا لِأَجْلِ لَامِ الْجَرِّ. وَيَقِفُ الْبَزِّيُّ بِالْهَاءِ فَيَقُولُ: فَلِمَهْ، وَغَيْرُهُ يَقِفُ: فَلِمَ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا الْوَقْفُ إلا للاختبار، أو

_ (1) سورة النساء: 4/ 24. (2) سورة المؤمنون: 23/ 7.

لِانْقِطَاعِ النَّفَسِ. وَجَاءَ يَقْتُلُونَ بِصُورَةِ الْمُضَارِعِ، وَالْمُرَادُ الْمَاضِي، إِذِ الْمَعْنَى: قُلْ فَلِمَ قَتَلْتُمْ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ، فَدَلَّ عَلَى تَقَدُّمِ الْقَتْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفَائِدَةُ سَوْقِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَعْنَى الْمَاضِي الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَمِرٌّ. أَلَا تَرَى أَنَّ حَاضِرِي محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا كَانُوا رَاضِينَ بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ، بَقِيَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ جُزْءٌ، وَفِي إِضَافَةِ أَنْبِيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنْ يُعَظَّمَ أَجَلَّ تَعْظِيمٍ، وَأَنْ يُنْصَرَ، لَا أَنْ يُقْتَلَ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُجَامِعُ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ مَا اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَلِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؟ وَيَكُونُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ قَدْ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لَكِنْ حُذِفَ الشَّرْطُ مِنَ الْأَوَّلِ وَأُبْقِيَ جَوَابُهُ وَهُوَ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ؟ وَحُذِفَ الْجَوَابُ مِنَ الثَّانِي وَأُبْقِيَ شَرْطُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنْ كُنْتُمْ: شَرْطٌ، وَالْجَوَابُ مُتَقَدِّمٌ. وَلَا يَتَمَشَّى قَوْلُهُ هَذَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقَدُّمَ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا أَبَا زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ وَالْمُبَرِّدَ مِنْهُمْ. وَمَعْنَى مُؤْمِنِينَ: أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، أَوْ مُتَحَقِّقِينَ بِالْإِيمَانِ صَادِقِينَ فِيهِ، أَوْ مُؤْمِنِينَ بِزَعْمِكُمْ. وَأَجْرَى هَذَا الْقَوْلَ مُجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ بَدَا مِنْهُ مَا لَا يُنَاسِبُهُ: فَعَلْتَ كَذَا وَأَنْتَ عَاقِلٌ، أَيْ بِزَعْمِكَ. وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ: أَيْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الْوَاضِحَةُ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ. وَقِيلَ: التِّسْعُ، وَهِيَ: الْعَصَا، وَالسُّنُونَ، وَالْيَدُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ. وَهِيَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «1» . ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمَلِ، وَإِنَّمَا كُرِّرَتْ هُنَا لِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ اتِّخَاذَ الْعِجْلِ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ؟ بَلْ فِيهَا أَنْ يُفْرَدَ اللَّهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ الْمَعَاصِي، فَكَرَّرَ عِبَادَةَ الْعِجْلِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظِيمِ جُرْمِهِمْ. وَلِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ قَبْلُ، أَعْقَبَهُ تَعْدَادُ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ «2» ، وفَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ «3» . وَهُنَا أَعْقَبَهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ. ولأن في

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 101. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 52. (3) سورة البقرة: 2/ 64.

قِصَّةِ الطُّورِ ذِكْرَ تَوَلِّيهِمْ عما أمروا به، من قَبُولِ التَّوْرَاةِ وَعَدَمِ رِضَاهُمْ بِأَحْكَامِهَا اخْتِيَارًا، حَتَّى أُلْجِئُوا إِلَى الْقَبُولِ اضْطِرَارًا، فَدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. ثُمَّ فِي قِصَّةِ الطُّورِ تَذْيِيلٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ. وَالْعَرَبُ مَتَى أَرَادَتِ التَّنْبِيهَ عَلَى تَقْبِيحِ شَيْءٍ أَوْ تَعْظِيمِهِ، كَرَّرَتْهُ. وَفِي هَذَا التَّكْرَارِ أَيْضًا مِنَ الْفَائِدَةِ تِذْكَارُهُمْ بِتَعْدَادِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَنِقَمِهِ مِنْهُمْ، لِيَزْدَجِرَ الْأَخْلَافُ بِمَا حَلَّ بِالْأَسْلَافِ. وَاسْمَعُوا أَيِ: اقْبَلُوا مَا سَمِعْتُمْ، كَقَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، أَوِ اسْمَعُوا مُتَدَبِّرِينَ لِمَا سَمِعْتُمْ، أَوِ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا «1» . لِأَنَّ فَائِدَةَ السَّمَاعِ الطَّاعَةُ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ قَرِيبٌ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَعْنَى اسْمَعُوا: افْهَمُوا. وَقِيلَ: اعْمَلُوا، وَوَجَّهَهُ أَنَّ السَّمْعَ يُسْمَعُ بِهِ، ثُمَّ يُتَخَيَّلُ، ثُمَّ يُعْقَلُ، ثُمَّ يُعْمَلُ بِهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي عَمَلًا. وَلَمَّا كَانَ السَّمَاعُ مُبْتَدَأً، وَالْعَمَلُ غَايَةً، وَمَا بَيْنَهُمَا وَسَائِطَ، صَحَّ أَنْ يُرَادَ بَعْضُ الْوَسَائِطِ، وَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْغَايَةُ. قالُوا: هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الْخِطَابِ لَقَالَ: قُلْتُمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا: ظَاهِرُهُ أَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَقُولَةٌ، وَنَطَقُوا بِذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي التَّعَنُّتِ وَالْعِصْيَانِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا إِذَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ قَالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا «2» ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى الْكِتَابِ قَالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا. وَقِيلَ: الْقَوْلُ هُنَا مَجَازٌ، وَلَمْ يَنْطِقُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا شَيْئًا مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، جُعِلُوا كَالنَّاطِقِينَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: يُعَبَّرُ بِالْقَوْلِ لِلشَّيْءِ عَمَّا يُفْهَمُ بِهِ مِنْ حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُطْقٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَمِعْنَا بِآذَانِنَا وَعَصَيْنَا بِقُلُوبِنَا، وَهَذَا رَاجِعٌ لِمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: قَالُوا سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ طَابَقَ قَوْلُهُ جَوَابَهُمْ؟ قُلْتُ: طَابَقَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ لَهُمُ اسْمَعُوا، وَلْيَكُنْ سَمَاعُكُمْ سَمَاعَ تَقَبُّلٍ وَطَاعَةٍ، فَقَالُوا سَمِعْنَا وَلَكِنْ لَا سَمَاعَ طَاعَةٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّا لَا نَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ. وَأُشْرِبُوا: عَطْفٌ عَلَى قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا. فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَالُوا، أَيْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا وَأُشْرِبْتُمْ، أَوْ عَطْفٌ مُسْتَأْنِفٌ لَا دَاخِلٌ فِي بَابِ الِالْتِفَاتِ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوِ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَقَدْ أُشْرِبُوا وَالْعَامِلُ قَالُوا، وَلَا يَحْتَاجُ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَقْدِيرِ قَدْ فِي الْمَاضِي الْوَاقِعِ حَالًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. فِي قُلُوبِهِمُ: ذَكَرَ مكان الإشراب،

_ (1) سورة التغابن: 64/ 16. (2) سورة النساء: 4/ 46.

كَقَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ «1» . الْعِجْلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ، أَيْ حُبَّ عِبَادَةِ الْعِجْلِ مِنْ قَوْلِكَ: أَشْرَبْتُ زَيْدًا مَاءً، وَالْإِشْرَابُ مُخَالَطَةُ الْمَائِعِ الْجَامِدَ، وَتُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ فِي اللَّوْنَيْنِ، قَالُوا: وَأَشْرَبْتُ الْبَيَاضَ حُمْرَةً، أَيْ خَلَطْتُهَا بِالْحُمْرَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ دَاخَلَهُمْ حُبُّ عِبَادَتِهِ، كَمَا دَاخَلَ الصَّبْغُ الثَّوْبَ، وَأَنْشَدُوا: إِذَا مَا الْقَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ ... فَلَا تَأْمَلْ لَهُ عَنْهُ انْصِرَافَا وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يُقَالُ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ كَذَا، أَيْ حَلَّ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمَازَجَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَتَغَلْغَلُ فِي الْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى بَاطِنِهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي فِي مَفَاصِلِي ... فَأَصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهَا شُغْلُ وَأَمَّا الطَّعَامُ فقالوا: هو مُجَاوِرٌ لَهَا، غَيْرُ مُتَغَلْغِلٍ فِيهَا، وَلَا يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ مِنْهُ إِلَّا يَسِيرٌ، وَقَالَ: تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ وَحَسُنَ حَذْفُ ذَيْنِكَ الْمُضَافَيْنِ، وَأُسْنِدَ الْإِشْرَابُ إِلَى ذَاتِ الْعِجْلِ مُبَالَغَةً كَأَنَّهُ بِصُورَتِهِ أُشْرِبُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَذْفِ. وَقِيلَ: مَعْنَى أُشْرِبُوا: أَيْ شَدَّ فِي قُلُوبِهِمْ حُبُّ الْعِجْلِ لِشَغَفِهِمْ بِهِ، مِنْ أَشْرَبْتُ الْبَعِيرَ: إِذَا شَدَدْتَ حَبْلًا فِي عُنُقِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الشُّرْبِ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَدَ الْعِجْلَ بِالْمِبْرَدِ وَرَمَاهُ فِي الْمَاءِ وَقَالَ لَهُمُ: اشْرَبُوا، فَشَرِبَ جَمِيعُهُمْ. فَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْعِجْلَ خَرَجَتْ بُرَادَتُهُ عَلَى شَفَتَيْهِ، وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمُ. وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ تَبَيَّنَ لَهُمْ حُبُّ الْعِجْلِ أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الْجُبْنُ. وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِهِمْ، وَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: جَاءَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِفَرْطِ وُلُوعِهِمْ بِعِبَادَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ، أَوْ لِأَنَّ السَّامِرِيَّ وَإِبْلِيسَ وَشَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الشُّرْبُ مَادَّةً لِحَيَاةِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ، نُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّهَا مَادَّةٌ لِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَفْعَالِ. بِكُفْرِهِمْ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ هُوَ كُفْرُهُمُ السَّابِقُ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، يَعْنُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ، أَيْ مَصْحُوبًا بِكُفْرِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ كُفْرًا عَلَى كفر.

_ (1) سورة النساء: 4/ 10.

قُلْ يَا مُحَمَّدُ، أَوْ قُلْ يَا مَنْ يُجَادِلُهُمْ. بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي بِئْسَ، وَفِي الْمَذَاهِبِ فِي مَا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: بِهُو إِيمَانُكُمْ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِوَاوٍ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَالضَّمُّ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ كُسِرَتْ فِي أَكْثَرِ اللُّغَاتِ لِأَجْلِ كَسْرَةِ الْبَاءِ، وَعَنَى بِإِيمَانِهِمُ الَّذِي زَعَمُوا فِي قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَأَضَافَ الْأَمْرُ إِلَى إِيمَانِهِمْ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ شُعَيْبٍ: أصلواتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ؟ وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ صَاحِبُ إِيمَانِكُمْ، وَهُوَ إِبْلِيسُ. وَقِيلَ: ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ إِيمَانُكُمُ الْبَاطِلُ، وَأَضَافَ: الْإِيمَانَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ إِيمَانًا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ الْإِيمَانُ، قَالَهُ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ بَعْدَ مَا، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً، فَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعِصْيَانُ وَعِبَادَةُ الْعِجْلِ، فَيَكُونُ يَأْمُرُكُمْ صِفَةً لِلتَّمْيِيزِ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا شَيْءٌ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ، فَيَكُونُ يَأْمُرُكُمْ صِفَةً لِلْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ الْمَحْذُوفِ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا مَا يَأْمُرُكُمْ، أَيِ الَّذِي يَأْمُرُكُمْ، فَيَكُونُ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ. وَالْمَخْصُوصُ مُقَدَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ، أَيْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا وَكَذَا. فَيَكُونُ مَا مَوْصُولَةً، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِئْسَ الشَّيْءُ شَيْءٌ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ، فَيَكُونُ مَا تَامَّةً. وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لِمَا وَحْدَهَا مَوْضِعًا مِنَ الْإِعْرَابِ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قيل: إن نافية، وَقِيلَ: شَرْطِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَشْكِيكٌ فِي إِيمَانِهِمْ، وَقَدْحٌ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يَأْتِي الشَّرْطُ، وَالشَّارِطُ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى أَحَدِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ «1» ، وَقَدْ عَلِمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَالْقَائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهُ أَقَامَ حُجَّةً لِقِيَاسٍ بَيِّنٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يُؤَوَّلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ إِنْ كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم. وقيل تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَلَا تُكَذِّبُوا الرُّسُلَ، وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ. وَتَقْدِيرُ الْحَذْفِ الْأَوَّلِ أَعْرَبُ وَأَقْوَى. قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً: نَزَلَتْ فِيمَا حكاه ابن الجوزي عند ما قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ الْجَنَّةَ إِلَّا لِإِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ:

_ (1) سورة المائدة: 5/ 116.

سَبَبُ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً «1» ، ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ «2» ، ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ «3» ، الْآيَاتِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي قُلْ، إِمَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَإِمَّا لِمَنْ يَنْبَغِي إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَفَسَّرُوا الدَّارَ الْآخِرَةَ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا: وَذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى الْجَنَّةِ. قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً «4» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «5» . وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ نَعِيمُ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَحُظْوَتُهَا وَخَيْرُهَا، لِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا. وَسُمِّيَتْ آخِرَةً لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الدُّنْيَا، أَوْ هِيَ آخِرُ مَا يُسْكَنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «6» . وَمَعْنَى: عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ هُمُ الْفاسِقُونَ «7» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِنْدِيَّةِ هُنَا: الْمَكَانَةُ وَالْمَرْتَبَةُ وَالشَّرَفُ، لَا الْمَكَانُ. وَمَعْنَى خَالِصَةً: أَيْ مُخْتَصَّةً بِكُمْ، لاحظ فِي نَعِيمِهَا لِغَيْرِكُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ خَالِصَةً، فَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يَحْكِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ إِذْ ذَاكَ خَبَرُ كَانَتْ، وَيَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الْعَامِلَ فِي الْمَجْرُورِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ إِذْ ذَاكَ الْخَبَرَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ مَعْنَى الْكَلَامِ بِهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، إِذْ قَالَا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ خَالِصَةً عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدَ اللَّهِ خَبَرُ كَانَ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ خَالِصَةً عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، فَيَجُوزُ فِي لَكُمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكَانَتْ، لِأَنَّ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَرْفُ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بخالصة. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ، أَعْنِي نَحْوَ قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ إِذْ تَقْدِيرُهُ: لَكَ أَدْعُو. مِنْ دُونِ النَّاسِ: مُتَعَلِّقٌ بِخَالِصَةٍ، وَدُونَ هُنَا لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَقَطْعِ الشَّرِكَةِ. تَقُولُ: هَذَا وَلِيٌّ دُونَكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ لَا حَقَّ فِيهِ لَكَ مَعِي وَلَا نَصِيبَ. وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ يَأْتِي لِمَعْنَى الِانْتِقَاصِ فِي الْمَنْزِلَةِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الْمِقْدَارِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْجِنْسُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَقَوْلِهِ: خَالِصَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. وقيل:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 111. (2) سورة المائدة: 5/ 18. (3) سورة البقرة: 2/ 80. (4) سورة القصص: 28/ 83. (5) سورة الأنعام: 6/ 32. (6) سورة النمل: 27/ 3. (7) سورة آل عمران: 3/ 82.

الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا، وَيُطْلَقُ النَّاسُ، وَيُرَادُ بِهِ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَجَازٍ وَتَنْزِيلِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ: أَيْ سَلُوهُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْقَلْبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ تُمَنَّوْهُ بِقُلُوبِكُمْ وَاسْأَلُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، قَالَهُ قَوْمٌ. أَوْ فَسَلُوهُ بِقُلُوبِكُمْ عَلَى أَرْدَأِ الْحِزْبَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتُمَنَّوُا الْمَوْتَ، بِضَمِّ الْوَاوِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي مِثْلِ: اخْشَوُا الْقَوْمَ. وَيَجُوزُ الْكَسْرُ تَشْبِيهًا لِهَذِهِ الْوَاوِ بِوَاوِ: وَلَوِ اسْتَطَعْنَا، كَمَا شَبَّهُوا وَاوَ لَوْ بِوَاوِ اخْشَوْا، فَضَمُّوا، فَقَالُوا: لَوِ اسْتَطَعْنَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ بِالْكَسْرِ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزْدَادَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَنَّهُ قَرَأَ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَحَرَّكَهَا بِالْفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، لِأَنَّ الضَّمَّةَ وَالْكَسْرَةَ فِي الْوَاوِ يُثْقِلَانِ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عمرو: واختلاس ضَمَّةِ الْوَاوِ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَكُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. وَعَلَّقَ تَمَنِّيَهُمْ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ، وَلَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ خَالِصَةٌ لَهُمْ دُونَ النَّاسِ، فَلَا يَقَعُ التَّمَنِّي: وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّحَدِّي وَإِظْهَارُ كَذِبِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، اخْتَارَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْمَقَامِ فِي دَارِ الْأَكْدَارِ، وَأَنْ يَصِلَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ. كَمَا رُوِيَ عَمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، كَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَحُذَيْفَةَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ الْمَوْتَ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَانَتْ تَخْتَارُ الشَّهَادَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْتَنِي أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ» . لِمَا عَلِمَ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ، لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ مَنْ قُتِلَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ: «يَا لَيْتَنِي غُودِرْتُ مَعَهُمْ فِي لِحْفِ الْجَبَلِ» . وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ. وَعَنْ عَمَّارٍ، لَمَّا كَانَ بِصِفِّينَ قَالَ: غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّةَ، مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بِغِلَالَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ: مَا هَذَا بِزِيِّ الْمُحَارِبِينَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا يُبَالِي أَبُوكَ، أَعَلَى الْمَوْتِ سَقَطَ، أَمْ عَلَيْهِ سَقَطَ الْمَوْتُ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُنْشِدُ، وَهُوَ يُقَاتِلُ الرُّومَ: يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا وَفِي قِصَّتَيْ قَتْلِ عُثْمَانَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِمَا الشَّهَادَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ جَاءَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَهُ: نُقَاتِلُ عَنْكَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَا، وَكَانَ لَهُ قَرِيبٌ مِنْ

أَلْفِ عَبْدٍ، فَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ لَمَّا هُجِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: من أعمد سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَصَبَرَ حَتَّى قُتِلَ. وَأَمَّا سَعِيدٌ، فَإِنَّ الْمُوَكَّلِينَ بِهِ، لِمَا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ، لمَّا شَاهَدُوا مِنْ لِيَاذِ السِّبَاعِ بِهِ وَتَمَسُّحِهَا بِهِ، قَالُوا: لَا نَدْخُلُ فِي إِرَاقَةِ دَمِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ، قَالُوا لَهُ: طَلَبَكَ لِيَقْتُلَكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَنَحْنُ نَكُونُ فداءك. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّهَادَةَ، وَقَدْ رَزَقَنِيهَا، وَاللَّهِ لَا بَرِحْتُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إِنْسَانٍ بِرِيقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ» . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَأَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ مَنْ تَمَنَّاهُ مِنْهُمْ مَاتَ. فَفَعَلَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَعَلِمَ الْيَهُودُ صِدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عَنْ تَمَنِّيهِ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ: هَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «1» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْجَنَّةَ خَالِصَةٌ لَهُ دُونَ النَّاسِ مِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَنَّى الْمَوْتَ أَبَدًا، وَلِذَلِكَ كَانَ حَرْفُ النَّفْيِ هُنَا لَنْ الَّذِي قَدِ ادُّعِيَ فِيهِ أَنَّهُ يَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَبَدًا، عَلَى زَعْمِ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ لِلتَّوْكِيدِ. وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ بِمَعْنَى لَا، فَيَكُونُ أَبَدًا إِذْ ذَاكَ مُفِيدًا لِاسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ. وَيَعْنِي بِالْأَبَدِ هُنَا: مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ زَمَانِ أَعْمَارِهِمْ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ، وَفِي الْجُمُعَةِ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ «2» ، لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ هُنَا أَعْظَمُ مِنْ دَعْوَاهُمْ هُنَاكَ، لِأَنَّ السَّعَادَةَ الْقُصْوَى فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُرَادُ لِحُصُولِ الْأُولَى، وَلَنْ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ لا، فجعلها لنفي الْأَعْظَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ فِي (كِتَابِ التَّحْصِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ: وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ رَجُلٌ يَقُولُ لِقَوْمٍ حَدَّثَهُمْ بِحَدِيثٍ: دَلَالَةُ صِدْقِي، أَنْ أُحَرِّكَ يَدِي وَلَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يُحَرِّكَ يَدَهُ، فَيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا يُبْطِلَ دَلَالَتَهُ إِنْ حَرَّكُوا أَيْدِيَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ النَّازِلَةَ مِنْ مَوْتِ مَنْ تَمَنَّى الْمَوْتَ، إِنَّمَا كَانَتْ أَيَّامًا كَثِيرَةً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ دُعَائِهِ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، انتهى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 24. [.....] (2) سورة الجمعة: 62/ 7.

كَلَامُهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَ الَمَهْدَوِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ، مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ أَبَدًا ظَاهِرُهُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ مدة أعمارهم، كما بيناه. وَهَلِ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، كَانَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ عَرَضَ عَلَى قَوْمِهِ أَمْرًا وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فَرَدُّوهُ تَكْذِيبًا لَهُ، فَإِنَّ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ؟ أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ؟ أَوْ لِصَرْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قِيلَ فِي عَدَمِ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بِالصِّرْفَةِ؟ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَالَّذِي قَدَّمَتْهُ أَيْدِيِهِمْ: تَكْذِيبُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَتْلُهُمْ إِيَّاهُمْ، وَقَوْلُهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» ، وَقَوْلُهُمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً «2» ، وقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ «3» ، وَاعْتِدَاؤُهُمْ فِي السَّبْتِ، وَسَائِرُ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَمْ تَصْدُرْ مِنْ أُمَّةٍ قَبْلَهُمْ وَلَا بَعْدَهُمْ. وَهَذَا التَّمَنِّي الَّذِي طُلِبَ مِنْهُمْ، وَنُفِيَ عَنْهُمْ، لَمْ يَقَعْ أَصْلًا مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ وَقَعَ لَنُقِلَ، وَلَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الْمُخَالِفِينَ لِلْإِسْلَامِ عَلَى نَقْلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ هُنَا الْعَمَلَ الْقَلْبِيَّ، لِأَنَّهُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، فَلَا يُتَحَدَّى بِهِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْقَوْلَ اللِّسَانِيَّ كَقَوْلِكَ: لَيْتَ الْأَمْرَ يَكُونُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِقَائِلٍ ذَلِكَ: تَمَنَّى؟ وَتُسَمَّى لَيْتَ كَلِمَةَ تَمَنٍّ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا: تَمَنَّيْنَا ذَلِكَ بِقُلُوبِنَا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْإِخْبَارِ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا بِقُلُوبِهِمْ، كَوْنَهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَاوَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَشْيَاءَ لَا يُصَدِّقُونَهُمْ فِيهَا، مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَتَحْرِيفِ كِتَابِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ. وَأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِنِ ادِّعَاءِ بُنُوَّةٍ وَمَحَبَّةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَا جَعَلَتْهُ الْيَهُودُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ، غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ، لَا يَزُولُ عَنْهُمْ خَوَّفُ الْخَاتِمَةِ. وَالْخَاطِئُ مِنْهُمْ مُفْتَقِرٌ إِلَى زَمَانٍ يَتَدَارَكُ فِيهِ تَكْفِيرَ خَطَئِهِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَمَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْتَ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ يَتَمَنَّوْنَهُ. وَذَكَرُوا فِي مَا مِنْ قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ، أَنَّهَا تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُولٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي السَّابِقَةِ. وَنُسِبَ التَّقْدِيمُ لِلْيَدِ مَجَازًا، وَالْمَعْنَى بِمَا قَدَّمُوهُ، إِذْ كَانَتِ الْيَدُ أَكْثَرَ الْجَوَارِحِ تَصَرُّفًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَكَثُرَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْقُرْآنِ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «4» ، بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «5» ، فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «6» . وقيل:

_ (1) سورة النساء: 4/ 153. (2) سورة الأعراف: 7/ 138. (3) سورة الماء: 5/ 24. (4) سورة الحج: 22/ 10. (5) سورة الأنفال: 8/ 51. (6) سورة الشورى: 42/ 30.

الْمُرَادُ الْيَدُ حَقِيقَةً هُنَا، وَالَّذِي قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ هُوَ تَغْيِيرُ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِكِتَابَةِ أَيْدِيهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: هَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَمَعْنَاهَا: التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، وَعِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِالظَّالِمِ وَغَيْرِ الظَّالِمِ. فَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الظَّالِمِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْوَعِيدِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُجَازِيهِمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَكَنَّى بِالْعِلْمِ عَنِ الْجَزَاءِ، وَعُلِّقَ الْعِلْمُ بِالْوَصْفِ لِيَدُلَّ عَلَى الْعُلِّيَّةِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الظَّالِمِينَ لِلْعَهْدِ، فَتَخْتَصُّ بِالْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، أَوْ لِلْجِنْسِ، فَتَعُمُّ كُلَّ ظَالِمٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ تَجَاوُزُ مَا حَدَّ اللَّهُ، وَلَا شَيْءَ أَبْلَغُ فِي التَّعَدِّي مِنِ ادِّعَاءِ خُلُوصِ الْجَنَّةِ لِمَنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِشَيْءٍ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا، وَانْفِرَادِهِ بِذَلِكَ دُونَ النَّاسِ. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ: الْخِطَابُ هُنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَجَدَ هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا الضَّمِيرُ، وَالثَّانِي أَحْرَصَ النَّاسِ. وَإِذَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ «1» . وَكَوُنُهَا هُنَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، هُوَ قَوْلُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجَدَ هُنَا بِمَعْنَى لَقِيَ وَأَصَابَ، وَيَكُونَ انْتِصَابُ أَحْرَصَ عَلَى الْحَالِ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ إِضَافَةَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لَيْسَتْ بِمَحْضَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ. أَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا مَحْضَةٌ، وَلَا يُجِيزُ فِي الْحَالِ أَنْ تَأْتِيَ مَعْرِفَةً، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ فِي أَحْرَصَ النصب على الحال. وأحرص هُنَا هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ. بِمَعْنَى مِنْ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، فَيَجُوزُ فِيهَا الْوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرَدَ مُذَكَّرُهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى مُفْرَدٍ وَمُثَنَّى وَمَجْمُوعٍ، وَمُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُطَابِقَ مَا قَبْلَهَا. فَمِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَحْرَصَ النَّاسِ وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْمُطَابَقَةِ، لَكَانَ أَحَارِصَ النَّاسِ، أَوْ أَحْرَصِي النَّاسِ. وَمِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي قَوْلُهُ: أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا، كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَصِيحٌ. وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ أَنَّ الْمُطَابَقَةَ أَفْصَحُ مِنَ الْإِفْرَادِ. وَذَهَبَ ابْنُ السَّرَّاجِ إِلَى تَعَيُّنِ الْإِفْرَادِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، كَهَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، فَشَرْطُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْبَصْرِيُّونَ يُوسُفُ أَحْسَنُ إِخْوَتِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَشَذَّ نحو قوله:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 102.

يَا رَبَّ مُوسَى أَظْلَمِي وَأَظْلَمَهُ يُرِيدُ: أَظْلَمْنَا حَيْثُ لم يضف أَظْلَمَ إِلَى مَا هُوَ بَعْضُهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي وَلَتَجِدَنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْيَهُودِ، أَوْ عَلَى عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَأَتَى بِصِيغَةِ أَفْعَلَ مِنَ الْحِرْصِ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ طَلَبِهِمْ لِلْبَقَاءِ وَدَوَامِ الْحَيَاةِ. وَالنَّاسُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَتَعُمُّ، أَوْ لِلْعَهْدِ. إِمَّا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ، أَوْ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَجُوسَ، أَوْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ لَا يُوقِنُونَ بِبَعْثٍ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا نَعِيمُ الدُّنْيَا، أَوْ بُؤْسُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فَانِ ... مِنَ النَّشَوَاتِ وَالنِّسَا الْحِسَانِ وَقَالَ آخَرُ: إِذَا انْقَضَتِ الدُّنْيَا وَزَالَ نَعِيمُهَا ... فَمَا لِيَ فِي شَيْءٍ سِوَى ذَاكَ مَطْمَعُ عَلى حَياةٍ: قَدَّرُوا فِيهِ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى طُولِ حَيَاةٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ صِفَةٍ، أَيْ عَلَى حَيَاةٍ طَوِيلَةٍ. وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ حَذْفٌ لَصَحَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى مُطْلَقِ حَيَاةٍ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى مُطْلَقِ حَيَاةٍ، وَهُوَ تَحَقُّقُهَا بِأَدْنَى زَمَانٍ، فَلِأَنْ يَكُونَ أَحْرَصَ عَلَى حَيَاةٍ طَوِيلَةٍ أَوْلَى، وَكَانُوا قَدْ ذُمُّوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى حَيَاةٍ، وَلَوْ سَاعَةً وَاحِدَةً. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: عَلَى الْحَيَاةِ، بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: قِرَاءَةُ التَّنْكِيرِ أَبْلَغُ مِنْ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ، لِأَنَّهُ أَرَادَ حَيَاةً مَخْصُوصَةً، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَطَاوِلَةُ. انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُضْطَرُّ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا دَاخِلًا تَحْتَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى أَحْرَصَ النَّاسِ: أَحْرَصُ مِنَ النَّاسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ، أَيْ وَأَحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، فَحُذِفَ أَحْرَصُ لِدَلَالَةِ أَحْرَصَ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا: الْمَجُوسُ، لِعِبَادَتِهِمُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَقِيلَ: النَّارَ، أَوْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ لِعِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، أَوْ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، كَمَا قال تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً «1» . وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ

_ (1) سورة النازعات: 79/ 11.

أَحْرَصَ النَّاسِ عَامٌّ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ تَوْبِيخٍ لِلْيَهُودِ، إِذْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يَرْجُونَ ثَوَابًا وَيَخَافُونَ عِقَابًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَحْرَصُ مِمَّنْ لَا يَرْجُو ذَلِكَ وَلَا يُؤْمِنُ بِبَعْثٍ. وَإِنَّمَا كَانَ حِرْصُهُمْ أَبْلَغَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْعِقَابِ، فَكَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ فِي الْبُعْدِ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ تَوَقَّعَ شَرًّا كَانَ أَنْفَرَ النَّاسِ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ سَبَبًا فِي تَبَاعُدِ الْعِقَابِ، كَانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَيْهَا. وَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ مِنِ اتِّصَالٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مِنْ، لِأَنَّ أَحْرَصَ النَّاسِ جَرَى عَلَى الْيَهُودِ، فَلَوْ عَطَفْتَ بِغَيْرِ مِنْ لَكَانَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّاسِ، فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، فَكَانَ أَفْعَلُ يُضَافُ إِلَى غَيْرِ مَا انْدَرَجَ تَحْتَهُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فُسِّرَ بِهِمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هُنَا، لَا إِذَا قُلْنَا: إِنِ الثَّوَانِيَ فِي الْعَطْفِ يَجُوزُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَوَائِلِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ، أَيْ وَلَتَجِدَنَّهُمْ وَطَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. فَهُوَ مَعْنًى يَصِحُّ، لَكِنَّ اللَّفْظَ وَالتَّرْكِيبَ يَنْبُو عَنْهُ وَيُخْرِجُهُ عَنِ الْفَصَاحَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أن يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ بِالضَّرُورَةِ. وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لِعَطْفِ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لِعَطْفِ الْجُمَلِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مُنْقَطِعًا مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءَ، إِخْبَارٍ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوَدُّونَ طُولَ الْحَيَاةِ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالَّذِينَ أَشْرَكُوا: أَهُمُ الْمَجُوسُ؟ أَمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ؟ أَمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؟ وَأَمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمُ الْمَجُوسُ، لِأَنَّ تَشْمِيتَهُمْ لِلْعَاطِسِ بِلُغَتِهِمْ مَعْنَاهُ: عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ تَشْبِيهٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا عَلَى هَذَا، أَيْ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، مُشَارٌ بِهِ إِلَى الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي اشْتَدَّ حِرْصُهَا عَلَى الْحَيَاةِ مَنْ يَوَدُّ لَوْ عُمِّرَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةً فِي تَمَنِّي طُولِ الْحَيَاةِ، وَيَكُونُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ وُقُوعِ الظَّاهِرِ الْمُشْعِرِ بِالْعِلْيَةِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَمِنْهُمْ قَوْمٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، وَيَوَدُّ أَحَدُهُمْ صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قَوْمٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ

الَّتِي يَجُوزُ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» ، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ «2» ، وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ، وَعَلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لِعَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، قَالُوا: وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَادًّا أَحَدُهُمْ، قَالُوا: وَيَكُونُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ أَحْرَصَ الْمَحْذُوفَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَشْرَكُوا، فَيَكُونُ الْعَامِلُ أَشْرَكُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي وَلَتَجِدَنَّهُمْ، أَيْ وَلَتَجِدَنَّهُمُ الْأَحْرَصِينَ عَلَى الْحَيَاةِ وَادًّا أَحَدُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ يُبَيِّنُ حَالَ أَمْرِهِمْ فِي ازْدِيَادِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ. أَحَدُهُمْ: أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ هُنَا هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِمْ مَا قَامَ أَحَدٌ، لِأَنَّ هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَحَدًا هَذَا أُصُولُهُ هَمْزَةٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ، وَأُصُولُ ذَلِكَ وَاوٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ. فَالْهَمْزَةُ فِي أَحَدُهُمْ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، وَلَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أَيْ يَوَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دُونَ سَائِرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَحَدُهُمْ هُنَا عَامٌّ عُمُومَ الْبَدَلِ، أَيْ هَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِوُدِّهِمْ أَنْ يُعَمَّرُوا أَلْفَ سَنَةٍ، هُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ. فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى حِرْصِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَشِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِطُولِ الْحَيَاةِ، وَجَدْتَهُ لَوْ عُمِّرَ أَلْفَ سَنَةٍ. لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ: مَفْعُولُ الْوِدَادَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ طُولَ الْعُمْرِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لَسُرَّ بِذَلِكَ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ يَوَدُّ لِدَلَالَةِ لَوْ يُعَمَّرُ عَلَيْهِ، وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ لِدَلَالَةِ يَوَدُّ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الْبَصْرِيِّينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى أَنَّ لَوْ هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنْ، فَلَا يَكُونُ لَهَا جَوَابٌ، وَيَنْسَبِكُ مِنْهَا مَصْدَرٌ هُوَ مَفْعُولُ يَوَدُّ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ تَعْمِيرَ أَلْفِ سَنَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ مَحَلُّ إِعْرَابٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مَحَلُّهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اتَّصَلَ لَوْ يُعَمَّرُ بِيَوَدُّ أَحَدُهُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ حِكَايَةٌ لِوِدَادَتِهِمْ، وَلَوْ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي، وَكَانَ الْقِيَاسُ لَوْ أُعَمِّرُ، إِلَّا أَنَّهُ جَرَى عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ لِقَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، كَقَوْلِهِمْ: حَلَفَ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ إِبْهَامٍ، وَذَلِكَ أَنَّ يَوَدُّ فعلى قَلْبِيٌّ، وَلَيْسَ فِعْلًا قَوْلِيًّا، وَلَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ تقول هو حكاية

_ (1) سورة الصافات: 37/ 164. (2) سورة النساء: 4/ 159.

لِوِدَادَتِهِمْ؟ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَوَّغُ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ، وَذَلِكَ أَنْ يُجْرِيَ يَوَدُّ مُجْرَى يَقُولُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَنْشَأُ عَنِ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ أَحَدُهُمْ عَنْ وِدَادَةٍ مِنْ نَفْسِهِ لَوْ أُعَمِّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَلَا تَحْتَاجُ لَوْ، إِذَا كَانَتْ لِلتَّمَنِّي، إِلَى جُمْلَةٍ جَوَابِيَّةٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى: يَا لَيْتَنِي أُعَمِّرُ، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ. فَتَلَخَّصَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي لَوْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَنْ تَكُونَ حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي مَحْكِيَّةً. وَمَعْنَى أَلْفَ سَنَةٍ: الْعُمْرُ الطَّوِيلُ فِي أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ أَلْفَ سَنَةٍ كِنَايَةً عَنِ الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أن يزيد أَلْفَ سَنَةٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَلْفَ سَنَةٍ، لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَقَعُ عَلَى الْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً أَوْ عَقْلًا، فَيَكُونُ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ فِي ازْدِيَادِ الْحَيَاةِ يَتَعَلَّقُ تَمَنِّيهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَادَةً. وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ: الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: وما هُوَ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِهِمْ، وَهُوَ اسْمُ مَا، وَبِمُزَحْزِحِهِ خَبَرُ مَا، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذلك، وَأَنْ يُعَمَّرَ فَاعِلَ بِمُزَحْزِحِهِ، أَيْ وَمَا أَحَدُهُمْ مُزَحْزِحُهُ مِنَ الْعَذَابِ تَعْمِيرُهُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا فِي هَذَا الْوَجْهِ، أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى أَحَدُهُمْ، أَنْ يَكُونَ هُوَ مُبْتَدَأً، وَبِمُزَحْزِحِهِ خبر. وَأَنْ يُعَمَّرَ فَاعِلَ بِمُزَحْزِحِهِ، فَتَكُونَ مَا تَمِيمِيَّةً. وَهَذَا الْوَجْهُ، أَعْنِي أَنْ تَكُونَ مَا تَمِيمِيَّةً هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ يُعَمَّرُ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَارْتِفَاعُ هُوَ عَلَى وَجْهَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَا أَوْ مُبْتَدَأً. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعْمِيرِ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَلَا يَعُودُ هُوَ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي قَبْلَهُ، أَنَّ مُفَسِّرِ الضَّمِيرِ هُنَا هُوَ الْبَدَلُ، وَمُفَسِّرُهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي لَوْ يُعَمَّرُ. وَكَوْنُ الْبَدَلِ يُفَسِّرُ الضَّمِيرَ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَا خِلَافَ فِي تَفْسِيرِ الضَّمِيرِ بِالْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ السَّابِقِ. فَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا قَبْلَهُ، وَذَاكَ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَهَذَا الَّذِي عَنَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُبْهَمًا، وَأَنْ يُعَمَّرَ مُوَضِّحَهُ. يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ هُوَ لَا يَعُودُ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بَدَلٌ مِنْهُ وَهُوَ مُفَسِّرٌ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَهَذَا مَيْلٌ مِنْهُ إِلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ مُفَسِّرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْمَجْهُولِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جُمْلَةٍ إِذَا انْتَظَمَ إِسْنَادًا مَعْنَوِيًّا نَحْوَ: ظَنَنْتُهُ قَائِمًا زيد، وَمَا هُوَ بِقَائِمٍ زَيْدٌ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ ضَمِيرٌ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ، وَبِقَائِمٍ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَزَيْدٌ فَاعِلٌ بِقَائِمٍ. وَكَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: مَا هُوَ يَقُومُ زَيْدٌ، وَلِذَلِكَ أَعْرَبُوا

في: ظننته قائما زيد، الْهَاءَ ضَمِيرَ الْمَجْهُولِ، وَهِيَ مَفْعُولُ ظَنَنْتُ، وَقَائِمًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَزَيْدٌ فَاعِلٌ بِقَائِمٍ. وَلَا يَجُوزُ فِي مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُفَسَّرَ إِلَّا بِجُمْلَةٍ مُصَرَّحٍ بِجُزْأَيْهَا سَالِمَةٍ مِنْ حَرْفِ جَرٍّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: هُوَ عِمَادٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِمَادَ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا زَيْدٌ هُوَ الْقَائِمُ، جَوَّزُوا أَنْ تَقُولَ: مَا هُوَ الْقَائِمُ زَيْدٌ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ، وَمَا تَعْمِيرُهُ هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ. ثُمَّ قُدِّمَ الْخَبَرُ مَعَ الْعِمَادِ، فَجَاءَ: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، أَيْ تَعْمِيرَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ شَرْطَ الْفَصْلِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا. وَتَلَخَّصَ فِي هَذَا الضَّمِيرِ: أَهُوَ عَائِدٌ عَلَى أَحَدُهُمْ؟ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُعَمَّرُ؟ أَوْ عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يُعَمَّرَ؟ أَوْ هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ؟ أَوْ عِمَادٌ؟ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ، عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ، عَلَى سَبِيلِ الالتفات والخروج من العيبة إِلَى الْخِطَابِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَأَتَى هُنَا بِصِفَةِ بَصِيرٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَنَزِّهًا عَنِ الْجَارِحَةِ، إِعْلَامًا بِأَنَّ عِلْمَهُ، بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، عِلْمُ إِحَاطَةٍ وَإِدْرَاكٍ لِلْخَفِيَّاتِ. وَمَا: فِي بِمَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَعْمَلُونَهُ. وَجَوَّزُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ بِعَمَلِهِمْ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ تَعَالَى مُحِيطًا بِأَعْمَالِهِمُ السَّالِفَةِ وَالْآتِيَةِ لِتَوَاخِي الْفَوَاصِلِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الامتنان على بني إسرائيل وَتَذْكَارَهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ، إِذْ آتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْهُدَى وَالنُّورِ، وَوَالَى بَعْدَهُ بِالرُّسُلِ لِتَجْدِيدِ دِينِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، وَآتَى عِيسَى الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ، مِنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِيجَادِ الْمَخْلُوقِ، وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وَالْإِنْبَاءِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَيَّدَهُ بِمَنْ يُنْزِلُ الْوَحْيَ عَلَى يَدَيْهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَالنِّعَمِ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ قَبُولِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانُوا بِحَيْثُ إِذَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا يُوَافِقُهُمْ، بَادَرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ، أَوْ قَتَلُوهُ، وَهُمْ غَيْرُ مُكْتَرِثِينَ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّهُمْ فِي أَثَرِ قَتْلِهِمُ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، تَقُومُ سُوقُ الْبَقْلِ بَيْنَهُمْ، الَّتِي هِيَ أَرْذَلُ الْأَسْوَاقِ، فَكَيْفَ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي تُبَاعُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ؟ ثُمَّ نَعَى تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ مِنْ تَكْذِيبِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كانوا قبل مجيئه يَذْكُرُونَ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَحِينَ وَافَاهُمْ

مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ وَيَعْرِفُونَهُ، كَفَرُوا بِهِ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ. وَأَنَّ سَبَبَ طَرْدِهِمْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ قَلِيلًا، إِذْ كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي كِتَابٌ. ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ ذَمِّهِمْ، أَنْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمُ النَّفِيسَةَ بِمَا يَتَرَتَّبُ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالرِّيَاسَاتِ الْمُنْقَضِيَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ، لِأَنِ اخْتَصَّ اللَّهُ بِفَضْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَلَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ وَلَا بِاخْتِيَارِهِ، فَبَاءُوا بِالْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابَ الَّذِي يُذِلُّهُمْ وَيُهِينُهُمْ. إِذْ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، إِنَّمَا هُوَ لِلتَّكَبُّرِ وَالْحَسَدِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَدَرِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ يُعَذَّبُوا الْعَذَابَ الَّذِي فِيهِ صَغَارٌ لَهُمْ وَذِلَّةٌ وَإِهَانَةٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الإيمان بما أنزل الله، أَجَابُوا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالتَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِمَا سِوَاهَا. هَذَا وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سَوَاءٌ، إِذْ كُلُّهَا حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَالْكُفْرُ بِبَعْضِهَا كُفْرٌ بِجَمِيعِهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِكَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَالتَّوْرَاةُ نَاطِقَةٌ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ فِعْلُهُمْ. ثُمَّ كَرَّرَ عَلَيْهِمْ، تَوْبِيخًا لَهُمْ، أَنَّ مُوسَى الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهَا، قَدْ جَاءَهُمْ بِالْأَشْيَاءِ الْوَاضِحَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْخَارِقَةِ، مِنْ نَجَاتِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ، اتَّخَذُوا مِنْ بَعْدِ ذَهَابِهِ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ إِلَهًا مِنْ أَبْعَدِ الْحَيَوَانِ ذِهْنًا وَأَبْلَدِهَا، وَهُوَ الْعِجْلُ الْمَصْنُوعُ مِنْ حُلِيِّهِمْ، الْمُشَاهَدُ إِنْشَاؤُهُ وَعَمَلُهُ، وَمُوسَى لَمْ يَمُتْ بَعْدُ، وَكِتَابُ اللَّهِ طَرِيٌّ نُزُولُهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَتَقَادَمْ عَهْدُهُ. وَكَرَّرَ تَعَالَى ذِكْرَ رَفْعِ الطُّورِ عَلَيْهِمْ لِيَقْبَلُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأُمِرُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَجَابُوا بِالْعِصْيَانِ. هَذَا وَهُمْ مُلْجَئُونَ إِلَى الْإِيمَانِ، أَوْ كَالْمُلْجَئِينَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُزْعِجِ الْعَظِيمِ مِنْ رَفْعِ جَبَلٍ عَلَيْهِمْ لِيُشْدَخُوا بِهِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَيَقْبَلَ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَتَأَبِّيهِمْ لِذَلِكَ، وَعَدَمُ قَبُولِهِمْ، سَبَبُهُ أَنَّ عِبَادَةَ الْعِجْلِ خَامَرَتْ قُلُوبَهُمْ وَمَازَجَتْهَا، حَتَّى لَمْ تَسْمَعْ قَبُولًا لِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، وَالْقَلْبُ إِذَا امْتَلَأَ بِحُبِّ شَيْءٍ لَمْ يَسْمَعْ سِوَاهُ وَلَمْ يُصْغِ إِلَى مَلَامٍ، وَأَنْشَدُوا: مَلَأْتَ بِبَعْضِ حُبِّكَ كُلَّ قَلْبِيَ ... فَإِنْ تُرِدِ الزِّيَادَةَ هَاتِ قَلْبَا ثُمَّ ذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِيمَانُهُمْ، وَلَا إِيمَانَ لَهُمْ حَقِيقَةً، بَلْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَاتِّخَاذِهِ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. ثُمَّ كَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ، لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ سِوَاهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِتَمَنِّي الْمَوْتِ، لِأَنَّ مَنِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 إلى 103]

اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى سُرُورٍ وَحُبُورٍ وَلَذَّةٍ دَائِمَةٍ لَا تَنْقَضِي، يُؤْثِرُ الْوُصُولَ إِلَى ذَلِكَ، وَانْقِضَاءَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالنَّكَدِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تَمَنِّيَ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ أَبَدًا، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْجَرَائِمِ، فَظَهَرَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَرْشِيحًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ عَدَمِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ، أَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى حَيَاةٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَوَدُّ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَعْمِيرُهُ، وَإِنْ طَالَ، لَيْسَ بِمُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، وَمُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا. وَتَبَيَّنَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ فَرْطِ كَذِبِهِمْ، وَتَنَاقُضِ أفعالهم وأقوالهم، ونقض عُقُولِهِمْ، وَكَثْرَةِ بُهْتِهِمْ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَلَكَ بنا أنهج المسالك. [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 103] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

جِبْرِيلُ: اسْمُ مَلَكٍ عَلَمٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ، لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَرُوتِ اللَّهِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبَ الْإِضَافَةِ. وَمَعْنَى جِبْرِ: عَبْدٌ وَإِيلَ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يَدْخُلُهُ الِاشْتِقَاقُ الْعَرَبِيُّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ الْإِضَافَةِ لَكَانَ مَصْرُوفًا. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَالَ: جِبْرٌ، مِثْلَ: عَبْدٍ وإيل، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ حَضْرَمَوْتَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. يَعْنِي أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ الْمَزْجِ، فَيَمْنَعُهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ. وليس ما ذكر بصحيح، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ، فَيَلْزَمَ الصَّرْفُ فِي الثَّانِي، وَإِجْرَاءُ الْأَوَّلِ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ، أَوْ لَا يُلْحَظَ، فَيُرَكِّبَهُ تَرْكِيبَ الْمَزْجِ. فَمَا يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ الْمَزْجِ يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَالْإِضَافَةُ وَمَنْعُ الصَّرْفِ، فَكَوْنُهُ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ الْإِضَافَةُ، وَلَا الْبِنَاءُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَزْجِ. وَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ عَلَى عَادَتِهَا فِي تَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، حَتَّى بَلَغَتْ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ لُغَةً. قَالُوا: جِبْرِيلُ: كَقِنْدِيلٍ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ وَحَفْصٍ. وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا ... مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ: وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لَا كِفَاءَ لَهُ ... وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللَّهِ مَأْمُونَا وَقَالَ حَسَّانُ: وجبريل رسول الله فينا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ وَكَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْجِيمَ مَفْتُوحَةٌ، وَبِهَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا أُحِبُّهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلِيلٌ، وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا أَدْخَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا تُلْحِقُهُ بِأَبْنِيَةِ كَلَامِهَا، كَلِجَامٍ، وَمِنْهُ مَا لَا تُلْحِقُهُ بِهَا، كَإِبْرَيْسِمٍ. فَجَبْرِيلُ، بِفَتْحِ الْجِيمِ، مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقِيلَ: جَبْرِيلُ مِثْلُ شَمْوِيلَ، وَهُوَ طَائِرٌ.

وَجِبْرَئِيلُ كَعَنْتَرِيسٍ، وَهِيَ لُغَةُ: تَمِيمٍ، وَقَيْسٍ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. حَكَاهَا الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: هِيَ أَجْوَدُ اللُّغَاتِ. وَقَالَ حَسَّانُ: شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ ... مَدَى الدَّهْرِ إِلَّا جَبْرَئِيلَ أَمَامَهَا وَقَالَ جَرِيرٌ: عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بمحمد ... وبجبرئيل وكذبوا ميكال وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَرَوَاهَا الْكِسَائِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَتُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّ اللَّامَ مُشَدَّدَةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ، عَنْ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ. وَجِبْرَائِيلُ وَجِبْرَايِيلُ، وَقَرَأَ بِهِمَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ. وَجِبْرَالُ وَجِبْرَائِلُ بِالْيَاءِ وَالْقَصْرِ، وَبِهَا قَرَأَ طَلْحَةُ. وَجِبْرَايِيلُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا يَاءَانِ، أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ، وَقَرَأَ بِهَا الْأَعْمَشُ وَابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا. وَجَبْرِينُ وَجِبْرِينُ، وَهَذِهِ لُغَةُ أَسَدٍ. وَجِبْرَائِينُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: جُمِعَ جِبْرِيلُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى جَبَارِيلَ عَلَى اللُّغَةِ الْعَالِيَةِ. أَذِنَ: بِهِ عَلَّمَ بِهِ، وَآذَنَهُ: أَعْلَمَهُ. آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ: أَعْلَمْتُكُمْ. ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّمْكِينِ. أَذِنَ لِي فِي كَذَا: أَيْ مَكَّنَنِي مِنْهُ. وَعَلَى الِاخْتِيَارِ فَعَلْتَهُ بِإِذْنِكَ: أَيْ بِاخْتِيَارِكَ. مِيكَائِيلُ: الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي جِبْرِيلَ، أَعْنِي مِنْ مَنْعِ الصَّرْفِ. وَبَعُدَ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ، أَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى مِيكَا: عَبْدٌ، وَإِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ. قَالُوا: مِيكَالُ، كَمِفْعَالُ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لنا مدد ... فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّ بَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةً، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ شَنَبُوذَ لِقُنْبُلٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَبِهَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُ ابْنِ شَنَبُوذَ لِقُنْبُلٍ وَالْبَزِّيِّ. وَمِيكَيِيلُ كَمِيكَعِيلَ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَاءَ بَعْدَ الهمزة. وقرىء بِهَا: وَمِيكَايِيلُ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ، وَبِهَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ. نَبَذَ الشَّيْءَ، يَنْبِذُهُ نَبْذًا: طَرَحَهُ وَأَلْقَاهُ. الظَّهْرُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُ فِعْلِ الِاسْمِ غَيْرِ الْمُعْتَلِّ الْعَيْنِ عَلَى فُعُولٍ قِيَاسٌ: كَظُهُورٍ، وَعَلَى فَعْلَانَ: كَظَهْرَانَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ. تَقُولُ: ظَهَرَ الشَّيْءُ ظُهُورًا، إِذَا بَدَا. تَلَا يَتْلُو: تَبِعَ. وَتَلَا الْقُرْآنَ: قَرَأَهُ وَتَلَا عَلَيْهِ كَذَبَ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقَالَ

أَيْضًا: تَلَا عَنْهُ صَدَفَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ الصِّلَتَيْنِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ. سُلَيْمَانُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ. وَالْعُجْمَةِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ، فِي أَنَّ فِي آخِرِهِ أَلِفًا وَنُونًا: هَامَانُ، وَمَاهَانُ، وَسَامَانُ، وَلَيْسَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ: كَعُثْمَانَ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَلِفِ وَالنُّونِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ. وَالِاشْتِقَاقُ وَالتَّصْرِيفُ الْعَرَبِيَّانِ لَا يَدْخُلَانِ الْأَسْمَاءَ الْعَجَمِيَّةَ. السِّحْرُ: مَصْدَرُ سَحَرَ يَسْحَرُ سِحْرًا، وَلَا يُوجَدُ مَصْدَرٌ لِفَعَلَ يَفْعَلُ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ إِلَّا سَحَرَ وَفَعَلَ، قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كُلُّ مَا لَطُفَ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ. يُقَالُ سَحَرَهُ: أَبْدَى لَهُ أَمْرًا يَدِقُّ عَلَيْهِ وَيَخْفَى. انْتَهَى. وَقَالَ: أَدَاءٌ عَرَانِي مِنْ حَبَائِكَ أَمْ سِحْرُ وَيُقَالُ سَحَرَهُ: خَدَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَرَانَا مَوْضِعِينَ لِأَمْرِ عيب ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ أَيْ نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَدْلُولِ السِّحْرِ فِي الْآيَةِ. بَابِلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، اسْمُ أَرْضٍ، وَسَيَأْتِي تَعْيِينُهَا. هَارُوتُ وَمَارُوتُ: اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَدْلُولِهِمَا، وَيُجْمَعَانِ عَلَى: هَوَارِيتَ وَمَوَارِيتَ، وَيُقَالُ: هَوَارِتَةُ وَمَوَارِتَةُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ: طَالُوتُ وَجَالُوتُ. الْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ. فَتَنَ يَفْتِنُ فُتُونًا وَفِتْنَةً. الْمَرْءُ: الرَّجُلُ، وَالْأَفْصَحُ فَتْحُ الْمِيمِ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ الضَّمُّ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ إِتْبَاعُ حَرَكَةِ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ فَتَقُولُ: قَامَ الْمُرْءُ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَرَأَيْتُ الْمَرْءَ: بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَمَرَرْتُ بِالْمِرْءِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَمُؤَنَّثُهُ الْمَرْأَةُ. وَقَدْ جَاءَ جَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، قَالُوا: الْمَرْءُونَ. الضَّرَرُ وَالنَّفْعُ مَعْرُوفَانِ، وَيُقَالُ: ضَرَّ يَضُرُّ، بِضَمِّ الضَّادِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمُضَعَّفِ الْمُتَعَدِّي وَمَصْدَرُهُ: الضُّرُّ وَالضَّرُّ وَالضَّرَرُ، وَيُقَالُ: ضَارَ يَضِيرُ، قَالَ: يَقُولُ أناس لا يضيرك نابها ... بَلَى كُلُّ مَا شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيرُهَا وَيُقَالُ: نَفَعَ يَنْفَعُ نَفْعًا. وَرَأَيْتُ فِي شَرْحِ الْمُوجَزِ، الَّذِي لِلرُّمَّانِيِّ فِي النَّحْوِ، وَهُوَ تَأْلِيفُ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْأَهْوَازِيُّ، وَلَيْسَ بِأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ الْمُقْرِي، أَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْهُ اسْمُ مَفْعُولٍ نَحْوُ مَنْفُوعٍ، وَالْقِيَاسُ النَّحْوِيُّ يَقْتَضِيهِ. الْخَلَاقُ، فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ: لَكِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، قَالَ: يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ فِيهَا لَا خَلَاقَ لَهُمْ ... إِلَّا السَّرَابِيلُ مِنْ قُطْرٍ وَأَغْلَالِ وَالْخَلَاقُ: الْقَدْرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ ... وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلَاقِ مَثُوبَةٌ: مَفْعَلَةٌ مِنَ الثَّوَابِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الثَّاءِ، وَيُقَالُ مَثُوبَةٌ. وَكَانَ قِيَاسُهُ الْإِعْلَالَ فَتَقُولُ: مَثَابَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ صَحَّحُوهُ كَمَا صَحَّحُوا فِي الْأَعْلَامِ مُكَوَّرَةً، وَنَظِيرُهُمَا فِي الْوَزْنِ مِنَ الصَّحِيحِ: مَقْبَرَةٌ وَمَقْبُرَةٌ. قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: جِبْرِيلُ عَدُّونَا، وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَهَلْ كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ مُحَاوَرَتَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ مُحَاوَرَتَهُمْ مَعَ عُمَرَ؟ وَمُلَخَّصُ الْعَدَاوَةِ: أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَأْتِي بِالْهَلَاكِ وَالْخَسْفِ وَالْجَدْبِ، وَلَوْ كَانَ مِيكَالُ صَاحِبَ مُحَمَّدٍ لَاتَّبَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْخِصْبِ وَالسِّلْمِ، وَلِكَوْنِهِ دَافَعَ عَنْ بُخْتَ نَصَّرَ حِينَ أَرَدْنَا قَتْلَهُ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَهْلَكَنَا، وَلِكَوْنِهِ يُطْلِعُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِرِّنَا. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ: الْجُمْلَةُ بَعْدُ وَمَنْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَدَاوَةُ، التَّجَاوُزُ وَمُنَافَاةُ الِالْتِئَامِ. فَبِالْقَلْبِ يُقَالُ الْعَدَاوَةُ، وَبِالْمَشْيِ يُقَالُ الْعَدُوُّ، وَبِالْإِخْلَالِ فِي الْعَدْلِ يُقَالُ الْعُدْوَانُ، وَبِالْمَكَانِ أَوِ النَّسَبِ يُقَالُ قَوْمٌ عِدًى، أَيْ غُرَبَاءُ. فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ: لَيْسَ هَذَا جَوَابَ الشَّرْطِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَلَوْ قُلْتَ: مَنْ يُكْرِمُنِي؟ فَزَيْدٌ قَائِمٌ، لَمْ يَجُزْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، لَيْسَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ جَزَاءٌ لِلشَّرْطِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَلِمُضِيِّ فِعْلِ التَّنْزِيلِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَزَاءً، وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: فَعَدَاوَتُهُ لَا وَجْهَ لَهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا التَّقْدِيرَ. وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ، وَالضَّمِيرُ فِي نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ؟ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَلِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَفِي نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ، التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِكَ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ إِضْمَارٌ يَعُودُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْمَعْنَى. لَكِنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِيَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «1» ، وَيَنْظُرُ لِلتَّقْدِيرِ الثَّانِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: نَزَّلَ بِالتَّشْدِيدِ، وَالرُّوحَ بِالنَّصْبِ. وَمُنَاسَبَةُ دَلِيلِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ هُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ عدوا لجبريل،

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 193 و 194.

فَعَدَاوَتُهُ لَا وَجْهَ لَهَا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لِلْكُتُبِ، وَالْهَادِي وَالْمُبَشِّرِ، كَمَنْ آمَنَ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَبَّ وَيُشْكَرَ، إِذْ كَانَ بِهِ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالتَّنْوِيهِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، أَوْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَسَبَبُ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْقُرْآنَ الْمُصَدِّقَ لِكِتَابِهِمْ، وَالْمُلْزِمَ لَهُمُ اتِّبَاعَكَ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ حَرَّفُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَاتِكَ، وَمِنْ أَخْذِ الْعُهُودِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، بِأَنْ يَتَّبِعُوكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ: أَنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ مُوجِبٌ لِعَدَمِ الْعَدَاوَةِ، وَالتَّقْدِيرَ الثَّانِيَ كَأَنَّهُ كَالْعُذْرِ لَهُمْ فِي الْعَدَاوَةِ كَقَوْلِكَ: إِنْ عَادَاكَ زَيْدٌ، فَقَدْ آذَيْتَهُ وَأَسَأْتَ إِلَيْهِ. عَلى قَلْبِكَ: أَتَى بِلَفْظِ عَلَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَعْلٍ عَلَى الْقَلْبِ، إِذِ الْقَلْبُ سَامِعٌ لَهُ وَمُطِيعٌ، يَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَا نَهَى عَنْهُ. وَكَانَتْ أَبْلَغَ مِنْ إِلَى، لِأَنَّ إِلَى تَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ فَقَطْ، وَعَلَى تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ. وَمَا اسْتَعْلَى عَلَى الشَّيْءِ يَضْمَنُ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهِ. وَخُصَّ الْقَلْبُ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَيْكَ، لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَتَلَقِّي الْوَارِدَاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ صَحِيفَتُهُ الَّتِي يُرْقَمُ فِيهَا، وَخِزَانَتُهُ الَّتِي يُحْفَظُ فِيهَا، أَوْ لِأَنَّهُ سُلْطَانُ الْجَسَدِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» . ثُمَّ قَالَ أَخِيرًا: «أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . أَوْ لِأَنَّ الْقَلْبَ خِيَارُ الشَّيْءِ وَأَشْرَفُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَنَّى بِهِ عَنِ الْعَقْلِ إِطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ بِهِ، أَوْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، إِذْ قَدْ ذُكِرَ الْإِنْزَالُ عَلَيْهِ فِي أَمَاكِنَ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1» وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «2» ، أَوْ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِبَعْضِ الشَّيْءِ عَلَى كُلِّهِ، أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ. وَأَضَافَ الْقَلْبَ إِلَى الْكَافِ الَّتِي لِلْخِطَابِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرًا، لِأَنَّ قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مُضْمَرٍ، التَّقْدِيرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ قَالَ اللَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ. وَإِلَى هَذَا نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: جَاءَتْ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: قل مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ مِنْ قَوْلِي: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، وَكَلَامُهُ فِيهِ تَثْبِيجٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْسُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُحْرِزَ اللَّفْظَ الَّذِي يَقُولُهُ الْمَأْمُورُ بِالْقَوْلِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقْصِدَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ، فَيَسْرُدَهُ مُخَاطَبَةً لَهُ، كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِقَوْمِكَ لَا يُهِينُوكَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جَوَّ سُوَيْقَةٍ ... دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هنيدة ماليا

_ (1) سورة طه: 20/ 2. (2) سورة النساء: 4/ 113. [.....]

فَأَحْرَزَ الْمَعْنَى، وَنَكَبَ عَنْ نِدَاءِ هُنَيْدَةَ مَالَكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةٌ مَعْمُولَةً لِلَّفْظِ: قُلْ، لَا لِقَوْلٍ: مُضْمَرٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ، اخْتَارَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ وَمِنْهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ «1» ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ «3» ، أَوْ بِعِلْمِهِ وَتَمْكِينِهِ إِيَّاهُ مِنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَوْ بِاخْتِيَارِهِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، أَوْ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْهِيلِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: انْتِصَابُ مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَزَّلَهُ، إِنْ كَانَ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ عَادَ عَلَى جِبْرِيلَ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ الْمَحْذُوفِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ مُصَدِّقًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جِبْرِيلَ. وَمَا: فِي لِمَا مَوْصُولَةٌ، وَعَنَى بِهَا الْكُتُبَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَ إِنْزَالِهِ، أَوِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَالْهَاءُ: فِي بَيْنَ يَدَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ عَلَى جِبْرِيلَ. فَالْمَعْنَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. وَهُدىً وَبُشْرى: مَعْطُوفَانِ عَلَى مُصَدِّقًا، فَهُمَا حَالَانِ، فَيَكُونُ مِنْ وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَهَادِيًا وَمُبَشِّرًا، أَوْ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ بِهِ الْهُدَى وَالْبُشْرَى، جُعِلَ نَفْسَ الْهُدَى وَالْبُشْرَى. وَالْأَلِفُ فِي بُشْرَى لِلتَّأْنِيثِ، كَهِيَ فِي رُجْعَى، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «4» فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِتَصْدِيقِهِ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهُ هُدًى، إِذْ فِيهِ بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَأَنَّهُ بُشْرَى لِمَنْ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى. فَصَارَ هَذَا التَّرْتِيبُ اللَّفْظِيُّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِكَوْنِ مَدْلُولَاتِهَا تَرَتَّبَتْ تَرْتِيبًا وُجُودِيًّا. فَالْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُتُبَ كُلَّهَا مِنْ يَنْبُوعٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْهِدَايَةَ حَصَلَتْ بِهِ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بُشْرَى لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ بِهِ الْهِدَايَةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ وَبُشْرَى بِالْجَنَّةِ. لِلْمُؤْمِنِينَ: خَصَّ الْهُدَى وَالْبُشْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ هُدًى بِهِ وَلَا بُشْرَى، كَمَا قَالَ: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «5» ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمُبَشَّرُونَ، فَبَشِّرْ عِبادِ «6» ،

_ (1) سورة هود: 11/ 105. (2) سورة البقرة: 2/ 255. (3) سورة مريم: 19/ 64. (4) سورة البقرة: 2/ 25. (5) سورة فصلت: 41/ 44. (6) سورة الزمر: 39/ 17.

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ «1» . وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَعْظِيمِ جِبْرِيلَ وَالتَّنْوِيهِ بِقَدْرِهِ، حَيْثُ جَعَلَهُ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ أَشْرَفِ خَلْقِهِ، وَالْمُنَزَّلَ بِالْكِتَابِ الْجَامِعِ لِلْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ. وَدَلَّتْ عَلَى ذَمِّ الْيَهُودِ حَيْثُ أَبْغَضُوا مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعَلَّقَتْ بِهَا الْبَاطِنِيَّةُ، وَقَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ إِلْهَامٌ وَالْحُرُوفَ عِبَارَةُ الرَّسُولِ. وَرُدَّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بِنَظْمِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ وَحْيًا وَكِتَابًا وَعَرَبِيًّا، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهِ، وَالْمُلْهَمُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جِبْرِيلَ. مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ: الْعَدَاوَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَالْعَبْدِ لَا تَكُونُ حَقِيقَةً، وَعَدَاوَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، وَمَعْنَاهَا: مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَعَدَاوَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، مُجَازَاتُهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَمَلَائِكَتِهِ، أَمْرَ جِبْرِيلَ، إِذِ الْيَهُودُ قَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ عَدُوُّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِكَوْنِهِ يَأْتِي بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، بِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْخُيُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْجَامِعُ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِكُتُبِهِمْ، وَكَوْنِهِ هُدًى وَبُشْرَى، فَكَانَتْ تَجِبُ مَحَبَّتُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنْ قَرَنَهُ بِاسْمِهِ تَعَالَى مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ مَلَائِكَتِهِ، ثُمَّ ثَانِيًا تَحْتَ عُمُومِ رُسُلِهِ، لِأَنَّ الرُّسُلَ تَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ أُرْسِلَ مِنْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ ثَالِثًا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا مَعَ مَنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ، وَهُوَ مِيكَالُ، فَصَارَ مَذْكُورًا فِي هذه الآية ثلاث مرار، كُلُّ ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَذَمٌّ لَهُمْ، وَتَنْوِيهٌ بِجِبْرِيلَ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدُوٌّ لِمَنْ عَادَى اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ. وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ جَمَعَ عَدَاوَةَ الْجَمِيعِ، فَاللَّهُ تَعَالَى عَدُوُّهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَادَى وَاحِدًا مِمَّنْ ذُكِرَ، فَاللَّهُ عَدُوُّهُ، إِذْ مُعَادَاةُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ مُعَادَاةٌ لِلْجَمِيعِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَبْغَضَ رَسُولًا أَوْ مَلَكًا فَقَدْ كَفَرَ. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْوَاوُ هُنَا بِمَعْنَى أَوْ، وَلَيْسَتْ لِلْجَمْعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاوُ لِلتَّفْصِيلِ، وَلَا يُرَادُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ عَلَى الْجِنْسِ بِصُورَةِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ كَلَّمْتِ الرِّجَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِنْ كَلَّمْتِ كُلَّ الرِّجَالِ، وَلَا أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْجَمْعِ، فَلَوْ كَلَّمَتْ رَجُلًا وَاحِدًا طُلِّقَتْ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْجَمْعُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَادَى اللَّهَ، أَوْ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ رَسُولًا مِنْ رُسُلِهِ، فالله عدوّ له.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 21.

وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِافْتِتَاحُ بِاسْمِ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «1» ، وَخَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمَا وَتَفْضِيلًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عن أستاذنا أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن الزُّبَيْرِ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي لَنَا هَذَا النَّوْعَ بِالتَّجْرِيدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومٍ، ثُمَّ تُفْرِدَهُ بِالذِّكْرِ، وَذَلِكَ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهِ دُونَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ. فَجِبْرِيلَ وَمِيكَالُ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، وَنَزَلَ التَّغَايُرُ فِي الْوَصْفِ كَالتَّغَايُرِ فِي الْجِنْسِ، فَعُطِفَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَطْفِ، أَعْنِي عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا الْوَاوُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ. وَقِيلَ: خُصَّا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ ذكرهما، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمَا. فَلَوْ لَمْ يُذْكَرَا، لَكَانَ لِلْيَهُودِ تَعَلُّقٌ بِأَنْ يَقُولُوا: لَمْ نُعَادِ اللَّهَ؟ وَلَا جَمِيعَ مَلَائِكَتِهِ؟ وَقِيلَ: خُصَّا بِالذِّكْرِ دَفْعًا لِإِشْكَالِ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكُفْرِ عَدَاوَةُ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، لَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَابْتُدِئَ بِذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّسُلِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. فَهَذَا تَرْتِيبٌ بِحَسَبِ الْوَحْيِ. وَلَا يَدُلُّ تَقْدِيمُ الْمَلَائِكَةِ فِي الذِّكْرِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَى رُسُلِ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ تَرْتِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَسَائِطِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّفْضِيلِ. وَيَأْتِي قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيَّ: بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالُوا: وَاخْتِصَاصُ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمَا أَشْرَفَ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالُوا: جِبْرِيلَ أَفْضَلُ مِنْ مِيكَالَ، لِأَنَّهُ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ، وَلِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ مَادَّةُ الْأَرْوَاحِ. وَمِيكَالُ يَنْزِلُ بِالْخِصْبِ وَالْأَمْطَارِ، وَهِيَ مَادَّةُ الْأَبْدَانِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ أَشْرَفُ مِنْ غِذَاءِ الْأَشْبَاحِ، انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ تَفْضِيلُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ إِلَى نَصٍّ جَلِيٍّ وَاضِحٍ، وَالتَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي. وَمَنْ: فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ عَدُوًّا شَرْطِيَّةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَابِ فَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ كَافِرٌ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ الْجَوَابُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، وَأَتَى بِاسْمِ اللَّهِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يَأْتِ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ فَيَنْقَلِبَ الْمَعْنَى، أَوْ عَائِدٌ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ مِيكَالُ، فَأَظْهَرَ الِاسْمَ لِزَوَالِ اللَّبْسِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا فَخَّمَتْ شَيْئًا كَرَّرَتْهُ بِالِاسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَهُ وَمِنْهُ: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «2» ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «3» ، وقول الشاعر:

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 41. (2) سورة الحج: 22/ 60. (3) سورة الحج: 22/ 40.

لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الموت شيا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ خَبَرًا لِلشَّرْطِ، تَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِاسْمِ الشَّرْطِ. وَالرَّابِطُ هُنَا الِاسْمُ الظَّاهِرُ وَهُوَ: الْكَافِرِينَ، أُوقِعَ الظَّاهِرُ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِتَوَاخِي أَوَاخِرِ الْآيِ، وَلِيَنُصَّ عَلَى عِلَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ الْكُفْرُ، إِذْ مَنْ عَادَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ. أَوْ يُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْعُمُومُ، فَيَكُونُ الرَّابِطُ الْعُمُومَ، إِذِ الْكُفْرُ يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِهَذَا الشَّيْءِ الْخَاصِّ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، فَيَحْصُلُ الرَّبْطُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَدُوٌّ للكافرين، أراد عدوّ لَهُمْ، فَجَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ. وَإِذَا كَانَتْ عَدَاوَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا، فَمَا بَالُ الْمَلَائِكَةِ؟ وَهُمْ أَشْرَفُ. وَالْمَعْنَى: مَنْ عَادَاهُمْ عَادَاهُ اللَّهُ وَعَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعِقَابِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ بَنِي آدَمَ. وَدَلَّ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ وَقَعَ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْعُمُومُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ بِعُمُومِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى مَنْ يُشْكِلُ، سَوَاءٌ أَفْرَدْتَهُ أَوْ جَمَعْتَهُ، وَلَوْ لَمْ يُبَالِ بِالْإِشْكَالِ. وَقُلْنَا: الْمَعْنَى يَدُلُّ السَّامِعَ عَلَى الْمَقْصِدِ لَلَزِمَ تَعْيِينُ قَوْمٍ بِعَدَاوَةِ اللَّهِ لَهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنِ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ عَدَاوَةُ اللَّهِ لِلْمَآلِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ نَطَقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُجَاوِبًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ عَدُوُّنَا، يَعْنِي جِبْرِيلَ، فَنَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْخَبَرُ ضَعِيفٌ. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا، فِيمَا ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ، أَنَّ ابْنَ صُورِيَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: مَا جِئْتَ بِآيَةٍ بَيِّنَةٍ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ فَنَتَّبِعَكَ لَهَا، فَنَزَلَتِ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى جُمَلًا مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ وَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مُعَادَاتِهُمْ لِجِبْرِيلَ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ إِنْكَارَهُمْ لِمَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجْحَدُ نُزُولَهَا إِلَّا كُلُّ فَاسِقٍ، وَذَلِكَ لِوُضُوحِهَا. وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، أَيِ الْقُرْآنُ، أَوِ الْمُعْجِزَاتُ الْمَقْرُونَةُ بِالتَّحَدِّي، أَوِ الْإِخْبَارُ عَمَّا خَفِيَ وَأُخْفِيَ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، أَوِ الشَّرَائِعُ، أَوِ الْفَرَائِضُ، أَوْ مَجْمُوعُ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ غَيْرَ مُعَيَّنٍ شَيْءٌ مِنْهَا، وَعُبِّرَ عَنْ وُصُولِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بِالْإِنْزَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى مَا دُونَهُ. وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ: الْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ هُنَا: الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ كُفْرَ آيَاتِ اللَّهِ

تَعَالَى هُوَ مِنْ بَابِ فِسْقِ الْعَقَائِدِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فِسْقِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا اسْتُعْمِلَ الْفِسْقُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقَعَ عَلَى أَعْظَمِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَنَاسَبَ قَوْلُهُ: بَيِّنَاتٍ لَفْظَ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّغْطِيَةُ، لِأَنَّ الْبَيِّنَ لَا يَقَعُ فِيهِ إِلْبَاسٌ، فَعَدَمُ الْإِيمَانِ بِهِ لَيْسَ لِشُبْهَةٍ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْطِيَةٌ وَسَتْرٌ لِمَا هُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ. وَسَتْرُ الْوَاضِحِ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مُتَمَرِّدٍ فِي فِسْقِهِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْفَاسِقُونَ، إِمَّا لِلْجِنْسِ، وَإِمَّا لِلْعَهْدِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ. وَكَنَّى بِالْفِسْقِ هُنَا عَنِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ: خُرُوجُ الْإِنْسَانِ عَمَّا حُدَّ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَعْظَمِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْمَبَالِغُ فِي كُفْرِهِ، الْمُنْتَهِي فِيهِ إِلَى أَقْصَى غَايَةٍ. وَإِلَّا الْفَاسِقُونَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا أَحَدٌ، فَنَفَى أَنْ يَكْفُرَ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَاتِ أَحَدٌ. ثُمَّ اسْتَثْنَى الْفُسَّاقَ مِنْ أَحَدٍ، وَأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهَا. وَيَجُوزُ فِي مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ أَنْ يُنْصَبَ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَأَجَازَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدًا، عَلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَمْ يُحْذَفْ، لَجَازَ النَّصْبُ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ الْبَصْرِيُّونَ. أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُخِذَ عَلَيْنَا عَهْدٌ فِي كِتَابِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِيثَاقٌ. وَقِيلَ فِي الْيَهُودِ: عَاهَدُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنَكُونَنَّ مَعَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعُهُودُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ نَقَضُوهَا، كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ «1» . وَقَرَأَ الجمهور: أو كلما، بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْوَاوِ فَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: هِيَ أَوْ السَّاكِنَةُ الْوَاوِ، حركت بِالْفَتْحِ، وَهِيَ بِمَعْنَى بَلْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: وَاوُ الْعَطْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْوَاوِ، وَالْفَاءِ، وَثُمَّ، عَلَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ. وَإِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، مُقَدَّرًا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ هُنَا أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؟ وَكُلَّما عاهَدُوا «2» . وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ اخْتِيَارِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . وَالْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ: الْإِنْكَارُ، وَإِعْظَامُ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَكَرُّرِ عُهُودِهِمْ وَنَقْضِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُمْ وَسَجِيَّةً. فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَرَثَ بِأَمْرِهِمْ، وَأَنْ لَا يَصْعُبَ ذَلِكَ، فَهِيَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، إذ كفروا بما أنزل

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 56. (2) سورة البقرة: 2/ 100.

عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْدَنًا لِلشَّخْصِ وَخُلُقًا، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَفَلَ بِأَمْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوْ كُلَّمَا بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ عَلَى الْفَاسِقِينَ، وَقَدَّرَهُ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الَّذِينَ فَسَقُوا، أَوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِرَارًا كَثِيرَةً. وَخَرَّجَهُ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ أَوْ لِلْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى غَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ، لِأُعَاقِبَنَّكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَوْ يُحْسِنُ اللَّهُ رَأْيَكَ، أَيْ بَلْ يُحْسِنُ الله رَأْيَكَ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، إِذْ يَكُونُ أَوْ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ بَلْ. وَأَنْشَدُوا شَاهِدًا عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى قَوْلَ الشَّاعِرِ: بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وصورتها أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ وقد جاءت أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ وَقَوْلِهِ: صُدُورُ رِمَاحٍ أُشْرِعَتْ أَوْ سَلَاسِلُ يُرِيدُ: وَشَافِعٌ وَسَلَاسِلُ. وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ: فِي قَوْلِهِ خَطِيئَةً، أَوْ إثما، أن المعنى: وإثما فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُخَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ: أو كلما عُوهِدُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. وَانْتِصَابُ عَهْدًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصدر، أَيْ مُعَاهَدَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى تَضْمِينِ عَاهَدَ مَعْنَى: أَعْطَى، أَيْ أعطوا عهدا. وقرىء: عَهِدُوا، فَيَكُونُ عَهْدًا مَصْدَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. مَا الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. نَبَذَهُ: طَرَحَهُ، أَوْ نَقَضَهُ، أَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، أَوِ اعْتَزَلَهُ، أَوْ رَمَاهُ. أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَنِسْبَةُ النَّبْذِ إِلَى الْعَهْدِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعْنًى، وَالنَّبْذَ حَقِيقَةٌ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَجَسِّدَاتِ: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «1» ، إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا «2» ، فَنَبَذَ خَاتَمَهُ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ «3» . فَرِيقٌ مِنْهُمْ: الْفَرِيقُ اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ، يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وقرأ

_ (1) سورة القصص: 28/ 40. (2) سورة مريم: 19/ 16. [.....] (3) سورة القلم: 68/ 49.

عَبْدُ اللَّهِ: نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفُ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونَ أَكْثَرُهُمْ مُبْتَدَأً، وَلَا يُؤْمِنُونَ خبر عَنْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي أَكْثَرِهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي عَاهَدُوا، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِضْرَابِ هُوَ: انْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَيَكُونُ الْأَكْثَرُ عَلَى هَذَا وَاقِعًا على ما لا يَقَعُ عَلَيْهِ الْفَرِيقُ، كَأَنَّهُ أَعَمُّ، لِأَنَّ مَنْ نَبَذَ الْعَهْدَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلِ الْفَرِيقُ الَّذِي نَبَذَ الْعَهْدَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَيَكُونَ أَكْثَرُهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى فَرِيقٍ، أَيْ نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ، جُمْلَةً حَالِيَّةً، الْعَامِلُ فِيهَا نَبَذَهُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ أَكْثَرُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْفَرِيقُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَأُسْنِدَ النَّبْذُ إِلَيْهِ، كَانَ فِيمَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّابِذُونَ قَلِيلًا، فَبَيَّنَ أَنَّ النَّابِذِينَ هُمُ الْأَكْثَرُ، وَصَارَ ذِكْرُ الْأَكْثَرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْيَسِيرُ مِنْهُمْ، فَكَانَ هَذَا إِضْرَابًا عَمَّا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْفَرِيقِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْقَلِيلِ. وَالضَّمِيرُ فِي أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقِ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ، ذَكَرَ الْأَكْثَرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالنَّبْذِ، أَوْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ آمَنَ، وَمَنْ آمَنَ فَمَا نَبَذَ الْعَهْدَ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ: الضَّمِيرُ فِي جَاءَهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى عُلَمَائِهِمْ، وَالرَّسُولُ، محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، أَوْ مَعْنَاهُ الرِّسَالَةُ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا، كَمَا فَسَّرُوا بِذَلِكَ قَوْلَهُ: لَقَدْ كَذَبَ الواشون ما بحت عندهم ... بِلَيْلَى وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أَيْ بِرِسَالَةٍ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْيَهُودِ إِنَّمَا سِيقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ قل، وفَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى اسْمٍ غَائِبٍ، وَوُصِفَ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ: تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، إِذِ الرَّسُولُ عَلَى قَدْرِ الْمُرْسَلِ. ثُمَّ وُصِفَ أَيْضًا بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، قَالُوا: وَتَصْدِيقُهُ أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ تَصْدِيقُهُ عَلَى قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ، أَوْ تَصْدِيقُهُ: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ الَّذِي مَعَهُمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُوسَى، أَوْ تَصْدِيقُهُ: إِظْهَارُ مَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنْ غَوَامِضِ

التَّوْرَاةِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَإِذَا فُسِّرَ بِعِيسَى، فَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِالتَّوْرَاةِ، وَإِذَا فُسِّرَ بِالرِّسَالَةِ، فَنِسْبَةُ الْمَجِيءِ وَالتَّصْدِيقِ إِلَى الرِّسَالَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُصَدِّقًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَحَسَّنَ مَجِيئَهَا مِنَ النَّكِرَةِ كَوْنُهَا قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» . لِما مَعَهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، كَزَبُورِ دَاوُدَ، وَصُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي يُؤْمِنُونَ بِهَا. نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَأُوتُوا، عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَمَفْعُولٌ أَوَّلٌ عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ. كِتابَ اللَّهِ: هُوَ مَفْعُولٌ بِنَبَذَ. فَقِيلَ: كتاب الله هو التوراة. وَمَعْنَى نَبْذِهِمْ لَهُ: اطِّرَاحُ أَحْكَامِهِ، أَوِ اطِّرَاحُ مَا فِيهِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذِ الْكُفْرُ بِبَعْضٍ، كُفْرٌ بِالْجَمِيعِ. وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ، وَنَبْذُهُمْ لَهُ: اطِّرَاحُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَهَذَا أَظْهَرُ، إِذِ الْكَلَامُ مَعَ الرَّسُولِ. فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُصَدِّقُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهُمْ بِالْعَكْسِ، يُكَذِّبُونَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَطْرَحُونَهُ. وَأَضَافَ الْكِتَابَ إِلَى اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَمَا أَضَافَ الرَّسُولَ إِلَيْهِ بِالْوَصْفِ السَّابِقِ، فَصَارَ ذَلِكَ غَايَةً فِي ذَمِّهِمْ، إِذْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِكِتَابِهِ الْمُصَدِّقِ لِكِتَابِهِمْ، وَهُوَ شَاهِدٌ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ، فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ، وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ جُمْلَةً. تَقُولُ الْعَرَبُ: جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَدُبُرَ أُذُنِهِ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: تَمِيمُ بْنَ مُرٍّ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ وَلَا يَعْيَا عَلَيْكَ جَوَابُهَا وَقَالَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا جُعِلَ وَرَاءَ الظَّهْرِ فَلَا يُمْكِنُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «2» . وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: النَّبْذُ وَالطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ مُتَقَارِبَةٌ، لَكِنَّ النَّبْذَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِيمَا يَئِسَ، وَالطَّرْحُ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْمَبْسُوطِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَالْإِلْقَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مُلَاقَاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ فَرِيقٌ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ نَبَذَ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَنْ يَعْلَمُ بِمَنْ يَجْهَلُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ لَا يَحْفُلُ بِهِ وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ. وَمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ، لَا يُدَاخِلُهُمْ فِيهِ شَكٌّ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَتَحَقُّقِهِ، وَإِنَّمَا نَبَذُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 79. (2) سورة هود: 11/ 92.

وَالْعِنَادِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ بين أيديهم يقرأونه، وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا الْعَمَلَ بِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ أَدْرَجُوهُ فِي الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَحَلَّوْهُ بِالذَّهَبِ، وَلَمْ يُحِلُّوا حَلَالَهُ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا حَرَامَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كُتُبُ اللَّهِ، وَأَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا حَقٌّ، وَالْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ. وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، مَعْنَى اتَّبَعُوا: أَيِ اقْتَدَوْا بِهِ إِمَامًا، أَوْ فَضَّلُوا، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ شَيْئًا فَضَّلَهُ، أَوْ قَصَدَ وَاوَ الضَّمِيرِ فِي وَاتَّبَعُوا لِلْيَهُودِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ: يَعُودُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الْيَهُودِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ إِلَى آخِرِهَا، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّبَعَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَا أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى مَجِيءِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، بِخِلَافِ نَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَجِيءِ الرَّسُولِ. وَتَتْلُو: تَتَبِّعُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ تَدَّعِي، أَوْ تَقْرَأُ، أَوْ تُحَدِّثُ، قَالَهُ عَطَاءٌ، أَوْ تَرْوِي، قَالَهُ يَمَانٌ، أَوْ تَعْمَلُ، أَوْ تَكْذِبُ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا تَتْلُو، وَهُوَ مُضَارِعٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِي، أَيْ مَا تَلَتْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَعْنَى: مَا كَانَتْ تَتْلُو، لَا يُرِيدُونَ أَنَّ صِلَةَ مَا مَحْذُوفَةٌ، وَهِيَ كَانَتْ وَتَتْلُو، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّ الْمُضَارِعَ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، هُوَ إِخْبَارٌ بِقِيَامِ زَيْدٍ، وَهُوَ مَاضٍ لِدَلَالَةِ كَانَ عَلَيْهِ. وَالشَّيَاطِينُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ الشَّيْطَانُ، تَبَادَرَ الذِّهْنُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْجَانِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الشَّيَاطُونَ، بِالرَّفْعِ بِالْوَاوِ، هُوَ شَاذٌّ، قَاسَهُ عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: بُسْتَانُ فُلَانٍ حَوْلَهُ بَسَاتُونَ، رَوَاهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْجِنَّ فَاحِشٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: شَبَّهَ فِيهِ الْيَاءَ قَبْلَ النُّونِ بِيَاءِ جَمْعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْغَلَطِ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: خَطَّأَهُ الْخَازَرْبَجِيُّ. عَلَى مُلْكِ: مُتَعَلِّقٌ بِتَتْلُو، وَتَلَا يَتَعَدَّى بِعَلَى إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُهَا يُتْلَى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: يُتْلَى عَلَى زَيْدٍ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ الْمُلْكُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَخْصًا يُتْلَى عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ عَلَى تَكُونُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ تَتْلُو فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا:

لَا تَكُونُ عَلَى فِي مَعْنَى فِي، بَلْ هَذَا مِنَ التَّضْمِينِ فِي الْفِعْلِ ضُمِّنَ تَتَقَوَّلُ، فَعُدِّيَتْ بِعَلَى لِأَنَّ تَقَوَّلَ: تُعَدَّى بِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا «1» وَمَعْنَى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أَيْ شَرْعِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَحَالِهِ. وَقِيلَ: عَلَى عَهْدِهِ، وَفِي زَمَانِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ. وَقِيلَ: عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ آلَاتِ مُلْكِهِ. وَفَسَّرُوا مَا يَتْلُو الشَّيَاطِينُ بِالسِّحْرِ، قَالُوا: وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَظْهَرُ عَلَى مَا نُقِلَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، مِنْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَتَبَتِ السِّحْرَ وَاخْتَلَقَتْهُ وَنَسَبَتْهُ إِلَى سُلَيْمَانَ وَآصَفَ. وَقِيلَ: الَّذِي تَلَتْهُ هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي تُضِيفُهُ إِلَى مَا تَسْتَرِقُ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَأَضَافُوا ذَلِكَ إِلَى سُلَيْمَانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ مَا يَتْلُونَهُ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ: مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِظْهَارِ الْخَوَارِقِ، وَتَسْخِيرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَتَقْرِيبِ الْمُتَبَاعِدَاتِ، وَتَأْلِيفِ الْخَوَاطِرِ، وَتَكْلِيمِ الْعَجْمَاوَاتِ، كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا. وَالسَّاحِرُ يَدَّعِي أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ: مِنْ تَسْخِيرِ الْجِنِّ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْخَوَاطِرِ، بَلْ وَيَدَّعِي قَلْبَ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى السِّحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا حَصَلَ بِالسِّحْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّاتِ مَا رَتَّبُوهُ مِنْ هَذَا الَّذِي تَلَوْهُ قِصَصًا كَثِيرَةً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَلَا الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الصَّحِيحُ لِشَيْءٍ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ: تَنْزِيهٌ لِسُلَيْمَانَ عَنِ الْكُفْرِ، أَيْ لَيْسَ مَا اخْتَلَقَتْهُ الْجِنُّ مِنْ نِسْبَةِ مَا تَدَّعِيهِ إِلَى سُلَيْمَانَ تَعَاطَاهُ سُلَيْمَانُ، لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَمَنْ نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَضْلًا عَنِ الْكُفْرِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نَفْيِ الشَّيْءِ عَمَّنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ يَكُونُ كُفْرًا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ نَسَبُوا إِلَيْهِ الْكُفْرَ مَعَ السِّحْرِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ: انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَاتِ أَنَّ أَحَدًا نَسَبَ سُلَيْمَانَ إِلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ نَزَلَتْ فِي السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ الْيَهُودَ نَسَبَتْهُ إِلَى السِّحْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا: كُفْرُهُمْ، إِمَّا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَإِمَّا تَعَلُّمِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِتَكْفِيرِهِمْ سُلَيْمَانَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَاسْتِعْمَالُ لَكِنَّ هَنَا حَسَنٌ، لِأَنَّهَا بَيْنَ نَفْيٍ وإثبات. وقرىء: وَلَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَجِبُ إِعْمَالُهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وابن

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 44.

كثير وأبي عمرو. وقرىء: بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرَفْعِ مَا بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَإِذَا خُفِّفَتْ، فَهَلْ يَجُوزُ إِعْمَالُهَا؟ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْمَنْعِ وَنَقَلَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الرِّمَاكِ عَنْ يُونُسَ جَوَازَ إِعْمَالِهَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الِاخْتِيَارُ، التَّشْدِيدُ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا وَاوٌ، وَالتَّخْفِيفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَاوٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُخَفَّفَةً تَكُونُ عَاطِفَةً وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى وَاوٍ مَعَهَا. كَبَلْ: فَإِذَا كَانَتْ قَبْلَهَا وَاوٌ لَمْ تُشْبِهْ بَلْ، لِأَنَّ بَلْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، فَإِذَا كَانَتْ لَكِنَّ مُشَدَّدَةً عَمِلَتْ عَمَلَ إِنَّ، وَلَمْ تَكُنْ عَاطِفَةً. انْتَهَى الْكَلَامُ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عَاطِفَةً، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عَاطِفَةً. وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، بَلْ إِذَا جَاءَ بَعْدَهَا مَا يُوهِمُ الْعَطْفَ، كَانَتْ مَقْرُونَةً بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ «1» . وَأَمَّا إِذَا جَاءَتْ بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ، فَتَارَةً تَكُونُ بِالْوَاوِ، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَعَهَا الْوَاوُ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: إِنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... لَكِنْ وَقَائِعَهُ فِي الْحَرْبِ تُنْتَظَرُ وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ النَّحْوِيِّينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، وَمَا ضَرَبْتُ زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا، وَمَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ لَكِنْ عَمْرٍو، فَهُوَ مِنْ تَمْثِيلِهِمْ، لَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ. ومن غريب ما قيل فِي لَكِنَّ: أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمٍ ثَلَاثٍ: لَا لِلنَّفْيِ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ، وَأَنَّ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ وَالتَّحْقِيقِ، وَأَنَّ الْهَمْزَةَ حُذِفَتْ لِلِاسْتِثْقَالِ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: الضَّمِيرُ فِي يُعَلِّمُونَ اخْتُلِفَ فِي مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الشَّيَاطِينِ، يَقْصِدُونَ بِهِ إِغْوَاءَهُمْ وَإِضْلَالَهُمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي كَفَرُوا. قَالُوا: أَوْ خَبَرًا ثَانِيًا. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَرُدَّ بِأَنَّ لَكِنَّ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ كَفَرُوا، بَدَلَ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيَاطِينِ السِّحْرَ كُفْرٌ فِي الْمَعْنَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ اتَّبَعُوا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَعْلَمُ الْمُتَّبِعُونَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ النَّاسَ، فَالنَّاسُ مُعَلِّمُونَ لِلْمُتَّبِعِينَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُونَ مُعَلِّمِينَ لِلشَّيَاطِينِ.

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 40.

وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَلْبُ الْأَعْيَانِ وَاخْتِرَاعُهَا وَتَغْيِيرُ صُوَرِ النَّاسِ مِمَّا يُشْبِهُ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، كَالطَّيَرَانِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ فِي لَيْلَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ خُدَعٌ وَمَخَارِيقُ وَتَمْوِيهَاتٌ وَشَعْوَذَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «1» . وَفِي الْحَدِيثِ، حِينَ سَحَرَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ» . وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: يَرَوْنَ أَنَّ السِّحْرَ لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الِإسْتِرَابَاذِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمْرٌ يَأْخُذُ بِالْعَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْحِيلَةِ، وَمِنْهُ: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ «2» ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا، فَسَجَرُوا تَحْتَهَا نَارًا، فَحَمِيَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ، فَتَحَرَّكَتْ وَسَعَتْ. وَلِأَرْبَابِ الْحِيَلِ وَالدَّكِّ وَالشَّعْوَذَةِ مِنْ هَذَا أَشْيَاءُ، يُبَيَّنُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ الْمُسَمَّى (بِكَشْفِ الدَّكِّ وَالشَّعْوَذَةِ وَإِيضَاحِ الشَّكِّ) ، وَفِي كِتَابِ (إِرْخَاءِ السُّتُورِ وَالْكَلَلِ فِي الشَّعْوَذَةِ وَالْحِيَلِ) . وَفِي الْحَدِيثِ، حِينَ انْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفَيْنِ بِمَكَّةَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اصْبِرُوا حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلُ الْبَوَادِي، فَإِنْ لَمْ يُخْبِرُوا بِذَلِكَ، كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ سَحَرَ أَعْيُنَنَا، فَأَتَوْا فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ عَظِيمٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ خِدْمَةِ الْجِنِّ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوهُ مَنْ جنس لطيف أجسامهم وهيآتها، فَلَطُفَ وَدَقَّ وَخَفِيَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْسَامٍ تُجْمَعُ وَتُحْرَقُ، وَتُتَّخَذُ مِنْهَا أَرْمِدَةٌ وَمِدَادٌ، وَيُتْلَى عَلَيْهَا أَسْمَاءٌ وَعَزَائِمُ، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا مِنَ السِّحْرِ. السَّادِسُ: أَنَّ أَصْلَهُ طَلْسَمَاتٌ وَقَلْفَطْرِيَّاتٌ، تُبْنَى عَلَى تَأْثِيرِ خَصَائِصِ الْكَوَاكِبِ، كَتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِي زِئْبَقِ عَصَى فِرْعَوْنَ، أَوِ اسْتِخْدَامِ الشَّيَاطِينِ لِتَسْهِيلِ مَا عَسُرَ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَاتٍ مَمْزُوجَةٍ بِكُفْرٍ. قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا الَّتِي قَالُوهَا فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ أَنْوَاعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَقَدْ ضُمَّ إِلَيْهَا أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الشَّعْبَذَةِ وَالدَّكِّ وَالنَّارِنْجِيَّاتِ وَالْأَوْفَاقِ وَالْعَزَائِمِ وَضُرُوبِ الْمَنَادِلِ وَالصَّرَعِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يُشَكُّ فِي أَنَّ السِّحْرَ كَانَ مَوْجُودًا، لِنُطْقِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِهِ. وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا الْآنَ، فَكُلَّمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي الْكُتُبِ، فَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَكَذَلِكَ الْعَزَائِمُ وَضَرْبُ الْمَنْدَلِ، وَالنَّاسُ الَّذِينَ يُعْتَقَدُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، يُصَدِّقُونَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيُصْغُونَ إِلَى سَمَاعِهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ، إِذَا أَفْلَسَ، وَضَعَ كُتُبًا وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ مِنْ رَأْسِهِ، وَبَاعَهَا فِي الْأَسْوَاقِ بِالدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ اسْمَ السِّحْرِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَشْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِالنَّمِيمَةِ، لِأَنَّ فِيهِ قلب الصديق

_ (1) سورة طه: 20/ 66. (2) سورة الأعراف: 7/ 116.

عَدُوًّا، وَالْحَبِيبِ بَغِيضًا. كَمَا أُطْلِقَ عَلَى حُسْنِ التَّوَسُّلِ بِاللَّفْظِ الرَّائِقِ الْعَذْبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِمَالَةِ، وَسُمِّيَ: سِحْرًا حَلَالًا. وَقَدْ رُوِيَ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ، وَقَالَ: وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوَ انَّهُ ... لَمْ يَجْنِ قتل المسلم المنحرز وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: أَنَّهُمْ يُفَهِّمُونَهُمْ إِيَّاهُ بِالْإِقْرَاءِ وَالتَّعْلِيمِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَدُلُّونَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ، فَأَطْلَقَ عَلَى الدَّلَالَةِ تَعْلِيمًا، تسمية للمسبب بالسبب. وقيل: الْمَعْنَى يُوَقِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ، تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا تَمَّ لَهُ مَا تَمَّ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا تَسْمِيَةٌ لِلْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ. وَقِيلَ: يُعَلِّمُونَ مَعْنَاهُ يُعْلِمُونَ، أَيْ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا يَتَعَلَّمُونَ بِهِ السِّحْرَ، أَوْ بِمَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ وَلَمْ يُعَلِّمُوهُمْ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْلَامِ لَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيمِ. وَأَمَّا حُكْمُ السِّحْرِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّيَاطِينِ، وَإِضَافَةِ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا، فَهُوَ كُفْرٌ إِجْمَاعًا، لَا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ. وَكَذَا مَا قُصِدَ بِتَعَلُّمِهِ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْأَصْدِقَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُحْتَمَلُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ نَوْعِ التَّحَيُّلِ وَالتَّخْيِيلِ وَالدَّكِّ وَالشَّعْبَذَةِ، فَإِنْ قَصَدَ بِتَعْلِيمِهِ الْعَمَلَ بِهِ وَالتَّمْوِيهَ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَاطِلِ. وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْرِفَتَهُ لِئَلَّا تَتِمَّ عَلَيْهِ مَخَايِلُ السَّحَرَةِ وَخُدَعُهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِتَعَلُّمِهِ، أَوِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَتَفْرِيجِ النَّاسِ عَلَى خِفَّةِ صَنْعَتِهِ فَيُكْرَهُ. رُوِيَ: لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي. وَأَمَّا سِحْرُ الْبَيَانِ، فَمَا أُرِيدَ بِهِ تَأْلِيفُ الْقُلُوبِ عَلَى الْخَيْرِ، فَهُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ، أَوْ سَتْرُ الْحَقِّ، فَلَا يَجُوزُ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا حُكْمُ السَّاحِرِ حَدًّا وَتَوْبَةً، فَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ لِذَلِكَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ، فَتُذْكَرُ فِيهِ. وَما أُنْزِلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ مَنْصُوبٌ، وَأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: السِّحْرَ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، فَلَا يَكُونُ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ سِحْرًا. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، أَيْ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ، والَّذِي أُنْزِلَ «1» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَلَّمُوهُ النَّاسَ، أَوْ مَا اتَّبَعُوهُ هُوَ مُنَزَّلٌ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمُنَزَّلِ الَّذِي عُلِّمَ، أَوِ الَّذِي اتُّبِعَ فَقِيلَ: عِلْمُ السِّحْرِ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ، مَنْ تَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ تَجَنَّبَهُ أَوْ تَعَلَّمَهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ وَلَكِنْ لِيَتَوَقَّاهُ وَلِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ كَانَ مُؤْمِنًا، كَمَا ابْتُلِيَ قَوْمُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 185.

طَالُوتَ بِالنَّهَرِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْمُنَزَّلُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَهُوَ دُونَ السِّحْرِ. وَقِيلَ: السِّحْرُ لِيُعْلَمَ عَلَى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّعْلِيمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا هُوَ تَعْرِيفٌ يَسِيرٌ بِمَبَادِئِهِ. وَقِيلَ: مَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَالْمَعْنَى: افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَافْتِرَاءً عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكَانِ نَازِلًا عَلَيْهِمَا السِّحْرُ، قَالَ: لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِنْزَالُهُ، وَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُبْطِلُهُ، وَإِنَّمَا الْمُنَزَّلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الشَّرْعُ، وَإِنَّهُمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَا حَرْفُ نَفْيٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالسِّحْرِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ. عَلَى الْمَلَكَيْنِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ «1» ، فَقِيلَ: هَمَّا جِبْرِيلَ وَمِيكَالُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ. وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا وَهُمَا: هَارُوتُ وَمَارُوتُ. وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي إِعْرَابُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبْزَى: الْمَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللَّامِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا رَجُلَانِ سَاحِرَانِ كَانَا بِبَابِلَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُعَلِّمُ النَّاسَ السِّحْرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا عِلْجَانِ بِبَابِلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى: هُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: هُمَا شَيْطَانَانِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبْزَى تَكُونُ مَا نَافِيَةً، وَعَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ، فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، تَكُونُ مَا مَوْصُولَةً. وَمَعْنَى الْإِنْزَالِ: الْقَذْفُ فِي قُلُوبِهِمَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ، قَصَصًا كَثِيرًا، تَتَضَمَّنُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعَجَّبَتْ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَكَّتَهُمْ، بِأَنْ قَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ لِلْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ، فَحَكَمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَافْتُتِنَا بِامْرَأَةٍ، تُسَمَّى بِالْعَرَبِيَّةِ الزُّهْرَةَ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ مِيذَخْتَ، فَطَلَبَاهَا وَامْتَنَعَتْ، إِلَّا أَنْ يَعْبُدَا صَنَمًا، وَيَشْرَبَا الْخَمْرَ وَيَقْتُلَا. فَخَافَا عَلَى أَمْرِهِمَا، فَعَلَّمَاهَا مَا تَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا تَنْزِلُ بِهِ، فَصَعِدَتْ وَنَسِيَتْ مَا تَنْزِلُ بِهِ، فَمُسِخَتْ. وَأَنَّهُمَا تَشَفَّعَا بِإِدْرِيسَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَخَيَّرَهُمَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَهُمَا بِبَابِلَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 34.

يُعَذَّبَانِ. وَذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمَا اخْتِلَافًا. وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «1» ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ «2» ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ. وَلَا يَصِحُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْعَنُ الزُّهْرَةَ وَلَا ابْنَ عُمَرَ. وَقِيلَ: سَبَبُ إِنْزَالِ الْمَلَكَيْنِ: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَادَّعَوُا النُّبُوَّةَ، وَتَحَدَّوُا النَّاسَ بِالسِّحْرِ. فَجَاءَا لِيُعَلِّمَا النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ السِّحْرِ، فَيَتَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمُ النُّبُوَّةَ، أَوْ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ وَالسِّحْرَ مَاهِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ، وَيَعْرِضُ بَيْنَهُمَا الالتباس. فجاء الإيضاح الْمَاهِيَّتَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُوقِعُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ كَانَ مُبَاحًا، أَوْ مَنْدُوبًا، فَبُعِثَا لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْقَوْمُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. أَوْ لِأَنَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ مَا لَمْ تَقْدِرِ الْبَشَرُ عَلَى مِثْلِهِ، فَأُنْزِلَا بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُعَارَضَةِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَا عَلَى إِدْرِيسَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَكُونُونَ رُسُلًا لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَلَا بُدَّ مِنْ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ. بِبابِلَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنْ نَصِيبِينَ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ. وَقِيلَ: هِيَ جَبَلُ دَمَاوَنْدَ. وَقِيلَ: هِيَ بِالْمَغْرِبِ. وَقِيلَ: فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، فِيهَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَسُمِّيَتْ بِبَابِلَ، قَالَ الْخَلِيلُ: لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهَا، أَتَتْ رِيحٌ فَحَشَرَتِ النَّاسَ إِلَى بَابِلَ، فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا يَقُولُ الْآخَرُ، ثُمَّ فَرَّقَتْهُمُ الرِّيحُ فِي الْبِلَادِ. وَقِيلَ: لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ قَصْرِ نَمْرُوذَ. هارُوتَ وَمارُوتَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ التَّاءِ، وَهُمَا بَدَلٌ مِنَ الْمَلَكَيْنِ، وَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلْجَرِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَنْصَرِفَانِ، وَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمَا اسْمَانِ لَهُمَا. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، فَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلنَّصْبِ، وَلَا يَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَيْنِ لِلْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ: هُمَا قَبِيلَتَانِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونَانِ بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلنَّصْبِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الشَّيَاطِينَ. وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ الشَّيَاطِينَ، فَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الذَّمِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَذُمُّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، أَيْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أُقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهُ قُرُودٍ تَبْتَغِي من تُخَادِعُ وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَلَكَيْنِ، بِفَتْحِ اللَّامِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِهَا، فَيَكُونَانِ بَدَلًا مِنَ الْمَلَكَيْنِ، إِلَّا إِذَا فُسِّرَا بِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَلَا يَكُونُ هاروت وماروت بدلا

_ (1) سورة التحريم: 66/ 6. (2) سورة الأنبياء: 21/ 19 و 20.

مِنْهُمَا، وَلَكِنْ يَتَعَلَّقَانِ بِالشَّيَاطِينِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا فِي رَفْعِ الشَّيَاطِينِ وَنَصْبِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِالرَّفْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، إِنْ كَانَا مَلَكَيْنِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَا بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَهُ، إِنْ كَانَا شَيْطَانَيْنِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهُمَا أَعْجَمِيَّانِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، وَقَوْلُهُ خَطَأٌ، بِدَلِيلِ مَنْعِهِمُ الصَّرْفَ لَهُمَا، وَلَوْ كَانَا، كَمَا زَعَمَ، لَانْصَرَفَا، كَمَا انْصَرَفَ جَامُوسٌ إِذَا سَمَّيْتَ بِهِ. وَاخْتُصَّتْ بَابِلُ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْثَرَ الْبِلَادِ سِحْرًا. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ، مِنْ عَلَّمَ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّعْلِيمِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ هُنَا بِمَعْنَى يُعَلِّمَانِ التَّضْعِيفُ، وَالْهَمْزَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْلَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ. وَمَا يُعَلِّمَانِ: مِنْ أَعْلَمَ قَالَ: لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا نَزَلَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ وَيَنْهَيَانِ عَنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي يُعَلِّمَانِ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أَيْ وَمَا يُعَلِّمُ الْمَلَكَانِ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْفَاعِلِ لَا إِضْمَارِهِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَفِي الثَّانِي عَلَى الْبَدَلِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ، فَزِيدَتْ هُنَا لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، فَإِنَّهَا زِيدَتْ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَشَرْطُ زِيَادَتِهَا هُنَا مَوْجُودٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ فِي (كِتَابِ مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أحد هنا بمعنى واحد، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. حَتَّى يَقُولا: حَتَّى هُنَا: حَرْفُ غَايَةٍ، وَالْمَعْنَى انْتِفَاءُ تَعْلِيمِهِمَا، أَوْ إِعْلَامِهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي يُعَلِّمَانِ إِلَى أَنْ يَقُولَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَتَّى هُنَا بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ، وَهَذَا مَعْنًى لِحَتَّى لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرَهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي (التَّسْهِيلِ) وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ: لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ قَالَ: يُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَجُودَ، وَمَا فِي إِنَّما كَافَّةٌ، لِإِنَّ عَنِ الْعَمَلِ، فَيَصِيرُ مِنْ حُرُوفِ الِابْتِدَاءِ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَمَلَ إِنَّ مَعَ وُجُودِ مَا، نَحْوُ: إِنَّمَا زيدا قَائِمٌ. نَحْنُ فِتْنَةٌ: أَيِ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ. فَلا تَكْفُرْ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَا يُعَلِّمَانِ تَعْلِيمَ إِنْذَارٍ لَا تَعْلِيمَ دُعَاءٍ إِلَيْهِ ،

كَأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا، كَمَا لَوْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ صِفَةِ الزِّنَا، أَوِ الْقَتْلِ، فَأُخْبِرَ بِصِفَتِهِ لِيَجْتَنِبَهُ. فَكَانَ الْمَعْنَى فِي يُعَلِّمَانِ: يُعْلِمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَكْفُرْ: فَلَا تَتَعَلَّمْ، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ حَقٌّ فَتَكْفُرَ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ: أَنَّ قَوْلَهُمَا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَلَا تَكْفُرْ اسْتِهْزَاءٌ، لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَقُولَانِهِ لِمَنْ قَدْ تَحَقَّقَا ضَلَالَهُ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) قَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ تَوْكِيدٌ لِقَبُولِ الشَّرْعِ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَمْتَثِلُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ، أَيْ لَا تَسْتَعْمِلْهُ فِيمَا نُهِيتَ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ فَتَحَرَّزْ مِنْ أَنْ يَنْفُذَ لِسَاحِرٍ عَلَيْكَ تَمْوِيهٌ. وَقِيلَ: فَلَا تَفْعَلْهُ لِتَعْمَلَ بِهِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: تَعَلُّمُهُ جَائِزٌ وَالْعَمَلُ بِهِ كُفْرٌ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن تَعَلُّمَهُ كُفْرٌ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ بِنَا، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ: إِنَّ الْمَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ مُؤْمِنًا، كَمَا جَاءَ فِي نَهَرِ طَالُوتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُمَا: فَلَا تَكْفُرْ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، لَا عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ. وَقَوْلَهُ: حَتَّى يَقُولَا مُطْلَقًا فِي الْقَوْلِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَقِيلَ مَرَّةٌ، وَقِيلَ سَبْعُ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ تِسْعُ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ ثَلَاثٌ. وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، فَيَكُونُ مُحْتَمَلًا، وَالْمُتَحَقِّقُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي ذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا أَحَدٌ، وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهِمَا شَيْطَانَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ اخْتِلَافَةً وَاحِدَةً، فَيَتَعَلَّمَانِ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقَانِ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ هُمَا اللَّذَانِ يُبَاشِرَانِ التَّعْلِيمَ لِقَوْلِهِ: وَما يُعَلِّمانِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ قِصَصًا فِيمَا يَعْرِضُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ الْمَلَكَيْنِ وَبَيْنَ مَنْ جَاءَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُمَا، وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ الْقَصَصِ أَنَّهُمَا يَأْمُرَانِهِ بِأَنْ يَبُولَ فِي تَنُّورٍ. فَاخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، أَيَرَى فَارِسًا مُقَنَّعًا بِحَدِيدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى يَغِيبَ فِي السَّمَاءِ؟ أَوْ نُورًا خَرَجَ مِنْ رَمَادٍ يَسْطَعُ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ؟ أَوْ طَائِرًا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ثِيَابِهِ وَطَارَ نَحْوَ السَّمَاءِ؟ وَفَسَّرُوا ذَلِكَ الْخَارِجَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ. وَهَذَا كُلُّهُ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ، فَلِذَلِكَ لَخَّصْنَا مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ، حَتَّى لَا نُخَلِّيَ كِتَابَنَا مِمَّا ذكروه. فَيَتَعَلَّمُونَ: قال الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: هُوَ عَطْفٌ عَلَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ بِسَبَبِ لَفْظِ الْجَمْعِ فِي يُعَلِّمُونَ وَقَدْ قَالَ مِنْهُمَا وَأَجَازَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ عَطْفُ فَيَتَعَلَّمُونَ عَلَى يُعَلِّمُونَ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ خَاصَّةً، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمَا رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا، إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ

ذِكْرِ الْمَلَكَيْنِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَفَرُوا، قَالَ: وَارْتَفَعَتْ فَيَتَعَلَّمُونَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنِ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُوا لِيَجْعَلَا كُفْرَهُ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى كَفَرُوا فَيَتَعَلَّمُونَ. يُرِيدُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِقَوْلِهِ: فَلَا تَكْفُرْ، فَيُنْصَبُ كما نصب لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «1» ، لِأَنَّ كُفْرَ مَنْ نُهِيَ أَنْ يَكْفُرَ فِي الْآيَةِ، لَيْسَ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ مَنْ يَتَعَلَّمُ. وَكَفَرُوا: فِي مَوْضِعِ فِعْلٍ مَرْفُوعٍ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ، مَرْفُوعٌ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِرَاضِ مَنِ اعْتَرَضَ فِي الْعَطْفِ عَلَى كَفَرُوا، أَوْ عَلَى يَعْلَمُونَ، بِأَنَّ فِيهِ إِضْمَارَ الْمَلَكَيْنِ. قِيلَ: ذَكَرَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَكَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ، هو على إضمارهم، أَيْ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ، فَتَكُونُ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا عَطْفَ الْجُمَلِ، وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي فَيَتَعَلَّمُونَ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يُعَلِّمَانِ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي فَيَتَعَلَّمُونَ لِأَحَدٍ، وَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» . وَهَذَا الْعَطْفُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَنْفِيٍّ، فلذلك الْمَنْفِيُّ هُوَ مُوجَبٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ كُلَّ وَاحِدٍ، إِذَا قَالَا لَهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْوَجْهَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى يُعَلِّمَانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمَانِ، بِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ الزَّجَّاجِ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمَانِ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي النَّصِّ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ مُغَالَطَةٌ، لِأَنَّ الزَّجَّاجَ لَمْ يُرِدْ أَنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُعَلِّمَانِ، الدَّاخِلِ عَلَيْهَا مَا النَّافِيَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا مَا يُعَلِّمَانِ، فَيَكُونَ يُعَلِّمَانِ مَوْجُودًا فِي النَّصِّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ يُعَلِّمَانِ مُضْمَرَةٌ مُثْبَتَةٌ لَا مَنْفِيَّةٌ. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي النَّصِّ. وَحَمَلَ أَبَا عَلِيٍّ عَلَى هَذِهِ الْمُغَالَطَةِ حُبُّ رَدِّهِ عَلَى الزَّجَّاجِ وَتَخْطِئَتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعًا بِذَلِكَ. وَلِلشَّنَآنِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا سَبَبٌ ذَكَرَهُ النَّاسُ. انْتَهَى مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْعَطْفِ، وَأَكْثَرُهُ كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. وَتَلَخَّصَ فِي هَذَا الْعَطْفِ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ، أَوْ يُعَلِّمَانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، أَيْ عَلَى مُثْبَتٍ، أَوْ يَتَعَلَّمُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ، أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، أَوْ معطوفا على

_ (1) سورة طه: 20/ 61. (2) سورة الحاقة: 69/ 47.

كَفَرُوا، أَوْ عَلَى يُعَلِّمَانِ الْمَنْفِيَّةِ لِكَوْنِهَا مُوجَبَةً فِي الْمَعْنَى. فَتِلْكَ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ، أَقْرَبُهَا إِلَى اللَّفْظِ هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ. مِنْهُما: الضَّمِيرُ فِي الظَّاهِرِ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أَيْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ الملكين، سواء قرىء بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ كَسْرِهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الملكين، سواء قرىء بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ كَسْرِهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ، الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَكْفُرْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ مِقْدَارَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأَجْلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا. وَالْمَصْدَرِيَّةُ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرٌ، لِأَنَّهَا حَرْفٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ هُوَ السِّحْرُ. وَعَنَى بِالتَّفْرِيقِ: تَفْرِيقَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ تَقَعُ الشَّحْنَاءُ وَالْبَغْضَاءُ فَيَفْتَرِقَانِ، أَوْ تَفْرِيقَ الدِّينِ، بِحَيْثُ إِذَا تَعَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مُرْتَدًّا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا. بَيْنَ الْمَرْءِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: الْمَرِ بِغَيْرِ هَمْزٍ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْمُرْءِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: الْمِرْءِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا: الْمَرِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْقَاطِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ. فَأَمَّا فَتْحُ الْمِيمِ وَكَسْرُهَا وَضَمُّهَا فَلُغَاتٌ، وَأَمَّا الْمَرِ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ، وَأَمَّا تَشْدِيدُهَا بَعْدَ الْحَذْفِ، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَوَى الْوَقْفَ فَشَدَّدَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: مُسْتَطَرٌّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، فَأَقَرَّهَا عَلَى تَشْدِيدِهَا فِيهِ. وَزَوْجِهِ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ امْرَأَةَ الرَّجُلِ. وَقِيلَ الزَّوْجُ هُنَا: الْأَقَارِبُ وَالْإِخْوَانُ، وَهُمُ الصِّنْفُ الْمُلَائِمُ لِلْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «1» ، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ «2» . وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ: الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ: هُمْ عَائِدٌ عَلَى السَّحَرَةِ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ فَيَتَعَلَّمُونَ. وَقِيلَ: عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ وَاتَّبَعُوا. وَقِيلَ: عَلَى الشَّيَاطِينِ. وَبِضَارِّينَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّ مَا حِجَازِيَّةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّ مَا تَمِيمِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُفَرِّقُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بإثبات النون

_ (1) سورة الحج: 22/ 5. [.....] (2) سورة الصافات: 37/ 22.

فِي بِضَارِّينَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِحَذْفِهَا، وَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي صِلَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَذْفَهَا لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ إِلَى أَحَدٍ، وَفُصِلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ بِهِ، كَمَا قَالَ: هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لَا أَخَا لَهُ وكما قال: كما حط الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، ثُمَّ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَحَدًا مَجْرُورٌ بِمِنْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ؟ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُضَافُ إِلَى أَحَدٍ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِمِنْ؟ قلت: جعل الجار جزأ مِنَ الْمَجْرُورِ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْرِيجُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ، وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ ضَرَائِرَ الشِّعْرِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ مُضَافٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِعَامِلِ جَرٍّ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ لَا الْإِضَافَةُ. وَأَمَّا جَعْلُ حَرْفِ الجر جزأ مِنَ الْمَجْرُورِ، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ. وَجُزْءُ الشَّيْءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّيْءِ، وَالْأَجْوَدُ التَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا فِي نَظْمِ الْعَرَبِ وَنَثْرِهَا. فَمِنَ النَّثْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ، قطا قطا بَيْضُكِ ثِنْتَا وَبَيْضِي مِائَتَا، يُرِيدُونَ: ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ. مِنْ أَحَدٍ، من زائدة، وأحد: مَفْعُولٌ بِضَارِّينَ. وَمِنْ تُزَادُ فِي الْمَفْعُولِ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْهُودَ زِيَادَتُهَا فِي الْمَفْعُولِ الَّذِي يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْفَاعِلِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ حَرْفُ النَّفْيِ نَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ مِنْ رَجُلٍ، وَمَا ضَرَبَ زَيْدٌ مِنْ رَجُلٍ. وَهُنَا حُمِلَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا يَضُرُّونَ مِنْ أَحَدٍ. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: مُسْتَثْنًى مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: بِضارِّينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ: مِنْ أَحَدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ بِهِ، أَيِ السِّحْرِ الْمُفَرَّقِ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّرَرِ الْمَصْدَرِ المعرب الْمَحْذُوفِ. وَالْإِذْنُ هُنَا فَسَّرَ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: الْإِذْنُ هُنَا: هُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَسْحُورِ وَضَرَرِ السِّحْرِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْعِلْمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْخَلْقُ، وَيُضَافُ إلى إذنه قوله: كُنْ فَيَكُونُ «1» . وَقِيلَ: الْأَمْرُ، قِيلَ: وَالْإِذْنُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَاسْتُبْعِدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ، وَلِأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأُوِّلَ مَعْنَى الْأَمْرِ فِيهِ بِأَنْ يفسر التفريق

_ (1) سورة البقرة: 2/ 117.

بِالصَّيْرُورَةِ. كَافِرًا فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ وَضَرَرٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحْدَثَ اللَّهُ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَرُبَّمَا لَمْ يُحْدِثْ. وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِمَنْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَنْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ أَيْضًا يَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ. وَلَمَّا كَانَ إِثْبَاتُ الضَّرَرِ بِشَيْءٍ لَا يَنْفِي النَّفْعَ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الشَّيْءُ فَيَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ وَيَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ، نَفَى النَّفْعَ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَتَى بِلَفْظِ لَا، لِأَنَّهَا يُنْفَى بِهَا الْحَالُ وَالْمُسْتَقْبَلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَلا يَنْفَعُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يَضُرُّهُمْ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ صِلَةٌ لِمَا، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لَا يَنْفَعُهُمْ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، أَيْ وَهُوَ لَا يَنْفَعُهُمْ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقَدْ قِيلَ: الضَّرَرُ وَعَدَمُ النَّفْعِ مُخْتَصٌّ بِالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ، إِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ، فَهُوَ يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَى التَّنْكِيلِ بِهِ، إِذَا عَثَرَ عَلَيْهِ، وَإِلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ. وَلَقَدْ عَلِمُوا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا حَاضِرِينَ اسْتِخْرَاجَ الشَّيَاطِينِ السِّحْرَ وَدَفْنَهُ، أَوْ أَخْذَ سُلَيْمَانَ السِّحْرَ وَدَفْنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَلَمَّا أَخْرَجُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ عَمَلِ سليمان ولا من دخائزه. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ قَاطِبَةً، أَيْ عَلِمُوا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى عُلَمَاءِ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَلَكَيْنِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ: فَلَا تَكْفُرْ، فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَعَلِمَ: هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولَيْنِ، وَعُلِّقَتْ عَنِ الجملة، ويحتمل أن يكون الْمُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَعُلِّقَتْ أَيْضًا كَمَا عُلِّقَتْ عَرَفْتُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَظْهَرُ فِي الْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِهَا. وَاللَّامُ فِي: لَمَنِ اشْتَراهُ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ الْمَانِعَةُ مَنْ عَمِلَ عَلِمَ، وَهِيَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْلِيقِ، وَأَجَازُوا حَذْفَهَا، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ، وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ. إِنِّي وَجَدْتُ مَلَاكَ الشِّيمَةِ الأدب يُرِيدُ لِمَلَاكِ الشِّيمَةِ. وَمَنْ هُنَا مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ لِلْقَسَمِ. هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ

وَأَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ عَلِمُوا مُقْسَمٌ عَلَيْهَا التَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُ غَيْرُ مُقْسَمٍ عَلَيْهَا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ مُقْسَمًا عَلَيْهِمَا، وَتَكُونَ مَنْ لِلشَّرْطِ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: اللَّامُ فِي لَمَنِ اشْتَراهُ هِيَ الَّتِي يُوطَأُ بِهَا الْقَسَمُ مِثْلَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ «1» ، وَمَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهِيَ شَرْطٌ وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَاشْتَرَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ صِلَةٌ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ خَبَرٌ عَنْ مَنْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ قَسَمٌ وَشَرْطٌ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُمَا ذُو خَبَرٍ، فَكَانَ الْجَوَابُ لِلسَّابِقِ، وَهُوَ الْقَسَمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ. هَذَا هُوَ تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ وَتَوْضِيحُهُ. وُفِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ: لِمَنِ اشْتَرَاهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: بِيَعْلَمُوا. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ رَدُّ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَنْ شَرْطٌ، وَقَالَ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ تَوْجِيهُ، كَوْنِهِ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ. وَأَرَى الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَلِي مَنْ هُوَ مَاضٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، لِأَنَّ الِاشْتِرَاءَ قَدْ وَقَعَ، وَجَعْلُهُ شَرْطًا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا لَفْظًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا فِي الْمَعْنَى. فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي اشْتَرَاهُ عَائِدٌ عَلَى السِّحْرِ، أَوِ الْكُفْرِ، أَوْ كِتَابِهِمُ الَّذِي بَاعُوهُ بِالسِّحْرِ، أَوِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ تَعَوَّضُوا عَنْهُ بِكُتُبِ السِّحْرِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الدِّينُ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوِ الْقَوَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْخَلَاصُ، أَوِ الْقَدَرُ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بِئْسَ، وَفِي مَا الْوَاقِعَةُ بَعْدَهَا، وَمَعْنَاهُ: ذُمَّ مَا بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى السِّحْرِ، أَوِ الْكُفْرِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي بِئْسَمَا السِّحْرُ، أَوِ الْكُفْرُ. وَالضَّمِيرُ فِي: شَرَوْا، وَيَعْلَمُونَ، بِاتِّفَاقٍ لِلْيَهُودِ. فَمَتَى فُسِّرَ الضَّمِيرُ فِي وَلَقَدْ عَلِمُوا بِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ، أَوِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ سُلَيْمَانَ، وَفِي زَمَانِهِ، أَوِ الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ بِكَسْرِهَا، فَلَا إِشْكَالَ لِاخْتِلَافِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْعِلْمُ. وَإِنِ اتَّحَدَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، أُوِّلَ الْعِلْمُ الثَّانِي بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ ثَمَرَتِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى الْأَصْلُ، نُفِيَ ثَمَرَتُهُ. أَوْ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ الْعِلْمِ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الثَّمَرَةُ، جُعِلَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مَنْفِيًّا، أَوْ أُوِّلَ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمَحْذُوفُ، أَيْ عَلِمُوا ضَرَرَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا نَفْعَهُ فِي الدُّنْيَا. أو علموا نفي

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 60.

الثَّوَابِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. ذُمَّ ذَلِكَ لَمَّا بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَوْ وَأَقْسَامِهَا، وَهِيَ هنا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى جَوَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا تَمَنِّيًا لِإِيمَانِهِمْ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ، إِيمَانَهُمْ وَاخْتِيَارَهُمْ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَيْتَهُمْ آمَنُوا، ثُمَّ ابْتُدِئَ: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ، انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ للو جواب لَازِمٌ، لِأَنَّهَا قَدْ تُجَابُ إِذَا كَانَتْ لِلتَّمَنِّي بِالْفَاءِ، كَمَا يُجَابُ لَيْتَ. إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ دَسَّ فِي كَلَامِهِ هَذَا، وَيُحْرِجُهُ مَذْهَبُهُ الِاعْتِزَالِيُّ، حَيْثُ جَعَلَ التَّمَنِّيَ كِنَايَةً عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ، فَلَمْ يَقَعْ مُرَادُهُ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، وَالطَّائِفَةُ الَّذِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ عَدْلِيَّةً: قَالُوا يُرِيدُ وَلَا يَكُونُ مُرَادُهُ ... عَدَلُوا وَلَكِنْ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ وَأَنَّهُمْ آمَنُوا، يَتَقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَوْ إِيمَانُهُمْ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ وَلَوْ إِيمَانُهُمْ ثَابِتٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ وَلَوْ ثَبَتَ إِيمَانُهُمْ. فَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ حَذْفٌ لِلْمُسْنَدِ، وَإِبْقَاءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ لِلْيَهُودِ، أَوِ الَّذِينَ يُعَلَّمُونَ السِّحْرَ، قَوْلَانِ. وَالْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى: الْإِيمَانُ التَّامُّ، وَالتَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِضُرُوبِهَا، أَوِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَقْوَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ، قَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ. لَمَثُوبَةٌ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، لَا الْوَاقِعَةُ فِي جَوَابِ لَوْ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ لا ثيبوا، ثُمَّ ابْتَدَأَ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْبَارِ الِاسْتِئْنَافِيِّ، لَا عَلَى طَرِيقِ تَعْلِيقِهِ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، وَتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِمَا، هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، أَعْنِي أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ. وَقِيلَ: اللَّامُ هِيَ الْوَاقِعَةُ فِي جَوَابِ لَوْ، وَالْجَوَابُ: هُوَ قَوْلُهُ: لَمَثُوبَةٌ، أَيِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ. وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الرَّاغِبِ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ: أُوثِرَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ فِي جواب لو، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَثُوبَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا، كَمَا عُدِلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ فِي: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لِذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُخْتَارُهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وُقُوعُ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ جَوَابًا لِلَوْ، إِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْمُخْتَلَفُ فِي تَخْرِيجِهِ. وَلَا تَثْبُتُ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ بِالْمُحْتَمَلِ، وَلَيْسَ مِثْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِثُبُوتِ رَفْعِ سَلَامٌ

عَلَيْكُمْ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَوَجَّهَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: بِأَنَّ مَثُوبَةٌ مَصْدَرٌ يَقَعُ لِلْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالِ، فَصَلُحَ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ لِلْمُضِيِّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَثُوبَةٌ بِضَمِّ الثَّاءِ، كَالْمَشُورَةِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو السَّمَّالِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: بِسُكُونِ الثَّاءِ، كَمَشْوُرَةٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ، أَيْ لَثَوَابٌ، وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْأَجْرُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ. وَقِيلَ: لَمَثُوبَةٌ: لَرَجْعَةٌ إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: هَذَا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ كَائِنَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الْمُسَوِّغُ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَفِي وَصْفِ الْمَثُوبَةِ بِكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَفْخِيمٌ وَتَعْظِيمٌ لَهَا، وَلِمُنَاسَبَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. لِذَلِكَ، كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ وَاتَّقَيْتُمْ مَحَارِمَهُ، هُوَ الَّذِي ثَوَابُكُمْ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِذَلِكَ لَكُمْ. وَاكْتَفَى بِالتَّنْكِيرِ فِي ذَلِكَ، إِذِ الْمَعْنَى لَشَيْءٌ مِنَ الثَّوَابِ. قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ خَيْرٌ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ، وَلَيْسَ خَيْرٌ هُنَا أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، بَلْ هِيَ لِلتَّفْضِيلِ، لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ. فَهِيَ كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ، وخَيْرٌ مُسْتَقَرًّا. فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ: التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَكَانَ تَحْصِيلُ الْمَثُوبَةِ خَيْرًا، وَيَعْنِي سَبَبَ الْمَثُوبَةِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى. وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ لَآمَنُوا، لِأَنَّ مَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَهُوَ يُسَارِعُ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَلَا الْبَاطِلُ، فَهُوَ يُبَالِغُ فِي اجْتِنَابِهِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا، فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ، أَوِ اخْتِصَارًا، فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ التَّفْضِيلَ فِي ذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقِيلَ: الْعِلْمُ هنا كناية عن العمل، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِعِلْمِهِمْ، وَلَمَّا انْتَفَتْ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ، جُعِلَ الْعِلْمُ مُنْتَفِيًا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ خُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَعَدَمِ التَّوْفِيقِ وَالطَّوَاعِيَةِ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَنَصْبِ الْمُعَادَاةِ لَهُمْ، حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى عَدَاوَتِهِمْ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ

ضَرَرُ عَدَاوَتِهِمْ، وَهُوَ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَادَى، لِأَنَّهُ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهُوَ جِبْرِيلَ. أَتَى بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لِكِتَابِهِمْ، وَالْمُشْتَمِلِ عَلَى الْهُدَى وَالْبِشَارَةِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى وَلَائِهِ وَمَحَبَّتِهِ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ، أَيْ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، أَيْ مُبْغِضًا لَهُمْ، فَاللَّهُ عَدُوُّهُ، أَيْ مُعَامِلُهُ بِمَا يُنَاسِبُ فِعْلَهُ الْقَبِيحَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِهِ بِالْخِطَابِ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ، وَأَنَّهَا لِوُضُوحِهَا، لَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا مُتَمَرِّدٌ فِي فِسْقِهِ. ثُمَّ أَخَذَ يُسَلِّيهِ بِأَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ نَكْثُ عُهُودِهِمْ، فَلَا تُبَالِ بِمَنْ طَرِيقَتُهُ هَذِهِ، وَأَنَّهُمْ سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَعَكَ، إِذْ أَتَيْتَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرِّسَالَةِ، فَنَبَذُوا كِتَابَهُ تَعَالَى وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، بِحَيْثُ صَارُوا لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ التَّبْشِيرِ بِكَ، وَإِلْزَامِهِمُ اتِّبَاعَكَ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْكِتَابِ، وَلَا سَبَقَ لَهُمْ بِكَ عِلْمٌ مِنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ مَخَازِيهِمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا مَا أَلْقَتْ إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كُتُبِ السِّحْرِ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ. ثُمَّ نَزَّهَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْكُفْرِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ فِي أَخْبَارِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَنْصَحَاهُ بِأَنَّهُمَا جُعِلَا ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَأَنَّهُمَا لِمُبَالَغَتِهِمَا فِي النَّصِيحَةِ يَنْهَيَانِ عَنِ الْكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ قُصَارَى مَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا هُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ. ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَ هُوَ ضَرَرٌ لِمُلَابِسِهِ وَمُتَعَلِّمِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِحَقِيقَةِ الضَّرَرِ، وَأَنَّ مُتَعَاطِيَ ذَلِكَ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّ مَا بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، إِذْ مَا تَعَوَّضُوهُ مَآلُهُ إِلَى الْخُسْرَانِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ سَلَكُوهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، لَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا اجْتَرَمُوهُ مِنَ الْمَآثِمِ، وَاكْتَسَبُوهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، يُعْفِي عَلَى آثَارِهِ جَرُّ ذَيْلِ الْإِيمَانِ، وَيُبْدِلُ بِالْإِسَاءَةِ جَمِيلَ الْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ فِيهَا مَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، وَقَوْلِهِ: وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، وَذِكْرِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَنَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ الشَّيَاطِينِ، وَتَعَلُّمِ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِآيَةٍ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ الْجَمِيلَ لِمَنْ آمَنَ وَاتَّقَى. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَيْنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، وَصَارَ فِيهَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَإِخْبَارٌ بمغيب بعد مغيب، متناسقا تَنَاسُقَ اللَّآلِئِ فِي عُقُودِهَا، مُتَّضِحَةً اتِّضَاحَ الدَّرَارِي فِي مَطَالِعِ سُعُودِهَا، مُعْلِمَةً صِدْقَ مَنْ أَتَى بِهَا، وَهُوَ مَا قَرَأَ الْكُتُبَ، وَلَا دَارَسَ، وَلَا رَحَلَ، وَلَا عاشر الأخبار، وَلَا مَارَسَ

[سورة البقرة (2) : الآيات 104 إلى 113]

وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَوْصَلَ أزكى تحية إليه. [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 113] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

_ (1) سورة النجم: 53/ 3- 5.

الرِّعَايَةُ وَالْمُرَاعَاةُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْإِنْسَانِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهِ. وَالرُّعُونَةُ وَالرَّعَنُ: الْجَهْلُ وَالْهَوَجُ. ذُو: يَكُونُ بِمَعْنَى صَاحِبٍ، وَتُثَنَّى، وَتُجْمَعُ، وَتُؤَنَّثُ، وَتَلْزَمُ الْإِضَافَةَ لِاسْمِ جِنْسٍ ظَاهِرٍ. وَفِي إِضَافَتِهَا إِلَى ضَمِيرِ الْجِنْسِ خِلَافٌ، الْمَشْهُورُ: الْمَنْعُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ، لَكِنْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ خَصَّهُ بِالضَّرُورَةِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْعَلَمِ الْمَقْرُونِ بِهِ فِي الْوَضْعِ، أَوِ الَّذِي لَا يُقْرَنُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْوَضْعِ مَسْمُوعٌ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ: ذُو يَزَنَ، وَذُو جَدَنٍ، وَذُو رُعَيْنٍ، وَذُو الْكُلَاعِ. فَتَجِبُ الْإِضَافَةُ إِذْ ذَاكَ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: فِي تَبُوكَ، وَعَمْرٍو، وَقَطَرِيٍّ: ذُو تَبُوكَ، وَذُو عَمْرٍو، وَذُو قَطَرِيٍّ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِلَفْظِ ذُو، بَلْ يُنْطَقُ بِالِاسْمِ عَارِيًا مِنْ ذُو. وَمَا جَاءَ مِنْ إِضَافَتِهِ لِضَمِيرِ الْعَلَمِ، أَوْ لِضَمِيرِ مُخَاطَبٍ لَا يَنْقَاسُ، كَقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى ذويه، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّا لَنَرْجُو عَاجِلًا مِنْكَ مِثْلَ مَا ... رجوناه قدما من ذويك الْأَفَاضِلِ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ وَزْنَهُ فَعَلٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ: أَنَّ وَزْنَهُ فَعْلٌ، بِسُكُونِهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْمَعُ فِي التَّكْسِيرِ عَلَى أَفْعَالٍ. قَالُوا: أَذْوَاءٌ وَذُو مِنَ الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الرَّفْعِ بِالْوَاوِ، وَفِي النَّصْبِ بِالْأَلِفِ، وَفِي الْجَرِّ بِالْيَاءِ. وَإِعْرَابُ ذُو كَذَا لَازِمٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ، فذلك على جهة الجوار. وَفِيمَا أُعْرِبَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ عَشَرَةُ مَذَاهِبَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَقَدْ جَاءَتْ ذُو أَيْضًا مَوْصُولَةً، وَذَلِكَ فِي لُغَةِ طَيِّءٍ، وَلَهَا أَحْكَامٌ، وَلَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ. النَّسْخُ: إِزَالَةُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ بَدَلٍ يَعْقُبُهُ، نَحْوُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ. أَوْ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِزَالَةٍ نَحْوُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، إِذَا نَقَلْتَ مَا فِيهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ. النَّسِيئَةُ: التَّأْخِيرُ، نَسَأَ يَنْسَأُ، وَيَأْتِي نَسَأَ: بِمَعْنَى أَمْضَى الشَّيْءَ، قَالَ الشاعر: لمؤن كَأَلْوَاحِ الْأَرَانِ نَسَأْتُهَا ... عَلَى لَاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدُ الْوَلِيُّ: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، مِنْ وَلِيَ الشَّيْءَ: جَاوَرَهُ وَلَصِقَ بِهِ. الْحَسَدُ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ، حَسَدَ يَحْسُدُ حَسَدًا وَحَسَادَةً. الصَّفْحُ: قَرِيبٌ مَعْنَاهُ مِنَ الْعَفْوِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَوْلِيَةِ صَفْحَةِ الْوَجْهِ إِعْرَاضًا. وَقِيلَ: هُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ قَوْلِكَ، تَصَفَّحْتُ الْوَرَقَةَ، أَيْ تَجَاوَزْتُ عَمَّا فِيهَا. وَالصَّفُوحُ، قِيلَ: مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَالصَّفُوحُ: الْمَرْأَةُ تَسْتُرُ بَعْضَ وَجْهِهَا إِعْرَاضًا، قَالَ: صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إِلَّا بَخِيلَةً ... فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ

تِلْكَ: مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ، يُطْلَقُ عَلَى الْمُؤَنَّثَةِ فِي حَالَةِ الْبُعْدِ، وَيُقَالُ: تَلْكَ وَتِيلِكَ وَتَالِكَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَبِكَسْرِهَا وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَكَسْرِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهَا، وَأَلِفٍ بَعْدَهَا وَكَسْرِ اللَّامِ، قَالَ: إِلَى الْجُودِيِّ حَتَّى صَارَ حِجْرًا ... وَحَانَ لِتَالِكَ الغمر انحسارا هَاتُوا: مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا، وَالْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ لَا بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ أَتَى، لِتَعَدِّيَهَا إِلَى وَاحِدٍ لَا يُحْفَظُ هَاتِي الْجَوَابَ، وَلِلُزُومِ الْأَلِفِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ هَمْزَةً لَظَهَرَتْ، إذ أزال مُوجِبُ إِبْدَالِهَا، وَهُوَ الْهَمْزَةُ قَبْلَهَا، فَلَيْسَ وَزْنُهَا أَفْعَلَ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، بَلْ وَزْنُهَا فَاعِلٌ كَرَامٍ. وَهِيَ فِعْلٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا اسْمُ فِعْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فِعْلِيَّتِهَا اتِّصَالُ الضَّمَائِرِ بِهَا. وَلِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا صَوْتٌ بِمَنْزِلَةِ هَاءٍ فِي مَعْنَى أَحْضِرْ، وَهُوَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ أَمْرٌ وَفِعْلُهُ مُتَصَرِّفٌ. تَقُولُ: هَاتَى يُهَاتِي مُهَاتَاةً، وَلَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أُمِيتَ تَصْرِيفُ لَفْظِهِ إِلَّا الْأَمْرُ مِنْهُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ. وَلَيْسَتْ هَا لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى أَتَى فَأُلْزِمَتْ هَمْزَةُ أَتَى الْحَذْفَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا حَذْفَ، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَاتِ وَمَعْنَى ائْتِ مُخْتَلِفَانِ. فَمَعْنَى هَاتِ أَحْضِرْ، وَمَعْنَى ائْتِ احْضُرْ. وَتَقُولُ: هَاتِ هَاتِي هَاتِيَا هَاتُوا هَاتِينَ، تصرفها كرامي. الْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى، قِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَرَهِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، فَتَكُونُ النُّونُ زَائِدَةً. وَقِيلَ: مِنَ الْبَرْهَنَةِ، وَهِيَ الْبَيَانُ، قَالُوا: بَرْهَنَ إِذَا بَيَّنَ، فَتَكُونُ النُّونُ زَائِدَةً لِفِقْدَانِ فَعْلَنَ وَوُجُودِ فَعْلَلَ، فَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ. التَّسْمِيَةُ بِبُرْهَانٍ، هَلْ يَنْصَرِفُ أَوْ لَا يَنْصَرِفُ؟ الْوَجْهُ: مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ قِلَّةً عَلَى أَوْجُهٍ، وَكَثْرَةً عَلَى وُجُوهٍ، فَيَنْقَاسُ أَفْعُلٌ فِي فِعْلِ الِاسْمِ الصَّحِيحِ الْعَيْنِ، وَيَنْقَاسُ فُعُولٌ فِي فِعْلِ الِاسْمِ لَيْسَ عَيْنُهُ وَاوًا. الْيَهُودُ: مِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْيَاءُ أَصْلِيَّةٌ، فَلَيْسَتْ مَادَّةُ الْكَلِمَةِ مَادَّةَ هَوَدَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوداً أَوْ نَصارى، لِثُبُوتِهَا فِي التَّصْرِيفِ يَهْدِهِ. وَأَمَّا هَوَّدَهُ فَمِنْ مَادَّةِ هَوَدَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُ اللِّسَانِ فِي زَمَانِهِ: يَهُودُ فِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جَمْعَ يَهُودِيٍّ، فَتَكُونَ نَكِرَةً مَصْرُوفَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَلَمًا لِهَذِهِ الْقَبِيلَةِ، فَتَكُونَ مَمْنُوعَةَ الصَّرْفِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَقَالُوا: الْيَهُودُ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَمًا لَمَا دَخَلَتْهُ، وَعَلَى الثَّانِي قَالَ الشَّاعِرُ: أُولَئِكَ أَوْلَى مِنْ يَهُودَ بِمِدْحَةٍ ... إِذَا أَنْتَ يَوْمًا قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ لَيْسَ: فِعْلٌ مَاضٍ، خِلَافًا لِأَبِي بَكْرِ بْنِ شُقَيْرٍ، وَلِلْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، إِذْ زَعَمَا أَنَّهَا حَرْفُ نَفْيٍ مِثْلُ مَا، وَوَزْنُهَا فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَمَنْ قَالَ: لُسْتُ بِضَمِّ اللَّامِ، فَوَزْنُهَا عِنْدَهُ

فُعُلٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَهُوَ بِنَاءٌ نَادِرٌ فِي الثُّلَاثِيِّ الْيَائِيِّ الْعَيْنِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا قَوْلَهُمْ: هَيُؤَ الرجل، فهو هيىء، إِذَا حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. وَأَحْكَامُ لَيْسَ كَثِيرَةٌ مَشْرُوحَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْحُكْمُ: الْفَصْلُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَاضِي: الْحَاكِمَ، لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. الاختلاف: ضد الاتفاق. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: هَذَا أَوَّلُ خِطَابٍ خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بِالنِّدَاءِ الدَّالِّ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ نِدَاءٍ جَاءَ أَتَى عامّا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «1» ، وَثَانِيَ نِدَاءٍ أَتَى خاصا: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا» ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى الْمِلَّتَيْنِ: الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَثَالِثَ نِدَاءٍ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَانَ أَوَّلُ نِدَاءٍ عَامًّا، أُمِرُوا فِيهِ بِأَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ. وَثَانِيَ نِدَاءٍ، ذُكِّرُوا فِيهِ بِالنِّعَمِ الْجَزِيلَةِ، وَتُعُبِّدُوا بِالتَّكَالِيفِ الْجَلِيلَةِ، وَخُوِّفُوا مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ الْوَبِيلَةِ وَثَالِثَ نِدَاءٍ: عُلِّمُوا فِيهِ أَدَبًا مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ، إِذْ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ عِبَادَةُ اللَّهِ، وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعَمِ، وَالتَّخْوِيفُ مِنَ النِّقَمِ، وَالِاتِّعَاظُ بِمَنْ سَبَقَ مِنَ الْأُمَمِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا أُمِرُوا بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ، مِنْ تَعْظِيمِ مَنْ كَانَتْ هِدَايَتُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ. وَالتَّبْجِيلُ وَالْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فِي عَصْرِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ حَيْثُ جَاءَ هَذَا الْخِطَابُ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَحَيْثُ وَرَدَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ. لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا: بدىء بِالنَّهْيِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، فَهُوَ أَسْهَلُ. ثُمَّ أُتِيَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ لِحُصُولِ الِاسْتِئْنَاسِ، قبل بالنهي. ثُمَّ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَنْ شَيْءٍ سَبَقَ تَحْرِيمُهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ لَفْظَةُ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ غَالِبًا، فَصَارَ الْمَعْنَى: لِيَقَعْ مِنْكَ رَعْيٌ لَنَا وَمِنَّا رَعْيٌ لَكَ، وَهَذَا فِيهِ مَا لَا يَخْفَى مَعَ مَنْ يُعَظَّمُ نُهُوا عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَأُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا: انْظُرْنَا، إِذْ هُوَ فِعْلٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لَا مُشَارَكَةَ لَهُمْ فِيهِ مَعَهُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: رَاعِنَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ، وَقِرَاءَةِ أُبَيٍّ: رَاعُونَا، عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ لِضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَذُكِرَ أَيْضًا أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: ارْعَوْنَا. خَاطَبُوهُ بِذَلِكَ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا، إِذْ أَقَامُوهُ مُقَامَ الْجَمْعِ. وَتَضَمَّنَ هَذَا النَّهْيُ، النَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِوَاءٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: رَاعِنًا بِالتَّنْوِينِ، جعله

_ (1) سورة البقرة: 2/ 21. (2) سورة البقرة: 2/ 40.

صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَوْلًا رَاعِنًا، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ. لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ سَبَبًا في السبب، اتَّصَفَ بِالرَّعْنِ، فَنُهُوا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ أَنْ يُخَاطِبُوا الرَّسُولَ بِلَفْظٍ يَكُونُ فِيهِ، أَوْ يُوهِمُ شَيْئًا مِنَ الْغَضِّ، مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّعْظِيمِ وَتَلْطِيفِ الْقَوْلِ وَأَدَبِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقْصِدُ بِذَلِكَ، إِذْ خَاطَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّعُونَةَ، وَكَذَا قِيلَ فِي رَاعُونًا، إِنَّهُ فَاعُولًا مِنَ الرُّعُونَةِ، كَعَاشُورًا. وَقِيلَ: كَانَتْ لِلْيَهُودِ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ، أَوْ سِرْيَانِيَّةٌ يَتَسَابُّونَ بِهَا وَهِيَ: رَاعِينَا، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ رَاعِنَا، اقْتَرَضُوهُ وَخَاطَبُوا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْنُونَ تِلْكَ الْمَسَبَّةَ، فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهَا، وَأُمِرُوا بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ رَاعِنَا لُغَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَنْصَارِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْفُوظٌ فِي جَمِيعِ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِفِعْلٍ قَدْ كَانَ مُبَاحًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مُتَقَرَّرًا قَبْلُ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَهِيَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: كَلِمَةٌ كَرِهَهَا اللَّهُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهَا نَبِيُّهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُولُوا عَبْدِي وَأَمَتِي وَقُولُوا فَتَايَ وَفَتَاتِي وَلَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ» . وَذُكِرَ فِي النَّهْيِ وُجُوهٌ: أَنَّ مَعْنَاهَا اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، أَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقُولُونَهَا عِنْدَ الْمَفَرِّ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، أَوْ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِينَا أَيْ رَاعِي غَنَمِنَا، أَوْ أَنَّهُ مُفَاعَلَةٌ فَيُوهِمُ مُسَاوَاةً، أَوْ مَعْنَاهُ رَاعِ كَلَامَنَا وَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنَ الرُّعُونَةِ. وَقَوْلُهُ: انْظُرْنَا، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، مَوْصُولُ الْهَمْزَةِ، مَضْمُومُ الظَّاءِ، مِنَ النَّظْرَةِ، وَهِيَ التَّأْخِيرُ، أَيِ انْتَظِرْنَا وَتَأَنَّ عَلَيْنَا، نَحْوُ قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمَا إِنْ تُنْظِرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ أَوْ مِنَ النَّظَرِ، وَاتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِإِلَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ يُرِيدُ: إِلَى الْأَرَاكِ، وَمَعْنَاهُ: تَفَقَّدْنَا بِنَظَرِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فَهِّمْنَا وَبَيِّنْ لَنَا، فُسِّرَ بِاللَّازِمِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ انْظُرْ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الرِّفْقِ وَالْإِمْهَالِ عَلَى السَّائِلِ، وَالتَّأَنِّي بِهِ أَنْ يَفْهَمَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ نَظَرِ الْبَصِيرَةِ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْمَنْظُورِ فِيهِ، فَاتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ أَيْضًا، إِذْ أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِفِي، وَيَكُونَ أَيْضًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ انْظُرْ فِي أَمْرِنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ لَفْظَةٌ مُخْلَصَةٌ لِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي اسْتِدْعَاءُ نَظَرِ

الْعَيْنِ الْمُقْتَرِنِ بِتَدَبُّرِ الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى: رَاعِنَا، فَبُدِّلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ اللَّفْظَةُ، لِيَزُولَ تَعَلُّقُ الْيَهُودِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ: أَنْظِرْنَا، بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ، مِنَ الْإِنْظَارِ، وَمَعْنَاهُ: أَخِّرْنَا وَأَمْهِلْنَا حَتَّى نَتَلَقَّى عَنْكَ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَاسْمَعُوا: أَيْ سَمَاعَ قَبُولٍ وَطَاعَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اقْبَلُوا. وَقِيلَ: فَرِّغُوا أَسْمَاعَكُمْ حَتَّى لَا تَحْتَاجُوا إِلَى الِاسْتِعَادَةِ. وَقِيلَ: اسْمَعُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ حَتَّى لَا تَرْجِعُوا تَعُودُونَ إِلَيْهِ. أَكَّدَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَمِعَهَا مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ، فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ، أَيْ وَلِلْيَهُودِ الَّذِينَ تَهَاوَنُوا بِالرَّسُولِ وَسَبُّوهُ. وَلَمَّا نَهَى أَوَّلًا، وَأَمَرَ ثَانِيًا، وَأَمَرَ بِالسَّمْعِ وَحَضَّ عَلَيْهِ، إِذْ فِي ضِمْنِهِ الطَّاعَةُ، أَخَذَ يَذْكُرُ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَفَرَ، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» . مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ: آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: وَدِدْنَا لَوْ كَانَ خَيْرًا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ فَنَتَّبِعَهُ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الَّذِينَ بِحَضْرَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ، الْعُمُومُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَفِي الْمُشْرِكِينَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَفَى بِمَا، لِأَنَّهَا لِنَفْيِ الْحَالِ، فَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكُمْ. ومن، في قوله: من أَهْلِ الْكِتَابِ، تَبْعِيضِيَّةٌ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَ ذَلِكَ هُنَا، وَبِهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَصْحَابُنَا لَا يُثْبِتُونَ كَوْنَهَا لِلْبَيَانِ. وَلَا الْمُشْرِكِينَ، مَعْطُوفٌ عَلَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابٍ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، صَاحِبِ (التَّنْبِيهِ) ، كَلَامًا يَرُدُّ فِيهِ عَلَى الشِّيعَةِ، وَمَنْ قَالَ بِمَقَالَتِهِمْ: فِي أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ هِيَ الْمَسْحُ، لِلْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْجُلَكُمْ، عَلَى قوله: بِرُؤُسِكُمْ، خَرَّجَ فِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ قَوْلَهُ: وَأَرْجُلِكُمْ بِالْجَرِّ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْخَفْضِ عَلَى الْجِوَارِ، وَأَنَّ أَصْلَهُ النَّصْبُ فَخُفِضَ عَطْفًا عَلَى الْجِوَارِ. وَأَشَارَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَلِسَانَ الْعَرَبِ يَشْهَدَانِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَلَا الْمُشْرِكِينَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ،

_ (1) سورة النور: 24/ 63.

وَقَوْلَهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ «1» ، وَأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الرَّفْعُ، أَيْ وَلَا الْمُشْرِكُونَ، عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَهَذَا حَدِيثُ مَنْ قَصَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَتَطَاوَلَ إِلَى الْكَلَامِ فِيهَا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ، وَعَدَلَ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الصَّحِيحِ وَتَرْكِيبِهِ الْفَصِيحِ. وَدَخَلَتْ لَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْمُشْرِكِينَ، لِلتَّأْكِيدِ، وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ لَجَازَ حَذْفُهَا. وَلَمْ تَأْتِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ لِمَعْنًى يُذْكَرُ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ: فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِيَوَدُّ، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِلتَّصْرِيحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ. وَلَوْ بُنِيَ لِلْفَاعِلِ لَمْ يَظْهَرْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ. مِنْ خَيْرٍ، مِنْ: زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: خَيْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَحَسُنَ زِيَادَتُهَا هُنَا، وَإِنْ كَانَ يُنَزَّلُ لَمْ يُبَاشِرْهُ حَرْفُ النَّفْيِ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: مَا يُكْرِمُ مِنْ رَجُلٍ، لِانْسِحَابِ النَّفْيِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَتِ الْوِدَادَةُ، كَانَ كَأَنَّهُ نُفِيَ مُتَعَلِّقُهَا، وَهُوَ الْإِنْزَالُ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ «2» . فَلَمَّا تَقَدَّمَ النَّفْيُ حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: مَا ظَنَنْتُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في يَقُولُ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ حَرْفُ النَّفْيِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَقُولُ ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، فِيمَا أَظُنُّ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَيَجُوزُ زِيَادَتُهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عَمَّا تَدْخُلُ عَلَيْهِ، بَلْ يُجِيزُونَ زِيَادَتَهَا فِي الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ. وَيَزِيدُ الْأَخْفَشُ: أَنَّهُ يُجِيزُ زِيَادَتَهَا فِي الْمَعْرِفَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ رَبِّكُمْ. مِنْ رَبِّكُمْ: مِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْخَيْرُ مِنْ زَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. الْمَعْنَى مِنْ خَيْرٍ كَائِنٍ مِنْ خُيُورِ رَبِّكُمْ، فَإِذَا كَانَتْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ تَعَلَّقَتْ بِقَوْلِهِ: يُنَزَّلَ، وَإِذَا كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ تَعَلَّقَتْ بِمَحْذُوفٍ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَمَا قَدَّرْنَاهُ. وَالْخَيْرُ هُنَا: الْقُرْآنُ، أَوِ الْوَحْيُ، إِذْ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ، أَوْ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مِنَ التَّعْظِيمِ أَوِ الْحِكْمَةِ وَالْقُرْآنِ وَالظَّفَرِ أَوِ النُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَامِ، أَوِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ والحكمة أو هنا

_ (1) سورة البينة: 98/ 1. (2) سورة الأحقاف: 46/ 33.

عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، فَهُمْ يَوَدُّونَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ عَنِ الْمُؤْمِنِينِ، سَبْعَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا الْآخِرُ. وَسَبَبُ عَدَمِ وِدِّهِمْ ذَلِكَ: أَمَّا فِي الْيَهُودِ، فَلِكَوْنِ النُّبُوَّةِ كَانَتْ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَلِخَوْفِهِمْ عَلَى رِئَاسَتِهِمْ، وَأَمَّا النَّصَارَى، فَلِتَكْذِيبِهِمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أُلُوهِيَّةَ عِيسَى، وَأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِخَوْفِهِمْ عَلَى رِئَاسَتِهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ، فَلِسَبِّ آلِهَتِهِمْ وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ، وَلِحَسَدِهِمْ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَخْتَصُّ بِالرِّسَالَةِ، وَاتِّبَاعِ النَّاسِ لَهُ. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ: أَيْ يُفْرِدُ بِهَا، وَضِدُّ الِاخْتِصَاصِ: الِاشْتِرَاكُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَخْتَصُّ هُنَا لَازِمًا، أَيْ يَنْفَرِدُ، أَوْ مُتَعَدِّيًا، أَيْ يُفْرِدُ، إِذِ الْفِعْلُ يَأْتِي كَذَلِكَ. يُقَالُ: اختصّ زيد بِكَذَا، وَاخْتَصَصْتُهُ بِهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هُنَا تَعَدِّيهِ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ، إِذْ يَصِحُّ، وَاللَّهُ يُفْرِدُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَكُونُ مَنْ فَاعِلَةً، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ: خَصَصْتُ زَيْدًا بِكَذَا. فَإِذَا كَانَ لَازِمًا، كَانَ لِفِعْلِ الْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ نَحْوُ: اضْطُرِرْتُ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، كَانَ مُوَافِقًا لِفِعْلِ الْمُجَرَّدِ نَحْوُ: كَسَبَ زَيْدٌ مَالًا، وَاكْتَسَبَ زَيْدٌ مَالًا. وَالرَّحْمَةُ هُنَا عَامَّةٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا أَوِ النُّبُوَّةُ وَالْحِكْمَةُ وَالنُّصْرَةُ، اخْتُصَّ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَالْبَاقِرُ وَمُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ أَوِ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عباس أو الْقُرْآنُ، أَوِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» ، وهو نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذُو بِمَعْنَى صَاحِبٍ. وَذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنْ أَحْكَامِ ذُو، وَالْوَصْفُ بِذُو، أَشْرَفُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْوَصْفِ بِصَاحِبٍ، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ ذُو أَبَدًا لَا تَكُونُ إِلَّا مُضَافَةً لِاسْمٍ، فَمَدْلُولُهَا أَشْرَفُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ ذُو رُعَيْنٍ، وَذُو يَزَنَ، وَذُو الْكُلَاعِ، وَلَمْ يَسْمَعُوا بِصَاحِبِ رُعَيْنٍ، وَلَا صَاحِبِ يَزَنَ وَنَحْوِهَا. وَامْتُنِعَ أَنْ يَقُولَ فِي صَحَابِيٍّ أَبِي سَعِيدٍ أَوْ جَابِرٍ: ذُو رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَازَ أَنْ يَقُولَ: صَاحِبُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: ذُو الْجَلالِ «2» ، ذُو الْفَضْلِ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً «3» ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «4» ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «5» ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ هُنَا: جَمِيعُ أَنْوَاعِ التَّفَضُّلَاتِ، فَتَكُونَ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَعِظَمِهِ مِنْ جِهَةِ سِعَتِهِ وَكَثْرَتِهِ، أَوْ فَضْلِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْعِظَمِ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً «6» ، أَوِ الشَّرِيعَةُ، فَعَظَّمَهَا مِنْ جِهَةِ بيان

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 107. (2) سورة الرحمن: 55/ 57. (3) سورة الأنبياء: 21/ 87. (4) سورة القلم: 68/ 48. (5) سورة البقرة: 2/ 105. [.....] (6) سورة النساء: 4/ 113.

أَحْكَامِهَا، مِنْ حَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمَنْدُوبٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَمُبَاحٍ أَوِ الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ، فَعَظَّمَهُ مِنْ جِهَةِ السَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» ، أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَعَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ تَكُونُ أَلْ لِلْعَهْدِ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا، فِيمَا ذَكَرُوا، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَطَعَنُوا فِي الْإِسْلَامِ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَمْرٍ الْيَوْمَ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ غَدًا، وَيَقُولُ الْيَوْمَ قَوْلًا، وَيَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا، مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّهُ يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي حَقِيقَةِ النَّسْخِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ، وَمَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَفِي جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ شَرْعًا، وَبِمَاذَا يُنْسَخُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّسْخِ وَدَلَائِلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَطَوَّلُوا فِي ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مَوْضُوعُهُ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَيُبْحَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِيهِ. وَهَكَذَا جَرَتْ عَادَتُنَا: أَنَّ كُلَّ قَاعِدَةٍ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ يُرْجَعُ فِي تَقْرِيرِهَا إِلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَنَأْخُذُهَا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ مُسَلَّمَةً مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، فَنَخْرُجَ عَنْ طَرِيقَةِ التَّفْسِيرِ، كَمَا فَعَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن عمر الرَّازِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ، فَإِنَّهُ جَمَعَ فِي كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً طَوِيلَةً، لَا حَاجَةَ بِهَا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ. وَلِذَلِكَ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَطَرِّفِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا التَّفْسِيرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْخُطْبَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرِ. فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ فُضُولٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ النَّحْوِيَّ مَثَلًا يَكُونُ قَدْ شَرَعَ فِي وَضْعِ كِتَابٍ فِي النَّحْوِ، فَشَرَعَ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْأَلِفَ فِي اللَّهِ، أَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ؟ ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكَلَامِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا يَجِبُ لَهُ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَسْتَحِيلُ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى جَوَازِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنْهُ تَعَالَى إِلَى النَّاسِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى أَوْصَافِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِعْجَازِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَصِدْقِ مَا تَضَمَّنَهُ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى أَنَّ مِنْ مَضْمُونِهِ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. ثُمَّ الْمُثَابُونَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهُمْ، وَالْمُعَاقَبُونَ فِي النَّارِ لَا يَنْقَطِعُ عَذَابُهُمْ. فَبَيْنَا هُوَ فِي عِلْمِهِ يَبْحَثُ فِي الْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ، إِذَا هُوَ يَتَكَلَّمُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَنْ هَذَا سَبِيلُهُ فِي الْعِلْمِ، فَهُوَ مِنَ التَّخْلِيطِ

_ (1) سورة السجدة: 32/ 17.

وَالتَّخْبِيطِ فِي أَقْصَى الدَّرَجَةِ، وَكَانَ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بْنِ الزُّبَيْرِ الثَّقَفِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ تُرْبَتَهُ، يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: مَتَى رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ فِي الْبَحْثِ أَوِ التَّصْنِيفِ، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ، إِمَّا لِقُصُورِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الْفَنِّ، أَوْ لِتَخْلِيطِ ذِهْنِهِ وَعَدَمِ إِدْرَاكِهِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الْمُتَغَايِرَاتِ مُتَمَاثِلَاتٌ. وَإِنَّمَا أَمْعَنْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ، وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَا أَوْدَعَهُ النَّاسُ فِي كُتُبِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، بَلْ إِنَّمَا تَرَكْنَا ذَلِكَ عَمْدًا، وَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ. وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ. وَمَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ، شَرْطِيَّةٌ، وَهِيَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَفِي نَنْسَخْ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَائِبٍ إِلَى مُتَكَلِّمٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ؟ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَنْسَخْ مِنْ نَسَخَ، بِمَعْنَى أَزَالَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي إِزَالَةِ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ مَعًا، أَوْ إِزَالَةِ اللَّفْظِ فَقَطْ، أَوِ الْحُكْمِ فَقَطْ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ وَابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ: مَا نُنْسِخْ مِنَ الْإِنْسَاخِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ: لَيْسَتْ لُغَةً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ نَسَخَ وَأَنْسَخَ بِمَعْنًى، وَلَا هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجِيءُ: مَا يُكْتَبْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا يَنْزِلْ مِنْ آيَةٍ، فَيَجِيءُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ عَلَى هَذَا مَنْسُوخًا. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا نَجِدُهُ مَنْسُوخًا، كَمَا يُقَالُ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ مَحْمُودًا، وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتَهُ بَخِيلًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَ نَجِدُهُ مَنْسُوخًا إِلَّا بِأَنْ يَنْسَخَهُ، فَتَتَّفِقَ الْقِرَاءَاتُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي النَّسْخِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَإِنَّمَا أَفْعَلَ لِوُجُودِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي أَفْعَلَ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الهزة فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ قَالَ: وَإِنْسَاخُهَا الْأَمْرُ بِنَسْخِهَا، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَجْعَلَهَا مَنْسُوخَةً، بِالْإِعْلَامِ بِنَسْخِهَا، وَهَذَا تَثْبِيجٌ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ مَعْنَى كَوْنِ الْهَمْزَةِ لِلتَّعْدِيَةِ. وَإِيضَاحُهُ أَنَّ نَسَخَ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى لِاثْنَيْنِ. تَقُولُ: نَسَخَ زَيْدٌ الشَّيْءَ، أَيْ أَزَالَهُ، وَأَنْسَخُهُ إِيَّاهُ عَمْرٌو: أَيْ جَعَلَ عَمْرٌو زَيْدًا يَنْسَخُ الشَّيْءَ، أَيْ يُزِيلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّقْدِيرُ مَا نَنْسَخُكَ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا نُبِيحُ لَكَ نَسْخُهُ، كَأَنَّهُ لَمَّا نَسَخَهُ اللَّهُ أَبَاحَ لِنَبِيِّهِ تَرْكَهَا بِذَلِكَ النَّسْخِ، فَسَمَّى تِلْكَ الْإِبَاحَةَ إِنْسَاخًا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا هُوَ جَعْلُ الْهَمْزَةِ لِلتَّعْدِيَةِ، لَكِنَّهُ وَالزَّمَخْشَرِيَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ، أَهْوَ جِبْرِيلَ أَمِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ؟ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِنْسَاَخَ هُوَ الْأَمْرَ بِالنَّسْخِ. وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْإِنْسَاخَ إِبَاحَةَ التَّرْكِ بِالنَّسْخِ. وَخَرَّجَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى تَخْرِيجٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ فِيهِ

لِلتَّعْدِيَةِ أَيْضًا، وَهُوَ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ، وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ غَيْرِ إِزَالَةٍ لَهُ، قَالَ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى مَا نَكْتُبْ وَنُنَزِّلْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ مَا نُؤَخِّرْ فِيهِ وَنَتْرُكْ فَلَا نُنَزِّلْهُ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْنَا، فَإِنَّا نَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الْمَتْرُوكِ، أَوْ بِمِثْلِهِ، فَتَجِيءُ الضَّمِيرَاتُ فِي مِنْهَا وَبِمِثْلِهَا عَائِدِينَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي نَنْسَأْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذُهِلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ فِي جَوَابِهِ مِنْ عَائِدٍ عَلَيْهِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: أَوْ نَنْسَأْهَا، عَائِدٌ عَلَى الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لَيْسَ عَائِدًا عَلَيْهَا نَفْسِهَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، إِنَّمَا يَعُودُ عَلَيْهَا لَفْظًا لَا مَعْنًى، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى إِضْمَارِ مَا الشَّرْطِيَّةِ. التَّقْدِيرُ: أَوْ مَا نَنْسَأْ مِنْ آيَةٍ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنْسُوخَ هُوَ غَيْرُ الْمَنْسُوءِ، لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مُفْلِتًا مِنَ الْجَوَابِ، إِذْ لَا رَابِطَ فِيهِ مِنْهُ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَبَطَلَ هَذَا الْمَعْنَى. مِنْ آيَةٍ، مِنْ: هُنَا لِلتَّبْعِيضِ، وَآيَةٌ مُفْرَدٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، وَنَظِيرُهُ فَارِسٌ فِي قَوْلِكَ: هَذَا أَوَّلُ فَارِسٍ، التَّقْدِيرُ: أَوَّلُ الْفَوَارِسِ. وَالْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَخْرِيجُهُ هَكَذَا، نَحْوُ قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «1» ، وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ «2» ، وَقَوْلِهِمْ: مَنْ يَضْرِبْ مِنْ رَجُلٍ أَضْرِبْهُ. وَيَتَّضِحُ بِهَذَا الْمَجْرُورِ مَا كَانَ مَعْمُولًا لِفِعْلِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ لَهُ، إِذْ فِي اسْمِ الشَّرْطِ عُمُومٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِالْمَجْرُورِ لَحُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ. لَوْ قُلْتَ: مَنْ يَضْرِبْ أَضْرِبْ، كَانَ عَامًّا فِي مَدْلُولِ مَنْ. فَإِذَا قُلْتَ: مِنْ رَجُلٍ، اخْتُصَّ جِنْسُ الرِّجَالِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ النِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ مِنْ عَامًّا لِلنَّوْعَيْنِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ آيَةٍ، وَمَا أَشْبَهَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ: وَالْمُمَيَّزُ مَا قَالَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ نُسِخَ مِنْ آيَةٍ. قَالَ: وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَدَّرَ أَيُّ آيَةٍ نَنْسَخْ، لِأَنَّكَ لَا تَجْمَعُ بَيْنَ آيَةٍ وَبَيْنَ الْمُمَيَّزِ بِآيَةٍ. لَا تَقُولُ: أَيَّ آيَةٍ نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، وَلَا أَيُّ رَجُلٍ يَضْرِبْ مِنْ رَجُلٍ أَضْرِبْهُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً، وآية حَالًا. وَالْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ نَنْسَخُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. قَالُوا: وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ حَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَذِهِ: ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً «3» ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ، الْحَالَ لَا يُجَرُّ بِمِنْ وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مَا مصدرا، وآية مَفْعُولًا بِهِ، التَّقْدِيرُ: أَيَّ نَسْخٍ نَنْسَخُ آيَةً، وَمَجِيءُ ما الشرطية مصدرا

_ (1) سورة فاطر: 35/ 2. (2) سورة النحل: 16/ 53. (3) سورة الأعراف: 7/ 73.

جَائِزٌ، تَقُولُ: مَا تَضْرِبْ زَيْدًا أَضْرِبْ مِثْلَهُ، التَّقْدِيرُ: أَيَّ ضَرْبٍ تَضْرَبُ زَيْدًا أَضْرِبُ مِثْلَهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: نَعَبَ الْغُرَابُ فَقُلْتُ بَيْنٌ عَاجِلٌ ... مَا شِئْتَ إِذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ مَا إِذَا جَعَلْتَهَا لِلنَّسْخِ، عُرِّيَ الْجَوَابُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَيْهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: أَيَّ ضَرْبٍ يَضْرِبْ هِنْدًا أَضْرِبْ أَحْسَنَ مِنْهَا، لَمْ يَجُزْ لِعُرُوِّ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ هِنْدٌ، لَا عَلَى أَيَّ ضَرْبٍ الَّذِي هُوَ اسْمُ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّائِدَةُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ غَيْرُ مُوجَبٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ نَكِرَةً، وَهَذَا عَلَى الْجَادَّةِ مِنْ مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَالشَّرْطُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ غَيْرِ الْمُوجَبِ، فَلَا يَجُوزُ: إِنْ قَامَ مِنْ رَجُلٍ أَقُمْ مَعَهُ، وَفِي هَذَا خِلَافٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ. أَوْ نُنْسِها: قَرَأَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَ السَّبْعَةِ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: أَوْ نَنْسَأْهَا، بِفَتْحِ نُونِ الْمُضَارَعَةِ وَالسِّينِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَذَكَرَ أَبُو عَبِيدٍ الْبَكْرِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّآلِئُ) ذَلِكَ عَنْ سعد بن أبي وقاص، وَأَرَاهُ وَهْمٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص تَنْسَاهَا بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ يَعْمَرَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ هَمَزُوا: وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ التَّاءَ. وَقَرَأَ سَعِيدٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، نُنْسِهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهَا هَمَزَتْ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَبِلَا هَمْزٍ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَوْ نُنْسِكَ، بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَبِكَافٍ لِلْخِطَابِ بَدَلَ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَفِي مُصْحَفِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الضَّمِيرَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَا نُنْسِكَ مِنْ آية أو ننسخها نجيء بِمِثْلِهَا. وَهَكَذَا ثَبَتَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، فَتَحْصُلُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، دُونَ قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ، إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً: فَمَعَ الْهَمْزَةِ: نَنْسَأْهَا وَنَنْسِئْهَا وَنُنْسِأْهَا وَتَنْسَأْهَا، وَبِلَا هَمْزٍ: نَنْسَهَا وَنُنْسِهَا وَتَنْسَهَا وتنسها ونسك وَنُنْسِكَهَا. وَفُسِّرَ النَّسْخُ هُنَا بِالتَّبْدِيلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّجَّاجُ، أَوْ تَبْدِيلِ الْحُكْمِ مَعَ ثُبُوتِ الْخَطِّ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوِ الرَّفْعِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ نُنْسِهَا بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَإِنْ كَانَ

مِنَ النِّسْيَانِ ضِدِّ الذِّكْرِ، فَالْمَعْنَى: نُنْسِكَهَا إِذَا كَانَ مِنْ أَفْعَلَ، أَوْ نُنْسِهَا إِذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ التَّرْكِ، فَالْمَعْنَى: أَوْ نَتْرُكْ إِنْزَالَهَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوْ نَمْحُهَا، فَلَا نَتْرُكْ لَهَا لَفْظًا يُتْلَى وَلَا حُكْمًا يُلْزِمُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ نَأْمُرْ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ: أَنْسَيْتُهُ الشَّيْءَ: أَيْ أَمَرْتُ بِتَرْكِهِ، وَنَسِيتُهُ: تَرَكْتُهُ، قَالَ: إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا ... لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا أَيْ لَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِرَاءَةُ نُنْسِهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَعْنَى التَّرْكِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: أُنْسِيَ بِمَعْنَى تَرَكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ مُتَّجِهٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَجْعَلُكَ تَتْرُكُهَا. وَكَذَلِكَ ضَعَّفَ الزَّجَّاجُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَسِيَ قُرْآنًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَدْ وَقَعَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُرْفَعَ الْآيَةُ بِنَسْخٍ أَوْ بِنَسْئِهِ. وَاحْتَجَّ الزَّجَّاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «1» ، أَيْ لَمْ نَفْعَلْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ لَمْ نَذْهَبْ بِالْجَمِيعِ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ عَنْ أَقْدَمَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنَّ نِسْيَانَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَاهُ، وَلَمْ يُرِدْ أن يثبته قرآنا جائزا. وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ آفَةٌ فِي الْبَشَرِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، قَبْلَ التَّبْلِيغِ، وَبَعْدَ التَّبْلِيغِ، مَا لَمْ يَحْفَظْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُحْفَظَ، فَجَائِزٌ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ، حِينَ أَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: «أَفِي الْقَوْمِ أُبَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي؟» قَالَ: خَشِيتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ» . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «لم تُرْفَعْ وَلَكِنِّي نَسِيتُهَا» . انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَهُوَ مِنَ التَّأْخِيرِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَسَأْتُ الْإِبِلَ عَنِ الْحَوْضِ، وَأَنْسَأَ الْإِبِلَ عَنْ ظَمَئِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ أَخَّرَهَا عَنِ الْوِرْدِ. وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَالْمَعْنَى: نُؤَخِّرْ نَسْخَهَا أَوْ نُزُولَهَا، قَالَهُ عَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَوْ نَمْحُهَا لَفْظًا وَحُكْمًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ نمضها فَلَا نَنْسَخْهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهَذَا يُضْعِفُهُ قَوْلُهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ وَأُقِرَّ، لَا يُقَالُ فِيهِ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: مَا نُبَدِّلْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أَيْ أَنْفَعَ مِنْهَا لَكُمْ، أَوْ مِثْلِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَوْ نَنْسَأْهَا، أَيْ نُؤَخِّرْهَا، فَلَا نَنْسَخْهَا وَلَا نُبَدِّلْهَا. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَا تَصِحُّ عَنْ ذَلِكَ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ هِيَ مُحِيلَةٌ لِنَظْمِ القرآن.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 86.

نَأْتِ: هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاسْمُ الشَّرْطِ هُنَا جَاءَ بَعْدَهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ مُضَارِعَيْنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ التَّرَاكِيبِ فِي فِعْلَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مُضَارِعَيْنِ. بِخَيْرٍ مِنْها: الظَّاهِرُ أَنَّ خَيْرًا هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْخَيْرِيَّةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْمُأْتَى بِهِ، إِنْ كَانَ أَخَفَّ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوِ الْمَنْسُوءِ، فَخَيْرِيَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ أَثْقَلَ، فَخَيْرِيَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ. أَوْ مِثْلِها: أَوْ مُسَاوٍ لَهَا فِي التَّكْلِيفِ وَالثَّوَابِ، وَذَلِكَ كَنَسْخِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ خَيْرًا هُنَا لَيْسَ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، كَخَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَصْدَرٌ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُؤَخِّرْهَا، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الْخُيُورِ مِنْ جِهَةِ الْمَنْسُوخِ أَوِ الْمَنْسُوءِ، لَكِنْ يُبْعِدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: أَوْ مِثْلِها، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا إِنْ أُطْلِقَ الْخَيْرُ عَلَى عَدَمِ التَّكْلِيفِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الْخُيُورِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ، أَوْ نَأْتِ بِمِثْلِ الْمَنْسُوخِ أَوِ الْمَنْسُوءِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُؤَخِّرْهَا، فَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، أَوْ إِلَى بَدَلٍ مُمَاثِلٍ، وَالَّذِي إِلَى غيره بَدَلٍ، هُوَ خَيْرٌ أَتَاكُمْ مِنْ جِهَةِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ أَوِ الْمَنْسُوءَةِ، إِذْ هُوَ رَاحَتُكُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَأَمَّا عَطْفُ مِثْلِهَا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي مِنْهَا فَيَضْعُفُ لِعَدَمِ إِعَادَةِ الْجَارِّ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِفْهَامُ الْمَحْضُ، فَالْمُعَادِلُ هُنَا عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ: أَمْ تُرِيدُونَ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، فَالْمُعَادِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَمْ عَلِمْتُمْ، وهذا كله على أن الْقَصْدَ بِمُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبَةُ أُمَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبَ وَحْدَهُ، فَالْمُعَادِلُ مَحْذُوفٌ لَا غَيْرُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ. انْتَهَى كَلَامُهُ وَنَقْلُهُ. وَمَا قَالُوهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَادِلٍ أَلْبَتَّةَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ السَّامِعَ، وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ جِدًّا، خُصُوصًا إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ «1» ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ «2» ؟ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «3» ؟ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «4» ؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «5» ؟ فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِفْهَامٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 10. (2) سورة التين: 95/ 8. (3) سورة الشعراء: 26/ 18. (4) سورة الضحى: 93/ 6. (5) سورة الشرح: 94/ 1.

مُعَادِلٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيرُ. وَالْمَعْنَى: قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِي تَكَالِيفِ عِبَادِهِ، بِمَحْوِ وَإِثْبَاتِ وَإِبْدَالِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ، وَبِأَنْ يَأْتِيَ بِالْأَخِيرِ لَكُمْ وَبِالْمُمَاثِلِ. وَحِكْمَةُ إِفْرَادِ الْمُخَاطَبِ: أَنَّهُ مَا مِنْ شَخْصٍ إِلَّا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ، وَالْمُنَبَّهُ بِهِ، وَالْمُقَرَّرُ عَلَى شَيْءٍ ثَابِتٍ عِنْدَهُ، وَهُوَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَشْيَاءِ، فَلَنْ يُعْجِزَهُ شَيْءٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكَرِ النَّسْخُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ، فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ جَمْعٍ مُخَاطَبٍ وَهُوَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، إِلَى ضَمِيرٍ مُخَاطَبٍ مُفْرَدٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا، وَخُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ مُعَظِّمٍ نَفْسَهُ، إِلَى اسْمٍ ظَاهِرٍ غَائِبٍ وَهُوَ اللَّهُ، إِذْ هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ الْجَامِعُ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَفِي ضِمْنِهِ صِفَةُ الْقُدْرَةِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي نِسْبَةِ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّنَا إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ هَذَا أَيْضًا اسْتِفْهَامٌ دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ فَهُوَ تَقْرِيرٌ، فَلَيْسَ لَهُ مُعَادِلٌ، لِأَنَّ التَّقْرِيرَ مَعْنَاهُ: الْإِيجَابُ، أَيْ قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ اللَّهَ له سلطان السموات وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمَا، فَهُوَ يَمْلِكُ أُمُورَكُمْ وَيُدَبِّرُهَا، وَيُجْرِيهَا عَلَى مَا يَخْتَارُهُ لَكُمْ مِنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ، وَخَصَّ السموات وَالْأَرْضَ بِالْمُلْكِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَمَلَا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَإِذَا كَانَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ، كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْعُلْوِيَّةِ بِالسَّمَاوَاتِ، وَالسُّفْلِيَّةِ بِالْأَرْضِ. وَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ التَّقْرِيرَ عَلَى الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا كَمَالُ التَّصَرُّفِ، وَهُمَا: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِيلَاءُ، لِأَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا، بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ اسْتِطَاعَةً عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيُنَفِّذَ فِيهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ. فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الِاسْتِطَاعَةُ وَعَدَمُ الْمَانِعِيَّةِ، كَمُلَ بِذَلِكَ التَّصَرُّفُ مَعَ الْإِرَادَةِ. وَبَدَأَ بِالتَّقْرِيرِ عَلَى وَصْفِ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّهُ آكَدُ مِنْ وَصْفِ الِاسْتِيلَاءِ وَالسُّلْطَانِ. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ: انْتَقَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْإِفْرَادِ فِي الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَنَاسَبَ الْجَمْعَ هُنَا، لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ صَارَ نَصًّا فِي الْعُمُومِ، فَنَاسَبَ كَوْنَ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ يَكُونُ عَامًّا أَيْضًا، كان المعنى: وما

_ (1) سورة البقرة: 2/ 20.

لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْكُمْ فَرْدٌ فَرْدٌ. مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: وَأَتَى بِصِيغَةِ وَلِيٍّ، وَهُوَ فَعِيلٌ، لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، ولذلك لم يجىء فِي الْقُرْآنِ وَالٍ إِلَّا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، لِمُوَاخَاةِ الْفَوَاصِلِ، وَأَتَى بِنَصِيرٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، لِمُنَاسَبَةِ وَلِيٍّ فِي كَوْنِهِمَا عَلَى فَعِيلٍ، وَلِمُنَاسَبَةِ أَوَاخِرِ الْآيِ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ. وَمِنْ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَلِيٍّ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ. وَمِنْ: فِي مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ لَكُمْ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ فِي مَا هَذِهِ أَنْ تَكُونَ تَمِيمِيَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِجَازِيَّةً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقَدُّمَ خَبَرِهَا، إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا. أَمَّا مَنْ مَنْعَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ فِي مَا أَنْ تَكُونَ حِجَازِيَّةً، وَمَعْنَى مِنْ الْأُولَى ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ. وَتَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يُضْمَرْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ مُرْتَبِطَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ارْتِبَاطَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ الْأُولَيَانِ لِلتَّقْرِيرِ، وَهُوَ إِيجَابٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ نَفْيًا لِلْوَلِيِّ وَالنَّاصِرِ، أَيْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي هِيَ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْجِزُهُ عَمَّا يُرِيدُ بِهَا شَيْءٌ، وَلَا مُغَالِبَ لَهُ تَعَالَى فِيمَا يُرِيدُ. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ: اخْتُلِفَ فِي سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ وَرَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ اجْعَلِ الصَّفَا ذَهَبًا، وَوَسِّعْ لَنَا أَرْضَ مَكَّةَ، وَفَجِّرِ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، وَنُؤْمِنْ لَكَ. وَقِيلَ: تَمَنَّى الْيَهُودُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَمِنْ قَائِلٍ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً، كَمَا أَتَى مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ. وَمِنْ قَائِلٍ: ائْتِنِي بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ مُحَمَّدًا إِلَى النَّاسِ. وَمِنْ قَائِلٍ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. وَقِيلَ: إِنَّ رَافِعَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَوَهْبَ بْنَ زَيْدٍ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا، نَتَّبِعْكَ. وَقِيلَ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْتَ ذُنُوبَنَا جَرَتْ مَجْرَى ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ خَطِيئَةٌ وَجَدُوهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِ الْخَاطِئِ، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآخِرَةِ» . وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ سَأَلُوا رَدَّ الصَّفَا ذَهَبًا، وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوهُ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَبَوْا وَنَكَصُوا. وَقِيلَ: سَأَلَ قَوْمٌ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ، كَمَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ شَجَرَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا الثَّمَرَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَأَسْلِحَتَهُمْ. كَمَا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى فَقَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا

كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّهَا أَسْبَابًا فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ طَوَّلْنَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَقْصِدِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمْ: هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، وَتَتَقَدَّرُ الْمُنْقَطِعَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، فَالْمَعْنَى: بَلْ أَتُرِيدُونَ، فَبَلْ تُفِيدُ الْإِضْرَابُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَمَعْنَى الْإِضْرَابِ هُنَا: هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ جُمْلَةٍ إِلَى جُمْلَةٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ إِبْطَالِ الْأُولَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ أَمْ هُنَا مُعَادِلَةً لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ ذَلِكَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَمْ اسْتِفْهَامٌ مَقْطُوعٌ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُرِيدُونَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ. وَالَّذِي تَقَرَّرَ أَنَّ أَمْ تَكُونُ مُتَّصِلَةً وَمُنْفَصِلَةً. فَالْمُتَّصِلَةُ: شَرَطُهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا لَفْظُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا مُفْرَدٌ، أَوْ فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ. وَالْمُنْفَصِلَةُ: مَا انْخَرَمَ الشَّرْطَانِ فِيهَا أَوْ أَحَدُهُمَا، وَيَتَقَدَّرُ إِذْ ذَاكَ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ مَعًا، وَأَمَّا مَجِيئُهَا مُرَادِفَةً لِلْهَمْزَةِ فَقَطْ، أَوْ مُرَادِفَةً لِبَلْ فَقَطْ، أَوْ زَائِدَةً، فَأَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ. وَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُخَاطَبِينَ، يَجِيءُ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: رَسُولَكُمْ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَالْجِبَائِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، فَيَكُونُ رَسُولَكُمْ جَاءَ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعَلَى مَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ رِسَالَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، كَانَتْ إِضَافَةُ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، لَا عَلَى إِقْرَارِهِمْ بِهِ. وَرُجِّحَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، وَبِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَقُولُوا راعِنا، أَيْ هَلْ تَفْعَلُونَ مَا أُمِرْتُمْ، أَمْ تُرِيدُونَ؟ وَرُجِّحَ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْحِكَايَاتِ عَنْهُمْ مَا قَالُوا، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالرَّسُولِ لَا يَكَادُ يَسْأَلُهُ مَا يَكُونُ كُفْرًا. كَمَا سُئِلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَعَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ: عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْرِبِينَ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، فَيُقَدَّرُ عَلَى قَوْلِهِمْ: سُؤَالًا كَمَا سُئِلَ، وَيُقَدَّرُ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ: أَنْ تَسْأَلُوهُ، أَيِ السُّؤَالَ كَمَا سُئِلَ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ كَسُؤَالِ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بمعنى الذي، التَّقْدِيرُ: الَّذِي سُئِلَهُ مُوسَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسِيلَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِكَسْرِ السِّينِ وَيَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ: بِإِشْمَامِ السِّينِ وَيَاءٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ بَيْنَ وَضَمِّ السِّينِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اللُّغَتَيْنِ فِي سَأَلَ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ مُقَرَّةً مَفْتُوحَةً، فَتَقُولَ سَأَلَ. فَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقِرَاءَةُ مَنْ سَهَّلَ الْهَمْزَ بَيْنَ بَيْنَ. وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَكُونَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَاوًا، وَتَكُونَ عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَتَقُولَ: سِلْتُ أَسَالُ، كَخِفْتُ أَخَافُ، أَصْلُهُ: سُوِلْتُ. وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَقِرَاءَةُ مَنْ أَشَمَّ. وَتَخْرِيجُ

هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ أَوْلَى مِنَ التَّخْرِيجِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَلِفِ الْهَمْزُ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا، فَصَارَ مِثْلَ: قَالَ وَبَاعَ، فَقِيلَ فِيهِ: سِيلَ بِالْكَسْرِ الْمَحْضِ، أَوِ الْإِشْمَامِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِبْدَالَ شَاذٌّ وَلَا يَنْقَاسُ. وَتِلْكَ لُغَةٌ ثَانِيَةٌ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا كَانَ لُغَةً أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الشَّاذِّ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ. وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا لِلْعِلْمِ بِهِ، التَّقْدِيرُ: كَمَا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى مُوسَى مِنْ قَبْلُ. مُوسى مِنْ قَبْلُ: يَتَعَلَّقُ هَذَا الْجَارُّ بِقَوْلِهِ: سُئِلَ، وَقَبْلُ مَقْطُوعَةٌ عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفٌ. فَلِذَلِكَ بُنِيَتْ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلِ سُؤَالِكُمْ، وَهَذَا تَوْكِيدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ سُؤَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مُتَقَدِّمٌ عَلَى سُؤَالِ هَؤُلَاءِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُؤَالُ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ قَوْلُهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» ، اجْعَلْ لَنا إِلهاً «2» . فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُوَبِّخَهُمْ عَلَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِسُؤَالِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَقْتَرِحُوا عَلَيْهِ، إِذْ هُمْ يَكْفِيهِمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وَشَبَّهَ سُؤَالَهُمْ بِسُؤَالِ مَا اقْتَرَحَهُ آبَاءُ الْيَهُودِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَصِيرُهَا إِلَى الْوَبَالِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا؟ فَوَبَّخَهُمْ عَلَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِالسُّؤَالِ، إِذْ لَوْ كَانَ السُّؤَالُ قَدْ وَقَعَ، لَكَانَ التَّوْبِيخُ عَلَيْهِ، لَا عَلَى إِرَادَتِهِ، وَكَانَ يَكُونُ اللَّفْظُ: أَتَسْأَلُونَ رَسُولَكُمْ؟ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَى وُقُوعِ السُّؤَالِ، لَكِنْ تَظَافَرَتْ نُقُولُهُمْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ قَدْ وَقَعَ. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ؟ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّبْدِيلِ، أَيْ: مَنْ يَأْخُذِ الْكُفْرَ بَدَلَ الْإِيمَانِ؟ وَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «3» . وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا بِأَنْ قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ الثِّقَةَ بِالْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَشَكَّ فِيهَا وَاقْتَرَحَ غَيْرَهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْكُفْرُ هُنَا: الشِّدَّةُ، وَالْإِيمَانُ: الرَّخَاءُ. وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمَا مُسْتَعَارَانِ فِي الشِّدَّةِ عَلَى نَفْسِهِ وَالرَّخَاءِ لَهَا عَنِ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ مِنْ شِدَّةِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَرَخَائِهَا، فَلَا تُفَسَّرُ الْآيَةُ بِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ على؟؟؟ هما الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ مَنْ سَأَلَ الرَّسُولَ مَا سَأَلَ مَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ وَوُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ، كَانَ سُؤَالُهُ تَعَنُّتًا وَإِنْكَارًا، وَذَلِكَ كُفْرٌ. فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ: هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الضَّلَالِ في

_ (1) سورة النساء: 4/ 153. (2) سورة الأعراف: 7/ 138. [.....] (3) سورة البقرة: 2/ 16.

قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ «1» ، وَعَلَى سَوَاءَ فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ «2» ، وَأَنَّ سَوَاءٌ يَكُونُ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ. وَلِذَلِكَ يَتَحَمَّلُ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالْعَدَمُ، وَيُوصَفُ بِهِ: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، وَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَوٍ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَرُونَا خُطَّةً لَا عَيْبَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ وَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى الْوَسَطِ. قَالَ تَعَالَى: فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «3» ، أَيْ فِي وَسَطِهَا. وَقَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: كَتَبْتُ حَتَّى انْقَطَعَ سِوَايَ، وَقَالَ حَسَّانُ: يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَ السَّوَاءَ فِي الْآيَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَفَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ بِالْقَصْدِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تُوَصِّلُ سَالِكَهَا إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، كَنَّى عَنْهَا بِالسَّبِيلِ، وَجَعَلَ مَنْ حَادَ عَنْهَا: كَالضَّالِّ عَنِ الطَّرِيقِ، وَكَنَّى عَنْ سُؤَالِهِمْ نَبِيَّهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ بِتَبَدُّلِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَصُورَةُ الشَّرْطِ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ تَنْفِيرًا عَنْ ذَلِكَ، وَتَبْعِيدًا مِنْهُ. فَوَبَّخَهُمْ أَوَّلًا عَلَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِسُؤَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ سُؤَالُهُ، وَخَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَدْرَجَهُمْ فِي عُمُومِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ، لِأَنَّهُ ضَلَالٌ عَنِ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، فَصَارَ صَدْرُ الْآيَةِ إِنْكَارًا وَتَوْبِيخًا، وَعَجُزُهَا تَكْفِيرًا وَضَلَالًا. وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ وَلَا طَلَبٌ وَلَا إِرَادَةٌ. وَإِدْغَامُ الدَّالِ فِي الضَّادِ مِنَ الإدغام الجائز. وقد قرىء: فَقَدْ ضَلَّ، بِالْإِدْغَامِ وَبِالْإِظْهَارِ فِي السَّبْعَةِ. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: الْمَعْنِيُّ بِكَثِيرٍ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، أَوْ حُيَّيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَخُوهُ أَبُو يَاسِرٍ، أَوْ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلُوا الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ، أَوْ فِنْحَاصُ بْنُ عَاذُورَاءَ وَزَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَنَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلُوا حُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا فِي رُجُوعِهِمَا إِلَى دِينِهِمْ، أَقْوَالٌ. وَالْقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا، إِنَّمَا أَخْبَرَ بِوِدَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْخِلَافُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَخَصَّصَتِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ الصِّفَةِ مُقَامَهُ. وَالْكِتَابُ هنا: التوراة.

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 7. (2) سورة البقرة: 2/ 6. (3) سورة الصافات: 37/ 55.

لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً: الْكَلَامُ فِي لَوْ هُنَا، كَالْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ «1» . فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، قَالَ: لَوْ، وَالْفِعْلُ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مَفْعُولُ. ودّ: أي ودّردكم، وَمَنْ جَعَلَهَا حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، جَعَلَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا، وَجَعَلَ مَفْعُولَ وَدَّ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ: ودّردكم كُفَّارًا، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ كُفَّارًا لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يَرُدُّونَكُمْ كُفَّارًا لَوَدُّوا ذَلِكَ. فَوَدَّ دَالَّةٌ عَلَى الْجَوَابِ، وَلَا يَجُوزُ لِوَدَّ الْأُولَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْجَوَابَ، لِأَنَّ شَرْطَ لَوْ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْجَوَابِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ جَوَابَ لَوْ قَوْلَهُ: لَوَدُّوا ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْوِدَادَةَ لَمْ تَقَعْ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِلَوْ، وَهُوَ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَامْتَنَعَ وُقُوعُ الْوِدَادَةِ، لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الرَّدِّ. وَالْغَرَضُ أَنَّ الْوِدَادَةَ قَدْ وَقَعَتْ. أَلَا تَرَى إِلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ وَهِيَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَاتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ الْوِدَادَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ بِمَنْ وَقَعَتْ، وَتَقْدِيرُ جَوَابِ لَوْ لَوَدُّوا ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِدَادَةَ لَمْ تَقَعْ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُهُ لَسُرُّوا أَوْ لَفَرِحُوا بِذَلِكَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، إِذَا جَعَلْتَ لَوْ تَقْتَضِي جَوَابًا. وَيَرُدُّ هُنَا بِمَعْنَى يُصَيِّرُ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: الْأَوَّلُ هُوَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ، وَالثَّانِي كُفَّارًا، وَقَدْ أَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ حَالًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْحَالَ مُسْتَغْنًى عَنْهَا فِي أَكْثَرِ مَوَارِدِهَا، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ. وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَرُدُّ، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَظَاهِرُ الْوَاوِ فِي يَرُدُّونَكُمْ أَنَّهَا لِلْجَمْعِ، وَمَنْ فَسَّرَ كَثِيرًا بِوَاحِدٍ أَوْ بِاثْنَيْنِ، فَجَعَلَ الْوَاوَ لَهُ أَوْ لَهُمَا، لَيْسَ عَلَى الْأَصْلِ. حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ: انْتِصَابُ حَسَدًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ وَدَّ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى وِدَادَةِ رَدِّكُمْ كُفَّارًا هُوَ الْحَسَدُ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ حَاسِدِينَ، وَلَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ جَعْلَ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَنْقَاسُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: حَسَدُوكُمْ حَسَدًا. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ. وَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، إِمَّا بِمَلْفُوظٍ بِهِ وَهُوَ وَدَّ، أَيْ وَدُّوا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهِمْ، لَا أَنَّ وِدَادَتَهُمْ ذَلِكَ هِيَ مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ؟ وَإِمَّا بِمُقَدَّرٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، التَّقْدِيرُ: حَسَدًا كَائِنًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ تَوْكِيدًا، أَيْ وِدَادَتُهُمْ أَوْ حَسَدُهُمْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ وِدَادَةَ الْكُفْرِ وَالْحَسَدَ عَلَى الإيمان

_ (1) سورة البقرة: 2/ 96.

لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ؟ فَهُوَ نَظِيرُ، وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بِقَوْلِهِ: يَرُدُّونَكُمْ، وَمِنْ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ يَكُونُ الرَّدُّ مِنْ تَلْقَائِهِمْ وَبِإِغْوَائِهِمْ وَتَزْيِينِهِمْ. مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ: تَتَعَلَّقُ مِنْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَدَّ، أَيْ وِدَادَتُهُمْ كُفْرَكُمْ لِلْحَسَدِ الْمُنْبَعِثِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَتِلْكَ الْوِدَادَةُ ابْتَدَأَتْ مِنْ زَمَانِ وُضُوحِ الْحَقِّ وَتَبَيُّنِهِ لَهُمْ، فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ الَّذِينَ قَدْ يَعْزُبُ عَلَيْهِمْ وُضُوحُ الْحَقِّ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ عِنَادًا. أَلَا تَرَى إِلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ عَقْلًا، وَبُعْدُهُ وُقُوعًا، وَيَتَرَتَّبُ فِي كُلِّ آيَةٍ تَقْتَضِيهِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُسْلَبُ مِنْ ثَانِي حَالٍ مِنَ الْعِنَادِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحَقِّ، إِمَّا لِلْعَهْدِ، وَيُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَرَيَانُهُ قَبْلَ هَذَا، أَوِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اتَّضَحَتْ لَهُمْ وُجُوهُ الْحَقِّ وَأَنْوَاعُهُ. فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «1» . وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «2» ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هَذَا حَدَّ الْمَنْسُوخِ، لِأَنَّ هَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَانَ لِلتَّوْقِيفِ عَلَى مُدَّتِهِ. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ: غَيَّا الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ بِهَذِهِ الْغَايَةِ، وَهَذِهِ مُوَادَعَةٌ إِلَى أَنْ أَتَى أَمْرُ اللَّهُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءِ بَنِي النضير وَإِذْلَالِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَتَى مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِيهِمْ وَتَرْكِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ إِسْلَامُ بَعْضٍ وَاصْطِلَامُ بَعْضٍ. وَقِيلَ: آجَالُ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: الْقِيَامَةُ، وَقِيلَ: الْمُجَازَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: قُوَّةُ الرِّسَالَةِ وَكَثْرَةُ الْأُمَّةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ. وَعَنِ الْبَاقِرِ: أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالٍ حَتَّى نَزَلَ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ، وَالْأَمْرُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ هُوَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا وَأَنْ يُعْرَضَ عَنْ جَوَابِهِمْ فَيَكُونَ أَدْعَى لِتَسْكِينِ الثَّائِرَةِ وَإِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ وَإِسْلَامِ بَعْضِهِمْ، لَا أَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمُوَادَعَةِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَغَيَّا ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: لَمَّا أَمَرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، أَمَرَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى عَمُودَيِ الْإِسْلَامِ: الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ، إِذِ الصَّلَاةُ فِيهَا مُنَاجَاةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّلَذُّذُ بِالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ بِالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ، فَأُمِرُوا بالوقوف بين يدي

_ (1) سورة التوبة: 9/ 29. (2) سورة التوبة: 9/ 5.

الْحَقِّ وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهِ هُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِيَحُطَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَيْلِهِمْ إِلَى قَوْلِ الْيَهُودِ: رَاعِنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ نَوْعِهِ، ثُمَّ أَمَرَ المؤمنون بِمَا يَحُطُّهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الظُّهُورُ. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ: لَمَّا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ عَامَّةً لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَغَيْرُهُمَا. وَالْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ مَا وَمِنْ خَيْرٍ، كَالْقَوْلِ فِي إِعْرَابِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، مِنْ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَفْعُولَةً، وَمِنْ خَيْرٍ: حَالٌ أَوْ مَصْدَرٌ، وَمِنْ خَيْرٍ: مَفْعُولٌ، أَوْ مَفْعُولَةٌ، وَمِنْ خَيْرٍ: تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولَةٌ، وَمِنْ خَيْرٍ، تَبْعِيضِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ. لِأَنْفُسِكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِتُقَدِّمُوا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِنَجَاةِ أَنْفُسِكُمْ وَحَيَاتِهَا، قَالَ تَعَالَى: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «1» . وَقَدْ فُسِّرَ الْخَيْرُ هُنَا بِالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالْأَظْهَرُ الْعُمُومُ تَجِدُوهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا، وَالْخُيُورُ الْمُتَقَدِّمَةُ هِيَ أَفْعَالٌ مُنْقَضِيَةٌ. وَنَفْسُ ذَلِكَ الْمُنْقَضِي لَا يُوجَدُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ تَجِدُوا ثَوَابَهُ. فَجَعَلَ وُجُوبَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وُجُودًا لَهُ، وَتَجِدُوهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ. وَالْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ، إِمَّا نَفْسُ الْفِعْلِ، أَوْ مَحْذُوفٌ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ تَجِدُوهُ مُدَّخَرًا وَمُعَدًّا عِنْدَ اللَّهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ هنا المكانية مُمْتَنِعَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ مَجَازٌ بِمَعْنَى الْقَبْلِ، كَمَا تَقُولُ لَكَ: عِنْدِي يَدٌ، أَيْ فِي قَبْلِي، أَوْ بِمَعْنَى فِي عِلْمِ اللَّهِ نَحْوُ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ «2» ، أَيْ فِي عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ، أَوْ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» . إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: الْمَجِيءُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْجُمَلِ، فَلِذَلِكَ جَاءَ إِنَّ اللَّهَ، وَلَمْ يجىء إِنَّهُ، مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ ظَاهِرَةُ التَّنَاسُبِ فِي خَتْمِ مَا قَبْلَهَا بِهَا، تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَكَنَّى بِقَوْلِهِ: بَصِيرٌ عَنْ عِلْمِ الْمُشَاهَدِ، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَمَلَ عَامِلٍ وَلَا يُضَيِّعُهُ، وَمَنْ كَانَ مُبْصِرًا لِفِعْلِكَ، لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ، هَلْ هُوَ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ، وَأَتَى بِلَفْظِ بَصِيرٌ دون مبصرا، إِمَّا لِأَنَّهُ مِنْ بَصُرَ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالسَّجِيَّةِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ فَعِيلٌ لِلْمُبَالِغَةِ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، الَّذِي هُوَ لِلتَّكْثِيرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ، قَالَ بَعْضُ الصوفية: على

_ (1) سورة الفجر: 89/ 24. (2) سورة الحج: 22/ 47. (3) سورة الأعراف: 7/ 206.

الْمُرِيدِ إِقَامَةَ الْمُوَاصَلَاتِ وَإِدَامَةَ التَّوَسُّلِ بِفُنُونِ الْقُرُبَاتِ، وَاثِقًا بأن ما تقدمه مِنْ صِدْقِ الْمُجَاهَدَاتِ سَتَزْكُو ثَمَرَتُهُ فِي آخِرِ الْحَالَاتِ، وَأَنْشَدُوا: سَابِقْ إِلَى الْخَيْرِ وَبَادِرْ بِهِ ... فَإِنَّمَا خَلْفَكَ مَا تَعْلَمُ وَقَدِّمِ الْخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئٍ ... عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدُمُ وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى: سَبَبُ نُزُولِهَا اخْتِصَامُ نَصَارَى نَجْرَانَ وَيَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَتُنَاظُرُهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، وَكَفَرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالضَّمِيرُ فِي وَقَالُوا عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى، ولفهم فِي الْقَوْلِ، لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْقَوْلَ صَدَرَ مِنَ الْجَمِيعِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا قَالَ ذَلِكَ، لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ قَالَ ذَلِكَ حَاكِمًا عَلَى أَنَّ حَصْرَ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي العطف بأو الَّتِي هِيَ لِلتَّفْصِيلِ وَالتَّنْوِيعِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِمُعَادَاةِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْكُمَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى الْآخَرِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَنَظِيرُهُ فِي لَفِّ الضَّمِيرِ، وَفِي كَوْنِ أَوْ لِلتَّفْصِيلِ قَوْلُهُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودِيَّ لَا يَأْمُرُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَا النَّصْرَانِيَّ يَأْمُرُ بِالْيَهُودِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ مُتَأَخِّرًا، جاء النفي بلن الْمُخَلِّصَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَمَنْ فَاعِلَةٌ بيدخل، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَالْمَعْنَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ بَدَلًا، أَوْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، إِذْ يُجِيزُ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ، وَيَجْعَلَهُ هُوَ الْفَاعِلَ، وَيَحْذِفَهُ، وَهُوَ لَوْ كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ لَجَازَ الْبَدَلُ وَالنَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَحْذُوفًا وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، فَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي كَانَ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، فَجُمِعَ فِي خَبَرِ كَانَ فَقَالَ: هُوداً أَوْ نَصارى. وَهُودٌ: جَمْعُ هَائِدٍ، كَعَائِدٍ وَعُودٍ. وَتَقَدَّمَ مُفْرَدُ النَّصَارَى مَا هُوَ أَنَصْرَانٌ أَمْ نَصْرِيٌّ. وَفِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَيْنِ الْحَمْلَيْنِ خِلَافٌ، أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ غَيْرَ فِعْلٍ، بَلْ صِفَةً يُفْصَلُ بَيْنَ مُذَكَّرِهَا وَمُؤَنَّثِهَا بِالتَّاءِ نَحْوُ: مَنْ كَانَ قَائِمِينَ الزَّيْدُونَ، وَمَنْ كَانَ قَائِمِينَ الزَّيْدَانِ. فَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ جَوَازُ ذَلِكَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْمَنْعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هُودًا فِي الْأَظْهَرِ جَمْعُ هَائِدٍ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُفْصَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُؤَنَّثِهَا بِالتَّاءِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامًا

فَنِيَامٌ: جَمْعُ نَائِمٍ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُفْصَلُ بَيْنَ مُذَكَّرِهَا وَمُؤَنَّثِهَا بِالتَّاءِ، وَقَدَّمَ هُودًا عَلَى نَصَارَى لِتَقَدُّمِهَا فِي الزَّمَانِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَحَمَلَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ مَعًا عَلَى اللَّفْظِ، وَهُوَ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ: جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَطَلَبَ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ. وَتِلْكَ يُشَارُ بِهَا إِلَى الْوَاحِدَةِ الْمُفْرَدَةِ، وَإِلَى الْجَمْعِ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَحَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْجَمْعِ قَالَ: أُشِيرَ بِهَا إِلَى الْأَمَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ غَيْرُهُمْ، أَيْ تِلْكَ الْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ أَمَانِيُّهُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ ذُكِرَ فِيهَا وِدُّهُمْ لِشَيْءٍ، فَقَدِ انْفَصَلَتْ وَكُمِّلَتْ وَاسْتَقَلَّتْ فِي النُّزُولِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهَا. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَفِيهِ مَجَازُ الْحَذْفِ، وَفِيهِ قَلْبُ الْوَضْعِ، إِذِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ مبتدأ، وأمانيهم خبر. فَقَلَبَ هُوَ الْوَضْعَ، إِذْ قَالَ: أَنَّ أَمَانِيَّهُمْ فِي الْبُطْلَانِ مِثْلُ أُمْنِيَّتِهِمْ هَذِهِ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْخَبَرُ مُشَبَّهًا بِهِ الْمُبْتَدَأُ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ، مِثْلُ: زَيْدٍ زُهَيْرٌ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ. فَإِنَّ تَقَدُّمَ مَا هُوَ أَصْلٌ فِي أَنْ يُشَبَّهَ بِهِ، كَانَ مِنْ عَكْسِ التَّشْبِيهِ وَمِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، إِذْ جُعِلَ الْفَرْعُ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فَرْعًا كَقَوْلِكَ: الْأَسَدُ زَيْدٌ شَجَاعَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَالَتِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، أَيْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ أَمَانِيُّهُمْ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ عَنْ تَحْقِيقٍ وَلَا دَلِيلٍ على مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ أَخْبَارٍ مِنْ رَسُولٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمَنِّي. وَإِنْ كَانُوا هُمْ حازمين بِمَقَالَتِهِمْ، لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَنْ بُرْهَانٍ، كَانَتْ أَمَانِيَّ، وَالتَّمَنِّي يَقَعُ بِالْجَائِزِ وَالْمُمْتَنِعِ. فَهَذَا مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِلَفْظِ الْأَمَانِيِّ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ مَرْجُوَّاتِهِمْ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ، تَقُولُ: لَيْتَنِي طَائِرٌ، وَلَا يَجُوزُ، لَعَلَّنِي طَائِرٌ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ الْمُبْتَدَأُ لَفْظًا، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَقَالَةِ، وَالْمَقَالَةُ مَصْدَرٌ يَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الْكَثِيرُ بِاعْتِبَارِ الْقَائِلِينَ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ الْخَيْرُ، فَطَابَقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فِي الْجَمْعِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَمَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ «1» ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تِلْكَ أَكَاذِيبُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمْ، أَوْ تِلْكَ مُخْتَارَاتُهُمْ وَشَهَوَاتُهُمْ، أَوْ تِلْكَ تِلَاوَاتُهُمْ. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمُ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ ذَكَرُوا، طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أن من ادعى نفيا أو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 78.

إِثْبَاتًا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَهُوَ قَبُولُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا أَهْدَمُ شَيْءٍ لِمَذْهَبِ الْمُقَلِّدِينَ، وَإِنَّ كُلَّ قَوْلٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ. إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، أَيْ أَوْضِحُوا دَعْوَتَكُمْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الصِّدْقِ هُوَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: صَادِقِينَ فِي إِيمَانِكُمْ. وَقِيلَ: فِي أَمَانِيِّكُمْ. وَقِيلَ مَعْنَى صَادِقِينَ: صَالِحِينَ كَمَا زَعَمْتُمْ، وَكُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ أُضِيفَ إِلَى الصِّدْقِ. تَقُولُ: رَجُلُ صِدْقٍ، وَصَدِيقُ صِدْقٍ، وَدَالَّةُ صِدْقٍ، وَمِنْهُ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ «1» . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُ وَعُهُودَهُ، وَمِنْهُ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. بَلى: رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً «2» ، وَقَبْلَ ذَلِكَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «3» ، وَكِلَاهُمَا فِيهِ نَفْيٌ وَإِيجَابٌ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْفَاعِلِينَ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ بَلَى رَدٌّ لِمَا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ مِنَ النَّفْيِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بُرْهَانَ لَكُمْ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاكُمْ، فَأَثْبَتَ بِبِلَى أَنَّ لِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ بُرْهَانًا، وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ. مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ: الْكَلَامُ فِي: مَنْ، كَالْكَلَامِ فِي: مَنْ، مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً، أَيْ يَدْخُلُهَا مَنْ أَسْلَمَ، وَإِذَا كَانَتْ مُبْتَدَأَةً، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً. فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْخَبَرُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَلَهُ أَجْرُهُ. وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً، فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْخَبَرُ هُوَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ مِنَ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَنْ فَاعِلَةً فَقَوْلُهُ: فَلَهُ أَجْرُهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِمَنْ. وَالْوَجْهُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَارِحَةُ خُصَّ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، أَوْ لِأَنَّهُ فِيهِ أَكْثَرُ الْحَوَاسِّ، أَوْ لِأَنَّهُ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الذَّاتِ وَمِنْهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «4» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِهَةُ، وَالْمَعْنَى: أَخْلَصَ طَرِيقَتَهُ فِي الدِّينِ لِلَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَخْلَصَ دِينَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْلَصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: قَصْدَهُ. وَقِيلَ: فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: خَضَعَ وَتَوَاضَعَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَقُولُهَا السَّلَفُ عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ، لَا عَلَى أَنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَهَذَا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 119. (2) سورة البقرة: 2/ 81. (3) سورة البقرة: 2/ 82. [.....] (4) سورة القصص: 28/ 88.

نَظِيرُ مَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّ: الْفَاعِلُ زَيْدٌ مِنْ قَوْلِكَ، قَامَ زَيْدٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: جَعْفَرٌ مِنْ خَرَجَ جَعْفَرٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: عَمْرٌو مِنِ انْطَلَقَ عَمْرٌو، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُظَنُّ بِالسَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَهُوَ مُحْسِنٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ. وَقَدْ قَيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِحْسَانَ بِالْعَمَلِ وَجَعَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ: مَنْ أَخْلَصَ نَفْسَهُ لَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ، فَصَارَتِ الْحَالُ هُنَا مُبَيِّنَةً، إِذْ مَنْ لَا يُشْرِكُ قِسْمَانِ: مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ، وَغَيْرُ مُحْسِنٍ، وَذَلِكَ مِنْهُ جُنُوحٌ إِلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ بِهِمَا يَسْتَوْجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ قَوْلَهُ: فَلَهُ أَجْرُهُ الَّذِي يَسْتَوْجِبُهُ، وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةَ الْإِحْسَانِ الشَّرْعِيِّ حِينَ سُئِلَ عَنْ مَاهِيَّتِهِ فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا الْإِحْسَانُ بِالْإِخْلَاصِ، وَفُسِّرَ بِالْإِيمَانِ، وَفُسِّرَ بِالْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَنَاهِي. فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ: الْعَامِلُ فِي عِنْدَ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُ، أَيْ فَأَجْرُهُ مُسْتَقِرٌّ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلَمَّا أَحَالَ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ أَضَافَ الظَّرْفَ إِلَى لَفْظَةِ رَبِّهِ، أَيِ النَّاظِرِ فِي مَصَالِحِهِ وَمُرَبِّيهِ وَمُدَبِّرِ أَحْوَالِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَطْمَعَ لَهُ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِصِفَةِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَأْتِ بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، وَلَا بِالظَّاهِرِ بِلَفْظِ اللَّهِ. فَلَمْ يَأْتِ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَهُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِقَلَقِ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الضَّمَائِرِ، وَلَمْ يَأْتِ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الرَّبِّ. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: جُمِعَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَفْصَحُ، وَهُوَ أَنْ يُبْدَأَ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: فَلَا خَوْفُ، بِرَفْعِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ. وَقِرَاءَةِ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وَغَيْرِهِمْ: فَلَا خَوْفَ، بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ عَامَّةُ الْيَهُودِ وَعَامَّةُ النَّصَارَى، فَهَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَتَكُونُ أَلْ لِلْجِنْسِ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لِمَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، إِذْ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ وَبِالْكُتُبِ قَبْلَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، حَيْثُ تَمَارَوْا عِنْدَ الرَّسُولِ وَتَسَابُّوا، وَأَنْكَرَتِ الْيَهُودُ الْإِنْجِيلَ وَنُبُوَّةَ عِيسَى، وَأَنْكَرَتِ النَّصَارَى

التَّوْرَاةَ وَنُبُوَّةَ مُوسَى. فَتَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ، وَأَلْ لِلْعَهْدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ نَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ، قَالَ لِنَصَارَى نَجْرَانَ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ لِلْيَهُودِ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَيَكُونُ قَدْ نُسِبَ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ، حَيْثُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: قَتَلَ بَنُو تَمِيمٍ فُلَانًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ، وَنِسْبَةِ الْحُكْمِ الصَّادِرِ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ. وَهُوَ طَرِيقٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا، نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا. وَلَمَّا جَمَعَهُمْ فِي الْمَقَالَةِ الْأُولَى، وَهِيَ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، فَصَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ قَوْلَ كُلِّ فَرِيقٍ فِي الْآخَرِ. وَعَلَى شَيْءٍ: فِي مَوْضِعِ خَبَرِ لَيْسَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الدِّينِ، فَيَكُونَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الصِّفَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمٍ أَيْ لَحْمٍ مَنِيعٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، أَيْ مِنْ أَهْلِكَ النَّاجِينَ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ نَفْيًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ، إِذْ جَعَلَ مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا كَلَا شَيْءٍ. هَذَا وَالشَّيْءُ يُطْلَقُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى الْمَعْدُومِ وَالْمُسْتَحِيلِ، فَإِذَا نُفِيَ إِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَصَارَ كَقَوْلِهِمْ أَقَلُّ مِنْ لَا شَيْءٍ. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ وَهُمْ عَالِمُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، تَالُونَ لَهُ. وَهَذَا نَعْيٌ عَلَيْهِمْ فِي مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ، إِذِ الْكِتَابُ نَاطِقٌ بِخِلَافِ مَا يَقُولُونَهُ، شَاهِدَةٌ تَوْرَاتُهُمْ بِبِشَارَةِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَصِحَّةُ نُبُوَّتِهِمَا. وَإِنْجِيلُهُمْ شَاهِدٌ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْقُرْآنِ، يَكُونُ وَاقِفًا عِنْدَهُ، عَامِلًا بِمَا فِيهِ، قَائِلًا بِمَا تَضَمَّنَهُ، لَا أَنْ يُخَالِفَ قَوْلَهُ مَا هُوَ شَاهِدٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ مِنْهُ، فَيَكُونَ فِي ذَلِكَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالْكِتَابُ هُنَا قِيلَ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ النَّصَارَى تمتثلها. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمْ أُمَمٌ كَانُوا قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ، وَكَأَنَّهُ أُعِيدَ قَوْلُهُمْ: أَيْ قَالَ الْيَهُودُ مِثْلَ قَوْلِ النَّصَارَى، وَنُفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمُ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فَجُعِلُوا لَا يَعْلَمُونَ. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ

مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي سَمِعْتَ عَلَى ذَلِكَ الْمِنْهَاجِ. قَالَ: الْجَهَلَةُ الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ وَلَا كِتَابَ، كَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَالْمُعَطِّلَةِ وَنَحْوِهِمْ قَالُوا: لِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لَهُمْ، حَيْثُ نَظَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ فِي سِلْكِ مَنْ لَا يَعْلَمُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ مِنْ كَذَلِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَوْلًا مثل ذلك القول، قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَعْرِفَةِ الْمُضْمَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَالَ، التَّقْدِيرُ: مِثْلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ قَالَهُ، أَيْ قَالَ الْقَوْلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ تَنْتَصِبُ الْكَافُ بِقَالَ، وَانْتَصَبَ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ الْكَافِ. وَقِيلَ: يَنْتَصِبُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِيَعْلَمُونَ، أَيِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ مَقَالَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالُوا: مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ، أَيْ تَوَافَقَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَقَالَاتِ النَّصَارَى، وَالْيَهُودِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ جَهِلَ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَافَقَهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ ذَلِكَ قَالَهُ الَّذِينَ. وَلَا يَجُوزُ لِقَالَ أَنْ يَنْصِبَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ نَصْبَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ قَالَ قَدْ أَخَذَ مَفْعُولَهُ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَيَنْتَصِبُ إِذْ ذَاكَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِيَعْلَمُونِ، أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ اعْتِقَادَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. انْتَهَى مَا قَالُوهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِاسْتِعْمَالِ الْكَافِ اسْمًا، وَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، مع أنه قد تؤوّل مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَازَ ذَلِكَ، أَعْنِي أَنْ تكون اسما في الكلام، وَيُحْذَفَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ، الَّذِي لَوْ قُدِّرَ خُلُوُّهُ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَتَسَلَّطَ عَلَى الظَّاهِرِ قَبْلَهُ فَنَصَبَهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ: زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ. نَصُّ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَأَنْشَدُوا: وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا ... بِالْحَقِّ لَا يَحْمَدُ بِالْبَاطِلِ أَيْ: يَحْمَدُهُ سَادَاتُنَا. وَعَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ فِي جَوَازِ حَذْفِ نَحْوِ: هَذَا الضَّمِيرِ تَفْصِيلٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: أَيْ يَفْصِلُ، وَالْفَصْلُ: الْحُكْمُ، أَوْ يُرِيهِمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عِيَانًا، وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عِيَانًا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ يُكَذِّبُهُمْ جَمِيعًا وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ، أَوْ يُثِيبُ مَنْ كَانَ عَلَى حَقٍّ، وَيُعَذِّبُ مَنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ. وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَالظَّرْفَانِ والجار الأول معمولان ليحكم، وَفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْتَلِفُونَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ أَشْيَاءَ مِنْهَا: افْتِتَاحُهَا بِحُسْنِ النِّدَاءِ، وَإِثْبَاتُ وَصْفِ

الْإِيمَانِ لَهُمْ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى تَعَلُّمِ أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنْ نُهُوا عَنْ قَوْلِ لَفْظٍ لِإِيهَامٍ مَا إِلَى لَفْظٍ أَنَصَّ فِي الْمَقْصُودِ، وَأَصْرَحَ فِي الْمَطْلُوبِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِلْمُخَالِفِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُذِلُّهُ وَيُهِينُهُ. ثُمَّ نَبَّهْ عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ هُوَ خَيْرٌ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ رَاجِعًا لِشَهَوَاتِهِمْ، وَلَا لِتَمَنِّيهِمْ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ صَاحِبُ الْفَضْلِ الْوَاسِعِ. وَلَمَّا كَانَ صَدْرُ الْآيَةِ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ لَفْظٍ إِلَى لَفْظٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ أَنَصَّ فِي الْمَقْصُودِ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّسْخِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ مِنْهُ، فَيَأْتِي بِأَفْضَلَ مِمَّا نَسَخَ أَوْ بِمَا مَاثَلَهُ. وَأَنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ بِمَا يُرِيدُ مَنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ. وَنَبَّهَ الْمُخَاطَبَ عَلَى عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِمُلْكِهِ الشَّامِلِ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ مَا لَنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُنَا مِنْهُ. فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِأَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالًا غَيْرَ جَائِزٍ، كَسُؤَالَاتِ قَوْمِ مُوسَى لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آثَرَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ قَصْدِ الْمَنْهَجِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوَدُّونَ ارْتِدَادَكُمْ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَسَدُ. ثُمَّ أُمِرُوا بِالْمُوَادَعَةِ وَالصَّفْحِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِذَا أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ارْتَفَعَ الْأَمْرُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. ثُمَّ اخْتَتَمَ الْآيَةَ بِذِكْرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَعْدًا بِتَغْيِيرِ حَالٍ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ الْقُدْرَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا يَقْطَعُ عَنْهُمْ تَلَفُّتَ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَا قَدَّمْتُمُوهُ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ تَجِدُوهُ مَذْخُورًا لَكُمْ. ثُمَّ اخْتَتَمَ ذَلِكَ حَيْثُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَا عُمِلَ مِنَ الْخَيْرِ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، بِذِكْرِ صِفَةِ الْبَصَرِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْأَشْيَاءِ وَمُعَايَنَتِهَا. ثُمَّ نَعَى عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أُكْذُوبَةٌ مِنْ أَكَاذِيبِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، وَأَنَّهُمْ طُولِبُوا بِإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنِ انْقَادَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَهُ أَجْرُهُ وَهُوَ آمِنٌ، فَلَا يَخَافُ مِمَّا يَأْتِي وَلَا يَحْزَنُ عَلَى مَا مَضَى. ثُمَّ أَخَذَ يَذْكُرُ مَقَالَاتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، وَأَنَّهَا مَقَالَةُ مَنْ أَظْهَرَ التَّبَرُّؤَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأَفْصَحَتْ عَنْهُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ الْعِنَادِ، لِأَنَّهُمْ تَالُونَ لِلْكُتُبِ عَالِمُونَ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ، فَصَارُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «1» . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ، وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ،

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 25.

[سورة البقرة (2) : الآيات 114 إلى 123]

فَهِيَ مُمَاثِلَةٌ لِمَقَالَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ وَفَصْلَ الْبَاطِلِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى كفرهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 123] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) الْمَنْعَ: الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَمُرَادِهِ. وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ قَدْ يُمْنَعُ صِيَانَةً، صَارَ الْمَنْعُ مُتَعَارَفًا فِي الْمُتَنَافَسِ فِيهِ قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَفِعْلُهُ: مَنَعَ يَمْنَعُ، بِفَتْحِ النُّونِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ أَحَدُ حُرُوفِ الْحَلْقِ. الْمَسَاجِدُ: مَعْرُوفَةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمُفْرَدِ أَوَّلَ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. السَّعْيُ: الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ دُونَ الْعَدْوِ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الطَّلَبِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي فَسَّرَهُ الشُّرَّاحُ بِالطَّلَبِ. الْخَرَابُ: ضِدُّ الْعِمَارَةِ، وَهُوَ مَصْدَرُ خَرِبَ الشَّيْءُ يَخْرَبُ خَرَابًا، وَيُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: مَنْزِلٌ خَرَابٌ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ: خَرِبٌ، كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: مَا رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُورًا يُطِيفُ بِهِ ... غَيْلَانُ أهي ربا مِنْ رَبْعِهَا الْخَرِبِ وَالْخَرَبُ: ذَكَرُ الْحُبَارَى، يَجْمَعُ عَلَى خِرْبَانٍ. الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ: مَكَانُ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ، وَهُمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ شُذُوذًا، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ لَمْ تُكْسَرْ عَيْنُ مُضَارِعِهِ، فَقِيَاسُ صَوْغِ الْمَصْدَرِ مِنْهُ، وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مَفْعَلٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ. أَيْنَ: مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى حَرْفِهِ، وَفِي الشَّرْطِ مَعْنَى حَرْفِهِ، وَإِذَا كَانَ لِلشَّرْطِ جَازَ أَنْ تَزِيدَ بَعْدَهُ مَا، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ شَرْطًا بِغَيْرِ مَا قَوْلُهُ: أَيْنَ تَضْرِبْ بِنَا الْعُدَاةُ تَجِدْنَا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَصْلَ أَيْنَ: السُّؤَالُ عَنِ الْأَمْكِنَةِ. ثَمَّ: ظَرْفُ مَكَانٍ يُشَارُ بِهِ لِلْبَعِيدِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ، لَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ بِغَيْرِ مِنْ يَقُولُ: مِنْ ثَمَّ كَانَ كَذَا. وَقَدْ وَهَمَ مَنْ أَعْرَبَهَا مَفْعُولًا بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً «1» . بَلْ: مَفْعُولُ رَأَيْتَ مَحْذُوفٌ. وَاسِعٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ وَسِعَ يَسَعُ سَعَةً وَوُسْعًا، وَمُقَابِلُهُ ضَاقَ، إِلَّا أَنَّ وَسِعَ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «2» ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «3» . الْوَلَدُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْقَبْضِ وَالنَّقْضِ، وَلَا يَنْقَاسُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَفِعْلُهُ: وَلَدَ يَلِدُ وِلَادَةً وَوَلِيدِيَّةً، وَهَذَا الْمَصْدَرُ الثَّانِي غَرِيبٌ. الْقُنُوتُ: الْقِيَامُ، وَمِنْهُ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ، أَيِ الْقِيَامِ وَالطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ وَالدُّعَاءُ. قَنَتَ شَهْرًا: دَعَا. الْبَدِيعُ: النَّادِرُ الْغَرِيبُ الشَّكْلِ. بَدُعَ يَبْدُعُ بَدَاعَةً فَهُوَ بَدِيعٌ، إِذَا كَانَ نَادِرًا، غَرِيبَ الصُّورَةِ فِي الْحُسْنِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الِابْتِدَاعِ، وَهُوَ الِاخْتِرَاعُ وَالْإِنْشَاءُ. قَضَى: قَدَّرَ، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى أَمْضَى. قَضَى يَقْضِي قَضَاءً. قال:

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 20. (2) سورة البقرة: 2/ 255. (3) سورة الأعراف: 7/ 156.

سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا ... عَلَيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَضَى عَلَى وُجُوهٍ، مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنِعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ وَقَالَ الشَّمَّاخُ فِي عُمَرَ: قَضَيْتُ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتُ بَعْدَهَا ... بَوَائِقَ فِي أَكْمَامِهَا لَمْ تُفَتَّقِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «1» ، وَأَعْلَمَ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ «2» ، وَأَمَرَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «3» ، وألزم، ومنه قَضَى الْقَاضِي، وَوَفَّى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «4» ، وَأَرَادَ: إِذا قَضى أَمْراً «5» . لَوْلَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَحُكْمُهَا حُكْمُ هَلَّا، وَتَأْتِي أَيْضًا حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، وَأَحْكَامُهَا بِمَعْنَيَيْهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَمِنْهَا أَنَّ التَّحْضِيضِيَّةَ لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَتِلْكَ لَا يَلِيهَا إِلَّا الِاسْمُ، عَلَى خِلَافٍ فِي إِعْرَابِهِ. الْجَحِيمُ: إِحْدَى طَبَقَاتِ النَّارِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَحِيمُ: النَّارُ عَلَى النَّارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: النَّارُ الْمُسْتَحْكِمَةُ الْمُتَلَظِّيَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْوَقُودِ، يُقَالُ جَحَمَتِ النَّارُ تَجْحَمُ: اشْتَدَّ وَقُودُهَا. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْجَاحِمُ: الْمَكَانُ الشَّدِيدُ الْحَرِّ، وَيُقَالُ لِعَيْنِ الْأَسَدِ: جُحْمَةٌ، لِشِدَّةِ تَوَقُّدِهَا، وَيُقَالُ لِشِدَّةِ الْحَرِّ: جَاحِمٌ، قَالَ: وَالْحَرْبُ لَا يَبْقَى لِجَا ... حِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالْمَرَاحُ الرِّضَا: مَعْرُوفٌ، وَيُقَابِلُهُ الْغَضَبُ، وَفِعْلُهُ رَضِيَ يَرْضَى رِضًا بِالْقَصْرِ، وَرِضَاءً بِالْمَدِّ، وَرِضْوَانًا، فَيَاؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الرِّضْوَانُ، وَالْأَكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ بِعَنْ وَقَدْ جَاءَ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى، قَالَ: إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى عَنْ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ رَضِيَ مَعْنَى عَطَفَ، فَعُدِّيَ بِعَلَى كَمَا تَعَدَّى عَطَفَ. الْمِلَّةُ: الطَّرِيقَةُ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا بِمَعْنَى الشَّرِيعَةِ، فَقِيلَ: الاشتقاق

_ (1) سورة فصلت: 41/ 12. (2) سورة الإسراء: 17/ 4. (3) سورة الإسراء: 17/ 23. (4) سورة القصص: 28/ 29. (5) سورة آل عمران: 3/ 47.

مِنْ أَمْلَلْتُ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تُبْتَنَى عَلَى مَتْلُوٍّ وَمَسْمُوعٍ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ طَرِيقٌ مُمَلٌّ، أَيْ قَدْ أَثَّرَ الْمَشْيُ فِيهِ. الْخُسْرَانُ وَالْخَسَارَةُ: هُوَ النَّقْصُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي التِّجَارَةِ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّقْصِ مُطْلَقًا، وَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، كَمَا أَنَّ مُقَابِلَهُ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ الرِّبْحُ. تَقُولُ: خَسِرَ دِرْهَمًا، كَمَا تَقُولُ: رَبِحَ دِرْهَمًا. وَقَالَ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: نَزَلَتْ فِي نَطُّوسَ بْنِ اسْبِيسْيَانُوسَ الرُّومِيِّ، الَّذِي خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَزَلْ خَرَابًا إِلَى أَنْ عُمِّرَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقِيلَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ: مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَهُ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ فِي النَّصَارَى، كَانُوا يَوَدُّونَ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَطْرَحُونَ بِهِ الْأَقْذَارَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، فِي الرُّومِ الَّذِينَ أَعَانُوا بُخْتَ نَصَّرَ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: حِينَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أَنَّ عَهْدَ بُخْتَ نَصَّرَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وَقِيلَ فِي بُخْتَ نَصَّرَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَعَلَى اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَجِيءُ الِاخْتِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْمَانِعِ وَالْمَسَاجِدِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَانِعٍ وَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَالْعُمُومُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهِ خَاصًّا، فَالْعِبْرَةُ بِهِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ «1» ، وَجَرَى ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ «2» ، وَفِي أَيٍّ نَزَلَتْ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لِذِكْرِهَا تَلِي مَا قَبْلَهَا. وَمَنْ: اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَأَظْلَمُ: أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مَنْ. وَلَا يُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ هُنَا حَقِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ، كَمَا قَالَ: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ «3» ؟ أَيْ مَا يُهْلَكُ. وَمَعْنَى هَذَا: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ. وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَوَّلُ مَوَارِدِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «4» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 113. (2) سورة البقرة: 2/ 113. (3) سورة الأحقاف: 46/ 35. (4) سورة الأنعام: 6/ 21 و 93. [.....]

وَقَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ «1» ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها «2» ؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ كَانَ خَبَرًا، وَلَمَّا كَانَ خَبَرًا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا أُخِذَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا سَبَقَ إِلَى ذِهْنِهِ التَّنَاقُضُ فِيهَا، لِأَنَّهُ قَالَ الْمُتَأَوِّلُ فِي هَذَا: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى، وَفِي أُخْرَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا. فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَعْنَى صِلَتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا. فَإِذَا تَخَصَّصَتْ بِالصِّلَاتِ زَالَ عِنْدَهُ التَّنَاقُضُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّخْصِيصُ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّبْقِ، لَمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدٌ إِلَى مِثْلِهِ، حُكِمَ عليها بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، سَالِكًا طَرِيقَتَهُمْ فِي ذلك، وهذا يؤول مَعْنَاهُ إِلَى السَّبْقِ فِي الْمَانِعِيَّةِ، أَوِ الِافْتِرَائِيَّةِ. وَهَذَا كُلُّهُ بُعْدٌ عَنْ مَدْلُولِ الْكَلَامِ وَوَضْعِهِ الْعَرَبِيِّ، وَعُجْمَةٌ فِي اللِّسَانِ يَتْبَعُهَا اسْتِعْجَامُ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا هَذَا نَفْيٌ لِلْأَظْلَمِيَّةِ، وَنَفْيُ الْأَظْلَمِيَّةِ لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الظَّالِمِيَّةِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُطْلَقِ. لَوْ قُلْتَ: مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ ظَرِيفٌ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ رَجُلٍ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الظَّالِمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، لِأَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ التَّسْوِيَةِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ. وَإِذَا ثَبَتَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ وُصِفَ بِذَلِكَ يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ. وَصَارَ الْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ مَنَعَ، وَمِمَّنِ افْتَرَى، وَمِمَّنْ ذُكِّرَ. وَلَا إِشْكَالَ فِي تَسَاوِي هَؤُلَاءِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ أَظْلَمُ مِنَ الْآخَرِ. كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أَحَدَ أَفْقَهُ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمْ أَفْقَهُ مِنَ الْآخَرِ، بَلْ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَفْقَهَ مِنْهُمْ. لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، وَلَمْ يَفْتَرِ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، أَقَلُّ ظُلْمًا مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْكُفَّارِ، فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْأَظْلَمِيَّةِ. فَكُلُّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِأَفْرَادِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ، وَإِنَّمَا تُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِي الظُّلْمِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ، وَلِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكُوا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، فَنَقُولُ: الْكَافِرُ أَظْلَمُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَنَقُولُ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ ظُلْمَ الْكَافِرِ يَزِيدُ عَلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ. وَمَنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَنَعَ، مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. أَنْ يُذْكَرَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 157. (2) سورة الكهف: 18/ 57.

ثَانِيًا لِمَنَعَ، أَوْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، فَيَتَعَيَّنَ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ دُخُولَ مَسَاجِدِ اللَّهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ بَدَلًا مِنْ مَسَاجِدَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ فِيهَا، أَوْ مَفْعُولًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. فَلَمَّا حُذِفَتْ مَنْ انْتَصَبَ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ بَقِيَ مَجْرُورًا عَلَى رَأْيٍ. وَكَنَّى بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَمَّا يُوقَعُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالتَّقَرُّبَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْقَالِبِيَّةِ، مِنْ تِلَاوَةِ كُتُبِهِ، وَحَرَكَاتِ الْجِسْمِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، أَوْ إِنَّمَا ذُكِرَ تَعَلُّقُ الْمَنْعِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ أَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِاسْمِ اللَّهِ. فَمَنْعُهُمْ لِمَا سِوَاهُ أَوْلَى. وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا اخْتِصَارًا، لِأَنَّهُمْ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ. وَجَاءَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ قَبْلُ هِيَ مَسَاجِدُ اللَّهِ، وَهِيَ فِي اللَّفْظِ مَذْكُورَةٌ قَبْلَ اسْمِ اللَّهِ، فَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِذَلِكَ. وَأُضِيفَتِ الْمَسَاجِدُ لِلَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ «1» ، وَخُصَّ بِلَفْظِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ أَفْعَالًا كَثِيرَةً مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالْقُعُودِ وَالْعُكُوفِ. وَكُلُّ هَذَا مُتَعَبَّدٌ بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ مَقَامٌ وَلَا مَرْكَعٌ وَلَا مَقْعَدٌ وَلَا مَعْكَفٌ، لِأَنَّ السُّجُودَ أَعْظَمُ الْهَيْئَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالطَّوَاعِيَةِ التَّامَّةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ؟ وَهِيَ حَالَةٌ يُلْقِي فِيهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ لِلِانْقِيَادِ التَّامِّ، وَيُبَاشِرُ بِأَفْضَلِ مَا فِيهِ وَأَعْلَاهُ، وَهُوَ الْوَجْهُ، التُّرَابَ الَّذِي هو موطىء قَدَمَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ مَسْجِدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ خَرَّبَ مَدِينَةَ إِسْلَامٍ، لِأَنَّهَا مَسَاجِدُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْقُوفَةً، إِذِ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قِيلَ مَسَاجِدَ اللَّهِ؟ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ وَالتَّخْرِيبُ عَلَى مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وهو بيت المقدس، أو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَجِيءَ الْحُكْمُ عَامًّا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ آذَى صَالِحًا وَاحِدًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ آذَى الصَّالِحِينَ؟ وَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «2» ، وَالْمَنْزُولُ فِيهِ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: جُمِعَتْ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، يَعْنِي الْكَعْبَةَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ لِغَيْرِهِ. وَسَعى فِي خَرابِها: إِمَّا حَقِيقَةً، كَتَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ مَجَازًا بِانْقِطَاعِ الذِّكْرِ فِيهَا وَمَنْعِ قَاصِدِيهَا منها، إذ ذلك يؤول بِهَا إِلَى الْخَرَابِ. فَجُعِلَ المنع

_ (1) سورة الجن: 72/ 18. (2) سورة الهمزة: 104/ 1.

خَرَابًا، كَمَا جُعِلَ التَّعَاهُدُ بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ عِمَارَةً، وَذَلِكَ مَجَازٌ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قَالَ وَمَنْ أَظْلَمُ لِيُعْلِمَ أَنَّ قُبْحَ الِاعْتِقَادِ يُورِثُ تَخْرِيبَ الْمَسَاجِدِ، كَمَا أَنَّ حُسْنَ الِاعْتِقَادِ يُورِثُ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ. أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ: هَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قَالُوا تَدُلُّ عَلَى مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ مِنْ مُعْجِزِ الْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ. وَفِيهَا بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعُلُوِّ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَقَهْرِ مَنْ عَادَاهُ. إِلَّا خَائِفِينَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: إِلَّا خُيَّفًا، وَهُوَ جَمْعُ خَائِفٍ، كَنَائِمٍ وَنُوَّمٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فَاصِلَةً، فَلِذَلِكَ جُمِعَتْ جَمْعَ التَّكْسِيرِ. وَإِبْدَالُ الْوَاوِ يَاءً، إِذِ الْأَصْلُ خَوْفٌ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَقَوْلِهِمْ، فِي صُوَّمٍ صُيَّمٍ، وَخَوْفُهُمْ: هُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الصَّغَارِ وَالذُّلِّ وَالْجِزْيَةِ، أَوْ مِنْ أَنْ يَبْطِشَ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ فِي الْمُحَاكَمَةِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْخَوْفَ، أَوْ ضَرْبًا مُوجِعًا، لِأَنَّ النَّصَارَى لَا يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خَائِفِينَ مِنَ الضَّرْبِ، أَقْوَالٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: أُولَئِكَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا وَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ اللَّهِ وَجِلُونَ مِنْ عِقَابِهِ. فَكَيْفَ لَهُمْ أَنْ يَلْتَبِسُوا بِمَنْعِهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي تَخْرِيبِهَا، إِذْ هِيَ بُيُوتٌ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ؟ وَمَا هَذِهِ سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَظَّمَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ، وَيُسْعَى فِي عِمَارَتِهِ، وَلَا يَدْخُلَهُ الْإِنْسَانُ إِلَّا وَجِلًا خَائِفًا، إِذْ هُوَ بَيْتُ اللَّهِ أَمَرَ بِالْمُثُولِ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِلْعِبَادَةِ. وَنَظِيرُ الْآيَةِ أَنْ يَقُولَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ قَتَلَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى؟ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَلْقَاهُ إِلَّا مُعَظِّمًا لَهُ مُكْرِمًا أَيْ هَذِهِ حَالَةُ مَنْ يَلْقَى وَلِيًّا لِلَّهِ، لَا أَنْ يُبَاشِرَهُ بِالْقَتْلِ. فَفِي ذَلِكَ تَقْبِيحٌ عَظِيمٌ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ ضِدُّهُ، وَهُوَ التَّبْجِيلُ وَالتَّعْظِيمُ. وَلَمَّا لَمْ يَقَعْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلْمُفَسِّرِينَ، اخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ. وَلَوْ أُرِيدَ مَا ذَكَرُوهُ، لَكَانَ اللَّفْظُ: أُولَئِكَ مَا يَدْخُلُونَهَا إِلَّا خَائِفِينَ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ: مَا كَانَ لَهُمْ، الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الِابْتِغَاءِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لَهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُ يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقَوِّيهِمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسَاجِدَ الْكُفَّارُ إِلَّا خَائِفِينَ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ عَلَى صِفَةِ الْخَوْفِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، إِذْ قَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها: أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ لَنَا بِأَنْ نُخِيفَهُمْ، وَإِنَّمَا ذُهِبَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ بقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما

دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً «1» ، وَلِأَنَّ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ ذَا السَّوِيقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ يَهْدِمُ الْكَعْبَةَ حَجَرًا حَجَرًا. فَلَمَّا رَأَى أَنَّ هَذَا يُعَارِضُ الْآيَةَ، إِذَا جَعَلْنَاهَا خَبَرًا لَفْظًا، وَمَعْنًى حَمْلِهَا عَلَى الْأَمْرِ وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْأَمْرِ لَنَا بِالْإِخَافَةِ لَهُمْ بَعِيدَةٌ جِدًّا، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ، حُمِلَ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ، وَلَا يَخْتَصُّ الْحَمْلُ فِيهَا عَلَى اللَّفْظِ وَعَلَى الْمَعْنَى بِكَوْنِهَا مَوْصُولَةً، بَلْ هِيَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَعَانِيهَا مِنَ الْوَصْلِ وَالشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِيهَا فِي سَائِرِ مَعَانِيهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً نَحْوَ: مَرَرْتُ بِمَنْ مُحْسِنٌ لَكَ، فَلَيْسَ فِي مَحْفُوظِي مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِيهَا. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا قَبْلُ عَلَى كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ: الْآيَةَ، دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ دُخُولِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَا فهمهنا نَحْنُ مِنَ الْآيَةِ. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ: هَذَا الْجَزَاءُ مُنَاسِبٌ لِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ. أَمَّا الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الْهَوَانُ والإذلال لهم، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْوَصْفِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِيهِ إِخْمَالَ الْمَسَاجِدِ بِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ وَتَعْطِيلِهَا مِنْ ذَلِكَ، فَجُوزُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْإِذْلَالِ وَالْهَوَانِ. وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ الْعَذَابُ بِالنَّارِ، وَهُوَ إِتْلَافٌ لِهَيَاكِلِهِمْ وَصُوَرِهِمْ، وَتَخْرِيبٌ لها بعد تخريب كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «2» . وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْوَصْفِ الثَّانِي، وَهُوَ سَعْيُهُمْ فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ، فَجُوزُوا عَلَى ذَلِكَ بِتَخْرِيبِ صُوَرِهِمْ وَتَمْزِيقِهَا بِالْعَذَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِزْيُ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ حُكْمًا، سَوَاءٌ فَسَّرْتَهُ بِقَتْلٍ أَوْ سَبْيٍ لِلْحَرْبِيِّ، أَوْ جِزْيَةٍ لِلذِّمِّيِّ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى وَصْفٍ. وَلَمَّا كَانَ الْعَذَابُ مُتَفَاوِتًا، أَعْنِي عَذَابَ الْكَافِرِ وَعَذَابَ الْمُؤْمِنِ، وُصِفَ عَذَابُ الْكَافِرِ بِالْعِظَمِ لِيَتَمَيَّزَ مِنْ عَذَابِ الْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: الْخِزْيُ هُوَ الْفَتْحُ الْإِسْلَامِيُّ، كَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَمُّورِيَّةَ وَرُومِيَّةَ، وَقِيلَ: جِزْيَةُ الذِّمِّيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: طَرْدُهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ: قَتْلُ الْمَهْدِيِّ إِيَّاهُمْ إِذَا خَرَجَ، قَالَهُ الْمَرْوَزِيُّ، وَقِيلَ: مَنْعُهُمْ مِنَ الْمَسَاجِدِ. قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: إِنَّ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا خِزْيًا. أَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَتْلُ قُرَيْظَةَ، وَإِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلُ النَّصَارَى وَفَتْحُ حُصُونِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وإجراء الجزية

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 7. (2) سورة النساء: 4/ 56.

عَلَيْهِمْ، وَالسِّيمَا الَّتِي الْتَزَمُوهَا، وَمَا شَرَطَهُ عُمَرُ عَلَيْهِمْ. وأما مشركوا الْعَرَبِ، فَقَتْلُ أَبْطَالِهِمْ وَأَقْيَالِهِمْ، وَكَسْرُ أَصْنَامِهِمْ، وَتَسْفِيهُ أَحْلَامِهِمْ، وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ دَارُ قَرَارِهِمْ ومسقط رؤوسهم، وَإِلْزَامُهُمْ خُطَّةَ الْهَلَاكِ مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ فِي آخِرِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ فَتْحِ الرُّومِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ الْآيَةَ، إِشَارَةٌ إِلَى ظُلْمِ مَنْ خَرَّبَ أَوْطَانَ الْمَعْرِفَةِ بِالْمُنَى وَالْعَلَاقَاتِ، وَهِيَ قُلُوبُ الْعَارِفِينَ وَأَوْطَانَ الْعِبَادَةِ بِالشَّهَوَاتِ، وَهِيَ نُفُوسُ الْعِبَادِ وَأَوْطَانَ الْمَحَبَّةِ بِالْحُظُوظِ وَالْمُسَاكَنَاتِ، وَهِيَ أَرْوَاحُ الْوَاجِدِينَ وَأَوْطَانَ الْمُشَاهَدَاتِ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْقُرُبَاتِ، وَهِيَ أَسْرَارُ الْمُوَحِّدِينَ. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ: ذُلُّ الْحِجَابِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ لِاقْتِنَاعِهِمْ بِالدَّرَجَاتِ. انْتَهَى، وَبَعْضُهُ مُلَخَّصٌ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ عَجِيبٌ يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ، وَكَذَا أَكْثَرُ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ. وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَبَاحَ لَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُصَلُّوا حَيْثُ شَاءُوا، فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَاهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَيْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَأَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ. فَعَلَى هَذَا هِيَ نَاسِخَةٌ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ جَوَابًا لِمَنْ عَيَّرَ مِنَ الْيَهُودِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ دَابَّتُهُ. وَقِيلَ: جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ، حَيْثُ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَتِنَا. وَقِيلَ: فِيمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي لَيْلَةٍ مُتَغَيِّمَةٍ، فَصَلُّوا بِالتَّحَرِّي إِلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حديث عن جاب ر، أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِسَرِّيَّةٍ، وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ، لَمْ يُعْدَلْ إِلَى سِوَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُضْطَرِبَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، أَيْنَمَا تُوَلُّوا فِي مُتَصَرَّفَاتِكُمْ وَمَسَاعِيكُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَظَاهِرُهُا التَّعَارُضُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا إِلَّا مَا صَحَّ، وَقَدْ شَحَنَ الْمُفَسِّرُونَ كُتُبَهُمْ بِنَقْلِهَا. وَقَدْ صَنَّفَ الْوَاحِدِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا قَلَّمَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَغَلَ بِنَقْلِ ذَلِكَ إِلَّا مَا صَحَّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ انْتِظَامَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَنْعَ الْمَسَاجِدِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي تَخْرِيبِهَا، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِذِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لِلَّهِ

تَعَالَى، فَأَيُّ جِهَةٍ أَدَّيْتُمْ فِيهَا الْعِبَادَةَ، فَهِيَ لِلَّهِ يُثِيبُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْتَصُّ مَكَانُ التَّأْدِيَةِ بِالْمَسْجِدِ. وَالْمَعْنَى: وَلِلَّهِ بِلَادُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا. فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فيكون عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمَا تَشْرِيفًا لَهُمَا، حَيْثُ أُضِيفَا لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا لِلَّهِ، كَمَا شَرَّفَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَمَاكِنِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أَسْمَى مَكَانٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُمَا اسْمَا مَصْدَرٍ، وَالْمَعْنَى أَنْ لِلَّهِ تَوَلِّيَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا وَإِغْرَابِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا، فَيَكُونَانِ، إِذْ ذَاكَ، بِمَعْنَى الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ. وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَأَفْرَدَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِاعْتِبَارِ النَّاحِيَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ فِي النَّاحِيَةِ. وَأَمَّا الْجَمْعُ فَبِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَغَارِبِ وَالْمَطَالِعِ كُلَّ يَوْمٍ. وَأَمَّا التَّثْنِيَةُ فَبِاعْتِبَارِ مَشْرِقَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَمُغْرِبَيْهِمَا. وَمَعْنَى التَّوْلِيَةِ: الِاسْتِقْبَالُ بِالْوُجُوهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الِاسْتِدْبَارُ مِنْ قَوْلِكَ: وَلَّيْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأَيُّ جِهَةٍ وَلَّيْتُمْ عَنْهَا وَاسْتَقْبَلْتُمْ غَيْرَهَا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ يُخَرِّبُونَ الْمَسَاجِدَ، أَيْ أَيْنَمَا تَوَلَّوْا هَارِبِينَ عَنِّي فَإِنِّي أَلْحَظُهُمْ. وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا، جَعَلَهُ لِلْغَائِبِ، فَجَرَى عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، فَجَرَتِ الضَّمَائِرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَفِي أَيِّ مَكَانٍ فَعَلْتُمُ التَّوْلِيَةَ، يَعْنِي تَوْلِيَةَ وُجُوهِكُمْ شَطْرَ الْقِبْلَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «1» ، انْتَهَى. فَقَيَّدَ التَّوْلِيَةَ الَّتِي هي مطلقة هنا بِالتَّوْلِيَةِ الَّتِي هِيَ شَطْرَ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ مَسَائِلَ مَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ مِنْهَا: مَنْ صَلَّى فِي ظُلْمَةٍ مُجْتَهِدًا إِلَى جِهَةٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَمَسْأَلَةُ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَرْضًا لِمَرَضٍ أَوْ نَفْلًا، وَمَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ، إِذَا قُلْنَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، وَشَحَنَ كِتَابَهُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَبَعْضِ دَلَائِلِهَا وَمَوْضُوعِهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْوَجْهُ بِمَعْنَى الْجِهَةِ، وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ حَيْثُ أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِهَا، فَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي فِيهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، قاله

_ (1) سورة البقرة: 2/ 144.

الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى فَثَمَّ اللَّهُ أَيْ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومقاتل: أو عَبَّرَ عَنِ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «1» ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْعَمَلُ لِلَّهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لست محصيه ... رَبُّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا: الْجَاهُ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ وَجْهُ الْقَوْمِ، أَيْ مَوْضِعُ شَرَفِهِمْ، وَلِفُلَانٍ وَجْهٌ عِنْدَ النَّاسِ: أَيْ جَاهٌ وَشَرَفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَثَمَّ جَلَالُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ، قَالَهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي الْمُقْنِعِ. وَحَيْثُ جَاءَ الْوَجْهُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ مَحْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، إِذْ هُوَ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَشْهَرَ فِيهِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ بِالسَّمْعِ، زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْقَدِيمِ تَعَالَى. وَضَعَّفَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ، لِأَنَّ فِيهِ الْجَزْمَ بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، وَهِيَ صِفَةٌ لَا يُدْرَى مَا هِيَ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَوَجَبَ اطِّرَاحُ هَذَا الْقَوْلِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا لَهُ مَحْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. إِذَا كَانَ لِلَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّجْسِيمِ فَنَحْمِلُهُ، إِمَّا عَلَى مَا يُسَوَّغُ فِيهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يَصِحُّ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، أَوْ مِنَ الْمَجَازِ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ. وَالْمَجَازُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَنَهْرِ فِلَسْطِينَ. فَالْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْسِيمِ غَبَاوَةٌ وَجَهْلٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَأَنْحَائِهَا وَمُتَصَرِّفَاتِهِا فِي كَلَامِهَا، وَحُجَجِ الْعُقُولِ الَّتِي مَرْجِعُ حَمْلِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ إِلَيْهَا. وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَكُونَ كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ فِي إِثْبَاتِ التَّجْسِيمِ وَنِسْبَةِ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْمُفْتَرُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وفي قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي حَيِّزٍ وَجِهَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا خُيِّرَ فِي اسْتِقْبَالِ جَمِيعِ الْجِهَاتِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ، وَلَوْ كَانَ فِي حَيِّزٍ لَكَانَ اسْتِقْبَالُهُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ أَحَقَّ مِنْ جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ. فَحَيْثُ لَمْ يُخَصِّصْ مَكَانًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ، بَلْ جَمِيعُ الْجِهَاتِ فِي مُلْكِهِ وَتَحْتَ مُلْكِهِ، فَأَيُّ جِهَةٍ تَوَجَّهْنَا إِلَيْهِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ كُنَّا مُعَظِّمِينَ لَهُ مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ. إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ: وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْوَاسِعِ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِسَعَةِ مَغْفِرَتِهِ. وَجَاءَ: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ «3» ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ. وقيل:

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 27. (2) سورة القصص: 28/ 88. (3) سورة النجم: 53/ 32.

وَاسِعُ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: غَنِيٌّ، وَمَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: جَوَادٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَالِمٌ، مِنْ قَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «1» ، عَلَى أَحَدِ التَّفَاسِيرِ، وَجُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: وَاسِعُ الْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُوَسِّعُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحكم ذينه يُسْرٌ. عَلِيمٌ: أَيْ بِمَصَالِحِهِمْ أَوْ بِنِيَّاتِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْعَمَلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ظَوَاهِرُهَا فِي قِبْلَةٍ وَغَيْرِهَا. وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْقِبْلَةِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ بِهِمْ، وَطَوَّقَ سُلْطَانَهُ إِيَّاهُمْ حَيْثُ كَانُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ «2» ، الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى «3» الْآيَةَ، وَيَكُونُ فِي هَذَا تَهْدِيدٌ لِمَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مِنَ الذِّكْرِ، وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، أَنَّهُ لَا مَهْرَبَ لَهُ مِنَ اللَّهِ وَلَا مَفَرَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيْنَ الْمَفَرُّ، كَلَّا لَا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ» ، وَكَمَا قَالَ: فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ وَقَالَ: وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى ... لِيُعْجِزَ وَالْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طَالِبُهْ وَقَالَ: أَيْنَ الْمَفَرُّ وَلَا مَفَرَّ لِهَارِبٍ ... وَلَهُ الْبَسِيطَانِ الثَّرَى وَالْمَاءُ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الخطاب عاما مندرج فِيهِ مَنْ مَنَعَ الْمَسَاجِدَ مِنَ الذِّكْرِ وَغَيْرِهِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةً بِإِنَّ مُصَرَّحًا بِاسْمِ اللَّهِ فِيهَا دَالَّةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ «5» ، وَكَقَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «6» ، وَذَلِكَ أَفْخَمُ وَأَجْزَلُ مِنَ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يُشْعِرُ بِقُوَّةِ التَّعَلُّقِ وَالظَّاهِرَ يُشْعِرُ بِالِاسْتِقْلَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُلْحَظْ مَا قَبْلَهُ؟ بِخِلَافِ الضَّمِيرِ، فَإِنَّهُ رَابِطٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. أَلَا تَرَى إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ بِالظَّاهِرِ؟ كَمَا مَثَّلْنَاهُ، وَكَقَوْلِهِ: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ «7» ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ «8» ، وقال:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 255. (2) سورة الرحمن: 55/ 33. (3) سورة المجادلة: 58/ 7. (4) سورة القيامة: 75/ 10- 12. [.....] (5) سورة البقرة: 2/ 110. (6) سورة المزمل: 73/ 20. (7) سورة النساء: 4/ 103. (8) سورة البقرة: 2/ 20.

لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّي لَيْتٌ ... إِنَّ لَيْتًا وَإِنَّ لَوًّا عَنَاءُ وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، إِذْ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» ، أَوْ فِي النَّصَارَى، إِذْ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «2» ، أَوْ فِي الْمُشْرِكِينَ، إِذْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، أَوْ فِي النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالْأَخِيرُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَلِاخْتِلَافِهِمْ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، اخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي وقالوا، عَلَى مَنْ يَعُودُ؟ فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَدْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى قِرَاءَةِ: وَقَالُوا بِالْوَاوِ، وَهُوَ آكَدُ فِي الرَّبْطِ، فَيَكُونُ عَطَفَ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ مِثْلِهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَسَعى فِي خَرابِها، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَى الصِّلَةِ، وَفُصِلَ بَيْنَهُمَا بِالْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَغَيْرُهُمَا: قَالُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَيَكُونُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ، أَوْ مَلْحُوظًا فِيهِ مَعْنَى الْعَطْفِ، وَاكْتَفَى بِالضَّمِيرِ وَالرَّبْطِ بِهِ عَنِ الرَّبْطِ بِالْوَاوِ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: وَبِغَيْرِ وَاوٍ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ. تَقَدَّمَ أَنَّ اتَّخَذَ: افْتَعَلَ مِنَ الْأَخْذِ، وَأَنَّهَا تَارَةً تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: اتَّخَذَتْ بَيْتاً «3» ، قَالُوا: مَعْنَاهُ صَنَعَتْ وَعَمِلَتْ، وَإِلَى اثْنَيْنِ فَتَكُونُ بِمَعْنَى: صَيَّرَ. وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يُحْتَمَلُ هُنَا. وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَهُ بِاسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الولد يكون من جنس الْوَالِدِ. فَإِنْ جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنَى عَمِلَ وَصَنَعَ، اسْتَحَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُوثِ، قَدِيمٌ، لَا أَوَّلِيَّةَ لِقِدَمِهِ، وَمَا عَمِلَهُ مُحْدَثٌ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يكون ولد إله. وَإِنْ جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، اسْتَحَالَ أَيْضًا، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ هُوَ نَقْلٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَفَرْضِيَّةُ الْوَلَدِ بِهِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ لَا تَقْتَضِي التَّغْيِيرَ، فَقَدِ اسْتَحَالَ ذَلِكَ. وَإِذَا جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، كَانَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: وَقَالُوا اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ وَلَدًا. وَالَّذِي جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا ظَاهِرُهُ التَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «4» ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ «5» ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «6» . وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَتَى بِالْوَلَدِ، وَهُوَ أَحَدِيُّ الذَّاتِ، لَا جُزْءَ لِذَاتِهِ، وَلَا تَجُوزُ الشَّهْوَةُ فِي صِفَاتِهِ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَوْضَحِهَا فِي الِاسْتِحَالَةِ، أتى باللفظ الذي

_ (1) سورة التوبة: 9/ 30. (2) سورة التوبة: 9/ 30. (3) سورة العنكبوت: 29/ 41. (4) سورة مريم: 19/ 88. (5) سورة المؤمنون: 23/ 91. (6) سورة مريم: 19/ 92.

يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَيَسْتَدِلَّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ. وَكَانَ ذِكْرُ التَّنْزِيهِ أَسْبَقَ، لِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا لِمُدَّعِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَمْرًا تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَقَدَّسَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي إِبْطَالِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَيْ جَمِيعُ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ وَلَدَ اللَّهُ. وَالْوِلَادَةُ تُنَافِي الْمِلْكِيَّةَ، لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يَمْلِكُ وَلَدَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا مَسْأَلَةَ مَنِ اشترى والده أَوْ وَلَدَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَمَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْكُلَّ مَمْلُوكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَانِتُونَ لَهُ، أَيْ مُطِيعُونَ خَاضِعُونَ لَهُ. وَهَذِهِ عَادَةُ الْمَمْلُوكِ، أَنْ يَكُونَ طَائِعًا لِمَالِكِهِ، مُمْتَثِلًا لِمَا يُرِيدُهُ مِنْهُ. وَاسْتُدِلَّ بِنَتِيجَةِ الطَّوَاعِيَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُجَانِسِ الْوَالِدَ، إِذِ الْوَلَدُ يكون من جنس الوالد. وَأَتَى بِلَفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ لِمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّ مَا لَا يَعْقِلُ إِذَا اخْتَلَطَ بِمَنْ يَعْقِلُ جَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجَمِيعِ بِمَا. وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا مَا، فَإِنَّهَا مُبْهَمَةٌ تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَيُدَلُّ عَلَى انْدِرَاجِ مَنْ يَعْقِلُ تَحْتَ مَدْلُولِ مَا جَمْعُ الْخَبَرِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِيمَا يَعْقِلُ، وَانْدَرَجَ فِيهِ مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى حُكْمِ تَغْلِيبِ مَنْ يَعْقِلُ. فَحِينَ ذَكَرَ الْمُلْكَ، أَتَى بِلَفْظَةِ مَا، وَحِينَ ذَكَرَ الْقُنُوتَ، أَتَى بِجَمْعِ مَا يَعْقِلُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَاءَ بِمَا الَّذِي لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ مَعَ قَوْلِهِ قَانِتُونَ؟ قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا، وَكَأَنَّهُ جَاءَ بِمَا دُونَ مَنْ، تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «1» . انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ جُنُوحٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَا وَقَعَتْ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. يُرِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى: سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكُنَّ لَنَا، لِأَنَّهَا يُرَادُ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَمَا عِنْدَنَا لَا يَقَعُ إِلَّا لِمَا لَا يَعْقِلُ، إِلَّا إِذَا اخْتَلَطَ بِمَنْ يَعْقِلُ، فَيَقَعُ عَلَيْهِمَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ، فَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِمَا. وَأَمَّا أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يَعْقِلُ، خَاصَّةً حَالَةَ إِفْرَادِهِ أَوْ غَيْرِ إِفْرَادِهِ، فَلَا. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ مَذْهَبٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إِذْ جَمِيعُ مَا احْتُجَّ بِهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ يؤول، فيؤول قَوْلُهُ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ، عَلَى أَنَّ سُبْحَانَ غَيْرُ مُضَافٍ، وَأَنَّهُ عَلَمٌ لِمَعْنَى التَّسْبِيحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخر

_ (1) سورة الصافات: 37/ 158.

وَمَا: ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ مُدَّةَ تَسْخِيرِكُنَّ لَنَا. وَالْفَاعِلُ يسخر مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى وَسِيَاقُ الْكَلَامِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنْ مُسَخِّرَهُنَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَكَأَنَّهُ جَاءَ بِمَا دُونَ مَنْ، تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، لَيْسَتْ مَا هُنَا مُخْتَصَّةً بِمَنْ يَعْقِلُ، فَتَقُولَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِمَا الَّتِي لِمَا لَا يَعْقِلُ تَحْقِيرًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لِمَنْ يَعْقِلُ وَلِمَا لَا يَعْقِلُ. وَمَعْنَى قَانِتُونَ: قَائِمُونَ بِالشَّهَادَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ فِي الْقِيَامَةِ لِلْعَرْضِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، أَوْ مُطِيعُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَوْ مُقِرُّونَ بِالْعُبُودِيَّةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: قَائِمُونَ بِاللَّهِ. وَأُورِدَ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقُنُوتُ: الْقِيَامُ لِلَّهِ بِالشَّهَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، أَنَّهُ: كَيْفَ عَمَّ بِهَذَا الْقَوْلِ وَكَثِيرٌ لَيْسَ بِمُطِيعٍ؟ وَأُجِيبَ: أَنَّ ظَاهِرَهُ الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى الْخُصُوصُ، أَيْ أَهْلُ كُلِّ طَاعَةٍ لَهُ قَانِتُونَ، وَبِأَنَّ الْكُفَّارَ يَسْجُدُ ضُلَّالُهُمْ، وَبِظُهُورِ أَثَرِ الصَّنْعَةِ فِيهِ، وَجَرْيِ أَحْكَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَذَلُّلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وكُلٌّ لَهُ: مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، أَيْ كُلُّ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِمْ بِالْمِلْكِيَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ جَعَلُوهُ لِلَّهِ وَلَدًا، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْمَجْعُولَ لِلَّهِ وَلَدًا لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَجْعُولُ وَلَدًا وَغَيْرُهُ. وقانِتُونَ: خَبَرٌ عَنْ كُلٌّ، وَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَكُلُّ، إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، جَازَ فِيهَا مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فَتُجْمَعُ، وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فَتُفْرَدُ. وَإِنَّمَا حَسُنَتْ مُرَاعَاةُ الْجَمْعِ هُنَا، لِأَنَّهَا فَاصِلَةُ رَأْسِ آيَةٍ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي لِسَانِهِمْ أَنَّهُ إِذَا قُطِعَتْ عَنِ الْإِضَافَةِ كَانَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى أَكْثَرَ وَأَحْسَنَ. قَالَ تَعَالَى: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ «1» ، وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «2» ، وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «3» . وَقَدْ جَاءَ إِفْرَادُ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «4» ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَاكَ ذِكْرُ مُحَسِّنِ إِفْرَادِ الْخَبَرِ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ من في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ كُلٌّ قَانِتُونَ له، وهم المظروف للسموات وَالْأَرْضِ، ذَكَرَ الظَّرْفَيْنِ وَخَصَّهُمَا بِالْبَدَاعَةِ، لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَارْتِفَاعُ بَدِيعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَالْمَجْرُورُ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ، وأصله الأول بديع سمواته، ثُمَّ شَبَّهَ الْوَصْفَ فَأَضْمَرَ فيه، فنصب السموات، ثُمَّ جَرَّ مَنْ نَصَبَ. وَفِيهِ أَيْضًا ضَمِيرٌ يَعُودُ

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 54. (2) سورة النمل: 27/ 87. (3) سورة الأنبياء: 21/ 33. [.....] (4) سورة الإسراء: 17/ 84.

عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ تعالى بدعت سمواته، أَيْ جَاءَتْ فِي الْخَلْقِ عَلَى شَكْلٍ مُبْتَدَعٍ لَمْ يَسْبِقْ نَظِيرُهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ ابْتَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، إِلَّا أنه قال: وبديع السموات مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَى فَاعِلِهَا، وَهَذَا لَيْسَ عِنْدَنَا. كَذَلِكَ بَلْ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَى مَنْصُوبِهَا. وَالصِّفَةُ عِنْدَنَا لَا تَكُونُ مُشَبَّهَةً حَتَّى تَنْصِبَ أَوْ تَخْفِضَ، وَأَمَّا إِذَا رَفَعَتْ مَا بَعْدَهَا فَلَيْسَ عِنْدَنَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، لِأَنَّ عَمَلَ الرَّفْعِ فِي الْفَاعِلِ يَسْتَوِي فِيهِ الصِّفَاتُ الْمُتَعَدِّيَةُ وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّيَةِ. فَإِذَا قُلْنَا: زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ، فَقَائِمٌ رَافِعٌ لِلْأَبِ عَلَى حَدِّ رَفْعِ ضَارِبٍ لَهُ. إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ أَبُوهُ عَمْرًا، لَا تَقُولُ: إِنَّ قَائِمًا هُنَا مِنْ حَيْثُ عَمِلَ الرَّفْعَ شُبِّهَ بِضَارِبٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِضَافَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى مَرْفُوعِهِ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، إِلَّا إِنْ أَخَذْنَا كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى التَّجَوُّزِ فَيُمْكِنُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَى مَا كَانَ فَاعِلًا بِهَا قَبْلَ أَنْ يُشَبَّهَ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهًا ثَانِيًا قَالَ: وَقِيلَ الْبَدِيعُ بِمَعْنَى الْمُبْدِعِ، كَمَا أَنَّ السَّمِيعَ فِي قَوْلِ عَمْرٍو: أمن ريحانة الداعي السميع بِمَعْنَى: الْمُسْمِعِ: وَفِيهِ نَظَرٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ، قَالَ: وَبَدِيعٌ مَصْرُوفٌ مِنْ مُبْدِعٍ، كَبَصِيرٍ مِنْ مُبْصِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السمي ... ع يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ يُرِيدُ: الْمُسْمِعُ وَالْمُبْدِعُ وَالْمُنْشِئُ، وَمِنْهُ أَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي صَلَاةِ رَمَضَانَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، انْتَهَى. وَالنَّظَرُ الَّذِي ذكر الزَّمَخْشَرِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ لَا يَنْقَاسُ مَعَ أَنَّ بَيْتَ عَمْرٍو مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لمفعوله. وقرأ المنصور: بَدِيعَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وقرىء بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُ. وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: لَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى طَوَاعِيَةِ الْمُخْتَرِعِ وَسُرْعَةِ تَكْوِينِهِ. وَمَعْنَى قَضَى هُنَا: أَرَادَ، أَيْ إِذَا أَرَادَ إِنْشَاءَ أَمْرٍ وَاخْتِرَاعَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَضَى: مَعْنَاهُ قَدَّرَ، وَقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى: أَمْضَى. وَيَتَّجِهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْنَيَانِ. فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ: قَدَّرَ فِي الْأَزَلِ وَأَمْضَى فِيهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَمْضَى عِنْدَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ. وَالْأَمْرُ: وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ هُنَا مَصْدَرَ أَمَرَ يَأْمُرُ. وَالْمُعْتَقَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِلْمَعْدُومَاتِ بِشَرْطِ وُجُودِهَا، قَادِرًا مَعَ تَأَخُّرِ

الْمَقْدُورَاتِ، عَالِمًا مَعَ تَأَخُّرِ وُقُوعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَكُلُّ مَا فِي الْآيَةِ مِمَّا يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ فَهُوَ بِحَسَبِ الْمَأْمُورَاتِ، إِذِ الْمُحْدَثَاتُ تَجِيءُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكُلُّ مَا اسْتَنَدَ إِلَى اللَّهِ مِنْ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ فَهُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ. انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ هُنَا مِنْ كَلَامِهِ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَإِذا قَضى أَمْراً، أَيْ أَتْقَنَهُ وَأَحْكَمَهُ وَفَرَغَ مِنْهُ. وَمَعْنَى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، يَقُولُ مِنْ أَجْلِهِ. وَقِيلَ: قَالَ لَهُ كُنْ، وَهُوَ مَعْدُومٌ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ، إِذْ هُوَ عِنْدَهُ مَعْلُومٌ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَمْرُهُ لِلشَّيْءِ بِكُنْ لَا يَتَقَدَّمُ الْوُجُودَ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَوْجُودٌ بِالْأَمْرِ، وَلَا مَوْجُودًا بِالْأَمْرِ إِلَّا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُجُودِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ قِيَامُ الْأَمْوَاتِ مِنْ قُبُورِهِمْ لَا يَتَقَدَّمُ دُعَاءَ اللَّهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ «1» . فَالْهَاءُ فِي لَهُ تَعُودُ عَلَى الْأَمْرِ، أَوْ عَلَى الْقَضَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَضَى، أَوْ عَلَى الْمُرَادِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ. انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا سَيَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَقَوْلُهُ: كُنْ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمَوْجُودِ فِي عِلْمِهِ لِيُخْرِجَهُ إِلَى الْعِيَانِ لَنَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُنْ فَيَكُونُ، مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيِ احْدُثْ فَيَحْدُثُ، وَهَذَا مَجَازٌ مِنَ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلٌ وَلَا قَوْلٌ، ثُمَّ كَمَا لَا قَوْلَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قَالَتِ الْأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: مَا قَضَاهُ مِنَ الْأُمُورِ وَأَرَادَ كَوْنَهُ، فَإِنَّمَا يَتَكَوَّنُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ وَلَا تَوَقُّفٍ. كَمَا أَنَّ الْمَأْمُورَ الْمُطِيعَ الَّذِي يُؤْمَرُ فَيَمْتَثِلُ، لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَمْتَنِعُ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِبَاءُ. أَكَّدَ بِهَذَا اسْتِبْعَادَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ، كَانَتْ حَالُهُ مُبَايِنَةً لِأَحْوَالِ الْأَجْسَامِ فِي تَوَالُدِهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: كُنْ عَلَى التَّمْثِيلِ لِنَفَاذِ الْأَمْرِ، قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانُ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَإِلَّا فَالْمَعْدُومُ كَيْفَ يُخَاطَبُ أَوْ عَلَامَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِحُدُوثِ الْمَوْجُودِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مَا تُصُوِّرَ كَوْنُهُ فِي عِلْمِهِ، أَوْ مَخْصُوصٍ فِي تَحْوِيلِ الْمَوْجُودِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَوْ كَانَ كُنْ مَخْلُوقًا، لَاحْتَاجَ إِلَى أُخْرَى وَلَا يَتَنَاهَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَائِلًا لَهُ: كُنْ، وَلَكَانَ قَائِلًا: لِكُنْ كُنْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا يتناهى، وذلك مستحيل ما مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ ذَلِكَ

_ (1) سورة الروم: 30/ 25.

مِنْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنَ اللَّهِ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ قَبْلَهُ أَفْعَالٌ، هِيَ أَقَاوِيلُ لَا غَايَةَ لَهَا، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ، إِذْ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَمَادَاتِ، وَلَا يَكُونُ فِيمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْقَوْلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُنَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ، وُكِّدَ بِمَصْدَرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ، وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ مُجْمِعُونَ، عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَكَّدُوا الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ كَانَ حَقِيقَةً، وَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً «2» ، إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَوَلِّيَ تَكْلِيمِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بِكَوْنِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: كُنْ فَيَكُونُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كُنْ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَنَّ الْمُرَادَ نَفَاذُ سُرْعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا يَخْلُقُهَا لَا لِفِكْرَةٍ، وَنَظِيرُهُ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «3» . الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَامَةٌ يَعْقِلُهَا الْمَلَائِكَةُ، إِذَا سَمِعُوهَا عَلِمُوا أَنَّهُ أَحْدَثَ أَمْرًا، قَالَهُ أَبُو الْهُذَيْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ جَاءَ لِلْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «4» ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْأَحْيَاءِ بِالْمَوْتِ، وَلِلْمَوْتَى بِالْحَيَاةِ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ، وَالْقَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. هَذَا مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي الْآيَةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ إِحْدَاثَ شَيْءٍ قَالَ لَهُ: كُنْ، تُبَيِّنُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «5» ، وَقَوْلُهُ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «6» . لَكِنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ صَدَّ عَنِ اعْتِقَادِ مُخَاطَبَةِ الْمَعْدُومِ، وَصَدَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ كُنْ مُحْدَثَةٌ، وَمَنْ يَعْقِلْ مَدْلُولَ اللَّفْظِ. وَكَوْنَهُ يَسْبِقُ بَعْضُ حُرُوفِهِ بَعْضًا، لَمْ يَدْخُلْهُ شَكٌّ فِي حُدُوثِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا خِطَابَ وَلَا قَوْلَ لَفْظِيًّا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ سرعة الإيجاد وعدم اعتياضه، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ، وَكَأَنَّهُ قَدَّرَ أَنَّ الْمَعْدُومَ مَوْجُودٌ يَقْبَلُ الْأَمْرَ وَيَمْتَثِلُهُ بِسُرْعَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَكُونُ بِالرَّفْعِ، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ فَهُوَ يَكُونُ، وَعُزِيَ إِلَى سِيبَوَيْهِ. وقال غيره: فيكون عطف عَلَى يَقُولُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وقرّره. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ

_ (1) سورة النحل: 16/ 40. (2) سورة النساء: 4/ 164. (3) سورة فصلت: 41/ 11. (4) سورة البقرة: 2/ 65. (5) سورة النحل: 16/ 40. (6) سورة القمر: 54/ 50.

مَعَ التَّكْوِينِ حَادِثٌ، وَقَدِ انْتَهَى مَا رَدَّهُ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَمَعْنَى رَدِّهِ: أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُ قَدْ تَمَّ، وَالتَّكْوِينَ حَادِثٌ، وَقَدْ نَسَقَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، فَهُوَ مَعَهُ، أَيْ يَعْتَقِبُهُ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَعْتَقِبُهُ الْحَادِثُ. وَتَقْرِيرُ الطَّبَرِيِّ لَهُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَقَدَّمُ الْوُجُودَ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ. وَمَا رَدَّهُ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا وَأَمْرًا قَدِيمًا. أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَمِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، فَيَجُوزُ أن يعطف على تقول. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَيَكُونَ بِالنَّصْبِ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ: كُنْ فَيَكُونُ «1» وَنُعَلِّمُهُ، وَفِي النَّحْلِ، وَفِي مَرْيَمَ، وَفِي يس، وَفِي الْمُؤْمِنِ. وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ فِي النَّحْلِ وَيس، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي آلِ عمران. وكُنْ فَيَكُونُ «2» قَوْلُهُ الْحَقُّ فِي الْأَنْعَامِ أَنَّهُ بِالرَّفْعِ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ جَوَابٌ عَلَى لَفْظِ كُنْ، لِأَنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، فَشُبِّهَ بِالْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ. وَلَا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلَيْنِ يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا شرط وجزاء نحو: ائْتِنِي فَأُكْرِمْكَ، إِذِ الْمَعْنَى: إِنْ تَأْتِنِي أُكْرِمْكَ. وَهُنَا لَا يَنْتَظِمُ ذَلِكَ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنْ يَكُنْ يَكُنْ، فَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ: أَنَّهَا لَحْنٌ، وَهَذَا قَوْلٌ خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فِي السَّبْعَةِ، فَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ، لَمْ يَكُنْ لِيَلْحَنَ. وَقِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ إِمَامُ الْكُوفِيِّينَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَحْنٌ، مِنْ أَقْبَحِ الْخَطَأِ الْمُؤَثِّمِ الَّذِي يَجُرُّ قَائِلَهُ إِلَى الْكُفْرِ، إِذْ هُوَ طَعَنٌ عَلَى مَا عُلِمَ نَقْلُهُ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ الْعَرَبِ حِينَ، طَلَبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ وَغَيْرُهُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي النَّصَارَى، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ أَوَّلًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَافِعُ بْنُ خُزَيْمَةَ، مِنَ الْيَهُودِ: إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقُلْ لِلَّهِ يُكَلِّمُنَا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُشْرِكُو مَكَّةَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْصُولِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّبَبِ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُولُ الْجَهَلَةَ مِنَ الْعَرَبِ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ، وَلَا هُمْ أتباع نبوّة، وإن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 47. (2) سورة الأنعام: 6/ 73.

كَانَ الْمَوْصُولُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَنَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ لَهُ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ الْعِلْمِ هُنَا اقْتِصَارًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ نِسْبَةِ الْعِلْمِ إِلَيْهِمْ، لَا نَفْيُ عِلْمِهِمْ بِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَقَالَ الَّذِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ لَهُ سَجِيَّةٌ فِي الْعِلْمِ لِفَرْطِ غَبَاوَتِهِ، فَهِيَ مَقَالَةٌ صَدَرَتْ مِمَّنْ لَا يَتَّصِفُ بِتَمْيِيزٍ وَلَا إِدْرَاكٍ. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ، الْجُمْلَةُ التحضيضية وهي: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ كَمَا يُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ، وَكَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، أَيْ هَلَّا يَكُونُ أَحَدُ هَذَيْنِ، إِمَّا التَّكَلُّمُ، وَإِمَّا إِتْيَانُ آيَةٍ؟ قَالُوا ذَلِكَ جُحُودًا لِأَنْ يَكُونَ مَا أَتَاهُمْ آيَةً وَاسْتِهَانَةً بِهَا. وَلَمَّا حَكَى عَنْهُمْ نسبة الْوَلَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَقَالَةٍ أُخْرَى لَهُمْ تَدُلُّ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ التَّعْظِيمِ وَعَدَمِ الِاقْتِرَاحِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ كَذَلِكَ، وَفِي تَبْيِينِ وُقُوعِ مِنْ قَبْلِهِمْ صِلَةً لِلَّذِينَ فِي قوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1» وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. إِنْ فُسِّرَ الْمَوْصُولُ فِي الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ بِكُفَّارِ الْعَرَبِ، أَوْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، فَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمُ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ فُسِّرَ بِالْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، فَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَسْلَافُهُمْ، وَانْتِصَابُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ الْكَافِ. وَلَا تَدُلُّ الْمِثْلِيَّةُ عَلَى التَّمَاثُلِ في نفس المقول، يل يُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُمُ اقْتَرَحُوا غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ وَقَعَتْ فِي اقْتِرَاحِ مَا لَا يَلِيقُ سُؤَالُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، إِذِ الْمِثْلِيَّةُ تَصْدُقُ بِهَذَا الْمَعْنَى. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. لَمَّا ذَكَرَ تَمَاثُلَ الْمَقَالَاتِ، وَهِيَ صَادِرَةٌ عَنِ الْأَهْوَاءِ وَالْقُلُوبِ، ذَكَرَ تَمَاثُلَ قُلُوبِهِمْ فِي الْعَمَى وَالْجَهْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ «2» . قِيلَ: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَقِيلَ: فِي الْقَسْوَةِ. وَقِيلَ: فِي التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ. وَقِيلَ: فِي الْمُحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو حَيْوَةَ: تَشَّابَهَتْ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، يَعْنِي أَنَّ اجْتِمَاعَ التَّاءَيْنِ الْمَزِيدَتَيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْمَاضِي، إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُضَارِعِ نَحْوُ: تَتَشَابَهُ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ فِيهِ الْإِدْغَامُ. أَمَّا الْمَاضِي فَلَيْسَ أَصْلُهُ تَتَشَابَهُ. وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا «3» ، وَخَرَّجْنَا ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلٍ لَا يُمْكِنُ هُنَا، فَيُتَطَلَّبُ هُنَا تَأْوِيلٌ لهذه القراءة.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 21. (2) سورة الذاريات: 51/ 53. (3) سورة البقرة: 2/ 70.

قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ: أَيْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ، فَاقْتِرَاحُ آيَةٍ مَعَ تَقَدُّمِ مَجِيءِ آيَاتٍ وَإِيضَاحِهَا، إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. هَذَا، وَهِيَ آيَاتٌ مُبَيَّنَاتٌ، لَا لَبْسَ فِيهَا، وَلَا شُبْهَةَ، لِشِدَّةِ إِيضَاحِهَا. لَكِنْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا آيَاتٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مُوقِنًا، أَمَّا مَنْ كَانَ فِي ارْتِيَابٍ، أَوْ شَكٍّ، أَوْ تَغَافُلٍ، أَوْ جَهْلٍ، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الْآيَاتُ، وَلَوْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «1» ؟ وَقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ، وَقَدْ سَأَلَ أَهْلَ الْبَوَادِي الْوَافِدِينَ إِلَى مَكَّةَ عَنِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَأَخْبَرُوهُ بِهِ، فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اقْتِرَاحَ مَا تَقَدَّمَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ فِي آخِرِهَا: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَالْإِيقَانُ: وَصْفٌ فِي الْعِلْمِ يُبْلَغُ بِهِ نِهَايَةُ الْوِثَاقَةِ فِي الْعِلْمِ، أَيْ مَنْ كَانَ مُوقِنًا، فَقَدْ أَوْضَحْنَا لَهُ الْآيَاتِ، فَآمَنَ بِهَا، وَوَضَحَتْ عِنْدَهُ، وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى غيره. وفي جمع الْآيَاتِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اقْتَرَحَ آيَةً، إِذِ الْآيَاتُ قَدْ بُيِّنَتْ، فَلَمْ يَكُنْ آيَةً وَاحِدَةً، فَيُمْكِنَ أَنْ يُدَّعَى الِالْتِبَاسُ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ جَمْعُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَكِنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّبَصُّرِ وَالْيَقِينِ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً: بَشِيرًا لِمَنْ آمَنَ، وَنَذِيرًا لِمَنْ كَفَرَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ لِتَمَادِيهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْآيَاتِ، ذَكَرَ مَنْ بُيِّنَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْآيَاتِ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَةِ، وَفُسِّرَ الْحَقُّ هُنَا بِالصِّدْقِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ. وَبِالْحَقِّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ وَمَعَكَ الْحَقُّ لَا يُزَايِلُكَ. وَانْتِصَابُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ يَتَّصِفُ أَيْضًا بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَعَدَلَ إِلَى فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ فَعِيلًا مِنْ صِفَاتِ السَّجَايَا، وَالْعَدْلُ فِي بَشِيرٍ لِلْمُبَالَغَةِ، مَقِيسٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، إِذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ بَشَّرَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِشْرٌ مُخَفَّفًا، وَلَيْسَ مَقِيسًا فِي نَذِيرٍ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْذَرَ، وَلَعَلَّ مُحَسِّنَ الْعَدْلِ فِيهِ كَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسُوغُ فِي الْكَلِمَةِ مَعَ الِاجْتِمَاعِ مَعَ مَا يُقَابِلُهَا مَا لَا يَسُوغُ فِيهَا لَوِ انْفَرَدَتْ، كَمَا قَالُوا: أَخَذَهُ مَا قَدَّمَ وَمَا حَدَثَ وشبهه. وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ. وقرأ أبي:

_ (1) سورة الحجر: 15/ 15. [.....]

وَمَا تُسْأَلُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَنْ تُسْأَلَ، وَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى، وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَتَعَيَّنُ فِيهَا الِاسْتِئْنَافُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَنَّكَ لَا تُسْأَلُ عَنِ الْكُفَّارِ مَا لَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْكَ، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «1» ، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «2» ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ «3» . وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخْفِيفُ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ عِنَادِهِمْ، فكأنه قيل: لست مسؤولا عَنْهُمْ، فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِ أَحَدٍ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» . وَأَمَّا الْحَالُ فَعَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحَالِ، أي وغير مسؤول عَنِ الْكُفَّارِ مَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَيَكُونُ قَيْدًا فِي الْإِرْسَالِ، بِخِلَافِ الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: وَلَا تَسْأَلْ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَجَزْمِ اللَّامِ، وَذَلِكَ عَلَى النَّهْيِ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ نَهْيٌ حَقِيقَةً، نُهِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ» ، فَنَزَلَتْ ، وَاسْتُبْعِدَ فِي الْمُنْتَخَبِ هَذَا، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمَا. وَقَدْ ذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُمَا أُحْيِيَا لَهُ فَأَسْلَمَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي زِيَارَتِهِمَا، وَاسْتُبْعِدَ أَيْضًا ذَلِكَ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَكَفَرُوا عِنَادًا، وَأَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِانْقِطَاعِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ نَهْيًا حَقِيقَةً، بَلْ جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ تَعْظِيمِ مَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكُفْرِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ حَالُ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ، فَيُقَالُ لَكَ: لَا تَسْأَلْ عَنْهُ. وَوَجْهُ التَّعْظِيمِ: أَنَّ الْمُسْتَخْبِرَ يَجْزَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا ذَلِكَ الشَّخْصُ فِيهِ لِفَظَاعَتِهِ، فَلَا تَسْأَلْهُ وَلَا تُكَلِّفْهُ مَا يُضْجِرُهُ، أَوْ أَنْتَ يَا مُسْتَخْبِرُ لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِمَاعِ خَبَرِهِ لِإِيحَاشِهِ السَّامِعَ وَإِضْجَارِهِ، فَلَا تَسْأَلْ، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ: إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجِيبِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجَابِ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ حَقِيقَةُ النَّهْيِ. وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم الْهُدْنَةَ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بَعْدَ مُدَّةٍ خِدَاعًا مِنْهُمْ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى سِرِّ خِدَاعِهِمْ، فَنَزَلَتْ نَفَى اللَّهُ رضاهم عنه إلا بمتابعته دِينِهِمْ ، وَذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُمْ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 48. (2) سورة القصص: 28/ 56. (3) سورة الرعد: 13/ 7. (4) سورة الأنعام: 6/ 164.

أَصْحَابُ الْجَحِيمِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهَا، لَا يُطْمَعُ فِي إِسْلَامِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّقَ رِضَاهُمْ عَنْهُ بِأَمْرٍ مُسْتَحِيلِ الْوُقُوعِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ اتِّبَاعُ مِلَّتِهِمْ. وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ مُسْتَحِيلٌ، سَوَاءٌ فَسَّرْنَا الْمِلَّةَ بِالشَّرِيعَةِ، أَوْ فَسَّرْنَاهَا بِالْقِبْلَةِ، أَوْ فَسَّرْنَاهَا بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُ، وَهُوَ تَأْدِيبٌ لِأُمَّتِهِ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِيَتَأَدَّبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَا يُوَالُونَ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُرْضِيهِمْ مِنْهُمْ إِلَّا اتِّبَاعُ دِينِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يُمْكِنُ مَا خُوطِبَ بِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ، فَيُصْرَفُ ذَلِكَ إِلَى مَنْ يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» ، وَيَكُونُ تَنْبِيهًا مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُخَادِعُونَكُمْ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْمَيْلِ وَطَلَبِ الْمُهَادَنَةِ وَالْوَعْدِ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا يَقَعُ رِضَاهُمْ إِلَّا بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ. وَوُحِّدَتِ الْمِلَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مِلَّتَانِ، لِأَنَّهُمَا يَجْمَعُهُمَا الْكُفْرُ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، أَوْ لِلْإِيجَازِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ فِي الضَّمِيرِ، نَظِيرُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «2» ، لِأَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ النَّصَارَى لَنْ تَرْضَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، وَالْيَهُودَ لَنْ تَرْضَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكُفْرِ، أَهُوَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ مِلَلٌ؟ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الِارْتِدَادِ مِنْ مِلَّةٍ إِلَى مِلَّةٍ، وَفِي الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى: أَمَرَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِأَنَّ هُدَى اللَّهِ، أَيِ الَّذِي هُوَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، هُوَ الْهُدَى، أَيِ النَّافِعُ التَّامُّ الَّذِي لَا هُدَى وَرَاءَهُ، وَمَا أُمِرْتُمْ بِاتِّبَاعِهِ هُوَ هَوًى لَا هُدًى، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ «3» . وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِأَنْ وَبِالْفَصْلِ الَّذِي قَبْلُ، فَدَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ، وَجَاءَ الْهُدَى مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهُوَ مِمَّا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ الْعَالِمُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ وَالْمَحْصُورُ فِيهِ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ إِنَّمَا هِيَ أَهْوَاءٌ وَضَلَالَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ شَهَوَاتِهِمْ وَمُيُولِهِمْ، فَقَالَ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: وَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَنْ تَرْضى. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ تُسَمَّى الْمُوطِئَةَ وَالْمُؤْذِنَةَ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يُبْنَى مَا بَعْدَ الشَّرْطِ عَلَى القسم

_ (1) سورة الزمر (39) ، آية رقم: 65. (2) سورة البقرة (2) آية رقم: 135. (3) سورة القصص (28) ، آية رقم: 50.

لَا عَلَى الشَّرْطِ، إِذْ لَوْ بُنِيَ عَلَى الشَّرْطِ لَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكَ. وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى، وَكَانَ الْجَمْعُ دَلِيلًا عَلَى كَثْرَةِ اخْتِلَافِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ لَكَانَ طَرِيقًا وَاحِدًا، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1» . وَأَضَافَ الْأَهْوَاءَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا بِدَعُهُمْ وَضَلَالَاتُهُمْ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَصْحَابُ الْبِدَعِ: أَرْبَابَ الْأَهْوَاءِ. بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: أي من الدِّينِ وَجَعَلَهُ عِلْمًا، لِأَنَّهُ معلوم بالبراهين الصحيحة، قالوا: وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ، يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْوَعِيدِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّارِفُ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدَ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ أَحَدَ الصَّوَارِفِ، وَنَظِيرُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. وَمِنْهَا، أَنَّ قَوْلَهُ: بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَعِيدُ إِلَّا بَعْدَ الْمَعْذِرَةِ أَوَّلًا، فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَمِنْهَا: أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى بَاطِلٌ، فَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ. وَقَدْ فُسِّرَ الْعِلْمُ هُنَا بِالْقُرْآنِ، وَبِالْعِلْمِ بِضَلَالِ الْقَوْمِ، وَبِالْبَيَانِ بِأَنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَبِالتَّحَوُّلِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، قَطْعٌ لِأَطْمَاعِهِمْ أَنْ تَتِّبَعَ أهواؤهم، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ وَلَا نَصِيرَ يَنْفَعُهُ إِذَا ارْتَكَبَ شَيْئًا كَانَ أَبْعَدَ فِي أَنْ لَا يَرْتَكِبَهُ، وَذَلِكَ إِيَاسٌ لَهُمْ فِي أَنْ يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ في أَهْلِ السَّفِينَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةً مِنْ رُهْبَانِ الشَّامِ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ، وَمِنَ الرُّومِ، وَثَمَانِيَةٌ مَلَّاحُونَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَقْبَلُوا مَعَ جَعْفَرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ، كَابْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ صُورِيَا، وَابْنِ يَامِينَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَأَحْبَارِ النَّصَارَى. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، يَتَنَزَّلُ الِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ، أَهُوَ التَّوْرَاةُ أَوِ الْإِنْجِيلُ؟ أَوْ هُمَا وَالْقُرْآنُ؟ أَوِ الْجِنْسُ؟ فَيَكُونُ يَعْنِي بِهِ الْمَكْتُوبَ، فَيَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ. يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ: أي يقرأونه وَيُرَتِّلُونَهُ بِإِعْرَابِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَتَّبِعُونَ أَحْكَامَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيَكِلُونَ مُتَشَابِهَهُ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ عُمَرُ: يَسْأَلُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَسْتَعِيذُونَ مِنْ عَذَابِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يُحَرِّفُونَهُ وَلَا يُغَيِّرُونَ مَا فِيهِ مِنْ نَعْتِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالَّذِينَ: مُبْتَدَأٌ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فِي مَنِ اهْتَدَى، صَحَّ أن يكون

_ (1) سورة النساء: 4/ 82.

يَتْلُونَهُ خَبَرًا عَنْهُ، وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً إِمَّا مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، وَإِمَّا مِنَ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الْإِيتَاءِ لَمْ يَكُونُوا تَالِينَ لَهُ، وَلَا كَانَ هُوَ مَتْلُوًّا لَهُمْ، وَيَكُونَ الْخَبَرُ إِذْ ذَاكَ فِي الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَجُوَّزَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ يَتْلُونَهُ خَبَرًا، وأولئك وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. قَالَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي الْمُبْتَدَأُ الْوَاحِدُ خبرين؟ ألم لَا يَقْتَضِي إِلَّا إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، أَيْ مَزٌّ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَإِنْ أُرِيدَ بالذين آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ الْعُمُومُ، كَانَ الْخَبَرُ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، قَالُوا، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتْلُونَهُ حَالٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، وَفِيهَا الْفَائِدَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَتْلُو الْكِتَابَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَ التِّلَاوَةَ. وَنَقُولُ: مَا لَزِمَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ جَعْلِهَا خَبَرًا، يَلْزَمُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَكُونُ عَلَى حَالَةِ التِّلَاوَةِ بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَهَا. وَانْتَصَبَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ عَلَى الْمَصْدَرِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا حَقَّ ضَرْبِهِ، وَأَصْلُهُ تِلَاوَةً حَقًّا. ثُمَّ قُدِّمَ الْوَصْفُ، وَأُضِيفَ إِلَى الْمَصْدَرِ، وَصَارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ شَدِيدَ الضَّرْبِ، إِذْ أَصْلُهُ: ضَرْبًا شَدِيدًا. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ يَتْلُونَهُ مُحِقِّينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَقُّ مَصْدَرٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، وَهُوَ بِمَعْنًى، وَلَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى وَاحِدٍ معرّف، وإنما جازت عنا لِأَنَّ تَعَرُّفَ التِّلَاوَةِ بِإِضَافَتِهَا إِلَى الضَّمِيرِ لَيْسَ بِتَعَرُّفٍ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ وَاحِدُ أُمِّهِ، وَنَسِيجُ وَحْدِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يَعُودُ إِلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي يَتْلُونَهُ، وَهُوَ الْكِتَابُ، عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْكِتَابِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنْ دَلَّتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، لَكِنْ صَارَ ذَلِكَ الْتِفَاتًا وَخُرُوجًا مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْتِفَاتًا أَيْضًا وَخُرُوجًا مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ. قال ابن عطية: ويحتمل عِنْدِي أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْهُدَى الَّذِي تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ كُفَّارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْآيَةِ، وَحَذَّرَ رَسُولَهُ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى الَّذِي أَعْطَاهُ وَبَعَثَهُ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ الْهُدَى الْمُقْتَدُونَ بِأَنْوَارِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذُكِرَ. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْكِتَابِ لِتَتَنَاسَبَ الضَّمَائِرُ وَلَا تَخْتَلِفَ، فَيَحْصُلَ التَّعْقِيدُ فِي اللَّفْظِ، وَالْإِلْبَاسُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَعْلُ الضَّمَائِرِ الْمُتَنَاسِبَةِ عَائِدَةً عَلَى وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى فِيهَا جَيِّدٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، كَانَ

أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا مُتَنَافِرَةً، وَلَا نَعْدِلُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِصَارِفٍ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، إِمَّا لَفْظِيٍّ، وَإِمَّا مَعْنَوِيٍّ، وَإِلَى عَوْدِهِ عَلَى الْكِتَابِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا فِيهِ في الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قُلْنَاهُ، أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَمْ يُعَادِلْ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّرْكِيبِ الْخَبَرِيِّ غَيْرِ الشَّرْطِيِّ أَوِ الشَّرْطِيِّ. بَلْ قَصَدَ فِي الْأُولَى إِلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَيْهِ، وَدَلَّ مُقَابَلَةُ الْخُسْرَانِ عَلَى رِبْحِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَفَوْزِهِ وَوُفُورِ حَظِّهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَاكْتَفَى بِثُبُوتِ السَّبَبِ عَنْ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ. وَقَصَدَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ السَّبَبِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ تَعَاطِي السَّبَبِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ الْخُسْرَانُ وَنَقْصُ الْحَظِّ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ حُمِلَ فِيهَا الشَّرْطُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَالْجَزَاءُ عَلَى معناها. وهم: مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَأَنْ يَكُونَ فَصْلًا. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ فِي ذَلِكَ تَوْكِيدٌ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْوَصْفُ، هُوَ الْقُرْآنُ. وَأُولَئِكَ: الْأَوْلَى عَائِدَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالثَّانِيَةُ عَائِدَةٌ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا ذَمَّ طَرِيقَتَهُمْ وَحَكَى سُوءَ أَفْعَالِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَدْحِ مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتَهُمْ، بِأَنْ تَأَمَّلَ التَّوْرَاةَ وَتَرَكَ تَحْرِيفَهَا، وَعَرَفَ مِنْهَا صحة نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَالتِّلَاوَةُ لَهَا مَعْنَيَانِ: الْقِرَاءَةُ لَفْظًا، وَالِاتِّبَاعُ فِعْلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ التِّلَاوَةِ هُنَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ تِلْكَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ فِي الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَنَّ بَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ. يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: كَرَّرَ نِدَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ أَعْقَبَ ذَلِكَ النِّدَاءَ ذِكْرَ نِدَاءٍ ثَانٍ يَلِي ذِكْرَ الطَّائِفَتَيْنِ مُتَّبِعِي الْهُدَى وَالْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ. وَهَذَا النِّدَاءُ أَعْقَبَ ذكر تينك الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَكَانَ مَا بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ قَصَصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا صَدَرَ مِنْهُمْ، مِنْ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِنَ الْمُخَالَفَاتِ وَالْكَذِبِ وَالتَّعَنُّتَاتِ، وَمَا جُوزُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَحْشُوًّا بَيْنَ التَّذْكِيرَيْنِ وَمَجْعُولًا بَيْنَ الْوَعْظَيْنِ وَالتَّخْوِيفَيْنِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَأْمُرَ شَخْصًا بِشَيْءٍ عَلَى جِهَةِ الْإِجْمَالِ، ثُمَّ تُفَصِّلَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ عَدِيدَةٍ، وَأَنْتَ تَسْرُدُهَا لَهُ سَرْدًا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا هِيَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ ذَلِكَ الْأَمْرِ السَّابِقِ. وَيَطُولُ بِكَ الْكَلَامُ

حَتَّى تَكَادَ تَتَنَاسَى مَا سَبَقَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَتُعِيدَهُ ثَانِيَةً، لِتَتَذَكَّرَ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَتَصِيرَ تِلْكَ التَّفْصِيلَاتُ مَحْفُوفَةً بِالْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِهِمَا. وَلَمْ تَخْتَلِفْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ تِلْكَ السَّابِقَةِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ هُنَاكَ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ «1» ، وَقَالَ هُنَا: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ مَا نَاسَبَ تَقْدِيمَ الشَّفَاعَةِ هُنَاكَ عَلَى الْعَدْلِ، وَتَأْخِيرَهَا هُنَا عَنْهُ، وَنِسْبَةَ الْقَبُولِ هُنَاكَ لِلشَّفَاعَةِ، وَالنَّفْعَ هُنَا لَهَا، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ الْإِخْبَارَ عَنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ مِمَّنْ عَطَّلَ بُيُوتَ اللَّهِ مِنَ الذِّكْرِ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، مَعَ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ مَحَالُّ ذِكْرِهِ وَإِيوَاءِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا إِلَّا وَهُمْ وَجِلُونَ خَائِفُونَ، مُتَذَكِّرُونَ لِمَنْ بُنِيَتْ، وَلِمَا يُذْكَرُ فِيهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ لِأُولَئِكَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ الْعَظِيمَ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ تَعَالَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، فَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ الْمَسَاجِدُ، وَأَيُّ جِهَةٍ قَصَدْتُمُوهَا فَاللَّهُ تَعَالَى حَاوِيهَا وَمَالِكُهَا، فَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وَلَا مَكَانٍ. وَخَتَمَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِالْوُسْعِ الْمُنَافِي لِوُسْعِ الْمَقَادِيرِ، وَبِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْإِحَاطَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَفْظَعِ مَقَالَةٍ، وَهِيَ نِسْبَةُ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَزَّهَ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ من في السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، خَاضِعُونَ طَائِعُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَدَاعَةَ السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا مِثَالَ لَهُمَا، فَكَذَلِكَ الْفَاعِلُ لَهُمَا، لَا مِثَالَ لَهُ. فَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْوَلَدَ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَالْبَارِئُ لَا شَيْءَ يُشْبِهُهُ، فَلَا وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُحْدِثَهُ، فَلَا تَأَخُّرَ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ تَوَالُدٍ، وَيَقْتَضِي إِلَى تَعَاقُبِ أَزْمَانٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ مَقَالَاتِهِمُ الَّتِي تَعَنَّتُوا بِهَا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ، مِنْ طَلَبِ كَلَامِهِ وَمُشَافَهَتِهِ إِيَّاهُمْ، أَوْ نُزُولِ آيَةٍ. وَقَدْ نَزَلَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمْ يُصْغُوا إِلَيْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ اقْتَفَوْا بِهَا آثَارَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَأَنَّ أَهْوَاءَهُمْ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَعَنُّتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ الْآيَاتِ وَأَوْضَحَهَا، لَكِنْ لِمَنْ لَهُ فِكْرٌ فَهُوَ يُوقِنُ بِصِحَّتِهَا وَيُؤْمِنُ بِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ بَشِيرًا لِمَنْ آمَنَ بِالنَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ وَالظَّفَرِ فِي الدُّنْيَا، وَنَذِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا تَهْتَمَّ بِمَنْ خُتِمَ لَهُ بِالشَّقَاوَةِ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَا تَغْتَمَّ بِعَدَمِ إِيمَانِهِ، فَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَعْذَرْتَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ شِدَّةِ تَعَامِيهِمْ عن الحق،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 48.

[سورة البقرة (2) : الآيات 124 إلى 131]

بِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَنْكَ حَتَّى تُخَالِفَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ هُدَى اللَّهِ، إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مِلَّةِ الْكُفْرِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مُتَّبِعَ أَهْوَائِهِمْ بَعْدَ وُضُوحِ مَا وَافَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، لَا أَحَدَ يَنْصُرُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَأَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَاصْطَفَاهُمْ لَهُ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ، وَيَتَتَبَّعُونَ مَعَانِيَهُ، فَهُمْ مُصَدِّقُونَ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا غَابَ عَنْهُمْ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ اسْتِفَادَتُهُ إِلَّا مِنْهُ، مِنْ خَبَرٍ مَاضٍ أَوْ آتٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِهِ حَقَّ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ السَّابِقَةِ، وَتَفْضِيلِهِمْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، وَكَانَ ثَالِثَ نِدَاءٍ نُودِيَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَبِيهِمُ الْأَعْلَى، وَتَشْرِيفِهِمْ بِوِلَادَتِهِمْ مِنْهُ. ثُمَّ أَعْرَضَ فِي مُعْظَمِ الْقُرْآنِ عَنْ نِدَائِهِمْ بِهَذَا الِاسْمِ، وَطَمَسَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ نُورِ هَذَا الْوَسْمِ، وَالثَّلَاثُ هِيَ مَبْدَأُ الْكَثْرَةِ، وَقَدِ اهْتَمَّ بِكَ مَنْ نَبَّهَكَ وَنَادَاكَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً: لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تنادي [سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 131] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)

إِبْرَاهِيمُ: اسْمُ عَلَمٍ أَعْجَمِيٍّ. قِيلَ: وَمَعْنَاهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ قَبْلَ النَّقْلِ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ: أَبٌ رَحِيمٌ، وَفِيهِ لُغًى سِتٌّ: إِبْرَاهِيمُ بِأَلِفٍ وَيَاءٍ وَهِيَ الشَّهِيرَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ، وَبِأَلِفٍ مَكَانَ الْيَاءِ، وَبِإِسْقَاطِ الْيَاءِ مَعَ كَسْرِ الْهَاءِ، أَوْ فَتْحِهَا، أَوْ ضَمِّهَا، وَبِحَذْفِ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: نَحْنُ آلُ اللَّهِ فِي كَعْبَتِهِ ... لَمْ نَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ إبراهيم وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَهِمُ ... إِذْ قَالَ وَجْهِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ الْإِتْمَامُ: الْإِكْمَالُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ. ثُمَّ الشَّيْءُ يَتِمُّ: كَمُلَ، وَهُوَ ضِدُّ النَّقْصِ. الْإِمَامُ: الْقُدْوَةُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِخَيْطِ الْبِنَاءِ: إِمَامٌ، وَلِلطَّرِيقِ: إِمَامٌ، وَهُوَ مُفْرَدٌ عَلَى فِعَالٍ، كَالْإِزَارِ لِلَّذِي يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَيَكُونُ جَمْعَ آمٍّ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَمَّ يَؤُمُّ، كَجَائِعٍ وَجِيَاعٍ، وَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، وَنَائِمٍ وَنِيَامٍ. الذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ ذَرَوْتُ، أَوْ ذَرَيْتُ، أَوْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، أَوِ الذَّرَّ. وَيُضَمُّ ذَالُهَا، أَوْ يُكْسَرُ، أَوْ يُفْتَحُ. فَأَمَّا الضَّمُّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذُرِّيَّةٌ، فعلية مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَأَصْلُهُ ذُرِّيئَةٌ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، كَمَا خَفَّفُوا هَمْزَةَ النَّسِيءِ فَقَالُوا: النَّسِيُّ، ثُمَّ أَدْغَمُوا الْيَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ الَّتِي هِيَ لِلْمَدِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فُعُولَةً مِنْ ذَرَوْتُ، الْأَصْلُ ذُرُووَةٌ، أُبْدِلَتْ لَامُ الْفِعْلِ يَاءً. اجْتَمَعَ لَكَ وَاوٌ وَيَاءٌ وَاوُ الْمَدِّ وَالْيَاءُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ وَاوُ الْمَدِّ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْيَاءَ تَطْلُبُ الْكَسْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فعلية مَنْ ذَرَرْتُ، أَصْلُهَا ذُرَّيْوَةٌ، اجْتَمَعَتْ يَاءُ الْمَدِّ وَالْوَاوُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ يَاءُ الْمَدِّ فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فُعُولَةً أَوْ فُعَيْلَةً مِنْ ذَرَيْتُ لُغَةٌ فِي ذَرَوْتُ، فَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ فُعُولَةً ذُرُويَةً، وَإِنْ كَانَ فُعَيْلَةً ذُرَيْيَةً، ثُمَّ أُدْغِمَ. ويجوز أن تكون فعيلة مِنَ الذَّرِّ مَنْسُوبَةً، أَوْ فِعْلِيَّةً مِنَ الذَّرِّ غَيْرَ منسوبة، أو فعلية، كَمَرِيقَةً، أَوْ فُعُّولٌ، كَسُبُّوحٍ وَقُدُّوسٍ، أَوْ فَعْلُولَةٌ، كَقَرْدُودَةِ الظَّهْرِ، فَضُمَّ أَوَّلُهَا إِنْ كَانَ اسْمًا، كَقُمْرِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً، كَمَا قَالُوا فِي النَّسَبِ إِلَى الدَّهْرِ: دُهْرِيٌّ، وَإِلَى السَّهْلِ، سُهْلِيٌّ. وأصل فعلية مِنَ الذَّرِّ: ذَرِيرَةٌ،

وَفَعُولَةٌ مِنَ الذَّرِّ: ذَرُورَةٌ، وَكَذَلِكَ فَعْلُولَةٌ، أُبْدِلَتِ الرَّاءُ الْآخِرَةُ فِي ذَلِكَ يَاءً كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ، كَمَا قَالُوا فِي تَسَرَّرْتُ تَسَرَّيْتُ. وَأَمَّا مَنْ كَسَرَ ذَالَ ذُرِّيَّةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فَعِيلَةً مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، كَبِطِّيخَةٍ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ فِي يَاءِ الْمَدِّ، أَوْ فِعْلِيَّةً مِنَ الذَّرِّ مَنْسُوبَةٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوْ فِعِّيلَةً مِنَ الذَّرِّ أَصْلُهُ ذَرِيرَةٌ، أَوْ فِعْلِيلٌ، كَحِلْتِيتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ذِرْيِوَةً مِنْ ذَرَوْتُ، أَوْ فِعِيلَةً ذِرِيئَةً مِنْ ذَرَيْتُ. وَأَمَّا مَنْ فَتَحَ ذَالَ ذرية، فيحتمل أن تكون فَعِيلَةً مِنْ ذَرَأَ، مِثْلَ سَكِينَةٍ، أَوْ فَعُولَةً مِنْ هَذَا أَيْضًا، كَخَرُوبَةٍ. فَالْأَصْلُ ذَرُوءَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً بَدَلًا مَسْمُوعًا، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تكون فِعْلِيَّةً مِنَ الذَّرِّ غَيْرَ مَنْسُوبَةٍ، كَبَرْنِيَّةٍ، أَوْ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الذَّرِّ، أَوْ فَعُولَةٍ، كَخَرُوبَةٍ مِنَ الذَّرِّ أَصِلُهَا ذَرُورَةٌ، فَفُعِلَ بِهَا مَا تَقَدَّمَ، أَوْ فَعْلُولَةً، كَبَكُّولَةٍ، فَالْأَصْلُ ذَرُورَةٌ أَيْضًا، أَوْ فَعِيلَةً، كَسَكِينَةٍ ذَرِيرَةٍ، فَقَلَبَتِ الرَّاءُ يَاءً فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَرَوْتُ فَعِيلَةً، كَسَكِينَةٍ، فَالْأَصْلُ ذَرِيوَةٌ، أَوْ مِنْ ذُرَيْتُ ذَرِييَةٌ، أَوْ فُعُولَةٌ مِنْ ذَرَوْتُ أَوْ ذَرَيْتُ. وَأَمَّا مَنْ بَنَاهَا عَلَى فَعْلَةٍ، كَجَفْنَةٍ، وَقَالَ ذُرِّيَّةً، فَإِنَّهَا مِنْ ذُرِّيَتْ. النَّيْلُ: الْإِدْرَاكُ. نِلْتُ الشَّيْءَ أَنَالُهُ نَيْلًا، وَالنَّيْلُ: الْعَطَاءُ. الْبَيْتُ: مَعْرُوفٌ، وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكَعْبَةِ، كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا. الْأَمْنُ: مَصْدَرُ أَمِنَ يَأْمَنُ، إِذَا لَمْ يَخَفْ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ. الْمَقَامُ: مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، يَحْتَمِلُ الْمَصْدَرَ وَالزَّمَانَ وَالْمَكَانَ. إِسْمَاعِيلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَمٌ، وَيُقَالُ إِسْمَاعِيلُ بِاللَّامِ وَإِسْمَاعِينُ بِالنُّونِ، قَالَ: قَالَ جِوَارِي الْحَيِّ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْمَاعِينَا ومن غريب ما قيل فِي التَّسْمِيَةِ بِهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَدْعُو أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ وَلَدًا وَيَقُولُ: اسْمَعْ إِيلُ، وَإِيلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. التَّطْهِيرُ: مَصْدَرُ طَهَّرَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ. يُقَالُ: طَهَّرَ الشَّيْءَ طَهَارَةً: نطف. الطَّائِفُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ طَافَ بِهِ إِذَا دَارَ بِهِ، وَيُقَالُ أَطَافَ: بِمَعْنَى طَافَ، قَالَ: أَطَافَتْ بِهِ جِيلَانُ عِنْدَ فِطَامِهِ وَالْعَاكِفُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَكَفَ بِالشَّيْءِ: أَقَامَ بِهِ وَلَازَمَهُ، قَالَ: عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا وَقَالَ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ: أَيْ يُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا. الْبَلَدُ: مَعْرُوفٌ، وَالْبَلَدُ الصَّدْرُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْبَلَدُ لِأَنَّهُ صَدْرُ الْقُرَى. يُقَالُ: وَضَعَتِ النَّاقَةُ بَلْدَتَهَا إِذَا بَرَكَتْ. وَقِيلَ:

سُمِّيَ الْبَلَدُ بِمَعْنَى الْأَثَرِ، وَمِنْهُ قِيلَ بَلِيدٌ لِتَأْثِيرِ الْجَهْلِ فِيهِ، وَمِنْهُ قِيلَ البركة الْبَعِيرِ بَلْدَةٌ لِتَأْثِيرِهَا فِي الْأَرْضِ إِذَا بَرَكَتْ، قَالَ: أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً بَعْدَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا وَالْبَارِكُ: الْبَارِكُ بِالْبَلَدِ. الِاضْطِرَارُ: هُوَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الضُّرِّ، أَصْلُهُ: اضْتِرَارُ، أُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً بَدَلًا لَازِمًا، وَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، وَعَلَى ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ: اضْطَرَّكَ الْحِرْزُ مِنْ سَلْمَى إِلَى أَجَأٍ الْمَصِيرُ: مَفْعِلٌ مِنْ صَارَ يَصِيرُ، فَيَكُونُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَقِيَاسُهُ مَفْعَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، لِأَنَّ مَا كُسِرَتْ عَيْنُ مُضَارِعِهِ فَقِيَاسُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، لَكِنَّ النَّحْوِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ عَيْنُهُ يَاءً مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كَالصَّحِيحِ، فَيُفْتَحُ فِي الْمَصْدَرِ وَيُكْسَرُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى السَّمَاعِ، فَمَا فَتَحَتْ فِيهِ الْعَرَبُ فَتَحْنَا، وَمَا كَسَرَتْ كَسَرْنَا. وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى. الْقَوَاعِدُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ الْجُدُرُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَسَاسُ، قَالَ: فِي ذروة من بقاع أَوَّلُهُمْ ... زَانَتْ عَوَالِيَهَا قَوَاعِدُهَا وَبِالْأَسَاسِ فَسَّرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ أَوَّلًا وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ: هِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ، وَمَعْنَاهَا الثَّانِيَةُ، وَمِنْهُ قَعَّدَكَ اللَّهُ، أَيْ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُقْعِدَكَ، أَيْ يُثَبِّتَكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ جَمْعُ قَاعِدٍ، وَهِيَ الَّتِي قَعَدَتْ عَنِ الْوَلَدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَوْنِ قَاعِدٍ لَمْ تَأْتِ بِالتَّاءِ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ، وَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَالْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ الْمَتْبُوعِ، وَالْمُنْفَرِدِ فِي الْأَمْرِ وَالدِّينِ وَالْحِينِ. وَالْأُمُّ: هَذِهِ أُمَّةُ زَيْدٍ، أَيْ أُمُّهُ، وَالْقَامَةُ وَالشَّجَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الدِّمَاغِ، وَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَالطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَالْجِيلُ. الْمَنَاسِكُ: جَمْعُ مَنْسَكٍ وَمَنْسِكٍ، وَالْكَسْرُ فِي سِينِ مَنْسِكٍ شَاذٌّ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَوْ فَتْحِهَا مَفْعَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إِلَّا مَا شَذَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالنَّاسِكُ: الْمُتَعَبِّدُ. الْبَعْثُ: الْإِرْسَالُ، وَالْإِحْيَاءُ، وَالْهُبُوبُ مِنَ النَّوْمِ. الْعَزِيزُ، يُقَالُ: عَزَّ يَعُزُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَيْ غَلَبَ، وَمِنْهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، وَعَزَّ يَعَزُّ بِفَتْحِهَا، أَيِ اشْتَدَّ، وَمِنْهُ: عَزَّ عَلَيَّ هَذَا الْأَمْرُ، أَيْ شَقَّ، وَتَعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَةِ: اشْتَدَّ. وَعَزَّ يَعِزُّ مِنَ النَّفَاسَةِ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ، أَوْ قَلَّ نَظِيرُهُ. الرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ: الزَّهَادَةُ فِيهِ، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ: الْإِيثَارُ لَهُ وَالِاخْتِيَارُ لَهُ، وَأَصْلُ الرَّغْبَةِ:

الطَّلَبُ. الِاصْطِفَاءُ: الِانْتِجَابُ وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الصَّفْوِ، وَهُوَ الْخَالِصُ مِنَ الْكَدَرِ وَالشَّوَائِبِ، أُبْدِلَتْ مِنْ تَائِهِ طَاءٌ، كَانَ ثُلَاثِيُّهُ لَازِمًا. صَفَا الشَّيْءُ يَصْفُو، وَجَاءَ الِافْتِعَالُ مِنْهُ مُتَعَدِّيًا، وَمَعْنَى الِافْتِعَالِ هُنَا: التَّخَيُّرُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لِافْتَعَلَ. وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْكَعْبَةِ وَالْقِبْلَةِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ عَيَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِتَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَتَرْكِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا قَالَ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ «1» ، ذَكَرَ حَدِيثَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا ابْتَلَاهُ بِهِ اللَّهُ، وَاسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ الْبَيْتِ وَكَيْفِيَّةِ بِنَائِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِشَرْعِهِ، وَاقْتِفَاءً لِآثَارِهِ. فَكَانَ تَعْظِيمُ الْبَيْتِ لَازِمًا لَهُمْ، فَنَبَّهَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَلَى سُوءِ اعْتِمَادِهِمْ، وَكَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمْ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ سُنَنِ مَنْ يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ نَسْلِهِ، لَا يَنَالُونَ لِظُلْمِهِمْ شَيْئًا مِنْ عَهْدِهِ، وَإِذِ الْعَامِلُ فِيهِ عَلَى مَا ذكروا محذوف، وقد رواه: اذْكُرْ، أَيِ اذْكُرَا إِذِ ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، أَوْ إِذِ ابْتَلَاهُ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ «2» ، وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ مَلْفُوظًا بِهِ، وَهُوَ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ «3» . وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَلَّفَهُ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ. وَالْبَارِي تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاخْتِبَارُ اللَّهِ عَبْدَهُ مَجَازٌ عَنْ تَمْكِينِهِ مِنَ اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ، وَمَا يَشْتَهِيهِ الْعَبْدُ، كَأَنَّهُ امْتَحَنَهُ مَا يَكُونُ مِنْهُ حَتَّى يُجَازِيَهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَفِي رَيِّ الظَّمْآنِ الِابْتِلَاءُ: إِظْهَارُ الْفِعْلِ، وَالِاخْتِبَارُ: طَلَبُ الْخَبَرِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَإِبْرَاهِيمُ هُنَا، وَفِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ الْجَدُّ الْحَادِيُ وَالثَّلَاثُونَ لِنَبِيِّنَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ، ابْنُ تَارَحَ بْنِ ناجور بْنِ سَارُوغَ بْنِ أَرْغُوَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابَرَ، وَهُوَ هُودٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَوْلِدُهُ بِأَرْضِ الْأَهْوَازِ. وَقِيلَ: بِكُوثَى، وَقِيلَ: بِبَابِلَ، وَقِيلَ: بِنَجْرَانَ، وَنَقَلَهُ أَبُوهُ إِلَى بَابِلَ أَرْضِ نُمْرُوذَ بْنِ كَنْعَانَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللُّغَاتِ السِّتِّ فِي لَفْظِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِبْرَاهِيمَ بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِخِلَافٍ عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ فِي الْبَقَرَةِ بِأَلِفَيْنِ. زَادَ هِشَامٌ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ فِي: إِبْرَاهِيمَ، وَالنَّحْلِ، وَمَرْيَمَ، وَالشُّورَى، وَالذَّارِيَاتِ، وَالنَّجْمِ، وَالْحَدِيدِ، وَأَوَّلِ الْمُمْتَحَنَةِ، وَثَلَاثِ آخِرِ النِّسَاءِ، وَأُخْرَى التَّوْبَةِ، وَآخِرِ الْأَنْعَامِ، وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَرَأَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 142. (2) سورة البقرة: 2/ 30. (3) سورة البقرة: 2/ 124.

الْمُفَضَّلُ: إِبْرَاهَامَ بِأَلِفَيْنِ، إِلَّا فِي الْمَوَدَّةِ وَالْأَعْلَى. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِبْرَاهَامَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرَةَ: إِبْرَاهَمَ بِأَلْفٍ وَحَذْفِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ إِبْرَاهِيمَ وَرَفْعِ رَبِّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: بِرَفْعِ إِبْرَاهِيمَ وَنَصْبِ رَبِّهِ. فَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الرَّبُّ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى ابْتِلَائِهِ إِيَّاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَنْ وَقَعَ الِابْتِلَاءُ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُبْتَلِي. وَإِيصَالُ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ بِالْفَاعِلِ مُوجِبٌ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَكَوْنُهُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلِ: ضَرَبَ غُلَامُهُ زَيْدًا، وَقَالَ: وَقَاسَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ وَتَأَوَّلَ بَعْضَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الشُّذُوذِ. وَقَدْ طَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْكَشَّافِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُطَوَّلُ فِيهَا لِشُهْرَتِهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهَا أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ بِكَلِمَاتٍ مِنَ الدُّعَاءِ يَتَطَلَّبُ فِيهَا الْإِجَابَةَ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ فِي الدُّعَاءِ طَلَبَ اسْتِكْشَافٍ لِمَا تَجْرِي بِهِ الْمَقَادِيرُ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَالْكَلِمَاتُ لَمْ تُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ مَا هِيَ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رَوَى طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْعَشَرَةُ الَّتِي مِنَ الْفِطْرَةِ: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالْفَرْقُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالِاسْتِطَابَةُ، وَالْخِتَانُ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. الثَّانِي: عَشَرَ وَهِيَ: حَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَغُسْلُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْإِفَاضَةُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الثَّالِثُ: ثَلَاثُونَ سَهْمًا فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُتِمَّ ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ، وَهِيَ عَشْرٌ فِي بَرَاءَةٍ التَّائِبُونَ «1» الْآيَةَ، وَعَشْرٌ فِي الْأَحْزَابِ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ «2» الْآيَةَ، وَعَشْرٌ فِي قَدْ أَفْلَحَ وَفِي الْمَعَارِجِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الرَّابِعُ: هِيَ الْخِصَالُ السِّتُّ الَّتِي امْتُحِنَ بِهَا الْكَوْكَبُ، وَالْقَمَرُ، وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْخِتَانُ. وَقِيلَ: بَدَلُ الْهِجْرَةِ الذَّبْحُ لِوَلَدِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. الْخَامِسُ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ، رَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. السَّادِسُ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ سَأَلَهَا إِبْرَاهِيمُ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «3» ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. السَّابِعُ: هِيَ قَوْلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ العلي العظيم.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 112. (2) سورة الأحزاب: 33/ 35. [.....] (3) سورة البقرة: 2/ 126.

وَقَوْلُهُ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. الثَّامِنُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ «1» ، قَالَهُ يَمَانٌ. التَّاسِعُ: هِيَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ «2» الْآيَاتِ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ. الْعَاشِرُ: هِيَ مَا ابْتَلَاهُ بِهِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ، فَسَلَّمَ مَالَهُ لِلضِّيفَانِ، وَوَلَدَهُ لِلْقُرْبَانِ، وَنَفْسَهُ لِلنِّيرَانِ، وَقَلْبَهُ لِلرَّحْمَنِ، فَاتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا. الْحَادِي عَشَرَ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ تَطَهَّرْ فَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَاسْتَاكَ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَأَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَفَرَقَ شَعْرَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَاسْتَنْجَى، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَحَلَقَ عَانَتَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَنَتَفَ إِبِطَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَأَقْبَلَ عَلَى جَسَدِهِ يَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُ، فَاخْتَتَنَ بَعْدَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، أَنَّهُ اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «3» ، يَأْتَمُّونَ بِكَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ وَيَقْتَدِي بِكَ الصَّالِحُونَ. فَإِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ، فَالتَّأْوِيلُ أَنَّهُ اخْتَتَنَ بَعْدَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ مِيلَادِهِ، وَابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً مِنْ وَقْتِ نُبُوَّتِهِ، فَيَتَّفِقُ التَّارِيخَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي عَشَرَ: هِيَ عَشْرَةٌ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الْمِلَّةُ وَالصَّلَاةُ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ وَالزَّكَاةُ، وَهِيَ الطُّهْرَةُ وَالصَّوْمُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالْحَجُّ، وَهُوَ الشَّعِيرَةُ وَالْغَزْوُ، وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالطَّاعَةُ، وَهِيَ الْعِصْمَةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَهِيَ الْأُلْفَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: هِيَ: تَجْعَلُنِي إِمَامًا، وَتَجْعَلُ الْبَيْتَ مَثَابَةً وَأَمْنًا، وَتُرِينَا مَنَاسِكَنَا، وَتَتُوبُ عَلَيْنَا، وَهَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، وَتَرْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ. فَأَجَابَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِمَا سَأَلَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ مِنْهَا ذَكَرَ طَائِفَةً مِمَّا ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ كُلُّهَا ابْتَلَاهُ بِهَا، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْحَصْرِ فِي الْعَدَدِ، وَلَا عَلَى التَّعْيِينِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى التَّنَاقُضِ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا الْكَلِمَاتِ، إِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا، فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي تَسْمِيَتِهَا كَلِمَاتٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالًا، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْكَلِمَاتِ عَلَيْهَا مَجَازًا، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْفِعْلِيَّةَ صَدَرَتْ عَنِ الْأَوَامِرِ، وَالْأَوَامِرُ كَلِمَاتٌ. سُمِّيَتِ الذَّاتُ كَلِمَةً لِبُرُوزِهَا عَنْ كَلِمَةِ كُنْ. قَالَ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ «4» . وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي أَحْكَامِ مَا شُرِحَتْ بِهِ الْكَلِمَاتُ مِنَ: الْمَضْمَضَةِ، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللِّحْيَةِ، وَالْفَرْقِ، وَالسَّدْلِ، وَالسِّوَاكِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وتقليم الأظفار،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 80. (2) سورة الشعراء: 26/ 78. (3) سورة البقرة: 2/ 124. (4) سورة النساء: 4/ 171.

وَالِاسْتِنْجَاءِ، وَالْخِتَانِ، وَالشَّيْبِ وَتَغْيِيرِهِ، وَالثَّرِيدِ، وَالضِّيَافَةِ. وَهَذَا يُبْحَثُ فِيهِ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ كِتَابُنَا مَوْضُوعًا لِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ. فَأَتَمَّهُنَّ: الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي فَأَتَمَّهُنَّ يُظْهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَاعِلِيَّةِ. فَأَتَمَّهُنَّ مَعْطُوفٌ عَلَى ابْتَلَى، فَالْمُنَاسِبُ التَّطَابُقُ فِي الضَّمِيرِ. وَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْنَى: أَيْ أَكْمَلَهُنَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، أَوْ بَيَّنَهُنَّ، وَالْبَيَانُ بِهِ يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَظْهَرُ، أَوْ يَسَّرَ لَهُ الْعَمَلَ بِهِنَّ وَقَوَّاهُ عَلَى إِتْمَامِهِنَّ، أَوْ أَتَمَّ لَهُ أُجُورَهُنَّ، أَوْ أَدَامَهُنَّ سُنَّةً فِيهِ وَفِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَدَامَهُنَّ، أَوْ أَقَامَ بِهِنَّ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَوْ عَمِلَ بِهِنَّ، قَالَهُ يَمَانٌ أَوْ وَفَّى بِهِنَّ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، أَوْ أَدَّاهُنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ. خَمْسَةُ أَقْوَالٍ تُقَرِّبُ مِنَ التَّرَادُفِ، إِذْ مَحْصُولُهَا أَنَّهُ أَتَى بِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِابْتِلَاءِ، هَلْ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَقَالَ الْقَاضِي: كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُ بِهِنَّ كَالسَّبَبِ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ إِمَامًا، وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبِّبِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الِابْتِلَاءِ مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ إِمَامًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ. أَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ، جَعَلَهُ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ. قالَ إِنِّي جاعِلُكَ: تَقَدَّمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي قَالَ أَنَّهَا عَامِلَةٌ فِي إِذْ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْعَامِلَ فِي إِذْ مَحْذُوفًا، كَانَتْ قَالَ اسْتِئْنَافًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَمَّ الْكَلِمَاتِ؟ فَقِيلَ: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. وَعَلَى اخْتِيَارِ أَنْ يَكُونَ قَالَ هُوَ الْعَامِلَ فِي إِذْ، يَكُونُ قَالَ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ وَقَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، إِذِ ابْتَلَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: ابْتَلَى، وَتَفْسِيرًا لَهُ. لِلنَّاسِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ أُمَّتَهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأُمَمِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي عَقَائِدِ التَّوْحِيدِ وَفِيمَا وَافَقَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ. وَلِلنَّاسِ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا، التَّقْدِيرُ: إِمَامًا كَائِنًا لِلنَّاسِ، قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بجاعلك، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَجَاعِلُ هُنَا بِمَعْنَى مُصَيِّرٍ، فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، الْأَوَّلُ: الْكَافُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهَا اسْمُ الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي: إِمَامًا. قِيلَ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: وَالْمُرَادُ بِالْإِمَامِ هُنَا: النَّبِيُّ، أَيْ صَاحِبُ شَرْعٍ مُتَّبَعٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَبَعًا لِرَسُولٍ، لَكَانَ مَأْمُومًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ لَا إِمَامًا لَهُ. وَلِأَنَّ لَفْظَ الْإِمَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِمَامٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ، لَا يَكُونُ إِلَّا نَبِيًّا. وَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعِهِمْ هُمْ

أَئِمَّةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «1» . وَالْخُلَفَاءُ أَيْضًا أَئِمَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَمَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الْبَاطِلِ. قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «2» . فَلَمَّا تَنَاوَلَ الِاسْمُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ هُنَا عَلَى أَشْرَفِ الْمَرَاتِبِ وَأَعْلَاهَا، لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنَ النُّبُوَّةِ. قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطَفَ عَلَى الْكَافِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَاعِلٌ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي، كَمَا يُقَالُ لَكَ: سَأُكْرِمُكَ، فَتَقُولُ: وَزَيْدًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَصِحِّ الْعَطْفُ عَلَى الْكَافِ، لِأَنَّهَا مَجْرُورَةٌ، فَالْعَطْفُ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، ولم يعد، ولأن مَنْ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْجَارِّ مُضَافًا إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا حَرْفٌ، فَتَقْدِيرُهَا بِأَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِبَعْضٍ حَتَّى تُقَدِّرَ جَاعِلًا مُضَافًا إِلَيْهَا لَا يَصِحُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ تَقْدِيرُ الْعَطْفِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ، لِأَنَّهُ نُصِبَ، فَيُجْعَلُ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُعْطَفُ فِيهِ عَلَى الْمَوْضِعِ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِفَوَاتِ الْمُحَرِّزِ، وَلَيْسَ نَظِيرَ: سَأُكْرِمُكَ، فَتَقُولُ: وَزَيْدًا لِأَنَّ الْكَافَ هُنَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِي مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي إِمَامًا، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا الِاخْتِصَاصَ، فَسَأَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِمَامًا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: ذِرِّيَّتِي بِالْكَسْرِ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وَذَكَرْنَا أَنَّهَا لُغَاتٌ فِيهَا، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ اشْتُقَّتْ حِينَ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ: وَالضَّمِيرُ فِي قَالَ الثَّانِيَةِ ضَمِيرُ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي قَالَ هَذِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. والعهد: الإمامة، قاله مُجَاهِدٌ: أَوِ النُّبُوَّةُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوِ الْأَمَانُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: أَوِ الثَّوَابُ قَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا أَوِ الرَّحْمَةُ، قَالَهُ عَطَاءٌ أَوِ الدِّينُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ، أَوْ لَا عَهْدَ عَلَيْكَ لِظَالِمٍ أَنْ تُطِيعَهُ فِي ظُلْمِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ الْأَمْرُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا «3» ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ «4» أَوْ إِدْخَالُهُ الْجَنَّةَ مِنْ قَوْلِهِ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً «5» ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ طَاعَتِي، قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَيْضًا أَوِ الْمِيثَاقُ أَوِ الْأَمَانَةُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ الْعُهَدَ هِيَ الإمامة،

_ (1) سورة السجدة: 32/ 24. (2) سورة الأنبياء: 21/ 73. (3) سورة آل عمران: 3/ 183. (4) سورة يس: 36/ 60. (5) سورة البقرة: 2/ 80.

لِأَنَّهَا هِيَ الْمُصَدَّرُ بِهَا، فَأَعْلَمَ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنَالُ الظَّالِمِينَ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هُوَ اسْتِعْلَامٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِي إِمَامًا: وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الطَّلَبِ، أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي. وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ مِنَ الْجَوَابِ الَّذِي يَرْبُو عَلَى السُّؤَالِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ، وَسَأَلَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِمَامًا، فَأَجَابَهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنَالُ عَهْدُهُ الظَّالِمِينَ، وَدَلَّ بمفهومه الصحيح عَلَى أَنَّهُ يَنَالُ عَهْدُهُ مَنْ لَيْسَ بِظَالِمٍ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْقِسَامِ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى ظَالِمٍ وَغَيْرِ ظَالِمٍ، وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الْإِمَامَةُ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عَلَى سَبِيلِ الْجَعْلِ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لَقَالَ لَا، أَوْ لَا يَنَالُ عَهْدِي ذُرِّيَّتَكَ، وَلَمْ يُنِطِ الْمَنْعَ بِالظَّالِمِينَ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: الظَّالِمُونَ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ يُنَالُ، كَمَا يَنَالُ أَيْ عَهْدِي لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ، أَوْ لَا يَصِلُ الظَّالِمُونَ إِلَيْهِ وَلَا يُدْرِكُونَهُ. وَقَدْ فُسِّرَ الظُّلْمُ هُنَا بِالْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَبِظُلْمِ الْمَعَاصِي غَيْرِ الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا عُوهِدَ لَمْ يَلْزَمِ الْوَفَاءُ بِعَهْدِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ عَهْدًا. قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ: مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَةَ لِذُرِّيَّتِهِ، وَأَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى مُلْتَمَسِهِ لَا يَظْهَرُ مِنَ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَجَاعِلٌ مِنْ ذُرِّيَّتِي، أَوْ تَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِي، أَوِ اجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي. وَإِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلًا غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّهُ سَأَلَ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أُجِيبَ إِلَى مُلْتَمَسِهِ، فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى ضِدِّهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ: أَنَّ أَوْلَادَكَ ظَالِمُونَ. لَكِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ. وَلَوْ قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا يَقُولُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ نُزُولًا بَيِّنًا. انتهى ما ذكره ملخصا بعضه. وفيما ذكره ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ تِلْكَ التَّقَادِيرَ الَّتِي قَدَّرَهَا ظَاهِرُهَا السُّؤَالُ. أَمَّا مَنْ قَدَّرَ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي إِمَامًا، فَهُوَ سُؤَالٌ وَأَمَّا مَنْ قَدَّرَ: وَتَجْعَلُ وَجَاعِلٌ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى حَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ، إِذْ مَعْنَاهُ: وأ جاعل أَنْتَ يَا رَبِّ، أَوْ أَتَجْعَلُ يَا رَبِّ مِنْ ذريتي. والاستفهام يؤول مَعْنَاهُ إِلَى السُّؤَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَجَاعِلٌ، أَوْ تَجْعَلُ مِنْ ذَرِّيَّتِي إِمَامًا خَبَرًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ نَبِيٍّ. وَإِذَا كَانَ خَبَرًا مِنْ نَبِيٍّ، كَانَ صِدْقًا ضَرُورَةً. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنَ اللَّهِ إِعْلَامٌ لِإِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا. فَمَنْ أَيْنَ يُخْبِرُ بِذَلِكَ؟ وَمَنْ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ؟ إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَعْلَمُهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ التَّقْدِيرُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِعْلَامِ.

هَلْ تَحْصُلُ الْإِمَامَةُ لِبَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ أَمْ لَا تَحْصُلُ؟ فَأَجَابَهُ اللَّهُ: إِلَى أَنْ مَنْ كَانَ ظَالِمًا لَا يَنَالُهُ عَهْدُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَنَّ أَوْلَادَكَ ظَالِمُونَ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لَا يَنَالُهُ مَنْ ظَلَمَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الظَّالِمِ يَنَالُهَا. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ، لَكَانَ اللَّفْظُ لَا يَنَالُهَا ذَرِّيَّتُكَ لِظُلْمِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الظَّالِمِينَ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ مُعَاقَبَةٌ لِلضَّمِيرِ، أَيْ: ظَالِمُوهُمْ، أَوِ الضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنْهُمْ. وَمِنْ أَغْرَبِ الِانْتِزَاعَاتِ فِي قَوْلِهِ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ مَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ الْإِمَامِيَّةِ أَنَّهُمُ انْتَزَعُوا مِنْ هَذَا، كَوْنَ أَبِي بَكْرٍ لَا يَكُونُ إِمَامًا قَالُوا: لِأَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الظُّلْمِ يَقَعُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَجَدَ لِلْأَصْنَامِ، فَقَدْ ظَلَمَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ. قُلْتُ لَهُ: فَيَلْزَمُ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصَّحَابَةِ ظَالِمًا، كَسَلْمَانَ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَمَّارٍ. وَهَذَا مَا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالُوا فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَكَيْفَ يَصْلُحُ لَهَا مَنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَلَا تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَلَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ؟ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفْتِي سِرًّا بِوُجُوبِ نُصْرَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَحَمْلِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى اللِّصِّ الْمُتَغَلِّبِ الْمُتَّسَمَّى بِالْإِمَامِ وَالْخَلِيفَةِ، كَالدَّوَانِيقِيِّ وَأَشْبَاهِهِ. وَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: أَشَرْتَ عَلَى ابْنِي بِالْخُرُوجِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ، ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، حَتَّى قُتِلَ فَقَالَ: لَيْتَنِي مَكَانَ ابْنِكِ. وَكَانَ يَقُولُ فِي الْمَنْصُورِ وَأَشْيَاعِهِ: لَوْ أَرَادُوا بِنَاءَ مَسْجِدٍ، وَأَرَادُونِي عَلَى عَدِّ آجُرِّهِ لَمَا فَعَلْتُ. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: لَا يَكُونُ الظَّالِمُ إِمَامًا قَطُّ. وَكَيْفَ يَجُوزُ نَصْبُ الظَّالِمِ لِلْإِمَامَةِ، وَالْإِمَامُ إِنَّمَا هُوَ لِكَفِّ الْمَظْلَمَةِ؟ فَإِذَا نُصِّبَ مَنْ كَانَ ظَالِمًا فِي نَفْسِهِ، فَقَدْ جَاءَ الْمَثَلُ السَّائِرُ: مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ فَقَدْ ظَلَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي ذَكَرَهُ، هُوَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهُوَ أَخُو مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ تَنْتَسِبُ الزَّيْدِيَّةُ الْيَوْمَ. وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ وَالشَّجَاعَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ مُجَاوِرًا لِلزَّيْدِيَّةِ وَمُصَاحِبًا لَهُمْ، وَصَنَّفَ كِتَابَهُ الْكَشَّافَ لِأَجْلِهِمْ. وَاللِّصُّ المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، هُوَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، خَرَجَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِأَخِيهِ الْبَاقِرِ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ وَتَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ مَعَكَ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ: لِهَذَا وَقْتٌ لَا يَتَعَدَّاهُ. فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا الْإِمَامُ مِنَّا مَنْ أَظْهَرَ سَيْفَهُ وَقَامَ بِطَلَبِ

حَقِّ آلِ مُحَمَّدٍ، لَا مَنْ أَرْخَى عَلَيْهِ سُتُورَهُ وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ. فَقَالَ لَهُ الْبَاقِرُ: يَا زَيْدُ! إِنَّ مَثَلَ الْقَائِمِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ قِيَامِ مَهْدِيِّهِمْ، مَثَلُ فَرْخٍ نَهَضَ مِنْ عُشِّهِ مِنْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ جَنَاحَاهُ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ، فَأَخَذَهُ الصِّبْيَانُ يَتَلَاعَبُونَ بِهِ. فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَصْلُوبَ غَدًا بِالْكُنَاسَةِ. فَلَمْ يَلْتَفِتْ زَيْدٌ لِكَلَامِ الْبَاقِرِ، وَخَرَجَ عَلَى هِشَامٍ، فَظَفَرَ بِهِ وَصَلَبَهُ عَلَى كُنَاسَةِ الْكُوفَةِ، وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَكَانَ كَمَا حَذَّرَهُ الْبَاقِرُ. وَأَمَّا الدَّوَانِيقِيُّ، فَهُوَ الْمَنْصُورُ أَخُو السَّفَّاحِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ قِيلَ لِبُخْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَخِيلًا، وَذَكَرَ مِنْ عَطَائِهِ وَكَرْمِهِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ، اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُمَا ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَانَا قَدْ تَغَيَّبَا أَيَّامَ السَّفَّاحِ، وَأَوَّلَ أَيَّامِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَدَخَلَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَخَطَبَ حَتَّى حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَنَزَلَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَبُويِعَ بِالْمَدِينَةِ طَوْعًا، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ، وَغَلَبَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَخُوهُ قَدْ صَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ يَدْعُو إِلَيْهِ. وَآخِرُ أَمْرِهِمَا أَنَّ الْمَنْصُورَ وَجْهَ إِلَيْهِمَا الْعَسَاكِرَ وَقُتِلَا. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَنَا أَحْكَامَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُهَا أُصُولَ الدِّينِ، فَهُنَاكَ ذِكْرُهَا، لَكِنِّي لَا أُخَلِّي كِتَابِي عَنْ شَيْءٍ مُلَخَّصٍ فِيهَا دُونَ الِاسْتِدْلَالِ. فَنَقُولُ: الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ، أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ فَرْضٌ، خِلَافًا لِفِرْقَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ أَصْحَابُ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ. زَعَمُوا أَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ إِقَامَةُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى إِمَامٍ، وَلِفِرْقَةٍ مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ زَعَمَتْ أَنَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ. وَاسْتِنَادُ فَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْإِمَامِ لِلشَّرْعِ لَا لِلْعَقْلِ، خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ، إِذْ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عَقْلًا، وَيَكُونُ الْإِمَامُ مِنْ صَمِيمِ قُرَيْشٍ، خِلَافًا لِفِرْقَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، إِذْ قَالُوا: إِذَا وُجِدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا قُرَشِيٌّ وَنَبَطِيٌّ، وَجَبَ نَصْبُ النَّبَطِيِّ دُونَ الْقُرَشِيِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بُطُونُ قُرَيْشٍ كُلُّهَا، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِنَسْلِ عَلِيٍّ، أَوِ الْعَبَّاسِ، إِمَّا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِاجْتِهَادٍ، وَيَكُونُ أَفَضْلَ الْقَوْمِ، فَلَا يَنْعَقِدُ لِلْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، خِلَافًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَنْعَقِدُ لِلْمَفْضُولِ، إِذَا كَانَ بِصِفَةِ الْإِمَامَةِ، مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، وَشُرُوطُهُ: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، شُجَاعًا، وَالشَّجَاعَةُ فِي الْقَلْبِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ ضَبْطُ الْأَمْرِ وَحِفْظِ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ سَاقِطِ الْعَدَالَةِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ عُقِدَ لِشَخْصٍ كَامِلِ الشُّرُوطِ ثُمَّ طَرَأَ مِنْهُ فِسْقٌ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ إِذَا أَمِنَ النَّاسُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ أَيْضًا، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبُ: لَا يَجُوزُ

الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمِنَ النَّاسُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ أَوْ يَدْعُوَ إِلَى ضَلَالَةٍ وَبِدْعَةٍ، وَالْمَرْجُوعُ فِي نَصْبِهِ إِلَى اخْتِيَارِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، وَالْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ تَبَعٌ لَهُمْ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اجْتِمَاعُ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِعَدَدٍ، بَلْ إِذَا عَقَدَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَجَبَتِ الْمُبَايَعَةُ عَلَى كُلِّهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ أَهْلَ الْبَيْعَةِ بِأَرْبَعَةٍ. وَقَالَ: لَا يَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ لِمَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ، أَوْ لِمَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِسَبْعِينَ، ثُمَّ مَنْ خَالَفَ كَانَ بَاغِيًا أَوْ نَاظِرًا أَوْ غَالِطًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمٌ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ. وَلَا يَنْعَقِدُ لِإِمَامَيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ، إِذْ أَجَازُوا ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ كَانَا إِمَامَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْقَوْلُ بِالتَّقِيَّةِ بَاطِلٌ، خِلَافًا لِلْإِمَامِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا: أَنَّهُ يَكُونُ الشَّخْصُ الْجَامِعُ لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ إِمَامًا مَسْتُورًا، لَكِنَّهُ يُخْفِي نَفْسَهُ مَخَافَةً مَنْ غَلَبَ عَلَى الْمُلْكِ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِمَامِ الْعِصْمَةُ، خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِلْإِمَامِ سِرًّا وَعَلَنًا. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِحَاطَةُ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، خِلَافًا لِلْإِمَامِيَّةِ، وَالْإِمَامُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فِيمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ الْغَالِبِ، خِلَافًا لِمَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ هُنَا فِي الْإِمَامَةِ الصُّغْرَى وَهِيَ: الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَمَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ. وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً: لَمَّا رَدَّ عَلَى الْيَهُودِ فِي إِنْكَارِهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ بِنَاءَ إِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمْ، كَانُوا أَحَقَّ بِتَعْظِيمِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ مَآثِرِ أَبِيهِمْ. وَلِوَجْهٍ آخِرَ مِنْ إِظْهَارِ فَضْلِهَا، وَهُوَ كَوْنُهَا مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَأَنَّ فِيهَا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ وَإِلَى وَلَدِهِ بِبِنَائِهَا وَتَطْهِيرِهَا، وَجَعْلِهَا مَحَلًّا لِلطَّائِفِ وَالْعَاكِفِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِحَجِّهَا. وَالْبَيْتُ هُنَا: الْكَعْبَةُ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ لَا نَفْسُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْأَمْنِ، وَهَذِهِ صِفَةُ جَمِيعِ الْحَرَمِ، لَا صِفَةُ الْكَعْبَةِ فَقَطْ. وَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الْبَيْتِ، وَيُرَادُ بِهِ كُلُّ الْحَرَمِ. وَأَمَّا الْكَعْبَةُ فَلَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْبِنَاءِ الَّذِي يُطَافُ بِهِ، وَلَا تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ الْحَرَمِ. وَالتَّاءُ فِي مَثَابَةٍ لِلْمُبَالِغَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَثُوبُ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ لِتَأْنِيثِ الْمَصْدَرِ، أَوْ لِتَأْنِيثِ الْبُقْعَةِ، كَمَا يُقَالُ مَقَامٌ وَمَقَامَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ يُعْجِزُنِي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا

ذَكَرَ رَحْبًا عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَكَانِ، وَأَنَّثَ فَسِيحَةً عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ: مَثَابَاتٍ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: مَثَابًا لا فناء الْقَبَائِلِ كُلِّهَا ... تَخُبُّ إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الطَّلَائِحُ وَيُرْوَى: الذَّوَابِلُ. ووجه قراءة الجميع أَنَّهُ مَثَابَةٌ لِكُلٍّ مِنَ النَّاسِ، لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ. ومثابة، قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ مَعْنَاهُ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، أَيْ يَحُجُّونَهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَهُمْ يَتَفَرَّقُونَ، ثُمَّ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ أَعْيَانُهُمْ أَوْ أَمْثَالُهُمْ، وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَطَرًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابًا لَهُمْ ... لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الْوَطَرْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعَاذًا وَمَلْجَأً. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْخَلِيلُ: مَجْمَعًا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، فِيمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ: أَيْ مَكَانَ. إِثَابَةٍ: وَاحِدَةٌ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَوْرَدَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةً احْتِمَالًا مِنْهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلنَّاسِ: إِمَّا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِيمَانِ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ الْخَاصِّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ. وَجَعَلْنَا هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، فَمَثَابَةٌ مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقِيلَ: جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى: خَلَقَ، أَوْ وَضَعَ، وَيَتَعَلَّقُ لِلنَّاسِ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: مَثَابَةٌ كَائِنَةٌ، إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ جَعَلْنَا، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَالْأَمْنُ: مُصْدَرٌ جَعَلَ الْبَيْتَ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ بِهِ مِنَ الْأَمْنِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا أَمْنٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مَجَازًا، أَيْ آمِنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «1» ، وَجَعَلَهُ آمِنًا، اخْتَلَفُوا، هَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ، وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَوْلَ مَكَّةَ، وَهِيَ آمِنَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ فَلَا يُهَيِّجُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهَا فِي النُّفُوسِ حُرْمَةً، وَجَعَلَهَا أَمْنًا لِلنَّاسِ وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ، إِلَّا الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ، فَخُصِّصَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ أَتَى الْحَرَمَ، فَفِي أَمْنِهِ مِنْ أَنْ يُهَاجَ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ آمِنٌ لِأَهْلِهِ، يُسَافِرُ أَحَدُهُمُ الْأَمَاكِنَ الْبَعِيدَةَ، فَلَا يُرَوِّعُهُ أَحَدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَحُولَ الْجَبَابِرَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَصَدَهُ. وَمَنْ قَالَ هَذَا الْأَمْنَ فِي الْآخِرَةِ، قِيلَ: مِنَ الْمَكْرِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقِيلَ: مِنْ بخس ثواب من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 126.

قَصَدَهُ، قَالَ قَوْمٌ: وَهَذَا الْأَمْنُ مُخْتَصٌّ بِالْبَيْتِ. وَقِيلَ: يَشْمَلُ الْبَيْتَ وَالْحَرَمَ. وَقَالَ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ مَعْنَاهُ: ذَا أَمْنٍ لِقَاطِنِيهِ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ مَا يَجْرِي عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي وَسَائِرِ بُلْدَانِ الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمْنًا، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَثَابَةً، وَيُفَسَّرُ الْأَمْنُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْأَمْرِ، التَّقْدِيرُ: وَاجْعَلُوهُ آمِنًا، أَيْ جَعَلْنَاهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، فَاجْعَلُوهُ آمِنًا لَا يَتَعَدَّى فِيهِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ آمِنًا مِنَ الْغَارَةِ وَالْقَتْلِ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُحَرَّمًا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَرُبَّمَا يُؤَيَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَاتَّخِذُوا عَلَى الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَطْفُ فِيهِ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، عُطِفَتْ فِيهِ الْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الظَّاهِرِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْجُمْهُورُ: وَاتَّخِذُوا، بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِفَتْحِهَا، جَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ: وَاتَّخِذُوا عَلَى الْأَمْرِ، فَاخْتُلِفَ مَنِ الْمُوَاجَهُ بِهِ، فَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ وَذُرِّيَّتُهُ، أَيْ وَقَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ: اتَّخِذُوا. وَقِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم وأمته، أَيْ: وَقُلْنَا اتَّخِذُوا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى! وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ فَقَالَ: «هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ» ، فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَقَالَ: «لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ» . فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى نَزَلَتْ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اتَّخِذُوا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَقِيلَ: الْمُوَاجَهُ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ «1» . وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَعْنَى: ثُوبُوا إِلَى الْبَيْتِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْنَى. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ بَعِيدَانِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ: وَاتَّخَذُوا، بِفَتْحِ الْخَاءِ، فَمَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَإِمَّا عَلَى مَجْمُوعِ، إِذْ جَعَلْنَا فَيُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ إِذْ، وَإِمَّا عَلَى نَفْسِ جَعَلْنَا، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِهَا، بَلْ يَكُونُ فِي صِلَةِ إِذْ. وَالْمَعْنَى: وَاتَّخَذَ النَّاسُ مِنْ مَكَانِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وُسِمَ بِهِ لِاهْتِمَامِهِ بِهِ، وَإِسْكَانِ ذُرِّيَّتِهِ عِنْدَهُ قِبْلَةً يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. مِنْ مَقَامٍ: جَوَّزُوا فِي مِنْ أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً، وَبِمَعْنَى فِي، وَزَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هِيَ مِثْلُ اتَّخَذْتُ مِنْ فُلَانٍ صَدِيقًا، وَأَعْطَانِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ أَخًا صَالِحًا، دَخَلَتْ مِنْ لِبَيَانِ الْمُتَّخَذِ الْمَوْهُوبِ، وَتَمْيِزِهِ فِي ذَلِكَ المعنى والمقام

_ (1) سورة البقرة: 2/ 40.

مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، يُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ، أَيْ مَكَانُ قِيَامِهِ، وَهُوَ الْحَجَرُ الَّذِي ارْتَفَعَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ضَعُفَ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ الَّتِي كَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ إِيَّاهَا فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَغَرِقَتْ قَدَمَاهُ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَقَتَادَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ الْآنُ مَوْضِعُ ذَلِكَ الْحَجَرِ وَالْمُسَمَّى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ الْمُطَّلِبَ بْنَ أَبِي رِفَاعَةَ: هَلْ تَدْرِي أَيْنَ كَانَ مَوْضِعُهُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ نَعَمْ، فَأَرَاهُ مَوْضِعَهُ الْيَوْمَ. قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ فِي الْمَقَامِ أَثَرَ أَصَابِعِهِ وَعَقِبِهِ وَأَخْمُصِ قَدَمَيْهِ، غَيْرُ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. أَوْ حَجَرٌ جَاءَتْ بِهِ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ إِلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَاغْتَسَلَ عَلَيْهِ، فَغَرِقَتْ رِجْلَاهُ فِيهِ حِينَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَوْ مَوَاقِفُ الْحَجِّ كُلُّهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ، لِأَنَّهُ قَامَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَدَعَا فِيهَا أَوِ الْحَرَمُ كُلُّهُ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ أَوِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَهُ قَوْمٌ. وَاتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَرُجِّحَ بِحَدِيثِ عُمَرَ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ الْحَدِيثَ، وَبِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم لما فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ وَأَتَى الْمَقَامَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، وَلِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلِأَنَّ الْحَجَرَ صَارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فِي رُطُوبَةِ الطِّينِ حِينَ غَاصَتْ فِيهِ رِجْلَاهُ، وَفِي ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ. فَكَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَقَامَ هُوَ مَوْضِعُ الْقِيَامِ، وَثَبَتَ قِيَامُهُ عَلَى الْحَجْرِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى غَيْرِهِ. مُصَلًّى: قِبْلَةً، قَالَهُ الْحَسَنُ. مَوْضِعَ صَلَاةٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ. مَوْضِعَ دُعَاءٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْأُولَى الْحَمْلُ عَلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا عَلَى الصَّلَاةِ لُغَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَوْضِعُ صَلَاةٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمَقَامُ: الْحَجَرُ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ قَالَ: مُصَلًّى، مَدْعًى عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، يَعْنِي فِي اللُّغَةِ. انْتَهَى. وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَيْ أَمَرْنَا أَوْ وَصَّيْنَا، أَوْ أَوْحَيْنَا، أَوْ قُلْنَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. أَنْ طَهِّرا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، أَيْ طَهِّرَا، فَفَسَّرَ بِهَا الْعَهْدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ بِأَنْ طَهِّرَا. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَعَلَى الثَّانِي يَحْتَمِلُ الْجَرَّ وَالنَّصْبَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّحْوِيِّينَ. إِذَا حُذِفَ مِنْ أَنْ حَرْفُ الْجَرِّ، هَلِ الْمَحَلُّ نَصْبٌ أَوْ خَفْضٌ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَرَّةً فِي وَصْلِ أَنْ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا أَحْفَظُ مِنْ كَلَامِهِمْ: عَجِبْتُ مِنْ أَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا، فَتُوصَلُ بِالْأَمْرِ، وَلِأَنَّ انْسِبَاكَ الْمَصْدَرِ يُحِيلُ مَعْنَى الْأَمْرَ وَيُصَيِّرُهُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهِ وَيُنَافِي ذَلِكَ الْأَمْرَ. وَالتَّطْهِيرُ: الْمَأْمُورُ

بِهِ هُوَ التَّنْظِيفُ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَقَدْ فَسَّرُوا التَّطْهِيرَ بِالْبِنَاءِ وَالتَّأْسِيسِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالتَّوْحِيدِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَبِالتَّطْهِيرِ مِنَ الْأَوْثَانِ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ عَامِرًا عَلَى عَهْدِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ أَصْنَامٌ عَلَى أَشْكَالِ صَالِحِيهِمْ، وَأَنَّهُ طَالَ الْعَهْدُ، فَعُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِتَطْهِيرِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْثَانِ، قَالَهُ جُبَيْرٌ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُنْصَبُ فِيهِ وَثَنٌ، وَلَا يُعْبَدُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: مَعْنَاهُ بَخِّرَاهُ وَنَظِّفَاهُ وَخَلِّقَاهُ. وَقِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ وَالرَّيْبِ. وَقِيلَ: مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ الَّذِي كَانَ يُطْرَحُ فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْلِصَاهُ لِهَؤُلَاءِ، لَا يَغْشَاهُ غَيْرُهُمْ، وَالْأُولَى حَمْلُهُ عَلَى التَّطْهِيرِ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ بُيُوتَ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَوْثَانُ وَالْأَنْجَاسُ، وَجَمِيعُ الْخَبَائِثِ، وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ شَرْعًا، كَالْحَائِضِ. بَيْتِيَ: هَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، لَا أَنَّ مَكَانًا مَحَلٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ لَمَّا أَمَرَ بِبِنَائِهِ وَتَطْهِيرِهِ وَإِيفَادِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ إِلَيْهِ، صَارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ، فَحَسُنَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، وَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ناقَةُ اللَّهِ «1» ورَوْحِ اللَّهِ «2» ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا خُصُوصِيَّةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، فَنَاسَبَ الْإِضَافَةَ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ بِتَطْهِيرِهِ يَقْتَضِي سَبْقَ وَجُودِهِ، إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا التَّطْهِيرَ عَلَى الْبِنَاءِ وَالتَّأْسِيسِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالتَّقْوَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى عَهْدِ نُوحٍ. لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كُلُّ مَنْ يَطُوفُ مِنْ حَاضَرٍ أَوْ بَادٍ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْغُرَبَاءُ الطَّارِئُونَ عَلَى مَكَّةَ حُجَّاجًا وَزُوَّارًا، فَيَرْحَلُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَهُ. وَالْعَاكِفِينَ، قَالَ: وَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ الْحَرَامِ الْمُقِيمُونَ، وَالْمُقِيمُ مُقَابِلُ الْمُسَافِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْعَاكِفُونَ هُمُ الْجَالِسُونَ مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ مِنْ بَلَدِيٍّ وَغَرِيبٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُجَاوِرُونَ لَهُ مِنَ الْغُرَبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُصَلُّونَ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ يَدْخُلُ إِلَى الْبَيْتِ، إِنَّمَا يَدْخُلُ لِطَوَافٍ أَوْ صَلَاةٍ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُعْتَكِفُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَاكِفِينَ: الْوَاقِفِينَ، يَعْنِي الْقَائِمِينَ، كَمَا قَالَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَالْمَعْنَى لِلطَّائِفِينَ وَالْمُصَلِّينَ، لِأَنَّ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ هَيْآَتُ الْمُصَلِّي. انْتَهَى. وَلَوْ قَالَ: الْقَائِمُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْعَاكِفُ، مِنْ قَوْلِهِ: مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا، لَكَانَ حَسَنًا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ أَحْوَالِ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتِ لِلتَّعَبُّدِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِذْ ذَاكَ مِنْ طَوَافٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ صَلَاةٍ، فَيَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ لِمَا هيىء الْبَيْتُ لَهُ. وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ: هُمُ الْمُصَلُّونَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الحسن: هم

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 73. (2) سورة يوسف: 12/ 87. [.....]

جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَصَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِالذِّكْرِ مِنْ جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّي، لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ أَحْوَالِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلَى السُّجُودِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ، وَجُمِعَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ لِمُقَابَلَتِهِمَا مَا قَبْلَهُمَا مِنْ جَمْعَيِ السَّلَامَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْوِيعًا فِي الْفَصَاحَةِ، وَخَالَفَ بَيْنَ وَزْنَيْ تَكْسِيرِهِمَا تَنْوِيعًا فِي الْفَصَاحَةِ أَيْضًا، وَكَانَ آخِرُهُمَا عَلَى فُعُولٍ، لَا عَلَى فُعَّلٍ، لِأَجْلِ كَوْنِهَا فَاصِلَةً، وَالْفَوَاصِلُ قبلها وبعدها آخر ما قَبْلَهُ حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ، وَعُطِفَتْ تَيْنِكَ الصِّفَتَانِ لِفَرْطِ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَهُمَا مِمَّا سَبَقَ. وَلَمْ يَعْطِفِ السُّجُودَ عَلَى الرُّكَّعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا الْمُصَلُّونَ. وَالرُّكَّعُ وَالسُّجُودُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ هيآتهما فيقابلهما فِعْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاةُ. فَالْمُرَادُ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: الْمُصَلُّونَ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا يَعْطِفَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ عَلَى حِيَالِهَا، وَلَيْسَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فَرْضًا وَنَفْلًا، إِذْ لَمْ يُخَصِّصْ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً: ذَكَرُوا أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذَا ذكر محذوفة، وَرَبُّ: مُنَادًى مُضَافٌ إِلَى الْيَاءِ، وَحَذْفُ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْيَاءِ فِيهِ لُغَاتٌ، أَحْسَنُهَا: أَنْ تُحْذَفَ مِنْهُ يَاءُ الْإِضَافَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا بِالْكَسْرَةِ، فَيُجْتَزَأُ بِهَا لِأَنَّ النِّدَاءَ مَوْضِعُ تَخْفِيفٍ. أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ التَّرْخِيمِ فِيهِ؟ وَتِلْكَ اللُّغَاتُ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَسَيَأْتِي مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ، وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَنَادَاهُ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَيْهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَلَطُّفِ السُّؤَالِ وَالنِّدَاءِ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى قَبُولِ السَّائِلِ وَإِجَابَةِ ضَرَاعَتِهِ. وَاجْعَلْ هُنَا بِمَعْنَى: صَيِّرْ، وَصُورَتُهُ أَمْرٌ، وَهُوَ طَلَبٌ وَرَغْبَةٌ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْوَادِي الَّذِي دَعَا لِأَهْلِهِ حِينَ أَسْكَنَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ «1» ، أَوْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَارَ بَلَدًا، وَلِذَلِكَ نَكَّرَهُ فَقَالَ: بَلَداً آمِناً. وَحِينَ صَارَ بَلَدًا قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي «2» ، وَقَالَ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «3» ، هَذَا إِنْ كَانَ الدُّعَاءُ مَرَّتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ. وَقِيلَ: الْآيَتَانِ سَوَاءٌ، فَتَحْتَمِلُ آيَةَ التَّنْكِيرِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيِ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بَلَدًا آمِنًا، وَيَكُونُ بَلَدًا النَّكِرَةُ، تَوْطِئَةً لِمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: كَانَ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمًا حَارًّا، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَ كَوْنِهِ بَلَدًا. وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ محذوف وَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ بَلَدًا، بَلْ دَعَى لَهُ بِذَلِكَ، وَتَكُونُ الْمَعْرِفَةُ الَّذِي جَاءَ فِي قَوْلِهِ: هَذَا الْبَلَدَ، باعتبار ما يؤول إِلَيْهِ سَمَّاهُ بَلَدًا. وَوَصْفُ بلد بآمن، إما

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 37. (2) سورة ابراهيم: 14/ 35. (3) سورة البلد: 90/ 1.

عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَا أَمْنٍ، كَقَوْلِهِمْ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «1» ، أَيْ ذَاتِ رِضًا، أَوْ عَلَى الِاتِّسَاعِ لَمَّا كَانَ يَقَعُ فِيهِ الْأَمْنُ جَعَلَهُ آمِنًا كَقَوْلِهِمْ: نَهَارُكَ صَائِمٌ وَلَيْلُكَ قَائِمٌ. وَهَلِ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْمُسَلَّطِينَ، أَوْ مِنْ أَنْ يَعُودَ حَرَمُهُ حَلَالًا، أَوْ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ آمِنًا مِنَ الْقَتْلِ، أَوْ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ، أَوْ من القحط والجذب، أَوْ مِنْ دُخُولِ الدَّجَّالِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ؟ أَقْوَالٌ. وَمَنْ فَسَّرَ آمِنًا بِكَوْنِهِ آمِنًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَالْوَاقِعُ يَرُدُّهُ، إِذْ قَدْ دَخَلَ فِيهِ الْجَبَابِرَةُ وَقَتَلُوا، كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْجُرْهُمِيِّ، وَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَالْقَرَامِطَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ آمِنًا مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ، فَهِيَ أَكْثَرُ بِلَادِ اللَّهِ قَحْطًا وَجَدْبًا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ مَأْمُونًا فِيهِ، وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ تَغْزُوَهُمُ الْعَرَبُ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا وَجَدَ بِمَفَازَةٍ أَوْ بَرِيَّةٍ، لَا يتعرض إليه عند ما يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ سُكَّانِ الْحَرَمِ. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: لَمَّا بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ فِي أَرْضٍ مُقْفِرَةٍ، وَكَانَ حَالُ مَنْ يَتَمَدَّنُ مِنَ الْأَمَاكِنِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَاءٍ يَجْرِي وَمَزْرَعَةٍ يُمْكِنُ بِهِمَا الْقِطَانُ بِالْمَدِينَةِ، دَعَا اللَّهَ لِلْبَلَدِ بِالْأَمْنِ، وَبِأَنْ يُجْبَى لَهُ الْأَرْزَاقُ. فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَلَدُ ذَا أَمْنٍ، أَمْكَنَ وُفُودُ التُّجَّارِ إِلَيْهِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ. وَلَمَّا سَمِعَ فِي الْإِمَامَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. قَيَّدَ هُنَا مَنْ سَأَلَ لَهُ الرِّزْقَ فَقَالَ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِهِ. دَعَا لِمُؤْمِنِهِمْ بِالْأَمْنِ وَالْخِصْبِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُدْعَى لَهُ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا طَغَتْ، دَعَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ، كَسِنِي يُوسُفَ» ، وَكَانَتْ مَكَّةُ إِذْ ذَاكَ قَفْرًا، لَا مَاءَ بِهَا وَلَا نَبَاتَ، كَمَا قَالَ: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فَبَارَكَ اللَّهُ فِيمَا حَوْلُهَا، كَالطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ فِيهِ أَنْوَاعًا مِنَ الثَّمَرِ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا دَعَاهُ إِبْرَاهِيمُ، أَمَرَ جِبْرِيلَ فَاقْتَلَعَ فِلَسْطِينَ ، وَقِيلَ: بُقْعَةً مِنَ الْأُرْدُنِّ، فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعًا، فأنزلها بواد، فَسُمِّيَتِ الطَّائِفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الطَّوَافِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ الْأَمَاكِنِ إِعْظَامًا لِحُرْمَتِهَا ... تَسْعَى لَهَا وَلَهَا فِي سَعْيِهَا شَرَفُ وَذَكَرَ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْيَوْمُ الْآخِرُ، لِأَنَّ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ إِيمَانًا بِالصَّانِعِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَبِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ، وَفِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِيمَانٌ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْمُرَتَّبَيْنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَنَاطُ التَّكْلِيفِ الْمُسْتَدْعِي مُخْبِرًا

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 21.

صَادِقًا بِهِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. فَتَضَمَّنَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ غَيْرَهُ فِي ضِمْنِهِ. وَدُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ يَعُمُّ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمَ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِذُرِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مُخْتَصًّا بِذُرِّيَّتِهِ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي وَارْزُقْهُمْ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا سُؤَالَيْنِ. وَمِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنَ الثَّمَرَاتِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرْزَقُوا إِلَّا بَعْضَ الثَّمَرَاتِ. وَقِيلَ: هِيَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَمَنْ بَدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ، بَدْلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مُخَصِّصٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالْعُمُومِ السَّابِقِ فِي لَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ إِنَّمَا عُنِيَ بِهِ وَأُرِيدَ الْبَدَلُ فَصَارَ مَجَازًا، إِذْ أُرِيدَ بِالْعَامِّ الْخَاصُّ. هَذِهِ فَائِدَةُ هَذَيْنِ الْبَدَلَيْنِ، فَصَارَ فِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَتَثْبِيتٌ لِلْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْحُكْمُ، وَهُوَ الْبَدَلُ، إِذْ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ. قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: فَأُمَتِّعُهُ، مُشَدَّدًا عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَأُمْتِعُهُ، مُخَفِّفًا عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ هَؤُلَاءِ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ خَبَرًا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: فَأُمْتِعُهُ مُخَفَّفًا، ثُمَّ إِضْطَرُّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُمَا خِبْرَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: ثُمَّ أَضطَّرُّهُ، بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ خَبَرًا. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: ثُمَّ أَضْطُرُّهُ بِضَمِّ الطَّاءِ، خَبَرًا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَرُّهُ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ فِيهِمَا، فَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لَمَّا دَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالرِّزْقِ، دَعَا عَلَى الْكَافِرِينَ بِالْإِمْتَاعِ الْقَلِيلِ وَالْإِلْزَازِ إِلَى الْعَذَابِ. وَمَنْ: عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أَوْ شَرْطِيَّةً، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ عَلَى الْوَصْلِ أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ومن: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: قَالَ اللَّهُ وأرزق من كفر فأمتعه، وَيَكُونُ فَأُمَتِّعُهُ مَعْطُوفًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ النَّاصِبِ لِمَنْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، إِمَّا مَوْصُولًا، وَإِمَّا شَرْطًا، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوِ الدَّاخِلَةُ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ لِشُبْهَةٍ بِاسْمِ الشَّرْطِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ إِذَا كَانَتْ شَرْطًا، لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ الْعَامِلَ فِي مَنْ إِلَّا فِعْلُ الشَّرْطِ، لَا الْفِعْلُ الْوَاقِعُ جَزَاءً، وَلَا إِذَا

كَانَتْ مَوْصُولَةً، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُضَارِعٌ قَدْ دَخَلَتْهُ الْفَاءُ تَشْبِيهًا، لِلْمَوْصُولِ بِاسْمِ الشَّرْطِ. فَكَمَا لَا يُفَسِّرُ الْجَزَاءُ، كَذَلِكَ لَا يُفَسِّرُ الْخَبَرُ الْمُشَبَّهُ بِالْجَزَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَمْرًا، أَعْنِي الْخَبَرَ نَحْوَ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدًا فَتَضْرِبُهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَلِجَوَازِ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ عَلَى الْأَمْرِ، عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ من مبتدأ، وفأمتعه الْخَبَرَ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مُسْتَحِقًّا لِصِلَتِهَا، كَقَوْلِكَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ. وَالْكُفْرُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّمَتُّعُ. فَإِنْ جُعِلَتِ الْفَاءُ زَائِدَةً عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ جَازَ، أَوِ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَفَأُمَتِّعُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ جَازَ، تَقْدِيرُهُ: وَمَنْ كَفَرَ أَرْزُقُهُ فَأُمَتِّعُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ شَرْطِيَّةً وَالْفَاءُ جَوَابَهَا. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَنْ يَكْفُرُ أَرْزُقُ. وَمَنْ عَلَى هَذَا رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً، لِأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيهَا جَوَابُهَا، بَلِ الشَّرْطُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ أَوَّلًا لَا يَجُوزُ كَذَا وَتَعْلِيلُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَحَقٌّ بِالصِّلَةِ، لِأَنَّ التَّمَتُّعَ الْقَلِيلَ وَالصَّيْرُورَةَ إِلَى النَّارِ مُسْتَحِقَّانِ بِالْكُفْرِ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ نَاقَضَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي تَجْوِيزِهِ أَنْ تَكُونَ مَنْ شُرْطِيَّةً والفاء جَوَابَهَا. وَهَلِ الْجَزَاءُ إِلَّا مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ وَمُتَرَتَّبٌ عَلَيْهِ؟ فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَيْضًا. فَلَوْ كَانَ التَّمَتُّعُ قَلِيلًا لَيْسَ مُسْتَحَقًّا بِالصِّلَةِ، وَقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالصِّلَةِ، نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ خَبَرًا مِنْ حَيْثُ وَقَعَ جَزَاءً، وَقَدْ جَوَّزَ هُوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ زِيَادَةِ الْفَاءِ، وَإِضْمَارِ الْخَبَرِ، وَإِضْمَارِ جَوَابِ الشَّرْطِ، إِذَا جَعَلْنَا مَنْ شَرْطِيَّةً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُنْتَظِمٌ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ دُونَ هَذَا الْإِضْمَارِ. وَإِنَّمَا جَرَى أَبُو الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حَدِّ مَا يَجْرِي فِي شَعْرٍ الشَّنْفَرِيِّ وَالشَّمَّاخِ، مِنْ تَجْوِيزِ الْأَشْيَاءِ الْبَعِيدَةِ وَالتَّقَادِيرِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهَا، وَنَحْنُ نُنَزِّهُ الْقُرْآنَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ كَفَرَ: عَطْفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ، كما عطف ومن ذريتي عَلَى الْكَافِ فِي جَاعِلُكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِ أَنَّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عَطْفٌ عَلَى الْكَافِ فِي جَاعِلُكَ. وَأَمَّا عَطْفُ مَنْ كَفَرَ عَلَى مَنْ آمَنَ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَتَنَافَى فِي تَرْكِيبِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ حَتَّى يُشْرِكَهُ فِي الْعَامِلِ، وَمَنْ آمَنَ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلُ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي وَمَنْ كَفَرَ. وَإِذَا قَدَّرْتَهُ أَمْرًا، تَنَافَى مَعَ قَوْلِهِ: فَأُمَتِّعُهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِنَسْبِهِ التَّمَتُّعَ وَإِلْجَائَهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلًّا مِنَ الْفِعْلَيْنِ يَضْمَنُ ضَمِيرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى بُعْدٍ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَاءِ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ فِيهِ ضَمِيرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ. ثُمَّ نَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ هَذَا، أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى مَنْ، كما عطف

وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عَلَى الْكَافِ فِي جَاعِلُكَ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لَمْ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى رُدَّ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: قَاسَ الرِّزْقَ عَلَى الْإِمَامَةِ، فَعَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ اسْتِرْعَاءٌ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَنْصَحُ لِلْمَرْعِيِّ. وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ النَّصِيحَةِ الظَّالِمُ، بِخِلَافِ الرِّزْقِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ اسْتِدْرَاجًا لِلْمَرْزُوقِ وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ لَهُ. وَالْمَعْنَى: وَأَرْزَقُ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَالْمَعْنَى: وأرزق من كفر فأمتعه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَالَ، وَمَنْ كَفَرَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ من كفر منصوب بارزق الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُنَاقِصُ مَا قُدِّمَ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ مَنْ كَفَرَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ. وَفِي قَوْلِهِ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى رُدَّ عَلَيْهِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي، وَيَرْغَبُ فِي أَنْ يَرْزُقَ الْكَافِرَ، بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَكُونُ مَآلُ الْكَافِرِ إِلَيْهِ مِنَ التَّمْتِيعِ الْقَلِيلِ وَالصَّيْرُورَةِ إِلَى النَّارِ، وَلَيْسَ هُنَا قِيَاسُ الرِّزْقِ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَلَا تَعْرِيفُ الْفِرَقِ بَيْنَهُمَا، كَمَا زَعَمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَتَاعِ، وَأَنَّهُ كُلُّ مَا انْتُفِعَ بِهِ، وَفَسَّرَ هُنَا التَّمْتِيعَ وَالْإِمْتَاعَ بِالْإِبْقَاءِ، أَوْ بِتَيْسِيرِ الْمَنَافِعِ، وَمِنْهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ مَنْفَعَتُهَا الَّتِي لَا تَدُومُ، أَوْ بِالتَّزْوِيدِ، وَمِنْهُ: فَمَتِّعُوهُنَّ أَيْ زَوِّدُوهُنَّ نَفَقَةً. وَالْمُتْعَةُ: مَا يُتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الزَّادِ، وَالْجَمْعُ مُتَعٌ، وَمِنْهُ: مَتَاعًا لَكُمْ. وَلِلسَّيَّارَةِ وَالْهَمْزَةُ فِي أَمْتَعَ يَجْعَلُ الشَّيْءَ صَاحِبَ مَا صِيغَ مِنْهُ: أَمْتَعْتُ زَيْدًا، جَعَلْتُهُ صَاحِبَ مَتَاعٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَقْبَرْتُهُ وَأَنْعَلْتُهُ، وَكَذَلِكَ التَّضْعِيفُ فِي مَتَّعَ هُوَ: يَجْعَلُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: عَدَّلْتُهُ. وَلَيْسَ التَّضْعِيفُ فِي مَتَّعَ يَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، فَيُنَافِي ظَاهِرَ ذَلِكَ الْقِلَّةُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ بِإِضَافَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْقِلَّةَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ فلم يتنافينا. وَانْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، عَلَى تَقْدِيرِ الْجُمْهُورِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَالْوَصْفُ بِالْقِلَّةِ لِسُرْعَةِ انْقِضَائِهِ، إِمَّا لِحُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِمَّا بِظُهُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يُخْرِجُهُ عَنْ هَذَا الْبَلَدِ، إِنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِمْتَاعِ بِالنَّعِيمِ وَالزِّينَةِ، أَوْ بِالْإِمْهَالِ عَنْ تَعْجِيلِ الِانْتِقَامِ فِيهَا، أَوْ بِالرِّزْقِ، أَوْ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَقْوَالٌ لِلْمُفَسِّرِينَ. وَقِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ: ثُمَّ إِضْطَرُّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ، فِي قَوْلِهِمْ: لَا إِخَالُ، يَعْنِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا النَّقْلِ فِي أَنَّ ذَلِكَ، أَعْنِي كَسْرَ الْهَمْزَةِ الَّتِي لِلْمُتَكَلِّمِ فِي نَحْوِ إِضْطَرُّ، وَهُوَ مَا أَوَّلَهُ هَمْزَةُ

وَصْلٍ. وَفِي نَحْوِ إِخَالُ، وَهُوَ إِفْعَلُ الْمَفْتُوحُ الْعَيْنِ مِنْ فِعَلَ الْمَكْسُورِ الْعَيْنِ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ النَّحْوِيُّونَ. فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا عَنِ الْحِجَازِيِّينَ فَتْحَ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِمَّا أَوَّلُهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ، وَمِمَّا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَفْعَلُ بِفَتْحِهَا، أَوْ ذَا يَاءٍ مَزِيدَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: عَلِمَ يَعْلَمُ، وَانْطَلَقَ يَنْطَلِقُ، وتعلم بتعلم، إِلَّا إِنْ كَانَ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ يَاءً، فَجُمْهُورُ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ الْحِجَازِيِّينَ لَا يَكْسِرُ الْيَاءَ، بَلْ يَفْتَحُهَا. وَفِي مِثْلِ يَوْجِلُ بِالْيَاءِ مُضَارِعِ وَجِلَ، مَذَاهِبُ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَطِيَّةِ مُخَالِفٌ لِمَا حَكَاهُ النُّحَاةُ، إِلَّا إِنْ كَانَ نَقَلَ أَنَّ إِخَالُ بِخُصُوصِيَّتِهِ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ دُونَ نَظَائِرِهِ، فَيَكُونُونَ قَدْ تَبِعُوا فِي ذَلِكَ لُغَةَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ صَحِيحًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي سُورَةِ الْحَمْدِ فِي قَوْلِهِ: نَسْتَعِينُ أَنَّ الْكَسْرَةَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَأَسَدٍ وَرَبِيعَةَ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ كِتَابِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَقِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: ثُمَّ أَطَّرُّهُ، بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ مَرْذُولَةٌ، لِأَنَّ الضَّادَ مِنَ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ الَّتِي يُدْغَمُ فِيهَا مَا يُجَاوِرُهَا، وَلَا تُدْغَمُ هِيَ فِيمَا يُجَاوِرُهَا، وَهِيَ حُرُوفُ ضُمَّ شُفْرٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. إِذَا لَقِيَتِ الضَّادُ الطَّاءَ فِي كَلِمَةٍ نَحْوِ مُضْطَرِبٍ، فَالْأَوْجَهُ الْبَيَانُ، وَإِنْ أُدْغِمَ قُلِبَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ فَقِيلَ: مُضَّرِبٌ، كَمَا قِيلَ: مُصَّبِرٌ فِي مُصْطَبِرٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مُطَّجِعٌ، فِي مُضْطَجِعٍ وَمَضَّجِعٌ أَكْثَرَ، وَجَازَ مُطَّجِعٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي مُصْطَبِرٍ مُطَّبِرٍ، لِأَنَّ الضَّادَ لَيْسَتْ فِي السَّمْعِ كَالصَّادِّ، يَعْنِي أَنَّ الصَّفِيرَ الَّذِي فِي الصَّادِ أَكْثَرُ فِي السَّمْعِ مِنَ اسْتِطَالَةِ الضَّادِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ لُغَةً مَرْذُولَةً، أَلَا تَرَى إِلَى نَقْلِهِ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ مُطَّجِعٌ، وَإِلَى قَوْلِهِ: وَمَضَّجِعٌ أَكْثَرُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنْ مُطَّجِعًا كَثِيرٌ؟ وَأَلَا تَرَى إِلَى تَعْلِيلِهِ، وَكَوْنُ الضَّادِ قُلِبَتْ إِلَى الطَّاءِ وَأُدْغِمَتْ، وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ بِالصَّادِ، وَإِبْدَاءِ الْفِرَقِ بَيْنَهُمَا؟ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى الْجِوَازِ. وَقَدْ أُدْغِمَتِ الضَّادُ فِي الذَّالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَرْضَ ذَلُولًا «1» ، رَوَاهُ الْيَزِيدِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَفِي الشِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ «2» ، وَالْأَرْضِ شَيْئاً «3» ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَأَمَّا الشِّينُ فَأُدْغِمَتْ فِي السِّينِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وهو رأس من رؤوس

_ (1) سورة الملك: 67/ 15. (2) سورة النور: 24/ 62. (3) سورة النحل: 16/ 73. (4) سورة الإسراء: 17/ 42.

الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْفَاءُ فَقَدْ أُدْغِمَتْ فِي الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ «1» ، وَهُوَ إِمَامُ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا الرَّاءُ، فَذَهَبَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ مِنْ أَجْلِ تَكْرِيرِهَا، وَلَا فِي النُّونِ. وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي اللَّامِ: يَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الرؤاسي، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الْكُوفِيِّينَ، حَكَوْهُ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ. وَإِنَّمَا تَعَرَّضْتُ لِإِدْغَامِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِيمَا يُجَاوِرُهَا، وَذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: لَا تُدْغَمُ فِيمَا يُجَاوِرُهَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. فَأَوْرَدْتُ هَذَا الْخِلَافَ فِيهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، إِذْ إِطْلَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ أَلْبَتَّةَ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ: بِضَمِّ الطَّاءِ، تَوْجِيهُهَا أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الطَّاءِ لِحَرَكَةِ الرَّاءِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِالنُّونِ فِيهِمَا، فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، فَهِيَ شَاذَّةٌ. وَقِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ يَكُونُ تَكْرِيرُ قَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ لِيَكُونَ ذَلِكَ جُمْلَتَيْنِ، جُمْلَةٌ بِالدُّعَاءِ لِمَنْ آمَنَ، وَجُمْلَةٌ بِالدُّعَاءِ عَلَى مَنْ كَفَرَ، فَلَا يَنْدَرِجَانِ تَحْتَ مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَفْرَدَ كُلًّا بِقَوْلٍ. وَأَضْطَرُّهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، كَمَا تَقُولُ: عَضَّهُ بِالْفَتْحِ، وَهَذَا الْإِدْغَامُ هُوَ عَلَى لُغَةِ غَيْرِ الْحِجَازِيِّينَ، لِأَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِيِّينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَكُّ. وَلَوْ قَرَأَ عَلَى لُغَةِ قَوْمِهِ، لَكَانَ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابٍ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ. وَمَعْنَى الِاضْطِرَارِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ يُلْجَأُ وَيُلَزُّ إِلَى الْعَذَابِ، بِحَيْثُ لَا يجد محيصا عنه إذا حد، لَا يُؤْثِرُ دُخُولَ النَّارِ وَلَا يَخْتَارُهُ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ هُنَا مُلْغًى، إِذْ قَدْ يَدْخُلُ النَّارَ بَعْضُ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النَّارُ، إِنْ كَانَ الْمَصِيرُ اسْمَ مَكَانٍ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَتِ الصَّيْرُورَةُ صَيْرُورَتُهُ إِلَى الْعَذَابِ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ: هَذِهِ الجملة معطوفة على ما قَبْلَهَا، فَالْعَامِلُ فِي إِذْ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ الْعَامِلُ فِي إِذْ قَبْلَهَا. وَيَرْفَعُ فِي مَعْنَى رَفَعَ، وَإِذْ مِنَ الْأَدَوَاتِ الْمُخَلِّصَةِ لِلْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي، لِأَنَّهَا ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ. وَالرَّفْعُ حَالَةُ الْخِطَابِ قَدْ وَقَعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. مِنَ الْبَيْتِ: هُوَ الْكَعْبَةُ. ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْبَيْتِ وَقِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ بَابَاهُ، وَكَمْ مَرَّةً حَجَّةُ آدَمُ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَمَنْ سَاعَدَهُ عَلَى الْبِنَاءِ، قِصَصًا كَثِيرَةً. وَاسْتَطْرَدُوا مِنْ ذَلِكَ لِلْكَلَامِ فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَفِي طُولِ آدَمَ، وَالصَّلَعِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ ولولده، وفي

_ (1) سورة سبأ: 34/ 9.

الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَطَوَّلُوا فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الْقُرْآنُ وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَبَعْضُهَا يُنَاقِضُ بَعْضًا، وَذَلِكَ عَلَى جَرْيِ عَادَاتِهِمْ فِي نَقْلِ مَا دَبَّ وَمَا دَرَجَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ إِلَّا عَلَى مَا صَحَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَصِحُّ من هَذَا كُلِّهِ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِرَفْعِ الْقَوَاعِدِ مِنَ الْبَيْتِ وَنُشَاحُّهُ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَ، إِذْ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ. الْقَواعِدَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَهَلْ هِيَ الْأَسَاسُ أَوِ الْجُدُرُ؟ فَإِنْ كَانَتِ الْأَسَاسَ، فَرَفَعَهَا بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا، فَتَنْتَقِلُ مِنْ هَيْئَةِ الِانْخِفَاضِ إِلَى هَيْئَةِ الِارْتِفَاعِ، وَتَتَطَاوَلٍ بَعْدَ التَّقَاصُرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا سَاقَاتِ الْبِنَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا قُعِّدَ مِنَ البيت، أي استوطىء، يَعْنِي جَعَلَ هَيْئَةَ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَوْطَأَةِ مُرْتَفِعَةً عَالِيَةً بِالْبِنَاءِ. مِنَ الْبَيْتِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ متعلقا بيرفع، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرِهِ: كَائِنَةٌ مِنَ الْبَيْتِ. وَلَمْ تُضَفِ الْقَوَاعِدُ إِلَى الْبَيْتِ، فَكَانَ يَكُونُ الْكَلَامُ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، لِمَا فِي عَدَمِ الْإِضَافَةِ مِنَ الْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِ الْمُبَيَّنِ. وَإِسْماعِيلُ: مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الرَّفْعِ. قِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مَعًا، وَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ طِفْلٌ صَغِيرٌ إِذْ ذَاكَ، كَانَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ إِذْ ذَاكَ طِفْلًا صَغِيرًا ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَمَنْ جَعَلَ الْوَاوَ فِي وَإِسْمَاعِيلُ وَاوَ الْحَالِ، أَعْرَبَ إِسْمَاعِيلَ مُبْتَدَأً وَأَضْمَرَ الْخَبَرَ، التَّقْدِيرُ: وَإِسْمَاعِيلُ يَقُولُ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، فَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ مُخْتَصًّا بِالْبِنَاءِ، وَإِسْمَاعِيلُ مُخْتَصًّا بِالدُّعَاءِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْعَطْفِ، جَعَلَ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَائِدٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ مَعًا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: وَإِذْ يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ قَائِلِينَ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ الْعَطْفَ فِي وَإِسْمَاعِيلُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ يَقُولَانِ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْعَامِلَ فِي إِذْ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا دَعَوْا بِذَلِكَ الدُّعَاءِ وَقْتَ أَنْ شَرَعَا فِي رَفْعِ الْقَوَاعِدِ، وَفِي نِدَائِهِمَا بِلَفْظِ رَبَّنَا تَلَطُّفٌ وَاسْتِعْطَافٌ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ بِحَالِ الدَّاعِي. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا: أَيْ أَعْمَالَنَا الَّتِي قَصَدْنَا بِهَا طَاعَتَكَ، وَتَقَبَّلْ بِمَعْنَى: اقْبَلْ، فَتَفَعَّلْ هُنَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشيء وَعَدَّاهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جاء لها تفعل.

وَالْمُرَادُ بِالتَّقَبُّلِ: الْإِثَابَةُ، عَبَّرَ بِإِحْدَى الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لِأَنَّ التَّقَبُّلَ هُوَ أَنْ يَقْبَلَ الرَّجُلَ مِنَ الرَّجُلِ مَا يُهْدِي إِلَيْهِ. فَشَبَّهَ الْفِعْلَ مِنَ الْعَبْدِ بِالْعَطِيَّةِ، وَالرِّضَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقَبُّلِ تَوَسُّعًا. وَحَكَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ فَرْقًا بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّقَبُّلِ، قَالَ: التَّقَبُّلُ تَكَلُّفُ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ نَاقِصًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْبَلَ، قَالَ: فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ إِعْطَاءَ الثَّوَابِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْقَبُولِ مِنَ الْمَخْدُومِ، أَلَذُّ عِنْدَ الْخَادِمِ الْعَاقِلِ مِنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، وَسُؤَالُهُمَا التَّقَبُّلَ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَنَقُولُ: إِنَّ التَّقَبُّلَ وَالْقَبُولَ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يُمْكِنُ تَعَقُّلُ التَّكْلِيفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ تَفَعَّلَ هُنَا مُوَافِقٌ لِلْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي هُوَ قَبْلُ. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ: يَجُوزُ فِي أَنْتَ الِابْتِدَاءُ وَالْفَصْلُ وَالتَّأْكِيدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفَصْلِ وَفَائِدَتِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَمَعْتُ فِيهَا الْكَلَامَ فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعَةِ أَوْرَاقٍ أَحْكَامًا دُونَ اسْتِدْلَالٍ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُنَاسِبَتَانِ هُنَا غَايَةَ التَّنَاسُبِ، إِذْ صَدَرَ مِنْهُمَا عَمَلٌ وَتَضَرُّعُ سُؤَالٍ، فَهُوَ السَّمِيعُ لضراعتهما وتسالهما التَّقَبُّلَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِهِمَا فِي إِخْلَاصِ عَمَلِهِمَا. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ السَّمْعِ، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ التَّقَبُّلِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعَمَلِ لِلْمُجَاوِرَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» . فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وَتَأَخَّرَتْ صِفَةُ الْعَلِيمِ لِكَوْنِهَا فَاصِلَةً وَلِعُمُومِهَا، إِذْ يَشْمَلُ عِلْمَ الْمَسْمُوعَاتِ وَغَيْرِ الْمَسْمُوعَاتِ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ: أَيْ مُنْقَادَيْنِ، أَوْ مُخْلِصَيْنِ أَوْجُهَنَا لَكَ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ، أَيْ أَخْلَصَ عَمَلَهُ، وَالْمَعْنَى: أَدِمْ لَنَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكَ تُفِيدُ جِهَةُ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَكَ لَا لِغَيْرِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: مُسْلِمِينَ عَلَى الْجَمْعِ، دُعَاءٌ لَهُمَا وَلِلْمَوْجُودِ مِنْ أَهْلِهِمَا، كَهَاجَرَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ لَفْظِ الْجَمْعِ مُرَادًا بِهِ التَّثْنِيَةَ، وَقَدْ قِيلَ بِهِ هُنَا. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ: لَمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ لَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، عَلِمَ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا الظَّالِمَ وَغَيْرَ الظَّالِمِ، فَدَعَا هُنَا بِالتَّبْعِيضِ لَا بِالتَّعْمِيمِ فَقَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا، وَخَصَّ ذُرِّيَّتَهُ بِالدُّعَاءِ لِلشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ فِي صَلَاحِ نَسْلِ الصَّالِحِينَ نَفْعًا كَثِيرًا لِمُتَّبِعِهِمْ، إِذْ يَكُونُونَ سَبَبًا لِصَلَاحِ مَنْ وَرَاءَهُمْ. وَالذُّرِّيَّةُ هُنَا، قِيلَ: أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِيهِمْ «2» . وَقِيلَ: هُمُ الْعَرَبُ، لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا. قال:

_ (1) سورة آل عمران: 6/ 106. (2) سورة البقرة: 2/ 129.

الْقَفَّالُ: لَمْ يَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا مَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَمْ تَزَلِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من ذُرِّيَّتِهِمَا، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيُّ. وَيُقَالُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَمْرُو بْنُ الظَّرَبِ، كَانَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِي قوله: ومن ذُرِّيَّتِنَا، لِلتَّبْيِينِ، قَالَ كَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ «1» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ كَوْنَ مَنْ لِلتَّبْيِينِ يَأْبَاهُ أَصْحَابُنَا وَيَتَأَوَّلُونَ مَا فُهِمَ مِنْ ظَاهِرِهِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْجَمَاعَةُ، أَوِ الْجِيلُ، وَالْمَعْنَى: عَلَى أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ، لِأَنَّ الْجَعْلَ هُنَا بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَالْمَعْنَى: وَاجْعَلْ نَاسًا مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَا قُدِّرَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا بمعنى: أوجدوا خلق. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى صَحِيحًا، فَكَانَ يَكُونُ الْجَعْلُ هُنَا يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا مُتَعَلِّقٌ بِاجْعَلِ الْمُقَدَّرَةِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَهُوَ مُشْتَرِكٌ فِي الْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَالْعَامِلُ الْأَوَّلِ لَيْسَ مَعْنَاهُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَلَا يُحْذَفُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ. وَالْمَنْطُوقُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ، فَكَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ. أَلَا تَرَاهُمْ قَدْ مَنَعُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ «2» أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيِ الصَّلَاتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ، وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَحَمَلُوهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَا عَلَى الْحَذْفِ؟ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ أُمَّةً، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا حَالٌ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَمُسْلِمَةٌ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَكَانَ الْأَصْلُ: اجْعَلْ أُمَّةً مِنْ ذُرِّيَّتِنَا مُسْلِمَةً لَكَ، قَالَ: فَالْوَاوُ دَاخِلَةٌ فِي الْأَصْلِ عَلَى أُمَّةٍ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: مِنْ ذُرِّيَّتِنَا، وَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: يَوْمًا تراها كشبه أردية العصب وَيَوْمًا أَدِيمُهَا نَغِلَا مِنَ الضَّرُورَاتِ، فَالْفَصْلُ بِالْحَالِ أَبْعَدُ مِنَ الْفَصْلِ بِالظَّرْفِ، فَصَارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ الرَّجُلَ، وَمُتَجَرِّدَةٌ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ: وَالْمَرْأَةُ مُتَجَرِّدَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ جَوَازُ هَذَا بِالضَّرُورَةِ. وَأَرِنا مَناسِكَنا: قَالَ قَتَادَةُ: مَعَالِمُ الْحَجِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مَذَابِحَنَا، أَيْ مَوَاضِعَ الذَّبْحِ. وَقِيلَ: كُلُّ عِبَادَةٍ يُتَعَبَّدُ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ الْكِرْمَانِيُّ: إِنْ كان المراد

_ (1) سورة النور: 24/ 55. (2) سورة الأحزاب: 33/ 43.

أَعْمَالَ الْحَجِّ، وَمَا يُفْعَلُ فِي الْمَوَاقِفِ، كَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالْوُقُوفِ، وَالصَّلَاةِ، فَتَكُونُ الْمَنَاسِكُ جَمْعَ مَنْسَكٍ: الْمَصْدَرُ، جُمِعَ لِاخْتِلَافِهَا. وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَوَاقِفَ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا شَرَائِعُ الْحَجِّ، كَمِنًى، وَعَرَفَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةِ، فَيَكُونُ جَمْعَ مَنْسَكٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَدَعَا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَجَّ بِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ، أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَمَعْنَى أَرِنَا: أَيْ بَصِّرْنَا. إِنْ كَانَتْ مِنْ رَأَى الْبَصْرِيَّةِ. وَالتَّعَدِّي هُنَا إِلَى اثْنَيْنِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ وَقَالَ الْكُمَيْتُ: بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عليّ وتحسب فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ النَّقْلِ، تَعَدَّتْ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ هُنَا إِلَّا اثْنَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقَدْ جَعَلَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَشَرَحَهَا بِقَوْلِهِ: عَرِّفْ، فَهِيَ عِنْدَهُ تَأْتِي بِمَعْنَى عَرِّفْ، أَيْ تَكُونُ قَلْبِيَّةً وَتَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ فَتَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى سَمَاعٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَعَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ مِنْهُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفْعُولِينَ، وَيَنْفَصِلُ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، كَغَيْرِ الْمُعَدَّى، قَالَ حَطَائِطُ بْنُ يَعْفُرَ أَخُو الْأَسْوَدِ: أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي ... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ. وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةِ مَفْعُولِينَ، إِنَّمَا يَلْزَمُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ رَأَى. إِذَا كَانَتْ قَلْبِيَّةً، تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، وَبِهَمْزَةِ النَّقْلِ تَصِيرُ تَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَقَوْلُهُ: وَيَنْفَصِلُ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، كَغَيْرِ الْمُعَدَّى، يَعْنِي أَنَّهُ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ وَمَعَهُ هَمْزَةُ النَّقْلِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ بِغَيْرِ الْهَمْزَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنْ لَرَأَى، إِذَا كَانَتْ قَلْبِيَّةً، اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةِ لِوَاحِدٍ بِمَعْنَى عَرَفَ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ عَطِيَّةٍ بِبَيْتِ ابْنِ يَعْفُرَ عَلَى أَنَّ أَرَى

قَلْبِيَّةٌ، لَا دَلِيلَ فِيهِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا بَصَرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَبْصِرِينِي جَوَادًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: مَاتَ هَزْلًا؟ فَإِنَّ هَذَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْبَصَرِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ رَأَى الْقَلْبِيَّةِ مُتَعَدِّيَةٍ لِوَاحِدٍ إِلَى سَمَاعٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ حَاشِدُ لُغَةٍ، وَحَافِظُ نَوَادِرَ: حِينَ عَدَّى مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَقَالَ فِي التَّسْهِيلِ، وَرَأَى لَا لِإِبْصَارٍ، وَلَا رَأْيٍ، وَلَا ضَرْبٍ، فَلَوْ كَانَتْ رَأَى بِمَعْنَى عَرَفَ، لَنَفَى ذَلِكَ، كَمَا نَفَى عَنْ رَأَى الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ، كَوْنَهَا لَا تَكُونُ لِأَبْصَارِ، ولا رأي، ولا ضرب. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُرَادُ هُنَا بِالرُّؤْيَةِ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ وَالْقَلْبِ مَعًا، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ بَعْضُهَا يُعْلَمُ وَلَا يُرَى، وَبَعْضُهَا لَا يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهُ إِلَّا بِالرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَوْ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَرْنَا، وَأَرْنِي خَمْسَةً بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الْإِسْكَانُ وَالِاخْتِلَاسُ. وَرُوِيَ عَنْهُ: الْإِشْبَاعُ، كَالْبَاقِينَ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَامِرٍ، وَأَبَا بَكْرٍ أَسْكَنَا فِي أَرْنَا اللَّذَيْنِ. فَالْإِشْبَاعُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالِاخْتِلَاسُ حَسَنٌ مَشْهُورٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالْإِسْكَانُ تَشْبِيهٌ لِلْمُنْفَصِلِ بالمتصل، كما قالوا: فخذوا سهله، كَوْنُ الْحَرَكَةِ فِيهِ لَيْسَتْ لِإِعْرَابٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ الْإِسْكَانَ مِنْ أَجْلِ أَنِ الْكَسْرَةَ تَدُلُّ عَلَى مَا حُذِفَ، فَيَقْبُحُ حَذْفُهَا، يَعْنِي أَنَّ الْأَصْلَ كَانَ أَرِءَ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، فَكَانَ فِي إِقْرَارِهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ هَذَا أَصْلٌ مَرْفُوضٌ، وَصَارَتِ الْحَرَكَةُ كَأَنَّهَا حَرَكَةٌ لِلرَّاءِ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. أَلَا تَرَاهُمْ أَدْغَمُوا فِي لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، أَيِ الْأَصْلُ لَكِنْ، ثُمَّ نَقَلُوا الْحَرَكَةَ وَحَذَفُوا، ثُمَّ أَدْغَمُوا؟ فَذَهَابُ الْحَرَكَةِ فِي أَرِنَا لَيْسَ بِدُونِ ذِهَابِهَا فِي الْإِدْغَامِ. وَأَيْضًا فَقَدْ سُمِعَ الْإِسْكَانُ فِي هَذَا الْحَرْفِ نَصًّا عَنِ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَرْنَا أَدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا وَأَيْضًا فَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، فَإِنْكَارُهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ تَأْدِيَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ، أَقْوَالًا سَبْعَةً مُضْطَرِبَةَ النَّقْلِ. وَذَكَرُوا أَيْضًا مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ مَاتَ بِهَا نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكْنَا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِنَا. وَتُبْ عَلَيْنا: قَالُوا التَّوْبَةُ مِنْ حَيْثُ الشَّرِيعَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّائِبِينَ، فَتَوْبَةُ سَائِرِ

الْمُسْلِمِينَ النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ إِذَا أَمْكَنَ، وَنِيَّةُ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ، وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ مِنْ خَوَاطِرِ السُّوءِ، وَالْفُتُورِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْكَمَالِ، وَتَوْبَةُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَالتَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ، فَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ دَعَوَا لِأَنْفُسِهِمَا بِالتَّوْبَةِ، وَكَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنا خَاصًّا بِهِمَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ هُنَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ. قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ التَّثْبِيتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِثْلَ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ شَامِلًا لَهُمَا وَلِلذُّرِّيَّةِ، كَانَ الدُّعَاءُ بِالتَّوْبَةِ مُنْصَرِفًا لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّوْبَةِ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ قَبْلَهُ مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى عُصَاتِنَا، وَيَكُونُ دَعَا بِالتَّوْبَةِ لِلْعُصَاةِ. وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الذَّنْبِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: التَّوْبَةُ مَشْرُوطَةٌ بِتَقَدُّمِ الذَّنْبِ، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَحَالَ طَلَبُ التَّوْبَةِ. وَالَّذِي يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ الذُّرِّيَّةُ الْعُصَاةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «1» ، إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» ، أَيْ فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَتُوبَ عَلَيْهِ وَتَغْفِرَ لَهُ، وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَتُبْ عَلَيْهِمْ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَرِ ذُرِّيَّتَنَا مَنَاسِكَنَا، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ، أَيْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتُبْ عَلَيْنَا مَا فَرَطَ مِنَّا مِنَ الصَّغَائِرِ، أَوِ اسْتَتَابَا لِذُرِّيَّتِهِمَا. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مَا فَرَطَ مِنَّا مِنَ الصَّغَائِرِ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِذْ يَقُولُونَ بِتَجْوِيزِهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذَكَرَ قَوْلَيِ التَّثْبِيتِ، أَوْ كَوْنَ ذَلِكَ دُعَاءً لِلذُّرِّيَّةِ، قَالَ: وَقِيلَ وَهُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنَّهُمَا لَمَّا عَرَفَا الْمَنَاسِكَ، وَبَنَيَا الْبَيْتَ، وَأَطَاعَا، أَرَادَا أَنْ يَسُنَّا لِلنَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ وَتِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَكَانُ التَّنَصُّلِ مِنَ الذُّنُوبِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الله تعالى معان يجب أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ مِمَّا هِيَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ خُرُوجُ قَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنَا عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، أَيْ إِنَّ الدُّعَاءَ بِقَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنَا، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا طَلَبَا التَّوْبَةَ، بَلْ نَبَّهَا بِذَلِكَ الطَّلَبِ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا يَطْلُبُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ التَّوْبَةَ، فَيَكُونَانِ لَمْ يَقْصِدَا الطَّلَبَ حَقِيقَةً، إِنَّمَا ذَكَرَا ذَلِكَ لِتَشْرِيعِ غَيْرِهِمَا لِطَلَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةً: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَعْنَى التَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا رَذِيلَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّغَائِرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عمر بن الحسن

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 35. [.....] (2) سورة ابراهيم: 14/ 36.

الرَّازِيُّ، فِي (كِتَابِ الْمَحْصُولِ) لَهُ مَا مُلَخَّصُهُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَلَا مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُمُ الْكُفْرُ، وَلَا التَّبْدِيلُ فِي التَّبْلِيغِ، وَلَا الْخَطَأُ فِي الْفَتْوَى. وَذَكَرَ خِلَافًا فِي أَشْيَاءَ، ثُمَّ قَالَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ إِنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ، لَا كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ، وَأَمَّا سَهْوًا فَقَدْ يَقَعُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَتَذَكَّرُوهُ فِي الْحَالِ وَيُنَبِّهُوا غَيْرَهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَهْوًا. إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: يَجُوزُ فِي أَنْتَ: الْفَصْلُ وَالتَّأْكِيدُ وَالِابْتِدَاءُ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُنَاسِبَتَانِ لِأَنَّهُمَا دَعَوْا بِأَنْ يَجْعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةً مُسْلِمَةً، وَبِأَنْ يُرِيَهُمَا مَنَاسِكَهُمَا، وَبِأَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمَا. فَنَاسَبَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمَا، أَوِ الرَّحْمَةِ لَهُمَا. وَنَاسَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلَى الرَّحْمَةِ، لِمُجَاوَرَةِ الدُّعَاءِ الْأَخِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنا. وَتَأَخَّرَتْ صِفَةُ الرَّحْمَةِ لِعُمُومِهَا، لِأَنَّ مِنَ الرَّحْمَةِ التَّوْبَةَ، وَلَكِنَّهَا فَاصِلَةٌ. وَالتَّوَّابُ لَا يُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً هُنَا، لِأَنَّ قَبْلَهَا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَبَعْدَهَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ: لَمَّا دَعَا رَبَّهُ بِالْأَمْنِ لِمَكَّةَ، وَبِالرِّزْقِ لِأَهْلِهَا، وَبِأَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أُمَّةً مُسْلِمَةً، خَتَمَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِمَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَهُوَ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، فَشَمَلَ دُعَاؤُهُ لَهُمُ الْأَمْنَ وَالْخِصْبَ وَالْهِدَايَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْإِرْسَالُ إِلَيْهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى أُمَّةً مُسْلَمَةً، ويحتمل أن يعود على أَهْلِ مَكَّةَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ» . وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ إِلَى مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَّا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَابْعَثْ فِيهِمْ فِي آخِرِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشَرَةٌ: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَلُوطٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الصفة لرسولا، أَيْ كَائِنًا مِنْهُمْ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ وَنَشْأَتَهُ، كَمَا قَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَدَعَا بِأَنْ يَبْعَثَ الرَّسُولَ فِيهِمْ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ يَكُونُ أَشْفَقَ عَلَى قَوْمِهِ، وَيَكُونُونَ هُمْ أَعَزُّ بِهِ وَأَشْرَفُ وَأَقْرَبُ لِلْإِجَابَةِ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَنْشَأَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ. قَالَ الرَّبِيعُ: لَمَّا دَعَا إِبْرَاهِيمُ قِيلَ لَهُ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ، وَهُوَ فِي آخِرِ الزمان.

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لرسولا. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ، وَوَصَفَ إِبْرَاهِيمُ الرَّسُولَ بِأَنَّهُ يَكُونُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ يَقْرَؤُهَا، فَكَانَ كَذَلِكَ، وَأُوتِيَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ. وَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَتَى بِالْمَدْعُوِّ لَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي طَلَبَهَا إِبْرَاهِيمُ، وَالْآيَاتُ هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: خَبَرُ مَنْ مَضَى، وَخَبَرُ مَنْ يَأْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْفَضْلُ: مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ دِينَهُمْ. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُفَهِّمُهُمْ وَيُلْقِي إِلَيْهِمْ مَعَانِيَهُ. وَكَانَ تَرْتِيبُ التَّعْلِيمِ بَعْدَ التِّلَاوَةِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ السَّمْعَ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالتَّلَفُّظُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُتَعَلَّمُ مَعَانِيهِ وَيُتَدَبَّرُ مَدْلُولُهُ. وَأَسْنَدَ التَّعْلِيمَ لِلرَّسُولِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُلْقِي الْكَلَامَ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ وَيَتَلَطَّفُ فِي إِيصَالِ الْمَعَانِي إِلَى فَهْمِهِ، وَيَتَسَبَّبُ فِي ذَلِكَ. وَالتَّعْلِيمُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْهِيمِ وَحُصُولِ الْعِلْمِ لِلْمُتَعَلِّمِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى إِلْقَاءِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، وَلِذَلِكَ يَقْبَلُ النَّقِيضَيْنِ، تَقُولُ: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ، وَعَلَّمَتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ تَعَلَّمَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ: يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ، وَيُبَلِّغُهُمْ مَا يُوحِي إِلَيْهِ مِنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِكَ وَصِدْقِ أَنْبِيَائِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ الْقُرْآنَ، وَالْحِكْمَةَ: الشَّرِيعَةَ وَبَيَانَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ، وَبَيَانُ النَّبِيِّ: الشَّرَائِعَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو رَزِينٍ: الْحِكْمَةُ، الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَالْفَهْمُ الَّذِي هُوَ سَجِيَّةٌ وَنُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحِكْمَةُ: فَهْمُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ حَكِيمًا حَتَّى يَجْمَعَهُمَا. وَقِيلَ: الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ. وَقِيلَ: مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ كَلِمَةِ وَعَظَتْكَ، أَوْ دَعَتْكَ إِلَى مَكْرُمَةٍ، أَوْ نَهَتْكَ عَنْ قَبِيحٍ فَهِيَ حِكْمَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحِكْمَةُ هُنَا الْكِتَابُ، وَكَرَّرَهَا تَوْكِيدًا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ: كُلُّ صَوَابٍ مِنَ الْقَوْلِ وَرَّثَ فِعْلًا صَحِيحًا فَهُوَ حِكْمَةٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْحِكْمَةُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ، يُرْسِلُهَا اللَّهُ إِلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ حَتَّى يُرَوِّحَ عَنْهَا وَهَجَ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: هِيَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. وَقِيلَ: كُلُّ قَوْلٍ وَجَبَ فِعْلُهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي الْحِكْمَةِ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، الْقُرْآنُ وَالْآخَرُ السُّنَّةُ، لِأَنَّهَا الْمُبَيِّنَةُ لِمَا انْبَهَمَ مِنَ الْكِتَابِ، وَالْمُظْهِرَةُ لِوُجُوهِ الْأَحْكَامِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أعلم، في قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، أَيْ يُفْصِحُ لَهُمْ عَنْ أَلْفَاظِهِ وَيُوقِفُهُمْ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى كَيْفِيَّةِ تِلَاوَتِهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» ، وَذَلِكَ لِأَنْ يَتَعَلَّمُ أُبَيٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ أَدَاءِ الْقُرْآنِ

وَمُقَاطِعَهُ وَمُوَاصِلَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، أَيْ يُبَيِّنَ لَهُمْ وُجُوهَ أَحْكَامِهِ: حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَمَفْرُوضَهُ، وَمَسْنُونَهُ، وَمَوَاعِظَهُ، وَأَمْثَالَهُ، وَتَرْغِيبَهُ، وَتَرْهِيبَهُ، وَالْحَشْرَ، وَالنَّشْرَ، وَالْعِقَابَ، وَالثَّوَابَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْحِكْمَةَ، أَيِ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَتُوَضِّحُ مَا انْبَهَمَ مِنَ الْمُشْكَلِ، وَتُفْصِحُ عَنْ مَقَادِيرَ، وَعَنْ إِعْدَادٍ مِمَّا لَمْ يَتَعَرَّضِ الْكِتَابُ إِلَيْهِ، وَيُثْبِتُ أَحْكَامًا لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الْكِتَابُ. وَيُزَكِّيهِمْ بَاطِنًا مِنْ أَرْجَاسِ الشِّرْكِ وَأَنْجَاسِ الشَّكِّ، وَظَاهِرًا بِالتَّكَالِيفِ الَّتِي تُمَحِّصُ الْآثَامَ وَتُوَصِّلُ الْإِنْعَامَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّزْكِيَةُ: الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ الَّتِي تَكُونُ سببا لطهرتهم. وَقِيلَ: يَدْعُوَا إِلَى مَا يَصِيرُونَ بِهِ أَزْكِيَاءَ. وَقِيلَ: يَشْهَدُ لَهُمْ بِالتَّزْكِيَةِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْعُدُولِ، وَمَعْنَى الزَّكَاةِ لَا تَخْرُجُ عَنِ التَّطْهِيرِ أَوِ التَّنْمِيَةِ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَزِيزُ: الْغَالِبُ، أَوِ الْمَنِيعُ الَّذِي لَا يُرَامُ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ، أَوِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْمُنْتَقِمُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، أَوِ الْقَوِيُّ، وَمِنْهُ فعزنا بِثَالِثٍ، أَوِ الْمُعِزُّ وَمِنْهُ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «1» . الْحَكِيمُ: قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَكِيمِ فِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «2» . وَأَنْتَ: يَجُوزُ فِيهَا مَا جَازَ فِي أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «3» قَبْلُ مِنَ الْأَعَارِيبِ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُتَنَاسِبَتَانِ لِمَا قَبْلَهُمَا، لِأَنَّ إِرْسَالَ رَسُولٍ مُتَّصِفٍ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي سَأَلَهَا إِبْرَاهِيمُ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَمَّنِ اتَّصَفَ بِالْعِزَّةِ، وَهِيَ الْغَلَبَةُ أَوِ الْقُوَّةُ، أَوْ عَدَمُ النَّظِيرِ، وَبِالْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ إِصَابَةُ مَوَاقِعِ الْفِعْلِ، فَيَضَعُ الرِّسَالَةَ فِي أَشْرَفِ خَلْقِهِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ الْعَزِيزِ عَلَى الْحَكِيمِ لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَالْحَكِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَلِكَوْنِ الْحَكِيمِ فَاصِلَةً كَالْفَوَاصِلِ قَبْلَهَا. وَفِي الْمُنْتَخَبِ: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ: هِيَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: الْأَعْلَامُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ. وَمَعْنَى التِّلَاوَةِ: تَذْكِيرُهُمْ بِهَا وَدُعَاؤُهُمْ إِلَيْهَا وَحَمْلُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا، وَحِكْمَةُ التِّلَاوَةِ: بَقَاءُ لَفْظِهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَيَبْقَى مَصُونًا عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ، وَكَوْنُ نَظْمِهَا وَلَفْظِهَا مُعْجِزًا، وَكَوْنُ تِلَاوَتِهَا فِي الصَّلَوَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ نَوْعَ عِبَادَةٍ إِلَّا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى تَعْلِيمُ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ، عَبَّرَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ، بِأَنَّهَا التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقِيلَ الْحِكْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتُ. وقيل:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 26. (2) سورة البقرة: 2/ 32. (3) سورة البقرة: 2/ 127.

الْكِتَابُ أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ، وَالْحِكْمَةُ وُجُوهُ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ فِيهَا، وَقِيلَ: كُلُّهَا صِفَاتٌ لِلْقُرْآنِ، هُوَ آيَاتٌ، وَهُوَ كِتَابٌ وَهُوَ حِكْمَةٌ. انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنَ الْمُنْتَخَبِ. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ: رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ دَعَا ابْنَيْ أَخِيهِ سَلَمَةَ وَمُهَاجِرًا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُمَا: قَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: [إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا اسْمُهُ أَحْمَدُ، مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَى وَرَشَدَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ] ، فَأَسْلَمَ سَلَمَةُ وَأَبَى مُهَاجِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَمَنْ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ: الْإِنْكَارُ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا بَعْدَهُ. وَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يَرْغَبُ، فَمَعْنَاهُ النَّفْيُ الْعَامُّ. وَمَنْ سَفِهَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ من الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يَرْغَبُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ عَلَى الْبَدَلِ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَمَنْ فِي مَنْ سَفِهَ مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ: نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَانْتِصَابُ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ، عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ الْفَرَّاءُ، أَوْ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ، إِمَّا لِكَوْنِ سَفِهَ يتعدى بنفسه كسفه الْمُضَعَّفِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ ضَمِنَ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى، أَيْ جَهِلَ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَابْنُ جِنِّيٍّ، أَوْ أَهْلَكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، أَوْ تَوْكِيدٌ لِمُؤَكَّدٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَفَّهَ قَوْلُهُ نَفْسَهُ، حَكَاهُ مَكِّيٌّ. أَمَّا التَّمْيِيزُ فَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَشَرْطُ التَّمْيِيزِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُشَبَّهًا بِالْمَفْعُولِ، فَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَخْصُوصٌ بِالصِّفَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْفِعْلِ، تَقُولُ: زَيْدٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، وَلَا يَجُوزُ حَسَّنَ الْوَجْهِ، وَلَا يُحْسِنُ الْوَجْهَ. وَأَمَّا إِسْقَاطُ حَرْفِ الْجَرِّ، وَأَصْلُهُ مَنْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَنْقَاسُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَوْكِيدًا وَحُذِفَ مُؤَكَّدُةُ فَفِيهِ خِلَافٌ. وَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَعْنِي: أَنْ يُحْذَفَ الْمُؤَكَّدُ وَيَبْقَى التَّوْكِيدُ، وَأَمَّا التَّضْمِينُ فَلَا يَنْقَاسُ، وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، فَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ، لِأَنَّ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ حَكَيَا أَنَّ سَفِهَ بِكَسْرِ الفاء يتعدى، كسفه بِفَتْحِ الْفَاءِ وَشَدِّهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهَا لُغَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَفَّهَ نَفْسَهُ: امْتَهَنَهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا، وَأَصْلُ السَّفَهِ، الْخِفَّةُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ النَّفْسِ عَلَى التَّمْيِيزِ نَحْوَ: غُبِنَ رَأْيَهُ، وَأَلِمَ رَأْسَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي شُذُوذِ تَعْرِيفِ التَّمْيِيزِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَا بِفَزَارَةَ الشُّعُرَ الرِّقَابَا ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ سَفَّهَ فِي نفسه فحذف لجار، كَقَوْلِهِمْ: زِيدٌ ظَنِّي مُقِيمٌ، أَيْ فِي ظَنِّي، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَفَى شَاهِدًا لَهُ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْكِبْرُ أَنْ يُسَفِّهَ الْحَقَّ وَيَغْمِصَ النَّاسَ» . انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، إلا إن قَوْلَهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي شُذُوذِ تَعْرِيفِ التَّمْيِيزِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَا بِفَزَارَةَ الشُّعُرَ الرِّقَابَا ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الرِّقَابَ مِنْ بَابِ مَعْمُولِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ. والشعر جمع أَشْعَرَ، وَكَذَلِكَ أَجَبَّ الظَّهْرِ هُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَأَجَبُّ أَفْعَلُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِفِعْلٍ. وَقَبْلَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: فَمَا قُومِي بِثَعْلَبَةَ بْنِ سُعْدَى وَقَبْلَ الْآخَرِ قَوْلُهُ: وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذَنَابِ عَيْشٍ فَلَيْسَ نَحْوَهُ، لِأَنَّ نَفْسَهُ انْتَصَبَ بَعْدَ فِعْلٍ، وَالرِّقَابُ وَالظَّهْرُ انْتَصَبَا بَعْدَ اسْمٍ، وَهُمَا مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَزْهَدُ وَيَرْفَعُ نَفْسَهُ عَنْ طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ النَّبِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، إِلَّا مَنْ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَامْتَهَنَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى سَفِهَ نَفْسَهُ: خَسِرَ نَفْسَهُ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: عَجَزَ رَأْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: حَمُقَ رَأْيُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَتَلَ نَفْسَهُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: جَهِلَهَا وَلَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: سَفِهَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَأَمَّا سَفُهَ بِضَمِّ الْفَاءِ فَمَعْنَاهُ: صَارَ سَفِيهًا، مِثْلَ فَقُهَ إِذَا صَارَ فَقِيهًا، قَالَ: فَلَا عِلْمَ إِذَا جَهِلَ الْعَلِيمُ ... وَلَا رُشْدَ إِذَا سَفُهَ الْحَلِيمُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا: أَيْ جَعَلْنَاهُ صَافِيًا مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَاصْطِفَاؤُهُ بِالرِّسَالَةِ وَالْخُلَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الَّتِي وَفَّى وَوَصَّى بِهَا، وَبِنَاءِ الْبَيْتِ، وَالْإِمَامَةِ، وَاتِّخَاذِ مَقَامِهِ مُصَلَّى، وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ نَارِ نُمْرُوذَ، وَالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ، وَأَذَانِهِ بِالْحَجِّ، وَإِرَاءَتِهِ مَنَاسِكَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ اللَّهَ فِي كِتَابِهِ، مِنْ خَصَائِصِهِ وَوُجُوهِ اصْطِفَائِهِ. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ : ذَكَرَ تَعَالَى كَرَامَةَ إِبْرَاهِيمَ فِي الدَّارَيْنِ، بِأَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَفْوَتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الْخَيْرِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ

لَا يَعْدِلَ عَنْ مِلَّتِهِ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ، أَمَّا الْأُولَى فَبِاللَّامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِإِنَّ وَبِاللَّامِ. وَلَمَّا كَانَ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةٍ مُغَيَّبَةٍ فِي الْآخِرَةِ، احْتَاجَتْ إِلَى مَزِيدِ تَأْكِيدٍ، بِخِلَافِ حَالِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْمَآلِ قَدْ عَلِمُوا اصْطِفَاءَ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْهُ وَنَقَلُوهُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأَمْرٌ مُغَيَّبٌ عَنْهُمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِخْبَارِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مُبَالِغًا فِي التَّوْكِيدِ، وَفِي الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ وَإِنَّهُ لَصَالِحٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي: فَهُوَ لِلتَّبْيِينِ، كَلَكَ بَعْدُ سُقْيًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالصَّالِحِينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ فِي صِلَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الْوَصْفِ إِذْ ذَاكَ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ الْمَعْمُولُ ظَرْفًا أَوْ جَارًّا وَمَجْرُورًا، قَالَ: لِأَنَّهُمَا يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ غَيْرَ مَوْصُولَةٍ، بَلْ مَعْرِفَةٍ، كَهِيَ فِي الرِّجْلِ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ الْمَجْرُورُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ إِذْ ذَاكَ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ، أَيْ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَقِيلَ: الْآخِرَةُ هُنَا الْبَرْزَخُ، وَالصَّلَاحُ مَا يَتْبَعُهُ مِنَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْآخِرَةُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمِنَ الصَّالِحِينَ، أَيِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ صَالِحَ الْجَزَاءِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْوَارِدِينَ مَوَارِدَ قُدْسِهِ، وَالْحَالِّينِ مَوَاطِنَ أُنْسِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ خَطَأٌ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ: هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ، لَكَانَ: إِذْ قُلْنَا لَهُ أَسْلِمْ، وَعَكْسُهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْغَائِبِ إِلَى الْخِطَابِ قَوْلُهُ: بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً ... وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا وَالْعَامِلُ فِي إِذْ: قَالَ أَسْلَمْتُ. وَقِيلَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ، أَيِ اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ بدلا من قَوْلِهِ: فِي الدُّنْيَا، وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ إِذْ قَالَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ قَوْلِهِ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ، وَجَعَلَ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ اصْطَفَيْنَاهُ، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْعَامِلَ اصْطَفَيْنَاهُ أَوِ اذْكُرِ الْمُقَدَّرَةُ، يَبْقَى قَوْلُهُ: قَالَ أَسْلَمْتُ، لَا يَنْتَظِمُ مَعَ مَا قَبْلَهُ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ، يُقَالُ: فَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ، أَوْ جُعِلَ جَوَابًا لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ مَا كَانَ جَوَابُهُ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ. وَهَلِ الْقَوْلُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَطَلَبٍ؟ أَمْ هَذَا

كِنَايَةٌ عَمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي سَجِيَّتِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ؟ فَجُعِلَتِ الدَّلَالَةُ قولا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْقَوْلِ حَقِيقَةً، فَاخْتَلَفُوا مَتَى قِيلَ لَهُ ذَلِكَ. فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ فِيهَا، وَإِحَاطَتِهِ بِافْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ يُخَالِفُهَا فِي الْجِسْمِيَّةِ، وَأَمَارَاتِ الْحُدُوثِ، فَلَمَّا عَرَفَ رَبَّهُ، قَالَ تَعَالَى لَهُ أَسْلِمْ. وَقِيلَ: كَانَ بعد النبوّة، فتؤول الْأَمْرُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالثَّبَاتِ وَالدَّيْمُومَةِ، إِذْ هُوَ مُتَحَلٍّ بِهِ وَقْتَ الْأَمْرِ، وَيَكُونُ الْإِسْلَامُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ هُنَا غَيْرُ الْمَعْرُوفِ، وَأُوِّلَ عَلَى وُجُوهٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ: مَعْنَاهُ سَلِّمْ نَفْسَكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ: أَخْلِصْ دِينَكَ. وَقِيلَ: اخْشَعْ وَاخْضَعْ لِلَّهِ. وَقِيلَ: اعْمَلْ بِالْجَوَارِحِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ صِفَةُ الْقَلْبِ، وَالْإِسْلَامَ هُوَ صِفَةُ الْجَوَارِحِ، فَلَمَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ كَلَّفَهُ بَعْدُ عَمَلَ الْجَوَارِحِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَسْلَمَ، تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَسْلِمْ لِرَبِّكَ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَتُضَمَّنُ أَنَّهُ أَسْلَمَ لِرَبِّهِ، لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وَفِي الْعُمُومِ مِنَ الْفَخَامَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي الْخُصُوصِ، لِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّي، وَمَنْ كَانَ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ مُسْلِمِينَ لَهُ مُنْقَادِينَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ ابْتِدَاءً قِصَصَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَذَكَرَ أَوَّلًا ابْتِلَاءَهُ بِالْكَلِمَاتِ، وَإِتْمَامَهُ إِيَّاهُنَّ، وَاسْتِحْقَاقَهُ الْإِمَامَةِ بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي زَمَانِهِ، وَسُؤَالَ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَةَ لِذُرِّيَّتِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّةً مِنْهُ لَهُمْ، وَإِيثَارًا أَنْ يَكُونَ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَخْلُفُهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَإِجَابَةُ اللَّهِ لَهُ بِأَنَّ عَهْدَهُ لَا يَنَالُهُ ظَالِمٌ، وَفِي طَيِّهِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَادِلًا قَدْ يَنَالُ ذَلِكَ. وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ قِصَصِ إِبْرَاهِيمَ بَنِيهِ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى فَضِيلَتِهِ وَخُصُوصِيَّتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لِلشَّخْصِ وَالِدٌ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، أَوْشَكَ وَلَدُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ وَأَنْ يَسْلُكَ مَنْهَجَهُ، لِمَا فِي الطَّبْعِ مِنَ اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالِاقْتِفَاءِ لِآثَارِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1» ؟. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى شَرَفَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَجَعْلَهُ مَقْصِدًا لِلنَّاسِ يَؤُمُّونَ إِلَيْهِ، وَمَلْجَأً يَأْمَنُونَ فِيهِ، وَأَمْرَهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ بِالِاتِّخَاذِ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَحَصَلَ لَهُمُ الِاقْتِدَاءُ بِأَنْ جَعَلَ مَقَامَهُ مَكَانَ عِبَادَةٍ وَمَحَلَّ إِجَابَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ عَهْدَهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، حَيْثُ صار

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 23.

مَحَلَّ عِبَادَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَكَانُ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَهَّرًا مِنَ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ. وَأَشَارَ بِتَطْهِيرِ الْمَحَلِّ إِلَى تَطْهِيرِ الْحَالِ فِيهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِلَى تَطْهِيرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّيَاءِ، بَلْ يُطَهَّرُ بِإِخْلَاصِهَا لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَنْ طُهِّرَ الْبَيْتُ لِأَجْلِهِ، وَهُمُ الطَّائِفُونَ وَالْعَاكِفُونَ وَالْمُصَلُّونَ، فَنَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَيْتِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ لَا يَصْلُحُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَمَلِ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْخُصُومَاتِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا هُيِّيءَ لِوُقُوعِ الْعِبَادَاتِ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ بِجَعْلِ هَذَا الْبَيْتِ مَحَلَّ أَمْنٍ، وَدُعَاءَهُ لَهُمْ بِالْخِصْبِ وَالرِّزْقَ، وَتَخْصِيصَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذِ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ هُمَا سَبَبَانِ لِعِمَارَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَقَصْدِ النَّاسِ لَهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ فَتَمْتِيعُهُ قَلِيلٌ وَمَآلُهُ إِلَى النَّارِ، لِيَكُونَ التَّخْوِيفُ حَامِلًا عَلَى التَّقَيُّدِ بِالْإِيمَانِ وَالِانْقِيَادِ لِلطَّاعَاتِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ آمَنَ، بَلْ رِزْقُ اللَّهِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. ثُمَّ ذَكَرَ رَفْعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، وَمَا دَعَوَا بِهِ إِذْ ذَاكَ مِنْ طَلَبِ تَقَبُّلِ مَا يَفْعَلَانِهِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالدُّعَاءِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُسْلِمُونَ، وَإِرَاءَةِ الْمَنَاسِكِ وَالتَّوْبَةِ، وَبَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْ أُمَّتِهِ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيُطَهِّرُهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْآثَامِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَدْعِيَةِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ الِالْتِبَاسِ بِالْعِبَادَاتِ، وَأَفْعَالِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مَظَنَّةُ إِجَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلْمُلْتَبِسِ بِالطَّاعَةِ، وَلِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ. وَخَتَمَ كُلَّ دُعَاءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ شَيْءٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا كَانَ كُلُّهُ دُعَاءً بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا حَالَةَ بِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ دُعَاؤُهُ بِالْأَمْنِ وَالْخِصْبِ، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَمَّلَ الْبَيْتَ وَفَرَغَ مِنَ التَّعَبُّدِ بِبِنَائِهِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ شَرَفَ إِبْرَاهِيمَ وَطَوَاعِيَتُهُ لِرَبِّهِ، وَاخْتِصَاصُهُ فِي زَمَانِهِ بِالْإِمَامَةِ، وَصَيْرُورَتُهُ مُقْتَدًى بِهِ. ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ طَرِيقَتِهِ إِلَّا خَاسِرُ الصَّفْقَةِ، لِأَنَّهُ الْمُصْطَفَى فِي الدُّنْيَا، الصَّالِحُ فِي الْآخِرَةِ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِانْقِيَادِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَوَّلُ قِصَّتِهِ إِتْمَامُهُ مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ، وَآخِرُهَا التَّسْلِيمُ لِلَّهِ، وَالِانْقِيَادُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 132 إلى 141]

[سورة البقرة (2) : الآيات 132 الى 141] وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) الْوَصِيَّةُ: الْعَهْدُ، وَصَّى بَنِيهِ: أَيْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ. وَوَصَّى وَأَوْصَى لُغَتَانِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ وَصَّى الْمُشَدَّدَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ. يَعْقُوبُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَيَعْقُوبُ عَرَبِيٌّ، وَهُوَ ذَكَرُ الْقَبْجِ، وَهُوَ مَصْرُوفٌ، وَلَوْ سُمِّيَ بِهَذَا لَكَانَ مَصْرُوفًا. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيَّ إِنَّمَا سُمِّيَ يَعْقُوبَ لِأَنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ الْعِيصَ تَوْأَمَانِ، فَخَرَجَ الْعِيصُ أَوَّلًا ثُمَّ خَرَجَ هُوَ يَعْقُبُهُ، أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ عَقِبِهِ، فَقَوْلُهُ فَاسِدٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهُ اشْتِقَاقٌ عَرَبِيٌّ، فَكَانَ يَكُونُ

مَصْرُوفًا. الْحُضُورُ: الشُّهُودُ، تَقُولُ مِنْهُ: حَضَرَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وفي المضارع: يحضر بضمها، وَيُقَالُ: حَضِرَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقِيَاسُ الْمُضَارِعِ أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ فَيُقَالُ: يَحْضُرُ، لَكِنَّ الْعَرَبَ اسْتَغْنَتْ فِيهِ بِمُضَارِعِ فَعَلَ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ فَقَالَتْ: حَضَرَ يَحْضُرُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ شَذَّتْ فِيهَا الْعَرَبُ، فَجَاءَ مُضَارِعُ فَعِلَ الْمَكْسُورِ الْعَيْنِ عَلَى يَفْعُلُ بِضَمِّهَا، قَالُوا: نَعِمَ يَنْعُمُ، وَفَضِلَ يَفْضُلُ، وَحَضَرَ يَحْضُرُ، وَمِتَّ تَمُوتُ، وَدُمْتَ تَدُومُ، وَكُلُّ هَذِهِ جَاءَ فِيهَا فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى بِمُضَارِعِهِ عَنْ مُضَارِعِ فَعِلَ، كما استغنت فيه بيفعل بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَنْ يَفْعَلُ بِفَتْحِهَا. قَالُوا: ضَلِلْتَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، تَضِلُّ بِالْكَسْرِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ ضَلَلْتَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. إِسْحَاقُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِسْحَاقُ: مَصْدَرُ أَسْحَقَ، وَلَوْ سُمِّيَتْ بِهِ لَكَانَ مَصْرُوفًا، وَقَالُوا فِي الْجَمْعِ: أَسَاحِقَةُ وَأَسَاحِيقُ، وَفِي جَمْعِ يَعْقُوبَ: يَعَاقِبَةُ وَيَعَاقِيبُ، وَفِي جَمْعِ إِسْرَائِيلَ، أَسَارِلَةٌ. وَجَوَّزَ الْكُوفِيُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ: بَرَاهِمَةَ وَسَمَاعِلَةَ، وَالْهَاءُ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ كَمَا فِي زنادقة وزناديق. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا الْجَمْعُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ لَيْسَتْ زَائِدَةً، وَالْجَمْعُ: أَبَارَهُ وَأَسَامِعُ، وَيَجُوزُ: أَبَارِيهُ وَأَسَامِيعُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُجْمَعَ هَذِهِ جَمْعَ السَّلَامَةِ فَيُقَالُ: إِبْرَاهِيمُونَ، وَإِسْمَاعِيلُونَ، وَإِسْحَاقُونَ، وَيَعْقُوبُونَ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ أَيْضًا: بَرَاهِمَ، وَسَمَاعِلَ، وإسحاق، وَيَعَاقِبَ، بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَا هَاءٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: براهيم، وسماعيل. ردّ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ الْهَمْزَةَ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ زِيَادَتِهَا. وَأَجَازَ ثَعْلَبٌ: بَرَاهٍ، كَمَا يُقَالُ فِي التَّصْغِيرِ: بُرَيْهٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الصَّفَارُ: أَمَّا إِسْرَائِيلُ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُجِيزُ حَذْفَ الْهَمْزَةِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَسَارِيلُ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ: أَسَارِلَةَ وَأَسَارِلَ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي شَيْءٍ مِنْ نَحْوِ جَمْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاسْتُوفِيَ النَّقْلُ هُنَا. الْحَنَفُ: لُغَةً الْمَيْلُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْأَحْنَفُ لِمَيْلٍ كَانَ فِي إِحْدَى قَدَمَيْهِ عَنِ الْأُخْرَى، قَالَ الشَّاعِرُ: وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ فِي رِجْلِهِ ... مَا كَانَ فِي صِبْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَنَفُ الِاسْتِقَامَةُ، وَسُمِّيَ الْأَحْنَفُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، كَمَا سُمِّيَ اللَّدِيغُ سَلِيمًا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْحَنَفُ لَقَبٌ لِمَنْ دَانَ بِالْإِسْلَامِ كَسَائِرِ أَلْقَابِ الدِّيَانَاتِ. وَقَالَ عُمَرُ: حَمِدْتُ اللَّهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي ... إلى الإسلام والدين الحنيفي

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَمَّا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ إِلَى مَا لَزِمَهُ، وَأَنْشَدَ: وَلَكُنَّا خُلِقْنَا إِذْ خُلِقْنَا ... حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِينِ الْأَسْبَاطُ: جَمْعُ سِبْطٍ، وَهُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَهُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ أَسْمَائِهِمْ. سُمُّوا بِذَلِكَ مِنَ السَّبَطِ: وَهُوَ التَّتَابُعُ، فَهُمْ جَمَاعَةٌ مُتَتَابِعُونَ. وَيُقَالُ: سَبَطَ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ إِذَا تَابَعَهُ. وَيُقَالُ: هُوَ مَقْلُوبُ بَسَطَ، وَمِنْهُ السُّبَاطَةُ وَالسَّابَاطُ. وَيُقَالُ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: سِبْطَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ وَانْبِسَاطِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ، ثُمَّ صَارَ إِطْلَاقُ السِّبْطِ عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ، فَيُقَالُ: سِبْطُ أَبِي عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَسِبْطُ حُسَيْنِ بْنِ مَنْدَهْ، وَسِبْطُ السِّلَفِيِّ فِي أَوْلَادِ بَنَاتِهِمْ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْأَسْبَاطِ مِنَ السِّبْطِ، وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَالسِّبْطُ: الْجَمَاعَةُ الرَّاجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ. الشِّقَاقُ: مَصْدَرُ شَاقَّهُ، كَمَا تَقُولُ: ضَارَبَ ضِرَابًا، وَخَالَفَ خِلَافًا، وَمَعْنَاهُ: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشِّقِّ، أَيْ صَارَ هَذَا فِي شِقٍّ، وَهَذَا فِي شِقٍّ. وَالشِّقُّ: الْجَانِبُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَشَقَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْرِصُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. الْكِفَايَةُ: الْإِحْسَابُ. كَفَانِي كَذَا: أَيْ أَحْسَبَنِي، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ أَيْ أَغْنَانِي قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ. الصِّبْغَةُ: فِعْلَةٌ مِنْ صَبَغَ، كَالْجِلْسَةِ مِنْ جَلَسَ، وَأَصْلُهَا الْهَيْئَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الصَّبْغُ. وَالصَّبْغُ: الْمَصْبُوغُ بِهِ، وَالصَّبْغُ: الْمَصْدَرُ، وَهُوَ تَغْيِيرُ الشَّيْءِ بِلَوْنٍ مِنَ الْأَلْوَانِ، وَفِعْلُهُ عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَمُضَارِعُهُ الْمَشْهُورُ فِيهِ يَفْعُلُ بِضَمِّهَا، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ إِذْ لَامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ. وَذُكِرَ لِي عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَلِيٍّ الْفِهْرِيِّ، عُرِفَ بِاللَّيْلِيِّ، وَهُوَ شَارِحُ الْفَصِيحِ، أَنَّهُ ذكر فيه صم الْبَاءِ فِي الْمُضَارِعِ وَالْفَتْحَ وَالْكَسْرَ. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: وَأَوْصَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: وَوَصَّى. قَالَ ثَعْلَبٌ: أَمْلَى عَلَيَّ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ البزاز، قَالَ: اخْتَلَفَ مُصْحَفُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ حَرْفًا. كَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: وَأَوْصَى، وَسَارِعُوا، يَقُولُ، الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدِدْ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا، مَسْجِدًا خَيْرًا مِنْهُمَا،

فَتَوَكَّلْ، وَأَنْ يَظْهَرَ، بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا. وَكَتَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: وَوَصَّى، سَارِعُوا، وَيَقُولُ، مَنْ يَرْتَدُّ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا، خَيْرًا مِنْهَا، وَتَوَكَّلْ، أَنْ يَظْهَرَ، فِيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، مَا تَشْتَهِي، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ، فَلَا يَخَافُ. وَبِهَا مُتَعَلِّقٌ بِأَوْصَى، وَالضَّمِيرُ عَائِدُ عَلَى الْمِلَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ «1» ، وَبِهِ ابْتَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَهْدَوِيُّ غَيْرَهُ، أَوْ عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» ، وَنَظِيرُهُ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ، حَيْثُ تَقَدَّمَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. وَبِهَذَا الْقَوْلِ ابْتَدَأَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ: هُوَ أَصْوَبُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَرَجَّحَ الْعَوْدَ عَلَى الْمِلَّةِ بِأَنَّهُ يَكُونُ الْمُفَسِّرُ مُصَرَّحًا بِهِ، وَإِذَا عَادَ عَلَى الْكَلِمَةِ كَانَ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ، وَعَوْدُهُ عَلَى الْمُصَرَّحِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ عَلَى الْمَفْهُومِ. وَبِأَنَّ عُودَهُ عَلَى الْمِلَّةِ أَجْمَعُ مِنْ عَوْدِهِ عَلَى الْكَلِمَةِ، إِذِ الْكَلِمَةُ بَعْضُ الْمِلَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُوصِي إِلَّا بِمَا كَانَ أَجْمَعَ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكَلِمَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَقِيلَ: عَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، فَهِيَ مُشَارٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذْ هِيَ أَعْظَمُ عُمُدِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْوَصِيَّةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا وَوَصَّى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الطَّاعَةِ. بَنِيهِ: بَنُو إِبْرَاهِيمَ، إِسْمَاعِيلَ وَأُمُّهُ هَاجَرُ الْقِبْطِيَّةُ، وَإِسْحَاقُ وَأُمُّهُ سَارَّةُ، وَمَدْيَنُ: وَمَدْيَانُ، وَنَقْشَانُ، وَزَمْزَانُ، وَنَشَقُ، وَنَقَشُ سُورَجُ، ذَكَرَهُمُ الشَّرِيفُ النَّسَّابَةُ أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَعْمَرٍ الْحُسَيْنِيُّ الْجَوَّانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأُمُّ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ قَطُورَا بِنْتُ يَقْطَنَ الْكَنْعَانِيَّةُ. هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةُ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ، وَالْعَقِبُ الْبَاقِي فِيهِمُ اثْنَانِ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ لَا غَيْرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ، وَالضَّرِيرُ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ الْأَسْوَارِيُّ: بِالنَّصْبِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ فَتَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ تَوْصِيَةِ بَنِيهِ، أَيْ وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: قَالَ يَا بني إن الله اصطفى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى بَنِيهِ، أَيْ وَوَصَّى بِهَا نَافِلَتَهُ يَعْقُوبَ، وَهُوَ ابْنُ ابْنِهِ إِسْحَاقَ. وَبَنُو يَعْقُوبَ يَأْتِي ذِكْرُ أَسْمَائِهِمْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَسْبَاطِ. يَا بَنِيَّ: مَنْ قَرَأَ وَيَعْقُوبَ بِالنَّصْبِ، كَانَ يَا بَنِيَّ مِنْ مَقُولَاتِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ رَفَعَ عَلَى الْعَطْفِ فَكَذَلِكَ، أو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 130. (2) سورة البقرة: 2/ 131.

عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَمِنْ كَلَامِ يَعْقُوبَ. وَإِذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِبَنِيهِ يَا بَنِيَّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: رَجُلَانِ مِنْ ضَبَّةَ أخبرانا ... إنا رَأَيْنَا رِجُلًا عُرْيَانًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَوْ معمولا لا خبرانا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَفِي النِّدَاءِ لِمَنْ بِحَضْرَةِ الْمُنَادِي. وَكَوْنُ النِّدَاءِ بِلَفْظِ الْبَنِينَ مُضَافَيْنِ إِلَيْهِ تَلَطُّفٌ غَرِيبٌ وَتَرْجِئَةٌ لِلْقَبُولِ وَتَحْرِيكٌ وَهَزٌّ، لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الْمُوَافَاةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَلَطَّفَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلِذَلِكَ صَدَّرَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، وَمَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَالضَّحَّاكُ: أَنْ يَا بَنِيَّ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ أَنْ هُنَا تَفْسِيرِيَّةً بِمَعْنَى أَيْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ انْسِبَاكُ مَصْدَرٍ مِنْهَا وَمِمَّا بَعْدَهَا. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَعْنَى التَّفْسِيرِ، لأن جَعَلَهَا هُنَا زَائِدَةً، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، أَيِ اسْتَخْلَصَهُ لَكُمْ وَتَخَيَّرَهُ لَكُمْ صَفْوَةَ الْأَدْيَانِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الدِّينِ لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَرَفُوهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَيْ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْمَعْنَى: الثُّبُوتُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالنَّهْيِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ كَوْنِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْإِسْلَامِ. إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ الْمَوْتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ. مُتْ وَأَنْتَ شَهِيدٌ، لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْمَوْتِ، بَلْ أَمْرٌ بِالشَّهَادَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِتَسْتَشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْمَوْتِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْطِئَةِ لِلشَّهَادَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ إِيجَازًا بَلِيغًا وَوَعْظًا وَتَذْكِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَيَقَّنُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يُفَاجِئُهُ. فَإِذَا أُمِرَ بِالْتِبَاسٍ بِحَالَةٍ لَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ إِلَّا عَلَيْهَا، كَانَ مُتَذَكِّرًا لِلْمَوْتِ دَائِمًا، إِذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِتِلْكَ الْحَالَةِ دَائِمًا. وَهَذَا عَلَى الْحَقِيقَةِ نَهْيٌ عَنْ تَعَاطِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلْمُوَافَاةِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، لَا يَنْهَى نَفْسَهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ عَنْ حُضُورِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَيَكُونُ يَرَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْهَبْ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْجُبَ إِدْرَاكَ الْآمِرِ عَنْهُ إِلَّا بِالذَّهَابِ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَأَتَى بِالْمَقْصُودِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَيْءٍ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى لَطَائِفَ، مِنْهَا: الْوَصِيَّةُ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ خَوْفِ

الْمَوْتِ. فَفِي ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ، حَتَّى وَصَّى بِهِ مَنْ كَانَ مُلْتَبِسًا بِهِ، إِذْ كَانَ بَنُوهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا اخْتِصَاصُهُ بِبَنِيهِ، وَلَا يَخْتَصُّهُمْ إِلَّا بِمَا فِيهِ سَلَامَةُ عَاقِبَتِهِمْ. وَمِنْهَا أَنَّهُ عَمَّمَ بَنِيهِ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، حِينَ نَحَلَهُ أَبُوهُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» وَرَدَّ نَحْلَهُ إِيَّاهُ وَقَالَ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. وَمِنْهَا إِطْلَاقُ الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ. ثُمَّ خَتَمَهَا بِأَبْلَغِ الزَّجْرِ أَنْ يَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ. ثُمَّ التَّوْطِئَةُ لِهَذَا النَّهْيِ وَالزَّجْرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي اخْتَارَ لَكُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَلَا تَخْرُجُوا عَمَّا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ الْمُؤَرِّخُونَ: نَقَلَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ رَضِيعٌ، وَقِيلَ: ابْنُ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوُلِدَ قَبْلَ إِسْحَاقَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَكَانَ لِإِسْمَاعِيلَ، لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ، تِسْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَعَاشَ إِسْحَاقُ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَاتَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ بَيْنَ وَفَاةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمَوْلِدِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَسِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، وَالْيَهُودُ تَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. قَالُوا: أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ يَعْقُوبَ يَوْمَ مَاتَ أَوْصَى بَنِيهِ بِالْيَهُودِيَّةِ؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا دَخَلَ يَعْقُوبُ مِصْرَ رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالنَّيِّرَيْنِ، فَجَمَعَ بَنِيهِ وَخَافَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إِعْلَامًا لِنَبِيِّهِ بِمَا وَصَّى بِهِ يَعْقُوبُ، وَتَكْذِيبًا لِلْيَهُودِ. وَأَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، تَتَضَمَّنُ مَعْنَى بَلْ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَكُنْتُمْ شُهَدَاءَ؟ فَمَعْنَى الْإِضْرَابِ: الِانْتِقَالُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، لَا أَنَّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ هُنَا: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ مَا كُنْتُمْ شُهَدَاءَ، فَكَيْفَ تَنْسِبُونَ إِلَيْهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ وَلَا شَهِدْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَلَا أَسْلَافُكُمْ. وَقِيلَ: أَمْ هُنَا بِمَعْنَى: بَلْ، وَالْمَعْنَى بَلْ كُنْتُمْ، أَيْ كَانَ أَسْلَافُكُمْ، أَوْ تنزلهم مَنْزِلَةَ أَسْلَافِهِمْ، إِذْ كَانَ أَسْلَافُهُمْ قَدْ نَقَلُوا ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَفِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ مَا نَسَبُوهُ إِلَى يَعْقُوبَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ. وَالْخِطَابُ فِي كُنْتُمْ لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَرُؤَسَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ أَشْهِدْتُمْ يَعْقُوبَ وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَوْصَى، فَتَدَّعُونَ عَنْ عِلْمٍ، أَيْ لَمْ تَشْهَدُوا. بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ. وَأَمْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَلَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ أَمْ يُسْتَفْهَمُ بِهَا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. وَأَيْنَ ذَلِكَ؟ وَإِذَا صَحَّ النَّقْلُ فَلَا مَدْفَعَ فِيهِ وَلَا مَطْعَنَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ أَمْ يُسْتَفْهَمُ بِهَا فِي وَسَطِ

كَلَامٍ قَدْ تَقَدَّمَ صَدْرُهُ، وَهَذَا مِنْهُ. وَمِنْهُ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ. انْتَهَى، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَتَلَخَّصَ أَنَّ أَمْ هُنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: (الْمَشْهُورُ) أَنَّهَا هُنَا مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ. (الثَّانِي) : أَنَّهَا لِلْإِضْرَابِ فَقَطْ، بِمَعْنَى بَلْ. (الثَّالِثُ) : بِمَعْنَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَقَطْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَعْنَى: مَا شَاهَدْتُمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ. وَقِيلَ: الْخَطَابُ لِلْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلَّا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوهُ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا قَالَهُ لِبَنِيهِ، وَمَا قَالُوهُ، لَظَهَرَ لَهُمْ حِرْصُهُ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ الْيَهُودِيَّةَ. فَالْآيَةُ مُنَافِيَةٌ لِقَوْلِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ؟ وَلَكِنَّ الْوَجْهَ أَنْ تَكُونَ أَمْ مُتَّصِلَةً، عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْيَهُودِيَّةَ؟ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ؟ يَعْنِي أَنَّ أَوَائِلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُشَاهِدِينَ لَهُ، إِذْ أَرَادَ بَنِيهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، فَمَا لَكُمْ تَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَا هُمْ مِنْهُ بُرَآءُ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ جَعَلَ أَمْ مُتَّصِلَةً، وَأَنَّهُ حَذَفَ قَبْلَهَا مَا يُعَادِلُهَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ حَذْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَا يُحْفَظُ ذَلِكَ، لَا فِي شِعْرٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ: أَمْ زَيْدٌ؟ وَأَنْتَ تُرِيدُ: أَقَامَ عَمْرٌو أَمْ زَيْدٌ؟ وَلَا أَمْ قَامَ خَالِدٌ؟ وَأَنْتَ تُرِيدُ: أَخْرَجَ زَيْدٌ؟ أَمْ قَامَ خَالِدٌ؟ وَالسَّبَبُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَذْفُ. أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ؟ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ جُمْلَةٌ واحدة. وإما يُحْذَفُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَبْقَى الْمَعْطُوفُ مَعَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، إِذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ نَحْوُ قَوْلِكَ: بَلَى وَعَمْرًا، جَوَابًا لِمَنْ. قَالَ: أَلَمْ تَضْرِبْ زَيْدًا؟ وَنَحْوُ قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ «1» ، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَنَدَرَ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ أَوْ، نَحْوُ قَوْلِهِ: فَهَلْ لَكَ أَوْ مِنْ وَالِدٍ لَكَ قَبْلَنَا أَرَادَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ أَخٍ أَوْ مِنْ وَالِدٍ؟ وَمَعَ حَتَّى عَلَى نَظَرٍ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَيَا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تُسُبُّنِي أَيْ: يَسُبُّنِي النَّاسُ حَتَّى كُلَيْبٌ، لَكِنَّ الَّذِي سُمِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُ أَمِ الْمُتَّصِلَةِ مَعَ الْمَعْطُوفِ، قَالَ: دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طلابها

_ (1) سورة البقرة: 2/ 60.

يُرِيدُ: أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ عَنِ الْإِثْبَاتِ يَتَضَمَّنُ نَقِيضَهُ. فَالْمَعْنَى: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ، وَلِذَلِكَ صَلَحَ الْجَوَابُ أَنْ يَكُونَ بِنِعَمْ وَبِلَا، فَلِذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ: أَرُشْدٌ طِلَابُهَا، أَيْ أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ. وَيَجُوزُ حَذْفُ الثَّوَانِي الْمُقَابِلَاتِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» ، كَيْفَ حَذَفَ وَالْبَرْدَ؟ إِذْ حَضَرَ الْعَامِلُ فِي إِذْ شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الظَّرْفِ، لَا عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَاضِرِي كَلَامِهِ فِي وَقْتِ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَكَنَّى بِالْمَوْتِ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ نَفْسُهُ لَا يَقُولُ الْمُحْتَضِرُ شَيْئًا، وَمِنْهُ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ «2» ، أَيْ وَيَأْتِيهِ دَوَاعِيهِ وَأَسْبَابُهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا الْعُذْرَ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ وَفِي قَوْلِهِ: حَضَرَ، كِنَايَةٌ غَرِيبَةٌ، إِنَّهُ غَائِبٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَمَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: وَاجْعَلِ الْمَوْتَ خَيْرَ غَائِبٍ نَنْتَظِرُهُ. وقرىء: حَضِرَ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ، وَأَنَّ مُضَارِعَهَا بِضَمِّ الضَّادِ شَاذٌّ، وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ هُنَا عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاعْتِنَاءِ. إِذْ قالَ لِبَنِيهِ، إِذْ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ فِي قَوْلِهِ: إِذْ حَضَرَ، فَالْعَامِلُ فِيهِ إِمَّا شُهَدَاءَ الْعَامِلَةُ فِي إِذِ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَإِمَّا شُهَدَاءَ مُكَرَّرَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَدَلَ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ. وَزَعَمَ الْقَفَّالُ أن إذ وَقْتٌ لِلْحُضُورِ، فَالْعَامِلُ فِيهِ حضر، وهو يؤول إِلَى اتِّحَادِ الظَّرْفَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَامِلُهُمَا. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي مَا: اسْتِفْهَامٌ عَمَّا لَا يَعْقِلُ، وَهُوَ اسْمٌ تَامٌّ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهُ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا مُبْهَمَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يَكُونُ هُنَا يَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّهُ قَدْ عُبِدَ بَنُو آدَمَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَبَعْضُ النُّجُومِ وَالْأَوْثَانُ الْمَنْحُوتَةُ، وَأَمَّا مَنْ يَذْهَبُ إِلَى تَخْصِيصِ مَا بِغَيْرِ الْعَاقِلِ، فَقِيلَ: هُوَ سُؤَالٌ عَنْ صِفَةِ الْمَعْبُودِ، لِأَنَّ مَا يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الصِّفَاتِ تَقُولُ: مَا زَيْدٌ، أَفَقِيهٌ أَمْ شَاعِرٌ؟ وَقِيلَ: سَأَلَ بِمَا لِأَنَّ الْمَعْبُودَاتِ الْمُتَعَارِفَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ جَمَادَاتٍ، كَالْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْحِجَارَةِ، فَاسْتَفْهَمَ بِمَا الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَمَّا لَا يَعْقِلُ. وَفَهِمَ عَنْهُ بَنُوهُ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّا لَا نَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقِيلَ: استفهم بما عَنِ الْمَعْبُودِ تَجْرِبَةً لَهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ لِئَلَّا يَطْرُقَ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ وَيَنْظُرَ ثُبُوتَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنِ الَّذِي يَعْبُدُونَ، أي

_ (1) سورة النحل: 16/ 81. (2) سورة إبراهيم: 14/ 17.

الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ؟ وَقَالَ الْقَفَّالُ: دَعَاهُمْ إِلَى أَنْ لَا يَتَحَرَّوْا فِي أَعْمَالِهِمْ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِمُ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِنَّمَا خَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَشْغَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَفَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ كَانَتْ فِي بَابِ الدِّينِ، وَهِمَّتُهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِمْ. مِنْ بَعْدِي: يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِي، وَحُكِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ خُيِّرَ، كَمَا يُخَيَّرُ الْأَنْبِيَاءُ، اخْتَارَ الْمَوْتَ وَقَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أُوصِيَ بَنِيَّ وَأَهْلِي، فَجَمَعَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ. قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ: هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَإِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، بِإِسْقَاطِ آبَائِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ: وَإِلَهَ أَبِيكَ. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، فَإِبْرَاهِيمُ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ آبَائِكَ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَإِذَا كَانَ بَدَلًا، فَهُوَ مِنَ الْبَدَلِ التَّفْصِيلِيِّ، وَلَوْ قرىء فِيهِ بِالْقَطْعِ، لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. وَأَجَازَ الْمَهْدَوِيُّ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَبٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْعَبَّاسِ: هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي، وَرُدُّوا عَلَيَّ أَبِي، وَأَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ، عَلَى الْقَوْلِ الشَّهِيرِ: أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ يُسَمَّى أَبًا لِقَوْلِهِ: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ جَدٌّ لِيَعْقُوبَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ «1» عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدِّ دُونَ الْإِخْوَةِ، وَإِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ، وَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ، مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَيُعْطَى الثُّلُثَ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْإِخْوَةِ، مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ، فَيُعْطَى السُّدُسَ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ أَبِيكَ أُرِيدَ بِهِ الْإِفْرَادُ وَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ سَقَطَتْ مِنْهُ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، فَقَدْ جُمِعَ أَبٌ عَلَى أَبِينَ نَصْبًا وَجَرًّا، وَأَبُونَ رَفْعًا، حَكَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، وقال الشاعر:

_ (1) سورة يوسف: 12/ 38.

فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَيْنَنَا بِالْأَبِينَا وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِعْرَابُ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَ إِعْرَابِهِ حِينَ كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ. وَفِي إِجَابَتِهِمْ لَهُ بِإِظْهَارِ الْفِعْلِ تَأْكِيدٌ لِمَا أَجَابُوهُ بِهِ، إِذْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَالُوا إِلَهَكَ، فَتَصْرِيحُهُمْ بِالْفِعْلِ تَأْكِيدٌ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ، أَعْنِي فِي الْعَامِلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ فِي السُّؤَالِ. وَإِضَافَةُ الْإِلَهِ إِلَى يَعْقُوبَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّحَادِ مَعْبُودِ السَّائِلِ وَالْمُجِيبِ لَفْظًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِلَهَ آبَائِكَ دَلِيلٌ عَلَى اتِّحَادِ الْمَعْبُودِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا كُرِّرَ لَفْظُ وَإِلَهَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ إِلَّا بِإِعَادَةِ جَارِّهِ، إِلَّا فِي الشِّعْرِ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدَهُ قَلِيلٌ. فَلَوْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا، لَكَانَ حَذْفُ الْجَارِّ، إِذَا كَانَ اسْمًا، أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِهِ، لِمَا يُوهِمُ إِثْبَاتُهُ مِنَ الْمُغَايَرَةِ. فَإِنَّ حَذْفَهُ يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِإِضَافَةِ الْإِلَهِ إِلَى يَعْقُوبَ، لِأَنَّهُ هُوَ السَّائِلُ، وَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَدَّمَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ أَسَنُّ أَوْ أَفْضَلُ، لِكَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من ذُرِّيَّتِهِ، وَهُوَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَيْرَ النَّاسِ فِي أَزْمَانِهِمْ، وَلَمْ يُعِمَّ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانَ لَهُمْ مَعْبُودُونَ كَثِيرُونَ دُونَ اللَّهِ. إِلهاً واحِداً: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَيَكُونُ حَالًا مُوَطِّئَةً نَحْوَ: رَأَيْتُكَ رَجُلًا صَالِحًا. فَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْوَصْفُ، وَجِيءَ بِاسْمِ الذَّاتِ تَوْطِئَةً لِلْوَصْفِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ يُرِيدُ بِإِلَهِكَ إِلَهًا وَاحِدًا. وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَا يَكُونُ نَكِرَةً وَلَا مُبْهَمًا. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ، أَوِ الْبَدَلِ، هُوَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ مَعْبُودَهُمْ وَاحِدٌ فَرْدٌ، إِذْ قَدْ تُوهِمُ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى كَثِيرِينَ تَعْدَادَ ذَلِكَ الْمُضَافِ، فَنَهَضَ بِهَذِهِ الْحَالِ أَوِ الْبَدَلِ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْإِيهَامِ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ: أَيْ مُنْقَادُونَ لَمَّا ذَكَرَ الْجَوَابَ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَعْبُدُ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مُتَجَدِّدَةٌ دَائِمًا. ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ الْمُخْبَرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا بِاسْمِ الْفَاعِلِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ، لِأَنَّ الِانْقِيَادَ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ دَائِمًا، وَعَنْهُ تَكُونُ الْعِبَادَةُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَحَدَ جُمْلَتَيِ الْجَوَابِ. فَأَجَابُوهُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ، وَالثَّانِي: مُؤَكِّدٌ لِمَا أَجَابُوا بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْجَوَابِ الْمُرْبِي عَلَى السُّؤَالِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَعْبُدُ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: نَعْبُدُ، فَيَكُونُ أَحَدَ شِقَّيِ الْجَوَابِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً مُؤَكِّدَةً، أَيْ: وَمِنْ حَالِنَا أَنَّا نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ التَّوْحِيدَ أَوْ مُذْعِنُونَ.

وَالَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ جُمْلَةَ الِاعْتِرَاضِ هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي تُفِيدُ تَقْوِيَةً بَيْنَ جُزْأَيْ مَوْصُولٍ وَصِلَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: مَاذَا وَلَا عَتْبَ فِي الْمَقْدُورِ رُمْتُ ... إِمَّا تخطيك بالنجح أو خُسْرٍ وَتَضْلِيلِ وَقَالَ: ذَاكَ الَّذِي وَأَبِيكَ يَعْرِفُ مَالِكَا ... وَالْحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الْبَاطِلِ أَوْ بَيْنَ جُزْأَيْ إِسْنَادٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قَوْمٍ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ أَوْ بَيْنَ فِعْلِ شَرْطٍ وَجَزَائِهِ، أَوْ بَيْنَ قَسَمٍ وَجَوَابِهِ، أَوْ بَيْنَ مَنْعُوتٍ وَنَعْتِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ مَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ قَبْلَهَا كَلَامًا مُسْتَقِلًّا، وَبَعْدَهَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ. لَا يُقَالُ: إِنَّ بَيْنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَلَازُمٌ يَصِحُّ بِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مِنْ كَلَامِ بَنِي يَعْقُوبَ، حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَا بَعْدَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَا أَخْبَرَ تَعَالَى. وَالْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ مُتَلَازِمَيْنِ لا تكون إلا من النَّاطِقِ بِالْمُتَلَازِمَيْنِ، يُؤَكِّدُ بِهَا وَيُقَوِّي مَا تَضَمَّنَ كَلَامُهُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ لَيْسَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ: كَذَلِكَ كُنَّا وَنَحْنُ نَكُونُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْعَامِلُ نَعْبُدُ وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَمْدَحُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: كَذَلِكَ كُنَّا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْإِضْمَارِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ عَطْفُهَا عَلَى نَعْبُدُ إِلَهَكَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَرَّرْنَاهُ قَبْلُ. وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ إِضْمَارٍ، مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى، كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِضْمَارِ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُقَلِّدَةُ، وَقَالُوا: إِنْ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ اكْتَفَوْا بِالتَّقْلِيدِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ هُوَ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ كَافٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا التَّعْلِيمِيَّةُ، قَالُوا: لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِتَعْلِيمِ الرَّسُولِ وَالْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: نَعْبُدُ الْإِلَهَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، بَلْ قَالُوا: لَا نَعْبُدُ إِلَّا الَّذِي أَنْتَ تَعْبُدُهُ وَآبَاؤُكَ تَعْبُدُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَرِيقَةَ الْمَعْرِفَةِ التَّعَلُّمُ. وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ إِلَّا الْإِقْرَارَ بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ. وَالْإِقْرَارُ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ناشىء عَنْ تَقْلِيدٍ، وَلَا تَعْلِيمٍ، ولا أنه أيضا

ناشىء عَنِ اسْتِدْلَالٍ بِالْعَقْلِ، فَبَطَلَ تَمَسُّكُهُمْ بِالْآيَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ، لأنها لم تجىء فِي مَعْرِضِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُمْ عَمَّا يَعْبُدُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، فَأَحَالُوهُ عَلَى مَعْبُودِهِ وَمَعْبُودِ آبَائِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ أَخْصَرَ فِي الْقَوْلِ مِنْ شَرْحِ صِفَاتِهِ تَعَالَى مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى سُكُونِ نَفْسِ يَعْقُوبَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَسْنَا نَجْرِي إِلَّا عَلَى طَرِيقَتِكَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي قَوْلِهِ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «1» ، فَمُرَادُهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِمْ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ الْإِلَهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ وُجُودُ آبَائِكَ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، تِلْكَ: إِشَارَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ وَأَبْنَائِهِمَا. وَمَعْنَى خَلَتْ: مَاتَتْ وَانْقَضَتْ وَصَارَتْ إِلَى الْخَلَاءِ، وَهُوَ الْأَرْضُ الَّذِي لَا أَنِيسَ بِهِ. وَالْمُخَاطَبُ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ ادَّعَوْا لِإِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ، صِفَةٌ لِأُمَّةٍ. لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ: أَيْ تِلْكَ الْأُمَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِجَزَاءِ مَا كَسَبَتْ، كَمَا أَنَّكُمْ كَذَلِكَ مُخْتَصُّونَ بِجَزَاءِ مَا كَسَبْتُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا كَسْبُ غَيْرِهِ. وَظَاهِرُ مَا أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَحُذِفَ الْعَائِدُ، أَيْ لَهَا مَا كَسَبَتْهُ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ لَهَا كَسْبُهَا، وَكَذَلِكَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ اسْتِئْنَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةَ خالية مِنَ الضَّمِيرِ فِي خَلَتْ، أَيِ انْقَضَتْ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، لَهَا مَا كَسَبَتْ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، لِعَطْفِ قَوْلِهِ: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ قَبْلَهَا، لِاخْتِلَافِ زَمَانِ اسْتِقْرَارِ كَسْبِهَا لَهَا. وَزَمَانِ اسْتِقْرَارِ كَسْبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَعَطْفُ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ، يُوجِبُ اتِّحَادَ الزَّمَانِ. افْتَخَرُوا بِأَسْلَافِهِمْ، فَأُخْبِرُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْفَعُ أَحَدًا، مُتَقَدِّمًا كَانَ أَوْ مُتَأَخِّرًا. وَرُوِيَ: يَا بَنِي هَاشِمَ! لَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَأْتُونِي بأنسابكم! با فَاطِمَةُ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ! قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ: لَا اكْتِسَابَ لِلْعَبْدِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُعْضِلَةِ، ومذاهب أهل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 21.

الْإِسْلَامِ فِيهَا أَرْبَعَةٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُلْجَأٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ حَرَكَةِ الْغُصْنِ إِلَيْهِ، إِذَا حَرَّكَهُ مُحَرِّكٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْفِعْلِ، بَلْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْلِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ لَهُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِيقَاعِهِ وَعَدَمِ إِيقَاعِهِ. وَالرَّابِعُ: مَذْهَبٌ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ تَمْكِينًا وَقُدْرَةً مَعَ الْفِعْلِ يَفْعَلُ بِهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ وَالْإِلْجَاءِ، وَهَذَا التَّمْكِينُ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ. ثُمَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ تَفَاسِيرَ: أَحَدُهَا: قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ: أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقْدُورِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِي الْمَقْدُورِ، بَلِ الْقُدْرَةُ وَالْمَقْدُورُ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ، هُوَ الْكَسْبُ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيُّ: أَنَّ ذَاتَ الْفِعْلِ لَمْ تُحَصِّلْ لَهُ صِفَةَ، كَوْنِهِ طَاعَةً وَمَعْصِيَةً، بَلْ هَذِهِ الصِّفَةُ حَصَلَتْ لَهُ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أبي إسحاق الأسفرائني: أَنَّ الْقُدْرَتَيْنِ، الْقَدِيمَةَ وَالْحَدِيثَةَ، إِذَا تَعَلَّقَتَا بِمَقْدُورٍ وَقَعَ بِهِمَا، فَكَأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يُوقَعُ بِإِعَانَةٍ، فَهَذَا هُوَ الكسب. وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ: جُمْلَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِكَسْبِهِ مِنْ خَيْرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يُسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ عَمَلِ أَحَدٍ. فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ حَسَنَاتُهُمْ، فَكَذَلِكَ لَا تُسْأَلُونَ وَلَا تُؤَاخَذُونَ بِسَيِّئَاتِ مَنِ اكْتَسَبَهَا. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» ، كُلُّ شَاةٍ بِرِجْلِهَا تُنَاطُ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا قَبْلَهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُنَاقَضَةِ لِقَوْلِهِ، إِفْحَامًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، بَلْ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ. لَكِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ بِهَا وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ، وَجَدَهُمْ مُعَانِدِينَ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى بَاطِلِهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُجَانِسُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الدِّينُ بِالِاتِّبَاعِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَفِي قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ إِلَى آخِرِهِ، دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ تَعْذِيبِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبْنَاءَ يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ. وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ فِي قَالُوا عَلَى رُؤَسَاءِ اليهود

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 164، وسورة الإسراء: 17/ 15، وسورة فاطر: 35/ 18، وسورة الزمر: 39/ 7.

الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، وَعَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ. كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَوَهْبٌ، وَأُبَيُّ بْنُ يَاسَ بْنِ أَخْطَبَ، وَالسَّيِّدُ، وَالْعَاقِبُ وَأَصْحَابُهُمَا خَاصَمُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، كُلُّ فِرْقَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا أَحَقُّ بِدِينِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ. وَأَوْ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ، كَأَوْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» . وَالْمَعْنَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ كُونُوا هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى، فَالْمَجْمُوعُ قَالُوا لِلْمَجْمُوعِ، لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ أَيِّ الْمِلَّتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ وَإِشْبَاعُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ مِلَّةَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. أَمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةً، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى: اتَّبِعُوا الْيَهُودِيَّةَ أَوِ النَّصْرَانِيَّةَ. وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ بَلْ تَكُونُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَهْلُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، إِنِّي مِنْ دِينٍ، أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ، قاله الزجاج. وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الإعراء، أَيِ الْزَمُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ نَقْتَدِي مِلَّةً، أَيْ بِمِلَّةٍ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْكُفَّارِ، فَيَكُونُ الْمُضْمَرُ اتَّبِعُوا، أَوْ كُونُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، فيقدر بنتبع، أَوْ تَكُونُ، أَوْ نَقْتَدِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، بِرَفْعِ مِلَّةٍ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ بَلِ الْهُدَى مِلَّةُ، أَوْ أَمْرُنَا مِلَّتُهُ، أَوْ نَحْنُ مِلَّتُهُ، أَيْ أَهْلُ مِلَّتِهِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ بَلْ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مِلَّتُنَا. حَنِيفاً: ذَكَرُوا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ فِي حَالِ حَنِيفِيَّتِهِ، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ وَجْهَ هِنْدٍ قَائِمَةً، وَأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: لِأَنَّ الْحَالَ تَعَلَّقَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ نَتَّبِعُ حَنِيفًا، وَأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، حَكَّاهُ السَّجَاوِنْدِيُّ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ كُوفِيٌّ، لِأَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْقَطْعِ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِيهِ، وَاخْتِلَافُ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ، فَلَمَّا نَكَرَّهُ، لَمْ يُمْكِنِ اتِّبَاعُهُ إِيَّاهُ، فَنَصَبَهُ عَلَى الْقَطْعِ. أَمَّا الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذَا كَانَ الْمُضَافُ غَيْرَ عَامِلٍ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْإِضَافَةِ، فَنَحْنُ لَا نجيزه، سَوَاءٌ كَانَ جُزْءًا مِمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ، أَوْ كَالْجُزْءِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي (كِتَابِ مَنْهَجِ الْمَسَالِكِ) من تأليفنا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 111. [.....]

وَأَمَّا النَّصْبُ عَلَى الْقَطْعِ، فَقَدْ رَدَّ هَذَا الْأَصْلَ الْبَصْرِيُّونَ. وَأَمَّا إِضْمَارُ الْفِعْلِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ، وَذُكِرَ حَنِيفًا وَلَمْ يُؤَنَّثْ لِتَأْنِيثِ مِلَّةٍ، لِأَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمِلَّةَ هِيَ الدِّينُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَتَّبِعُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا. وَعَلَى هَذَا خَرَّجَهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الشَّجَرِيِّ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ مِنْ أَمَالِيهِ. قَالَ: قِيلَ إِنَّ حَنِيفًا حَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَوْجَهُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَجْعَلَهُ حَالًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَإِنْ خَالَفَهَا بِالتَّذْكِيرِ، لِأَنَّ الْمِلَّةَ فِي مَعْنَى الدِّينِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَدْ أُبْدِلَتْ مِنَ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «1» ؟ فَإِذَا جَعَلْتَ حَنِيفًا حَالًا مِنَ الْمِلَّةِ، فَالنَّاصِبُ لَهُ هُوَ النَّاصِبُ لِلْمِلَّةِ، وَتَقْدِيرُهُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَإِنَّمَا ضَعِّفَ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَامِلُ فِي ذِي الحال. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَكُونُ حَالًا لَازِمَةً، لِأَنَّ دِينَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ حَنِيفًا حَالًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ حَالًا لَازِمَةً، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَالْحَنِيفُ: هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أو الْمَائِلُ عَمَّا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوِ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَوِ الْحَاجُّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وابن الحنفية، أَوِ الْمُتَّبِعُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوِ الْمُخَلِّصُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوِ الْمُخَالِفُ لِلْكُلِّ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ أَوِ الْمُسْلِمُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، قَالَ: فَإِذَا جُمِعَ الْحَنِيفُ مَعَ الْمُسْلِمِ فَهُوَ الْحَاجُّ، أَوِ الْمُخْتَتِنُ. أَوِ الْحَنَفُ: هُوَ الِاخْتِتَانُ، وَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ، وَتَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، عَشْرَةُ أَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا خُصَّ إِبْرَاهِيمُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مَائِلِينَ إِلَى الْحَقِّ، مُسْتَقِيمِي الطَّرِيقَةِ حُنَفَاءَ، لِأَنَّ اللَّهَ اخْتَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْإِمَامَةِ، لِمَا سَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْخِتَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، مِمَّا يُقْتَدَى بِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَصَارَتِ الْحَنِيفِيَّةُ عَلَمًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَسُمِّيَ بِالْحَنِيفِ: مَنِ اتَّبَعَهُ وَاسْتَقَامَ عَلَى هديه، وسمي المنكث عن مِلَّتِهِ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ الْمِلَلِ، فَقِيلَ: يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ النِّحَلِ. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُ وَثَنًا، وَلَا شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا، وَلَا كَوْكَبًا، وَلَا شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلَّتَهُ مُخَالِفَةٌ لِمِلَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلِذَلِكَ أَضْرَبَ ببل عَنْهُمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِمَّنْ تَدِينُ بِأَشْيَاءَ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ كَانَتْ تُشْرِكُ، فَنَفَى اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الكتاب وغيرهم، لأن

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 161.

كُلًّا مِنْهُمْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ عَلَى الشِّرْكِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِشْرَاكُ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَإِشْرَاكُ النَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَإِشْرَاكُ غَيْرِهِمَا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ، خَرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْآيَةَ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ» . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قُولُوا، عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى. أَمَرُوا بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ، وَيُصَرِّحُوا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَظْهَرُ. وَارْتَبَطَتْ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، جَوَابًا إِلْزَامِيًّا، وَهُوَ أَنَّهُمْ: وَمَا أُمِرُوا بِاتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ. هَذَا، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا تُكَفِّرُ الْأُخْرَى، أُجِيبُوا بِأَنَّ الْأَوْلَى فِي التَّقْلِيدِ اتِّبَاعَ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُمْ، أَعْنِي الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ، قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، إِنْ كَانَ الدِّينُ بِالتَّقْلِيدِ. فَلَمَّا ذَكَرَ هُنَا جَوَابًا إِلْزَامِيًّا، ذَكَرَ بَعْدَهُ بُرْهَانًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ الْآيَاتِ. وَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، فَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّتِهِ. فَإِنَّ تَخْصِيصَ بَعْضٍ بِالْقَبُولِ وَبَعْضٍ بِالرَّدِّ، يُوجِبُ التَّنَاقُضُ فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا. وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا: إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قُولُوا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْمُنَزَّلُ إِلَيْهِمْ هُوَ الْقُرْآنُ، وَصَحَّ نِسْبَةُ إِنْزَالِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ فِيهِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِتَكَالِيفِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَعْدِيَةُ أُنْزِلَ بِإِلَى، دَلِيلٌ عَلَى انْتِهَاءِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قُولُوا عَائِدًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْمُنَزَّلُ إِلَى الْيَهُودِ: التَّوْرَاةُ، وَالْمُنَزَّلُ إِلَى النَّصَارَى: الْإِنْجِيلُ، وَيَلْزَمُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِمَا، الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمُ: الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِاتِّبَاعِهِ، وَبِالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَنْ جَاءَ عَلَى يَدَيْهِ. وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ: الَّذِي أُنْزِلَ على إبراهيم عشر صحائف. قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى «1» ، وَكَرَّرَ الْمَوْصُولُ، لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ إِلَيْنَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، غَيْرُ تِلْكَ الصَّحَائِفَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. فَلَوْ حذف الموصول، لأوهم

_ (1) سورة الأعلى: 87/ 18- 19.

أَنَّ الْمُنَزَّلَ إِلَيْنَا هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، قَالُوا: وَلَمْ يُنَزَّلْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَعُطِفُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُمْ كُلِّفُوا الْعَمَلَ بِهِ وَالدُّعَاءَ إِلَيْهِ، فَأُضِيفَ الْإِنْزَالُ إِلَيْهِمْ، كَمَا أُضِيفَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا. وَالْأَسْبَاطُ هُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا. قَالَ الشَّرِيفُ أبو البركات الجواني النسابة: وَوَلَدُ يَعْقُوبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوسُفُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، صَاحِبُ مِصْرَ وَعَزِيزُهَا، وَهُوَ السِّبْطُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْأَسْبَاطُ سِوَى يُوسُفَ: كَاذُ، وَبِنْيَامِينُ، وَيَهُوذَا، وَيَفْتَالِي، وَزُبُولُونُ، وَشَمْعُونُ، وَرُوبِينُ، وَيَسَاخَا، وَلَاوِي، وَذَانُ، وَيَاشِيرْخَا مِنْ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وَسُلَيْمَانُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيِّ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، أُمُّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَجَاءَ مِنْ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ: مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ وَهَارُونُ أَخُوهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَسْبَاطُ هُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ. وَهُمْ: رُوبِيلُ، وَشَمْعُونُ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَرَفَالُونُ، وَبِشْجَرُ، وَذَيْنَةُ بِنْتُهُ، وَأُمُّهُمْ لَيَاثِمُ. خَلَفٌ عَلَى أُخْتِهَا رَاحِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ: يُوسُفَ، وَبِنْيَامِينَ. وَوُلِدَ لَهُ مِنْ سُرِّيَّتَيْنِ: دَانِي، وَنَفْتَالِي، وَجَادُ، وَآشِرُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجَوَانِيِّ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ. وَقِيلَ: رُوبِيلُ أَكْبَرُ وَلَدِهِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَيْسَانِيُّ: رُوبِيلُ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، يَعْنِي بِاللَّامِ، قَالَ: وَقَبْرُهُ فِي قَرَافَةِ مِصْرَ، فِي لَحْفِ الْجَبَلِ، فِي تُرْبَةِ الْيَسَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى: أَيْ: وَآمَنَّا بِالَّذِي أُوتِيَ مُوسَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْآيَاتِ، وَعِيسَى مِنَ الْإِنْجِيلِ وَالْآيَاتِ. وَمُوسَى هُنَا: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، كَلِيمُ اللَّهِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَيْسَانِيُّ: وَفِي وَلَدِ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ، يَعْنِي الصِّدِّيقَ: مُوسَى بْنَ مَيْشًا بْنِ يُوسُفَ. وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ نَبَّأَهُ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ الْخَضِرِ. وَذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ يَعْقُوبُ، فَشَا فِي الْأَسْبَاطِ الْكِهَانَةُ، فَبَعَثَ اللَّهُ مُوسَى بْنَ مِيشَا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَهُوَ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَنَصَّ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى، لِأَنَّهُمَا مَتْبُوعَا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِزَعْمِهِمْ، وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يُكَرَّرِ الْمَوْصُولُ فِي عِيسَى، لِأَنَّ عِيسَى إِنَّمَا جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، لَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا إِلَّا نَزْرًا يَسِيرًا. فَالَّذِي أُوتِيَهُ عِيسَى هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِي نَزْرٍ يَسِيرٍ. وَجَاءَ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَجَاءَ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، تَنْوِيعًا فِي الْكَلَامِ وَتَصَرُّفًا فِي أَلْفَاظِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، إذ لَوْ كَانَ كُلُّهُ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ، أَوْ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ، لَمَا كَانَ فِيهِ حَلَاوَةُ التَّنَوُّعِ فِي الْأَلْفَاظِ. أَلَا تَرَاهُمْ لَمْ يَسْتَحْسِنُوا قَوْلَ أَبِي الطَّيِّبِ:

وَنَهْبُ نُفُوسِ أَهْلِ النَّهْبِ أَوْلَى ... بِأَهْلِ النَّهْبِ مِنْ نَهْبِ الْقُمَاشِ وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِنْزَالِ أَوَّلًا خَاصًّا، عَطَفَ عَلَيْهِ جَمْعًا. كَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِيتَاءِ خَاصًّا، عَطَفَ عَلَيْهِ جَمْعًا. وَلَمَّا أَظْهَرَ الْمَوْصُولَ فِي الْإِنْزَالِ فِي الْعَطْفِ، أَظْهَرَهُ فِي الْإِيتَاءِ فَقَالَ: وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَما أُوتِيَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ. وَفِي حَدِيثٍ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ؟ قَالَ: «مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أَنْزَلَ عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ عَلَى أَخْنُوخَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ، ثُمَّ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ. وَأَمَّا عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بن منبه: أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفِ نَبِيٍّ، وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ، كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا عِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ. وَعَدَدُ الرُّسُلِ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عشر، كُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، إِلَّا عِشْرِينَ رَسُولًا، ذَكَرَ مِنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، نَصَّ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَهُمْ: آدَمُ، وَإِدْرِيسُ، وَنُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلُوطٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَمُوسَى، وَهَارُونُ، وَالْيَسَعُ، وَإِلْيَاسُ، وَيُونُسُ، وَأَيُّوبُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَزَكَرِيَّا، وَعُزَيْرٌ، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا عَشَرَةً: نُوحًا، وَهُودًا، وَشُعَيْبًا، وَصَالِحًا، وَلُوطًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَإِسْمَاعِيلَ، ومحمدا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. وَابْتُدِئَ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أصل الشرائع، وقدم ما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْإِنْزَالِ عَنْ مَا بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ النَّاسَ، بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَدْعُوُّونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ جملة وتفصيلا. وقدم ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ عَلَى ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، لِلتَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُوسَى، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، إِذْ هُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ شَرِيعَتِهِ. وَما أُوتِيَ مُوسى: ظَاهِرُهُ الْعَطْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَجْرُورَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِيمَانِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا أُوتِيَ الثَّانِيَةُ عَطْفٌ عَلَى مَا أُوتِيَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، أَوْ لَا نُفَرِّقُ، أَوْ يَكُونُ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى مَعْطُوفًا عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ رُفِعَ عَلَى الابتداء، ومِنْ رَبِّهِمْ الْخَبَرُ، أَوْ لَا نُفَرِّقُ هُوَ الْخَبَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَمِنْ لابتداء الغاية، فتتعلق بما أوتي الثانية، أو بما أُوتِيَ الْأُولَى،

وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ تَوْكِيدًا. أَلَا تَرَى إِلَى سُقُوطِهَا فِي آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ «1» ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ حال مِنَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَمَا أُوتِيَهُ النَّبِيُّونَ كَائِنًا مِنْ رَبِّهِمْ. لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِئْنَافُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّا نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ، فَلَا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَإِنَّ الْيَهُودَ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعِيسَى، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ. وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا نَقُولُ إِنَّهُمْ يَتَفَرَّقُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا نَشُقُّ عَصَاهُمْ، كَمَا يُقَالُ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، إِذَا فَارَقَ جَمَاعَتَهُمْ. وَأَحَدٌ هُنَا، قِيلَ: هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، فَأُصُولُهُ: الْهَمْزَةُ وَالْحَاءُ وَالدَّالُ، وَهُوَ لِلْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْتَقِرْ بَيْنَ إِلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ اسْمٌ عَامٌّ تَحْتَهُ أَفْرَادٌ، فَيَصِحُّ دُخُولُ بَيْنَ عَلَيْهِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَتَقُولُ: الْمَالُ بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَقِيلَ: أَحَدٌ هُنَا بِمَعْنَى: وَاحِدٍ، وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، إِذْ أَصْلُهُ: وَحَدٌ، وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِفَهْمِ السَّامِعِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ، فَاخْتَصَرَ، أَوْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَالْآخَرِ، وَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أبو حجر إلا لَيَالٍ قَلَائِلَ يُرِيدُ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي، فَحَذَفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَ لَا بُدَّ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، كَمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وَقَى الْحَرَّ وَقَى الْبَرْدَ، فَحَذْفُ وَالْبَرْدَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ: هَذَا كُلُّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: قُولُوا. وَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا الْإِيمَانَ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَلْبِ، خَتَمَ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ النَّاشِئُ عَنِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ عَنِ الْجَوَارِحِ. فَجَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، لِيَجْتَمِعَ الْأَصْلُ وَالنَّاشِئُ عَنِ الْأَصْلِ. وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُمَا، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: مُسْلِمُونَ بِأَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَعْنَى، فَقِيلَ: خَاضِعُونَ، وَقِيلَ: مُطِيعُونَ، وَقِيلَ: مُذْعِنُونَ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَقِيلَ: مُذْعِنُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ عقلا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 84. (2) سورة النحل: 16/ 81.

وَفِعْلًا، وَقِيلَ: دَاخِلُونَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مُنْقَادُونَ، وَقِيلَ: مُخْلِصُونَ. وَلَهُ مُتَعَلِّقٌ بمسلمون، وَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْعَامِلُ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ، أَوْ تَقَدَّمَ لَهُ لِلِاعْتِنَاءِ بِالْعَائِدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ، قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَالَ: «اللَّهُ أَمَرَنِي بِهَذَا» . فَلَمَّا سَمِعُوا بِذِكْرِ عِيسَى أَنْكَرُوا وَكَفَرُوا. وَقَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّ عِيسَى لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَإِنْ آمَنُوا الْآيَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي آمَنُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ خَاصًّا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى كُلِّ كَافِرٍ، فَيُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِقْرَارِ الْبَاءِ عَلَى حَالِهَا فِي آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَإِطْلَاقُ مَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها «1» ، يُرِيدُ وَمَنْ بَنَاهَا عَلَى قَوْلِهِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ ظَاهِرَةٌ، وَيَشْمَلُ جَمِيعَ مَا آمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، فَخَرَجَتِ الْبَاءُ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِيمَانًا مِثْلَ إِيمَانِكُمْ، كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «2» . وَسُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «3» ، وَتَكُونُ مَا مَصْدَرِيَّةً. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَهِيَ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا عَلَى مِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ، وَكَوْنُ الْبَاءِ بِمَعْنَى عَلَى، قَدْ قِيلَ بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ، قَالَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ «4» ، أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ. وَقِيلَ: هِيَ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَقَوْلِكَ: عَمِلْتُ بِالْقَدُومِ، وَكَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، أَيْ فَإِنْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ بِشَهَادَةٍ مِثْلِ شَهَادَتِكُمْ، وَذَلِكَ فِرَارٌ مِنْ زِيَادَةِ الْبَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمَاكِنِ زِيَادَةِ الْبَاءِ قِيَاسًا. وَالْمُؤْمِنُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَإِنْ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدًا عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَا، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَوْصُولَةً. وَأَمَّا مِثْلُ، فَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، قَالُوا: كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «5» ، أَيْ لَيْسَ كَهَوَ شَيْءٌ، وَكَقَوْلِهِ:

_ (1) سورة الشمس: 91/ 5. (2) سورة مريم: 19/ 25. (3) سورة البقرة: 2/ 195. (4) سورة آل عمران: 3/ 75. (5) سورة الشورى: 42/ 11.

فصيروا مثل كعصف مأكول وَكَقَوْلِهِ: يَا عَاذِلِي دَعْنِي مِنْ عَذْلِكَا ... مِثْلِي لَا يَقْبَلُ مِنْ مِثْلِكَا وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ. وَالْمِثْلِيَّةُ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاعْتِقَادِ، أَيْ فَإِنِ اعْتَقَدُوا مِثْلَ اعْتِقَادِكُمْ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكِتَابِ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِكِتَابٍ مِثْلِ الْكِتَابِ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا بِكِتَابِكُمُ الْمُمَاثِلِ لِكِتَابِهِمْ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً، بَلْ هِيَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِالْكِتَابِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا مِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُكَ، أَيْ لَا تَفْعَلُهُ أَنْتَ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، وهذا يؤول إِلَى إِلْغَاءِ مِثْلَ، وَزِيَادَتِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ مِنْ بَابِ التَّبْكِيتِ، لِأَنَّ دِينَ الْحَقِّ وَاحِدٌ، لَا مِثْلَ لَهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1» ، فَلَا يُوجَدُ إِذًا دِينٌ آخَرُ يُمَاثِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي كَوْنِهِ حَقًّا، حَتَّى إِنْ آمَنُوا بِذَلِكَ الدِّينِ الْمُمَاثِلِ لَهُ، كَانُوا مُهْتَدِينَ، فَقِيلَ: فَإِنْ آمَنُوا بِكَلِمَةِ الشَّكِّ، عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ، وَالتَّقْدِيرِ: أَيْ فَإِنْ حَصَّلُوا دَيْنًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكُمْ، مُسَاوِيًا لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ. فَقَدِ اهْتَدَوْا: وَفِيهِ أَنَّ دِينَهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكُلَّ دِينٍ سِوَاهُ مُغَايِرٌ لَهُ غَيْرُ مُمَاثِلٍ، لِأَنَّهُ حَقٌّ وَهُدًى، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تُشِيرُ عَلَيْهِ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ الصَّوَابُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ رَأْيٌ أَصْوَبُ مِنْهُ، فَاعْمَلْ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ لَا أَصْوَبَ مِنْ رَأْيِكَ، وَلَكِنَّكَ تُرِيدُ تَبْكِيتَ صَاحِبِكَ وَتَوْقِيفَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَأَيْتَ لَا رَأْيَ وَرَاءَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَلَيْسَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا، كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ «2» لِمَعْنَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ قَطْعًا، وَاسْتِقْبَالِ الْهِدَايَةِ هُنَا، لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، وَلَمْ تَكُنْ وَاقِعَةً قَبْلُ. وَإِنْ تَوَلَّوْا: أَيْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ: أَكَّدَ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ شَرْطًا بِإِنْ، وَتَأَكَّدَ مَعْنَى الْخَبَرِ بِحَيْثُ صَارَ ظَرْفًا لَهُمْ، وَهُمْ مَظْرُوفُونَ لَهُ. فَالشِّقَاقُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمْ، وَمُحِيطٌ بِهِمْ إِحَاطَةَ الْبَيْتِ بمن فيه. وهذه

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 85. (2) سورة فاطر: 35/ 4.

مُبَالَغَةٌ فِي الشِّقَاقِ الْحَاصِلِ لَهُمْ بِالتَّوَلِّي، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ، إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ «2» ، هُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: زِيدٌ مُشَاقٌّ لِعَمْرٍو، وَزَيْدٌ ضَالٌّ، وَبَكْرٌ سَفِيهٌ. وَالشِّقَاقُ هُنَا: الْخِلَافُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَدَاوَةُ، أَوِ الْفِرَاقُ، أَوِ الْمُنَازَعَةُ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَوِ الْمُجَادَلَةُ، أَوِ الضَّلَالُ وَالِاخْتِلَافُ، أَوْ خَلْعُ الطَّاعَةِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ أَوِ الْبِعَادُ وَالْفِرَاقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذِهِ تَفَاسِيرُ لِلشِّقَاقِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَدَارَ ذَلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ فِي شِقٍّ وَصَاحِبُهُ فِي شِقٍّ، أَيْ يَقَعُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِي الْعَدَاوَةِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ شِقَاقٌ، لِأَنَّ الشِّقَاقَ فِي مُخَالَفَةٍ عَظِيمَةٍ تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. انْتَهَى. فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الشِّقَاقُ، وَهُوَ الْعَدَاوَةُ الْعَظِيمَةُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ لَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ كَفَاهُ شَرَّهُمْ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ ضَمَانٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، كِفَايَتَهُ وَمَنْعَهُ مِنْهُمْ، وَيَضْمَنُ ذَلِكَ إِظْهَارَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَغَلَبَتَهُ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُشَاقًّا لَكَ غَايَةَ الشِّقَاقِ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِي أَذَاكَ، إِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِظُهُورِكَ عَلَيْهِ وَقُوَّةِ مَنَعَتِكَ مِنْهُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «3» . وَكَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ فِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، وَالنَّفْيِ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَالْجِزْيَةِ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ مُشْعِرٌ بِتَعَقُّبِ الْكِفَايَةِ عَقِيبَ شِقَاقِهِمْ، وَالْمَجِيءُ بِالسِّينِ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الِاسْتِقْبَالِ، إِذِ السِّينُ فِي وَضْعِهَا أَقْرَبُ فِي التَّنْفِيسِ مِنْ سَوْفَ، وَالذَّوَاتُ لَيْسَتِ الْمَكْفِيَّةَ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فَسَيَكْفِيكَ شِقَاقَهُمْ، وَالْمَكْفِيُّ بِهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ بِمَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُشَاقِّينَ، أَوْ بِإِهْلَاكِ أَعْيَانِهِمْ وَإِذْلَالِ بَاقِيهِمْ بِالسَّبْيِ وَالنَّفْيِ وَالْجِزْيَةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، مُنَاسَبَةُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِيمَانِ وَضِدِّهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَعَلَى عَقَائِدَ يَنْشَأُ عَنْهَا تِلْكَ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَخْتَتِمَ ذَلِكَ بِهِمَا، أَيْ وَهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ، الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَقْوَالُ هِيَ الظَّاهِرَةُ لَنَا الدَّالَّةُ عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ، قُدِّمَتْ صِفَةُ السَّمِيعِ عَلَى الْعَلِيمِ، وَلِأَنَّ الْعَلِيمَ فَاصِلَةٌ أَيْضًا. وَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ الْوَعِيدَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَيُجَازِيكُمْ بِمَا يَصْدُرُ مِنْكُمْ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 60. (2) سورة الأعراف: 7/ 66. (3) سورة المائدة: 5/ 67. [.....]

صِبْغَةَ اللَّهِ: أَيْ دِينَ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسُمِّيَ صِبْغَةً لِظُهُورِ أَثَرِ الدِّينِ عَلَى صَاحِبِهِ، كَظُهُورِ أَثَرِ الصَّبْغِ عَلَى الثَّوْبِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ، كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، أَوْ فِطْرَةَ اللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ أَوْ خِلْقَةَ اللَّهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدٍ أَوْ سُنَّةَ اللَّهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَوِ الْإِسْلَامَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا أَوْ جِهَةَ اللَّهِ يَعْنِي الْقِبْلَةَ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ أَوِ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، قَالَهُ الْأَصَمُّ: أَوِ الْخِتَانَ، لِأَنَّهُ يَصْبُغُ صَاحِبَهُ بِالدَّمِ. وَالنَّصَارَى إِذَا وُلِدَ لَهُمْ مَوْلُودٌ غَمَسُوهُ فِي السَّابِعِ فِي مَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْمَعْمُودِيَّةُ، فَيَتَطَهَّرُ عِنْدَهُمْ وَيَصِيرُ نَصْرَانِيًّا. اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنِ الْخِتَانِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ، أَوِ الِاغْتِسَالَ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ عِوَضًا عَنْ مَاءِ الْمَعْمُودِيَّةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَوِ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ أَوِ التَّلْقِينِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَصْبُغُ فُلَانًا فِي الشَّيْءِ، أَيْ يُدْخِلُهُ فِيهِ وَيُلْزِمُهُ إِيَّاهُ، كَمَا يَجْعَلُ الصَّبْغَ لَازِمًا لِلثَّوْبِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْأَقْرَبُ مِنْهَا هُوَ الدِّينُ وَالْمِلَّةُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا الْآيَةَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلَ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ، فَكَنَّى بِالصِّبْغَةِ عَنْهُ، وَمَجَازُهُ ظُهُورُ الْأَثَرِ، أَوْ مُلَازَمَتُهُ لِمَنْ يَنْتَحِلُهُ. فَهُوَ كَالصَّبْغِ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا قَالَ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، حين تخالط بشاشة الْقُلُوبَ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي دِيَانَةَ الشَّخْصِ لِشَيْءٍ، وَاتِّصَافَهَ بِهِ صِبْغَةً. قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ مُلُوكِهِمْ: وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغْ صَبَغْنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَسْمِيَةِ الدِّينِ صِبْغَةً: أَنَّ عِيسَى حِينَ قَصَدَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَقَالَ: جِئْتُ لِأَصْبُغَ مِنْكَ، وَأَغْتَسِلَ فِي نَهْرِ الْأُرْدُنِّ. فَلَمَّا خَرَجَ، نَزَلَ عَلَيْهِ رُوحُ الْقُدُسِ، فَصَارَتِ النَّصَارَى يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَوْلَادِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ، تَشْبِيهًا بِعِيسَى، وَيَقُولُونَ: الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا. وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْإِنْجِيلِ ذُكِرَ عِيسَى بِأَنَّهُ الصَّابِغُ. وَيُسَمُّونَ الْمَاءَ الَّذِي يَغْمِسُونَ فِيهِ أَوْلَادَهُمُ: الْمَعْمُودِيَّةَ، بِالدَّالِ، وَيُقَالُ: الْمَعْمُورِيَّةُ بِالرَّاءِ. قَالَ: وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْفِعْلَ التَّغْمِيسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ الصَّبْغَ، فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الصِّبْغَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَوْجَدَهُ فِي النَّاسِ مِنْ بَدَائِهِ الْعُقُولِ الَّتِي مَيَّزَنَا بِهَا عَنِ الْبَهَائِمِ، وَرَشَّحَنَا بِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ طَلَبِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْفِطْرَةِ. وَسُمِّيَ ذَلِكَ بِالصِّبْغَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قُوَى الْإِنْسَانِ، إِذَا اعْتُبِرَتْ، جَرَتْ مَجْرَى الصِّبْغَةِ فِي الْمَصْبُوغِ، وَلَمَّا كَانَتِ النَّصَارَى، إِذَا لَقَّنُوا أَوْلَادَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ يَقُولُونَ: نَصَّرْنَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ صِبْغَةُ اللَّهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صِبْغَةَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ، وَمَنْ قَرَأَ بِرَفْعِ مِلَّةٍ، قَرَأَ بِرَفْعِ صِبْغَةٍ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تِلْكَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. فَأَمَّا النَّصْبُ، فَوَجْهٌ عَلَى أَوْجُهٍ، أَظْهَرُهَا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ عَنْ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ. وَقِيلَ: عَنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَقِيلَ: عَنْ قَوْلِهِ: فَقَدِ اهْتَدَوْا وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ الْزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، أَمَّا الْإِغْرَاءُ فَتُنَافِرُهُ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ هُنَاكَ قَوْلٌ، وَهُوَ إِضْمَارٌ، لَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْبَدَلُ، فَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ طَالَ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ بِجُمَلٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ عَنْ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَانَ الْمَعْنَى: صَبَغَنَا اللَّهُ بِالْإِيمَانِ صِبْغَةً، وَلَمْ يَصْبُغْ صِبْغَتَكُمْ. وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْمَعْنَى: صَبَغَنَا اللَّهُ بِالْإِيمَانِ صِبْغَةً لَا مِثْلَ صِبْغَتِنَا، وَطَهَّرَنَا بِهِ تَطْهِيرًا لَا مِثْلَ تَطْهِيرِنَا. وَنَظِيرُ نَصْبِ هَذَا الْمَصْدَرِ نَصْبُ قَوْلِهِ: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ «1» ، إِذْ قَبْلَهُ: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «2» ، مَعْنَاهُ: صُنْعَ اللَّهِ ذَلِكَ صُنْعَهُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَفْظِ الصِّبْغَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ يَغْرِسُ الْأَشْجَارَ: اغْرِسْ كَمَا يَغْرِسُ فُلَانٌ، يُرِيدُ رَجُلًا يَصْطَنِعُ الْكَرْمَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ، فَذَلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي ذَلِكَ الْإِيمَانُ صِبْغَةُ اللَّهِ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً: هَذَا اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ: النَّفْيُ، أَيْ وَلَا أَحَدَ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً. وَأَحْسَنُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهَا حَقِيقَةُ التَّفْضِيلِ، إِذْ صِبْغَةُ غَيْرِ اللَّهِ مُنْتَفٍ عَنْهَا الْحُسْنُ، أَوْ يُرَادُ التَّفْضِيلُ، بِاعْتِبَارِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ فِي صِبْغَةِ غَيْرِ اللَّهِ حُسْنًا، لَا أَنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وَانْتِصَابُ صِبْغَةً هُنَا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ غريب، أعني نَصُّ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ تَمْيِيزًا نُقِلَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ صِبْغَتُهُ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَةِ اللَّهِ. فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا يَجْرِي بَيْنَ الصِّبْغَتَيْنِ، لَا بَيْنَ الصَّابِغِينَ. وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ: مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ، وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا الْعَطْفُ يَرُدُّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةٍ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ، بِمَعْنَى: عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ فَكِّ النَّظْمِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عن التئامه

_ (1) سورة النمل: 27/ 88. (2) سورة النمل: 27/ 88.

وَاتِّسَاقِهِ. وَانْتِصَابُهَا يَعْنِي: صِبْغَةَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَتْ حَذَامُ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُهُ: فِي الْإِغْرَاءِ عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْإِغْرَاءَ، إِذَا كَانَ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الظَّرْفِ وَلَا الْمَجْرُورِ، وَلِذَلِكَ حِينَ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْإِغْرَاءِ قَدَّرْنَاهُ بِالْزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «1» ، وَأَمَّا هُنَا فَقِيلَ: عَابِدُونَ مُوَحِّدُونَ، وَمِنْهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» ، أَيْ لِيُوَحِّدُونِ. وَقِيلَ: مُطِيعُونَ مُتَّبِعُونَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَصِبْغَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ: خَاضِعُونَ مُسْتَكِينُونَ فِي اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، غَيْرُ مُسْتَكْبِرِينَ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ: سَبَبُ النُّزُولِ، قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: يا مُحَمَّدُ! إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا مِنَّا، وَعَلَى دِينِنَا، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَوْ كُنْتَ نَبِيًّا، لَكُنْتَ مِنَّا وَعَلَى دِينِنَا. وَقِيلَ: حَاجُّوا الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَصْحَابُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَقَبْلَتُنَا أَقْدَمُ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، فَأُنْزِلَتْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَتُحَاجُونَنَا بِنُونَيْنِ، إِحْدَاهُمَا نُونُ الرَّفْعِ، وَالْأُخْرَى الضَّمِيرُ؟ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي النُّونِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ حَذْفَ النُّونِ. أَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ زَيْدٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَوَجْهُهَا أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى مِثْلَانِ، وَكَانَ قَبْلَ الْأَوَّلِ حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ، جَازَ الْإِدْغَامُ كَقَوْلِكَ: هَذِهِ دَارُ رَاشِدٍ، لِأَنَّ الْمَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْحَرَكَةِ فِي نَحْوِ: جَعَلَ لَكَ. وَأَمَّا جَوَازُ حَذْفِ النون الأولى، فوجهه مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، بِكَسْرِ النُّونِ، وَأَنْشَدُوا: تَرَاهُ كَالثُّغَامِ يَعُلُّ مِسْكًا ... يسوء الفاليات إذا قليني يريد: قلينني. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلرَّسُولِ، أَوْ لِلسَّامِعِ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ مَصْحُوبًا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَالْوَاوُ ضَمِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ، إِذْ قَالُوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ. وَالْمُحَاجَّةُ هُنَا: الْمُجَادَلَةُ. وَالْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي شَأْنِ اللَّهِ وَاصْطِفَائِهِ النَّبِيَّ مِنَ الْعَرَبِ دُونَكُمْ، وَتَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ لَأَنْزَلَ عَلَيْنَا، وَتَرَوْنَكُمْ أَحَقَّ بِالنَّبُوَّةِ مِنَّا؟ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، يَعْنِي أَنَّهُ مَالِكُهُمْ كُلِّهِمْ، فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَلَهُ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَعَ اعْتِرَافِنَا كُلِّنَا أَنَّا مَرْبُوبُونَ لرب

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 5. (2) سورة الذاريات: 51/ 56.

وَاحِدٍ، فَلَا يُنَاسِبُ الْجِدَالُ فِيمَا شَاءَ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَمَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ مَرْبُوبَاتِهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالزُّلْفَى، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي كُلِّهِمْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَقُولُونَ إِنَّ دِينَكُمْ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، وَكِتَابَكُمْ أَفْضَلُ الْكُتُبِ؟ وَالظَّاهِرُ إِنْكَارُ الْمُجَادَلَةِ فِي اللَّهِ، حَيْثُ زَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، وَحَيْثُ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَحَيْثُ زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ وَلَدٌ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، إِلَى مَا يَدَّعُونَهُ فِيهِ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَيْفَ يَدْعُونَ ذَلِكَ، وَالرَّبُّ وَاحِدٌ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِقَادُ فِيهِ وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ تَثْبُتَ صِفَاتُهُ الْعُلَا، وَيُنَزَّهُ عَنِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ. وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، الْمَعْنَى: وَلَنَا جَزَاءُ أَعْمَالِنَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شرا فَشَرٌّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ، فَلَا تَنْبَغِي الْمُجَادَلَةُ فِيهِ وَلَا الْمُنَازَعَةُ. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ: وَلَمَّا بَيَّنَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْجَزَاءِ، ذَكَرَ مَا يُمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ، وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّصَارَى وَفِي الْيَهُودِ، لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ، فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّا لَمْ نَشُبْ عَقَائِدَنَا وَأَفْعَالَنَا بِشَيْءٍ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا ادَّعَتِ الْيَهُودُ فِي الْعِجْلِ، وَالنَّصَارَى فِي عِيسَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُخْتَصِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُشْتَرِكِ نَفْيٌ لِذَلِكَ الْمُخْتَصِّ عَمَّنْ شَارَكَ فِي الْمُشْتَرَكِ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَعْنًى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَدْحًا لِفَاعِلِهِ وَذَمًّا لِتَارِكِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ وَهِيَ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ، كَانَ حَقِيقًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَهْلُ الْكَرَامَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ أَقْوَالُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي فِي الْإِخْلَاصِ. فَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِخْلَاصِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ عَنِ الْإِخْلَاصِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِخْلَاصُ: أَنْ لَا يُشْرِكَ فِي دِينِهِ، وَلَا يُرَائِي فِي عَمَلِهِ أَحَدًا. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابن معاذ: تمييزا لعمل مِنَ الذُّنُوبِ، كَتَمْيِيزِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. وَقَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: هُوَ مَعْنًى لَا يَكْتُبُهُ الْمَلَكَانِ، وَلَا يُفْسِدُهُ الشَّيْطَانُ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، أَيْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ.

وَقَالَ رُوَيْمٌ: هُوَ ارْتِفَاعُ عَمَلِكَ عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ الْمُرْعَشِيُّ: أَنْ تَسْتَوِيَ أَفْعَالُ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْمَكْفُوفُ: أَنْ يَكْتُمَ الْعَبْدُ حَسَنَاتِهِ، كَمَا يَكْتُمُ سَيِّئَاتِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ: هُوَ الْإِفْلَاسُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى احْتِقَارِ الْعَمَلِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: لِلْمُرَائِي ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: يَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ، وَيَزِيدُ فِي الْعَمَلِ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالنَّصِيحَةِ فِي الدِّينِ، لِيُنَبَّهُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُجَادَلَةَ مِنْكُمْ لَيْسَتْ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الصِّحَّةِ، وَلَا هِيَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. وَلَيْسَ مَقْصُودُنَا بِهَذَا التَّنْبِيهِ دَفْعَ ضَرَرٍ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُنَا نُصْحُكُمْ وَإِرْشَادُكُمْ إِلَى تَخْلِيصِ اعْتِقَادِكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَنْ تُخْلِصُوا كَمَا أَخْلَصْنَا، فَنَكُونَ سَوَاءً فِي ذَلِكَ. أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: أَمْ تَقُولُونَ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّاءِ، فيحتمل أَمْ فِيهِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِيهِ أَمْ مُتَّصِلَةً، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ وُقُوعِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْمُحَاجَّةُ فِي اللَّهِ، وَالِادِّعَاءُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا وَنَصَارَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَمْ فِيهِ مُنْقَطِعَةً، فَتُقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، التَّقْدِيرُ: بَلْ أَتَقُولُونَ، فَأَضْرَبَ عَنِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اللَّاحِقَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَيْضًا، أَيْ أَنَّ نِسْبَةَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، بِشَهَادَةِ الْقَوْلِ الصِّدْقِ الَّذِي أَتَى بِهِ الصَّادِقُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا «1» ، وَبِشَهَادَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ، وَبِشَهَادَةِ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ لِمَنِ اقْتَفَى طَرِيقَةَ عِيسَى، وَبِأَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلٌ بِلَا بُرْهَانٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْيَاءِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَمْ فِيهَا مُنْقَطِعَةٌ. وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَتَقُومُ أَمْ يَقُومُ عَمْرٌو؟ فَالْمَعْنَى: أَيَكُونُ هَذَا أَمْ هَذَا؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْمِثَالُ يَعْنِي: أَتَقُومُ أَمْ يَقُومُ عَمْرٌو؟ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأَنَّ الْقَائِلَ فِيهِ وَاحِدٌ، وَالْمُخَاطَبَ وَاحِدٌ، وَالْقَوْلَ فِي الْآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ، وَالْمُخَاطَبَ اثنان غير أن، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مُعَادَلَةُ أَمْ لِلْأَلِفِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَعْنَوِيِّ، كَانَ مَعْنَى قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا، أَيُحَاجُّونَ يَا مُحَمَّدُ، أَمْ يقولون؟ انتهى. ومعنى بقوله: لِأَنَّ الْقَائِلَ فِيهِ وَاحِدٌ، يَعْنِي فِي الْمِثَالِ الَّذِي هُوَ: أَيَقُومُ أَمْ يَقُومُ عمرو؟ فالناطق بهاتين

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 67.

الْجُمْلَتَيْنِ هُوَ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ وَالْمُخَاطَبُ وَاحِدٌ، يَعْنِي الَّذِي خُوطِبَ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَالْمُعَادَلَةُ وَقَعَتْ بَيْنَ قِيَامِ الْمُوَاجَهِ بِالْخِطَابِ وَبَيْنَ قِيَامِ عَمْرٍو وَقَوْلُهُ. وَالْقَوْلُ فِي الْآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ، يَعْنِي أَنَّ أَتُحَاجُّونَنَا مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ، إِذْ أُمِرَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بذلك، وأ تقولون بِالتَّاءِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ وَالْمُخَاطَبُ اثْنَانِ غير أن، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ أَتُحَاجُّونَنَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ لِلرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، لَا تَكُونُ إِلَّا مُنْقَطِعَةً. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ الِاتِّصَالُ فِيهَا مَعَ قِرَاءَةِ التَّاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ صَارَ فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَالضَّمِيرُ لِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ أَمْ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا مُنْقَطِعَةً، وَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُحَاجَّتَهُمْ فِي اللَّهِ وَنِسْبَةَ أَنْبِيَائِهِ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ «1» الْآيَاتِ. وَإِذَا جَعَلْنَاهَا مُتَّصِلَةً، كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَضَمِّنٍ وُقُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ، بَلْ إِحْدَاهُمَا، وَصَارَ السُّؤَالُ عَنْ تَعْيِينِ إِحْدَاهُمَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، إِذْ وَقَعَا مَعًا. وَالْقَوْلُ في أو في قول: هُوداً أَوْ نَصارى، قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. وَقَوْلُهُ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى، وأنها للتفصيل، أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: هُمْ يَهُودُ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: هُمْ نَصَارَى. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ: الْقَوْلُ فِي القراءات فِي أَأَنْتُمْ، كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «2» ، وَقَدْ تَوَسَّطَ هُنَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ تَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ، إِذْ يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَقُولَ: أَأَعْلَمُ أَنْتُمْ أَمِ اللَّهُ؟ وَيَجُوزُ: أَأَنْتُمْ أَمِ اللَّهُ أَعْلَمُ؟ وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ اللَّهِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى يَسْأَلَ: أَهُمْ أَزْيَدُ عِلْمًا أَمِ اللَّهُ؟ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرٍ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ عِلْمٌ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ حَسَّانَ: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ، هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ الَّذِي هُوَ شَرُّ كُلُّهِ، هُوَ هَاجِيهِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «3» ، وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ إِنَّمَا حَدَثَتَا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُمَيَّزِينَ عَنِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 65. (2) سورة البقرة: 2/ 6. (3) سورة آل عمران: 3/ 67.

الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَخَرَجَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَخْرَجَ مَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ، لِأَنَّ أَتْبَاعَ أَحْبَارِهِمْ رُبَّمَا تَوَهَّمُوا، أَوْ ظَنُّوا، أَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى لِسَمَاعِهِمْ ذَلِكَ منهم، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لِأَنَّ أَحْبَارَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَقَالَتِهِمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، لَكِنَّهُمْ كَتَمُوا ذَلِكَ وَنَحَلُوهُمْ إِلَى مَا ذَكَرُوا، فَنَزَلُوا لِكَتْمِهِمْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي الشَّيْءِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ، لِأَنَّ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا الْكَلَامِ بَادَرَ إِلَى أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقْطَعَ لِلنِّزَاعِ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ كَانُوا مُبَايِنِينَ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ كَتَمُوا ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ، فَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الْجَائِي بَعْدَ مَنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ «1» ، وَالْمَنْفِيُّ عَنْهُمُ التَّفْضِيلُ فِي الْكَتْمِ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ تَابَعُوا الْيَهُودَ عَلَى الْكَتْمِ. وَالشَّهَادَةُ هِيَ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مَعْصُومُونَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ الْبَاطِلَتَيْنِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، أَوْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ، وَالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ أَوِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ. مِنَ اللَّهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَةً بِلَفْظِ كَتَمَ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ كَتَمَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ شَهَادَةً عِنْدَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى مَنْعِ أَنْ يَصِلَ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَأَنْ يُؤَدُّوا إِلَيْهِمْ شَهَادَةَ الْحَقِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ، إِذِ الظَّرْفُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: شَهَادَةٌ كَائِنَةٌ عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَشْهَدَهُ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، وَحَصَلَتْ عِنْدَهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَاسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «2» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ: فَمِنْ عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعِنْدَهُ، وَالتَّحْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الظَّرْفِ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَنِسْبَةُ التَّعَلُّقِ إِلَى الظَّرْفِ مَجَازٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ كَتَمَ شَهَادَةَ اللَّهِ الَّتِي عِنْدَهُ أَنَّهُ شَهِدَ بِهَا، وَهِيَ شَهَادَتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: شَهَادَةً مِنَ اللَّهِ، مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنِّي لِفُلَانٍ، إِذَا شَهِدْتَ لَهُ، وَمِثْلُهُ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «3» . انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ: أَنَّ مِنَ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَهَادَةٍ، أَيْ كَائِنَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ وَجْهٌ ثَالِثٌ في العامل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 114. (2) سورة آل عمران: 3/ 187. (3) سورة التوبة: 9/ 1.

فِي مِنْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ: أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْوَجْهِ قَبْلَهُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَاحِدٌ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ اثْنَانِ، وَكَانَ جَعْلُ مِنْ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَهَادَةٍ، أَحْسَنَ مِنْ تَعَلُّقِ مِنْ بِكَتَمَ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ قَدِ اسْتَوْدَعَهَا اللَّهُ إِيَّاهُ فَكَتَمَهَا. وَعَلَى التَّعَلُّقِ بِكَتَمَ، تَكُونُ الْأَظْلَمِيَّةُ حَاصِلَةً لِمَنْ كَتَمَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ شَهَادَةً مُطْلَقَةً وَأَخْفَاهَا عَنْهُمْ، وَلَا يَصِحُّ إِذْ ذَاكَ الْأَظْلَمِيَّةُ، لِأَنَّ فَوْقَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا تَكُونُ الْأَظْلَمِيَّةُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَهُوَ كَتْمُ شَهَادَةٍ اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ مِنْ بِكَتَمَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ كَتَمْنَا هَذِهِ الشَّهَادَةَ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَظْلَمَ مِنَّا، فَلَا نَكْتُمُهَا، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكِتْمَانِهِمْ شَهَادَةَ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ فِي كُتُبِهِمْ وَسَائِرِ شَهَادَاتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَقَدَّمَهَا الْإِنْكَارُ، لِمَا نَسَبُوهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. فَالَّذِي يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَأَتْبَاعِهِ، لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، وَعَالِمُونَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْيَقِينِ، فَلَا يُفْرَضُ فِي حَقِّهِمْ كِتْمَانُ ذَلِكَ. وَذُكِرَ فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً حَصَلَتْ لَهُ؟ كَقَوْلِكَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْ زَيْدٍ؟ مِنْ جُمْلَةِ الْكَاتِمِينَ لِلشَّهَادَةِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ يَهُودًا وَنَصَارَى. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَتَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ يَكْتُمُ الشَّهَادَةَ أَظْلَمَ مِنْهُ، لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ مَعَ عَدْلِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْكَذِبِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ، فَزَعَمَ قَائِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ عِنْدَنَا إِلَّا فِي الضَّرَائِرِ. وَأَيْضًا، فَيَبْقَى قَوْلُهُ: مِمَّنْ كَتَمَ، مُتَعَلِّقٌ: إِمَّا بِأَظْلَمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ بَدَلَ عَامٍّ مِنْ خَاصٍّ، وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ بِثَابِتٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ زَعَمَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ مَا أَدَّى ظَاهِرُهُ إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، وَجَعَلُوهُ مِنْ وَضْعِ الْعَامِّ مَوْضِعَ الْخَاصِّ، لِنَدُورِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَائِنًا مِنَ الْكَاتِمِينَ الشَّهَادَةَ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْأَظْلَمِيَّةِ لِمَنْ جَرَّ بِمِنْ يَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَيْ إِنْ كَتَمَهَا، فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنًى لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُنَزَّهُ كِتَابُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ.

وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تفسير هذه الجملة عند قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَفَتَطْمَعُونَ «1» وَلَا يَأْتِي إِلَّا عَقِبَ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، فَتَجِيءُ مُتَضَمِّنَةً وَعِيدًا، وَمُعَلِّمَةً أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ أَمْرَهُمْ سُدًى، بَلْ هُوَ مُحَصِّلٌ لِأَعْمَالِهِمْ، مُجَازٍ عَلَيْهَا. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الكلام على شرح هذه الْجُمَلِ، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَكْرَارٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ إِثْرَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِمَا وَرَدَتِ الْجُمَلُ الْأَوْلَى بِإِثْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ السِّيَاقُ، فَلَا تَكْرَارَ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُولَى وَرَدَتْ إِثْرَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ وَرَدَتْ عَقِبَ أَسْلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ وَالسِّيَاقُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى فَضْلِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ، يُجَازَوْنَ بِمَا كَسَبُوا، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَاسْتُبْعِدَ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ مُصَرِّحٌ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ، فَالتَّكْرَارُ حَسَنٌ لِاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ وَالسِّيَاقِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ وَصِيَّةً يُوصُونَ بِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمِلَّتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ بَنِيهِ، وَأَنَّ يَعْقُوبَ أَوْصَى بِذَلِكَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ وَصِيَّتِهِ اخْتِيَارَ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ، لِيُسَهِّلَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُمْ، وَيَحُضَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُؤَالَ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ عَمَّا يَعْبُدُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأَجَابُوهُ بِمَا قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ وَمُوَافَقَةِ آبَائِهِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِهِ. وَحِكْمَةُ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ لَمَّا وَصَّاهُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ، اسْتَفْسَرَهُمْ عَمَّا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ، وَهَلْ يَقْبَلُونَ الْوَصِيَّةَ؟ فَأَجَابُوهُ بِقَبُولِهَا وَبِمُوَافَقَةِ مَا أَحَبَّهُ مِنْهُمْ، لِيَسْكُنَ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ خَلَّفَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَصَدَرَ سُؤَالُ يَعْقُوبَ بِتَقْرِيعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا شَهِدُوا وَصِيَّةَ يَعْقُوبَ، إِذْ فَاجَأَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ، فَدَعْوَاهُمُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِمْ بَاطِلَةٌ، إِذْ لَمْ يَحْضُرُوا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ تُنْبِئْهُمْ بِذَلِكَ تَوْرَاتُهُمْ وَلَا إِنْجِيلُهُمْ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ، إِذْ لَمْ يَتَحَصَّلْ لَا عَنْ عِيَانٍ وَلَا عَنْ نَقْلٍ، وَلَا ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يستدل عليها بالعقل.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 74- 75.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ قَدْ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا، وَأَنَّهَا رَهِينَةٌ بِمَا كَسَبَتْ، كَمَا أَنَّكُمْ مَرْهُونُونَ بِأَعْمَالِكُمْ، وَأَنَّكُمْ لَا تُسْأَلُونَ عَنْهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا هم عليه من دَعْوَى الْبَاطِلِ. وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْهِدَايَةَ فِي اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَخَذَ فِي اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ الْمُبَايَنَةِ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُفْصِحُوا بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ هُوَ الدِّينُ الْحَنِيفُ، وَأَنَّهُمْ مُنْقَادُونَ لِلَّهِ اعْتِقَادًا وَأَفْعَالًا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، إِنْ وافقوكم عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْهِدَايَةُ لَهُمْ، وَرَتَّبَ الْهِدَايَةَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى فَسَادِ تَرْتِيبِ الْهِدَايَةِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا فَهُمُ الْأَعْدَاءُ الْمُشَاقُّونَ لَكَ، وَأَنَّكَ لَا تُبَالِي بِشِقَاقِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ كَافِيكَ أَمْرَهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ كَافِيَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ، فَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِهِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ صِبْغَةَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ هِيَ صِبْغَةُ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَتْ صِبْغَةُ اللَّهِ، فَلَا صِبْغَةَ أَحْسَنُ مِنْهَا، وَأَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الصِّبْغَةِ هُوَ ظُهُورُهَا عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، تَعَالَى، فَقَالَ: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَهُمْ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ فِي اللَّهِ وَلَا يَحْسُنُ النِّزَاعُ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّنَا كُلِّنَا، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ أَنَّهُ لَا يُجَادِلُ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَبُّ الْجَمِيعِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُجَازِي الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ لَهُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى غَيْرُ مُخْلِصِينَ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَهُمْ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، عَنْ مَقَالَتِهِمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا وَنَصَارَى، وَأَنَّ دَأْبَهُمُ الْمُجَادَلَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَتَارَةً فِي اللَّهِ وَتَارَةً فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِمْ بَلِ اللَّهُ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ لَمْ تَكُنْ عَنْ دَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ، بَلْ مُجَرَّدِ عِنَادٍ، وَأَنَّهُمْ كَاتِمُونَ لِلْحَقِّ، دَافِعُونَ لَهُ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ كَاتِمِ شَهَادَةٍ اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ فِي الْمُجَادَلَةِ فِي اللَّهِ، وَفِي نِسْبَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، إِذْ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَمَّا يَعْمَلُونَ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ مُنْفَرِدَةً بِعَمَلِهَا، كَمَا أَنْتُمْ كَذَلِكَ، وأنكم غير مسؤولين عَمَّا عَمِلُوهُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ مِنَ ابْتِدَاءِ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى انْتِهَاءِ الْكَلَامِ فِيهِ، عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهِ وَتَعَدُّدِ مَبَانِيهِ، كَأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فِي حُسْنِ مَسَاقِهَا وَنَظْمِ اتِّسَاقِهَا،

مُرْتَقِيَةً فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى ذِرْوَةِ الْإِحْسَانِ، مُفْصِحَةً أَنَّ بَلَاغَتَهَا خَارِجَةٌ عَنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ، مُذَكِّرَةً قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ «1» . جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ هُدِيَ إِلَى عَمَلٍ بِهِ وَفَهْمٍ، وَوَفَّى مِنْ تَدَبُّرِهِ أَوْفَرَ سَهْمٍ، وَوُقِيَ فِي تَفَكُّرِهِ مِنْ خطأ ووهم. بعونه تعالى تم الجزء الأول من البحر المحيط بإخراجه الجديد ويليه الجزء الثاني مبتدئا بأول الجزء الثاني من القرآن الكريم بقوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ... الآية 143 وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 88.

[سورة البقرة (2) : الآيات 142 إلى 157]

[الجزء الثاني] [تتمة سورة البقرة] [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 157] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

الْقِبْلَةُ: الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُهَا الْإِنْسَانُ، وَهِيَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَقُولُونَ فِي كَلَامِهِمْ لَيْسَ لَهُ قِبْلَةٌ، أَيْ جِهَةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا تَقَابَلَ رَجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبْلَةُ الْآخَرِ. وَجَاءَتِ الْقِبْلَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْجِهَةُ، عَلَى وَزْنِ الْهَيْئَاتِ، كَالْقِعْدَةِ وَالْجِلْسَةِ. الْوَسَطُ: اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وُصِفَ بِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْخِيَارِ مِنَ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ، وَلِكَوْنِهِ اسْمًا كَانَ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعَ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ حَبِيبٌ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطُ الْمَحْمِيُّ، فَاكْتَنَفَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفًا. وَوَسَطُ الْوَادِي: خَيْرُ مَوْضِعٍ فِيهِ، وَأَكْثَرُهُ كَلَأً وَمَاءً. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُ لَوَاسِطَةُ قَوْمِهِ، وَوَسَطُ قَوْمِهِ: أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ، وَأَهْلِ الْحَسَبِ فِيهِمْ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَهُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ وَقَدْ وَسَطَ سِطَةً وَوَسَاطَةً، وَقَالَ: ... وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطًا وَأَمَّا وَسْطُ، بِسُكُونِ السِّينِ، فَهُوَ طَرَفُ الْمَكَانِ، وَلَهُ أَحْكَامٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. أَضَاعَ

الرَّجُلُ الشَّيْءَ: أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَحْفَظْهُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ مِنْ ضَاعَ يَضِيعُ ضَيَاعًا، وَضَاعَ الْمِسْكُ يَضُوعُ: فَاحَ. الِانْقِلَابُ: الِانْصِرَافُ وَالِارْتِجَاعُ، وَهُوَ لِلْمُطَاوَعَةِ، قَلَبْتُهُ فَانْقَلَبَ. عَقِبُ الرَّجُلِ: مَعْرُوفٌ، وَالْعَقِبُ: النَّسْلُ، وَيُقَالُ: عَقِبٌ، بِسُكُونِ الْقَافِ. الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ: مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ جَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى فَعُولٍ، كَضَرُوبٍ، وَجَاءَ عَلَى فَعِلٍ، كَحَذِرٍ، وَجَاءَ عَلَى فَعْلٍ، كَنَدْسٍ، وَجَاءَ عَلَى فَعْلٍ، كَصَعْبٍ. التَّقَلُّبُ: التَّرَدُّدُ، وَهُوَ لِلْمُطَاوَعَةِ، قَلَبْتُهُ فَتَقَلَّبَ. الشَّطْرُ: النِّصْفُ، وَالْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْجِهَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولًا ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو أَيْ نَحْوَهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمِي ... صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ وَقَالَ: وَقَدْ أَظَلَّكُمْ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ... هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمُ قِطَعًا وَقَالَ ابْنُ أَحْمَرَ: تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهِيَ عَاقِدَةٌ ... قَدْ كَارَبَ الْعَقْدُ مِنْ إِيقَادِهِ الْحُقْبَا وَقَالَ آخَرُ: وَأَظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ أَيْ نَحْوَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ الْعَشِيرَ بِهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا ... وَشَطْرُهَا نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْجُورُ وَيُقَالُ: شَطَرَ عَنْهُ: بَعُدَ، وَشَطَرَ إِلَيْهِ: أَقْبَلَ، وَالشَّاطِرُ مِنَ الشَّبَابِ: الْبَعِيدُ مِنَ الْجِيرَانِ، الْغَائِبُ عَنْ مَنْزِلِهِ. يُقَالُ: شَطَرَ شُطُورًا، وَالشَّطِيرُ: الْبَعِيدُ، مَنْزِلٌ شَطِيرٌ: أَيْ بَعِيدٌ. الْحَرَامُ وَالْحَرَمُ وَالْحُرُمُ: الْمُمْتَنِعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذلك في قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ «1» الِامْتِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرْيَةِ، وَهِيَ الشَّكُّ. امْتَرَى فِي الشَّيْءِ: شَكَّ فِيهِ، وَمِنْهُ الْمِرَاءُ. مَارَيْتُهُ أَيْ جَادَلْتُهُ وَشَاكَكْتُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ. وَافْتَعَلَ: بِمَعْنَى تَفَاعَلَ. تَقُولُ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 85. [.....]

تَمَارَيْنَا وَامْتَرَيْنَا فِيهِ، كَقَوْلِكَ: تَحَاوَرْنَا وَاحْتَوَرْنَا. وِجْهَةٌ، قَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْمَازِنِيُّ وَالْمُبَرِّدُ وَالْفَارِسِيُّ: إِنَّ وِجْهَةً اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ أَصْلًا، إِذْ هُوَ اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَوْ بَنَيْتَ فِعْلَةً مِنَ الْوَعْدِ لَقُلْتَ وِعْدَةً، وَلَوْ بَنَيْتَ مَصْدَرًا لَقُلْتَ عِدَةً. وَذَهَبَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْمَازِنِيُّ، فِيمَا نَقَلَ الْمَهْدَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. قَالَ، بَعْدَ مَا ذَكَرَ حَذْفَ الْوَاوِ مِنَ الْمَصَادِرِ، وقد أثبتوا فَقَالُوا: وِجْهَةً فِي الْجِهَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ شَاذًّا، مُنَبِّهَةً عَلَى الْأَصْلِ الْمَتْرُوكِ فِي الْمَصَادِرِ. وَالَّذِي سَوَّغَ عِنْدِي إِقْرَارَ الْوَاوِ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا، أَنَّهُ مَصْدَرٌ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى فِعْلِهِ، إِذْ لَا يُحْفَظُ وَجَهَ يَجِهُ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ جِهَةً. قَالُوا: وَعَدَ يَعِدُ عِدَّةً، إِذِ الْمُوجِبُ لِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ عِدَّةٍ هُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ حَذْفَهَا فِي الْمُضَارِعِ لِعِلَّةٍ مَفْقُودَةٍ فِي الْمَصْدَرِ. وَلَمَّا فُقِدَ يَجِهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ، لَمْ يُحْذَفْ مِنْ وِجْهَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَصْدَرًا لِيَجِهَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ: تَوَجَّهَ وَاتَّجَهَ. فَالْمَصْدَرُ الْجَارِي هُوَ التَّوَجُّهُ وَالِاتِّجَاهُ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ هُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. الِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ، وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ أَوَّلًا، وَيَكُونُ افْتَعَلَ مِنْهُ، إِمَّا لِمُوَافَقَةِ الْمُجَرَّدِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى سَبَقَ وَاحِدًا، أَوْ لِمُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ، فَيَكُونُ اسْتَبَقَ وَتَسَابَقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. الْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى فِعْلَةٍ، أَوْ بِنَاءً عَلَى فَيْعِلَةٍ، فَحُذِفَ مِنْهُ، كَالْمَيِّتَةِ وَاللَّيِّنَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْحَذْفِ، قَالُوا: رَجُلٌ خَيِّرٌ، وَامْرَأَةٌ خَيِّرَةٌ، كَمَا قَالُوا: رَجُلٌ شَرٌّ، وَامْرَأَةٌ شَرَّةٌ، وَلَا يَكُونَانِ إِذْ ذَاكَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ. الْجُوعُ: الْقَحْطُ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ إِلَى الْأَكْلِ فَإِنَّمَا اسْمُهَا: الْغَرَثُ. يُقَالُ: غَرِثَ يَغْرَثُ غَرْثًا، فَهُوَ غَرِثٌ وَغَرْثَانُ، قَالَ: مُغَرَّثَةً زُرْقًا كَأَنَّ عُيُونَهَا ... مِنَ الذَّمْرِ وَالْإِيحَاءِ نُوَارُ عَضْرَسِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْمُحَدِّثُونَ فِي الْغَرْثِ: الْجُوعَ اتِّسَاعًا. سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الْآيَةَ. فَقَالَ

السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْيَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، كَانُوا يَهُودًا وَنَصَارَى. ذَكَرُوا ذَلِكَ طَعْنًا فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّسْخَ عِنْدَ الْيَهُودِ بَاطِلٌ، فَقَالُوا: الِانْتِقَالُ عَنْ قِبْلَتِنَا بَاطِلٌ وَسَفَهٌ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْآيَةَ، فَبَيَّنَ مَا كَانَ هِدَايَةً، وَمَا كَانَ سَفَهًا. وَسَيَقُولُ، ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يَصْدُرُ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةً فِي النُّزُولِ عَلَى الْآيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْأَمْرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، إِذْ هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ. وَلِتَتَوَطَّنَ النَّفْسُ عَلَى مَا يَرِدُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَتَسْتَعِدَّ لَهُ، فَيَكُونُ أَقَلَّ تَأْثِيرًا مِنْهُ إِذَا فَاجَأَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عِلْمٌ، وَلِيَكُونَ الْجَوَابُ مُسْتَعِدًّا لِمُنْكِرِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، وَأَنَّهُ نَزَلَ قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَيُصَحِّحُهُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمُ، الَّذِي خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: سَيَقُولُ، أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ على هذا القول، وإن كَانُوا قَدْ قَالُوهُ، فَحِكْمَةُ الِاسْتِقْبَالِ أَنَّهُمْ، كَمَا صَدَرَ عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي، فَهُمْ أَيْضًا يَقُولُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَنْ وَضَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْضِعَ الْمَاضِي. وَإِنَّ مَعْنَى سَيَقُولُ: قَالَ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مَعَ السِّينِ لِبُعْدِ الْمَجَازِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ عَارِيًا مِنَ السِّينِ، لَقَرُبَ ذَلِكَ وَكَانَ يَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ. وَالسُّفَهَاءُ: الْيَهُودُ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَأَهْلُ مَكَّةَ قَالُوا: اشْتَاقَ مُحَمَّدُ إِلَى مَوْلِدِهِ، وَعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إِلَى دِينِكُمْ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. أَوِ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا: ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِالْمُسْلِمِينَ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ جَرَى تَسْمِيَةُ الْمُنَافِقِينَ بِالسُّفَهَاءِ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ «1» ، أَوِ الطَّوَائِفُ الثَّلَاثُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: وَخَصَّ بِقَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ السَّفَهَ أَصْلُهُ الْخِفَّةُ، يُوصَفُ بِهِ الْجَمَادُ. قَالُوا: ثَوْبٌ سَفِيهٌ، أَيْ خَفِيفُ النَّسْجِ وَالْهَلْهَلَةِ، وَرُمْحٌ سَفِيهٌ: أَيْ خَفِيفٌ سَرِيعُ النُّفُوذِ. وَيُوصَفُ بِهِ الْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ النَّاسِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ، لَاحْتَمَلَ النَّاسَ وَغَيْرَهُمْ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يُنْسَبُ إِلَى النَّاسِ حَقِيقَةً، وإلى غيرهم مجازا،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 13.

فَارْتَفَعَ الْمَجَازُ بِقَوْلِهِ: مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ، أَيْ مَا صَرَفَهُمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ قِبْلَتِهِمْ. أَضَافَ الْقِبْلَةَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَقْبَلُوهَا زَمَنًا طَوِيلًا، فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ. وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ. هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، بَلْ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ، الَّتِي عِيبَ التَّحَوُّلُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا هِيَ الْكَعْبَةُ، وَأَنَّهُ كَانَ يصلي إليها عند ما فُرِضَتِ الصَّلَاةُ، لِأَنَّهَا قِبْلَةُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ، زَارِينَ عَلَيْهِ وَعَائِبِينَ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، هَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا. وَالِاسْتِعْلَاءُ هنا مجاز، وحكمته الهم لِمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ. صَارَتِ الْقِبْلَةُ لَهُمْ كَالشَّيْءِ الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، الْمُلَازَمِ دَائِمًا. وَفِي وَصْفِ الْقِبْلَةِ بِقَوْلِهِ: الَّتِي كانُوا عَلَيْها، مَا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ اسْتِقْبَالِهَا، وَدَيْمُومَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قِبْلَتِهِمْ وكانوا، ضَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى السُّفَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا قِبْلَةَ الْيَهُودِ، وَهِيَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَقِبْلَةَ النَّصَارَى، وَهِيَ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَالْعَرَبُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ صَلَاةٌ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالُوا: كَيْفَ يَتَوَجَّهُ إلى غير هاتين الجهتين الْمَعْرُوفَتَيْنِ؟ وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَكَانَ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ؟ أَوْ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ غَيْرِ مَتْلُوٍّ؟ أَوْ بِتَخْيِيرِ اللَّهِ رَسُولِهِ فِي النَّوَاحِي؟ فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ أَوْ بِاجْتِهَادِهِ بِغَيْرِ وَحْيٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ: وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي صَلَّى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَقِيلَ: تِسْعَةٌ، أَوْ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَقِيلَ: مِنْ وَقْتِ فُرِضَ الْخَمْسُ وَائْتِمَامِهِ بِجِبْرِيلَ، إِثْرَ الْإِسْرَاءِ، وَكَانَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، ثُمَّ هَاجَرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَتَمَادَى يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِلَى رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ. وَقِيلَ: إِلَى جُمَادَى. وَقِيلَ: إِلَى نِصْفِ شَعْبَانَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتِي الظُّهْرِ، فَانْصَرَفَ بَالْآخْرَتَيْنِ إِلَى الْكَعْبَةِ ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السنة بالقرآن، إِذْ صَلَاتُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْسَ فِيهَا قُرْآنٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهَا أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ النَّسْخَ بَدَاءٌ. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ: الْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُبْطِلُ

مَقَالَتَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ إِنْكَارَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، يُكَلِّفُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مِنْهَا، وَأَنْ تُجْعَلَ قِبْلَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ هُنَا. وقد شرح المشرق بيت الْمَقْدِسِ، وَالْمَغْرِبَ بِالْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ غَرْبِيُّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ بِالضَّرُورَةِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ شَرْقِيَّهَا. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: أَيْ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ: وَتَقَدَّمَ أَنَّ هُدًى يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَبِإِلَى وَبِنَفْسِهِ، وَهُنَا عُدِّيَ بِإِلَى. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ فِيهَا، فَقِيلَ: الصُّبْحُ، وَقِيلَ: الظُّهْرُ، وَقِيلَ: الْعَصْرُ. وَكَذَلِكَ أَكْثَرُوا الْكَلَامَ فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ، بِأَشْيَاءَ لَا يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهَا دَلِيلٌ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعِلَلٍ لَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا الشَّرْعُ، وَلَا قَادَ نَحْوَهَا الْعَقْلُ، فَتَرَكْنَا نَقْلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، عَلَى عَادَتِنَا فِي ذَلِكَ. وَمَنْ طَلَبَ لِلْوَضْعِيَّاتِ تَعَالِيلَ، فَأَحْرَى بِأَنْ يَقِلَّ صَوَابُهُ وَيَكْثُرَ خَطَؤُهُ. وَأَمَّا مَا نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى حِكْمَتِهِ، أَوْ أَشَارَ، أَوْ قَادَ إِلَيْهِ النَّظَرُ الصَّحِيحُ، فَهُوَ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَا اسْتِفَادَةَ إِلَّا مِنْهُ. وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بِأَنَّهُ الْقِبْلَةُ الَّتِي هِيَ الْكَعْبَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعُهُ، فَالْكَعْبَةُ مِنْ بَعْضِ مَشْرُوعَاتِهِ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً: الْكَافُ: لِلتَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا لِكَوْنِهِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ حَالًا. وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا جَعْلًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ لَيْسَ إِلَى مَلْفُوظٍ بِهِ مُتَقَدِّمٍ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ اسْمٌ يُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، لَكِنْ تَقَدَّمَ لَفْظُ يَهْدِي، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْهُدَى، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: يَجْعَلُهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» . قَابَلَ تَعَالَى الضَّلَالَ بِالْجَعْلِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، إِذْ ذَلِكَ الْجَعْلُ هُوَ الْهِدَايَةُ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْهَدْيِ هُنَا هُوَ ذَلِكَ الْجَعْلُ. وَتَبَيَّنَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ إِلَى آخِرِهِ، أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ قِبْلَتَهُمْ خَيْرًا مِنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ وَسَطًا. فَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ اخْتَلَفَتِ الْأَقَاوِيلُ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ شَبَّهَ جَعْلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا بِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِجَعْلِكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، مِثْلَ مَا سَبَقَ إِنْعَامُنَا عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يَهْدِي، أي جعلناكم أمة

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 6. (2) سورة الأنعام: 6/ 39.

خِيَارًا مِثْلَ مَا هَدَيْنَاكُمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ شَبَّهَ جَعْلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا بِجَعْلِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْغَرِيبِ الَّذِي فِيهِ اخْتِصَاصُكُمْ بِالْهِدَايَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، فَلَا تَقَعُ الْهِدَايَةُ إِلَّا لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُمْ خَيْرَ الْقِبَلِ، جَعَلْنَاكُمْ خَيْرَ الْأُمَمِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُمْ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا الْكَعْبَةَ وَسَطَ الْأَرْضِ، كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَوْقَ الْأُمَمِ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا «1» أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِاصْطِفَاءِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. وَمَعْنَى وَسَطًا: عُدُولًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِهِ عِبَارَةُ الْمُفَسِّرِينَ. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ الْمَصِيرُ فِي تَفْسِيرِ الوسط إليه. وقيل: خيار، أَوْ قِيلَ: مُتَوَسِّطِينَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفْرِطِ وَالْمُقَصِّرِ، لَمْ يَتَّخِذُوا وَاحِدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَهًا، كَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى، وَلَا قَتَلُوهُ، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ. وَاحْتَجَّ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَالُوا: أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ عَدَالَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَنْ خِيرَتِهِمْ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَى شَيْءٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً. لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ: تَقَدَّمَ شَرْحُ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ «2» ، وَفِي شَهَادَتِهِمْ هُنَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ شَهَادَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ نَصًّا فِي الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: وَقَدْ طَعَنَ الْقَاضِي فِي الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا ضَعِيفَةً، وَأَظُنُّهُ عَنَى بِالْقَاضِي هُنَا الْقَاضِي عَبْدَ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيَّ، لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ لَا يُنَاسِبُ مَذَاهِبَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا. واختلف قائلو ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا مَاتَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، وَبِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ الرَّسُولُ: «وَجَبَتْ» ، يَعْنِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ الِاحْتِجَاجُ، أَيْ لِتَكُونُوا مُحْتَجِّينَ عَلَى النَّاسِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِتَنْقُلُوا إِلَيْهِمْ مَا عَلِمْتُمُوهُ مِنَ الْوَحْيِ وَالدِّينِ كَمَا نَقَلَهُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَكُونُ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ، كَقَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «3» ، أَيْ لِلنُّصُبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَكُونَ إجماعكم حجة،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 130. (2) سورة البقرة: 2/ 23. (3) سورة المائدة: 5/ 3.

وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، أَيْ مُحْتَجًّا بِالتَّبْلِيغِ. وَقِيلَ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأُمَمِ، الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فِيمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ الْأَخْيَارِ. وَأَسْبَابُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، أَيْ شَهَادَةِ هَذِهِ الْعُدُولِ أَرْبَعَةٌ: بِمُعَايَنَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَبِخَبَرِ الصَّادِقِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِالِاسْتِفَاضَةِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَنْسَابِ وَبِالدَّلَالَةِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْلَاكِ، وَكَتَعْدِيلِ الشَّاهِدِ وَجَرْحِهِ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْإِشْهَادُ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ بِإِثْبَاتِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَالْأَنْبِيَاءُ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ، وَالْجَوَارِحُ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ وَالْإِدْرَاكِ بِالْبَصِيرَةِ مُنَاسِبَةٌ شَدِيدَةٌ، سُمِّيَ إِدْرَاكُ الْبَصِيرَةِ: مُشَاهِدَةً وَشُهُودًا، وَسُمِّيَ الْعَارِفُ: شَاهِدًا وَمُشَاهِدًا، ثُمَّ سُمِّيَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الشَّيْءِ: شَهَادَةً عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بِهَا صَارَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا. وَقَدِ اخْتَصَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِمَنْ يُخْبِرُ عَنْ حُقُوقِ النَّاسِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى جِهَاتٍ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: أُمَّةً وَسَطاً، أَيْ عُدُولًا خِيَارًا. وَقَالَ بَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ: الْعَدَالَةُ وَصْفٌ عَارِضٌ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَقَدِ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلِمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَّاصِ. وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي شَهَادَتِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ. الثَّانِي: شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ. الثَّالِثُ: يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. الرَّابِعُ: تَزْكِيَتُهُ لَهُمْ وَتَعْدِيلُهُ إِيَّاهُمْ، قَالَهُ عَطَاءٌ، قَالَ: هَذِهِ الْأُمَّةُ شُهَدَاءُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَالرَّسُولُ شَهِيدٌ مُعَدِّلٌ مُزَكٍّ لَهُمْ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَكُونُوا هِيَ، لَامُ كَيْ، أَوْ لَامُ الصيرورة عن مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَمَجِيءُ مَا بَعْدَهَا سَبَبًا لِجَعْلِهِمْ خِيَارًا، أَوْ عُدُولًا ظَاهِرًا. وَأَمَّا كَوْنُ شَهَادَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ سَبَبًا لِجَعْلِهِمْ خِيَارًا، فَظَاهِرٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى التَّزْكِيَةِ، أَوْ بِأَيِّ مَعْنًى فُسِّرَتْ شَهَادَتُهُ، فَفِي ذَلِكَ الشَّرَفُ التَّامُّ لَهُمْ، حَيْثُ كَانَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ الشَّاهِدَ عليهم. وَلَمَّا كَانَ الشَّهِيدُ كَالرَّقِيبِ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، جِيءَ بِكَلِمَةٍ عَلَى، وَتَأَخَّرَ حَرْفُ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: عَلَى النَّاسِ، عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ. جَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ، إِذِ الْعَامِلُ أَصْلُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَعْمُولِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ شَهِيداً فَتَقَدَّمَهُ مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ لِلْفَصَاحَةِ، وَلِأَنَّ شَهِيدًا أَشْبَهُ

بِالْفَوَاصِلِ وَالْمَقَاطِعِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: شَهِيدًا، تَمَامَ الْجُمْلَةِ، وَمَقْطَعُهَا دُونَ عَلَيْكُمْ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ عَلَى أَوَّلًا، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ وَتَأْخِيرُ عَلَى: لِاخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِ الرَّسُولِ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ: أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَالْمَجْرُورِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا بِرِهَانٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ تَعْلِيلِ جَعْلِهِمْ وَسَطًا بِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ، وَتَأَخَّرَ التَّعْلِيلُ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَقَعُ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ، ثُمَّ يَشْهَدُ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا نُصَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُمْ إِذَا نَاكَرَتِ الْأُمَمُ رُسُلَهُمْ وَشَهِدَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، يُؤْتَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْأَلُ عَنْ حَالِ أُمَّتِهِ، فَيُزَكِّيهِمْ وَيَشْهَدُ بِصِدْقِهِمْ؟ وَإِنْ فُسِّرَتِ الشَّهَادَتَانِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الرَّسُولِ مُتَقَدِّمَةً فِي الزَّمَانِ، فَيَكُونُ التَّأْخِيرُ لِذِكْرِ شَهَادَةِ الرَّسُولِ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي، لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ أَشْرَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَى النَّاسِ. وَأَتَى بِلَفْظِ الرَّسُولِ، لِمَا فِي الدَّلَالَةِ بِلَفْظِ الرَّسُولِ عَلَى اتِّصَافِهِ بِالرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى أُمَّتِهِ. وَأَتَى بِجَمْعِ فُعَلَاءَ، الَّذِي هُوَ جَمْعُ فَعِيلٍ وَبِشَهِيدٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ قَوْلِهِ: شَاهِدِينَ، أَوْ إِشْهَادًا، أَوْ شَاهِدًا. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً عَلَى أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَقْتَضِي قَبُولَ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى شَهِيدًا: مُزَكِّيًا لَكُمْ، قَالُوا: وَعَلَيْكُمْ تَكُونُ بِمَعْنَى: لَكُمْ. وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ: جَعَلَ هُنَا: بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقِبْلَةُ، وَالْآخَرُ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها. وَالْمَعْنَى: وَمَا صَيَّرْنَا قِبْلَتَكَ الْآنَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ أَوَّلًا عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ، أَيْ مَا صَيَّرْنَا مُتَوَجَّهَكَ الْآنَ فِي الصَّلَاةِ الْمُتَوَجَّهِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَوَّلًا إِلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَارَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ. وَتَكُونُ الْقِبْلَةُ: هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، وَالَّتِي كُنْتَ عليها: هو المفعول الأول، إِذِ التَّصْيِيرُ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. فَالْمُتَلَبِّسُ بِالْحَالَةِ الْأَوْلَى هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَالْمُتَلَبِّسُ بِالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: جَعَلْتُ الطِّينَ خَزَفًا، وَجَعَلْتُ الْجَاهِلَ عَالِمًا؟ وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَمَا جَعَلْنَا الْكَعْبَةَ الَّتِي كَانَتْ قِبْلَةً لَكَ أَوَّلًا، ثُمَّ صُرِفْتَ عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قِبْلَتَكَ الْآنَ إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَوَهِمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ، فَزَعَمَ أَنَّ الَّتِي كنت عليها: هو المفعول الثَّانِي لِجَعَلَ، قَالَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْقِبْلَةِ، إِنَّمَا هِيَ ثَانِي مَفْعُولَيْ جَعَلَ. تُرِيدُ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْكَعْبَةُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى

الْكَعْبَةِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، تَأَلُّفًا لِلْيَهُودِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَيَقُولُ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَسْتَقْبِلَهَا الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا أَوَّلًا بِمَكَّةَ، يَعْنِي: وَمَا رَدَدْنَاكَ إِلَيْهَا إِلَّا امْتِحَانًا لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءً، انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ التي كنت عليها: هو الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: هَذَا بَيَانٌ لِحِكْمَةِ جَعْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً. وَالْمَعْنَى: وَمَا جَعَلْنَا مُتَوَجَّهَكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا لِنَعْلَمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ اسْتِقْبَالَكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ، لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الثَّابِتُ عَلَى دِينِهِ مِنَ الْمُرْتَدِّ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ صَالِحٌ بِأَنْ يُوصَفَ بِقَوْلِهِ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِمَا فِي وَقْتَيْنِ. وَقِيلَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا صِفَةٌ لِلْقِبْلَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا قِبْلَةً إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كنت عليها مَنْسُوخَةً إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَمَا جَعَلْنَا صَرْفَ القبلة التي كنت عليها إِلَّا لِنَعْلَمَ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: لِنَعْلَمَ، كَمَا تَقُولُ: ضَرْبُ زِيدٍ لِلتَّأْدِيبِ، أَيْ كَائِنٌ وَمَوْجُودٌ لِلتَّأْدِيبِ، أَيْ بِسَبَبِ التَّأْدِيبِ. وَعَلَى كَوْنِ الَّتِي صِفَةً، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقِبْلَةِ: الْكَعْبَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَّصِفٌ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقِبْلَةُ فِي الْآيَةِ: الْكَعْبَةُ، وَكُنْتَ بِمَعْنَى: أَنْتَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «1» بِمَعْنَى: أَنْتُمْ. انْتَهَى. وَهَذَا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى زِيَادَةِ كَانَ الرَّافِعَةِ لِلِاسْمِ وَالنَّاصِبَةِ لِلْخَبَرِ، وَهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَإِنَّمَا تَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، مَا نَقَلَهُ النَّحْوِيُّونَ، أَنَّ كَانَ تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَمَنْ صَارَ إِلَى شَيْءٍ وَاتَّصَفَ بِهِ، صَحَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى نِسْبَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ. فَإِذَا قُلْتَ: صِرْتَ عَالِمًا، صَحَّ أَنْ تَقُولَ: أَنْتَ عَالِمٌ، لِأَنَّكَ تُخْبِرُ عَنْهُ بِشَيْءٍ هُوَ فِيهِ. فَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنْتَ بِأَنْتَ، هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَارَ خَيْرَ أُمَّةٍ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ. إِلَّا لِنَعْلَمَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَفِيهِ حَصْرُ السَّبَبِ، أَيْ مَا سَبَّبَ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَّا كَذَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ، ابْتِدَاءُ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى الظَّاهِرِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ حُدُوثُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأُوِّلَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِيَعْلَمَ رسولنا والمؤمنون، وأسند

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 110.

عِلْمَهُمْ إِلَى ذَاتِهِ، لِأَنَّهُمْ خَوَاصُّهُ وَأَهْلُ الزُّلْفَى لَدَيْهِ. فَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَوْ عَلَى إِطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى مَعْنَى التَّمْيِيزِ، لِأَنَّ بِالْعِلْمِ يَقَعُ التَّمْيِيزُ، أَيْ لِنُمَيِّزَ التَّابِعَ مِنَ النَّاكِصِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «1» ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَجَازِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ، وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَبَّبُ. وَحُكِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذِكْرَ عِلْمِهِ وَقْتِ مُوَافَقَتِهِمُ الطَّاعَةَ أَوِ الْمَعْصِيَةَ، إِذْ بِذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. فَلَيْسَ الْمَعْنَى لِنُحْدِثَ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لِنَعْلَمَ ذَلِكَ مَوْجُودًا، إِذِ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ فِي الْقِدَمِ مَنْ يَتْبَعُ الرَّسُولَ. وَاسْتَمَرَّ الْعِلْمُ حَتَّى وَقَعَ حُدُوثَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ فِي حِينِ الِاتِّبَاعِ وَالِانْقِلَابِ، وَاسْتَمَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ، وَيَكُونُ هَذَا قَدْ كَنَّى فِيهِ بِالْعِلْمِ عَنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ، أَيْ لِيَتَعَلَّقَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ فِي حَالِ وُجُودِهِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعِلْمِ التَّثْبِيتَ، أَيْ لِنُثَبِّتَ التَّابِعَ، وَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ السبب، ويراد به المسبب، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ، فَهُوَ ثَابِتُ الِاتِّبَاعِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْجَزَاءُ، أَيْ لِنُجَازِيَ الطَّائِعَ وَالْعَاصِيَ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّهْدِيدُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِذِكْرِ الْعِلْمِ، كَقَوْلِكَ: زِيدٌ عَصَاكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَا أُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُنَا الْمَاضِي، التَّقْدِيرُ: لَمَّا عَلِمْنَا، أَوْ لِعِلْمِنَا مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يُخَالِفُ. فَهَذِهِ كُلُّهَا تَأْوِيلَاتٌ فِي قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ، فِرَارًا مِنْ حُدُوثِ الْعِلْمِ وَتَجَدُّدِهِ، إِذْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ. وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أُوِّلَ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ. وَنَعْلَمُ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَوْصُولُ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْفِعْلُ بَعْدَهُ صِلَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَعْلَمُ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ، كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَزْيَدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَتَّبِعُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بنعلم. وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْوَجْهُ مِنَ الْإِعْرَابِ بِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ نَعْلَمُ، لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ، مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهَا بِقَوْلِهِ: يَتَّبِعُ، الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَنِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَعْلَمُ، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ مِمَّنْ أَسَاءَ. وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ، إِذِ الْعِلْمُ لَا يَتَعَدَّى بِمَنْ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ التَّمْيِيزُ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى بِمَنْ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: لِيُعْلَمَ، عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، إِذِ الْفَاعِلُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَحُذِفَ وَبُنِيَ الْفِعْلُ للمفعول،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 179.

وَعِلْمُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَادِثٌ، فَيَصِحُّ تَعْلِيلُ الْجَعْلِ بِالْعِلْمِ الْحَادِثِ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ: لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ. وَأَتَى بِلَفْظِ الرَّسُولِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَى ذَلِكَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: كُنْتَ عَلَيْها، فَكَانَ يَكُونُ الْكَلَامُ مَنْ يَتَّبِعُكَ، لِمَا فِي لَفْظِهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ. وَجَاءَ الخطاب مكتنفا بذكر الرَّسُولِ مَرَّتَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرِّسَالَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَالْمَتْبُوعِيَّةُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ خَاصَّةً، أَتَى بِلَفْظِ الرَّسُولِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالتَّبْلِيغِ الْمَحْضِ. وَلَمَّا كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ تَوَجُّهًا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ، وَلَهُ إِلَى ذَلِكَ نُزُوعٌ، أَتَى بِالْخِطَابِ دُونَ لَفْظِ الرِّسَالَةِ، فَقِيلَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، فَهَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ كِنَايَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ إِيمَانٍ أَوْ شُغْلٍ. وَالرُّجُوعُ عَلَى الْعَقِبِ أَسْوَأُ أَحْوَالِ الرَّاجِعِ فِي مَشْيِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَلِذَلِكَ شُبِّهَ الْمُرْتَدُّ فِي الدِّينِ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالْإِيمَانِ، فَلَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، ارْتَابَ فَعَادَ إِلَى الْكُفْرِ، فَهَذَا انْقِلَابٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالِانْقِلَابُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: عَلى عَقِبَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، لَمْ يَخْلُ فِي رُجُوعِهِ بِأَنَّهُ عَادَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، فَهُوَ قَدْ وَلَّى عَمَّا كَانَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَمَشَى أَدْرَاجَهُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لَهُ، وَذَلِكَ مُبَالِغَةٌ فِي الْتِبَاسِهِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَوَّلًا. قَالُوا: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمِحْنَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ، أَوْ بِسَبَبِ تَحْوِيلِهَا. فَقِيلَ: بِالْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ ثُمَّ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِ، لَمَا تَغَيَّرَ رَأْيُهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَقَالُوا: مَرَّةً هُنَا وَمَرَّةً هُنَا، وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي أَمْرِ النَّسَخِ أَعْظَمُ مِنَ الشُّبْهَةِ الْحَاصِلَةِ بِتَعْيِينِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّهُ بِالْكِبَرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: عَلَى عَقْبَيْهِ، بِسُكُونِ الْقَافِ وَتَسْكِينُ عَيْنِ فَعِلَ، اسْمًا كَانَ أَوْ فِعْلًا، لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ: اسْمُ كَانَتْ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى التَّوْلِيَةِ عَنِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَتَحْرِيرُهُ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ، أَيْ وَإِنْ كَانَتِ

الْجَعْلَةُ لَكَبِيرَةً، أَوْ يَعُودُ عَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَبْلَ التَّحْوِيلِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّوْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَمَعْنَى كَبِيرَةً: أَيْ شَاقَّةً صَعْبَةً، وَوَجْهُ صُعُوبَتِهَا أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعَادَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَلِفَ شَيْئًا، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ، صَعُبَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّسْخِ وَجَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ. وَإِنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفِّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ النَّاسِخَةِ. وَاللَّامُ هِيَ لَامُ الْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهَلْ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ أُلْزِمَتْ لِلْفَرْقِ، أَمْ هِيَ لَامٌ اجْتُلِبَتْ لِلْفَرْقِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَقُطْرُبٍ فِي إِنَّ الَّتِي يَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ إِنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: لَكَبِيرَةً بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ خَبَرَ كَانَتْ. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ: لَكَبِيرَةٌ بِالرَّفْعِ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى زِيَادَةِ كَانَتْ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ هِيَ لَكَبِيرَةٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ كَانَ الزَّائِدَةُ لَا عَمَلَ لَهَا، وَهُنَا قَدِ اتَّصَلَ بِهَا الضَّمِيرُ فَعَمِلَتْ فِيهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَكَنَّ فِيهَا. وَقَدْ خَالَفَ أَبُو سَعِيدٍ، فَزَعَمَ أَنَّهَا إِذَا زِيدَتْ عَمِلَتْ فِي الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا، أَيْ كَانَ هُوَ، أَيِ الْكَوْنِ. وَقَدْ رُدَّ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا نُوزِعُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَانَ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِهِ وَعَمَلِ الْفِعْلِ فِيهِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ لَكَبِيرَةً خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَهِيَ كَبِيرَةٌ. وَيَكُونُ لَامُ الْفَرْقِ دَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةٍ فِي التَّقْدِيرِ، تِلْكَ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِكَانَتْ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَهُوَ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً عَلَى النَّاسِ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ نَفْيٌ أَوْ شُبْهَةٌ، إِنَّمَا سَبَقَهُ إِيجَابٌ. وَمَعْنَى هُدَى اللَّهِ، أَيْ هَدَاهُمْ لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، أَوْ عَصَمَهُمْ وَاهْتَدَوْا بِهِدَايَتِهِ، أَوْ خَلَقَ لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ وَفَّقَهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَثَبَّتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَفِيهِ إِسْنَادُ الْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَنَّ عَدَمَ صُعُوبَةِ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ ذَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِهِدَايَتِهِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ: قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذَا أَنَّ جَمَاعَةً مَاتُوا قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: السَّائِلُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ

مَعْرُورٍ مَعَ جَمَاعَةٍ، وَهَذَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ وَالْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ مَاتَا قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. وَقَدْ فُسِّرَ الْإِيمَانُ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ، وَكَنَّى عَنِ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَانِ لَمَّا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْهُ، وَهِيَ مِنْ شُعَبِهِ الْعَظِيمَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقِرَّ الْإِيمَانَ عَلَى مَدْلُولِهِ، إِذْ هُوَ يَشْمَلُ التَّصْدِيقَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي وَقْتِ التَّحْوِيلِ. وَذَكَرَ الْإِيمَانَ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْعُمْدَةُ، وَالَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْأَعْمَالُ. وَقَدْ كَانَ لَهُمْ ثَابِتًا فِي حَالِ تُوَجُّهِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ إِيمَانُكُمْ، فَانْدَرَجَ تَحْتَهُ مُتَعَلِّقَاتُهُ الَّتِي لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ. وَكَانَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الصَّلَاةِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ انْدِرَاجُ صَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَمَّنْ مَاتَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ الْمُصَلِّينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مَاتُوا. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: لِيُضَيِّعَ، بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَأَضَاعَ وَضَيَّعَ الْهَمْزَةُ، وَالتَّضْعِيفُ، كِلَاهُمَا لِلنَّقْلِ، إِذْ أَصْلُ الْكَلِمَةِ ضَاعَ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَوْلَا ذكر سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَا اتَّصَلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَوَجْهُ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ، أَنَّ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ النَّسْخَ إِلَّا مَعَ الْبَدَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ الْحُكْمُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَفْسَدَةً، أَوْ بَاطِلًا، فَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ، بِنَاءً عَلَى هَذَا السُّؤَالِ، أَنَّ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ ضَائِعَةً. فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّ النَّسْخَ نَقْلٌ مِنْ مَصْلَحَةٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ، وَمِنْ تَكْلِيفٍ إِلَى تَكْلِيفٍ، وَالْأَوَّلُ كَالثَّانِي فِي أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ قَائِمٌ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الشَّكُّ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِمَّنْ يَجُوزُ الْبَدَاءَ عَلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، فَأَخْبَرَ عَنْ جَوَابِ سُؤَالِ الْمُنَافِقِ، أَوْ جُووِبَ عَلَى تَقْدِيرِ خُطُورِ ذَلِكَ بِبَالِ صَحَابِيٍّ لَوْ خَطَرَ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِهِ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ مِنْ أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَمَا اتَّصَلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ، سَوَاءٌ أَصَحَّ ذِكْرُ السَّبَبِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ تَقْسِيمًا لِلنَّاسِ حَالَةَ الْجَعْلِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ، وَنَاكِصٌ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ إِيمَانَ الْمُتَّبِعِ، بَلْ عَمَلُهُ وَتَصْدِيقُهُ، قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ، وَبَعْدَ أَنْ تُحَوَّلَ لَا يُضَيِّعُهُ اللَّهُ، إِذْ هُوَ الْمُكَلِّفُ بِمَا شَاءَ مِنَ التَّكَالِيفِ، فَمَنِ امْتَثَلَهَا، فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ

الِاسْتِطْلَاعُ إِلَى حَالِ إِيمَانِ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فِي الحالتين، أخبر تعال أَنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُ، وَأَتَى بِكَانَ الْمَنْفِيَّةِ بِمَا الْجَائِي بَعْدَهَا لَامُ الْجَحُودِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِلَامِ الْجُحُودِ. فَقَوْلُكَ: مَا كَانَ زَيْدٌ لِيَقُومَ، أَبْلَغَ مِمَّا: كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، لِأَنَّ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: هُوَ نَفْيٌ لِلتَّهْيِئَةِ وَالْإِرَادَةِ لِلْقِيَامِ، وَفِي الثَّانِي: هُوَ نَفْيٌ لِلْقِيَامِ. وَنَفْيُ التَّهْيِئَةِ وَالْإِرَادَةِ لِلْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ إِرَادَتِهِ، وَنَفْيُ التَّهْيِئَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْإِرَادَةِ لِلْفِعْلِ تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّفْيُ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ أَبْلَغَ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْأَبْلَغِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ عَلَى تَقْدِيرِ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ خَبَرَ كَانَ الَّتِي بَعْدَهَا لَامُ الْجُحُودِ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ اللَّامَ بَعْدَهَا أَنْ مُضْمَرَةٌ يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، وَذَلِكَ الْحَرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِتَسْمُو وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّ اللَّامَ هِيَ النَّاصِبَةُ، وَلَيْسَتْ أَنْ مُضْمَرَةً بَعْدَهُ، وَأَنَّ اللَّامَ بَعْدَهَا لِلتَّأْكِيدِ، وَأَنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَذِهِ اللَّامِ هُوَ خَبَرُ كَانَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ: مَا كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَمَا كَانَ زَيْدٌ لِيَقُومَ، إِلَّا مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ الَّذِي فِي اللَّامِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ: خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ظَاهِرٌ، وَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لِلُطْفِ رَأْفَتِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ، نَقَلَكُمْ مِنْ شَرْعٍ إِلَى شَرْعٍ أَصْلَحَ لَكُمْ وَأَنْفَعَ فِي الدِّينِ، أَوْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا مَشَقَّةً عَلَى الَّذِينَ هَدَاهُمْ، أَوْ لَا يُضِيعُ إِيمَانَ مَنْ آمَنَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَظْهَرُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي بِالنَّاسِ يَحْتَمِلُ الْجِنْسَ، كَمَا قَالَ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ «1» ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «2» ، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً «3» ، وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: لرؤوف، مَهْمُوزًا عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ حَيْثُ وَقَعَ، قَالَ الشَّاعِرُ: نُطِيعُ رَسُولَنَا وَنُطِيعُ رَبًّا ... هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا رؤوفا

_ (1) سورة الشورى: 42: 19. (2) سورة الأعراف: 7/ 156. (3) سورة غافر: 40/ 7.

وقرأ باقي السبعة: لرؤوف، مَهْمُوزًا عَلَى وَزْنَ نَدُسٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقًّا ... كَحَقِّ الْوَالِدِ الرؤوف الرَّحِيمِ وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ: وَشَرُّ الظَّالِمِينَ فَلَا تكنه ... يقابل عمه الرؤوف الرَّحِيمَ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ: لَرَوُفٌ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَكَذَلِكَ سَهَّلَ كُلَّ هَمْزَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، سَاكِنَةً كَانَتْ أَوْ مُتَحَرِّكَةً. وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مُبَالَغًا فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَامُ الْجَحُودِ، نَاسَبَ إِثْبَاتُ الْجُمْلَةِ الْخَاتِمَةِ مُبَالِغًا فِيهَا، فَبُولِغَ فِيهَا بِإِنَّ وَبِاللَّامِ وَبِالْوَزْنِ عَلَى فَعَوْلٍ وَفَعِيلٍ، كُلُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَكَثْرَةِ الرَّأْفَةِ. وَتَأَخَّرَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَةِ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً، وَتَقَدَّمَ الْمَجْرُورُ اعْتِنَاءً بِالْمَرْءُوفِ بِهِمْ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ نَظَرَ الْأَمْرَ بِعَيْنِ التَّفْرِقَةِ، كَبُرَ عَلَيْهِ أَمْرُ التَّحْوِيلِ وَمَنْ نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، ظَهَرَ لِبَصِيرَتِهِ وَجْهُ الصَّوَابِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ: أَيْ مَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، فَالْمُخْتَلِفَاتُ مِنَ الْأَحْوَالِ لَهُ وَاحِدَةٌ، فَسَوَاءٌ غَيَّرَ، أَوْ قَرَّرَ، أَوْ أَثَبَتَ، أَوْ بَدَّلَ، أَوْ حَقَّقَ، أَوْ حَوَّلَ، فَهُمْ بِهِ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. قَالَ قَائِلُهُمْ: حَيْثُمَا دَارَتِ الزُّجَاجَةُ دُرْنَا ... يَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَا جُنِنَّا قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ: تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ: أَيُّهُمَا نَزَلَ قَبْلُ؟ وَنَرَى هُنَا مُضَارِعٌ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ مِمَّا يَصْرِفُ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي قَدْ، فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَمِنْهُ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ «1» ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ «2» ، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ «3» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ نَرَى أَمْسَ فِيهِمْ ... مَرَابِطَ لِلْأَمْهَارِ وَالْعَكَرِ الدُّثْرِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ نَرَى: رُبَّمَا نَرَى، وَمَعْنَاهُ: كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، كقوله: قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ

_ (1) سورة النور: 24/ 64. (2) سورة الحجر: 15/ 97. (3) سورة الأحزاب: 33/ 18. [.....]

انْتَهَى. وَشَرْحُهُ هَذَا عَلَى التَّحْقِيقِ مُتَضَادٌّ، لِأَنَّهُ شَرَحَ قَدْ نَرَى بِرُبَّمَا نَرَى. وَرُبَّ، عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، إِنَّمَا تَكُونُ لِتَقْلِيلِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ لِتَقْلِيلِ نَظِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَاهُ كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، فَهُوَ مُضَادٌّ لِمَدْلُولِ رُبَّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ. ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِمَعْنَى الْكَثْرَةِ. هَذَا التَّرْكِيبُ، أَعْنِي تَرْكِيبَ قَدْ مَعَ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْمَاضِي، وَلَا غَيْرَ الْمُضِيِّ، وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْكَثْرَةُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ التَّقَلُّبُ، لِأَنَّ مَنْ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا يُقَالُ فِيهِ: قَلَّبَ بَصَرَهُ فِي السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: قَلَّبَ إِذَا رَدَّدَ. فَالتَّكْثِيرُ، إِنَّمَا فُهِمَ مِنَ التَّقَلُّبِ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ التَّقْلِيبِ، نَحْوَ: قَطَّعْتُهُ فَتَقَطَّعَ، وَكَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَمَا طَاوَعَ التَّكْثِيرَ فَفِيهِ التَّكْثِيرُ. وَالْوَجْهُ هُنَا قِيلَ: أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُ ظَاهِرِهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى قِبْلَةِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ لِيُؤْذَنَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهَا قِبْلَةُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَدْعَى لِلْعَرَبِ إِلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا مَفْخَرُهُمْ وَمَزَارُهُمْ وَمَطَافُهُمْ، وَلِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، فَكَانَ يُرَاعِي نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْوَحْيِ بِالتَّحْوِيلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَلَامُ النَّاسِ قَبْلَهُ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ لِيُصِيبَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ، وَهُوَ لِيَتَأَلَّفَ الْعَرَبَ لِمَحَبَّتِهَا فِي الْكَعْبَةِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ: مَا عَلِمَ مُحَمَّدٌ دِينَهُ حَتَّى اتَّبَعَنَا، فَأَرَادَ مُخَالَفَتَهُمْ. وَقِيلَ: كَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الْبَصَرِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَلَبِ الرَّغَائِبِ. تَقُولُ: بَذَلَتْ وَجْهِي فِي كَذَا، وَفَعَلْتُ لِوَجْهِ فُلَانٍ. وَقَالَ: رَجَعَتْ بِمَا أَبْغِي وَوَجْهِي بِمَائِهِ وَهُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ بِالْكُلِّ عَنِ الْجُزْءِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بَصَرَ وَجْهِكَ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ، إِنَّمَا يُقَالُ: بَصَرُكَ وَعَيْنُكَ وَأَنْفُكَ لَا يَكَادُ يُقَالُ: أَنْفُ وَجْهِكَ، وَلَا خَدُّ وَجْهِكَ. فِي السَّمَاءِ: مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ تَقَلُّبٌ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِفِي، فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا. قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ «1» ، أَيْ فِي نَوَاحِي السَّمَاءِ، فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِي هَذِهِ الْجِهَةِ. وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى إِلَى. وَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ متعلق بنرى، وَفِي: بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ قَدْ نَرَى مِنَ السَّمَاءِ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَرَى مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا تَتَحَيَّزُ رُؤْيَتُهُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وذكرت

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 196.

الرُّؤْيَةُ مِنَ السَّمَاءِ لِإِعْظَامِ تَقَلُّبِ وَجْهِهِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ مُخْتَصَّةٌ بِتَعْظِيمِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ كَمَا جَاءَ: بِأَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ بِالْمَصْدَرِ، وَأَنَّ فِي عَلَى حَقِيقَتِهَا. وَاخْتُصَّ التَّقَلُّبُ بِالسَّمَاءِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ جِهَةٌ تَعُودُ مِنْهَا الرَّحْمَةُ، كَالْمَطَرِ وَالْأَنْوَارِ وَالْوَحْيِ، فَهُمْ يَجْعَلُونَ رَغْبَتَهُمْ حَيْثُ تَوَالَتِ النِّعَمُ، وَلِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ جِبْرِيلَ، وَكَانَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ حَالًا مَحْذُوفَةً، التَّقْدِيرُ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ طَالِبًا قِبْلَةً غَيْرَ الَّتِي أَنْتِ مُسْتَقْبِلُهَا. وَجَاءَ هَذَا الْوَعْدُ عَلَى إِضْمَارِ قَسَمٍ مُبَالِغَةً فِي وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الْقَسَمَ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا. وَجَاءَ الْوَعْدُ قَبْلَ الْأَمْرِ لِفَرَحِ النَّفْسِ بِالْإِجَابَةِ، ثُمَّ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، فَيَتَوَالَى السُّرُورُ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ الْوَعْدِ بِهِ آنَسُ فِي التَّوَصُّلِ مِنْ مُفَاجَأَةِ وُقُوعِ الْمَطْلُوبِ. وَنَكَّرَ الْقِبْلَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مَعْهُودَةً، فَتُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ بِاللَّفْظِ قِبْلَةً مُعَيَّنَةً، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا مَرَضِيَّةٌ لَهُ لِتَقَرُّبِهَا مِنَ التَّعْيِينِ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الرِّضَا هُوَ الْقَلْبُ، وَهُوَ كَانَ يُؤْثِرُ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ. قَالُوا: وَرِضَاهُ لَهَا، إِمَّا لِمَيْلِ السَّجِيَّةِ، أَوْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى: لَنَجْعَلَنَّكَ تَلِيَ اسْتِقْبَالَ قِبْلَةٍ مَرْضِيَّةٍ لَكَ، وَلَنُمَكِّنَنَّكَ مِنْ ذَلِكَ. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: أَيِ اسْتَقْبِلْ بِوَجْهِكَ فِي الصَّلَاةِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ. وَبِهَذَا الْأَمْرِ نَسَخَ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَغْنَى التَّلَبُّسُ بِالصَّلَاةِ عَنْ ذِكْرِهَا. وَمَنْ قَالَ نَزَلَتْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ذَلِكَ، أَعْنِي: التَّوَجُّهَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الَّتِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ. وَأَرَادَ بِالْوَجْهِ: جُمْلَةَ الْبَدَنِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُهَا بِجُمْلَةِ الْبَدَنِ. وَكَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ. وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الشَّيْءِ، وَلِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَابَلَ قَوْلَهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الشَّطْرَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النِّصْفُ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّحْوُ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطْرِ تِلْقَاؤُهُ وَجَانِبُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وَسَطُ الْمَسْجِدِ وَمُنْتَصَفُهُ، لِأَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ، وَالْكَعْبَةُ بُقْعَةٌ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ. وَالْوَاجِبُ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهِيَ

كَانَتْ فِي نِصْفِ الْمَسْجِدِ، فَحَسُنَ أَنْ يُقَالَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ، يَعْنِي النِّصْفَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَكَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُقْعَةِ الْكَعْبَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَنَّ الْمُصَلِّيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ، لَا إِلَى مُنْتَصَفِ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ الْكَعْبَةُ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ فَسَّرْنَا الشَّطْرَ بِالْجَانِبِ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ، وَيَكُونُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى مُنْتَصَفِهِ الَّذِي هُوَ الْكَعْبَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وُجِّهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَيْتِ كُلِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا وُجِّهَ هُوَ وَأُمَّتُهُ حِيَالَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، وَالْمِيزَابُ هُوَ قِبْلَةُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَهُنَاكَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ بِتَقْرِيبٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةٌ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، فَوَلِّ وَجْهَكَ تِلْقَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْنَى الشَّطْرِ: النَّحْوُ، اخْتَلَفُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِبْلَةُ هِيَ الْكَعْبَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّطْرِ: النَّحْوُ وَالْجِهَةُ، لِأَنَّ فِي اسْتِقْبَالِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ حَرَجًا عَظِيمًا عَلَى مَنْ خَرَجَ لِبُعْدِهِ عَنْ مُسَامَتَتِهَا. وَفِي ذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، دُونَ ذِكْرِ الْكَعْبَةِ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ هُوَ مُرَاعَاةُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، لَا مُرَاعَاةُ عَيْنِهَا. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ، لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، خِلَافًا لِلثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَخِلَافًا لِشَرِيكٍ الْقَاضِي، فِي أَنَّهُ يَنَظُرُ الْقَائِمُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي الرُّكُوعِ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ إِلَى مَوْضِعِ أَنْفِهِ، وَفِي الْقُعُودِ إِلَى مَوْضِعِ حِجْرِهِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا قُلْنَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ حَنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بِبَعْضِ الْقِيَامِ الْمُعْتَرَضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ أَقَامَ رَأَسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ بِبَصَرِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» . وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ: هَذَا عُمُومٌ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَحِلُّهَا الْإِنْسَانُ، أي في أيّ مَوْضِعٍ كُنْتُمْ، وَهُوَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكُنْتُمْ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ. وَحَيْثُ: هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ، الْخَفْضَ بَعْدَهَا، وَمَا اقْتَضَى الْخَفْضَ لَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ، لِأَنَّ عَوَامِلَ الْأَسْمَاءِ لَا تَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْإِضَافَةِ مُوَضِّحَةٌ لِمَا أُضِيفَ، كَمَا أَنَّ الصِّلَةَ مُوَضِّحَةٌ فينا في اسْمَ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُبْهَمٌ. فَإِذَا وَصَلَتْ بِمَا زَالَ مِنْهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ،

_ (1) سورة الحج: 22/ 78.

وَضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجُوزِيَ بِهَا، وَصَارَتْ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَوَامِلِ الْأَفْعَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مَا شُرِطَ فِي الْمُجَازَاةِ بِهَا، وَخِلَافُ الْفَرَّاءِ فِي ذَلِكَ. فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ: وَهَذَا أَمْرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا تَقَدَّمَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ حُكْمَهُ وَحُكْمَ أُمَّتِهِ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ، مَعَ مَزِيدِ عُمُومٍ فِي الْأَمَاكِنِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَبَيَّنَ أنهم في أيما حَصَلُوا مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا شَطْرَ الْمَسْجِدِ. وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المتشوف لِأَمْرِ التَّحْوِيلِ، بَدَأَ بِأَمْرِهِ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَ أَمْرَ أُمَّتِهِ ثَانِيًا لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ تِلْقَاءَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطْرِ: النَّحْوُ.. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: أَيْ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَحْبَارَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمُ الْيَهُودُ. لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ: أَيِ التوجه إلى المسجد الحرام، الْحَقُّ: الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الْكَعْبَةُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الشَّطْرِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي، لِأَنَّ الشَّطْرَ هُوَ الْجِهَةُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَيْ يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ وَنُبُوَّتَهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ. وَمُفَسِّرُ هَذِهِ الضَّمَائِرِ مُتَقَدِّمٌ. فَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ التَّحْوِيلِ وَالتَّوَجُّهِ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ، فَيَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلُّوا، وَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ الْقِبْلَةِ قَوْلُهُ: قِبْلَةً تَرْضاها، وَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ الشَّطْرِ قَوْلُهُ: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ الرَّسُولِ ضَمِيرُ خِطَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْتِفَاتَانِ. وَالْعِلْمُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ مَعْمُولَهُ هُوَ أَنْ وَصِلَتُهَا، فَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ، إِمَّا لِأَنَّ فِي كِتَابِهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِمَّا لِجَوَازِ النَّسْخِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِي بِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. مِنْ رَبِّهِمْ: جَارٌّ وَمَجْرُورٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ ثَابِتًا مِنْ رَبِّهِمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحَوُّلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَكُنْ بِاجْتِهَادٍ، إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي إِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَقِرٌّ مِمَّنْ هُوَ مُعْتَنٍ بِإِصْلَاحِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي خِطَابِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفَلُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ،

تَحْرِيكًا لَهُمْ بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا عَلِمُوا مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ بِالشَّيْءِ تَقْتَضِي شِدَّةَ الْإِنْكَارِ وَعِظَمَ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْكَرُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَجِيءِ ذَلِكَ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ مِنَ الْغَيْبَةِ. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُهْمِلُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْهَا، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ الْوَعِيدَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ. أَعْلَمَهُ أَوَّلًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَهُمْ يَكْتُمُونَهُ، وَلَا يُرَتِّبُونَ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ مُقْتَضَاهُ. ثُمَّ سَلَّاهُ عَنْ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ، بِأَنَّهُمْ قَدِ انْتَهَوْا فِي الْعِنَادِ وَإِظْهَارِ الْمُعَادَاةِ إِلَى رُتْبَةٍ، لَوْ جِئْتَهُمْ فِيهَا بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي كُلُّ مُعْجِزَةٍ مِنْهَا تَقْتَضِي قَبُولَ الْحَقِّ، مَا تَبِعُوكَ وَلَا سَلَكُوا طَرِيقَكَ. وَإِذَا كَانُوا لَا يَتَّبِعُونَكَ، مَعَ مَجِيئِكَ لَهُمْ بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُتْبِعُوكَ إِذَا جِئْتَهُمْ بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمَعْنَى: بِكُلِّ آيَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَكَ إِلَى الْكَعْبَةِ هُوَ الْحَقُّ. وَاللَّامُ فِي: وَلَئِنْ، هِيَ الَّتِي تُؤْذِنُ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ مُتَقَدِّمٍ. فَقَدِ اجْتَمَعَ الْقَسَمُ الْمُتَقَدِّمُ الْمَحْذُوفُ، وَالشَّرْطُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ لِلْقَسَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تَبِعُوا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْهُ الْفَاءُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِمَا مَاضِي الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلِ. الْمَعْنَى: أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَكَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ قُيِّدَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالشَّرْطَ مُسْتَقْبَلٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ مستقبلا، ضرورة أن الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَكُونُ شَرْطًا فِي الْمَاضِي. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْمُثْبَتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ «1» ، التَّقْدِيرُ: لَيَظَلَّنَّ أَوْقَعَ الْمَاضِي الْمَقْرُونَ بِاللَّامِ جَوَابًا لِلْقِسْمِ الْمَحْذُوفِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهُوَ مَاضٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، مُسْتَقْبَلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الشَّرْطَ قُيِّدَ فِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي الْآيَتَيْنِ مَحْذُوفٌ، سَدَّ مَسَدَّهُ جَوَابُ الْقِسْمِ، وَلِذَلِكَ أَتَى فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا، وَجَبَ مُضِيُّ فِعْلِ الشَّرْطِ لَفْظًا، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، فَقَدْ يَأْتِي مُضَارِعًا. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ إِنْ هُنَا بِمَعْنَى لَوْ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَا فِي الْجَوَابِ، فَجَعَلَ مَا تَبِعُوا جَوَابًا لِإِنْ، لِأَنَّ إِنْ بِمَعْنَى لَوْ، فَكَمَا أَنَّ لَوْ تُجَابُ بِمَا، كَذَلِكَ أُجِيبَتْ إِنْ الَّتِي بِمَعْنَى لَوْ، وَإِنْ كَانَ إِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى لَوْ، لَمْ يَكُنْ جَوَابُهَا مُصَّدَرًا بِمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ. تَقُولُ: إِنْ تَزُرْنِي فَمَا أَزُورُكَ، وَلَا يَجُوزُ: مَا أَزُورُكَ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ جَوَابِ إِنْ عَلَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَرَّاءُ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْقَسَمَ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الشرط، جاز أن

_ (1) سورة الروم: 30/ 51.

يَكُونَ الْجَوَابُ لِلشَّرْطِ دُونَ الْقَسَمِ. وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ، بَلِ الْجَوَابُ يَكُونُ لِلْقَسَمِ بِشَرْطِهِ الْمَذْكُورِ فِي النَّحْوِ. وَاسْتِعْمَالُ إِنْ بِمَعْنَى لَوْ قَلِيلٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ، إِذَا سَاغَ إِقْرَارُهَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ جَوَابُ لَئِنْ كَجَوَابِ لَوْ، وَهِيَ ضِدُّهَا فِي أَنَّ لَوْ تَطْلُبُ الْمُضِيَّ وَالْوُقُوعَ، وَإِنْ تَطْلُبُ الِاسْتِقْبَالَ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَتَرَتَّبُ قَبْلَهُمَا الْقَسَمُ. فَالْجَوَابُ إِنَّمَا هُوَ لِلْقَسَمِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ تَثْبِيجٌ وَعَدَمُ نَصٍّ عَلَى الْمُرَادِ، لِأَنَّ أَوَّلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْجَوَابَ لِإِنْ، وَقَوْلُهُ بَعْدُ: فَالْجَوَابُ إِنَّمَا هُوَ لِلْقَسَمِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ لَإِنْ، وَالتَّعْلِيلُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَلِّلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَالْجَوَابُ إِنَّمَا هُوَ لِلْقَسَمِ، بَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا، لِأَنَّ الْجَوَابَ لَإِنْ، وَأُجْرِيَتْ فِي ذَلِكَ مَجْرَى لَوْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، فَلَيْسَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مَا تَبِعُوا جَوَابَ الْقَسَمِ، وَوُضِعَ فِيهِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالُوا لَئِنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلَ، يُرِيدُ مَعْنَى مَا هُوَ فَاعِلٌ وَمَا يَفْعَلُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ «1» : أَيْ مَا يُمْسِكُهُمَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ: لَئِنْ وَلَوْ، تَقُومُ مَقَامَ الْأُخْرَى، وَيُجَابُ بِمَا يُجَابُ بِهِ، وَمِنْهُ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «2» ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَوْ أَرْسَلْنَا رِيحًا. وَكَذَلِكَ لَوْ يُجَابُ جَوَابُ لَئِنْ، كَقَوْلِكَ: لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُجَابُ إِحْدَاهُمَا بِجَوَابِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَدْرُ الْفِعْلِ الْمَاضِي الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ لَئِنْ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، تَقْدِيرُهُ: لَا يَتَّبِعُونَ، وَلَيَظَلُّنَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ فِي قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ إِنْ لِإِجْرَائِهَا مَجْرَى لَوْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُوتُوا الْكِتابَ: الْعُمُومُ، وَقَدْ قَالَ بِهِ هُنَا قَوْمٌ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ عُلَمَاؤُهُمُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَفِي الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ ذَلِكَ خُصُوصُ مَا تَقَدَّمَ، وَخُصُوصُ مَا تَأَخَّرَ، فَكَذَلِكَ الْمُتَوَسِّطُ وَالْإِخْبَارُ بِإِصْرَارِهِمْ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُعَانِدِ، وَأَنَّهُ قَدْ آمَنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ أهل

_ (1) سورة فاطر: 35/ 41. (2) سورة الروم: 30/ 51.

الْكِتَابِ وَتَبِعُوا قِبْلَتَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. قَالَ الْحَسَنُ وَالْجُبَّائِيُّ: أَرَادَ جَمِيعَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ قَبْلَتِكَ، عَلَى نَحْوِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «1» ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ إِخْبَارًا عَنِ الْمَجْمُوعِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، لَا حُكْمَ عَلَى الْأَفْرَادِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ قَوْلِ الْأَصَمِّ: أَنَّهُ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْخُصُوصُ، فَكَأَنَّهُ قال: كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ أُولَئِكَ الْمُخْتَصِّينَ بِالْعِنَادِ، الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى جُحُودِ الْحَقِّ، لَا يُؤْمِنُ وَلَا يَتَّبِعُ قِبْلَتَكَ. وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَفِيمَا يَفْعَلُونَهُ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ فِيمَا يَرْتَكِبُونَ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَطِيعُونَ لِأَنْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، وَيَتْرُكُوا ضِدَّهُ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ. قِيلَ: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَهُ، فَلَوِ اتَّبَعُوا قِبْلَتَهُ، لَزِمَ انْقِلَابُ خَبَرِ اللَّهِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَعِلْمِهِ جَهْلًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَا اسْتَلْزَمَ الْمُحَالُ فَهُوَ مُحَالٌ. وَأَضَافَ تَعَالَى الْقِبْلَةَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْمُتَعَبِّدُ بِهَا وَالْمُقْتَدَى بِهِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا. أَيْأَسَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ قِبْلَتَهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا اتِّبَاعَهُ عَنْ دَلِيلٍ لَهُمْ وَضَحَ، وَلَا عَنْ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ، وَمَنْ نَازَعَ عِنَادًا فَلَا يُرْجَى مِنْهُ انْتِزَاعٌ. وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ: هَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ. قِيلَ: وَمَعْنَاهَا النَّهْيُ، أَيْ لَا تَتَّبِعْ قِبْلَتَهُمْ، وَمَعْنَاهَا: الدَّوَامُ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْصُومٌ عَنِ اتِّبَاعِ قِبْلَتِهِمْ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ بِهَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ لَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ رَفَعًا لِتَجْوِيزِ النَّسْخِ، أَوْ قَطَعَ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، عُدْ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَتَّبِعُكَ، مُخَادِعَةً مِنْهُمْ، فَأَيْأَسَهُمُ اللَّهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ قِبْلَتَهُمْ، أَوْ بَيَّنَ بِذَلِكَ حُصُولَ عِصْمَتِهِ، أَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَذُّرِ لِاخْتِلَافِ قِبْلَتَيْهِمْ، أَوْ جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، أَيْ مَا هُمْ بِتَارِكِي بَاطِلِهِمْ، وَمَا أَنْتَ بِتَارِكٌ حَقَّكَ. وَأَفْرَدَ الْقِبْلَةَ فِي قَوْلِهِ: قِبْلَتَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ مُثَنَّاةً، إِذْ لِلْيَهُودِ قِبْلَةٌ، وَلِلنَّصَارَى قِبْلَةٌ مُغَايِرَةٌ لِتِلْكَ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَتَا فِي كَوْنِهِمَا بَاطِلَتَيْنِ، فَصَارَ الِاثْنَانِ وَاحِدًا مِنْ جِهَةِ الْبُطْلَانِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ الْمُقَابَلَةَ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ اسْمِيَّةً تَكَرَّرَ فِيهَا الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ، وَمِنْ حَيْثُ أَكَّدَ النَّفْيَ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِتابِعٍ، وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْكَلَامِ قَبْلَهَا، لَا عَلَى الْجَوَابِ وَحْدَهُ، إِذْ لَا يَحِلُّ مَحَلَّهُ، لِأَنَّ نَفْيَ تَبَعِيَّتِهِمْ لِقِبْلَتِهِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا فِي نَفْيِ تَبَعِيَّتِهِ قِبْلَتِهِمْ.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 35.

وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِتَابِعِ قِبْلَتِهِمْ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَكِلَاهُمَا فَصِيحٌ، أَعْنِي إِعْمَالَ اسْمِ الْفَاعِلِ هُنَا وَإِضَافَتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَيِّهِمَا أَقْيَسُ. وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ: الضَّمِيرُ فِي بَعْضُهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَةَ النَّصَارَى، وَلَا النَّصَارَى تَتَّبِعُ قِبْلَةَ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْيَهُودَ لَا تَتَنَصَّرُ، وَإِلَى أَنَّ النَّصَارَى لَا تَتَهَوَّدُ، وَذَلِكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ إِفْرَاطِ الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَاغُضِ. وَقَدْ رَأَيْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَثِيرًا مَا يَدْخُلُونَ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُشَاهَدْ يَهُودِيًّا تَنَصَّرَ، وَلَا نَصْرَانِيًّا تَهَوَّدَ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضَيْنِ: مَنْ هُوَ بَاقٍ عَلَى دِينِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْبَعْضُ الثَّانِي مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُسَفِّهُ حِلْمَ الْآخَرِ وَيُكَفِّرُهُ، إِذْ تَبَايَنَتْ طَرِيقَتُهُمَا. أَلَا تَرَى إِلَى مَدْحِ الْيَهُودِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِهِ وَبَهْتَهُمْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى خِلَافِكَ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْقِبْلَةِ، وَقِبْلَةُ الْيَهُودِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِبْلَةُ النَّصَارَى مَطْلَعُ الشَّمْسِ. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، اللَّامُ أَيْضًا مُؤْذِنَةٌ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ، وَتَعْلِيقُ وُقُوعِ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطٍ لَا يَقْتَضِي إِمْكَانَ ذَلِكَ الشَّرْطِ. يَقُولُ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ صَعِدْتِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ صُعُودِهَا إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «1» ، قَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «2» ، وَإِذَا اتَّضَحَ ذَلِكَ سَهُلَ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِحَالَةُ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ مُسْتَحِيلٌ. وَيَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، الَّتِي ظَاهِرُهَا الْوُقُوعُ عَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الْوُقُوعِ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: لَا يُعَدُّ ظَالِمًا، وَلَا تَكُونَهُ، لِأَنَّكَ لَا تَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْبَطُ عَمَلُكَ، لِأَنَّ إِشْرَاكَكَ مُمْتَنِعٌ، وَكَذَلِكَ لَا يُجْزَى أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَنَّهُ إِلَهٌ. وَقَالُوا: مَا خُوطِبَ بِهِ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِمَّا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مِنْهُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ أُمَّتِهِ، وَمَنْ يُمْكِنُ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْخِطَابُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهِ، حَتَّى يَحْصُلَ التَّبَاعُدُ مِنْهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِيَّاكَ أَعْنِي: وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ.

_ (1) سورة التحريم: 66/ 6. (2) سورة الأنبياء: 21/ 29.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، بَعْدَ الْإِفْصَاحِ عَنْ حَقِيقَةِ حَالِهِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ، كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرِ بِمَعْنَى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَهُمْ مَثَلًا بَعْدَ وُضُوحِ الْبُرْهَانِ وَالْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الْمُرْتَكِبِينَ الظُّلْمَ الْفَاحِشَ. وَفِي ذَلِكَ لُطْفٌ لِلسَّامِعِينَ، وَزِيَادَةُ تَحْذِيرٍ وَاسْتِفْظَاعٌ بِحَالِ مَنْ يَتْرُكُ الدَّلِيلَ بَعْدَ إِنَارَتِهِ وَيَتَّبِعُ الْهَوَى، وَإِلْهَابٌ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْخِطَابِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلرَّسُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلرَّسُولِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِغَيْرِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّهُ بِهَذَا الْخِطَابِ. أَهْوَاءَهُمْ: تَقَدَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ هَوَى، وَلَا يُجْمَعُ عَلَى أَهْوِيَةٍ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْهَوَى فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ وَالْمَحَبَّةُ، وَجُمِعَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْمَصْدَرَ، لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِمْ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَتَبَايُنِهَا. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: أَيْ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ الَّتِي تُفِيدُ لَكَ الْعِلْمَ وَتُحَصِّلُهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. سَمَّى تِلْكَ الدَّلَائِلَ عِلْمًا، مُبَالِغَةً وَتَعْظِيمًا وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ شَرَفًا وَمَرْتَبَةً. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَ الْوَعِيدِ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَشَدُّ مِنْ تَوَجُّهِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَدْ فُسِّرَ الْعِلْمُ هُنَا بِالْحَقِّ، يَعْنِي أَنَّ مَا جَاءَهُ مِنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ هُوَ الْحَقُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْعِلْمُ هُنَا: الْبَيَانُ، وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَكَانِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ، وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ «1» ، وَجَاءَ فِي الرَّعْدِ: بَعْدِ مَا جاءَكَ «2» ، فَاخْتَصَّ مَوْضِعًا بِالَّذِي، وَمَوْضِعَيْنِ بِمَا، وَهَذَا الْمَوْضِعُ بِمَنْ. وَالَّذِي نَقُولُهُ فِي هَذَا: أَنَّهُ مِنَ اتِّسَاعِ الْعِبَارَةِ وَذِكْرِ الْمُتَرَادِفِ، لِأَنَّ مَا وَالَّذِي مَوْصُولَانِ، فَأَيًّا مِنْهُمَا ذَكَرْتَ، كَانَ فَصِيحًا حَسَنًا. وَأَمَّا الْمَجِيءُ بِمَنْ، فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ بَعْدِيَّةِ الْمَجِيءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَعْدَ، فَهُوَ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وَالتَّبْعَدِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ بَعْدَ لَا يَقْتَضِيهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ دُخُولُ مَا مَكَانَ الَّذِي، لِأَنَّ الَّذِي أَخَصُّ، وَمَا أَشَدُّ إِبْهَامًا، فَحَيْثُ خَصَّ بِالَّذِي أُشِيرُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الدين، الذي هو الإسلام، الْمَانِعُ مِنْ مِلَّتِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكَانَ اللَّفْظُ الْأَخَصُّ الْأَشْهَرُ أَوْلَى فِيهِ، لِأَنَّهُ عِلْمٌ بِكُلِّ أُصُولِ الدِّينِ، وَخَصَّ بِلَفْظِ مَا، مَا أشير به إلى العلم بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، أَحَدُهُمَا الْقِبْلَةُ، وَالْآخَرُ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ «3» ، قال:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 120. (2) سورة الرعد: 13/ 37. (3) سورة الرعد: 13/ 36.

وَأَمَّا دُخُولُ مِنْ، فَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنْ يُخَالِفَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، أَيْ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ فِيهِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى نَحْوِ الْقِبْلَةِ، إِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ، كُنْتَ ظَالِمًا وَاضِعًا الْبَاطِلَ فِي مَوْضِعِ الْحَقِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي آذَنَتْ بِتَقْدِيرِهِ اللَّامُ فِي لَئِنْ، وَدَلَّ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَكُونُ جَوَابًا لَهُمَا، لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا الْمَعْنَى، فَلِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ مُخْتَلِفٌ. فَاقْتِضَاءُ الْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَسَمَ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ تَوْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا، وَمَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا، وَاقْتِضَاءُ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ، فَتَكُونُ الجملة في موضع جزم، وَعَمِلَ الشَّرْطُ لِقُوَّةِ طَلَبِهِ لَهُ. وَأَمَّا اللَّفْظُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ إِذَا كَانَتْ جَوَابَ قَسَمٍ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَزِيدِ رَابِطٍ، وَإِذَا كَانَتْ جَوَابَ شَرْطٍ، احْتَاجَتْ لِمَزِيدِ رَابِطٍ، وَهُوَ الْفَاءُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْفَاءِ مَوْجُودَةً فِيهَا الْفَاءَ، فَلِذَلِكَ امْتُنِعَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِلْقِسْمِ وَالشَّرْطِ مَعًا. وَدَخَلَتْ إِذَا بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِتَقْرِيرِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَكَانَ حَدُّهَا أَنْ تَتَقَدَّمَ أَوْ تَتَأَخَّرَ. فَلَمْ تَتَقَدَّمْ، لِأَنَّهُ سَبَقَ قَسَمٌ وَشَرْطٌ، وَالْجَوَابُ هُوَ لِلْقَسَمِ. فَلَوْ تَقَدَّمَتْ، لَتَوَهَّمَ أَنَّهَا لِتَقْرِيرِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ، لِئَلَّا تَفُوتَ مُنَاسِبَةُ الْفَوَاصِلِ وَآخِرِ الْآيِ: فَتَوَسَّطَتْ وَالنِّيَّةُ بِهَا التَّأْخِيرُ لِتَقْرِيرِ النِّسْبَةِ. وَتَحْرِيرُ مَعْنَى إِذَنْ صَعْبٌ، وَقَدِ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهَا، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا الْجَوَابُ وَالْجَزَاءُ. وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي فَهْمِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَالَّذِي تَحَصَّلَ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَقَعُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْبِقَهَا كَلَامٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَمَا بَعْدَهَا فِي اللَّفْظِ أَوِ التَّقْدِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهَا، فَهِيَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَى إِنْشَاءِ الِارْتِبَاطِ وَالشَّرْطِ، بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الِارْتِبَاطُ مِنْ غَيْرِهَا. مِثَالُ ذَلِكَ أَزُورُكَ فَتَقُولُ: إِذَا أَزُورُكَ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ الْآنَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَهُ شَرْطًا لِفِعْلِكَ. وَإِنْشَاءُ السَّبَبِيَّةِ فِي ثَانِي حَالٍ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ، وَبِالْفِعْلِيَّةِ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ عَامِلَةً، وَلَعَمَلُهَا مذكورة فِي النَّحْوِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِجَوَابٍ ارْتَبَطَ بِمُتَقَدِّمٍ، أَوْ مُنَبِّهَةً على مسبب شروط حَصَلَ فِي الْحَالِ، وَهِيَ فِي الْحَالَيْنِ غَيْرُ عَامِلَةٍ، لِأَنَّ الْمُؤَكِّدَاتِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَالْعَامِلُ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: إِنْ تَأْتِنِي إذن آتك، وو الله إِذَنْ لَأَفْعَلَنَّ. فَلَوْ أَسْقَطْتَ إِذَنْ، لَفُهِمَ الِارْتِبَاطُ. وَلَمَّا كَانَتْ فِي هَذَا الْوَجْهِ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهَا، جَازَ دُخُولُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الصَّرِيحَةِ نَحْوُ: أَزُورُكَ فَتَقُولُ:

إِذَنْ أَنَا أُكْرِمُكَ، وَجَازَ تَوَسُّطُهَا نَحْوُ: أَنَا إِذًا أُكْرِمُكَ، وَتَأَخُّرُهَا. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَجَاءَتْ إِذًا فِي الْآيَةِ مُؤَكِّدَةً لِلْجَوَابِ الْمُرْتَبِطِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَرَّرَتْ مَعْنَاهَا هُنَا لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الدَّوْرِ فِي الْقُرْآنِ، فَتُحْمَلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ: هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ، كَابْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ مَنْ آمَنَ بِهِ مُطْلَقًا، أَقْوَالٌ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، أَوِ الْإِنْجِيلُ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، أَوِ الْقُرْآنُ. أَقْوَالٌ تَنْبَنِي عَلَى مَنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ، وَلَفْظُ آتَيْنَاهُمْ أَبْلَغُ مِنْ أُوتُوا، لِإِسْنَادِ الْإِيتَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مُعَبِّرًا عَنْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَكَذَا مَا يَجِيءُ مِنْ نَحْوِ هَذَا، مُرَادًا بِهِ الْإِكْرَامُ نَحْوُ: هَدَيْنَا، وَاجْتَبَيْنَا، وَاصْطَفَيْنَا. قِيلَ: وَلِأَنَّ أُوتُوا قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولٌ، وَآتَيْنَاهُمْ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَهُ قَبُولٌ نَحْوُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ «1» ، وإذ أُرِيدَ بِالْكِتَابِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، فَوَحَّدَ، لِأَنَّهُ صُرِفَ إِلَى الْمَكْتُوبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ. يَعْرِفُونَهُ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلظَّالِمِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الظَّالِمِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَمَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي: وَعَلَى هَذِهِ الْأَعَارِيبِ يَكُونُ قَوْلُهُ: يَعْرِفُونَهُ، جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي آتَيْنَاهُمْ، أَوْ مِنَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ، لِأَنَّ فِي يَعْرِفُونَهُ ضَمِيرَيْنِ يَعُودَانِ عَلَيْهِمَا. وَالظَّاهِرُ هُوَ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ، لِاسْتِقْلَالِ الْكَلَامِ جُمْلَةً مُنْعَقِدَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَلِظَاهِرِ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَرَجَّحَهُ التَّبْرِيزِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً جَلِيَّةً، يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ الْمُعَيِّنِ الْمُشَخِّصِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَجَازَ الْإِضْمَارُ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى السَّامِعِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِضْمَارِ فِيهِ تَفْخِيمٌ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لشهرته وكونه علما معلوم بِغَيْرِ إِعْلَامٍ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَيْسَ كَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُ إِضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ: بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 89.

تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا ضَمَائِرُ خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَحِكْمَةٌ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَاخْتَرْنَاهُمْ لِتَحَمُّلِ الْعِلْمِ وَالْوَحْيِ، يَعْرِفُونَ هَذَا الَّذِي خَاطَبْنَاهُ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ وَأَمَرْنَاهُ وَنَهَيْنَاهُ، لَا يَشُكُّونَ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَلَا فِي صِدْقِ أَخْبَارِهِ، بِمَا كَلَّفْنَاهُ مِنَ التَّكَالِيفِ الَّتِي مِنْهَا نُسِخَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ، لِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَنَعْتِهِ، وَالنَّصِّ عَلَيْهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَتَبَيَّنَتْ حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ الضَّمِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ الْآيَةَ، فَكَيْفَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا عُمَرُ، لَقَدْ عَرَفْتُهُ حِينَ رَأَيْتُهُ، كَمَا أَعْرِفُ ابْنِي، وَمَعْرِفَتِي بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ مِنْ مَعْرِفَتِي بِابْنِي. فَقَالَ عُمَرُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا، وَلَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ النِّسَاءُ. فَقَالَ عُمَرُ: وَفَّقَكَ اللَّهُ يَا ابْنَ سَلَامٍ فَقَدْ صَدَقْتَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْأَثَرُ مُخْتَصَرًا بِمَا يُرَادِفُ بَعْضَ أَلْفَاظِهِ وَيُقَارِبُهَا، وَفِيهِ: فَقَبَّلَ عُمَرُ رَأَسَهُ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ الْوَجْهِ وَتَمَيُّزِهِ، لَا مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ النَّسَبِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ وَنُبُوَّتَهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ التَّحَوُّلُ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالرَّبِيعُ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَلَى الْعِلْمِ. وَقِيلَ: عَلَى كَوْنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، فَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ حُصُولُهَا بِالرُّؤْيَةِ وَالْوَصْفِ، أَوْ بِالْقُرْآنِ، فَحَصَلَتْ مِنْ تَصْدِيقِ كِتَابِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَتِهِ، أَوْ بِالْقِبْلَةِ، أَوِ التَّحْوِيلِ، فَحَصَلَتْ بِخَبَرِ الْقُرْآنِ وَخَبَرِ الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْخَوَارِقِ. كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، الْكَافُ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ عِرْفَانًا مِثْلَ عِرْفَانِهِمْ. أَبْنَاءَهُمْ: أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَعْرِفَةِ الْمَحْذُوفِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً مُمَاثِلَةً لِمَعْرِفَةِ أَبْنَائِهِمْ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ أُرِيدَ بِهَا مَعْرِفَةُ الْوَجْهِ وَالصُّورَةِ، وَتَشْبِيهُهَا بِمَعْرِفَةِ الْأَبْنَاءِ يُقَوِّي ذَلِكَ، وَيُقَوِّي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، حَتَّى تَكُونَ الْمَعْرِفَتَانِ تَتَعَلَّقَانِ بِالْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، وَهُوَ آكَدُ فِي التَّشْبِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ وَقَعَ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ مُتَعَلِّقُهَا الْمَعْنَى، وَمَعْرِفَةٍ مُتَعَلِّقُهَا

الْمَحْسُوسُ. وَظَاهِرُ الْأَبْنَاءِ الِاخْتِصَاصُ بِالذُّكُورِ، فَيَكُونُونَ قَدْ خُصُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مُبَاشَرَةً وَمُعَاشَرَةً لِلْآبَاءِ، وَأَلْصَقُ وَأَعْلَقُ بِقُلُوبِ الْآبَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَبْنَاءِ: الْأَوْلَادُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ. وَكَانَ التَّشْبِيهُ بِمَعْرِفَةِ الْأَبْنَاءِ آكَدَ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْأَنْفُسِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُرُّ عَلَيْهِ بُرْهَةٌ مِنَ الزَّمَانِ لَا يَعْرِفُ فِيهَا نَفْسَهُ، بِخِلَافِ الْأَبْنَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ زَمَانٌ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ ابْنَهُ. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، مِنْ عُلَمَاءِ اليهود والنصارى، عَلَى أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ فِي الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَذَا الْفَرِيقِ جُهَّالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ «1» ، لِلْإِخْبَارِ عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ عَالِمُونَ بِهِ، وَلِوَصْفِ الْأُمِّيِّينَ هُنَاكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ. وَالْحَقُّ الْمَكْتُومُ هُنَا هُوَ نَعْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَوْ أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ حَقٍّ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ عَالِمَيْنِ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً، لِأَنَّ لَفْظَ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ، لِأَنَّ الْكَتْمَ هُوَ إِخْفَاءٌ لِمَا يُعْلَمُ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ هُوَ مَا عَلَى الْكَاتِمِ مِنَ الْعِقَابِ، أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْعِقَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَى كَاتِمِ الْحَقِّ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَالًا مُبَيِّنَةً. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ الْحَقِّ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ هُوَ مِنْ رَبِّكَ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَقِّ الْمَكْتُومِ، أَيْ مَا كَتَمُوهُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَيَكُونُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يَعْرِفُونَهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحَقِّ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّسُولُ، أَوِ الْحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ، أَوْ لِلْجِنْسِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيْ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ، كَالَّذِي عَلَيْهِ الرَّسُولُ، وَمَا لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَتُهُ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ، كَالْبَاطِلِ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب: الْحَقَّ بِالنَّصْبِ، وَأُعْرِبَ بِأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ الْمَكْتُومِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَكْتُمُونَ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى أَنْ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 78.

يَكُونَ مَعْمُولًا لِيَعْلَمُونِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَكُونُ مِمَّا وقع فبه الظَّاهِرُ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ، أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ كَائِنًا مِنْ رَبِّكَ، وَذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ فِي أَمَاكِنِ التَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، كَقَوْلِهِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ أَيْ يَسْبِقُهُ شَيْءٌ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْزَمِ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بَعْدَهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْأُمَّةُ. وَدَلَّ الْمُمْتَرِينَ عَلَى وُجُودِهِمْ، وَنَهَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَالنَّهْيُ عَنْ كَوْنِهِ مِنْهُمْ أَبْلَغَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ. فَقَوْلُكَ: لَا تَكُنْ ظَالِمًا، أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: لَا تَظْلِمْ، لِأَنَّ لَا تَظْلِمْ نَهْيٌ عَنِ الِالْتِبَاسِ بِالظُّلْمِ. وَقَوْلُكُ: لَا تَكُنْ ظَالِمًا نَهْيٌ عَنِ الْكَوْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْكَوْنِ عَلَى صِفَةٍ، أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، إِذِ النَّهْيُ عَنِ الْكَوْنِ عَلَى صِفَةٍ يَدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى عُمُومِ الْأَكْوَانِ الْمُسْتَقْبِلَةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عُمُومُ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الصِّفَةِ يَدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى عُمُومِ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومٍ، وَيَسْتَلْزِمُ عُمُومًا، وَبَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومٍ فَقَطْ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ النَّهْيُ عَنِ الْكَوْنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1» ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ «2» . وَالْكَيْنُونَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَظْلِمْ فِي كُلِّ أَكْوَانِكَ، أَيْ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ أَكْوَانِكَ، فَلَا يَمُرُّ بِكَ وَقْتٌ يُوجَدُ فِيهِ مِنْكَ ظُلْمٌ، فَتَصِيرُ كَانَ فِيهِ نَصًّا عَلَى سَائِرِ الْأَكْوَانِ، بِخِلَافِ لَا تَظْلِمْ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْأَكْوَانَ. وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِنُونِ التَّوْكِيدِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ، وَكَانَتِ الْمُشَدَّدَةُ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي التَّأْكِيدِ مِنَ الْمُخَفَّفَةِ. وَالْمَعْنَى: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ يَشُكُّونَ فِي الْحَقِّ، لِأَنَّ مَا جَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ وَلَا جِدَالٌ، إِذْ هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ فِيهِ رَيْبَ وَلَا شك. لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ، لَمَّا ذَكَرَ الْقِبْلَةَ الَّتِي أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا، وَهِيَ الْكَعْبَةُ، وَذَكَرَ مِنْ تَصْمِيمِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِهَا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ طَائِفَتِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُصَمِّمَةٌ عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِ صَاحِبِهَا، أَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ بِفِعْلِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُقَدِّرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ هُوَ مُوَجِّهُ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى قِبْلَتِهِ. فَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ، إِذْ وَفَّقَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ وَاخْتَارَهُمْ لِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلِكُلٍّ: مَنَّوْنًا، وِجْهَةٌ: مَرْفُوعًا،

_ (1) سورة يونس: 10/ 95. [.....] (2) سورة هود: 11/ 17.

هُوَ مُوَلِّيهَا: بِكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: هُوَ مُوَلَّاهَا، بِفَتْحِ اللَّامِ اسْمُ مَفْعُولٍ وَهِيَ، قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ قَوْمٌ شَاذًّا: وَلِكُلِّ وِجْهَةٍ، بِخَفْضِ اللَّامِ مِنْ كُلِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وِجِهَةٍ: بِالْخَفْضِ مَنَّوْنًا عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَذَلِكَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كُلٍّ الْمَحْذُوفُ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ أَهْلِ صَقْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وِجْهَةٌ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ، إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَرَاءَهَا وَقُدَّامَهَا، وَيَمِينَهَا وَشِمَالَهَا، لَيْسَتْ جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِهَا بِأَوْلَى أَنْ تَكُونَ قِبْلَةً مِنْ غَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ نَبِيٍّ قِبْلَةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ مَلَكٍ وَرَسُولٍ صَاحِبِ شَرِيعَةٍ جِهَةُ قِبْلَةٍ، فَقِبْلَةُ الْمُقَرَّبِينَ الْعَرْشُ، وَقِبْلَةُ الرُّوحَانِيِّينَ الْكُرْسِيُّ، وَقِبْلَةُ الْكُرُوبِيِّينَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَقِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِبْلَتُكَ الْكَعْبَةُ، وَقَدِ انْدَرَجَ فِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِوَجْهِهِ: قِبْلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ، قَرَأَ: وَلِكُلٍّ قِبْلَةٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا قِبْلَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: وِجْهَةً: طَرِيقَةً، كَمَا قَالَ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «1» ، أَيْ لِكُلِّ نَبِيٍّ طَرِيقَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وِجْهَةً: أَيْ صَلَاةً يُصَلُّونَهَا، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ مُوَلِّيهَا عَائِدٌ عَلَى كُلٍّ عَلَى لَفْظِهِ، لَا عَلَى مَعْنَاهُ، أَيْ هُوَ مُسْتَقْبِلُهَا وَمُوَجِّهٌ إِلَيْهَا صَلَاتَهُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِمُوَلِّيهَا مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ أَوْ نَفْسَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالرَّبِيعُ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّ هُوَ عَائِدٌ عَلَى كُلِّ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: هُوَ مُوَلَّاهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ، أَيِ اللَّهُ مُوَلِّيهَا إِيَّاهُ، اتَّبَعَهَا مَنِ اتَّبَعَهَا وَتَرَكَهَا مَنْ تَرَكَهَا. فَمَعْنَى هُوَ مُوَلِّيهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: شَارِعُهَا وَمُكَلِّفُهُمْ بِهَا. وَالْجُمْلَةُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِوِجْهَةٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَلِكُلِّ وِجْهَةٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: هِيَ خَطَأٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدَمَ عَلَى الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ بِالْخَطَأِ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ مَعْزُوَّةٌ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ وُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ وِجْهَةٍ اللَّهُ مُوَلِّيهَا، فَزِيدَتِ اللَّامُ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، وَلِزَيْدٍ أَبُوهُ ضَارِبُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذَا تَعَدَّى لِضَمِيرِ الِاسْمِ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى ظَاهِرِهِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ. لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُهُ، وَلَا: لِزَيْدٍ أَنَا ضَارِبُهُ. وَعَلَيْهِ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَعَدَّى لِلضَّمِيرِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. كَانَ قَوِيًّا، وَاللَّامُ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ إِذَا تَقَدَّمَ لِيُقَوِّيَهُ لِضَعْفِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ مُتَقَدِّمًا، ولا يمكن أن

_ (1) سورة المائدة: 5/ 48.

يَكُونَ الْعَامِلُ قَوِيًّا ضَعِيفًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّحْوِيُّونَ قَوْلَهُ هَذَا: سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ وَلَيْسَ نَظِيرَ مَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، أَيْ زَيْدًا ضَرَبْتُ، لِأَنَّ ضَرَبْتُ فِي هَذَا الْمِثَالِ لَمْ يَعْمَلْ فِي ضَمِيرِ زَيْدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ عَامِلٌ فِي لِكُلِّ وِجْهَةٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ مُوَلِّيهَا، كَتَقْدِيرِنَا زَيْدًا أَنَا ضَارِبُهُ، أَيْ أَضْرِبُ زَيْدًا أَنَا ضَارِبُهُ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، لِأَنَّ الْمُشْتَغَلَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَرَّ بِحَرْفِ الْجَرِّ. تَقُولُ: زَيْدًا مَرَرْتُ بِهِ، أَيْ لَابَسْتُ زَيْدًا، وَلَا يَجُوزُ: بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، بَلْ كُلُّ فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، إِذَا تَسَلَّطَ عَلَى ضَمِيرِ اسْمٍ سَابِقٍ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ، فَلَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ السَّابِقِ أَنْ يُجَرَّ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِيَتَعَلَّقَ بِهِ حَرْفُ الْجَرِّ، بَلْ إِذَا أَرَدْتَ الِاشْتِغَالَ نَصَبْتَهُ، هَكَذَا جَرَى كَلَامُ الْعَرَبِ. قَالَ تَعَالَى: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أَمْ رَبَاحًا ... عَدَلْتَ به طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ: لِزَيْدٍ أَبُوهُ ضَارِبُهُ، فَتَرْكِيبٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا تَتَوَجَّهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ وِجْهَةٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِمُوَلِّيهَا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مُوَلٍّ، وَهُوَ الْهَاءُ، وَتَكُونُ عَائِدَةٌ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَاتِ وَالطَّوَائِفِ، وَأَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الطَّوَائِفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَكُلُّ وِجْهَةٍ اللَّهُ مُوَلِّي الطَّوَائِفَ أَصْحَابَ الْقِبْلَاتِ؟ فالجواب: أنه منع من هَذَا التَّقْدِيرَ نَصُّ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ إِلَى وَاحِدٍ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ اللَّامُ عَلَى مَفْعُولِهِ، إِذَا تَقَدَّمَ. أَمَّا مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اللَّامُ إِذَا تَقَدَّمَ، وَلَا إِذَا تَأَخَّرَ. وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ. وَمُوَلٍّ هُنَا اسم فاعل من فعل يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ هَذَا التَّقْدِيرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَيْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ لِكُلِّ وُجْهَةٍ وَلَاكِمُوهَا، وَلَا تَعْتَرِضُوا فِيمَا أَمَرَكُمْ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ فِي الْجَمِيعِ. وَقَدَّمَ قَوْلَهُ: لِكُلِّ وِجْهَةٍ عَلَى الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، لِلِاهْتِمَامِ بِالْوِجْهَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ تَوْجِيهٌ لَا بأس به.

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 31.

سْتَبِقُوا الْخَيْراتِ : هَذَا أَمْرٌ بِالْبِدَارِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَنَاسَبَ هَذَا أَنَّ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ شَرِيعَةً، أَوْ قِبْلَةً، أَوْ صَلَاةً، فَيَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهَا. قَالَ قَتَادَةُ: الِاسْتِبَاقُ فِي أَمْرِ الْكَعْبَةِ رَغْمًا لِلْيَهُودِ بِالْمُخَالَفَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ: سَارِعُوا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَاسْتَبِقُوا الْفَاضِلَاتِ مِنَ الْجِهَاتِ، وَهِيَ الْجِهَاتُ الْمُسَامِتَةُ لِلْكَعْبَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ. وَذَكَرْنَا أَنَّ اسْتَبِقْ بِمَعْنَى: تَسَابَقْ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ. إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ «1» ، أَيْ نَتَسَابَقُ، كَمَا تَقُولُ. تَضَارَبُوا. وَاسْتَبَقَ لَا يَتَعَدَّى، لِأَنَّ تَسَابَقَ لَا يَتَعَدَّى، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ، إِذَا بَنَيْتَ مِنْ لَفْظٍ، مَعْنَاهُ: تَفَاعَلَ لِلِاشْتِرَاكِ، صَارَ لَازِمًا، تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، ثُمَّ تَقُولُ: تَضَارَبْنَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ إِلَى هُنَا مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: فَاسْتَبِقُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ. قَالَ الرَّاعِي: ثَنَائِي عَلَيْكُمْ آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ ... سِوَاكُمْ فَإِنِّي مُهْتَدٍ غَيْرُ مَائِلِ يُرِيدُ وَمَنْ يَمِلْ إلى سواكم يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً : هَذِهِ جُمْلَةٌ تَتَضَمَّنُ وَعْظًا وَتَحْذِيرًا وَإِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ، ومعنى: أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً : أَيْ يَبْعَثُكُمْ وَيَحْشُرُكُمْ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَأَنْتُمْ لَا تُعْجِزُونَهُ، وَافَقْتُمْ أَمْ خَالَفْتُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَيْنَمَا تَكُونُوا مِنَ الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، أَيْ يَجْمَعُكُمْ وَيَجْعَلُ صَلَاتَكُمْ كُلَّهَا إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَأَنَّكُمْ تُصَلُّونَ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الحرام، قاله الزمخشري. نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَسِيقَتْ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ لَا يُسْتَبْعَدُ إِتْيَانُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَشْلَاءِ الْمُتَمَزِّقَةِ فِي الْجِهَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنَاتِ، وَهَذَا مِنْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِأَنْ تَجِيءُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا، فَكَانَ الْمَعْنَى: إِتْيَانُ اللَّهِ بِكُمْ جَمِيعًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِكُلٍّ وِجْهَةً يَتَوَلَّاهَا، أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ أَيْ مَكَانٍ خَرَجَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْمَدِينَةِ. فَبَيَّنَ بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي تَسَاوِي الْحَالَيْنِ إِقَامَةً وَسَفَرًا فِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، ثُمَّ عَطَفَ عليه: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، ليبين مساواتهم له فِي ذَلِكَ، أَيْ فِي

_ (1) سورة يوسف: 12/ 17.

حَالَةِ السَّفَرِ، وَالْأُولَى فِي حَالَةِ الْإِقَامَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ: وَمِنْ حَيْثُ بِالْفَتْحِ، فَتَحَ تَخْفِيفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حَيْثُ فِي قَوْلِهِ: حَيْثُ شِئْتُما. وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ اسْتِقْبَالَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ هُوَ الْحَقُّ، أَيِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا يَعْرِضُ لَهُ نَسْخٌ وَلَا تَبْدِيلٌ. وَفِي الْأَوَّلِ قَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، حَيْثُ كَانَ الْكَلَامُ مَعَ سُفَهَائِهِمُ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا: أَنَّ علماءهم يَعْلَمُونَ أَنَّ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَخَتَمَ آخَرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا خَتَمَ بِهِ آخِرَ تِلْكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فِي امْتِثَالِ هَذَا التَّكْلِيفِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ التَّحْوِيلُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، وَذَلِكَ هُوَ مَحْضُ التَّعَبُّدِ. فَالْجِهَاتُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِئِ تَعَالَى مُسْتَوِيَةٌ، فَكَوْنُهُ خَصَّ بِاسْتِقْبَالِ هَذِهِ زَمَانًا، وَنَسَخَ ذَلِكَ بِاسْتِقْبَالِ جِهَةٍ أُخْرَى مُتَأَبِّدَةٍ، لَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ فِي بَادِي الرَّأْيِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ. فَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ إِلَّا امْتِثَالُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، بَلْ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهَا، الْمُجَازِي بِالثَّوَابِ مَنِ امْتَثَلَ أَمْرَهُ، وَبِالْعِقَابِ مَنْ خَالَفَهُ. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فِي الْمَكَانَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ فِي الْمَكَانَيْنِ، فَحَيْثُ نَبَّهَ عَلَى اسْتِدْلَالِ حِكْمَتِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى أَفْعَالِهِ، ذَكَرَ الرَّبَّ الْمُقْتَضِي لِلنِّعَمِ، لِنَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى الْمُنْعِمِ، وَنَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِكْرِ الْوَعِيدِ، ذَكَرَ لَفْظَ اللَّهِ الْمُقْتَضِي لِلْعِبَادَةِ الَّتِي مَنْ أَخَلَّ بِهَا اسْتَحَقَّ أَلِيمَ الْعَذَابِ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا كُرِّرَتْ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَقَطْ، لَا أَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيدٌ لِلْآيَةِ الْأُولَى، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الأولى فِي الْإِقَامَةِ، وَالثَّانِيَةَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ فِي السَّفَرِ، فَهِيَ تَأْكِيدٌ لِلثَّانِيَةِ. وَحِكْمَةُ هَذَا التَّأْكِيدِ تَثْبِيتُ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَقْرِيرُ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ مِنْ مَظَانِّ الْفِتْنَةِ وَالشُّبْهَةِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لِلطَّعْنِ فِي تَبْدِيلِ قِبْلَةٍ بِقِبْلَةٍ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ صَعْبًا عَلَيْهِمْ، فَأَكَّدَ بِذَلِكَ أَمْرَ النَّسْخِ وَثَبَّتَ. وَكَانَ التَّأْكِيدُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِتَكْرِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ مَرَّتَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ الْمَعْهُودُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهُوَ أَنْ تُعَادَ الْجُمْلَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: كُرِّرَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كُلُّ أَحَدٍ، فَكَانَ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ لَوْ لَمْ يُكَرِّرْ. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي التَّكْرِيرِ يُرْوَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وقع التَّكْرِيرُ فِي الْقِصَصِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ أَوَّلَ الْوَقَائِعِ الَّتِي ظَهَرَ النَّسْخُ فِيهَا فِي شَرْعِنَا، كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ وَإِزَالَةِ

الشُّبْهَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُخَصَّصَاتٍ تُخْرِجُهَا بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ. فَقِيلَ: الْأُولَى مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ، نَسْخٌ لِلْقِبْلَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ، وَالثَّالِثَةُ لِلدَّوَامِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ. وَقِيلَ: الْأُولَى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالثَّانِيَةُ خَارِجُ الْمَسْجِدِ، وَالثَّالِثَةُ خَارِجُ الْبَلَدِ. وَقِيلَ: الْخُرُوجُ الْأَوَّلُ إِلَى مَكَانٍ تُرَى فِيهِ الْكَعْبَةُ، وَالثَّانِي إِلَى مَكَانٍ لَا تُرَى فِيهِ، فَسَوَّى بَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَقِيلَ: الْخُرُوجُ الْأَوَّلُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ السَّبَبِ، وَهُوَ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَالثَّانِي مُتَّصِلٌ بِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ، وَهُوَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالثَّانِي لِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ، وَالثَّالِثُ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ وَهُوَ فِي الْبَلَدِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَسَوَّى بَيْنِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لِلْأَقْرَبِ حُرْمَةً لَا تَثْبُتُ لِلْأَبْعَدِ. وَقِيلَ: التَّخْصِيصُ حَصَلَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ بِأَمْرٍ، فَالْأَوَّلُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَمْرَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى أَنَّهُمْ شَاهَدُوا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالثَّانِي فِيهِ شَهَادَةُ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَالثَّالِثُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، فَقَطَعَ بِذَلِكَ قَوْلَ الْمُعَانِدِينَ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَقْرُونٌ بِإِكْرَامِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْقِبْلَةِ الَّتِي كَانُوا يُحِبُّونَهَا، وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والسلام، بقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ، أَيْ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةِ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، فَتَوَجَّهُوا أَنْتُمْ إِلَى أَشْرَفِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهَا الْحَقُّ، وَالثَّالِثُ مَقْرُونٌ بِقَطْعِ اللَّهِ حُجَّةَ مَنْ خَاصَمَهُ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: رُبَّمَا خَطَرَ فِي بَالِ جَاهِلٍ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ لِرِضَا نَبِيِّهِ لِقَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَأَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ مَا حَوَّلْنَاكَ لِمُجَرَّدِ الرِّضَا، بَلْ لِأَجْلِ أَنْ هَذَا التَّحْوِيلَ هُوَ الْحَقُّ، فَلَيْسَتْ كَقِبْلَةِ الْيَهُودِ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى، ثُمَّ أَعَادَ ثَالِثًا، وَالْمُرَادُ: دُومُوا عَلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ. وَقِيلَ: كرر وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ، فَحَثَّ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، فِي أَيْ مَكَانٍ كَانَ الْإِنْسَانُ، نَائِيًا كَانَ عَنْهَا، أَوْ دَانِيًا مِنْهَا، وَذَلِكَ فِي حَالِ التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ، وَحَثَّ بِالْأُخْرَى عَلَى التَّوَجُّهِ بِالْقَلْبِ نَحْوَهُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الْمُسَابَقَةِ، وَفِي النَّافِلَةِ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَعَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ. لِئَلَّا يَكُونَ: هَذِهِ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ بَعْدَهَا لَا النَّافِيَةُ، وَقَدْ حَجَزَ بِهَا بَيْنَ أَنْ وَمَعْمُولِهَا الَّذِي هُوَ يَكُونُ، كَمَا أَنَّهُمْ حَجَزُوا بِهَا بَيْنَ الْجَازِمِ وَالْمَجْزُومِ فِي قولهم: أن لَا تَفْعَلَ أَفْعَلُ. وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ: لَا مَا بَعْدَهَا يَاءٌ، بَعْدَهَا لَامُ أَلْفٍ، فَجَعَلُوا صُورَةً لِلْهَمْزَةِ الْيَاءَ، وَذَلِكَ

عَلَى حَسَبِ التَّخْفِيفِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ نَافِعٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِبْدَالِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ يَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْقِيقِ: وَهَذِهِ أَنْ وَاجِبَةُ الْإِظْهَارِ هُنَا، لِكَرَاهَتِهِمُ اجْتِمَاعَ لَامِ الْجَرِّ مَعَ لَا النَّافِيَةِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَلَقًا فِي اللَّفْظِ، وَهِيَ جَائِزَةُ الْإِظْهَارِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِذَا أَثْبَتُوهَا، فَهُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْأَقَلُّ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِذَا حَذَفُوهَا، فَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهَا ضَرُورَةَ أَنَّ اللَّامَ لَا تَكُونُ النَّاصِبَةَ، لِأَنَّهَا قَدْ ثَبَتَ لَهَا أَنْ تَعْمَلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْجَرَّ، وَعَوَامِلُ الْأَسْمَاءِ لَا تَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ. لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ: أَيِ احْتِجَاجٌ. وَالنَّاسُ: قِيلَ هُوَ عُمُومٌ فِي الْيَهُودِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: يُخَالِفُنَا مُحَمَّدٌ فِي قِبْلَتِنَا، وَقَدْ كَانَ يَتْبَعُهَا، أَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ إِلَّا بِرَأْيِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ، أَوْ مَا دَرَى مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ. وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: قَدْ رَجَعَ مُحَمَّدٌ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا حِينَ صَارَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ. وَقِيلَ: النَّاسُ عَامٌّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَقُومُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ إِلَّا حُجَّةً بَاطِلَةً، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: يُوَافِقُ الْيَهُودَ مَعَ قَوْلِهِ: إِنِّي حَنِيفٌ أَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ لَا يَقِينَ لَكُمْ وَلَا تَثْبُتُونَ عَلَى دِينٍ، أَوْ قَالُوا: مَا لَكَ تَرَكْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ؟ إِنْ كَانَتْ ضَلَالَةً فَقَدْ دِنْتَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هُدًى فَقَدْ نَقَلْتَ عَنْهُ، أَوْ قَوْلُهُمُ: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ، أَوْ قَوْلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى قِبْلَةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، فَحَوَّلَهُ اللَّهُ، لِئَلَّا يَقُولُوا: نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ يَتَحَوَّلُ فَمَا تَحَوَّلَ، فَيَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ حُجَّةً، فَأَذْهَبَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ بِذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي لِئَلَّا لَامُ الْجَرِّ، دَخَلَتْ عَلَى إِنْ وَمَا بَعْدَهَا فَتَتَقَدَّرُ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ. وَتَتَعَلَّقُ هَذِهِ اللَّامُ، قِيلَ: بِمَحْذُوفٍ، أَيْ عَرَّفْنَاكُمْ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي قِبْلَتِكُمْ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يكون. وقيل: تتعلق بولوا، وَالْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ حَسُنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ بِمَجْرُورَيْنِ، فَسَهُلَ التَّذْكِيرُ جِدًّا، وَخَبَرُ كَانَ قوله: للناس، وعليكم: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِلْحُجَّةِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاحْتِجَاجِ، وَمَعْمُولُ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى عَامِلِهِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْكُمْ بِحُجَّةٍ، هَكَذَا نَقَلُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ، وَلِلنَّاسُ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ يَكُونُ، لِأَنَّ كَانَ النَّاقِصَةَ قَدْ تَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا جَعَلُوهَا أَدَاةَ اسْتِثْنَاءٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ

وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ زَيْدٍ: أَلَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ لَامِ أَلَّا، إِذْ جَعَلُوهَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَالِاسْتِفْتَاحِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ يَكُونُ إِعْرَابُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِأَنَّهُ سَلَكَ بِالَّذِينَ مَسْلَكَ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي الْوَاقِعُ صِلَةً هُوَ مُسْتَقْبَلُ. الْمَعْنَى: كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَظْلِمُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تَخَافُوا مَطَاعِنَهُمْ فِي قِبْلَتِكُمْ. وَاخْشَوْنِي: فَلَا تُخَالِفُوا أَمْرِي، وَلَوْلَا دُخُولُ الْفَاءِ لَتَرَجَّحَ نَصْبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، أَيْ لَا تَخْشَوُا الَّذِينَ ظَلَمُوا، لَا تَخْشَوْهُمْ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فِي زِيَادَةِ الْفَاءِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يكون الذين نصبا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ عَلَى الْإِغْرَاءِ. وَنَقَلَ السَّجَاوَنْدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ إِلَى الَّذِينَ، جَعَلَهَا حَرْفَ جَرٍّ، وَتَأَوَّلَهَا بِمَعْنَى مَعَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ إِمْكَانًا حَسَنًا، كَانَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً لِأَحَدٍ مِنَ الْيَهُودِ، إِلَّا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْهُمُ الْقَائِلِينَ: مَا تَرَكَ قِبْلَتِنَا إِلَى الْكَعْبَةِ إِلَّا مَيْلًا إِلَى دِينِ قَوْمِهِ وَحَبًّا لِبَلَدِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ لَلَزِمَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ حُجَّةٍ كَانَتْ تَكُونُ لِلْمُتَّصِفِينَ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يُحَوِّلْ حَتَّى احْتَرَزَ مِنْ تِلْكَ الْحُجَّةِ وَلَمْ يُبَالِ بِحُجَّةِ الْمُعَانِدِينَ؟ قُلْتُ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَا لَهُ لَا يُحَوِّلُ إِلَى قِبْلَةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي نَعْتِهِ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَطْلَقَ اسْمَ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْلِ الْمُعَانِدِينَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَسُوقُونَهُ سِيَاقَ الْحُجَّةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْحُجَّةَ الدَّاحِضَةَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي النَّازِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها اسْتِهْزَاءً، وَفِي قَوْلِهِمْ: تَحَيَّرَ مُحَمَّدٌ فِي دِينِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَمْ تَنْبَعِثْ إِلَّا مِنْ عَابِدِ وَثَنٍ، أَوْ مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ مِنْ مُنَافِقٍ. وَسَمَّاهَا تَعَالَى: حُجَّةً، وَحَكَمَ بِفَسَادِهَا حِينَ كَانَتْ مِنْ ظَلَمَةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدِ اتَّضَحَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ اتِّصَالُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُمْ يَتَعَلَّقُونَ عَلَيْكُمْ بِالشُّبْهَةِ، يَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ، وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ. وَمَثَارُ الْخِلَافِ هُوَ: هَلِ الْحُجَّةُ هُوَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ الصَّحِيحُ؟ أَوِ الْحُجَّةُ هُوَ الِاحْتِجَاجُ وَالْخُصُومَةُ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ عَرَّفَكُمُ اللَّهُ أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ فِي الْقِبْلَةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، بِاحْتِجَاجِهِ فِيمَا قَدْ وَضَحَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: مَا لَكَ عَلَيَّ حُجَّةٌ إِلَّا

الظُّلْمَ، أَوْ إِلَّا أَنْ تَظْلِمَنِي، أَيْ مَا لَكَ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّكَ تَظْلِمُنِي. وَأَجَازَ قُطْرُبٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِئَلَّا تَثْبُتَ حُجَّةٌ لِلنَّاسِ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، بِتَوْلِيَةِ وُجُوهِكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَنَقَلَ السَّجَاوَنْدِيُّ أَنَّ قُطْرُبًا قَرَأَ: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَهُوَ بَدَلٌ أَيْضًا عَلَى إِظْهَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «1» ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ إِبْدَالَ الظَّاهِرِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، بَدَلَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَّ إِلَّا فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا دَارَ مَرْوَانَا وَقَوْلُهُ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ التَّقْدِيرُ: عِنْدَهُ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، وَدَارُ مَرْوَانَ وَالْفَرْقَدَانِ وَإِثْبَاتُ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ سَائِغٌ فِيمَا ادَّعَى فِيهِ أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَكَانَ أبو عبيدة يضعف في النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ عِنْدَ حُذَّاقِ النَّحْوِيِّينَ، وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا زَعْمُ مَنْ زَعْمُ أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى بَعْدَ، أَيْ بَعْدَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «2» ، أَيْ بَعْدَ مَا قَدْ سلف، وإِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «3» ، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى، وَلَوْلَا أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، مَا ذَكَرْتُهُمَا لِضَعْفِهِمَا. فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي: هَذَا فِيهِ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمْ، وَأَمْرٌ بِاطِّرَاحِهِمْ، وَمُرَاعَاةٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي فَلَا تَخْشَوْهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّاسِ، أَيْ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَيْ فَلَا تَخْشَوُا الظَّالِمِينَ. وَنَهَى عَنْ خَشْيَتِهِمْ فِيمَا يُزَخْرِفُونَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ. وَأَمَرَ بِخَشْيَتِهِ هُوَ فِي تَرْكِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَلَا تَخْشَوْهُمْ فِي الْمُبَايَنَةِ، وَاخْشَوْنِي فِي الْمُخَالَفَةِ، وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وقد ذكرنا شَرْحَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي ذِكْرِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَخْشَوْا أن

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 75. (2) سورة النساء: 4/ 22 و 23. (3) سورة الدخان: 44/ 56.

أَرُدَّكُمْ فِي دِينِكُمْ وَاخْشَوْنِي، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُسَاعِدُهُ قَوْلُهُ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ الْخَشْيَةَ هُنَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَوْفَ، لِأَنَّ الْخَشْيَةَ حَذَرٌ مِنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ، وَالْخَوْفُ حَذَرٌ مِنْ أَمْرٍ لَمْ يَقَعْ. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ وَالِاسْتِعْمَالُ أَنَّ الْخَشْيَةَ وَالْخَوْفَ مُتَرَادِفَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ «1» ، كَمَا قَالَ هُنَا: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ، وَكَانَ الْمَعْنَى: عَرَّفْنَاكُمْ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي قِبْلَتِكُمْ، وَالْحُجَّةُ لَكُمْ لِانْتِفَاءِ حُجَجِ النَّاسِ عَلَيْكُمْ، وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ، فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ مُعَلَّلًا بِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ، وَالْفَصْلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَمَا بَعْدَهُ كَلَا فَصْلٍ، إِذْ هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِلَّةِ الْأُولَى. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، وَكِلَاهُمَا مَعْلُولُهُمَا الْخَشْيَةُ السَّابِقَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاخْشَوْنِي لِأُوَفِّقَكُمْ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مُؤَخَّرٍ، التَّقْدِيرُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عَرَّفْتُكُمْ قِبْلَتِي، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْقِبْلَةِ، أَوْ بِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَةِ، أَوْ بِمَا حَصَلَ لِلْعَرَبِ مِنَ الشَّرَفِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَوْ بِإِبْطَالِ حُجَجِ الْمُحْتَجِّينَ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، أَوْ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوِ النِّعْمَةِ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْقُرْآنِ، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسِّتْرِ، وَالْعَافِيَةِ، وَالْغِنَى عَنِ النَّاسِ أَوْ بِشَرَائِعِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ صَدَرَتْ مَصْدَرَ الْمِثَالِ، لَا مَصْدَرَ التَّعْيِينِ، وَكُلٌّ فِيهَا نِعْمَةٌ. وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي لَعَلَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجِيئِهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «2» ، فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوَاقِعِهَا فِيهِ. وَالْمَعْنَى: لِتَكُونُوا عَلَى رَجَاءِ إِدَامَةِ هِدَايَتِي إِيَّاكُمْ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، أَوْ لِكَيْ تَهْتَدُوا إِلَى قِبْلَةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَالظَّاهِرُ رَجَاءُ الْهِدَايَةِ مُطْلَقًا. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ: الْكَافُ هُنَا لِلتَّشْبِيهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ، فَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِتْمَامًا مِثْلَ إِتْمَامِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ فِيكُمْ. وَمُتَعَلِّقُ الْإِتْمَامَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَالْإِتْمَامُ الْأَوَّلُ بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِتْمَامُ الثَّانِي بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْنَا فِي الدُّنْيَا. أَوِ الْإِتْمَامُ الْأَوَّلُ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْأُولَى لِإِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «3» ، وَالْإِتْمَامُ الثَّانِي بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «4» ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مِثْلَ إِرْسَالِنَا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 175. (2) سورة البقرة: 2/ 21. (3) سورة البقرة: 2/ 128. (4) سورة البقرة: 2/ 129.

فِيكُمْ رَسُولًا، وَيَكُونُ تَشْبِيهُ الْهِدَايَةِ بِالْإِرْسَالِ فِي التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ، أَيِ اهْتِدَاءً ثَابِتًا متحققا، كتحقق إِرْسَالِنَا فِيكُمْ رَسُولًا، وَيَكُونُ تَشْبِيهُ الْهِدَايَةِ بِالْإِرْسَالِ فِي التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ، أَيِ اهْتِدَاءً ثَابِتًا مُتَحَقِّقًا، كَتَحَقُّقِ إِرْسَالِنَا وَثُبُوتِهِ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أَيْ جَعْلًا مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ الْمُؤْذِنِ بِالِانْقِطَاعِ. وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ نِعْمَتِي، أَيْ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ مُشَبِّهَةً إِرْسَالَنَا فِيكُمْ رَسُولًا، أَيْ مُشَبِّهَةً نِعْمَةَ الْإِرْسَالِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَقِيلَ: الْكَافُ مُنْقَطِعَةٌ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهَا، وَمُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَلَامِ بَعْدَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا ذَكَرْتُكُمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَاذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ. انْتَهَى. فَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيِ اذْكُرُونِي ذِكْرًا مِثْلَ ذِكْرِنَا لَكُمْ بِالْإِرْسَالِ، ثُمَّ صَارَ مِثْلَ ذِكْرِ إِرْسَالِنَا، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: كَمَا أَتَاكَ فُلَانٌ فَائْتِهِ بِكَرَمِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ كَيْسَانَ وَالْأَصَمِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالَةٍ لَا تَقْرَءُونَ كِتَابًا، وَلَا تَعْرِفُونَ رَسُولًا، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْكُمْ، أَتَاكُمْ بِأَعْجَبِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فَقَالَ: «كَمَا أَوْلَيْتُكُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَجَعَلْتُهَا لَكُمْ دَلِيلًا، فَاذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ، أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي» ، وَيُؤَكِّدُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ «1» . وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ يَظْهَرُ، وَهُوَ إِذَا عَلِقَتْ بِمَا بَعْدَهَا أَنْ، لَا تَكُونُ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ مَعْنًى مَقُولٌ فِيهَا إِنَّهَا تُرَدُّ لَهُ وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «2» ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا تَشْتُمُ النَّاسَ كَمَا لَا تُشْتَمُ أَيْ: وَاذْكُرُوهُ لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ، وَلَا تَشْتُمِ النَّاسَ لِكَوْنِكَ لَا تُشْتَمُ، أَيِ امْتَنِعْ مِنْ شَتْمِ النَّاسِ لِامْتِنَاعِ النَّاسِ مِنْ شَتْمِكَ. وَمَا: فِي كَمَا، مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَرَسُولًا بَدَلٌ مِنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: كَالَّذِي أَرْسَلْنَاهُ رَسُولًا، إِذْ يَبْعُدُ تَقْرِيرُ هَذَا التَّقْدِيرِ مَعَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمَعَ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَفِيهِ وُقُوعُ مَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ مَا كَافَّةً، لِأَنَّهُ لَا يذهب إلى ذلك إلا حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْسَبِكَ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، لِوِلَايَتِهَا الْجُمَلَ الِاسْمِيَّةَ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 164. (2) سورة البقرة: 2/ 198.

لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ... كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ: كَمَا أَرْسَلْنَا، مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، قَدْ رَدَّهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ لَهُ جَوَابٌ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا قَبْلَهُ لِاشْتِغَالِهِ بِجَوَابِهِ، قَالَ: لَوْ قُلْتُ كَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ، لَمْ تَتَعَلَّقِ الْكَافُ مِنْ كَمَا بِأَكْرِمْنِي، لِأَنَّ لَهُ جَوَابًا، وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ آخَرَ، أَوْ بِمُضْمَرٍ، وَكَذَلِكَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، هُوَ أَمْرٌ لَهُ جَوَابٌ، فَلَا تَتَعَلَّقُ كَمَا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجَاوَبُ بِجَوَابَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُكَ: إِذَا أَتَاكَ فُلَانٌ فَائْتِهِ تُرْضِهِ، فَتَكُونُ كَمَا وَفَاذْكُرُونِي جَوَابَيْنِ لِلْأَمْرِ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ. وَتَقُولُ: كَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْنِي، يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ الْكَافَ مُتَعَلِّقَةً بِأَكْرِمْنِي، إِذْ لَا جَوَابَ لَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَجَّحَ مَكِّيٌّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وهو: لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ سِيَاقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِبَيَانِ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا أَجَبْنَا دَعْوَتَهُ فِيكُمْ، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَكِّيٌّ مِنْ إِبْطَالِ أَنْ، تَكُونَ كَمَا مُتَعَلِّقَةً بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْكَافَ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّشْبِيهِ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ. فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّشْبِيهِ، فَتَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ تَقَدُّمُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفِعْلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَكْرِمْنِي إِكْرَامًا مِثْلَ إِكْرَامِي السَّابِقِ لَكَ أُكْرِمُكَ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَا الْمَصْدَرِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ، فَيَجُوزُ أَيْضًا تَقَدُّمُ ذَلِكَ عَلَى الْفِعْلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَكْرِمْنِي لِإِكْرَامِي لَكَ أُكْرِمْكَ، لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ هَذَا الْمَصْدَرِ وَهَذِهِ الْعِلَّةِ عَلَى الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِيهِمَا، وَتَجْوِيزُ مَكِّيٍّ ذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجَاوِبُ بِجَوَابَيْنِ وَتَسْمِيَتُهُ، كَمَا وَفَاذْكُرُونِي جَوَابَيْنِ لِلْأَمْرِ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ كَمَا لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُشْبِهُ الْجَوَابَ، وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ. أَمَّا الْمَصْدَرُ التَّشْبِيهِيُّ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَيْسَ مُتَرَتَّبًا عَلَى وُقُوعِ مُطْلَقِ الْفِعْلِ، بَلْ لَا يَقَعُ الْفِعْلُ إِلَّا بِذَلِكَ الْوَصْفِ. وَعَلَى هَذَا لَا يُشْبِهُ الْجَوَابَ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى نَفْسِ وُقُوعِ الْفِعْلِ. وَأَمَّا التَّعْلِيلُ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ، بَلِ الْفِعْلُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ نَقِيضُ الجواب، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ، وَالْعِلَّةُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ نَقِيضُ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ، وَالْعِلَّةُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهَا وُجُودُ الْفِعْلِ، فَلَا تَشْبِيهَ بَيْنِهِمَا، وَإِنَّمَا يُخْدَشُ عِنْدِي فِي تَعَلُّقِ كَمَا بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي، هُوَ الْفَاءُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَلَوْلَا الْفَاءُ لَكَانَ التَّعَلُّقُ وَاضِحًا، وَتَبْعُدُ زِيَادَةُ الْفَاءِ. فَبِهَذَا يَظْهَرُ تَعَلُّقُ كَمَا بِمَا قَبْلَهَا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهُ إِتْمَامِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ لِاسْتِقْبَالِ قِبْلَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ.

وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ السَّابِقَةِ، بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ الْمُتَّصِفِ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ إِلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهُ تَعَالَى بِهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ ثانيا أمر لا يزداد عَلَيْهِ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ، فَهِيَ آخِرُ الْقِبْلَاتِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ. كَمَا أَنَّ إِرْسَالَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ آخِرُ إِرْسَالَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. فَشَبَّهَ إِتْمَامَ تِلْكَ النِّعْمَةِ، الَّتِي هِيَ كَمَالُ نِعْمَةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبَلِ، بِهَذَا الْإِتْمَامِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَفِي إِتْمَامِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ عِزُّ لِلْعَرَبِ، وَشَرَفٌ وَاسْتِمَالَةٌ لِقُلُوبِهِمْ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ مِنْهُمْ، وَالْقِبْلَةُ الَّتِي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الَّذِي يَحُجُّونَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ويعظمونه. رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ: فِيهِ اعْتِنَاءٌ بِالْعَرَبِ، إِذْ كَانَ الْإِرْسَالُ فِيهِمْ، وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ عَامَّةً. وَكَذَلِكَ جَاءَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ «1» ، وَيُشْعِرُ هَذَا الِامْتِنَانُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ أَنْ يُرْسَلَ وَلَا يُبْعَثَ فِي الْعَرَبِ رَسُولٌ غَيْرُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَهُ فَقَالَ: رَسُولًا مِنْهُمْ «2» ، وَوَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ كُلُّهَا مُعْجِزٌ لَهُمْ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْهُمْ، وَتَالِيًا عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ، وَمُعَلِّمًا لَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَمَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ. وَقَدَّمَ كَوْنَهُ مِنْهُمْ، أَيْ يَعْرِفُونَهُ شَخْصًا وَنَسَبًا وَمَوْلِدًا وَمَنْشَأً، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ ذَاتِ الشَّخْصِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَأَتَى ثَانِيًا بِصِفَةِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ، الْبَاقِيَةُ إِلَى الْأَبَدِ. وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمِنْ تِلَاوَتِهِ تُسْتَفَادُ الْعِبَادَاتُ وَمَجَامِعُ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَتَنْبُعُ الْعُلُومُ. وَأَتَى ثَالِثًا بِصِفَةِ التَّزْكِيَةِ، وَهِيَ التَّطْهِيرُ مِنْ أَنْجَاسِ الضلال، لأن ذلك ناشىء عَنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَوْفِيقَهُ وَقَبُولَهُ لِلْحَقِّ. وَأَتَى رَابِعًا بِصِفَةِ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، لأن ذلك ناشىء عَنْ تَطْهِيرِ الْإِنْسَانِ، بِاتِّبَاعِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيُعَلِّمُهُ إِذْ ذَاكَ وَيُفْهِمُهُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. وَأَتَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّجَدُّدِ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالتَّعْلِيمَ تَتَجَدَّدُ دَائِمًا. وَأَمَّا الصِّفَةُ الْأَوْلَى، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ بِمُتَجَدِّدَةٍ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «3» بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا، فَلْيُنْظَرْ هناك.

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 2. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 129. (3) سورة البقرة: 2/ 129.

وَخَتَمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَهُوَ ذِكْرُ عَامٍّ بَعْدَ خَاصٍّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا الْحِكْمَةَ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ: قَصَصُ مَنْ سَلَفَ، وَقَصَصُ مَا يَأْتِي مِنَ الْغُيُوبِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدَّمَ التَّزْكِيَةَ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَفِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ قَدَّمَ التَّعْلِيمَ عَلَى التَّزْكِيَةِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالتَّزْكِيَةِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَهُنَاكَ هُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُمْ خِيَارٌ أَزْكِيَاءُ، وَذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ وَالْعَمَلِ بِهَا. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ: أَيِ اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ، أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ بِالدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ سَاعَةً، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ سَاعَةً، وَأَنَا أَكْفِيكَ مَا بَيْنَهُمَا، أَوِ اثْنُوا عَلَيَّ، أُثْنِ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ» . وَفِيهِ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: «يُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ» . وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مضاف، أي اذْكُرُوا نِعْمَتِي أَذْكُرْكُمْ بِالزِّيَادَةِ. وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِالنِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ عِنْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَقِيلَ: اذْكُرُونِي بِتَوْحِيدِي وَتَصْدِيقِ نَبِيِّي. وَقِيلَ: بِمَا فَرَضْتُ عَلَيْكُمْ، أَوْ نَدَبْتُكُمْ إِلَيْهِ، أَذْكُرْكُمْ، أَيْ أُجَازِكُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدٍ، فَاذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ. وَقِيلَ: فَاذْكُرُونِي فِي الرَّخَاءِ بِالطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ، أَذْكُرْكُمْ فِي الْبَلَاءِ بِالْعَطِيَّةِ وَالنَّعْمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ بحر. وَقِيلَ: اذْكُرُونِي بِالسُّؤَالِ أَذْكُرْكُمْ بِالنَّوَالِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالتَّوْبَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْحَوْبَةِ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي الدُّنْيَا أَذْكُرْكُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي الْخَلَوَاتِ أَذْكُرْكُمْ فِي الْفَلَوَاتِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِمَحَامِدِي أَذْكُرْكُمْ بِهِدَايَتِي، أَوِ اذْكُرُونِي بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ أَذْكُرْكُمْ بِالْخَلَاصِ وَمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالْمُوَافَقَاتِ أَذْكُرْكُمْ بِالْكَرَامَاتِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِتَرْكِ كُلِّ حَظٍّ أَذْكُرْكُمْ بِأَنْ أُقِيمَكُمْ بِحَقِّي بَعْدَ فَنَائِكُمْ عَنْكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي بِقَطْعِ الْعَلَائِقِ أَذْكُرْكُمْ بِنَعْتِ الْحَقَائِقِ، أَوِ اذْكُرُونِي لِمَنْ لَقِيتُمُوهُ أَذْكُرْكُمْ لِكُلِّ مَنْ خَاطَبْتُهُ، قَالَ: وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ، أَوِ اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، أَحِبُّونِي أُحِبُّكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالتَّذَلُّلِ أَذْكُرْكُمْ بِالتَّفَضُّلِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِقُلُوبِكُمْ أَذْكُرْكُمْ بِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي عَلَى الْبَابِ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ أَذْكُرْكُمْ عَلَى بِسَاطِ الْقُرْبِ بِإِكْمَالِ النِّعْمَةِ، أَوِ اذْكُرُونِي بتصفية السر أَذْكُرْكُمْ بِتَوْفِيَةِ الْبِرِّ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي حَالِ سُرُورِكُمْ أَذْكُرْكُمْ فِي قُبُورِكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي وَأَنْتُمْ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ أَذْكُرْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لَا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ، أَوِ اذكروني بالرهبة أذكركم بِالرَّغْبَةِ. وَقَالَ

الْقُشَيْرِيُّ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، الذِّكْرُ اسْتِغْرَاقُ الذَّاكِرِ فِي شُهُودِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ اسْتِهْلَاكُهُ فِي وُجُودِ الْمَذْكُورِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا أَثَرٌ يُذْكَرُ، فَيُقَالُ: قَدْ كَانَ فُلَانٌ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ «1» . وَإِنَّمَا الدُّنْيَا حَدِيثٌ حَسَنٌ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى، قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَاسِنُهَا ... طَيِّبُ مَا يَبْقَى مِنَ الْخَبَرِ وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ: الْحَمْدُ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّمْجِيدُ، وَقِرَاءَةُ كُتُبِ اللَّهِ وَبِالْقَلْبِ، وَهُوَ: الْفِكْرُ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكَالِيفِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْفِكْرِ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْفِكْرِ فِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَصِيرَ كُلُّ ذَرَّةٍ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالَمِ التَّقْدِيسِ، فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا، انْعَكَسَ شُعَاعُ بَصَرِهِ مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ، وَبِالْجَوَارِحِ، بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَغْرِقَةً فِي الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا، خَالِيَةً عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، سَمَّى اللَّهُ الصَّلَاةَ ذِكْرًا بِقَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «2» . انْتَهَى. وَقَالُوا: الذِّكْرُ هُوَ تَنْبِيهُ الْقَلْبِ لِلْمَذْكُورِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ، وَأُطْلِقَ عَلَى اللِّسَانِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَمَّا كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ، صَارَ هُوَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ. فَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ سِرِّيٌّ وَجَهْرِيٌّ، وَالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ دَائِمٌ وَمُتَحَلِّلٌ، وَبِهِمَا أَيْضًا دَائِمٌ وَمُتَحَلِّلٌ. فَبِاللِّسَانِ ذِكْرُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الذِّكْرِ، وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذِكْرًا» . خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» ، وَخَرَّجَ أَيْضًا قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أنا مع عبدي إذ هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» . وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ، فَقِيلَ لَهُ: نَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا حَلَاوَةً، فَقَالَ: احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى أَنْ زَيَّنَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِكُمْ بِطَاعَتِهِ، وَبِالْقَلْبِ هُوَ ذِكْرُ الْعَارِفِينَ وَخَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذِكْرًا ، وَمَعْنَاهُ اسْتِقْرَارُ الذِّكْرِ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِيهِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ: قَالَ الشَّاعِرُ: سِوَاكَ بِبَالِي لَا يَخْطُرُ ... إِذَا مَا نَسِيتُكَ مَنْ أَذْكُرُ وَبِهِمَا: هُوَ ذِكْرُ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ ثَلَاثُ الْمَقَامَاتِ، أَدْوَمُهَا أَفْضَلُهَا. انْتَهَى. وَقَدْ طَالَ بِنَا الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَتَرَكْنَا أَشْيَاءَ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّاسُ، وَهَذِهِ التَّقْيِيدَاتُ وَالتَّفْسِيرَاتُ التي فسر بها الذكران، لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 16. (2) سورة الجمعة: 62/ 9.

مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ. وَأَمَّا دَلَالَةُ اللَّفْظِ فَهِيَ طَلَبُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ هُوَ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ. وَالذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ لَا يَكُونُ ذِكْرَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ مُفْرَدًا مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادٍ، وَأَوْلَاهَا الْأَذْكَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْآثَارِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَ التَّرْغِيبُ فِي ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَالْوَعْدُ عَلَى ذِكْرِهَا بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَتِلْكَ الْأَذْكَارُ تَتَضَمَّنُ: الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ، وَالْحَمْدَ لَهُ، وَالْمَدْحَ لِجَلَالِهِ، وَالْتِمَاسَ الْخَيْرِ مِنْ عِنْدِهِ. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ، وَأَمَرَ الْعَبْدَ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَظِّمُوا اللَّهَ، وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَسُمِّيَ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرًا، فَقَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لَمَّا كَانَ نَتِيجَةَ الذِّكْرِ وَنَاشِئًا عَنْهُ سَمَّاهُ ذِكْرًا. وَاشْكُرُوا لِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشُّكْرِ، وَعَدَّاهُ هُنَا بِاللَّامِ، وَكَذَلِكَ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «1» ، وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي ذُكِرَ أَنَّهَا تَارَةً تَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وَتَارَةً تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ لَجَاءٍ التَّمِيمِيُّ: هُمْ جَمَعُوا بُؤْسِي وَنُعْمِي عَلَيْكُمْ ... فَهَلَّا شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَابِلْ وَفِي إِثْبَاتِ هَذَا النَّوْعِ مِنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَتَعَدَّى تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ، بِحَقِّ الْوَضْعِ فِيهِمَا خِلَافٌ. وَقَالُوا: إِذَا قُلْتَ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ، فَجَعَلُوهُ مِمَّا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِحَرْفِ جَرٍّ وَلِآخَرَ بِنَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِقَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِي مَا أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاشْكُرُوا لِي، وَاشْكُرُونِي بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَلِي أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ مَعَ الشُّكْرِ وَمَعْنَاهُ: نِعْمَتِي وَأَيَادِيَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: شَكَرْتُكَ، فَالْمَعْنَى: شَكَرْتُ لَكَ صَنِيعَكَ وَذَكَرْتُهُ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، إِذْ مَعْنَى الشُّكْرِ: ذِكْرُ الْيَدِ وَذِكْرُ مُسْدِيهَا مَعًا، فَمَا حُذِفَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ اخْتِصَارٌ لِدَلَالَةِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا حُذِفَ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَيَحْتَاجُ، كَوْنُهُ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَلِلْآخَرِ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَتَقُولُ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ، لِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَحِينَئِذٍ يُصَارُ إِلَيْهِ. وَلا تَكْفُرُونِ: هو مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا تَكْفُرُوا نِعْمَتِي. وَلَوْ كَانَ مِنَ الْكُفْرِ ضِدِّ الْإِيمَانِ، لَكَانَ: وَلَا تَكْفُرُوا، أَوْ وَلَا تَكْفُرُوا بِي. وَهَذِهِ النُّونُ نُونُ الْوِقَايَةِ، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَهَا تَخْفِيفًا لِتَنَاسُبَ الْفَوَاصِلِ. قِيلَ: الْمَعْنَى وَاشْكُرُوا لِي بِالطَّاعَةِ، وَلَا تَكْفُرُونِ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الشُّكْرِ هُنَا: الِاعْتِرَافُ بِحَقِّ الْمُنْعِمِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَكْفُرُونِ. وَهُنَا ثَلَاثُ جُمَلٍ: جملة الأمر بالذكر،

_ (1) سورة لقمان: 31/ 14.

وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ، وَجُمْلَةُ النهي عن الكفران. فبدىء أَوَّلًا بِجُمْلَةِ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ الْعَامُّ وَالْحَمْدُ لَهُ تَعَالَى، وَذُكِرَ لَهُ جَوَابٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ. وَثَنَّى بِجُمْلَةِ الشُّكْرِ، لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ، وَقَدِ انْدَرَجَ تَحْتَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى جَوَابٍ. وَخَتَمَ بِجُمْلَةِ النَّهْيِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالشُّكْرِ، لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ لِيَدُلَّ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمَانِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّكْلِيفُ بِاسْتِحْضَارِ الشُّكْرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَقَدْ يُذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ. وَنَهَى عَنِ الْكُفْرَانِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، بدىء بِالْأَمْرِ. وَذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: سَيَرْجِعُ مُحَمَّدٌ إِلَى دِينِنَا، كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا. هَزَّهُمْ بِهَذَا النِّدَاءِ الْمُتَضَمِّنِ هَذَا الْوَصْفَ الشَّرِيفَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ مَجْعُولًا فِعْلًا مَاضِيًا فِي صِلَةِ الَّذِينَ، دَالًّا عَلَى الثُّبُوتِ وَالِالْتِبَاسِ بِهِ فِي تَقَدُّمِ زَمَانِهِمْ، لِيَكُونُوا أَدْعَى لِقَبُولِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ الشَّاقِّ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ هُمَا رُكْنَا الْإِسْلَامِ. فَالصَّبْرُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ وَالصَّلَاةُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ لِتَكَرُّرِهَا. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ طَعْنِ الْكُفَّارِ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالصَّلَاةِ إِلَيْهَا أَذًى كَثِيرًا، فَأُمِرُوا عِنْدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الصَّبْرَ هُنَا: بِأَنَّهُ الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ بِالطَّعْنِ عَلَى التَّحَوُّلِ وَالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضِهِمْ قَالَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الصَّوْمِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِرَمَضَانَ: شَهْرُ الصَّبْرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِهَادِ لِقَوْلِهِ، بَعْدُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، فَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الْأَفْرَادُ تَحْتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: الصَّبْرُ مِنِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لَا رَأْسَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شرح هذه الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ: أَيْ بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، كَمَا قَالَ: اهْجُهُمْ، وروح القدس

_ (1) سورة البقرة: 2/ 41.

مَعَكَ. وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ، وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ نَاشِئَةً عَنِ الصَّبْرِ، وَصَارَ الصَّبْرُ أَصْلًا لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، فَانْدَرَجَ الْمُصَلُّونَ تَحْتَ الصَّابِرِينَ انْدِرَاجَ الْفَرْعِ تَحْتَ الْأَصْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَاكَ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «1» ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ وَأَشَقُّ نَتَائِجِ الصَّبْرِ. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: مَاتَ فُلَانٌ وَذَهَبَ عَنْهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَلَذَّتُهَا، فَأُنْزِلَتْ. نُهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ عَنِ الشُّهَدَاءِ أَمْوَاتٌ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، وَارْتِفَاعُ أَمْوَاتٍ وَأَحْيَاءٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمْ أَمْوَاتٌ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَلْ أَحْيَاءٌ، مُنْدَرِجًا تَحْتَ قَوْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ بَلْ قُولُوا هُمْ أَحْيَاءٌ. لَكِنْ يُرَجَّحُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ حَيَاتَهُمْ لَا شُعُورَ لَكُمْ بِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ مَجَازٌ. وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: أَمْوَاتٌ بِانْقِطَاعِ الذِّكْرِ، بَلْ أَحْيَاءٌ بِبَقَائِهِ وَثُبُوتِ الْأَجْرِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ لَا يَبْقَى لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَلَدِ، وَغَيْرِهِ مَيِّتًا. وَقِيلَ: أَمْوَاتٌ بِالضَّلَالِ، بَلْ أَحْيَاءٌ بِالطَّاعَةِ وَالْهُدَى، كَمَا قَالَ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «2» . وَإِذَا حُمِلَ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ بِالْبَعْثِ، فَيُثَابُونَ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْوَقْتِ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْحَيَاةِ: بَقَاءُ أَرْوَاحِهِمْ دُونَ أَجْسَادِهِمْ، إِذْ أَجْسَادُهُمْ نُشَاهِدُ فَسَادَهَا وفناءها. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَبِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ مَعْنَاهُ: لَا تَشْعُرُونَ بِكَيْفِيَّةِ حَيَاتِهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى بِإِحْيَاءٍ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَنُورٍ، لَمْ يَظْهَرْ لِنَفْيِ الشُّعُورِ مَعْنًى، إِذْ هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِالْبَعْثِ، وَبِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى. فَلَا يُقَالُ فِيهِ: وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ شَعَرُوا بِهِ وَبِقَوْلِهِ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ «3» . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الشَّهِيدَ حَيُّ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الشُّعُورِ بِهِ مِنَ الْحَيِّ غَيْرِهِ. فَنَحْنُ نَرَاهُمْ عَلَى صِفَةِ الْأَمْوَاتِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، كَمَا قَالَ تعالى:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 45. (2) سورة الأنعام: 6/ 122. (3) سورة آل عمران: 3/ 170.

وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» ، وَكَمَا تَرَى النَّائِمَ عَلَى هيئة، وَهُوَ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَنْعَمُ بِهِ أَوْ يَتَأَلَّمُ بِهِ. وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ، حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُ حَفَرَ فِي مَكَانٍ، فَانْفَتَحَتْ طَاقَةٌ، فَإِذَا شَخْصٌ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ يَقْرَأُ فِيهِ وَأَمَامَهُ رَوْضَةٌ خَضْرَاءُ، وَذَلِكَ بِأُحُدٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِأَنَّهُ رَأَى فِي صَفْحَةِ وَجْهِهِ جُرْحًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، إِمَّا أَرْوَاحُهُمْ، وَإِمَّا أَجْسَادُهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ، فَاخْتُلِفَ فِي مُسْتَقَرِّهَا. فَقِيلَ: قُبُورُهُمْ يُرْزَقُونَ فِيهَا. وَقِيلَ: فِي قِبَابٍ بِيضٍ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ فِيهَا، قَالَهُ أَبُو بَشَّارٍ السُّلَمِيُّ. وَقِيلَ: فِي طَيْرٍ بِيضٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَمَسَاكِنُهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَيَجِدُونَ رِيحَهَا، وَلَيْسُوا فِيهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ» . وَرُوِيَ: فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمْ فِي قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ» . وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ، فَهِيَ أَحْوَالٌ لِطَوَائِفَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُمْ فِي الْفِرْدَوْسِ» . وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَفْنَى، وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْبَدَنِ. فَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ مُنَعَّمَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ الرِّزْقُ، فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «2» . وَقَالَ الْحَسَنُ: الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ، تُعْرَضُ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الرَّوْحُ وَالْفَرَحُ، كَمَا تُعْرَضُ النَّارُ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ غُدْوَةً وَعَشِيًّا، فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الْوَجَعُ. وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهِيدِ جُمْلَةً فَيُحْيِيهَا وَيُوصِلَ إِلَيْهَا النَّعِيمَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَجْمِ الذَّرَّةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِرِزْقِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ وَلَا لِمُسْتَقَرِّهَا، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، اتِّبَاعًا لِلْمُفَسِّرِينَ، حَيْثُ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَمَظِنَّةُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «3» ، حَيْثُ ذَكَرَ الْعِنْدِيَّةَ وَالرِّزْقَ، وَظَاهِرُ

_ (1) سورة النمل: 27/ 88. (2) سورة غافر: 40/ 46. (3) سورة آل عمران: 3/ 169.

قَوْلِهِ: لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْعُمُومُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ، كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلَا يُخَصَّصُ هَذَا الْعُمُومُ بِهَذَا السَّبَبِ، بَلِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لِأَقْرِبَاءِ الشُّهَدَاءِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فهم مغبوطون لا محزونون عَلَيْهِمْ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ: تَقَدَّمَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ: هُوَ الِاخْتِبَارُ، لِيُعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ الْمُخْتَبَرِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هُنَا: الْإِجَابَةُ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي لِلْخِطَابِ. قِيلَ: هُوَ لِلصَّحَابَةِ فَقَطْ، قَالَهُ عَطَاءٌ. خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِالْوَاقِعِ، كَانَ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُفَاجِئُ، فَإِنَّهَا أَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ، وَزِيَادَةَ ثَوَابٍ وَأَجْرٍ عَلَى ما يحصل لهم من انْتِظَارِ الْمُصِيبَةِ، وَإِخْبَارًا بِمُغَيَّبٍ يَقَعُ وَفْقَ مَا أَخْبَرَ، وَتَمْيِيزًا لِمَنْ أَسْلَمَ مُرِيدًا وَجْهَ اللَّهِ مِمَّنْ نَافَقَ، وَازْدِيَادَ إِخْلَاصٍ فِي حَالِ الْبَلَاءِ عَلَى إِخْلَاصِهِ فِي حَالِ الْعَافِيَةِ، وَحَمْلًا لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ عَلَى النَّظَرِ في دلائل الإسلام، إذا رَأَى هَؤُلَاءِ الْمُبْتَلِينَ صَابِرِينَ عَلَى دِينِهِمْ ثَابِتِي الْجَأْشِ فِيهِ، مَعْ مَا ابْتُلُوا بِهِ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ، خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ إِعْلَامًا أَنَّهُ أَجَابَ دَعْوَةَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِيهِمْ، وَلِيَبْقُوا يَتَوَقَّعُونَ الْمُصِيبَةَ، فَتُضَاعَفُ عَلَيْهِمُ الْمُصِيبَاتُ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ، وَيَكُونُ آخِرَ الزَّمَانِ، قَالَ كَعْبٌ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا تَحْمِلُ النَّخْلَةُ إِلَّا ثمرة، فيكون هَذَا الْإِخْبَارُ تَحْذِيرًا وَمَوْعِظَةً عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَيَكُونُ إِخْبَارًا بِالْمُغَيَّبَاتِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَا يُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، بَلْ هُوَ عَامٌّ، لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَلَا بِمُخَاطَبٍ خَاصٍّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَنُصِيبَنَّ بِكَذَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ، وَأَنَّهُ لِلصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ الْآيَةَ، وَقَبْلَهَا: وَاشْكُرُوا لِي، وَالشُّكْرُ يُوجِبُ زِيَادَةَ النِّعَمِ وَالِابْتِلَاءُ بِمَا ذُكِرَ، يُنَافِيهِ ظَاهِرًا، وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّ إِتْمَامَ الشَّرَائِعِ إِتْمَامٌ للنعمة، وذلك يُوجِبُ الشُّكْرَ. وَالْقِيَامُ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، فَأَمَرَ فِيهَا بِالصَّبْرِ، وَأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَشَكَرَ، وَابْتُلِيَ ثَانِيًا فَصَبَرَ، لِيَنَالَ دَرَجَتَيِ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ، فَيَكْمُلُ إِيمَانُهُ. كَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ» . بِشَيْءٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْإِلْصَاقِ، وَأَفْرَدَهُ لِيَدُلَّ عَلَى التَّقْلِيلِ، إِذْ لَوْ جَمَعَهُ فَقَالَ: بِأَشْيَاءَ، لَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ ضُرُوبًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا بَعْدَهُ. وَقَدْ قَرَأَ الضَّحَّاكُ: بِأَشْيَاءَ، فَلَا يَكُونُ حَذْفٌ فِيمَا بَعْدَهَا، فَيَكُونُ مِنْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، بِخِلَافِ

قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بِشَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ أَيْ شَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ، وَشَيْءٍ مِنْ نَقْصٍ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِطَرَفٍ مِنْ كَذَا وَكَذَا. وَالْخَوْفُ: خَوْفُ الْعَدُوِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ حَصَلَ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجُوعُ: الْقَحْطُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ. وَقِيلَ: الْجُوعُ: الْفَقْرُ، عَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ: بِالْخُسْرَانِ وَالْهَلَاكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِالصَّدَقَاتِ. وَالْأَنْفُسِ: بِالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِالْأَمْرَاضِ، وَقِيلَ: بِالشَّيْبِ. وَالثَّمَرَاتِ: يَعْنِي الْجَوَائِحَ فِي الثَّمَرَاتِ، وَقِلَّةَ النَّبَاتِ، وَانْقِطَاعَ الْبَرَكَاتِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: قَدْ يَكُونُ نَقْصُهَا بِالْجُدُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ عِمَارَةِ الضِّيَاعِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْجِهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ يَرِدُ مِنَ الْوُفُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: بِظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالثَّمَرَاتُ: مَوْتُ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ ثَمَرَةُ قَلْبِهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ: أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُؤَنُ الْجِهَادِ وَكُلَفُهُ، فَالْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَالْجُوعُ بِهِ وَبِالْأَسْفَارِ إِلَيْهِ، وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ بِالنَّفَقَاتِ فِيهِ، وَالْأَنْفُسِ بِالْقَتْلِ، وَالثَّمَرَاتِ بِإِصَابَةِ الْعَدُوِّ لَهَا، أَوِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا بِسَبَبِ الْجِهَادِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَطَفَ وَنَقْصٍ عَلَى قَوْلِهِ: بِشَيْءٍ، أَيْ: وَلَنَمْتَحِنَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَبِنَقْصٍ، وَيُحَسِّنُ الْعَطْفُ تَنْكِيرَهَا، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ: وَشَيْءٍ مِنْ نَقْصٍ. وَمِنَ الْأَمْوَالِ: مُتَعَلِّقٌ بِنَقْصٍ، لِأَنَّهُ مَصْدَرُ نَقَصَ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَقَدْ حُذِفَ، أَيْ: وَنَقْصِ شَيْءٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لِنَقْصٍ. وَتَكُونَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، أَيْ وَنَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَكُونُ مِنْ إِذْ ذَاكَ لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالُوا: يجوز أن تكون من عِنْدَ الْأَخْفَشِ زَائِدَةً، أَيْ وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ. وَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ مُقْسِمًا عَلَيْهَا، تَأْكِيدًا لِوُقُوعِ الِابْتِلَاءِ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ أَسْبَابِ الْبَلَايَا إِلَيْهِ. وَأَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَعْدَهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عُقُوبَاتٍ، بَلْ إِذَا قَارَنَهَا الصَّبْرُ أَفَادَتْ دَرَجَةً عَالِيَةً فِي الدِّينِ. وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي الْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي: فَأَخْبَرَ أَوَّلًا بِالِابْتِلَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَهُوَ تَوَقُّعُ مَا يَرِدُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى الِابْتِلَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْخَوْفِ بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَ بِهِ مِنَ الْقَحْطِ، أَوِ الْفَقْرِ، أَوِ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَكْلِ، إِلَّا عَلَى تَفْسِيرِ

الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ. وَلَا تَرَقِّيَ بَيْنَ نَقْصٍ وَشَيْءٍ، عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَطْفِ نَقْصٍ عَلَى بِشَيْءٍ، بَلِ التَّرَقِّي فِي الْعَطْفِ بَعْدَ وَنَقْصٍ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَمْوَالِ، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الْأَنْفُسِ. وَأَمَّا وَالثَّمَرَاتِ، فَجَاءَ كَالتَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، لِأَنَّهَا تَنْدَرِجُ تَحْتَ الْأَمْوَالِ، فَلَا تَرَقِّيَ فِيهَا. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الْبِشَارَةُ، أَيْ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّصْرِ، أَوْ عَلَى الطَّاعَةِ بِالْجَزَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَصَائِبِ بِالثَّوَابِ، أَقْوَالٌ: وَالْأَحْسَنُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، أَيْ كُلُّ مَنْ صَبَرَ صَبْرًا مَحْمُودًا شَرْعًا، فَهُوَ مُنْدَرِجٌ فِي الصَّابِرِينَ. قَالُوا: وَالصَّبْرُ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ يَتَعَارَضُ فِيهِ الْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ، وَهُوَ بَدَنِيٌّ. وَهُوَ: إِمَّا فِعْلِيٌّ، كَتَعَاطِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَإِمَّا احْتِمَالٌ، كَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَنَفْسِيٌّ، وَهُوَ قَمْعُ النَّفْسِ عَنْ مُشْتَهَيَاتِ الطَّبْعِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَالْبَطْنِ، سُمِّيَ عِفَّةً. وَإِنْ كَانَ مِنِ احْتِمَالِ مَكْرُوهٍ، اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَكْرُوهِ. فَفِي الْمُصِيبَةِ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ بِاسْمِ الصَّبْرِ، وَيُضَادُّهُ الْجَزَعُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْغِنَى، سُمِّيَ ضَبْطَ النَّفْسِ، وَيُضَادُّهُ الْبَطَرُ. وَإِنْ كَانَ فِي حَرْبٍ، سُمِّيَ شَجَاعَةً، وَيُضَادُّهُ الْجُبْنُ. وَإِنْ كَانَ فِي نَائِبَةٍ مُضْجِرَةٍ، سُمِّي سَعَةَ صَدْرٍ، وَيُضَادُّهُ الضَّجَرُ. وَإِنْ كَانَ فِي إِخْفَاءِ كَلَامٍ، سُمِّيَ كِتْمَانًا، وَيُضَادُّهُ الْإِعْلَانُ. وَإِنْ كَانَ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا، سُمِّيَ زُهْدًا، وَيُضَادُّهُ الْحِرْصُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسِيرٍ مِنَ الْمَالِ، سُمِّي قَنَاعَةً، وَيُضَادُّهُ الشَّرَهُ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ أَقْسَامَ ذَلِكَ وَسَمَّى جَمِيعَهَا صَبْرًا، فَقَالَ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ «1» ، أَيِ الْمُصِيبَةِ وَالضَّرَّاءِ، أَيِ الْفَقْرِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أَيِ الْمُحَارَبَةِ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ الصَّبْرُ أَنْ لَا يَجِدَ الْإِنْسَانُ أَلَمَ الْمَكْرُوهِ، وَلَا أَنْ لَا يَكْرَهَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ إِظْهَارِ الْجَزَعِ، وَإِنْ ظَهَرَ دَمْعُ عَيْنٍ، أَوْ تَغَيُّرُ لَوْنٍ، وَلَوْ ظَهَرَ مِنْهُ أَوَّلُ مَا لَا يُعَدُّ مَعَهُ صَابِرًا ثُمَّ صَبَرَ، لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ إِلَّا سِلْوَانًا. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ: يَجُوزُ فِي الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى النَّعْتِ لِلصَّابِرِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِعْرَابِ، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا، أو مرفوعا على إضمارهم عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: مَنِ الصَّابِرُونَ؟ قِيلَ: هم الذين الَّذِينَ إِذَا. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَأُولَئِكَ عَلَيْهِمْ خَبَرُهُ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. مُصِيبَةٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَصَابَتْ، وَصَارَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِالشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَصَارَتْ كِنَايَةً عَنِ الدَّاهِيَةِ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ وَوَلِيَتِ الْعَوَامِلَ. وَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ: مِنَ التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ اسْمًا وَالْأُخْرَى فِعْلًا، ومنه:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 177.

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» ، إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «2» وَالْمُصِيبَةُ: كُلُّ مَا أَذَى الْمُؤْمِنَ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ أَهْلٍ، صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ، حَتَّى انْطِفَاءِ الْمِصْبَاحِ لِمَنْ يَحْتَاجُهُ يُسَمَّى: مُصِيبَةً. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ انْطِفَاءِ مِصْبَاحِهِ. وَالْمَعْنَى فِي إِذَا هُنَا: عَلَى التَّكْرَارِ وَالْعُمُومِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي إِذَا، أَتَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ، أَمْ وُضِعَتْ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ؟ قَوْلَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ. قالُوا إِنَّا لِلَّهِ: قَالُوا: جَوَابُ إِذَا، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ صِلَةٌ لِلَّذِينَ. وَإِنَّا: أَصْلُهُ إِنَّنَا، لِأَنَّهَا إِنْ دَخَلَتْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، فَحُذِفَتْ نُونٌ مِنْ إِنَّ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَحْذُوفَةُ هِيَ الثَّانِيَةَ، لِأَنَّهَا ظَرْفٌ، وَلِأَنَّهَا عُهِدَ فِيهَا الْحَذْفُ إِذَا خُفِّفَتْ، فَقَالُوا: إِنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ، وَهُوَ حَذْفٌ هُنَا لِاجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، فَلِذَلِكَ عَمِلَتْ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنَ الْحَذْفِ لا لهذه العلة، لا نفصل الضَّمِيرُ وَارْتَفَعَ وَلَمْ تَعْمَلْ، لِأَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ هَذَا التَّخْفِيفَ لَمْ تَعْمَلْ فِي الضَّمِيرِ. وَلِلَّهِ: مَعْنَاهُ الْإِقْرَارُ بِالْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِينَا بِمَا يُرِيدُ مِنَ الْأُمُورِ. وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ: إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مُصِيبَةِ الْمَوْتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ، وَتَذْكِيرٌ أَنَّ مَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ دُونَهَا فَهُوَ قَرِيبٌ يَنْبَغِي أن يصبر لَهُ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَقُولَتَيْنِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ نُفُوسَنَا وَأَمْوَالَنَا وَأَهْلِينَا لِلَّهِ لَا يَظْلِمُنَا فِيمَا يَصْنَعُهُ بِنَا. الثَّانِي: أَسْلَمْنَا الْأَمْرَ لِلَّهِ وَرَضِينَا بِقَضَائِهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ يَعْنِي: لِلْبَعْثِ لِثَوَابِ الْمُحْسِنِ وَمُعَاقَبَةِ الْمُسِيءِ. الثَّالِثُ: رَاجِعُونَ إِلَيْهِ فِي جَبْرِ الْمُصَابِ وَإِجْزَالِ الثَّوَابِ. الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ إِقْرَارٌ بِالْمَمْلَكَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِقْرَارٌ بِالْهَلَكَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ إِسْنَادَ الْإِصَابَةِ إِلَى الْمُصِيبَةِ، لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِيَعُمَّ مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ. فَمَا كَانَ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ، لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضًا لِلْأُمُورِ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَتَكْلِيفُهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ فِي الْإِنْصَافِ مِنْهُ، وَلَا يَتَعَدَّى، كَأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ إِنَّا لِلَّهِ، يُدَبِّرُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي الثَّانِي: إِنَّا إِلَيْهِ، يُنْصِفُ لَنَا كَيْفَ يَشَاءُ. وَقِيلَ: إِنَّا لِلَّهِ، دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَا بِمَا نَزَلَ بِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَا فِي الْحَالِ بِكُلِّ مَا سَيَنْزِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ. فَالْفَرْضُ: التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَدَرِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ

_ (1) سورة النجم: 53/ 57. [.....] (2) سورة الواقعة: 56/ 1.

فرائضه. والنفل: إظهارا لقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وَفِي إِظْهَارِهِ فَوَائِدُ مِنْهَا: غَيْظُ الْكُفَّارِ لِعِلْمِهِمْ بِجِدِّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، أُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ، وَصَلَوَاتٌ: ارْتِفَاعُهَا عَلَى الْفَاعِلِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ: أُولَئِكَ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالْمُفْرَدِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ صَلَوَاتٍ مُبْتَدَأً، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِهِ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالْجُمْلَةِ. وَالصَّلَاةُ: مِنَ اللَّهِ الْمَغْفِرَةُ، قاله ابن عباس أو الثَّنَاءُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ الْغُفْرَانُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَالرَّحْمَةُ: قِيلَ هِيَ الصَّلَوَاتُ، كُرِّرَتْ تَأْكِيدًا لَمَّا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ، كَقَوْلِهِ رَأْفَةً وَرَحْمَةً «1» . وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ: كَشْفُ الْكُرْبَةِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْعَدْلَانِ وَنِعْمَ الْعِلَاوَةُ، وَتَلَا: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ الْآيَةَ، يَعْنِي بِالْعَدْلَيْنِ: الصَّلَوَاتِ وَالرَّحْمَةَ، وَبِالْعِلَاوَةِ: الِاهْتِدَاءَ. وَفِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، اسْمُ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعُ لِلْبُعْدِ دَلَالَةً عَلَى بُعْدِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، كَمَا جَاءَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «2» . وَالْكِنَايَةُ عَنْ حُصُولِ الْغُفْرَانِ وَالثَّنَاءِ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ بِحَرْفِ عَلَى، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِي ذَلِكَ، قَدْ غَشِيَتْهُمْ وَتَجَلَّلَتْهُمْ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُمْ. وَجَمَعَ صَلَوَاتٍ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُطْلَقَ صَلَاةٍ، بَلْ صَلَاةٌ بَعْدَ صَلَاةٍ، وَنُكِّرَتْ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ الْعُمُومُ. وَوَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مِنْ رَبِّهِمْ، لِيَدُلَّ بِمِنْ عَلَى ابْتِدَائِهَا مِنَ اللَّهِ، أَيْ تَنْشَأُ تِلْكَ الصَّلَوَاتُ وَتَبْتَدِئُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً، فَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفَ مُضَافٍ، أَيْ صَلَوَاتٌ مِنْ صَلَوَاتِ رَبِّهِمْ. وَأَتَى بِلَفْظِ الرَّبِّ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ التَّرْبِيَةِ وَالنَّظَرِ لِلْعَبْدِ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُرَبِّهِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِالرَّحْمَةِ الصَّلَوَاتُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَقَيَّدَتْ. وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهَا مَا يُغَايِرُ الصَّلَوَاتِ، فَيُقَدَّرُ: وَرَحْمَةٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَتِ الصِّفَةُ لِمَا تَقَدَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ رَبِّهِمْ، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، فَلَا يَكُونُ صِفَةً، بَلْ يَكُونُ مَعْمُولًا لِلرَّافِعِ لِصَلَوَاتٍ، وَتَرَتَّبَ عَلَى مَقَامِ الصَّبْرِ. وَمَقَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّفْوِيضِ لِلَّهِ تَعَالَى، هَذَا الْجَزَاءُ الْجَزِيلُ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «من تذكر

_ (1) سورة الحديد: 57/ 27. (2) سورة لقمان: 31/ 5.

مُصِيبَتَهُ، فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا، وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَهُ يَوْمَ أُصِيبَ» . وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مَشْهُورٌ، حَيْثُ أَخْلَفَهَا اللَّهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ فِي الْمُصِيبَةِ مَا أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَلَوْ أُعْطِيهَا أَحَدٌ قَبْلَهَا لِأُعْطِيَهَا يَعْقُوبُ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ حين فقد يوسف؟ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «1» !. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ: إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْهُمْ بِالْهِدَايَةِ، وَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْهِدَايَةِ فَلَنْ يَضِلَّ أَبَدًا. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ ثَابِتَةٌ تَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، إِذْ كُلُّ وَصْفٍ لَهُ يَبْرُزُ في جملة مستقلة. وبدىء بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَهَمُّ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأُخِّرَتْ هَذِهِ لِأَنَّهَا تَنَزَّلَتْ مِمَّا قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ الْجَزِيلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَمَّنْ سَبَقَتْ هِدَايَتُهُ. وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: هُمْ. وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَأَنَّ الْهِدَايَةَ انْحَصَرَتْ فِيهِمْ وَبِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ فَيُخْبَرُ عَنْهَا بِالْفِعْلِ، بَلْ هِيَ وَصْفٌ ثَابِتٌ. وَقِيلَ: الْمُهْتَدُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَإِجْزَالِ الْأَجْرِ. وَقِيلَ: إِلَى تَسْهِيلِ الْمُصَابِ وَتَخْفِيفِ الْحُزْنِ. وَقِيلَ: إِلَى الِاسْتِرْجَاعِ. وَقِيلَ: إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَهَذِهِ التَّقْيِيدَاتُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا فِي اللَّفْظِ، فَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ، وَنَظِيرُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ قَوْلُهُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» . وَالْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ: هُمُ الْمُهْتَدُونَ، كَالْكَلَامِ على: الْمُفْلِحُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مَزِيدَ التَّوْكِيدِ فِي الْأَمْرِ بِتَوْلِيَةِ وَجْهِهِ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ، وَبِتَوْلِيَتِهِمْ وُجُوهَهُمْ شَطْرَهُ لِلِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ نَسْخِ الْقِبْلَةِ، حَيْثُ كَانَ النَّسْخُ صَعْبًا عَلَى النُّفُوسِ، حَيْثُ أَلِفُوا أَمْرًا، وَأُمِرُوا بِتَرْكِهِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهِ، وَخُصُوصًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى النَّسْخَ. فَلِذَلِكَ كُرِّرَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ وَفِعْلِهِ لِانْتِفَاءِ حُجَجِ النَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ بِأَمْرٍ مِنْهُ تَعَالَى، لَمْ تَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ عَلَى مُمْتَثِلِ أَمْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ ثَانِيًا، كَأَمْرِهِ أَوَّلًا. وَهُوَ قَدْ أَمَرَ أَوَّلًا بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ آخِرًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَالَفَ. وَاسْتَثْنَى مِنَ النَّاسِ مَنْ ظَلَمَ، لِأَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ حُجَجُهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً، وَلَا تَشْغِيبَاتُهُ وَتَمْوِيهَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ وَصْفٌ يَمْنَعُهُ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَالْبَلْجُ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِخَشْيَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ خَشْيَةِ النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا خَشُوا الله تعالى امتثلوا

_ (1) سورة يوسف: 12/ 84. (2) سورة لقمان: 31/ 5. وسورة البقرة: 2/ 5.

[سورة البقرة (2) : الآيات 158 إلى 167]

أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبُوا مَنَاهِيَهُ. وَعَطَفَ عَلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ عِلَّةً أُخْرَى، وَهِيَ إِتْمَامُ النِّعْمَةِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ إِذْ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَأْلُوفِ، وَلِتَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ. وَشَبَّهَ هَذَا الْإِتْمَامَ بِإِتْمَامِ نِعْمَةِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ فِيهِمْ، إِذْ هَذِهِ النِّعْمَةُ هِيَ الْأَصْلُ، وَهِيَ مَنْبَعُ النِّعَمِ وَالْهِدَايَةِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رُزِقُوا مِنْهَا الْحَظَّ الْأَكْمَلَ، وَهِيَ تِلَاوَةُ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «1» ؟ فَكَيْفَ بِمَزِيدِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ مَنِ الْأَرْجَاسِ وَالْحَيَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ فِي النَّاسِ؟ أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ... وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ وَقَالَ آخَرٌ: مَحَلُّ الْعَلَمِ لَا يَأْوِي تُرَابًا ... وَلَا يَبْلَى عَلَى الزَّمَنِ الْقَدِيمِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالذِّكْرِ لِهَذِهِ النِّعَمِ لِئَلَّا يَنْسَوْهَا، وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا لِأَنْ يَزِيدَهُمْ مِنَ النِّعَمِ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ كُفْرَانِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ يَقْتَضِي زَوَالَهَا وَاسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَادَى مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ ثَانِي نِدَاءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِيُقْبِلُوا عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. فَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِهِمَا تُحَصِّلُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ مَنْ صَبَرَ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لِلشُّهَدَاءِ إِنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّا لَا نَشْعُرُ نَحْنُ بِحَيَاتِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ فِيهِ الصَّبْرُ، وَهُوَ شَيْءٌ مِنَ الْبَلَايَا الَّتِي ذَكَرَهَا تَعَالَى. ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُبَشِّرَ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا ابْتُلُوا بِهِ الْمُسَلِّمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا صَرِيحًا أَنَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَمَمَالِيكُهُ، وَإِلَيْهِ مَآبُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ، يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا أَرَادَ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا الْوَصْفِ، فَعَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ، وَهُوَ الْمُهْتَدِي الَّذِي ثَبَتَتْ هدايته ورسخت. [سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 167] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 51.

الصَّفَا: أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِقَوْلِهِمْ: صَفْوَانٌ، وَلِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الصَّفْوِ، وَهُوَ الْخَالِصُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَمُفْرَدُهُ صَفَاةٌ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ يُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ وَأَفْعَالٍ، قَالُوا: صَفِيٌّ وَأَصْفَاءٌ. مِثْلُ: قِفِيٌّ وَأَقْفَاءٌ. وَتُضُمُّ الصَّادُ فِي فُعُولٍ وَتُكْسَرُ، كَعِصِيٍّ، وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ. وَقِيلَ: الْحَجَرُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ مِنْ طِينٍ، أَوْ تُرَابٍ يَتَّصِلُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاشْتِقَاقُ. وَقِيلَ: هُوَ الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ. الْمَرْوَةُ: وَاحِدَةُ الْمَرْوِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، قَالَ: فَتَرَى الْمَرْوَ إِذَا مَا هَجَّرَتْ ... عَنْ يَدَيْهَا كَالْفَرَاشِ الْمُشْفَتِّرِ وَقَالُوا: مروان فِي جَمْعِ مَرْوَةٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي جَمْعِ تَصْحِيحِ مَرْوَةٍ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ الَّتِي فِيهَا لِينٌ. وَقِيلَ: الْحِجَارَةُ الصَّلْبَةُ. وَقِيلَ: الصِّغَارُ الْمُرْهَفَةُ الْأَطْرَافِ. وَقِيلَ:

الْحِجَارَةُ السُّودُ. وَقِيلَ: الْبِيضُ. وَقِيلَ: الْبِيضُ الصَّلْبَةُ. وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ فِي الْآيَةِ: عَلَمَانِ لِجَبَلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَزِمَتَا فِيهِمَا لِلْغَلَبَةِ، كَهُمَا فِي الْبَيْتِ: لِلْكَعْبَةِ، وَالنَّجْمِ: لِلثُّرَيَّا، الشَّعَائِرُ: جَمَعَ شَعِيرَةٍ أَوْ شَعَارَةٍ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: سَمِعْتُ الْأَزْهَرِيَّ يَقُولُ: هِيَ الْعَلَائِمُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ بِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَوْقِفٍ وَمَشْهَدٍ وَمَسْعًى وَمَذْبَحٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَنَا هَذِهِ الْمَادَّةُ، أَعْنِي مَادَّةَ شَعَرَ، أَيْ أَدْرَكَ وَعَلِمَ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: بَيْتُنَا شِعَارٌ: أَيْ عَلَامَةٌ، وَمِنْهُ إِشْعَارُ الْهَدْيِ. الْحَجُّ: الْقَصْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الرَّاجِزُ: لَرَاهِبٌ يَحُجُّ بَيْتَ الْمَقْدِسْ ... فِي مَنْقَلٍ وَبَرْجَدٍ وَبُرْنُسْ وَالِاعْتِمَارُ: الزِّيَارَةُ. وَقِيلَ: الْقَصْدُ، ثُمَّ صَارَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَمَيْنِ لِقَصْدِ الْبَيْتِ وَزِيَارَتِهِ لِلنُّسُكَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ، وَهُمَا فِي الْمَعَانِي: كَالْبَيْتِ وَالنَّجْمِ فِي الْأَعْيَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَاتَانِ الْمَادَّتَانِ فِي يُحَاجُّوكُمْ وَفِي يَعْمُرُ. الْجُنَاحُ: الْمَيْلُ إِلَى الْمَأْثَمِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْإِثْمِ. يُقَالُ: جَنَحَ إِلَى كَذَا جُنُوحًا: مَالَ، وَمِنْهُ جُنْحُ اللَّيْلِ: مَيْلُهُ بِظُلْمَتِهِ، وَجَنَاحُ الطَّائِرِ. تَطَوَّعَ: تَفَعَّلَ مِنَ الطَّوْعِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ. اللَّيْلُ: قِيلَ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، مِثْلُ: تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ، ولا يحفظ جمعا لِلَّيْلِ، وَأَخْطَأَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّيَالِيَ جَمْعُ اللَّيْلِ، بَلِ اللَّيَالِي جَمْعُ لَيْلَةٍ، وَهُوَ جَمْعٌ غَرِيبٌ، وَنَظِيرُهُ: كَيْكَةُ وَالْكَيَاكِي، وَالْكَيْكَةُ: الْبَيْضَةُ، كَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمَا لَيْلَاهُ وَكَيْكَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوَهُّمِ قَوْلُهُمْ فِي تَصْغِيرِ ليلة: لييلية، وَقَدْ صَرَّحُوا بِلَيْلَاةٍ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فِي كُلِّ يَوْمٍ وَبِكُلِّ لَيْلَاةٍ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَلِفُ إِشْبَاعًا نَحْوَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: بَعْضُ الطَّيْرِ يُسَمَّى لَيْلًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَلَدُ الْحُبَارَى. وَأَمَّا النَّهَارُ: فَجَمْعُهُ نَهَرٌ وَأَنْهِرَةٌ، كَقَذَلٍ وَأَقْذِلَةٍ، وَهُمَا جَمْعَانِ مَقِيسَانِ فِيهِ. وَقِيلَ: النَّهَارُ مُفْرَدٌ لَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِكَ: الضِّيَاءُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْلَا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنَا بِالضُّمَرِ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنَّهَرِ وَيُقَالُ: رَجُلٌ نَهَرٌ، إِذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي النَّهَارِ، وَفِيهِ مَعْنَى النَّسَبِ. قَالُوا: وَالنَّهَارُ مِنْ

طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيٍّ: «إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» ، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ «1» . وَظَاهِرُ اللُّغَةِ أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: وَيَغْلِبُ أَوَّلُ النَّهَارِ طُلُوعَ الشَّمْسِ. زَادَ النَّضْرُ: وَلَا يُعَدُّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ النَّهَارِ. وقال الزجاج، في (كتاب الْأَنْوَاءِ) : أَوَّلُ النَّهَارِ ذُرُورُ الشَّمْسِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخَرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا وَالْمِصْرُ: الْقَطْعُ. وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ: إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَإِنَّهَا ... أَمَارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكِ فَوَدِّعِي وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا نَهَارٌ، وَمِنَ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَادَّةُ نَهَرَ فِي قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «2» . الْفُلْكُ: السُّفُنُ، وَيَكُونُ مُفْرَدًا وَجَمْعًا. وَزَعَمُوا أَنَّ حَرَكَاتِهِ فِي الْجَمْعِ لَيْسَتْ حَرَكَاتِهِ فِي الْمُفْرَدِ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَ مفرد أثنى، قَالُوا: فَلَكَانِ. وَقِيلَ: إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، فَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَأَنَّ حَرَكَاتِهِ فِي الْجَمْعِ حَرَكَاتُهُ فِي الْمُفْرِدِ، وَلَا تُقَدَّرُ بِغَيْرِهَا. وَإِذَا كَانَ مُفْرَدًا فَهُوَ مُذَكَّرٌ، كَمَا قَالَ: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «3» . وَقَالُوا: وَيُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ الْمُفْرَدِ، قَالَ: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا، إِذْ يَكُونُ هُنَا اسْتُعْمِلَ جَمْعًا، فَهُوَ مِنْ تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ يُوصَفُ بِالَّتِي، كَمَا تُوصَفُ بِهِ الْمُؤَنَّثَةُ. وَقِيلَ: وَاحِدُ الْفُلْكِ، فَلَكٌ، كَأُسْدٍ وَأَسَدٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الدَّوَرَانِ، وَمِنْهُ: فَلَكُ السَّمَاءِ الَّذِي تَدُورُ فِيهِ النُّجُومُ، وَفَلَكَةُ الْمِغْزَلِ، وَفَلَكَةُ الْجَارِيَةِ: اسْتِدْرَارُ نَهْدِهَا. بَثَّ: نَشَرَ وَفَرَّقَ وَأَظْهَرَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَفِي الْأَرْضِ مَبْثُوثًا شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ وَمُضَارِعُهُ: يَبُثُّ، عَلَى الْقِيَاسِ فِي كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُضَعَّفٍ مُتَعَدٍّ أَنَّهُ يَفْعُلُ إِلَّا مَا شَذَّ. الدَّابَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ، وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهُ الطَّيْرَ بقول علقمة:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 187. (2) سورة البقرة: 2/ 25. (3) سورة الشعراء: 26/ 119.

كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ وَيَقُولُ الْأَعْشَى: دَبِيبَ قَطَا الْبَطْحَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلِ وَفِعْلُهُ: دَبَّ يَدِبُّ، وَهَذَا قِيَاسُهُ لِأَنَّهُ لَازِمٌ، وَسُمِعَ فِيهِ يَدُبُّ بِضَمِّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ، وَالْهَاءُ فِي الدَّابَّةِ لِلتَّأْنِيثِ، إِمَّا عَلَى مَعْنَى نَفْسِ دَابَّةٍ، وَإِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ، لِكَثْرَةِ وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. التَّصْرِيفُ: مَصْدَرُ صَرَفَ، وَمَعْنَاهُ: رَاجِعٌ لِلصَّرْفِ، وَهُوَ الرَّدُّ. صَرَفْتُ زَيْدًا عَنْ كَذَا: رَدَدْتُهُ. الرِّيَاحُ: جَمْعُ رِيحٍ، جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَيَاؤُهُ وَاوٌ لِأَنَّهَا مِنْ رَاحَ يَرُوحُ، وَقُلِبَتْ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَحِينَ زَالَ مُوجِبُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، ظَهَرَتِ الْوَاوُ، قالوا: أَرْوَاحٌ، كَجَمْعِ الرُّوحِ. قَالَ الشاعر: أريت بِهَا الْأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا آلُ نُؤْيٍ مُنَضَّدِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ لَحَنَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلَالِ بْنِ جَرِيرٍ، فَاسْتَعْمَلَ الْأَرْيَاحَ فِي شِعْرِهِ، وَلَحَنَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ الْأَرْيَاحَ لَا يَجُوزُ، فَقَالَ لَهُ عُمَارَةُ: أَلَا تَسْمَعَ قَوْلَهُمْ: رِيَاحٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا خِلَافُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ وَرَجَعَ. انْتَهَى. وَفِي مَحْفُوظِي قَدِيمًا أَنِ الْأَرْيَاحَ جَاءَتْ فِي شِعْرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِهِمْ، كَأَنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْقَلْبِ مَفْقُودَةً فِي الْجَمْعِ، كَمَا قَالُوا: عِيدٌ وَأَعْيَادٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْعَوْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْبَدَلَ جَعَلَهُ كالحرف الأصلي. السحاب: اسْمُ جِنْسٍ، الْمُفْرَدُ سَحَابَةٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْسَحِبُ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: حَبَى، لِأَنَّهُ يَحْبُو، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. التَّسْخِيرُ: هُوَ التَّذْلِيلُ وَجُعِلَ الشَّيْءُ دَاخِلًا تَحْتَ الطَّوْعِ. قَالَ الرَّاغِبُ: التَّسْخِيرُ: الْقَهْرُ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْإِكْرَاهِ. الْحُبُّ: مَصْدَرُ حَبَّ يَحِبُّ، وَقِيَاسُ مُضَارِعِهِ يُحِبُّ بِالضَّمِّ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُضَاعَفِ الْمُتَعَدِّي، وَقِيَاسُ الْمَصْدَرِ الْحَبُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَيُقَالُ: أَحَبَّ، بِمَعْنَى: حَبَّ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَمَحْبُوبٌ أَكْثَرُ مِنْ مُحِبٍّ، وَمُحِبٌّ أَكْثَرُ مِنْ حَابَّ، وَقَدْ جَاءَ جَمْعُ الْحُبِّ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: ثَلَاثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبُّ عَلَاقَةٍ ... وَحُبُّ تِمِلَّاقٍ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ وَالْحُبُّ: إِنَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَاءَ. الْجَمِيعُ: فَعِيلٌ مِنَ الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، فَلِذَلِكَ يُتْبَعُ تَارَةً بِالْمُفْرَدِ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «1» ، وَتَارَةً بِالْجَمْعِ: جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «2» ،

_ (1) سورة القمر: 54/ 44. (2) سورة يس: 36/ 32.

وَيَنْتَصِبُ حَالًا: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو جَمِيعًا، وَيُؤَكَّدُ بِهِ بِمَعْنَى كُلِّهِمْ: جَاءَ الْقَوْمُ جَمِيعُهُمْ، أَيْ كُلُّهُمْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ، إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الشُّمُولِ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ. تَبَرَّأَ: تَفَعَّلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرِئْتُ مِنَ الدِّينِ. بَرَاءَةً: وَهُوَ الْخُلُوصُ وَالِانْفِصَالُ وَالْبُعْدُ. تَقَطَّعَ: تَفَعَّلَ مِنَ الْقَطْعِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ. الْأَسْبَابُ: جَمَعَ سَبَبٍ، وَهُوَ الْوَصْلَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ، وَالْحَاجَةِ مِنْ بَابٍ، أَوْ مَوَدَّةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قِيلَ: وَقَدْ تُطْلَقُ الْأَسْبَابُ عَلَى الْحَوَادِثِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنِيَةِ يَلْقَهَا ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَأَصْلُ السَّبَبِ: الْحَبْلُ، وَقِيلَ: الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ، وَقِيلَ: الرَّابِطُ الْمُوصِلُ. الْكَرَّةُ: الْعَوْدَةُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَالْفِعْلُ كَرَّ يَكِرُّ كَرًّا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَكُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَا أُبَالِي ... أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا الْحَسْرَةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ، وَهُوَ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِانْحِسَارِهِ عَنْ مِأَمُولِهِ.. إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، سَبَبُ النُّزُولِ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَحُجُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ مَنَاةُ خَزَفًا وَحَدِيدًا، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا، فَأُنْزِلَتْ. وَخُرِّجَ هَذَا السَّبَبُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّحَرُّجِ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَثْنَى عَلَى الصَّابِرِينَ، وَكَانَ الْحَجُّ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الْمُفْنِيَةِ لِلْمَالِ وَالْبَدَنِ وَكَانَ أَحَدَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، نَاسَبَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، كَمَا ذَكَرْنَا، قِيلَ: عَلَمَانِ لِهَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، وَالْأَعْلَامُ لَا يُلْحَظُ فِيهَا تَذْكِيرُ اللَّفْظِ وَلَا تَأْنِيثُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: طَلْحَةُ وَهِنْدٌ؟ وَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: ذُكِّرَ الصَّفَا، لِأَنَّ آدَمَ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَأُنِّثَتِ الْمَرْوَةُ، لِأَنَّ حَوَّاءَ وَقَفَتْ عَلَيْهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ يُدْعَى إِسَافًا، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى نَائِلَةَ، فَاطَّرَدَ ذَلِكَ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقُدِّمَ الْمُذَكَّرُ. نَقَلَ الْقَوْلَيْنِ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ دُوِّنَ فِي كِتَابٍ مَا ذَكَرْتُهُ. وَلِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ كَلَامٌ مَنْقُولٌ عَنْهُمْ فِي الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، رَغِبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَلَيْسَ الْجَبَلَانِ لِذَاتِهِمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِنَّ طَوَافَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَمَعْنَى مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ: مَعَالِمِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: مَعْنَى مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ مِنْ مَوَاضِعِ عِبَادَتِهِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مضاف فِي الْأَوَّلِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْجَرِّ. وَلَمَّا كَانَ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، إِنَّمَا يَكُونُ عِبَادَةً إِذَا كَانَ بَعْضَ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، وَمَنْ شَرْطِيَّةٌ. فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ

بِهِما ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَطَّوَّفَ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَشَهْرٌ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ لَا، نَحْوَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» ؟ وَقَوْلُهُ: وَمَا أَلُومُ البيض أن لا تسخرا ... إِذَا رَأَيْنَ الشَّمَطَ الْقَفَنْدَرَا فَتَتَّحِدُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي فِعْلِ الشَّيْءِ هُوَ رَفْعٌ فِي تَرْكِهِ، إِذْ هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا «2» . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لَا عَلَى بَابِهَا لِلنَّفْيِ، وَتَكُونُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِيهَا رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي فِعْلِ الطَّوَافِ نَصًّا، وَفِي هَذِهِ رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي التَّرْكِ نَصًّا، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَيْسَ الطَّوَافُ بِهِمَا وَاجِبًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَهُ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ، فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ، أَوْ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ، كَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةِ، أَوْ إِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، أَوْ ثَلَاثَةً فَأَقَلَّ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ شَوْطٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ جَلِيٍّ يَنْسَخُ هَذَا النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ لِعُرْوَةَ حِينَ قَالَ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، فَمَا نَرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا؟ فَقَالَتْ: يَا عُرَيَّةُ، كَلَّا، لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. كَلَامٌ لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْإِثْمِ عَمَّنْ طَافَ بِهِمَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الطَّوَافِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ إِبَاحَةُ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا كُنْتَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَمَنْ سَعَى بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ صُعُودٍ عَلَيْهِمَا، لَمْ يُعَدَّ طَائِفًا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مُطْلَقِ الطَّوَافِ، لَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَلَا عَدَدٍ. وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الرَّمَلَ فِي السَّعْيِ سُنَةٌ. وَرَوَى عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ سَعَى بِمَسِيلِ مَكَّةَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَسْعَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي الرَّمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي. وَكَانَ عُمَرُ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: إِنْ مَشَيْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي، وَإِنْ سَعَيْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى. وَسَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَيُحْتَمَلَ مَشْرُوعِيَّتُهُ دَائِمًا، وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ. وَالرُّكُوبُ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حنيفة

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 12. (2) سورة البقرة: 2/ 230.

وَأَصْحَابِهِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ الرُّكُوبُ فِي السَّعْيِ، وَلَا فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَعَلَيْهِ إِذْ ذَاكَ دَمٌ. وَإِنْ طَافَ رَاكِبًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَعَادَ إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْبَيْتِ، وَإِلَّا أَهْدَى. وَشَكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» . ولم يجىء فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِدَمٍ. وَفَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ: إِنْ طَافَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ أَجْزَاهُ، أَوْ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ لَمْ يُجْزِهِ. وَكَوْنُ الضَّمِيرِ مُثَنَّى فِي قَوْلِهِ: بِهِمَا، لَا يُدْلِ عَلَى الْبَدَاءَةِ بِالصَّفَا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فِي السَّعْيِ أَجْزَأَهُ، وَمَشْرُوعِيَّةُ السَّعْيِ، عَلَى قَوْلِ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، الْبَدَاءَةُ بِالصَّفَا. فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يُلْغَى ذَلِكَ الشَّوْطُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَجْزِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا: إِنْ لَمْ يُلْغِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ نَزَّلَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَطَّوَّفَ وَأَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ، وَفِي الْمَاضِي كَانَ أَصْلُهُ تَطَوَّفَ، ثُمَّ أُدْغِمَ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، فَاحْتَاجَ إِلَى اجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، لِأَنَّ الْمُدْغَمَ فِي الشَّيْءِ لَا بُدَّ مِنْ تَسْكِينِهِ، فَصَارَ اطَّوَّفَ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ يَطَّوَّفُ، فَانْحَذَفَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَحْصِينِ الْحَرْفِ الْمُدْغَمِ بِحَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَمْزَةَ: أَنْ يَطُوفَ بِهِمَا، مَنْ طَافَ يَطُوفُ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو السمال: يُطَافُ بِهِمَا، وَأَصْلُهُ: يَطْتَوِفُ، يَفْتَعِلُ، وَمَاضِيهِ: اطْتَوَفَ افْتَعَلَ، تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ، وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، فَقُلِبَتْ أَلِفًا، وَأُدْغِمَتِ الطَّاءُ فِي التَّاءِ بَعْدَ قَلْبِ التَّاءِ طَاءً، كَمَا قَلَبُوا فِي اطَّلَبَ، فَهُوَ مُطَّلِبٌ، فَصَارَ: اطَّافَ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ: يَطَّافُ، كَمَا جَاءَ يطلب: ومصدر أطوف: اطوّفا، وَمَصْدَرُ اطَّافَ: اطِّيَافًا، عَادَتِ الْوَاوُ إِلَى أَصْلِهَا، لِأَنَّ مُوجِبَ إِعْلَالِهَا قَدْ زَالَ، ثُمَّ قُلِبَتْ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، كَمَا قَالُوا: اعتاد اعْتِيَادًا، وَأَنْ يَطَّوَّفَ أَصْلُهُ، فِي أَنْ يَطَّوَّفَ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الطَّوَافِ بِهِمَا، فَحَذَفَ الْحَرْفَ مَعَ أَنْ، وَحَذْفُهُ قِيَاسٌ مَعَهَا إِذَا لَمْ يُلْبَسْ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، أَمَوْضِعُهَا بَعْدَ الْحَذْفِ جَرٌّ أَمْ نَصْبٌ؟ وَجَوَّزَ بَعْضُ مَنْ لَا يُحْسِنُ عِلْمَ النَّحْوِ أَنْ يَكُونَ: أَنْ يَطَّوَّفَ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَيْضًا، قَالَ التَّقْدِيرُ: فَلَا جُنَاحَ الطَّوَافُ بِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي حَالِ تَطَوُّفِهِ بِهِمَا، قَالَ: وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْعَامِلُ فِي الْجَرِّ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي عَلَيْهِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ سَاقِطَانِ، وَلَوْلَا تَسْطِيرُهُمَا فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ لَمَا ذَكَرْتُهُمَا. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً: التَّطَوُّعُ: مَا تَتَرَغَّبُ بِهِ مِنْ ذَاتِ نَفْسِكَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي حديث ضمام: هل عيّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ، أَيْ تَتَبَرَّعَ. هَذَا

هُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّبَرُّعَ بِأَيِّ فِعْلِ طَاعَةٍ كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَوْ بِالنَّفْلِ عَلَى وَاجِبِ الطَّوَافِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ بِالْعُمْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، أَوْ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَسْقَطَ وُجُوبَ السَّعْيِ، لَمَّا فَهِمَ الْإِبَاحَةَ فِي التَّطَوُّفِ بِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، حَمَلَ هَذَا عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ تَبَرَّعَ بِالطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، أَوْ بِالسَّعْيِ فِي الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: تَطَوَّعَ فِعْلًا مَاضِيًا هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ «1» ، فَيَحْتَمِلُ مَنْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: يَطَوَّعْ مُضَارِعًا مَجْزُومًا بِمَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَافَقَهُمَا زَيْدٌ وَرُوَيْسٌ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَانْتِصَابُ خَيْرًا عَلَى الْمَفْعُولِ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِخَيْرٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَرَأَ: يَتَطَوَّعُ بِخَيْرٍ. وَيَطَّوَّعُ أَصْلُهُ: يَتَطَوَّعُ، كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأُدْغِمَ. وَأَجَازُوا جَعْلَ خَيْرًا نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَمَنْ يَتَطَوَّعْ تَطَوُّعًا خَيْرًا. فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَإِذَا كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً فِي احْتِمَالِ أَحَدِ وَجْهَيْ مَنْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَطَوَّعَ فِعْلًا مَاضِيًا، فَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ تَطَوَّعَ إِذْ ذَاكَ تَكُونُ صِلَةً. وَشُكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا بِالثَّنَاءِ. وَعِلْمُهُ هُنَا هُوَ عِلْمُهُ بِقَدْرِ الْجَزَاءِ الَّذِي لِلْعَبْدِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ فِي الْعَمَلِ. وَقَدْ وَقَعَتِ الصِّفَتَانِ هُنَا الْمَوْقِعَ الْحَسَنَ، لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْخَيْرِ يَتَضَمَّنُ الْفِعْلَ وَالْقَصْدَ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الشُّكْرِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَذِكْرَ الْعِلْمِ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ، وَأُخِّرَتْ صِفَةُ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً، عَلَى الشُّكْرِ، كَمَا أَنَّ النِّيَّةَ مُقَدَّمَةٌ على الفعل لتواخي رؤوس الْآيِ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى: الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَكِتْمَانِهِمْ آيَةَ الرَّجْمِ وَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُعَاذًا سَأَلَ الْيَهُودَ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْكَاتِمُونَ هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَعُلَمَاءُ النَّصَارَى، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَحْبَارُ الْيَهُودِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَابْنُ صُورِيَّا، وَزَيْدُ بْنُ التَّابُوهِ. مَا أَنْزَلْنَا: فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ ظَاهِرٍ إِلَى ضَمِيرِ متكلم. والبينات: هي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 184. [.....]

الْحُجَجُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْهُدَى: الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ، أَوِ الْبَيِّنَاتُ وَالْهُدَى وَاحِدٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَوْكِيدٌ، وَهُوَ مَا أَبَانَ عَنْ نُبُوَّتِهِ وَهَدَى إِلَى اتِّبَاعِهِ. أَوِ الْبَيِّنَاتُ: الرَّجْمُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ، وَالْهُدَى: أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتُهُ وَاتِّبَاعُهُ. وَتَتَعَلَّقُ مَنْ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ كَائِنًا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي بَيَّنَاهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَا أَنْزَلْنَا، وَضَمِيرُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَيَّنَّاهُ مُطَابِقَةً لِقَوْلِهِ: أَنْزَلْنَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: بَيَّنَهُ: جَعَلَهُ ضَمِيرَ مُفْرَدٍ غَائِبٍ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ إِلَى ضَمِيرِ غَائِبٍ. والناس هُنَا: أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَقِيلَ: النَّاسُ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْأَوْلَى وَالْأَظْهَرُ: عُمُومُ الْآيَةِ فِي الْكَاتِمِينَ، وَفِي النَّاسِ، وَفِي الْكِتَابِ وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِنْ دِينِ اللَّهِ يُحْتَاجُ إِلَى بَثِّهِ وَنَشْرِهِ، وَذَلِكَ مُفَسَّرٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ فِي بَثِّهِ. وَقَدْ فَهِمَ الصَّحَابَةُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومَ، وَهُمُ الْعَرَبُ الْفُصَّحُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ. وَقَدِ امْتَنَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ تَحْدِيثِهِ بِبَعْضِ مَا يَخَافُ مِنْهُ فَقَالَ: لَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ اسْتِحْقَاقُ اللَّعْنَةِ عَلَى مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ التَّعْلِيمُ وَالتَّبْيِينُ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلُوا، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «1» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَزْمٍ الْقُرْطُبِيُّ، فِيمَا سَمِعَ مِنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن أبي نَصْرٍ الْحُمَيْدِيُّ الْحَافِظُ: الْحَظُّ لِمَنْ آثَرَ الْعِلْمَ وَعَرَفَ فَضْلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ جُهْدَهُ وَيُقْرِئَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَيُحَقِّقَهُ مَا أَمْكَنَهُ، بَلْ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَهْتِفَ بِهِ عَلَى قَوَارِعِ طُرُقِ الْمَارَّةِ ويدعو إليه في شوارع السَّابِلَةِ وَيُنَادِي عَلَيْهِ فِي مَجَامِعِ السَّيَّارَةِ، بَلْ لَوْ تَيَسَّرَ لَهُ أَنْ يَهَبَ الْمَالَ لِطُلَّابِهِ وَيُجْرِيَ الْأُجُورَ لِمُقْتَبِسِيهِ وَيُعْظِمَ الْأَجْعَالَ لِلْبَاحِثِينَ عَنْهُ وَيُسَنِّيَ مَرَاتِبَ أَهْلِهِ صَابِرًا فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَالْأَذَى، لَكَانَ ذَلِكَ حَظًّا جَزِيلًا وَعَمَلًا جَيِّدًا وَسَعْدًا كَرِيمًا وَإِحْيَاءً لِلْعِلْمِ، وَإِلَّا فَقَدَ دَرَسَ وَطُمِسَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا آثَارٌ لَطِيفَةٌ وَأَعْلَامٌ دَائِرَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. وَاسْتَحَقُّوا هذا الأمر

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 187.

الْفَظِيعَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ كِتْمَانُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ لِلنَّاسِ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِيهِ لَبْسٌ، فَعَمَدُوا إِلَى هَذَا الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ فَكَتَمُوهُ، فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ هَذَا الْعِقَابَ. وَجَاءَ بِأُولَئِكَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْبَعِيدِ، تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ الْقَبِيحِ، وَأَبْرَزَ الْخَبَرَ فِي صُورَةِ جُمْلَتَيْنِ تَوْكِيدًا وَتَعْظِيمًا، وَأَتَى بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِي التَّجَدُّدَ لِتَجَدُّدِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ. وَلِذَلِكَ أَتَى صِلَةُ الَّذِينَ فِعْلًا مُضَارِعًا لِيَدُلَّ أَيْضًا عَلَى التَّجَدُّدِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ هُوَ تَجَدُّدُ كِتْمَانٍ. وَجَاءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْنَدُ فِيهَا الْفِعْلُ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجَازِي عَلَى مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذَّنْبِ. وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ، لِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّاعِنِينَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ لِلْكَاتِمِينَ. وَأُبْرِزَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، لَكَانَ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ، لَكِنَّ فِي إِظْهَارِ هَذَا الِاسْمِ مِنَ الْفَخَامَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي الضمير. واللاعنون: كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ اللَّعْنُ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمُؤْمِنُو الثَّقَلَيْنِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَوْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ غَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَعُذِّبَ فَصَاحَ، إِذْ يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ أَوِ الْبَهَائِمُ وَالْحَشَرَاتُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَذَلِكَ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْجَدْبِ بِذُنُوبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ الْكَاتِمِينَ، أَوِ الطَّارِدُونَ لَهُمْ إِلَى النَّارِ حِينَ يَسُوقُونَهُمْ إِلَيْهَا، لِأَنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ قَالَهُ قَتَادَةُ أَوِ الْمُتَلَاعِنُونَ، إِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ مِنْهُمُ اللَّعْنَ انْصَرَفَ إِلَى الْيَهُودِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَمَنْ أَطْلَقَ اللَّاعِنُونَ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ أَجْرَاهُ مَجْرَى مَا يَعْقِلُ، إِذْ صَدَرَتْ مِنْهُ اللَّعْنَةُ، وَهِيَ مِنْ فِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ، وَذَلِكَ لِجَمْعِهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، ضَرْبٌ مِنَ الْبَدِيعِ، وَهُوَ التَّجْنِيسُ المغاير، وهو أن يكون إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ اسْمًا وَالْأُخْرَى فِعْلًا. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَمَعْنَى تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ عَنِ الْكِتْمَانِ إِلَى الْإِظْهَارِ. وَأَصْلَحُوا مَا أَفْسَدُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمُخَالَطَةِ الْكُفْرِ لَهَا، أَوْ مَا أَفْسَدُوا مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَعَ اللَّهِ، أَوْ أَصْلَحُوا قَوْمَهُمْ بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْإِضْلَالِ. وَبَيَّنُوا: أَيِ الْحَقَّ الَّذِي كَتَمُوهُ، أَوْ صِدْقَ تَوْبَتِهِمْ بِكَسْرِ الْخَمْرِ وَإِرَاقَتِهَا، أَوْ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، أَوِ اعْتَرَفُوا بِتَلْبِيسِهِمْ وَزُورِهِمْ، أَوْ مَا أَحْدَثُوا مِنْ تَوْبَتِهِمْ، لِيَمْحُوا سَيِّئَةَ الْكُفْرِ عَنْهُمْ وَيُعْرَفُوا بِضِدٍّ مَا كَانُوا يُعْرَفُونَ بِهِ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَأُولئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ وَالتَّبْيِينِ. أَتُوبُ عَلَيْهِمْ: أَيْ أَعْطِفُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا تَلْحَقُهُ لَعْنَةٌ. وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ:

تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَخَتَمَ بِهِمَا تَرْغِيبًا فِي التَّوْبَةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ هُمَا لَهُ، فَمَنْ رَجَعَ إِلَيْهِ عَطَفَ عَلَيْهِ وَرَحِمَهُ. وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ جُمْلَةً، مِنْهَا أَنَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ حَرَامٌ، يَعْنُونَ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ لِقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ لَا يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا لِذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أُمُورِ الشَّرَائِعِ، فَلَا تَحَرُّجَ فِي كَتْمِهَا. رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً. وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ» . أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالُوا: وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمُسْتَنْبَطُ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُحَرَّجُ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ، مَا لَمْ يُسْأَلْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ، وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُهُ الْقُرْآنَ حَتَّى يُسْلِمَ، وَلَا تَعْلِيمُ الْخَصْمِ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَهُ، وَلَا السُّلْطَانَ تَأْوِيلًا يَتَطَرَّقُ بِهِ إِلَى مَكَارِهِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا تَعْلِيمُ الرُّخَصِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا تُجْعَلُ طَرِيقًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ. وَمِنْهَا: وُجُوبُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إِلَّا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولُ قَوْلِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى يَعُمُّ الْمَنْصُوصَ وَالْمُسْتَنْبَطَ وَجَوَازُ لَعْنِ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا فَائِدَةَ فِي لَعْنِ مَنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ مِنَ الْكُفَّارِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ الْكُفَّارِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ. وَقَدْ لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُومًا بِأَعْيَانِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ لَعْنِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُ الْعَاصِي وَالْمُتَجَاهِرِ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ خِلَافًا، وَبَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا، فَأَجَازَهُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرَّعَا أَنْ يُظْهِرَ التَّائِبُ خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا، فَبِالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ، أَوْ عَاصِيًا، فَبِالرُّجُوعِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمُجَانَبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، أَوْ عَنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَوْبَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّوْبَةِ مُشَبَّعًا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ وَحَالَ مَنْ تَابَ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكُفْرِ، وَبَالَغَ فِي اللَّعْنَةِ، بِأَنْ جَعَلَهَا مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهِ، وَقَدْ تَجَلَّلَتْهُ وَغَشِيَتْهُ، فَهُوَ تَحْتَهَا، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزِلَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ حَالَ

الْكَاتِمِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ التَّائِبِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ مِنْهُمْ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْكَاتِمِينَ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا حَالَ الْحَيَاةِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ أَيْضًا بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ كُفَّارٌ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَوَاوُ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتُهَا أَفْصَحُ مِنْ حَذْفِهَا، خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ حَذْفَهَا شَاذًّا، وَهُوَ الْفَرَّاءُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ خبر إِنَّ، وَلَعْنَةُ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ عَلَيْهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ خَبْرٌ عَنْ أُولَئِكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ لَعْنَةُ فَاعِلًا بِالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ بِكَوْنِهِ خبرا لِذِي خَبَرٍ، فَيُرْفَعُ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَتَكُونُ قَدْ أَخْبَرَتْ عَنْ أُولَئِكَ بِمُفْرَدٍ، بِخِلَافِ الْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّكَ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ، بِالرَّفْعِ. وَخَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ جَمِيعُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَدَّرُوهُ: أَنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، أَوْ: أَنْ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ، مِنْ أَنَّ شَرْطَهُ أن يكون ثم طالب ومحرز لِلْمَوْضِعِ لَا يَتَغَيَّرُ، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ لَعْنَةً هُنَا مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَعْمَلُ، وَأَنَّهُ يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ لَا يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْعِلَاجُ. وَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ، أُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحُدُوثِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «1» ، لَيْسَ الْمَعْنَى أَلَا أَنْ يَلْعَنَ اللَّهُ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَوْلُهُمْ لَهُ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ. لَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْحُدُوثِ وَتَقْدِيرُ الْمَصْدَرَيْنِ مُنْحَلَّيْنِ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، بَلْ صَارَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَهُ وَجْهٌ وَجْهُ الْقَمَرِ، وَلَهُ شُجَاعَةٌ شُجَاعَةُ الْأَسَدِ، فَأَضَفْتَ الشَّجَاعَةَ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّعْرِيفِ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنْ يَشْجَعَ الْأَسَدُ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ هَذَا الْمَصْدَرُ، أَعْنِي لَعْنَةُ اللَّهِ بِأَنْ وَالْفِعْلِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لَا مُحْرِزَ لِلْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ لَا طَالِبَ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ الْفَاعِلَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى تُنَوِّنَ الْمَصْدَرَ؟ فَقَدْ تَغَيَّرَ الْمَصْدَرُ بِتَنْوِينِهِ، وَلِذَلِكَ حَمَلَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُمْ: هَذَا ضَارَبُ زَيْدٍ غَدًا وَعَمْرًا، عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ: أَيْ وَيَضْرِبُ عَمْرًا، وَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَوْضِعِ زَيْدٍ لِأَنَّهُ لَا مُحْرِزَ لِلْمَوْضِعِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ نَصَبْتَ زَيْدًا لَقُلْتَ: هَذَا ضَارَبٌ زَيْدًا وَتُنَوِّنُ؟ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى تَسْلِيمِ مَجِيءِ الْفَاعِلِ مَرْفُوعًا بَعْدَ الْمَصْدَرِ المنون، فهي مسألة

_ (1) سورة هود: 11/ 18.

خِلَافٍ. الْبَصْرِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زِيدٍ عَمْرًا. وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَلْ إِذَا نُوِّنَ الْمَصْدَرَ لَمْ يجىء بَعْدَهُ فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ. وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ، وَلَيْسَ لِلْبَصْرِيِّينَ حُجَّةٌ عَلَى إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ مِنَ السَّمَاعِ، بَلْ أَثْبَتُوا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنْ وَالْفِعْلِ. فَمَنْعُ هَذَا التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، فَيَكُونُ عَامِلًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْمَجْرُورِ بَعْدَهُ مَوْضِعًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ. وَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى وُجُوهٍ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. أَوَّلَاهَا: أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ لَمَّا لَمْ يُمْكِنُ الْعَطْفُ، التَّقْدِيرُ: وَتَلْعَنُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا خَرَّجَ سِيبَوَيْهِ فِي: هَذَا ضَارَبٌ زَيْدٍ وَعَمْرًا: أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ: وَيَضْرِبُ عَمْرًا. الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ أُعْرِبَ الْمُضَافُ إليه بإعرابه نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً حُذِفَ خَبَرُهُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ يَلْعَنُونَهُمْ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْعُمُومُ، فَقِيلَ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، إِذْ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَصَارَ عَامًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّاسِ مَنْ يُعْتَدُّ بِلَعْنَتِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْكَافِرُونَ يَلْعَنُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَقُولُونَ: فِي الدُّنْيَا لَعَنَ اللَّهُ الْكَافِرَ، فَيَتَأَتَّى الْعُمُومُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَدَأَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ، وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ طَرْدًا وَإِبْعَادًا. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ «2» ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ هِيَ الَّتِي تَجُرُّ لَعْنَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: وَمَا لِي لَا ألعن من لعنه اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ؟ وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ ابْنَهُ سَأَلَهُ: هَلْ يَلْعَنُ؟ وَذَكَرَ شَخْصًا مُعَيَّنًا. فَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، هَلْ رَأَيْتَنِي أَلْعَنُ شَيْئًا قَطُّ؟ ثُمَّ قَالَ: وَمَا لِي لا ألعن من لعنه اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ قَالَ فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَأَيْنَ لَعْنَةُ اللَّهِ؟ قَالَ: قَالَ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «3» . ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ، لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنْ عِظَمِ شَأْنِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ. ثُمَّ ثَلَّثَ بِالنَّاسِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَهُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الْمُمَاثِلِ مَنْ يَدَّعِي الْمُمَاثَلَةَ بِالْمَكْرُوهِ أَشُقُّ، بِخِلَافِ صُدُورِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْلَى. خالِدِينَ فِيها: أَيْ فِي اللَّعْنَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَعُودُ عليها في اللفظ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 82. (2) سورة المائدة: 5/ 60. (3) سورة هود: 11/ 18.

إِلَّا اللَّعْنَةُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّارِ، أُضْمِرَتْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، وَلِكَثْرَةِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى النَّارِ، وَلِدَلَالَةِ اللَّعْنَةِ عَلَى النَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فَهُوَ فِي النَّارِ. لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ: سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ تِلْوَ قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ «1» ، الْآيَةَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. إِلَّا أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي خَالِدِينَ، أَيْ غَيْرُ مُخَفَّفٍ عَنْهُمُ الْعَذَابُ. فَهِيَ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ، أَيْ حَالٌ مِنْ حَالٍ، لِأَنَّ خَالِدِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ. وَمَنْ أَجَازَ تَعَدِّيَ الْعَامِلِ إِلَى حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ، حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: لَا يُخَفَّفُ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَفِي آخِرِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، هُنَاكَ: وَلَا يُنْصَرُونَ، نَفَى عَنْهُمُ النَّصْرَ، وَهُنَا: وَلَا هُمْ يُنْظُرُونَ، نَفَى الْإِنْظَارَ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْعَذَابِ. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الْآيَةَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، صِفْ وَانْسِبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ وَهَذِهِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ فِي الْكَعْبَةِ ، وَقِيلَ حَوْلَهَا، ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ. وَظَاهِرُ الْخِطَابِ أَنَّهُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْعِبَادَةُ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لَهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ قَالَ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ وَانْسِبْهُ، أَوْ خِطَابًا لِمَنْ يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِنْ صَنَمٍ وَوَثَنٍ وَنَارٍ. وَإِلَهٌ: خَبَرٌ عَنْ إِلَهِكُمْ، وَوَاحِدٌ: صِفَتُهُ، وَهُوَ الْخَبَرُ فِي الْمَعْنَى لِجَوَازِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِلَهٍ، وَمَنْعِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَالِ الْمُوَطِّئَةِ، كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلًا صَالِحًا. وَالْوَاحِدُ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ النَّظِيرِ، أَوِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ شَيْءٌ، أَوِ الَّذِي لَا أَبْعَاضَ لَهُ وَلَا أَجْزَاءَ، أَوِ الْمُتَوَحِّدُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. تَقُولُ: فُلَانٌ وَاحِدٌ فِي عَصْرِهِ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا بِوَاحِدٍ مَبْدَأَ الْعَدَدِ. لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ: تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ. وَهِيَ جُمْلَةٌ جَاءَتْ لِنَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْآلِهَةِ، ثُمَّ حَصَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَدَلَّتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى نِسْبَةِ الْوَاحِدِيَّةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَدَلَّتِ الثَّانِيَةُ عَلَى حَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ مِنَ اللَّفْظِ النَّاصِّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الْوَاحِدِيَّةُ ثَبَتَتْ لَهُ الإلهية.

_ (1) سورة الْبَقَرَةِ: 2/ 86.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ الِاسْمِ بَعْدَ لَا فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ «1» ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ لَا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا. كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ مَا الْعَالِمُ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ لَا لَا تَعْمَلُ فِي الْمَعَارِفِ، هَذَا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ بَعْدَ لَا الَّتِي يُبْنَى الِاسْمُ مَعَهَا هُوَ مَرْفُوعٌ بِهَا، وَأَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ مَرْفُوعًا بِهَا، بَلْ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ لَا مَعَ الْمَبْنِيِّ مَعَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً، وَالْخَبَرِ مَعْرِفَةً، وَهُوَ عَكْسُ مَا اسْتَقَرَّ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. وَتَقْرِيرُ الْبَدَلِ فِيهِ أَيْضًا مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ إِلَهٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، لَا تَقُولُ: لَا رَجُلَ إِلَّا زِيدٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بَدَلًا مِنْ إِلَهٍ وَلَا مِنْ رَجُلٍ فِي قَوْلِكَ: لَا رَجُلَ إِلَّا زِيدٌ، إِنَّمَا هُوَ بدل من الضمير المستكن فِي الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا رَجُلَ إِلَّا زِيدٌ، فَالتَّقْدِيرُ: لَا رَجُلٌ كَائِنٌ أَوْ مَوْجُودٌ إِلَّا زِيدَ. كَمَا تَقُولُ: مَا أَحَدٌ يَقُومُ إِلَّا زِيدٌ، فَزَيْدٌ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومُ لَا مِنْ أَحَدٍ، وَعَلَى هَذَا يَتَمَشَّى مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَلَيْسَ بَدَلًا عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ لَا، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ مَرْفُوعٌ مِنْ ضَمِيرٍ مَرْفُوعٍ، ذَلِكَ الضَّمِيرُ هُوَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ لَا. وَلَوْلَا تَصْرِيحُ النَّحْوِيِّينَ أنه يَدُلُّ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ اسْمِ لَا، لَتَأَوَّلْنَا كَلَامَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ لَا، أَيْ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى اسْمِ لَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هُوَ بَدَلٌ مِنْ إِلَهٍ عَلَى الْمَحَلِّ، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ هَاهُنَا، لِأَنَّ الرَّفْعَ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الثَّانِي، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَوَّلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زِيدٌ، وَإِلَّا زِيدًا، مِنْ حَيْثُ أَنَّ زَيْدًا مُسْتَثْنًى مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. إِلَّا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ، فَأَعْرَبُوا مَا كَانَ تَابِعًا لِمَا قَبْلَهُ بَدَلًا، وَأَعْرَبُوا هَذَا مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِتْبَاعَ أَوْلَى لِلْمُشَاكَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالنَّصْبُ جَائِزٌ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، أَمْكَنَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ إِلَهَنَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّ إِلَهَ غَيْرِنَا مُغَايِرٌ لِإِلَهِنَا، فَلَا جَرَمَ. أَزَالَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَوْلُهُ: لَا إِلَهَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ الشَّامِلَ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ: إِلَّا اللَّهُ، أَفَادَ التَّوْحِيدَ التَّامَّ الْمُطْلَقَ الْمُحَقَّقَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، كَمَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ لَنَا، أَوْ فِي الْوُجُودِ، إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مطابق

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2.

لِلتَّوْحِيدِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ لَنَا، كَانَ تَوْحِيدًا لِإِلَهِنَا لَا تَوْحِيدًا لِلْإِلَهِ الْمُطْلَقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَرْقٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرَارًا مَحْضًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ فِي الْوُجُودِ، كَانَ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ الثَّانِي. أَمَّا لَوْ لَمْ يُضْمَرْ، كَانَ نَفْيًا لِمَاهِيَّةِ الْإِلَهِ الثَّانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ أَقْوَى فِي التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ مِنْ نَفْيِ الْوُجُودِ، فَكَانَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النَّفْيَ عَلَى الْإِثْبَاتِ، لِغَرَضِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. انْتَهَى الْكَلَامُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ المرسي فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ. فَإِنَّ لَا إِلَهَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ، عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ اسْمُ لَا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لَا بُدَّ مِنْ خَبَرٍ لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ لِلَا، فَمَا قَالَهُ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْإِضْمَارِ فَاسِدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يُضْمَرْ كَانَ نَفْيًا لِلْمَاهِيَّةِ، قُلْنَا: نَفْيُ الْمَاهِيَّةِ هُوَ نَفْيُ الْوُجُودِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَنَا إِلَّا مَعَ الْوُجُودِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ لَا مَاهِيَّةَ وَلَا وُجُودَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْمَاهِيَّةَ عَرِيَّةً عَنِ الْوُجُودِ، وَالدَّلِيلُ يَأْبَى ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَمَا قَالَهُ مِنْ تَقْدِيرِ خَبَرِ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا إِلَهَ، كَلَامٌ، فَمِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ، لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ مسنده وَمَسْنَدٍ إِلَيْهِ. فَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ هُوَ إِلَهٌ، وَالْمَسْنَدُ هُوَ الْكَوْنُ الْمُطْلَقُ، وَلِذَلِكَ سَاغَ حَذْفُهُ، كَمَا سَاغَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: لَوْلَا زَيْدٌ مَوْجُودٌ، لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ تَعْلِيقِيَّةٌ، أَوْ شَرْطِيَّةٌ عِنْدَ مَنْ يُطْلِقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُسْنَدٍ وَمُسْنَدٍ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ نَقَلُوا أَنَّ الْخَبَرَ بَعْدَ لَا، إِذَا عُلِمَ، كَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ، وَوَجَبَ حَذْفُهُ عِنْدَ التَّمِيمِيِّينَ. وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ كَوْنًا مُطْلَقًا، كَانَ مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْعُمُومِ، فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ هُوَ نَفْيُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهُ لَا تَنْتَفِي الْمَاهِيَّةُ إِلَّا بِانْتِفَاءِ وَجُودِهَا، بِخِلَافِ الْكَوْنِ الْمُقَيَّدِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إِلَى تَعْيِينِهِ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ نَحْوُ: لَا رَجُلَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا زَيْدٌ، إِلَّا إِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةٌ مِنْ خَارِجٍ فَيُعْلَمُ، فَيَجُوزُ حَذْفُهُ. الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: ذَكَرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مُنَبِّهًا بِهِمَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُ، لِأَنَّ مِنَ ابْتَدَأَكَ بِالرَّحْمَةِ إِنْشَاءً بَشَرًا سَوِيًّا عَاقِلًا وَتَرْبِيَةً فِي دَارِ الدُّنْيَا مَوْعُودًا الْوَعْدَ الصِّدْقِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ، جَدِيرٌ بِعِبَادَتِكَ لَهُ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَطْمَعَكَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي

سِعَةِ رَحْمَتِهِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِيبَ آيَةٍ مَخْتُومَةٍ بِاللَّعْنَةِ وَالْعَذَابِ لِمَنْ مَاتَ غَيْرَ مُوَحِّدٍ لَهُ تَعَالَى، إِذْ غَالِبُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتْ آيَةُ عَذَابٍ، ذُكِرَتْ آيَةُ رَحْمَةٍ، وَإِذَا ذُكِرَتْ آيَةُ رَحْمَةٍ، ذُكِرَتْ آيَةُ عَذَابٍ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ هُوَ، وَعَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ لِقَوْلِهِ: وَإِلَهُكُمْ، فَيَكُونُ قَدْ قَضَى هَذَا الْمُبْتَدَأَ ثَلَاثَةَ أَخْبَارٍ: إِلَهٌ وَاحِدٌ خَبَرٌ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ، وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ خَبَرٌ ثَالِثٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِهُوَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُنَا لَيْسَ بِجُمْلَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: مَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ إِلَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ زَيْدٍ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الصِّفَةِ لِهُوَ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ لَا يُوصَفُ. انْتَهَى. وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ، إِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ للمدح، وكان الضمير الغائب. وَأَهْمَلَ ابْنُ مَالِكٍ الْقَيْدَ الْأَوَّلَ، فَأَطْلَقَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ يُجِيزُ وَصْفَ الضَّمِيرِ الْغَائِبِ. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «إن هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» . إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ وَإِلهُكُمْ الْآيَةَ، قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَنَزَلَ: إِنَّ فِي خَلْقِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاخْتِصَاصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْخَلْقِ الْغَرِيبِ وَالْبِنَاءِ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالًا بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَبِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ، وَعَرَّفَهُمْ طَرِيقَ النَّظَرِ، وَفِيمَ يَنْظُرُونَ. فَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ. وَخَلْقُهَا: إِيجَادُهَا وَاخْتِرَاعُهَا، أَوْ خَلْقُهَا وَتَرْكِيبُ أَجْرَامِهَا وَائْتِلَافُ أَجْزَائِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلْقُ فُلَانٍ حَسَنٌ: أَيْ خِلْقَتُهُ وَشَكْلُهُ. وَقِيلَ: خَلْقٌ هُنَا زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ فِي السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ إِرَادَةُ تَكْوِينِ الشَّيْءِ. وَالْآيَاتُ فِي المشاهد من السموات وَالْأَرْضِ، لَا فِي الْإِرَادَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَسْمَاءِ لَمْ تَثْبُتْ فِي اللِّسَانِ، وَلِأَنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ هُوَ الْإِرَادَةُ، بَلِ الْخَلْقُ ناشىء عَنِ الْإِرَادَةِ. قَالُوا: وَجَمَعَ السموات لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ، كُلُّ سَمَاءٍ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الأحرى، وَوَحَّدَ الْأَرْضَ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ تُرَابٍ. وَبَدَأَ بِذِكْرِ السَّمَاءِ لِشَرَفِهَا وَعِظَمِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْأَمْلَاكِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَآيَاتُهَا: ارْتِفَاعُهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ تَحْتَهَا، وَلَا عَلَائِقَ مِنْ فَوْقِهَا، ثُمَّ مَا فِيهَا مِنَ النَّيِّرِينَ، الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ السَّيَّارَةِ وَالْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ، شَارِقَةٍ وَغَارِبَةٍ، نَيِّرَةٍ وَمَمْحُوَّةٍ، وَعِظَمِ أَجْرَامِهَا وَارْتِفَاعِهَا، حَتَّى قَالَ أَرْبَابُ الْهَيْئَةِ: إِنَّ الشَّمْسَ قَدْرُ الْأَرْضِ مِائَةٍ وَأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ مَرَّةً، وَإِنَّ أَصْغَرَ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ قَدْرُ الْأَرْضِ سَبْعِ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ الْأَفْلَاكَ عَظِيمَةُ الْأَجْرَامِ، قَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ مَقَادِيرَهَا، وَإِنَّهَا سَبْعَةُ

أَفْلَاكٍ، يَجْمَعُهَا الْفَلَكُ الْمُحِيطُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ» . وَصَحَّ أَيْضًا: «أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَآيَةُ الْأَرْضِ: بَسْطُهَا، لَا دِعَامَةَ مِنْ تَحْتِهَا وَلَا عَلَائِقَ مِنْ فَوْقِهَا، وَأَنْهَارُهَا وَمِيَاهُهَا وَجِبَالُهَا وَرَوَاسِيهَا وَشَجَرُهَا وَسَهْلُهَا وَوَعْرُهَا وَمَعَادِنُهَا، وَاخْتِصَاصُ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا بما هيىء لَهُ، وَمَنَافِعُ نَبَاتِهَا وَمَضَارُّهَا. وَذَكَرَ أَرْبَابُ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْأَرْضَ نُقْطَةٌ فِي وَسَطِ الدَّائِرَةِ لَيْسَ لَهَا جِهَةٌ، وَأَنَّ الْبِحَارَ مُحِيطَةٌ بِهَا، وَالْهَوَاءَ مُحِيطٌ بِالْمَاءِ، وَالنَّارَ مُحِيطَةٌ بِالْهَوَاءِ، وَالْأَفْلَاكَ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ (بِالدَّقَائِقِ) خِلَافًا عَنِ النَّاسِ الْمُتَقَدِّمِينَ: هَلِ الْأَرْضُ وَاقِفَةٌ أَمْ مُتَحَرِّكَةٌ؟ وَفِي كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذَيْنِ مَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِوُقُوفِهَا، أَوْ لِتَحَرُّكِهَا. وَكَذَلِكَ تَكَلَّمُوا عَلَى جِرْمِ السموات وَلَوْنِهَا وَعِظَمِهَا وَأَبْرَاجِهَا، وَذَكَرَ مَذَاهِبَ لِلْمُنَجِّمِينَ وَالْمَانَوِيَّةِ، وَتَخَالِيطَ كَثِيرَةً. وَالَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْهَيْئَةِ هُوَ شَيْءٌ اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ خَلْقِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِالْوَحْيِ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «1» ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً «2» . وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ: اخْتِلَافُهُمَا بِإِقْبَالِ هَذَا وَإِدْبَارِ هَذَا، أَوِ اخْتِلَافُهُمَا بِالْأَوْصَافِ فِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، أَوْ تَسَاوِيهِمَا، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقُدِّمَ اللَّيْلُ عَلَى النَّهَارِ لِسَبْقِهِ فِي الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» . وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ النُّورَ سَابِقٌ عَلَى الظُّلْمَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ انْبَنَى الْخِلَافُ فِي لَيْلَةِ الْيَوْمِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: تَكُونُ لَيْلَةُ الْيَوْمِ هِيَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَيْلَةُ الْيَوْمِ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّهَارِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ: لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا نَهَارًا. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ: أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْفُلْكَ نُوحٌ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ضَعْهَا عَلَى جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ. فَالسَّفِينَةُ طَائِرٌ مَقْلُوبٌ، وَالْمَاءُ فِي أَسْفَلِهَا نَظِيرُ الْهَوَاءِ فِي أَعْلَاهَا، قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَآيَتُهَا تَسْخِيرُ اللَّهِ إِيَّاهَا حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَوُقُوفُهَا فَوْقَهُ مَعَ ثِقَلِهَا وَتَبْلِيغِهَا الْمَقَاصِدَ. وَلَوْ رَمَيْتَ

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 11. (2) سورة الجن: 72/ 28. (3) سورة يس: 36/ 37.

فِي الْبَحْرِ حَصَاةً لَغَرِقَتْ. وَوَصَفَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْجَرَيَانِ، لِأَنَّهَا آيَتُهَا الْعُظْمَى، وَجَعَلَ الصِّفَةَ مَوْصُولًا، صِلَتُهُ تَجْرِي: فِعْلٌ مُضَارِعٌ يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ يُرَادُ مِنْهَا. وَذَكَرَ مَكَانَ تِلْكَ الصِّفَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَا تَجْرِي إِلَّا فِي الْبَحْرِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَأَسْنَدَ الْجَرَيَانَ لِلْفُلْكِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَكَانَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا صِفَةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلْجَرْيِ. بِما يَنْفَعُ النَّاسَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، أَيْ تَجْرِي مَصْحُوبَةً بِالْأَعْيَانِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَتَاجِرِ وَالْبَضَائِعِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ ينفع النَّاسُ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ للغز وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّفْعِ، وَإِنْ كَانَتْ تَجْرِي بِمَا يَضُرُّ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ: أَيْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ. مِنَ الْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ تَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ، وَفِي أَنْزَلَ ضَمِيرُ نَصْبٍ عَائِدٌ عَلَى مَا، أَيْ وَالَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السماء. ومن الثَّانِيَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ، فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، وَتَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ. وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ تَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، لِأَنَّ مَعْنَيَيْهِمَا مُخْتَلِفَانِ. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها: عَطْفٌ عَلَى صِلَةِ مَا، الَّذِي هُوَ أَنْزَلَ بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَسُرْعَةِ النَّبَاتِ، وَبِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَكَنَّى بِالْإِحْيَاءِ عَنْ ظُهُورِ مَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ النَّبَاتِ، وَبِالْمَوْتِ عَنِ اسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِيهَا وَعَدَمِ ظُهُورِهِ. وَهُمَا كِنَايَتَانِ غَرِيبَتَانِ، لِأَنَّ مَا بَرَزَ مِنْهَا بِالْمَطَرِ جَعَلَ تَعَالَى فِيهِ الْقُوَّةَ الْغَاذِيَةَ وَالنَّامِيَةَ وَالْمُحَرِّكَةَ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ كَامِنٌ فِيهَا، كَأَنَّهُ دَفِينٌ فيها، وهي لَهُ قَبْرٌ. وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ: إِنْ قُدِّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الصِّلَتَيْنِ، احْتَاجَتْ إِلَى ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيهَا عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ وَتَقْدِيرُهُ: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. لَكِنَّ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ، إِذَا كَانَ مَجْرُورًا بِالْحَرْفِ، لَهُ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمَوْصُولِ، أَوِ الْمَوْصُوفِ بِالْمَوْصُولِ، أَوِ الْمُضَافِ إِلَى الْمَوْصُولِ حَرْفُ جَرٍّ، مِثْلُ مَا دَخَلَ عَلَى الضَّمِيرِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنْ يَتَّحِدَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْمَجْرُورُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَجَارِّهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْصُورًا، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَحْصُورِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا لِلرَّبْطِ. وَهَذَا الشَّرْطُ مَفْقُودٌ هُنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ قَوْلَهُ: وَبَثَّ فِيها، عَطْفٌ عَلَى أَنْزَلَ أَمْ أَحْيَا؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أَنْزَلَ دَاخِلٌ تَحْتِ حُكْمِ الصِّلَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ عَطْفٌ

عَلَى أَنْزَلَ، فَاتَّصَلَ بِهِ وَصَارَا جَمِيعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَاءٍ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى أَحْيَا عَلَى مَعْنَى فَأَحْيَا بِالْمَطَرِ الْأَرْضَ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، لِأَنَّهُمْ يَنْمُونَ بِالْخِصْبِ وَيَعِيشُونَ بِالْحَيَاةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَ مِنْ تقديرية، لزم أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، سَوَاءٌ أَعَطَفْتَهُ عَلَى أَنْزَلَ، أَوْ عَلَى فَأَحْيَا، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وَالَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَى الْآيَةِ، أَنَّهَا عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ لِفَهْمِ الْمَعْنَى مَعْطُوفٍ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلَ، التَّقْدِيرُ: وَمَا بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْآيَاتِ، لِأَنَّ مَا بَثَّ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فِيهِ آيَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي أَشْكَالِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا وَانْتِقَالَاتِهَا وَمَضَارِّهَا وَمَنَافِعِهَا وَعَجَائِبِهَا، وَمَا أُودِعَ فِي كُلِّ شَكْلٍ، شَكْلٍ مِنْهَا مِنَ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَلَطَائِفِ الصَّنْعَةِ الْغَرِيبَةِ، وَذَلِكَ مِنِ الْفِيلِ إِلَى الذَّرَّةِ، وَمَا أَوْجَدَ تَعَالَى فِي الْبَحْرِ مِنْ عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُبَايِنَةِ لِأَشْكَالِ الْبَرِّ. فَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي إِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ، لَا أَنَّهُ يُجْعَلَ مَنْسُوقًا فِي ضِمْنِ شَيْءٍ آخَرَ وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، غير أن عِنْدَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى اسْمِيَّتِهَا لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ الْبَصْرِيُّونَ لَا يَقِيسُونَهُ، فَقَدْ قَاسَهُ غَيْرُهُمْ، قال بعض طي: مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ مُسْتَوَيَانِ أَيْ: وَالَّذِي أَطَاعَ، وَقَالَ حَسَّانٌ: أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ أَيْ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وقال آخر: فو الله مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ ... بِمُعْتَدِلٍ وُفِّقَ وَلَا مُتَقَارِبِ يُرِيدُ: مَا الَّذِي نلتم وما نيل منكم، وَقَدْ حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «1» ، أَيْ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «2» . وَقَدْ يَتَمَشَّى التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى ارْتِكَابِ حَذْفِ الضَّمِيرِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ حَذْفِهِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ، قال:

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 46. (2) سورة النساء: 4/ 136.

وَإِنَّ لِسَانِي شَهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ يُرِيدُ: مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَعَلَّ الَّذِي أَصْعَدَتْنِي أَنْ تَرُدَّنِي ... إِلَى الْأَرْضِ إِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الْخَيْرَ قَادِرُ يُرِيدُ: أَصْعَدَتْنِي بِهِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فِي موضع المفعول، ومن تَبْعِيضِيَّةٌ. وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، وكل دَابَّةٍ هُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ، وَعَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ يَكُونُ مَفْعُولُ بَثَّ مَحْذُوفًا، أَيْ: وَبَثَّهُ، وَتَكُونُ مِنْ حَالِيَّةً، أَيْ: كَائِنًا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَهِيَ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي هُبُوبِهَا قُبُولًا وَدُبُورًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا، وَفِي أَوْصَافِهَا حَارَّةً وَبَارِدَةً وَلَيِّنَةً وَعَاصِفَةً وَعَقِيمًا وَلِوَاقِحَ وَنَكْبَاءَ، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي بَيْنَ مَهَبَّيْ رِيحَيْنِ. وَقِيلَ: تَارَةً بِالرَّحْمَةِ، وَتَارَةً بِالْعَذَابِ. وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا أَنْ تَأْتِيَ السُّفُنَ الْكِبَارَ بِقَدْرِ مَا يَحْمِلُهَا، وَالصِّغَارَ كَذَلِكَ، وَيَصْرِفُ عَنْهَا مَا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِكِبَرِ الْقُلُوعِ وَلَا صِغَرِهَا، فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ جَسَدًا وَاحِدًا لَصَدَمَتِ الْقُلُوعَ وَأَغْرَقَتْ. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَنْوَاعِ الرِّيحِ وَاشْتِقَاقِ أَسْمَائِهَا وَفِي طَبَائِعِهَا، وَفِيمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْآثَارِ، وَفِيمَا قِيلَ فِيهَا مِنَ الشِّعْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِنَا. وَالرِّيحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي تَقْلَعُ الْأَشْجَارَ وَتَعْفِي الْآثَارَ وَتَهْدِمُ الدِّيَارَ وَتُهْلِكُ الْكُفَّارَ، وَتَرْبِيَةِ الزَّرْعِ وَتَنْمِيَتِهِ وَاشْتِدَادِهِ بِهَا، وَسُوقِ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَاحِلِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِفْرَادِ الرِّيحِ وَجَمْعِهِ فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا. هَذَا، وَفِي الشَّرِيعَةِ وَفِي الْأَعْرَافِ: يُرْسِلُ الرِّياحَ «1» ، واشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ «2» ، وأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «3» ، وتَذْرُوهُ الرِّياحُ «4» ، وَفِي الْفُرْقَانِ: أَرْسَلَ الرِّياحَ «5» ، ومَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ «6» ، وَفِي الرُّومِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ «7» ، وَفِي فَاطِرٍ: أَرْسَلَ الرِّياحَ «8» ، وَفِي الشُّورَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ «9» . فَأَفْرَدَ حَمْزَةُ إِلَّا فِي الْفُرْقَانِ، وَالْكِسَائِيُّ إِلَّا فِي الْحِجْرِ، وَجَمْعَ نَافِعٌ الْجَمِيعَ وَالْعَرَبِيَّانِ إَلَّا فِي إِبْرَاهِيمَ وَالشُّورَى، وَابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبَقَرَةِ وَالْحِجْرِ وَالْكَهْفِ وَالشَّرِيعَةِ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 57. (2) سورة إبراهيم: 14/ 18. [.....] (3) سورة الحجر: 15/ 22. (4) سورة الكهف: 18/ 45. (5) سورة الفرقان: 25/ 48. (6) سورة النمل: 27/ 63. (7) سورة الروم: 30/ 48. (8) سورة فاطر: 35/ 9. (9) سورة الشورى: 42/ 33.

فَقَطْ. وَفِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ هُنَا وَتَصْرِيفِ الْأَرْوَاحِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَوْحِيدِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ. وَجَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعَةً مَعَ الرَّحْمَةِ مُفْرَدَةً مَعَ الْعَذَابِ، إِلَّا فِي يُونُسَ فِي قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «1» . وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّ رِيحَ الْعَذَابِ شَدِيدَةٌ مُلْتَئِمَةُ الْأَجْزَاءِ كَأَنَّهَا جِسْمٌ وَاحِدٌ، وَرِيحُ الرَّحْمَةِ لينة متقطعة، فَلِذَلِكَ هِيَ رِيَاحٌ، وَهُوَ مَعْنَى يَنْشُرُ، وَأُفْرِدَتْ مَعَ الفلك، لأن ريح أجزاء السُّفُنِ إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ مُتَّصِلَةٌ. ثُمَّ وُصِفَتْ بِالطَّيِّبِ فَزَالَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِيحِ الْعَذَابِ، انْتَهَى. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْجِنْسَ، فَهُوَ كَقِرَاءَةِ الْجَمْعِ. وَالرِّيَاحُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَيَكُونُ تَصْرِيفِ مَصْدَرًا مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، أَيْ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ، السَّحَابَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهَا فِيهِ تَأْثِيرٌ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ فِي الْمَعْنَى مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَفِي اللَّفْظِ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ وَتَصْرِيفِ اللَّهِ الرِّيَاحَ. وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ، تَسْخِيرُهُ: بَعْثُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقِيلَ: تَسْخِيرُهُ: ثُبُوتُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِلَا عَلَاقَةٍ تُمْسِكُهُ. وَوُصِفَ السَّحَابُ هُنَا بِالْمُسَخَّرِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّذْكِيرُ: كَهَذَا وَكَقَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «2» ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى مَعْنَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، فَتَارَةً يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدَةُ الْمُؤَنَّثَةُ، وَتَارَةً يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا «3» . قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، وَلَوْلَا السَّحَابُ لَأَفْسَدَ الْمَطَرُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ. فَقِيلَ: السَّحَابُ يَأْخُذُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: يَغْتَرِفُهُ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِ، وَلِلْفَلَاسِفَةِ فِيهِ أَقْوَالٌ. وَجُعِلَ مُسَخَّرًا بِاعْتِبَارِ إِمْسَاكِهِ الْمَاءَ، إِذِ الْمَاءُ ثَقِيلٌ، فَبَقَاؤُهُ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، يَأْتِي بِهِ اللَّهُ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَيَرُدُّهُ عِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ، أَوْ سُوقُهُ بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ الرِّيحِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ: انْتِصَابُ بَيْنَ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْمُسَخَّرُ، أَيْ سُخِّرَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَائِنًا بَيْنَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْمُسَخَّرِ. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى اسْمِ إِنَّ لِحَيْلُولَةِ الْخَبَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، إِذْ

_ (1) سورة يونس: 10/ 22. (2) سورة القمر: 54/ 20. (3) سورة الأعراف: 7/ 57.

لَوْ كَانَ يَلِيهَا، مَا جَازَ دُخُولُهَا، وَهِيَ لَامُ التَّوْكِيدِ، فَصَارَ فِي الْجُمْلَةِ حَرْفَا تَأْكِيدٍ: إِنَّ وَاللَّامُ. وَلِقَوْمٍ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ كَائِنَةً لِقَوْمٍ. وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَوْمٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَفَكَّرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَاقِلًا، فَإِنَّهُ يُشَاهَدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ. وَقَدْ أُثِرَ فِي الْأَثَرِ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَجَّ بِهَا، أَيْ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِهَا. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، لَمْ يَكْتَفِ بِالْإِخْبَارِ حَتَّى أَوْرَدَ دَلَائِلَ الِاعْتِبَارِ. ثُمَّ مَعَ كَوْنِهَا دَلَائِلَ، بَلْ هِيَ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَكَانَتْ أَوْضَحَ لِمَنْ يَتَأَمَّلُ وَأَبْهَرَ لِمَنْ يَعْقِلُ، إِذِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ النَّفْعُ بَاعِثٌ عَلَى الْفِكْرِ. لَكِنْ لَا تَنْفَعُ هَذِهِ الدَّلَائِلُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ الْمَوْهُوبِ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ جَعَلْنَا: وَبَثَّ فِيهَا، عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ، كَمَا قَدَّرْنَاهُ فِي أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ، كَانَتْ تِسْعَةً، وَهِيَ بِاعْتِبَارٍ تَصِيرُ إِلَى أَرْبَعَةٍ: خَلْقٌ، وَاخْتِلَافٌ، وَإِنْزَالُ مَاءٍ، وَتَصْرِيفٌ. فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْخَلْقِ، لِأَنَّهُ الْآيَةُ الْعُظْمَى وَالدَّلَالَةُ الْكُبْرَى عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، إِذْ ذَلِكَ إِبْرَازٌ وَاخْتِرَاعٌ لِمَوْجُودٍ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «1» ؟ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ «2» . ودل الْخَلْقِ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ، مِنْ وَاجِبِيَّةِ الْوُجُودِ وَالْوَحْدَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ والإرادة، وقدّم السموات عَلَى الْأَرْضِ لِعَظَمِ خَلْقِهَا، أَوْ لِسَبْقِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذِكْرَ خلق السموات وَالْأَرْضِ بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وهو أمر ناشىء عَنْ بَعْضِ الْجَوَاهِرِ الْعُلْوِيَّةِ النيرة التي تضمنتها السموات. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْفُلْكِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاخْتِلَافِ الْفُلْكِ، أَيْ ذَهَابِهَا مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا عَلَى حَسَبِ مَا تُحَرِّكُهَا الْمَقَادِيرُ الْإِلَهِيَّةُ، وَهُوَ أَمْرٌ ناشىء عَنْ بَعْضِ الْأَجْرَامِ السُّفْلِيَّةِ الْجَامِدَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْأَرْضُ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأُمُورٍ اشْتَرَكَ فِيهَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالْعَالَمُ السُّفْلِيُّ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَنَشْرُ مَا كَانَ دَفِينًا فِي الْأَرْضِ بِالْأَحْيَاءِ. وَجَاءَ هَذَا الْمُشْتَرَكُ مُقَدَّمًا فِيهِ السَّبَبُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْفَاءِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى السبب عند بعضهم.

_ (1) سورة النحل: 16/ 17. (2) سورة النحل: 16/ 20.

ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتِمُّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ جَرَيَانِ الْفُلْكِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ. وَقَدَّمَ الرِّيَاحَ عَلَى السَّحَابِ، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْفُلْكِ، وَتَأَخَّرَ السَّحَابُ لِتَأَخُّرِ إِنْزَالِ الْمَاءِ فِي الذِّكْرِ عَلَى جَرَيَانِ الْفُلْكِ. فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْغَرِيبِ فِي الذِّكْرِ، حَيْثُ بَدَأَ أولا باختراع السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، ثُمَّ أَتَى بِالْمُشْتَرِكِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ التَّصْرِيفُ الْمَشْرُوحُ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ ذَكَرَهَا تَعَالَى عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مُدْرَكٌ بِالْبَصَائِرِ، وَقِسْمٌ مدرك بالأبصار. فخلق السموات وَالْأَرْضِ مُدْرَكٌ بِالْعُقُولِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ لِلْأَبْصَارِ. وَالْمَشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ انْتِسَابُهُ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، مُسْتَدَلٌّ عَلَيْهِ بِالْعُقُولِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَلَمْ يَقُلْ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُبْصِرُونَ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ، إِذْ مَآلُ مَا يُشَاهَدُ بِالْبَصَرِ رَاجِعٌ بِالْعَقْلِ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً: لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى التَّوْحِيدَ بِالدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ، أعقب ذلك بذكر من لَمْ يُوَفَّقْ. وَاتِّخَاذُهُ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِيُظْهِرَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْمَنْهَجَيْنِ. وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنُهُ الضِّدُّ، وَأَنَّهُ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَمْ يُشَاهِدْ هَذَا الضَّالُّ شَيْئًا مِنْهَا. وَلَفْظُ النَّاسُ عَامٌّ، وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. فَالْأَنْدَادُ، بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ، اتَّبَعُوا مَا رَتَّبُوهُ لَهُمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ. قَالَ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» . وَالْأَنْدَادُ، بِاعْتِبَارِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ هِيَ الْأَصْنَامُ، اتَّخَذُوهَا آلِهَةً وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْخُصُوصُ. فَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: عُبَّادُ الْأَوْثَانِ، وَالْأَوْلَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَرُجِّحَ كَوْنُهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: يُحِبُّونَهُمْ، فَأَتَى بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ، وَبِاسْتِبْعَادِ مَحَبَّةِ الْأَصْنَامِ، وَبِقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَالتَّبَرُّؤُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا العقلاء. ومن: مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَأَفْرَدَ يَتَّخِذُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هُنَا بِمَعْنَى غَيْرِ، وَأَصْلُهَا أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ مَكَانٍ، وَهِيَ نَادِرَةُ التَّصَرُّفِ إِذْ ذَاكَ. قَالَ ابن عطية: ومن دُونِ: لَفْظٌ يُعْطِي غَيْبَةَ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ دُونَ عَنِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي فِيهَا

_ (1) سورة التوبة: 9/ 31.

الْكَلَامُ، وَتَفْسِيرُ دُونَ بِسِوَى، أَوْ بِغَيْرِ، لَا يَطَّرِدُ. انْتَهَى. تَقُولُ: فَعَلْتُ هَذَا مِنْ دُونِكَ، أَيْ وَأَنْتَ غَائِبٌ. وَتَقُولُ: اتَّخَذْتُ مِنْكَ صَدِيقًا، وَاتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقًا. فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ اتَّخَذَ مِنْ شَخْصِ غَيْرِهِ صَدِيقًا. وَتَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ دُونَ زَيْدٍ. فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُمْ، فَدَلَالَتُهَا دَلَالَةُ غَيْرَ فِي هَذَا. وَالَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ، هُوَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ كَوْنِهَا تَكُونُ ظَرْفَ مَكَانٍ، وَأَنَّهَا قَلِيلَةُ التَّصَرُّفِ نَادِرَتُهُ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى رَدِيءٍ، تَقُولُ: هَذَا ثَوْبٌ دُونَ أَيْ رَدِيءٌ، فَإِذَا كَانَتْ ظَرْفًا، دَلَّتْ عَلَى انْحِطَاطِ الْمَكَانِ، فَتَقُولُ: قَعَدَ زَيْدٌ دُونَكَ، فَالْمَعْنَى: قَعَدَ زَيْدٌ مَكَانًا دُونَ مَكَانِكَ، أَيْ مُنْحَطًّا عَنْ مَكَانِكَ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ بِدُونِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ تَقُولُ: زِيدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الشَّرَفِ، تُرِيدُ الْمَكَانَةَ لَا الْمَكَانَ. وَوَجْهُ اسْتِعْمَالِهَا بِمَعْنَى غَيْرَ انْتِقَالُهَا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فِيهِ خَفَاءٌ، وَنَحْنُ نُوَضِّحُهُ فَنَقُولُ: إِذَا قُلْتَ: اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقًا، فَأَصْلُهُ: اتَّخَذْتُ مِنْ جِهَةٍ وَمَكَانٍ دُونَ جِهَتِكَ وَمَكَانِكَ صَدِيقًا، فَهُوَ ظَرْفٌ مَجَازِيٌّ. وَإِذَا كَانَ الْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ الصَّدِيقُ مَكَانُكَ وَجِهَتُكَ مُنْحَطَّةٌ عَنْهُ وَهِيَ دُونُهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ إِيَّاهُ، ثُمَّ حَذَفْتَ الْمُضَافَ وَأَقَمْتَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرًا، فَصَارَتْ دَلَالَتُهُ دَلَالَةَ غَيْرٍ بِهَذَا التَّرْتِيبِ، لَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِذَلِكَ. وَانْتَصَبَ أَنْدَادًا هنا على المفعول بيتخذ، وَهِيَ هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ: اتَّخَذْتُ مِنْكَ صَدِيقًا، وَهِيَ افْتَعَلَ مِنَ الْأَخْذِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النِّدِّ وَعَلَى اتَّخَذَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْأَنْدَادُ: الرُّؤَسَاءُ الْمُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْأَنْدَادُ: الرُّؤَسَاءُ الْمُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْأَنْدَادُ: الْأَوْثَانُ، وَجَاءَ الضَّمِيرُ فِي يُحِبُّونَهُمْ ضَمِيرُ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْأَنْدَادُ: الْمَجْمُوعَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً. وَجَاءَ التَّغْلِيبُ لِمَنْ يَعْقِلُ فِي الضَّمِيرِ فِي: يُحِبُّونَهُمْ، أَيْ يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَخْضَعُونَ لَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ يُحِبُّونَهُمْ صِفَةٌ لِلْأَنْدَادِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يَتَّخِذُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَنْ، إِذَا جَعَلْتَهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَجَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي يُحِبُّونَهُمْ ضَمِيرَ أَنْدَادٍ، أَوْ ضَمِيرَ مَنْ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى مَنْ جَمْعًا عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ فِي يَتَّخِذُ، إِذْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ شَرْطٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. كَحُبِّ اللَّهِ، الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْحُبِّ الْمَحْذُوفِ، عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُعْرِبِينَ، التَّقْدِيرُ: عَلَى الْأَوَّلِ يُحِبُّونَهُمُوهُ، أَيِ الْحُبُّ مُشْبِهًا حُبَّ اللَّهِ، وَعَلَى الثَّانِي

تَقْدِيرُهُ: حُبًّا مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ الْمَنْصُوبِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: كَحُبِّهِمُ اللَّهَ، أَوْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَ الْحُبَّيْنِ، حُبِّ الْأَنْدَادِ وَحُبِّ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حُبٌّ: مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرِ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ، تَقْدِيرُهُ: كَحُبِّكُمُ اللَّهَ، أَوْ كَحُبِّهِمْ، حَسْبَمَا قَدَّرَ كُلَّ وَجْهٍ مِنْهُمَا فِرْقَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَوْلُهُ: مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ، لَا يَعْنِي أَنَّ الْمَصْدَرَ أُضْمِرَ فِيهِ الْفَاعِلُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُضْمَرًا لِمَا قَدَّرَهُ كَحُبِّكُمْ أَوْ كَحُبِّهِمْ، فَأَبْرَزَهُ مُضْمَرًا حِينَ أَظْهَرَ تَقْدِيرَهُ، أَوْ يَعْنِي بِالْمُضْمَرِ الْمَحْذُوفَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ، أَعْنِي أَنْ يُسَمَّى الْحَذْفُ إِضْمَارًا. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْفَاعِلَ مَعَ الْمَصْدَرِ لَا يُحْذَفُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضْمَرًا فِي الْمَصْدَرِ. وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، كَالزَّيْتِ وَالْقَمْحِ، وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ لَا يُضْمَرُ فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَحُبِّ اللَّهِ: كَتَعْظِيمِ اللَّهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ، أَيْ كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْبِسٍ. وَقِيلَ: كَحُبِّهِمُ اللَّهَ، أَيْ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي مَحَبَّتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاللَّهِ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاخْتَارَ كَوْنَ الْمَصْدَرِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ. أَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي الْمَصْدَرِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ؟ فَيَجُوزُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زِيدٍ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، ثُمَّ يُضَافُ إِلَيْهِ، أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، يَفْصِلُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مِنْ فِعْلٍ لَمْ يُبْنَ إِلَّا لِلْمَفْعُولِ نَحْوَ: عَجِبْتُ مِنْ جُنُونٍ بِالْعِلْمِ زِيدٍ، لِأَنَّهُ مِنْ جُنِنْتَ الَّتِي لَمْ تُبْنَ إِلَّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَوْ مِنْ فِعْلٍ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى لِلْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ فَيَجُوزُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَمْتَنِعُ فِي الثَّانِي، وَأَصَحُّهَا الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَتَقْرِيرُ هَذَا كُلِّهِ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ رَدَّ الزَّجَّاجُ قَوْلَ مَنْ قَدَّرَ فَاعِلَ الْمَصْدَرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ ضَمِيرَهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَالْفَرَّاءِ، وَالْمُبَرِّدِ، وَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَقْضِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وَرُجِّحَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ ضَمِيرَ الْمُتَّخِذِينَ، أَيْ يُحِبُّونَ الْأَصْنَامَ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ، لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوهَا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَوَّوْا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَوْثَانِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَلَطِيفِ فِطْرَتِهِ وَذِلَّةِ الْأَصْنَامِ وَقِلَّتِهَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: يَحِبُّونَهُمْ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: مِنْ حَبَّ طَبَّ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ عَلَى يحب، بكسر

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 65. [.....]

الْعَيْنِ شُذُوذًا، لِأَنَّهُ مُضَاعَفٌ مُتَعَدٍّ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومَ الْعَيْنِ نَحْوَ: مَدَّهُ يمده، وجره يَجُرُّهُ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ: قَالَ الرَّاغِبُ: الْحُبُّ أَصْلُهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ، حَبَبْتُهُ: أَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبَهُ، وَأَصَبْتُهُ بِحَبَّةِ الْقَلْبِ، وَهِيَ فِي اللَّفْظِ فُعْلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ انْفِعَالٌ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِ عَبْدِهِ، فَجَعَلَهَا مَصُونَةً عَنِ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ وَسَائِرِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: حُبُّ الْعَبْدِ لِلَّهِ: تَعْظِيمُهُ وَالتَّمَسُّكُ بِطَاعَتِهِ، وَحُبُّ اللَّهِ الْعَبْدَ: إِرَادَةُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَإِثَابَتُهُ. وَأَصْلُ الْحُبِّ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَلْزَمُ حَبِيبَهُ مَا أَمْكَنَ. اه. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَهُمُ الْمُتَّخِذُونَ الْأَنْدَادَ، وَمُتَعَلِّقُ الْحُبِّ الثَّانِي فِيهِ خِلَافٌ. فَقِيلَ: مَعْنَى أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ: أَيْ مِنْهُمْ لِلَّهِ، لِأَنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ بِوَاسِطَةٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مِنْهُمْ لِأَوْثَانِهِمْ، قَالَهُ غَيْرُهُ. وَمُقْتَضَى التَّمْيِيزِ بِالْأَشَدِّيَّةِ، إِفْرَادُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِالْمَحَبَّةِ، أَوْ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُوجِبِ الْحُبِّ، أَوْ لِمَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْغَيْبِ، أَوْ لِشَهَادَتِهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْمَحَبَّةِ، إِذْ قَالَ تَعَالَى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «1» ، أَوْ لِإِقْبَالِ الْمُؤْمِنِ عَلَى رَبِّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، أَوْ لِعَدَمِ انْتِقَالِهِ عَنْ مَوْلَاهُ وَلَا يَخْتَارُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الصَّنَمِ وَهُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، أَوْ لِكَوْنِ حُبِّهِ بِالْعَقْلِ وَالدَّلِيلِ، أَوْ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَهُ حَتَّى فِي الْقِيَامَةِ حِينَ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَبَدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَنْ يَقْتَحِمَ النَّارَ، فَيُبَادِرُونَ إليها، فَتَبْرُدُ عَلَيْهِمُ النَّارُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ تَحْتَ الْعَرْشِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وَيَأْمُرُ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمُ النَّارَ فيجزعون، قاله ان جُبَيْرٍ. تِسْعَةُ أَقْوَالٍ ثَبَتَتْ نَقَائِضُهَا وَمُقَابِلَاتُهَا لِمُتَّخِذِ الْأَنْدَادِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا خَصَائِصُ مَيَّزَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي حُبِّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ خصيصيه. وَالْمَجْمُوعُ هُوَ الْمُقْتَضِي لِتَمْيِيزِ الْحُبِّ، فَلَا تَبَايُنَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْهَا لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الْحَصْرِ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ مِنْ أَمْثِلَةِ مُقْتَضَى التَّمْيِيزِ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ: عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرَادَةِ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا إِلَّا بِالْجَائِزَاتِ، فَيَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَإِذَا قُلْنَا: يُحِبُّ اللَّهَ، فَمَعْنَاهُ: يُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَخِدْمَتَهُ وَثَوَابَهُ وَإِحْسَانَهُ. وَحَكَى عَنْ قَوْمٍ سَمَّاهُمْ هُوَ بِالْعَارِفِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نُحِبُّ اللَّهَ لِذَاتِهِ، كَمَا نُحِبُّ اللَّذَّةَ لِذَاتِهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ، وَالْكَمَالُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَدَلَ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ عَنْ أَحَبَّ إِلَى أَشَدُّ حُبًّا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أفعل التفضيل وفعل التعجب مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. وَأَنْتَ لَوْ قُلْتَ: مَا أَحَبَّ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 54.

زَيْدًا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ، إِنَّمَا يَكُونُ تَعَجُّبًا مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِالْمَفْعُولِ، فَيَنْتَصِبَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَانْتِصَابِ الْفَاعِلِ. لَا تَقُولُ: مَا أَضْرِبَ زَيْدًا، عَلَى أَنَّ زَيْدًا حَلَّ بِهِ الضَّرْبُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ أَحَبُّ لِعَمْرٍو، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْمَحْبُوبُ لِعَمْرٍو. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، عَدَلَ إِلَى التَّعَجُّبِ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ بِمَا يُسَوَّغُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَتَقُولُ: مَا أَشَدَّ حُبَّ زِيدٍ لِعَمْرٍو، وَزَيْدٌ أَشَدُّ حُبًّا لِعَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ لِجَعْفَرٍ. عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ شَذُّوا فَقَالُوا: مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ لِيَأْتِيَ عَلَى الشَّاذِّ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالْقِيَاسِ، وَيَعْدِلَ عَلَى الصَّحِيحِ الْفَصِيحِ. وَانْتِصَابُ حُبًّا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ: حُبُّهُمْ لِلَّهِ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ أُولَئِكَ لِلَّهِ، أَوْ لِأَنْدَادِهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: وَإِذْ تَرَوْنَ، بالتاء من فوق أن الْقُوَّةَ، وَأَنَّ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَ ابن عامر: إذ يرون، بِضَمِّ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: وَلَوْ تَرَى، بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ أن القوة، وأن بِكَسْرِهِمَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَوْ يَرَى، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ أَنَّ الْقُوَّةَ، وَأَنَّ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ: وَلَوْ يَرَى، بالياء من أسفل أن الْقُوَّةَ، وَإِنَّ بِكَسْرِهِمَا. وَلَوْ هنا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَوَابٍ، وَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ قَبْلَ أَنَّ الْقُوَّةَ، فَيَكُونُ أَنَّ الْقُوَّةَ مَعْمُولًا لِذَلِكَ الْجَوَابِ، التَّقْدِيرُ: عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، لَعَلِمْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، أَوْ لَعَلِمْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ فِي وَلَوْ تَرَى لَهُ. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ خُوطِبَ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ لِتَقْوِيَةِ عِلْمِهِ بِمُشَاهَدَةِ مِثْلِ هَذَا. وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ، قَدَّرَ الْجَوَابَ: لَقُلْتَ إِنَّ الْقُوَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى مَنْ هُوَ؟ أَهْوَ السَّامِعُ؟ أَمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَاسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ. وَأَنَّ الْقُوَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْسُورَةً، فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ مِثْلُ: لَوْ قَدِمْتَ عَلَى زَيْدٍ لَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، إِنَّهُ مُكْرِمٌ لَلضِّيفَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُ ذَلِكَ: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَفَزَعِهِمْ مِنْهُ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لَهُ، لَأَقَرُّوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ. فَالْجَوَابُ مُضْمَرٌ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِنَّ انْتَهَى. وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ بِمُرَادِفِ، إِذْ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي وَقْتِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ، وَأَيْضًا فَقَدَّرَ جَوَابَ لَوْ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَرَتِّبٍ عَلَى مَا يَلِي لَوْ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ السَّامِعِ، أَوِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظَّالِمِينَ فِي وَقْتِ

رُؤْيَتِهِمْ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِقْرَارُهُمْ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جميعا. وصار نَظِيرَ قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ لَوْ تَرَى عَمْرًا فِي وَقْتِ ضَرْبِهِ، لَأَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارُهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ لَيْسَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى رُؤْيَةِ زَيْدٍ. وَعَلَى مَنْ قَرَأَ: وَلَوْ يَرَى، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَتَحَ، أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ: لَعَلِمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ يَرَى هُوَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَإِنْ كَانَ ضَمِيرًا يُقَدَّرُ وَلَوْ يَرَى هُوَ، أَيِ السَّامِعُ، كَانَ التَّقْدِيرُ: لَعَلِمَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ، وَتَقْدِيرُهُ: عَلَى قِرَاءَةِ وَلَوْ تَرَى بِالْخِطَابِ، لَاسْتَعْظَمْتَ مَا حَلَّ بِهِمْ، وَعَلَى قِرَاءَةِ وَلَوْ يَرَى لِلْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَمِيرُ السَّامِعِ كَانَ التَّقْدِيرُ: لَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُوَ الْفَاعِلَ، كَانَ التَّقْدِيرُ: لَاسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ مُقَدَّرًا آخَرَ الْكَلَامَ، وَكَانَتْ أَنَّ مَفْتُوحَةً، فَتَوْجِيهُ فَتْحِهَا عَلَى تَقْدِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِيَرَى فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، أَيْ وَلَوْ رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَتَكُونُ أَنَّ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَمَنْ كَسَرَ إِنَّ مَعَ قِرَاءَةِ التَّاءِ فِي تَرَى، وَقَدَّرَ الْجَوَابَ آخِرَ الْكَلَامِ، فَهِيَ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْسُورَةً عَلَى مَعْنَى الْمَفْتُوحَةٍ، دَالَّةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ، تَقُولُ: لَا تُهِنْ زَيْدًا إِنَّهُ عَالِمٌ، وَلَا تُكْرِمُ عَمْرًا إِنَّهُ جَاهِلٌ، فَهِيَ عَلَى مَعْنَى الْمَفْتُوحَةِ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ لَوْ وَجَوَابِهَا الْمَحْذُوفِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَكَسَرَ الْهَمْزَتَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ جَوَابُ لَوْ، أَيْ لَقَالُوا إِنَّ الْقُوَّةَ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَاسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ، وَمَفْعُولُ: تَرَى مَحْذُوفٌ، أَيْ وَلَوْ رَأَى الظَّالِمُونَ حَالَهُمْ. وَتَرَى فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِرْفَانِيَّةً. وَإِذَا جُعِلَتْ أَنَّ مَعْمُولَةً لِيَرَى، جَازَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى عَلِمَ التَّعْدِيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ، سَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّهُمَا، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، إِشَارَةٌ إِلَى مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ من الكفار. لكن سِيَاقَ مَا بَعْدَهُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُمْ مُتَّخِذُو الْأَنْدَادِ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ: إِذْ يَرَوْنَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، هُوَ مِنْ أَرَيْتَ الْمَنْقُولَةِ مِنْ رَأَيْتَ، بِمَعْنَى أَبْصَرْتَ. وَدَخَلَتْ إِذْ، وَهِيَ لِلظَّرْفِ الْمَاضِي، فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُسْتَقْبِلَاتِ، تَقْرِيبًا لِلْأَمْرِ وَتَصْحِيحًا لِوُقُوعِهِ، كما يقع الماضي الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ «1» ، وَكَمَا جَاءَ:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 50.

بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَى ... وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ، لَفَهْمِ الْمَعْنَى، كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ «1» ، وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «2» ، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «3» ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ كَلَامِ المفسرين فيها. قَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ حِينَ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَهَنَّمُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ تَلْتَقِطُهُمْ كَمَا يَلْتَقِطُ الْحَمَامُ الْحَبَّةَ، لَعَلِمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ وَالْقُدْرَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَقِيلَ: لَوْ يَعْلَمُونَ فِي الدُّنْيَا مَا يَعْلَمُونَهُ، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، لَأَقَرُّوا بِأَنَّ الْقُوَّةَ لله جميعا، أي لتبرأوا مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: لَوِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ وَيَقْوَى عَلَى تَعْذِيبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَامْتَنَعُوا عَمَّا يُوجِبُ الْجَزَاءَ بِالْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا الظُّلْمَ الْعَظِيمَ بِشِرْكِهِمْ، أَنَّ الْقُدْرَةَ كُلَّهَا لِلَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنِ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ دُونَ أَنْدَادِهِمْ، وَيَعْلَمُونَ شِدَّةَ عِقَابِهِ لِلظَّالِمِينَ، إِذْ عَايَنُوا الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكَانَ مِنْهُمْ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصْفِ مِنَ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ ووقوع العلم بِظُلْمِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَكَى الرَّاغِبُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْقُوَّةَ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى قُوَّةَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: قِرَاءَةُ الْيَاءِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ التَّاءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ قَدْ عَلِمُوا قَدْرَ مَا يُشَاهِدُهُ الْكُفَّارُ وَيُعَايِنُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَّا الْمُتَوَعِّدُونَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ، فَوَجَبَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَعْنِي التَّاءَ وَالْيَاءَ، لِأَنَّهُمَا مُتَوَاتِرَتَانِ. وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْعَامِلِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَالْقُوَّةُ هُنَا مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، التَّقْدِيرُ: أَنَّ الْقُوَى مُسْتَقِرَّةٌ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حالا من الْقُوَّةِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْقُوَّةِ أَنَّ، وَأَنَّ لَا تعمل في

_ (1) سورة سبأ: 34/ 51. (2) سورة الأنعام: 6/ 27. (3) سورة الرعد: 13/ 31.

الْأَحْوَالِ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ أَبْلَغُ هُنَا مِنْ أَنْ لَوْ قُلْتَ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ، إِذْ تَدُلُّ هُنَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِهَذَا الْوَصْفِ. وأن الْقُوَّةَ لِلَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْقُوَى ثَابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَهُ تَعَالَى، وَتَأَخَّرَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعَذَابِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ شِدَّةَ الْعَذَابِ هِيَ مِنْ آثَارِ الْقُوَّةِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ: لَمَّا ذَكَرَ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ ذَكَرَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُمْ وَإِفْنَاءَ أَعْمَارِهِمْ فِي طَاعَتِهِمْ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ، لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَأَنَّهُمْ حِينَ صاروا أحوج إليهم، تبرأوا منهم. وَإِذْ: بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ. وَقِيلَ: مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِ شَدِيدُ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اذْكُرُوا الَّذِينَ اتَّبَعُوا، هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَقَادَتُهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَمُقَاتِلٌ وَالزَّجَّاجُ، أَوِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُوَسْوِسُونَ وَيُرُونَهُمُ الْحَسَنَ قَبِيحًا وَالْقَبِيحَ حَسَنًا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا وَالسُّدِّيُّ أَوْ عَامٌّ فِي كُلِّ مَتْبُوعٍ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: اتُّبِعُوا الْأَوَّلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالثَّانِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ بِالْعَكْسِ. فعلى قراءة الجمهور: تبرؤ الْمَتْبُوعُونَ بِالنَّدَمِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِالْعَجْزِ عَنِ الدَّفْعِ، أَوْ بِالْقَوْلِ: إِنَّا لَمْ نُضِلَّ هَؤُلَاءِ، بَلْ كَفَرُوا بِإِرَادَتِهِمْ وَتَعَلَّقَ الْعِقَابُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَتَأَتَّ مَا حَاوَلُوهُ مِنْ تَعْلِيقِ ذُنُوبِهِمْ عَلَى مَنْ أَضَلَّهُمْ. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، الْأَخِيرُ أَظْهَرُهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّبَرُّؤُ بِالْقَوْلِ. قَالَ تَعَالَى: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «1» . وَتَبَرُّؤُ التَّابِعِينَ هُوَ انْفِصَالُهُمْ عَنْ مَتْبُوعِيهِمْ وَالنَّدَمُ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، إِذْ لَمْ يُجْدِ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا، وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَرَأَوُا الْعَذَابَ الظَّاهِرُ. أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، هِيَ وَمَا بَعْدَهَا، قَدْ عُطِفَتَا عَلَى تَبَرَّأَ، فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي حَيِّزِ الظَّرْفِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ فِيهِمَا، والعامل تبرأ، أي تبرأوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بِهِمْ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَزْدَادُ فِيهَا الْخَوْفُ وَالتَّنَصُّلُ مِمَّنْ كَانَ سَبَبًا فِي الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ فِي: وَرَأَوُا الْعَذَابَ، وَلِلْعَطْفِ فِي: وَتَقَطَّعَتْ عَلَى تَبَرَّأَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ: كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ لَا مَنْجَى لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا مُخَلِّصَ، وَلَا تَعَلُّقَ بِشَيْءٍ يُخَلِّصُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْأَسْبَابِ أَقْوَالٌ: الْوَصَلَاتُ عَنْ قَتَادَةَ، وَالْأَرْحَامُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، أَوِ الْأَعْمَالُ الملتزمة عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ، أَوِ الْعُهُودُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي رَوْقٍ، أَوْ وَصَلَاتُ الكفر، أو

_ (1) سورة القصص: 28/ 63.

مَنَازِلُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا فِي الْجَاهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَسْبَابُ النَّجَاةِ، أَوِ الْمَوَدَّاتُ. وَالظَّاهِرُ دُخُولُ الْجَمِيعِ فِي الْأَسْبَابِ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ نَوْعٌ يُسَمَّى التَّرْصِيعَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسْجُوعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ «1» ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَهُوَ مُحَسِّنٌ الْحَذْفَ لِضَمِيرِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: اتَّبَعُوا، إِذْ لَوْ جَاءَ اتَّبَعُوهُمْ، لَفَاتَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَدِيعِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ: فِي تَاجِهِ قَمَرٌ فِي ثَوْبِهِ بَشَرٌ ... فِي دِرْعِهِ أَسَدٌ تَدْمَى أَظَافِرُهُ وَقَوْلُنَا مِنْ قَصِيدٍ عَارَضْنَا بِهِ بَانَتْ سُعَادُ: فَالنَّحْرُ مَرْمَرَةٌ وَالنَّشْرُ عَنْبَرَةٌ ... وَالثَّغْرُ جَوْهَرَةٌ وَالرِّيقُ مَعْسُولُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا، الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى يطيعوا الله ويتبرأوا مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حُشِرُوا جَمِيعًا، مِثْلَ مَا تَبَرَّأَ الْمَتْبُوعُونَ أَوَّلًا مِنْهُمْ. وَلَوْ: هُنَا لِلتَّمَنِّي. قِيلَ: وَلَيْسَتِ الَّتِي لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ جَوَابُهَا بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَنَتَبَرَّأَ، كَمَا جَاءَ جَوَابُ لَيْتَ فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ «2» ، وَكَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَوْ نُبِشَ الْمَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَتُخْبِرُ بِالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَوْ هَذِهِ هِيَ الَّتِي لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَأُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ جَوَابُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِيَوْمِ الشَّعْثَمَيْنِ لَقَرَّ عَيْنًا ... وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ وَأَنَّ مَفْتُوحَةً بَعْدَ لَوْ، كَمَا فُتِحَتْ بَعْدَ لَيْتَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهُ ... حَتَّى يَعُودَ الْبَحْرُ كَيْنُونَهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ، وَأَنَّهَا إِذَا سَقَطَتِ الْفَاءُ، انْجَزَمَ الْفِعْلُ هَذَا الْمَوْضِعَ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ إِنَّمَا اسْتَثْنَوْا جَوَابَ النَّفْيِ فَقَطْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعِ الْجَزْمُ فِي الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جوابا للو التي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 267. (2) سورة النساء: 4/ 73.

أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي إِذَا حُذِفَتِ الْفَاءُ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهَا مُشْرَبَةً مَعْنَى التَّمَنِّي، لَيْسَ أَصْلَهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالْحَمْلِ عَلَى حَرْفِ التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ لَيْتَ. وَالْجَزْمُ فِي جَوَابِ لَيْتَ بَعْدَ حَذْفِ الْفَاءِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، أَوْ دَلَالَتِهَا عَلَى كَوْنِهِ مَحْذُوفًا بَعْدَهَا، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، فَصَارَتْ لَوْ فَرْعَ فَرْعٍ، فَضَعُفَ ذَلِكَ فِيهَا. وَالْكَافُ فِي كَمَا: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السابقين، فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَمَا فِي كَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، التَّقْدِيرُ: تبرأوا مِثْلَ تَبَرُّئِهِمْ، أَوْ فَنَتَبَرَّأَهُ، أَيْ فَنَتَبَرَّأَ التَّبَرُّؤَ مُشَابِهًا لِتَبَرُّئِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ، إِمَّا لِمَصْدَرٍ، أَوْ لِحَالٍ، تَقْدِيرُهَا: مُتَبَرِّئِينَ. كَمَا انْتَهَى كَلَامُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ عَلَى النَّعْتِ، إِمَّا لِمَصْدَرٍ، فَهُوَ كَلَامٌ وَاضِحٌ، وَهُوَ الْإِعْرَابُ الْمَشْهُورُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ لِحَالٍ، تَقْدِيرُهَا: مُتَبَرِّئِينَ كَمَا، فَغَيْرُ وَاضِحٍ، لِأَنَّا لَوْ صَرَّحْنَا بِهَذِهِ الْحَالِ، لَمَا كَانَ كَمَا مَنْصُوبًا عَلَى النَّعْتِ لِمُتَبَرِّئِينَ، لِأَنَّ الْكَافَ الداخلة على ما المصدرية هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، لَا مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَنْتَصِبْ عَلَى النَّعْتِ لِلْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ، وَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً، وَلَا نَرْتَكِبُ كَوْنَ الْحَالِ مُؤَكَّدَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَلْفُوظًا بِهَا. أَمَّا أَنْ تُقَدَّرَ حَالًا وَنَجْعَلَهَا مُؤَكَّدَةً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالتَّوْكِيدُ يُنَافِي الْحَذْفَ، لِأَنَّ مَا جِيءَ بِهِ لِتَقْوِيَةِ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ أَيْضًا. فَلَوْ صُرِّحَ بِهَذِهِ الْحَالِ، لِمَا سَاغَ فِي كَمَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْحَالِ الْمُصَرَّحِ بِهَا، مِثَالُ ذَلِكَ: هُمْ مُحْسِنُونَ إِلَيَّ كَمَا أَحْسَنُوا إِلَى زَيْدٍ. فَكَمَا أَحْسَنُوا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ مُحْسِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْإِحْسَانِ، التَّقْدِيرُ: عَلَى الْإِعْرَابِ الْمَشْهُورِ إِحْسَانًا مِثْلَ إِحْسَانِهِمْ إِلَى زَيْدٍ. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ: الْكَافُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ، وَقَدَّرُوهُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَوْ حَشْرُهُمْ كَذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْكَافِ وَحَذْفَ مبتدأ، أو كلاهما عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّشْبِيهِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ مِثْلُ إِرَاءَتِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذَلِكَ، إِشَارَةً إِلَى تَبَرُّؤِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَالْأَجْوَدُ تَشْبِيهُ الْإِرَاءَةِ بَالْأِرَاءَةِ، وَجَوَّزُوا فِي يُرِيهِمْ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً عُدِّيَتْ بِالْهَمْزَةِ، فَتَكُونُ حَسَرَاتٍ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وَأَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً، فَتَكُونُ مَفْعُولًا ثَالِثًا، قَالُوا: وَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَتَحَسَّرَ: يَتَعَدَّى بِعَلَى،

تَقُولُ: تَحَسَّرْتُ عَلَى كَذَا، فَعَلَى هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: حَسَرَاتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ حَسَرَاتٍ كَائِنَةٍ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى تُشْعِرُ بِأَنَّ الحسرات مستعلية عليهم. وأعمالهم، قِيلَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي صَنَعُوهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ عَمِلُوهَا، وَأَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِهَا. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهَا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ التي ارتكبوها، فوجب لهم بِهَا النَّارُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمَعْنَى أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَرَكُوهَا، فَفَاتَتْهُمُ الْجَنَّةُ، وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: تُرْفَعُ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ فِيهَا، لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: تِلْكَ مَسَاكِنُكُمْ لَوْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَرِثُونَهُمْ، فَذَلِكَ حِينَ يَنْدَمُونَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، إِنَّ أَعْمَالَهُمْ قَدْ أَحْبَطَ ثَوَابَهَا كُفْرُهُمْ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُثَابُ مَعَ كُفْرِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَسُئِلَ: هَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» . وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَعْمَالُهُمُ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْأَعْمَالُ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا رُؤَسَاءَهُمْ وَقَادَتَهُمْ، وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي. وَكَانَتْ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهَا مَسْطُورَةً فِي صَحَائِفِهِمْ، وَتَيَقَّنُوا الْجَزَاءَ عَلَيْهَا، وَكَانَ يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهَا وَالْعُدُولُ عَنْهَا، لَوْ شَاءَ اللَّهُ. وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ النَّارِ، إِذْ لَا يُقَالُ: مَا زِيدٌ بِخَارِجٍ مِنْ كَذَا إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى دُخُولِهِمْ، إِنَّمَا تَقَدَّمَ رُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ وَمُفَاوَضَةٌ بِسَبَبِ تَبَرُّؤِ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَجَاءَ الْخَبَرُ مَصْحُوبًا بِالْبَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمْ بِمَنْزِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ يَفْرِشُونَ اللَّبْدَ كُلَّ طَمْرَهْ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ أَمْرِهِمْ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ، لَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، لَا يَكُونُ فِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِنَّ الفاسق يخلد في النَّارَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمُنْتَخَبِ: إِنَّ الْأَصْحَابَ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَا دلالة في الآية

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 23.

عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ. لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا زيد بمنطلق، وإنما فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ انْطِلَاقِ زِيدٍ، وَأَمَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِنَفْيِ الِانْطِلَاقِ، أَوْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي نَفْيِ الِانْطِلَاقِ، فَلَا إِنَّمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ، أَعْنِي الِاخْتِصَاصَ، بِنَفْيِ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، إِذِ الْمُشَارَكَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَهَلِ النَّفْيُ إِلَّا مُرَكَّبٌ عَلَى الْإِيجَابِ؟ فَإِذَا قُلْتَ: زِيدٌ مُنْطَلِقٌ، فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَلَا شَيْءٍ مِنَ الْمُشَارَكَةِ، فَكَذَلِكَ النَّفْيُ، وَكَوْنُهُ قَابِلًا لِلْخُصُومَةِ وَالِاشْتِرَاكِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: زِيدٌ مُنْطَلِقٌ لَا غَيْرَهُ، وَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ مَعَ غَيْرِهِ؟. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ. إِخْبَارَهُ تَعَالَى بِأَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ مَعَالِمِهِ الَّتِي جَعَلَهَا مَحْمَلًا لِعِبَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ غِشْيَانُ الْمُشْرِكِينَ لَهَا، وَتَقَرُّبُهُمْ بِالْأَصْنَامِ عَلَيْهَا. وَصَرَّحَ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عَمَّنْ طَافَ بِهِمَا مِمَّنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ تَبَرَّعَ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ لِفِعْلِهِ، عَلِيمٌ بِنِيَّتِهِ، لَمَّا كَانَ التَّطَوُّعُ يَشْتَمِلُ عَلَى فِعْلٍ وَنِيَّةٍ، خَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَنَاسِبَتَيْنِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَتَمَ مَا أَنْزِلَ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْإِلَهِيِّ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَمَنْ يُسَوَّغُ مِنْهُ اللَّعْنُ مِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنْ تَابَ وَأَصْلَحُ، وَبَيَّنَ مَا كَتَمَ. وَلَمْ يَكْتَفِ بِالتَّوْبَةِ فَقَطْ حَتَّى أَضَافَ إِلَيْهَا الْإِصْلَاحَ، لِأَنَّ كَتْمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْإِفْسَادِ، إِذْ فِيهِ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ الْمِنْهَجِ الشَّرْعِيِّ. وَأَضَافَ التَّبْيِينَ لِمَا كَتَمَ حَتَّى يَتَّضِحَ لِلنَّاسِ وُضُوحًا بَيِّنًا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَأَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَسَلَكَ نَقِيضَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِزَوَالِ مَا قَرَّرَ أَوَّلًا مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ. وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَثْنِينَ، أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُ عِنْدَهُ ذَنْبٌ، وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ، إِذَا تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، بِصِفَتِي الْمُبَالَغَةِ الَّتِي فِي فَعَّالٍ وَفَعِيلٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّسِمِينَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَحَالَ مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ، ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ وَتَابَ إِلَى اللَّهِ. ذَكَرَ حَالَ مَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ تَحْتَ لَعْنَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالنَّاسِ، وَأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي اللَّعْنَةِ، غَيْرُ مُخَفَّفٍ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، ولا مرجئون إِلَى وَقْتٍ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ كُفْرُ مُعْظَمِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ لِاتِّخَاذِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً «1» ؟ أَأَنْتَ قُلْتَ

_ (1) سورة ص: 38/ 5.

لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» ؟ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «2» ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ فيقولون كنا نعبد عزيزا» . أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَجَزَّأُ، وَلَا لَهُ مَثِيلٌ فِي صِفَاتِهِ. ثُمَّ حَصَرَ الْإِلَهِيَّةَ فِيهِ، فَتَضْمَنَ ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ، فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالرَّحِيمِيَّةِ. ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَبَدَأَ بِذِكْرِ اخْتِرَاعِ الْأَفْلَاكِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْجِرْمِ الْكَثِيفِ الْأَرْضِيِّ، وَمَا يَكُونُ فِيهِمَا مِنَ اخْتِلَافِ مَا بِهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ النَّاشِئَيْنِ عَمَّا أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَاخْتِلَافِ الْفُلْكِ ذاهبة وآئبة بِمَا يَنْفَعُ النَّاسُ النَّاشِئُ ذَلِكَ عَمَّا أُودِعَ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَمَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ، مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَتَشَقُّقِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَانْتِشَارِ الْعَالَمِ فِيهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ فِي الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ، وَأَشْيَاءَ فِي الْجِرْمِ الْأَرْضِيِّ، ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا هُوَ بَيْنَ الْجِرْمَيْنِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ، إِذْ كَانَ بِذَلِكَ تَتِمُّ النِّعْمَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِصَلَاحِ الْعَالِمِ فِي مَنَافِعِهِمُ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ هِيَ آيَاتٌ لِلْعَاقِلِ، تَدُلُّهُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِصَاصِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، إِذْ مَنْ عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْلَمُونَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اقْتِدَارٌ عَلَى شيء مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَأَنَّهُمْ بَعْضُ مَا حَوَتْهُ الدَّائِرَةُ الْعُلْوِيَّةُ وَالدَّائِرَةُ السُّفْلِيَّةُ، وَأَنَّ نِسْبَتَهُمْ إِلَى مَنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الِافْتِقَارِ وَالتَّغَيُّرِ، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ إِلَّا عِنْدَ مَنْ سُلِبَ نُورَ الْعَقْلِ، وَغَشِيتْهُ ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى، بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، أَنَّ مِنَ النَّاسِ مُتَّخِذِي أَنْدَادٍ، وَأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُمْ وَيُحِبُّونَهُمْ مِثْلَ مَحِبَّةِ اللَّهِ، فَهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْمَحَبَّةِ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «3» . ثُمَّ ذَكَرَ أن من الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ من هؤلاء لأصناهم. ثُمَّ خَاطَبَ مَنْ خَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، حِينَ عَايَنُوا نَتِيجَةَ اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْدَادَ، وَهُوَ الْعَذَابُ، الْحَالُّ بِهِمْ، أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَنْدَادَهُمْ لَا طَاقَةَ لَهَا وَلَا قُوَّةَ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْقُوَى وَالْقُدَرِ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى تَبَرُّؤَ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَقْتَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَزَالَتِ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ التَّابِعِينَ تَمَنَّوُا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا حتى يؤمنوا ويتبرأوا مِنْ مَتْبُوعِيِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ التَّمَنِّي وَلَا يُمْكِنُ أن يقع، فهو تمني مستحيل، لأن الله

_ (1) سورة المائدة: 5/ 116. (2) سورة التوبة: 9/ 30. (3) سورة النحل: 16/ 17.

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 176]

تَعَالَى قَدْ حَكَمَ وَأَمْضَى أَنْ لَا عَوْدَةَ إِلَى الدُّنْيَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، أَرَاهُمْ أَعْمَالَهُمْ نَدَامَاتٍ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، لِيَتَضَاعَفَ بِذَلِكَ الْأَلَمُ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا خَتَمَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ وَالشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَطَا نِقْمَاتِهِ، وَنَسْتَنْزِلُ مِنْ كَرَمِهِ الْعَمِيمِ نشر رحماته. [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 176] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) الْحَلَالُ: مُقَابِلُ الْحَرَامِ وَمُقَابِلُ الْمُحَرَّمِ. يُقَالُ شَيْءٌ حَلَالٌ: أَيْ سَائِغٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَشَيْءٌ حَرَامٌ: مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَرَجُلٌ حَلَالٌ: أَيْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ. قِيلَ: وَسُمِّيَ حَلَّالًا لِانْحِلَالِ عَقْدِ الْمَنْعِ مِنْهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ حَتَّى يَحِلَّ، بِكَسْرِ الْحَاءِ فِي الْمُضَارِعِ، عَلَى قِيَاسِ الْفِعْلِ الْمُضَاعَفِ اللَّازِمِ. وَيُقَالُ: هَذَا حَلٌّ، أَيْ حَلَالٌ، وَيُقَالُ: حَلَّ بَلَّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَحَلَّ

بِالْمَكَانِ: نَزَلَ بِهِ، وَمُضَارِعُهُ جَاءَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَحَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: حَانَ وَقْتَ أَدَائِهِ. الْخُطْوَةُ، بِضَمِّ الْخَاءِ: مَا بَيْنَ قَدَمَيِ الْمَاشِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَطْوَةُ، بِفَتْحِهَا: الْمَرَّةُ مِنَ الْمَصْدَرِ. يقال: خطا يخطو خَطْوًا: مَشَى. وَيُقَالُ: هُوَ وَاسِعُ الْخَطْوِ. فَالْخُطْوَةُ بِالضَّمِّ، عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَخْطُو فِيهَا، كَالْغُرْفَةِ وَالْقَبْضَةِ، وَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَقْبُوضِ، وَفِي جَمْعِهَا بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ لُغًى ثَلَاثٌ: إِسْكَانُ الطَّاءِ كَحَالِهَا فِي الْمُفْرَدِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَنَاسٍ مِنْ قِيسٍ، وَضَمَّةُ الطَّاءِ اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الْخَاءِ، وَفَتْحُ الطَّاءِ. وَيُجْمَعُ تَكْسِيرًا عَلَى خُطًى، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي فِعْلَةٍ الِاسْمِ. الْفَحْشَاءُ: مَصْدَرٌ كَالْبَأْسَاءِ، وَهُوَ فَعْلَاءٌ مِنَ الْفُحْشِ، وَهُوَ قُبْحُ الْمَنْظَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْمَعَانِي. أَلْفَى: وَجَدَ، وَفِي تَعَدِّيهَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ خِلَافٌ، وَمَنْ مَنَعَ جَعْلَ الثَّانِي حَالًا، وَالْأَصَحُّ كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِمَجِيئِهِ مَعْرِفَةً، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى زِيَادَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. النَّعِيقُ: دُعَاءُ الرَّاعِي وَتَصْوِيتُهُ بِالْغَنَمِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَانْعَقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ فِي الْخَلَاءِ ضَلَالَا وَيُقَالُ: نَعَقَ الْمُؤَذِّنُ، وَيُقَالُ: نَعَقَ يَنْعَقُ نَعِيقًا وَنُعَاقًا وَنَعْقًا، وَأَمَّا نَغَقَ الْغُرَابُ، فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. وَقِيلَ أَيْضًا: يُقَالُ بِالْمُهْمِلَةِ فِي الْغُرَابِ. النِّدَاءُ: مَصْدَرُ نَادَى، كَالْقِتَالِ مَصْدَرُ قَاتَلَ، وَهُوَ بِكَسْرِ النون، وقد يضم. قِيلَ: وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلدُّعَاءِ، وَقِيلَ: مُخْتَصٌّ بِالْجَهْرِ، وَقِيلَ: بِالْبُعْدِ، وَقِيلَ: بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا مِنْ فُلَانٍ، أَيْ أَقْوَى وَأَشَدُّ وَأَبْعَدُ مَذْهَبًا. اللَّحْمُ: مَعْرُوفٌ. يُقَالُ: لَحُمَ الرَّجُلُ لِحَامَةً، فَهُوَ لَحِيمٌ: ضَخْمٌ. وَلَحَمَ يَلْحَمُ، فَهُوَ لَحِمٌ: اشْتَاقَ إِلَى اللَّحْمِ. وَلَحَمَ النَّاسَ يُلْحِمُهُمْ: أَطْعَمَهُمُ اللَّحْمَ، فَهُوَ لَاحِمٌ. وَأَلْحَمَ، فَهُوَ مُلْحِمٌ: كَثُرَ عِنْدَهُ اللَّحْمُ. الْخِنْزِيرُ: حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ، وَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ، فَهُوَ فِعْلِيلٌ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نُونَهُ زَائِدَةٌ، وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ خَزَرِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْظُرُ. يُقَالُ: تَخَازَرَ الرَّجُلُ: ضَيَّقَ جَفْنَهُ لِيُحَدِّدَ النَّظَرَ، وَالْخَزَرُ: ضِيَقُ الْعَيْنِ وَصِغَرُهَا، وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَخْزَرُ: بَيِّنُ الْخَزَرِ. وَقِيلَ: هُوَ النَّظَرُ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ كَالتَّشَوُّشِ. الْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الْإِهْلَالُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْهِلَالُ لِارْتِفَاعِ الصَّوْتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَيُقَالُ: أَهَلَّ الْهِلَالُ وَاسْتَهَلَّ، وَيُقَالُ: أَهَلَّ بِكَذَا: رَفَعَ صَوْتَهُ. قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:

يُهِلُّ بِالْفَدْفَدِ رُكْبَانُنَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ وَقَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى تَرَهُ يُهِلُّ وَيَسْجُدُ وَمِنْهُ: إِهْلَالُ الصَّبِيِّ وَاسْتِهْلَالُهُ، وَهُوَ صِيَاحُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَضْحَكُ الذِّئْبُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ الْبَطْنُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ عَلَى فُعُولٍ قِيَاسٌ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى بُطْنَانٍ، وَيُقَالُ: بَطَنَ الْأَمْرُ يَبْطُنُ، إِذَا خَفِيَ. وَبَطُنَ الرَّجُلُ، فَهُوَ بَطِينٌ: كَبُرَ بَطْنُهُ. وَالْبِطْنَةُ: امْتِلَاءُ الْبَطْنِ بِالطَّعَامِ. وَيُقَالُ: الْبِطْنَةُ تذهب الفطنة. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ: هَذَا ثَانِي نِدَاءٍ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَلَفْظُهُ عَامٌّ. قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. قِيلَ: وَبَنِي مُدْلِجٍ، حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَحَرَّمُوا الْبَحِيرَةَ وَالسَّوَائِبَ وَالْوَصِيلَةَ وَالِحَامَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا، كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا وَاللَّفْظُ عَامًّا، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ، أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ وَدَلَائِلَهُ، وَمَا لِلتَّائِبِينَ وَالْعَاصِينَ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِنْعَامِهِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، لِيَدُلَّ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُؤْثَرُ فِي قَطْعِ الْإِنْعَامِ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: لَمَّا حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ حَالِ مَنْ يَصِيرُ عَمَلُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً، أَمَرَهُمْ بِأَكْلِ الْحَلَالِ، لِأَنَّ مَدَارَ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ. كُلُوا: أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَتَسْوِيغٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُوجِدُ لِلْأَشْيَاءِ، فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا عَلَى مَا يُرِيدُ. مِمَّا فِي الْأَرْضِ، مِنْ: تَبْعِيضِيَّةٌ، وَمَا: مَوْصُولَةٌ، وَمِنْ: فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، نَحْوَ: أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، وحلالا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الصِّلَةِ الْمُنْتَقَلِ مِنَ العامل فيها إليها. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: حَلَالًا: نَعْتٌ لِمَفْعُولِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ شَيْئًا حَلَّالًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَلَمْ يُبَيِّنَ وَجْهَ بُعْدِهِ، وَبُعْدُهُ أَنَّهُ مِمَّا حُذِفَ الْمَوْصُوفِ، وَصِفَتُهُ غَيْرُ خَاصَّةٍ، لِأَنَّ الْحَلَالَ يَتَّصِفُ بِهِ الْمَأْكُولُ وَغَيْرُ الْمَأْكُولِ. وَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ هَكَذَا، لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَتُهَا مَقَامَهُ. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَنْتَصِبَ حَلَالًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِكُلُوا، وَبِهِ ابْتَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُتَعَلِّقَةً بِكُلُوا، أَوْ مُتَعَلِّقَةً

بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُوا حَلَالًا مِمَّا فِي الْأَرْضِ. فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ صَارَتْ حَالًا، فَتَعَلَّقَتْ بِمَحْذُوفٍ، كَمَا كَانَتْ صِفَةً تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَقْصِدُ الْكَلَامِ لَا يُعْطِي أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مَفْعُولًا بِكُلُوا، تَأَمَّلْ. انْتَهَى. طَيِّبًا: انْتَصَبَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: حَلَالًا، إِمَّا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى حَلَالًا وَاحِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَإِمَّا مُخَصَّصَةً لِأَنَّ مَعْنَاهُ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى الْحَلَالِ وَهُوَ الْمُسْتَلَذُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ أَكْلُ الْحَيَوَانِ الْقَذِرِ وَكُلُّ مَا هُوَ خَبِيثٌ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ طَيِّبًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَكْلًا طَيِّبًا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي كُلُوا تَقْدِيرُهُ: مُسْتَطْيِبِينَ، وَهَذَا فَاسِدٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ طَيِّبًا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلضَّمِيرِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ جَمْعٌ، وَطَيِّبٌ مُفْرَدٌ، وَلَيْسَ طَيِّبٌ بِمَصْدَرٍ، فَيُقَالُ: لَا يَلْزَمُ الْمُطَابَقَةُ. وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَلِأَنَّ طَيِّبًا مُغَايِرٌ لِمَعْنَى مُسْتَطْيِبِينَ، لِأَنَّ الطَّيِّبَ مِنْ صِفَاتِ الْمَأْكُولِ، وَالْمُسْتَطْيَبُ مِنْ صِفَاتِ الْآكِلِ. تَقُولُ: طَابَ لِزَيْدِ الطَّعَامُ، وَلَا تَقُولُ: طَابَ زَيْدٌ الطَّعَامَ، فِي مَعْنَى اسْتَطَابَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ طَيِّبًا: طَاهِرًا مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: حَلَالًا مُطْلَقَ الشَّرْعِ، طَيِّبًا مُسْتَلَذَّ الطَّبْعِ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحَلَالُ: الَّذِي انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَةُ الْخَطَرِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا لِجِنْسِهِ كَالْمَيْتَةِ، وَإِمَّا لَا لِجِنْسِهِ كَمِلْكِ الْغَيْرِ، إِذْ لَمْ يُأْذَنْ فِي أَكْلِهِ. وَالطَّيِّبُ لُغَةً الطَّاهِرُ، وَالْحَلَّالُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ، كَمَا أَنَّ الْحَرَامَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ، وَالْأَصْلُ فِي الطِّيبِ مَا يُسْتَلَذُّ، وَوُصِفَ بِهِ الطَّاهِرُ وَالْحَلَالُ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ النَّجِسَ تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، وَالْحَرَامَ لَا يُسْتَلَذُّ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْهُ. انْتَهَى. وَالثَّابِتُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الطَّاهِرُ مِنَ الدَّنَسِ. قَالَ: وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ وَقَالَ آخَرُ وَلِيَ الْأَصْلُ الَّذِي فِي مِثْلِهِ ... يُصْلِحُ الآبر زرع المؤتبر طيبوا الْبَاءَةِ سَهْلٌ وَلَهُمْ ... سُبُلٌ إِنْ شِئْتَ فِي وَحْشٍ وَعِرْ وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَلَالُ الطَّيِّبُ: هُوَ مَا لَا يسأل عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَلَالُ الَّذِي لَا تَبِعَةَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَبَالَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْحَلَالُ مَا يُجَوِّزُهُ الْمُفْتِي، وَالطَّيِّبُ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقَلْبُ بِالْحِلِّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى، فلابد مِنْ إِذْنِهِ فِيمَا يُتَنَاوَلُ مِنْهَا، وَمَا عَدَا مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ

يَبْقَى عَلَى الْحَظْرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ الْحِلِّ وَالطَّيِّبِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي أَكْلِهِ. إِمَّا تَمَلُّكُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، أَوِ ادِّخَارُهُ، أَوْ سَائِرُ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ غَيْرَ الْأَكْلِ، فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ. فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ إِجْمَاعٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ، أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَكْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَقُنْبُلٌ وَحَفْصٌ وَعَبَّاسٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْبَرْجَمِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِالْوَاوِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَبِالْوَاوِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَالِ: خُطَوَاتِ، بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَبِالْوَاوِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ لُغًى ثَلَاثٌ فِي جَمْعِ خُطْوَةٍ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالسَّجَاوِنْدِيُّ أَنَّ أَبَا السَّمَالِ قَرَأَ: خَطَوَاتٍ، بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِالْوَاوِ، جَمْعَ خَطْوَةٍ، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْخَطْوِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَقَتَادَةٌ وَالْأَعْمَشُ وَسَلَامٌ: خُطُؤَاتِ، بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ: الْهَمْزَةُ أَصْلٌ، وَهُوَ مِنَ الْخَطَأِ جَمْعُ خَطَأَةٍ، إِنْ كَانَ سُمِعَ، وَإِلَّا فَتَقْدِيرًا. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ مِنَ الْخَطَأِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ، وَفَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ خَطَايَاهُ، وَتَفْسِيرُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَسَّرَ بِالْمُرَادِفِ، أَوْ فَسَّرَ بِالْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ خُطْوَةٍ، لَكِنَّهُ تَوَهَّمَ ضَمَّةَ الطَّاءِ أَنَّهَا عَلَى الْوَاوِ فَهَمَزَ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُهْمَزُ. قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ مَا سَنَّ مِنَ الْمَعَاصِي. يُقَالُ: اتَّبَعَ زَيْدٌ خُطُوَاتِ عَمْرٍو وَوَطِئَ على عقبيه، إذا سَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي أَحْوَالِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُطُوَاتُهُ أَعْمَالُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَطَايَاهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: طَاعَتُهُ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: مَا يَنْقُلُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ، حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ الْمَعَاصِي، مَأْخُوذٌ مِنْ خَطْوِ الْقَدَمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: طُرُقَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُحَقَّرَاتُ الذُّنُوبِ. وَقَالَ المؤرّج آثَارُهُ وَقَالَ عَطَاءٌ: زَلَّاتُهُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى صَدَرَتْ مِنْ قَائِلِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. وَالْمَعْنَى بِهَا كُلِّهَا النَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، نَهَاهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَعَنِ التَّخَطِّي إِلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي إِلَى الْمَرْءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ، فَيُزَيِّنُ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ، فَزَجَرَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَالشَّيْطَانُ هَنَا إِبْلِيسُ، وَالنَّهْيُ هُنَا عَنِ اتِّبَاعِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْمَعَاصِي، لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْجَمْعَ، فَلَا يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْمُفْرَدِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ: تَعْلِيلٌ لِسَبَبِ هَذَا التَّحْذِيرِ مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ مَنْ ظَهَرَتْ

عَدَاوَتُهُ وَاسْتَبَانَتْ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُتَّبَعَ فِي شَيْءٍ وَأَنْ يُفَرَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِكْرٌ إِلَّا فِي إِرْدَاءِ عَدُوِّهِ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ: لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ عَدُوٌّ، أَخَذَ يَذْكُرُ ثَمَرَةَ الْعَدَاوَةِ وَمَا نَشَأَ عَنْهَا، وَهُوَ أَمْرُهُ بِمَا ذَكَرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ» . وَفِي الْخِلَافِ فِيهَا، أَتُفِيدُ الْحَصْرَ أَمْ لَا؟ وَأَمْرُ الشَّيْطَانِ، إِمَّا بِقَوْلِهِ فِي زَمَنِ الْكَهَنَةِ وَحَيْثُ يُتَصَوَّرُ، وَإِمَّا بِوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ. فَإِذَا أُطِيعَ، نَفَذَ أَمْرُهُ بِالسُّوءِ، أَيْ بِمَا يَسُوءُ فِي الْعُقْبَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السُّوءُ مَا لَا حَدَّ لَهُ. وَالْفَحْشَاءُ، قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الزِّنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا بَلَغَ حَدَّا مِنَ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ يَتَفَاحَشُ حِينَئِذٍ. وَقِيلَ: مَا تَفَاحَشَ ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: مَا قَبُحَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا. وَقَالَ طَاوُسٌ: مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْبُخْلُ. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُرِيدُ بِهِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِ، وَجَعَلُوهُ شَرْعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ قَوْلُهُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. قِيلَ: وَظَاهِرُ هَذَا تَحْرِيمُ الْقَوْلِ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ الْقَائِلُ مِنْ دِينِ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الرَّأْيُ وَالْأَقْيِسَةُ وَالشَّبَهِيَّةُ وَالِاسْتِحْسَانُ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَمِّ مَنْ قَلَّدَ الْجَاهِلَ وَاتَّبَعَ حُكْمَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ كَانَ الشَّيْطَانُ آمِرًا مَعَ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «2» ؟ قُلْتُ: شَبَّهَ تَزْيِينِهِ وَبَعْثَهُ عَلَى الشَّرِّ بِأَمْرِ الْآمِرِ، كَمَا تَقُولُ: أَمَرَتْنِي نَفْسِي بِكَذَا، وتحته رَمَزَ إِلَى أَنَّكُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِينَ لِطَاعَتِكُمْ لَهُ وَقَبُولِكُمْ وَسَاوِسَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ يُطْعِمُهَا وَيُعْطِيهَا مَا اشْتَهَتْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا: الضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كَفَّارِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ وَصْفَهُمْ، وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِآبَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ، حِينَ احْتُضِرَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ ذَكَّرُوهُ بِدِينِ أَبِيهِ وَمَذْهَبِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِأَسْلَافِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ، مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً «3» ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 11. [.....] (2) سورة الإسراء: 17/ 65. (3) سورة البقرة: 2/ 165.

وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُمْ أُبْرِزُوا فِي صُورَةِ الْغَائِبِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِهِ، حَيْثُ دُعِيَ إِلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْهُدَى وَالنُّورُ. فَأَجَابَ بِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ أَبِيهِ، وَكَأَنَّهُ يُقَالُ: هَلْ رَأَيْتُمْ أَسْخَفَ رَأْيًا وَأَعْمَى بَصِيرَةً مِمَّنْ دُعِيَ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَرَدَّ ذَلِكَ وَأَضْرَبَ عَنْهُ؟ وَأَثْبَتَ أَنَّهُ يَتَّبِعَ مَا وُجَدَ عَلَيْهِ أَبَاهُ؟ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَهُوَ قَبُولُ الشَّيْءِ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِبْطَالِهِ فِي الْعَقَائِدِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَاتِّبَاعُ أَبْنَائِهِمْ لِآبَائِهِمْ تَقْلِيدٌ فِي ضَلَالٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا إِلَّا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا، التَّكْرَارُ. وَبَنَى قِيلَ لَمَّا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ، لِأَنَّهُ أَخْصَرَ، لِأَنَّهُ لَوْ ذُكِرَ الْآمِرُونَ لَطَالَ الْكَلَامُ، لِأَنَّ الْآمِرَ بِذَلِكَ هُوَ الرَّسُولُ وَمَنْ يَتَّبِعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِعْلَامٌ بِتَعْظِيمِ مَا أَمَرُوهُمْ بِاتِّبَاعِهِ أَنْ نَسَبَ إِنْزَالَهُ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْمُشَرِّعُ لِلشَّرَائِعِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَلَا يعارض باتباع آبائهم رؤوس الضَّلَالَةِ. وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ لَامَ بَلْ فِي نُونِ نَتَّبِعُ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ. وَبَلْ هُنَا عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: لَا نَتَّبِعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَلْفَيْنَا، وَلَيْسَتْ هُنَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى وَجَدَ، الَّتِي بِمَعْنَى أَصَابَ. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَصْحُوبِ بِالتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَأَمَّا الْوَاوُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَمَعْنَاهُ: أَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ وَلَا يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْوَاوُ لِعَطْفِ جُمْلَةِ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لِأَنَّ غَايَةَ الْفَسَادِ فِي الِالْتِزَامِ أَنْ يَقُولُوا: نَتَّبِعُ آبَاءَنَا وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ، فَقَرَّرُوا عَلَى الْتِزَامِ هَذَا، أَيْ هَذِهِ حَالُ آبَائِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ، مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ إِنَّهَا لِلْعَطْفِ، لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمَصْحُوبَةَ بِلَوْ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ، هِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ. فَإِذَا قَالَ: اضْرِبْ زَيْدًا وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، الْمَعْنَى: وَإِنْ أَحْسَنَ، وَكَذَلِكَ: اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، الْمَعْنَى فِيهَا: وَإِنْ. وَتَجِيءُ لَوْ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهَا، لَكِنَّهَا جَاءَتْ لِاسْتِقْصَاءِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْفِعْلُ، وَلِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ وُجُودُ الْفِعْلِ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ الْفِعْلَ. وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: اضْرِبْ زَيْدًا وَلَوْ أَسَاءَ

إِلَيْكَ، وَلَا أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا، وَلَا رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْوَاوُ فِي وَلَوْ فِي الْمُثُلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَاطِفَةٌ عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لِلْحَالِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً حَالِيَّةً عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ. وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لِلْعَطْفِ مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ الْعَطْفُ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنْكَارُ اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ أَنْ يُتَّبَعُوا فِيهَا، وَهِيَ تَلَبُّسُهُمْ بِعَدَمِ الْعَقْلِ وَعَدَمِ الْهِدَايَةِ. وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ الْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَى لَوْ، إِذَا كَانَتْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ حَالًا فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ مَجِيئَهَا عَارِيَةً مِنَ الْوَاوِ يُؤْذِنُ بِتَقْيِيدِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِهَذِهِ الْحَالِ، فَهُوَ يُنَافِي اسْتِغْرَاقَ الْأَحْوَالِ حَتَّى هَذِهِ الْحَالِ. فَهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ: أَكْرِمْ زَيْدًا لَوْ جَفَاكَ، أَيْ إِنْ جَفَاكَ، وَبَيْنَ أَكْرِمْ زَيْدًا وَلَوْ جَفَاكَ. وَانْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَعَمَّ جَمِيعَ الْمَعْقُولَاتِ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فتعم، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْوَحْدَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا بَلْ أَشْيَاءً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْعَقْلِ، وَإِذَا انْتَفَى، انْتَفَى سَائِرُ الْعُقُولِ، وَقَدَّمَ نَفْيَ الْعَقْلِ، لِأَنَّهُ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ، وَأَخَّرَ نَفْيَ الْهِدَايَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى نَفْيِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ لِلصَّوَابِ هِيَ نَاشِئَةٌ عَنِ الْعَقْلِ، وَعَدَمُ الْعَقْلِ عَدَمٌ لَهَا. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، إِذَا أُمِرُوا بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَرَجَعُوا إِلَى مَا أَلِفُوهُ مِنَ اتباع الباطل الذي نشأوا عَلَيْهِ وَوَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا مَا يُقَالُ لَهُمْ، وَصَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، وَخَرِسُوا عَنِ النُّطْقِ بِهِ، وَعَمُوا عَنْ إِبْصَارِ النُّورِ السَّاطِعِ النَّبَوِيِّ. ذَكَرَ هَذَا التَّشْبِيهَ الْعَجِيبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنَبِّهًا عَلَى حَالَةِ الْكَافِرِ فِي تَقْلِيدِهِ أَبَاهُ وَمُحَقِّرًا نَفْسَهُ، إِذْ صَارَ هُوَ فِي رُتْبَةِ الْبَهِيمَةِ، أَوْ فِي رُتْبَةِ دَاعِيهَا، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي هَذَا التَّشْبِيهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا بُدَّ فِي فَهْمِ مَعْنَاهَا مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ. وَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالْمَنْعُوقِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مضروب بتشبيه داعي والكافر بِالنَّاعِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الدَّاعِي وَالْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. فَعَلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ

بِالنَّاعِقِ، قِيلَ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قِلَّةِ فَهْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، كَمَثَلِ الرُّعَاةِ يُكَلِّمُونَ الْبَهْمَ، وَالْبَهْمُ لَا تَعْقِلُ شَيْئًا. وَقِيلَ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كفروا في دعائهم آلهتهم الَّتِي لَا تَفْقَهُ دُعَاءَهُمْ، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ مِنْ نَعِيقِهِ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهُ فِي عَنَاءٍ وَنِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُعَائِهِ الْآلِهَةَ وَعِبَادَتِهِ الْأَوْثَانَ إِلَّا الْعَنَاءُ. قال الزمخشري: وقد ذكر هَذَا الْقَوْلُ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَحَظَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَمَامَ التَّشْبِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَمَا أَنَّ الْمَنْعُوقَ بِهِ لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، فَكَذَلِكَ مَدْعُوُّ الْكَافِرِ مِنَ الصَّنَمِ، وَالصَّنَمُ لَا يَسْمَعُ، فَضَعُفَ عِنْدَهُ هَذَا الْقَوْلُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: التَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ، لَا فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَدْعُوِّ، فَشُبِّهَ الْكَافِرُ فِي دُعَائِهِ الصَّنَمَ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهِيمَةِ، لَا فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَنْعُوقِ بِهِ. وَقِيلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ أَنَّ النَّاعِقَ هُنَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ النَّاعِقَ بِالْبَهَائِمِ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الصَّائِحُ فِي جَوْفِ الْجِبَالِ، فَيُجِيبُهُ مِنْهَا صَوْتٌ يُقَالُ لَهُ الصَّدَا، يُجِيبُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ. فَالْمَعْنَى: بِمَا لَا يَسْمَعُ مِنْهُ النَّاعِقُ إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ يَكُونُ الْفَاعِلُ بِيَسْمَعُ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى مَا، وَهُوَ الْمَنْعُوقُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الَّذِي يَنْعِقُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى مَا الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: بِمَا لَا يَسْمَعُ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرِّ الْمَوْصُولِ بِغَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ مَا يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، فَالْحَرْفُ الْأَوَّلُ بَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِيَنْعِقُ، وَالثَّانِي مِنْ تَعَلَّقَ بِيَسْمَعُ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ مِثْلُ هَذَا، قَالَ: وَقِيلَ المراد بالذين كَفَرُوا: الْمَتْبُوعُونَ لَا التَّابِعُونَ، وَمَعْنَاهُ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ أَتْبَاعِهِمْ، وَكَوْنُ أَتْبَاعِهِمْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْخَيْبَةُ وَالْخُسْرَانُ، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالْمَنْعُوقِ بِهِ، وَهُوَ الْبَهَائِمُ الَّتِي لَا تَعْقِلُ مِثْلُ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْحَمِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ. وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ مُصَحِّحِ هَذَا التَّشْبِيهِ، فَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دعاتهم إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ سَمَاعِهِمْ إِيَّاهُ، كَمَثَلِ بَهَائِمِ الَّذِي يَنْعِقُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ قَيْدٍ فِي الْأَوَّلِ، وَحَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الثَّانِي. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عَدَمِ فَهْمِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، كَمَثَلِ الْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرَ الصَّوْتِ. فَيُرَادُ بِالَّذِي يَنْعِقُ، الَّذِي يُنْعَقُ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ عِنْدَهُمْ. قَالُوا:

كَمَا تَقُولُ: دَخَلَ الْخَاتَمُ فِي يَدِي وَالْخُفُّ فِي رِجْلِي. وَكَقَوْلِهِمْ: عَرَضَ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَأَوْرَدُوا مِمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُ مَقْلُوبُ جُمْلَةٍ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، أَوْ إِنْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ مِنِ الْقِلَّةِ بِحَيْثُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ دَاعِي الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ: وَمَثَلُ دَاعِي الَّذِينَ كَفَرُوا. فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ تَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ، وَلَا بِالْمَنْعُوقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ دَاعِي الْكَافِرِ فِي دُعَائِهِ إِيَّاهُ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهَائِمِ، فِي كَوْنِ الْكَافِرِ لَا يَفْهَمُ مِمَّا يُخَاطِبُهُ بِهِ دَاعِيهِ إِلَّا دَوِيَّ الصَّوْتِ دُونَ إِلْقَاءِ ذِهْنٍ وَلَا فِكْرٍ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ مِنَ النَّاعِقِ بِهَا إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، وَلَا تَفْهَمُ شَيْئًا آخَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَا يَسْمَعُ الْأَصَمُّ الْأَصْلَخُ، الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلَامِهِ إِلَّا النِّدَاءَ وَالصَّوْتَ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِلْحُرُوفِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الدَّاعِي وَالْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الْآيَةِ. أَنَّ الْمَعْنَى: مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنَى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفَيْنِ: حَذْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ حَذْفُ دَاعِيهِمْ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الثَّانِي، وَحَذْفٌ مِنَ الثَّانِي، وَهُوَ حَذْفُ الْمَنْعُوقِ بِهِ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْأَوَّلِ فَشَبَّهَ دَاعِيَ الْكُفَّارِ بِرَاعِي الْغَنَمِ فِي مُخَاطَبَتِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ عَنْهُ، وَشَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْغَنَمِ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَسْمَعُونَ مِمَّا دُعُوا إِلَيْهِ إِلَّا أَصْوَاتًا، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا وَرَاءَهَا. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ حَذْفٌ كَثِيرٌ، إِذْ فِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفَيْنِ، إِذِ التَّقْدِيرُ الصِّنَاعِيُّ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَدَاعِيهِمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَذَهَبَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ وَتِلْمِيذُهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ، وَالْأُسْتَاذُ أبو علي الشلوبين وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَحْسِنُهُ، وَإِنَّهُ مِنْ بَدِيعِ كَلَامِهَا، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ «1» التَّقْدِيرُ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَدْخُلُ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ بَيْضَاءُ، فَحَذَفَ تَدْخُلُ لِدَلَالَةِ تَخْرُجْ، وَحَذَفَ وَأَخْرِجْهَا لِدَلَالَةِ وَأَدْخِلْ، قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ

_ (1) سورة النمل: 27/ 12.

لَمْ يُرِدْ أَنْ يُشَبِّهَ فَتْرَتَهُ بِانْتِفَاضِ الْعُصْفُورِ حِينَ يَبُلُّهُ الْقَطْرُ، لِكَوْنِهِمَا حَرَكَةً وَسُكُونًا، فَهُمَا ضِدَّانِ، وَلَكِنَّ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي إِذَا ذَكَرْتُكِ عَرَانِي انْتِفَاضٌ ثُمَّ أَفْتُرُ، كَمَا أَنَّ الْعُصْفُورَ إِذَا بَلَّلَهُ الْقَطْرُ عَرَاهُ فَتْرَةٌ ثُمَّ يَنْتَفِضُ، غَيْرَ أَنَّ وَجِيبَ قَلْبِهِ وَاضْطِرَابِهِ قَبْلَ الْفَتْرَةِ، وَفَتْرَةُ الْعُصْفُورِ قَبْلَ انْتِفَاضِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا فِي التَّشْبِيهِ، إِنَّمَا هِيَ عَلَى مُرَاعَاةِ تَشْبِيهِ مُفْرَدٍ بِمُفْرَدٍ، وَمُقَابَلَةُ جُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ بِجُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، فَلَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، بَلْ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّشْبِيهِ حَمَلَ الْآيَةَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ، قَالَ الرَّاغِبُ: فَلَمَّا شَبَّهَ قِصَّةَ الْكَافِرِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِقِصَّةِ النَّاعِقِ، قَدَّمَ ذِكْرَ النَّاعِقِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ وَمِنَ الْمَنْعُوقِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» ، وقوله تعالى: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» . فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، فَنَقُولُ: ومثل الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ كَمَثَلِ، وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ. شَبَّهَ الصِّفَةَ بِالصِّفَةِ، أَيْ صِفَتُهُمْ كَصِفَةِ الَّذِي يَنْعِقُ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، فَقَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ عَيْنَ الصِّفَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْكَافِ الَّتِي تُعْطِي التَّشْبِيهَ. بَلْ لَوْ جَاءَ دُونَ الْكَافِ لَكُنَّا نَعْتَقِدُ حَذْفَهَا، لِأَنَّ بِهِ تَصْحِيحَ الْمَعْنَى. وَالَّذِي يَنْعِقُ، لَا يُرَادُ بِهِ مُفْرَدٌ، بَلِ الْمُرَادُ الْجِنْسُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ: كَالنَّاعِقِ بِالْبَهَائِمِ، أَوْ كَالْمُصَوِّتِ فِي الْجِبَالِ الَّذِي لَا يُجِيبُهُ مِنْهَا إِلَّا الصَّدَا، أَوْ كَالْمُصَوِّتِ بِالْأَصَمِّ الْأَصْلَخِ، أَوِ كَالْمَنْعُوقِ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ. وَقِيلَ: كَالْمُصَوِّتِ بِشَيْءٍ بَعِيدٍ مِنْهُ، فَهُوَ لَا يَسْمَعُ مِنْ أَجْلِ الْبُعْدِ، فَلَيْسَ لِلْمُصَوِّتِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا النِّدَاءُ الَّذِي يُنْصِبُهُ وَيُتْعِبُهُ. وَقِيلَ: وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِالرَّاعِي لِلضَّأْنِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَبْلَهِ الْحَيَوَانِ، فَهِيَ تُحَمِّقُ رَاعِيَهَا. وَفِي الْمَثَلِ: أَحْمَقُ مِنْ رَاعِي ضَأْنٍ ثَمَانِينَ. وَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةَ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ، يَوْمَ هَوَازِنَ: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ إِلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ هَوَازِنَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا مَعَهُمُ الْمَالَ وَالنِّسَاءَ، فَلَمَّا لَقِيَهُ دُرَيْدٌ قَالَ: أَرَاكَ سُقْتَ الْمَالَ وَالنِّسَاءَ؟ فَقَالَ: يُقَاتِلُونَ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ. فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: أَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْكَ رَاعِيَ ضَأْنٍ وَاللَّهِ لأصحبتك، وقال الشاعر: أصبحت هزأ لِرَاعِي الضَّأْنِ يَهْزَأُ بِي ... مَاذَا يَرِيبُكَ مِنِّي رَاعِيَ الضان

_ (1) سورة البقرة: 2/ 261. (2) سورة آل عمران: 3/ 117.

إِلَّا دُعاءً وَنِداءً: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّ قَبْلَهُ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ مُتَعَدٍّ لَمْ يَأْخُذْ مَفْعُولَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا وَأَنْ إِلَّا زَائِدَةٌ، وَالدُّعَاءُ وَالنِّدَاءُ مَنْفِيٌّ سَمَاعُهُمَا، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا لَا يَسْمَعُ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِزِيَادَةِ إِلَّا، قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ. وَقَدْ ذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: حَرَاجِيجَ مَا تَنْفَكُّ إِلَّا مُنَاخَةً ... عَلَى الْخَسْفِ أَوْ نَرْمِي بِهَا بَلَدًا قَفْرَا وَضَعُفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُثْبِتْ زِيَادَةَ إِلَّا فِي مَكَانٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَنُثْبِتُ لَهَا الزِّيَادَةَ، وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ هُنَا سُؤَالًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، لَيْسَ الْمَسْمُوعُ إِلَّا الدُّعَاءَ وَالنِّدَاءَ، فَكَيْفَ ذَمَّهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا الدُّعَاءَ؟ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا الْمَسْمُوعَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ في الكلام إيجارا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ مَا يُقَالُ لَهُمْ، كَمَا لَا يُمَيِّزُ الْبَهَائِمُ بَيْنَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُصَوِّتُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَفْهَمُ شَيْئًا يَسِيرًا، وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وَكَثْرَةِ الْمُعَاوَدَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا سَمَاعُ النِّدَاءِ دُونَ إِدْرَاكِ الْمَعَانِي وَالْأَعْرَاضِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّمَا ثَنَّى فَقَالَ: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً، لِأَنَّ الدُّعَاءَ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالنِّدَاءَ إِجَابَةُ الصَّوْتِ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمِ. فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ: لَمَّا تَقَرَّرَ فَقْدُهُمْ لِمَعَانِي هَذِهِ الْحَوَاسِّ، قَضَى بِأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ: الْعَقْلُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ يُعْطِيهَا هَذِهِ الْحَوَاسَّ، إِذْ لَا بُدَّ فِي كَسْبِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ. انْتَهَى. قِيلَ: وَالْمُرَادُ الْعَقْلُ الِاكْتِسَابِيُّ، لِأَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ كَانَ حَاصِلًا لَهُمْ، وَالْعَقْلُ عَقْلَانِ: مَطْبُوعٌ وَمَكْسُوبٌ. وَلَمَّا كَانَ الطَّرِيقُ لِاكْتِسَابِ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثِ، كَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهَا فَقْدًا لِلْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ، وَلِهَذَا قِيلَ: مَنْ فَقَدَ حِسَّا فَقَدْ فَقَدَ عَقْلًا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ: لَمَّا أَبَاحَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَكْلَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَكَانَتْ وُجُوهُ الْحَلَالِ كَثِيرَةً، بَيَّنَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِ أَقَلَّ. فَلَمَّا بَيَّنَ مَا حَرَّمَ، بَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى التَّحْلِيلِ حَتَّى يَرِدَ مَنْعٌ آخَرُ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ» ، فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمُبَاحِ إِلَى ذِكْرِ الْمَحْظُورِ، لِكَثْرَةِ الْمُبَاحِ وَقِلَّةِ الْمَحْظُورِ، وَهَذَا مِنِ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ. والذين آمَنُوا: جَمْعُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ وَالْمُرَادُ خَاصٌّ. وَقِيلَ: هذا الخطاب مؤكد لقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ.

وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ النَّاسِ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، مَيَّزَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا النِّدَاءِ، تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى خُصُوصِيَّتِهِمْ. وَظَاهِرُ كُلُوا: الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ الْمَعْهُودِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَنَبَّهَ بِالْأَكْلِ عَلَى وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، إِذْ كَانَ الْأَكْلُ أَعْظَمَهَا، إِذْ به تقوم البنية. قِيلَ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا خَصَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ بِالْمَأْكُولَاتِ، بَلْ بِسَائِرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلُبْسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالطَّيِّبَاتُ. قِيلَ: الْحَلَالُ، وَقِيلَ: الْمُسْتَلَذُّ الْمُسْتَطَابُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُ حَلَالًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، فَصَارَ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي أَنَّ مُتَعَلِّقَةَ الْمُسْتَلَذَّ الْحَلَالَ. مَا رَزَقْنَاكُمْ: فِيهِ إِسْنَادُ الرِّزْقِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، لِمَا فِي الرِّزْقِ مِنَ الِامْتِنَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَإِذَا فَسَّرَ الطَّيِّبَاتِ بِالْحَلَالِ، كَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَلَالٍ وَإِلَى حَرَامٍ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، مِنْ أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الرِّزْقِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَمَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ حَرَامًا قَالَ: الْمُرَادُ كُلُوا مِنْ مُسْتَلَذِّ مَا رَزَقْنَاكُمْ، وَهُوَ الْحَلَالُ، أَمَرَ بِذَلِكَ وَأَبَاحَهُ تَعَالَى دَفْعًا لِمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ التَّنَوُّعَ فِي الْمَطَاعِمِ وَالتَّفَنُّنَ فِي إِطَابَتِهَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ، فَكَانَ تَخْصِيصُ الْمُسْتَلَذِّ بِالذِّكْرِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ: هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى اسْمِ الْغَائِبِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ الظَّاهِرَ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الَّتِي منها وصف الأنعام والرزق وَالشُّكْرِ، لَيْسَ عَلَى هَذَا الْإِذْنُ الْخَاصُّ، بَلْ يَشْكُرُ على سائر الإنعامات والامتنانات الَّتِي مِنْهَا هَذَا الِامْتِنَانُ الْخَاصُّ. وَجَاءَ هُنَا تَعْدِيَةُ الشُّكْرِ بِاللَّامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: كُلُوا، قَالُوا: وَهُوَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرَرِ وَاجِبٌ، وَمَعَ الضَّيْفِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَلَا عَنِ الْعَوَارِضِ كَانَ مُبَاحًا، وَكَذَا هُوَ فِي الْآيَةِ. وَالثَّانِي: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ، وَهُوَ أَمْرٌ وَلَيْسَ بِإِبَاحَةٍ. قِيلَ: وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ، أَوْ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْجَوَارِحِ. فَبِالْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ بِصُدُورِ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِاللِّسَانِ، أَوِ الْجَوَارِحِ. أَمَّا ذَلِكَ الْعِلْمُ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْسَى ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِيجَابُهُ؟ وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، فَذَلِكَ الْعَزْمُ الْقَلْبِيُّ تَابِعٌ لِلْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ. فَإِذَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ، كَانَ الْعَزْمُ بِأَنْ لَا يَجِبَ أَوْلَى. وَأَمَّا الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ، فَإِمَّا أَنْ يُفَسَّرَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِكَوْنِهِ مُنْعِمًا، أَوْ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. فَهَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ

الْمَنْدُوبَاتِ. وَأَمَّا الشُّكْرُ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ غَيْرُ هَذَا الْقَائِلِ الَّذِي تَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ، وَإِظْهَارُ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ أَوْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ إِنْ وُجِدَتْ هُنَاكَ. وَهَذَا الْبَحْثُ فِي وُجُوبِ الشُّكْرِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ، كَانَ يُنَاسِبُ فِي أَوَّلِ شُكْرِ أَمْرٍ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ «1» . إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى إِذْ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وَلَا يُرَادُ بِالشَّرْطِ هُنَا إِلَّا التَّثَبُّتُ وَالْهَزُّ لِلنُّفُوسِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: الْعِبَادَةُ لَهُ وَاجِبَةٌ، فَالشُّكْرُ لَهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ هُوَ مُتَحَقِّقُ الْعُبُودِيَّةِ إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، لَا تُرِيدُ بِذَلِكَ التَّعْلِيقَ الْمَحْضَ، بَلْ تُبْرِزُهُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ، لِيَكُونَ أدعى للطاعة وأهزلها. وقيل: عبر بالعبادة عن الْعِرْفَانِ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» . قِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَعْرِفُونِ، فيكون المعنى: أشكروا لله إِنْ كُنْتُمْ عَارِفِينَ بِهِ وَبِنِعَمِهِ، وَذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْعِبَادَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْعِبَادَةِ، أَيِ اشْكُرُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ عِبَادَتَهُ، لِأَنَّ الشُّكْرَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ أَنَّكُمْ تَخْتَصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُقِرُّونَ أَنَّهُ مَوْلَى النِّعَمِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِيَّا هُنَا مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَقُدِّمَ لِكَوْنِ الْعَامِلِ فِيهِ وَقَعَ رَأْسَ آيَةٍ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ، لِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِكَ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «3» ، وَهَذَا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا انْفِصَالُ الضَّمِيرِ، وَهُوَ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَامِلِ أَوْ تَأَخَّرَ، لَمْ يَنْفَصِلْ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، قَالَ: إليك حتى بلغت إياكا إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ «4» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَرَّمَ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، وَمَا بَعْدَهُ نُصِبَ، فَتَكُونُ مَا مُهَيِّئَةً فِي إِنَّمَا هَيَّأَتْ إِنَّ لِوِلَايَتِهَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِرَفْعِ الْمَيْتَةِ وَمَا بَعْدَهَا، فَتَكُونُ مَا مَوْصُولَةً اسْمَ إِنَّ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ إِنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ الْمَيْتَةَ، وما بعدها خبران. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: حُرِّمَ، مشددا مبنيا للمفعول،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 152. (2) سورة الذاريات: 51/ 56. (3) سورة الفاتحة: 1/ 5. (4) سورة البقرة: 2/ 11.

فَاحْتَمَلَتْ مَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً اسْمَ إِنَّ، وَالْعَائِدُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي حرم والميتة خبران. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ما مهيئة والميتة مَرْفُوعٌ بِحَرَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: إِنَّمَا حَرُمَ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً جَعَلَهُ لَازِمًا، والميتة وَمَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ. وَيُحْتَمَلُ مَا الْوَجْهَيْنِ مِنَ التَّهْيِئَةِ والوصل، والميتة فَاعِلُ يَحْرُمُ، إِنْ كَانَتْ مَا مُهَيِّئَةً، وَخَبَرُ إِنَّ، إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: الْمَيِّتَةُ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَصْلٌ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّخْفِيفِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ «1» ، وَهُمَا لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء قِيلَ: وَحَكَى أَبُو مُعَاذٍ عَنِ النَّحْوِيِّينَ الْأَوَّلِينَ، أَنَّ الْمَيْتَ بِالتَّخْفِيفِ: الَّذِي فَارَقَتْهُ الرُّوحُ، وَالْمَيِّتُ بِالتَّشْدِيدِ: الَّذِي لَمْ يَمُتْ، بَلْ عَايَنَ أَسْبَابَ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَوْتِ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِأَكْلِ الْحَلَالِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَصَّلَ هُنَا أَنْوَاعَ الْحَرَامِ، وَأَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى الْمَيْتَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَكْلُ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَلِأَنَّ السَّابِقَ الْمُبَاحَ هُوَ الْأَكْلُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ. فَالْمَمْنُوعُ هُنَا هُوَ الْأَكْلُ، وَهَكَذَا حَذْفُ الْمُضَافِ يُقَدَّرُ بِمَا يُنَاسِبُ. فَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «2» ، الْمَحْذُوفُ: وَطْءٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَطْءُ أُمَّهَاتِكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ «3» ، أَيْ وَطْءُ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ. فَسَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعَاتِ مُحَرَّمٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ، إِمَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَكْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، وَإِمَّا بِدَلِيلِ سَمْعِيٍّ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى الْمَيْتَةِ، وَمَا نَسَّقَ عَلَيْهَا وَعَلَّقَهُ بِعَيْنِهَا، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَتَنَاوُلِ سَائِرِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، فَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَاسْتَنْبَطَ هَذَا الْقَوْلُ تَحْرِيمَ سَائِرِ الِانْتِفَاعَاتِ مِنَ اللَّفْظِ. وَالْأَظْهَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخَصُّصِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ بِأَنَّهُ الْأَكْلُ. وَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَيْتَةِ يَتَنَاوَلُ الْعُمُومَ، وَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ قَوْمٌ: خُصَّ هَذَا الْعُمُومُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ «4» ، وبما روي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 19. (2) سورة النساء: 4/ 23. (3) سورة النساء: 4/ 24. (4) سورة المائدة: 5/ 96.

مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «حلت لَنَا مَيْتَتَانِ» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ لَمْ يَدْخُلْ قَطُّ فِي هَذَا الْعُمُومِ. انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ عَنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِرَادَةِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الدُّخُولَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي خُصِّصَ بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فِي الْمَيْتَاتِ مَا يَحِلُّ وَهُوَ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ. قُلْتُ: قَصَدَ مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ وَيَتَعَارَفُونَهُ فِي الْعَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: أَكَلَ فُلَانٌ مَيْتَةً، لَمْ يَسْبِقِ الْفَهْمُ إِلَى السَّمَكِ وَالْجَرَادِ؟ كَمَا لَوْ قَالَ: أَكَلَ دَمًا، لَمْ يَسْبِقْ إِلَى الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ. وَلِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ وَالتَّعَارُفِ قَالُوا: مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ سَمَكًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا «1» ، وَشَبَّهُوهُ بِمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً، فَرَكِبَ كَافِرًا، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ دَابَّةً فِي قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُ مَا يَقُولُهُ: إِنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» ؟ فَلَوْ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي الدَّلَالَةِ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى تَقْرِيرٍ شَرْعِيٍّ فِي حِلِّهِ، إِذْ كَانَ يَبْقَى مَدْلُولًا عَلَى حِلِّهِ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعُمُومِ مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ وَيَتَعَارَفُونَهُ فِي الْعَادَةِ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُخَاطَبِ شُعُورٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا عِلْمٌ بِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، وَعُلِّقَ الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِّ، لَانْدَرَجَ فِيهِ ذَلِكَ الْفَرْدُ الَّذِي لَا شُعُورَ لِلْمُخَاطَبِ بِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «نَهَى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» . فَهَذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ فِيهِ بِكُلِّ ذِي نَابٍ. وَالْمُخَاطَبُ، الَّذِينَ هُمُ الْعَرَبُ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِبَعْضِ أَفْرَادِ ذِي النَّابِ، وَذَلِكَ الْفَرْدُ مُنْدَرِجٌ فِي الْعُمُومِ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ، كَمَا فِي بِلَادِنَا، بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، حَيَوَانٌ مُفْتَرِسٌ يُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالدُّبِّ وَبِالسَّمْعِ، وَهُوَ ذُو أَنْيَابٍ يَفْتَرِسُ الرَّجُلَ وَيَأْكُلُهُ، وَلَا يُشْبِهُ الْأَسَدَ، وَلَا الذِّئْبَ، وَلَا النَّمِرَ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَلَا نَعْلَمُهُ خُلِقَ بِغَيْرِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ. فَهَذَا لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُنْدَرِجًا فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ، بَلْ شَمِلَهُ النَّهْيُ، كَمَا شَمِلَ غَيْرَهُ مِمَّا تَعَاهَدَهُ الْعَرَبُ وَعَرِفُوهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ نِيطَ بِالْعُمُومِ وَعُلِّقَ بِهِ، فَهُوَ مُعَلَّقٌ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، حَتَّى بِمَا كَانَ لَمْ

_ (1) سورة النحل: 16/ 14. [.....] (2) سورة الأنفال: 8/ 55.

يُخْلَقْ أَلْبَتَّةَ وَقْتَ الْخِطَابِ، ثُمَّ خُلِقَ شَكْلًا مُبَايِنًا لِسَائِرِ الْأَشْكَالِ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ، وَيُحْكَمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِالْإِيمَانِ، فَلِلْإِيمَانِ أَحْكَامٌ مَنُوطَةٌ بِهَا، وَيُؤَوَّلُ التَّحْقِيقُ فِيهَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِإِرَادَةِ خُرُوجِ بَعْضِ الأفراد منه. والْمَيْتَةَ: مَا مَاتَ دُونَ ذَكَاةٍ مِمَّا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّمَكِ الطَّافِي، وَهُوَ مَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَطَفَا. فَذَهَبَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ حَلَالٌ. وَمَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَكْلِهِ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْحَنَفِيِّينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا مَا مَاتَ مِنَ الْجَرَادِ بِغَيْرِ تَسَبُّبٍ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ نَافِعٍ حَلَالٌ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ وَسَحْنُونٍ تَقْيِيدَاتٌ فِي الْجَرَادِ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ. هَذَا حُكْمُ الْمَيْتَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكْلِ. وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، نَحْوَ: الْجِلْدِ، وَالشَّعْرِ، وَالرِّيشِ، وَاللَّبَنِ، وَالْبَيْضِ، وَالْأَنْفِحَةِ، وَالْجَنِينِ، وَالدُّهْنِ، والعظم، والقرن، والناب، والغصب، فَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ وَتَقْيِيدٌ كَثِيرٌ يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَصَانِيفِهِمْ. وَالدَّمَ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَيَتَخَصَّصُ بِالْمَسْفُوحِ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ. فَإِذَا كَانَ مَسْفُوحًا، فَلَا خِلَافَ فِي نَجَاسَتِهِ وَتَحْرِيمِهِ. وَفِي دَمِ السَّمَكِ الْمُزَايِلِ لَهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الدَّمِ الْمُتَحَلِّلِ بِالْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ الشَّاقِّ إِخْرَاجُهُ، وَكَذَلِكَ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي يَسِيرِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ الْخِلَافَ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ، وَفِي مِقْدَارِ الْيَسِيرِ، وَالْخِلَافَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، فَيُطَالَعُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى حِكْمَةً فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَا جَاءَ نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ تَعَبَّدَنَا تَعَالَى بِجَوَازِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، لَكَانَ ذَلِكَ شَرْعًا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ جُمُودُ الدَّمِ فِيهَا بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهُ يُحْدِثُ أَذًى لِلْآكِلِ. وَفِي تَحْرِيمِ الدَّمِ أَنَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ يَجْمُدُ، فَهُوَ فِي الْأَذَى كَالْجَامِدِ فِي الْمَيْتَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُ ذَلِكَ. وَجَدْنَا مَنْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَيَشْرَبُ الدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، صُوَرُهُمْ وَسِحَنُهُمْ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُرَى وَأَجْمَلِهِ، وَلَا يَحْدُثُ لَهُمْ أَذًى بذلك. وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ هُوَ لَحْمُهُ فَقَطْ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ دَاوُدُ، رَأْسُ الظَّاهِرِيَّةِ، فَقَالَ: الْمُحَرَّمُ اللَّحْمُ دُونَ الشَّحْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ: الْمُحَرَّمُ لَحْمُهُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ. وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّحْمُ بِالذِّكْرِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ، لِكَوْنِ اللَّحْمِ هُوَ

مُعْظَمَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ. كَمَا نَصَّ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْمُرَادُ حَظْرُ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فِي الصَّيْدِ. وَكَمَا نَصَّ عَلَى تَرْكِ الْبَيْعِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «1» ، لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ مَا كَانُوا يَبْتَغُونَ بِهِ مَنَافِعَهُمْ، فَهُوَ أَشْغَلُ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا لَهُ ذَكَرَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ دُونَ شَحْمِهِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الشَّحْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَحْمٌ سَمِينٌ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ شَحِيمٌ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُمْ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الشَّحْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ، لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ يُمَازِجُهُ شَيْءٌ آخَرَ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَدْلُولِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ مَثَلًا رَجُلٌ لَابِنٌ، أَوْ رَجُلٌ عَالِمٌ؟ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ أَوِ الْعِلْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الرَّجُلِ، وَلَا أَنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ مُجَرَّدًا عَنِ الْوَصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخُصٌّ ذِكْرُ اللَّحْمِ مِنِ الْخِنْزِيرِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ، ذُكِيَّ أَوْ لَمْ يُذَكَّ، وَلِيَعُمَّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَاكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ وَغَيْرِهَا. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّحْمِ لَا يَعُمُّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَاكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَمَا هُنَاكَ مِنْ غُضْرُوفٍ وَغَيْرِهِ، وليس له اسم يخصه. إذا أُطْلِقَ ذَلِكَ الِاسْمُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْآخَرُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ. فَإِذَنْ، تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحُكْمِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ الْمَجْمُوعُ، لَدَلَّ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَجْمُوعِ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَاوُدَ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اللَّحْمُ دُونَ الشَّحْمِ؟ إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُوَيْنِيِّ، مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ فِي الْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ دَاوُدَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِجْمَاعًا. وَقَدِ اعْتَدَّ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَهُمُ الْفَهْمُ التَّامُّ وَالِاجْتِهَادُ، قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْجُوَيْنِيُّ بِأَزْمَانٍ، بِخِلَافِ دَاوُدَ، وَنَقَلُوا أَقَاوِيلَهُ فِي كُتُبِهِمْ، كَمَا نَقَلُوا أَقَاوِيلَ الْأَئِمَّةِ، كَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَدَانَ بِمَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ وَطَرِيقَتِهِ نَاسٌ وَبِلَادٌ وَقُضَاةٌ وَمُلُوكُ الْأَزْمَانِ الطَّوِيلَةِ، وَلَكِنَّهُ فِي عَصْرِنَا هذا قد خمل هَذَا الْمَذْهَبُ. وَلَمَّا كَانَ اللَّحْمُ يَتَضَمَّنُ عِنْدَ مَالِكٍ الشَّحْمَ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ أَنْ لا يأكل لحما، فأكل شَحْمًا، أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فَقَالَا: لَا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، فَأَكَلَ لَحْمًا. وَقَالَ تَعَالَى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «2» . وَالْإِجْمَاعُ، أَنَّ اللَّحْمَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَى الْيَهُودِ، فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ لَفْظِ الْآخَرِ.

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 9. (2) سورة الأنعام: 6/ 146.

وَاخْتَلَفُوا فِي الِانْتِفَاعِ بِشِعْرِهِ، فِي خَرَزِ وَغَيْرِهِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ الْخَرَزَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ أَيْضًا. وَهَلْ يَتَنَاوَلُ لَفْظُ الْخِنْزِيرِ خِنْزِيرَ الْبَحْرِ؟ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ؟ فَمَنَعُوا مِنْ أَكْلِهِ؟ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا يُؤْكَلُ خِنْزِيرُ الْمَاءِ، وَلَا إِنْسَانُهُ، وَلَا كَلْبُهُ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ، فَتَوَقَّفَ وَقَالَ: أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَنَا أَتَّقِيهِ وَلَا أُحَرِّمُهُ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ قَالُوا: تَفَرَّدَ النَّصَارَى بِأَكْلِهِ، فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ أَكْلِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى أَنْ تُقَاطِعُوهُمْ، إِذْ كَانَ الْخِنْزِيرُ مِنْ أَنْفَسِ طَعَامِهِمْ. وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مَمْسُوخًا، فَغَلَّظَ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لِخُبْثِ أَصْلِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْغَيْرَةَ وَيَذْهَبُ بِالْأَنَفَةِ، فَيَتَسَاهَلُ النَّاسُ فِي هَتْكِ الْمُحَرَّمِ وَإِبَاحَةِ الزِّنَا، وَلَمْ تُشِرِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَيْ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالطَّوَاغِيتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، أَوْ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ، أَوْ مَا ذُكِرَ اسْمُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، أَوْ مَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي، قَالَهُ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الْإِبِلِ الَّتِي نَحَرَهَا غَالِبٌ أَبُو الْفَرَزْدَقِ: إِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، فَتَرَكَهَا النَّاسُ، رَاعَى عَلِيٌّ النِّيَّةَ فِي ذَلِكَ. وَمَنَعَ الْحَسَنُ مِنْ أَكْلِ جَزُورٍ ذَبَحَتْهَا امْرَأَةٌ لِلَعِبِهَا وَقَالَ: إِنَّهَا نَحَرَتْ لِصَنَمٍ. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ أَكْلِ مَا يَذْبَحُهُ الْأَعَاجِمُ لِأَعْيَادِهِمْ وَيَهْدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالَتْ: لَا تَأْكُلُوهُ، وَكُلُوا مِنْ أَشْجَارِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيمُ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَنْدَرِجُ فِي لَفْظِ غَيْرِ اللَّهِ الصَّنَمُ وَالْمَسِيحُ وَالْفَخْرُ وَاللَّعِبُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِهْلَالًا، لِأَنَّهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِاسْمِ الْمَذْبُوحِ لَهُ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ اسْمًا لِكُلِّ ذَبِيحَةٍ جُهِرَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُجْهَرْ، كَالْإِهْلَالِ بِالتَّلْبِيَةِ صَارَ عَلَمًا لِكُلِّ مُحْرِمٍ رَفَعَ صَوْتَهُ أَوْ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ، أَجَازَ ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ، إِذَا سَمَّى عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ إِذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا اسْمَ الْمَسِيحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْإِهْلَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ، هُوَ إِظْهَارُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اسْمِ الْمَسِيحِ وَاسْمِ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلُوا. وَأُهِلَّ: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هو

وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا، إِذْ هِيَ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي. وَمَعْنَى أهل بكذا، أي صالح. فَالْمَعْنَى: وَمَا صِيحَ بِهِ، أَيْ فِيهِ، أَيْ فِي ذَبْحِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كُلِّ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، صِيحَ فِي ذَبْحِهِ أَوْ لَمْ يُصَحْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَفِي ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ خِلَافٌ. وَكَذَلِكَ فِيمَا حُرِّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ بِالْكِتَابِ. أَمَّا مَا حَرَّمُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، فَذَلِكَ لَنَا حَلَالٌ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَالِكٍ: الْكَرَاهَةَ فِيمَا سَمَّى عَلَيْهِ الْكِتَابِيُّ اسْمَ الْمَسِيحِ، أَوْ ذَبَحَهُ لِكَنِيسَةٍ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ التَّحْرِيمَ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ «1» . وَقَالَ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ «2» ، فَلَمْ يُقَيِّدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاضْطِرَارَ، وَقَيَّدَهُ فِيمَا قَبْلُ. فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ يَكُونُ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ. وَفِي الْأُولَى بِقَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَادٍ عَلَيْهِمْ. فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي: قُطَّاعُ السَّبِيلِ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُسَافِرُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ، وَالْغَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا شَاكَلَهُ، وَلِغَيْرِ هَؤُلَاءِ هِيَ الرُّخْصَةُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْرُجُ بَاغِيًا عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، أَوْ كَانَ بَاغِيًا عَلَى الْإِمَامِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: غَيْرُ قاصد فساد وَتَعَدٍّ، بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: غَيْرُ بَاغٍ فِي الْمَيْتَةِ فِي الْأَكْلِ، وَلَا عَادٍ بِأَكْلِهَا، وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهَا، وَهُوَ يَرْجِعُ لِمَعْنَى الْقَوْلِ قَبْلَهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: وَأَبَاحَ هَؤُلَاءِ لِلْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الاضطرار، كما أبا حوا لِأَهْلِ الْعَدْلِ. وَقَالَ السُّدِّيِّ: غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُتَزَيِّدٍ عَلَى إِمْسَاكِ رَمَقِهِ وَإِبْقَاءِ قُوَّتِهِ، فَيَجِيءُ أَكْلُهُ شَهْوَةً، وَلَا عَادٍ، أَيْ مُتَزَوِّدٍ. وَقِيلَ: غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُسْتَحِلٍّ لَهَا، وَلَا عَادٍ، أَيْ مُتَزَوِّدٍ مِنْهَا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُجَاوِزٍ الْقَدْرَ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ، وَلَا عَادٍ، أَيْ لَا يَقْصِدُهُ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِي تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لِلْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ، لِأَنَّ آية الأنعام فيها

_ (1) سورة المائدة: 5/ 3. (2) سورة الأنعام: 6/ 119.

حَوَالَةً عَلَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ. وَتَفْصِيلُ الْمُحَرَّمِ هُوَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَالِاضْطِرَارُ فِيهِمَا مُقَيَّدٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا فِي الْآيَةِ الَّتِي أُحِيلَتْ عَلَى غَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ فِي الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُمَا مَتَى أُطْلِقَتَا، تَبَادَرَ الذِّهْنُ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي جَوَازِ مِقْدَارِ مَا يُأْكَلُ مِنِ الْمَيْتَةِ، وَفِي التَّزَوُّدِ مِنْهَا، وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ قِيَاسًا عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَفِي أَكْلِ ابْنِ آدَمَ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، قَالُوا: وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخِنْزِيرًا، أَكَلَ الْمَيْتَةَ، قَالُوا: لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ لَهُ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَالْخِنْزِيرُ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. فَالْمَعْنَى: فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَرُتْبَتُهَا فِي الْإِبَاحَةِ لِلْأَكْلِ مِنْهَا مُتَسَاوِيَةٌ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ بِالْإِبَاحَةِ، وَالْمُضْطَرُّ مُخَيَّرٌ فِيمَا يَأْكُلُ مِنْهَا. فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَافَرَ لِغَزْوٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ تِجَارَةٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَاغِيًا فِي أَخْذِ مَالٍ، أَوْ عَادِيًا فِي تَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ، لَمْ يَكُنْ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ مَانِعًا مِنَ اسْتِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ. وَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ التَّرْخِيصِ لِلْبَاغِي، أَوِ الْعَادِي الْحَاضِرِ، وَفِي نَقْلِ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعَيْنِ نَظَرٌ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي حَرَكَةِ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ، وَأَنِ احْكُمْ «1» ، وَلكِنِ انْظُرْ «2» ، وَشَبَهِهِ وَحَرَكَةِ الدَّالِّ مِنْ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ «3» ، وَالتَّاءِ مِنْ: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ «4» ، وَحَرَكَةِ التَّنْوِينِ مِنْ: فَتِيلًا انْظُرْ «5» ، وَنَحْوِهِ، وَحَرَكَةِ اللَّامِ مِنْ نَحْوِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ «6» ، وَالْوَاوِ مِنْ نَحْوِ: أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «7» ، فَكَسَرَ ذَلِكَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَحَرَّكَهَا أَبُو عَمْرٍو، إِلَّا فِي اللَّامِ وَالْوَاوِ وَعَبَّاسٌ وَيَعْقُوبُ، إِلَّا فِي الْوَاوِ وَضَمَّ بَاقِيَ السَّبْعَةِ، إِلَّا ابْنَ ذَكْوَانَ، فَإِنَّهُ كَسَرَ التَّنْوِينَ. وَعَنْهُ في: بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا «8» ، وخَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ «9» خِلَافٌ، وَضَابِطُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ ضَمَّةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَازِمَةً، فَإِنْ كَانَتْ عَارِضَةً، فَالْكَسْرُ نَحْوَ: أَنِ امْشُوا «10» ، وَتَوْجِيهُ الْكَسْرِ أَنَّهُ حَرَكَةُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالضَّمُّ أنه اتباع.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 49. (2) سورة الأعراف: 7/ 143. (3) سورة الأنعام: 6/ 10. (4) سورة يوسف: 12/ 31. (5) سورة النساء: 4/ 49- 50. (6) سورة الإسراء: 17/ 110. (7) سورة الإسراء: 17/ 110. (8) سورة الأعراف: 7/ 49. (9) سورة إبراهيم: 14/ 26. [.....] (10) سورة ص: 38/ 6.

وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالسَّاكِنِ، لِأَنَّهُ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، أَوْ لِيَدُلُّوا عَلَى أَنَّ حَرَكَةَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ الْمَحْذُوفَةِ كَانَتْ ضَمَّةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو السَّمَالِ: فَمَنِ اضْطِرَّ، بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَأَصْلُهُ اضْطَرَرَ، فَلَمَّا أُدْغِمَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الرَّاءِ إِلَى الطَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: فَمَنِ اطَّرَّ، بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ، وَذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَمَعْنَى الِاضْطِرَارِ: الِالْجَاءُ بِعَدَمٍ، وَغَرَثٍ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أُكْرِهَ وَغُلِبَ عَلَى أَكْلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَانْتِصَابُ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في اضْطُرَّ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ في الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الْمَعْطُوفِ عَلَى قوله: اضطر، وقدره: فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ. قَدَّرَهُ كَذَلِكَ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِيَجْعَلَا ذَلِكَ قَيْدًا فِي الْأَكْلِ، لَا فِي الِاضْطِرَارِ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا لَاقَاهُ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُقَدَّرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْأَوْلَى، لِأَنَّ فِي تَقْدِيرِ قَبْلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَصْلًا بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاتِّصَالُ بِمَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ. وعاد: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَدَا، وَلَيْسَ اسْمَ فَاعِلٍ مَنْ عَادَ، فَيَكُونُ مَقْلُوبًا، أَوْ مَحْذُوفًا مِنْ بَابِ شَاكَ وَلَاثَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنْقَاسُ، وَلَا نَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا لِمُوجِبٍ، وَلَا مُوجِبَ هُنَا لِادِّعَاءِ الْقَلْبِ. وَأَصْلُ الْبَغْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ، هُوَ طَلَبُ الْفَسَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي وقال: لا يمنعك مِنْ بِغَاءِ الْخَيْرِ تِعْقَادُ التَّمَائِمِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، الْإِثْمُ: تَحَمُّلُ الذَّنْبِ، نَفَى بِذَلِكَ عَنْهُ الْحَرَجَ. وَالْمَحْذُوفُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا: فَأَكَلَ، لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لا ينفي الْإِثْمَ عَمَّنْ لَمْ يُوجِدْ مِنْهُ الِاضْطِرَارُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى الِاضْطِرَارِ وَحْدَهُ، بَلْ عَلَى الْأَكْلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الِاضْطِرَارِ، فِي حَالِ كَوْنِ الْمُضْطَرِّ لَا بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا. وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ فَأَكَلَ، أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ، لِأَنَّهُ يُطْلَقُ أَنَّهُ بَاغٍ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَظَاهِرُ بِنَاءِ اضْطُرَّ حُصُولُ مُطْلَقِ الضَّرُورَةِ بِشَغَبٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ، سَوَاءٌ حَصَلَ الِاضْطِرَارُ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ نَفْيُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْإِثْمِ عَنْهُ إِذَا أَكَلَ، لَا وُجُوبُ الْأَكْلِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ الْأَكْلُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً، بَلْ ذَلِكَ

عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ كَانَ عَاصِيًا. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ، دَخَلَ النَّارَ، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ قَاتِلُ نَفْسِهِ بِتَرْكِهِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً اقْتَضَى الْمَنْعَ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ إِبَاحَتَهَا لِلْمُضْطَرِّ فِي تِلْكَ الْحَالِ الْمُقَيَّدَةِ لَهُ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى غَفُورٌ رَحِيمٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِصَدَدِ أَنْ يُخَالِفَ، فَيَقَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ غَفُورٌ لِلْعُصَاةِ إِذَا تَابُوا، رَحِيمٌ بِهِمْ. أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ، إِذَا اضْطُرَّ فَأَكَلَ مَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَهُوَ تَعَالَى غَفُورٌ لَهُ ذَلِكَ، رَحِيمٌ بِأَنْ أَبَاحَ لَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ. أَوْ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحُرْمَةِ قَائِمٌ فِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي تَنَاوُلِهَا مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا التَّرْخِيصِ وَالْإِبَاحَةِ بِالْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْغُفْرَانِ صِفَةَ الرَّحْمَةِ، أَيْ لِأَجْلِ رَحْمَتِي بِكُمْ أَبَحْتُ لَكُمْ ذَلِكَ.. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، كَانُوا يُصِيبُونَ مِنْ سَفَلَتِهِمْ هَدَايَا، وَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ مِنْهُمْ. فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ، غَيَّرُوا صِفَتَهُ وَقَالُوا: هَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حَتَّى لَا يَتَّبِعُوهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُلُوكَ سَأَلُوا علماء هم قَبْلَ الْمَبْعَثِ: مَا الَّذِي تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالُوا: نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِ الْمَسِيحِ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، بِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْمَلَاهِي وَسَفْكِ الدِّمَاءِ. فَلَمَّا بُعِثَ، قَالَتِ الْمُلُوكُ لِلْيَهُودِ: هَذَا الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ؟ فَقَالُوا، طَمَعًا فِي أَمْوَالِ الْمُلُوكِ: لَيْسَ هَذَا بِذَلِكَ النَّبِيِّ. فَأَعْطَاهُمُ الْمُلُوكُ الْأَمْوَالَ، فَأُنْزِلَتْ إِكْذَابًا لَهُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ كَاتِمِ حَقٍّ، لِأَخْذِ غَرَضٍ أَوْ إِقَامَةِ غَرَضٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَيَهُودِيٍّ وَمُشْرِكٍ وَمُعَطِّلٍ. وَإِنْ صَحَّ سَبَبُ نُزُولٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ، وَالْحُكْمُ لِلْعُمُومِ. وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، فَيَتَنَاوَلُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ مُخْتَارًا لِذَلِكَ، لِسَبَبِ دُنْيَا يُصِيبُهَا. مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مَلَكًا بِهِ، أَيْ بِالْكِتَابِ عَلَى رَسُولِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ أَظْهَرَ، كَقَوْلِهِ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ «1» ، أَيْ أُظْهِرُ. فَكَوْنُ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَظْهَرَ اللَّهُ، فَيَكُونُ الْإِظْهَارُ فِي مُقَابَلَةِ الْكِتْمَانِ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ هُنَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ، فَيَكُونُ الْكَاتِمُونَ أَحْبَارَ الْيَهُودِ، كَتَمُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيَّرُوهَا، وَكَتَمُوا آيَاتٍ فِي التَّوْرَاةِ، كَآيَةِ الرجم

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 93.

وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَوَحَّدَ اللَّفْظَ عَلَى الْمَكْتُوبِ، وَيَكُونُ الْكَاتِمُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَصَفَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي الْكِتَابَيْنِ، وَنَعَتَهُ فِيهِمَا وَسَمَّاهُ فَقَالَ: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «1» ، وَقَالَ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» . وَالطَّائِفَتَانِ أَنْكَرُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ شَهِدَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ مَوْجُودَةٌ فيهما، إلا أن فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي التَّوْرَاةِ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ، وَفِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنَ السِّفْرِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنَ السِّفْرِ الْخَامِسِ. وَمِنْهَا فِي الْإِنْجِيلِ مَوَاضِعُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، قَدْ ذَكَرَ جَمِيعَهَا، مَنْ تَعَرَّضَ لِلْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَكُلُّ كَاتِمٍ لِحَقٍّ وَسَاتِرٍ لِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ. وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: لَمَّا تَعَوَّضُوا عَنِ الْكَتْمِ شَيْئًا مِنْ سُحْتِ الدُّنْيَا، أَشْبَهَ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، لِانْطِوَائِهِمَا عَلَى عِوَضٍ وَمُعَوَّضٍ عَنْهُ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اشتراء. وبه: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتْمَانِ، أَوِ الْكِتَابِ، أَوْ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ: مَا أَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ، أَظْهَرُهَا الْآخِرُ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بِكَتْمِ مَا أَنْزَلَ الله به. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى الْكَتْمِ، أَنَّهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يَكْتُمُونَ، وَفِي هَذَا عَائِدًا عَلَى مَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «3» ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، إِلَّا فِعْلَ الِاشْتِرَاءِ جُعِلَ عِلَّةً هُنَاكَ، وَهُنَا جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: يَكْتُمُونَ، وَرَتَّبَ الْخَبَرَ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْكَتْمِ وَالِاشْتِرَاءِ، لِأَنَّ الْكَتْمَ لَيْسَتْ أَسْبَابُهُ مُنْحَصِرَةً فِي الِاشْتِرَاءِ، بَلِ الِاشْتِرَاءُ بَعْضُ أَسْبَابِهِ. فَكَتْمُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ وَتَبْدِيلُ صِفَتِهِ، كَانَ لِأُمُورٍ مِنْهَا الْبَغْيُ، بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «4» . وَمِنْهَا الْخَسَارَةُ، لِكَوْنِهِ مِنَ الْعَرَبِ لَا مِنْهُمْ. وَمِنْهَا طَلَبُ الرِّيَاسَةِ، وَأَنْ يَسْتَتْبِعُوا أَهْلَ مِلَّتِهِمْ. وَمِنْهَا تَحْصِيلُ أَمْوَالِهِمْ وَرِشَاءُ مُلُوكِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ. أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: أَتَى بِخَبَرِ إِنَّ جُمْلَةً، لِأَنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْمُفْرَدِ، وَصَدَّرَ بِأُولَئِكَ، إِذْ هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ دَالٌّ عَلَى اتِّصَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «5» ثم أخبر عن

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 157. (2) سورة الصف: 61/ 6. (3) سورة البقرة: 2/ 79. (4) سورة البقرة: 2/ 90. (5) سورة البقرة: 2/ 5.

أُولَئِكَ بِأَخْبَارٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ الرِّشَاءَ الَّتِي هُمْ يَأْكُلُونَهَا تَصِيرُ فِي أَجْوَافِهِمْ نَارًا، فَلَا يُحِسُّونَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَمَنَعَ تَعَالَى أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّهَا نَارٌ، اسْتِدْرَاجًا وَإِمْلَاءً لَهُمْ. وَيَكُونُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ تَجَوُّزٍ، لِأَنَّهُ حَالَةَ الْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ نَارًا، إِنَّمَا بَعْدُ صَارَتْ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ أَيْضًا. وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: جَمِيعُ مَا أَكَلُوهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّشَاءِ فِي الدُّنْيَا يُجْعَلُ نَارًا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُطْعِمُهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: يَأْمُرُ الزَّبَانِيَةَ أَنْ تُطْعِمَهُمُ النَّارَ لِيَكُونَ عُقُوبَةَ الْأَكْلِ مِنْ جِنْسِهِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ كَتْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالِاشْتِرَاءِ بِهِ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، بِالنَّارِ. وَإِنَّ مَا اكْتَسَبُوهُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مَآلُهُ إِلَى النَّارِ. وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَنَافِعِ مَا تُصْرَفُ فِيهِ الْأَمْوَالُ. وَذَكَرَ فِي بُطُونِهِمْ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ، فَصَارَ نَظِيرُ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» . أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ مَلْءِ الْبَطْنِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ، وَفُلَانٌ أَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ. أَوْ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ، إِذْ يُقَالُ: أَكَلَ فُلَانٌ مَالَهُ، إذا بَذَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ. وَجَعَلَ الْمَأْكُولَ النَّارَ، تَسْمِيَةً لَهُ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّارِ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُونَ: أَكَلَ فُلَانٌ الدَّمَ، يُرِيدُونَ الدِّيَةَ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الدَّمِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ أَنَّ حَيًّا يَقْبَلُ الْمَالَ فِدْيَةً ... لَسُقْنَا إِلَيْهِ الْمَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَمَا وَلَكِنْ لَنَا قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ ... رِضَا الْعَارِ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا وَقَالَ آخَرُ: أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرْعَكَ بِضَرْبَةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وَقَالَ آخَرُ: تَأْكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَكَافَا أَيْ ثَمَنَ أَكَافٍ، وَمَعْنَى التَّلَبُّسِ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ كَثِيرٌ، وَمِنْ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا «2» ، وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذهب والفضة، إنما يجرجر فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ فِي بُطُونِهِمْ تَنْبِيهًا على شرههم وَتَقْبِيحًا لِتَضْيِيعِ أَعْظَمِ النِّعَمِ لِأَجَلِ الْمَطْعُومِ الَّذِي هُوَ أحسن

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 38. (2) سورة النساء: 4/ 10.

مُتَنَاوَلٍ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ، قَالَ: وَفِي ذِكْرِ الْبَطْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، بِأَنَّهُمْ بَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِحَظِّهِمْ مِنَ الْمَطْعَمِ الَّذِي لَا خَطَرَ لَهُ، وَعَلَى هِجْنَتِهِمْ بِطَاعَةِ بُطُونِهِمْ. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ: هَذَا الْخَبَرُ الثَّانِي عَنْ أُولَئِكَ، وَظَاهِرُهُ نَفْيُ الْكَلَامِ مُطْلَقًا، أَعْنِي مُبَاشَرَتَهُمْ بِالْكَلَامِ، فَيَكُونُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ، مِمَّا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحَاوِرُهُمْ بِالْكَلَامِ، مُتَأَوَّلًا بِأَنَّهُ يَأْمُرُ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ، نَحْوَ قَوْلِهِ تعالى: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «1» ، وَيَكُونُ فِي نَفْيِ كَلَامِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَى شَخْصٍ صَرَمَهُ وَقَطَعَ كَلَامَهُ؟ لِأَنَّ فِي التَّكَلُّمِ، وَلَوْ كَانَ بِشَرٍّ، تَأْنِيسًا مَا وَالْتِفَاتًا إِلَى الْمُكَلَّمِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: أَيْ يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْكَلَامِ، إِذْ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مَا ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْكَافِرِينَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ، إِذْ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يكلمهم، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» ، وَالسُّؤَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْلِيمِ، وَقَالَ: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. فَالْمَعْنَى: لَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامَ خَيْرٍ وَإِقْبَالٍ وَتَحِيَّةٍ، وَإِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ. وَقِيلَ: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، تَعْرِيضٌ بِحِرْمَانِهِمْ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي تَكْرِمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِكَلَامِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ مَنْ كَلَّمْتَهُ، كُنْتَ قَدِ اسْتَدْعَيْتَ كَلَامَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَدْعَى كَلَامُهُمْ فَيَكُونُ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «3» ، فَنَفَى الْكَلَامَ، وَهُوَ يُرَادُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْكَلَامِ. وَلا يُزَكِّيهِمْ: هَذَا هُوَ الْخَبَرُ الثَّالِثُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَقْبَلُ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَقْبَلُ أَعْمَالَ الْأَزْكِيَاءِ، أَوْ لَا يُنْزِلُهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَزْكِيَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: زَكَّى فَلَانَا، إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَذَابِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُسَمِّيهِمْ أَزْكِيَاءً. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: هَذَا هُوَ الْخَبَرُ الرَّابِعُ لِأُولَئِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «4» ، فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَتَرَتَّبَ عَلَى الْكِتْمَانِ وَاشْتِرَاءِ الثَّمَنِ القليل هذه الأخبار

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 108. (2) سورة الحجر: 15/ 92. (3) سورة المرسلات: 77/ 36. (4) سورة البقرة: 2/ 10.

الْأَرْبَعَةُ، وَانْعَطَفَتْ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ لَهَا. وَعَطَفَ الْأَخْبَارَ بِالْوَاوِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، بِخِلَافِ أَنْ لَا تَكُونَ مَعْطُوفَةً، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَتَفْصِيلًا. وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا قَبْلَهَا، وَمُنَاسِبٌ عَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، لِمَا نَذْكُرُهُ فَنَقُولُ: مَتَى ذُكِرَ وَصْفٌ وَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ، فَلِلْعَرَبِ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأُمُورُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْأَوْصَافِ مُقَابَلَةً لَهَا، الْأَوَّلُ مِنْهَا لِأَوَّلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي، فَتَحْصُلُ الْمُقَابَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَمِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ، حَيْثُ قُوبِلَ الْأَوَّلُ بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي بِالثَّانِي. وَتَارَةً يَكُونُ الْأَوَّلُ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ مُجَاوِرًا لِمَا يَلِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَتَحْصُلُ الْمُقَابَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اشْتِرَاءَهُمُ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، وَكَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ مَطَاعِمِهِمُ الْخَسِيسَةِ الْفَانِيَةِ، بَدَأَ أَوَّلًا فِي الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. ثُمَّ قَابَلَ تَعَالَى كِتْمَانَهُمُ الدِّينَ وَالْكِتْمَانُ، هُوَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا بِهِ بَلْ يُخْفُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، فَجُوزُوا عَلَى مَنْعِ التَّكَلُّمِ بِالدِّينِ أَنْ مُنِعُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَابْتَنَى عَلَى كِتْمَانِهِمُ الدِّينَ، وَاشْتِرَائِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ وَأَخْبَارُ سُوءٍ، حَيْثُ غَيَّرُوا نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَادَّعُوا أَنَّ النَّبِيَّ الْمُبْتَعَثَ هُوَ غَيْرُ هَذَا، فَقُوبِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَوْلِهِ: وَلا يُزَكِّيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَخِيرًا مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَرَتَّبَ عَلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ قوله: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، وَعَلَى الْكِتْمَانِ قَوْلَهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَعَلَى مَجْمُوعِ الْوَصْفَيْنِ قَوْلَهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. فَبَدَأَ أَوَّلًا: بِمَا يُقَابِلُ فَرْدًا فَرْدًا، وَثَانِيًا: بِمَا يُقَابِلُ الْمَجْمُوعَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مُشْتَمِلَةً عَلَى فِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى اللَّهِ، كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي قَابَلَهَا فِيهِ فِعْلٌ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الثَّانِيَةُ مُسْنَدَةً إِلَيْهِمْ، لَيْسَ فِيهَا إِسْنَادٌ إِلَى اللَّهِ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْمُقَابَلَةُ لَهَا مُسْنَدَةً إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ مَا يُطْعِمُهُمُ اللَّهُ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا إِبَاحَةَ الطَّيِّبَاتِ، ثُمَّ فَصَّلَ أَشْيَاءً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ جَزَاءَ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَمِمَّا أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا أَنْ يَقَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، من كتم ما أنزل اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَاشْتِرَائِهِمْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، أُولَئِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْكَاتِمِينَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، وَذِكْرُ مَا أُوعِدُوا بِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى مُسْتَوْعَبًا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ: لَمَّا قَدَّمَ حَالَهُمْ فِي

الدُّنْيَا، بِأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا مِنَ الْهُدَى الضَّلَالَةَ، ذَكَرَ نَتِيجَةَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اعْتَاضُوا مِنَ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ الْهُدَى. وَسَبَبُ النّعِيمِ الْأَطْوَلِ السَّرْمَدِيِّ، الْعَذَابَ الْأَطْوَلَ السَّرْمَدِيَّ، الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الضَّلَالَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ، وَكَتَمُوهُ لِغَرَضٍ خَسِيسٍ دُنْيَاوِيٍّ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ اشْتِرَاءً لِلْعَذَابِ بِالْمَغْفِرَةِ. وَفِي لَفْظِ اشْتَرَوُا إِشْعَارٌ بِإِيثَارِهِمُ الضَّلَالَةَ وَالْعَذَابَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْتَرِي إِلَّا مَا كَانَ لَهُ فِيهِ رَغْبَةٌ وَمَوَدَّةٌ. وَاخْتِيَارٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْخَسَارَةِ، وَعَدَمِ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ: اخْتُلِفَ فِي مَا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَعَجُّبِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ جَاءَ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ «1» ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ «2» . وَأَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا التَّعَجُّبِيَّةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَاخْتَلَفُوا، أَهِيَ نَكِرَةٌ تَامَّةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ؟ أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ صَحِبَهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ؟ أَوِ مَوْصُولَةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا صِلَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؟ أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا صِفَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. الْأَوَّلُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِلْأَخْفَشِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَفْعَلَ بَعْدَ مَا التَّعَجُّبِيَّةُ، أَهْوَ فِعْلٌ؟ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَمِ اسْمٌ؟ وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ الْخِلَافُ فِي الْمَنْصُوبِ بَعْدَهُ، أَهْوَ مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ؟ وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْكَلَامَ هُوَ تَعَجُّبٌ، فَالتَّعَجُّبُ هُوَ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ وَخَفَاءُ حُصُولِ السَّبَبِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ رَاجِعٌ لِمَنْ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، أَيْ هُمْ مِمَّنْ يَقُولُ فِيهِمْ مَنْ رَآهُمْ: مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ! وَاخْتَلَفَ قَائِلُو التَّعَجُّبِ، أَهْوَ صَبْرٌ يَحْصُلُ لَهُمْ حَقِيقَةً إِذَا كَانُوا فِي النَّارِ؟ فَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْأَصَمُّ وَقَالَ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «3» ، سَكَتُوا وَانْقَطَعَ كَلَامُهُمْ، وَصَبَرُوا عَلَى النَّارِ لِيَأْسِهِمْ مِنَ الْخَلَاصِ. وَضَعُفَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، بِأَنَّ ظَاهِرَ التَّعَجُّبِ، أَنَّهُ مِنْ صَبْرِهِمْ فِي الْحَالِ، لَا أَنَّهُمْ سَيَصْبِرُونَ، وَبِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمُ الْجَزَعُ. وَقِيلَ: الصَّبْرُ مَجَازٌ عَنِ الْبَقَاءِ فِي النَّارِ، أَيْ مَا أَبْقَاهُمْ فِي النَّارِ. أَمْ هُوَ صَبْرٌ يُوصَفُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا؟ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَاخْتُلِفَ، أَهْوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، قَالُوا: مَعْنَاهُ مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى عَمَلٍ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِأَنَّ مَنْ عَانَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْمُؤَرِّجُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، كَمَا تَقُولُ: مَا أَشْبَهَ

_ (1) سورة عبس: 80/ 17. [.....] (2) سورة مريم: 19/ 38. (3) سورة المؤمنون: 23/ 108.

سَخَاءَكَ بِحَاتِمٍ، أَيْ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَقُطْرُبٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمُؤَرِّجِ. وَقِيلَ: أَصْبَرَ هُنَا بِمَعْنَى أَجْرَأَ، وَهِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ، فَيَكُونُ لَفْظُ أَصْبَرَ إِذْ ذَاكَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ مَعْنَاهَا الْمُتَبَادِرِ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَمَعْنَى الْجَرَاءَةِ، أَيْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَخْبَرَنِي الْكِسَائِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَاضِي الْيَمَنِ أَنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ، فَوَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَحَلَفَ لَهُ خَصْمُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ! أَيْ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى اللَّهِ! وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ. فَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ أُرِيدَ بِهِ العمل، أي ما أعلمهم بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ! قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ أُرِيدَ بِهِ قِلَّةُ الْجَزَعِ، أَيْ مَا أَقَلَّ جَزَعَهُمْ مِنَ النَّارِ! وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ أُرِيدَ بِهِ الرِّضَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّاضِيَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ رَاضِيًا بِمَعْلُولِهِ وَلَازِمِهِ، إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ اللُّزُومُ. فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى مَا يُوجِبُ النَّارَ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، صَارُوا كَالرَّاضِينَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَالصَّابِرِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ لِمَنْ تَعَرَّضَ لِغَضَبِ السُّلْطَانِ: مَا أَصْبَرَكَ عَلَى الْقَيْدِ وَالسِّجْنِ! وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ! تَعَجُّبٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْتِبَاسِهِمْ بِمُوجِبَاتِ النَّارِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ مِنْهُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَانْتَهَى الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْكَلَامَ تَعَجُّبٌ. وَذَهَبَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَالْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ لَا تَعَجُّبِيَّةٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ بِهِمْ، أَيْ: أَيِّ شَيْءٍ صَبَّرَهُمْ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَرَكُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْبَاطِلَ؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. يُقَالُ: صَبَّرَهُ وَأَصْبَرَهُ بِمَعْنًى: أَيْ جَعَلَهُ يَصْبِرُ، لَا أَنْ أَصْبَرَ هُنَا بِمَعْنَى: حَبَسَ وَاضْطَرَّ، فَيَكُونُ أَفْعَلُ بِمَعْنَى: فَعَلَ، خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ أَصْبَرَ بِمَعْنَى: صَبَّرَ، وَلَا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ، أَيْ يُجْعَلُ ذَا صَبْرٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، أَيْ مَا يَجْعَلُهُمْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْعَذَابِ، فَتَلَخَّصَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالنَّفْيُ، وَتَلَخَّصَ فِي التَّعَجُّبِ، أَهْوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟ وَكِلَاهُمَا: أَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، ذَلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تقدم من الْوَعِيدِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَوْ إِلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ الْعَذَابِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوِ الِاشْتِرَاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، تقريعا عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: نَزَّلَ الْكِتابَ، وَسَيُذْكَرُ أَيْ ذَلِكَ الِاشْتِرَاءُ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَوَرَدَ أَخْبَارُهُ بِهِ، أَوِ الْكِتْمَانُ. وَأَبْعَدُهَا أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِ اللَّهِ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى

سَمْعِهِمْ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وَاخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ ذَلِكَ فَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي بِأَنَّ اللَّهَ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ، وَاخْتَلَفُوا، أَهْوَ فَاعِلٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَبَ ذَلِكَ لَهُمْ؟ أَمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكَ؟ أَيْ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ. فَاخْتَلَفُوا، أَمْ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ؟ أَيْ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ ثَابِتٌ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْعَذَابُ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَنْزِيلِ اللَّهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، بَلْ مَا تَرَتَّبَ عَلَى تَنْزِيلِهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَكِتْمَانِهِ، وَأَقَامَ السَّبَبَ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ. وَالتَّفْسِيرُ الْمَعْنَوِيُّ: ذَلِكَ الْعَذَابُ حَاصِلٌ لَهُمْ بِكِتْمَانِ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنِ الْكِتَابِ الْمَصْحُوبِ بِالْحَقِّ، أَوِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ بِالْحَقِّ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِأَنَّ اللَّهَ، فَيَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُقَدَّرِ، وَالْكِتَابُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، أَوْ مَا كَتَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ بِقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَيَكُونُ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. بِالْحَقِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْعَدْلِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضِدُّ الْبَاطِلِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: بِالْوَاجِبِ، وَحَيْثُمَا ذُكِرَ بِالْحَقِّ فَهُوَ الْوَاجِبُ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ، قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَاخْتِلَافُهُمْ: كِتْمَانُهُمْ بَعْثَ عِيسَى، ثُمَّ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. آمَنُوا بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَا أَظْهَرُوهُ، وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَا كَتَمُوهُ. وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَاخْتِلَافُ كُفْرِهِمْ بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَصَصِ عِيسَى وَأُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَبِإِنْكَارِ الْإِنْجِيلِ، وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ حَتَّى تَلَاعَنُوا وَتَقَاتَلُوا. وَقِيلَ: كُفَّارُ الْعَرَبِ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَبَعْضُهُمْ: هُوَ مُفْتَرًى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ. قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَقَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وَقَالُوا: دَارَسْتَ، وَقَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: بَعْضُهُمْ قَالَ: سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ: شِعْرٌ، وَبَعْضُهُمْ: كهانة، وبعضهم: ساطير، وَبَعْضُهُمُ: افْتِرَاءٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ الْإِخْبَارُ عَمَّنْ صَدَرَ مِنْهُمُ الِاخْتِلَافُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ فِي مُعَادَاةٍ وَتَنَافُرٍ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّبَاغُضِ وَالتَّبَايُنِ، كَمَا أَنَّ الِائْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّحَابِّ وَالِاجْتِمَاعِ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ: الْأَقْرَبُ، حَمْلُ الْكِتَابِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَتِ الْبِشَارَةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْقَوْمَ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَكَتَمُوهُ، وَعَرَفُوا تَأْوِيلَهُ. فَإِذَا أَوْرَدَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ فِي إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِ،

فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كِتَابَهُمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ، دُونَ الْقُرْآنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ: تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَصِيرُ فِي شِقٍّ وَهَذَا فِي شِقٍّ، أَوْ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَكَنَّى بِالشِّقَاقِ عَنِ الْعَدَاوَةِ، وَوَصَفَ الشِّقَاقَ بِالْبُعْدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، أَوْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْأُلْفَةِ. أَوْ كَنَّى بِهِ عَنِ الطُّولِ، أَيْ فِي مُعَادَاةٍ طَوِيلَةٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ هُوَ سَبَبُ اعْتِقَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ أَنَّ كِتَابَهَا هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ غَيْرَهُ افْتِرَاءٌ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ. كُتُبُ اللَّهِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نِدَاءَ النَّاسِ ثَانِيًا، وَأَمْرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَنَهْيَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، وَذِكْرَ خُطُوَاتِهِ، كَأَنَّهُمْ يَقْتَفُونَ آثاره، ويطؤون عَقِبَهُ. فَكُلَّمَا خَطَا خُطْوَةً، وَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي اتِّبَاعِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْعَدُوُّ الْمُظْهِرُ لِعَدَاوَتِهِ. ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الْعَدَاوَةِ حَتَّى ذَكَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعَاصِي. وَلَمَّا كَانَ لَهُمْ مَتْبُوعًا وَهُمْ تَابَعُوهُ، نَاسَبَ ذِكْرُ الْأَمْرِ، إِذْ هُمْ مُمْتَثِلُونَ مَا زَيَّنَ لَهُمْ وَوَسْوَسَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِهِ أَمْرَهُمْ، وَهُوَ أَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ عَنِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ شِدَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَاقْتِفَاءَ اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ مَسْلُوبِي الْعَقْلِ وَالْهِدَايَةِ، لَكَانُوا مُتَّبِعِيهِمْ، مُبَالَغَةً فِي التَّقْلِيدِ الْبَحْتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَجَرْيًا لِخَلَفِهِمْ عَلَى سَلَفِ سُنَنِهِمْ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَثَلَ الْكُفَّارِ وَدَاعِيهِمْ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، مَثَلُ النَّاعِقِ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ مِنْ وُصُولِ الْعُلُومِ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، لِأَنَّ طرق العقل والعلم منسدة عَلَيْهِمْ. ثُمَّ نَادَى الْمُؤْمِنِينَ نِدَاءً خَاصًّا، وَأَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيَّبِ وَبِالشُّكْرِ لِلَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِمَّا حَرَّمَ، وَأَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْهَا حَالَ الِاضْطِرَارِ، وَشَرَطَ فِي تَنَاوُلِ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُضْطَرُّ بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا. وَلَمَّا أَحَلَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ مَا حَرَّمَ هُنَا، ذَكَرَ أَحْوَالَ مَنْ كتم ما أنزل الله وَاشْتَرَى بِهِ النَّزْرَ الْيَسِيرَ، لِتَعْتَبِرَ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِحَالِ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ وَبَاعَهُ بِأَخَسِّ ثَمَنٍ، إِذْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ إِلَّا النَّارَ، أَيْ مَا يُوجِبُ أَكْلَهُ النَّارَ. وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ حِينَ يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ تَكْلِيمَ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ انْتِفَاءِ التَّعْلِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الرُّتَبِ للمرؤوس مِنَ الرَّئِيسِ، حَيْثُ أَهَّلَهُ لِمُنَاجَاتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ، وَانْتِفَاءُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ لَهُمُ الْعَذَابُ الْمُؤْلِمُ. ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ آثَرُوا الضَّلَالَ عَلَى الْهُدَى، وَالْعَذَابَ عَلَى النَّعِيمِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْ جَلَدِهِمْ عَلَى النَّارِ، وَأَنَّ

[سورة البقرة (2) : الآيات 177 إلى 182]

مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ بِسَبَبِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ فَخَالَفُوهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُمْ فِي مُعَادَاةٍ لا تنقطع. [سورة البقرة (2) : الآيات 177 الى 182] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) قِبَلُ: ظَرْفُ مَكَانٍ، تَقُولُ: زِيدَ قِبَلَكَ. وَشَرْحُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُكَ فِيهِ. وَقَدْ يَتَّسِعُ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: الْعِنْدِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. تَقُولُ لِي: قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ. الرِّقَابُ: جَمْعُ رَقَبَةٍ، وَالرَّقَبَةُ: مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَكَانَهَا مِنَ الْبَدَنِ مَكَانُ الرَّقِيبِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْقَوْمِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ، وَلَا يُقَالُ: أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ، لِأَنَّهَا لَمَّا سُمِّيَتْ رَقَبَةً، كَانَتْ كَأَنَّهَا تُرَاقِبُ الْعَذَابَ. وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ: رَقُوبٌ، لِأَجْلِ مُرَاعَاتِهَا مَوْتَ وَلَدِهَا. قَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: وَفِعَالٌ جَمْعٌ يَطَّرِدُ لِفَعْلَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتِ اسْمًا نَحْوَ: رَقَبَةٍ وَرِقَابٍ، أَوْ صِفَةً نَحْوَ: حَسَنَةٍ وَحِسَانٍ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالرَّقَبَةِ

عَنِ الشَّخْصِ بِجُمْلَتِهِ. الْبَأْسَاءُ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبُؤْسِ، إِلَّا أَنَّهُ مُؤَنَّثٌ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ. وَالْبُؤْسُ وَالْبَأْسَاءُ: الْفَقْرُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَئِسَ الرَّجُلُ، إِذَا افْتَقَرَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَمْ يَكُ فِي بُؤْسٍ إِذَا بَاتَ لَيْلَةً ... يُنَاغِي غَزَالًا سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلَا وَالْبَأْسُ: شِدَّةُ الْقِتَالِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ: كُنَّا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: بَؤُسَ الرَّجُلُ، أَيْ شَجُعَ. الضَّرَّاءُ: مِنَ الضُّرِّ، فَقِيلَ: لَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضُرٍّ أَوْ مَضَرَّةٍ» . وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الضَّرَّاءُ، بِالْفَتْحِ: ضِدَّ النَّفْعِ، وَالضُّرُّ، بالضم. الزمانة. القصاص: مصد قَاصَّ يُقَاصُّ مُقَاصَّةً وَقِصَاصًا نَحْوُ: قَاتَلَ يُقَاتِلُ مُقَاتَلَةً وَقِتَالًا. وَالْقِصَاصُ: مُقَابَلَةُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَمِنْهُ: قَتْلُ مَنْ قَتَلَ بِالْمَقْتُولِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَصَصْتُ الْأَثَرَ: أَيُ اتَّبَعْتُهُ، لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ بِدَمِ الْمَقْتُولِ، وَمِنْهُ قَصُّ الشَّعْرِ: اتِّبَاعُ أَثَرِهِ. الْحُرُّ: مَعْرُوفٌ، تَقُولُ: حَرَّ الْغُلَامُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً فَهُوَ حُرٌّ، وَجَمْعُهُ، أَعْنِي فَعْلًا الصِّفَةُ عَلَى أَحْرَارٍ محفوظ. وقالوا مرّوا إمرارا، فَإِنْ كَانَتْ فَعْلًا صِفَةً للآدميين، جمعت بالواو وَالنُّونُ، وَكَمَا أَنَّ أَحْرَارًا مَحْفُوظٌ فِي الْجَمْعِ، كَذَلِكَ حَرَائِرُ مَحْفُوظٌ فِي جَمْعِ حُرَّةٍ مُؤَنَّثَةٍ. الْقَتْلَى: جَمْعُ قَتِيلٍ، وَهُوَ مُنْقَاسٌ فِي فَعِيلٍ، الْوَصْفُ بِمَعْنَى مَمَاتٍ أَوْ مُوجِعٍ. الْأُنْثَى: مَعْرُوفٌ، وَهِيَ فُعْلَى، الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ لِلْمَرْأَةِ. وَيُقَالُ لِلْخُصْيَتَيْنِ أُنْثَيَانِ، وَهَذَا الْبِنَاءُ لَا تَكُونُ أَلِفُهُ إِلَّا لِلتَّأْنِيثِ، وَلَا تَكُونُ لِلْإِلْحَاقِ، لِفَقْدِ فُعْلَلٍ فِي كَلَامِهِمْ. الْأَدَاءُ: بِمَعْنَى التَّأْدِيَةِ، أَدَّيْتُ الدَّيْنَ: قَضَيْتُهُ، وَأَدَّى عَنْكَ رِسَالَةً: بَلَّغَهَا أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، أَيْ لَا يُبَلِّغُ. أُولُوا: مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ فِي الرَّفْعِ بِالْوَاوِ، وَفِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِالْيَاءِ. وَمَعْنَى أُولُوا: أَصْحَابٌ، وَمُفْرَدُهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَهُوَ ذُو بِمَعْنَى: صَاحِبٍ. وَأُعْرِبَ هَذَا الْإِعْرَابُ عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، وَمُؤَنَّثُهُ أُولَاتُ بِمَعْنَى: صَاحِبَاتٍ، وَإِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِهَا، فَتُرْفَعُ بِالضَّمَّةِ وَتُجَرُّ وَتُنْصَبُ بِالْكَسْرَةِ، وَهُمَا لَازِمَانِ لِلْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ ظَاهِرٍ، وَكُتِبَا فِي الْمُصْحَفِ بِوَاوٍ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَلَوْ سَمَّيْتَ بِأُولُوا، زِدْتَ نُونًا فَقُلْتَ: جَاءَ مِنْ أُولُونَ، وَرَأَيْتُ أُولِينَ، وَمَرَرْتُ بِأُولِينَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهَا حَالَةَ إِضَافَتِهَا مُقَدَّرٌ سُقُوطُ نُونٍ مِنْهَا لِأَجَلِ الْإِضَافَةِ. كَمَا تَقُولُ: ضَارِبُو زَيْدٍ، وَضَارِبِينَ زَيْدًا. الْأَلْبَابِ: جَمْعُ لُبٍّ، وَهُوَ الْعَقْلُ الْخَالِي مِنَ الْهَوَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ، إِمَّا لِبِنَائِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَلَبَّ بِالْمَكَانِ، وَلَبَّ بِهِ: أَقَامَ، وَإِمَّا مِنَ اللُّبَابِ، وَهُوَ الْخَالِصُ. وَهَذَا الْجَمْعُ مُطَّرِدٌ، أَعْنِي أَنْ يُجْمَعَ فُعْلٌ اسْمٌ عَلَى أَفْعَالٍ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وكسرها، قالوا: لببت.

ولبيت وَمَجِيءُ الْمُضَاعَفِ عَلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ شَاذٌّ، اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِفَعْلَ نَحْوَ: عَزَّ يَعِزُّ، وَخَفَّ يَخِفُّ. فَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ شَاذًّا: لبيت، وَسَرِرْتُ، وَفَلِلْتُ، وَدَمِمْتُ، وَعَزِزْتُ. وَقَدْ سُمِعَ الْفَتْحُ فِيهَا إلا في: لبيت، فَسُمِعَ الْكَسْرُ كَمَا ذَكَرْنَا. الْجَنَفُ: الْجَوْرُ، جَنِفَ، بِكَسْرِ النُّونِ، يَجْنَفُ، فَهُوَ جَنِفٌ وَجَانِفٌ عَنِ النَّحَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ جَنِفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ وَقِيلَ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَجَانَفَ عَنْ حُجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي ... وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا وَقَالَ آخَرُ: هُمُ الْمَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ وَيُقَالُ: أَجْنَفَ الرَّجُلُ، جَاءَ بِالْجَنَفِ، كَمَا يُقَالُ: أَلَامَ الرَّجُلُ، أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَأَخَسَّ: أَتَى بِخَسِيسٍ. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَمُقَاتِلٌ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَانَتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي لِلْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى لِلْمَشْرِقِ، وَيَزْعُمُ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ الْبِرَّ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَسُفْيَانُ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، سَأَلَ رَجُلٌ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ، فَدَعَاهُ وَتَلَاهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصَلَّى إِلَى أَيِّ نَاحِيَةٍ ثُمَّ مَاتَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَلَمَّا هَاجَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَتِ الْفَرَائِضُ، وَحُدَّتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا إِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَحْوِيلَهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُمْ بِأَقْبَحِ الذِّكْرِ مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَاشْتِرَائِهِمْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَذِكْرُ مَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِمَّا يُظْهِرُونَ بِهِ شِعَارَ دِينِهِمْ إِلَّا صَلَاتُهُمْ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبِرُّ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ شَرِيعَتِهِمْ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ كَمَا تَعَلَّقَ

أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ مَا فِي طَاقَتِهِمْ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ لَيْسَ الْبِرَّ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الْبِرَّ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا: لَيْسَ الْبِرَّ بِأَنْ تُوَلُّوا، فَمَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الْبِرَّ جعله خبر ليس، وأن تُوَلُّوا فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَلِيَ الْمَرْفُوعَ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى، وَهُوَ أَنْ جُعِلَ فِيهَا اسْمُ لَيْسَ: أَنْ تُوَلُّوا، وَجُعِلَ الْخَبَرُ الْبِرَّ، وَأَنْ وَصِلَتُهَا أَقْوَى فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ: أَنَّ تَوَسُّطَ خَبَرِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اسْمِهَا قَلِيلٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ تَشْبِيهًا لَهَا: بِمَا.. أَرَادَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا حَرْفٌ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَوْسِيطُ خَبَرِ مَا، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَبِوُرُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ ... وَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ الْآخَرُ. أَلَيْسَ عَظِيمًا أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... وَلَيْسَ عَلَيْنَا في الخطوب معوّل وقرأه: بِأَنْ تُوَلُّوا، عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ كَمَا زَادُوهَا فِي اسْمِهَا إِذَا كَانَ أَنْ وَصِلَتَهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَيْسَ عَجِيبًا بِأَنَّ الْفَتَى ... يُصَابُ بِبَعْضِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى اسْمِ لَيْسَ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُهَا الْخَبَرُ، وَحَسُنَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ ذِكْرُ الْعَجِيبِ مَعَ التَّقْرِيرِ الَّذِي تُفِيدُهُ الْهَمْزَةُ، وَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَعْجَبُ بِأَنَّ الْفَتَى، وَلَوْ قُلْتَ: أَلَيْسَ قَائِمًا بِزَيْدٍ لَمْ يَجُزْ. وَالْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَانْتِصَابُ قِبَلَ عَلَى الظَّرْفِ وَنَاصِبُهُ تُوَلُّوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا الْخَوْضَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ حَتَّى وَقَعَ التَّحْوِيلُ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَزَعَمَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى قِبْلَتِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ الْبِرَّ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ خَارِجٌ مِنَ الْبِرِّ.

وَقِيلَ: لَيْسَ الْبِرَّ الْعَظِيمَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَذْهَلُوا بِشَأْنِهِ عَنْ سَائِرِ صُنُوفِ الْبِرِّ أَمْرَ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ قِبْلَةُ النَّصَارَى مَشْرِقُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ مِيلَادُ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكاناً شَرْقِيًّا «1» وَالْيَهُودُ مَغْرِبُهُ وَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الْبِرُّ: مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ الذَّوَاتَ إِلَّا مَجَازًا، فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ: الْبِرُّ، هُوَ نَفْسَ مَنْ آمَنَ، عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ الْبَارَّ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ مِنَ الثَّانِي أَيْ: بِرُّ مَنْ آمَنَ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَعَلَى هَذَا خَرَّجَهُ سِيبَوَيْهِ، قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ وَإِنَّمَا هُوَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ السَّابِقَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ كَوْنِ الْبِرِّ هُوَ تَوْلِيَةَ الْوَجْهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَالَّذِي يُسْتَدْرَكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْفَى، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: لَيْسَ الْكَرَمُ أَنْ تَبْذُلَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّ الْكَرَمَ بَذْلُ الْآلَافِ، فَلَا يُنَاسِبُ: وَلَكِنَّ الْكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الْآلَافَ إِلَّا إِنْ كَانَ قَبْلَهُ: لَيْسَ الْكَرِيمُ بِبَاذِلِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّ الْبَرَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْمَ فَاعِلٍ، تَقُولُ: بَرَرْتُ أَبَرُّ، فَأَنَا بَرٌّ وَبَارٌّ، قِيلَ: فَبُنِيَ تَارَةً عَلَى فَعْلٍ، نَحْوَ: كَهْلٍ، وَصَعْبٍ، وَتَارَةً عَلَى فَاعِلٍ، وَالْأَوْلَى ادِّعَاءُ حَذْفِ الْأَلِفِ مِنَ الْبَرِّ، وَمِثْلُهُ: سَرٌّ، وَقَرٌّ، وَرَبٌّ، أَيْ: سَارٌّ، وَقَارٌّ، وَبَارٌّ، وَرَابٌّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ آمَنَ، مَعْنَاهُ الْإِيمَانُ لَمَّا وَقَعَ مَنْ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ جُعِلَ خَبَرًا لِلْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الِاسْمَ خَبَرًا لِلْفِعْلِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: لَعَمْرُكَ مَا الْفِتْيَان أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَانُ كل فتى ندب جَعَلَ نَبَاتَ اللِّحْيَةِ خَبَرًا لِلْفَتَى، وَالْمَعْنَى: لَعَمْرُكَ مَا الْفُتُوَّةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: ولكن بِسُكُونِ النُّونِ خَفِيفَةً، وَرَفْعِ الْبِرِّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ مُشَدَّدَةً وَنَصْبِ الْبِرِّ، وَالْإِعْرَابُ وَاضِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا «2» . وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إن كان الْإِيمَانِ مُصَرَّحًا بِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وملائكته

_ (1) سورة مريم: 19/ 16. (2) سورة البقرة: 2/ 102.

وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ يَتَضَمَّنُهُ، وَمَضْمُونُ الْآيَةِ: أَنَّ الْبِرَّ لَا يَحْصُلُ بِاسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بَلْ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، أمّا اليهود فللتجسم وَلِقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِقَوْلِهِمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «2» . الثَّانِي: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهِ حَيْثُ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً «3» وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ. وَالثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ عَادَوْا جِبْرِيلَ. وَالرَّابِعُ: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ أَنْكَرُوا الْقُرْآنَ. وَالْخَامِسُ: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ، وَالْيَهُودُ قَتَلُوهُمْ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ طَعَنَا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. وَالسَّادِسُ: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ أَلْقَوُا الشُّبَهَ لِأَخْذِ الْأَمْوَالِ. وَالسَّابِعُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْيَهُودُ يَمْتَنِعُونَ مِنْهَا. وَالثَّامِنُ: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوهُ. وَهَذَا النَّفْيُ السَّابِقُ، وَالِاسْتِدْرَاكُ لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ بِرًّا، ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّ الْبِرَّ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَيُحْمَلُ النَّفْيُ لِلْبِرِّ عَلَى نَفْيِ مَجْمُوعِ الْبِرِّ، لَا عَلَى نَفْيِ أَصْلِهِ، أَيْ: لَيْسَ الْبِرُّ كُلُّهُ هُوَ هَذَا، وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ مَا ذُكِرَ، وَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ أَصْلِ الْبِرِّ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بَعْدَ النَّسْخِ كَانَ إِثْمًا وَفُجُورًا، فَلَا يُعَدُّ فِي الْبِرِّ، أَوْ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لَا يَكُونُ بِرًّا إِذَا لَمْ تُقَارِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِرًّا مَعَ الْإِيمَانِ وَتِلْكَ الشَّرَائِطِ. وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَالْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَصِدْقِ الْكُتُبِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ اعْتُبِرَ فِيهِ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ، لأن

_ (1) سورة التوبة: 9/ 30. (2) سورة التوبة: 9/ 30. (3) سورة البقرة: 2/ 80، وسورة آل عمران: 3/ 24.

الْمَلَكَ يُوجَدُ أَوَّلًا ثُمَّ يَحْصُلُ بِوَسَاطَةِ تَبْلِيغِهِ نُزُولُ الْكُتُبِ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الرَّسُولِ، فَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ الْخَارِجِيُّ، لَا التَّرْتِيبُ الذِّهْنِيُّ. وَقُدِّمَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَهُ مَبْدَأٌ، وَوَسَطٌ، وَمُنْتَهًى، وَمَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَصَالِحِ الْوَسَطِ فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةِ الْآتِينَ بِالْوَحْيِ، وَالْمُوحَى بِهِ: وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُوحَى إِلَيْهِ: وَهُوَ الرَّسُولُ. وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ عَلَى أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ: إِيتَاءُ الْمَالِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ النَّافِعَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَنْشَأُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ الْإِيمَانِ، حَصَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يَسْتَدْعِي الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَبَقَائِهِ وَعِلْمِهِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَإِرَادَتِهِ وَكَوْنِهِ سَمِيعًا وَبَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَالِّيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَالْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا يَلْزَمُ، مِنْ أَحْكَامِ: الْمَعَادِ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. وَالْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ أَدَائِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ يَقْتَضِي التَّصْدِيقَ بِكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَالْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّينَ يَقْتَضِي التَّصْدِيقَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ. قَالَ الرَّاغِبُ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَخَّرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» قِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْرِفُ الْآخِرَةَ، وَلَا يُعْنَى بِهَا وَهِيَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْحَقَائِقِ عِنْدَهُ، فَأَخَّرَ ذِكْرَهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ أَمْرُ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ وَيَتَحَرَّاهُ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ الله تعالى، ثم أمر الْآخِرَةِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبِرَّ مُرَاعَاةُ اللَّهِ وَمُرَاعَاةُ الْآخِرَةِ ثُمَّ مُرَاعَاةُ غَيْرِهِمَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إِيتَاءُ الْمَالِ هُنَا قِيلَ: كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ بِالزَّكَاةِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 136.

وَقِيلَ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَصَارِفَهَا، وَضُعِّفَ بِعَطْفِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أنه غيرها. قيل: هِيَ نَوَافِلُ الصَّدَقَاتِ وَالْمَبَارِّ، وَضُعِّفَ بِقَوْلِهِ آخِرَ الْآيَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ نَدْبًا لَمَا وَقَفَ التَّقْوَى، وَهَذَا التَّضْعِيفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِالتَّقْوَى مَنِ اتَّصَفَ بِمَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَفْرُوضِ وَالْمَنْدُوبِ، فَلَمْ يُفْرِدِ التَّقْوَى، ثُمَّ اتَّصَفَ بِالْمَنْدُوبِ فَقَطْ وَلَا وَقَفَهَا عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ جَاءَ ذِكْرُ التَّقْوَى لِمَنْ فَعَلَ الْمَنْدُوبَ سَاغَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ فِي الْمَنْدُوبِ فَلَأَنْ يُطِيعَهُ فِي الْمَفْرُوضِ أَحْرَى وَأَوْلَى. وَقِيلَ: هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: رَفْعُ الْحَاجَاتِ الضرورية مثل إطعام لِلْمُضْطَرِّ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَنْحِتُ كُلَّ حَقٍّ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُقَدَّرَةِ. أَمَّا مَا لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا فَغَيْرُ مَنْسُوخٍ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ التَّصَدُّقِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَعَلَى الْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. عَلى حُبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَى وَهُوَ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعْطِي الْمَالَ مُحِبًّا لَهُ، أَيْ: فِي حَالِ مَحَبَّتِهِ لِلْمَالِ وَاخْتِيَارِهِ وَإِيثَارِهِ، وَهَذَا وَصْفٌ عَظِيمٌ، أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مُتَعَلِّقَةً بِشَيْءٍ تَعَلُّقَ الْمُحِبِّ بِمَحْبُوبِهِ، ثُمَّ يُؤْثِرُ بِهِ غَيْرَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُبِّهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَمِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ فَاعِلُهُ الْمُؤْتِي، كَمَا فَسَّرْنَاهُ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ الْمُؤْتُونَ، أَيْ حُبُّهُمْ لَهُ وَاحْتِيَاجُهُمْ إِلَيْهِ وَفَاقَتُهُمْ، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ: أَعْطَى الْمَالَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ فَآثَرَ بِهِ غَيْرَهُ، فَقَوْلُ ابْنِ الْفَضْلِ: أَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ آتَى، أَيْ: عَلَى حُبِّ الْإِيتَاءِ، بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّهُ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مُصَرَّحٍ بِهِ، وَعَلَى أَبْعَدِ مِنَ الْمَالِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يَكَادُ يُمْدَحُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ هَوَى نَفْسِهِ وَمُرَادُهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا ... كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ

وَقَوْلُ مَنْ أَعَادَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَبْعَدُ، لِأَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى لَفْظٍ بَعِيدٍ مَعَ حُسْنِ عَوْدِهِ عَلَى لَفْظٍ قَرِيبٍ، وَفِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجِيءُ قَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ اعْتِرَاضًا بَلِيغًا أَثْنَاءَ الْقَوْلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالِاعْتِرَاضِ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فِي النَّحْوِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِجُمْلَةٍ، وَلَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَإِنْ أَرَادَ بِالِاعْتِرَاضِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ بِالْحَالِ فَيَصِحُّ، لَكِنْ فِيهِ إِلْبَاسٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَصْلًا بَلِيغًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْقَوْلِ. ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى فَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ بِوِلَادَةٍ، وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، لِأَنَّ الحرم حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَأَمَّا الْقَرَابَةُ فَهِيَ لَفْظَةٌ لُغَوِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي صِلَةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، فِي قَوْلِهِ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1» فاغنى عن إعادته. ذَوِي الْقُرْبى وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، الْمالَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ إِيتَاءَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ اعْتِنَاءً بِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ فَإِنَّ الْمالَ عِنْدَهُ هُوَ المفعول الأول، وذَوِي الْقُرْبى وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، فَأَتَى التَّقْدِيمُ على أصله عنده. والْيَتامى مَعْطُوفٌ عَلَى ذَوِي الْقُرْبى حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفٍ أَيْ ذَوِي الْيَتَامَى، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَعْرِفُ وُجُوهَ مَنَافِعِهِ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ أَخْطَأَ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا عَارِفًا بِمَوَاقِعِ حَقِّهِ، وَالصَّدَقَةُ تُؤْكَلُ أَوْ تُلْبَسُ، جَازَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَصَّ الْيَتِيمَ بِغَيْرِ الْبَالِغِ، وَأَمَّا مَنَ الْبَالِغُ وَالصَّغِيرُ عِنْدَهُ يَنْطَلِقُ عليها يَتِيمٌ، فَيُدْفَعُ لِلْبَالِغِ وَلِوَلِيِّ الصغير. انتهى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 83.

وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ لِصِدْقِ: آتَيْتُ زَيْدًا مَالًا، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ هُوَ الْأَخْذَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَكِيلِهِ. وَابْنَ السَّبِيلِ: الضَّيْفِ، قَالَهُ قَتَادَةٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ أَوِ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ عَلَيْكَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَسُمِّيَ: ابْنَ السَّبِيلِ بِمُلَازَمَتِهِ السَّبِيلَ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، كَمَا قِيلَ لِطَائِرٍ يُلَازِمُ الْمَاءَ ابْنُ مَاءٍ، وَلِمَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ دُهُورٌ: ابْنُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ ابْنَ سَبِيلٍ لِأَنَّ السَّبِيلَ تُبْرِزُهُ، شَبَّهَ إِبْرَازَهَا لَهُ بِالْوِلَادَةِ، فَأُطْلِقَتْ عَلَيْهِ البنوّة مجازا والمنقطع فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدِهِ، وَبَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي انْقَطَعَ فِيهِ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَفَرًا وَلَا يَجِدُ نَفَقَةً، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَالسَّائِلُونَ: هُمُ الْمُسْتَطْعِمُونَ، وَهُوَ الَّذِي تَدْعُوهُ الضَّرُورَةُ إِلَى السُّؤَالِ فِي سَدِّ خَلَّتِهِ، إِذْ لَا تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ إِلَّا عِنْدَ ذَلِكَ. وَمَنْ جَعَلَ إِيتَاءَ الْمَالِ لِهَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ الزَّكَاةَ، أَجَازَ إِيتَاءَهُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ السُّؤَالِ وَيُحْمَلُ عَلَى غير حال الضرورة. والرِّقابِ: هُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ. أَوْ: عَبِيدٌ يُشْتَرَوْنَ وَيُعْتَقُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. أَوِ: الْأُسَارَى يُفْدَوْنَ وَتُفَكُّ رِقَابُهُمْ مِنَ الْأَسْرِ وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِيتَاءُ هُوَ الزَّكَاةَ فَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَنْ يَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ الْأَمْرَانِ، وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِيمَنْ يُؤْتِي الْمَالَ تَقْدِيمًا، الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، لِأَنَّ الْفَقِيرَ الْقَرِيبَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِلْجَمْعِ فِيهَا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ القرابة من أو كد الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهَا، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْإِرْثُ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْيَتَامَى لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ

لِصِغَرِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ بِابْنِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ بِالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قَالَ الرَّاغِبُ: اخْتِيرَ هَذَا التَّرْتِيبُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى مَنْ يَتَفَقَّدُ الْإِنْسَانُ لِمَعْرُوفِهِ أَقَارِبَهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْيَتَامَى، وَالنَّاسُ فِي الْمَكَاسِبِ ثَلَاثَةٌ: مَعِيلٌ غَيْرُ مَعُولٍ، وَمَعُولٌ مَعِيلٌ، وَمَعُولٌ غَيْرُ مَعِيلٍ. وَالْيَتِيمُ: مَعُولٌ غَيْرُ مَعِيلٍ، فَمُوَاسَاتُهُ بَعْدَ الْأَقَارِبِ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ الَّذِينَ مِنْهُمْ صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّقَابَ الَّذِينَ لَهُمْ أَرْبَابٌ يَعُولُونَهُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَخَّرَ ذِكْرَهُ أَقَلُّ فَقْرًا مِمَّنْ قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَيْهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَكُّ أَسْرَاهُمْ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَتِيمِ: هَلْ يُعْطَى مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِمُجَرَّدِ الْيُتْمِ عَلَى جِهَةِ الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ أَوْ لَا يُعْطِي حَتَّى يَكُونَ فَقِيرًا؟ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِالْإِيتَاءِ السَّابِقِ الزَّكَاةُ كَانَ ذِكْرُ هَذَا تَوْكِيدًا، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقَاوِيلُ فِيهِ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الزَّكَاةُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِيهِ أَشْيَاءُ لَمْ تُذْكَرْ فِي مَصْرِفِ هَذَا والإيتاء، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَتُكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَتَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ عَلَى صِلَةِ مَنْ، وَصِلَةُ مَنْ آمَنَ وَآتَى، وَتَقَدَّمَتْ صِلَةُ مَنْ الَّتِي هِيَ: آمَنَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَبَّدِ بِهَا، وَهُوَ رَأْسُ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ. وَثَنَّى بِإِيتَاءِ الْمَالِ مَنْ ذُكِرَ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَرِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمِنْ مَنَاقِبِهَا الْجَلِيَّةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ حَتَّى هُمْ يُحْسِنُونَ لِلْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانُوا مُسِيئِينَ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يَحْتَمِلُونَ مِنْ غَيْرِ الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ طَرَفَةَ الْعَبْدِيِّ: فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّيَ مَالِكًا ... مَتَّى أَدْنُ مِنْهُ يَنْأَ عَنِّي وَيَبْعُدِ وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى قَصِيدَةُ الْمُقَنَّعِ الْكِنْدِيِّ الَّتِي أَوَّلُهَا:

يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا ... دُيُونِي فِي أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْدَا وَمِنْهَا: لَهُمْ جُلُّ مَالِي إِنْ تَتَابَعَ لِي غِنَى ... وَإِنْ قَلَّ مَالِي لَمْ أُكَلِّفْهُمْ رِفْدَا وَكَانُوا يُحْسِنُونَ إِلَى الْيَتَامَى وَيَلْطُفُونَ بِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِذَا بَعْضُ السِّنِينَ تَعَرَّقَتْنَا ... كَفَى الْأَيْتَامَ فَقْدُ أَبِي الْيَتِيمِ وَيَفْتَخِرُونَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ مِنَ الْأَضْيَافِ وَالْمُسَافِرِينَ، كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى: عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ ... وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ وَقَالَ الْمُقَنَّعُ وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ نَازِلًا وَقَالَ آخَرُ وَرُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الْحَيَّ سُرَى ... صَادَفَ زَادًا وَحَدِيثًا مَا اشْتَهَى وَقَالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانَ: لَا تَعْذِلِينِي عَلَى إِتْيَانِ مَكْرُمَةٍ ... نَاهَبْتُهَا إِذْ رَأَيْتُ الْحَمْدَ مُنْتَهَبَا فِي عُقْرِ نَابٍ وَلَا مَالٌ أَجْوَدُ بِهِ ... وَالْحَمْدُ خَيْرٌ لِمَنْ يَنْتَابُهُ عَقِبَا وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ الأرت: وإني لقوّال لعافيّ: مَرْحَبَا ... وَلِلطَّالِبِ الْمَعْرُوفِ: إِنَّكَ واجده وإني لمما أَبْسُطُ الْكَفَّ بِالنَّدَى ... إِذَا شَنِجَتْ كَفُّ الْبَخِيلِ وَسَاعِدُهْ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِهِمُ الْكَرِيمَةِ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مقدمة لإيتاء الزكاة، يحرص عَلَيْهَا بِذَلِكَ، إِذْ مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ إِنْفَاقَ مَالِهِ عَلَى الْقَرَابَةِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وإيتاء السَّبِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْمَكْرُمَةِ، فَلَأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْفَاقَهُ مِنَ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ طُهْرَتُهُ وَيَرْجُو بِذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عِنْدَهُ أَوْكَدُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا: وَالْمُوفُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ، وَقِيلَ: رَفْعُهُ عَلَى إِضْمَارِ، وَهُمُ الْمُوفُونَ، وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، الْمُوفُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ الْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ

عَنْ وَقْتِ الْمُعَاهَدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِيفَاءِ وَالْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَالْمُوفِينَ، نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: بِعُهُودِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ: انْتَصَبَ: وَالصَّابِرِينَ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْقَطْعُ إِلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ فِي صِفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالتَّرَحُّمِ، وَعَطْفُ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَعْقُوبُ: وَالصَّابِرُونَ، عَطْفًا عَلَى: الْمُوفُونَ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي معرض المدح والذم، والأحسن أَنْ تُخَالَفَ بِإِعْرَابِهَا وَلَا تُجْعَلَ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ من موضع الْإِطْنَابِ فِي الْوَصْفِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الْقَوْلِ، فَإِذَا خُولِفَ بِإِعْرَابِ الْأَوْصَافِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ، وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الْإِعْرَابِ يَكُونُ وَجْهًا وَاحِدًا أو جملة وَاحِدَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَوَفَّى، كَمَا قَالَ: وَأَقَامَ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اللَّفْظُ، وَهُوَ أَنَّ الصِّلَةَ مَتَى طَالَتْ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَوْصُولِ دُونَ الصِّلَةِ لِئَلَّا يَطُولَ وَيَقْبُحَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الشَّرِيعَةِ، وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ إِلَّا مِنْهَا، وَالْحِكْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْعَدَالَةَ دُونَ الْجَوْرِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ مِمَّا تَقْضِي بِهِ الْعُقُودُ الْمُجَرَّدَةُ، صَارَ عَطْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَحْسَنَ، وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ مِنْ وَجْهٍ مَبْدَأَ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ وَجْهٍ جَامِعًا لِلْفَضَائِلِ، إِذْ لَا فَضِيلَةَ إِلَّا وَلِلصَّبْرِ فِيهَا أَثَرٌ بَلِيغٌ، غَيَّرَ إِعْرَابَهُ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى تفسير قوله حِينَ الْبَأْسِ أَنَّهُ: حَالَةُ الْقِتَالِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي: الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَأْسَاءَ هُوَ الْفَقْرُ وَأَنَّ الضَّرَّاءَ الزَّمَانَةُ فِي الْجَسَدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: الْبَأْسَاءُ: الْقِتَالُ، وَالضَّرَّاءُ: الْحِصَارُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَهَذَا مِنْ باب الترقي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 40.

فِي الصَّبْرِ مِنَ الشَّدِيدِ إِلَى أَشَدَّ، فَذَكَرَ أَوَّلًا الصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ، ثُمَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَرَضِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْفَقْرِ، ثُمَّ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ. قَالَ الرَّاغِبُ: اسْتَوْعَبَ أَنْوَاعَ الصَّبْرِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُوتِ فَلَا يَنَالُهُ، وَهُوَ: الْبَأْسَاءُ، أَوْ فِيمَا يَنَالُ جِسْمَهُ مِنْ أَلَمٍ وسقم، وهو: الضراء فِي مُدَافَعَةِ مُؤْذِيهِ، وَهُوَ: البأساء. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَدَّى الصَّابِرِينَ إِلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ بِفِي لِأَنَّهُ لَا يُمْدَحُ الْإِنْسَانُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا إِذَا صَارَ لَهُ الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ كَالظَّرْفِ، وَأَمَّا الْفَقْرُ وَقْتًا مَا، أَوِ الْمَرَضُ وَقْتًا مَا، فَلَا يَكَادُ يُمْدَحُ الْإِنْسَانُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْقِتَالُ فَعَدَّى الصَّابِرِينَ إِلَى ظَرْفِ زَمَانِهِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا تَكَادُ تَدُومُ، وَفِيهَا الزَّمَانُ الطَّوِيلُ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِ الْقِتَالِ، فَلَمْ تَكُنْ حَالَةُ الْقِتَالِ تُعَدَّى إِلَيْهَا بِفِي الْمُقْتَضِيَةِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ فِيهَا، كَالْجِرْمِ الْمَحْسُوسِ، وَعَطْفُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْبِرِّ اسْتِكْمَالَهَا وَجَمْعَهَا، فَمَنْ قَامَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا لَمْ يُوصَفْ بِالْبِرِّ، وَلِذَلِكَ خَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ: لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أَشَارَ: بِأُولَئِكَ، إِلَى الَّذِينَ جَمَعُوا تِلْكَ الْأَوْصَافَ الْجَلِيَّةَ، مِنَ الِاتِّصَافِ بِالْإِيمَانِ وَمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يُؤْتَى بِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ: يُشَارُ بِهِ إِلَى مَنْ جَمَعَ عِدَّةَ أَوْصَافٍ سَابِقَةٍ، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «1» وَالصِّدْقُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ فَيَكُونُ مُقَابِلَ الْكَذِبِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطَابِقُ أَقْوَالَهُمْ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْخَبَرِ فَإِذَا أَخْبَرُوا بِشَيْءٍ كَانَ صِدْقًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْكَذِبُ، وَمِنْهُ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صَادِقًا، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالصِّدْقِ: الصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الرِّيَاءِ أَيْ: أَخْلَصُوا أَعْمَالَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، بَلْ قَصَدُوا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا عِنْدَ الظن بهم،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 5.

كَمَا تَقُولُ: صَدَقَنِي الرُّمْحُ، أَيْ: وَجَدْتُهُ عِنْدَ اخْتِبَارِهِ كَمَا أَخْتَارُ وَكَمَا أَظُنُّ بِهِ، وَالتَّقْوَى هُنَا اتِّقَاءُ عَذَابِ اللَّهِ بِتَجَنُّبِ مَعَاصِيهِ، وَامْتِثَالِ طَاعَتِهِ. وَتَنَوَّعَ هُنَا الْخَبَرُ عَنْ أُولَئِكَ، فَأَخْبَرَ عَنْ أُولَئِكَ الْأُوَلِ: بِالَّذِينَ صَدَقُوا، وَهُوَ مَفْصُولٌ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ اتِّصَافِهِمْ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ وَثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، وَأَخْبَرَ عَنْ أُولَئِكَ الثَّانِي: بِمَوْصُولٍ صِلَتُهُ اسْمُ الْفَاعِلِ لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ لَا يَتَجَدَّدُ، بَلْ صَارَ سَجِيَّةً لَهُمْ وَوَصْفًا لَازِمًا، وَلِكَوْنِهِ أَيْضًا وَقَعَ فَاصِلَةَ آيَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا لَمَا كَانَ يَقَعُ فَاصِلَةً. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى: رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ أَعِزَّةٍ أَقْوِيَاءَ لَا يَقْتُلُونَ بِالْعَبْدِ مِنْهُمْ إِلَّا سَيِّدًا، وَلَا بِالْمَرْأَةِ إِلَّا رَجُلًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي فَرِيقَيْنِ قتل أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ، وَالْآخَرُ كَافِرٌ مُعَاهِدٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَعَبِيدٍ، فَنَزَلَتْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الرَّجُلِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الرَّجُلِ، وَدِيَةَ الْمَرْأَةِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَدِيَةَ الْعَبْدِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الْعَبْدِ. ثُمَّ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: نزلت في حين مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ لَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. وقال مقاتل بن حبان: هُمَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا طَوْلٌ عَلَى الْأُخْرَى فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ، وَكَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَهُمْ بِغَيْرِ مُهُورٍ، وَأَقْسَمُوا لَيَقْتُلُنَّ بِالْعَبْدِ الْحُرَّ، وَجَعَلُوا جِرَاحَاتِهِمْ ضِعْفَيْ جِرَاحَاتِ أُولَئِكَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فَرَضُوا ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ قَائِلُهُمْ: هُمُ قَتَلُوا فِيكُمْ مَظِنَّةَ وَاحِدٍ ... ثَمَانِيَةً ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فَأَرْبَعُوا وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ غَنِيٍّ قَتَلَ شَاسَ بْنَ زُهَيْرٍ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ أَبُوهُ زُهَيْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ فَقَالُوا لَهُ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ يَذُبُّ عَنْهُمْ: سَلْ فِي قَتْلِ شَاسٍ، فَقَالَ: إِحْدَى ثَلَاثٍ لَا يُرْضِينِي غَيْرُهُنَّ، فَقَالُوا: مَا هُنَّ؟ فَقَالَ: تحيون شأسا، أو تملؤون دَارِي مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ، أَوْ تَدْفَعُونَ لِي غَنِيًّا بِأَسْرِهَا فَأَقْتُلُهَا، ثُمَّ لَا أَرَى أَنِّي أَخَذْتُ عِوَضًا.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا حَلَّلَ مَا حَلَّلَ قَبْلُ، وَحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِذِكْرِ مَنْ أَخَذَ مَالًا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَأَنَّهُ مَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ إِلَّا النَّارَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ انْتِظَامَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي انْطَوَوْا عَلَيْهَا، أَخَذَ يَذْكُرُ تَحْرِيمَ الدِّمَاءِ، وَيَسْتَدْعِي حِفْظَهَا وَصَوْنَهَا، فَنَبَّهَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ مَالٍ بِسَبَبِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ تَبْيِينِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ مِنَ الْمَأْكُولِ عَلَى تَبْيِينِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِالْمَأْكُولِ، لِأَنَّ بِهِ قِوَامَ الْبِنْيَةِ، وَحِفْظَ صُورَةِ الْإِنْسَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ مُتْلِفِ تِلْكَ الصُّورَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا يَنْدُرُ مِنْهُ وُقُوعُ الْقَتْلِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ بَعِيدٌ مِنْهُ وُقُوعُ ذَلِكَ، وَكَانَ ذِكْرُ تَقْدِيمِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَعَمُّ، وَنَبَّهَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ، وَإِنَّ عَرَضَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْبِرِّ، وَلَا عَنِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى. وَأَصْلُ الْكِتَابَةِ: الْخَطُّ الَّذِي يُقْرَأُ، وَعَبَّرَ بِهِ هُنَا عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَالْإِثْبَاتِ، أَيْ: فُرِضَ وَأُثْبِتَ، لِأَنَّ مَا كُتِبَ جَدِيرٌ بِثُبُوتِهِ وَبَقَائِهِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَسَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ. وَقِيلَ: مَعْنَى كُتِبَ: أُمِرَ، كَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «1» أَيِ: الَّتِي أُمِرْتُمْ بِدُخُولِهَا. وَقِيلَ: يَأْتِي كَتَبَ بِمَعْنَى جَعَلَ، وَمِنْهُ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «2» فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «3» وَتَعَدِّي كَتَبَ هُنَا بِعَلَى يُشْعِرُ بالفرض والوجوب، وفِي الْقَتْلى فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ الْقَتْلَى، مِثْلَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» . وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَجَبَ عَلَيْكُمُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ بِسَبَبِ قَتْلِ الْقَتْلَى بِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقَ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يُجْرَى مَجْرَاهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ إِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الدَّمِ اسْتِيفَاءَهُ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا مَعَ الْقَاتِلِ، وَالتَّقْدِيرُ، يَا أيها القاتلون، كتب

_ (1) سورة المائدة: 5/ 21. (2) سورة المجادلة: 58/ 22. (3) سورة الأعراف: 7/ 156. [.....]

عَلَيْكُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ قَتْلَهُ، أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَيَنْقَادَ لِقِصَاصِهِ الْمَشْرُوعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، فَإِنَّ لَهُمَا الْهَرَبُ مِنَ الْحَدِّ، وَلَهُمَا أَنْ يَسْتَتِرَا بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلَهُمَا أَنْ لَا يَعْتَرِفَا. وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ الْوُقُوفُ عِنْدَ قَاتِلِ وَلِيِّهِ، وَأَنْ لَا يَتَعَدَّى عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ بِأَنْ تَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِ قَتِيلِهَا مِنْ قَوْمِهِ، وَهَذَا الْكَتْبُ فِي الْقِصَاصِ مَخْصُوصٌ بِأَنْ لَا يَرْضَى الْوَلِيُّ بِدِيَةٍ أَوْ عَفْوٍ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ هُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ التَّشَاحُنِ، وَأَمَّا إِذَا رَضِيَ بِدُونِ الْقِصَاصِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ عَفْوٍ فَلَا قِصَاصَ. قَالَ الرَّاغِبُ: فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَنْ يَتَوَجَّهُ هَذَا الْوُجُوبُ؟ قِيلَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَهُوَ الْقَاتِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ الْإِمَامُ إِذَا طَلَبَهُ الْوَلِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ المعاونة والرضى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، بَلْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَالْقَصْدُ بِالْآيَةِ مَنْعُ التَّعَدِّي، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَعَدَّوْنَ فِي الْقَتْلِ، وَرُبَّمَا لَا يَرْضَى أَحَدُهُمْ إِذَا قُتِلَ عَبْدُهُمْ إِلَّا بِقَتْلِ حُرٍّ. اه كَلَامُهُ. وَتَلَخَّصَ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْقَاتِلُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَهْيَ ناسخة أو مَنْسُوخَةٌ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي نَسْخِ التَّرَاجُعِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، إِذَا قَتَلَ الرَّجُلَ امْرَأَةً كَانَ وَلَيُّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِهِ مَعَ تَأْدِيَةِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَتَرْكِهِ،. وَإِنْ كَانَ قَاتِلُ الرَّجُلِ امْرَأَةً، كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَأَخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرجل، وإن شاؤوا أَخَذُوا الدِّيَةَ كَامِلَةً وَلَمْ يَقْتُلُوهَا. قَالَ: فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. اه. وَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا، لِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ فَيُنْسَخُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى كِتَابَةَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بَيَّنَ مَنْ يَقَعُ بَيْنَهُمُ الْقِصَاصُ فَقَالَ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى، وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمَلِ، فَقِيلَ: يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلَّا بَيْنَ الْحُرَّيْنِ، وَبَيْنَ

الْعَبْدَيْنِ، وَبَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْخَذُ الْحُرُّ إِلَّا بِالْحُرِّ، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ إِلَّا بِالْعَبْدِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْأُنْثَى إِلَّا بِالْأُنْثَى. رُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَفِيهَا إِجْمَالٌ فَسَّرَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقِيلَ: لَا تَدَلُّ عَلَى الْحَصْرِ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ بين المذكور، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمُومَ: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى تَقْتَضِي قِصَاصَ الْحُرَّةِ بِالرَّقِيقَةِ؟ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ لِتَصَادُمِ الْعُمُومَانِ. وَقَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَقَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ ذِكْرٌ لِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ فِيهِ، وَأُعِيدَ ذِكْرُ الْأُنْثَى تَوْكِيدًا وَتَهَمُّمًا بِإِذْهَابِ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً حُكْمَ الْمَذْكُورِينَ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ عَبْدٌ حُرًّا، وَذَكَرٌ أُنْثَى، أَوْ أُنْثَى ذَكَرًا. وَقَالَا: إِنَّهُ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهَا قَتَلُوا بِهَا صَاحَبَهُمْ وَوَفَّوْا أَوْلِيَاءَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا اسْتَحْيَوْهُ وَأَخَذُوا مِنْهُ دِيَةَ الْمَرْأَةِ. وَإِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهُ قَتَلُوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِلَّا أَخَذُوا دِيَةَ صَاحِبِهِمْ وَاسْتَحْيَوْهَا، وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْعَبْدَ فَإِنْ أَرَادَ سَيِّدُ الْعَبْدِ قَتَلَ وَأَعْطَى دِيَةَ الْحُرِّ إِلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَحْيَى وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَبْدِ. وَقَدْ أُنْكِرُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَرَوْنَ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ، وَفِرْقَةٌ تَرَى الْإِتْبَاعَ بِفَضْلِ الدِّيَاتِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ إِذَا قتل مسلم حُرًّا بِمُحَدَّدٍ، وَظَاهِرُ عُمُومِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ أَنَّ الْوَالِدَ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، قَالَ: إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَصَدَ إِلَى قَتْلِهِ مِثْلَ أَنْ يُضْجِعَهُ وَيَذْبَحَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ الَّتِي لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ قُتِلَ بِهِ، وإن قتله يرمى بشيء أو يضرب، فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْتَلُ، وَالْآخَرُ: لَا يُقْتَلُ.

وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَيْهِ الدية في ماله، قَالَ بِذَلِكَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوُّوا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يُقَادُ الْجَدُّ بِابْنِ الِابْنِ، وَكَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ، وَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ قَتْلُ الِابْنِ بِأَبِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا قَتْلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ لَوِ انْفَرَدَ إِذَا شَارَكَ مَنْ لَا يَجِبُ عليه القتل كالمخطىء وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْأَبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَى الْأَبِ الْقَاتِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمُخْطِئُ وَالْمَجْنُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِكِينَ مِمَّنْ ذُكِرَ الدِّيَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ الْمُشَارِكِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَا عَبْدًا، وَالْمُسْلِمُ وَالنَّصْرَانِيُّ إِذَا قَتَلَا نَصْرَانِيًّا، وَإِنْ شَارَكَهُ قَاتِلُ خَطَأٍ فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَجِنَايَةُ الْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بقتل الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ بِهِ. قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: إِنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ وَكُلُّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ الْقَتْلُ، مِنْ مُثَقَّلِ حَجَرٍ، أَوْ خَشَبَةٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ بِمُثَقَّلٍ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَدَمُ تَعْيِينِ الْآلَةِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ،

وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْغُنَيْمِ، عَنْ مَالِكٍ: إِنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ نَارٍ أَوْ تَغْرِيقٍ قُتِلَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا قَتَلَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ. وَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ: يُقْتَلُ بِمِثْلِ الَّذِي قَتَلَ بِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بِخَشَبٍ، أَوْ بِخَنْقٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ: إِنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ حَتَّى مَاتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَبَسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يُضْرَبُ مِثْلَ ضَرْبِهِ وَلَا يُضْرَبُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ المثلة ويقولون: يجزي ذَلِكَ كُلِّهِ السَّيْفُ. قَالَ: فَإِنْ غَمَسَهُ فِي الْمَاءِ حَتَّى مَاتَ، فَلَا يَزَالُ يُغْمَسُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَمُوتَ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ: فِي الْقَتْلى وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ. وَهُوَ: أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ إِلَّا فِي الْأَنْفُسِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ فِي الْجِنَايَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحِ، وَلَا يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ ظَاهِرِهَا، وَأَجْمَعُوا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِنْ صَنْعَاءَ بِامْرَأَةٍ، وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ وَبِالْعَبْدِ، وَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَقَدْ وَهَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نِسْبَتِهِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الذَّكَرَ لَا يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى، وَلَا خِلَافَ عَنْهُمَا فِي أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إِذَا قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَتَلَهَا هُوَ فَعَلَيْهِ الْقَوْدُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، إِلَى أَنَّهُ لا قصاص من بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا فِي

الْأَنْفُسِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَاقِعٌ فِيمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، إِلَّا أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: إِذَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ عَقَلَهَا وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ. وَأَعْرَبَ هذه الجمل مبتدأ وخبر، وَهِيَ ذَوَاتٌ ابْتُدِئَ بِهَا، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ أَخْبَارٌ عَنْهَا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلسَّبَبِ، وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنٍ خَاصٍّ لَا بِكَوْنٍ مُطْلَقٍ، وَقَامَ الْجَارُّ مَقَامَ الْكَوْنِ الْخَاصِّ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذِ الْكَوْنُ الْخَاصُّ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا، إِذِ الدَّلِيلُ عَلَى حَذْفِهِ قَوِيٌّ إِذْ تَقَدَّمَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَالتَّقْدِيرُ: الْحُرُّ مَقْتُولٌ بِالْحُرِّ، أَيْ: بِقَتْلِهِ الْحُرَّ، فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ الْعَامِلِ كَوْنًا مُطْلَقًا، وَلَوْ قُلْتَ: الْحُرُّ كَائِنٌ بِالْحُرِّ، لَمْ يَكُنْ كَلَامًا إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ مُضَافًا قَدْ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَيَجُوزُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَتْلُ الْحُرِّ كَائِنٌ بِالْحُرِّ، أي: بقتل الْحُرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُرُّ مَرْفُوعًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا قَبْلَهُ، التقدير: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِقَتْلِهِ الْحُرَّ، إِذْ فِي قَوْلِهِ: الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى دَلَالَةٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ كَانَ لَهُمُ الْقَتْلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَهْلَ الْإِنْجِيلِ كَانَ لَهُمُ الْعَفْوُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْدٌ، وَجَعَلَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِمَنْ شَاءَ الْقَتْلَ، وَلِمَنْ شَاءَ أَخْذَ الدِّيَةِ، وَلِمَنْ شَاءَ الْعَفْوَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَحِلَّ الدِّيَةُ لِأَحَدٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ كَانَ الْقِصَاصَ أَوِ الْعَفْوَ. وَلَا أَرْشَ بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ الدِّيَةَ وَالْعَفْوَ لَا أَرْشَ بَيْنَهُمْ، فَخَيَّرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ. وَارْتِفَاعُ: مَنْ، عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهِيَ شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ: مَنْ، هُوَ الْقَاتِلُ وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ ومِنْ أَخِيهِ عائد عليه، وَشَيْءٍ: هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فاعله، وهو معنى الْمَصْدَرِ، وَبُنِيَ عَفَا، لِلْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا، لِأَنَّ اللَّازِمَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ «1» وَالْأَخُ هُوَ الْمَقْتُولُ، أَيْ: مِنْ دَمِ أَخِيهِ أَوْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَسَمَّاهُ أَخًا لِلْقَاتِلِ اعْتِبَارًا بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ اسْتِعْطَافًا لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ لكونه

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 13.

مُلَابِسًا لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلدَّمِ وَمُطَالِبٌ بِهِ كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ كَذَا، لِمَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهَذَا الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ يُرَادُ بِهِ الدَّمُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ رُجِعَ إِلَى أَخْذِ الدِّيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الْقِصَاصُ، وَإِمَّا الدِّيَةُ. لِأَنَّ الدِّيَةَ تَضَمَّنَتْ عَافِيًا وَمَعْفُوًّا عَنْهُ، وَلَيْسَ إِلَّا وَلِيَّ الدَّمِ وَالْقَاتِلَ، وَالْعَفْوُ لَا يَتَأَتَى إِلَّا مِنَ الْوَلِيِّ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْعَفْوَ بِمَعْرُوفٍ. وَعَفَا يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الْجِنَايَةِ، تَقُولُ: عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وَعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ، فَإِذَا عَدَّيْتَ إِلَيْهِمَا مَعًا تَعَدَّتْ إِلَى الْجَانِي بِاللَّامِ، وَإِلَى الذَّنْبِ بِعَنْ، تَقُولُ: عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَحُذِفَ عَنْ جِنَايَتِهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلَا يُفَسَّرُ عُفِيَ بِمَعْنَى تُرِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مُعَدًّى إِلَّا بِالْهَمْزَةِ، وَمِنْهُ: «أَعْفُوا اللِّحَى» وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضَمَّنَ عَفَى مَعْنَى تَرَكَ وَإِنْ كَانَ الْعَافِي عَنِ الذَّنْبِ تَارِكًا لَهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ، لِأَنَّ التَّضْمِينَ لَا يَنْقَاسُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُمْ عَفَا أَثَرَهُ إِذَا مَحَاهُ وَأَزَالَهُ، فَهَلَّا جَعَلْتَ مَعْنَاهُ: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: عِبَارَةٌ قِيلَتْ فِي مَكَانِهَا، وَالْعَفْوُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ عِبَارَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِعْمَالِ النَّاسِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى أُخْرَى قَلِقَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ مَكَانِهَا، وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هذا العلم يجترىء إِذَا عَضَلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْمُشْكِلِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى اخْتِرَاعِ لُغَةٍ. وَادِّعَاءٍ عَلَى الْعَرَبِ مَا لَا تَعْرِفُ، وَهَذِهِ جُرْأَةٌ يُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ عَفَا يكون بمعنى محافلا يَبْعُدُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ إِسْنَادُ عَفَى لِمَرْفُوعِهِ إِسْنَادًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ مَفْعُولٌ بِهِ صَرِيحٌ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتَعَدَّى كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ مَجَازًا وَتَشْبِيهًا لِلْمَصْدَرِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، فَقَدْ يَتَعَادَلُ الْوَجْهَانِ أَعْنِي: كَوْنَ عَفَا اللَّازِمِ لِشُهْرَتِهِ فِي الْجِنَايَاتِ، وَعَفَا الْمُتَعَدِّي لِمَعْنَى مَحَا لِتَعَلُّقِهِ بِمَرْفُوعِهِ تَعَلُّقًا حَقِيقِيًّا. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هَذَا الْعِلْمَ إِلَى آخِرِهِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فِعْلُ غَيْرِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَا الْمَوْثُوقِ بِهِمْ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَذْهَبِهَا لِخَاصَّةِ الْإِنْسَانِ، وَخُصُوصًا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ تُكْرَهُ،

إِلَّا مَا كَانَ مِنْ الْكَاذِبِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ مُفَارِقٍ لَهُ، لَكِنْ لَا يُنَاسِبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنَا: وَتَرَى كَثِيرًا إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ إِثْرَ قَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ إِلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ حَمْلُ الْعَفْوِ عَلَى مَعْنَى الْمَحْوِ، وَهُوَ حَمْلٌ صَحِيحٌ وَاسْتِعْمَالٌ فِي اللُّغَةِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْجُرْأَةِ، وَاخْتِرَاعِ اللُّغَةِ. وَبُنِيَ الْفِعْلُ هُنَا لِلْمَفْعُولِ لِيَعُمَّ الْعَافِيَ كَانَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، هَذَا إِنْ أُرِيدَ بِأَخِيهِ الْمَقْتُولُ. أَيْ: مِنْ دَمِ أَخِيهِ، وَقِيلَ: شَيْءٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الدَّمِ أَوْ عَنْ كُلِّهِ، أَوْ أَنْ يَعْفُوَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوْ كُلُّهُمْ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ الْعَفْوُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا الدِّيَةُ، وَقِيلَ: مَنْ عُفِيَ لَهُ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ، وَعُفِيَ هُنَا بِمَعْنَى يُسِّرَ لَا عَلَى بَابِهَا فِي الْعَفْوِ، وَمِنْ أَخِيهِ: هُوَ الْقَاتِلُ، وَشَيْءٌ: هُوَ الدِّيَةُ، وَالْأُخُوَّةُ هِيَ: أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَخِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: الْمَقْتُولُ، أَيْ: مِنْ قِبَلِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَالِكٍ، فَسَّرَ الْمَعْفُوَّ لَهُ بِوَلِيِّ الدَّمِ، وَالْأَخَ: بِالْقَاتِلِ، وَالْعَفْوَ بِالتَّيْسِيرِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا جَنَحَ الْوَلِيُّ إِلَى الْعَفْوِ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ خُيِّرَ الْقَاتِلُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهَا أَوْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ. وَغَيْرُ مَالِكٍ يَقُولُ: إِذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِالدِّيَةِ فَلَا خِيَارَ لِلْقَاتِلِ، وَيَلْزَمُ الدِّيَةُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَرَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ عُفِيَ بِمَعْنَى: يُسِّرَ لَمْ يَثْبُتْ. وَقِيلَ: هَذِهِ أَلْفَاظٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ الَّذَيْنِ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا، وَتَسَاقَطُوا الدِّيَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُقَاصَّةً، فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ فَضَلَ لَهُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الدِّيَاتِ، وَتَكُونُ: عَفَا بِمَعْنَى: فَضَلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَفَا الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ، أَيْ: أَفْضَلَتِ الْحَالَةُ لَهُ، أَوِ الْحِسَابُ، أَوِ الْقَدَرُ، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ فِي الْفَضْلِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، أَيْ: مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلُ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَعُفِيَ هُنَا بِمَعْنَى: أُفْضِلَ، وَكَأَنَّ الْآيَةَ مِنْ أَوَّلِهَا بَيَّنَتِ الْحُكْمَ إِذَا لَمْ تَتَدَاخَلِ الْأَنْوَاعُ، ثُمَّ بَيَّنَتِ الْحُكْمَ إِذَا تَدَاخَلَتْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا قُلْنَاهُ، وَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ عُفِيَ بِمَعْنَى: تُرِكَ، فَيَرْتَفِعُ شَيْءٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ عُفِيَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ، وَأَنَّ ارْتِفَاعَ شَيْءٌ، هُوَ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ عُفِيَ بِمَعْنَى: تُرِكَ لَمْ يَثْبُتْ.

فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. ارْتِفَاعُ اتِّبَاعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْحُكْمُ، أَوِ الْوَاجِبُ كَذَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَالْأَمْرُ اتِّبَاعٌ، وَجَوَّزَ أَيْضًا رَفْعَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَكُنِ اتِّبَاعٌ، وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ: فَعَلَى الْوَلِيِّ اتِّبَاعُ الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ، وَقَدَّرُوهُ أَيْضًا مُتَأَخِّرًا تَقْدِيرُهُ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ تَقْدِيرِهِ: فَالْحَكَمُ أَوِ الْوَاجِبُ اتِّبَاعٌ، وَهَذَا سَبِيلُ الْوَاجِبَاتِ، كَقَوْلِهِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ «1» وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَيَأْتِي مَنْصُوبًا كَقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ «2» انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي هَذِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ إِلَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ أَثْبَتُ وَآكَدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ «3» فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي لَحِظَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا إِضْمَارُ الْفِعْلِ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلْيَكُنْ، فَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ: كَانَ، لَا تُضْمَرُ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ أَنِ الشَّرْطِيَّةِ، أَوْ: لَوْ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهَا الدليل، وبِالْمَعْرُوفِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاتِّبَاعٌ، وَارْتِفَاعُ: وَأَداءٌ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى اتِّبَاعٌ، فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الْإِعْرَابِ مَا قَدَّرُوا فِي: فَاتِّبَاعٌ، وَيَكُونُ بِإِحْسَانٍ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَأَدَاءٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يكون: وأداء، مُبْتَدَأً، وَبِإِحْسَانٍ، هُوَ الْخَبَرُ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاتِّبَاعٌ، جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ كَانَتْ مَنْ شَرْطًا، والداخلة فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إِنْ كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْ: كِنَايَةً عَنِ الْقَاتِلِ وَأَخُوهُ: كِنَايَةً عَنِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَوْصِيَةً لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ والعافي يحسن الْقَضَاءِ مِنَ الْمُؤَدِّي، وَحُسْنِ التَّقَاضِي مِنَ الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَخُ كِنَايَةً عَنِ الْمَقْتُولِ كَانَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ، عَائِدَةً عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ يصاحب يوجه مَا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: عُفِيَ، دَلَالَةً عَلَى الْعَافِي فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «4» إِذْ فِي الْعَشِيِّ دَلَالَةٌ عَلَى مَغِيبِ الشمس، وقول الشاعر: لك الرجل الْحَادِي وَقَدْ مَنَعَ الضُّحَى ... وَطَيْرُ الْمَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ أَيْ: فَوْقَ الْإِبِلِ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: الْحَادِيَ، دَلَالَةً عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْ كِنَايَةً عَنِ الْقَاتِلِ فَيَكُونُ أَيْضًا تَوْصِيَةً لَهُ وَلِلْوَلِيِّ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ وَالتَّقَاضِي، أَيْ: فاتباع من الولي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 229. (2) سورة محمد: 47/ 4. (3) سورة هود: 11/ 69. (4) سورة ص: 38/ 32.

بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدَاءٌ مِنَ الْقَاتِلِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، وَالِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ عَلَيْهِ وَلَا يُطَالِبَهُ إِلَّا مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، وَلَا يَسْتَعْجِلَهُ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ يُجْعَلُ انْتِهَاءَ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْأَدَاءُ بِالْإِحْسَانِ: أَنْ لَا يَمْطُلَهُ وَلَا يَبْخَسَهُ شَيْئًا. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الِاتِّبَاعِ وَالْأَدَاءِ. وَقِيلَ: اتِّبَاعُ الْوَلِيِّ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنَ الْقَاتِلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ زَادَ بَعِيرًا فِي إِبِلِ الدِّيَةِ وَفَرَائِضِهَا فَمِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ» . وَقِيلَ الِاتِّبَاعُ وَالْأَدَاءُ مَعًا مِنَ الْقَاتِلِ، وَالِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَنْقُصَهُ، وَالْأَدَاءُ بِالْإِحْسَانِ أَنْ لَا يُؤَخِّرَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ حِفْظُ الْجَانِبِ وَلِينُ الْقَوْلِ، وَالْإِحْسَانُ تَطْيِيبُ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ مَا أَوْجَبَهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ مَا يَتَعَاهَدُ الْعَرَبُ بَيْنَهَا مِنْ دِيَةِ الْقَتْلَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ الْآيَةَ. أَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِجَابَةُ الْقَاتِلِ إِلَى الْقَوَدِ مِنْهُ إِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ وَاخْتَارَ الْمُسْتَحِقُّ الدِّيَةَ وَيَلْزَمُ الْقَاتِلَ الدِّيَةُ إِذَا اخْتَارَهَا الْوَلِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا الْقِصَاصُ، وَلَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إِلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ، فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَدَّرُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ وَرَضِيَ الْمَعْفُوُّ عنه وَدَفَعَ الدِّيَةَ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَنَا الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَ تَفْسِيرِنَا: فَمَنْ عُفِيَ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا شَرَعَهُ تَعَالَى مِنَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ إِذْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ كَانَ مَشْرُوعُهُمُ الْقِصَاصَ فَقَطْ، وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ مَشْرُوعُهُمُ الْعَفْوُ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنِ الْعَفْوُ فِي أُمَّةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طُرُقٌ مِنْ هَذَا النَّقْلِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ خُيِّرَتْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ، وَكَانَ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ إِذْ فِيهِ انْتِفَاعُ الْوَلِيِّ بِالدِّيَةِ، وَحُصُولُ الْأَجْرِ بالعفو استبقاء مُهْجَةِ الْقَاتِلِ، وَبَذْلُ مَا سِوَى النَّفْسِ هَيِّنٌ فِي اسْتِبْقَائِهَا، وَأَضَافَ هَذَا التَّخْفِيفَ إِلَى الرَّبِّ لِأَنَّهُ الْمُصْلِحُ لِأَحْوَالِ عَبِيدِهِ، النَّاظِرُ لَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَعَطْفُ وَرَحْمَةٌ عَلَى تَخْفِيفٌ لِأَنَّ مَنِ اسْتَبْقَى مُهْجَتَكَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ إِتْلَافِهَا فَقَدْ رَحِمَكَ. وَأَيُّ: رَحْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَلَعَلَّ الْقَاتِلَ الْمَعْفُوَّ عَنْهُ

يَسْتَقِلُّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي عَاشَهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِ مَا يَمْحُو بِهِ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الشَّنْعَاءَ، فَمِنَ الرَّحْمَةِ إِمْهَالُهُ لَعَلَّهُ يُصْلِحُ أَعْمَالَهُ. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ: مَنْ تَجَاوَزَ شَرْعَ اللَّهِ بعد القود وَأَخْذِ الدِّيَةِ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ، أَوْ بِقَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيَقْتُلُونَ بِالْوَاحِدِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْعَشَرَةَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَنْ قُتِلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ الْعَفْوِ، وَقِيلَ: مَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهَا. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ الْعَفْوِ، وَأَخْذِ الْمَالِ، وَالِاعْتِدَاءُ، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْفِيفِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى التَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْفِيفِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا شَرَحْنَاهُ بِهِ مِنَ الْعَفْوِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَخْفِيفًا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَيَحْتَمِلُ: مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اعْتَدى أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرٌ عَنِ الْمَوْصُولِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ التَّوَعُّدَاتِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ قَتْلُهُ قِصَاصًا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ: وَقِيلَ: هُوَ قَتْلُهُ الْبَتَّةَ حَدًّا، وَلَا يُمَكِّنُ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: عَذَابُهُ أَنْ يَرُدَّ الدِّيَةَ وَيَبْقَى إِثْمُهُ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: عَذَابُهُ تَمْكِينُ الْإِمَامِ مِنْهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَرَى، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ هُوَ كَمَنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، إِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الْحَيَاةُ الَّتِي فِي الْقِصَاصِ هِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، أَمْسَكَ عَنِ الْقَتْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ، والذي امْتَنَعَ مِنْ قَتَلَهُ، فَمَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَإِبْقَاءُ الْقَاتِلِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، فَتُقَدَّمُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. أَوِ الْمَعْنَى: وَلَكُمْ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ حَمِيَ قَبِيلُةٌ أَنْ تَقْتَصَّ مِنْهُ، فَيَقْتَتِلُونَ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا شُرِعَ الْقِصَاصُ رَضُوا بِهِ وَسَلَّمُوا الْقَاتِلَ لِلْقَوْدِ، وَصَالَحُوا عَلَى الدِّيَةِ

وَتَرَكُوا الْقِتَالَ، فَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ، وَكَمْ قَتَلَ مُهَلْهِلٌ بِأَخِيهِ كُلَيْبٍ حَتَّى كَادَ يُفْنِي بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ. وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ لَا يقتل غير خِلَافَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِلْقَاتِلِ. وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِارْتِدَاعِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَصَّ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. فَلَا تَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ الْحَيَاةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ. وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ، أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَعِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقَصَصِ، أَيْ: فِيمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ، وَقِيلَ: الْقَصَصُ: الْقُرْآنُ، أَيْ: لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «1» وَكَقَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقِصَاصِ، أَيْ: أَنَّهُ إِذَا قُصَّ أَثَرُ الْقَاتِلِ قَصَصًا قُتِلَ كَمَا قَتَلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كَلَامٌ فَصِيحٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ قَتْلٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ جُعِلَ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلْحَيَاةِ، وَمِنْ إِصَابَةِ مَحَزِّ الْبَلَاغَةِ بِتَعْرِيفِ، الْقِصَاصِ، وَتَنْكِيرِ: الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَكُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْحَيَاةُ الْحَاصِلَةُ بِالِارْتِدَاعِ عَنِ الْقَتْلِ. لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِالِاقْتِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْقَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَكَفُّ لِلْقَتْلِ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي كَوْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: تَكْرِيرُ لَفْظِ الْقَتْلِ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: الِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا هُوَ قَتْلٌ، وَلَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ. وَقَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَالْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَفِيهِ أَنَّ نَوْعًا مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ سَبَبٌ لِنَوْعٍ مِنْ أنواع

_ (1) سورة الشورى: 42/ 52. (2) سورة الأنعام: 6/ 122.

الْحَيَاةِ، لَا لِمُطْلَقِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَلَكُمْ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ، اتَّضَحَ كَوْنُ شَرْعِ الْقِصَاصِ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: فَظَاهِرٌ لِعُذُوبَةِ الْأَلْفَاظِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَقْدِيرِ الْحَذْفِ، لِأَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قُلْنَاهُ تكرارا للفظ، والحذف إذا نفي، أو أكف، أو أوفي، هو افعل تفضيل، فلابد مِنْ تَقْدِيرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ أَنَفَى لِلْقَتْلِ مِنْ تَرْكِ الْقَتْلِ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: فَالْقِصَاصُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ فِي نَفْسٍ وَفِي غَيْرِ نَفْسٍ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ، فَالْآيَةُ أَعَمُّ وَأَنْفَعُ فِي تَحْصِيلِ الْحَيَاةِ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْعِرٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَتَرَتَّبَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وُجُودُ الْحَيَاةِ. ثُمَّ الْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ فِيهَا مُقَابَلَةُ الْقِصَاصِ بِالْحَيَاةِ فَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَيَانِ يُسَمَّى الطِّبَاقَ، وَهُوَ شِبْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وفي الْقِصَاصِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيمُ هَذَا الْخَبَرِ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَكُونُ لَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَنَبَّهَ بِالنِّدَاءِ نِدَاءِ ذَوِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ، إِذْ لَا يَعْرِفُ كُنْهَ مَحْصُولِهَا إِلَّا أولوا الْأَلْبَابِ الْقَائِلُونَ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْخِطَابِ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «2» لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «3» لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «4» لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى «5» لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «6» وَذَوُو الْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْعَوَاقِبَ وَيَعْلَمُونَ جِهَاتِ الْخَوْفِ، إِذْ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَوْفُ، فَلِهَذَا خَصَّ بِهِ ذَوِي الْأَلْبَابِ. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيِ: الْقِصَاصُ، فَتَكُفُّونَ عَنِ الْقَتْلِ وَتَتَّقُونَ الْقَتْلَ حَذَرًا مِنَ الْقِصَاصِ أَوِ الِانْهِمَاكِ فِي الْقَتْلِ، أَوْ تَتَّقُونَ اللَّهَ بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، أَوْ تعملون عمل أهل

_ (1) سورة النجم: 53/ 44. (2) سورة الرعد: 13/ 19، وسورة الزمر: 39/ 9. (3) سورة البقرة: 2/ 164، وسورة الرعد: 13/ 4 وسورة النحل: 16/ 12. (4) سورة آل عمران: 3/ 190، وسورة الروم: 30/ 24. (5) سورة طه: 20/ 54 و 128. (6) سورة ق: 50/ 37.

التَّقْوَى فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقِصَاصِ وَالْحُكْمِ بِهِ، وَهُوَ خِطَابٌ لَهُ فَضْلُ اخْتِصَاصٍ بِالْأَئِمَّةِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أُولَاهَا مَا سِيقَتْ لَهُ الْآيَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقَتْلَ فِي الْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى يَتَنَبَّهَ كُلُّ أَحَدٍ فَيُوصِي مُفَاجَأَةَ الْمَوْتِ، فَيَمُوتَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ: كُتِبَ، أَصْلُهُ: الْعَطْفُ عَلَى. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وكُتِبَ عَلَيْكُمُ وَأَنَّ الْوَاوَ حُذِفَتْ لِلطُّولِ، بَلْ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ظَاهِرَةُ الِارْتِبَاطِ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَهُوَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ أَيْ: حُضُورُ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ الْمَخُوفَةِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى أَسْبَابِ الْمَوْتِ مَوْتًا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ «1» وَقَالَ عَنْتَرَةُ. وَأَنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهِنْدُوَانِ وَقَالَ جَرِيرٌ. أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ وَقَالَ غَيْرُهُ. وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ: إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ وَالْخِطَابُ فِي: عَلَيْكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ مُقَيَّدًا بِالْإِمْكَانِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّجَوُّزِ فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، وَلَوْ جَرَى نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ: إِذَا حَضَرَكُمُ الْمَوْتُ، لَكِنَّهُ رُوعِيَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومِ فِي: عَلَيْكُمْ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذَ الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، ثُمَّ أُظْهِرَ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ، إِذْ كَانَ يَكُونُ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقِيلَ: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ، وَنَظِيرُ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى فِي الْعُمُومِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي ... أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ في رجالك لأنه رعى مَعْنَى الْعُمُومِ، إِذِ الْمَعْنَى وَلَسْتُ بِسَائِلٍ كُلَّ جَارَةٍ مِنْ جَارَاتِ بَيْتِي، فَجَاءَ قَوْلُهُ: أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ، عَلَى مُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا شَيْءٌ غَرِيبٌ مُسْتَطْرَفٌ مِنْ علم العربية.

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 17. [.....]

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ هُنَا حَقِيقَتُهُ لَا مُقَدِّمَاتُهُ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْأَوْصِيَاءِ وَالْوَرَثَةِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ، إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، إِنْفَاذُ الْوَصِيَّةِ وَالْعَمَلُ بِهَا، فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، بَلْ يُسْتَدَلُّ عَلَى وُجُوبِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ. إِنْ تَرَكَ خَيْراً يَعْنِي: مَالًا، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ الْمَالُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «1» إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ «2» فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً «3» إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ «4» وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْخَيْرِ، وَبِهِ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَغَيْرُهُمَا، قَالُوا: تَجِبُ فِيمَا قَلَّ وَفِيمَا كَثُرَ. وَقَالَ أَبَانُ: مِائَتَا دِرْهَمِ فِضَّةً. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ عَلِيٌّ: وَقَتَادَةُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، وَقَالَ الْجَصَّاصُ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. هَذَا قَوْلُ مَنْ قَدَّرَ الْخَيْرَ بِالْمَالِ. وَأَمَّا مَنْ قَدَّرَهُ بِمُطْلَقِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ، وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ، وَقِلَّتِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أَرَى فَضْلًا فِي مَالٍ هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِي وَلَهُ عِيَالٌ، وَقَالَتْ فِي آخَرَ: لَهُ عِيَالٌ أَرْبَعَةٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَإِنَّ هَذَا الشَّيْءَ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعَيَالِكَ. وَعَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ مَوْلًى لَهُ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ وَلَهُ سَبْعُمِائَةٍ فَمَنَعَهُ، وَقَالَ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَالْخَيْرُ: هُوَ الْمَالُ، وَلَيْسَ لَكَ مَالٌ. انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ عَدَمُ تَقْدِيرِ الْمَالِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجِبْ، إِذِ الظَّاهِرُ التَّعْلِيقُ بِوُجُودِ مُطْلَقِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَ الظَّاهِرِ، فَيُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ فِي الْخَيْرِ وَفِي تَسْمِيَتِهِ هُنَا وَجَعْلِهِ خَيْرًا إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَالٌ طَيِّبٌ لَا خَبِيثٌ، فَإِنَّ الْخَبِيثَ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، وَيَأْثَمُ بِالْوَصِيَّةِ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَاجِبَةٌ، وَيُجْمَعُ لِلْوَارِثِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ والميراث بحكم الآيتين.

_ (1) سورة العاديات: 100/ 8. (2) سورة ص: 38/ 32. (3) سورة النور: 24/ 33. (4) سورة هود: 11/ 84.

وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّطَوُّعِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ مُخَالِفًا لِلْمِيرَاثِ، بَلِ الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ كُتِبَ عَلَى الْمُحْتَضِرِ أَنْ يُوصِيَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِتَوْفِيرِ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ أَنْصَابِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَيُخَصَّصُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ بِأَنْ لَا يَكُونُوا وَارِثِينَ بَلْ أَرِقَّاءً أَوْ كُفَّارًا، كَمَا خُصِّصَ فِي الْمُوصَى بِهِ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ: ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرِبَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهَا بُرْهَةً، وَنُسِخَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ يَرِثُ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ زَيْدٍ: الْآيَةُ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَبَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ نَدْبًا، وَنَحْوُ هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَغَيْرُهُ: لَا وَصِيَّةَ، وَقِيلَ: كَانَتْ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَلِتَلَقِّي الْأُمَّةِ إِيَّاهُ بِالْقَبُولِ حَتَّى لَحِقَ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْآحَادِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتَلَقَّوْنَ بِالْقَبُولِ إِلَّا الْمُثْبَتَ الَّذِي صَحَّتْ رِوَايَتُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَعَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ تَرْكِهِمْ. وَقَالَ النَّاسُ، حِينَ مَاتَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَجَبًا لَهُ، أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ رِيَاحٍ، وَأَوْصَى بِمَالِهِ لِبَنِي هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ، وَقَالَ طاووس: إِذَا أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى قَرَابَتِهِ وَنُقِضَ فِعْلُهُ، وَقَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ إسحاق بن رَاهَوَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، أَيْضًا، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى: يَبْقَى ثُلُثُ الْوَصِيَّةِ حَيْثُ جَعَلَهَا الْمَيِّتُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: إِذَا أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَتَرَكَ

_ (1) سورة النساء 4/ 11.

قَرَابَتَهُ جَازَ ذَلِكَ وَأُمْضِيَ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ غَنِيًّا، أَوْ فَقِيرًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَظَاهِرُ: كَتْبِ، وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَنْ خَلَّفَ مَالًا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ لِقَوْمٍ، فَأَمَّا مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا وَدِيعَةَ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِ النَّخَعِيِّ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ، وَبِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ، فَعَلَّقَ بِإِرَادَةِ الْوَصِيَّةِ. وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا عَلَّقَهَا بِإِرَادَتِهِ. وَالْمُوصَى لَهُ، إِنْ كَانَ وَارِثًا وَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. أَوْ قَاتِلًا عَمْدًا وَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالٍ، فَقَالَ: إِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا كَانَ مِيرَاثًا. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَعْمَرٌ: يُمْضَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَوْ أَوْصَى الأجنبي بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَجَازَهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَشُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنِ اسْتَأْذَنَهُمْ فَأَذِنُوا فَكُلُّ وَارِثٍ بَائِنٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ كَانَ مِنْ عَمٍّ وَابْنِ عَمٍّ، أَنْ يَقْطَعَ نَفَقَتَهُ عَنْهُمْ إِنْ صَحَّ، فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي الصِّحَّةِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، أَوْ فِي الْمَرَضِ فَلَا. وَقَوْلُ اللَّيْثِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ إِذَا أَجَازُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ. وروي عن طاووس وَعَطَاءٍ: إِنْ أَجَازُوهُ فِي الْحَيَاةِ جَازَ عَلَيْهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ وَصِيَّةِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ فِي الصَّبِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ

أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ الْمَنْعُ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُغَيِّرَ وَصِيَّتَهُ وَأَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَبَّرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا دَبَّرَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: هُوَ وَصِيَّتُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ مُدَبَّرًا ، وَأَنَّ عَائِشَةَ بَاعَتْ مُدَبَّرَةً، وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، فَلَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: فُلَانٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّدْبِيرَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَرْجِعْ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، فَكُلُّ هذا عندهم وصية. وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّجُوعِ فِي التَّدْبِيرِ بِمَاذَا يَكُونُ؟. فَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا قَالَ: رَجَعْتُ فِي مُدَبَّرِي بَطَلَ التَّدْبِيرُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ رَجَعْتُ رُجُوعًا. وَمَنْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يُرِدِ الْوَصِيَّةَ وَلَا التَّدْبِيرَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ وَصِيَّةٌ؟ وَقَالَ أَشْهَبُ: هُوَ مُدَبَّرٌ. وَكَيْفِيَّةُ الْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَكْتُبُونَهَا: هَذَا مَا أَوْصَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ، مِنْ أَهْلِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كانوا مؤمنين، ويوصوهم بِمَا أَوْصَى بِهِ إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «2» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَبُنِيَ كُتِبَ لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِلِاخْتِصَارِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَرْفُوعُ: كُتِبَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْوَصِيَّةُ، وَلَمْ يُلْحِقْ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ لِلْفِعْلِ لِلْفَصْلِ، لَا سِيَّمَا هُنَا، إِذْ طَالَ بِالْمَجْرُورِ وَالشَّرْطَيْنِ، وَلِكَوْنِهِ مُؤَنَّثًا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَبِمَعْنَى الْإِيصَاءِ. وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْنَى: كُتِبَ، لِمُضِيِّ كُتِبَ وَاسْتِقْبَالِ الشَّرْطَيْنِ. وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى: كُتِبَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَحَدِكُمْ إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا فَلْيُوصِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يَقْتَضِي جَوَابًا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ جوابا للشرط الأول،

_ (1) سورة الحج: 22/ 7. (2) سورة البقرة: 2/ 132.

وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّرْطِ الثَّانِي مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ دَلَّ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي شَرْطٌ فِي الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا لَفْظًا. وَاجْتِمَاعُ الشَّرْطَيْنِ غَيْرُ مَجْعُولٍ الثَّانِي جَوَابًا لِلْأَوَّلِ بِالْفَاءِ مِنْ أَصْعَبِ الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ فِيهِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تأليفنا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ. وَقِيلَ: جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ مَحْذُوفٌ وَيُقَدَّرُ مِنْ مَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ وَيُتَجَوَّزُ بِلَفْظِ: كُتِبَ، عَنْ لَفْظِ: يَتَوَجَّهُ إِيجَابُ الْوَصِيَّةِ عَلَيْكُمْ. حَتَّى يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا فيفسر الجواب، لأن مُسْتَقْبَلٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا ظَرْفًا مَحْضًا لَا شَرْطًا، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْعَامِلُ فِيهَا: كُتِبَ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ جَوَابُ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ: كُتِبَ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ إِذَا مَعْمُولًا لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ وَمَوْصُولٌ، وَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ إِذَا كَانَ ظَرْفًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا مَحْضًا، وَهُوَ عِنْدَهُ الْمَصْدَرُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي نَحْوِ: الضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْجُودٌ هُنَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ فِي قَوْلِهِ. أَبَعْلِيَ هَذَا بالرَّحَى المُتَقاعِسُ فَعَلَّقَ: بِالرَّحَى، بِلَفْظِ: الْمُتَقَاعِسِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَيُتَّجَهُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ: كُتِبَ، هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا، وَالْمَعْنَى: تَوَجَّهَ إِيجَابُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مُقْتَضَى كِتَابِهِ إِذَا حَضَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ تَوْجِيهِ الْإِيجَابِ: بكتب، لِيَتَنَظَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْأَزَلِ، وَالْوَصِيَّةُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بكتب، وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ، مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقُولُ: شَكَرْتُ فِعْلَكَ أَنْ جِئْتَنِي إِذَا كَانَ كَذَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَالَ: الْعَامِلُ فِي إِذَا: كُتِبَ، وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا كُتِبَ تَمَحَّضَتْ لِلظَّرْفِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا، ثُمَّ قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَتْ إِذَا شَرْطًا فَالْعَامِلُ فِيهَا إِمَّا الْجَوَابُ، وَإِمَّا الْفِعْلُ بَعْدَهَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْعَامِلِ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، وَيُفَرِّعُ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا.

وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، وَمَا كَانَ مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلْفُوظُ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ هُوَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مرفوع بكتب. وَالزَّمَخْشَرِيُّ يُسَمِّي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَاعِلًا وَهَذَا اصْطِلَاحُهُ، قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْوَصِيَّةُ فَاعِلُ كُتِبَ، وَذُكِّرَ فِعْلُهَا لِلْفَاصِلِ، وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى: أَنْ يُوصِيَ، وَلِذَلِكَ ذُكِّرَ الرَّاجِعُ فِي قَوْلِهِ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ. اه. وَنَبَّهْتُ عَلَى اصْطِلَاحِهِ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا المفعول الذي لم يسم فَاعِلُهُ فَاعِلًا سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ تَرْتَفِعَ الْوَصِيَّةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ، وَالْخَبَرُ إِمَّا مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَعَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ. وَإِمَّا مَنْطُوقٌ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَيْ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ جَوَابًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ: يكتب، مُضْمَرٌ. أَيِ: الْإِيصَاءُ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عطية في هَذَا الْوَجْهِ: وَيَكُونُ هَذَا الْإِيصَاءُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ بَعْدُ، هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَتَرْتَفِعُ الْوَصِيَّةُ بِالِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَحْفَظْهُ وَيَكُونُ رَفْعُهَا بِالِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ. فَعَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، أَوْ بِتَقْدِيرِ الْفَاءِ فَقَطْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ. اه. كَلَامُهُ. وَفِيهِ أَنَّ إِذَا مَعْمُولَةٌ لِلْإِيصَاءِ الْمُقَدَّرِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِبْدَاءُ تَنَاقُضِ ذَلِكَ، لِأَنَّ إِذَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْإِيصَاءِ لَا تَكُونُ شَرْطًا، وَمِنْ حَيْثُ إن الوصية فيه جواب إِذَا يَكُونُ شَرْطًا فَتَنَاقَضَا، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ شَرْطًا وَغَيْرَ شَرْطٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيصَاءُ الْمُقَدَّرُ عَامِلًا فِي إِذَا أَيْضًا لِأَنَّكَ إِمَّا أَنْ تُقَدِّرَ هَذَا الْعَامِلَ فِي: إِذَا، لَفْظَ الْإِيصَاءِ بِحَذْفٍ، أَوْ ضَمِيرَ الْإِيصَاءِ: لَا، جائز أن يقدره لَفْظُ الْإِيصَاءِ حُذِفَ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَدَّرَ لَفْظَ: الْإِيصَاءِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَدِّرَهُ ضَمِيرَ الْإِيصَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِضَمِيرِ الْمَصْدَرِ لَمْ

يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ مِنْ شَرْطِ عَمَلِهِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مُظْهَرًا، وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُ لَفْظِ مضمر المصدر فمنويه أَحْرَى أَنْ لَا يَعْمَلَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ كُلَّ شرط يقتضي جَوَابًا عَلَى حَذْفِهِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ جَوَابًا لِشَرْطَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَيَّدَ سِيبَوَيْهِ. مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَحْفَظُهُ وَهُوَ تَحْرِيفٌ عَلَى سِيبَوَيْهِ، وَإِنَّمَا سِيبَوَيْهِ أَيَّدَهُ فِي كِتَابِهِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِتَقْدِيرِ فَعَلَيْهِ لوصية، أَوْ بِتَقْدِيرِ الْفَاءِ فَقَطْ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَكَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَفَّحْ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَسَأَلْتُهُ، يَعْنِي الْخَلِيلَ، عَنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَأْتِنِي أَنَا كَرِيمٌ، قَالَ: لَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ شَاعِرٌ مِنْ قِبَلِ: أَنَّ أَنَا كَرِيمٌ، يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَالْفَاءُ وَإِذَا لَا يَكُونَانِ إلّا معلقتين بما قبلها، فَكَرِهُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا حَيْثُ لَمْ يُشْبِهِ الْفَاءَ، وَقَدْ قَالَهُ الشَّاعِرُ مُضْطَرًّا، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ السَّابِقَ. مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ ... وَذُكِرَ عَنِ الْأَخْفَشِ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِنَقْلِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي اضْطِرَارٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تُقَامَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ: عَلَيْكُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ، فَنَقُولُ: لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى أَحَدِهِمْ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا تَشَوَّفَ السَّامِعُ لِذِكْرِ الْمَكْتُوبِ مَا هُوَ، فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ مُبْتَدَأً، أَوْ خبرا لمبتدأ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الْمَكْتُوبُ عَلَى أَحَدِنَا إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَتَرَكَ خَيْرًا؟ فَقِيلَ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ، أَوِ: الْمَكْتُوبُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَظِيرُهُ: ضُرِبَ بِسَوْطٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَيْدٌ الْمَضْرُوبُ أَوِ الْمَضْرُوبُ زَيْدٌ، فَيَكُونُ هذا جواب بالسؤال مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنِ الْمَضْرُوبُ؟ وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ، وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ

فَاعِلُهُ الْإِيصَاءَ، وَضَمِيرُ الْإِيصَاءِ، وَالْوَالِدَانِ مَعْرُوفَانِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «1» . وَالْأَقْرَبِينَ جَمْعُ الْأَقْرَبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ دَخَلَ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَأَقْرَبُ مَا إِلَيْهِ الْوَالِدَانِ، فَصَارَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، فَكَأَنَّهُمَا ذُكِرَا مَرَّتَيْنِ: تَوْكِيدًا وَتَخْصِيصًا عَلَى اتِّصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمَا، هَذَا مَدْلُولُ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَعِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: الْأَقْرَبُونَ الْأَوْلَادُ، أَوْ مَنْ عَدَا الْأَوْلَادِ، أَوْ جَمِيعُ الْقَرَابَاتِ، أَوْ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقَارِبِ. أَقْوَالٌ. بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: لَا يُوصِي بِأَزْيَدَ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَا لِلْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأَخَلُّ فَالْأَخَلُّ، أَيِ: الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا حَيْفَ فِيهِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مَوْكُولًا إِلَى اجْتِهَادِ الْمُوصِي، ثُمَّ بُيِّنَ ذَلِكَ وَقُدِّرَ: «بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقِيلَ: بِالْقَصْدِ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ دُونَ إِضْرَارٍ بِالْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ يُوصُونَ بِالْمَالِ كُلِّهِ، وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ مِنْ ماله غير المجهول. وهذا الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى قَدْرِ مَا يُوصَى بِهِ، وَإِلَى تَمْيِيزِ مَنْ يُوصِي لَهُ، وَقَدْ لَخَّصَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفَسَّرَهُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُوصِيَ لِلْغَنِيِّ وَيَدَعَ الْفَقِيرَ، وَلَا يَتَجَاوَزَ الثُّلُثَ، وَتَعَلَّقَ بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ: الْوَصِيَّةُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ بِالْمَعْرُوفِ حَالًا مِنَ الْوَصِيَّةِ. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ انْتَصَبَ: حَقًّا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَهَذَا تَأْبَاهُ الْقَوَاعِدُ النَّحْوِيَّةُ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: عَلَى الْمُتَّقِينَ إِذَنْ يَتَعَلَّقُ عَلَى بِ: حَقًّا، أَوْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ، وَكِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْكِيدِ، أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِهِ فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُؤَكَّدَ لَا يَعْمَلُ إِنَّمَا يَعْمَلُ الْمَصْدَرُ الَّذِي يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ أَوِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي الْأَمْرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الْأَخِيرِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَمَّا جَعْلُهُ صفة: لحقا أَيْ: حَقًّا كَائِنًا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْكِيدِ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَتَخَصَّصُ بِالصِّفَةِ، وَجَوَّزَ الْمُعْرِبُونَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، إِمَّا لِمَصْدَرٍ مِنْ: كتب عليكم،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 83، وسورة النساء: 4/ 36، وسورة الأنعام: 6/ 151 وسورة الإسراء: 17/ 23 والآية المقصودة هنا هي الأولى.

أَيْ: كَتْبًا حَقًّا، وَإِمَّا لمصدر مِنَ الْوَصِيَّةِ أَيْ إِيصَاءً حَقًّا، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أنه منصوب: بالمتقين، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: عَلَى الْمُتَّقِينَ حَقًّا، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا «1» لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ، وَلِتَقَدُّمِهِ عَلَى عَامِلِهِ الْمَوْصُولِ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى: كُتِبَ، لِأَنَّ مَعْنَى: كُتِبَتِ الْوَصِيَّةُ، أَيْ: وَجَبَتْ وَحَقَّتْ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، كَقَوْلِهِمْ: قَعَدْتُ جُلُوسًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كُتِبَ وَحَقًّا، الْوُجُوبُ، إِذْ مَعْنَى ذَلِكَ الْإِلْزَامُ عَلَى الْمُتَّقِينَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ: مَنِ اتَّقَى فِي أُمُورِ الْوَرَثَةِ أَنْ لَا يُسْرِفَ، وَفِي الْأَقْرَبِينَ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجَ، وَقِيلَ: مَنِ اتَّبَعَ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ الْعَامِلِينَ بِالتَّقْوَى قَوْلًا وَفِعْلًا، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ الْمُتَّقِينَ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: مَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَمُخَالَفَةَ الْأَمْرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ يَدُلُّ عَلَى نَدْبِ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى وُجُوبِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَقَالَ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى مَا قَالَ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ: الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الْكُفْرَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ هنا.. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ، أَيْ: فَمَنْ بَدَّلَ الْإِيصَاءَ عَنْ وَجْهِهِ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَالشُّهُودِ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ سَمَاعَ تَحَقُّقٍ وَتَثَبُّتٍ، وَعَوْدُهُ عَلَى الْإِيصَاءِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُرَاعَى فِي الضَّمَائِرِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنِ الْمُؤَنَّثِ الْمَجَازِيِّ، بَلْ يَسْتَوِي الْمُؤَنَّثُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ فِي ذَلِكَ تَقُولُ: هِنْدٌ خَرَجَتْ. وَالشَّمْسُ طَلَعَتْ، وَلَا يَجُوزُ طَلَعَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَالتَّذْكِيرُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى وَارِدٌ فِي لِسَانِهِمْ، وَمِنْهُ: كَخُرْعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ ذهب إلى المعنى: الْقَضِيبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَقَضِيبِ الْبَانَةِ، وَمِنْهُ فِي الْعَكْسِ: جَاءَتْهُ كِتَابِي، فَاحْتَقَرَهَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي سَمِعَهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيصَاءِ كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ، فِي: فَمَنْ بَدَّلَهُ عَائِدَةٌ إِلَى الْفَرْضِ، وَالْحُكْمِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ بَدَّلَ الْأَمْرَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمَنْ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ وَتَكُونُ: مَنْ، عَامَّةً فِي كُلِّ مُبَدِّلٍ: مَنْ رَضِيَ بِغَيْرِ الْوَصِيَّةِ فِي كِتَابَةٍ، أَوْ قِسْمَةِ حُقُوقٍ، أو شاهد بغير

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 4.

شَهَادَةٍ، أَوْ يَكْتُمُهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَمْنَعُ حُصُولَ الْمَالِ وَوُصُولَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وقيل: المراد بمن: مُتَوَلِّي الْإِيصَاءِ دُونَ الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْعَدْلُ وَالْجَنَفُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْإِمْضَاءُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بمن: هُوَ الْمُوصِي، نُهِيَ عَنْ تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَهَا إِلَى الْأَجَانِبِ، فَأُمِرُوا بِصَرْفِهَا إِلَى الْأَقْرَبِينَ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ وَفِي قَوْلِهِ: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ عَائِدًا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَدِّلُ قَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ، وَكَنَّى بِالسَّمَاعِ عَنِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ حُصُولِهِ. فَإِنَّما إِثْمُهُ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيصَاءِ الْمُبَدَّلِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ بَدَّلَهُ، أَيْ: فَإِنَّمَا إِثْمُ التَّبْدِيلِ عَلَى الْمُبَدِّلِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا، فَإِنَّمَا وَبَالُهُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَصَّرَ الْوَصِيُّ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، لَمْ يَلْحَقِ الْمَيِّتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَرَاعَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نسق اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَكَانَ: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ، أَوْ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَيْهِ عَلَى الَّذِي يُبَدِّلُهُ، وَأَتَى فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ بِالظَّاهِرِ مَكَانَ الْمُضْمَرِ لِيُشْعِرَ بِعِلْيَةِ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ التَّبْدِيلُ، وَأَتَى بِصِلَةِ: الَّذِينَ، مُسْتَقْبَلَةً جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ، إِذْ هُوَ مُسْتَقْبَلٌ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِلْمُبَدِّلِينَ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى تَبْدِيلِهِمْ شَرَّ الْجَزَاءِ، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِقَوْلِ الْمُوصِي، عَلِيمٌ بِفِعْلِ الْمُوصَى، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِوَصَايَاهُ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِ. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَجِيئِهِ فِي أَثَرِ ذِكْرِ التَّبْدِيلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَوْفَ هُوَ الْخَشْيَةُ هُنَا، جَرْيًا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ فِي الْخَوْفِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: بِتَوَقُّعِ الجنف أو الإثم من الْمُوصِي. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى: مَنْ خَشِيَ أَنْ يَجْنَفَ الْمُوصِي، وَيَقْطَعَ مِيرَاثَ طَائِفَةٍ، وَيَتَعَمَّدَ الْإِذَايَةَ أَوْ يَأْتِيَهَا دُونَ تَعَمُّدٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَنَفُ دُونَ إِثْمٍ، وَإِذَا تَعَمَّدَ فَهُوَ الْجَنَفُ فِي إِثْمٍ، فَوَعَظَهُ فِي ذَلِكَ وَرَدَّهُ، فَصَلُحَ بِذَلِكَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ عَنِ الْمُوصِي إِذَا عَمِلَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ وَرَجَعَ عَمَّا أَرَادَ مِنَ الْأَذِيَّةِ

رَحِيمٌ بِهِ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِالْخَوْفِ هُنَا: الْعِلْمُ، أَيْ: فَمَنْ عَلِمَ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «1» . وَقَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ. أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَالْعُلْقَةُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالْعِلْمِ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَى الْعِلْمِ الْخَوْفُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ شَيْئًا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِمَّا يُخَافُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ ظَنٍّ مَخْصُوصٍ، وَبَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ مُشَابَهَةٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَلِذَلِكَ صَحَّ إِطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى الْخَوْفِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ خَافَ، أَيْ عَلِمَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنَّ الْمُوصِيَ حَافَ وَجَنَفَ وَتَعَمَّدَ إِذَايَةَ بَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَأَصْلَحَ مَا وَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالشِّقَاقِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَيْ: لَا يَلْحَقُهُ إِثْمُ التَّبْدِيلِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ تَبْدِيلُهَا، وَلَكِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ، وَالتَّبْدِيلُ الَّذِي فِيهِ الْإِثْمُ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلُ الْهَوَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَأَعْطَى بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ في ذلك. وقال طاووس: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي وَصِيَّتِهِ لِغَيْرِ وَرَثَتِهِ بِمَا يَرْجِعُ بَعْضُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَنْ يُوصِيَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكَ الْأَقَارِبَ، فَيَرُدَّ إِلَى الْأَقَارِبِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْإِصْلَاحُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ بِآبَائِهِ وَأَقْرِبَائِهِ جَنَفًا عَلَى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَاقِعٍ، وَأَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ، فَإِنْ كانت

_ (1) سورة البقرة: 2/ 229.

الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً أَمَرَ الْمُوصِي بإصلاحه، وَرَدَّ مِنَ الْجَنَفِ إِلَى النَّصَفِ، وَإِنْ كَانَتْ مَاضِيَةً أَصْلَحَهَا الْمُوصَى إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُوصِيَ لِوَلَدِ ابْنَتِهِ، يَقْصِدُ بِهَا نَفْعَ ابْنَتِهُ، وَهَذَا راجع إلى قول طاووس الْمُتَقَدِّمِ. وَإِذَا فَسَّرْنَا الْخَوْفَ بِالْخَشْيَةِ، فَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي أَمْرٍ مُرْتَبِطٍ وَالْوَصِيَّةُ قَدْ وَقَعَتْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيقُهَا بِالْخَوْفِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُصْلِحَ إِذَا شَاهَدَ الْمُوصِيَ يُوصِي، فَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ أَوِ التَّعَدِّي بِزِيَادَةِ غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ نَقْصِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ عَدَلَ عَنْ مُسْتَحِقٍّ، فَأَصْلَحَ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَمَارَاتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِالْجَنَفِ وَالْإِثْمِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَلِّقَ بِالْخَوْفِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَمْضِ بَعْدُ وَلَمْ تَقَعْ، أَوْ عَلَّقَ بِالْخَوْفِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَنْسَخَهَا أَوْ يُغَيِّرَهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَلَمْ يَصِرِ الْجَنَفُ أَوِ الْإِثْمُ مَعْلُومَيْنِ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ الرُّجُوعِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ أَوْ عَلَّقَ بِالْخَوْفِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ اسْتَقَرَّتْ وَمَاتَ الْمُوصِي، يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ مُصَالَحَةٌ عَلَى وَجْهٍ يَزُولُ بِهِ الْمَيْلُ وَالْخَطَأُ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَنَفُ وَلَا الْإِثْمُ مُسْتَقِرًّا، فَعَلَّقَ بِالْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَمَنْ: شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: فَلَا إِثْمَ عليه: ومِنْ مُوصٍ مُتَعَلِّقٌ، بِخَافَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا مِنْ مُوصٍ، وَتَكُونُ حَالًا، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، كَقَوْلِهِ: جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَلَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا، وَيَكُونُ الْخَائِفُ فِي هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ، لَيْسَ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ، لِتَبْيِينِ جِنْسِ الْخَائِفِ، فَيَكُونُ الْخَائِفُ بَعْضَ الْمُوصِينَ عَلَى حَدِّ، مَنْ جَاءَكَ مِنْ رَجُلٍ فَأَكْرِمْهُ، أَيْ: مَنْ جَاءَكَ مِنَ الرِّجَالِ فَالْجَائِي رَجُلٌ، وَالْخَائِفُ هُنَا مُوصٍ. وَالْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنَ الْمُوصِي جنفا أو إثما من وَرَثَتِهِ وَمَنْ يُوصِي لَهُ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَى الْمُوصِي الْمُصْلِحِ، وَهَذَا مَعْنَى لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُفَسِّرُونَ، إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمُوصِيَ مَخُوفٌ مِنْهُ لَا خَائِفٌ، وَأَنَّ الْجَنَفَ أَوِ الْإِثْمَ مِنَ الْمُوصِي لَا مَنْ وَرَثَتِهِ، وَلَا مَنْ يُوصِي لَهُ. وَأَمَالَ حَمْزَةُ خافَ وَقَرَأَ هُوَ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بكر: موص، من، وصا وَالْبَاقُونَ: مُوصٍ، مِنْ: أَوْصَى، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَفًا، بِالْجِيمِ وَالنُّونِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ: حَيْفًا، بِالْحَاءِ وَالْيَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْجَنَفُ الْجَهَالَةُ بِمَوْضِعِ الْوَصِيَّةِ، وَالْإِثْمُ: الْعُدُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا،

وَقَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَثِمَ فِي إِيثَارِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْجَنَفُ: الْخَطَأُ، وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ. وَأَمَّا الْحَيْفُ فَمَعْنَاهُ: الْبَخْسُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرِيدَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ قال الفراء: تحيف: مال أَيْ: نَقَصَهُ مِنْ حَافَاتِهِ، وَرُوِيَ: مَنْ حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ أُلْقِيَ فِي أَلْوَى، وَأَلْوَى وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، أَوْ عَلَى الْمُوصَى لَهُمَا وَعَلَى الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي سَبَقَتْ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُمْ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ: الْمُوصِي، لَمَّا ذَكَرَ الْمُوصِيَ أَفَادَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ أَنَّ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَداءٌ إِلَيْهِ «1» أَيْ: إِلَى الْعَافِي، لِدَلَالَةِ مَنْ عُفِيَ لَهُ، وَمِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي فَقَالَ: أَيُّهُمَا، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الشَّرِّ، لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ الْخَيْرُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الشَّرِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمُصْلِحَ هُوَ الْوَصِيُّ، وَالْمُشَاهِدُ وَمَنْ يَتَوَلَّى بَعْدَ مَوْتِهِ ذَلِكَ مِنْ وَالٍ، أَوْ وَلِيٍّ، أَوْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَمَنْ خافَ إِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ أَوِ الْإِثْمِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْخَائِفِ بِالْوَصِيِّ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ هَذَا الْإِصْلَاحِ فَبِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، أَوْ كَفٍّ لِلْعُدْوَانِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يَعْنِي: فِي تَبْدِيلِ الْوَصِيَّةِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَالضَّمِيرُ: عَلَيْهِ، عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ: فَأَصْلَحَ، وَضَمِيرُ: خَافَ، وَهُوَ: مَنْ، وَهُوَ: الْخَائِفُ الْمُصْلِحُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ، لَمَّا ذَكَرَ الْمُبَدِّلَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: وَكَانَ هَذَا مِنَ التَّبْدِيلِ بَيَّنَ مُخَالَفَتَهُ لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدَدِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُصْلِحُ يُنْقِصُ الْوَصَايَا، وَذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، أَزَالَ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي، وَصَرَفَ مَالَهُ عَنْ مَنْ أَحَبَّ إِلَى مَنْ يَكْرَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْإِصْلَاحَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِكْثَارِ من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 178.

الْقَوْلِ، وَقَدْ يَتَخَلَّلُهُ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا إِثْمَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ إِذَا خَافَ مَنْ يُرِيدُ الصُّلْحَ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُنَازَعَةِ إِلَى أَمْرٍ مَحْذُورٍ فِي الشَّرْعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قِيلَ: غَفُورٌ لِمَا كَانَ مِنَ الْخَائِفِ، وَقِيلَ: لِلْمُصْلِحِ رَحِيمٌ حَيْثُ رَخَّصَ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لِلْمُوصِي فِيمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْجَنَفِ وَالْخَطَأِ وَالْعَهْدِ وَالْإِثْمِ إِذْ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، رَحِيمٌ لِلْمُصْلِحِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ مُتَجَاوِزٌ عَنْ مَا عَسَى أَنْ يسقط من المصلح ما لَمْ يَجُرْ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ، أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ هُوَ تَوْلِيَةُ الْوُجُوهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا كُلِّفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ، اعْتِقَادًا وَفِعْلًا وَقَوْلًا. فَمِنَ الِاعْتِقَادِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، وَكُتُبِهِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى أيدي الملائكة، وأنبيائه المتقين. تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مِنْ: إِيتَاءِ الْمَالِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ فِي الشَّدَائِدِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَنِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ فَهُوَ الصَّابِرُ الْمُتَّقِي، وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ قَبْلُ مَا حَلَّلَ وَمَا حَرَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَنْ أَخَذَ مَالًا من غير حله، وعده بِالنَّارِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ التَّامِّ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي انْطَوَوْا عَلَيْهَا، أَخَذَ تَعَالَى يَذْكُرُ مَا حَرَّمَ مِنَ الدِّمَاءِ، وَيَسْتَدْعِي صَوْنَهَا، وَكَانَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْمَأْكُولِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِالْأَكْلِ، فَشَرَعَ الْقِصَاصَ، وَلَمْ يُخْرِجْ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْقَتْلُ وَاقْتُصَّ مِنْهُ عَنِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَاهُ قَدْ نَادَاهُ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَفَصَّلَ شَيْئًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ فَقَالَ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى «1» ثُمَّ أَخْبَرَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَفْوٌ مِنَ الْوَلِيِّ عَلَى دِيَةٍ فَلْيَتَّبِعِ الْوَلِيُّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّيَ الْجَانِي بِالْإِحْسَانِ لِيَزْرَعَ بِذَلِكَ الْوُدَّ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْوَلِيِّ، وَيُزِيلَ الْإِحَنَ، لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْعَفْوِ تَسْتَدْعِي عَلَى التآلف والتحاب وُصَفَاءَ الْبَوَاطِنِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْهُ تَعَالَى، إِذْ فِيهِ صَوْنُ نَفْسِ الْقَاتِلِ بِشَيْءٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، إِذْ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ بِمَنْ قَتَلَ، وَكَانَ عَاقِلًا، مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، إِذْ فِي ذلك إتلاف نفس

_ (1) سورة البقرة: 2/ 178.

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 إلى 188]

الْمَقْتُولِ وَإِتْلَافُ نَفْسِ قَاتِلِهِ، فَيَصِيرُ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْقِصَاصِ مُتَحَرِّزًا مِنْ أَنْ يَقْتُلَ فَيُقْتَلَ، فَيُحْيِي بِذَلِكَ مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ وَهُوَ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحَيَاتَيْهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَشْرُوعِيَّةَ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَتَوَعَّدَ مَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَا عَلِمَهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْمُوصَى إِلَيْهِمْ إِذَا كَانَ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا مِنَ الْمُوصِي، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِنَ التَّبْدِيلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ حَاوِيَةً لِمَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ مِنْ بَدْءِ حَالِهِ وَهُوَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَخَتْمِ حَالِهِ وَهُوَ: الْوَصِيَّةُ عِنْدَ مَفَارَقَهِ هَذَا الْوُجُودِ، وَمَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ مِنْ مَبَارِّ الطَّاعَاتِ، وَهَنَاتِ الْمَعَاصِي، مِنْ غَيْرِ اسْتِيعَابٍ لِأَفْرَادِ ذَلِكَ، بَلْ تَنْبِيهًا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَمَا بَعْدَهَا وَعَلَى أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، وَهُوَ: قَتْلُ النَّفْسِ، فَتَعَالَى مَنْ كَلَامُهُ فَصْلٌ، وَحُكْمُهُ عدل. [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 188] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

الصيام والصوم: مصدران لصام، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مُمْسِكٍ صَائِمًا، وَمِنْهُ الصَّوْمُ فِي الْكَلَامِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «1» أَيْ سُكُوتًا فِي الْكَلَامِ، وَصَامَتِ الرِّيحُ: أَمْسَكَتْ عَنِ الْهُبُوبِ، وَالدَّابَّةُ: أَمْسَكَتْ عَنِ الْأَكْلِ وَالْجَرْيِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا أَيْ: مُمْسِكَةٌ عَنِ الْجَرْيِ. وَتُسَمَّى الدَّابَّةُ الَّتِي لَا تَدُورُ: الصَّائِمَةَ، قَالَ الرَّاجِزُ. وَالْبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ وَقَالُوا: صَامَ النَّهَارُ: ثَبَتَ حَرُّهُ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَاشْتَدَّ، وَقَالَ. ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا وَقَالَ: حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ ... وَمَالَ لِلشَّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ وَمَصَامُ النُّجُومِ، إِمْسَاكُهَا عَنِ اليسر وَمِنْهُ. كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامِهَا فَهَذَا مَدْلُولُ الصَّوْمِ مِنَ اللُّغَةِ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهُوَ: إِمْسَاكٌ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَيُبَيَّنُ فِي الْفِقْهِ. الطَّاقَةُ، وَالطَّوْقُ: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، وَيُقَالُ: طَاقَ وَأَطَاقَ كَذَا، أَيِ: اسْتَطَاعَهُ وَقَدَرَ عليه، قال أبو ذنب: فَقُلْتُ لَهُ احْمِلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا ... مُطَبَّعَةٌ مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرُهَا الشَّهْرُ مَصْدَرُ: شَهَرَ الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ، أَظْهَرَهُ وَمِنْهُ الشُّهْرَةُ، وَبِهِ سمي الشهر، وهو:

_ (1) سورة مريم: 19/ 26.

الْمُدَّةُ الزَّمَانِيَّةُ الَّتِي يَكُونُ مبدؤ الْهِلَالِ فِيهَا خَافِيًا إِلَى أَنْ يَسْتَسِرَّ، ثُمَّ يَطْلُعُ خَافِيًا. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ فِي حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِهِمْ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّهْرُ الْهِلَالُ. قَالَ. وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفُرِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبَيَانِهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا بِاسْمِ الْهِلَالِ إِذَا أَهَلَّ سُمِّيَ شَهْرًا، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: رَأَيْتُ الشَّهْرَ أَيْ: هِلَالَهُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ (شعر) . تَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهُوَ نَحِيلُ وَيُقَالُ: أَشْهَرْنَا، أَيْ: أَتَى عَلَيْنَا شَهْرٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ فِعْلًا إِلَّا هَذَا، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: يُقَالُ شَهَرَ الْهِلَالُ إِذَا طَلَعَ، وَيُجْمَعُ الشَّهْرُ قِلَّةً عَلَى: أَفْعُلٍ، وَكَثْرَةً عَلَى: فُعُولٍ، وَهُمَا مَقِيسَانِ فِيهِ. رَمَضَانُ عَلَمٌ عَلَى شَهْرِ الصَّوْمِ، وَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى: رَمَضَانَاتٍ وَأَرْمِضَةٍ، وَعُلْقَةُ هَذَا الِاسْمِ مِنْ مُدَّةٍ كَانَ فِيهَا فِي الرَّمَضِيِّ، وَهُوَ: شدة الحرة، كَمَا سُمِّيَ الشَّهْرُ رَبِيعًا مِنْ مُدَّةِ الرَّبِيعِ، وَجُمَادَى مِنْ مُدَّةِ الْجُمُودِ، وَيُقَالُ: رَمَضَ الصَّائِمُ يَرْمَضُ: احْتَرَقَ جَوْفُهُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَرَمَضَتِ الْفِصَالُ: أَحْرَقَ الرَّمْضَاءُ أَخْفَافَهَا فَبَرَكَتْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَانْزَوَتْ إِلَى ظِلِّ أُمَّهَاتِهَا، وَيُقَالُ: أَرْمَضَتْهُ الرَّمْضَاءُ: أَحْرَقَتْهُ، وَأَرْمَضَنِي الْأَمْرُ. وَقِيلَ: سُمِّيَ رَمَضَانُ لِأَنَّهُ يَرْمَضُ الذُّنُوبَ، أَيْ: يُحْرِقُهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقُلُوبَ تحترمنّ الْمَوْعِظَةِ فِيهِ وَالْفِكْرَةِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مِنْ رَمَضْتُ النَّصْلَ: رَقَّقْتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَرِقَّ، وَمِنْهُ: نَصْلٌ رَمِيضٌ وَمَرْمُوضٌ، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ. وَكَانُوا يَرْمِضُونَ أَسْلِحَتَهُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ لِيُحَارِبُوا بِهَا فِي شَوَّالَ قَبْلَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ الْحَرَامِ، وَكَانَ هَذَا الشَّهْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى: نَاتِقًا أَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ. وفي ناتق أحلت لدى حرمة الْوَغَى ... وَوَلَّتْ عَلَى الْأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الرَّمَضَانُ، مَصْدَرُ رَمِضَ إِذَا احْتَرَقَ مِنَ الرَّمْضَاءِ. انْتَهَى. وَيُحْتَاجُ فِي تَحْقِيقِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ لِأَنَّ فَعَلَانًا لَيْسَ مَصْدَرَ فَعِلَ اللَّازِمِ، بَلْ إِنْ جَاءَ فِيهِ ذَلِكَ كَانَ شَاذًّا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مرتجلا لا مَنْقُولًا. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّمَضِ، وَهُوَ مَطَرٌ يَأْتِي قَبْلَ الْخَرِيفِ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنَ الْغُبَارِ.

الْقُرْآنُ: مَصْدَرُ قَرَأَ قُرْآنًا. قَالَ حَسَّانُ، رَضِيَ اللَّهُ عنه. محوا باسمك عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا أَيْ: وَقِرَاءَةً وَأُطْلِقَ عَلَى مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَارَ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فِي الْأَصْلِ، وَمَعْنَى: قُرْآنٍ، بِالْهَمْزِ: الْجَمْعُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ، كَمَا قِيلَ فِي الْقَرْءِ، وَهُوَ: إِجْمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ أَوَّلًا، لِأَنَّ الْقَارِئَ يُلْقِيهِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مِنْ قَوْلِ العرب: ما قرأن هذه الناقة سلاقط: أَيْ: مَا رَمَتْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ فَالْأَظْهَرُ أن يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النَّقْلِ وَالْحَذْفِ، أَوْ تَكُونَ النُّونُ أَصْلِيَّةً مِنْ: قَرَنْتُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ: ضَمَمْتُهُ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. أَوْ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرَائِعِ كَذَلِكَ، أو ما فيه من الدَّلَائِلِ وَمِنَ الْقَرَائِنِ، لِأَنَّ آيَاتِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَمَنْ زَعَمَ مِنْ: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، أَيْ: جَمَعْتُهُ، فَقَوْلُهُ فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ. السَّفَرُ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَلْقَتْ خِمَارَهَا، وَالْمَصْدَرُ السُّفُورُ. قَالَ الشَّاعِرُ. وَكُنْتُ إِذَا مَا جِئْتُ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ ... فَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاةَ سُفُورُهَا وَتَقُولُ: سَفَرَ الرَّجُلُ أَلْقَى عِمَامَتَهُ، وَأَسْفَرَ الْوَجْهُ، وَالصُّبْحُ أَضَاءَ. الْأَزْهَرِيُّ سُمِّيَ مُسَافِرًا لِكَشْفِ قِنَاعِ الْكِنِّ عَنْ وَجْهِهِ، وَبُرُوزِهِ لِلْأَرْضِ الْفَضَاءِ، وَالسَّفْرُ، بِسُكُونِ الْفَاءِ: الْمُسَافِرُونَ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ: كَالصَّحْبِ وَالرَّكْبِ، وَالسِّفْرُ مِنَ الْكُتُبِ: وَاحِدُ الْأَسْفَارِ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ. الْيُسْرُ: السهولة، يسّر: سهّل، ويسر: سَهَّلَ، وَأَيْسَرَ: اسْتَغْنَى، وَيَسَرَ، مِنَ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ: قِمَارٌ، مَعْرُوفٌ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ: لَا يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا ... وَكُلُّ مَا يَسَرَ الْأَقْوَامُ مَغْرُومُ وَسُمِّيَتِ الْيَدُ الْيُسْرَى تَفَاؤُلًا، أَوْ لِأَنَّهُ يَسْهُلُ بِهَا الْأَمْرُ لِمُعَاوَنَتِهَا الْيُمْنَى. الْعُسْرُ: الصُّعُوبَةُ وَالضِّيقُ، وَمِنْهُ أَعْسَرَ إِعْسَارًا، وَذُو عُسْرَةٍ، أَيْ: ضِيقٍ. الْإِكْمَالُ: الْإِتْمَامُ. وَالْإِجَابَةُ: قَدْ يُرَادُ بِهَا السَّمَاعُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: قَدْ

أَجَبْتُكَ. وَقَالُوا: دَعَا مَنْ لَا يُجِيبُ ، أَيْ: مَنْ لَا يَسْمَعُ، كَمَا أَنَّ السَّمَاعَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِجَابَةُ، وَمِنْهُ: سَمِعَ اللَّهُ مِنْ حَمِدَهُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ قَالَ: دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَنْ لَا ... يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ وَجِهَةُ الْمَجَازِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَالْإِجَابَةُ حَقِيقَةُ إِبْلَاغِ السَّائِلِ مَا دَعَا بِهِ، وَأَجَابَ وَاسْتَجَابَ بمعنى، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، يُقَالُ: جَابَ يَجُوبُ: قَطَعَ، فَكَأَنَّ الْمُجِيبَ اقْتَطَعَ لِلسَّائِلِ مَا سَأَلَ أَنْ يُعْطَاهُ، وَيُقَالُ: أَجَابَتِ السَّمَاءُ بِالْمَطَرِ، وَأَجَابَتِ الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ، كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ فَأَجَابَهُ بِمَا سَأَلَ. قَالَ زُهَيْرٌ. وَغَيْثٍ مِنَ الْوَسْمِيِّ حُلْوٍ بَلَاغُهُ ... أَجَابَتْ رَوَابِيهِ النجا وهواطل الرُّشْدُ: ضِدُّ الْغَيِّ، يُقَالُ: رَشَدَ بِالْفَتْحِ، رُشْدًا، وَرَشِدَ بِالْكَسْرِ رَشَدًا، وَأَرْشَدْتُ فُلَانًا: هَدَيْتُهُ، وَطَرِيقٌ أَرْشَدُ، أَيْ: قَاصِدٌ، وَالْمَرَاشِدُ: مَقَاصِدُ الطَّرِيقِ، وَهُوَ لِرِشْدَةٍ، أَيْ: هُوَ لِحَلَالٍ، وَهُوَ خِلَافُ هُوَ لزنية، وأم راشد: المفازة، وَبَنُو رَشْدَانَ: بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَبَنُو رَاشِدٍ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ. الرَّفَثُ: مَصْدَرُ رَفَثَ، وَيُقَالُ: أَرَفَثَ: تَكَلَّمَ بِالْفُحْشِ. قَالَ الْعَجَّاجُ: وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَغَيْرُهُمَا: الرَّفَثُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا فَقِيلَ لَهُ: أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبِنْيَةَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْهَا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وَقِيلَ: الرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَيُرَيْنَ مِنْ أُنْسِ الْحَدِيثِ زَوَانِيًا ... وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نفار وبقول الآخر. فيأتوا يَرْفُثُونَ وَبَاتَ مِنَّا ... رِجَالٌ فِي سِلَاحِهِمُ رُكُوبَا

وبقول الآخر: فظلنا هناك فِي نِعْمَةٍ ... وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرِ الرَّفَثْ وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْمُقَدِّمَاتِ: كَالْقُبْلَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْمُلَاعَبَةِ. اخْتَانَ: مِنَ الْخِيَانَةِ، يُقَالُ: خَانَ خَوْنًا وَخِيَانَةً، إِذَا لَمْ يَفِ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ، وَتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ: نَقَصْتُهُ، وَمِنْهُ الْخِيَانَةُ، وَهُوَ يَنْقُصُ الْمُؤْتَمَنَ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: بِآرِزَةِ الْفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا ... قِطَافٌ فِي الرِّكَابِ وَلَا خِلَاءُ وَتَخَوَّنَهُ وَتَخَوَّلَهُ: تَعَهَّدَهُ. الْخَيْطُ: مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ وَهُوَ فِيهِ مَقِيسٌ، أَعْنِي فِي فعل الاسم الياء الْعَيْنِ نَحْوَ: بَيْتٍ وَبُيُوتٍ، وَجَيْبٍ وَجُيُوبٍ، وَغَيْبٍ وَغُيُوبٍ، وَعَيْنٍ وَعُيُونٍ، وَالْخَيْطُ، بِكَسْرِ الْخَاءِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّعَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَقَالَ أَلَا هَذَا صُوَارٌ وَعَانَةٌ ... وَخَيْطُ نعام يرتقي متفرق البياض والسوداء: لَوْنَانِ مَعْرُوفَانِ، يُقَالُ مِنْهُمَا: بِيضٌ وَسُودٌ. فَهُوَ أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ، وَلَمْ يُعَلَّ الْعَيْنُ بِالنَّقْلِ وَالْقَلْبِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى مَا يَصِحُّ وَهُمَا: أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ. الْعُكُوفُ: الْإِقَامَةُ، عَكَفَ بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ «1» وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَصِفُ الْجِفَانَ: تَرَى حَوْلَهُنَّ الْمُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ ... عَلَى صَنَمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ: بَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا ... عُكُوفَ الْبَوَاكِيَ بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ وَفِي الشَّرْعِ عبارة عن عكوف مخصوف، وَقَدْ بُيِّنَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. الْحَدُّ: قَالَ اللَّيْثُ: حَدُّ الشَّيْءِ: مُنْتَهَاهُ وَمُنْقَطَعُهُ، وَالْمُرَادُ بِحُدُودِ اللَّهِ مُقَدَّرَاتُهُ بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ. الْإِدْلَاءُ: الْإِرْسَالُ لِلدَّلْوِ، اشْتُقَّ مِنْهُ فِعْلٌ، فَقَالُوا: أَدْلَى دَلْوَهُ، أَيْ: أَرْسَلَهَا لِيَمْلَأَهَا، وَقِيلَ: أَدْلَى فُلَانٌ بِمَالِهِ إِلَى الْحَاكِمِ: رَفَعَهُ. قَالَ:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 138. [.....]

وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ ... بِبَابِ دَارِكَ أَدْلُوهَا بِأَقْوَامِ وَيُقَالُ: أَدْلَى فُلَانٌ بِحُجَّتِهِ: قَامَ بِهَا، وَتَدَلَّى مِنْ كَذَا أَيْ: هَبَطَ. قَالَ: كَتَيْسِ الظِّبَاءِ الْأَعْفَرِ انْضَرَجَتْ لَهُ ... عُقَابٌ تَدَلَّتْ مِنْ شَمَارِيخِ ثَهْلَانِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قبلها أَنَّهُ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَوَّلًا: بِكَتْبِ الْقِصَاصِ وَهُوَ: إِتْلَافُ النُّفُوسِ، وَهُوَ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، فَيَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ إِسْلَامُ نَفْسِهِ لِلْقَتْلِ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِكَتْبِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ: إِخْرَاجُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ عَدِيلُ الرُّوحِ، ثُمَّ انْتَقَلَ ثَالِثًا إِلَى كَتْبِ الصِّيَامِ، وَهُوَ: مُنْهِكٌ لِلْبَدَنِ، مُضْعِفٌ لَهُ، مَانِعٌ وَقَاطِعٌ مَا أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْغِذَاءِ بِالنَّهَارِ، فَابْتِدَاءٌ بِالْأَشَقِّ ثُمَّ بِالْأَشَقِّ بَعْدَهُ، ثُمَّ بالشاق فبهذا انْتِقَالٌ فِيمَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ ذَكَرَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةً: الْإِيمَانَ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، فَأَتَى بِهَذَا الرُّكْنِ الرَّابِعِ، وَهُوَ: الصَّوْمُ. وَبِنَاءُ كُتِبَ لِلْمَفْعُولِ فِي هَذِهِ الْمَكْتُوبَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَحَذْفُ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، إذ هُوَ: اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهَا مَشَاقٌّ صَعْبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا تُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا، وَحِينَ يَكُونُ الْمَكْتُوبُ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ رَاحَةٌ وَاسْتِبْشَارٌ يُبْنَى الْفِعْلُ لِلْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «1» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «2» أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «3» وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ عِلْمِ الْبَيَانِ. أَمَّا بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «4» فَنَاسَبَ لِاسْتِعْصَاءِ الْيَهُودِ وَكَثْرَةِ مُخَالَفَاتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ لِافْتِرَاقِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنَادَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ إِعْلَامِهِمْ بِهَذَا الْمَكْتُوبِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ الصِّيَامُ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى اسْتِمَاعِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِدَاءٍ فِي الْمَكْتُوبِ الثَّانِي لِانْسِلَاكِهِ مَعَ الْأَوَّلِ فِي نِظَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: حُضُورُ الْمَوْتِ بِقِصَاصٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَبَايَنَ هَذَا التَّكْلِيفُ الثَّالِثُ مِنْهَا، وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ التَّرْتِيبِ الْعَرَبِيِّ بِعَكْسِ ذَلِكَ، نَحْوَ: ضُرِبَ زَيْدٌ بِسَوْطٍ، لِأَنَّ مَا احْتِيجَ فِي تَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَيْهِ إِلَى وَاسِطَةٍ دُونَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِذِكْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ من ذكر

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 54. (2) سورة المجادلة: 58/ 21. (3) سورة المجادلة: 58/ 22. (4) سورة المائدة: 5/ 45.

المكتوب لتعلق الكتب لمن نُودِيَ، فَتَعْلَمُ نَفْسُهُ أَوَّلًا أَنَّ الْمُنَادَى هُوَ الْمُكَلَّفُ، فَيَرْتَقِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا كُلِّفَ بِهِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الصِّيَامُ، لِلْعَهْدِ إِنْ كَانَتْ قَدْ سَبَقَتْ تَعَبُّدَاتُهُمْ بِهِ، أَوْ لِلْجِنْسِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَسْبِقْ. وَجَاءَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى فِعَالٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْبِنَائَيْنِ الْكَثِيرَيْنِ فِي مَصْدَرِ هَذَا النَّوْعِ من الفعل، وهو فعل الْوَاوِيُّ الْعَيْنِ، الصَّحِيحُ الْآخِرُ، وَالْبِنَاءَانِ هُمَا فُعُولٌ وَفِعَالٌ، وَعَدَلَ عَنِ الْفُعُولِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ لِاسْتِثْقَالِ الْوَاوَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ على الأصل: كالفؤور، وَلِثِقَلِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ هَمَزَ بعضهم فقال: الفؤور. كَما كُتِبَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ، أَيْ: كَتْبًا مِثْلَ مَا كُتِبَ أَوْ كَتَبَهُ، أَيِ: الْكَتْبُ مِنْهَا كَتْبٌ، وَتَكُونُ السَّبَبِيَّةُ قَدْ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الْكَتْبِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلَّقُهُ مُخْتَلِفًا بِالْعَدَدِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَطَاءٍ، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَا مَصْدَرِيَّةً. وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الصِّيَامِ، أَيْ: مُشْبِهًا مَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَتَكُونُ مَا مَوْصُولَةً أَيْ: مُشَبِهًا الَّذِي كُتِبَ عَلَيْكُمْ، وَذُو الْحَالِ هُوَ: الصِّيَامُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِيهِ، وَهُوَ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِصَوْمٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: صَوْمًا كَمَا، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّوْمِ بِالْكِتَابَةِ لَا يَصِحُّ، هَذَا إِنْ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً فَفِيهِ أَيْضًا بُعْدٌ، لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّوْمِ بِالْمَصُومِ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ. وَأَجَازَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: الصِّيَامُ، قَالَ: إِذْ لَيْسَ تَعْرِيفُهُ بِمُسْتَحْسَنٍ لِمَكَانِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِيهِ مِمَّا فَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ، فَلِذَلِكَ جَازَ نَعْتُهُ بِكَمَا، إِذْ لَا يُنْعَتُ بِهَا إِلَّا النَّكِرَاتُ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ هَدْمٌ لِلْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ مِنْ وُجُوبِ تَوَافُقِ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا كَانَتْ جِنْسِيَّةً جَازَ أَنْ يُوصَفَ مَصْحُوبُهَا بِالْجُمْلَةِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَدْمِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ، وَتَلَخَّصَ فِي: مَا، مِنْ

_ (1) سورة يس: 36/ 37.

قَوْلِهِ: كَمَا، وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، بِمَعْنَى. الَّذِي. عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: ظَاهِرُهُ عُمُومِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ مِنْ آدَمَ إِلَى زَمَانِنَا. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَوَّلُهُمْ آدَمُ، فَلَمْ يَفْتَرِضْهَا عَلَيْكُمْ ، يَعْنِي: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ قَدِيمَةٌ أَصْلِيَّةٌ مَا أَخْلَى اللَّهُ أُمَّةً مِنَ افْتِرَاضِهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْتَرِضْهَا عَلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا هُمُ النَّصَارَى. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْمَصُومُ مُعَيَّنٌ وَهُوَ رَمَضَانُ فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمُ النَّصَارَى، احْتَاطُوا لَهُ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ قَبْلَهُ وَيَوْمٍ بَعْدَهُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ حَتَّى بَلَّغُوهُ خَمْسِينَ يَوْمًا، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَرِّ، فَنَقَلُوهُ إِلَى الْفَصْلِ الشَّمْسِيِّ. قَالَ النَّقَّاشُ: وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ دَغْفَلٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: بَلْ مَرِضَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ، فنذر إن برىء أَنْ يَزِيدَ فِيهِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ آخَرُ سَبْعَةً، ثُمَّ آخَرُ ثَلَاثَةً، وَرَأَوْا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ حَسَنَةٌ بِإِزَاءِ الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ. وَقِيلَ: كَانَ النَّصَارَى أَوَّلًا يَصُومُونَ، فَإِذَا أَفْطَرُوا فَلَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يطؤون إِذَا نَامُوا، ثُمَّ انْتَبَهُوا فِي اللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بِسَبَبِ عُمَرَ، وَقَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا، وَالرَّبِيعُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. قِيلَ: وَكَذَا كَانَ صَوْمُ الْيَهُودِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا: هُمُ الْيَهُودُ خَاصَّةً، فُرِضَ عَلَيْنَا كَمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ. قَالَ الرَّاغِبُ: لِلصَّوْمِ فَائِدَتَانِ رِيَاضَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَنْ مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى قَدْرِ الْوُسْعِ. انْتَهَى. وَحِكْمَةُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ شَاقَّةٌ، فَإِذَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ سَهُلَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ. تَتَّقُونَ الظَّاهِرُ: تَعَلُّقُ، لَعَلَّ بكتب، أَيْ: سَبَبُ فَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ هُوَ رَجَاءُ حُصُولِ التَّقْوَى لَكُمْ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى تَدْخُلُونَ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الصَّوْمَ شِعَارُهُمْ، وَقِيلَ: تَجْعَلُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّارِ وِقَايَةً بِتَرْكِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ الصَّوْمَ لِإِضْعَافِ الشَّهْوَةِ وَرَدْعِهَا، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ» .

وَقِيلَ: تَتَّقُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الصَّوْمِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: تَتَّقُونَ الْمَعَاصِيَ، لِأَنَّ الصَّوْمَ يكف عن كثير ما تَشَوَّقُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: تَتَّقُونَ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَهَذَا رَاجِعٌ لِقَوْلِ السُّدِّيِّ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ إِنْ كَانَ مَا فُرِضَ صَوْمُهُ هُنَا هُوَ رَمَضَانُ، فَيَكُونُ قوله أياما معدودات عني بِهِ رَمَضَانُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَوَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: مَعْدُودَاتٍ، تَسْهِيلًا عَلَى الْمُكَلَّفِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ يَحْصُرُهَا الْعَدُّ لَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَّ، وَلِهَذَا وَقَعَ الِاسْتِعْمَالُ بِالْمَعْدُودِ كِنَايَةً عَلَى الْقَلَائِلِ، كَقَوْلِهِ: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ «1» لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «2» وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ «3» . وَإِنْ كَانَ مَا فُرِضَ صَوْمُهُ هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَقِيلَ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَفْرُوضًا عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، فَيَكُونُ قوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ عني بِهَا هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: هِيَ الْأَيَّامُ البيض، وقيل: وهي: الثَّانِي عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَقِيلَ: الثَّالِثَ عَشَرَ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ. «إِنَّ الْبِيضَ هِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ» فَإِنْ صَحَّ لَمْ يُمْكِنْ خِلَافُهُ. وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَاجِبًا، وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَصَامُوا كَذَلِكَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ نُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَمْرُ الْقِبْلَةِ، وَالصَّوْمُ، وَيُقَالُ: نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وَأَيَّامٍ، وَقِيلَ: كَانَ صَوْمُ تِلْكَ الْأَيَّامِ تَطَوُّعًا، ثُمَّ فُرِضَ، ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ المرسي في (ري الظمآن) : احْتَجَّ مَنْ قَالَ أَنَّهَا غَيْرُ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَوْمًا آخَرَ كَانَ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ ذكر حكمها فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الصَّوْمُ هُوَ صَوْمَ رَمَضَانَ لَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِدْيَةٌ يَدُلُّ عَلَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 203. (2) سورة البقرة: 2/ 80. (3) سورة يوسف: 12/ 20.

التَّخْيِيرِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ، فَكَانَ غَيْرَهُ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ: شَهْرُ رَمَضَانَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ يَحْتَمِلُ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى رَمَضَانَ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِثْبَاتِ النَّسْخِ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَسْخِ كُلِّ صَوْمٍ وَجَبَ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ يَكُونَ نَاسِخًا لِصِيَامٍ وَجَبَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْرَارِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ إِفْطَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ فِي الْمُقِيمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، فَلَمَّا نُسِخَ عَنِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَأُلْزِمَ الصَّوْمَ، كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ نَظُنَّ أَنَّ حُكْمَ الصَّوْمِ، لَمَّا انْتَقَلَ إِلَى التَّخْيِيرِ عَنِ التَّضْيِيقِ، يَعُمُّ الْكُلَّ حَتَّى يَكُونَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ مِنْ حَيْثُ تَغَيُّرُ الْحُكْمِ في الصوم، لما بَيَّنَ أَنَّ حَالَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ كَحَالِهِمَا أَوَّلًا، فَهَذِهِ فَائِدَةُ الْإِعَادَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِدْيَةٌ يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ إِلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، ثُمَّ صَارَ مُعَيَّنًا. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنَ النَّسْخِ فِي الْآيَةِ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدُ تَدُلُّ عَلَى التَّضْيِيقِ، فَكَانَتْ نَاسِخَةً لَهَا، وَالِاتِّصَالُ فِي التِّلَاوَةِ لَا يُوجِبُ الِاتِّصَالَ فِي النُّزُولِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ: أَيَّاماً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: صُومُوا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: الصِّيَامُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، إِذْ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، قَالَ: وَانْتِصَابُ أَيَّامًا بِالصِّيَامِ كَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ- انْتَهَى كَلَامُهُ- وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ مِنْ صِلَتِهِ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَما كُتِبَ فَكَمَا كُتِبَ لَيْسَ لِمَعْمُولِ الْمَصْدَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْمُولٌ لِغَيْرِهِ عَلَى أَيِّ تَقْدِيرٍ قَدَّرْتَهُ مِنْ كَوْنِهِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَوْ فَرَّعْتَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلصِّيَامِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّ تَعْرِيفَ الصِّيَامِ جِنْسٌ، فَيُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ ذِكْرِ مَعْمُولِهِ لَمْ يَجُزْ إِعْمَالُهُ، فَإِنْ قَدَّرْتَ الْكَافَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مِنَ الصِّيَامِ، كَمَا قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَضَعَّفْنَاهُ قَبْلُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: صَوْمًا كَمَا كُتِبَ، جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِي: أَيَّامًا، الصِّيَامُ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ الْعَامِلُ فِي: صَوْمًا، هُوَ الْمَصْدَرُ، فَلَا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِمَا لَيْسَ لِمَعْمُولٍ لِلْمَصْدَرِ، وَأَجَازُوا أَيْضًا انْتِصَابَ: أَيَّامًا، عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ كُتِبَ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى السَّعَةِ ثَانِيًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ كُتِبَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْفَرَّاءُ، وَالْحَوْفِيُّ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ.

أَمَّا النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ فَإِنَّهُ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ وَاقِعَةً فِي الْأَيَّامِ، لَكِنَّ مُتَعَلَّقَهَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْأَيَّامِ، فَلَوْ قَالَ الإنسان لوالده وَكَانَ وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: سَرَّنِي وِلَادَتُكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَمْ يَكُنْ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَعْمُولًا لَسَرَّنِي، لِأَنَّ، السُّرُورَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلسُّرُورِ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ اتِّسَاعًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِهِ ظَرْفًا لِكُتِبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ. وَالصَّوْمُ: نَفْلٌ وَوَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ مُعَيَّنُ الزَّمَانِ، وَهُوَ: صَوْمُ رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ، وَمَا هُوَ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ: قَضَاءُ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، وَصَوْمُ الْكَفَّارَةِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِهَا. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرَ الْمُعَيَّنَ، وَالنَّفْلَ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَبِنِيَّةٍ إِلَى الزَّوَالِ، وَقَضَاءَ رَمَضَانَ، وَصَوْمَ الْكَفَّارَةِ، ولا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ خَاصَّةً. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى الْمَشْهُورِ: أَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَاجِبٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ نِيَّةً وَاحِدَةً تَكْفِي عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا فَأَمْسَكَ فَهُوَ صَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ أَوْ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا تَعَيَّنَ زَمَانُهُ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، وَالْمُسَافِرُ إِذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَقَعَ عَمَّا نَوَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، فَلَوْ نَوَى هُوَ أَوِ الْمَرِيضُ التَّطَوُّعَ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: يَقَعُ التَّطَوُّعُ، وَإِذَا صَامَ الْمُسَافِرُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ، قَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ النَّفْلُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَلَوْ أَوْجَبَ صَوْمَ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ عَنِ التَّطَوُّعِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ عَلَى الْمَنْذُورِ، وَلَوْ صَامَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ وَقَعَ عَنْ مَا نَوَى، وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَمُحَمَّدٌ قَالَ: عَنِ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَانَ عَلَى الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقَعُ عَلَى النَّفْلِ، وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ صَوْمُهُ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اعْتِبَارُ مُطْلَقِ الْمَرَضِ بِحَيْثُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالْبُخَارِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الَّذِي يُؤْلِمُ، وَيُؤْذِي، وَيُخَافُ تَمَادِيهِ، وَتَزَيُّدُهُ وَسُمِعَ مِنْ لَفْظِ مَالِكٍ: أَنَّهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ وَيَبْلُغُ بِهِ التَّلَفَ إِذَا صَامَ، وَقَالَ مَرَّةً: شِدَّةُ الْمَرَضِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: إِذَا لَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْمَرَضِ عَلَى الصِّيَامِ أَفْطَرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْطِرُ إِلَّا مَنْ دَعَتْهُ ضَرُورَةُ الْمَرَضِ إِلَيْهِ، وَمَتَى احْتَمَلَ الصَّوْمُ مَعَ الْمَرَضِ لَمْ يُفْطِرْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ خَافَ إِنْ تَزْدَادَ عَيْنُهُ وَجَعًا أَوْ حُمًّى شَدِيدَةً أَفْطَرَ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ اعْتِبَارُ مُطْلَقِ السَّفَرِ زَمَانًا وَقَصْدًا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي تُبِيحُ الْفِطْرَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يُفْطِرَانِ وَيَقْصُرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ ثَلَاثٌ، وَالْمُعْتَبَرُ السَّيْرُ الْوَسَطُ لَا غَيْرُهُ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَالْإِبْطَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَسَافَةُ الْفِطْرِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَقَالَ مَرَّةً: اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَمَرَّةً سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَفِي الْمَذْهَبِ: ثَلَاثُونَ مِيلًا، وَفِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَفَرَ الطَّاعَةِ مِنْ جِهَادٍ وَحَجٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَطَلَبِ مَعَاشٍ ضَرُورِيٍّ مُبِيحٌ. فَأَمَّا سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْمُبَاحُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ بِالْإِجَازَةِ أَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ سَفَرُ الْمَعَاصِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَرْجَحُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ فِي رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبَيِّتَ الْفِطْرَ، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُؤَمِّلِ السَّفَرِ أَنْ يُفْطِرَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، فَإِنْ أَفْطَرَ فَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَلْزَمْهُ شَيْءٌ سَافَرَ، أَوْ لَمْ يُسَافِرْ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ سَافَرَ، أَوْ لَمْ يُسَافِرْ، وَقَالَ عِيسَى، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا قَضَاءُ يَوْمِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ أَفْطَرَ وَقَدْ أَرَادَ السَّفَرَ، وَلَبِسَ ثِيَابَ السفر، ورجل دَابَّتَهُ، فَأَكَلَ ثُمَّ رَكِبَ. وَقَالَ الْحَسَنُ يُفْطِرُ إِنْ شَاءَ فِي بَيْتِهِ يَوْمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا بَرَزَ عَنِ الْبُيُوتِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا بَلْ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرَّحْلِ. وَمَنْ أَصْبَحَ صَحِيحًا ثُمَّ اعْتَلَّ أَفْطَرَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَلَوْ أَصْبَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ فَلَهُ أَنْ

يُفْطِرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَقِيلَ: لَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ نَهَضَ فِي سَفَرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ أَفْطَرَ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ قَالَ: يَقْضِي وَلَا يُكَفِّرُ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: يَقْضِي وَيَكَفِّرُ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عبد البر: لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ عَلى سَفَرٍ إِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ، وَلَوْ كَانَ بَيَّتَ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَمَوْضِعُ أَوْ عَلى سَفَرٍ، نَصْبٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى خَبَرِ: كَانَ، وَمَعْنَى: أَوْ، هُنَا التَّنْوِيعُ، وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وهو: أو مسافر إِلَى، أَوْ عَلَى سَفَرٍ، إِشْعَارًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى السَّفَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِيَارِ لِلْمُسَافِرِ، بِخِلَافِ الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْإِنْسَانَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَهُوَ قَهْرِيٌّ، بِخِلَافِ السَّفَرِ فَكَأَنَّ السَّفَرَ مَرْكُوبُ الْإِنْسَانِ يَسْتَعْلِي عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى طَرِيقٍ، وَرَاكِبُ طَرِيقٍ إِشْعَارًا بِالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مُسْتَوْلٍ عَلَى السَّفَرِ مُخْتَارٌ لِرُكُوبِ الطَّرِيقِ فِيهِ. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِرَفْعُ عِدَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، وَقَدَّرَ: قَبْلُ، أَيْ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ وَبَعْدُ أَيْ: أَمْثَلُ لَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي: فَالْوَاجِبُ، أَوْ: فَالْحُكْمُ عِدَّةٌ. وقرىء: فَعِدَّةً، بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: فَلْيَصُمْ عِدَّةً، وَعِدَّةٌ هُنَا بِمَعْنَى مَعْدُودٍ، كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَصَوْمُ عِدَّةِ مَا أَفْطَرَ، وَبَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ مَحْذُوفٌ بِهِ يصح الكلام، التقدير: فافطر فعدة، ونظير فِي الْحَذْفِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «1» أَيْ: فضرب فانفلق. ونكر فَعِدَّةٌ وَلَمْ يَقُلْ: فَعِدَّتُهَا، أَيْ: فعدة

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 63.

الْأَيَّامِ الَّتِي أُفْطِرَتِ اجْتِزَاءً، إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِدَّةٌ غَيْرُ مَا أَفْطَرَ فِيهِ مِمَّا صَامَهُ، وَالْعِدَّةُ هِيَ الْمَعْدُودُ، فكان التنكير أخصر ومِنْ أَيَّامٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَعِدَّةٌ، وَأُخَرَ: صِفَةٌ لِأَيَّامٍ، وَصِفَةُ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ وَتَارَةً يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ جَمْعِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1» وَمِنَ الثَّانِي: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ «2» فمعدودات: جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ. وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ، إِنَّمَا تَقُولُ: مَعْدُودٌ، لِأَنَّهُ مُذَكَّرٌ، لَكِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي جَمْعِهِ، وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُوصَفَ الْأَيَّامُ بِوَصْفِ الْوَاحِدَةِ المؤنث، فَكَانَ، يَكُونُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَصِيحًا كَالْوَصْفِ بِأُخَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ فَعِدَّةٌ، فَلَا يُدْرَى أَهُوَ وَصْفٌ لِعِدَّةٍ، أَمْ لِأَيَّامٍ، وَذَلِكَ لِخَفَاءِ الْإِعْرَابِ لِكَوْنِهِ مَقْصُورًا، بِخِلَافِ: أُخَرَ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ صِفَةٌ لِأَيَّامٍ لِاخْتِلَافِ إِعْرَابِهِ مَعَ إِعْرَابِ فَعِدَّةٌ، أَفَلَا يَنْصَرِفُ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَهِيَ جَمْعُ أُخْرَى مُقَابِلَةُ أُخَرَ؟ وآخر مقابل أخريين؟ لَا جَمْعُ أُخْرَى لِمَعْنَى أُخْرَةٍ، مُقَابِلَةُ الْأُخَرِ الْمُقَابِلِ لِلْأُوَلِ، فَإِنَّ أُخَرَ تَأْنِيثُ أُخْرَى لِمَعْنَى أُخْرَةٍ مَصْرُوفَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَا حُكْمًا وَمَدْلُولًا. أَمَّا اخْتِلَافُ الْحُكْمِ فَلِأَنَّ تِلْكَ غَيْرُ مَصْرُوفَةٍ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَدْلُولِ: فَلِأَنَّ مَدْلُولَ أُخْرَى، الَّتِي جَمْعُهَا أُخَرُ التي لا تتصرف، مَدْلُولُ: غَيْرٍ، وَمَدْلُولَ أُخْرَى الَّتِي جَمْعُهَا يَنْصَرِفُ مَدْلُولُ: مُتَأَخِّرَةٍ، وَهِيَ قَابِلَةُ الْأُولَى. قَالَ تَعَالَى: قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ» فَهِيَ بِمَعْنَى: الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى «4» وَأُخَرُ الَّذِي مُؤَنَّثُهُ: أُخْرَى مُفْرَدُهُ آخر التي لا تتصرف بِمَعْنَى: غَيْرٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّصَلَ بِهِ إِلَّا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلُهُ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَ وَبِرَجُلٍ آخَرَ، وَلَا يَجُوزُ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الْفَرَسَ وَحِمَارًا آخَرَ، لِأَنَّ الْحِمَارَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْفَرَسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمَانُ وَابْنَتِهَا ... لَيْلَى، وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ فَإِنَّهُ جَعَلَ: ابْنَتَهَا جَارَةً لَهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ أُخْرَى فِي كِتَابِنَا (التَّكْمِيلِ) . قَالُوا: وَاتَّفَقَتِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ، وَأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِذَا صَامَ، لِأَنَّهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَا، قَدَّرُوا حَذْفًا فِي الْآيَةِ، والأصل:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 80. (2) سورة آل عمران: 3/ 24. (3) سورة الأعراف: 7/ 39. (4) سورة الليل: 92/ 13.

أَنْ لَا حَذْفَ، فَيَكُونُ الظاهر أن الله تعالى أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَلَوْ صَامَا لَمْ يُجْزِهِمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا صَوْمُ عِدَّةِ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْأَيَّامِ الْوَاجِبِ صَوْمُهَا عَلَى غَيْرِهِمَا. قَالُوا: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ شَوَاذٌّ مِنَ النَّاسِ، وَنَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ عَزِيمَةٌ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ، وَقَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَفَرَّقَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَقَالَ، فِيمَا لَخَّصْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِ (الْأَنْوَارِ الْأَجْلَى فِي اخْتِصَارِ الْمُحَلَّى) مَا نَصُّهُ: وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَافَرَ وَلَوْ عَاصِيًا مِيلًا فَصَاعِدًا الْفِطْرُ إِذَا فَارَقَ الْبُيُوتَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلْيُفْطِرِ الْمَرِيضُ وَيَقْضِيَ بَعْدُ، ويكره صومه ويجزى، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَثَبَتَ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ فِي السَّفَرِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْمُحَنَّقِ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ إِبَاحَةَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، بِقَوْلِهِ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ وَقَدْ قَالَ: أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ: فَأَفْطِرْ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ وَأَنْ يَصُومَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُمَا: إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ وَنَحْنُ جِيَاعٌ نَرُوحُ إِلَى جُوعٍ، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمَا: أَيْسَرُهُمَا أَفْضَلُهُمَا. وَكَرِهَ ابْنُ حَنْبَلٍ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ، وَلَوْ صَامَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَزَادَ اللَّيْثُ: وَالْكَفَّارَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَانِ.

وَلَوْ أَفْطَرَ مُسَافِرٌ ثُمَّ قَدِمَ مِنْ يَوْمِهِ، أَوْ حَائِضٌ ثُمَّ طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَأْكُلَانِ وَلَا يُمْسِكَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يُمْسِكَانِ بَقِيَّةَ يومهما. عَنْ مَا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فِي الْمُسَافِرِ: يُمْسِكُ وَيَقْضِي، وَفِي الْحَائِضِ: إِنْ طَهُرَتْ تَأْكُلُ.. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عِدَّةُ مَا أَفْطَرَ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، قَضَى تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا بِشَهْرٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ عَدَدِ الْأَيَّامِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْضِي بِالْأَهِلَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ ثَلَاثِينَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَخِلَافُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ مَا أَفْطَرَ فِيهِ بَعْضَ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْعَدَدِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءُ جَمِيعِهِ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أنه لا يلزم التَّتَابُعُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ: أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْقَضَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ثَانِيَ شَوَّالٍ، فَلَوْ لَمْ يَصُمْهُ ثُمَّ مَاتَ أَثِمَ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ، إِلَّا فِي شَعْبَانَ لِشُغْلٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ: مَنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَضَاءُ فَقَطْ عَنِ الْأَوَّلِ، وَيَصُومُ الثَّانِي. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي رُوِيَ وُجُوبُ الْإِطْعَامِ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِذَا فَرَّطَ فِي رَمَضَانَ الْأَوَّلِ، وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ مُدًّا مِنْ بُرٍّ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ الثَّانِيَ. وَمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو

عُبَيْدٍ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: يُصَامُ عَنْهُ، وَخَصَّصُوهُ بِالنَّذْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يُطْعَمُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُطِيقُونَهُ مُضَارِعُ أَطَاقَ، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ يُطْوِقُونَهُ مِنْ أَطْوَقَ، كَقَوْلِهِمْ أَطْوَلَ فِي أَطَالَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَصِحَّةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي هَذَا النَّحْوِ شَاذَّةٌ مِنَ الْوَاوِ وَمِنَ الْيَاءِ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْهُ: أَجْوَدُ، وَأَعْوَلُ، وَأَطْوَلُ. وَأَغْيَمَتِ السَّمَاءُ، وَأَخْيَلَتْ، وَأَغْيَلَتِ الْمَرْأَةُ وَأَطْيَبُ، وَقَدْ جَاءَ الْإِعْلَالُ فِي جَمِيعِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالتَّصْحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا شَاذٌّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، إِلَّا أَبَا زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ فَإِنَّهُ يَرَى التَّصْحِيحَ فِي ذَلِكَ مَقِيسًا اعْتِبَارًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ النَّزْرَةِ الْمَسْمُوعِ فِيهَا الاعتلال وَالنَّقْلُ عَلَى الْقِيَاسِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: يُطَوَّقُونَهُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ طَوَّقَ عَلَى وَزْنِ قَطَّعَ. وَقَرَأَتْ عائشة، ومجاهد، وطاووس، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: يَطَّوَّقُونَهُ مِنَ اطَّوَّقَ، وَأَصْلُهُ تَطَوَّقَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ، ثُمَّ أَدْغَمُوا التَّاءَ فِي الطَّاءِ، فَاجْتَلَبُوا فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ هَمْزَةَ الْوَصْلِ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ، خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَهَا قِرَاءَةً، وَالَّذِي قَالَهُ النَّاسُ خِلَافُ مَقَالَةِ هَذَا الْقَائِلِ، وَأَوْرَدَهَا قِرَاءَةً. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ، مِنْهُمْ عِكْرِمَةُ: يَطِيقُونَهُ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ عباس، وقرىء أَيْضًا هَكَذَا لَكِنْ بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارِعِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ: هِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّوْقِ. قَالُوا: وَلَازِمَةٌ فِيهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْيَاءِ فِي هَذَا الْمِثَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْدِيدُ الْيَاءِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا ضَعُفَ هَذَا، أَوِ امْتَنَعَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ، فَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ عَلَى وَزْنِ: تَفْعِيلٌ مِنَ الطَّوْقِ، كَقَوْلِهِمْ: تُدِيرُ الْمَكَانَ وَمَا بِهَا دَيَّارُ، فَأَصْلُهُ: تُطْيِوْقُونَ، اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ، وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الْيَاءُ، فَقِيلَ: تَطَيَّقَ يَتَطَيَّقُ، فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ تَوْجِيهٌ نَحْوِيٌّ وَاضِحٌ. فَهَذِهِ ست قرآت يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَالْمَبْنِيُّ مِنْهَا لِلْفَاعِلِ ظَاهِرٌ، وَالْمَبْنِيُّ مِنْهَا لِلْمَفْعُولِ مَعْنَاهُ: يُجْعَلُ مُطِيقًا لِذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ تَشْدِيدِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنَى التَّكْلِيفِ، أَيْ: يَتَكَلَّفُونَهُ أَوْ يُكَلَّفُونَهُ، وَمَجَازُهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّوْقِ بِمَعْنَى الْقِلَادَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مُقَلَّدُونَ ذَلِكَ، أَيْ: يُجْعَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ التَّكْلِيفِ، أَيْ: يَشُقُّ

عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ حَمَلَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الصَّوْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَالضَّحَّاكُ: كَانَ الصِّيَامُ عَلَى الْمُقِيمِينَ الْقَادِرِينَ مُخَيَّرًا فِيهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُطِيقُونَهُ، أَوِ الصَّوْمَ، لِكَوْنِهِمْ كَانُوا شَبَابًا ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ بِالشَّيْخُوخَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ، وَهُوَ بِصِفَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّوْمَ، فَخُيِّرَ هَذَا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ فَزَالَتِ الرُّخْصَةُ إِلَّا لِمَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ: لَا، مَحْذُوفَةً، فَيَكُونَ الْفِعْلُ مَنْفِيًّا، وَقَدَّرَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: حَذَفَ: لَا، وَهِيَ مُرَادَةٌ. قَالَ ابْنُ أَحْمَدَ. آلَيْتُ أَمْدَحُ مُقْرِفًا أَبَدًا ... يَبْقَى الْمَدِيحُ وَيَذْهَبُ الرَّفْدُ وَقَالَ الْآخَرُ: فَخَالِفْ، فَلَا وَاللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ... مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْتَ لِلذُّلِّ عَارِفُ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي وَتَقْدِيرُ: لَا، خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَكَانُ إِلْبَاسٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الْفَهْمُ، هُوَ: أَنَّ الْفِعْلَ مُثْبَتٌ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ: لَا، وَإِرَادَتُهَا إِلَّا فِي الْقَسَمِ، وَالْأَبْيَاتُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا هِيَ مِنْ بَابِ الْقَسَمِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الْمُرَادُ: الشَّيْخُ الْهَرِمُ، وَالْعَجُوزُ، أَيْ: يُطِيقُونَهُ بِتَكَلُّفٍ شَدِيدٍ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُمُ الْفِطْرَ وَالْفِدْيَةَ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ تَوْجِيهُ مَنْ وَجَّهَ: يُطَوَّقُونَهُ، عَلَى مَعْنَى: يَتَكَلَّفُونَ صَوْمَهُ وَيَتَجَشَّمُونَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْعَجُوزِ الْهَرِمَةِ وَزَيْدٌ عَنْ عَلِيٍّ: وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ ، وَالْآيَةُ عِنْدَ مَالِكٍ إِنَّمَا هِيَ فِي مَنْ يُدْرِكُهُ رَمَضَانُ وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ الْمُتَقَدِّمِ، فَقَدْ كَانَ يُطِيقُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الصَّوْمَ، فَتَرَكَهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.

وَقَالَ الْأَصَمُّ: يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ لَهُمَا حَالَيْنِ: حَالٌ لَا يُطِيقَانِ فِيهِ الصَّوْمَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهَا فِي قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَحَالٌ يُطِيقَانِ، وَهِيَ حَالَةُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ الَّذَيْنِ لَا يَلْحَقُ بِهِمَا جَهْدٌ شَدِيدٌ لَوْ صَامَا، فَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فَرْضَ الصِّيَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَسَمَهُمْ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُتَّصِفٌ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، فَجَعَلَ حُكْمَ هَذَا أَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَمُطِيقٌ لِلصَّوْمِ، فَإِنْ صَامَ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَدَى: ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الثَّانِي، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا كَانَ، ثُمَّ نُسِخَ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هُمُ الشُّيُوخُ وَالْعُجَّزُ، تَكُونُ الْآيَةُ مُحْكَمَةً عَلَى قَوْلِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِهَؤُلَاءِ، وَقِيلَ: يَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرِمَ إِذَا أَفْطَرَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا الْإِجْمَاعُ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَرَى الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الضَّعِيفِ وَاجِبَةً، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرَأْيُهُ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، الْفِدْيَةُ، لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُمَا، وَقِيَاسًا عَلَى الشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَالْقَضَاءُ. وَرُوِيَ فِي الْبُوَيْطِيُّ: لَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَأَبْطَلَ الْقِيَاسَ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرِمِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا. قَالَ: فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ مَعَ الْقَضَاءِ كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: الْفِدْيَةُ بِلَا قَضَاءٍ ، وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ تُفْطِرُ وَتَفْدِي وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا أَفْطَرَتْ تَقْضِي، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهَا تَقْضِي وَتَفْدِي. وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الْمُرْضِعُ فَتَقَدَّمَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا إِذَا أَفْطَرَتْ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ تَقْضِي وَتَفْدِي. وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا إِطْعَامَ عَلَى الْمُرْضِعِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُطْعِمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ

مُحَمَّدٍ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ. يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَصَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: عَشَاءٌ وَسَحُورٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: قُوتُ يَوْمٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ، يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ، مِنْ بُرٍّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَيْسِ بْنِ الْكَاتِبِ- الَّذِي كَانَ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَعَائِشَةِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ: أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ مُطْلَقُ طَعَامٍ، وَيَحْتَاجُ التَّقْيِيدُ إِلَى دَلِيلٍ. وَلَوْ جُنَّ فِي رَمَضَانَ جَمِيعِهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَفَاقَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ إِذْ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ الْعَقْلُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ: يَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ: إِذَا جُنَّ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، بِتَنْوِينِ الْفِدْيَةِ، وَرَفْعِ طَعَامُ، وَإِفْرَادِ مِسْكِينٍ، وَهِشَامٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ: مَسَاكِينَ بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، بِإِضَافَةِ الْفِدْيَةِ وَالْجَمْعِ وَإِفْرَادِ الْفِدْيَةِ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ. وَمَنْ نَوَّنَ كَانَ طَعَامُ بَدَلًا مِنْ فِدْيَةٌ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِلْفِدْيَةِ مَا هِيَ. وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْ فَأَضَافَ كَانَ فِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ أَيْضًا وَتَخَصُّصٌ بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى جِنْسِهِ، لِأَنَّ الْفِدْيَةَ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَالطَّعَامُ يَعُمُّ الْفِدْيَةَ وَغَيْرَهَا، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. قَالَ: لِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَهَا ذَاتٌ، وَصِفَتُهَا أَنَّهَا طَعَامٌ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ طَعَامًا لَيْسَ بِصِفَةٍ، وَهُوَ هُنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ كَمَا يُرَادُ بِعَطَاءٍ الْإِعْطَاءُ، أَوْ يَكُونَ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ كَمَا يُرَادُ بِالشَّرَابِ الْمَشْرُوبُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَحْسُنُ بِهِ الْوَصْفُ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَا مَعْنَى لَهَا هُنَا، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى فِعْلٍ وَلَا مُنْقَاسًا، فَلَا تَقُولُ: فِي مَضْرُوبٍ ضَرَابٌ، وَلَا فِي مَقْتُولٍ قَتَالٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَبِيهُ الرَّعْيِ وَالطَّحْنِ وَالدَّهْنِ، لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْمَفْعُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا، مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٌ خُبْزُهُ وَلَا شَرَابٌ مَاؤُهُ، فَيُرْفَعُ مَا بَعْدَهَا بِهَا؟ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ ضَعْفٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَمَنْ قَرَأَ مَسَاكِينَ، قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ، وَمَنْ أَفْرَدَ فَعَلَى مُرَاعَاةِ إِفْرَادِ الْعُمُومِ أَيْ: وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُهُ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، وَنَظِيرُهُ

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «1» أَيْ: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَتَبَيَّنَ مِنْ إِفْرَادِ الْمِسْكِينِ أَنَّ الْحُكْمَ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُ فِيهِ مِسْكِينٌ، وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أَيْ: مَنْ زَادَ عَلَى مِقْدَارِ الْفِدْيَةِ فِي الطَّعَامِ لِلْمِسْكِينِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَلَى عَدَدِ مَنْ يَلْزَمُهُ إِطْعَامُهُ، فَيُطْعِمُ مِسْكِينَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَهُ ابن عباس، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ. أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ. وَانْتِصَابُ خَيْراً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ: بِخَيْرٍ، لأنه تَطَوَّعَ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضُمِّنَ: تَطَوَّعَ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، فَانْتَصَبَ خَيْرًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ، وَمَنْ فَعَلَ مُتَطَوِّعًا خَيْرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَطَوُّعًا خَيْرًا، وَدَلَّ وَصْفُ الْمَصْدَرِ بِالْخَيْرِيَّةِ عَلَى خَيْرِيَّةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَطَّوَّعْ، فَجَعَلَهُ مُضَارِعَ اطَّوَّعَ، وَأَصْلُهُ تَطَوَّعَ فَأُدْغِمَ، وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَيَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ: مَنْ شَرْطِيَّةً، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَالضَّمِيرُ فِي فَهُوَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَطَوَّعَ، أَيْ: فَالتَّطَوُّعُ خَيْرٌ لَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «2» أَيِ: الْعَدْلُ، وَخَيْرٌ: خَبَرٌ: لِهُوَ، وَهُوَ، هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاجِبِ، إِذَا كَانَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ تَطَوُّعٍ بِخَيْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ وَرَدَتْ فِي أَمْرِ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ، وَظَاهِرُ التَّطَوُّعِ: التَّخْيِيرُ فِي أَمْرِ الْجَوَازِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ أَفْضَلُ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، فَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَالصَّوْمُ خَيْرٌ لَكُمْ. هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَنَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ قِرَاءَتَهُ: وَالصِّيَامُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَالْخِطَابُ لِلْمُقِيمِينَ الْمُطِيقِينَ الصَّوْمَ، أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِطْرِ وَالْفِدْيَةِ، أَوْ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِطْرِ وَالْقَضَاءِ، أَوْ: لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مِنَ الْجَمِيعِ. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ

_ (1) سورة النور: 24/ 4. [.....] (2) سورة المائدة: 5/ 8.

أَيْ: وَأَنْ تَصُومُوا ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى الصَّوْمِ. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَيْ: مَا شَرَعْتُهُ وَبَيَّنْتُهُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، أَوْ فَضْلِ أَعْمَالِكُمْ وَثَوَابِهَا، أَوْ كَنَّى بِالْعِلْمِ عَنِ الْخَشْيَةِ أَيْ: تَخْشَوْنَ اللَّهَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» . شَهْرُ رَمَضانَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ شَهْرُ، وَقَرَأَهُ بالنصب مجاهد، وشهر: دين حَوْشَبٍ وَهَارُونُ الْأَعْوَرُ: عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو عُمَارَةَ: عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَإِعْرَابُ شَهْرُ يَتَبَيَّنُ عَلَى المراد بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَيَكُونُ رَفْعُ شَهْرُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَيَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقْدِمَةً لِفَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ بِذِكْرِ فَضِيلَتِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَيْكُمْ صَوْمُهُ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: الَّذِي أُنْزِلَ، صِفَةً. إِمَّا لِلشَّهْرِ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، وَإِمَّا لِرَمَضَانَ فَيَكُونُ مَجْرُورًا. وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَالْجُمْلَةُ بعد الصفة مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ وَتَكُونُ الْفَاءُ فِي: فَمَنْ، زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، وَلَا تَكُونُ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إِذَا كَانَ مِنْهَا لِلشَّرْطِ، لِأَنَّ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يُشْبِهُ الشَّرْطَ، قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً، بَلْ دَخَلَتْ هُنَا كَمَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الَّذِي، وَمِثْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ «2» وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الَّذِي، صِفَةٌ لِعَلَمٍ، أَوْ لِمُضَافٍ لِعَلَمٍ، فَلَيْسَ يُتَخَيَّلُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنَ الْعُمُومِ، وَلِمَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَلَيْسَ كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَوْتَ هُنَا لَيْسَ مُعَيَّنًا، بَلْ فِيهِ عُمُومٌ. وَصِلَةُ الَّذِي مُسْتَقْبَلَةٌ، وَهِيَ: تَفِرُّونَ، وَعَلَى الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ هِيَ الْخَبَرُ، يَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ، أَيْ: فَمَنْ شَهِدَهُ مِنْكُمْ فَلْيَصُمْهُ، فَأَقَامَ لَفْظَ الْمُبْتَدَأِ مَقَامَ الضَّمِيرِ، وَحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ

_ (1) سورة فاطر: 35/ 28. (2) سورة الجمعة: 6/ 8.

وَذَلِكَ لِتَفْخِيمِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أَيَّامُ رَمَضَانَ، فَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ شَهْرُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ: شَهْرُ رَمَضَانَ، أَيِ: الْمَكْتُوبُ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ: ذَلِكُمْ شَهْرُ وَهُوَ قَرِيبٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: الصِّيَامُ، أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ: لَا، وَهُوَ عَكْسُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِالْمَصَادِرِ كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ «1» وَقَوْلِ الْأَعْشَى: لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ ... تَقَضَّى لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْكِسَائِيُّ بِالْعَكْسِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ صِيَامُهُ، لَكَانَ الْبَدَلُ إِذْ ذَاكَ صَحِيحًا. وَعُكِسَ: وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ قَوْلِ الْكِسَائِيِّ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَيَكُونَ مِنْ بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ تَقْدِيرُهُ: صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، لَكِنْ فِي ذَلِكَ مَجَازُ الْحَذْفِ وَالْفَصْلُ الْكَثِيرُ بِالْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيَجُوزُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يكون بدلا من أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ، عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَرَأَ: أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْمَكْتُوبُ صَوْمُهُ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ. ذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ (الْبَدِيعِ) لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَانْتِصَابُ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالرُّمَّانِيُّ وَفِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْإِغْرَاءِ تَقْدِيرُهُ الْزَمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْحَوْفِيُّ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلشَّهْرِ ذِكْرٌ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَصُومُوا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَجَوَّزَهُ الزمخشري قال: وقرىء بِالنَّصْبِ عَلَى: صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، أَوْ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ: وَأَنْ تَصُومُوا. انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ تَصُومُوا صِلَةٌ لِأَنْ، وَقَدْ فَصَلْتَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 217.

بَيْنَ مَعْمُولِ الصِّلَةِ وَبَيْنَهَا بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، لِأَنَّ تَصُومُوا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: وَصِيَامُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَلَوْ قُلْتَ: أَنْ يضرب زيدا شديد، وَأَنْ تَضْرِبَ شَدِيدٌ زَيْدًا، لَمْ يَجُزْ. وَأَدْغَمَتْ فِرْقَةٌ شَهْرَ رَمَضَانَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ لَا تَقْتَضِيهِ الْأُصُولُ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ فِيهِ، يَعْنِي بِالْأُصُولِ أَصُولَ مَا قَرَّرَهُ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الرَّاءِ فِي شَهْرُ حَرْفٌ صَحِيحٌ، فَلَوْ كَانَ فِي حَرْفِ عِلَّةٍ لَجَازَ بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ، نَحْوَ: هَذَا ثَوْبُ بَكْرٍ، لِأَنَّ فِيهِ لِكَوْنِهِ حَرْفَ عِلَّةٍ مدّا أمّا وَلَمْ تَقْصُرْ لُغَةُ الْعَرَبِ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَا عَلَى مَا اخْتَارُوهُ، بَلْ إِذَا صَحَّ النَّقْلُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.. الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: تَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ يَعُمُّ الْجَمِيعَ ظَاهِرًا، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَحَلُّ الْإِنْزَالِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جَمِيعُهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا. وَقِيلَ: الْإِنْزَالُ هُنَا هُوَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ مِمَّا عُبِّرَ بِكُلِّهِ عَنْ بعضه، والمعنى بدىء بِإِنْزَالِهِ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ. أَوْ تكون الألف واللام فيه لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: أَكَلْتُ اللَّحْمَ، لَا تُرِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْأَفْرَادِ، إِنَّمَا تُرِيدُ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ. وَقِيلَ مَعْنَى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ فَيَكُونُ الْإِنْزَالُ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَ فِي فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ الْقُرْآنُ، وَفِي شَأْنِهِ الْقُرْآنُ، كَمَا تَقُولُ: أُنْزِلَ فِي عَائِشَةَ قُرْآنٌ. وَالْقُرْآنُ الَّذِي نَزَلَ هُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: فِي فَضْلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى. أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْ أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّفَرَةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ من عشرين شهرا، ونزل بِهِ جِبْرِيلُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَرَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْهُ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي ثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْجِيلُ عِيسَى فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ» ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ رِوَايَةَ وَاثِلَةَ أُخْبِرَ فِيهَا عَنِ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الصُّحُفِ وَالْإِنْجِيلِ، وَرِوَايَةَ أَبِي ذَرٍّ أُخْبِرَ فِيهَا عَنِ انْتِهَاءِ النُّزُولِ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الْقُرَانُ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ نُكِّرَ أَمْ عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ، وَهَذَا الْمُخْتَارُ مِنْ تَوْجِيهِ قِرَاءَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النُّونَ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْهَمْزِ أَصْلِيَّةٌ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ ضَمَمْتُهُ. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ انْتِصَابُ: هُدًى، عَلَى الْحَالِ وَهُوَ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: هَادِيًا لِلنَّاسِ، فَيَكُونُ: لِلنَّاسِ، مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ: هُدًى، لَمَّا وَقَعَ مَوْقِعَ هَادٍ، وَذُو الْحَالِ الْقُرْآنُ، وَالْعَامِلُ: أُنْزِلَ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ هُدًى هُوَ لَازِمٌ لَهُ، وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَبَيِّنَاتٍ، عَلَى: هُدًى، فَهُوَ حَالٌ أَيْضًا، وَهِيَ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ جَلِيَّاتٍ وَاضِحَاتٍ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الْهُدَى: مِنْهُ خَفِيٌّ وَمِنْهُ جَلِيٌّ، فَنَصَّ بِالْبَيِّنَاتِ عَلَى الْجَلِيِّ مِنَ الْهُدَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَذَكَرَ عَلَيْهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَبَيَّنُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْمَوْعِظَةُ. مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ هَذَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: هُدًى وَبَيِّنَاتٍ، أَيْ: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ هُدًى وَبَيِّنَاتٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ هُدَى اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانُ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ، فَهَذَا الْقُرْآنُ بَعْضُهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الْبَيِّنَاتِ بِالْفُرْقَانِ، وَلَمْ يَأْتِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ فَيُطَابِقَ الْعَجُزُ الصَّدْرَ لِأَنَّ فِيهِ مَزِيدَ مَعْنًى لَازِمٍ لِلْبَيِّنَاتِ، وَهُوَ كَوْنُهُ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَمَتَى كَانَ الشَّيْءُ جَلِيًّا وَاضِحًا حَصَلَ بِهِ الْفَرْقُ، وَلِأَنَّ فِي لَفْظِ: الْفُرْقَانِ، مُؤَاخَاةً لِلْفَاصِلَةِ قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: شَهْرُ رَمَضانَ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، ثُمَّ قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَوَاخِي هَذِهِ الْفَوَاصِلِ، فَصَارَ الْفُرْقَانُ هُنَا أَمْكَنَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَلَا يَظْهَرُ هُنَا مَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْهُدَى وَالْفُرْقَانَ أُرِيدَ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ بَعْضَ نَفْسِهِ، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ: هُدًى الْأَوَّلُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ، وَالثَّانِي عَلَى فُرُوعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ فِي الْهُدَى لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ الْأَوَّلُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. يَعْنِي: أَنَّهُ أَتَى بِهِ مُنَكَّرًا أَوَّلًا، ثُمَّ أَتَى بِهِ مُعَرَّفًا ثَانِيًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» فَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي عَصَاهُ فِرْعَوْنُ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، فالمضروب هو

_ (1) سورة المزمل: 73/ 15 و 16.

الْمَلْقِيُ؟ وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِجَعْلِ ضَمِيرِ النَّكِرَةِ مَكَانَ ذَلِكَ هَذَا الثَّانِي، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى فَعَصَاهُ فِرْعَوْنُ، أَوْ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُهُ لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُوَ وَالْمُعْرِبُونَ: أَنَّ هُدًى مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَصْفٌ فِي ذِي الْحَالِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَبَيِّنَاتٍ، فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ: مِنَ الْهُدَى، الْمُرَادُ بِهِ الْهُدَى الْأَوَّلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: هُدًى، أَوْ لِقَوْلِهِ: وَبَيِّنَاتٍ، أَوْ لَهُمَا، أو متعلق بِلَفْظِ بَيِّنَاتٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِهُدًى، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصْفٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِيَّاهُ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ بَعْضًا. كُلًّا بِالنِّسْبَةِ لِمَاهِيَّتِهِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِبَيِّنَاتٍ فَقَطْ، لِأَنَّ وَبَيِّنَاتٍ مَعْطُوفٌ عَلَى هُدًى، وَهُدًى حَالٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَالْحَالُ وَصْفٌ فِي ذِي الْحَالِ، فَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمَا حَالَيْنِ تَخَصَّصَ بِهِمَا ذُو الْحَالِ إِذْ هُمَا وَصْفَانِ، وَمِنْ حَيْثُ وُصِفَتْ بَيِّنَاتٍ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْهُدَى، خَصَّصَهَا بِهِ، فَوُقِفَ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِهِ هُدًى وَبَيِّنَاتٍ مَعًا، وَمِنْ حَيْثُ جُعِلَتْ مِنَ الْهُدَى صِفَةً لِبَيِّنَاتٍ تَوَقَّفَ تَخْصِيصُ بَيِّنَاتٍ عَلَى هُدًى، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَفْظِ: وَبَيِّنَاتٍ، لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَقْيِيدٌ لِلْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَهُوَ كَالْوَصْفِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الْوَصْفُ. وَأَيْضًا فَلَوْ جَعَلْتَ هُنَا مَكَانَ الْهُدَى ضَمِيرًا، فَقُلْتَ: وَبَيِّنَاتٍ مِنْهُ أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْهُدَى، لَمْ يَصِحَّ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانُ عَامَّيْنِ حَتَّى يَكُونَ هُدًى وَبَيِّنَاتٌ بَعْضًا مِنْهُمَا.. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الشَّهْرِ لِلْعَهْدِ، وَيَعْنِي بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَلِذَلِكَ يَنُوبُ عَنْهُ الضَّمِيرُ، وَلَوْ جَاءَ: فمن شهد مِنْكُمْ فَلْيَصُمْهُ لَكَانَ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا أَبْرَزَهُ ظَاهِرًا لِلتَّنْوِيهِ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، وَحَسَّنَ لَهُ أَيْضًا كَوْنُهُ مِنْ جُمْلَةٍ ثَانِيَةٍ. وَمَعْنَى شُهُودِ الشَّهْرِ الْحُضُورُ فِيهِ. فَانْتِصَابُ الشَّهْرِ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُقِيمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا كَانَ بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، إِذِ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلْيَصُمْهُ، وَقَالُوا عَلَى انْتِصَابِ الشَّهْرِ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَمَنْ شَهِدَ، حُذِفَ مَفْعُولُهُ تَقْدِيرُهُ الْمِصْرَ أَوِ الْبَلَدَ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ الشَّهْرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ دُخُولَ الشَّهْرِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَقَالُوا: يُتِمُّ الصَّوْمَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ

وَهُوَ مُقِيمٌ، أَقَامَ أَمْ سَافَرَ، وَإِنَّمَا يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَلِيٌّ، وابن عباس، وعبيدة المسلماني، وَالنَّخَعِيُّ، وَالسُّدِّيُّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أَوْ آخِرَهُ فَلْيَصُمْ مَا دَامَ مُقِيمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّهْرُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي: فَلْيَصُمْهُ، وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، كَقَوْلِكَ: شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ وَالْمُسَافِرَ كِلَاهُمَا شَاهِدَانِ لِلشَّهْرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ دُخُولَ الشَّهْرِ، أَيْ: مَنْ حَضَرَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ هِلَالَ الشَّهْرِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: شَهِدْتُ الْهِلَالَ، إِنَّمَا تَقُولُ: شَاهَدْتُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ الصَّوْمُ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْهِلَالَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَمِنْكُمْ، فِي مَوْضِعِ الحال، ومن الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي شَهِدَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ كَائِنًا مِنْكُمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْكُمْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَهِدَ، فَتَنَاقَضَ، لِأَنَّ جَعْلَهَا حَالًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَجَعْلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِشَهِدَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ حَالًا، فتناقض. ومن، مِنْ قَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَقَدْ مَرَّ نَظَائِرُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ اللَّامِ فِي: فَلْيَصُمْهُ، أَجْرَوْا ذَلِكَ مَجْرَى: فَعَلَ، فَخَفَّفُوا، وَأَصْلُهَا الْكَسْرُ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعِيسَى الثقفي، وكذلك قرؤا لَامَ الْأَمْرِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ نَحْوَ: فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ «1» بِالْكَسْرِ، وَكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَشْهُورُ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ (التَّسْهِيلِ) أَنَّ فَتْحَ لَامِ الْأَمْرِ لُغَةٌ، وَعَنِ ابْنِهِ أَنَّ تِلْكَ لُغَةُ بَنِي سُلَيْمٍ. وَقَالَ: حَكَاهَا الْفَرَّاءُ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِمَا الْإِطْلَاقُ فِي أَنَّ فَتْحَ اللَّامِ لُغَةٌ، وَنَقَلَ صَاحِبُ كِتَابِ (الْإِعْرَابِ) ، وَهُوَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ عُذْرَةَ الْخَضْرَاوِيُّ، عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُ هَذِهِ اللَّامَ لِفَتْحَةِ الْيَاءِ بَعْدَهَا، قَالَ: فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْفَتْحُ إِنِ الكسر مَا بَعْدَهَا أَوْ ضُمَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَلِكَ نَحْوَ: لَيُنْبَذَنَّ، وَلَتُكْرِمْ زَيْدًا، وَلَيُكْرَمْ عَمْرًا وَخَالِدًا، وَقُومُوا فَلَأُصَلِّ لَكُمْ. وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَذِكْرُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 282.

فَائِدَةِ تَكْرَارِهَا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ قَوْلُهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا «1» وَالْإِرَادَةُ هُنَا إِمَّا أَنْ تَبْقَى عَلَى بَابِهَا، فَتَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ صَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) : يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِمَا فِيهِ يُسْرٌ، وَإِمَّا أَنْ يُتَجَوَّزَ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ، أَيْ: يَطْلُبُ اللَّهُ مِنْكُمُ الْيُسْرَ، وَالطَّلَبُ عِنْدَنَا غَيْرُ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ لَمْ يَكُنْ لِيَقَعَ عُسْرٌ وَهُوَ وَاقِعٌ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَرَادَ: يَتَعَدَّى إِلَى الْأَجْرَامِ بِالْبَاءِ، وَإِلَى الْمَصَادِرِ بِنَفْسِهِ، كَالْآيَةِ. وَيَأْتِي أَيْضًا مُتَعَدِّيًا إِلَى الْأَجْرَامِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَصَادِرِ بِالْبَاءِ. قَالَ: أَرَادَتْ عرار بِالْهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ ... عِرَارًا، لَعَمْرِي بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ قَالُوا: يُرِيدُ هُنَا بِمَعْنَى أَرَادَ، فَهُوَ مُضَارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي، وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالَةُ الدَّائِمَةُ هُنَا، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ هُوَ الْمَوْضُوعُ لِمَا هُوَ كَائِنٌ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَالْإِرَادَةُ صِفَةُ ذَاتٍ لَا صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ لَهُ تَعَالَى دَائِمًا، وَظَاهِرُ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ. «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ» . وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أيسرهما، وفي القرآن: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «3» فَيَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ فِي الْيُسْرِ فِطْرُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَ حُكْمُهُمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ فِي الْعُسْرِ صَوْمُهُمَا لِمَا فِي حَالَتَيِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعْسِيرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ الْيُسْرَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ، وَالْعُسْرَ الصَّوْمُ فِيهِ ، وَيُحْمَلُ تَفْسِيرُهُمْ عَلَى التَّمْثِيلِ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وناسب أن مثلوا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 26. (2) سورة الحج: 22/ 78. (3) سورة الأعراف: 7/ 157.

بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ مَا قَبْلَهَا، فَدَخَلَ فِيهَا مَا قَبْلَهَا دُخُولًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ كَافٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَإِنَّمَا كُرِّرَ تَوْكِيدًا. انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ وثاب، وابن هرمذ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: الْيُسُرَ وَالْعُسُرَ، بِضَمِّ السِّينِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالْإِسْكَانِ. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَرُوِيَ: مُشَدَّدَ الْمِيمِ مَفْتُوحَ الْكَافِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ، وَفِي اللَّامِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ، وَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ مُقَدَّرَةٌ بِأَنْ، كَأَنَّ الْكَلَامَ: ويريد لأن تكلموا الْعِدَّةَ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَنَحْوُهُ، قَوْلُ أَبِي صَخْرٍ. أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تُخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَمَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَيُرِيدُ لِتُكْمِلُوا، لقوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «1» وَفِي كَلَامِهِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْيُسْرِ، وَمُلَخَّصُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّامَ جَاءَتْ فِي الْمَفْعُولِ الْمُؤَخَّرِ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مِمَّا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ قَلِيلٌ، أَوْ ضَرُورَةٌ، لَكِنْ يُحَسِّنُ ذَلِكَ هُنَا، بُعْدُهُ عَنِ الْفِعْلِ بِالْفَصْلِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْفِعْلُ مَفْعُولَهُ، وَهُوَ: الْيُسْرُ، وَفُصِلَ بَيْنَهُمَا بِجُمْلَةٍ وَهِيَ: وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، بَعُدَ الْفِعْلُ عَنِ اقْتِضَائِهِ، فَقُوِّيَ بِاللَّامِ، كَحَالِهِ إِذَا تَقَدَّمَ فَقُلْتُ لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، لِأَنَّهُ بِالتَّقَدُّمِ وَتَأَخُّرِ الْعَامِلِ ضَعُفَ الْعَامِلُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَقُوِّيَ بِاللَّامِ، إِذْ أَصْلُ الْعَامِلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَصْلُ الْمَعْمُولِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، لَكِنْ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِضْمَارُ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ الزَّائِدَةِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ تَتَبُّعٌ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ، يَعْنِي بِاللَّامِ مَعَ الْفِعْلِ، يَعْنِي تُكْمِلُوا مُقَدَّرَةً بِأَنْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَنْ مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا وَاللَّامُ حَرْفُ جَرٍّ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنَّ الْكَلَامَ: وَيُرِيدُ لِأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، فَأَظْهَرَ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ، فَتَصْحِيحُ لَفْظِهِ أَنْ تَقُولَ: وَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ مُقَدَّرَانِ بَعْدَهَا، وَقَوْلُهُ: هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَنَحْوُهُ، قَوْلُ أَبِي صخر:

_ (1) سورة الصف: 61/ 8.

أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا ... لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، زَعْمًا أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ لَامَ كَيْ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي أَرَدْتُ وَأَمَرْتُ. قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «1» يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «2» وأَنْ يُطْفِؤُا «3» إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ «4» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا ... وَقَالَ تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «5» وأَنْ أُسْلِمَ «6» وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ اللَّامَ هُنَا باقية على حالها وأن مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا، لَكِنَّ الْفِعْلَ قَبْلَهَا يُقَدِّرُهُ بِمَصْدَرٍ، كَأَنَّهُ قال: الإرادة لِلتَّبْيِينِ، وَإِرَادَتِي لِهَذَا، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى زِيَادَةِ اللَّامِ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ) فَتُطَالَعُ هُنَاكَ. وَتَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَا قَالَ: مِنْ أَنَّهُ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَيْسَ كَمَا قَالَ: إِنَّمَا يَتَمَشَّى قَوْلُهُ: وَهِيَ، مع الفعل مقدرة بأن عَلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، لَا عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ. وَتَنَاقَضَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَالَ: هِيَ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَهِيَ مع الفعل مقدرة بأن، فَمِنْ حَيْثُ جَعَلَهَا الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْمَفْعُولِ، وَمِنْ حَيْثُ قَدَّرَهَا بِأَنْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ إِنَّمَا يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ، فَهِيَ جُزْءٌ لَهُ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ جُزْءًا لِشَيْءٍ غَيْرِ جُزْءٍ لَهُ، فَتَنَاقَضَ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: الْيُسْرَ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا بِزِيَادَةِ اللَّامِ وَإِضْمَارِ: أَنْ، بَعْدَهَا، أَوْ يجعل اللَّامِ لِمَعْنَى: أَنْ، فَلَا تَكُونُ أَنْ مُضْمَرَةً بَعْدَهَا، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ لَامَ الْأَمْرِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ لَامَ الْأَمْرِ وَالْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جملة كَلَامٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْوَجْهَ فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَيُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: أَمْرُ الْفَاعِلِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ الْتِفَاتٌ، قَالُوا: أَحَدُهُمَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهُوَ إِقْرَارُ تَاءِ الخطاب ولام

_ (1) سورة النساء: 4/ 26. (2) سورة الصف: 61/ 8. (3) سورة التوبة: 9/ 32. (4) سورة الأحزاب: 33/ 33. [.....] (5) سورة الأنعام: 6/ 71. (6) سورة غافر: 40/ 66.

الْأَمْرِ قَبْلَهَا، وَاللُّغَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْجَيِّدَةُ الْفَصِيحَةُ، وَهُوَ، أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَارِيًا مِنْ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَمِنَ اللَّامِ، وَيُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ على أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ بِإِسْكَانِ هَذِهِ اللَّامِ، فَلَوْ كَانَتْ لَامَ الْأَمْرِ لَكَانَتْ كَسَائِرِ أَخَوَاتِهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالْوَجْهَيْنِ فِيهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْجَرِّ لَا لَامُ الْأَمْرِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ، يَعْنِي: أَنَّهَا إِذَا كَانَتِ اللَّامُ لِلْأَمْرِ كَانَ الْعَطْفُ مِنْ قَبِيلِ الْجُمَلِ، وَإِذَا كَانَتْ كَاللَّامِ فِي: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، كَانَتْ مِنْ قِبَلِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَاخْتَلَفَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: لِتَعْمَلُوا مَا تَعْمَلُونَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ الْمُعَلَّلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: إِرَادَةَ الْيُسْرِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوَاوِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ هُوَ الْمُعَلَّلُ، التَّقْدِيرُ: وَفَعَلَ هَذَا لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ وَقَدْ حُذِفَ مَعْلُولُهَا، التَّقْدِيرُ: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِيُسَهِّلَ عَلَيْكُمْ وَلِتُكْمِلُوا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُعَلَّلُ مُقَدَّرًا بَعْدَ التَّعْلِيلِ، تَقْدِيرُهُ: وَلَأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ رَخَّصَ لَكُمْ هَذِهِ الرُّخْصَةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُعَلَّلُ مُقَدَّرًا بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَتَقْدِيرُهُ: شَرَعَ ذَلِكَ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ مَا نَصُّهُ: شَرَعَ ذَلِكَ، يَعْنِي جُمْلَةَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الشَّاهِدِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ، وَأَمْرِ الْمُرَخَّصِ لَهُ بِمُرَاعَاةِ عِدَّةِ مَا أَفْطَرَ فِيهِ، وَمِنَ التَّرْخِيصِ فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ فَقَوْلُهُ: لِتُكْمِلُوا، عِلَّةُ الْأَمْرِ بِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ، وَلِتُكَبِّرُوا عِلَّةُ مَا عَلَّمَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْفِطْرِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، عِلَّةُ التَّرْخِيصِ وَالتَّيْسِيرِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ اللَّفِّ لَطِيفُ الْمَسْلَكِ لَا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلّا النقاد الْمُحْذِقُ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْعَهْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أَيْ: وَلِيُكْمِلَ مَنْ أَفْطَرَ فِي مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ عِدَّةَ الْأَيَّامَ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا بِأَنْ يَصُومَ مِثْلَهَا، وَقِيلَ: عِدَّةَ الْهِلَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَمْ كَانَ ثَلَاثِينَ، فَتَكُونُ الْعِدَّةُ رَاجِعَةً إِذْ ذَاكَ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ الْمَأْمُورِ بِصَوْمِهِ. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَالْكَلَامُ فِي اللَّامِ

كَالْكَلَامِ فِي لَامِ: وَلِتُكْمِلُوا وَمَعْنَى التَّكْبِيرِ هُنَا تَعْظِيمُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ، بَلْ يُعَظَّمُ اللَّهُ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ مِنْ أَلْفَاظِ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا، وَقِيلَ: هُوَ التَّكْبِيرُ الْمَسْنُونُ فِي الْعِيدِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ التَّكْبِيرُ يَوْمَ الْفِطْرِ. وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّتِهِ وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُكَبِّرُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ وَيُمْسِكُ وَقْتَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَيُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِهِ، وَقِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَالِكٌ: مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَعَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: إِنْ خَرَجَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَا يُكَبِّرُ فِي طَرِيقِهِ وَلَا فِي جُلُوسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَإِنْ غَدَا بَعْدَ الطُّلُوعِ فَلْيُكَبِّرْ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمُصَلَّى وَإِذَا جَلَسَ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ. وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، فَنَقَلَ الْأَثَرُ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ إِلَى الْمُصَلَّى يَقْطَعُ قَالَ أَبُو يَعْلَى: يَعْنِي: وَخَرَجَ الْإِمَامُ، وَنَقَلَ حنبل عنه أنه يَقْطَعَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَضْحَى، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: الْفِطْرُ وَالْأَضْحَى سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعُرْوَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَلَا يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ. وَكَيْفِيَّتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثَلَاثًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَابِرٍ، وَقِيلَ: يُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ أَثْنَاءَ التَّكْبِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ مَالِكٌ لَا يَجِدُ فِيهِ حَدًّا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: كُلٌّ وَاسِعٌ، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَرَجَّحَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ هُوَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَأَنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ هُوَ عِنْدَ الِانْقِضَاءِ عَلَى مَا هَدَى إِلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ. قَالَ: لِأَنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ بِمَعْنَى تَعْظِيمِهِ هُوَ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَفِي كُلِّ الطَّاعَاتِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ انْتَهَى. وَ: عَلَى، تَتَعَلَّقُ: بِتُكَبِّرُوا، وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِالْعِلْيَةِ، كَمَا تَقُولُ: أَشْكُرُكَ عَلَى مَا أَسْدَيْتَ إِلَيَّ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا عَدَّى فعل التكبر بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِكَوْنِهِ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْحَمْدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، إِذْ لَوْ كَانَ تَفْسِيرَ إِعْرَابٍ لَمْ تَكُنْ: عَلَى، مُتَعَلِّقًا، بِتُكَبِّرُوا الْمُضَمَّنَةِ مَعْنَى الْحَمْدِ، إِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِحَامِدِينَ الَّتِي قَدَّرَهَا، وَالتَّقْدِيرُ الْإِعْرَابِيُّ هُوَ، أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتَحْمَدُوا اللَّهَ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، كَمَا قَدَّرَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِمْ: قَتَلَ اللَّهُ زِيَادًا عني أَيْ: صَرَفَ اللَّهُ زِيَادًا عَنِّي بِالْقَتْلِ، وَفِي. قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ فِينَا فَوَارِسٌ ... بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الْأَبَاهِرِ وَالْكُلَى أَيْ: تَحْكُمُونَ بِالْبَصِيرَةِ فِي طَعْنِ الْأَبَاهِرِ، وَالظَّاهِرُ فِي: مَا، أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: عَلَى هِدَايَتِكُمْ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ: مَا، بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: حَذَفُ الْعَائِدِ عَلَى: مَا، أَيْ: عَلَى الَّذِي هَدَاكُمُوهُ وَقَدَّرْنَاهُ مَنْصُوبًا لَا مَجْرُورًا بِإِلَى، وَلَا بِاللَّامِ لِيَكُونَ حَذْفُهُ أَسْهَلَ مِنْ حَذْفِهِ مَجْرُورًا. وَالثَّانِي: حَذْفُ مُضَافٍ بِهِ يَصِحُّ الْكَلَامُ، التَّقْدِيرُ: عَلَى اتِّبَاعِ الَّذِي هَدَاكُمُوهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا التَّقْدِيرَ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى: هَدَاكُمْ، حُصُولُ الْهِدَايَةِ لَكُمْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى، هِدَايَتُكُمْ لِمَا ضَلَّ فِيهِ النَّصَارَى مِنْ تَبْدِيلِ صِيَامِهِمْ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: الَّذِي، فَالْمَعْنَى عَلَى مَا أَرْشَدَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هُوَ تَرَجٍّ فِي حَقِّ الْبَشَرِ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ فِي الْهِدَايَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَيَكُونُ الشُّكْرُ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَشْكُرُونَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ ثَوَابِ طَاعَاتِكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِرَادَةُ أَنْ تَشْكُرُوا، فَتَأَوَّلَ التَّرَجِّيَ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ التَّرَجِّيَ مِنَ الْمَخْلُوقِ، إِذِ التَّرَجِّي حَقِيقَةً يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ، فَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْإِرَادَةِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْبَشَرِ، والقولان متكافئان، وَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ شَاقًّا نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِتَرَجِّي التَّقْوَى، وَإِذَا كَانَ تَيْسِيرًا وَرُخْصَةً نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِتَرَجِّي الشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هذه الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لِأَنَّ قَبْلَهُ تَرْخِيصٌ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِالْفِطْرِ، وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَجَاءَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَقَبْلَهُ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لِأَنَّ الصِّيَامَ وَالْقِصَاصَ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، وَكَذَا يَجِيءُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ شَاقٌّ وَفِيمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ أَوْ تَرْقِيَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَظَ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ عِلْمِ الْبَيَانِ. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ سَبَبُ النُّزُولِ فِيمَا قَالَ الْحَسَنُ: أَنَّ قَوْمًا، قِيلَ: الْيَهُودُ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ، قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا نَزَلَ. وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» قَالَ قَوْمٌ: فِي أَيِّ سَاعَةٍ نَدْعُو؟ فَنَزَلَ وَإِذا سَأَلَكَ وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ طَلَبَ تَكْبِيرِهِ وَشُكْرِهِ بَيَّنَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ ذَكَرَهُ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَهُ، يَسْمَعُ نِدَاءَهُ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ أو رغبته، تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَا بُدَّ مَسْبُوقًا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ. وَالْكَافُ فِي: سَأَلَكَ، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُنْزِلَ عَلَيْكَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَجَاءَ هَذَا الْخِطَابُ مُنَاسِبًا لِهَذَا الْمَحْذُوفِ. وَ: عِبَادِي، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ: إِمَّا الْيَهُودُ وَإِمَّا الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي السَّبَبِ، وَأَمَّا عِبَادِي. وَ: عَنِّي، فَالضَّمِيرُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لأنه سبق و: لتكبروا اللَّهَ، فَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَائِبٍ إِلَى مُتَكَلِّمٍ، وَ: عَنِّي، مُتَعَلِّقٌ بِسَأَلَكَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا عَنْ ذَاتِهِ لِأَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، وَالْقُرْبُ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قُرْبًا بِالْمَكَانِ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى سَامِعًا لِدُعَائِهِ، مُسْرِعًا فِي إِنْجَاحِ طلب مَنْ سَأَلَهُ، فَمَثَّلَ حَالَةَ تَسْهِيلِهِ ذَلِكَ بِحَالَةِ مَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ مِمَّنْ يَدْعُوهُ، فَإِنَّهُ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ يُجِيبُ دُعَاءَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا الْقُرْبِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «2» وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هُوَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْنَاقِ رَوَاحِلِكُمْ» . وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، جَوَابُ إِذَا، وَثَمَّ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ الْقُرْبُ، إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقُرْبِ. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أُجِيبُ: إما صفة لقريب، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَرُوعِيَ الضَّمِيرُ فِي: فَإِنِّي، فَلِذَلِكَ جَاءَ أُجِيبُ، وَلَمْ يُرَاعَ الْخَبَرُ فَيَجِيءُ: يُجِيبُ، على طريقة

_ (1) سورة غافر: 40/ 60. (2) سورة ق: 50/ 16.

الْإِسْنَادِ لِلْغَائِبِ طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ: أَشْهَرُهُمَا: مُرَاعَاةُ السَّابِقِ مِنْ تَكَلُّمٍ أَوْ خِطَابٍ كَهَذَا، وَكَقَوْلِهِمْ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «1» بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «2» . وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مُرَاعَاةُ الْخَبَرِ كَقَوْلِكَ: أَنَا رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْتَ امْرُؤٌ يُرِيدُ الْخَيْرَ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَّسِعٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عليها في كتابنا الموسوم بِ (مَنْهَجِ السَّالِكِ) وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، قَوْلُهُ أُجِيبُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ لَمَّا نَزَلَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: كَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلَى قَوْلِكَ سَبْعُ سَمَوَاتٍ فِي غِلَظٍ، سُمْكُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَفِي مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مِثْلُ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: أُجِيبُ : أَنَّ ذَلِكَ الْقُرْبَ هُوَ الْإِجَابَةُ وَالْقُدْرَةُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ عُمُومُ الدَّعَوَاتِ، إِذْ لَا يُرِيدُ دَعْوَةً وَاحِدَةً، وَالْهَاءُ فِي: دَعْوَةَ، هُنَا لَيْسَتْ لِلْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَصْدَرُ هُنَا بُنِيَ عَلَى فَعْلَةٍ نَحْوَ. رَحْمَةٍ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الدَّاعِي لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى دَاعٍ مَخْصُوصٍ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْعَهْدِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعُمُومِ. وَالظَّاهِرُ تَقْيِيدُ الْإِجَابَةِ بِوَقْتِ الدُّعَاءِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ مَا سَأَلَهُ. وَذَكَرُوا قُيُودًا فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَتَخْصِيصَاتٍ، فَقُيِّدَتِ الْإِجَابَةُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. التَّقْدِيرُ: إِنْ شِئْتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْقَيْدِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ، وَقِيلَ: بِوَفْقِ الْقَضَاءِ أَيْ: أُجِيبُ إِنْ وَافَقَ قَضَائِيَ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ، وَقِيلَ: يَكُونُ المسئول خير السائل، أَيْ: إِنْ كَانَ خَيْرًا. وَقِيلَ: يَكُونُ الْمَسْئُولُ غَيْرَ مُحَالٍ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَصَحِيحِ النَّقْلِ أَنَّ بَعْضَ الدُّعَاةِ لَا يُجِيبُهُ اللَّهُ إِلَى مَا سَأَلَ، وَلَا يُبَلِّغُهُ الْمَقْصُودَ مِمَّا طَلَبَ، فَخَصَّصُوا الدَّاعِيَ بِأَنْ يَكُونَ: مُطِيعًا مُجْتَنِبًا لِمَعَاصِيهِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُطِيلُ السَّفَرَ: «أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له» ؟.

_ (1) سورة النمل: 27/ 47. (2) سورة النمل: 27/ 55.

قَالُوا: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَمَلَّ، فَفِي (الصَّحِيحِ) : يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. وَخُصِّصَ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَدْعُوَا بِمَا لَيْسَ فِيهِ إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، وَلَا مَعْصِيَةٌ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُوهُ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِمِثْلِهَا» . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، وَأَنْ لَا يُقْصَدَ فِيهِ السَّجْعُ، سَجْعُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَلْحُونٍ. وَتُرْتَجَى الْإِجَابَةُ مِنَ الْأَزْمَانِ عِنْدَ السَّحَرِ، وَفِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، وَوَقْتِ الْفِطْرِ، وَمَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَأَوْقَاتِ الِاضْطِرَارِ، وَحَالَةِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَالصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالسَّاعَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: وَهِيَ مِنَ الْإِقَامَةِ إِلَى فَرَاغِ الصَّلَاةِ: كَذَا وَرَدَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: بعد عصر الجمعة، وعند ما تَزُولُ الشَّمْسُ. وَمِنَ الْأَمَاكِنِ: فِي الْكَعْبَةِ، وَتَحْتَ مِيزَابِهَا، وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي حُجْرَةِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْجَامِعِ الْأَقْصَى. وَإِذَا كَانَ الدَّاعِي بِالْأَوْصَافِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ قَبُولُ دُعَائِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَلَا يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا يَقْطَعْ رَجَاءَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «1» وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لا يمنعن أحد مِنَ الدُّعَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَ دُعَاءَ شَرِّ الْخَلْقِ إِبْلِيسَ: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «2» . وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْإِجَابَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «3» لِأَنَّ وَصْفَ الْإِنْسَانِ بِأَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ صِفَةُ مَدْحٍ وَتَعْظِيمٍ، وَالْفَاسِقُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ، بَلِ الْفَاسِقُ قَدْ يَطْلُبُ الشَّيْءَ فَيَفْعَلُهُ اللَّهُ وَلَا يُسَمَّى إِجَابَةً. قِيلَ: وَالدُّعَاءُ أَعْظَمُ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّهُ إِظْهَارُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّرْعُ قد ورد

_ (1) سورة الزمر: 39/ 53. (2) سورة الحجر: 15/ 36. وسورة ص: 38/ 79. (3) سورة الأنعام: 6/ 82.

بِالْأَمْرِ بِهِ، وَقَدْ دَعَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِالْأَمْرِ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْجُهَّالِ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَكَرَ شُبَهًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ رَدَّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ، وَقَالُوا: الْأَوْلَى بِالْعَبْدِ التَّضَرُّعُ وَالسُّؤَالُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِمَا رُوِيَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِمَّنْ يَقُولُ فِيهِمْ بَعْضُ النَّاسِ، إِنَّهُمْ عُلَمَاءُ الْحَقِيقَةِ: يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا فَاللَّهُ مُتَكَفِّلٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ. إِنْ كَانَ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ أَصْلَحَ، وَقَلَبُهُ أَطْيَبَ، وَسَرُّهُ أَصْفَى، وَنَفْسُهُ أَزْكَى، فَلْيَدْعُ وَإِنْ كَانَ فِي التَّرْكِ أَصْلَحَ فَالْإِمْسَاكُ عَنِ الدُّعَاءِ أَوْلَى بِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: تَرْكُ الدُّعَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ أَصْلَحُ لِمَا فِيهِ مِنَ الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَعَدَمِ الِاعْتِرَاضِ، وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ وَالْعَارِفُ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: تَرْكُ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ لِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا تَوَلَّى اللَّهُ أَمْرَهُ وَأَصْلَحَ شَأْنَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1» . وَقَدْ تُؤُوِّلَتِ الْإِجَابَةُ وَالدُّعَاءُ هُنَا عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ عِبَارَةً عَنِ التَّوْحِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الله، لأنك دعوته ووجدته، وَالْإِجَابَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَبُولِ لَمَّا سُمِّيَ التَّوْحِيدُ دُعَاءً سُمِّيَ الْقَبُولُ إِجَابَةً، لِتَجَانُسِ اللَّفْظِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجَابَةَ هُوَ السَّمَاعُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَسْمَعُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ التَّوْبَةُ عَنِ الذُّنُوبِ لِأَنَّ التَّائِبَ يَدْعُو اللَّهَ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَالْإِجَابَةُ قَبُولُ التَّوْبَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ الْعِبَادَةُ» قَالَ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «3» وَالْإِجَابَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا ضُمِنَ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الثَّوَابِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: الْإِجَابَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِإِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ وَبِمَنْعِهِ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي أَخْتَارُ لَهُ خَيْرَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْعَطَاءِ وَالرَّدِّ.

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 3. (2) سورة غافر: 40/ 60. (3) سورة غافر: 40/ 60.

وَكُلُّ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أَيْ: فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي لَهُمْ إِذَا دَعَوْنِي، قَالَهُ ثَعْلَبٌ، فَيَكُونُ: اسْتَفْعِلْ، قَدْ جَاءَتْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، كَاسْتَغْفِرْ، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِيهَا: أَوْ فَلْيُجِيبُوا لِي إِذَا دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ كَمَا أَنِّي أُجِيبُهُمْ إِذَا دَعَوْنِي لِحَوَائِجِهِمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُمَا. وَيَكُونُ: اسْتَفْعِلْ، فِيهِ بِمَعْنَى افْعَلْ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ «1» فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى «2» إِلَّا أَنَّ تَعْدِيَتَهُ فِي الْقُرْآنِ بِاللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُعَدًّى بِنَفْسِهِ قَالَ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النداء ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ أَيْ: فَلَمْ يُجِبْهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ، أَعْنِي كَوْنَ اسْتَفْعَلَ مُوَافِقَ أَفْعَلَ، قَوْلُهُمُ: اسْتَبْلَ بِمَعْنَى أَبْلَ، وَاسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ وَأَحْصَدَ، وَاسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ وَأَعْجَلَ، وَاسْتَثَارَهُ وَأَثَارَهُ، وَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ مُوَافِقَةً أَفْعَلَ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَاسْتَفْعَلَ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «3» . وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ: مَعْنَاهُ فَلْيَدْعُوا لِي، وَقَالَ الأخفش: فليذعنوا الإجابة، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَالرَّبِيعُ: فَلْيُطِيعُوا، وَقِيلَ: الِاسْتِجَابَةُ هُنَا التَّلْبِيَةُ، وَهُوَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَهَا بِالْكَسْرِ. وَلْيُؤْمِنُوا بِي معطوف على: فليجيبوا لِي، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الْإِيمَانِ فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَلِذَلِكَ يُؤَوَّلُ عَلَى الدَّيْمُومَةِ، أَوْ عَلَى إِخْلَاصِ الدِّينِ، وَالدَّعْوَةِ، وَالْعَمَلِ، أَوْ فِي الثَّوَابِ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لِي بِالطَّاعَةِ أَوْ بِالْإِيمَانِ وَتَوَابِعِهِ، أَوْ بِالْإِيمَانِ فِي: أَنِّي أُجِيبُ دُعَاءَهُمْ، خَمْسَةُ أَقْوَالٍ آخِرُهَا لِأَبِي رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: يُرْشَدُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ: يَرْشِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ، وذلك باختلاف عنهما، وقرىء أَيْضًا يَرْشَدُونَ بِفَتْحِهِمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 195. (2) سورة الأنبياء: 21/ 90. [.....] (3) سورة الفاتحة: 1/ 5.

وَآمَنُوا بِهِ كَانُوا عَلَى رَجَاءٍ مِنْ حُصُولِ الرُّشْدِ لَهُمْ، وَهُوَ الِاهْتِدَاءُ لِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَخَتْمُ الْآيَةِ بِرَجَاءِ الرُّشْدِ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَبِالْإِيمَانِ بِهِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ إِلَّا وُصُولَكَ بِامْتِثَالِهِ إِلَى رَشَادِكَ فِي نَفْسِكَ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ فِي الْقُرْآنِ، نَاسَبَ ذِكْرُ الرَّشَادِ وَهُوَ: الْهِدَايَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «3» . أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلِّهِ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَنَزَلَتْ، وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَمْسَى حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، أَوْ يَرْقُدَ، فَإِذَا صَلَّاهَا أَوْ رَقَدَ وَلَمْ يُفْطِرْ حَرُمَ عَلَيْهِ مَا حَلَّ لَهُ قَبْلُ إِلَى الْقَابِلَةِ، وَأَنَّ عُمَرَ، وَكَعْبًا الْأَنْصَارِيَّ، وَجَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَاقَعُوا أَهْلَهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ وَأَصْبَحَ صَائِمًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَتِ الآية في زلة ندرت، فَجُعِلَ ذَلِكَ سَبَبَ رُخْصَةٍ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هذا إِحْكَامِ الْعِنَايَةِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلصَّائِمِ، وَلَمَّا كَانَ افْتِتَاحُ آيَاتِ الصَّوْمِ بِأَنَّهُ: كُتِبَ عَلَيْنَا كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، اقْتَضَى عُمُومَ التَّشْبِيهِ فِي الْكِتَابَةِ، وَفِي الْعَدَدِ، وَفِي الشَّرَائِطِ، وَسَائِرِ تَكَالِيفِ الصَّوْمِ. وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَدْ أُمِرُوا بِتَرْكِ الْأَكْلِ بِالْحِلِّ، وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي صِيَامِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَنَامُوا، وَقِيلَ: بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا جَرَى لِعُمَرَ وَقَيْسٍ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، لُطْفًا بِهِمْ. وَنَاسَبَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وهذا من التيسير.

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 6. (2) سورة الشورى: 42/ 52. (3) سورة الصافات: 37/ 118.

وَقَوْلُهُ: أُحِلَّ، يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ ذَلِكَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فِي جَمِيعِ اللَّيْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَلَالًا، لَهُمْ إِلَى وَقْتِ النَّوْمِ أَوْ إِلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ؟. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُحِلَّ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ به، وقرىء، أَحَلَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنُصِبَ: الرَّفَثَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذِ مَعْلُومٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الَّذِي يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ولكم، مُتَعَلِّقٌ بِأَحَلَّ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ، لأن قبله ضمير غائب، وَانْتِصَابُ: لَيْلَةَ، عَلَى الظَّرْفِ، ولا يراد بليلة الْوَحْدَةُ بَلِ الْجِنْسُ، قَالُوا: وَالنَّاصِبُ لِهَذَا الظَّرْفِ: أَحَلَّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ: لَيْلَةَ، لَيْسَ بِظَرْفٍ لِأَحَلَّ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ظَرْفٌ لِلرَّفَثِ، وَإِنْ كَانَتْ صِنَاعَةُ النَّحْوِ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ انْتِصَابُ لَيْلَةَ بِالرَّفَثِ، لِأَنَّ الرَّفَثَ مَصْدَرٌ وَهُوَ مَوْصُولٌ هُنَا، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ، لَكِنْ يُقَدَّرُ لَهُ نَاصِبٌ، وَتَقْدِيرُهُ: الرَّفَثَ لَيْلَةَ الصِّيَامِ، فَحُذِفَ، وَجُعِلَ الْمَذْكُورُ مَبْنِيًّا لَهُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عند ا ... لجهل لِلذِّلَّةِ إِذْعَانُ إِنَّ تَقْدِيرَهُ: إِذْعَانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعَانٌ، وَكَمَا خَرَّجُوا قَوْلَهُ: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «1» وإِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ «2» أَيْ نَاصِحٌ لَكُمَا، وَقَالَ: لِعَمَلِكُمْ، فَمَا كَانَ مِنَ الْمَوْصُولِ قُدِّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أُضْمِرَ لَهُ عَامِلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْصُولُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يُجِيزُ تَقَدُّمَ الظَّرْفِ عَلَى نَحْوِ هَذَا الْمَصْدَرِ، وَأُضِيفَتِ: اللَّيْلَةُ، إِلَى الصِّيَامِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَكُونُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الصِّيَامُ يُنْوَى فِي اللَّيْلَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِصَوْمِ جُزْءٍ مِنْهَا صَحَّتِ الْإِضَافَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرَّفَثُ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: الرُّفُوثُ، وَكَنَّى بِهِ هُنَا عَنِ الْجِمَاعِ، وَالرَّفَثُ قَالُوا: هُوَ الْإِفْصَاحُ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُكَنَّى عَنْهُ، كَلَفْظِ: النَّيْكِ، وَعَبَّرَ بِاللَّفْظِ الْقَرِيبِ مِنْ لَفْظِ النَّيْكِ تَهْجِينًا لِمَا وُجِدَ مِنْهُمْ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ، فَوَقَعُوا فِيهِ كَمَا قَالَ فِيهِ: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَجَعَلَ ذَلِكَ خِيَانَةً، وَعُدِّيَ بِإِلَى، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ، وَحَسَّنَ اللَّفْظُ بِهِ هَذَا التَّضْمِينَ، فَصَارَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنَ الْكِنَايَاتِ الَّتِي جَاءَتْ في

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 21. (2) سورة الشعراء: 26/ 168.

الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَغَشَّاها «1» وَلا تَقْرَبُوهُنَّ «2» فَأْتُوا حَرْثَكُمْ «3» فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. وَالنِّسَاءُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَهُوَ نِسْوَةٌ، أَوْ جَمْعُ امْرَأَةٍ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ، وَأَضَافَ: النِّسَاءَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ لِأَجْلِ الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَا يَحِلُّ الْإِفْضَاءُ إِلَّا لِمَنِ اخْتَصَّتْ بِالْمُفْضِي: إِمَّا بِتَزْوِيجٍ أَوْ مِلْكٍ. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ اللِّبَاسُ، أَصْلُهُ فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَرْأَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ هِيَ لِبَاسُكَ، وَفِرَاشُكَ، وَإِزَارُكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُمَازَجَةِ. وَلَمَّا كان يَعْتَنِقَانِ وَيَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا على صَاحِبَهُ فِي الْعِنَاقِ، شُبِّهَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِاللِّبَاسِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِنْسَانِ. قَالَ الرَّبِيعُ: هُنَّ لِحَافٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِحَافٌ لَهُنَّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: هُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ، أَيْ: يَسْكُنُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً «4» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، بَلْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْبَيَانِ لِسَبَبِ الْإِحْلَالِ، وَهُوَ عَدَمُ الصَّبْرِ عَنْهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ لَكُمْ فِي الْمُخَالَطَةِ كَاللِّبَاسِ، وَقَدَّمَ: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ، عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، لِظُهُورِ احْتِيَاجِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَالرَّجُلُ هُوَ الْبَادِئُ بِطَلَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا تَكَادُ الْمَرْأَةُ تَطْلُبُ ذَلِكَ الْفِعْلَ ابْتِدَاءً لِغَلَبَةِ الْحَيَاءِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُنَّ تَسْتُرُ وَجْهَهَا عِنْدَ الْمُوَاقَعَةِ حَتَّى لَا تَنْظُرَ إِلَى زَوْجِهَا حَيَاءً وَقْتَ ذَلِكَ الْفِعْلِ. جَمَعَتِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْبَيَانِ: الطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ، بِقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمًا سَابِقًا، فَكَأَنَّهُ أُحِلَّ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، أَوْ مَا حُرِّمَ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، وَالْكِنَايَةُ بِقَوْلِهِ: الرَّفَثُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالِاسْتِعَارَةُ الْبَدِيعَةُ بِقَوْلِهِ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ، وَأُفْرِدَ اللِّبَاسُ لِأَنَّهُ كَالْمَصْدَرِ، تَقُولُ: لَابَسْتُ مُلَابَسَةً وَلِبَاسًا. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ: إِنْ كَانَتْ: عَلِمَ، مُعَدَّاةً تعدية عرف،

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 189. (2) سورة البقرة: 2/ 222. (3) سورة البقرة: 2/ 223. (4) سورة الفرقان: 25/ 47.

فَسَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ، أَوِ التَّعْدِيَةَ الَّتِي هِيَ لَهَا فِي الْأَصْلِ، فَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا نظير هذا. وتختانون: هُوَ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَافْتَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى فَعَلَ، فَاخْتَانَ: بِمَعْنَى: خَانَ، كَاقْتَدَرَ بِمَعْنَى: قَدَرَ. قِيلَ وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى، وَالِاخْتِيَانُ هُنَا مُعَبَّرٌ بِهِ عَمَّا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِالْجِمَاعِ، وَبِالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَةً لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ وَبَالَ الْمَعْصِيَةِ عَائِدٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَظْلِمُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتَنْقُصُونَ حَقَّهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ، تَسْتَأْثِرُونَ أَنْفُسَكُمْ فِيمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَتَعَهَّدُونَ أَنْفُسَكُمْ بِإِتْيَانِ نِسَائِكُمْ. يُقَالُ: تَخَوَّنَ، وَتَخَوَّلَ، بِمَعْنَى: تَعَهَّدَ، فَتَكُونُ النُّونُ بَدَلًا مِنَ اللَّامِ لِأَنَّهُ بِاللَّامِ أَشْهَرُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَنْفُسِكُمْ، وَلَمْ يَقُلِ: اللَّهَ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ وُقُوعُ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ لِدَلَالَةِ كَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَالْمَعْنَى: تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ لِوُجُودِ: كَانَ، وَلِأَنَّهُ إِضْمَارٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَلِمُنَافَاةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ. فَتابَ عَلَيْكُمْ أَيْ: قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ حِينَ تُبْتُمْ مِمَّا ارْتَكَبْتُمْ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَفَّفَ عَنْكُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1» فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ «2» لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ «3» مَعْنَاهُ كُلُّهُ التَّخْفِيفُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَسْقَطَ عَنْكُمْ مَا افْتَرَضَهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، أَوْ بَعْدَ النَّوْمِ عَلَى الْخِلَافِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَعَفا عَنْكُمْ أَيْ: عَنْ ذُنُوبِكُمْ فَلَا يُؤَاخِذُكُمْ، وَقَبُولُ التَّوْبَةِ هُوَ رَفْعُ الذَّنْبِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ وَالْعَفْوُ تَعْفِيَةُ أَثَرِ الذَّنْبِ» فَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَاقَبَ بَيْنَهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَهَّلَ عَلَيْكُمْ أَمْرَ النِّسَاءِ فِيمَا يُؤْتَنَفُ، أَيْ: تَرَكَ لَكُمُ التَّحْرِيمَ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا شَيْءٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، أَيْ: مَتْرُوكٌ، وَيُقَالُ: أَعْطَاهُ عَفْوًا أَيْ سَهْلًا لَمْ يُكَلِّفْهُ إِلَى سُؤَالٍ، وَجَرَى الْفَرَسُ شَأْوَيْنِ عَفْوًا، أَيْ: مِنْ ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إِزْعَاجٍ وَاسْتِدْعَاءٍ بِضَرْبٍ بِسَوْطٍ، أو نخس بمهماز.

_ (1) سورة المزمل: 73/ 20. (2) سورة النساء: 4/ 92. (3) سورة التوبة: 9/ 187.

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى، الْآنَ، فِي قَوْلِهِ: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ «1» أَيْ: فَهَذَا الزَّمَانُ، أَيْ: لَيْلَةَ الصِّيَامِ بَاشِرُوهُنَّ، وَهَذَا أَمْرٌ يُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ لِكَوْنِهِ وَرَدَ بَعْدَ النَّهْيِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَيْهِ، وَالْمُبَاشَرَةُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ: الْجِمَاعُ، وَقِيلَ: الْجِمَاعُ فَمَا دُونَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُعَانَقَةُ وَالْمُلَامَسَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجِمَاعُ، لِقَوْلِهِ: الرَّفَثُ، وَلِسَبَبِ النُّزُولِ، فَإِبَاحَتُهُ تَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ مَا دونه. وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي: اطْلُبُوا، وَفِي تَفْسِيرِ: مَا كتب الله، أقوال. أحدها: أَنَّهُ الْوَلَدُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: لَمَّا أُبِيحَتْ لَهُمُ الْمُبَاشَرَةُ أُمِرُوا بِطَلَبِ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنَ الْوَلَدِ، وَكَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لَا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَقَطْ، لَكِنْ لِابْتِغَاءِ مَا شَرَعَ اللَّهُ النِّكَاحَ لَهُ مِنَ التَّنَاسُلِ: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . الثَّانِي: هُوَ مَحَلُّ الْوَطْءِ أَيِ: ابْتَغُوا الْمَحَلَّ الْمُبَاحَ الْوَطْءِ فِيهِ دُونَ مَا لَمْ يُكْتَبْ لَكُمْ مِنَ الْمَحَلِّ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «2» . الثَّالِثُ: هُوَ مَا أَبَاحَهُ بَعْدَ الْحَظْرِ، أَيِ: ابْتَغُوا الرُّخْصَةَ وَالْإِبَاحَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ: وَابْنُ زَيْدٍ. الرَّابِعُ: وَابْتَغُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، قَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ. الْخَامِسُ: هُوَ الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزَّجَّاجُ. أَيِ: ابْتَغُوا مَا أُبِيحَ لَكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِهِ، وَيُرَجِّحُهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَمُعَاوِيَةِ بْنِ قُرَّةَ: وَاتَّبِعُوا مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَرُوِيَتْ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. السَّادِسُ: هُوَ الْأَحْوَالُ وَالْأَوْقَاتُ الَّتِي أُبِيحَ لَكُمُ الْمُبَاشَرَةُ فِيهِنَّ، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ تَمْتَنِعُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ والعدة والردّة.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 71. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 222.

السَّابِعُ: هُوَ الزَّوْجَةُ وَالْمَمْلُوكَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «1» . الثَّامِنُ: أَنَّ ذَاكَ نَهْيٌ عَنِ الْعَزْلِ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَائِرِ. وكتب هُنَا بِمَعْنَى: جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «2» أَوْ بِمَعْنَى: قَضَى، أَوْ بِمَعْنَى: أَثْبَتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ: فِي الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: ابْتَغُوا وَافْعَلُوا مَا أَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ فِي فِعْلِهِ مِنْ غَشَيَانِ النِّسَاءِ فِي جَمِيعِ لَيْلَةِ الصِّيَامِ، وَيُرَجِّحُ هَذَا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ: وَأْتُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ أَيْضًا، أُبِيحَ لَهُمْ ثَلَاثَةُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ لَيْلَةِ الصِّيَامِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ غَايَةُ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ مِنَ: الْجِمَاعِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ قِصَّةُ صِرْمَةَ بْنِ قَيْسٍ، فَإِحْلَالُ الْجِمَاعِ بِسَبَبِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَإِحْلَالُ الْأَكْلِ بِسَبَبِ صِرْمَةَ أَوْ غَيْرِهِ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ الْخَيْطُ الْمَعْهُودُ، وَلِذَلِكَ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ خَيْطًا أَبْيَضَ وَخَيْطًا أَسْوَدَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا لَهُ، إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أَنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. رَوَى ذَلِكَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ نُزُولِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ نُزُولِ مِنَ الْفَجْرِ سَنَةٌ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ- وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ- وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ، فَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِمَعْنَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهُ فَيَقُولُ: لَيْسَ بِعَبَثٍ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ وُجُوبَ الْخِطَابِ، وَيَعْزِمُ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا اسْتَوْضَحَ الْمُرَادَ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ النَّسْخِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلَتْ بِهِ، أَعَنِي بِإِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ: مِنَ الْفَجْرِ، فَنُسِخَ حَمْلُ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ والخيط الأسود على

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 6، وسورة المعارج: 70/ 30. (2) سورة المجادلة: 58/ 22.

ظَاهِرِهِمَا، وَصَارَا ذَلِكَ مَجَازَيْنِ، شَبَّهَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ، وَبِالْأَسْوَدِ مَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ، شُبِّهَا بِخَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى التَّشْبِيهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا مِنْ زَيْدٍ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ زَيْدٍ كَانَ اسْتِعَارَةً، وَكَانَ التَّشْبِيهُ هُنَا أَبْلَغَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حَيْثُ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْحَالُ، أَوِ الْكَلَامُ، وَهُنَا لَوْ لَمْ يَأْتِ: مِنَ الْفَجْرِ، لَمْ يُعْلَمِ الِاسْتِعَارَةُ، وَلِذَلِكَ فَهِمَ الصَّحَابَةُ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْخَيْطَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ: مِنَ الْفَجْرِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ، وَهُوَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، غَفَلَ عَنْ هَذَا التَّشْبِيهِ وَعَنْ بَيَانِ قَوْلِهِ: مِنَ الْفَجْرِ، فَحَمَلَ الْخَيْطَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَحَكَى ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ وَقَالَ: «إِنْ كَانَ وِسَادُكَ لَعَرِيضًا» وَرُوِيَ: «إنك لعريض القفاء» . إِنَّمَا ذَاكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ، وَالْقَفَا الْعَرِيضُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قِلَّةِ فِطْنَةِ الرَّجُلِ، وَقَالَ: عَرِيضُ الْقَفَا مِيزَانُهُ عَنْ شِمَالِهِ ... قَدِ انْحَصَّ مِنْ حَسْبِ الْقَرَارِيطِ شَارِبُهْ وَكُلُّ مَا دَقَّ وَاسْتَطَالَ وَأَشْبَهَ الْخَيْطَ سَمَّتْهُ الْعَرَبُ خَيْطًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمَا فَجْرَانِ: أَحَدُهُمَا يبدو سواد مُعْتَرِضًا، وَهُوَ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ وَالْآخَرُ يَطْلُعُ سَاطِعًا يَمْلَأُ الْأُفُقَ، فَعِنْدَهُ الْخَيْطَانِ: هُمَا الْفَجْرَانِ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِامْتِدَادِهِمَا تَشْبِيهًا بِالْخَيْطَيْنِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الصُّبْحُ الصَّادِقُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ، لَا الصُّبْحُ الْكَاذِبُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ، لِأَنَّ الْفَجْرَ هُوَ انْفِجَارُ النُّورِ، وَهُوَ بِالثَّانِي لَا بِالْأَوَّلِ، وَشُبِّهَ بِالْخَيْطِ وَذَلِكَ بِأَوَّلِ حَالِهِ، لِأَنَّهُ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ مُسْتَطِيرًا، فَبِطُلُوعِ أَوَّلِهِ فِي الْأُفُقِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ. هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ أَخَذَ النَّاسُ وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَعْصَارُ وَالْأَمْصَارُ، وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِمْسَاكُ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ فِي الطُّرُقِ، وَعَلَى رؤوس الْجِبَالِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ بِالنَّاسِ ثُمَّ قَالَ: الْآنَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ، وَمِمَّا قَادَهُمْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي النَّهَارِ، وَفِي تَعْيِينِهِ إِبَاحَةَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ لِلصَّائِمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي التَّبَيُّنِ وَفَعَلَ شَيْئًا

مِنْ هَذِهِ، ثُمَّ انْكَشَفَ أَنَّهُ كَانَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ وَصَامَ، أَنَّهُ لَا قَضَاءَ لِأَنَّهُ غَيَّاهُ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ لِلصَّائِمِ لَا بِالطُّلُوعِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ لَهُ الْفَجْرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ. فَقَالَ اخْتَلَفْتُمَا، فَأَكَلَ وَبَانَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ أَبِي حنيفة. وفي هذه التغيية أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى التَّبَيُّنِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ مَأْذُونًا فِيهَا إِلَى الْفَجْرِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْحَسَنُ يَرَى: أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ وَهُوَ صَائِمٌ ، وَهَذِهِ التغيية إِنَّمَا هِيَ حَيْثُ يُمْكِنُ التَّبَيُّنُ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَوْ كَانَتْ مُقْمِرَةً أَوْ مُغَيِّمَةً، أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُشَاهِدُ مَطْلَعَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي دُخُولِ الْفَجْرِ، إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْعِلْمِ بِحَالِ الطُّلُوعِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ إِلَى التَّيَقُّنِ بِدُخُولِ وَقْتِ الطُّلُوعِ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ. وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا فِطْرَ إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ: الْمُبَاشَرَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ. وَأَمَّا مَا عَدَاهَا مِنَ الْقَيْءِ، وَالْحُقْنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى الإباحة، فبقي عليها. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا: خُصَّتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ لِمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَيْءُ، وَالْحُقْنَةُ، فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُمَا، وَالسَّعُوطُ نَادِرٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا. وَمِنَ الْأُولَى، هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، قِيلَ: وَهِيَ مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: حَتَّى يُبَايِنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، كَمَا يُقَالُ: بَانَتِ الْيَدُ مِنْ زَنْدِهَا، أَيْ فارقته، ومن، الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ هُوَ بَعْضُ الْفَجْرِ وأوله، ويتعلق أيضا بيتبين، وَجَازَ تَعَلُّقُ الْحَرْفَيْنِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدِ اتَّحَدَ اللَّفْظُ لاختلاف المعنى، فمن الْأُولَى هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، ومن الثَّانِيَةُ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ لِلْخَيْطَيْنِ مَعًا، عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، لِأَنَّ الْفَجْرَ عِنْدَهُ فَجْرَانِ، فَيَكُونُ الْفَجْرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْإِفْرَادُ، بَلْ يكون جنسا.

وقيل: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَجْرِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْأَبْيَضُ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْفَجْرِ، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَيَانِ أَجَازَ ذَلِكَ هُنَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الَّذِي هُوَ الْفَجْرُ، مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وَاكْتَفَى بِبَيَانِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ عَنْ بَيَانِ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، لأن بيان أحديهما بَيَانٌ لِلثَّانِي، وَكَانَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّبَيُّنِ، وَالْمَنُوطِ بِتَبْيِينِهِ: الْحُكْمُ مِنْ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ. وَلِقَلَقِ اللَّفْظِ لَوْ صَرَّحَ بِهِ، إِذْ كَانَ: يَكُونُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ مِنَ الْفَجْرِ بَيَانًا لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ، وَمِنَ اللَّيْلِ بَيَانًا لِلْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. وَلِكَوْنِ: مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، جَاءَ فَضْلَةً فَنَاسَبَ حَذْفُ بَيَانِهِ. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُجُوبِ الصَّوْمِ، فَلِذَلِكَ، لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ هُنَا، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ غَايَتِهِ، فَذُكِرَتْ هُنَا الْغَايَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَى اللَّيْلِ وَالْغَايَةُ تَأْتِي إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا، لَمْ يَدْخُلْ فِي حكم ما قبلها، و: الليل، لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ، لَكِنْ مِنْ ضَرُورَةِ تَحَقُّقِ عِلْمِ انْقِضَاءِ النَّهَارِ دُخُولُ جُزْءٍ مَا مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الْكِتَابِ يُفْطِرُونَ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْعِشَاءِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخِلَافِ لَهُمْ، وَبِالْإِفْطَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَالْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ هُنَا لِلْوُجُوبِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ، فَإِتْمَامُهُ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ: الْمُبَاشَرَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا الْإِبَاحَةَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ، وَعَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْغُسْلِ إِلَى الْفَجْرِ، وَعَلَى نَفْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ. انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِتْمَامُ الصَّوْمِ لَا إِنْشَاءُ الصَّوْمِ، بَلْ فِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِصَوْمٍ سَابِقٍ أُمِرْنَا بِإِتْمَامِهِ، فَلَا تَعَرُّضَ فِي الْآيَةِ لِلنِّيَّةِ بِالنَّهَارِ. وَأَمَّا جَوَازُ تَأْخِيرِ الْغُسْلِ إِلَى الْفَجْرِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، بَلْ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى نَفْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ، فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ غَيَّا وُجُوبَ إِتْمَامِ الصَّوْمِ بِدُخُولِ اللَّيْلِ فَقَطْ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوِصَالِ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ

الْوِصَالِ، فَحَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَقَدْ رُوِيَ الْوِصَالُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَأَبِي الْحَوْرَاءِ، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِيهِ إِلَى السَّحَرِ، مِنْهُمْ: أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ وَهْبٍ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبُ الْإِتْمَامِ إِلَى اللَّيْلِ فَلَوْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ غَرَبَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَهَذَا مَا أَتَمَّ إِلَى اللَّيْلِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ إِسْحَاقُ وَأَهْلُ الظَّاهِرُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَالنَّاسِي وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي الْغُرُوبِ قَضَى وَكَفَّرَ وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ قِيَاسًا عَلَى الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ، فَلَوْ قَطَعَ الْإِتْمَامَ متعمدا لجماع، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ بِأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَمَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ نَاسِيًا بِجِمَاعٍ فَكَالْمُتَعَمِّدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَفِي الْكَفَّارَةِ خِلَافٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِأَكْلٍ وَشُرْبٍ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ نَوَى الْفِطْرَ بِالنَّهَارِ وَلَمْ يَفْعَلْ، بَلْ رَفَعَ نِيَّةَ الصَّوْمِ، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَعِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّهُ يُفْطِرُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الصَّوْمُ، فَلَوْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ صَوْمٌ فَيُتِمَّهُ، قَالُوا: لَكِنَّ السُّنَّةَ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ إِتْمَامِ الصَّوْمِ النَّفْلِ عَلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ لِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ عُمُومِ: وأَتِمُّوا الصِّيامَ. وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: الْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمُ الْفَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَرَدَ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْفَرْضِ. قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَقَائِقَ: لَمَّا عَلِمَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحُظُوظِ، قَسَمَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِي هَذَا الشَّهْرِ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَظِّكَ، فقال في حقه وأَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. وَحَظِّكَ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ لَمَّا أَبَاحَ لَهُمُ الْمُبَاشَرَةَ فِي لَيْلَةِ الصِّيَامِ، كَانُوا إِذَا كَانُوا مُعْتَكِفِينَ وَدَعَتْ ضَرُورَةُ أَحَدِهِمْ إِلَى الْجِمَاعِ خَرَجَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَضَى مَا فِي نَفْسِهِ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِمْ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَخَارِجَهُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْمُبَاشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ.

وَسَبَبُ النُّزُولِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ هِيَ الْجِمَاعُ فَقَطْ، وَقَالَ بِذَلِكَ فِرْقَةٌ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجِمَاعُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَقَعُ هُنَا عَلَى الْجِمَاعِ وَمَا يُتَلَذَّذُ بِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَبْطُلُ بِالْجِمَاعِ. وَأَمَّا دَوَاعِي النِّكَاحِ: كَالنَّظْرَةِ وَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ بِشَهْوَةٍ فَيَفْسُدُ بِهِ الِاعْتِكَافُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ فَعَلَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ فَعَلَ فَسَدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، أَيْضًا: لَا يَفْسُدُ مِنَ الْوَطْءِ إِلَّا بِمَا مِثْلُهُ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَمَسُّهُ. قَالُوا: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ مَحْظُورٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ مَعْنِيًّا بِهَا اللَّمْسُ، وَكَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَالْجِمَاعُ أجرى وَأَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ اللَّمْسَ وَزِيَادَةً، وَكَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ الْمَعْنِيُّ بِهَا اللَّمْسَ مُقَيَّدَةً بِالشَّهْوَةِ. وَالْعُكُوفُ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ النَّفْسِ فِي مَكَانٍ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: وَأَنْتُمْ عَكِفُونَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: لَا تُبَاشِرُوهُنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاعْتِكَافِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ، فَهُوَ سُنَّةٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَطْلُوبِيَّتِهِ، فَنَذْكُرُ شَرَائِطَهُ، وَشَرْطُهُ الصَّوْمُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ سُنَّةِ الْمُعْتَكِفِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ سَعِيدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ الصَّوْمُ شَرْطًا. وَرَوَى طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحْدِيدٌ فِي الزَّمَانِ، بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى لُبْثًا فِي زَمَنٍ مَا، يُسَمَّى عُكُوفًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَعْتَكِفُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، هَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْعُكُوفِ أَيْضًا يَقْتَضِي جَوَازَ اعْتِكَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَحَدِهِمَا، فَعَلَى هَذَا، لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فَقَطْ صَحَّ، أَوْ يَوْمٍ فَقَطْ صَحَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَتْهُ بِلَيَالِيهَا. وَفِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمُعْتَكَفِ، وَالِاشْتِغَالِ فِيهِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَالدُّخُولِ إِلَيْهِ، وَفِي مُبْطِلَاتِهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقَهِ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ كَوْنُهُ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشيء مقيد بِحَالٍ لَهَا مُتَعَلَّقٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ، إِذَا وَقَعَتْ مِنَ الْمَنْهِيِّينَ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُتَعَلَّقُ شَرْطًا فِي وُقُوعِهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا وَأَنْتَ رَاكِبٌ فَرَسًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّكَ مَتَى رَكِبْتَ فَلَا يَكُونُ رُكُوبُكَ إِلَّا فَرَسًا، فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَسْجِدِ فِي الِاعْتِكَافِ ضَعِيفٌ، فَذِكْرُ: الْمَسَاجِدِ، إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ غَالِبًا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيهَا، لَا أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمَسَاجِدِ، أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الِاعْتِكَافُ بِمَسْجِدٍ، بَلْ كُلُّ مَسْجِدٍ هُوَ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ، والقول الآخر: أنه لا اعتكاف إلا في مسجد يُجْمَعُ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَائِشَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا اعتكاف إلا في مسجد نَبِيٍّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا مَسَاجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِي مَسْجِدِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ لِلرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُنَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لَا فِي غَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَلَا يُعْجِبُهُ فِي بَيْتِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْثُ شَاءَتْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْمَشُ: فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى الْإِفْرَادِ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ جَمَعَ فَقَرَأَ فِي الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ الْآيَةَ. أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ مَحَلَّ الْقُرْبَةِ مُقَدَّسٌ عَنِ اجْتِلَابِ الْحُظُوظِ. انْتَهَى. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ تِلْكَ مُبْتَدَأٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِجَمْعٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الِاعْتِكَافِ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الصِّيَامِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى

هُنَا. وَكَانَتْ آيَةُ الصِّيَامِ قَدْ تَضَمَّنَتْ عِدَّةَ أَوَامِرَ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ عدة مناهي، ثُمَّ جَاءَ آخِرَهَا النَّهْيُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالَةِ الِاعْتِكَافِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْكُلِّ: حُدُودٌ، تَغْلِيبًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ، وَاعْتِبَارًا بِتِلْكَ الْمَنَاهِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْأَوَامِرُ. فَقِيلَ: حُدُودُ اللَّهِ، وَاحْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِفِعْلِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ: فَلَا تَقْرَبُوهَا، وَحُدُودُ اللَّهِ: شُرُوطُهُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ: فَرَائِضُهُ، قَالَهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. أَوْ: مَعَاصِيهِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: مَحَارِمُهُ وَمَنَاهِيهِ، أَوِ الْحَوَاجِزُ هِيَ الْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَإِضَافَةُ الْحُدُودِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُنَا، وَحَيْثُ ذُكِرَتْ، تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي عَدَمِ الِالْتِبَاسِ بِهَا، وَلَمْ تَأْتِ مُنَكَّرَةً وَلَا مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِهَذَا الْمَعْنَى. فَلا تَقْرَبُوها النَّهْيُ عَنِ الْقُرْبَانِ لِلْحُدُودِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ الِالْتِبَاسِ بِهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَالرَّتْعُ حَوْلَ الْحِمَّى وَقُرْبَانُهُ وَاحِدٌ، وَجَاءَ هُنَا: فَلَا تَقْرَبُوهَا، وَفِي مَكَانٍ آخَرَ: فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ «1» وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ، لِأَنَّهُ غَلَّبَ هُنَا جِهَةَ النَّهْيِ، إِذْ هُوَ الْمُعَقِّبُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ فِعْلِهِ كَانَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ أَبْلَغَ، وَأَمَّا حَيْثُ جَاءَ: فَلَا تَعْتَدُوهَا، فَجَاءَ عَقِبَ بَيَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَذِكْرِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ وَالْحَيْضِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْهَى عَنِ التَّعَدِّي فِيهَا، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ «2» جَاءَ بَعْدَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَذِكْرِ أَنْصِبَاءِ الْوَارِثِ، وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَبَيَانِ عَدَدِ مَا يَحِلُّ مِنَ الزَّوْجَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ هَذَا كُلِّهُ التَّعَدِّيَ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إِلَى مَا لَمْ يَشْرَعْهُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ «3» ثُمَّ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَ بِالْجَنَّةِ، وَأَوْعَدَ مَنْ عَصَا وَتَعَدَّى حُدُودَهُ بِالنَّارِ، فَكُلُّ نَهْيٍ مِنَ الْقُرْبَانِ وَالتَّعَدِّي وَاقِعٌ فِي مَكَانِ مُنَاسَبَتِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَى: لَا تَقْرَبُوهَا: لَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِالتَّغْيِيرِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «4» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 229. (2) سورة النساء: 4/ 14. (3) سورة النساء: 4/ 12. (4) سورة الأنعام: 6/ 152، وسورة الإسراء: 17/ 34.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي ذِكْرِ أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ الْبَلِيغَةِ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى بَقِيَّةِ مَشْرُوعَاتِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْفَرَائِضُ الَّتِي بَيَّنَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِيَتَّقُوهُ بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَنْزَلَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ زَائِدَةً وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِلتَّشْبِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَبَّهٍ وَمُشَبَّهٍ بِهِ. لِلنَّاسِ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ خُصُوصٌ فِيمَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْهُدَى، بدلالة الآيات التي يتضمن إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «1» انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى الْخُصُوصِ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ وَيُوَضِّحُهَا لَهُمْ، وَيَكْسِيهَا لَهُمْ حَتَّى تَصِيرَ حلية وَاضِحَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تبينها تَبَيُّنُ النَّاسِ لَهَا، لِأَنَّكَ تَقُولُ: بَيَّنْتُ لَهُ فَمَا بين، كَمَا تَقُولُ: عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ. وَنَظَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى يُبَيِّنُ، يَجْعَلُ فِيهِمُ الْبَيَانَ، فَلِذَلِكَ ادَّعَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْخُصُوصِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ فِي قَوْمٍ الْهُدَى، جَعَلَ فِي قَوْمٍ الضَّلَالَ، فَعَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ يَلْزَمُ أَنْ يُرَدَّ الْخُصُوصُ على ما قررناه يبقى عَلَى دَلَالَتِهِ الْوَضْعِيَّةِ مِنَ الْعُمُومِ، وَعَلَى تَفْسِيرِنَا التَّبْيِينَ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يُنَازِعُ فِيهِ الْمُعْتَزِلِينَ. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ حَيْثُ ذُكِرَ التَّقْوَى فَإِنَّهُ يَكُونُ عَقِبَ أَمْرٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَكَذَلِكَ جَاءَ هُنَا لِأَنَّ مَنْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْرٍ مُشْتَهًى بِالطَّبْعِ اشْتِهَاءً عَظِيمًا بِحَيْثُ هُوَ أَلَذُّ مَا لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْمَلَاذِّ الْجُسْمَانِيَّةِ شَاقٌّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَحْجُزُهُ عَنْ مُعَاطَاتِهِ إِلَّا التَّقْوَى، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَا أَيْ: هُمْ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ حُصُولِ التَّقْوَى لَهُمْ بِالْبَيَانِ الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ، وَفِي عِدَّانَ بْنِ أَشْوَعَ الْحَضْرَمِيِّ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ، وَكَانَ امْرُؤُ الْقَيْسِ الْمَطْلُوبَ، وَعِدَّانُ الطَّالِبَ، فَأَرَادَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَحْلِفَ، فَنَزَلَتْ، فَحَكَّمَ عِدَّانَ فِي أَرْضِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْهُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى بِالصِّيَامِ فَحَبَسَ نَفْسَهُ عَمَّا تَعَوَّدَهُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِالنَّهَارِ، ثُمَّ حَبَسَ نَفْسَهُ بِالتَّقْيِيدِ فِي مَكَانٍ تَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى صَائِمًا لَهُ، مَمْنُوعًا مِنَ اللَّذَّةِ الْكُبْرَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَكُونَ مَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ

_ (1) سورة الرعد: 12/ 27، وسورة فاطر: 35/ 8.

إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الْخَالِصِ الَّذِي يُنَوِّرُ الْقَلْبَ، وَيَزِيدُهُ بَصِيرَةً، وَيُفْضِي بِهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ المضي بِهِ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ عِبَادَتِهِ مِنْ صِيَامِهِ وَاعْتِكَافِهِ، وَتَخَلَّلَ أَيْضًا بَيْنَ آيَاتِ الصِّيَامِ آيَةُ إِجَابَةِ سُؤَالِ الدَّاعِي، وَسُؤَالِ الْعِبَادِ اللَّهَ تَعَالَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ مَنْ كَانَ مَطْعَمُهُ حَرَامًا، وَمَلْبَسُهُ حَرَامًا، وَمَشْرَبُهُ حَرَامًا، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ أَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» . فَنَاسَبَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُنَاسَبَةُ: أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الصَّوْمَ، كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ خَالَفَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَهُمْ، فَأَحَلَّ لَهُمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُوَافِقُوهُمْ فِي أَكْلِ الرِّشَاءِ مِنْ مُلُوكِهِمْ وَسَفَلَتِهِمْ وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ الرِّبَا، وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «1» لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «2» أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «3» وَأَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِيهِمْ قَوْلًا، وَفِعْلًا، وَصَوْمًا، وَفِطْرًا، وَكَسْبًا، وَاعْتِقَادًا، وَلِذَلِكَ وَرَدَ لَمَّا نُدِبَ إِلَى السُّحُورِ: «خَالِفُوا الْيَهُودَ» وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ فِي الْحُيَّضِ مُخَالَفَتَهُمْ إِذْ عَزَمَ الصَّحَابَةُ عَلَى اعْتِزَالِ الْحُيَّضِ، إِذْ نَزَلَ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ «4» لِاعْتِزَالِ الْيَهُودِ، بِأَنْ لَا يُؤَاكِلُوهُنَّ، وَلَا يَنَامُوا مَعَهُنَّ فِي بَيْتٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» . فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ. وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا، الْأَكْلُ الْمَعْرُوفُ، لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ. وَذَكَرَهُ دُونَ سَائِرِ وُجُوهِ الِاعْتِدَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَوَائِجِ، وَبِهِ يَقَعُ إِتْلَافُ أَكْثَرِ الْأَمْوَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ هُنَا مَجَازًا عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَهَذَا الْخِطَابُ وَالنَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ. وَالْمَعْنَى: وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «5» أَيْ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَالضَّمِيرُ الَّذِي لِلْخِطَابِ يَصِحُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تحتمه أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، وَآكِلًا وَمَأْكُولًا مِنْهُ، فَخَلَطَ الضَّمِيرَ لِهَذِهِ الصَّلَاحِيَّةِ، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غَيْرَهُ، فَلَيْسَتِ الْإِضَافَةُ إِذْ ذَاكَ لِلْمَالِكِينَ حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ بِالْمُلَابَسَةِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ الْإِضَافَةَ لِلْمَالِكِينَ، وَفَسَّرُوا الْبَاطِلَ بِالْمَلَاهِي وَالْقِيَانِ وَالشُّرْبِ، وَالْبَطَالَةِ بَيْنَكُمْ مَعْنَاهُ فِي مُعَامَلَاتِكُمْ وَأَمَانَاتِكُمْ، لِقَوْلِهِ: تُرِيدُونَهَا بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 174. (2) سورة آل عمران: 3/ 75. (3) سورة المائدة: 5/ 42. (4) سورة البقرة: 2/ 222. (5) سورة النساء: 4/ 29.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ بِالظُّلْمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْجِهَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً فَيَدْخُلُ فِي ذلك الغضب، وَالنَّهْبُ، وَالْقِمَارُ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَالْخِيَانَةُ، وَالرِّشَاءُ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمُنَجِّمُونَ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِي أَخْذِهِ الشَّرْعُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُ صَاحِبَهُ. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ آثِمٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ فَيَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا دَرَاهِمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْضًا: هُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْغَبْنُ فِي الْبَيْعِ مَعَ مَعْرِفَةِ الْبَائِعِ بِحَقِيقَةِ مَا يَبِيعُ، لِأَنَّ الْغَبْنَ كَأَنَّهُ وَهَبَهُ. انْتَهَى. وَهُوَ صَحِيحٌ. وَالنَّاصِبُ لِلظَّرْفِ: تَأْكُلُوا، وَالْبَيْنِيَّةُ مَجَازٌ إِذْ مَوْضُوعُهَا أَنَّهَا ظَرْفُ مَكَانٍ، ثُمَّ تُجُوِّزَ فِيهَا فَاسْتُعْمِلَتْ فِي أَشْخَاصٍ، ثُمَّ بَيْنَ الْمَعَانِي. وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ، يَقَعُ لِمَا هُمْ يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا كَانَ يَطَّلِعُ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْمُنْكَرِ أَشْنَعُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذَا يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَيْسَتْ لِلْمَالِكِينَ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا الظَّرْفِ الدَّالِّ عَلَى التَّخَلُّلِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُتَعَاطَى مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: انْتِصَابُ: بَيْنَكُمْ، عَلَى الْحَالِ مِنْ: أَمْوَالِكُمْ، فيتعلق بمحذوف أي: كائنة بَيْنَكُمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْبَاءُ فِي: بِالْبَاطِلِ، لِلسَّبَبِ وَهِيَ تتعلق: بتأكلوا، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ بِالْبَاطِلِ، حَالًا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ. وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ هُوَ مَجْزُومٌ بِالْعَطْفِ عَلَى النَّهْيِ، أَيْ وَلَا تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَلَا تُدْلُوا بِإِظْهَارِ لَا النَّاهِيَةِ. وَالظَّاهِرُ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: بِهَا، عَائِدٌ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَنُهُوا عَنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَخْذُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالثَّانِي: صَرْفُهُ لِأَخْذِهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جواز النَّهْيِ بِإِضْمَارِ أَنْ وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ قِيلَ: تُدْلُوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ أَنَّ مَعْنَى الظَّرْفِ هُوَ النَّاصِبُ، وَالَّذِي يَنْصِبُ فِي مِثْلِ هَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنْ مُضْمَرَةٌ انْتَهَى. وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى أَنَّ الظرف ينصب فتقول بِهِ، وَأَمَّا إِعْرَابُ الْأَخْفَشِ هُنَا أَنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَتَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ ذَلِكَ هُنَا، فَتِلْكَ مَسْأَلَةُ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ، بِالنَّصْبِ.

قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِذَا نَصَبْتَ كَانَ الْكَلَامُ نَهْيًا عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ فِي الْآيَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حُصُولَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ ضَرُورَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أُفْرِدَ أَمْ جُمِعَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؟. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَى، أَنَّ قَوْلَهُ لِتَأْكُلُوا عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ لَمْ تَصْلُحِ الْعِلَّةُ لَهُ، لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا تَصْلُحُ الْعِلَّةُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى وُجُودِهِمَا، بَلْ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ: الْإِدْلَاءُ بِالْأَمْوَالِ إِلَى الْحُكَّامِ. وَالْإِدْلَاءُ هُنَا قِيلَ: مَعْنَاهُ الْإِسْرَاعُ بِالْخُصُومَةِ فِي الْأَمْوَالِ إِلَى الْحُكَّامِ، إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ لَكُمْ. إِمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْجَاحِدِ بَيِّنَةٌ أَوْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً: كَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلسَّبَبِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَرْشُوا بِالْأَمْوَالِ الْحُكَّامَ لِيَقْضُوا لَكُمْ بِأَكْثَرَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَرَجَّحُ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَظِنَّةُ الرِّشَاءِ إِلَّا مَنْ عُصِمَ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّفْظَتَيْنِ مُتَنَاسِبَتَانِ تُدْلُوا، مِنْ إِرْسَالِ الدَّلْوِ، وَالرِّشْوَةُ مِنَ الرِّشَاءِ، كَأَنَّهَا يُمَدُّ بِهَا لِتُقْضَى الْحَاجَةُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَجْنَحُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَدْلَى فُلَانٌ بِحُجَّتِهِ، قَامَ بِهَا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهَا عَائِدٌ عَلَى الْأَمْوَالِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، أَيْ: لَا تُدْلُوا بِشَهَادَةِ الزُّورِ إِلَى الْحُكَّامِ، فَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ الْإِدْلَاءِ هُمُ الشُّهُودَ، وَيَكُونُ الْفَرِيقُ مِنَ الْمَالِ مَا أَخَذُوهُ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ نُهُوا هُمُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ، وَيَكُونُ الْفَرِيقُ مِنَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، بِسَبَبِ شَهَادَةِ أُولَئِكَ الشُّهُودِ. لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً أَيْ: قِطْعَةً وَطَائِفَةً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ قِيلَ. هِيَ أَمْوَالُ الْأَيْتَامِ، وَقِيلَ: هِيَ الْوَدَائِعُ. وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ، وَأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ كُلِّ مَالٍ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ فِي الْحُكُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَ: مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْ: فَرِيقًا كَائِنًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ. بِالْإِثْمِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِتَأْكُلُوا، وَفُسِّرَ بِالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، وَقِيلَ: بِالرِّشْوَةِ، وَقِيلَ: بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَقِيلَ: بِالصُّلْحِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ ظَالِمٌ، وَالْأَحْسَنُ

الْعُمُومُ، فَكُلُّ مَا أُخِذَ بِهِ الْمَالُ وَمَآلُهُ إِلَى الْإِثْمِ فَهُوَ إِثْمٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِثْمِ التَّقْصِيرُ فِي الْأَمْرِ قَالَ الشَّاعِرُ: جُمَالِيَّةٍ تعتلى بِالرِّدَافِ ... إِذَا كَذَّبَ الْآثِمَاتُ الْهَجِيرَا أَيِ: الْمُقَصِّرَاتُ، ثُمَّ جَعَلَ التَّقْصِيرَ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالذَّنْبَ إِثْمًا. وَالْبَاءُ فِي: بِالْإِثْمِ لِلسَّبَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْحَالِ أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالْإِثْمِ، وَهُوَ الذَّنْبُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ آثِمُونَ، وَمَا أُعِدَّ لَكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، وَخُصُوصًا حُقُوقَ الْعِبَادِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّ مَا أَقْضِي لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ تَحْرِيمُ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُبِيحُ لِلْخَصْمِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْأَمْوَالِ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَاخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ الْبَاطِنُ خِلَافَهُ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخِ عَقْدٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَالْمَحْكُومُ لَهُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ نَافِذٌ، وَهُوَ كَالْإِنْشَاءِ وَإِنْ كَانُوا شُهُودَ زُورٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَنْفَذُ ظَاهِرًا وَلَا يَنْفَذُ بَاطِنًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ آثِمٌ، وَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِأَخْذِ مَالٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَخَذُهُ، كَأَنْ يَلْقَى لِأَبِيهِ دَيْنًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَحَكَمَ لَهُ بِهِ الْحَاكِمُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ أَبَاهُ وَهَبَهُ، أَوْ أَنَّ الْمَدِينَ قَضَاهُ، أَوْ أَنَّهُ مُكْرَهٌ فِي الْإِقْرَارِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ بِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ بَرَاءَةِ الْمُقِرِّ، وَعَدَمُ إِكْرَاهِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نِدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ تَقْرِيبًا لَهُمْ، وَتَحْرِيكًا لِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَأَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَيْنَا كَمَا كُتِبَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا تَأَسِّيًا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ بِمَنْ قَبْلَنَا، فَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِنَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِرَجَاءِ تَقْوَانَا لَهُ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَّلَ هَذَا التَّكْلِيفَ بِأَنْ جَعَلَهُ: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أوّل: يَحْصُرُهَا الْعَدُّ مِنْ قِلَّتِهَا، ثُمَّ خَفَّفَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِجَوَازِ الْفِطْرِ فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ وَسَفَرِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ عِدَّتِهَا إِذَا صَحَّ وَأَقَامَ، ثُمَّ

ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ وَأَرَادَ الْفِطْرَ فَأَفْطَرَ فَإِنَّهُ يَفْدِي بِإِطْعَامِ مَسَاكِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْخَيْرِ، هُوَ خَيْرٌ، وَأَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ، وَالْفِدَاءِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْقَلَائِلِ بِوُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَكَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ يُبْتَدَأُ فِيهَا أَوَّلًا بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، يَنْتَهِي إِلَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَسْتَقِرُّ الْحُكْمُ. وَنَبَّهَ عَلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْمَفْرُوضِ بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ تَعَالَى مَنْ كَانَ شَهِدَهُ أَنْ يُصُومَهُ، وَعَذَرَ مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، فَذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ عِدَّةِ مَا أَفْطَرَ إِذَا صَحَّ وَأَقَامَهُ كَحَالِهِ حِينَ كَلَّفَهُ صَوْمَ تِلْكَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ التَّخْفِيفَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ هُوَ لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى بِالْمُكَلَّفِينَ لِلتَّيْسِيرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ صَوْمِ الشَّهْرِ، وَإِبَاحَةَ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَإِرَادَةَ الْيُسْرِ بِنَا هُوَ لِتَكْمِيلِ الْعِدَّةِ، وَلِتَعْظِيمِ اللَّهِ، وَلِرَجَاءِ الشُّكْرِ، فَقَابَلَ كُلَّ مَشْرُوعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَعْظِيمَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، ذَكَرَ قُرْبَهُ بِالْمَكَانَةِ مِنْهُمْ، فَإِذَا سَأَلُوهُ أَجَابَهُمْ، وَلَا تَتَأَخَّرُ إِجَابَتُهُ تَعَالَى عِنْدَهُ عَنْ وَقْتِ دُعَائِهِ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمُ الِاسْتِجَابَةَ لَهُ إِذَا دَعَاهُمْ كَمَا هُوَ يُجِيبُهُمْ إِذَا دَعَوْهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالدَّيْمُومَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعِبَادَاتِ وَبِصِحَّتِهِ تَصِحُّ، ثُمَّ ذَكَرَ رَجَاءَ حُصُولِ الرَّشَادِ لَهُمْ إِذَا اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِإِحْلَالِ مَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْهُ، وَهُوَ النِّكَاحُ فِي سَائِرِ اللَّيَالِي الْمَصُومِ أَيَّامُهَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُنَّ مِثْلُ اللِّبَاسِ لَكُمْ فَأَنْتُمْ لَا تَسْتَغْنُونَ عَنْهُنَّ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِخْبَارِ بِالتَّحْلِيلِ حَتَّى أَبَاحَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَقَالَ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَغَيَّا ثَلَاثَتَهُنَّ بِتَبْيِينِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَمْرَ وُجُوبٍ بِإِتْمَامِ الصِّيَامِ إِلَى اللَّيْلِ. وَلَمَّا كَانَ إِحْلَالُ النِّكَاحِ فِي سَائِرِ لَيَالِي الصَّوْمِ، وَكَانَ مِنْ أَحْوَالِ الصَّائِمِ الِاعْتِكَافُ، وَكَانَتْ مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ فِي الِاعْتِكَافِ حَرَامًا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَوَاجِزِ وَهِيَ: الْحُدُودُ، وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي حَدَّهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَهَاهُمْ عَنْ قُرْبَانِهَا، فَضْلًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيهَا مُبَالَغَةً فِي التَّبَاعُدِ عَنْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْآيَاتِ وَيُوَضِّحُهَا وَهِيَ سَائِرُ الْأَدِلَّةِ وَالْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرَائِعِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ لِيَكُونُوا عَلَى رَجَاءٍ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ الْمُفْضِيَةِ بِصَاحِبِهَا إِلَى طَاعَةِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 189 إلى 196]

اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي لَمْ يُبِحِ اللَّهُ الِاكْتِسَابَ بِهَا، وَنَهَاكُمْ أَيْضًا عَنْ رِشَاءِ حُكَّامِ السُّوءِ لِيَأْخُذُوا بِذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّونَهَا، وَقَيَّدَ النَّهْيَ وَالْأَخْذَ بِقَيْدِ الْعِلْمِ بِمَا يَرْتَكِبُونَهُ تَقْبِيحًا لَهُمْ، وَتَوْبِيخًا لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهَا وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ السيء كَانَ أَقْبَحَ فِي حَقِّهِ وَأَشْنَعَ مِمَّنْ يَأْتِي فِي الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ جَاهِلٌ فِيهَا. وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. وَلَمَّا كان افتتاح هذه الآيات الْكَرِيمَةِ بِالْأَمْرِ الْمُحَتَّمِ بِالصِّيَامِ وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي أُمِرَ فِيهَا بِاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، حَتَّى أَنَّهُ جَاءَ في الحديث: «فإن امرئ سَبَّهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» . وَجَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَمْنُوعَاتِهِ وَأَكْبَرِهَا الْأَكْلُ فِيهِ، اخْتَتَمَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، لِيَكُونَ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ الصَّائِمُ مِنَ الْحَلَالِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَيُرْجَى أَنْ يُتَقَبَّلَ عَمَلُهُ وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنَ «الصَّائِمِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ صَوْمِهِمْ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» . فَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِوَاجِبٍ مَأْمُورٍ بِهِ، وَاخْتُتِمَتْ بِمُحَرَّمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ أَيْضًا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَالِيفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى تَعَالَى عَنْهُ، أعاننا الله عليها. [سورة البقرة (2) : الآيات 189 الى 196] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

الْأَهِلَّةِ: جَمْعُ هِلَالٍ، وَهُوَ مَقِيسٌ فِي فِعَالٍ الْمُضَعَّفِ، نَحْوَ: عِنَانٍ وَأَعِنَّةٍ، وَشَذَّ فِيهِ فُعُلٌ قَالُوا: عُنُنٌ فِي: عِنَانٍ، وَحُجُجٌ فِي حِجَاجٍ. وَالْهِلَالُ، ذَكَرَ صَاحِبُ (كِتَابِ شَجَرِ الدُّرِّ) فِي اللُّغَةِ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هِلَالِ السَّمَاءِ وَحَدِيدَةٍ كَالْهِلَالِ بِيَدِ الصَّائِدِ يُعَرْقِبُ بِهَا الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَذُؤَابَةِ النَّعْلِ، وَقِطْعَةٍ مِنَ الْغُبَارِ، وَمَا أَطَاقَ مِنَ اللَّحْمِ بِظُفْرِ الْأُصْبُعِ، وَقِطْعَةٍ مِنْ رَحًى، وَسَلْخِ الْحَيَّةِ، وَمُقَاوَلَةِ الْأَجِيرِ عَلَى الشُّهُورِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي رِقَّةِ النَّسْجِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي التَّهْلِيلِ. وَجَمْعِ هَلَّةٍ وَهِيَ الْمُفْرِجَةُ، وَالثُّعْبَانِ، وَبَقِيَّةِ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا. وَيُسَمَّى الَّذِي فِي السَّمَاءِ هِلَالًا لِلَيْلَتَيْنِ، وَقِيلَ: لِثَلَاثٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِهِ وَلَيْلَتَيْنِ مِنْ آخِرِهِ. وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ يُسَمَّى قَمَرًا. وقال الأصمعي: سمي هلال إِلَى أَنْ يُحَجَّرَ، وَتَحْجِيرُهُ أَنْ يَسْتَدِيرَ لَهُ كَالْخَيْطِ الرَّقِيقِ، وَقِيلَ: يُسَمَّى بِذَلِكَ إِلَى أَنْ يَبْهَرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي سَبْعٍ. قَالُوا: وَسُمِّيَ هِلَالًا لِارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ، وَالْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، أَوْ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّهْلِيلِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْهِلَالُ عَلَى الشَّهْرِ كَمَا يُطْلَقُ الشَّهْرُ عَلَى الْهِلَالِ، وَيُقَالُ: أَهَلَّ الْهِلَالُ، واستهل وأهللنا وَاسْتَهْلَلْنَاهُ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ اسْتَهَلَّ الْهِلَالُ أَيْضًا يَعْنِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَهُوَ الْهِلَالُ، وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ وَأَنْشَدَ: وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ ... وَحَوْلٌ بَعْدَهُ حَوْلٌ جَدِيدُ وَيُقَالُ أَيْضًا: اسْتَهَلَّ: بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، وَلَا يُقَالُ أَهَلَّ، وَيُقَالُ أَهْلَلْنَا عَنْ لَيْلَةِ كَذَا، وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: يُقَالُ أَهَلَّ الْهِلَالُ وَاسْتَهَلَّ، وَأَهْلَلْنَا الْهِلَالَ وَاسْتَهْلَلْنَاهُ،

انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي مَادَّةِ هَلَلَ، وَلَكِنْ أَعَدْنَا ذَلِكَ بِخُصُوصِيَّةِ لَفْظِ الْهِلَالِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هُنَا. مَواقِيتُ: جَمْعُ مِيقَاتٍ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمِيقَاتُ مُنْتَهَى الْوَقْتِ، قَالَ تَعَالَى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً «1» . ثَقِفَ الشَّيْءَ: إِذَا ظَفِرَ بِهِ وَوَجَدَهُ عَلَى جِهَةِ الْأَخْذِ وَالْغَلَبَةِ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ ثَقِفٌ سَرِيعُ الْأَخْذِ لِأَقْرَانِهِ، وَمِنْهُ: فَإِمَّا تثقفهم فِي الْحَرْبِ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثَقِفْتُمُوهُمْ أَحْكَمْتُمْ غَلَبَتَهُمْ، يُقَالُ: رَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ إِذَا كَانَ مُحْكِمًا لِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ. انْتَهَى. وَيُقَالُ: ثَقِفَ الشَّيْءَ ثَقَافَةً إِذَا حَذَقَهُ، وَمِنْهُ أَخَذْتُ الثَّقَافَةَ بِالسَّيْفِ، والثقافة أَيْضًا حَدِيدَةٌ تَكُونُ لِلْقَوَّاسِ وَالرَّمَّاحِ يُقَوِّمُ بِهَا الْمُعْوَجَّ، وَثَقِفَ الشَّيْءَ: لَزِمَهُ، وَهُوَ ثَقِفٌ إِذَا كَانَ سَرِيعَ الْعِلْمِ، وَثَقِفْتُهُ: قَوَّمْتُهُ، وَمِنْهُ الرِّمَاحُ الْمُثَقَّفَةُ، أَيِ: الْمُقَوَّمَةُ وَقَالَ الشَّاعِرُ: ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ يَعْنِي الرِّمَاحَ الْمُقَوَّمَةَ. التَّهْلُكَةِ. عَلَى وَزْنِ تَفْعُلَةٍ، مَصْدَرٌ لِهَلَكَ، وتفعلة مصدرا قَلِيلٌ، حَكَى سِيبَوَيْهِ مِنْهُ: التَّضُرَّةَ وَالتَّسُرَّةَ، وَمِثْلُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ: التَّنْصُبَةُ، وَالتَّنْفُلَةُ، يُقَالُ: هَلَكَ هَلَكًا وَهَلَاكًا وَتَهْلُكَةً وَهَلْكَاءَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ، وَمَفْعِلٌ مِنْ هَلَكَ جَاءَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَكَذَلِكَ بِالتَّاءِ، هُوَ مُثَلَّثُ حَرَكَاتِ الْعَيْنِ، وَالضَّمُّ فِي مَهْلِكٍ نَادِرٌ، وَالْهَلَاكُ فِي ذِي الرُّوحِ: الْمَوْتُ، وَفِي غَيْرِهِ: الْفَنَاءُ وَالنَّفَادُ. وَكَوْنُ التَّهْلُكَةِ مَصْدَرًا حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ عن أبي عبيدة، وقلة غَيْرُهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَصْلُهَا التَّهْلِكَةُ كَالتَّجْرِبَةِ وَالتَّبْصِرَةِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مِنْ هَلَّكَ، يَعْنِي الْمُشَدَّدَ اللَّامِ، فَأُبْدِلَتْ مِنَ الْكَسْرَةِ ضَمَّةٌ، كَمَا جَاءَ الْجُوَارُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهَا حَمْلًا عَلَى شَاذٍّ، وَدَعْوَى إِبْدَالٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الشَّاذِّ فَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَ تَفْعُلَةٍ ذَاتِ الضَّمِّ، عَلَى تَفْعِلَةٍ ذَاتِ الْكَسْرِ، وجعل

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 142. [.....]

تَهْلُكَةٍ مَصْدَرًا لِهَلَّكَ الْمُشَدَّدِ اللَّامِ، وَفَعَّلَ الصَّحِيحُ اللَّامِ غَيْرُ الْمَهْمُوزِ قِيَاسُ مَصْدَرِهِ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى تَفْعِيلٍ، نَحْوَ: كَسَّرَ تَكْسِيرًا، وَلَا يَأْتِي عَلَى تَفْعُلَةٍ، إِلَّا شَاذًّا، فَالْأَوْلَى جَعْلُ تَهْلُكَةٍ مَصْدَرًا، إِذْ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ نَحْوَ: التَّضُرَّةِ. وَأَمَّا تَهْلِكَةٌ فَالْأَحْسَنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِهَلَكَ الْمُخَفَّفِ اللام، لأن بِمَعْنَى تَهْلُكَةٍ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَصَادِرِ فَعَلَ: تَفْعِلَةً قَالُوا: جَلَّ الرَّجُلُ تَجِلَّةً، أَيْ جَلَالًا، فَلَا يَكُونُ تَهْلِكَةٌ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا لِهَلَّكَ الْمُشَدَّدِ اللَّامِ، وَأَمَّا إِبْدَالُ الضَّمَّةِ مِنَ الْكَسْرَةِ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَفِي غَايَةِ الشُّذُوذِ، وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِالْجُوَارِ وَالْجِوَارِ فَلَا يُدَّعَى فِيهِ الْإِبْدَالُ، بَلْ يُبْنَى الْمَصْدَرُ فِيهِ عَلَى فُعَالٍ بِضَمِّ الْفَاءِ شُذُوذًا. وَزَعَمَ ثَعْلَبٌ أَنَّ التَّهْلُكَةَ مَصْدَرٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، إذا لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِصَحِيحٍ، إِذْ قَدْ حَكَيْنَا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حَكَى التَّضُرَّةَ وَالتَّسُرَّةَ مَصْدَرَيْنِ. وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ مَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْهَلَاكُ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقِيلَ التَّهْلُكَةُ: الشَّيْءُ الْمُهْلِكُ، وَالْهَلَاكُ حُدُوثُ التَّلَفِ، وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ كُلُّ مَا تَصِيرُ غَايَتُهُ إِلَى الْهَلَاكِ. أُحْصِرْتُمْ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: أُحْصِرَ الرَّجُلُ رُدَّ عَنْ وَجْهٍ يُرِيدُهُ، قِيلَ: حَصَرَ وَأُحْصِرَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَهُ الشَّيْبَانِيُّ، وَالزَّجَّاجُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ: وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ يَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ وَقِيلَ: أُحْصِرَ بِالْمَرَضِ، وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ، قَالَهُ يَعْقُوبُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: الرِّوَايَةُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْخَوْفُ وَالْمَرَضُ: أُحْصِرَ، وَالْمَحْبُوسُ: حُصِرَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ أَيْضًا أَحُصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ، فَإِنْ حُبِسَ فِي سِجْنٍ أَوْ دَارٍ قِيلَ حُصِرَ فَهُوَ: مَحْصُورٌ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُ الْحَصْرِ وَالْإِحْصَارِ: الْحَبْسُ، وَحُصِرَ فِي الْحَبْسِ أَقْوَى مِنْ أُحْصِرَ، وَقَالَ ابن فارس في (المجمل) : حُصِرَ بِالْمَرَضِ، وَأُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ. ويقال: حصره صَدْرُهُ أَيْ: ضَاقَ، وَرَجُلٌ حَصِرٌ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَبُوحُ بِسِرِّهِ، قَالَ جَرِيرٌ: وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِرًا بِسِرِّكَ يَا تَمِيمُ ضَنِينًا وَالْحُصْرُ: احْتِبَاسُ الْغَائِطِ، وَالْحَصِيرُ: الْمَلِكُ، لِأَنَّهُ كَالْمَحْبُوسِ الحجاب. قَالَ لَبِيدٌ: حَتَّى لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ وَالْحَصِيرُ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ سَقِيفٌ مِنْ بَرَدَى سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْضِمَامِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ، كَحَبْسِ الشَّيْءِ مَعَ غَيْرِهِ.

الْهَدْيِ الْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ يُهْدِيهَا الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِهِ. يُقَالُ: أَهْدَيْتُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ هَدِيًّا وَهَدْيًا بِالتَّشْدِيدِ، وَالتَّخْفِيفِ، فَالتَّشْدِيدُ جَمْعُ هَدِيَّةٍ، كَمَطِيَّةٍ وَمَطِيٍّ، وَالتَّخْفِيفُ جَمْعُ هِدْيَةٍ كَجِذْيَةِ السَّرْجِ، وَجِذْيٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لِلْهَدْيِ، وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فَلَمْ أَرَ مَعْشَرًا أَسَرُوا هَدِيًّا ... وَلَمْ أَرَ جَارَ بَيْتٍ يُسْتَبَاءُ وَقِيلَ: الْهَدِيُّ، بِالتَّشْدِيدِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقِيلَ: الْهَدْيُ بِالتَّخْفِيفِ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْهَدْيِ كَالرَّهْنِ وَنَحْوِهِ، فَيَقَعُ لِلْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ. وَفِي اللُّغَةِ مَا أُهْدِيَ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ مَتَاعٍ أَوْ نَعَمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُسَمَّى هَدْيًا، لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ خَصَّتِ الْهَدْيَ بِالنَّعَمِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا يُسَمَّى مِنَ النَّعَمِ هَدْيًا عَلَى مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْحَلْقُ: مَصْدَرُ حَلَقَ يَحْلِقُ إِذَا أَزَالَ الشَّعَرَ بِمُوسَى أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُحَدَّدٍ وَنُورَةٍ، وَالْحَلْقُ مَجْرَى الطَّعَامِ بَعْدَ الْفَمِ. الْأَذَى: مَصْدَرٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَلَمِ، تَقُولُ: آذَانِي زَيْدٌ إِيذَاءً آلَمَنِي. الصَّدَقَةُ: مَا أُعْطِيَ مِنْ مَالٍ بِلَا عِوَضٍ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. النُّسُكُ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النُّسُكُ سَبَائِكُ الْفِضَّةِ، كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنْهَا نَسِيكَةٌ، ثُمَّ قِيلَ لِلْمُتَعَبِّدِ: نَاسِكٌ لِأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ وَصَفَّاهَا، كَالنَّسِيكَةِ الْمُخَلَّصَةِ مِنَ الدَّنَسِ، ثُمَّ قِيلَ لِلذَّبِيحَةِ: نُسُكٌ، لِأَنَّهَا مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تتقرب بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: النُّسُكُ مَصْدَرُ نَسَكَ يَنْسَكُ نُسْكًا وَنُسُكًا، كَمَا تَقُولُ حَلُمَ الرَّجُلُ، حُلْمًا وَحُلُمًا. الْأَمْنُ: زَوَالُ مَا يُحْذَرُ، يُقَالُ: أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنًا وَأَمَنَةً. الثَّلَاثَةُ: عَدَدٌ مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ مِنْهُ: ثَلَّثْتُ الْقَوْمَ أُثَلِّثُهُمْ، أَيْ صَيَّرْتُهُمْ ثَلَاثَةً بِي. وَالثَّلَاثُونَ عَدَدٌ مَعْرُوفٌ، وَالثُّلُثُ بِضَمِّ اللَّامِ وَتَسْكِينِهَا أَحَدُ أَجْزَاءِ الْمُنْقَسِمِ إلى ثلاثة، وثلث ممنوعا مِنَ الصَّرْفِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْعِقَابُ: مَصْدَرُ عَاقَبَ أَيْ جَازَى الْمُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَاقِبَةِ، كَأَنَّهُ يُرَادُ عَاقِبَةُ فعله المسيء. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ نَزَلَتْ عَلَى سُؤَالِ قَوْمٍ مِنَ

الْمُسْلِمِينَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْهِلَالِ ، وَمَا فَائِدَةُ مِحَاقِهِ وَكَمَالِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِحَالِ الشَّمْسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثم يزيد حتى يمتلىء، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ لَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الصِّيَامِ، وَأَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ مَقْرُونٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَكَذَلِكَ الْإِفْطَارُ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» . وَكَانَ أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ: الطَّوَافُ، وَالْحَجُّ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا. وَكَانَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، فَأَتَى بِالْكَلَامِ عَلَى الرُّكْنِ الْخَامِسِ وَهُوَ: الْحَجُّ، لِيَكُونَ قَدْ كَمُلَتِ الْأَرْكَانُ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ أُمَّةٌ أَقَلَّ سُؤَالًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا فَأُجِيبُوا مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُهَا وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ «1» وَالثَّانِي: هَذَا، وَسِتَّةٌ بَعْدَهَا، وَفِي غيرها: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ «2» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ «3» وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «4» وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «5» وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ «7» قِيلَ: اثْنَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ فِي الأول في شرح فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَاثْنَانِ فِي الْآخِرِ فِي شَرْحِ الْمَعَادِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ افْتُتِحَتْ سُورَتَانِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ «8» الْأُولَى وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ السُّوَرِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ الرَّابِعَةُ أَيْضًا مِنَ السُّوَرِ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ. وَالضَّمِيرُ فِي يَسْأَلُونَكَ ضَمِيرُ جَمْعٍ عَلَى أَنَّ السَّائِلِينَ جَمَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْ سَأَلَ اثْنَيْنِ، كَمَا رُوِيَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسْبَةِ الشَّيْءِ إِلَى جَمْعٍ وَإِنْ كَانَ مَا صَدَرَ إِلَّا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، قِيلَ: أَوْ لِكَوْنِ الِاثْنَيْنِ جَمْعًا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ والمجاز.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 186. (2) سورة المائدة: 5/ 4. (3) سورة الأنفال: 8/ 1. (4) سورة الإسراء: 17/ 85. (5) سورة الكهف: 18/ 83. (6) سورة طه: 20/ 105. (7) سورة النازعات: 79/ 42. (8) سورة النساء: 4/ 1، وسورة الحج: 22/ 1.

والكاف: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَ: يَسْأَلُونَكَ، خَبَرٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ السُّؤَالِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ: وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ السُّؤَالِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حِكَايَةً عَنْ حَالٍ مَضَتْ. وَ: عَنْ، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ، يُقَالُ: سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ السُّؤَالُ عَنْ ذَاتِ الْأَهِلَّةِ، بَلْ عَنْ حِكْمَةِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا، وَفَائِدَةِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ فَلَوْ كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مَا حَصَلَ التَّوْقِيتُ بِهَا. وَالْهِلَالُ هُوَ مُفْرَدٌ وَجَمْعٌ بِاخْتِلَافِ أَزْمَانِهِ، قَالُوا: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ هِلَالًا فِي شَهْرٍ، غَيْرَ كَوْنِهِ هِلَالًا فِي آخَرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَنِ الْأَهِلَّةِ، بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ لَامِ الْأَهِلَّةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَوَرْشٌ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ شَاذًّا بِإِدْغَامِ نُونِ: عَنْ فِي لَامِ الْأَهِلَّةِ بَعْدَ النَّقْلِ وَالْحَذْفِ. قُلْ هِيَ أَيِ: الْأَهِلَّةُ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ هَذِهِ: الْحِكْمَةُ فِي زِيَادَةِ الْقَمَرِ وَنُقْصَانِهِ إِذْ هِيَ كَوْنُهَا مَوَاقِيتٌ فِي الْآجَالِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالْعِدَدِ، وَالصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ، وَمُدَّةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ، وَالنُّذُورِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْأَوْقَاتِ، وَفَضَائِلِ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «2» . وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْوَقْتُ الزَّمَانُ الْمَفْرُوضُ لِلْعَمَلِ، وَمَعْنَى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أُمُورِ مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ. انْتَهَى. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْوَقْتُ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مُحَدَّدٌ فِي ذَاتِهِ، وَالتَّوْقِيتُ تَقْدِيرُ حَدِّهِ، وَكُلَّمَا قَدَّرْتَ لَهُ غَايَةً فَهُوَ مُوَقَّتٌ، وَالْمِيقَاتُ مُنْتَهَى الْوَقْتِ، وَالْآخِرَةُ مُنْتَهَى الْخَلْقِ، وَالْإِهْلَالُ مِيقَاتُ الشَّهْرِ، وَمَوَاضِعُ الْإِحْرَامِ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ، لِأَنَّهَا مَقَادِيرُ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَالْمِيقَاتُ مِقْدَارٌ جُعِلَ عَلَمًا لِمَا يُقَدَّرُ مِنَ الْعَمَلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي تَغْيِيرِ الْهِلَالِ بِالنَّقْصِ وَالنَّمَاءِ رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الإحرام الفلكية

_ (1) سورة يونس: 10/ 5. (2) سورة الإسراء: 17/ 12.

لَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ التَّغْيِيرِ إِلَى أَحْوَالِهَا، فَأَظْهَرَ تَعَالَى الِاخْتِلَافَ فِي الْقَمَرِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي الشَّمْسِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِقُدْرَةٍ مِنْهُ تَعَالَى. وَالْحَجُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِلنَّاسِ، قَالُوا: التَّقْدِيرُ وَمَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ، فَحُذِفَ الثَّانِي اكْتِفَاءً بِالْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: لِتَعْرِفُوا بِهَا أَشْهُرَ الْحَجِّ وَمَوَاقِيتَهُ. وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُطْلَبُ مِيقَاتُهُ وَأَشْهُرُهُ بِالْأَهِلَّةِ، أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ، وَكَأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، إِذْ قَوْلُهُ: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ، لَيْسَ الْمَعْنَى مَوَاقِيتَ لِذَوَاتِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: مَوَاقِيتُ لِمَقَاصِدِ النَّاسِ الْمُحْتَاجِ فِيهَا لِلتَّأْقِيتِ دِينًا وَدُنْيَا. فَجَاءَ قَوْلُهُ: وَالْحَجِّ، بَعْدَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ. فَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّاسِ، بَلْ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي نَابَ النَّاسُ مَنَابَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمَقَاصِدُ يُفْضِي تَعْدَادُهَا إِلَى الْإِطْنَابِ، اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِفْرَادُ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْهُرِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِفَرْضِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نقل الحج على تِلْكَ الْأَشْهُرِ لِأَشْهُرٍ أُخَرَ، إِنَّمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي النَّسِيءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْحَجِّ، بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: وَالْحِجِّ بِكَسْرِهَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ في قوله: حِجُّ الْبَيْتِ «1» فَقِيلَ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْحَجُّ، كَالرَّدِّ وَالسَّدِّ، وَالْحِجُّ، كَالذِّكْرِ، فَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حنيفة، ومالك عن جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ لِعُمُومِ الْأَهِلَّةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. قِيلَ: وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ اكْتَفَتْ بِمُضِيِّ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلْعِدَّتَيْنِ، وَلَا تَسْتَأْنِفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَيْضًا، وَلَا شُهُورًا، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ. وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا كَانَ ابْتِدَاؤُهَا بِالْهِلَالِ، وَكَانَتْ بِالشُّهُورِ، وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا بِالْأَهِلَّةِ لَا بِعَدَدِ الْأَيَّامِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ آلَى مِنَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى أَنْ مَضَى الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ مُعْتَبَرٌ فِي اتِّبَاعِ الطَّلَاقِ بِالْأَهِلَّةِ دُونَ اعْتِبَارِ الثَّلَاثِينَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حِينَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ، وَالْأَيْمَانُ، وَالدُّيُونُ، مَتَى كَانَ ابْتِدَاؤُهَا بِالْهِلَالِ كَانَ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ، وَبِذَلِكَ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّوْمِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ: إن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 97.

الْمُسَاقَاتِ تَجُوزُ عَلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ سِنِينَ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ إِلَى الْحَصَادِ أَوِ الدِّرَاسِ أَوْ لِلْغِطَاسِ وَشِبْهِهِ وَهُوَ: مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ وَكَذَلِكَ إِلَى قُدُومِ الْغُزَاةِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَدَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ وَصْفِ الْهِلَالِ بِالْكِبَرِ أَوِ الصِّغَرِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَا فُصِّلَ، فَسَوَاءٌ رُئِيَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، فَإِنَّهُ لِلَّيْلَةِ الَّتِي رُئِيَ فِيهَا. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى. قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا إِذَا حَجُّوا وَاعْتَمَرُوا يَلْتَزِمُونَ شَرْعًا أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ حَائِلٌ، فَكَانُوا يَتَسَنَّمُونَ ظُهُورَ بُيُوتِهِمْ عَلَى الْجُدْرَانِ، وَقِيلَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَحْرَمَ أَحَدُهُمْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَمْ يَأْتِ حَائِطًا، وَلَا بَيْتًا، وَلَا دَارًا مِنْ بَابِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ نَقَبَ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ نَقْبًا بدخل مِنْهُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَنْصِبُ سُلَّمًا، يَصْعَدُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخَيْمَةِ وَالْفُسْطَاطِ، وَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَابِ حَتَّى يَحِلَّ إِحْرَامُهُ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بِرًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحُمْسِ، وَهُمْ: قُرَيْشٌ، وَكِنَانَةُ، وَخُزَاعَةُ، وَثَقِيفٌ، وَخَثْعَمُ، وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَبَنُو نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَوَقَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَقَالَ: إِنِّي أَحْمَسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا أَحْمَسُ» . فَنَزَلَتْ. ذَكَرَ هَذَا مُخْتَصَرًا السُّدِّيُّ. وَرَوَى الرَّبِيعُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دَخَلَ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَدَخَلَ وَخَرَقَ عَادَةَ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لِمَ دَخَلْتَ وَأَنْتَ قَدْ أَحْرَمْتَ» ؟ قَالَ: دَخَلْتَ أَنْتَ فَدَخَلْتُ بِدُخُولِكَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَحْمُسُ، إِنِّي مِنْ قَوْمٍ لَا يَدِينُونَ بِذَلِكَ» . فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَنَا دِينِي دِينُكَ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: كَانَ الْخَارِجُ لِحَاجَةٍ لَا يَعُودُ مِنْ بَابِهِ مَخَافَةَ التَّطَيُّرِ بِالْخَيْبَةِ، وَيَبْقَى كَذَلِكَ حَوْلًا كَامِلًا. وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ رَادًّا عَلَى مَنْ جَعَلَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا بِرًّا، آمِرًا بِإِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وهذه أسباب تضافرت عَلَى أَنَّ الْبُيُوتَ أُرِيدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ هُوَ الْمَجِيءُ إِلَيْهَا، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ الْمَجَازِ مَعَ مُخَالَفَةِ ما تضافرت مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أن الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْحَجِّ زَاعِمِينَ أَنَّهُ مِنَ الْبِرِّ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ، وَإِنَّمَا جَرَتِ

الْعَادَةُ بِهِ قَبْلَ الْحَجِّ أَنْ يَفْعَلُوهُ، فِي الْحَجِّ، وَلَمَّا ذَكَرَ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْأَهِلَّةِ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، وَمَا حِكْمَةُ ذَلِكَ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، فَأَفْعَالُهُ جَارِيَةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ، رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا، إِذَا أَحْرَمُوا، لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مِنَ الْبِرِّ، أَوْ لَمَّا وَقَعَتِ الْقِصَّتَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا مَعًا، وَوَصَلَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَأَمَّا حَمْلُ الْإِتْيَانِ وَالْبُيُوتِ عَلَى المجاز ففيه أقوال. أحدها: أَنَّ ذَلِكَ ضَرْبُ، مَثَلٍ: الْمَعْنَى لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَسْأَلُوا الْجُهَّالَ، وَلَكِنِ اتَّقُوا وَاسْأَلُوا الْعُلَمَاءَ. فَهَذَا كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا مَثَلًا لِمُخَالَفَةِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي النَّسِيءِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَيَحِلُّونَ الْحَرَامَ، فَضُرِبَ مَثَلًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَقِيلَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ تَحْتَ إِتْيَانِ كُلِّ وَاجِبٍ فِي اجْتِنَابِ كُلِّ مُحَرَّمٍ. قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الطَّرِيقِ الصحيح، وإتيانها كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّانِعَ حَكِيمٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ، وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فِي نُورِهِ مِنْ فِعْلِهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً وَحِكْمَةً، فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَجْهُولِ. أَمَّا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِعَدَمِ عِلْمِنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ لَيْسَ بِحَكِيمٍ فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَجْهُولِ عَلَى الْمَعْلُومِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَمَّا لَمْ تَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ فِي اخْتِلَافِ الْقَمَرِ، صِرْتُمْ شَاكِّينَ فِي حِكْمَةِ الْخَالِقِ، فَقَدْ أَتَيْتُمْ مَا تَظُنُّونَهُ بِرًّا، إِنَّمَا الْبِرُّ أَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فَتَسْتَدِلُّوا بِالْمَعْلُومِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْخَالِقِ عَلَى الْمَجْهُولِ، فَتَقْطَعُوا أَنَّ فِيهِ حِكْمَةً بَالِغَةً، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، قَالَهُ فِي (رِيِّ الظَّمْآنِ) وَهُوَ قَوْلٌ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَمْثِيلًا لِتَعْكِيسِهِمْ فِي سُؤَالِهِمْ، وَأَنَّ مَثَلَهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَتْرُكُ بَابَ الْبَيْتِ وَيَدْخُلُهُ مِنْ ظَهْرِهُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْبِرُّ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ، بِأَنْ تَعْكِسُوا فِي مَسَائِلِكُمْ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى ذَلِكَ وَتَجَنَّبَهُ، وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى مِثْلِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها أَيْ: وَبَاشِرُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ

يباشر عَلَيْهَا، وَلَا تَعْكِسُوا، وَالْمُرَادُ وجوب توطئ النُّفُوسِ وَرَبْطِ الْقُلُوبِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ اللَّهِ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاجِ شُبْهَةٍ، وَلَا اعْتِرَاضِ شَكٍّ فِي ذَلِكَ، حَتَّى لَا يُسْأَلَ عَنْهُ لِمَا فِي السُّؤَالِ مِنَ الِاتِّهَامِ بمفارقة الشك لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ مُخْتَصَرًا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُبَيْدَةَ: لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَشِذُّوا فِي الْأَسْئِلَةِ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَغَيْرِهَا، فَتَأْتُونَ الْأُمُورَ عَلَى غَيْرِ مَا تُحِبُّ الشَّرَائِعُ، أَنَّهُ كَنَّى بِالْبُيُوتِ عَنِ النِّسَاءِ، الْإِيوَاءُ إِلَيْهِنَّ كَالْإِيوَاءِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَمَعْنَاهُ: لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحِلُّ مِنْ ظُهُورِهِنَّ، وَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحِلُّ مِنْ قَبُلِهِنَّ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَحَكَاهُ مَكِّيٌّ، وَالْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَوْنُهُ فِي جِمَاعِ النِّسَاءِ بَعِيدٌ مُغَيِّرٌ نَمَطَ الْكَلَامِ، انْتَهَى. وَالْبَاءُ فِي: بِأَنْ تَأْتُوا زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ لَيْسَ، وبأن تَأْتُوا، خَبَرُ لَيْسَ، وَيَتَقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْنَى عَنِ الْمَعْنَى، وَبِالْأَعْرَفِ عَمَّا دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ، لِأَنَّ: أَنْ وَصِلَتَهَا، عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الضَّمِيرِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَقَالُونُ، وَعَبَّاسٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْعِجْلِيُّ عَنْ حَمْزَةَ وَالشُّمُّونِيُّ عَنِ الْأَعْشَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: الْبِيُوتَ، بِالْكَسْرِ حَيْثُ وَقَعَ ذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ الْيَاءِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الضَّمُّ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ، وَبِهِ قَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ و: من، متعلقة: بتأتوا، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي: أَبْوَابِهَا، عَائِدٌ عَلَى الْبُيُوتِ. وَعَادَ كَضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الْبُيُوتَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَجَمْعُ الْمُؤَنَّثِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَالْأَفْصَحُ فِي قَلِيلِهِ أَنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ، وَالْأَفْصَحُ فِي كَثِيرِهِ أَنْ يُفْرَدَ. كَهُوَ فِي ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ الْوَاحِدَةِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ. وَأَمَّا جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ الَّذِي يَعْقِلُ فَلَمْ تُفَرِّقِ الْعَرَبُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَالْأَفْصَحُ أَنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ «2» وَنَحْوُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ الْوَاحِدِ وَهُوَ فَصِيحٌ. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى التَّأْوِيلَاتُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ «3» سائغة

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 23. (2) سورة البقرة: 2/ 186. (3) سورة البقرة: 2/ 177. [.....]

هُنَا، مِنْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْبِرَّ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ، عَلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ فِيهِ حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: ذَا الْبِرِّ، وَمِنَ الثَّانِي أي: بر من آمن. وَتَقَدَّمَ التَّرْجِيحُ فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ تِلْكَ لِأَنَّ هُنَاكَ عَدَّ أَوْصَافًا كَثِيرَةً مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ إِلَى سَائِرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «1» وَقَالَ هُنَا: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَالتَّقْوَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَأَحَالَ هُنَا عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ ضِمْنًا إِذْ جَاءَ مَعَهَا: هُوَ الْمُتَّقِي. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِتَخْفِيفِ: وَلَكِنْ، وَرَفْعِ: الْبِرُّ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها تَفْسِيرُهَا: يَتَفَرَّغُ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها. وَاتَّقُوا اللَّهَ: أَمْرٌ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَتْ جُمْلَتَانِ خَبَرِيَّتَانِ وَهُمَا وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى فَعَطَفَ عَلَيْهِمَا جُمْلَتَانِ أَمْرِيَّتَانِ الْأُولَى رَاجِعَةٌ لِلْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ رَاجِعَةٌ لِلثَّانِيَةِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَنِ اتَّقَى، مَحْذُوفَ الْمَفْعُولِ، نَصَّ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، عَلَى مَنْ يَتَّقِي، فَاتَّضَحَ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعْنَى مَنِ اتَّقَى اللَّهَ. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ظَاهِرُهُ التَّعَلُّقُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ هُوَ إِجْمَاعُ الْخَيْرِ مِنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَعَلَّقَ التَّقْوَى بِرَجَاءِ الْفَلَاحِ، وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ. وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ لَمَّا صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ قَابِلٍ فَيُحِلُّوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ لَا تَفِيَ لَهُمْ قُرَيْشٌ، وَيَصُدُّوهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَكَرِهُوا ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ. وَأَطْلَقَ لَهُمْ قِتَالَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مِنْهُمْ فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْجُنَاحَ فِي ذَلِكَ، وَبِذِكْرِ هَذَا السَّبَبِ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قبلها، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مُتَضَمِّنٌ شَيْئًا مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْحَجِّ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَكَانَ أَشَدُّ أَقْسَامِ التَّقْوَى وَأَشَقُّهَا عَلَى النفس قتال

_ (1) سورة البقرة: 2/ 177.

أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ المقاتلة في سبيل الله هِيَ الْجِهَادُ فِي الْكُفَّارِ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، أَمَرَ فِيهَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ، وَالْكَفِّ عَنْ مَنْ كَفَّ، فَهِيَ نَاسِخَةٌ لِآيَاتِ الْمُوَادَعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «1» قَالَ الرَّاغِبُ: أَمَرَ أَوَّلًا بِالرِّفْقِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَعْظِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ يَأْبَى الْحَقَّ بِالْحَرْبِ، وَذَلِكَ كَانَ أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى السِّيَاسَةِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَفِي (رِيِّ الظَّمْآنِ) هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ «2» وَضَعُفَ نَسْخُهَا بِقَوْلِهِ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَنَسْخُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَمْ يُنْسَخْ، بَلْ هُوَ بَاقٍ، وَبِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَاتِلُوا، لَيْسَ أَمْرًا بِقِتَالٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالتَّشَدُّدِ فِي الدِّينِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِتَالًا، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى الْقِتَالِ غَالِبًا، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يؤول إِلَيْهِ. وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ. هذا الْقَوْلُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ مَانِعٍ لَا يُنَاسِبُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، السَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَاسْتُعِيرَ لِدِينِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، فَإِنَّ الْمُتَّبِعَ ذَلِكَ يَصِلُ بِهِ إِلَى بُغْيَتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَشُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ الْإِنْسَانَ إِلَى مَا يَقْصِدُهُ، وَهَذَا مِنِ اسْتِعَارَةِ الْأَجْرَامِ لِلْمَعَانِي، وَيَتَعَلَّقُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِقَوْلِهِ: وَقَاتِلُوا، وَهُوَ ظَرْفٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْقِتَالُ بِسَبَبِ نُصْرَةِ الدِّينِ صَارَ كَأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَبَالِغُوا بِالْقِتَالِ فِي نُصْرَةِ سَبِيلِ اللَّهِ، فَضُمِّنَ: قَاتِلُوا، مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْقِتَالِ. الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ظَاهِرُهُ: مَنْ يُنَاجِزُكُمُ الْقِتَالَ ابْتِدَاءً، أَوْ دَفْعًا عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِتَالِ سِوَى مَنْ جَنَحَ لِلسَّلْمِ فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا: النِّسْوَانُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالرُّهْبَانُ-

_ (1) سورة الحج: 22/ 39. (2) سورة البقرة: 2/ 193، وسورة الأنفال: 8/ 39.

وَقِيلَ: مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَتَسْمِيَةُ مَنْ لَهُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْقُدْرَةُ مُقَاتِلًا مَجَازٌ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَجَازًا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِينَ يُخَالِفُونَكُمْ، فَجَعَلَ المخالفة قتالا، لأنه يؤول إِلَى الْقِتَالِ، فَيَكُونُ أَمْرًا بِقِتَالِ مَنْ خَالَفَ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَمْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى الْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ بِسَبَبِ إِظْهَارِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» وَلا تَعْتَدُوا نَهْيٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مُجَاوَزَةِ كُلِّ حَدِّ، حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَدَخَلَ فِيهِ الِاعْتِدَاءُ فِي الْقِتَالِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تَعْتَدُوا فِي قَتْلِ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالرُّهْبَانِ، وَالْأَطْفَالِ، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٌ. وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: كَالنَّحَّاسِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ غَالِبًا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ، وَالْقِتَالُ لَا يَكُونُ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَلِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي ذَلِكَ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَعَنِ الْمُثْلَةِ ، وَفِي وِصَايَةِ أَبِي بَكْرٍ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ هَؤُلَاءِ، وَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَعَنْ تَخْرِيبِ الْعَامِرِ، وَذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ لِغَيْرِ مَأْكَلٍ، وَإِفْسَادِ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ بِحَرْقٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: وَلَا تَعْتَدُوا فِي قِتَالِ مَنْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ. قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ، وَقِيلَ: فِي تَرْكِ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: بِالْبُدَاءَةِ وَالْمُفَاجَأَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ. وَقِيلَ: بِالْمُثْلَةِ، وَقِيلَ: بِابْتِدَائِهِمْ فِي الْحَرَمِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ: فِي الْقِتَالِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ، كَالْحَمِيَّةِ وَكَسْبِ الذِّكْرِ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. هَذَا كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ زَيْدًا إِنَّ عَمْرًا يُكْرِمُهُ. وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ: وَهِيَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُؤْثِرُهُ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْبَغْضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمَا مَجَازَانِ عَنْ إِرَادَةِ ثَوَابِهِ، وَإِرَادَةِ عِقَابِهِ، أَوْ عَنْ مُتَعَلَّقِ الْإِرَادَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ وَبُغْضِهِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، وَهِيَ عَدَمُهُمَا، فَلِذَلِكَ لَا يَرِدُ عَلَى نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمَحَبَّةِ وُجُودُ الْبُغْضِ، بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ عَدَمِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ، وَ: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، عَامٌّ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَلَّ أَوْ حَرُمَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ عُمُومُ الْأَزْمَانِ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 244.

فِي شَهْرِ الْحَرَامِ وَفِي غَيْرِهِ، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) أَمَرَ فِي الْآيَةِ: الْأَوْلَى بِالْجِهَادِ بِشَرْطِ إِقْدَامِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زَادَ فِي التَّكْلِيفِ. فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ مَعَهُمْ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمُقَاتَلَةَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ: إِنَّهُ زَادَ فِي التَّكْلِيفِ فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، فَالْوَصْفُ بَاقٍ إِذِ الْمَعْنَى: وَاقْتُلُوا الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، فَلَيْسَ أَمْرًا بِالْجِهَادِ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ قَتَلَهُ وَافِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَذَلِكَ فِي سَرِيَّةِ عبد الله بن جحش. وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أَيْ: مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهُ، يَعْنِي مَكَّةَ، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْإِخْرَاجِ أَمْرُ تَمْكِينٍ، فَكَأَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ أَنْجَزَ مَا وَعَدَ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مَعَهُمْ، وَ: مِنْ حَيْثُ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَأَخْرِجُوهُمْ، وَقَدْ تُصَرَّفُ فِي: حَيْثُ، بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا: كَمِنْ، وَالْبَاءِ، وَفِي، وَبِإِضَافَةِ لَدَى إِلَيْهَا. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: أَخْرَجُوكُمْ، عَائِدٌ عَلَى الْمَأْمُورِينَ بِالْقَتْلِ، وَالْإِخْرَاجِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَائِدٌ عَلَى بَعْضِهِمْ، جَعَلَ إِخْرَاجَ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَجَلُّهُمْ قَدْرًا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ، إِخْرَاجًا لِكُلِّهِمْ. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِتْنَةِ هُنَا أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: الرُّجُوعُ إِلَى الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَكَانُوا قَدْ عَذَّبُوا نَفَرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ. وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ يَقْتَضِي الْعَذَابَ دَائِمًا، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَاسْتَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ. الثَّانِي: الشِّرْكُ، أَيْ: شركهم بالله أشدّ حرما مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي عَيَّرُوكُمْ بِهِ فِي شَأْنِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ. الثَّالِثُ: هَتْكُ حُرُمَاتِ اللَّهِ مِنْهُمْ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تُوقِعُوهُ بِهِمْ.

الرَّابِعُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ لَهُمْ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ وَمِنْهُ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ «1» إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ «2» أَيْ: عَذَّبُوهُمْ. الْخَامِسُ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْوَطَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَأْلُوفِ وَالْأَحْبَابِ، وَتَنْغِيصِ الْعَيْشِ دَائِمًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَمَوْتٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعًا ... عَلَى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقِ السَّادِسُ: أَنْ يُرَادَ فِتْنَتُهُمْ إِيَّاكُمْ بِصَدِّكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَشَدُّ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرَمِ، أَوْ مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّاكُمْ، إِنْ قَتَلُوكُمْ، فَلَا تُبَالُوا بِقِتَالِهِمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. السَّابِعُ: تَعْذِيبُهُمُ الْمُسْلِمِينَ لِيَرْتَدُّوا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ عَرْضُ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ لِاسْتِخْلَاصِهِ مِنَ الْغِشِّ، ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي الِامْتِحَانِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا فُسِّرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ شَائِعٌ، وَالْفِتْنَةُ وَالْقَتْلُ مَصْدَرَانِ لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُمَا، وَلَا مَفْعُولُهُمَا، وَإِنَّمَا أُقِرَّ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْفِتْنَةِ أَشَدُّ مِنْ مَاهِيَّةِ الْقَتْلِ، فَكُلُّ مَكَانٍ تَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذِهِ النِّسْبَةُ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَصْدَرُ فَاعِلَهُ أَوْ مَفْعُولَهُ: الْمُؤْمِنُونَ أَمِ الْكَافِرُونَ، وَتَعْيِينُ نَوْعٍ مَا مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ هُوَ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ حَتَّى يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِيهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا يَجُوزُ قِتَالُ أَحَدٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُقَاتِلَ. وَبِهِ قَالَ طاووس، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الرَّبِيعُ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ «3» وَقَالَ قَتَادَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «4» وَالنَّسْخُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذَا النَّسْخِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ: وَلَا تَقْتُلُوهُمْ، وَكَذَلِكَ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ، مِنَ الْقَتْلِ، فَيُحْتَمَلُ الْمَجَازُ فِي الْفِعْلِ، أَيْ: وَلَا تَأْخُذُوا فِي قَتْلِهِمْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي قَتْلِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ الْمَجَازُ فِي الْمَفْعُولِ، أَيْ: وَلَا تَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ، فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ، يُقَالُ: قَتَلَنَا بَنُو فُلَانٍ، يُرِيدُ قَتَلَ بعضنا وقال:

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 14. (2) سورة البروج: 85/ 10. (3) سورة البقرة: 2/ 193 وسورة الأنفال: 8/ 39. (4) سورة التوبة: 9/ 5.

فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمْ ... وَإِنْ تقصدوا الذم نقصد ونظيره: قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ «1» فأوهنوا أَيْ: قُتِلَ مَعَهُمْ أُنَاسٌ من الربيين، فاوهن الْبَاقُونَ، وَالْعَامِلُ فِي عِنْدَ: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، وَ: حَتَّى، هُنَا لِلْغَايَةِ، وَفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بيقاتلوكم، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى عِنْدَ، تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِ الظَّرْفِ فَاحْتِيجَ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِلَى: فِي، هَذَا، وَلَمْ يَتَّسِعْ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِ الظَّرْفِ تَعْدِيَتَهُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ، لَا يُقَالُ: إِنَّ الظَّرْفَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِهِ بِالِاتِّسَاعِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، بَلِ الِاتِّسَاعُ جَائِزٌ إِذْ ذَاكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي جَرِّهِ بغي وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ؟ فَكَذَلِكَ يُخَالِفُهُ فِي الِاتِّسَاعِ. فَحُكْمُ الضَّمِيرِ إِذْ ذَاكَ لَيْسَ كَحُكْمِ الظَّاهِرِ. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ، وَفِيهِ مَحْذُوفٌ. أَيْ: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فِيهِ فَاقْتُلُوهُمْ فِيهِ، وَدَلَّ عَلَى إِرَادَتِهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوهُمْ، أَنَّهُ أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ: هُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ وَعَدَمِ النُّصْرَةِ بِحَيْثُ أُمِرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ لَا بِقِتَالِهِمْ، فَأَنْتُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُمْ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَّا إِلَى إِيقَاعِ الْقَتْلِ بِهِمْ، إِذَا نَاشَبُوكُمُ الْقِتَالَ لَا إِلَى قِتَالِهِمْ. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهَا خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْكَافِرِينَ. الْمَعْنَى: جَزَاءُ الْكَافِرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْقَتْلُ، أَيْ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى فَجَزَاؤُهُ الْقَتْلُ، وَفِي إِضَافَةِ الْجَزَاءِ إِلَى الْكَافِرِينَ إِشْعَارٌ بِعِلِّيَةِ الْقَتْلِ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: عَنِ الْكُفْرِ، وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْغُفْرَانَ وَالرَّحْمَةَ وَهُمَا لَا يَكُونَانِ مَعَ الْكُفْرِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ «2» وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ اللَّفْظِ وَهُوَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْمُقَاتَلَةِ وَالشِّرْكِ، لِتَقَدُّمِهِمَا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقِيلَ: عَنِ الْقِتَالِ دُونَ الْكُفْرِ، وَلَيْسَ الْغُفْرَانُ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلِ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لَكُمْ رَحِيمٌ بِكُمْ حَيْثُ أَسْقَطَ عَنْكُمْ تَكْلِيفَ قِتَالِهِمْ، وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَاغْفِرُوا لَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَكُمْ، وَعَلَى قَوْلِ: إِنَّ الِانْتِهَاءَ عَنِ الْقِتَالِ فَقَطْ، تكون الآية

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 146. (2) سورة الأنفال: 8/ 38.

مَنْسُوخَةً، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ تَكُونُ مُحْكَمَةً، وَمَعْنَى: انْتَهَى: كَفَّ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ النَّهْيِ، وَمَعْنَاهُ فِعْلُ الْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمُ: اضْطَرَبَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا: افْتَعَلَ. قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ توبة قاتل العمد، إذا كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ مَأْثَمًا مِنَ الْقَتْلِ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى مَنْ قَاتَلَهُ وَهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالْفِتْنَةُ هُنَا الشِّرْكُ وَمَا تَابَعَهُ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، أُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى لَا يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا يُسَنَّ بِهِمْ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ. أَعْنِي: أَنَّ الفتنة هنا والشرك وَمَا تَابَعَهُ مِنَ الْأَذَى، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ أُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ مِنْ مُشْرِكٍ وَغَيْرِهِ، وَيُخَصُّ مِنْهُمْ بِالْجِزْيَةِ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ، لِقَوْلِهِ: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ. قَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هَذِهِ الصِّيغَةُ عَامَّةٌ وَمَا قَبْلَهُ خَاصٌّ، وَهُوَ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ الْعَامِّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَى الْمُخَصَّصِ أَمْ تأخر عنه. وقال أو مُسْلِمٍ: الْفِتْنَةُ هُنَا: الْقِتَالُ فِي الْحَرَمِ، قَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ الْقِتَالُ الَّذِي إذا بدؤا بِهِ كَانَ فِتْنَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَضَارِّ. وَ: حَتَّى، هُنَا لِلْغَايَةِ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا فُسِّرَتِ الْفِتْنَةُ بِالْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَلْزَمُ زَوَالُهُ بالقتال، فكيف غي الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ بِزَوَالِهِ؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ، وَالْوَاقِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ فَقَدِ انْقَطَعَ كُفْرُهُ وَزَالَ، وَمَنْ عَاشَ خَافَ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى كُفْرِهِ، فَأَسْلَمَ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَقَاتِلُوهُمْ قَصْدًا مِنْكُمْ إِلَى زَوَالِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ زَوَالَ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُقْلِعُ عَنِ الْكُفْرِ بِغَيْرِ الْقِتَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْهُ. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ الدِّينُ هُنَا: الطَّاعَةُ، أَيْ: يَكُونَ الِانْقِيَادُ خَالِصًا لِلَّهِ، وَقِيلَ: الدِّينُ هُنَا السُّجُودُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فلا يسجد لغيره، وغي هُنَا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ، وَالثَّانِي: ثُبُوتُ الدِّينِ لِلَّهِ، وَهُوَ عَطْفُ مُثْبَتٍ عَلَى مَنْفِيٍّ، وَهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَمُتَلَازِمَانِ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الشِّرْكُ بِاللَّهِ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُطَاعُ، وَعَلَى

تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي الفتنة يكون قد غي بِأَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْتِفَاءُ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَالثَّانِي: خُلُوصُ الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى. قِيلَ وَجَاءَ فِي الْأَنْفَالِ: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ «1» ولم يجىء هُنَا: كُلُّهُ، لِأَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ فِي الْكُفَّارِ عُمُومًا، وَهُنَا فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، فَنَاسَبَ هُنَاكَ التَّعْمِيمُ، وَلَمْ يُحْتَجْ هُنَا إِلَيْهِ. قِيلَ: وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي: وَقَاتِلُوهُمْ، عَائِدًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَرَاجَعَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِي الْخُرُوجِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «2» فَعَارَضَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً «3» فَقَالَ: أَلَمْ يَقِلْ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ؟ فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأَنَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ بِقَتْلِهِ أَوْ تَعْذِيبِهِ، وَكَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ. مُتَعَلَّقُ الِانْتِهَاءِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: عَنِ الشِّرْكِ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ عَنِ الْقِتَالِ. وَأَذْعَنُوا إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فِيمَنْ يُشْرَعُ ذَلِكَ فِيهِمْ، أَوْ: عَنِ الشِّرْكِ وَتَعْذِيبِ الْمُسْلِمِينَ وَفِتْنَتِهِمْ لِيَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الضَّمِيرِ، إِذْ هُوَ عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ، أَوْ خَاصٌّ بِكُفَّارِ مَكَّةَ. وَالْعُدْوَانُ مَصْدَرُ عَدَا، بِمَعْنَى: اعْتَدَى، وَهُوَ نَفْيٌ عَامٌّ، أَيْ: لَا يُؤْخَذُ فَرْدٌ فَرْدٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ ظَلَمَ، وَيُرَادُ بِالْعُدْوَانِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ الْجَزَاءُ. سَمَّاهُ عُدْوَانًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَزَاءُ عُدْوَانٍ، وَالْعُقُوبَةُ تُسَمَّى بَاسِمِ الذَّنْبِ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُقَابَلَةِ، كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «4» فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «5» وَقَالَ الشَّاعِرُ: جَزَيْنَا ذوي العدوان بالأمس فرضهم ... قِصَاصًا سَوَاءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بالنعل

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 39. (2) سورة الحجرات: 49/ 9. (3) سورة النساء: 4/ 93. (4) سورة الشورى: 42/ 42. [.....] (5) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 54.

وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ، إِنَّمَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْعُدْوَانِ فِي الْجَزَاءِ مِنْ غَيْرِ مُزَاوَجَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ مُزَاوَجَةَ اللَّفْظِ مُزَاوَجَةُ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْتَهُوا عَنِ الْعُدْوَانِ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، أَيْ: فَلَا تَعْتَدُوا، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي تَرْكِ الشَّيْءِ عَدَلُوا فِيهِ عَنِ النَّهْيِ إِلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ الْعَامِّ، وَصَارَ أَلْزَمَ فِي الْمَنْعِ، إِذْ صَارَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَقَعُ أَصْلًا، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى النَّفْيِ الصَّحِيحِ أَصْلًا لِوُجُودِ الْعُدْوَانِ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ. فَكَأَنَّهُ يَكُونُ إِخْبَارًا غَيْرَ مُطَابِقٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفُسِّرَ الظَّالِمُونَ هُنَا بِمَنْ بَدَأَ بِالْقِتَالِ، وَقِيلَ: مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرٍ وَفِتْنَةٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ: الظَّالِمُ هُنَا مَنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ الْمَعْنَى: فَإِنِ انْتَهَى بَعْضُهُمْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَنْتَهِ، وَهُوَ الظَّالِمُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَعْتَدُوا عَلَى الْمُنْتَهِينَ لِأَنَّ مُقَاتَلَةَ الْمُنْتَهِينَ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، فَوُضِعَ قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، مَوْضِعَ: عَلَى الْمُنْتَهِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ: عَلَى الْمُنْتَهِينَ، لَيْسَ مُرَادِفًا لِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ نَفْيَ الْعُدْوَانِ عَنِ الْمُنْتَهِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِهِ عَلَى الظَّالِمِينَ إِلَّا بِالْمَفْهُومِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَفِي التَّرْكِيبِ الْقُرْآنِيِّ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بِالْمَنْطُوقِ الْمَحْصُورِ بِالنَّفْيِ وَإِلَّا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الدَّلَالَتَيْنِ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: فَوُضِعَ قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، مَوْضِعَ: عَلَى الْمُنْتَهِينَ؟ وَهَذَا الْوَضْعُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي تَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّلَالَتَيْنِ، أَلَا تَرَى فَرْقَ مَا بَيْنَ قَوْلِكَ: مَا أَكْرَمَ الْجَاهِلَ! وَمَا أَكْرَمَ إِلَّا العالم؟ وإلّا عَلَى الظَّالِمِينَ، اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْإِخْبَارِ عَلَى الظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ: لَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ: لَا عُدْوَانَ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَاءَ: بِعَلَى، تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِيلَاءِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِعْلَائِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى لَا عُدْوَانَ، لَا سَبِيلَ، كَقَوْلِهِ: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ

عَلَيَ «1» أَيْ لَا سَبِيلَ عَلَيَّ، وَهُوَ مَجَازٌ عَنِ التَّسْلِيطِ وَالتَّعَرُّضِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى جَزَاءِ الظَّالِمِ الَّذِي شَرَحْنَا بِهِ الْعُدْوَانَ. وَرَابِطُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ إِمَّا بِتَقْدِيرِ حَذْفٍ أَيْ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، أَوْ بِالِانْدِرَاجِ فِي عُمُومِ الظَّالِمِينَ، فَكَانَ الرَّبْطُ بِالْعُمُومِ. الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمِقْسَمٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَاتَلُوهُمْ ذَلِكَ الْعَامَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهَتِهِمُ الْقِتَالَ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أَيْ: هَتْكُهُ بِهَتْكِهِ، تَهْتِكُونَ حُرْمَتَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا هَتَكُوا حُرْمَتَهُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ الْكُفَّارُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ فِيهِ، فَهَمُّوا بِالْهُجُومِ عَلَيْهِ وَقَتْلِ مَنْ مَعَهُ حِينَ طَمِعُوا أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ، فَنَزَلَتْ. وَالشَّهْرُ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ التقدير: انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، كَائِنٌ بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الشَّهْرِ، فِي اللَّفْظِ هِيَ لِلْعَهْدِ، فَالشَّهْرُ الْأَوَّلُ هُوَ ذُو الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَالشَّهْرُ الثَّانِي هُوَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ فِي الْحُرُمَاتِ، أَيْ: حُرْمَةُ الشَّهْرِ وَحُرْمَةُ الْمُحْرِمِينَ حِينَ صَدَدْتُمْ بِحُرْمَةِ الْبَلَدِ، والشهر، والقطان، حِينَ دَخَلْتُمْ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى السَّبَبِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَمَّا عَلَى السَّبَبِ الْمَنْقُولِ عَنِ الْحَسَنِ فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، أَيْ: وَكُلُّ حُرْمَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تِلْكَ الْحُرُمَاتُ السَّابِقَةُ وَغَيْرُهَا، وَقِيلَ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ جُمْلَةٌ مَقْطُوعَةٌ مِمَّا قَبْلَهَا لَيْسَتْ فِي أَمْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ أَمْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ: مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَتَكَ نِلْتَ مِنْهُ مِثْلَ مَا اعْتَدَى عَلَيْكَ بِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا كَانَ مِنْ تَعِدٍّ فِي مَالٍ أَوْ جُرْحٍ لَمْ يُنْسَخْ، وَلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا تَعَدَّى عَلَيْهِ، وَيُخْفِي ذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَهُ دُونَ الْحَاكِمِ وَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ مالك.

_ (1) سورة القصص: 28/ 28.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ مَالِكٌ: الْقِصَاصُ وَقْفٌ عَلَى الْحُكَّامِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إِلَّا هُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْحُرُماتُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ، إِذْ هُوَ جَمْعُ حُرْمَةٍ، وَالضَّمُّ فِي الْجَمْعِ اتِّبَاعٌ. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ هَذَا مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: أَهِيَ مَنْسُوخَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بِمَعْنَاهَا بِمَكَّةَ، وَالْإِسْلَامُ لَمْ يَعِزَّ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَزَّ دِينُهُ، أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِرَفْعِ أُمُورِهِمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ، وَأُمِرُوا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. وَقَوْلُهُ: فَاعْتَدُوا لَيْسَ أَمْرًا عَلَى التَّحَتُّمِ إِذْ يَجُوزُ الْعَفْوُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ اعْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْبَاءُ فِي: بِمِثْلِ، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: بِعُقُوبَةٍ مِثْلِ جِنَايَةِ اعْتِدَائِهِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: مِثْلَ اعْتِدَائِهِ، وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: اعْتِدَاءً مُمَاثِلًا لِاعْتِدَائِهِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ أَمْرٌ بِتَقْوَى اللَّهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ اتِّقَاؤُهُ بِأَنْ لَا يَتَعَدَّى الْإِنْسَانُ فِي القصاص من إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّمْكِينِ وَالتَّأْيِيدِ، وَجَاءَ بِلَفْظِ: مَعَ، الدَّالَّةِ عَلَى الصُّحْبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ حَضًّا عَلَى النَّاسِ بِالتَّقْوَى دَائِمًا إِذْ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ الْمُنْتَصِرُ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ» فَأَمْسَكُوا، فَقَالَ: «ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» أَوْ: كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَكُلُّ مَا كَانَ سَبِيلًا لِلَّهِ وَشَرْعًا لَهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي أَثْمَانِ آلَةِ الْحَرْبِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَعْرَابِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: بماذا نتجهز؟ فو الله مَا لَنَا زَادٌ وَقِيلَ: فِي الْجِهَادِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ابْذُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَسُمِّيَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْفَاقًا مَجَازًا وَاتِّسَاعًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَأَنْفَقْتُ عمري في البطالة والصبي ... فَلَمْ يَبْقَ لِي عُمُرٌ وَلَمْ يَبْقَ لِي أَجْرُ وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ: الْأَمْرُ بِصَرْفِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ جِهَادٍ بِالنَّفْسِ، أَوْ بِتَجْهِيزِ غَيْرِهِ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَلَى عِيَالٍ، أَوْ فِي زَكَاةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ عِمَارَةِ سَبِيلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا اعْتَقَبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِمَا قَبْلَهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْقِتَالِ وَالْأَمْرِ بِهِ، تَبَادَرَ إِلَى الذِّهْنِ النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ لِلْمُنَاسَبَةِ. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، أَمْسَكُوا عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: كَانَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ: لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، فَنَزَلَتْ. وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَضَمَّنَّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ، وَدَخَلَ فِيهِمْ وَخَرَجَ، فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ: تَأَوَّلْتُمُ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا، وَمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ قُلْنَا: لَوْ أَقَمْنَا نُصْلِحُ مَا ضَاعَ مِنْ أَمْوَالِنَا، فَنَزَلَتْ. وَفِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِخْلَادُ إِلَى الرَّاحَةِ وَإِصْلَاحِ الْأَمْوَالِ، قَالَهُ أَبُو أَيُّوبَ. الثَّانِي: تَرْكُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَوْفَ الْعَيْلَةِ، قَالَهُ حُذَيْفَةُ، وإن عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ. الثَّالِثُ: التَّقَحُّمُ فِي الْعَدُوِّ بِلَا نِكَايَةٍ، قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ. الرَّابِعُ: التَّصَدُّقُ بِالْخَبِيثِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الْخَامِسُ: الْإِسْرَافُ بِإِنْفَاقِ كُلِّ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا «1» وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «2» قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. السَّادِسُ: الِانْهِمَاكُ فِي الْمَعَاصِي لِيَأْسِهِ مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ، قَالَهُ الْبَرَاءُ، وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ.

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 67. (2) سورة الإسراء: 17/ 29.

السَّابِعُ: الْقُنُوطُ مِنَ التَّوْبَةِ، قَالَهُ قَوْمٌ. الثَّامِنُ: السَّفَرُ لِلْجِهَادِ بِغَيْرِ زَادٍ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَقَدْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ فَأَدَّاهُمْ إِلَى الِانْقِطَاعِ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى كَوْنِهِمْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ. التَّاسِعُ: إِحْبَاطُ الثَّوَابِ إِمَّا بِالْمَنِّ أَوِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ «1» . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ نُهُوا عن كل ما يؤول بِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُفْضٍ إِلَى الْهَلَاكِ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ المتقرب بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ردّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ: أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ يحيى، فَيُقَاتِلُ فَيُقْتَلُ، أَوْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَيُقَالُ: أَلْقَى بِيَدِهِ فِي كَذَا، أو إلى كَذَا، إِذَا اسْتَسْلَمَ، لِأَنَّ الْمُسْتَسْلِمَ فِي الْقِتَالِ يُلْقِي سِلَاحَهُ بِيَدَيْهِ، وَكَذَا عَلَى كُلِّ عَاجِزٍ فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا لِلْمَوْتِ لَعَجْزٌ. وَأَلْقَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ «2» وَقَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا وَجَاءَ مُسْتَعْمَلًا بِالْبَاءِ لهذه الْآيَةِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتِيُّ اسْتِكَانَةً ... مِنَ الْجُوعِ وَهْنًا مَا يُمِرُّ وَمَا يُحْلِي وَإِذَا كَانَ أَلْقَى عَلَى هَذَيْنِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَوْمٌ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَيَكُونُ عَبَّرَ بِالْيَدِ عَنِ النَّفْسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَقَدْ زِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ. سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ أَيْ: لَا يَقْرَأْنَ السُّوَرَ، إِلَّا أَنَّ زِيَادَةَ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ لَا يَنْقَاسُ، وَقِيلَ: مَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بتلقوا، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُفْسِدُ حَالَكَ بِرَأْيِكَ.

_ (1) سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) : 33. (2) سورة الشعراء: 26/ 45.

والذي تختاره فِي هَذَا أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي الْمَعْنَى هُوَ: بِأَيْدِيكُمْ، لَكِنَّهُ ضَمَّنَ: أَلْقَى، مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَعَدَّاهُ بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تُفْضُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. كَقَوْلِهِ: أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إِلَى الْأَرْضِ أَيْ: طَرَحْتُ جَنْبِي عَلَى الْأَرْضِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ عَبَّرَ عَنِ الْأَنْفُسِ بِالْأَيْدِي، لِأَنَّ بِهَا الْحَرَكَةَ وَالْبَطْشَ وَالِامْتِنَاعَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُمْتَنَعَ بِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلَا يُهْمَلَ مَا وُضِعَ لَهُ، وَيُفْضَى بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ وَتَقَدَّمَتْ مَعَانِي: أَفْعَلَ، فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى، وَعَرَضْتُهَا عَلَى لَفْظِ: أَلْقَى، فَوَجَدْتُ أَقْرَبَ مَا يُقَالُ فِيهِ: أَنَّ: أَفْعَلَ، لِلْجَعْلِ عَلَى مَا اسْتَقْرَأَهُ التَّصْرِيفِيُّونَ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَجْعَلَهُ كَقَوْلِكَ: أَخْرَجْتُهُ، أَيْ: جَعَلْتُهُ يَخْرُجُ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ لِلتَّعْدِيَةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَطَرَدْتُهُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا دُونَهَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: جَعَلْتُهُ طَرِيدًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَجْعَلَهُ صَاحِبَ شَيْءٍ بِوَجْهٍ مَا، فَمِنْ ذَلِكَ: أَشْفَيْتُ فُلَانًا، جَعَلْتُ لَهُ دَوَاءً يُسْتَشْفَى بِهِ، وَأَسْقَيْتُهُ: جَعَلْتُهُ ذَا مَاءٍ يَسْقِي بِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى السَّقْيِ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: أَقْبَرْتُهُ، وَأَنْعَلْتُهُ، وَأَرْكَبْتُهُ، وَأَخْدَمْتُهُ، وَأَعْبَدْتُهُ: جَعَلْتُ لَهُ قَبْرًا، وَنَعْلًا، وَمَرْكُوبًا، وَخَادِمًا، وَعَبْدًا. فَأَمَّا: أَلْقَى، فَإِنَّهَا مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، فَمَعْنَى: أَلْقَيْتُ الشيء: جعلته لقى، واللقى فعل بمعنى مفعول، كمان أَنَّ الطَّرِيدَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تجعلوا أنفسكم لقى إِلَى التَّهْلُكَةِ فَتَهْلَكَ. وَقَدْ حَامَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَيَّدْنَاهُ فَلَمْ يَنْهَضْ بِتَخْلِيصِهِ، فَقَالَ: الْبَاءُ فِي: بِأَيْدِيكُمْ، مِثْلُهَا فِي أَعْطَى بِيَدِهِ لِلْمُنْقَادِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُقْبِضُوا التَّهْلُكَةَ أَيْدِيَكُمْ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوهَا آخِذَةً بِأَيْدِيكُمْ، مَالِكَةً لَكُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي كَلَامِهِ أَنَّ الْبَاءَ مَزِيدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ. وَأَحْسِنُوا هَذَا أَمْرٌ بِالْإِحْسَانِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى طَلَبِ الْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى: وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَأَحْسِنُوا بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: وَأَحْسِنُوا فِي أَعْمَالِكُمْ بِامْتِثَالِ الطَّاعَاتِ، قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قِيلَ وَأَحْسِنُوا، مَعْنَاهُ: جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُجَاهِدُ مُحْسِنٌ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِحْسَانِ لِأَنَّ فِيهِ إِعْلَامًا بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَنِ الْإِحْسَانُ صِفَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ لِهَذَا الْوَصْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ وَصْفُ الْإِحْسَانِ بِهِ دَائِمًا بِحَيْثُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ دَائِمًا. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْإِتْمَامُ كَمَا تَقَدَّمَ ضِدُّ النَّقْصِ، وَالْمَعْنَى: افْعَلُوهُمَا كَامِلَيْنِ وَلَا تَأْتُوا بِهِمَا نَاقِصَيْنِ شَيْئًا مِنْ شُرُوطِهِمَا، وَأَفْعَالِهِمَا الَّتِي تَتَوَقَّفُ وُجُودُ مَاهِيَّتِهِمَا عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَ غَيْلَانُ: تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا ... عَلَى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ جَعَلَ: وُقُوفَ الْمَطَايَا عَلَى مَحْبُوبَتِهِ، وَهِيَ: مَيٌّ، كَبَعْضِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ. هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَقَدْ فُسِّرَ: الْإِتْمَامُ، بِغَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ لَا يَنْفَسِخَ، وَأَنْ تتمهما إِذَا بَدَأْتَ بِهِمَا. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وسعيد، وطاووس: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مُفْرَدَيْنِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَفَعَلَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تَخْرُجَ قَاصِدًا لَهُمَا لَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: لِلَّهِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَتَادَةُ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَتَقْضِيَهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَنْ تُتِمَّ الْحَجَّ دُونَ نَقْصٍ وَلَا جَبْرٍ بِدَمٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَلَا تَقْرِنَ، وَالْإِفْرَادُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِتْمَامُهُمَا: أَنْ تَقْرِنَ بَيْنَهُمَا، وَالْقِرَانُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَغَيْرُهُمْ: إِتْمَامُهَا أَنْ تَقْضِيَ مَنَاسِكَهُمَا كَامِلَةً بِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ دِمَاءٍ، وَهَذَا يَقْرُبُ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَفَرًا. وَقِيلَ: أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ حَلَالًا وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ لَا تَسْتَحِلَّ فِيهِمَا مَا لَا يَجُوزُ، وَكَانُوا يُشْرِكُونَ فِي إِحْرَامِهِمْ، يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَقَالَ: أَتِمُّوهُمَا وَلَا تَخْلِطُوا بِهِمَا شَيْئًا.

وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: إِنَّمَا قَالَ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ لِأَنَّ الْكَفَرَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْحَجَّ لِلَّهِ وَالْعُمْرَةَ لِلصَّنَمِ، وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: كَانَ الْكُفَّارُ يَحُجُّونَ لِلْأَصْنَامِ. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ: وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: الْحِجَّ، بِالْكَسْرِ هُنَا، وَفِي آلِ عِمْرَانَ، وَبِالْفَتْحِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ وَتَقَدَّمَ قِرَاءَةُ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْحِجَّ بِالْكَسْرِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْخِلَافِ في قوله: حِجُّ الْبَيْتِ «1» فِي مَوْضِعِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِلَى الْبَيْتِ لِلَّهِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَيَخْرُجُ الْعُمْرَةُ عَنِ الْأَمْرِ، وَيَنْفَرِدُ بِهِ الْحَجُّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ المسلمون، و: لله، متعلق بأتموا وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: كَائِنِينَ لِلَّهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ، وَأَنَّهُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَفُرُوضُهُ: النِّيَّةُ، وَالْإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ الْمُتَّصِلُ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْجَمْرَةُ، عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ عَلَى قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ. وَأَمَّا أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ: فَنِيَّةٌ، وَإِحْرَامٌ، وَطَوَافٌ، وَسَعْيٌ. وَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ، وَلَا عَلَى، أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَقَدْ يَصِحُّ صَوْمُ رمضان وشيئا مِنْ شَوَّالٍ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْمَطْلُوبِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الطَّلَبِ، وَلِذَلِكَ ضَعُفَ قَوْلُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ بِقَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَسْرُوقٍ، وعطاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي بُرْدَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَمِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ حَمِيمٍ، مِنَ الْمَالِكِيِّينَ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: النَّخَعِيُّ، وَمِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِيهَا عِنْدَهُمَا وَجَبَ إِتْمَامُهَا. وَحَكَى بَعْضُ الْقَزْوِينِيِّينَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَيْنِ، وَالْحُجَجُ مَنْقُولَةٌ فِي كتب الفقه.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 97.

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ظَاهِرُهُ ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْإِحْصَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لايتحلل مِنْ إِحْرَامِهِ إِلَّا بِأَدَاءِ نُسُكِهِ، وَالْمُقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى زَوَالِ إِحْصَارِهِ. وَلَيْسَ لِمُحْرِمٍ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ لَمْ يَفُتْ، وَإِنْ كَانَ بِحَجٍّ فَفَاتَهُ قَضَاهُ بِالْفَوَاتِ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنْهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ. وَثَبَتَ بِنَقْلِ مَنْ نَقَلَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ الْإِحْصَارَ وَالْحَصْرَ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُمَا يُقَالَانِ فِي الْمَنْعِ بِالْعَدُوِّ، وَبِالْمَرَضِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ سَبَبُ النُّزُولِ وَرَدَ عَلَى أَحَدِ مُطْلَقَاتِ الْإِحْصَارِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَقْيِيدٌ، وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ، وَعُرْوَةُ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِالْمَرَضِ لَا بِالْعَدُوِّ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. لَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ إِلَّا بِالْعَدُوِّ فَقَطْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ لَا بِالْمَرَضِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ فَلَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتُ، وَيُقِيمُ حَتَّى يُفِيقَ، وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ اسْتِوَاءُ الْمَكِّيِّ وَالْآفَاقِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ عُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إِحْصَارٌ. وَظَاهِرُ لَفْظِ: أُحْصِرْتُمْ، مُطْلَقُ الْإِحْصَارِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بَقَاءَ الْعَدُوِّ اسْتِيطَانَهُ لِقُوَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَيُحِلُّ الْمُحْصَرُ مَكَانَهُ مِنْ سَاعَتِهِ عَلَى قَوْلِ الجمهور، أو رجا زَوَالُهُ، وَقِيلَ: لَا يُبَاحُ لَهُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ مِقْدَارُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ زَالَ الْعَدُوُّ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ، فَيُحِلُّ حِينَئِذٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَقِيلَ: مَنْ حُصِرَ عَنِ الْحَجِّ بِعُذْرٍ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَقْطَعِ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرُوحَ النَّاسُ إِلَى عَرَفَةَ، وَمُطْلَقُ الْإِحْصَارِ يَشْمَلُ قَبْلَ عَرَفَةَ وَبَعْدَهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ مَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ أَوْ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَبِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ سَوَاءٌ. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ هُوَ شَاةٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُغِيرَةُ. وَقَدْ سُمِّيَتْ هَدْيًا فِي قَوْلِهِ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «1» وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: أَعْلَاهُ بَدَنَةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وَأَدْنَاهُ شَاةٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يوسف،

_ (1) سورة المائدة: 5/ 95.

وَزُفَرُ، يَكُونُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، يَكُونُ الْمُسْتَيْسِرُ عَلَى حُكْمِ حَالِ الْمُهْدِي، وَعَلَى حُكْمِ الموجود. وروى طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَالْقَاسِمُ، وعروة: هو جَمَلٍ وَبَقَرَةٌ دُونَ بَقَرَةٍ، وَلَا يَكُونُ الْهَدْيُ إِلَّا مِنْ هَذَيْنِ، وَلَا يَكُونُ الشَّاةُ مِنَ الْهَدْيِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: مِنَ الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُهْدَى الذُّكُورُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَلَوْ عَدِمَ الْمُحْصَرُ الْهَدْيَ فَهَلْ لَهُ بَدَلٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ أَبَدًا وَلَا يُحِلُّ حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا فَيَذْبَحَ عَنْهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَهُ بَدَلٌ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ أَوْ يَتَحَلَّلُ، قَوْلَانِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُقَوَّمُ الْهَدْيُ بِالدَّرَاهِمِ، وَيُشْتَرَى بِهَا الطَّعَامُ، وَالْكُلُّ أَنَّهُ لَا بَدَلَ لِلْهَدْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمْرَةَ كَالْحَجِّ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا إِحْصَارَ فِي الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ سِنٌّ فِي الْهَدْيِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجْزِي إِلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجْزِي مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا، وَيَجُوزُ اشْتِرَاكُ سَبْعَةٍ فِي بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْوَاجِبِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُهْدِي شَيْئًا إِلَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُحِلُّ حَيْثُ أُحْصِرَ وَيُنْجِزُ هَدْيَهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ هَدْيٌ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ: يَبْعَثُ هَدْيَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ صَارَ حَلَالًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ حَاجًّا فَبِالْحَرَمِ مَتَى شَاءَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ: وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَبِالْحَرَمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ ، وَكَانَ طَرَفَ الْحُدَيْبِيَةَ الرُّبَى الَّتِي أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَرَمِ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: الْحُدَيْبِيَةُ هِيَ طَرَفُ الْحَرَمِ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ إِذَا خَافَ أَنْ يُحْصَرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ، وَصِيغَةُ الِاشْتِرَاطِ أَنْ يَقُولَ إِذَا أَهَلَّ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو

حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاشْتِرَاطُ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ: فِي الْقَدِيمِ لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ، وله شروط، فيه حَدِيثٌ خَرَجَ فِي الصَّحِيحِ: وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا مَنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ، فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَشَذَّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَضَاهَا حِينَ أحصر. وما، مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: فَلْيُهْدِ قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَالْوَاجِبُ لَهُ اسْتَيْسَرَ، وَاسْتَيْسَرَ هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، أَيْ: يَسُرَ، بِمَعْنَى: اسْتَغْنَى وَغَنِيَ، وَاسْتَصْعَبَ وَصَعُبَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا استفعل. ومن، هُنَا تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي اسْتَيْسَرَ الْعَائِدِ عَلَى مَا، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: كَائِنًا مِنَ الْهَدْيِ، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَجَازَ ذَلِكَ هُنَا. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الْهَدْيِ، لِلْعُمُومِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَأَبُو حَيْوَةَ: الْهَدِيِّ، بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، يَعْنِي هُنَا فِي الْجَرِّ وَالرَّفْعِ، وَرَوَى ذَلِكَ عِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ هَذَا نَهْيٌ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مُغَيًّا بِبُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَمَفْهُومُهُ: إِذَا بَلَغَ الهدي محله فاحلقوا رؤوسكم. وَالضَّمِيرُ فِي: تَحْلِقُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِتْمَامِ، فَيَشْمَلُ الْمُحْصَرَ وَغَيْرَهُ، ويحتمل أن يعود على الْمُحْصَرِينَ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ قَالَ بِهِ قَوْمٌ، وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُحْصَرِينَ هُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: أَيْ: لَا تُحِلُّوا حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي بَعَثْتُمُوهُ إِلَى الْحَرَمِ بَلَغَ مَحِلَّهُ، أَيْ: مَكَانَهُ الَّذِي يَجِبُ نَحْرُهُ فِيهِ، وَمَحِلُّ الدَّيْنِ وَقْتُ وُجُوبِ قَضَائِهِ، وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَأَنَّهُ رَجَّحَ كَوْنَهُ لِلْمُحْصَرِينَ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مُحْصَرًا كَانَ الْمُحْرِمُ أَوْ مُخَلًّى، لِأَنَّهُ قَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ حَكَى الْقَوْلَ الْآخَرَ، قَالَ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَاهَا لِلْمُحْصَرِينَ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ مَجَازٌ فِي الْفَاعِلِ وَفِي الْمَفْعُولِ، أَمَّا فِي الْفَاعِلِ فَفِي إِسْنَادِ الْحَلْقِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ بَعْضُهُمْ رَأْسَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ كَثِيرٌ، تَقُولُ: حَلَقْتُ: رَأْسِي، وَالْمَعْنَى

أَنَّ غَيْرَهُ حَلَقَهُ لَهُ: وأما المجاز ففي المفعول، فالتقدير: شعر رؤوسكم، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالْخِطَابُ يَخُصُّ الذُّكُورَ، وَالْحَلْقُ لِلنِّسَاءِ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا التَّقْصِيرُ سَنَتُهُنَّ فِي الْحَجِّ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ» . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُقَصَّرُ مِنْ شَعَرِهَا عَلَى تَقَادِيرَ كَثِيرَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْفِقْهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ هَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّقْصِيرِ فَنَتَعَرَّضُ نَحْنُ لَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا اسْتَطْرَدْنَا لَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْلِقُوا. وَظَاهِرُ النَّهْيِ: الْحَظْرُ وَالتَّحْرِيمُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَلَوْ نَسِيَ فَحَلَقَ قَبْلَ النَّحْرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: هُوَ كَالْعَامِدِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. أَوْ تَعَمَّدَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ. قَالُوا: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنَ النُّسُكِ فِي الْحَجِّ حَلْقُ الرَّأْسِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ مُثْلَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُثْلَةً لَمَا جَازَ، لَا فِي الْحَجِّ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلق رؤوس بَنِي جَعْفَرٍ بَعْدَ أَنْ أَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِقُ ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِبَاحَةِ الْحَلْقِ، وَظَاهِرُ عُمُومِ: وَلَا تَحْلِقُوا، أَوْ خُصُوصِهِ بِالْمُحْصَرِينَ أَنَّ الْحَلْقَ فِي حَقِّهِمْ نُسُكٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا حَلْقَ عَلَى الْمُحْصَرِ وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ. حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حَيْثُ أُحْصِرَ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ، قَالَهُ عُمَرُ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، أَوِ: الْمُحْرِمِ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَتَفْسِيرُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحِلَّ هُنَا الْمَكَانُ، وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِكَسْرِ الْحَاءِ. فِيمَا عَلِمْنَا، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ: أَعْنِي إِذَا كَانَ يُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ، وَفَرَّقَ الْكِسَائِيُّ هُنَا، فَقَالَ: الْكَسْرُ هُوَ الْإِحْلَالُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَالْفَتْحُ هُوَ مَوْضِعُ الْحُلُولِ مِنَ الْإِحْصَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَحِلِّ الْهَدْيِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَا عَلَى الْمُحْصَرِ فِي الْحَجِّ إِذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، فَعَنِ النَّسِيءِ عَلَيْهِ حَجَّةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُبَيْرٍ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ،

فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ، مُحْرِمًا بِحَجِّ تَطَوُّعٍ، أَوْ بِعُمْرَةِ تَطَوُّعٍ، وَحَلَّ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ لَا فِي حَجٍّ وَلَا فِي عُمْرَةٍ. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ سَبَبُ النُّزُولِ حديث كعب بن عجزة الْمَشْهُورُ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَآهُ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِهِ ، وَقِيلَ: رَآهُ وَقَدْ قَرِحَ رَأْسُهُ ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنِ الْحَلْقِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ بُلُوغُ الْهَدْيِ كَانَ ذَلِكَ النَّهْيُ شَامِلًا، فَخُصَّ بِمَنْ لَيْسَ مَرِيضًا وَلَا بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، أَمَّا هَذَانِ فَأُبِيحَ لَهُمَا الْحَلْقُ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ يَصِحُّ بِهِ الْكَلَامُ، التَّقْدِيرُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ففعل ما بينا في الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ الْعُمُومُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُحْصَرِ، لِأَنَّ جَوَازَ الْحَلْقِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ لَا يَجُوزُ، فَرُبَّمَا لَحِقَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ إِنْ صَبَرَ، فَأُذِنَ لَهُ فِي زَوَالِ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْفِدْيَةِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ ابْنِ عجرة. ومنكم، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ تَقَدُّمِهِ كَانَ صِفَةً: لَمَرِيضًا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الحال. ومن، هُنَا لِلتَّبْعِيضِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا: بمريضا، وَهُوَ لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، وَ: أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَرِيضًا، وَيَرْتَفِعُ: أَذًى، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ بِهِ، التَّقْدِيرُ: أَوْ كَائِنًا بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، وَمِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ الْمُفْرَدِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: مَرِيضًا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ مُفْرَدٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْمُفْرَدِ مُفْرَدٌ، فِي التَّقْدِيرِ: إِذَا كَانَ جُمْلَةً، وَيَرْتَفِعُ، أَذًى، إِذْ ذَاكَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَهُوَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَعَلَى الْإِعْرَابِ السَّابِقِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى إِضْمَارِ: كَانَ، لِدَلَالَةِ: كَانَ، الْأُولَى، عَلَيْهَا. التَّقْدِيرُ: أَوْ كَانَ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، فَاسْمُ كَانَ عَلَى هَذَا إِمَّا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى: مَنْ وَبِهِ أَذًى، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، وَإِمَّا: أَذًى وَبِهِ، فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، مَعْطُوفًا عَلَى كان، وأذى، رفع بالابتداء، وبه، الْخَبَرُ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ، وَالْهَاءُ فِي: بِهِ، عَائِدَةٌ عَلَى: مَنْ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ: مَنْ، شَرْطِيَّةٌ،

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مَا قَالَهُ خَطَأً، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، لِأَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ، فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الشَّرْطِ، وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ: مَنْ، مَوْصُولَةً. لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مُضَمِّنَةٌ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوصَلَ عَلَى الْمَشْهُورِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَالْبَاءُ فِي: بِهِ، لِلْإِلْصَاقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ظرفية، ومن رَأْسِهِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ: أَذًى، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ارْتِفَاعُ: فِدْيَةٌ، عَلَى الِابْتِدَاءِ، التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ فِدْيَةٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ المفسرين أنه قرىء بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ التقدير: فليفد فدية. ومن صِيَامٍ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وأو، هُنَا لِلتَّخْيِيرِ، فَالْفَادِي مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: أَوْ نُسْكٍ، بِإِسْكَانِ السِّينِ وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ، لَكِنْ بَيَّنَ تَقْيِيدَ ذَلِكَ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُجْرَةَ مِنْ أَنَّ: الصِّيَامَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَالنُّسُكَ شَاةٌ. وَإِلَى أَنَّ الصِّيَامَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْجُمْهُورُ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَنَافِعٍ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَمَحِلُّهُ زَمَانًا مَتَى اخْتَارَ، وَمَكَانًا حَيْثُ اخْتَارَ. وَأَمَّا الْإِطْعَامُ، فَذَكَرَ بَعْضُهُمُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ قَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ: يُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي قِدْرِ الطَّعَامِ، وَمَحِلِّ الْإِطْعَامِ، أَمَّا الْقَدْرُ فَاضْطَرَبَتِ الرِّوَايَةُ فِي حَدِيثِ عُجْرَةَ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنَ التَّمْرِ صَاعٌ، وَمِنَ الْحِنْطَةِ نِصْفُ صَاعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: الطَّعَامُ فِي ذَلِكَ مُدَّانِ مُدَّانِ، بِالْمُدِّ النَّبَوِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُدَ. وَرُوِيَ عَنِ الثوري: نصف صاع من الْبُرِّ، وَصَاعٌ مِنَ التَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ مَرَّةً بِقَوْلٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَمُرَّةً قَالَ: مُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجْزِيهِ أَنْ يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ،

وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجْزِيهِ ذَلِكَ حَتَّى يُعْطِيَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ، بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم. وأما الْمَحِلُّ فَقَالَ عَلِيٌّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَطَاءٌ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا ابْنَ الْجَهْمِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: حَيْثُ شَاءَ . وَقَالَ الحسن، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ أَيْضًا، وَالشَّافِعِيُّ: الْإِطْعَامُ بِمَكَّةَ، وَأُمًّا النُّسُكُ فَشَاةٌ. قَالُوا بِالْإِجْمَاعِ وَمَنْ ذَبَحَ أَفْضَلَ مِنْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَأَمَّا مَحِلُّهَا فَحَيْثُ شَاءَ، قَالَهُ عَلِيٌّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ إِلَّا ابْنَ الْجَهْمِ، فَقَالَ: النُّسُكُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَظَاهِرُ الْفِدْيَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْحَلْقِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجْزِيهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْفِدْيَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ إِنْ أَرَادَ الْحَلْقَ. وَظَاهِرُ الشَّرْطِ أَنَّ الْفِدْيَةَ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمَنْ بِهِ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فيحلق، فَلَوْ حَلَقَ، أَوْ جَزَّ، أَوْ أَزَالَ بِنُورَةٍ شَعَرَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ لَبِسَ الْمَخِيطَ، أَوْ تَطَيَّبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عَالِمًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُخَيَّرُ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لَا غَيْرُ وَقَالَ مَالِكٌ: يُخَيَّرُ، وَالْعَمْدُ وَالْخَطَأُ بِضَرُورَةٍ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ عِنْدَهُ. فَلَوْ فَعَلَهُ نَاسِيًا، فَقَالَ إِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: النَّاسِي كَالْعَامِدِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، أَوْ بَعْضِهِ وَلُبْسِ الْخُفَّيْنِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَمَسِّ الطِّيبِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَحَلْقِ شَعْرِ الْجَسَدِ، أَوْ مَوَاضِعِ الْحِجَامَةِ، الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ عَلَيْهِمَا دَمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا فِي حَلْقِ شَعَرِ الْجَسَدِ. فَإِذا أَمِنْتُمْ يَعْنِي: مِنَ الْإِحْصَارِ، هَذَا الْأَمْنُ مُرَتَّبٌ تَفْسِيرُهُ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ، فَمَنْ فَسَّرَهُ هُنَاكَ بِالْإِحْصَارِ بالمرض لا بالعدو، وجعل الْأَمْنَ هُنَا مِنَ الْمَرَضِ لَا مِنَ الْعَدُوِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَعُرْوَةَ. وَالْمَعْنَى: فَإِذَا بَرِئْتُمْ مِنْ مَرَضِكُمْ. وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ لَا بِالْمَرَضِ قَالَ: هُنَا الْأَمْنُ مِنَ الْعَدُوِّ لَا مِنَ الْمَرَضِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا أَمِنْتُمْ مِنْ خَوْفِكُمْ مِنَ الْعَدُوِّ.

وَمَنْ فَسَّرَ الْإِحْصَارَ بِأَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، فَالْأَمْنُ عِنْدَهُ هُنَا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْأَمْنُ سُكُونٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ اضْطِرَابِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنَ الْجُذَامِ» خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَجَاءَ: مَنْ سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ، أَمِنَ مِنَ الشَّوْصِ وَاللَّوْصِ وَالْعِلَّوْصِ. أَيْ: مِنْ وَجَعِ السِّنِّ، وَوَجَعِ الْأُذُنِ، وَوَجَعِ الْبَطْنِ. وَالْخِطَابُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُحْصَرِ وَغَيْرِهِ، أَيْ: فَإِذَا كُنْتُمْ فِي حَالِ أَمْنٍ وَسَعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ: الْآيَةُ فِي الْمُحْصَرِينَ دُونَ الْمُخَلَّى سَبِيلَهُمْ. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَتَاعِ فِي قَوْلِهِ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «1» وَفُسِّرَ التَّمَتُّعُ هُنَا بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، لِأَنَّ حَقَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرَدَ بِسَفَرٍ غَيْرِ سَفَرِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: لِتَمَتُّعِهِ بِكُلِّ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، مِنْ وَقْتِ حَلِّهِ مِنَ الْعُمْرَةِ إِلَى وَقْتِ إِنْشَاءِ الْحَجِّ. وَاخْتُلِفَ فِي صُورَةِ هَذَا التَّمَتُّعِ الَّذِي فِي الْآيَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ فِيمَنْ أُحْصِرَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ فَخَرَجَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَاسْتَمْتَعَ بِإِحْلَالِهِ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْعُمْرَةِ إِلَى السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ثُمَّ يَحُجُّ وَيُهْدِي. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، مَعْنَاهُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ وَقَدْ حَلَلْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ بَعْدَ الْإِحْصَارِ، وَلَمْ تَقْضُوا عُمْرَةً، تَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِحَجِّكُمْ، وَلَكِنْ حَلَلْتُمْ حَيْثُ أُحْصِرْتُمْ بِالْهَدْيِ، وَأَخَّرْتُمُ الْعُمْرَةَ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَاعْتَمَرْتُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِإِحْلَالِكُمْ إِلَى حَجِّكُمْ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَيْ: فَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَجْمَعَهَا مَعَ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَمَنْ نَسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ فَجَعَلَهُ عُمْرَةً، وَاسْتَمْتَعَ بِعُمْرَتِهِ إِلَى حَجِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ الرَّجُلُ تَقَدَّمَ مُعْتَمِرًا مِنْ أُفُقٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا قَضَى عُمْرَتَهُ أَقَامَ حلالا بمكة حتى ينشىء مِنْهَا الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِالْإِحْلَالِ إِلَى إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَمَعْنَى التَّمَتُّعِ: الْإِهْلَالُ بِالْعُمْرَةِ، فَيُقِيمُ حَلَالًا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْحَلَالُ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يَحُجُّ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى الميقات.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 36 وسورة الأعراف: 7/ 24، وسورة الأنبياء: 21/ 111.

وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ العلماء في وقع الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ. تَمَتُّعٍ، وَإِفْرَادٍ، وَقِرَانٍ. وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَنَهْيُ عُمَرَ عَنِ التَّمَتُّعِ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهُ فَسْخُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَمَّا التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَلَا. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْسِيرًا وَإِعْرَابًا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْفَاءُ فِي: فَإِذَا أَمِنْتُمْ، لِلْعَطْفِ وَفِي: فَمَنْ تَمَتَّعَ، جَوَابُ الشَّرْطِ، وَفِي: فَمَا، جَوَابٌ لِلشَّرْطِ الثَّانِي. وَيَقَعُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِالْفَاءِ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لجواب نَحْوَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ نُسُكٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَوْفِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فِي سَفَرِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يُجْرَى مَجْرَى الْجِنَايَاتِ لِتَرْكِ إِحْدَى السُّفْرَتَيْنِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَيَذْبَحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ذَبْحُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الذَّبْحِ عِنْدَ حُصُولِ التَّمَتُّعِ عُقَيْبَهُ. وَصُورَةُ التَّمَتُّعِ عَلَى مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ، خَاصَّةً بِالْمُحْصَرِينَ، تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَوْلِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا عَامَّةً فِي الْمُحْصَرِ وَغَيْرِهِ فَالتَّمَتُّعُ كَيْفِيَّاتٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُحْرِمَ غَيْرُ الْمَكِّيِّ بِعُمْرَةٍ أَوَّلًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي عَامٍ، فَيَقْدَمُ مَكَّةَ. فَيَفْرَغُ مِنَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ يُقِيمُ حَلَالًا إِلَى أَنْ ينشىء الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ فِي عَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى مِيقَاتِ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ، وَيَكُونُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى: قِرَانًا، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، فَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ طَافَ بِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ وَسَعَى. فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لَهُمَا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، والحسن، ومجاهد، وطاووس، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَجُعِلَ الْقِرَانُ مِنْ بَابِ التَّمَتُّعِ لِتَرْكِ النَّصَبِ فِي السَّفَرِ إِلَى الْعُمْرَةِ مَرَّةً، وَإِلَى الْحَجِّ أُخْرَى، وَلِجَمْعِهِمَا، وَلَمْ يُحْرِمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مِيقَاتِهِ، فَهَذَا وَجْهٌ مِنَ التَّمَتُّعِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، قِيلَ: وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يُجِيزُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ إِلَّا بِسِيَاقِ الْهَدْيِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ: بَدَنَةٌ لَا يَجُوزُ دُونَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا سَمِعْتُ أَنَّ مَكِّيًّا قَرَنَ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَلَا صِيَامٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ. إِذَا قَرَنَ الْمَكِّيُّ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ كَانَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: الْمَكِّيُّ إِذَا تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمُ قِرَانٍ وَلَا تَمَتُّعٍ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَسَخَ حَجَّهُ فِي عُمْرَةٍ، ثُمَّ حَلَّ وَأَقَامَ حَلَالًا حَتَّى يُهِلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ جَوَازُهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ لِلْوَاحِدِ. أَوِ الصَّوْمِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ إِذَا تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَلَا هَدْيَ وَلَا صَوْمَ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: الْإِجْمَاعَ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ مُغَيًّا إِلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَقَعِ الْمُغَيَّا. وَشَذَّ الْحَسَنُ فَقَالَ: هِيَ مُتْعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ إِلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَبِهِ قال طاووس، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَفْعُولُ: يَجِدْ، مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَنَفْيُ الْوِجْدَانِ إِمَّا لِعَدَمِهِ أَوْ عَدَمِ ثَمَنِهِ. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ: ارْتَفَعَ صِيَامُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: فَعَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ، أَيِ: فواجب. وقرىء: فَصِيَامَ، بِالنَّصْبِ أَيْ: فَلْيَصُمْ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلثَّلَاثَةِ بَعْدَ الِاتِّسَاعِ، لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لَمْ تَجُزِ الْإِضَافَةُ. فِي الْحَجِّ أَيْ: فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَهُ أَنْ يَصُومَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامِ الْحَجِّ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ: وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَعَرَفَةَ وَيَوْمًا قَبْلَهُمَا، وَإِنْ مَضَى هَذَا الْوَقْتُ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا الدَّمُ،

وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ: لَا يَصُومُهَا إِلَّا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ: يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، لِأَنَّهُ بِانْقِضَائِهِ يَنْقَضِي الْحَجُّ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ: لَوْ فَاتَهُ صَوْمُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ صَامَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ. وَعَنْ عَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ، وَابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ سَالِمٍ عَنْهُ: أَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقِيلَ: زَمَانُهَا بَعْدَ إِحْرَامِهِ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: يَصُومُهُنَّ مَا بَيْنَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي (الْمُوَطَّأِ) لِيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا. وَعَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا ابْتِدَاءً إِلَى يَوْمِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ إِلَّا بِأَنْ لَا يَجِدَ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ. وقال عروة: يصومها مادام بِمَكَّةَ، وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِكٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلَائِلَ عَلَيْهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِي الْحَجِّ، أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ: زَمَانًا، لِأَنَّهُ الْمُقَابِلُ فِي قَوْلِهِ: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إِذْ مَعْنَاهُ فِي وَقْتِ الرُّجُوعِ، وَوَقْتُ الْحَجِّ هُوَ أَشْهُرُهُ، فَنَحْرُ الْهَدْيِ لِلْمُتَمَتِّعِ لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ زَمَانٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَقَّبَ التَّمَتُّعَ لِوُقُوعِهِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَيْ: فِي وَقْتِهِ، فَمَنْ لَحِظَ مُجَرَّدَ هَذَا الْمَحْذُوفِ أَجَازَ الصِّيَامَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، وَبَعْدَهُ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهَا مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ وَمَنْ قَدَّرَ مَحْذُوفًا آخَرَ، أَيْ: فِي وَقْتِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، لَمْ يُجِزِ الصِّيَامَ إِلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقِلَّةِ الْحَذْفِ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَظْ أَشْهُرَ الْحَجِّ، وَجَوَّزَ أن يكون مادام بِمَكَّةَ، فَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي أَمَاكِنِ الْحَجِّ. وَالظَّاهِرُ: وُجُوبُ انْتِقَالِهِ إِلَى الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِجْدَانِ لِلْهَدْيِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ مَضَى فِي الصَّوْمِ وَهُوَ فَرْضُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ أَنْ يُهْدِيَ، فَإِنْ صَامَ أَجْزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَيْسَرَ فِي الْيَوْمِ

الثَّالِثِ مِنْ صَوْمِهِ بَطَلَ الصَّوْمُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ تَمَامِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ الْأَيَّامِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَحَمَّادٌ. وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْدَةَ: وَسَبْعَةً، بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى مَحِلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَقَوْلِكَ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً» انْتَهَى. وَخَرَّجَهُ الْحَوْفِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: فَلْيَصُومُوا، أَوْ: فَصُومُوا سَبْعَةً، وَهُوَ التَّخْرِيجُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ، لِأَنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَوْضِعِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُحْرِزِ، وَمَجِيءُ: وَسَبْعَةٍ بِالتَّاءِ هُوَ الْفَصِيحُ إِجْرَاءً لِلْمَحْذُوفِ مَجْرَى الْمَنْطُوقِ بِهِ، كَمَا قِيلَ: وَسَبْعَةِ أَيَّامٍ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَلِلْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا هُوَ الْأَيَّامُ، وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ حَذْفُ التَّاءِ إِذَا كَانَ الْمُمَيَّزُ مَحْذُوفًا، وَعَلَيْهِ جَاءَ: ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا، وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، هُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبِهِ مُتَعَلَّقُ فِي الْحَجِّ لا يقال ذا عَمِلَ فِيهِمَا، فَقَدْ تَعَدَّى الْعَامِلُ إِلَى ظَرْفَيْ زَمَانٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ مَعَ الْعَطْفِ وَالْبَدَلِ، وَهُنَا عَطَفَ بِالْوَاوِ شَيْئَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرَمْتُ زَيْدًا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَعَمْرًا يَوْمَ الجمعة. وإذا، هُنَا مَحْضُ ظَرْفٍ، وَلَا شَرْطَ فِيهَا، وَفِي: رَجَعْتُمْ، الْتِفَاتٌ، وَحَمْلٌ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، أَمَّا الِالْتِفَاتُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ اسْمٌ غَائِبٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَتَرَ فِي الْفِعْلَيْنِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ، فَلَوْ جَاءَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ لَكَانَ الكلام إذا رفع، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى فَإِنَّهُ أَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ، وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظَ لَأَفْرَدَ، وَلَفَظُ الرُّجُوعِ مُبْهَمٌ، وَقَدْ جَاءَ تَبْيِينُهُ فِي السُّنَّةِ. ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فِي آخَرَ: وَلْيُهْدِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَى أَمْصَارِكُمْ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، وَقَالُوا: هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْنَى إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَوْطَانِكُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ صَوْمُ السَّبْعَةِ إِلَّا إِذَا وَصَلَ وَطَنَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَشَدَّدَ أَحَدٌ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَصُومُ فِي السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: الْمَعْنَى إِذَا رَجَعْتُمْ نَفَرْتُمْ وَفَرَغْتُمْ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. فمن

_ (1) سورة البلد: 90/ 14 و 15.

بَقِيَ بِمَكَّةَ صَامَهَا، وَمَنْ نَهَضَ إِلَى بَلَدِهِ صَامَهَا في الطريق وقال مَالِكٌ فِي (الْكِتَابِ) : إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَ. تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَجْمُوعِ الْأَيَّامِ الْمَأْمُورِ بِصَوْمِهَا قَبْلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَلَاثَةً وَسَبْعَةً عَشَرَةٌ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْبَاذِشُ مَا مَعْنَاهُ: أَتَى بِعَشَرَةٍ تَوْطِئَةً لِلْخَبَرِ بَعْدَهَا، لَا أَنَّهَا هي الخبر المستقل بِهِ فَائِدَةَ الْإِسْنَادِ، فَجِيءَ بِهَا لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَذْهَبُ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا عَدَدَيْنِ أَنْ يُجْمِلُوهُمَا. وَحَسَّنَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنْ قَالَ: فَائِدَةُ الْفَذْلَكَةِ فِي كُلِّ حِسَابٍ أَنْ يُعْلَمَ الْعَدَدُ جُمْلَةً، كَمَا عُلِمَ تَفْصِيلًا لِيُحَاطَ بِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَيَتَأَكَّدَ الْعِلْمُ، وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ الْعَرَبُ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحِسَابِ، وَقَدْ جَاءَ: لَا يَحْسُبُ وَلَا يَكْتُبُ، وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْعَارِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ: تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لست أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ وَقَالَ الْأَعْشَى: ثَلَاثٌ بِالْغَدَاةِ فَهِيَ حَسْبِي ... وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي الْعِشَاءُ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ في اليوم ربي ... وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرَّيِّ دَاءُ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: ثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ وَهُنَّ خَمْسٌ ... وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ وَقَالَ آخَرُ: فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْرًا ... وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: لَمَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِإِفْطَارٍ قَيَّدَهَا بِالْعَشَرَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا كَالْمُتَّصِلَةِ فِي الْأَجْرِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمَعَ الْعَدَدَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةً أَوْ سَبْعَةً، لِأَنَّ الْوَاوَ قَدْ تَقُومُ مَقَامَ: أَوْ، وَمِنْهُ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «1» فَأَزَالَ احْتِمَالَ التَّخْيِيرِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَهُوَ قَوْلٌ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تكون بمعنى: أو.

_ (1) سورة النساء: 4/ 3، وسورة فاطر: 35/ 1.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ، قَدْ تَجِيءُ لِلْإِبَاحَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَالَسَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا كَانَ مُمْتَثِلًا؟ فَفُذْلِكَتْ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ الْإِبَاحَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا تُتَوَهَّمُ الْإِبَاحَةُ هُنَا، لِأَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا هُوَ سِيَاقُ إِيجَابٍ، وَهُوَ يُنَافِي الْإِبَاحَةَ وَلَا يُنَافِي التَّخْيِيرَ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ قَدْ يَكُونُ فِي الْوَاجِبَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: فَتِلْكَ عَشَرَةٌ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ، وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ، وَلَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُ، وَنُنَزِّهُ الْقُرْآنَ عَنْ مِثْلِهِ، وَقِيلَ: ذَكَرَ الْعَشَرَةَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ السَّبْعَةَ مَعَ الثَّلَاثَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ «1» أَيْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «2» . وَقِيلَ: ذَكَرَ الْعَشَرَةَ لِزَوَالِ تَوَهُّمِ أَنَّ السَّبْعَةَ لَا يُرَادُ بِهَا الْعَدَدُ، بَلِ الْكَثْرَةُ، رَوَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْعَرَبِ: سَبَّعَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ، أَيْ: أَكْثَرَ، أَرَادُوا التَّضْعِيفَ وَهَذَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ، فَلَهُ سَبْعٌ، وَلَهُ سَبْعُونَ، وَلَهُ سَبْعُمِائَةٍ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعِينَ مَرَّةً «3» هُوَ جَمْعُ السَّبْعِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ عَشَرَةٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ السَّامِعُ أَنَّ ثُمَّ شَيْئًا آخَرَ بَعْدَ السَّبْعِ، فَأَزَالَ الظَّنَّ. وَقِيلَ: أَتَى بِعَشَرَةٍ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ تَصْحِيفِ الْخَطِّ، لِاشْتِبَاهِ سَبْعَةٍ وَتِسْعَةٍ، وَقِيلَ: أَتَى بعشر لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْكَمَالَ مختص بالثلاثة المضمومة فِي الْحَجِّ، أَوْ بِالسَّبْعَةِ الَّتِي يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ، وَالْعَشَرَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالْكَمَالِ، وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْحَسَنُ: كَامِلَةٌ فِي الثَّوَابِ فِي سَدِّهَا مَسَدَّ الْهَدْيِ فِي المعنى لذي جُعِلَتْ بَدَلًا عَنْهُ، وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِي الْغَرَضِ وَالتَّرْتِيبِ، وَلَوْ صَامَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّرْتِيبِ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً، وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِي الثَّوَابِ لِمَنْ لَمْ يَتَمَتَّعْ. وَقِيلَ: كَامِلَةٌ، تَوْكِيدٌ كَمَا تَقُولُ: كَتَبْتُهُ بِيَدِي، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «4» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ، يَعْنِي: فِي التَّأْكِيدِ زِيَادَةُ تَوْصِيَةٍ بِصِيَامِهَا، وَأَنْ لَا يُتَهَاوَنَ بِهَا وَلَا يُنْقَصَ مِنْ عَدَدِهَا، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِذَا كَانَ لَكَ اهْتِمَامٌ بِأَمْرٍ تَأْمُرُهُ بِهِ، وَكَانَ منك بمنزلة:

_ (1) سورة فصلت: 41/ 10. (2) سورة فصلت: 41/ 9. (3) سورة التوبة: 9/ 80. [.....] (4) سورة النحل: 16/ 26.

اللَّهَ اللَّهَ لَا تُقَصِّرْ، وَقِيلَ: الصِّيغَةُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ، أَيْ: أَكْمِلُوا صَوْمَهَا، فَذَلِكَ فَرْضُهَا. وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُتَأَكِّدًا خِلَافًا لِظَاهِرِ دُخُولِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فِي الْوُجُودِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْخَبَرِ الَّذِي وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ. وَبِهَذِهِ الْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا رُدَّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ فِي طَعْنِهِمْ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالسَّبْعَةَ عَشَرَةٌ، فَهُوَ إِيضَاحٌ لِلْوَاضِحَاتِ، وَبِأَنَّ وَصْفَ الْعَشَرَةِ بِالْكَمَالِ يُوهِمُ وُجُودَ عَشَرَةٍ نَاقِصَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَالْكَمَالُ وَصْفٌ نِسْبِيٌّ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَدَدِيَّةِ. كَمَا زَعَمُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ: وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّمَتُّعِ، وَذِكْرُ مَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ: الْهَدْيُ، وَذِكْرُ بَدَلِهُ: وَهُوَ الصَّوْمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمُتَمَتِّعُ وَمَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا مُتْعَةَ، وَلَا قِرَانَ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَنْ تَمَتَّعَ مِنْهُمْ أَوْ قَرَنَ كَانَ عَلَيْهِ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ دَمُهُمَا دَمُ نُسُكٍ يَأْكُلَانِ مِنْهُ، وَقِيلَ: مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعَ وَهُوَ: الْهَدْيُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُوجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْهَدْيُ، وَبَدَلُهُ عَلَى الْأُفُقِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمَكِّيِّ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْمُتْعَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لَا، وَالْأَظْهَرُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى جَوَازِ التَّمَتُّعِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي التَّرَخُّصِ: اللَّامُ، وَالْمُنَاسِبَ فِي الْوَاجِبَاتِ عَلَى. وَإِذَا جَاءَ ذلك: لمن، ولم يجىء: عَلَى مَنْ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ: اللَّامَ، هُنَا بِمَعْنَى: عَلَى، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ «1» . وَحَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: أَهْلُ الْحَرَمِ كُلِّهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَعَطَاءٌ: مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَنْ كَانَ عَلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَضَجْنَانَ، وَذِي طُوًى، وَمَا أَشْبَهَهَا. وَقَالَ قَوْمٌ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَهْلُ الْحَرَمِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: أهل

_ (1) سورة الرعد: 13/ 25.

مَكَّةَ، وَأَهْلُ ذِي طُوًى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ كَانَ بِحَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ بِمَكَّةَ فَهُوَ حَضَرِيٌّ، وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَدَوِيٌّ، فَجَعَلَ اللَّفْظَةَ مِنَ الْحَضَارَةِ وَالْبَدَاوَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سُكَّانُ مَكَّةَ فَقَطْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنِ ارْتِكَابِ مَجَازٍ، فِيهِ بُعْدٌ، وَبَعْضُهُ أَبْعَدُ مِنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ حُضُورَ الْأَهْلِ وَالْمُرَادُ حُضُورُهُ وهو، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَسْكُنَ حَيْثُ أَهْلُهُ سَاكِنُونَ. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَمَّا تَقَدَّمَ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَوَاجِبٌ، نَاسَبَ أَنْ يُخْتَمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى فِي أَنْ لَا يَتَعَدَّى مَا حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ شِدَّةَ الْعِقَابِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ كَانَ حَرِيصًا عَلَى تَحْصِيلِ التَّقْوَى، إِذْ بِهَا يَأْمَنُ مِنَ الْعِقَابِ، وَشَدِيدُ الْعِقَابِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لِلشُّبْهَةِ، وَالْإِضَافَةُ وَالنَّصْبُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّفْعِ، لِأَنَّ فِيهَا إِسْنَادَ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، ثُمَّ ذَكَرَ، مَنْ هِيَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَالرَّفْعُ إِنَّمَا فِيهِ إِسْنَادُهَا لِمَنْ هِيَ لَهُ حَقِيقَةٌ فَقَطْ دُونَ إِسْنَادٍ لِلْمَوْصُوفِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ الْأَهِلَّةِ، وَفَائِدَتِهَا فِي تَنَقُّلِهَا مِنَ الصِّغَرِ إِلَى الْكِبَرِ، وَكَانَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ، فَوَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ كَوْنُهَا جُعِلَتْ مَوَاقِيتَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمُعَامَلَاتِهِمْ وَدِيَانَاتِهِمْ، وَمِنْ أَعْظَمِ فَائِدَتِهَا كَوْنُهَا مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَكَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ بِرًّا، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَأُمِرُوا بِأَنْ يَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَأُخْبِرُوا أَنَّ الْبِرَّ هُوَ فِي تَقْوَى اللَّهِ، ثُمَّ أُمِرُوا بِالتَّقْوَى رَاجِينَ لِلْفَلَاحِ عِنْدَ حُصُولِهَا، ثُمَّ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَنُهُوا عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ مَنِ اعْتَدَى، ثُمَّ أُمِرُوا بِقَتْلِ مَنْ ظَفِرُوا بِهِ، وَبِإِخْرَاجِ مَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَخْرَجُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ أَوْ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، أَوْ بِالتَّعْذِيبِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ رَاحَةً مِنْ هَذَا كُلِّهِ، ثُمَّ لَمَّا تَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِالْإِخْرَاجِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أُخْرِجُوا مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ نُهُوا عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ فِيهِ إِلَّا إِنْ قَاتَلُوكُمْ، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَاهِلِيَّةً وَإِسْلَامًا، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ إِذَا نَاشَبُوا الْقِتَالَ، وَكَانَ فِيهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّا نَقْتُلُهُمْ، إِذْ أَمَرَنَا بِقَتْلِهِمْ لَا بِقِتَالِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُ الْإِنْسَانَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِهِ، ثم ذكر أن من كَفَرَ بِاللَّهِ فَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ جَزَاؤُهُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ وَطَنِهِ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

لِمَنِ انْتَهَى عَنِ الْكُفْرِ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ، فِيمَا سَبَقَ، مُقَيَّدًا مَرَّةً بِمَنْ قَاتَلَ، وَمَرَّةً بِمَكَانٍ حَتَّى يُبْدَأَ بِالْقِتَالِ فِيهِ، أَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَعِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ، فَنَسَخَ هَذَا الْأَمْرُ تِلْكَ الْقُيُودَ، وَصَارَ مُغَيًّا أَوْ مُعَلَّلًا بِانْتِفَاءِ الْفِتْنَةِ وَخُلُوصِ الدِّينِ لِلَّهِ، وَخَتَمَ هَذَا الْأَمْرَ بِأَنَّ مَنِ انْتَهَى وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا اعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِدَاءُ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، كَمَا خَتَمَ الْأَمْرَ السَّابِقَ بِأَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ الْكُفْرِ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ فِيهِ، وَهُوَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِيهِ حِينَ خَرَجُوا لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ جَائِزٌ لَكُمْ بِسَبَبِ هَتْكِهِمْ حُرْمَتَهُ فِيهِ حِينَ قَاتَلُوكُمْ فِيهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْبَيْتِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَنْ هَتَكَ أَيَّ حُرْمَةٍ اقْتُصَّ مِنْهُ بِأَنْ تُهْتَكَ لَهُ حُرْمَةٌ، فَكَمَا هَتَكُوا حُرْمَةَ شَهْرِكُمْ لَا تُبَالُوا بِهَتْكِ حُرْمَتِهِ لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمُجَازَاةِ لِمَنِ اعْتَدَى عَلَيْنَا بِعُقُوبَةٍ مِثْلِ عُقُوبَتِهِ، تأكيد لِمَا سَبَقَ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، فَلَا يُوقِعُ فِي الْمُجَازَاةِ غَيْرَ مَا سَوَّغَهُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَعَ مَنِ اتَّقَى، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ عَلَى عَدُوِّهِ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَأَنْ لَا يَخْلُدَ إِلَى الدَّعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي إِصْلَاحِ هَذِهِ الدُّنْيَا وَالْإِخْلَادِ إِلَيْهَا، وَنَهَانَا عَنِ الِالْتِبَاسِ بِالدَّعَةِ وَالْهُوَيْنَا فَنَضْعُفَ عَنْ أَعْدَائِنَا، ويقوون هم علينا، فيؤول أَمْرُنَا مَعَهُمْ لِضَعْفِنَا وَقُوَّتِهِمْ إِلَى هَلَاكِنَا، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ وَهَذَا النَّهْيِ مِنَ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ مَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مَنْ أَحْسَنَ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ يَأْتُوا بِهِمَا تَامَّيْنِ كَامِلَيْنِ بِمَنَاسِكِهِمَا وَشَرَائِطِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَشُوبُ فِعْلَهَا رِيَاءٌ وَلَا سُمْعَةٌ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ يَحُجُّونَ لِبَعْضِ أَصْنَامِهِمْ، فَأُمِرُوا بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ وَحُبِسَ عَنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَسُرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَالْهَدْيُ يَشْمَلُ: الْبَعِيرَ، وَالْبَقَرَةَ، وَالشَّاةَ، ثُمَّ نَهَى عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَالَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ فِي الْهَدْيِ أَنَّ مَحِلَّهُ هُوَ الْحَرَمُ، فَخُوطِبُوا بِمَا كَانَ سَابِقًا لَهُمْ عَلِمُهُ بِهِ، وَلَمَّا غَيَّا الْحَلْقَ بِوُقُوعِ هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَكَانَ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مَا يَقْتَضِي حَلْقَ رَأْسِهِ لِمَرَضٍ أَوْ أَذًى بِرَأْسِهِ مِنْ قُمَّلٍ أَوْ قَرْحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ تَعَالَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِدْيَةً مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ. وبين رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْبَهَمَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي حديث كعب بن عجرة عَلَى مَا مَرَّ تَفْسِيرُهُ،

[سورة البقرة (2) : الآيات 197 إلى 202]

وَاقْتَضَى هَذَا التَّرْكِيبُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا آمِنِينَ، وَتَمَتَّعَ أَحَدُهُمْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَقَدْ فَسَّرْنَا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ بِتَعَذُّرِ ثَمَنِ الْهَدْيِ، أَوْ فِقْدَانِ الْهَدْيِ، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَيْ: فِي زَمَنِ وُقُوعِ الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَإِنِ اخْتَلَفَ زَمَانُ صِيَامِهَا، فَمِنْهَا مَا يَصُومُهُ وَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِهَذِهِ الطَّاعَةِ الشَّرِيفَةِ، وَمِنْهَا مَا يَصُومُهُ غَيْرَ مُلْتَبِسٍ بِهَا، لَكِنَّ الْجَمِيعَ كَامِلٌ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرَ، إِذْ هُوَ مُمَثِّلٌ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَلَا فَرْقَ فِي الثَّوَابِ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِإِيقَاعِهِ فِي الْحَجِّ، وَمَا أَمَرَ بِإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا التَّمَتُّعَ، وَلَازِمَهُ مِنَ الْهَدْيِ أَوِ الصَّوْمِ، هُوَ مَشْرُوعٌ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ، ثُمَّ لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أوامر ونواهي، كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَالَى شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ خَالَفَ مَا شَرَعَ تَعَالَى. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَدِيدَةُ الِالْتِئَامِ، مُسْتَحْكِمَةُ النِّظَامِ، منسوقا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا كَنَسَقِ اللَّآلِئِ مُشْرِقَةُ الدَّلَالَةِ وَلَا كَإِشْرَاقِ الشَّمْسِ فِي بُرْجِهَا الْعَالِي. سَامِيَةٌ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى أَعَالِي الذُّرَى، مُعْجِزَةٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا أحد من الورى. [سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 202] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)

الْجِدَالُ: فِعَالٌ مَصْدَرُ: جَادَلَ، وَهِيَ الْمُخَاصَمَةُ الشَّدِيدَةُ، مُشْتَقٌّ ذَلِكَ مِنَ الْجَدَالَةِ، وَهِيَ الْأَرْضُ. كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُقَاوِمُ صَاحِبَهُ حَتَّى يَغْلِبَهُ، فَيَكُونُ كَمَنْ ضرب منه الْجَدَالَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدْ أُنْزِلُ الْآلَةَ بَعْدَ الْآلَهْ ... وَأُنْزِلُ الْعَاجِزَ بِالْجَدَالَهْ أَيْ: بِالْأَرْضِ، وَقِيلَ: اشْتُقَّ ذَلِكَ مِنَ الْجَدْلِ وَهُوَ القتل، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ مَجْدُولٌ، وَقِيلَ: لَهُ جَدِيلٌ، لِفَتْلِهِ وَقِيلَ: لِلصَّقْرِ: الْأَجْدَلُ لِشِدَّتِهِ واجتماع حلقه، كَأَنَّ بَعْضَهُ فُتِلَ فِي بَعْضٍ فَقَوِيَ. الزَّادِ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا يَسْتَصْحِبُهُ الْإِنْسَانُ لِلسَّفَرِ مِنْ مَأْكُولٍ، وَمَشْرُوبٍ، وَمَرْكُوبٍ، وَمَلْبُوسٍ، إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: تَزَوَّدَ، تَفَعَّلَ مِنَ الزَّادِ. الْإِفَاضَةُ: الِانْخِرَاطُ وَالِانْدِفَاعُ وَالْخُرُوجُ مِنَ الْمَكَانِ بِكَثْرَةٍ شُبِّهَ بِفَيْضِ الْمَاءِ وَالدَّمْعِ، فَأَفَاضَ مِنَ الْفَيْضِ لَا مِنْ فَوَضَ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ النَّاسِ بِلَا سَايِسٍ يَسُوسُهُمْ، وَأَفْعَلَ هَذَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ: أَفَضْتُ زيد، بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي شَرَحْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ فِي فَاضَ الدَّمْعُ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، فَتَقُولُ: أَفَاضَ الْحُزْنُ، أَيْ: جَعَلَهُ يَفِيضُ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَفَاضَ النَّاسُ لِلتَّعْدِيَةِ، قَالَ: وَأَصْلُهُ: أَفَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَشَرَحَهُ صَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) بِالِانْدِفَاعِ فِي السَّيْرِ بِكَثْرَةٍ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَحَهُ بِلَفْظٍ مُتَعَدِّدٍ. قَالَ مَعْنَاهُ: دَفَعَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، قَالَ: لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا انْصَرَفُوا مُزْدَحِمِينَ دَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: الْإِفَاضَةُ الرُّجُوعُ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَقِيلَ: السَّيْرُ السَّرِيعُ، وَقِيلَ: التَّفَرُّقُ

بِكَثْرَةٍ، وَقِيلَ: الدَّفْعُ بِكَثْرَةٍ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ فَيَّاضٌ أَيْ مُنْدَفِقٌ بِالْعَطَاءِ، وَقِيلَ: الِانْصِرَافُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَفَاضَ بِالْقِدَاحِ، وعلى القداح، وهي الْمَيْسِرِ، وَأَفَاضَ الْبَعِيرُ بِجِرَانِهِ. عَرَفَاتٍ عَلَمٌ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَقِفُونَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ، فَقِيلَ: لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَذَلِكَ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا الِاسْمِ. وَفِي تَعْيِينِ الْمَعْرِفَةِ أَقَاوِيلُ: فَقِيلَ: لِمَعْرِفَةِ إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ إِذْ كَانَتْ قَدْ نُعِتَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لِمَعْرِفَتِهِ بِهَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ، وَكَانَتْ سَارَّةُ قَدْ أَخْرَجَتْ إِسْمَاعِيلَ فِي غَيْبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَانْطَلَقَ فِي طَلَبِهِ حِينَ فَقَدَهُ، فَوَجَدَهُ وَأَمَّهُ بِعَرَفَاتٍ، وَقِيلَ: لِمَعْرِفَتِهِ فِي لَيْلَةِ عَرَفَةَ أَنَّ الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا لَيْلَةَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ كَانَتْ مِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: لَمَّا أَتَى جِبْرِيلُ عَلَى آخِرِ الْمَشَاعِرِ فِي تَوْقِيفِهِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهَا، قَالَ لَهُ: أَعَرَفْتَ؟ قَالَ: عَرَفْتُ، فَسُمِّيَتْ عَرَفَةَ ، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَارَفُونَ بِهَا، وَقِيلَ: لِتَعَارُفِ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِهَا، لِأَنَّ هُبُوطَهُ كَانَ بِوَادِي سَرَنْدِيبَ، وَهُبُوطُهَا كَانَ بِجُدَّةَ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ مُمْتَثِلًا، فَتَعَارَفَا بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْعَرْفِ، وَهُوَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ، وقيل: من العرف، وهو: الصَّبْرُ، وَقِيلَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي مَا عَلَا عَرَفَاتٍ وَعَرَفَةَ، وَمِنْهُ: عُرْفُ الدِّيكِ لِعُلُوِّهِ، وَعَرَفَاتٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى جَمِيعِ جِبَالِ الْحِجَازِ، وَعَرَفَاتٌ وَإِنْ كَانَ اسْمَ جَبَلٍ فَهُوَ مُؤَنَّثٌ، حَكَى سِيبَوَيْهِ: هَذِهِ عَرَفَاتٌ مُبَارَكًا فِيهَا، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِعَرَفَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا جَمْعٌ، فَإِنْ عَنَى فِي الْأَصْلِ فَصَحِيحٌ وَإِنْ عَنَى حَالَةَ كَوْنِهَا عَلَمًا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ تُنَافِي الْعَلَمِيَّةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: عَرَفَةُ اسْمُ الْيَوْمِ، وَعَرَفَاتٌ اسْمُ الْبُقْعَةِ. وَالتَّنْوِينُ فِي عَرَفَاتٍ وَنَحْوِهِ تَنْوِينُ مُقَابَلَةٍ، وَقِيلَ: تَنْوِينُ صَرْفٍ، وَاعْتَذَرَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْصَرِفًا مَعَ التَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، بِأَنَّ التَّأْنِيثَ إِنَّمَا هِيَ مَعَ الْأَلِفِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَامَةُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، وَإِنْ كَانَ بِالتَّقْدِيرِ: كَسُعَادَ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهَا فِي عَرَفَاتٍ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّاءَ لِاخْتِصَاصِهَا بِجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ مَانِعَةٌ مِنْ تَقْدِيرِهَا كَمَا تُقَدَّرُ تَاءُ التَّأْنِيثِ فِي بِنْتٍ، لِأَنَّ التَّاءَ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمُؤَنَّثِ كَتَاءِ التَّأْنِيثِ، فَأُنِّثَ تَقْدِيرُهَا. انْتَهَى هَذَا التَّعْلِيلُ وَأَكْثَرُهُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَجْرَاهُ فِي الْقُرْآنِ مَجْرَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِنْ إِبْقَاءِ التَّنْوِينِ فِي الْجَرِّ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ حَالَةَ التَّسْمِيَةِ، وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ، وَالْأَخْفَشُ إِجْرَاءَ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ مَجْرَى فَاطِمَةَ، وَأَنْشَدُوا بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ:

تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرُعَاتَ وَأَهْلُهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي بِالْفَتْحِ. النَّصِيبُ: الْحَظُّ وَجَمْعُهُ عَلَى أَفْعِلَاءَ شَاذٌّ، لِأَنَّهُ اسْمٌ، قَالُوا: أَنْصِبَاءَ وَقِيَاسُهُ: فُعُلٌ نَحْوَ: كَثِيبٌ وَكُثُبٌ. سَرِيعُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: سَرُعَ يَسْرُعُ سُرْعَةً فَهُوَ سَرِيعٌ، وَيُقَالُ: أَسْرَعَ وَكِلَاهُمَا لَازِمٌ. الْحِسَابِ: مَصْدَرُ حَاسَبَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: حَسَبْتُ الْحِسَابَ أَحْسُبُهُ حَسْبًا وَحُسْبَانًا، وَالْحِسَابُ الِاسْمُ، وَقِيلَ: الْحِسَابُ مَصْدَرُ حَسَبَ الشَّيْءَ، وَالْحِسَابُ فِي اللُّغَةِ هو العدوّ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَيَعْقُوبُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حُسْبَانًا وَحِسَابَةً وَحِسْبَةً وَحَسْبًا، وَأَنْشَدَ: وَأَسْرَعَتْ حِسْبَةً فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ وَمِنْهُ: حَسُبَ الرَّجُلُ، وَهُوَ مَا عَدَّهُ مِنْ مآثره ومفاخره، والاحساب: الاعتداء بِالشَّيْءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحِسَابُ: فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: حَسْبُكَ كَذَا، أَيْ: كَفَاكَ، فَسُمِّيَ الْحِسَابُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ حِسَابًا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَكَانَتِ الْعُمْرَةُ لَا وَقْتَ لَهَا مَعْلُومًا. بَيَّنَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ، فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قبلها. وَالْحَجُّ أَشْهُرٌ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ، إِذِ الْأَشْهُرُ لَيْسَتِ الْحَجَّ، وَذَلِكَ الْحَذْفُ إِمَّا فِي الْمُبْتَدَأِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ، أَوْ وَقْتُ الْحَجِّ، أَوْ: فِي الْخَبَرِ، أَيِ: الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ، أَوْ يَكُونُ: الْأَصْلُ فِي أَشْهُرٍ، فَاتَّسَعَ فِيهِ، وَأُخْبِرَ بِالظَّرْفِ عَنِ الْحَجِّ لَمَّا كَانَ يَقَعُ فِيهِ، وَجُعِلَ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ يَجُوزُ النَّصْبُ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ قَدَّرَ الْكَلَامَ: فِي أَشْهُرٍ، فَيَلْزَمُهُ مَعَ سُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ نَصْبُ الْأَشْهُرِ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِنَصْبِهَا أَحَدٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَلْزَمُ نَصْبُ الْأَشْهُرِ مَعَ سُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى الِاتِّسَاعِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، أَعْنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ ظَرْفُ الزَّمَانِ نَكِرَةً خَبَرًا عَنِ الْمَصَادِرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ مُسْتَغْرِقًا لِلزَّمَانِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَعِنْدَهُمْ فِي

ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ: أَنَّ الْحَدَثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لِلزَّمَانِ، فَيُرْفَعُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ، أَوْ غير مستغرق فمذهب هشام أنه يجب في الرَّفْعُ، فَيَقُولُ: مِيعَادُكَ يَوْمٌ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى جَوَازِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ كَالْبَصْرِيِّينَ، وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَصْبُ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّ: أَشْهُرًا، نَكِرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ. وَهَذَا النَّقْلُ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلْنَا نَحْنُ عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْقَوْلَانِ، قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَوْلُ هِشَامٍ، وَجُمِعَ شَهْرٌ عَلَى أَفْعُلٍ لِأَنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ «1» فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى: فُعُولٍ، وَهُوَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ. وَظَاهِرُ لَفْظِ أَشْهُرٍ الْجَمْعُ، وَهُوَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، كُلُّهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وعطاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وعطاء، والشعبي، وطاووس، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَكْحُولٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ، هِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الثَّالِثَ التِّسْعَةُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ لَيْلَةِ النَّحْرِ، لِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِيهِمَا مَجَازٌ، إِذْ أُطْلِقَ عَلَى بَعْضِ الشَّهْرِ، شَهْرٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَهُ الْيَوْمَ يَوْمَانِ لَمْ أَرَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ وَبَعْضُ يَوْمٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَغْلِيبًا لِأَكْثَرِ الزَّمَانِ عَلَى أَقَلِّهِ، وَهُوَ كَمَا نُقِلَ فِي الْحَدِيثِ: أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَإِنَّمَا هِيَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ بَعْضٍ عَلَى كُلٍّ، وكما قال الشاعر: ثلاثون شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، قِيلَ: وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تُوقِعُ الْجَمْعَ على التثنية إذا كَانَتِ التَّثْنِيَةُ أَقَلَّ الْجَمْعِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ كَانَ الشَّهْرَانِ. وَبَعْضُ الشَّهْرِ أَشْهُرًا؟ قُلْتُ: اسْمُ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «2» فَلَا سُؤَالَ فِيهِ إِذَنْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَوْضِعًا لِلسُّؤَالِ لَوْ قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ معلومات. انتهى كلامه.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 36. (2) سورة التحريم: 66/ 4.

وَمَا ذَكَرَهُ الدَّعْوَى فِيهِ عَامَّةٌ، وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ، وَهَذَا فِيهِ النِّزَاعُ. وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ خَاصٌّ، وَهُوَ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلِإِطْلَاقِ الْجَمْعِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى التَّثْنِيَةِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَ: أَشْهُرٌ، لَيْسَ مِنْ بَابِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَلَا سُؤَالَ فِيهِ، إِذَنْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ فَرَضَ السُّؤَالَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ؟ وَقَوْلِهِ فَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ مَوْضِعًا لِلسُّؤَالِ لَوْ قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ شَهْرٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ كَمَا يَدْخُلُ الْمَجَازُ فِي لَفْظِ أَشْهُرٍ، كَذَلِكَ قَدْ يدخل المحاز فِي الْعَدَدِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ: لَهُ الْيَوْمَ يَوْمَانِ لَمْ أَرَهُ؟ قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ وَبَعْضُ يَوْمٍ آخَرَ، وإلى قول امرئ: ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَإِلَى مَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ، مَا رَأَيْتُهُ مُذْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ رَأَيْتَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالْخَامِسِ فَلَمْ يَشْمَلِ الِانْتِفَاءُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ جَمِيعَهَا بَلْ تُجْعَلُ مَا رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِهِ، وَانْتَفَتِ الرُّؤْيَةُ فِي بَعْضِهِ، كَانَ يَوْمٌ كَامِلٌ لَمْ تَرَهُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي كَلَامِهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَشْهُرٍ، وَبَيْنَ ثلاثة أشهر، ولكن مَجَازَ الْجَمْعِ أَقْرَبُ مِنْ مَجَازِ الْعَدَدِ. قَالُوا: وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَشْهُرَ هِيَ الثَّلَاثَةَ بِكَمَالِهَا، وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَهَا شَهْرَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ، يَظْهَرُ في تعلق الذم فِيمَا يَقَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى الْحَجُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَخَّرَ عَمَلَ ذَلِكَ عَنْ وَقْتِهِ. وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ بِالْأَشْهُرِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِيهَا، وَيُكْرَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيِّ. قَالَ: وَلَا يُحِلُّ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو الثَّوْرِ: لَا يَصِحُّ، وَيَنْقَلِبُ عُمْرَةً وَيُحِلُّ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ بِهِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ هَلِ التَّقْدِيرُ: الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ أَوْ أَفْعَالُ الْحَجِّ؟ وَذِكْرُ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ

لَا تَقَعُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تُسْتَحَبُّ فِيهَا، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ مُخَلَّصَةً لِلْحَجِّ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَخْفِقُ النَّاسَ بِالدِّرَّةِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الِاعْتِمَارِ فِيهِنَّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: إِنْ أَطْلَقَنِي انْتَظَرْتُ، حَتَّى إِذَا أَهْلَلْتُ الْمُحَرَّمَ خَرَجْتُ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ فَأَهْلَلْتُ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ. وَمَعْنَى: مَعْلُومَاتٍ، مَعْرُوفَاتٍ عِنْدَ النَّاسِ، وَأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْحَجِّ فِيهَا إِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى مَا عَرَفُوهُ وَكَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أَيْ: مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْحَجَّ فيهن، وأصل الفرض الحر الَّذِي يَكُونُ فِي السِّهَامِ وَالْقِسِيِّ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ فُرْضَةُ النَّهَرِ وَالْجَبَلِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الغرض مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَهُوَ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَالْإِحْرَامُ، وقال عطاء، وطاووس: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ شَرِيكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: لَا إِحْرَامَ إِلَّا لِمَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى، وَأَخَذَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالُوا، هُمْ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: إِنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِذَا قَلَّدَ بَدَنَتَهُ وَسَاقَهَا يُرِيدُ الْإِحْرَامَ. فقد أحرم، قول هَذَا عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ وُجُوبُ التَّلْبِيَةِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الدَّمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِذَا قَلَّدَ بَدَنَتَهُ وَسَاقَهَا فَقَدْ أَحْرَمَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وابن عباس، وطاووس، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: فَرْضُ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ بِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مَعَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالنِّيَّةِ، وَالْإِحْرَامِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَبِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ عِنْدِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوِ النِّيَّةِ وَإِشْعَارِ الْهَدْيِ أَوْ تَقْلِيدِهِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَ: مَنْ، شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَ: فِيهِنَّ، مُتَعَلِّقٌ بِفَرَضَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى: أَشْهُرٌ، وَلَمْ يَقُلْ: فِيهَا، لِأَنَّ أَشْهُرًا جَمْعُ قِلَّةٍ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ مِنْ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ لِمَا لَا يَعْقِلُ يُجْرَى مَجْرَى الْجَمْعِ مُطْلَقًا لِلْعَاقِلَاتِ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ أَيْضًا، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.

فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ الرَّفَثُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْجِمَاعُ وَقَالَ ابن عمر، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الْإِفْحَاشُ لِلْمَرْأَةِ بِالْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا أَحْلَلْنَا فَعَلْنَا بِكِ كَذَا، لَا يُكَنِّي، وَقَالَ قَوْمٌ: الْإِفْحَاشُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِنَّ أَمْ لَا وَقَالَ قَوْمٌ: الرَّفَثُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ اللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ التَّعَرُّضُ بِمُعَانَقَةٍ وَمُوَاعَدَةٍ أَوْ مُدَاعَبَةٍ أَوْ غَمْزٍ. وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ شَيْءٍ يُفْسِدُهُ وَهُوَ الْجِمَاعُ، أَوْ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ لِمَنْ كَانَ مُلْتَبِسًا بِالْحَجِّ لِحُرْمَةِ الْحَجِّ. وَالْفُسُوقُ: فُسِّرَ هَذَا بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَتْلِ صَيْدٍ، وَحَلْقِ شَعْرٍ، وَالْمَعَاصِي كُلِّهَا لَا يَخْتَصُّ مِنْهَا شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، ومجاهد، وطاووس. أَوِ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ وَمِنْهُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ «1» قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَمَالِكٌ، أَوِ التَّنَابُذُ بِالْأَلْقَابِ قَالَ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ «2» قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوِ السباب منه: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ» . قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالسُّدِّيُّ، وَرَجَّحَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ مَا نُهِيَ عَنْهُ الْحَاجُّ فِي إِحْرَامِهِ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مُحْرِمٍ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ التَّنَابُذُ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُمَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ جَمِيعُ الْمَعَاصِي لِعُمُومِهِ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَمَلٌ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ حَجَّةٍ مَبْرُورَةٍ لَا رَفَثَ فِيهَا وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ» . وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّهُ بَعْدَهُ. وَالْجِدَالُ: هُنَا مُمَارَاةُ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَغْضَبَ، فَأَمَّا فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ فَلَا نَهْيَ عَنْهَا، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ. أَوِ السِّبَابُ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَتَادَةُ. أَوِ:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 145. (2) سورة الحجرات: 49/ 11.

الِاخْتِلَافُ: أَيُّهُمْ صَادَفَ مَوْقِفَ أَبِيهِمْ؟ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، تَقِفُ قُرَيْشٌ فِي غَيْرِ مَوْقِفِ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَتَجَادَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَمَالِكٌ. أَوْ يَقُولُ قَوْمٌ: الْحَجُّ الْيَوْمَ، وَقَوْمٌ الْحَجُّ غَدًا، قَالَهُ الْقَاسِمُ. أَوِ الْمُمَارَاةُ فِي الشُّهُورِ حَسْبَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنَ الَّذِي كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا الْحَجَّ فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَقِفُ بَعْضُهُمْ بِجَمْعٍ، وَبَعْضُهُمْ بِعَرَفَةَ، وَيَتَمَارَوْنَ فِي الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَأَظْهَرُهَا قَرَّرَ الشَّرْعُ وَقْتَ الْحَجِّ وَإِحْرَامُهُ حَتْمٌ لَا جِدَالَ فِيهِ. أَوْ قَوْلُ طَائِفَةٍ: حَجُّنَا أَبَرُّ مِنْ حَجِّكُمْ، وَتَقُولُ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرْطُبِيُّ، أَوِ الْفَخْرُ بِالْآبَاءِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ، أَوْ قَوْلُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ، حِينَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحْلِلْ مِنْ إِحْرَامِهِ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَوِ الْمِرَاءُ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَالْخُدَّامِ وَالْمُكَارِينَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ كُلُّ مَا يُسَمَّى جِدَالًا لِلتَّغَالُبِ، وَحَظِّ النَّفْسِ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَقْوَالُ التسعة السابقة. و: الفاء، فِي: فَلَا رَفَثَ، هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، إِنْ قُدِّرَ: مَنْ، شَرْطًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ فِي الْخَبَرِ إِنْ قُدِّرَ: مَنْ، مَوْصُولًا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ: رُفُوثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّفَثَ وَالرُّفُوثَ مَصْدَرَانِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، وَهُوَ طَرِيقُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَنَافِعٌ بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ بِرَفْعِ: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ، وَالتَّنْوِينِ، وَفَتْحِ: وَلَا جِدَالَ، مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. فَأَمَّا مَنْ رَفَعَ الثَّلَاثَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ: لَا، غَيْرَ عَامِلَةٍ ورفع مَا بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ عَنِ الْجَمِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فِي الْحَجِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عن الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَحُذِفَ خَبَرُ الثَّانِي. وَالثَّالِثِ لِلدَّلَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عن الثَّالِثِ وَحُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلدَّلَالَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خبرا عن الثَّانِي وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ لِقُبْحِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَالْفَصْلِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: لَا، عَامِلَةً عَمَلَ لَيْسَ فَيَكُونُ: فِي الْحَجِّ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَ: لَا، فِي مَعْنَى لَيْسَ فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَهَذَا الَّذِي

جَوَّزَهُ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ إِعْمَالَ: لَا، إِعْمَالَ: لَيْسَ، قَلِيلٌ جدا، لم يجىء مِنْهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا مَا لَا بَالَ لَهُ، وَالَّذِي يُحْفَظُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: تَعَزَّ فَلَا شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ بَاقِيَا ... وَلَا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا أَنْشَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْبَيْتَ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: وَحَلَّتْ سَوَادَ الْقَلْبِ لَا أَنَا بَاغِيًا ... سِوَاهَا وَلَا فِي حُبِّهَا مُتَرَاخِيًا وَقَالَ آخَرُ: أَنْكَرْتُهَا بَعْدَ أَعْوَامٍ مَضَيْنَ لها ... لا الدار دار وَلَا الْجِيرَانُ جِيرَانَا وَخَرَّجَ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا ... فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لَا بَرَاحُ وَهَذَا كُلُّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَعَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يَنْتَهِي مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ وَأَجَلُّهُ، وَيُعْدَلَ عَنِ الْوَجْهِ الْكَثِيرِ الْفَصِيحِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ فَإِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصَادِرِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَفْعَالٌ مِنْ لَفْظِهَا، التَّقْدِيرُ: فَلَا يَرْفُثُ رَفَثًا، وَلَا يَفْسُقُ فُسُوقًا، وَلَا يُجَادِلُ جِدَالًا. وَ: فِي الْحَجِّ، مُتَعَلِّقٌ بِمَا شِئْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِعْمَالِ وَالتَّنَازُعِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ فِي الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، فَالْخِلَافُ فِي الْحَرَكَةِ، أَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ أَوْ حَرَكَةُ بِنَاءٍ؟ الثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالدَّلَائِلُ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَإِذَا بُنِيَ مَعَهَا عَلَى عَلَى الْفَتْحِ فَهَلِ الْمَجْمُوعُ مِنْ لَا وَالْمَبْنِيِّ مَعَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ؟ وَإِنْ كَانَتْ: لَا، عَامِلَةً فِي الِاسْمِ النَّصْبَ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَلَا خَبَرَ لَهَا، أَوْ لَيْسَ الْمَجْمُوعُ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ؟ بَلْ. لَا، عَامِلَةٌ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ النَّصْبَ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَمَا بَعْدَهَا خَبَرُ: لَا، إِذَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى. إِنَّ، فِي نَصْبِ الِاسْمِ وَرَفْعِ الْخَبَرِ، قَوْلَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ، الْأَوَّلُ: قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَالثَّانِي: الْأَخْفَشُ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَتَفَرَّعُ إِعْرَابُ: فِي الْحَجِّ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ خَبَرِ: لَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ: فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ، وَفَتَحَ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ: وَلَا جِدَالَ، فَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْمَفْتُوحَ مَعَ: لَا، فِي

مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، يَكُونُ: فِي الْحَجِّ، خَبَرًا عَنِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، إِلَّا الْعَطْفُ، عَطْفُ مُبْتَدَأٍ عَلَى مُبْتَدَأٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَخْفَشِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ: فِي الْحَجِّ، إِلَّا خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأَيْنِ، أَوْ: لا، أو خبر للا، لِاخْتِلَافِ الْمُعْرَبِ فِي الْحَجِّ، يَطْلُبُهُ الْمُبْتَدَأُ أَوْ تَطْلُبُهُ لَا فَقْدَ اخْتَلَفَ الْمُعْرَبُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَا نَصُّهُ: وَ: لَا، بِمَعْنَى لَيْسَ فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَ: فِي الْحَجِّ، خَبَرُ: لَا جِدَالَ، وَحَذْفُ الْخَبَرِ هُنَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَدْ خُولِفَ فِي ذَلِكَ بَلْ: فِي الْحَجِّ، هُوَ خَبَرُ الْكُلِّ، إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فِي الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ: لَا، إِنَّمَا تَعْمَلُ عَلَى بَابِهَا فِيمَا يَلِيهَا، وَخَبَرُهَا مَرْفُوعٌ بِأَنَّ عَلَى حَالِهِ مِنْ خَبَرِ الِابْتِدَاءِ، وَظَنَّ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ: لَيْسَ، فِي نَصْبِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَالِاسْمُ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ يَطْلُبَانِ الْخَبَرَ، وَ: فِي الْحَجِّ، هُوَ الْخَبَرُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ مُنَاقَشَاتٌ. الْأُولَى: قَوْلُهُ وَ: لَا، بِمَعْنَى: لَيْسَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كَوْنَ: لَا، بِمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مِنَ الْقِلَّةِ فِي كَلَامِهِمْ بِحَيْثُ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ارْتِفَاعَ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الِابْتِدَاءِ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَقَدْ نَصَّ النَّاسُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا وَمِنْهَا: لَيْسَ، لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ لَا اخْتِصَارًا، وَلَا اقْتِصَارًا، ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُ قَدْ حُذِفَ خَبَرُ لَيْسَ فِي الشِّعْرِ فِي قَوْلِهِ: يَرْجُو جِوَارَكَ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ عَلَى طَرِيقِ الضَّرُورَةِ أَوِ النُّدُورِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ بَلْ: فِي الْحَجِّ، هُوَ خَبَرُ الْكُلِّ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، يَعْنِي بِالْوَجْهَيْنِ: كَوْنِهَا بِمَعْنَى: لَيْسَ، وَكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً مَعَ: لَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَيْسَ احْتَاجَتْ إِلَى خَبَرٍ مَنْصُوبٍ، وَإِذَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً مَعَ لَا احْتَاجَتْ إِلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْخَبَرُ إِمَّا لِكَوْنِهَا هِيَ الْعَامِلَةَ فِيهِ الرَّفْعَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا مَعَ مَعْمُولِهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ

الْخِلَافِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ: فِي الْحَجِّ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لِأَنَّ: لَا، إِنَّمَا تَعْمَلُ عَلَى بَابِهَا فِيمَا تَلِيهَا، وَخَبَرُهَا مَرْفُوعٌ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ مِنْ خَبَرِ الِابْتِدَاءِ، هَذَا تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ: فِي الْحَجِّ، خَبَرًا لِلْكُلِّ، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: لَيْسَ، كَانَ خَبَرُهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا التَّعْلِيلَ إِلَّا كَوْنُهَا تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ فَقَطْ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، لِأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ يَكُونُ: فِي الْحَجِّ، في موضع رفع بلا، وَ: لَا، هِيَ الْعَامِلَةُ الرَّفْعَ، فَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُ عَلَى مَذْهَبِهِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ هِيَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقِرَاءَةَ الْفَتْحِ فِي: وَلَا جِدَالَ، هِيَ عَلَى عَمَلِ: لَا، عَمَلَ إِنَّ. الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَظَنَّ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ: لَيْسَ، فِي نَصْبِ الْخَبَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، هَذَا الظَّنُّ صَحِيحٌ، وَهُوَ كَمَا ظَنَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ حِينَ صَرَّحَتْ بِالْخَبَرِ عَلَى أَنَّ: لَا، بِمَعْنَى لَيْسَ أَتَتْ بِهِ مَنْصُوبًا فِي شَعْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ظَنَّهُ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ نَصْبِ الْخَبَرِ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مِنَ النُّدُورِ بِحَيْثُ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَجَازَهُ أبو عَلَى، مِثْلِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَا يَنْبَغِي. السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: بَلْ هِيَ وَالِاسْمُ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ يَطْلُبَانِ الْخَبَرَ، وَ: فِي الْحَجِّ، هُوَ الْخَبَرُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَوْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ مِنْ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: لَيْسَ، إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي الِاسْمِ الرَّفْعَ فَقَطْ، وَهِيَ وَالِاسْمُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ مَرْفُوعًا لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِنَصْبِ الْعَرَبِ الْخَبَرَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: لَيْسَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مَا قَالَهُ لَا يُمْكِنُنَا الْعِلْمُ بِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ فِي الِاسْمِ فَقَطْ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مَرْفُوعًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِلَّا صُورَةُ: لَا رَجُلٌ قَائِمٌ، وَلَا امْرَأَةٌ. فَرَجُلٌ هُنَا مُبْتَدَأٌ، وَقَائِمٌ خَبَرٌ عَنْهُ، وَهِيَ غَيْرُ عَامِلَةٍ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُ كَوْنُهَا بِمَعْنَى لَيْسَ، وَارْتِفَاعُ الِاسْمِ بِهَا مِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً بِنَصْبِ الْخَبَرِ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَيْسَ، وَرَفْعِ الْخَبَرِ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهَا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَصْلًا لِرُجْحَانٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ مُبْتَدَأً، وَالْمَرْفُوعُ بَعْدَهُ خَبَرَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ وَالْآخِرَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُمَا حَمَلَا الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَكُونَنَّ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ، وَالثَّالِثَ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ الْجِدَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا شَكَّ وَلَا خِلَافَ فِي الْحَجِّ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ

تُخَالِفُ سَائِرَ الْعَرَبِ، فَتَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، وَكَانُوا يُقَدِّمُونَ الْحَجَّ سَنَةً وَيُؤَخِّرُونَهُ سَنَةً، وَهُوَ النَّسِيءُ، فَرُدَّ إِلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَرُدَّ الْوُقُوفُ إِلَى عَرَفَةَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدِ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي الْحَجِّ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ دُونَ الْجِدَالِ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ كَهَيْئَةِ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ، وَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْجِدَالَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ تَعَقُّبَاتٌ. الْأَوَّلُ: تَأْوِيلُهُ عَلَى أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمَا حَمَلَا الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ بِسَبَبِ الرَّفْعِ وَالثَّالِثَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِسَبَبِ الْبِنَاءِ، وَالرَّفْعُ وَالْبِنَاءُ لَا يَقْتَضِيَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْبِنَاءِ فِي أَنَّ مَا كَانَا فِيهِ كَانَ مَبْنِيًّا، وَأَمَّا أَنَّ الرَّفْعَ يَقْتَضِي النَّهْيَ، وَالْبِنَاءَ يَقْتَضِي الْخَبَرَ فَلَا، ثُمَّ قِرَاءَةُ الثَّلَاثَةِ بِالرَّفْعِ وَقِرَاءَتُهَا كُلُّهَا بِالْبِنَاءِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، غَايَةُ مَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ قِرَاءَةَ الْبِنَاءِ نَصٌّ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِرَاءَةَ الرَّفْعِ مُرَجِّحَةٌ لَهُ، فَقِرَاءَتُهُمَا الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ وَالثَّالِثَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ إِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ إِذَا لَمْ يَتَأَدَّ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْجَائِزَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا شَكَّ وَلَا خِلَافَ فِي الْحَجِّ، وَتَرْشِيحُ ذَلِكَ بِالتَّارِيخِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مُنَاقِضٌ لِمَا شَرَحَ هُوَ بِهِ الْجِدَالَ، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلُ: وَلَا جِدَالَ وَلَا مِرَاءَ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَالْخَدَمِ وَالْمُكَارِينَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي الْجِدَالِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ التَّارِيخَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ قَوْلَانِ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا جِدَالَ، لِلْمُتَقَدِّمِينَ. اخْتِلَافُهُمْ: فِي الْمَوْقِفِ: لِابْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكٍ، وَالنَّسِيءِ: لِمُجَاهِدٍ، فَجَعَلَهُمَا هُوَ شَيْئًا وَاحِدًا سَبَبًا لِلْإِخْبَارِ أَنْ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ دُونَ الْجِدَالِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجِدَالَ إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَحْظُورِ فَقَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ: وَلا فُسُوقَ لِعُمُومِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَكْرُوهِ وَتَرْكِ الْأَوْلَى، فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا فِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، فَلِذَلِكَ رَتَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنَ الْمَحْظُورِ فِيهِ، الْجَائِزِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالرَّفَثِ وَمِنَ الْمَحْظُورِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ مُطْلَقًا فِي الْحَجِّ وَفِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفُسُوقِ، وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلَا جِدَالَ، مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْحَاجُّ، مِنْ: إِفْرَاغِ أَعْمَالِهِ لِلْحَجِّ،

وَعَدَمِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُجَادَلَةِ. فَمَقْصِدُ الْآيَةِ غَيْرُ مَقْصِدِ الْحَدِيثِ، فَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاثْنَيْنِ. وَقَدْ بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَهِيَ مُرَادٌ بِهَا النَّفْيُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ إِخْبَارًا؟ أَوْ صُورَتُهَا صُورَةُ النَّفْيِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ نَفْيٌ، وَمَعْنَاهَا نَهْيٌ. أَيْ: فَلَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا وَلَا تُجَادِلُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ «1» أَيْ: لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَهُ الْخَبَرُ، وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ حَجَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ، بَلْ يَفْسُدُ، فَهُوَ كَالضِّدِّ لَهَا وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّتِهِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِالرَّفَثِ: الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقِ: الزِّنَا، وَبِالْجِدَالِ: الشَّكُّ فِي الْحَجِّ وَفِي وُجُوبِهِ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ كُفْرٌ وَلَا يَصِحُّ مَعَهُ الْحَجُّ، وَحُمِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى يَصِحَّ خَبَرُ اللَّهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى النَّهْيِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، صَلُحَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ: الْجِمَاعُ، وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَقَوْلُ الْفُحْشِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ جَمِيعُ أنواعهما لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِهِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَقْسَامِهِ. وَتَكُونُ الْآيَةُ جَلِيَّةً عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَمُشِيرَةً إِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، بِقَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَإِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا فُسُوقَ وَإِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا جِدالَ فَذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّ مَنْشَأَ الشَّرِّ مَحْصُورٌ فِيهَا، وَحَيْثُ نَهَى عَنِ الْجِدَالِ حَمَلَ الْجِدَالَ عَلَى تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ وَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، لَا عَلَى تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَدُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ وَالذَّبِّ عَنْ دِينِهِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ، صُورَتُهَا صُورَةُ الْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ لَكَانَ الْمُؤَدِّي لِهَذَا الْمَعْنَى تَرْكِيبٌ غَيْرُ هَذَا التَّرْكِيبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ مَثَلًا: مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا جِمَاعَ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا زِنَا بِغَيْرِهَا، وَلَا كُفْرَ فِي الصَّلَاةِ، يُرِيدُ الْخَبَرَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُفْسِدَةٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْفَصَاحَةِ فِي رُتْبَةِ قَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ مَعَ جِمَاعِ امْرَأَتِهِ وَزِنَاهُ وَكُفْرِهِ؟ فَالَّذِي يُنَاسِبُ الْمَعْنَى الْخَبَرِيَّ نَفْيُ صِحَّةِ الْحَجِّ مَعَ وُجُودِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ لَا نَفْيُهُنَّ فِيهِ، هكذا الترتيب العربي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2، وآل عمران: 3/ 9 و 25. والنساء: 4/ 87. والأنعام: 6/ 12. ويونس: 10/ 37. والإسراء: 17/ 99. والسجدة: 32/ 2. والشورى: 42/ 7. والجاثية: 45/ 26.

الْفَصِيحُ، وَإِنَّمَا أَتَى فِي النَّهْيِ بِصُورَةِ النَّفْيِ إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَسْتَبْعِدُ الْوُقُوعَ فِي الْحَجِّ، حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُوجَدُ، وَمِمَّا لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَيْضًا: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ مَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْحَجِّ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ نَفْيًا لِلصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحَدُّثُ مَعَ النِّسَاءِ فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ، أَوِ الْفُحْشُ مِنَ الْكَلَامِ، فَيَكُونُ نَهْيًا لِكَمَالِ الْفَضِيلَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَيْسَ نَفْيًا لِوُجُودِ الرَّفَثِ، بَلْ نَفْيٌ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ، فَإِنَّ الرَّفَثَ يُوجَدُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ، وَأَخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إِلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا، لَا إِلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «1» وَمَعْنَاهُ مَشْرُوعًا لَا مَحْسُوسًا، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا إِلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ الَّتِي فَاتَتِ الْعُلَمَاءَ، فَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ، فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، وَيَتَبَايَنَانِ وَصْفًا انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَتَلَخَّصَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا إِخْبَارٌ بِنَفْيِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: الْجِمَاعُ، وَالزِّنَا، وَالْكُفْرُ. الثَّانِي: أَنَّهَا إِخْبَارٌ بِنَفْيِ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا بِنَفْيِ الْوُجُودِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِخْبَارُ صُورَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا النَّهْيُ. الرَّابِعُ: التَّفْرِقَةُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَبِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالثَّالِثَ خَبَرٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَوَابِ الشَّرْطِ إِنْ كَانَتْ: مَنْ، شَرْطِيَّةً، وَفِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، إِنْ كَانَتْ: مَنْ، مَوْصُولَةً. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رَابَطٍ يَرْبُطُ جُمْلَةَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، إِذَا كَانَ الشَّرْطُ بِالِاسْمِ، وَالْجُمْلَةَ الْخَبَرِيَّةَ بِالْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُولِ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ فِي الْمَعْنَى، وَلَا رَابِطَ هُنَا مَلْفُوظٌ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مقدرا. ويحتمل وجهين.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 228.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ: مِنْهُ، بَعْدَ: وَلَا جِدَالَ، وَيَكُونُ: مِنْهُ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الرَّبْطُ كَمَا حَصَلَ فِي قَوْلِهِمُ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ أَيْ: مَنَوَانِ مِنْهُ، وَمِنْهُ صِفَةٌ لِلْمَنَوَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَ الْحَجِّ، وَتَقْدِيرُهُ: فِي الْحَجِّ منه أوله، أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الرَّبْطُ. وَلِلْكُوفِيِّينَ تَخْرِيجٌ فِي مِثْلِ هَذَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْحَجِّ، فِي حَجِّهِ، فَنَابَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنِ الضَّمِيرِ، وَحَصَلَ بِهَا الرَّبْطُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَرَّرَ فِي الْحَجِّ، فَقَالَ: فِي الْحَجِّ، وَلَمْ يَقُلْ: فِيهِ، جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي التَّأْكِيدِ فِي إِقَامَةِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ أَحْسَنُ لِبُعْدِهِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلِمَجِيئِهِ فِي جُمْلَةٍ غَيْرِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَلِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى: مَنْ، لَا عَلَى: الْحَجِّ، أَيْ: فِي فَارِضِ الْحَجِّ. وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ النَّهْيُ، يَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي الْحَجِّ. أَمَّا الرَّفَثُ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، خَلَفًا وَسَلَفًا، أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ هُنَا الْجِمَاعُ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْآيَةِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَأَنَّ مُقَدِّمَاتِهِ تُوجِبُ الدَّمَ، إِلَّا مَا رَوَاهُ بَعْضُ الْمَجْهُولِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: «لِلْمُحْرِمِ مِنِ امْرَأَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ» . وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ إِلَى حِلِّ تَقْبِيلِ امرأته ومباشرتها، ويتجنب الوطئ. وَأَمَّا الْفُسُوقُ وَالْجِدَالُ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ، فَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ فِي الْحَجِّ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ التَّلَبُّسَ بِالْمَعَاصِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مِنَ التَّشْهِيرِ، لِفِعْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، أَفْحَشُ وَأَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَقِّ الصَّائِمِ: «فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ؟» وَإِلَى قَوْلِهِ وَقَدْ صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ مُلَاحَظَةِ النِّسَاءِ فِي الْحَجِّ: «إِنَّ هَذَا يَوْمٌ، مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ غُفِرَ لَهُ؟»

وَمَعْلُومٌ خَطَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا فُسُوقَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُحْدِثُ لِلْحَجِّ تَوْبَةً مِنَ الْمَعَاصِي حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ هَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ نَظِيرِهَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «1» وَخُصَّ الْخَيْرُ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، حَثًّا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَهُوَ خَيْرٌ، وَلِأَنْ نَسْتَبْدِلَ بِتِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ أَضْدَادَهَا، فَنَسْتَبْدِلَ بِالرَّفَثِ الْكَلَامَ الحسن والفعل الجميل، وبالفسوق الطاعة، وبالجدال الْوِفَاقَ، وَلِأَنْ يَكْثُرَ رَجَاءُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِالثَّوَابِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ عَنِ الْمُجَازَاةِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ بِالْعِلْمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُجَازِكُمُ اللَّهُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمُجَازَاةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعِلْمِ، أَيْ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ فَيُثِيبَ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا تَفْعَلُوا، الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَحَمْلٌ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ إِفْرَادٍ إِلَى جَمْعٍ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: تَفْعَلُوا، عَنْ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ فِعْلٍ وَقَوْلٍ وَنِيَّةٍ، إِمَّا تَغْلِيبًا لِلْفِعْلِ، وَإِمَّا إِطْلَاقًا عَلَى الْقَوْلِ، وَالِاعْتِقَادِ لَفْظَ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَأَفْعَالُ اللِّسَانِ، وَأَفْعَالُ الْقَلْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي: يَعْلَمْهُ، عَائِدٌ عَلَى: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا تَفْعَلُوا، وَ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَقَدْ خَبَّطَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ فَقَالَ: إِنَّ: مِنْ خير، متعلق: بتفعلوا، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا تَفْعَلُوهُ فِعْلًا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، جَزَمَ بِجَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْهَاءُ فِي: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، يَعُودُ إِلَى خَيْرٍ انْتَهَى قَوْلُهُ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مُسَطَّرٌ فِي التَّفْسِيرِ لَمَا حَكَيْتُهُ، وَجِهَةُ التَّخْبِيطِ فِيهِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ: من خير، متعلق: بتفعلوا، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا، فَيُنَاقِضُ هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُ: مِنْ، يتعلق: بتفعلوا، لِأَنَّ: مِنْ، حَيْثُ تَعَلَّقَتْ بتفعلوا كان العامل غير محذوفا وَقَوْلُهُ وَالْهَاءُ تَعُودُ إِلَى خَيْرٍ خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ بِالِاسْمِ، فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الِاسْمِ، أَعْنِي: اسْمَ الشَّرْطِ، وَإِذَا جَعَلْتَهَا عَائِدَةً عَلَى الْخَيْرِ عَرِيَ الْجَوَابُ عَنْ ضمير يعود على اسم الشَّرْطِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لو قلت: من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 106.

يَأْتِنِي يَخْرُجْ خَالِدٌ، وَلَا يقدر ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ بِالْحَرْفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ خُلُوُّ الْجُمْلَةِ مِنَ الضَّمِيرِ نَحْوَ: إِنْ تَأْتِنِي يَخْرُجْ خَالِدٌ. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ بِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ أَفَلَا يُطْعِمُنَا؟ فَيَتَوَصَّلُونَ بِالنَّاسِ، وَرُبَّمَا ظَلَمُوا وَغَصَبُوا، فَأُمِرُوا بِالتَّزَوُّدِ، وَأَنْ لَا يَظْلِمُوا أَوْ يَكُونُوا كَلًّا عَلَى النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا أَحْرَمُوا وَمَعَهُمْ أَزْوِدَةٌ رَمَوْا بِهَا، وَاسْتَأْنَفُوا زَادًا آخَرَ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا بِالتَّحَفُّظِ بِالزَّادِ وَالتَّزَوُّدِ. فَعَلَى مَا رُوِيَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالتَّزَوُّدِ فِي الْأَسْفَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ مَا قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ وَمَا بَعْدَهُ، أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالتَّزَوُّدِ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ كَالزَّادِ إِلَى سَفَرِهِ لِلْآخِرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَمَعْنَاهُ الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ؟ وَبَعْدَهُ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَالتَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالْقُرْآنِ عِبَارَةٌ عَنْ مَا يُتَّقَى بِهِ النَّارُ؟ وَيَكُونُ مَفْعُولُ: تَزَوَّدُوا، مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ، وَتَزَوَّدُوا التَّقْوَى، أَوْ: مِنَ التَّقْوَى، وَلَمَّا حَذَفَ الْمَفْعُولَ أتى بخبر إن ظاهر لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ هَذَا الظَّاهِرُ، وَلَوْ لَمْ يُحْذَفِ الْمَفْعُولُ لَأَتَى بِهِ مُضْمَرًا عَائِدًا عَلَى الْمَفْعُولِ، أَوْ كَانَ يَأْتِي ظَاهِرًا تَفْخِيمًا لِذِكْرِ التَّقْوَى، وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي التَّزَوُّدِ لِلْآخِرَةِ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا وَقَالَ بَعْضُ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ: فَلَوْ كَانَ حَمْدٌ يُخْلِدُ النَّاسَ لَمْ يَمُتْ ... وَلَكِنَّ حَمْدَ النَّاسِ لَيْسَ بِمُخْلِدِ وَلَكِنَّ مِنْهُ بَاقِيَاتٍ وِرَاثَةً ... فَأَوْرِثْ بَنِيكَ بَعْضَهَا وَتَزَوَّدِ تَزَوَّدْ إِلَى يَوْمِ الْمَمَاتِ فَإِنَّهُ ... وَإِنْ كَرِهَتْهُ النَّفْسُ آخِرُ مَوْعِدِ وَصَعِدَ سَعْدُونُ الْمَجْنُونُ تَلًّا فِي مَقْبَرَةٍ، وَقَدِ انْصَرَفَ نَاسٌ مِنْ جِنَازَةٍ فَنَادَاهُمْ: أَلَا يَا عَسْكَرَ الْأَحْيَاءِ ... هَذَا عَسْكَرُ الْمَوْتَى أَجَابُوا الدَّعْوَةَ الصُّغْرَى ... وَهُمْ مُنْتَظِرُو الْكُبْرَى

يَحُثُّونَ عَلَى الزَّادِ ... وَلَا زَادَ سِوَى التَّقْوَى يَقُولُونَ لَكُمْ جِدُّوا ... فَهَذَا غَايَةُ الدُّنْيَا وَقِيلَ: أَمَرَ بِالتَّزَوُّدِ لِسَفَرِ الْعِبَادَةِ وَالْمَعَاشِ، وَزَادُهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمَرْكَبُ وَالْمَالُ، وَبِالتَّزَوُّدِ لِسَفَرِ الْمَعَادِ، وَزَادُهُ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الزَّادٌ خَيْرٌ مِنَ الزَّادِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّزَوُّدِ فِي أَسْفَارِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ مَفْعُولُ: تَزَوَّدُوا، مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا تَكْفُونَ بِهِ وُجُوهَكُمْ مِنَ السُّؤَالِ، وَأَنْفُسَكُمْ مِنَ الظُّلْمِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: التَّقْوَى هُنَا: الْكَعْكُ وَالزَّيْتُ وَالسَّوِيقُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَمَا يُشَاكِلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّزَوُّدِ لِسَفَرِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّزَوُّدِ فِي السَّفَرَيْنِ، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَتَزَوَّدُوا مَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ لِعَاجِلِ سَفَرِكُمْ وَآجِلِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَتَزَوَّدُوا الرَّفِيقَ الصَّالِحَ، إِلَّا إِنْ عَنَى بِهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، فَلَا يَبْعُدُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي اخْتَرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: احْتَمَلَ قَوْلُهُ: وَتَزَوَّدُوا، الْأَمْرَيْنِ مِنْ زَادِ الطَّعَامِ وَزَادِ التَّقْوَى، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا، إِذْ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تَخْصِيصِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَكَرَ التَّزَوُّدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْحَجِّ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ شَيْءٍ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِيهِ لِمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، كَمَا نَصَّ عَلَى خَطَرِ الْفُسُوقِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فِي غَيْرِهِ، تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَإِخْبَارًا أَنَّهُ فِيهِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ زَادَ التَّقْوَى خَيْرُهُمَا لِبَقَاءِ نَفْعِهِ، وَدَوَامِ ثَوَابِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَالَّذِينَ يُسَافِرُونَ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ بِذَلِكَ مَنْ خَاطَبَهُ بِالْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: «هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْكَامِلِينَ فِي بَابِ التَّوَكُّلِ لَا يَطْعَنُ عَلَيْهِمْ أَنْ سَافَرُوا بِغَيْرِ زَادٍ، لِأَنَّهُ

صَحَّ: لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوَا خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1» وَقَدْ طَوَى قَوْمٌ الْأَيَّامَ بِلَا غِذَاءٍ، وَبَعْضُهُمُ اكْتَفَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقُوتِ فِي الْأَيَّامِ ذَوَاتِ الْأَعْدَادِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْجَرْعِ مِنَ الْمَاءِ. وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ اكْتِفَاؤُهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ شَهْرًا، وَخَرَجَ مِنْهَا وَلَهُ عُكَنٌ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ اكْتَفَوْا أَيَّامًا كَثِيرَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَمْرَةٍ فِي الْيَوْمِ. فَأَمَّا خَرْقُ الْعَادَاتِ مِنْ دَوَرَانِ الرَّحَى بِالطَّحِينِ، وَامْتِلَاءِ الْفُرْنِ بِالْعَجِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعَامٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَحَكَوْا وُقُوعَ ذَلِكَ. وَقَدْ شَرِبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَضْلَةَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَوَجَدَهَا سَوِيقًا، وَقَدْ صَحَّ وَثَبَتَ خَرْقُ الْعَوَائِدِ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ مُدَّعٍ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ كَكَثِيرٍ مِمَّنْ شَاهَدْنَاهُمْ يَدَّعُونَ، وَيُدَّعَى ذَلِكَ لَهُمْ. وَاتَّقُونِ هَذَا أَمْرٌ بِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِنَابِ أَشْيَاءَ فِي الْحَجِّ، وَأُمِرُوا بِالتَّزَوُّدِ لِلْمَعَادِ، وَأَخْبَرَ بِالتَّقْوَى عَنْ خَيْرِ الزَّادِ، نَاسَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى، وَالتَّحْذِيرُ مِنِ ارْتِكَابِ مَا تَحُلُّ بِهِ عُقُوبَتُهُ، ثم قال يا أُولِي الْأَلْبابِ تَحْرِيكًا لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّهُ لَا يَحْذَرُ الْعَوَاقِبَ، إِلَّا مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ، فَهُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ، وَهُوَ الْقَابِلُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِذَا كَانَ ذُو اللُّبِّ لَا يَتَّقِي اللَّهَ، فَكَأَنَّهُ لَا لُبَّ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «2» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ اللُّبِّ أَنَّهُ لُبُّ مَنَاطِ التَّكْلِيفِ، فَيَكُونُ عَامًّا، لَا اللُّبُّ الَّذِي هُوَ مُكْتَسَبٌ بِالتَّجَارِبِ، فَيَكُونُ خَاصًّا، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ هُمْ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْعَرَبَ تَحَرَّجَتْ لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَحْضُرُوا أَسْوَاقَ الْجَاهِلِيَّةِ. كَعُكَاظَ، وَذِي الْمَجَازِ، وَمَجَنَّةَ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ لَا يَنْحَرُونَ مُذْ يُحْرِمُونَ، فَنَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يُكْرَى فِي الْحَجِّ، وَأَنَّ حجه تام.

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 3. (2) سورة البقرة: 2/ 179.

وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَالْأَوْلَى جَعْلُ هَذَا تَفْسِيرًا، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَالْجُنَاحُ مَعْنَاهُ: الدَّرْكُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِثْمِ، لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَفِيمَا يَقْتَضِي الزَّجْرَ وَالْعِقَابَ، وَعَنَى بِالْفَضْلِ هُنَا الْأَرْبَاحَ الَّتِي تَكُونُ سَبَبَ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَا تَحْصُلُ عَنِ الْأَجْرِ بِالْكِرَاءِ فِي الْحَجِّ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ بِالْكُلِّ، وَالْإِتِّجَارِ إِذَا أَتَى بِالْحَجِّ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا مَا نُقِلَ شَاذًّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُ أعرابي أن أُكْرِي إِبِلِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْحَجَّ أَفَيَجْزِينِي؟ قَالَ: «لَا، وَلَا كَرَامَةَ» . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْجِدَالِ، وَالتِّجَارَةُ قَدْ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، نَاسَبَ أَنْ يُتَوَقَّفَ فِيهَا لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقْتَ الْحَجِّ، إِذْ مَنْ يَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ يُنَاسِبُهُ أَنْ لَا يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِالْأَكْسَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا صَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فِي الْحَجِّ، كَانُوا بِصَدَدِ أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عِنْدَهُمْ، فَأَبَاحَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا دَرَكَ عَلَيْهِمْ فِيهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَحَمَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ: فِيمَا بَعْدَ الْحَجِّ، وَنَظِيرُهُ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «1» فَقَاسَ: الْحَجَّ، عَلَى: الصَّلَاةِ، وَضَعُفَ قَوْلُهُ بِدُخُولِ الْفَاءِ فِي: فَإِذَا قَضَيْتُمْ، وَهَذَا فُصِّلَ بَعْدَ ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، وَقَعَ فِي زَمَانِ الْحَجِّ. وَلِأَنَّ مَحَلَّ شُبْهَةِ الِامْتِنَاعِ هُوَ التِّجَارَةُ فِي زَمَانِ الْحَجِّ، لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ حِلَّ التِّجَارَةِ إِذْ ذَاكَ، فَحَمْلُهُ عَلَى مَحَلِّ الشُّبْهَةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ قِيَاسَ الْحَجِّ عَلَى الصَّلَاةِ، قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِاتِّصَالِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَافْتِرَاقِ أَعْمَالِ الْحَجِّ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَفِي خِلَالِهَا يَبْقَى الْحَجُّ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حَاجًّا، لَا يُقَالُ: حُكْمُ الْحَجِّ مستحب عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ حُرْمَةِ الطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَنَحْوِهِمَا، لِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَهُوَ سَاقِطٌ. ونسب للياه فزان. الْفَضْلَ هُنَا هُوَ مَا يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَرْجُو بِهِ فَضْلَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ، مِنْ إِعَانَةِ ضَعِيفٍ، وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ، وَإِطْعَامِ جَائِعٍ وَاعْتَرَضَهُ الْقَاضِي بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا،

_ (1) سورة الجمعة: 63/ 10.

فَلَا يُقَالُ فِيهَا: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا يُقَالُ: فِي الْمُبَاحَاتِ وَالتِّجَارَةِ إِنْ أَوْقَعَتْ نَقْصًا فِي الطَّاعَةِ: لَمْ تَكُنْ مُبَاحَةً، وَإِنْ لَمْ تُوقِعْ نَقْصًا فَالْأَوْلَى تَرَكُهَا، فَهِيَ إِذًا جَارِيَةٌ مَجْرَى الرُّخَصِ. وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ مِثْلِ: أَنْ تَبْتَغُوا، فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «1» وَ: من وبكم، متعلق: بتبتغوا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، وَتَكُونُ صِفَةً لِفَضْلٍ. فَتَكُونُ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْضًا، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: مِنْ فُضُولِ. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ الْوُجُوبُ، إِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْحُصُولُ فِي عَرَفَةَ، وَالْوُقُوفُ بِهَا، فَهَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ؟ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ وَالْإِجْمَاعَ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَكُنْ إِيتَاءً بِالْحَجِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ شَرْطًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَوْلُهُ: الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، كَلَامٌ مُبْهَمٌ، فَإِنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُودُهَا، أَيْ: وُجُودُ الْإِفَاضَةِ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، فَصَحِيحٌ، وَالْوُجُودُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُوبُهَا بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَاتَّخَذَهَا مَسْكَنًا إِلَى أَنْ مَاتَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي وَاجِبٍ إِذَا مَاتَ بِهَا، وَحَجُّهُ تَامٌّ إِذَا كَانَ قَدْ أَتَى بِالْأَرْكَانِ كُلِّهَا. وَقَوْلُهُ: وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ، إِلَى آخِرِ الْجُمْلَةِ، مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِفَاضَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ مَنَعْنَا ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَ: إِذَا، لَا تَدُلُّ عَلَى تُعَيُّنِ زَمَانٍ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى تَيَقُّنِ الْوُجُودِ أَوْ رُجْحَانِهِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ: مَتَى أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ الَّذِي تَعْتَقِبُهُ الْإِفَاضَةُ كَانَ مُجْزِيًا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 158.

وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ زَوَالِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِاللَّيْلِ فَحَجُّهُ تَامٌّ، وَلَوْ أَفَاضَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَكَانَ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، إِلَّا مَالِكًا فَقَالَ: يَبْطُلُ حَجُّهُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ يَنْحَرُهُ فِي حَجِّهِ الْقَابِلِ. وَمَنْ قَالَ: حَجُّهُ تَامٌّ، فَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَدَنَةٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَلَوْ أَفَاضَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ، فَدَفَعَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ الطَّبَرَيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: وَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ، مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا مَا صَدَّ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ قَبْلَ الزَّوَالِ لا يجزىء، وَأَنَّ مَنْ أَفَاضَ نَهَارًا لا شيء عليه. و: من، قَوْلِهِ: مِنْ عَرَفَاتٍ، لِابْتِدَاءِ الغاية، وهي تتعلق: بأفضتم، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي عُمُومَ عَرَفَاتٍ، فَمِنْ أَيِّ نَوَاحِيهَا أَفَاضَ أَجْزَأَهُ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ جَوَازَ الْوُقُوفِ، بِأَيِّ نَوَاحِيهَا وَقَفَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَحَكَى الْبَاجِّيُّ، عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّ عُرَنَةَ فِي الْحِلِّ، وَعُرَنَةُ فِي الْحَرَمِ، وَقِيلَ: الْجِدَارُ الْغَرْبِيُّ مِنْ مَسْجِدِ عُرَنَةَ لَوْ سَقَطَ سَقَطَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ، وَمَنْ قَالَ: بَطْنُ عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَوْ وَقَفَ بِهَا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ أَنَّهُ: مَنْ أَفَاضَ مِنْ عُرَنَةَ لَا حَجَّ لَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو الْمُصْعَبِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى خَالِدُ بْنُ نَوَارٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. وَيُهَرِيقُ دَمًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا. وَرَوَى: عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَأَكْثَرُ الْآثَارِ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، فَهِيَ كَظَاهِرِ الْآيَةِ. وَكَيْفِيَّةُ الْإِفَاضَةِ أَنْ يَسِيرُوا سَيْرًا جَمِيلًا، ولا يطؤا ضَعِيفًا، وَلَا يُؤْذُوا مَاشِيًا، إِذْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَفَعَ من عَرَفَاتٍ أَعْنَقَ، وَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً نَصَّ. وَالْعَنَقُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ مَعَ رِفْقٍ، وَالنَّصُّ: سَيْرٌ شَدِيدٌ فَوْقَ الْعَنَقِ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ دَفَعَ النَّاسُ.

وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ، تَشْبِيهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ، غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَأَوَّلُ مَنْ عرّف ابن عباس بالبصر، وَعَرَّفَ أَيْضًا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: الْحَسَنُ، وَبَكْرٌ، وَثَابِتٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَأَمَّا الصَّوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ لِلْوَاقِفِينَ بِهَا، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْفِطْرُ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَصَامَهُ عُثْمَانُ بْنُ الْقَاضِي، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أُصُومُهُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُهُ فِي الصَّيْفِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّوْمِ أَوْلَى، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ الْفَاءُ جَوَابُ إِذَا، وَالذِّكْرُ هُنَا الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ وَالثَّنَاءُ، أَوْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَوِ الدُّعَاءُ. وَهَذِهِ الصَّلَاةُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ يَبْنِي عَلَيْهَا أَهْلُ الْأَمْرِ: أَمْرَ نَدْبٍ، أَمْ أَمْرَ وُجُوبٍ؟ وَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ هُوَ الصَّلَاةَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمْعِ بين الصلاتين مجملا ببينة فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سُنَّةٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يُجْزِئُهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ الْجَمْعُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ. وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ عَنِ الْإِفَاضَةِ مِمَّنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِذَا غَابَ الشَّفَقُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ رَجَا أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ ثُلُثَ اللَّيْلِ، فَلْيُؤَخِّرِ الصَّلَاتَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَهَا، وَإِلَّا صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا. وَهَلْ يُصَلِّيهِمَا بِإِقَامَتَيْنِ دُونَ أَذَانٍ؟ أَوْ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لِلْمَغْرِبِ وَإِقَامَتَيْنِ؟ أَوْ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ؟ أَوْ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لِلْأُولَى، وَبِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ لِلثَّانِيَةِ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: قَوْلُ سَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ زُفَرَ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حَزْمٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَالِكٍ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَتَطَوَّعَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا.

وَالْمَشْعَرُ مَفْعَلٌ مِنْ شَعَرَ، أَيِ: الْمَعْلَمُ. وَالْحَرَامُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ أَنْ يُفْعَلَ فِيهِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. وَهَذَا الْمَشْعَرُ يُسَمَّى: جَمْعًا، وَهُوَ مَا بَيْنَ جَبَلَيِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ حَدِّ مَفْضَى عَرَفَةَ إِلَى بَطْنِ مُحَسِّرٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ وَتُسَمِّي الْعَرَبُ وَادِيَ مُحَسِّرٍ: وَادِي النَّارِ، وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ وَلَا وَادِي مُحَسِّرٍ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْمَأْزِمُ. الْمَضِيقُ، وَهُوَ مَضِيقٌ وَاحِدٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ثَنَّوْهُ لِمَكَانِ الْجَبَلَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ قُزَحُ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَعَلَيْهِ الْمَيْقَدَةُ. قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ، يَعْنِي بِالْمُزْدَلِفَةِ، بِغَلَسٍ رَكِبَ نَاقَتَهُ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ ، فَعَلَى هَذَا لم تتعرض الآية المذكور لِلذِّكْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، لَا عَلَى أَنَّهُ الدُّعَاءُ وَلَا الصَّلَاةُ بِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَلِ، وَهُوَ قُزَحُ الَّذِي رَكِبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عِنْدَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ، وَوَقَفَ بَعْدَ صَلَاتِهِ الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِغَلَسٍ حَتَّى أَسْفَرَ، وَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَنِمْتُمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ هُنَا الْقُرْبُ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ يَلِيهِ. وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، إِلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ، وَجُعِلَتْ كُلُّهَا مَوْقِفًا لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْمَشْعَرِ، وَمُتَّصِلَةً بِهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدُّ الَّذِي ذُكِرَ مَشْعَرًا، وَوُحِّدَ لِاسْتِوَائِهِ فِي الْحُكْمِ، فَكَانَ كَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : هَذَا الْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَيَكْفِي فِيهِ الْمُرُورُ كَمَا فِي عَرَفَةَ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ هُنَاكَ فَمَسْنُونٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ الْوُقُوفِ مَسْنُونًا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ، فَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ خَافَ الزِّحَامَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَجِّلَ بِلَيْلٍ. وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ فَرْضٌ، وَمَنْ فَاتَهُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَيَجْعَلُ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً. وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى مَطْلُوبِيَّةِ الذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، لَا عَلَى الْوُقُوفِ، وَلَا عَلَى الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ لَيْسَ بِرُكْنٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ أَقَامَ بِهَا أَكْثَرَ لَيْلَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، عِنْدَ مَالِكٍ. وَهُوَ

مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ قَبْلَهُ افْتَدَى، وَالْفِدْيَةُ شَاةٌ. وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرٍ مَخْصُوصٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَوْلَى الذِّكْرِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ كَمَا وَفَّقْتَنَا فِيهِ فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِكَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ فَإِذا أَفَضْتُمْ وَيَتْلُو إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُو بِمَا شَاءَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُنَا هُوَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَالْحَمْدُ لَهُ، وَلَا يُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ هُنَا ذِكْرُ لَفْظَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: اذْكُرُوا اللَّهَ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَالثَّنَاءِ عليه، والمحمدة له. وعند منصوب بأذكروا، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَابَ: إِذَا، لَا يَكُونُ عَامِلًا فِيهَا، لِأَنَّ مَكَانَ إِنْشَاءِ الْإِفَاضَةِ غَيْرُ مَكَانِ الذِّكْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَرَفَاتٌ، وَهَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَكَانَانِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ضَرُورَةُ اخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاقِعًا وَقْتَ إِنْشَاءِ الْإِفَاضَةِ. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَكُرِّرَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، أَوْ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَيُرَادُ بِهِ تَعَلُّقُهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، أَيْ: وَاذْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ كَمَا هَدَاكُمْ بِهِدَايَتِهِ، أَوِ اتِّصَالُ الذِّكْرِ لِمَعْنَى: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا بَعْدَ ذِكْرٍ، قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مُحَمَّدُ بْنُ قاسم النحوي: أو الذكر الْمَفْعُولُ عِنْدَ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ غَدَاةَ جَمْعٍ، وَيُرَادُ بِالْأَوَّلِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى. وَالْكَافُ فِي: كَمَا، لِلتَّشْبِيهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَحْثُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمَعْنَى: أَوْجِدُوا الذِّكْرَ عَلَى أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ مِنْ مُمَاثَلَتِهِ لِهِدَايَةِ الله لكم، إذا هِدَايَتُهُ إِيَّاكُمْ أَحْسَنُ مَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ، فَلْيَكُنِ الذِّكْرُ مِنَ الْحُضُورِ وَالدَّيْمُومَةِ فِي الْغَايَةِ حَتَّى تُمَاثِلَ إِحْسَانَ الْهِدَايَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا كَمَا هَدَاكُمْ هدية حَسَنَةً. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَثْبَتَ هَذَا الْمَعْنَى لِلْكَافِ، فَيَكُونُ

التَّقْدِيرُ: كَمَا هَدَاكُمْ، أَيِ: اذْكُرُوهُ وَعَظِّمُوهُ لِلْهِدَايَةِ السَّابِقَةِ مِنْهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: كَمَا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَأَثْبَتَ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى الأخفش، وابن برهان. وَمَا، فِي: كَمَا، مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: كَهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ: مَا، كَافَّةً لِلْكَافِ عَنِ الْعَمَلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ: مَا، الْمَصْدَرِيَّةُ تَكُونُ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، إِذْ يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ، والكافة لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيهَا إِذْ لَا عَمَلَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ: مَا، مَصْدَرِيَّةٌ لِإِقْرَارِ الْكَافِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ لَهَا مِنْ عَمَلِ الْجَرِّ، وَقَدْ مَنَعَ أَنْ تَكُونَ الكاف مكفوفة بما عَنِ الْعَمَلِ أَبُو سَعْدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الفرّ حال صَاحِبُ (الْمُسْتَوْفِي) وَاحْتَجَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ... كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ... وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ وَالْهِدَايَةُ هُنَا خَاصَّةٌ، أَيْ: بِأَنْ رَدَّكُمْ فِي مَنَاسِكَ حَجِّكُمْ إِلَى سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ، فما عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعَ الْهِدَايَاتِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةِ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ. وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ إِنْ هُنَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ الَّتِي لِلتَّوْكِيدِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَدَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ النَّاسِخِ كَمَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ. وَاللَّامُ فِي: لَمِنَ، وَمَا أَشْبَهَهُ فِيهَا خِلَافٌ: أَهِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ؟ أَمْ هِيَ لَامٌ أُخْرَى اجْتُلِبَتْ لِلْفَرْقِ؟ وَمَذْهَبُ الفراء: في إن نحو هذا هِيَ النَّافِيَةُ بِمَعْنَى مَا، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَذَهَبَ الكسائي إلى إِنْ: بِمَعْنَى: قَدْ، إِذَا دَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَتَكُونُ اللَّامُ زَائِدَةً، وَبِمَعْنَى: مَا، النَّافِيَةِ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَاللَّامُ بمعنى إلّا، ودلال هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ: تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُثْبَتَةً مُؤَكَّدَةً لَا حَصْرَ فِيهَا، وَعَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ: مُثْبَتَةً إِثْبَاتًا مَحْصُورًا، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ: مُثَبَّتَةً مُؤَكَّدَةً مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ قول البصريين. ومن قَبْلِهِ، يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ: لَمِنَ الضَّالِّينَ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُنْتُمْ ضَالِّينَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، وَمَنْ تَسْمَحُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ

الْوَاقِعِ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيَتَعَلَّقُ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ قَبْلِهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الضَّالِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا. وَالْهَاءُ فِي قَبْلِهِ، عَائِدَةٌ عَلَى الْهُدَى الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: هُدَاكُمْ، أَيْ: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ الْهُدَى لَمِنَ الضَّالِّينَ، ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعْمَةِ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ النِّعَمِ لِيُوَالُوا ذِكْرَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالشُّكْرَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِمَزِيدِ الْإِنْعَامِ، وَقِيلَ: تَعُودُ الْهَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ فِي الضَّلَالِ أَنَّهُ ضَلَالُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْهِدَايَةِ هِدَايَةُ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: مِنَ الضَّالِّينَ عَنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ تَفْصِيلِ شَعَائِرِهِ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ، وَفِي (الْجَامِعِ) لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ عَلَى دِينِهَا، وَهُمُ الْحُمْسُ، يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: نَحْنُ قطان اللَّهِ، وَكَانَ مَنْ سِوَاهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ بِعَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا بِعَرَفَةَ مَعَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ وَاقِفًا هَاهُنَا مَعَ النَّاسِ؟ وَكَانَ وُقُوفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقًا إِلَى مَا هُوَ شَرْعُ اللَّهِ وَمُرَادُهُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ ابْتَدَعَتْ أَشْيَاءَ: لَا يَأْقِطُونَ الأقط، ولا يسلون السَّمْنَ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَلَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ، وَلَا يَسْتَظِلُّونَ إِلَّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ، وَلَا يَأْكُلُونَ حتى يخرجون إِلَى الْحِلِّ وَهُمْ حَرُمٌ، وَلَا يَطُوفُ الْقَادِمُ إِلَى الْبَيْتِ إِلَّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ طَافَ عُرْيَانًا، فَإِنْ طَافَ بِثِيَابِهِ أَلْقَاهَا فَلَا يَأْخُذُهَا أَبَدًا، لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَتُسَمِّي الْعَرَبُ تِلْكَ الثِّيَابَ: اللَّقِيَّ، وَسَمَحُوا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطُوفَ وَعَلَيْهَا دِرْعُهَا، وَكَانَتْ قَبْلُ تَطُوفُ عُرْيَانَةً، وَعَلَى فَرْجِهَا نِسْعَةٌ، حَتَّى قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَأَنْزَلَ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا «1» أَبَاحَ لَهُمْ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الوقوف بعرفة، ومن

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 31. [.....]

الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي نُقِلَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، فَيَكُونُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْإِفَاضَةِ هُنَا قُرَيْشًا وَحُلَفَاءَهَا، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهَا، وَهُمُ الْحُمْسُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ عَامٌّ لِقُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا. وَالْإِفَاضَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا هِيَ مِنْ عَرَفَاتٍ، إِلَّا أَنَّ: ثُمَّ، عَلَى هَذَا، تَخْرُجُ عَنْ أَصْلِ مَوْضُوعِهَا الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي زَمَانِ الْفِعْلِ السَّابِقِ، وَقَدْ قَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ ثُمَّ أَفِيضُوا الْإِفَاضَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَأُمِرُوا بِالذِّكْرِ إِذَا أَفَاضُوا، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا بَعْدَ ذلك بِثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ في الزَّمَانِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِي الذِّكْرِ، لَا مِنَ التَّرْتِيبِ فِي الزَّمَانِ الْوَاقِعِ فِيهِ الْأَفْعَالُ، وَحَسَّنَ هَذَا أَنَّ الْإِفَاضَةَ السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهَا، إِنَّمَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ إِذَا فُعِلَتْ، وَالْأَمْرُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ فِعْلِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: إِذَا ضَرَبَكَ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ؟ فَلَا يكون زيدا مَأْمُورًا بِالضَّرْبِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ لْتَكُنْ تِلْكَ الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ لَا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْحُمْسُ، وزعم بعضهم أن: ثم، هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فَهِيَ لِعَطْفِ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ مُقْتَطَعٍ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ: ثُمَّ، تَأْتِي بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَلَا تَرْتِيبَ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ: ثُمَّ، هُنَا عَلَى أَصْلِهَا مِنَ التَّرْتِيبِ بِأَنْ جَعَلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، فَجَعَلَ: ثُمَّ أَفِيضُوا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْإِفَاضَةُ الْمَشْرُوطُ بِهَا، تِلْكَ الْإِفَاضَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا، لَكِنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، وَنُنَزِّهُ الْقُرْآنَ عَنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِجَعْلِ: ثُمَّ، لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لَا فِي الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّمَانِ، أَوْ بِجَعْلِ الْإِفَاضَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا هُنَا غَيْرَ الْإِفَاضَةِ الْمَشْرُوطِ بِهَا، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِفَاضَةُ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَفِيضُوا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا: الضَّحَّاكُ، وَقَوْمٌ مَعَهُ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ مَوْقِعُ: ثُمَّ؟ قُلْتُ: نَحْوَ مَوْقِعِهَا فِي قَوْلِكَ: أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ ثُمَّ لَا تُحْسِنْ إِلَى غَيْرِ كَرِيمٍ، يَأْتِي: ثُمَّ، لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْكَرِيمِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ وَبُعْدِ

مَا بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، قَالَ: ثُمَّ أفيضوا، التفاوت مَا بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، وَأَنَّ أحدهما صَوَابٌ وَالثَّانِيَةُ خَطَأٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَتِ الْآيَةُ كَالْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلَهُ، وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنَّ: ثُمَّ، تُسْلَبُ التَّرْتِيبَ، وَأَنَّهَا لَهَا مَعْنًى غَيْرُهُ سَمَّاهُ بِالتَّفَاوُتِ وَالْبُعْدِ لِمَا بَعْدَهَا مِمَّا قَبْلَهَا، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْآيَةِ أَيْضًا ذِكْرُ الْإِفَاضَةِ الْخَطَأِ فَيَكُونُ: ثُمَّ، فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا، جَاءَتْ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ وَتَفَاوُتِهِمَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى لثم. وَ: مِنْ حَيْثُ، مُتَعَلِّقٌ: بأفيضوا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَ: حَيْثُ، هُنَا عَلَى أَصْلِهَا مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِخْرَاجِ حَيْثُ عَنْ مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ، وَكَأَنَّهُ رَامَ أَنْ يُغَايِرَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، لِأَنَّ الْأُولَى فِي الْمَكَانِ، وَالثَّانِيَةَ فِي الزَّمَانِ، وَلَا تَغَايُرَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الْآخَرَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. أَعْنِي: مَكَانَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَزَمَانَهَا. فَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ جَوَابٌ عن مجيء العطف بثم. وَ: النَّاسُ، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الْمُفِيضِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ، أَيْ عَادَتُهُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: النَّاسُ أَهْلُ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةُ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْعَرَبِ دُونَ الْحُمْسِ، وَقِيلَ: النَّاسُ إِبْرَاهِيمُ وَمَنْ أَفَاضَ مَعَهُ مِنْ أَبْنَائِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: آدَمُ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيُّ لِأَنَّهُ أَبُو النَّاسِ وَهُمْ أَوْلَادُهُ وَأَتْبَاعُهُ، وَالْعَرَبُ تُخَاطِبُ الرَّجُلَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَهُ أَتْبَاعٌ مُخَاطَبَةَ الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ صِفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَنْتَ النَّاسُ إِذْ فِيكَ الَّذِي قَدْ ... حَوَاهُ النَّاسُ مِنْ وَصْفٍ جَمِيلِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، بِالْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ «1» وَإِطْلَاقُ النَّاسِ عَلَى: وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا بِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ يَدُلُّ عَلَى فَاعِلٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالْإِفَاضَةُ إِنَّمَا صَدَرَتْ مِنْ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَلْزَمُ هَذَا التَّرْجِيحُ، لِأَنَّ: حَيْثُ، إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى جُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِمَاضٍ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْمَاضِي حَقِيقَتُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

_ (1) سورة طه: 20/ 115.

فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «1» . وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ «2» وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي حَيْثُ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ. وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَاعِلٍ مُتَقَدِّمٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ وَاحِدًا لِأَنَّهُ قَبْلَ صُدُورِ هَذَا الْأَمْرِ بِالْإِفَاضَةِ كَانَ إِمَّا جَمِيعُ مَنْ أَفَاضَ قَبْلَ تَغْيِيرِ قُرَيْشٍ ذَلِكَ، وَإِمَّا غَيْرُ قُرَيْشٍ بَعْدَ تَغْيِيرِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ حَجَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّاسِ عَلَى جِنْسِ الْمُفِيضِينَ الْعَامِّ، أَوْ عَلَى جِنْسِهِمُ الْخَاصِّ. وَقَدْ رَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةُ بِحَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، حِينَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إِلَى عَرَفَاتٍ فَيَقِفَ بِهَا، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَفَاضَ بِالنَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ جميعا، فَيَبِيتَ بِهَا، فَتَوَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَمَرَّ بِالْحُمْسِ وَهُمْ وُقُوفٌ بِجَمْعٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيُجَاوِزَهُمْ قَالَتْ لَهُ الْحُمْسُ: يَا أَبَا بَكْرٍ: أَيْنَ تُجَاوِزُنَا إِلَى غَيْرِنَا؟ هَذَا مَوْقِفُ آبَائِكَ! فَمَضَى أَبُو بَكْرٍ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَاتٍ، وَبِهَا أَهْلُ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةُ. وَهَذَا تَأْوِيلُ قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فَوَقَفَ بِهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَفَاضَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَوَقَفَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَفَاضَ مِنْهُ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي، بِالْيَاءِ، قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ شَرْعٌ قَدِيمٌ، وَفِيهَا تَذْكِيرٌ يُذَكِّرُ عَهْدَ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَنْسَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُؤَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِي آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِي فِي قِرَاءَةِ سَعِيدٍ مَعْنَاهُ التَّارِكُ، أي: للوقوف بمزدلفة، أو لا، وَيَكُونُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، إِذِ النَّاسِي يُرَادُ بِهِ التَّارِكُ لِلشَّيْءِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يُفِيضُوا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يُفِيضُ مِنْهَا مَنْ تَرَكَ الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيَكُونُ النَّاسِي يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضُوا، هُمُ التَّارِكُونَ لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْجَاعِلُونَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ عَلَى سُنَنِ مَنْ سَنَّ الْحَجَّ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِخِلَافِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَقِفُوا بِعَرَفَاتٍ فَيُفِيضُوا مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ حَذْفُ الْيَاءِ، فَيَقُولُ: النَّاسِ، كَالْقَاضِ والهاد،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 222. (2) سورة البقرة: 2/ 149 و 150.

قَالَ: أَمَّا جَوَازُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُ جَوَازِهِ مَقْرُوءًا بِهِ فَلَا أَحْفَظُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَوْلُهُ: أَمَّا جَوَازُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُجِزْهُ سِيبَوَيْهِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَأَجَازَهُ الْفَرَّاءُ فِي الْكَلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَمَّا جوازه مقروءا به فلا أَحْفَظُهُ، فَكَوْنُهُ لَا يَحْفَظُهُ قَدْ حَفِظَهُ غَيْرُهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدَوِيُّ: أَفَاضَ النَّاسِي بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: النَّاسِ بِالْكَسْرِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ. انْتَهَى قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَهْدَوِيِّ. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي مُوَاطِنِ مَظِنَّةِ الْقَبُولِ، وَأَمَاكِنِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ طَلَبُ الْغُفْرَانِ مِنَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ، إِذِ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ دُونَ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ غَيْرُ نَافِعٍ، وَأُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ، كَمَنْ بَلَغَ قُبَيْلَ الْإِحْرَامِ وَلَمْ يُقَارِفْ ذَنْبًا وَأَحْرَمَ، فَيَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ مِثْلِ هَذَا لِأَجْلِ أَنَّهُ رُبَّمَا صَدَرَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ لَيْسَ طَلَبُ غُفْرَانٍ مِنْ ذَنْبٍ خَاصٍّ، بَلْ طَلَبُ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمْرٌ بِطَلَبِ غُفْرَانٍ خَاصٍّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنْ مُخَالَفَتِكُمْ فِي الْوُقُوفِ وَالْإِفَاضَةِ، فَإِنَّهُ غَفُورٌ لَكُمْ، رَحِيمٌ فِيمَا فَرَّطْتُمْ فِيهِ فِي حِلِّكُمْ وَإِحْرَامِكُمْ، وَفِي سَفَرِكُمْ وَمَقَامِكُمْ. وَفِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ عَقِبَ الْإِفَاضَةِ، أَوْ مَعَهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَذَلِكَ الْمَكَانَ الْمُفَاضَ مِنْهُ، وَالْمَذْهُوبَ إِلَيْهِ مِنْ أَزْمَانِ الْإِجَابَةِ وَأَمَاكِنِهَا، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلَّا التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَامْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ خَطَبَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ، فَعَوَّضَ التَّبِعَاتِ مِنْ عِنْدِهِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (التَّمْهِيدِ) ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِحُجَّاجِ بَيْتِهِ مَلَائِكَتَهُ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّهُ ضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ. وَ: اسْتَغْفَرَ، يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ مِنْ: فُعُولٍ، اسْتَغْفَرْتُ الله من الذنب، وهو الْأَصْلُ، وَيَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ: مِنْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ محصيه ... رَبُّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

تَقْدِيرُهُ: مِنْ ذَنْبٍ، وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ إِلَى أَنَّ: اسْتَغْفَرَ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ صَرِيحَيْنِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمُ: اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنَ الذَّنْبِ، إِنَّمَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: تُبْتُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّنْبِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَنَقْلِهِ عَنِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَحُذِفَ هُنَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْعِلْمِ بِهِ، ولم يجىء فِي الْقُرْآنِ مُثْبَتًا، لَا مَجْرُورًا بِمِنْ، وَلَا مَنْصُوبًا، بِخِلَافِ: غَفَرَ، فَإِنَّهُ تَارَةً جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَذْكُورًا مَفْعُولُهُ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ «1» وَتَارَةً مَحْذُوفًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَجَاءَ: اسْتَغْفَرَ، أَيْضًا مُعَدًّى بِاللَّامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ «2» وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «3» وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ، وَاللَّهَ أَعْلَمُ، لَامُ الْعِلَّةِ، وَأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، كَاسْتَوْهَبَ وَاسْتَطْعَمَ وَاسْتَعَانَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «4» . إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا كَالسَّبَبِ فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَثِيرُ الْغُفْرَانِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَكْثَرُ بِنَاءِ: فَعُولٍ، مِنْ: فَعَلَ، نَحْوَ: غَفُورٍ، وَصَفُوحٍ، وَصَبُورٍ، وَشَكُورٍ، وَضَرُوبٍ، وَقَتُولٍ، وَتَرُوكٍ، وَهَجُومٍ، وَعَلُوكٍ، وَأَكْثَرُ بِنَاءِ: فَعِيلٍ، مِنْ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ نَحْوَ: رَحِيمٍ، وَعَلِيمٍ، وَحَفِيظٍ، وَسَمِيعٍ، وَقَدْ يَتَعَارَضَانِ. قَالُوا: رَقَبَ فَهُوَ رَقِيبٌ، وَقَدَرَ فَهُوَ قَدِيرٌ، وَجَهِلَ فَهُوَ جَهُولٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْجُمَلِ، أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ يُعَادُ بِلَفْظِهِ بَعْدَ: إِنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُطْلَقَ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَغْفِرَةَ الْمَوْعُودَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْمَوْسِمِ تَفَاخَرُوا بِآبَائِهِمْ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: كَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَنْحَرُ الجزور، ويفك العاني، ويجر النَّوَاصِيَ، وَيَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا. فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا إِذَا حَدَّثُوا أَقْسَمُوا بِالْآبَاءِ، فيقولون. وأبيك، فنزلت.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 135. (2) سورة آل عمران: 3/ 135. (3) سورة غافر: 40/ 55 ومحمد: 47/ 19. (4) سورة الفاتحة: 1/ 5.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا قَضَوُا الْمَنَاسِكَ وَأَقَامُوا بِمِنًى يَقُومُ الرَّجُلُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ، كَثِيرَ الْمَالِ فَأَعْطِنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ! لَيْسَ يَذْكُرُ اللَّهَ، إِنَّمَا يَذْكُرُ أَبَاهُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ فِي دُنْيَاهُ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَبُو وَائِلٍ، وَابْنُ زَيْدٍ، فَنَزَلَتْ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ، أَيْ أَدَّيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ. كَقَوْلِهِ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ «1» أَيْ: أُدِّيَتْ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْقَضَاءِ عَنْ مَا يُفْعَلُ مِنَ الْعِبَادَاتِ خَارِجَ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ، وَالْقَضَاءُ إِذَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ النَّفْسِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِتْمَامُ وَالْفَرَاغُ، كَقَوْلِهِ: وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَإِذَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِلْزَامُ، كَقَوْلِهِ: قَضَى الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْفَرَاغُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، كَقَوْلِكَ: إِذَا حَجَجْتَ فَطُفْ وَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَلَا نَعْنِي بِالْقَضَاءِ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ، بَلِ الدُّخُولَ فِيهِ، وَنَعْنِي بِالذِّكْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ بِعَرَفَاتٍ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَإِذَا شَرَعْتُمْ فِي قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، أَيْ: فِي أَدَائِهَا فَاذْكُرُوا. وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْفَرَاغُ مِنَ الْمَنَاسِكِ لَا الشُّرُوعُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَجِيءُ الْفَاءِ فِي: فَإِذَا، بَعْدَ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ. وَالْمَنَاسِكُ هِيَ مَوَاضِعُ الْعِبَادَةِ، فَيَكُونُ هَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَعْمَالَ مَنَاسِكِكُمْ، أَوِ الْعِبَادَاتُ نَفْسُهَا الْمَأْمُورُ بِهَا فِي الْحَجِّ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ الذبائح وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. فَاذْكُرُوا اللَّهَ: هَذَا جَوَابُ: إذ، وَالْمَعْنَى: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَنَفَرْتُمْ مِنْ مِنًى، فَعَظِّمُوا اللَّهَ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ إِذْ هَدَاكُمْ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ، وَسَهَّلَهَا وَيَسَّرَهَا عَلَيْكُمْ، حَتَّى أَدَّيْتُمْ فَرْضَ رَبِّكُمْ وَتَخَلَّصْتُمْ مِنْ عُهْدَةِ هَذَا الْأَمْرِ الشَّاقِّ الصَّعْبِ الَّذِي لَا يُبْلَغُ إِلَّا بِالتَّعَبِ الْكَثِيرِ، وَانْهِمَاكِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ هُنَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمَقْصُودُ تَحْوِيلُهُمْ عَنْ ذِكْرِ آبَائِهِمْ إِلَى ذِكْرِهِ تَعَالَى كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ تَقَدَّمَ هَذَا هُوَ ذِكْرُ مَفَاخِرِهِمْ، أَوِ السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْطَى آبَاءَهُمْ، أَوِ الْقَسَمُ بِآبَائِهِمْ، وقيل: ذكر آباءهم فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَلَهْجُهُ بِأَبِيهِ يَقُولُ: أَبَةِ أَبَةِ، أَوَّلَ مَا يَتَكَلَّمُ. وَقِيلَ: مَعْنَى الذِّكْرِ هُنَا الْغَضَبُ لِلَّهِ كَمَا تَغْضَبُ لِوَالِدَيْكَ إِذَا سُبَّا، قَالَهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ قرأ:

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 10.

كَذِكْرِكُمْ آبَاؤُكُمْ، بِرَفْعِ الْآبَاءِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أَبَاكُمْ، عَلَى الْإِفْرَادِ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، التَّقْدِيرُ: كَمَا يَذْكُرُكُمْ آبَاؤُكُمْ. وَالْمَعْنَى: ابْتَهِلُوا بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْهَجُوا بِهِ كَمَا يَلْهَجُ الْمَرْءُ بِذِكْرِ ابْنِهِ. وَوَجْهُ الْإِفْرَادِ أَنَّهُ اسْتُغْنِيَ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ يُفْهَمُ الْجَمْعُ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ، بَلْ آبَاءٌ. وَ: أَوْ، هُنَا قِيلَ: لِلتَّخْيِيرِ، وَقِيلَ: لِلْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى بَلْ أَشَدَّ، جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا اضْطُرُّوا إِلَيْهَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذِكْرًا بَعْدَ أَشَدَّ تَمْيِيزًا بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَلَا يُمْكِنُ إِقْرَارُهُ تميزا إِلَّا بِهَذِهِ التَّقَادِيرِ الَّتِي قَدَّرُوهَا، وَوَجْهُ إِشْكَالِ كَوْنِهِ تَمْيِيزًا أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ إِذَا انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ الَّذِي قَبْلَهُ، تَقُولُ: زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا، لِأَنَّ الْوَجْهَ لَيْسَ زَيْدًا فَإِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ انْخَفَضَ نَحْوُ زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّرْكِيبُ فِي مِثْلِ: اضْرِبْ زَيْدًا كضرب عمر وخالدا أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ، بِالْجَرِّ لا بالنصب، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جِنْسِ مَا قَبْلَهُ، فَجَوَّزُوا إِذْ ذَاكَ النَّصْبَ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ فِي: ذِكْرِكُمْ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أشد، وجعلوا الذكر ذكرا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، كَمَا قالوا: شاعر شعر، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُ جِنِّي. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى آبَائِكُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: بِمَعْنَى أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا مِنْ آبَائِكُمْ، عَلَى أَنَّ ذِكْرًا مِنْ فِعْلِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ قَلِقٌ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّكَ إِذَا عَطَفْتَ أَشَدَّ عَلَى آبَائِكُمْ كَانَ التَّقْدِيرُ: أَوْ قَوْمًا أَشَدَّ ذِكْرًا مِنْ آبَائِكُمْ، فَكَانَ الْقَوْمُ مَذْكُورِينَ، وَالذِّكْرُ الَّذِي هُوَ تَمْيِيزٌ بَعْدَ أَشَدَّ هُوَ مِنْ فِعْلِهِمْ، أَيْ مِنْ فِعْلِ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ، لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ أَفْعَلِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلْقَوْمِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ آبَائِكُمْ أَيْ: مِنْ ذِكْرِكُمْ لِآبَائِكُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِ الْكَوْنِ. وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى. التَّقْدِيرُ: أَوْ كُونُوا أَشَدَّ ذِكْرًا لَهُ مِنْكُمْ لِآبَائِكُمْ. وَدَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كُونُوا ذَاكِرِيهِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: قَالَ: وَهَذَا أَسْهَلُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، يَعْنِي فِي أَنْ يُجْعَلَ لِلذِّكْرِ ذِكْرٌ فِي قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّي. وَجَوَّزُوا الْجَرَّ فِي أَشَدِّ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: ذكركم،

الزَّجَّاجُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمَا. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَوْ كَذِكْرٍ أَشَدِّ ذِكْرًا، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ جُعِلَ لِلذِّكْرِ ذِكْرٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْمَصْدَرِ فِي: كَذِكْرِكُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ مَا نَصُّهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، عُطِفَ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: كَذِكْرِ قُرَيْشٍ آبَاءَهُمْ أَوْ قَوْمٍ أَشَدِّ مِنْهُمْ ذِكْرًا، وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَهِيَ خَمْسَةُ وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْرَابِ كُلُّهَا ضَعِيفٌ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا يُمَاثِلُ ذكر آبَائَهُمْ أَوْ أَشُدَّ، وَقَدْ سَاغَ لَنَا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِتَوْجِيهٍ وَاضِحٍ ذَهَلُوا عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ: أَشَدَّ، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: ذِكْرًا لَوْ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِهِمْ. لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ فَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ: لِمَيَّةَ طَلَلٌ مُوحِشٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَأَخَّرَ هَذَا لَكَانَ: أَوْ ذِكْرًا أَشَدَّ، يَعْنِي: مِنْ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ: أَوْ ذِكْرًا أَشَدَّ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ مِنْ: كَذِكْرِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرًا مَصْدَرًا، لِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا كَذِكْرِكُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ: نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ: أَوْ أَشَدَّ، مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى حَالٍ، وَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ: أَضْرِبُ مِثْلَ ضَرْبِ فُلَانٍ ضَرْبًا، التَّقْدِيرُ ضَرْبًا مِثْلَ ضَرْبِ فُلَانٍ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَحَسَّنَ تَأَخُّرَهُ أَنَّهُ كَالْفَاصِلَةِ فِي جِنْسِ الْمَقْطَعِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ لَكَانَ: فَاذْكُرُوا ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ، فَكَانَ اللَّفْظُ يَتَكَرَّرُ، وَهُمْ مِمَّا يَجْتَنِبُونَ كَثْرَةَ التَّكْرَارِ لِلَّفْظِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِحُسْنِ الْقَطْعِ، تَأَخَّرَ. لَا يُقَالُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ: أَوْ، وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ الَّذِي هُوَ: ذِكْرًا، بِالْحَالِ الَّذِي هُوَ: أَشَدَّ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْصُولُ بِهِ قَسَمًا أَوْ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا، وَأَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْعَطْفِ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ حَرْفٍ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ الْآخَرُ، وَهُوَ كَوْنُ الْحَرْفِ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ حَرْفٍ، وَفُقِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْمَفْصُولَ بِهِ لَيْسَ بِقَسَمٍ وَلَا ظَرْفٍ وَلَا مَجْرُورٍ، بَلْ هُوَ حَالٌ، لِأَنَّ الْحَالَ هِيَ مَفْعُولٌ فِيهَا فِي الْمَعْنَى، فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْحَرْفِ، فَيَجُوزُ فِيهَا مَا جَازَ فِي الظَّرْفِ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ: ذِكْرًا، تَمْيِيزًا لِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى، فَيَكُونُ: لِلذِّكْرِ

ذِكْرٌ بِأَنْ يَنْصِبَهُ عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ، أَوْ يَجُرَّهُ عَطْفًا عَلَى ذِكْرِ الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ، أَوِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى لِلذِّكْرِ بِأَنْ يَنْصِبَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: كُونُوا أَشَدَّ، أَوْ لِلذَّاكِرِ الذِّكْرَ، وَبِأَنْ يَنْصِبَهُ عَطْفًا عَلَى: آبَاءَكُمْ، أَوْ لِلذِّكْرِ الْفَاعِلِ بِأَنْ يَجُرَّهُ عَطْفًا عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الذِّكْرُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ مِنَ الضَّعْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا قَالُوا: بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ الذَّاكِرِينَ لَهُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَحَالَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ، وَعِلْمَهُمْ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ لِلْمَأْمُورِينَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَأَنَّهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِي السُّؤَالِ إِلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الدُّنْيَا، فَلَا يَدْعُو إِلَّا بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو بِصَلَاحِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ. وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْخِطَابِ لَكَانَ: فَمِنْكُمْ مَنْ يَقُولُ: وَمِنْكُمْ. وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُمْ مَا وَجَّهُوا بِهَذَا الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْلُكَهُ عَاقِلٌ، وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الدُّنْيَا، فَأُبْرِزُوا فِي صُورَةِ أَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ بِأَنْ جُعِلُوا فِي صُورَةِ الْغَائِبِينَ، وَهَذَا مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ ضُرُوبِ الْبَيَانِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ بَدِيعٌ يَحْصُرُهُ الْمُقَسِّمُ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، لَا عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الصُّوفِيَّةَ مِنْ أَنَّ ثَمَّ قِسْمًا ثَالِثًا لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ تَعَالَى، قَالُوا: وَهُمُ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ، الْمُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ، السَّاكِتُونَ عَنْ كُلِّ دُعَاءٍ، وَافْتِشَاءٍ، وَمَفْعُولُ آتِنَا الثَّانِي مَحْذُوفٌ، تقديره: ما تريد، أَوْ: مَطْلُوبَنَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ. هَذَا وَجَعْلُ فِي زَائِدَةً، وَتَكُونُ الدُّنْيَا الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ قَوْلٌ سَاقِطٌ، وَكَذَلِكَ جَعْلُ فِي بِمَعْنَى: مِنْ، حَتَّى يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَحَذْفُ مَفْعُولَيْ آتَى، وَأَحَدِهِمَا جَائِزٌ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا، لِأَنَّ هَذَا بَابُ: أَعْطَى، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ «1» وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ هُنَا مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الدُّنْيَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِخْبَارًا عَنِ الدَّاعِي بِأَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ طَلَبِ نَصِيبٍ، فَيَكُونُ هَذَا كَالتَّوْكِيدِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَلَوْ جَرَى عَلَى لَفْظِ مَنْ، لَكَانَ: رَبِّ آتِنِي. وَرُوعِيَ الْجَمْعُ هُنَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَرْغَبُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَنَيْلِهَا، وَلَوْ أَفْرَدَ لَتُوُهِّمَ أن ذلك قليل.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 102.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الْحَسَنَةُ: مُطْلَقَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا الْحَالَةَ الْحَسَنَةَ، وَقَدْ مَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، قَالَهُ عَلِيٌّ. أَوِ: الْعَافِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَكَفَافُ الْمَالِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوِ: الْعِلْمُ، أَوِ الْعِبَادَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوِ: الْمَالُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَابْنُ زَيْدٍ. أَوِ: الرِّزْقُ الْوَاسِعُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَوِ: النِّعْمَةُ فِي الدُّنْيَا، قَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوِ الْقَنَاعَةُ بِالرِّزْقِ، أَوِ: التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ، أَوِ: الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ، أَوِ: الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ، أَوْ: حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ، أَوِ: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، أَوْ: ثَنَاءُ الْخَلْقِ، أَوِ: الصحة والأمن والكفاية وَالنُّصْرَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، أَوِ: الْفَهْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. أَوْ: صُحْبَةُ الصَّالِحِينَ، قَالَهُ جَعْفَرٌ. وَعَنِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ مُثُلٌ كَثِيرَةٌ. وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً مَثَّلُوا حَسَنَةَ الْآخِرَةِ بِأَنَّهَا الْجَنَّةُ، أَوِ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالسَّلَامَةُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَسُوءِ الْحِسَابِ، أَوِ النِّعْمَةُ، أَوِ الْحُورُ الْعِينُ، أَوْ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ، أَوْ مُرَافَقَةُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ لَذَّةُ الرُّؤْيَةِ، أَوِ الرِّضَا، أَوِ اللِّقَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ الْحَسَنَةُ بِإِجْمَاعٍ. قِيلَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَتَانِ هُمَا الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الَّذِي زَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَمَّا كَانَ يَدْعُو بِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا تَعْجِيلَ مَا يُعَاقِبُهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «لَا تَسْتَطِيعُهُ» وَقَالَ: «هَلَّا قُلْتَ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا ... » إِلَى آخِرِهِ. فَدَعَا بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى فَشَفَاهُ. وَصَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مَا كَانَ يَدْعُو بِهِ، وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ فِي الْمَوْقِفِ. وَأَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا فِي الْمَوْسِمِ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلِيٌّ، وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ وَأَنَسٌ سُئِلَ الدُّعَاءَ فَدَعَا بِهَا، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيَادَةَ فَأَعَادَهَا، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيَادَةَ فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً: الْوَاوُ فِيهَا لِعَطْفِ شَيْئَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ، فَعَطَفَتْ فِي الْأَخَرَةِ حَسَنَةً، عَلَى: الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَالْحَرْفُ قَدْ يَعْطِفُ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، تَقُولُ: أَعْلَمْتُ زَيْدًا أَخَاكَ مُنْطَلِقًا وَعَمْرًا أَبَاهُ مُقِيمًا، إِلَّا إِنْ نَابَ عَنْ عَامِلَيْنِ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَفِي الْجَوَازِ تَفْصِيلٌ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى ضِعْفِ مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ

بِالشِّعْرِ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَلْ مِنْ عَطْفِ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِيهِ خِلَافُ أَبِي عَلِيٍّ هُوَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَفِي الدَّارِ عَمْرًا، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «1» وَبِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «2» وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقِنا عَذابَ النَّارِ هُوَ سُؤَالٌ بِالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا، وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: الْمَرْأَةُ السُّوءُ الكثيرة الشر. وقال القيثري: وَاللَّامُ فِي النَّارِ لَامُ الْجِنْسِ، فَتَحْصُلُ الِاسْتِعَاذَةُ عَنْ نِيرَانِ الْحُرْقَةِ وَنِيرَانِ الْفُرْقَةِ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا الدُّعَاءِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَلَوْ آخِرَ النَّاسِ، صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ: أُوتِيَ فِي الآخرة حسنة، قد دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا مَعَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يَقِيهِمْ عَذَابَ النَّارِ، فَكَأَنَّهُ دُعَاءٌ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ أَوَّلًا دُونَ عَذَابٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مِمَّنْ يُدْخَلُ النَّارَ بِمَعَاصِيهِمْ وَيُخْرَجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ. إِنَّمَا أَقُولُ فِي دُعَائِي: اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، وَعَافِنِي مِنَ النَّارِ، وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتُكَ وَلَا دَنْدَنَةُ مُعَاذٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» . أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا تَقَدَّمَ انْقِسَامُ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ اقْتَصَرَ فِي سُؤَالِهِ عَلَى دُنْيَاهُ، وَفَرِيقٌ أَشْرَكَ فِي دُنْيَاهُ أُخْرَاهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، إِذِ الْمَحْكُومُ بِهِ، وَهُوَ كَوْنُ: نَصِيبٍ لَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا، مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَهُ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شرا فشر. وَلَا يَكُونُ الْكَسْبُ هُنَا الدُّعَاءَ، بَلْ هَذَا مُجَرَّدُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنَّ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ تَابِعَةٌ لِأَكْسَابِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَسْبِ هُنَا الدُّعَاءُ، أَيْ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نُصِيبٌ مِمَّا دَعَا بِهِ. وَسُمِّيَ الدُّعَاءُ كَسْبًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ، فَيَكُونُ ذلك ضمانا للإجابة ووعدا مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِي كلّا منه نصيبا

_ (1) سورة الملك: 67/ 3. (2) سورة النساء: 4/ 58.

مِمَّا اقْتَضَاهُ دُعَاؤُهُ، إِمَّا الدُّنْيَا فَقَطْ، وَإِمَّا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ «1» ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ «2» ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها «3» الْآيَاتِ. وَكَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطَعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا عَمِلَ الله بِهَا، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا. وَفِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ فِيهِ وَعْدٌ بِالْإِجَابَةِ. وَ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِمَّا كَسَبُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: نَصِيبٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّبَبِ، وَ: مَا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً لِمَعْنَى الَّذِي أَوْ مَوْصُولَةً مَصْدَرِيَّةً أَيْ: مِنْ كَسْبِهِمْ، وَقِيلَ: أُولَئِكَ، مُخْتَصٌّ بِالْإِشَارَةِ إِلَى طَالِبِي الْحَسَنَتَيْنِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهَ. وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإِزَائِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَدَ عَلَى كَسْبِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي صِيغَةِ الْإِخْبَارِ الْمُجَرَّدِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولَئِكَ الدَّاعُونَ بِالْحَسَنَتَيْنِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ الَّذِي هُوَ مَنَافِعُ الْحَسَنَةِ، أَوْ مِنْ أَجْلِ مَا كَسَبُوا، كَقَوْلِهِ: مِمَّا خَطَايَاهُمْ أُغْرِقُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَأَنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ نَصِيبًا مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ فَرِيقٌ دُونَ فَرِيقٍ، بَلْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَالْحِسَابُ يَعُمُّ مُحَاسَبَةَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ، لَا مُحَاسَبَةَ هَذَا الْفَرِيقِ الطَّالِبِ الْحَسَنَتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّصِيبَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِمَنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ، يَكُونُ الثَّوَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا، فِي حَدِيثِ الَّذِي سَأَلَ هَلْ يَحُجُّ عَنْ أَبِيهِ. وَكَانَ مَاتَ؟ وَفِي آخِرِهِ، قَالَ: فَهَلْ لِي مِنْ أجره؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قِيلَ: وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَتَكُونُ الْآيَةُ مُنْفَصِلَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، مُعَلَّقَةً بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَأَحْكَامِهِ. انْتَهَى. وَلَيْسَتْ كَمَا ذَكَرَ مُنْفَصِلَةً، بَلْ هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا هُوَ فِي الْحَجِّ، وَأَنَّ انْقِسَامَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ فِي الْحَجِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَحَصَلَ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 20. (2) سورة الإسراء: 17/ 18. (3) سورة هود: 11/ 15. [.....]

الْجَوَابُ لِلسَّائِلِ عَنْ حَجِّهِ عَنْ أَبِيهِ: أَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ؟ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سَأَلَهُ أَنْ يَكْرِيَ دَابَّتَهُ وَيَشْرُطُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحُجَّ، فَهَلْ يَجْزِي عَنْهُ؟ وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ تَعَالَى بِسُرْعَةِ حِسَابِهِ، وَسُرْعَتُهُ بانقضائه عجلا كَقَصْدِ مُدَّتِهِ، فَرُوِيَ: بِقَدَرِ حَلْبِ شَاةٍ، وَرُوِيَ بِمِقْدَارِ فَوَاقِ نَاقَةٍ، وَرُوِيَ بِمِقْدَارِ لَمْحَةِ الْبَصَرِ. أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ، ولا رؤية كَالْعَاجِزِ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ. أَوْ: لِمَا عَلِمَ مَا لِلْمُحَاسَبِ وَمَا عَلَيْهِ قَبْلَ حِسَابِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ: لِكَوْنِ حِسَابِ الْعَالَمِ كَحِسَابِ رجل واحد أو لقرب مَجِيءِ الْحِسَابِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. قيل: كُنِّيَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْمُجَازَاةِ على الأعمال إذا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنْهَا كَقَوْلِهِ: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ يَعْنِي مَا جَزَائِي، وَقِيلَ: كُنِّيَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْحِسَابَ يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْقَبُولِ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْوَفَاءِ، أَيْ: لَا يُؤَخِّرُ ثَوَابَ مُحْسِنٍ وَلَا عِقَابَ مُسِيءٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: سَرِيعُ مَجِيءِ يَوْمِ الْحِسَابِ. فَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ الْإِنْذَارُ بِسُرْعَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: سُرْعَةِ الْحِسَابِ تَعَالَى رَحْمَتُهُ وَكَثْرَتُهَا، فَهِيَ لَا تُغَبُّ وَلَا تَنْقَطِعُ. وَرُوِيَ مَا يُقَارِبُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ عُمُومُ الْحِسَابِ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ إِذْ جَاءَ بَعْدَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلطَّائِعِينَ، وَيَكُونُ حِسَابُ الْكُفَّارِ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ فِي الْآخِرَةِ يُجْزَى بِهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ «1» وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْكُفَّارُ لَا يُحَاسَبُونَ، قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «2» وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «3» وَظَاهِرُ ثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ شُمُولُ الْحَسَنَاتِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ: أَنَّ الْحَجَّ لَهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَجَمَعَهَا عَلَى أَشْهُرٍ لِقِلَّتِهَا، وَهِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ. بِكَمَالِهَا، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الجمع،

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 26. (2) سورة الكهف: 18/ 105. (3) سورة الفرقان: 25/ 23.

وَوَصَفَهَا: بِمَعْلُومَاتٍ، لِعِلْمِهِمْ بِهَا. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْحَجَّ فِيهَا فلا يرفت وَلَا يَفْسُقُ وَلَا يُجَادِلُ، فَنَهَاهُ عَنْ مُفْسِدِ الْحَجِّ مِمَّا كَانَ جَائِزًا قَبْلَهُ، وَمَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ مُطْلَقًا لِيُسَوِّيَ بَيْنَ التَّحْرِيمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَقَّتًا، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ. ثُمَّ لَمَّا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْمُفْسِدَاتِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي فَرْضُ الْحَجِّ مِنْهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، فَهُوَ تَعَالَى يُثِيبُ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ بِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، وَدَخَلَ فِيهَا مَا هُمْ مُلْتَبِسُونَ بِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَأَخْبَرَ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ هُوَ مَا كَانَ وِقَايَةً بَيْنِكَ وَبَيْنَ النَّارِ، ثُمَّ نَادَى ذَوِي الْعُقُولِ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْخِطَابِ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ عِقَابِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَنَاهِي، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْتَهُوا عَلَى اتِّقَاءِ عَذَابِ اللَّهِ بِالْمُخَالَفَةِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَاجُّ مَشْغُولًا بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الشَّاقَّةِ، مُلْتَبِسًا بِأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا، كَانَ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَا يُمْزَجُ وَقْتُهَا بِشَيْءٍ غَيْرِ أَفْعَالِهَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنِ ابْتَغَى فِيهَا فَضْلًا بِتِجَارَةٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أو غير ذلك من الْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى كُلَفِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِذَا أَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ، لِيُرْجِعَهُمْ بِذِكْرِهِ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَهُمُ التَّعَلُّقُ بِالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ عَلَى هِدَايَتِهِ الَّتِي مَنَحَهَا إِيَّاهُمْ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلُ فِي ضَلَالٍ، فَاصْطَفَاهُمْ لِلْهِدَايَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَهِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا، وَذَلِكَ الْمَكَانُ هُوَ عَرَفَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا تِلْكَ الْإِفَاضَةَ السَّابِقَةَ مِنْ عَرَفَةَ لَا مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَأَتَى بِثُمَّ لَا لِتَرْتِيبٍ فِي الزَّمَانِ، بَلْ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ، لَا فِي الْوُقُوعِ. ثُمَّ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ أَبَاهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا أَسْلَفَهُ مِنْ كَرِيمِ الْمَآثِرِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ الْغَايَةَ فِي الذِّكْرِ، مَثَّلَ ذِكْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ، ثُمَّ أَكَّدَ مَطْلُوبِيَّةَ الْمُبَالَغَةِ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَشَدَّ، لِيُفْهَمَ أَنَّ مَا مَثَّلَ بِهِ أَوَّلًا لَيْسَ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ. ثُمَّ قَسَّمَ مَقْصِدَ الْحَاجِّ إِلَى دُنْيَوِيٍّ صِرْفٍ، وَإِلَى دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُؤَالِهِ إِيَّاهُ وَذَكَرَ أَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى دُنْيَاهُ فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَجْمُوعِ الصِّنْفَيْنِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ مِمَّا كَسَبَ مِنْ أعماله حَظٌّ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّهُ تَعَالَى حِسَابُهُ سَرِيعٌ، فَيُجَازِي العبد بما كسب.

[سورة البقرة (2) : الآيات 203 إلى 212]

[سورة البقرة (2) : الآيات 203 الى 212] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) الْعَجَلَةُ: الْإِسْرَاعُ فِي شَيْءٍ وَالْمُبَادَرَةُ، وَتَعَجَّلَ تَفَعَّلَ مِنْهُ وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي يَجِيءُ لَهَا تَفَعَّلَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ، كَقَوْلِهِمْ: تَكَبَّرَ وَاسْتَكْبَرَ، وَتَيَقَّنَ وَاسْتَيْقَنَ، وَتَقَضَّى وَاسْتَقْضَى، وَتَعَجَّلَ وَاسْتَعْجَلَ، يَأْتِي لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، تَقُولُ: تَعَجَّلْتُ فِي الشَّيْءِ وَتَعَجَّلْتُهُ، وَاسْتَعْجَلْتُ فِي الشَّيْءِ وَاسْتَعْجَلْتُ زَيْدًا، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: عَجِلَ، كَقَوْلِهِمْ: تَلَبَّثَ بِمَعْنَى لبث، وتعجب وعجب، وتبرّ أو برىء، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا تَفَعَّلَ. الْحَشْرُ: جَمْعُ الْقَوْمِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَالْمَحْشَرُ مُجْتَمَعُهُمْ، يُقَالُ مِنْهُ: حَشَرَ يَحْشُرُ،

وَحَشَرَاتُ الْأَرْضِ دَوَابُّهَا الصِّغَارُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحَشْرُ: ضَمُّ الْمُفْتَرِقِ وَسَوْقُهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ الَّذِي قُلْنَاهُ. الْإِعْجَابُ: إِفْعَالٌ مِنَ الْعَجَبِ وَأَصْلُهُ، لِمَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ قَالَهُ الْمُفَضَّلُ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِلشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ وَالتَّعْظِيمُ، تَقُولُ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ. وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعَدِّي، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا لَهُ فِي ذَاتِهِ حَالَةٌ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْإِضَافَاتِ إِلَى مَنْ يَعْرِفُ السَّبَبَ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ. وَحَقِيقَةُ أَعْجَبَنِي كَذَا أَيْ: ظَهَرَ لِي ظُهُورًا لَمْ أَعْرِفْ سَبَبَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ يُقَالُ عَجِبْتُ مِنْ كَذَا فِي الْإِنْكَارِ، كَمَا قَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ: عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهُ ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ اللَّدَدُ: شِدَّةُ الْخُصُومَةِ، يُقَالُ: لَدِدْتَ تَلَدُّ لَدَدًا وَلَدَادَةً، وَرَجُلٌ أَلَدُّ وَامْرَأَةٌ لَدَّاءُ، وَرِجَالٌ وَنِسَاءٌ لُدٌّ، وَرَجُلٌ الْتَدَدَ وَيَلْتَدِدُ أَيْضًا شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَإِذَا غَلَبَ خَصْمَهُ قِيلَ: لَدَّهُ يَلَدُّهُ، مُتَعَدِّيًا، وَقَالَ الرَّاجِزُ: يَلَدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدَدِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ لَدِيدَيِ الْعُنُقِ، وَهُمَا: صَفْحَتَاهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: مِنْ لَدِيدَيِ الْوَادِي وَهُمَا جَانِبَاهُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِاعْوِجَاجِهِمَا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ لَدَّهُ: حَبَسَهُ، فَكَأَنَّهُ يَحْبِسُ خَصْمَهُ عَنْ مُفَاوَضَتِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ. الْخِصَامُ: مَصْدَرُ خَاصَمَ، وَجَمْعُ خَصْمٍ يُقَالُ: خَصْمٌ وَخُصُومٌ وَخِصَامٌ، كَبَحْرٍ وَبُحُورٍ وَبِحَارٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْخُصُومَةِ التَّعْمِيقُ فِي الْبَحْثِ عَنِ الشَّيْءِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: فِي زَوَايَا الْأَوْعِيَةِ: خُصُومٌ، الْوَاحِدُ. خُصِمَ. النَّسْلُ: مَصْدَرُ: نَسَلَ يَنْسُلُ، وَأَصْلُهُ الْخُرُوجُ بسرعة ومن قَوْلُهُمْ: نَسَلَ وَبَرُ الْبَعِيرِ، وَشَعَرُ الْحِمَارِ، وَرِيشُ الطَّائِرِ: خَرَجَ فَسَقَطَ مِنْهُ، وَقِيلَ: النَّسْلُ الْخُرُوجُ مُتَتَابِعًا، وَمِنْهُ: نُسَالُ الطَّائِرِ مَا تَتَابَعَ سُقُوطُهُ مِنْ رِيشِهِ، وَقَالَ: فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ وَالْإِطْلَاقُ عَلَى الْوَلَدِ نَسْلًا مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، يُسَمَّى بِذَلِكَ لِخُرُوجِهِ مِنْ ظَهْرِ الْأَبِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ بِسُرْعَةٍ.

جَهَنَّمُ: عَلَمٌ لِلنَّارِ وَقِيلَ: اسْمُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ فِيهَا، وَهِيَ عَرَبِيَّةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَكِيَّةٌ جَهَنَّامٌ إِذَا كَانَتْ بَعِيدَةَ الْقَعْرِ، وَقَدْ سُمِّيَ الرَّجُلُ بِجَهَنَّامٍ أَيْضًا فَهُوَ عَلَمٌ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْجَهْمِ وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَالْغِلْظَةُ، فَالنُّونُ عَلَى هَذَا زَائِدَةٌ، فَوَزْنُهُ: فَعَنَّلُ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ جَهَنَّامًا وَزْنُهُ فَعَنَّالٌ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنْ فَعَنَّلًا بِنَاءٌ مَفْقُودٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَجَعَلَ دَوَنَّكَا: فَعَلَّلًا، كَعَدَبَّسٍ. وَالْوَاوُ أَصْلٌ فِي بَنَاتِ الْأَرْبَعَةِ كَهِيَ فِي: وَرَنْتَلٍ، وَالصَّحِيحُ إِثْبَاتُ هَذَا الْبِنَاءِ. وَجَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ، قَالُوا: ضَغَنَّطٌ مِنَ الضَّغَاطَةِ، وَهِيَ الضَّخَامَةُ، وَسَفَنَّجٌ، وَهَجَنَّفٌ: لِلظَّلِيمِ وَالزَّوَنَّكُ: الْقَصِيرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَزُوكُ فِي مِشْيَتِهِ. أَيْ: يَتَبَخْتَرُ، قَالَ حَسَّانُ: أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلْأَمُ مَنْ مَشَى ... فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَاهُ: زَوَنَّكَى. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ النُّونِ فِي: جَهَنَّمَ وَامْتَنَعَتِ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقِيلَ: هِيَ أَعْجَمِيَّةٌ وَأَصْلُهَا كَهَنَّامُ، فَعُرِّبَتْ بِإِبْدَالٍ مِنَ الْكَافِ جِيمًا. وَبِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ، وَمُنِعَتِ الصَّرْفَ عَلَى هَذَا لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. حَسْبُ: بِمَعْنَى: كَافٍ، تَقُولُ أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ: كَفَانِي، فَوَقَعَ حَسْبُ مَوْقِعَ: مُحْسِبٍ، وَيُسْتَعْمَلُ مُبْتَدَأً فَيُجَرُّ خَبَرُهُ بِبَاءٍ زَائِدَةٍ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَ خَبَرًا لَا يُزَادُ فِيهِ الْبَاءُ وَصِفَةً فَيُضَافُ، وَلَا يَتَعَرَّفُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسْبِكَ، وَيَجِيءُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ نَحْوَ: بِرَجُلٍ حَسْبِكَ مِنْ رَجُلٍ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِمُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ أَوْ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ وَهُوَ مَا وُطِّئَ لِلنَّوْمِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ مَهْدٍ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُهَيَّأُ لِلنَّوْمِ. السِّلْمُ: بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا: الصُّلْحُ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ. وَحَكَى الْبَصْرِيُّونَ عَنِ الْعَرَبِ: بَنُو فُلَانٍ سِلْمٌ وَسَلْمٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُطْلَقُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنْشَدُوا بَعْضَ قَوْلِ كِنْدَةَ: دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأَيْتُهُمْ تَوَلَّوْا مُدْبَرِينَا

أَيْ: لِلْإِسْلَامِ، قَالَ ذَلِكَ لَمَّا ارْتَدَّتْ كِنْدَةُ مَعَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُ فِي الْفَتْحِ: شَرَائِعُ السِّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَالِمُهَا ... فَمَا يَرَى الْكُفْرَ إِلَّا مَنْ بِهِ خَبَلُ يُرِيدُ: الْإِسْلَامَ، لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْكُفْرِ، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ: الْإِسْلَامُ وَبِالْفَتْحِ: الصُّلْحُ. كَافَّةً: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى: جَمِيعًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنْ كَفَّ الشَّيْءَ: مَنَعَ مِنْ أَخْذِهِ، وَالْكَفُّ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ كُفَّةُ الْقَمِيصِ حَاشِيَتُهُ، وَمِنْهُ الْكَفُّ وَهُوَ طَرَفُ الْيَدِ لِأَنَّهُ يُكَفُّ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَرَجُلٌ مَكْفُوفٌ مُنِعَ بَصَرُهُ أَنْ يَنْظُرَ، وَمِنْهُ كِفَّةُ الْمِيزَانِ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الْمَوْزُونَ أَنْ يَنْتَشِرَ، وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: كُفَّةٌ بِالضَّمِّ لِكُلِّ مُسْتَطِيلٍ، وَبِالْكَسْرِ لِكُلِّ مُسْتَدِيرٍ، وَكَافَّةً: مِمَّا لَزِمَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ نَحْوَ: قَاطِبَةً، فَإِخْرَاجُهَا عَنِ النَّصْبِ حَالًا لَحْنٌ. التَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَالزِّينَةُ مِمَّا يُتَحَسَّنُ بِهِ وَيُتَجَمَّلُ، وَفَعَّلَ مِنَ الزَّيْنِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ، وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَعَّلَ كَقَوْلِهِمْ: قَدَّرَ اللَّهُ، وَقَدَرَ. وَمَيَّزَ وَمَازَ، وَبَشَّرَ وَبَشَرَ، وَيُبْنَى مِنَ الزَّيْنِ افتعل افتعال: ازْدَانَ بِإِبْدَالِ التَّاءِ دَالًا، وَهُوَ لَازِمٌ. وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هَذَا رَابِعُ أَمْرٍ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالذِّكْرُ هُنَا التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ وَإِدْبَارِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِ الْحَجِّ، أَوِ التَّكْبِيرُ عُقَيْبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، قَوْلَانِ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بِفُسْطَاطِهِ بِمِنًى فَيُكَبِّرُ مَنْ حَوْلَهُ حَتَّى يُكَبِّرَ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ، وَفِي الطَّوَافِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ. أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، قَالَهُ: ابْنُ عُمَرَ، وَعَلَيَّ، وَقَالَ: اذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ، أَوْ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ: الْمَرْوَزِيُّ. أَوْ أَيَّامُ الْعَشْرِ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قِيلَ: وَقَوْلُهُمْ أَيَّامُ الْعَشْرِ، غَلَطٌ مِنَ الرُّوَاةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَصْحِيفِ النَّسَخَةِ، وإما أن يريد الشعر الَّذِي بَعُدَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ.

وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ: فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ، عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ «1» وَنَحْنُ نُؤَخِّرُ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ: أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا. بِأَنْ قَالَ: وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقَرِّ. وَهُوَ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فِي الْمَعْدُودَاتِ لَسَاغَ أَنْ يَنْفِرَ مَنْ شَاءَ مُتَعَجِّلًا يَوْمَ الْقَرِّ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ يَوْمَيْنِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ الْمَبْنِيَّ إِذَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، لَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا يَوْمَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الضَّرْبِ بِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، وَهُنَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ بِالنَّفْرِ لَمْ يَقَعْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنَ ارْتِكَابِ مَجَازٌ، إِمَّا بِأَنْ يُجْعَلَ وُقُوعَهُ فِي أَحَدِهِمَا كَأَنَّهُ وُقُوعٌ فِيهِمَا، وَيَصِيرُ نظير: نَسِيا حُوتَهُما «2» ويَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «3» وَإِنَّمَا النَّاسِي أَحَدُهُمَا، وَكَذَلِكَ، إِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا. أَوْ بِأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي ثَانِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَكُونُ الْيَوْمُ الَّذِي بَعُدَ يَوْمِ الْقَرِّ الْمُتَعَجَّلِ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ فِي: تَمَامِ يَوْمَيْنِ أَوْ إِكْمَالِ يَوْمَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَقَعَ التَّعَجُّلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، بَلْ بَعْدَهُمَا. وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّفْرُ يَوْمَ الْقَرِّ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ ذِكْرِ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا هَذِهِ الْأَيَّامُ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ يُشْعِرُ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ هِيَ الَّتِي يُنْفَرُ فِيهَا، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقَدْ قَالَ فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. انْتَهَى. وَجَعْلُ الْأَيَّامِ ظَرْفًا لِلذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى ذُكِرَ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَيُشْعِرُ أَنَّهُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ كَوْنُ الرَّمْيِ غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ، فَنَاسَبَ وُقُوعُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَيَّامِ ذُكِرَ اللَّهُ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ وَأَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا،

_ (1) سورة الحج: 22/ 28. (2) سورة الكهف: 18/ 61. (3) سورة الرحمن: 55/ 22.

ظَاهِرٌ أَنَّهُ لِلْحُجَّاجِ، إِذِ الْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَالْخِطَابُ قَبْلُ لَهُمْ، وَالْإِخْبَارُ بَعْدُ عَنْهُمْ، فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ فِي هَذَا الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَمَنْ حَمَلَ الذِّكْرَ هُنَا عَلَى أَنَّهُ الذِّكْرُ الْمَشْرُوعُ عَقِبَ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْوَقْتِ وَفِي الْكَيْفِيَّةِ. أَمَّا وَقْتُهُ: فَمِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ: مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ هَذَا. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. أَوْ: مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ. أَوْ: مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَهُ أَبُو وَائِلٍ. أَوْ: مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَأَمَّا الْكَيْفِيَّةُ: فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ ثَلَاثُ تَكْبِيرَاتٍ وَفِي مَذْهَبِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَخْتَصُّ التَّكْبِيرُ بِأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: مُفْرِدًا كَانَ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَعَنْ أَحْمَدَ: الْقَوْلَانِ، وَالْمُسَافِرُ كَالْمُقِيمِ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمُسَافِرِينَ إِذَا صَلَّوْا جَمَاعَةً لَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِمْ، فَلَوِ اقْتَدَى مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ كَبَّرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ عَقِبَ السَّلَامِ، وَالْجُمْهُورُ يَعْمَلُ شَيْئًا يَقْطَعُ بِهِ الصَّلَاةَ مِنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ حِينَ فَرَغَ وَذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَجْلِسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : يُكَبِّرُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ، فَإِذَا قَامَ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) : إِنْ نَسِيَهُ وَكَانَ قَرِيبًا قَعَدَ فَكَبَّرَ، أَوَ تَبَاعَدَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ذَهَبَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فَلْيُكَبِّرُوا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ قَضَاهَا وَكَبَّرَ، وَإِنْ قَضَى بَعْدَهَا لَمْ يُكَبِّرْ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ هُوَ لِلْحُجَّاجِ، وَأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ هُوَ مما يُخْتَصُّ بِهِ الْحَاجُّ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، سَوَاءٌ كَانَ الذِّكْرُ عِنْدَ الرَّمْيِ أَمْ عِنْدَ أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَأَنَّ الذِّكْرَ فِي أَيَّامِ مِنًى، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ، وَتَعْيِينُ كَيْفِيَّةِ الذِّكْرِ وَابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ. فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ: تَعَجَّلَ، هُنَا لَازِمٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِلَازِمٍ فِي قَوْلِهِ مَنْ تَأَخَّرَ فَيَكُونُ مُطَاوِعًا لِعَجِلَ، فَتَعَجَّلَ، نَحْوَ كَسَرَهُ فَتَكَسَّرَ، وَمُتَعَلَّقُ التَّعَجُّلِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: بِالنَّفْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعَجَّلَ مُتَعَدِّيًا وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَمَنْ تَعَجَّلَ النَّفْرَ، وَمَعْنَى: فِي يَوْمَيْنِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ. وَقَالُوا: الْمُرَادُ أَنَّهُ ينفر فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَسَبَقَ كَلَامُنَا عَلَى تَعْلِيقِ فِي يَوْمَيْنِ بِلَفْظِ تَعَجَّلَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ، الْعُمُومُ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْآفَاقِيِّ وَالْمَكِّيُّ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ ينفر في اليوم الثاني، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ يُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ نَقُولُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: وَلَمْ يُبَحِ التَّعْجِيلُ إِلَّا لِمَنْ بَعُدَ قُطْرُهُ لَا لِلْمَكِّيِّ وَلَا لِلْقَرِيبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَلْيَنْفِرْ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ، إِلَّا آلَ خُزَيْمَةَ. فَإِنَّهُمْ لَا يَنْفِرُونَ إِلَّا فِي النَّفْرِ الْآخِرِ، وَجَعَلَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ قَوْلَ عُمَرَ: إِلَّا آلَ خُزَيْمَةَ، أَيْ: أَنَّهُمْ أَهْلَ حَرَمٍ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ: لِمَنْ نَفَرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ، أَنَّ التَّعَجُّلَ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ بَلْ فِي شَيْءٍ مِنَ النَّهَارِ، يَنْفِرُ إِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَعْنِي مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ. أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ أَدْرَكَهُ الْعَصْرُ وَهُوَ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى الْغُدُوِّ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ: فِي يَوْمَيْنِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ

الْيَوْمَيْنِ شَيْءٌ فَسَائِغٌ لَهُ النَّفْرُ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَنْ تَعَجَّلَ، سُقُوطُ الرَّمْيِ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَلَا يَرْمِي جَمَرَاتِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فِي يَوْمِ نَفْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينٍ: يَرْمِيهَا فِي يَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ حِينَ يُرِيدُ التَّعَجُّلَ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَرْمِي الْمُتَعَجِّلُ فِي يَوْمَيْنِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَيَصِيرُ جَمِيعُ رَمْيِهِ بِتِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ حَصَاةً، يَعْنِي: لِأَنَّهُ قَدْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعٍ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَيَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ إِلَى آخِرِهِ. مَشْرُوعِيَّةُ الْمَبِيتِ بِمِنًى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. لِأَنَّ التَّعَجُّلَ وَالتَّأَخُّرَ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْرِ مِنْ مِنًى، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُجَّاجِ أَنْ يَبِيتَ إِلَّا بِهَا إِلَّا لِلرِّعَاءِ، وَمَنْ وَلِيَ السِّقَايَةَ مِنْ آلِ الْعَبَّاسِ، فَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ مِنْ غَيْرِهِمَا لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ دَمٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي الثَّلَاثِ اللَّيَالِي، فَإِنْ تَرَكَ مَبِيتَ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُ دَمٍ، أَوْ مُدٌّ أَوْ دِرْهَمٌ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلرَّمْيِ، لَا حُكْمًا، وَلَا وَقْتًا، وَلَا عَدَدًا، وَلَا مَكَانًا لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَتُؤْخَذُ أَحْكَامُهُ مِنَ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ، تَنْبِيهٌ عَلَيْهِ، إِذْ مِنْ سُنَّتِهِ التَّكْبِيرُ عَلَى كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، فَقَرُبَتْ بِذَلِكَ مِنْ السُّكُونِ فَحَذَفَهَا تَشْبِيهًا بِالْأَلِفِ، ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ التَّاءِ، وَهَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ جَعَلْنَا: مَنْ، شَرْطِيَّةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا مَوْصُولَةً كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَظَاهِرُهُ نَفْيُ الْإِثْمِ عَنْهُ، فَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَأَخَّرَ مَغْفُورٌ لَهُ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَنْ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَامِ الْقَابِلِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي التَّعْجِيلِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَعَجَّلَ وَلَا عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، وَقَالَهُ

عَطَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ قَدْ فُسِّرَتْ بِمَا أَقَلُّهُ جَمْعٌ وَهِيَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، أَوْ بِأَرْبَعَةٍ، أَوْ بِالْعَشْرِ، ثُمَّ أُبِيحَ لَهُمُ النَّفْرُ فِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ يَقْتَضِي الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنْ لَا تَعْجِيلَ، فَنَفَى بِقَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الْحَرَجَ عَنْ مَنْ خُفِّفَ عَنْهُ الْمُقَامُ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَيَنْفِرُ فِيهِ، وَسَوَّى بَيْنَهُ فِي الْإِبَاحَةِ وَعَدَمِ الْحَرَجِ، وَبَيْنَ مَنْ تَأَخَّرَ فَعَمَّ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ التَّعْجِيلِ وَالتَّأَخُّرِ، وَالتَّخْيِيرُ قَدْ يُتَّبَعُ بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ، فَقِيلَ: جَاءَ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَجْلِ مُقَابَلَةِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَنَفَى الْإِثْمَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الرُّخْصَةِ. وَقِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَرِيقَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُؤَثِّمُ الْمُتَعَجِّلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَثِّمُ الْمُتَأَخِّرَ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عَنْهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ. وَهَذَا أَمْرٌ اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُتَعَجِّلُ وَالْمُتَأَخِّرُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الثَّالِثِ إِلَى الرَّابِعِ وَلَمْ يَنْفِرْ مَعَ عَامَّةِ النَّاسِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ نَقَصَ عَنْهَا فَتَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَتَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ الطِّبَاقُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ، وَالطِّبَاقُ ذِكْرُ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، كَقَوْلِهِ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى «1» وَهُوَ هُنَا طِبَاقٌ غَرِيبٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَعَجَّلَ مُطَابِقَ تَأَخَّرَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُطَابِقُ تَعَجَّلَ تَأَنَّى، وَمُطَابِقُ تَأَخَّرَ تَقَدَّمَ، فَعَبَّرَ فِي تَعَجَّلَ بِالْمَلْزُومِ عَنِ اللَّازِمِ، وَعَبَّرَ فِي تَأَخَّرَ بِاللَّازِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ. وَفِيهَا مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ الْمُقَابَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ، إِذِ الْمُتَأَخِّرُ أَتَى بِزِيَادَةٍ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَهُ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «2» وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا لِمَنِ اتَّقى قِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ، أَيِ الذِّكْرُ لِمَنِ اتَّقَى، وَقِيلَ: بِانْتِفَاءِ الْإِثْمِ أَيْ: يُغْفَرُ لَهُ بِشَرْطِ اتِّقَائِهِ اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى ذَلِكَ التَّخْيِيرُ وَنَفْيُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ لِأَجْلِ الْحَاجِّ الْمُتَّقِي، لِئَلَّا يَخْتَلِجَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَيَحْسَبُ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَرْهَقُ صَاحِبَهُ آثَامٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَا التَّقْوَى حَذِرٌ مُتَحَرِّزٌ مِنْ كُلِّ مَا يَرِيبُهُ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْحَاجُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ الذي مرّ

_ (1) سورة النجم: 53/ 43. (2) سورة البقرة: 2/ 194.

ذِكْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ لِمَنِ اتَّقَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ انتهى كلامه. واتقى: هُنَا حَاصِلَةٌ لِمَنْ. وَهِيَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، فَقِيلَ: هُوَ مَاضِي الْمَعْنَى أَيْضًا، أَيِ: الْمَغْفِرَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا مُنِيبًا قَبْلَ حَجِّهِ، نَحْوَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1» وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَنْفَعُهُ حَجُّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ فِي الظَّاهِرِ، وَقِيلَ: اتَّقَى جَمِيعَ الْمَحْظُورَاتِ حَالَ اشتغاله بالحج، قاله قَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنِ اتَّقَى فِي الْإِحْرَامِ الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لِمَنِ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، أَيْ: لِمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِي بَاقِي عُمُرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالظَّاهِرُ تُعَلُّقُهُ بِالْآخَرِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْإِثْمِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلِصِحَّةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، إِذْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا لَمْ يَرْتَفِعِ الْإِثْمُ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ اتَّقِي الْمَحْذُوفَ هُوَ: اللَّهُ، أَيْ: لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَكَذَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى رَفْعَ الْإِثْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، أَمَرَ بِالتَّقْوَى عُمُومًا، وَنَبَّهَ عَلَى مَا يَحْمِلُ عَلَى اتِّقَاءِ اللَّهِ بالحشر إليه للمجازات، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى اتِّقَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا اجْتَرَحَ فِي الدُّنْيَا اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنْ يَعْظُمَ لَهُ الثَّوَابُ، وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِالتَّقْوَى مَوْصُوفًا بِهَا، كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَمْرًا بِالدَّوَامِ، في ذِكْرِ الْحَشْرِ تَخْوِيفٌ مِنَ الْمَعَاصِي، وَذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي اعْتِقَادِ الْحَشْرِ إِلَّا الْجَزْمُ الَّذِي لَا يُجَامِعُهُ شَيْءٌ مِنَ الظَّنِّ، وَقُدِّمَ إِلَيْهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِمَنْ يَكُونُ الْحَشْرُ إِلَيْهِ، وَلِتَوَاخِي الْفَوَاصِلِ وَالْمَعْنَى إِلَى جَزَائِهِ. وَقَدْ تَكَمَّلَتْ أَحْكَامُ الْحَجِّ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ: وَقْتِ الْحَجِّ إِلَى آخِرِ فِعْلٍ، وَهُوَ: النَّفَرُ، وَبُدِئَتْ أَوَّلًا بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَخُتِمَتْ بِهِ، وَتَخَلَّلَ الْأَمْرُ بِهَا فِي غُضُونِ الآية، وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَطْلُوبِيَّتِهَا، وَلِمَ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَهِيَ اجْتِنَابُ مَنَاهِي اللَّهِ وَإِمْسَاكُ مَأْمُورَاتِهِ، وَهَذَا غَايَةُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِهَا يَتَمَيَّزُ الطَّائِعُ من العاصي؟

_ (1) سورة المائدة: 5/ 27.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ وَاسْمُهُ: أُبَيٌّ، وَكَانَ حُلْوَ اللِّسَانِ وَالْمَنْظَرِ، يُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُظْهِرُ حُبَّهُ، وَالْإِسْلَامَ، وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ يُدْنِيهِ وَلَا يَعْلَمُ مَا أَضْمَرَ، وَكَانَ مِنْ ثَقِيفٍ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَقِيفٍ شَيْءٌ، فَبَيَّتَهُمْ لَيْلًا وَأَحْرَقَ زَرْعَهُمْ، وَأَهْلَكَ مَوَاشِيَهُمْ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وَغَفَرَ الْحُمُرِ، قِيلَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «1» ووَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا، فَابْعَثْ إِلَيْنَا مَنْ يُعَلِّمُنَا دِينَكَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَكْرًا مِنْهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ خُبَيْبًا، ومرشدا، وَعَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، وَابْنَ الدنية، وَغَيْرَهُمْ، وَتُسَمَّى: سَرِيَّةَ الرَّجِيعِ ، وَالرَّجِيعُ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقُتِلُوا، وَحَدِيثُهُمْ طَوِيلٌ مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مُنَافِقٍ أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا عَنْ سَرِيَّةِ الرَّجِيعِ: ويح هؤلاء ما فقدوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَا أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ: لَمَّا قَسَّمَ السَّائِلِينَ اللَّهُ قَبْلُ إِلَى: مُقْتَصِرٍ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَسَائِلٍ حَسَنَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْوِقَايَةَ مِنَ النَّارِ، أَتَى بِذِكْرِ النَّوْعَيْنِ هُنَا، فَذَكَرَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَنْ هُوَ حُلْوُ الْمَنْطِقِ، مُظْهِرُ الْوُدِّ، وَلَيْسَ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَنْ يَقْصِدُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَبِيعُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِهِ، وَقَدَّمَ هُنَا الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ هُنَاكَ الْمُقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَأَحَالَ هُنَا عَلَى إِعْجَابِ قَوْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، مِنَ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا، فَكَانَ مِنْ حَيْثُ تَوَجُّهُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْ سأل منه ما يُنَجِّيَهُ مِنْ عَذَابِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى حَلَاوَةِ مَنْطِقِهِ، بَلْ كَانَ يُطَابِقُ فِي سَرِيرَتِهِ لِعَلَانِيَتِهِ. وَ: مَنْ، مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُعْجِبُكَ، مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ: نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْكَافُ فِي: يُعْجِبُكَ، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ، كَالْأَخْنَسِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يُنَافِقُ قَدِيمًا أو حديثا.

_ (1) سورة القلم: 68/ 10. (2) سورة الهمزة: 104/ 1.

وَمَعْنَى إِعْجَابِ قَوْلِهِ اسْتِحْسَانُهُ لِمُوَافَقَةِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، وَجَاءَ فِي التِّرْمِذِيَّ: «أَنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمًا ألسنتهم مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ» ، الْحَدِيثَ. فِي الحياة: متعلق بقوله، أَيْ يُعْجِبُكَ مَقَالَتُهُ فِي مَعْنَى الدُّنْيَا، لِأَنَّ ادِّعَاءَهُ الْمَحَبَّةَ وَالتَّبَعِيَّةَ بِالْبَاطِلِ يَطْلُبُ بِهِ حَظًّا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا. وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْآخِرَةَ، إِذْ لَا تُرَادُ الْآخِرَةُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيُعْجِبُكَ أَيْ: قَوْلُهُ حُلْوٌ، فَيَصِحُّ: فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يُعْجِبُكَ وَلَا يُعْجِبُكَ فِي الْآخِرَةِ، لِمَا تَرْهَقُهُ فِي الْمَوْقِفِ مِنَ الْحُبْسَةِ وَاللُّكْنَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُعْجِبَكَ كَلَامُهُ. انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالَّذِي يظهر أنه متعلق بيعجبك لَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَسْتَحْسِنُ مَقَالَتَهُ دَائِمًا فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ، إِذْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَا هُوَ مُعْجِبٌ رَائِقٌ لَطِيفٌ، فَمَقَالَتُهُ فِي الظَّاهِرِ مُعْجِبَةٌ دَائِمًا. أَلَا تَرَاهُ يعدل عن تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْحَسَنَةِ الرَّائِقَةِ، إِلَى مَقَالَةٍ خَشِنَةٍ مُنَافِيَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَفْعَالُهُ مُنَافِيَةٌ لأقواله الظاهرة، وأقواله الباطلة مُخَالِفَةٌ أَيْضًا لِأَقْوَالِهِ الظَّاهِرَةِ؟ إِذْ لَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ إِلَّا عَلَى حَالَتَيْنِ: فَهُوَ حُلْوُ الْمَقَالَةِ فِي الظَّاهِرِ، شَدِيدُ الْخُصُومَةِ فِي الْبَاطِنِ. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَنَصْبِ الْجَلَالَةِ مِنْ: أَشْهَدَ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ الْجَلَالَةِ، مِنْ شَهِدَ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُسْتَشْهِدُ اللَّهَ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَتَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ، أَنَّهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ وَيُشْهِدُهُ أَنَّهُ صَادِقٌ وَقَائِلٌ حَقًّا، وَأَنَّهُ مُحِبٌّ فِي الرَّسُولِ وَالْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَتِ الشَّهَادَةُ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ فِي قِصَّةِ الْمُلَاعَنَةِ فِي سُورَةِ النُّورِ، قِيلَ: وَيَكُونُ اسْمُ اللَّهِ انْتَصَبَ بِسُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُقْسِمُ بِاللَّهِ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا سَهْوٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ يُقْسَمُ بِهِ هُوَ الثُّلَاثِيُّ لَا الرُّبَاعِيُّ، تَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَلَا تَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُطْلِعُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، ولا يعلم به أحدا لِشِدَّةِ تَكَتُّمِهِ وَإِخْفَائِهِ الْكُفْرَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: عَلى مَا فِي قَلْبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي فِي قَلْبِهِ هُوَ خِلَافُ مَا أَظْهَرَ بِقَوْلِهِ. وَعَلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، أَيْ: وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ عَلَى

خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي فِي قَلْبِهِ هُوَ الْكُفْرُ، وَهُوَ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى ضِدِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْجَبُ بِهِ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، إِذْ مَعْنَاهَا: وَيُطْلِعُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ. وقراءة: ويستشهد، بجواز أَنْ تَكُونَ فِيهَا: اسْتَفْعَلَ، بِمَعْنَى: أَفْعَلَ: نَحْوَ أَيْقَنَ وَاسْتَيْقَنَ، فَيُوَافِقُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهَا: اسْتَفْعَلَ، بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، فَيَكُونُ اسْتَشْهَدَ بِمَعْنَى شَهِدَ، وَيَظْهَرُ إِذْ ذَاكَ أَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ وَيَسْتَشْهِدُ بِاللَّهِ، كَمَا تَقُولُ: وَيَشْهَدُ بِاللَّهِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْحَذْفِ حَتَّى يَصِحَّ الْمَعْنَى، أَيْ: وَيَسْتَشْهِدُ بِاللَّهِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ، فَهُوَ صلة، أو صفة. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ لَا وَاوَ الْعَطْفِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يُعْجِبُكَ، أَوْ: مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلُهُ. التَّقْدِيرُ: وَهُوَ يُشْهِدُ اللَّهَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَيْدًا فِي الْإِعْجَابِ، أَوْ فِي الْقَوْلِ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، وَأَنَّهُ صِلَةٌ، وَلِمَا يَلْزَمُ فِي الْحَالِ مِنَ الْإِضْمَارِ لِلْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْمُثْبَتَ، وَمَعَهُ الْوَاوُ، يَقَعُ حَالًا بِنَفْسِهِ، فَاحْتِيجَ إِلَى إِضْمَارٍ كَمَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ، أَيْ وَأَنَا أَصُكُّ، وَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أَيْ: أَشَدُّ الْمُخَاصِمِينَ، فَالْخِصَامُ جَمْعُ خَصْمٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْخِصَامِ الْمَصْدَرُ، كَمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ مُصَحِّحٍ لِجَرَيَانِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، إِمَّا مِنَ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: وَخِصَامُهُ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِمَّا مِنْ مُتَعَلَّقِ الْخَبَرِ، أَيْ: وَهُوَ أَلَدُّ ذَوِي الْخِصَامِ، وَجَوَّزَ أَنْ يُرَادَ هُنَا بِالْخِصَامِ الْمَصْدَرُ عَلَى مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ فِي: رَجُلٍ خَصِمٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَفْعَلُ لَا لِلْمُفَاضَلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَ الْخُصُومَةِ، يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَيْ: وَخِصَامُهُ أَشَدُّ الْخِصَامِ. وَتَقَارَبَتْ أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي: أَلَدُّ الْخِصَامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ ذُو الْجِدَالِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكَاذِبُ الْمُبْطِلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَدِيدُ الْقَسْوَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَعْوَجُ الْخُصُومَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى حَقٍّ فِي الْخُصُومَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ، فَهِيَ صِلَةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ

تَكُونَ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى: وَيُشْهِدُ إِذَا كَانَتْ حَالًا، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: وَيُشْهِدُ. وَإِذَا كَانَ الْخِصَامُ جَمْعًا، كَانَ أَلَدُّ مِنْ إِضَافَةِ بَعْضٍ إِلَى كُلٍّ، وَإِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَقَدْ ذَكَرْنَا تَصْحِيحَ ذَلِكَ بِالْحَذْفِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ فَهُوَ كَالْجَمْعِ فِي أَنَّ أَفْعَلَ بَعْضُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَأَوَّلْتَ أَفْعَلَ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا، فَأَلَدُّ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْخِصَامُ الْمُخَاصَمَةُ، وَإِضَافَةُ الْأَلَدِّ بِمَعْنَى فِي كَقَوْلِهِمْ ثَبْتُ الْغَدَرِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ: أَفْعَلَ لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ بَعْضُهُ، بَلْ هِيَ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى: فِي، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا يَزْعُمُهُ النُّحَاةُ مِنْ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُضَافُ إِلَّا لِمَا هِيَ بَعْضٌ لَهُ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْإِضَافَةِ بِمَعْنَى فِي، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ فِي النَّحْوِ، قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ على الِاحْتِيَاطِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَاسْتِوَاءِ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَالْقُضَاةِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَا يَبْدُو مِنْ إِيمَانِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَحْوَالَ النَّاسِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ جَمِيلًا وَيَنْوِي قَبِيحًا. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ حَقِيقَةُ التَّوَلِّي الِانْصِرَافُ بِالْبَدَنِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِيمَا يُرْجَعُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَمَعْنَاهُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَضِبَ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنِ الرِّضَى الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: انْصَرَفَ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: انْصَرَفَ بِبَدَنِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْوِلَايَةِ، أَيْ: صَارَ وَالِيًا. وَالسَّعْيُ حَقِيقَةً الْمَشْيُ بِالْقَدَمَيْنِ بِسُرْعَةٍ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ هَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا نَهَضَ عَنْكَ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ إِلَانَةِ الْقَوْلِ وَحَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ، فَسَعَى بِقَدَمَيْهِ فِي الْأَرْضِ، فَقَطَعَ الطَّرِيقَ وَأَفْسَدَ فِيهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْأَخْنَسُ بِثَقِيفٍ. وَقِيلَ: السَّعْيُ هُنَا الْعَمَلُ، وَهُوَ مَجَازٌ سَائِغٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ: وَأَنْ لَيْسَ

لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «1» وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ «2» وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي، وَلَمْ أَطْلُبْ، قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي وَقَالَ الْأَعْشَى: وَسَعَى لِكِنْدَةَ غَيْرَ سَعْيِ مُوَاكِلٍ ... قَيْسٌ فَصَدَّ عدوها ونبالها وَقَالَ آخَرُ: أَسْعَى عَلَى حَيِّي بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ سَاعٍ وَالْمَعْنَى: سَعَى بِحِيَلِهِ وَإِدَارَةِ الدَّوَائِرِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ نَحَا مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: قَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: مَعْنَاهُ سَعَى فِيهَا بِالْكُفْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ بِالظُّلْمِ. وَقَدْ يَقَعُ السَّعْيُ بِالْقَوْلِ، يُقَالُ: سَعَى بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ نَقَلَ إِلَيْهِمَا قَوْلًا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، وَمِنْهُ: مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا ... سَعْيَ عَدُوٍّ بَيْنَنَا يُرْجِفُ فِي الْأَرْضِ، مَعْلُومٌ أَنَّ السَّعْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ، لَكِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ بِمَعْنَى فِي: أَيِّ مَكَانٍ حَلَّ مِنْهَا سَعَى لِلْفَسَادِ، وَيَدُلُّ لَفْظُ: فِي الْأَرْضِ، عَلَى كَثْرَةِ سَعْيِهِ وَنُقْلَتِهِ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْأَرْضِ تَكْرَارُ السَّعْيِ وَتَقَدَّمَ مَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «3» . وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْأَخْنَسُ فَالْأَرْضُ أَرْضُ الْمَدِينَةِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. لِيُفْسِدَ فِيهَا، هَذَا عِلَّةُ سَعْيِهِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ، وَالْفَسَادُ ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَهُوَ مُعَانَدَةُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها «4» . وَالْفَسَادُ يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ: الْجَوْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالنَّهْبِ، وَالسَّبْيِ، ويكون: بالكفر. وَ: يُهْلِكَ الْحَرْثَ، وَالنَّسْلَ، عَطَفَ هَذِهِ الْعِلَّةَ عَلَى الْعِلَّةِ قَبْلَهَا، وَهُوَ: لِيُفْسِدَ فِيهَا، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «5» وقوله:

_ (1) سورة النجم: 53/ 39. (2) سورة الإسراء: 17/ 19. (3) سورة البقرة: 2/ 11. [.....] (4) سورة هود: 11/ 61. (5) سورة البقرة: 2/ 98.

أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجًا وَلَبَانُهُ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ شَامِلٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ إِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عِمَارَةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ إفسادهما غاية الإفساد. من فَسَّرَ الْإِفْسَادَ بِالتَّخْرِيبِ، جَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. وَ: يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَرْثِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ «1» وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّسْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَخْنَسِ، يَكُونُ الْحَرْثُ الزَّرْعَ، وَالنَّسْلُ الْحُمُرَ الَّتِي قَتَلَهَا، فَيَكُونُ النَّسْلُ الْمُرَادُ بِهِ الدَّوَابُّ ذَوَاتُ النَّسْلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا بِالْحَرْثِ هُنَا النِّسَاءُ، وَبِالنَّسْلِ الْأَوْلَادُ، وَقَالَ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ «2» وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّجَّاجِ احْتِمَالًا، فَيَكُونُ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُهْلِكَ، مِنْ أَهْلَكَ. عَطْفًا عَلَى: لِيُفْسِدَ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَلِيُهْلِكَ، بِإِظْهَارِ لَامِ الْعِلَّةِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: وَيُهْلِكُ، مِنْ أَهْلَكَ، وَبِرَفْعِ الْكَافِ. وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ، أَوْ عَلَى: سَعَى، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: يَسْعَى، وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: وَهُوَ يُهْلِكُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَيَهْلِكُ مِنْ هَلَكَ، وَبِرَفْعِ الكاف، والحرث وَالنَّسْلُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، إِنَّمَا هُوَ: وَيُهْلِكُ مِنْ أَهْلَكَ، وَبِضَمِّ الْكَافِ، الْحَرْثَ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: وَيَهْلَكُ مِنْ هَلَكَ، وَبِفَتْحِ اللَّامِ، وَرَفْعِ الْكَافِ وَرَفْعِ الْحَرْثِ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ نحو: ركن يركن، ونسب هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَى الْحَسَنِ الزمخشري. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرُوِيَ عَنْهُ، يَعْنِي عَنِ الْحَسَنِ، وَيُهْلَكُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ: ويهلك وليهلك وَيُهْلَكُ، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَنْصُوبٌ، لِأَنَّ فِي الْفِعْلِ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ، وَيَهْلَكُ وَيُهْلِكُ وَيُهْلَكُ، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَرْفُوعٌ بِالْفِعْلِ، وهذه

_ (1) سورة البقرة: 2/ 71. (2) سورة البقرة: 2/ 223.

الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ أَوْ صِفَتِهَا، مِنْ قَوْلِهِ: وَيُعْجِبُكَ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ تَقَدَّمَتْ عِلَّتَانِ، وَالثَّانِيَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْأُولَى، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأُولَى لِانْطِوَائِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ وَإِنْ فُسِّرَتِ الْمَحَبَّةُ بِالْإِرَادَةِ، وَقَدْ جَاءَتْ كَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ «1» فَلَا بُدَّ مِنَ التَّخْصِيصِ، أَيْ: لَا يُحِبُّ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ الْفَسَادَ، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ إِذْ ذَاكَ عَلَى مَذْهَبِنَا لِوُقُوعِ الْفَسَادِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لَمَا كَانَ وَاقِعًا. وَقَدْ تَعَلَّقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ، فَمَا وَقَعَ مِنْهُ فَلَيْسَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَفْعُولًا لَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ مُرِيدًا لَهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُرِيدُ قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُ الْفِعْلَ هِيَ إِرَادَتُهُ لَهُ، أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحِبَّ كَوْنَهُ وَلَا يُرِيدَ أَنْ يَكُونَ، بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ. وَفِي هَذَا مَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ. انْتَهَى مَا قَالُوا: وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ دِينًا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَهْلَ الْفَسَادِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى لَا يَرْضَى الْمَعَاصِيَ، وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْمَحَبَّةِ عَنِ الْأَمْرِ أَيْ: لَا يَأْمُرُ بِالْفَسَادِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِفْسَادُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَالَةٍ مَحْمُودَةٍ لَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا هُوَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْحُبَّ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحُبُّ لَهُ عَلَى الْإِرَادَةِ مَزِيَّةُ إِيثَارٍ، فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: إِنَّ الْفَسَادَ الْمُرَادَ تَنْقُصُهُ مَزِيَّةُ الْإِيثَارِ لَصَحَّ ذَلِكَ إِذِ الْحُبُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ لِمَا حَسُنَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا اتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ الشَّيْءَ وَلَا يُحِبُّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَوَّى الْمُعْتَزِلَةُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيِّنٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُرِيدُ بَطِيءَ الْجُرْحِ وَلَا يُحِبُّهُ وَإِذَا بَانَ فِي الْمَعْقُولِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَطَلَ ادِّعَاؤُهُمُ التَّسَاوِيَ بَيْنَهُمَا، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «2» انتهى كلامه.

_ (1) سورة النور: 24/ 19. (2) سورة الزمر: 39/ 7.

وَجَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْحُبِّ وَعَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ غيره، فإنه قد يعرف عَنْهُمَا فَالْمَحَبَّةُ وَمُقَابِلُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَقِيضَانِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ ضِدَّانِ، وَظَاهِرُ الْفَسَادِ يَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ فِي أَرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دِينٍ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَطَاءٌ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ عَلَى مَنْعِ شَقِّ الْإِنْسَانِ ثَوْبَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَسَادُ هُنَا الْخَرَابُ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ تَحْتَمِلُ أَيْضًا هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الصِّلَةِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَحْوِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» و: ما، الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، احْتَوَتْ عَلَيْهِ وَأَحَاطَتْ بِهِ، وَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ لَهَا كَمَا يَأْخُذُ الشَّيْءَ بِالْيَدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِكَ أَخَذْتُهُ بِكَذَا إِذَا حَمَلْتَهُ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمْتَهُ إِيَّاهُ، أَيْ: حَمَلَتْهُ الْعِزَّةُ الَّتِي فِيهِ، وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى الْإِثْمِ الَّذِي يُنْهَى عَنْهُ، وَأَلْزَمَتْهُ ارْتِكَابَهُ، وَأَنْ لَا يُخَلِّيَ عَنْهُ ضَرَرًا وَلَجَاجًا، أَوْ عَلَى رَدِّ قَوْلِ الْوَاعِظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَالْبَاءُ، عَلَى كَلَامِهِ لِلتَّعْدِيَةِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى أَلْزَمَتْهُ الْعِزَّةُ الْإِثْمَ، وَالتَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ بَابُهَا الْفِعْلِ اللَّازِمِ، نَحْوَ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ «2» أَيْ: لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ، وَنَدَرَتِ التَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ فِي الْمُتَعَدِّي، نَحْوَ: صَكِكْتُ الْحَجَرَ بِالْحَجَرِ، أَيْ أَصْكَكْتُ الْحَجَرَ الْحَجَرِ، بِمَعْنَى جَعَلْتُ أَحَدَهُمَا يَصُكُّ الْآخَرَ، وَيَحْتَمِلُ الْبَاءُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ: أَخَذَتْهُ مَصْحُوبًا بِالْإِثْمِ، أَوْ مَصْحُوبَةً بِالْإِثْمِ، فَيَكُونُ لِلْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوِ الْفَاعِلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِثْمَهُ السَّابِقَ كَانَ سَبَبًا لِأَخْذِ الْعِزَّةِ لَهُ، حَتَّى لَا يَقْبَلَ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَتَكُونُ الْبَاءُ هُنَا: كَمِنْ، فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فِعْلَ الضَّجِرْ وَعَلَى أَنْ تَكُونَ: الْبَاءُ، سَبَبِيَّةً فَسَّرَهُ الْحَسَنُ، قَالَ. أَيْ مِنْ أَجْلِ الْإِثْمِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، يَعْنِي الْكُفْرَ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْعِزَّةُ بِالْقُوَّةِ وَبِالْحَمِيَّةِ وَالْمَنَعَةِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّتْمِيمَ، وهو إرداف الكلام

_ (1) سورة البقرة: 2/ 11. (2) سورة البقرة: 2/ 20.

بكلمة يرفع عَنْهُ اللَّبْسَ، وَتُقَرِّبُهُ لِلْفَهْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَذَلِكَ أَنَّ الْعِزَّةَ مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ، فَالْمَحْمُودَةُ طَاعَةُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «2» وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «4» فَلَمَّا قَالَ: بِالْإِثْمِ، اتَّضَحَ الْمَعْنَى وَتَمَّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا الْعِزَّةُ الْمَذْمُومَةُ الْمُؤَثَّمُ صَاحِبُهَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَغْضَبَ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ، أو تقول: أو لمثلي يُقَالُ هَذَا؟ وَقِيلَ لِعُمَرَ: اتَّقِ اللَّهَ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ تَوَاضُعًا، وَقِيلَ: سَجَدَ، وَقَالَ: هَذَا مَقْدِرَتِي. وَتَرَدَّدَ يَهُودِيٌّ إِلَى بَابِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، سَنَةً فَلَمْ يَقْضِ لَهُ حَاجَةً، فَتَحَيَّلَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَنَزَلَ هَارُونُ عَنْ دَابَّتِهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا، وَقَضَى حَاجَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: تَذَكَّرْتُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أَيْ: كَافِيهِ جَزَاءً وَإِذْلَالًا جَهَنَّمُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جَهَنَّمَ فاعل: بحسبه، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ اسْمَ فِعْلٍ، إِمَّا بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، أَيْ: كَفَاهُ جَهَنَّمُ، أَوْ: بِمَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ، وَدُخُولُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالُهُ صِفَةً، وَجَرَيَانُ حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ عَلَيْهِ يُبْطِلُ كَوْنَهُ اسْمَ فِعْلٍ، وَقُوبِلَ عَلَى اعْتِزَازِهِ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْغَايَةُ فِي الذُّلِّ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: اتَّقِ اللَّهَ، حَلَّ بِهِ مَا أُمِرَ أَنْ يَتَّقِيَهُ، وَهُوَ: عَذَابُ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ، اسْتِعْظَامٌ لِمَا حَلَّ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كَفَاكَ مَا حَلَّ بِكَ! إِذَا اسْتَعْظَمْتَ وَعَظَّمْتَ عَلَيْهِ مَا حَلَّ بِهِ. وَلَبِئْسَ الْمِهادُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي: بِئْسَ، وَالْخِلَافُ فِي تَرْكِيبِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، لَكِنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ: بِئْسَ وَنِعْمَ، فِعْلَانِ جَامِدَانِ، وَأَنَّ الْمَرْفُوعَ بَعْدَهُمَا فَاعِلٌ بِهِمَا، وَأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ، إِنْ تَقَدَّمَ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَكَذَلِكَ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَحُذِفَ هُنَا الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِلْعِلْمِ بِهِ إِذْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. أَوْ: هِيَ، وَبِهَذَا الْحَذْفِ يَبْطُلُ مَذْهَبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ أَوْ بِالذَّمِّ إِذَا تَأَخَّرَ كَانَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ حَذْفِهِ حَذْفُ الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا تَبْقَى جُمْلَةٌ مُفَلَّتَةٌ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ قَبْلَهَا، إِذْ لَيْسَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، ولا هي اعتراضية

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 38. (2) سورة المائدة: 5/ 54. (3) سورة المنافقون: 63/ 8. (4) سورة النساء: 4/ 139.

وَلَا تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأَنَّهُمَا مُسْتَغْنًى عَنْهُمَا وَهَذِهِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، فَصَارَتْ مُرْتَبِطَةً غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَإِذَا جَعَلْنَا الْمَحْذُوفَ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ. كَانَ فِيمَا قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَحَالِهِ إِذَا تَقَدَّمَ، وَأَنْتَ لَا تَرَى فَرْقًا بَيْنَ قَوْلِكَ: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَنِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، كَمَا لَا تَجِدُ فَرْقًا بَيْنَ: زَيْدٌ قَامَ أَبُوهُ، وَبَيْنَ: قام أبوه زَيْدٍ، وَحَسَّنَ حَذْفَ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ هُنَا كَوْنُ الْمِهَادِ وَقَعَ فَاصِلَةً، وَكَثِيرًا مَا حُذِفَ فِي الْقُرْآنِ لِهَذَا الْمَعْنَى نَحْوَ قَوْلِهِ: فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ «1» وفَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ «2» وَجَعَلَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِهَادًا عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِمْ، إِذِ الْمِهَادُ: هُوَ مَا يَسْتَرِيحُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيُوَطَّأُ لَهُ لِلنَّوْمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ أَيِ: الْقَائِمُ مَقَامَ التَّحِيَّةِ هُوَ الضَّرْبُ الْوَجِيعُ، وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمِهَادِ لَهُمْ هُوَ الْمُسْتَقَرُّ فِي النَّارِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قِيلَ الْمُرَادُ: بِمَنْ، غير معنى، بَلْ هِيَ فِي كُلِّ مَنْ بَاعَ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جِهَادٍ، أَوْ صَبْرٍ عَلَى دِينٍ، أَوْ كَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ جَائِرٍ، أَوْ حَمِيَّةٍ لِلَّهِ، أَوْ ذَبَّ عَنْ شَرْعِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا. وَقِيلَ: هِيَ فِي مُعَيَّنٍ، فَقِيلَ فِي: الزُّبَيْرِ وَالْمِقْدَادِ بَعَثَهُمَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِيَحُطَّا خُبَيْبًا مِنْ خَشَبَتِهِ، وَقِيلَ: فِي صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَلَحِقَتْهُ قُرَيْشٌ، فنشل كِنَانَتَهُ، وَكَانَ جَيِّدَ الرَّمْيِ شَدِيدَ الْبَأْسِ مَحْذُورَهُ، وَقَالُوا: لا نترك حَتَّى تَدُلَّنَا عَلَى مَالِكَ، فَدَلَّهُمْ عَلَى مَوْضِعِهِ، فَرَجَعُوا عَنْهُ، وَقِيلَ: عُذِّبَ لِيَتْرُكَ دِينَهُ فَافْتَدَى مِنْ مَالِهِ وَخَرَجَ مُهَاجِرًا، وَقِيلَ: فِي عَلِيٍّ حِينَ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ لِقَضَاءِ دُيُونِهِ وَرَدِّ الْوَدَائِعِ، وَأَمَرَهُ بِمَبِيتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلَةَ خَرَجَ مُهَاجِرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِ يَلْقَى الْكَافِرَ فَيَقُولُ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يَقُولُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَشْرِيَنَّ، فَيُقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقِيلَ: فِي صُهَيْبٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ قَدْ أَخَذَهُ أَهْلُهُ فَانْقَلَبَ، فَخَرَجَ مُهَاجِرًا. وَقِيلَ: فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ غَيْرَ هَذَا، وَقَصَصًا طَوِيلًا فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ قِيلَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ.

_ (1) سورة الحج: 22/ 78. (2) سورة النحل: 16/ 29. [.....]

وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ وَكَانَ عَامًّا فِي الْمُنَافِقِ الَّذِي يُبْدِي خِلَافَ مَا أَضْمَرَ، نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ قَسِيمَهُ عَامًّا مَنْ: يَبْذُلُ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَيِّ صَعْبٍ كَانَ، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ مُدَارٍ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ، وَحَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ، وَهَذَا بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَلِمَرْضَاتِهِ. وَتَنْدَرِجُ تِلْكَ الْأَقَاوِيلُ الَّتِي فِي الْآيَتَيْنِ تَحْتَ عُمُومِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ عَيَّنَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ ضَرْبِ الْمِثَالَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَاصًّا، وَالْمُرَادُ عُمُومُ اللَّفْظِ، وَلَمَّا طَالَ الْفَصْلُ هُنَا بَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْقِسْمِ الثَّانِي، أَتَى فِي التَّقْسِيمِ الثَّانِي بِإِظْهَارِ الْمُقَسَّمِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَمَّا قَرُبَ ذِكْرُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ مِنَ القسم، أَضْمَرَ فِي الثَّانِي الْمُقَسَّمِ. وَمَعْنَى يَشْرِي: يَبِيعُ، وَهُوَ سَائِغٌ فِي اللِّسَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ «1» قَالَ الشَّاعِرُ: وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَّهْ وَيَشْرِي: عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ، وَمِنْهُ تُسَمَّى الشُّرَاةُ، وَكَأَنَّهُمْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: شَرَى، بِمَعْنَى: اشْتَرَى، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي صُهَيْبٍ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيهِ حَيْثُ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِمَالِهِ وَلَمْ يَبِعْهَا. وَانْتِصَابُ: ابْتِغَاءَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى بَيْعِ أَنْفُسِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ طَلَبُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُسْتَوْفٍ لِشُرُوطِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا مُتَّحِدَ الْفَاعِلِ وَالْوَقْتِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ، أَعْنِي: إِضَافَةَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، هِيَ مَحْضَةٌ، خِلَافًا لِلْجَرْمِيِّ، وَالرِّيَاشِيِّ، وَالْمُبَرِّدِ، وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا إِضَافَةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. ومرضاة: مَصْدَرٌ بُنِيَ عَلَى التَّاءِ: كَمَدْعَاةٍ، وَالْقِيَاسُ تَجْرِيدُهُ عَنْهَا، كَمَا تَقُولُ: مَرْمًى وَمَغْزًى، وأمال الكسائي: مرضات، وَعَنْ وَرْشٍ خِلَافٌ فِي إمالة: مرضات، وقرأنا له

_ (1) سورة يوسف: 12/ 20.

بِالْوَجْهَيْنِ، وَوَقَفَ حَمْزَةُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَوَقَفَ الْبَاقُونَ بِالْهَاءِ. فَأَمَّا وَقْفُ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقِفُ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى: طَلْحَةَ، وَحَمْزَةَ، بِالتَّاءِ، كَالْوَصْلِ، وَهُوَ كَانَ الْقِيَاسَ دُونَ الْإِبْدَالِ. قَالَ: دَارٌ لِسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الْحَجَفَتْ وَقَدْ حَكَى هَذِهِ اللُّغَةَ سِيبَوَيْهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ عَلَى نِيَّةِ الْإِضَافَةِ، كَأَنَّهُ نَوَى تَقْدِيرَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ أَنَّ الْكَلِمَةَ مُضَافَةٌ، وَأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مُرَادٌ: كَإِشْمَامِ مَنْ أَشَمَّ الْحَرْفَ الْمَضْمُومَ فِي الْوَقْفِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الضَّمَّةَ مُرَادَةٌ، وَفِي قوله: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ أَفْضَلِ مَا عِنْدَ اللَّهِ لِلشُّهَدَاءِ، وَهُوَ رِضَاهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فِي مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ تَعَالَى، حِينَ يَسْأَلُهُمْ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا كَيْفَ لَا نَرْضَى وَقَدْ أَدْخَلْتَنَا جَنَّتَكَ وَبَاعَدْتَنَا مِنْ نَارِكَ؟ فَيَقُولُ: وَلَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فيقولون: يَا رَبَّنَا، وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضَائِي فَلَا أَسْخَطُ عليكم بعده. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ حَيْثُ كَلَّفَهُمْ بِالْجِهَادِ فَعَرَّضَهُمْ لِثَوَابِ الشُّهَدَاءِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عطية: تَرْجِئَةٌ تَقْتَضِي الْحَضَّ عَلَى امْتِثَالِ مَا وَقَعَ بِهِ الْمَدْحُ فِي الْآيَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ تَخْوِيفٌ يَقْتَضِي التَّحْذِيرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الذَّمُّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرَّأْفَةَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَالْعِبَادُ إِنْ كَانَ عَامًّا، فَرَأْفَتُهُ بِالْكَافِرِينَ إِمْهَالُهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، وَتَيْسِيرِ أَرْزَاقِهِمْ لَهُمْ، وَرَأْفَتُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ تَهْيِئَتُهُ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ، وَرَفْعُ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَإِنْ كَانَ خَاصًّا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَتَمَ الْآيَةَ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ، خَتَمَ هَذِهِ بِالْوَعْدِ الْمُبَشِّرِ لَهُمْ بِحُسْنِ الثَّوَابِ، وَجَزِيلِ الْمَآبِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالرَّأْفَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِذَلِكَ، فَصَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ رَأْفَتَهُ بِهِمْ تَسْتَدْعِي جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَلَوْ ذَكَرَ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الْإِحْسَانِ لَمْ يُفِدْ مَا أَفَادَهُ لَفْظُ الرَّأْفَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْكِنَايَةُ أَبْلَغَ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ فِي لَفْظِ: الْعِبَادِ، الْتِفَاتًا، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرٍ غَائِبٍ

مُفْرَدٍ إِلَى اسْمٍ ظَاهِرٍ، فَلَوْ جَرَى عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ السَّابِقِ لَكَانَ: وَاللَّهُ رؤوف بِهِ أَوْ بِهِمْ، وَحَسَّنَ الِالْتِفَاتَ هُنَا بِهَذَا الِاسْمِ الظَّاهِرِ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ: الْعِبَادِ، لَهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ تَشْرِيفٌ وَاخْتِصَاصٌ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «2» ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «3» بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «4» . وَالثَّانِي: مَجِيءُ اللفظة فاضلة، لِأَنَّ قَبْلَهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فَنَاسَبَ: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ: التَّقْسِيمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مُنَاسَبَةَ هَذَا التَّقْسِيمَ لِلتَّقْسِيمِ السَّابِقِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي هَذِهِ الْآيَاتِ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ، وَهُوَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْمَلَكَةِ فِي ضُرُوبٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ مُتَقَدِّمٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَقَوْلَهُ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَقَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ وَعَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي فَيَصِيرُ الْكَلَامُ مَعْطُوفًا عَلَى الذِّكْرِ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَيَصِيرُ التَّقْسِيمُ مَعْطُوفًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ التَّقْسِيمَ الْأَوَّلَ فِي مَعْنَى الثَّانِي، فَيَتَّحِدُ الْمَعْنَى وَيَتَّسِقُ اللَّفْظُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَقِصَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فِي الْآيَتَيْنِ، قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يَعْنِي: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَلَا يُذْهَبُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ عِنْدَنَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ، وَتَنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ، كَانُوا يتقون السبت، ولحم الحمل، وَأَشْيَاءَ تَتَّقِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ: فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ

_ (1) سورة الحجر: 15/ 42. (2) سورة الإسراء: 17/ 1. (3) سورة فاطر: 35/ 32. (4) سورة الأنبياء: 21/ 26.

الضَّحَّاكُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ فِي الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: فِي الْمُنَافِقِينَ، وَاحْتُجَّ لِهَذَا بِوُرُودِهَا عُقَيْبَ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ اخْتَلَفَتْ أَقَاوِيلُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ فِي السِّلْمِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ «1» وَفِي الْقِتَالِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «2» . وَاخْتُلِفَ فِي السَّلْمِ هُنَا، فَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ: قَدْ يُسَمَّى: سِلْمًا بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَدْ يُرْوَى فِيهِ الْفَتْحُ، كَمَا رُوِيَ فِي السَّلْمِ الَّذِي هُوَ الصُّلْحُ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ، إِلَّا أَنَّ الْفَتْحَ فِي السَّلْمِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ قَلِيلٌ، وَجَوَّزَ أبو علي الفارسي أن يَكُونَ السَّلْمُ هُنَا هُوَ الَّذِي بِمَعْنَى الصُّلْحِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ صُلْحٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِتَالَ بَيْنَ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ؟ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِابْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَدْ أُمِرُوا بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ لَا يَبْقَوْا عَلَى شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي لَا تُوَافِقُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ، فَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنْبِيَائِهِمُ ادْخُلُوا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مَنْ سَبَقَ لَهُ الْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُمَا دَالَّانِ عَلَى صِدْقِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، ادْخُلُوا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْمَعْنَى: يَا مَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ، وَصَدَّقَ، ادْخُلْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَاجْمَعْ إِلَى الْإِيمَانِ الْإِسْلَامَ. وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ، فَالْمَعْنَى: يَا مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، ادْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بِالْقَلْبِ حَتَّى يُطَابِقَ الْقَوْلُ الِاعْتِقَادَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أُمِرُوا بِامْتِثَالِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بِالِانْقِيَادِ، وَالرِّضَى وَعَدَمِ الِاضْطِرَارِ، أَوْ بِتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَأُمِرُوا كُلُّهُمْ بِالِائْتِلَافِ وَتَرْكِ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِقَوْلِهِ كَافَّةً وَانْتِصَابُ كَافَّةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: ادْخُلُوا، وَالْمَعْنَى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ جَمِيعًا، وَهِيَ حَالٌ تُؤَكِّدُ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَتُفِيدُ مَعْنَى: كُلٍّ، فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ النَّاسُ كَافَّةً، فَالْمَعْنَى قَامُوا كُلُّهُمْ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ السِّلْمِ، أَيْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، أُمِرُوا بِأَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي طَاعَةٍ دُونَ طَاعَةٍ.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 61. (2) سورة محمد: 47/ 35.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: كَافَّةً، حَالًا مِنْ السِّلْمِ، لِأَنَّهَا تُؤَنَّثُ كَمَا تُؤَنَّثُ الْحَرْبُ، قَالَ الشَّاعِرُ: السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِرُوا بِأَنْ يَدْخُلُوا فِي الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، وَأَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي طَاعَةٍ دُونَ طَاعَةٍ، أَوْ فِي شُعَبِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ كُلِّهَا، وَأَنْ لَا يُخِلُّوا بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أن يُقِيمَ عَلَى السَّبْتِ، وَأَنْ يَقْرَأَ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي صَلَاتِهِ مِنَ اللَّيْلِ. وَ: كَافَّةً، مِنَ الْكَفِّ، كَأَنَّهُمْ كُفُّوا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِاجْتِمَاعِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَتَعْلِيلُهُ جَوَازَ أَنْ يَكُونَ: كَافَّةً، حَالًا مِنَ السِّلْمِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا تُؤَنَّثُ كَمَا تُؤَنَّثُ الْحَرْبُ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ التَّاءَ فِي: كَافَّةً، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا لِلتَّأْنِيثِ، لَيْسَتْ فِيهَا إِذَا كَانَتْ حَالًا لِلتَّأْنِيثِ، بَلْ صَارَ هَذَا نَقْلًا مَحْضًا إِلَى مَعْنَى: جَمِيعٍ وَكُلٍّ، كَمَا صَارَ: قَاطِبَةً، وَعَامَّةً، إِذَا كَانَ حَالًا نَقْلًا مَحْضًا إِلَى مَعْنَى: كُلٍّ وَجَمِيعٍ. فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ النَّاسُ كَافَّةً، أَوْ قَاطِبَةً، أَوْ عَامَّةً، فَلَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى التَّأْنِيثِ، كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: كُلٌّ، وَلَا جَمِيعٌ. وَتَوْكِيدُهُ بِقَوْلِهِ: وَفِي شُعَبِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ كُلِّهَا، هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ: بِأَنْ يَدْخُلُوا فِي الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، فَلَا حَاجَةَ إلى هذا الترديد بأو. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: أَمَرَهُمْ بِالثُّبُوتِ فِيهِ، وَالزِّيَادَةِ مِنِ الْتِزَامِ حُدُودِهِ. وَتَسْتَغْرِقُ: كَافَّةً، حِينَئِذٍ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمِيعَ أَجْزَاءِ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ الْحَالُ مِنْ شَيْئَيْنِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ «1» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ ذكره: وكافة، مَعْنَاهُ: جَمِيعًا. وَالْمُرَادُ بِالْكَافَّةِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَكُفُّ مُخَالِفِيهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ الْحَالُ مِنْ شَيْئَيْنِ، يَعْنِي: مِنَ الْفَاعِلِ فِي ادْخُلُوا، وَمِنَ السِّلْمِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، يَعْنِي: مَجِيءَ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ مِنْ شَيْئَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ في النحو.

_ (1) سورة مريم: 19/ 27.

وَقَوْلُهُ: نَحْوَ قَوْلِهِ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ «1» يَعْنِي أَنَّ تَحْمِلُهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي أَتَتْ، وَمِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، هَذَا الْمِثَالُ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْحَالِ مِنْ شَيْئَيْنِ، لِأَنَّ لَفْظَ: تَحْمِلُهُ، لَا يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ، وَلَا يَقَعُ الْحَالُ مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا، وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ بِجَعْلِ ذَوِي الْحَالِ مُبْتَدَأَيْنِ، وَالْإِخْبَارِ بِتِلْكَ الْحَالِ عَنْهُمَا، فَمَتَى صَحَّ ذَلِكَ صَحَّتِ الْحَالُ، وَمَتَى امْتَنَعَ امْتَنَعَتْ. مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَعُلِّقْتُ سَلْمَى وَهِيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ ... وَلَمْ يَبْدُ لِلْأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ صَغِيرَيْنِ نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم فَصَغِيرَيْنِ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عُلِّقْتُ، وَمِنْ سَلْمَى، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَقُولَ أَنَا وَسَلْمَى صَغِيرَانِ نَرْعَى الْبَهْمَ، وَمِثْلُهُ: خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا فَنَمْشِي حَالٌ مِنَ التَّاءِ فِي: خَرَجْتُ، وَمِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهَا، وَيَصْلُحُ أَنْ تَقُولَ: أَنَا وَهِيَ نَمْشِي، وَهُنَا لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ تَحْمِلُهُ خَبَرًا عَنْهُمَا، لَوْ قُلْتَ: هِيَ وَهُوَ تَحْمِلُهُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ تَحْمِلُهُ خَبَرًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: هِنْدٌ وَزَيْدٌ تُكْرِمُهُ، لِأَنَّ تَحْمِلُهُ وَتُكْرِمُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ إِلَّا بِمُفْرَدٍ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ذَوِي حَالٍ، وَلِذَلِكَ أَعْرَبَ الْمُعْرِبُونَ فِي: خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا نَمْشِي: حَالًا مِنْهُمَا، وَتَجُرُّ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: أَنَا وَهِيَ تَجُرُّ وَرَاءَنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَجُرُّ خَبَرًا عَنْهَا، لِأَنَّ تَجُرُّ وَتَحْمِلُ إِنَّمَا يَتَقَدَّرَانِ بِمُفْرَدٍ، أَيْ حَامِلَةً وَجَارَّةً، وَإِذَا صَرَّحْتَ بِهَذَا الْمُفْرَدِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًا منهما. وكَافَّةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى: جَمِيعٍ، يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي: ادْخُلُوا، وَمِنَ السِّلْمِ، بِمَعْنَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعٌ فِي كَذَا، صَحَّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا. لَا يُقَالُ كَافَّةً لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لَا تَقُولُ: الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةٌ، فِي كَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ حَالًا عَلَى مَا قَرَّرْتَ، لِأَنَّ امْتِنَاعَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مَادَّةِ: كَافَّةً، إذ لم

_ (1) سورة مريم: 19/ 27.

يُتَصَرَّفْ فِيهَا، بَلِ الْتُزِمَ نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ، لَكِنَّ مُرَادِفَهَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْكَافَّةِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي يُكَفُّ مُخَالِفُهَا، يَعْنِي: أَنَّ هَذَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، ثُمَّ صَارَ الِاسْتِعْمَالُ لَهَا لِمَعْنَى: جَمِيعًا، كَمَا قال هو وغيره، وكافة: مَعْنَاهُ جَمِيعًا. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً «1» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ (الْكِتَابِ الْمُوَضَّحِ) أَبُو عَبْدِ الله نصر بن علي بْنِ مُحَمَّدٍ: عُرِفَ بِابْنِ مَرْيَمَ، أَنَّ ضَمَّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، نحو: عرفة وعرفات، هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ فِيمَنْ سَكَّنَ الطَّاءَ: إِنَّهُمْ لَمَّا جَمَعُوا نَوَوُا الضَّمَّةَ فِي الطَّاءِ، ثُمَّ أَسْكَنُوهَا اسْتِخْفَافًا، وَهُوَ فِي تَقْدِيرِ الثَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمَّةَ فِي حُكْمِ الثَّابِتِ، أَنَّ هَذِهِ حَرَكَةٌ يُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، كَمَا هِيَ فِي جَمْعِ: فَعْلَةٍ، الْمَفْتُوحَةِ الْفَاءِ، فَلَا تُحْذَفُ عَيْنُ الِاسْمِ حَذْفًا، إِذْ هِيَ فَارِقَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ، فَهِيَ مَنْوِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فِي الصِّفَةِ لَا يُنْقَلُ، فَإِذَا جَمَعْنَا: حُلْوَةً وَضُحْكَةً، الْمُرَادُ بِهِ صِفَةُ الْمُؤَنَّثِ، فَلَا تَقُولُ: حُلُوَاتٍ، وَلَا ضُحُكَاتٍ، بِضَمِّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ: فُعْلَةٍ، الصِّفَةِ نَحْوَ: جُلْفَةٍ، لَا يُقَالُ فِيهِ جُلُفَاتٍ. فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أَيْ: عَصَيْتُمْ أَوْ كَفَرْتُمْ، أَوْ أَخْطَأْتُمْ، أَوْ ضَلَلْتُمْ، أَقْوَالٌ ثَانِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ، أَيِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَأَصْلُ الزَّلَلِ لِلْقَدَمِ، يُقَالُ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، كَمَا قَالَ. وَلَا شَامِتٍ إِنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ وَالِاعْتِقَادِ، وَهُوَ الزَّلَقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَفْسِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «2» . وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ: فَإِنْ زَلِلْتُمْ، بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: كَضَلَلْتُ وَضَلِلْتُ. وَالْبَيِّنَاتُ: حُجَجُ اللَّهِ وَدَلَائِلُهُ، أَوْ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ «3» وَجُمِعَ تَعْظِيمًا لَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ، فَهُوَ كَثِيرٌ بِالْمَعْنَى: أو القرآن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 168. (2) سورة البقرة: 2/ 36. (3) سورة البينة: 98/ 1.

قاله ابن جريج، أو التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ قَالَ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ «1» وَقَالَ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ «2» وَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن الْمُخَاطَبَ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوِ الْإِسْلَامُ، أَوْ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الْمُعْجِزَاتِ، أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) الْبَيِّنَاتُ: تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عُذْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَزُولُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْبَيِّنَاتِ، لَا حُصُولِ التَّبْيِينِ مِنَ التَّكْلِيفِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يُخْبَرُ عَنْهَا بِالْمَجِيءِ لِأَنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي الْعُقُولِ، فَلَا يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْمَجِيءُ إِلَّا مَجَازًا، وَفِيهِ بُعْدٌ. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ: دُومُوا عَلَى الْعِلْمِ، إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فَهُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَفِي وَصْفِهِ هُنَا بِالْعِزَّةِ الَّتِي هِيَ تَتَضَمَّنُ الْغَلَبَةَ وَالْقُدْرَةَ اللَّتَيْنِ يَحْصُلُ بِهِمَا الِانْتِقَامُ، وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وَزَلَّ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ، وَفِي وَصْفِهِ بِالْحِكْمَةِ دَلَالَةٌ عَلَى إِتْقَانِ أَفْعَالِهِ: وَأَنَّ مَا يُرَتِّبُهُ مِنَ الزَّوَاجِرِ لِمَنْ خَالَفَ هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ قَارِئًا قَرَأَ، غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَسَمِعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْكَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ فَلَا يَقُولُ كَذَا الْحَكِيمُ، لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ نَحْوُ هَذَا، وَأَنَّ الَّذِي كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ أَقْرَأَهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَأَنْكَرَهُ حَتَّى سَمِعَ: عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَقَالَ: هَكَذَا يَنْبَغِي!. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ؟ هَلْ: هُنَا لِلنَّفْيِ، الْمَعْنَى: مَا يَنْظُرُونَ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا، وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذ جَاءَ بَعْدَهَا: إِلَّا، كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ العرب، قال تعالى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «3» هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ «4» وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ وَ: يَنْظُرُونَ، هُنَا مَعْنَاهُ: يَنْتَظِرُونَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَظَرْتُ فُلَانًا أَنْتَظِرُهُ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِحَرْفِ جَرٍّ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعي لدى أم جندب

_ (1) سورة البقرة: 2/ 92. (2) سورة البقرة: 2/ 87. [.....] (3) سورة سبأ: 34/ 17. (4) سورة الأنعام: 6/ 47.

وَمَفْعُولُ: يَنْظُرُونَ، هُوَ مَا بَعْدَ إِلَّا، أَيْ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا إِتْيَانَ اللَّهِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، قِيلَ: وَيَنْظُرُونَ هُنَا لَيْسَتْ مِنَ النَّظَرِ الَّذِي هُوَ تَرَدُّدُ الْعَيْنِ فِي الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، لأنه لو كان من النَّظَرِ لَعُدِّيَ بِإِلَى، وَكَانَ مُضَافًا إِلَى الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الِانْتِظَارِ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هُوَ مِنَ النَّظَرِ، وَهُوَ تَرَدُّدُ الْعَيْنِ. وَهُوَ مُعَدًّى بِإِلَى، لَكِنَّهَا مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ؟ وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنْ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ، وَلَا لَبْسَ هُنَا، فَحُذِفَتْ: إِلَى، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ مُضَافًا إِلَى الْوَجْهِ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» فَكَذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، قَدْ نُسِبَ النَّظَرُ إِلَى الذَّوَاتِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ «2» أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «3» وَالضَّمِيرُ فِي: يَنْظُرُونَ، عَائِدٌ عَلَى الذَّالِّينَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَالْإِتْيَانُ: حَقِيقَةٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ حَيِّزٍ إِلَى حَيِّزٍ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ، وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ يُؤْمِنُونَ، وَيَكِلُونَ فَهْمَ مَعْنَاهُ إِلَى عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُتَأَخِّرُونَ تَأَوَّلُوا الْإِتْيَانَ وَإِسْنَادَهُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِتْيَانٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ عبر به عن المجازات لَهُمْ، وَالِانْتِقَامِ، كَمَا قَالَ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ «4» فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «5» . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُ الْإِتْيَانِ مَحْذُوفًا، أَيْ: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: أَمْرُ اللَّهِ، بِمَعْنَى: مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ، لَا الْأَمْرُ الَّذِي مُقَابِلُهُ النَّهْيُ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ. الْخَامِسُ: قُدْرَتُهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَدَ. السَّادِسُ: أَنَّ فِي ظُلَلٍ، بِمَعْنَى بِظُلَلٍ، فَيَكُونُ: فِي، بِمَعْنَى: الْبَاءِ، كما قال.

_ (1) سورة القيامة: 75/ 22. (2) سورة الغاشية: 88/ 17. (3) سورة الأعراف: 7/ 143. (4) سورة النحل: 16/ 26. (5) سورة الحشر: 59/ 2.

خَبِيرُونَ فِي طَعْنِ الْأَبَاهِرِ وَالْكُلَى أَيْ: بِطَعْنِ، لِأَنَّ خَبِيرًا لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِالْبَاءِ، كَمَا قَالَ. خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَمْرُ اللَّهِ، إِذْ قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ «1» وَتَكُونُ عِبَارَةً عَنْ بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مَجِيءَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ: آيَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ آيَاتِهِ مَجِيئًا لَهُ عَلَى التَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا، قَالَهُ فِي (الْمُنْتَخَبِ) . وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِيَهُمْ بِمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى الْغَمَامِ عَلَى عَرْشِهِ تَحْمِلُهُ ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ مَعَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مع اليهود قول بَعْدُ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، فَالْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّ قَوْمًا يَنْتَظِرُونَ إِتْيَانَ اللَّهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ وَلَا مُبْطِلُونَ. فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ «2» وَيَسْتَحِيلُ عَلَى الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ أَنْ تَحُلَّ فِي ظُلَّةٍ، وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحُصُولِهَا وَشِدَّتِهَا، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَشَدُّ عَلَى الْمُذْنِبِينَ، وَأَهْوَلُ، مِنْ وَقْتِ جَمْعِهِمْ وَحُضُورِ أَمْهَرِ الْحُكَّامِ وَأَكْثَرِهِمْ هَيْبَةً لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، وَإِذَا فُسِّرَ بِأَنَّ عذاب الله يأتيهم فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الشَّرُّ مِنْ جِهَةِ الْخَيْرِ، لِقَوْلِهِ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ «3» وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ عَلَامَةٌ لِأَشَدِّ الْأَهْوَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ «4» وَلِأَنَّ الْغَمَامَ يُنْزِلُ قَطَرَاتٍ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ، فَكَذَلِكَ الْعَذَابُ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذَابَ لَا يَأْتِي فِي الظُّلَلِ، بَلِ الْمَعْنَى تَشْبِيهُ الْأَهْوَالِ بِالظُّلَلِ مِنَ الْغَمَامِ، كَمَا قَالَ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ «5» فَالْمَعْنَى أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ يَأْتِيهِمْ فِي أَهْوَالٍ عَظِيمَةٍ، كظلل الغمام.

_ (1) سورة النحل: 16/ 33. (2) سورة البقرة: 2/ 57. (3) سورة الأحقاف: 46/ 24. (4) سورة الفرقان: 25/ 25. (5) سورة لقمان: 31/ 32.

وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّوَعُّدِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ تَوَعُّدٌ بِمَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ تَوَعُّدٌ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: فِي ظِلَالٍ، وَكَذَلِكَ رَوَى هَارُونُ بْنُ حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، هُنَا وَفِي الْحَرْفَيْنِ فِي الزُّمَرِ، وَهِيَ: جُمَعُ ظُلَّةٍ، نَحْوَ: قُلَّةٍ وَقِلَالٍ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا يَنْقَاسُ، بِخِلَافِ: ظُلَلٍ، فَإِنَّهُ جَمْعٌ مُنْقَاسٌ، أَوْ جَمْعُ: ظُلٍّ نَحْوَ ضُلٍّ وَضُلَّالٍ. وَ: في ظلل، متعلق بيأتيهم، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَ: مِنَ الْغَمَامِ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِظُلَلٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بيأتيهم، أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَمَامِ، فَتَكُونُ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: وَالْمَلَائِكَةِ، بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى: فِي ظُلَلٍ، أَوْ عَطْفًا عَلَى الْغَمَامِ، فَيَخْتَلِفُ تَقْدِيرُ حَرْفِ الْجَرِّ، إِذْ عَلَى الْأَوَّلِ التَّقْدِيرُ: وَفِي الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى الثَّانِي التَّقْدِيرُ: وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى: اللَّهُ، وَقِيلَ: فِي هَذَا الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، فالإتيان في الظل مُضَافٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ، فَالْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الإتيان فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ عبد الله، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ. وَقُضِيَ الْأَمْرُ مَعْنَاهُ: وَقَعَ الْجَزَاءُ وَعُذِّبَ أَهْلُ الْعِصْيَانِ، وَقِيلَ: أُتِمَّ أَمَرُ هَلَاكِهِمْ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَقِيلَ: فُرِغَ مِنْ وَقْتِ الِانْتِظَارِ وَجَاءَ وَقْتُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَقِيلَ: فُرِغَ لَهُمْ مِمَّا يُوعَدُونَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَوَجَبَ الْعَذَابُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقُضِيَ الْأَمْرُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَأْتِيَهُمْ، فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ كَالْمَفْرُوغِ مِنْهُ الَّذِي وَقَعَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُقْضَى الْأَمْرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فُرِغَ مِنْ أَمْرِهِمْ بِمَا سَبَقَ فِي الْقَدَرِ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ مَا يُنْتَظَرُ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: وَقَضَاءُ الْأَمْرِ، قَالَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَرْفُوعِ عَطْفًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْمَدِّ وَالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: وَيَكُونُ: فِي، عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: بِظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَبِالْمَلَائِكَةِ، وَبِقَضَاءِ الْأَمْرِ.

وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ مَعْمَرٍ: وَقُضِيَ الْأُمُورُ، بِالْجَمْعِ، وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُبْرِزَ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْفَاعِلِ لَتَكَرَّرَ الِاسْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: تَرْجِعُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَيَعْقُوبُ: بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الْجِيمِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّ: رَجَعَ، لَازِمٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ، وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ: يُرْجَعُ بِالْيَاءِ. وَفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى أَنْ رَجَعَ مُتَعَدٍّ. وَكِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ لَهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْمُتَعَدِّي أَرْجَعَ رُبَاعِيًّا، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَلِكَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. وَصُرِّحَ بِاسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ أَفْخَمُ وَأَعْظَمُ وَأَوْضَحُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَلِأَنَّهُ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْمُنْتَظَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ إِلَيْهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ كُلُّهَا. لَا إِلَى غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بالمجازاة، ولرفع إبهام مَا كَانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ الدُّنْيَا مِنْ دَفْعِ أُمُورِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، فَأَعْلَمَ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْهَا شَيْءٌ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، أَوْ لِإِعْلَامِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَلَّكَهُمْ بَعْضَهَا فِي الدُّنْيَا، فَصَارَتْ إِلَيْهِ كُلُّهَا فِي الْآخِرَةِ. وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ، إِمَّا اللَّهُ تَعَالَى، يُرْجِعُهَا إِلَى نَفْسِهِ بِإِفْنَاءِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ، أَوْ ذَوُو الْأُمُورِ، لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُهُمْ وَصَفَاتُهُمْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مُحَاسَبُونَ مَجْزِيُّونَ، كَانُوا رَادِّينَ أُمُورَهُمْ إِلَى خَالِقِهَا، قِيلَ: أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: إِلَى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْهَبُ بِهِ. انْتَهَى. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ يُبْنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ وَلَا يَكُونُ ثَمَّ فَاعِلٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، إِذْ لَا بُدَّ لِلْفِعْلِ مِنْ تَصَوُّرِ فَاعِلٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لِلذَّهَابِ أَحَدًا، وَلَا الْفَاعِلُ لِلْإِعْجَابِ، بَلِ الْفَاعِلُ غَيْرُهُ، فَالَّذِي أَعْجَبَهُ بِنَفْسِهِ هُوَ رَأْيُهُ، وَاعْتِقَادُهُ بِجَمَالِ نَفْسِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَعْجَبَهُ رَأْيُهُ، وَذَهَبَ بِهِ رَأْيُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْجَبَهُ رَأْيُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ رَأْيُكَ أَوْ عَقْلُكَ؟ ثُمَّ حُذِفَ الْفَاعِلُ، وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ. قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قِسْمَانِ مِنْ أَقْسَامِ عِلْمِ الْبَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ فَإِنَّ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ يَنْدَرِجُ فِي

ضِمْنِهَا جَمِيعُ أَحْوَالِ الْعِبَادِ مُنْذُ خُلِقُوا إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَمِنْ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ. وَالثَّانِي: الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ فَاخْتُصَّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لِانْفِرَادِهِ فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ وَالْحُكْمِ وَالْمُلْكِ. انْتَهَى. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَصَلُوا إِلَى مَا قُضِيَ لَهُمْ فِي الْأَزَلِ مِنْ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَقَالَ جَعْفَرٌ: كُشِفَ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَنَهْيِهِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: انْهَتَكَ سِتْرُ الْغَيْبِ عَنْ صَرِيحِ التَّقْدِيرِ. سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْأَلْ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: اسَلْ، وَأَصْلُهُ اسْأَلْ، فَنَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى السِّينِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ عَيْنٌ، وَلَمْ تُحْذَفْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِحَرَكَةِ السِّينِ لِعُرُوضِهَا، كَمَا قَالُوا: الَحْمَرَ فِي الْأَحْمَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَلْ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ اسْأَلْ، فَلَمَّا نَقَلَ وَحَذَفَ اعْتَدَّ بِالْحَرَكَةِ، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ لِتَحَرُّكِ مَا بَعْدَهَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَجْعَلُ الْمَادَّةَ مِنْ: سِينٍ، وَوَاوٍ، وَلَامٍ، فَيَقُولُ: سَأَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ: سَلْ، كَمَا قَالَ: خَفْ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى هَمْزَةِ وَصْلٍ، وَانْحَذَفَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ اللَّامِ السَّاكِنَةِ، وَلِذَلِكَ تَعُودُ إِذَا تَحَرَّكَتِ الْفَاءُ نَحْوَ: خَافَا وَخَافُوا وَخَافِي. وَلَمَّا تَقَدَّمَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ استبطاء حق لهم في الإسلام، وأنهم لا ينتظرون إِلَّا آيَةً عَظِيمَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، جَاءَ هَذَا الْأَمْرُ بِسُؤَالِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ تِلْكَ الْآيَاتُ، فَعَدَمُ إِسْلَامِهِمْ مُرَتَّبٌ عَلَى عِنَادِهِمْ وَاسْتِصْحَابِ لَجَاجِهِمْ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ سُؤَالًا عَمَّا لَا يَعْلَمُ، إِذْ هُوَ عَالِمٌ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مَعْلُومٍ، فَهُوَ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، وَتَقْرِيرٌ لَهُمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّهَا مَا أَجْدَتْ عِنْدَهُمْ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ. وَفِي هَذَا السُّؤَالِ أَيْضًا تَثْبِيتٌ وَزِيَادَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «1» أَوْ: زِيَادَةُ يَقِينِ الْمُؤْمِنِ، فَالْخِطَابُ فِي اللَّفْظِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ:

_ (1) سورة هود: 11/ 120.

أُمَّتُهُ، أَوْ إِعْلَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَقَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ قبل أن أنزل اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ. بَنِي إِسْرائِيلَ مَنْ كَانَ بحضرته منهم، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من آمن من بِهِ مِنْهُمْ، أَوْ عُلَمَاؤُهُمْ، أَوْ أَنْبِيَاؤُهُمْ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ آتَيْناهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ أَوَّلٌ عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، قَالَ: وَكَمْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بَعْدَهَا، لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ: كَمْ آتَيْنَاهُمْ، أَوْ بِإِتْيَانِهِمْ. انْتَهَى. وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: مِنْ آية تمييزا لكم، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُفَسِّرَ لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ لَمْ يَعْمَلْ فِي ضَمِيرِ الِاسْمِ الْأَوَّلِ الْمُنْتَصِبِ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَلَا فِي سَبَبِيَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَنَظِيرُ مَا أَجَازَ أَنْ يَقُولَ: زَيْدًا ضَرَبْتُ، فَتُعْرِبُ زَيْدًا مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، التَّقْدِيرُ: زَيْدًا ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ، وَكَذَلِكَ: الدِّرْهَمَ أَعْطَيْتُ زَيْدًا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، بَلْ نُصُوصُ النَّحْوِيِّينَ، سِيبَوَيْهِ فَمَنْ دُونَهُ، عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ تَمْيِيزُ: كَمْ، مَحْذُوفًا. وَأُطْلِقَتْ: كَمْ، عَلَى الْقَوْمِ أَوِ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: كَمْ مِنْ جَمَاعَةٍ آتَيْنَاهُمْ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، إِذْ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى: كَمْ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ: كَمْ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: آتَيْنَاهُمْ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: آتَيْنَاهُمُوهُ، أَوْ آتَيْنَاهُمُوهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، أَوْ فِي شَاذٍّ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ «1» بِرَفْعِ الْحُكْمِ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: لَوْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ غير: كل، والضمير مفعول بِهِ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ حَذْفُهُ مَعَ بَقَاءِ الرَّفْعِ إِلَّا فِي الِاضْطِرَارِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ، وَيَرَوْنَهُ ضَعِيفًا، انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الِاضْطِرَارِ، أَوْ ضَعِيفًا، فَأَيُّ دَاعِيَةٍ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَرُجْحَانِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وكم، هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَمَعْنَاهَا التَّقْرِيرُ لَا حَقِيقَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 50. [.....]

يَخْرُجُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِذَا تَقَدَّمَهُ مَا يُخْرِجُهُ، نَحْوَ قَوْلِكَ: سَوَاءٌ عَلَيْكَ أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ، و: ما أُبَالِي أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ أَوْ عَمْرٌو وَمَا أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ، فَكُلُّ هَذَا صُورَتُهُ صُورَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ عَلَى التَّرْكِيبِ الِاسْتِفْهَامِيِّ وَأَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كَمْ آتَيْناهُمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي: لسل، لِأَنَّ سَأَلَ يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ: بِحَرْفِ جَرٍّ، إِمَّا عَنْ، وَإِمَّا الْبَاءُ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الضَّرُورَةِ نَحْوَ. فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بِهِ وَ: سَأَلَ، هُنَا مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، فَهِيَ عَامِلَةٌ فِي الْمَعْنَى، غَيْرُ عَامِلَةٍ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ إِلَّا الْجَارُّ، قَالُوا: وَإِنَّمَا عُلِّقَتْ: سَلْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، فَأُجْرِيَ السَّبَبُ مَجْرَى الْمُسَبَّبِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «1» وَقَالَ الشَّاعِرُ. سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ وَقَالَ: وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ الْبِكْرِيِّ مَا فَعَلَا وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ: كَمْ، هُنَا خَبَرِيَّةً، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَمِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَمْ خَبَرِيَّةٌ؟ قُلْتُ: يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِيهَا التَّقْدِيرُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ جَعْلَهَا خَبَرِيَّةً هُوَ اقْتِطَاعٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا مِنْ جُمْلَةِ السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا ذُكِرَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ آتَيْنَاهُمْ، فَيَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ مُفَلَّتًا مِمَّا قَبْلَهُ، لِأَنَّ جُمْلَةَ: كَمْ آتَيْنَاهُمْ، صَارَ خَبَرًا صِرْفًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: سَلْ، وَأَنْتَ تَرَى مَعْنَى الْكَلَامِ، وَمَصَبَّ السُّؤَالِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَيَحْتَاجُ فِي تَقْرِيرِ الْخَبَرِيَّةِ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثاني: لسل،

_ (1) سورة القلم: 68/ 40.

وَيَكُونُ الْمَعْنَى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ آتَيْنَاهُمْ. مِنْ آيَةٍ تَمْيِيزٌ لِ: كَمْ، وَيَجُوزُ دُخُولُ: مِنْ، عَلَى تَمْيِيزِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، سَوَاءٌ وَلِيَهَا أَمْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِجُمْلَةٍ، وَبِظَرْفٍ، وَمَجْرُورٍ، جَائِزٌ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ: مِنْ آيَةٍ، مفعولا ثانيا: لآتيناهم، وَذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ قَبْلُ مِنْ جَوَازِ نَصْبِ: كَمْ، بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ: آتَيْنَاهُمْ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ: كَمْ، تَكُونُ كِنَايَةً عَنْ قَوْمٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَحُذِفَ تَمْيِيزُهَا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ: كَمْ، خَبَرِيَّةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: مِنْ آيَةٍ، مَفْعُولًا ثَانِيًا، لِأَنَّ زِيَادَةَ: مِنْ، لَا تَكُونُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرَ الْأَخْفَشِ، وَإِنْ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ لِانْسِحَابِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ مُتَعَلَّقَ الِاسْتِفْهَامِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، فَلَوْ قُلْتَ: كَمْ مِنْ دِرْهَمٍ أَعْطَيْتُهُ مِنْ رَجُلٍ، عَلَى زِيَادَةٍ: مِنْ، فِي قَوْلِكَ: مِنْ رَجُلٍ، لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى زِيَادَةِ: مِنْ، فِي (مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. و: الآيات الْبَيِّنَاتُ، مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَحْقِيقِ نُبُوَّتِهِ، وَتَصْدِيقِ مَا جَاءَ بِهِ، أَوْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ: كَالْعَصَا، وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ، أَوِ: الْقُرْآنُ قَصَّ اللَّهُ قَصَصَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ حَسْبَمَا وَقَعَتْ عَلَى لِسَانِ مَنْ لَمْ يُدَارِسِ الْكُتُبَ وَلَا الْعُلَمَاءَ، وَلَا كَتَبَ وَلَا ارْتَجَلَ، أَوْ مُعْجِزَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: كَتَسْبِيحِ الْحَصَى، وَتَفْجِيرِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ، أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَقَدَّرُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، مَحْذُوفًا، فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: فَكَذَّبُوا بِهَا، وَبَعْضُهُمْ: فَبَدَّلُوهَا. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةُ اللَّهِ: الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَدِّلُ بِهَا التَّشْبِيهَ وَالتَّأْوِيلَاتِ، أَوْ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ نعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُبَدِّلُ بِهِ نَعْتَ الدَّجَّالِ، أَوِ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ يُبَدِّلُ بِهَا الْجَحْدَ لَهَا، أَوْ كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُبَدِّلُ بِهَا غَيْرَ أَحْكَامِهَا كَآيَةِ الرَّجْمِ وَشِبْهِهَا، أَوِ الْإِسْلَامُ. قَالَهُ الطَّبَرِيُّ أَوْ شُكْرُ النِّعْمَةِ يُبَدِّلُ بِهَا الْكُفْرَ أَوْ آيَاتُهُ وَهِيَ أَجَلُّ نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا أَسْبَابُ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَتَبْدِيلُهُمْ إِيَّاهَا، أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهَا لِتَكُونَ أَسْبَابَ هُدَاهُمْ، فَجَعَلُوهَا أَسْبَابَ

ضَلَالَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَبْعَةُ أَقْوَالٍ. وَلَفْظُ: مَنْ يُبَدِّلْ، عَامٌّ وَهُوَ شَرْطٌ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّ مُبَدِّلِ نِعْمَةٍ: كَكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَدَّلُوا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا وَقَبُولِهَا الْكُفْرَ. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا أُسْدِيَتْ إِلَيْهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَبُولِهَا، وَمِنْ بَعْدِ مَا عَرَفَهَا كَقَوْلِهِ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ «2» وَأَتَى بِلَفْظِ: مِنْ، إِشْعَارًا بِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وإنه يعقب: مَا جَاءَتْهُ، يُبَدِّلُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ تَأْكِيدٌ، لِأَنَّ إِمْكَانِيَّةَ التَّبْدِيلِ مِنْهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الوصول إليه. وقرىء: ومن يبدل بالتخفيف، ويبدل، يَحْتَاجُ لِمَفْعُولَيْنِ: مُبْدَلٌ وَمُبْدَلٌ لَهُ، فَالْمُبْدَلُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَالْبَدَلُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا «3» وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْمَفْعُولُ الْوَاحِدُ هُنَا مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْبَدَلُ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَدَّرَ مِثْلُ مَا لُفِظَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً «4» : فكفرا هو البدل، ونعمة اللَّهِ، هُوَ الْمُبْدَلُ، وَهُوَ الَّذِي أَصْلُهُ: أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَالتَّقْدِيرُ إِذَنْ: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، وَجَازَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَحَرْفِ الْجَرِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلِتَرْتِيبِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَكُونَ النِّعْمَةُ هِيَ الْبَدَلَ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْمُبْدَلَ أَنْ يُجَابَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ، وَمِنْ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى قَوْلُهُ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «5» أَيْ: بِسَيِّئَاتِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: سَيِّئَاتِهِمْ بِحَسَنَاتٍ، فَتَكُونُ السَّيِّئَاتُ هِيَ الْبَدَلَ، وَالْحَسَنَاتُ هِيَ الْمُبْدَلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً «6» فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ بِالْعِقَابِ عَلَى مَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ جَوَابَ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ عَائِدٍ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، تَقْدِيرُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُ، أَوْ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَاقِبَةً لِلضَّمِيرِ عَلَى مَذْهَبِ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 125. (2) سورة البقرة: 2/ 75. (3) سورة البقرة: 2/ 59، والأعراف: 7/ 162. (4) سورة إبراهيم: 14/ 28. (5- 6) سورة الفرقان: 25/ 70.

الْكُوفِيِّينَ، فَيُغْنِي عَنِ الرَّبْطِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الضَّمِيرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: يُعَاقِبُهُ. قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ) : تَرْكُ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، يَعْنِي بِالْإِضْمَارِ شَدِيدَ الْعِقَابِ لَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ التَّخْوِيفُ لِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ. لِهَذَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْعَذَابُ عِقَابًا، لِأَنَّهُ يَعْقُبُ الْجُرْمَ. وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ مُؤَخَّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، مُقَدَّمَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَمَا اعْتَبَرُوا وَلَا أَذْعَنُوا إِلَيْهَا، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ؟ أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَرَتُّبِهَا أَخَذَ بَعْضُهَا بِعُنُقِ بَعْضٍ، مُتَلَاحِمَةُ التَّرْكِيبِ، وَاقِعَةٌ مَوَاقِعَهَا، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُخْبِرُوا أَنَّ مَنْ زَلَّ جَازَاهُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، ثُمَّ قِيلَ: لَا يَنْتَظِرُونَ فِي إِيمَانِهِمْ إِلَّا ظُهُورَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، عِنَادًا مِنْهُمْ، فَقَدْ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ، ثُمَّ سَلَّى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِبْطَاءِ إِيمَانِهِمْ مَعَ مَا أَتَى بِهِ لَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، بِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَمَا آمَنُوا بِهَا بَلْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، فَأَنْتَ تَرَى هَذِهِ الْمَعَانِيَ مُتَنَاسِقَةً مُرَتَّبَةً التَّرْتِيبَ الْمُعْجِزَ، بِاللَّفْظِ الْبَلِيغِ الْمُوجَزِ، فَدَعْوَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ الْمُخْتَصِّ بِضَرُورَةِ الْأَشْعَارِ، وَبِنَظْمِ ذَوِي الِانْحِصَارِ، مُنَزَّهٌ عَنْهَا كَلَامُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِمَا بَسَطَ اللَّهُ لَهُمْ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْمَعَادِ، وَيَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَسَالِمٍ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَخَبَّابٍ، وَبِلَالٍ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيَّنَا لَتَبِعَهُ أَشْرَافُنَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ وَيَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَغْلِبُ بِهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، سَخِرُوا مِنْ فُقَرَاءِ

الْمُهَاجِرِينَ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، أَسْهَلَ شَيْءٍ وَأَيْسَرَهُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَتْهُمْ آيَاتٌ وَاضِحَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ بَدَّلُوا، أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ هُوَ الرُّكُونُ إِلَى الدُّنْيَا، وَالِاسْتِبْشَارُ بِهَا، وَتَزْيِينُهَا لَهُمْ، وَاسْتِقَامَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَكْبَرُ حَظٍّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَيَكْذِبُونَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَيَكْتُبُونَ مَا شاؤا لِيَنَالُوا حَظًّا خَسِيسًا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، وَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: زُيِّنَ، عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ لِلْفَصْلِ، وَلِكَوْنِ الْمُؤَنَّثِ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: زُيِّنَتْ، بِالتَّاءِ وَتَوْجِيهُهَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ مُؤَنَّثٌ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَهُوَ: اللَّهُ تَعَالَى، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ: زَيَّنَ، عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ قَبْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وَتَزْيِينُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا لَهُمْ بِمَا وَضَعَ فِي طِبَاعِهِمْ مِنَ الْمَحَبَّةِ لَهَا، فَيَصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ مَيْلٌ وَرَغْبَةٌ فِيهَا، أَوْ بِالشَّهَوَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا فِيهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ «1» الْآيَةَ، وَإِنَّمَا أَحْكَمَهُ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ وَأَتْقَنَهُ وَحَسَّنَهُ، فَأَعْجَبَهُمْ بَهْجَتُهَا، وَاسْتَمَالَتْ قُلُوبَهُمْ فَمَالُوا إِلَيْهَا كُلِّيَّةً، وَأَعْطَوْهَا مِنَ الرَّغْبَةِ فَوْقَ مَا تَسْتَحِقُّهُ. وقال أبوبكر الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نستطيع إلى أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَ لَنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ زَيَّنَهَا لَهُمْ بِأَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى اسْتَحْسَنُوهَا وَأَحَبُّوهَا، أَوْ جَعَلَ إِمْهَالَ الْمُزَيَّنِ تَزْيِينًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ الْعَبْدِ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ التَّزْيِينَ عَلَى الْخِذْلَانِ، أَوْ عَلَى الْإِمْهَالِ، وَقِيلَ: الزَّيْنُ الشَّيْطَانُ، وَتَزْيِينُهُ بِتَحْسِينِ مَا قَبُحَ شَرْعًا، وَتَقْبِيحِ مَا حَسُنَ شَرْعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّزْيِينَيْنِ: أَنَّ تَزْيِينَ اللَّهِ بِمَا رَكَّبَهُ وَوَضَعَهُ فِي الْجِبِلَّةِ، وَتَزْيِينَ الشَّيْطَانِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 14.

بإذكار ما وقع غفاله، وَتَحْسِينِهِ بِوَسَاوِسِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ، وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ، نُفُوسُهُمْ كَقَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «1» فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ «2» وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي «3» وَقِيلَ: شُرَكَاؤُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قَالَ تَعَالَى وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «4» الْآيَةَ وَقَالَ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ «5» . وَقِيلَ: الْمُزَيَّنُ هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا قَالَ: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ «6» . وَقِيلَ: الْمُزَيَّنُ الْمَجْمُوعُ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيفُ الْمُؤْمِنِينَ بِسَخَافَةِ عُقُولِ الْكُفَّارِ حَيْثُ آثَرُوا الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَقَدَّمَ مَنْ هُمْ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: الَّذِينَ آمَنُوا، فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَمَعْنَى: يَسْخَرُونَ: يَسْتَهْزِئُونَ، وَذَلِكَ لِفَقْرِهِمْ، أَوْ: لِاتِّبَاعِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أَوْ: لِاتِّهَامِهِمْ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أو لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ، وَلَا يُلْحَظُ فِيهَا عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ اتِّحَادُ الزَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ اتِّحَادُ الصِّيغَةِ، وَصُدِّرَتِ الْأُولَى بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَهُوَ تَرْكِيبُ طِبَاعِهِمْ عَلَى مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ أَمْرًا مُتَجَدِّدًا، وَصُدِّرَتِ الثَّانِيَةُ بِالْمُضَارِعِ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقْتٍ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيِ: الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ، وَمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِهِمُ التَّقْدِيرَ: وَهُمْ يَسْخَرُونَ، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَصِيرُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَوْقَ: ظَرْفُ مَكَانٍ، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ، وَالْكُفَّارَ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْفَوْقِيَّةُ، مَجَازٌ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّعِيمَيْنِ: نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَنَعِيمِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُجَجِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشُبَهِ الْكُفَّارِ لِثُبُوتِ الْحُجَجِ وَتَلَاشِي الشُّبَهِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا زَعَمَ الْكُفَّارُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْ كَانَ لَنَا مُعَادٌ فَلَنَا فِيهِ الْحَظُّ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى

_ (1) سورة يوسف: 12/ 53. (2) سورة المائدة: 5/ 3. (3) سورة طه: 20/ 96. (4) سورة الأنعام: 6/ 137. (5) سورة الأنعام: 6/ 112. (6) سورة الحديد: 57/ 20.

سُخْرِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَسُخْرِيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ عَالُونِ عَلَيْهِمْ، مُتَطَاوِلُونَ، يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، كَمَا كَانَ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُلُوِّ حَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فِي كَرَامَةٍ، وَالْكُفَّارَ فِي هَوَانٍ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُصَدَّرَةً بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا لِيَظْهَرَ أَنَّ السَّعَادَةَ الْكُبْرَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي، وَلِتَبْعَثَ الْمُؤْمِنَ عَلَى التَّقْوَى، وَلِيَزُولَ قَلَقُ التَّكْرَارِ لَوْ كَانَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، لِأَنَّ قَبْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا. وَانْتِصَابُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الْوَاقِعِ خَبَرًا، أَيْ: كَائِنُونَ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا فَهِمُوا مِنْ فَوْقَ أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ بَيْنَ مَنْ يُخْبَرُ بِهَا عَنْهُ، وَبَيْنَ مَنْ تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو فِي المنزل، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: زَيْدٌ أَعْلَى مِنْ عَمْرٍو فِي الْمَنْزِلَةِ، احْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِ عَالٍ وَأَعْلَى مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ التَّحْمِيلَاتِ، حِفْظٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَلِيلِ، فِي أَنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا يَجِيءُ فِيمَا فِيهِ شَرِكَةٌ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ حَيْثُ لَا اشْتِرَاكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ لَا نَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ هُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ: زَيْدٌ أَحْسَنُ إِخْوَتِهِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي: فَوْقَ، فَلَا نَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِأَعْلَى، وَأَعْلَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، نَقَلَ الْخِلَافَ إِلَيْهَا، وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ فَوْقَ لَا تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْعُلُوِّ، فَإِذَا أُضِيفَتْ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِيهِ عُلُوٌّ، وَكَمَا أَنَّ تَحْتَ مُقَابِلَتَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى تَشْرِيكٍ فِي السُّفْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِهَا، وَلَا نقول: إنها مرادفة لأسفل، لِأَنَّ أَسْفَلَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهَا بمن، كَقَوْلِهِ: الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، كَمَا أَنَّ أَعْلَى كَذَلِكَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا عَالُوهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي عُلُوٍّ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ الْعُلُوَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُتَّقِينَ، وَغَيْرُهُمْ سَافِلُونَ، عَكْسُ حَالِهِمَا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ اتِّصَالُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَفْضِيلِ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِهِمْ، فَقِيلَ: هَذَا الرِّزْقُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ بِغَيْرِ نِهَايَةٍ، لِأَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى خَارِجٌ عَنِ الْحِسَابِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَهَا ثَوَابٌ وَبَعْضَهَا تَفْضِيلٌ مَحْضٌ، فَهُوَ بِغَيْرِ حِسَابٍ،

وَقِيلَ: هَذَا الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَلُّكِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِمْ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، يَصِيرُ إِلَيْهِمْ بِلَا حِسَابٍ، بَلْ يَنَالُونَهَا بِأَسْهَلِ شَيْءٍ وَأَيْسَرِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ نَحْوَهُ الْقَفَّالُ، قَالَ: قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ بِمَا أَفَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَبِمَا فُتِحَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَيْدِي أَصْحَابِهِ. وَقَالُوا مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْكُفَّارِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي: أَنَّهُ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ تُوجِبُ الْحِكْمَةُ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِ، كَمَا وُسِّعَ عَلَى قَارُونَ وَغَيْرِهِ، فَهَذِهِ التَّوْسِعَةُ عَلَيْكُمْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ اسْتِدْرَاجُكُمْ بِالنِّعْمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ كَرَامَةً لَكَانَ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُؤْمِنُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنْكُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا تَسْتَعْظِمُوا ذَلِكَ، وَلَا تَقِيسُوا عَلَيْهِ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، بَلْ يُحْسَبُ لِهَذَا عَمَلُهُ وَهَذَا عَمَلُهُ، فَيُرْزَقَانِ بِحِسَابِ ذَلِكَ، بَلِ الرِّزْقُ بِغَيْرِ حِسَابِ الْأَعْمَالِ، وَالْأَعْمَالُ مُجَازَاتُهَا مُحَاسَبَةٌ وَمُعَادَةٌ، إِذْ أَجْزَاءُ الْجَزَاءِ تُقَابِلُ أَجْزَاءَ الْفِعْلِ الْمُجَازَى عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ لَمْ يُرْزَقْ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ فَوْقَ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ عَدَمُ تَخْصِيصِ الرِّزْقِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، بَلْ لَمَّا ذَكَرَ حَالَيْهِمَا مِنْ سُخْرِيَةِ الْكُفَّارِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، بِسَبَبِ مَا رُزِقُوا: مِنَ التَّمَكُّنِ فِيهَا، وَالرِّيَاسَةِ، وَالْبَسْطِ، وَتَعَالِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ. بِسَبَبِ مَا رُزِقُوا مِنَ: الْفَوْزِ، وَالتَّفَرُّدِ بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ، بَيَّنَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَرْزُقُهُ إِيَّاهُ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِمَشِيئَتِهِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُحَاسِبُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُعْطِي، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ يَخَافُ نَفَاذَ مَا عِنْدَهُ. وَقَالُوا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَنْقُصُهَا شَيْءٌ مَا أَنْفَقَ منذ خلق السموات وَالْأَرْضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقِصْ شَيْئًا مِمَّا عِنْدَهُ» . وَمَفْعُولُ يَشَاءُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: مَنْ يَشَاءُ أَنْ يَرْزُقَهُ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَبِغَيْرِ حِسَابٍ تَقَدَّمَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِهَا: الْفِعْلُ، وَالْفَاعِلُ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: مَنْ. فَإِنْ كَانَ لِلْفِعْلِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ لِلْمَفْعُولِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِذَا كَانَ لِلْفِعْلِ كَانَ الْمَعْنَى: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ رِزْقًا غَيْرَ حِسَابٍ، أَيْ: غير ذي حساب، ويعني بِالْحِسَابِ: الْعَدَّ، فَهُوَ لَا يُحْصَى وَلَا يُحْصَرُ مِنْ كَثْرَتِهِ، أَوْ يَعْنِي بِهِ

الْمُحَاسَبَةَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: رِزْقًا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ حِسَابٌ فِي الْآخِرَةِ، وَتَكُونُ عَلَى هَذَا الْبَاءُ زَائِدَةً. وَإِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: الْمَعْنَى يَرْزُقُ اللَّهُ غَيْرَ مُحَاسِبٍ عَلَيْهِ، أَيْ مُتَفَضِّلًا فِي إِعْطَائِهِ لَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ عَادٍّ عَلَيْهِ مَا يُعْطِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَجَازًا عَنِ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ، فَيَكُونُ: حِسَابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ: حَاسَبَ، أَوْ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ: حَسَبَ، وَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً فِي الْحَالِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ زِيدَتْ فِي الْحَالِ الْمَنْفِيَّةِ، وَهَذِهِ الْحَالُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نَفْيٌ، وَمِمَّا قِيلَ: إِنَّهَا زِيدَتْ فِي الْحَالِ الْمَنْفِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابُ ... حَكِيمُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مُنْتَهَاهَا أَيْ: فَمَا رَجَعَتْ خَائِبَةً، وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ حِسَابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: غَيْرُ مُحَاسَبٍ عَلَى مَا يُعْطِي تَعَالَى، أَيْ: لَا أَحَدَ يُحَاسِبُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَحَ، فَعَطَاؤُهُ غَمْرًا لَا نِهَايَةَ له. وإذا كان: لمن، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِيَرْزُقَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْزُوقَ غَيْرُ مُحَاسَبٍ عَلَى مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَكُونُ أَيْضًا حَالًا مِنْهُ، وَيَقَعُ الْحِسَابُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مُحَاسَبٌ مِنْ حَاسَبَ، أَوِ الْمَفْعُولِ مِنْ حَسَبَ، أَيْ: غَيْرُ مَعْدُودٍ عَلَيْهِ مَا رُزِقَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أي: غير ذي حساب، وَيَعْنِي بِالْحِسَابِ: الْمُحَاسَبَةَ أَوِ الْعَدَّ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُرْزَقُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ، وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ يَأْتِيَهُ الرِّزْقُ، كَمَا قَالَ: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ «1» فَيَكُونُ حَالًا أَيْضًا أَيْ: غَيْرَ مُحْتَسِبٍ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ، وَفِيهَا زِيَادَةُ الْبَاءِ. وَالْأَوْلَى أَنُ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِبَاءِ الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ: لِلْمَصْدَرِ، وَلِلْفَاعِلِ، وَلِلْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ الْحِسَابُ مُرَادًا بِهِ الْمُحَاسَبَةُ، أَوِ الْعَدُّ، أَيْ: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا حِسَابَ عَلَى الرِّزْقِ، أَوْ: وَلَا حِسَابَ لِلرَّازِقِ، أَوْ وَلَا حِسَابَ عَلَى المرزوق.

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 3. [.....]

وَكَوْنُ الْبَاءِ لَهَا مَعْنًى أَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا زَائِدَةً، وَكَوْنُ الْمَصْدَرِ بَاقِيًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ مَجَازًا عَنِ اسْمِ فَاعِلٍ أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ وَكَوْنُهُ مُضَافًا لِغَيْرٍ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُضَافًا لِذِي مَحْذُوفَةً، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً «1» أَيْ: مُحْسَبًا أَيْ: كَافِيًا مِنْ: أَحْسَبَنِي كَذَا، إِذَا كَفَاكَ، وَبِغَيْرِ حِسَابٍ مَعْنَاهُ الْعَدُّ، أَوِ الْمُحَاسَبَةُ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهِمَا إِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَتَيِ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَبِغَيْرِ حِسَابٍ فِي التَّفَضُّلِ الْمَحْضِ، وَعَطَاءً حِسَابًا فِي الْجَزَاءِ الْمُقَابِلِ لِلْعَمَلِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ طَرَفَيْهِمَا: فَبِغَيْرِ حِسَابٍ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَرْزُقُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ وَلَا يُحَاسِبُ الْمَرْزُوقِينَ عَلَيْهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يُحَاسِبُ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ مَنْ قَامَا بِهِ، فَبِغَيْرِ حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ، أَيْ: يَرْزُقُ وَلَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، أَوْ وَلَا يَعُدُّ عَلَيْهِ، وَحِسَابًا صِفَةٌ لِلْعَطَاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مِنْ جِهَةِ مَنْ قَامَا بِهِ، وَزَالَ بِذَلِكَ التَّعَارُضُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَوَاخِرِ أَقْوَالِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، أَيْ: قَلَائِلَ، وَدَلَّ الذِّكْرُ عَلَى الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ هُوَ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي أَيَّامٍ، وَهُوَ: جَمْعٌ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي التَّعْجِيلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ يَوْمَيْنِ مِنْهَا، فَسَقَطَ الذِّكْرُ الْمُخْتَصُّ بِهِ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ حَالَ الْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ، وَإِنْ كَانَ حَالُ مَنْ تَأَخَّرَ أَفْضَلَ، وَكَانَ بَعْضُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ تَعَجَّلَ أَثِمَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ أَثِمَ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْإِثْمَ عَنْهُمَا، إِذْ كَانَ التَّعَجُّلُ وَالتَّأَخُّرُ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْإِثْمِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى. ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَتَكْرَارِ الْأَمْرِ بِهَا فِي الْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ كَوْنُهُ تعالى شديد العقاب لمن لَمْ يَتَّقِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى تَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يُظْهِرُهَا بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى خِلَافِهَا، وَإِلَى مَنْ تَسَاوَى سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ فِي التَّقْوَى، قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى قِسْمَيْنِ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: يُؤْنِقُكَ وَيَرُوقُ لَفْظُهُ، يُحَسِّنُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمُوَافَقَةِ وَالطَّوَاعِيَةِ ظَاهِرًا، ثُمَّ لَا يَكْتَفِي بِمَا زَوَّرَ وَنَمَّقَ مِنْ كَلَامِهِ اللَّطِيفِ حَتَّى يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ سَرِيرَتَهُ مِثْلُ عَلَانِيَتِهِ، وَهُوَ إِذَا خَاصَمَ كَانَ شَدِيدَ الْخُصُومَةِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ تَقَلَّبَ في نواحي

_ (1) سورة النبإ: 78/ 36.

الْأَرْضِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ سَعْيِهِ وَأَنَّهُ لِلْإِفْسَادِ مُطْلَقًا، وَلِيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ اللَّذَيْنِ هُمَا قِوَامُ الْوُجُودِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، فَهَذَا الْمُتَوَلِّي السَّاعِي فِي الْأَرْضِ يَفْعَلُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ الشَّكِيمَةِ فِي النِّفَاقِ إِذَا أمر بتقوى الله تعالى اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْأَنَفَةُ وَالْغَضَبُ بِالْإِثْمِ. أَيْ: مَصْحُوبًا بِالْإِثْمِ فَلَيْسَ غَضَبُهُ لِلَّهِ. إِنَّمَا هُوَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَصْحَبَهُ الْإِثْمُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ هَذَا الْآنِفِ الْمُغْتَرِّ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَهُوَ جَهَنَّمُ، فَهِيَ كَافِيَةٌ لَهُ، وَمُبْدِلَتُهُ بَعْدَ عِزِّهِ ذُلًّا، ثُمَّ ذَمَّ تَعَالَى مَا مَهَّدَ لِنَفْسِهِ مِنْ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الغاية الذَّمِّ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْقِسْمَ الْمُقَابِلَ لِهَذَا الْقِسْمِ، وَهُوَ: مَنْ بَاعَ نَفْسَهُ فِي طِلَابِ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاكْتَفَى بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ، إِذْ دَلَّ عَلَى انْطِوَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالِانْقِيَادَاتِ، إِذْ صَارَ عَبْدَ اللَّهِ يُوجَدُ حَيْثُ رَضِيَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ رَأَفَ اللَّهُ بِهِ وَرَحِمَهُ، وَرَأْفَةُ اللَّهِ بِهِ تَتَضَمَّنُ اللُّطْفَ بِهِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَذَكَرَ الرَّأْفَةَ الَّتِي هِيَ، قِيلَ: أَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ. ثُمَّ نَادَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَرَهُمْ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَثَنَّى بِالنَّهْيِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ أَشَقُّ مِنَ النَّهْيِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِعْلٌ وَالنَّهْيَ تَرْكٌ، وَلِمُجَاوَرَتِهِ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ فَصَارَ نَظِيرَ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «1» وَلَمَّا نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ: سُلُوكُ مَعَاصِي اللَّهِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنْ زَلُّوا مِنْ بَعْدِ مَا أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ الْوَاضِحَةُ النَّيِّرَةُ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الزَّلَلُ مَعَهَا، لِأَنَّ فِي إِيضَاحِهَا مَا يُزِيلُ اللَّبْسَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ، حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَيُجَازِي عَلَى الزَّلَلِ بَعْدَ وُضُوحِ الْآيَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي الثُّبُوتَ فِي الطَّاعَةِ بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الزَّلَلَ، فَدَلَّ بِعِزَّتِهِ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَبِحِكْمَتِهِ عَلَى جَزَاءِ الْعَاصِي وَالطَّائِعِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «2» . ثُمَّ أَعْرَضَ تَعَالَى عَنْ خِطَابِهِمْ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ إِخْبَارَ الْغَائِبِينَ، مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ عَنْ تَبَاطُئِهِمْ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ يَوْمَ فَصْلِ اللَّهِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَقَضَاءِ الْأَمْرِ، وَرُجُوعِ جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، فَهُنَاكَ تَظْهَرُ ثَمَرَةُ مَا جَنَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةِ» كَذَا، عَلَى مَا يَلِيقُ بِتَقْدِيسِهِ عَنْ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 106. (2) سورة النجم: 53/ 31.

[سورة البقرة (2) : الآيات 213 إلى 218]

جَمِيعِ مَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ، وَنُنَزِّهُهُ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّ دَأْبَ مَنْ أرسل إليه الْأَنْبِيَاءُ، وَظَهَرَتْ لَهُمُ الْمُعْجِزَاتُ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَدَمُ قَبُولِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ يُرَتِّبُونَ عَلَى الشَّيْءِ غَيْرَ مُقْتَضَاهُ، فَيُكَذِّبُونَ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ دَالَّةً عَلَى الصِّدْقِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ مَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعِقَابِ، قَابَلَ نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الشُّكْرِ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى تَبْدِيلِ نِعَمِ اللَّهِ، وَهُوَ: تَزْيِينُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَرَغِبُوا فِي الْفَانِي وَزَهِدُوا فِي الْبَاقِي إِيثَارًا لِلْعَاجِلِ عَلَى الْآجِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، حَيْثُ مَا يُتَوَهَّمُ فِي وَصْفِ الْإِيمَانِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّهُمُ هم الْعَالُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ السَّافِلُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ، بِغَيْرِ حِسَابٍ، إِشَارَةً إِلَى سَعَةِ الرِّزْقِ وَعَدَمِ التَّقْتِيرِ، وَالتَّقْدِيرِ: وَأَعَادَ ذِكْرَهُمْ بِلَفْظِ: مَنْ يَشَاءُ، تَنْبِيهًا عَلَى إِرَادَتِهِ لَهُمْ، وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ، وَاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ، إِذْ لَوْ قَالَ: وَاللَّهُ يَرْزُقُهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، لَفَاتَ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ ذِكْرِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ الْإِرَادَةُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 213 الى 218] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

حَسِبَ: بِكَسْرِ السِّينِ: يَحْسَبُ، بِفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ وَكَسْرِهَا، مِنْ أَخَوَاتِ: ظَنَّ، فِي طَلَبِهَا اسْمَيْنِ: هُمَا فِي مَشْهُورِ قَوْلِ النُّحَاةِ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَعْنَاهَا نِسْبَةُ الْخَبَرِ عَنِ الْمُتَيَقَّنِ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَأْتِي فِي الْمُتَيَقَّنِ قَلِيلًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: حَسِبْتُ التُّقَى وَالْجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا وَمَصْدَرُهَا: الْحُسْبَانُ، وَيَأْتِي: حَسِبَ أَيْضًا بِمَعْنَى: احْمَرَّ تَقُولُ: حَسِبَ الرَّجُلُ يَحْسَبُ، وَهُوَ أَحْسَبُ، كَمَا تَقُولُ: شَقِرَ فَهُوَ أَشْقَرُ، وَلِحَسِبَ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. لَمَّا: الْجَازِمَةُ حَرْفٌ، زَعَمُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ: لَمْ وَمَا، وَلَهَا أَحْكَامٌ تُخَالِفُ فِيهَا: لَمْ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا إِذَا دَلَّ عَلَى حَذْفِهِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجِبُ اتِّصَالُ نَفْيِهَا بِالْحَالِ، وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ عَلَى فِعْلِ شَرْطٍ وَلَا فِعْلِ جَزَاءٍ. زَلْزَلَ: قَلْقَلَ وَحَرَّكَ، وَهُوَ رُبَاعِيٌّ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ: كَدَحْرَجَ، هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فِيهِ خِلَافٌ لِلْكُوفِيِّينَ وَالزَّجَّاجِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. مَاذَا: إِذَا أُفْرِدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهَا كَانَتْ: مَا يُرَادُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ، وَذَا: لِلْإِشَارَةِ، وَإِنْ دَخَلَ التَّجَوُّزُ فَتَكُونُ: ذَا، مَوْصُولَةً، لِمَعْنَى: الَّذِي، وَالَّتِي، وَفُرُوعِهَا، وَتَبْقَى مَا عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، فَتَفْتَقِرُ: ذَا، إِذْ ذَاكَ إِلَى صِلَةٍ، وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً مَعَ: مَا، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، فَيَصِيرُ دَلَالَةُ مَجْمُوعِهِمَا دَلَالَةَ: مَا، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لَوِ انْفَرَدَتْ، وَلِهَذَا قَالَتِ الْعَرَبُ: عَنْ مَاذَا تَسْأَلُ؟ بِإِثْبَاتِ أَلْفِ: مَا، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً مَعَ:

مَا، الْمَوْصُولَةِ، أَوْ: مَا، النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، فَتَكُونُ دَلَالَةُ مجموعهما دَلَالَةَ: مَا الْمَوْصُولَةِ، أَوِ الْمَوْصُوفَةِ، لَوِ انْفَرَدَتْ دُونَ: ذَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ عَنِ الْفَارِسِيِّ. الْكُرْهُ: بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا، وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْكَرَاهَةُ مَصَادِرٌ لِكَرِهَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، بِمَعْنَى: أَبْغَضَ، وَقِيلَ: الْكُرْهُ بِالضَّمِّ مَا كَرِهَهُ الْإِنْسَانُ، وَالْكَرْهُ، بِالْفَتْحِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْكُرْهُ بِالضَّمِّ اسْمُ الْمَفْعُولِ، كَالْخُبْرِ، وَالنُّقْضِ، بمعنى: المخبور والمنقوص، وَالْكَرْهُ بِالْفَتْحِ. الْمَصْدَرُ. عَسَى: مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَهِيَ فِعْلٌ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: هِيَ حَرْفٌ وَلَا تَتَصَرَّفُ، وَوَزْنُهَا: فَعَلَ، فَإِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ مَرْفُوعٍ، أَوْ نُونِ إِنَاثٍ، جَازَ كَسْرُ سِينِهَا وَيُضْمَرُ فِيهَا لِلْغَيْبَةِ نَحْوُ: عَسَيَا وَعَسَوْا، خِلَافًا لِلرُّمَّانِيِّ، ذَكَرَ الْخِلَافَ عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَلَا يُخَصُّ حَذْفُ: إِنَّ، مِنَ الْمُضَارِعِ بِالشِّعْرِ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ، وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهِيَ: فِي الرَّجَاءِ تَقَعُ كَثِيرًا، وَفِي الْإِشْفَاقِ قَلِيلًا قَالَ الرَّاغِبُ. الصَّدُّ: نَاحِيَةُ الشِّعْبِ وَالْوَادِي الْمَانِعِ السَّالِكِ، وَصَدَّهُ عَنْ كَذَا كَأَنَّمَا جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُهُ صَدًّا يَمْنَعُهُ. انْتَهَى. وَيُقَالُ: صَدَّ يَصُدُّ صُدُودًا: أَعْرَضَ، وَكَانَ قِيَاسُهُ لِلُزُومِهِ: يَصِدُّ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهِ، وَصَدَّهُ يَصُدُّهُ صَدًّا مَنَعَهُ، وَتَصَدَّى لِلشَّيْءِ تَعَرَّضَ لَهُ، وَأَصْلُهُ تَصَدَّدَ، نَحْوَ: تَظَنَّى بِمَعْنَى تَظَنَّنَ، فَوَزْنُهُ تَفَعَّلَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفَعْلَى نَحْوَ: يَعَلْنَى، فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْإِلْحَاقِ، وَتَكُونُ مِنْ مُضَاعَفِ اللَّامِ. زَالَ: مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ، وَهِيَ الَّتِي مُضَارِعُهَا: يَزَالُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَوَزْنُهَا فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهَا يَاءٌ مَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ فِي مُضَارِعِهَا، وَهُوَ: يُزِيلُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَنْفِيَّةً بِحَرْفِ نَفْيٍ، أَوْ بِلَيْسَ، أَوْ بِغَيْرَ أَوْ: لَا، لِنَهْيٍ أَوْ دُعَاءٍ. الْحُبُوطُ: أَصْلُهُ الْفَسَادُ، وَحُبُوطُ الْعَمَلِ بُطْلُهُ، وَحَبِطَ بَطْنُهُ انْتَفَخَ، وَالْحَبَطَاتُ قَبِيلَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْحَبَنْطَى: الْمُنْتَفِخُ الْبَطْنِ. الْمُهَاجَرَةُ: انْتِقَالٌ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهَجْرِ، وَالْمُجَاهَدَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ جَهِدَ، اسْتَخْرَجَ الْجُهْدَ وَالِاجْتِهَادَ، وَالتَّجَاهُدُ بَذْلُ الْوُسْعِ، وَالْمَجْهُودِ وَالْجَهَادُ بِالْفَتْحِ: الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ. كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ إِصْرَارَ هَؤُلَاءِ عَلَى كُفْرِهِمْ

هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذَا الزَّمَانِ الَّذِي بُعِثْتَ فِيهِ، بَلْ هَذَا أَمْرٌ كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ، إِذْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَغْيًا وَحَسَدًا وَتَنَازُعًا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. وَالنَّاسُ: الْقُرُونُ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَهِيَ عَشْرَةٌ، كَانُوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى اخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا فَمَنْ بَعْدَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: قَوْمُ نُوحٍ وَمَنْ فِي سَفِينَتِهِ كَانُوا مُسْلِمِينَ، أَوْ: آدَمُ وَحْدَهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَوْ: هُوَ وَحَوَّاءُ، أَوْ: بَنُو آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ نَسَمًا كَانُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، قَالَهُ أُبَيٌّ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوْ: آدَمُ وَبَنُوهُ كَانُوا عَلَى دِينِ حَقٍّ فَاخْتَلَفُوا مِنْ حِينِ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ، أَوْ: بَنُو آدَمَ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ إِلَى مَبْعَثِ نُوحٍ كَانُوا كُفَّارًا أَمْثَالَ الْبَهَائِمِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا عَلَى دِينِهِ إِلَى أَنْ غَيَّرَهُ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى أَوْ: أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ: قَوْمُ نُوحٍ حِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ كَانُوا كُفَّارًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ: الْجِنْسُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرَائِعِ لَا أَمْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا نَهْيَ. أَوْ: صِنْفًا وَاحِدًا، فَكَانَ الْمُرَادُ: أَنَّ الْكُلَّ مِنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ، وَأَبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ خَصَّ صِنْفًا مِنَ النَّاسِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ تَكْرِيمًا لَهُمْ، قَالَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا فِي النَّاسِ. وَأَمَّا فِي التَّوْحِيدِ فَخَمْسَةُ أَقْوَالٍ: إِمَّا فِي الْإِيمَانِ، وَإِمَّا فِي الْكُفْرِ، وَإِمَّا فِي الْخِلْقَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِمَّا فِي الْخُلُوِّ عَنِ الشَّرَائِعِ، وَإِمَّا فِي كَوْنِهِمْ مِنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ الْأَبُ. وَقَدْ رُجِّحَ كَوْنُهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ وَإِنَّمَا بُعِثُوا حِينَ الِاخْتِلَافِ، وَيُؤَكِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا، وَبِقَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاتِّفَاقَ كَانَ حَصَلَ قَبْلَ الْبَعْثِ وَالْإِنْزَالِ، وَبِدَلَالَةِ الْعُقُولِ، إِذِ النَّظَرُ الْمُسْتَقِيمُ يُؤَدِّي إِلَى الْحَقِّ، وَيَكُونُ آدَمُ بُعِثَ إِلَى أَوْلَادِهِ، وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، وَبِالْوِلَادَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَبِأَنَّ أَهْلَ السَّفِينَةِ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ، وَبِإِقْرَارِهِمْ فِي يَوْمِ الذَّرِّ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَرْجَحُ لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلِلتَّصْرِيحِ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا «1» وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: أُمَّةً فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «2» . وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: كَانَ الْبَشَرُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالنَّاسِ مَعْهُودُونَ، وَمَنْ جَعَلَ

_ (1) سورة يونس: 10/ 19. (2) سورة البقرة: 2/ 128.

الِاتِّحَادَ فِي الْإِيمَانِ قَدَّرَ، فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي الْكُفْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، إِذْ كَانَتْ بَعْثَةُ النَّبِيِّينَ إِلَيْهِمْ، وَأَوَّلُ الرُّسُلِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: نُوحٌ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ النَّاسُ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ ، الْمَعْنَى: إِلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ، لِأَنَّ آدَمَ قَبْلَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ إِلَى بَنِيهِ يُعَلِّمُهُمُ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ: أَرْسَلَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِثَوَابِ مَنْ أَطَاعَ، وَمُنْذِرِينَ بِعِقَابِ مَنْ عَصَى، وَقَدَّمَ الْبِشَارَةَ لِأَنَّهَا أَبْهَجُ لِلنَّفْسِ، وَأَقْبَلُ لِمَا يُلْقِي النَّبِيُّ، وَفِيهَا اطْمِئْنَانُ الْمُكَلَّفِ، وَالْوَعْدُ بِثَوَابِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَمِنْهُ. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «1» وَانْتِصَابُ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، عَلَى الْحَالِ الْمُقَارِنَةِ. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مَعَهُمْ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ: وَلَيْسَ تَعْمَلُ فِيهِ أَنْزَلَ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُ مُشَارَكَتُهُمْ لَهُ فِي الْإِنْزَالِ، وَلَيْسُوا مُتَّصِفِينَ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ: وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ مُصَاحِبًا لَهُمْ وَقْتَ الْإِنْزَالِ لَمْ يَكُنْ مُصَاحِبًا لَهُمْ، لَكِنَّهُ انْتَهَى إِلَيْهِمْ. وَالْكِتَابُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَلْ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ عَلَى تَأْوِيلِ: مَعَهُمْ، بِمَعْنَى مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْكُتُبِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى وَحَكَمَ بِهَا النَّبِيُّونَ بَعْدَهُ، وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا كَالْأَسْبَاطِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا وُضِعَ مَوْضِعَ الْجَمْعِ، وَقَدْ قِيلَ بِهِ. وَيُحْتَمَلُ: بِالْحَقِّ، أَنْ يَكُونَ متعلقا: بأنزل، أَوْ بِمَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، أَيْ مَصْحُوبًا بِالْحَقِّ، وَتَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ يَصْحَبُهَا الْحَقُّ وَلَا يُفَارِقُهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُمَا إِنَّمَا يُسْتَفَادَانِ مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ فَلِمَ قُدِّمَا عَلَى الْإِنْزَالِ مَعَ أَنَّهُمَا نَاشِئَانِ عَنْهُ؟ لِأَنَّهُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ قَدْ يَكُونَانِ نَاشِئَيْنِ عَنْ غَيْرِ الْكُتُبِ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِتَابًا يُتْلَى وَيُكْتَبُ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَكَانَ تَقْدِيمُهُمَا هُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّهُمَا حَالَانِ مِنَ النَّبِيِّينَ. فَنَاسَبَ اتِّصَالُهُمَا بِهِمْ، وَإِنْ كَانَا نَاشِئَيْنِ عَنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ.

_ (1) سورة مريم: 19/ 97.

وَقَالَ الْقَاضِي: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَبْلَ بَيَانِ الشَّرْعِ مُمْكِنٌ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعَقْلِيَّاتِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِمَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذُكِرَ لَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ وَالْوَعِيدَ بِالْعِقَابِ لَيْسَا مِمَّا يَقْضِي بِهِمَا الْعَقْلُ وَحْدَهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، ثُمَّ أَتَى الشَّرْعُ بِهِمَا، فَصَارَ ذَلِكَ الْجَائِزُ فِي الْعَقْلِ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ، وَمَا كَانَ بِجِهَةِ الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ لَا يَتَّصِفُ بِهِ النَّبِيُّ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إِلَّا بَعْدَ الْوَحْيِ قَطْعًا، فَإِذَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَحْيُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ عَلَى ظُهُورِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ مِمَّنْ أوحى إليه قطفا. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ إِلَّا وَمَعَهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ فِيهِ بَيَانُ الْحَقِّ، طَالَ ذَلِكَ الْكِتَابُ أَوْ قَصُرَ، دُوِّنَ أَوْ لَمْ يُدَوَّنْ، كَانَ مُعْجِزًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابِ مَنَزَّلًا مَعَهُمْ لَا يَقْضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ فِي: أَنْزَلَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «1» . وَلَمَّا كَانَ الْإِنْزَالُ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ نُسِبَ إِلَى الْجَمِيعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ فِي الْكِتَابِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُوحَى بِهِ، وَلَمَّا كَانَ كَثِيرًا مِمَّا أَوْحَى بِهِ بِكُتُبٍ، أَطْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ الْكِتَابَ تَسْمِيَةً لِلْمَجْمُوعِ بِاسْمِ كَثِيرٍ مِنْ أَجْزَائِهِ. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ، وَالضَّمِيرُ فِي: لِيَحْكُمَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُضْمَرُ فِي: أَنْزَلَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَفْصِلَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ أَيْ: لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ بَيْنَ النَّاسِ، وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ، كَمَا أَسْنَدَ النُّطْقَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «2» وَكَمَا قَالَ: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ نَسِيجَهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ وَلِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ أَصْلُ الْحُكْمِ، فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ رَدًّا لِلْأَصْلِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ: النَّبِيَّ، قَالَ: لِيَحْكُمَ اللَّهُ أَوِ الْكِتَابُ أَوِ النَّبِيُّ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ يُضْعِفُ ذَلِكَ على أنه يَحْتَمِلَ مَا قَالَهُ، فَيَعُودُ عَلَى أَفْرَادِ الْجَمْعِ، أَيْ: لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بِكِتَابِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ مَعَ ظُهُورِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ويبين

_ (1) سورة الحديد: 57/ 25. (2) سورة الجاثية: 45/ 29.

عَوْدِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قِرَاءَةُ الْجَحْدَرِيِّ فِيمَا ذَكَرَ مَكِّيٌّ لِنَحْكُمَ، بِالنُّونِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ عَوْدُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْتِفَاتًا إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي: أَنْزَلَ، إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَظَنَّ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَصْحِيفًا قَالَ، مَا مَعْنَاهُ لِأَنَّ مَكِّيًّا لَمْ يَحْكِ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ قِرَاءَتَهُ الَّتِي نَقَلَ النَّاسُ عَنْهُ، وَهِيَ: لِيُحْكَمَ، عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَنَقَلَ مَكِّيٌّ لِنَحْكُمَ بِالنُّونِ. وَفِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي نَقَلَ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِيَحْكُمَ، حُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ أَوِ النَّبِيُّونَ. وَهِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ، وَانْتِصَابُهُ بِقَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ، وَفِيمَا، مُتَعَلِّقٌ بِهِ أيضا، و: فيه، الدِّينِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ.. قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ دِينُهُ، أَوْ: هُمَا، أَوْ: كِتَابُهُ. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ، يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي: فِيهِ، الْأُولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى: مَا، وَشَرْحُ مَا الْمَعْنِيُّ: بما، أهو الذين، أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَمْ دِينُهُ؟ أَمْ هُمَا؟ أَمْ كِتَابُهُ؟ وَالضَّمِيرُ فِي: أُوتُوهُ، عَائِدٌ إِذْ ذَاكَ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ، وأوتوه عَائِدٌ أَيْضًا عَلَى الْكِتَابِ، التَّقْدِيرُ: وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ: أُوتُوا الْكِتَابَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: وَمَا اخْتَلَفَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إلا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ: أُوتُوا عِلْمَ نُبُوَّتِهِ، فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْبَغْيِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَالَّذِينَ أُوتُوهُ الْيَهُودُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَالْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الدِّينِ، أَيْ: وَمَا اخْتَلَفَ فِي الدِّينِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ أَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي: أُوتُوهُ وَفِيهِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، يَعُودُ عَلَى: مَا، الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: وما اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ

مَفْهُومُهُ كُلُّ شَيْءٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ، بَيَّنَهُ بِمَا نَزَلَ فِي الْكِتَابِ، أَوْ إِلَى الْكِتَابِ إِذْ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، أَوْ إِلَى النَّبِيِّ يُوَضِّحُهُ بِالْكِتَابِ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي سَبَقَتْ فِي الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ. وَالَّذِينَ أُوتُوهُ أَرْبَابُ الْعِلْمِ بِهِ وَالدِّرَاسَةِ لَهُ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا مِنْهُ عَلَى شَنَاعَةِ فِعْلِهِمْ، وَقَبِيحِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلِأَنَّ غَيْرَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ فِي الِاخْتِلَافِ فَهُمْ أَصْلُ الشَّرِّ، وَأَتَى بِلَفْظِ: مِنْ، الدَّالَّةِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُنَبَّهًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ زَمَانِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، لَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ اتِّفَاقٌ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَ الْمَجِيءِ، بَلْ بِنَفْسِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ اخْتَلَفُوا، لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ. وَالْبَيِّنَاتُ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَالَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَوْ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، فَالَّذِينَ أُوتُوهُ عُلَمَاءُ كُلِّ مِلَّةٍ، أَوْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ أوتوه الْيَهُودُ، أَوْ مُعْجِزَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ أُوتُوهُ جَمِيعُ الْأُمَمِ، أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ أُوتُوهُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبَيِّنَاتِ هِيَ مَا أَوْضَحَتْهُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَنْبِيَاءِ الْأُمَمِ الْمُوجِبَةِ الِاتِّفَاقَ وَعَدَمَ الِاخْتِلَافِ، فَجَعَلُوا مَجِيءَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ سَبَبًا لِاخْتِلَافِهِمْ، وَذَلِكَ أَشْنَعُ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ رَتَّبُوا عَلَى الشَّيْءِ خِلَافَ مُقْتَضَاهُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَيْسَ لِمُوجِبٍ وَلَا دَاعٍ إِلَّا مُجَرَّدَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي. وَانْتِصَابُ: بَغْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَ: بَيْنَهُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ، فَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا بَيْنَهُمْ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: بَاغِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ هُوَ الْبَغْيُ، وَسَبَبُ هَذَا الْبَغْيِ حَسَدُهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عَلَى النُّبُوَّةِ، أَوْ كَتْمُهُمْ صِفَتَهُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ طَلَبُهُمُ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ فِيهَا أَقْوَالٌ: فَالْأَوَّلَانِ: يَخْتَصَّانِ بِمَنْ يَحْضُرُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَالثَّالِثُ: يَكُونُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالِاخْتِلَافُ الثَّانِي الْمَعْنِيُّ بِهِ ازْدِيَادُ الِاخْتِلَافِ، أَوْ

دَيْمُومَةُ الِاخْتِلَافِ إِذَا فَسَّرْنَا: أُوتُوهُ: بِأُوتُوا الْكِتَابَ، فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَكُونُ بَعْدَ إِيتَاءِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: بِجُحُودِ مَا فِيهِ، وَقِيلَ: بِتَحْرِيفِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: بَغْيًا، إِشَارَةٌ إِلَى حَصْرِ الْعِلَّةِ، فَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ كَانَ ليزل بِهِ الِاخْتِلَافُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: الْبَيِّنَاتُ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، وَالدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ قَدْ حَصَلَا، وَلَا عُذْرَ فِي الْعُدُولِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ لَكِنْ عَارَضَ هَذَا الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ مَا رُكِّبَ فِيهِمْ مِنَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالْحِرْصِ على الاستيثار بالدنيا. إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وهو فاعل اختلف، و: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ، مُتَعَلِّقٌ بِاخْتَلَفَ، وَبَغْيًا مَنْصُوبٌ بِاخْتَلَفَ، هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ، قَالَ: وَلَا يُمْنَعُ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، والمفرغ فِي الْفَاعِلِ، وَفِي الْمَجْرُورِ، وَفِي الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَحْصُورٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مُسْتَثْنَى بِهَا، شَيْئَانِ دُونَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا جَازَ مَعَ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يَنْوِي بَعْدَهَا إِلَّا، فَصَارَتْ كَالْمَلْفُوظِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ مَا يُوهِمُ ذَلِكَ جُعِلَ عَلَى إِضْمَارِ عَامِلٍ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «1» على إضمار فعل التقدير: أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا بِالْبَيِّنَاتِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا، لِئَلَّا يَكُونَ: إِلَّا، قَدِ اسْتُثْنِيَ بِهَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا رِجَالًا، وَالْآخَرُ: بِالْبَيِّنَاتِ، مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ. وَقَدْ مَنَعَ أَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو عَلِيٍّ: مَا أَخَذَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا، وَمَا: ضَرَبَ الْقَوْمُ إِلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَاخْتَلَفَا فِي تَصْحِيحِهَا، فَصَحَّحَهَا أَبُو الْحَسَنِ بِأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمَرْفُوعِ الَّذِي بَعْدَهَا، فَيَقُولُ: مَا أَخَذَ أَحَدٌ زَيْدٌ إِلَّا دِرْهَمًا، فَيَكُونُ: زَيْدٌ، بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ، وَيَكُونُ: إِلَّا، قد

_ (1) سورة النحل: 16/ 43 و 44.

اسْتُثْنِيَ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الدِّرْهَمُ. وَيَكُونُ إِلَّا دِرْهَمًا اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي حُذِفَ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: مَا أَخَذَ زَيْدٌ شَيْئًا إِلَّا دِرْهَمًا. وَتَصْحِيحُهَا عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ بِأَنْ يَزِيدَ فِيهَا مَنْصُوبًا قَبْلَ إِلَّا فَيَقُولُ: مَا أَخَذَ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا. وَ: مَا ضَرَبَ الْقَوْمُ أَحَدًا إِلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَكُونُ الْمَرْفُوعُ بَدَلًا مِنَ الْمَرْفُوعِ، وَالْمَنْصُوبُ بَدَلًا مِنَ الْمَنْصُوبِ، هَكَذَا خَرَّجَهُ بعضهم. قال ابن السراح: أعطيت الناس درهما إلا عَمْرًا جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ أعطيت الناس درهما إلا عمر الدنانير، لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُسْتَثْنَى بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا أَعْطَيْتُ النَّاسَ دِرْهَمًا إِلَّا عَمْرًا دَانِقًا، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، لَمْ يَجُزْ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ جَازَ، فَتُبْدِلُ عَمْرًا مِنَ النَّاسِ، وَدَانِقًا مِنْ دِرْهَمٍ، كَأَنَّكَ قُلْتَ مَا أَعْطَيْتُ إِلَّا عَمْرًا دَانِقًا. وَيَعْنِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْحَصْرِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا قَالَهُ ابْنُ السراح فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَا بُدَّ مِنَ اقْتِرَانِهِ بِإِلَّا، فَأَشْبَهَ الْمَعْطُوفَ بِحَرْفٍ، فَكَمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهُ مَعْطُوفَانِ لَا يَقَعُ بَعْدَ إِلَّا بَدَلَانِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ إِلَّا مُسْتَثْنَيَانِ دُونَ عَطْفٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ إِلَّا هِيَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُعَدَّيَةٌ، وَلَوْلَا إِلَّا لَمَا جَازَ لِلِاسْمِ بَعْدَهَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهَا، فَهِيَ: كَوَاوِ مَعَ وَكَالْهَمْزَةِ: الَّتِي جُعِلَتْ لِلتَّعْدِيَةِ فِي بِنْيَةِ الْفِعْلِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا تُعَدَّى: وَاوُ مَعَ وَلَا الْهَمْزَةُ لِغَيْرِ مَطْلُوبِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا بِحَرْفِ عَطْفٍ، فَكَذَلِكَ إِلَّا، وَعَلَى هَذَا الَّذِي مَهَّدْنَاهُ يَتَعَلَّقُ: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَيَنْتَصِبُ: بَغْيًا، بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ الَّذِينَ آمَنُوا: هُمْ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ: فِيمَا اخْتَلَفُوا، عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ لَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفَ، وَمِنَ الْحَقِّ تَبْيِينُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَ: مَنْ، تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ: مَا، فَتَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، التَّقْدِيرُ: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُنَا عَلَى الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ حُمِلَ هَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَفِي تَعْيِينِهِ خِلَافٌ: أَهُوَ الْجُمُعَةُ؟ جَعَلَهَا

الْيَهُودُ السَّبْتَ، وَالنَّصَارَى الْأَحَدَ، وَكَانَتْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كَمَا فُرِضَتْ عَلَيْنَا؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «نَحْنُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ» . فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ قَالَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَالْيَوْمُ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى. أَوِ الصَّلَاةُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَغْرِبِ، فَهَدَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْقِبْلَةِ. قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. أو إبراهيم على نبينا وعليه السَّلَامُ؟ قَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِدِينِهِ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا «1» أَوْ عِيسَى؟ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، جَعَلَتْهُ الْيَهُودُ لَعْنَةً، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا فَهَدَانَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِ الْحَقِّ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَوِ الْكُتُبُ الَّتِي آمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا؟ أَوِ الصِّيَامُ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِشَهْرِ رَمَضَانَ. فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ، وَتَقْدِيرُهُ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَدَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَوْفُ أَنْ يُحْتَمَلَ اللَّفْظُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ، فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَعَسَاهُ غَيْرَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: وَادِّعَاءُ الْقَلْبِ عَلَى لَفْظِ كِتَابِ اللَّهِ دُونَ ضَرُورَةٍ تَدْفَعُ إِلَى ذَلِكَ عَجْزٌ وَسُوءُ نَظَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ يَتَخَرَّجُ عَلَى وجهه ووصفه لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَهَدَى، يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْحَقَّ، وَتَمَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فِيهِ، وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْحَقِّ، جِنْسُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَقَدَّمَ لَفْظَ الْخِلَافِ عَلَى لَفْظِ الْحَقِّ اهْتِمَامًا، إِذِ الْعِنَايَةُ إِنَّمَا هِيَ بِذِكْرِ الْخِلَافِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَالْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا يَخْتَصُّ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَلَا نُخَرِّجُ كَلَامَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَبِإِذْنِهِ: مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَوْ: بِأَمْرِهِ، وَتَوْفِيقِهِ، أَوْ بِتَمْكِينِهِ، أَقْوَالٌ مَرَّتْ مُشْبِعًا الْكَلَامَ عَلَيْهَا، فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ «2» وَيَتَعَلَّقُ بِإِذْنِهِ بِقَوْلِهِ: فَهَدَى

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 67. (2) سورة البقرة: 2/ 97.

اللَّهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ أَضْمَرَ لَهُ فِعْلًا مُطَاوِعًا تَقْدِيرُهُ: فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ، إِذْ لَا حَاجَةَ لِهَذَا الْإِضْمَارِ. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هُدَى الْعَبْدِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ يَشَاءُ لَهُ الْهِدَايَةَ، وَرُدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِهُدَى نَفْسِهِ، وَتَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ، جَاءَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْفُصْحَى الَّتِي هِيَ اسْتِقْلَالُ كُلِّ جُمْلَةٍ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَفْتَقِرَ بِالْإِضْمَارِ إِلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ مُفَسِّرِ ذَلِكَ الْمُضْمَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ. وَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشَاءُ، إِشْعَارٌ، بَلْ دَلَالَةٌ، عَلَى أَنَّ هِدَايَتَهُ تَعَالَى مَنْشَؤُهَا الْإِرَادَةُ فَقَطْ، لَا وَصْفٌ ذَاتِيٌّ فِي الَّذِي يَهْدِيهِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْهِدَايَةَ، بل ذلك مفدوق بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَقَطْ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ «1» . أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَ مِنَ الْجَهْدِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْبَرْدِ وَأَنْوَاعِ الْأَذَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «2» قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. أَوْ فِي حَرْبِ أُحُدٍ، قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَرَتْ شَدَائِدُ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي وَأَصْحَابُهُ: إِلَى مَتَى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُهْلِكُونَ أَمْوَالَكُمْ؟ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا سُلِّطَ عَلَيْكُمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، فَقَالُوا: لَا جَرَمَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ: إِلَى مَتَى تَسْأَلُونَ أَنْفُسَكُمْ بِالْبَاطِلِ؟ أَوْ: فِي أَوَّلِ مَا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، دَخَلُوهَا بِلَا مَالٍ، وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَأَظْهَرَتِ الْيَهُودُ الْعَدَاوَةَ، وَأَسَرَّ قَوْمٌ النِّفَاقَ. قَالَهُ عَطَاءٌ. قِيلَ: وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَالْمُرَادُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي يُفْضِي اتِّبَاعُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ وَالتَّكْلِيفِ، أَوْ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ هَدَاهُمْ، بَيَّنَ أَنَّهُ بَعْدَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ احْتَمَلُوا الشَّدَائِدَ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ، فَكَذَا أَنْتُمْ، أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، لَا تَسْتَحِقُّونَ الْفَضِيلَةَ فِي الدِّينِ إِلَّا بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمِحَنِ. وَ: أَمْ، هُنَا مُنْقَطِعَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ فَتَتَضَمَّنُ إِضْرَابًا، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ كَلَامٍ إلى

_ (1) سورة الأنبياء: 23/ 21. (2) سورة الأحزاب: 33/ 10.

كَلَامٍ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِفْهَامٍ لَكِنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: بِأَنَّ أَمْ قَدْ تَجِيءُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْسِيمٌ وَلَا مُعَادَلَةٌ، أَلِفَ استفهام. فقوله: قَدْ تَجِيءُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّهَا تَتَقَدَّرُ، بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، فَكَمَا أَنَّ: بَلْ، لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا كَلَامٌ حَتَّى يَصِيرَ فِي حَيِّزِ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَكَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَ مَعْنَاهُ. وَزَعَمَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَيُبْتَدَأُ بِهَا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَحَسِبْتُمْ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِمَعْنَى بَلْ، قَالَ: بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصَوَّرْتَهَا، أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ؟ وَرَامَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُتَّصِلَةً، وَيَجْعَلَ قَبْلَهَا جُمْلَةً مُقَدَّرَةً تَصِيرُ بِتَقْدِيرِهَا أَمْ مُتَّصِلَةً، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَصَبَرُوا عَلَى اسْتِهْزَاءِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ، أَفَتَسْلُكُونَ سَبِيلَهُمْ؟ أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ؟ فَتَلَخَّصَ فِي أَمْ هُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الِانْقِطَاعُ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ، وَالِاتِّصَالُ: عَلَى إِضْمَارِ جُمْلَةٍ قَبْلَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ، وَالْإِضْرَابُ بِمَعْنَى بَلْ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَمَفْعُولَا: حَسِبْتُمْ، سَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّهُمَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ فَسَدَّتْ عِنْدَهُ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ «1» . وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الْجُمْلَةُ حَالٌ، التَّقْدِيرُ: غَيْرُ آتِيكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ: إِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى ابْتِلَاءِ شَدَائِدَ، وَصَبْرٍ عَلَى مَا يُنَالُ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ، وَالْفَقْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ فَقَطْ بَلْ، سَبِيلُكُمْ فِي ذَلِكَ سَبِيلُ مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ. خَاطَبَ بِذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، مُلْتَفِتًا إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ وَالثَّبِيتِ لَهُمْ، وَإِعْلَامًا لَهُمْ أنه لا يضركون أَعْدَائِكُمْ لَا يُوَافِقُونَ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنْبِيَائِهَا، وَصَبَرُوا، حَتَّى أَتَاهُمُ النَّصْرُ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 46. [.....]

وَ: لَمَّا، أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ: لَمْ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ مُتَّصِلًا بِزَمَانِ الْحَالِ، فَهِيَ لِنَفْيِ التَّوَقُّعِ. وَالْمَثَلُ: الشَّبَهُ، إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ لِحَالٍ غَرِيبَةٍ، أَوْ قَضِيَّةٍ عَجِيبَةٍ لَهَا شَأْنٌ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: مِثْلُ مِحْنَةِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَعَلَى حَذْفِ مَوْصُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْمُؤْمِنِينَ. وَالَّذِينَ خَلَوْا من قبلكم، متعلق بخلوا، وَهُوَ كَأَنَّهُ تَوْكِيدٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ خَلَوْا يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ. مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ وَتَبْيِينٌ لَهُ، فَلَيْسَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا ذَلِكَ الْمَثَلُ؟ فَقِيلَ: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ. وَالْمَسُّ هُنَا مَعْنَاهُ: الْإِصَابَةُ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَسِّ بِالْيَدِ، فَهُوَ هُنَا مَجَازٌ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَسَّتْهُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَتَكُونُ الْحَالُ إِذْ ذَاكَ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي: خَلَوْا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ «1» وَزُلْزِلُوا أَيْ أُزْعِجُوا إِزْعَاجًا شَدِيدًا بِالزَّلْزَلَةِ، وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ: وَزَلْزَلَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ. حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ قرأ الأعمش: وزلوا، و: يقول الرَّسُولُ، بِالْوَاوِ بَدَلَ: حَتَّى، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَزُلْزِلُوا ثُمَّ زُلْزِلُوا وَيَقُولُ الرَّسُولُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَتَّى، وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى الْغَايَةِ، وَإِمَّا عَلَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: وَزُلْزِلُوا إِلَى أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ، أَوْ: وَزُلْزِلُوا كَيْ يَقُولَ الرَّسُولُ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْمَسَّ وَالزِّلْزَالَ لَيْسَا مَعْلُولَيْنِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِرَفْعِ، يَقُولُ: بَعْدَ حَتَّى، وَإِذَا كَانَ الْمُضَارِعُ بَعْدَ حَتَّى فِعْلَ حَالٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ حَالًا فِي حِينِ الْإِخْبَارِ، نَحْوَ: مَرِضَ حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا قَدْ مَضَتْ، فَيَحْكِيهَا عَلَى مَا وَقَعَتْ، فَيُرْفَعُ الْفِعْلُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُضِيُّ، فَيَكُونُ حَالًا مَحْكِيَّةً، إِذِ الْمَعْنَى: وَزُلْزِلُوا فَقَالَ الرَّسُولُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى مسائل:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 177.

حَتَّى، فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ) وَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يَحْتَمِلُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِيَقُولَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِآمَنُوا. مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ مَتَى: سُؤَالٌ عَنِ الْوَقْتِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالِاسْتِعْلَامِ لِوَقْتِ النَّصْرِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْطَاءِ، إِذْ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالِابْتِلَاءِ وَالزِّلْزَالِ هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، وَتَنَاهَى ذَلِكَ وَتَمَادَى بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ نَطَقُوا بِهَذَا الْكَلَامِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لَهُمْ إِجَابَةً لَهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ مِنْ تَعْجِيلِ النَّصْرِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ دَاخِلَتَيْنِ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالُوا ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لِلنَّصْرِ وَضَجَرًا مِمَّا نَالَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِمْ إِجَابَةً لَهُمْ وَإِعْلَامًا بِقُرْبِ النَّصْرِ، فَتَعُودُ كُلُّ جُمْلَةٍ لِمَنْ يُنَاسِبُهَا، وَصَحَّ نِسْبَةُ الْمَجْمُوعِ لِلْمَجْمُوعِ لَا نِسْبَةُ الْمَجْمُوعِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْقَائِلِينَ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي بَعْضِ التَّخَارِيجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ «1» وَإِنَّ قَوْلَهُ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ مِنْ قَوْلِ إِبْلِيسَ، وَإِنَّ قَوْلَهُ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ إِبْلِيسَ، وَكَانَ الْجَوَابُ ذَلِكَ لِمَا انْتَظَمَ إِبْلِيسُ فِي الْخِطَابِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2» . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ نَصَرَ اللَّهُ قَرِيبٌ، فَقَدَّمَ الرَّسُولَ فِي الرُّتْبَةِ لِمَكَانَتِهِ، وَقَدَّمَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَقَدُّمِهِ فِي الزَّمَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِهِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ حَسَنٌ، إِذِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مِمَّا يَخْتَصَّانِ بِالضَّرُورَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمْ حَيْثُ صَرَّحَ بِهِمْ ظَاهِرًا بهذا الوصف

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30. (2) سورة البقرة: 2/ 30.

الشَّرِيفِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، وَلَمْ يَأْتِ، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ قَبْلُ مِثْلَ مِحْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَلَوْا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ عَلَى طَلَبِ اسْتِعْجَالِ النَّصْرِ، لَا عَلَى شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ، وَالرَّسُولُ اسْمُ الْجِنْسِ، وَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِلنَّازِلَةِ الَّتِي دَعَتِ الرَّسُولَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاللَّائِقُ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ، وَالرَّسُولُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْمُ الْجِنْسِ لَا وَاحِدَ بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْيَسَعُ، وَقِيلَ: هو شعيبا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الَّذِينَ خَلَوْا قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ. وَحَكَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن: الزَّلْزَلَةَ، هُنَا مُضَافَةٌ لِأُمَّتِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ بَعْضُهُمْ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِجْمَالٌ، وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ أن: الرسول والمؤمنون قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْجُمْلَتَيْنِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ صَبَرْنَا ثِقَةً بِوَعْدِكَ، أَوْ: عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالثَّانِيَةَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ بِمَتَى يُشِيرُ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْقُرْبِ، تَضَمَّنَ الْجَوَابُ الْقُرْبَ، وَظَاهِرُ هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّ قُرْبَ النَّصْرِ هُوَ: يُنْصَرُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيَظْفَرُونَ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَهُمْ نَصْرُنا «1» وإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّصْرُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الِابْتِلَاءِ، وَمَتَى انْقَضَى حَرْبٌ جَاءَهُ آخَرُ، فَلَا يَزَالُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَجِهَادِ النَّفْسِ إِلَى الْمَوْتِ. وَفِي وَصْفِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَلَوْا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا يَجْرِي لَنَا مَا جَرَى لَهُمْ، فَنَتَأَسَّى بِهِمْ، وَنَنْتَظِرُ الْفَرَجَ مِنَ اللَّهِ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّهُمْ أُجِيبُوا لذلك قريبا.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 11. (2) سورة النصر: 110/ 1.

يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ نَزَلَتْ فِي عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ذَا مَالٍ كَثِيرٍ، سَأَلَ بِمَاذَا أَتَصَدَّقُ؟ وَعَلَى مَنْ أُنْفِقُ؟ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ قَالَ: إِنَّ لِي دِينَارًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ» فَقَالَ إِنَّ لِي دِينَارَيْنِ: فَقَالَ: «أَنْفِقْهُمَا عَلَى أَهْلِكَ» فَقَالَ: إِنَّ لِي ثَلَاثَةً. فقال: «أنفقها عَلَى خَادِمِكَ» فَقَالَ: إِنَّ لي أربعة. فقال: «أنفقها عَلَى وَالِدَيْكَ» . فَقَالَ إِنَّ لي خمسة. فقال: «أنفقها عَلَى قَرَابَتِكَ» . فَقَالَ: إِنَّ لي ستة. فقال: «أنفقها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ أَحْسَنُهَا» . وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذَا التَّرَقِّي عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَاضِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي التَّطَوُّعِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِمَ الْمَهْدَوِيُّ عَلَى السُّدِّيِّ فِي هَذَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. ثُمَّ نُسِخَ مِنْهَا الْوَالِدَانِ انْتَهَى وَقَدْ قَالَ: قَدَّمَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ أَنَّهَا فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَعَلَى هَذَا نُسِخَ مِنْهَا الْوَالِدَانِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمَا مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ نَدْبٌ، وَالزَّكَاةُ غَيْرُ هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَا نَسْخَ فِيهَا. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى النَّفَقَةِ وَبَذْلِ الْمَالِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَحَلَّى بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى لَقَدْ وَرَدَ: الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي: يَسْأَلُونَكَ، لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافُ لِخِطَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَ: مَاذَا، يَحْتَمِلُ هُنَا النَّصْبَ وَالرَّفْعَ، فَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّ: مَاذَا، كُلَّهَا اسْتِفْهَامٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ؟ فَمَاذَا مَنْصُوبٌ بِيُنْفِقُونَ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ: مَا. وحدها هي الاستفهام، وذا موصولة بمعنى الذي، وينفقون صِلَةٌ لِذَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ بِهِ؟ فَتَكُونُ: مَا، مَرْفُوعَةً بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرُهُ، وَعَلَى كِلَا الْإِعْرَابَيْنِ فَيَسْأَلُونَكَ مُعَلَّقٌ، فَهُوَ عَامِلٌ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَسْأَلُونَكَ، وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ «1» عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ هُنَاكَ. وَ: مَاذَا، سُؤَالٌ عَنِ الْمُنْفِقِ، لَا عَنِ الْمَصْرِفِ وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: وَلِمَنْ يُعْطُونَهُ؟ وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي السُّؤَالِ وَالتَّعْلِيقِ. قَوْلُ الشاعر:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 211.

أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ إِلَّا أَنَّ: مَاذَا، هُنَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِيُحَاوِلُ، لِأَنَّ بَعْدَهُ: أَنَحْبٌ فَيُقْضَى، أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ: مَاذَا كُلُّهُ مُبْتَدَأٌ، وَ: يُحَاوِلُ، الْخَبَرُ لِضَعْفِ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ مِنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ الصِّلَةِ، فَإِنَّ حَذْفَهُ مِنْهَا فَصِيحٌ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ: مَاذَا، إِذَا كَانَتِ اسْمًا مُرَكَّبًا فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِلَّا مَا جَاءَ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمَاذَا عَسَى الْوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا ... سِوَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ فَإِنَّ عَسَى لَا تَعْمَلُ فِي: مَاذَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ إِذْ لا صلة لذا. انْتَهَى. وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ: لذا، فِي الْبَيْتِ صِلَةٌ لِأَنَّ عَسَى لَا تَقَعُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، فَلَا يَجُوزُ لذا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ اسْمًا مُرَكَّبَةً فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِلَّا، فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ لَا نَعْرِفُهُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: مَاذَا مَحْبُوبٌ لَكَ؟ وَ: مَنْ ذَا قَائِمٌ؟ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِيبِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا مَحْبُوبٌ؟ وَمَنْ قَائِمٌ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ ذَا تَضْرِبُهُ؟ عَلَى تَقْدِيرِهِ: مَنْ تَضْرِبُهُ؟ وَجَعَلَ: مَنْ، مُبْتَدَأً. قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ هَذَا بَيَانٌ لِمَصْرِفِ مَا يُنْفِقُونَهُ، وَقَدْ تضمن المسئول عَنْهُ، وَهُوَ الْمُنْفِقُ بِقَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا سُؤَالًا عَنِ الْمَصْرِفِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ مَصْرِفُ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ أَيْ: يَجْعَلُونَ إِنْفَاقَهُمْ؟ فَيَكُونُ الْجَوَابُ إِذْ ذَاكَ مُطَابِقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ السُّؤَالُ الْمَصْرِفُ، وَمِنَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْجَوَابُ ذِكْرُ الْمُنْفِقِ، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ، وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بَيَانَ مَا يُنْفِقُونَهُ، وَهُوَ كُلُّ خَيْرٍ، وَبُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى هَوَاهُمْ، وَهُوَ بَيَانُ الْمَصْرِفِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهَا إِلَّا أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَهَا، كقول الشاعر:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 171.

إِنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ لَا بَأْسَ بِهِ ومِنْ خَيْرٍ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ. وَبَدَأَ فِي الْمَصْرِفِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، ثُمَّ بِالْأَحْوَجِ فَالْأَحْوَجِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ وَشَبَهِهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عَلَى الْوَاجِدِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا فِي الْوَالِدَيْنِ إِذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ، وَهُوَ غَنِيٌّ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ مَا: فِي الْمَوْضِعَيْنِ شَرْطِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ موصولا، وأنفقتم، صِلَةٌ، وَ: لِلْوَالِدَيْنِ، خَبَرٌ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْمُفْرَدِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعِ خَبَرًا، أَوْ هُوَ مَعْمُولٌ لِمُفْرَدٍ، أَوِ لِجُمْلَةٍ. وَإِذَا كَانَتْ: مَا، فِي: مَا أَنْفَقْتُمْ، شَرْطِيَّةً، فَهَذَا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ خبر لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَهُوَ أَوْ فَمَصْرِفُهُ لِلْوَالِدَيْنِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب: وَمَا يَفْعَلُوا، بِالْيَاءِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ مَا أُضْمِرُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: وَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ، فَيَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ قَبْلُ، إِذْ يَشْمَلُهُمْ وَغَيْرَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ، فِي الْإِنْفَاقِ يَدُلُّ عَلَى طِيبِ الْمُنْفَقِ، وَكَوْنِهِ حَلَالًا، لِأَنَّ الْخَبِيثَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ «1» وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يُقَالُ فِيهِ خَيْرٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ خَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَفْعَلُوا، هُوَ أَعَمُّ: مِنْ، خَيْرٍ، الْمُرَادِ بِهِ الْمَالُ، لأنه مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هُوَ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْفَاقِ، فَيَدْخُلُ الْإِنْفَاقُ فِي الفعل، فخير، هُنَا هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ الشَّرَّ، وَالْمَعْنَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَاتِ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هُنَا: وَمَا تَفْعَلُوا، رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْإِنْفَاقِ، أَيْ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ خَيْرٍ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ بَيَانًا لِلْمَصْرِفِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْمُجَازَاةِ، وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ إِنْفَاقَ الْمَالِ وَغَيْرَهُ، وَيَتَرَجَّحُ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ. وَلَمَّا كَانَ أَوَّلًا السُّؤَالُ عَنْ خَاصٍّ، أُجِيبُوا بِخَاصٍّ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ الْخَاصِّ التَّعْمِيمُ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَذَكَرَ الْمُجَازَاةَ عَلَى فِعْلِهَا، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُجَازَاةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ جَازَى عَلَيْهِ، فَهِيَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَتَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بالمجازاة.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 267.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ الْجِهَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَكَرِهُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كُتِبَ، أَنَّهُ فُرِضَ عَلَى الْأَعْيَانِ، كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «1» كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «2» إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «3» وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، قَالَ: فُرِضَ الْقِتَالُ عَلَى أَعْيَانِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ، وَقُيِّمَ بِهِ، صَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَوَّلُ فَرْضِهِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَى أَنْ نَزَلَ بِسَاحَةِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْجِهَادُ تَطَوُّعٌ، وَيُحْمَلُ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ، وَقَدْ قِيمَ بِالْجِهَادِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ تَطَوُّعٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُتِبَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى النَّمَطِ الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا مِنْ لَفْظِ: كُتِبَ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: كَتَبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِنَصْبِ الْقِتَالِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ فِي كُتِبَ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ مَا مَسَّ مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَلَايَا، وَأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعْرُوفٌ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُكَلَّفُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْفَاقَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ، فَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ بِالْمَالِ، انْتَقَلَ إلى أعلى مِنْهُ وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الدِّينُ، وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أَيْ مَكْرُوهٌ، فَهُوَ مِنْ باب النقض بمنى الْمَنْقُوضِ، أَوْ ذُو كُرْهٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ لِمُبَالَغَةِ النَّاسِ فِي كَرَاهَةِ الْقِتَالِ، جُعِلَ نَفْسَ الْكَرَاهَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ: هُوَ، عَلَى الْقِتَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يعود عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ: كُتِبَ، أَيْ: وَكَتْبُهُ وَفَرْضُهُ شَاقٌّ عَلَيْكُمْ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَيْ: وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ بِالطَّبِيعَةِ، أَوْ مَكْرُوهٌ قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: كَرْهٌ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَدْلُولِ الْكَرْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 183. (2) سورة البقرة: 2/ 178. (3) سورة النساء: 4/ 103.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَضْمُومِ: كَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ، تُرِيدُ الْمَصْدَرَ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَأَنَّهُمْ أُكْرِهُوا عَلَيْهِ لِشِدَّةِ كراهته له وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً «1» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ كُرْهٍ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثُّلَاثِيُّ مَصْدَرًا لِلرُّبَاعِيِّ هُوَ لَا يَنْقَاسُ، فَإِنْ رُوِيَ اسْتِعْمَالُ عَنِ الْعَرَبِ اسْتَعْمَلْنَاهُ. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. عَسَى هُنَا للاشفاق لا للترجي، ومجيئها لِلْإِشْفَاقِ قَلِيلٌ، وَهِيَ هُنَا تَامَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ، وَلَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً لَكَانَتْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا «2» فَقَوْلُهُ: أَنْ تَكْرَهُوا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِعَسَى، وَزَعَمَ الْحَوْفِيُّ فِي أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ بَعِيدٍ، وَانْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ: شَيْئًا الْقِتَالُ، لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالطَّبْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْأَسْرِ وَالْقَتْلِ، وَإِفْنَاءِ الْأَبْدَانِ، وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ. وَالْخَيْرُ الَّذِي فِيهِ هُوَ الظَّفَرُ. وَالْغَنِيمَةُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ أَسْرًا وَقَتْلًا وَنَهْبًا وَفَتْحًا، وَأَعْظَمُهَا الشَّهَادَةُ وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَمَنَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: شَيْئًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ أَقَلُّ مِنَ الْحَالِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، قَالُوا: وَسَاغَ دُخُولُ الْوَاوِ لَمَّا كَانَتْ صُورَةُ الْجُمْلَةِ هُنَا كَصُورَتِهَا، إِذْ كَانَتْ حَالًا. انْتَهَى. وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْوَاوَ فِي النُّعُوتِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْعَطْفِ فِي نَحْوِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَالِمٍ وَكَرِيمٍ، وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَدَعْوَى زِيَادَةِ الْوَاوِ بَعِيدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ الْجُمْلَةُ صِفَةً. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ عَسَى هُنَا لِلتَّرَجِّي، ومجيئها لَهُ هُوَ الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَالُوا: كُلُّ عَسَى فِي الْقُرْآنِ لِلتَّحْقِيقِ، يَعْنُونَ بِهِ الْوُقُوعَ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً «3» . وَانْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ: شَيْئًا، الْخُلُودُ إِلَى الرَّاحَةِ وَتَرْكُ الْقِتَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْبُوبٌ بِالطَّبْعِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضِدِّ مَا قَدْ يُتَوَقَّعُ مِنَ الشَّرِّ فِي الْقِتَالِ، وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ هُوَ ذُلُّهُمْ، وَضَعْفُ أَمْرِهِمْ، وَاسْتِئْصَالُ شَأْفَتِهِمْ، وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ، وَنَهْبُ أَمْوَالِهِمْ، وَمِلْكُ بلادهم.

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 15. (2) سورة البقرة: 2/ 246. (3) سورة التحريم: 66/ 5. [.....]

وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ إِعْرَابًا، كَالْكَلَامِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَيْثُ كَلَّفَكُمُ الْقِتَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ مُغَيَّبَةٌ عَنْ عِلْمِكُمْ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى الرِّضَى بِمَا جَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، قَالَ الْحَسَنُ: لَا تَكْرَهُوا الْمُلِمَّاتِ الْوَاقِعَةَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ تَكْرَهُهُ فِيهِ أَرَبُكَ، وَلَرُبَّ أَمْرٍ تُحِبُّهُ فِيهِ عَطَبُكَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ ... جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ خُفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ ... وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ وَقَالَ الْوَضَّاحِيُّ: رُبَّمَا خُيِّرَ الْفَتَى ... وَهْوَ لِلْخَيْرِ كَارِهُ وَقَالَ ابْنُ السَّرْحَانِ: كَمْ فَرْحَةٌ مَطْوِيَّةٌ ... لَكَ بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَصَائِبْ وَمَسَرَّةٌ قَدْ أَقْبَلَتْ ... مِنْ حَيْثُ تُنْتَظَرُ النَّوَائِبْ وَقَالَ آخَرُ: كَمْ مَرَّةً حَفَّتْ بِكَ الْمَكَارِهْ ... خَارَ لَكَ اللَّهُ وَأَنْتَ كَارِهْ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ؟ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذكر سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي عِدَّةِ أَوْرَاقٍ، وَمُلَخَّصُهَا وَأَشْهَرُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الْأَسَدِيِّ حِينَ بعثة رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَمَانِيَةٍ مَعَهُ: سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُكَاشَةَ بْنِ محيصن، وَعُقْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَأَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَوَافِدِ بن عبد الله، وخالد بْنِ بُكَيْرٍ، وَأَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ يَتَرَصَّدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَوَصَلُوهَا، وَمَرَّتِ الْعِيرُ فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى عَلَى ظَنِّهِمْ، وَهُوَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَرَمَى وَافِدٌ عَمْرًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَسَرُوا الْحَكَمَ، وَعُثْمَانَ، وَكَانَا أَوَّلَ أَسِيرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلٌ، وَقَدِمُوا بِالْعِيرِ الْمَدِينَةَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيرَ، وَقَالَ أَصْحَابُ السَّرِيَّةِ: مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَنْزِلَ تَوْبَتُنَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَخَمَّسَ الْعِيرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَوَّلَ

خُمُسٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَجَّهَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الْأَسِيرَيْنِ فَقِيلَ: حَتَّى يَقْدَمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، وَكَانَا قَدْ أَضَلَّا بَعِيرًا لَهُمَا قَبْلَ لِقَاءِ الْعِيرِ فَخَرَجَا فِي طَلَبِهِ، فَقَدِمَا، وَفُودِيَ الْأَسِيرَانِ. فَأَمَّا الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وَقُتِلَ شَهِيدًا بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وأما عثمان فمات بمكة كَافِرًا، وَأَمَّا نَوْفَلٌ فَضَرَبَ بَطْنَ فَرَسِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَقَعَ بِالْخَنْدَقِ مَعَ فَرَسِهِ، فَتَحَطَّمَا وَقَتَلَهُمَا اللَّهُ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اخْتِلَافٌ فِي مواضع، وقد لخصّ السخاوندي هَذَا السَّبَبَ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ سَرِيَّةِ الْإِسْلَامِ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، أَغَارُوا عَلَى عِيرٍ لقريش قَافِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ وَقَتَلُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَاشْتُبِهَ بِأَوَّلِ رَجَبٍ، فَعَيَّرَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ بِاسْتِحْلَالِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ عَابَ الْمُشْرِكُونَ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ عَامَ الْفَتْحِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَتْلِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ رَجُلَيْنِ مِنْ كِلَابٍ كَانَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وعمرو يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَكَانَ فِي أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَتَلَهُمَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ لَمْ يُخَصَّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَكَانَ مِنَ الْعَوَائِدِ السَّابِقَةِ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَا يُسْتَبَاحُ فِيهِ الْقِتَالُ، فَبَيَّنَ حُكْمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَسَيَأْتِي مَعْنَى قوله قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ كَمَا جَاءَ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ «1» وَجَاءَ بَعْدَهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2» ذَلِكَ التَّخْصِيصُ فِي الْمَكَانِ، وَهَذَا فِي الزَّمَانِ. وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي يَسْأَلُونَكَ، قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، سَأَلُوا تَعْيِيبًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشُّهَدَاءِ، وَقَصْدًا لِلْفَتْكِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، سَأَلُوا اسْتِعْظَامًا لِمَا صَدَرَ مِنَ ابْنِ جَحْشٍ وَاسْتِيضَاحًا لِلْحُكْمِ. وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، هُنَا هُوَ رَجَبٌ بِلَا خِلَافٍ، هَكَذَا قَالُوا، وَذَلِكَ عَلَى أَنْ تكون الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَيُرَادُ بِهِ الْأَشْهَرُ الْحَرَامُ وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ، ذو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ. وَسُمِّيَتْ حُرُمًا لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ «3» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 191 والنساء: 4/ 91. (2) سورة البقرة: 2/ 191. (3) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 194.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قِتَالٍ فِيهِ، بِالْكَسْرِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الشَّهْرِ، بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَخْفُوضٌ عَلَى التَّكْرِيرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ: مَخْفُوضٌ بِعَنْ مُضْمَرَةٍ، وَلَا يُجْعَلُ هَذَا خِلَافًا كَمَا يَجْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ هُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ. لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، هِيَ كُلُّهَا تَرْجِعُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قِتَالٍ فِيهِ، خُفِضَ عَلَى الْجِوَارِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا خَطَأٌ. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنَى الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجْهُ الْخَطَأِ فِيهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِمَا قَبْلَهُ فِي رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ من حيث اللفظ والمعنى، فَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ إِلَى إِعْرَابِ الْخَفْضِ لِمُجَاوَرَتِهِ لِمَخْفُوضٍ لَا يَكُونُ لَهُ تَابِعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَا مَرْفُوعٌ، وَلَا مَنْصُوبٌ، فَيَكُونُ: قِتَالٍ، تَابِعًا لَهُ، فَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ إِعْرَابِهِ إِلَى الْخَفْضِ عَلَى الْجِوَارِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنَى الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِمَخْفُوضٍ، فَخَفَضَهُ بِكَوْنِهِ جَاوَرَ مَخْفُوضًا أَيْ: صَارَ تَابِعًا لَهُ، وَلَا نَعْنِي بِهِ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ، جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ خَطَأً، وَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّهُ أَغْمَضُ فِي الْعِبَارَةِ، وَأَلْبَسُ فِي الْمُصْطَلَحِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالْأَعْمَشُ: عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، بِإِظْهَارِ: عَنْ، وَهَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وقرىء شَاذًّا: قِتَالٌ فِيهِ، بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: قَتْلٍ فِيهِ قُلْ قَتْلٌ فِيهِ، بِغَيْرِ أَلِفٍ فِيهِمَا. وَوَجْهُ الرَّفْعِ فِي قِرَاءَةِ: قِتَالٌ فِيهِ، أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْهَمْزَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَسُوِّغَ جَوَازُ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ، لِنِيَّةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا هِيَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنَ: الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ: سَأَلَ، قَدْ أُخِذَ مَفْعُولَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مَحَطَّ السُّؤَالِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى إِضْمَارِ اسْمِ فَاعِلٍ تَقْدِيرُهُ: أَجَائِزٌ قِتَالٌ فِيهِ؟ قِيلَ: وَنَظِيرُ هَذَا، لِأَنَّ السَّائِلِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ كَيْنُونَةِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِنَّمَا سَأَلُوا: أَيَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ فَهُمْ سَأَلُوا عَنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لَا عَنْ كَيْنُونَتِهِ فِيهِ. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَ: قِتَالٌ، نَكِرَةٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهَا

كَوْنُهَا وُصِفَتْ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَهَكَذَا قَالُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: فِيهِ، مَعْمُولًا لِقِتَالٍ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَتَقْيِيدُ النَّكِرَةِ بِالْمَعْمُولِ مُسَوِّغٌ أَيْضًا لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَحَدُّ الِاسْمِ إِذَا تَقَدَّمَ نَكِرَةً، وَكَانَ إِيَّاهَا، أَنْ يَعُودَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، تَقُولُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» قِيلَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُعَدْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَعْظِيمُ الْقِتَالِ الْمَذْكُورِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. حَتَّى يُعَادَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، بَلِ الْمُرَادُ تَعْظِيمُ: أَيِّ قِتَالٍ كَانَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَعَلَى هَذَا: قِتَالٌ الثَّانِي، غَيْرُ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ تُفِيدُ التَّعْظِيمَ فِي الِاسْمِ، إِذْ كَانَتِ النَّكِرَةُ السَّابِقَةُ، بَلْ هِيَ فِيهِ لِلْعَهْدِ السَّابِقِ، وَقِيلَ: فِي (الْمُنْتَخَبِ) : إِنَّمَا نُكِّرَ فِيهِمَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ غَيْرُ الْأُولَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْأَوَّلِ الَّذِي سَأَلُوا عَنْهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جحش، وَكَانَ لِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ، بَلِ الَّذِي يَكُونُ كَبِيرًا هُوَ قِتَالٌ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ مَا كان الفرض فِيهِ هَدْمَ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَةَ الْكُفْرِ، فَاخْتِيرَ التَّنْكِيرُ فِي اللَّفْظَيْنِ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ، وَلَوْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمَا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ. انْتَهَى. وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِذِ الْمَعْنَى: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ لَهُمْ كَبِيرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفُ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» إِذْ يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْمَكَانِ عُمُومُ الزَّمَانِ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «3» ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: نَسَخَهُمَا غَزْوُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِرٍ إِلَى أَوْطَاسٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقِيلَ: نَسَخَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَالْقِتَالُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ تِلْكَ الْبَيْعَةَ كَانَتْ عَلَى الدَّفْعِ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ بالقتال.

_ (1) سورة المزمل: 73/ 16. (2) سورة التوبة: 9/ 5. (3) سورة التوبة: 9/ 36.

وَقَالَ عَطَاءٌ لَمْ تُنْسَخْ، وَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوَ فِي الْحَرَمِ، وَلَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا؟ وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَغْزُو فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وَرَجَحَ كَوْنُهَا مُحْكَمَةً بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَرَدَّ الْغَنِيمَةَ وَالْأَسِيرَيْنِ ، وَبِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ بَعْدَهَا عَامَّةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ وَهَذَا خَاصٌّ، وَالْعَامُّ لَا يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِاتِّفَاقٍ. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ كَبِيرٌ، وَكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ مَقُولَةٌ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَقُلْ لَهُمْ: صَدٌّ عَنْ كَذَا إِلَى آخِرِهِ، أَكْبَرُ مِنَ الْقِتَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا مِنَ الْقَوْلِ، بَلْ إِخْبَارٌ مُجَرَّدٌ عَنْ أَنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَا وَكَذَا، أَكْبَرُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُونَ مِنَّا الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ: مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ، وَمِنْ كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ، وَإِخْرَاجِكُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ كَمَا فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، أَكْبَرُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا فَعَلَتْهُ السَّرِيَّةُ مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، عَلَى سَبِيلِ الْبِنَاءِ عَلَى الظَّنِّ. وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، فَالْمُبْتَدَأُ: صَدٌّ، وَهُوَ نَكِرَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، فَسَاغَ الِابْتِدَاءُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ فَاعِلُهُ وَمَفْعُولُهُ لِلْعِلْمِ بِهِمَا، أَيْ: وَصَدُّكُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَبِيلِ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوِ: الْحَجُّ، لِأَنَّهُمْ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عَنْ مَكَّةَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، أَوِ: الْهِجْرَةُ، صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا. وَ: كُفْرٌ بِهِ، مَعْطُوفٌ عَلَى: وَصَدٌّ، وَهُوَ أَيْضًا مَصْدَرٌ لَازِمٌ حُذِفَ فَاعِلُهُ، تَقْدِيرُهُ: وَكَفْرُكُمْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، يَعُودُ عَلَى السَّبِيلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: وَكُفْرٌ بِسَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ وَشَرِيعَتُهُ، وَقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْحُوفِيُّ. وَالْمَسْجِدُ الحرام: هو الكعبة، وقرىء شَاذًّا وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِالرَّفْعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَكُفْرٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ حَذَفَ الْبَاءَ وَأَضَافَ الْكُفْرَ إِلَى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ،

فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ خَفْضِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى أَحْسَنِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَالْمَسْجِدِ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَا فِي ذَلِكَ الْمُبَرِّدَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى: سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى: سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَصَدٌّ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِ الْمَصْدَرِ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَضَعْفُ هَذَا بِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِذْ لَمْ يَشُكُّوا فِي تَعْظِيمِهِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِدُخُولِهِ، فَخَافُوا مِنَ الْإِثْمِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ عَيَّرُوهُمْ بِذَلِكَ، انْتَهَى، مَا ضَعُفَ بِهِ هَذَا الْقَوْلُ، وَعَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْآخَرُ: عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ لِذَاتِهِ، إِنَّمَا سُئِلَ عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَجِيبُوا: بِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَيَكُونُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، عَلَى هَذَا، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: كَبِيرٌ، أَيِ: الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَبِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: وَصَدٌّ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ: قِتَالٍ، عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ كَبِيرٌ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ وَعَمْرٌو، أَيْ: وَعَمْرٌو قَائِمٌ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّ: الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا، وَيَبْعُدُ عَنْهُ نَظْمُ الْقُرْآنِ، وَالتَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ، وَيَتَعَلَّقُ كَمَا قِيلَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، تَقْدِيرُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1» قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا هُوَ الْجَيِّدُ، يَعْنِي مِنَ التَّخَارِيجِ الَّتِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ الْجَرَّ بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَشَارَتْ كُلَيْبٌ بالأكف الأصابع

_ (1) سورة الفتح: 48/ 25.

أَيْ: إِلَى كُلَيْبٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ، أَيْ: وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَرَدَّ بِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَنَقُولُ: الْعَطْفُ الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ فِيهِ مَذَاهِبٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ فِيهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَيُونُسَ، وَأَبِي الْحَسَنِ، وَالْأُسْتَاذِ أَبِي عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ إِنْ أُكِّدَ الضَّمِيرُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْكَلَامِ، نَحْوَ: مَرَرَتُ بِكَ نَفْسِكَ وَزَيْدٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الجرمي. والذي نختاره أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ السَّمَاعَ يُعَضِّدُهُ، وَالْقِيَاسَ يُقَوِّيهِ. أَمَّا السَّمَاعُ فَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَا فِيهَا غَيْرِهِ وَفَرَسِهِ، بِجَرِّ الْفَرَسِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي غَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا فِيهَا غَيْرُهُ وَغَيْرُ فَرَسِهِ، وَالْقِرَاءَةُ الثانية في السبعة: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «1» أَيْ: وَبِالْأَرْحَامِ، وَتَأْوِيلُهَا عَلَى غَيْرِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ، مِمَّا يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْفَصَاحَةِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى التَّأْوِيلِ. قَرَأَهَا كَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وأبي رَزِينٍ، وَحَمْزَةُ. وَمَنِ ادَّعَى اللَّحْنَ فِيهَا أَوِ الْغَلَطَ عَلَى حَمْزَةَ فَقَدْ كَذَبَ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ ضَرُورَةً، فَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا ... فَمَا بَيْنَهَا وَالْأَرْضِ غَوْطُ نَفَانِفِ وَقَالَ آخَرُ: هَلَّا سَأَلْتَ بِذِي الْجَمَاجِمِ عَنْهُمُ ... وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ وَقَالَ آخَرُ: بِنَا أَبَدًا لَا غَيْرِنَا يُدْرَكُ الْمُنَى ... وَتُكْشَفُ غماء الخطوب الفوادح

_ (1) سورة النساء: 4/ 1.

وَقَالَ آخَرُ: إِذَا أَوْقَدُوا نَارًا لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا وَقَالَ آخَرُ: لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ ... مِنَ الْحَمَامِ عَدَانَا شَرَّ مَوْرُودِ وَقَالَ رَجُلٌ من طيء: إِذَا بِنَا، بَلْ أَنِيسَانِ، اتَّقَتْ فِئَةً ... ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةً مِمَّنْ تُعَادِيهَا وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَكُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَا أُبَالِي ... أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونَا وتشمتنا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وَقَالَ آخَرُ: أَبِكَ آيَةٌ بِي أَوْ مُصَدَّرٍ ... مِنْ حُمُرِ الْجُلَّةِ جَآَّبٌ جَسُورُ فَأَنْتَ تَرَى هَذَا السَّمَاعَ وَكَثْرَتَهُ، وَتَصَرُّفَ الْعَرَبِ فِي حَرْفِ الْعَطْفِ، فَتَارَةً عَطَفَتْ بِالْوَاوِ، وَتَارَةً بِأَوْ، وَتَارَةً بِبَلْ، وَتَارَةً بِأَمْ، وَتَارَةً بِلَا، وَكُلُّ هَذَا التَّصَرُّفِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَنْ يُعَادَ الْجَارُّ كَقَوْلِهِ، تعالى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ «1» فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «2» قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ «3» وَقَدْ خَرَجَ عَلَى العطف بغير إعادة الجار قَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ «4» عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها مَعايِشَ «5» أَيْ: وَلِمَنْ. وَقَوْلُهُ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ «6» عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ، أَيْ: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْهُ وَيُؤَكِّدَ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ جَارٍّ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ جَارٍّ، وَمَنِ احْتَجَّ لِلْمَنْعِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ كَالتَّنْوِينِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ إِلَّا مَعَ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ التَّنْوِينَ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ، وإذا

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 22. (2) سورة فصلت: 41/ 11. (3) سورة الأنعام: 6/ 64. (4، 5) سورة الحجر: 15/ 20. (6) سورة النساء: 4/ 127.

تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَطْفَ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ ثَابِتٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا، كَانَ يَخْرُجُ عَطْفُ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، عَلَى الضَّمِيرِ فِي: بِهِ، أَرْجَحُ، بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ، لِأَنَّ وَصْفَ الْكَلَامِ، وَفَصَاحَةَ التَّرْكِيبِ تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ، مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ قَبْلَهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، التَّقْدِيرُ: وَإِخْرَاجُكُمْ أَهْلَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي: أَهْلِهِ، عَائِدٌ عَلَى: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَجَعَلَ، الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَهُ لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ أَهْلَهُ فِي الْعَاقِبَةِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمُقِيمِينَ من الكفار بمكة أَهْلَهُ لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَارِضٌ يَزُولُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ «1» وَ: مِنْهُ، مُتَعَلِّقٌ بِإِخْرَاجِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى: سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَ: أَكْبَرُ، خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ: وَصَدٌّ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْمَجْمُوعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهَا بِاعْتِبَارِ كُلٍّ وَاحِدٌ وَاحِدٌ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَبَكْرٌ أَفْضَلُ مِنْ خالد، نزيد: كل واحد منهم أفضل من خالد، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَا الْمَجْمُوعُ، وَإِفْرَادُ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٍ: بِمَنِ، الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَفْضُولِ فِي التَّقْدِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَكْبَرُ مِنَ القتال في الشهر الحرام، فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقِيلَ: وَصَدٌّ مُبْتَدَأٌ. وَ: كُفْرٌ، مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَخَبَرُهُمَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ: وَإِخْرَاجُ، عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا كَوْنَ: أَكْبَرُ، خبرا عن الثلاثة. وعند اللَّهِ، مَنْصُوبٌ بِأَكْبَرِ، وَلَا يراد: بعند، الْمَكَانُ بَلْ ذَلِكَ مَجَازٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالسَّجَاوَنْدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: وَصَدٌّ عَطْفٌ عَلَى كَبِيرٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَسُوقُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُفْرٌ بِهِ، عَطْفٌ أَيْضًا عَلَى كَبِيرٌ، وَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْكُفْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فَسَادُهُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ: وَكَفْرٌ بِهِ، عَطْفٌ عَلَى كَبِيرٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَدْ أُخْبِرَ عَنِ القتال في الشهر الحرام بِخَبَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَبِيرٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ القتال الذي

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 34. [.....]

هُوَ كَبِيرٌ، وَهُوَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنًى سَائِغٌ حَسَنٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ مِنَ الْقِتَالِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ: وَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْكُفْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فَسَادُهُ، لَيْسَ بِكَلَامٍ مُخْلَصٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ مَا ذَكَرَ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ بَعِيدٍ، بَلْ يَجِيءُ مِنْهُ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَبِيرٌ، وَبِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْأَكْبَرِيَّةِ هُوَ الْإِخْرَاجُ، وَالْمَفْضُولُ فِيهَا هُوَ الْقِتَالُ لَا الْكُفْرُ وَالْفِتْنَةُ، أَيِ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. أَوِ التَّعْذِيبُ الْحَاصِلُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ أَكْبَرُ حُرْمًا مِنَ الْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي كَانَتْ تَفْتِنُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى يَهْلَكُوا، أَشَدُّ اجْتِرَامًا مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّاكُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ لَوْ قَتَلُوا ذَلِكَ الْمَفْتُونَ، أَيْ فِعْلُكُمْ بِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَشَدُّ مِنْ فِعْلِنَا، لِأَنَّ الْفِتْنَةَ أَلَمٌ مُتَجَدِّدٌ، وَالْقَتْلُ أَلَمٌ مُنْقَضٍ. وَمَنْ فَسَّرَ الْفِتْنَةَ بِالْكُفْرِ كَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: وَكَفْرُكُمْ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِنَا أُولَئِكَ، وَصَرَّحَ هُنَا بِالْمَفْضُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنَ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُحْذَفْ. لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى حَذْفِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَفْضُولِ عَلَيْهِ، وَهُوَ: الْقِتَالُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جحش فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ شِعْرًا: تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً ... وَأَعْظَمُ مِنْهَا لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ صُدُودُكُمُ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ ... وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءَ وَشَاهِدُ وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ رَحْلَهُ ... لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ فَإِنَّا، وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلَةٍ ... وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ سَقَيْنَا مِنَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا ... بِنَخْلَةِ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقَدُ دَمًا، وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا ... يُنَازِعُهُ غِلٌّ مِنَ الْقَدِّ عَانِدُ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا الضَّمِيرُ فِي: يَزَالُونَ، لِلْكُفَّارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي قَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ، هُوَ الْكُفَّارُ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: يُقَاتِلُونَكُمْ، خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَانْتَقَلَ عَنْ خِطَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى

خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفَرْطِ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ، وَمُبَايَنَتِهِمْ لَهُمْ، وَدَوَامُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ، وَأَنَّ قِتَالَهُمْ إِيَّاكُمْ مُعَلَّقٌ بِإِمْكَانِ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَكُمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَ: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ، يُحْتَمَلُ الْغَايَةُ، وَيُحْتَمَلُ التَّعْلِيلُ، وَعَلَيْهِمَا حَمَّلَهَا أَبُو الْبَقَاءِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الوجهين: بيقاتلونكم، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّوكُمْ، نُصِبَ بِحَتَّى لِأَنَّهَا غَايَةٌ مجردة، وقال الزمخشري: وحتى، مَعْنَاهَا التَّعْلِيلُ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، أَيْ: يُقَاتِلُونَكُمْ كَيْ يَرُدُّوكُمْ. انْتَهَى. وَتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَمْكَنُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذْ يَكُونُ الْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنْهُمُ الْمُنَافِي لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ: الْمُقَاتَلَةُ، ذَكَرَ لَهَا عِلَّةً توجيها، فَالزَّمَانُ مُسْتَغْرِقٌ لِلْفِعْلِ مَا دَامَتْ عِلَّةُ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهَا تَقْيِيدٌ فِي الْفِعْلِ دُونَ ذِكْرِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ، فَزَمَانُ وُجُودِهِ مُقَيَّدٌ بِغَايَتِهِ، وَزَمَانُ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ مُقَيَّدٌ بِوُجُودِ عِلَّةٍ، وَفَرْقٌ فِي الْقُوَّةِ بَيْنَ الْمُقَيَّدِ بِالْغَايَةِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعِلَّةِ لِمَا فِي التَّقْيِيدِ بِالْعِلَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْحَامِلِ وَعَدَمِ ذَلِكَ فِي التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ. وَ: عَنْ دِينِكُمْ، متعلق: بيردوكم، وَالدِّينُ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَ: إِنِ اسْتَطَاعُوا، شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: إِنِ اسْتَطَاعُوا فَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَمَنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ، قَالَ: وَلَا يَزَالُونَ، هُوَ الْجَوَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنِ اسْتَطَاعُوا، اسْتِبْعَادٌ لِاسْتِطَاعَتِهِمْ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَدُوِّهِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِي فَلَا تُبْقِ عَلَيَّ، وَهُوَ وَاثِقٌ بِأَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِهِ. انْتَهَى قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِهِ. وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ارْتَدَّ: افْتَعَلَ مِنَ الرَّدِّ، وَهُوَ الرُّجُوعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً «1» وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُهُمْ فِيمَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ، بِمَعْنَى: صَيَّرَ وَجَعَلَ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَارْتَدَّ بَصِيراً «2» أَيْ: صَارَ بَصِيرًا، وَلَمْ يُخْتَلَفْ هُنَا فِي فَكِّ الْمِثْلَيْنِ، وَالْفَكُّ هُوَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَجَاءَ افْتَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى التَّعَمُّلِ وَالتَّكَسُّبِ. لِأَنَّهُ مُتَكَلَّفٌ، إِذْ مَنْ بَاشَرَ دِينَ الْحَقِّ يَبْعُدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ افْتَعَلَ هُنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ التَّعَمُّلُ وَالتَّكَسُّبُ، هُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ. وَ: مِنْكُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يَرْتَدِدْ، العائد على: من،

_ (1) سورة الكهف: 18/ 64. (2) سورة يوسف: 12/ 96.

وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ، وَ: عَنْ دِينِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِيَرْتَدِدْ، وَالدِّينُ: هُنَا هُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرْتَدُّ إِلَيْهِ هُوَ دِينُ الْكُفْرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ ضِدَّ الْحَقِّ الْبَاطِلُ، وَبِقَوْلِهِ: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وَهَذَانِ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ بِالْفَاءِ الْمُشْعِرَةِ بِتَعْقِيبِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَاتِّصَالِهِ بِهَا، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُبُوطَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهُوَ حَبَطُهُ فِي الدنيا باستحقاق قبله، وَإِلْحَاقِهِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْكُفَّارِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَقِيلَ: حُبُوطُ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ عَدَمُ بُلُوغِهِمْ مَا يُرِيدُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَمُكَايَدَتِهِمْ، فَلَا يَحْصُلُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ دِينَهُ بِأَنْصَارِهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ تَرَتُّبُ حُبُوطِ الْعَمَلِ عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ: الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ جَاءَ تَرَتُّبُ حُبُوطِ الْعَمَلِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ «1» وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «2» وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ «3» لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «4» وَالْخِطَابُ فِي الْمَعْنَى لِأُمَّتِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَغَيْرُهُمَا، يَعْنِي: أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ دُونَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا حَجَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ. وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: اجْتَمَعَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَتَقَيَّدَ الْمُطْلَقُ، وَيَقُولُ غَيْرُهُ: هُمَا شَرْطَانِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ، أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ: الِارْتِدَادُ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُبُوطُ الْعَمَلِ، الشَّرْطُ الثَّانِي: الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْخُلُودُ فِي النَّارِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ كَافِرٌ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضمير المستكين فِي: فَيَمُتْ، وَكَأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِأَنَّهُ لَوِ اسْتُغْنِيَ عَنْهَا فُهِمَ مَعْنَاهَا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ لِلِارْتِدَادِ. وَكَوْنُ الْحَالِ جَاءَ جُمْلَةً فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي التَّأْكِيدِ، إِذْ تَكَرَّرَ الضَّمِيرُ فِيهَا مَرَّتَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّهُ فِيهِ ضَمِيرٌ وَاحِدٌ. وَتَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا لِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَّا لِحُبُوطِ الْعَمَلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ أَمْ يَحْبَطُ بِمُجَرَّدِ الردة؟ وأما حكمه

_ (1) سورة المائدة: 5/ 5. (2) سورة الأنعام: 6/ 88. (3) سورة الأعراف: 7/ 147. (4) سورة الزمر: 39/ 65.

بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَتْلِ، فَذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: إِلَى أَنَّهُ يُسْتَتَابُ مَحْبُوسًا أَبَدًا، وَذَهَبَ طاووس، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَتَابُ، وَهَلْ يُسْتَتَابُ فِي الْوَقْتِ؟ أَوْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ أَوْ شَهْرٍ؟ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ: أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ كَانَ ابْنَ مُسْلِمَيْنِ قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ أَسْتُتِيبَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ إِلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ، فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ. وَالزِّنْدِيقُ عِنْدَهُمْ وَالْمُرْتَدُّ سَوَاءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْتَلُ الزَّنَادِقَةُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ، وَلَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ رَاجَعَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَحُكْمُهُ فِي الرِّدَّةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ كَالْأُولَى، وَإِذَا رَاجَعَ فِي الرَّابِعَةِ ضُرِبَ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَقِيلَ: يُحْبَسُ حَتَّى يُرَى أَثَرُ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ عَلَيْهِ، وَلَوِ انْتَقَلَ الْكَافِرُ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ. وَذَكَرَ الْمُزَنِيُّ، وَالرَّبِيعُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمُبَدِّلَ لِدِينِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُلْحِقُهُ الْإِمَامُ بِأَرْضِ الْحَرْبِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَيَسْتَحِلُّ مَالَهُ مَعَ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ إِنْ غُلِبَ عَلَى الدَّارِ، هَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا ارْتَدَّتْ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ: تُقْتَلُ كَالرَّجُلِ سَوَاءً، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ عَطِيَّةَ لَا تُقْتَلُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا مِيرَاثُهُ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَقْرِبَاءَهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَرِثُونَهُ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُمْ يَرِثُونَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ خِلَافُ هَذَا، وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ: يَرِثُهُ أَقْرِبَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: مِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ

الْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حَبَطَتْ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَكَذَا قَرَأَهَا أَبُو السَّمَّاكِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، وَأَتَى بِهِ مَجْمُوعًا حَمْلًا عَلَى مَعْنَى: مَنْ، لِأَنَّهُ أَوَّلًا حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ الْحَمْلَيْنِ، فَالْأَصَحُّ أَنْ تبدأ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا الْأَفْصَحِ جَاءَتْ هذه الآيةو فِي الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: حَبِطَتْ. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَاءَ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخُلُودِ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً فِي الْجَزَاءِ وَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَتَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَزَاءِ جَزَاءٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقُرْبَ مُرَجَّحٌ، وَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جحش قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ أَنَّهُ عِقَابٌ عَلَيْنَا فيما فعلناه فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهُ أَجْرًا وَثَوَابًا فَنَزَلَتْ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مُهَاجِرًا، وَكَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ مُجَاهِدًا، ثُمَّ هِيَ عَامَّةٌ فِي مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَأَصْحَابَهُ، حِينَ قَتَلُوا الْحَضْرَمِيَّ، ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُمْ إِنْ سَلِمُوا مِنَ الْإِثْمِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ، فَنَزَلَتْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَالْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الظَّانِّ، فَفِي الْأَوَّلِ ابْنُ جَحْشٍ، وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: قَوْمٌ، وَعَلَى هَذَا السَّبَبِ فَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ. وَقِيلَ: لَمَّا أَوْجَبَ الْجِهَادَ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ سَبَبٌ لِلْوَعِيدِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ وَعِيدٌ إِلَّا وَيَتْبَعُهُ وَعْدٌ، وَقَدِ احْتَوَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ، وَجَاءَتْ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْوَاقِعِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَوَّلُهَا، ثُمَّ الْمُهَاجَرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ هُوَ الْأَصْلُ أُفْرِدَ بِهِ مَوْصُولٌ وَحْدَهُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ فَرْعَيْنِ عَنْهُ أُفْرِدَا بِمَوْصُولٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيْثُ الْفَرْعِيَّةِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَأَتَى خَبَرُ: أن، جملة مصدرة:

بأولئك، لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَلَيْسَ تَكْرِيرًا لِمَوْصُولٍ بِالْعَطْفِ مُشْعِرًا بِالْمُغَايَرَةِ فِي الذَّوَاتِ، وَلَكِنَّهُ تَكْرِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْصَافِ، وَالذَّوَاتُ هِيَ الْمُتَّصِفَةُ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، فَهِيَ تَرْجِعُ لِمَعْنَى عَطْفِ الصِّفَةِ بَعْضِهَا عَلَى بعض للمغايرة، لا: إن الَّذِينَ آمَنُوا، صِنْفٌ وَحْدَهُ مُغَايِرٌ: لِلَّذِينِ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا، وَأَتَى بِلَفْظَةِ: يَرْجُونَ، لِأَنَّهُ مَا دَامَ الْمَرْءُ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ لَا يُقْطَعُ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَوْ أَطَاعَ أَقْصَى الطَّاعَةِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ، وَلَا يَتَّكِلُ عَلَى عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَقُبِلَ أَمْ لَا؟ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لَهَا كَمَا وَفَّقَهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَأُولَئِكَ يَرْجُونَ، أَوْ يَكُونُ ذِكْرُ الرَّجَاءِ لِمَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ مَا وَفَّوْا حَقَّ نُصْرَةِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ، وَلَا قَضَوْا مَا لَزِمَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى اللَّهِ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «1» . وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ لِأَخْيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَهْلَ رَجَاءٍ، كَمَا يَسْمَعُونَ، وَقِيلَ: الرَّجَاءُ دَخَلَ هُنَا فِي كَمِّيَّةِ الثَّوَابِ وَوَقْتِهِ، لَا فِي أَصْلِ الثَّوَابِ، إذا هُوَ مَقْطُوعٌ مُتَيَقَّنٌ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ، وَ: رَحْمَتَ، هُنَا كُتِبَ بِالتَّاءِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ هُنَا، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْلِ لِأَنَّهَا فِي الْوَصْلِ تَاءٌ، وَهِيَ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ كُتِبَتْ: رَحْمَتَ، فِيهَا بِالتَّاءِ. أَحَدُهَا هَذَا، وَفِي الْأَعْرَافِ: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ «2» وَفِي هُودٍ: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ «3» وَفِي مَرْيَمَ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ «4» وَفِي الزُّخْرُفِ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «5» وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «6» وَفِي الرُّومِ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ «7» وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ طَامِعُونَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالرَّحْمَةِ، وَزَادَ وَصْفًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْغُفْرَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى، عِنْدَ مَا ظَنُّوا وَطَمِعُوا فِي ثَوَابِهِ، فَالرَّحْمَةُ مُتَحَقِّقَةٌ، لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيات الكريمة إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِمُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَ بِالثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُحَذِّرِينَ مَنْ عَصَى مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَقَدَّمَ الْبِشَارَةَ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَفْرُوحُ بِهَا، وَلِأَنَّهَا نَتِيجَتُهَا رِضَى اللَّهِ عَنْ مَنِ اتَّبَعَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ كِتَابًا مِنْ عِنْدِهِ مصحوبا بالحق

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 60. (2) سورة الأعراف: 7/ 56. (3) سورة هود: 11/ 73. (4) سورة مريم: 19/ 2. (5، 6) سورة الزخرف: 43/ 32. (7) سورة الروم: 30/ 50.

اللَّائِحِ، لِيَكُونَ أَضْبَطَ لِمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ، لأن ما جاؤا بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ يُقْرَأُ وَيُدَرَّسُ عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، وَرُبَّمَا يَذْهَبُ بِذَهَابِهِمْ، فَإِذَا كَانَ مَا شُرِعَ لَهُمْ مُخَلَّدًا فِي الطُّرُوسِ كَانَ أَبْقَى، وَإِنَّ ثَمَرَةَ الْكُتُبِ هِيَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ مِنْ أَمْرِ عَقَائِدِهِمْ، وَتَكَالِيفِهِمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مَا اخْتَلَفَ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ: أُوتُوا الْكِتَابَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وُضُوحِ الْآيَاتِ وَمَجِيئِهَا لَهُمْ، فَكَأَنَّ مَا سَبِيلُهُ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالْفَصْلِ فِي الِاخْتِلَافِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ، فَرَتَّبُوا عَلَى مَجِيءِ الشَّيْءِ الْوَاضِحِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْبَغْيُ وَالظُّلْمُ الَّذِي صَارَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ هَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفَ، وَذَلِكَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، بَلْ هِدَايَتُهُ إِيَّاهُمُ الْحَقَّ هُوَ بِتَمْكِينِهِ تَعَالَى لِذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ شَاءَ تَعَالَى هِدَايَتَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ أَنْ تُنَالَ الرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ مِنَ الْفَوْزِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلَمَّا يَقَعِ ابْتِلَاءٌ لَكُمْ كَمَا ابْتُلِيَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، ثُمَّ فَسَّرَ مَثَلَ الْمَاضِينَ بِأَنَّهُمْ مَسَّتُهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَأَنَّهُمْ أُزْعِجُوا حَتَّى سَأَلُوا رَبَّهُمْ عَنْ وَقْتِ مَجِيءِ النَّصْرِ لِتَصْبِرَ نُفُوسُهُمْ عَلَى مَا ابْتَلَاهُمْ بِهِ، وَلِيَنْتَظِرُوا الْفَرَجَ مِنَ اللَّهِ عَنْ قُرْبٍ، فَأَجِيبُوا بِأَنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَمَا هُوَ قَرِيبٌ، فَالْحَاصِلُ: فَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِزْعَاجِ بِانْتِظَارِ النَّصْرِ الْقَرِيبِ. ثُمَّ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ؟ فَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ جِنْسَ مَا يُنْفِقُونَ وَلَا مِقْدَارَهُ، وَذَكَرَ مَصْرِفَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْجَوَابِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَمَصْرِفُهُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكُمْ، وَهُمَا: الْوَالِدَانِ: اللَّذَانِ كَانَا سَبَبًا فِي إِيجَادِكَ وَتَرْبِيَتِكَ مِنْ لَدُنْ خُلِقْتَ إِلَى أَنْ صَارَ لَكَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَفِي الْحُنُوِّ عَلَيْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ: الْأَقْرَبِينَ بِصِفَةِ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُشَارِكُونَكَ فِي النَّسَبِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الْيَتَامَى: وَهُمُ الَّذِينَ قَدْ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ فَلَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ إِحْسَانٌ جَزِيلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ: الْمَسَاكِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ انْتَهَوْا، مِنَ الْفُقَرَاءِ، إِلَى حَالَةِ الْمَسْكَنَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الْحَرَكَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَمَعَاشِهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ مَا أَنْفَقْتُمْ فَاللَّهُ عَلِيمٌ بِهِ وَمُحْصِيهِ، فَيُجَازِي عَلَيْهِ وَيُثِيبُ.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فَرْضِ الْقِتَالِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلطِّبَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَافِ الْمُهَجِ وَانْتِقَاصِ الْأَمْوَالِ، وَانْتِهَاكِ الْأَجْسَادِ بِالسَّفَرِ فِيهِ وَبِغَيْرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْرَهُ الشَّيْءَ وَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، لِأَنَّ عِقَابَهُ إِلَى خَيْرٍ، فَالْقِتَالُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِلطَّبْعِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ إِنْ سَلِمَ، فَخَيْرُهُ بِالظَّفَرِ بأعداء الله، وبالغنيمة، واستيلاء عَلَيْهِمْ قَتْلًا وَنَهْبًا وَتَمَلُّكِ دَارٍ، وَإِنْ قُتِلَ فَخَيْرُهُ أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةَ الشُّهَدَاءِ. وَيَكْفِيكَ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَظِيمَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مُقَابِلَ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فَمِنَ الْمَحْبُوبِ تَرْكُ الْقِتَالِ، وَهُوَ مَدْعَاةٌ إِلَى الدُّعَاءِ وَالرَّاحَةِ، وَفِي ذَلِكَ الشَّرُّ الْعَظِيمُ مِنْ تَسَلُّطِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَالْإِيقَاعِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَتَمَلُّكِ دِيَارِهِمْ، فَمَتَى أَخْلَدَ الْإِنْسَانُ إِلَى الرَّاحَةِ طَمِعَ فِيهِ عَدُوُّهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَقَاصِدَهُ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ زُهَيْرٌ حَيْثُ قَالَ: جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ ... سَرِيعًا، وَإِنْ لايبد بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ حَيْثُ شَرَعَ الْقِتَالَ، فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يَتَرَتَّبُ لَكُمْ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِتَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِمَا كَانَ وَقْعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ أَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأُخْبِرُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ إِثْمٌ كَبِيرٌ، إِذْ كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ لَا قِتَالَ فِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا يَرْتَكِبُهُ الْكُفَّارُ مِنْ صَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِنْ إِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِهِ وَهُوَ عَلَى دِينِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ تَؤُولُ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَقَتْلَهُ هَذَا يَؤُولُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ دَوَامِ عَدَاءِ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ مَقْصِدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِتْنَتُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَرُجُوعِكُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ وَقَدَرُوا عَلَيْهِ قَاتَلُوكُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ الْحَقِّ إِلَى دِينِهِ الْبَاطِلِ، وَوَافَى عَلَى ذَلِكَ، فَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَاتِ قَدْ بَطَلَتْ فِي الدُّنْيَا بِإِلْحَاقِهِ بِالْكُفَّارِ، وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَيْهِ، وَفِي الْآخِرَةِ فَلَا يَبْقَى لَهَا ثَمَرَةٌ يَرْتَجِي بِهَا غُفْرَانًا لِمَا اجْتَرَحَ، بَلْ مَآلُهُ إِلَى النَّارِ خَالِدًا فِيهَا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 إلى 223]

ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ، وَهَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ طَامِعٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَفُورٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِيمَانِ وَلِمَا يَتَخَلَّلُ فِي حَالَةِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ لَهُ، فَهُوَ يُحَقِّقُ لَهُ مَا طَمِعَ فيه من رحمته. [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 223] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) الْخَمْرُ: هِيَ الْمُعْتَصَرُ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ، وَتَخَمَّرَتْ وَاخْتَمَرَتْ، وَهِيَ حَسَنَةُ الْخِمْرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا وَارَاكَ مِنَ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ، وَدَخَلَ فِي خِمَارِ النَّاسِ وَغِمَارِهِمْ أَيْ: فِي مَكَانٍ خَافٍ. وَخَمْرُ فُتَاتِكُمْ،

وَخَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ، مِثْلَ الْأَحْمَقِ، وَخَامِرِي حَضَاجِرِ أَتَاكِ مَا تُحَاذِرِ، وَحَضَاجِرُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ السِّبَاعِ، وَمَعْنَاهُ: ادْخُلِي الْخَمْرَ وَاسْتَتِرِي. فَلَمَّا كَانَتْ تَسْتُرُ الْعَقْلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ: أَيْ تُغَطِّي حَتَّى تُدْرِكَ وَتَشْتَدَّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ أَيْ: تُخَالِطُهُ، يُقَالُ: خَامَرَ الدَّاءُ خَالَطَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُتْرَكُ حِينَ تُدْرَكُ، يُقَالُ: اخْتَمَرَ الْعَجِينُ بَلَغَ إِدْرَاكُهُ، وَخَمَّرَ الرَّأْيَ تَرَكَهُ حَتَّى يُبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ، فَعَلَى هَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتِ تَكُونُ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ وَأُرِيدَ بِهَا اسْمُ الْفَاعِلِ أَوِ اسْمُ الْمَفْعُولِ. الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ، وَهُوَ مَفْعِلٌ مِنْ: يَسَرَ، كَالْمَوْعِدِ مِنْ وَعَدَ، يُقَالُ يَسَّرْتُ الْمَيْسِرَ أَيْ قَامَرْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ تَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا ... وَكُلُّ مَا يَسَرَ الْأَقْوَامُ مَغْرُومُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْيُسْرِ وَهُوَ السُّهُولَةُ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ يَسْلُبُ يَسَارَهُ، أَوْ مِنْ يَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ، أَوْ مِنْ يَسَرَ إِذَا جَزَرَ وَالْيَاسِرُ الْجَازِرُ، وهو الذي يجزىء الْجَزُورَ أَجْزَاءً، قَالَ الشَّاعِرُ: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ تَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ؟ وَسُمِّيَتِ الْجَزُورُ الَّتِي يُسْهَمُ عَلَيْهَا مَيْسِرًا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْيَسَرِ، ثُمَّ قِيلَ لِلسِّهَامِ: مَيْسِرٌ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَالْيَسَرُ، الَّذِي يَدْخُلُ فِي الضَّرْبِ بِالْقِدَاحِ وَجَمْعُهُ، أَيْسَارٌ، وَقِيلَ: يَسَرٌ جَمْعُ يَاسِرٍ كَحَارِسٍ وَحَرَسٌ وَأَحْرَاسٌ. وَصِفَةُ الْمَيْسِرِ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَقْدَاحٍ، وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ، وَهِيَ: الْأَزْلَامُ، وَالْأَقْلَامُ، وَالسِّهَامُ. لِسَبْعَةٍ مِنْهَا حُظُوظٌ، وَفِيهَا فُرُوضٌ عَلَى عِدَّةِ الْحُظُوظِ: الْقَدُّ، وَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَالتَّوْأَمُ، وَلَهُ سَهْمَانِ، وَالرَّقِيبُ، وله ثلاثة والجلس، وَلَهُ أَرْبَعَةٌ وَالنَّافِسُ، وَلَهُ خَمْسَةٌ وَالْمُسْبِلُ وَلَهُ سِتَّةٌ وَالْمُعَلَّى وَلَهُ سَبْعَةٌ وَثَلَاثَةُ أَغْفَالٍ لَا حُظُوظَ لَهَا، وَهِيَ: الْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ، وَالْوَغْدُ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْمَصْدَرُ، وَالْمُضْعِفُ، وَالْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ. تُزَادُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَوِ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْخِلَافِ لِتَكْثُرَ السِّهَامُ وَتَخْتَلِطَ عَلَى الْحُرْضَةِ وَهُوَ الضَّارِبُ بِالْقِدَاحِ، فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمَيْلِ مَعَ أَحَدٍ سَبِيلًا، وَيُسَمَّى أَيْضًا: الْمُجِيلُ، وَالْمُغِيضُ، وَالضَّارِبُ، وَالضَّرِيبُ. وَيُجْمَعُ ضُرَبَاءُ، وَهُوَ رَجُلٌ عَدْلٌ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ يُجْعَلُ رَقِيبٌ لِئَلَّا

يُحَابِي أَحَدًا، ثُمَّ يَجْثُو الضَّارِبُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَلْتَحِفُ بِثَوْبٍ، وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ يَجْعَلُ تِلْكَ الْقِدَاحَ فِي الرِّبَابَةِ، وَهِيَ خَرِيطَةٌ يُوضَعُ فِيهَا، ثم يجلجها، وَيُدْخِلُ يَدَهُ وَيُخْرِجُ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ قَدَحًا مِنْهَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْصِبَاءِ أَخَذَ النَّصِيبَ الْمَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدَحُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَغَرِمَ الْجَزُورَ كُلَّهُ. وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَضْرِبَ بِهَذِهِ الْقِدَاحِ فِي الشَّتْوَةِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَكَلَبِ الْبَرْدِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَشْتَرُونَ الْجَزُورَ وَتَضْمَنُ الْأَيْسَارُ ثَمَنَهَا، ثُمَّ تُنْحَرُ وَيُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ، فِي قَوْلِ أَبِي عَمْرٍو، وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى قَدْرِ حُظُوظِ السِّهَامِ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَخْطَأَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قِسْمَةِ الْجَزُورِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَيُّهُمْ خَرَجَ لَهُ نُصِيبٌ وَاسَى بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، وَيُسَمُّونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ: الْبَرَمَ وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ، وَمِنَ الِافْتِخَارِ بِذَلِكَ قول الأعشى: المطمعو الضيف إذا ماشتا ... وَالْجَاعِلُو الْقُوتَ عَلَى الْيَاسِرِ وَقَالَ زُهَيْرٌ فِي الْبَرَمِ: حتى تآوى إلى لا فَاحِشٍ بَرَمٍ ... وَلَا شَحِيحٍ إِذَا أَصْحَابُهُ غَنِمُوا وَرُبَّمَا قَامُوا لِأَنْفُسِهِمْ. التَّفَكُّرُ: فِي الشَّيْءِ إِجَالَةُ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَرَدُّدُهُ، وَالْفِكْرُ: هُوَ الذِّهْنُ. الْخَلْطُ: مَزْجُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَخَالَطَ فَاعَلَ مِنْهُ، وَالْخِلْطُ الشَّيْءُ الْمَخْلُوطُ: كَالرِّغْيِ. الْإِخْوَانُ: جَمْعُ أَخٍ، وَالْأَخُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَنْ وَلَدَهُ أَبُوكَ وَأُمُّكَ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَجَمْعُ فَعْلٍ عَلَى فِعْلَانٍ لَا يَنْقَاسُ. الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ عَنَتُ الْغُرْبَةِ، وَعَقَبَةٌ عَنُوتٌ شَاقَّةُ الْمَصْعَدِ، وَعَنَتَ الْبَعِيرُ انْكَسَرَ بَعْدَ جَبْرٍ. النِّكَاحُ: الْوَطْءُ وَهُوَ الْمُجَامَعَةُ، قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ لُزُومُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ وَإِكْبَابُهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَكَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ. حَكَاهُ ثَعْلَبٌ فِي (الْأَمَالِي) عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: نُكْحُ الْمَرْأَةِ، بِضَمِّ النُّونِ، بِضْعَةٌ هِيَ بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، فَإِذَا قَالُوا نَكَحَهَا، فَمَعْنَاهُ أَصَابَ نُكْحَهَا، أَيْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْهَا، وَقَلَّمَا يُقَالُ

نَاكَحَهَا كَمَا يُقَالُ بَاضَعَهَا، قِيلَ: وَقَدْ جَاءَ النِّكَاحُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ يُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ خَاصَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ، فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا أَيْ فَاعْقِدْ وَتَزَوَّجْ، وَإِلَّا فَاجْتَنِبِ النِّسَاءَ وَتَوَحَّشْ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْرَبَنْ جَارَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْرُمُ. وَجَاءَ بِمَعْنَى الْمُجَامَعَةِ، كَمَا قَالَ: الْبَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ ... وَالنَّاكِحِينَ بِشَاطِي دِجْلَةَ الْبَقَرَا وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ بِفَرْقٍ لَطِيفٍ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً، أَرَادُوا بِهِ الْعَقْدَ لَا غَيْرَ، وَإِذَا قَالُوا نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَلَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ. الْأَمَةُ: الْمَمْلُوكَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَهِيَ مَا حُذِفَ لَامُهُ، وَهُوَ وَاوٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظُهُورُهَا فِي الْجَمْعِ قَالَ الْكِلَابِيُّ: أَمَّا الْإِمَاءُ فَلَا يَدْعُونَنِي وَلَدًا ... إِذَا تَدَاعَى بَنُو الْأَمْوَاتِ بِالْعَارِ وَفِي الْمَصْدَرِ: يُقَالُ أَمَةٌ بَيِّنَةُ الْأُمُوَّةِ، وَأَقَرَّتْ بِالْأُمُوَّةِ، أَيْ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَجُمِعَتْ أَيْضًا عَلَى: إِمَاءٍ، وَأَآمٍ، نَحْوَ أَكَمَةٍ وَآكَامٍ وَأَكَمٍ، وَأَصْلُهُ أَأْمُو، وَجَرَى فِيهِ مَا يَقْتَضِيهِ التَّصْرِيفُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَمْشِي بِهَا رَيْدَ النَّعَا ... مِ تَمَاشِيَ الْآمِ الدَّوَافِرِ وَوَزْنُهَا أَمْوَةٌ، فَحُذِفَتْ لَامُهَا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ كَانَ قِيَاسُهَا أَنْ تَنْقَلِبَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا، وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا كَقَنَاةٍ، وَزَعَمَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَنَّ جَمْعَ الْأَمَةِ أَمْوٌ، وَأَنَّ وَزْنَهَا فَعْلَةٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَتَكُونُ مِثْلَ: نَخْلَةٍ وَنَخْلٍ، وَبَقْلَةٍ وَبَقْلٍ، فَأَصْلُهَا: أَمْوَةٌ فَحَذَفُوا لَامَهَا إِذْ كَانَتْ حَرْفَ لِينٍ، فَلَمَّا جَمَعُوهَا عَلَى مِثَالِ نَخْلَةٍ وَنَخْلٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: أَمَةٌ وَأُمٌّ، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْعَلُوهَا حَرْفَيْنِ، وَكَرِهُوا أَنْ يَرُدُّوا الْوَاوَ الْمَحْذُوفَةَ لَمَّا كَانَتْ آخِرَ الِاسْمِ، فَقَدَّمُوا الْوَاوَ، وَجَعَلُوهُ أَلِفًا مَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْمِيمِ، وَمَا زَعَمَهُ أَبُو الْهَيْثَمِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ لَكَانَ الْإِعْرَابُ عَلَى الْمِيمِ كَمَا كَانَ عَلَى لَامِ نَخْلٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الَّتِي هِيَ لَامٌ، إِذْ أَصْلُهُ أَلَامُو، ثُمَّ عُمِلَ فِيهِ مَا عُمِلَ فِي قَوْلِهِمْ: الْأَدْلُوُّ، وَالْأَجْرُوُّ، جَمْعُ: دَلْوٍ، وَجَرْوٍ، وَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ أَلِفًا كَمَا أُبْدِلَتْ فِي: آدَمَ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ: جَاءَتِ الْآمِيُّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ أَبُو الْهَيْثَمِ لَكَانَ: جَاءَتِ الْآمُّ، بِرَفْعِ الْمِيمِ.

الْمَحِيضُ: مَفْعِلٌ مِنَ الْحَيْضِ يَصْلُحُ لِلْمَصْدَرِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، تَقُولُ. حَاضَتِ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا بَنَوْهُ عَلَى: مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا، وَفِيمَا كَانَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يَائِيُّ الْعَيْنِ عَلَى: فَعَلَ يَفْعِلُ، فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قِيَاسُهُ مَفْعَلٌ. بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَبِكَسْرِهَا فِي الْمُرَادِ بِهِ الْمَكَانُ أَوِ الزَّمَانُ، فَيَصِيرُ: كَالْمَضْرِبِ فِي الْمَصْدَرِ، وَالْمَضْرِبِ بِالْكَسْرِ، أَيْ: بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَحِيضِ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، شَاذًّا، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ كَانَ عَلَى الْقِيَاسِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَهُ أَوْ تَكْسِرَهُ، كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَحِيضِ وَالْمَحَاضِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كَثُرَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ فَاقْتَاسَا. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْقَصْرُ عَلَى السَّمَاعِ، فَمَا قَالَتْ فِيهِ الْعَرَبُ: مَفْعِلٌ، بِالْكَسْرِ أَوْ مَفْعَلٌ بِالْفَتْحِ لَا نَتَعَدَّاهُ، وَهَذَا هُوَ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ. وَأَصْلُ الْحَيْضِ فِي اللُّغَةِ السَّيَلَانُ، يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَاضَتِ الشَّجَرَةُ إِذَا سَالَ صَمْغُهَا، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْحَوْضِ حَوْضٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحِيضُ إِلَيْهِ أَيْ يَسِيلُ، وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ عَلَى الْيَاءِ، وَالْيَاءَ عَلَى الْوَاوِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْهَوَاءُ. الِاعْتِزَالُ: ضِدُّ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ التَّيَؤُّسُ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّبَاعُدُ مِنْهُ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْبَدَنِ، وَتَارَةً بِالْقَلْبِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَزْلِ، وَهُوَ تَنْجِيَةُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ. أَنَّى: اسْمٌ وَيُسْتَعْمَلُ شَرْطًا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَيَأْتِي ظَرْفَ زَمَانٍ بِمَعْنَى: مَتَى وَاسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى: كَيْفَ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى حَرْفِ الشَّرْطِ، وَحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَا يتصرف فيه بغير ذلك البتة. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ سَبَبُ نُزُولِهَا سُؤَالُ عُمَرَ وَمُعَاذٍ، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَإِنَّهُ مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ، مَسْلَبَةٌ لِلْمَالِ. فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ فَبَيَّنَ لَهُمْ مَصْرِفَ ذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فَرْضَ الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نَاسَبَ ذِكْرَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، إِذْ هُمَا أَيْضًا مِنْ مَصَارِفِ الْمَالِ،

وَمَعَ مُدَاوَمَتِهِمَا قَلَّ أَنْ يَبْقَى مَالٌ فَتَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ تُجَاهِدَ بِهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ بِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ «1» وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا نَزَلَ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ كَرِهَ الْخَمْرَ قَوْمٌ لِلْإِثْمِ، وشربتها قَوْمٌ لِلْمَنَافِعِ، حَتَّى نَزَلَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «2» فَاجْتَنَبُوهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَ: فَاجْتَنِبُوهُ «3» فَحُرِّمَتْ. قَالَ مَكِّيٌّ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ نُزُولَ الْمَائِدَةِ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَمَّ اللَّهُ الْخَمْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ إِبَاحَتَهَا، ثُمَّ نُسِخَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْ شُرْبِهَا، فَكَانُوا جَارِينَ فِي شُرْبِهَا عَلَى عَادَتِهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ التَّحْرِيمُ. كَمَا سَكَتَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى وَقْتِ التَّحْرِيمِ. وَجَاءَ: وَيَسْئَلُونَكَ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ مَنْ سَأَلَ اثْنَيْنِ: وَهُمَا عمرو وَمُعَاذٌ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَنْسِبُ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمَاعَةِ فِي كَلَامِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ. وَالسُّؤَالُ هُنَا لَيْسَ عَنِ الذَّاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حُكْمِ هَذَيْنِ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمَةٍ وَانْتِفَاعٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَوَابُ مُنَاسِبًا لِذَلِكَ، لَا جَوَابًا عَنْ ذَاتٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَمْرِ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: كُلُّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَأَفْسَدَهُ مِمَّا يُشْرَبُ يُسَمَّى خَمْرًا، وَقَالَ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْخَمْرُ اسْمُ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، وَنَقَلَ عَنْهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ هُوَ اسْمُ مَا اتُّخِذَ مِنَ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذُّرَةِ وَالْحِنْطَةِ لَيْسَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمُشَوِّشَةِ لِلْعَقْلِ: كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مِنَ الْخَمْرِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَيْسِرِ وَهُوَ: قِمَارُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَاسْمُ الْمَيْسِرِ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِمَارِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ، قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 145. (2) سورة النساء: 4/ 543. [.....] (3) سورة المائدة: 5/ 90.

وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ مِنْ نَرْدٍ وَشِطْرَنْجَ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكِعَابِ وَالْجَوْزِ إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ، وَالْقُرْعَةِ فِي إِبْرَازِ الْحُقُوقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَيْسِرُ مَيْسِرَانِ: مَيْسِرُ اللَّهْوِ فَمِنْهُ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلَاهِي كُلُّهَا، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ: وَهُوَ مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَلَى الشِّطْرَنْجِ: مَيْسِرُ الْعَجَمِ ، وَقَالَ الْقَاسِمُ، كُلُّ شَيْءٍ أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ. أُنْزِلَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ. وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ «1» بمكة ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «2» ثُمَّ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «3» قَالَ الْقَفَّالُ: وَوَقَعَ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَلِفُوا شُرْبَهَا وَالِانْتِفَاعَ بِهَا كَثِيرًا، فَجَاءَ التَّحْرِيمُ بِهَذَا التَّدْرِيجِ، رِفْقًا مِنْهُ تَعَالَى. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَمْ لَا تَدُلُّ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: قُلْ فِي تَعَاطِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، أَيْ: حُصُولُ إِثْمٍ كَبِيرٍ، فَقَدْ صَارَ تَعَاطِيهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ «4» فَمَا كَانَ إِثْمًا، أَوِ اشْتَمَلَ عَلَى الْإِثْمِ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَالْإِثْمُ هُوَ الذَّنْبُ، وَإِذَا كَانَ الذَّنْبُ كَثِيرًا أَوْ كَبِيرًا فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ لَمْ يَجُزِ ارْتِكَابُهُ، وَكَيْفَ يُقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْخُسْرَانِ إِذَا كَانَ الْإِثْمُ أَكْبَرَ مِنَ النَّفْعِ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فِيهِ الْإِثْمُ مُحَرَّمٌ، وَلَمَّا كَانَ فِي شُرْبِهَا الْإِثْمُ سُمِّيَتْ إِثْمًا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى زَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ وَمَنْ قَالَ: لَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَالْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلِأَنَّهَا لَوْ دَلَّتْ عَلَى التَّحْرِيمِ لَقَنِعَ الصَّحَابَةُ بِهَا، وَهُمْ لَمْ يَقْنَعُوا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ، وَآيَةُ التَّحْرِيمِ فِي الصَّلَاةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَاجِلَةٌ فِي

_ (1) سورة النحل: 16/ 67. (2) سورة النساء: 4/ 43. (3) سورة المائدة: 5/ 90. (4) سورة الأعراف: 7/ 33.

الدُّنْيَا، وَبِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أَنْ يَنْزِلَ التَّحْرِيمُ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى أَحَدٍ، فَيَكُونُ آكَدَ فِي التَّحْرِيمِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ فِيهِمَا إِثْمًا كَبِيرًا. وَمَنَافِعَ حَالَةَ الْجَوَابِ وَزَمَانَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ: الْإِثْمُ فِيهِمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَالْمَنْفَعَةُ فِيهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِثْمُ فِي وَقْتٍ، وَالْمَنْفَعَةُ فِي وَقْتٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَالْإِثْمُ الَّذِي فِيهِمَا هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِثْمُ الَّذِي فِي الْخَمْرِ: ذَهَابُ الْعَقْلِ، وَالسِّبَابُ، وَالِافْتِرَاءُ، وَالتَّعَدِّي الَّذِي يَكُونُ مِنْ شَارِبِهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِي الْخَمْرِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَا يَحْصُلُ مِنْهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ وَالْأَكْسَابِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: وَقِيلَ مَا ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ فِي مَنَافِعِهَا مِنْ ذَهَابِ الْهَمِّ، وَحُصُولِ الْفَرَحِ، وَهَضْمِ الطَّعَامِ، وَتَقْوِيَةِ الضَّعِيفِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاءَةِ، وَتَسْخِيَةِ الْبَخِيلِ، وَتَصْفِيَةِ اللَّوْنِ، وَتَشْجِيعِ الْجَبَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهَا. وَقَدْ صَنَّفُوا فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٍ وَكُتُبًا، وَيُسَمُّونَهَا: الشَّرَابَ الرَّيْحَانِيَّ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا لَهَا مَضَارَّ كَثِيرَةً مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ. وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِي الْمَيْسِرِ إِيسَارُ الْقَامِرِ بِغَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، وَقِيلَ: التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، فَإِنَّ مَنْ قَمَرَ مِنْهُمْ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنَ الْجَزُورِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا حُكْمَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ الْعِنَبِيَّةِ، وَحَدَّ الشَّارِبِ، وَكَيْفِيَّةَ الضَّرْبِ، وَمَا يُتَوَقَّى مِنَ الْمَضْرُوبِ فَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: إِثْمٌ كَثِيرٌ، بِالثَّاءِ، وَوُصِفَ الْإِثْمُ بِالْكَثْرَةِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الْآثِمِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ للناس آثام، أي لكل وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَاطِيهَا إِثْمٌ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِنْ تَوَالِي الْعِقَابِ وَتَضْعِيفِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُنْعَتَ بِالْكَثْرَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِمَّا يَصْدُرُ مِنْ شَارِبِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أو باعتبار من زوالها مِنْ لَدُنْ كَانَتْ إِلَى أن بيعت وشريت، فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَمْرَ، وَلَعَنَ مَعَهَا عَشَرَةً: بَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَالْمَعْصُورَةَ لَهُ وَسَاقِيهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ لَهُ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا. فَنَاسَبَ وَصْفُ الْإِثْمِ بِالْكَثْرَةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: كَبِيرٌ، بِالْبَاءِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالْقِمَارَ ذَنْبُهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ تَرْجِيحًا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَهَذَا

خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا، إِذْ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ: أَكْثَرُ، بِالثَّاءِ كَمَا فِي مُصْحَفِهِ: كَثِيرٌ، بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فِيهِمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِقَابُ الْإِثْمِ فِي تَعَاطِيهِمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، وَهُوَ الِالْتِذَاذُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْقِمَارِ، وَالطَّرَبِ فِيهِمَا، وَالتَّوَصُّلِ بِهِمَا إِلَى مُصَادَقَاتِ الْفِتْيَانِ وَمُعَاشَرَاتِهِمْ، وَالنَّيْلِ مِنْ مَطَاعِمِهِمْ وَمَشَارِبِهِمْ وَأُعْطِيَاتِهِمْ، وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ بِالْقِمَارِ، وَالِافْتِخَارِ عَلَى الْأَبْرَامِ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَإِثْمُهُمَا أَقْرَبُ، وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ أَنَّ: أَصْحَابَ الشُّرْبِ وَالْقِمَارِ يَقْتَرِفُونَ فِيهِمَا الْآثَامَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: إِثْمُهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: أَكْبَرُ، لِأَنَّ عِقَابَهُ بَاقٍ مُسْتَمِرٌّ وَالْمَنَافِعَ زَائِلَةٌ، وَالْبَاقِي أَكْبَرُ مِنَ الفاني. وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ تَقَدَّمَ هَذَا السُّؤَالُ وَأُجِيبُوا هُنَا بِذِكْرِ الْكَمِّيَّةِ وَالْمِقْدَارِ، وَالسَّائِلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قِيلَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ وَاوِ الْجَمْعِ. وَالنَّفَقَةُ هُنَا قِيلَ: فِي الْجِهَادِ، وَقِيلَ: فِي الصَّدَقَاتِ، وَالْقَائِلُونَ فِي الصَّدَقَاتِ، قِيلَ: فِي التَّطَوُّعِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: فِي الْوَاجِبِ، وَالْقَائِلُونَ فِي الْوَاجِبِ، قِيلَ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَجَاءَ ذِكْرُهَا هُنَا مُجْمَلًا، وَفَصَّلَتْهَا السُّنَّةُ. وَقِيلَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ أَنْ يُنْفِقُوا مَا فَضَلَ مِنْ مَكَاسِبِهِمْ عَنْ مَا يَكْفِيهِمْ فِي عَامِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الزَّكَاةِ. وَالْعَفْوُ: مَا فَضَلَ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَسِيرُ السَّهْلُ الَّذِي لَا يُجْحِفُ بِالْمَالِ قاله طاووس، أَوِ الْوَسَطُ الَّذِي لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ: الطَّيِّبُ الْأَفْضَلُ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، أَوِ: الْكَثِيرُ، مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى عَفَوْا «1» أَيْ: كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَكِنَّا يَعَضُّ السَّيْفُ مِنْهَا ... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ اللَّحْمِ كوم

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 95.

أَوِ: الصَّفْوُ، يُقَالُ أَتَاكَ عَفْوًا، أَيْ: صَفْوًا بِلَا كَدَرٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ أَوْ: مَا فَضَلَ عَنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ: قِيمَةِ ذَلِكَ مِنَ الذَّهَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، قَالَهُ، قَتَادَةُ. أَوْ: مَا فَضَلَ عَنِ الثُّلُثِ، أَوْ: عَنْ مَا يَقُوتُهُمْ حَوْلًا لِذَوِي الزِّرَاعَةِ، وَشَهْرًا لِذَوِي الْفِلَاتِ، أَوْ: عَنْ مَا يَقُوتُهُ يَوْمَهُ لِلْعَامِلِ بِهَذِهِ، وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ، أَوِ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، و: ما لَا يَسْتَنْفِدُ الْمَالَ وَيُبْقِي صَاحِبَهُ يَسْأَلُ النَّاسَ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الَّذِي جَاءَ يَتَصَدَّقُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، حدف رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ بِهَا ، وَقَوْلُهُ: «يَجِيءُ أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَلَى ظَهْرِ غِنًى» . وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجَهْدِ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجَهْدَ، وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عن حوائجكم ولم تؤدوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ فَتَكُونُوا عَالَةً وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ مُتَنَاوِلٌ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ وَلِمَا هُوَ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ الْفَضْلُ عَنِ الْغِنَى، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْفَضْلُ عَنِ الْقُوتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْعَفْوَ، بِالنَّصْبِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى فِي قَوْلِهِ: مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ أَنْ يَكُونَ مَاذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ينفقون، ويكون كُلُّهَا اسْتِفْهَامِيَّةً، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ؟ فَأُجِيبُوا بِالنَّصْبِ ليطابق الْجَوَابُ السُّؤَالَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وذا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ خَبَرُهُ، وَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحَذْفِ فِيهِ، تَقْدِيرُهُ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَهُ؟. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: قُلِ الْعَفْوَ، بِالرَّفْعِ، وَالْأَوْلَى إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قُلِ الْمُنْفَقُ الْعَفْوُ، وَأَنْ يَكُونَ: مَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ: ذَا، مَوْصُولٌ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهُ اسْتِفْهَامًا مَنْصُوبًا بِيُنْفِقُونَ، وَتَكُونَ الْمُطَابَقَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَاخْتُلِفَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي الْعَفْوِ، فَرُوِيَ عَنْهُ النَّصْبُ كَالْجُمْهُورِ، والرفع كأبي عَمْرٍو.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْعَفْوِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا مُتَرَكِّبٌ عَلَى: مَا، فَمَنْ جَعَلَ ما ابتداء، وذا خَبَرَهُ بِمَعْنَى الَّذِي، وَقَدَّرَ الضَّمِيرَ فِي يُنْفِقُونَهُ عَائِدًا قَرَأَ الْعَفْوُ بِالرَّفْعِ لِتَصِحَّ مُنَاسَبَةُ الْحَمْلِ، وَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ تَقْدِيرُهُ: الْعَفْوُ إِنْفَاقُكُمْ، أَوِ الَّذِي يُنْفِقُونَ الْعَفْوُ، وَمَنْ جَعَلَ مَاذَا اسْمًا واحدا مفعولا: يُنْفِقُونَ، قَرَأَ الْعَفْوَ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَصَحَّ لَهُ التَّنَاسُبُ، وَرَفْعُ الْعَفْوِ مَعَ نَصْبِ: مَا، جَائِزٌ ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُهُ مَعَ رَفْعِهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقْدِيرُهُ: الْعَفْوُ إِنْفَاقُكُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَصْدَرِ، وَلَيْسَ السُّؤَالُ عَنِ الْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ: جَائِزٌ، ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُهُ مَعَ رَفْعِهَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بِضَعِيفٍ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَيْ: تَبْيِينًا مِثْلَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ، أَوْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مِنْهَا ذَلِكَ التَّبْيِينَ يُبَيِّنُهُ، أَيْ: يُبَيِّنُ التَّبْيِينَ مُمَاثِلًا لِذَلِكَ التَّبْيِينِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْأَقْرَبِ مِنْ تَبَيُّنِهِ حَالَ الْمُنْفِقِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ وَهُوَ تَبْيِينُ أَنَّ الْعَفْوَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَهْدِ فِي النَّفَقَةِ. أَوْ حُكْمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالْإِنْفَاقَ الْقَرِيبِ أَيْ: مِثْلَ مَا يُبَيِّنُ فِي هَذَا يُبَيِّنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوَضِّحُ الْآيَاتِ مِثْلَ مَا أَوْضَحَ هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى بَيَانِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ كَتَبْيِينِ مَصْرَفِ مَا يُنْفِقُونَ، وَتَبْيِينِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ عِلْمُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَتَبْيِينِ حُكْمِ الْقِتَالِ، وَتَبْيِينِ حَالِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي ذُكِرَ في القتال في الشهر الحرام، وَتَبْيِينِ حَالِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَتَبْيِينِ مِقْدَارِ مَا يُنْفِقُونَ. وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِبَيَانِ حُكْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَقَطْ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ مَا سَبَقَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَكَافُ الْخِطَابِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِلسَّامِعِ أَوْ لِلْقَبِيلِ، فَلِذَلِكَ أُفْرِدَ أو للجماعة الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: كَذَلِكُمْ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ يُخَاطِبُونَ الْجَمْعَ بِخِطَابِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا هُنَا قَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ فَأَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ للجمع. لَكُمُ متعلق: بيبين، وَاللَّامُ فِيهَا لِلتَّبْلِيغِ، كَقَوْلِكَ: قُلْتُ لَكَ، وَيَبْعُدُ فِيهَا التَّعْلِيلُ،

وَالْآيَاتُ: الْعَلَامَاتُ، وَالدَّلَائِلُ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، تَرْجِئَةٌ لِلتَّفَكُّرِ تَحْصُلُ عِنْدَ تَبْيِينِ الْآيَاتِ. لِأَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيَّنَةً وَوَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا التَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ فِيمَا جَاءَتْ لَهُ تِلْكَ الْآيَةُ الْوَاضِحَةُ مِنْ أَمْرِ الدنيا وأمر الآخرة. وفِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلتَّفَكُّرِ وَمُتَعَلِّقًا بِهِ، وَيَكُونَ تَوْضِيحُ الْآيَاتِ لِرَجَاءِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُطْلَقًا، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، بَلْ لِيَحْصُلَ التَّفَكُّرُ فِيمَا يُعْنَ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَهَذَا ذَكَرَ مَعْنَاهُ أَوَّلًا الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: تَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّارَيْنِ، فَتَأْخُذُونَ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَكُمْ، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَتَسْتَدْرِكُونَ طَاعَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُمْسِكُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا يُصْلِحُكُمْ فِي مَعَاشِ الدُّنْيَا، وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِيَ فِيمَا يَنْفَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ الْآخِرَةِ، فَتَعْمَلُونَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي مَنَافِعِ الْخَمْرِ فِي الدُّنْيَا، وَمَضَارِّهَا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا تَخْتَارُوا النَّفْعَ الْعَاجِلَ عَلَى النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ الْمُسْتَمِرِّ، وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا فَتُمْسِكُونَ، وَفِي الْآخِرَةِ فَتَتَصَدَّقُونَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ، فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ لَكُمُ. الآيات، لا: بتتفكرون، وَيَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ: يُبَيِّنُ، أَيْ: يُبَيِّنُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ عَلَى هَذَا إِنْ كَانَ التَّبْيِينُ لِلْآيَاتِ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِيهِمَا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ الْآيَاتِ، وَهِيَ: الْعَلَامَاتُ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ: كَذَلِكَ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا والآخرة لعلكم تتفكرون. وقال: وَيُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ لِتَعَلُّقِ: فِي الدُّنْيَا والآخرة، بتتفكرون، فَفَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا الدَّلِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ: لَعَلَّ، هُنَا جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ، فهي كالمتعلقة: بيبين، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ وَالظَّرْفُ مِنْ مَطْلُوبِ: يُبَيِّنُ، وَتَقَدُّمُ أَحَدِ الْمَطْلُوبَيْنِ، وَتَأَخُّرُ الْآخَرِ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ باب التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ شَرْطَ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً بَيْنَ مُتَقَاضِيَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ آيَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِمَا وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمَا، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَقَوْلُهُ: فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: بِالْآيَاتِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَشَرَحَ مَكِّيٌّ الْآيَةَ بِأَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ مُنَكَّرَةً، حَتَّى يَجْعَلَ الظَّرْفَيْنِ صِفَةً لِلْآيَاتِ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: آيَاتٌ كَائِنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ شَرْحُ مَعْنَى لَا شَرْحُ إِعْرَابٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِالْآيَاتِ إِنْ عَنَى ظَاهِرَ مَا يُرِيدُهُ النُّحَاةُ بِالتَّعَلُّقِ فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْآيَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، وَلَا تَعْمَلُ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ يَكُونُ الظَّرْفُ مِنْ تَمَامِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِاعْتِقَادِ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ مَكِّيٌّ بِمَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ صِفَةً، إِذْ قَدَّرَ الْآيَاتِ مُنَكَّرَةً، وَالْحَالَ وَالصِّفَةَ سَوَاءً فِي أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِمَا مَحْذُوفٌ إِذَا كَانَا ظَرْفَيْنِ أَوْ مَجْرُورَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ: فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ لَا بِالْآيَاتِ، وَعَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، تَكُونُ الْآيَاتُ مَوْصُولًا وُصِلَ بِالظَّرْفِ وَلِتَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ وَرَدِّهِ موضع غير هذا. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى فِي مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَيَتَجَنَّبُونَ أَمْوَالَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1» إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى «2» تَجَنَّبُوا الْيَتَامَى وَأَمْوَالَهُمْ، وَعَزَلُوهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَنَزَلَتْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّؤَالَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَكَانَ تَرْكُهُمَا مَدْعَاةً إِلَى تَنْمِيَةِ الْمَالِ، وَذَكَرَ السُّؤَالَ عَنِ النَّفَقَةِ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ، نَاسَبَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي حَالِ الْيَتِيمِ، وَحِفْظُ مَالِهِ، وَتَنْمِيَتُهُ، وَإِصْلَاحُ الْيَتِيمِ بِالنَّظَرِ فِي تَرْبِيَتِهِ، فَالْجَامِعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ فِي تَرْكِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِصْلَاحَ أَحْوَالِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي النَّظَرِ فِي حَالِ الْيَتَامَى إِصْلَاحًا لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاجِزٌ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ النَّفْعِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ جَمَعَ الِاثْنَيْنِ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَهِيَ لِلْجَمْعِ بِهِ وقيل به.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 152. والإسراء: 17/ 34. (2) سورة النساء: 4/ 10.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: السَّائِلُ ثَابِتُ بْنُ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة، وَقِيلَ: السَّائِلُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِخَلْطِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِأَمْوَالِهِمْ، فَأَعْلَمَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنَمَا كانت مخالطتهم مشؤومة لِتَصَرُّفِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ تَصَرُّفًا غَيْرَ سَدِيدٍ، كَانُوا يَضَعُونَ الْهَزِيلَةَ مَكَانَ السَّمِينَةِ، وَيُعَوِّضُونَ التَّافِهَ عَنِ النَّفِيسِ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الإصلاح لليتيم يتناول إِصْلَاحِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ، وَإِصْلَاحِ ماله بالتنمية والحفظ. وإصلاح: مُبْتَدَأٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَمُسَوِّغُ جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ هُنَا هُوَ التَّقْيِيدُ بِالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ: لَهُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوَصْفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْمُولِ لِلْمَصْدَرِ، وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ عَنْ إِصْلَاحٍ، وَإِصْلَاحٌ كَمَا ذَكَرْنَا مَصْدَرٌ حُذِفَ فَاعِلُهُ، فَيَكُونُ: خَيْرٌ، شَامِلًا لِلْإِصْلَاحِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، فَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ لِلْجَانِبَيْنِ مَعًا، أَيْ أَنَّ إِصْلَاحَهُمْ لِلْيَتَامَى خَيْرٌ لِلْمُصْلِحِ وَالْمُصْلَحِ، فَيَتَنَاوَلُ حَالَ الْيَتِيمِ، وَالْكَفِيلِ، وَقِيلَ: خَيْرٌ للولي، والمعنى: إصلاحه مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا أُجْرَةٍ خَيْرٌ لَهُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا، وَقِيلَ: خَيْرٌ، عَائِدٌ لِلْيَتِيمِ، أَيْ: إِصْلَاحُ الْوَلِيِّ لِلْيَتِيمِ، وَمُخَالَطَتُهُ لَهُ، خَيْرٌ لِلْيَتِيمِ مِنْ إِعْرَاضِ الْوَلِيِّ عَنْهُ، وَتَفَرُّدِهِ عَنْهُ، وَلَفْظُ: خَيْرٌ، مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مُرَجِّحٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَحْسَنُ. وقرأ طاووس: قُلْ إِصْلَاحٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ: فِي رِعَايَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ خَيْرٌ مِنْ تَحَرُّجِكُمْ، أَوْ خَيْرٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ إِصْلَاحِ أَمْوَالِكُمْ. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ هَذَا الْتِفَاتٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ لِأَنَّ قبله و: يسألونك، فَالْوَاوُ ضَمِيرٌ لِلْغَائِبِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ مَا فِي الْإِقْبَالِ بِالْخِطَابِ عَلَى الْمُخَاطَبِ لِيَتَهَيَّأَ لِسَمَاعِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَقَبُولِهِ وَالتَّحَرُّزِ فِيهِ، فَالْوَاوُ ضَمِيرُ الْكُفَلَاءِ، وَهُمْ ضَمِيرُ الْيَتَامَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْظُرُوا لَهُمْ كَمَا تَنْظُرُونَ لِإِخْوَانِكُمْ مِنَ النَّسَبِ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالتَّلَطُّفِ وَالْإِصْلَاحِ لِذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَالْمُخَالَطَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْخَلْطِ وَهُوَ الِامْتِزَاجُ، وَالْمَعْنَى: فِي الْمَأْكَلِ، فَتُجْعَلُ نَفَقَةُ الْيَتِيمِ مَعَ نَفَقَةِ عِيَالِهِ بِالتَّحَرِّي، إِذْ يَشُقُّ عَلَيْهِ إِفْرَادُهُ وَحْدَهُ بِطَعَامِهِ، فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ خَلْطِهِ بِمَالِهِ لِعِيَالِهِ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ، قاله أبو عبيد. أو: الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْمُتَاجَرَةُ لَهُمْ فِيهَا، فَتَتَنَاوَلُونَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَخْتَصُّ بِكُمْ، وَتَتْرُكُونَ لَهُمْ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ. أَوِ:

الْمُصَاهَرَةُ فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ غُلَامًا زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، أَوْ جَارِيَةً زَوَّجَهَا ابْنَهُ، وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذَا خِلْطَةٌ لِلْيَتِيمِ نَفْسِهِ، وَالشَّرِكَةُ خِلْطَةٌ لِمَالِهِ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْخَلْطُ مِنْ جِهَةِ النِّكَاحِ، فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْخَلْطِ أَقْرَبُ. وَبِقَوْلِهِ: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْيَتِيمَ إِذَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ وَجَبَ أَنْ يُتَحَرَّى صَلَاحُ مَالِهِ كَمَا يُتَحَرَّى فِي الْمُسْلِمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِخْوَانُكُمْ، إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ، وَبِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمُخَالَطَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا فِي الْيَتَامَى الَّذِينَ هُمْ لَكُمْ إِخْوَانٌ بِالْإِسْلَامِ. أَوِ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهِ وَشُرْبُهُ مَنْ لَبَنِكَ، وَأَكْلُكَ فِي قَصْعَتِهِ وَأَكْلُهُ فِي قَصْعَتِكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: خَلْطُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي النَّفَقَةِ وَالْمَطْعَمِ وَالْمَسْكَنِ وَالْخَدَمِ وَالدَّوَابِّ، فَيَتَنَاوَلُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عِوَضًا عَنْ قِيَامِكُمْ بِأُمُورِهِمْ، بِقَدْرِ مَا يَكُونُ أُجْرَةَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءً كَانَ الْقَيِّمُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ مَالِهِ. أَوِ: الْمُضَارَبَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَنْمِيَةُ أَمْوَالِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ لَمْ تُقَيَّدْ بِشَيْءٍ لَمْ يَقُلْ فِي كَذَا فَتُحْمَلُ عَلَى أَيِّ: مُخَالَطَةٍ كَانَتْ مِمَّا فِيهِ إِصْلَاحٌ لِلْيَتِيمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِخْوَانُكُمْ، أَيْ: تَنْظُرُونَ لَهُمْ نَظَرَكُمْ إِلَى إِخْوَانِكُمْ مِمَّا فِيهِ إِصْلَاحُهُمْ. وَقَدِ اكْتَنَفَ هَذِهِ الْمُخَالَطَةَ الْإِصْلَاحُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَقَبْلُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَبَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ مَا فِيهِ إِصْلَاحٌ لِلْيَتِيمِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، مِنْ مُخَالَطَةٍ فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ مُتَاجَرَةٍ أَوْ مُشَارَكَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَإِخْوَانُكُمْ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: فَإِخْوَانُكُمْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلِ التَّقْدِيرِ: فَتُخَالِطُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَجَاءَ جَوَابُ السُّؤَالِ بِجُمْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مُنْعَقِدَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَالثَّانِيَةُ: مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ. فَالْأُولَى: تَتَضَمَّنُ إِصْلَاحَ الْيَتَامَى وَأَنَّهُ خَيْرٌ، وَأُبْرِزَتْ ثُبُوتِيَّةً مُنَكَّرًا مُبْتَدَأُهَا لِيَدُلَّ عَلَى تَنَاوُلِهِ كُلَّ إِصْلَاحٍ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ أُضِيفَ لَعَمَّ، أَوْ لَكَانَ مَعْهُودًا فِي إِصْلَاحٍ خَاصٍّ، فَالْعُمُومُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَالْمَعْهُودُ لَا يُتَنَاوَلُ غَيْرُهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ التَّنْكِيرُ الدَّالُّ عَلَى عُمُومِ الْبَدَلِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ: بخير، الدَّالِّ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ، ليبادر الْمُسْلِمِ إِلَى فِعْلِ مَا فِيهِ الْخَيْرُ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأُبْرِزَتِ الثَّانِيَةُ: شَرْطِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ لِجَوَازِ الْوُقُوعِ لَا لِطَلَبِهِ وَنَدْبَتِهِ. وَدَلَّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنَ الْأَحْكَامِ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْيَتِيمِ، لِجَوَازِ تَعْلِيمِهِ أَمْرَ دِينٍ وَأَدَبٍ، وَالِاسْتِيجَارُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَقَبُولِ مَا يُوهَبُ لَهُ، وَتَزْوِيجِهِ وَمُؤَاجَرَتِهِ، وَبَيْعِهِ مَالَهُ لِلْيَتِيمِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَفِي عَمَلِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ مُضَارَبَةً، وَدَفْعِهِ إِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَنُوطَةِ بِالْإِصْلَاحِ. وَدَلَّ الْجَوَابُ الثَّانِي عَلَى جَوَازِ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بِمَا فِيهِ إِصْلَاحٌ لَهُمْ، فَيَخْلِطُهُ بِنَفْسِهِ فِي مَنَاكِحِهِ وَمَالِهِ بِمَالِهِ فِي مَؤُونَةٍ وَتِجَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا. قِيلَ: وَقَدِ انْتَظَمَتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الْمُخَالَطَةِ، فَدَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُسَافِرُونَ فِي الْأَسْفَارِ، وَهِيَ أَنَّ يُخْرِجَ هَذَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَيُخْلَطُ وَيُنْفَقُ وَيَأْكُلُ النَّاسُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مِقْدَارُ مَا يَأْكُلُونَ، وَإِذَا أُبِيحَ لَكَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَهُوَ فِي مَالِ الْبَالِغِ بِطِيبِ نَفْسِهِ أَجْوَزُ. وَنَظِيرُ جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ «1» الْآيَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ: شِرَاءُ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْمُضَارَبَةُ فِيهِ، وَإِنْكَاحُ الْوَصِيِّ بِيَتِيمَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْكَاحُ الْيَتِيمِ لِابْنَتِهِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. قِيلَ: وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أُخُوَّةُ الدِّينِ، وَالثَّانِي: لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِمْ، إِمَّا فِي الثواب مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ أُجْرَةِ عَمَلِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ نَفَعَكَ فَهُوَ أَخُوكَ. وَقَالَ الْبَاقِرُ لِشَخْصٍ: رَأَيْتُكَ فِي قَوْمٍ لَمْ أَعْرِفْهُمْ، فَقَالَ: هُمْ إِخْوَانِي، فَقَالَ: أَفِيهِمْ مَنْ إِذَا احْتَجْتَ أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي كُمِّهِ فَأَخَذْتَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِذَنْ لَسْتُمْ بِإِخْوَانٍ. قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ لِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ إِخْوَانًا لَنَا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ جُمْلَةٌ مَعْنَاهَا التَّحْذِيرُ، أَخْبَرَ تَعَالَى فِيهَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالَّذِي

_ (1) سورة الكهف: 18/ 19.

يُفْسِدُ مِنَ الَّذِي يُصْلِحُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجَازِي كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُنْسَبُ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالشَّيْءِ جَازَى عَلَيْهِ، فَهُوَ تَعْبِيرٌ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَ: يَعْلَمُ، هُنَا مُتَّعَدٍ إِلَى وَاحِدٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ هُنَا بِالْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّجَدُّدِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ اللَّهِ لَا يَتَجَدَّدُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْعِقَابَ وَالثَّوَابَ لِلْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَهُمَا وَصْفَانِ يَتَجَدَّدَانِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِهِمَا، فَتَكَرَّرَ تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا لِتَكَرُّرِهِمَا، وَتَعَلَّقَ الْعَمَلُ بِالْمُفْسِدِ أَوَّلًا لِيَقَعَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْإِفْسَادِ. ومن، مُتَعَلِّقَةٌ بِيَعْلَمَ عَلَى تَضْمِينِ مَا يَتَعَدَّى بِمِنْ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَمِيزُ بِعِلْمِهِ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. وَظَاهِرُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَالْمُصْلِحُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ جُمْلَةِ مَدْلُولَاتِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيِ: الْمُفْسِدَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الْمُصْلِحِ فِيهِ، وَالْمُفْسِدُ بِالْإِهْمَالِ فِي تَرْبِيَتِهِ مِنَ الْمُصْلِحِ لَهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُخَالَطَةٌ بِإِفْسَادٍ، وَمُخَالَطَةٌ بِإِصْلَاحٍ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ فُهِمَ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِفْسَادَ شَرٌّ، فَجَاءَ هَذَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْإِصْلَاحِ. وَمُقَابِلُهُ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أَيْ: لأخرجكم وَشَدَّدَ عَلَيْكُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَوْ: لَأَهْلَكَكُمْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَوْ: لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مَوْبِقًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، أَوْ: لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ: لَآثَمَكُمْ بِمُخَالَطَتِهِمْ أَوْ: لَضَيَّقَ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، قَالَهُ عَطَاءٌ، أَوْ: لَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ مُخَالَطَتَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَمَفْعُولُ: شَاءَ، مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ إِعْنَاتَكُمْ، وَاللَّامُ فِي الْفِعْلِ الْمُوجَبِ الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَجِيءُ بِهَا فِيهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَأَعْنَتَكُمْ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَبِيعَةَ «بِتَلْيِينِ الهمزة» وقرىء بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مَرْيَمَ: لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ مُجَاهِدٍ هَذَا الْحَرْفَ، وَابْنُ كَثِيرٍ لَمْ يَحْذِفِ الْهَمْزَةَ، وَإِنَّمَا لَيَّنَهَا وَحَقَّقَهَا، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهَا مَحْذُوفَةٌ، فَإِنَّ الْهَمْزَةَ هَمْزَةُ قَطْعٍ فَلَا تَسْقُطُ حَالَةَ الوصل ما تَسْقُطُ هَمَزَاتُ الْوَصْلِ عِنْدَ الْوَصْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ إِسْقَاطَ الْهَمْزَةِ وَهْمًا، وَقَدْ نَقَلَهَا غَيْرُهُ قِرَاءَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ إِعْلَامٌ وَتَذْكِيرٌ بِإِحْسَانِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى أَوْصِيَاءِ الْيَتَامَى، إِذْ أَزَالَ إِعْنَاتَهُمْ وَمَشَقَّتَهُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَزِيزٌ غَالِبٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعْنِتَ عِبَادَهُ وَيُحْرِجَهُمْ، لَكِنَّهُ حَكِيمٌ لَا يُكَلِّفُ إِلَّا مَا تَتَّسِعُ فِيهِ طَاقَتُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَزِيزٌ لَا يُرَدُّ أَمْرُهُ، وَحَكِيمٌ أَيْ مُحْكِمُ مَا ينفذه. انتهى. في وصفه تعالى بالعزة، وهو الْغَلَبَةُ وَالِاسْتِيلَاءُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ لَا يُشَارَكُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لَهُمْ وِلَايَةً عَلَى الْيَتَامَى نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْهَرُونَهُمْ، وَلَا يُغَالِبُونَهُمْ، وَلَا يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ الْقَاهِرِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ لا يكون إلّا الله. وَفِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحِكْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى مَا أَذِنَ هُوَ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَيْسَ لَكُمْ نَظَرٌ إِلَّا بِمَا أَذِنَتْ فِيهِ لَكُمُ الشَّرِيعَةُ، وَاقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. إِذْ هُوَ الْحَكِيمُ الْمُتْقِنُ لِمَا صَنَعَ وَشَرَعَ، فَالْإِصْلَاحُ لَهُمْ لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى نَظَرِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِاتِّبَاعِ مَا شُرِعَ فِي حَقِّهِمْ. وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، أَعْتَقَ أَمَةً وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَنَاقَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ذَاتُ حَظٍّ مِنْ جَمَالٍ، مُشْرِكَةٌ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا تُعْجِبُنِي، وَرُوِيَ هَذَا السَّبَبُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَسْنَاءَ وَلِيدَةٍ سَوْدَاءَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ جَمِيعَ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْيَتَامَى فِي الْمُخَالَطَةِ، وَكَانَتْ تَقْتَضِي الْمُنَاكَحَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يُسَمَّى مُخَالَطَةً، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَهَا بِالْمُصَاهَرَةِ فَقَطْ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ مِنَ الْيَتَامَى مَنْ يَكُونُ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنَاكَحَةِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلنِّكَاحِ، وَهِيَ: الْأُخُوَّةُ

الدِّينِيَّةُ، فَنَهَى عَنْ نِكَاحِ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْأُخُوَّةُ، وَانْدَرَجَ يَتَامَى الْكُفَّارِ فِي عُمُومِ مَنْ أَشْرَكَ. وَمُنَاسَبَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ حُكْمُ الشُّرْبِ فِي الْخَمْرِ، وَالْأَكْلِ فِي الْمَيْسِرِ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْمَنْكَحِ، فَكَمَا حَرَّمَ الْخَمْرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الْمَيْسِرُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَنْكِحُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ نَكَحَ، وَهُوَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ، وَبِمَعْنَى الْوَطْءِ بِمِلْكٍ وَغَيْرِهِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلَا تُنْكِحُوا بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَنْكَحَ، أَيْ: وَلَا تُنْكِحُوا أَنْفُسَكُمُ الْمُشْرِكَاتِ. وَالْمُشْرِكَاتُ هُنَا: الْكُفَّارُ فَتَدْخُلُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَقِيلَ: لَا تَدْخُلُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَالصَّحِيحُ دخولهنّ لعبادة اليهود عزيزا، وَالنَّصَارَى عِيسَى، وَلِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُ جُلِّ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِنَّ الْكِتَابِيَّاتُ، يَحْتَاجُ إِلَى مُجَوِّزِ نِكَاحِهِنَّ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عُمُومٌ نُسِخَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ عُمُومٌ خُصَّ مِنْهُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَثَنِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ، وَكُلُّ مَنْ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنِكَاحُهُنَّ حَرَامٌ. وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَلَى هَذَا، نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ. وَآيَةُ الْمَائِدَةِ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي التِّلَاوَةِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي (الْمُوَطَّأِ) : وَلَا أَعْلَمُ إِشْرَاكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبَّهَا عِيسَى. وَرُوِيَ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ نَكَحَ يَهُودِيَّةً، وَأَنَّ حُذَيْفَةَ نَكَحَ نَصْرَانِيَّةً، وَأَنَّ عُمَرَ غَضِبَ عَلَيْهِمَا غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى هَمَّ أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ، وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً. وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ، قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَجَابِرٌ، وَطَلْحَةُ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وطاووس، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، قِيلَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ

_ (1) سورة يونس: 10/ 18. والنحل: 16/ 1، والروم: 30/ 40 والزمر: 39/ 67.

تَزْوِيجِ الْكِتَابِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا وَابْنَ حَنْبَلٍ كَرِهَا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ. وَاخْتُلِفَ فِي تَزْوِيجِ الْمَجُوسِيَّاتِ، وَقَدْ تزويج حُذَيْفَةُ بِمَجُوسِيَّةٍ، وَفِي كَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ خِلَافٌ، وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ لَهُمْ نَبِيًّا يُسَمَّى زَرَادَشْتَ، وَكِتَابًا قَدِيمًا رُفِعَ، رُوِيَ حَدِيثُ الْكِتَابِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَذُكِرَ لِرَفْعِهِ وَتَغْيِيرِ شَرِيعَتِهِمْ سَبَبٌ طَوِيلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا التَّحْرِيمُ، وَقِيلَ: هُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ، حَتَّى يُؤْمِنَّ، غَايَةٌ لِلْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، وَمَعْنَى إِيمَانِهِنَّ إِقْرَارُهُنَّ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَالْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَمَةِ الرَّقِيقَةَ، وَمَعْنَى: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ، أَيْ: مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَمَةٌ، وَقِيلَ: الْأَمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْأَةِ، فَيَشْمَلُ الْحُرَّةَ وَالرَّقِيقَةَ، وَمِنْهُ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» . وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ: وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، كِتَابِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ نِكَاحَ الْأَمَةِ المجوسية، وَفِي الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ خِلَافٌ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُوطَأَ بِنِكَاحٍ وَلَا مِلْكٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَتَأَوَّلَا: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ عَلَى الْعَقْدِ لَا عَلَى الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَاحْتَجَّا بِسَبْيِ أَوْطَاسٍ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ نَكَحُوا الْإِمَاءَ مِنْهُمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْقَادِرِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِلْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ قوله: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ مَعْنَاهُ مِنْ: حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، وَوَاجِدُ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ وَاجِدٌ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ الطَّوْلَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْرُ الْمَالِ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أُهْبَةِ نِكَاحِهَا سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ وَاجِدَ طَوْلَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لِطَيْفٌ. وأمة: مبتدأ، ومسوغ جواز الابتداء الْوَصْفُ، وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: خَيْرٌ، عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ، قَالُوا: وَالْخَيْرِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَائِزَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ،

لِأَنَّ التَّفْضِيلَ قَدْ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ. لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُودِ، وَمِنْهُ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» وَ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ وَقَالَ عُمَرُ، في رسالته لأبي مُوسَى: الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَيُحْتَمَلُ إِبْقَاءُ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ الْوُجُودِيِّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَنِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى مَنَافِعَ أُخْرَوِيَّةٍ، فَقَدِ اشْتَرَكَ النَّفْعَانِ فِي مُطْلَقِ النَّفْعِ إِلَّا أَنَّ نَفْعَ الْآخِرَةِ لَهُ الْمَزِيَّةُ الْعُظْمَى، فَالْحُكْمُ بِهَذَا النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيغَ، كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِيهِمَا مَنَافِعُ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْإِبَاحَةَ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ إِلَّا يَكَادُ يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ مَا. وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ لَفْظَةَ: أَفْعَلَ، الَّتِي لِلتَّفْضِيلِ، لَا تَصِحُّ حَيْثُ لَا اشْتِرَاكَ، كَقَوْلِكَ: الثَّلْجُ أَبْرَدُ مِنَ النَّارِ، والنور أضوء مِنَ الظُّلْمَةِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: يَصِحُّ حَيْثُ الِاشْتِرَاكُ، وَحَيْثُ لَا يَكُونُ اشْتِرَاكٌ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ: لَفْظَةُ التَّفْضِيلِ تَجِيءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِيجَابًا لِلْأَوَّلِ، وَنَفْيًا عَنِ الثَّانِي، فَعَلَى قَوْلٍ هُوَ لَا يَصِحُّ أَنْ لَا يَكُونَ خَيْرٌ فِي الْمُشْرِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ. وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لَوْ: هَذِهِ بِمَعْنَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، نَحْوَ: «رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفِ شَاةٍ مُحْرَقٍ» . وَالْوَاوُ فِي: وَلَوْ، لِلْعَطْفِ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِاسْتِقْصَاءِ الْأَحْوَالِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ لَوْ هَذِهِ إِنَّمَا يَأْتِي وَهُوَ مُنَافٍ لِمَا قَبْلَهُ بِوَجْهٍ مَا، فَالْإِعْجَابُ مُنَافٍ لَحُكْمِ الْخَيْرِيَّةِ، وَمُقْتَضٍ جَوَازَ النِّكَاحِ لِرَغْبَةِ النَّاكِحِ فِيهَا، وَأُسْنِدَ الْإِعْجَابُ إِلَى ذَاتِ الْمُشْرِكَةِ، ولم يبين ما للعجب مِنْهَا، فَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْإِعْجَابِ، إِمَّا لِجَمَالٍ، أَوْ شَرَفٍ، أَوْ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْإِعْجَابُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُشْرِكَةَ، وَإِنْ كَانَتْ فَائِقَةً فِي الْجِمَالِ وَالْمَالِ وَالنَّسَبِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا فَاقَتْ بِهِ الْمُشْرِكَةُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَالْإِيمَانُ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَبِالتَّوَافُقِ فِي الدِّينِ تَكْمُلُ الْمَحَبَّةُ وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا مِنَ الصُّحْبَةِ وَالطَّاعَةِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَبِالتَّبَايُنِ فِي الدِّينِ لَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا الْقِرَاءَةُ بِضَمِّ التَّاءِ إِجْمَاعٌ مِنَ الْقُرَّاءِ،

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 24.

وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنَاتِ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَطَأُ الْمُؤْمِنَةَ بِوَجْهٍ مَا، وَالنَّهْيُ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِيهَا. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْكَلَامِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِالْعَبْدِ: أَهُوَ بِمَعْنَى الرَّقِيقِ أَمْ بِمَعْنَى الرَّجُلِ؟ كَهُوَ فِي الْأَمَةِ هُنَاكَ، وَهَلِ الْمَعْنَى: خَيْرٌ مِنْ حُرٍّ مُشْرِكٍ، حَتَّى يُقَابِلَ الْعَبْدَ؟ أَوْ مِنْ مُشْرِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ؟ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّنْفَيْنِ، الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَ: يَدْعُونَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدعاء بالقول، كقول: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَوْلُ، بَلْ بِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُخَالَطَةِ تَسْرِقُ إِلَيْهِ مِنْ طِبَاعِ الْكُفَّارِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَتَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْعُونَ إِلَى تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَفِي تَرْكِهِمَا وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ، وَتَفَرَّقَ صَاحِبُ هَذَا التَّأْوِيلِ بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا يُحْمَلُ زَوْجُهَا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدُثُ رُبَّمَا دَعَاهُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ فَيُوَافِقُ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يُدْعَوْنَ إِلَى النَّارِ قَطْعًا، إِمَّا بِالْقَوْلِ. وَإِمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ الْخِلْطَةُ، وَالتَّآلُفُ وَالتَّنَاكُحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى النَّارِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لِئَلَّا يَسْتَمِيلَ بِدُعَائِهِ دَائِمًا مُعَاشِرَهُ فَيُجِيبُهُ إِلَى مَا دَعَاهُ، فَيَهْلَكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْمُنَاكَحَةِ فِي الْكُفَّارِ، لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِالْتِبَاسِ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ: الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالِانْغِمَاسِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَتَرْبِيَةِ النَّسْلِ وَسَرِقَةِ الطِّبَاعِ مِنْ طِبَاعِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُعَادَلُ فِيهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ فِي بَعْضِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا نُظِرَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ فَتَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْمُنَاكَحَةِ مُطْلَقًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنُبْدِي هُنَاكَ إِنْ شاء الله كونها

_ (1) سورة البقرة: 2/ 135.

وَ: إِلَى، مُتَعَلِّقٌ بِيَدْعُونَ كقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ «1» وَيَتَعَدَّى أَيْضًا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ. دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ: إِمَّا اقْتِصَارًا إِذِ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمُ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَفْعُولٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا اخْتِصَارًا، فَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ يَدْعُونَكُمْ إِلَى النار. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ هَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ مَنْعَ مُنَاكَحَةِ الْكُفَّارِ، إِذْ ذَكَرَ قَسِيمَانِ: أَحَدُهُمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَآخَرُ يجب اجتنابه، فتباين القسيمان، وَلَا يُمْكِنُ إِجَابَةُ دُعَاءِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ إِلَّا بِاجْتِنَابِ دُعَاءِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِهِمْ رَأْسًا، وَدُعَاءُ اللَّهِ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَعَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ لِتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ تَعَالَى يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي: وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَمَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمَا، فَهُمُ الَّذِينَ تَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ وَمُصَاهَرَتُهُمْ، وَأَنْ يُؤْثَرُوا عَلَى غَيْرِهِمْ. انْتَهَى. وَحَامِلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ طَلَبُ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّعَاءِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَنْ أَشْرَكَ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى النَّارِ، جَعَلَ مَنْ آمَنَ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ، بَلْ إِجْرَاءُ اللفظ على ظاهره من نِسْبَةِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ آكَدُ فِي التَّبَاعُدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ جَعَلَ مُوجِدَ الْعَالَمِ مُنَافِيًا لَهُمْ فِي الدُّعَاءِ، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْمَغْفِرَةِ، بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَدْعُو إِلَى الْمَغْفِرَةِ، أَيْ: إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهِيَ التَّوْبَةُ وَالْتِزَامُ الطَّاعَاتِ، وَتَقَدَّمَ هُنَا الْجَنَّةُ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، وَتَأَخَّرَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ «2» وَفِي قَوْلِهِ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ «3» وَالْأَصْلُ فِيهِ تَقَدُّمُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مُتَسَبِّبٌ عَنْ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ، فَفِي تِلْكَ الْآيَتَيْنِ جَاءَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَأَمَّا هُنَا، فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِتَحَسُّنِ الْمُقَابَلَةِ، فَإِنَّ قَبْلَهُ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فجاء وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَلِيَبْدَأَ بِمَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ النَّفْسُ حِينَ ذَكَرَ دُعَاءَ اللَّهِ، فَأَتَى بِالْأَشْرَفِ لِلْأَشْرَفِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْمَغْفِرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّتِمَّةِ فِي الْإِحْسَانِ، وَتَهْيِئَةِ سَبَبِ دخول الجنة.

_ (1) سورة يونس: 10/ 25. (2) سورة آل عمران: 3/ 133. [.....] (3) سورة الحديد: 57/ 21.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمَغْفِرَةُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ أَيْ: وَالْمَغْفِرَةُ حَاصِلَةٌ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْوِيفِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِذْنِ، وَعَلَى قِرَاءَاتِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ بِإِذْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَدْعُو. وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَيْ: يُظْهِرُهَا وَيَكْشِفُهَا بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ فِيهَا الْتِبَاسٌ، أَيْ أَنَّ هَذَا التَّبْيِينَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِنَاسٍ دُونَ نَاسٍ، بَلْ يُظْهِرُ آيَاتِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ رَجَاءَ أَنْ يَحْصُلَ بِظُهُورِ الْآيَاتِ تَذَكُّرٌ وَاتِّعَاظٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ مَتَى كَانَتْ جَلِيَّةً وَاضِحَةً، كَانَتْ بِصَدَدِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا التَّذَكُّرُ، فَيَحْصُلَ الِامْتِثَالُ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، وَمُخَالَفَةِ النَّهْيِ. وَ: للناس، متعلق: بيبين، وَ: اللَّامُ، مَعْنَاهَا الْوُصُولُ وَالتَّبْلِيغُ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَسَأَلَ أَبُو الدَّحْدَاحِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِالنِّسَاءِ إِذَا حِضْنَ؟ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كانوا يأتون الحيض استنوا سُنَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَجَنُّبِ مُؤَاكَلَةِ الْحُيَّضِ وَمُسَاكَنَتِهَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: كَانَتِ النَّصَارَى يُجَامِعُونَ الْحُيَّضَ وَلَا يُبَالُونَ بِالْحَيْضِ، وَالْيَهُودُ يَعْتَزِلُونَهُنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالِاقْتِصَادِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقِيلَ: سَأَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنِ الْمَحِيضِ فَنَزَلَتْ وَقِيلَ كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا، جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فَامْتَنَعَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَسُئِلَ عَنْ إِتْيَانِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، وَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ، فَنَزَلَتْ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَيَسْأَلُونَكَ، ضَمِيرُ جَمْعٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، لَا اثْنَانِ وَلَا وَاحِدٌ، وَجَاءَ: وَيَسْأَلُونَكَ، هُنَا وقبله في وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى وقبله وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ بالواو العاطفة على يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قِيلَ: لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَمَعُوا لَكَ بَيْنَ السؤال عن الخمر والميسر، وَالسُّؤَالِ عَنْ كَذَا وَكَذَا.

وَقِيلَ هَذِهِ سُؤَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ بغير واو يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «1» يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ «2» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «3» وَثَلَاثَةٌ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ قِيلَ إِنَّهَا جَاءَتْ بِغَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ وَقَعَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَلَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا سُؤَالٌ مُبْتَدَأٌ. انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ مُنَاكَحَةِ الْكُفَّارِ، وَتَضَمَّنَ مُنَاكَحَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارَ ذَلِكَ، بَيَّنَ حُكْمًا عَظِيمًا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَهُوَ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ. وَالْمَحِيضُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، هُوَ مَفْعَلٌ، هُوَ مَفْعَلٌ مِنَ الْحَيْضِ يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْأُدَبَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَنِ الْحَيْضِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبِهِ بَدَأَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: الْمَحِيضُ مَصْدَرٌ كَالْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ الْمَقِيلُ مِنْ قَالَ يَقِيلُ. قَالَ الرَّاعِي: بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ ... لَا يَسْتَطِيعُ بِهَا الْقُرَادُ مَقِيلَا وَقَالَ الطبري: المحيض اسم الحيض، وَمِثْلُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ فِي العيش: إليك أشكوا شِدَّةَ الْمَعِيشِ ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِ: الْمَحِيضُ مَصْدَرٌ كَالْحَيْضِ، وَبَيْنَ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ: الْمَحِيضُ اسْمُ الْحَيْضِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا يُقَالُ فِيهِ مَصْدَرٌ، وَيُقَالُ فِيهِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَحِيضَ مَصْدَرٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَوْضِعُ الدَّمِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَكَانُ. وَرَجَّحَ كَوْنَهُ مَكَانَ الدَّمِ بِقَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ لَكَانَ الظَّاهِرُ مَنْعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ، لَزِمَ الْقَوْلُ بِتَطَرُّقِ النَّسْخِ، أَوِ التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَوْضِعِ الْحَيْضِ كَانَ الْمَعْنَى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ. قَالُوا وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَوْضِعِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْمَصْدَرِ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ الْمَصْدَرُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ أَذىً. وَمَكَانُ الدَّمِ نَفْسُهُ لَيْسَ بِأَذًى لِأَنَّ الْأَذَى كَيْفِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ وَهُوَ عَرَضٌ، وَالْمَكَانُ جِسْمٌ، وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ عَرَضًا. وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى حَذْفٍ إِذَا أُرِيدَ الْمَكَانُ، أَيْ: ذو أذى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 189. (2) سورة البقرة: 2/ 215. (3) سورة البقرة: 2/ 217.

وَالْخِطَابُ فِي: وَيَسْأَلُونَكَ، وَفِي: قُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ فِي: هُوَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَحِيضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْصُلُ نَفْرَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَاسْتِقْذَارٌ بِسَبَبِهِ. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمَحِيضِ أَهُوَ مَوْضِعُ الدَّمِ أَمِ الْحَيْضُ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالثَّانِي عَلَى الْمَكَانِ، وَإِنْ حَمَلْنَا الثَّانِيَ عَلَى الْمَصْدَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاعْتِزَالِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِزَالُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِزَارُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا صَحَّ أَنَّهَا: تَشُدُّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا. وَذَهَبَتْ عَائِشَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا اعْتِزَالُ الْفَرْجِ فَقَطْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِزَالُ الرَّجُلِ فِرَاشَ زَوْجَتِهِ إِذَا حَاضَتْ، أَخْذٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ. وَلَمَّا كَانَ الْحَيْضُ مَعْرُوفًا فِي اللُّغَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَفْسِيرٍ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِأَقَلِّهِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ، بَلْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ، وَأَقَلُّهُ عِنْدَ مَالِكٍ لَا حَدَّ لَهُ، بَلِ الدَّفْعَةُ مِنَ الدَّمِ عِنْدَهُ حَيْضٌ، وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ حَيْضٌ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَقَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ عَطَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا وَقْتَ لِقَلِيلِ الْحَيْضِ وَلَا كَثِيرِهِ إِلَّا مَا يُوجَدُ فِي النِّسَاءِ عَادَةً. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إِلَى عُرْفِ النِّسَاءِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْحَيْضُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِذَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَجَمِيعُ دَلَائِلِ هَذَا، وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي الْحَيْضِ، وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ،

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشافعي ببغداد. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ فَدِينَارٌ، أَوْ فِي انْقِطَاعِهِ فَنِصْفُهُ، وَنَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ وَطِئَ وَهِيَ حَائِضٌ يَتَصَدَّقُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» . وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُفَضَّلِ عَنْهُ: يَطَّهَّرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ وَالْفَتْحِ، وَأَصْلُهُ: يَتَطَهَّرْنَ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: يَطْهُرْنَ، مُضَارِعُ: طَهُرَ. وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ: وَلَا تَقْرَبُوا النِّسَاءَ فِي مَحِيضِهِنَّ وَاعْتَزِلُوهُنَّ حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِكَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِ السَّوَادَ، وَرَجَّحَ الْفَارِسِيُّ: يَطْهُرْنَ، بِالتَّخْفِيفِ إِذْ هُوَ ثُلَاثِيٌّ مُضَادٌّ لِطَمِثَتْ، وَهُوَ ثُلَاثِيٌّ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ التَّشْدِيدَ، وَقَالَ: هِيَ بِمَعْنَى تَغْتَسِلْنَ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ حَتَّى تَطْهُرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الطُّهْرِ مَا هُوَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قِيلَ: وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ مَعْنَاهَا حَتَّى يَغْتَسِلْنَ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ مَعْنَاهَا يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا انْقِطَاعُ الدَّمِ وَزَوَالُ أَذَاهُ، قَالَ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ تَشْدِيدِ الطَّاءِ مُضَمَّنُهَا الِاغْتِسَالُ، وَقِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ مُضَمَّنُهَا انْقِطَاعُ الدَّمِ أَمْرٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَكَذَلِكَ ادِّعَاؤُهُ الْإِجْمَاعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَرَاهَةِ الْوَطْءِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ. انْتَهَى مَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَمُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ. وَظَاهِرُ الِاعْتِزَالِ وَالْقُرْبَانِ أَنَّهُمَا لَا يَتَمَاسَّانِ، وَلَكِنْ بَيَّنَتِ السنة أن اعْتِزَالٌ وَقُرْبَانٌ خَاصٌّ، وَمِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ يُعْرَفُ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرِهِ. فَإِذا تَطَهَّرْنَ أَيِ: اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْخِلَافُ فِي مَعْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ

مِنَ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ أَوِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ هُنَا: إِنَّهُ أُرِيدَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ، وَلَا بُدَّ لِقَرِينَةِ الْأَمْرِ بِالْإِتْيَانِ، وَإِنْ كَانَ قُرْبُهُنَّ قَبْلَ الْغُسْلِ مُبَاحًا، لَكِنْ لَا تَقَعُ صِيغَةُ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَإِذَا كَانَ التَّطَهُّرُ الْغُسْلَ بِالْمَاءِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، أَنَّهُ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ وَقَالَ طاووس، وَمُجَاهِدٌ: الْوُضُوءُ كَافٍ فِي إِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُبِيحَ لِلْوَطْءِ: هُوَ غَسْلُ مَحَلِّ الْوَطْءِ بِالْمَاءِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ عَلَى التَّطَهُّرِ الشَّرْعِيِّ أَوِ اللُّغَوِيِّ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى اللُّغَوِيِّ قَالَ: تَغْسِلُ مَكَانَ الْأَذَى بِالْمَاءِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ حَمَلَهُ عَلَى أَخَفِّ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، لِمُرَاعَاةِ الْخِفَّةِ، أَوْ عَلَى أَكْمَلِ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ أَنْ تَغْتَسِلَ كَمَا تَغْتَسِلَ لِلْجَنَابَةِ إِذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعُهْدَةِ. وَالِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، لِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إِلَّا بَعْدَهُ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنَ الْغُسْلِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَاخْتُلِفَ فِي الذِّمِّيَّةِ: هَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ الغسل عادة قَالَ لَا يَلْزَمُهَا لِأَنَّ نِيَّةَ الْعِبَادَةِ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ عِبَادَةً، بَلِ الِاغْتِسَالُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ لِإِحْلَالِهَا لِلْوَطْءِ، قَالَ: تُجْبَرُ، عَلَى الْغُسْلِ. وَمَنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ فَصِفَتُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِ الْحَيْضَةِ فَقَالَ: «تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَهَا، وَتَتَطَهَّرَ فَتُحْسِنُ الطَّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَضْغَطُهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ شَعْرِهَا، ثُمَّ تَفِيضُ الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهَا» . فَأْتُوهُنَّ هَذَا أَمْرٌ يُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا «2» وَكَثِيرًا مَا يَعْقُبُ أَمْرُ الْإِبَاحَةِ التَّحْرِيمَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ حَيْثُ: ظَرْفُ مَكَانٍ، فَالْمَعْنَى مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْقُبُلُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وأبو رزين والسدّي.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 2. (2) سورة الجمعة: 62/ 10.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَصِيرُ الْمَعْنَى فَأْتُوهُنَّ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ أَوْ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ لَا مِنْ قِبَلِ الْفُجُورِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ: مِنْ حَيْثُ أَحَلَّ لَكُمْ غِشْيَانَهُنَّ بِأَنْ لَا يَكُنَّ صَائِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ، قَالَهُ الْأَصَمُّ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ حَمْلَ: حَيْثُ، عَلَى الْمَكَانِ وَالْمَوْضِعِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَمَا سِوَاهُ مَجَازٌ. وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْأَظْهَرِ كَانَ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَبَاحَ إتيان النساء في أدبارهن. قِيلَ: وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مُخْتَلِفٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْمَعْنَى، فِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِاعْتِزَالِهِنَّ وَهُوَ الْفَرْجُ، أَوْ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أَيِ: الرَّاجِعِينَ إِلَى الْخَيْرِ. وَجَاءَ عَقِبَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إيذانا بقبول توبة يَقَعُ مِنْهُ خِلَافُ مَا شُرِعَ لَهُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أَيِ: الْمُبَرَّئِينَ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ التَّائِبُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُتَطَهِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَمُقَاتِلٌ وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِالتَّائِبِ مِنَ الْمُجَامَعَةِ فِي الْحَيْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: التَّوَّابِينَ مِنَ الْكُفْرِ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الْقَتَّادُ: التَّوَّابِينَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَقِيلَ: التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الْعُيُوبِ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ فَلَا يَتَلَوَّثُونَ بِالذَّنْبِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، كَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ «1» . وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي صَدْرِ الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ وَدَلَّ السَّبَبُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ حَالَةٌ يَرْتَكِبُونَهَا حَالَةَ الْحَيْضِ، مِنْ مُجَامَعَتِهِنَّ فِي الْحَيْضِ فِي الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فِي الْفَرْجِ أَوْ فِي الدُّبُرِ، ثُمَّ أَبَاحَ الْإِتْيَانَ فِي الْفَرْجِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَالتَّطَهُّرِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَرْأَةِ لِأَجْلِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي لَفْظِ الْآيَةِ، فَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَعَ عَنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَا شَرَعَهُ تَعَالَى، وَأَثْنَى عَلَى مَنِ امْتَثَلَتْ أَمْرَهُ تَعَالَى فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ عَامَّتَيْنِ، اسْتَدْرَجَ الْأَزْوَاجَ وَالزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 82.

أَيِ: الرَّاجِعِينَ إِلَى مَا شَرَعَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ ذَلِكَ فَكَانَ خَتْمُ الْآيَةِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ مَنِ انْدَرَجَ فِيهِ الْأَزْوَاجُ وَالزَّوْجَاتُ. وَذَكَرَ الْفِعْلَ لِيَدُلَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّطَهُّرِ، وَأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ مَحَبَّةً مِنَ اللَّهِ يَخُصُّ ذَلِكَ الْوَصْفَ، أَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ بِقَوْلِهِ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1» وَسَأَلَهُمْ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: كُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الِاسْتِجْمَارِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: الْمُطَّهِّرِينَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، إِذْ أَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرِينَ. نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ كَرَاهَةُ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بمكة، يَتَلَذَّذُونَ بِالنِّسَاءِ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ، رَوَى مَعْنَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلَكْتُ! فَقَالَ: «وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِيَ اللَّيْلَةَ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَكَانَ الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي تَسْوِيغَ إِتْيَانِهِنَّ عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِ الْإِتْيَانِ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ نَصَّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى سَائِرِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَبَيَّنَ أَيْضًا الْمَحَلَّ بِجَعْلِهِ حَرْثًا وَهُوَ: الْقُبُلُ، وَالْحَرْثُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ: شَقُّ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ، ثُمَّ سُمِّيَ الزرع حرثاصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ «2» وَسُمِّيَ الْكَسْبُ حَرْثًا، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا أَكَلَ الْجَرَادُ حُرُوثَ قَوْمٍ ... فَحَرْثِي هَمُّهُ أَكْلُ الْجَرَادِ قَالُوا: يُرِيدُ فَامْرَأَتِي، وَأَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: إِنَّمَا الْأَرْحَامُ أَرَضُو ... نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ بَيَانًا وَتَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَمْنُوعُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ وَقْتَ الْحَيْضِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصِيلَ هُوَ طلب النسل:

_ (1) سورة التوبة: 9/ 108. (2) سورة آل عمران: 3/ 117.

«تَنَاكَحُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَقَطْ، فَأْتُوا النِّسَاءَ مِنَ الْمَسْلَكِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وهو القبل. ونساؤكم: مبتدأ، وحرث لَكُمْ: خَبَرٌ، إِمَّا عَلَى حَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ: كَحَرْثٍ لَكُمْ وَيَكُونُ نِسَاؤُكُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَطْءُ نِسَائِكُمْ كَالْحَرْثِ لَكُمْ، شَبَّهَ الْجِمَاعَ بِالْحَرْثِ، إِذِ النُّطْفَةُ كَالْبَذْرِ، وَالرَّحِمُ كَالْأَرْضِ، وَالْوَلَدُ كَالنَّبَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مضاف أي: مَوْضِعُ حَرْثٍ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ فِي النِّكَاحِ مِنْ بَدِيعِ كِنَايَاتِ الْقُرْآنِ، قَالُوا: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْكُلُ الطَّعامَ «1» وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها «2» عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالنِّسَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: حَرْثٌ لَكُمْ، بِمَعْنَى: مَحْرُوثَةٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ، وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ. وَفِي لَفْظَةِ: حَرْثٌ لَكُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْقُبُلُ لَا الدُّبُرُ؟ قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ مُزْدَرَعٌ لَكُمْ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى النهي عن امتناع وطئ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْمُزْدَرَعَ إِذَا تُرِكَ ضَاعَ. وَدَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْوَطْءِ لِطَلَبِ النَّسْلِ وَالْوَلَدِ، لَا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، فَقَالَ: الْحَرْثُ إِلْقَاءُ الْبَذْرِ وَتَهْيِئَةُ الْأَرْضِ، وَالزَّرْعُ مُرَاعَاتُهُ وَإِنْبَاتُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «3» أَثْبَتَ لَهُمُ الْحَرْثَ وَنَفَى عَنْهُمُ الزَّرْعَ. فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ الْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، وَجَاءَ: حَرْثٌ لَكُمْ، نَكِرَةً لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ الْمَجْهُولُ، فَأَفَادَتْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْمُبْتَدَإِ جَوَازَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ شَرْعًا، وَجَاءَ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، مَعْرِفَةً لِأَنَّ فِي الْإِضَافَةِ حَوَالَةً عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ، وَاخْتِصَاصًا بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ مَمْلُوكٌ لَكَ فَأَحْسِنْ إِلَى مَمْلُوكِكَ. وَإِذَا تَقَدَّمَتْ نَكِرَةٌ، وَأَعَدْتَ اللَّفْظَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً: إِمَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَقَوْلِهِ: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «4» وَإِمَّا بِالْإِضَافَةِ كَهَذَا. وَأَنَّى: بِمَعْنَى: كَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَزْلِ، وَتَرْكِ الْعَزْلِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، فَتَكُونُ الْكَيْفِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، أَوْ بِمَعْنَى كَيْفَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَحْوَالِ الْمَرْأَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ، فَتَكُونُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْوَطْءِ لِلْمَرْأَةِ. فِي أَيِّ حَالٍ شَاءَهَا الْوَاطِئُ مقبلة ومدبرة،

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 7. (2) سورة الأحزاب: 33/ 27. (3) سورة الواقعة: 56/ 63 و 64. (4) سورة المزمل: 73/ 16.

عَلَى أَيِّ شِقٍّ، وَقَائِمَةً وَمُضْطَجِعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ فِي مَكَانِ الْحَرْثِ، أَوْ: بِمَعْنَى مَتَى؟ قَالَهُ الضَّحَّاكُ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَرَدْتُمْ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّى، بِمَعْنَى أَيْ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شِئْتُمْ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تَخْيِيرًا فِي الْخِلَالِ وَالْهَيْئَةِ، أَيْ: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ذَلِكَ لَا يُبَالَى بِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ» . وَالصِّمَامُ رَأَسُ الْقَارُورَةِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَنَّى، بِمَعْنَى: أَيْنَ؟ فَجَعَلَهَا مَكَانًا، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَالِكٌ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي الْعُتَبِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ تَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إِنْكَارُ ذَلِكَ، وَسُئِلَ فَقِيلَ: يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُبِيحُ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وَأَنَّى يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْبَذْرِ؟ وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَنُقِلَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ: نَافِعٍ، وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُرْتَضَى مِنْ أَئِمَّةِ الشِّيعَةِ، وَذُكِرَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لهذا المذهب وما ورد بِهِ، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ، إِذْ كِتَابُنَا هَذَا لَيْسَ مَوْضُوعًا لِذِكْرِ دَلَائِلِ الْفِقْهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ. وَقَدْ رَوَى تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِطُرُقِهَا فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ (تَحْرِيمُ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ) . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُعَرِّجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ، وَقَالَ أَيْضًا: أَنَّى شِئْتُمْ، مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ: صَحَابَةٍ، وَتَابِعِينَ، وَأَئِمَّةٍ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُمْ، مَعْنَاهُ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً عَلَى جنب، وأنّى: إِنَّمَا يَجِيءُ سُؤَالًا وَإِخْبَارًا عَلَى أَمْرٍ لَهُ جِهَاتٌ، فَهِيَ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ: كَيْفَ، وَمِنْ: أَيْنَ، وَمِنْ: مَتَى. هَذَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّاسُ أَنَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَفَسَّرَهَا سِيبَوَيْهِ بِكَيْفَ، وَمِنْ أَيْنَ بِاجْتِمَاعِهِمَا؟ وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَنَّى، لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ تَأْتِي: أَنَّى، بِمَعْنَى: مَتَى، وَبِمَعْنَى: أَيْنَ، وَتَكُونُ اسْتِفْهَامًا وَشَرْطًا، وَجَعَلُوهَا فِي الشَّرْطِيَّةِ ظَرْفَ مَكَانٍ فَقَطْ.

وَإِذَا كَانَ غَالِبُ مَدْلُولِهَا فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا لِلْأَحْوَالِ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ مَوَاضِعِ الْإِتْيَانِ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى: أَيْنَ وَقَالَ. الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَوْلُهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تَمْثِيلٌ، أَيْ فَأْتُوهُنَّ كَمَا تَأْتُونَ أَرَاضِيكُمُ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تَحْرُثُوهَا، مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ، لَا تُحْظَرُ عَلَيْكُمْ جِهَةٌ دُونِ جِهَةِ، وَالْمَعْنَى: جَامِعُوهُنَّ مِنْ أَيِّ شِقٍّ أَرَدْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْتَى وَاحِدًا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ. وَقَوْلُهُ: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مِنَ الْكِنَايَاتِ اللَّطِيفَةِ، وَالتَّعَرُّضَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، فَهَذِهِ وَأَشْبَاهُهَا فِي كَلَامِ لله تَعَالَى آدَابٌ حَسَنَةٌ، عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَتَأَدَّبُوا بِهَا، وَيَتَكَلَّفُوا مِثْلَهَا فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ وَمُكَاتَبَاتِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. قَالُوا وَالْعَامِلُ فِي: أَنَّى فَأْتُوا، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَكُونُ اسْتِفْهَامًا أَوْ شَرْطًا، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ هُنَا شَرْطًا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَكُونُ ظَرْفَ مَكَانٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبِيحًا لِإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِيَّةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ الشَّرْطِيِّ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَعْمُولٌ لَهُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامًا اكْتَفَتْ بِمَا بَعْدَهَا مِنْ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ «1» ومن اسْمٍ كَقَوْلِهِ: أَنَّى لَكِ هَذَا «2» وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَا يَظْهَرُ افْتِقَارُهَا وَتَعَلُّقُهَا بِمَا قَبْلَهَا. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ بَعْدَهَا، فَتَبَيَّنَ عَلَى وَجْهَيْ: أَنَّى، أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَعْمُولَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَنَظَرٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهَا تَكُونُ شَرْطًا لِافْتِقَارِهَا إِلَى جُمْلَةٍ غَيْرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَتَكُونُ قَدْ جُعِلَتْ فِيهَا الْأَحْوَالُ. كَجَعْلِ الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ، وَأُجْرِيَتْ مَجْرَاهَا تَشْبِيهًا لِلْحَالِ بِالظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ، وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ: كَيْفَ، خَرَجَ بِهِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَكُونُ أكون، وقال تعالى:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 47. [.....] (2) سورة آل عمران: 3/ 37.

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «1» فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هُنَا اسْتِفْهَامًا، وَإِنَّمَا لُحِظَ فِيهَا مَعْنَى بالشرط وَارْتِبَاطِ الْجُمْلَةِ بِالْأُخْرَى وَجَوَابُ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّى شِئْتُمْ فَأْتُوهُ، وَكَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ، كَمَا حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِكَ: اضْرِبْ زيدا أنى لقتيه، التقدير أنى لقتيه فَاضْرِبْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَخْرَجْتَ: أَنَّى، عَنِ الظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَبْقَيْتَهَا لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ: كَيْفَ، وَجَعَلْتَهَا مُقْتَضِيَةً لِجُمْلَةٍ أُخْرَى كَجُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهَلِ الْفِعْلُ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ: شِئْتُمْ، فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا؟ أَمْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَهُوَ بَعْدَ: كَيْفَ، فِي قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَصْنَعُ أَصْنَعُ؟. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنْ يُرَجَّحُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ الْجَزْمُ بِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا صَرِيحًا، غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ تَشْبِيهُ الْأَحْوَالِ بِالظُّرُوفِ، وَبَيْنَهُمَا عِلَاقَةٌ وَاضِحَةٌ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنَى: فِي، بِخِلَافِ: كَيْفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهَا الْجَزْمُ وَمَنْ أَجَازَ الْجَزْمَ بِهَا، فَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الْعَرَبِ الرَّفْعُ فِي الْفِعْلِ بَعْدَهَا، حَيْثُ يَقْتَضِي جُمْلَةً أُخْرَى. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَفْعُولُ قَدِّمُوا مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبَانِ، أَوْ: طَلَبِ الْوَلَدِ وَالْإِفْرَاطِ شُفَعَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ: الْخَيْرَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: قَدَمَ صِدْقٍ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ: الْأَجْرَ فِي تَجَنُّبِ مَا نُهِيتُمْ وَامْتِثَالِ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ: ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى الْجِمَاعِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ» . أو التسمية على الوطئ، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ: مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ: مَنْ قَبْلَهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ طَاعَةَ اللَّهِ، وَامْتِثَالَهُ مَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «2» وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيِ: اتَّقَوُا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَلِأَنَّ الْعَظِيمَ الَّذِي تَقَدَّمَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَدَّمَ مَعَكَ مَا تَقْدَمُ بِهِ عَلَيْهِ مِمَّا لَا تُفْتَضَحُ بِهِ عِنْدَهُ، وهو العمل الصالح.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 64. (2) سورة البقرة: 2/ 110.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي: مُلَاقُوهُ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مُلَاقُو جَزَائِهِ عَلَى أَفْعَالِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي لِقَوْلِهِ: وَقَدِّمُوا، أَيْ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُو مَا قَدَّمْتُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْضًا، أَيْ: مُلَاقُو جَزَائِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَعْمُولُ قَدَّمُوا الْمَحْذُوفُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمَعَادَ، سَوَاءً عَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى مَعْمُولِ قَدِّمُوا، أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وَصْفِ الَّذِي بِهِ يُتَّقَى اللَّهُ وَيُقَدِّمُ الْخَيْرَ، وَيَسْتَحِقُّ التَّبْشِيرَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ. وَفِي أَمْرِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بِالتَّبْشِيرِ تَأْنِيسٌ عَظِيمٌ وَوَعْدٌ كَرِيمٌ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَلَمْ يَأْتِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، بَلْ أَتَى بِالظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى الْوَصْفِ، وَلِكَوْنِهِ مَعَ ذَلِكَ فَصْلَ آيَةٍ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُخْبِرَ مَنْ سَأَلَهُ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَمَلَا عَلَى إِثْمٍ كَبِيرٍ، فَكَانَ هَذَا الْإِخْبَارُ مَدْعَاةً لِتَرْكِهِمَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَاللَّعِبِ بِالْمَيْسِرِ إِثْمٌ، وَمَا اكْتَفَى بِمُطْلَقِ الْإِثْمِ حَتَّى وَصَفَهُ بِالْكِبَرِ فِي قِرَاءَةٍ، وَبِالْكَثْرَةِ فِي قِرَاءَةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ «1» إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً «2» فَحَيْثُ وَصَفَ الْإِثْمَ بِالْكَبِيرِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْآثَامِ وَأَوْغَلِهَا فِي التَّحْرِيمِ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّ فِيهِمَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، مِنْ: أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ، وَبِالْقَمْرِ فِي الْمَيْسِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءِ حُرِّمَ إِلَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِوَجْهٍ مَا، خُصُوصًا مَا كَانَ الطَّبْعُ مَائِلًا إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الشَّخْصُ نَاشِئًا عَلَيْهِ بِالطَّبْعِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ضَرَرَ الْإِثْمِ الَّذِي هُوَ جَالِبٌ إِلَى النَّارِ، أَعْظَمُ مِنَ النَّفْعِ الْمُنْقَضِي بِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ، لِيُرْشِدَ الْعَاقِلَ إِلَى تَجَنُّبِ مَا عَذَابُهُ دَائِمٌ وَنَفْعُهُ زَائِلٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنْ يُنْفِقُوا مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ إنفاقه، ويشير مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْآيَاتِ بَيَانًا مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَمَا يُنْفِقُونَ. ثُمَّ ذكر أنه بهذا

_ (1) سورة الشورى: 42/ 37 والنجم: 53/ 32. (2) سورة النساء: 4/ 31. (3) سورة الحج: 22/ 78.

الْبَيَانِ يَحْصُلُ الرَّجَاءُ فِي تَفَكُّرِ حَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا فَكَّرَ فِيهِمَا يُرَجِّحُ بِالْفِكْرِ إِيثَارَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ أَمْرِ الْيَتَامَى، وَمَا كُلِّفُوا فِي شَأْنِهِمْ، إِذْ كَانَ الْيَتَامَى لَا يَنْهَضُونَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِصِغَرِهِمْ وَنَقْصِ عُقُولِهِمْ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ إِصْلَاحَهُمْ خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِهِمْ لِلْمُصْلِحِ بِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَلِلْمُصْلِحِ بِتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَنْمِيَةِ مَالِهِ: «أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مُخَالَطَتِهِمْ مَطْلُوبَةٌ لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَالْأُخُوَّةُ مُوجِبَةٌ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الْأَخِ. وَأَبْرَزَ الطَّلَبَ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَأَتَى الْجَوَابُ بِمَا يَقْتَضِي الْخِلْطَةَ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ إِخْوَانَكُمْ. وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ لِلْيَتَامَى، ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، لِيُحَذِّرَ مِنَ الْفَسَادِ وَيَدْعُوَ إِلَى الصَّلَاحِ، وَمَعْنَى عِلْمُهُ هُنَا أَنَّهُ مُجَازٍ من أفسد، و: من أَصْلَحَ، بِمَا يُنَاسِبُ فِعْلَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكَالِيفَ السَّابِقَةَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَتَكْلِيفِ الصَّدَقَةِ، بِأَنْ تَكُونَ عَفْوًا، وَتَكْلِيفِ إِصْلَاحِ الْيَتِيمِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا إِعْنَاتٌ. ثُمَّ خَتَمَ هَذَا بِأَنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ، وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْأَكْلُ بِهِ، وَالْقَمْرُ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَكْلُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَاذِّ، اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ تَحْرِيمِ نَوْعٍ مِنْهُ، وَهُوَ نِكَاحُ مَنْ قَامَ بِهِ الْوَصْفُ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ الْإِشْرَاكُ الْمُوجِبُ لِلتَّنَافُرِ وَالتَّبَاعُدِ. وَالنِّكَاحُ مُوجِبٌ لِلْخِلْطَةِ وَالْمَوَدَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «1» ولا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «2» لَا يتراآى دَارَاهُمَا، فَنَهَى فِيهِنَّ عَنْ نكاح من قام به الْوَصْفُ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ كَانَ رَقِيقًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ كَانَ يُعْجِبُ فِي حُسْنٍ أَوْ مَالٍ أَوْ رِئَاسَةٍ وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرْكِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ دَاعٍ إِلَى النَّارِ، وَجُرَّ مِمَّنْ كَانَ مُعَاشِرَ شَخْصٍ وَمُخَالِطَهُ وَمُلَابِسَهُ، حَتَّى فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ دَاعٍ إِلَى التَّآلُفِ مِنْ كُلِّ مُعَاشَرَةٍ

_ (1) سورة الروم: 30/ 21. (2) سورة المجادلة: 58/ 22.

أَنْ يُجِيبَهُ إِذَا دَعَاهُ لِمَا هُوَ مِنْ هَوَاهُ، وهم كانوا قريبين عَهْدٍ بِالْإِيمَانِ وَحَدِيثِهِ، فَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِلتَّطَرُّقِ إِلَى النَّارِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَهُوَ النَّاظِرُ بِالْمَصْلَحَةِ لَكُمْ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ وَإِبَاحَةِ مَا أَبَاحَ، وَهُوَ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ وَيُوَضِّحُهَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ مَعَهَا لَبْسٌ، وَذَلِكَ لِرَجَاءِ تَذَكُّرِكُمْ وَاتِّعَاظِكُمْ بِالْآيَاتِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ نكاح من قام به وَصْفُ الْإِشْرَاكِ، ذَكَرَ تَحْرِيمَ وَطْءِ مَنْ قَامَ بِهِ فِي الْحَيْضِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِالطُّهْرِ كَمَا غَيَّا مَا قَبْلَهُ بِالْإِيمَانِ، ثم أباح إذا تطهرن لَنَا الْوَطْءَ لَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ مَشْغُولًا بِالْحَيْضِ، وَأَمَرَنَا بِاجْتِنَابِ وَطْئِهِ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَزِيَّةِ التَّائِبِ وَالْمُتَطَهِّرِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى يُحِبُّهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى كَرَّرَ ذَلِكَ فِي جُمْلَتَيْنِ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَصْفٍ بِمَحَبَّةٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِبَاحَةَ الْوَطْءِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي ارْتَفَعَ عَنْهَا الْحَيْضُ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَشَاؤُهَا الزَّوْجُ وَيَخْتَارُهَا، مِنْ كَوْنِهَا مُقْبِلَةً أَوْ مُدْبِرَةً، أَوْ مُجَنِّبَةً أَوْ مُضْطَجِعَةً، وَمِنْ أَيِّ شِقٍّ شَاءَ، لِمَا فِي التَّنَقُّلِ مِنْ مَزِيدِ الِالْتِذَاذِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالنَّظَرِ إِلَى سائر بدنها، والهيآت الْمُحَرِّكَةِ لِلْبَاهِ. وَنَبَّهَ بِالْحَرْثِ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ النَّسْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النَّسْلِ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ مُنِعُوا مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَحَلُّ الْوَطْءِ مِنَ الْأَذَى بِدَمِ الْحَيْضِ، فَلَأَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ أَذًى أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَمَّا كَانَ قُدِّمَ نَهْيٌ وَأَمْرٌ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَفِي هَذَا، خُتِمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ مَا قَدَّمَهُ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أمر بتقوى الله تعالى، وَأُمِرَ بِأَنْ يَعْلَمَ وَيُوقِنَ الْيَقِينَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّا مُلَاقُو اللَّهِ، فَيُجَازِينَا عَلَى أَعْمَالِنَا، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَى عَنْهُ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّحْذِيرِ عَنْ مُعَاطَاةِ الْعِصْيَانِ، وَاخْتِتَامِهَا بِالتَّبْشِيرِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ آيَاتٍ تَعْجَزُ عَنْ وَصْفِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْبَدَائِعُ الْأَلْسُنُ، وَيُذْعِنُ لِفَصَاحَتِهَا الْجِهْبِذُ اللَّسِنُ، جَمَعَتْ بَيْنَ بَرَاعَةِ اللَّفْظِ وَنَصَاعَةِ الْمَعْنَى، وَتَعَلُّقِ الْجُمَلِ وَتَأَنُّقِ الْمَبْنَى، مِنْ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَتَحْذِيرٍ مِنْ عِقَابٍ، وَتَرْغِيبٍ فِي ثَوَابٍ، هَدَتْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتُلُقِّيَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 224 إلى 229]

[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 229] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) الْعُرْضَةُ: فُعْلَةٌ مِنَ الْعَرْضِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْفُرْقَةِ وَالْقَبْضَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِكَذَا وَالْمَرْأَةُ عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ، أَيْ: مُعَرَّضَةٌ لَهُ، قَالَ كَعْبٌ: عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ وَقَالَ حَسَّانُ: (وقال الله قد يسرن جُنْدًا ... هُمُ الْأَنْصَارُ) عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ وَقَالَ حَبِيبٌ: مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَوَائِمِي ... وَكَيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي وَيُقَالُ جَعَلَهُ عُرْضَةً لِلْبَلَاءِ أَيْ: مُعَرَّضًا، وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: وَأَدْمَاءُ مِثْلُ الْفَحْلِ يَوْمًا عَرَضْتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا جُرْأَةٌ وَتَقَاذُفُ وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَا تَعْرِضُهُ دُونَ الشَّيْءِ، مِنْ عَرْضِ الْعُودِ عَلَى الْإِنَاءِ، فَيَعْتَرِضُ دُونَهُ، وَيَصِيرُ

حَاجِزًا وَمَانِعًا. وَقِيلَ: أَصْلُ الْعُرْضَةِ الْقُوَّةُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْجَمَلِ: الْقَوِيِّ: هَذَا عُرْضَةٌ لِلسَّفَرِ، أَيْ: قَوِيٌّ عَلَيْهِ، وَلِلْفَرَسِ الشَّدِيدِ الْجَرْيِ عُرْضَةٌ لِارْتِحَالِنَا. الْيَمِينُ: أَصْلُهَا الْعُضْوُ، وَاسْتُعْمِلَ لِلْحَلِفِ لِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي تَصَافُحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَتُجْمَعُ عَلَى، أَيْمَانٍ، وَعَلَى: أَيْمُنٌ، وَفِي الْعُضْوِ وَالْحَلِفِ، وَتُسْتَعْمَلُ: الْيَمِينُ، لِلْجِهَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْعُضْوِ الْمُسَمَّى بِالْيَمِينِ، فَتُنْصَبُ عَلَى الظَّرْفِ، تَقُولُ: زَيْدٌ يَمِينُ عَمْرٍو، وَهِيَ فِي الْعُضْوِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْيَمِينِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَيْمُونُ الطَّلْعَةِ، وَمَيْمُونُ النَّقِيبَةِ، وَمَيْمُونُ الطَّائِرِ. اللَّغْوُ: مَا يَسْبِقُ بِهِ اللِّسَانُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ لِمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الدِّيَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْإِبِلِ: وَيُقَالُ: لَغَا يَلْغُو لَغْوًا وَلَغَى يَلْغِي لَغًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: اللَّغْوُ وَاللَّاغِيَةُ وَاللَّوَاغِي وَاللُّغَوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: اللَّغْوُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا يُطْرَحُ مِنَ الْكَلَامِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ، وَيُقَالُ: هُوَ مَا لَا يُفْهَمُ لَفْظُهُ. يُقَالُ: لَغَا الطَّائِرُ يَلْغُو: صَوَّتَ، وَيُقَالُ: لَغَا بِالْأَمْرِ لَهِجَ بِهِ يَلْغَا، وَيُقَالُ: اشْتُقَّ مِنْ هَذَا اللُّغَةُ، وَقَالَ ابْنُ عِيسَى، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا يُفِيدُ قَالَ: وَمِنْهُ اللُّغَةُ لِأَنَّهَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا لَغْوٌ وَغَلِطَ فِي هَذَا الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ إِنَّمَا اشْتُقَّتْ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَغَى بِكَذَا إِذَا أُولِعَ بِهِ. الْحَلِيمُ: الصَّفُوحُ عَنِ الذَّنْبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، يُقَالُ: حَلُمَ الرَّجُلُ يَحْلُمُ حِلْمًا، وَهُوَ حَلِيمٌ، وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: وَلَا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... مَوَارِدُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا وَيُقَالَ: حَلِمَ الْأَدِيمُ يَحْلَمُ حَلْمًا، إِذَا تَثَقَّبَ وَفَسَدَ، قَالَ: فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغِهِ وَقَدْ حَلِمَ الْأَدِيمُ و: حلم فِي النَّوْمِ يَحْلُمُ حُلْمًا وَحُلُمًا، وَهُوَ: حَالِمٌ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ «1» . الْإِيلَاءُ: مَصْدَرُ آلَى، أَيْ: حلف، ويقال: تألى وأيتلى، أَيْ: حَلَفَ، وَيُقَالُ لِلْحَلِفِ: ألية وَأُلْوَةٌ وَإِلْوَةٌ، وَجَمْعُ أَلِيَّةٍ أَلَايَا، كَعَشِيَّةٍ وَعَشَايَا. وَقِيلَ: تُجْمَعُ أَلُوَّةٌ عَلَى أَلَايَا كركوبة وركائب.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 44.

التَّرَبُّصُ: التَّرَقُّبُ وَالِانْتِظَارُ، مَصْدَرُ: تَرَبَّصَ وَهُوَ مَقْلُوبُ التَّبَصُّرِ، قَالَ: تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا فَاءَ: يَفِيءُ فَيْأً وَفَيْأَةً، رَجَعَ، وَسُمِّيَ الظِّلُّ بَعْدَ الزَّوَالِ فَيْأً، لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وهو سريع الفيئة أَيِ: الرُّجُوعِ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ: فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَسْتَفِزِّينَ ... ذَوَاتَ الْعُيُونِ وَالْبَنَانِ الْمُخَضَّبَ الْعَزْمُ: مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَيُصَمَّمُ، وَيُقَالُ: عَزَمَ عَلَيْهِ يَعْزِمُ عَزْمًا وَعَزَمًا وَعَزِيمَةً وَعَزَامًا، وَيُقَالُ: أَعْزَمَ إِعْزَامًا، وَعَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ: أَقْسَمْتُ. الطَّلَاقُ: انْحِلَالُ عَقْدِ النِّكَاحِ، يُقَالُ مِنْهُ: طُلِّقَتْ تُطَلَّقُ فَهِيَ طَالِقٌ وَطَالِقَةٌ، قَالَ الْأَعْشَى. أَيَا جارتا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ وَيُقَالُ: طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ حَكَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَأَنْكَرَهُ الْأَخْفَشُ. الْقُرْءُ: أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْوَقْتُ الْمُعْتَادُ تَرَدُّدُهُ، وَقُرْءُ النَّجْمِ وَقْتُ طُلُوعِهِ وَوَقْتُ غُرُوبِهِ، وَيُقَالُ مِنْهُ: أَقْرَأَ النَّجْمُ أَيْ طَلَعَ أَوْ غَرُبَ، وَقُرْءُ الْمَرْأَةِ حَيْضُهَا وَطُهْرُهَا، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيُونُسُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَيُقَالُ مِنْهُمَا: أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَمِّي الْحَيْضَ مَعَ الطهر قُرْءًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقُرْءُ مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَقَرَأَتْ صَارَتْ صَاحِبَةَ حَيْضٍ، فَإِذَا حَاضَتْ قُلْتَ قَرَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقِيلَ: الْقُرْءُ أَصْلُهُ الْجَمْعُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، جَمَعْتُهُ، وَمِنْهُ: مَا أَقَرَأَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ سَلًا قَطُّ، أَيْ: مَا جَمَعَتْ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْحَيْضُ: فَهُوَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، أَوِ الطُّهْرُ، فَهُوَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الْبَدَنِ. الرَّحِمُ: الْفَرْجُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلْقَرَابَةِ، يُقَالُ: بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، أَيْ قَرَابَةٌ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ. الْبَعْلُ: الزَّوْجُ يُقَالُ مِنْهُ، بَعَلَ يَبْعَلُ بُعُولَةً، أَيْ: صَارَ بَعْلًا، وَبَاعَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا، وَهِيَ تُبَاعِلُهُ إِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ مَعَهُ، وَامْرَأَةٌ حَسَنَةُ التَّبْعِيلِ إِذَا كَانَتْ تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِهَا، وَالْبَعْلُ أَيْضًا الْمَلِكُ، وَبِهِ سُمِّيَ الصَّنَمُ لِأَنَّهُ الْمُكْتَفِي بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ بَعْلُ النَّخْلِ.

وَجَمْعُ الْبَعْلِ: بُعُولٌ وَبُعُولَةٌ، كَفَحْلٍ وَفُحُولَةٍ، التَّاءُ فِيهِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ وَلَا يَنْقَاسُ، فَلَا يُقَالُ: فِي كُعُوبٍ جَمْعُ كَعْبٍ كُعُوبَةٌ. الرَّجُلُ: مَعْرُوفٌ يُجْمَعُ عَلَى: رِجَالٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّجْلَةِ، وَهِيَ الْقُوَّةُ، يُقَالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرُّجُولَةِ وَالرُّجْلَةِ، وَهُوَ أَرْجَلُ الرَّجُلَيْنِ أَيْ: أَقْوَاهُمَا، وَفَرَسٌ رَجِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْمَشْيِ، وَمِنْهُ: سُمِّيَتِ الرِّجْلُ لِقُوَّتِهَا عَلَى الْمَشْيِ، وَارْتَجَلَ الْكَلَامَ قَوِيَ عَلَيْهِ، وَتَرَجَّلَ النَّهَارُ قَوِيَ ضِيَاؤُهُ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ وَرِجْلَةٌ، كَمَا قَالُوا: امْرُؤٌ وَامْرَأَةٌ، وَكَتَبْتُ مِنْ خَطِّ أُسْتَاذِنَا أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا ... غَيْرَ جِيرَانِي بَنِي جَبَلَهْ هَتَكُوا جَيْبَ فَتَاتِهِمْ ... لَمْ يُبَالُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْ الدَّرَجَةُ: الْمَنْزِلَةُ، وَأَصْلُهُ مِنْ دَرَجْتُ الشَّيْءَ وَأَدْرَجْتُهُ: طَوَيْتُهُ، وَدَرَجَ الْقَوْمُ فَنُوا، وَأَدْرَجَهُمُ اللَّهُ فَهُوَ كَطَيِّ الشَّيْءِ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً وَالدَّرَجَةُ الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الطَّيِّ، وَمِنْهُ الدَّرَجَةُ الَّتِي يُرْتَقَى إِلَيْهَا. الْإِمْسَاكُ: لِلشَّيْءِ حَبْسُهُ، وَمِنْهُ اسْمَانِ: مَسْكٌ وَمَسَاكٌ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَذُو مَسْكٍ وَمِيسَاكٍ إِذَا كَانَ بَخِيلًا، وَفِيهِ مُسْكَةٌ مِنْ خَيْرٍ أَيْ: قُوَّةٌ، وَتَمَاسُكٌ وَمَسِيكٌ بَيِّنُ الْمَسَاكَةُ. التَّسْرِيحُ: الْإِرْسَالُ، وَسَرَّحَ الشَّعْرَ خَلَّصَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَاشِيَةَ أَرْسَلَهَا لِتَرْعَى، وَالسَّرْحُ الْمَاشِيَةُ، وَنَاقَةٌ مَسْرَحٌ سَهْلَةُ الْمَسِيرِ لِانْطِلَاقِهَا فِيهِ. وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَخَتَنِهِ بَشِيرِ بْنِ النُّعْمَانِ، كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: حَلَفْتُ بِاللَّهِ، فَلَا يَحِلُّ لِي إِلَّا بِرُّ يَمِينِي. وَقَالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصِلَ رَحِمَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي أَبِي بَكْرٍ حِينَ حَلَفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ حِينَ تَكَلَّمَ فِي الْإِفْكِ، وَقَالَ الْمُقَاتِلَانِ ابْنُ حَيَّانَ وَابْنُ سُلَيْمَانَ: حَلَفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى يُسْلِمَ وَقِيلَ: حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مَعَ الْأَضْيَافِ حِينَ أَخَّرَ وَلَدُهُ عَنْهُمُ الْعَشَاءَ، وَغَضِبَ هُوَ عَلَى وَلَدِهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ فِي تَكْرِيرِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ، فَنَهَى أَنْ يُحْلَفَ بِهِ بَرًّا، فَكَيْفَ فَاجِرًا. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أمر بتقوى بالله تَعَالَى، وَحَذَّرَهُمْ يَوْمَ الْمِيعَادِ، نَهَاهُمْ عَنِ ابْتِذَالِ اسْمِهِ، وَجَعْلِهِ مَعْرِضًا لِمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ دَائِمًا، لِأَنَّ مَنْ يُتَّقَى

وَيُحْذَرُ تَجِبُ صِيَانَةُ اسْمِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ يُذْكَرُ فِي كُلِّ مَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، عَظِيمٍ أَوْ حَقِيرٍ، لِأَنَّ كَثْرَةَ ذَلِكَ تُوجِبُ عَدَمَ الِاكْتِرَاثِ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ. وَقَدْ تَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحَرُّزِ فِي أَفْعَالِهِمُ السَّابِقَةِ مِنَ: الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَإِنْفَاقِ الْعَفْوِ، وَأَمْرِ الْيَتَامَى، وَنِكَاحِ مَنْ أَشْرَكَ، وَحَالِ وَطْءِ الْحَائِضِ، أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالتَّحَرُّزِ في أقوالهم، فانتظم بذلك أَمْرُهُمْ بِالتَّحَرُّزِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ. وَاخْتَلَفُوا فِي فَهْمِ هذه الجملة من قوله وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ وَهُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِقَاقِ الْعُرْضَةِ، فَقِيلَ: نُهُوا عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ مَعَدًّا لِأَيْمَانِهِمْ فَيَحْلِفُوا بِهِ فِي الْبِرِّ وَالْفُجُورِ، فَإِنَّ الْحِنْثَ مَعَ الْإِكْثَارِ فِيهِ قِلَّةُ رَعْيٍ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَكْثِيرِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ، نُهِيَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ بِهِ بَرًّا فَكَيْفَ فَاجِرًا؟ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «1» وَقَالَ: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ «2» . وَالْعَرَبُ تُمْدَحُ بِالْإِقْلَالِ مِنَ الْحَلِفِ قَالَ كُثَيِّرٌ: قَلِيلٌ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ تَكْثِيرِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْقِي لِلْيَمِينِ فِي قَلْبِهِ وَقْعًا، وَلَا يُؤْمَنُ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَذِكْرُ اللَّهِ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِهِ فِي الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ قُوَّةً لِأَيْمَانِكُمْ، وَتَوْكِيدًا لَهَا، وَرُوِيَ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالرَّبِيعِ، وَغَيْرِهِمْ قَالَ: الْمَعْنَى: فِيمَا تُرِيدُونَ الشِّدَّةَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْبِرِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ حَاجِزًا وَمَانِعًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، أَوْ فِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى بَعْضِ الْخَيْرَاتِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنٍ، أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى أَحَدٍ، أَوْ عِبَادَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَحْنَثَ فِي يَمِينِي، فَيَتْرُكُ الْبِرَّ فِي يَمِينِهِ، فَنُهُوا أَنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ حَاجِزًا لِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ. لِأَيْمانِكُمْ تَحْتَمِلُ اللَّامُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً، بعرضة، فَتَكُونُ كَالْمُقَوِّيَةِ لِلتَّعَدِّي، أَوْ مَعَدًّا وَمَرْصَدًا لِأَيْمَانِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلُوا فَتَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عرضة لأجل أيمانكم.

_ (1) سورة القلم: 68/ 10. (2) سورة المائدة: 5/ 89.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيْمَانِ هُنَا الِاقْتِسَامُ، لَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ: حَاجِزًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِالْيَمِينِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا منها فائت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» أَيْ: عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُحْلَفُ عَلَيْهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا حَاجَةَ هُنَا لِلْخُرُوجِ عَنِ الظَّاهِرِ وإنما احتيج فِي الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ الْيَمِينَ، وَيُرَادُ بِهَا مُتَعَلِّقُهَا، لِأَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَعَدَّى حَلَفْتَ بِعَلَى، فَاحْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُحْوِجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمَّا حَمَلَ: عُرْضَةً، عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ حَاجِزًا وَمَانِعًا، اضْطُرَّ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قَالَ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ التِّبْرِيزِيُّ: أَنْ تَبَرُّوا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمَعْنَى: بِرُّكُمْ وَتَقْوَاكُمْ وَإِصْلَاحُكُمْ أَمْثَلُ وَأَوْلَى، وَجَعَلَ الْكَلَامَ مُنْتَهِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ: لِأَيْمَانِكُمْ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ عِنْدَهُ أَنَّهَا فِي الرَّجُلِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ فِعْلَ خَيْرٍ وَنَحْوَهُ اعْتَلَّ بِاللَّهِ، فَقَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَمْ يَحْلِفْ، وَقَدَّرَ التِّبْرِيزِيُّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ بِأَنَّ الْمَعْنَى: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ اقْتِطَاعُ: أَنْ تَبَرُّوا، مِمَّا قَبْلَهُ، وَالظُّلْمُ هُوَ اتِّصَالُهُ بِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَذْفًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، عَطْفُ بَيَانٍ لِأَيْمَانِكُمْ، أَيْ لِلْأُمُورِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ: الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً لِلظَّاهِرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْأَيْمَانِ هِيَ الْأَقْسَامُ، وَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحُ هِيَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ عَلَى الْأَيْمَانِ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَأَوَّلَ الْأَيْمَانَ عَلَى أَنَّهَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ تَدْعُونَا إِلَى تَأْوِيلِ الْأَيْمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَذْهَبِهِ تَكُونُ: أَنْ تَبَرُّوا، فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَلَوِ ادَّعَى أَنْ يَكُونَ: أَنْ تَبَرُّوا، وَمَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْ: أَيْمَانِكُمْ، لَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْأَعْلَامِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبَرُّوا، مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ، فَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَبَرُّوا، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ، أَوْ لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقِيلَ: لِأَنْ لَا تَبَرُّوا وَلَا تَتَّقُوا وَلَا تُصْلِحُوا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالطَّبَرِيُّ كَقَوْلِهِ:

فخالف فلا والله تهبط تَلْعَةً أَيْ: لَا تَهْبِطُ، وَقِيلَ: إِرَادَةُ أَنْ تَبَرُّوا، وَالتَّقَادِيرُ الْأُوَلُ مُتَلَاقِيَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قتيبة، وَالزَّجَّاجِ، فِي آخِرِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ أَنْ لَا تَبَرُّوا، فَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلُوا، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْلِيلِ امْتِنَاعِ الْحَلِفِ بِانْتِفَاءِ الْبِرِّ، بَلْ وُقُوعُ الْحَلِفِ مُعَلَّلٌ بِانْتِفَاءِ الْبِرِّ، وَلَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ لَوْ قُلْتَ فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ وَعِلَّتِهِ: إِنْ حَلَفْتَ بِاللَّهِ بَرَرْتَ، لَمْ يَصِحَّ وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا لئلا يؤذيك، فانتفت الاذاية لِلِامْتِنَاعِ مِنَ الضَّرْبِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَضْرِبْهُ لَمْ يُؤْذِكَ، وَإِنْ ضَرَبْتَهُ أَذَاكَ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحَلِفِ انْتِفَاءُ الْبِرِّ، ولا على وَجُودُهُ، بَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحَلِفِ وُجُودُ الْبِرِّ، وَعَلَى وُقُوعِ الْحَلِفِ انْتِفَاءُ الْبِرِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، لِأَنَّهُ يُعَلِّلُ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْحَلِفِ بِإِرَادَةِ وُجُودِ الْبِرِّ، وَيَتَعَلَّقُ مِنْهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، تَقُولُ: إِنْ حَلَفْتَ لَمْ تَبَرَّ، وَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ بَرَرْتَ. وَقَدْ شَرَحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا عِلَّةً لِهَذَا النَّهْيِ، أَيْ: إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا نَهْيُكُمْ عَنْ هَذَا لِمَا فِي تَوَقِّي ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، فَتَكُونُونَ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُفْسِدِينَ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْحَلِفِ حُصُولُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَلِفَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَعْظَمُ وَأَجَلُّ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ الْمُعَظَّمِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، إِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ. وَأَمَّا مَعْنَى التَّقْوَى فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ اتَّقَى أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلِأَنَّ النَّاسَ مَتَى اعْتَقَدُوا فِيهِ كَوْنَهُ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْحَدِّ، مُحْتَرِزًا عَنِ الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ حَقِّهِ، اعْتَقَدُوا فِيهِ كَوْنَهُ مُعَظِّمًا لِلَّهِ، وَكَوْنَهُ صَادِقًا بَعِيدًا مِنَ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ، فَيَتَقَبَّلُونَ قَوْلَهُ، فَيَحْصُلُ الصُّلْحُ بِتَوَسُّطِهِ. انْتَهَى هَذَا الْكَلَامُ. وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) وَهُوَ بَسْطُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَمَعْنَاهَا عَلَى الْأُخْرَى يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عُرْضَةً، بِمَعْنَى مُعَرَّضًا لِلْأَمْرِ، قَالَ: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مُعَرَّضًا لِأَيْمَانِكُمْ فَتَتَبَذَّلُوهُ

بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ بِهِ، وَلِذَلِكَ ذَمَّ مَنْ أَنْزَلَ فِيهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «1» بِأَشْنَعِ الْمَذَامِّ، وَجَعَلَ الحلاف مقدمتها، وأن تَبَرُّوا، عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ: إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا لِأَنَّ الْحَلَّافَ مُجْتَرِئٌ، عَلَى اللَّهِ، غَيْرُ مُعَظِّمٍ لَهُ، فَلَا يَكُونُ بَرًّا متقيا، ولا يتق بِهِ النَّاسُ، فَلَا يُدْخِلُونَهُ فِي وَسَاطَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ، لِتَبَرُّوا الْمَحْلُوفَ لَهُمْ، وَتَتَّقُوهُمْ وَتُصْلِحُوا بَيْنَهُمْ بِالْكَذِبِ. رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فقيد المعلول بِالْكَذِبِ، وَقَيَّدَ الْعِلَّةَ بِالنَّاسِ، وَالْإِصْلَاحَ بِالْكَذِبِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَتَعَلَّقُ: أن تبروا، بالفعل و: بالعرضة، أَيْ: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ لِأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ بِهِ عُرْضَةً لِأَنْ تَبَرُّوا. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ: لِأَيْمَانِكُمْ، بِتَجْعَلُوا، وَعَلَّقَ: لِأَنْ تَبَرُّوا بِعُرْضَةً، فَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ: عُرْضَةً، وَبَيْنَ: لِأَنْ تَبَرُّوا بِقَوْلِهِ: لِأَيْمَانِكُمْ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ عِنْدَهُ لِتَجْعَلُوا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَنَظِيرُ مَا أَجَازَهُ أَنْ تَقُولَ: امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدٍ هِنْدًا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: جَاءَنِي رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ تَبَرُّوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَالْعَمَلُ فِيهِ قَوْلُهُ: لِأَيْمَانِكُمْ، التَّقْدِيرُ: لِأَقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا، فَنُهُوا عَنِ ابْتِذَالِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعْلِهِ مَعْرِضًا لِأَقْسَامِهِمْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ اللَّاتِي هُنَّ أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ، لِمَا نَخَافُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِنْثِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ أَقْسَامًا عَلَى مَا تُنَافِي الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ؟ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا وَاقِعًا كُلُّ لَفْظٍ مِنْهُ مَكَانَهُ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، فَصَارَ فِي مَوْضِعِ: أَنْ تَبَرُّوا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي تَقْدِيرِ الْجَرِّ، وَالْجَرُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَطْفِ الْبَيَانِ وَالْبَدَلِ، وَالنَّصْبُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا: لأيمانكم، عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِ الْحَلِفُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ هُوَ إِرَادَةُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ إِذْ هُوَ شَيْءٌ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، فَهُوَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، فَجَاءَتْ هاتان الصفتان منتظمتين

_ (1) سورة القلم: 68/ 10.

لِلْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَجَاءَتَا عَلَى تَرْتِيبِ مَا سَبَقَ مِنْ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْعِلْمِ، كَمَا قَدَّمَ الْحَلِفَ عَلَى الْإِرَادَةِ. لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ جَعْلِ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِلْأَيْمَانِ، كَانَ ذَلِكَ حَتْمًا لِتَرْكِ الْأَيْمَانِ وَهُمْ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ لَهُمْ بِالْأَيْمَانِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا لَغْوًا فَهُوَ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ حَقِيقَةُ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ الْمُحَاوَرَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ اللَّغْوُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مُقَابَلَةَ مَا كَسَبَهُ القلب وهو ماله فِيهِ اعْتِمَادٌ وَقَصْدٌ. وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ لَغْوِ الْيَمِينِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، وَمَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَيَكْشِفُ الْغَيْبُ خِلَافَ ذَلِكَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَابْنُ عباس أيضا، وطاووس، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ فِي دَرَجِ الْكَلَامِ وَالِاسْتِعْجَالِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلْيَمِينِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنَا الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَفْعَلُ وَيُكَفِّرُ، وَبَاقِيهِمْ قَالُوا: لَا يَفْعَلُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وعلي، وطاووس: هُوَ الْحَلِفُ فِي حَالِ الْغَضَبِ . وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى شَيْءٍ يَنْسَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا كُفِّرَتْ سَقَطَتْ، وَلَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ بِتَكْفِيرِهَا، وَالرُّجُوعِ إِلَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: مَالِي عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، وَالْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ إِلَّا فِي الزَّوْجَةِ، فَأُلْزِمَ فِيهَا التَّحْرِيمَ إِلَّا أَنْ يُخْرِجَهَا الْحَالِفُ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ، أَذْهَبَ اللَّهُ مَالَهُ، هُوَ يَهُودِيٌّ، هُوَ مُشْرِكٌ، هُوَ لُغَيَّةٌ، إِنْ فَعَلَ كَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ حَلِفُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللَّهِ مَا أَشْتَرِيهِ إِلَّا بِكَذَا، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: هُوَ مَا لَا يَلْزَمُهُ الْوِقَايَةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ الْحَلِفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: هُوَ يَمِينُ الْمُكْرَهِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ اللَّغْوِ، إِلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ مَا فَسَّرْنَاهُ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ قَابَلَهُ كَسْبُ الْقَلْبِ، وَهُوَ تَعَمُّدُهُ لِلشَّيْءِ، فَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ غَيْرُهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كَسْبُ الْقَلْبِ، لِأَنَّ لِلْقَلْبِ

قَصْدًا إِلَيْهَا: وَنَفْيُ الْوَحْدَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ وَلَا كَفَّارَةَ، فَيَضْعُفُ قول من قال: إنها تَخْتَصُّ بِالْإِثْمِ، وَيُفَسَّرُ اللَّغْوُ بِالْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ، وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنِ اللَّغْوِ، وَالْمَسْبِيَّةِ ذَاتِ الزَّوْجِ، فَوَثَبَ الْفَرَزْدَقُ وَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ مَا قُلْتُ: وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِشَيْءٍ تَقُولُهُ ... إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ؟ وَمَا قُلْتُ: وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنَكَحَتْنَا رِمَاحُنَا ... حَلَالًا، وَلَوْلَا سَبْيُهَا لَمْ تُطَلَّقِ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: مَا أَذْكَاكَ لَوْلَا حِنْثُكَ. بِاللَّغْوِ: مُتَعَلِّقٌ: بيؤاخذكم، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، مِثْلُهَا فِي وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ «1» فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «2» . وَفِي إِيمَانِكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ، أَوْ بِالْمَصْدَرِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا فِي أَيْمَانِكُمْ، فيكون حالا، ويقربه أَنَّكَ لَوْ جَعَلْتَهُ فِي صِلَةِ: الَّذِي، وَوَصَفْتَ بِهِ اللَّغْوَ لَاسْتَقَامَ. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ بِالْيَمِينِ الَّتِي لِلْقَلْبِ فِيهَا كَسْبٌ، فَكُلُّ يَمِينٍ عَقَدَهَا الْقَلْبُ فَهِيَ كَسْبٌ لَهُ وَكَذَلِكَ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْكَسْبَ بِالْعَقْدِ، كَآيَةِ الْمَائِدَةِ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ «3» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا أَوْ عَلَى بَاطِلٍ، وَهِيَ الْغَمُوسُ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ أَنْ يَعْقِدَ الْإِشْرَاكَ بِقَلْبِهِ إِذَا قَالَ: هُوَ مُشْرِكٌ إِنْ فَعَلَ كَذَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَا تَعَمَّدَ الْقَلْبُ مِنَ الْمَآثِمِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى: مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ، هُوَ الْعُقُوبَةُ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ غَمُوسًا، أَوْ غَيْرَ غَمُوسٍ وَتَرَكَ تَكْفِيرَهَا، وَالْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا بِإِلْزَامِ الْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تُكَفَّرُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَجَمَاعَةٌ: لَا تُكَفَّرُ، وَهِيَ أَعْظَمُ ذَنْبًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالشَّافِعِيُّ: تُكَفَّرُ، وَالْكَفَّارَةُ مُؤَاخَذَةٌ. وَالْغَمُوسُ مَا قَصَدَ الرَّجُلُ فِي الْحَلِفِ بِهِ الْكَذِبَ، وَهِيَ الْمَصْبُورَةُ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ، وَمَصْبُورَةً لِأَنَّ صَبْرَهَا مُغَالَبَةٌ وَقُوَّةٌ عَلَيْهَا، كَمَا يُصْبَرُ الْحَيَوَانُ لِلْقَتْلِ وَالرَّمْيِ.

_ (1) سورة النحل: 16/ 61. (2) سورة العنكبوت: 29/ 40. [.....] (3) سورة المائدة: 5/ 89.

وَقُسِّمَتِ الْأَيْمَانُ إِلَى: لَغْوٍ وَمُنْعَقِدَةٍ، وَغَمُوسٍ، وَالْمُنْعَقِدَةُ: هِيَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا الْحِنْثُ وَالْبِرُّ، وَبَيَّنَّا اللَّغْوَ وَالْغَمُوسَ، وَقُسِّمَتْ أَيْضًا إِلَى: حَلِفٍ عَلَى مَا مِنْ مُحَرَّمٍ وَهِيَ: الْكَاذِبَةُ، وَمُبَاحٍ: وَهِيَ الصَّادِقَةُ، وَعَلَى مُسْتَقْبَلٍ عَقْدُهَا طَاعَةٌ، وَالْمُقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةٌ، وَحَلُّهَا مَعْصِيَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، وَمُقَابِلُهَا أَوْ مَا هُوَ مُبَاحٌ عَقْدُهَا وَالْمُقَامُ عَلَيْهَا وَحَلُّهَا، وَلَكِنْ دَخَلَتْ هُنَا بَيْنَ نَقِيضَيْنِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْيَمِينِ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ لَا يَقْصِدَهَا الْقَلْبُ، وَلَكِنْ جَرَتْ عَلَى اللِّسَانِ وَهِيَ: اللَّغْوُ، أَوْ تَقْصِدُهَا وَهِيَ: الْمُنْعَقِدَةُ، وَهُمَا ضِدَّانِ بِاعْتِبَارِ أَنْ لَا تُوجَدَ الْيَمِينُ، إِذِ الْإِنْسَانُ قَدْ يَخْلُو مِنَ الْيَمِينِ، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدِّ أَحْسَنُ مَا يَقَعُ فِيهِ: لَكِنْ، وَأَمَّا الْخِلَافَانِ فَفِي جَوَازِ وُقُوعِهَا بَيْنَهُمَا خِلَافٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ هَذَا، وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ وَاوًا فِي مِثْلِ: يُؤَاخِذُ، مَقِيسٌ، وَنَحْوُهُ: يُؤْذِنُ، وَيُؤَلِّفُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ فِي أَيْمَانِكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: بِمَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَيُحَسِّنُهُ مُقَابَلَتُهُ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِاللَّغْوِ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ جَاءَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى تَوْسِعَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِاللَّغْوِ فِي الْأَيْمَانِ، وَفِي تَعْقِيبِ الْآيَةِ بِهِمَا إِشْعَارٌ بِالْغُفْرَانِ، وَالْحِلْمِ عَنْ مَنْ أَوْعَدَهُ تَعَالَى بِالْمُؤَاخَذَةِ، وَإِطْمَاعٍ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَثْرَةِ الْغُفْرَانِ وَالصَّفْحِ مَطْمُوعٌ فِي مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، كَسَائِرِ وَعِيدِهِ تَعَالَى. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ الْإِيلَاءُ ضِرَارَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَا يَتْرُكُ الْمَرْأَةَ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فَيَحْلِفُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا، فَيَتْرُكَهَا لَا أَيِّمًا، وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَوَقَّتَ اللَّهُ ذَلِكَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ، وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: لِلَّذِينِ آلُوا، بِلَفْظِ الْمَاضِي وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: لِلَّذِينِ يُقْسِمُونَ. وَالْإِيلَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ، هُوَ الْحَلِفُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْإِيلَاءَ مِنَ النِّسَاءِ كَيْفَ كَانَ فِي

الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا الْإِيلَاءُ الشَّرْعِيُّ بِسَبَبِ وَطْءِ النِّسَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَبَدًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَإِسْحَاقُ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ لا يطأها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَتَبِينَ مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَطَأَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَ مُضِيِّهَا يَسْقُطُ الْإِيلَاءُ، وَيَكُونُ الطَّلَاقُ، وَلَا تَسْقُطُ قَبْلَ الْمُضِيِّ إِلَّا بِالْفَيْءِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي دَاخِلِ الْمُدَّةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَطَأَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ مَا دُونَهَا، فَلَيْسَ بِمُولٍ، وَكَانَتْ يَمِينًا محضا، لو وطأ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ مُطْلَقًا، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، شُمُولُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانِ وَالسَّفِيهِ، وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ الْمَجْنُونِ، وَالْخَصِيُّ غَيْرُ الْمَجْبُوبِ، وَمَنْ يُرْجَى مِنْهُ الْوَطْءُ، وَكَذَا الْأَخْرَسِ بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ مِنْ كِنَايَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَجْبُوبِ فَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ وَقِيلَ: يَصِحُّ، وَأَجَلُ إِيلَاءِ الْعَبْدِ كَأَجَلِ إِيلَاءِ الْحُرِّ لِانْدِرَاجِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: أَجَلُهُ شَهْرَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِيلَاؤُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ، وَمِنَ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَجَلُ إِيلَاءِ الْأَمَةِ نِصْفُ إِيلَاءِ الْحُرَّةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُؤْلُونَ، مُطْلَقُ الْإِيلَاءِ، فَيَحْصُلُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَصَدَ بِهِ إِصْلَاحَ وَلَدٍ رَضِيعٍ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مُغَاضَبَةٍ وَمُسَارَّةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِإِصْلَاحِ وَلَدٍ رَضِيعٍ فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أحد قوبه، والقول الآخر: أنه لا اعْتِبَارَ بِرَضَاعٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَاللَّيْثُ: شَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي غَضَبٍ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، الْإِيلَاءُ فِي غَضَبٍ وَغَيْرِ غَضَبٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ وَسَائِرَ الْأَيْمَانِ سَوَاءٌ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَكَذَلِكَ

الْإِيلَاءُ، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا قَوْلَهُ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى امْتِنَاعِ الْوَطْءِ فَقَطْ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يَطَأَهَا، أَوْ لَا يُكَلِّمَهَا، أَوْ أَنْ يُضَارَّهَا، أَوْ يُغَاضِبَهَا. فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِيلَاءٌ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: إِذَا حَلَفَ لَا يكلمها وكان يطأها فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ تِلْكَ إِيلَاءً إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الِامْتِنَاعُ مِنَ الْوَطْءِ. وَأَقْوَالُ مَنْ ذُكِرَ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالُوا مَا مُحْتَمَلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمَا يَحْتَمِلُهُ أَنَّ فَسَادَ الْعِشْرَةِ إِيلَاءٌ، وَإِلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى وَطْءٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَ: مِنْ، يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يُؤْلُونَ، وَآلَى لَا يَتَعَدَّى بِمِنْ، فَقِيلَ: مِنْ، بِمَعْنَى: عَلَى، وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: عَلَى تَرْكِ وَطْءِ نِسَائِهِمْ، أَوْ فِي تَرْكِ وَطْءِ نِسَائِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ، زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: يُؤْلُونَ أَنْ يَعْتَزِلُوا نسائهم. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ لَهُمُ الْمَحْذُوفُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عنه، وإنما يتعلق بيؤلون عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ: مِنْ، لِلسَّبَبِ أَيْ: يَحْلِفُونَ بِسَبَبِ نِسَائِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُضَمَّنَ الْإِيلَاءُ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ، فَيُعَدَّى بِمِنْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِلَّذِينِ يَمْتَنِعُونَ بِالْإِيلَاءِ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَ: مِنْ نِسَائِهِمْ، عَامٌّ فِي الزَّوْجَاتِ مِنْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَكِتَابِيَّةٍ وَمَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا إِيلَاءَ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ. وَقَالَ مَالِكٌ، لَا إِيلَاءَ مِنْ صَغِيرَةٍ لَمْ تَبْلُغْ، فَإِنْ آلَى مِنْهَا فَبَلَغَتْ لَزِمَ الْإِيلَاءُ مِنْ يَوْمِ بُلُوغِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، عُمُومُ الْإِيلَاءِ بِأَيِّ يَمِينٍ كَانَتْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (الْجَدِيدِ) : لَا يَقَعُ الْإِيلَاءُ إِلَّا بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إِيلَاءٌ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْأَخِيرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، فَهِيَ يَمِينٌ مُطْلَقًا وَلَا يَكُونُ بِهَا مُولِيًا، وَإِنْ قَالَ: وَإِنْ وَطِئْتُكِ فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ فَهُوَ مُولٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ

يَمْضِي قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَلَيْسَ بِمُولٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ مُولِيًا. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فُرُوعًا كَثِيرَةً فِي الْإِيلَاءِ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ نَحْنُ مَا لَهُ بَعْضُ تَعَلُّقٍ بِالْقُرْآنِ عَلَى عَادَتِنَا، وَلَيْسَ التَّفْسِيرُ مَوْضُوعًا لِاسْتِقْرَاءِ جُزْئِيَّاتِ الْفُرُوعِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، حُصُولُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ: لَا يَكُونُ مُولِيًا مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ زَوْجَتَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا فِي مِصْرِهِ أَوْ بَلَدِهِ فَهُوَ مُولٍ عِنْدَ مَالِكٍ. وَلَا يَدْخُلُ الذِّمِّيُّ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ لِقَوْلِهِ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، كَمَا لَا يَصِحُّ ظِهَارٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ حَلَفَ بِمَا يَصِحُّ مِنْهُ كَالطَّلَاقِ، فَهُوَ مُولٍ وَلَوِ اسْتَثْنَى الْمُولِي فِي يَمِينِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ الْمَقْرُونَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: يَكُونُ مُولِيًا، لَكِنَّهُ لو وطأ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي (الْمَبْسُوطِ) عَنْ مَالِكٍ: لَا يَكُونُ مُولِيًا. تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ هَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا هُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ اتُّسِعَ فِيهِ فَصُيِّرَ مَفْعُولًا بِهِ، وَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْأَصْلُ: تَرَبُّصُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الظَّرْفِ مِنْ غَيْرِ اتِّسَاعٍ، فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ عَلَى تَقْدِيرِ: فِي، خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّ ابْتِدَاءَ أَجَلِ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ حَلَفَ لَا مِنْ وَقْتِ الْمُخَاصَمَةِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، قِيلَ: وَحُكْمُهُ ضَرْبُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ غَالِبُ مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ فِيهَا عَنِ الزوج، وقصة عمر مشهور فِي سَمَاعِ الْمَرْأَةِ تُنْشِدُ بِاللَّيْلِ: أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهْ ... وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا حَبِيبَ أُلَاعِبُهْ. وَسُؤَالُهُ: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقِيلَ لَهُ: لَا تَصْبِرُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَجَعَلَ ذَلِكَ أَمَدًا لِكُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُهَا. فَإِنْ فاؤُ أَيْ: رَجَعُوا بِالْوَطْءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورُ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ

الْجُمْهُورِ مَغِيبُ الْحَشَفَةِ لِلْقَادِرِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ سَجْنٌ أَوْ شِبْهُ ذَلِكَ، فَارْتِجَاعُهُ صَحِيحٌ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ زَالَ عُذْرُهُ فَأَبَى الْوَطْءَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) وَ (الْمَبْسُوطِ) . وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِي الْمَعْذُورَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى فَيْأَتِهِ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ أَيْضًا: يَصِحُّ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ، وَالْإِشْهَادِ فَقَطْ، وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ إِذَا رَأَيْتَ أَنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، وَقِيلَ: الْفَيْءُ هُوَ الرِّضَى، وَقِيلَ: الرُّجُوعُ بِاللِّسَانِ بِكُلِّ حَالٍ، قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُولِيَ هُوَ الْحَالِفُ عَلَى مَسَاءَةِ زَوْجَتِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ يَفِيءُ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَطَائِفَةٌ: الْفَيْءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا، مِنْ سَجْنٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ وغيره. وأمال: فاؤا، جَرْيَةُ بْنُ عَائِذٍ لِقَوْلِهِ: فِئْتُ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فإن فاؤا فِيهِنَّ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنْ فاؤا فِيهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ: فِيهِنَّ، كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَشْهُرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: بِأَنَّ الْفَيْئَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْأَشْهُرِ، وإن لم يفىء فِيهَا دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوقَفَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيٌّ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَسْرُوقٌ وَقَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عُمَرَ، وابن عامر المسيب، ومجاهد، وطاووس، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا انْقَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وُقِفَ، فَإِمَّا قاء وَإِلَّا طُلِّقَ عَلَيْهِ وَالْقِرَاءَةُ المتواترة: فإن فاؤا بِغَيْرِهِنَّ، وَلَا فِيهَا، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَإِنْ فاؤا فِي الْأَشْهُرِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يكون: فإن فاؤا بَعْدَ انْقِضَائِهَا. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا فاء المولي ووطأ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى إِيجَابِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُولِي بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ، فَيَكُونُ الْغُفْرَانُ هُنَا إِشْعَارًا بِإِسْقَاطِ الْإِثْمِ بِفِعْلِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ المسيب: إِنَّهُ غُفْرَانُ الْإِثْمِ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ بِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ الْوَطْءِ إِذَا فَاءَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى بر أو تقوى، أَوْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ لَهُ، فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ غَفُورٌ لِمَآثِمِ الْيَمِينِ، رَحِيمٌ فِي تَرْخِيصِ الْمُخْرَجِ مِنْهَا بِالتَّكْفِيرِ، قَالَهُ ابْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ

لِلْقَوْلِ الثَّانِي، وَقِيلَ: مَعْنَى رَحِيمٌ حَيْثُ نَظَرَ لِلْمَرْأَةِ أن لا يضربها زَوْجُهَا، فَيَكُونُ وَصْفُ الْغُفْرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّوْجِ، وَصِفَةُ الرَّحْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّوْجَةِ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ عَزَمُوا السَّرَاحَ، وَانْتِصَابُ الطَّلَاقِ: إِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى، لِأَنَّ عَزَمَ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَمَا قَالَ: عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ وَإِمَّا أَنْ تُضَمَّنَ: عَزَمَ، مَعْنَى: نَوَى، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ. وَمَعْنَى الْعَزْمِ هُنَا التَّصْمِيمُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَلْيُوقِعُوهُ، أَيِ: الطَّلَاقَ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ: فَإِنْ فاؤُ وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ الَّتِي تَقَعُ فِي الْإِيلَاءِ لَا تَقَعُ بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ لِقَوْلِهِ: عَزَمُوا الطَّلَاقَ، لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ لَيْسَ فِعْلًا لِلشَّيْءِ، وَيُؤَكِّدُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ لَا يُسْمَعُ إِلَّا الْأَقْوَالُ، وَجَاءَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، إِذْ قَدَّرْنَاهُ: فَلْيُوقِعُوهُ، أَيِ الطَّلَاقَ، فَجَاءَ: سَمِيعٌ، بِاعْتِبَارِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَجَاءَ: عَلِيمٌ، بِاعْتِبَارِ الْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النِّيَّاتِ، وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلَا تُدْرَكُ النِّيَّاتُ إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَتَأَخَّرَ هَذَا الْوَصْفُ لِمُؤَاخَاةِ رؤوس الْآيِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ أَعَمُّ مِنَ السَّمْعِ، فَمُتَعَلِّقُهُ أَعَمُّ، وَمُتَعَلِّقُ السَّمْعِ أَخَصُّ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ، لِبُعْدِ انْتِظَامِهِ مَعَ الشَّرْطِ قَبْلَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ؟ وَعَزْمُهُمُ الطَّلَاقَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ وَلَا يُسْمَعُ؟ قُلْتُ: الْغَالِبُ أَنَّ الْعَازِمَ لِلطَّلَاقِ، وَتَرْكِ الْفَيْئَةِ وَالْفِرَارِ لَا يَخْلُو مِنْ مُقَارَنَةٍ وَدَمْدَمَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ وَيُنَاجِيَهَا بِذَلِكَ، وَذَلِكَ حَدِيثٌ لَا يَسْمَعُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا يَسْمَعُ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ صِفَةَ السَّمْعِ جَاءَتْ هُنَا لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ أَوْقَعُوهُ، أَيِ: الطَّلَاقَ، وَالْإِيقَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّفْظِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَالصِّفَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْجَوَابِ لَا بِالشَّرْطِ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دَلَالَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ طَلَاقٍ بِكَوْنِهِ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الطَّلَاقِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُولِي فِي ذَلِكَ، فَقَالَ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ:

هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهَا وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: هِيَ رَجْعِيَّةٌ. وَفِي الْحُكْمِ لِلْمُولِي بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الْفَيْئَةِ، وَإِمَّا الطَّلَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِيلَاءِ قَبْلَ الْفَيْءِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَبَطَلَ الْإِيلَاءُ بِغَيْرِ فَيْءٍ وَلَا عَزِيمَةِ طَلَاقٍ، لِأَنَّهُ إِنْ حَنِثَ لَمْ يَلْزَمْ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ، وَمَتَى لَمْ يَلْزَمِ الْحَالِفَ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، فَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إِسْقَاطُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَتَرَبَّصُوا إِلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ. فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَعِيدٌ عَلَى إِصْرَارِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْفَيْئَةَ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ معناه: فإن فاؤا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فإن فاؤا، ما نصه فإن فاؤا فِي الْأَشْهُرِ، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فإن فاؤا فِيهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا عَسَى يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ ضِرَارِ النِّسَاءِ بِالْإِيلَاءِ، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى رِضًى مِنْهُنَّ، خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْغَيْلِ، أَوْ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ لِأَجْلِ الْفَيْئَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ التَّوْبَةِ، فَنَزَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَايَرَ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْفِعْلَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، إِذْ جَعَلَ بَعْدَ: فاؤا، فِي مُدَّةِ الْأَشْهُرِ، وَبَعْدَ: عَزَمُوا، بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ الْفَيْئَةَ وَالْعَزْمَ عَلَى الطَّلَاقِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَشْهُرِ، وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا اعْتَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ مَوْقِعُ الْفَاءِ إِذَا كَانَتِ الْفَيْئَةُ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ؟ قُلْتُ: مَوْقِعٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ قوله: فإن فاؤا، وإن عَزَمُوا، تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَالتَّفْصِيلُ يَعْقُبُ الْمُفَصَّلَ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا نَزِيلُكُمْ هَذَا الشَّهْرَ فَإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ أَقَمْتُ عِنْدَكُمْ، إِلَى آخِرِهِ. وَإِلَّا لَمْ أَقُمْ إِلَّا رَيْثَمَا أَتَحَوَّلُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَا مَثَّلَ بِهِ لَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا فِي الْآيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِثَالَ فِيهِ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُفَصَّلِ حَالُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَا نَزِيلُكُمْ هَذَا الشَّهْرَ، وَمَا بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالْجَوَابِ الدَّالِّ عَلَى اخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْجَزَاءِ، وَالْآيَةُ لَيْسَ كَذَلِكَ التَّرْكِيبُ فِيهَا، لِأَنَّ الَّذِينَ يُؤْلُونَ لَيْسَ مُخْبَرًا عَنْهُمْ، وَلَا مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا الْمُخْبَرُ عَنْهُ هُوَ: تَرَبُّصُهُمْ، فَالْمَعْنَى تَرَبُّصُ الْمُولِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مَشْرُوعٌ لَهُمْ بَعْدَ إِيلَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ فاؤا، وَإِنْ عَزَمُوا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ

تَرَبُّصَ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ بِأَسْرِهَا، لِأَنَّ الْفَيْئَةَ تَكُونُ فِيهَا، وَالْعَزْمَ بَعْدَهَا، لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ. الْمُغَايِرَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا تَطَابُقُ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: لِلضَّيْفِ إِكْرَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَقَامَ فَنَحْنُ كُرَمَاءُ مُؤْثِرُونَ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ فَلَهُ أَنْ يَرْحَلَ. فَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ أَنَّ الشَّرْطَيْنِ مُقَدَّرَانِ بَعْدَ إِكْرَامِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِنْ أَقَامَ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الطَّرَفَيْنِ لَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَفُرِّقَ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمُحْتَمَلِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَتَمْثِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَّا مَنِ ارْتَاضَ ذِهْنُهُ فِي التَّرَاكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَرِيَ مِنْ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمَذْهَبِيَّةِ، بِاتِّبَاعِهِ الْحَقَّ وَاجْتِنَابِهِ الْعَصَبِيَّةَ. وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَا يُعَدُّ سَبَبًا، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَالِبٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَنْعُ مِنَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ دَائِمًا، وَبِالْإِيلَاءِ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَطْءِ مُدَّةً مَحْصُورَةً، فَنَاسَبَ ذِكْرُ غَيْرِ الْمَحْصُورِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَحْصُورِ، وَمَشْرُوعُ تَرَبُّصِ الْمُولِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَمَشْرُوعُ تَرَبُّصِ هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، فَنَاسَبَ ذِكْرُهَا بِعَقِبِهَا، وَظَاهِرُ: وَالْمُطَلَّقَاتُ، الْعُمُومُ، وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمَدْخُولِ بِهِنَّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ حُكْمَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالْحَامِلِ، وَالْآيِسَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ هَؤُلَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ عَامًّا فِي الْمُطَلَّقَاتِ، ثُمَّ نُسِخَ الْحُكْمُ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ سِوَى الْمَدْخُولِ بِهَا ذَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِطْلَاقُ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ لِكَثْرَتِهِ، وَلَا أَنْ يُجْعَلَ سُؤَالًا وَجَوَابًا. كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ جَازَتْ إِرَادَتُهُنَّ خَاصَّةً وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ. قُلْتُ: بَلِ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فِي تَنَاوُلِ الْجِنْسِ، صَالِحٌ لِكُلِّهِ وَبَعْضِهِ، فَجَاءَ فِي أَحَدِ مَا يَصْلُحُ لَهُ كَالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ لَيْسَتْ دَلَالَةَ الْمُطْلَقِ، وَلَا لَفْظَ الْعَامِّ مُطْلَقٌ فِي تَنَاوُلِ الْجِنْسِ صَالِحٌ لِكُلِّهِ وَبَعْضِهِ، بَلْ هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، مَوْضُوعَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَا يَصْلُحُ لِكُلِّ الْجِنْسِ وَبَعْضِهِ، لِأَنَّ مَا وُضِعَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَيَسْتَغْرِقُ الْأَفْرَادَ لَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ صَالِحٌ لِكُلِّهِ وَبَعْضِهِ، فَلَا يَجِيءُ فِي أَحَدِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَلَا هُوَ كَالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَرَكَ لَهُ وَضْعَانِ وَأَوْضَاعٌ بِإِزَاءِ مَدْلُولَيْهِ أَوْ مَدْلُولَاتِهِ، فَلِكُلِّ مَدْلُولٍ وَضْعٌ، وَالْعَامُّ لَيْسَ لَهُ إِلَّا وَضْعٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ، فَلَيْسَ كالمشترك.

وَالْمُطَلَّقاتُ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَصُورَتُهُ صُورَةُ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى عَلَى إِضْمَارِ اللَّامِ أَيْ: لِيَتَرَبَّصْنَ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، وَقِيلَ: وَالْمُطَلَّقَاتُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَحُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ وَيَتَرَبَّصْنَ عَلَى حَذْفِ: أَنْ، حَتَّى يَصِحَّ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، التَّقْدِيرُ: وَحُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَعْدَ أَنْ قَالَ: هُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، قَالَ: فَإِخْرَاجُ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُتَلَقَّى بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِهِ، فَكَأَنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الْأَمْرَ بِالتَّرَبُّصِ، فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ، مَوْجُودًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: رَحِمَهُ اللَّهُ، أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ ثِقَةً بِالِاسْتِجَابَةِ، كَأَنَّمَا وُجِدَتِ الرَّحْمَةُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهَا، وَبِنَاؤُهُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ مِمَّا زَادَ فَضْلُ تَأْكِيدٍ، وَلَوْ قِيلَ: وَيَتَرَبَّصْنَ الْمُطَلَّقَاتُ، لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الْوِكَادَةِ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ فِيهَا زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ عَلَى جُمْلَةِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ لِتَكْرَارِ الِاسْمِ فِيهَا مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِظُهُورِهِ، وَالْأُخْرَى بِإِضْمَارِهِ، وَجُمْلَةُ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ يُذْكَرُ فِيهَا الِاسْمُ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَالَ فِي (رِيِّ الظَّمْآنِ) زِيدَ فِعْلٌ يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِذِكْرِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنَا كَتَبْتُ فِي الْمُهِمِّ الْفُلَانِيِّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُرَادُ دَعْوَى الِانْفِرَادِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ بِحَدِيثٍ آكَدُ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، لَا يُرِيدُ الْحَصْرَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يُحَقِّقَ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ إِعْطَاءَ الْجَزِيلِ دَأْبُهُ. وَمَعْنَى يَتَرَبَّصْنَ: يَنْتَظِرْنَ وَلَا يُقْدِمْنَ عَلَى تَزَوُّجٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ خير عَلَى بَابِهِ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وَجَدْتَ مُطَلَّقَةً لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، قِيلَ: وَحَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ هُوَ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَقَدْ يُمْتَثَلُ، وَقَدْ لَا يُمْتَثَلُ، وَلِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَعَزْمٍ. وَتَرَبَّصَ مُتَّعَدٍ، إِذْ مَعْنَاهُ: انْتَظَرَ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَحْذُوفًا مَفْعُولُهُ، وَمُثْبَتًا، فَمِنَ الْمَحْذُوفِ هَذَا، وَقَدَّرُوهُ: بِتَرَبُّصِ التَّزْوِيجِ، أَوِ الْأَزْوَاجِ، وَمِنَ الْمُثْبَتِ قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ «1» نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «2» .

_ (1) سورة التوبة: 9/ 52. (2) سورة الطور: 52/ 30.

و: بأنفسهن، متعلق: بتربص، وَظَاهِرُ الْبَاءِ مَعَ تَرَبَّصَ أَنَّهَا لِلسَّبَبِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنْفُسِهِنَّ، وَلَا بُدَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ فِي الْكَلَامِ: يُتَرَبَّصُ بِهِنَّ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ فِيهِ تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُتَّصِلِ إِلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، نَحْوَ: هِنْدٌ تُمَرُّ بِهَا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيَجُوزُ هُنَا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: يَتَرَبَّصْنَ أَنْفُسَهُنَّ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ بِنَفْسِهِ، وَجَاءَ زَيْدٌ بِعَيْنِهِ، أَيْ: نَفْسُهُ وَعَيْنُهُ، لَا يُقَالُ: إِنَّ التَّوْكِيدَ هُنَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ، وَهُوَ النُّونُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْإِنَاثِ فِي: تَرَبَّصْنَ، وَهُوَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يُؤَكَّدَ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ، وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: يَتَرَبَّصْنَ هُنَّ بِأَنْفُسِهِنَّ، لِأَنَّ هَذَا التَّوْكِيدَ، لَمَّا جُرَّ بِالْبَاءِ، خَرَجَ عَنِ التَّبَعِيَّةِ، وَفُقِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا امْتُنِعَ أَنْ يُؤَكَّدَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ الْمُتَّصِلُ، حَتَّى يُؤَكَّدَ بِمُنْفَصِلٍ، إِذَا أُرِيدَ التَّوْكِيدُ لِلنَّفْسِ وَالْعَيْنِ، وَنَظِيرُ جَوَازِ هَذَا: أَحْسِنْ بِزَيْدٍ وَأَجْمِلْ، التَّقْدِيرُ: وَأَجْمِلْ بِهِ، فَحُذِفَ وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا، هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جُرَّ بِالْبَاءِ خَرَجَ فِي الصُّورَةِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَصَارَ كَالْفَضْلَةِ، فَجَازَ حَذْفُهُ: هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَخْفَشَ ذَكَرَ فِي الْمَسَائِلِ جَوَازَ: قَامُوا أَنْفُسُهُمْ، مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ، وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ هُنَا: أَنَّهُنَّ يُبَاشِرْنَ التَّرَبُّصَ، وَزَوَالُ احْتِمَالِ أَنَّ غَيْرَهُنَّ تُبَاشِرُ ذلك بهنّ، بل هنّ أَنْفُسُهُنَّ هُنَّ الْمَأْمُورَاتُ بِالتَّرَبُّصِ، إِذْ ذَاكَ أَدْعَى لِوُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُنَّ، فَاحْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ التَّأْكِيدِ لِمَا فِي طِبَاعِهِنَّ مِنَ الطُّمُوحِ إِلَى الرِّجَالِ وَالتَّزْوِيجِ، فَمَتَى أُكِّدَ الْكَلَامُ دَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْمَطْلُوبَةِ. وَانْتِصَابُ: ثَلَاثَةَ، عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، إِذْ قَدَّرْنَا: تَرَبَّصَ، قَدْ أَخَذَ مَفْعُولَهُ، وَالْمَعْنَى: مُدَّةَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، أَيْ: يَنْتَظِرْنَ مَعْنَى ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَكِلَا الْإِعْرَابَيْنِ مَنْقُولٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَدْلُولِ الْقُرُوءِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ هُنَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: هُوَ الْحَيْضُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ: هُوَ الطُّهْرُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: كُنْتُ أَقُولُ الْقُرْءُ الطُّهْرُ، وَأَنَا الْآنَ أَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْحَيْضُ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْقُرْءَ: الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، وَلَا يَرَى الِانْتِقَالَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ قُرْءًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ الْخُرُوجُ مِنْ طُهْرٍ إِلَى حَيْضٍ، أَوْ مِنْ حَيْضٍ إِلَى طُهْرٍ. وَلِذِكْرِ تَرْجِيحِ كُلِّ قَائِلٍ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِثَلَاثَةِ الْقُرُوءِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْءَ الْحَيْضُ يَقُولُ، إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ تُوطَأْ فِيهِ اسْتَقْبَلَتْ حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً ثُمَّ تَغْتَسِلُ، فَبِالْغُسْلِ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ: «أَنَّ زَوْجَهَا أَحَقُّ بِرَدِّهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ» حَتَّى قَالَ شُرَيْكٌ: لَوْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ، فَلَمْ تَغْتَسِلْ عِشْرِينَ سَنَةً، كَانَ زَوْجُهَا أَحَقَّ بِالرَّجْعَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْغُسْلَ لَا دُخُولَ لَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ عمر، وَعَائِشَةَ: إِذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ، فَإِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ تُمَسَّ فِيهِ، اعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَلَوْ سَاعَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثَانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، ثُمَّ ثَالِثًا بَعْدَ حَيْضَةٍ ثَانِيَةٍ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَخَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ بِأَوَّلِ نُقْطَةٍ تَرَاهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ وَالْمِيرَاثُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ أَنَّهُ دَمُ حَيْضٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ دَفْعَةَ دَمٍ مِنْ غَيْرِ الْحَيْضِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْءَ الْأَطْهَارُ، يَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ، وَشَذَّ ابْنُ شِهَابٍ فَقَالَ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ سِوَى بَقِيَّةِ ذَلِكَ الطُّهْرِ، وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وَلَوْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالشُّرُوعِ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنَ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ لِأَوَّلِهِ، فَلَا تَنْقَضِي حَتَّى تَغْتَسِلَ، أَوْ تَتَيَمَّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَظَاهِرُ عُمُومِ الْمُطَلَّقَاتِ دُخُولُ الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ،

وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَى عِدَّةَ الْأَمَةِ إِلَّا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ، إِلَّا إِنْ مَضَتْ سُنَّةٌ فِي ذَلِكَ، فَالسُّنَّةُ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ وَقَالَ الجمهور: عدتها قرآن. وقرأ الجمهور: وقروء، عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: قُرُوٍّ، بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: قَرْوٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَوَاوٍ خَفِيفَةٍ، وَتَوْجِيهُ الْجَمْعِ لِلْكَثْرَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَلَمْ يَأْتِ: ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوَسُّعِ فِي وَضْعِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ، أَعْنِي: جَمْعَ الْقِلَّةِ مَكَانَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَالْعَكْسَ. وَكَمَا جَاءَ: بِأَنْفُسِهِنَّ وَأَنَّ النِّكَاحَ يَجْمَعُ النَّفْسَ عَلَى نُفُوسٍ فِي الْكَثْرَةِ، وَقَدْ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِتْيَانِ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ وَيَبْقَى الْآخَرُ قَرِيبًا مِنَ الْمُهْمَلِ، وَذَلِكَ نَحْوَ: شُسُوعٍ أُوثِرَ عَلَى أَشْسَاعٍ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ أَشْسَاعٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا، لِأَنَّ شِسْعًا يَنْقَاسُ فِيهِ أَفْعَالٌ وَقِيلَ: وُضِعَ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَقِيلَ: أُوثِرَ قُرُوءٌ عَلَى أَقْرَاءٍ لِأَنَّ وَاحِدَهُ قَرْءٌ، بِفَتْحِ القاف، وجمع فعلى عَلَى أَفْعَالٍ شَاذٌّ، وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ: ثَلَاثَةَ حَمِيرٍ، وَثَلَاثَةَ كِلَابٍ، عَلَى إِرَادَةِ: مِنْ كِلَابٍ، وَمِنْ حَمِيرٍ. فَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا أَجَازَهُ: ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، أَيْ: مِنْ قُرُوءٍ. وَتَوْجِيهُ تَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَأُدْغِمَتْ وَاوُ فُعُولٍ فِيهَا، وَهُوَ تَسْهِيلٌ جَائِزٌ مُنْقَاسٌ، وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَضَافَ الْعَدَدَ إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ، إِذِ اسْمُ الْجِنْسِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ عَلَى حَسَبِ مَا تُرِيدُ مِنَ الْمَعْنَى، وَدَلَّ الْعَدَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ. وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ الْمَنْهِيُّ عَنْ كِتْمَانِهِ الْحَيْضُ، تَقُولُ لَسْتُ حَائِضًا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ حِضْتُ وَمَا حَاضَتْ، لتطويل العدة أو استعجال الْفُرْقَةِ، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ. أَوِ: الْحَبَلُ، قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ مَعًا، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالرَّبِيعُ، وَلَهُنَّ فِي كَتْمِ ذَلِكَ مَقَاصِدُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كَتْمَ ذَلِكَ حَرَامٌ وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ أنهن مؤتمنات عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أُبِيحَ الِاسْتِقْصَاءُ لَمْ يُمْكِنِ الْكَتْمُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نَفْتَحَ النساء فنظر إِلَى فُرُوجِهِنَّ، وَلَكِنْ وُكِلَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ، إِذْ كُنَّ مُؤْتَمَنَاتٍ. انْتَهَى. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكْتُمَ الْمَرْأَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي رَحِمِهَا مِنْ حَمْلٍ وَلَا حيض، وفيه تغليط، وَإِنْكَارٌ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: اللَّاتِي تَبْغِينَ إِسْقَاطَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ مِنَ الْأَجِنَّةِ، فَلَا يَعْتَرِفْنَ بِهِ، وَيَجْحَدْنَهُ لِذَلِكَ فَجُعِلَ كِتْمَانُ مَا فِي أَرْحَامِهِنَّ كِنَايَةً عَنْ إِسْقَاطِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ حِضْتُ أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ، وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهَا إِلَّا أَنْ تَقُولَ: قَدْ أَسْقَطْتُ سَقْطًا قَدِ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا الْمَرْأَةُ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنِ ادَّعَتْ الِانْقِضَاءَ فِي أَمَدٍ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ فِي مِثْلِهِ، قَبْلَ قَوْلِهَا: أَوْ فِي مُدَّةٍ تَقَعُ نَادِرًا، فَقَوْلَانِ، قَالَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) إِذَا قَالَتْ حِضْتُ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ، صُدِّقَتْ إِذَا صَدَّقَهَا النِّسَاءُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَشُرَيْحٌ، وَقَالَ فِي كِتَابِ (مُحَمَّدٍ) لَا تُصَدَّقُ إِلَّا فِي شَهْرٍ وَنِصْفٍ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، أَقَلُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَحْلَفَ امْرَأَةً لَمْ تَسْتَكْمِلِ الْحَيْضَ ، وَقَضَى بِذَلِكَ عُثْمَانُ. وَ: لهنّ، متعلق: بيحل، وَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ، وَ: مَا، فِي: مَا خَلَقَ، الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْضًا التَّقْدِيرُ: خَلَقَهُ. وَ: فِي أَرْحَامِهِنَّ، مُتَعَلِّقٌ بخلقه، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ فِي أَرْحَامِهِنَّ حَالًا مِنَ الْمَحْذُوفِ، قِيلَ: وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهُ وَقْتَ خَلَقَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ. وَقَرَأَ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: فِي أَرْحَامِهِنَّ وَبِرَدِّهُنَّ، بِضَمِّ الْهَاءِ فِيهِمَا وَالضَّمُّ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا كُسِرَتْ لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. هَذَا شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذَاهِبِ، حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّرُ هُنَا مِنْ لَفْظِهِ، أَيْ: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ لَا يُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ حَاصِلًا لَهُنَّ إِيعَادًا وَتَعْظِيمًا لِلْكَتْمِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْ، وَإِنْ كُنْتَ حُرًّا فَانْتَصِرْ. يَجْعَلُ مَا كَانَ مَوْجُودًا كَالْمَعْدُومِ، وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ الْكَتْمُ، وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ فَلَا تَظْلِمْ، وَأَنْتَ حُرٌّ فَانْتَصِرْ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ: أَيْ، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَقَّ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: إِنْ، بِمَعْنَى: إِذْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ الْوَعِيدَ، فَقَالَ ابْنُ

عَبَّاسٍ: لِمَا اسْتَحَقَّهُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجْعَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ: لِإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِغَيْرِهِ، كَفِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ قَرَأَ مسلمة بن محارب: وبعولتهن، بِسُكُونِ التَّاءِ، فِرَارًا مِنْ ثِقَلِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا حَكَى أَبُو زَيْدٍ: وَرُسُلْنَا، بِسُكُونِ اللَّامِ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو: أَنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ تَسْكِينُ الْمَرْفُوعِ مِنْ: يَعْلَمْهُمْ، وَنَحْوِهِ. وَسَمَّاهُمْ بُعُولَةً بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ أَحَقُّ لِمُرَاجَعَتِهِنَّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: بِرِدَّتِهِنَّ بِالتَّاءِ بَعْدَ الدال، وتتعلق: الباء، وفي، بِقَوْلِهِ: أَحَقُّ، وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ: فِي، بِرَدِّهِنَّ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: فِي ذَلِكَ، إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي أُمِرَتْ أَنْ تَتَرَبَّصَ فِيهِ، وَهُوَ زَمَانُ الْعِدَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْحَمْلِ الْمَكْتُومِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بُعُولَتِهِنَّ، عَائِدٌ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالرَّجْعِيَّاتِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُصُوصَ آخِرِ اللَّفْظِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ أَوَّلِهِ وَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْمُطَلَّقَاتُ، عَامٌّ فِي الْمَبْتُوتَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ، وَ: بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، خَاصٌّ فِي الرَّجْعِيَّاتِ، وَنَظِيرُهُ عِنْدَهُمْ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «1» فَهَذَا عُمُومٌ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ جاهَداكَ «2» وَهَذَا خَاصٌّ فِي الْمُشْرِكِينَ. وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مضاف دَلَّ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، تَقْدِيرُهُ: وبعولة رجعياتهن، و: أحق، هُنَا لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، لِأَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ لَا حَقَّ لَهُ وَلَا تَسْلِيطَ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ وَلَا حَقَّ لَهَا أَيْضًا فِي ذَلِكَ، بَلْ لَوْ أَبَتْ كَانَ لَهُ رَدُّهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَبُعُولَتُهُنَّ حَقِيقُونَ بِرَدِّهِنَّ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: بِرَدِّهِنَّ، عَلَى انْفِصَالٍ سَابِقٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةُ الْوَطْءِ فَالرَّدُّ حَقِيقِيٌّ عَلَى بَابِهِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ مُبَاحَةُ الْوَطْءِ وَأَحْكَامُهَا أَحْكَامُ الزَّوْجَةِ، فَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ تَعَلَّقَ بِهِ زَوَالُ النِّكَاحِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، جَازَ إِطْلَاقُ الرَّدِّ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ رَافِعًا لِذَلِكَ السَّبَبِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ الرَّدُّ فَقَالَ سَعِيدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وطاووس، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا جَامَعَهَا فَقَدْ رَاجَعَهَا وَيُشْهِدُ وَقَالَ اللَّيْثَ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّ وَطْأَهُ مُرَاجَعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ وَجَهِلَ أَنْ يُشْهِدَ فَهِيَ رَجْعَةٌ وَيَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تمنعه

_ (1- 2) سورة العنكبوت: 29/ 8.

الْوَطْءَ حَتَّى يُشْهِدَ، وَبِهِ قال إسحاق: فإن وطأ وَلَمْ يَنْوِ الرَّجْعَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُرَاجِعُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا يَطَأُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَنْكِحْهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةِ بَقِيَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ فَعَلَ فُسِخَ نِكَاحُهُ وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَاءَ مَاؤُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا جَامَعَهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ أَمْ لَا، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قال أبو عمرو: لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَهْرَ الْمِثْلِ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ قَالَ الْبَاجِيُّ فِي (الْمُنْتَقَى) : وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الِارْتِجَاعِ بِالْقَوْلِ، وَلَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ أَثِمَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: إِنْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رَجْعَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَبْلَ ارْتِجَاعِهَا؟ مَنَعَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ؟ وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ: إِنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَيَرَى شَيْئًا مِنْ مَحَاسِنِهَا وَتَتَزَيَّنَ لَهُ أَوْ تَتَشَوَّفَ؟ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا إِلَّا وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَاكِلَهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا، وَلَا يَبِيتُ مَعَهَا فِي بَيْتٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ثُمَّ رَجَعَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَلَا يَرَى شَعْرَهَا، وَقَالَ سَعِيدٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا إِذَا دَخَلَ وَيُسَلِّمُ، أو يشعرها بالتنخم وَالتَّنَحْنُحِ، وَتَلْبَسُ مَا شَاءَتْ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَلْيَجْعَلَا بَيْنَهُمَا سِتْرًا وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ هِيَ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ حَتَّى تُرَاجَعَ بِالْكَلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ إِذَا قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِامْرَأَتِهِ: كُنْتُ رَاجَعْتُكِ فِي الْعِدَّةِ، وَأَنْكَرَتْ! أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً، وَالزَّوْجُ ادَّعَى الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا مَوْلَاهَا! هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً هَذَا شَرْطٌ آخَرُ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ

إِبَاحَةَ الرَّجْعَةِ مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إِذَا رَاجَعَهَا مُضَارًّا فِي الرَّجْعَةِ، مُرِيدًا لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا أَنَّ رَجْعَتَهُ صَحِيحَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «1» قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَإِنْ قَصَدَ الضَّرَرَ، لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً إِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ لِمَا كَانَ ظَالِمًا بِفِعْلِهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي الْإِصْلَاحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِصْلَاحُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَسَادِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي: الْقِيَامُ لِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْحَقِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالُوا: وَيَسْتَغْنِي الزَّوْجُ فِي الْمُرَاجَعَةِ عَنِ الْوَلِيِّ، وَعَنْ رِضَاهَا، وَعَنْ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَعَنِ الْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَسْقُطُ بِالرَّجْعَةِ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ، وَيَحِلُّ جِمَاعُهَا فِي الْحَالِ، وَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ هَذَا كُلِّهِ إِلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطَّلَاقِ تَنْفَصِلُ مِنَ الرَّجُلِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ. إِلَّا بِنِكَاحٍ ثَانٍ، ثُمَّ إِذَا طَلَّقَهَا وَأَرَادَ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ عِدَّتِهَا، أَوْ لَا يَبْقَى. إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عِدَّتِهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا دُونَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ إِنْ أَرَادَ الْإِصْلَاحَ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ غَيْرَ الْإِصْلَاحِ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا اسْتَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ طُلِّقَتْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ فَيَرُدَّهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شُرُوطِ النِّكَاحِ، فَيَحْتَاجُ إِثْبَاتُ هَذَا الْحُكْمِ إِلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ كَمَا قُلْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، قُلْنَا بِهِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْنَا بِأَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ عَلَى مَا وَصَفُوا، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ الْفِقْهِ الَّتِي لَا يَسُوغُ النِّزَاعُ فِيهَا، وَأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ هَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ، إِذْ حَذَفَ شَيْئًا مِنَ الْأَوَّلِ أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَثْبَتَ شَيْئًا فِي الْأَوَّلِ حَذَفَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ وَلَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي لِأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ، فَحُذِفَتْ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لِإِثْبَاتِ: عَلَيْهِنَّ، وَحُذِفَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِإِثْبَاتِ لَهُنَّ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ، فَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمُوَافَقَةِ وَالطَّوَاعِيَةِ، وَقَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ وَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ فِي التَّزَيُّنِ وَالتَّصَنُّعِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي لِهَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ فِي تَقْوَى اللَّهِ فِيهِنَّ، كما عليهنّ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 231.

أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِمْ، وَلِهَذَا أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ» أَيْ: أَسِيرَاتٌ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ لَهُنَّ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ وَحَسَنِ الْعِشْرَةِ وَتَرْكِ الضِّرَارِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِي وُجُوبِ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَوُجُوبِ امْتِثَالِ الْمَرْأَةِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، لَا فِي جِنْسِ الْمُؤَدِّي وَالْمُمْتَثِلِ، إِذْ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مَحْسُوسٌ وَمَعْقُولٌ، وَمَا تَفْعَلُهُ هِيَ مَعْقُولٌ، وَلَكِنِ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ، فَتَحَقَّقَتِ الْمِثْلِيَّةُ! وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ فَقَالَ: «أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا يَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» وَفِي حَدِيثِ الْحَجِّ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ: «اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوَاطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .. ومثل: مُبْتَدَأٌ، وَ: لَهُنَّ، هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَ: بِالْمَعْرُوفِ، يَتَعَلَّقُ بِهِ: لَهُنَّ، أَيْ: وَمِثْلُ الَّذِي لِأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ كَائِنٌ لَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ، هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ: لمثل، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ. وَمَعْنَى: بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: بِالْوَجْهِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فِي الشَّرْعِ وَعَادَاتِ النَّاسِ، وَلَا يُكَلِّفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنَ الْأَشْغَالِ مَا لَيْسَ مَعْرُوفًا لَهُ، بَلْ يُقَابِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ. وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أَيْ: مَزِيَّةٌ وَفَضِيلَةٌ فِي الْحَقِّ، أَتَى بِالْمُظْهَرِ عِوَضُ الْمُضْمَرِ إِذْ كَانَ لَوْ أَتَى عَلَى الْمُضْمَرِ لَقَالَ: وَلَهُمْ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، لِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الرُّجُولِيَّةِ الَّتِي بِهَا ظَهَرَتِ الْمَزِيَّةُ لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلِمَا كَانَ يَظْهَرُ فِي الْكَلَامِ بِالْإِضْمَارِ مِنْ تَشَابُهِ الْأَلْفَاظِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي ذَاكَ، إِذْ كَانَ يَكُونُ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَهُمْ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَلِقَلَقِ الْإِضْمَارِ حُذِفَ مُضْمَرَانِ وَمُضَافَانِ مِنَ الجملة الأولى. و: الدرجة، هُنَا فَضْلُهُ عَلَيْهَا فِي الْمِيرَاثِ، وَبِالْجِهَادِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: أَوْ: بِوُجُوبِ طَاعَتِهَا إِيَّاهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَاعَتُهَا، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ: أَوْ: بِالصَّدَاقِ، وَجَوَازِ ملاعنته إِنْ قَذَفَ، وَحَدِّهَا إِنْ قَذَفَتْ قَالَ الشَّعْبِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَوْ: بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا

بِالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْ: بِمِلْكِ الْعِصْمَةِ وَأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. أو: بِمَا يَمْتَازُ مِنْهَا كَاللِّحْيَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ: بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ أَوْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى فِرَاشِهِ إِذَا دَعَاهَا، وَهَذَا دَاخِلٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي: أَوْ: بِالْعَقْلِ، أَوْ بِالدِّيَانَةِ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ، أَوْ بِقُوَّةِ الْعِبَادَةِ، أَوْ بِالذُّكُورِيَّةِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ خُلِقَتْ مِنَ الرَّجُلِ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَوْ: بِالسَّلَامَةِ مِنْ أَذَى الْحَيْضِ وَالْوِلَادَةِ وَالنِّفَاسِ، أو بالتزويج عَلَيْهَا وَالتَّسَرِّي، وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، أَوْ بِكَوْنِهِ يَعْقِلُ فِي الدِّيَةِ بِخِلَافِهَا، أَوْ بِكَوْنِهِ إِمَامًا بِخِلَافِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِلْكَ الدَّرَجَةُ إِشَارَةٌ إِلَى حَضِّ الرِّجَالِ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالتَّوَسُّعِ لِلنِّسَاءِ فِي الْمَالِ وَالْخُلُقِ، أَيْ: أَنَّ الْأَفْضَلَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَامَلَ عَلَى نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الدَّرَجَةَ هِيَ مَا تُرِيدُهُ النِّسَاءُ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالطَّوَاعِيَةِ وَالتَّبْجِيلِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ مِثْلَ مَا لِلْآخَرِ عَلَيْهِ، اقْتَضَى ذَلِكَ الْمُمَاثَلَةَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا، وَإِنْ تَمَاثَلَا فِي مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَعَلَيْهِنَّ مَزِيدُ إِكْرَامٍ وَتَعْظِيمٍ لِرِجَالِهِنَّ، وَأَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ: وَهُوَ كَوْنُهُ رَجُلًا يُغَالِبُ الشَّدَائِدَ وَالْأَهْوَالَ، وَيَسْعَى دَائِمًا فِي مَصَالِحِ زَوْجَتِهِ، وَيَكْفِيهَا تَعَبَ الِاكْتِسَابِ، فَبِإِزَاءِ ذَلِكَ صَارَ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ لِلرَّجُلِ فِي مُبَالَغَةِ الطَّوَاعِيَةِ، وَفِيمَا يُفْضِي إِلَى الِاسْتِرَاحَةِ عِنْدَهَا. وَمُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، يَقْتَضِي أَنَّ لِلرَّجُلِ دَرَجَةً تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ. وَ: دَرَجَةٌ، مبتدأ، و: للرجل، خَبَرُهُ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَ: عَلَيْهِنَّ، مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ مِنَ الْكَيْنُونَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: عَلَيْهِنَّ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ وَصْفًا لِلنَّكِرَةِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، فَتَعَلَّقَ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ غَيْرُ الْعَامِلِ فِي الْخَبَرِ، وَنَظِيرُهُ: فِي الدَّارِ قَائِمًا رَجُلٌ، كَانَ أَصْلُهُ: رَجُلٌ قَائِمٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: عَلَيْهِنَّ، الْخَبَرُ، وَ: لِلرِّجَالِ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ إِذْ ذَاكَ مَعْنَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ: قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ. وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا ضَعِيفٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَلَوْ تَوَسَّطَتِ الْحَالُ وَتَأَخَّرَ الْخَبَرُ، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ، أَبُو الْحَسَنِ يُجِيزُهَا، وَغَيْرُهُ يَمْنَعُهَا. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِهِمَا لِأَنَّهُ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ مَا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ، وَالنَّهْيُ فِي قَوْلِ: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ، وَالْجَوَازُ فِي قَوْلِهِ:

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ، وَالْوُجُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ، نَاسَبَ وَصْفَهُ تَعَالَى بِالْعِزَّةِ وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، وَهِيَ تُنَاسِبُ التَّكْلِيفَ، وَنَاسَبَ وَصْفَهُ بِالْحِكْمَةِ وَهِيَ إِتْقَانُ الْأَشْيَاءِ وَوَضْعُهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَهِيَ تُنَاسِبُ التَّكْلِيفَ أَيْضًا. الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ طَلَّقَ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ، فَطَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا رَجُلٌ اسْتَبْرَأَ، فَحِينَ طَلَّقَ شَارَفَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُقَرِّبُكِ إِلَيَّ وَلَا تَخْلِينَ مِنِّي، فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ قَبْلَهَا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ، وَكَانُوا يُطَلِّقُونَ وَيُرَاجِعُونَ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ وَلَا عَدٍّ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ: مَرَّتَانِ، فَحَصَرَ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ فِي أَنَّهُ مَرَّتَانِ، أَيْ يَمْلِكُ الْمُرَاجَعَةَ إِذَا طَلَّقَهَا، ثُمَّ يَمْلِكُهَا إِذَا طَلَّقَ، ثُمَّ إِذَا طَلَّقَ ثَالِثَةً لَا يَمْلِكُهَا. وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: عدد الطلاق الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ مَرَّتَانِ، وَالثَّالِثَةُ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ. فَعَلَى هَذَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الطَّلَاقِ لِلْعَهْدِ فِي الطَّلَاقِ السَّابِقِ، وَهُوَ الَّذِي تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ، وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبِ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِذَلِكَ تَفْرِيقُ الطَّلَاقِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا، وَهُوَ يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ مَرَّتَيْنِ مَعًا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: طَلَّقَهَا مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى يُفَرِّقَ الدَّفْعَ، فَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ. هَكَذَا بَحَثُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ بَحْثٌ صَحِيحٌ. وَمَا زَالَ يَخْتَلِجُ فِي خَاطِرِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ لِلطَّلَاقِ، وَيَقْتَضِي الْعَدَدَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ عَامِلٌ فِيهِ يَتَكَرَّرُ وُجُودًا، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُوَ مُبَيِّنٌ لِعَدَدِ الْفِعْلِ، فَمَتَى لَمْ يَتَكَرَّرْ وُجُودًا اسْتَحَالَ أَنْ يُكَرِّرَ مَصْدَرَهُ وَأَنْ يُبَيِّنَ رُتَبَ الْعَدَدِ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَهَذِهِ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَمَدْلُولُهُ وَاحِدٌ، وَالْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَيْنِ، وَنَظِيرُ هَذَا أن ينشىء الْإِنْسَانُ بَيْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ فِي شَيْءٍ ثُمَّ يَقُولُ عِنْدَ التَّخَاطُبِ: بِعْتُكَ هَذَا ثَلَاثًا، فَقَوْلُهُ ثَلَاثًا لَغْوٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا قَبْلَهُ، وَالْإِنْشَاءَاتُ أَيْضًا يَسْتَحِيلُ التَّكْرَارُ

فِيهَا حَتَّى يَصِيرَ الْمُجْمَلُ قَابِلًا لِذَلِكَ الْإِنْشَاءِ، وَهَذَا يَعْسُرُ إِدْرَاكُهُ عَلَى مَنِ اعْتَادَ أَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. قَالُوا: وَتَشْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَحْكَامٍ. مِنْهَا أَنَّ مَسْنُونَ الطَّلَاقِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَعْدَادِ الثَّلَاثِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا، وَأَنَّ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ مُطَلِّقًا لِغَيْرِ السُّنَّةِ. وَمِنْهَا أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ ثَبَتَ مَعَ الرَّجْعَةِ، وأنه إذا طلق اثنتين فِي الْحَيْضِ وَقَعَتَا، وَإِنْ نُسِخَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلْوَقْتِ الْمَسْنُونِ فِيهِ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَكَانِ ذِكْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَسَّمُوا هَذَا الطَّلَاقَ إِلَى: وَاجِبٍ، وَمَحْظُورٍ، وَمَسْنُونٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَمُبَاحٍ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فَيَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ: الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا سَوَاءً، وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ اتِّفَاقَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمَمْلُوكَيْنِ يَنْفَصِلَانِ بِالثِّنْتَيْنِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَهُمَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْعَبْدِ فِي الطَّلَاقِ إِلَى الْمَوْلَى. وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا، فَقِيلَ: الطَّلَاقُ بِالنِّسَاءِ، فَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ فَطَلَاقُهَا ثَلَاثٌ، أَوْ أَمَةً تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ فَطَلَاقُهُمَا ثِنْتَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَقِيلَ: الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ، فَلَوْ كَانَتْ أَمَةً تَحْتَ حُرٍّ فَطَلَاقُهَا ثَلَاثٌ، أَوْ حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ فَطَلَاقُهَا ثِنْتَانِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَالطَّلَاقُ مَصْدَرُ طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا، وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ. كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَمَرَّتَانِ خَبَرُهُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: عدد الطلاق الْمَشْرُوعِ فِيهِ الرَّجْعَةُ، أَوِ الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ الْمَسْنُونُ مَرَّتَانِ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ حَتَّى يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَ: مَرَّتَانِ، تَثْنِيَةً حَقِيقَةً، لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ أَوِ الْمَسْنُونَ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، عَدَدُهُ هُوَ مَرَّتَانِ عَلَى التَّفْرِيقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَوْنَهُ يَكُونُ عَلَى التَّفْرِيقِ. وَقَالَ

الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التثنية والتكرار كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «1» أَيْ: كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، لَا كَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّتَالِي الَّتِي يُرَادُ بِهَا التكرير، قَوْلُهُمْ: لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَحَنَانَيْكَ، وهذا ذيك، وَدَوَالَيْكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُخَالِفٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. أَمَّا مُنَاقَضَتُهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، أَيِ: التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ. دُونَ الْجَمْعِ، وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَقَوْلُهُ: تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ مُنَاقِضٌ فِي الظَّاهِرِ لِقَوْلِ: وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التَّثْنِيَةَ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُكَ ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ، وَهُوَ مُسَاوٍ فِي الدَّلَالَةِ لِقَوْلِكَ: ضَرَبْتُكَ ضَرْبَتَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَكَ: ضَرْبَتَيْنِ، لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُمَا إِلَّا ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّثْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلتَّكْرِيرِ، لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّكْرِيرُ لَا يَقْتَضِي بِتَكْرِيرِهَا ثِنْتَيْنِ وَلَا ثَلَاثَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرِيرِ مِرَارًا، فَقَوْلُهُمْ: لَبَّيْكَ، مَعْنَاهُ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ فَمَا زَادَ، وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كَرَّتَيْنِ، مَعْنَاهُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً وَالتَّثْنِيَةُ فِي قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّثْنِيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ هُنَا بِقَوْلِهِ: مَرَّتَانِ، مَا يَزِيدُ عَلَى الثِّنْتَيْنِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ؟ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدُ: فَإِنْ طَلَّقَها أَيْ: فَإِنْ سَرَّحَهَا الثَّالِثَةَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: مَرَّتَانِ دَالًّا عَلَى التَّكْرَارِ الَّذِي لَا يَشْفَعُ، بَلْ هُوَ مُرَادٌ بِهِ شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا غَرَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحِيَةُ التَّقْدِيرِ بِقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّثْنِيَةِ الَّتِي لَا يشفع الْوَاحِدَ، وَمُرَادٌ بِهَا التَّكْثِيرُ. إِلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ التَّثْنِيَةَ الَّتِي لَا تَشْفَعُ الْوَاحِدَ وَيُرَادُ بِهَا التَّكْرَارُ لَا يُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى الثَّلَاثِ فِي التَّكْرَارِ، وَلَمَّا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَرَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّثْنِيَةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّكْرِيرُ، احْتَاجَ أَنْ يَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عَلَى أَنَّهُ تَخْيِيرٌ لَهُمْ، بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُطَلِّقُونَ، بَيْنَ أَنْ يُمْسِكُوا النِّسَاءَ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ والقيام بمواجبهنّ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَرِّحُوهُنَّ السَّرَاحَ الْجَمِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُمْ. وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فيه قولان للسلف.

_ (1) سورة الملك: 67/ 4.

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيَانٌ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ الَّذِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْتَجِعَ مِنْهُ دُونَ تَجْدِيدِ مَهْرٍ وَوَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُرْوَةُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعْرِيفُ سُنَّةِ الطَّلَاقِ، أَيْ: مَنْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثَّالِثَةِ، فَإِمَّا تَرْكُهَا غَيْرَ مَظْلُومَةٍ شَيْئًا مِنْ حَقِّهَا، وَإِمَّا إِمْسَاكُهَا مُحْسِنًا عِشْرَتَهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الِارْتِجَاعُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ إِلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَالْتِزَامِ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَقَالَ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ مَرَّتَانِ، لِأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَيْ بِرَجْعَةٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ أَيْ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَبِينَ بِالْعِدَّةِ، أَوْ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا مُرَاجَعَةً يُرِيدُ بِهَا تَطْوِيلَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَضِرَارَهَا، وَقِيلَ: بِأَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّالِثَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَفْسِيرُ: التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَبِينَ بِالْعِدَّةِ، هُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ. وَقَوْلُهُ: أَوْ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا مُرَاجَعَةً يُرِيدُ بِهَا تَطْوِيلَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَضِرَارَهَا، كَلَامٌ لَا يَتَّضِحُ تَرْكِيبُهُ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُرَاجِعَهَا مُرَاجَعَةً حَسَنَةً مَقْصُودًا بِهَا الْإِحْسَانُ وَالتَّآلُفُ وَالزَّوْجِيَّةُ، فَيَصِيرُ هَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ مُرَاجَعَةٌ مُرَاجَعَةً حَسَنَةً. وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَلْتَئِمُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلَوْ فُسِّرَ بِهِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ لَكَانَ صَوَابًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقِيلَ بأن يطلقها الثالثة، فَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ، وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ عِنْدِي مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ذِكْرُ الطَّلْقَتَيْنِ، فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هِيَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّسْرِيحَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ قرىء: وَإِنْ عَزَمُوا السَّرَاحَ؟. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فَعَّلَ تَفْعِيلًا، هَذَا التَّضْعِيفُ يُعْطِي أَنَّهُ أَحْدَثَ فِعْلًا مُكَرَّرًا عَلَى

الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّرْكِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّفْعِيلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ: أَنَّ: الطَّلَاقَ، الْأَلِفُ وَاللَّامُ في لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ قَوْلِهِ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ وَهُوَ مَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مَرَّتانِ بَيَانٌ لِعَدَدِ هَذَا الطَّلَاقِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ بِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْقِيبِ بَعْدَ صُدُورِ الطَّلْقَتَيْنِ، وَوُقُوعِهَا كِنَايَةٌ عَنِ الرَّدِّ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَفَاءُ التَّعْقِيبِ تَقْتَضِي التَّعْدِيَةَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ صَرِيحٌ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ وَمَا عُطِفَ عَلَى الْمُتَعَقَّبِ بَعْدَ شَيْءٍ لَزِمَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَقِّبًا لِذَلِكَ الشيء، فجعل له حالتان بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ بِإِحْسَانٍ. إِلَّا أَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ يَنْبُو عَنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَيَقْوَى إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ التَّسْرِيحُ كِنَايَةً عَنِ التَّخْلِيَةِ وَالتَّرْكِ، لِأَنَّ المعنى يكون: الطلاق مرتين فَبَعْدَهُمَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِمْسَاكُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّدِّ، وَإِمَّا التَّسْرِيحُ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ التَّخْلِيَةِ. وَاسْتِمْرَارِ التَّسْرِيحِ لَا إِنْشَاءِ التَّسْرِيحِ، وَإِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى إِيقَاعِ التَّسْرِيحِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ الْمُعَبَّرِ بِهِ عَنِ الرَّدِّ، فَإِنْ قُدِّرَ شَرْطٌ مَحْذُوفٌ، وَجُعِلَ: فَإِمْسَاكٌ، جَوَابًا لِذَلِكَ الشَّرْطِ، وَجُعِلَ الْإِمْسَاكُ كِنَايَةً عَنِ اسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِالتَّسْرِيحِ إِنْشَاءُ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِنْ أَوْقَعَ التَّطْلِيقَتَيْنِ وَرَدَّ الزَّوْجَةَ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، لِأَنَّ الرَّدَّ يَعْتَقِبُهُ أَحَدُ هَذَيْنِ، إِمَّا الِاسْتِمْرَارُ عن الزَّوْجِيَّةِ، فَيَكُونُ بِمَعْرُوفٍ، وَإِمَّا الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ وَيَكُونُ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) مَا مُلَخَّصٌ مِنْهُ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، قَالَ قَوْمٌ هُوَ مُبْتَدَأٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّطْلِيقَ الشَّرْعِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تطليقة بعد تطليقة على التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أُبَيٍّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ الطَّلَاقِ مَرَّتَانِ، وَمَرَّةٌ ثَالِثَةٌ، وَهَذَا يُفِيدُ التَّفَرُّقَ لِأَنَّ الْمَرَّاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَفَرُّقِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَفْظُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا قَالُوا: لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ، اخْتَلَفُوا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَيْتِ: لَا يَقَعُ إِلَّا الْوَاحِدَةُ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَالْقَوْلُ؟؟؟ إِدْخَالٌ لِتِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ مَا لَفَظَ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مَرَّتَانِ، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ قَبْلَهَا ذَكَرَ فِيهَا أَنَّ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ ثَابِتٌ دَائِمًا أَوْ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُبَيِّنِ، أَوْ كَالْعَامِّ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُخَصِّصِ، فَبَيَّنَ مَا ثَبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَهُوَ: أَنْ يُوجَدَ طَلْقَتَانِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ. فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الطَّلَاقِ، لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ، وَرَجَحَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ احْتَاجَ إِلَى مُخَصِّصٍ، أَوْ مُجْمَلًا لِعَدَمِ بَيَانِ شَرْطٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ عِنْدَهُ افْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ، فَجَعْلُهَا مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا مُحَصِّلٌ لِلْمُخَصِّصِ أَوْ لِلْمُبَيِّنِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا تَأْخِيرُهُ فَالْأَرْجَحُ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، وَبِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى ذَلِكَ يُدْخِلُ سَبَبَ النُّزُولِ فِيهِ، وَحَمْلَهُ عَلَى تَنْزِيلِ حُكْمٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ يُخْرِجُهُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَارِجًا عَنِ الْعُمُومِ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَيْضًا مَا مُلَخَّصٌ مِنْهُ: مَعْنَى التَّسْرِيحِ قَبْلَ وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَبْلَ تَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ حَتَّى تَبِينَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها تَقْتَضِي وُقُوعَ هَذِهِ الطَّلْقَةِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ ذَلِكَ التَّسْرِيحِ، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الثَّالِثَةُ لَكَانَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ بَعْدَهُ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُلْعُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَعْدَ الثَّلَاثِ، فَإِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلتَّسْرِيحِ هُنَا أَنَّهَا الثَّالِثَةُ، فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. انْتَهَى مَا قُصِدَ تَلْخِيصُهُ مِنَ (الْمُنْتَخَبِ) . وَلَا يَلْزَمُ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا رَابِعَةً، كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ فَرَضَ التَّسْرِيحَ وَاقِعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَ مَرَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَرُدَّ وَيُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ، وَالْآخَرُ أَنْ يُسَرِّحُ بَعْدَ الرَّدِّ بِإِحْسَانٍ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ وَقَعَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: وَهُوَ الطَّلَاقُ، فَحُكْمُهُ كَذَا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَاقِعُ مُغَايِرًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ السَّابِقَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: الرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تُقِيمَ أَوْ تَرْحَلَ، فَإِنْ رَحَلْتَ كَانَ كَذَا، فَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: فَإِنْ رَحَلْتَ عَلَى أَنَّهُ رَحِيلٌ غَيْرُ الْمُتَرَدَّدِ فِي حُصُولِهِ، وَلَا يَدُلُّ التَّرَدُّدُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالرَّحِيلِ عَلَى وُقُوعِ الرَّحِيلِ، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَا ذُكِرَ مِنْ تَرَتُّبِ الْخُلْعِ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، بَلْ ذَكَرَ الْخُلْعَ قَبْلَ ذِكْرِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، لِأَنَّهُ

بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها وَأَيْضًا لَوْ سَلَّمْنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ لِتَبْيِينِ حُكْمِ الْخُلْعِ، وَإِنْشَاءِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَكَوْنُهَا سِيقَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ فِي التِّلَاوَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ إِلَّا لَوْ صَرَّحَ بِقَيْدٍ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْخُلْعِ فِي الْوُجُودِ عَنْ وُجُودِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ. وَارْتِفَاعُ قَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُتَأَخِّرًا تَقْدِيرُهُ: أَمْثَلُ وَأَحْسَنُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ مُتَقَدِّمًا أَيْ: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، وَجَوَّزَ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَالْوَاجِبُ إِمْسَاكٌ، وَ: بمعروف، وبإحسان، يَتَعَلَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا يَلِيهِ مِنَ الْمَصْدَرِ، وَ: الْبَاءُ، لِلْإِلْصَاقِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَقَالُوا: يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ نَصْبُ إِمْسَاكٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ، عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: فَأَمْسِكُوهُنَّ إِمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْآيَةَ. سَبَبُ النُّزُولِ أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ وَهُوَ يُحِبُّهَا، فَشَكَتْهُ إِلَى أَبِيهَا فَلَمْ يَشْكُهَا، ثُمَّ شَكَتْهُ إِلَيْهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَبِهَا أَثَرُ ضَرْبٍ فَلَمْ يَشْكُهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَتْهُ إِلَيْهِ وَأَرَتْهُ أَثَرَ الضَّرْبِ، وَقَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَهُ شَيْءٌ، وَاللَّهِ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، لَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ مَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، إِنِّي رَفَعْتُ جَانِبَ الْخِيَامِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ سَوَادًا، وَأَقْصَرُهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحُهُمْ وَجْهًا، فَقَالَ ثَابِتٌ: مَا لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا بَعْدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَعْطَيْتُهَا حَدِيقَةً تَرُدُّهَا عَلَيَّ، وَأَنَا أُخَلِّي سَبِيلَهَا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَخَلَّى سَبِيلَهَا، وَكَانَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ أَوِ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مِنَ الإحسان أن لا يَأْخُذَ الزَّوْجُ مِنَ امْرَأَتِهِ شَيْئًا مِمَّا أَعْطَى وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ قِصَّةَ الْخُلْعِ، فَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ، وَكَمَا قال اللَّهُ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «1» الْآيَةَ، وَالْخِطَابُ فِي: لكم،

_ (1) سورة: النساء: 4/ 20.

وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالْإِيتَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ حَقِيقَةٌ، فَنُهُوا أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِشُحِّ النَّفْسِ وَطَلَبِهَا مَا أَعْطَتْ عِنْدَ الشِّقَاقِ وَالْفِرَاقِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ لِيَلْتَئِمَ مَعَ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمْ لَا لِلْأَزْوَاجِ، وَنَسَبَ الْأَخْذَ وَالْإِيتَاءَ إِلَيْهِمْ عِنْدَ التَّرَافُعِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْضُونَ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ أَجَابَ بِأَنَّ الْخِطَابَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ، فَيُفْرَدُ كُلُّ خِطَابٍ إِلَى مَنْ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ مِثْلُ هَذَا، وَيَكُونُ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذْ ذَاكَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، ومِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِ مَا آتَوْا عَلَى سَبِيلِ الصَّدَاقِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ هِبَةٍ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بالصدقات، واللفظ عام، وشَيْئاً إِشَارَةٌ إِلَى خَطَرِ الْأَخْذِ مِنْهُنَّ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وشَيْئاً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ فَتَعُمُّ، وَ: مِمَّا، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تَأْخُذُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ نَعْتًا لَهُ. إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي يَخَافَا وَيُقِيمَا عَائِدٌ عَلَى صِنْفَيِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَائِبٌ، وَأُسْنِدَ إِلَيْهِمَا حُكْمٌ كَانَ التَّغْلِيبُ لِلْمُخَاطَبِ، فَتَقُولُ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَخْرُجَانِ، وَلَا يَجُوزُ يَخْرُجَانِ، وَكَذَلِكَ مَعَ التَّكَلُّمِ نَحْوَ: أَنَا وَزَيْدٌ نَخْرُجُ، وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُضِيِّ الْجُمْلَةِ لِلْخِطَابِ جَازَ الِالْتِفَاتُ، وَلَوْ جَرَى عَلَى النَّسَقِ الْأَوَّلِ لَكَانَ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا أَنْ لَا تُقِيمُوا، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ إِذْ ذَاكَ عَائِدًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَعَلَى أَزْوَاجِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَيْ: صِنْفَا الزَّوْجَيْنِ، تَرْكَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، بِمَا يَحْدُثُ مِنْ بُغْضِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا حَتَّى تَكُونَ شِدَّةُ الْبُغْضِ سَبَبًا لِمُوَاقَعَةِ الْكُفْرِ، كَمَا فِي قِصَّةِ جَمِيلَةَ مَعَ زوجها ثابت، وأَنْ يَخافا قِيلَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: إِلَّا خَائِفِينَ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ: أَنْ، مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا فِي إِجَازَتِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَنْقَاسُ، فَأَحْرَى مَا وَقَعَ مَوْقِعُهُ، وَهُوَ: أَنْ الفعل، وَيَكْثُرُ الْمَجَازُ فَإِنَّ الْحَالَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ: أَنْ وَالْفِعْلَ، الْوَاقِعَانِ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَدْ مَنَعَ سِيبَوَيْهِ وُقُوعَ: أَنْ وَالْفِعْلِ، حَالًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ: هَذَا بَابُ مَا يُخْتَارُ فِيهِ الرَّفْعُ وَيَكُونُ فِيهِ الْوَجْهُ فِي جَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِسَبَبِ خَوْفِ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ

اللَّهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْمُبِيحُ لَكُمُ الْأَخْذَ، وَيَكُونُ حَرْفُ الْعِلَّةِ قَدْ حُذِفَ مَعَ: أَنْ، وَهُوَ جَائِزٌ فَصِيحًا كَثِيرًا، وَلَا يَجِيءُ هُنَا، خِلَافَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، أَنَّهُ إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مِنْ: أَنْ، هَلْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟ بَلْ هَذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ لَوْ صُرِّحَ بِهِ كَانَ مَنْصُوبًا، وَاصِلًا إِلَيْهِ الْعَامِلُ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُقَدَّرُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ: أَنْ وَالْفِعْلَ، إِذَا كَانَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، فَالْمَوْضِعُ نَصْبٌ لَا غَيْرَ، مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ. وَمَعْنَى الْخَوْفِ هُنَا الْإِيقَانُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَوِ: الْعِلْمُ أَيْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَا، قَالَهُ ابْنُ سَلَمَةَ، وَإِيَّاهُ أَرَادَ أَبُو مِحْجَنٍ، بِقَوْلِهِ: أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا وَلِذَلِكَ رَفَعَ الْفِعْلَ بَعْدَ: أَنْ، أَوِ: الظَّنُّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أُبَيٌّ: إِلَّا أَنْ يَظُنَّا، وَأَنْشَدَ: أَتَانِي كَلَامُ مَنْ نُصِيبُ بِقَوْلِهِ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلَّامَ أَنَّكَ عَايِبِي وَالْأَوْلَى بَقَاءُ الْخَوْفِ عَلَى بَابِهِ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَذَرُ مِنَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ. أَوْ يَظُنَّ أَوْ يُوقِنَ أَوْ يَحْذَرَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ، أَنْ لا يقيم حقوق الزوجة لِصَاحِبِهِ حَسْبَمَا يَجِبُ، فَيَجُوزُ الْأَخْذُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَّا أن يخافوا أن لَا يُقِيمُوا حُقُوقَ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْأَزْوَاجُ وَالزَّوْجَاتُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَيْهِ النَّسَقُ الْأَوَّلُ لَكَانَ بِالتَّاءِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ أَيْضًا: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَيَزِيدُ بن القعقاع إِلَّا أَنْ يُخَافُوا، بِضَمِّ الْيَاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ المحذوف: الولاة. وأن لَا يُقِيمَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ: إلا أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، كَمَا تَقُولُ: الزَّيْدَانُ أَعْجَبَانِي حُسْنُهُمَا، وَالْأَصْلُ: إِلَّا أَنْ يَخَافُوا، أَنَّهَا: الْوُلَاةُ، عَدَمَ إِقَامَتِهِمَا حُدُودَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قِرَاءَةٍ يُخَافَا بِالضَّمِّ، أَنَّهَا تَعَدَّتْ خَافَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ بِمَحْذُوفٍ، فَمَوْضِعُ أَنْ خَفْضُ الْجَارِّ الْمُقَدَّرِ عِنْدَ

سِيبَوَيْهِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَنُصِبَ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ الْمُقَدَّرُ وَصَلَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، مِثْلَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا، وَأَمَرْتُكَ الْخَيْرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ نَصُّ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ، إِلَّا التَّنْظِيرَ بِأَسْتَغْفِرُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ تَنْظِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ خَافَ بِأَسْتَغْفِرُ، لِأَنَّ خَافَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، كَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ حِينَ عَدُّوا مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَأَصْلُ أَحَدِهِمَا بِحَرْفِ الْجَرِّ، بَلْ إِذَا جَاءَ: خِفْتُ زَيْدًا ضَرْبَهُ عَمْرًا، كَانَ ذَلِكَ بَدَلًا، إِذْ: مِنْ ضَرْبِهِ عَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَقَدْ وَهِمَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي نِسْبَةِ أَنَّ الْمَوْضِعَ خَفْضٌ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالَّذِي نَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَوْضِعَ بَعْدَ الْحَذْفِ نَصْبٌ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْخَلِيلِ أَنَّهُ جَرٌّ، وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ. وَقَدَّرَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ ذَلِكَ الْحَرْفَ الْمَحْذُوفَ: عَلَى، فَقَالَ: وَالتَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ يَخَافَا عَلَى أَنْ يُقِيمَا، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أن يصح قول أبي عَلِيٍّ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ تَوْجِيهَ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فِي اللَّفْظِ وَفِي الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهَا قَوْلُهُ بَعْدُ: فَإِنْ خِفْتُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ الْمُتَوَقَّعَ هُوَ مِنْ غَيْرِ الْأَزْوَاجِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّفَّارُ: مَا عَلِمْتُ فِي اخْتِيَارِ حَمْزَةَ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ الْإِعْرَابُ وَلَا اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى، أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنْ يَحْتَجَّ لَهُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِلَّا أَنْ يُخَافُوا أَنْ لَا يُقِيمُوا، فَهُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِذْ ذَاكَ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَوْ قِيلَ إِلَّا أَنْ يُخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا؟ وَقَدِ احْتَجَّ الْفَرَّاءُ لِحَمْزَةَ، وَقَالَ: إِنَّهُ اعْتَبَرَ قِرَاءَةَ عَبْدِ الله: إلا أن يخافوا، وَخَطَّأَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ: لَمْ يُصِبْ، لِأَنَّ الْخَوْفَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَاقِعٌ عَلَى: أَنْ وَفِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَاقِعٌ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ خِيفَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظِ: فَإِنْ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَ غَيْرُكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ جَلَّ وَعَزَّ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ مِنْهَا فِدْيَةً، فَيَكُونُ الْخُلْعُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا أَجَازَا الْخُلْعَ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ. انْتَهَى كَلَامُ الصَّفَّارِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَلْزَمُ، وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الضَّمِّ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ وجب على الحكام منه مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَخَافَا، فالضمير لِلزَّوْجَيْنِ، وَالْخَائِفُ مَحْذُوفٌ وَهُمُ: الْوُلَاةُ وَالْحُكَّامُ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أن يَخَافُ الْأَوْلِيَاءُ الزَّوْجَيْنِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَيَجُوزُ الِافْتِدَاءُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَوْفِ هُنَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ خِيفَا فَلَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ فَتْحِ الْيَاءِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ الصَّفَّارِ أَنْ يُقْرَأَ: فَإِنْ خَافَا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَأَمَّا تَخْطِئَةُ الْفَرَّاءِ فَلَيْسَتْ صَحِيحَةً، لِأَنَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ الله: إلا أن يخافوا، دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِلَّا أَنْ يَخَافُوهُمَا أَنْ لَا يُقِيمَا، وَالْخَوْفُ وَاقِعٌ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ عَلَى أَنْ، لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِهِمَا، وَهُوَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ، فَلَيْسَ عَلَى مَا تَخَيَّلَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: خِيفَ زَيْدٌ شَرُّهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَبْعُدُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ لَهُمَا الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَتَى ظَنُّوا أَوْ أَيْقَنُوا تَرْكَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُمُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الضَّمِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ، فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجَيْنِ لَقَالَ: فَإِنْ خَافَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قوله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إِلَى آخِرِهِ، جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ. فَإِنْ خِفْتُمْ: الضَّمِيرُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوِ السُّلْطَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَلِصُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ مَنْ قَامَ بِهِ أَجْزَأَ. أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتَرْكُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ هُوَ ظُهُورُ النُّشُوزِ وَسُوءُ الْخُلُقِ مِنْهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَوْ عَدَمُ طَوَاعِيَةِ أَمْرِهِ وَإِبْرَارِ قَسَمِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ: وَإِظْهَارُ حَالِ الْكَرَاهَةِ لَهُ بِلِسَانِهَا، قَالَهُ عَطَاءٌ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ قِيلَ: تَكُونُ التَّثْنِيَةُ أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِدُ، أَوْ كَرَاهَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَلَا يُقِيمُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ، قاله طاووس، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ التَّثْنِيَةُ عَلَى بَابِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً نَشَزَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَبَيَّتَهَا فِي اصْطَبْلٍ فِي بَيْتِ الزِّبْلِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ دَعَاهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ مَكَانَكِ فَقَالَتْ مَا رَأَيْتُ لَيَالِيَ أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْهَا، وَمَا وَجَدْتُ الرَّاحَةَ مُذْ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيَالِي. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَأَبِيكُمُ النُّشُوزُ، وَقَالَ لِزَوْجِهَا اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا، اخْتَلِعْهَا بِمَا دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا، فَلَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، قَالُوا: وَهُوَ يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ

أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِحُضُورِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ وَلِيٍّ، وَخَوْفُهُ تَرْكَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، وَمَا قَالُوهُ مِنَ اقْتِضَاءِ الْمَفْهُومِ وُجُودَ الْخَوْفِ صَحِيحٌ، أَمَّا الْحُضُورُ فَلَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَخَصَّ الْحَسَنُ الْخُلْعَ بِحُضُورِ السُّلْطَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي: عَلَيْهِمَا، عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ مَعًا، أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَى الزَّوْجِ فِيمَا أخذ، وَلَا عَلَى الزَّوْجَةِ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَيْهِمَا، أَيْ: عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا «1» أَيِ: الْمَالِحُ ونَسِيا حُوتَهُما «2» وَالنَّاسِي يُوشَعُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الْعُمُومُ بِصَدَاقِهَا، وَبِأَكْثَرَ منه، وبكل مالها قاله عمر، وابنه وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ وَقِيلَ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنَ الصَّدَاقِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ مِنْهُ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، وطاووس، وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الرَّبِيعِ، وَكَانَ يَقْرَأُ، هُوَ وَالْحَسَنُ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْهُ، بِزِيَادَةِ: مِنْهُ، يَعْنِي مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ، وَهُوَ الْمَهْرُ وَحَكَى مَكِّيٌّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: بِبَعْضِ صَدَاقِهَا، وَلَا يَجُوزُ بِجَمِيعِهِ إِذَا دَخَلَ بِهَا حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِيَكُونَ بَدَلًا عَنِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ تَشْرِيكُهُمَا فِي تَرْكِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَأَنَّ جَوَازَ الْأَخْذِ مَنُوطٌ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعًا. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا بَعْدَ الْخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَعْتَدُوها ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ، وَأَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ مَالِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ وَفَسَادُ الْعِشْرَةِ مِنْ قِبَلِهَا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِّينَا مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْقَاسِمِ، وَعُرْوَةَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: إِنْ كَانَ مَعَ فَسَادِ الزَّوْجَةِ وَنُشُوزِهَا فَسَادٌ مِنَ الزَّوْجِ،

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 22. (2) سورة الكهف: 18/ 61.

وَتَفَاقَمَ مَا بَيْنَهُمَا، فَالْفِدْيَةُ جَائِزَةٌ لِلزَّوْجِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ، لَوْ تَرَكَ فَسَادَهُ لَمْ يَزَلْ نُشُوزُهَا هِيَ، وَأَمَّا إِنِ انْفَرَدَ الزَّوْجُ بِالْفَسَادِ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يُجِيزُ لَهُ الْفِدْيَةَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جَاءَ الظُّلْمُ وَالنُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ، فَخَالَعَتْهُ، فَهُوَ جَائِزٌ مَاضٍ، وَهُوَ آثِمٌ لَا يَحِلُّ مَا صَنَعَ، وَلَا يَرُدُّ مَا أَخَذَ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُهُ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْضِي الطَّلَاقُ إِذْ ذَاكَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهَا مَالَهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فِي مَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مَرِيضَةٌ: إِنْ كَانَتْ نَاشِزَةً كَانَ فِي ثُلُثِهَا، أَوْ غَيْرَ نَاشِزَةٍ رَدَّ عَلَيْهَا وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، قَالَ: وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْهَا، وَلَمْ يَبِنْ مِنْهَا نُشُوزٌ، لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا، أَوْ مِنْ قِبَلِهَا فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقَعِ الْخَوْفُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُعْطِيَ عَلَى الْفِرَاقِ، وَشَذَّ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا خُلْعًا، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ «1» الْآيَةَ، وَضَعُفَ قَوْلُهُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى إِجَازَةِ الْفِدْيَةِ، وَبِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَرِنَ بِآيَةِ الْفِدْيَةِ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي فِي آيَةِ إِرَادَةِ الِاسْتِبْدَالِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الضَّرَرُ، والمجهول، كالثمر الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، وَمَا يُثْمِرُهُ نَخْلُهَا، وَمَا تَلِدُهُ غَنَمُهَا وَإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ؟ وَكُلُّ هَذَا وَمَا فَرَّعُوا عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. قَالُوا: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، لِقَوْلِهِ بَعْدُ فَإِنْ طَلَّقَها وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ الثَّالِثَةُ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ قَبْلَهَا طَلَاقًا لَكَانَتْ رَابِعَةً، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ قَالَهُ ابن عباس، وطاووس، وَعِكْرِمَةُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: أَنَّهُ طَلَاقٌ ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا يَدُلُّ ظَاهِرُهَا عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ كَمَا ذَكَرُوا، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لبيان أحكام

_ (1) سورة النساء: 4/ 20.

[سورة البقرة (2) : آية 230]

الْخُلْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لَهُ، أَهُوَ فَسْخٌ أَمْ طَلَاقٌ؟ فَلَوْ نَوَى تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مَا نَوَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ إِلَى هُنَا، وَإِبْرَازُ الْحُدُودِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ، لَا بِالضَّمِيرِ، دَلِيلٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي تَكْرَارِ الْإِضَافَةِ تَخْصِيصٌ لَهَا وَتَشْرِيفٌ، وَيَحْسُنُ التَّكْرَارُ بِالظَّاهِرِ كَوْنَ ذَلِكَ فِي جُمَلٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَ: تِلْكَ، مُبْتَدَأٌ، وَ: حُدُودُ اللَّهِ، الْخَبَرُ. وَمَعْنَى: فَلَا تَعْتَدُوهَا، أَيْ: لَا تُجَاوِزُوهَا إِلَى مَا لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِهِ. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لَمَّا نَهَى عَنِ اعْتِدَاءِ الْحُدُودِ، وَهُوَ تَجَاوُزُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ خِطَابًا لِمَنْ سَبَقَ لَهُ الْخِطَابُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِمَّنْ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ الظَّالِمُونَ، وَالظُّلْمُ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَشَمِلَ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِينَ. قِيلَ: وَغَيْرَهُمْ. وَ: مَنْ، شَرْطِيَّةٌ، وَالْفَاءُ فِي: فَأُولَئِكَ، جواب الشرط، و: حمل يَتَعَدَّ عَلَى اللَّفْظِ، فَأُفْرِدَ، وَ: أُولَئِكَ، عَلَى الْمَعْنَى. فَجُمِعَ وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: هُمْ، وَأَتَى فِي قَوْلِهِ: الظَّالِمُونَ، بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْحَصْرَ، أَوِ الْمُبَالَغَةَ فِي الْوَصْفِ، وَيُحْتَمَلُ: هُمْ، أَنْ تَكُونَ فَصْلًا مُبْتَدَأً وَبَدَلًا. [سورة البقرة (2) : آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) فَإِنْ طَلَّقَها يَعْنِي الزَّوْجَ الَّذِي طَلَّقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ سَرَّحَهَا التَّسْرِيحَةَ الثَّالِثَةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ. وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخُ عِصْمَةٍ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ لِلطَّلَاقَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ، ثُمَّ ذَكَرَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الطَّلَاقَيْنِ، وَلَمْ يَكُ لِلْخُلْعِ حُكْمٌ يُعْتَدُّ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ يَرَاهُ طَلَاقًا فَقَالَ: هَذَا اعْتِرَاضٌ بَيِّنُ الطَّلْقَتَيْنِ وَالثَّالِثَةُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ

شَيْءٍ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ إِلَّا بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَهُوَ حُكْمٌ صَالِحٌ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ طَلْقَةٍ طَلْقَةُ وُقُوعِ آيَةِ الْخُلْعِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حُكْمِيَّةٌ، أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ لَا يَصْلُحَانِ إِلَّا قَبْلَ الثَّالِثَةِ، فَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَا يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ كَالْخَاتِمَةِ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَذَا الطَّلَاقِ الثَّالِثِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وَالنِّكَاحُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى الْوَطْءِ، فَحَمَلَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَذَكَرَهُ النَّحَّاسُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ، وَقَالَ: إِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا الثَّانِي حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْمَشْهُورِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَحِلُّ إِلَّا الْوَطْءُ وَالْإِنْزَالُ، وَهُوَ ذَوْقُ الْعَسِيلَةِ. وَقَالَ بَاقِي الْعُلَمَاءِ: تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ يُحِلُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ يُحِلُّ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِلْقَوْلِ قَبْلَهُ، إِذْ لَا يَلْتَقِيَانِ إِلَّا مَعَ الْمَغِيبِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ جَائِزٌ، إِذْ لَمْ يَعْنِي الْحِلَّ إِلَّا بِنِكَاحِ زَوْجٍ، وَهَذَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ نِكَاحُ زَوْجٍ فَهُوَ جَائِزٌ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَدَاوُدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ فِي رِوَايَةٍ، وَالثَّوْرِيِّ فِي رِوَايَةٍ. وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْجَدِيدِ الْمِصْرِيِّ) إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ التَّحْلِيلَ فِي حِينِ الْعَقْدِ، وَقَالَ الْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَرَبِيعَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعْدٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحَلِّلَهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجَانِ، وَهُوَ مَأْجُورٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَا يَجُوزُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ عَلِمَا أَمْ لَمْ يَعْلَمَا. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ بَطَلَ الشَّرْطُ، وَجَازَ النِّكَاحُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي ذَلِكَ وَفِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا عَلِمَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ فَسَدَ النِّكَاحُ. وَفِي قَوْلِهِ: زَوْجًا غَيْرَهُ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّاكِحَ يَكُونُ زَوْجًا، فَلَوْ كَانَتْ أَمَةً وَطُلِّقَتْ ثَلَاثًا، أَوِ اثْنَتَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، ثُمَّ وَطِئَهَا سَيِّدُهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَعُبَيْدَةُ، وَمَسْرُوقٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَجَابِرٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو زِيَادٍ، وَجَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالزُّبَيْرِ أَنَّهُ يُحِلُّهَا إِذَا غَشِيَهَا غَشَيَانًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ مُخَادَعَةً وَلَا إِحْلَالًا، وَتَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا بِخِطْبَةٍ وَصَدَاقٍ. وَفِي قَوْلِهِ: زَوْجًا، دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَهِيَ أَمَةٌ وَوَهَبَهَا السَّيِّدُ لَهُ

بَعْدَ بَتِّ طَلَاقِهَا، أَوِ اشْتَرَاهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَا بَتَّ طَلَاقُهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَلَى هَذَا جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وطاووس، وَالْحَسَنُ: تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَفِي قَوْلِهِ: زَوْجًا غَيْرَهُ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تزويج الذِّمِّيَّةَ الْمَبْتُوتَةَ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالثَّلَاثِ ذِمِّيٌّ، وَدَخَلَ بِهَا، وَطُلِّقَتْ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ: لَا يُحِلُّهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا، أَنَّهُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَلَوْ نُكِحَتْ نِكَاحًا فَاسِدًا لَمْ يَحِلَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عبيد، وأصحاب أبي حنيفة. وَقَالَ الْحَكَمُ: هُوَ زَوْجٌ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَالَتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ: قَدْ تَزَوَّجْتُ، وَدَخَلَ عَلَيَّ زَوْجِي وَصَدَّقَهَا. أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَفْعَلَ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهَا كَذَبَتْهُ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أن سمي زَوْجٍ كَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَوِيَّ النِّكَاحِ أَمْ ضَعِيفَهُ أَوْ صَبِيًّا أَوْ مُرَاهِقًا أَوْ مَجْبُوبًا بَقِيَ لَهُ مَا يُغَيِّبُهُ كَمَا يُغَيِّبُ، غَيْرُ الْخَصِيِّ، وَسَوَاءً أَدْخَلَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِهَا، وَكَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ صَائِمَةً، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَوْ وَطِئَهَا نَائِمَةً أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَمْ تَحِلَّ لِمُطَلِّقِهَا، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الزَّوْجِ إِلَّا بِخَمْسَةِ شَرَائِطَ: تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَيُعْقَدُ للثاني، ويطأها، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، وَتَعْتَدُّ مِنْهُ. وَكَوْنُ الْوَطْءِ شَرْطًا قِيلَ: ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَقِيلَ: بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُخْتَارُ. لِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ نَقَلَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً بِمَعْنَى عَقَدَ عَلَيْهَا. وَنَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَيْ: جَامَعَهَا. وَقَدْ مَرَّ لَنَا طُرُقٌ مِنْ هَذَا. قَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : بَعْدَ كَلَامٍ كَثِيرٍ مَحْصُولُهُ أَنَّ قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيره، يدل على تَقَدَّمَ الزَّوْجِيَّةَ. وَهِيَ الْعَقْدُ الْحَاصِلُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ النِّكَاحُ عَلَى مَنْ سَبَقَتْ زَوْجَتُهُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَنْكِحَ، دَالًّا عَلَى الْوَطْءِ، وَ: زَوْجًا: يَدُلُّ عَلَى

الْعَقْدِ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَتَقَدَّمَ الزَّوْجِيَّةُ بِجَعْلِ تَسْمِيَتِهِ زَوْجًا بِمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى مَنْ يَكُونُ زَوْجًا. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَيْضًا: أَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الْحِلِّ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةٍ، وَمَا كَانَ غَايَةً لِلشَّيْءِ يَجِبُ انْتِهَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ النِّكَاحِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ عِبَارَةً عَنِ الْعَقْدِ لَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ انْتِهَاءِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ، فَكَانَ رَفْعُهَا بِالْخَبَرِ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ، وَحَمَلْنَا قَوْلَهُ زَوْجًا عَلَى الْعَقْدِ، لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْإِشْكَالَ. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بخبر الواحد، لِأَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ: لَمْ يَجْعَلْ نَفْيَ الْحِلِّ مُنْتَهِيًا، إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ نِكَاحُهَا زَوْجًا غَيْرَهُ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ ذَلِكَ، بَلْ ثَمَّ مَعْطُوفَاتٍ، قَبْلَ الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهَا، وَهِيَ غَايَاتٌ أَيْضًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، وَتُعْقَدَ عَلَى زَوْجٍ غَيْرِهِ، وَيَدْخُلَ بِهَا، وَيُطَلِّقَهَا، وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَتَرَاجَعَا، فَقَدْ صَارَتِ الْآيَةُ مِنْ بَابِ مَا يَحْتَاجُ بَيَانُ الْحِلِّ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ وَتَبْيِينِهَا، وَدَلَّ عَلَى إِرَادَتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، وَبَيَّنَ هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَيْضًا مِنْ حَمْلِ النِّكَاحِ هُنَا عَلَى الْوَطْءِ أَنْ يُضْمَرَ قَبْلَهُ: حَتَّى تُعْقَدَ عَلَى زَوْجٍ وَيَطَأَهَا؟ فَلَا فَرْقَ فِي الْإِضْمَارِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الغاية المذكورة المراد به الْوَطْءُ، أَوْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا عَنْهَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ، فَهَذَا إِضْمَارٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. فَإِنْ طَلَّقَها قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى: زَوْجِ، النَّكِرَةِ، وَهُوَ الثَّانِي، وَأَتَى بِلَفْظِ: إِنْ، دُونَ إِذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَلَاقَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا يَخْطُرُ لَهُ دُونَ الشَّرْطِ. انْتَهَى. وَمَعْنَاهُ أَنَّ: إِذَا، إِنَّمَا تَأْتِي لِلْمُتَحَقِّقِ، وَإِنْ تَأْتِي لِلْمُبْهَمِ وَالْمُجَوَّزِ وُقُوعُهُ وَعَدَمُ وُقُوعِهِ، أَوْ لِلْمُحَقَّقِ الْمُبْهَمِ زَمَانُ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» وَالْمَعْنَى: فَإِنْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَيْ: عَلَى الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ الثَّلَاثَ وهذه

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 34.

الزَّوْجَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي وَالْمَرْأَةِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ أَفَادَتْ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ صَدْرِ الْآيَةِ، وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الثَّانِي الَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا، لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ، فَيَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا لِمَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا الثَّانِي حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، فَبِكَوْنِهَا حَلَّتْ لَهُ اخْتَصَّتْ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَرُدَّهَا، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا مُبَيِّنًا أَنَّ حُكْمَ الثَّانِي حُكْمُ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ أَنَّ الْأَوَّلَ يُرَاجِعُهَا، بَلْ بِدَلِيلِ إِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ الثَّانِي فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ فِيمَنْ يَرْتَدُّ مِنْهُمَا أن يتزوجه، فَإِنْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَلِزَوْجِهَا الثَّانِي أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا وَيَحْتَاجَ إِلَى الْحَذْفِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي: عَلَيْهِمَا، عَائِدًا عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا وَعَلَى الزَّوْجَةِ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، أَيْ: فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّانِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا وَالزَّوْجَةِ أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَقَوْلُهُ: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: إِنْ ظَنَّ الزَّوْجُ الثَّانِي وَالزَّوْجَةُ أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكَادُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا عِنْدَ التَّشَاجُرِ وَالتَّخَاصُمِ وَالتَّبَاغُضِ، وَتَكُونُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا مُنْسَاقَةً انْسِيَاقًا وَاحِدًا لَا تَلْوِينَ فِيهِ، وَلَا اخْتِلَافَ مَعَ اسْتِفَادَةِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ حَمْلِ الضَّمَائِرِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ، بَلِ الَّذِي فَهِمُوهُ هُوَ تَكْوِينُ الضَّمَائِرِ وَاخْتِلَافُهَا. أَنْ يَتَراجَعا أَيْ: فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَالضَّمِيرُ فِي: عَلَيْهِمَا، وَفِي: أَنْ يَتَرَاجَعَا، عَلَى مَا فَسَّرُوهُ، عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالزَّوْجَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أهل العلم على أنه الْحُرُّ، إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا. ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا الْأَوَّلُ، أَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَكُونُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا، وَبِهِ قَالَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ ، وَأُبَيٌّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، ومعاذ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمِنَ الْأَئِمَّةِ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ نَصْرٍ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُونُ عَلَى نِكَاحٍ جَدِيدٍ بِهَدْمِ الزَّوْجِ الثَّانِي الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَشُرَيْحٌ، وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا عُبَيْدَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقِيلَ: قَوْلٌ ثَالِثٌ إِنْ دَخَلَ بِهَا الْآخَرُ فَطَلَاقٌ جَدِيدٌ، وَنِكَاحُ الْأَوَّلِ جَدِيدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بِهَا فَعَلَى مَا بَقِيَ. إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ إِنْ ظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ يُحْسِنُ عِشْرَةَ صَاحِبِهِ، وَمَا يَكُونُ لَهُ التَّوَافُقُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّهَا اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ ذكرنا طرقا مِمَّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ «1» وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، يَعْنِي أَصْحَابَ مَالِكٍ، هَلْ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِغَيْرِ الْوَطْءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهَا خِدْمَةُ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةَ الْمَحَلِّ، لِيَسَارِ أُبُوَّةٍ أَوْ تَرَفُّهٍ، فَعَلَيْهَا تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَنْزِلِ وَأَمْرِ الْخَادِمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَسِّطَةَ الْحَالِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَفْرِشَ الْفِرَاشَ وَنَحْوَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الكرد والديلم فِي بَلَدِهِنَّ كُلِّفَتْ مَا تكلفه نساءهم، وَقَدْ جَرَى أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُلْدَانِهِمْ، فِي قَدِيمِ الْأَمْرِ وَحَدِيثِهِ، بِمَا ذَكَرْنَا. أَلَا تَرَى أَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يُكَلَّفْنَ الطَّحْنَ وَالْخَبِيزَ وَالطَّبِيخَ وَفَرْشَ الْفِرَاشِ وَتَقْرِيبَ الطَّعَامِ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ امْرَأَةً امْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ إِذَا قَصَّرْنَ فِي ذَلِكَ. وَ: إِنْ ظَنَّا، شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ جَوَازُ التَّرَاجُعِ مَوْقُوفًا عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَلَاقُ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَالْآخَرُ: ظَنُّهُمَا إِقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: إِنْ لَمْ يَظُنَّا، وَمَعْنَى الظَّنِّ هُنَا تَغْلِيبُ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَى الْخَوْفِ فِي آيَةِ الْخُلْعِ مَعْنَى الظَّنِّ، لِأَنَّ مَسَاقَ الْحُدُودِ مَسَاقٌ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ الْمَعْنَى: أَيْقَنَّا، جَعَلَ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَضَعُفَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، إِذْ هُوَ مَغِيبٌ عَنْهُمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ فَسَّرَ الْعِلْمَ هُنَا بِالظَّنِّ فَقَدْ وَهِمَ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى: لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وَلَكِنْ: عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقُومُ زَيْدٌ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْغَدِ، وإنهم يَظُنُّ ظَنًّا. انْتَهَى كَلَامُهُ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 228.

وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ: أَنَّكَ لَا تَقُولُ عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، قَالُوا: إِنَّ أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ لَا يَعْمَلُ فيها فعلا تَحْقِيقٍ، نَحْوَ: الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالتَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي (الْإِيضَاحِ) : وَلَوْ قُلْتَ عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، فَنَصَبْتَ الْفِعْلَ: بأن، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ: أَنْ، لِأَنَّهَا مِمَّا قَدْ ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ: أَرْجُو أَنَّكَ تَقُومُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنْ يَجُوزَ أَنْ تَقُولَ: مَا عَلِمْتُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، فَأُعْمِلَ: عَلِمْتُ، فِي: أَنْ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ: عَلِمْتُ، قَدْ تُسْتَعْمَلُ وَيُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ: أَنْ، بَعْدَهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ وَيُرَادُ بِهَا الظَّنُّ الْقَوِيُّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِي: أَنْ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا وَلَا يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ قَوْلُهُ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ «1» فَالْعِلْمُ هُنَا إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ، لِأَنَّ الْقَطْعَ بِإِيمَانِهِنَّ غَيْرُ مُتَوَصَّلٍ إِلَيْهِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرِ ظَنٍّ ... وَتَقْوَى اللَّهِ مِنْ خَيْرِ الْمَعَادِ فَقَوْلُهُ: عِلْمَ حَقٍّ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ عِلْمِ حَقٍّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: غَيْرَ ظَنٍّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ: عَلِمْتُ وَهُوَ ظَانٌّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّ: عَلِمْتُ، قَدْ يَعْمَلُ فِي: أَنْ، إِذَا أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ قول جرير: نرضى عن اللَّهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ علموا ... أن لا يدانينا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ فَأَتَى بِأَنِ، النَّاصِبَةِ لِلْفِعْلِ بَعْدَ عَلِمْتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَثَبَتَ بِقَوْلِ جَرِيرٍ وَتَجْوِيزِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ: عَلِمَ، تَدْخُلُ عَلَى أَنِ النَّاصِبَةِ، فَلَيْسَ بِوَهْمٍ، كَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ ظَنًّا، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلِ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا يَكُونُ فِي الْغَدِ، وَيَجْزِمُ بِهَا وَلَا يَظُنُّهَا. وَالْفَاءُ فِي: فَلَا تَحِلُّ، جَوَابُ الشَّرْطِ، وله، ومن بعد، وحتى، ثَلَاثَتُهَا تَتَعَلَّقُ بِتَحِلَّ، وَاللَّامُ مَعْنَاهَا التَّبْلِيغُ، وَمِنْ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَحَتَّى لِلتَّعْلِيلِ. وَبُنِيَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ مِنْ بَعْدِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، وَزَوْجًا أُتِيَ بِهِ لِلتَّوْطِئَةِ، أَوْ لِلتَّقْيِيدِ أَظْهَرُهُمَا الثاني فإن كان

_ (1) سورة الممتحنة: 60/ 10.

لِلتَّوْطِئَةِ لَا لِلتَّقْيِيدِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ لأن الإنسان أكثر ما يتزوج الحرائر، ويصير لفط الزَّوْجِ كَالْمُلْغَى، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أن الْأَمَةَ إِذَا بَتَّ طَلَاقُهَا وَوَطِئَهَا سَيِّدُهَا حَلَّ لِلْأَوَّلِ نِكَاحُهَا، إِذْ لَفْظُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِقَيْدٍ وَإِنْ كَانَ لِلتَّقْيِيدِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَلَا يُحَلِّلُهَا وَطْءُ سَيِّدِهَا. وَالْفَاءُ فِي: فَلَا جُنَاحَ، جَوَابُ الشرط قبله، وعليهما، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، أَمَّا الْمَجْمُوعُ: جُنَاحٌ، إِذْ هُوَ مُبْتَدَأٌ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ: لَا، عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ: وأن يَتَرَاجَعَا، أَيْ: فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَالْخِلَافُ بَعْدَ حَذْفِ: فِي، أَبْقَى: أَنْ، مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وَ: أَنْ يُقِيمَا، فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ سَدَّ مَسَدَّهُمَا لِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ تِلْكَ: مُبْتَدَأٌ، وَ: حُدُودُ خَبَرٌ، وَ: يُبَيِّنُهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُبَيِّنَةً، وَالْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَذُو الْحَالِ: حُدُودُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» وَ: لقوم، متعلق: بيبينها، وَ: تِلْكَ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وقرىء: نُبَيِّنُهَا، بِالنُّونِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُرْوَى عَنْ عَاصِمٍ. وَمَعْنَى التَّبَيُّنِ هُنَا: الْإِيضَاحُ، وَخَصَّ الْمُبَيَّنَ لَهُمْ بِالْعِلْمِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِنْ كَانَ التَّبَيُّنُ بِمَعْنَى خَلْقِ الْبَيَانِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ الْمُبَيَّنِ لَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ مَنْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ لَا يُخْلَقُ فِي قَلْبِهِ التَّبْيِينُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نَهْيَ اللَّهِ عِبَادَهُ عَنِ ابْتِذَالِ اسْمِهِ تَعَالَى، وَجَعْلِهِ كَثِيرَ التَّرْدَادِ، وَعَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي أَقْسَامِهِمْ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوًى وَإِصْلَاحٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُبَالَغَةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي أَقْسَامِهِمْ عَلَى مَا يُنَافِي الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالصَّلَاحَ بِجِهَةِ الْأَحْرَى، وَالْأَوْلَى، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَدَمُ مُبَالَاةٍ واكتراث بالمقسم بِهِ، إِذِ الْأَيْمَانُ مُعَرَّضَةٌ لِحِنْثِ الْإِنْسَانِ فِيهَا كَثِيرًا، وَقَلَّ أَنْ يُرَى كَثِيرُ الْحَلِفِ إِلَّا كَثِيرَ الْحِنْثِ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ.

_ (1) سورة النمل: 27/ 52. [.....]

ولما تقدم النهي عن مَا ذَكَرْنَاهُ، سَامَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَا كَانَ يَسْبِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ اللَّغْوِ، وَعَدَمِ الْقَصْدِ لِلْيَمِينِ، لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، وَكَسَبَهُ الْقَلْبُ بِالتَّعَهُّدِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ مِنْ صِفَةِ الْغُفْرَانِ وَالْحِلْمِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ مَعَ النِّسَاءِ ذَكَرَ حُكْمَ الْإِيلَاءِ مَعَ النِّسَاءِ، وَهُوَ: الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهِنَّ، فَجَعَلَ لِذَلِكَ مُدَّةً، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَقْصَى مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا غَالِبًا، ثُمَّ بَعْدَ انْتِظَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَانْقِضَائِهَا إِنْ فَاءَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لَا يُؤَاخِذُهُ بَلْ يُسَامِحُهُ فِي تِلْكَ الْيَمِينِ، وَإِنْ عَزَمَ الطَّلَاقَ أَوْقَعَهُ. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الطَّلَاقِ اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْ أَحْكَامِهِ فَذَكَرَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ وَأَنَّهَا: ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَدَلَّ ذِكْرُ الْقُرْءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطَلَّقَاتِ هُنَّ النِّسَاءُ اللَّوَاتِي يَحِضْنَ وَيَطْهُرْنَ، وَلَمْ يُطَلَّقْنَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَا هُنَّ حَوَامِلُ، وَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ هَذِهِ الْمُخَصَّصَاتِ آيَاتٌ أُخَرُ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ كِتْمَانُ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، فَعَمَّ الدَّمَ وَالْوَلَدَ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَكْتُمْنَ ذَلِكَ لِأَغْرَاضٍ لَهُنَّ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَهُوَ الْخَالِقُ مَا فِي أَرْحَامِهِنَّ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْحِسَابُ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى مَا يَرْتَكِبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَمُخَالَفَتِهِ فِيمَا شَرَعَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ الَّذِينَ طَلَّقُوهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَشَرَطَ فِي الْأَحَقِّيَّةِ إِرَادَةَ إِصْلَاحِ الْأَزْوَاجِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِرَجْعَتِهَا الضَّرَرَ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالرَّدِّ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ حُقُوقًا عَلَى الرَّجُلِ، مِثْلَ مَا أَنَّ لِلرَّجُلِ حُقُوقًا عَلَى الزَّوْجَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ بِإِيفَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لِلرَّجُلِ مَزِيدَ مَزِيَّةٍ وَدَرَجَةٍ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَيَكُونُ حَقُّ الرَّجُلِ أَكْثَرَ، وَطَوَاعِيَةُ الْمَرْأَةِ لَهُ أَلْزَمَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الدَّرَجَةَ مَا هِيَ، وَيَظْهَرُ أَنَّهَا مَا يُؤْلَفُ مِنْ كَثْرَةِ الطَّوَاعِيَةِ، وَالِاهْتِبَالِ بِقَدْرِهِ، وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي عَرَفَهُ النَّاسُ فِي عَوَائِدِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ تَوَدُّدِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِوَصْفِ الْعِزَّةِ وَهِيَ: الغلبة، والقهر و: الحكمة، وَهِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُمَا الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا التَّكْلِيفُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ، هُوَ مَرَّتَانِ طَلْقَةٌ بَعْدَ طَلْقَةٍ وَبَعْدَ وُقُوعِ الطَّلْقَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا وَيُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ،

[سورة البقرة (2) : الآيات 231 إلى 233]

ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَ هَذَا حُكْمَ الْخُلْعِ، لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَبْلَ وُجُودِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَا يَنْبَغِي خُلْعٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بَيْنَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَهُ فِيهِ رَجْعَةٌ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الَّذِي يَبُتُّ الْعِصْمَةَ، وَذَكَرَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّهُ: لَا يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعًا، فَلَوْ خَافَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزِ الْخُلْعُ، هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. ثُمَّ نَهَى تَعَالَى عَنِ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ وَتَجَاوُزِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ تَعَدَّاهَا ظَالِمٌ، قَالَ تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَها يَعْنِي: ثَلَاثَةً، وَالْمَعْنَى، إِنْ أَوْقَعَ التَّسْرِيحَ الْمُرَدَّدَ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي، وَأَرَادَ الْأَوَّلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَلَهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ شَرَطَ فِي هَذَا التَّرَاجُعِ ظنهما إقامة حدود الله، فمن لَمْ يَظُنَّا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا، هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُوَضِّحُ آيَاتِهِ لِقَوْمٍ مُتَّصِفِينَ بِالْعِلْمِ، أَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا يَتَّضِحُ لَهُ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 233] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

_ (1) سورة الرعد: 13/ 19.

بَلَغَ: يَبْلُغُ بُلُوغًا، وَصَلَ إِلَى الشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَمُجْرٍ كَغِلَّانِ الْأُنَيْعِمِ بَالِغٍ ... ديارا لعدو ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ وَالْبُلْغَةُ مِنْهُ، وَالْبَلَاغُ الْأَصْلُ، يَقَعُ عَلَى الْمُدَّةِ كُلِّهَا وَعَلَى آخِرِهَا. يُقَالُ لِعُمْرِ الْإِنْسَانِ: أَجَلٌ: وَلِلْمَوْتِ الَّذِي يَنْتَهِي: أَجَلٌ، وَكَذَلِكَ الْغَايَةُ وَالْأَمَدُ. الْعَضَلُ: الْمَنْعُ، عَضَلَ أَيِّمَهُ مَنَعَهَا مِنَ الزَّوْجِ يَعْضِلُهَا بِكَسْرِ الضَّادِ وَضَمِّهَا، قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ: وَإِنَّ فَضَاءَ يَدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ وَيُقَالُ: دَجَاجٌ مُعْضِلٌ إِذَا احْتَبَسَ بَيْضُهَا، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَقَالَ: وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا ... وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللَّهِ عَاضِلُ وَيُقَالُ: أَصْلُهُ الضِّيقُ، عَضَلَتِ الْمَرْأَةُ نَشِبَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، وَعَضَلَتِ الشَّاةُ وَعَضَلَتِ الْأَرْضُ بِالْجَيْشِ ضَاقَتْ بِهِمْ قَالَ أَوْسٌ: تَرَى الْأَرْضَ مِنَّا بِالْفَضَاءِ مَرِيضَةً ... مُعَضَّلَةً مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ وَأَعْضَلَ الدَّاءُ الْأَطِبَّاءَ أَعْيَاهُمْ، وَدَاءٌ عُضَالٌ ضَاقَ عِلَاجُهُ وَلَا يُطَاقُ، قَالَتْ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةُ: شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا وَأَعْضَلَ الْأَمْرُ اشْتَدَّ وَضَاقَ، وَكُلُّ مُشْكِلٍ عِنْدَ الْعَرَبِ مُعْضِلٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِذَا الْمُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرِ الرَّضْعُ: مَصُّ الثَّدْيِ لِشُرْبِ اللَّبَنِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَضَعَ يَرْضَعُ رَضْعًا وَرَضَاعًا وَرَضَاعَةً، وَأَرْضَعَتْهُ أُمُّهُ وَيُقَالُ، لِلَّئِيمِ: رَاضِعٌ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ بُخْلِهِ لَا يَحْلِبُ الشَّاةَ مَخَافَةَ أَنْ يُسْمَعَ مِنْهُ الْحَلْبُ، فَيُطْلَبَ مِنْهُ اللَّبَنُ، فَيَرْضَعُ ثَدْيَ الشَّاةِ حَتَّى لَا يُفْطَنَ بِهِ.

الْحَوْلُ: السَّنَةُ وَأَحْوَلَ الشَّيْءَ صَارَ لَهُ حَوْلٌ قَالَ الشَّاعِرُ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَيُجْمَعُ عَلَى أَحْوَالٍ، وَالْحَوْلُ الْحِيلَةُ، وَحَالَ الشَّيْءُ انْقَلَبَ وَتَحَوَّلَ انْتَقَلَ، وَرَجُلٌ حُوَلٌ كَثِيرُ التَّقْلِيبِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَوْلَ يَكُونُ ظَرْفَ مَكَانٍ، تَقُولُ: زَيْدٌ حَوْلَكَ وَحَوَالَيْكَ وَحَوَالَكَ وَأَحْوَالَكَ، أَيْ: فِيمَا قَرُبَ مِنْكَ مِنَ الْمَكَانِ. الْكُسْوَةُ: اللِّبَاسُ يُقَالُ مِنْهُ كَسَا يَكْسُو، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ تَقُولُ: كَسَوْتُ زَيْدًا ثَوْبًا، وَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَرْكَبُ فِي الرَّوْعِ خَيْفَانَةً ... كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ ضمنه معنى غطاء، فَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: كسا الرَّجُلُ فَهُوَ كَاسٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَنْ يَعْرَيْنَ إِنْ كُسِيَ الْجَوَارِي وَقَالَ: وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي التَّكْلِيفُ: الْإِلْزَامُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكَلَفِ، وَهُوَ الْأَثَرُ عَلَى الْوَجْهِ مِنَ السَّوَادِ، فُلَانٌ كلف بكذا أي معرى بِهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: يُهْدَى بِهَا كَلِفُ الْخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ ... مِنَ الْجَمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ الْوَارِثُ: مَعْرُوفٌ يُقَالُ مِنْهُ: وَرِثَ يَرِثُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقِيَاسُهَا فِي الْمُضَارِعِ الْفَتْحُ، وَيُقَالُ: أَرَّثَ وَوَرَّثَ، وَيُقَالُ: الْإِرْثُ كَمَا يُقَالُ أَلَدَّهُ فِي وَلَدِهِ، وَالْأَصْلُ الْوَاوُ. الْفِصَالُ: مَصْدَرُ فَصَلَ فَصْلًا وَفِصَالًا، وَجَمْعُ فَصِيلٍ، وَهُوَ الْمَفْطُومُ عَنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، وَفُصِلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فُرِّقَ فَانْفَصَلَا، وَفَصَلَتِ الْعِيرُ خَرَجَتْ، وَالْمَعْنَى فَارَقَتْ مَكَانَهَا، وَفَصِيلَةُ الرَّجُلِ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَالْفَصِيلَةُ قِطْعَةٌ مِنْ لَحْمِ الْفَخِذِ، وَالتَّفْصِيلُ بِمَعْنَى بالتبيين، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ «1» وَتَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ تَبْيِينُهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى تَفْرِيقِ حُكْمٍ مِنْ حُكْمٍ، فَيَحْصُلُ بِهِ التَّبْيِينُ، وَمَدَارُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى التَّفْرِقَةِ وَالتَّبْعِيدِ. التَّشَاوُرُ: فِي اللُّغَةِ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شِرْتُ الْعَسَلَ أَشُورُهُ إِذَا اجْتَنَيْتُهُ، وَالشُّورَةُ وَالْمَشُورَةُ، وَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَتُنْقَلُ الْحَرَكَةُ، كَالْمَعُونَةِ قَالَ حَاتِمٌ:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 133.

وَلَيْسَ عَلَى نَارِي حِجَابٌ أَكُفُّهَا ... لِمُقْتَبَسٍ لَيْلًا وَلَكِنْ أُشِيرُهَا وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: شِرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا، وَكَانَ مَدَارُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْإِظْهَارِ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشَاوِرِينَ أَظْهَرَ مَا فِي قَلْبِهِ لِلْآخَرِ، وَمِنْهُ الشَّوَارُ، وَهُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ لِظُهُورِهِ لِلنَّاظِرِ، وَشَارَةُ الرَّجُلِ هَيْئَتُهُ لِأَنَّهَا تَظْهَرُ مِنْ زِيِّهِ، وَتَبْتَدِئُ مِنْ زِينَتِهِ، وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَادَّةِ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فَقَالَ: وَالْإِشَارَةُ هِيَ إِخْرَاجُ مَا فِي نَفْسِكَ وَإِظْهَارُهُ لِلْمُخَاطَبِ بِالنُّطْقِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ هَذَا أَرَادَ أَنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْمَادَّةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ الأمير ابن الأغلب مُتَوَلِّي أَفْرِيقِيَّةَ وَبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، كَيْفَ يُقَالُ إِذَا أَشَارُوا إِلَى الْهِلَالِ عِنْدَ طُلُوعِهِ؟ وَبَنَوْا مِنَ الْإِشَارَةِ تَفَاعَلْنَا، فَقَالَ ابْنُ الْأَغْلَبِ: تَشَاوَرْنَا، وَقَالَ ذَلِكَ الْعَالِمُ تَشَايَرْنَا، وَسَأَلُوا قُتَيْبَةَ صَاحِبَ الْكِسَائِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَقْدَمَهُ ابْنُ الْأَغْلَبِ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى أَفْرِيقِيَّةَ لتعليم أولاده، فقال لَهُ: كَيْفَ تَبْنِي مِنَ الْإِشَارَةِ: تَفَاعَلْنَا؟ فَقَالَ: تَشَايَرْنَا. وَأَنْشَدَ لِلْعَرَبِ بَيْتًا شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ عَجُزُهُ. فَيَا حَبَّذَا يَا عِزَّ ذَاكَ التَّشَايُرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَالْمَادَّةِ الْأُخْرَى مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ بَشَّارٍ، وَيُقَالُ أَسْنَانٌ الْأَنْصَارِيُّ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَكَادَتْ أَنْ تَبِينَ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا حَتَّى مَضَتْ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ مُضَارَّةً لَهَا، وَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ يَوْمَئِذٍ مَحْصُورًا. وَالْخِطَابُ فِي: طَلَّقْتُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ، وَقِيلَ: لِثَابِتِ بْنِ يَسَارٍ، خُوطِبَ الْوَاحِدُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ وَأُبْعِدَ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَنِسْبَةُ الطَّلَاقِ وَالْإِمْسَاكِ وَالتَّسْرِيحِ لِلْأَوْلِيَاءِ بِعِيدٌ جِدًّا. فَبَلَغْنَ أَيْ: قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَالْأَجَلِ، هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الْإِقْرَاءِ، وَالْأَشْهُرِ، وَوَضْعِ الْحَمْلِ. وَأَضَافَ الْأَجَلَ إليهن لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِهِنَّ، وَلِهَذَا قِيلَ: الطَّلَاقُ لِلرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ لِلنِّسَاءِ، وَلَا يُحْمَلُ: بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ إِذْ ذَاكَ لَيْسَ لَهُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، إِذْ قَدْ تَقَضَّتْ عِدَّتُهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا.

فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَيْ رَاجِعُوهُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَفُسِّرَ الْمَعْرُوفُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ، وَقِيلَ: بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، قَالُوا: الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ هُوَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَلَّقَهَا، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمَعْرُوفِ، فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِإِقَامَتِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ. وَفِي (صَحِيحِ) الْبُخَارِيِّ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي! وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُهَا الصَّبْرُ عَلَيْهِ، وَتَتَعَلَّقُ النَّفَقَةُ بِذِمَّتِهِ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَالْقَائِلُونَ بِالْفُرْقَةِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بَعْدَ الْبِنَاءِ لَمْ يُسْتَكْمَلْ بِهَا الْعَدَدُ، وَلَا كَانَتْ بِعِوَضٍ، وَلَا لِضَرَرٍ بِالزَّوْجِ، فَكَانَتْ رَجْعِيَّةً كَضَرَرِ الْمُولِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ طلب ضرار بِالْمُرَاجَعَةِ. أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَيْ: خَلُّوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَتَبِينَ مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ، وَعَبَّرَ بِالتَّسْرِيحِ عَنِ التَّخْلِيَةِ لِأَنَّ مَآلَهَا إِلَيْهِ، إِذْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا هَذَا كَالتَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ نَهَاهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِمْسَاكُ ضِرَارًا، وَحِكْمَةُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يَحْصُلُ بِإِمْسَاكِهَا مَرَّةً بِمَعْرُوفٍ، هَذَا مَدْلُولُ الْأَمْرِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَجَاءَ النَّهْيُ لِيَتَنَاوَلَ سائر الأوقات وعمها، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ، ثُمَّ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ عَلَى سَبِيلِ الضِّرَارِ، فَنَهَى عَنْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْقَبِيحَةِ بِخُصُوصِهَا، تَعْظِيمًا لِهَذَا المرتكب السَّيِّءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ إِيذَاءِ النِّسَاءِ، حَتَّى تَبْقَى عِدَّتُهَا فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَمَعْنَى: ضِرَارًا، مُضَارَّةً وَهُوَ مَصْدَرُ ضَارَّ ضِرَارًا وَمُضَارَّةً، وَفُسِّرَ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَبِتَضْيِيقِ النَّفَقَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، فَكُلُّ إِمْسَاكٍ لِأَجْلِ الضَّرَرِ وَالْعُدْوَانِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

وَانْتَصَبَ: ضِرَارًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُضَارِّينَ لِتَعْتَدُوا، أَيْ: لِتَظْلِمُوهُنَّ، وَقِيلَ: لِتُلْجِئُوهُنَّ إِلَى الِافْتِدَاءِ. وَاللَّامُ: لَامُ كَيْ، فَإِنْ كَانَ ضِرَارًا حَالًا تَعَلَّقَتِ اللَّامُ بِهِ، أو: بلا تُمْسِكُوهُنَّ، وَإِنْ كَانَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ تَعَلَّقَتِ اللَّامُ بِهِ، وَكَانَ عِلَّةً لِلْعِلَّةِ، تَقُولُ: ضَرَبْتُ ابْنِي تَأْدِيبًا لِيَنْتَفِعَ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بلا تُمْسِكُوهُنَّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقْضِي مِنَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ اثْنَيْنِ إِلَّا بِالْعَطْفِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، وَلَا يُمْكِنُ هُنَا الْبَدَلُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ، وَمَنْ جَعَلَ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ جَوَّزَ أَنْ يتعلق: بلا تُمْسِكُوهُنَّ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى عِلَّةٍ وَإِلَى عَاقِبَةٍ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِمْسَاكِ عَلَى سَبِيلِ الضِّرَارِ وَالْعُدْوَانِ، وَظُلْمِ النَّفْسِ بِتَعْوِيضِهَا الْعَذَابَ، أَوْ بِأَنْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ مَنَافِعَ الدِّينِ مِنَ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَمَنَافِعِ الدُّنْيَا مِنْ عَدَمِ رَغْبَةِ التَّزْوِيجِ بِهِ لِاشْتِهَارِهِ بِهَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَقُولُ: طَلَّقْتُ وَأَنَا لَاعِبٌ، وَيُعْتِقُ وَيَنْكِحُ وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: «مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِبٌ فَهُوَ جَدٌّ» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جِدُّوا فِي الْأَخْذِ بِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَارْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَإِلَّا فَقَدِ اتَّخَذْتُمُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا، وَيُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَجِدَّ فِي الْأَمْرِ إنما أنت لاعب وهازىء. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ مَعْنَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، الْمُرَادُ آيَاتُهُ النَّازِلَةُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَخَصَّهَا الْكَلْبِيُّ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ طَلَّقَ لَاعِبًا أَوْ هَازِلًا، أَوْ رَاجَعَ كَذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ آيَاتٍ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي النِّكَاحِ، وَأَمْرَ الْحَيْضِ وَالْإِيلَاءِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ، وَتَرْكِ الْمُعَاهَدَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ أَحْكَامُهَا جَارِيَةً بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ، وَفِيهَا إِيجَابُ حُقُوقٍ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ عَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ وَالِاغْتِفَالِ بِأَمْرِ شَأْنِهِنَّ، وَكُنَّ عِنْدَهُمْ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ أَمْرٌ أَوْ حَقٌّ

عَلَى الزَّوْجِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَحَدَّ حُدُودًا لَا تُتَعَدَّى، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ خَالَفَ فَهُوَ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ، الَّتِي مِنْهَا هَذِهِ الْآيَاتُ النَّازِلَةُ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ، هُزُؤًا، بَلْ تُؤْخَذُ وَتُتَقَبَّلُ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَالنَّاسِ. وَانْتَصَبَ: هُزُؤًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ: لتتخذوا، وَتَقُولَ: هَزَأَ بِهِ هُزُؤًا اسْتَخَفَّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: هَزْأً، بِإِسْكَانِ الزَّايِ، وَإِذَا وَقَفَ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تَسْهِيلِ الْهَمْزِ، وَذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَسْهِيلِهِ عِنْدَهُ فِيهِ وُجُوهًا تُذْكَرُ فِي علم القراآت، وَهُوَ مِنْ تَخْفِيفِ فُعُلٍ: كَعُنُقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: كُلُّ اسْمٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ وَثَانِيهِ فَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ. وَقَرَأَ هُزُوًا بِضَمِّ الزَّايِ وَإِبْدَالٍ مِنَ الْهَمْزَةِ وَاوًا، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّمِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هُزُؤًا بِضَمَّتَيْنِ وَالْهَمْزِ، قِيلَ: وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أتتخذنا هزؤا) «1» . وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ هَذَا أَمْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَالنِّعْمَةُ هُنَا لَيْسَتِ التَّاءُ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ، وَلَكِنَّهَا بُنِيَ عَلَيْهَا الْمَصْدَرُ، وَيُرِيدُ: النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَأَجَلُّهَا مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَ: مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى نِعْمَةٍ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، إِذْ مَا أَنْزَلَ هُوَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَهَذَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسَمَّى التَّجْرِيدُ، كَقَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «2» بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَقَدَّمَ القول فيه، وأتى: بعليكم، تَنْبِيهًا لِلْمَأْمُورِينَ وَتَشْرِيفًا لَهُمْ، إِذْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَنْزَلَ إِلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولكنه لَمَّا كُنَّا مُخَاطَبِينَ بِأَحْكَامِهِ، وَمُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِهِ، صَارَ كَأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْنَا. وَ: الْكِتَابَ، الْقُرْآنُ، وَ: الْحِكْمَةَ، هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي بِهَا كَمَالُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الْقُرْآنُ، وَالْمُبَيِّنَةُ مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 67. (2) سورة البقرة: 2/ 98. (3) سورة النجم: 53/ 3.

وقيل: وَفِي ظَاهِرِهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ يَنْزِلُ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَلَا اجْتِهَادَ، وَذِكْرُ: النِّعَمِ، لَا يُرَادُ بِهِ سَرْدُهَا عَلَى اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الشُّكْرُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُسْلِمِ النِّعْمَةَ سَبَبٌ لِشُكْرِهَا، فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالنِّعْمَةِ الْمُنْعَمِ بِهِ فَيَكُونُ: عَلَيْكُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ نِعْمَتَهُ تَعَالَى مُنْسَحِبَةٌ عَلَيْنَا، قَدِ اسْتَعْلَتْ وَتَجَلَّلَتْ وَصَارَتْ كَالظُّلَّةِ لَنَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِالنِّعْمَةِ الْإِنْعَامُ فَيَكُونُ: عَلَيْكُمْ، مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ النِّعْمَةِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا مِنْ: أَنْعَمَ، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَنَبَاتٍ مِنْ أنبت. وعليكم، الثانية متعلقة بأنزل، وَ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْكِتَابِ، وَيَكُونُ حَالًا مِنْ مَا أَنْزَلَ أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمَحْذُوفِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ. وَمَنْ أَثْبَتَ لمن مَعْنَى الْبَيَانِ لِلْجِنْسِ جَوَّزَ ذَلِكَ هُنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمُ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. يَعِظُكُمْ بِهِ يُذَكِّرُكُمْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: أَنْزَلَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: أَنْزَلَ، وَجَوَّزُوا فِي: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ، أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَ: يَعِظُكُمْ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: والمنزل اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ، وَعَطْفُهُ عَلَى النِّعْمَةِ أَظْهَرُ. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ النِّسَاءِ اللَّاتِي هُنَّ مَظِنَّةُ الْإِهْمَالِ وَعَدَمِ الرِّعَايَةِ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَهِيَ الَّتِي بِحُصُولِهَا يَحْصُلُ الْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُ طَلَبَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَالْمَعْنَى: بِطَلَبِ الْعِلْمِ الدَّيْمُومَةِ عَلَيْهِ، إِذْ هُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ نِيَّاتِكُمْ فِي الْمُضَارَّةِ وَالِاعْتِدَاءِ، فَلَا تَلْبِسُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَكَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَتَيْنِ، فَتَكْرِيرُهُ أَفْخَمُ، وَتَرْدِيدُهُ فِي النُّفُوسِ أَعْظَمُ. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ مَنَعَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ عَنِ النِّكَاحِ بِغَيْرِهِ إِذَا طَلَّقَهَا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنَةِ عَمِّ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَأَرَادَ رَجْعَتَهَا، فَأَتَى جَابِرٌ وَقَالَ: طَلَّقْتَ ابْنَةَ عَمِّنَا ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا؟ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ زَوْجَهَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: فِي

مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَأُخْتِهِ جُمْلٍ، وَزَوْجِهَا أَبِي الْوَلِيدِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْعَجْلَانِ، جَرَى لَهُمْ مَا جَرَى لِجَابِرٍ فِي قِصَّتِهِ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَعَلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُخَاطَبُونَ هُمُ الْأَزْوَاجُ، وَعَلَى هَذَا السَّبَبِ الْأَوْلِيَاءُ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ نِسْبَةَ الطَّلَاقِ إِلَيْهِمْ هُوَ مَجَازٌ بَعِيدٌ، وَهُوَ أن يكون الْأَوْلِيَاءُ قَدْ تَسَبَّبُوا فِي الطَّلَاقِ حَتَّى وَقَعَ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمُ الطَّلَاقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي: وَإِذا طَلَّقْتُمُ لِلْأَزْوَاجِ وَفِي فَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ، لِتَنَافِي التَّخَاطُبِ، وَلِتَنَافُرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَالْأَوْلَى، وَالَّذِي يُنَاسِبُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَنَّ الْخِطَابَ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَاتِ هُوَ مَعَ الْأَزْوَاجِ وَلَمْ يَجْرِ لِلْأَوْلِيَاءِ ذِكْرٌ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَ هَذِهِ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَيَكُونُ الْأَزْوَاجُ الْمُطَلِّقُونَ قَدِ انْتَهَوْا عَنِ الْعَضْلِ، إِذْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَقَهْرًا وَحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ يَتَزَوَّجْنَ مَنْ شِئْنَ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أَيْ: مَنْ يُرِدْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَهُ، فَسُمُّوا أَزْوَاجًا بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ يَكُونُ أَزْوَاجُهُنَّ هُمُ الْمُطَلِّقُونَ، سُمُّوا أَزْوَاجًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَزْوَاجًا حَقِيقَةً. وَجِهَاتُ الْعَضْلِ مِنَ الزَّوْجِ مُتَعَدِّدَةٌ: بِأَنْ يَجْحَدَ الطَّلَاقَ، أَوْ يَدَّعِيَ رَجْعَةً فِي الْعِدَّةِ، أَوْ يَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا، أَوْ يُسِيءَ الْقَوْلَ فِيهَا لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهَا، فَنُهُوا عَنِ الْعَضْلِ مُطْلَقًا بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّاسِ، أَيْ: لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَكُمْ عَضْلٌ، لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ رَاضُونَ كَانُوا فِي حُكْمِ الْعَاضِلِينَ وَصَدَّرَ بِمَا يُقَارِبُ هَذَا الْمَعْنَى كَلَامَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمُ الْأَزْوَاجُ، وَمِنْهُمُ الْأَوْلِيَاءُ، لِأَنَّهُمُ الْمُرَادُ فِي تَعْضُلُوهُنَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا التَّوْجِيهُ يَؤُولُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي: طلقتم، للأزواج، وفي: فلا تَعْضُلُوهُنَّ، لِلْأَوْلِيَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنَ التَّنَافُرِ. أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَنْ يَنْكِحْنَ، وَيَنْكِحْنَ مُضَارِعُ نَكَحَ الثُّلَاثِيِّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ

أَنْ تَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَقٌّ لَمَا نُهِيَ عَنْهُ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِالنَّهْيِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَظَاهِرُهُ الْعَقْدُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ فِي: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، لِلْأَوْلِيَاءِ النَّهْيَ عَنْ مُطْلَقِ الْعَضْلِ، فَيَتَحَقَّقُ بِعَضْلِهَا عَنْ خَاطِبٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَنَعَهَا مِنْ خَاطِبٍ أَوْ خَاطِبَيْنِ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَاضِلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الثَّيِّبُ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَتَسْتَوْفِي الْمَهْرَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ جَازَ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا. وَعَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ: ابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ نِكَاحَهَا جَازَ وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا إِنْ كَانَ كُفُؤًا فَيُجِيزُهُ الْقَاضِي إِنْ أَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يُسَلِّمَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ هَذَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا وَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا، وَكَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: إِذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً، أَوْ مِسْكِينَةً، أَوْ دَنِيئَةً، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَخْلِفَ رَجُلًا يُزَوِّجُهَا، وَلِلْأَوْلِيَاءِ فَسْخُ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَعَنْهُ خِلَافٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ غِنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا الْوَلِيُّ أَوِ السُّلْطَانُ، وَحُجَجُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. إِذا تَراضَوْا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْخُطَّابِ وَالنِّسَاءِ، وَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ، فَجَاءَ الضَّمِيرُ بِالْوَاوِ، وَمَنْ جَعَلَ لِلْأَوْلِيَاءِ ذِكْرًا فِي الْآيَةِ قَالُوا: احْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ. وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، يَنْكِحْنَ. بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ الضَّمِيرُ فِي: بَيْنَهُمْ، ظَرْفٌ مَجَازِيٌّ نَاصِبُهُ: تَرَاضَوْا، بِالْمَعْرُوفِ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَرَاضَوْا، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا يَحْسُنُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ فِي الشَّرَائِطِ، وَقِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقِيلَ: الْمَهْرُ وَالْإِشْهَادُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بالمعروف، بينكحن، لا: بتراضوا، وَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ الَّذِي لَا يَنْتَفِي، بَلْ هُوَ مِنَ الْفَصْلِ الْفَصِيحِ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ بِمَعْمُولِ الْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا تَراضَوْا فَإِذَا مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَنْكِحْنَ وَ: بِالْمَعْرُوفِ، مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَكِلَاهُمَا مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ.

ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لِكُلِّ سَامِعٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ: مِنْكُمْ، وَقِيلَ: ذَلِكَ بِمَعْنَى: ذَلِكُمْ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، وَ: ذَلِكَ، لِلْبُعْدِ نَابَ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي لِلْقُرْبِ، وَهُوَ: هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَرِيبًا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ لِعَظَمَةِ الْمُشِيرِ إِلَى الشَّيْءِ، وَمَعْنَى: يُوعَظُ بِهِ أَيْ يُذَكَّرُ بِهِ، وَيُخَوَّفُ. وَ: مِنْكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِكَانَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يُؤْمِنُ، وَذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُكَلِّفُ لِعِبَادِهِ، النَّاهِي لَهُمْ، وَالْآمِرُ. وَ: الْيَوْمَ الْآخِرَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّخْوِيفُ، وَتُجْنَى فِيهِ ثَمَرَةُ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ. وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْوَعْظِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ، إِذْ نُورُ الْإِيمَانِ يُرْشِدُهُ إِلَى الْقَبُولِ إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ «1» وَسَلَامَةُ عَقْلِهِ تُذْهِبُ عَنْهُ مُدَاخَلَةَ الْهَوَى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «2» . ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أَيِ: التَّمَكُّنُ مِنَ النِّكَاحِ أَزْكَى لِمَنْ هُوَ بِصَدَدِ الْعَضْلِ لِمَا لَهُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَطْهَرُ لِلزَّوْجَيْنِ لِمَا يُخْشَى عَلَيْهِمَا مِنَ الرِّيبَةِ إِذَا مُنِعَا مِنَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَلَاقَاتِ الَّتِي بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ: يَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ قُلُوبُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، لِذَلِكَ نَهَى تَعَالَى عَنِ الْعَضْلِ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ: يَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الثَّوَابِ وَإِسْقَاطِ الْعِقَابِ. أَوْ: يَعْلَمُ بَوَاطِنَ الْأُمُورِ وَمَآلَهَا. وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا تَعْلَمُونَ مَا ظَهَرَ. أَوْ: يَعْلَمُ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ بِهَا. وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ: تَقْرِيرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ. الْأَوَّلُ: الطِّبَاقُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْإِمْسَاكُ، فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَالتَّسْرِيحُ طِبَاقٌ ثَانٍ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْإِمْسَاكِ، وَالْعِلْمُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ هُوَ الْجَهْلُ. الثَّانِي: الْمُقَابَلَةُ فِي فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً قَابَلَ الْمَعْرُوفَ بِالضِّرَارِ، وَالضِّرَارُ مُنَكَّرٌ فَهَذِهِ مُقَابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 36. (2) سورة الرعد: 13/ 19 والزمر: 39/ 9.

الثَّالِثُ: التَّكْرَارُ فِي: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ كَرَّرَ اللَّفْظَ لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَصَاحَةِ، إِذِ اخْتِلَافُ مَعْنَى الِاثْنَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْبُلُوغَيْنِ. الرَّابِعُ: الِالْتِفَاتُ فِي وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ وَفِي الْآيَةِ، فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ، إذ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ. الْخَامِسُ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، التَّقْدِيرُ، أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا تَرَاضَوْا. السَّادِسُ: مُخَاطَبَةُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، أَوْ فِي أُخْتِ جَابِرٍ، وَقِيلَ ابْنَتُهُ. وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى، لَمَّا ذكر جُمْلَةً فِي: النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْعَضْلِ، أَخَذَ يَذْكُرُ حُكْمَ مَا كَانَ مِنْ نَتِيجَةِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مَا شُرِعَ مِنْ حُكْمِ: الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتِهِ، وَحُكْمِ الْكُسْوَةِ، وَالنَّفَقَةِ، عَلَى مَا يَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالْوالِداتُ جَمْعُ وَالِدَةٍ بِالتَّاءِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: وَالِدٌ، لَكِنْ قَدْ أَطْلَقَ عَلَى الْأَبِ وَالِدٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ وَفِي الْأُمِّ الوالدان فَجَاءَتِ التَّاءُ فِي الْوَالِدَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ، وَكَأَنَّهُ رُوعِيَ فِي الْإِطْلَاقِ أَنَّهُمَا أَصْلَانِ لِلْوَلَدِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمَا: وَالِدَانِ. وَظَاهِرُ لَفْظِ: الْوَالِدَاتِ، الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَاتُ وَالْمُطَلَّقَاتُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمَا: فِي الْمُطَلَّقَاتِ، جَعَلَهَا اللَّهُ حَدًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَمَنْ دَعَا مِنْهُمَا إِلَى إِكْمَالِ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْوَالِدَاتُ، عُقَيْبَ آيَةِ الطَّلَاقِ، فَكَانَتْ مِنْ تَتِمَّتِهَا، فَشُرِعَ ذَلِكَ لَهُنَّ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْصُلُ فِيهِ التَّبَاغُضُ، فَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى أذى الولد، لأن بايذائه إِيذَاءُ وَالِدِهِ، وَلِأَنَّ فِي رَغْبَتِهَا فِي التَّزْوِيجِ بِآخَرَ إِهْمَالَ الْوَلَدِ. وَقِيلَ: هِيَ فِي الزَّوْجَاتِ فَقَطْ، لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكُسْوَةَ، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ. يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ صُورَتُهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ خَبَرًا، أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي شَرَعَهُ، فَالْوَالِدَاتُ أَحَقُّ بِرَضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ، سَوَاءً كَانَتْ فِي حِيَالَةِ الزَّوْجِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، فَإِنَّ الْإِرْضَاعَ مِنْ خَصَائِصِ الْوِلَادَةِ لَا مِنْ خَصَائِصِ الزَّوْجِيَّةِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ «1» لكنه أمر تدب لَا إِيجَابٍ، إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى «2» فَوُجُوبُ الْإِرْضَاعِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ ظِئْرًا إِلَّا إِذَا تَطَوَّعَتِ الْأُمُّ بِإِرْضَاعِهِ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَهَا، أَوْ لَمْ يُوجِدْ لَهُ ظِئْرًا، وَعَجَزَ الْأَبُ عَنِ الِاسْتِئْجَارِ وَجَبَ عَلَيْهَا إِرْضَاعُهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الْوَالِدَاتِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِرْضَاعَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا الْوَالِدَ أَوِ الْجَدَّ، وَإِنْ عَلَا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَةِ لِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ذَاتَ نَسَبٍ، فَعُرْفُهَا أَنْ لَا تُرْضِعَ. وَعَنْهُ خِلَافٌ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْإِرْضَاعِ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَصَفَ الْحَوْلَيْنِ بِالْكَمَالِ دَفْعًا لِلْمَجَازِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ حَوْلَيْنِ، إِذْ يُقَالُ: أَقَمْتُ عِنْدَ فُلَانٍ حَوْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُمَا، وَهِيَ صِفَةُ تَوْكِيدٍ كَقَوْلِهِ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «3» وَجَعَلَ تَعَالَى هَذِهِ الْمُدَّةَ حَدًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَمَنْ دَعَا مِنْهُمَا إِلَى كَمَالِ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْلَادَهُنَّ، الْعُمُومُ، فَالْحَوْلَانِ لِكُلِّ وَلَدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ فِي الْوَلَدِ يَمْكُثُ فِي الْبَطْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَةً فَرَضَاعُهُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، أَوْ: ثَمَانِيَةً، فَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ، أَوْ: تِسْعَةً، فَأَحَدَ وَعِشْرُونَ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ انْبَنَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «4» لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَلَى الْإِنْسَانِ عُمُومًا. وَفِي قَوْلِهِ: يُرْضِعْنَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ الْوَلَدِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فِي مَسَائِلَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ، مِنْهَا: مُدَّةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمَةِ، وَقَدْرُ الرَّضَاعِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَالْحَضَانَةُ وَمَنْ أَحَقُّ بِهَا بَعْدَ الْأُمِّ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي الْوَلَدِ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ؟ وَهَلْ لِلذِّمِّيَّةِ حَقٌّ فِي الرَّضَاعَةِ؟ وَأَطَالُوا بِنَقْلِ الْخِلَافِ وَالدَّلَائِلِ، وَمَوْضُوعُ هَذَا عِلْمُ الْفِقْهِ. لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِرْضَاعَ فِي الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ بحد

_ (1) سورة البقرة: 2/ 228. (2) سورة الطلاق: 65/ 6. (3) سورة البقرة: 2/ 196. (4) سورة الأحقان: 46/ 15.

لَا يُتَعَدَّى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ، أَمَّا مَنْ لَا يُرِيدُهُ فَلَهُ فَطْمُ الْوَلَدِ دُونَ بُلُوغِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْوَلَدِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: تَضَمَّنَتْ فَرْضَ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْوَالِدَاتِ، ثُمَّ يُسِّرَ ذَلِكَ وَخُفِّفَ، فَنَزَلَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول مُتَدَاعٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَفِي قَوْلِهِ: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَجَاوُزُ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا حُكْمَ لِلرَّضَاعِ بَعْدَ الحولين، وتقوية لا رضاع بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَالرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِي الشَّرْعِ عُلِّقَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، كَخِيَارِ الثَّلَاثِ، وَعَدَدِ حِجَارَةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمَّا كَانَ الرَّضَاعُ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ، لَمْ تَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ذِكْرُ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ عَلَى التَّوْقِيتِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَطْعِ الْمُشَاجَرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي: لمن، قيل: متعلقة بيرضعن، كَمَا تَقُولُ: أَرْضَعَتْ فُلَانَةٌ لِفُلَانٍ وَلَدَهُ، وَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذَا لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: لِأَجْلِهِ، فَتَكُونُ: مَنْ وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِأَجْلِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ عَلَى الْآبَاءِ، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ كَهِيَ فِي قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَيْتَ لَكَ «5» فَاللَّامُ لِتَبْيِينِ الْمَدْعُوِّ لَهُ بِالسَّقْيِ، وَلِلْمُهَيَّتِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ قَوْلَهُ: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا هُوَ: لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ مِنَ الْوَالِدَاتِ، فتكون: من، واقعة على الْأُمِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ مِنَ الْوَالِدَاتِ. أَوْ تَكُونُ، مَنْ، وَاقِعَةٌ عَلَى الْوَالِدَاتِ وَالْمَوْلُودِ لَهُ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ بِالْيَاءِ مِنْ: أَتَمَّ، وَنَصْبِ الرَّضَاعَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ: تَتِمَّ، بِالتَّاءِ مِنْ تَمَّ، وَرَفْعِ الرَّضَاعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الرَّاءَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ: كَالْحَضَارَةِ وَالْحِضَارَةِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعَ الْهَاءِ وَبِكَسْرِهَا دُونَ الْهَاءِ، وَالْكُوفِيُّونَ يَعْكِسُونَ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ: الرَّضْعَةَ، عَلَى وَزْنِ الْقَصْعَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ، بِضَمِّ الياء، وقرىء: أن يتم، برفع

_ (5) سورة يوسف: 12/ 23.

الْمِيمِ، وَنَسَبَهَا النَّحْوِيُّونَ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَقَدْ جَازَ رَفْعُ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الشِّعْرِ. أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنْ تَهْبِطِينَ بِلَادَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطلاح وقال الآخر: أن تقرءان عَلَى أَسْمَاءَ، وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلَامَ، وَأَنْ لَا تُبْلِغَا أَحَدَا وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَتُرِكَ إِعْمَالُهَا حَمْلًا عَلَى: مَا، أُخْتِهَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَهِيَ عِنْدَهُمُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَشَذَّ وُقُوعُهَا مَوْقِعَ النَّاصِبَةِ، كَمَا شَذَّ وُقُوعُ النَّاصِبَةِ مَوْقِعَ الْمُخَفَّفَةِ في قول جرير: ترضى عَنِ اللَّهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ لَا يدانينا من خلقه بشر وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِثْبَاتَ النُّونِ فِي الْمُضَارِعِ الْمَذْكُورِ مَعَ: أَنَّ، مَخْصُوصٌ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَلَا يُحْفَظُ أَنَّ غَيْرَ نَاصِبَةٍ إِلَّا فِي هَذَا الشِّعْرِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَمَا سَبِيلُهُ هَذَا، لَا تُبْنَى عَلَيْهِ قَاعِدَةٌ. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الْمَوْلُودُ جِنْسٌ، وَاللَّامُ فِيهِ مَوْصُولَةٌ وُصِلَتْ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَ: أل، كمن، وَ: مَا، يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَعْنَى بِحَسَبِ مَا تُرِيدُهُ مِنَ الْمَعْنَى مِنْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ أَوْ تَأْنِيثٍ، وَهُنَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ، فَجَاءَ لَهُ. وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَعْنَى، فَكَانَ يَكُونُ: لَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ، وهو: الوالدات، و: المفعول بِهِ وَهُوَ: الْأَوْلَادُ، وَأُقِيمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَ الفاعل، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، أَعْنِي: أَنْ يُقَامَ الْجَارُّ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِذَا حُذِفَ نَحْوَ: مُرَّ بِزَيْدٍ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِيمَا حَرْفُ الْجَرِّ فِيهِ زَائِدٌ، نَحْوَ: مَا ضُرِبَ مِنْ أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ غَيْرَ زَائِدٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ. وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِي الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ وَحْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَمَا أَنَّ: يَقُومُ مِنْ؟ زَيْدٌ يَقُومُ. فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ

وَهِشَامٌ إِلَى أَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ مُسْتَتِرٌ فِي الْفِعْلِ، وَإِبْهَامُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنْ مَصْدَرٍ، أَوْ ظَرْفِ زَمَانٍ، أَوْ ظَرْفِ مَكَانٍ، وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْضُ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَرْفُوعَ الْفِعْلِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَيْرٌ هُوَ، يُرِيدُ: أَيْ سَيْرُ السَّيْرِ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهَذَا سَائِغٌ عِنْدَ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، وَمَمْنُوعٌ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْبَصْرِيِّينَ، وَالنَّظَرُ في الدلائل هَذِهِ الْمَذَاهِبِ تَصْحِيحًا وَإِبْطَالًا يُذْكَرُ فِي عَالَمِ النَّحْوِ. وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ كُبَرَائِنَا، فَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى ب (الشرح لِجُمَلِ الزَّجَّاجِيِّ) أَنَّ النَّحْوِيِّينَ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إِقَامَةِ الْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِلَّا السُّهَيْلِيُّ، فَإِنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، إِذْ قَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَهِشَامٍ. وَالتَّفْصِيلَ فِي الْمَجْرُورِ. وَمِمَّنْ تَبِعَ السُّهَيْلِيَّ عَلَى قَوْلِهِ: تِلْمِيذُهُ أَبُو عَلِيٍّ الزَّيْدِيُّ شَارِحُ (الْجُمَلِ) . وَ: الْمَوْلُودِ لَهُ، هُوَ الْوَالِدُ، وَهُوَ الْأَبُ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْوَالِدِ، وَلَا بِلَفْظِ الْأَبِ، بَلْ جَاءَ بِلَفْظِ: الْمَوْلُودِ لَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ إِعْلَامِ الْأَبِ مَا مَنَحَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْطَاهُ، إِذِ اللَّامُ فِي: لَهُ، مَعْنَاهَا شِبْهُ التَّمْلِيكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً «1» وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي اللَّامِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَلِذَلِكَ يَتَصَرَّفُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا يَخْتَارُ، وَتَجِدُ الْوَلَدَ فِي الْغَالِبِ مُطِيعًا لِأَبِيهِ، مُمْتَثِلًا مَا أَمَرَ بِهِ، مُنَفِّذًا مَا أَوْصَى بِهِ، فَالْأَوْلَادُ فِي الْحَقِيقَةِ هُمْ لِلْآبَاءِ، وَيَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى أُمَّهَاتِهِمْ، كَمَا أَنْشَدَ الْمَأْمُونُ بْنُ الرَّشِيدِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً طَبَّاخَةً تُدْعَى مَرَاجِلُ، قَالَ: فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَبْنَاءِ آبَاءُ فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ: الْمَوْلُودِ، مُشْعِرًا بِالْمِنْحَةِ وَشِبْهِ التَّمْلِيكِ، أَتَى بِهِ دون لفظ: الوالد، وَلَفْظِ: الْأَبِ، وَحَيْثُ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْمَعْنَى أَتَى بِلَفْظِ الْوَالِدِ وَلَفْظِ الْأَبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ «2» وَقَالَ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ «3» . وَلَطِيفَةٌ أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كُلِّفَ بِمُؤَنِ الْمُرْضِعَةِ لِوَلَدِهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، نَاسَبَ أَنْ يُسَلَّى بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ هُوَ وَلَدٌ لَكَ لَا لِأُمِّهِ، وَأَنَّكَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ فِي التَّنَاصُرِ وَتَكْثِيرِ الْعَشِيرَةِ، وَأَنَّ لَكَ عَلَيْهِ الطَّوَاعِيَةَ كَمَا كَانَ عَلَيْكَ لِأَجْلِهِ كُلْفَةُ الرِّزْقِ، والكسوة لمرضعته.

_ (1) سورة النحل: 16/ 72. (2) سورة لقمان: 31/ 33. [.....] (3) سورة الأحزاب: 33/ 55.

وَفَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا، الرِّزْقَ، بِأَنَّهُ الطَّعَامُ الْكَافِي، فَجَعَلَهُ اسْمًا لِلْمَرْزُوقِ. كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْزُقُوهُنَّ وَيَكْسُوهُنَّ، فشرح الرزق: بأن وَالْفِعْلِ اللَّذَيْنِ يَنْسَبِكُ مِنْهُمَا الْمَصْدَرُ، وَيَحْتَمِلُ الرِّزْقُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ إِرَادَةِ الْمَرْزُوقِ، وَإِرَادَةِ الْمَصْدَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ: رِزْقًا بِكَسْرِ الرَّاءِ، حُكِيَ مَصْدَرًا، كَرَزْقٍ بِفَتْحِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً «1» وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ الطَّرَاوَةِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى: بِالْمَعْرُوفِ، مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ لِمِثْلِهَا، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ إِكْثَارٌ وَلَا إِقْلَالٌ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِالْمَعْرُوفِ، يَجْمَعُ جِنْسَ الْقَدْرِ فِي الطَّعَامِ، وَجَوْدَةَ الِاقْتِضَاءِ لَهُ، وَحُسْنَ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ من الرزق والكسوة، فبالمعروف، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن عَلَى الْإِعْمَالِ، إِمَّا لِلْأَوَّلِ وَإِمَّا لِلثَّانِي إِنْ كَانَا مَصْدَرَيْنِ، وَإِنْ عَنَى بِهِمَا الْمَرْزُوقَ، وَالشَّأْنَ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ. التَّقْدِيرُ: إِيصَالٌ أَوْ دَفْعٌ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ: بِالْمَعْرُوفِ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُمَا، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي: عَلَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَكِسْوَتُهُنَّ، بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: كُسْوَةً وَكِسْوَةً، بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا. لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها التَّكْلِيفُ إِلْزَامُ مَا يُؤْثَرُ فِي الْكُلْفَةِ، مِنْ: كَلِفَ الْوَجْهُ، وَكَلِفَ الْعِشْقُ، لِتَأْثِيرِهِمَا وُسْعَهَا طَاقَتَهَا وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُهُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ الْآيَةَ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها الْعُمُومُ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ وَالِدَ الصَّبِيِّ لَا يُكَلَّفُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، إِلَّا بِمَا تَتَّسِعُ بِهِ قُدْرَتُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ الصَّبْرَ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي الْأُجْرَةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ مَا هُوَ إِسْرَافٌ، بَلْ يُرَاعَى الْقَصْدُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: لَا تَكَلَّفُ، بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ: لَا تَتَكَلَّفُ، وَارْتَفَعَ نَفْسٌ على

_ (1) سورة النحل: 16/ 73.

الْفَاعِلِيَّةِ، وَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَ: تَكَلَّفَ تَفَعَّلَ، مُطَاوِعُ فَعَّلَ نَحْوَ: كَسَرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَالْمُطَاوَعَةُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا تَفَعَّلَ. وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا بِالنُّونِ، مُسْنِدًا الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَ: نَفْسًا، بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ. لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبَانٌ، عَنْ عَاصِمٍ: لَا تُضَارُّ، بِالرَّفْعِ أَيْ: بِرَفْعِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُنَاسِبَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لِاشْتِرَاكِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الرَّفْعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا، لِأَنَّ الْأُولَى خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهَذِهِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا نَهْيِيَّةٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: لَا تُضَارَّ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، جَعَلُوهُ نَهْيًا، فَسُكِّنَتِ الرَّاءُ الْأَخِيرَةُ لِلْجَزْمِ، وَسُكِّنَتِ الرَّاءُ الْأُولَى لِلْإِدْغَامِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُرِّكَ الْأَخِيرُ مِنْهُمَا بِالْفَتْحِ لِمُوَافَقَةِ الْأَلِفِ الَّتِي قَبْلَ الرَّاءِ، لِتَجَانُسِ الْأَلِفِ وَالْفَتْحَةِ، أَلَا تَرَاهُمْ حِينَ رخموا: أسحارّا، وهم اسْمُ نَبَاتٍ، إِذَا سُمِّيَ بِهِ حَذَفُوا الرَّاءَ الْأَخِيرَةَ، وَفَتَحُوا الرَّاءَ السَّاكِنَةَ الَّتِي كَانَتْ مُدْغَمَةً فِي الرَّاءِ الْمَحْذُوفَةِ، لِأَجْلِ الْأَلْفِ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَكْسِرُوهَا عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَرَاعَوُا الْأَلِفَ وَفَتَحُوا، وَعَدَلُوا عَنِ الْكَسْرِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ؟ وَقُرِأَ: لَا يُضَارِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى النَّهْيِ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّفَّارُ: لَا تُضَارّْ، بِالسُّكُونِ مَعَ التَّشْدِيدِ، أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: لَا تُضَارْ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ أُجْرِيَ الْوَصْلُ فِيهِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اخْتَلَسَ الضَّمَّةَ فَظَنَّهُ الرَّاوِي سُكُونًا. انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي تَغْلِيطِ الْقُرَّاءِ وَتَوْهِيمِهِمْ، وَلَا نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ. وَوَجَّهَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: حَذَفَ الرَّاءَ الثَّانِيَةَ فِرَارًا مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْحَرْفِ الْمُكَرَّرِ، وَهُوَ الرَّاءُ، وَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، ولأن مَدَّةَ الْأَلِفِ تَجْرِي مَجْرَى الْحَرَكَةِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُضَارِرْ، بِفَكِّ الْإِدْغَامِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الأول وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تُضَارِرْ، بِفَكِّ الْإِدْغَامِ أَيْضًا وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ، قِيلَ: وَرَوَاهَا أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْإِظْهَارُ فِي نَحْوِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لُغَةُ الْحِجَازِ، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، مَرْفُوعَةً أَوْ مَفْتُوحَةً أَوْ مَكْسُورَةً، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ

كَمَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَكُونُ ارْتِفَاعُ: والدة ومولود، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَإِذَا قَدَّرْنَاهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَا تُضَارِرْ وَالِدَةٌ زَوْجَهَا بِأَنْ تُطَالِبَهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الضَّرَرِ، وَلَا يُضَارِرْ مَوْلُودٌ لَهُ زَوْجَتَهُ بِمَنْعِهَا مَا وَجَبَ لَهَا مِنْ رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ، وَأَخْذِ وَلَدِهَا مَعَ إِيثَارِهَا إِرْضَاعَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الضَّرَرِ. وَالْبَاءُ فِي: بِوَلَدِهَا، وَفِي: بِوَلَدِهِ، بَاءُ السَّبَبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُضَارَّ بِمَعْنَى: تَضُرُّ، وَأَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مِنْ صِلَتِهِ لَا تَضُرُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، فَلَا تُسِيءُ غِذَاءَهُ وَتَعَهُّدَهُ، وَلَا تُفَرِّطُ فِيمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَلَا تَدْفَعُهُ إلى الأب بعد ما آلَفَهَا، وَلَا يَضُرُّ الْوَالِدُ بِهِ بِأَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهَا، أَوْ يُقَصِّرَ فِي حَقِّهَا، فَتُقَصِّرَ هِيَ فِي حَقِّ الْوَلَدِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مِنْ صِلَتِهِ، يَعْنِي مُتَعَلِّقَةً بِتُضَارَّ، وَيَكُونُ ضَارَّ بِمَعْنَى أَضَرَّ، فَاعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، نَحْوَ: بَاعَدْتُهُ وَأَبْعَدْتُهُ، وَضَاعَفْتُهُ وَأَضْعَفْتُهُ، وَكَوْنُ فَاعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ هُوَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَ لَهَا فَاعَلَ، تَقُولُ: أَضَرَّ بِفُلَانٍ الْجُوعُ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَلَا يَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا، بِخِلَافِ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، فَيَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا كَمَا قَدَّرْنَاهُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضِّرَارُ رَاجِعًا إِلَى الصَّبِيِّ، أَيْ: لَا يُضَارُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّبِيَّ، فَلَا يُتْرَكُ رَضَاعُهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ الْأَبُ أَوْ يَنْزِعُهُ مِنْ أُمِّهِ حَتَّى يَضُرَّ بِالصَّبِيِّ، وَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً مَعْنَاهُ: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ وَلَدَهُ انْتَهَى. فَيَكُونُ: ضَارَّ، بِمَعْنَى: ضَرَّ، فَيَكُونُ مِمَّا وَافَقَ فِيهِ فَاعَلَ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ الَّذِي هُوَ: ضَرَّ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ، وَوَاعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا فَاعَلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قراءة من قرأ لا تُضَارِرْ، بِرَاءَيْنِ، الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْإِدْغَامِ أَنَّ الْفِعْلَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ تَعَيَّنَ كَوْنُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِ، وَامْتَنَعَ تَوْجِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ: ضَارَّ بِهِ فِي مَعْنَى: أَضَرَّ بِهِ، وَالتَّوْجِيهُ الْآخَرُ أَنَّ: ضَارَّ بِهِ بِمَعْنَى: ضَرَّهُ، وَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً، وَلَا تَنْقَاسُ زِيَادَتُهَا فِي الْمَفْعُولِ، مَعَ

أَنَّ فِي التَّوْجِيهَيْنِ إِخْرَاجُ فَاعَلَ عَنِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ الِاسْمَيْنِ شَرِيكَيْنِ فِي الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْفُوعًا وَالْآخَرُ مَنْصُوبًا. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ مِنْ بَلَاغَةِ الْمَعْنَى وَنَصَاعَةِ اللَّفْظِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَعَاطَى عِلْمَ الْبَيَانِ. فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى: أُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَجَعَلَ الْخَبَرَ فِعْلًا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ دَائِمًا، ثُمَّ أُضِيفَ الْأَوْلَادُ إِلَى الْوَالِدَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى شَفَقَتِهِنَّ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَهَزًّا لَهُنَّ وَحَثًّا عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَقَيَّدَ الْإِرْضَاعَ بِمُدَّةٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ. وَجَاءَ الْوَالِدَاتُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَأُضِيفَ الْأَوْلَادُ لِضَمِيرِ الْعَامِّ لِيَعُمَّ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ إِذَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، أَوْ أُضِيفَ إِلَى عَامٍّ، عَمَّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ) . وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: أُبْرِزَتْ أَيْضًا فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ جَارًّا وَمَجْرُورًا بِلَفْظِ: عَلَى، الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَالْوُجُوبِ. فَأُكِّدَ بِذَلِكَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمَرْءِ مَنْعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ، وَإِهْمَالَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ. وَقَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَجَاءَ الرِّزْقُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ، لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَالْمُتَكَرِّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: أُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ، وَأَتَى بِمَرْفُوعِهِ نَكِرَةً لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَعُمَّ، وَيَتَنَاوَلُ أَوَّلًا مَا سِيقَ لِأَجْلِهِ: وَهُوَ حُكْمُ الْوَالِدَاتِ فِي الْإِرْضَاعِ، وَحُكْمُ الْمَوْلُودِ لَهُ فِي الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ اللَّذَيْنِ لِلْوَالِدَاتِ. وَالْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: كَالثَّالِثَةِ، لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَتَعُمَّ أَيْضًا، وَهِيَ كَالشَّرْحِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا لَمْ تُكَلَّفْ إِلَّا طَاقَتَهَا لَا يَقَعُ ضَرَرٌ لَا لِلْوَالِدَةِ وَلَا لِلْمَوْلُودِ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، فَلَا يُنَاسِبُ الْعَطْفَ بِخِلَافِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُمَا مُغَايِرَةٌ لِلْأُخْرَى، وَمُخَصَّصَةٌ بِحُكْمٍ لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُ النَّفْسِ فَوْقَ الطَّاقَةِ، وَمُضَارَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقَتٍ، أَتَى بِالْجُمْلَتَيْنِ فِعْلِيَّتَيْنِ، أَدْخَلَ عَلَيْهِمَا حَرْفَ النَّفْيِ الَّذِي هُوَ: لَا، الْمَوْضُوعُ لِلِاسْتِقْبَالِ غَالِبًا، وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ: لَا تُضَارَّ، أَدْخَلَ حَرْفَ النَّهْيِ الْمُخَلِّصَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّ الشَّفَقَةِ بِقَوْلِهِ: بِوَلَدِهَا، فَأَضَافَ الْوَلَدَ إِلَيْهَا، وَبِقَوْلِهِ. بِوَلَدِهِ، فَأَضَافَ الْوَلَدَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ

لِطَلَبِ الِاسْتِعْطَافِ وَالْإِشْفَاقِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ عَدَمِ مُضَارَّةِ الْوَالِدَةِ عَلَى عَدَمِ مُضَارَّةِ الْوَالِدِ مُرَاعَاةً لِلْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، إِذْ بدىء فِيهِمَا بِحُكْمِ الْوَالِدَاتِ، وَثَنَّى بِحُكْمِ الْوَالِدِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُضَارَّ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُؤَنَّثٌ وَمُذَكَّرٌ مَعْطُوفَانِ، فَالْحُكْمُ فِي الْفِعْلِ السَّابِقِ عَلَيْهِمَا لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا، تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ وَهِنْدٌ وَقَامَتْ هِنْدٌ وَزَيْدٌ، وَيَقُومُ زَيْدٌ وَهِنْدٌ، وَتَقُومُ هِنْدٌ وَزَيْدٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُؤَنَّثُ مَجَازِيًّا بِغَيْرِ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ فِيهِ فَيَحْسُنُ عَدَمُ إِلْحَاقِ الْعَلَامَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «1» . وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَالْجُمْلَتَانِ قَبْلَ هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ، اعْتِرَاضٌ بِهِمَا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: وَعَلَى الْوَرَثَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، بِالْجَمْعِ. وَالظَّاهِرُ فِي الْوَارِثِ أَنَّهُ وَارِثُ الْمَوْلُودِ لَهُ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلُودَ لَهُ وَهُوَ الْأَبُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ فِي جُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَوْلُودُ لَهُ وَجَبَ عَلَى وَارِثِهِ ما وجب عليه من رِزْقِ الْوَالِدَاتِ، وَكِسْوَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَجَنُّبِ الضِّرَارِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ: وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ يَلْزَمُهُ الْإِرْضَاعُ كَمَا كَانَ يَلْزَمُ أَبَا الصَّبِيِّ. لَوْ كَانَ حَيًّا، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْوَارِثُ هُوَ الْبَاقِي مِنْ وَالِدَيِ الْمَوْلُودِ بَعْدَ وَفَاةِ الْآخَرِ مِنْهُمَا، وَيَرَى مَعَ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْوَالِدَةُ هِيَ الْبَاقِيَةُ أَنْ يُشَارِكَهَا الْعَاصِبُ إِرْضَاعَ الْمَوْلُودِ عَلَى قَدْرِ حَظِّهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، كَمَا قَالَ: «وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا» . وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَبَشِيرُ بْنُ نَصْرٍ، قَاضِي عمر بن عبد العزيز الْوَارِثُ هُوَ الصَّبِيُّ نَفْسُهُ، أَيْ: عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِذَا وَرِثَ أَبَاهُ إِرْضَاعَ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَارِثُ الْوَلَدُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ، ذَكَرَهُ السَّجَاوَنْدِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ كَأَنَّهَا نَابَتْ عَنِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى: الْمَوْلُودِ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَى وَارِثِ الْمَوْلُودِ لَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ فِي آخَرِينَ: الْوَارِثُ وَارِثُ الْمَوْلُودِ.

_ (1) سورة القيامة: 75/ 9.

وَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: وَارْثُ الْمَوْلُودِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا، وَيَلْزَمُهُمْ إِرْضَاعُهُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهُ. وَقِيلَ: وَارِثُهُ مِنْ عَصَبَتِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، مِثْلَ: الْجَدِّ، وَالْأَخِ، وَابْنِ الْأَخِ، وَالْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمِّ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقِيلَ: مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ قَالَ: الْأَجْدَادُ ثُمَّ الْأُمَّهَاتُ مِثْلُ ذَلِكَ أَيِ: الْأُجْرَةُ وَالنَّفَقَةُ وَتَرْكُ الْمُضَارَّةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَأَنَّهَا نَابَتْ عَنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْلُودِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَى وَارِثِهِ أَيْ وَارِثِ الْمَوْلُودِ. وَقِيلَ: الْوَارِثُ هُنَا مَنْ يَرِثُ الْوِلَايَةَ عَلَى الرَّضِيعِ، يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الرَّضِيعِ عَلَيْهِ، مِثْلَ مَا كَانَ يُنْفِقُ أَبُوهُ. فَتَلَخَّصَ فِي الْوَارِثِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ، وَفِي بَعْضِهَا تَفْصِيلٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَجِيءُ بِالتَّفْصِيلِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، مِنْ قَوْلِهِ: مِثْلُ ذَلِكَ، إِلَى مَا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ مِنْ رِزْقِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى مَا شَرَحَ فِي الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ وَعَلَى الْوارِثِ وَقَالَهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ. وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ: مِثْلَ ذَلِكَ، هُوَ: أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالنَّفَقَةِ، قَالَ: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وعطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، وَقَبِيصَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَغَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِثْلُ ذَلِكَ، أَنْ لَا يُضَارَّ، وَأَمَّا الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ فَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مالك إن الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ أَنَّ الرِّزْقَ وَالْكِسْوَةَ عَلَى الْوَارِثِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ لَا يُضَارَّ الْوَارِثُ. انْتَهَى. وَأَنَّى يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ؟

وَقِيلَ: مِثْلُ ذَلِكَ، أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالنَّفَقَةُ وَتَرْكُ الْمُضَارَّةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، قَالُوا: وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَلَى: الْمَوْلُودِ لَهُ، النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ، وَأَنْ لَا يُضَارَّ، فَيَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ، مُشِيرًا إِلَى جَمِيعِ مَا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الضَّمِيرُ فِي: أَرَادَا، عَائِدٌ عَلَى الْوَالِدَةِ والمولود له، والفصال: الْفِطَامُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ. إِذَا ظَهَرَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ اللَّبَنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَرَاضِيهِمَا، فَلَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا وَأَبَى الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنِ زيد، وسفيان وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: الْفِطَامُ سَوَاءً كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَأَنْ لَا يَتَضَرَّرَ الْمَوْلُودُ، وَأَمَّا بَعْدَ تَمَامِهِمَا فَمَنْ دَعَا إِلَى الْفَصْلِ فَلَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَلْحَقَ الْمَوْلُودَ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ ذَلِكَ تَوْسِعَةً بَعْدَ التَّحْدِيدِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْفِصَالُ أَنْ يَفْصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَوْلَ مَعَ صَاحِبِهِ بِتَسْلِيمِ الْوَلَدِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ لِئَلَّا يُقْدِمَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مُتَّهَمَ الْعَاقِبَةِ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ اجْتِمَاعِ الآراء. وقرىء: فَإِنْ أَرَادَ، وَيَتَعَلَّقُ عَنْ تَرَاضٍ، بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: فِصَالًا، أَيْ: فِصَالًا كَائِنًا، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ صَادِرًا. وَ: عَنْ، لِلْمُجَاوَزَةِ مَجَازًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا جرم، وتراض وَزْنُهُ تَفَاعُلٌ، وَعَرَضَ فِيهِ مَا عَرَضَ فِي أَظْبٍ جَمْعُ: ظَبْيٍ، إِذْ أَصْلُهُ أَظْبِيٌ عَلَى: أَفْعُلٍ، فَتَنْقَلِبُ الْيَاءُ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ العرب اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ لِغَيْرِ الْجَمْعِ، وَأَنَّهُ مَتَى أَدَّى إِلَى ذَلِكَ التَّصْرِيفِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَحُوِّلَتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَكَذَلِكَ فُعِلَ فِي تَرَاضٍ. وَتَفَاعُلٌ هُنَا فِي تَرَاضٍ، وَتَشَاوُرٍ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ مَعَانِيهِ مِنْ كَوْنِهِ وَاقِعًا مِنَ اثْنَيْنِ، وَأَخَّرَ التَّشَاوُرَ لِأَنَّهُ بِهِ يَظْهَرُ صَلَاحُ الْأُمُورِ وَالْآرَاءِ وَفَسَادُهَا، وَ: مِنْهُمَا، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِتَرَاضٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ مُرَادٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَتَشَاوُرٍ، أَيْ: مِنْهُمَا، وَيُحْتَمَلُ فِي تَشَاوُرٍ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاوَرَ الْآخَرَ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاوَرَ غَيْرَ الْآخَرِ لِتَجْتَمِعَ الْآرَاءُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ. فَلا جُناحَ

عَلَيْهِما هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَبْلَ هَذَا الْجَوَابِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ بِهَا يَصِحُّ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: فَفَصَلَاهُ، أَوْ فَفَعَلَا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي الْفِصَالِ. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ الْخِطَابُ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَتَلْوِينٍ فِي الضَّمِيرِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ فَإِنْ أَرادا فِصالًا بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ، وَكَأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْوَالِدَاتُ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ. وَ: اسْتَرْضَعَ، فِيهِ خِلَافٌ، هَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ، أَوْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، قَوْلَانِ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: اسْتَرْضَعَ مَنْقُولٌ مِنْ أَرْضَعَ، يُقَالُ: أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ، وَاسْتَرْضَعَهَا الصَّبِيُّ، فَتَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْجَحَ الْحَاجَةَ، وَاسْتَنْجَحَتْهُ الْحَاجَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْمَرَاضِعَ أَوْلَادَكُمْ، فَحُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَنْجَحَتِ الْحَاجَةُ، وَلَا تَذْكُرُ مَنِ اسْتَنْجَحَتْهُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا عِبَارَةً عَنِ الْأَوَّلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ نَقْلٌ مِنْ نَقْلِ، الْأَصْلِ رَضَعَ الْوَلَدُ، ثُمَّ تَقُولُ: أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ، ثُمَّ تَقُولُ اسْتَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ أَيْ: طَلَبْتُ مِنَ الْمَرْأَةِ إِرْضَاعَ الْوَلَدِ، كَمَا تَقُولُ اسْتَسْقَيْتُ زَيْدًا الْمَاءَ، وَاسْتَطْعَمْتُ عَمْرًا الْخُبْزَ، أَيْ: طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَنِي وَأَنْ يُطْعِمَنِي، فَكَمَا أَنَّ الْخُبْزَ وَالْمَاءَ مَنْصُوبَانِ وَلَيْسَا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، كَذَلِكَ: أَوْلَادَكُمْ، مَنْصُوبٌ لَا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَحُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْلَادَكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: لِأَوْلَادِكُمْ، وَقَدْ جَاءَ اسْتَفْعَلَ أَيْضًا لِلطَّلَبِ مُعَدًّى بِحَرْفِ الْجَرِّ فِي الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ فِي: أَفْعَلَ، مُعَدًّى إِلَى اثْنَيْنِ. تَقُولُ: أَفْهَمَنِي زَيْدٌ الْمَسْأَلَةَ، وَاسْتَفْهَمْتُ زَيْدًا عن المسألة، فلم يجىء: اسْتَطْعَمْتُ، وَيَصِيرُ نَظِيرُ: اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ مِنَ الذَّنْبِ، وَيَجُوزُ حَذْفُ: مِنْ، فَتَقُولُ: الذَّنْبَ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ: كَانَ فُلَانٌ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي فُلَانٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَبْلَهُ جُمْلَةٌ حُذِفَتْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: فَاسْتَرْضَعْتُمْ أَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الِاسْتِرْضَاعِ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ، هَذَا

خِطَابٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً، وَهُوَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ما آتَيْتُمْ. وإِذا سَلَّمْتُمْ شَرْطٌ، قَالُوا: وَجَوَابُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: عَلَيْكُمْ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَامِلَ فِي إِذَا أَوَّلًا الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا إِنَّ إِذَا تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: عَلَيْكُمْ، وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا قَبْلَهُ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ، سَقَطَتْ مِنْهُ أَلِفٌ، وَكَانَ: أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ، فَيَصِحُّ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنَى، وَلَا تَكُونُ إِذْ ذَاكَ شَرْطًا، بَلْ تَتَمَحَّضُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مَا أَتَيْتُمْ، بِالْقَصْرِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْمَدِّ وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: أَنَّ: أَتَيْتُمْ، بِمَعْنَى جِئْتُمُوهُ وَفَعَلْتُمُوهُ، يُقَالُ: أَتَى جَمِيلًا أَيْ: فَعَلَهُ، وَأَتَى إِلَيْهِ، إِحْسَانًا فَعَلَهُ، وَقَالَ إِنَّ وَعْدَهُ كَانَ مَأْتِيًّا، أَيْ: مَفْعُولًا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: فَمَا يَكُ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ وَتَوْجِيهُ الْمَدِّ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا أَعْطَيْتُمْ، وَ: مَا، فِي الْوَجْهَيْنِ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَعْطَى احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ ثَانٍ، لِأَنَّهَا تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا ضَمِيرُ: مَا، وَالْآخَرُ، الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى فِي: مَا آتَيْتُمْ، أَيْ: مَا أَرَدْتُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ إِيتَاءَهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ جَوَازُ الِاسْتِرْضَاعِ لِلْوَلَدِ غَيْرَ أُمِّهِ إِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَسَلَّمُوا إِلَى الْمَرَاضِعِ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ مَا سَلَّمْتُمْ هُوَ الْأُجْرَةُ عَلَى الاسترضاع، قاله السدي، وسفيان. وَلَيْسَ التَّسْلِيمُ شَرْطًا فِي جَوَازِ الِاسْتِرْضَاعِ وَالصِّحَّةِ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، لِأَنَّ فِي إِيتَائِهَا الْأُجْرَةَ معجلا هنيا توطين لنفسها واستعطاف مِنْهَا عَلَى الْوَلَدِ، فَتُثَابِرَ عَلَى إِصْلَاحِ شَأْنِهِ. وَقِيلَ: سَلَّمْتُمُ الْأَوْلَادَ إِلَى مَنْ رَضِيَهَا الْوَالِدَانِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِإِطْلَاقِ: مَا، الْمَوْضُوعَةِ لِمَا لَا يَعْقِلُ عَلَى الْعَاقِلِ، وَقِيلَ: سَلَّمْتُمْ إِلَى الْأُمَّهَاتِ أَجْرَهُنَّ بِحِسَابِ مَا أَرْضَعْنَ إِلَى وَقْتِ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، أَيْ: سَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَرَضِيَ، وَكَانَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا، وَقَصْدِ خَيْرٍ وَإِرَادَةِ مَعْرُوفٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ.

وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ: فِي: مَا آتَيْتُمْ، أَنْ تَكُونَ: مَا، مَصْدَرِيَّةً أَيْ: إِذَا سَلَّمْتُمُ الْإِتْيَانَ، وَالْمَعْنَى مَعَ الْقَصْرِ، وَكَوْنُ: مَا، بِمَعْنَى الَّذِي، أَنْ يَكُونَ الَّذِي مَا آتَيْتُمْ نَقْدَهُ وَإِعْطَاءَهُ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الضَّمِيرُ مَقَامَهُ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَا آتَيْتُمُوهُ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ مِنَ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً اسْتَغْنَى الْكَلَامُ عَنْ هَذَا التَّقْدِيرِ، وَرَوَى شَيْبَانُ عن عاصم: ما أُوتِيتُمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: مَا آتَاكُمُ اللَّهُ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَنَحْوِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «1» وَيَتَعَلَّقُ: بِالْمَعْرُوفِ، بِ: سَلَّمْتُمْ، أَيْ: بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ الَّذِي تَطِيبُ النَّفْسُ بِهِ، وَيُعِينُ عَلَى تَحْسِينِ نَشْأَةِ الصَّبِيِّ. وَقِيلَ: تتعلق: بآتيتم. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْآبَاءِ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا لِأَوْلَادِهِمْ مَرَاضِعَ إِذَا اتَّفَقُوا مَعَ الْأُمَّهَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّةً جَاهِلِيَّةً، كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْمَرَاضِعَ لِأَوْلَادِهِمْ وَيُفَرِّغُونَ الْأُمَّهَاتِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَالِاسْتِصْلَاحِ لِأَبْدَانِهِنَّ، وَلِاسْتِعْجَالِ الْوَلَدِ بِحُصُولِ الْحَمْلِ، فَأَقَرَّهُمُ الشَّرْعُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ بِقَطْعِ مَا أَلِفُوهُ، وَجَعَلَ الْأُجْرَةَ عَلَى الْأَبِ بِقَوْلِهِ: إِذا سَلَّمْتُمْ. واتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَمَّا تَقَدَّمَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، خَرَجَ عَلَى تَقْدِيرِ أَمْرٍ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقًا بِأَمْرِ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِمْ، حَذَّرَ وَهَدَّدَ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا وَأَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ: بَصِيرٌ، مُبَالَغَةً فِي الْإِحَاطَةِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مَعَهُمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «2» فِي حَقِّ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، إِذْ كَانَ طِفْلًا. قَالُوا: وَفِي الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، مِنْهَا: تَلْوِينُ الْخِطَابِ، وَمَعْدُولُهُ فِي: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ، والتأكيد: بكاملين، وَالْعَدْلُ عَنْ رِزْقِ الْأَوْلَادِ إِلَى رِزْقِ أُمَّهَاتِهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ سَبَبُ تَوَصُّلِ ذَلِكَ. وَالْإِيجَازُ فِي: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ وَتَلْوِينُ الْخِطَابِ: فِي وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ثُمَّ قَالَ: إِذا سَلَّمْتُمْ وَهُوَ خِطَابٌ لِلْآبَاءِ خَاصَّةً، وَالْحَذْفُ فِي: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا التَّقْدِيرُ: مَرَاضِعَ لِلْأَوْلَادِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ انْتَهَى. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ إِذَا طَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ فيقاربوا

_ (1) سورة الحديد: 57/ 7. (2) سورة طه: 20/ 39.

انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِإِمْسَاكِهِنَّ، وَهُوَ مُرَاجَعَتُهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِنَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِالْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ، بِأَنْ نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِمْسَاكِهِنَّ ضِرَارًا بِهِنَّ، وَجَاءَ النَّهْيُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ، ثُمَّ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَارَّةِ لِلنِّسَاءِ، فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْقَبِيحَةِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْفِعْلِ السَّيِّءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ إِيذَاءِ النِّسَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، أَيْ: إِنَّ إِمْسَاكَ النِّسَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَارَّةِ، وَتَطْوِيلِ عِدَّتِهِنَّ، إِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى نَفْسِهِ، حَيْثُ ارْتَكَبَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ نَهَى تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هزؤا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ آيَاتٍ فِي النِّكَاحِ، وَالْحَيْضِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْخُلْعِ، وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ، وَتَضَمَّنَتْ أَحْكَامًا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِيجَابَ حُقُوقٍ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ عَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ حَتَّى كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ احْتِقَارًا لَهُنَّ، وَذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ مَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَهُوَ ظَالِمٌ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هزؤا، بَلْ تُؤْخَذُ بِجِدٍّ وَقَبُولٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ عَادَاتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يُلْقِي اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ بِالْقَبُولِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ شُكْرًا لِنِعْمَتِهِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ وَاعِظٌ لَكُمْ، فَيَنْبَغِي قَبُولُهُ وَالِانْتِهَاءُ عِنْدَهُ، ثُمَّ أمر بتقوى الله تعالى، وَبِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَهُوَ لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ إِذَا طَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ لَا تَعْضُلُوهُنَّ عَنْ تَزَوُّجِ مَنْ أَرَدْنَ إِذَا وَقَعَ تَرَاضٍ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَخَاطِبِهَا، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ مِنْهُمُ امْرَأَةً وَبَتَّهَا يَعْضُلُهَا عَنِ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إِلَى الْعَضْلِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يُوعَظُ بِهِ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَزْدَجِرْ عَنْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَنَبَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ إِلَى التَّمْكِينِ مِنَ التَّزْوِيجِ وَعَدَمِ الْعَضْلِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَطْهَرَ لِمَا يُخْشَى مِنَ اجْتِمَاعِ الْخَاطِبِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى رِيبَةٍ إِذَا مُنِعَا مِنَ التَّزْوِيجِ، ثُمَّ نَسَبَ الْعِلْمَ إِلَيْهِ تَعَالَى وَنَفَاهُ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ، إِذْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَفَايَا الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا. ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ أَشْيَاءَ مِنْ نَتَائِجِ التَّزْوِيجِ مِنْ إِرْضَاعِ الْوَالِدَاتِ أَوْلَادَهُنَّ، وَذِكْرِ حَدِّ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ، وَمَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَعَلَى وَارِثِهِ إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ مِنَ

[سورة البقرة (2) : الآيات 234 إلى 239]

النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِجْحَافٍ لَا بِالزَّوْجِ وَلَا بِالزَّوْجَةِ، وَذَكَرَ جَوَازَ فَصْلِهِ وَفِطَامِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِرِضَا أَبِيهِ وَأُمِّهِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَجَوَازَ الِاسْتِرْضَاعِ لِلْأَوْلَادِ إِذَا اتَّفَقَ الرَّجُلُ وَالزَّوْجَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَى تَسْلِيمِ أَجْرِ الْأَظْآرِ تَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِنَّ وَإِعَانَةً لَهُنَّ عَلَى مَحَبَّةِ الصَّغِيرِ، وَاشْتِمَالِهِنَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْشَأَ كَأَنَّهُ قَدْ أَرْضَعَتْهُ أُمُّهُ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ جَالِبٌ لِلْمَحَبَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، كَمَا خَتَمَ تَعَالَى الْآيَةَ الْأُولَى بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِالْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُجَازَاةِ، وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ خالف أمره تعالى. [سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 239] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) يَذَرُ: مَعْنَاهُ يَتْرُكُ، وَيُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْأَمْرُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَلَا الْمَفْعُولِ، وَجَاءَ الْمَاضِي مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ.

خَبِيرٌ: لِلْمُبَالَغَةِ، مِنْ خَبِرْتُ الشَّيْءَ عَلِمْتُهُ، وَمِنْهُ: قَتَلَ أَرْضًا خَابَرَهَا، وَخَبَرْتُ زَيْدًا اخْتَبَرْتُهُ، وَلِهَذِهِ الْمَادَّةِ يَرْجِعُ الْخَبَرُ لِأَنَّهُ الشَّيْءُ الْمُعْلَمُ بِهِ، وَالْخَبَارُ الْأَرْضُ اللَّيِّنَةُ. التَّعْرِيضُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الشَّيْءِ دُونَ تَصْرِيحٍ. الْخِطْبَةُ: بِكَسْرِ الْخَاءِ الْتِمَاسُ النِّكَاحِ، يُقَالُ خَطَبَ فُلَانٌ فُلَانَةً، أَيْ: سَأَلَهَا خِطْبَهُ أَيْ: حَاجَتَهُ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا خَطْبُكَ؟ أَيْ: مَا حَاجَتُكَ، وَأَمْرُكَ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطْبَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخَطْبِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: إِنَّهُ يُحْسِنُ الْقِعْدَةَ وَالْجِلْسَةَ، يُرِيدُ: الْقُعُودَ وَالْجُلُوسَ. وَالْخُطْبَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى: الزَّجْرِ، وَالْوَعْظِ، وَالْأَذْكَارِ، وَكِلَاهُمَا رَاجِعٌ لِلْخِطَابِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، وَكَانَتْ سَجَاحُ يَقُولُ لَهَا الرَّجُلُ: خِطْبٌ، فَتَقُولُ: نِكْحٌ. أَكَنَّ الشَّيْءَ: أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ، وَكَنَّهُ: سَتَرَهُ شَيْءٌ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَكَنَّ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، كَأَشْرَقَتِ. الْعُقْدَةُ: فِي الْحَبْلِ، وَفِي الْغُصْنِ مَعْرُوفَةٌ، يُقَالُ: عَقَدْتُ الْحَبْلَ وَالْعَهْدَ، وَيُقَالُ: أَعْقَدْتُ الْعَسَلَ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الِاشْتِدَادِ، وَتَعَقَّدَ الْأَمْرُ عَلَيَّ اشْتَدَّ، وَمِنْهُ الْعُقُودُ. الْمُقَتِّرُ: الْمُقِلُّ أَقْتَرَ الرَّجُلُ وَقَتَّرَ يُقْتِرُ وَيُقَتِّرُ، وَالْقِلَّةُ مَعْنًى شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَوَاقِعِ اشْتِقَاقِهِ، وَمِنْهُ الْقَتِيرُ، وَهُوَ مِسْمَارُ الدِّرْعِ، وَالْقَتْرَةُ أَدْنَى الْغُبَارِ، وَالنَّامُوسِ الصِّغَارِ، وَالْقُتَارُ: رِيحُ الْقِدْرِ. قَالَ طَرَفَةُ: حِينَ قَالَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِهِمْ ... أَقُتَارٌ ذَاكَ؟ أَمْ رِيحُ قُطُرْ؟ وَالْقُتُرُ: بُيُوتُ الصَّيَّادِينَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: رُبَّ رَامٍ مِنْ بَنِي ثُعَلٍ ... مُثْلِجٍ كَفَّيْهِ فِي قُتُرِهْ النِّصْفُ: هُوَ الْجُزْءُ مِنَ اثْنَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، وَيُقَالُ: بكسر النون وضمها، ونضيف: وَمِنْهُ: مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ، أَيْ: نِصْفَهُ، كَمَا يُقَالُ: ثُمُنٌ وَثُمَيْنٌ، وَعُشْرٌ وَعُشَيْرٌ، وَسُدُسٌ وَسُدَيْسٌ، وَمِنْهُ قِيلَ: النَّصَفُ. الْمِقْنَعَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ نَصِيفٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ بَلَغَ نِصْفَ غَيْرِهِ فَهُوَ نِصْفٌ، يُقَالُ: نَصَفَ النَّهَارُ يَنْصُفُ، وَنَصَفَ الْمَاءُ الْقَدَحَ، وَالْإِزَارُ السَّاقَ، وَالْغُلَامُ الْقُرْآنَ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِي جَمِيعِ هَذَا: أَنْصَفَ. الْمُحَافَظَةُ عَلَى الشَّيْءِ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الْحِفْظِ، حَفِظَ الْمَكَانَ حَرَسَهُ،

وَحَفِظَ الْقُرْآنَ تَذَكَّرَهُ غَائِبًا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ، وَحَفِظَ فُلَانٌ: غَضِبَ، وَأَحْفَظَهُ: أَغْضَبَهُ، وَمَصْدَرُ: حَفِظَ، بِمَعْنَى غَضِبَ: الْحَفِيظَةُ وَالْحِفْظُ. الرُّكُوبُ: مَعْرُوفٌ، وَرُكْبَانٌ: جَمْعُ رَاكِبٍ، وَهُوَ صِفَةٌ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَحَسُنَ أَنْ يُجْمَعَ جَمْعَ الْأَسْمَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي الْأَسْمَاءِ مَحْفُوظٌ قَلِيلٌ، قَالُوا: حَاجِرٌ وَحُجْرَانٌ، وَمِثْلُ، رُكْبَانٍ: صُحْبَانٌ، وَرُعْيَانٌ، جَمْعُ صَاحِبٍ وَرَاعٍ، فَإِنْ لَمْ تُسْتَعْمَلِ الصِّفَةُ اسْتِعْمَالَ الأسماء لم يجىء فِيهَا فِعْلَانٌ، لَمْ يَرِدْ مِثْلُ: ضِرْبَانٍ وَقِتْلَانٍ فِي جَمْعِ: ضَارِبٍ وَقَاتِلٍ. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ عِدَّةِ طَلَاقِ الْحَيْضِ، وَاتَّصَلَتِ الْأَحْكَامُ إِلَى ذِكْرِ الرَّضَاعِ، وَكَانَ فِي ضِمْنِهَا قَوْلُهُ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ «1» أَيْ: وَارِثُ الْمَوْلُودِ لَهُ، ذِكْرُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِذْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ طَلَاقِ الْحَيْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُتَوَفَّوْنَ، بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُمْ: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ. وَإِعْرَابُ: الَّذِينَ، مُبْتَدَأٌ واختلف أنه خَبَرٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالْفِرَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا خَبَرَ لَهُ، بَلْ أَخْبَرَ عَنِ الزَّوْجَاتِ الْمُتَّصِلِ ذكرهن: بالذين، لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعَهُنَّ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ، فَجَاءَ الْخَبَرُ عَمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْمَعْنَى: مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَرَبَّصَتْ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ... عَلَى ابن أبي ذيان أن يَتَنَدَّمَا فَقَالَ: لَعَلِّي، ثُمَّ قَالَ: أَنْ يَتَنَدَّمَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَعَلَّ ابْنَ أَبِي ذَيَّانَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً أَنْ يَتَنَدَّمَا وَقَالَ الشَّاعِرُ: بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ، وَقَتْلَهُ ... بِغَيْرِ دَمٍ، دَارَ الْمَذَلَّةِ حَلَّتِ أَلْغَى ابْنَ قَيْسٍ، وَقَدِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ قَتْلِهِ أَنَّهُ ذُلٌّ وَتَحْرِيرُ مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا ذَكَرَتْ أَسْمَاءً مُضَافَةً إِلَيْهَا، فِيهَا مَعْنَى الْخَبَرِ، أَنَّهَا تَتْرُكُ الْإِخْبَارَ عَنِ الِاسْمِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 233.

الْخَبَرُ عَنِ الْمُضَافِ، مِثَالُهُ: إِنَّ زَيْدًا وَأُخْتَهُ مُنْطَلِقَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ أُخْتَ زَيْدٍ مُنْطَلِقَةٌ وَالْبَيْتُ الْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدُوا مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الضَّرْبَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَمَنْ يَكُ سَائِلًا عَنِّي فَإِنِّي ... وَجِرْوَةَ لَا تَرُودُ وَلَا تُعَارُ وَالرَّدُّ عَلَى الْفَرَّاءِ، وَتَأْوِيلُ الْأَبْيَاتِ وَالْآيَةِ، مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهُ خَبَرًا، وَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: هُوَ مَلْفُوظٌ بِهِ، وَهُوَ: يَتَرَبَّصْنَ، وَلَا حَذْفٌ يُصَحِّحُ مَعْنَى الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ رُبِطَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ النُّونَ فِي: يَتَرَبَّصْنَ، عَائِدٌ، فَقِيلَ: عَلَى الْأَزْوَاجِ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، فَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَقِيلَ: يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجَهُمْ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَذْفٍ، وَكَانَ إِخْبَارًا صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقِيلَ: ثَمَّ حَذْفٌ يُصَحِّحُ مَعْنَى الْخَبَرِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْحَذْفِ، فَقِيلَ: مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ، وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَقِيلَ: مِنَ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ، أَوْ: بَعْدَ مَوْتِهِمْ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَخَبَرُهُ يَتَرَبَّصْنَ، تَقْدِيرُهُ: أَزْوَاجُهُمْ يَتَرَبَّصْنَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ بِجُمْلَتِهِ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا. وَقَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ بَيَانٌ لِلْحُكْمِ الْمَتْلُوِّ، وَهِيَ جُمْلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، قَالُوا: وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ لَفْظُ أَمْرٍ بَعْدُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مَعْنَى الْأَمْرِ لَا لَفْظُهُ، فَيَحْتَاجُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ يُسْتَغْنَى عَنْهُ إِذَا حَضَرَ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَحَسُنَ مَجِيءُ الْآيَةِ هَكَذَا أَنَّهَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذِ الْقَصْدُ بِالْمُخَاطَبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى آخِرِهَا لِلرِّجَالِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْحُكَّامُ وَالنُّظَّارُ عِبَارَةُ الْأَخْفَشِ وَالْمُبَرِّدِ مَا ذَكَرْنَاهُ. انْتَهَى كلامه. وظاهر قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ، الْعُمُومُ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ تُوَفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَةُ والكتابية والصغيرة.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 38.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عِدَّةَ الْكِتَابِيَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّةً، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا عِدَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْإِحْدَادُ، وَتَخْصِيصُ الْحَامِلِ قِيلَ: بِقَوْلِهِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ «1» الْآيَةَ، وَلَمْ يُخَصِّصِ الشَّافِعِيُّ هُنَا الْعُمُومَ فِي حَقِّ الْحَامِلِ إِلَّا بِالسُّنَّةِ لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا وَرَدَتْ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ فِي الْمُطَلَّقَةِ، لَا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَعَمُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ، وَأَخَصُّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ لَا يُتَوَفَّى، وَالَّتِي تُوَفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ تَكُونُ حَامِلًا وَقَدْ لَا تَكُونُ، فَامْتُنِعَ التَّخْصِيصُ. وَقِيلَ: الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ أَوَّلًا الْحَوَامِلَ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ «2» وَعِدَّةُ الْحَامِلِ وَضْعُ حَمْلِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ تَمَامَ عِدَّتِهَا آخِرُ الْأَجَلَيْنِ ، وَاخْتَارَهُ سَحْنُونُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَيْ: يَنْتَظِرْنَ. قِيلَ: وَالتَّرَبُّصُ هُنَا الصَّبْرُ عَنِ النِّكَاحِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، قَالَ: وَلَيْسَ الْإِحْدَادُ بِشَيْءٍ وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَطَيَّبَ، وَضُعِّفَ قَوْلُهُ. وَقِيلَ: تَرْكُ التَّزَوُّجِ وَلُزُومُ الْبَيْتِ وَالْإِحْدَادُ، وَهُوَ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الزِّينَةِ، وَمِنْ لُبْسِ الْمَصْبُوغِ الْجَمِيلِ مِثْلَ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالْخُضْرَةِ، وَالطِّيبِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى الْإِحْدَادِ، بَلِ التَّرَبُّصُ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» . وَكَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَصَحَّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَتَلْزَمُ الْمَبِيتَ فِي بَيْتِهَا» . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَغَيْرُهُمَا: تَبِيتُ حَيْثُ شَاءَتْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَدَاوُدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ تَعَالَى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَلْتَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالُوا: مَعْنَاهُ وَعَشْرَ لَيَالٍ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ التَّاءَ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُرَادُ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا، فَيَدْخُلُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، قِيلَ: وغلب حكم الليالي

_ (1- 2) سورة الطلاق: 65/ 4.

إِذِ اللَّيَالِي أَسْبَقُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَالْأَيَّامَ فِي ضِمْنِهَا، وَعَشْرٌ أَخَفُّ فِي اللَّفْظِ، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَحَمُّ: لَيْسَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْعِدَّةِ، بَلْ تَنْقَضِي بِتَمَامِ عَشْرِ لَيَالٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَاهُ وَعَشْرَ مُدَدٍ كُلُّ مُدَّةٍ مِنْهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سِرْنَا خَمْسًا، أَيْ: بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ الشَّاعِرُ: فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يوم وليلة ... وكان النكيرات تُضِيفَ وَتَجْأَرَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقيل عشرا ذهابا إِلَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا، وَلَا تَرَاهُمْ قَطُّ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ ذَاهِبِينَ إِلَى الْأَيَّامِ، تَقُولُ: صُمْتُ عَشْرًا، وَلَوْ ذُكِرَتْ خَرَجَتْ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَمِنَ الْبَيِّنِ فِيهِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «1» إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «2» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ عَشْرٌ بِأَنَّهَا لَيَالٍ لِأَجْلِ حَذْفِ التَّاءِ، وَلَا إِلَى تَأْوِيلِهَا بِمُدَدٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، بَلِ الَّذِي نَقَلَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الْمَعْدُودُ مُذَكَّرًا وَحَذَفْتَهُ، فَلَكَ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْأَصْلُ: أَنْ يَبْقَى الْعَدَدُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يُحْذَفِ الْمَعْدُودُ، فَتَقُولُ: صُمْتُ خَمْسَةً. تُرِيدُ: خَمْسَةَ أَيَّامٍ، قَالُوا: وَهُوَ الْفَصِيحُ، قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ مِنْهُ كُلِّهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ: صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُصَامُ مِنَ الشَّهْرِ إِنَّمَا هِيَ الْأَيَّامُ، وَالْيَوْمُ مُذَكَّرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِلَّا فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ ... يُتَمِّمُ خَمْسًا لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ يُرِيدُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَجَاءَ قَوْلُهُ: عَشْرًا عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَحُسْنُهُ هُنَا أَنَّهُ مَقْطَعُ كَلَامٍ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَوَاصِلِ، كَمَا حَسَّنَ قَوْلَهُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «3» كَوْنُهُ فَاصِلَةً، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ مَجِيءُ هَذَا عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، فَقَوْلُهُ: وَلَوْ ذُكِرَتْ لَخَرَجَتْ عَنْ كَلَامِهِمْ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ لَوْ ذُكِرَ لَكَانَ أَتَى عَلَى الْكَثِيرِ الَّذِي نَصُّوا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْفَصِيحُ، إِذْ حَالُهُ عِنْدَهُمْ مَحْذُوفًا كَحَالِهِ مُثْبَتًا فِي الْفَصِيحِ، وَجَوَّزُوا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَرَاهُمْ قَطُّ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ، كَمَا ذُكِرَ، بَلِ اسْتِعْمَالُ التَّذْكِيرِ هُوَ الْكَثِيرُ الْفَصِيحُ فِيهِ. كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ

_ (1- 3) سورة طه: 20/ 103. (2) سورة طه: 20/ 104.

الْبَيِّنِ فِيهِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «1» قَدْ بَيَّنَّا مَجِيءَ هَذَا عَلَى الْجَائِزِ فِيهِ، وَأَنَّ مُحَسِّنَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ كَوْنُهُ فَاصِلَةً، وَقَوْلُهُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «2» فَائِدَةٌ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا أَنَّهُ عَلَى زَعْمِهِ أَرَادَ اللَّيَالِيَ، وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا، فَأَتَى بِقَوْلِهِ: إِلَّا يَوْمًا، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: عَشْرًا، إِنَّمَا يُرِيدُ بِهَا الْأَيَّامَ، لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ، فَقَالَ قَوْمٌ: عَشْرٌ، وَقَالَ، أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: يَوْمٌ، فَقَوْلُهُ: إِلَّا يَوْمًا، مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِمْ إِلَّا عَشْرًا، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْعَشْرِ الْأَيَّامَ، إِذْ لَيْسَ مِنَ التَّقَابُلِ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ: عَشْرُ لَيَالٍ، وَيَقُولُ بَعْضٌ: يَوْمًا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهْرِ، فَلَوْ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَاعْتَدَّتْ بِالْأَهِلَّةِ، كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا. وَإِنْ وَجَبَتْ فِي بَعْضِ شَهْرٍ، فَقِيلَ: تَسْتَوْفِي مِائَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: تَعْتَدُّ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنَ الْأَهِلَّةِ شُهُورًا، ثُمَّ تُكْمِلُ الْأَيَّامَ الْأُوَلَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ، فَتَعْتَدَّ إِثْرَ الْوَفَاةِ، جَاءَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا: إِلَيْهِنَّ، وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: بِأَنْفُسِهِنَّ، فَلَوْ مَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ الْوَفَاةِ، وَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِوَفَاتِهِ إِلَى أَنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ يَوْمِ الْوَفَاةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَطَاءٌ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو، وَرَبِيعَةُ: مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ . وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي إِسْنَادِ التَّرَبُّصِ إِلَيْهِنَّ تَأْثِيرًا فِي الْعِدَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ فَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ يَمُوتُ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَمِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ، لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لَا تَعْلَمُ بِوَفَاةِ الزَّوْجِ حَتَّى وَضَعَتِ الْحَمْلَ، أَنَّ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِلَّا لِأَنْ تَتَرَبَّصَ تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا، قَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

_ (1) سورة طه: 20/ 103. (2) سورة طه: 20/ 104.

وَقِيلَ: لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَشُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً أَنَّهُ إِذَا تَرَبَّصَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَلَمْ تَحِضْ فِيهَا، وَقِيلَ: لَا تَبْرَأُ إِلَّا بِحَيْضَةٍ تَأْتِي بِهَا فِي الْمُدَّةِ، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَرِيبَةٌ، فَتَمْكُثُ حَتَّى تَزُولَ رِيبَتُهَا. وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ناسخة لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ النَّسْخِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الثَّانِيَ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَوْلَ لَمْ يُنْسَخْ، وَإِنَّمَا هُوَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، بَلْ هُوَ عَلَى النَّدْبِ، فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَقَلُّ مَا تَعْتَدُّ بِهِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْحَوْلُ هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْحَوْلِ: كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ لَمَّا نَقَصَتْ مِنَ الْأَرْبَعِ إلى الاثنتين لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ كَانَ تَخْفِيفًا. قَالُوا: وَاخْتُصَّ هَذَا الْعَدَدُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا اسْتِبْرَاءً لِلْحَمْلِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَزَادَ اللَّهُ الْعَشْرَ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِظُهُورِ حَرَكَةِ الْجَنِينِ، أَوْ مُرَاعَاةً لِنَقْصِ الشُّهُورِ وَكَمَالِهَا، أَوِ اسْتِظْهَارًا لِسُرْعَةِ ظُهُورِ الْحَرَكَةِ أَوْ بطئها فِي الْجَنِينِ» . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا زِيدَتِ الْعَشْرُ لِأَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ يَكُونُ فِيهَا، وَظُهُورَ الْحَمَلِ فِي الْغَالِبِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ولد كل حامل يَرْكُضُ فِي نِصْفِ حَمْلِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ الْوَلَدَ فِي الْأَكْثَرِ، إِذَا كَانَ ذَكَرًا يَتَحَرَّكُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ أُنْثَى بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ عَشْرًا اسْتِظْهَارًا. قَالَ: وَخُصَّتِ الْعَشْرَةُ بِالزِّيَادَةِ لِكَوْنِهَا أَكْمَلَ الْأَعْدَادِ وَأَشْرَفَهَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «1» . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ فِرَاقَهُ لَمْ يَكُنْ بِالِاخْتِيَارِ، كَانَتْ مُدَّةُ وَفَاتِهِ أَطْوَلَ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ سَنَةً، ثُمَّ رُدَّتْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وعشرة أيام

_ (1) سورة البقرة: 2/ 196.

لِتَخْفِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ عَنْ مَاءِ الزَّوْجِ، ثُمَّ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ أُبِيحَ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ، إِذِ الْمَوْتُ لَا يَسْتَدِيمُ مُوَافَاةً إِلَى آخِرِ عُمْرِ أَحَدٍ. كَمَا قِيلَ: وَكَمَا تَبْلَى وُجُوهٌ فِي الثَّرَى ... فَكَذَا يَبْلَى عَلَيْهِنَّ الْحَزَنْ فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ. بُلُوغُ أَجَلِهِنَّ هُوَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ في التربص، والمخاطبون: بعليكم، الْأَوْلِيَاءُ، أَوِ الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ وَالْعُلَمَاءُ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْوَقَائِعِ، أَوْ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ. أَقْوَالٌ، وَرَفَعَ الْجُنَاحَ عَنِ الرِّجَالِ فِي بُلُوغِ النِّسَاءِ أَجَلَهُنَّ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ، وَيَأْخُذُونَهُنَّ بِأَحْكَامِ الْعَدَدِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ إِذْ ذَاكَ يَسُوغُ لَهُمْ نِكَاحُهُنَّ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ حَرَامًا، فَزَالَ الْجُنَاحُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالَّذِي فَعَلْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ: النِّكَاحُ الْحَلَالُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ شِهَابٍ، أَوِ: الطِّيبُ، وَالتَّزَيُّنُ، وَالنَّقْلَةُ مِنْ مَسْكَنٍ إِلَى مَسْكَنٍ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمَعْنَى: بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: بِالْإِشْهَادِ، وَقِيلَ: مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ مِمَّا يَتَوَقَّفُ النِّكَاحُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ، بِالْمَعْرُوفِ: بِالْوَجْهِ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُنَّ لَوْ فَعَلْنَ مَا هُوَ مُنْكَرٌ كَانَ عَلَى الْأَئِمَّةِ أَنْ يَكُفُّوهُنَّ، وَإِنْ فَرَّطُوا كَانَ عَلَيْهِمُ الْجُنَاحُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَعِيدٌ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ، وَخَبِيرٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا لَطَفَ وَالتَّقَصِّي لَهُ. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ نَفَى اللَّهُ الْحَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ، وَهُوَ: إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ، وَإِنَّكِ لَصَالِحَةٌ، وَإِنَّ مِنْ عَزْمِي أَنْ أَتَزَوَّجَ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ: أُرِيدُ النِّكَاحَ، وَأُحِبُّ امْرَأَةً كَذَا وَكَذَا يَعُدُّ أَوْصَافَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: إِنَّكِ لَنَافِقَةٌ، وَإِنْ قُضِيَ شَيْءٌ سَيَكُونُ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. أَوْ: يَصِفُ لَهَا نَفْسَهُ، وَفَخْرَهُ، وَحَسَبَهُ، وَنَسَبَهُ، كَمَا فَعَلَ الْبَاقِرُ مَعَ سَكِينَةَ بِنْتِ حَنْظَلَةَ، أَوْ يَقُولُ لِوَلِيِّهَا: لَا تَسْبِقْنِي بِهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ» . وَقَدْ أُوِّلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ فِيمَنْ يَتَزَوَّجُهَا، لَا أَنَّهُ أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ ، وَلِذَلِكَ كَرِهَ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَ: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ، وَرَآهُ مِنَ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا، أَوْ يَقُولُ: مَا عَلَيْكِ تَأَيُّمٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْكِ خَيْرًا، أَوْ رُبَّ رَجُلٍ يَرْغَبُ فِيكِ، أَوْ: يَهْدِي لَهَا وَيَقُومُ بِشَغْلِهَا إِذَا كَانَتْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي تَزْوِيجِهَا.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَوْ يَقُولُ كُلُّ مَا سِوَى التَّصْرِيحِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالتَّزْوِيجِ، وَلَا التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَلَا الرَّفَثُ، وَذِكْرُ الْجِمَاعِ، وَالتَّحْرِيضُ عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الشَّافِعِيَّةُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالنَّدْبِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَكَمَا خَالَفَ نَهْيُ حُكْمَيِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ فِي الْخِطْبَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ. أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أَيْ: أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ أَمْرِ النِّكَاحِ فَلَمْ تُعَرِّضُوا بِهِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذِكْرٍ، وَكَانَ الْمَعْنَى رَفْعُ الْجُنَاحِ عَمَّنْ أَظْهَرَ بِالتَّعْرِيضِ أَوْ سَتَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَمَّنْ تَعَرَّضَ بِاللَّفْظِ فَأَحْرَى أَنْ يَرْتَفِعَ عَمَّنْ كَتَمَ، وَلَكِنَّهُمَا حَالَةُ ظُهُورٍ وَإِخْفَاءٍ عُفِيَ عَنْهُمَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْقِدُ قَلْبَهُ عَلَى أَنَّهُ سَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ التَّعْرِيضَ، وَحَرَّمَ التَّصْرِيحَ فِي الْحَالِ، وَأَبَاحَ عَقْدَ الْقَلْبِ عَلَى التَّصْرِيحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِكْنَانُ فِي النَّفْسِ هُوَ الْمَيْلُ إِلَى الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ أَعْظَمُ حَالًا مِنْ مَيْلِ الْقَلْبِ. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ هَذَا عُذْرٌ فِي التَّعْرِيضِ، لِأَنَّ الْمَيْلَ مَتَى حَصَلَ فِي الْقَلْبِ عَسُرَ دَفْعُهُ، فَأَسْقَطَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ طَرَفٌ مِنَ التَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ «1» وَجَاءَ الْفِعْلُ بِالسِّينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَقَارُبِ الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَرَاخِيهِ، لِأَنَّهُنَّ يذكرن عند ما انْفَصَلَتْ حِبَالُهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ بِالْمَوْتِ، وَتَتُوقُ إِلَيْهِنَّ الْأَنْفُسُ، وَيُتَمَنَّى نِكَاحُهُنَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، معنى: ستذكرونهن، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ تُنْهَوْا. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: سَتَذْكُرُونَهُنَّ، شَامِلٌ لِذِكْرِ اللِّسَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ، فَنَفَى الْحَرَجَ عَنِ التَّعْرِيضِ وَهُوَ كَسْرُ اللِّسَانِ، وَعَنِ الْإِخْفَاءِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ ذِكْرُ الْقَلْبِ. وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سَتَذْكُرُونَهُنَّ، وَالذِّكْرُ يَقَعُ عَلَى أَنْحَاءٍ وأوجه، فاستدرك منه وجه نَهَى فِيهِ عَنْ ذِكْرٍ مَخْصُوصٍ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَدْرِكْ لَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ لِانْدِرَاجِهِ تَحَتَ مُطْلَقِ الذِّكْرِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِكَ: زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِدًا وَلَكِنْ لَا يُوَاجِهُهُ بِشَرٍّ، فَاسْتَدْرَكَ هَذِهِ الْحَالَةَ مما

_ (1) سورة البقرة: 2/ 187. [.....]

يَحْتَمِلُهُ اللِّقَاءُ، وَإِنَّ مِنْ أَحْوَالِهِ الْمُوَاجَهَةَ بِالشَّرِّ، وَلَا يَحْتَاجُ لَكِنْ إِلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَهَا، لَكِنْ يَحْتَاجُ مَا بَعْدَ: لَكِنْ، إِلَى وُقُوعِ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمُوَاجَهَةِ بِالشَّرِّ يَسْتَدْعِي وُقُوعَ اللِّقَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ، أَيْنَ الْمُسْتَدْرَكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ. قُلْتُ، هُوَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ: سَتَذْكُرُونَهُنَّ عَلَيْهِ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فَاذْكُرُوهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ قَبْلَ لَكِنْ، بَلِ الِاسْتِدْرَاكُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ: سَتَذْكُرُونَهُنَّ، وَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ النِّسَاءِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَلَا النَّدْبِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ: فَاذْكُرُوهُنَّ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ قَوْلِكَ: سَأَلْقَاكَ وَلَكِنْ لَا تَخَفْ مِنِّي، لَمَّا كَانَ اللِّقَاءُ مِنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِ أَنْ يُخَافَ مِنَ الْمُلْقَى اسْتَدْرَكَ فَقَالَ: وَلَكِنْ لَا تَخَفْ مِنِّي. وَالسِّرُّ ضِدُّ الْجَهْرِ، وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، لَكِنَّهُ فِي سِرٍّ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ، وَقَدْ فَسَّرَ: السِّرَّ، هُنَا: بِالزِّنَا الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ. وَمِمَّا جَاءَ: السِّرُّ، فِي الوطء الحرام، قوله الْحُطَيْئَةِ: وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ الْقِصَاعِ وَقَالَ الْأَعْشَى: وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: السِّرُّ، هُنَا النِّكَاحُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَنْكِحُوهُنَّ وَتَكْتُمُونَ ذَلِكَ، فَإِذَا حَلَّتْ أَظْهَرْتُمُوهُ وَدَخَلْتُمْ بهن، فسمى العقد عليهن مُوَاعَدَةً، وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الْمُوَاعَدَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: جِمَاعًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ نَكَحْتُكِ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، يُرِيدُ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا تَحْتَ اللِّحَافِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى: لَا تُوَافِقُوهُنَّ الْمُوَاعَدَةَ وَالتَّوَثُّقَ وَأَخْذَ الْعُهُودِ فِي اسْتِسْرَارٍ مِنْكُمْ وَخِفْيَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، يَنْتَصِبُ، سِرًّا، عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسْتَسِرِّينَ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَنْتَصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَإِذَا انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ كَانَ مَفْعُولُ:

فواعدوهن مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: النِّكَاحُ، وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: مُوَاعَدَةً سِرًّا. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ فِي: وَانْتَصَبَ انْتِصَابَ الظَّرْفِ، عَلَى أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ فِي السِّرِّ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُوَاعَدَةِ بِمَا يُسْتَهْجَنُ لِأَنَّ مُسَارَّتَهُنَّ فِي الْغَالِبِ بِمَا يُسْتَحَى مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِهِ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّهُمْ: نُهُوا أَنْ يُوَاعِدَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ بِوَجْهِ التَّزْوِيجِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ السِّرِّ هُنَا بِالزِّنَا فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ مَعَ مُعْتَدَّةٍ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْمُوَاعَدَةِ سرا على النقد فبعيد أيضا، وأيد قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ الْمُوَاعَدَةِ بِالنِّكَاحِ سِرًّا وَجَهْرًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْمُوَاعَدَةِ بِالسِّرِّ. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ تَحَتَ: سِرًّا، مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا عَلَى أَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَهُ، وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ التَّعْرِيضِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَقُولَ لِلْمُعْتَدَّةِ: احْبِسِي عَلَيَّ نَفْسَكِ فَإِنَّ لِي بِكِ رَغْبَةً فَتَقُولُ هِيَ: وَأَنَا مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهدا عندي مواعدة. وإنما التعريض قَوْلِ الرَّجُلِ: إِنَّكُنَّ لَإِمَاءٌ كِرَامٌ، وَمَا قُدِّرَ كَانَ، وَإِنَّكِ لِمُعْجِبَةٌ وَنَحْوَ هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَهُوَ أَنْ تُعَرِّضُوا وَلَا تُصَرِّحُوا. فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ مواعدة قط إلا مواعدة مَعْرُوفَةً غَيْرَ مُنْكَرَةٍ، أَوْ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا بِأَنْ تَقُولُوا، أَيْ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إلّا التعريض، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ استثناء مِنْ: سِرًّا، لِأَدَائِهِ إِلَى قَوْلِكَ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا التَّعْرِيضَ انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَيَحْتَاجُ إِلَى تَوْضِيحٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَدَّرَهُ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ مُوَاعَدَةً قط إلا مواعدة معروفة غَيْرَ مُنْكَرَةٍ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَقُولُوا لَهُنَّ قَوْلًا تَعِدُونَهُنَّ بِهِ إِلَّا قَوْلًا مَعْرُوفًا، فَصَارَ هَذَا نَظِيرُ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا ضَرْبًا شَدِيدًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنْ مَجْرُورٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَدَّرَهُ: إِلَّا بِأَنْ تَقُولُوا، ثُمَّ أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ

سِرًّا، أَيْ نِكَاحًا بِقَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ، إِلَّا بِقَوْلٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ. فَحُذِفَ: مِنْ أَنْ، حَرْفُ الْجَرِّ، فَيَبْقَى مَنْصُوبًا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ انْتَصَبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، وَهَذَا انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ: الْبَاءُ، الَّتِي لِلسَّبَبِ. قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا مِنْ: سِرًّا، لِأَدَائِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا التَّعْرِيضَ، وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ مُوَاعَدًا، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ أَنْ يَنْصَبَّ عليها الْعَامِلُ، وَهَذَا عِنْدَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا نَظِيرَ: ما رأيت أحدا إلا حِمَارًا. لَكِنَّ هَذَا يَصِحُّ فِيهِ: مَا رَأَيْتُ إِلَّا حِمَارًا، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِيهِ، لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا التَّعْرِيضَ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَكُونُ مُوَاعِدًا بَلْ مُوَاعِدًا بِهِ النِّكَاحَ، فَانْتِصَابُ: سِرًّا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ: أَنْ تَقُولُوا، مَفْعُولًا، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. هَذَا تَوْجِيهٌ مَنَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ فِيمَا ذَكَرَ، وَهُوَ أَنْ يُمَكِّنَ تِلْكَ الْعَامِلَ السَّابِقَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ: أَنْ يَتَسَلَّطَ العامل عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، كَمَا مَثَّلْنَا بِهِ فِي قَوْلِكَ: مَا رَأَيَتُ أحدا إلّا حمارا. و: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارًا. وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ خِلَافٌ عَنِ الْعَرَبِ، فَمَذْهَبُ الْحِجَازِيِّينَ نَصْبُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَمَذْهَبُ بَنِي تَمِيمٍ إِتْبَاعُهُ لِمَا قَبْلَهُ فِي الْإِعْرَابِ، وَيَصْلُحُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنْ تَحْذِفَ الْأَوَّلَ وَتُسَلِّطَ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، فَتَقُولُ: مَا رَأَيَتُ إِلَّا حِمَارًا، وَمَا فِي الدَّارِ إِلَّا حِمَارٌ. وَيَصِحُّ فِي الْكَلَامِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ «1» . وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ قِسْمَيِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ هُوَ أَنْ لَا يُمْكِنَ تَسَلُّطُ الْعَامِلِ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، وَهَذَا حُكْمُهُ النَّصْبُ عِنْدَ الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَمِنْ ذَلِكَ: مَا زَادَ إِلَّا مَا نَقَصَ، وَمَا نَفَعَ إِلَّا مَا ضَرَّ. فَمَا بَعْدَ إِلَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ زَادَ وَلَا نَقَصَ، بَلْ يُقَدَّرُ الْمَعْنَى: مَا زَادَ، لَكِنَّ النَّقْصَ حَصَلَ لَهُ، وَمَا نَفَعَ لَكِنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ، فَاشْتَرَكَ هَذَا الْقِسْمُ مَعَ الْأَوَّلِ فِي تقدير إلّا بلكن، لَكِنَّ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ تَسْلِيطُ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي،

_ (1) سورة النساء: 4/ 157.

وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ التَّعْرِيضَ سَائِغٌ لَكُمْ، وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ مَا عَلِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ يَأْتِي عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ عَدَمِ تَوْجِيهِ الْعَامِلِ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، فَلِذَلِكَ مَنَعَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَظَاهِرُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا التَّحْرِيمُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، فِيمَنْ وَاعَدَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، قَالَ: فِرَاقُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَتَكُونُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا حَلَّتْ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَحَكَى مِثْلَ هَذَا ابْنُ حَارِثٍ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَزَادَ ما تقتضي تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ وَصَرَّحَتْ بِالْإِجَابَةِ وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَحَّ النِّكَاحُ، وَالتَّصْرِيحُ بِهِمَا مَكْرُوهٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُوَاعَدَةِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ نُهُوا عَنِ الْعَزْمِ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَ الْعَزْمُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَأَحْرَى أَنْ يُنْهَى عَنِ الْعُقْدَةِ. وَانْتِصَابُ: عُقْدَةَ، عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِتَضْمِينِ: تَعْزِمُوا، مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، فَضُمِّنَ مَعْنَى: تَنْوُوا، أَوْ مَعْنَى: تصححوا، أَوْ مَعْنَى: تُوجِبُوا، أَوْ مَعْنَى: تُبَاشِرُوا، أَوْ مَعْنَى: تَقْطَعُوا، أَيْ: تَبُتُّوا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عُقْدَةَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى تَعْزِمُوا تَعْقِدُوا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: ضُرِبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، أَيْ عَلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ ... حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ الْمَأْكَلِ الْأَصْلُ وَأَظَلُّ عَلَيْهِ، فَحَذَفَ: عَلَى، وَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ فَنَصَبَهُ، إِذْ أَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى بِعَلَى، قَالَ الشَّاعِرُ: عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ ... لِأَمْرٍ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ «1» وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ النِّكَاحِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَزْمُ العقدة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 227.

عَقْدُهَا بِالْإِشْهَادِ وَالْوَلِيِّ، وَبُلُوغُ الْكِتَابِ أَجَلَهُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ خِلَافُهُ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْكِتَابُ هُنَا هُوَ الْمَكْتُوبُ أَيْ: حَتَّى يَبْلُغَ مَا كَتَبَ، وَأَوْجَبَ مِنَ الْعِدَّةِ أَجَلَهُ أَيْ: وَقْتَ انْقِضَائِهِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَبْلُغَ فَرْضُ الْكِتَابِ أَجَلَهُ، وَهُوَ مَا فُرِضَ بِالْكِتَابِ مِنَ الْعِدَّةِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَى التَّزَوُّجِ، وَهَذَا النَّهْيُ مَعْنَاهُ التَّحْرِيمُ، فَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ فَسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَقَالَ عُمَرُ، وَالْجُمْهُورُ: لَا يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ. وَحَكَى ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ، وَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَقَوْلَانِ عَنِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ قَوْمٌ: يَتَأَبَّدُ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَتَأَبَّدُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ، وَدَخَلَ بِهَا فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: وَلَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَجَمَاعَةٌ: لَا يَتَأَبَّدُ، بَلْ يُفْسَخُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْهُ وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ. قَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حنيفة، والليث، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَالْمَدَنِيُّونَ غَيْرُ مَالِكٍ: تَعْتَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْآخَرُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ تَكْفِيهِمَا جَمِيعًا، سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْحَمْلِ، أَمْ بِالْإِقْرَاءِ، أَمْ بِالْأَشْهُرِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ قِيلَ: الْمَعْنَى مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ هَوَاهُنَّ، وَقِيلَ: مِنَ الْوَفَاءِ وَالْإِخْلَافِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاحْذَرُوهُ، الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فَاحْذَرُوا عِقَابَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَاحْذَرُوهُ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِ. انْتَهَى. فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنَ العزم، أي فاحذور مَا لَا يَجُوزُ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِ، فَتَكُونُ الْهَاءُ فِي: فَاحْذَرُوهُ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِ، عَائِدَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ فِي كَلَامِهِ أَنْ تَعُودَ عَلَى اللَّهِ، وَالْهَاءُ فِي: عَلَيْهِ، عَلَى مَا لَا يَجُوزُ، فَيَخْتَلِفُ

مَا تَعُودُ عَلَيْهِ الْهَاءَانِ، وَلَمَّا هَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِالصِّفَتَيْنِ الْجَلِيلَتَيْنِ لِيُزِيلَ عَنْهُمْ بَعْضَ رَوْعِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِقَابِهِ، لِيَعْتَدِلَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ فِي الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْمُقْتَضِيَتَيْنِ الْمُبَالَغَةَ فِي الْغُفْرَانِ وَالْحِلْمِ، لِيُقَوِّيَ رَجَاءَ الْمُؤْمِنِ فِي إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَمَعَهُ فِي غُفْرَانِهِ وَحِلْمِهِ إِنْ زَلَّ وَهَفَا، وَأَبْرَزَ كُلَّ مَعْنًى مِنَ التَّحْذِيرِ وَالْإِطْمَاعِ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَكَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّعْظِيمِ بِمَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، وَجَاءَ خَبَرُ أَنَّ الْأُولَى بِالْمُضَارِعِ، لِأَنَّ مَا يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ يَتَكَرَّرُ فَيَتَعَلَّقُ الْعِلْمُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْعِلْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ مُتَعَلِّقِهِ، وَجَاءَ خَبَرُ أَنَّ الثَّانِيَةَ بِالِاسْمِ لِيَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ضُرُوبًا مِنَ الْبَدِيعِ. مِنْهَا: مَعْدُولُ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ الْآيَةَ عَامٌّ وَالْمَعْنَى عَلَى الْخُصُوصِ. وَمِنْهَا: النَّسْخُ، إِذْ هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْحَوْلِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَمِنْهَا: الِاخْتِصَاصُ، وَهُوَ أَنْ يَخُصَّ عَدَدًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَعْنًى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وَمِنْهَا: الْكِنَايَةُ، فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا كَنَّى بِالسِّرِّ عَنِ النِّكَاحِ، وَهِيَ مِنْ أَبْلَغِ الْكِنَايَاتِ. وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ، فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَمِنْهَا: التَّهْدِيدُ، بِقَوْلِهِ فَاحْذَرُوهُ وَمِنْهَا: الزِّيَادَةُ فِي الْوَصْفِ، بِقَوْلِهِ: غَفُورٌ حَلِيمٌ. لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً نَزَلَتْ فِي أَنْصَارِيٍّ تَزَوَّجَ حَنِيفِيَّةً وَلَمْ يُسَمِّ مَهْرًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِكَ» : فَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْمُطَلَّقَاتِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، بَيَّنَ حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَغَيْرِ الْمُسَمَّى لَهَا مَدْخُولًا بِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُطَلَّقَاتُ أَرْبَعٌ: مَدْخُولٌ بِهَا مَفْرُوضٌ لَهَا، وَنَقِيضَتُهَا، وَمَفْرُوضٌ لَهَا غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، وَنَقِيضَتُهَا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ لِلْأَزْوَاجِ، وَمَعْنَى نَفْيِ الْجُنَاحِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ: لَمَّا نَهَى عَنِ التَّزَوُّجِ بِمَعْنَى الذَّوْقِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَرَ بِالتَّزَوُّجِ طَلَبًا لِلْعِصْمَةِ وَالثَّوَابِ،

وَدَوَامِ الصُّحْبَةِ، وَقَعَ فِي بَعْضِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ يكون قد أوقع جزأ مِنْ هَذَا الْمَكْرُوهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ الْجُنَاحَ فِي ذَلِكَ، إِذَا كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ عَلَى الْمَقْصِدِ الْحَسَنِ. مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تُمَاسُّوهُنَّ، مُضَارِعَ مَاسَّ، فَاعَلَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مُضَارِعَ مَسِسْتُ، وَفَاعِلٌ: يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَسِيسِ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ قِرَاءَةَ: تَمَسُّوهُنَّ، بِأَنَّ أَفْعَالَ هَذَا الْبَابِ جَاءَتْ ثُلَاثِيَّةً، نَحْوَ: نَكَحَ، وَسَفَدَ، وَفَزِعَ، وَدَقَطَ، وَضَرَبَ الْفَحْلُ، وَالْقِرَابَانِ حَسَنَتَانِ، وَالْمَسُّ هُنَا وَالْمُمَاسَّةُ: الْجِمَاعُ، كَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «1» وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الظَّاهِرُ أَنَّهَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، التَّقْدِيرُ: زَمَانَ عَدَمِ الْمَسِيسِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنِّي بِحَبْلِكِ وَاصِلٌ حَبْلِي ... وَبِرِيشِ نَبْلِكِ رَائِشٌ نَبْلِي مَا لَمْ أَجِدْكِ عَلَى هُدَى أَثَرٍ ... يَقْرُو مِقَصَّكِ قَائِفٌ قَبْلِي وَهَذِهِ مَا، الظَّرْفِيَّةُ الْمَصْدَرِيَّةُ، شَبِيهَةٌ بِالشَّرْطِ، وَتَقْتَضِي التَّعْمِيمَ نَحْوَ: أَصْحَبُكَ مَا دُمْتَ لِي مُحْسِنًا، فَالْمَعْنَى: كُلُّ وَقْتِ دَوَامَ إِحْسَانٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا، شَرْطِيَّةٌ، ثُمَّ قَدَّرَهَا بِأَنْ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، تَفْسِيرَ الْمَعْنَى، وَ: مَا إِذَا كَانَتْ شَرْطًا تَكُونُ اسْمًا غَيْرَ ظَرْفِ زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، وَلَا يَتَأَتَّى هُنَا أَنْ تَكُونَ شَرْطًا بِهَذَا الْمَعْنَى. وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ: مَا، تَكُونُ شَرْطًا ظَرْفَ زَمَانٍ وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُهُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ، وَتَأَوَّلَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَالِدُهُ، وَتَأَوَّلْنَا نَحْنُ بَعْضَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ تَأْوِيلِ ابْنِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ) مِنْ تَآلِيفِنَا. عَلَى أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ ذَكَرَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ، وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطَ هُوَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ عَلَى زَعْمِهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ: مَا، فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ اسْمًا مَوْصُولًا وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، فَلَا يَكُونُ لَفْظُ. مَا، شَرْطًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ: مَا، إِذْ ذَاكَ تَكُونُ وَصْفًا لِلنِّسَاءِ، إِذْ قَدَّرَهَا بِمَعْنَى اللَّاتِي، وَ: مَا، مِنَ الْمَوْصُولَاتِ الَّتِي لَا يُوصَفُ بِهَا بِخِلَافِ الَّذِي وَالَّتِي. وَكَنَّى بِالْمَسِيسِ عَنِ الْمُجَامَعَةِ تَأْدِيبًا لِعِبَادِهِ فِي اخْتِيَارِ أَحْسَنِ الألفاظ فيما يتخاطبون. أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً الْفَرِيضَةُ هُنَا هُوَ الصَّدَاقُ، وفرضه تسميته.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 47 ومريم: 19/ 20.

وَ: أَوْ، عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَأْتِي لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أَوْ لِأَشْيَاءَ، وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ عَلَى: تَمَسُّوهُنَّ، فَهُوَ مَجْزُومٌ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ أَوْ، بِمَعْنَى إِلَّا. التَّقْدِيرُ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ إِلَّا أَنْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ التَّقْدِيرُ: فَرَضْتُمْ أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا، أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ مَعْطُوفٌ عَلَى: تَمَسُّوهُنَّ، أَقْوَالٌ أربعة. الأول: لابن عَطِيَّةَ وَغَيْرِهِ وَالثَّانِي: لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يُسَمِّ وَالرَّابِعُ: لِلسَّجَاوَنْدِيِّ وَغَيْرِهِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ عَنِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ انْتِفَاءِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْجِمَاعِ، وَإِمَّا تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، أَمَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الْجِمَاعِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَالْحُكْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ، وَهِيَ الْمُفَوَّضَةُ، إِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَا يَنْتَفِي الْجُنَاحُ عَنْهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْجِمَاعِ إِلَّا إِنْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ، فَلَا يَنْتَفِي الْجُنَاحُ، وَإِنِ انْتَفَى الْجِمَاعُ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنَ الْحَالَاتِ الَّتِي يَنْتَفِي فِيهَا الْجُنَاحُ حَالَةَ فَرْضِ الْفَرِيضَةِ، فَيَثْبُتُ فِيهَا الْجُنَاحُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ بِانْتِفَاءِ الْجِمَاعِ فَقَطْ، سَوَاءٌ فَرَضَ أَمْ لَمْ يَفْرِضْ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ هُنَا بِالْجُنَاحِ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَيَنْتَفِي ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْجِمَاعِ، فَرَضَ مَهْرًا أَوْ لَمْ يَفْرِضْ، لِأَنَّهُ إِنْ فَرَضَ انْتَقَلَ إِلَى النِّصْفِ، وَإِنْ لَمْ يَفْرِضْ، فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا، أُجْبِرَ عَلَى نِصْفِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَكِنِ الْمُتْعَةُ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ حَذْفُ جُمْلَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَرَضْتُمْ، وَإِضْمَارُ: لَمْ، بَعْدَ: أَوْ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا عُطِفَ عَلَى مَجْزُومٍ، نَحْوَ: لَمْ أَقُمْ وَأَرْكَبْ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْعَامِلَ فِي الْمَعْطُوفِ مُقَدَّرًا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ بِانْتِفَاءِ الْجِمَاعِ وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ مَعًا، فَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ وَانْتَفَتِ التَّسْمِيَةُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنِ انْتَفَى الْجِمَاعُ وَوُجِدَتِ التَّسْمِيَةُ فَنَصِفُ الْمُسَمَّى، فَيَثْبُتُ الْجُنَاحُ إِذْ ذَاكَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِمَا، وَيَكُونُ الْجُنَاحُ إِذْ ذَاكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْمُطَلِّقَ بِاعْتِبَارِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُ طَلَاقِ الْحَائِضِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ فِي طَلَاقِهِنَّ عُمُومًا، سواءكنّ حُيَّضًا أَمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلِمَالِكٍ قَوْلٌ يَمْنَعُ مِنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ مدخولا بها أو غير مَدْخُولٍ بِهَا، وَمَوْتُ الزَّوْجِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ طَلَاقِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ وَلَا مِيرَاثٌ، قَالَهُ مَسْرُوقٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَالشَّافِعِيُّ: لَهَا الْمِيرَاثُ، وَلَا صَدَاقَ لَهَا. وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لَهَا صَدَاقُ مِثْلِ نِسَائِهَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ حَالَ الْمُطَلَّقَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُطَلَّقَةٍ لَمْ يُسَمَّ لَهَا، وَمُطَلَّقَةٍ سُمِّيَ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَجِبْ لَهَا صَدَاقٌ إِجْمَاعًا. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهَا نِصْفَ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَإِنْ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا، أَوْ مَهْرَ مِثْلِهَا لَزِمَهَا التَّسْلِيمُ، وَلَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ جَائِزٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ، أَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى الصِّحَّةِ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ مَشْرُوعًا، وَلَمْ تَكُنِ النَّفَقَةُ لَازِمَةً، وَأَمَّا أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّحَّةِ الْجَوَازُ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ حَرَامٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ وَاقِعٌ صَحِيحٌ. وَمَتِّعُوهُنَّ أَيْ: مَلِّكُوهُنَّ مَا يَتَمَتَّعْنَ بِهِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ يُسَمَّى مُتْعَةً. وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَحَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ: شُرَيْحٌ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبْيَدٍ. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي وَمَتِّعُوهُنَّ لِلْمُطَلِّقِينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ ضَمِيرُ الْمُطَلَّقَاتِ

قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ، فَيَجِبُ لَهُنَّ الْمُتْعَةُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَتُنْدَبُ فِي حَقِّ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ: عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالزُّهْرِيِّ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ، فَإِنْ كَانَ فُرِضَ لَهَا وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَشُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا مُتْعَةَ لَهَا، بَلْ حَسْبُهَا نِصْفُ مَا فُرِضَ لَهَا وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَهَا الْمُتْعَةُ، وَلِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَمُحَمَّدٌ: الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَمْ يُسَمَّ لَهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا مَتَّعَهَا، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ، إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ تَجِبِ الْمُتْعَةُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو الزِّنَادِ: الْمُتْعَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَبَيْنَ مَنْ سُمِّيَ لَهَا وَمَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ، إِلَّا الْمُلَاعِنَةُ وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ فُرِضَ لَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ، إِلَّا الَّتِي سَمَّى لَهَا وَطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مُتْعَةَ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا: لِلْمُخْتَلِعَةِ مُتْعَةٌ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لِلْمُلَاعِنَةِ مُتْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا مُتْعَةَ فِي نِكَاحٍ مَنْسُوخٍ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَا فِيمَا يَدْخُلُهُ الْفَسْخُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، مِثْلُ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمُتْعَةُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ، تُعْتَقُ تَحْتَ الْعَبْدِ، فَتَخْتَارُ، فَهَذِهِ لَا مُتْعَةَ لَهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِإِحْدَى مُطَلَّقَتَيْنِ: مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، سَوَاءٌ

فَرَضَ لَهَا، أَوْ لَمْ يَفْرِضْ. وَمُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الْفَرْضِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ هَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ الْوُجُوبَ فِي الْمُتْعَةِ، إِذْ أَتَى بَعْدَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ بِلَفْظَةِ: عَلَى، الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْوُجُوبِ، كَقَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ «1» فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «2» وَالْمُوسِعُ: الْمُوسِرُ، وَالْمُقْتِرُ: الضَّيِّقُ الْحَالِ، وَظَاهِرُهُ اعْتِبَارُ حَالِ الزَّوْجِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ بِحَالِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، أَوْ بِحَالِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْقَدْرُ مُبْهَمًا، فَطَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ إِذْ لَمْ يَأْتِ فِيهِ بِشَيْءٍ مُؤَقَّتٍ. وَمَعْنَى: قَدَرُهُ، مِقْدَارُ مَا يُطِيقُهُ الزَّوْجُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَدْنَاهَا ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا أَوْ شِبْهُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْفَعُهَا خَادِمٌ ثُمَّ كِسْوَةٌ ثُمَّ نَفَقَةٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنْ أَوْسَطِ ذَلِكَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يُمَتِّعُ كُلٌّ عَلَى قَدَرِهِ هَذَا بِخَادِمٍ، وَهَذَا بِأَثْوَابٍ، وَهَذَا بِثَوْبٍ، وَهَذَا بِنَفَقَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمَتَّعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزِقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ ، وَمَتَّعَ عَائِشَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَتْ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ وَمَتَّعَ شُرَيْحٌ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ ابْنُ مجلز: عَلَى صَاحِبِ الدِّيوَانِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: أَفْضَلُ الْمُتْعَةِ خِمَارٌ، وَأَوْضَعُهَا ثَوْبٌ. وَقَالَ حَمَّادٌ: يُمَتِّعُهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا: «أَمَتَّعْتَهَا» قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ: «مَتِّعْهَا بِقَلَنْسُوَتِكَ» . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَنْقُصُ عَنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَلَا يَنْقُصُ مِنْ نِصْفِهَا. وَقَدْ مَتَّعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ زَوْجَهُ أُمَّ أَبِي سَلَمَةَ ابْنِهِ بِخَادِمٍ سَوْدَاءَ، وَهَذِهِ الْمَقَادِيرُ كُلُّهَا صَدَرَتْ عَنِ اجْتِهَادِ رَأْيِهِمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا صَارَ إِلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَقَادِيرُ مَعْلُومَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَهِيَ مِنْ مَسْأَلَةِ تقويم المتلفات.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 233. (2) سورة النساء: 4/ 25.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْمُوسِعِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْسَعَ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: الْمُوَسَّعِ، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالسِّينِ وَتَشْدِيدِهَا، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ وَسَّعَ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: قدره، بسكوت الدَّالِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَيَزِيدُ، وَرَوْحٌ: بِفَتْحِ الدَّالِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، بِمَعْنًى حَكَاهُمَا أَبُو زَيْدٍ، وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمَا، وَمَعْنَاهُ: مَا يُطِيقُهُ الزَّوْجُ، وَعَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقِيلَ: السَّاكِنُ مَصْدَرٌ، وَالْمُتَحَرِّكُ اسْمٌ: كَالْعَدِّ وَالْعَدَدِ، وَالْمَدِّ وَالْمَدَدِ. وَكَانَ الْقَدْرُ بِالتَّسْكِينِ الْوُسْعُ، يُقَالُ: هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ، أَيْ: وُسْعِهِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ بِالتَّحْرِيكِ إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلشَّيْءِ يُقَالُ: هَذَا عَلَى قدر هذا. وقرىء: قَدَرَهُ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَجَوَّزُوا فِي نَصْبِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى: مَتِّعُوهُنَّ لِيُؤَدِّ كُلٌّ مِنْكُمْ قَدْرَ وُسْعِهِ. وَالثَّانِي: عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: وَأَوْجِبُوا عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرَهُ. وَفِي السَّجَاوَنْدِيِّ: وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: قَدَرَهُ، أَيْ قَدَّرَهُ اللَّهُ. انْتَهَى. وَهَذَا يُظْهِرُ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَالرَّاءِ، فَتَكُونُ، إِذْ ذَاكَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَجَعَلَ فِيهِ ضَمِيرًا مُسْتَكِنًّا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ عَائِدًا عَلَى الْإِمْتَاعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ وَكَتَبَ الْإِمْتَاعَ عَلَى الْمُوسِعِ وَعَلَى الْمُقْتِرِ. وَفِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلَى الْمُوسِعِ مِنْكُمْ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ نَابَتْ عَنِ الضَّمِيرِ، أَيْ: عَلَى مُوسِعِكُمْ وَعَلَى مُقْتِرِكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً بَيَّنَتْ حَالَ الْمُطَلِّقِ فِي الْمُتْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيسَارِهِ وَإِقْتَارِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ وَفِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ وَالرَّابِطُ هُوَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ: مِنْكُمْ. مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ قَالُوا: انْتَصَبَ مَتَاعًا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْمَتَاعَ هُوَ مَا يُمَتَّعُ بِهِ، فَهُوَ اسْمٌ لَهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ وَمَتِّعُوهُنَّ وَلَوْ جَاءَ عَلَى أَصْلِ مَصْدَرِ وَمَتِّعُوهُنَّ لَكَانَ تَمْتِيعًا، وَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدَرُ الْمُوسِعِ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَتَاعًا، وَبِالْمَعْرُوفِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ، أَوْ: بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ صِفَةً لِقَوْلِهِ:

مَتَاعًا، أَيْ مُلْتَبِسًا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَأْلُوفُ شَرْعًا وَمُرُوءَةً، وَهُوَ مَا لَا حَمْلَ لَهُ فِيهِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَلَا تَكَلُّفَ. حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ هَذَا يُؤَكِّدُ أَيْضًا وُجُوبَ الْمُتْعَةِ، وَالْمُرَادُ إِحْسَانُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِحْسَانُ الْعِشْرَةِ، فَيَكُونُ اللَّهُ سَمَّاهُمْ مُحْسِنِينَ قَبْلَ الفعل، باعتبار ما يؤلون إِلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، نَحْوَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَانْتِصَابُ حَقًّا عَلَى أنه صفة لمتاعا أَيْ: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، أَوْ حَالًا مِمَّا كَانَ حَالًا مِنْهُ مَتَاعًا، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: بِالَّذِي عُرِفَ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، بَيَّنَ حَالَ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيسِ الْجِمَاعُ، وَبِالْفَرِيضَةِ الصَّدَاقُ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَشْمَلُ الْفَرْضَ الْمُقَارِنَ لِلْعَقْدِ، وَالْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَبْلَ الطَّلَاقِ، فَلَوْ كَانَ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ الْفَرْضِ، تَنَصَّفَ الصَّدَاقُ بِالطَّلَاقِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ لَا يَتَنَصَّفُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، وَارْتِفَاعُ نِصْفُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقُدِّرَ الْخَبَرُ: فَعَلَيْكُمْ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، أَوْ: فَلَهُنَّ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُؤَخَّرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، أَيْ: فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فَنِصْفَ، بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: فَادْفَعُوا نِصْفَ مَا فَرَضْتُمْ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا فَرَضْتُمْ، أَنَّهُ إِذَا أَصْدَقَهَا عَرَضًا، وَبَقِيَ إِلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ وَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَنَمَاؤُهُ وَنُقْصَانُهُ لَهُمَا وَيَتَشَطَّرُ، أَوْ عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَاشْتَرَتْ بِهِ عَرَضًا، فَنَمَا أَوْ نَقَصَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ إِلَّا نِصْفُ مَا أَصْدَقَ مِنَ الْعَيْنِ لَا مِنَ الْعَرَضِ، لِأَنَّ الْعَرَضَ لَيْسَ هو المفروض. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا الْعَرَضُ كَالْعَيْنِ، أَصْلُ ثَمَنِهِ يَتَشَطَّرُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَتَبَيَّنُ بَقَاءُ مُلْكِهِ عَلَى نِصْفِهِ أَوْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَتْهُ؟. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَشَطَّرُ إِلَّا الْمَفْرُوضُ فَلَوْ كَانَ نَحَلَهَا شَيْئًا فِي الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ لِأَجْلِهِ، فَلَا يَتَشَطَّرُ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَعْنَى الصَّدَاقِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْجِمَاعِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ يُوجِبُ تَشْطِيرَ الصَّدَاقِ، سَوَاءٌ

خَلَا بِهَا أَمْ قَبَّلَهَا، أَمْ عَانَقَهَا، أَمْ طَالَ الْمُقَامُ مَعَهَا، وَبِهِ قَالَ: الشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَرُوِيَ عن علي، وعمر، وابن عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ: أَنَّ لَهَا بِالْخَلْوَةِ جَمِيعَ الْمَهْرِ . وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ خَلَا بِهَا وَقَبَّلَهَا أَوْ كَشَفَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَإِنْ طَالَ فَلَهَا الْمَهْرُ، إِلَّا أَنْ يَضَعَ مِنْهُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا خَلَا بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ فَلَهَا شَطْرُ الْمَهْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنَ الْمَهْرِ بعد الطلاق، وطىء أَوْ لَمْ يَطَأْ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ لَمْ تَكُنْ حَائِضَةً أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ، أَوْ رَتْقَاءَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إِذَا لَمْ يَطَأْهَا. وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا دَخَلَ بِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا، وَكَانَ أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا أَوْ أَغْلَقَ بَابًا فَقَدْ تَمَّ الصَّدَاقُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِذَا أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنِصْفُ بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّ الْفَاءِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ عَلِيٍّ وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَفِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قوله: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قبل المسيس، وقد فرض لَهَا، لَيْسَ لَهَا إِلَّا النِّصْفُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْرِجَةٌ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ مِنْ حُكْمِ التَّمْتِيعِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَنَاوَلَهَا قَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الْأَحْزَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتِ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَزَعَمَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ: بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ لَهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فُرِضَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِإِسْقَاطِ مُتْعَتِهَا بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ وَنِصْفُ الْمَفْرُوضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شيء مِنْ هَذَا. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ نَصَّ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِأَنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَتْرُكْنَ النِّصْفَ الَّذِي وَجَبَ لَهُنَّ عِنْدَ الزَّوْجِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَلَيْسَ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، لَكِنَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:

فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، مَعْنَاهُ: عَلَيْكُمْ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ عَفْوِهِنَّ عَنْكُمْ، فَلَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَلَهُنَّ نِصْفُ فَالْوَاجِبُ مَا فَرَضْتُمْ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا وَكَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَحْوَالِ ظَاهِرٌ، وَنَظِيرُهُ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «1» إِلَّا أَنَّ سِيبَوَيْهِ مَنَعَ أَنْ تَقَعَ أَنْ وَصِلَتُهَا حَالًا، فَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِلَّا أَنْ يُعْفُونَهُ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ النِّصْفِ، وَالْأَصْلُ: يَعْفُونَ عَنْهُ، أَيْ: عَنِ النِّصْفِ، فَلَا يَأْخُذْنَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، كَمَا تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ ... عَلَى مَدَدِ الْأَيَّامِ مَا فُعِلَ الْبِرُّ وَحُرِّكَتْ تَشْبِيهًا بِهَاءِ الضَّمِيرِ. وَهُوَ تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِلَّا أَنْ تَعْفُونَ، بِالتَّاءِ بِثِنْتَيْنِ مِنْ أَعْلَاهَا، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ كَانَ ضَمِيرُهُنَّ غَائِبًا فِي قَوْلِهِ: لَهُنَّ، وَمَا قَبْلَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ وَخَاطَبَهُنَّ، وَفِي خِطَابِهِ لَهُنَّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَفْوًا مَا يَدُلُّ عَلَى نَدْبِ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابِهِ. وَفَرَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْنَ قَوْلِكَ: الرِّجَالُ يَعْفُونَ، وَالنِّسَاءُ يَعْفُونَ، بِأَنَّ الْوَاوَ فِي الْأَوَّلِ ضَمِيرٌ، وَالنُّونَ عَلَامَةُ الرَّفْعِ، وَالْوَاوَ فِي الثَّانِي لَامُ الْفِعْلِ وَالنُّونَ ضَمِيرُهُنَّ، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لَا أَثَرَ فِي لَفْظِهِ لِلْعَامِلِ. انْتَهَى. فَرْقُهُ، وَهَذَا مِنَ النَّحْوِ الْجَلِيِّ الَّذِي يُدْرَكُ بِأَدْنَى قِرَاءَةٍ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَنَقَصَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ لَامَ الْفِعْلِ فِي الرِّجَالُ: يَعْفُونَ، حُذِفَتْ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ وَاوِ الضَّمِيرِ، وَأَنْ يَذْكُرَ خِلَافًا فِي نَحْوِ النِّسَاءُ يَعْفُونَ، فَذَهَبَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالسُّهَيْلِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهِ نُونُ الْإِنَاثِ مُعْرَبٌ لَا مَبْنِيٌّ، وَيُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُوَضَّحٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ المسيس، وقد فرض لها، فَلَهَا أَنْ تَعْفُوَ. قَالُوا: وَأُرِيدَ هُنَا بِالْعُمُومِ الْخُصُوصُ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهَا لَهَا أَنْ تَعْفُوَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ فِي حِجَابٍ أَوْ وَصِيٍّ فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْعَفْوُ، وَأَمَّا الْبِكْرُ الَّتِي لَا وَلِيَّ لَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ ذَلِكَ لَهَا، وَحَكَى سَحْنُونُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لها.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 66.

أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَهُوَ: الزَّوْجُ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَشُرَيْحٌ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَعَفْوُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا الْمَهْرَ كُلَّهُ، وَرُوِيَ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ تَزَوَّجَ وَطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَأَكْمَلَ الصَّدَاقَ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ. وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَفْوًا إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ كَانُوا يَسُوقُونَ الْمَهْرَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ» يَعْنِي أَنْ يُصْدِقَهَا فَاطِمَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهَا، فَسَمَّى تَرْكَ أَخْذِهِمُ النِّصْفَ مِمَّا سَاقُوهُ عَفْوًا عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن، وعلقمة، وطاووس، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُجَاهِدٍ، وَشُرَيْحٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ الْوَلِيُّ الَّذِي الْمَرْأَةُ فِي حِجْرِهِ، فَهُوَ: الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الَّتِي لَمْ تَمْلِكْ أَمْرَهَا، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ وَجَوَّزَ شُرَيْحٌ عَفْوَ الْأَخِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَقَالَ: أَنَا أَعْفُو عَنْ مُهُورِ بَنِي مُرَّةَ وَإِنْ كَرِهْنَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَمًّا كَانَ أَوْ أَخًا أَوْ أَبًا، وَإِنْ كَرِهَتْ، وَيَكُونُ دُخُولُ. أَوْ: هُنَا لِلتَّنْوِيعِ فِي الْعَفْوِ، إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ إِنْ كُنَّ مِمَّنْ يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهُنَّ، أَوْ يَعْفُو وَلِيُّهُنَّ، إِنْ كُنَّ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهُنَّ، أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَيْ: هُنَّ مُخَيَّرَاتٌ بَيْنَ أَنْ يَعْفُونَ، أَوْ يَعْفُوَ وَلِيُّهُنَّ. وَرَجَّحَ كَوْنَهُ الْوَلِيَّ بِأَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ يَبْعُدُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَأَنْ يُجْعَلَ تَكْمِيلُهُ الصَّدَاقَ عَفْوًا، وَأَنْ يُبْهَمَ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْقَى كَالْمُلْبِسِ، وَهُوَ قَدْ أَوْضَحَ بِالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَلَوْ جَاءَ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّوْضِيحِ لَكَانَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ تَعْفُوا أَنْتُمْ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا دَرَجَةٌ ثَالِثَةٌ، إِذْ ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ، ثُمَّ الزَّوْجَاتِ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءَ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ من حَيْثُ كَانَ عَقَدَهَا قَبْلُ، فَعَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ، وَلِلنَّصِّ الَّذِي سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ وَالْمُرَادُ بِهِ خِطَابُ الْأَزْوَاجِ.

وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ قَدْ سَاقَ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا إِلْبَاسَ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا إِلْبَاسَ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ، لِإِجْمَاعِ أهل العلم عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِ ابنته لَا لِزَوْجٍ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ، إِذْ لَا فَرْقَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بِيَدِهِ حَلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أَيْ: عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، لَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْمُحْكَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «1» وَقَالَ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «2» وَقَالَ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا «3» الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا دُخُولَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَخْذِ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَرُجِّحَ أَيْضًا أَنَّهُ الزَّوْجُ بِأَنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ كَانَتْ بِيَدِ الْوَلِيِّ فَصَارَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ، وَبِأَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ، وَعَفْوُ الْوَلِيِّ عَفْوٌ عنما لَا يَمْلِكُ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَضْلَ فِي هِبَةِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ لَا مَالَ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَوْ يَعْفُو، بِتَسْكِينِ الْوَاوِ، فَتَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ السَّاكِنِ بَعْدَهَا، فَإِذَا وَقَفَ أَثْبَتَهَا، وَفَعَلَ ذَلِكَ اسْتِثْقَالًا لِلْفَتْحَةِ فِي حَرْفِ الْعِلَّةِ، فَتُقَدَّرُ الْفَتْحَةُ فِيهَا كَمَا تُقَدَّرُ فِي الْأَلِفِ فِي نَحْوِ: لَنْ يَخْشَى، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ عَلَى اسْتِخْفَافِ الْفَتْحَةِ فِي الْوَاوِ وَالْيَاءِ فِي نَحْوِ: لَنْ يَرْمِيَ وَلَنْ يَغْزُوَ، وحتى أَنَّ أَصْحَابَنَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِسْكَانَ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، وَقَالَ: فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسَمُو بِأُمٍّ وَلَا أَبِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ اسْتَثْقَلَ الْفَتْحَةَ عَلَى وَاوٍ مُتَطَرِّفَةٍ قَبْلَهَا مُتَحَرِّكٌ لِقِلَّةِ مَجِيئِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: لم يجىء فِي الْكَلَامِ وَاوٌ مَفْتُوحَةٌ مُتَطَرِّفَةٌ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِمْ: عَفَوَةٌ، وَهُوَ جَمْعُ: عَفْوٍ، وَهُوَ وَلَدُ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ الْحَرَكَةُ مَا كَانَتْ قَبْلَ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً، فَإِنَّهَا ثَقِيلَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 4. (2) سورة النساء: 4/ 20. (3) سورة البقرة: 2/ 229.

وَقَوْلُهُ: لِقِلَّةِ مَجِيئِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يَعْنِي مَفْتُوحَةً مَفْتُوحًا مَا قَبْلَهَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَكَةَ قَبْلَهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ ضَمَّةً أَوْ فَتْحَةً أَوْ كَسْرَةً، إِنْ كَانَتْ ضَمَّةً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي فِعْلٍ أَوِ اسْمٍ، إِنْ كَانَ فِي فِعْلٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، بَلْ جَمِيعُ الْمُضَارِعِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاصِبُ، أَوْ لَحِقَهُ نُونُ التَّوْكِيدِ، عَلَى مَا أُحْكِمَ فِي بَابِهِ، ظَهَرَتِ الْفَتْحَةُ فِيهِ نَحْوَ: لَنْ يَغْزُوَ، وَهَلْ يَغْزُونَ، وَالْأَمْرُ نَحْوَ: اغْزُونَ، وَكَذَلِكَ الْمَاضِي عَلَى فَعُلَ نَحْوَ: سَرُوَ الرَّجُلُ، حَتَّى مَا بُنِيَ مِنْ ذوات الباء عَلَى فَعُلَ تَقُولُ فِيهِ: لَقَضُوَ الرَّجُلُ، وَلَرَمُوَتِ الْيَدُ، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ عَلَى مَا أُحْكِمَ فِي بَابِهِ وَإِنْ كَانَ فِي اسْمٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى هَاءِ التَّأْنِيثِ، أَوْ لَا. إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى هَاءِ التَّأْنِيثِ فَجَاءَ كَثِيرًا نَحْوَ: عَرْقُوَةٍ، وَتَرْقُوَةٍ، وقمحدوه، وَعَنْصُوَةٍ، وَتُبْنَى عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَرَكَةُ فَتْحَةً فَهُوَ قَلِيلٌ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ، وَإِنْ كَانَتْ كَسْرَةً انْقَلَبَتِ الْوَاوُ فِيهِ يَاءً، نَحْوَ الْغَازِي، وَالْغَازِيَةِ، وَالْعَرِيقِيَةِ، وَشَذَّ مِنْ ذَلِكَ: أَقْرُوَةٌ جَمْعُ قَرْوٍ، وَهِيَ مِيلَغَةُ الْكَلْبِ، و: سواسوة وَهُمُ: الْمُسْتَوُونَ فِي الشَّرِّ، و: مقاتوه جَمْعُ مُقْتَوٍ، وَهُوَ السَّايِسُ الْخَادِمُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النِّكَاحِ لِلْعَهْدِ أَيْ عُقْدَةٌ لَهَا، قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلُ الْإِضَافَةِ أَيْ: نِكَاحُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللَّهُ غَيْرَهُمْ ... مِنَ النَّاسِ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ أَيْ: وَأَحْلَامُهُمْ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. هَذَا خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَغَلَبَ الْمُذَكَّرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَاطَبَ تَعَالَى الْجَمِيعَ تَأَدُّبًا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ: يَا جَمِيعَ النَّاسِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فَقَطْ، وَقَالَهُ الشعبي، إذ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ رَجَعَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ، إِلَى الْخِطَابِ الَّذِي اسْتَفْتَحَ بِهِ صَدْرَ الْآيَةِ، وَكَوْنُ عَفْوِ الزَّوْجِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَسَرَ قَلْبَ مُطَلَّقَتِهِ، فَيَجْبُرُهَا بِدَفْعِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ لَهَا، إِذْ كَانَ قَدْ فَاتَهَا مِنْهُ صُحْبَتُهُ، فَلَا يَفُوتُهَا مِنْهُ نِحْلَتُهُ، إِذْ لَا شَيْءَ أَصْعَبُ عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِذَا بَذَلَ لَهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ لَمْ تَيْأَسْ مِنْ رَدِّهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَشْعَرَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهَا، فَانْجَبَرَتْ بِذَلِكَ.

وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو نَهِيكٍ: وأن يعفوا، بِالْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، جَعَلَهُ غَائِبًا، وَجُمِعَ عَلَى مَعْنَى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ لِلْجِنْسِ لَا يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْعَفْوَ مُسْنَدٌ لِلْأَزْوَاجِ، قِيلَ: وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِاتِّقَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلْمَ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: لِاتِّقَاءِ مَعَاصِي اللَّهِ. وَ: أَقْرَبُ، يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كهذه، ويتعدّى بإلى كَقَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ «1» وَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، وَلَا إِنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدِيَةِ لِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ الْمُتَوَصَّلِ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَمَعْنَى اللَّامِ وَمَعْنَى إِلَى مُتَقَارِبَانِ مِنْ حَيْثُ التَّعْدِيَةُ، وَقَدْ قِيلَ: بِأَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَضْمِينِ الْحُرُوفِ، وَلَا يَقُولُ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، فَيَدُلُّ عَلَى عِلَّةِ ازْدِيَادِ قُرْبِ الْعَفْوِ عَلَى تَرْكِهِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْبِ مَحْذُوفٌ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْعَفْوُ مِنْكُمْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى مِنْ تَرْكِ الْعَفْوِ. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ الْخِطَابُ فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا. وَالنِّسْيَانُ هُنَا التَّرْكُ مِثْلُ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «2» وَالْفَضْلُ: هُوَ فِعْلُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنَ الْبِرِّ، فَهُوَ مِنَ الزَّوْجِ تَكْمِيلُ الْمَهْرِ، وَمِنَ الزَّوْجَةِ تَرْكُ شَطْرِهِ الَّذِي لَهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الزَّوْجَ فَهُوَ تَكْمِيلُ الْمَهْرِ. وَدَخَلَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَلَى سعد بن أبي وقاص، فَعَرَضَ عَلَيْهِ بِنْتًا لَهُ، فَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا خَرَجَ طَلَّقَهَا وَبَعَثَ إِلَيْهَا بِالصَّدَاقِ كَامِلًا، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَزَوَّجْتَهَا؟ فَقَالَ: عَرَضَهَا عَلَيَّ فَكَرِهْتُ رَدَّهُ، قِيلَ: فَلِمَ بَعَثْتَ بِالصَّدَاقِ كَامِلًا؟ قَالَ: فَأَيْنَ الْفَضْلُ؟. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَا تَنَاسَوُا الْفَضْلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَمَكِّنَةُ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَنَاسٍ لَا نِسْيَانٍ إِلَّا عَلَى التَّشْبِيهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يعمر: وَلَا تَنْسَوِا الْفَضْلَ، بِكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، تَشْبِيهًا لِلْوَاوِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرٌ بِوَاوِ لَوْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوِ اسْتَطَعْنا «3» كَمَا شَبَّهُوا: وَاوَ: لَوْ، بِوَاوِ الضَّمِيرِ، فَضَمُّوهَا، قَرَأَ لَوِ اسْتَطَعْنا «4» بِضَمِّ الْوَاوِ.

_ (1) سورة ق: 50/ 16 والواقعة: 56/ 85. (2) سورة التوبة: 9/ 67. (3- 4) سورة التوبة: 9/ 42.

وَانْتِصَابِ: بَيْنَكُمْ، بِالْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَ: بَيْنَ، مُشْعِرٌ بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّعَارُفِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ ذَلِكَ مُشْتَهِرًا بينهم، قد تواطأوا عَلَيْهِ وَعَلِمُوا بِهِ، لِأَنَّ مَا تَخَلَّلَ أَقْوَامًا يَكُونُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُبْصَرَاتِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعَفْوِ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمُطَلِّقِينَ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ شَطْرَ مَا قَبَضْنَ أَوْ يُكْمِلُونَ لَهُنَّ الصَّدَاقَ، هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْمَجِيءَ بِالصِّفَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُبْصِرَاتِ. وَلَمَّا كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الْآيَةَ قَوْلَهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِمَّا يُدْرَكُ بِلُطْفٍ وَخَفَاءٍ، خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِي خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَعْدٌ جَمِيلٌ لِلْمُحْسِنِ وَحِرْمَانٌ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَضُرُوبًا مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَلَاغَةِ. الْكِنَايَةَ فِي: أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ، فِي: فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَالطِّبَاقَ فِي: الْمُوسِعِ وَالْمُقْتِرِ، وَالتَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرَيْنِ في: متاعا وحقا، وَالِاخْتِصَاصَ: فِي: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ: التَّتْمِيمِ، لَمَّا قَالَ: حَقًّا، أَفْهَمَ الْإِيجَابَ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَى الْمُحْسِنِينَ، تَمَّمَ الْمَعْنَى، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ لَا مِنْ بَابِ الْإِيجَابِ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَى الْمُحْسِنِينَ تَمَّمَ التَّعْمِيمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا مِنْ بَابِ الْإِيجَابِ وَالِالْتِفَاتَ: فِي: وَأَنْ تَعْفُوا، وَلَا تَنْسَوْا وَالْعُدُولَ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ فِي: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، عَبَّرَ عَنِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالْعُقْدَةِ الَّتِي تُعْقَدُ حَقِيقَةً، لِمَا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنَ الِارْتِبَاطِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ. حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آيَاتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْمُطَلَّقَاتِ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِنَّ فِي النُّزُولِ، مُتَأَخِّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ وَرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَشَبَّهُوهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً «2» وَبِقَوْلِهِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «3» قالوا:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 188. (2) سورة البقرة: 2/ 67. [.....] (3) سورة البقرة: 2/ 72.

فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَسُوقَةً عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهَا أَحْوَالَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ، قَالُوا: وَجَاءَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَبْعَدَ مِنْ هَذَا، زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ «1» رَدًّا لِقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» قَالُوا: وَأَبْعَدُ مِنْهُ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «3» رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «4» الآية قالوا: أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ خَوْفٌ قَبْلَ إِنْزَالِ إِتْمَامِ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَحْكَامَ صَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ إِتْمَامَ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ. قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ وَرَسْمِ الْمُصْحَفِ، مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «5» وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ كَمَا تَرَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ تَعَالَى، لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى جُمْلَةً كَثِيرَةً مِنْ أَحْوَالِ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ، وَأَحْكَامِهِمْ فِي النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ، وَالْإِيلَاءِ وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِرْضَاعِ والنفقة والكسوة، والعدد وَالْخِطْبَةِ، وَالْمُتْعَةِ وَالصَّدَاقِ وَالتَّشَطُّرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَانَتْ تَكَالِيفَ عَظِيمَةً تَشْغَلُ مَنْ كُلِّفَهَا أَعْظَمَ شُغْلٍ، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَسَعُ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ مَا يَسْتَفْرِغُ فِيهِ الْوَقْتَ، وَيَبْلُغُ مِنْهُ الْجَهْدَ، وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْآخَرِ حَتَّى فِي حَالَةِ الْفِرَاقِ، وَكَانَتْ مَدْعَاةً إِلَى التَّكَاسُلِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَرَ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الَّتِي هِيَ الْوَسِيلَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَأَنْ يُؤْمَرَ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَلِذَلِكَ جَاءَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَشْغَلَنَّكُمُ التَّعَلُّقُ بِالنِّسَاءِ وَأَحْوَالِهِنَّ عَنْ أَدَاءِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَمَعَ تِلْكَ الْأَشْغَالِ الْعَظِيمَةِ لَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، حَتَّى فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا رِجَالًا وَرُكْبَانًا، وَإِنْ كَانَتْ حَالَةُ الْخَوْفِ أَشَدَّ مِنْ حَالَةِ الِاشْتِغَالِ بِالنِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ الشَّاقَّةُ جِدًّا لَا بُدَّ مَعَهَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَحْرَى مَا هُوَ دُونَهَا مِنَ الأشغال المتعلقة بالنساء.

_ (1) سورة النساء: 4/ 123. (2) سورة البقرة: 2/ 111. (3) سورة المعارج: 7/ 1. (4) سورة الأنفال: 8/ 32. (5) سورة البقرة: 2/ 190 و 244.

وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ عُقَيْبَ الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى امْتِثَالِهَا، وَصَوْنًا لَهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهَا، وَقِيلَ: وَجْهُ ارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا، أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِ الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِ الْحَقِّ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَيَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَمَاتِ، ذَكَرَهُ بَعْدَهُ، فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً «1» الآية. والخطاب: يحافظوا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَلْ يَعُمُّ الْكَافِرِينَ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَ: حَافِظُوا، مِنْ بَابِ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَلَمَّا ضُمِّنَ الْمَعْنَى التَّكْرَارَ وَالْمُوَاظَبَةَ عُدِّيَ بِعَلَى، وَقَدْ رَامَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبْقَى فَاعِلٌ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَكْثَرِ فِيهَا مِنَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَجَعَلَ الْمُحَافَظَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظْ هَذِهِ الصَّلَاةَ يَحْفَظْكَ اللَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِهَا، وَمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ هُنَا: دَوَامُ ذِكْرِهَا، أَوِ الدَّوَامُ عَلَى تَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا، أَوْ: إِكْمَالِ فُرُوضِهَا وَسُنَنِهَا، أَوْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ. أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهَا لِلْعَهْدِ، وَهِيَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. قَالُوا: وَكُلُّ صَلَاةٍ فِي الْقُرْآنِ مَقْرُونَةٌ بِالْمُحَافَظَةِ، فَالْمُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَالصَّلاةِ الْوُسْطى الْوُسْطَى فُعْلَى مُؤَنَّثَةُ الْأَوْسَطِ، كَمَا قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا وَهُوَ خِيَارُ الشَّيْءِ وَأَعْدَلُهُ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ وَاسِطَةِ قَوْمِهِ، أَيْ: مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَهَلْ سُمِّيَتِ: الْوُسْطَى، لِكَوْنِهَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْ: وَسَطَ فُلَانٌ يَسِطُ، إِذَا كَانَ وَسَطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ؟ أَوْ: مِنْ وَسَطَ قَوْمَهُ إِذَا فَضَلَهُمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى مُؤَنَّثَ الْأَوْسَطِ، بِمَعْنَى الْفُضْلَى مُؤَنَّثِ الْأَفْضَلِ، كَالْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ: يا أوسط الناس، وذكر أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُبْنَى إِلَّا مِمَّا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ التَّعَجُّبِ، فَكُلُّ مَا لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ لَا يُبْنَيَانِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ زَيْدٌ أَمْوَتُ النَّاسِ؟ وَلَا: مَا أَمْوَتَ زَيْدًا؟ لِأَنَّ الْمَوْتَ شَيْءٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النَّقْصَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَوْنُ الشَّيْءِ وَسَطًا بين شيئين

_ (1) سورة البقرة: 2/ 240.

لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النَّقْصَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى بِمَعْنَى الْأَخِيرِ وَالْأَعْدَلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ، وَخُصَّتِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدِ انْدَرَجَتْ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ قَبْلَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى فَضْلِ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فِي تَجْرِيدِهِمَا بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» وَعَلَى فَضْلِ مَنْ ذَكَرَ وَجَرَّدَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «2» الْآيَةَ، وَعَلَى فَضْلِ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «3» وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا النوع من الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «4» . وَكَثُرَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ، فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَالَّذِي تَلَخَّصَ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْعَصْرُ، قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وابن عمر في رواية، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَعَائِشَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَحَفْصَةُ، وَالْحَسَنُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ فِي رواية، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَذِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (بالقبس فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسْ) وَاخْتِيَارُ أَبِي محمد بن عطية في تَفْسِيرِهِ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا» . وَقَالَ عَلِيٌّ: كُنَّا نَرَاهَا الصُّبْحَ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهَا الْعَصْرُ. وَرَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الصلاة الوسطى صلاة العصر ، وَفِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ، وَإِمْلَاءِ حَفْصَةَ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَهِيَ الْعَصْرُ، وَمَنْ رَوَى: وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، أَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ عَطَفَ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الأخرى.

_ (1- 4) سورة البقرة: 2/ 98. (2) سورة الأحزاب: 33/ 7. (3) سورة الرحمن: 55/ 68.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، عَلَى الْبَدَلِ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْفَجْرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ فِي رِوَايَةٍ ، وَأَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَابْنِ عُمَرَ. فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وطاووس فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ: وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَّيْتُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَاةَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيُّمَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى؟ فَقَالُوا: الَّتِي صَلَّيْتَ قَبْلُ. وَرَوَوْا عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، فَقَنَتَ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعَ يديه، فلما فرع قَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الظُّهْرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَأُسَامَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالُوا: وَرَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْهَاجِرَةَ وَالنَّاسُ فِي هَاجِرَتِهِمْ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يُرِيدُ الظُّهْرَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إِلَّا الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أُحَرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ بُيُوتَهُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْمَغْرِبُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ فِرْقَةٍ. السَّادِسُ: أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، قَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. السَّابِعُ: أَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لَا بِعَيْنِهَا. وَبِهِ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، وَأَخْفَاهَا لِيُحَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، كَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَاسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ، وَسَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَتْ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نُسِخَتُ فَنَزَلَتْ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا نَسْخُ تَعْيِينِهَا، وَأُبْهِمَتْ بَعْدَ أَنْ عُيِّنَتْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا وَأَدَائِهَا.

الثَّامِنُ: أَنَّهَا الْجُمُعَةُ، وَفِي سَائِرِ الْأَيَّامِ الظُّهْرُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ. التَّاسِعُ: أَنَّهَا الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ، قَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ. الْعَاشِرُ: أَنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ مَعًا، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. وَرَجَّحَ كُلَّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي عُيِّنَتْ فِيهَا: أَنَّ الْوُسْطَى هِيَ كَذَا، بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي فَضْلِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَرُجِّحَ بَعْضُهَا بِأَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذِكْرَ فَضْلِ صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَلِأَنَّ كَوْنَهَا وَسَطًا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ. وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ، أَوْحَدُ زَمَانِهِ وَحَافِظُ أَوَانِهِ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَفِيفِ شَرَفِ بْنِ الْخَضِرِ بْنِ مُوسَى الدِّمْيَاطِيُّ كِتَابًا فِي هَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ (كِتَابُ كَشْفِ الْمُغَطَّى فِي تَبْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى) قَرَأْنَاهُ عَلَيْهِ، وَرَجَّحَ فِيهِ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ: علي بن أبي طالب ، وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو هَاشِمِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَذَكَرَ فِيهِ بَقِيَّةَ الْأَقَاوِيلِ الْعَشَرَةِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا، وَزَادَ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْجُمُعَةُ خَاصَّةً. الثَّانِي: أَنَّهَا الْجَمَاعَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْوَتْرُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُقْرِيُّ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا صَلَاةُ عِيدِ الْأَضْحَى. السَّادِسُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِيدِ يَوْمَ الْفِطْرِ. السَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى، حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وَتَرَدَّدَ فِيهِ. فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْقَوْلُ فَيَكُونُ تَمَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ نُعَوِّلَ عَلَيْهِ مِنْهَا هُوَ. قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ ، وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَخْبَرَنَا الْمُسْنِدُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمُحْسِنِ الدِّمَشْقِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمُؤَيَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الطُّوسِيِّ الْمُقْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فَقِيهُ الْحَرَمِ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّاعِدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْفَارِسِيُّ (ح) .

وأخبرنا أستادنا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ، أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بن الزبير الثَّقَفِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِغَرْنَاطَةَ، مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْفَارِقِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَجَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ زُغَيْبَةَ الْمُشَاوِرُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسِ بْنِ دِلْهَاثٍ (ح) . وَأَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، مُنَاوَلَةً عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدِ بْنِ عمر بن أَحْمَدَ الْخَزْرَجِيِّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ، وَلَمْ يُحَدِّثْنَا عَنْهُ مِنْ شُيُوخِنَا غَيْرُهُ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْجُذَامِيِّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ دلهات، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مِنْدَارٍ بِمَكَّةَ قَالَا، أَعْنِي عَبْدَ الْغَفَّارِ، وَابْنَ مِنْدَارٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ سَلَامٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْيَامِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» ، أَوْ: «حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» .. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلَى: الصَّلاةِ الْوُسْطى بِإِعَادَةِ الْجَارِّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ: وَالصَّلَاةَ، بِالنَّصْبِ، وَوَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَاعَى مَوْضِعُ: عَلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ نَصْبٌ كَمَا تَقُولُ: مَرَرَتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا، وَرُوِيَ عَنْ قالون أنه قرأ: الوسطى، بِالصَّادِ أُبْدِلَتِ السِّينُ صَادًا لِمُجَاوَرَةِ الطَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هذا في قَوْلِهِ: الصِّرَاطَ. وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أَيْ: مُطِيعِينَ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ. أَوْ: خَاشِعِينَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ: مُطِيلِينَ الْقِيَامَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ: دَاعِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ: سَاكِتِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: عَابِدِينَ، أَوْ: مُصَلِّينَ، أَوْ: قَارِئِينَ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَوْ: ذَاكِرِينَ اللَّهَ فِي الْقِيَامِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ: رَاكِدِينَ كَافِّي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ قَبْلُ بِالْخُشُوعِ.

وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى السُّكُوتِ، إِذْ صَحَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرُوا بِالسُّكُوتِ. وَالْمَعْنَى: وَقُومُوا فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ هَابَ الرَّحْمَنَ أَنْ يَمُدَّ بَصَرَهُ، أَوْ يَلْتَفِتَ، أَوْ يُقَلِّبَ الْحَصَا، أَوْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْآيَةِ هُوَ السُّكُوتُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ: لَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إِصْلَاحِ صَلَاتِهِ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ الْكَلَامَ لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ، أَوْ مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجِسَامِ، لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. أَوْ: سَاهِيًا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَفْسُدُ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكَلَامِ خِلَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: تَفْسُدُ كَالْعَمْدِ، لِإِصْلَاحِ صَلَاةٍ كَانَ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَنَقَلَ الْخِرَقِيُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْهُ: إِنْ تَكَلَّمَ لِإِصْلَاحِهَا لَمْ تَفْسُدْ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَسَدَتْ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَفِي قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ دَلِيلٌ عَلَى مَطْلُوبِيَّةِ الْقِيَامِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ صَحِيحٍ قَادِرٍ عَلَيْهِ، كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إِمَامًا؟ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ يُصَلِّي خَلْفَ إِمَامٍ مَرِيضٍ قَاعِدًا لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ، فَأَجَازَ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِثْلُ: مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: فَيُصَلِّي وَرَاءَهُ جَالِسًا عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، وَأَفْتَى بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ: جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ فِهْرٍ. وَرَوَى هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَسٌ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ. وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ صَلَاةَ الْقَائِمِ خَلْفَ صَلَاةِ الْمَرِيضِ قَاعِدًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ، وزفر، وجماعة بالمدينة، وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ عَنْهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ أَحَدٌ جَالِسًا، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ إِلَّا إِنْ كَانَ عَلِيلًا، فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ: وَأَوَّلُ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ قَاعِدًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُ جَالِسًا الْمُغِيرَةُ بْنُ

مِقْسَمٍ صَاحِبُ النَّخَعِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، ثُمَّ أَخَذَ عَنْ حَمَّادٍ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً لَمَّا ذَكَرَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ فِيهَا قَانِتِينَ، كَانَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ حَالَةٌ يَخَافُونَ فِيهَا، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مَاشِينَ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَرَاكِبِينَ. وَالْخَوْفُ يَشْمَلُ الْخَوْفَ مِنْ: عَدُوٍّ، وَسَبُعٍ، وَسَيْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّ أَمْرٍ يُخَافُ مِنْهُ فَهُوَ مُبِيحٌ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ هَذِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِ خَوْفِ الْعَدُوِّ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ إِنْ وَقَعَ الْأَمْنُ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَسَاوِي الْخَوْفِ. وَ: رِجَالًا، مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، قَالُوا تَقْدِيرُهُ: فَصَلُّوا رِجَالًا، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَدَّرَ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، أَيْ: فَحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالًا، وَرِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ، كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، قَالَ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا «1» وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ ... يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالَا وَالْمَعْنَى: مَاشِينَ عَلَى الْأَقْدَامِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَجِلَ يَرْجُلُ رَجْلًا، إِذَا عَدِمَ الْمَرْكُوبَ، وَمَشَى عَلَى قَدَمَيْهِ، فَهُوَ رَاجِلٌ وَرَجِلٌ وَرَجُلٌ، عَلَى وَزْنِ رَجُلٍ مُقَابِلِ امْرَأَةٍ. وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، يَقُولُونَ: مَشَى فُلَانٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيًا رَجُلًا، وَيُقَالُ رَجْلَانُ وَرَجِيلٌ وَرَجْلٌ، قَالَ الشاعر: عليّ إذا لا قيت لَيْلَى بِخَلْوَةٍ ... أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللَّهِ رَجْلَانَ حَافِيَا قَالُوا: وَيُجْمَعُ عَلَى: رِجَالٍ وَرَجِيلٍ وَرُجَالَى وَرَجَالَى وَرَجَّالَةٍ وَرَجَالَى وَرُجْلَانٍ وَرَجْلَةٍ وَرَجَلَةٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَأَرْجِلَةٍ وَأَرَاجِلٍ وَأَرَاجِيلَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو مِجْلَزٍ: فَرُجَّالًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ التَّخْفِيفُ مَعَ ضَمِّ الراء، وقرىء: فَرُجَّلًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الجيم مشدودة بغير ألف وقرىء: فَرَجْلًا، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ: فَرِجَالًا فَرُكْبَانًا بِالْفَاءِ، وَهُوَ جَمْعُ رَاكِبٍ. قَالَ الْفَضْلُ: لَا يُقَالُ رَاكِبٌ إِلَّا لِصَاحِبِ الْجَمَلِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْفَرَسِ فَيُقَالُ لَهُ فَارِسٌ، وَلِرَاكِبِ الْحِمَارِ حَمَّارٌ، وَلِرَاكِبِ الْبَغْلِ بَغَّالٌ، وَقِيلَ: الْأَفْصَحُ أَنْ يُقَالَ: صَاحِبُ بغل، وصاحب حمار.

_ (1) سورة الحج: 22/ 27.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ حُصُولُ مُطْلَقِ الْخَوْفِ، وَأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْخَوْفِ تُبَاحُ الصَّلَاةُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَقَالُوا: هِيَ صَلَاةُ الْغَدَاةِ لِلَّذِي قَدْ ضَايَقَهُ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالَةِ الْمُسَايَفَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْخَوْفِ بِالْإِمَامِ، وَانْقِسَامِ النَّاسِ فَلَيْسَ حُكْمُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: فَرِجَالًا، مُشَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُمْ يَمْشُونَ إِلَى الْعَدُوِّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، أَوْ رُكْبَانًا أَيْ: وِجْدَانًا بِالْإِيمَاءِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَرِجَالًا، أَنَّهُمْ يُوقِعُونَ الصَّلَاةَ وَهُمْ مَاشُونَ، فَيُصَلُّونَ عَلَى كل حال، والراكب يومىء وَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلُّونَ فِي حَالِ الْمَشْيِ وَالْمُسَايَفَةِ مَا لَمْ يُمْكِنِ الْوُقُوفُ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِعَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي هَذَا الْخَوْفِ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ عَنْ عَدَدِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ إِنْ كَانُوا فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: تُصَلَّى رَكْعَةً إِيمَاءً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: تُصَلَّى فِي الْمُسَايَفَةِ وَغَيْرِهَا رَكْعَةً، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَى تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفٍة: يُعِيدُونَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَرَضَ لَهُ الْخَوْفُ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، فَلَوْ صَلَّى رَكْعَةً آمِنًا ثُمَّ طَرَأَ لَهُ الْخَوْفُ رَكِبَ وَبَنَى، أَوْ عَكْسُهُ: أَتَمَّ وَبَنَى، عِنْدَ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا اسْتَفْتَحَ آمِنًا ثُمَّ خَافَ، اسْتَقْبَلَ وَلَمْ يَبْنِ فَإِنْ صَلَّى خَائِفًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَبْنِي فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ وتأكيد طلبها إذا لَمْ تَسْقُطْ بِالْخَوْفِ، فَلَا تَسْقُطُ بِغَيْرِهِ مِنْ مَرَضٍ وَشُغْلٍ وَنَحْوِهِ، حَتَّى الْمَرِيضُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ فِعْلُهَا لَزِمَهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَبِهَذَا تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا. فَإِذا أَمِنْتُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْ: خَرَجْتُمْ مِنَ السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، وَرَدَّهُ الطَّبَرِيُّ، قِيلَ: وَلَا يَنْبَغِي رَدُّهُ لِأَنَّهُ شَرَحَ الْأَمْنَ بِمَحَلِّ الْأَمْنِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ وَحَلَّ دَارَ

إِقَامَتِهِ أَمِنَ، فَكَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ الْخَوْفِ، كَمَا أَنَّ دَارَ الْإِقَامَةِ مَحَلُّ الْأَمْنِ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَإِذَا أَمِنْتُمْ أَيْ: زَالَ خَوْفُكُمُ الَّذِي أَلْجَأَكُمْ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: فَإِذَا كُنْتُمْ آمِنِينَ، أَيْ: مَتَى كُنْتُمْ عَلَى أَمْنٍ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ.. فَاذْكُرُوا اللَّهَ بِالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ كَما عَلَّمَكُمْ أَيْ: أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ بِتَعْلِيمِكُمْ مَا كُنْتُمْ جَاهِلِيهِ مِنْ أَمْرِ الشَّرَائِعِ، وَكَيْفَ تُصَلُّونَ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَحَالِ الْأَمْنِ. وَ: مَا، مَصْدَرِيَّةٌ، وَ: الْكَافُ، لِلتَّشْبِيهِ. أَمَرَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرًا يُعَادِلُ وَيُوَازِي نِعْمَةَ مَا عَلَّمَهُمْ، بِحَيْثُ يَجْتَهِدُ الذَّاكِرُ فِي تَشْبِيهِ ذِكْرِهِ بِالنِّعْمَةِ فِي الْقَدْرِ وَالْكَفَاءَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بُلُوغِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى: كَمَا عَلَّمَكُمْ، كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ فَعَلَّمَكُمْ، فَعَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، لِأَنَّ التعليم ناشىء عَنْ إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَإِحْسَانِهِ لَهُ. وَقَدْ تَكُونُ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ لِأَجْلِ تَعْلِيمِهِ إِيَّاكُمْ أَيْ: يَكُونُ الْحَامِلُ لَكُمْ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ تَعْلِيمُهُ إِيَّاكُمْ، لِأَنَّهُ لَا مِنْحَةَ أَعْظَمُ مِنْ مِنْحَةِ الْعِلْمِ. مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مَا: مَفْعُولٌ ثَانٍ لِعَلَّمَكُمْ، وَفِيهِ الِامْتِنَانُ بِالتَّعْلِيمِ عَلَى الْعَبْدِ، وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ إِفْهَامُ أَنَّكُمْ عُلِّمْتُمْ شَيْئًا لَمْ تَكُونُوا لِتَصِلُوا لِإِدْرَاكِهِ بِعُقُولِكُمْ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَكُمُوهُ، أَيْ: أَنَّكُمْ لَوْ تُرِكْتُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ لَمْ تَكُونُوا لِتَعْلَمُوهُ أَبَدًا. وَحَكَى النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَعْنَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيْ صَلُّوا الصَّلَاةَ الَّتِي قَدْ عُلِّمْتُمُوهَا، أَيْ: صَلَاةً تَامَّةً بِجَمِيعِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَتَكُونُ: مَا، فِي: كَما عَلَّمَكُمْ مَوْصُولَةً أَيْ: فَصَلُّوا الصَّلَاةَ كَالصَّلَاةِ الَّتِي عَلَّمَكُمْ، وَعَبَّرَ بِالذِّكْرِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالْكَافُ إِذْ ذَاكَ لِلتَّشْبِيهِ بَيْنَ هَيْئَتَيِ الصَّلَاتَيْنِ: الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ أَوَّلًا قَبْلَ الْخَوْفِ، وَالصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ الْخَوْفِ فِي حَالَةِ الْأَمْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: مَا لَمْ تَكُونُوا بَدَلٌ مِنْ: مَا، الَّتِي فِي قَوْلِهِ: كَمَا، وَإِلَّا لَمْ يَتَّسِقْ لَفْظُ الْآيَةِ. انْتَهَى. وَهُوَ تَخْرِيجٌ يُمْكِنُ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي عَلَّمَكُمْ الْعَائِدِ عَلَى مَا، إِذِ التَّقْدِيرُ عَلَّمَكُمُوهُ، أَيْ: عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. وَقَدْ أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ: جَاءَنِي الَّذِي ضَرَبْتُ أَخَاكَ، أَيْ ضَرَبْتُهُ أَخَاكَ، عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ المحذوف

[سورة البقرة (2) : الآيات 240 إلى 242]

[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَنْصُوصِ فِيهَا عَلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْعِدَّةُ كَانَتْ قَدْ ثَبَتَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ وَصِيَّةً مِنْهُ: سُكْنَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَإِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ. حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَلْفَاظُ الَّتِي حَكَاهَا الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَلَا نَصَّ مُجَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ بِنُزُولِ الْفَرَائِضِ، فَأَخَذَتْ رُبُعَهَا أَوْ ثُمُنَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لنا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ، وَصَارَتِ الْوَصَايَا لِمَنْ لَا يَرِثُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضُ بْنُ مُوسَى الْيَحْصُبِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَسْخِ الْحَوْلِ بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً إِلَى قَوْلِهِ: غَيْرَ إِخْراجٍ قَدْ نَسَخَتِ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا. قَالَ: نَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي، لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ مَكَانِهِ. انْتَهَى. وَيَعْنِي عُثْمَانُ: مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي رَتَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَةِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِنَ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْوَصِيَّةُ كَانَتْ وَاجِبَةً مِنَ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَ لَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ حَوْلًا فِي مَالِهِ مَا لَمْ تَخْرُجْ بِرَأْيِهَا، ثُمَّ نُسِخَتِ النَّفَقَةُ بِالرُّبُعِ أَوِ الثُّمُنِ، وَسُكْنَى الْحَوْلِ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ. أَمْ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ؟ نَدَبُوا بِأَنْ يُوصُوا لِلزَّوْجَاتِ بِذَلِكَ، فَيَكُونُ يُتَوَفَّوْنَ عَلَى هَذَا يُقَارِبُونَ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا، وَالسُّدِّيُّ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْفَارِسِيُّ الْآيَةَ فِي الْحُجَّةِ لَهُ.

وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: وَصِيَّةٌ بِالرَّفْعِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ، بِالنَّصْبِ وَارْتِفَاعِ: وَالَّذِينَ، على الابتداء. ووصية بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهِيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فِي الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَصِيَّةٌ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ اللَّهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ، أَهِيَ عَلَى الْإِيجَابِ مِنَ اللَّهِ؟ أَوْ عَلَى النَّدْبِ لِلْأَزْوَاجِ؟ وَخَبَرُ هَذَا الْمُبْتَدَأِ هُوَ قَوْلُهُ: لِأَزْوَاجِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ: مِنْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ: الَّذِينَ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ: وَصِيَّةٌ، مُبْتَدَأً وَ: لِأَزْوَاجِهِمْ، صِفَةً. وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّ: وَصِيَّةٌ، مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ، قِيلَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرُ معنى لا تفسير إعراب، إِذْ لَيْسَ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُضْمَرُ فِيهَا الْفِعْلُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَوَصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، أَوْ: وَحُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، فَيَكُونُ ذلك مبتدأ على مُضَافٍ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصِيَّةٍ، فَجَعَلَ الْمَحْذُوفَ مِنَ الْخَبَرِ، وَلَا ضَرُورَةَ تدعو بنا إلى الادعاء بهذا الْحَذْفِ، وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، فَيَكُونُ: وَالَّذِينَ، مُبْتَدَأً وَ: يُوصُونَ الْمَحْذُوفُ، هُوَ الْخَبَرُ، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيُوصُوا، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ ارْتِفَاعَ: وَالَّذِينَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، التَّقْدِيرُ: وَأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَصِيَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ إِضْمَارِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ فِي الضَّعْفِ مَنْ رَفَعَ: وَالَّذِينَ، عَلَى إِضْمَارِ: وَلْيُوصِ، الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، وَبِنَصْبِ وَصِيَّةً عَلَى الْمَصْدَرِ، وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْوَصِيَّةُ لِأَزْوَاجِهِمْ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَ: لِأَزْوَاجِهِمُ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّةُ. وَانْتَصَبَ مَتَاعًا إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ مَتَاعًا، أَوْ بِقَوْلِهِ: وَصِيَّةً أَهُوَ مَصْدَرٌ مُنَوَّنٌ يَعْمَلُ، كَقَوْلِهِ: فَلَوْلَا رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ وَيَكُونُ الْأَصْلُ: بِمَتَاعٍ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ؟ فَإِنْ نَصَبْتَ: وَصِيَّةً فَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ مَتَاعًا بِالْفِعْلِ النَّاصِبِ لِقَوْلِهِ: وَصِيَّةً، وَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى: يُوصِي بِهِ يمتع بِكَذَا، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مَتَاعًا صِفَةً لِوَصِيَّةٍ، وَبَدَلًا وَحَالًا مِنَ الْمُوصِينَ، أَيْ: مُمَتِّعِينَ، أَوْ

ذَوَى مَتَاعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ حَالًا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ: مُمَتَّعَاتٍ أَوْ ذَوَاتِ مَتَاعٍ، وَيَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْأَزْوَاجِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مَتَاعٌ لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: فَمَتَاعٌ، وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ: وَالَّذِينَ، لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يُتَوَفَّ، وَيَنْتَصِبُ: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ، بِهَذَا الْمَصْدَرِ، إِذْ مَعْنَاهُ التَّمْتِيعُ، كَقَوْلِكَ: أَعْجَبَنِي ضَرْبٌ لَكَ زَيْدًا ضَرْبًا شَدِيدًا. وَانْتَصَبَ: غَيْرَ إِخْرَاجٍ، صفة لمتاعا، أو بدلا من متاع أَوْ حَالًا مِنَ الْأَزْوَاجِ أَيْ: غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ، أَوْ: مِنَ الْمُوصِينَ أَيْ: غَيْرَ مُخْرِجِينَ، أَوْ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا، أَيْ: لَا إِخْرَاجًا، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ مَنَعَ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِنَّ مِنْ إِخْرَاجِهِنَّ، فَإِنْ خَرَجْنَ مُخْتَارَاتٍ لِلْخُرُوجِ ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَنِ النَّاظِرِ فِي أَمْرِهِنَّ، إِذْ خُرُوجُهُنَّ مُخْتَارَاتٍ جَائِزٌ لَهُنَّ، وَمُوَضَّحٌ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِهِنَّ بِحَالِ الْمَيِّتِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُنَّ مِمَّا يَفْعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ: تَزْوِيجٍ، وَتَرْكِ إِحْدَادٍ، وَتَزَيُّنٍ، وَخُرُوجٍ، وَتَعَرُّضٍ لِلْخُطَّابِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ شَرْعًا. وَيَتَعَلَّقُ: فِيمَا فَعَلْنَ، بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، عَلَيْكُمْ أَيْ: فَلَا جُنَاحَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْكُمْ فيما فعلن. وَمَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَعَلْنَهُ، وَ: مِنْ مَعْرُوفٍ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي: فَعَلْنَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ فَعَلْنَهُ كَائِنًا مِنْ مَعْرُوفٍ. وَجَاءَ هُنَا: مِنْ مَعْرُوفٍ، نكرة مجرورة بمن، وَفِي الْآيَةِ النَّاسِخَةِ لَهَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، جَاءَ: بِالْمَعْرُوفِ، مُعَرَّفًا مَجْرُورًا بِالْبَاءِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ نَظِيرَتُهَا فِي قَوْلِكَ: لَقِيتُ رَجُلًا، ثُمَّ تَقُولُ: الرَّجُلُ مِنْ وَصْفِهِ كَذَا وَكَذَا، وَكَذَلِكَ: أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَهَذِهِ بِعَكْسِهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ «1» عَلَى ظَاهِرِ مَا نُقِلَ مَعَ قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ «2» . وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ خَتَمَ الْآيَةَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَقَوْلُهُ: عَزِيزٌ، إظهار للغلبة والقهر

_ (1) سورة البقرة: 2/ 142. (2) سورة البقرة: 2/ 144.

لِمَنْ مَنَعَ مِنْ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّمْتِيعِ الْمَذْكُورِ، أَوْ أَخْرَجَهُنَّ وَهُنَّ لَا يَخْتَرْنَ الْخُرُوجَ، وَمُشْعِرٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: حَكِيمٌ، إِظْهَارُ أَنَّ مَا شُرِعَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ زَالَ حُكْمُهُ بِالنَّسْخِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِلَّا مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ عَلَى الطَّبَرِيِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْآيَةِ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ. وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو ثَوْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَتَعَلَّقَ: بِالْمَعْرُوفِ، بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلْمُطَلَّقَاتِ، وقيل بقوله: متاع، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ هُنَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةً لِأَمْرِ الْمُتْعَةِ، لِأَنَّهُ نَزَلَ قَبْلُ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ «1» فَقَالَ رَجُلٌ: فَإِنْ لَمْ أُرِدْ أَنْ أُحْسِنَ لَمْ أُمَتِّعْ، فَنَزَلَتْ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وَإِعْرَابُ: حَقًّا، هُنَا كَإِعْرَابِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَظَاهِرُ: الْمُتَّقِينَ: مَنْ يَتَّصِفُ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ اتِّقَاءِ الشِّرْكِ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ وُقُوفًا وَاللَّهُ أَسْرَعَهُمْ لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمُتَّقِينَ أَيْ: مُتَّقِيِ الشِّرْكِ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أَيْ مِثْلَ هَذَا التَّبْيِينِ الَّذِي سَبَقَ مِنَ الْأَحْكَامِ، يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُكَلَّفُهَا الْعِبَادُ. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مَا يُرَادُ مِنْكُمْ مِنَ الْتِزَامِ الشَّرَائِعِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا، لِأَنَّ التَّبْيِينَ لِلْأَشْيَاءِ مِمَّا يَتَّضِحُ لِلْعَقْلِ بِأَوَّلِ إِدْرَاكٍ، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُغَيَّبَاتِ وَالْمُجْمَلَاتِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَرْتَبِكُ فِيهَا، وَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ مِنْهَا عَلَى طَائِلٍ. قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ بَدَائِعِ الْبَدِيعِ، وَصُنُوفِ الْفَصَاحَةِ: النقل من صيغة:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 236. [.....]

افْعَلُوا، إِلَى: فَاعِلُوا، لِلْمُبَالَغَةِ وَذَلِكَ فِي: حَافِظُوا، وَالِاخْتِصَاصُ بِالذِّكْرِ فِي: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: فَإِنْ خِفْتُمْ. لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي: حَافِظُوا، وَهُوَ مُرَاعَاةُ أَوْقَاتِهَا وهيآتها إِذَا كُنْتُمْ آمِنِينَ، وَالْحَذْفُ فِي: فَإِنْ خِفْتُمْ، الْعَدُوَّ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَفِي: فَرِجَالًا، أَيْ: فَصَلُّوا رِجَالًا، وَفِي: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، سَوَاءٌ رُفِعَ أَمْ نُصِبَ، وَفِي: غَيْرَ إِخْرَاجٍ، أَيْ: لَهُنَّ مِنْ مَكَانِهِنَّ الَّذِي يعتدون فِيهِ، وَفِي: فَإِنْ خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ رِضًا مِنْهُنَّ، وَفِي: فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ، أَيْ: مِنْ مَيْلِهِنَّ إِلَى التَّزْوِيجِ أَوِ الزِّينَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَفِي: بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: عَادَةً أَوْ شَرْعًا وَفِي: عَزِيزٌ، أَيِ: انْتِقَامُهُ، وَفِي: حكيم، فِي أَحْكَامِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: حَقًّا، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، وَفِي: عَلَى الْمُتَّقِينَ، أَيْ عَذَابُ اللَّهِ وَالتَّشْبِيهُ: فِي: كَمَا عَلَّمَكُمْ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلَيْنِ أَوْ بِاسْمَيْنِ، وَذَلِكَ فِي: عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ: فِي غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خرجهن، والمجاز في: يوفون، أَيْ يُقَارِبُونَ الْوَفَاةَ، وَالتَّكْرَارُ: فِي مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ، فَيَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ إِيَّاهُ وَلِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ إِنْ كَانَ غَيْرَهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ حُكْمَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَأَنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَأَنَّهُنَّ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ لا حرج على من كَانَ مُتَوَلِّيًا أَمْرَهُنَّ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ فِيمَا فَعَلْنَ مِنْ: تَعَرُّضٍ لِخِطْبَةٍ، وَتَزَيُّنٍ، وَتَرْكِ إِحْدَادٍ، وَتَزَوُّجٍ وَذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ شَرْعًا، وَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنَّا، وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ عَرَّضَ بِالْخِطْبَةِ أَوْ أَكَنَّ التَّزْوِيجَ فِي نَفْسِهِ، وَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ التَّصْرِيحَ فِيهِ الْجُنَاحُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَذَرَ فِي التَّعْرِيضِ بِأَنَّ النُّفُوسَ تَتُوقُ إِلَى التَّزَوُّجِ وَذِكْرِ النِّسَاءِ، وَنَهَى تَعَالَى عَنْ مُوَاعَدَةِ السِّرِّ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَأَبَاحَ قَوْلًا مَعْرُوفًا مِنَ التَّنْبِيهِ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ جَبْرًا لَهَا وَبَعْضَ تَأْنِيسٍ مِنْهُ لَهَا بِذَلِكَ. ثُمَّ نَهَى عَنْ بَتِّ النِّكَاحِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَعْلَمَ أَنَّ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُحْذَرَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ يَسْتَدْعِي مَخُوفًا، أَعْلَمَ أَنَّهُ غَفُورٌ يَسْتُرُ الذَّنْبَ، حَلِيمٌ يَصْفَحُ عَنِ الْمُسِيءِ، لِيَتَعَادَلَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنْ مَنْ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا الصَّدَاقَ، إِذْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا يُبَاحُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّمْتِيعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مِمَّا كَانَ فَاتَهَا مِنَ الزَّوْجِ، وَمِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي تَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ، وَجَبْرًا لَهَا بِذَلِكَ وَلِغَيْرِ الْمَفْرُوضِ لَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّمْتِيعَ عَلَى حَسَبِ

وَجْدِ الزَّوْجِ وَإِقْتَارِهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمِقْدَارَ، بَلْ قَالَ: أَنَّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الَّذِي أُلِفَ عَادَةً وَشَرْعًا، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْسِنًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ فإنه ينتظر المسمى، فيجب لها نفس الصَّدَاقِ إِلَّا إِنْ عَفَتِ الْمَرْأَةُ فَلَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ عَفَا الزَّوْجُ فَأَدَّى إِلَيْهَا الصَّدَاقَ كَامِلًا إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْعَفْوَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ مِنْهُمَا أَقْرَبُ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى لِلْعَافِي، إِذْ هُوَ: إِمَّا بَيْنَ تَارِكٍ حَقَّهُ، أَوْ بَاذِلٍ فَوْقَ الْحَقِّ. ثُمَّ نَهَى عَنْ نِسْيَانِ الْفَضْلِ، فَفِي هَذَا النَّهْيِ الْأَمْرُ بِالْفَضْلِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْكَامَ النِّكَاحِ، وَكَادَتْ تَسْتَغْرِقُ الْمُكَلَّفَ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَشْرَفِ العبادات التي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُكَلَّفُ، وَأَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ: الصَّلَوَاتُ، وَخَصَّ الْوُسْطَى مِنْهَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِهَا، وَمِنْ تَسْمِيَتِهَا بِالْوُسْطَى تَبَيَّنَ تَمْيِيزُهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَهِيَ بِلَا شَكٍّ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِيَامِ لِلَّهِ مُتَلَبِّسِينَ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَوْكِيدِ إِيجَابِ الصَّلَوَاتِ لَمْ يُسَامِحْ بِتَرْكِهَا حَالَةَ الْخَوْفِ، بَلْ أَمَرَ أَنْ تُؤَدَّى فِي تِلْكَ الْحَالِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَائِفُ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ اخْتِلَالٍ لِشُرُوطِهَا ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُؤَدَّى عَلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ من إتمام شروطها، وهيآتها إِذَا أَمِنَ الْخَائِفُ، وَأَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ فِي أَدَائِهَا قَبْلَ الْخَوْفِ. وَذَكَرَ أَنَّ اللَّوَاتِي يُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ لَهُنَّ وَصِيَّةٌ بِتَمْتِيعٍ إِلَى انْقِضَاءِ حَوْلٍ مِنْ وَفَاةِ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّهُنَّ لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ، فَإِنِ اخْتَرْنَ الْخُرُوجَ فَخَرَجْنَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَى مُتَوَلِّي أَمْرِهَا فِيمَا فَعَلَتْ فِي نَفْسِهَا، ثُمَّ أَعْلَمَ أَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ وَيُقْهَرُ، حَكِيمٌ بِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعًا مِمَّا عُرِفَ شَرْعًا وَعَادَةً، وَاقْتَضَى ذَلِكَ عُمُومَ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَتَاعَ حَقٌّ عَلَى مَنِ اتَّقَى. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ عِدَّةَ أَحْكَامٍ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ، أَحَالَ عَلَى ذَلِكَ التَّبْيِينِ، وَشَبَّهَ التَّبْيِينَ الَّذِي قَدْ يَأْتِي لِسَائِرِ الْآيَاتِ بِالتَّبْيِينِ الَّذِي سَبَقَ. وَأَنَّ التَّبْيِينَ هُوَ لِرَجَائِكُمْ أن تعقلوا عَنِ اللَّهِ أَحْكَامَهُ فَتَجْتَنِبُوا مَا نَهَى تَعَالَى عَنْهُ، وَتَمْتَثِلُوا مَا بِهِ أَمَرَ تعالى.

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 إلى 247]

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 247] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) الْأَلْفُ: عَدَدٌ مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ آلَافٌ وَفِي الْكَثْرَةِ أُلُوفٌ، وَيُقَالُ: آلَفْتُ الدَّرَاهِمَ وَآلَفَتْ هِيَ، وَقِيلَ: أُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ. الْقَرْضُ: الْقَطْعُ بِالسِّنِّ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِقْرَاضُ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ، وَيُقَالُ: انْقَرَضَ الْقَوْمُ أَيْ مَاتُوا، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُمْ، وَمِنْهُ: أَقْرَضْتُ فُلَانًا أَيْ قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَكَ عِنْدِي قَرْضُ صِدْقٍ وَقَرْضُ سُوءٍ، لِأَمْرٍ: تَأْتِي مَسَرَّتُهُ وَمَسَاءَتُهُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَرْضُ: الْبَلَاءُ الْحَسَنُ والبلاء السيء وَقَالَ اللَّيْثُ: الْقَرْضُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْتَمَسُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، يُقَالُ: أَقْرَضَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَعْطَاهُ مَا يَتَجَازَاهُ مِنْهُ. وَالِاسْمُ مِنْهُ: الْقَرْضُ، وهو ما أعطيته لتكافىء عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْقَرْضُ: أَنْ تُعْطِيَ شَيْئًا لِيَرْجِعَ إِلَيْكَ مِثْلُهُ، وَيُقَالَ: تَقَارَضَا الثَّنَاءَ أَثْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُقَالُ قَارَضَهُ الْوُدَّ وَالثَّنَاءَ وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: الْقِرْضُ بِالْكَسْرِ، والأشهر بفتح الْقَافِ.

الضِّعْفُ: مِثْلُ قَدْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَيُقَالُ مِثْلُ الشَّيْءِ فِي الْمِقْدَارِ، وَضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا قِيلَ ضِعْفَانِ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ الْمِثْلَيْنِ فِي الْقَدْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُضَعِّفُ الْآخَرَ، كَمَا يُقَالُ: الزَّوْجَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجًا لِلْآخَرِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ: يُضَاعِفُ وَيُضَعِّفُ، فَقَالَ: التَّضْعِيفُ: لِمَا جُعِلَ مِثْلَيْنِ، وَالْمُضَاعَفَةُ لِمَا زِيدَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. الْقَبْضُ: ضَمُّ الشَّيْءِ وَالْجَمْعُ عَلَيْهِ وَالْبَسْطُ ضِدُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ ... دَعَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهُ الْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْلَاءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَالَ لَهَا الْأَمْلَاءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا وَسُمُّوا بِذَلِكَ لأنهم يملأون الْعُيُونَ هَيْبَةً، أَوِ الْمَكَانَ إِذَا حَضَرُوهُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مَلِيئُونَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَلَأُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَكَذَلِكَ: الْقَوْمُ، وَالنَّفَرُ، وَالرَّهْطُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَلَأُ: هُمُ الْوُجُوهُ وَذَوُو الرَّأْيِ. طَالُوتُ: اسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: سَايِلُ، وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ: سَاوُلُ بْنُ قَيْسٍ، مِنْ أَوْلَادِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَسُمِّيَ طَالُوتَ. قَالُوا: لِطُولِهِ، وَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِرَأْسِهِ وَمَنْكِبَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَزْنُهُ: فَعَلُوتًا، كَرَحَمُوتٍ وَمَلَكُوتٍ، فَتَكُونُ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ، إِلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ مَنْعُهُ الصَّرْفَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مَفْقُودٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا فِي اللسان العجمي. وقد التقت اللُّغَتَانِ فِي مَادَّةِ الْكَلِمَةِ، كَمَا زَعَمُوا فِي: يَعْقُوبَ، أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ، لَكِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ بِهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. الْجِسْمُ: مَعْرُوفٌ، وَجُمِعَ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى: جُسُومٍ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الْجِسْمِ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقَصَصِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ لِلسَّامِعِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَتَرْكِ الْعِنَادِ، وَكَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَوْتَى وَمَنْ خَلَفُوا، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ، وَكَيْفَ أَمَاتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَكَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْيَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمُتَوَفَّيْنَ فِي الْآخِرَةِ، فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا عَمِلَ. فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَنْبِيهٌ

عَلَى الْمَعَادِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَيَلِيقُ بِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْمَلَ لِمَعَادِهِ: بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى عِبَادَةِ ربه، وأن يوفي حُقُوقِ عِبَادِهِ. وَقِيلَ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ النِّكَاحِ، بَيَّنَ حُكْمَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ تَحْصِينٌ لِلدِّينِ، وَالْقِتَالَ تَحْصِينٌ لِلدِّينِ وَالْمَالِ وَالرُّوحِ، وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «1» ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَنَّهَا مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ، وَبَدَائِعِ قُدْرَتِهِ. وَهَذِهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْكَلَامُ تَقْرِيرًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ عَلِمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْرِفْهَا إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ وَالتَّعَجُّبُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَضُمِّنَتْ مَعْنَى مَا يتعدّى بإلى، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى كَذَا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: رَأَيْتُ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ دُونَ الْجَارِّ، لَكِنْ لَمَّا اسْتُعِيرَ قَوْلُهُمْ: أَلَمْ تر المعنى: أَلَمْ تَنْظُرْ، عُدِّيَ تَعْدِيَتَهُ، وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ التَّقْرِيرِ، مَا يُقَالُ: رَأَيْتُ إِلَى كَذَا. انْتَهَى. وَ: أَلَمْ تَرَ، جَرَى مَجْرَى التَّعَجُّبِ فِي لِسَانِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى مُجَزِّزٍ!» وَذَلِكَ فِي رُؤْيَتِهِ أَرْجُلَ زَيْدٍ وَابْنِهِ أُسَامَةَ، وَكَانَ أَسْوَدَ، فَقَالَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى مُجَزِّزٍ!» الْحَدِيثَ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا «2» أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «3» أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «4» وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدَتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَرْ، بِسُكُونِ الرَّاءِ، قَالُوا: عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّ الرَّاءَ آخِرُ الْكَلِمَةِ، قال الراجز:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 242. (2) سورة الحشر: 59/ 11. (3) سورة المجادلة: 58/ 14. (4) سورة الفرقان: 25/ 45.

قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا ... وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِمًا لَبِيقَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: كَإِثْبَاتِ أَلِفِ: الظُّنُونَا والسَّبِيلَا والرَّسُولَا فِي الْوَصْلِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ، فَخَافُوا الْقَتْلَ، فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَوْتِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ فَخَرَجُوا فِرَارًا منه، فأماتهم الله فينى عَلَيْهِمْ سَائِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَائِطًا حَتَّى إِذَا بَلِيَتْ عِظَامُهُمْ بَعَثَ اللَّهُ حِزْقِيلَ فَدَعَا اللَّهَ فَأَحْيَاهُمْ لَهُ. حَكَى هَذَا قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أُمَّةٌ كَانَتْ قِبَلَ وَاسِطٍ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبُوا مِنْهُ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنْ لَا مَفَرَّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَرَّ عَلَيْهِمْ حِزْقِيلُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ وَقَدْ عَرِيَتْ عِظَامُهُمْ، وَتَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَلَوَى شِدْقَهُ وَأَصَابِعَهُ تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَى. فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: نَادِ فِيهِمْ أَنْ قُومُوا بِإِذْنِ اللَّهِ. فَنَادَى، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ قِيَامًا يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ لَا أَنْتَ. وَمِمَّنْ قَالَ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ: الْحَسَنُ، وَعَمَّارُ بْنُ دِينَارٍ. وَقِيلَ: فَرُّوا مِنَ الْحُمَّى، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَالزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ، إِلَّا إِنْ عُيِّنَ أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقِصَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ إِنْ ذُكِرَتْ كُلُّ قِصَّةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفِرَّ نَاسٌ مِنَ الْجِهَادِ، وَنَاسٌ مِنَ الطَّاعُونِ، وَنَاسٌ مِنَ الْحُمَّى، فَيُمِيتُهُمْ ثُمَّ يُحْيِيهِمْ لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ، وَيَعْتَبِرَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَلِيَعْلَمُوا جَمِيعًا أَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ بِيَدِ اللَّهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَافَ مِنْ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، وَلَا يَغْتَرَّ فَطِنٌ بِحِيلَةٍ أَنَّهَا تُنْجِيهِ مِمَّا شَاءَ اللَّهُ. وَهُمْ أُلُوفٌ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ وَالتَّعَاضُدَ، وَإِنْ كَانَا نَافِعَيْنِ فِي دَفْعِ الْأَذِيَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَيْسَا بِمُغْنِيَيْنِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَأُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، فَقِيلَ: سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ:

تِسْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا سَبْعُونَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْبَعُونَ. وَقَالَ أَيْضًا: بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: ثَلَاثُونَ، يَعْنُونَ أَلْفًا. وَقَدْ فُسِّرَ بِمَا هُوَ لِأَدْنَى الْعَدَدِ اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ لِلْجَمْعِ الْقَلِيلِ، فَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: عَشَرَةُ آلَافٍ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: ثَمَانِيَةٌ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: سَبْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَرْبَعَةٌ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، لِأَنَّ أُلُوفًا جَمْعُ الْكَثِيرِ، وَلَا يُقَالُ لِمَا دُونَ الْعَشْرَةِ الْآلَافِ أُلُوفٌ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، فَقَدْ يُسْتَعَارُ أَحَدُ الْجَمْعَيْنِ لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ اسْتِعْمَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضُوعِهِ. وَهَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ كُلُّهَا لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ: وَهُمْ أُلُوفٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُرَادَ ظَاهِرُ جَمْعِ أَلْفٍ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ عَالَمٌ كَثِيرُونَ، لَا يَكَادُونَ يُحْصِيهِمْ عَادٌّ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَهُمْ أُلُوفٌ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُكَ أَلْفَ مَرَّةٍ، لَا تُرِيدُ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ إِنَّمَا تُرِيدُ جِئْتُكَ مِرَارًا كَثِيرَةً لَا تَكَادُ تُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهَا وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هُوَ الْمُنْزِلُ الْآلَافَ مِنْ جَوِّ نَاعِطٍ ... بَنِي أَسَدٍ حُزْنًا مِنَ الْأَرْضِ أَوْعَرَا وَلَعَلَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ أُلُوفًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا آلَافًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّكْثِيرَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُكَثِّرُ بِآلَافِ وَتَجْمَعُهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ أُلُوفٌ، جَمْعُ أَلْفٍ الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ مِائَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ. كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ. أَيْ: خَرَجُوا وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ لَمْ يُخْرِجْهُمْ فُرْقَةُ قَوْمِهِمْ وَلَا فِتْنَةٌ بَيْنَهُمْ، بَلِ ائْتَلَفُوا، فَخَالَفَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ، فَخَرَجَتْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ وَابْتِغَاءَ الْحَيَاةِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ فِي مَنْجَاهُمْ بِزَعْمِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَقَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهُ جَمْعَ أَلْفٍ مِنَ الْعَدَدِ أَوْلَى، لِأَنَّ وُرُودَ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ تُفِيدُ مَزِيدَ اعْتِبَارٍ، وَأَمَّا وُرُودُهُ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمُ ائْتِلَافٌ فَكَوُرُودِهِ وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ وَجْهَ الِاعْتِبَارِ لَا يَتَغَيَّرُ. حَذَرَ الْمَوْتِ هَذَا عِلَّةٌ لِخُرُوجِهِمْ، لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْمَوْتُ بِالطَّاعُونِ أَوْ بِالْجِهَادِ، حَمَلَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ لَهُ مَوْجُودَةٌ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا مُتَّحِدَ الْفَاعِلِ وَالزَّمَانِ.

فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ظَاهِرُهُ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا لِلَّهِ، فَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ. وَحُكِيَ: أَنَّ مَلَكَيْنِ صَاحَا بِهِمْ: مُوتُوا، فَمَاتُوا. وَقِيلَ: سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ فَتَوَفَّتْهُمْ، وَقِيلَ: لَا قَوْلَ هُنَاكَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَابِلِيَّتِهِمُ الْمَوْتَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَوْتِهِمْ كَمَوْتَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: فَأَمَاتَهُمْ، لَكِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّخْصِ الْمَأْمُورِ بِشَيْءٍ، الْمُسْرِعِ الِامْتِثَالَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَلَا امْتِنَاعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْ فَيَكُونُ «1» . وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: فَمَاتُوا، وَظَاهِرُ هَذَا الْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ، فَقِيلَ: مَاتُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بَعْدُ، بِدُعَاءِ حِزْقِيلَ وَقِيلَ: سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الْقِصَصِ أَنَّهُ عَرِيَتْ عِظَامُهُمْ وَتَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَهَذَا الْمَوْتُ لَيْسَ بِمَوْتِ الْآجَالِ، بَلْ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ كَمَرَضٍ وَحَادِثٍ مِمَّا يَحْدُثُ عَلَى الْبَشَرِ، كَحَالِ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ «2» الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا. ثُمَّ أَحْياهُمْ العطف بثم يَدُلُّ عَلَى تَرَاخِي الْإِحْيَاءِ عَنِ الْإِمَاتَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ لِيَسْتَوْفُوا آجَالَهُمْ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا قَوْمَ حِزْقِيلَ، فَخَرَجَ فَوَجَدَهُمْ مَوْتَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي جَعَلْتُ حَيَاتَهُمْ إِلَيْكَ، فَقَالَ لَهُمُ: احْيَوْا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبِيُّ شَمْعُونُ، وَرِيحُ الْمَوْتَى تُوجَدُ فِي أَوْلَادِهِمْ. وَقِيلَ: النَّبِيُّ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُ شَمْوِيلُ وَهُوَ ذُو الْكِفْلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا أُحْيُوا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَعْرَقُونَ، لَكِنَّ سَحْنَةَ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَلَا يَلْبَسُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَفَنًا دَسِمًا، حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى إِمَاتَتِهِمْ تَذْلِيلُهُمْ تَذْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى الْمَوْتِ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ وَتَظَاهُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَانَهُمْ وَخَلَّصَهُمْ لِيَعْرِفُوا قُدْرَةَ اللَّهِ فِي أَنَّهُ يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: عَنَى بِالْمَوْتِ: الْجَهْلَ، وَبِالْحَيَاةِ: الْعِلْمَ، كَمَا يَحْيَا الْجَسَدُ بِالرُّوحِ. وَأَتَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ تَشْجِيعًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وحثا على الجهاد

_ (1) سورة البقرة: 2/ 117، وآل عمران: 3/ 47 و 59. والأنعام: 6/ 73. والنحل: 16/ 40، ومريم: 19/ 35، ويس: 36/ 83، وغافر: 40/ 68. (2) سورة البقرة: 2/ 259.

وَالتَّعْرِيضِ لِلشَّهَادَةِ، وَإِعْلَامًا أَنْ لَا مَفَرَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا «1» وَاحْتِجَاجًا عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِإِنْبَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَدْفَعُونَ صِحَّتَهُ، مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَمْ يُدَارِسْ أَحَدًا، وَعَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِذْ مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ يُصَدِّقُهُ فِي إِخْبَارِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أَكَّدَ هذه الجملة: بإن، وَاللَّامِ، وَأَتَى الْخَبَرُ: لَذُو، الدَّالَّةُ عَلَى الشَّرَفِ، بِخِلَافِ صَاحِبٍ، وَ: النَّاسِ، هُنَا عَامٌّ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لِلَّهِ عَلَيْهِ فَضْلٌ أَيُّ فَضْلٍ، وَخُصُوصًا هُنَا، حَيْثُ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يَسْتَبْصِرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ عَقْلًا، كَائِنَةٌ بِإِخْبَارِهِ تَعَالَى: إِذْ أَعَادَ إِلَى الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْعَيْنِ الْأَرْوَاحَ الْمُفَارِقَةَ، وَأَبْقَاهَا فِيهَا الْأَزْمَانَ الطَّوِيلَةَ إِلَى أَنْ قَبَضَهَا ثَانِيَةً، وَأَيُّ فَضْلٍ أَجَلُّ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ، إِذْ تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُلِّيَّاتِ الْعَقَائِدِ الْمُنْجِيَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: بالناس، هاهنا الْخُصُوصُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ فَفَرُّوا مِنْهُ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، فَأَمَاتَهُمْ، ثُمَّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْيَاءِ وَطَوَّلَ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ لِيَسْتَيْقِنُوا أن لا مفر من الْقَدَرِ، وَيَسْتَدْرِكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ بَلْ نَمْتَثِلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ تَقَدَّمَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِالْإِيجَادِ وَالرِّزْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى ذلك، وهذا الاستدراك: بلكن، مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ: فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى فَضْلِهِ، فَاسْتَدْرَكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّاكِرَ قَلِيلٌ، كَقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2» وَيَخُصُّ: النَّاسِ، الثَّانِي بِالْمُكَلَّفِينَ. وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ، كَمَا قُلْنَا، تَنْبِيهًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ لَا تَفِرَّ مِنَ الْمَوْتِ كَفِرَارِ أُولَئِكَ، وَتَشْجِيعًا لَهَا، وَتَثْبِيتًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالْجِهَادِ، أَيْ: وَقَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ملتحمة بقوله:

_ (1) سورة التوبة: 9/ 51. (2) سورة سبأ: 34/ 13.

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «1» وَبِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً «2» لِأَنَّ فِي هَذَا إِشْعَارًا بِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ مَا جَاءَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ جَاءَ كَالِاعْتِرَاضِ، فَقَوْلُهُ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ «3» تَتْمِيمٌ أَوْ تَوْكِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اعْتِبَارٌ بِمَنْ مَضَى مِمَّنْ فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَمَاتَ، أَنْ لَا نَنْكُصَ وَلَا نُحْجِمَ عَنِ الْقِتَالِ، وَبَيَانُ الْمُقَاتِلِ فِيهِ، وَأَنَّهُ سَبِيلُ اللَّهِ فِيهِ حَثٌّ عَظِيمٌ عَلَى الْقِتَالِ، إِذْ كَانَ الْإِنْسَانُ يُقَاتِلُ لِلْحَمِيَّةِ، وَلِنَيْلِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُوَرِّثٌ لِلْعِزِّ الْأَبَدِيِّ وَالْفَوْزِ السَّرْمَدِيِّ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَالْمُتَبَادِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النِّيَّاتُ، فَيُجَازِي عَلَى ذَلِكَ. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْسِيسِ وَالتَّقْرِيبِ لِلنَّاسِ بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، شَبَّهَ تَعَالَى عَطَاءَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْقَرْضِ، كَمَا شَبَّهَ بذل النفوس والأموال في الْجَنَّةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي إِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، أَثْنَى عَلَى مَنْ بَذَلَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَانَ هَذَا أَقَلَّ حَرَجًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا بَذْلُ الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ، فَأَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الطَّلَبِ. قَالَ ابْنُ الْمَغْرِبِيِّ: انْقَسَمَ الْخَلْقُ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ إلى فرق ثلاث. الْأُولَى: الْيَهُودُ، قَالُوا: إِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ يَحْتَاجُ إِلَيْنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ عَظِيمَةٌ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ «4» . وَالثَّانِيَةُ: آثَرَتِ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ، وَقَدَّمَتِ الرغبة في المال. الثالثة: بَادَرَتْ إِلَى الِامْتِثَالِ، كَفِعْلِ أَبِي الدَّحْدَاحِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى. وَ: مَنْ، اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: ذَا، وَ: الَّذِي، نَعْتٌ: لِذَا، أَوْ: بَدَلٌ مِنْهُ، وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ: من، وذا، بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ، كَمَا كانت: ما، مع:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 238. (2) سورة البقرة: 2/ 239. (3) سورة البقرة: 2/ 241. (4) سورة آل عمران: 3/ 181.

ذَا، قَالَ: لِأَنَّ: مَا، أَشَدُّ إِبْهَامًا مِنْ: مَنْ، إِذَا كَانَتْ: مَنْ، لِمَنْ يَعْقِلُ. وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ تَرْكِيبَ: مَنْ، مَعَ: ذَا، فِي الِاسْتِفْهَامِ وَتَصْيِرَهُمَا كَاسْمٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي: مَا، وَ: ذَا، فَيُجِيزُونَ فِي: مَنْ ذَا عِنْدَكَ، أن يكون: من وذا، بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ. وَانْتَصَبَ لفظ الجلالة: بيقرض، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: عِبَادَ اللَّهِ الْمَحَاوِيجَ، أَسْنَدَ الِاسْتِقْرَاضَ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْحَاجَاتِ، تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَةِ، كَمَا أَضَافَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمَرِيضِ وَالْجَائِعِ وَالْعَطْشَانِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ، جَلَّ وَعَلَا: «يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي وَاسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي وَاسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي» . الْحَدِيثَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ. وَانْتَصَبَ: قَرْضًا، عَلَى الْمَصْدَرِ الْجَارِي عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِقْرَاضًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: مَقْرُوضٍ، أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَانْتَصَبَ: حَسَنًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: قَرْضًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ إِذَا أَعْرَبْنَا قَرْضًا مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ: إِقْرَاضًا حَسَنًا، وَوَصْفُهُ بِالْحُسْنِ لِكَوْنِهِ طَيِّبَ النِّيَّةِ خَالِصًا لِلَّهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ. أَوْ، لِكَوْنِهِ يَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَهُ، أَوْ: لِكَوْنِهِ جَيِّدًا كَثِيرًا، أَوْ: لِكَوْنِهِ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، أَوْ: لِكَوْنِهِ لَا يَطْلُبُ بِهِ عِوَضًا، قَالَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ التُّسْتَرِيُّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَيُضَعِّفُهُ، بِالتَّشْدِيدِ مِنْ ضَعَّفَ، وَالْبَاقُونَ: فَيُضَاعِفُهُ، مِنْ ضَاعَفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، بِنَصْبِ الْفَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى صِلَةِ الَّذِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُقْرِضُ، أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: فَهُوَ يُضَاعِفُهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ، وَإِنْ كَانَ عَنِ الْمُقْرِضِ، فَهُوَ عَنِ الْإِقْرَاضِ فِي الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ فَيُضَاعِفَهُ؟ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الرَّفْعُ أَحْسَنُ، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، لَا عَنِ الْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ، فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» . وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْمِيَّةِ وَالْحَرْفِيَّةِ.

وَانْتَصَبَ: أَضْعَافًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي: يُضَاعِفُهُ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، تَضَمَّنَ مَعْنَى فَيُضَاعِفُهُ: فَيُصَيِّرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِاعْتِبَارِ أَنْ يُطْلِقَ الضِّعْفَ، وَهُوَ الْمُضَاعِفُ أَوِ الْمُضَعَّفُ، بِمَعْنَى الْمُضَاعَفَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، كَمَا أَطْلَقَ الْعَطَاءَ وَهُوَ اسْمُ الْمُعْطَى بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ جِهَاتِ التَّضْعِيفِ بِاعْتِبَارِ الْإِخْلَاصِ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ لَكِنَّهَا كَثِيرَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: لَا يَعْلَمُ كُنْهَ التَّضْعِيفِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَتْ مَقَادِيرُ مِنَ التَّضْعِيفِ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «1» ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «2» . قِيلَ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ: صَدَقَةٍ، وَجِهَادٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: خَاصَّةٌ بِالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَقِيلَ: بِالصَّدَقَةِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أَيْ: يَسْلُبُ قَوْمًا وَيُعْطِي قَوْمًا، أَوْ: يُقَتِّرُ وَيُوَسِّعُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدَقَاتِ وَيَخْلُفُ الْبَذْلَ مَبْسُوطًا، أَوْ: يَقْبِضُ أَيْ: يُمِيتُ لِأَنَّ مَنْ أَمَاتَهُ فَقَدْ قَبَضَهُ، وَيَبْسُطُ أَيْ: يُحْيِيهِ، لِأَنَّ مَنْ مَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ فَقَدْ بَسَطَهُ، أَوْ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْقُلُوبِ فَلَا تَنْبَسِطُ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا فَيُقَدِّمُ خَيْرًا لِنَفْسِهِ، أَوْ: يَقْبِضُ بِتَعْجِيلِ الْأَجَلِ، وَيَبْسُطُ بِطُولِ الْأَمَلِ، أَوْ: يَقْبِضُ بالحظر وَيَبْسُطُ بِالْإِبَاحَةِ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدْرَ وَيُوَسِّعُهُ، أَوْ يَقْبِضُ يَدَ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَيَبْسُطُ يَدَ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنْفَاقِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدَقَةَ وَيَبْسُطُ الثَّوَابَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَلِلْمُتَصَوِّفَةِ فِي: الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، أَقَاوِيلُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِخِلَافٍ عَنْ خَلَّادٍ، وَحَفْصٍ، وَهِشَامٍ، وَقُنْبُلٍ، وَالنَّقَّاشِ، عَنِ الْأَخْفَشِ هُنَا، وَأَبُو قُرَّةَ عَنْ نَافِعٍ: يَبْسُطُ بالسين، وخير الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ قَالُونَ، عَنْ نَافِعٍ، وَالْبَاقُونَ: بِالصَّادِ. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ أَيْ: فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ضُرُوبِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَصُنُوفِ الْبَلَاغَةِ: الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي أُجْرِيَ مَجْرَى التَّعَجُّبِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ وَالْحَذْفَ بَيْنَ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، أَيْ: فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: مَلَكُ اللَّهِ بِإِذْنِهِ،

_ (1- 2) سورة البقرة: 2/ 261.

وفي: لَا يَشْكُرُونَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: تُرْجَعُونَ، فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا عَمِلَ. وَالطِّبَاقَ فِي قَوْلِهِ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَفِي: يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَالتَّكْرَارَ فِي: عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَالِالْتِفَاتَ فِي: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالتَّشْبِيهَ بِغَيْرِ أَدَاتِهِ فِي: قَرْضًا حَسَنًا، شَبَّهَ قَبُولَهُ تَعَالَى إِنْفَاقَ الْعَبْدِ فِي سَبِيلِهِ وَمُجَازَاتِهِ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ الْحَقِيقِيِّ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْقَرْضِ عَلَيْهِ، وَالِاخْتِصَاصَ بِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: حَسَنًا وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قِصَّةَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ حَذَرَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِالْقِتَالِ أَوْ بِالطَّاعُونِ، عَلَى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ وَالتَّثْبِيتِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ: لَا يُنْجِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَطْلُوبًا مَشْرُوعًا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَلَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي خُصِصْتُمْ بِهَا، لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَانَتِ النَّفْسُ أَمْيَلَ لِقَبُولِهِ مِنَ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَكُونُ يَقَعُ بِهِ الِانْفِرَادُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالْمَلَأُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَمِيعُ الْقَوْمِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ وَضْعِ اللَّفْظَةِ. وَتُسَمَّى الْأَشْرَافُ الْمَلَأَ تَشْبِيهًا. انْتَهَى. يَعْنِي: وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَشْبِيهًا بِجَمِيعِ الْقَوْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَلَأِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ هُوَ صِلَةٌ لِلْمَلَأِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، كَمَا زَعَمُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيَتُ أَكْرَمُ أَهْلِهِ فَأَكْرَمُ عِنْدَهُمْ صِلَةٌ لِلْبَيْتِ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَذَلِكَ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الْعَامِلُ فِيهِ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. مِنْ بَعْدِ مُوسى مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ هُوَ كَائِنِينَ، وَتَعَدَّى إِلَى حَرْفَيْ جَرٍّ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ لاختلاف المعنى فمن، الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ وَ: مِنْ، الثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، إِذِ الْعَامِلُ فِي هَذَا الظَّرْفِ، قَالُوا: تَرَ، وَقَالُوا: هُوَ بَدَلٌ مِنْ: بَعْدِ، لِأَنَّهُمَا زَمَانَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ أَلَمْ تَرَ تَقْرِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قَدِ انْتَهَى عِلْمُكَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ نَظَرْتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُوا، وَلَيْسَ انْتِهَاءُ عِلْمِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَا نَظَرُهُ إِلَيْهِمْ كَانَ فِي وَقْتِ قَوْلِهِمْ لِنَبِيٍّ لَهُمْ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا لِلِانْتِهَاءِ، وَلَا لِلنَّظَرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْمُولًا لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا؟ هَذَا مَا لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلًا مِنْ: بَعْدِ، لَكَانَ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَامِلِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ عَلَيْهِ، أَعْنِي: مِنْ، الدَّاخِلَةَ عَلَى: بَعْدِ، لَا تَدْخُلُ عَلَى: إِذْ، لَا تَقُولُ: مِنْ إِذْ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الظُّرُوفُ الَّتِي يَدْخُلُ عَلَيْهَا: مَنْ، كَوَقْتٍ وَحِينٍ، لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى أَيْضًا، لِأَنَّ: مِنْ، بَعْدِ: مُوسَى، حَالٌ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. إِذِ الْعَامِلُ فِيهِ: كَائِنِينَ، وَلَوْ قُلْتَ: كَائِنِينَ مِنْ حِينِ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا، لَمَا صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَيُنْظَرُ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ بِهِ يَصِحُّ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْعَامِلُ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى قِصَّةِ الْمَلَأِ، أَوْ: حَدِيثِ الْمَلَأِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ. لِأَنَّ الذَّوَاتَ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِمَّا جَرَى لَهُمْ، فَصَارَ الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا جَرَى لِلْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، إِذْ قَالُوا؟ فَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، هُوَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِهِ، وتعلق قوله: لنبي، بقالوا، وَاللَّامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِلتَّبْلِيغِ، وَاسْمُ هَذَا النَّبِيِّ: شَمْوِيلُ بْنُ بَالِي، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَوْ: شَمْعُونُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ اسْمُهُ عِيسَى، وَضَعَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُوشَعُ بِأَنْ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاوُدَ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ وَنَحْنُ نُلَخِّصُهَا فَنَقُولُ: لَمَّا مَاتَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوشَعَ يُقِيمُ فِيهِمُ التَّوْرَاةَ، ثُمَّ قُبِضَ فَخَلَفَ حِزْقِيلُ، ثُمَّ قُبِضَ فَفَشَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، حَتَّى عَبَدُوا الْأَوْثَانَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ الْيَسَعَ، ثُمَّ قُبِضَ، فَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، وَظَهَرَ لَهُمْ عَدُّوهُمُ الْعَمَالِقَةُ قَوْمُ جَالُوتَ، كَانُوا سُكَّانَ سَاحِلِ بَحْرِ الرُّومِ، بَيْنَ مِصْرَ وَفِلَسْطِينَ، وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَغَلَبُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَأَسَرُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِهِمْ كَثِيرًا، وَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ هَلَكُوا إِلَّا امْرَأَةً حُبْلَى دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَرَزَقَهَا شَمْوِيلَ، فَتَعَلَّمَ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَتَبَنَّاهُ فَلَمَّا بَلَغَ النُّبُوَّةَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى جَنْبِ الشَّيْخِ، وَكَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ، فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ: يَا شَمْوِيلُ، فَقَامَ

فَزِعًا، وَقَالَ: يَا أَبَتِ دَعَوْتَنِي، فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَا، فَيَفْزَعَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ نَمْ، فَجَرَى بِذَلِكَ لَهُ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلَا تُجِبْنِي، فَظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَبَلِّغْ قَوْمَكَ رِسَالَةَ رَبِّكَ، قَدْ بَعَثَكَ نَبِيًّا. فَأَتَاهُمْ، فَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: إِنْ كُنَتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سبيل الله آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، وَكَانَ قوام بني إسرائيل بالإجماع عَلَى الْمُلُوكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَسِيرُ بِالْجُمُوعِ، وَالنَّبِيُّ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ وَقَالَ وَهْبٌ: بُعِثَ شَمْوِيلُ نَبِيًّا فَلَبِثُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً بِأَحْسَنِ حَالٍ، وَكَانَ اللَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْجِهَادَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تولوا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ جَالُوتَ وَالْعَمَالِقَةِ مَا كَانَ. وَمَعْنَى: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا: أَنْهِضْ لَنَا مَنْ نَصْدُرُ عنه في تدبير بالحرب، وَنَنْتَهِي إِلَى أَمْرِهِ، وَانْجَزَمَ: نُقَاتِلْ، عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الصفة للملك وقرىء بِالنُّونِ وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الحال من المجرور، وقرىء بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا لَمَّا طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُنْهِضَ لَهُمْ مَلِكًا، وَرَتَّبُوا عَلَى بَعْثِهِ أَنْ يُقَاتِلُوا وَكَانُوا قَدْ ذُلُّوا، وَسُبِيَ مُلُوكُهُمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الْأَنَفَةُ، وَرَغِبُوا فِي الجهاد، أراد أن يستتب مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْجِهَادِ، وَأَنْ يَتَعَرَّفَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ، فَاسْتَفْهَمَ عَنْ مُقَارَبَتِهِمْ تَرْكَ الْقِتَالِ إِنْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ دَاعٍ إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، فَقَالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أَيْ هَذِهِ حَالُ مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ طَالِبُ ثَأْرٍ، وَمُتَرَجٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ الظَّفَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ إِنَّمَا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَمَّا أَقْلَعُوا وَتَابُوا، وَرَجَعُوا لِطَوْعِ الْأَنْبِيَاءِ، قَوِيَتْ آمَالُهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، قِيلَ: وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ ظَنَّ مِنْهُمُ الْجُبْنَ وَالْفَشَلَ فِي الْقِتَالِ، فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ، وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا ظَنَّهُ وَتَوَقَّعَهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْهُمْ، وَكَانَ كَمَا تَوَقَّعَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: عَسِيتُمْ، بِكَسْرِ السِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْقِتَالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: عَسَى، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْأَكْثَرُ فَتْحُ السِّينِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ: هُوَ عَسٌ بِذَلِكَ، مِثْلُ: حروشج، فَإِنْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى ظَاهِرٍ فَقِيَاسُ عَسِيتُمْ، أَنْ يُقَالَ: عَسِيَ زَيْدٌ، مِثْلُ: رَضِيَ، فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ الْقِيَاسُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَسَائِغٌ أَنْ تَأْخُذَ بِاللُّغَتَيْنِ وَتُسْتَعْمَلُ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْأُخْرَى، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ. انْتَهَى. وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا تُكْسَرُ السِّينُ إِلَّا مَعَ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَنُونِ

الإناث، نحو: عسيت، وَعَسِينَ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ لَا الْوُجُوبِ، وَيُفْتَحُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَلَا يُسَوَّغُ الْكَسْرُ نَحْوَ: عَسَى زَيْدٌ وَالزَّيْدَانِ عَسَيَا، وَالزَّيْدُونَ عَسَوْا، والهندان عسيا، وعساك، وعساني، وَعَسَاهُ. وَقَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَدْفُوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ يَكْسِرُونَ السِّينَ مِنْ عَسَى مَعَ الْمُضْمَرِ خَاصَّةً، وَإِذَا قِيلَ: عَسَى زَيْدٌ فَلَيْسَ إِلَّا الْفَتْحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الْمُضْمَرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَوْ كَانَ عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السين لقرىء: عَسِيَ رَبُّكُمْ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، وَدُخُولُ: هَلْ، عَلَى: عَسَيْتُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَسَى فِعْلٌ خَبَرِيٌّ لَا إِنْشَائِيٌّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَسَى إِنْشَاءٌ لِأَنَّهُ تَرَجٍّ، فَهِيَ نَظِيرَةُ لَعَلَّ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جَاءَنِي الَّذِي عَسَى أَنْ يُحْسِنَ إِلَيَّ! وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِشَامٌ فَأَجَازَ وَصْلَ الْمَوْصُولِ بِهَا، وَوُقُوعُهَا خَبَرًا لِأَنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِعْلٌ خَبَرِيٌّ، وَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ الرَّاجِزُ: لَا تَلْحَنِي إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمًا إِلَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لَا تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا لِأَنَّ: إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ خَبَرًا لَهَا مِنَ الْجُمَلِ، إِلَّا الْجُمَلَ الْخَبَرِيَّةَ، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، هَذَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ ضَعِيفٌ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، مَحْذُوفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَتَوَسَّطَ الشَّرْطُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى حَذْفِهِ، كَمَا تَوَسَّطَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ «1» وَخَبَرُ عَسَيْتُمْ: أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ: أَنْ، زِيدَتْ فِي الْخَبَرِ، إِذْ: عَسَى لِلتَّرَاخِي، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ: عَسَى، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ، جَعَلَ: أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، هُوَ الْمَفْعُولَ، وَ: أَنْ، مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَاوُ فِي: وَمَا لَنَا، لِرَبْطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَوْ حُذِفَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي اللَّفْظِ وَإِنْكَارٌ فِي الْمَعْنَى، وَ: أَنْ لَا نُقَاتِلَ، أَيْ: فِي تَرْكِ الْقِتَالِ، حُذِفَ الْجَرُّ الْمُتَعَلِّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: لَنَا، الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذْ هِيَ مُبْتَدَأٌ، وَ: أَنْ لَا نُقَاتِلَ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ: فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ سيبويه والخليل و: ذهب أَبُو الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ: أَنْ، زَائِدَةٌ، وَعَمِلَتِ النَّصْبَ كَمَا عَمِلَ بَاءُ الْجَرِّ الزَّائِدُ الْجَرَّ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أي:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 70. [.....]

وَمَا لَنَا غَيْرُ مُقَاتِلِينَ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ «1» مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «2» وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «3» وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا لَكَ قَائِمًا؟ وَقَالَ تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «4» وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى حَذْفِ الْوَاوِ مِنْ: أَنْ لَا نُقَاتِلَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا لَنَا وَلِأَنْ لَا نُقَاتِلَ؟ قَالَ: كَمَا تَقُولُ: إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ، بِمَعْنَى إِيَّاكَ وَأَنْ تَتَكَلَّمَ، وَهَذَا وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ لَيْسَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَذْفَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَا نَذْهَبُ إِلَيْهِمَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو هُنَا إِلَى ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى فِي عَدَمِ الزِّيَادَةِ وَالْحَذْفِ، وَأَمَّا: إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ، فَلَيْسَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، بَلْ: إِيَّاكَ، مُضَمَّنٌ مَعْنَى احْذَرْ. فَأَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: احْذَرِ التَّكَلُّمَ، وَقَدْ أُخْرِجْنَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ: أَنْكَرُوا تَرْكَ الْقِتَالِ، وَقَدِ الْتَبَسُوا بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَالْقَائِلُ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ، لَكِنَّهُ أُخْرِجَ مِثْلُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْرَاجًا لَهُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمُ اسْتُولِيَ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَأُسِرَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَارْتَحَلُوا إِلَى غَيْرِ بلادهم التي كان منشأهم بِهَا، كَمَا مَرَّ فِي قِصَّتِهِمْ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَقَدْ أَخْرَجَنَا، أَيِ الْعَدُوُّ، وَالْمَعْنَى. فِي: وَأَبْنَائِنَا، أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَبْنَائِنَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْقَلْبِ أَيْ: وَأُخْرِجَ مِنَّا أَبْنَاؤُنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ: بأخرجنا، عَلَى قِرَاءَةِ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ: وَقَدْ أَخْرَجَنَا اللَّهُ بِعِصْيَانِنَا وَذُنُوبِنَا، فَنَحْنُ نَتُوبُ وَنُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ لِيَرُدَّنَا إِلَى أَوْطَانِنَا، وَيَجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبْنَائِنَا، كَمَا تَقُولُ: مَا لِي لَا أُطِيعُ اللَّهَ وَقَدْ عَاقَبَنِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ أُطِيعَهُ حَتَّى لَا يُعَاقِبَنِي، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَظْهَرُوا التَّجَلُّدَ وَالتَّصَلُّبَ فِي الْقِتَالِ ذَبًّا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ حَيْثُ قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلِذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ قَصْدُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِحَقِّ اللَّهِ عَزْمُهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا لَنَا أَنْ لَا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا، لَعَلَّهُمْ وُفِّقُوا لِإِتْمَامِ مَا قَصَدُوا. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ هَذَا شَأْنُ الْمُتْرَفِ الْمُنَعَّمِ، مَتَى كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالنِّعْمَةِ قَوِيَ عَزْمُهُ وَأَنِفَ، فَإِذَا ابْتُلِيَ بشيء من الخطوب ركع وَذُلُّ. التَّوَلِّي: حَقِيقَةً هُوَ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لِلْحَرْبِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا: صَرْفُ عَزَائِمِهِمْ عَنْ ما سألوه

_ (1) سورة يوسف: 12/ 11. (2) سورة نوح: 71/ 13. (3) سورة الحديد: 57/ 8. (4) سورة المدثر: 74/ 49.

مِنَ الْقِتَالِ، وَانْتَصَبَ: قَلِيلًا، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمَا، لَوْ قُلَتَ: ضَرَبْتُ الْقَوْمَ إِلَّا رِجَالًا، لَمْ يَصِحَّ، وَصَحَّ هَذَا لِاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ، وَلِتَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا عِدَّةَ هَذَا الْقَلِيلِ، وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لما سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ قَوْمِ طَالُوتَ» ، وَهَؤُلَاءِ الْقَلِيلُ ثَبَتُوا عَلَى نِيَّاتِهِمُ السَّابِقَةِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَزَائِمُهُمْ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِمْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تَوَلَّوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ الْكَوْنَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ جُثَثٌ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ، وَزَيْدًا، بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَامَّةً، وَالنَّصْبُ عَلَى أنها ناقصة، واسمها ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌّ فِيهَا يَعُودُ عَلَى الْبَعْضِ الْمَفْهُومِ مِمَّا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ، أَيْ: بَعْضُهُمْ زَيْدًا، وَالْمَعْنَى قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا كَوْنُ زَيْدٍ فِي الْقَائِمِينَ، وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ فِي الْقَائِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ قَائِمًا، فَلَا فَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْنَ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَبَيْنَ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ أَوْ زَيْدًا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ تَقَاعَدَ عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ بِسُؤَالِهِ وَرَغْبَتِهِ، وَأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ظُلْمٌ، إِذِ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ في غير موضعه. وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قَوْلُ النَّبِيِّ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسُؤَالٍ مِنَ النَّبِيِّ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ سُؤَالِهِ، بَلْ لَمَّا عَلِمَ حَاجَتَهُمْ إِلَيْهِ بَعَثَهُ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا، فَأَتَى بِعَصًا وَقَرْنٍ فِيهِ دُهْنُ الْقُدْسِ وَقِيلَ: الَّذِي يَكُونُ مَلِكًا طُولُهُ طُولُ هَذِهِ الْعَصَا، وَقِيلَ: لِلنَّبِيِّ. انْظُرِ الْقَرْنَ فَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ فَنَشَّ الدُّهْنَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَصَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ: طَالُوتُ سَقَّاءً عَلَى مَاءٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: دَبَّاغًا عَلَى مَا قَالَهُ وَهْبٌ، أَوْ مُكَارِيًا، وَضَاعَ حِمَارٌ لَهُ، أَوْ حُمُرٌ لِأَهْلِهِ، فَاجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ لِيَسْأَلَهُ عَنْ مَا ضَاعَ لَهُ وَيَدْعُو اللَّهَ لَهُ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهُ نَشَّ ذَلِكَ الْقَرْنَ، وَقَاسَهُ النَّبِيُّ بِالْعَصَا، فَكَانَ طُولَهَا، فَقَالَ لَهُ: قَرِّبْ رَأْسَكَ فَقَرَّبَهُ وَدَهَنَهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ، وَقَالَ: أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أُمَلِّكَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ طَالُوتُ: أَنَا؟

قال: نعم. قال: أو ما عَلِمْتَ أَنَّ سِبْطِي أَدْنَى أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَيْتِي أَدْنَى بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَبِآيَةِ أَنَّكَ تَرْجِعُ وَقَدْ وَجَدَ أَبُوكَ حُمُرَهُ. وَكَانَ كَذَلِكَ. وَانْتَصَبَ: مَلِكًا عَلَى الْحَالِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَلَّكَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ. قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ هَذَا كَلَامُ مَنْ تَعَنَّتَ وَحَادَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهِيَ عَادَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ إِذْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ عَنِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً أن يسلموا لأمر الله، وَلَا تُنْكِرُهُ قُلُوبُهُمْ، وَلَا يَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَفِي الْمَقَادِيرِ أَسْرَارٌ لَا تُدْرَكُ، فَقَالُوا: كَيْفَ يُمَلَّكُ عَلَيْنَا من هو دوننا. لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ الَّذِي هُوَ سِبْطُ يَهُوذَا. وَمِنْهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ؟ وَلَيْسَ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ الَّذِي هُوَ سِبْطُ لَاوِي وَمِنْهُ مُوسَى وَهَارُونُ؟ قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: وَكَانَ سِبْطُ طَالُوتَ قَدْ عَمِلُوا ذَنْبًا عَظِيمًا، نَكَحُوا النِّسَاءَ نَهَارًا عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَنَزَعَ النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ سِبْطَ الْإِثْمِ. وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا إِلَى آخِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ أَنْ لَا يُقَدَّمَ الْمَفْضُولُ عَلَى الْفَاضِلِ، وَاسْتِحْقَارُ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ، فَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَالْمُلْكُ يَحْتَاجُ إِلَى أَصَالَةٍ فِيهِ، إِذْ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ، وَإِلَى غِنًى يَسْتَعْبِدُ بِهِ الرِّجَالَ، وَيُعِينُهُ عَلَى مَقَاصِدِ الْمُلْكِ، لَمْ يَعْتَبِرُوا السَّبَبَ الْأَقْوَى، وَهُوَ: قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ «1» وَاعْتَبَرُوا السَّبَبَ الْأَضْعَفَ، وَهُوَ: النَّسَبُ والغنى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «2» «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ «3» قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَعْجَبُ شَيْءٍ إِلَى عَاقِلٍ ... فُتُوٌّ عَنِ الْمَجْدِ مُسْتَأْخِرَهْ إِذَا سُئِلُوا مَا لَهُمْ مِنْ عُلًا؟ ... أَشَارُوا إِلَى أَعْظُمٍ ناخره

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 26. (2) سورة الحجرات: 49/ 13. (3) سورة البقرة: 2/ 221.

وَ: أَنَّى، هُنَا بِمَعْنَى: كَيْفَ؟ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَ: يَكُونُ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ، وَ: لَهُ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي: أَنَّى، وَ: عَلَيْنَا، مُتَعَلِّقٌ: بالملك، عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ، تَقُولُ: فُلَانٌ مَلِكٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَقِيلَ: عَلَيْنَا، حَالٌ مِنَ: الْمُلْكُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً وَ: لَهُ، متعلق، بيكون، أَيْ: كَيْفَ يَقَعُ؟ أَوْ: يَحْدُثُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ اسْمِيَّةٌ عُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ فعلية، وهي لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، وُجُودُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَفَقْرُهُ، لَا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ. وَيُعَلَّقُ: بِالْمُلْكِ، وَ: مِنْهُ، بأحق، وتعلق: من المال، بيؤت، وَفُتِحَتْ سِينُ السَّعَةِ لِفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، إِذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُهَا الْكَسْرُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلُهُ، يُوسِعُ، كَوَثِقَ يَثِقُ، وَإِنَّمَا فُتِحَ عَيْنُ الْمُضَارِعِ لِكَوْنِ لَامِهِ حَرْفَ حَلْقٍ، فَهَذِهِ فَتْحَةٌ أَصْلُهَا الْكَسْرُ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ الْوَاوُ، لِوُقُوعِهَا فِي يَسَعُ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، لَكِنْ فُتِحَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا الْفَتْحَ لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْوَاوِ، أَلَا تَرَى ثُبُوتَهَا فِي يَوْجَلُ؟ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ بَيْنَ كَسْرَةٍ وَيَاءٍ، فَالْمَصْدَرُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَذْفِ مَحْمُولَانِ عَلَى الْمُضَارِعِ، كَمَا حَمَلُوا: عِدَةً وعد عَلَى يَعِدُ. قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أَيِ: اخْتَارَهُ صَفْوَةً، إِذْ هُوَ أَعْلَمُ تَعَالَى بِالْمَصَالِحِ، فَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَى اللَّهِ. وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ قِيلَ: فِي الْعِلْمِ بِالْحُرُوبِ، وَالظَّاهِرُ عِلْمُ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَقِيلَ: قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ ونبىء، وَأَمَّا الْبَسْطَةُ فِي الْجِسْمِ فَقِيلَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ مَعَانِي: الْخَيْرِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَقَهْرِ الْأَعْدَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ: الِامْتِدَادُ، وَالسَّعَةُ فِي الْجِسْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ طَالُوتُ يَوْمَئِذٍ أَعْلَمَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي طُولِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ طَالُوتَ لِلْمُلْكِ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «1» وَبِمَا أَعْطَاهُ مِنَ السَّعَةِ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي لَا شَيْءَ أَشْرَفُ مِنْهُ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَمِنْ بَسْطَةِ الْجِسْمِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ عِظَمًا فِي النُّفُوسِ وَهَيْبَةً وَقُوَّةً، وَكَثِيرًا مَا تَمَدَّحَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:

_ (1) سورة القصص: 28/ 68. (2) سورة فاطر: 35/ 28.

فَجَاءَتْ بِهِ سَبْطَ الْعِظَامِ كَأَنَّمَا ... عِمَامَتُهُ بَيْنَ الرِّجَالِ لِوَاءُ وَقَالَ: بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ وَقَالَ: تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... وَأَنَّ أَعِزَّاءَ الرِّجَالِ طِيَالُهَا وَقَالُوا فِي الْمَدْحِ: طَوِيلُ النِّجَادِ رَفِيعُ الْعِمَادِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا مَاشَى الطِّوَالَ طَالَهُمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْمُلْكِ، وَقَالَ وَهْبٌ، وَالسُّدِّيُّ، قَبْلَ الْمُلْكِ، فَالْمَعْنَى: وَزَادَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ بَسْطَةً، بِالسِّينِ، أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، و: بالصاد نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، رِوَايَةُ النقاش، وزرعان، والشموني. وَزَادَ: لَئِنْ بَصَطْتَ، وَبِبَاصِطٍ، وَكَبَاصِطٍ، وَمَبْصُوطَتَانِ، وَلَا تَبْصُطْهَا كُلَّ الْبَصْطِ، وَأَوْصَطِ، وَفَمَا اصْطَاعُوا، وَيَصْطُونَ، وَالْقِصْطَاسِ، وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو نَشِيطٍ عَنْ قَالُونَ. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ مَعْمُولِ قَوْلِ النَّبِيِّ لَهُمْ، لَمَّا عَلِمَ بُغْيَتَهُمْ فِي مَسَائِلِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ فِي الْحُجَجِ الَّتِي تُبْدِيهَا، أَتَمَّ كَلَامَهُ بِالْأَمْرِ الْقَطْعِيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَلَمَّا قَالُوا: وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ فَكَانَ فِي قَوْلِهِمُ ادِّعَاءُ الْأَحَقِّيَّةِ فِي الْمُلْكِ، حَتَّى كَأَنَّ الْمُلْكَ هُوَ فِي مُلْكِهِمْ، أَضَافَ الْمُلْكَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَلِكًا، فَالْمَلِكُ مُلْكُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا أَرَادَ، فَلَسْتُمْ بِأَحَقَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ مُلْكُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ لَيْسَتَا دَاخِلَتَيْنِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ، بَلْ هِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، جَاءَتْ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ لِمَنْ يُؤْتِيهِ اللَّهُ الْمُلْكَ، أَيْ: فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي مُلْكِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ «1» وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، إِذْ تَقَدَّمَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُمُ الْأَغْنِيَاءُ، وَأَنَّ طَالُوتَ لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ وَاسِعٌ، يُوَسِّعُ فَضْلَهُ عَلَى الْفَقِيرِ، عَلِيمٌ بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، فَيَضَعُهُ فِيهِ وَيَخْتَارُهُ لَهُ. وَفِي قِصَّةِ طَالُوتَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ وِرَاثَةً، لِإِنْكَارِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا أَنْكَرُوهُ مِنَ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مستحق بالعلم والقوّة

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 23.

لَا بِالنَّسَبِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّسَبِ مَعَ الْعِلْمِ، وَفَضَائِلِ النَّفْسِ، وَأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ لِاخْتِيَارِ اللَّهِ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ، لِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَشْرَفَ مِنْهُ نَسَبًا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ الْإِخْبَارَ بِقِصَّةِ الْخَارِجِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِالْقَتْلِ إِذْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَإِمَّا بِالْوَبَاءِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا مَفَرَّ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِئَلَّا نَسْلُكَ مَا سَلَكُوهُ، فَنُحْجِمَ عَنِ الْقِتَالِ، فَأَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُثْبِتَةً لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَذَلِكَ بِإِحْيَائِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤَدِّي شُكْرَ اللَّهِ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِنَا، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِنَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَقْرَضَ اللَّهَ فَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بِيَدِهِ الْقَبْضَ وَالْبَسْطَ، وَأَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِقِصَّةِ الملإ من بني إسرائيل، وذلك لنعتبر بها وتقتدي مِنْهَا بِمَا كَانَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ حَسَنًا، وَنَجْتَنِبَ مَا كَانَ قَبِيحًا. وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ عَلَيْنَا لِنَعْتَبِرَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، فَمَلَكَ بِلَادَهُمْ وَأَسَرَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلِكٌ يَسُوسُهُمْ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ، إِذْ هِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَنْ يُصْدَرُ عَنْ أَمْرِهِ وَيُجْتَمَعُ عَلَيْهِ، فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُنْهِضَ. لَهُمْ مَلِكًا بِرَسْمِ الجهاد في سبيل الله، فَتَوَقَّعَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ نَكَصُوا عَنْهُ، فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّا قَدْ وُتِرْنَا، وَأُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا، وَأَبْنَائِنَا، وَهَذَا أَصْعَبُ شَيْءٍ عَلَى النُّفُوسِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ مَسْكَنٍ أَلِفَهُ، وَيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبْنَائِهِ، وَلِهَذَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ لَنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَكْثَرَ» . وَكَثِيرًا مَا بَكَى الشُّعَرَاءُ الْمَسَاكِنَ وَالْمَعَاهِدَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بِلَالٍ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَكَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُحَدِّثُ قَدْ رُزِقَ مِنَ النَّصِيبِ فِي الدُّنْيَا وَالْجَلَالَةِ، وَحَمَلَ النَّاسُ الْعِلْمَ عَنْهُ، وَكَانَ بِبَغْدَادَ، فَعَبَرَ مَرَّةً عَلَى مَكَانِ مَوْلِدِهِ وَمَنْشَئِهِ صَغِيرًا بِبَغْلَانَ، قِيلَ: وَهِيَ ضَيْعَةٌ مِنْ أَصْغَرِ الضَّيَاعِ، فَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ مُقِيمًا بِهَا، وَيَتْرُكَ رِئَاسَةَ بَغْدَادَ، دَارِ الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ نُزُوعٌ إِلَى الْوَطَنِ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ: أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنَّهُ أَخَذَ أَمْرَ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، ثُمَّ عَرَّضَ تَعَالَى بِالظَّالِمِينَ، وَهُمُ: الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا أَمْرَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا طَلَبُوهُ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِمْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنِ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ بَعَثَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْفَسِهِمْ وَلَا أَشْرَفِهِمْ مَنْصِبًا، إِذْ لَيْسَ مِنْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 248 إلى 252]

سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، فَلَمْ يَأْخُذُوا مَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، وَشَرَعُوا يَتَعَنَّتُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَاسْتَبْعَدُوا تَمْلِيكَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ عَلَى زَعْمِهِمْ، إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ فَيُعَظَّمُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلِأَنَّهُ فَقِيرٌ، وَهَاتَانِ الْخَلَّتَانِ هُمَا يُضْعِفَانِ الْمُلْكَ، إِذْ سَابِقُ الرِّئَاسَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَلَاءَةِ بِالْأَمْوَالِ مِمَّا يَسْتَتْبِعُ الرِّجَالَ، وَيَسْتَعْبِدُ الْأَحْرَارَ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ عِنَايَةَ الْمَقَادِيرِ تَجْعَلُ الْمَفْضُولَ فَاضِلًا. فَأَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ، وَشَرَّفَهُ بِخَصْلَتَيْنِ: هُمَا فِي ذَاتِهِ: إِحْدَاهُمَا: الْخُلُقُ الْعَظِيمُ، وَالْأُخْرَى: الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ الْفَضْلُ الْجَسِيمُ، وَاسْتَغْنَى بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الذَّاتِيَّيْنِ عَنِ الْوَصْفَيْنِ الْخَارِجَيْنِ عَنِ الذَّاتِ، وَهُمَا الْفَخْرُ: بِالْعَظْمِ الرَّمِيمِ، وَالِاسْتِكْثَارُ بِالْمَالِ الَّذِي مَرْتَعُهُ وَخِيمٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي مُلْكَهُ مَنْ أَرَادَ، وَأَنَّهُ الْوَاسِعُ الْفَضْلِ، الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فلا اعتراض عليه. [سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

التَّابُوتُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ الصُّنْدُوقُ، وَفِي التَّابُوتِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَزْنَهُ فَاعُولٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ وَلُغَةٌ فِيهِ التَّابُوهُ، بِالْهَاءِ آخِرًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ بَدَلًا مِنَ التَّاءِ كَمَا أَبْدَلُوهَا مِنْهَا فِي الْوَقْفِ، فِي مِثْلِ: طَلْحَةَ فَقَالُوا: طَلْحَهْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: فَعَلُوتًا كَمَلَكُوتٍ، مِنْ: تَابَ يَتُوبُ، لِفُقْدَانِ مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ فَعَلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ تُوضَعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُودَعُهُ فَلَا يَزَالُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَصَاحِبُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُودَعَاتِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ فَاعُولًا لِقِلَّةٍ نَحْوَ سَلِسَ، وَقَلِقَ، وَلِأَنَّهُ تَرْكِيبٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَعْرُوفِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بِالْهَاءِ فَفَاعُولٌ إِلَّا فِيمَنْ جَعَلَ هاءه مِنَ التَّاءِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، وَلِذَلِكَ أُبْدِلَتْ مِنْ تاء التأنيث. السكينة: فعلية مِنَ السُّكُونِ، وَهُوَ الْوَقَارُ تَقُولُ: فِي فُلَانٍ سَكِينَةٌ أَيْ: وَقَارٌ وَثَبَاتٌ. هَارُونَ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ يُمْنَعُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ. الْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْجَنَدِ وَهُوَ: الْغَلِيظُ مِنَ الْأَرْضِ إِذْ بَعْضُهُمْ يَعْتَصِمُ بِبَعْضٍ. الْغُرْفَةُ: بِضَمِّ الْغَيْنِ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُغْتَرَفِ مِنَ الْمَاءِ، كَالْأُكْلَةِ لِلْقَدْرِ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَبِفَتْحِ الْغَيْنِ مَصْدَرٌ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ ضَرْبَةً وَالِاغْتِرَافُ وَالْغَرْفُ مَعْرُوفٌ، وَالْغُرْفَةُ الْبِنَاءُ الْعَالِي الْمُشْرِفُ. جَاوَزَ: وَجَازَ الْمَكَانَ قَطَعَهُ. جَالُوتُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، كَانَ مَلِكَ الْعَمَالِقَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ الْبَرْبَرَ مِنْ نَسْلِهِ. الْفِئَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ فَاءَ يَفِيءُ إِذَا رَجَعَ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ عَيْنَ الْكَلِمَةِ، أَوْ مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ: كَسَرْتُهُ: فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ لَامَ الْكَلِمَةِ قَوْلًا. غَلَبَ: غَلْبًا وَغَلَبَةً: قَهَرَ، وَالْأَغْلَبُ الْقَوِيُّ الْغَلِيظُ، وَالْأُنْثَى غَلْبَى.

بَرَزَ: يَبْرُزُ بُرُوزًا، ظَهَرَ، وَامْرَأَةٌ بَرَزَةٌ أَخَذَ مِنْهَا السِّنُّ، فَلَمْ تَسْتُرْ وَجْهَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْبِرَازُ وَالْمُتَبَرَّزُ. أَفْرِغْ: صُبَّ وَفَرَغَ مِنْ كَذَا، خَلَا مِنْهُ. ثَبَتَ: اسْتَقَرَّ وَرَسَخَ، وَثَبَّتَهُ أَقَرَّهُ وَمَكَّنَهُ بِحَيْثُ لَا يَتَزَحْزَحُ. الْقَدَمُ: الرِّجْلُ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا: قُدَيْمَةٌ، وَالِاشْتِقَاقُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ يَرْجِعُ لِمَعْنَى التَّقَدُّمِ. هَزَمَ: كَسَرَ الشَّيْءَ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَزَمْتُ عَلَى زَيْدٍ: عَطَفْتُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: هَزَمْتُ عَلَيْكِ الْيَوْمَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ ... فَجُودِي عَلَيْنَا بِالنَّوَالِ وَأَنْعِمِي دَاوُدُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَهُوَ هُنَا: أَبُو سُلَيْمَانَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيسَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَيُقَالُ دَاوُدُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ يَنْوَى، مِنْ سِبْطِ يَهُودَ بْنِ يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الدَّفْعُ: الصَّرْفُ: دَفَعَ يَدْفَعُ دَفْعًا، وَدَافَعَ مُدَافَعَةً وَدِفَاعًا. وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» . وَلَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَهُمُ الله: ب إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «2» أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِآيَةٍ تَدُلُّ عَلَى مُلْكِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْبِيطِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي قَرَنَهَا اللَّهُ بِمُلْكِ طَالُوتَ وَجَعَلَهَا آيَةً لَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ، وَحَكَى مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ: تَعَنَّتَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: وَمَا آيَةُ مُلْكِ طَالُوتَ؟ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ سُؤَالِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «3» وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ مِنَ الْأَوَّلِ بِأَخْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَكْذِيبِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَقِيلَ: خَيَّرَهُمُ النَّبِيُّ فِي آيَةٍ، فَاخْتَارُوا التَّابُوتَ، وَلَا يَكُونُ إِتْيَانُ التَّابُوتِ آيَةً إِلَّا إِذَا كَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجِيئُهُ هُوَ الْمُعْجِزَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا فيه هو

_ (1- 3) سورة البقرة: 2/ 247. (2) سورة البقرة: 2/ 247.

الْمُعْجِزَ، وَهُوَ سَبَبٌ لِاسْتِقْرَارِ قُلُوبِهِمْ، وَاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ وَنِسْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى التَّابُوتِ مَجَازٌ لِأَنَّ التَّابُوتَ لَا يَأْتِي، إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «1» فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «2» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: التَّابُوتُ بِالتَّاءِ وَقَرَأَ أُبِيٌّ وَزَيْدٌ: بِالْهَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْهَاءِ أَهِيَ بَدَلٌ مِنَ التَّاءِ؟ أَمْ أَصْلٌ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ السَّائِبِ: كَانَ التَّابُوتُ مِنْ عُودِ الشَّمْشَارِ، وَهُوَ خَشَبٌ تُعْمَلُ مِنْهُ الْأَمْشَاطُ، وَعَلَيْهِ صَفَائِحُ الذَّهَبِ، وَقِيلَ: كَانَتِ الصَّفَائِحُ مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، وَقَدْ كَثُرَ الْقَصَصُ فِي هَذَا التَّابُوتِ وَالِاخْتِلَافُ فِي أَمْرِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَابُوتٌ مَعْرُوفٌ حَالُهُ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا قَدْ فَقَدُوهُ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا أَبْهَمَ حَالَهُ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى تَعْيِينِ مَا فِيهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ، وَنَحْنُ نُلِمُّ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ، فَذَكَرُوا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ تَابُوتًا عَلَى آدَمَ فِيهِ صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبُيُوتٌ بِعَدَدِهِمْ، وَآخِرُهُ بَيْتُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَتَنَاقَلَهُ بَعْدَهُ، أَوْلَادُهُ شِيثٌ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ، ثم عند ابنه قيدار، فَنَازَعَهُ إِيَّاهُ بَنُو عَمِّهِ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ، وَقَالُوا لَهُ: وقد صُرِفَتِ النُّبُوَّةُ عَنْكُمْ إِلَّا هَذَا النُّورَ الْوَاحِدَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، وَجَاءَ يَوْمًا يَفْتَحُهُ فَتَعَسَّرَ، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَفْتَحُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، فَادْفَعْهُ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ يَعْقُوبَ، فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ إِلَى كَنْعَانَ، فَدَفَعَهُ لِيَعْقُوبَ، فَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَضَعَ فِيهِ التَّوْرَاةَ وَمَتَاعًا مِنْ مَتَاعِهِ، ثُمَّ تَوَارَثَهَا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى شَمْوِيلَ، فَكَانَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَقِيلَ: اتَّخَذَ مُوسَى التَّابُوتَ لِيَجْمَعَ فِيهِ رُضَاضَ الْأَلْوَاحِ. وَالسَّكِينَةُ: هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَلَمَّا كَانَتْ حَاصِلَةً بِإِتْيَانِ التَّابُوتِ، جُعِلَ التَّابُوتُ ظَرْفًا لَهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ الْحَسَنِ، وَهُوَ تشبيه المعاني بالإحرام، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطَةٌ، فَغَشِيَتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ» . وَفِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْمَعُ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ تَرَاهَا الناس ما

_ (1) سورة محمد: 47/ 21. (2) سورة البقرة: 2/ 16. [.....]

تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ» . فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نُزُولِ السَّكِينَةِ مَرَّةً، وَمَرَّةً عَنْ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَدَلَّ حَدِيثُ أُسَيْدٍ عَلَى أَنَّ نُزُولَ السَّكِينَةِ فِي حَدِيثِ عمران هو على مُضَافٍ، أَيْ: تِلْكَ أَصْحَابُ السَّكِينَةِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي حَدِيثِ أُسَيْدٍ، وَجُعِلُوا ذَوِي السَّكِينَةِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ فِي غَايَةِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَطَوَاعِيَتَهُمْ دَائِمَةٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي (الصَّحِيحِ) : «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ. وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . فَنُزُولُ السَّكِينَةِ عَلَيْهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْتِبَاسِهِمْ بِطُمَأْنِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ تَلَا كِتَابَ اللَّهِ وَتَدَارَسَهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهِ. وَالتَّفَكُّرِ فِي أَسَالِيبِهِ، مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَتَسْتَقِرُّ لَهُ نَفْسُهُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ التِّلَاوَةِ لَهُ وَالدِّرَاسَةِ خَالِيًا مِنْ ذَلِكَ، فَحِينَ تَلَا نَزَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ قَتَادَةُ السَّكِينَةُ هُنَا الْوَقَارُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَيَسْكُنُونَ إِلَيْهَا، وَقَالَ نَحْوَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّابُوتُ صُنْدُوقُ التَّوْرَاةِ، كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَاتَلَ قَدَّمَهُ فَكَانَتْ تَسْكُنُ نُفُوسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا يَفِرُّونَ، وَالسَّكِينَةُ: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ السَّكِينَةَ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ ، وَقِيلَ: السَّكِينَةُ صُورَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ، لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرِّ، وَذَنَبٌ كَذَنَبِهِ، وَجَنَاحَانِ، فَتَئِنُّ فَيَزُفُّ التَّابُوتُ نَحْوَ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَمْضُونَ معه، فإذا استقر ثبتوا وَسَكَنُوا، وَنَزَلَ النَّصْرُ. وَقِيلَ: بالسكينة بِشَارَاتٌ مِنْ كُتِبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ طَالُوتَ وَجُنُودَهُ، وَيُقَالُ: جَعَلَ تَعَالَى سَكِينَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَالْعَصَا، وَآثَارُ أَصْحَابِ نُبُوَّتِهِمْ، وَجَعَلَ تَعَالَى سَكِينَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَقَرٍّ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، قَدْ فَرَّ مَرَّةً، وَغُلِبَ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَبَيْنَ مقربين أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ: سَكِّينَةٌ، بِتَشْدِيدِ الْكَافِ وَارْتِفَاعُ سَكِينَةٌ، بِقَوْلِهِ: فِيهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا فِيهِ سَكِينَةٌ. وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَوْ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ سَكِينَاتِ رَبِّكُمْ. وَالْبَقِيَّةُ قِيلَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ الَّتِي تَكَسَّرَتْ حِينَ أَلْقَاهَا مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى قَالَهُ وَهْبٌ وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى وَهَارُونَ وَثِيَابُهُمَا وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنِّ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ وَالتَّوْرَاةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ وَقِيلَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَطَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ وَعَصَا مُوسَى وَعِمَامَتُهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: قَفِيزٌ مِنْ مَنٍّ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ حَكَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقِيلَ: الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ، حَكَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، وَقِيلَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِذَلِكَ أُمِرُوا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وثياب موسى وهارون وَعَصَوَاهُمَا، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَكِيمُ الْكَرِيمُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ السموات السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى وَأُمُورٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ مَا ذُكِرَ فِي التَّابُوتِ، فَأَخْبَرَ كُلُّ قَائِلٍ عَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ، وَانْحَصَرَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا فِي التَّابُوتِ مِنَ الْبَقِيَّةِ. مِمَّا تَرَكَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لبقية، وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ. وَ: آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَيْهِمَا مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ شَرِيعَةٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ آلَ موسى وآل هارون هم الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ فُقِدَ. وَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ فَقْدِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِمَّا تَرَكَهُ موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: آلُ هَنَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا ترك موسى وهارون، وَمِنْهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى، يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَلَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، أَيْ: مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ: بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا ... يَكُنَّ لِأَدْنَى، لَا وِصَالَ لِغَائِبِ أَيْ: مِنَ النِّسَاءِ. انْتَهَى. وَدَعْوَى الْإِقْحَامِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَسْمَاءِ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ مُحَقِّقٌ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَالْآلُ مُقْحُمٌ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا إِنْ عَنَى بِالْإِقْحَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مما تركه موسى وهارون، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يُفِيدُ زِيَادَةُ آلُ تَفْخِيمَ شَأْنِ موسى وهارون؟ وَإِنْ عَنَى بِالْآلِ الشَّخْصَ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى شَخْصِ الرَّجُلِ آلِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مما ترك موسى وهارون أَنْفُسُهُمَا، فَنَسَبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا التَّابُوتُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ بَقَايَا موسى وهارون شَخْصَيْهِمَا، أَيْ أَنْفُسِهِمَا لَا مِنْ بَقَايَا غَيْرِهِمَا، فَجَرَى آلُ هَنَا مَجْرَى التَّوْكِيدِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ: أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ هُوَ مَنْسُوبٌ لِذَاتِ مُوسَى

وهارون، فيكونه في التنصيص عليهما ذاتهما تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُقْحَمًا لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: مما ترك موسى وهارون لَاكْتَفَى، وَكَانَ ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَنْفُسَهُمَا، تَرَكَا ذَلِكَ وَوُرِثَ عَنْهُمَا. تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُهُ، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلَ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى التَّابُوتِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ التَّابُوتِ، أَيْ حَامِلًا لَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِئْنَافُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَأْتِي بِهِ وَقَدْ فُقِدَ؟ فَقَالَ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ اسْتِعْظَامًا لِشَأْنِ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ إِتْيَانَهُ إِلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مُعَدِّينَ لِلْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَهُمُ الْقُوَّةُ وَالتَّمْكِينُ وَالِاطِّلَاعُ بِإِقْدَارِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى تَلَقِّيهِمُ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ وَتَنْزِيلِهِمْ بِهَا عَلَى مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَقَلْبِهِمْ مَدَائِنَ الْعُصَاةِ، وقبض الأرواح، وإزجاء السَّحَابِ، وَحَمْلِ الْعَرْشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ، وَالْمَعْنَى: تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ. قَالَ وَهْبٌ: قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: انْعَتْ وَقْتًا تَأْتِينَا بِهِ! فَقَالَ: الصُّبْحُ، فَلَمْ يَنَامُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى سَمِعُوا حَفِيفَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ التَّابُوتُ فِي التِّيهِ خَلَّفَهُ مُوسَى عِنْدَ يُوشَعَ، فَبَقِيَ هُنَاكَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي دَارِ طَالُوتَ، فَأَقَرُّوا بِمُلْكِهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: غَيْرَ رَاضِينَ، وَقِيلَ: سَبَى التَّابُوتَ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فِلَسْطِينَ، وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتِ صَنَمٍ لَهُمْ تَحْتَ الصَّنَمِ، فَأَصْبَحَ الصَّنَمُ تَحْتَ التَّابُوتِ، فَسَمَّرُوا قَدَمَيِ الصَّنَمِ عَلَى التَّابُوتِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مُلْقًى تَحْتَ التَّابُوتِ، وَأَصْنَامُهُمْ مُنَكَّسَةٌ، فَوَضَعُوهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ مَدِينَتِهِمْ فَأَخَذَ أَهْلُهَا وَجَعٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ، فَدَفَنُوهُ بِالصَّحْرَاءِ فِي مُتَبَرَّزٍ لَهُمْ، فَكَانَ مَنْ تَبَرَّزَ هُنَاكَ أَخَذَهُ النَّاسُورُ وَالْقُولَنْجُ، فَتَحَيَّرُوا، وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ما تزالون تَرَوْنَ مَا تَكْرَهُونَ مَا دَامَ هَذَا التَّابُوتُ فِيكُمْ! فَأَخْرِجُوهُ عَنْكُمْ! فَحَمَلُوا التَّابُوتَ عَلَى عَجَلَةٍ، وَعَلَّقُوا بِهَا ثَوْرَيْنِ أَوْ بَقَرَتَيْنِ، وَضَرَبُوا جَنُوبَهُمَا، فَوَكَّلَ اللَّهُ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا، فَمَا مَرَّ التَّابُوتُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا كَانَ مُقَدَّسًا، إِلَى أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وُضِعَ التَّابُوتُ فِي أَرْضٍ فِيهَا حَصَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَجَعَا إِلَى أَرْضِهِمَا، فَلَمْ يَرْعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا التَّابُوتُ، فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى تَمْلِيكِ طَالُوتَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ التَّابُوتَ وَالْعَصَا فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى التَّابُوتِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْإِتْيَانِ أَيْ: إِتْيَانِ التَّابُوتِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِيُنَاسِبَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا، لِأَنَّ أَوَّلَهَا إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وَالْمَعْنَى لَآيَةً لَكُمْ عَلَى مُلْكِهِ وَاخْتِيَارِهِ لَكُمْ، وَقِيلَ: عَلَامَةً لَكُمْ عَلَى نَصْرِكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالتَّابُوتِ أَيْنَمَا تَوَجَّهُوا، فينصرون. و: إن، قِيلَ عَلَى حَالِهَا مِنْ وَضْعِهَا لِلشَّرْطِ. أَيْ: ذَلِكَ آيَةً لَكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّهُمْ قِيلَ: صَارُوا كَفَرَةً بِإِنْكَارِهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِكُمْ وَهِمَمِكُمُ الْإِيمَانُ بِمَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا. وَقِيلَ: مُصَدِّقِينَ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: إِنَّ، بِمَعْنَى: إِذْ، وَلَمْ يَسْأَلُوا تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا تَعَرُّفًا لِوَجْهِ الْحِكْمَةِ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لَا يَكُونُ إِنْكَارًا كُلِّيًّا. فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْجُمْلَةِ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجَاءَهُمُ التَّابُوتُ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْمُلْكِ، وَتَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ، أَيِ: انْفَصَلَ مِنْ مَكَانِ إِقَامَتِهِ، يُقَالُ: فَصَلَ عَنِ الْمَوْضِعِ انْفَصَلَ، وَجَاوَزَهُ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ كَثُرَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي: كَانْفَصَلَ، وَالْبَاءُ فِي، بِالْجُنُودِ، لِلْحَالِ، أَيْ: وَالْجُنُودُ مُصَاحِبُوهُ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ ثَمَانِينَ أَلْفًا قَالَهُ عِكْرِمَةُ. أَوْ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَوْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ التَّابُوتَ سَارَعُوا إِلَى طَاعَتِهِ وَالْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: لَا يَخْرُجُ مَعِي مَنْ بَنَى بِنَاءً لَمْ يَفْرَغْ مِنْهُ، وَلَا مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَا صَاحِبُ زَرْعٍ لَمْ يَحْصُدْهُ، وَلَا صَاحِبُ تِجَارَةٍ لَمْ يَرْحَلْ بِهَا، وَلَا مَنْ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا كَبِيرٌ، وَلَا عَلِيلٌ. فَخَرَجَ مَعَهُ مَنْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي عَدَدِهِمْ عَلَى شَرْطِهِ، فَسَارَ بِهِمْ، فَشَكَوْا قِلَّةَ الْمَاءِ وَخَوْفَ الْعَطَشِ، وَكَانَ الْوَقْتُ قَيْظًا، وَسَلَكُوا مَفَازَةً، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ نَهَرًا. قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قَالَ وَهْبٌ: هُوَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: هُوَ نَهَرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: نَهَرُ فِلَسْطِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْضًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَهَرٍ، بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو السَّمَّاكِ، وَغَيْرُهُمْ: بِإِسْكَانِ الْهَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ طَالُوتَ: إِنَّ اللَّهَ يُوحِي، إِمَالَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ، أَوْ يُوحِي إِلَى نَبِيِّهِمْ، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ طَالُوتَ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون هَذَا مِمَّا أَلْهَمَ اللَّهُ طَالُوتَ إِلَيْهِ، فَجَرَتْ بِهِ جُنْدُهُ، وَجُعِلَ الْإِلْهَامُ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَمَعْنَى هَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُهُمْ، فَمَنْ ظَهَرَتْ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِ الْمَاءِ عَلِمَ أَنَّهُ يُطِيعُ، فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَمَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَتُهُ فِي الْمَاءِ، وَعَصَى الْأَمْرَ فَهُوَ بِالْعِصْيَانِ فِي الشَّدَائِدِ أَحْرَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُخْبِرَ طَالُوتُ عَنْ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ بِأَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ، عَلَى طَرِيقِ الْجَزْمِ عَنِ اللَّهِ. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ: لَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِي فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، وَلَا أَشْيَاعِي، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْإِيمَانِ نَحْوَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ، «لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ وَلَطَمَ الْخُدُودَ» ، أَوْ: لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِي وَمُتَّحِدٍ مَعِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: فلان مني كأنه بَعْضُهُ، لِاخْتِلَاطِهِمَا وَاتِّحَادِهِمَا قَالَ النَّابِغَةِ: إِذَا حَاوَلَتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أَيْ: مَنْ لَمْ يَذُقْهُ، وَطَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ ذَوْقُهُ، وَمِنْهُ التَّطَعُّمُ، يُقَالُ: تَطَعَّمْتُ مِنْهُ أَيْ: ذُقْتُهُ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَا تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى مَأْكُولٍ، تُطْعَمُ مِنْهُ يَسْهُلُ أَكْلُهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَطْعَمْتُكَ الْمَاءَ تُرِيدُ أَذَقْتُكَ، وَطَعَمْتُ الْمَاءَ أَطْعَمُهُ بِمَعْنَى ذُقْتُهُ قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ عَلَيْكُمْ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا النُّقَاخُ: الْعَذْبُ، وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ، وَيُقَالُ: مَا ذُقْتُ غِمَاضًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. «فِي مَاءِ زَمْزَمَ. طَعَامُ طُعْمٍ» وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرَ وَالْمَاءَ» . وَالطَّعْمُ يَقَعُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَاخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ، لِأَنَّ نَفْيَ الطَّعْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الشُّرْبِ، وَنَفْيَ الشُّرْبِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الطَّعْمِ، لِأَنَّ الطَّعْمَ يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّوْقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الطَّعْمِ أَشُقُّ فِي التَّكْلِيفِ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ الشُّرْبِ، إِذْ يَحْصُلُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْفَمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْهُ، نَوْعُ رَاحَةٍ. وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ طَعَامٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَاخْتُلِفَ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَرَيَانُ الرِّبَا فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّفَاضُلُ. وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشُّرْبِ مِنَ النَّهَرِ، حَتَّى لَوْ أُخِذَ بِالْكُوزِ وَشُرْبُهُ، لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مَنْ شَرِبَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ إِنْ قَالَ إِنْ شَرِبْتُ مِنَ الْقِرْبَةِ فَعَبْدِي حُرٌّ، يُحْمَلُ عَلَى الْكُرُوعِ، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ، أَوْ شَرِبَ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ. قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَظَرَ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وَحَظَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُطْعَمَ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الطَّعْمِ مِنْهُ الِاغْتِرَافَ، فَحَظْرُ الشُّرْبِ بَاقٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ لَيْسَ بِشُرْبٍ، وَأَتَى بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ مُعَدًّى لِضَمِيرِ الْمَاءِ، لَا إِلَى النَّهَرِ، لِيُزِيلَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ وُصُولِهِمْ إِلَى الْمَاءِ مِنَ النَّهَرِ، بِمُبَاشَرَةِ الشُّرْبِ مِنْهُ، أَوْ بِوَاسِطَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي سَدُّ الذَّرَائِعِ، لِأَنَّ أَدْنَى الذَّوْقِ يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الطَّعْمِ، فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الطَّعْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِ الشُّرْبِ مِمَّنْ يَتَجَنَّبُ الطَّعْمَ، وَلِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَأْتِ الْكَلَامُ: وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ دُونَ الْكُرُوعِ فَهُوَ مِنِّي، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِذَا اعْتَقَبَ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ جُمَلًا، يُمْكِنُ عَوْدُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَخِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِبَعْضِ الْجُمَلِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَهُنَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ تَدَلُّ عَلَيْهَا الْأُولَى بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنْهُ، فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ الثانية كلّا فصل بَيْنَ الْأُولَى وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأُولَى، حَتَّى إِنَّهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُصَرَّحًا بِهَا لَفُهِمَتْ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ مَا نَصُّهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ. اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأُولَى، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الثَّانِيَةِ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى أَنَّ: مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، فَيَلْزَمُ فِي

الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ غُرْفَةً فَلَيْسَ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَفْسُوحٌ لَهُمُ الِاغْتِرَافُ غُرْفَةً بِالْيَدِ دُونَ الْكُرُوعِ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّهُ حَكَمَ فِيهَا أَنَّ: مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنْهُ، فَيَلْزَمُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ: مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، إِذْ هُوَ مَفْسُوحٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبَهَا، أَوْ لِلشُّرْبِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عُمَرَ، و: غَرْفَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْمَغْرُوفِ، وَقِيلَ: الْغَرْفَةُ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ، وَبِالضَّمِّ مَا تَحْمِلُهُ الْيَدُ، فَإِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الصَّدْرِ لَقَالَ: اغْتِرَافَةً، وَيَكُونُ مَفْعُولُ اغْتَرَفَ مَحْذُوفًا، أَيْ: مَاءً، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَغْرُوفِ كَانَ مَفْعُولًا بِهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ يُرَجِّحُ ضَمَّ الْغَيْنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا: أَنَّ غَرْفَةً بِالْفَتْحِ إِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ اغْتِرَافٍ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّرْجِيحُ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالنَّحْوِيُّونَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ وَمَرْوِيَّةٌ ثَابِتَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ حَسَنٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا تَرْجِيحُ قِرَاءَةٍ عَلَى قِرَاءَةٍ. وَيَتَعَلَّقُ: بِيَدِهِ، بِقَوْلِهِ: اغتراف. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِغُرْفَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَحْذُوفِ. وَظَاهِرُ: غُرْفَةً بِيَدِهِ، الِاقْتِصَارُ عَلَى غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهَا تَكُونُ بِالْيَدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: كَانَتِ الْغُرْفَةُ يَشْرَبُ مِنْهَا هُوَ وَدَوَابُّهُ وَخَدَمُهُ وَيَحْمِلُ مِنْهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَيَمْلَأُ مِنْهَا قِرْبَتَهُ، قِيلَ: فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهَا الْبَرَكَةَ حَتَّى تَكْفِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ هَذَا مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يُرِدْ غُرْفَةَ الْكَفِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ بِقِرْبَةٍ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهَذَا الِابْتِلَاءُ الَّذِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ جُنُودَ طَالُوتَ ابْتِلَاءٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ مُنِعُوا مِنَ الْمَاءِ مَعَ وُجُودِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي شِدَّةِ الحر واليقظة، وَأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ مَا يَغْرِفُ بِيَدِهِ، فَأَيْنَ يَصِلُ مِنْهُ ذَلِكَ؟ وَهَذَا أَشَدُّ فِي التَّكْلِيفِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ أَيْلَةَ مِنْ تَرْكِ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ، مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِ، وَكَثْرَةِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِمْ فِيهِ مِنَ الْحِيتَانِ. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أَيْ: كَرَعُوا فِيهِ، ظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَكْثَرَ شَرِبُوا، وَأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا، وَيُحْمَلُ الشُّرْبُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ الشُّرْبُ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ،

وَوَقَعَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا ذَلِكَ الشرب الذي لم يؤذن فِيهِ، فَبَقِيَ تَحْتَ الْقَلِيلِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَطْعَمْهُ البتة والثانية: الذين: اغْتَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْأَكْثَرَ شَرِبُوا عَلَى قَدْرِ يَقِينِهِمْ، فَشَرِبَ الْكُفَّارُ شُرْبَ الْهِيمِ، وَشَرِبَ الْعَاصُونَ دُونَ ذَلِكَ، وَانْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَشْرَبْ شَيْئًا، وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْغُرْفَةَ. فَأَمَّا مَنْ شَرِبَ فَلَمْ يُرْوَ، بَلْ بَرِحَ بِهِ الْعَطَشُ، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَاءَ فَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَكَانَ أَجْدَرَ مِمَّنْ أَخَذَ الْغُرْفَةَ. وَقِيلُ: الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ، فَلَمْ يُرْوَوْا، وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ، وَجَبُنُوا عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَلَمْ يُجَاوِزُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا الْفَتْحَ. وَقِيلَ: بَلْ كُلُّهُمْ جَاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ إِلَّا الْقَلِيلُ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا. وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى أَرْبَعَةُ آلَافٍ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ: إِلَّا قَلِيلٌ، بِالرَّفْعِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ مَيْلِهِمْ مَعَ الْمَعْنَى، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّفْظِ جَانِبًا، وَهُوَ بَابٌ جَلِيلٌ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى: فَشَرِبُوا مِنْهُ، فِي مَعْنَى: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، حُمِلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: (وَعَضُّ زَمَانٌ يَا بْنَ مَرَوَانَ) لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ، أَوْ مُجَلَّفٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمُوجَبَ الَّذِي هُوَ: فَشَرِبُوا مِنْهُ، هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، فَارْتَفَعَ: قَلِيلٌ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ لَمْ يَكُنْ لِيَرْتَفِعَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، فَيَظْهَرُ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَالْمُوجَبُ فِيهِ كَالْمَنْفِيِّ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ ارْتَفَعَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، عَلَى التَّأْوِيلِ هُنَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظِ الِاتِّبَاعَ بَعْدَ الْمُوجَبِ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ. وَنَقُولُ: إِذَا تَقَدَّمَ مُوجَبٌ جَازَ فِي الَّذِي بَعْدَ: إِلَّا، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، تَابِعًا لِإِعْرَابِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِنْ رَفْعًا فَرَفْعٌ، أَوْ نَصْبًا فَنَصْبٌ، أَوْ جَرًّا فَجَرٌّ، فَتَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، وَرَأَيْتُ الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، وَمَرَرْتُ بِالْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ: وَسَوَاءٌ كَانَ مَا قَبْلَ: إِلَّا، مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِهِ، فَقِيلَ: هُوَ تَابِعٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ.

وَقَالَ: يُنْعَتُ بِمَا بَعْدَ: إِلَّا، الظَّاهِرُ وَالْمُضْمَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُنْعَتُ بِهِ إِلَّا النَّكِرَةُ أَوِ الْمَعْرِفَةُ بِلَامِ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ: قَامَ إِخْوَتُكَ، أَوْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلْعَهْدِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّعَارِيفِ غَيْرَ لَامِ الْجِنْسِ، فَلَا يَجُوزُ الِاتِّبَاعُ، وَيَلْزَمُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّحْوِيِّينَ يَعْنُونَ بِالنَّعْتِ هُنَا عَطْفَ الْبَيَانِ، وَمِنَ الِاتِّبَاعِ بَعْدَ الْمُوجَبِ قَوْلُهُ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا الْمُوجَبَ بِمَعْنَى النَّفْيِ لَا نَضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِمَا قَرَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ فِي الْمُوجَبِ. فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَا جاوز النَّهَرَ إِلَّا هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا انْحَرَفُوا، وَلَمْ يُجَاوِزُوا، وَقِيلَ: بَلْ كُلُّهُمْ جَاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَجَاوَزَ: فَاعِلٌ فِيهِ بِمَعْنَى فَعَلَ، أَيْ جَازَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ: جَازَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْهُمْ مَنْ شَرِبَ، قَالَا: فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ، وَرَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَبِضْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَاوَزَ النَّهَرَ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا غُرْفَةً. وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ جُمْلَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ بَصَائِرُ هَؤُلَاءِ، فَبَعْضٌ كَعَّ، وَقَلِيلٌ صَمَّمَ، وَ: هُوَ، تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي جاوزه، وَ: الَّذِينَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْحَالِ أَنْ يَكُونُوا جَاوَزُوا مَعَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ وَإِدْغَامُ جَاوَزَهُ فِي هُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا يُسْتَحْسَنُ، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْهَاءُ مُخْتَلَسَةٌ لَا إِمَالَةَ لَهَا. قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَائِلُ ذَلِكَ الْكَفَرَةُ الذين انخذلوا، وَهُوَ الْفَاعِلُ فِي شَرِبُوا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: مَنْ قَلَّتْ بَصِيرَتُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهَرَ وَهُمُ الْقَلِيلُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالزَّجَّاجُ. طَاقَةَ: مِنَ الطَّوْقِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَهُوَ مِنْ: أَطَاقَ، كَأَطَاعَ طَاعَةً، وَأَجَابَ جَابَةً، وَأَغَارَ غَارَةً. وَيَتَعَلَّقُ: لَنَا، بِمَحْذُوفٍ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بِطَاقَةٍ، لِأَنَّهُ

كَانَ يَكُونُ طَاقَةً مُطَوَّلًا، فيلزم تنوين، واليوم مَنْصُوبٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لنا وبجالوت: مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ: بِجَالُوتَ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ، وَمَعْنَى: مَلَاقُو اللَّهِ، أَيْ يُسْتَشْهَدُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِعَزْمِهِمْ عَلَى صِدْقِ الْقِتَالِ، وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى لِقَاءِ أَعْدَائِهِمْ، كَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حِزَامٍ فِي أُحُدٍ، وَغَيْرِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي آخَرِينَ. وَقِيلَ: مُلَاقُو ثَوَابِ اللَّهِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ. لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَانًّا، وَقِيلَ: مُلَاقُو طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَنَّ عَمَلَهُ هذا طاعة، لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَقِيلَ: مَلَاقُو وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ مَظْنُونٌ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْإِيقَانِ: أَيْ: يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ قَالَهُ السُّدِّيُّ فِي آخَرِينَ. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. هَذَا الْقَوْلُ تَحْرِيضٌ مِنَ الْعَازِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَحَضٌّ عَلَيْهِ، وَاسْتِشْعَارٌ لِلصَّبْرِ وَاقْتِدَاءٌ بِمَنْ صَدَّقَ اللَّهَ. وَالْمَعْنَى: أنا لا نكترث بجالوت وَجُنُودِهِ وَإِنْ كَثُرُوا، فَإِنَّ الْكَثْرَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلِانْتِصَارِ، فَكَثِيرًا مَا انْتَصَرَ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ وَلَمَّا كَانَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ. وَعَلِمُوا بِذَلِكَ، أُخْبِرُوا بِصِيغَةِ: كَمْ، الْمُقْتَضِيَةُ للتكثر. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَكَأَيِّنْ، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ: لَكُمْ، فِي التَّكْثِيرِ، وَلَمْ يَأْتِ تَمْيِيزُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَصْحُوبًا بِمِنْ، وَلَوْ حُذِفَتْ: مِنْ، لَانْجَرَّ تَمْيِيزُ: كَمِ، الْخَبَرِيَّةِ بِالْإِضَافَةِ، وَقِيلَ بِإِضْمَارِ: مِنْ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ حَمْلًا عَلَى: كَمِ، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَانْتَصَبَ تَمْيِيزُ: كَأَيِّنْ، فَتَقُولُ كَأَيِّنْ رَجُلًا جَاءَكَ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَطْرُدُ الْيَأْسَ بِالرَّجَا فَكَأَيِّنْ ... أَمَلًا حُمَّ يُسْرَهُ بَعْدَ عُسْرِ وَ: كَمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَ: مِنْ فِئَةٍ، قِيلَ زَائِدَةٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَتِهَا، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لكم، وَ: فِئَةٍ، هُنَا مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَثِيرٌ مِنْ فِئَاتٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ. وَقَرَأَ الْأَعْشَى فِيهِ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، نَحْوَ: مِيرَةٍ فِي: مِئْرَةٍ، وَهُوَ إِبْدَالٌ نَفِيسٌ، وَخَبَرُ: كَمْ، قَوْلُهُ: غَلَبَتْ، وَمَعْنَى: بِإِذْنِ اللَّهِ، بِتَمْكِينِهِ وَتَسْوِيفِهِ الْغَلَبَةَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قِتَالِ الْجَمْعِ الْقَلِيلِ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانُوا أَضْعَافَ أَضْعَافِهِمْ، إِذَا عَلِمُوا أَنَّ فِي ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ، وَأَمَّا جَوَازُ الْفِرَارِ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ إِذَا زَادُوا عَنْ ضِعْفِهِمْ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، تَحْرِيضٌ عَلَى الصَّبْرِ فِي الْقِتَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ مَنْ صَبَرَ لِنُصْرَةِ دِينِهِ، يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ صَارُوا بِالْبَرَازِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ وَاسْتَوَى، وَالْمُبَارَزَةُ فِي الْحَرْبِ أَنْ يَظْهَرَ كُلُّ قَرْنٍ لِصَاحِبِهِ بِحَيْثُ يَرَاهُ قَرْنُهُ، وَكَانَ جُنُودُ طَالُوتَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، وَقِيلَ: مِائَةَ أَلْفٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تِسْعِينَ أَلْفًا. قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً الصَّبْرُ: هُنَا حَبْسُ النَّفْسِ لِلْقِتَالِ، فَزِعُوا إِلَى الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَنَادَوْا بِلَفْظِ الرَّبِّ الدَّالِّ عَلَى الْإِصْلَاحِ وَعَلَى الْمُلْكِ، فَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا سُؤَالٌ بِأَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ، وَيَكُونَ لَهُمْ كَالظَّرْفِ وَهُمْ كَالْمَظْرُوفِينَ فِيهِ. وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فَلَا تَزَلُّ عَنْ مَدَاحِضِ الْقِتَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَشْجِيعِ قُلُوبِهِمْ وَتَقْوِيَتِهَا، وَلَمَّا سَأَلُوا مَا يَكُونُ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّبْرِ سَأَلُوا تَثْبِيتَ أَقْدَامِهِمْ وَإِرْسَاخَهَا. وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ: أعنا عليهم، وجاؤا بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِخُذْلَانِ أَعْدَائِهِمْ، وَهُوَ الْكُفْرُ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَفِي قَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِقْرَارٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِقْرَارٌ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: فَغَلَبُوهُمْ بِتَمْكِينِ اللَّهِ. وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قِصَّةِ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ دَاوُدَ لِجَالُوتَ، وَلَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، وَقَدِ اخْتَصَرَ ذَلِكَ السَّجَاوَنْدِيُّ اخْتِصَارًا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، فَقَالَ: كَانَ أَصْغَرَ بَنِيهِ، يَعْنِي بَنِي إِيشَا، وَالِدِ دَاوُدَ، الثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَكَانَ مُخَلَّفًا فِي الْغَنَمِ، وَأُوحِيَ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنَّ قَاتِلَ جَالُوتَ مَنِ اسْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ وَلَدِ إِيشَا دِرْعٌ عِنْدَ طَالُوتَ، فَلَمْ تَسْتَوِ إِلَّا عَلَى دَاوُدَ، وَقِيلَ: لَمَّا بَرَزَ جَالُوتُ نَادَى طَالُوتُ: مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ أُشَاطِرُهُ مُلْكِي وَأُزَوِّجُهُ بِنْتِي، فَبَرَزَ دَاوُدُ وَرَمَاهُ بِحَجَرٍ فِي قَذَّافَةٍ فَنَفَذَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ إِلَى قَفَاهُ وَأَصَابَ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ وَانْهَزَمُوا، ثُمَّ نَدِمَ طَالُوتُ مِنْ شَرْطِهِ بَعْدَ الْوَفَاءِ، وَهَمَّ بِقَتْلِ دَاوُدَ، وَمَاتَ تَائِبًا قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ وَهْبٌ: نَدِمَ قَبْلَ الْوَفَاءِ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَقِيلَ: أَصَابَ دَاوُدُ مَوْضِعَ أَنْفِ جَالُوتَ، وَقِيلَ: تَفَتَّتَ الْحَجَرُ حَتَّى أَصَابَ كُلَّ مَنْ فِي الْعَسْكَرِ شَيْءٌ مِنْهُ، كَالْقَبْضَةِ الَّتِي رَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ فِي عَسْكَرِ طَالُوتَ مَعَ سِتَّةٍ مِنْ بَنِيهِ، وَكَانَ دَاوُدُ سَابِعَهُمْ وَهُوَ صَغِيرٌ يَرْعَى الْغَنَمَ، فَأُوحِي إِلَى شَمْوِيلَ أَنَّ دَاوُدَ بْنَ إِيشَا يَقْتُلُ جَالُوتَ، فَطَلَبَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَجَاءَ وَقَدْ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ دَعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَحْمِلَهُ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ تَقْتُلُ بِنَا جَالُوتَ، فَحَمَلَهَا فِي مِخْلَاتِهِ، وَرَمَى بِهَا جَالُوتَ فَقَتَلَهُ، وَزَوَّجَهُ طَالُوتُ بِنْتَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ حَسَدَهُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، ثُمَّ تَابَ. انْتَهَى. وَرُوِيَ: أَنَّ دَاوُدَ كَانَ مِنْ أَرْمَى النَّاسِ بِالْمِقْلَاعِ، وَرُوِيَ: أَنَّ الْأَحْجَارَ الْتَأَمَتْ فِي الْمِخْلَاةِ فَصَارَتْ حَجَرًا وَاحِدًا. وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ رُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ تَخَلَّى لدَاوُدَ عَنِ الْمُلْكِ، فَصَارَ الْمَلِكَ. وَرُوِيَ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَلَبَتْ طَالُوتَ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَرُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ أَخَافَ دَاوُدَ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَكَانَ فِي جَبَلٍ إِلَى أَنْ مَاتَ طَالُوتُ، فَمَلَّكَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ ، قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْكَلْبِيُّ: مُلِّكَ دَاوُدُ بَعْدَ قَتْلِ جَالُوتَ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى مَلِكٍ وَاحِدٍ إِلَّا عَلَى دَاوُدَ. وَاخْتُلِفَ أَكَانَ دَاوُدُ نَبِيًّا عِنْدَ قَتْلِ جَالُوتَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا، لِأَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ عَلَى نَبِيٍّ، وَالْحِكْمَةُ وَضْعُ الْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا عَلَى الصَّوَابِ، وَكَمَالُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ، كَانَ الْمُلْكُ فِي سِبْطٍ وَالنُّبُوَّةُ فِي سِبْطٍ، فَلَمَّا مَاتَ شَمْوِيلُ وَطَالُوتُ اجْتَمَعَ لِدَاوُدَ الْمُلْكُ وَالنُّبُوةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْحِكْمَةَ الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي السِّيرَةِ؟ وَقِيلَ: الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ سِلْسِلَةٌ كَانَتْ مُتَدَلِّيَةً مِنَ السَّمَاءِ لَا يَمْسِكُهَا ذُو عاهة إلّا برىء، يُتَحَاكَمُ إِلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مُحِقًّا تَمَكَّنَ مِنْهَا حَتَّى إِنَّ رَجُلًا كَانَتْ عِنْدَهُ دُرَّةٌ لِرَجُلٍ، فَجَعَلَهَا فِي عُكَّازَتِهِ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ أَنِ احْفَظْهَا حَتَّى أَمَسَّ السِّلْسِلَةَ، فَتَمَكَّنَ مِنْهَا لِأَنَّهُ رَدَّهَا، فَرُفِعَتْ لِشُؤْمِ احْتِيَالِهِ. وَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ كَانَ ذِكْرُ الْمُلْكِ قَبْلَهَا. وَالنُّبُوَّةِ بَعْدَهُ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قِيلَ: صَنْعَةُ الدُّرُوعِ، وَقِيلَ: مَنْطِقُ الطَّيْرِ وَكَلَامُهُ لِلنَّحْلِ وَالنَّمْلِ، وَقِيلَ: الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الصَّوْتُ الطَّيِّبُ والألحان، قيل: وَلَمْ يُعْطِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِثْلَ

صَوْتِهِ، كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ تَدْنُو الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ مُصِيخَةً لَهُ، وَيَرْكُدُ الْمَاءُ الْجَارِي، وَتَسْكُنُ الرِّيحُ، وَمَا صُنِعَتِ الْمَزَامِيرُ وَالصُّنُوجُ إِلَّا عَلَى صَوْتِهِ. وَقِيلَ: مِمَّا يَشاءُ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالْأَمْرُ بِهَا، وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي: يَشَاءُ عَائِدٌ عَلَى دَاوُدَ أَيْ: مِمَّا يَشَاءُ دَاوُدُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ قَرَأَ نَافِعٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: وَلَوْلَا دِفَاعُ، وَهُوَ مَصْدَرُ دَفَعَ، نَحْوُ: كَتَبَ كِتَابًا أَوْ مَصْدَرُ دَافَعَ بِمَعْنَى دَفَعَ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: وَلَقَدْ حَرِصْتُ بِأَنْ أُدَافِعَ عَنْهُمْ ... فَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: دَفْعُ، مَصْدَرُ دَفَعَ، كَضَرَبَ ضَرْبًا. وَالْمَدْفُوعُ بِهِمْ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَدْفُوعُونَ المشركون، ولفسدت الْأَرْضُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَالْمَسَاجِدِ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وجماعة من الْمُفَسِّرِينَ. أَوِ الْأَبْدَالُ وَهُمْ أَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ أَقَامَ اللَّهُ وَاحِدًا بَدَلَ آخَرَ، وَعِنْدَ الْقِيَامَةِ يَمُوتُونَ كُلُّهُمْ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بِالشَّامِ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْعِرَاقِ. وَرُوِيَ حَدِيثُ الْأَبْدَالِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَرَفَعَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَوْ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ: «لَوْلَا عُبَّادٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ لُصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا» أَوْ: مَنْ يُصَلِّي وَمَنْ يُزَكِّي وَمَنْ يَصُومُ يُدْفَعُ بِهِمْ عَمَّنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، أَوِ: الْمُؤْمِنُ يُدْفَعُ بِهِ عَنِ الْكَافِرِ كَمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوِ: الرَّجُلُ الصَّالِحُ يُدْفَعُ بِهِ عَنْ مَا بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَجِيرَانِهِ الْبَلَاءُ، أَوِ: الشُّهُودُ الَّذِينَ يُسْتَخْرَجُ بِهِمُ الْحُقُوقُ، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ، أَوِ: السُّلْطَانُ، أَوِ: الظَّالِمُ يَدْفَعُ يَدَ الظَّالِمِ، أَوْ: دَاوُدُ دُفِعَ بِهِ عَنْ طالوت ولا ذَلِكَ غَلَبَتِ الْعَمَالِقَةُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ: النَّاسُ، عَامًّا وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ الْمَدْفُوعَ بِهِمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كَانَ يُطْبِقُهَا وَيَتَمَادَى فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَلِّي زَمَانًا مِنْ قَائِمٍ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، وَيَكُفُّ بِهِمْ فَسَادَهُمْ، لَغَلَبَ الْمُفْسِدُونَ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَبَطَلَتْ مَنَافِعُهَا، وَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَسَائِرِ مَا يُعَمِّرُ الْأَرْضَ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَالَّذِي قَبْلَهُ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ.

وَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ: دَفْعٌ، أَوْ: دِفَاعٌ، مُضَافٌ إِلَى الفاعل، وبعضهم بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ بدل بعض من كل، وَالْبَاءُ فِي: بِبَعْضٍ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْمَصْدَرِ، لِأَنَّ دَفْعُ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ ثُمَّ عُدِّيَ إِلَى ثَانٍ بِالْبَاءِ، وَأَصْلُ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ، وَأَصْلُ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ اللَّازِمِ: نَحْوَ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «1» فَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَقِيَاسُهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، تَقُولُ: طَعِمَ زَيْدٌ اللَّحْمَ، ثُمَّ تَقُولُ أَطْعَمْتُ زَيْدًا اللَّحْمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: طَعَّمْتُ زَيْدًا بِاللَّحْمِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَنْقَاسُ، مِنْ ذَلِكَ: دَفَعَ، وَصَكَّ، تَقُولُ: صَكَّ الْحَجَرُ الْحَجَرَ، وَتَقُولُ: صَكَكْتُ الْحَجَرَ بِالْحَجَرِ، أَيْ جَعَلْتُهُ يَصُكُّهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: صَكَكْتُ الْحَجَرَيْنِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ نَظِيرُ: دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَالْهَمْزَةِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ التَّعْدِيَةَ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّضْعِيفَ مَا نَصُّهُ: وَعَلَى ذَلِكَ دَفَعْتُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، عَلَى حَدِّ قَوْلِكِ: أَلْزَمْتُ، كَأَنَّكَ قُلْتَ فِي التَّمْثِيلِ: أَدْفَعْتُ، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ: أَذْهَبْتُ بِهِ، وَأَذْهَبْتُهُ مِنْ عِنْدِنَا، وَأَخْرَجْتُهُ، وَخَرَجْتُ بِهِ مَعَكَ، ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: صَكَكْتُ الْحَجَرَيْنِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ قَوْلِكَ: اصْطَكَّ الْحَجَرَانِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ. وَلَا يَبْعُدُ فِي قَوْلِكَ: دَفَعْتُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْآلَةِ، فَلَا يَكُونُ الْمَجْرُورُ بِهَا مَفْعُولًا بِهِ فِي الْمَعْنَى، بَلِ الَّذِي يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ هُوَ الْمَنْصُوبُ، وَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ الْمَنْصُوبُ مَفْعُولًا بِهِ فِي اللَّفْظِ فَاعِلًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَعَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْآلَةِ يَصِحُّ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ فِي: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، كَتَبْتُ الْقَلَمِ. وَأَسْنَدَ الْفَسَادَ إِلَى الْأَرْضِ حَقِيقَةً: بِالْخَرَابِ، وَتَعْطِيلِ الْمَنَافِعِ، أَوْ مَجَازًا: وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى مَدْفُوعٍ بِهِ وَمَدْفُوعٍ، وَأَنَّهُ بِدَفْعِهِ بَعْضَهَمْ بِبَعْضٍ امْتَنَعَ فَسَادُ ارض، فَيَهْجِسُ فِي نَفْسِ مَنْ غَلَبَ وَقَهَرَ عَنْ مَا يُرِيدُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، غَيْرُ مُتَفَضِّلٍ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يُبْلِغْهُ مَقَاصِدَهُ وَمَآرِبَهُ، فَاسْتَدْرَكَ أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَقَاصِدَهُ هَذَا الطَّالِبُ لِلْفَسَادِ أَنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عليه،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 20.

وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ. وَانْدَرَجَ فِي عُمُومِ الْعَالَمِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ «1» وَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ فَضَلٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا فَضْلُ الِاخْتِرَاعِ. وَهَذَا الَّذِي أَبْدَيْنَاهُ مِنْ فَائِدَةِ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ مِنْ أَنَّ: لَكِنَّ، تَكُونُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ بِوَجْهٍ مَا وَيَتَعَلَّقُ عَلَى الْعَالَمِينَ بِفَضْلٍ، لأن فعله يتعدى: بعلى، فَكَذَلِكَ الْمَصْدَرُ، وَرُبَّمَا حُذِفَتْ: عَلَى، مَعَ الْفِعْلِ، تَقُولُ: فَضَّلْتُ فُلَانًا أَيْ عَلَى فُلَانٍ، وَجُمِعَ بَيْنَ الْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وجدنا نهشلا فضلت فقيما ... كَفَضْلِ ابْنِ الْمَخَاضِ عَلَى الْفَصِيلِ وَإِذَا عُدِّي إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ بِالتَّضْعِيفِ لَزِمَتْ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ «2» . تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تلك إشارة للبعيد، وآيات اللَّهِ قِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْقَصَصِ السَّابِقِ مِنْ خُرُوجِ أُولَئِكَ الْفَارِّينَ مِنَ الْمَوْتِ، وَإِمَاتَةِ اللَّهِ لَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِحْيَاءَةً وَاحِدَةً، وَتَمْلِيكِ طَالُوتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ مِنْ أَوْلَادِ مُلُوكِهِمْ، وَالْإِتْيَانُ بِالتَّابُوتِ بَعْدَ فَقْدِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى بَقَايَا مِنْ إِرْثِ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، وَكَوْنُهُ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ مُعَايَنَةً عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ الِابْتِلَاءُ الْعَظِيمُ بِالنَّهَرِ فِي فَصْلِ الْقَيْظِ وَالسَّفَرِ، وَإِجَابَةُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي النُّصْرَةِ، وَقَتْلُ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَإِيتَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، فَهَذِهِ كُلُّهَا آيَاتٌ عَظِيمَةٌ خَوَارِقُ، تَلَاهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْحَقِّ أَيْ مَصْحُوبَةً بِالْحَقِّ لَا كَذِبَ فِيهَا وَلَا انْتِحَالَ، وَلَا بِقَوْلِ كَهَنَةٍ، بَلْ مُطَابِقًا لِمَا فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقَصَصِ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ فِي الِاسْتِنْصَارِ بِاللَّهِ وَالْإِعْدَادِ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ قَدْ يغلبها العقل، وَأَنَّ الْوُثُوقَ بِاللَّهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمُلِمَّاتِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ تَلَا الْآيَاتِ عَلَى نَبِيِّهِ، أَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَكَدَّ ذلك بان وَاللَّامِ حَيْثُ أَخْبَرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةِ كِتَابٍ، وَلَا مُدَارَسَةِ أَحْبَارٍ، وَلَا سَمَاعِ أَخْبَارٍ. وَتَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَخْبَارَ بَنِي إسرائيل حيث استفيدوا تَمْلِيكَ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ أَنَّ لِذَلِكَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى تَمْلِكِيهِ، وَهُوَ أَنَّ التَّابُوتَ الَّذِي فَقَدْتُمُوهُ يَأْتِيكُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْبَقِيَّةِ الْمُخَلَّفَةِ عَنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ، وان في ذلك

_ (1) سورة البقرة: 2/ 243. (2) سورة النساء: 4/ 95.

[سورة البقرة (2) : الآيات 253 إلى 257]

آيَةً أَيْ آيَةً لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ. وَفَصْلُ طَالُوتَ بِالْجُنُودِ وَتَبْرِيزُهُ بِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلَّكُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ نَبَّأَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ نَبِيِّهِمْ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ كَرَعًا فَلَيْسَ مِنْهُ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفَ أَكْثَرُهُمْ فَشَرِبُوا مِنْهُ، وَلَّمَا عَبَرُوا النَّهَرَ وَرَأَوْا مَا هُوَ فِيهِ جَالُوتُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ مَنْ أَيْقَنَ بِلِقَاءِ اللَّهِ: بِأَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، فَكَثِيرًا مَا غَلَبَ الْقَلِيلُ الْكَثِيرَ بِتَمْكِينِ اللَّهِ وَإِقْدَارِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، فَحُضُّوا عَلَى التَّصَابُرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَحِينَ بَرَزُوا لِأَعْدَائِهِمْ، وَوَقَعَتِ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ لجأوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَتَثْبِيتَ الْأَقْدَامِ عِنْدَ الْمَدَاحِضِ، وَالنَّصْرَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَكَانَتْ نَتِيجَةُ هَذَا الْقَوْلِ وَصِدْقِ الْقِتَالِ أَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلَ مَلِكَهُمْ، وَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ ذَهَبَ الْجَسَدُ، وَأَعْطَى اللَّهُ دَاوُدَ مُلْكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالنُّبُوَّةَ وَهِيَ: الْحِكْمَةُ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ مِنَ: الزَّبُورِ، وَصَنْعَةِ اللَّبُوسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْأَرْضِ هُوَ بِدَفْعِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا، فَلَوْلَا أَنْ دَفَعَ اللَّهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَزِيمَةِ قَوْمِ جَالُوتَ وَقَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ، لَغَلَبَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ وَاسْتُؤْصِلُوا قَتْلًا وَنَهْبًا وَأَسْرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَلَكِنَّ فَضْلَ اللَّهِ هُوَ السَّابِقُ، حَيْثُ لَمْ يُمَكِّنْ مِنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْهُمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْعِبَرَ وَهَذِهِ الْخَوَارِقَ تَلَاهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ فِي الزَّمَانِ، وَالرِّسَالَةُ فَوْقَ النُّبُوَّةِ، وَدَلَّ عَلَى رِسَالَتِهِ إِخْبَارُهُ بِهَذَا الْقَصَصِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهَا مُعْلِمٌ إِلَّا اللَّهَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 257] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

الْبَيْعُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بَاعَ يَبِيعُ، وَمَنْ قَالَ: أَبَاعَ فِي مَعْنَى بَاعَ أَخْطَأَ. الْخُلَّةُ: الصَّدَاقَةُ كَأَنَّهَا تَتَخَلَّلُ الْأَعْضَاءَ أَيْ: تَدْخُلُ خِلَالَهَا، وَالْخُلَّةُ الصَّدِيقُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَكَانَ لَهَا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ... يُسَارِقُ بِالطَّرَفِ الْخِبَاءَ الْمُسَتَّرَا السِّنَةُ وَالْوَسَنُ: قِيلَ: النُّعَاسُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ مِنَ الْفُتُورِ قَالَ الشَّاعِرُ: وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَيَبْقَى مَعَ السِّنَةِ بَعْضُ الذِّهْنِ، وَالنَّوْمُ هُوَ الْمُسْتَثْقَلُ الَّذِي يَزُولُ مَعَهُ الذِّهْنُ، وَهَذَا الْبَيْتُ يَظْهَرُ مِنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَسْنَانُ الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، حَتَّى رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، ابْنُ زَيْدٍ لَيْسَ بِمَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ الْمُفَضَّلُ: السِّنَةُ ثِقَلٌ فِي الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ. الْكُرْسِيُّ: آلَةٌ مِنَ الْخَشَبِ أَوْ غَيْرِهِ مَعْلُومَةٌ، يُقْعَدُ عَلَيْهَا، وَالْيَاءُ فِيهِ كَالْيَاءِ فِي: قمري، لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ، وَجَمْعُهُ كَرَاسِيٌّ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. آدَهُ الشَّيْءُ يَؤُدُهُ: أَثْقَلَهُ، وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَشَقَّةً قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَا مَا لِسَلْمَى الْيَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا ... وَضَنَّتْ، وَمَا كَانَ النَّوَالُ يَؤُدُهَا الْغَيُّ: مُقَابِلُ الرُّشْدِ، يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي أَيْ: ضَلَّ فِي مُعْتَقَدٍ أَوْ رَأْيٍ، وَيُقَالُ: أَغْوَى الْفَصِيلُ إِذَا بَشِمَ، وَإِذَا جَاعَ عَلَى الضِّدِّ. الطَّاغُوتُ: بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنْ طَغَى يَطْغَى، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ يَطْغُو إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَوَزْنُهُ الْأَصْلِيُّ: فَعْلُوتُ، قُلِبَ إِذْ أَصْلُهُ: طَغْوُوتُ، فَجُعِلَتِ اللَّامُ مَكَانَ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ مَكَانَ اللَّامِ، فَصَارَ: طَوْغُوتَ، تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، فَصَارَ: طَاغُوتَ، وَمَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مَصْدَرٌ: كَرَهَبُوتٍ وَجَبَرُوتٍ، وَهُوَ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ لِلْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَزَعَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَّهُ جَمْعٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّاءَ فِي طَاغُوتَ بَدَلٌ مِنْ لَامِ الْكَلِمَةِ، وَوَزْنُهُ: فَاعُولٌ. الْعُرْوَةُ: مَوْضِعُ الْإِمْسَاكِ وَشَدِّ الْأَيْدِي وَالتَّعَلُّقِ، وَالْعُرْوَةُ شَجَرَةٌ تَبْقَى عَلَى الْجَذْبِ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْخِصْبِ مِنْ: عَرَوْتُهُ: أَلْمَمْتُ به متعلقا، واعتراه التم: تَعَلَّقَ بِهِ. الِانْفِصَامُ: الِانْقِطَاعُ، وَقِيلَ الِانْكِسَارُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَالْقَصْمُ بِالْقَافِ الْكَسْرُ بِبَيْنُونَةٍ، وَقَدْ يَجِيءُ الْفَصْمُ بِالْفَاءِ فِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اصْطِفَاءَ طَالُوتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَفَضُّلَ دَاوُدَ عَلَيْهِمْ بِإِيتَائِهِ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَتَعْلِيمِهِ، ثُمَّ خَاطَبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَكَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَ بِأَنَّ الْمُرْسَلِينَ مُتَفَاضِلُونَ أَيْضًا، كَمَا كَانَ التَّفَاضُلُ بين غير المرسلين: كطالوت وبني إِسْرَائِيلَ. وَ: تِلْكَ، مُبْتَدَأٌ وَخَبُرُهُ: الرُّسُلُ، وَ: فَضَّلْنَا، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَذُو الْحَالِ: الرُّسُلُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: الرُّسُلُ، صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَأَشَارَ بِتِلْكَ الَّتِي لِلْبَعِيدِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْأَزْمَانِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ الْإِشَارَةُ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ لِلرُّسُلِ الَّتِي ثَبَتَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمُرْسَلِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «1» وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْيَانِهِمْ، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 252. ويس: 36/ 3.

بَعْضٍ، وَأَتَى: بِتِلْكَ، الَّتِي لِلْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ جَمْعًا، لِأَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فِي الْوَصْفِ، وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ هُنَا لِاخْتِصَارِ اللَّفْظِ، وَلِإِزَالَةِ قَلَقِ التَّكْرَارِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَ: أُولَئِكَ الْمُرْسَلُونَ فَضَّلْنَا، كَانَ اللَّفْظُ فِيهِ طُولٌ، وَكَانَ فِيهِ التَّكْرَارُ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: نَتْلُوهَا، وَفِي: فَضَّلْنَا، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ إِلَى مُتَكَلِّمٍ مِنْ غَائِبٍ، إِذْ قَبْلَهُ ذُكِرَ لَفْظُ: اللَّهِ، وَهُوَ لَفْظٌ غَائِبٌ. وَالتَّضْعِيفُ فِي: فَضَّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ، وَ: عَلَى بَعْضٍ، متعلق بفضلنا، قِيلَ: وَالتَّفْضِيلُ بِالْفَضَائِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَوِ الشَّرَائِعِ عَلَى غَيْرِ ذِي الشَّرَائِعِ، أَوْ بِالْخَصَائِصِ كَالْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ لَمَّا أَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَسَنَاتِ. انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَنَصَّ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ تَعْيِينِ مَفْضُولٍ. وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» . وَقَالَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى» وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ وَرَفَعِ الْجَلَالَةِ، وَالْعَائِدُ عَلَى: مَنْ، مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ كَلَّمَهُ وقرىء بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ وَالْفَاعِلُ مُسْتَتِرٌ فِي: كَلَّمَ، يَعُودُ عَلَى: مَنْ، وَرَفْعُ الْجَلَالَةِ أَتَمُّ فِي التَّفْضِيلِ مِنَ النَّصْبِ، إِذِ الرَّفْعُ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ وَالْخِطَابِ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالنُّصْبُ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ دُونَ الْخِطَابِ مِنْهُ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نهشل، وابن السميفع: كَالَمَ اللَّهَ بِالْأَلِفِ وَنَصَبِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْمُكَالَمَةِ، وَهِيَ صُدُورُ الْكَلَامِ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: كَلِيمُ اللَّهِ أَيْ مُكَالِمُهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ: كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ. وَذَكَرَ التَّفْضِيلَ بِالْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ تَفْضِيلٍ حَيْثُ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِخِطَابِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِنْ غَيْرِ سَفِيرٍ، وَتَضَافَرَتْ نُصُوصُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُكَلَّمِ هُنَا هُوَ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آدَمَ: أَنْبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ» . وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ ارْتَقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَقَامٍ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِيهِ جِبْرِيلُ، أَنَّهُ جَرَتْ بَيْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى مُخَاطَبَاتٌ وَمُحَاوَرَاتٌ ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ: مُوسَى وَآدَمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّمَ اللَّهُ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ إِلَى ظَاهِرٍ غَائِبٍ مِنْ ضَمِيرٍ مُتَكَلِّمٍ، لِمَا

فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلِزَوَالِ قَلَقِ تَكْرَارِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ: فَضَّلْنَا، وَكَلَّمْنَا، وَرَفَعْنَا، وَآتَيْنَا. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ إِبْرَاهِيمُ، أَوْ إِدْرِيسُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، قَالُوا: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل اللَّفْظُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ عَظُمَتْ آيَاتُهُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّهُ تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أَيْ وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ بَعْدَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضْلِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَهُ أَحَدٌ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُرْتَقِيَةِ إِلَى أَلْفِ آيَةٍ وَأَكْثَرَ، وَلَوْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا الْقُرْآنَ وَحْدَهُ لَكَفَى بِهِ فَضْلًا مُنِيفًا عَلَى سَائِرِ مَا أُوتِيَ الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ دُونَ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ مِنْ تَفْخِيمِ فَضْلِهِ، وَإِعْلَاءِ قَدْرِهِ مَا لَا يَخْفَى، لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَشْتَبِهُ، وَالْمُتَمَيِّزُ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: أَحَدُكُمْ، أَوْ بَعْضُكُمْ! يُرِيدُ بِهِ الَّذِي تَعَوْرَفَ وَاشْتَهَرَ بِنَحْوِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَكُونُ، أَفْخَمَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَأَنْوَهَ بِصَاحِبِهِ. وَسُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَذَكَرَ، زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ. أَرَادَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ نَفْسِي، لَمْ يُفَخِّمْ أَمْرَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا وَغَيْرَهُمَا مِنْ أُولَى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لِأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيَ الْخَمْسَ الَّتِي لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ أُمَّةً، وَخُتِمَ بِهِ بَابُ النُّبُوَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ، وَبَاهِرِ آيَاتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ أُوتِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ آلَافِ مُعْجِزَةٍ وَخِصِّيصَةٍ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مَثْلَهَا وَزَادَ عَلَيْهِمْ بِآيَاتٍ. وَانْتِصَابُ: دَرَجَاتٍ، قِيلَ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الدَّرَجَةَ بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَوِي دَرَجَاتٍ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِرَفَعَ عَلَى طَرِيقِ التَّضْمِينِ لِمَعْنَى: بَلَغَ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَوَصَلَ

الْفِعْلَ وَحَرْفَ الْجَرِّ، إِمَّا: عَلَى، أَوْ: فِي، أَوْ: إِلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ: وَرَفَعَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ، وَالْمَعْنَى عَلَى دَرَجَاتِ بَعْضٍ. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ «1» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَخَصَّ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ وَعِيسَى مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا أُوتِيَا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَلِأَنَّ آيَتَيْهِمَا مَوْجُودَتَانِ، فَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ طَعْنٌ عَلَى تَابِعَيْهِمَا حَيْثُ لَمْ يَنْقَادُوا لِهَذَيْنِ الرَّسُولَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَوَقَعَ مِنْهُمُ الْمُنَازَعَةُ وَالْخِلَافُ. وَنَصَّ هُنَا لِعِيسَى عَلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تَقْبِيحًا لِأَفْعَالِ الْيَهُودِ حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ مَعَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْوَاضِحَةِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أُوتِيَ مَا لم يؤته أحد من كَثْرَةِ الْمُعْجِزَاتِ وَعِظَمِهَا، وَكَانَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِإِحْرَازِ قَصَبَاتِ السَّبْقِ، حُفَّ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الرَّسُولَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، لِيَحْصُلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمُجَاوَرَةِ ذِكْرِهِ الشَّرَفُ، إِذْ هُوَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةُ عِقْدِ النُّبُوَّةِ، فَيَنْزِلُ مِنْهُمَا مَنْزِلَةَ وَاسِطَةِ الْعِقْدِ الَّتِي يَزْدَانُ بِهَا مَا جَاوَرَهَا مِنَ اللَّآلِئِ، وَتَنَوَّعَ هَذَا التَّقْسِيمُ وَلَمْ يَرِدْ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، فَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مُصَدَّرَةً بِمِنَ الدَّالَّةِ عَلَى التَّقْسِيمِ، وَجَاءَتِ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً مُسْنَدَةً لِضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، لَا لَفْظِهِ، لِقُرْبِهِ، إِذْ لَوْ أُسْنِدَ إِلَى الظَّاهِرِ لَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ اللَّهُ، فَكَانَ يَقْرُبُ التَّكْرَارُ، فَكَانَ الْإِضْمَارُ أَحْسَنَ. وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ: الْمُفَضَّلُ مِنْهُمْ لَا مُعَيَّنٌ بِالِاسْمِ، لَكِنْ يُعَيَّنُ الْأَوَّلُ صِلَةَ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ السَّامِعِ، وَيُعَيَّنُ الثَّانِي مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِدَرَجَاتٍ، وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتِ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً مُسْنَدَةً لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْالْتِفَاتِ، إِذْ قَبْلَهُ غَائِبٌ، وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذَفٌ، التَّقْدِيرُ: فَاخْتَلَفَ أُمَمُهُمْ وَاقْتَتَلُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لَا تَقْتَتِلُوا، وَقِيلَ: أَنْ لَا يَأْمُرَ بِالْقِتَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ لَا تَخْتَلِفُوا الْاخْتِلَافَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَمْ يقتتلوا، وقال أبو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 87.

عَلِيٍّ بِأَنْ يَسْلُبَهُمُ الْقُوَى وَالْعُقُولَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّكْلِيفُ، وَلَكِنْ كَلَّفَهُمْ فَاخْتَلَفُوا بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذِهِ مَشِيئَةُ الْقُدْرَةِ، مِثْلُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «1» وَلَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، وَشَاءَ تَكْلِيفَهُمْ فَاخْتَلَفُوا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَشِيئَةَ إِلْجَاءٍ وَقَسْرٍ، وَجَوَابُ لَوْ: مَا اقْتَتَلَ، وَهُوَ فِعْلٌ مَنْفِيٌّ بِمَا، فَالْفَصِيحُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّامُ كَمَا فِي الْآيَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْقَلِيلِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّامُ، فَتَقُولُ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَمَا قَامَ عَمْرٌو، وَ: مِنْ بَعْدِهِمْ صِلَةٌ لِلَّذِينَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى وَأَتْبَاعِهِمَا. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْدِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ: مَا اقْتَتَلَ النَّاسُ بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ، فَلُفَّ الْكَلَامُ لَفًّا لَمْ يَفْهَمْهُ السَّامِعُ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ خَيْلًا ثُمَّ بِعْتُهَا، وَإِنَّ كُنْتَ قَدِ اشْتَرَيْتَهَا فَرَسًا فَرَسًا وَبِعْتَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا، إِنَّمَا اخْتُلِفَ بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ، وَ: مِنْ بَعْدِ، قِيلَ: بَدَلٌ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ مَا اقْتَتَلَ، إِذْ كَانَ فِي الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْوَاضِحَةُ، مَا يُفْضِي إِلَى الِاتِّفَاقِ وَعَدَمِ التَّقَاتُلِ، وَغَنِيَّةٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلتَّقَاتُلِ. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَاضِحٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا ضِدٌّ لِمَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ الِاتِّفَاقَ لَاتَّفَقُوا، وَلَكِنْ شَاءَ الِاخْتِلَافَ فَاخْتَلَفُوا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ مَنْ آمَنَ بِالْتِزَامِهِ دِينَ الرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ، وَمَنْ كَفَرَ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ حَسَدًا وَبَغْيًا وَاسْتِئْثَارًا بِحُطَامِ الدُّنْيَا. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا قِيلَ: الْجُمْلَةُ تَكَرَّرَتْ تَوْكِيدًا لِلْأُولَى، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: لَا تَوْكِيدَ لِاخْتِلَافِ الْمَشِيئَتَيْنِ، فَالْأُولَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقِتَالِ بِأَنْ يَسْلُبَهُمُ الْقُوَى وَالْعُقُولَ، وَالثَّانِيَةُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ، وَلَكِنْ أَمَرَ وَشَاءَ أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَتَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُثْبِتُو الْقَدْرِ وَنَافُوهُ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مُخْتَلَفًا فِيهِ حَتَّى كَانَ الْأَعْشَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَافِيًا حَيْثُ قَالَ: اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وبالعد ... ل وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا وَكَانَ لُبَيْدٌ مُثْبِتًا حَيْثُ قَالَ:

_ (1) سورة يونس: 10/ 99.

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى ... نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلَّ وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ فِعْلَهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّ ارادة غيره غيره مُؤَثِّرَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى الْمُسْتَأْثِرُ بِسِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا قَدَّرَ وَقَضَى مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ فِعْلُهُ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْعِصْمَةِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيَّةِ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ: التَّقْسِيمَ، فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ بِوَاسِطَةٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ اقْتَضَاهُ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَهَذَا التَّقْسِيمُ ملفوظ به. و: الاختصاص، مشارا إليه ومنصوبا عليه، و: التكرار، فِي لَفْظِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. و: الحذف، فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَيْ كِفَاحًا وَفِي قَوْلِهِ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ يَعْنِي مِنْ هِدَايَةِ مَنْ شَاءَ وَضَلَالَةِ مَنْ شَاءَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الِاخْتِلَافَ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَأَرَادَ الِاقْتِتَالَ، وَأَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْجِهَادُ يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ، أَمَرَ تَعَالَى بِالنَّفَقَةِ مِنْ بَعْضِ مَا رُزِقَ، فَشَمَلَ النَّفَقَةَ فِي الْجِهَادِ، وَهِيَ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، مُنْدَرِجَةٌ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا، وَدَاخِلَةٌ فِيهَا دُخُولًا أَوَلِيًّا، إِذْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهَا عَقِبَ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَاقْتِتَالِهِمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْأَكْثَرُونَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ مِنْهَا جُزْءٌ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَقَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَرَادَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لِاتِّصَالِ الْوَعِيدِ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ حَتَّى تَبْتَاعُوا مَا تُنْفِقُونَهُ، وَلَا خُلَّةَ حَتَّى تُسَامِحَكُمْ أَخِلَّاؤُكُمْ بِهِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحُطَّ عَنْكُمْ مَا فِي ذِمَّتِكُمْ مِنَ الْوَاجِبِ لَمْ تَجِدُوا شَفِيعًا يَشْفَعُ لَكُمْ فِي حَطِّ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ ثَمَّ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لَا غَيْرَ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَرَادَ: وَالتَّارِكُونَ الزَّكَاةَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَقَالَ: وَالْكَافِرُونَ، لِلتَّغْلِيظِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْحَجِّ: وَمَنْ كَفَرَ، مَكَانَ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، فِي قَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1» انتهى كلامه.

_ (1) سورة فصلت: 41/ 6 و 7.

وَرُدَّ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَعِيدٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَصِّلُوا مَنَافِعَ الْآخِرَةِ حِينَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُكُمْ تَحْصِيلُهَا وَاكْتِسَابُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ ثَمَّ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لَا غَيْرَ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ لِلْعُصَاةِ، فَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَلَا لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ، فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ. وَقِيلَ: المراد منه الإنفاق في الْجِهَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا مُرَادٌ بِهَا جَمِيعُ وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ سَبِيلِ خَيْرٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذِكْرِ الْقِتَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُدُورِ الْكَافِرِينَ، يَتَرَجَّحُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّدْبَ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: فَكَافِحُوهُمْ بِالْقِتَالِ بِالْأَنْفُسِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَدَبَ تَعَالَى الْعَبْدَ إِلَى أَنْ يُنْفِقَ مِمَّا رَزَقَهُ، وَالرِّزْقُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَ الْحَلَالِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْحَلَالُ، وَ: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنْفِقُوا، وَ: مَا، مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: رَزَقْنَاكُمُوهُ، وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مِنْ رِزْقِنَا إِيَّاكُمْ، وَ: مِنْ قَبْلُ، مُتَعَلِّقٌ: بأنفقوا، أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي مَدْلُولِ: مِنْ: فَالْأُولَى: لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّانِيَةُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أنها تتعلق: برزقناكم. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ الْإِمْسَاكِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الْيَوْمَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. لَا بَيْعٌ فِيهِ أَيْ: لَا فِدْيَةٌ فِيهِ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذُكِرَ لَفْظُ الْبَيْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ وَأَخْذِ البدل، وقيل: لا فداء عَمَّا مَنَعْتُمْ مِنَ الزَّكَاةِ تَبْتَاعُونَهُ تُقَدِّمُونَهُ عَنِ الزَّكَاةِ يَوْمَئِذٍ. وَقِيلَ: لَا بَيْعَ فِيهِ لِلْأَعْمَالِ فَتُكْتَسَبُ. وَلا خُلَّةٌ أَيْ: لَا صَدَاقَةٌ تَقْتَضِي الْمُسَاهَمَةَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُتَّقُونَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خُلَّةٌ، لَكِنْ لَا نَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَخُلَّةُ غَيْرِهِمْ لَا تُغْنِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَلا شَفاعَةٌ اللَّفْظُ عَامٌّ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، أَيْ: وَلَا شَفَاعَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَقَالَ تَعَالَى:

فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «1» أَوْ: وَلَا شَفَاعَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ «2» وَقَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «3» فَعَلَى الْخُصُوصِ بِالْكُفَّارِ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ وَلَا مِنْهُمْ، وَعَلَى تَأْوِيلِ الْإِذْنِ: لَا شَفَاعَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ انْتِدَابَ الشَّافِعِ وَتَحَكُّمَهُ عَلَى كُرْهِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي تُوجَدُ بِالْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحَقِيقَتُهَا رَحْمَةُ اللَّهِ، لَكِنْ شَرَّفَ تَعَالَى الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ. وَقَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَا شَفَاعَةٌ، مُنْكِرُو الشَّفَاعَةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا نَفْيٌ لِأَصْلِ الشَّفَاعَةِ، وَقَدْ أُثْبِتَتِ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ مَشْرُوطَةٌ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وصح حديث الشفاعة الذين تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَكَذَلِكَ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ «4» فِي إِبْرَاهِيمَ وَ: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «5» فِي الطَّوْرِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ الِاسْمِ بَعْدَ: لَا، مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ، وَمَرْفُوعًا مُنَوَّنًا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا بَيْعٌ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ التَّقْدِيرُ: وَلَا شَفَاعَةَ فِيهِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: فِيهِ، الْأُولَى عَلَيْهِ. وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني الجائرين الْحَدَّ، وَ: هُمْ، يَحْتَمِلُ أن يكون بدلا من: الْكَافِرُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَأَنْ يَكُونَ فَصْلًا. قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: وَالْكَافِرُونَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَلَوْ نَزَلَ هَكَذَا لَكَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ ظَالِمٍ، وَهُوَ مَنْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بِالْكُفْرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَخْلُصَ مِنَ الْكُفْرِ كُلَّ عَاصٍ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ من العصيان. اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى آيَةَ الْكُرْسِيِّ لِذِكْرِهِ فِيهَا، وَثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ حديث أُبَيٍّ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةٍ، وَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ قَارِئَهَا إِذَا آوَى إِلَى فِرَاشِهِ لَنْ يَزَالَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يقربه شيطان حتى

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 100 و 101. (2) سورة سبأ: 34/ 23. (3) سورة الأنبياء: 21/ 28. (4) سورة إبراهيم: 14/ 31. (5) سورة الطور: 52/ 23.

يُصْبِحَ، وَوَرَدَ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَوَرَدَ أَنَّهَا مَا قُرِئَتْ فِي دَارٍ إِلَّا اهْتَجَرَتْهَا الشَّيَاطِينُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلَا سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَوَرَدَ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَمَّنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَارِهِ وَجَارِ جَارِهِ، وَالْأَبْيَاتِ حَوْلَهُ ، وَوَرَدَ: أَنَّ سَيِّدَ الْكَلَامِ الْقُرْآنُ، وَسَيِّدَ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَسَيِّدَ الْبَقَرَةِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ ، وَفُضِّلَتْ هَذَا التَّفْضِيلَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَذَكْرِ صِفَاتِهِ الْعُلَا، وَلَا مَذْكُورَ أَعْظَمُ مِنَ اللَّهِ، فَذِكْرُهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ ذِكْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ: أَنَّ أَشْرَفَ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ عِلْمُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، وَلَا يُنَفِّرَنَّكَ عَنْهُ كثرة أعدائه ف: إن الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ مِنْ أَبْيَاتٍ: أَنْ أَنْصُرَ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ فِي ... كُلِّ مَقَامٍ بَاذِلًا جُهْدِي وَهَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِغُلُوِّهِ فِي مَحَبَّةِ مَذْهَبِهِ يَكَادُ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانَهُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ، وَفُسِّرَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وَفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَصَّ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَفْضِيلُ الْمَتْبُوعِ يُفْهَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ التَّابِعِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَحْدَثُوا بَعْدَ نَبِيِّهِمْ بِدَعًا فِي أَدْيَانِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَنَسَبُوا اللَّهَ تَعَالَى إِلَى مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَكَانَ مِنْهُمُ الْعَرَبُ، وَكَانُوا قَدِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً وَأَشْرَكُوا، فَصَارَ جَمِيعُ النَّاسِ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ فِي شَرَائِعِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَهُمُ الْوَاضِعُونَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوَاضِعِهِ، أَتَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاتِهِ الْعُلَا مِنَ: الْحَيَاةِ، وَالِاسْتِبْدَادِ بِالْمُلْكِ، وَاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَمُلْكِهِ لما في السموات وَالْأَرْضِ، وَامْتِنَاعِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَسِعَةِ عِلْمِهِ، وَعَدَمِ إِحَاطَةِ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ، وَبَاهِرِ مَا خَلَقَ مِنَ الْكُرْسِيِّ الْعَظِيمِ الِاتِّسَاعِ، وَوَصْفِهِ بالمبالغة الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، إِلَى سَائِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، نَبَّهَهُمْ بِهَا عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى طَرْحِ مَا سِوَاهَا.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظَةِ: اللَّهُ، وَعَلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. الْحَيُّ: وَصْفٌ وَفِعْلُهُ حَيِيَ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ: حَيِوَ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَيْعَلٌ، فَخُفِّفَ كَمَيِّتٍ فِي مَيْتٍ، وَلَيِّنٍ فِي لَيْنٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى من صِفَاتِ الذَّاتِ حَيٌّ بِحَيَاةٍ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزُولُ، وَفُسِّرَ هُنَا بِالْبَاقِي، قَالُوا: كَمَا فِي قَوْلِ لُبَيْدٍ: فَإِمَّا تَرَيِنِّي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِمًا ... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ أَيْ: فَلَسْتَ بِأَبْقَى، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ، يُقَالُ: حَيٌّ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلِّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُ حَيٌّ لَا بِحَيَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَيُّ الْبَاقِي الَّذِي لَا سَبِيلَ لِلْفَنَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيُقَدِّرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَعَنَى بِالْمُتَكَلِّمِينَ مُتَكَلِّمِي مَذْهَبِهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ بِالْحَيَاةِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْقَيُّومُ، عَلَى وَزْنِ فَيْعُولُ، أَصْلُهُ قَيْوُومُ اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ، وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الْيَاءُ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عمر، وَعَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ: الْقَيَّامُ وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ أَيْضًا: الْقَيِّمُ، كَمَا تَقُولُ: دَيُّورٌ وَدَيَّارٌ وَقَالَ أُمَيَّةُ: لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعَهَا قَمَرٌ يَعُومُ قَدَّرَهَا الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّومُ ... وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ إِلَّا لِأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يَجِبُ لَهُ، بِهَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الدَّائِمُ الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يُحَوَّلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَقِيلَ: الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَقُومُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَيْ: يَعْلَمُ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الَّذِي لَا يَبْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدَّائِمُ الْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَحِفْظِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالُوا: فَيْعُولُ، مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَجَوَّزُوا رَفْعَ الْحَيِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ: اللَّهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: هُوَ، أَوْ مِنْ: اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ: عَلَى

أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ: لَا تَأْخُذُهُ، وَأَجْوَدُهَا الْوَصْفُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: الْحَيَّ الْقَيُّومَ بِالنَّصْبِ، فَقَطَعَ عَلَى إِضْمَارِ: أَمْدَحُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا مَا جَازَ فِيهِ الْقَطْعُ، وَلَا يُقَالُ: فِي هَذَا الْوَجْهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَسَنٌ، تَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمُ الْعَاقِلِ. لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ يُقَالُ: وَسِنَ سِنَةٌ وَوَسِنًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَنْ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ، عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْغَفْلَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا، فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ لَا تَحِلُّهُ الْآفَاتُ وَالْعَاهَاتُ الْمُذْهِلَةُ عَنْ حِفْظِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأُقِيمَ هَذَا الْمَذْكُورُ مِنَ الْآفَاتِ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَهَذَا هُوَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «1» وَقِيلَ: نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ، وَهُوَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَالِاسْتِرَاحَةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ وَلَا يَغْلِبُهُ، وَفِي الْمَثَلِ: النَّوْمُ سُلْطَانُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْقَيُّومِ، لِأَنَّ مِنْ جَازَ عَلَيْهِ ذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ قَيُّومًا. وَمِنْهُ حَدِيثُ مُوسَى أَنَّهُ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قَوْمِهِ كَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ: أَيَنَامُ رَبُّنَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يُوقِظُوهُ ثَلَاثًا وَلَا تَتْرُكُوهُ يَنَامُ. ثُمَّ قَالَ: خُذْ بيدك قارورتين مملوؤتين، فَأَخَذَهُمَا، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ، النُّعَاسَ، فَضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَانْكَسَرَتَا، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ إِنِّي أمسك السموات وَالْأَرْضَ بِقُدْرَتِي، فَلَوْ أَخَذَنِي نَوْمٌ أَوْ نُعَاسٌ لَزَالَتَا. انْتَهَى . هَكَذَا أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَعْنِي السُّؤَالَ مِنْ قَوْمِهِ، كَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ، يَعْنِي أَنَّ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحِيلِ، كَمَا اسْتَحَالَ النَّوْمُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنْ عَادَتِهِ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، يَذْكُرُهُ حَيْثُ لَا تَكُونُ الْآيَةُ تَتَعَرَّضُ لِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. وَأَوْرَدَ غَيْرُهُ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ ؟ وَسَاقَ الْخَبَرَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَهُ الْحَشَوِيَّةُ، وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ سَأَلَ مُوسَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ يَنَامُ أَوْ لَا يَنَامُ، فَكَيْفَ الرُّسُلُ؟ انْتَهَى كلامه.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 23.

وَفَائِدَةُ تَكْرَارِ: لَا، فِي قَوْلِهِ: وَلَا نَوْمٌ، انْتِفَاؤُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ لو أسقطت، لا: لا، احتمل انْتِفَاؤُهُمَا بِقَيْدِ الِاجْتِمَاعِ، تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، بَلْ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُقَالُ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، بَلْ أَحَدُهُمَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ: الْحَيُّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ: الْحَيُّ، مُبْتَدَأً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَهُ بَعْدَهُ إِخْبَارًا، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْقَيُّومِ، أَيْ: قَيُّومٌ بِأَمْرِ الْخَلْقِ غَيْرَ غَافِلٍ. لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ خَبَرٍ، كَمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَ: مَا، لِلْعُمُومِ تَشْمَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ، و: اللام، لِلْمُلْكِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مظروف السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ تَعَالَى، وَكَرَّرَ: مَا، لِلتَّوْكِيدِ. وَكَانَ ذِكْرُ الْمَظْرُوفِ هُنَا دُونَ ذِكْرِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، لِأَنَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ الَّتِي في السموات: كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالشِّعْرَى وَالْأَشْخَاصِ الْأَرْضِيَّةِ: كَالْأَصْنَامِ، وَبَعْضِ بَنِي آدَمَ، كُلٌّ مِنْهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ السموات والأرض، فلم يذكرهما كَوْنَهُ مَالِكًا لَهُمَا اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ، وَعِظَمِ كِبْرِيَائِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «1» وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُودِ الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَالْإِذْنُ هُنَا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَمَا وَرَدَ: اشْفَعْ تُشَفَّعُ ، أَوِ الْعِلْمُ أَوِ التَّمْكِينُ إِنْ شَفَعَ أَحَدٌ بِلَا أَمْرٍ. وَ: مَنْ، رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ: إِلَّا، فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَالُوا: ذَا، وَيَكُونُ: الَّذِي، نَعْتًا لِذَا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، وَعَلَى هذا

_ (1) سورة النبأ: 78/ 38. [.....]

الَّذِي قَالُوا يَكُونُ: ذَا، اسْمَ إِشَارَةٍ، وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ، لِأَنَّ: ذَا، إِذَا كَانَ اسْمَ إِشَارَةٍ وَكَانَ خَبَرًا عَنْ: مَنْ، اسْتَقَلَّتْ بِهِمَا الْجُمْلَةُ، وَأَنْتَ تَرَى احْتِيَاجَهَا إِلَى الْمَوْصُولِ بَعْدَهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ: مَنْ، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ رُكِّبَ مَعَهَا: ذَا، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ: ذَا، لَغْوٌ، فَيَكُونُ: مَنْ ذَا، كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَوْصُولُ بَعْدَهُمَا هُوَ الْخَبَرُ، إِذْ بِهِ يَتِمُّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَ: عنده، معمول: ليشفع، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَشْفَعُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَشْفَعُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى يَشْفَعُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْحَالُ أَقْوَى لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْفَعْ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ، فَشَفَاعَةُ غَيْرِهِ أَبْعَدُ، وَ: بإذنه، متعلق: بيشفع، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْحَالِ، أَيْ: لَا أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا مَأْذُونًا لَهُ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى: مَا، وَهُمُ الْخَلْقُ، وَغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ في: أيديهم وخلفهم، عَائِدَانِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ: مَنْ ذَا، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَ: مَا بَيْنَ أيديهم، أمر الآخرة، و: ما خَلْفَهُمْ، أَمْرُ الدُّنْيَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، أو الْعَكْسُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جريح، والحم بْنُ عُتْبَةَ، وَالسُّدِّيُّ وَأَشْيَاخُهُ. وَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، هُوَ مَا قَبْلَ خَلْقِهِمْ، و: ما خَلْفَهُمْ، هُوَ مَا بَعْدَ خَلْقِهِمْ، أَوْ: مَا بَيْنَ أيديهم، ما أظهروه، و: ما خَلْفَهُمْ، مَا كَتَمُوهُ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، أَوْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، و: ما خلفهم، ما في السموات. أو: ما بين أيديهم، الْحَاضِرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، و: ما خَلْفَهُمْ، مَا سَيَكُونُ. أَوْ: عَكْسُهُ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَاجُ الْقُرَّاءِ فِي تَفْسِيرِهِ. أَوْ: مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ أَمْرِ الشَّفَاعَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَوْ بِالْعَكْسِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. أَوْ مَا فَعَلُوهُ وَمَا هُمْ فَاعِلُوهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَكَنَّى بِهَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ عَنْ سَائِرِ جِهَاتِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبَ زِيدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَأَنْتَ تَعْنِي بِذَلِكَ جَمِيعَ جَسَدِهِ، وَاسْتُعِيرَتِ الْجِهَاتُ لِأَحْوَالِ الْمَعْلُومَاتِ،

فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِسَائِرِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَا يُرَادُ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَلَا بِمَا خَلْفَهُمْ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ. كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ الْإِحَاطَةُ تَقْتَضِي الْحُفُوفَ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَالِاشْتِمَالَ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ هُنَا الْمَعْلُومُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَا يَتَبَعَّضُ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَاتُ، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَكَ فِينَا، أَيْ مَعْلُومَكَ، وَالْمَعْنَى: لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا مَا شَاءَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا بِمَا أَنْبَأَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ تَثْبِيتًا لِنُبُوَّتِهِمْ. وَ: بِشَيْءٍ، وبما شاء، متعلقان: بيحيطون، وَصَارَ تَعَلُّقَ حَرْفَيْ جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: لَا أَمُرُّ بِأَحَدٍ إِلَّا بِزَيْدٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُقَدِّرَ مَفْعُولَ شَاءَ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلَا يُحِيطُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَسِعَ بِكَسْرِ السِّينِ، وقرىء شاذا بسكونها، وقرىء أَيْضًا شَاذًّا وَسْعُ بِسُكُونِهَا وضم العين، والسموات وَالْأَرْضُ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا، وَالْكُرْسِيُّ: جِسْمٌ عَظِيمٌ يَسَعُ السموات وَالْأَرْضَ، فَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْعَرْشِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: دُونَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقِيلَ: تَحْتَ الْأَرْضِ كَالْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ، عَنِ السُّدِّيِّ وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرُّوحِ الْأَعْظَمِ، أَوْ: مَلَكٌ آخَرُ عَظِيمُ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: السُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْكُرْسِيَّ، وَسَمَّى الْمُلْكَ بِالْكُرْسِيِّ لِأَنَّ الْمُلْكَ فِي حَالِ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ بِاسْمِ مَكَانِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ عَلِمَ الْقُدُّوسُ مَوْلَى الْقُدْسِ ... أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ فِي مَعْدِنِ الْمُلْكِ الْقَدِيمِ الْكُرْسِيِّ وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ الْعِلْمُ. لِأَنَّ مَوْضِعَ الْعَالِمِ هُوَ الْكُرْسِيُّ، سُمِّيَتْ صِفَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعُلَمَاءِ: كَرَاسِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الْكَرَّاسَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَحِفُّ بِهِمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعُصْبَةُ ... كَرَاسِيٍّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ

أَيْ: تَرْجِعُ، وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ السر قال الشاعر: مالي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ ... وَلَا بِكُرْسِيِّ عِلْمِ اللَّهِ مَخْلُوقُ وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ: مَلَكٌ مِنَ الملائكة يملأ السموات وَالْأَرْضَ، وَقِيلَ: قُدْرَةُ اللَّهِ، وَقِيلَ: تَدْبِيرُ اللَّهِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ: هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: مِنْ تَكَرَّسَ الشَّيْءُ تَرَاكَبَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَكْرَسْتُهُ أَنَا، قَالَ الْعَجَّاجُ: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكَرَّسًا ... قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأُكَرِّسَا وَقَالَ آخَرُ: نَحْنُ الْكَرَاسِيُّ لَا تُعَدُّ هَوَازَنُ ... أَمْثَالَنَا فِي النَّائِبَاتِ وَلَا الْأَشَدِّ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّ كُرْسِيَّهُ لم يضق عن السموات وَالْأَرْضِ لِبَسْطَتِهِ وَسِعَتِهِ، وَمَا هُوَ إِلَّا تَصْوِيرٌ لِعَظَمَتِهِ وَتَخْيِيلٌ فَقَطْ، وَلَا كُرْسِيَّ ثَمَّةَ، وَلَا قُعُودَ، وَلَا قَاعِدَ، لِقَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «1» مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ قَبْضَةٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِ، وَتَمْثِيلٌ حِسِّيٌّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» ؟ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَاخْتَارَ الْقَفَّالُ مَعْنَاهُ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَتَعْزِيزِهِ، خَاطَبَ الْخَلْقَ فِي تَعْرِيفِ ذَاتِهِ بِمَا اعْتَادُوهُ فِي مُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ. وَقِيلَ: كُرْسِيُّ لُؤْلُؤٍ، طُولُ الْقَائِمَةِ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَطُولُ الْكُرْسِيِّ حَيْثُ لَا يَعْلَمُهُ الْعَالِمُونَ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا السموات السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ» . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ» . وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ عِظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ. انتهى كلامه.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 67. (2) سورة الأنعام: 6/ 91. والحج: 22/ 74. والزمر: 39/ 67.

وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما قرأ الجمهور: يؤوده بالهمز، وقرىء شَاذًّا بِالْحَذْفِ، كَمَا حُذِفَتْ همزة أناس، وقرىء أيضا: يووده، بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَا يَشُقُّهُ، وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلَبٍ: لَا يَتَعَاظَمُهُ حِفْظُهُمَا، وَقِيلَ: لَا يَشْغَلُهُ حفظ السموات عَنْ حِفْظِ الْأَرَضِينَ، وَلَا حِفْظُ الْأَرَضِينَ عَنْ حِفْظِ السموات. وَالْهَاءُ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: تَعُودُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِتَكُونَ الضَّمَائِرُ مُتَنَاسِبَةً لِوَاحِدٍ وَلَا تَخْتَلِفُ، وَلِبُعْدِ نِسْبَةِ الْحِفْظِ إِلَى الْكُرْسِيِّ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ عَلِيٌّ فِي جَلَالِهِ، عَظِيمٌ فِي سُلْطَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، وَقِيلَ: الْعَظِيمُ الْمُعَظَّمُ، كَمَا يُقَالُ: الْعَتِيقُ فِي الْمُعَتَّقِ، قَالَ الْأَعْشَى: وَكَأَنَّ الْخَمْرَ الْعَتِيقَ مِنَ الْإِسْ ... فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلَالِ وَأُنْكِرَ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ قَبْلَ الْخَلْقِ وَبَعْدَ فَنَائِهِمْ، إِذْ لَا مُعَظِّمَ لَهُ حِينَئِذٍ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا الْقَوْلُ. وَقِيلَ: وَالْجَوَابُ أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ: كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالُوهُ. وَقِيلَ: الْعَلِيُّ الرَّفِيعُ فَوْقَ خَلْقِهِ، الْمُتَعَالِي عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ، وَقِيلَ: الْعَالِي مِنْ: عَلَا يَعْلُو: ارْتَفَعَ، أَيِ: الْعَالِي عَلَى خَلْقِهِ بِقُدْرَتِهِ، وَالْعَظِيمُ ذُو الْعَظَمَةِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَلِيِّ وَالْعَالِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَالِيَ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ، وَالْعَلِيُّ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُلُوِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَالِيَ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُشَارَكَ، وَالْعَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارَكَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْعَلِيِّ لَا بِالْعَالِي، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا، وَقِيلَ: الْعَلِيُّ: الْقَاهِرُ الْغَالِبُ لِلْأَشْيَاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَلَا فُلَانٌ فُلَانًا غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ وَمِنْهُ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَلِيُّ الشَّأَنُ الْعَظِيمُ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعَلِيُّ عَنْ خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ، وَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ لَا يُحْكَى. وَقَالَ أَيْضًا: الْعَلِيُّ يُرَادُ بِهِ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ، لَا عُلُوُّ الْمَكَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عن التحيز. انتهى.

_ (1) سورة القصص: 28/ 4.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الْجُمَلُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ؟ قُلْتُ: مَا مِنْهَا جُمْلَةٌ إِلَّا وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِمَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ، وَالْبَيَانُ مُتَّحِدٌ بِالْمُبِينِ، فَلَوْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَطْفٌ لَكَانَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: بَيْنَ الْعَصَا ومحائها، فَالْأُولَى: بَيَانٌ لِقِيَامِهِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَكَوْنِهِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ غَيْرَ سَاهٍ عَنْهُ وَالثَّانِيَةُ: لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا يُدَبِّرُهُ. وَالثَّالِثَةُ: لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ، وَالرَّابِعَةُ: لِإِحَاطَتِهِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِالْمُرْتَضِي مِنْهُمُ الْمُسْتَوْجِبُ لِلشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ الْمُرْتَضِي. وَالْخَامِسَةُ: لِسِعَةِ عِلْمِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، أَوْ: بِجَلَالِهِ وَعِظِيمِ قَدْرِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ صِفَاتِ الذَّاتِ، مِنْهَا: الْوَحْدَانِيَّةُ، بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالْحَيَاةُ، الدَّالَّةُ عَلَى الْبَقَاءِ بِقَوْلِهِ: الحي، و: القدرة، بِقَوْلِهِ: الْقَيُّومُ، وَاسْتَطْرَدَ مِنَ القيومية لانتفاء ما يؤول إِلَى الْعَجْزِ، وَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْقَادِرِ غَيْرُهُ تَعَالَى مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْآفَاتِ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ وَصْفُهُ بِالْقُدْرَةِ إِذْ ذَاكَ، وَاسْتَطْرَدَ مِنَ الْقَيُّومِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ إِلَى مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ لِمَا في السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ الْمُلْكُ آثَارُ الْقُدْرَةِ، إِذْ لِلْمَالِكِ التَّصَرُّفُ في المملوك. و: الارادة، بقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهَذَا دَالٌّ عَلَى الْاخْتِيارِ وَالْإِرَادَةِ، و: العلم بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ثُمَّ سَلَبَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ، إِلَّا أَنْ أَعْلَمَهُمْ هُوَ تَعَالَى، فَلَمَّا تَكَمَّلَتْ صِفَاتُ الذَّاتِ الْعُلَا، وَانْدَرَجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَانْتَفَى عَنْهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، خَتَمَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ: الْعَلِيُّ الْقَدْرِ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ. لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ مَضْمُونُ أَكْثَرِهَا: أَنَّ بَعْضَ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَنَصَّرَ، وَبَعْضَهُمْ تَهَوَّدَ، فَأَرَادَ آبَاؤُهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ أَنَسٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أَسْلِمْ» . فَقَالَ: أَجِدُنِي كَارِهًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَهِيَ مَنْسُوخَةٌ؟ أَمْ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ مِنْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ الَّتِي نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ خَاصَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ، قَالَا: أُمِرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، ثُمَّ أُمِرَ فِيمَنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَقْبَلَ الْجِزْيَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ سِوَى قُرَيْشٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً فِيمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا إِكْرَاهَ بَعْدَ إِسْلَامِ الْعَرَبِ، وَيَقْبَلُ

الْجِزْيَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَنْسِبُوا إِلَى الْكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا، يُقَالُ: أَكْفَرَهُ نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُونِي بِحُبِّهِمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا: مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ خَرَجَ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَالْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا بَنَى تَعَالَى أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ بَيَانًا شَافِيًا، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ يَبْقَ عُذْرٌ فِي الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يُقْسَرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَيُجْبَرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ فِي دَارِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْابْتِلَاءِ، إِذْ فِي الْقَهْرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بُطْلَانُ مَعْنَى الْابْتِلَاءِ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يَعْنِي: ظَهَرَتِ الدَّلَائِلُ وَوَضَحَتِ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إِلَّا طَرِيقُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَالْقَفَّالُ لَائِقٌ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَجْرِ اللَّهُ أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّمْكِينِ وَالْاخْتِيَارِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «1» أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَسَرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْاخْتِيارِ. وَالدِّينُ هُنَا مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَاعْتِقَادُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ أَيْ: فِي دِينِ اللَّهِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيِ: اسْتَبَانَ الْإِيمَانُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الدِّينَ هُوَ مُعْتَقَدُ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْقُفْلِ، وَالْحَسَنُ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْعُنُقِ. وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْجُبْلِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرَّشَادُ، بِالْأَلِفِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِدْغَامِ دَالِ، قَدْ، فِي: تاء، تبين. وقرىء شَاذًّا بِالْإِظْهَارِ، وَتَبَيَّنَ الرُّشْدَ، بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ وَبِعْثَةِ الرَّسُولِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا كَالْعِلَّةِ لِانْتِفَاءِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّ وُضُوحَ الرُّشْدِ وَاسْتِبَانَتَهُ تحمل عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.

_ (1) سورة يونس: 10/ 99.

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الطَّاغُوتِ: الشَّيْطَانُ. قَالَهُ عُمَرُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. أَوِ: السَّاحِرُ، قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ. أَوِ: الْكَاهِنُ، قَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَرَفِيعٌ، وابن جريح. أَوْ: مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِمَّنْ يَرْضَى ذَلِكَ: كَفِرْعَوْنَ، وَنُمْرُوذَ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. أَوِ: الْأَصْنَامُ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَمْثِيلًا، لِأَنَّ الطَّاغُوتَ مَحْصُورٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِيُظْهِرَ الِاهْتِمَامَ بِوُجُوبِ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ. انْتَهَى. وَنَاسَبَ ذَلِكَ أَيْضًا اتِّصَالُهُ بِلَفْظِ الْغَيِّ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ بِهَا هُوَ رَفْضُهَا، وَرَفَضُ عِبَادَتِهَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ، إِذْ قَدْ يَرْفُضُ عِبَادَتَهَا وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، لَكِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ عَلَى الِانْسِلَاخِ بِالْكُلِّيَّةِ، مِمَّا كَانَ مُشْتَبَهًا بِهِ، سَابِقًا لَهُ قَبْلَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ فِي النَّصِّيَّةِ عَلَيْهِ مَزِيدُ تَأْكِيدٍ عَلَى تَرْكِهِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ، وَأُبْرِزَ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي الْمَقْرُونِ بِقَدِ الدَّالَّةِ فِي الْمَاضِي عَلَى تَحْقِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِمَّا وَقَعَ اسْتِمْسَاكُهُ وَثَبَتَ وَذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، وَ: بِالْعُرْوَةِ، متعلق باستمسك، جَعَلَ مَا تُمْسِكُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ عُرْوَةً، وَهِيَ فِي الْأَجْرَامِ مَوْضِعُ الْإِمْسَاكِ وَشَدُّ الْأَيْدِي شَبَّهَ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَهُ السَّامِعُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَحْكُمُ اعْتِقَادُهُ وَالتَّيَقُّنُ. وَالْمُشَبَّهُ بِالْعُرْوَةِ الْإِيمَانُ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. أَوِ: الْإِسْلَامُ قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، أَوِ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَيْضًا، أَوِ: السُّنَّةُ، أَوِ: التَّوْفِيقُ. أَوِ: الْعَهْدُ الْوَثِيقُ. أَوِ: السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى رِضَا اللَّهِ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. لَا انْفِصامَ لَها لَا انْكِسَارَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الِانْفِصَامُ وَالِانْقِصَامُ هُمَا لُغَتَانِ، وَبِالْفَاءِ أَفْصَحُ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: الْفَصْمُ انْكِسَارٌ بِغَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَالْقَصْمُ انْكِسَارٌ بِبَيْنُونَةٍ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحال من الْعُرْوَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي الْوُثْقَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا مِنَ اللَّهِ عَنِ الْعُرْوَةِ، و: لها، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنٌ لَهَا. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَتَى بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ مِمَّا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ وَيَعْتَقِدُهُ الْجِنَانُ، فَنَاسَبَ هَذَا ذِكْرَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ، عَلِيمٌ بِحِرْصِكَ وَاجْتِهَادِكَ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ الْوَلِيُّ، هُنَا النَّاصِرُ وَالْمُعِينُ أَوِ الْمُحِبُّ أَوْ مُتَوَلِّي أُمُورَهُمْ، وَمَعْنَى: آمَنُوا، أَرَادُوا أن يؤمنوا، والظلمات: هُنَا الْكُفْرُ، وَالنُّورُ الْإِيمَانُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ. قِيلَ: وَجُمِعَتِ الظُّلُمَاتِ لِاخْتِلَافِ الضَّلَالَاتِ، وَوُحِّدَ النُّورِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَاحِدٌ. وَالْإِخْرَاجُ هُنَا إِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ آمَنَ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ مَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الظُّلُمَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى يُخْرِجُهُمْ يَمْنَعُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ لَوَقَعَ فِي الظُّلُمَاتِ، فَصَارَ تَوْفِيقُهُ سَبَبًا لَدَفْعِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ، قَالُوا: وَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ شَائِعٌ سَائِغٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَمَا قَالَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ: فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ غَيْرَ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ، وَهُوَ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «1» فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ نُفُوسِهِمْ إِلَى آدَابِهَا: كَالرِّضَا وَالصِّدْقِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَحْشَةِ وَالْفُرْقَةِ إِلَى نُورِ الْوَصْلَةِ وَالْأُلْفَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آمَنُوا أَرَادُوا أَنْ يُؤْمِنُوا، تَلَطَّفَ بِهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ بِلُطْفِهِ وَتَأْيِيدِهِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، أَوِ: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الشُّبَهِ فِي الدِّينِ إِنْ وقعت لهم، بما

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 1.

يَهْدِيهِمْ وَيُوَفِّقُهُمْ لَهَا مِنْ حَلِّهَا، حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى نُورِ الْيَقِينِ. انْتَهَى. فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: آمَنُوا عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ آمَنُوا بِعِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَرُوا بِهِ، فَذَلِكَ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَقِيلَ: مِنْ فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْإِقْرَارِ بِالْمِيثَاقِ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ إِلَى النِّفَاقِ. وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْعَذَابِ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْحَقِّ إِلَى ظُلْمَةِ الْهَوَى. وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْعَقْلِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ نُورِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ لَهُمْ إِلَى ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظُ الْآيَةِ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّخْصِيصِ، بَلْ هُوَ مُتَرَتِّبٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ كَافِرَةٍ آمَنَ بَعْضُهَا كَالْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَاللَّهُ وَلِيُّهُ، أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ وُجُودِ الدَّاعِي، النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ، فَشَيْطَانُهُ وَمُغْوِيهِ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ هُوَ مُعَدٌّ، وَأَهْلٌ لِلدُّخُولِ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ مَنْعَكَ الدُّخُولَ فِي أَمْرٍ: أَخْرَجْتَنِي يَا فُلَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ: الصَّنَمُ، لِقَوْلِهِ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ وَالطَّاغُوتُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الطَّوَاغِيتُ بِالْجَمْعِ. وَقَدْ تَبَايَنَ الْإِخْبَارُ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، فَاسْتُفْتِحَتْ آيَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ إذ بدىء فِي جُمْلَتِهِمْ بِاسْمِهِ تَعَالَى، وَلِقُرْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَاسْتُفْتِحَتْ آيَةُ الْكَافِرِينَ بِذِكْرِهِمْ نَعْيًا عَلَيْهِمْ، وَتَسْمِيَةً لَهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْقَبِيحِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّ أَوْلِيَاءَهُمُ الطَّاغُوتُ، وَلَمْ يُصَدِّرِ الطَّاغُوتَ اسْتِهَانَةً بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلَ مُقَابِلًا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عكس الإخبار فيه فابتدأ بِقَوْلِهِ: أَوْلِيَاؤُهُمْ، وَجُعِلَ الطَّاغُوتُ خَبَرًا. كَأَنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ مَجْهُولٌ. أَعْلَمَ الْمُخَاطَبَ بِأَنَّ أولياء

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 36.

الْكُفَّارِ هُوَ الطَّاغُوتُ، وَالْأَحْسَنُ فِي: يُخْرِجُهُمْ وَيُخْرِجُونَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْوِلَايَةِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ وَجْهَ الْوِلَايَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، بِأَنَّهَا إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَكَذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: يُخْرِجُهُمْ، حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ: وَلِيُّ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: يُخْرِجُونَهُمْ، حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الطَّاغُوتِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ: مِنْ نَصْبِ: نَزَّاعَةً، عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: لَظَى، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الله و: من، و: إلى، متعلقان بيخرج. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أنواعا من الفصاحة وَعِلْمِ الْبَيَانِ، مِنْهَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ: حُسْنُ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِأَجَلِّ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكْرَارُ اسْمِهِ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، وَتَكْرِيرُ الصِّفَاتِ، وَالْقَطْعُ لِلْجُمَلِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَصِلْهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَالطِّبَاقِ: فِي قَوْلِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فَإِنَّ النَّوْمَ مَوْتٌ وَغَفْلَةٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ يُنَاقِضُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ وَالتَّشْبِيهُ: فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَيْ كَوَسَعِ، فَإِنْ كَانَ الْكُرْسِيُّ جَرْمًا فَتَشْبِيهُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسٍ، أَوْ مَعْنًى فَتَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَمَعْدُولُ الْخِطَابِ فِي لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى لَا تُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ أَحَدًا. وَالطِّبَاقُ: أَيْضًا فِي قَوْلِهِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَفِي قَوْلِهِ: آمَنُوا وكَفَرُوا وَفِي قَوْلِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالتَّكْرَارُ: فِي الْإِخْرَاجِ لِتَبَايُنِ تَعْلِيقِهِمَا، وَالتَّأْكِيدُ: بِالْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَفُسِّرَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وبدىء بِهِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الزَّمَانِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَفُسِّرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وذكر ثالثا عيسى بن مَرْيَمَ، فَجَاءَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطًا بَيْنَ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، فَكَانَ كَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ اقْتِتَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 258 إلى 260]

ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ وَانْقِسَامَهَمْ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ تَوَسُّلٌ بِصَدَاقَةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الْمُجَاوِزُونَ الحد الذي حده اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَذَلِكَ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ. وذكر أتباع موسى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. ثُمَّ سَرَدَ صِفَاتِهِ الْعُلَا وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُعْتَقَدَ فِي اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا حَيًّا قَائِمًا بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، لَا يَلْحَقُهُ آفَةٌ، مَالِكًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمًا بِسَرَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا يَشَاءُ هُوَ تَعَالَى، وَذَكَرَ عَظِيمَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ، يَسَعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا يَثْقُلُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ وُضُوحِ صِفَاتِهِ الْعُلَا فَ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَتْ طُرُقُ الرَّشَادِ مِنْ طُرِقِ الْغَوَايَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِالطَّاغُوتِ وَآمَنَ بِاللَّهِ فَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، عُرْوَةُ الْإِيمَانِ، وَوَصَفَهَا بِالْوُثْقَى لِكَوْنِهَا لَا تَنْقَطِعُ وَلَا تَنْفَصِمُ، وَاسْتَعَارَ لِلْإِيمَانِ عُرْوَةً إِجْرَاءً لِلْمَعْقُولِ مَجْرَى الْمَحْسُوسِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاؤُهُمُ الْأَصْنَامُ وَالشَّيَاطِينُ، وَهُمْ عَلَى الْعَكْسِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [سُورَةُ البقرة (2) : الآيات 258 الى 260] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

بُهِتَ: تَحَيَّرَ وَدَهِشَ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، وَمِنْهُ: فَتَبْهَتُهُمْ، وَلَازِمًا عَلَى وَزْنِ فَعُلَ كَظَرُفَ وَفَعِلَ كَدَهِشَ، وَالْأَكْثَرُ فِي اللَّازِمِ الضَّمُّ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: بَهَتَ بِفَتْحِ الْهَاءِ لَازِمًا، وَيُقَالُ بَهَتُّهُ وَبَاهَتُّهُ وَاجَهَهُ بِالْكَذِبِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ. الْخَاوِي: الْخَالِي، خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَى غَيْرُ مَمْدُودٍ، وَخُوِيًّا، وَالْأُولَى أَفْصَحُ، وَيُقَالُ خَوَى الْبَيْتُ انْهَدَمَ لِأَنَّهُ بِتَهَدُّمِهِ يَخْلُو مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخَوَى: الْجُوعُ: لِخُلُوِّ الْبَطْنِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَخَوَّتِ الْمَرْأَةُ وَخَوِيَتْ خَلَا جَوْفُهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَخَوَّيْتُ لَهَا تَخْوِيَةً علمت لَهَا خَوِيَّةً تَأْكُلُهَا، وَهِيَ طَعَامٌ. وَالْخَوِيُّ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: الْبَطْنُ السَّهْلُ مِنَ الْأَرْضِ، وَخَوَّى الْبَعِيرُ جَافَى بَطْنَهُ عَنِ الْأَرْضِ فِي مَبْرَكِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ فِي سُجُودِهِ قَالَ الرَّاجِزُ: خَوَّى عَلَى مُسْتَوَيَاتٍ خَمْسٍ ... كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ الْعَرْشُ: سَقَفُ الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا يُهَيَّأُ لِيُظِلَّ أَوْ يَكُنَّ فَهُوَ عَرِيشٌ الدَّالِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ «1» وَفِي الْحَدِيثِ لَمَّا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالُوا: نَبْنِيهِ لَكَ بُنْيَانًا قَالَ: «لَا بَلْ عَرْشٌ كَعَرْشِ أَخِي مُوسَى» فَوَضَعُوا النَّخْلَ عَلَى الْحِجَارَةِ وَغَشُّوهُ بِالْجَرِيدِ وَسَعَفِهِ ، وَقِيلَ: الْعَرْشُ الْبُنْيَانُ قَالَ الشَّاعِرُ: إِنْ يقتلوك فقد ثللث عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ مِائَةَ: اسْمٌ لِرُتْبَةٍ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى مِئَاتٍ وَمِئِينَ، وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مَحْذُوفَةُ اللَّامِ، وَلَامُهَا يَاءٌ، فَالْأَصْلُ مِئْيَةٌ، وَيُقَالُ: أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ إِذَا صيرتها مائة، وأمأت هي، أي: صارت مِائَةً. الْعَامُ: مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ مَعْرُوفَةٌ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، لِقَوْلِهِمْ: الْعُوَيْمُ وَالْأَعْوَامُ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْعَامُ مَصْدَرٌ كَالْعَوْمِ، سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّهَا عَوْمَةٌ مِنَ الشَّمْسِ في

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 137.

الْفَلَكِ، وَالْعَوْمُ كَالسَّبْحِ، وَقَالَ تَعَالَى وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «2» وَالْعَامُ عَلَى هَذَا: كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ. اللُّبْثُ: الْمُكْثُ وَالْإِقَامَةُ. يَتَسَنَّهُ: إِنْ كَانَتِ الْهَاءُ أَصْلِيَّةً فَهُوَ مِنَ السَّنَةِ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَامَهَا الْمَحْذُوفَ هَاءً، قَالُوا فِي التَّصْغِيرِ: سُنَيْهَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ سَنَهَاتٌ. وَقَالُوا: سَانَهْتُ وَأَسْنَهْتُ عِنْدَ بَنِي فُلَانٍ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رُجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الْجَوَائِحِ وَإِنْ كَانَتِ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ، فَلَامُ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفَةٌ لِلْجَازِمِ، وَهِيَ أَلْفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَامَ سَنَةٍ الْمَحْذُوفَ وَاوًا. لِقَوْلِهِمْ: سُنَيَّةٌ وَسَنَوَاتٌ، وَاشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ، فَقِيلَ: سَانَيْتُ وَأَسْنَى وَأَسْنَتْ. أُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ تَاءٌ، أَوْ تَكُونُ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ مُبْدَلَةٍ مِنْ نُونٍ، فَتَكُونُ مِنَ الْمَسْنُونِ أَيِ: الْمُتَغَيِّرِ، وَأُبْدِلَتْ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، كَمَا قَالُوا: تَظَنِّي، ويتلعى الأصل تظنن ويتلعع، قاله أبو عمر، وَخَطَّأَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ: لِأَنَّ الْمَسْنُونَ: الْمَصْبُوبُ عَلَى سُنَّةِ الطَّرِيقِ وَصَوْبِهِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَرَدَّ النُّحَاةُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ لأنه لو كان من أَسِنَ الْمَاءُ لَجَاءَ لَمْ يَتَأَسَّنْ، لِأَنَّكَ لَوْ بَنَيْتَ تَفْعَلُ مِنَ الْأَكْلِ لَقَلَّتْ تَأْكُلُ، وَيَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ النَّقَّاشُ عَلَى اعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَجَعْلِ فَاءِ الْكَلِمَةِ مَكَانَ اللَّامِ، وَعَيْنِهَا مَكَانَ الْفَاءِ، فَصَارَ: تَسْنَأَ، وَأَصْلُهُ تَأَسَّنَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ كَمَا قَالُوا فِي: هَدَأَ وَقَرَأَ واستقر، أهدا وَقَرَا وَاسْتَقْرَا. الْحِمَارُ: هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى: أَفْعِلَةٍ قَالُوا: أَحْمِرَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى: فُعُلٍ، قَالُوا: حُمُرٍ، وَعَلَى: فَعِيلٍ، قَالُوا: حَمِيرٍ. أَنْشَرَ: اللَّهُ الْمَوْتَى، وَنَشَرَهُمْ، وَنَشَرَ الْمَيِّتُ حَيَّى قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ وَأَمَّا: أَنْشُزُ، بِالزَّايِ فَمِنَ النَّشْزِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى: أَنْشَزَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ نَاشِزًا، أَيْ: مُرْتَفِعًا، وَمِنْهُ: انْشُزُوا فَانْشُزُوا، وَامْرَأَةٌ نَاشِزٌ، أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مَعَ الزَّوْجِ.

_ (2) سورة الأنبياء: 21/ 33. ويس: 36/ 40.

الطُّمَأْنِينَةُ: مَصْدَرُ اطْمَأَنَّ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ: وَالْقِيَاسُ الْاطْمِئْنَانُ، وَهُوَ: السُّكُونُ، وَطَامَنْتُهُ أَسْكَنْتُهُ، وَطَامَنْتُهُ فَتَطَامَنَ: خَفَّضْتُهُ فَانْخَفَضَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي اطْمَأَنَّ أَنَّهُ مِمَّا قُدِّمَتْ فِيهِ الْمِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ، وَمَذْهَبُ الْجَرْمِيِّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي اطْمَأَنَّ كَأُطَامِنُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. الطَّيْرُ: اسْمُ جَمْعٍ: كَرَكْبٍ وَسَفَرٍ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ. صَارَ: يَصُورُ قَطَعَ. وَانْصَارَ: انْقَطَعَ، وَصُرْتُهُ أَصُورُهُ: أَمَلْتُهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا فِي الْقَطْعِ وَالْإِمَالَةِ: صَارَهُ يُصَيِّرُهُ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمُّ فِي الصَّادِ يَحْتَمِلُ الْإِمَالَةَ وَالتَّقْطِيعَ، وَالْكَسْرُ فِيهَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْقَطْعَ، وَقَالَ أَيْضًا: صَارَهُ مَقْلُوبُ صَرَّاهُ عَنْ كَذَا، أَيْ: قَطَعَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكَسْرُ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ. الْجَبَلُ: مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى: أَجْبَالٍ وَأَجْبُلٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى: جِبَالٍ. الْجُزْءُ: مِنَ الشَّيْءِ، الْقِطْعَةُ مِنْهُ وَجَزَّأَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ قِطَعًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر: أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي حَاجَّهُ، وَأَنَّهُ نَاظَرَ ذَلِكَ الْكَافِرَ فَغَلَبَهُ وَقَطَعَهُ، إِذْ كَانَ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَانْقَطَعَ ذَلِكَ الْكَافِرُ وَبُهِتَ إِذْ كَانَ وَلَيُّهُ هُوَ الطَّاغُوتَ: أَلَا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1» أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» فَصَارَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ «3» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَمْ تَرْ، بِسُكُونِ الرَّاءِ ، وَهُوَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ: هو نمروذ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، مَلِكُ زَمَانِهِ وَصَاحِبُ النَّارِ وَالْبَعُوضَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ أَوَّلُ مَلَكٍ فِي الْأَرْضِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَجَبَّرَ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ ببابل. قيل: إِنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا وَنَفَذَتْ فِيهَا طِينَتُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَكَ الْأَرْضَ مُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَكَافِرَانِ: نُمْرُوذُ وَبُخْتُ نَصَّرَ. وَقِيلَ: هو نمروذ بن يحاريب بن كوش بن كنعان بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وقيل: نمروذ بن

_ (1) سورة المائدة: 5/ 56. (2) سورة المجادلة: 58/ 22. (3) سورة البقرة: 2/ 243.

فَايِخَ بْنِ عَابِرَ بْنِ سَايِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَه بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ: النُّمْرُوذُ بْنُ كوش بن كنعان بن حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ مَلِكًا عَلَى السُّودَانِ، وَكَانَ مَلِكُهُ الضَّحَّاكَ الَّذِي يُعْرَفُ بالازدهاق، واسمه اندراوست ابن انْدِرَشْتَ، وَكَانَ مَلِكَ الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ أفريدون ابن أَهْبَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ فِي قَصِيدٍ مَدَحَ بِهِ الْأُفْشِينَ، وَذَكَرَ أخذه بابك الْخَرْمِيَّ: بَلْ كَانَ كَالضَّحَّاكِ فِي فَتَكَاتِهِ ... بِالْعَالَمِينَ، وَأَنْتَ أَفْرِيدُونُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ وَقَطَعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ، وَمَلَكَ نُمْرُوذُ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ فيما ذكروا: وَلَهُ ابْنٌ يُسَمَّى نُمْرُوذُ الْأَصْغَرُ مَلَكَ عَامًا وَاحِدًا. وَمَعْنَى: حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَيْ: عَارَضَ حُجَّتَهُ بِمِثْلِهَا، أَوْ: أَتَى عَلَى الْحُجَّةِ بِمَا يُبْطِلُهَا، أَوْ: أَظْهَرَ الْمُغَالَبَةَ فِي الْحُجَّةِ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ الْمُحَاجَّةِ، فَقِيلَ: خَرَجُوا إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَكَسَّرَهَا، فَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ فَقَالَ لَهُ: فَمَنْ تَعْبُدُ؟ قَالَ: أَعْبُدُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَقِيلَ: كَانَ نُمْرُوذُ يَحْتَكِرُ، فَإِذَا احْتَاجُوا اشْتَرَوْا مِنْهُ الطَّعَامَ، فَإِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ، فقال: مالك لَمْ تَسْجُدْ لِي؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَسْجُدُ إِلَّا لِرَبِّي! فَقَالَ لَهُ نُمْرُوذُ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ كُلَّمَا جَاءَ قَوْمٌ قَالَ مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ، فَيَقُولُ: مِيرُوهُمْ وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ فَقَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ!. وَقِيلَ: كانت المحاجة بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنَ النَّارِ الَّتِي أَلْقَاهُ فِيهَا النُّمْرُوذُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمِرْهُ النُّمْرُوذُ، مَرَّ عَلَى رَمْلٍ أَعْفَرَ، فَأَخَذَ مِنْهُ وَأَتَى أَهْلَهُ وَنَامَ، فَوَجَدُوهُ أَجْوَدَ طَعَامٍ، فَصَنَعَتْ مِنْهُ وَقَرَّبَتْهُ لَهُ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ! فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ، فَحَمَدَ اللَّهَ. وَقِيلَ: مَرَّ عَلَى رَمْلَةٍ حَمْرَاءَ، فَأَخَذَ مِنْهَا، فَوَجَدُوهَا حِنْطَةً حَمْرَاءَ، فَكَانَ إِذَا زَرَعَ مِنْهَا جَاءَ سُنْبُلُهُ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا. فِي: رَبِّهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى النُّمْرُوذِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ.

أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: آتَاهُ، عَائِدٌ عَلَى: الَّذِي حَاجَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، و: أن آتَاهُ، مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى الْمُحَاجَّةِ هُوَ إِيتَاؤُهُ الْمُلَكَ، أَبْطَرَهُ وَأَوْرَثَهُ الْكِبَرَ وَالْعُتُوَّ، فَحَاجَّ لِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَضَعَ الْمُحَاجَّةَ مَوْضِعَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى إِيتَائِهِ الْمُلْكَ، كَمَا تَقُولُ: عَادَانِي فُلَانٌ لِأَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، تُرِيدُ أَنَّهُ عَكَسَ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُوَالَاةِ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ. وَمِنْهُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1» وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: حَاجَّ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، فَإِنْ عَنَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَيُمْكِنُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِيهِ بُعْدًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَمْ تَقَعْ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ. إِلَّا أَنْ يَجُوزَ فِي الْوَقْتِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّهُ وَقْتُ ابْتِدَاءِ إِيتَاءِ اللَّهِ الْمُلْكَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِيتَاءَ اللَّهِ الْمُلْكَ إِيَّاهُ سابق على الحاجة وَإِنْ عَنَى أَنَّ: أَنْ وَالْفِعْلَ، وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ ظَرْفِ الزَّمَانِ؟ كَقَوْلِكَ: جِئْتُ خَفُوقَ النَّجْمِ، وَمَقْدَمَ الْحَاجِّ، وَصِيَاحَ الدِّيكِ؟ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ مَضَوْا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ ظَرْفِ الزَّمَانِ إِلَّا الْمَصْدَرُ الْمُصَرِّحُ بِلَفْظِهِ، فَلَا يَجُوزُ: أَجِيِءُ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، وَلَا جِئْتُ أَنْ صَاحَ الدِّيكُ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: أَيْ آتَاهُ مُلْكَ النُّبُوَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنَ التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ احْتِمَالًا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي حَاجَّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «2» وَالْمُلْكُ عَهْدٌ مِنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً «3» وَرُدَّ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا عُرِفَ بِالْمَلِكِ، وَبِقَوْلِ الْكَافِرِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، وَلَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْمَلِكَ لَمَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مُحَاجَّتِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، جَاءَ بِرَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا لَمْ يَقْتُلْ بَيْنَ يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِذْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الْمَلِكَ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْأَوْجُهِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ مُلْكِ النُّبُوَّةِ لِإِبْرَاهِيمَ لَا يُنَافِي مُلْكَ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُمَا مَلِكَانِ: أَحَدُهُمَا: بِفَضْلِ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ كَالنُّبُوَّةِ وَالْإِمَامَةِ. وَالْآخَرُ: بِفَضْلِ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالِاتِّبَاعِ. وَحُصُولُ الْمُلْكِ لِلْكَافِرِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ مُشَاهَدٌ.

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 82. (2) سورة البقرة: 2/ 124. (3) سورة النِّسَاءِ: 4/ 54. [.....]

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ الْمُلْكَ الْكَافِرَ؟ قُلْتُ: فِيهِ قَوْلَانِ: آتَاهُ مَا غَلَبَ بِهِ وَتَسَلَّطَ مِنَ الْمَالِ وَالْخَدَمِ وَالْأَتْبَاعِ، وَأَمَّا التَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فَلَا، وَقِيلَ: مَلَّكَهُ امْتِحَانًا لِعِبَادِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَمَّا التَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فَلَا، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي تَغَلَّبَ وَتَسَلَّطَ، فَالتَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فِعْلُهُ لَا فِعْلَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ. إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هَذَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سُؤَالٍ سَبَقَ مِنَ الْكَافِرِ، وَهُوَ أَنْ قَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَإِلَّا فَلَا يُبْتَدَأُ كَلَامٌ بِهَذَا. وَاخْتَصَّ إِبْرَاهِيمُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لِأَنَّهُمَا أَبْدَعُ آيَاتِ اللَّهِ وَأَشْهَرُهَا، وَأَدُلُّهَا عَلَى تَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ حَاجَّ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بدلا من: أَنْ آتَاهُ، إِذَا جُعِلَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ضَعْفَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالظَّرْفَانِ مُخْتَلِفَانِ إِذْ وَقَتُ إِيتَاءِ الْمُلْكِ لَيْسَ وَقْتَ قَوْلِهِ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَفِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِي رَبِّهِ، عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. ورَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ الْكَافِرَ وَيُحْيِيهِ وَيُمِيتُهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيكَ وَفِي أَشْبَاهِكَ بِمَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا أَشْبَاهُكَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ الْمُشَاهَدَيْنِ لِلْعَالَمِ اللَّذَيْنِ لَا يَنْفَعُ فِيهِمَا حِيَلُ الْحُكَمَاءِ وَلَا طِبُّ الْأَطِبَّاءِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْخَبَرَ، إِذَا كَانَ بِمِثْلِ هَذَا، دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَتَقُولُ: زَيْدٌ الَّذِي يَصْنَعُ كَذَا، أَيِ: الْمُخْتَصُّ بِالصُّنْعِ. قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ لَمَّا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ رَبَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ عَارَضَهُ الْكَافِرُ بِأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنَا الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَكَانَ الْحِسُّ يُكَذِّبُهُ إِذْ قَدْ حُيِيَ نَاسٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وماتوا، وإنما أرادا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الَّذِي ادَّعَيْتَ فِيهِ الِاخْتِصَاصَ لِرَبِّكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَنَا مُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَرْسَلَ الْآخَرَ، وَقِيلَ: أَدْخَلَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ بَيْتًا حَتَّى جَاعُوا، فَأَطْعَمَ اثْنَيْنِ فَحَيِيَا، وَتَرَكَ اثْنَيْنِ فَمَاتَا، وَقِيلَ: أَحْيَا بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِلْقَاءِ النُّطْفَةِ، وَأَمَاتَ بِالْقَتْلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ: أَنَا إِذَا كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ أو مضمرة. وروى أبو نسيط

إِثْبَاتَهَا مَعَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَإِثْبَاتُ الْأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَلُغَةُ غَيْرِهِمْ حَذْفُهَا فِي الْوَصْلِ، وَلَا تَثْبُتُ عِنْدَ غَيْرِ بَنِي تَمِيمٍ وَصْلًا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ نَحْوُ قَوْلِهِ: فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالِي الْقَوَافِي ... بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارَا وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ. لِأَنَّهُ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُحْسِنُ الْأَخْذُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. انْتَهَى. فَإِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ كَانَ فَصِيحًا. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ لَمَّا خَيَّلَ الْكَافِرُ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمُ مِنْ مُعَارَضَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ فَهْمِهِ أَوْ مُغَالَطَتِهِ، فَإِنَّهُ عَارَضَ اللَّفْظَ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَتَدَبَّرِ اخْتِلَافَ الْوَصْفَيْنِ، ذَكَرَ لَهُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَلَا يُغَالِطَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلْ ذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ؟ أَوْ هُوَ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَالِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ أَوْضَحُ مِنْهُ؟ وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَكَانَ الِاعْتِرَاضُ عَتِيدًا، وَلَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ جَوَابَهُ الْأَحْمَقَ لَمْ يُحَاجَّهُ فِيهِ، وَلَكِنِ انْتَقَلَ إِلَى مَا لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْجَوَابِ لِيُبْهِتَهُ أَوَّلَ شَيْءٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ مِنْ حُجَّةٍ إِلَى حُجَّةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَكَانَ الِاعْتِرَاضُ عَتِيدًا: أَيْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: أَحْيِ مَنْ أَمَتَّ، فَكَانَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ نُصْرَةُ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَانْقَطَعَ بِهِ، وَأَرْدَفَهُ إِبْرَاهِيمُ بِحُجَّةٍ ثَانِيَةٍ، فَحَاجَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَصْدًا لِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ، لَا عَجْزًا عَنْ نُصْرَةِ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَقِيلَ: كَانَ نُمْرُوذُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ: إِبْراهِيمَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أَيِ: الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا لَا مَنْ نَسَبْتَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ افْتِرَاءَهُ الْعَظِيمَ، وَادِّعَاءَهُ الْبَاطِلَ تَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا، اقْتَرَحَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَأُفْحِمَ وَبَانَ عَجْزُهُ وَظَهَرَ كَذِبُهُ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ لَهُ النُّمْرُوذُ: وَأَنْتَ رَأَيْتَ هَذَا؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رَآهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: انْتَقَلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الشَّمْسَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَقْهُورَةٌ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ انْتِقَالًا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، بَلِ الدَّلِيلُ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: وَهُوَ إِنَّا نَرَى حُدُوثَ أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِحْدَاثِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ يَتَوَلَّى إِحْدَاثَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا أَمْثِلَةٌ. مِنْهَا: الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ. وَمِنْهَا: السَّحَابُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ. وَمِنْهَا: حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ. وَالْمُسْتَدِلُّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، فَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَابِ مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ وَاحِدًا لَا أَنَّهُ يَقَعُ الِانْتِقَالُ عِنْدَ إِيضَاحِهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يَقَعُ الِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ الَّذِي سَأَلَهُ الْكَافِرُ عَنْ رَبِّهِ حِينَ ادَّعَى الْكَافِرُ الرُّبُوبِيَّةَ، قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى دَلِيلٍ أَوْ مِثَالٍ أَوَضَحَ وَأَقْطَعَ لِلْخَصْمِ، عَدَلَ إِلَى الِاسْمِ الشَّائِعِ عِنْدَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ قَرَّرَ بِذَلِكَ بِأَنَّ رَبَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ الَّذِي أَوَجَدَكَ وَغَيْرَكَ أَيُّهَا الْكَافِرُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّ رَبِّي يَأْتِي بِالشَّمْسِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ هُوَ رَبُّهُ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، وَلِأَنَّ الْعَالَمَ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَّا إِلَهُهُمْ. وَمَجِيءُ الْفَاءِ فِي: فَإِنَّ، يَدُلُّ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَحْكِيَّةَ فَقَطْ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ وَكَأَنَّ التَّرْكِيبَ قال إبراهيم: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ، وَتَقْدِيرُ الْجُمْلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنْ زَعَمَتْ ذَلِكَ أَوْ مَوَّهَتْ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المشرق، و: الباء، في بالشمس لِلتَّعْدِيَةِ، تَقُولُ: أَتَتِ الشَّمْسُ، وَأَتَى بِهَا اللَّهُ، أَيْ أَحْيَاهَا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ إِبْرَاهِيمُ إِذْ هُوَ الْمُنَاظِرُ لَهُ، فَلَمَّا أَتَى بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ بَهَتَهُ بِذَلِكَ وَحَيَّرَهُ وَغَلَبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ الْمَصْدَرَ الْمَفْهُومَ مِنْ: قَالَ، أَيْ: فَحَيَّرَهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَبَهَتَهُ. وقرأ ابن السميفع: فَبَهَتَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْهَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَبُهِتَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ فَبَهَتَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي كَفَرَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى، فَبُهِتَ الْكَافِرُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: سَبَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ انْقَطَعَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ حِيلَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا وَيَكُونَ الَّذِي كَفَرَ فَاعِلًا، وَالْمَعْنَى:: بُهِتَ أَوْ أَتَى بِالْبُهْتَانِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَبَهُتَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ. وقرىء فِيمَا حَكَاهُ الْأَخْفَشُ: فَبَهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ.

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَهْدِيهِ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَالْمُرَادُ هِدَايَةٌ خَاصَّةٌ، أَوْ ظَالِمُونَ مَخْصُوصُونَ، فَمَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ أَنَّهُ لَا يُرْشِدُهُمْ فِي حُجَّتِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: لَا يَلْطُفُ بِهِمْ وَلَا يُلْهِمُ وَلَا يُوَفِّقُ، وَخَصَّ الظَّالِمُونَ بِمَنْ يُوَافِي ظَالِمًا أَيْ كَافِرًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ، وَقَضَى بِأَنْ يَكُونَ ظَالِمًا أَيْ كَافِرًا وَقَدَّرَ أَنْ لَا يُسْلِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ «1» . وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْإِخْبَارِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَالَ مُدِّعِ شَرِكَةِ اللَّهِ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، مُمَوِّهًا بِمَا فَعَلَهُ أَنَّهُ إِحْيَاءٌ وَإِمَاتَةٌ، وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الظُّلْمِ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَمِثْلُ هَذَا مَحْتُومٌ لَهُ عَدَمُ الْهِدَايَةِ، مَخْتُومٌ لَهُ بِالْكُفْرِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لَيْسَتْ مِمَّا يَلْتَبِسُ عَلَى مُدَّعِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالسَّفْسَطَةِ، فَمُدَّعِيهَا إِنَّمَا هُوَ مُكَابِرٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ هَذَا الْكَافِرَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِذْ مَنْ كَابَرَ فِي ادِّعَاءِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ قَدْ يُكَابِرُ فِي ذَلِكَ وَيَدَّعِيهِ. وَهَلِ الْمَسْأَلَتَانِ إِلَّا سَوَاءٌ فِي دَعْوَى مَا لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ بُهُوتًا دَهِشًا مُتَحَيِّرًا مُنْقَطِعًا إِكْرَامًا لِنَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِظْهَارًا لِدِينِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، لِظُهُورِ كَذِبِهِ لِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَالشَّمْسُ كَانَتْ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنَا آتِي بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ لِعِلْمِهِ بِعَجْزِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ سَكَتَ وَانْقَطَعَ. أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ، سَاكِنَةَ الْوَاوِ، قِيلَ: وَمَعْنَاهَا التَّفْصِيلُ، وَقِيلَ: التَّخْيِيرُ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ مَنْ يَنْشَأُ مِنْهُمَا. وَقَرَأَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حُسَيْنٍ: أَوَ كَالَّذِي، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ دَخَلَ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ، والتقدير: وأ رأيت مِثْلَ الَّذِي وَمَنْ قَرَأَ: أَوْ، بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ

_ (1) سورة الزمر: 39/ 19.

إِلَى الَّذِي؟ أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ؟ فَعُطِفَ قَوْلُهُ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ: تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكْثِرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلَا بِحَقَلَّدِ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكْثُرْ: لَيْسَ بِمُكْثِرٍ: وَلِذَلِكَ رَاعَى هَذَا الْمَعْنَى فَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَلَا بِحَقَلَّدٍ. وَقَالَ آخَرُ: أَجَدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... أو لا ببيداء ناجية ذمولا وَلَا مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طِفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشِعِ الْوَادِي حُمُولَا الْمَعْنَى: أَجِدَّكَ لَسْتَ بِرَآءٍ، وَلَمَّا رَاعَى هَذَا الْمَعْنَى عَطَفَ عَلَيْهِ قوله: ولا متدارك، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ كَالَّذِي: مَعْنَاهُ أَوْ رَأَيْتَ مِثْلَ الَّذِي؟ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: أَلَمْ تَرَ؟ عَلَيْهِ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا كلمة تعجيب. انْتَهَى. وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ إِضْمَارَ الْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، وَقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ. وَقِيلَ: الْكَافُ زَائِدَةٌ، فَيَكُونُ: الَّذِي، قَدْ عُطِفَ عَلَى: الَّذِي، التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حاج إبراهيم؟ أو الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؟ قِيلَ: كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» . وفي قوله الرَّاجِزِ: فَصُيِّرُوا مَثَلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ، وَلَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَا عَلَى زِيَادَةِ الْكَافِ، بَلْ تَكُونُ الْكَافُ اسْمًا عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ، فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، مَعْطُوفَةً عَلَى الَّذِي، التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أو إلى مثل كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَمَجِيءُ الْكَافِ اسْمًا فَاعِلَةً، ومبتدا وَمَجْرُورَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ ثَابِتٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَتَأْوِيلُهَا بَعِيدٌ، فَالْأَوْلَى هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمُ الْإِشْكَالُ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ حَرْفِيَّةِ الْكَافِ، حَمْلًا عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ، أَلَا تَرَى فِي الْفَاعِلِيَّةِ لِمِثْلٍ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ... ضَعِيفٍ وَلَمْ يغلبك مثل مغلب؟

_ (1) وردت الآية في الأصل: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والآية من سورة الشورى 42/ 11، وليس فيها: السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، علما أن وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ترد بكثرة في آيات القرآن الكريم ولكن ليس بهذا السياق التام.

وَالْكَلَامُ عَلَى الْكَافِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ هُوَ عُزَيْرٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ، وَنَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ، وَسَالِمٌ الْخَوَّاصُ. وَقِيلَ: أَرْمِيَاءُ، قَالَهُ وَهْبٌ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَبَكْرُ بْنُ مُضَرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ أَرْمِياءُ، وَهُوَ الْخَضِرُ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ وَهْبٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَمَا نَرَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَافَقَ اسْمًا، لِأَنَّ الْخَضِرَ مُعَاصِرٌ لِمُوسَى، وَهَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ هُوَ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ فِيمَا رَوَى وَهْبٌ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ بِعَيْنِهِ وَيَكُونَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ، فَيَكُونُ أَدْرَكَ زَمَانَ خَرَابِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ إِلَى الْآنِ بَاقٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقِيلَ: عَلَى كَافِرٍ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَكَانَ عَلَى حِمَارٍ وَمَعَهُ سَلَّةُ تِينٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ مُسَمًّى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِيمَا حَكَاهُ مَكِّيٌّ. وَقِيلَ: غُلَامُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقيل: شعياء. وَالَّذِي أَحْيَاهَا بَعْدَ خَرَابِهَا: لَوْسَكُ الْفَارِسِيُّ، حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ الْقُتَيْبِيِّ. وَالْقَرْيَةُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ وَهْبٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ: قَرْيَةُ الْعِنَبِ، وَهِيَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوِ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوِ: الْمُؤْتَفِكَةُ، قَالَهُ قَوْمٌ، أَوِ: الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْأُلُوفُ حَذَرَ الْمَوْتِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ: دَيْرُ هِرَقْلَ، قَالَهُ ابن عباس. أو: شابور أباد، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، أَوْ: سَلْمَايَاذَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قِيلَ: الْمَعْنَى خَاوِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا ثَابِتَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَالْبُيُوتُ قَائِمَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ. سَاقِطَةٌ مُتَهَدِّمَةٌ جُدْرَانُهَا عَلَى سُقُوفِهَا بَعْدَ سُقُوطِ السُّقُوفِ، وَقِيلَ: عَلَى، بِمَعْنَى: مَعَ، أَيْ: مَعَ أَبْنِيَتِهَا، وَالْعُرُوشُ عَلَى هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي فِي: مَرَّ، أَوْ: مِنْ قَرْيَةٍ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ إِذَا تَأَخَّرَتْ تَقِلُّ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْقَرْيَةِ، وَيُبْعِدُ هَذَا القول الواو، و: على، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى: خَاوِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، أَيْ: مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أو: بخاوية إِذَا كَانَ الْمَعْنَى سَاقِطَةً. وَقِيلَ: عَلَى عُرُوشِهَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: قَرْيَةٍ، أَيْ: مَرَّ عَلَى

عُرُوشِهَا، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لقرية، أَيْ: مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ كَائِنَةٍ عَلَى عُرُوشِهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ. قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها قِيلَ: لَمَّا خَرَّبَ بُخْتَ نَصَّرُ الْبَابِلِيُّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، حِينَ أَحْدَثَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْأَحْدَاثَ، وَقَفَ أَرْمِياءُ، أَوْ عُزَيْرٌ، عَلَى الْقَرْيَةِ وَهِيَ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ وَسَطَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ أَمَرَ جُنْدَهُ بِنَقْلِ التُّرَابِ إِلَيْهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْجَبَلِ، فَقَالَ هَذَا الْكَلَامَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَارُّ كَانَ كَافِرًا بِالْبَعْثِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِانْتِظَامِهِ مَعَ نُمْرُوذَ فِي سِلْكٍ، وَلِكَلِمَةِ الِاسْتِبْعَادِ الَّتِي هِيَ: أَنَّى يُحْيِي، وَقِيلَ: عُزَيْرٌ، أَوِ: الْخَضِرُ، أَرَادَ أَنْ يُعَايِنَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى لِيَزْدَادَ بَصِيرَةً كَمَا طَلَبَهُ إِبْرَاهِيمُ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّكِّ لَا يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ. وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ هُنَا مَجَازَانِ، عَبَّرَ بِالْإِحْيَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ، وَبِالْمَوْتِ عَنِ الْخَرَابِ. وَقِيلَ: حَقِيقَتَانِ فَيَكُونُ ثُمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنَّى يُحْيِي أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ يَكُونُ هَذِهِ إِشَارَةً إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ عِظَامِ أَهْلِهَا الْبَالِيَةِ، وَجُثَثِهِمُ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَأَوْصَالِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَجَازِ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي عَلَى سَبِيلِ التَّلَهُّفِ مِنَ الْوَاقِفِ الْمُعْتَبَرِ عَلَى مَدِينَتِهِ الَّتِي عَهِدَ فِيهَا أَهْلَهُ وَأَحِبَّتَهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ طَرِيقَةِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتِعْظَامًا لِقُدْرَةِ الْمُحْيِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، فَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أَيْ أَحْيَاهُ وَجَعَلَ لَهُ الْحَرَكَةَ وَالِانْتِقَالَ. قِيلَ: لَمَّا مَرَّ سَبْعُونَ سَنَةً مِنْ مَوْتِهِ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَمَنَعَ الْعُيُونَ أَنْ تَرَاهُ، أَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ عَظِيمٍ يُقَالُ لَهُ لَوْسَكُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْفِرَ بقومك فَتُعَمِّرْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِيلِيَاءَ وَأَرْضَهَا حَتَّى تَعُودَ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ، فَانْتَدَبَ الْمَلِكُ قِيلَ ثَلَاثَةَ آلَافِ قَهْرَمَانَ مَعَ كُلِّ قَهْرَمَانَ أَلْفُ عَامِلٍ، وَجَعَلُوا يُعَمِّرُونَهَا، وَأَهْلَكَ اللَّهُ بُخْتَ نَصَّرَ بِبَعُوضَةٍ دَخَلَتْ دِمَاغَهُ، وَنَجَّى اللَّهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَدَّهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيهِ فَعَمَّرُوهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَثُرُوا حَتَّى كَانُوا كَأَحْسَنِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ. قالَ كَمْ لَبِثْتَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: كَيْفَ نُنْشِزُها وَقِيلَ:

هَاتِفٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: نَبِيٌّ، وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ شَاهَدَهُ حِينَ مَاتَ وَعَمَّرَ إِلَى حِينِ إِحْيَائِهِ. وَعَلَى اخْتِيَارِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْبَعْثِ كَافِرًا، فَلِذَلِكَ سَاغَ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ. انْتَهَى. وَلَا نَصَّ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ شِفَاهًا. وَ: كَمْ، ظَرْفٌ، أَيْ: كَمْ مُدَّةً لَبِثْتَ؟ أَيْ: لَبِثْتَ مَيِّتًا وَهُوَ سُؤَالٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ. قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ: أَمَاتَهُ اللَّهُ غَدْوَةَ يَوْمٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَقَالَ: قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى الشَّمْسِ: يَوْمًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَكَانَ قَوْلُهُ: يَوْمًا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ، ثُمَّ لَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُكْمِلِ الْيَوْمَ، قَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ، أَوْ، هُنَا لِلتَّرْدِيدِ، بَلْ تَكُونُ لِلْإِضْرَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ بَعْضَ يَوْمٍ، لَمَّا لَاحَتْ لَهُ الشَّمْسُ أَضْرَبَ عَنِ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ عَلَى طَرِيقِ الظَّنِّ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِالثَّانِي عَلَى طَرِيقِ التَّيَقُّنِ عِنْدَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُطْلِقُ لَفْظَ بَعْضٍ عَلَى أَكْثَرِ الشَّيْءِ. قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ بَلْ، لِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَحْذُوفَةِ التَّقْدِيرِ، قَالَ: مَا لَبِثْتَ هَذِهِ الْمُدَّةَ بَلْ: لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ بِإِظْهَارِ التَّاءِ فِي: لَبِثْتَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِدْغَامِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ تَعْيِينَ الْمُدَّةِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْيِينَهَا فِي قَوْلِهِ: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا «1» وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي جَوَابِ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «2» لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ فِي الْبَقَرَةِ وَاحِدٌ فَانْحَصَرَتْ مُدَّةُ إِمَاتَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأُولَئِكَ مُتَفَاوِتُو اللُّبْثَ تَحْتَ الْأَرْضِ نَحْوَ مَنْ مَاتَ فِي أَوَّلِ الدُّنْيَا، وَمَنْ مَاتَ فِي آخِرِهَا، فَلَمْ يَنْحَصِرُوا تَحْتَ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَلِذَلِكَ أُدْرِجُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ قَلِيلَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمُدَّةِ لُبْثِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ ذَكَرَ مُدَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ لَاحْتِيجَ فِي عِدَّةِ ذَلِكَ إِلَى أَسْفَارٍ كثيرة.

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 114. (2) سورة الكهف: 18/ 19 والمؤمنون: 23/ 113.

فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فِي قِصَّةِ عُزَيْرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَجَا مِنْ بَابِلَ ارْتَحَلَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ هِرَقْلَ عَلَى شَطِّ دِجْلَةَ، فَطَافَ فِي الْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا، وَعَامَّةُ شَجَرِهَا حَامِلٌ، فَأَكَلَ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَاعْتَصَرَ مِنَ الْعِنَبِ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَجَعَلَ فَضْلَ الْفَاكِهَةِ فِي سَلَّةٍ وَفَضْلَ الْعِنَبِ فِي زِقٍّ، فَلَمَّا رَأَى خَرَابَ الْقَرْيَةِ وَهَلَاكَ أَهْلِهَا قَالَ: أَنَّى يُحْيِي؟ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، لَا شَكًا فِي الْبَعْثِ، وَقِيلَ: كَانَ شَرَابُهُ لَبَنًا. قِيلَ: وَجَدَ التِّينَ وَالْعِنَبَ كَمَا تَرَكَهُ جَنْيًا، وَالشَّرَابَ عَلَى حَالِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى أَنَّهَا هَاءُ السَّكْتِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: لَمْ يَسَّنَّهْ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، كما قرىء: لَا يَسْمَعُونَ، وَالْأَصْلُ: لَا يَتَسَمَّعُونَ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَغَيْرُهُ: لِمِائَةِ سَنَةٍ، مَكَانَ: لَمْ يَتَسَنَّهْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهَذَا شَرَابُّكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَالضَّمِيرُ فِي: يَتَسَنَّهْ مُفْرَدٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الشَّرَابِ خَاصَّةً، وَيَكُونَ قَدْ حُذِفَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ مِنَ الطَّعَامِ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ أُفْرِدَ ضَمِيرُهُمَا لِكَوْنِهِمَا مُتَلَازِمَيْنِ، فَعُومِلَا مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ، أَوْ لِكَوْنِهِمَا فِي مَعْنَى الْغِذَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَانْظُرْ إِلَى غِذَائِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الْمُتَلَازِمَيْنِ: وَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبُلًا كُحِّلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَسَنَّهْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ منفية: بلم، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَاوِ فِي الْجُمْلَةِ المنفية بلم هُوَ الْمُخْتَارُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتْ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْفِيًّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُنْفَى: بِلَمَّا، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ وَلَمَّا يَضْحَكْ، قَالَ: وَقَدْ تَكُونُ مَنْفِيَّةً: بِلَمْ وَمَا، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ وَلَمْ يَضْحَكْ، أَوْ: مَا يَضْحَكُ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ إِثْبَاتُ: الْوَاوِ، مَعَ: لَمْ، أَحْسَنَ مِنْ عَدَمِهَا، بَلْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا فَصِيحًا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ تَعَالَى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «1» وَقَالَ تَعَالَى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ «2» وَمَنْ قَالَ:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 174. (2) سورة الأنعام: 6/ 93.

إِنَّ النَّفْيَ بِلَمْ قَلِيلٌ جِدًّا فَغَيْرُ مُصِيبٍ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ: الْحَالِ، فِي (مَنْهَجِ السَّالِكِ عَلَى شَرْحِ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مَالِكٍ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ قِيلَ: لَمَّا مَضَتِ الْمِائَةُ أَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ عَيْنَيْهِ، وَسَائِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ، ثُمَّ أَحْيَا جَسَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ، فَإِذَا عِظَامُهُ مُتَفَرِّقَةٌ بِيضٌ تَلُوحُ، فَسَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَاجْتَمَعَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاتَّصَلَتْ، ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَجِلْدًا، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ حِينَ أَحْيَاهُ اللَّهُ نَهَقَ، وَقِيلَ: رَدَّ اللَّهُ الْحَيَاةَ فِي عَيْنَيْهِ وَأَخَّرَ جَسَدَهُ مَيِّتًا، فَنَظَرَ إِلَى إِيلِيَاءَ وَمَا حَوْلَهَا وَهِيَ تُعَمَّرُ وَتُجَدَّدُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ وَاقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ أَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُ وَهُوَ يَرَى، وَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ رِيحُ مِائَةِ عَامٍ وَمَطَرُهَا وَشَمْسُهَا وَبَرْدُهَا. وَقَالَ وَهْبٌ، وَالضَّحَّاكُ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَائِمًا فِي مَرْبَطِهِ لَمْ يَصُبْهُ شَيْءٌ مِائَةَ سَنَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ أَنْ يُعِيشَهُ مِائَةَ عَامٍ مِنْ غَيْرِ عَلَفٍ وَلَا مَاءٍ، كَمَا حَفِظَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنَ التَّغَيُّرِ. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قِيلَ: الْوَاوُ، مُقْحَمَةٌ أَيْ: لِنَجْعَلَكَ آيَةً، وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَيْ: أَرَيْنَاكَ ذَلِكَ لِتَعَلَمَ قُدْرَتَنَا، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَأْخِيرُهُ، أَيْ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا ذَلِكَ، يُرِيدُ إِحْيَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحِفْظَ مَا مَعَهُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَوْنُهُ آيَةً هُوَ أَنَّهُ جَاءَ شَابًا عَلَى حَالِهِ يَوْمَ مَاتَ، فَوَجَدَ الْحَفَدَةَ وَالْأَبْنَاءَ شُيُوخًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: جَاءَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا كَانَ يَوْمَ مَاتَ، وَوَجَدَ بنيه قد ينوفون عَلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: كَوْنُهُ آيَةً هُوَ أَنَّهُ جَاءَ وَقَدْ هَلَكَ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ، وَكَانَ آيَةً لِمَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ قَوْمِهِ، إِذْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِحَالِهِ سَمَاعًا، وَقِيلَ: أَتَى قومه راكبا حِمَارَهُ، وَقَالَ: أَنَا عُزَيْرٌ، فَكَذَّبُوهُ، فَقَالَ: هَاتُوا التَّوْرَاةَ، فَأَخَذَ يُهَذْهِذُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي الْكِتَابِ، فَمَا خَرَمَ حَرْفًا، فَقَالُوا هُوَ: ابْنُ اللَّهِ. وَلَمْ يَقْرَأِ التَّوْرَاةَ ظَاهِرًا أَحَدٌ قَبْلَ عُزَيْرٍ، فَذَلِكَ كَوْنُهُ آيَةً. وَفِي إِمَاتَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ إِحْيَائِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ، وَأَمْرُهُ كُلُّهُ آيَةٌ لِلنَّاسِ غَابِرَ الدَّهْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: لِلنَّاسِ، لِلْعَهْدِ إن غنى بِهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ. أَوْ لِلْجِنْسِ إِذْ هُوَ آيَةٌ لِمَنْ عَاصَرَهُ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها يَعْنِي، بِالْعِظَامِ عِظَامَ نَفْسِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: عظام حماره، أو عظامهما. زَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عِظَامَ الْمَوْتَى الَّذِينَ تَعَجَّبَ مِنْ إِحْيَائِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحْيُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يُقَالُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَإِنَّمَا هَذَا قِيلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى عِظَامِهِ، أَوْ عظام حماره، أو عظامهما. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ عِظَامُ الْحِمَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى الْعِظَامِ مِنْهُ، أَوْ، عَلَى رَأَيِ الْكُوفِيِّينَ، أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ: إِلَى عِظَامِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ بَعَثَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمُحَاوَرَتِهِ تَعَالَى لَهُ فِي السُّؤَالِ عَنْ مِقْدَارِ مَا أَقَامَ مَيِّتًا، ثُمَّ أَعْقَبَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ بِالْفَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِحْيَاءَهُ تَقَدَّمَ عَلَى الْمُحَاوَرَةِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: نُنْشِرُهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ النُّونِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُمَا مِنْ أَنْشَرَ وَنَشَرَ بِمَعْنَى: أَحْيَا. وَيَحْتَمِلُ نَشَرَ أَنْ يَكُونَ ضِدَّ الطَّيِّ، كَأَنَّ الْمَوْتَ طَيُّ الْعِظَامِ وَالْأَعْضَاءِ، وَكَأَنَّ جَمْعَ بَعْضِهَا إلى بعض نشز وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: نُنْشِزُهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ، وَضَمِّ الشِّينِ وَالزَّايِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ، عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا مَعَ الرَّاءِ وَالزَّايِ. وَمَعْنَى: نُنْشِزُهَا، بِالزَّايِ: نُحَرِّكُهَا، أَوْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ لِلتَّرْكِيبِ لِلْإِحْيَاءِ، يُقَالُ: نَشَزَ وَأَنْشَزْتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعَلَّقَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى النُّشُوزِ رَفْعَ الْعِظَامِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا النُّشُوزُ الِارْتِفَاعُ قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَبَاتِ العظام الرفاة، وَخَرَجَ مَا يُوجَدُ مِنْهَا عِنْدَ الِاخْتِرَاعِ. وَقَالَ النَّقَّاشِيُّ: نُنْشِزُهَا مَعْنَاهُ نُنْبِتُهَا، وَانْظُرِ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ تَجِدُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَمِنْ ذَلِكَ: نَشَزَ نَابُ الْبَعِيرِ، وَالنَّشِزُ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ، وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ، كَأَنَّهَا فَارَقَتِ الْحَالَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا، وَانْشُزُوا فَانْشُزُوا أَيِ ارْتَفَعُوا شَيْئًا فَشَيْئًا كَنُشُوزِ النَّابِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ التَّوْسِعَةُ، فَكَأَنَّ النُّشُوزَ ضَرْبٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ. وَيَبْعُدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِمَنِ ارْتَفَعَ فِي حَائِطٍ أَوْ غُرْفَةٍ: نَشَزَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: كَيْفَ نُنْشِيهَا، بِالْيَاءِ أَيْ نَخْلُقُهَا. وَقَالَ بعضهم: العظام لا تحيى عَلَى الِانْفِرَادِ حَتَّى يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَالزَّايُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الِانْضِمَامِ دُونَ الْإِحْيَاءِ، فَالْمَوْصُوفُ بِالْإِحْيَاءِ الرَّجُلُ دُونَ الْعِظَامِ. وَلَا يُقَالُ: هَذَا عَظْمٌ حَيٌّ.

فَالْمَعْنَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَرْفَعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى جِسْمِ صَاحِبِهَا لِلْإِحْيَاءِ. انْتَهَى. وَالْقِرَاءَةُ بالراء متوترة، فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الزَّايِ أَوْلَى. وَ: كَيْفَ، مَنْصُوبَةٌ بننشزها نَصْبُ الْأَحْوَالِ، وَذُو الْحَالِ مفعول ننشرها، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا: انْظُرْ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قبله. وأعربوا: كيف ننشرها، حَالًا مِنَ الْعِظَامِ، تَقْدِيرُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ مُحْيَاةً، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ لَا تَقَعُ حَالًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ حَالًا: كَيْفَ، وَحَّدَهَا نَحْوَ: كَيْفَ ضَرَبْتَ زَيْدًا؟ وَلِذَلِكَ تَقُولُ: قَائِمًا أَمْ قَاعِدًا؟ فَتُبْدَلُ مِنْهَا الْحَالُ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنَ الْعِظَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ: انْظُرْ، الْبَصْرِيَّةَ تَتَعَدَّى بِإِلَى، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّعْلِيقُ، فَتَقُولُ: انْظُرْ كَيْفَ يَصْنَعُ زَيْدٌ، قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «1» فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى المفعول: بالنظر، لِأَنَّ مَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، إِذَا عُلِّقَ، صَارَ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ، تَقُولُ: فَكَّرْتُ فِي أَمْرِ زَيْدٍ، ثُمَّ تَقُولُ: فَكَّرْتُ هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ؟ فَيَكُونُ: هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِفَكَّرْتُ، فَكَيْفَ، نُنْشِزُهَا بَدَلٌ مِنَ الْعِظَامِ عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَانْظُرْ إِلَى حَالِ الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ. عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ. فَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِكَ: أَبُو مَنْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ زَيْدًا مَفْعُولَ عَرَفْتُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ أَبُو مَنْ. وَلَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ فِي بَابِ التَّعْلِيقِ مُرَادًا بِهِ مَعْنَاهُ، بَلْ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَرَتْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مُغَلَّبًا عَلَيْهَا أَحْكَامُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أَيْ، فِي بَابِ الِاخْتِصَاصِ. فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ غَلَبَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ أَحْكَامِ النِّدَاءِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى النِّدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا، إِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِلْمَعْنَى، وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أَحْكَامُ اللَّفْظِ كَهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْوَاقِعِ فِي التَّعْلِيقِ، وَالْوَاقِعِ فِي التَّسْوِيَةِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أَحْكَامُ الْمَعْنَى نَحْوَ: أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْوَاقِعِ فِي التَّعْلِيقِ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى (بِالتَّذْكِرَةِ) وَهِيَ إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلَنِي عَنْهَا قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 21.

الْقُشَيْرِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ فِيهَا، وَكَانَ سُؤَالُهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً الْكُسْوَةُ حَقِيقَةٌ هِيَ مَا وَارَى الْجَسَدَ مِنَ الثِّيَابِ، وَاسْتَعَارَهَا هُنَا لِمَا أَنْشَأَ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي غَطَّى بِهِ الْعَظْمَ. كَقَوْلِهِ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً «1» وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، إِذْ هِيَ اسْتِعَارَةُ عَيْنٍ لِعَيْنٍ، وَقَدْ جَاءَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمَعْنَى لِلْجُرْمِ. قَالَ النَّابِغَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُشَاهِدُ اللَّحْمَ وَالْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ كَيْفَ تَلْتَئِمُ وَتَتَوَاصَلُ ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ بَعْثِهِ، لَا أَنَّ الْقَوْلَ كَانَ بَعْدَ إِحْيَاءِ بَعْضِهِ. وَالتَّعْقِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلَى آخِرِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُرَادُ بِهَا عِظَامُ نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا، إِلَّا إِنْ كَانَ وَضَعَ: نَنْشُرُهَا، مَكَانَ: أَنْشَرْتُهَا، وَ: نَكْسُوهَا، مَكَانَ: كَسَوْتُهَا، فَيُحْتَمَلُ. وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الثَّلَاثِ الْخَوَارِقِ، وَلَمْ يُنَسَّقْ نَسَقَ الْمُفْرَدَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، وَمُعْجِزٌ بَالِغٌ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعِظَامِ وَالشَّرَابِ حَيْثُ لَمْ يَتَغَيَّرَا عَلَى طُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ، إِذْ هُمَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، إِذْ مَا قَامَ بِهِ الْحَيَاةُ وَهُوَ الْحِمَارُ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَشَّ بِنَفْسِهِ وَيَأْكُلَ وَيَرِدَ الْمِيَاهَ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ: «مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا» . وَلَمَّا أُمِرَ بِالنَّظَرِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْحِمَارِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ صُحْبَتَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كَالْمُجْمَلِ، بَيَّنَ لَهُ جِهَةَ النَّظَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحِمَارِ، فَجَاءَ النَّظَرُ الثَّالِثُ تَوْضِيحًا لِلنَّظَرِ الثَّانِي، مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَنْظُرُ إِلَى الْحِمَارِ، وَهِيَ جِهَةُ إِحْيَائِهِ وَارْتِفَاعِ عِظَامِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا عِنْدَ التَّرْكِيبِ وَكَسَوْتِهَا اللَّحْمَ، فَلَيْسَ نَظَرًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ النَّظَرِ الثَّانِي، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ بِقَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّ الْأَنْظَارَ مَنْسُوقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ إِلَخْ هو مُقَدَّمٌ فِي اللَّفْظِ، مُؤَخَّرٌ في الرتبة.

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 14.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى الْبَعْثِ إِذْ وَقَعَتِ الْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُشَاهَدَةً. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبَيَّنَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبَيَّنَ لَهُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: بَيَّنَ لَهُ، بِغَيْرِ تَاءٍ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الظَّاهِرُ أَنَّ تَبَيَّنَ فِعْلٌ لَازِمٌ وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَمْرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى وَتَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ أَنْ يُقَدِّرَ مُضْمَرًا يَعُودُ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ الَّتِي اسْتَغْرَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكِرًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ إِعَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ أَلْزَمَ مَا لَا يَقْتَضِيهِ، وَفَسَّرَ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ، وَالِاحْتِمَالُ الضَّعِيفُ مَا حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَدَأَ بِهِ مَا نَصُّهُ: وَفَاعِلُ تَبَيَّنَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قدير، قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَحُذِفِ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْدًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكَا، وَأَدَّى ذَلِكَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْفَصْلُ مُعْتَبَرًا، وَيَكُونَ الْعَامِلُ الثَّانِي مَعْمُولًا لِلْأَوَّلِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِكَ: جَاءَنِي يَضْحَكُ زَيْدٌ. فَجَعَلَ فِي جَاءَنِي ضَمِيرًا أَوْ فِي يَضْحَكُ، حَتَّى لَا يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ فَاصِلًا، وَلَا يَرُدَّ عَلَى هَذَا جَعْلُهُمْ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً «1» ولا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «2» وَلَا تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ «3» وَلَا يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «4» مِنَ الْإِعْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَامِلَ مُشْتَرِكَةٌ بِوَجْهٍ مَا مِنْ وُجُوهِ الِاشْتِرَاكِ، وَلَمْ يَحْصُلِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَطْفِ وَلَا الْعَمَلِ، وَلِتَقْرِيرِ هَذَا بَحْثٌ يُذْكَرُ فِي النَّحْوِ. فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا نَصُّوا فَلَيْسَ العامل الثاني مشتركا بَيْنَهُ وَبَيْنَ: تَبَيَّنَ، الَّذِي هُوَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ بِحَرْفِ عَطْفٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا هُوَ مَعْمُولٌ: لِتَبَيَّنَ، بَلْ هُوَ مَعْمُولٌ: لَقَالَ، وَقَالَ جَوَابُ، لَمَّا أَنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَرْفٌ وَعَامِلَةٌ فِي، لَمَّا أَنْ قُلْنَا إِنَّهَا ظَرْفٌ، وَ: تَبَيَّنَ، عَلَى هذا

_ (1) سورة الكهف: 18/ 96. (2) سورة الحاقة: 69/ 19. (3) سورة المنافقون: 63/ 5. (4) سورة النساء: 4/ 176.

الْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالظَّرْفِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّحْوِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ: لَوْ جَاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، وَلَا: مَتَى جَاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، وَلَا: إِذَا جَاءَ ضَرَبْتَ خَالِدًا. وَلِذَلِكَ حَكَى النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: أَكْرَمْتَ أَهَنْتَ زَيْدًا. وَقَدْ نَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ قَالَ: وَفَاعِلُ تَبَيَّنَ مُضْمَرٌ، ثُمَّ قَدَّرَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ قَالَ أَعْلَمُ ... إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْدًا، وَالْحَذْفُ يُنَافِي الْإِضْمَارَ لِلْفَاعِلِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِضْمَارٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ حَذْفَ الْفَاعِلِ أَصْلًا، فَإِنَّ كَانَ أَرَادَ بِالْإِضْمَارِ الْحَذْفَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ مِنْ أَنَّ الْفَاعِلَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُضْمَرُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ، بَلْ يُحْذَفُ عِنْدَهُ الْفَاعِلُ، وَالسَّمَاعُ يَرُدُّ عليه. قال الشاعر: هويتني وَهَوَيْتُ الْخُرُدَ الْعُرْبَا ... أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطًا بِي هَوًى وَصِبَا وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا فِي قراءة ابن السميفع فَهُوَ مُضْمَرٌ: أَيْ: بَيَّنَ لَهُ هُوَ، أَيْ: كَيْفِيَّةَ الإحياء. وقرأ الجمهور: قال، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، عَلَى قِرَاءَةِ جُمْهُورِ السَّبْعَةِ: أَعْلَمُ، مُضَارِعًا ضَمِيرُهُ يَعُودُ عَلَى الْمَارِّ، وَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا غَرِيبًا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وقال أبو علي: مَعْنَاهُ أَعْلَمُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْتُهُ، يَعْنِي يَعْلَمُ عِيَانًا مَا كَانَ يَعْلَمُهُ غَيْبًا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي رَجَاءٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ اعْلَمْ، فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ عَلِمَ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الْمَلَكِ الْقَائِلِ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الْوَجْهُ الْأَوَامِرَ السَّابِقَةَ مِنْ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ، فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ: قِيلَ، اعْلَمْ، فَبَنَى: قِيلَ، لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ضَمِيرُ الْقَوْلِ لَا الْجُمْلَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْبِعًا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ الْمَارِّ، وَيَكُونَ نَزَّلَ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ الْأَجْنَبِيِّ، كَأَنَّهُ قَالَ لِنَفْسِهِ: اعْلَمْ، وَمِنْهُ: وَدِّعْ هُرَيْرَةَ، وَأَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ، وَتَطَاوَلَ لَيْلُكَ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُ نَفْسَهُ، نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ. وَرَوَى الْجَعْبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أُعْلِمْ، أَمْرًا مِنْ أَعْلَمَ، فالفاعل بقال يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَمِيرٌ

يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا شَاهَدَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَعَلَى مَا جَوَّزُوا فِي: اعْلَمْ الْأَمْرُ، مِنْ عَلِمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ الْمَارِّ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، إِذْ كِلَاهُمَا أَتَى بِهَا دَلَالَةً عَلَى الْبَعْثِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِنُمْرُوذَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لَكِنَّ الْمَارَّ عَلَى الْقَرْيَةِ أَرَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَفِي حِمَارِهِ، وإبراهيم أَرَاهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَقُدِّمَتْ آيَةُ الْمَارِّ عَلَى آيَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُقَدَّمًا فِي الزَّمَانِ عَلَى الْمَارِّ، لِأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ تَعَجُّبَ اعْتِبَارٍ فَأَشْبَهَ الْإِنْكَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارًا فَكَانَ أَقْرَبَ إلى قصة النمروذ وإبراهيم، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَارُّ كَافِرًا فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ أَقْوَى ظُهُورٍ. وَأَمَّا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَهِيَ سُؤَالٌ لِكَيْفِيَّةِ إِرَاءَةِ الْإِحْيَاءِ، لِيُشَاهِدَ عِيَانًا مَا كَانَ يَعْلَمُهُ بِالْقَلْبِ، وَأَخْبَرَ بِهِ نُمْرُوذَ. وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، عَلَى مَا قَالُوا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ مَذْكُورٌ وَهُوَ: أَلَمْ تَرَ، الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِذْ قَالَ، وهو مفعول: بتر. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي: إِذْ، قَوْلُهُ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ «1» وَفِي افْتِتَاحِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ، حُسْنُ اسْتِلْطَافٍ وَاسْتِعْطَافٍ لِلسُّؤَالِ، وَلِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ لِنُمْرُوذَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ النَّاظِرُ فِي حَالِهِ، وَالْمُصْلِحُ لِأَمْرِهِ، وَحُذِفَتْ يَاءُ الْإِضَافَةِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى فِي نِدَاءِ الْمُضَافِ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَ: أَرِنِي، سُؤَالُ رغبة، وهو معمول: لقال، والرؤية هنا بصيرية، دَخَلَتْ عَلَى رَأَى هَمْزَةُ النَّقْلِ، فَتَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْآخَرُ الْجُمْلَةُ الاستفهامية. فقوله: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَتُعَلِّقُ الْعَرَبُ رَأَى الْبَصْرِيَّةَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَمَا تَرَى، أَيَّ بَرْقٍ هَاهُنَا. كَمَا عَلَّقَتْ: نَظَرَ، الْبَصْرِيَّةَ. وَقَدْ تَقَرَّرَ. وَعُلِمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا رَذِيلَةٌ إِجْمَاعًا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وإذا كان كذلك، فقد تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فِي حَقِّ مَنْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ هُنَا بِكَلَامٍ ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا، وَنَقُولُ: أَلْفَاظُ الْآيَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى عُرُوضِ شَيْءٍ يَشِينُ الْمُعْتَقِدَ، لِأَنَّ ذَلِكَ سُؤَالُ أَنْ يُرِيَهُ عِيَانًا كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَتَيَقَّنَهُ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نُمْرُوذَ فِي قَوْلِهِ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ، لِمَا فِي مُعَايَنَةِ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ اجْتِمَاعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَلَاشِيَةِ، وَالْأَعْضَاءِ الْمُتَبَدِّدَةِ، وَالصُّوَرِ الْمُضْمَحِلَّةِ، وَاسْتِعْظَامِ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَالسُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ يَقْتَضِي تَيَقُّنَ مَا سَأَلَ عَنْهُ: وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، وَتَقَرُّرُهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا انْطَوَى الضَّمِيرُ عَلَى اعْتِقَادِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَعَانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْقُلُوبَ، فَتَأْوِيلٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالُوا وفي سَبَبِ سُؤَالِهِ أَقْوَالَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَأَى دَابَّةً قَدْ تَوَزَّعَتْهَا السِّبَاعُ وَالْحِيتَانُ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَاشِيَةِ الْبَحْرِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: الْفِكْرُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا قَالَهُ نُمْرُوذُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، أَوِ: التَّجْرِبَةُ لِلْخُلَّةِ مِنَ اللَّهِ إِذْ بَشَّرَ بِهَا، لِأَنَّ الْخَلِيلَ يُدَلُّ بِمَا لَا يُدَلُّ غَيْرُهُ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدٌ عَلَى الرَّبِّ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، كَقَوْلِهِ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» الْمَعْنَى: أَنْتُمْ خَيْرُ، وَقَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَكَذَلِكَ هَذَا مَعْنَاهُ: قَدْ آمَنْتُ بِالْإِحْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. إِيمَانًا مُطْلَقًا دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَالْوَاوُ: وَاوُ حَالٍ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ الْوَاوِ هُنَا لِلْحَالِ غَيْرَ وَاضِحٍ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِلْحَالِ فلابد أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَإِذْ ذَاكَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ عَامِلٍ، فَلَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ دَخَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا وَعَلَى ذِي الْحَالِ، وَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَسَأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ؟ أَيْ: أَسَأَلْتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ؟. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْرِيرَ إِنَّمَا هُوَ مُنْسَحِبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَأَنَّ: الْوَاوَ، لِلْعَطْفِ، كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً «2» وَنَحْوُهُ. وَاعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَتْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَلِذَلِكَ كان الجواب: ببلى، فِي قَوْلِهِ قالَ: بَلى وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ جَوَابَ التَّقْرِيرِ الْمُثْبَتِ، وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ النَّفْيِ، تُجْرِيهِ الْعَرَبُ مَجْرَى جَوَابِ النَّفْيِ الْمَحْضِ، فَتُجِيبُهُ عَلَى صُورَةِ النَّفْيِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَعْنَى الْإِثْبَاتِ، وَهَذَا مِمَّا قَرَّرْنَاهُ، أَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُلْحَظُ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ عِلَّةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّ: الْوَاوَ، لِلْحَالِ لَا يَتَأَتَّى أَنْ يُجَابَ العامل في الحال

_ (1) سورة الشرح: 94/ 1. [.....] (2) سورة العنكبوت: 29/ 67.

بِقَوْلِهِ: بَلَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مُثْبَتٌ مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقِ: بِنَعَمْ، وَفِي غَيْرِ التَّصْدِيقِ: بِلَا، أَمَّا أَنْ يجاب: ببلى، فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: أو لم تُؤْمِنْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ إِيمَانًا؟. قُلْتُ: لِيُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الْجَلِيلَةِ لِلسَّامِعِينَ، وَ: بَلَى، إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، مَعْنَاهُ: بَلَى آمَنْتُ، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، لِيَزِيدَ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً بِمُضَامَّةِ عِلْمِ الضَّرُورَةِ عَلَمُ الِاسْتِدْلَالِ. وَتَظَاهُرُ الْأَدِلَّةِ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَزْيَدُ لِلْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ، وَلِأَنَّ عِلْمَ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَأَرَادَ بِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الْعِلْمَ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلتَّشْكِيكِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ عِلْمُ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ كَمَا قَالَ، بَلْ مِنْهُ مَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ. أَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ صَحِيحَةٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، كَعِلْمِنَا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَبِوَحْدَانِيَّةِ الْمُوجِدِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَطْمَئِنَّ، مَعْنَاهُ: لِيَسْكُنَ عَنْ فِكْرِهِ فِي الشَّيْءِ الْمُعْتَقَدِ، وَالْفِكْرُ فِي صُورَةِ الْإِحْيَاءِ غَيْرُ مَحْظُورٍ، كَمَا لَنَا نَحْنُ الْيَوْمَ أَنْ نُفَكِّرَ فِيهَا، بَلْ هِيَ فِكَرٌ فِيهَا عِبَرٌ، إِذْ حَرَّكَهُ إِلَى ذَلِكَ، إِمَّا أَمْرُ الدَّابَّةِ الْمَأْكُولَةِ، وَإِمَّا قَوْلُ النُّمْرُوذِ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ بَعْدَ لَكِنْ، التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ سَأَلْتُ مُشَاهَدَةَ الْكَيْفِيَّةِ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَيَقْتَضِي تَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرَ مَحْذُوفٍ آخَرَ قَبْلَ لَكِنْ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْرَاكُ، التَّقْدِيرُ: قَالَ: بَلَى أَيْ آمَنْتُ، وَمَا سَأَلْتُ عَنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، وَلَكِنْ سَأَلْتُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. وَرُوِيَ عَنِ: ابْنِ جُبَيْرٍ، وإبراهيم، وَقَتَادَةَ: لِيَزْدَادَ يَقِينًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا زِيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تُمْكِنُ إِلَّا السُّكُونُ عَنِ الْفِكْرِ، وَإِلَّا فَالْيَقِينُ لَا يَتَبَعَّضُ. انْتَهَى. وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ: حَنَّ الْخَلِيلُ إِلَى صُنْعِ خَلِيلِهِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي أَمْرِهِ، فَكَأَنَّهُ قَوَّلَهُ الشَّوْقُ: أَرِنِي، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ تَعَلَّلَ بِرُؤْيَةِ الصُّنْعِ لَهُ تَأَدُّبًا. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ أَنَّهُ قِيلَ: اسْتَجْلَبَ خِطَابًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ لَهُ الحق: أو لم تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَى

آمَنْتُ، وَلَكِنِ اشْتَقْتُ إِلَى قولك: أو لم تؤمن؟ فإني بقولك: أو لم تُؤْمِنْ؟ يَطَمَئِنُّ قَلْبِي وَالْمُحِبُّ أَبَدًا يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَجِدَ خِطَابَ حَبِيبِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ. قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ لَمَّا سَأَلَ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى أَجَابَهُ تَعَالَى لِذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ أَوَّلًا، فَأَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى تَعْيِينَ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ هِيَ مِنَ الطَّيْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُعَيَّنًا، وَمَا ذُكِرَ تَعْيِينُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ، أَيْ أَرْبَعَةً كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، إِذْ لَا كَبِيرَ عِلْمٍ فِي ذِكْرِ التَّعْيِينِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَخَذَ، فَقَالَ ابن عباس: أخذ طاووسا وَنَسْرًا وَدِيكًا وَغُرَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا حَمَامَةً بَدَلَ النَّسْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، فِيمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُبَيْرَةَ عَنْهُ: أَخَذَ حَمَامَةً وَكُرْكِيًّا وديكا وطاووسا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ: أخذ طاووسا وَدِيكًا وَدَجَاجَةً سِنْدِيَّةً وَأَوِزَّةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ مَكَانُ الدَّجَاجَةِ السِّنْدِيَّةِ: الرَّأْلُ، وَهُوَ فَرْخُ النَّعَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَى لَيْثٌ: دِيكٌ وحمامة وبطة وطاووس. وَقَالَ: دِيكٌ وَحَمَامَةٌ وَبَطَّةٌ وَغُرَابٌ. وَزَادَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَصْفًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالَ: دِيكٌ أَحْمَرُ، وَحَمَامَةٌ بَيْضَاءُ، وَبَطَّةٌ خَضْرَاءُ، وَغُرَابٌ أَسْوَدُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: طاووس وَحَمَامَةٌ وَدِيكٌ وَهُدْهُدٌ، وَلَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَكَانَ لَفْظُ الْمَوْتَى جَمْعًا، أُجِيبَ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا مَدْلُولُهُ جَمْعٌ، لَا أَنْ يَأْخُذَ وَاحِدًا. قِيلَ: وَخَصَّ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ إِشَارَةً إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي تَرْكِيبِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَكَانَتْ مِنَ الطَّيْرِ، قِيلَ لِأَنَّ الطَّيْرَ هِمَّتُهُ الطَّيَرَانُ فِي السَّمَاءِ وَالِارْتِفَاعُ، وَالْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَلَكُوتِ، فَجُعِلَتْ مُعْجِزَتُهُ مُشَاكِلَةً لِهِمَّتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَعْيِينِ الْأَرْبَعَةِ بِمَا عُيِّنَ قِيلَ: خُصَّ الطَّاوُوسُ إِشَارَةً إِلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الزِّينَةِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّعِ، وَالنَّسْرُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِالْأَكْلِ وَطُولِ الْأَمَلِ، وَالدِّيكُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِقَضَاءِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، وَالْغُرَابُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الْحَرْصِ وَالطَّلَبِ. وَمَا أَبْدَوْهُ فِي تَخْصِيصِ الْأَرْبَعَةِ وَفِي تَعْيِينِهَا لَا تَكَادُ تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ مُخْتَلِفٌ، وَحِكْمَةُ اخْتِصَاصِ كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ لَهُ مِنْهَا مَغِيبَةٌ عَنَّا. أَلَا تَرَى خَرْقَ الْعَادَةِ لِمُوسَى فِي أَشْيَاءَ، وَلِعِيسَى فِي أَشْيَاءَ غَيْرِهَا، وَلِرَسُولِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ فِي أَشْيَاءَ لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ؟ فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الطَّيْرِ، لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ.

وَأَمَرَهُ بِالْأَخْذِ لِلطُّيُورِ وَهُوَ: إِمْسَاكُهَا بِيَدِهِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِكَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ، وَحَاسَّةِ اللَّمْسِ. وَالطَّيْرُ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا لَا يَعْقِلُ، يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَهُنَا أَتَى مُذَكَّرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ وَجَاءَ عَلَى الْأَفْصَحِ فِي اسْمِ الْجَمْعِ فِي الْعَدَدِ حَيْثُ فُصِلَ: بِمِنْ، فَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الطَّيْرِ يَجُوزُ الْإِضَافَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تِسْعَةُ رَهْطٍ «1» وَنَصَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِاسْمِ الْجَمْعِ فِي الْعَدَدِ نَادِرَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لِمَا لَا يَعْقِلُ مُؤَنَّثٌ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ صَوَابٍ. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أَيْ قَطِّعْهُنَّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: هِيَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَطِّعْهُنَّ. وَأَنْشَدَ لِلْخَنْسَاءِ: فَلَوْ يُلَاقِي الَّذِي لَاقَيْتُهُ حِضْنٌ ... لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهِيَ تَنْصَارُ أَيْ تَتَقَطَّعُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَصِلْهُنَّ، وَعَنْهُ: مَزِّقْهُنَّ وَفَرِّقْهُنَّ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: اجْمَعْهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوْثِقْهُنَّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَقِّقْهُنَّ، بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَمِلْهُنَّ. وَإِذَا كَانَ: فَصُرْهُنَّ، بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ فَتَتَعَلَّقُ إِلَيْكَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ بمعنى التقطيع تعلق بخذ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَيَزِيدُ، وَخَلَفٌ، وَرُوَيْسٌ، بِكَسْرِ الصَّادِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ. وَهُمَا لُغَتَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ: صَارَ يُصَوِّرُ وَيَصِيرُ، بِمَعْنَى أَمَالَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْمٌ: فَصُرُّهُنَّ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا مَنْ صَرَّهُ يَصُرُّهُ وَيَصِرُّهُ، إِذَا جَمَعَهُ، نَحْوَ: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ وَيَضِرُّهُ، وَكَوْنُهُ مُضَاعَفًا مُتَعَدِّيًا جَاءَ عَلَى يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ، وَعَنْهُ: فَصَرِّهُنَّ، بِفَتْحِ الصَّادِّ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا مِنَ التَّصْرِيَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: فَصُرِّهُنَّ إِلَيْكَ، بِضَمِّ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ. وَإِذَا تُؤُوِّلَ: فَصُرْهُنَّ، بِمَعْنَى الْقَطْعِ فَلَا حَذْفَ، أَوْ بِمَعْنَى: الْإِمَالَةِ فَالْحَذْفُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقَطِّعْهُنَّ وَاجْعَلْهُنَّ أَجْزَاءً، وَعَلَى تَفْسِيرِ: فَصُرْهُنَّ بِمَعْنَى أَمِلْهُنَّ وَضُمَّهُنَّ إِلَى

_ (1) سورة النمل: 27/ 48.

نَفْسِكَ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلالها لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً الْعُمُومُ فِي كُلِّ جَبَلٍ مُخَصَّصٍ بِوَصْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: يَلِيكَ، أَوْ: بِحَضْرَتِكَ، دُونَ مُرَاعَاةِ عَدَدٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ رُبْعٍ مِنْ أَرْبَاعِ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَخُصِّصَتِ الْجِبَالُ بِعَدَدِ الْأَجْزَاءِ، فَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ، قَالَه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ، وَقَالَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ: إِنَّهُ الْعُشْرُ، إِذْ كَانَتْ أَشْلَاءُ الطُّيُورِ عَشَرَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ثَلَاثَةً مِمَّا يُشَاهِدُهُ بَصَرُهُ، بِحَيْثُ يَرَى الْأَجْزَاءَ، وَكَيْفَ تَلْتَئِمُ إِذَا دَعَا الطُّيُورَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُزْءًا بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَبِالْهَمْزِ، وَضَمَّ أَبُو بَكْرٍ: الزَّايَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، جُزًّا، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حِينَ حَذَفَ ضَعَّفَ الزَّايَ، كَمَا يَفْعَلُ فِي الْوَقْفِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا فَرْجٌ ثُمَّ أَجْرَى مَجْرَى الْوَقْفِ. وَ: اجْعَلْ، هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: أَلْقِ، فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَيَتَعَلَّقُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ. بِاجْعَلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: صَيَّرَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَكُونُ الثَّانِي عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً أَمَرَهُ بِدُعَائِهِنَّ وَهُنَّ أَمْوَاتٌ، لِيَكُونَ أَعْظَمَ لَهُ فِي الْآيَةِ، وَلِتَكُونَ حَيَاتُهَا مُتَسَبِّبَةً عَنْ دُعَائِهِ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَى دُعَائِهِ إِيَّاهُنَّ إِتْيَانَهُنَّ إِلَيْهِ، وَالسَّعْيُ هُوَ: الْإِسْرَاعُ فِي الشَّيْءِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: لَا يُقَالُ سَعَى الطَّائِرُ، يَعْنِي عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَيُقَالُ: وَتَرْشِيحُهُ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَهُ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ الَّذِي يُوصَفُ بِالسَّعْيِ، وَكَانَ إِتْيَانُهُنَّ مُسْرِعَاتٍ فِي الْمَشْيِ أَبْلَغَ فِي الْآيَةِ، إِذْ إِتْيَانُهُنَّ إِلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ يَمْشِينَ مُسْرِعَاتٍ هُوَ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ لَهُنَّ مِنَ الطَّيَرَانِ، وَلِيُظْهِرَ بِذَلِكَ عِظَمَ الْآيَةِ، إِذْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُنَّ يَأْتِينَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِنَّ مِنَ الطَّيَرَانِ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَجَعَلَ سَيْرَهُنَّ إِلَيْهِ سَعْيًا، إِذْ هُوَ مِشْيَةُ الْمُجِدِّ الرَّاغِبِ فِيمَا يَمْشِي إِلَيْهِ، لِإِظْهَارِ جِدِّهَا فِي قَصْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ.

وَانْتِصَابُ: سَعْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الطُّيُورِ، أَيْ: سَاعِيَاتٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ الْمَعْنَى يَأْتِينَكَ وَأَنْتَ تَسْعَى سَعْيًا. فَعَلَى هَذَا يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، وَكَانَ الْمَعْنَى: يَأْتِينَكَ وَأَنْتَ سَاعٍ إِلَيْهِنَّ، أَيْ يَكُونُ مِنْهُنَّ إِتْيَانٌ إِلَيْكَ، وَمِنْكَ سَعْيٌ إِلَيْهِنَّ، فَتَلْتَقِي بِهِنَّ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقِيلَ: انْتَصَبَ: سَعْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّ السَّعْيَ وَالْإِتْيَانَ مُتَقَارِبَانِ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَخَذَ هَذِهِ الطُّيُورَ وَذَكَاهَا وَقَطَعَهَا قِطَعًا صِغَارًا، وَجَمَعَ ذَلِكَ مَعَ الدَّمِ وَالرِّيشِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ الْمُخْتَلِطِ جُزْءًا عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، وَوَقَفَ هُوَ مِنْ حَيْثُ يَرَى الأجزاء، وأمسك رؤوس الطَّيْرِ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَطَايَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَصَارَ الدَّمُ إِلَى الدَّمِ، وَالرِّيشُ إِلَى الرِّيشِ، حَتَّى الْتَأَمَتْ كما كانت أولا، وبقيت بلا رؤوس، ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاءَ فَجَاءَتْهُ سَعْيًا حَتَّى وُضِعَتْ أَجْسَادُهَا في رؤوسها، وَطَارَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَزَادَ النَّحَاسُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ إِذَا أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِغَيْرِ رَأْسِهِ تَبَاعَدَ الطَّائِرُ، وَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ قَرُبَ مِنْهُ حَتَّى لَقِيَ كُلُّ طَائِرٍ رَأْسَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ذَبَحَهُنَّ وَنَحَزَ أَجَزَاءَهُنَّ فِي المنحاز، يعني الهاون لأرؤسهن، وَجَعَلَ ذَلِكَ الْمُخْتَلِطَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ عَلَى عَشَرَةِ جِبَالٍ، ثُمَّ جَعَلَ مَنَاقِيرَهُنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَ سَعْيًا يَتَطَايَرُ اللَّحْمُ إِلَى اللَّحْمِ، وَالرِّيشُ إِلَى الرِّيشِ، وَالْجِلْدُ إِلَى الْجِلْدِ، بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَطَعَ أَعْضَاءَهَا وَلُحُومَهَا وَرِيشَهَا وَخَلَطَ بعضها ببعص مَعَ دِمَائِهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَقَالَ: لَمَّا طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ مِنَ اللَّهِ، أَرَاهُ مِثَالًا قَرَّبَ بِهِ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، والمراد: بصرهنّ إِلَيْكَ: أَمِلْهُنَّ، وَمُرْ بِهِنَّ عَلَى الْإِجَابَةِ بِحَيْثُ يَصِرْنَ إِذَا دَعَوْتَهُنَّ أَجَبْنَكَ، فَإِذَا صِرْنَ كَذَلِكَ فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ وَاحِدًا مِنْهَا حَالَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا. وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ، وَأَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالتَّقْطِيعِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي: فَصُرْهُنَّ، أَمْلِهُنَّ. وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ، فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى: قَطِّعْهُنَّ، لَمْ يَقُلْ: إِلَيْكَ، وَتَعْلِيقُهُ: بِخُذْ، خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَبِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي: ثُمَّ ادْعُهُنَّ، وَفِي يَأْتِينَكَ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى الْأَجْزَاءِ وَعَوْدُهُ عَلَى الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا دَلِيلَ فِيمَا ذُكِرَ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى التَّقْطِيعِ، وَبِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 266]

بِإِبْرَاهِيمَ، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ. وَبِأَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَا إِرَاءَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَاحْتَجَّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُجِيبَ بِأَنَّ ظَاهِرَ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهنّ جزأ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الطيور جعلت جزأ جزأ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا سُمِّيَ جُزْءًا وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى جَبَلٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ، حَكِيمٌ فِيمَا يُرِيدُ وَيُمَثِّلُ، وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ، لِأَنَّ الْغَلَبَةَ تَكُونُ عَنِ الْعِزَّةِ. وَقِيلَ: عَزِيزٌ مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ يُنْكِرُ بَعْثَ الْأَمْوَاتِ، حَكِيمٌ فِي نَشْرِ الْعِظَامِ الرفاة. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْقِصَصُ الثَّلَاثُ، مِنْ فَصِيحِ الْمُحَاوَرَةِ بِذِكْرِ: قَالَ، سُؤَالًا وَجَوَابًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ، إِذْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّشْرِيكِ بِالْحَرْفِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُشْرِكْ لَمْ يَسْتَقِلْ، فَيُؤْتَى بِحَرْفِ التَّشْرِيكِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَاهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَالْأَحْسَنُ تَرْكُ الْحَرْفِ إِذَا كَانَ أَخَذَ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَمُرَتَّبٌ بَعْضُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 266] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30.

الْحَبَّةُ: اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا يَزْرَعُهُ ابْنُ آدَمَ وَيَقْتَاتُهُ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ الْبُرُّ، وَكَثِيرًا مَا يُرَادُ بِالْحَبِّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ: آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أُطْعَمُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ وَحَبَّةُ الْقَلْبِ سُوَيْدَاؤُهُ، وَالْحِبَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ بُذُورُ الْبَقْلِ مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَالْحُبَّةُ بِالضَّمِّ الْحُبُّ وَالْحُبُّ الْحَبِيبُ. الْإِنْبَاتُ: الْإِخْرَاجُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ. السُّنْبُلَةُ: مَعْرُوفَةٌ، وَوَزْنُهَا فُنْعُلَةٌ، فَالنُّونُ زَائِدَةٌ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ: أَسْبَلَ الزَّرْعُ أَرْسَلَ مَا فِيهِ كَمَا يَنْسَبِلُ الثَّوْبُ، وَحَكَى بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ سَنْبَلَ الزَّرْعَ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا النُّونُ أَصْلِيَّةٌ، وَوَزْنُهُ فَعْلَلَ، لِأَنَّ فَنَعْلَ لَمْ يَثْبُتْ فَيَكُونُ مَعَ أَسْبَلَ كَسِبْطٍ وَسِبَطَرٍ. الْمَنُّ: مَا يُوزَنُ بِهِ، وَالْمَنُّ قَدَرُ الشَّيْءِ وَوَزْنُهُ، وَالْمَنُّ وَالْمِنَّةُ النِّعْمَةُ، مَنَّ عَلَيْهِ أَنْعَمَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمَنَّانُ، وَالْمَنُّ النَّقْصُ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَخْسُ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَنُّ الْمَذْمُومُ، وَهُوَ ذِكْرُ الْمِنَّةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَالِاعْتِدَادِ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، وَأَصْلُ الْمَنِّ الْقَطْعُ، لِأَنَّ الْمُنْعِمَ يَقْطَعُ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ لِمَنْ يُنْعَمُ عَلَيْهِ. الْغَنِيُّ: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ غِنَى وَهُوَ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتُهُ وَيُقَالُ غَنِيٌّ: أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَالْغَانِيَةُ: هِيَ الَّتِي غَنِيَتْ بِحُسْنِهَا عَنِ التَّحَسُّنِ.

الرِّئَاءُ: فِعَالٌ مَصْدَرٌ مِنْ رَاءٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ هَمْزَتِهِ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنْ يَرَى النَّاسَ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْبِرِّ حَتَّى يُثْنُوا عَلَيْهِ وَيُعَظِّمُوهُ بِذَلِكَ لَا نِيَّةَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. الصَّفْوَانُ: الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ، وَتَحْرِيكُ فَائِهِ بِالْفَتْحِ لُغَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ صَفْوَانَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الصَّفْوَانُ وَاحِدُهُ صَفِيٌّ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقَالَ: صُفِيٌّ جَمْعُ صَفَا نَحْوَ: عَصَا وَعُصِيٍّ، وَقَفَا وَقُفِيٍّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: صَفْوَانٌ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُ صفوان بكر الصَّادِ. وَقَالَهُ النَّحَاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكْسُورُ الصَّادِ وَاحِدًا. وَمَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ صَفْوَانٌ جمل لِصَفَا. كَوَرَلٍ وَوِرْلَانِ، وَأَخٍ وَإِخْوَانٍ. وَكَرَى وَكَرَوَانِ. التُّرَابُ: مَعْرُوفٌ وَيُقَالُ فِيهِ تَوْرَابٌ، وَتَرِبَ الرَّجُلُ افْتَقَرَ، وَاتَّرَبَ اسْتَغْنَى، الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ، أَيْ: زَالَ عَنْهُ التُّرْبُ وهو القر، وَإِذَا زَالَ عَنْهُ كَانَ غَنِيًّا. الْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبِلُّ، وَالْأَرْضُ مَوْبُولَةٌ. وَقَالَ النَّضْرُ: أَوَّلُ مَا يَكُونُ الْمَطَرُ رَشًّا، ثُمَّ طَسًّا، ثُمَّ طَلًّا، وَرَذَاذًا، ثُمَّ نَضْحًا وَهُوَ قَطْرَتَيْنِ قَطْرَتَيْنِ، ثُمَّ هَطْلًا وَتَهْتَانًا ثُمَّ وَابِلًا وُجُودًا. والوبيل: الوخيم، والوبيل: العصي الغليظة، والبيلة حُزْمَةُ الْحَطَبِ. الصَّلْدُ: الْأَجْرَدُ الْأَمْلَسُ النَّقِيُّ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ صَلَدَ جَبِينُ الْأَصْلَعِ بَرَقَ. يُقَالُ: صَلَدَ يَصْلُدُ صَلَدًا. بِتَحْرِيكِ اللَّامِ فَهُوَ صَلْدٌ بِالْإِسْكَانِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الصَّلْدُ الْأَجْرَدُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَحَكَى أَبَانُ بْنُ تَغْلِبٍ: أَنَّ الصَّلْدَ هُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الصَّلْدُ، الْخَالِي مِنَ الْخَيْرِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَرَضِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ: قَدْرٌ صَلُودٌ: بَطِيئَةُ الْغَلَيَانِ. الرَّبْوَةُ: قَالَ الْخَلِيلُ: أَرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ، وَيُقَالُ فِيهَا: الرِّبَاوَةُ، وَتُثَلَّثُ الرَّاءُ فِي اللُّغَتَيْنِ، وَيُقَالُ: رَابِيَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَغَيْثٍ من الوسميّ جوّ تِلَاعُهُ ... أَجَابَتْ رَوَابِيهِ النِّجَا وَهَوَاطِلُهُ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَيُخْتَارُ الضَّمُّ فِي رَبْوَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُسْمَعُ فِي الْجَمْعِ إِلَّا الرِّبَا، وَأَصْلُهُ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ زَادَ وَارْتَفَعَ. وَتَفْسِيرُ السُّدِّيِّ بِأَنَّهَا: مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. الطَّلُّ: الْمُسْتَدَقُّ مِنَ الْقَطْرِ الْخَفِيفِ، هَذَا مَشْهُورُ اللُّغَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ: الطَّلُّ النَّدَى، وَهَذَا تَجَوُّزٌ. وَفِي (الصِّحَاحِ) : الطَّلُّ أَضْعَفُ الْمَطَرِ، وَالْجَمْعُ طِلَالٌ، يُقَالُ: طَلَّتِ الْأَرْضُ وهو مَطْلُولٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَمَّا نَزَلْنَا مَنْزِلًا طَلَّهُ النَّدَى وَيُقَالُ أَيْضًا: أَطَلَّهَا النَّدَى، وَالطَّلَّةُ الزَّوْجَةُ. النَّخِيلُ: اسْمُ جَمْعٍ أَوْ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، كَنَخْلٍ اسْمُ الْجِنْسِ، كَمَا قَالُوا كَلْبٌ وَكُلَيْبٌ. قَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْخُولُ الْأَشْجَارِ وَصَفْوُهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَكْرَمُ مَا يَنْبُتُ، لِكَوْنِهِ مُشَبَّهًا لِلْحَيَوَانِ فِي احْتِيَاجِ الْأُنْثَى مِنْهُ إِلَى الْفَحْلِ فِي التَّذْكِيرِ، أَيِ التَّلْقِيحِ، وَأَنَّهُ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهُ لَمْ يُثْمِرْ. الْعِنَبُ: ثَمَرُ الْكَرْمِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَاحِدُهُ عِنَبَةٌ، وَجُمِعَ عَلَى أَعْنَابٍ. وَيُقَالُ: عِنَبَاءُ بِالْمَدِّ غِيرِ مُنْصَرِفٍ عَلَى وَزْنِ سِيَرَاءَ فِي مَعْنَى الْعِنَبِ. الْإِعْصَارُ: رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَرْتَفِعُ فَيَرْتَفِعُ مَعَهَا غُبَارٌ إِلَى السَّمَاءِ يُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ الزَّوْبَعَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الرِّيحُ السَّمُومُ الَّتِي تَقْتُلُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ، وَجَمْعُهَا أَعَاصِيرُ. الِاحْتِرَاقُ: مَعْرُوفٌ وَفِعْلُهُ لَا يَتَعَدَّى، وَمُتَعَدِّيهِ رُبَاعِيٌّ، تَقُولُ: أَحْرَقَتِ النَّارُ الْحَطَبَ وَالْخُبْزَ، وَحَرَقَ نَابُ الرَّجُلِ ثُلَاثِيٌّ لَازِمٌ إِذَا احْتَكَّ بِغَيْرِهِ غَيْظًا، وَمُتَعَدٍّ تَقُولُ: حَرَقَ الرَّجُلُ نَابَهُ، حَكَّهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهُ قَرَأْنَاهُ بِرَفْعِ النَّابِ وَنَصْبِهِ. مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ الْمَارِّ عَلَى قَرْيَةٍ وَقِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى الْبَعْثِ، ذَكَرَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَمَا يَجِدُ جَدْوَاهُ هُنَاكَ. وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَعْقَبَ قِصَّةَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» وَكَمَا أَعْقَبَ قَتْلَ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَقَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا «2» بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ «3» فَكَذَلِكَ أَعْقَبَ هُنَا ذِكْرَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِذِكْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّفَقَةِ فِي سبيل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 245. (2) سورة البقرة: 2/ 253. (3) سورة البقرة: 2/ 254.

اللَّهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا تَظْهَرُ حَقِيقَةً يَوْمَ الْبَعْثِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً «1» وَاسْتِدْعَاءُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُذَكِّرٌ بِالْبَعْثِ، وَخَاضَ عَلَى اعْتِقَادِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُودَهُ لَمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي تَمْثِيلِ النَّفَقَةِ بِالْحَبَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى الْبَعْثِ، وَعَظِيمِ الْقُدْرَةِ، إِذْ حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْهَا سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ، فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعُجَابِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إحياء الموات، ويجامع مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ التَّغْذِيَةِ وَالنُّمُوِّ. وَيُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، وَدَلَائِلَ سحتها، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ، فَبَدَأَ بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَحْصِيلِ الأموال بالوجه الذي جوز شَرْعًا. وَلَمَّا أَجْمَلَ فِي ذِكْرِ التَّضْعِيفِ فِي قَوْلِهِ: أَضْعافاً كَثِيرَةً «2» وَأَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ «3» فَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَيَّدَ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَمَا بَيْنَ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُحْسِنِ التَّكْلِيفَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْمَثَلُ هُنَا الصِّفَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَيْ كَصِفَةِ حَبَّةٍ، وَتَقْدِيرُ زِيَادَةِ الْكَافِ، أَوْ زِيَادَةِ مَثَلٍ. قَوْلٌ بَعِيدٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ فِي تَقْدِيرِ الْحَذْفِ بِقَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «4» فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَذْفُ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: مَثَلُ مُنْفِقِ الَّذِينَ، أَوْ مِنَ الثَّانِي: أَيْ كَمَثَلِ زَارِعٍ، حَتَّى يَصِحَّ التَّشْبِيهُ، أَوْ مِنَ الْأَوَّلِ وَمِنَ الثَّانِي بِاخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ، أَيْ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمُنْفِقُهُمْ. كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَزَارِعُهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ فِي قِصَّةِ الْكَافِرِ وَالنَّاعِقِ، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ. وَهَذَا الْمَثَلُ يَتَضَمَّنُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ مَا هُوَ طَاعَةٌ، وَعَائِدُ نَفْعِهِ عَلَى المسلمين، وأعظمها وأعناها الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بِسَبِيلِ اللَّهِ، هُنَا الْجِهَادُ خَاصَّةً، وَظَاهِرُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يقتضي الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَيَقْتَضِي الْإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَى غَيْرِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةٍ مِنْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَشُبِّهَ الْإِنْفَاقُ بِالزَّرْعِ، لِأَنَّ الزرع لا ينقطع.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 30. (2) سورة البقرة: 2/ 245. (3) سورة البقرة: 2/ 171. (4) سورة البقرة: 2/ 171.

وَأَظْهَرَ تَاءَ التَّأْنِيثِ عِنْدَ السِّينِ: الْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَأَدْغَمَ الْبَاقُونَ. وَلِتُقَارِبِ السِّينِ مِنَ التَّاءِ أُبْدِلَتْ مِنْهَا: النَّاتُ، وَالْأَكْيَاتُ فِي: النَّاسِ، وَالْأَكْيَاسِ. وَنُسِبَ الْإِنْبَاتُ إِلَى الْحَبَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتْ سَبَبًا لِلْإِنْبَاتِ، كَمَا يُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَى الْمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَنْبَتُ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَبَّةَ خَرَجَ مِنْهَا سَاقٌ، تَشَعَّبَ مِنْهَا سَبْعَ شُعَبٍ، فِي كُلِّ شُعْبَةٍ سُنْبُلَةٌ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ تَصْوِيرٌ لِلْأَضْعَافِ كَأَنَّهَا مَاثِلَةٌ بَيْنَ عَيْنَيِ النَّاظِرِ، قَالُوا: وَالْمُمَثَّلُ بِهِ مَوْجُودٌ، شُوهِدَ ذَلِكَ فِي سُنْبُلَةِ الْجَاوَرْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مَوْجُودٌ فِي الدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُبَّمَا فُرِّخَتْ سَاقُ الْبُرَّةِ فِي الْأَرَاضِي الْقَوِيَّةِ الْمُغِلَّةِ، فَبَلَغَ حَبُّهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ لَكَانَ صَحِيحًا فِي سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الدُّخْنِ، عَلَى أَنَّ التَّمْثِيلَ يَصِحُّ بِمَا يُتَصَوَّرُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايَنْ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا تَدُومُ عَلَى عَهْدٍ تَكُونُ بِهِ ... كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَمَا قَالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ: أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَخَصَّ سَبْعًا مِنَ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ كَمَا ذَكَرَ، وَأَقْصَى مَا تُخْرِجُهُ الْحَبَّةُ مِنَ الْأَسْؤُقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوجَدُ فِي سُنْبُلِ الْقَمْحِ مَا فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ فَأَكْثَرُ، وَلَكِنَّ الْمِثَالَ وَقَعَ بِمِائَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الْحَسَنَةَ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ نَفَقَةَ الْجِهَادِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. انْتَهَى مَا ذكره. وقيل: وَاخْتَصَّ هَذَا الْعَدَدَ لِأَنَّ السَّبْعَ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْعَشَرَةِ، وَالسَبْعِينَ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْمِائَةِ، وَسَبْعُ الْمِائَةِ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْأَلْفِ، وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تُرَاعِي هَذِهِ الْأَعْدَادَ. قَالَ تعالى: سَبْعَ سَنابِلَ وسَبْعَ لَيالٍ «1» وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ «2» وسَبْعَ بَقَراتٍ «3» و

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 7. (2) سورة يوسف: 12/ 43 و 46. (3) سورة يوسف: 12/ 43 و 46.

سَبْعَ سَماواتٍ «1» وسَبْعَ سِنِينَ «2» وإِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «3» ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «4» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» ، «إِلَى سَبْعَةِ آلَافٍ» «إِلَى مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إِلَّا اللَّهُ» وَأَتَى التَّمْيِيزُ هُنَا بِالْجَمْعِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْآحَادِ، وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ بِالْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي قَوْلِهِ: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ «5» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ: سَبْعَ سُنْبُلاتٍ عَلَى حَقِّهِ مِنَ التَّمْيِيزِ لِجَمْعِ الْقِلَّةِ، كَمَا قَالَ: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ؟ قُلْتُ: هَذَا لَمَّا قُدِّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «6» مِنْ وُقُوعِ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ مُتَعَاوِرَةٍ مَوَاقِعُهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجُعِلَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، وَوُقُوعِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُمَيَّزَ بِأَقَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّ السَّبْعَ مِنْ أَقَلِّ الْعَدَدِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَنَقُولُ: جَمْعُ السَّلَامَةِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، أَوْ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، لَا يُمَيَّزُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْمُفْرَدِ جَمْعٌ غَيْرُ هَذَا الْجَمْعِ، أَوْ جَاوَرَ مَا أُهْمِلَ فِيهِ هَذَا الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَاوِرُ لَمْ يُهْمَلْ فِيهِ هَذَا الْجَمْعُ. فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبْعَ سَماواتٍ فَلَمْ يَجْمَعْ سَمَاءَ هَذِهِ الْمَظَلَّةِ سِوَى هَذَا الْجَمْعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَّا فَنَصُّوا عَلَى شُذُوذِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَبْعَ بَقَراتٍ وتِسْعَ آياتٍ «7» وخمس صَلَوَاتٍ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ وَالْآيَةَ وَالصَّلَاةَ لَيْسَ لَهَا سِوَى هَذَا الْجَمْعِ، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ لَمَّا عُطِفَ عَلَى: سَبْعَ بَقَراتٍ وَجَاوَرَهُ حَسُنَ فِيهِ جَمْعُهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يَعْطِفْ وَلَمْ يُجَاوِرْ لَكَانَ: سَبْعَ سَنابِلَ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ إِذَا عُرِّيَ عَنِ الْمُجَاوِرِ جَاءَ عَلَى مَفَاعِلَ فِي الْأَكْثَرِ، وَالْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: سَبْعَ طَرائِقَ «8»

_ (1) سورة البقرة: 2/ 29 وفصلت: 41/ 12 والطلاق: 65/ 12 والملك: 67/ 3 ونوح: 71/ 15. [.....] (2) سورة يوسف: 12/ 47. (3) سورة التوبة: 9/ 80. (4) سورة الحاقة: 69/ 32. (5) سورة يوسف: 12/ 43 و 46. (6) سورة البقرة: 2/ 228. (7) سورة الإسراء: 17/ 101 والنمل: 27/ 12. (8) سورة المؤمنون: 23/ 17.

وسَبْعَ لَيالٍ «1» وَلَمْ يَقُلْ: طَرِيقَاتٌ، وَلَا: لَيْلَاتٌ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي جَمْعِ طَرِيقَةٍ وَلَيْلَةٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَشَرَةِ مَساكِينَ «2» ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي جَمْعِهِ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَلَامَةٍ. فَتَقُولُ: مِسْكِينُونَ وَمِسْكِينِينَ، وَقَدْ آثَرُوا مَا لَا يُمَاثِلُ مَفَاعِلَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ عَلَى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُجَاوِرٌ يُقْصَدُ مُشَاكَلَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَمانِيَ حِجَجٍ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِيهِ أَنْ يُجْمَعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، لِأَنَّ مُفْرَدَهُ حَجَّةٌ، فَتَقُولُ: حَجَّاتٌ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ إِذَا كَانَ لِلِاسْمِ جَمْعَانِ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ، وَجَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَجَمْعُ التَّكْسِيرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْكَثْرَةِ أَوْ لِلْقِلَّةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ، أَوْ مِنْ غَيْرِ بَابِ مَفَاعِلَ، إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ أُوثِرَ عَلَى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، فَتَقُولُ: جَاءَنِي ثَلَاثَةُ أَحَامِدَ، وَثَلَاثُ زَيَانِبَ، وَيَجُوزُ التَّصْحِيحُ عَلَى قِلَّةٍ، فَتَقُولُ: جَاءَنِي ثلاثة أحمدين، وَثَلَاثُ زَيْنَبَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ. فَإِمَّا أَنْ يَكْثُرَ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وَغَيْرُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّصْحِيحُ، وَلَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ إِلَّا قَلِيلًا، مِثَالُ، ذَلِكَ: جَاءَنِي ثَلَاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلَاثُ هُنُودٍ، وَعِنْدِي ثَلَاثَةُ أَفْلُسٍ، وَلَا يَجُوزُ: ثَلَاثَةُ زَيْدِينَ، وَلَا: ثَلَاثُ هِنْدَاتٍ، وَلَا: ثَلَاثَةُ فُلُوسٍ، إِلَّا قَلِيلًا. وَإِنْ قَلَّ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وَغَيْرُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ أُوثِرَ التصحيح وجمع الكثرة، مِثَالُ ذَلِكَ: ثَلَاثُ سُعَادَاتٍ، وَثَلَاثَةُ شُسُوعٍ، وَيَجُوزُ عَلَى قِلَّةٍ: ثَلَاثُ سَعَائِدَ، وَثَلَاثَةُ أُشْسُعٍ. وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أن قوله سَبْعَ سَنابِلَ جَاءَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ كَوْنِهِ جَمْعًا مُتَنَاهِيًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: سَبْعَ سُنْبُلاتٍ «3» إِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ مُشَاكَلَةِ: سَبْعَ بَقَراتٍ «4» وَمُجَاوَرَتِهِ، فَلَيْسَ استعذار الزمخشري بصحيح. وفِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ فِي مَوْضِعِ الصفة: لسنابل، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، أو: لسبع، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَتَرْتَفِعُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: مِائَةُ، عَلَى الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْجَارَ قد اعتمد بكونه صفة، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَ: فِي كُلِّ، خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمُفْرَدِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِنْهَا، أَيْ: مِنَ السنابل. وقرىء شَاذًّا: مِائَةَ حَبَّةٍ، بِالنَّصْبِ، وَقُدِّرَ بِأَخْرَجَتْ، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنْبَتَتْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَبَّةِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ من: سَبْعَ سَنابِلَ وَفِيهِ نَظَرٌ، لأنه لا يصح

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 7. (2) سورة القصص: 28/ 27. (3- 4) سورة يوسف: 12/ 43 و 46.

أَنْ يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّ مِائَةُ حَبَّةٍ لَيْسَ نَفْسَ سَبْعَ سَنابِلَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّهُ لَا ضَمِيرَ فِي الْبَدَلِ يَعُودُ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلَيْسَ: مِائَةُ حَبَّةٍ بَعْضًا مِنْ سَبْعَ سَنابِلَ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ لَيْسَ بَعْضًا مِنَ الظَّرْفِ، وَالسُّنْبُلَةُ ظَرْفٌ لِلْحَبِّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ؟ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِعَدَمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ مِنَ الْبَدَلِ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مِائَةِ حَبَّةٍ هُوَ سُنْبُلَةٌ مِنْ سَبْعِ سَنَابِلَ، إِلَّا إِنْ قِيلَ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، والسنبلة مشتمل عليها سَبْعِ سَنَابِلَ، فَالسَّبْعُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حَبِّ السُّنْبُلَةِ، فَإِنْ قَدَّرْتَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا. وَهُوَ: أَنْبَتَتْ حَبَّ سَبْعِ سَنَابِلَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ: مِائَةُ حَبَّةٍ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ عَلَى حَذْفِ: حَبَّ، وَإِقَامَةُ سَبْعَ مَقَامَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِائَةُ حَبَّةٍ الْعَدَدُ الْمَعْرُوفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ حَبٌّ كَثِيرٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُكْثِرُ بِالْمِائَةِ، وَتَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ نَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ «1» . قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الزَّرْعِ مِنْ أَعْلَى الْحَرْفِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا النَّاسُ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الْآيَةَ. وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) . «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً» . وَفِي رواية أخرى. «وما رزىء فَهُوَ صَدَقَةٌ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ» يَعْنِي: الزَّرْعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أُعَالِجُهُ، فَقَالَ: تَتَبَّعْ خَبَايَا الْأَرْضِ وَادْعُ مَلِيكَهَا ... لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ وَتُرْزَقَا وَالزَّرْاعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهَا. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أَيْ هَذَا التَّضْعِيفَ إِذْ لَا تَضْعِيفَ فَوْقَ سَبْعِمِائَةٍ، وَقِيلَ: يُضَاعِفُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ التَّضْعِيفَ يَنْتَهِي لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِتِ الْإِسْنَادِ عَنْهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُضَاعِفُ إِلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ، وَخَرَّجَ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ الْمُسَمَّى (بِالتَّقَاسِيمِ وَالْأَنْوَاعِ) عَنِ ابْنِ عمر

_ (1) سورة البقرة: 2/ 243.

قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» . فَنَزَلَتْ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» وَفِي (سُنَنِ النَّسَائِيِّ) قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ نُزُولَ. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «2» . وَقَوْلُهُ: لِمَنْ يَشاءُ أَيْ: لِمَنْ يَشَاءُ التَّضْعِيفَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَذْفِ، ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ يُضَاعِفُ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةَ لَا لِكُلِّ مُنْفِقٍ، لِتَفَاوُتِ أَحْوَالِ الْمُنْفِقِينَ، أَوْ يُضَاعِفُ سَبْعَ الْمِائَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا أَضْعَافًا لِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: لِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ، فِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ: وَاسْعٌ بِالْعَطَاءِ، عَلِيمٌ بِالنِّيَّةِ. وَقِيلَ: وَاسْعُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُجَازَاةِ، عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ الْمُنْفَقَاتِ وَمَا يُرَتِّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ، وَقِيلَ: فِي عَلِيِّ ، وَقِيلَ: فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ، جَاءَ ابْنُ عَوْفٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِنْدَهُ مِثْلَهَا، وَجَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا، وتصدق برمة رَكِيَّةً كَانَتْ لَهُ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: جَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَبَّهَ تَعَالَى صِفَةَ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِزَارِعِ الْحَبَّةِ الَّتِي أَنْجَبَتْ فِي تَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِ كَكَثْرَةِ مَا أَخْرَجَتِ الْحَبَّةُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَا يُتْبِعُ إِنْفَاقَهُ مَنًّا وَلَا أَذًى، لِأَنَّهُمَا مُبْطِلَانِ لِلصَّدَقَةِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، بَلْ يُرَاعَى جِهَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا جَزاءَ مِنَ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ وَلَا شُكْرًا لَهُ، فَيَكُونُ قَصْدُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا الْتَمَسَ بِإِنْفَاقِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ كَانَ صَاحِبَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَإِنِ الْتَمَسَ الْجَزَاءَ كَانَ تَاجِرًا مُرْبِحًا لَا يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَلَا شُكْرًا. وَالْمَنُّ مِنَ الْكَبَائِرِ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَحَدُ «الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» . وَفِي النَّسَائِيِّ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَانُّ بِمَا أَعْطَى» . وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَمْضِي

_ (1) سورة الزمر: 29/ 10. (2) سورة البقرة: 2/ 245.

فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ يَتْبَعُهَا مَا يُبْطِلُهَا، وَهُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ، أَعْنِي: قَبُولَهَا عَلَى شَرِيطَةٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا مَنًّا وَلَا أَذًى. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يَكُونَانِ مِنَ الْمُنْفِقِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ عَلَى سَبِيلِ التَّجْهِيزِ أَوِ الْإِعَانَةِ فِيهِ، أَمْ كَانَ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُنْفِقُ مُجَاهِدًا أَمْ غَيْرَ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ فِي الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ إِلَى الْجِهَادِ، بَلْ يُنْفِقُونَ وَهُمْ قُعُودٌ. وَالْآيَةُ قَبْلَهَا فِي الَّذِينَ يَخْرُجُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَى الْأَوَّلِينَ. وَالْأَذَى يَشْمَلُ الْمَنَّ وَغَيْرَهُ، وَنُصَّ عَلَى الْمَنِّ وَقُدِّمَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ، فَمِنَ الْمَنِّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَنَعَشْتُكَ، وَشِبْهُهُ. أَوْ يَتَحَدَّثُ بِمَا أَعْطَى، فَيَبَلُغُ ذَلِكَ الْمُعْطَى، فَيُؤْذِيهِ. وَمِنَ الْأَذَى أَنْ يَسُبَّ الْمُعْطَى، أَوْ يَشْتَكِيَ مِنْهُ، أَوْ يَقُولَ: مَا أَشَدَّ إلحاحك، و: خلصنا الله منك، و: أنت أَبَدًا تَجِيئُنِي، أَوْ يُكَلِّفُهُ الْاعْتِرَافَ بِمَا أَسْدَى إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْأَذَى أَنْ يَذْكُرَ إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُحِبُّ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَى مَنْ أَنْفَقْتَ عَلَيْهِ، تُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ لَهُ: امْرَأَةٌ يَا أَبَا أُسَامَةَ؟ دُلَّنِي عَلَى رَجُلٍ يُخْرِجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُخْرِجُونَ الْفَوَاكِهَ، فَإِنَّ عِنْدِي أَسْهُمًا وَجِيعَةً. فَقَالَ لَهَا: لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي أَسْهُمِكِ وَجِيعَتِكِ، فَقَدْ آذَيْتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تُعْطِيَهُمْ. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فأغنى عن إعادته. والَّذِينَ يُنْفِقُونَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ خَبَرٌ، وَلَمْ يُضَمَّنِ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ، وَكَانَ عَدَمُ التَّضْمِينِ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُفَسِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ، وَهُوَ نِسْبَةُ إِنْفَاقِهِمْ بِالْحَبَّةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْأَجْرِ الْكَثِيرِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، كَذَلِكَ أُخْرِجَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ فِيهِمَا مُخْرَجَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ الَّذِي لَا يَكَادُ خَبَرُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيقِ اسْتِحْقَاقٍ بِوُقُوعِ مَا قَبْلَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فَإِنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِتَرَتُّبِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ بِهِ.

وَقِيلَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ولَهُمْ أَجْرُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، أَعَنِي: جُعِلَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، بَلِ الْأَوْلَى إِذَا أُعْرِبَ: الَّذِينَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَنْ يَكُونَ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ، مُسْتَأْنَفًا وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: هَلْ لَهُمْ أَجْرٌ؟ وَعِنْدَ مَنْ أَجْرُهُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وعطف: بثم، الَّتِي تَقْتَضِي الْمُهْلَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَاهِرًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ غَالِبًا الْمَنُّ وَالْأَذَى، بَلْ إِذَا كَانَتْ بِنِيَّةِ غير وجه الله تعالى، لَا يَمُنُّ وَلَا يُؤْذِي على الفور، فذلك دَخَلَتْ: ثُمَّ، مُرَاعَاةً لِلْغَالِبِ. وَإِنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْأَذَى المتعقبين لِلْإِنْفَاقِ، وَالْمُقَارِنَيْنِ لَهُ حُكْمُ الْمُتَأَخِّرَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى: ثُمَّ، إِظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّ تَرْكَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْفَاقِ، كَمَا جَعَلَ الاستقامة عَلَى الْإِيمَانِ خَيْرًا مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا «1» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَ لِلزَّمَخْشَرِيِّ ادِّعَاءُ هَذَا المعنى لثم، وَلَا أَعْلَمَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا قَبْلَ هَذَا مَعَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَ: مَا، مِنْ مَا أَنْفَقُوا مَوْصُولٌ عَائِدُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْفَقُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: إِنْفَاقَهُمْ، وَثُمَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنًّا عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَلَا أَذًى لَهُ، وَبَعْدَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ وَلَا أَذًى مِنْ صِفَةِ الْمُعْطِي، وَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ وَلَا يَمَنُّونَ وَلَا يَتَأَذَّوْنَ بِالْإِنْفَاقِ، وَكَذَلِكَ يَبْعُدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ حَقَّ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْ يُطَيِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَنْ لَا يُعْقِبَهُ الْمَنَّ، وَأَنْ لَا يُشْفِقَ مِنْ فَقْرٍ يَنَالُهُ مِنْ بَعْدُ، بَلْ يَثِقُ بِكِفَايَةِ اللَّهِ وَلَا يَحْزَنُ إِنْ نَالَهُ فَقْرٌ. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً أَيْ: رَدٌّ جَمِيلٌ مِنَ الْمَسْئُولِ، وَعَفُوٌّ مِنَ السَّائِلِ إِذَا وَجَدَ مِنْهُ مَا يَثْقُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ إِلْحَاحٍ أَوْ سب أو تعريض بسبب، كَمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْتَعْطِينَ، وَقِيلَ: مَعْنَى و: مغفرة، أَيْ: نَيْلُ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ الرَّدِّ الْجَمِيلِ. وَقِيلَ: وَمَغْفِرَةٌ، أَيْ عَفْوٌ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا عَذَرَهُ. وَقِيلَ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، هُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّأَسِّي وَالتَّرْجِئَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الدُّعَاءُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ خَيْرٌ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: التَّسْبِيحَاتُ وَالدُّعَاءُ وَالثَّنَاءُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْمَغْفِرَةُ، أَيِ: السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَفُّ عَنْ إِظْهَارِ مَا ارْتَكَبَ مِنَ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 30 والأحقاف: 46/ 13. [.....]

الْمَآثِمِ خَيْرٌ، أَيْ: أَخْفُ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْغُفْرَانَ لِتَقْصِيرٍ فِي عَطَاءٍ وَسَدِّ خَلَّةٍ، وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ هُنَا سَتْرُ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَسُوءِ حَالِهِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ، لِأَعْرَابِيٍّ سأل بِكَلَامٍ فَصِيحٍ، مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ اللَّهُمَّ غُفْرًا سُوءُ الِاكْتِسَابِ يُمْنَعُ مِنِ الِانْتِسَابِ، وَقِيلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَلَى السَّائِلِ سُؤَالَهُ وَبَذْلَ وَجْهِهِ لَهُ وَلَا يَفْضَحُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ أَنْ تَحُثَّ غَيْرَكَ عَلَى إِعْطَائِهِ. وهذا كله على أن يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ الْمَسْئُولِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا، وَفِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْمُتَصَدِّقِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلسَّائِلِ، وَهُوَ حَثٌّ لَهُ عَلَى إِجْمَالِ الطَّلَبِ، أَيْ يَقُولُ قَوْلًا حَسَنًا مِنْ تَعْرِيضٍ بِالسُّؤَالِ أَوْ إِظْهَارٍ لِلْغِنَى حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ، ويكسب خير مِنْ مِثَالِ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، وَاشْتَرَكَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَغْفِرَةُ مَعَ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَذًى فِي مُطْلَقِ الْخَيْرِيَّةِ، وَهُوَ: النَّفْعُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ النَّفْعِ، فَنَفْعُ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَغْفِرَةِ بَاقٍ، وَنَفْعُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرِيَّةُ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْعُكَ لِلنَّدَى بِجَمِيلِ قَوْلٍ ... أَحَبُّ إليّ من بذل ومنّه وَقَالَ آخَرُ فَأَجَادَ: إِنْ لَمْ تَكُنْ وَرَقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا ... لِلْمُعْتَفِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي ... إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِ وَارْتِفَاعُ: قَوْلٌ، عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ وَصْفُهَا، وَمَغْفِرَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَمُسَوِّغُ جَوَازِ الْابْتِدَاءِ بِهِ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الْمَسْئُولِ، أَوْ: مِنَ السَّائِلِ. أَوْ: مِنَ اللَّهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ عَنْهُمَا. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: هُمَا جُمْلَتَانِ، وَخَبَرُ: قَوْلٌ، مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَوْلَى وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هذا ذهاب ترويق الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُقَدَّرُ كَالظَّاهِرِ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ حَسَنٌ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْمَأْمُورُ بِهِ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمَنِّ فِي قَوْلِهِ: يَتْبَعُهَا، لِأَنَّ الْأَذَى يَشْمَلُ الْمَنَّ وَغَيْرَهُ كَمَا قُلْنَا. وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ أَيْ غَنِيٌّ عَنِ الصَّدَقَةِ، حَلِيمٌ بِتَأَخُّرِ الْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: غَنِيٌّ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى مُنْفِقٍ يَمُنُّ وَيُؤْذِي، حَلِيمٌ عَنْ مُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ. وَهَذَا سُخْطٌ مِنْهُ وَوَعِيدٌ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَمَّا شَرَطَ فِي الْإِنْفَاقِ أَنْ لَا يُتْبَعَ مَنًّا وَلَا أَذًى، لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُبْطِلًا لِلصَّدَقَةِ، وَنَهَى عَنِ الْإِبْطَالِ بِهِمَا لِيُقَوِّيَ اجْتِنَابَ الْمُؤْمِنِ لَهُمَا، وَلِذَلِكَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مَرَّتَيْنِ، أَعَادَهُمَا هُنَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِلصَّدَقَةِ، وَمَعْنَى إِبْطَالِهِمَا أَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ. وَالسُّدِّيُّ يَعْتَقِدُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الصَّدَقَةُ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ يَمُنُّ وَيُؤْذِي لَا تَتَقَبَّلُ، وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ عَلَيْهَا أَمَارَةً، فَهُوَ لَا يَكْتُبُهَا إِذْ نِيَّتُهُ لَمْ تَكُنْ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أَيْ: لَا تَأْتُوا بِهَذَا الْعَمَلِ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ أُتِيَ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْبُطْلَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: مَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ وَقَعَتْ وَتَقَدَّمَتْ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُبْطَلَ. فَالْمُرَادُ إِذَنْ إِبْطَالُ أَجْرِهَا، لِأَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يُحَصَّلْ بَعْدُ، وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، فَيَصِيرُ إِبْطَالُهُ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْمَعْنَيَانِ تَحْمِلُهُمَا الْآيَةُ، وَلِتَعْظِيمِ قُبْحِ الْمَنِّ أَعَادَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي مَعَارِضِ الْكَلَامِ، فَأَثْنَى عَلَى تَارِكِهِ أَوَّلًا وَفَضَّلَ الْمَنْعَ عَلَى عَطِيَّةٍ يَتْبَعُهَا الْمَنُّ ثَانِيًا. وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا ثَالِثًا، وَخَصَّ الصَّدَقَةَ بِالنَّهْيِ إِذْ كَانَ الْمَنُّ فِيهَا أَعْظَمَ وَأَشْنَعَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْمَنِّ، مَعْنَاهُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْمَنِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ صدقته، والأذى للسائل. و: الكاف، قِيلَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إِبْطَالًا، كَإِبْطَالِ صَدَقَةِ الَّذِي يُنْفِقُ، وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: لَا تُبْطِلُوا مُشَبَّهِينَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ بالرياء. وفي هذا المنافق قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمُنَافِقُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ يُنْفِقُ لِلسُّمْعَةِ وَلِيُقَالَ إِنَّهُ سَخِيٌّ كَرِيمٌ، هَذِهِ نِيَّتُهُ، لَا يُنْفِقُ لِرِضَا اللَّهِ وَطَلَبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ الْمُجَاهِرُ، وَذَلِكَ بِإِنْفَاقِهِ لِقَوْلِ النَّاسِ: مَا أَكْرَمَهُ وَأَفْضَلَهُ! وَلَا يُرِيدُ بِإِنْفَاقِهِ إِلَّا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَرَجَّحَ مَكِّيٌّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهِ الرِّيَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُنَافِقِ السَّاتِرِ لِكُفْرِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ رِيَاءٌ لِأَنَّهُ مُنَاصِبٌ لِلدِّينِ مُجَاهِرٌ بِكُفْرِهِ.

وَانْتِصَابُ رِئَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: رِيَاءَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَاصِمٍ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً هَذَا تَشْبِيهٌ ثَانٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَمَثَلُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلِإِفْرَادِهِ ضَرَبَ اللَّهُ لِهَذَا الْمُنَافِقِ الْمُرَائِي، أَوِ الْكَافِرِ الْمُبَاهِي، الْمَثَلَ بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ، يَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ، فَيَبْقَى صَلْدًا مُنْكَشِفًا، وَأَخْلَفَ مَا ظَنَّهُ الظَّانُّ، كَذَلِكَ هَذَا الْمُنَافِقُ يَرَى النَّاسُ أَنَّ لَهُ أَعْمَالًا كَمَا يُرَى التُّرَابُ عَلَى هَذَا الصَّفْوَانِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ اضْمَحَلَّتْ وَبَطَلَتْ، كَمَا أَذْهَبَ الْوَابِلُ مَا كَانَ عَلَى الصَّفْوَانِ مِنَ التُّرَابِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَمَثَلُهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَانِّ الْمُؤْذِي، وَأَنَّهُ شُبِّهَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَالثَّانِي: بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ، وَيَكُونُ قَدْ عَدَلَ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَمِنْ جَمْعٍ إِلَى إِفْرَادٍ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: ذَكَرَ تَعَالَى لِكَيْفِيَّةِ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى مَثَلَيْنِ، فَمَثَّلَهُ أَوَّلًا بِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ نَفَقَةِ هَذَا الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ أَجْرِ صَدَقَةِ مَنْ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى. ثُمَّ مَثَّلَهُ ثَانِيًا بِالصَّفْوَانِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَغُبَارٌ. ثُمَّ إِذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ الْقَوِيُّ فَيُزِيلُ ذَلِكَ الْغُبَارَ عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَا عَلَيْهِ تُرَابٌ وَلَا غُبَارٌ أَصْلًا، قَالَ: فَكَمَا أَنَّ الْوَابِلَ أَزَالَ التُّرَابَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَكَذَا الْمَنُّ وَالْأَذَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُبْطِلَيْنِ لِأَجْرِ الْإِنْفَاقِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْقَوْلِ فِي الْإِحَاطَةِ وَالتَّكْفِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ فِي الْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً ثُمَّ بَطَلَتْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تُوقِعُوهَا بَاطِلَةً، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّشْبِيهُ بِقَوْلِهِ: كَالَّذِي يُنْفِقُ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَقَعَتْ بَاطِلَةً لِمُقَارَنَةِ الْكُفْرِ لَهَا، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهَا صَحِيحَةً فِي الْوُجُودِ. وَأَمَّا التَّمْثِيلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ عِنْدَ عَبْدِ الجيار وَأَصْحَابِهِ، جَعَلَ الْوَابِلَ مُزِيلًا لِذَلِكَ التُّرَابِ بَعْدَ كَيْنُونَتِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْمَنُّ وَالْأَذَى مُزِيلَانِ لِلْأَجْرِ بَعْدَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالتُّرَابِ الْوَاقِعَ عَلَى الصَّفْوَانِ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالنِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَوْلَاهَا

لَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا حُصُولُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. قِيلَ: والحمل عى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، لِأَنَّ التُّرَابَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا بِهِ، وَلَا غَائِصًا فِيهِ، فَهُوَ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ مُتَّصِلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُنْفَصِلٌ. فَكَذَا الْإِنْفَاقُ الْمَقْرُونُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، يُرَى فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا تُبْطِلُوا أُجُورَ صَدَقَاتِكُمْ، أَوْ: لَا تُبْطِلُوا أَصْلَ صَدَقَاتِكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيُّ: صَفَوَانَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قِيلَ: وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْأَسْمَاعِ. إِنَّمَا بَابُهُ الْمَصَادِرُ: كالغليان والتروان، وَفِي الصِّفَاتِ نَحْوُ: رَجُلٍ صيمان، وَتَيْسٍ عُدْوَانَ. وَارْتَفَعَ تُرَابٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيِ: اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ. وَ: فَأَصَابَهُ، مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِلتُّرَابِ، وَالضَّمِيرُ فِي: فَأَصَابَهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّفْوَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى التُّرَابِ، وَفِي: فَتَرَكَهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّفْوَانِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جُعِلَ فِيهَا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ: كَالتُّرَابِ، وَالْمَانُّ الْمُؤْذِي، أَوِ الْمُنَافِقُ كَالصَّفْوَانِ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ كَالْوَابِلِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: الْمَنُّ وَالْأَذَى كَالْوَابِلِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ذَخَائِرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ عَمِلَ بِإِخْلَاصٍ فَكَأَنَّهُ طَرَحَ بَذْرًا فِي أَرْضٍ طَيِّبَةٍ، فَهُوَ يَتَضَاعَفُ لَهُ وَيَنْمُو، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي ذَلِكَ بِجَنَّةٍ فَوْقَ رَبْوَةٍ؟ فَهُوَ يَجِدُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَانُّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقُ، فَكَمَنَ بَذَرَ فِي الصَّفْوَانِ لَا يَقْبَلُ بَذْرًا وَلَا يَنْمُو فِيهِ شَيْءٌ، عَلَيْهِ غُبَارٌ قَلِيلٌ أَصَابَهُ جُودٌ فَبَقِيَ مُسْتَوْدَعَ بَذْرٍ خَالِيًا، فَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الزَّرْعِ لَا يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا. انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِهِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ انْطَوَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى بَذْرٍ وَزَرْعٍ. لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا اخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي: يَقْدِرُونَ، فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ رُجُوعٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَسَبْتُمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى كَالَّذِي يُنْفِقُ لِأَنَّ: كَالَّذِي جِنْسٌ، فَلَكَ أَنْ تُرَاعِيَ لَفْظَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ، وَلَكَ أَنْ تُرَاعِيَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَمْعٌ، وَصَارَ هَذَا كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ «1» ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «2» .

_ (1- 2) سورة الْبَقَرَةِ: 2/ 17.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ انْحَمَلَ الْكَلَامُ قَبْلُ عَلَى لَفْظِ: الَّذِي، وَهَذَا هُوَ مَهْيَعُ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَوِ انْحَمَلَ أَوَّلًا عَلَى الْمَعْنَى لَقَبُحَ بَعْدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى تَفْصِيلٌ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورِ الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْبَذْرِ الْمُلْقَى فِي ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي على بالصفوان، لِأَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ التُّرَابُ وَزَالَ مَا كَانَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْمَانُّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقُ، لَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَوِ الْمُنَافِقِ، أَوْ عَلَى الْمَانِّ، أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِ شَيْءٍ مِنْ إِنْفَاقِهِمْ، وَهُوَ كَسْبُهُمْ، عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَبَّرُوا عَنِ النَّفَقَةِ بِالْكَسْبِ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا الْكَسْبَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» وَقَوْلِهِ: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «2» الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ «3» وَيَكْفِي مِنْ ذِكْرِ الْعَمَلِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ: الْمُسْتَشْهَدُ وَالْعَالِمُ وَالْجَوَّادُ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يَعْنِي الْمُوَافِقِينَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا يَهْدِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ مَحْضٌ. أَوْ: لَا يَهْدِيهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِي هَذَا تَرَجُّحٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ عَائِدٌ عَلَى الْكَافِرِ. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ لَمَّا ضَرَبَ مَثَلَ: مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، ذَكَرَ ضِدَّهُ بِتَمْثِيلٍ مَحْسُوسٍ لِلذِّهْنِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَ السَّامِعُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ. وَلَمَّا وَصَفَ صَاحِبَ النَّفَقَةِ بِوَصْفَيْنِ، قَابَلَ ذَلِكَ هُنَا بوصفين، فقوله: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: رِئاءَ النَّاسِ وَقَوْلُهُ: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ مَا يُفْسِدُهُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ يَقِينٍ بِالْآخِرَةِ. وَالتَّقَادِيرُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ جَارِيَةٌ هُنَا، أَيْ: وَمَثَلُ الْمُنَافِقِينَ كمثل

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 23. (2) سورة إبراهيم: 14/ 18. (3) سورة النور: 24/ 39.

غَارِسٍ حَبَّةٍ، أَوْ: مَثَلُ نَفَقَتِهِمْ كَحَبَّةٍ، أَوْ: مَثَلُ الْمُنْفِقِينَ وَنَفَقَتِهِمْ كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَغَارِسِهَا. وَجَوَّزُوا فِي: ابْتِغَاءَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَيْ: مُبْتَغِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ: وَتَثْبِيتًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاءَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، لِعَطْفِ، وَتَثْبِيتًا عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي: وَتَثْبِيتًا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ التَّثْبِيتِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي (الْمُشْكَلِ) : كِلَاهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَثْبِيِتٌ، مَصْدَرُ: ثَبَتَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ الثواب من الله تعالى، أَيْ: وَتَثْبِيتًا وَتَحْصِيلًا مِنْ أَنْفُسِهِمُ الثَّوَابُ عَلَى تِلْكَ النَّفَقَةِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ تَثْبِيِتُ الثَّوَابِ وَتَحْصِيلُهُ مِنَ اللَّهِ حَامِلًا عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ قَدَّرَ الْمَفْعُولَ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْ: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَعْمَالُهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ: مِنْ، بِمَعْنَى: اللَّامُ، أَيْ: لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ كَسْرًا مِنْ شَهْوَتِي، أَيْ: لِشَهْوَتِي، فَلَا يَتَّضِحُ فِيهِ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ وَتَيَقُّنًا، أَيْ: أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَهَا بَصَائِرُ مُتَأَكِّدَةٌ، فَهِيَ تُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَيُؤَكِّدُهُ قراءة من قرأ: أو تبيينا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: وَاحْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ، وَالْكَلْبِيُّ: وَتَصْدِيقًا، أَيْ: يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ: تَحْقِيقًا فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِخْلَاصًا وَتَوْطِيدًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمُقِرِّينَ حِينَ يُنْفِقُونَ أَنَّهَا مِمَّا يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا: عَزْمًا. وَقَالَ يَمَانٌ أَيْضًا: بَصِيرَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ، أَيْ يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ يَتَثَبَّتُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَطَهُ شَكٌّ أَمْسَكَ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمِصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَتَثْبِيتًا. بِمَعْنَى: تَثَبُّتًا، فَيَكُونُ لَازِمًا. قَالَ: وَالْمَصَادِرُ قَدْ تَخْتَلِفُ، وَيَقَعُ بَعْضُهَا مَوْقِعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «1» أَيْ تَبَتُّلًا وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَصْدَرِ نَحْوَ الْآيَةِ، أَمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ بِنَائِهِ عَلَى فِعْلٍ مَذْكُورٍ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ الَّذِي لَهُ في الأصل،

_ (1) سورة المزمل: 73/ 8.

تَقُولُ: إِنْ ثَبَتَ فِعْلٌ لَازِمٌ مَعْنَاهُ: تَمَكَّنَ، وَرَسَخَ، وَتَحَقَّقَ. وَثَبَتَ مُعَدًّى بِالتَّضْعِيفِ، وَمَعْنَاهُ: مَكَّنَ، وَحَقَّقَ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ يُخَاطِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ عِيسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُمْ يَثْبُتُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذَا الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ إِخْرَاجُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ عَدِيلُ الرُّوحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ رِضًا، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ لِتَثْبِيتِ النَّفْسِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا تَرْجُو مِنَ اللَّهِ بِهَذَا الْعَمَلِ الصَّعْبِ، لِأَنَّهَا إِذَا ثَبَتَتْ عَلَى الْأَمْرِ الصَّعْبِ انْقَادَتْ وَذَلَّتْ لَهُ. وَإِذَا كَانَ التَّثْبِيتُ مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ كَانَتْ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ الْمَصْدَرِ، وَتَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، مِثْلُهَا فِي: هَزَّ مِنْ عطفه، و: حرك مِنْ نَشَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّثْبِيتُ مُسْنَدًا فِي الْمَعْنَى إِلَى أَنْفُسِهِمْ كَانَتْ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْضًا صِفَةً لِلْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى التَّبْعِيضِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ بَذَلَ مَالَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَّتَ بَعْضَ نَفْسِهِ، وَمَنْ بَذَلَ مَالَهُ وَرُوحَهُ مَعًا فَهُوَ الَّذِي ثَبَّتَهَا كُلَّهَا وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ «1» انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الَّتِي تُثَبِّتُهُ وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَيْسَ لَهُ مُحَرِّكٌ إِلَّا هِيَ، لِمَا اعْتَقَدَتْهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، فَهِيَ الْبَاعِثَةُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُثَبِّتَةُ لَهُ بِحُسْنِ إِيمَانِهَا وَجَلِيلِ اعْتِقَادِهَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ كَمَثَلِ حَبَّةٍ بِالْحَاءِ وَالْبَاءُ فِي: بِرَبْوَةٍ، ظَرْفِيَّةٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَخَصَّ الرَّبْوَةَ لِحُسْنِ شَجَرِهَا وَزَكَاءِ ثَمَرِهَا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَرَفَّعَتْ عَنْ نَدَى الْأَعْمَاقِ وَانْخَفَضَتْ ... عَنِ الْمَعَاطِشِ وَاسْتَغْنَتْ بِسُقْيَاهَا فَمَالَ بِالْخَوْخِ وَالرُّمَّانِ أَسْفَلَهَا ... وَاعْتَمَّ بِالنَّخْلِ وَالزَّيْتُونِ أَعْلَاهَا وتفسير ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ، بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ الَّذِي لَا يَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ، إِنَّمَا يُرِيدُ المذكورة هنا لِقَوْلِهِ: أَصابَها وابِلٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ جَارٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ جِنْسَ الرَّبْوَةِ لَا يجري

_ (1) سورة الصف: 61/ 11.

فِيهَا مَاءٌ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ «1» وَخُصَّتْ بِأَنَّ سُقْيَاهَا الْوَابِلُ لَا الْمَاءُ الْجَارِي فِيهَا عَلَى عَادَةِ بِلَادِ الْعَرَبِ بِمَا يُحِسُّونَهُ كَثِيرًا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ: الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: الْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ فِي رَبْوَةٍ كَانَ أَحْسَنَ، وَأَكْثَرَ رِيعًا، وَفِيهِ لِي إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَلَا تَرْتَفِعُ إِلَيْهِ الْأَنْهَارُ، وَتَضْرِبُهُ الرِّيَاحُ كَثِيرًا، فَلَا يُحْسَنُ رِيعُهُ. وَإِذَا كَانَ فِي وَهْدَةٍ انْصَبَّتْ إِلَيْهِ الْمِيَاهُ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ آثَارُ الرِّيَاحِ، فَلَا يُحْسَنُ أَيْضًا رِيعُهُ، وَإِنَّمَا يُحْسَنُ رِيعُهُ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالرَّبْوَةِ لَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَوْنُ الْأَرْضِ طَيِّبَةً بِحَيْثُ إِذَا نُظِرَ نُزُولُ الْمَطَرِ عَلَيْهَا انْتَفَخَتْ وَرَبَتْ، فَيَكْثُرُ رِيعُهَا، وَتَكْمُلُ الْأَشْجَارُ فِيهَا. وَيُؤَيِّدُهُ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً «2» الْآيَةَ. وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ، وَهُوَ: الصَّفْوَانُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَمَا قَالَهُ قَالَهُ قَبْلَهُ الْحَسَنُ. الرَّبْوَةُ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي لَا تَعْلُو فَوْقَ الْمَاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي رِيَاضِ الْحَزْنِ: مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا وَابِلٌ هَطِلُ وَلَا يُرَادُ: بِرِيَاضِ الْحَزْنِ، رِيَاضُ الرُّبَا، كَمَا زَعَمَ الطَّبَرِيُّ، بَلْ: رِيَاضُ الْحَزْنِ هِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى نَجْدٍ، وَنَجْدٌ يُقَالُ لَهَا: الْحَزْنُ، وَإِنَّمَا نُسِبَتِ الرَّوْضَةُ إِلَى الْحَزْنِ وَهُوَ نَجْدٌ، لِأَنَّ نَبَاتَهُ أَعْطَرُ، وَنَسِيمَهُ أَبْرَدُ، وَأَرَقُّ. فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ رِيَاضِ تِهَامَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ. وَكَذَلِكَ خِلَافُهُمْ فِي قَدْ أَفْلَحَ «3» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: بِرَبَاوَةٍ، عَلَى وَزْنِ: كَرَاهَةٍ. وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ: بِرِبَاوَةٍ، عَلَى وَزْنِ رِسَالَةٍ. أَصابَها وابِلٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لجنة، وبدىء بِالْوَصْفِ بِالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَا الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وبدىء بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ، وَهُوَ: كَوْنُهَا بِرَبْوَةٍ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِ، وَهُوَ أَصابَها وابِلٌ وَجَاءَ فِي وَصْفِ صَفْوَانَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَهُنَا لَمْ يُعْطَفْ، بَلْ أُخْرِجَ صِفَةً، وَيُنْظُرُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 50. (2) سورة الحج: 22/ 5. (3) سورة طه: 20/ 64 والمؤمنون: 23/ 1 والأعلى: 87/ 14 والشمس: 91/ 9.

الْمَوْضِعَيْنِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ: أَصابَها وابِلٌ حَالًا مِنْ جَنَّةٍ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَقَدْ وُصِفَتْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ آتَتْ بِمَعْنَى: أَعْطَتْ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَآتَتْ صَاحِبَهَا، أَوْ: أَهْلَهَا أُكُلَهَا. كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ كَمَثَلِ جَنَّةٍ أَيْ: صَاحِبِ أَوْ: غَارِسِ جَنَّةٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا يُثْمِرُ لَا لِمَنْ تُثْمِرُ، إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ، وَنَصْبُ: ضِعْفَيْنِ، عَلَى الْحَالِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ: ضِعْفَيْنِ، مَفْعُولٌ ثَانٍ: لِآتَتْ، فَهُوَ سَاهٍ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ آتَتْ بِمَعْنَى أَخْرَجَتْ، وَأَنَّهَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، إِذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَنِسْبَةُ الْإِيتَاءِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، وَالْأُكُلُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ الشَّيْءُ الْمَأْكُولُ، وَأُرِيدَ هُنَا الثَّمَرُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، كَسَرْجِ الدَّابَّةِ، إِذْ لَيْسَ الثَّمَرُ مِمَّا تَمْلِكُهُ الْجَنَّةُ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَإِسْكَانِ الْكَافِ، وَكَذَا كُلُّ مُضَافٍ إِلَى مُؤَنَّثٍ. وَنَقَلَ أَبُو عَمْرٍو فِيمَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مَكْنِيٍّ، أَوْ إِلَى مَكْنِيٍّ مُذَكَّرٍ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ. وَمَعْنَى: ضِعْفَيْنِ: مِثْلَا مَا كَانَتْ تُثْمِرُ بِسَبَبِ الْوَابِلِ، وَبِكَوْنِهِ فِي رَبْوَةٍ، لِأَنَّ رِيعَ الرُّبَا أَكْثَرُ، وَمِنَ السَّيْلِ وَالْبَرْدِ أَبْعَدُ، وَقِيلَ: ضِعْفَيْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَرَضِينَ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلَاهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهَا، قَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ. وَلَيْسَ لِهَذَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ، وَإِيتَاءُ الضِّعْفَيْنِ هُوَ فِي حَمْلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ: مَعْنَى ضِعْفَيْنِ أَنَّهَا حَمَلَتْ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ضِعْفَيْنِ، مِمَّا لَا يُزَادُ بِهِ شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّكْثِيرُ. وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ، ضِعْفًا بَعْدَ ضِعْفٍ أَيْ: أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّشْبِيهِ لِلنَّفَقَةِ بِالْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْحَسَنَةَ لَا يَكُونُ لَهَا ثَوَابُ حَسَنَتَيْنِ، بَلْ جَاءَ تُضَاعَفُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا، وَسَبْعَ مِائَةٍ وَأَزِيدُ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ قَالَ ابْنُ عِيسَى: فِيهِ إِضْمَارٌ، التَّقْدِيرُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُصِيبُهَا وَابِلٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أَيْ: لَمْ تَكُنْ تَلِدْنِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّلَّ يَكْفِيهَا وَيَنُوبُ مَنَابَ الْوَابِلِ فِي إِخْرَاجِ

الثَّمَرَةِ ضِعْفَيْنِ، وَذَلِكَ أَكْرَمُ الْأَرْضِ وَطَيِّبُهَا، فَلَا تَنْقُصُ ثَمَرَتُهَا بِنُقْصَانِ الْمَطَرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَيَتَضَاعَفُ ثَمَرُهَا، وَأَصَابَهَا طَلٌّ فَأَخْرَجَتْ دُونَ مَا تُخْرِجُهُ بِالْوَابِلِ، فَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تُثْمِرَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: زَرْعُ الطَّلِّ أَضْعَفُ مِنْ زَرْعِ الْمَطَرِ وَأَقَلُّ رِيعًا، وَفِيهِ: وَإِنْ قَلَّ تَمَاسُكٌ وَنَفْعٌ. انْتَهَى. وَدَعْوَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ، عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى أَصَابَهَا وَابِلٌ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ حَتَّى يُجْعَلَ إِيتَاؤُهَا الْأُكُلَ ضِعْفَيْنِ عَلَى الْحَالَيْنِ مِنَ الْوَابِلِ وَالطَّلِّ، لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشِّعْرِ، فَيُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمَضْرُوبُ بِهِ الْمَثَلَ أَرْضُ مِصْرَ، إِنْ لَمْ يُصِبْهَا مَطَرٌ زَكَتْ، وَإِنْ أَصَابَهَا مَطَرٌ أَضْعَفَتْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثَّلَ حَالَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ عَلَى الرَّبْوَةِ، وَنَفَقَتَهَمُ الْكَثِيرَةَ وَالْقَلِيلَةَ بِالْوَابِلِ وَالطَّلِّ، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَطَرَيْنِ يُضَعِّفُ أُكُلَ الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُمْ كَثِيرَةً، كَانَتْ أَوْ قَلِيلَةً، بَعْدَ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَيُبْذَلَ فِيهَا الْوُسْعُ، زَاكِيَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، زَائِدَةٌ فِي زُلْفَاهُمْ وَحُسْنِ حَالِهِمْ عِنْدَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: أَرَادَ بِضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ كَثِيرَ الْبِرِّ مِثْلُ زَرْعِ الْمَطَرِ، كَثِيرِ النَّفْعِ، وَقَلِيلَ الْبِرِّ مِثْلُ زَرْعِ الطَّلِّ، قَلِيلِ النَّفْعِ. فَلَا يَدَعُ قَلِيلَ الْبِرِّ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَثِيرَهُ، كَمَا لَا يَدَعُ زَرْعَ الطَّلِّ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى زَرْعِ الْمَطَرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: شَبَّهَ نُمُوَّ نَفَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُرَبِّي اللَّهُ صَدَقَاتِهِمْ كَتَرْبِيَةِ الْفَصِيلِ وَالْفَلُوِّ، بِنُمُوِّ نَبَاتِ هَذِهِ الْجَنَّةِ بِالرَّبْوَةِ الْمَوْصُوفَةِ، بِخِلَافِ الصَّفْوَانِ الَّذِي انْكَشَفَ عَنْهُ تُرَابُهُ فَبَقِيَ صَلْدًا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْجَنَّةِ لَا يَخِيبُ فَإِنَّهَا إِنْ أَصَابَهَا الطَّلُّ حَسُنَتْ، وَإِنْ أَصَابَهَا الْوَابِلُ أَضْعَفَتْ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: فَطَلٌّ، جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ بِحَيْثُ تَصِيرُ جُمْلَةً، فَقَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: فَطَلٌّ يُصِيبُهَا، وَابْتُدِئْ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَذَكَرَ بعضهم أن هذا من مُسَوِّغَاتِ جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ

فِي الْمَثَلِ: إِنْ ذَهَبَ عِيرٌ فَعِيرٌ فِي الرِّبَاطِ. وَقَدَّرَهُ غَيْرُ الْمُبَرِّدِ: خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: فَالَّذِي يُصِيبُهَا، أَوْ: فَمُصِيبُهَا طَلٌّ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فَاعِلًا، أَيْ فَيُصِيبُهَا طَلٌّ، وَكُلُّ هَذِهِ التَّقَادِيرِ سَائِغَةٌ. وَالْآخَرُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا، وَإِبْقَاءِ مَعْمُولٍ لِبَعْضِهَا، لِأَنَّهُ مَتَى دَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «1» أَيْ فَهُوَ يَنْتَقِمُ، فَكَذَلِكَ يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُنَا أَيْ: فَهِيَ، أَيِ: الْجَنَّةُ يُصِيبُهَا طَلٌّ، وَأَمَّا فِي التَّقْدِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَّا إِلَى حَذْفِ أَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ، وَنَظِيرُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ: أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى ... كَأَنَّ قُرُونَ جُلَّتِهَا الْعِصِيُّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَرَأَ الزُّهْرِيُّ، بِالْيَاءِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَلَا يَخْتَصُّ بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَعُودُ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ، عَلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ مِنْ رِيَاءٍ وَإِخْلَاصٍ، وَفِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ لَمَّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَشَبَّهَ فَاعِلَ ذَلِكَ بِالْمُنْفِقِ رِئَاءً، وَمَثَّلَ حَالَهُ بِالصَّفْوَانِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ مَثَّلَ حَالَ مَنْ أَنْفَقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا مَثَلٌ آخَرُ لِلْمُرَائِي. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَثَلٌ لَلْمَانِّ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ: لِلْمُفْرِطِ فِي الطَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِمَنْ أُعْطِيَ الشَّبَابَ وَالْمَالَ، فَلَمْ يَعْمَلْ حَتَّى سُلِبَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ عَمِلَ أَنْوَاعَ الطَّاعَاتِ كَجَنَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَخَتَمَهَا بِإِسَاءَةٍ كَإِعْصَارٍ، فَشَبَّهَ تَحَسُّرَهُ حِينَ لَا عَوْدَ، بِتَحَسُّرِ كَبِيرٍ هَلَكَتْ جَنَّتُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا، وَأَعْجَزَ عَنْ عِمَارَتِهَا، وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ قَلَّ وَاللَّهِ مَنْ يَعْقِلُهُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وَكَثُرَ صِبْيَانُهُ، أَفْقَرُ مَا كَانَ إِلَى جَنَّتِهِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ وَاللَّهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إِلَى عَمَلِهِ إِذَا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّبْعِيدِ وَالنَّفْيِ، أَيْ: مَا يَوَدُّ أَحَدٌ ذلك؟ و: أحد، هُنَا لَيْسَ الْمُخْتَصَّ بِالنَّفْيِ وشهبه، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَيَوَدُّ وَاحِدٌ مِنْكُمْ؟ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 95.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ: جَنَّاتٌ، بِالْجَمْعِ. مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَمَّا كَانَ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ أَكْرَمَ الشَّجَرِ وَأَكْثَرَهَا مَنَافِعَ، خُصَّا بِالذِّكْرِ، وَجُعِلَتِ الْجَنَّةُ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ غَيْرُهُمَا، وَحَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذَا، نَصَّ عَلَى النَّخِيلِ دُونَ الثَّمَرَةِ. وَعَلَى ثَمَرَةِ الْكَرْمِ دُونَ الْكَرْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْظَمَ مَنَافِعِ الْكَرْمِ هُوَ ثَمَرَتُهُ دُونَ أَصْلِهِ، وَالنَّخِيلُ كُلُّهُ مَنَافِعُهُ عَظِيمَةٌ، تُوَازِي مَنْفَعَةَ ثَمَرَتِهِ مِنْ خَشَبِهِ وَجَرِيدِهِ وَلِيفِهِ وَخُوصِهِ، وَسَائِرِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّخِيلِ وَثَمَرَةِ الْكَرْمِ. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ أَشْجَارٌ غَيْرُ النَّخِيلِ وَالْكَرْمِ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا الظَّاهِرِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يُرِيدَ بِالثَّمَرَاتِ الْمَنَافِعَ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لَهُ فِيهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ الأخفش: من، زائدة، التقدير: لَهُ فِيهَا كُلُّ الثَّمَرَاتِ، عَلَى إِرَادَةِ التَّكْثِيِرِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، لَا أَنَّ الْعُمُومَ مُرَادٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا فِي زِيَادَتِهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، نَحْوَ: قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، فَلَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُ مُوجَبٍ، وَبَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى تَقْيِيدٍ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَيَتَخَرَّجُ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ، لَهُ فِيهَا رِزْقٌ، أَوْ: ثَمَرَاتٌ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْحَذْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... تُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ التَّقْدِيرُ: كَأَنَّكَ جَمَلٌ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ، حُذِفَ: جَمَلٌ، لِدَلَالَةِ: مِنْ جِمَالِ، عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ ثَمَرَاتٌ لِدَلَالَةِ: مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» أَيْ: وَمَا أَحَدٌ مِنَّا، فأحد مبتدأ محذوف، و: منا، صِفَةٌ، وَمَا بَعْدَ إِلَّا جُمْلَةُ خَبَرٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ. وَأَصابَهُ الْكِبَرُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ، وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ أَيْ وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ، كقوله:

_ (1) سورة الصافات: 37/ 164.

وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «1» وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا «2» أَيْ: وَقَدْ كنتم، و: قد قَعَدُوا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَيُصِيبُهُ، فَعُطِفَ الْمَاضِي عَلَى الْمُضَارِعِ لِوَضْعِهِ مَوْضِعَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي: يَوَدُّ، لأنه يتلقى مرة بأن، ومرة بأو، فَجَازَ أَنْ يُقَدَّرَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ، يُقَالُ: وَدِدْتُ لَوْ كَانَ كَذَا، فَحُمِلَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَنَّةٌ، وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ؟ انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ: وَأَصَابَهُ، مَعْطُوفًا عَلَى مُتَعَلِّقِ: أَيَوَدُّ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: لَوْ كَانَتْ، إِذْ يُقَالُ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لَوْ كَانَتْ؟ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَيْثُ: أَنْ يَكُونَ، مَعْطُوفًا عَلَى: كَانَتْ، الَّتِي قَبْلَهَا لَوْ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقُ الْوُدِّ، وَأَمَّا: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْوُدِّ، لِأَنَّ إِصَابَةَ الْكِبَرِ لَا يَوَدُّهُ أَحَدٌ، وَلَا يَتَمَنَّاهُ، لَكِنْ يُحْمَلُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ: لَمَّا كَانَ: أَيَوَدُّ، اسْتِفْهَامًا، مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ، جُعِلَ مُتَعَلِّقُ الْوِدَادَةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَهُمَا كَوْنُ جَنَّةٍ لَهُ، وَإِصَابَةُ الْكِبَرِ إِيَّاهُ، لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مَوْدُودًا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ وِدَادَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَفِي لَفْظِ الْإِصَابَةِ مَعْنَى التَّأْثِيرِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ: وَكَبِرَ، وَكَذَلِكَ: بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ، وَعَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ، وَلَمْ يَأْتِ: وَبَلَتْ، وَلَا تُوبِلُ. وَالْكِبَرُ الشَّيْخُوخَةُ، وَعُلُوُّ السِّنِّ. وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ وقرىء: ضِعَافٌ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ: ضَعِيفٍ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ. وَظِرَافٍ، وَالْمَعْنَى ذُرِّيَّةٌ صِبْيَةٌ صِغَارٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِضُعَفَاءَ: مَحَاوِيجُ. فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ قَالَ فِيهِ، فَأَتَى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا، لِأَنَّ الْإِعْصَارَ مُذَكَّرٌ مِنْ سَائِرِ أَسْمَاءِ الرِّيَاحِ، وَارْتِفَاعُ: نَارٌ، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْجَارِ قَبْلَهُ، أَوْ: كَائِنٌ فِيهِ نَارٌ، وَفِي الْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا حِينَ أَزْهَتْ وَحَسُنَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا أَعْقَبَهَا الْإِعْصَارُ. فَاحْتَرَقَتْ هَذَا فِعْلٌ مُطَاوِعٌ لِأَحْرَقَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ نار أحرقتها فاحترقت، كقولهم: أَنْصَفْتُهُ فَانْتَصَفَ، وَأَوْقَدْتُهُ فَاتَّقَدَ. وَهَذِهِ الْمُطَاوَعَةُ هِيَ انْفِعَالٌ فِي الْمَفْعُولِ يَكُونُ لَهُ قَابِلِيَّةٌ لِلْوَاقِعِ بِهِ، فَيَتَأَثَّرُ له.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 28. (2) سورة آل عمران: 3/ 168.

[سورة البقرة (2) : الآيات 267 إلى 273]

وَالنَّارُ الَّتِي فِي الْإِعْصَارِ هِيَ السَّمُومُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السَّمُومُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهَا الْجَانَّ جُزْءٌ مِنْ سبعين جزأ مِنَ النَّارِ، يَعْنِي، نَارَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ فَسَّرَ أَنَّهَا هَلَكَتْ بِالصَّاعِقَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ. إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ، أَيْ: رِيحٌ فِيهَا صِرُّ بَرْدٍ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ: مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ تُصْرَفُ الْأَمْثَالُ الْمُقَرِّبَةُ الْأَشْيَاءِ لِلذِّهْنِ، يُبَيِّنُ لَكُمُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُوَصَّلُ بِهَا إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي: تعملون أَفْكَارَكُمْ فِيمَا يَفْنَى وَيَضْمَحِلُّ مِنَ الدُّنْيَا، وَفِيمَا هُوَ بَاقٍ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَتَزْهَدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْغَبُونَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ وَصُنُوفِ الْبَلَاغَةِ أَنْوَاعًا: مِنَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ، وَمِنَ التَّشْبِيهِ، وَمِنَ الْحَذْفِ، وَمِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ، وَمِنَ الْمَجَازِ. وَكُلُّ هَذَا قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ غُضُونُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

التميم: الْقَصْدُ يُقَالُ أَمَّ كَرَدَّ. وَأُمَمٌ كَأُخَرَ، وَتَيَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَتَأَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنًى وَقَالَ الْخَلِيلُ أَمَمْتُهُ قَصَدْتُ أَمَامَهُ، وَيَمَّمْتُهُ قَصَدْتُهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. الْخَبِيثَ: الرَّدِيءَ وَهُوَ ضِدُّ الطَّيِّبِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خَبُثَ. الْإِغْمَاضُ: التَّسَاهُلُ يُقَالُ: أَغْمَضَ فِي حَقِّهِ تَسَاهَلَ فِيهِ وَرَضِيَ بِهِ، وَالْإِغْمَاضُ تَغْمِيضُ الْعَيْنِ، وَهُوَ كَالْإِغْضَاءِ. وَأَغْمَضَ الرَّجُلُ أَتَى غَامِضًا مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ: أَعْمَنَ وَأَعْرَقَ وَأَنْجَدَ، أَيْ: أَتَى عُمَانَ وَالْعِرَاقَ وَنَجْدًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْغُمُوضِ وَهُوَ: الْخَفَاءُ، غَمَضَ الشَّيْءُ يَغْمُضُ غُمُوضًا: خَفِيَ، وَإِطْبَاقُ الْجَفْنِ إِخْفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْغَمْضُ الْمُتَطَامِنُ الْخَفِيُّ مِنَ الْأَرْضِ. الْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَلَا يَنْقَاسُ، وَتَقَدَّمَتْ أَقْسَامُ فَعِيلٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَفْسِيرُ الْحَمْدِ فِي أَوَّلِ سُورَتِهِ. النَّذْرُ: تَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «1» وَهُوَ عَقْدُ الْإِنْسَانِ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَالْتِزَامِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ. نَذَرَ يَنْذِرُ وَيَنْذُرُ، بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا، وَكَانَتِ النُّذُورُ مِنْ سِيرَةِ الْعَرَبِ يُكْثِرُونَ مِنْهَا فِيمَا يَرْجُونَ وُقُوعَهُ، وَكَانُوا أَيْضًا يَنْذُرُونَ قَتْلَ أَعْدَائِهِمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: الشَّاتِمِي عِرْضِي، وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا ... وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَقِيتُهُمَا دَمِي وَأَمَّا عَلَى مَا يَنْطَلِقُ شَرْعًا فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. نِعِمَّ: أَصْلُهَا نِعْمَ، وَهِيَ مُقَابِلَةُ بِئْسَ، وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: بِئْسَ، فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «2» . التَّعَفُّفُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْعِفَّةِ، عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا. أَيْ: كَفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 6. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 90.

فَعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الْغَسَقِ ... وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعِشْقِ السِّيمَا: الْعَلَامَةُ، وَيُمَدُّ وَيُقَالُ: بِالسِّيمْيَاءِ، كَالْكِيمْيَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ: غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمْيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ وَهُوَ مِنَ الْوَسْمِ، والسمة العلامة، جعلت فأوه مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، وَإِذَا مُدَّ: سِيمْيَاءُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ. الْإِلْحَافُ: الْإِلْحَاحُ وَاللَّجَاجُ فِي السُّؤَالِ، وَيُقَالُ: أَلْحَفَ وَأَحْفَى، وَاشْتِقَاقُ: الْإِلْحَافِ، مِنَ اللِّحَافِ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: مِنْ: أَلْحَفَ الشَّيْءُ إِذَا غَطَّاهُ وَعَمَّهُ بِالتَّغْطِيَةِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ: يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ ... وَيُلْحِفْهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا يَصِفُ ذَكَرَ النَّعَامِ يَحْضُنَّ بَيْضًا بِجَنَاحَيْهِ، وَيَجْعَلُ جَنَاحَهُ كَاللِّحَافِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: ثُمَّ رَاحُوا عَبِقَ الْمِسْكُ بِهِمْ ... يُلْحِفُونَ الْأَرْضَ هُدَّابَ الْأُزُرْ أَيْ: يَجْعَلُونَهَا كَاللِّحَافِ لِلْأَرْضِ، أَيْ يُلْبِسُونَهَا إِيَّاهَا. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ لَحَفَ الْجَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُشُونَةِ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: لَحَّفَنِي مِنْ فَضْلِ لِحَافِهِ، أَيْ: أَعْطَانِي مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ تضافرت النُّصُوصُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ كَانُوا يَأْتُونَ بِالْأَقْنَاءِ مِنَ التَّمْرِ فَيُعَلِّقُونَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِيَأْكُلَ مِنْهَا الْمَحَاوِيجُ، فَجَاءَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِحَشَفٍ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: بِشِيصٍ، وَفِي بَعْضِهَا: بِرَدِيءٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَنَزَلَتْ. وَهَذَا الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ عَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ، وَأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالْقَلِيلِ فَلَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِنَازِلٍ فِي الْقَدْرِ، وَدِرْهَمٌ زَائِفٌ خَيْرٌ مِنْ تَمْرَةٍ، فَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا لِلْوُجُوبِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا فِي التَّطَوُّعِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ نَدَبُوا إِلَى أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إِلَّا بِجَيِّدٍ مُخْتَارٍ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فَضْلَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحَثَّ عَلَيْهَا،

وَقَبَّحَ الْمِنَّةَ وَنَهَى عَنْهَا، ثم دكر الْقَصْدَ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَابْتِغَاءِ رِضَا اللَّهِ، ذَكَرَ هُنَا وَصْفَ الْمُنْفِقِ مِنَ الْمُخْتَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ: طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الرَّدِيءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ طيبات، أي: الحلال والخبيث الْحَرَامَ، وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ مِنْ طَيِّباتِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِهِ لَا الْحِلُّ وَلَا الْجَيِّدُ، لَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفِقُوا مِمَّا كَسَبْتُمْ، فَهُوَ حَضٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَقَطْ، ثُمَّ دَخَلَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ تَبْيِينًا لِصِفَةِ حُسْنِهِ فِي الْمَكْسُوبِ عَامًّا، وَتَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ. كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمْتُ فُلَانًا مِنْ مَشْبَعِ الْخُبْزِ، وَسَقَيْتُهُ مِنْ مَرْوِيِّ الْمَاءِ، وَالطَّيِّبُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ يَعُمُّ الْجَوْدَةَ، وَالْحِلَّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَبِيثٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا كَسَبْتُمْ عُمُومُ كُلِّ مَا حَصَلَ بِكَسْبٍ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفِقِ، وَسِعَايَةٍ وَتَحْصِيلٍ بِتَعَبٍ بِبَدَنٍ، أَوْ بِمُقَاوَلَةٍ فِي تِجَارَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُلْكُ مِنْ حَادِثٍ أَوْ قَدِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ لِأَنَّهُ مَكْسُوبٌ لِلْمَوْرُوثِ عَنْهُ. الضمير فِي: كَسَبْتُمْ، إِنَّمَا هُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَخْصِيصُ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْمَوْرُوثِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ أَضَنُّ بِهِ مِمَّا يَرِثُهُ، فَإِذْنُ الْمَوْرُوثِ مَعْقُولٌ مِنْ فَحْوَاهُ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ. وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَ: مَا، فِي مَا كَسَبْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَيُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِالْمَفْعُولِ، تَقْدِيرُهُ: مِنْ طَيِّبَاتِ كَسْبِكُمْ، أَيْ: مَكْسُوبِكُمْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الطَّيِّبَةِ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، مُفْتَقِرٌ إِلَى الْبَيَانِ بِذِكْرِ الْمَقَادِيرِ، فَيَصِحُّ الْاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الْحَقِّ فِيمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، نَحْوُ: أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَصَدَقَةِ الْخَيْلِ، وَزَكَاةِ مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْحُلِيِّ الْمُبَاحِ اللَّبْسِ غَيْرِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ الْمَعْلُوفَةِ، وَالدَّيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ.

وقال خويزمنداذ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْلَادُكُمْ مِنْ طِيبِ أَكْسَابِكُمْ فَكُلُوا مَنْ مال أولادكم هنيأ» انْتَهَى. وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» . وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَخْرَجْنَا لَكُمْ، امْتِنَانٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» وَالْمُرَادُ: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ حَرْفَ الْجَرِّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ إِشْعَارًا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ آخَرَ، حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مَرَّتَيْنِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، إِذْ قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِمَّا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ هَذَا مُؤَكِّدٌ لِلْأَمْرِ، إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَفِي هَذَا طِبَاقٌ بِذِكْرِ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثِ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ: وَلَا تَيَمَّمُوا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَصْلُهُ: تَتَيَمَّمُوا، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي التَّاءِ، وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ حَصَرْتُهَا فِي قصيدتي في القراآت المسماة (عقدة اللَّآلِئِ) وَذَلِكَ فِي أَبْيَاتٍ وَهِيَ: تَوَلَّوْا بِأَنْفَالٍ وَهُودٍ هُمَا مَعًا ... وَنُورٍ وَفِي الْمِحْنَةِ بِهِمْ قَدْ تَوَصَّلَا تَنَزَّلُ فِي حِجْرٍ وَفِي الشُّعْرَا مَعًا ... وَفِي الْقَدْرِ فِي الْأَحْزَابِ لَا أَنْ تَبَدَّلَا تَبَرَّجْنَ مَعَ تَنَاصَرُونَ تَنَازَعُوا ... تَكَلَّمُ مَعَ تَيَمَّمُوا قَبْلَهُنَّ لَا تَلْقَفُ أَنَّى كَانَ مَعَ لِتَعَارَفُوا ... وَصَاحِبَتَيْهَا فَتَفَرَّقَ حَصِّلَا بِعِمْرَانَ لَا تَفَرَّقُوا بِالنِّسَاءِ أَتَى ... تَوَفَّاهُمْ تَخَيَّرُونَ لَهُ انْجَلَا تَلَهَّى تَلَقَّوْنَهُ تَلَظَّى تَرَبَّصُو ... نَ زِدْ لَا تَعَارَفُوا تَمَيَّزُ تَكْمُلَا ثَلَاثِينَ مَعَ إِحْدَى وَفِي اللَّاتَ خَلْفَهُ ... تَمَنَّوْنَ مَعَ مَا بَعْدَ ظَلْتُمْ تَنَزَّلَا وَفِي بَدْئِهِ خَفِّفْ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا ... لَدَى الْوَصْلِ حَرْفُ الْمَدِّ مُدَّ وطوّلا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 29.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنِ الْبَزِّيِّ: تَخْفِيفُ التَّاءِ كَبَاقِي الْقُرَّاءِ، وَهَذِهِ التَّاءَاتُ مِنْهَا مَا قَبْلَهُ مُتَحَرِّكٌ، نَحْوَ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ «1» فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ «2» وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ سَاكِنٌ مِنْ حَرْفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ نَحْوَ: وَلا تَيَمَّمُوا وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ ساكن غير حرف مدّولين نَحْوُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا «3» نَارًا تَلَظَّى «4» إِذْ تَلَقَّوْنَهُ «5» هَلْ تَرَبَّصُونَ «6» قَالَ صَاحِبُ (الْمُمْتِعِ) : لَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ إِسْكَانَ هَذِهِ التَّاءِ فِي يَتَكَلَّمُونَ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهَا إِذَا سَكَنَتِ احْتِيجَ لَهَا أَلِفُ وَصْلٍ، وَأَلِفُ الْوَصْلِ لَا تَلْحَقُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ، فَإِذَا اتَّصَلَتْ بِمَا قَبْلَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَمْزَةِ وَصْلٍ. إِلَّا أَنَّ مِثْلَ إِنْ تَوَلَّوْا وإِذْ تَلَقَّوْنَهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَالٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَلَيْسَ السَّاكِنُ الأول حرف مدّولين. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ ثَابِتَةٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ مَحْصُورًا وَلَا مَقْصُورًا عَلَى مَا نَقَلَهُ وَقَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَلَا تَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَا تَأَمَّمُوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: تَيَمَّمُوا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا تَأُمُّوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ صِفَتَانِ غَالِبَتَانِ لَا يُذْكَرُ مَعَهُمَا الْمَوْصُوفُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلِذَلِكَ جَاءَ: وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ وَجَاءَ: وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ «7» وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «8» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» . و: منه، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُنْفِقُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الْخَبِيثِ. وَ: تُنْفِقُونَ، حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: تَيَمَّمُوا، قِيلَ: وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ يَقَعُ بَعْدَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: الْخَبِيثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ خَبَرًا آخَرَ فِي وَصْفِ الْخَبِيثِ، فَقَالَ: تُنْفِقُونَ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا إِذَا أَغْمَضْتُمْ، أَيْ تَسَاهَلْتُمْ، كَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِتَابٌ لِلنَّاسِ وَتَقْرِيعٌ، وَفِيهِ تنبيه

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 153. (2) سورة الأعراف: 7/ 117 والشعراء: 26/ 45. (3) سورة آل عمران: 3/ 32. وهود: 11/ 57، والنور: 24/ 54. (4) سورة الليل: 92/ 14. (5) سورة النور: 24/ 15. (6) سورة التوبة: 59/ 52. (7) سورة النور: 24/ 26. (8) سورة الأعراف: 7/ 157.

عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقَصْدُ لِلرَّدِيءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي يَدِهِ، فَيَخُصُّهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِنْفَاقُ الرَّدِيءِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ لِمَنْ لَا يَقْصِدُهُ، فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. قَالَ الْبَرَاءُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فِي دُيُونِكُمْ وَحُقُوقِكُمْ عِنْدَ النَّاسِ، إِلَّا بِأَنْ تَسَاهَلُوا فِي ذَلِكَ، وَتَتْرُكُونَ مِنْ حُقُوقِكُمْ وَتَكْرَهُونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ، أَيْ: فَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ إِلَّا أَنْ يُهْضَمَ لَكُمْ مِنْ ثَمَنِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ الْبَرَاءُ أَيْضًا: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ أُهْدِيَ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا، أَيْ: تَسْتَحُوا مِنَ الْمُهْدِي أَنْ تقبلوا من مَا لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِهِ، وَلَا قَدْرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِي الْحَرَامَ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِي مَكْرُوهِهِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ نَفِيِ الْأَخْذِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أُخِذَ الْخَبِيثُ، مِنْ أَخْذِ حَقٍّ، أَوْ هِبَةٍ. وَالْهَاءُ فِي: بِآخِذِيهِ، عَائِدَةٌ عَلَى الْخَبِيثِ، وَهِيَ مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولَةً. قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ: وَالْهَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: بآخذين، وَالْهَاءُ وَالنُّونُ لَا يَجْتَمِعَانِ، لِأَنَّ النُّونَ زَائِدَةٌ، وَهَاءَ الضَّمِيرِ زَائِدَةٌ وَمُتَّصِلَةٌ كَاتِّصَالِ النُّونِ، فَهِيَ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ: أَنَّ التَّنْوِينَ وَالنُّونَ قَدْ تَسْقُطَانِ لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ لَا لِلْإِضَافَةِ، وَذَلِكَ فِي نَحْوِ: ضَارِبُكَ، فَالْكَافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ أَجَازَ هِشَامٌ: ضَارَبَنْكَ، بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ الضَّمِيرِ، وَقِيَاسُهُ جَوَازُ إِثْبَاتِ النُّونِ مَعَ الضَّمِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ: هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ مَوْضِعُ أَنْ نَصْبٌ أَوْ خَفْضٌ عِنْدَ مَنْ قَدَّرَهُ إِلَّا بِأَنْ تُغْمِضُوا، فُحِذَفَ الْحَرْفُ، إِذْ حَذْفُهُ جَائِزٌ مطرد، وقيل: نصب بتغمضوا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَالِ، وَقَدْ

قَدَّمْنَا قَبْلُ، أَنَّ سِيبَوَيْهِ لَا يُجِيزُ انْتِصَابَ أَنْ وَالْفِعْلِ مُقَدَّرًا بِالْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ أَغْمَضْتُمْ أَخَذْتُمْ، وَلَكِنْ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى أَنْ فَفَتَحَتْهَا، وَمِثْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا «1» وإِلَّا أَنْ يَعْفُونَ «2» هَذَا كُلُّهُ جَزَاءٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَغَيْرُهُ قَوْلَ الْفَرَّاءِ، وَقَالُوا: أَنْ، هَذِهِ لَمْ تَكُنْ مَكْسُورَةً قَطُّ، وَهِيَ الَّتِي تَتَقَدَّرُ، هِيَ وَمَا بَعْدَهَا، بِالْمَصْدَرِ، وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا بِإِغْمَاضِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُغْمِضُوا، مِنْ أَغْمَضَ، وَجَعَلُوهُ مِمَّا حُذِفَ مَفْعُولُهُ، أَيْ: تُغَمِّضُوا أبصاركم أو بصائركم، وجوزوا أن يكون لازما مثل: أغضى عن كذا، وقرأ الزهري تُغَمِّضُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الغين وكسر الميم مشدودة، ومعناه مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْهُ: تَغْمِضُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ: غَمِضَ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي أَغْمَضَ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: تَغْمُضُوا، بِفَتْحِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَخْفَى عَلَيْكُمْ رَأْيُكُمْ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: تُغَمَّضُوا مُشَدَّدَةَ الْمِيمِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ تُغْمَضُوا، بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، مُخَفَّفًا، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يُغْمَضَ لَكُمْ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تُوجَدُوا قَدْ أَغَمَضْتُمْ فِي الْأَمْرِ بِتَأَوُّلِكُمْ أَوْ بِتَسَاهُلِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدَ الرَّجُلُ أُصِيبَ مَحْمُودًا، وَقِيلَ: مَعْنَى قِرَاءَةِ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِيهِ وَتُجْذَبُوا إِلَيْهِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ عَلَيْكُمْ، حَمِيدٌ أَيْ: مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَحْمِدُ إِلَى خَلْقِهِ، أَيْ: يُعْطِيهِمْ نِعَمًا يَسْتَدْعِي بِهَا حَمْدَهُمْ. وَقِيلَ: مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ عَلَى مَا تَعَبَّدَكُمْ بِهِ. الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِالْفَقْرِ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ أَمْسِكْ! فَإِنْ تَصَدَّقْتَ افْتَقَرْتَ! وَرَوَى أَبُو حَيْوَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرِّبَاطِ أَنَّهُ قَرَأَ: الْفُقْرَ، بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ لغة. وقرىء: الْفَقَرَ، بِفَتْحَتَيْنِ. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أَيْ: يُغْرِيكُمْ بِهَا إِغْرَاءَ الْآمِرِ، وَالْفَحْشَاءُ: الْبُخْلُ وَتَرْكُ الصَّدَقَةِ، أَوِ الْمَعَاصِي مُطْلَقًا، أَوِ الزِّنَا، أَقْوَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَحْشَاءُ: الْكَلِمَةُ السَّيِّئَةُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 229. (2) سورة البقرة: 2/ 237.

وَلَا يَنْطِقُ الْفَحْشَاءَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ... إِذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلَا مِنْ سِوَائِنَا وَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ الْفَقْرَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيَأْمُرُهُ، إِذْ مَنَعَ، بِالرَّدِّ الْقَبِيحِ عَلَى السَّائِلِ، وَبَّخَهُ وَأَقْهَرَهُ بِالْكَلَامِ السَّيْءِ. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً مِنِ ابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَتَعَوَّذْ. وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَوَعْدٌ بِالْحَقِّ وَتَصْدِيقٌ بِالْخَيْرِ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ» . ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَ وَعْدُ الشَّيْطَانِ عَلَى أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ بِالْوَعْدِ يَحْصُلُ الِاطْمِئْنَانُ إِلَيْهِ، فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَخَافَ الْفَقْرَ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، إِذِ الْأَمْرُ اسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْمَأْمُورِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبَخِيلُ، وَقَالَ أَيْضًا: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَيُغْرِيكُمْ عَلَى الْبُخْلِ وَمَنْعِ الصَّدَقَاتِ، انْتَهَى. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كَالتَّوْكِيدِ لِلْأُولَى، وَنَظَرْنَا إِلَى مَا شَرَحَهُ الشُّرَّاحُ فِي الْفَاحِشِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: حَتَّى تَأْوَى إِلَى لَا فَاحِشٍ بَرَمٍ ... وَلَا شَحِيحٍ إِذَا أَصْحَابُهُ غَنِمُوا وَقَالَ الْآخَرُ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ فَقَالُوا: الْفَاحِشُ السَّيْءُ الْخُلُقِ، وَلَوْ كَانَ الْفَاحِشُ هُوَ الْبَخِيلَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَا شَحِيحَ، مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ. وَقَالَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَوَافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَبَا مُسْلِمٍ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشِ بِالْبَخِيلِ، وَالْفَحْشَاءِ بِالْبُخْلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ. وَأَنْشَدَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلَ طُرْفَةَ: عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ قَالَ: وَالْأَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْتِ الَّذِي أُنْشِدُهُ أَنَّ الْفَاحِشَ السَّيْءُ الرَّدِّ لِضِيفَانِهِ، وَسُؤَالِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَجَدْنَا بَعْدَ ذَلِكَ شِعْرًا يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْفَحْشَاءَ الْبُخْلُ. وَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ طَيِّءٍ:

قَدْ أَخَذَ الْمُجِدُّ كَمَا أَرَادَا ... لَيْسَ بِفَحَّاشٍ يُصِرُّ الزَّادَا انْتَهَى. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْفَحَّاشِ الْبَخِيلَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى السَّيْءِ الْخُلُقِ، أَوِ السَّيْءِ الرَّدِّ، وَيَفْهَمُ الْبَخِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: يُصِرُّ الزَّادَا. وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا أَيْ سَتْرًا لِذُنُوبِكُمْ مُكَافَأَةً لِلْبَذْلِ، وَفَضْلًا زِيَادَةٌ عَلَى مُقْتَضَى ثَوَابِ الْبَذْلِ. وَقِيلَ: وَفَضْلًا، أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْكُمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَنْفَقْتُمْ، أَوْ وَثَوَابًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَكَانَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ بِالْجَيِّدِ الَّذِي مُثِيرُهُ الشَّيْطَانُ، بدىء بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَإِنَّ مَا تَصَدَّقْتُمْ مِنَ الْخَبِيثِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ لِيُقَبِّحَ لَهُمْ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ شَيْءٍ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي مُقَابَلَةِ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَعْدَ اللَّهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّتْرُ لِمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِي: الْفَضْلُ وَهُوَ زِيَادَةُ الرِّزْقِ وَالتَّوْسِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. رُوِيَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: عَبْدِي، أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي أَبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي، فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ عَلَى كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِصْدَاقُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ «1» . وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ: وَاسْعٌ بِالْجُودِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِ مَنْ أَنْفَقَ، وَقِيلَ: عَلِيمٌ أَيْنَ يَضَعُ فَضْلَهُ، وَوَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالسَّمَاحَةِ وَذَمِّ الْبُخْلِ، مِنْهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِنْفَاقَ وَيُبْغِضُ الْإِقْتَارَ فَكُلْ وَأَطْعِمْ وَلَا تُصْرِرْ، فَيَعْسُرُ عَلَيْكَ الطَّلَبُ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَرْدَأُ مِنَ الْبُخْلِ» . يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قَرَأَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ بِالتَّاءِ فِي: تُؤْتِي، وَفِي: تَشَاءُ، عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَالْحِكْمَةُ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ فِي آخَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهُ وَمُؤَخَّرِهِ. وَقَالَ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ: النُّبُوَّةُ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ: الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ مجاهد فيما رواه عنه ليث: العلم والفقه وَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابن نجيح: الإصابة في القول والفعل،

_ (1) سورة سبإ: 34/ 39.

وقاله مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْخَشْيَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَبُوهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْعَقْلُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ شَرِيكٌ: الْفَهْمُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، لَا يُسَمَّى حَكِيمًا حَتَّى يَجْمَعَهُمَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْكِتَابَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَالَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ، وَقَالَ أَيْضًا: طَاعَةُ اللَّهِ وَالْفِقْهُ وَالدِّينُ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَغْفِرَةُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْوَسْوَاسِ وَالْمَقَامِ. وَوُجِدَتْ فِي نُسْخَةٍ: وَالْإِلْهَامُ بَدَلُ الْمَقَامِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْكَ خَاطَرُ الْحَقِّ دُونَ شَهْوَتِكَ. وَقَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ مَعَ إِصَابَةِ الصَّوَابِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الرَّدُّ إِلَى الصَّوَابِ. وَقَالَ الْكَتَّانِيُّ: مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ إِشَارَةٌ بِلَا عِلَّةٍ، وَقِيلَ: إِشْهَادُ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَقِيلَ: صَلَاحُ الدِّينِ وَإِصْلَاحُ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ. وَقِيلَ: تَجْرِيدُ السِّرِّ لِوُرُودِ الْإِلْهَامِ. وَقِيلَ: التَّفَكُّرُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَقِيلَ: مَجْمُوعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: فَهَذِهِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَقَالَةً لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِنَ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا، مَا عَدَا قَوْلَ السُّدِّيِّ، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ مَصْدَرٌ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ الْإِتْقَانُ فِي عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ حِكْمَةٌ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ حِكْمَةٌ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ الْجِنْسُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ «1» فَكَانَ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ تَفْسِيرِهَا هُنَا، إِلَّا أَنَّهُ ذُكِرَتْ هُنَا أَقَاوِيلُ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُفَسِّرُونَ هُنَاكَ، فَلِذَلِكَ فُسِّرَتْ هُنَا. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ ضَمِيرُ: مَنْ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ: ليؤت. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: وَمَنْ يُؤْتِ، بِكَسْرِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ. انْتَهَى. فَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَيْسَ فِي يُؤْتَ ضَمِيرُ نَصْبٍ حُذِفَ، بَلْ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقُولُ: أَيًّا تُعْطَ دِرْهَمًا أَعْطِهِ درهما.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 129. [.....]

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَنْ يُؤْتِهُ الْحِكْمَةَ، بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الأول: ليؤت، وَالْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ضَمِيرٌ مَسْتَكِنٌ فِي: يُؤْتَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يُضْمِرْهَا لِكَوْنِهَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَلِلِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَخِصَالِهَا. فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي الْمَصْحُوبُ: بِقَدْ، الْوَاقِعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ، مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى. كَهَذَا. فَهُوَ الْجَوَابُ حَقِيقَةً، وَقَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «1» فَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَاقِعٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُسْتَقْبَلٌ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مُسْتَقْبَلٌ، فَالْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ مَحْذُوفٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَتَسَلَّ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَحَالُكَ مَعَ قَوْمِكَ كَحَالِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ. قال الزمخشري: وخيرا كَثِيرًا، تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَدْ أُوتِيَ أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَسْتَدْعِي أَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَنْكِيرَ تَعْظِيمٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَتَقْدِيرُهُ، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، إِنَّمَا هُوَ على أن يجعل خير صِفَةً لِخَيْرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ. وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَيٍّ، فَإِنَّمَا تُضَافُ لِلَفْظٍ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ، تَقُولُ: مررت برجل أي رجل كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: دَعَوْتُ امْرَأً، أَيَّ امْرِئٍ، فَأَجَابَنِي ... وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلَاذًا وَمَوْئِلَا وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ؟ أَيْ: إِذَا كَانَتْ صِفَةً، فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَيِّ رَجُلٍ كَرِيمٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ يَحْتَاجُ جَوَابُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَأَيْضًا فَفِي تَقْدِيرِهِ: أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ أَيَّ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي نَدُورٍ، لَا تَقُولُ: رَأَيْتُ أَيَّ رَجُلٍ، تُرِيدُ رَجُلًا، أَيَّ رَجُلٍ إِلَّا فِي نَدُورٍ. نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا حَارَبَ الْحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ ... عَلَاهُ بِسَيْفٍ كُلَّمَا هُزَّ يَقْطَعُ يُرِيدُ: مُنَافِقًا، أَيَّ مُنَافِقٍ، وَأَيْضًا: فَفِي تَقْدِيرِهِ: خَيْرًا كَثِيرًا أيّ كَثِيرٍ، حَذَفَ أَيَّ الصِّفَةَ،

_ (1) سورة فاطر: 35/ 4.

وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهَا، وَقَدْ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ بِهِ، أَيْ: فَاجْتَمَعَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ بِهِ وَحَذْفُ الصِّفَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. أَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ، وَ: أُولُو الْأَلْبَابِ، هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَفِي هَذَا حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَنَهَى عَنْهُ مِنَ التَّصَدُّقِ بِالْخَبِيثِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ، وَوُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعَقْلُ الْمُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَكَرَ التَّذَكُّرَ لِمَا قَدْ يَعْرِضُ لِلْعَاقِلِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُ مَا بِهِ صَلَاحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ عَامٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَتَى بِالْمُمَيِّزِ فِي قوله: من نفقة، و: من نَذْرٍ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: أَوْ نَذَرْتُمْ، مِنْ نَذْرٍ، لِتَأْكِيدِ انْدِرَاجِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ النَّفَقَةُ بِالزَّكَاةِ لِعَطْفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ النَّذْرُ، وَالنَّذْرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُحَرَّمٍ وَهُوَ كُلُّ نَذْرٍ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَمُعْظَمُ نُذُورِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ عَلَى ذَلِكَ وَمُبَاحٍ مَشْرُوطٍ وَغَيْرِ مَشْرُوطٍ، وَكِلَاهُمَا مُفَسِّرٌ، نَحْوُ: إِنْ عُوفِيتُ مَنْ مَرِضِ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةُ دِينَارٍ، وَنَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. وغير مفسر، نحوه إِنْ عُوفِيتُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ أَوْ نَذْرٌ، وَأَحْكَامُ النَّذْرِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ مَعْنَى: يَعْلَمُهُ، يُحْصِيهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُجَازِي عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَحْفَظُهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدًا وَوَعِيدًا بِتَرْتِيبِ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى مَا أنفقوا أو نذروا، و: من نفقة، و: من نَذْرٍ، تَقَدَّمَ نَظَائِرُهَا فِي الْإِعْرَابِ فَلَا تُعَادُ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ نَذْرٍ، دَلَالَةٌ عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: نَذَرْتُمْ، تَقْدِيرُهُ: أَوْ مَا نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ، لِأَنَّ: مِنْ نَذْرٍ، تَفْسِيرٌ وَتَوْضِيحٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَحُذِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِدَلَالَةِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، فَحَذْفُهُ لِدَلَالَةِ: مَنْ، الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هذا الذي تقرر من حَذْفِ

الْمَوْصُولِ، فَجَاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ، وَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِأَوْ كَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ هُوَ أَحَدُهُمَا، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الْأَوَّلُ فِي الذِّكْرِ، نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الثَّانِي نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقَةٌ. وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ فَلَا، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّحْوِيُّونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «1» بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَعَلَى الْمَهْيَعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «2» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً «3» كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمَّا عَزَبَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، جَعَلُوا إِفْرَادَ الضَّمِيرِ مِمَّا يَتَأَوَّلُ، فَحُكِيَ عَنِ النَّحَاسِ أَنَّهُ قَالَ: التَّقْدِيرُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. ثُمَّ حُذِفَ قَالَ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «4» وَقَوْلِهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «5» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ، وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي التَّقْدِيرُ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا رَاضُونَ، وَكُنْتُ مِنْهُ بَرِيئًا، وَوَالِدِي بَرِيئًا. انْتَهَى. فَأَجْرَى أَوْ مَجْرَى الْوَاوِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي يَعْلَمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ مَا ذَكَرَ أَوْ نَصَّ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَثُرَ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ حُكْمِ: أَوْ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاوِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ لِتَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى الْحُكْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي: أَوْ. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَكُلُّ ظَالِمٍ لَا يَجِدُ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هُمُ الْمُنْفِقُونَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ، وَالْمُبَذِّرُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: المنفقو الحرام.

_ (1) سورة النساء: 4/ 135. (2) سورة الجمعة: 62/ 11. (3) سورة النساء: 4/ 112. (4) سورة التوبة: 9/ 34. (5) سورة البقرة: 2/ 45.

وَالْأَنْصَارُ: الْأَعْوَانُ جَمْعُ نَصِيرٍ، كَحَبِيبٍ وَأَحْبَابٍ، وَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. أَوْ: نَاصِرٍ، كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَجَاءَ جَمْعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ جَمْعٌ، كَمَا جَاءَ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ «1» وَالْمُفْرَدُ يُنَاسِبُ الْمُفْرَدَ نَحْوُ: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «2» لَا يُقَالُ: انْتِفَاءُ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ نَفْيِ النَّفْعِ وَالْإِغْنَاءِ، وَحُصُولِ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْجَمْعُ وَلَمْ يُغْنِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُجْدِيَ وَلَا يُغْنِيَ الْوَاحِدُ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فَضْلَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الْجُنُوحِ إِلَى نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَذَكَّرَنَا بِوَعْدِ اللَّهِ الْجَامِعِ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدَيْنِ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ تَخَصَّصَ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي يُؤْتِيهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ النَّفَقَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَسْهُو، وَصَارَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى مَعْرِفَتِهَا. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أَيْ: إِنْ تُظْهِرُوا إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الْآيَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ أَمْ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ؟ فَنَزَلَتْ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ يَأْمُرُ بِقِسْمِ الزَّكَاةِ فِي السر، والصدقات ظَاهِرُ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَطَوَّعَ بِهَا. وَقِيلَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، فَتُصْرَفُ إِلَى الْمَفْرُوضَةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ الصَّدَقَاتِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا صَدَقَاتُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلِ الْأَفْضَلُ إِظْهَارُ الْمَفْرُوضَةِ أَمْ إِخْفَاؤُهَا؟ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَقَالَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ: إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ: صَدَقَاتُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفَضُلُ عَلَانِيَتَهَا بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَصَدَقَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتُهَا أَفْضَلُ مِنْ سِرِّهَا بِخَمْسَةٍ وعشرين ضعفا.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 22 و 56 و 91 والنحل: 16/ 37، والروم: 30/ 29. (2) سورة البقرة: 2/ 120.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كِلَاهُمَا إِخْفَاؤُهُ أَفْضَلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَالنَّاسُ مُسِيئُونَ الظَّنَّ فَإِظْهَارُهَا أَفْضَلُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَلَا صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى صَدَقَةِ السِّرِّ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَنِعِمَّا هِيَ الفاء جواب الشرط، و: نعم، فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ، فَاحْتِيجَ فِي الْجَوَابِ إِلَى الْفَاءِ وَالْفَاعِلُ بِنِعِمْ مُضْمَرٌ مُفَسَّرٌ بِنَكِرَةٍ لَا تَكُونُ مُفْرَدَةً فِي الْوُجُودِ نَحْوُ: شَمْسٍ وقمر. و: لا مُتَوَغِّلَةً فِي الْإِبْهَامِ نَحْوُ غَيْرِ. وَلَا أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ نَحْوُ أَفْضَلِ مِنْكَ، وَذَلِكَ نَحْوِ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَالْمُضْمَرُ مُفْرَدٌ وَإِنْ كَانَ تَمْيِيزُهُ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا، وَقَدْ أَعْرَبُوا: مَا، هُنَا تَمْيِيزًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ الَّذِي في نعم، وقدروه بشيئا. فما، نَكِرَةٌ تَامَّةٌ لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً وَلَا مَوْصُولَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: مَا، اللَّاحِقَةِ لِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ، أَعَنَى: نِعْمَ وَبِئْسَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا «1» وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَهِيَ: ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَنِعِمَّا إِبْدَاؤُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ يَعُودُ عَلَى الصَّدَقَاتِ بِقَيْدِ وَصْفِ الْإِبْدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي: فَنِعِمَّا هِيَ، فَنِعِمَّا الصَّدَقَاتُ الْمَبْدَاةُ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَجُمْلَةُ الْمَدْحِ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالرَّابِطُ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمُضْمَرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: نِعْمَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَوَرْشٌ، وَحَفْصٌ: فَنِعِمَّا، بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ هُنَا وَفِي النِّسَاءِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُحَرِّكُ الْعَيْنَ، فَيَقُولُ: نِعِمْ، وَيُتْبِعُ حَرَكَةَ النُّونِ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَتَحْرِيكُ الْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ الْعَيْنَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَ: جِسْم مَّالِكٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَنَعِمَّا، فِيهِمَا بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ وَزْنَهُ عَلَى فَعِلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ كَسْرِ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ مَا وَأُدْغِمَتْ حُرِّكَتِ الْعَيْنُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَقَالُونُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمُ الْإِسْكَانُ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَشْهَرُ، وَوَجْهُ الْإِخْفَاءِ طَلَبُ الْخِفَّةِ، وَأَمَّا الْإِسْكَانُ فَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: الْإِسْكَانُ، فِيمَا يُرْوَى، لُغَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا اللَّفْظِ، قَالَ لعمرو بن الْعَاصِ: «نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ للرجل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 90.

الصَّالِحِ» . وَأَنْكَرَ الْإِسْكَانُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَلِيٍّ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حدّه. وقال أَبُو الْعَبَّاسِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَرُومُ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَيُحَرَّكُ وَلَا يَأْتِيهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَمْ تَضْبُطِ الرُّوَاةُ اللَّفْظَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَعَلَّ أَبَا عَمْرٍو أَخْفَى، فَظَنَّهُ السَّامِعُ إِسْكَانًا. وَقَدْ أَتَى عَنْ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ مَا أَنْكَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْإِسْكَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وفي بعض تاآت الْبَزِّيِّ، وَفِي: اسْطَاعُوا وَفِي: يَخِصِّمُونَ. انْتَهَى مَا لَخَّصَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَإِنْكَارُ هَؤُلَاءِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَئِمَّةَ القراءة لم يقرأوا إِلَّا بِنَقْلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَتَى تَطَرَّقَ إِلَيْهِمُ الْغَلَطُ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا، تَطَرَّقَ إِلَيْهِمْ فِيمَا سِوَاهُ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ ونقوله: إن نقل القراآت السَّبْعِ مُتَوَاتِرٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِيهِ. وَإِنْ تُخْفُوها الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: تُخْفُوهَا، عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، لَفْظًا وَمَعْنًى، بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَتِ الصَّدَقَاتُ، وَقِيلَ: الصَّدَقَاتُ الْمُبْدَاةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَالْمُخْفَاةُ هِيَ التَّطَوُّعُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى الصَّدَقَاتِ لَفْظًا لَا مَعْنًى، فَيَصِيرُ نَظِيرَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، كَذَلِكَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا، تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تُخْفُوا الصَّدَقَاتِ غَيْرَ الْأُولَى، وَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا احْتَجْنَا فِي: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، إِلَى أَنْ نَقُولَ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا لَا مَعْنًى لِاضْطِرَارِ الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ أَنَّ عِنْدَهُ دِرْهَمًا وَنِصْفَ هَذَا الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ ... خَرِيقٍ وَهِيَ سَاكِنَةُ الْهُبُوبِ يُرِيدُ: رِيحًا أُخْرَى سَاكِنَةَ الْهُبُوبِ. وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَطَلُّبِ مَصَارِفِهَا وَتَحَقُّقِ ذَلِكَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ. فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوها التَّقْدِيرُ: فَالْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: خَيْرٌ، هُنَا أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، وَ: لَكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِبْدَاءُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِبْدَائِهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَفْضَلُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فرضا أو نفلا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لِبُعْدِ الْمُتَصَدِّقِ فِيهَا عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَلَوْ لَمْ يُعْلِمِ الْفَقِيرَ بِنَفْسِهِ، وَأَخْفَى عَنْهُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَعْرِفَ، كَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا اصْطُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلِهِ، وَتَصْغِيرِهِ فِي نَفْسِكَ، وَسَتْرِهِ. فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّيْتَهُ، وَإِذَا صَغَرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ: يُخْفِي صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا ... إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا وَفِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ طِبَاقٌ لَفْظِيٌّ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْتِي الصَّدَقَاتِ إِلَّا الْأَغْنِيَاءُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَبْدُ الصَّدَقَاتِ الْأَغْنِيَاءُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ حَقٌّ لِلْفَقِيرِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أن يفرق الصدق بِنَفْسِهِ. وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَ بِالْوَاوِ الْجُمْهُورُ فِي: وَيُكَفِّرُ، وَبِإِسْقَاطِهَا وَبِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ، وَبِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا، وَبِرَفْعِ الرَّاءِ وَجَزْمِهَا وَنَصْبِهَا، فَإِسْقَاطُ الْوَاوِ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَلٌ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنه في موضع جَزْمٍ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: يَكُنْ لَكُمُ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الْإِبْدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ: أَيْ وَيُكَفِّرُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْفَاءَ وَبَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ الَمَهَدَوِيُّ بِالتَّاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: بِالتَّاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَرُوِيَ الْخَفْضُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالنُّونِ وَنَصْبِ الرَّاءِ فِيمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَنُكَفِّرُ، بِالنُّونِ فَإِنَّهُ ضَمِيرٌ لِلَّهِ

تَعَالَى بِلَا شَكٍّ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ صَرْفِ الصَّدَقَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى الْإِخْفَاءِ أَيْ: وَيُكَفِّرُ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ وَنَسَبَ التَّكْفِيرَ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّكْفِيرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالضَّمِيرُ فِي الْفِعْلِ لِلصَّدَقَاتِ، وَمَنْ رَفَعَ الرَّاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَنَحْنُ نُكَفِّرُ، أَيْ: وَهُوَ يُكَفِّرُ، أَيِ: اللَّهُ. أَوِ الْإِخْفَاءُ أَيْ: وَهِيَ تُكَفِّرُ أَيِ: الصَّدَقَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ، إِذْ لَوْ وَقَعَ مُضَارِعٌ بَعْدَهَا لَكَانَ مَرْفُوعًا، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «1» وَمَنْ جَزَمَ الرَّاءَ فَعَلَى مُرَاعَاةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ جَزَاءً، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ «2» . وَنَذَرْهُمْ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ: وَنَذَرَهُمْ، وَمَنْ نَصَبَ الرَّاءَ فَبِإِضْمَارِ: أَنْ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَنَظِيرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «3» بِنَصْبِ الرَّاءِ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَا يَعْسُرُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُحَاسِبْكُمْ، فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ تَقَعُ مُحَاسَبَةٌ فَغُفْرَانٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ: وَإِنْ تُخْفُوهَا يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَنْ نُكَفِّرَ عَنْكُمْ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَأَنْ نُكَفِّرَ، يَكُونُ مُقَدَّرًا بِمَصْدَرٍ، وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى: خَيْرًا، خَبَرُ يَكُنِ الَّتِي قَدَّرَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَكُنِ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا لَكُمْ وَتَكْفِيرًا، فَيَكُونُ: أَنْ يُكَفِّرَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَالَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةَ مَعَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا هُوَ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مَرْفُوعٍ، تَقْدِيرُهُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا، فَالتَّقْدِيرُ: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فحديث، وكذلك إن تجيء وَتُحْسِنْ إِلَيَّ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، التَّقْدِيرُ إِنْ يَكُنْ مِنْكَ مَجِيءٌ وَإِحْسَانٌ أُحْسِنُ إِلَيْكَ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بَعْدَ جَوَابِ الشَّرْطِ. كَالتَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ فِي: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «4» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، فيغفر،

_ (1) سورة المائدة: 5/ 95. (2) سورة الأعراف: 7/ 186. (3- 4) سورة البقرة: 2/ 284.

فعلى هذا يكون القدير: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ يَكُنْ زِيَادَةُ خَيْرٍ لِلْإِخْفَاءِ عَلَى خَيْرٍ لِلْإِبْدَاءِ وَتَكْفِيرٌ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: فِي نَصْبِ الرَّاءِ: هُوَ مُشَبَّهٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، إِذِ الْجَزَاءُ يَجِبُ بِهِ الشَّيْءُ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ كَالِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ ابن عطية: بالجزم فِي الرَّاءِ أَفْصَحُ هَذِهِ القراآت لِأَنَّهَا تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التَّكْفِيرِ فِي الْجَزَاءِ، وَكَوْنِهِ مَشْرُوطًا إِنْ وَقَعَ الْإِخْفَاءُ، وَأَمَّا رَفْعُ الرَّاءِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَنَقُولُ: إِنَّ الرَّفْعَ أَبْلَغُ وَأَعَمُّ، لِأَنَّ الْجَزْمَ يَكُونُ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشرط الثاني، والرفع يدل عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ مُتَرَتِّبٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى بَذْلِ الصَّدَقَاتِ، أَبْدَيْتَ أَوْ أَخْفَيْتَ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا التَّكْفِيرَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قبله، ولا يختص التَّكْفِيرُ بِالْإِخْفَاءِ فَقَطْ، وَالْجَزْمُ يُخَصِّصُهُ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي يُبْدِي الصَّدَقَاتِ لَا يُكَفِّرُ مِنْ سَيِّئَآتِهِ، فَقَدْ صَارَ التَّكْفِيرُ شَامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ مِنْ إِبْدَاءِ الصَّدَقَاتِ وَإِخْفَائِهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الإبداء. وَ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ، لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُكَفِّرُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ قَالَتْ: مِنْ، زَائِدَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا سَبَبِيَّةً وَقَدَّرَ: مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِكُمْ، ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خَتَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا لَطُفَ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَخَفِيَ، فَنَاسَبَ الرفع خَتْمَهَا بِالصِّفَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا خُفِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ اخْتَلَفَ النَّقْلُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَضْمُونُهَا أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ كَرِهَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُشْرِكِ، أَوْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، أَوِ امْتَنَعَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَأَلَهُ يَهُودِيٌّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَظَاهِرُ الْهُدَى أَنَّهُ مُقَابِلُ الضَّلَالِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ، أَيْ: خَلْقَ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَهُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا. وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَهُوَ نَظِيرُ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «1» فَالْمَعْنَى: لَيْسَ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 48.

عَلَيْكَ هُدَى مَنْ خَالَفَكَ حَتَّى تَمْنَعَهُ الصَّدَقَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، هُدَاهُمْ لَيْسَ إِلَيْكَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا الْهُدَى لَيْسَ مُقَابِلًا لِلضَّلَالِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ، فَقَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَهُمْ مَهْدِيِّينَ إِلَى الِانْتِهَاءِ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ وَغَيْرِهِ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَهُمُ النَّوَاهِيَ فَحَسْبُ، وَيُبْعِدُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قوله: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ هُدَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَلَطُفٌ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ، فَيَنْتَهِي عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ. انْتَهَى. فَلَمْ يَحْمِلِ الْهُدَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْإِيمَانِ الْمُقَابِلِ لِلضَّلَالِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هُدًى خَاصٍّ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، كَمَا قُلْنَا. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ هُنَا الْغِنَى أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُغْنِيَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُوَاسِيَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ. وَتَسْمِيَةُ الْغِنَى: هِدَايَةٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: رَشَدْتُ وَاهْتَدَيْتُ، لِمَنْ ظَفِرَ، وَغَوَيْتُ لِمَنْ خَابَ وَخَسِرَ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا وَتَفْسِيرُ الْهُدَى بِالْغِنَى أَبْعَدُ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ: هُدَاهُمْ، طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، إِذِ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَى الضَّالِّينَ، وَظَاهِرُ الْخِطَابِ فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ، أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وَمُنَاسَبَةُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ الْآيَةَ اقْتَضَى أَنْهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَانْقَسَمَ النَّاسُ مِنْ مَفْهُومِ هَذَا إِلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ إِيَّاهَا فَهُوَ يَخْبِطُ عَشْوَاءً فِي الضَّلَالِ. فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، بَلِ الْهِدَايَةُ وَإِيتَاءُ الْحِكْمَةِ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِيَتَسَلَّى بِذَلِكَ فِي كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُلْجِئَهُمْ إِلَى الْهُدَى بِوَاسِطَةِ أَنْ تَقِفَ صَدَقَتَكَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَبِيلِ الطَّوْعِ وَالِاخْتِيَارِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَتَجْنِيسٌ مُغَايِرٌ إِذْ: هُدَاهُمُ اسْمٌ، وَيَهْدِي فِعْلٌ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: فَهُوَ لِأَنْفُسِكُمْ، لَا يَعُودُ نَفْعُهُ وَلَا جَدْوَاهُ إِلَّا

عَلَيْكُمْ، فَلَا تَمَنُّوا بِهِ، وَلَا تُؤْذُوا الْفُقَرَاءَ، وَلَا تُبَالُوا بِمَنْ صَادَفْتُمْ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ إِنَّمَا هُوَ لَكُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَى: فَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلِأَهْلِ دِينِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» أَيْ: أَهْلُ دِينِكُمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْفَرْضِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ حُكْمِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ الْكُفَّارِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، ثُمَّ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ مَعَ أَحَدٍ خَيْرًا قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ مَعَ نَفْسِي، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَحْسَنْتُ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَلَا أَسَأْتُ لَهُ ثُمَّ يَتْلُو: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «3» . وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّ لَكُمْ قَبُولُهَا إِلَّا مَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَإِذَا عَرِيَتْ مِنْ هَذَا الْقَصْدِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا فَهَذَا خَبَرُ شَرْطٍ فِيهِ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّةَ الْقَبُولَ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ. وقيل: هو خير مِنَ اللَّهِ أَنَّ نَفَقَتَهُمْ أَيْ: نَفَقَةَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنِ ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً لَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَتَبْشِيرًا بِقَبُولِهَا، إِذْ قَصَدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَخَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ خَاصًّا بِالصَّحَابَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَتْ نَفَقَتُكُمْ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، فَمَا لَكُمْ تَمُنُّونَ بِهَا وَتُنْفِقُونَ الْخَبِيثَ الَّذِي لَا يُوَجَّهُ مِثْلُهُ إِلَى اللَّهِ؟ وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، ثُمَّ عَرَضَ لَهَا الْإِبْطَالُ. بِخِلَافِ قَوْلِ غَيْرِهِمْ: إِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى قَارَنَهَا. وَقِيلَ: هُوَ نَفْيُ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ: وَلَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَمَجَازُهُ أنه: لما نهى عن أَنْ يَقَعَ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ، حَصَلَ الِامْتِثَالُ، وَإِذَا حَصَلَ الِامْتِثَالُ، فَلَا يَقَعُ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّهْيِ بِالنَّفْيِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَانْتِصَابُ ابْتِغَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: مُبْتَغِينَ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الرِّضَا، كَمَا قَالَ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وذلك على عادة

_ (1) سورة النور: 24/ 61. [.....] (2) سورة النساء: 4/ 29. (3) سورة الإسراء: 17/ 7.

الْعَرَبِ، وَتَنَزُّهِ اللَّهِ عَنِ الْوَجْهِ بِمَعْنَى: الْجَارِحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نِسْبَةِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1» مُسْتَوْفًى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ: يُوَفَّرُ عَلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ مُضَاعَفًا، وَفِي هَذَا، وَفِيمَا قَبْلَهُ، قَطْعُ عُذْرِهِمْ فِي عَدَمِ الْإِنْفَاقِ، إِذِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ هُوَ لَهُمْ حَيْثُ يَكُونُونَ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ، فَيُوَفُّونَهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِنْفَاقُهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَفْضَلِهَا، وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «2» وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا تَصَدَّقَ الْعَبْدُ بِالصَّدَقَةِ وَقَعَتْ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ، أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» . وَالضَّمِيرُ فِي: يُوَفَّ، عَائِدٌ عَلَى: مَا، وَمَعْنَى تَوْفِيَتُهُ: إِجْزَالُ ثَوَابِهِ. وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا يُوَفَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تُنْفِقُونَ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ إِنْفَاقِكُمْ. لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: هُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارُوا زَمْنَى، وَاخْتَارَ هَذَا الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ: أُحْصِرُوا مِنَ الْمَرَضِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَبْسَ مِنَ الْعَدُوِّ لَقَالَ: حَصَرُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «3» وَثَبَتَ مِنَ اللُّغَةِ هُنَاكَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أُحْصِرَ وَحُصِرَ، وَحَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُحْصِرُوا مِنْ خَوْفِ الْكُفَّارِ، إِذْ أَحَاطُوا بِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْغَزْوِ، وَمَنَعَهُمُ الْفَقْرُ مِنَ الْغَزْوِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: مَنَعَهُمْ عُلُوُّ هِمَّتِهِمْ عَنْ رَفْعِ حَاجَتِهِمْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَحْصَرَهُمُ الْجِهَادُ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِهِ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِلْكَسْبِ. انْتَهَى. وَ: لِلْفُقَرَاءِ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتُ الْمَحْثُوثُ عَلَى فِعْلِهَا؟ فَقِيلَ: لِلْفُقَرَاءِ، أَيْ: هِيَ لِلْفُقَرَاءِ. فَبَيَّنَ مَصْرِفَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 115. (2) سورة البقرة: 2/ 276. (3) سورة البقرة: 2/ 196.

النَّفَقَةِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَعَجِبُوا لِلْفُقَرَاءِ، أَوِ اعْمَدُوا لِلْفُقَرَاءِ، وَاجْعَلُوا مَا تُنْفِقُونَ لِلْفُقَرَاءِ، وَأَبْعَدَ الْقَفَّالُ فِي تَقْدِيرِ: إِنْ تَبْدُوَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ: لِلْفُقَرَاءِ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَلِأَنْفُسِكُمْ، لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ. لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أَيْ تَصَرُّفًا فِيهَا، إِمَّا لِزَمِنِهِمْ وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ لِقِلَّتِهِمْ، فَقِلَّتُهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاكْتِسَابِ بِالْجِهَادِ، وَإِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ إِسْلَامَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ، فَبَقُوا فُقَرَاءَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: أَحُصِرُوا عَاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ مَاضِيَهُ عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مَسْمُوعٌ فِي أَلْفَاظٍ، مِنْهَا: عَمَدَ يَعْمُدُ وَيَعْمِدُ وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، وَالْفَتْحُ فِي السِّينِ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفَرْطِ انْقِبَاضِهِمْ، وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ، وَاعْتِمَادِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَحْسَبُهُمْ مَنْ جَهِلَ أَحْوَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ، وَ: مِنْ، سَبَبِيَّةٌ، أَيِ الْحَامِلُ عَلَى حُسْبَانِهِمْ أَغْنِيَاءَ هُوَ تَعَفُّفُهُمْ، لِأَنَّ عَادَةَ مَنْ كَانَ غَنِيَّ مَالٍ أَنْ يَتَعَفَّفَ، وَلَا يسأل، ويتعلق، بيحسبهم وَجُرَّ الْمَفْعُولُ لَهُ هُنَاكَ بِحَرْفِ السَّبَبِ، لِانْخِرَامِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَفْعُولِ لَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ فَاعِلَ يَحْسَبُ هُوَ: الْجَاهِلُ، وَفَاعِلَ التَّعَفُّفِ هُوَ: الْفُقَرَاءُ. وَهَذَا الشَّرْطُ هُوَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مُنْخَرِمًا لَكَانَ الْجَرُّ بِحَرْفِ السَّبَبِ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَفْعُولِ لَهُ، لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ حَرْفُ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ نَصْبُهُ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ كَمَا أَنْشَدُوا. لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ أَيْ: لِلْجُبْنِ، وَإِنَّمَا عُرِّفَ الْمَفْعُولُ لَهُ، هُنَا لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُمُ التَّعَفُّفُ مِرَارًا، فَصَارَ مَعْهُودًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مِنْ تَعَفُّفِهِمُ ابْتَدَأَتْ مَحْسَبَتُهُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِمْ لَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ غِنَى تَعَفَّفٍ، وَإِنَّمَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مَالٍ، فَمَحْسَبَتُهُ مِنَ التَّعَفُّفِ نَاشِئَةٌ، وَهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ عِفَّةً تَامَّةً مِنَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ،

وَكَوْنُهَا لِلسَّبَبِ أَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: حَالُهُمْ يَخْفَى على الجاهل به، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَعَلَى تَعْلِيقِ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْجَاهِلَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَلَكِنْ بِالتَّعَفُّفِ، وَالْغَنِيُّ بِالتَّعَفُّفِ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، قَالَ: يَكُونُ التَّعَفُّفُ دَاخِلًا فِي الْمَحْسَبَةِ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ سُؤَالٌ، بَلْ هُوَ قَلِيلٌ. وَبِإِجْمَالٍ فَالْجَاهِلُ بِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِفَقْرِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ عِفَّةٍ. فَمِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنْ: مِنْ، هَذِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ لَهَا اعْتِبَارًا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ يَتَقَدَّرُ بِمَوْصُولٍ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ يَحْصُلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، نَحْوَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» التَّقْدِيرُ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. وَلَوْ قُلْتَ هُنَا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ الَّذِي هُوَ التَّعَفُّفُ، لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّقْدِيرُ، وَكَأَنَّهُ سَمَّى الْجِهَةَ الَّتِي هُمْ أَغْنِيَاءُ بِهَا بَيَانَ الْجِنْسِ، أَيْ: بَيَّنَتْ بِأَيِّ جِنْسٍ وَقَعَ غِنَاهُمْ بِالتَّعَفُّفِ، لَا غِنَى بِالْمَالِ. فَتُسَمَّى: مِنْ، الدَّاخِلَةُ عَلَى مَا يُبَيِّنُ جِهَةَ الْغِنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ مِنْ سَبَبِيَّةٌ، لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ: بِأَغْنِيَاءَ، لَا: بيحسبهم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: يَحْسَبُهُمْ، جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً. تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ الْخِطَابُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَعْرِفُ فَقْرَهَمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْفَقْرِ، مِنْ: رَثَاثَةِ الْأَطْمَارِ، وَشُحُوبِ الْأَلْوَانِ لِأَجْلِ الْفَقْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السِّيمَا الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفَاقَةُ، وَالْجُوعُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقِلَّةُ النِّعْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَثَاثَةُ أَثْوَابِهِمْ، وَصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ. وَقِيلَ: أَثَرُ السُّجُودِ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «2» إِلَّا إِنْ كَانَ يَكُونُ أَثَرُ السُّجُودِ فِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ السِّيمَا بِالْخُشُوعِ، فَالْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ظَاهِرًا إِنَّمَا هُوَ: رَثَاثَةُ الْحَالِ، وَشُحُوبُ الْأَلْوَانِ. وَلِلصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ السيما

_ (1) سورة الحج: 22/ 30. (2) سورة الفتح: 48/ 29.

مَقَالَاتٌ. قَالَ الْمُرْتَعِشُ: عِزَّتُهُمْ عَلَى الْفَقْرِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: فَرَحُهُمْ بِالْفَقْرِ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِيثَارُ مَا عِنْدَهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: تِيهُهُمْ عَلَى الْغَنِيِّ، وَقِيلَ: طِيبُ الْقَلْبِ وَبَشَاشَةُ الْوَجْهِ. والباء متعلقة: بتعرفهم، وَهِيَ لِلسَّبَبِ، وَجَوَّزُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا جَوَّزُوا فِي الْجُمَلِ قَبْلَهَا، مِنَ الْحَالِيَّةِ، وَمِنَ الِاسْتِئْنَافِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طِبَاقٌ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي قَوْلِهِ: أحصروا وضربا فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي: فِي قوله: للفقراء وأغنياء. لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إِذَا نُفِيَ حُكْمٌ عَنْ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقَيْدٍ، فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ انْصِرَافُ النَّفْيِ لِذَلِكَ الْقَيْدِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا ثُبُوتَ سُؤَالِهِمْ، وَنَفْيَ الْإِلْحَاحِ أَيْ: وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ سُؤَالٌ، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِتَلَطُّفٍ وَتَسَتُّرٍ لَا بِإِلْحَاحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فَيَنْتَفِي ذَلِكَ الْقَيْدُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا نَفْيُ السُّؤَالِ وَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ، فَلَا يَكُونُ النَّفْيُ عَلَى هَذَا مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ فَقَطْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُونَ إِلْحَافًا وَلَا غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَنَظِيرُ هَذَا: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فَلَا يَكُونُ حَدِيثٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْهُمْ سُؤَالٌ الْبَتَّةَ فَلَا يَقَعُ إِلْحَاحٌ. وَنَبَّهَ عَلَى نَفْيِ الْإِلْحَاحِ دُونَ غَيْرِ الْإِلْحَاحِ لِقُبْحِ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ هَذَا الْوَصْفِ وَحْدَهُ وَوُجُودُ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِنَفْيِ مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ نَفْيُ الْمُتَرَتِّبَاتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ نَفَى الْأَوَّلَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، فَتُنْفَى مُتَرَتِّبَاتُهُ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ الْإِتْيَانَ فَانْتَفَى الْحَدِيثُ، انْتَفَتْ جَمِيعُ مُتَرَتِّبَاتِ الْإِتْيَانِ مِنَ: الْمُجَالَسَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْكَيْنُونَةِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ مُتَرَتِّبٍ وَاحِدٍ لِغَرَضٍ مَا عَنْ سَائِرِ الْمُتَرَتِّبَاتِ، وَتَشْبِيهُ الزَّجَّاجِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمناره إِنَّمَا هُوَ مُطْلَقَ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، أَيْ لَا سُؤَالَ وَلَا إِلْحَافَ. وَكَذَلِكَ: هَذَا لَا مَنَارَ وَلَا هِدَايَةَ، لَا أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا إِلْحَافَ، فَلَا سُؤَالَ، وَلَيْسَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَصِحُّ: لَا إِلْحَافَ فَلَا سُؤَالَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ، كَمَا لَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْمَنَارِ نَفْيُ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَعْضِ

لَوَازِمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي مَعْنَى النَّفْيِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّفْيِ فِي الْبَيْتِ أَنْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ: لَا يُلْحِفُونَ النَّاسَ سُؤَالًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ السُّؤَالِ نَفْيُ الْإِلْحَافِ، إِذْ نَفِيُ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ، فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ نَفْيَ الشَّيْئَيْنِ تَارَةً يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى شَيْءٍ فَتَنْتَفِي جَمِيعُ عَوَارِضِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى بَعْضِهَا بِالذِّكْرِ لغرض ما، وتارة يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى عَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُهُ، فَيَنْتَفِي لِنَفْيِهِ عَوَارِضَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْبِيهُهُ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، الْآيَةَ بِبَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ غَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ انْتِفَاءَ صِحَّةِ التَّشْبِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمَنَارِ فِي الْبَيْتِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْهِدَايَةِ، وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الْإِلْحَاحِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السُّؤَالِ، وَأَطَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الزَّجَّاجِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُطْلَقِ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، وَقَرَّرْنَا ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُ السُّؤَالُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْمَالُ لِكَثْرَةِ تَلَطُّفِهِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِالرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا، فَلِأَنْ لَا يُوجَدَ بِطَرِيقِ الْعُنْفِ أَوْلَى، وَقِيلَ: مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُمْ يُلْحِفُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِ السُّؤَالِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ لِإِلْحَاحِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ في: ترك، السُّؤَالَ، وَمَنْعُهُمْ ذَلِكَ بِالتَّكْلِيفِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ: مَنْ سَأَلَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُلِحَّ، فَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مُوجِبٌ لِنَفْيِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ عَدَمِ إِظْهَارِ آثَارِ الْفَقْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَضُمُّونَ إلى السكوت مِنْ رَثَاثَةِ الْحَالِ وَالِانْكِسَارِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ السُّؤَالِ الْمُلِحِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً. وَمَنْ جَوَّزَ الْحَالَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ وَذُو الْحَالِ وَاحِدٌ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعَدَّدَ الْحَالِ لِذِي حَالٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ: إِلْحَافًا، أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ: يَسْأَلُونَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُلْحِفُونَ. وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: لَا يَسْأَلُونَ مُلْحِفِينَ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَالتَّأْكِيدِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ قَيْدِ الْآخَرِ فَالْأَوَّلُ: ذَكَرَ أَنَّ الْخَيْرَ الذي يعلمه مَعَ غَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالثَّانِي: ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الناشئ عَنِ الْخَيْرِ يُوَفَّاهُ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا بَخْسٍ،

[سورة البقرة (2) : آية 274]

وَالثَّالِثُ: ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا يُنْفِقُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِهِ الْمُؤْثِرَةِ فِي تُرَتِّبِ الثَّوَابِ، فَأَتَى بِالْوَصْفِ الْمُطَّلِعِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ: الْعِلْمُ. [سورة البقرة (2) : آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً قَالَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْغَافِقِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَرَبَاحُ بْنُ بُرَيْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ فِي عَلَفِ الْخَيْلِ الْمُرْتَبِطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُرْتَبَطِهَا. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا مَرَّ بِفَرَسٍ سَمِينٍ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ، لَمْ يَمْلُكْ غَيْرَهَا، فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا، وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا، وَبِدِرْهَمٍ سِرًا، وَبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ بَعَثَ بِوَسَقِ تَمْرٍ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ لَيْلًا ، وَفِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَعَثَ إِلَيْهِمْ بِدَرَاهِمَ كَثِيرَةٍ نَهَارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْمُنْفِقِينَ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا تَقْتِيرٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ، تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ: عَشَرَةٌ بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ فِي السِّرِّ، وَعَشَرَةٌ فِي الْجَهْرِ. وَالْآيَةُ، وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ، فِيمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعُمُّونَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالَ بِالصَّدَقَةِ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَكُلَّمَا نَزَلَتْ بِهِمْ حَاجَةُ مُحْتَاجٍ عَجَّلُوا قَضَاءَهَا، وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ، وَلَمْ يَتَعَلَّلُوا بِوَقْتٍ وَلَا حَالٍ. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفْضَلِيَّةَ الصَّدَقَةِ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ، وَلَا فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ اعْتِمَادًا عَلَى الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَهِيَ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أَوْ جَاءَ تَفْصِيلًا عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ مِنْ صَدَقَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدَقَةِ عَلِيٍّ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ، وَالسِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَاللَّيْلُ مَظِنَّةُ صَدَقَةِ السِّرِّ، فَقَدَّمَ الْوَقْتَ الَّذِي كَانَتِ الصَّدَقَةُ فِيهِ أَفْضَلَ، وَالْحَالُ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا أَفْضَلَ.

وَالْبَاءُ فِي: بِاللَّيْلِ، ظَرْفِيَّةٌ، وَانْتِصَابُ: سِرًّا وَعَلَانِيَةً، عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: مُسَرِّينَ وَمُعْلِنِينَ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُمَا حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ: نَعْتَانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِنْفَاقًا سرا، على مشهور الإغراب فِي: قُمْتُ طَوِيلًا، أَيْ قِيَامًا طَوِيلًا. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فَلَا نُعِيدُهُ، وَدَخَلَتِ: الْفَاءُ فِي فَلَهُمْ، لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ لِعُمُومِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّبَهُ، يَعْنِي بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَاسْمِ الشَّرْطِ، إِذَا كَانَ: الَّذِي، مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى: الَّذِي، عَامِلٌ يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ. انْتَهَى. فَحَصَرَ الشَّبَهَ فِيمَا إِذَا كَانَ: الَّذِي، مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ، إِذْ مَا ذُكِرَ لَهُ قُيُودٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالَّذِي بَلْ كُلُّ مَوْصُولٍ غَيْرُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الَّذِي بَلَا خِلَافٍ، وَفِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ خِلَافٌ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ الْفَاءِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، فَأَطْلَقَ فِي الْفِعْلِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ شَرْطُ الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، فَلَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَأْتِينِي، أَوْ: لَمَّا يَأْتِينِي، أَوْ: مَا يَأْتِينِي، أَوْ: لَيْسَ يَأْتِينِي، فَلَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، لَا يُصْلِحُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفِعْلِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الظَّرْفُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ كَالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ، فَمَتَى كَانَتِ الصِّلَةُ وَاحِدًا مِنْهُمَا جَازَ دُخُولُ الْفَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى: الَّذِي، عَامِلٌ يغير معناه عِبَارَةً غَيْرَ مُخَلِّصَةٍ، لِأَنَّ الْعَامِلَ الدَّاخِلَ عَلَيْهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يُغَيِّرُ مَعْنَى الْمَوْصُولِ، إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: مَعْنَى جُمْلَةِ الِابْتِدَاءِ فِي الْمَوْصُولِ، وَخَبَرُهُ فَيُخْرِجُهُ إِلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى الِابْتِدَائِيِّ مِنْ: تَمَنٍّ، أَوْ تَشْبِيهٍ، أَوْ ظَنٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. لَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَزُورُنَا فَيُحْسِنُ إِلَيْنَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَيْضًا لِابْنِ عَطِيَّةَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ شَرْطَ دُخُولِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِالصِّلَةِ، نَحْوَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْأَجْرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَمَسْأَلَةُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ يَسْتَدْعِي كَلَامًا طَوِيلًا، وَفِي بَعْضِ مَسَائِلِهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) مِنْ تأليفنا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 إلى 276]

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) الرِّبَا: الزِّيَادَةُ يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو وَأَرْبَاهُ غَيْرُهُ. وَأَرْبَى الرَّجُلُ، عَامَلَ بِالرِّبَا، وَمِنْهُ الربوة والرابي. وَقَالَ حَاتِمٌ: وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كأن كعوبه ... نوى القشب قَدْ أَرْبَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ وَكُتِبَ فِي الْقُرْآنِ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ، وَبِالْأَلِفِ. وَتُبْدَلُ الْبَاءُ مِيمًا قَالُوا: الرِّمَا، كَمَا أَبْدَلُوهَا فِي كَتَبَ قَالُوا: كَتَمَ، وَيُثَنَّى: رِبَوَانِ، بِالْوَاوِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ أَلِفَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَكَذَلِكَ الثُّلَاثِيُّ الْمَضْمُومُ الْأَوَّلُ نَحْوُ: ضُحَى، فَتَقُولُ: رِبَيَانِ وَضَحْيَانِ، فَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا نَحْوَ: صَفَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى الْوَاوِ. وَأَمَّا الرِّبَا الشَّرْعِيُّ فَهُوَ مَحْدُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ. تَخَبَّطَ: تَفَعَّلَ مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ، وَخَبَطَ الْبَعِيرُ الْأَرْضَ بِأَخْفَافِهِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَتَصَرَّفُ وَلَا يَهْتَدِي: خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَتَوَرَّطَ فِي عَمْيَاءَ. وَقَوْلُ عَلْقَمَةَ: وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ أَيْ: أَعْطَيْتَ مَنْ أَرَدْتَ بِلَا تَمْيِيزٍ كَرَمًا. سَلَفَ: مَضَى وَانْقَضَى، وَمِنْهُ سَالِفُ الدَّهْرِ أَيْ مَاضِيهِ. عَادَ عَوْدًا: رَجَعَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَأَنْشَدَ: تَعُدُّ فِيكُمُ جَزْرَ الْجَزُورِ رِمَاحُنَا ... وَيَرْجِعْنَ بِالْأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ الْمَحْقُ: نُقْصَانُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَمِنْهُ: الْمَحَاقُ فِي الْهِلَالِ، يُقَالُ: مَحَقَهُ اللَّهُ فَانْمَحَقَ وَامْتَحَقَ أَنْشَدَ اللَّيْثُ: يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا وَارِدٌ فِي تَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ

يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طِيبِ مَا كَسَبَ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْخَبِيثِ. فَذُكِرَ نَوْعٌ غَالِبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ: خَبِيثٌ، وَهُوَ: الرِّبَا، حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا كَانَ مِنْ رِبًا، وَأَيْضًا فَتَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ فِيهَا نُقْصَانُ مَالٍ، وَالرِّبَا فِيهِ زِيَادَةُ مَالٍ، فَاسْتَطْرَدَ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ التَّضَادِّ، وَأَبْدَى لِأَكْلِ الرِّبَا صُورَةً تَسْتَبْشِعُهَا الْعَرَبُ عَلَى عَادَتِهَا فِي ذِكْرِ مَا اسْتَغْرَبَتْهُ وَاسْتَوْحَشَتْ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَقَوْلِ الْآخَرِ: خَيْلًا كَأَمْثَالِ السَّعَالِي شُرَّبًا وَقَوْلِ الْآخَرِ: بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ وَالْأَكْلُ هُنَا قِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ خُصُوصِ الْأَكْلِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ: عَنْهُمْ، مُخْتَصٌّ بِالْآكِلِ الربا، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْ مُعَامَلَةِ الرِّبَا وَأَخْذِهِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ غَالِبُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا «2» وَقِيلَ: الرِّبَا هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، لَا يَخُصُّ الرِّبَا الَّذِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا الرِّبَا الشَّرْعِيِّ. وَقَرَأَ العدوي: الربو، بالواو قيل: وَهِيَ لُغَةُ الْحِيرَةِ، وَلِذَلِكَ كَتَبَهَا أَهْلُ الْحِجَازِ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى لُغَةِ مَنْ وَقَفَ عَلَى أَفْعَى بِالْوَاوِ، فَقَالَ: هذه أفعو، فأجرى الْقَارِئُ الْوَصْلَ إِجْرَاءَ الْوَقْفِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ بَعِيدَةٌ، لِأَنْ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، بَلْ مَتَى أَدَّى التَّصْرِيفُ إِلَى ذَلِكَ قُلِبَتْ تِلْكَ الْوَاوُ يَاءً وَتِلْكَ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَقَدْ أُوِّلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: فِي أَفْعَى: أَفْعُو، فِي الْوَقْفِ. وَأَنَّ الْقَارِئَ إِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَضْبُطْ حَرَكَةَ الْبَاءِ، أَوْ سَمَّى قُرْبَهَا مِنَ الضَّمَّةِ ضَمًّا. وَ: لَا يَقُومُونَ، خَبَرٌ عَنْ: الَّذِينَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، إِذْ يُتَكَلَّفُ إِضْمَارُ خَبَرٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّهُ إخبار عن الذين

_ (1) سورة الصافات: 37/ 65. (2) سورة النساء: 4/ 161.

يَأْكُلُونَ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ وَوَعِيدٌ عَنِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا مُسْتَحِلِّينَ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ وَقَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» ومن اخْتَارَ حَرْبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الْقِيَامُ الَّذِي فِي الْآيَةِ قِيلَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجُبَيْرٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَالْمَجَانِينِ، عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ جَمْعِ الْمَحْشَرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سِيَمًا لَهُمْ يُعْرَفُونَ بِهَا، ويقوي بهذا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْعَلُ مَعَهُ شَيْطَانٌ يَخْنُقُهُ كَأَنَّهُ يَخْبِطُ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا، فَجُوزِيَ فِي الْآخِرَةِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. وَقَدْ أُثِرَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَكْلَةَ الرِّبَا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، وَذَكَرَ حَالَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا تَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَيُصْرَعُونَ، وَفِي طَرِيقٍ أَنَّهُ رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْآيَةِ فَيُحْتَمَلُ تَشْبِيهُ حَالِ الْقَائِمِ بِحِرْصٍ وَجَشَعٍ إِلَى تِجَارَةِ الرِّبَا بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ يَسْتَفِزُّهُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَعْضَاؤُهُ، كَمَا يَقُومُ الْمُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ يَخْلِطُ فِي هَيْئَةِ حَرَكَاتِهِ، إِمَّا مِنْ فَزَعٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ جُنَّ. هَذَا وَقَدْ شَبَّهَ الْأَعْشَى نَاقَتَهُ فِي نَشَاطِهَا بِالْجُنُونِ فِي قَوْلِهِ: وَتُصْبِحُ عَنْ غَبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ لَكِنْ مَا جَاءَتْ بِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ يُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ. وَ: مَا، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: كَقِيَامِ الَّذِي، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِلَّا كَمَا يَقُومُهُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ. قِيلَ: مَعْنَاهُ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي يَسْتَجِرْهُ الشَّيْطَانُ فيقع ظهرا لبطن، وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ فِي سُكْرِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَبَّطُ الْإِنْسَانَ، فَقِيلَ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ هُوَ مِنْ فِعْلِ الشيطان

_ (1) سورة البقرة: 2/ 279.

بِتَمْكِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لِمَا يُحْدِثُهُ فِيهِ مِنْ غَلَبَةِ السُّوءِ أَوِ انْحِرَافِ الْكَيْفِيَّاتِ وَاحْتِدَادِهَا فَتَصْرَعُهُ، فَنُسِبَ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا تَشْبِيهًا بِمَا يَفْعَلُهُ أَعْوَانُهُ مَعَ الَّذِينَ يَصْرَعُونَهُمْ، وَقِيلَ: أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ عَلَى زَعَمَاتِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الْإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ، فَوَرَدَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، يَقُولُونَ: رَجُلٌ مَمْسُوسٌ، وَجُنَّ الرَّجُلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَأَيْتُهُمْ لَهُمْ فِي الْجِنِّ قِصَصٌ وَأَخْبَارٌ وَعَجَائِبُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَإِنْكَارِ الْمُشَاهَدَاتِ. انْتَهَى. وَتَخَبَّطَ هُنَا: تَفَعَّلَ، مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ خَبَطَ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي: تَفَعَّلَ، نَحْوَ: تَعَدَّى الشَّيْءَ وَعَدَّاهُ إِذَا جَاوَزَهُ. مِنَ الْمَسِّ، الْمَسُّ الْجُنُونُ يُقَالُ: مَسَّ فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَبِهِ مَسٌّ. أَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أُعَلِّلُ نَفْسِي بِمَا لَا يَكُونُ ... كَذِي الْمَسِّ جُنَّ وَلَمْ يَخْنُقِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَسِّ بِالْيَدِ، كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّ الْإِنْسَانَ فَيُجِنُّهُ، وَسُمِّيَ الْجُنُونُ مَسًّا كَمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُهُ وَيَطَأُهُ بِرِجْلِهِ فَيُخَيِّلُهُ، فَسُمِّيَ الْجُنُونُ خَبْطَةٌ، فَالتَّخَبُّطُ بِالرِّجْلِ وَالْمَسُّ بِالْيَدِ، وَيَتَعَلَّقُ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: يَتَخَبَّطُهُ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَرَفْعِ مَا يَحْتَمِلُهُ يَتَخَبَّطُهُ مِنَ الْمَجَازِ إِذْ هُوَ ظَاهَرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَسِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّخَبُّطِ الْإِغْوَاءُ وَتَزْيِينُ الْمَعَاصِي، فَأَزَالَ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ، هَذَا الِاحْتِمَالَ. وَقِيلَ: يتعلق: بيقوم، أَيْ: كَمَا يَقُومُ مِنْ جُنُونِهِ الْمَصْرُوعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ؟ قُلْتُ: بلا يَقُومُونَ، أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي بِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ فِي شَرْحِ الْمَسِّ أَنَّهُ الْجُنُونُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي تَعَلُّقِ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: لَا يَقُومُونَ، ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ شَرَحَ الْمَسَّ بِالْجُنُونِ، وَكَانَ قَدْ شَرَحَ أَنَّ قِيَامَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهُنَاكَ لَيْسَ بِهِمْ جُنُونٌ وَلَا مَسٌّ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُكَنَّى بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ الْجُنُونُ عَنْ أَكْلِ

الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ مِنْ قُبُورِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ التَّصْرِيحُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَسِّ، إِذِ التَّصْرِيحُ بِهِ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ: مَا، بَعْدَ: إِلَّا، لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «1» بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا «2» وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا أَرْسَلْنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ الْمَخْصُوصِ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً، وَالْمَجْرُورُ الْخَبَرُ، أَيْ: ذَلِكَ الْقِيَامُ كائن بسبب أَنَّهُمْ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: قِيَامُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ: بِأَنَّهُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ جَوَازُ ذَلِكَ لِحَذْفِ الْمَصْدَرِ، فَلَمْ يَظْهَرْ قُبْحٌ بِالْفَصْلِ بِالْخَبَرِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْعِقَابُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ، وَالْعِقَابُ هُوَ ذَلِكَ الْقِيَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَكْلِهِمُ الرِّبَا، أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلِ الَّذِي اسْتَحَلُّوهُ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، أَيْ: مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ، وَشَبَّهُوا الْبَيْعَ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى جَوَازِهِ بِالرِّبَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَعْكِسُوا تَنْزِيلًا لِهَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنَ الرِّبَا مَنْزِلَةَ الْأَصْلِ الْمُمَاثِلِ لَهُ الْبَيْعُ، وَهَذَا مِنْ عَكْسِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَهُ ذو الرمّة: ورمل كأروال الْعَذَارَى قَطَعْتُهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِ الْمُوَلِّدِيَنَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ هانىء: كَأَنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ ... رَأَى الْقِرْنَ فَازْدَادَتْ طَلَاقَتُهُ ضِعْفًا وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ عَلَى غَرِيمِهِ طَالَبَهُ، فَيَقُولُ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي الْمَالِ، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ وَيَقُولَانِ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا الزِّيَادَةُ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ بِالرِّبْحِ، أَوْ عِنْدَ الْمَحَلِّ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَتْ ثَقِيفُ أَكْثَرَ الْعَرَبِ رِبًا، فَلَمَّا نُهُوا عَنْهُ قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مثل البيع.

_ (1) سورة النحل: 16/ 44. (2) سورة النحل: 16/ 43.

وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا. ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ إِذْ سَاوَوْا بَيْنَهُمَا، وَالْحُكْمُ فِي الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُعَارَضُ فِي حُكْمِهِ وَلَا يُخَالَفُ فِي أَمْرِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يصح، إذ جعل الدَّلِيلَ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ هُوَ: أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْبَيْعَ عِوَضٌ وَمُعَوَّضٌ لَا غَبْنٌ فِيهِ، وَالرِّبَا فِيهِ التَّغَابُنُ وَأَكْلُ الْمَالِ البطل، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا مُقَابِلَ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الثَّمَنَ مُقَابَلٌ بِالْمُثَمَّنِ.. قَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا لِيَتَقَارَضَ النَّاسُ ، وَقِيلَ: حَرَّمَ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلْأَمْوَالِ، مُهْلِكٌ لِلنَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنْ كَلَامِهِمْ، فَكَانُوا قَدْ عَرَفُوا تَحْرِيمَ اللَّهِ الرِّبَا فَعَارَضُوهُ بِآرَائِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُمْ. وَالظَّاهِرُ: عُمُومُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا فِي كُلِّ بَيْعٍ، وَفِي كُلٍّ رِبًا، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْبُيُوعِ وَإِحْلَالِ بَعْضِ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُمَا مُجْمَلَانِ، فَلَا يُقْدَمُ عَلَى تَحْلِيلِ بَيْعٍ وَلَا تَحْرِيمِ رِبًا إِلَّا بِبَيَانٍ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعَامِ وَالْمُجْمَلِ، وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَمُجْمَلٌ دَخَلَهُ التَّفْسِيرُ، وَتَقَاسِيمُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا وَتَفَاصِيلُهُمَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ كَمَا قَالُوا فِي الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ: فَلَهُ مَا سَلَفَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ بِالرِّبَا لَيْسَ لَهُ مَا سَلَفَ، بَلْ يَنْقُضُ وَيَرُدُّ فِعْلُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، لَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِطَرَفٍ مِنْ وَعِيدِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ حَذْفُ تَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ: جَاءَتْهُ، لِلْفَصْلِ، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَ الْمَوْعِظَةِ مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ: فَمَنْ جَاءَتْهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَتَلَتْ عَائِشَةُ هَذِهِ الآية سَأَلَتْهَا الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَبْقَعَ، زَوْجُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ شِرَائِهَا جَارِيَةً بِسِتِّمَائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَكَانَتْ قَدْ بَاعَتْهُ إِيَّاهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ، فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَقَالَتِ الْعَالِيَةُ: أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ مِنْهُ إِلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتِ الْآيَةَ عَائِشَةُ. وَالْمَوْعِظَةُ: التَّحْرِيمُ، أَوِ: الْوَعِيدُ، أَوِ: الْقُرْآنُ، أَقْوَالٌ. وَيَتَعَلَّقُ: من ربه، بجاءته، أَوْ: بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ صِفَةً لِمَوْعِظَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمَوْعِظَةِ إِذْ جَاءَتْهُ مِنْ رَبِّهِ، النَّاظِرُ لَهُ فِي مَصَالِحِهِ، وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تَأْنِيسٌ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ. إِذِ الرَّبُّ فِيهِ إِشْعَارٌ بِإِصْلَاحِ عَبْدِهِ، فَانْتَهَى تَبَعَ النَّهْيِ، وَرَجَعَ عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا، أَوْ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ مِنَ

الِاكْتِسَابِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ مَا تَقَدَّمَ لَهُ أخذه من الربا لا تبعة عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ، وَمَنْ كَانَ يَتَّجِرُ هُنَالِكَ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْكُفَّارِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فَمَعْنَاهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: أَمْرُهُ، عَائِدٌ عَلَى الْمُنْتَهِي، إِذْ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّأْنِيسِ لَهُ وَبَسْطِ أَمَلِهِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: أَمْرُهُ إِلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ، وَمَوْضِعِ رَجَاءٍ، وَالْأَمْرُ هُنَا لَيْسَ فِي الرِّبَا خَاصَّةً، بَلْ وَجُمْلَةُ أَمُورِهِ، وَقِيلَ: فِي الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَقِيلَ: فِي الْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يَحْكُمُ فِي شَأْنِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا إِلَى الَّذِينَ عَامَلَهُمْ، فَلَا يُطَالِبُونَهُ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ لِقَبُولِهِ الْمَوْعِظَةَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى: مَا سَلَفَ، أَيْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ، وَإِسْقَاطُ التَّبَعَةِ فِيهِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى ذِي الرِّبَا، أَيْ: فِي أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى الِانْتِهَاءِ، أَوْ يُعِيدَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الرِّبَا أَيْ فِي إِمْرَارِ تَحْرِيمِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: فِي عَفْوِ اللَّهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَمَنْ عادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، قَالَ سُفْيَانُ: وَمَنْ عَادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا حَتَّى يَمُوتَ فَلَهُ الْخُلُودُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا: لِمَنْ، وَحَمْلُ فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَالْخُلُودُ خُلُودُ تَأْبِيدٍ، أَوْ فِي مُسْلِمٍ عَاصٍ فَخُلُودُهُ دوام مكثه لا التأييد. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى تَخْلِيدِ الْفُسَّاقِ. انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي: أَنَّ الفاسق يخلد في النار أَبَدًا وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَصَحَّ أَنَّ أَكْلَ الرِّبَا مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله، وَسَأَلَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ رَأَى سَكْرَانَ يَتَقَافَزُ، يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَمَرَ، فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ شَرٌّ مِنَ الْخَمْرِ، أَتُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ؟ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ، بَعْدَ أَنْ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ: امْرَأَتُكَ طَالِقٌ، تَصَفَّحْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَشَرَّ مِنَ الرِّبَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ آذَنَ فِيهِ بِالْحَرْبِ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَيْ: يَذْهَبُ بِبَرَكَتِهِ وَيَذْهَبُ الْمَالُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، رَوَاهُ أَبُو

صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَعَاقِبَتُهُ إِلَى قَلٍّ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِحَاقَهُ إِبْطَالُ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ صَدَقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قِيلَ: الْإِرْبَاءُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَزِيدُهَا وَيُنَمِّيهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ، وَكَثْرَةِ الْأَرْبَاحِ فِي الْمَالِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ تَضَاعُفُ الْحَسَنَاتِ وَالْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ بِالصَّدَقَةِ، كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُمَحِّقُ وَيُرَبِّي، مِنْ: مَحَقَ وَرَبَّى مُشَدَّدًا. وَفِي ذِكْرِ الْمَحْقِ وَالْإِرْبَاءِ بَدِيعُ الطِّبَاقِ، وَفِي ذِكْرِ الرِّبَا وَيُرَبَّى بَدِيعُ التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِيهِ تَغْلِيظُ أَمْرِ الرِّبَا وَإِيذَانٌ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَافِرِ وَالْآثِمِ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْكَافِرَ، تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ أَمْرِ الرِّبَا وَمُخَالَفَةِ اللَّهِ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا مُبَالِغٌ فِي الْكُفْرِ، مَبَالِغٌ فِي الْإِثْمِ. وَذَكَرَ الْأَثِيمَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: ذَكَرَ الْأَثِيمَ لِيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي: كَفَّارٍ، إِذْ يَقَعُ عَلَى الزَّارِعِ الَّذِي يَسْتُرُ الْأَرْضَ. انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إذ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ الْكَافِرَ، وَالْكَافِرُونَ، وَالْكَفَّارَ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى الزَّارِعِ فَبِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «1» . وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ مُحْسِنًا صَالِحًا، بَلْ يُرِيدُهُ مُسِيئًا فَاجِرًا، وَيَحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ تَوْفِيقَ الْكُفَّارِ الْأَثِيمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ مُسْتَكْرَهَةٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَفْرَطَ فِي تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ، وَحَمَّلَهُ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ التَّوْفِيقَ عَلَى الْعُمُومِ وَيُحَبِّبُهُ، وَالْمُحِبُّ فِي الشَّاهِدِ يَكُونُ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَلُطْفٌ بِهِ، وَحِرْصٌ عَلَى حِفْظِهِ وَتَظْهَرُ دَلَائِلُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ وُجُودَ ظُهُورِ الْكَافِرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ مَزِيَّةُ الْحُبِّ بِأَفْعَالٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِ، نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّاهِدِ، وَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ مَوْجُودَةٌ لِلْمُؤْمِنِ. انتهى كلامه.

_ (1) سورة الحديد: 57/ 20.

[سورة البقرة (2) : الآيات 277 إلى 281]

وَالْحُبُّ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الْمَيْلُ الطَّبِيعِيُّ، مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَابْنُ فُورَكٍ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَهُ بِمَعْنَى اللُّطْفِ وَإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ، فَيَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ آكِلِ الرِّبَا، وَحَالَ مَنْ عَادَ بَعْدَ مَجِيءِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَنَّهُ كَافِرٌ أَثِيمٌ، ذَكَرَ ضِدَّ هَؤُلَاءِ لِيُبَيِّنَ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَآمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. انْتَهَى. وَنَصَّ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَا مُنْدَرَجَيْنِ فِي عُمُومِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، كَانَتْ لَهُمْ دُيُونُ رِبًا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقِيلَ: فِي عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: فِي عُثْمَانَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتَقَاضَوْا رِبَاهُمْ، فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ «1» وَكَانَ الْمَعْنَى: فَلَهُ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، أَيْ: لا تبعة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 275. [.....]

عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: مَا سَلَفَ، أَيْ: مَا تَقَدَّمَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ إِنْشَاءَ عَقْدٍ رِبَوِيٍّ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، أَزَالَ تَعَالَى هَذَا الْاحْتِمَالَ بِأَنْ أَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ السَّابِقَةِ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الرِّبَا هُوَ كَالْمُنْشَأِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَنَادَاهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ، إِذْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ ثَانِيًا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا. وَفُتِحَتْ عَيْنُ: وَذَرُوا، حَمْلًا عَلَى: دَعَوْا، وَفُتِحَتْ عَيْنُ: دَعَوْا، حَمْلًا عَلَى: يَدَعُ، وَفُتِحَتْ فِي يَدَعُ، وَقِيَاسُهَا الْكَسْرُ، إِذْ لَامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَا بَقَا، بِقَلْبِ الْيَاءِ أَلِفًا، وَهِيَ لُغَةٌ لِطَيِّءٍ، وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ: زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إنسان عينه ... يفيض بمغمور مِنَ الْمَاءِ مُتَّأَقِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: مَا بَقِي، بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى ... عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا وَقَالَ جَرِيرٌ: هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيَ لَكُمْ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ شَرْطٌ مَجَازِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ إِقَامَةَ نَفْسِهِ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا! قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ صَحَّ إِيمَانُكُمْ، يَعْنِي أَنَّ دَلِيلَ صِحَّةِ الإيمان وثباثه امْتِثَالُ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ، لِأَنَّهُ إِذَا تَوَقَّفَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يُجَامِعُهَا الصِّحَّةُ مَعَ فِعْلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَهُوَ مُدَّعَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ بِمَعْنَى إِذْ أَيْ إِذْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، أَنَّ: إِنَّ، تَكُونُ بِمَعْنَى: إِذْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَلَا يَثْبُتُ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ، وَكَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَكَامَلُ إِذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَبِيرَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ لَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّاهَا، وَقِيلَ: الْإِيمَانُ مُتَغَايِرٌ بِحَسَبِ متعلقه، فمعنى الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَمَعْنَى الثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِكُمْ.

وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: يا أيها الذي آمَنُوا بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ، إِذْ لَا يَنْفَعُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِهَذَا، قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ الْآيَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ، أَوْ فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، أَوْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ ثَقِيفٍ وَلَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ قَبْلَ الْإِيمَانِ آمَنُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ فِي ثَقِيفٍ عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ اسْتِدَامَةِ الْإِيمَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ أَبَا السَّمَاكِ، وَهُوَ الْعَدَوِيُّ، قَرَأَ هُنَا: مِنَ الرِّبُو، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا «1» وَشَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: شُذَّ هَذَا الْحَرْفُ فِي أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الضَّمِّ بِنَاءً لَازِمًا، وَالْآخَرُ: وُقُوعُ الْوَاوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ فِي آخِرِ الِاسْمِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إِلَّا في الفعل، نحو: يغزو، وَيَدْعُو. وَأَمَّا ذُو، الطَّائِيَّةُ بِمَعْنَى: الَّذِي فَشَاذَّةٌ جَدًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَيِّرُ وَاوَهَا إِذَا فَارَقَ الرَّفْعَ، فَتَقُولُ: رَأَيْتُ ذَا قَامَ. وَجْهُ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ فَخَّمَ الْأَلِفَ انْتَحَى بِهَا الْوَاوُ الَّتِي الْأَلِفُ بَدَلٌ مِنْهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: بِنَاءً لَازِمًا، أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَارِضًا نَحْوَ: الْحِبْكُ، فَكَسْرَةُ الْحَاءِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَمِنْ قولهم الردؤ، فِي الْوَقْفِ، فَضَمَّةُ الدَّالِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي أَبْنِيَةِ كَلَامِهِمْ فِعْلٌ لَا فِي اسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إلا في الفعل، نحو: يَغْزُو، فَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ، لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا لِمَا ذَكَرُوا، وَنَقُولُ: إِنَّ الضَّمَّةَ الَّتِي فِيمَا قَبْلَ الْآخِرِ إِمَّا هِيَ لِلِاتِّبَاعِ، فَلَيْسَ ضَمَّةٌ تَكُونُ فِي أَصْلِ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ كَضَمَّةِ يَغْزُو. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرُهُ: فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَسُمِّيَ التَّرْكُ فِعْلًا، وَإِذَا أُمِرُوا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لزم مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ إِنْشَاءِ الرِّبَا عَلَى طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَالَ الرَّازِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بتحريمه فأذنوا بحرب

_ (1) سورة البقرة: 2/ 275.

من الله ورسوله، ومن ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ كَمَا لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِهَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ الْبُرْجُمِيِّ، وَابْنِ غَالِبٍ عَنْهُ: فَآذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: آذَنَ الرُّبَاعِيِّ بِمَعْنَى: أَعْلَمُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «1» . وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: فَأْذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: أَذِنَ، الثُّلَاثِيِّ، مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «2» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَأَيْقِنُوا بِحَرْبٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هُوَ لِمَنْ صَدَرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا، فَعَلَى هَذَا الْمُحَارَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْإِعْلَامُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْحَرْبِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ دُونَ حَقِيقَةِ الْحَرْبِ، كَمَا جَاءَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدَ آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْحَرْبِ. وَنَقُولُ: الْإِصْرَارُ عَلَى الرِّبَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، قَبَضَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَعَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ التَّوْبَةُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حَارَبَهُ كَمَا تُحَارَبُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى مَنْ يَكُونُ مُسْتَبِيحًا لِلرِّبَا، مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا حَارَبَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَأَنْتُمْ حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ: أَعْدَاءٌ. وَالْحَرْبُ دَاعِيَةُ الْقَتْلِ، وَقَالُوا: حَرْبُ اللَّهِ النَّارُ، وَحَرْبُ رَسُولِهِ السَّيْفُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: «يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ» . وَالْبَاءُ فِي بِحَرْبٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْقَصْرِ لِلْإِلْصَاقِ، تَقُولُ: أَذِنَ بِكَذَا، أَيْ: عَلِمَ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى فَاسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنَ الْأُذُنِ، وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ. انْتَهَى. وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ تُقَوِّي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِالْقَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ عِنْدِي مِنَ الْإِذْنِ، وَإِذَا أَذِنَ الْمَرْءُ فِي شَيْءٍ فَقَدْ قَرَّرَهُ وَبَنَى مَعَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قَرِّرُوا الْحَرْبَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الله ورسوله.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 109. (2) سورة النبأ: 78/ 38.

وَيَلْزَمُهُمْ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَدْعَو الْحَرْبَ وَالْبَاغُونَ، إِذْ هُمُ الْآذِنُونَ فِيهَا، وَبِهَا، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ حَرْبُ اللَّهِ، وَتَيَقُّنُهُمْ لِذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْبَاءَ فِي: بِحَرْبٍ ظَرْفِيَّةٌ. أَيْ: فَأْذَنُوا فِي حَرْبٍ، كَمَا تَقُولُ أُذِنَ فِي كَذَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَوَّغَهُ وَمَكَّنَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَنْ قَرَأَ فَآذَنُوا بِالْمَدِّ، فَتَقْدِيرُهُ: فَأَعْلِمُوا مَنْ لَمْ بنته عَنْ ذَلِكَ بِحَرْبٍ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْمَفْعُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «1» وَإِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ عَلِمُوا هُمْ لَا مَحَالَةَ، قَالَ: فَفِي إِعْلَامِهِمْ عَلِمَهُمْ، وَلَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ إِعْلَامُهُمْ غَيْرَهُمْ. فَقِرَاءَةُ الْمَدِّ أَرْجَحُ، لِأَنَّهَا أَبْلُغُ وَآكُدُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قِرَاءَةُ الْقَصْرِ أَرْجَحُ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَدِّ بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقِرَاءَتَانِ عِنْدِي سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ مَحْصُورٌ، لِأَنَّهُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَذَرْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فَإِنْ قِيلَ: فَأْذَنُوا، فَقَدْ عَمَّهُمُ الْأَمْرُ. وَإِنْ قِيلَ: فَآذِنُوا، بِالْمَدِّ فَالْمَعْنَى: أَنْفُسَكُمْ، أَوْ: بَعْضَكُمْ بَعْضًا. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَقْتَضِي فَسَحًا لَهُمْ فِي الِارْتِيَاءِ وَالتَّثَبُّتِ، فَأَعْلِمُوا نُفُوسَكُمْ هَذَا، ثُمَّ انْظُرُوا فِي الْأَرْجَحِ لَكُمْ: تَرْكِ الرِّبَا أَوِ الْحَرْبِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَتْ ثَقِيفٌ: لَا يَدَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ عَظِيمٌ، إِذِ الْحَرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ حُرُوبِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قُلْتُ: كَانَ هَذَا أَبْلَغَ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَأْذَنُوا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَرْبِ عَظِيمٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ أَبْلَغَ لِأَنَّ فِيهَا نَصًّا بِأَنَّ الْحَرْبَ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَارِبُهُمْ، وَلَوْ قِيلَ: بِحَرْبِ اللَّهِ، لَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ مُضَافَةً لِلْفَاعِلِ، فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُحَارِبَ لَهُمْ، وَأَنْ تَكُونَ مُضَافَةً لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْمُحَارِبِينَ اللَّهَ. فَكَوْنُ اللَّهِ مُحَارِبَهُمْ أَبْلَغُ وَأَزْجَرُ فِي الْمَوْعِظَةِ مِنْ كونهم محاربين الله.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 109.

وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أَيْ: إِنْ تُبْتُمْ من الربا ورؤوس الْأَمْوَالِ: أُصُولُهَا، وَأَمَّا الْأَرْبَاحُ فَزَوَائِدُ وَطَوَارِئُ عَلَيْهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا كَفَرُوا بِرَدِّ حُكْمِ اللَّهِ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فيصير مالهم فيأ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى رؤوس الْأَمْوَالِ مَعَ مَا قَبْلَهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَلَيْسَ لَهُمْ رؤوس أَمْوَالِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ أَصْلِ الْمَالِ رَأْسًا مَجَازٌ. لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَا تَظْلِمُونَ الْغَرِيمَ بِطَلَبِ زِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا تُظْلَمُونَ أَنْتُمْ بِنُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ، وَقِيلَ: بِالْمَطْلِ. وَقَرَأَ أَبَانُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ الأول مبنيا للمفعول، والثاني مبينا لِلْفَاعِلِ وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهَا تُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وَإِنْ تُبْتُمْ، فِي إِسْنَادِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَتَظْلِمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ أُشَكِلَ بِمَا قَبْلَهُ. وَالْجُمْلَةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا اقْتَصَرُوا على رؤوس الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ نَصَفَةً، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي: لَكُمْ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي حَرْفِ الْجَرِّ مِنْ شَوْبِ الْفِعْلِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ شَكَا بَنُو الْمُغِيرَةِ الْعُسْرَةَ وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الْغَلَّاتُ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخَّرُوا، فَنَزَلَتْ. قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَيْعِ مَنْ أَعْسَرَ بِدَيْنٍ، وَقِيلَ: أُمِرَ بِهِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَالْعُسْرَةُ ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ، وَمِنْهُ: جَيْشُ الْعُسْرَةِ، وَالنَّظِرَةُ: التَّأْخِيرُ، وَالْمَيْسَرَةُ: الْيُسْرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو عُسْرَةٍ، عَلَى أَنَّ: كَانَ، تَامَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَإِنْ وَقَعَ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنْ تَكُونَ: كَانَ، نَاقِصَةً هُنَا. وَقُدِّرَ الْخَبَرُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ فَحُذِفَ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، وَقُدِّرَ أَيْضًا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ لَكُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَحَذْفُ خَبَرِ كَانَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا لِعِلَّةٍ ذَكَرُوهَا فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: ذَا عُسْرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مُعْسِرًا. وَحَكَى الدَّانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أَبِي عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ اسْمُهَا

ضَمِيرًا تَقْدِيرُهُ: هُوَ، أَيْ: الْغَرِيمُ، يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ الْمُرَابِيَ لَا بُدَّ له ممن يرابيه. وقرىء: وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: فَإِنْ كَانَ، بِالْفَاءِ، فَمَنْ نَصَبَ ذَا عُسْرَةٍ أَوْ قَرَأَ معسرا، وذلك بعد: إن كَانَ، فَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الرِّبَا. وَمَنْ رَفَعَ فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ فِي أَهْلِ الرِّبَا، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ. وَقِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِيسَارُ، وَأَنَّ الْعَدَمَ طَارِئٌ جَاذِبٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُثْبَتَ. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَظِرَةٌ، عَلَى وَزْنٍ نَبِقَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: بِسُكُونِ الظَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، يَقُولُونَ فِي: كَبَدَ كَبِدَ. وَقَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، عَلَى وَزْنِ: فَاعِلَةٌ وَخَرَّجَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «1» وَكَقَوْلِهِ: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «2» وَكَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «3» وَقَالَ: قَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، بِمَعْنَى: فَصَاحِبُ الْحَقِّ نَاظِرَهُ، أَيْ: مُنْتَظِرُهُ، أَوْ: صَاحِبُ نَظِرَتِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وَبَاقِلٌ، بِمَعْنَى: ذُو عُشْبٍ وَذُو بَقْلٍ. وَعَنْهُ: فَنَاظِرَهُ، عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى: فَسَامَحَهُ بِالنَّظِرَةِ، وَبَاشَرَهُ بِهَا. انْتَهَى. وَنَقَلَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: جَعَلَاهُ أَمْرًا، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْغَرِيمِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَاظِرُوهُ، أَيْ: فَأَنْتُمْ نَاظِرُوهُ. أَيْ: فَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُوهُ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ، وَمَنْ جَعَلَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ أَوْ مَصْدَرًا فَهُوَ يَرْتَفِعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: فَالْأَمْرُ وَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ نَظِرَةٌ مِنْهُ لِطَلَبِ الدَّيْنِ مِنَ الْمَدِينِ إِلَى مَيْسَرَةٍ مِنْهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: مَيْسُرَةٍ، بِضَمِّ السِّينِ، وَالضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ قَلِيلٌ كَمَقْبُرَةٍ، وَمَشْرُفَةٍ، وَمَسْرُبَةٍ. وَالْكَثِيرُ مَفْعَلَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى اللُّغَةِ الْكَثِيرَةِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَى مَيْسُورِهِ، عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَرِيمِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ مَصْدَرٌ كَالْمَعْقُولِ وَالْمَجْلُودِ فِي قَوْلِهِمْ: ما له معقول

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 2. (2) سورة القيامة: 75/ 25. (3) سورة غافر: 40/ 19.

وَلَا مَجْلُودٌ، أَيْ: عَقْلٌ وَجَلْدٌ، وَلَمْ يُثْبِتْ سِيبَوَيْهِ مَفْعُولًا مُصَدَّرًا، وَقَرَأَ عَطَاءُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَيْسُرِهِ، بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضمير الغريم. وقرىء كَذَلِكَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ. كَقَوْلِهِ: وَأَخْلَفُوكَ عِدَّ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا أَيْ: عِدَّةَ، وَهَذَا أَعْنِي حذف التاء لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ، هُوَ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَدَّاهُمْ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: أَنْ مُفْعَلًا لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، فَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنَى مَأْلُكًا ... أَنَّهُ قَدْ طال حبسي وانتظار وَفِي قَوْلِ جَمِيلٍ: بُثَيْنَ الْزَمِي لَا إِنَّ لَا إِنْ لَزِمْتِهِ ... عَلَى كَثْرَةِ الْوَاشِينَ أَيُّ مَعُونِ فَمَأْلُكٌ وَمَعُونٌ جَمْعُ مَأْلُكَةٍ وَمَعُونَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فِعَالِ مَكْرُمِ هَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَتَأَوَّلَ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّهَا مُفْرَدَةٌ حُذِفَ مِنْهَا التَّاءُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَفْعِلٌ، يَعْنِي فِي الْآحَادِ، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: مَهْلَكٌ، مُثَلَّثُ اللَّامِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ: مَفْعِلٌ، وَاحِدًا وَلَا يُخَالِفُ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُقَالُ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ كَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْهُ حَرْفٌ أَوْ حَرْفَانِ، كَأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يُجْعَلُ لَهُ حُكْمٌ. وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْخِلَافِ: أَهَذَا الْإِنْظَارُ يَخْتَصُّ بِدَيْنِ الرِّبَا؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، أَمْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُعْسِرٍ بِدَيْنِ رَبًا أَوْ غَيْرِهِ؟ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، وَوَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظَلَّهُ» . وَمِنْهَا: «يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا عَمِلْتُ لَكَ خَيْرًا قَطُّ أُرِيدُكَ بِهِ إِلَّا أَنَّكَ رَزَقْتَنِي مَالًا فَكُنْتُ أُوسِعُ عَلَى الْمُقْتِرِ، وَأَنْظُرُ الْمُعْسِرَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ. فَتَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي» . وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: تَصَدَّقُوا عَلَى الْغَرِيمِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِبَعْضِهِ خَيْرٌ مِنَ

الْإِنْظَارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيٌّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا فَالْإِنْظَارُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ لِلْمُعْسِرِ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ الدَيْنِ، فَالْحَمْلُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى. وَلِأَنَّ: أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ وَصْفِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ: حُصُولُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَدَبُوا إِلَى أَنْ يتصدقوا برؤوس أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تَصَدَّقُوا، بِحَذْفِ التَّاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: تَتَصَدَّقُوا، بِتَاءَيْنِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِدْغَامُ تَخْفِيفٌ. وَالْحَذْفُ أَكْثَرُ تَخْفِيفًا. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: يُرِيدُ الْعَمَلَ، فَجَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمَ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ فَضْلَ التَّصَدُّقِ عَلَى الْإِنْظَارِ وَالْقَبْضِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَصْلُحُ لَكُمْ. قِيلَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، لأن الْجُمْهُورُ قَالُوا: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فَقِيلَ: قَبْلَ مَوْتِهِ بِتِسْعِ لَيَالٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ. وَرُوِيَ: بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ، وَقِيلَ: عاش بعدها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا . وَقِيلَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَرَوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلْهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا، فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «1» . وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَخَبَرُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يُرْجَعُونَ، عَلَى مَعْنَى يَرْجِعُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى رَفَقَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِذْ هِيَ مِمَّا تَتَفَطَّرُ لَهُ الْقُلُوبُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاتَّقُوا، ثُمَّ رَجَعَ فِي ذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِلَى الْغَيْبَةِ رِفْقًا بِهِمْ. انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تُرَدُّونَ، بِضَمِّ التَّاءِ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يَرُدُّونَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تصيرون. انتهى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 48.

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 إلى 286]

قَالَ الْجُمْهُورُ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ يَوْمُ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَالْمَعْنَى إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَصْلِ قَضَائِهِ. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أَيْ تُعْطَى وَافِيًا جَزَاءً مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِيهِ نَصٌّ عَلَى تَعَلُّقِ الْجَزَاءِ بِالْكَسْبِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ مِمَّا يَكُونُ جَزَاءَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَا يُزَادُونَ عَلَى جَزَاءِ الْعَمَلِ السَّيْءِ مِنَ الْعِقَابِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ أَوَلًا فِي: كَسَبَتْ، عَلَى لَفْظِ: النَّفْسِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، عَلَى الْمَعْنَى لِأَجْلِ فَاصِلَةِ الْآيِ، إِذْ لَوْ أَتَى وَهِيَ لَا تُظْلَمُ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ: يُرْجَعُونَ، بِالْيَاءِ فَتَجِيءُ: وَهُمْ، عَلَيْهِ غَائِبًا مَجْمُوعًا لِغَائِبٍ مجموع. [سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

تَدَايَنَ: تَفَاعَلَ مِنَ الدَّيْنِ، يُقَالُ: دَايَنْتُ الرَّجُلَ عَامَلْتُهُ بِدَيْنٍ مُعْطِيًا أَوْ آخِذًا، كَمَا تَقُولُ: بَايَعْتُهُ إِذَا بِعْتَهُ أَوْ بَاعَكَ. قَالَ رُؤْبَةُ: دَايَنْتُ أَرَوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضًا وَيُقَالُ: دِنْتُ الرَّجُلَ إِذَا بِعْتَهُ بَدَيْنٍ، وَادَّنْتُ أَنَا أَيْ: أَخَذْتُ بِدَيْنٍ. أَمْلَ وَأَمْلَى لُغَتَانِ: الْأُولَى لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَالثَّانِيَةُ لِتَمِيمٍ، يُقَالُ: أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَيْ: أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِعَادَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ وَقِيلَ: الْأَصْلُ أَمْلَلْتُ، أَبْدَلَ مِنَ اللَّامِ يَاءً لِأَنَّهَا أَخَفُّ. الْبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَخَسَ يَبْخَسُ، وَيُقَالُ بِالصَّادِّ، وَالْبَخْسُ: إِصَابَةُ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ: اسْتُعِيرَ بَخْسُ حَقِّهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَوَّرَ حَقَّهُ، وَتَبَاخَسُوا فِي الْبَيْعِ تَغَابَنُوا، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَبْخَسُ صَاحِبَهُ عَنْ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُ بِاحْتِيَالِهِ. السَّأَمُ وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ مِنَ الشَّيْءِ وَالضَّجَرُ مِنْهُ، يُقَالُ مِنْهُ: سَئِمَ يَسْأَمُ.

الصَّغِيرُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغُرَ يَصْغُرُ، وَمَعْنَاهُ قِلَّةُ. الْجُرْمِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي أَيْضًا. الْقِسْطُ: بِكَسْرِ الْقَافِ: الْعَدْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدَلَ، وَبِفَتْحِ الْقَافِ: الْجَوْرُ، وَيُقَالُ مِنْهُ: قَسَطَ الرَّجُلُ أَيْ جَارَ، وَالْقِسْطُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا: النَّصِيبُ. الرَّهْنُ: مَا دُفِعَ إِلَى الدَّائِنِ عَلَى اسْتِيثَاقِ دَيْنِهِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ يَرْهَنُ رَهْنًا، ثُمَّ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَرْهُونِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ الشَّيْءَ دَامَ. قَالَ الشَّاعِرُ: اللَّحْمُ وَالْخُبْزُ لَهُمْ رَاهِنٌ ... وَقَهْوَةٌ رَاوُوقُهَا سَاكِبُ وَأَرْهَنُ لَهُمُ الشَّرَابَ: دَامَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَرَهَنَهُ، أَيْ: أَدَامَهُ، وَيُقَالُ: أَرْهَنَ فِي السِّلْعَةِ إِذَا غَالَى بِهَا حَتَّى أَخَذَهَا بِكَثِيرِ الثَّمَنِ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَطْوِي ابْنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بَعْرًا ... عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ الْعِيدُ: بَطْنٌ مِنْ مَهْرٍ، وَإِبِلٌ مَهَرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالنَّجَابَةِ، وَيُقَالُ، مِنَ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ مِنَ التَّوْثِقَةِ: أَرْهَنَ إِرْهَانًا. قَالَ هَمَّامُ بْنُ مُرَّةَ: فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكَا وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَالزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِي الرَّهْنِ رَهَنْتُ وَأَرْهَنْتُ. وقال الأعشى: حتى يقيدك مِنْ بَنِيهِ رَهِينَةً ... نَعْشٌ وَيَرْهَنُكَ السِّمَاكُ الْفَرْقَدَا وَتَقُولُ: رَهَنْتُ لِسَانِي بِكَذَا، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: أَرْهَنْتُ، وَلَمَّا أُطْلِقَ الرَّهْنُ عَلَى الْمَرْهُونِ صَارَ اسْمًا، فَكُسِرَ تَكْسِيرَ الْأَسْمَاءِ وَانْتَصَبَ بِفِعْلِهِ نَصْبَ الْمَفَاعِيلِ، فَرَهَنْتُ رَهْنًا كَرَهَنْتُ ثَوْبًا. الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ، وَالْآصِرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْأَمْرُ الرَّابِطُ مِنْ ذِمَامٍ، أَوْ قَرَابَةٍ، أَوْ عَهْدٍ، وَنَحْوُهُ. وَالْإِصَارُ: الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ أَصْرًا، وَالْإِصْرُ، بِكَسْرٍ الْهَمْزَةِ الِاسْمُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَوِيَ الْأُصْرُ بضمها وقد قرىء بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمْ ... وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عَنْهُمْ بعد ما عَرِقُوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ خَاصَّةً، يَعْنَى: أَنَّ سَلَمَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ السَّبَبَ، ثُمَّ هِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدُّيُونِ بِالْإِجْمَاعِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِتَرْكِ الرِّبَا، وَكِلَاهُمَا

يَحْصُلُ بِهِ تَنْقِيصُ الْمَالِ، نَبَّهَ عَلَى طَرِيقٍ حَلَالٍ فِي تَنْمِيَةِ الْمَالِ وَزِيَادَتِهِ، وَأَكَّدَ فِي كَيْفِيَّةِ حِفْظِهِ، وَبَسَطَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَرَ فِيهَا بِعِدَّةِ أَوَامِرَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَذَكَرَ قَوْلَهُ: بِدَيْنٍ، لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ: تَدَايَنْتُمْ، أَوْ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاكِ: تَدَايَنَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ تُدَايِنُوا، أَيْ جَازَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا قَالَ: بِدَيْنٍ، دَلَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. أَوْ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ دَيْنٍ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ سَلَمٍ أَوْ بَيْعٍ. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَيْسَ هَذَا الْوَصْفُ احْتِرَازًا مِنْ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، بَلْ لَا يَقَعُ الدَّيْنُ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَأَمَّا الآجال المجهولة فلا تجوز، وَالْمُرَادُ بِالْمُسَمَّى الْمُوَقَّتُ الْمَعْلُومُ، نحو التوقيت بالنسبة وَالْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَى الْحَصَادِ، أَوْ إِلَى الدِّيَاسِ، أَوْ رُجُوعِ الْحَاجِّ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، و: إلى أَجَلٍ، مُتَعَلِّقٌ: بِتَدَايَنْتُمْ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: بِدَيْنٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. فَاكْتُبُوهُ أَمَرَ تَعَالَى بِكِتَابَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْثَقُ وَآمَنُ مِنَ النِّسْيَانِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الْجُحُودِ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ، وَأَهَّلُ الظَّاهِرِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ يُحْفَظُ بِهِ الْمَالُ، وَتُزَالُ بِهِ الرِّيبَةَ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ وَحِفْظِهِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ خَلِيفَةُ اللِّسَانِ، وَاللِّسَانَ خَلِيفَةُ الْقَلْبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وَقَالَ الرَّبِيعُ وَجَبَ بِقَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ. وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَهَذَا الْأَمْرُ قِيلَ: عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ، قَالَ عَطَاءٌ، وَغَيْرُهُ: يَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، أَيْضًا: إِذَا لَمْ يُوجَدْ كَاتِبٌ سِوَاهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ وَاجِبٌ مَعَ الْفَرَاغِ. وَاخْتَارَ الرَّاغِبُ أَنَّ الصَّحِيحَ كَوْنُ الْكِتَابَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَالَ: الْكِتَابَةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فقد تجب على الكتابة إِذَا أَتَوْهُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ النَّافِلَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى فَاعِلِهَا، فَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ تَبْيِينُهَا إِذَا أَتَاهُ مُسْتَفْتٍ. وَمَعْنَى: بَيْنَكُمْ، أَيْ: بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْمُسْتَدِينِ، وَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْمُقْرِضِ

وَالْمُسْتَقْرِضِ، وَالتَّثْنِيَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْمُتَعَامِلِينَ لأن يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَتْ وَاقِعَةً بَيْنَهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَّلِعًا عَلَى مَا سَطَرَهُ الْكَاتِبُ. وَمَعْنَى: بِالْعَدْلِ، أَيْ: بِالْحَقِّ وَالْإِنْصَافِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ مَيْلٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: بِالْعَدْلِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بالعدل، متعلق بكاتب صِفَةٌ لَهُ، أَيْ: بِكَاتِبٍ مَأْمُونٍ عَلَى مَا يَكْتُبُ، يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ وَالِاحْتِيَاطِ، لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكْتُبَ، وَلَا يَنْقُصُ. وَفِيهِ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِالشُّرُوطِ، حَتَّى يَجِيءَ مَكْتُوبُهُ مُعَدَّلًا بِالشَّرْعِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِتَخَيُّرِ الْكَاتِبِ، وَأَنْ لَا يَسْتَكْتِبُوا إِلَّا فَقِيهًا دَيِّنًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِكَاتِبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَثِيقَةً إِلَّا الْعَدْلُ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكْتُبُهَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُتَحَوِّطُ إِذَا أَقَامُوا فِقْهَهَا، أَمَّا أَنَّ الْمُنْتَخَبِينَ لِكَتْبِهَا لَا يَجُوزُ لِلْوُلَاةِ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ إِلَّا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ فَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبُ الْعَدْلِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي مَعْنَى بِالْعَدْلِ: أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يُرْفَعُ إِلَى قَاضٍ فَيَجِدُ سَبِيلًا إِلَى إِبْطَالِهِ بِأَلْفَاظٍ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا التَّأْوِيلُ، فَيَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى التَّوَقُّفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلْيَكْتُبْ، بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَالْكَسْرُ الْأَصْلُ. وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ نَهَى الْكَاتِبُ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ. وَ: كَاتِبٌ، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فتعم. وأن يَكْتُبَ مَفْعُولُ: وَلَا يَأْبَ، وَمَعْنَى: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، أَيْ: مِثْلَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ، لَا يُبَدِّلُ وَلَا يُغَيِّرُ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى بَذْلِ جُهْدِهِ فِي مُرَاعَاةِ شُرُوطِهِ مِمَّا قَدْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْتَكْتِبُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمِنَّةِ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيَكُونُ: عَلَّمَ، بِمَعْنَى: أَعْلَمَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ، فَتَكُونُ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَجْلِ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «1» أَيْ: لِأَجْلِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الْكَافِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وتتعلق الكاف بقوله:

_ (1) سورة القصص: 28/ 77.

فَلْيَكْتُبْ، وَهُوَ قَلَقٌ لِأَجْلِ الْفَاءِ، وَلِأَجْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، لَكَانَ النَّظْمُ: فَلْيَكْتُبْ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيمِ مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ: كَمَا، مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ، أَيْ: كَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَأْبَ هُوَ، وَلِيُفَضِلْ كَمَا أُفَضِلَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَتَكُونُ الْكَافُ فِي هَذَا الْقَوْلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ، نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْكِتَابَةِ، لَا يُعْدَلُ عَنْهَا، أَمْرَ تَوْكِيدٍ. وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: وَلَا يَأْبَ، منسوخ بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَيْ: فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، وَلْيُمْلِلْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمُسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فِيمَا يُمْلِيهِ وَيُقَرِّبُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَ اسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ: اللَّهُ، وَبَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ: الرَّبُّ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الذَّاتِ مَنْطُوقًا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ. لِيَذْكُرَهُ تَعَالَى كَوْنَهُ مُرَبِّيًا لَهُ، مُصْلِحًا لِأَمْرِهِ، بَاسِطًا عَلَيْهِ نِعَمَهُ. وَقُدِّمَ لَفْظُ: اللَّهَ، لِأَنَّ مُرَاقَبَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ أَسْبَقُ مِنْ جِهَةِ النِّعَمِ. وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ: لَا يَنْقُصْ بِالْمُخَادَعَةِ أَوِ الْمُدَافَعَةِ، وَالْمَأْمُورُ بِالْإِمْلَالِ هُوَ الْمَالِكُ لِنَفْسِهِ. وَفَكُّ الْمُضَاعَّفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ، لُغَةُ الْحِجَازِ، وذلك في ماسكن آخِرُهُ بِجَزْمٍ، نَحْوُ هَذَا، أَوْ وَقْفٍ نَحْوُ: أَمْلِلْ، وَلَا يُفَكُّ فِي رَفْعٍ ولا نصب. وقرىء: شيئا بِالتَّشْدِيدِ. فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْجَاهِلُ بِالْأُمُورِ وَالْإِمْلَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الصَّغِيرُ. وَضُعِّفَ هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ السَّفِيهُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: أَنَّهُ الْمُبَذِّرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدِ لِدِينِهِ. وَرَوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ: الَّذِي يَجْهَلُ قَدْرَ الْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَبْذِيرِهِ وَلَا يَرْغَبُ فِي تَثْمِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَاهِلُ بِالْإِسْلَامِ. أَوْ ضَعِيفاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ الْعَاجِزُ، وَالْأَخْرَسُ، وَمَنْ بِهِ حُمْقٌ- وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْأَحْمَقُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ. وَقِيلَ:

الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ، النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ: الْكَبِيرُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْعَاجِزُ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِعَيٍّ أَوْ لِخَرَسٍ. أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَيٍّ أَوْ خَرَسٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَقِيلَ: بِجُنُونٍ، وَقِيلَ: بِجَهْلٍ بِمَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لِصِغَرٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ تَبَايُنُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ زَعَمَ زِيَادَةَ: أَوْ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ زِيَادَتَهَا فِي هَذَا، وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ، إِذْ: أَوْ، لَا تُزَادُ، وَأَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَالْجَهْلُ بِالتَّصَرُّفِ، وَأَنَّ الضَّعْفَ هُوَ فِي الْبَدَنِ لِصِغَرٍ أَوْ إِفْرَاطِ شَيْخٍ يَنْقُصُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَأَنَّ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ الْإِمْلَاءَ لِعَيٍّ. أَوْ خَرَسٍ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ القدرة على الإملاء. وَهَذَا الشَّرْحُ أَكْثَرُهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ تَقَعُ نَوَازِلُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيَتَرَتَّبُ الْحَقُّ لَهُمْ فِي كُلِّ جِهَاتٍ سِوَى الْمُعَامَلَاتِ: كَالْمَوَارِيثِ إِذَا قُسِّمَتْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالسَّفِيهُ الْمُهَلْهَلِ الرَّأْيِ فِي الْمَالِ الَّذِي لا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَخْلُو مِنْ حَجْرِ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ، وَذَلِكَ وَلَيُّهُ. وَالضَّعِيفُ الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ، وَوَلِيُّهُ وَصِيٌّ أَوْ أَبٌ، وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الْغَائِبَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِشْهَادِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيُّهُ وَكِيلُهُ، وَالْأَخْرَسُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوِ الثَّلَاثَةُ فِي شَخْصٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَهُوَ تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنُ فِي: أَنْ يُمِلَّ، وَفِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّ فِي التَّأْكِيدِ بِهِ رَفْعُ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ. وقرىء شَاذًّا بِإِسْكَانِ هَاءِ: هُوَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهَا مَا يَنْفَصِلُ، إِجْرَاءً لِلْمُنْفَصِلِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ، نَحْوُ: وَهُوَ، فَهُوَ، لَهُوَ. وَهَذَا أَشَذُّ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ ثُمَّ شَارَكَتْ فِي كَوْنِهِ لِلْعَطْفِ، وَأَنَّهَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَيَتِمُّ الْمَعْنَى. فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. الضَّمِيرُ فِي وَلِيُّهُ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنَ عَطِيَّةَ لِلْوَلِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ مِنْ وَصِيٍّ إِنْ كَانَ سَفِيهًا أَوْ صَبِيًّا، أَوْ وَكِيلٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ، أَوْ تُرْجُمَانَ يُمِلُّ عَنْهُ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلِيِّهِ يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ تَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَى شَيْءٍ وَيُدْخِلُ مَالًا فِي ذِمَّةِ السَّفِيهِ، بِإِمْلَاءِ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ، هَذَا شَيْءٌ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ. قَالَ الرَّاغِبُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْحَقِّ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُؤَثِّرُ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ. وَ: بِالْعَدْلِ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْحَالِ، وَفِي قَوْلِهِ: بِالْعَدْلِ، حَثٌّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ السَّفِيهِ، وَعَلَى قِيَامِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفَاتِ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَمْوَالِهِ. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أَيْ: اطْلُبُوا لِلْإِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ لِلطَّلَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقَةُ أَفْعَلَ أَيْ: وَأَشْهِدُوا، نَحْوُ: اسْتَيْقَنَ مُوَافِقُ أَيْقَنَ، وَاسْتَعْجَلَهُ بِمَعْنَى أَعْجَلَهُ. وَلَفَظُ: شَهِيدٍ، لِلْمُبَالَغَةِ، وَكَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَسْتَشْهِدُوا مَنْ كَثُرَتْ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَوَاقِعِ الشَّهَادَةِ وَمَا يَشْهَدُ فِيهِ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأُمِرُوا بِطَلَبِ الْأَكْمَلِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنَ الشَّخْصِ عِنْدَ الْحُكَّامِ إِلَّا وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَهُمْ. مِنْ رِجَالِكُمْ، الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُصَدَّرُ بِهِمُ الْآيَةُ، فَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجَالِكُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ الْكَافِرُ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، وَاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الشَّاهِدَيْنِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ: يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ جَارِيَةٌ جَائِزَةٌ . وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ لَا تُعْتَبَرُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ

وَأَصْحَابُهُ الثَّلَاثَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَحْدَهَا بِشُرُوطٍ ذُكِرَتْ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ اشْتِرَاطُ الرُّجُولِيَّةِ فَقَطْ فِي الشَّاهِدَيْنِ. فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْمَى، فَفِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ خِلَافٌ. ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالْحَسَنِ، وابن جبير، وإياس بن مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا عَلِمَ قَبْلَ الْعَمَى جَازَتْ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ، إِلَّا فِي النَّسَبِ، يَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ: شَهَادَتُهُ جائزة. قال مالك، والليث: تجوز، وَإِنْ عَلِمَهُ حَالَ الْعَمَى إِذَا عَرَفَ الصَّوْتَ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ شَهِدَ بِزِنَا أَوْ حَدِّ قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَخْرَسَ، فَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِإِشَارَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ طَارِئًا أَمْ أَصْلِيًّا، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ. وَإِنْ كَانَ أَصَمَّ، فَلَا تُقْبَلُ فِي الْأَقْوَالِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْحَوَاسِّ. وَلَوْ شَهِدَ بَدَوِيٌّ عَلَى قَرَوِيٍّ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الْجِرَاحِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ فِي الْحَضَرِ إِلَّا فِي وَصِيَّةِ الْقَرَوِيِّ فِي السَّفَرِ وَفِي الْبَيْعِ. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّهِيدَيْنِ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ: إِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ، أَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَشْهَدَ رَجُلَيْنِ لِغَرَضٍ لَهُ، وَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ نَاقِصَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِشْهَادُ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الرِّجَالِ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: يَكُونَا، عَائِدٌ عَلَى: شَهِيدَيْنِ، بِوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ، وَتَكُونُ: كَانَ، تَامَّةً، وَيَكُونُ: رَجُلَيْنِ، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدِ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «1» عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ. فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ارْتِفَاعُ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي: فلشاهد، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدُونَ، أَوْ: فَاعِلٌ، أَيْ فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، أَوْ: مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ فَلْيُسْتَشْهَدْ، وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ فَلْيَكُنْ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، فَيَكُونُ رَجُلٌ فَاعِلًا، وَأَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَيَكُونُ خَبَرُهَا مَحْذُوفًا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَنَا

_ (1) سورة النساء: 4/ 176.

لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا. وقرىء شَاذًّا: وَامْرَأَتَانِ، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ سَكَّنَهَا تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَجَاءَ نَظِيرُ تَخْفِيفِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَقُولُونَ جَهْلًا لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ ... لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأَنَّ رَقُوبُ يُرِيدُ: وَأَنَا رَقُوبٌ، قِيلَ: خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا ثُمَّ هَمْزَةً بَعْدَ ذلك، قالوا: الخأتم، والعألم. وظاهر الآية يقتضي جواز شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ، وَهِيَ كُلُّ عَقْدٍ وَقَعَ عَلَى دَيْنٍ سَوَاءٌ كَانَ بَدَلًا أَمْ بُضْعًا، أَمْ مَنَافِعَ أَمْ دَمَ عَمْدٍ، فَمَنِ ادَّعَى خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ الْعُقُودِ مِنَ الظَّاهِرِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا الرَّجُلُ، وَيَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقُ، وَلَا تَجُوزُ فِي النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا قَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي يُقَادُ مِنْهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْحُدُودَ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَلَا الْقِصَاصِ، وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا النِّكَاحِ، وَلَا الْأَنْسَابِ وَلَا الْوَلَاءِ وَلَا الْإِحْصَانِ، وَتَجُوزُ فِي الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِتْقٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ إِلَّا فِي الدَّيْنِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: تَجُوزُ فِي الْعِتْقِ، وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: تَجُوزُ فِي الْعَقْدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ مُفْرَدَاتٍ فَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِهَا فِي: الْوِلَادَةِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالِاسْتِهْلَالِ، وَفِي عُيُوبِ النِّسَاءِ الْإِمَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شهادة الواحدة العادلة فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِذْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ مُفْرَدَةٌ.

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ قِيلَ: هَذَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: رِجَالِكُمْ، عَلَى تَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْصُوفِ، فَيَكُونُ قَدِ انْتَفَى هَذَا الْوَصْفُ عَنْ شَهِيدَيْنِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ بِالشَّهِيدَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَعَرِيَ عَنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَالَّذِي يَظْهُرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، أَيْ: وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِيَكُونَ قَيْدًا فِي الْجَمِيعِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ ذِكْرِ الْجَمِيعِ، وَالْخِطَابُ فِي تَرْضَوْنَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِي الشُّهُودِ مَنْ لَا يَرْضَى، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ حَيْثُ تَثْبُتُ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بِكِيرٍ وَغَيْرُهُ: الْخِطَابُ لِلْحُكَّامِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَلَبِّسُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا هُمُ الْحُكَّامُ، وَلَكِنْ يَجِيءُ الْخِطَابُ عَامًّا وَيَتَلَبَّسُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْكَفَاءَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مِمَّنْ لَمْ يَطْعَنْ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَفَسَّرَ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفِ امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا، وَلَمْ يَطْعَنْ فِي نَسَبٍ. وَرُوِيَ: مَنْ لَمْ يُطْعَنْ عَلَيْهِ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَمَعْنَاهُ: لَا يُنْسَبُ إِلَى رِيبَةٍ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ زِنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ خَرِبَةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَنْ لَا رِيبَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: مَنْ غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّآتِهِ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَقِيلَ: الْمَرَضِيُّ مِنَ الشُّهُودِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا، بَالِغًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، عَالِمًا بِمَا يَشْهَدُ بِهِ، لَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَلَا بِتَرْكِ الْمُرُوءَةِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ. وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ، وَمَا يَجِبُ فِيهَا مِنَ الْعَظَائِمِ، وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَخْلَاقُ الْبِرِّ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَعَاصِي الصِّغَارِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ مَنْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخْلَاقِ الْبِرِّ، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ يُقَامِرُ عَلَيْهَا، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا، وَلَا تَارِكِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ اسْتِخْفَافًا أَوْ مَجَانَةً أَوْ فِسْقًا، لَا أَنْ تَرَكَهَا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَكَانَ عَدْلًا، وَمَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ، وَلَا مُدَاوِمٍ عَلَى تَرْكِ رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِالْكَذِبِ الْفَاحِشِ، وَلَا مُظْهِرِ شَتِيمَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَتَّامِ النَّاسِ وَالْجِيرَانِ، وَلَا مَنِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَلَا مُتَّهَمٍ بِسَبِّ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَقُولُوا: سَمِعْنَاهُ يَشْتُمُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْعُدُولِ، إِلَّا صِنْفًا مِنَ الرَّافِضَةِ وَهُمُ الْخَطَّابِيَّةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَرُورِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا، فَإِذَا خَرَجُوا اسْتَحَلُّوا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ. وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَشْرَافِ بِالْعِرَاقِ وَلَا الْبُخَلَاءِ، وَلَا التُّجَّارِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ، وَعَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ، أَنَّهُ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ يَأْكُلُ الطِّينَ وَيَنْتِفُ لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَهَادَةَ مَنْ يَنْتِفُ عُنْفَقَتَهُ وَيُخْفِي لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ شُرَيْحٌ شَهَادَةَ رَجُلٍ اسْمُهُ رَبِيعَةُ وَيُلَقَّبُ بِالْكُوَيْفِرِ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ، فَلَمْ يُجِبْ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ الْكُوَيْفِرُ، فَأَجَابَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: دُعِيتَ بِاسْمِكَ فَلَمْ تُجِبْ، فَلَمَّا دُعِيتَ بِالْكُفْرِ أَجَبْتَ! فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّمَا هُوَ لَقَبٌ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ، وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: هَاتِ غَيْرَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْحُمْرِ، يَعْنِي: النَّخَّاسِينَ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ صَاحِبِ حَمَّامٍ، وَلَا حَمَّالٍ، وَلَا ضَيِّقِ كُمِ الْقَبَاءِ، وَلَا مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ مَجَانَةٌ، وَلَا شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ، وَلَا لَاعِبٍ بِالْحَمَامِ يُطَيِّرُهُنَّ، وَرَدَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى شَهَادَةَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ: لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْمِلَهُ فَقْرُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السُّؤَالِ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، وَتَجُوزُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْمَعْصِيَةَ وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَعَنْهُ: إِذَا كَانَ أَكْثَرُ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى كَبِيرَةٍ، فَهُوَ عَدْلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ الْمُرُوءَةُ بِالتَّصَاوُنِ، وَالسَّمْتِ الْحَسَنِ، وَحِفْظِ الْحُرْمَةِ، وَتَجَنُّبِ السَّخْفِ، وَالْمُجُونِ، لَا تُفَسَّرُ بِنَظَافَةِ الثَّوْبِ، وَفَرَاهَةِ الْمَرْكُوبِ، وَجَوْدَةِ الْآلَةِ، وَالشَّارَةِ الْحَسَنَةِ. لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ، هَلْ يَسْأَلُ عَنْهُ الْحَاكِمُ إِذَا شَهِدَ؟ فَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظِنِّينًا أَوْ قَرَابَةً. وَكَانَ الْحَسَنُ، لَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ، يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ يَجْرَحُ الشَّاهِدَ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: إِنْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِيهِمْ سَأَلْتُ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِمْ في السرّ والعلانية، ويزكيهم في العلانية. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنَّمَا كَانَ الْوَالِيُّ يَقُولُ لِلْخَصْمِ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَنْ يُخْرِجُ

شَهَادَتَهُمْ فَأْتِ بِهِ، وَإِلَّا أَجَزْنَا شَهَادَتَهُمْ عَلَيْكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْأَلُ عَنْهُ فِي السِّرِّ، فَإِذَا عَدَلَ سَأَلَ عَنْ تَعْدِيلِهِ فِي الْعَلَانِيَةِ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ نَفِيِ التُّهْمَةِ عَنِ الشَّاهِدِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، فَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْبَتِّيِّ، قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ، وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ، وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ لِابْنِهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الأجير لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ إِذَا كَانَ لَا يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْفَعَةً. وَمَنْ ردت شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَهَلْ تُقْبَلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فِيهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِفِسْقٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ، وَتُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ صَبِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ إِنْ رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ صَبِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلَ هَذَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الشُّهُودَ فِي الدُّيُونِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، فَلَا يُقْضَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَكَمِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَضَى به عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَالَ الْحَكَمُ: أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ مُعَاوِيَةُ. وَاخْتُلِفَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقِيلَ، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ لَا بُدَّ مِنْ شَهِيدَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَعْرِفُهُ، وَإِنَّهَا الْبِدْعَةُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَاهُ مُعَاوِيَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا وَلِيَ الْقَضَاءَ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، وَعَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي الزِّيَادِ، وَرَبِيعَةَ. أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: إِنْ تَضِلْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، جَعَلَهَا حَرْفَ شَرْطٍ. فَتُذَكِّرُ، بِالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَجَعْلِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ: أَنْ، وَهِيَ النَّاصِبَةُ، وَفَتْحِ رَاءِ فَتُذَكِّرَ عَطْفًا عَلَى: أَنْ تَضِلَّ وَسَكَّنَ الذَّالَ وَخَفَّفَ الْكَافَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَفَتَحَ الذَّالَ، وَشَدَّدَ الْكَافَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ الْجُحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: تُضَلُّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِمَعْنَى: تَنْسَى، كَذَا حَكَى عَنْهُمَا الدَّانِيُّ. وَحَكَى النِّقَاشُ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ: أَنْ تَضِلَّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، بِمَعْنَى أَنْ تَضِلَّ الشَّهَادَةُ، تَقُولُ: أَضْلَلَتِ الْفَرَسُ والبعير إذا اذهبا فَلَمْ تَجِدْهُمَا. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٌ: فَتُذَكِّرَ، بِتَخْفِيفِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ، وَرَفَعِ الرَّاءِ، أَيْ فَهِيَ: تُذْكِرُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أسلم: فتذاكر، من المذاكرة. وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِلْمُذَكِّرِ، وَهُمَا الْمَرْأَتَانِ. انْتَهَى. كَانَ قَدْ قُدِّمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فَصَارَ نَظِيرَ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُقَلَاءَ حُبْلَيَانِ، وَفِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَظَرٌ، بَلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَقْيِسَةُ تَقْدِيَمَ حُبْلَيَانِ عَلَى عُقَلَاءَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَعْرَبَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، بَدَلًا مِنْ: رِجَالِكُمْ، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: وَامْرَأَتَانِ، لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَأَمَّا: أَنْ تَضِلَّ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ تَضِلَّ عَلَى تَنْزِيلِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ. مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ، وَهُوَ الْإِذْكَارُ، كَمَا يَنْزِلُ الْمُسَبِّبُ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ لِالْتِبَاسِهِمَا وَاتِّصَالِهِمَا، فَهُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: لِأَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إِنْ ضَلَّتْ، وَنَظِيرُهُ: أَعْدَدْتُ الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وَأَعْدَدْتُ السِّلَاحَ أَنْ يَطْرُقَ الْعَدُوُّ فَأَدْفَعَهُ، لَيْسَ إِعْدَادُ الْخَشَبَةِ لِأَجْلِ الْمَيْلِ إِنَّمَا إِعْدَادُهَا لِإِدْعَامِ الْحَائِطِ إِذَا مَالَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مُخَالَفَةَ أَنْ تَضِلَّ، لِأَجْلِ عَطْفٍ فَتُذَكِّرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّحَاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلَّ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا غَلَطٌ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى كَرَاهَةَ أَنْ تُذْكَرَ. وَمَعْنَى الضَّلَالِ هُنَا هُوَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلشَّهَادَةِ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ، وَهُوَ مِنَ الذِّكْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ، فَتُذَكِرُ، مَعْنَاهُ:

تُصَيِّرُهَا ذَكَرًا فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ نِصْفُ شَهَادَةٍ، فَإِذَا شَهِدَتَا صَارَ مَجْمُوعُ شَهَادَتِهِمَا كَشَهَادَةِ ذَكَرٍ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا يُحْسَنُ فِي مُقَابَلَةِ الضَّلَالِ إِلَّا الذِّكْرُ. انْتَهَى. وَمَا قَالَاهُ صَحِيحٌ، وَيَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى، تَقُولُ: أَذْكَرَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُذَكِّرٌ إِذَا وُلَدَتِ الذُّكُورَ، وَأَمَّا: أَذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ، أَيْ: صَيَّرَتْهَا كَالذَّكَرِ، فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ: أُذَكِّرُ، بِمَعْنَى صَيَّرَهَا ذَكَرًا فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ ذَكَرًا شَامِلٌ لِلْمَرْأَتَيْنِ، إِذْ تَرْكُ شَهَادَتِهِمَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ فَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَذْكَرَتِ الْأُخْرَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إذ لم تصر شَهَادَتُهُمَا وَحْدَهَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ. وَلَمَّا أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: أَنْ تَضِلَّ، بِقَوْلِهِ: إِحْدَاهُمَا، أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: فَتُذَكِّرَ، بِقَوْلِهِ: إِحْدَاهُمَا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهَا الضَّلَالُ، وَالْإِذْكَارُ، فَلَمْ يرد: بإحداهما، مُعَيَّنَةً. وَالْمَعْنَى: إِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، وَإِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، فَدَخَلَ الْكَلَامُ مَعْنَى الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ ضَلَّ مِنْهُمَا أَذَكَرَتْهَا الْأُخْرَى، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ بَعْدَ: فَتُذَكِّرَ، الْفَاعِلَ مُظْهَرًا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَضْمَرَ الْمَفْعُولَ لِيُكُونَ عَائِدًا عَلَى إِحْدَاهُمَا الْفَاعِلِ بتضل، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ: الْأُخْرَى، هُوَ الْفَاعِلُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى. وَأَمَّا عَلَى التَّرْكِيبِ الْقُرْآنِيِّ فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ: إِحْدَاهُمَا، فاعل تذكر، والأخرى هُوَ الْمَفْعُولُ، وَيُرَادُ بِهِ الضَّالَّةُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الِاسْمَيْنِ مَقْصُورٌ، فَالسَّابِقُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: إِحْدَاهُمَا، مَفْعُولًا، وَالْفَاعِلُ هُوَ الْأُخْرَى لِزَوَالِ اللَّبْسِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُذَكِّرَةَ لَيْسَتِ النَّاسِيَةَ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ وَيَتَأَخَّرَ الْفَاعِلُ، فَيَكُونُ نَحْوُ: كَسَرَ الْعَصَا مُوسَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَدْ وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الْمَفْعُولِ، فَيَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ: الْأُخْرَى، وَمَنْ قَرَأَ: أَنْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَ: فَتُذَكِرُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، قِيلَ: وَقَالَ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، الْمَعْنَى: أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ عَلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ صُدُورِ النِّسْيَانِ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، فَأُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ، حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ.

وَ: تُذَكِّرَ، يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَفِي قَوْلِهِ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِ جَوَازِ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ الشَّاهِدِ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى الْخَطِّ، إِذِ الْخَطُّ وَالْكِتَابَةُ مَأْمُورٌ بِهِ لِتَذَكُّرِ الشَّهَادَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «1» وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا كَتَبَ خَطَّهُ بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَشْهَدُ حَتَّى يَذْكُرَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ، وَلَا يَذْكُرُ عَدَدَ الدَّرَاهِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُ. وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا قَالَ قَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَطُوفُ فِي الْحِرَاءِ الْعَظِيمِ، فِيهِ الْقَوْمُ، فَلَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا لَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا النَّهْيُ لَيْسَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ. قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ، وَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانُوا قَدْ شَهِدُوا قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرَوَى النِّقَاشُ: هَكَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ فَيَكُونُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: هِيَ فِي التَّحَمُّلِ وَالْإِقَامَةِ إِذَا كَانَ فَارِغًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، جَمَعَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَنْدُوبُونَ إِلَى مُعَاوَنَةِ إِخْوَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْفُسْحَةُ فِي كَثْرَةِ الشُّهُودِ، وَالْأَمْنِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحَقِّ، فَالْمَدْعُوُّ مَنْدُوبٌ، وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِأَدْنَى عُذْرٍ وَأَنْ يَتَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَخِيفَ تَعْطِيلُ الْحَقِّ أَدْنَى خَوْفٍ، قَوِيَ النَّدْبُ وَقَرُبَ مِنَ الْوُجُوبِ. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ يَذْهَبُ وَيَتْلَفُ بِتَأَخُّرِ الشَّاهِدِ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُحَصَّلَةً. وَكَانَ الدُّعَاءُ إِلَى أَدَائِهَا، فَإِنَّ هَذَا الطَّرَفَ آكَدُ، لِأَنَّهَا قِلَادَةٌ فِي الْعُنُقِ وَأَمَانَةٌ تَقْتَضِي الأداء. انتهى.

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 86.

وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ لَمَّا نَهَى عَنِ امْتِنَاعِ الشُّهُودِ إِذَا مَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ، نَهَى أَيْضًا عَنِ السَّآمَةِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ ضَبْطٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى أَنْ لَا يَقَعَ النِّزَاعُ، لِأَنَّهُ مَتَى ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ وَهْمٌ فِيهِ أَوْ إِنْكَارٌ، أَوْ مُنَازَعَةٌ فِي مِقْدَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ وَصْفٍ، وَقُدِّمَ الصَّغِيرُ اهْتِمَامًا بِهِ، وَانْتِقَالًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. وَنَصَّ عَلَى الْأَجَلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِهِ، فَكُتِبَ كَمَا يُكْتَبُ أَصْلُ الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَحَلِّ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ وَمِقْدَارِهِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ بَعْضُ أَوْصَافِهِ، وَالْأَجْلُ هُنَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُتَدَايِنَانِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ. وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ السَلَمِ فِي الثِّيَابِ، لِأَنَّ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُوزَنُ لَا يُقَالُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِيِّ وَالذَّرْعِيِّ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ: إِذِ الصِّغَرُ، والكبر هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْجُرْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مِقْدَارٍ وَيْبَةٍ، أَوْ فِي مِقْدَارِ عِشْرِينَ أَرَدْبًا، صَدَقَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ حُقٌّ صَغِيرٌ وَدَيْنٌ صَغِيرٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ دَيْنٌ كَبِيرٌ وَحُقٌّ كَبِيرٌ. قِيلَ: وَمَعْنَى: وَلَا تَسْأَمُوا، أَيْ لَا تَكْسَلُوا، وَعَبَّرَ بِالسَّأَمِ عَنِ الْكَسَلِ، لِأَنَّ الْكَسَلَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَا يَقُلِ الْمُؤْمِنُ كَسَلْتُ» ، وَكَأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى «1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَضْجَرُوا، وَ: أَنْ تَكْتُبُوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ سَئِمَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ عَامًا لَا أبك لَكَ يَسْأَمِ وَقِيلَ: يَتَعَدَّى سَئِمَ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَيَكُونُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَئِمَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرِّ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: تَكْتُبُوهُ، عَائِدٌ عَلَى الدَّيْنِ، لِسَبْقِهِ، أَوْ عَلَى الْحَقِّ لِقُرْبِهِ، وَالدَّيْنُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَانَ مَنْ كَثُرَتْ دُيُونُهُ يَمَلُّ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَنُهُوا عن ذلك.

_ (1) سورة النساء: 4/ 142.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكِتَابِ، وَ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، مُخْتَصَرًا أَوْ مُشَبَّعًا، وَلَا يُخَلُّ بِكِتَابَتِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ بُعْدٌ. وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَسْأَمُوا، بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ: أَنْ يَكْتُبُوهُ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى الشُّهَدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، فَيَعُودُ عَلَى الْمُتَعَامِلِينَ أَوْ عَلَى الْكِتَابِ. وَانْتِصَابُ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي: أَنْ تَكْتُبُوهُ، وَأَجَازَ السَّجَاوَنْدِيُّ نَصْبُ: صَغِيرًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكَانَ مُضْمَرَةً، أَيْ: كَانَ صَغِيرًا، وَلَيْسَ مَوْضِعَ إِضْمَارِ كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ: إِلَى أَجَلِهِ، بِمَحْذُوفٍ لَا تَكْتُبُوهُ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ الْكِتَابَةِ إِلَى أَجَلِ الدَّيْنِ، إِذْ يَنْقَضِي فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ مُسْتَقِرًّا فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلِ حُلُولِهِ. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، وَقِيلَ الْكِتَابَةُ وَالِاسْتِشْهَادُ وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ، وَ: أَقْسَطُ، أَعْدَلُ قِيلَ: وَفِيهِ شُذُوذٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الَّذِي عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلَ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدْلَ، وَمِنْهُ وَأَقْسِطُوا، وَقَدْ رَامُوا خُرُوجَهُ عَنِ الشُّذُوذِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، بِأَنْ يَكُونَ: أَقْسَطُ، مِنْ قَاسِطٍ عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ بِمَعْنَى: ذِي قِسْطٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: انْظُرْ هَلْ هُوَ مِنْ قَسُطَ بِضَمِّ السِّينِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرَمُ مِنْ كَرُمَ. انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنَ الْقِسْطِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لَمْ يَشْتَقْ مِنْهُ فِعْلٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِقْسَاطِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ لَا يُبْنَى مِنَ الْإِفْعَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مِمَّ بُنِيَ أَفْعَلَا التَّفْضِيلِ. أَعْنِي: أَقْسَطَ. وَأَقْوَمُ؟ قُلْتُ: يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ مِنْ أَقْسَطَ وَأَقَامَ. انْتَهَى. لَمْ يَنُصْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أن أفعل التفضيل. بني مَنْ أَفْعَلَ، إِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ نَصَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ يَكُونُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَأَفْعَلَ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْ أَفْعَلَ، وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَمَا انْقَاسَ فِي التَّعَجُّبِ: انْقَاسَ فِي التَّفْضِيلِ، وَمَا شُذَّ فِيهِ شُذَّ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْجَوَازِ، وَالْمَنْعِ، والتفضيل. بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ، أَوْ لَا تَكُونُ لِلنَّقْلِ،

فَيُبْنَى مِنْهُ. وَزُعِمَ أَنَّ هذا مذهب سيبويه، وتؤول قَوْلُهُ: وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِغَيْرِ النَّقْلِ، وَمَنَ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا ضَبَطَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ. وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَيَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ فِعْلُ التَّعَجُّبِ عَلَى أَفْعَلَ، وَبِنَاؤُهُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَعَلَى أَفْعَلَ وَحُجَجُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَقْسَطَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا مِنْ قَسَطَ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى عَدَلَ. قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي (الِاقْتِضَابِ) مَا نصبه: حَكَى ابْنُ السَّكِّيتِ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: قَسَطَ جَارَ، وَقَسَطَ عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِالْأَلِفِ عَدَلَ لَا غَيْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: قَسَطَ قُسُوطًا وَقِسْطًا، جَارَ وَعَدَلَ ضِدَّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ شَاذًّا. وَمَعْنَى: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. أَعْدَلُ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقَعَ التَّظَالُمُ. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ إِنْ كَانَ مَنْ أَقَامَ فَفِيهِ شُذُوذٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَبْنِيًّا مِنْ قَامَ بِمَعْنَى اعْتَدَلَ فَلَا شُذُوذَ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقَامَ، وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ قَوِيِّمٍ. انْتَهَى. وَعَدَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي التَّعَجُّبِ مَا أَقْوَمَهُ فِي الشُّذُوذِ، وَجَعَلَهُ مَبْنِيًّا مَنِ استقام، ويتعلق: للشهادة، بأقوم، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولٌ كَمَا تَقُولُ: زِيدٌ أَضْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ وَالنَّصْبُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ. وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا وَقَدْ تُؤَوَّلُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: تَضْرِبُ الْقَوَانِسَ ومعنى: أقوم لِلشَّهَادَةِ، أَثْبَتُ وَأَصَحُّ. وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أَيْ أَقْرَبُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: أَنْ لَا يَرْتَابُوا بِالْيَاءِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَحَسَّنَ حذفه كونه أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّفْضِيلِ وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَتَقْدِيُرُهُ: الْكَتْبُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ وَأَدْنَى لِكَذَا مِنْ عَدَمِ الْكَتْبِ، وَقُدِّرَ: أَدْنَى، لِأَنْ: لَا تَرْتَابُوا، وَإِلَى أَنْ لَا تَرْتَابُوا، و: من أَنْ لَا تَرْتَابُوا. ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَبَقِيَ مَنْصُوبًا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ. وَنَسَقُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، إِذْ بدىء أَوَّلًا بِالْأَشْرَفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبِعَ مَا أُمِرَ بِهِ، إِذِ اتِّبَاعُهُ هُوَ مُتَعَلِّقُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ،

وَبُنِيَ لِقَوْلِهِ: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ هُوَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَجَاءَ بِالْيَاءِ. وَأَدْنَى أَلَّا يَرْتَابُوا لِأَنَّ انْتِفَاءَ الرِّيبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، فَعَنْهُمَا تَنْشَأُ أَقْرَبِيَّةُ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ، إِذْ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي أَنْ لَا يَقَعَ رِيبَةٌ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إِلَّا بِالْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ غَالِبًا، فَيُثْلِجُ الصَّدْرَ بِمَا كَتَبَ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ. وَ: تَرْتَابُوا، بُنِيَ افْتَعَلَ مِنَ الرِّيبَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ «1» قِيلَ: وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقَّ أَنْ يُنْكِرَ، وَقِيلَ: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِالشَّاهِدِ أَنْ يَضِلَّ، وَقِيلَ: فِي الشَّهَادَةِ وَمَبْلَغِ الْحَقِّ وَالْأَجْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَقْرَبُ لِنَفْيِ الشَّكِّ لِلشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُتَعَامِلِينَ، وَمَا ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِيهِ شَكٌّ وَلَا لَبْسٌ وَلَا نِزَاعٌ. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُعَجَّلُ وَلَا يَدْخُلُهُ أَجْلٌ مَنْ بَيْعٍ وَثَمَنٍ وَالثَّانِي: مَا يُجَوِّزُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعُرُوضِ الْمَنْقُولَةِ، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ إِنَّمَا هُوَ فِي قَلِيلٍ: كَالْمَطْعُومِ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ. وَلِهَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ تَأْخُذُهُ وَتُعْطِي. وَفِي مَعْنَى الْإِدَارَةِ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَنَاوَلُونَهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ. وَالثَّانِي يَتَبَايَعُونَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْإِدَارَةُ تَقْتَضِي التَّقَابُضَ وَالذَّهَابَ بِالْمَقْبُوضِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّبَاعُ وَالْأَرْضُ، وَكَثِيرُ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تُقَوِّي الْبَيْنُونَةَ، وَلَا يُعَابُ عَلَيْهَا حُسْنُ الْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَلَحِقَتْ بِمُبَايَعَةِ الدِّيُونِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْكِتَابَةُ فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَهُمْ شَاقَّةً، رُفِعَ الْجُنَاحُ عَنْهُمْ فِي تَرْكِهَا، وَلِأَنَّ مَا بِيعَ نَقْدًا يَدًا بِيَدٍ لَا يَكَادُ يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابَةٍ، إِذْ مَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ إِنَّمَا هِيَ لِضَبْطِ الدِّيُونِ، إِذْ بِتَأْجِيلِهَا يَقَعُ الْوَهْمُ فِي مِقْدَارِهَا وَصِفَتِهَا وَأَجْلِهَا، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي مُبَايَعَةِ التَّاجِرِ يَدًا بِيَدٍ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ، مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بِيعَ لِغَيْرِ أَجْلِ مُنَاجَزَةٍ لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَرِيبًا. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تِجَارَةً حَاضِرَةً، بِنَصْبِهِمَا عَلَى أَنَّ كَانَ نَاقِصَةً، التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ أَيْ التِّجَارَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ: تَكُونَ، تَامَّةً. وَ: تجارة، فاعل بتكون،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2. وآل عمران: 3/ 9 و 25 والنساء: 4/ 87 والأنعام: 6/ 12، ويونس: 10/ 37 والإسراء: 17/ 99. والسجدة: 32/ 2. والشورى: 42/ 7. والجاثية: 45/ 26. .

وأجاز بعضهم أن تكون نَاقِصَةٌ وَخَبُرُهَا الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ هُنَا مَعْنَاهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، إِذِ الْكِتَابَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةٌ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْوُجُوبِ فَمَعْنَى: لَا جُنَاحَ، لَا إِثْمَ. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى التَّبَايُعِ مُطْلَقًا، نَاجِزًا أَوْ كَالِئًا، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنِ الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، لَمَّا رُخِّصَ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ أُمِرُوا بِالْإِشْهَادِ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَالْحَكَمِ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخْعِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ أَوِ اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، أو ثلاثة دَرَاهِمَ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَحْلُ لِمُسْلِمٍ إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا عَلَى الْحَتْمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا قَوْلُ الْكَافَّةِ. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هَذَا نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ فُتِحَتِ الرَّاءُ لِأَنَّهُ مَجْزُومٌ. وَالْمُشَدَّدُ إِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَهَذَا كَانَتْ حَرَكَتُهُ الْفُتْحَةَ لِخِفَّتِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُدْغِمَ لَزِمَ تَحْرِيكُهُ، فَلَوْ فُكَّ ظَهَرَ فِيهِ الْجَزْمُ. وَاحْتَمَلَ هَذَا الْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فَيَكُونُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ قَدْ نُهِيَا أَنْ يَضَارَّا أَحَدًا بِأَنْ يَزِيدَ الْكَاتِبُ فِي الْكِتَابَةِ، أَوْ يُحَرِّفَ. وَبِأَنْ يَكْتُمَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ، أَوْ يُغَيِّرَهَا أَوْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَائِهَا. قَالَ معناه الحسن، وطاووس، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ: الزَّجَّاجُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ بِمَنْ يُحَرِّفُ الْكِتَابَةَ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ، حَتَّى يُبْطِلَ الْحَقَّ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ أَبْرَمَ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ، فِيمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالْآثِمُ وَالْفَاسِقُ مُتَقَارِبَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعطاء: بِأَنْ يَقُولَا: عَلَيْنَا شُغْلٌ وَلَنَا حَاجَةٌ.

وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَنُهِيَ أَنْ يُضَارَّهُمَا أَحَدٌ بِأَنْ يُعَنَّتَا، وَيَشُقَّ عَلَيْهِمَا فِي تَرْكِ أَشْغَالِهِمَا، وَيُطْلَبُ مِنْهُمَا مَا لَا يَلِيقُ فِي الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَالَ مَعْنَاهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ قِرَاءَةُ عُمَرَ: وَلَا يُضَارَرْ، بِالْفَكِّ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى. رَوَاهَا الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ وَالْكَاتِبِ خَطَّابٌ تَقَدَّمَ، إِنَّمَا رَدَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَالنَّهْيُ لَهُمْ أَبْيَنُ أَنْ لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ فَيَشْغَلُونَهُمَا عَنْ شُغْلِهِمَا، وَهُمْ يَجِدُونَ غَيْرَهُمَا. وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ لَقِيلَ: وَإِنْ تَفْعَلَا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمَا، وَإِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْمُدَايِنِينَ فَالْمَنْهِيُّونَ عَنِ الضِّرَارِ هُمْ، وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ الرَّاءَ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَيْضًا فَتْحَهَا، وَفَكَّ الْفِعْلِ. وَالْفَكُّ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْإِدْغَامُ لُغَةِ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَلَا يُضَارْ، بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثِ سَوَاكِنَ، لَكِنَّ الْأَلِفَ لِمَدِّهَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُتَحَرِّكِ، فَكَأَنَّهُ بَقِيَ سَاكِنَانِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ. ثُمَّ أَجْرَيَا الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: وَلَا يُضَارِرْ، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأَوْلَى وَالْفَكِّ، كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا بِالنُّصْبِ أَيْ: لَا يَبْدَأْهُمَا صَاحِبُ الْحَقِّ بِضَرَرٍ. وَوُجُوهُ الْمُضَارَّةِ لَا تَنْحَصِرُ، وَرَوَى مُقْسَمٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلَا يُضَارِّ، بِالْإِدْغَامِ وَكَسْرِ الرَّاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَا يُضَارُّ، بِرَفْعِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْسِينُ مَجِيءُ النَّهْيِ بِصُورَةِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، فَإِذَا بَرَزَ فِي صُورَةِ النَّفْيِ كَانَ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ صَارَ مِمَّا لَا يَقَعُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ. وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَفْعُولَ: تَفْعَلُوا، الْمَحْذُوفَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُضَارَّ، وَإِنْ تَفْعَلُوا لِمُضَارَّةٍ أَوِ الضِّرَارِ فَإِنَّهُ، أَيْ الضِّرَارِ، فُسُوقٌ بِكُمْ أَيْ: مُلْتَبِسٌ بِكُمْ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، أَيْ: فِيكُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ، إِذْ جُعِلُوا مَحَلًّا لِلْفِسْقِ. وَالْخِطَابُ فِي: تَفْعَلُوا، عَائِدٌ عَلَى الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يُضَارَّ، قَدْ قُدِّرَ

مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَمَّا إِذَا قُدِّرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَالْخِطَابُ لِلْمَشْهُودِ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، أَوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ: خُرُوجٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: فِي تَرْكِ الضِّرَارِ، أَوْ: فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خِطَابًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ، أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْفِسْقِ. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ هَذِهِ جُمْلَةُ تَذْكِرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَشْرَفَهَا: التَّعْلِيمُ لِلْعُلُومِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: وَاتَّقُوا، تَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ مَضْمُونًا لَكُمُ التَّعْلِيمُ وَالْهِدَايَةُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي: الْحَالَ، ضَعِيفٌ جَدًّا، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْوَاقِعُ حَالًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ إِلَّا فِيمَا شَذَّ مِنْ نَحْوِ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى الشُّذُوذِ. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى إِحَاطَتِهِ تَعَالَى بِالْمَعْلُومَاتِ، فَلَا يَشِذُّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِالْمُجَازَاةِ لِلْفَاسِقِ وَالْمُتَّقِي، وَأُعِيدَ لَفْظُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ عَلَى طَرِيقِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ، جُعِلَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى رَبْطٍ بِالضَّمِيرِ، بَلِ اكْتُفِيَ فِيهَا بِرَبْطِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى وَاحِدٍ، فَالْأُولَى: حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ: تَذَكُّرٌ بِالنِّعَمِ، وَالثَّالِثَةُ: تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ الْوَعْدُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَكَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ بَعْضُ الْمُتَطَوِّعَةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَجَافَوُنَّ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، مِنَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، إِذَا ذُكِرَ لَهُ الْعِلْمُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ، قَالُوا: قَالَ اللَّهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَمِنْ أَيْنَ تُعْرَفُ التَّقْوَى؟ وَهَلْ تُعْرَفُ إِلًّا بِالْعِلْمِ؟. وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. مَفْهُومُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الِاسْتِيثَاقِ بِالرَّهْنِ، وَأَخْذَهُ فِي الْحَضَرِ، وَعِنْدَ وِجْدَانِ الْكَاتِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ السَّفَرِ وَفُقْدَانِ الْكَاتِبِ، وَقَدْ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ وَالِائْتِمَانَ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَنْبَغِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ الِارْتِهَانَ إِلَّا فِي حَالِ السَّفَرِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وَمَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ السَّفَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْإِعْذَارِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ فُقْدَانِ

الْكَاتِبِ، وَإِعْوَازِ الْإِشْهَادِ، فَأَقَامَ التَّوَثُّقَ بِالرَّهْنِ مَقَامَ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَبِّهْ بِالسَّفَرِ عَلَى كُلِّ عُذْرٍ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْكَاتِبُ فِي الْحَضَرِ كَأَوْقَاتِ الِاشْتِغَالِ وَاللَّيْلِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْنَ دِرْعَهُ فِي الْحَضَرِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لَا يُرَادُ مَفْهُومُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَاتِبًا، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو العالية: كِتَابًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ جَمْعُ كَاتِبٍ. كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ. وَنَفْيُ الْكَاتِبِ يَقْتَضِي نَفْيُ الْكِتَابَةِ، وَنَفْيُ الْكِتَابَةِ يَقْتَضِي أَيْضًا نُفِيَ الْكُتُبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: كُتَّابًا، عَلَى الْجَمْعِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ كُلَّ نَازِلَةٍ لَهَا كَاتِبٌ، وَرَوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: كُتُبًا جَمْعُ كِتَابٍ، وَجُمِعَ اعْتِبَارًا بِالنَّوَازِلِ أَيْضًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرِهَانٌ، جَمْعُ رَهْنٍ نَحْوُ: كَعْبٍ وَكِعَابٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: فَرُهُنٌ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ. وَرَوِيَ عَنْهُمَا تَسْكِينُ الْهَاءِ. وَقَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمَا، فَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رِهَانٍ، وَرِهَانٌ جَمْعُ رَهَنٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ. وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَا يَطَّرِدُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رَهْنٍ، كَسَقْفٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْهَاءِ فَهُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ رُهُنٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، نَحْوُ: كُتْبٍ فِي كُتُبٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لَا أَعْرِفُ الرِّهَانَ إِلَّا فِي الْخَيْلِ لَا غَيْرَ، وَقَالَ يُونُسُ: الرُّهْنُ وَالرِّهَانُ عَرَبِيَّانِ، وَالرُّهْنُ فِي الرُّهُنِ أَكْثَرُ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ أَكْثَرُ. انْتَهَى. وَجَمْعُ فُعُلٍ عَلَى فُعْلٍ قَلِيلٌ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ: رُهْنٌ، قَوْلُ الْأَعْشَى: آلَيْتُ لَا يُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهْنًا فَيُفْسِدَهُمْ كَرُهْنٍ أَفْسَدَا وَقَالَ بِكَسْرِ: رِهْنٍ، عَلَى أَقَلَّ الْعَدَدِ لَمْ أَعْلَمْهُ جَاءَ، وَقِيَاسُهُ: أَفْعُلٍ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِالْكَثِيرِ عَنِ الْقَلِيلِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: مَقْبُوضَةٌ، اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ قَبَضِ الْمُرْتَهِنِ، وَقَبَضِ وَكِيلِهِ، وَأَمَّا قَبْضُ عَدْلٍ يُوضَعُ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَيْسَ بِقَبْضٍ، فَإِنْ وَقْعَ الرَّهْنُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِالْعَقْدِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى دَفْعِ الرَّهْنِ لِيَحُوزَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَالْقَبْضُ عِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ فِي كَمَالِ فَائِدَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِمْرَارِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَطَلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لَمْ يَبْطُلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ مُطْلَقًا. وَالظَّاهِرُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ ذَاتًا مُتَقَوِّمَةً يَصِحُّ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، وَيَتَهَيَّأُ فِيهَا الْقَبْضُ أَوِ التَّخْلِيَةُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْغَرَرِ، مِثْلُ: الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالْأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي رَهْنِ الْمَشَاعِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا يُقَسَّمُ. وَمَعْنَى: عَلَى سَفَرٍ، أَيْ: مُسَافِرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِدُوا، أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نصب. ويحتمل أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى خَبَرِ كَانَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَارْتِفَاعُ: فَرِهَانٌ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَالْوَثِيقَةُ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ: إِنْ وَثِقَ رَبُّ الدَّيْنِ بِأَمَانَةِ الْغَرِيمِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ، فَلْيُؤَدِّ الْغَرِيمُ أَمَانَتَهُ، أَيْ مَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنْ أُومِنَ، رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: آمَنَهُ النَّاسُ، هَكَذَا نَقَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ أَبِيِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنِ ائْتَمَنَ، افْتَعَلَ مِنَ الْأَمْنِ، أَيْ: وَثَقَ بِلَا وَثِيقَةِ صَكٍّ، وَلَا رَهْنٍ. وَالضَّمِيرُ فِي: أَمَانَتَهُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى رَبِّ الدَّيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِي اؤْتُمِنَ. وَالْأَمَانَةُ: هُوَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَلْيُؤَدِّ دَيْنَ أَمَانَتِهِ. وَاللَّامُ فِي: فَلْيُؤَدِّ، لِلْأَمْرِ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الدُّيُونِ، وَثُبُوتِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ وَجَبْرِهِ الْغُرَمَاءَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ هَمْزَةِ: فَلْيُؤَدِّ، وَاوًا نَحْوُ: يُوَجَلُ وَيُوَخَّرُ وَيُوَاخَذُ، لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: الَّذِي اؤْتُمِنَ، بِرَفْعِ الْأَلِفِ، وَيُشِيرُ بِالضَّمَّةِ إِلَى الْهَمْزَةِ.

قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ غَلَطٌ. وَرَوَى سُلَيْمٌ عَنْ حَمْزَةَ إِشْمَامَ الْهَمْزَةِ الضَّمَّ، وَفِي الْإِشَارَةِ وَالْإِشْمَامِ الْمَذْكُورَيْنِ نَظَرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَوَرْشٌ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي بِئْرٍ وَذِئْبٍ، وَأَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ: أُؤْتُمِنَ، بِهَمْزَتَيْنِ: الْأُولَى هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَهِيَ مَضْمُومَةٌ. والثاني: فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَتُبَدَلُ هَذِهِ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، وَلِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الْكَلِمَةُ بِمَا قَبْلَهَا رَجَعَتِ الْوَاوُ إِلَى أَصْلِهَا مِنَ الْهَمْزَةِ، لِزَوَالِ مَا أَوْجَبَ إِبْدَالَهَا. وَهِيَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ جَازَ إِبْدَالُهَا يَاءً لِذَلِكَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي شَاذِّهِ: الِلَّذِتُّمِنَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْمُبَدَلَةِ مِنَ الْهَمْزَةِ قِيَاسًا عَلَى: اتَّسَرَ، فِي الِافْتِعَالِ مِنَ الْيُسْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لأن التاء منقلبة عَنِ الْهَمْزَةِ فِي حُكْمِ الْهَمْزَةِ، وَاتَّزَرَ عَامِّيٌّ، وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وأن اترز عَامِّيٌّ يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ إِحْدَاثِ الْعَامَّةِ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ، قَدْ ذَكَّرَهُ غَيْرُهُ، أَنَّ بَعْضَهُمْ أَبَدَلَ وَأَدْغَمَ، فَقَالَ: اتَّمَنَ وَاتَّزَرَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا، فَهَذَا التَّشْبِيهُ إِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: واتزر عَامِّيٌّ، فَيَكُونُ إِدْغَامُ رُيَّا عَامِّيًّا. وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، أَيْ: وَكَذَلِكَ إِدْغَامُ: رُيَّا، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَدْ حَكَى الْإِدْغَامَ فِي رُيَّا الْكِسَائِيُّ. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أَيْ عَذَابَ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا ائْتَمَنَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّهُ، تَأْكِيدًا لْأَمْرِ التَّقْوَى فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ كَمَا جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَأَمَرَ بِالتَّقْوَى حِينَ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ، وَحِينَ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ، فَاكْتَنَفَهُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى حِينَ الْأَخْذِ وَحِينَ الْوَفَاءِ. وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَلَا تَرَى إِلَى الْوَعِيدِ لِمَنْ كَتَمَهَا؟ وَمَوْضِعُ النَّهْيِ حَيْثُ يَخَافُ الشَّاهِدُ ضَيَاعَ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ حَيْثُ مَا اسْتُشْهِدَ، وَيُخْبِرَ حَيْثُ مَا اسْتُخْبِرَ. وَلَا تَقُلْ: أَخْبِرْ بِهَا عَنِ الْأَمِيرِ، بَلْ أَخْبِرْهُ بِهَا لَعَلَّهُ يَرْجِعُ وَيَرْعَوِي. وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ كَتْمُ الشَّهَادَةِ هُوَ إِخْفَاؤُهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَائِهَا، وَالْكَتْمُ

مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ قَامَ بِالْقَلْبِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَ الْإِثْمَ بِهِ. وَهُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ: (أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) . وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا أَبْلَغُ وَآكَدُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي؟ وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي؟ وَوَعَاهُ قَلْبِي؟ فَأُسْنِدَ الْإِثْمُ إِلَى الْقَلْبِ إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِثْمِ، وَمَكَانُ اقْتِرَافِهِ، وَعَنْهُ يُتَرْجِمُ اللِّسَانُ. وَلِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْكِتْمَانَ مِنَ الْآثَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَأَفْعَالُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَهِيَ لَهَا كَالْأُصُولِ الَّتِي تَتَشَعَّبُ مِنْهَا، لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: آثِمٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَثِمَ قَلْبُهُ، وَ: قَلْبُهُ، مَرْفُوعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَ: آثِمٌ، خَبَرُ: إِنَّ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ: آثِمٌ، خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَ: قَلْبُهُ، مُبْتَدَأٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: إِنَّ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي: آثم ابتداء وقلبه فَاعِلٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا أَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ، نَحْوُ: أقائم الزيدان؟ وأ قائم الزَّيْدُونَ؟ وَمَا قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ لَكِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، إِذْ يُجِيزُ: قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ فَيَرْفَعُ الزَّيْدَانِ بَاسِمِ الْفَاعِلِ دُونَ اعْتِمَادٍ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: قَلْبُهُ، بَدَلًا عَلَى بَدَلِ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَكِنِ فِي: آثِمٌ، وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: قَلْبَهُ، بِالنَّصْبِ، ونسبها ابن عطية إلى ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَقَالَ: قَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ عَلَى التَّفْسِيرِ يَعْنِي التَّمْيِيزَ، ثُمَّ ضُعِّفَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ. وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَقَدْ خَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهِهِ، وَمَثَلِهِ مَا أَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَاتِهَا ... مُدَارَةَ الْأَخْفَافِ مُجْمَرَاتِهَا غلب الدفار وعفريناتها ... كَوْمُ الذُّرَى وَادِقَّةُ سِرَاتِهَا وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ جَائِزٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ مَمْنُوعٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَائِزٌ فِي الشِّعْرِ لَا فِي الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ اسْمِ إِنَّ بدل بعض من كل، وَلَا مُبَالَاةَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَدْ فَصَلُوا

بِالْخَبَرِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، نَحْوُ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ الْعَاقِلُ، نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتَ وَاحِدٌ، فَأَحْرَى فِي الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ غَيْرُ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَنَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ ابْنَ أَبِي عَبْلَةَ قَرَأَ: أَثَمَ قَلْبَهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَالْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الثَّاءِ، جعله فعلا ماضيا. وقلبه بِفَتْحِ الْبَاءِ نَصْبًا عَلَى المفعول بأثم، أَيْ: جَعَلَهُ آثِمًا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا عَلَى وَجْهِهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ تَوَعُّدٌ شَدِيدٌ لِكَاتِمِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُجَازَاةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعِلْمِ يَعُمُّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: بِمَا يَعْمَلُونَ، بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ. التَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَفِي قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ. والتجنيس الممائل فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا. وَالتَّأْكِيدَ في قوله: تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وليكتب بينكم كاتب، إِذْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: تَدَايَنْتُمْ، قَوْلُهُ: بِدَيْنٍ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، قَوْلُهُ: كَاتِبٌ. وَالطِّبَاقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ، لِأَنَّ الضَّلَالَ هُنَا بِمَعْنَى النِّسْيَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، وَفِي قوله: أقسط عند الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ. وَالتَّكْرَارَ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وليكتب، وأن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، فَلْيَكْتُبْ، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وفي قوله: فليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. كَرَّرَ الْحَقَّ لِلدُّعَاءِ

إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَأَتَى بِلَفْظَةِ عَلَى لِلْإِعْلَامِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَاسْتِعْلَاءً، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ. وَالْحَذْفَ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، حَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: مُسَمًّى، أَيْ بَيْنِكُمْ فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَةَ وَالْخَطَّ، فَلْيَكْتُبْ كِتَابَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَائِهِ سَفِيهًا فِي الرَّأْيِ أَوْ ضَعِيفًا فِي الْبَيِّنَةِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمَلَّ هُوَ لَخَرَسٍ أَوْ بُكْمٍ فَلْيَمْلَلِ الدَّينَ وَلِيُّهُ عَلَى الْكَاتِبِ، وَاسْتَشْهِدُوا إِذَا تَعَامَلْتُمْ مِنْ رِجَالِكُمُ الْمُعَيَّنِينَ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيِّينَ، فَرَجُلٌ مَرْضِيٌّ وَامْرَأَتَانِ مَرْضِيَّتَانِ مِنَ الشُّهَدَاءِ الْمَرْضِيِّينَ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إِذَا مَا دُعُوا أَيْ دُعَائِهِمْ صَاحِبَ الْحَقِّ لِلتَّحَمُّلِ، أَوْ لِلْأَدَاءِ إِلَى أَجَلِهِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَكُمْ، ذَلِكُمُ الْكِتَابُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيَّةِ أَنْ لَا تَرْتَابُوا فِي الشَّهَادَةِ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ، وَلَا تَحْتَاجُونَ إِلَى الْكُتُبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ شَاهِدَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ أَيْ صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ: لَا يُضَارُّ صَاحِبُ الْحَقِّ كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا، ثُمَّ حُذِفَ وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْ تَفْعَلُوا الضَّرَرَ، وَاتَّقَوْا عَذَابَ اللَّهِ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ الصَّوَابَ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَبِيلِ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا يُتَوَثَّقُ بِكِتَابَتِهِ، فَالْوَثِيقَةُ رَهْنٌ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَأَعْطَاهُ مَالًا بِلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ أَمَانَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا مَطَلٍ، وَلْيَتَّقِ عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ عَنْ طَالِبِهَا. وَتَلْوِينَ الْخِطَابِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ، وَمِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وَأَشْهِدُوا. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُضَارَّ، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بقوله: ولا تكمتوا الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْتُمْهَا، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بِقَوْلِهِ: بِمَا تَعْمَلُونَ. وَالْعُدُولُ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ، فِي قَوْلِهِ: شَهِيدَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، وَلْيُمْلِلِ، أَوِ الْإِمْلَالُ، بِتَقْدِيمِ الْكِتَابَةِ قَبْلُ، وَمِنْ ذَلِكَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، التَّقْدِيرُ وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، وَمِنْهُ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ. وَفِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا لَا يَخْفَى: مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ لِلْمُتَدَايِنِينَ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِلْكَاتِبِ

بِالْكِتَابَةِ بِالْعَدْلِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ أَمْرِهِ ثَانِيًا بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَالِ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ لِوَلِيِّهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِشْهَادِ، وَمِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي مَنْ يَشْهَدُ وَفِي وَصْفِهِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلشُّهُودِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمَلَلِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا، وَمِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الضَّبْطِ بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ التَّبَايُعِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ عَنْ ضِرَارِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَيَكْتُبُ، ومن التنبيه على أن الضِّرَارَ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ فُسُوقٌ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَمِنَ الْإِذْكَارِ بِنِعْمَةِ التَّعَلُّمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنِ الِاسْتِيثَاقِ فِي السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ بِالرَّهْنِ الْمَقْبُوضِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ مَنْ لَمْ يَسْتَوْثِقْ بِكَاتِبٍ وَشَاهِدٍ وَرَهْنٍ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنِ اسْتَوْثَقَ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْأَمَانَةِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ، وَمِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنْ كَاتَمَهَا مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَصِيَانَتِهَا عَنِ الضَّيَاعِ، وَقَدْ قَرَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنُّفُوسِ وَالدِّمَاءِ، فَقَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ» . وَلِصِيَانَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِضَاعَتِهَا، وَمِنَ التَّبْذِيرِ فِيهَا كَانَ حَجْرُ الْإِفْلَاسِ، وَحَجْرُ الْجُنُونِ، وَحَجْرُ الصِّغَرِ، وَحَجْرُ الرِّقِّ، وَحَجْرُ الْمَرَضِ، وَحَجْرُ الِارْتِدَادِ. لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَتِهَا، وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ وَمُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْوَاقِدِيُّ: نَزَلَتْ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمُنَاسَبَتُهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ فَإِنَّ قَلْبَهُ آثِمٌ، ذَكَرَ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، فَكَتَمَهُ أَوْ أَبْدَاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ بِهِ، فَفِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ، وَلَمَّا عَلَّقَ الْإِثْمَ بِالْقَلْبِ ذَكَرَ هُنَا الْأَنْفُسَ، فَقَالَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ خَاتِمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّنَهَا أَكْثَرَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ: دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَعَادِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْخُلْعِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالرَّضَاعَةِ، وَالرِّبَا، وَالْبَيْعِ، وَكَيْفِيَّةِ الْمُدَايَنَةِ. فَنَاسَبَ تَكْلِيفُهُ إِيَّانَا بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ أَنْ يَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ يُلْزِمُ مَنْ شَاءَ مِنْ مَمْلُوكَاتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ تَعَبُّدَاتِهِ وَتَكْلِيفَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ مَحَلَّ اعْتِقَادِهَا إِنَّمَا هُوَ الْأَنْفَسُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ

النِّيَّاتِ، وَثَوَابَ مُلْتَزِمِهَا وَعِقَابَ تَارِكِهَا إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، نَبَّهَ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ الَّتِي بِهَا تَقَعُ الْمُحَاسَبَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَصِفَةُ الْمُلْكِ تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَذِكْرُ الْمُحَاسَبَةِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، فَحَصَلَ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ غَايَةُ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِينَ، وَغَايَةُ الْوَعِيدِ لِلْعَاصِينَ. وَالظَّاهِرُ فِي: اللَّامُ، أَنَّهَا لِلْمُلْكِ، وَكَانَ مَلِكًا لَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْشِئُ لَهُ، الْخَالِقُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِلَّهِ تَدْبِيرُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَخَصَّ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يُرَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدَّمَ السموات لِعِظَمِهَا، وَجَاءَ بِلَفْظِ: مَا، تَغْلِيبًا لِمَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا حَوَتْهُ إِنَّمَا هُوَ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ، لَا يَعْقِلُ، وَأَجْنَاسُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْعَاقِلُ فَأَجْنَاسُهُ قَلِيلَةٌ إِذْ هِيَ ثَلَاثَةٌ: إِنْسٌ وَجِنٌّ وَمَلَائِكَةٌ. وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ظَاهِرُ: مَا، الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَالَتَيْنِ مِنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ إِبْدَاءً وَإِخْفَاءً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ نَاشِئًا عَنْ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ سَابِقٌ بِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِعْدَامِ. بِخِلَافِ عِلْمِ الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ إِيجَادِهِ، فَعِلْمُهُ مُحَدَّثٌ. وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةٍ، أَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَاتِمَ لَهَا الْمَخْفِي مَا فِي نَفْسِهِ مُحَاسَبٌ، وَقِيلَ: مِنَ الِاحْتِيَالِ لِلرِّبَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُ بِمَا تَجْنِ الْقُلُوبُ، قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «1» . وَبَعْدُ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْجَهْلَ أَفْعَالُ الْقَلْبِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: بَيَّنَ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ كَأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فِي أَنَّ الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُهَا، وَيَعْنِي مَا يَلْزَمُ إِظْهَارُهُ إِذَا خَفِيَ، وَمَا يلزم كتماته إِذَا ظَهَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِمَّا قَدْ رَفَعَ فِيهِ الْمَأْثَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِلَى مَا يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ أَشَارَ، وَاللَّهُ أَعْلَمَ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوُزَ لِأُمَّتَي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ وَتَكَلُّمْ» وَقَالَ: «إِنْ تُظْهِرُوا الْعَمَلَ أَوْ تسروه» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 235. [.....]

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا يُخْفُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَعَلَى مَا يُبْدُونَهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَحِقِّ وَيُعَذِّبُ الْمُسْتَحِقَّ. وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ يُسْتَحَقَّانِ بِالْعَزْمِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ إِذَا كَانَتْ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ السُّوءِ وَهَذَا حَسَنٌ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ذِكْرُ الْغُفْرَانِ وَالتَّعْذِيبِ، لَكِنْ ذَيَّلَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، لِمَنِ اسْتَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا أُظْهِرَ مِنْهُ، أَوْ أُضْمِرَ. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مَنِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ بِالْإِصْرَارِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْغُفْرَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَتُبْ، فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» . ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ الْوَسْوَاسُ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْخُلُوُّ مِنْهُ، وَلَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ تَلَاهَا فَقَالَ: لَئِنْ أَخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلَكَنَّ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشَجُهُ، فَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدَ، فَنَزَلَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي أَنْفُسِكُمْ، يَقْتَضِي قُوَّةَ اللَّفْظِ أَنَّهُ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ وَاعْتُقِدَ وَاسْتَصْحَبَ الْفِكْرَ فِيهِ، وَأَمَّا الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا فَلَيْسَتْ فِي النَّفْسِ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا تَخْصِيصًا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَسْوَسَةَ وَالْهَوَاجِسَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُحَكَمَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا مِمَّا ثَبَتَ فِي نُفُوسِهِمْ وَنَوُوهُ وَأَرَادُوهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَأْخُذُ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: الْعَذَابُ الَّذِي يَكُونُ جَزَاءً لِلْخَوَاطِرِ هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَآلَامُهَا وَسَائِرُ مَكَارِهِهَا. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عَائِشَةَ. وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْخَوَاطِرُ، أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ ما أراد

_ (1) سورة النساء: 2/ 48 و 116.

بِهَا وَخَصَّصَهَا، وَنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَ دَفْعُهَا فِي الْوُسْعِ، وَكَانَ فِي هَذَا فَرَجُهُمْ وَكَشْفُ كَرْبِهِمْ. وَالْآيَةُ خَبَرٌ، وَالنَّسْخُ لَا يُدْخَلُ الْأَخْبَارَ، وَانْجَزَمَ: يُحَاسِبُكُمْ، عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْمُحَاسَبَةِ إِذْ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاسِيرِ الْحَسِيبِ: الْعَالِمُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَقِيلَ: الْجَزَاءُ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ بِعَدَمِ الْمُحَاسَبَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يُحَاسِبُكُمْ إِنْ شَاءَ أَوْ يُحَاسِبُكُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَحْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَزِيدُ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْقَطْعِ، وَيَجُوزُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالْآخَرُ: أَنْ يُعْطَفَ جُمْلَةٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى الْجَوَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو حَيْوَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى إِضْمَارِ: إِنْ، فَيَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مِنَ الْحِسَابِ، تَقْدِيرُهُ: يَكُنْ مُحَاسَبَةٌ فَمَغْفِرَةٌ وَتَعْذِيبٌ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ قَدْ جَاءَتْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سَنَامُ يُرْوَى بِجَزْمِ: وَنَأْخُذُ، وَرَفْعِهِ وَنَصْبِهِ. وَقَرَأَ الْجَعْفِيُّ، وَخَلَّادٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: يُغْفَرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُرْوَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هِيَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ: يُحَاسِبُكُمْ، فَهِيَ تَفْسِيرٌ لِلْمُحَاسَبَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، بَلْ هُمَا مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، وَمِثَالُ الْجَزْمِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْجَزَاءِ قَوْلُهُ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ أَوْضَحُ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، أَوْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأَسَهُ. وَأُحِبُّ زَيْدًا عَقْلَهَ، وَهَذَا الْبَدَلُ وَاقِعٌ فِي الْأَفْعَالِ وُقُوعِهِ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ مناقشة. أَوَّلًا: فَلِقَوْلِهِ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، وليس الغفران والعذاب

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 68.

تَفْصِيلًا لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا هُوَ تِعْدَادُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَحُصْرِهَا، بِحَيْثُ لَا يَشُذُّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْغُفْرَانُ وَالْعَذَابُ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، فَلَيْسَتِ الْمُحَاسَبَةُ تَفْصِلُ الْغُفْرَانِ وَالْعَذَابِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِقَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَدَلَ الْبَعْضِ وَالْكُلِّ، وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ: هَذَا الْبَدَلُ وُقُوعُهُ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. أَمَّا بَدَلُ الِاشْتِمَالِ فَهُوَ يُمْكِنُ، وَقَدْ جَاءَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَا هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ يَكُونُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّفْيُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَأَمَّا بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَلَا يُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا يَقْبَلُ التَّجَزِي، فَلَا يُقَالُ فِي الْفِعْلِ: لَهُ كُلٌّ وَبَعْضٌ إِلًّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ، فَلَيْسَ كَالِاسْمِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذِ الْبَارِي تَعَالَى وَاحِدٌ فَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ قِرَاءَةَ الْجَزْمِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَقْرَأُ الْجَازِمُ؟. قُلْتُ: يُظْهَرُ الرَّاءَ وَيُدْغِمُ الْبَاءَ، وَمُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا، وَرَاوِيهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، لِأَنَّهُ يُلْحِنُ وَيَنْسُبُ إِلَى أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا يُؤْذِنُ بِجَهْلٍ عَظِيمٍ، وَالسَّبَبُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قِلَّةُ ضَبْطِ الرُّوَاةِ، وَالسَّبَبُ فِي قِلَّةِ الضَّبْطِ قِلَّةُ الدِّرَايَةِ، وَلَا يَضْبُطُ نَحْوَ هَذَا إِلَّا أَهْلُ النَّحْوِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْقُرَّاءِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَ أَنَّ مُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا إِلَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ، فَذَهَبَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ مِنْ أَجْلِ التَّكْرِيرِ الَّذِي فِيهَا، وَلَا فِي النُّونِ. قَالَ أبو سعيد. ولانعلم أَحَدًا خَالَفَهُ إِلَّا يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيُّ، وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَنَّهُ كَانَ يُدْغِمُ الرَّاءَ فِي اللَّامِ مُتَحَرِّكَةٌ مُتَحَرِّكًا مَا قَبْلَهَا، نَحْوُ: يَغْفِرُ لِمَنْ «1» الْعُمُرِ لِكَيْلا «2» وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «3» فَإِنَّ سَكَنَ مَا قَبْلَ الرَّاءِ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ فِي مَوْضِعِ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، نَحْوُ الْأَنْهارُ لَهُمْ «4» والنَّارُ لِيَجْزِيَ «5» فَإِنِ انْفَتَحَتْ وَكَانَ ما قبلها حرف مدولين أو غيره لم

_ (1) سورة البقرة: 2/ 284، وآل عمران: 3/ 129 والمائدة: 4/ 18 و 40. والفتح: 48/ 14. (2) سورة الحج: 22/ 5. (3) سورة النساء: 4/ 64. (4) سورة النحل: 16/ 31. (5) سورة إبراهيم: 14/ 50 و 51.

يَدْغِمْ نَحْوُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ «1» والْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ «2» ولَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ «3» وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها «4» فَإِنْ سَكَنَتِ الرَّاءُ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ إِلَّا مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ، عَنِ الْيَزِيدِيِّ، عَنْهُ: أَنَّهُ أَظْهَرَهَا، وَذَلِكَ إِذَا قَرَأَ بِإِظْهَارِ الْمِثْلَيْنِ، وَالْمُتَقَارِبَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا غَيْرَ، عَلَى أَنَّ الْمَعْمُولَ فِي مَذْهَبِهِ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْإِدْغَامِ نَحْوُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ انْتَهَى. وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَحَكَيَاهُ سَمَاعًا، وَوَافَقَهُمَا عَلَى سَمَاعِهِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً أَبُو جَعْفَرٍ الرَّوَاسِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْإِدْغَامِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ حَسَّانَ. وَالْإِدْغَامُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْقُرَّاءِ مِنَ الْإِدْغَامِ الَّذِي مَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ يَكُونُ ذَلِكَ إِخْفَاءً لَا إِدْغَامًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْقُرَّاءِ أَنَّهُمْ غَلَطُوا، وَمَا ضَبَطُوا، وَلَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِدْغَامِ، وَعَقْدَ هَذَا الرَّجُلُ بَابًا قَالَ: هَذَا بَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ مَا أَدْغَمَتِ الْقُرَّاءُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَحْصُورًا فِيمَا نَقَلَهُ البصريون فقط، والقراآت لَا تَجِيءُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَنَقَلُوهُ، بَلِ الْقُرَّاءُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَكَادُونَ يَكُونُونَ مِثْلَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِ إدغام الراء في اللام كَبِيرُ الْبَصْرِيِّينَ وَرَأْسُهُمْ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَكُبَرَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: الرَّوَّاسِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَجَازُوهُ وَرَوُوهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى عِلْمِهِمْ وَنَقْلِهِمْ، إِذْ مَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ رَاوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَالَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الرُّوَاةُ، وَمِنْهُمْ: أَبُو مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيُّ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّحْوِ إِمَامٌ في القراآت إِمَامٌ فِي اللُّغَاتِ. قَالَ النِّقَاشُ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَنْزَعُ عَنْهُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الْعَظِيمَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الصَّغِيرِ. وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقَالُوا: كَلَّفُوا أَمْرَ الْخَوَاطِرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يطاق.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 21. (2) سورة الإنفطار: 82/ 13، والمطففين: 83/ 22. (3) سورة فاطر: 35/ 29 و 30. (4) سورة النحل: 16/ 8.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا غَيْرُ بَيِّنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ تَأْوِيلًا تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ تَكْلِيفًا. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ وَالتَّعْذِيبَ لِمَنْ يَشَاءُ، عَقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ، إِذْ مَا ذُكِرَ جُزْءٌ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ. آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ أَشْفَقُوا مِنْهَا، ثُمَّ تَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا «1» فَرَجَعُوا إِلَى التَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَقَدَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رِفْقِهِ بِهِمْ، وَكَشْفِهِ لِذَلِكَ الْكَرْبِ الَّذِي أَوْجَبَهُ تَأْوِلَهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ تَعَالَى التَّشْرِيفَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَرَفَعِ الْمَشَقَّةَ فِي أَمَرِ الْخَوَاطِرِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ: ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّاتِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْجَلَاءِ، إِذْ قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا «2» وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَنْ نِقَمِهِ. انْتَهَى هَذَا، وَهُوَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَظَهَرَ بِسَبَبِ النُّزُولِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَلِمَا كَانَ مُفْتَتَحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَأَنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ، كَانَ مُخْتَتَمُهَا أَيْضًا مُوَافِقًا لِمُفْتَتَحِهَا. وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَوَائِلَ السُّوَرِ الْمُطَوَّلَةِ فَوَجَدْتُهَا يُنَاسِبُهَا أَوَاخِرُهَا، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَنْخَرِمُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ سُورَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْدَعِ الْفَصَاحَةِ، حَيْثُ يَتَلَاقَى آخِرُ الْكَلَامِ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ بِأَوَّلِهِ، وَهِيَ عَادَةٌ لِلْعَرَبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُظُمِهِمْ، يَكُونُ أَحَدُهُمْ آخِذًا فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى آخَرَ، هَكَذَا طَوِيلًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مَا كَانَ آخِذًا فِيهِ أَوَّلًا. وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ سَهَلَ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ مَا يَظْهَرُ ببادئ النظم أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: آمَنَ الرَّسُولُ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمَا جِبْرِيلُ، وَسَمِعَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالْبَقَرَةُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا هاتين الآيتين.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 285 والنساء: 4/ 46. (2) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 93.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِمَا بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي إِيمَانِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالشَّكُّ فِيهِ شَكٌّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الرَّسُولُ، هِيَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ مِنَ اللَّهِ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَمَا أَنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: مِنَ الْعَقَائِدِ، وَأَنْوَاعِ الشَّرَائِعِ، وَأَقْسَامِ الْأَحْكَامِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي غَيْرِهِ. آمَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَقَدَّمَ الرَّسُولَ لِأَنَّ إِيمَانَهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ وَإِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِيمَانِهِ، إِذْ هُوَ الْمَتْبُوعُ وَهُمُ التَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: «يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ» . وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الرَّسُولُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ: وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ ، فَأَظْهَرَ الْفِعْلُ الَّذِي أَضْمَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: كُلٌّ، لِشُمُولِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ، وَيَكُونُ: الْمُؤْمِنُونَ، مُبْتَدَأً، وَ: كُلٌّ، مُبْتَدَأً ثَانٍ لِشُمُولِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وَ: آمَنَ بِاللَّهِ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: كُلٌّ، وَالْجُمْلَةُ، مِنْ: كُلٌّ وَخَبَرِهِ، فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّابِطُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ تَقْدِيرُهُ: كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ، كَقَوْلِهِمُ: السَّمْنُ مَنَوَانٌ بِدِرْهَمٍ، يُرِيدُونَ: مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ: التَّصْدِيقُ بِهِ، وَبِصِفَاتِهِ، وَرَفَضُ الْأَصْنَامِ، وَكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ. وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هُوَ اعْتِقَادُ وَجُودِهِمْ، وَأَنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ، وَرَفْضِ مُعْتَقَدَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ، وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَضَمَّنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ لِعِبَادِهِ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بالله هو الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى، وَهِيَ الَّتِي يَسْتَبِدُّ بِهَا الْعَقْلُ إِذْ وجود الصانع يقربه كُلٌّ عَاقِلٍ، وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، لِأَنَّهُمْ كَالْوَسَائِطِ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يَتَلَقَّنُهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ، يُوصِلُهُ إِلَى الْبِشْرِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ أَنْوَارَ الْوَحْيِ فَهُمْ مُتَأَخِّرُونَ فِي الدَّرَجَةِ عَنِ الْكُتُبِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شيء من هَذَا

التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ «1» وَقِيلَ: الْكَلَامُ فِي عِرْفَانِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَعُرْفَانِ الْخَيْرِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَاسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَالْقُوَّةِ العملية يفعل الخيرات، والأولى أشرف، فبدىء بِهَا، وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَقِيلَ: لِلْإِنْسَانِ مَبْدَأٌ وَحَالٌ وَمَعَادٍ، فَالْإِيمَانُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ، وَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالِ، وَ: غُفْرَانَكَ، وَمَا بَعْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَكِتَابِهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: وَكُتُبِهِ، عَلَى الْجَمْعِ. فَمَنْ وَحَّدَ أَرَادَ كُلَّ مَكْتُوبٍ، سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِمْ: نَسْجُ الْيَمَنِ أَيْ: مَنْسُوجُهُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْإِفْرَادَ لَيْسَ كَإِفْرَادِ الْمَصَادِرِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْكَثِيرُ، كَقَوْلِهِ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً «2» وَلَكِنَّهُ، كَمَا تُفْرَدُ الْأَسْمَاءَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ، نَحْوُ: كَثُرَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، وَمَجِيئُهَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهَا مُضَافَةً، وَمِنَ الْإِضَافَةِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «3» وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا» . يُرَادُ بِهِ: الْكَثِيرُ، كَمَا يُرَادُ بِمَا فِيهِ لَامُ التَّعْرِيفِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَعُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكِتِابِهِ، يُرِيدُ الْقُرْآنَ. أَوِ الْجِنْسَ، وَعَنْهُ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمْعِ؟. قُلْتُ: لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْوَاحِدِ الْجِنْسُ، وَالْجِنْسِيَّةُ، قَائِمَةٌ فِي وَحَدَانِ الْجِنْسِ كُلِّهَا، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَلَا يُدْخِلُ تَحْتَهُ إِلَّا مَا فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ مِنَ الْجُمُوعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا أُضِيفَ أَوْ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْجِنْسِيَّةُ صَارَ عَامًّا، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي، يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ عَبْدٍ عَبْدٍ، وَدَلَالَةُ الْجَمْعِ أَظْهَرُ فِي الْعُمُومِ مِنَ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَمِ الْإِضَافَةُ، بَلْ لَا يُذْهَبُ إِلَى الْعُمُومِ فِي الْوَاحِدِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ يُوَصَفُ بِالْجَمْعِ، نَحْوُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «4» و: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، أَوْ قَرِينَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ نَحْوُ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَقْصَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْجَمْعِ العام إذا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 285، والنساء: 4/ 46. [.....] (2) سورة الفرقان: 25/ 14. (3) سورة إبراهيم: 14/ 34. (4) سورة العصر: 103/ 2 و 3.

أربد بِهِ الْعُمُومُ، وَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ، فَأُفْرِدَ كَقَوْلِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «1» . وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: وَكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ التَّاءِ وَالسِّينِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ السِّينِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ. لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ، وَقَدَّرَهُ: يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَقُولُ لَا نُفَرِّقُ، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ: يَقُولُ، على اللفظ، و: يقولون، عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَمَوْضِعُ هَذَا الْمُقَدَّرِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خبر لكل. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وَيَعْقُوبُ، ونص رواة أبي عمرو: لا يُفَرِّقُ، بِالْيَاءِ عَلَى لَفْظِ: كُلٌّ. قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يُفَرِّقُونَ، حُمِلَ عَلَى مَعْنَى: كُلٌّ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وِفْقِ الدَّعْوَى فَاخْتِصَاصُ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مُتَنَاقِضٌ، لَا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَدَمُ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ، وَ: أَحَدٍ، هُنَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالنَّفْيِ، وَمَا أَشْبَهَهُ؟ فَهِيَ لِلْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ: مِنْ، عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» وَالْمَعْنَى بَيْنَ آحَادِهِمْ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكًا ... لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا رَأَوْكَا قال بعضهم: وأحد، قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى جَمِيعٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَيَبْعُدُ عِنْدِي هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ الرُّسُلِ. والمقصود بالنفي هو هذا، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كُلِّ الرُّسُلِ، بَلِ الْبَعْضُ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَاطِلٌ، بَلْ مَعْنَى الآية: لا يفرق أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي النُّبُوَّةِ. انْتَهَى. وفيه

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 84. (2) سورة الحاقة: 69/ 47.

بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَلَا يَعْنِي مَنْ فَسَّرَهَا: بِجَمِيعِ، أَوْ قَالَ: هِيَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الْعُمُومَ نَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ، أَيْ: مَا قَامَ فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ الرِّجَالِ، مَثَلًا، وَلَا فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ النِّسَاءِ، لَا أَنَّهُ نَفَى الْقِيَامَ عَنِ الْجَمِيعِ، فَيَثْبُتُ لِبَعْضٍ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ، فَيَكُونُ أحد هنا بمعنى واحد، لَا أَنَّهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْعُمُومِ فِي النَّفْيِ. وَمِنْ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ وَالْبَرْدَ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أبو حجر إلا ليال قَلَائِلُ أَيْ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي، فَحَذَفَ، وَبَيْنِي، لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَأَطَعْنَا أَمْرَكَ، وَلَا يُرَادُ مُجَرَّدُ السَّمَاعِ، بَلِ الْقَبُولُ وَالْإِجَابَةُ. وَقَدَّمَ: سَمِعْنَا، عَلَى: وَأَطَعْنَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا هَذَا دَهْرَهَ. غُفْرانَكَ رَبَّنا أَيْ: مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّكَ، أَوْ لِأَنَّ عِبَادَتَنَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِكَ تَقْصِيرٌ. وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إِقْرَارٌ بِالْمَعَادِ. أَيْ: وَإِلَى جَزَائِكَ الْمَرْجِعُ، وَانْتِصَابُ: غُفْرَانَكَ، عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَعْمَلُ فِيهَا الْفِعْلُ مُضْمَرًا، التَّقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: اغْفِرْ لَنَا غُفْرَانَكَ، قَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلزَّجَّاجِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غُفْرَانَكَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ، يُقَالُ: غُفْرَانَكَ لَا كُفْرَانَكَ، أَيْ: نَسْتَغْفِرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ. فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: الْجُمْلَةُ طَلَبِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي: خَبَرِيَّةٌ. وَاضْطَرَبَ قَوْلُ ابْنِ عُصْفُورٍ فِيهِ، فَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ يُلْتَزَمُ إِضْمَارُهُ. وَعَدَّهُ مَعَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَأَخَوَاتِهَا. وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: نَطْلُبُ، أَوْ: نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، أَيْ: غُفْرَانُكَ بغيتنا. والمصير: اسْمُ مَصْدَرٍ مَنْ صَارَ يَصِيرُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى: مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ الْمَفْعِلِ مِمَّا عَيْنُهُ يَاءٌ نَحْوُ: يَبِيتُ، وَيَعِيشُ، وَيَحِيضُ، وَيَقِيلُ، وَيَصِيرُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ كَالصَّحِيحِ، نَحْوُ: يَضْرِبُ، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، يَكُونُ

لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، وَلِلْمَكَانِ وَالزَّمَانِ نَحْوُ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً «1» أَيْ: عَيْشًا، فَيَكُونُ: الْمَحِيضُ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، وَالْمَصِيرُ بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ، عَلَى هَذَا شَاذًّا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي الْمَصْدَرِ بَيْنَ أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى مَفْعِلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَوْ: مَفْعَلٍ بِفَتْحِهَا، وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَبِالْكَسْرِ. ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الزَّجَّاجُ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّمَاعِ، فَحَيْثُ بَنَتِ الْعَرَبُ الْمَصْدَرَ عَلَى مَفْعِلٍ أو مَفْعِلٍ أَوْ مَفْعَلٍ اتَّبَعْنَاهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَحْوَطُ. لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ إِلَّا مَا هُوَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ، وَمُقْتَضَى إِدْرَاكِهِ وَبِنِيَّتِهِ، وَانْجَلَى بِهَذَا أَمْرُ الْخَوَاطِرِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الْآيَةَ، وَظَهَرَ تَأْوِيلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» لِأَنَّهُ كَانَ فِي إِمْكَانِ الْإِنْسَانِ وَطَاقَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْسِ، وَيَصُومَ أَكْثَرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَيَحُجَّ أَكْثَرَ مِنْ حِجَّةٍ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَقَالُوا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قَالُوا: كَيْفَ لَا نَسْمَعُ ذَلِكَ، وَلَا نُطِيعُ؟ وَهُوَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُنَا إِلَّا مَا فِي وُسْعِنَا؟ وَالْوُسْعُ دُونَ الْمَجْهُودِ فِي الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مَا يَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ. وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليكلف. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُكَلِّفُ، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. أَحَدُهُمَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عِبَادَةً أَوْ شَيْئًا. انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى أَنَّ أَصْلَهُ كَذَا، فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا وُسْعَهَا، اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ فِي الصِّنَاعَةِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلِ الثَّانِي هُوَ وُسْعَهَا، نَحْوُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا إِلَّا دِرْهَمًا، وَنَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا

_ (1) سورة النبأ: 78/ 11. (2) سورة البقرة: 2/ 185.

زَيْدًا. هَذَا فِي الصِّنَاعَةِ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا شيئا إلّا درهما. و: ما ضربت أحدا إلا زَيْدًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِلَّا وُسْعَها جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَأَوَّلُوهُ عَلَى إِضْمَارِ: مَا، الْمَوْصُولَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْصُولُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لِيُكَلِّفَ، كَمَا أَنَّ وُسْعَهَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ حَيْثُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَوْصُولٌ آخَرُ يُقَابِلُهُ، كَقَوْلِ حَسَّانَ: فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ أَيْ: وَمَنْ يَنْصُرُهُ، فَحَذَفَ: مِنْ، لِدَلَالَةِ: مِنَ، الْمُتَقَدِّمَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ حَذْفُ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّهُ وَصِلَتَهُ كَالْجُزْءِ الْوَاحِدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ: يُكَلِّفُ، الثَّانِي مَحْذُوفًا، لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَيَكُونَ: وُسْعَهَا، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا شَيْئًا إِلَّا وَسْعَهَا، أَيْ: وَقَدْ وَسِعَهَا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُولِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، فِيهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَكَانَ وَجْهُ اللَّفْظِ: إِلَّا وَسِعَتْهُ. كَمَا قَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «1» وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «2» وَلَكِنْ يَجِيءُ هَذَا مِنْ بَابِ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وفي فِي الْحَجَرِ. انْتَهَى. وَتَكَلَّمَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا فِي تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. أَيْ: مَا كَسَبَتْ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَاكْتَسَبَتْ مِنَ السَّيِّئَاتِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ، وَالْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «3» وَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها «4» وَقَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «5» وَقَالَ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا «6» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 255. (2) سورة طه: 20/ 98. (3) سورة المدثر: 74/ 38. (4) سورة الأنعام: 6/ 164. (5) سورة البقرة: 2/ 81. (6) سورة الأحزاب: 33/ 58.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: الِاكْتِسَابُ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْكَسْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى كَسْبٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاكْتِسَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنَفْسِهِ. يُقَالُ: كَاسِبُ أَهْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: مُكْتَسِبُ أَهْلِهِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي قَعْرٍ مُظْلِمَةٍ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَنْفَعُهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَيَضُرُّهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ، لَا يُؤَاخِذُ غَيْرَهَا بِذَنْبِهَا وَلَا يُثَابُ غَيْرُهَا بِطَاعَتِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْخَيْرَ بِالْكَسْبِ وَالشَّرَّ بِالِاكْتِسَابِ؟ قُلْتُ: فِي الاكتساب اعتمال، فاما كَانَ الشَّرُّ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَهِيَ مُنْجَذِبَةٌ إِلَيْهِ، وَأَمَّارَةٌ بِهِ، كَانَتْ فِي تَحْصِيلِهِ أَعْمَلُ وَأَجَدُّ، فَجُعِلَتْ لِذَلِكَ مُكْتَسَبَةً فِيهِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي بَابِ الْخَيْرِ وَصُفِتْ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَرَّرَ فِعْلَ الْكَسْبِ، فَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفِ حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» هَذَا وَجْهٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ مِمَّا تُكْتَسَبُ دُونَ تَكَلُّفٍ، إِذْ كَاسِبُهَا عَلَى جَادَّةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسْمِ شَرْعِهِ، وَالسَّيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ بِبِنَاءِ الْمُبَالِغَةِ إِذْ كَاسِبُهَا يَتَكَلَّفُ فِي أَمْرِهَا خرق حجاب نهي الله تَعَالَى، وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا، فَيَحْسُنُ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ التَّصْرِيفَيْنِ احْتِرَازًا لِهَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَصَلَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَابْنِ عَطِيَّةَ: أَنْ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتَ فِيهَا اعْتِمَالٌ، لَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ الِاعْتِمَالِ هُوَ اشْتِهَاءُ النَّفْسِ وَانْجِذَابُهَا إِلَى مَا تُرِيدُهُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ مُتَكَلِّفٌ، خَرَقَ حِجَابَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ لَا يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَنَحَا السَّجَاوَنْدِيُّ قَرِيبًا مِنْ مَنْحَى ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَالَ: الِافْتِعَالُ الِالْتِزَامُ، وَشَرُّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْخَيْرُ يُشْرِكُ فِيهِ غَيْرَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ. وَالِافْتِعَالُ: الِانْكِمَاشُ، وَالنَّفْسُ تَنْكَمِشُ فِي الشَّرِّ انْتَهَى. وَجَاءَ: فِي الْخَيْرِ، بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُفْرَحُ بِهِ وَيُسَرُّ، فَأُضِيفَ إِلَى مُلْكِهِ. وَجَاءَ: فِي الشَّرِّ، بِعَلَى مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوْزَارُ وَأَثْقَالُ، فَجَعَلَتْ قَدْ عَلَتْهُ وَصَارَ تَحْتَهَا، يَحْمِلُهَا. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: لِي مَالٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ. رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: قولوا في

_ (1) سورة الطارق: 86/ 17. [.....]

دُعَائِكُمْ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، إِذِ الدَّاعِي يُشَاهِدُ نَفْسَهُ فِي مَقَامِ الْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَيُشَاهِدُ رَبَّهُ بِعَيْنِ الِاسْتِغْنَاءِ وَالْإِفْضَالِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَافْتُتِحَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِيذَانًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ مُرَبِّيهِمْ، وَمُصْلِحُ أَحْوَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ دَاخِلُونَ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَلَمْ يَأْتِ لَفْظُ: رَبَّنَا، فِي الْجُمَلِ الطَّلَبِيَّةِ أَخِيرًا لِأَنَّهَا نَتَائِجُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي دَعَوْا فِيهَا: بِرَبِّنَا، وَجَاءَتْ مُقَابَلَةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنَ الثلاث السوابق جملة، فقال لَا تُؤاخِذْنا بِقَوْلِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَقَابَلَ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. بِقَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لَنا وَقَابَلَ قَوْلَهَ وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ بِقَوْلِهِ: وَارْحَمْنا لِأَنَّ مِنْ آثَارِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ الْعَفْوَ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ حَمْلِ الْإِصْرِ عَلَيْهِمُ الْمَغْفِرَةُ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الرَّحْمَةُ. وَمَعْنَى: الْمُؤَاخَذَةُ، الْعَاقِبَةُ. وَفَاعِلُ هُنَا بمعنى الفعل المجرد، نحو: أَخَذَ، لِقَوْلِهِ: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «1» وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَاعِلٌ، وَقِيلَ: جَاءَ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَطَرَقَ السَّبِيلَ إِلَيْهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَ مَنْ يُعَاقِبُ بذنبه كَالْمُعِينِ لِنَفْسِهِ فِي إِيذَائِهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ الْمُذْنِبَ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْمُذْنِبَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ رَبَّهُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ، إِذْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ يَتَمَسَّكُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُ بِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالنِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ: عَدَمُ الذِّكْرِ، وَالْخَطَأِ مَوْضُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: نَسِينَا: جهلنا، وأخطأنا: تَعَمَّدْنَا، وَقَالَ قُطْرُبٌ، وَالطَّبَرِيُّ: نسينا: تركنا وأخطأنا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَصَدْنَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَخْطَأْنَا فِي التَّأْوِيلِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ أَخْطَأَ: سها وخطيء تَعَمَّدَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَالنَّاسُ يَلْحُونَ الْأَمِيرَ إِذَا هُمْ ... خَطَئُوا الصَّوَابَ وَلَا يُلَامُ الْمُرْشِدُ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ النِّسْيَانَ هُنَا وَالْأَخْطَاءَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يُؤَاخَذُ الْمُكَلَّفُ بِهِمَا، وَتَجَوَّزَ عَنْهُمَا إِنْ صَدَرَا مِنْهُ، وَإِيَّاهُ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ النيسان وَالْخَطَأَ وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَا هُمَا مَنْسِيَّانِ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِغْفَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ؟ «2» والشيطان

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 40. (2) سورة الكهف: 18/ 63.

لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ النِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا يُوَسْوِسُ، فَتَكُونُ وَسْوَسَتُهُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيطِ الَّذِي مِنْهُ النِّسْيَانُ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ لِلَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَمَا كَانَتْ تَفْرُطُ مِنْهُمْ فَرْطَةٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَكَانَ وَصْفُهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ فَمَا مِنْهُمْ سَبَبُ مُؤَاخَذَةٍ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، لِاسْتِدَامَتِهِ وَالِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ فِيهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النِّسْيَانِ الْغَالِبِ وَالْخَطَأِ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَغَالُوا. قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ. فَظَاهِرُ قَوْلَيْهِمَا، يَعْنِي قَتَادَةَ وَالسُّدِّيَّ مَا صَحَّحَتْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا كُشِفَ عَنْهُمْ مَا خَافُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أُمِرُوا بِالدُّعَاءِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ طَاقَةِ الْإِنْسَانِ دَفْعُهُ، وَذَلِكَ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقِيلَ: النِّسْيَانُ فِيهِ وَمِنْهُ مَا لَا يُعْذَرُ فَالْأَوَّلُ، كَنِسْيَانِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَهُوَ مَا إِذَا تُرِكَ التَّحَفُّظَ وَأُعْرِضَ عَنْ أَسْبَابِ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مِمَّا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فَلَا تُؤَاخَذُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَقْلًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ اسْتَدَامَ التَّذَكُّرَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا اسْتِدَامَةُ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَحَسُنَ الدُّعَاءُ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ حَمْلَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ عَلَى مَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قَبِيحٌ طَلَبُهُ وَالدُّعَاءُ بِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ الْعَمْدُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَيَكُونُ النِّسْيَانُ تَرْكَ الْفِعْلِ، وَالْخَطَأُ الْفِعْلَ. وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِمَا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ هَذَا الْمَطْلُوبَ. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،

وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْإِصْرُ: الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: الْإِصْرُ: الذَّنْبُ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا تَوْبَةَ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِصْرُ: الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقِيلَ: الْإِثْمُ. حَكَاهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: فَرْضٌ يَصْعُبُ أَدَاؤُهُ، وَقِيلَ: تَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِحْنَةٌ تَفْتِنُنَا كَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجَعْلِ لِمَنْ يَكْفُرُ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعِبْءُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ، أَيْ يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، اسْتُعِيرَ لِلتَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنْ نَحْوِ: قَتْلِ النَّفْسِ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. انْتَهَى. قَالَ الْقَفَّالُ: مَنْ نَظَرَ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، وَقَفَ عَلَى مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَلِيظِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَرَأَى الْأَعَاجِيبَ الْكَثِيرَةَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَلَا تُحَمِّلْ، بِالتَّشْدِيدِ، وَ: آصَارًا، بِالْجَمْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أُصْرًا، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالنَّصَارَى. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ قَالَ قَتَادَةُ: لَا تُشَدِّدْ عَلَيْنَا كَمَا شَدَّدَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُحَمِّلْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا نُطِيقُ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَسَلَّامُ بْنُ سَابُورَ: الَّذِي لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ الْغُلْمَةُ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غُلْمَةٍ لَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْحُبُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ: الْعِشْقُ، وَقِيلَ: الْقَطِيعَةُ. وَقِيلَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ. رَوَى وَهَبٌ أَنَّ أَيُّوبَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ أَشَقُّ عَلَيْكَ فِي بَلَائِكَ: قَالَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَشْمَتِّ بِيَ الْأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتِنِي ... وَالْمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَقَالَ السُّدِّيُّ: التَّغْلِيظُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: عَذَابُ النَّارِ. وَقِيلَ: وَسَاوِسُ النَّفْسِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، لَا عَلَى سَبِيلِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ. وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ عَامٌّ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فَشَبَّهَ الْإِصْرَ

بِالْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُنَا سَأَلُوا أَنْ لَا يُحَمِّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِصْرِ السَّابِقِ لِتَخْصِيصِهِ بِالتَّشْبِيهِ. وَعُمُومِ هَذَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي: وَلَا تُحَمِّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً لِلتَّكْثِيرِ فِي حَمَّلَ: كَجَرَحْتُ زَيْدًا وَجَرَّحْتُهُ، وَقِيلَ: مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ النَّازِلَةِ بِمَنْ قَبْلَنَا، طَلَبُوا أَوَّلًا أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ثُمَّ ثَانِيًا طَلَبُوا أَنْ يُعْفِيَهُمْ عَمَّا نَزَلَ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. انْتَهَى. وَالطَّاقَةُ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَهِيَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْمَصَادِرِ، وَالْقِيَاسُ طَاقَةٌ، فَهُوَ نَحْوُ: جابة، من أجاب، و: غارة، مِنْ أَغَارَ. فِي أَلْفَاظٍ سُمِعَتْ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. فَلَا يُقَالُ: أَطَالَ طَالَةً، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْنِيَ بِمَا لَا طَاقَةَ، مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْنِيَ بِالطَّاقَةِ مَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَطَاعًا حَمْلُهَا. فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إِلَى الْعُقُوبَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى التَّكَالِيفِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا حَمْلًا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ. خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا يُعْقَلُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُطِيقٌ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ لَكِنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «1» . وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، طَلَبُوا الْعَفْوَ وَهُوَ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ: وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ، ثُمَّ سَتْرُهُ عَلَيْهِمْ صَوْنًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي سَتْرَهُ فَيُقَالُ: عَفَا عَنْهُ إِذَا وَقَّفَهُ عَلَى الذَّنْبِ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ عُقُوبَةَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَسَأَلُوا الْإِسْقَاطَ لِلْعُقُوبَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، إِذْ فِيهِ التَّعْذِيبُ الْجُسْمَانِيُّ وَالنَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِتَجَلِّي الْبَارِئِ تَعَالَى لَهُمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ إِزَالَةُ الذَّنْبِ بِتَرْكِ عُقُوبَتِهِ، وَالْغُفْرَانُ سَتْرُ الذَّنْبِ وَإِظْهَارُ الْإِحْسَانِ بَدَلَهُ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ ذَنْبِهِ، وَكَشْفِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَطَّى بِهِ. وَالرَّحْمَةُ إِفَاضَةُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ أبلغ من

_ (1) سورة هود: 11/ 20.

الثَّانِي. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا مِنَ الْمَسْخِ، وَاغْفِرْ لَنَا عَنِ الْخَسْفِ مِنَ الْقَذْفِ، وَقِيلَ: اعْفُ عَنَّا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَارْحَمْنَا بِثِقَلِ الْمِيزَانِ. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَاغْفِرْ لَنَا فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ، وَارْحَمْنَا فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَخْصِيصَاتٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. أَنْتَ مَوْلانا الْمَوْلَى مَفْعَلٌ مِنْ وَلِيَ يَلِي، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. أَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَالِكُ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ فِي وُجُوهِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوِ السَّيِّدُ، أَوِ النَّاصِرُ، أَوِ ابْنُ الْعَمِّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُحَامِلِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَصْدَرُ، سُمِّيَ بِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْاسْمِيَّةُ، وَوَلِيَتْهُ الْعَوَامِلُ. فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَدْخَلَ الْفَاءَ إِيذَانًا بِالسَّبَبِيَّةِ. لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْلَاهُمْ، وَمَالِكَ تَدْبِيرِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ، يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ النُّصْرَةُ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ الشُّجَاعُ فَقَاتِلْ، وَأَنْتَ الْكَرِيمُ فَجُدْ عَلَيَّ. أَيْ: أَظْهِرْنَا عَلَيْهِمْ بِمَا تُحْدِثُ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوْرِ وَالْجُبْنِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا: الطِّبَاقُ فِي وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ لِأَنَّ: لَهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ، وَ: عَلَيْهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرٌ. وَالتَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: وَما فِي الْأَرْضِ كَرَّرَ: مَا، تَنْبِيهًا وَتَوْكِيدًا. وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا كَسَبَتْ وَمَا اكْتَسَبَتْ. إِذَا قُلْنَا أَنِّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذْ كَانَ يَعْنِي: لَهَا مَا كَسَبَتْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: آمَنَ والْمُؤْمِنُونَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. وَاللَّهُ أعلم.

سورة ال عمران

[الجزء الثالث] سورة ال عمران [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) التَّوْرَاةُ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَقَدْ تَكَلَّفَ النُّحَاةُ فِي اشْتِقَاقِهَا وَفِي وَزْنِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ تَقْرِيرِ النُّحَاةِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا يَدْخُلُهَا اشْتِقَاقٌ، وَأَنَّهَا لَا تُوزَنُ، يَعْنُونَ اشْتِقَاقًا عَرَبِيًّا. فَأَمَّا

اشْتِقَاقُ: التَّوْرَاةَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مِنْ: وَرَى الزَّنْدُ يَرَى، إِذَا قَدَحَ وَظَهَرَ مِنْهُ النَّارُ، فَكَأَنَّ التَّوْرَاةَ ضِيَاءٌ مِنَ الضَّلَالِ، وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وذهب أَبُو فَيْدٍ مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ إِلَى أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ: وَرَّى، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا وَرَّى بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّوْرَاةِ تَلْوِيحٌ. وَأَمَّا وَزْنُهَا فَذَهَبَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ، وَسَائِرُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهَا: فَوْعَلَةٌ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي: تُولِجُ، فَالْأَصْلُ فِيهَا وَوَزْنُهُ: وَوَلَجَ، لِأَنَّهُمَا مِنْ وَرَّى، وَمِنْ وَلَجَ. فَهِيَ: كَحَوْقَلَةَ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ وَزْنَهَا: تَفْعِلَةٌ، كَتَوْصِيَةٍ. ثُمَّ أُبْدِلَتْ كَسْرَةُ الْعَيْنِ فَتْحَةً وَالْيَاءُ أَلِفًا. كَمَا قَالُوا فِي: نَاصِيَةٍ، وَجَارِيَةٍ: نَاصَاهُ وَجَارَاهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَأَنَّهُ يُجِيزُ فِي تَوْصِيَةٍ تَوْصَاهَ، وَهَذَا غَيْرُ مَسْمُوعٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهَا: تَفْعَلَةٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ: وَرَّيْتُ بِكَ زَنَادِيَّ، وَتَجُوزُ إِمَالَةُ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ قرىء بِذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْإِنْجِيلَ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ أَيْضًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَهُ اشْتِقَاقٌ، وَأَنَّهُ لَا يُوزَنُ، وقد قالوا: وزنه فعيل. كَإِجْفِيلَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّجْلِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَنِزُّ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الْخَلِيلُ: اسْتَنْجَلَتِ الْأَرْضُ نِجَالًا، وَبِهَا نِجَالٌ، إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْمَاءُ. وَالنَّجْلُ أَيْضًا: الْوَلَدُ وَالنَّسْلُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَغَيْرُهُ. وَنَجَلَهُ أَبُوهُ أَيْ: وَلَدَهُ. وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ فِي نَوَادِرِهِ: أَنَّ الْوَلَدَ يُقَالُ لَهُ: نَجْلٌ، وَأَنَّ اللَّفْظَةَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالنَّجْلُ أَيْضًا: الرَّمْيُ بِالشَّيْءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِنْجِيلُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، فَهَذَا يَنْحُو إِلَى مَا حَكَاهُ الزَّجَّاجِيُّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فَهُوَ مِنْ نَجَلَ إِذَا ظَهَرَ وَلَدُهُ، أَوْ مِنْ ظُهُورِ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ، فَهُوَ مُسْتَخْرَجٌ إِمَّا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَإِمَّا مِنَ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّنَاجُلِ، وَهُوَ التَّنَازُعُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتُنَازِعِ النَّاسِ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَتَكَلَّفَ اشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الْوَرْيِ وَالنَّجْلِ، وَوَزْنُهُمَا مُتَفْعَلَةٌ وَإِفْعِيلٌ: إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ كَوْنِهِمَا عَرَبِيَّيْنِ. انْتَهَى. وَكَلَامُهُ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ فِي كَلَامِهِ اسْتِدْرَاكًا فِي قَوْلِهِ: مُتَفْعَلَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ وَزْنَهَا: فَوْعَلَةٌ، وَلَمْ يُنَبِّهْ فِي: تَفْعَلَةٍ، عَلَى أَنَّهَا مَكْسُورَةُ الْعَيْنِ، أَوْ مَفْتُوحَتُهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَجَلَ الْعَيْنَ، كَأَنَّهُ وَسَّعَ فِيهِ مَا ضَيَّقَ فِي التَّوْرَاةِ.

الِانْتِقَامُ: افْتِعَالٌ مِنَ النِّقْمَةِ، وَهُوَ السَّطْوَةُ وَالِانْتِصَارُ. وَقِيلَ: هِيَ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى الذَّنْبِ مُبَالَغَةً فِي ذَلِكَ، وَيُقَالُ: نَقَمَ وَنَقِمَ إِذَا أَنْكَرَ، وَانْتَقَمَ عَاقَبَ. صَوَّرَ: جَعَلَ لَهُ صُورَةً. قِيلَ: وَهُوَ بِنَاءٌ لِلْمُبَالَغَةِ مَنْ صَارَ يُصَوِّرُ، إِذَا أَمَالَ، وَثَنَى إِلَى حَالٍ، وَلَمَّا كَانَ التَّصْوِيرُ إِمَالَةً إِلَى حَالٍ، وَإِثْبَاتًا فِيهَا، جَاءَ بِنَاؤُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَالصُّورَةُ: الْهَيْئَةُ يَكُونُ عَلَيْهَا الشَّيْءُ بِالتَّأْلِيفِ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: التَّصْوِيرُ إِنَّهُ ابْتِدَاءُ مِثَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَهُ مِثْلُهُ. الزَّيْغُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ وزاغَتِ الْأَبْصارُ «1» . وَقَالَ الرَّاغِبُ: الزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَزَاغَ وزال ومال يتقارب، لكن زاع لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا كَانَ مِنْ حَقٍّ إِلَى بَاطِلٍ. التَّأْوِيلُ: مَصْدَرُ أَوَّلَ، وَمَعْنَاهُ: آخِرُ الشَّيْءِ وَمَآلُهُ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّأْوِيلُ الْمَرَدُّ وَالْمَرْجِعُ. قَالَ: أَؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ ... ليس قضاي بِالْهَوَى الْجَائِرِ الرُّسُوخُ: الثُّبُوتُ. قَالَ: لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مَنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ أَيَّامُهَا أَنْ تُغَيَّرَا الْهِبَةُ: الْعَطِيَّةُ الْمُتَبَرَّعِ بِهَا، يُقَالُ: وَهَبَ يَهَبُ هِبَةً، وَأَصْلُهُ: أَنْ يَأْتِيَ الْمُضَارِعُ عَلَى يَفْعِلُ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ الْوَاوُ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ حَرْفَ حَلْقٍ فُتِحَتْ مَعَ مُرَاعَاةِ الْكَسْرَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَهُوَ نَحْوُ: وَضَعَ يَضَعُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا فُتِحَ لِكَوْنِ لَامِهِ حَرْفَ حَلْقٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا: يُوهِبُ وَيُوضِعُ. وَيَكُونُ: وَهَبَ، بِمَعْنَى جَعَلَ، وَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: وَهَبَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، أَيْ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. وَهِيَ فِي هَذَا الْوَجْهِ لَا تَتَصَرَّفُ، فَلَا تُسْتَعْمَلُ مِنْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْفِعْلُ الْمَاضِي خَاصَّةً. لَدُنْ: ظَرْفٌ، وَقَلَّ أَنْ تُفَارِقَهَا: مِنْ، قَالَهُ ابْنُ جِنِّي، وَمَعْنَاهَا: ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الذَّوَاتِ غَيْرِ الْمَكَانِيَّةِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَإِعْرَابُهَا لُغَةٌ قَيْسِيَّةٌ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةَ اللَّامِ مَضْمُومَةَ الدَّالِ بَعْدَهَا النُّونُ، فَمَنْ بَنَاهَا قيل: فأشبهها بِالْحُرُوفِ فِي لُزُومِ اسْتِعْمَالٍ وَاحِدٍ، وَامْتِنَاعِ الْإِخْبَارِ بِهَا، بِخِلَافِ: عِنْدَ، وَلَدَيَّ. فَإِنَّهُمَا

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 10.

لَا يَلْزَمَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فَضْلَةً وَعُمْدَةً، فَالْفَضْلَةُ كَثِيرٌ، وَمِنَ الْعُمْدَةِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ «1» وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ «2» . وَأَوْضَحَ بَعْضُهُمْ عِلَّةَ الْبِنَاءِ فَقَالَ: عِلَّةُ الْبِنَاءِ كَوْنُهَا تَدُلُّ عَلَى الْمُلَاصَقَةِ لِلشَّيْءِ وَتَخْتَصُّ بِهَا، بِخِلَافِ: عِنْدَ، فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْمُلَاصَقَةِ، فَصَارَ فِيهَا مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَرْفُ، فَهِيَ كَأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلْحَرْفِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ. وَمِثْلُهُ: ثم، و: هنا. لِأَنَّهُمَا بُنِيَا لَمَّا تَضَمَّنَا مَعْنَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِشَارَةِ. وَمَنْ أَعْرَبَهَا، وَهُمْ قَيْسٌ، فَتَشْبِيهًا: بِعِنْدَ، لِكَوْنِ مَوْضِعِهَا صَالِحًا لِعِنْدَ، وَفِيهَا تِسْعُ لُغَاتٍ غَيْرُ الْأُولَى: لَدُنْ، وَلَدْنٌ، وَلَدِنٌ، وَلُدْنٌ، وَلَدِنِ، وَلَدْ وَلُدْ، وَلُدُ وَلَتْ. بِإِبْدَالِ الدَّالِّ تَاءً، وَتُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ لَفْظًا كَثِيرًا، وَإِلَى الْجُمْلَةِ قَلِيلًا. فَمِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: صريع عوان رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ ... لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ وَقَالَ الْآخَرُ: لَزِمْنَا لَدُنْ سَأَلْتُمُونَا وَفَاقَكُمْ ... فَلَا يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلَافِ جُنُوحُ وَمِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَذْكُرُ نَعَّمَاهُ لَدُنْ أَنْتَ يَافِعُ ... إِلَى أَنْتَ ذُو فَوْدَيْنِ أَبْيَضُ كَالنَّسْرِ وَجَاءَ إِضَافَتُهَا إِلَى: أَنْ وَالْفِعْلِ، قَالَ: وَلَيْتَ فَلَمْ يَقْطَعْ لَدُنْ أَنْ وَلَيْتَنَا ... قُرَابَةُ ذِي قُرْبَى وَلَا حَقُّ مُسْلِمِ وَأَحْكَامُ لَدُنْ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الْإِغْنَاءُ: الدَّفْعُ وَالنَّفْعُ، وَفُلَانٌ عَظِيمُ الْغِنَى، أَيِ: الدَّفْعُ وَالنَّفْعُ. الدَّأْبُ: الْعَادَةُ. دَأَبَ عَلَى كَذَا: وَاظَبَ عَلَيْهِ وَأَدْمَنَ. قَالَ زُهَيْرُ: لَأَرْتَحِلَنَّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لَأَدْأَبَنَّ ... إِلَى اللَّيْلِ إِلَّا أَنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ الذَّنْبُ: التِّلْوُ، لِأَنَّ الْعِقَابَ يَتْلُوهُ، وَمِنْهُ الذَّنْبُ وَالذُّنُوبُ لِأَنَّهُ يتبع الجاذب.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 59. (2) سورة المؤمنون: 23/ 62.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هَذِهِ السُّورَةُ، سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَتُسَمَّى: الزَّهْرَاءَ، وَالْأَمَانَ، وَالْكَنْزَ، وَالْمُعِينَةَ، وَالْمُجَادِلَةَ، وَسُورَةَ الِاسْتِغْفَارِ وَطِيبَةَ. وَهِيَ: مَدَنِيَّةٌ الْآيَاتُ سِتِّينَ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ ثلاثة إليهم يؤول أَمْرُهُمْ، أَمِيرُهُمُ: الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَصَاحِبُ رَحْلِهِمُ: السَّيِّدُ الْأَيْهَمُ، وَعَالِمُهُمْ: أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَذَكَرَ مِنْ جَلَالَتِهِمْ، وَحُسْنُ شَارَتِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ. وَأَقَامُوا بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا يُنَاظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم في عِيسَى، وَيَزْعُمُونَ تَارَةً أَنَّهُ اللَّهُ، وَتَارَةً وَلَدُ الْإِلَهِ، وتارة: ثالث ثلاثة. رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ لَهُمْ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى، وَانْتِفَاءَهَا عَنْ عِيسَى، وَهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا، ثُمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قَالَ: «بَلَى» . قَالُوا: فَحَسْبُنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا، إِلَى أَنْ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِابْتِهَالِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الْمُبْغِضِينَ لِعِيسَى، الْقَاذِفِينَ لِأُمِّهِ، الْمُنْكِرِينَ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْجِيلِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ لِأَنَّهُ، لَمَّا ذَكَرَ آخِرَ الْبَقَرَةِ أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «1» نَاسَبَ أَنْ يذكر نصره تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِينَ، حَيْثُ نَاظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، فَقَصَّ تَعَالَى أَحْوَالَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَذَكَرَ تَنْزِيهَهَ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، وَبَدَاءَةَ خَلْقِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا الْمَسِيحِ إِلَى آخَرِ مَا رَدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ مُفْتَتَحُ آيَةِ آخِرِ الْبَقَرَةِ آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ «2» فَكَأَنَّ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِالْكُتُبِ، نَاسَبَ ذِكْرَ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَذَكَرَ الْمُنَزَّلَ عَلَى غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَرَأَ السَّبْعَةُ: الم اللَّهُ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَأَلْفُ الْوَصْلِ سَاقِطَةٌ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، عَنْ عَاصِمٍ: سُكُونَ الْمِيمِ، وَقَطْعَ الْأَلِفِ. وَذَكَرَهَا الْفَرَّاءُ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْحَسَنِ. وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، والرؤاسي، وَالْأَعْمَشِ، وَالْبُرْجُمِيِّ، وَابْنِ الْقَعْقَاعِ: وَقَفُوا عَلَى الْمِيمِ، كَمَا وَقَفُوا عَلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَحَقُّهَا ذَلِكَ، وَأَنْ يُبْدَأَ بما بَعْدَهَا كَمَا تَقُولُ: وَاحِدٌ اثنان.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 286، الآية الأخيرة. (2) سورة البقرة: 2/ 285.

وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَنَسَبُهَا ابْنُ عَطِيَّةَ إلى الرؤاسي، وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَقَالَ: تَوَهَّمَ التَّحْرِيكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَمَا هِيَ بِمَقْبُولَةٍ، يَعْنِي: هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَلِكَ رَدِيءٌ، لِأَنَّ الْيَاءَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ قِرَاءَةُ جُمْهُورِ النَّاسِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ: الم اللَّهُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، وَلَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِثِقْلِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي فَتْحَةِ الْمِيمِ: فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّهَا حُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، كَمَا حَرَّكُوا: مِنَ اللَّهِ، وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ سَاقِطَةٌ لِلدَّرَجِ كَمَا سَقَطَتْ فِي نَحْوِ: مِنَ الرَّجُلِ، وَكَانَ الْفَتْحُ أَوْلَى مِنَ الْكَسْرِ لِأَجْلِ الْيَاءِ، كَمَا قَالُوا: أَيْنَ؟ وَكَيْفَ؟ وَلِزِيَادَةِ الْكَسْرَةِ قَبْلَ الْيَاءِ، فَزَالَ الثِّقَلُ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّهَا حركة نقل من همزة الْوَصْلِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ يُنْوَى بِهَا الْوَقْفُ، فَيُنْوَى بِمَا بَعْدَهَا الِاسْتِئْنَافُ. فَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي حُكْمِ الثَّبَاتِ كَمَا فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ نَحْوُ: لَتَسْمَعَنَّ وَشِيكًا فِي دِيَارِكُمُ ... أَللَّهُ أَكْبَرُ: يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا وَضَعُفَ هَذَا الْمَذْهَبُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ الْمَوْصُولَةَ فِي التَّعْرِيفِ تَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ. وَمَا يسقط يتلقى حَرَكَتُهُ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَقَدِ اخْتَارَ مَذْهَبَ الْفَرَّاءِ فِي أَنَّ الْفَتْحَةَ فِي الْمِيمِ هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ حِينَ أُسْقِطَتْ لِلتَّخْفِيفِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَوْرَدَ أَسْئِلَةً وَأَجَابَ عَنْهَا. فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ إِلْقَاءُ حَرَكَتِهَا عَلَيْهَا وَهِيَ هَمْزَةُ وَصْلٍ لَا تَثْبُتُ فِي دَرَجِ الْكَلَامِ، فَلَا تَثْبُتُ حَرَكَتُهَا لِأَنَّ ثَبَاتَ حَرَكَتِهَا كَثَبَاتِهَا؟ قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِدَرَجٍ، لِأَنَّ ميم فِي حُكْمِ الْوَقْفِ وَالسُّكُونِ، وَالْهَمْزَةَ فِي حُكْمِ الثَّابِتِ. وَإِنَّمَا حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا لِتَدُلَّ عَلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: وَاحِدِ اثْنَانِ، بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الدَّالِ. انْتَهَى هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ. وَلَيْسَ جَوَابُهُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ الْمِيمَ حِينَ حُرِّكَتْ مَوْقُوفَةً عَلَيْهَا. وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَرَجٍ، بَلْ هُوَ وَقْفٌ، وَهَذَا خِلَافٌ لِمَا أَجْمَعَتِ الْعَرَبُ وَالنُّحَاةُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مُتَحَرِّكٍ أَلْبَتَّةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَرَكَتُهُ إِعْرَابِيَّةً، أَوْ بِنَائِيَّةً، أَوْ نَقْلِيَّةً، أَوْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، أَوْ لِلْحِكَايَةِ، أَوْ

لِلِاتِّبَاعِ. فَلَا يَجُوزُ فِي: قَدْ أَفْلَحَ، إِذَا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى دَالِ: قَدْ، أَنْ تَقِفَ عَلَى دَالِ: قَدْ، بِالْفَتْحَةِ، بَلْ تَسْكُنُهَا قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَاحِدِ اثْنَانِ بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الدَّالِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُشِمُّونَ آخِرَ وَاحِدٍ لِتَمَكُّنِهِ، وَلَمْ يَحْكِ الْكَسْرَ لُغَةً. فَإِنْ صَحَّ الْكَسْرُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا حَرَكَتُهُ حركة نقل من همزة الْوَصْلِ، وَلَكِنَّهُ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِمْ: اثْنَانِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ، دَالُ، واحد، و: ثاء، اثْنَيْنِ، فَكُسِرَتِ الدَّالُ لِالْتِقَائِهِمَا، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ فِي الْوَصْلِ. وَأَمَّا ما استدل به للفراء مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ، بإلقائهم الْهَمْزَةِ عَلَى الْهَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ هَمْزَةَ أَرْبَعَةَ هَمْزَةُ قَطْعٍ فِي حَالِ الْوَصْلِ بِمَا قَبْلَهَا وَابْتِدَائِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ نَحْوُ: مِنَ اللَّهِ، وَأَيْضًا، فَقَوْلُهُمْ: ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ بِالنَّقْلِ لَيْسَ فِيهِ وَقَفٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، إِذْ لَوْ وُقِفَ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ تَقْبَلُ الْحَرَكَةَ، وَلَكِنْ أُقِرَّتْ فِي الْوَصْلِ هَاءً اعْتِبَارًا بِمَا آلَتْ إِلَيْهِ فِي حَالٍ مَا، لَا أَنَّهَا مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا. ثُمَّ أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤَالًا ثَانِيًا. فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّهَا حُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؟. قُلْتُ: لِأَنَّ الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ لَا نُبَالِي بِهِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، وَدَاوُدُ، وَإِسْحَاقُ. وَلَوْ كَانَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فِي حَالِ الْوَقْفِ مُوجِبُ التَّحْرِيكِ لَحُرِّكَ الْمِيمَانِ فِي أَلِفْ لَامْ مِيمْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَمَّا انْتَظَرَ سَاكِنٌ آخَرُ. انْتَهَى هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ. وَهُوَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ، وَجَوَابٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الَّذِي قَالَ: إِنَّ الْحَرَكَةَ هِيَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْتِقَاءَ الْيَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ أَلِفْ لَامْ مِيمْ فِي الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا عَنَى الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا: مِيمْ مِيمِ الْأَخِيرَةِ. و: لام التَّعْرِيفِ، كَالْتِقَاءِ نُونِ: مِنْ، وَلَامِ: الرَّجُلِ، إِذَا قُلْتَ: مِنَ الرَّجُلِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤَالًا ثَالِثًا، فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا لَمْ يُحَرِّكُوا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فِي مِيمْ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْوَقْفَ، وَأَمْكَنَهُمُ النُّطْقُ بِسَاكِنَيْنِ، فَإِذَا جَاءَ بِسَاكِنٍ ثَالِثٍ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا التَّحْرِيكُ فَحَرَّكُوا؟ قُلْتُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ لَيْسَتِ لِمُلَاقَاةِ السَّاكِنِ، أَنَّهُمْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: وَاحِدْ اثْنَانِ، بِسُكُونِ الدَّالِ مَعَ طَرْحِ الْهَمْزَةِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، كَمَا قَالُوا: أَصْيَمْ

وَمَدْيَقْ، فَلَمَّا حَرَّكُوا الدَّالَّ عُلِمَ أَنَّ حَرَكَتَهَا هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ السَّاقِطَةِ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. انْتَهَى هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ. وَفِي سُؤَالِهِ تَعْمِيَةٌ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا لَمْ يُحَرِّكُوا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؟ وَيَعْنِي بِالسَّاكِنَيْنِ: الْيَاءَ وَالْمِيمَ فِي مِيمْ، وَحِينَئِذٍ يَجِيءُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْوَقْفَ وَأَمْكَنَهُمُ النُّطْقُ بِسَاكِنَيْنِ، يَعْنِي الْيَاءَ وَالْمِيمَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ جَاءَ بِسَاكِنٍ ثَالِثٍ، يَعْنِي لَامَ التَّعْرِيفِ، لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا التَّحْرِيكُ، يَعْنِي فِي الْمِيمِ، فَحَرَّكُوا يَعْنِي: الْمِيمَ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُحَرِّكُوا لَاجْتَمَعَ ثلاث سَوَاكِنَ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ. هَذَا شَرْحُ السُّؤَالِ. وَأَمَّا جَوَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَنْ سُؤَالِهِ، فَلَا يُطَابِقُ، لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ على أن الحركة ليست لِمُلَاقَاةِ سَاكِنٍ بِإِمْكَانِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: وَاحِدِ اثْنَانِ، بِأَنْ يُسَكِّنُوا الدَّالَ، وَالثَّاءُ سَاكِنَةٌ، وَتَسْقُطُ الْهَمْزَةُ. فَعَدَلُوا عَنْ هَذَا الْإِمْكَانِ إِلَى نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الدَّالِ، وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ فِي الْمَحْسُوسِ، لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَا هُوَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَجْمَعُوا فِي النُّطْقِ بَيْنَ سُكُونِ الدَّالِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَطَرْحِ الْهَمْزَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَجَمَعُوا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ كَمَا قُلْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا قَالُوا: أَصْيَمْ وَمَدْيَقْ، فَهَذَا مُمْكِنٌ كَمَا هُوَ فِي: رَادْ وَضَالْ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ عَلَى حَدِّهِمَا الْمَشْرُوطِ فِي النَّحْوِ، فَأَمْكَنَ النُّطْقُ بِهِ، وَلَيْسَ مِثْلَ: وَاحِدِ اثْنَانِ. لِأَنَّ السَّاكِنَ الْأَوَّلَ لَيْسَ حَرْفَ عِلَّةٍ، وَلَا الثَّاءَ فِي مُدْغَمٍ، فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا حركوا الدال علم أن حَرَكَتَهَا هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ السَّاقِطَةِ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِمَا بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي وَاحِدِ اثْنَانِ مُمْكِنٌ، وَحَرَكَةُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ إنما هي فِيمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَا فِيهِ فِي اللَّفْظِ، ادَّعَى أَنَّ حَرَكَةَ الدَّالِّ هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ السَّاقِطَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَدَمَ إِمْكَانِ ذَلِكَ، فَإِنَّ صَحَّ كَسْرُ الدَّالِ، كَمَا نَقَلَ هَذَا الرَّجُلُ، فَتَكُونُ حَرَكَتُهَا لالتقاء الساكنين لا للنقل، وَقَدْ رُدَّ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِيَّاهُ بِأَنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ أُلْقِيَتْ عَلَيْهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَالتَّدَافُعِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُكُونَ آخَرِ مِيمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا، وَإِلْقَاءَ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى نِيَّةِ الْوَصْلِ، وَنِيَّةُ الْوَصْلِ تُوجِبُ حَذْفَ الْهَمْزَةِ، وَنِيَّةُ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا تُوجِبُ ثَبَاتَهَا وَقَطْعَهَا، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ. انْتَهَى. وَهُوَ رَدٌّ صَحِيحٌ. وَالَّذِي تَحَرَّرَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: أَنَّ الْعَرَبَ مَتَى سَرَدَتْ أَسْمَاءَ مُسَكَّنَةَ الْآخِرِ وَصْلًا

وَوَقْفًا، فَلَوِ الْتَقَى آخِرُ مُسَكَّنٍ مِنْهَا، بِسَاكِنٍ آخَرَ، حُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ الَّتِي فِي مِيمِ: الم اللَّهُ، هِيَ حَرَكَةُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ: الم، تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْمُنْتَشِرَ الَّذِي لَا يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَتَفْسِيرِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَالْكَلَامُ عَلَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «1» وَفِي أَوَّلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْقَاضِي الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي النَّظْمِ إِلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ هُنَا أَنْ يَكُونَ الم إِشَارَةً إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ كِتَابُكَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ عَلَى مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ، مِمَّا هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْحُرُوفِ، قَالَ: وَذَلِكَ فِي نَظْمِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «2» ترك الْجَوَابَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ «3» عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَا تَدْفِنُونِي، إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ أَيْ: وَلَكِنِ اتْرُكُونِي لِلَّتِي يُقَالُ لَهَا: خَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يحْسُنُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ خَبَرُ قَوْلِهِ: اللَّهُ، حَتَّى يَرْتَبِطَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مِثْلِيَّتَهُ لَيْسَتْ صَحِيحَةَ الشَّبَهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَحَا إِلَيْهِ، وَمَا قَالَهُ فِي الْآيَةِ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَبْرَعَ فِي نَظْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الم لَا يُضَمُّ مَا بَعْدَهَا إِلَى نَفْسِهَا فِي الْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ كَلَامًا مُبْتَدَأً جَزْمًا، جُمْلَةٌ رَادَّةٌ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فحاجوه في عيسى بن مَرْيَمَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ اللَّهُ. انتهى كلامه.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 163. (2) سورة الزمر: 39/ 22. (3) سورة الزمر: 39/ 22.

قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَوْضِعُ: ألم، نصب، والتقدير: قرأوا ألم، و: عليكم الم. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى: هذا ألم، و: ذلك الم. وَتَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْجُرْجَانِيِّ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: هَذِهِ الْحُرُوفُ كِتَابُكَ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ: الْقَيَّامُ. وَقَالَ خَارِجَةٌ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: الْقَيَّمُ، وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ عَلْقَمَةَ. اللَّهُ رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ ونَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: نَزَّلَ، هُوَ الْخَبَرُ، وَ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، جملة اعترض. وَتَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ اسْتِقْصَاءُ إِعْرَابِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَالَ الرَّازِيُّ: مَطْلَعُ هَذِهِ السُّورَةِ عَجِيبٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَازَعُوا كَأَنَّهُ قِيلَ: إِمَّا أَنْ تُنَازِعُوا فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ، أَوْ فِي النُّبُوَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ: حَيٌّ قَيُّومٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّانِي فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي عَرَفْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، هُوَ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الْكِتَابَ هُنَا: الْقُرْآنُ، بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَكَرَّرَ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ، فَصَارَ عِلْمًا. بِالْغَلَبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَزَّلَ، مُشَدَّدًا وَ: الْكِتَابَ، بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: نَزَلَ، مُخَفَّفًا، وَ: الْكِتَابُ، بِالرَّفْعِ، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: نَزَلَ الْكِتَابُ عَلَيْكَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَتَى هُنَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْكَ، وَلَمْ يَأْتِ بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، وَلَا الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ، تَخْصِيصًا لَهُ وَتَشْرِيفًا بِالذِّكْرِ، وَجَاءَ بِذِكْرِ الْخِطَابِ لِمَا فِي الْخِطَابِ مِنَ الْمُؤَانَسَةِ، وَأَتَى بِلَفْظَةِ: عَلَى، لِمَا فِيهَا مِنِ الِاسْتِعْلَاءِ. كَأَنَّ الْكِتَابَ تَجَلَّلَهُ وَتَغَشَّاهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى: بِالْحَقِّ: بِالْعَدْلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعَدْلُ فِيمَا اسْتَحَقَّهُ عَلَيْكَ مَنْ حَمْلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ. الثَّانِي: بِالْعَدْلِ فِيمَا اخْتَصَّكَ بِهِ مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ.

وَقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ. وَقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمِنَ الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى بِالْحَقِّ: بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ. وَالْبَاءُ: تَحْتَمِلُ السَّبَبِيَّةَ أَيْ: بِسَبَبِ إِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ الْحَالَ، أَيْ: مُحِقًّا نَحْوُ: خَرَجَ زَيْدٌ بِسِلَاحِهِ، أَيْ مُتَسَلِّحًا. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَجِيئِهِ، وَوُقُوعُ الْمُخْبَرِ بِهِ يَجْعَلُ الْمُخْبِرَ صَادِقًا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ يُوَافِقْهَا، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ، إِلَّا بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْإِيمَانِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ صَلَاحُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ. فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِتِلْكَ الْكُتُبِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِشَرَائِعِ أَكْثَرِ الْكُتُبِ، فَهِيَ مُبَشِّرَةٌ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَهَا تَثْبُتُ إِلَى حِينِ بِعْثَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وسلم، وَأَنَّهَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. فَقَدْ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مُصَدِّقًا لَهَا لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَخْتَلِفُ. وَانْتِصَابُ: مُصَدِّقًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ: أَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهِ نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لِلنَّاسِ مِنْ عَارِ؟ وَقِيلَ: انْتِصَابُ: مُصَدِّقًا، عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ: بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. وَ: لِمَا، متعلق بمصدقا، وَاللَّامُ لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ، إِذْ: مُصَدِّقًا، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا بِقَوْلِهِ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ فِي الزَّمَانِ. وَأَصْلُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: لِمَا يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. كَالشَّيْءِ الَّذِي يَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا كَانَ قُدَّامُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ فَخَّمَ رَاءَ التَّوْرَاةَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَضْجَعَهَا: أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَهَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ: حَمْزَةُ، وَنَافِعٌ. وَرَوَى الْمُسَيِّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ فَتْحَهَا.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْأَنْجِيلَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، لِأَنَّ أَفْعِيلًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ، بِخِلَافِ إِفْعِيلٍ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي أَبْنِيَتِهِمْ: كَإِخْرِيطٍ، وَإِصْلِيتٍ. وَتَعَلَّقَ: مِنْ قَبْلُ، بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ، أَيْ: مِنْ قَبْلُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْكَ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مِنْ قَبْلِكَ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ ضَمِيرَ الرَّسُولِ. وَغَايَرَ بَيْنَ نَزَّلَ وَأَنْزَلَ، وَإِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذِ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَمَا أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ: نَزَّلَ الْكِتَابَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ؟. قُلْتُ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا، وَنَزَلَ الْكِتَابَانِ جُمْلَةً. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ على هذا القول. وإن التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَلَا التَّنْجِيمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: نَزَّلَ وَأَنْزَلَ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ «1» وأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مَا كَانَ: مِمَّنْ يَنْزِلُ، مُشَدِّدًا بِالتَّخْفِيفِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيمِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى النُّزُولِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لِتَنَاقُضِ الْإِخْبَارِ. وَهُوَ مُحَالٌ. هُدىً لِلنَّاسِ قِيلَ: هُوَ قَيْدٌ فِي الْكِتَابِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَمْ يُثَنَّ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: هُوَ قَيْدٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَحْدَهُ، وَحُذِفَ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي لِلْإِنْجِيلِ وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ فَيَكُونُ الْهُدَى لِلْفُرْقَانِ فَحَسْبُ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْفُرْقَانَ الْقُرْآنَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ هُدًى إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ هُدًى، وَمَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، لَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، مجردة و: ضربت هِنْدًا، تُرِيدُ، وَضَرَبْتُ هِنْدًا مُجَرَّدَةً لَمْ يَجُزْ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْهُدَى: هُوَ الْبَيَانُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ هُدًى بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ النَّاسُ هُنَا مَخْصُوصًا، إِذْ لَمْ تَقَعِ الْهِدَايَةُ لِكُلِّ النَّاسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُمَا هُدًى فِي ذَاتِهِمَا، وَأَنَّهُمَا دَاعِيَانِ لِلْهُدَى، فَيَكُونُ النَّاسُ عَامًّا، أَيْ: هُمَا منصوبان وداعيان لمن

_ (1) سورة النحل: 16/ 44.

اهْتَدَى بِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ الْهِدَايَةِ بِالْفِعْلِ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقِيلَ: النَّاسُ قَوْمُ مُوسَى وَعِيسَى وَقِيلَ: نَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِشَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا، فَالنَّاسُ عَامٌّ. قَالَ الْكَعْبِيُّ: هَذَا يُبْطِلُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَمِيٌّ عَلَى الْكَافِرِ، وَلَيْسَ هُدًى لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «1» أَنَّهُمْ عِنْدَ نُزُولِهِ اخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، لِقَوْلِ نُوحٍ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً «2» انْتَهَى. قِيلَ: وَخَصَّ الْهُدَى بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ هُدًى، لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ مَعَ النَّصَارَى وَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ، بَلْ وَصَفَ بِأَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، قَبِلُوهُ أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهُ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُمَا، فَلِذَلِكَ اخْتُصَّا فِي الذِّكْرِ بِالْهُدَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ هُنَا لِلنَّاسِ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ مُجَرَّدٌ، وَ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، خَبَرٌ مُقْتَرِنٌ بِهِ الِاسْتِدْعَاءُ، وَالصَّرْفُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَحَسُنَتِ الصِّفَةُ لِيَقَعَ مِنَ السَّامِعِ النَّشَاطُ وَالْبِدَارُ، وَذَكَرَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ إِيجَادُ الْهِدَايَةِ فِي الْقَلْبِ، وَهُنَا إِنَّمَا ذَكَرَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ، أَوِ الْهُدَى الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ مُعَدٌّ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ، فَسُمِّيَ هُدًى بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: التَّقْدِيرُ هَنَا: هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ، وَيُرَدُّ هَذَا الْعَامُّ إِلَى ذَلِكَ الْخَاصِّ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ غَايَرَ بَيْنَ مَدْلُولَيِ الْهُدَى، فَحَيْثُ كَانَ بِالْفِعْلِ ذُكِرَ الْمُتَّقُونَ، وَحَيْثُ كَانَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ هُدًى فِي ذَاتِهِ، ذُكِرَ الْعَامُّ. وَأَمَّا الْمَوْضِعَانِ فَكِلَاهُمَا خَبَرٌ لَا فَرْقَ فِي الْخَبَرِيَّةِ بَيْنَ قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «3» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ. وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الْفُرْقَانَ: جِنْسُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، لِأَنَّهَا كلها فرقان يفرق بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، مِنْ كُتُبِهِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، أَوْ أَرَادَ الْكِتَابَ الرَّابِعَ، وَهُوَ الزَّبُورُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «4» أَوِ الْفُرْقَانَ: الْقُرْآنُ، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ بِمَا هُوَ نَعْتٌ لَهُ وَمَدْحٌ مِنْ كَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الحق والباطل، بعد ما ذَكَرَهُ بِاسْمِ الْجِنْسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ: فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 44. (2) سورة نوح: 71/ 6. [.....] (3) سورة البقرة: 2/ 2. (4) سورة النساء: 4/ 163 والإسراء: 17/ 55.

السَّلَامُ الَّذِي جَادَلَ فِيهِ الْوَفْدَ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمَا: فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، وَفِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَنَحْوِهِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ: كُلُّ أَمْرٍ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا قَدُمَ وَحَدَثَ، فَدَخَلَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: طُوفَانُ نُوحٍ، وَفَرْقُ الْبَحْرِ لِغَرَقِ فِرْعَوْنَ، وَيَوْمُ بَدْرٍ، وَسَائِرُ أَفْعَالِ اللَّهِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانَ: النَّصْرُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْمُخْتَارُ أن يكون المراد بالفرقان هُنَا الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي قَرَنَهَا اللَّهُ بِإِنْزَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ، لأنهم إذا ادعو أَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ افْتَقَرُوا إِلَى، تَصْحِيحِ دَعْوَاهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَكَانَتْ هِيَ الْفُرْقَانَ، لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَ دَعْوَى الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهَا، أَنْزَلَ مَعَهَا مَا هُوَ الْفُرْقَانُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنْزَلَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْزَابُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانَ: هُنَا الْأَحْكَامُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللَّهُ لِيُفَرِّقَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ فِي تفسير الفرقان. والفرقان مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ، أَيِ: الْفَارِقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَفْعُولُ أَيِ: الْمَفْرُوقُ. قَالَ تَعَالَى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «1» . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى أَمْرَ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمْرَ النُّبُوَّةِ بِذِكْرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، تَوَعَّدَ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَغَيْرِهَا، بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، كَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ. وَالْغَلَبَةِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ: كَالنَّارِ. والَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ دَاخِلٌ فِيهِ مَنْ نَزَلَتِ الْآيَاتُ بِسَبَبِهِمْ، وَهُمْ نَصَارَى وَفْدِ نَجْرَانَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِشَارَةٌ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وكعب بْنِ أَسَدٍ، وَبَنِي أَخْطَبَ وَغَيْرِهِمْ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أَيْ: مُمْتَنِعٌ أَوْ غَالِبٌ لَا يُغْلَبُ، أَوْ مُنْتَصِرٌ ذُو عُقُوبَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَصْفَ: بِذُو، أَبْلَغُ مِنَ الْوَصْفِ بِصَاحِبٍ، ولذلك لم يجىء فِي صِفَاتِ اللَّهِ صَاحِبٌ، وَأَشَارَ بِالْعِزَّةِ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَأَشَارَ بِذِي انْتِقَامٍ، إِلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْعِقَابِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُو انْتِقامٍ لَهُ انْتِقَامٌ شَدِيدٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ مُنْتَقِمٌ. انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ لَفْظُ: ذُو انْتِقَامٍ، إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خَارِجِ اللفظ.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 106.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ شَيْءٌ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فتعم، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، إِذْ هُمَا أَعْظَمُ مَا نُشَاهِدُهُ، وَالتَّصْوِيرُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْهَيْئَاتِ دَالٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَبِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَتِمُّ مَعْنَى الْقَيُّومِيَّةِ، إِذْ هُوَ الْقَائِمُ بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَمُهِمَّاتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى، إِذْ شُبْهَتُهُمْ فِي ادِّعَاءِ إِلَهِيَّةِ عِيسَى كَوْنُهُ: يُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْعِلْمِ، وَكَوْنُهُ: يُحْيِي الْمَوْتَى، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْقُدْرَةِ. فَنَبَّهَتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى عَالِمًا بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَنَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ ذُو الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَرْكِيبِ الصُّوَرِ وَإِحْيَائِهَا، بَلْ إِنْبَاؤُهُ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَخَلْقُهُ وَإِحْيَاؤُهُ بَعْضَ الصُّوَرِ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِإِنْبَاءِ اللَّهِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ، وَإِقْدَارِهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلُّهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي أَجْرَاهَا، وَأَمْثَالَهَا، عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ. وَفِي ذِكْرِ التَّصْوِيرِ فِي الرَّحِمِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِيسَى إِلَهٌ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ صُوِّرَ فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ تَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَتِهِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَوَعِيدٌ بِالْمُجَازَاةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُونَهُ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُطَّلِعٌ عَلَى كُفْرِ مَنْ كَفَرَ، وَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ من الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ عَنِ الْخَلْقِ، فَكَيْفَ تَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ عِنْدَكُمْ؟ وَكُلُّ هَذِهِ تَخْصِيصَاتٌ. وَاللَّفْظُ عَامٌّ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ هَذَا كُلُّهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَبْلَغُ مِنْ: يَعْلَمُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظَيْنِ فِيهِ يُفِيدَانِ مَعْنًى وَاحِدًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالرَّبِيعُ، فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الطَّبِيعَةِ، إِذْ يَجْعَلُونَهَا فَاعِلَةً مُسْتَبِدَّةً كيف تشاء. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ

يَجْعَلُ قَوْلَ الْقَائِفِ حُجَّةً فِي دَعْوَى النَّسَبِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلْمَ التَّصْوِيرِ فِي الْأَرْحَامِ لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَعْرِفُ القائف صَوَّرَهُ مِنْ مَائِهِ عِنْدَ قِيَامِ التَّشَابُهِ فِي الصُّوَرِ؟ انْتَهَى. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمَلُ مُسْتَقِلَّةً، فَتَكُونُ الْأُولَى: إِخْبَارًا عَنْهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ التَّامِّ، وَالثَّانِيَةُ: إِخْبَارًا بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَبِالْإِرَادَةِ وَالثَّالِثَةُ: بِالِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ: إِنَّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ، هُنَا: يُصَوِّرُكُمْ، بِلَفْظِ الْحَالِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَصَوَّرَكُمْ، لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْأَزْمِنَةِ فِي أَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَتِ الْأَلْفَاظُ فِيهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْأَزْمِنَةِ بِحَسَبِ اللُّغَاتِ، وَأَيْضًا: فَصَوَّرَكُمْ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى نِسْبَةِ التَّقْدِيرِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ تَعَالَى فِي حكم ما قد فرغ مِنْهُ. وَيُصَوِّرُكُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا حَالًا فحالا. انتهى. وقرأ طاووس: تَصَوَّرَكُمْ، أَيْ صَوَّرَكُمْ لِنَفْسِهِ وَلِتَعَبُّدِهِ. كَقَوْلِكَ: أَثَلْتُ مَالًا، أَيْ: جَعَلْتُهُ أَثْلَةً. أَيْ: أَصْلًا. وَتَأَثَّلْتُهُ إِذَا أَثَّلْتَهُ لِنَفْسِكَ. وَتَأْتِي: تَفَعَّلَ، بِمَعْنَى: فَعَّلَ، نَحْوُ: تَوَلَّى، بِمَعْنَى: وَلَّى. وَمَعْنَى كَيْفَ يَشاءُ أَيْ: مِنَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَاللَّوْنِ، وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ فَقَطْ. وَ: كَيْفَ، هُنَا لِلْجَزَاءِ، لَكِنَّهَا لَا تَجْزِمُ. وَمَفْعُولُ: يَشَاءُ، مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَشَاءُ أَنْ يُصَوِّرَكُمْ. كَقَوْلِهِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «1» أَيْ: كَيْفَ يَشَاءُ أَنْ يُنْفِقَ، وَ: كَيْفَ، منصوب: بيشاء، وَالْمَعْنَى: عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ أَنْ يُصَوِّرَكُمْ صَوَّرَكُمْ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَحَذْفُ فِعْلِ الْجَزَاءِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، التَّقْدِيرُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ، وَلَا مَوْضِعَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى، فَتَعَلُّقُهَا كَتَعَلُّقِ إِنْ فَعَلْتَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتَ ظَالِمٌ. وَتَفْكِيكُ هَذَا الْكَلَامِ وَإِعْرَابُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لَا يُهْتَدَى لَهُ إِلَّا بَعْدَ تَمَرُّنٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَاسْتِحْضَارٍ لِلَطَائِفِ النَّحْوِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَيْفَ يَشاءُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، مَعْمُولُ: يُصَوِّرُكُمْ وَمَعْنَى الْحَالِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 64.

أَيْ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ قَادِرًا عَلَى تَصْوِيرِكُمْ مَالِكًا ذَلِكَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ: يُصَوِّرُكُمْ عَلَى مَشِيئَتِهِ، أَيْ مُرِيدًا، فَيَكُونُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ: يُصَوِّرُكُمْ مُنْقَلِبِينَ عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، الْمَعْنَى: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ تَصْوِيرَ الْمَشِيئَةِ، وَكَمَا يَشَاءُ. لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كَرَّرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الدَّالَّةَ عَلَى نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَانْحِصَارِهَا فِيهِ، تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَرَدًّا عَلَى مَنِ ادَّعَى إِلَهِيَّةَ عِيسَى، وَنَاسَبَ مَجِيئَهَا بَعْدَ الْوَصْفَيْنِ السَّابِقَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، إِذْ مَنْ هَذَانِ الْوَصْفَانِ لَهُ، هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا غَيْرُهُ، ثُمَّ أَتَى بِوَصْفِ الْعِزَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ النَّظِيرِ، وَالْحِكْمَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَصْوِيرِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِتْقَانِ التَّامِّ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ مُنَاسَبَةُ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ تَعْدِيلَ الْبِنْيَةِ وَتَصْوِيرَهَا عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْكَالِ الْحَسَنَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ جُسْمَانِيٌّ، اسْتَطْرَدَ إِلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ أَمْرٌ رُوحَانِيٌّ. وَكَانَ قَدْ جَرَى لِوَفْدِ نَجْرَانَ أَنَّ مِنْ شُبَهِهِمْ قَوْلَهُ وَرُوحٌ مِنْهُ «1» فَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ مُحْكَمُ الْعِبَارَةِ قَدْ صِينَتْ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ، وَهُوَ مَا احْتَمَلَ وُجُوهًا. وَنَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ. وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِأَنَّ آيَاتِهِ مُحْكَمَةٌ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ كَامِلًا، وَلَفْظُهُ أَفْصَحُ، وَمَعْنَاهُ أَصَحُّ، لَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ كَلَامٌ، وَجَاءَ وَصْفُهُ بِالتَّشَابُهِ بِقَوْلِهِ: كِتاباً مُتَشابِهاً «2» مَعْنَاهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْجِنْسِ وَالتَّصْدِيقِ. وَأَمَّا هُنَا فَالتَّشَابُهُ مَا احْتَمَلَ وَعَجَزَ الذِّهْنُ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، نَحْوُ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا «3» وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً «4» أَيْ: مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ مُتَّفِقَ الْمَنْظَرِ، وَمِنْهُ: اشْتَبَهَ الْأَمْرَانِ، إِذَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَيُقَالُ لِأَصْحَابِ الْمَخَارِيقِ: أَصْحَابُ الشُّبَهِ، وَتَقُولُ: الْكَلِمَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِمَعْنًى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ نَصٌّ، أَوْ يَحْتَمِلُ رَاجِحًا أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِحِ ظَاهِرٌ، وإلى المرجوح

_ (1) سورة النساء: 4/ 171 والمجادلة: 58/ 22. (2) سورة الزمر: 39/ 23. (3) سورة البقرة: 2/ 70. (4) سورة البقرة: 2/ 25.

مُؤَوَّلٌ، أَوْ يَحْتَمِلُ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، فَمُشْتَرَكٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَمُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُؤَوَّلِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ، لِأَنَّ عَدَمَ الْفَهْمِ حَاصِلٌ فِي الْقِسْمَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: الْمُحْكَمُ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ: الْمُحْكَمُ: مَا بَيَّنَ تعالى حلاله وحرمه فَلَمْ تَشْتَبِهْ مَعَانِيهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا اشْتَبَهَتْ مَعَانِيهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بن جعفر بن الزبير، وَالشَّافِعِيُّ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُحْكَمُ: مَا لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا تَكَرَّرَتْ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ دئاب، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا: الْمُحْكَمُ مَا فَهِمَ الْعُلَمَاءُ تَفْسِيرَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ: كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ عِيسَى. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: الْمُحْكَمُ، الْفَاتِحَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الفضل: سورة الإخلاص، لأن لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّوْحِيدُ فَقَطْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْمُحْكَمَاتُ مَا لَيْسَ لَهَا تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُحْكَمَاتُ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ، لِأَنَّهَا تُبَسِّطُ مَعَانِيهَا، فَكَانَتْ أُمَّ فُرُوعٍ قِيسَتْ عَلَيْهَا وَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا، كَالْأُمِّ يَحْدُثُ مِنْهَا الْوَلَدُ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا: أُمَّ الْكِتَابِ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ. وَقَالَ يَحيْيَ بْنُ يَعْمَرَ: الْمُحْكَمُ الْفَرَائِضُ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمُتَشَابِهُ: الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ. وَالْمُتَشَابِهُ مَا كَانَ مَعَانِي أَحْكَامِهِ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الصَّوْمِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقِصَصِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى «1» فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «2» وقُلْنَا احْمِلْ «3» وفَاسْلُكْ «4» . وَقَالَ أَبُو فَاخِتَةَ: الْمُحْكَمَاتُ فَوَاتِحُ السُّوَرِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهَا السور: كألم والمر. وَقِيلَ: الْمُتَشَابِهُ فَوَاتِحُ السُّوَرِ، بِعَكْسِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمَاتُ: الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، والمتشابهات: آلم والمر، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَى الْيَهُودِ من هذه

_ (1) سورة طه: 20/ 20. (2) سورة الأعراف: 7/ 107 والشعراء: 26/ 32. (3) سورة هود: 11/ 40. (4) سورة المؤمنون: 23/ 27.

وَنَحْوِهَا، حِينَ سَمِعُوا: الم، فَقَالُوا: هَذِهِ بِالْجَمْلِ: أَحَدٌ وَسَبْعُونَ، فَهُوَ غَايَةُ أَجَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَمَّا سَمِعُوا: الر، وَغَيْرَهَا، اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ. أَوْ: مَا اشْتَبَهَ مِنَ النَّصَارَى مِنْ قَوْلِهِ: وَرُوحٌ مِنْهُ «1» . وَقِيلَ: الْمُتَشَابِهَاتُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، كَصِفَةِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالْيَدِ، وَالِاسْتِوَاءِ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ «2» الْآيَاتِ وقَضى رَبُّكَ «3» الْآيَاتِ وَمَا سِوَى الْمُحْكَمِ مُتَشَابِهٌ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمُحْكَمَاتُ الَّتِي أُحْكِمَتْ بِالْإِبَانَةِ، فَإِذَا سَمِعَهَا السَّامِعُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْوِيلِهَا، لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: مَا خَالَفَتْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: الْمُحْكَمُ مَا فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ. وَقَالَ ابْنُ خويز منداذ: الْمُتَشَابِهُ مَا لَهُ وُجُوهٌ وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، كَالْآيَتَيْنِ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ: تَعْتَدُّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَعُمَرُ، وَزَيْدٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ: وَضْعُ الْحَمْلِ. وَخِلَافُهُمْ فِي النَّسْخِ، وَكَالِاخْتِلَافِ فِي الوصية للوراث هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَا. وَنَحْوُ تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ: أَيُّهُمَا أَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ النَّسْخُ؟ نَحْوُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ «4» يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَقَارِبِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «5» يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَمَعْنَى: أُمُّ الْكِتَابِ، مُعْظَمُ الْكِتَابِ، إِذِ الْمُحْكَمُ فِي آيَاتِ اللَّهِ كَثِيرٌ قَدْ فُصِّلَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: هَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَكَّةَ: أُمُّ الْقُرَى، وَلِمَرْوَ: أُمُّ خُرَاسَانَ، و: أم الرأس: لمجتمع الشؤون، إِذْ هُوَ أَخْطَرُ مَكَانٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جِمَاعُ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَقُلْ: أُمَّهَاتٌ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُحْكَمَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمَجْمُوعُ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ وَآخَرَ، وَأَحَدُهُمَا أُمٌّ لِلْآخَرِ، وَنَظِيرُهُ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «6» وَلَمْ يَقُلِ: اثْنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: هُنَّ، أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، نَحْوُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «7» أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ منهم. قيل: ويحتمل أن

_ (1) سورة النساء: 4/ 171، وسورة المجادلة: 58/ 22. (2) سورة الأنعام: 6/ 151. [.....] (3) سورة الإسراء: 17/ 23. (4) سورة النساء: 3/ 24. (5) سورة النساء: 3/ 23. (6) سورة المؤمنون: 23/ 50. (7) سورة النور: 24/ 4.

أفراد فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ. نَحْوُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمُّ الْكِتَابِ أَيْ أَصْلُ الْكِتَابِ، تُحْمَلُ الْمُتَشَابِهَاتُ عَلَيْهَا، وَتُرَدُّ إِلَيْهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «3» لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ «4» أَمَرْنا مُتْرَفِيها «5» انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، فَجَعَلَ الْمُحْكَمَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَالْمُتَشَابِهَ قَوْلَهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «6» . وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْكِسُونَ هَذَا، أَوْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِدْرَاكِ وَالرُّؤْيَةِ. وَذُكِرَ مِنَ الْمُحْكَمِ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «7» لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى «8» وَمُتَشَابِهِهِ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «9» ظَاهِرُ النِّسْيَانِ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَمَرْجُوحُهُ التَّرْكُ. وَأَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، فَمَا وَافَقَ الْمَذْهَبَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُحْكَمٌ، وَمَا خَالَفَ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ. فَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «10» عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُحْكَمٌ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «11» مُتَشَابِهٌ. وَغَيْرُهُمْ بِالْعَكْسِ. وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَإِنْ كَانَ لَفْظِيًّا فَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِحُصُولِ التَّعَارُضِ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَلَا قَطْعَ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ نَصًّا أَوْ أُرْجِحَ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ ظَنِّيَّةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ. فَإِذَنِ الْمَصِيرُ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَإِذَا عُلِمَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ الْمُرَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَرْجِيحَ مَجَازٍ عَلَى مَجَازٍ، وَتَأْوِيلٍ عَلَى تَأْوِيلٍ. وَمِنَ الْمَلَاحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَقَالَ: يَقُولُونَ، إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ يَتَمَسَّكُ بِهِ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَالْجَبْرِيُّ يَتَمَسَّكُ بِآيَاتِ الْجَبْرِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً «12» وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «13» . وَالْقَدَرِيُّ يَقُولُ: هَذَا مَذْهَبُ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 7. (2) سورة الأنعام: 6/ 103. (6- 3) سورة القيامة: 75/ 23. (4) سورة الإعراف: 7/ 28. (5) سورة الإسراء: 17/ 16. (7) سورة مريم: 19/ 64. (8) سورة طه: 20/ 52. (9) سورة التوبة: 9/ 67. (10) سورة الكهف: 18/ 29. [.....] (11) سورة الإنسان: 76/ 30 والتكوير: 81/ 29. (13- 12) سورة الأنعام: 6/ 25. والإسراء: 17/ 46 والكهف: 18/ 57.

فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ «1» وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ «2» . وَمُثْبِتُو الرُّؤْيَةِ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «3» وَالْآخَرُونَ، بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «4» . وَمُثْبِتُو الْجِهَةِ بِقَوْلِهِ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ «5» وَبِقَوْلِهِ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «6» وَالْآخَرُونَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «7» فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْمُحْكَمِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَرْجُوحِ إِلَيْهِ هَكَذَا؟ انْتَهَى كَلَامُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ. وَبَعْضُهُ مُلَخَّصٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِمَجِيءِ الْمُتَشَابِهِ فَوَائِدَ، وَأَحْسَنُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا؟ قُلْتُ: لَوْ كَانَ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَتَعَلَّقَ النَّاسُ بِهِ لِسُهُولَةِ مَأْخَذِهِ، وَلَأَعْرَضُوا عَمَّا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى الْفَحْصِ وَالتَّأَمُّلِ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَعَطَّلُوا الطَّرِيقَ الَّذِي لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ إِلَّا بِهِ، وَلِمَا فِي الْمُتَشَابِهِ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الثَّابِتِ عَلَى الْحَقِّ وَالْمُتَزَلْزِلِ فِيهِ، وَلِمَا فِي تَقَادُحِ الْعُلَمَاءِ وَإِتْقَانِهِمُ الْقَرَائِحَ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعَانِيهِ، وَرَدِّهِ إِلَى الْمُحْكَمِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، وَالْعُلُومِ الْجَمَّةِ، وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُعْتَقِدَ أَنْ لَا مُنَاقَضَةَ فِي كَلَامِ اللَّهِ، وَلَا اخْتِلَافَ إِذَا رَأَى فِيهِ مَا يَتَنَاقَضُ فِي ظَاهِرِهِ، وَأَهَمَّهُ طَلَبُ مَا يُوَفِّقُ بَيْنَهُ وَيُجْرِيهِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، فَفَكَّرَ وَرَاجَعَ نَفْسَهُ وَغَيَّرَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ مُطَابَقَةَ الْمُتَشَابِهِ الْمُحْكَمِ، ازْدَادَ طُمَأْنِينَةً إِلَى معتقده، ودقة فِي إِتْقَانِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِمَّا قَالَهُ النَّاسُ فِي فَائِدَةِ الْمَجِيءِ بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَوَّلَ السُّورَةِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ذَكَرَ هُنَا كَيْفِيَّةَ الْكِتَابِ، وَأَتَى بِالْمَوْصُولِ، إِذْ فِي صِلَتِهِ حِوَالَةٌ عَلَى التَّنْزِيلِ السَّابِقِ، وَعَهْدٌ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ إِلَى آخِرِهِ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: تَرَكَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَارْتَفَعَ: آيَاتٌ، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَجْرُورِ لِأَنَّهُ قَدِ اعْتُمِدَ، وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَوَصْفُ الْآيَاتِ بِالْإِحْكَامِ صَادِقٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مُحْكَمَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأُخَرُ صِفَةٌ لآيات

_ (1) سورة فصلت: 41/ 5. (2) سورة البقرة: 2/ 88. (3) سورة القيامة: 75/ 123. (4) سورة الأنعام: 6/ 103. (5) سورة النحل: 16/ 5. (6) سورة طه: 20/ 5. (7) سورة الشورى: 42/ 11.

مَحْذُوفَةٍ، وَالْوَصْفُ بِالتَّشَابُهِ لَا يَصِحُّ فِي مُفْرَدِ أُخَرَ، لَوْ قُلْتَ: وَأُخْرَى مُتَشَابِهَةٌ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ التَّشَابُهَ الْمَقْصُودَ هُنَا لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلِذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ مَعَ الْجَمْعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ يُشَابِهُ الْبَاقِيَ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ، فَهُوَ نَظِيرُ، رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَالُ: رَجُلٌ يَقْتَتِلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أُخَرَ فِي قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الَمَهْدَوِيَّ خَلَطَ فِي مَسْأَلَةِ: أُخَرَ، وَأَفْسَدَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ، فَتَوَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الَمَهْدَوِيِّ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ نَصَارَى نَجْرَانَ لِتُعَرُّضِهِمْ لِلْقُرْآنِ فِي أَمْرِ عِيسَى، قَالَهُ الرَّبِيعُ. أَوِ: الْيَهُودُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بَقَاءَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَالزَّيْغُ: عِنَادُهُمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ الأشبه. وذكر محاورة حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَأَصْحَابِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدَّةِ مِلَّتِهِ، وَاسْتِخْرَاجَ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاتِحِ، وَانْتِقَالَهُمْ مِنْ عَدَدٍ إِلَى عَدَدٍ إِلَى أَنْ قَالُوا: خَلَطَتْ عَلَيْنَا فَلَا نَدْرِي بِكَثِيرٍ نَأْخُذُ أَمْ بِقَلِيلٍ؟ وَنَحْنُ لَا نُؤْمِنُ بِهَذَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ الْآيَةَ، وَفَسَّرَ الزَّيْغَ: بِالْمَيْلِ عَنِ الْهُدَى، ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ قتادة: هم منكر والبعث، فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهَا وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ أَخْفَاهُ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَهُمُ الْخَوَارِجُ. وَمَنْ تَأَوَّلَ آيَةً لَا فِي مَحَلِّهَا. وَقَالَ أَيْضًا: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحَرُورِيَّةُ هُمُ الْخَوَارِجُ السَّبَائِيَّةُ، فَلَا أَدْرِي مَنْ هم. وقال ابن جريح: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الْمُبْتَدِعَةِ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِي الزَّائِغِينَ عَنِ الْحَقِّ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ ذَكَرَ زَائِغَةٌ عَنِ الْحَقِّ، فَاللَّفْظُ يَشْمَلُهُمْ وَإِنْ كَانَ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ. فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مُتَّبِعُو الْمُتَشَابِهِ إِمَّا طالبو تشكيك وتناقض

_ (1) سورة البقرة: 2/ 184 و 185.

وَتَكْرِيرٍ، وَإِمَّا طَالِبُو ظَوَاهِرِ المتشابه: كالمجمسة إِذْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ جِسْمٌ، وَصُورَةٌ ذَاتُ وَجْهٍ، وَعَيْنٍ وَيَدٍ وَجَنْبٍ وَرِجْلٍ وَأُصْبُعٍ. وَإِمَّا مُتَّبِعُو إِبْدَاءِ تَأْوِيلٍ وَإِيضَاحِ مُعَايَنَةٍ، كَمَا سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ أَشْيَاءَ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، مِمَّا ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ، نَحْوُ: وَلا يَتَساءَلُونَ «1» وأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2» وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «3» وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «4» وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا أَزَالَ عَنْهُ التَّعَارُضَ، وَإِمَّا مُتَّبِعُوهُ وَسَائِلُونَ عَنْهُ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ، كَمَا جَرَى لِأُصَيْبِغَ مَعَ عُمَرَ، فَضَرَبَ عُمَرُ رَأْسَهُ حَتَّى جَرَى دَمُهُ عَلَى وَجْهِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا. ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ عَلَّلَ اتِّبَاعَهُمْ لِلْمُتَشَابِهِ بِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: ابْتِغَاءُ الْفِتْنَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ، وَرَبِيعٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الْكُفْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّبُهَاتُ وَاللَّبْسُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيِّنِ. وَقِيلَ: الشُّبُهَاتُ الَّتِي حَاجَّ بِهَا وَفْدَ نَجْرَانَ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: ابْتِغَاءُ التَّأْوِيلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَغَوْا مَعْرِفَةَ مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ: التَّفْسِيرُ، نَحْوُ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «5» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: طَلَبُوا مَرْجِعَ أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَآلَ كِتَابِهِمْ وَدِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَالْعَاقِبَةَ الْمُنْتَظَرَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: طَلَبُوا تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ، فَأَعْلَمَ تَعَالَى: أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ، وَوَقْتَهُ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْعَذَابِ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ، أَيْ تَرَكُوهُ: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا، أَيْ: قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيلَ مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُلُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا عَوَاقِبَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تَأْوِيلُهُ مَتَى يُنْسَخُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقِيلَ: تَأْوِيلَهُ طَلَبُ كُنْهِ حَقِيقَتِهِ وَعُمْقِ مَعَانِيهِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ كَلَامًا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، مِثْلُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ وَمَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَيَتَعَلَّقُونَ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَحْتَمِلُ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمُبْتَدِعُ مِمَّا لَا يُطَابِقُ الْمُحْكَمَ، وَيَحْتَمِلُ مَا

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 101. (2) سورة الصافات: 37/ 27. (3) سورة النساء: 4/ 42. (4) سورة الأنعام: 6/ 23. [.....] (5) سورة الكهف: 18/ 78.

يطابقه من قوله أَهْلِ الْحَقِّ، ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ: طَلَبَ أَنْ يَفْتِنُوا النَّاسَ عن دينهم ويضلوهم، وابتغاء تَأْوِيلِهِ: طَلَبَ أَنْ يُؤَوِّلُوُهُ التَّأْوِيلَ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعُرْوَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي نَهِيكٍ الْأَسَدِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، والكسائي، والفراء، والجلبائي، وَالْأَخْفَشِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ: الْخَطَّابِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ. وَيَكُونُ قوله وَالرَّاسِخُونَ مبتدأ ويَقُولُونَ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقِيلَ: وَالرَّاسِخُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَ: يَقُولُونَ، حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ: قَائِلِينَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا دَلَّ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْمَجَازَاتِ، وَلَيْسَ التَّرْجِيحُ لِبَعْضٍ إِلَّا بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَهِيَ ظَنِّيَّةٌ، وَالظَّنُّ لَا يَكْفِي فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ طَالِبِ الْمُتَشَابِهِ، وَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَمَا ذُمَّ بِأَنَّ طَلَبَ وَقْتِ السَّاعَةِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهُوَ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُ مَدَحَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَمَا كَانَ فِي الْإِيمَانِ بِهِ مَدْحٌ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَلَى التَّفْصِيلِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، وَإِنَّمَا الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الظَّاهِرِ، وَيُفَوِّضُونَ تَعْيِينَ الْمُرَادِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، وَقَطَعُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ عَدَمُ التَّعْيِينِ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ: الرَّاسِخُونَ، معطوف عَلَى: اللَّهُ، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ: يَقُولُونَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ وَتَقْدِيرُهُ: هَؤُلَاءِ، أَوْ: هُمْ، فيلزم الإضمار، أو حال وَالْمُتَقَدِّمُ: اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الرَّاسِخِينَ فَقَطْ، وَفِيهِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يَقْتَضِي فَائِدَةً، وَهُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا عَرَفُوا بِتَفْصِيلِهِ وَمَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي الْكُلِّ عُرِّيَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَلَمَّا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ لَا يَقَعُ جَهْلُهُ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَسُئِلَ مَالِكٌ، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ. انْتَهَى مَا رُجِّحَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ

أُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فِيمَا رواه طاووس عنه: إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمَنَّا بِهِ. وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ إِنَّ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ. وَرَجَّحَ ابْنُ فُورَكَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، أَيْ: عَلِّمْهُ مَعَانِيَ كِتَابِكَ. وَكَانَ عُمَرُ إِذَا وَقَعَ مُشْكِلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَسْتَدْعِيهِ وَيَقُولُ لَهُ: غَصَّ غَوَّاصٍ. وَيَجْمَعُ أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالنَّظَرِ فِي مَعَانِي الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَا تَأَمَّلْتَ قُرْبَ الْخِلَافِ مِنَ الِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، فَالْمُحَكَمُ الْمُتَّضِحُ لِمَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَلَا لَبْسٍ فِيهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّاسِخُ وَغَيْرُهُ. وَالْمُتَشَابِهُ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَأَمْرِ الرُّوحِ، وَآمَادِ الْمُغَيَّبَاتِ الْمُخْبَرِ بِوُقُوعِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ مَا يُحْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ فِي اللُّغَةِ، فَيَتَأَوَّلُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كَقَوْلِهِ فِي عِيسَى وَرُوحٌ مِنْهُ «1» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يُسَمَّى رَاسِخًا إِلَّا مَنْ يَعْلَمُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرًا بِحَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَإِلَّا فَمَنْ لَا يَعْلَمُ سِوَى الْمُحْكَمِ فَلَيْسَ بِرَاسِخٍ. فَقَوْلُهُ إِلَّا اللَّهُ مُقْتَضٍ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَوْعَيْهِ جَمِيعًا، وَالرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ النَّوْعَ الثَّانِي، وَالْكَلَامُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى فَصَاحَةِ الْعَرَبِ. وَدَخَلُوا بِالْعَطْفِ فِي عِلْمِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ لِنَصْرِي إِلَّا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَأَحَدُهُمَا نَصَرَكَ بِأَنْ ضَارَبَ مَعَكَ، وَالْآخَرُ أَعَانَكَ بِكَلَامٍ فَقَطْ. وَإِنْ جَعْلَنَا وَالرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأً مقطعوعا مِمَّا قَبْلَهُ، فَتَسْمِيَتُهُمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي اسْتَوَى فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ؟ وَمَا الرُّسُوخُ إِلَّا الْمَعْرِفَةُ بِتَصَارِيفِ الْكَلَامِ، وَمَوَارِدِ الْأَحْكَامِ، وَمَوَاقِعِ الْمَوَاعِظِ؟. وَإِعْرَابُ: الرَّاسِخِينَ، يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهِمَا. وَمَنْ فَسَّرَ الْمُتَشَابِهَ بِأَنَّهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَقَطْ، فَتَفْسِيرُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الْمُتَشَابِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَفِيهِ اخْتِيَارُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: اللَّهُ، وَإِيَّاهُ اخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: لَا يَهْتَدِي إِلَى تَأْوِيلِهِ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عليه إلّا الله

_ (1) سورة النساء: 4/ 171. والمجادلة: 58/ 22.

وَعِبَادُهُ الَّذِينَ رَسَخُوا فِي الْعِلْمِ، أَيْ ثَبَتُوا فِيهِ وَتَمَكَّنُوا، وَعَضُّوا فِيهِ بِضِرْسٍ قاطع. ويقولون، كَلَامٌ مُسْتَأَنَفٌ مُوَضِّحٌ لِحَالِ الرَّاسِخِينَ، بِمَعْنَى: هَؤُلَاءِ الْعَالَمُونَ بِالتَّأْوِيلِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، أَيْ: بِالْمُتَشَابِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَلَخَّصَ فِي إِعْرَابِ وَالرَّاسِخُونَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ، وَيَكُونُ فِي إِعْرَابِ: يَقُولُونَ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الرَّاسِخِينَ، كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ وَهِنْدٌ ضَاحِكَةً. وَالثَّانِي: مِنْ إِعْرَابِ: وَالرَّاسِخُونَ، أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ: يَقُولُونَ، خَبَرًا عَنْهُ، وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَقِيلَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ وَأَصْحَابِهِ، بِدَلِيلِ لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ «1» يَعْنَي الرَّاسِخِينَ فِي عِلْمِ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَقَدْ فُسِّرَ الرُّسُوخُ فِي الْعِلْمِ بِمَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، وَإِنَّمَا هِيَ أَشْيَاءُ نَشَأَتْ عَنِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، كَقَوْلِ نَافِعٍ: الرَّاسِخُ الْمُتَوَاضِعُ لِلَّهِ، وَكَقَوْلِ مَالِكٍ: الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ الْعَامِلُ بِمَا يَعْلَمُ، الْمُتَّبِعُ. كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا هَذَا مِنَ الْمَقُولِ، وَمَفْعُولُ: يَقُولُونَ قَوْلُهُ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَجُعِلَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ كَأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَكْ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ، أَوْ جُعِلَا مُمْتَزِجَيْنِ فِي الْقَوْلِ امْتِزَاجَ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: كَيْفَ أصحبت؟ كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ مِمَّا ... يَزْرَعُ الود في فؤاد الكريم؟ كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْكَلَامُ مِمَّا يَزْرَعُ الْوِدَّ. وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْكِتَابِ. وَالتَّنْوِينُ فِي: كُلٌّ، لِلْعِوَضِ مِنَ الْمَحْذُوفِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْكِتَابِ، أَيْ: كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيُرُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا تَنَاقُضَ وَلَا اخْتِلَافَ، وَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ. وَأَضَافَ الْعِنْدِيَّةَ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّنَا، لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى

_ (1) سورة النساء: 4/ 162.

لِمَا فِي الْإِشْعَارِ بِلَفْظَةِ الرَّبِّ مِنَ النَّظَرِ فِي مَصْلَحَةِ عَبِيدِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ فِي الْمُتَشَابِهِ مَصْلَحَةً مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى، وَلَجَعَلَ كِتَابَهُ كُلُّهُ مُحْكَمًا. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أَيْ: وَمَا يَتَّعِظُ بِنُزُولِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ، إِذْ هُمُ الْمُدْرِكُونَ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَوَضْعِ الْكَلَامِ مَوَاضِعِهِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَشْتَبَهَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي جُعِلَ مُمَيِّزًا لِإِدْرَاكِ: الْوَاجِبِ، وَالْجَائِزِ، وَالْمُسْتَحِيلِ، فَلَا يُوقَفُ مَعَ دَلَالَةِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، بَلْ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْفِكْرُ حَتَّى لَا يُنْسَبَ إِلَى الْبَارِئِ تَعَالَى، وَلَا إِلَى مَا شَرَعَ مِنْ أَحْكَامِهِ، مَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ، مَا يَقُولُ هَذَا وَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيَقِفُ حَيْثُ وَقَفَ، وَيَدَعِ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا ذُو لُبٍّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَدْحٌ لِلرَّاسِخِينَ بِإِلْقَاءِ الذِّهْنِ وَحُسْنِ التَّأَمُّلِ. رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ أَيْ: يَقُولُونَ رَبَّنَا، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى زَائِغٍ، وَمُتَذَكِّرٍ مُؤْمِنٍ، دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى بِلَفْظِ الرَّبِّ أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ بَعْدَ هِدَايَتِهِمْ، فَيَلْحَقُوا بِمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى عَلَّمَهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ، وَالتَّقْدِيرُ: قُولُوا رَبَّنَا. وَمَعْنَى الْإِزَاغَةِ هُنَا الضَّلَالَةُ. وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْإِزَاغَةُ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لَمَا جَازَ أَنْ يُدْعَى فِي رَفْعِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: المعنى: لَا تُكَلِّفْنَا عِبَادَةً ثَقِيلَةً تَزِيغُ بِهَا قُلُوبُنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ التَّحَفُّظُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الزَّيْغَ وَالضَّلَالَةَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سَأَلُوا أَنْ لَا يَزِيغُوا، فَيُزِيغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، نَحْوُ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» أَيْ: ثَبِّتْنَا عَلَى هِدَايَتِكَ، وَأَنْ لَا نَزِيغَ، فَنَسْتَحِقَّ أَنْ تُزِيغَ قُلُوبَنَا. وهذه نزعة اعْتِزَالِيَّةٍ، كَمَا قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا تَمْنَعْهَا الْأَلْطَافَ الَّتِي بِهَا يَسْتَمِرُّ الْقَلْبُ عَلَى صِفَةِ الْإِيمَانِ. وَلَمَّا مَنَعَهُمُ الْأَلْطَافَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ مَنَعَ ذَلِكَ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: أَزَاغَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: فَلَمَّا زَاغُوا. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ أَيْضًا: لَا تُزِغْنَا عَنْ جَنَّتِكَ وَثَوَابِكَ.

_ (1) سورة الصف: 61/ 5.

وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: احْرُسْنَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَشَرِّ أَنْفُسِنَا حَتَّى لَا نَزِيغَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تُبْلِنَا بِبَلَايَا تَزِيغُ فِيهَا قُلُوبُنَا، أَوْ: لَا تَمْنَعْنَا أَلْطَافَكَ بَعْدَ أَنْ لَطَفْتَ بِنَا. انْتَهَى. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَلَامِيَّةٌ: هَلِ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الشَّرِّ كَمَا هُوَ خَالِقُ الْخَيْرِ؟ أَوْ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ؟ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَكُلٌّ يُفَسِّرُ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَقَرَأَ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو قَائِلَةَ، وَالْجَرَّاحُ: لَا تَزُغْ قُلُوبُنَا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَرَفْعِ الْبَاءِ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزُغْ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً، وَرَفْعِ بَاءِ قُلُوبُنَا، جَعَلَهُ مِنْ زَاغَ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْقُلُوبِ. وَظَاهِرُهُ نَهْيُ الْقُلُوبِ عَنِ الزَّيْغِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هاهنا. ولا أَعْرِفَنَّ رَبْرَبًا حُوَّرًا مَدَامِعُهُ أَيْ: لَا تُزِغْنَا فَتَزِيغَ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ظَاهِرُهُ الْهِدَايَةُ الَّتِي هِيَ مُقَابَلَةُ الضَّلَالِ. وَقِيلَ: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا لِلْعِلْمِ بِالْمُحْكَمِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلْمُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِكَ، وَ: إِذْ، أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا، وَهُنَا أُضِيفَ إِلَيْهَا: بَعْدَ، فَصَارَتِ اسْمًا غَيْرَ ظَرْفٍ، وَهِيَ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ تُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَاسْتُصْحِبَ فِيهَا حَالُهَا مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهَا تُخْرِجُهَا عَنْ هَذَا الْحُكْمِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ «1» ؟ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ «2» فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ يَوْمُ؟ وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا عَلَى حِينَ مَنْ تُكْتَبُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ عَلَى حِينَ الْكِرَامِ قَلِيلُ أَلَا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاءِ جَدِيدُ كَيْفَ خَرَجَ الظَّرْفُ هُنَا عَنْ بَابِهِ، وَاسْتُعْمِلَ خَبَرًا وَمَجْرُورًا بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَاسْمَ لَيْتَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ؟. وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً سَأَلُوا بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا عَمَلٍ وَلَا مُعَاوَضَةٍ، لِأَنَّ الْهِبَةَ كَذَلِكَ تَكُونُ، وَخَصُّوهَا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، والرحمة

_ (1) سورة المائدة: 5/ 119. (2) سورة الإنفطار: 82/ 19.

إِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا الْهِبَةُ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: نَعِيمًا، أَوْ ثَوَابًا صَادِرًا عَنِ الرَّحْمَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُولُ صَادِرًا عَنِ الرَّحْمَةِ، صَحَّ أَنْ يَسْأَلُوا الرَّحْمَةَ إِجْرَاءً لِلسَّبَبِ مَجْرَى الْمُسَبِّبِ. وَقِيلَ: مَعْنَى رَحْمَةً تَوْفِيقًا وَسَدَادًا وَتَثْبِيتًا لِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ هَذَا كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِمْ: وَهَبْ لَنَا، كَقَوْلِكَ: حِلَّ هَذَا الْمُشْكِلَ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَالِمُ بِالْمُشْكِلَاتِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي عَلَى فَعَّالٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَالُوا: وَهُوبٌ، لِمُنَاسَبَةِ رؤوس الْآيِ، وَيَجُوزُ فِي: أَنْتَ، التَّوْكِيدُ لِلضَّمِيرِ، وَالْفَصْلُ، وَالِابْتِدَاءُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ لَمَّا سَأَلُوهُ تَعَالَى أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ بَعْدَ الْهِدَايَةِ، وَكَانَتْ ثَمَرَةُ انْتِفَاءِ الزَّيْغِ وَالْهِدَايَةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْبَعْثِ فِيهِ لِلْمُجَازَاةِ، وَأَنَّ اعْتِقَادَ صِحَّةِ الْوَعْدِ بِهِ هُوَ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَى سُؤَالِ أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ. وَمَعْنَى: لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ: لِجَزَاءِ يَوْمٍ، وَمَعْنَى: لَا رَيْبَ فِيهِ، لَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ لِصِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ لِلْمُكَذِّبِ بِهِ رَيْبٌ فَهُوَ بِحَالِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ، بِمَعْنَى: فِي، أَيْ: فِي يَوْمٍ، وَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ لِأَجْلِهِ لَمْ يُذْكَرْ، وَظَاهِرُ هَذَا الْجَمْعِ أَنَّهُ الْحَشْرُ مِنَ الْقُبُورِ لِلْمُجَازَاةِ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ قِرَاءَةُ أَبِي حَاتِمٍ: جَامِعٌ النَّاسَ، بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ: النَّاسَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْجَمْعُ هُنَا أَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ فِي الْقُبُورِ، وَكَأَنَّ اللَّامَ تَكُونُ بِمَعْنَى إِلَى لِلْغَايَةِ، أَيْ: جَامِعُهُمْ فِي الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ هُنَا لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الزَّمَانُ، إِذْ مِنَ النَّاسِ مَنْ مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمُتْ، فَنُسِبَ الْجَمْعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الزَّمَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى الْيَوْمِ، إِذِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَعَادَهُ عَلَى الْجَمْعِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَامِعُ، أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَقَدْ أَبْعَدَ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ظَاهِرُ الْعُدُولِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ الدَّاعِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ أن الإلهية تنافي خلف الْمِيعَادِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّ الْجَوَادَ لا يخيب سائله، والميعاد: الْمَوْعِدُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تُنَافِي خَلْفَ الْمِيعَادِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ عِنْدَنَا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْعَفْوِ، كَمَا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَهَمَ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ

التَّوْبَةِ، وَالشَّرْطَانِ يُثْبَتَانِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا مَا يَقُولُونَهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَعِيدَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعْدِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مِيعَادِ الْأَوْلِيَاءِ دُونَ وَعِيدِ الْأَعْدَاءِ، لِأَنَّ خَلْفَ الْوَعِيدِ كَرَمٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ يَمْدَحُونَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أَنْجَزَ وَعْدَهُ ... وَإِنْ وَعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُهْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِ الدَّاعِينَ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غِيبَةٍ لِمَا فِي ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا وَالَوُا الدُّعَاءَ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ الْوَفِيُّ بِالْوَعْدِ. وَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ، وَالْمُجَازَاةِ، وَالْإِيفَاءِ بِمَا وَعَدَ تَعَالَى. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قِيلَ: الْمُرَادُ وَفْدُ نَجْرَانَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ قَالَ لِأَخِيهِ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنِّي إِنْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ أَخَذَ مُلُوكُ الرُّومِ مِنِّي مَا أَعْطَوْنِي مِنَ الْمَالِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُرَيْظَةُ، وَالنَّضِيرُ. وَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَهِيَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ. وَمَعْنَى: مِنَ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَمَعْنَى: أَغْنَى عَنْهُ، دَفْعَ عَنْهُ وَمَنْعَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ فِي بَابِ الْمُدَافَعَةِ وَالتَّقَرُّبِ وَالْفِتْنَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوْلَادِ، قُدِّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «1» وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ «2» وَفِي قَوْلِهِ: وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «3» وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «4» بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ «5» إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ هُنَا حُبَّ الشَّهَوَاتِ، فَقَدَّمَ فِيهِ النِّسَاءَ وَالْبَنِينَ عَلَى ذِكْرِ الْأَمْوَالِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَنْ يُغْنِيَ، بِالْيَاءِ عَلَى تَذْكِيرِ الْعَلَامَةِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ: لن يغني،

_ (1) سورة سبأ: 34/ 37. (2) سورة الأنفال: 8/ 28. (3) سورة الحديد: 57/ 20. (4) سورة الشعراء: 26/ 88. (5) سورة آل عمران: 3/ 14.

بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَنْ يُغْنِي بِالْيَاءِ أَوَّلًا وَبِالْيَاءِ السَّاكِنَةِ آخِرًا، وَذَلِكَ لِاسْتِثْقَالِ الْحَرَكَةِ فِي حَرْفِ اللِّينِ، وَإِجْرَاءِ الْمَنْصُوبِ مَجْرَى الْمَرْفُوعِ. وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَخُصُّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخُصَّ بِهَا، إِذْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ. وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، وَبِمَعْنَى: عِنْدَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَجَعَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» قَالَ: مَعْنَاهُ عِنْدَ جُوعٍ وَعِنْدَ خَوْفٍ، وَكَوْنُ: مِنْ، بِمَعْنَى: عِنْدَ، ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ، مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «2» وَالْمَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْئًا، أَيْ: بَدَلَ رَحْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَبَدَلَ الْحَقِّ. وَمِنْهُ: وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ أَيْ: لَا يَنْفَعُهُ جَدُّهُ وَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا بِذَلِكَ، أَيْ: بَدَلَ طَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ. وَمَا عِنْدَكَ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «3» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ: لِمِنْ، فِيهِ خِلَافٌ أَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَهُ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ أَثْبَتَهُ، وَزَعَمَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى الْبَدَلِ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «4» لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً «5» أَيْ: بَدَلَ الْآخِرَةِ وَبَدَلَكُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفَصِيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفِيلَا أَيْ بَدَلَ الْفَصِيلِ، وَشَيْئًا يَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، كَمَا تَقُولُ ضَرَبْتُ شَيْئًا مِنَ الضَّرْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ، لَنْ تَدْفَعَ أَوْ تَمْنَعَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لَهَا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ. وَتَكُونُ: مِنْ إِذْ ذَاكَ لِلتَّبْعِيضِ. فَتُلَخَّصُ فِي: مِنْ، أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ، والكلبي. و: كونها بِمَعْنَى: عِنْدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. و: البدلية، وهو قول الزمخشري، و: التبعيض، وَهُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ لَمَّا قَدَّمَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كَثْرَةُ أموالهم،

_ (1) سورة قريش: 106/ 4. (2) سورة النجم: 53/ 28. (3) سورة سبأ: 34/ 37. [.....] (4) سورة التوبة: 9/ 38. (5) سورة الزخرف: 43/ 60.

وَلَا تَنَاصُرُ أَوْلَادِهِمْ، أَخْبَرَ بِمَآلِهِمْ. وَأَنَّ غَايَةَ مَنْ كَفَرَ، وَمُنْتَهَى مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ النار، فاحتلمت هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى خَبَرِ: إِنَّ، واحتمل أن تكونه مُسْتَأْنَفَةً عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَأَشَارَ: بِأُولَئِكَ، إِلَى بُعْدِهِمْ. وَأَتَى بِلَفْظِ: هُمْ، الْمُشْعِرَةُ بِالِاخْتِصَاصِ، وَجَعَلَهُمْ نَفْسَ الْوَقُودِ مُبَالَغَةً فِي الِاحْتِرَاقِ، كَأَنَّ النَّارَ لَيْسَ لَهَا مَا يُضْرِمُهَا إِلَّا هُمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَقُودِ فِي قَوْلِهِ: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «1» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا: وُقُودُ، بِضَمِّ الْوَاوِ، وَهُوَ مَصْدَرُ: وَقَدَتِ النَّارُ تَقِدُ وُقُودًا، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أهل وَقُودِ النَّارِ، أَوْ: حَطَبُ وَقُودٍ، أَوْ جَعَلَهُمْ نَفْسَ الْوَقُودِ مُبَالَغَةً، كَمَا تَقُولُ: زَيْدُ رِضًا. وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَصْدَرِ أَيْضًا: وَقُودُ، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ ذكر ذلك. وَ: هُمْ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِاللَّهِ مَآلُهُ إِلَى النَّارِ، وَلَنْ يُغْنِيَ عَنْهُ مَالُهُ وَلَا وَلَدُهُ، ذَكَرَ أَنَّ شَأْنَ هَؤُلَاءِ فِي تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَتُّبَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَشَأْنِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ، أُخِذُوا بِذُنُوبِهِمْ، وَعُذِّبُوا عَلَيْهَا، وَنَبَّهَ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ مَا جَرَى لَهُمْ حِينَ كَذَّبُوا بِمُوسَى مِنْ إِغْرَاقِهِمْ وَتَصْيِيرِهِمْ آخِرًا إِلَى النَّارِ، وَظُهُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ، وَتَوْرِيثِهِمْ أَمَاكِنَ مُلْكِهِمْ، فَفِي هَذَا كُلِّهِ بِشَارَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ. أَنَّ الْكُفَّارَ مَآلُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الِاسْتِئْصَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْنَ، أُهْلِكُوا فِي الدُّنْيَا، وَصَارُوا إِلَى النَّارِ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ: كَدَأْبِ، فَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ، وَبِهِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نصب بوقود، أَيْ: تُوقَدُ النَّارُ بِهِمْ، كَمَا تُوقَدُ بِآلِ فِرْعَوْنَ. كَمَا تَقُولُ: إِنَّكَ لَتَظْلِمُ النَّاسَ كَدَأْبِ أَبِيكَ، تُرِيدُ: كَظُلْمِ أَبِيكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 24 والتحريم: 66/ 6.

وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنْ لَفْظِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي نَفْسِ الِاحْتِرَاقِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: مِنْ مَعْنَاهُ أَيْ عُذِّبُوا تَعْذِيبًا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَقُودُ النَّارِ. وَقِيلَ: بلن تُغْنِيَ، أَيْ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِثْلُ مَا لَمْ تُغْنِ عَنْ أُولَئِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِلْفَصْلِ بين العالم وَالْمَعْمُولِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ: أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ عَلَى أَيِّ التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدَّرْنَاهُمَا فِيهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى خَبَرِ إِنَّ، أَوْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِإِنَّ، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا اعْتِرَاضِيَّةً، وَهُوَ بَعِيدٌ، جَازَ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مَنْصُوبٍ مِنْ مَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ، أَيْ بَطَلَ انْتِفَاعُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ بُطْلَانًا كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كُفْرًا كَدَأْبِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ: كَفَرُوا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْمُولًا لِلصِّلَةِ كَانَ مِنَ الصِّلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْمَوْصُولِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صِلَتَهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهَا، وَهُنَا قَدْ أَخْبَرَ، فَلَا تَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِمَا فِي الصِّلَةِ. وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ: كَفَرُوا، التَّقْدِيرُ: كَفَرُوا كُفْرًا كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي الْكَافِ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَالضَّمِيرُ فِي: كَذَّبُوا، عَلَى هَذَا لِكُفَّارِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: كَذَّبُوا تَكْذِيبًا كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: أَخَذَهُمْ أَخْذًا كَمَا أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُمْ أَجَازُوا: زَيْدًا قُمْتُ فَضَرَبْتُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ هَذَا الْقَوْلُ. فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ فِي الْعَامِلِ فِي الْكَافِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالدَّأْبُ، بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، مَصْدَرُ دَأَبَ يَدْأَبُ، إِذَا لَازَمَ فِعْلَ شَيْءٍ وَدَامَ عَلَيْهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ، وَيُقَالُ لِلْعَادَةِ: دَأْبٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ يَعْقُوبَ يَذْكُرُ: كَدَأَبِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ لِي وَأَنَا غُلَيْمٌ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَجُوزُ كَدَأَبِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَظُنُّهُ مِنْ: دَئِبَ يَدْأَبُ دَأَبًا، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي، وَتَعَجَّبَ مِنْ جَوْدَةِ تَقْدِيرِي عَلَى صِغَرِي،

وَلَا أَدْرِي: أَيُقَالُ أَمْ لَا؟ قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يُقَالُ دَئِبَ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: دَأَبَ يَدْأَبُ دُؤُبًا هَكَذَا حَكَى النَّحْوِيُّونَ، مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ، حَكَاهُ فِي كِتَابِ (المصادر) . وآل فِرْعَوْنَ: أَشْيَاعُهُ وَأَتْبَاعُهُ. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ كُفَّارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ. فَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا عَائِدٌ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَهُمْ مُعَاصِرُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْضِعُ: وَالَّذِينَ، جَرٌّ عَطْفًا عَلَى: آلِ فِرْعَوْنَ. كَذَّبُوا بِآياتِنا هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلدَّأْبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا فَعَلُوا؟ وَمَا فُعِلَ بِهِمْ؟ فَقِيلَ: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَهِيَ كَأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُكَذِّبِينَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا فَيَكُونُ: الَّذِينَ، مُبْتَدَأٌ، وَ: كَذَّبُوا خَبَرُهُ وَفِي قَوْلِهِ: بِآيَاتِنَا، الْتِفَاتٌ، إِذْ قَبْلَهُ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ اسْمُ غَيْبَةٍ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى التكلم. و: الآيات، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَتْلُوَّةَ فِي كُتُبِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِدْقِ أَنْبِيَائِهِ. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ رَجَعَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَمَعْنَى الْأَخْذِ بِالذَّنْبِ: الْعِقَابُ عَلَيْهِ، وَالْبَاءُ فِي: بِذُنُوبِهِمْ، لِلسَّبَبِ. وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَطْوَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَكَذَّبَ بِهَا. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ. حُسْنَ الْإِبْهَامِ، وَهُوَ فِيمَا افْتُتِحَتْ بِهِ، لِيُنَبِّهَ الْفِكْرَ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ. وَمَجَازُ التَّشْبِيهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَحَقِيقَةُ النُّزُولِ طَرْحُ جَرْمٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَالْقُرْآنُ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَمَّا أُثْبِتَ فِي الْقَلْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ جِرْمٍ أُلْقِيَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ فَشُبِّهَ بِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِنْزَالِ. وَفِي قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ، شُبِّهَ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ يَنَالُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَقَامَ الْمَصْدَرَ فِيهِ مَقَامَ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَجَعَلَ التَّوْرَاةَ كَالرَّجُلِ الَّذِي يُوَرِّي عَنْكَ أَمْرًا، أَيْ: يَسْتُرُهُ لِمَا فِيهَا مِنَ

الْمَعَانِي الْغَامِضَةِ، وَالْإِنْجِيلُ شُبِّهَ لِمَا فِيهِ مِنَ اتِّسَاعِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْخُضُوعِ بِالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ هُدًى لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِرْشَادِ، كَالطَّرِيقِ الَّذِي يَهْدِيكَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَرُومُهُ، وَشَبَّهَ الْفُرْقَانَ بِالْجِرْمِ الْفَارِقِ بَيْنَ جِرْمَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: عَذابٌ شَدِيدٌ شَبَّهَ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ ضِيقِ الْعَذَابِ وَأَلَمِهِ بِالْمَشْدُودِ الْمُوَثقِ الْمُضَيَّقِ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ شَبَّهَ أَمْرَهُ بِقَوْلِهِ: كُنْ أَوْ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ بِكَوْنِهِ جَاءَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالصُّنْعِ بِمُصَوِّرٍ يُمَثِّلُ شَيْئًا، فَيَضُمُّ جِرْمًا إِلَى جِرْمٍ، وَيُصَوِّرُ مِنْهُ صُورَةً. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ جَعَلَ مَا اتَّضَحَ مِنْ مَعَانِي كِتَابِهِ، وَظَهَرَتْ آثَارُ الْحِكْمَةِ عَلَيْهِ مُحْكَمًا، وَشَبَّهَ الْمُحْكَمُ لِمَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ الْمَعَانِي الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُرُوعٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُرْجَعُ إِلَيْهَا بِالْأُمِّ التي يرجع إِلَيْهَا مَا تَفَرَّعَ مِنْ نَسْلِهَا وَيَؤُمُّونَهَا، وَشَبَّهَ مَا خَفِيَتْ مَعَانِيهِ لِاخْتِلَافِ أَنْحَائِهِ كَالْفَوَاتِحِ، وَالْأَلْفَاظَ الْمُحْتَمِلَةَ مَعَانِيَ شَتَّى، وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَمْرِ الْمَعَادِ وَالْحِسَابِ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَبَهِ الْمُلْبَسِ أَمْرُهُ الَّذِي وَجَمَ الْعَقْلُ عَنْ تَكْيِيفِهِ وَفِي قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ شَبَّهَ الْقَلْبَ الْمَائِلَ عَنِ الْقَصْدِ بِالشَّيْءِ الزَّائِغِ عَنْ مَكَانِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً شَبَّهَ الْمَعْقُولَ مِنَ الرَّحْمَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْخَيْرِ، بِالْمَحْسُوسِ مِنَ الْأَجْرَامِ مِنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي الْهِبَةِ وَفِي قَوْلِهِ: وَقُودُ النَّارِ شَبَّهَهُمْ بِالْحَطَبِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَّا فِي الْوَقُودِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» وَالْحَصَبُ الْحَطَبُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ شَبَّهَ إِحَاطَةَ عَذَابِهِ بِهِمْ بِالْمَأْخُوذِ بِالْيَدِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِحُكْمِ إِرَادَةِ الْأَخْذِ. وَقِيلَ: هَذِهِ كُلُّهَا اسْتِعَارَاتٌ، وَلَا تَشْبِيهَ فِيهَا إِلَّا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ بِذِكْرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَى وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ عَلَى مَنْ فَسَّرَهُ بِالزَّبُورِ، وَاخْتَصَّ الْأَرْبَعَةَ دُونَ بَقِيَّةِ مَا أَنْزَلَ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْكُتُبِ إِذْ ذَاكَ: الْمُؤْمِنُونَ، وَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ خَصَّهُمَا لِأَنَّهُمَا أَكْبَرُ مَخْلُوقَاتِهِ الظَّاهِرَةِ لَنَا، وَلِأَنَّهُمَا مَحَلَّانِ لِلْعُقَلَاءِ، وَلِأَنَّ مِنْهُمَا أَكْثَرَ الْمَنَافِعِ الْمُخْتَصَّةِ بِعِبَادِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ اخْتَصَّهُمْ بِخُصُوصِيَّةِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بهم وفي قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ لِأَنَّ الْعُقَلَاءَ لَهُمْ خصوصية التمييز، والنظر،

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 98.

وَالِاعْتِبَارِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَا تُزِغْ قُلُوبَنا اخْتَصَّ الْقُلُوبَ لِأَنَّ بِهَا صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّهَا مَحَلُّ الْإِيمَانِ وَمَحَلُّ الْعَقْلِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ هو جَامِعُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَفِي بَطْنِهَا أَمْوَاتًا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْجَمْعَ الْأَكْبَرَ، وَهُوَ الْحَشْرُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا جَامِعَ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ اخْتَصَّ الْكُفَّارَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، فَهُمْ يَجْنُونَ ثَمَرَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَتَنْفَعُهُمْ أَوْلَادُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، يَسْقُونَهُمْ وَيَكُونُونَ لَهُمْ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، وَيُشَفَّعُونَ فِيهِمْ إِذَا مَاتُوا صِغَارًا، وَيَنْفَعُونَهُمْ بِالدُّعَاءِ الصَّالِحِ كِبَارًا. وَكُلُّ هَذَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَفِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ، وَقَدَّمَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأُمَمِ طُغْيَانًا، وَأَعْظَمُهُمْ تَعَنُّتًا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا. وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ، فِي قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: من الكتب وأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أَيْ: وَأَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ، لِأَنَّ الْإِنْزَالَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ هُدىً لِلنَّاسِ أَيِ: الَّذِينَ أَرَادَ هُدَاهُمْ: عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذُو انْتِقامٍ أَيْ مِمَّنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أَيْ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا الْعَزِيزُ أَيْ: فِي مُلْكِهِ. الْحَكِيمُ أَيْ فِي صُنْعِهِ وَأُخَرُ أَيْ: آيَاتٌ أُخَرُ زَيْغٌ أَيْ عَنِ الْحَقِّ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أَيْ: لَكُمْ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أَيْ: عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنْهُ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَيْ: عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبَةِ رَبَّنا أَيْ يا رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا أَيْ: عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أَيْ: إِلَيْهِ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيِ: الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، أَوِ الْمَنْصُوبَاتِ عَلَمًا عَلَى التَّوْحِيدِ بِذُنُوبِهِمْ أَيِ السَّالِفَةِ. وَالتَّكْرَارُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ. كُرِّرَ لِاخْتِلَافِ الْإِنْزَالِ، وَكَيْفِيَّتِهِ، وَزَمَانِهِ، بِآيَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ كَرَّرَ اسْمَهَ تَعَالَى تَفْخِيمًا، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْمُظْهَرِ مِنَ التَّفْخِيمِ مَا لَيْسَ فِي الْمُضْمَرِ. لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ. كَرَّرَ الْجُمْلَةَ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ. ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. كُرِّرَ لِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ، أَوْ لِلتَّفْخِيمِ لِشَأْنِ التَّأْوِيلِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ،

[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 إلى 14]

رَبَّنَا إِنَّكَ. كَرَّرَ الدُّعَاءَ تَنْبِيهًا عَلَى مُلَازَمَتِهِ، وَتَحْذِيرًا مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الِافْتِقَارِ. وَالتَّقْدِيِمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَذَلِكَ فِي ذِكْرِ إِنْزَالِ الْكُتُبِ، لَمْ يَجِيءِ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الزَّمَانِ، إِذِ التَّوْرَاةُ أَوَّلًا، ثُمَّ الزَّبُورُ، ثُمَّ الْإِنْجِيلُ، ثُمَّ الْقُرْآنُ. وَقُدِّمَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ، وَعِظَمِ ثَوَابِهِ وَنَسْخِهِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَبَقَائِهِ، وَاسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ. وَثَنَى بِالتَّوْرَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْكَثِيرَةِ، وَالْقَصَصِ، وَخَفَايَا الِاسْتِنْبَاطِ. وروى ... «1» : أَنَّ التَّوْرَاةَ حِينَ نَزَلَتْ كَانَتْ سَبْعِينَ وَسْقًا، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْإِنْجِيلِ ، لِأَنَّهُ كِتَابٌ فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ مَا لَا يُحْصَى، ثُمَّ تَلَاهُ بِالزَّبُورِ لِأَنَّ فِيهِ مَوَاعِظَ وَحِكَمًا لَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ الْإِنْجِيلِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الزَّبُورُ، وَفِي قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ أَكْثَرَ فِي الْعَوَالِمِ، وَأَكْبَرَ فِي الْأَجْرَامِ، وَأَكْبَرَ فِي الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَأَجْزَلَ فِي الْفَضَائِلِ لِطَهَارَةِ سُكَّانِهَا، بِخِلَافِ سُكَّانِ الْأَرْضِ، لِيُعْلِمَهُمُ، اطِّلَاعَهُ عَلَى خَفَايَا أُمُورِهِمْ، فَاهْتَمَّ بِتَقْدِيمِ مَحَلِّهِمْ عَسَى أَنْ يَزْدَجِرُوا عَنْ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا أَنْبَهَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، اسْتَحْيَا مِنْهُ. وَالِالْتِفَاتُ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَفِي قَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِآياتِنا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. وَالتَّأْكِيدُ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ فَأَكَّدَ بِلَفْظَةِ: هُمْ، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ قَوْلَهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ قَوْلَهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. وَالتَّوَسُّعُ بِإِقَامَةِ الْمَصْدَرِ مَقَامَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: هُدًى، وَالْفَرْقَانِ، أَيْ: هَادِيًا، وَالْفَارِقُ. وَبِإِقَامَةِ الْحَرْفِ مَقَامَ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوَّلَ: مِنْ، بِمَعْنَى: عِنْدَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي قَوْلِهِ: وَهَبْ، وَالْوَهَّابُ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 14] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

_ (1) مكان النقاط اسم غير واضح.

الْعِبْرَةُ: الِاتِّعَاظُ يُقَالُ: مِنْهُ اعْتَبَرَ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِشَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ يُشْبِهُهُ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: عِبْرُ النَّهْرِ، وَهُوَ شَطُّهُ، وَالْمِعْبَرُ: السَّفِينَةُ، وَالْعِبَارَةُ يُعَبِّرُ بِهَا إِلَى الْمُخَاطَبِ بِالْمَعَانِي، وَعَبَرْتَ الرُّؤْيَا مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا: نَقَلْتَ مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلْمِهَا إِلَى الرَّائِي أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَجْهَلُ: وَكَانَ الِاعْتِبَارُ انْتِقَالًا عَنْ مَنْزِلَةِ الْجَهْلِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُ، الْعَبْرَةُ، وَهِيَ الدَّمْعُ، لِأَنَّهَا تُجَاوِزُ الْعَيْنَ. الشَّهْوَةُ: مَا تَدْعُوَ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: اشْتَهَى، وَيُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فَيُقَالُ: شَهَوَاتٍ، وَوَجَدْتُ أَنَا فِي شِعْرِ الْعَرَبِ جَمْعَهَا عَلَى: شُهًى، نحو: نزوة ونزى، و: كوة وَكُوًى، عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ: كُوًى، جَمْعُ كَوَّةٍ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهَذَا مَعَ: قَرْيَةٍ وَقُرًى، ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ مِمَّا جَاءَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ، وَجُمِعَ عَلَى فُعَلٍ، وَاسْتَدْرَكْتُ أَنَا: شُهًى، وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي نَضْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: فَلَوْلَا الشُّهَى وَاللَّهِ كُنْتُ جَدِيرَةً ... بِأَنْ أَتْرُكَ اللَّذَّاتِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ الْقِنْطَارُ: فِنْعَالُ نُونُهُ زَائِدَةٌ، قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، فَيَكُونُ وَزْنُهُ: فِنْعَالًا مِنْ: قَطَرَ يَقْطُرُ وَقِيلَ: أَصْلٌ وَوَزْنُ فعلال، وفيه خِلَافٌ: أَهْوَ وَاقِعٌ عَلَى عَدَدٍ مَخْصُوصٍ؟ أَمْ هُوَ وَزْنٌ لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَرُ؟ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُقَالُ مِنْهُ: قَنْطَرَ الرجل إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قَنَاطِيرُ، أَوْ قِنْطَارٌ مِنَ الْمَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ، عَقَدْتُهُ وَأَحْكَمْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَنْطَرَةَ لِإِحْكَامِهَا. وَقِيلَ: قَنْطَرْتُهُ: عَبَّيْتُهُ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَنْطَرَةَ. فَشَبِهَ الْمَالَ الْكَثِيرَ الَّذِي يُعَبَّى بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِالْقَنْطَرَةِ.

الذَّهَبُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ يُجْمَعُ عَلَى ذِهَابٍ وَذُهُوبٍ. وقيل: الذهب جمع ذهبية. وَالْفِضَّةُ: مَعْرُوفَةٌ، وَجَمْعُهَا فِضَضٌ، فَالذَّهَبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الذَّهَابِ، وَالْفِضَّةُ مِنِ انْفَضَّ الشَّيْءُ: تَفَرَّقَ، وَمِنْهُ: فَضَضْتُ الْقَوْمَ. الْخَيْلُ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، بَلْ وَاحِدُهُ: فَرَسٌ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُ خَايِلٌ، كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاخْتِيَالِهَا فِي مَشْيِهَا. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ التَّخَيُّلِ، لِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ فِي صُورَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَقِيلَ: الِاخْتِيَالُ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّخَيُّلِ. النَّعَمُ: الْإِبِلُ فَقَطْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَلَا يُؤَنَّثُ، يَقُولُونَ هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: النَّعَمُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَإِذَا جُمِعَ انْطَلَقَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَاحِدُهَا نَعَمٌ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِنُعُومَةِ مَسِّهَا وَهُوَ لِينُهَا، وَمِنْهُ: النَّاعِمُ، وَالنَّعَامَةُ، وَالنَّعَامِيُّ: الْجَنُوبُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ هُبُوبِهَا. الْمَآبُ: مَفْعَلٌ مِنْ آبَ يؤوب إِيَابًا. أَيْ: رَجَعَ، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودَ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالُوا بَعْدَ وَقْعَةِ بِدْرٍ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا أَغْمَارًا، وَلَوْ حَارَبْتَنَا لَرَأَيْتَ رِجَالًا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ، فَحَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَمَّا غَلَبَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ، قَالَتِ الْيَهُودُ: هُوَ النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ الَّذِي فِي كِتَابِنَا، لَا تُهْزَمُ لَهُ رَايَةٌ. فَقَالَتْ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نَرَى أَمْرَهُ فِي وَقْعَةٍ أُخْرَى. فَلَمَّا كَانَتْ أُحُدٌ كَفَرُوا جَمِيعُهُمْ، وَقَالُوا: لَيْسَ بِالنَّبِيِّ الْمَنْصُورِ. وَقِيلَ: فِي أَبِي سُفْيَانَ وَقَوْمِهِ، جَمَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَدْرٍ، فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى قيل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وَأَنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ «1» نَاسَبَ ذَلِكَ الْوَعْدُ الصَّادِقُ اتِّبَاعَهُ هَذَا الْوَعْدَ الصَّادِقَ، وَهُوَ كَالتَّوْكِيدِ لِمَا قَبْلَهُ، فَالْغَلَبَةُ تَحْصُلُ بِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْحَشْرُ لِجَهَنَّمَ مَبْدَأُ كَوْنِهِمْ يَكُونُونَ لَهَا وَقُودًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: سَيَغْلَبُونَ وَيَحْشَرُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 10.

بِالتَّاءِ، خِطَابًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْمُولًا لِلْقَوْلِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِذْ ذَاكَ لَيْسَتْ مَحْكِيَّةً بِقُلْ، بَلْ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ آخَرَ، التَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ قَوْلِي سَيُغْلَبُونَ، وَإِخْبَارِي أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِمُ الْغَلَبَةُ وَالْهَزِيمَةُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ «1» فَبِالتَّاءِ أَخْبَرَهُمْ بِمَعْنَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ، وَبِالْيَاءِ أَخْبَرَهُمْ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ: الْفَرَّاءُ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، احْتِمَالًا أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي: سَيُغْلَبُونَ، فِي قِرَاءَةِ التَّاءِ عَلَى قُرَيْشٍ، أَيْ: قُلْ لِلْيَهُودِ سَتُغْلَبُ قُرَيْشٌ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ: الَّذِينَ كَفَرُوا، يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ، وَكُلٌّ قَدْ غُلِبَ بِالسَّيْفِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالذِّلَّةِ، وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَإِلَى مَعْنَاهَا الْغَايَةُ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ مُنْتَهَى حَشْرِهِمْ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ: إِلَى، فِي مَعْنَى: فِي، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ يُجْمَعُونَ فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى، قَالَهُ الرَّاغِبُ وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. وَكَثِيرًا مَا يُحْذَفُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الَّتِي قَبِلَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، إِذْ لَوْ كَانَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْجُمْلَةِ بِرَأْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْقَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمُفْرَدِ أَسْهَلُ مِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ: الْمِهَادُ، مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: بِئْسَمَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وكان المعنى عنده، و: بئس فِعْلُهُمُ الَّذِي أَدَّاهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَفِيهِ بُعْدٌ، وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا قَالَ فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ. فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ تَثْبِيتُ النُّفُوسِ وَتَشْجِيعُهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ مَا قَالَ، أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَبْعِدَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَبَعْضُ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أَمْوَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَنَحْنُ نَأْمَنُ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، حِينَ أَخْبَرَهُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْأَمْنَةِ الَّتِي تَأْتِي، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: فَأَيْنَ ذعار طيء الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ؟ الْحَدِيثَ بكماله.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 38.

وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكَافِرِينَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: سَتُغْلَبُونَ، بِالتَّاءِ. وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لَهُمْ، وَإِعْلَامًا بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُ دِينَهُ. وَقَدْ أَرَاكُمْ فِي ذَلِكَ مِثَالًا بِمَا جَرَى لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَغْتَرُّوا بِدُرْبَتِكُمْ فِي الْحَرْبِ، وَمَنَعَةِ حُصُونِكُمْ، وَمُجَالَبَتِكُمْ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَالِبُكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا حَلَّ بِأَهْلِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُلْحِقِ التَّاءَ: كَانَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُسْنِدَ إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَهُوَ الْآيَةُ، لِأَجْلٍ أَنَّهُ تَأْنِيثٌ مَجَازِيٌّ. وَازْدَادَ حُسْنًا بِالْفَصْلِ، وَإِذَا كَانَ الْفَصْلُ مُحَسَّنًا فِي الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ، فَهُوَ أَوْلَى فِي الْمُؤَنَّثِ الْمَجَازِيِّ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: حَضَرَ الْقَاضِي امْرَأَةً. وَقَالَ: إِنَّ امْرَأً غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيَا لَمَغْرُورُ وَقِيلَ: ذُكِرَ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْبَيَانُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ: بَرَهْرَهَةٌ رودة رَخْصَةٌ ... كَخُرْعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ ذَهَبَ إِلَى الْقَضِيبِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي فِئَتَيْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فِي: قِصَّةِ فِئَتَيْنِ، وَمَعْنَى: الْتَقَتَا، أَيْ لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ. فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ أَيْ: فِئَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِئَةٌ أُخْرَى تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، فَحَذَفَ مِنَ الْأُولَى ما أثبتت مُقَابِلَهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْأُولَى، فَذَكَرَ فِي الْأُولَى لَازِمَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ مَلْزُومَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ الْكُفْرُ. وَالْجُمْهُورُ بِرَفْعِ: فِئَةٌ، عَلَى الْقَطْعِ، التَّقْدِيرُ: إِحْدَاهُمَا، فَيَكُونُ: فِئَةٌ، عَلَى هَذَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ. وَقِيلَ: الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْتَقَتَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ: فِئَةٍ، بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ التَّفْصِيلِيِّ، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، كَمَا قَالَ: وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنٍ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ

وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ: كَافِرَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَفَضَهَا عَلَى الْعَطْفِ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ: فِئَةٌ، الْأُولَى بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ أَيْ: فِئَةٌ مِنْهُمَا تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَرْتَفِعُ أُخْرَى عَلَى وَجْهَيِ الْقَطْعِ إِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَإِمَّا عَلَى الخبر. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فِئَةً، بِالنَّصْبِ. قَالُوا: عَلَى الْمَدْحِ، وَتَمَامُ هَذَا الْقَوْلِ: إِنَّهُ انْتَصَبَ الْأَوَّلُ عَلَى الْمَدْحِ، وَالثَّانِي عَلَى الذَّمِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمْدَحُ فِئَةً تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَذُمُّ أُخْرَى كَافِرَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النَّصْبُ فِي: فِئَةٍ، عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَا يَكُونُ نَكِرَةً وَلَا مُبْهَمًا، وَأَجَازَ هُوَ، وَغَيْرُهُ قَبْلَهُ كَالزَّجَّاجِ: أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي: الْتَقَتَا، وَذَكَرَ: فِئَةً، عَلَى سَبِيلِ التَّوْطِئَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُقَاتِلُ، بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْفِئَةِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ: يُقَاتِلُ بِالْيَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ، قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَى الْفِئَةِ الْقَوْمُ فَرُدَّ إِلَيْهِ، وَجَرَى عَلَى لَفْظِهِ. يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ، تَرَوْنَهُمْ، بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَلْحَةُ: تُرَوْنَهُمْ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْخِطَابِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي: لَكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي: تَرَوْنَهُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: تَرَوْنَهُمْ، وَضَمِيرُ الْجَرِّ فِي: مِثْلَيْهِمْ، عَائِدٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ مِثْلَيْ أَنْفُسِهِمْ فِي الْعَدَدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْآيَةِ، أَنَّهُمْ رَأَوُا الْكُفَّارَ فِي مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَوْقَعَ الْمُسْلِمُونُ بِهِمْ. وَهَذِهِ حَقِيقَةُ التَّأْيِيدِ بِالنَّصْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ «1» وَاسْتُبْعِدَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ، وَآيَةَ الْأَنْفَالِ، قِصَّةً وَاحِدَةً، وَهُنَاكَ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يُجَامِعُ هَذَا التَّكْثِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى مَنْ قَرَأَ بِتَاءِ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: تَرَوْنَهُمْ لِلْكَافِرِينَ وَالْمَجْرُورُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ مِثْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتُبْعِدَ هَذَا إِذْ كَانَ التَّرْكِيبُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ: تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْكُمْ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 249.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي: مِثْلَيْهِمْ، عَلَى الْفِئَةِ الْمُقَاتِلَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْفِئَةَ الْكَافِرَةَ مِثْلَيِ الْفِئَةِ الْمُقَاتِلَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ. وَالْمَعْنَى: تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْكُمْ، وَهَذَا تَقْلِيلٌ، إذ كَانُوا نَيِّفًا عَلَى أَلْفٍ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي تَقْدِيرِ ثُلُثٍ. مِنْهُمْ، فَأَرَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ الْكَافِرِينَ فِي ضِعْفَيِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ «2» لتجترؤا عَلَيْهِمْ. وَإِذَنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي: لَكُمْ، لِلْكَافِرِينَ وَفِي: تَرَوْنَهُمْ، الْخِطَابُ لَهُمْ، وَالْمَنْصُوبُ وَالْمَجْرُورُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْ أَنْفُسِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدًا عَلَى الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ، أَيْ: مِثْلَيِ الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، فيكون الله تعالى قد أَرَى الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَضْعَافَ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ أَضْعَافَ الْكَافِرِينَ عَلَى قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَهَابُوهُمْ وَيَجْبُنُوا عَنْهُمْ، وَكَانَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ مَدَدًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَمَدَّهُمْ تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ، وَآيَةُ الْأَنْفَالِ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا التَّكْثِيرِ وَذَاكَ التَّقْلِيلِ بِاعْتِبَارِ حَالَيْنِ، قُلِّلُوا أَوَّلًا فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ حَتَّى يجترؤا عَلَى مُلَاقَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُثِّرُوا حَالَةَ الْمُلَاقَاةِ حَتَّى قَهَرُوا وَغَلَبُوا، كَقَوْلِهِ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «3» فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «4» وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الجملة صفة لقوله: وأخرى كافرة، وَضَمِيرُ الرَّفْعِ عَائِدٌ عَلَيْهَا عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ لَوْ عَادَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ: تَرَاهُمْ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ عَلَى: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَضَمِيرُ الْجَرِّ فِي: مِثْلَيْهِمْ، عَائِدٌ عَلَى فِئَةٍ أَيْضًا، وَذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْفِئَةِ، إِذْ لَوْ عَادَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: تَرَاهَا مِثْلَيْهَا، أَيْ تَرَى الْفِئَةُ الْكَافِرَةُ الْفِئَةَ الْمُؤْمِنَةَ فِي مِثْلَيْ عَدَدِ نَفْسِهَا. أَيْ: سِتِّمِائَةٍ وَنَيِّفٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ مِثْلَيْ أَنْفُسِ الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ، أَيْ أَلْفَيْنِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى الْفِئَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ وَالْمَجْرُورُ عَائِدًا عَلَى الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: تَرَى الْفِئَةُ الْمُؤْمِنَةُ الْفِئَةَ الْكَافِرَةَ مِثْلَيْ نَفْسِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَلَى الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ، أَيْ: مِثْلَيِ الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ.

_ (1) سورة يونس: 10/ 22. (2) سورة الأنفال: 8/ 66. (3) سورة الصافات: 37/ 24. (4) سورة الرحمن: 55/ 39.

وَالْجُمْلَةُ إِذْ ذَاكَ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرَّابِطُ الْوَاوَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الرَّابِطُ ضَمِيرُ النَّصْبِ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي: لَكُمْ، لِلْيَهُودِ فَالْآيَةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمُ احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ، وَتَثْبِيتًا لِصُورَةِ الْوَعْدِ السَّابِقِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ: سَيُغْلَبُونَ. فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ: لَوْ حَضَرْتُمْ، أَوْ: إِنْ كُنْتُمْ حَضَرْتُمْ، وَسَاغَ هَذَا الْخِطَابُ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، وَوُقُوعِ الْيَقِينِ بِهِ، لِكُلِّ إِنْسَانٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَضَمِيرُ الْفَاعِلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْفِئَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْفِئَةِ الْكَافِرَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ. وَالرُّؤْيَةُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ بَصَرِيَّةٌ تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَانْتَصَبَ: مِثْلَيْهِمْ، عَلَى الْحَالِ. قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَمَكِّيٌّ، وَالْمَهْدَوِيُّ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: رَأْيَ الْعَيْنِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى هَذَا انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رُؤْيَةٌ ظَاهِرَةٌ مَكْشُوفَةٌ لَا لَبْسَ فِيهَا مُعَايَنَةٌ كَسَائِرِ الْمُعَايَنَاتِ. وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَالثَّانِي هُوَ: مِثْلَيْهِمْ. وَرُدَّ هَذَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَأْيَ الْعَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ عِلْمٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يُعْلَمَ الشَّيْءُ شَيْئَيْنِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ انْتِصَابَهُ انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ التَّشْبِيهِيِّ، أَيْ: رَأْيًا مِثْلَ رَأْيِ الْعَيْنِ أَيْ يُشْبِهُ رَأْيَ الْعَيْنِ وَلَيْسَ فِي التَّحْقِيقِ بِهِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ هُنَا الِاعْتِقَادُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُحَالًا. وَإِذَا كَانُوا قَدْ أَطْلَقُوا الْعِلْمَ فِي اللُّغَةِ عَلَى الِاعْتِقَادِ دُونَ الْيَقِينِ، فَلِأَنْ يُطْلِقُوا الرَّأْيَ عَلَيْهِ أَوْلَى. قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ «1» أَيْ فَإِنِ اعْتَقَدْتُمْ إِيمَانَهُنَّ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: تَرَوْنَهُمْ، بِضَمِّ التَّاءِ، أَوِ الْيَاءِ. قَالُوا: فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ التَّضْعِيفِ فِي جَمْعِ الْكُفَّارِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ تَخْمِينًا وَظَنًّا، لَا يَقِينًا. فَلِذَلِكَ تُرِكَ فِي الْعِبَارَةِ ضَرْبٌ مِنَ الشَّكِّ، وَذَلِكَ أَنْ: أُرِيَ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ تَقَوُّلُهَا فِيمَا عِنْدَكَ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يُحْمَلَ الرَّأْيُ هُنَا عَلَى الْعِلْمِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَقَعُ الْعِلْمُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْمَعْلُومِ، كَذَلِكَ لَا يَقَعُ النَّظَرُ الْبَصَرِيُّ مُخَالِفًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْمِينِ وَالظَّنِّ، وَإِنَّهُ لِتَمَكُّنِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِمْ. شُبِّهَ برؤية العين.

_ (1) سورة الممتحنة: 60/ 10.

وَالرَّأْيُ مَصْدَرُ: رَأَى، يُقَالُ: رَأَى رَأْيًا وَرُؤْيَةً وَرُؤْيَا، وَيَغْلِبُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَةً فِي الْبَصَرِيَّةِ يَقَظَةً، وَرَأْيًا فِي الِاعْتِقَادِ، يُقَالُ: هَذَا رَأْيُ فُلَانٍ، قَالَ: رَأَى النَّاسُ إِلَّا مَنْ رَأَى مِثْلَ رَأْيِهِ ... خَوَارِجَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ وَمَعْنَى: مِثْلَيْهِمْ، قَدْرُهُمْ مَرَّتَيْنِ. وَزَعْمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ مَعْنَى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِمْ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: عِنْدِي أَلْفٌ وَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى مِثْلَيْهَا. وَغَلَّطَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ: إِنَّمَا مِثْلُ الشَّيْءِ مُسَاوٍ لَهُ. وَمِثْلَاهُ مُسَاوِيِهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَوْقَعَ الْفَرَّاءُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُمْ إِلَّا عَلَى عِدَّتِهِمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَرَاهُمُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِ عِدَّتِهِمْ بِجِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ رَأَى الصَّلَاحَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقْوَى قُلُوبُهُمْ بِذَلِكَ. وَالْأُخْرَى: أَنَّهُ آيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَيْسَانَ. وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ بِبَدْرٍ كَانُوا نَحْوَ الْأَلْفِ أَوْ تِسْعِمِائَةٍ، وَالْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَقِيلَ: وَثَلَاثَةَ عَشْرَةَ، لَكِنْ رَجَعَ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَرَجَعَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَتْبَاعٌ، وَنَاسٌ كَثِيرٌ حَتَّى بَقِيَ لِلْقِتَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَذَكَرَ اللَّهُ الْمِثْلَيْنِ، إِذْ أَمْرُهُمَا مُتَيَقَّنٌ لَمْ يَدْفَعْهُ أَحَدٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي قِتَالِ بَدْرٍ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ، وَقَدْ ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ الْأَلْفِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَوْمَ بَدْرٍ الْقَوْمُ أَلْفٌ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يَضْعُفُونَ عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى لَقَدْ قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَانِبِي تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً. فَأَسَرْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا. وَنُقِلَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أُسِرُوا، قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشْرَةَ، قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَاكُمْ إِلَّا تَضْعُفُونَ عَلَيْنَا! وَتَكْثِيرُ كُلِّ طَائِفَةٍ فِي عَيْنِ الْأُخْرَى، وَتَقْلِيلُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَقْتَيْنِ جَائِزٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُقَوِّيهِ بِعَوْنِهِ. وَقِيلَ: النَّصْرُ الْحُجَّةُ. وَنِسْبَةُ التَّأْيِيدِ إِلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَيَّدَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَفْعُولُ: مَنْ يَشَاءُ، مَحْذُوفٌ أَيْ: مَنْ يَشَاءُ نَصْرَهُ.

إِنَّ فِي ذلِكَ أَيَ: النَّصْرِ. وَقِيلَ: رُؤْيَةُ الْجَيْشِ مِثْلَيْهِمْ لَعِبْرَةً أَيِ اتِّعَاظًا وَدَلَالَةً. لِأُولِي الْأَبْصارِ إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، فَالْمَعْنَى: لِلَّذِينَ أَبْصَرُوا الْجَمْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ اعْتِقَادِيَّةً، فَالْمَعْنَى: لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الْقَابِلَةِ لِلِاعْتِبَارِ. زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: زُيِّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَهُ عُمَرُ، لِأَنَّهُ قَالَ حِينَ نَزَلَتِ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زينتها، فنزلت قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ «1» الْآيَةَ، وَمَعْنَى التَّزْيِينِ: خَلْقُهَا وَإِنْشَاءُ الْجِبِلَّةِ عَلَى الْمَيْلِ إليه، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «2» فَزَيَّنَهَا تَعَالَى لِلِابْتِلَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ: زَيَّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ. وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْحَسَنِ، قَالَ: مَنْ زَيَّنَهَا: مَا أَحَدٌ أَشَدُّ ذَمًّا لَهَا مِنْ خَالِقِهَا! وَيَصِحُّ إِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى اللَّهِ تعال بِالْإِيجَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلِانْتِفَاعِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ، وَتَحْصِيلِهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى تَوْبِيخِ مُعَاصِرِي رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمُ، الْمَفْتُونِينَ بِالدُّنْيَا، وَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِي الْقُرْآنِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُشْتَهَيَاتِ: بِالشَّهَوَاتِ، مُبَالَغَةً. إِذْ جَعَلَهَا نَفْسَ الْأَعْيَانِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى خِسَّتِهَا، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مُسْتَرْذَلَةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، يُذَمُّ مُتْبِعُهَا وَيُشْهَدُ لَهُ بِالِانْتِظَامِ فِي الْبَهَائِمِ، وَنَاهِيكَ لَهَا ذَمًّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» وَأَتَى بِذِكْرِ الشَّهَوَاتِ أَوَّلًا مَجْمُوعَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَفْسِيرِهَا شَهْوَةً شَهْوَةً لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُزَيَّنَ مَا هُوَ إِلَّا شَهْوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا غَيْرَ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْهَا، وَذَمٌّ لِطَالِبِهَا وَلِلَّذِي يَخْتَارُهَا عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَبَدَأَ فِي تَفْصِيلِهَا بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، بَدَأَ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ وَأَقْرَبُ وَأَكْثَرُ امْتِزَاجًا: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ» . وَيُقَالُ فِيهِنَّ فِتْنَتَانِ: قَطْعُ الرَّحِمِ وَجَمْعُ الْمَالِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَفِي الْبَنِينَ فِتْنَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جَمْعُ الْمَالِ. وَثَنَى بِالْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النِّسَاءِ، وَفُرُوعٌ عَنْهُنَّ، وَشَقَائِقُ النِّسَاءِ فِي الْفِتَنِ، الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 15. [.....] (2) سورة الكهف: 18/ 7.

وَإِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا ... أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلَى بَعْضِهِمْ ... لَامْتَنَعَتْ عَيْنِي مِنَ الْغَمْضِ الْمَرْءُ مَفْتُونٌ بِابْنِهِ وَبِشِعْرِهِ. وَقُدِّمُوا عَلَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّ حُبَّ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ أَكْثَرُ مِنْ حُبِّهِ مَالَهُ، وَحَيْثُ ذَكَرَ الِامْتِنَانَ وَالْإِنْعَامَ أَوِ الِاسْتِعَانَةَ وَالْغَلَبَةَ. قُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ عَلَى الْأَوْلَادِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالْبَنِينَ، الذُّكْرَانِ. وَقِيلَ يَشْمَلُ: الْإِنَاثَ، وَغَلَبَ التَّذْكِيرُ. وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ثُلِّثَ بِالْأَمْوَالِ لِمَا فِي الْمَالِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ غَالِبُ الشَّهَوَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَرْءَ يَرْتَكِبُ الْأَخْطَارَ فِي تَحْصِيلِهِ لِلْوَلَدِ. وَاخْتُلِفَ فِي: الْقِنْطَارِ، أَهْوَ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ، أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَقِيلَ: أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ. وَكُلُّ هَذِهِ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَوَّلُ: رَوَاهُ أُبَيٌّ، وَقَالَ بِهِ مُعَاذٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ. وَالثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ بِهِ. وَالثَّالِثُ: رَوَاهُ الْحَسَنُ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ ذَهَبًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: ثَمَانُونَ أَلْفًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَمَانِيَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَهِيَ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَلْفُ مِثْقَالِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِائَةُ رِطْلٍ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ: مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِائَةُ مَنٍّ، وَمِائَةُ رِطْلٍ، وَمِائَةُ مِثْقَالٍ، وَمِائَةُ دِرْهَمٍ. وَلَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ يَوْمَ جَاءَ، وَبِمَكَّةَ مِائَةُ رَجُلٍ قَدْ قَنْطَرُوا. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ، وَقَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي (الْمُحْكَمِ) . وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَهِيَ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي (الْمُحْكَمِ) الْقِنْطَارُ: بِلُغَةِ بَرْبَرَ: أَلْفُ مِثْقَالٍ. وَرَوَى أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً «1» قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْقِنْطَارَ هُوَ رطل ذهبا أَوْ فِضَّةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَظُنُّهُ وَهْمًا، وَإِنَّ القول مائة رطل،

_ (1) سورة النساء: 4/ 20.

فَسَقَطَتْ مِائَةٌ لِلنَّاقِلِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ: الْقِنْطَارُ بِلِسَانِ أَفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ: ثَمَانِيَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ وَهَذَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ عِنْدَنَا: مِائَةُ رِطْلٍ، وَالرِّطْلُ عِنْدَنَا، سِتَّةَ عَشَرَ أُوقِيَّةً. وَقَالَ أَبُو بَصْرَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مِلْءُ مِسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَكَذَا هُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَكَذَا هُوَ بِلُغَةِ الرُّومِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَالُ الْعَظِيمُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقِنْطَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَزْنٌ لَا يُحَدُّ، وَقَالَ الْحَكَمُ: الْقِنْطَارُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقِنْطَارُ مِعْيَارٌ يُوزَنُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الرِّطْلَ مِعْيَارٌ. وَيُقَالُ: لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَزْنُ قِنْطَارًا. أَيْ يَعْدِلُ الْقِنْطَارَ، وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلُ، وَالْقِنْطَارُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي قَدْرِ الْأُوقِيَّةِ. انْتَهَى. وَالْمُقَنْطَرَةُ: مُفَعْلَلَةُ، أَوْ مُفَيْعَلَةُ مِنَ الْقِنْطَارِ. وَمَعْنَاهُ الْمُجْتَمِعَةُ، كَمَا يَقُولُ: الْأُلُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَالْبَدْرَةُ الْمُبَدَّرَةُ. اشْتَقُّوا مِنْهَا وَصْفًا لِلتَّوْكِيدِ. وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ الْمُضَعَّفَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ تِسْعَةُ قَنَاطِيرَ، لِأَنَّهُ جَمْعُ جَمْعٍ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَكُونُ الْمُقَنْطَرَةُ أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ تَحَكُّمٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُقَنْطَرَةُ الْمَضْرُوبَةُ دَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ الْمُنَضَّدُ: الَّذِي بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: الْمَخْزُونَةُ الْمَدْخُورَةُ. وَقَالَ يَمَانٌ: الْمَدْفُونَةُ الْمَكْنُوزَةُ. وَقِيلَ: الْحَاضِرَةُ الْعَتِيدَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، مَا الْمَالُ إِلَّا مَا حَازَتْهُ الْعِيَانُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَبْيِينٌ لِلْقَنَاطِيرِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهَا، أَيْ كَائِنًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أَيِ: الرَّاعِيَةِ فِي الْمُرُوجِ، سَامَتْ سَرَحَتْ وَأَخَذَتْ سَوْمَهَا مِنَ الرَّعْيِ: أَيْ غَايَةَ جَهْدِهَا، وَلَمْ تُقْصَرْ عَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَيَكُونُ قَدْ عُدِّيَ الْفِعْلُ بِالتَّضْعِيفِ، كَمَا عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ فِي قَوْلِهِمْ: أَسْمَتْهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الرَّائِقَةُ مِنْ سِيمَا الْحَسَنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَوْمُهَا الْحُسْنُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ وَسِيمٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ، إِلَّا إِنِ ادَّعَى الْقَلْبَ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْكِسَائِيُّ: الْمُعَلَّمَةُ بِالشِّيَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَمِينٌ مُحِبٌّ لِلْعِبَادِ مُسَوَّمِ ... بِخَاتَمِ رَبٍّ طَاهِرٍ لِلْخَوَاتِمِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْهَا صُوفَةً أَوْ عَلَامَةً تُخَالِفُ سَائِرَ جَسَدِهَا لِتَبِينَ مِنْ غَيْرِهَا فِي الْمَرْعَى: وَقَالَ ابْنُ فَارِسَ فِي (الْمُجْمَلِ) الْمُسَوَّمَةُ: هِيَ الْمُرْسَلُ عَلَيْهَا رُكْبَانُهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَرِّدِ: الْمَعْرُوفَةُ فِي الْبُلْدَانِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْبَلْقُ. وَقِيلَ: ذَوَاتُ الْأَوْضَاحِ مِنَ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ. وَقِيلَ: هِيَ الْهَمَالِيجُ. وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعَاطِيفُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْقَنَاطِيرُ، إِلَى آخِرِهَا. غَيْرَ مَا أَتَى تَبْيِينًا مَعْطُوفًا عَلَى الشَّهَوَاتِ، أَيْ: وَحُبُّ الْقَنَاطِيرِ وَكَذَا وَكَذَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ، فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا فِي الشَّهَوَاتِ. وَلَمْ يَجْمَعِ الْحَرْثَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ «1» . ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَشَارَ: بِذَلِكَ، وَهُوَ مُفْرَدٌ إِلَى الْأَشْيَاءِ السَّابِقَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ، أَوِ الْمُتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالْمَعْنَى: تَحْقِيرُ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَى فَنَائِهَا وَفَنَاءِ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ فيها، وأدغم أبو عمرو في الْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ ثَاءٌ: وَالْحَرْثُ، فِي: ذَالِ: ذَلِكَ، وَاسْتُضْعِفَ لِصِحَّةِ السَّاكِنِ قَبْلَ الثَّاءِ. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَيِ: الْمَرْجِعُ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَفْنَى وَلَا يَنْقَطِعُ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا دَلَالَةً عَلَى إِيجَابِ الصَّدَقَةِ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ لِذِكْرِهَا مَعَ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ أَوِ النَّفَقَةُ، فَالنِّسَاءُ وَالْبَنُونَ فِيهِمُ النَّفَقَةُ، وَبَاقِيهَا فِيهَا الصَّدَقَةُ، قَالَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ. وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ: الْخِطَابُ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ هُمُ الْيَهُودُ، وَهَذَا مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَالتَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ: في يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالِاحْتِرَاسُ: فِي رَأْيَ الْعَيْنِ قالوا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 71.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 إلى 18]

لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَزْرِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ. وَالْإِبْهَامُ: فِي زُيِّنَ لِلنَّاسِ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: فِي وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ. وَالْحَذْفُ: فِي مَوَاضِعَ، وَهِيَ كُلُّ مَوْضِعٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَعْنَى بتقدير محذوف. [سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) الرِّضْوَانُ: مَصْدَرُ رَضِيَ، وَكَسْرُ رَائِهِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَضَمُّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَكْرٍ، وَقَيْسٍ، وَغَيْلَانَ. وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلِاسْمِ، وَمِنْهُ: رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ، وَالضَّمُّ لِلْمَصْدَرِ. السَّحَرُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا، قَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: الْوَقْتُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: تَسَحَّرَ أَكْلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاسْتَحَرَ: سَارَ فِيهِ. قَالَ: بَكَّرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرَتْ بِسَحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَاسْتَحَرَ الطَّائِرُ صَاحَ وَتَحَرَّكَ فِيهِ قَالَ: يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أَنْيَابِهَا ... إِذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَحِرْ وَأَسْحَرَ الرَّجُلُ وَاسْتَحَرَ، دَخَلَ فِي السَّحَرِ. قَالَ: وَأَدْلَجَ مِنْ طِيبَةَ مُسْرِعًا ... فَجَاءَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَسْحَرَا وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ السِّحْرُ: مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخَرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَشْعَارِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ السَّحَرَ يَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ فِيمَا بَعْدُ الْفَجْرِ. وَقِيلَ: السَّحَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ يَكُونُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ يَسْتَمِرُّ إِلَى الْإِسْفَارِ. وَأَصْلُ السَّحَرِ الْخَفَاءُ لِلِطْفَةٍ، وَمِنْهُ السحر والسحر.

قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ نَزَلَتْ حين قال عمر عند ما نَزَلَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ «1» يَا رَبِّ الْآنَ حِينَ زَيَّنْتَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ «2» ذَكَرَ الْمَآبَ وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ خَيْرٌ خَالٍ مِنْ شَوْبِ الْمَضَارِّ، وَبَاقٍ لَا يَنْقَطِعُ. وَالْهَمْزَةُ فِي: أَؤُنَبِّئُكُمْ، الْأُولَى هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى هَمْزَةِ المضارعة. وقرىء فِي السَّبْعَةِ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا، وَبِتَحْقِيقِهِمَا، وَإدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا، وَبِتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا. وَنَقَلَ وَرْشٌ الْحَرَكَةَ إِلَى اللَّامِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ. وَبِتَسْهِيلِهَا وَإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ عَنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا، وَتَقْوِيَةٌ لِنُفُوسِ تَارِكِهَا وَتَشْرِيفٌ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَلَمَّا قَالَ: ذَلِكَ مَتَاعُ، فَأَفْرَدَ، جَاءَ: بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ، فَأَفْرَدَ اسْمَ الْإِشَارَةِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُشَارًا بِهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ. فَهَذَا مُشَارٌ بِهِ إِلَى مَا أُشِيرَ بِذَلِكَ، و: خير، هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، وَيَكُونُ: مِنْ ذَلِكُمْ، صِفَةً لِمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا رَغِبُوا فِيهِ بَعْضًا مِمَّا زَهِدُوا فِيهِ. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: بخير من ذلكم، و: جنات، خبر مبتدأ محذوف أي: هُوَ جَنَّاتٌ، فَتَكُونُ ذَلِكَ تَبْيِينًا لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ: جَنَّاتٍ، بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنْ: بِخَيْرٍ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرِجْلٍ زيد، بالرفع و: زيد بِالْجَرِّ، وَجَوَّزَ فِي قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ أَنْ يَكُونَ: جَنَّاتٌ، مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ: أَعْنِي، وَمَنْصُوبًا عَلَى الْبَدَلِ عَلَى مَوْضِعِ بِخَيْرٍ، لِأَنَّهُ نُصِبَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: لِلَّذِينَ، خَبَرًا لِجَنَّاتٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مُرْتَفِعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ، ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ الْخَيْرَ لِمَنْ هُوَ، فَعَلَى هَذَا الْعَامِلِ فِي: عِنْدَ رَبِّهِمْ، الْعَامِلُ فِي: لِلَّذِينَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْعَامِلِ فِيهِ قَوْلُهُ: بِخَيْرٍ. خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَمَا قَبْلُهُ. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ بَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْمَقِرِّ، وَهُوَ الْجَنَّاتُ الَّتِي قَالَ فِيهَا وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «3» «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٌ» ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِهَا إِلَى ذِكْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأُنْسُ التَّامُّ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ اللذة

_ (2- 1) سورة آل عمران: 3/ 14. (3) سورة الزخرف: 43/ 71.

الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْفَرَحِ الرَّوْحَانِيِّ، حَيْثُ عَلِمَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى: «يَسْأَلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتِنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيَكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الِانْتِقَالُ مِنْ عَالٍ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، قَدْ ذَكَرَ تَعَالَى الْجَنَّاتَ وَالْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَةَ فَقَالَ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «1» يُعْنَى أَكْبَرُ مِمَّا ذَكَرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَهْلُ الْجَنَّةِ مُطَهَّرُونَ لِأَنَّ الْعُيُوبَ فِي الْأَشْيَاءِ عِلْمُ الْفَنَاءِ، وَهُمْ خُلِقُوا لِلْبَقَاءِ، وَخَصَّ النِّسَاءَ بِالطُّهْرِ لِمَا فِيهِنَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ فَضْلِ الْمَعَايِبِ وَالْأَذَى. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرِضْوَانٌ، بِالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي ثَانِي الْعُقُودِ، فَعَنْهُ خِلَافٌ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أَيْ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا، فَيُجَازِي كُلًا بِعَمَلِهِ، فَتَضَمَّنَتِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ أَفْهَمُ مُقَابِلَهُمْ فَخَتَمَ الْآيَةَ بِهَذَا. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِمْ، فَبَدَأَ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ التَّقْوَى، وَذَكَرَ دُعَاءَهُمْ رَبَّهُمْ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ ب: إن، مُبَالَغَةً فِي الْإِخْبَارِ، ثُمَّ سَأَلُوا الْغُفْرَانَ وَوِقَايَتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مُرَتِّبًا ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ، كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ مَنْ تَابَ وَأَطَاعَ اللَّهَ لَا يُدْخِلُهُ النَّارَ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ، فَكَانَ يَكُونُ السُّؤَالُ فِي أَنْ لَا يَفْعَلَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَنَظِيرُهَا، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً «2» الْآيَةَ، فَالصِّفَاتُ الْآتِيَةُ بَعْدَ هَذَا لَيْسَتْ شَرَائِطَ بَلْ هِيَ صِفَاتٌ تَقْتَضِي كَمَالَ الدَّرَجَاتِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَدَحَهُمْ تَعَالَى بِهَذَا الْقَوْلِ، وَفِيهِ تَزْكِيَةُ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِالطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ «3» فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ اسْمًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمُ التَّزْكِيَةَ بِالْإِيمَانِ، كَمَا لَمْ يَرْضَهَا بِسَائِرِ الطاعات، فالآية حجة على مَنْ جَعَلَ الطَّاعَاتِ مِنَ الإيمان،

_ (1) سورة براءة (التوبة) : 9/ 72. (2) سورة آل عمران: 3/ 193. (3) سورة النجم: 53/ 32.

وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِدْخَالَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ رَضِيَهُ مِنْهُمْ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ. انْتَهَى. قِيلَ: وَلَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّزْكِيَةِ وَلَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا، هُوَ اعْتِرَافٌ بِمَا أُمِرُوا بِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَزْكِيَةً مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ، لَا فِيمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ، وَلَا قَائِلٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ الْعَبْدُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا. وَأُعْرِبَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ، صِفَةً وَبَدَلًا وَمَقْطُوعًا لِرَفْعٍ أَوْ لِنَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ: الَّذِينَ اتَّقَوْا «1» أَوْ مِنْ تَوَابِعِ: الْعِبَادِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ لَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ بِالْقَوْلِ، أَخْبَرَ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى حَبْسِ النَّفْسِ عَلَى مَا هُوَ شَاقٌّ عَلَيْهَا مِنَ التَّكَالِيفِ، فَصَبَرُوا عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَةِ، وَعَنِ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى مُطَابَقَةِ الِاعْتِقَادِ فِي الْقَلْبِ لِلَّفْظِ النَّاطِقِ بِهِ اللِّسَانُ، فَهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا وَفِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَهَذَا رَاجِعٌ لِلْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ بِوَصْفِ الْقُنُوتِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ «2» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، ثُمَّ بِوَصْفِ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ هُوَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي نَفْعُهَا مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا لَا يَتَعَدَّى، فَأَتَى فِي هَذَا بِالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ، وَحُذِفَتْ مُتَعَلِّقَاتُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لِلْعِلْمِ بِهَا، فَالْمَعْنَى: الصَّابِرِينَ عَلَى تَكَالِيفِ رَبِّهِمْ، وَالصَّادِقِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَالْقَانِتِينَ لِرَبِّهِمْ، وَالْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي طَاعَتِهِ، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ اللَّهَ لِذُنُوبِهِمْ فِي الْأَسْحَارِ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ رَتَّبُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْوَى، أَخْبَرَ أَيْضًا عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ عِنْدَ اتِّصَافِهِمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ، هُمْ مُسْتَغْفِرُونَ بِالْأَسْحَارِ، فَلَيْسُوا يَرَوْنَ اتِّصَافَهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ مِمَّا يُسْقِطُ عَنْهُمْ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ، وَخَصَّ السَّحَرَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَغْفِرِينَ دَائِمًا، لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ الإجابة، كما صح

_ (1) سورة البقرة: 2/ 212. وآل عمران: 3/ 198، والأعراف: 7/ 201 والرعد: 13/ 35 والنحل: 16/ 628 ومريم: 19/ 72 والزمر: 39/ 20 و 61 و 73. (2) سورة البقرة: 2/ 116 والروم: 30/ 26.

فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ تَعَالَى، تَنَزَّهَ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، يَنْزِلُ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرِ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَطْلَعَ الْفَجْرُ» . وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ يَتَحَرَّوْنَ الْأَسْحَارَ لِيَسْتَغْفِرُوا فِيهَا، وَكَانَ السَّحَرُ مُسْتَحَبًّا فِيهِ الِاسْتِغْفَارُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَقُّ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِغْفَاءَةَ الْفَجْرِ مِنْ أَلَذِّ النَّوْمِ؟! وَلِأَنَّ النَّفْسَ تَكُونُ إِذْ ذَاكَ أَصْفَى، وَالْبَدَنَ أَقَلُّ تَعَبًا، وَالذِّهْنَ أَرَقُّ وَأَحَدُّ، إِذْ قَدْ أَجَمَّ عَنِ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ بِسُكُونِ بَدَنِهِ، وَتَرَكَ فِكْرَهُ بِانْغِمَارِهِ فِي وَارِدِ النَّوْمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَيَحْسُنُ طَلَبُ الْحَاجَةِ فِيهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1» انْتَهَى. وَمَعْنَاهُ، عَنِ الْحَسَنِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الْخَمْسَةُ هِيَ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وَهُمُ: الْمُؤْمِنُونَ، وَعُطِفَتْ بِالْوَاوِ وَلَمْ تُتْبَعْ دُونَ عَطْفٍ لِتَبَايُنِ كُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَةٍ، إِذْ لَيْسَتْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَنْزِلُ تَغَايُرُ الصِّفَاتِ وَتَبَايُنُهَا مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ فَعُطِفَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاوُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الصِّفَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِهِمْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا. انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ الْعَطْفَ فِي الصِّفَةِ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الصَّابِرِينَ: صَبَرُوا عَنِ المعاصي. وقيل: عن المصائب. وَقِيلَ: ثَبَتُوا عَلَى الْعَهْدِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: هُمُ الصَّائِمُونَ. وَقَالُوا فِي الصَّادِقِينَ: فِي الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ: فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالنِّيَّةِ. وَقِيلَ: فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالُوا فِي الْقَانِتِينَ: الْحَافِظِينَ لِلْغَيْبِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَائِمِينَ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: الْقَائِمِينَ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: الدَّاعِينَ الْمُتَضَرِّعِينَ. وَقِيلَ: الْخَاشِعِينَ. وَقِيلَ: الْمُصَلِّينَ. وَقَالُوا فِي الْمُنْفِقِينَ: الْمُخْرِجِينَ الْمَالَ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ. وَقِيلَ: فِي الْجِهَادِ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ. وَقَالَ ابْنُ قتيبة: في الصدقات. وقالوا في المستغفرين: السائلين الْمَغْفِرَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَقَتَادَةُ: السَّائِلِينَ الْمَغْفِرَةَ وَقْتَ فَرَاغِ الْبَالِ وَخِفَّةِ الْأَشْغَالِ، وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: الْمُصَلِّينَ بِالْأَسْحَارِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمُصَلِّينَ الصبح في جماعة.

_ (1) سورة فاطر: 35/ 10.

وَهَذَا الَّذِي فَسَّرُوهُ كُلُّهُ مُتَقَارِبٌ. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ حَبْرَيْنِ مِنَ الشَّامِ قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا أَشْبَهَ هَذِهِ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ الْخَارِجِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، ثُمَّ عَرَفَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّعْتِ، فَقَالَا: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَقَالَا: أَنْتَ أَحْمَدُ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» . فَقَالَا: نَسْأَلُكَ عَنْ شَهَادَةٍ إِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهَا آمَنَّا. فَقَالَ: «سَلَانِي» فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ الشَّهَادَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ، وَأَسْلَمَا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَرَّتْ سُجَّدًا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ لَمَّا حَاجُّوا فِي أَمْرِ عِيسَى. وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا تَرَكُوا اسْمَ الْإِسْلَامِ وَتُسَمَّوْا بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: دِينُنَا أَفْضَلُ مِنْ دِينِكَ، فَنَزَلَتْ. وَأَصْلُ: شَهِدَ، حَضَرَ، ثُمَّ صُرِفَتِ الْكَلِمَةُ فِي أَدَاءِ مَا تَقَرَّرَ عِلْمُهُ فِي النَّفْسِ، فَأَيُّ وَجْهٍ تَقَرَّرَ مِنْ حُضُورٍ أَوْ غَيْرِهِ. فَقِيلَ: مَعْنَى: شَهِدَ، هُنَا: أَعْلَمَ. قَالَهُ الْمُفَضَّلُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: قَضَى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَكَمَ، وَقِيلَ: بَيَّنَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: شَهِدَ بِإِظْهَارِ صُنْعِهِ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شُبِّهَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَبِمَا أَوْحَى مِنْ آيَاتِهِ النَّاطِقَةِ بِالتَّوْحِيدِ كَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ فِي الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ، وَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَاحْتِجَاجُهُمْ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: ذِكْرُ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِشَهَادَةِ مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ «1» انْتَهَى. وَمُشَارَكَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ عطفا عليه لصحة

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 1.

نِسْبَةِ الْإِعْلَامِ، أَوْ صِحَّةِ نِسْبَةِ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّةُ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِظْهَارَهُ تَعَالَى بِخَلْقِ الدَّلَائِلِ، وَإِظْهَارَ الْمَلَائِكَةِ بِتَقْرِيرِهَا لِلرُّسُلِ، وَالرُّسُلِ لِأُولِي الْعِلْمِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: شَهَادَةُ اللَّهِ بَيَانُهُ وَإِظْهَارُهُ، وَالشَّاهِدُ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي بَيَّنَ مَا عَلِمَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ دَلَالَاتِ التَّوْحِيدِ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ كَقَوْلِهِ: لُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا «1» أَيْ: أَقْرَرْنَا. فَنَسَّقَ شَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَهَادَةِ اللَّهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَعْنًى، لِتَمَاثُلِهِمَا لَفْظًا. كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» لِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَالدُّعَاءُ. وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَيَحْتَمِلُ التَّبْيِينَ، لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا وَبَيَّنُوا. انْتَهَى. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: شهد الله، بمعنى: قال اللَّهُ، بِلُغَةِ قَيْسِ بْنِ غيلان. وأُولُوا الْعِلْمِ قِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَقِيلَ: مُؤْمِنُوَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَقِيلَ: عُلَمَاءُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُونَ. وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْعِلْمِ: مَنْ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ عَالِمًا، لِأَنَّهُمْ يَنْقَسِمُونَ إِلَى: عَالِمٍ وَجَاهِلٍ، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ. فَإِنَّهُمْ فِي الْعِلْمِ سَوَاءٌ. وأَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ: مَفْعُولُ: شَهِدَ، وَفَصَلَ بِهِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ، لِيَدُلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَةِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يُنَسَّقَانِ مُتَجَاوِرَيْنِ. وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَعِلْمُهُمْ كُلُّهُ ضَرُورِيٌّ، بِخِلَافِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ ضَرُورِيٌّ وَاكْتِسَابِيٌّ. وَقَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: شُهِدَ، بِضَمِّ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ: أَنَّهُ، فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ أَيْ: شَهِدَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَأُلُوهِيَّتَهُ. وَارْتِفَاعُ: الْمَلَائِكَةُ، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوَ الْعِلْمِ يشهدون. وحذف الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ شَهِدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ فَإِنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَشَهِدَ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُهَلَّبِ، عَمُّ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ: شُهَدَاءَ اللَّهِ، عَلَى وَزْنِ: فُعَلَاءَ، جَمْعًا منصوبا.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 130. (2) سورة الأحزاب: 33/ 56. [.....]

قَالَ ابْنُ جِنِّي: عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْمُسْتَغْفِرِينَ. وَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَهُوَ جَمْعُ شُهَدَاءَ، وَجَمْعُ شَاهِدٍ: كَظُرَفَاءَ وَعُلَمَاءَ. وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي نَهِيكٍ: شُهَدَاءُ اللَّهِ، بِالرَّفْعِ أَيْ: هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ. وَفِي الْقِرَاءَتَيْنِ: شُهَدَاءُ، مُضَافٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ: شُهُدٌ بِضَمِّ الشِّينِ وَالْهَاءِ، جَمْعُ: شَهِيدٍ، كَنَذِيرٍ وَنُذُرٍ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَاسْمُ اللَّهِ مَنْصُوبٌ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ: أنه قرىء كَذَلِكَ بِضَمِّ الدَّالِ وَبِفَتْحِهَا مُضَافًا لِاسْمِ اللَّهِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَنَّهُ قرىء: شُهَدَاءُ لِلَّهِ، بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَنَصْبِهَا، وَبِلَامِ الْجَرِّ دَاخِلَةٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، فَوَجْهُ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِهِمْ، وَوَجْهُ رَفْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي شُهَدَاءَ، وجاز ذلك لوقوع الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ رَفْعِ الْمَلَائِكَةِ إِمَّا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَإِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ بِإِدْغَامِ: وَاوٍ، وَهُوَ فِي: وَاوِ، وَالْمَلَائِكَةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي: إِنَّهُ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَى: شَهِدَ، مَجْرَى: قَالَ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ كَسَرَ إِنَّ، أَوْ عَلَى أَنَّ مَعْمُولَ: شَهِدَ، هُوَ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «1» وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ، إِذْ فِيهَا تَسْدِيدٌ لِمَعْنَى الْكَلَامِ وَتَقْوِيَةٌ، هَكَذَا خَرَّجُوهُ. وَالضَّمِيرُ فِي: أَنَّهُ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى: اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضمير الشَّأْنِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ إِذَا خَفَّفْتَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، لِأَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ لَمْ تَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ إِلَّا ضَرُورَةً، وَإِذَا عَمِلَتْ فِيهِ لَزِمَ حَذْفُهُ. قَالُوا: وَانْتُصِبَ: قائِماً بِالْقِسْطِ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ: هُوَ، أَوْ مِنَ الْجَمِيعِ، عَلَى اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ صِفَةٌ لِلْمَنْفِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ. أَوْ: عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ: الْقَائِمُ، وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «2» أَيِ الْوَاصِبُ. وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَيِّمًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَذَكَرَ السَّجَاوَنْدِيُّ: أَنَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 19. (2) سورة النحل: 16/ 52.

قَائِمٌ، فَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ فَعَامِلُهَا شَهِدَ، إِذْ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَجْهِ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنْهُ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» . انْتَهَى. وَلَيْسَ مِنَ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا «2» وَلَا مِنْ بَابِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا. فَلَيْسَ قائِماً بِالْقِسْطِ بِمَعْنَى: شَهِدَ، وَلَيْسَ مؤكدا مضمون الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ فِي نَحْوِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، وَهُوَ زَيْدٌ شُجَاعًا. لَكِنْ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ قَلَقٌ فِي التَّرْكِيبِ، إِذْ يَصِيرُ كَقَوْلِكَ: أَكَلَ زَيْدٌ طَعَامًا وَعَائِشَةُ وَفَاطِمَةُ جَائِعًا. فَيَفْصِلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَفْعُولِ، وَبَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِالْمَفْعُولِ وَالْمَعْطُوفِ، لَكِنْ بِمَشِيئَةِ كَوْنِهَا كُلِّهَا مَعُمُولَةً لِعَامِلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ: هُوَ، فَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلْتُهُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ: شَهِدَ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ حَالًا مِنْ: هُوَ، فِي: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! لِأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ لَا تَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ زِيَادَةٌ فِي فَائِدَتِهَا عَامِلٌ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا. انْتَهَى. وَيَعْنِي. أَنَّ الْحَالَ الْمُؤَكِّدَةَ لَا يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا النَّصْبَ شَيْئًا مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: أَحَقُّ، أَوْ نَحْوُهُ مُضْمَرًا بَعْدَ الْجُمْلَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى مُلَازِمٍ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، أَوْ شَبِيهٍ بِالْمُلَازِمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْجُمْلَةِ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ، فَيُقَدَّرُ الْفِعْلُ: أُحَقُّ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، نَحْوَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، أَيْ: أُحَقُّ شُجَاعًا. وَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنْ غَيْرِهِ نَحْوَ: هُوَ زَيْدٌ شُجَاعًا، فَتَقْدِيرُهُ: أُحَقُّهُ شُجَاعًا. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ الْخَبَرُ بِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى الْمُسَمَّى، وَذَهَبَ ابْنُ خَرُوفٍ إِلَى أَنَّهُ الْمُبْتَدَأُ بِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى التَّنْبِيهِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْجَمِيعِ، عَلَى مَا ذُكِرَ، فَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ: جَاءَ الْقَوْمُ رَاكِبًا، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا لَا تقوله العرب.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 91. (2) سورة مريم: 19/ 15.

وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَدْحِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ أَلَيْسَ مِنْ حَقِّ الْمُنْتَصِبِ عَلَى الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدِ، «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» . إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نُدْعَى لِأَبٍ؟ قُلْتُ: قَدْ جَاءَ نَكِرَةً فِي قَوْلِ الْهُذَلِيِّ: وَيَأْوِي إِلَى نِسْوَةٍ عُطْلٍ ... وشعثا مَرَاضِيعَ مِثْلِ السَّعَالِي انْتَهَى سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ. وَفِي ذَلِكَ تَخْلِيطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ التَّرَحُّمِ، وَبَيْنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا، وَأَوْرَدَ مِثَالًا مِنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَدْحِ وَهُوَ: الْحَمْدُ لله الحميد، ومثالين من الْمَنْصُوبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَهُمَا: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» . إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نُدْعَى لِأَبٍ وَالَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ التَّرَحُّمِ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَةً، وَقَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهَا، وَقَدْ لَا يَصْلُحُ، وَقَدْ يَكُونُ نَكِرَةً كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ نَكِرَةً وَقَبْلَهَا مَعْرِفَةٌ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لَهَا نَحْوَ قَوْلِ النَّابِغَةِ: أَقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غيرها ... وجوه قرود يبتغي من يخادع فَانْتَصَبَ: وُجُوهَ قُرُودٍ، عَلَى الذَّمِّ. وَقَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَقَارِعُ عَوْفٍ. وَأَمَّا المنصوب على الاختصاص فنصبوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَكِرَةً وَلَا مُبْهَمًا، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ، أَوْ بِالْعَلَمِيَّةِ، أَوْ بِأَيٍّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ، أَوْ مُشَارِكٍ فِيهِ، وَرُبَّمَا أَتَى بَعْدَ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ. وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَنْفِيِّ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَنْفِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ؟ قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ، فَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَتَّسِعُونَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَوْجَهُ مِنِ انْتِصَابِهِ عَنْ فَاعِلِ: شَهِدَ، وَكَذَلِكَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَدْحِ. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ مَثَّلَ فِي الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: لَا رَجُلَ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا. وَيَعْنِي أَنَّ انْتِصَابَ: قَائِمًا، عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: إِلَهَ، أَوْ لِكَوْنِهِ انْتَصَبَ عَلَى الْمَدْحِ أَوْجَهُ مِنِ انْتِصَابِهِ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ: شَهِدَ، وَهُوَ اللَّهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ

بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ الْمَعْطُوفَانِ اللَّذَانِ هُمَا: الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، وَلَيْسَا مَعْمُولَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بل هما معمولان: لشهد، وَهُوَ نَظِيرُ: عَرَفَ زَيْدٌ أَنَّ هِنْدًا خَارِجَةٌ وَعَمْرٌو وَجَعْفَرٌ التَّمِيمِيَّةَ. فَيَفْصِلُ بَيْنَ هِنْدًا وَالتَّمِيمِيَّةَ بِأَجْنَبِيٍّ لَيْسَ دَاخِلًا فِيمَا عَمِلَ فِيهَا، وَفِي خَبَرِهَا بِأَجْنَبِيٍّ وَهُمَا: عَمْرٌو وَجَعْفَرٌ، الْمَرْفُوعَانِ بِعَرَفَ، الْمَعْطُوفَانِ عَلَى زَيْدٍ. وَأَمَّا الْمِثَالُ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ وَهُوَ: لَا رَجُلَ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، فَلَيْسَ نَظِيرَ تَخْرِيجِهِ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ: لَا رَجُلَ، فَهُوَ تَابِعٌ عَلَى الْمَوْضِعِ، فَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ. عَلَى أَنَّ فِي جَوَازِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَظَرًا، لأنه بدل، و: شجاعا، وَصْفٌ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ: إِذَا اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْوَصْفُ قُدِّمَ الْوَصْفُ عَلَى الْبَدَلِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى عَلَى الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْقَطْعِ فَلَا يَجِيءُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْبَصْرِيُّونَ. وَالْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ: شَهِدَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ، فَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: هُوَ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: هُوَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِأَجْنَبِيٍّ. وَهُوَ الْمَعْطُوفَانِ، لِأَنَّهُمَا مَعْمُولَانِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ فِي الْمَعْطُوفِ هُوَ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْعَطْفُ وَالْبَدَلُ قُدِّمَ الْبَدَلُ عَلَى الْعَطْفِ، لَوْ قُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ وَعَائِشَةُ أَخُوكَ، لَمْ يَجُزْ. إِنَّمَا الْكَلَامُ: جَاءَ زَيْدٌ أَخُوكَ وَعَائِشَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ جَازَ إِفْرَادُهُ بِنَصْبِ الْحَالِ دُونَ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعُمَرُ وَرَاكِبًا لَمْ يَجُزْ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا جَازَ هَذَا لِعَدَمِ الْإِلْبَاسِ، كَمَا جَازَ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً «1» إِنِ انْتَصَبَ: نَافِلَةً، حَالًا عَنْ: يَعْقُوبَ، وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَهِنْدٌ رَاكِبًا، جَازَ لِتَمَيُّزِهِ بِالذُّكُورَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ فِي: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو رَاكِبًا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّ الْحَالَ قُيِّدَ فِيمَنْ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ بِهِ الْفِعْلُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ قيدا فإنه يحمل

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 72.

عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَيَكُونُ رَاكِبًا حَالًا مِمَّا يَلِيهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَالِ وَالصِّفَةِ، لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو الطَّوِيلُ. لَكَانَ: الطَّوِيلُ، صِفَةً: لِعَمْرٍو، وَلَا تَقُولُ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، لِأَنَّهُ يَلْبَسُ بَلْ لَا لَبْسَ فِي هَذَا، وَهُوَ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ الْحَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي: نَافِلَةً، إِنَّهُ انْتَصَبَ حَالًا عَنْ: يَعْقُوبَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَنْ: يَعْقُوبَ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: نَافِلَةً، مَصْدَرًا كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ. وَمَعْنَاهُ: زِيَادَةً، فَيَكُونُ ذَلِكَ شَامِلًا لِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا زِيدَا لِإِبْرَاهِيمَ بَعْدَ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ، إِذْ كَانَ إِنَّمَا جَاءَ لَهُ إِسْحَاقُ عَلَى الْكِبَرِ، وَبَعْدَ أَنْ عَجَزَتْ سَارَّةُ وَأَيِسَتْ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَأَوْلَادُ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ مَدْيَانُ، وَيُقَالُ: مَدْيَنُ، وَيُشْنَاقُ، وَشُواحُ، وَهُوَ خَاضِعُ، وَرَمْرَانُ وَهُوَ مَحْدَانُ، وَمَدْنُ، وَيَقْشَانُ وَهُوَ مُصْعَبُ، فَهَؤُلَاءِ وَلَدُ إِبْرَاهِيمَ لِصُلْبِهِ. وَالْعَقِبُ الْبَاقِي مِنْهُمْ لِإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ لَا غَيْرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُرَادُ، بِأُولِي الْعِلْمِ، الَّذِينَ عَظَّمَهُمْ هَذَا التَّعْظِيمَ حَيْثُ جَمَعَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَدْلِهِ؟ قُلْتُ: هُمُ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَعَدْلَهُ بِالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِعُلَمَاءِ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ: الْمُعْتَزِلَةَ، وَهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ كَمَا أَنْشَدَنَا شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: أَنْشَدَنَا الصَّاحِبُ أَبُو حَامِدٍ عَبْدُ الْحُمَيْدِ بْنُ هِبَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ الْمُعْتَزِلِيُّ بِبَغْدَادَ لِنَفْسِهِ: لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمْ أُخْفِ صُرْعَتِي ... لَيْسَتْ كَمَا قَالَ فَتَى الْعَبْدِ أَنْ أَنْصُرَ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ فِي ... كُلِّ مَقَامٍ بَاذِلًا جُهْدِي وَأَنْ أُنَاجِيَ اللَّهَ مُسْتَمْتِعًا ... بِخَلْوَةٍ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ وَإِنَّ أَتْيَهُ الدَّهْرَ كِبْرًا عَلَى ... كُلِّ لَئِيمٍ أَصْعَرِ الْخَدِّ لِذَاكَ أَهْوَى لَا فَتَاةَ وَلَا ... خَمْرَ وَلَا ذِي مَيْعَةٍ نَهْدِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كُرِّرَ التَّهْلِيلُ تَوْكِيدًا وَقِيلَ: الْأَوَّلُ شَهَادَةُ اللَّهِ، وَالثَّانِي شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الْمَلَائِكَةِ عَنِ الْعَطْفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ رَافِعٍ، أَوْ عَلَى جَعْلِهِمْ مُبْتَدَأً، وَعَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَبَيْنَ التَّهْلِيلِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قائِماً بِالْقِسْطِ.

وَقِيلَ: الْأَوَّلُ جَارٍ مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَالثَّانِي جَارٍ مَجْرَى الْحُكْمِ وَقِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يَنْطَوِي عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ نَتِيجَتُهُمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ وَمَا شَهِدُوا بِهِ حَقٌّ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حَقٌّ، فَحَذَفَ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ كُلُّهُ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّمَا كَرَّرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لِأَنَّ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ أَشْرَفُ مِنْ صِفَاتِ التَّمْجِيدِ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا مُشَارِكٌ فِي أَلْفَاظِهَا الْعَبِيدُ، فَيَصِحُّ وَصْفُهُمْ بِهَا، وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ أَلْفَاظُ التَّنْزِيهِ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ، وَأَبْلَغُ مَا وُصِفَ بِهِ مِنَ التَّنْزِيهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتَكْرِيرُهُ هُنَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِكَوْنِ الثَّانِي قَطْعًا لِلْحُكْمِ، كَقَوْلِكَ: أَشْهَدُ أَنْ زَيْدًا خَارِجٌ، وَهُوَ خَارِجٌ. وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَسْبِقَ بِذِكْرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِلَى قَلْبِ السَّامِعِ تَشْبِيهٌ، إِذْ قَدْ يُوصَفُ بِهِمَا الْمَخْلُوقُ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَتَانِ مُقَرِّرَتَانِ لِمَا وَصَفَ بِهِ ذَاتَهُ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعَدْلِ، يَعْنِي أَنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالِبُهُ إِلَهٌ آخَرُ، الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَعْدِلُ عَنِ الْعَدْلِ فِي أَفْعَالِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ تَحْوِيمٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَارْتَفَعَ: الْعَزِيزُ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف أي: والعزيز، عَلَى الِاسْتِئْنَافِ قِيلَ: وَلَيْسَ بِوَصْفٍ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْجَمْعِ عَلَيْهِ، بَلْ ذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إِلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْغَائِبِ كَهَذَا يُوصَفُ. وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ: الْعَزِيزُ، أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ: هُوَ. وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَامَ يَتَهَجَّدُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ قَالَهَا مِرَارًا، فَسُئِلَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَى، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ: الْعَزِيزُ، إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، و: الحكيم، إِشَارَةٌ، إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَهُمَا الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا مَعَهُمَا، لِأَنَّ كَوْنَهُ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الْحَاجَاتِ، فَكَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْمُهِمَّاتِ، وَقُدِّمَ الْعَزِيزُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فِي طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، وَهَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمُسْتَدِلِّ. انْتَهَى كلامه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 إلى 22]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 الى 22] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أَيِ الْمِلَّةُ وَالشَّرْعُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ الدِّينَ الْمَقْبُولَ أَوِ النَّافِعَ أَوِ الْمُقَرَّرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ: أَنَّ، بِالْفَتْحِ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا فَائِدَةٌ هَذَا التَّوْكِيدِ؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ أَنَّ قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَوْحِيدٌ، وَقَوْلَهُ: قَائِمًا بِالْقِسْطِ، تَعْدِيلٌ، فَإِذَا أَرْدَفَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَقَدْ أَذِنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْعَدْلُ وَالتَّوْحِيدُ، وَهُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَشْبِيهٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، كَإِجَازَةِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ ذَهَبَ إِلَى الْجَبْرِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْجَوْرِ، لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ الله الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا بَيِّنٌ جَلِيٌّ كَمَا تَرَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ إِنْكَارِ الرُّؤْيَةِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لَهُ لَا لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي نَصْبِ: أَنَّهُ، وَأَنَّ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أن شِئْتَ جَعَلْتَهُ مِنْ بَدَلِ الشَّيْءَ مِنَ الشيء وهو هُوَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدين الذي هو الإسلام يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ وَهُوَ هُوَ فِي الْمَعْنَى؟ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ. وَقَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ بَدَلًا مِنَ الْقِسْطِ، لِأَنَّ الدِّينَ

الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ قِسْطٌ وَعَدْلٌ، فَيَكُونُ أَيْضًا مِنْ بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ. انْتَهَتْ تَخْرِيجَاتُ أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ، فَلِذَلِكَ يَشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى لَفْظِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ، وَعَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَرَّجَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِيبٍ بَعِيدٍ أَنْ يَأْتِيَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ: عَرَفَ زَيْدٌ أَنَّهُ لَا شُجَاعَ إلّا هو، و: بنو تَمِيمٍ، وَبَنُو دَارِمٍ مُلَاقِيًا لِلْحُرُوبِ لَا شُجَاعَ إِلَّا هُوَ الْبَطَلُ الْمُحَامِي، إِنَّ الْخَصْلَةَ الْحَمِيدَةَ هِيَ الْبَسَالَةُ. وَتَقْرِيبُ هَذَا الْمِثَالِ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَائِشَةَ، وَالْعُمَرَانِ حَنَقَا أُخْتَكَ. فَحَنَقَا: حَالٌ مِنْ زَيْدٍ، وَأُخْتَكَ بَدَلٌ مِنْ عَائِشَةَ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِالْعَطْفِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَبِالْحَالِ لِغَيْرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ بِأَجْنَبِيٍّ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ. وَخَرَّجَهَا الطَّبَرِيُّ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، التَّقْدِيرُ: وَأَنَّ الدِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ضَعْفِهِ، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّهُ مُتَنَافِرُ التَّرْكِيبِ مَعَ إِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ الْمَرْفُوعَيْنِ بِالْمَنْصُوبِ الْمَفْعُولِ، وَبَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ بِالْمَرْفُوعِ الْمُشَارِكِ الْفَاعِلَ فِي الْفَاعِلِيَّةِ، وَبِجُمْلَتَيِ الِاعْتِرَاضِ، وَصَارَ فِي التَّرْكِيبِ دُونَ مُرَاعَاةِ الْفَصْلِ، نَحْوَ: أَكَلَ زَيْدٌ خُبْزًا وَعَمْرٌو وَسَمَكًا. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: أَكَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو خبرا وَسَمَكًا. فَإِنْ فَصَلْنَا بَيْنَ قَوْلِكَ: وَعَمْرٌوَ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: وَسَمَكًا، يَحْصُلُ شَنَعِ التَّرْكِيبِ. وَإِضْمَارُ حَرْفِ الْعَطْفِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَتَا مَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: شَهِدَ الله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَالْبَدَلُ هُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى، فَكَانَ بَيَانًا صَرِيحًا، لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ. انْتَهَى. وَهَذَا نَقْلُ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ دُونَ اسْتِيفَاءٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخُرِّجَ عَلَى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ هُوَ مَعْمُولُ: شَهِدَ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ اعْتِرَاضَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالثَّانِي: بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْحَالِ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ لشهد وَهُوَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَإِذَا أَعْرَبْنَا: الْعَزِيزُ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَانَ ذَلِكَ ثَلَاثَ اعْتِرَاضَاتٍ، فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ لَهَا بِنَظِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا حُمِّلَ عَلَى ذَلِكَ الْعُجْمَةُ، وَعَدَمُ الْإِمْعَانِ فِي تَرَاكِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَحِفْظِ أَشْعَارِهَا. وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي النَّحْوُ وَحْدَهُ فِي عِلْمِ الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالتَّطَبُّعِ بِطِبَاعِهَا، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ

ذَلِكَ، وَالَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ: أَنَّ الدِّينَ، بِالْفَتْحِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَعْمُولِ: لِلْحَكِيمِ، عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: بِأَنَّ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ: كَالْعَلِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْخَبِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1» وَقَالَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «2» وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَاكِمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. وَلَمَّا شَهِدَ تَعَالَى لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، حُكِمَ أَنَّ الدِّينَ الْمَقْبُولَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» وَعَدَلَ من صِيغَةِ الْحَاكِمِ إِلَى الْحَكِيمِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، وَلِمُنَاسَبَةِ الْعَزِيزِ، وَمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ تَكْرَارُ حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ، إِذْ حَكَمَ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ بِذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ حَمَلْتَ الْحَكِيمَ عَلَى أَنَّهُ مُحَوَّلٌ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَلَّا جَعَلْتَهُ فَعَيْلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، فَيَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُحْكِمَ، كَمَا قَالُوا فِي: أَلِيمٍ، إِنَّهُ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَفِي سَمِيعٍ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فَعِيلًا يَأْتِي بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ: أَلِيمٌ وَسَمِيعٌ، عَلَى غَيْرِ مُفْعِلٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ النُّدُورِ وَالشُّذُوذِ وَالْقِلَّةِ بِحَيْثُ لَا يَنْقَاسُ، وَأَمَّا فَعِيلٌ الْمُحَوَّلُ مِنْ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ فَهُوَ مُنْقَاسٌ كَثِيرٌ جِدًّا، خَارِجٌ عَنِ الْحَصْرِ: كَعَلِيمٍ وَسَمِيعٍ وَقَدِيرٍ وَخَبِيرٍ وَحَفِيظٍ، فِي أَلْفَاظٍ لَا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الْقُحَّ الْبَاقِيَ عَلَى سَلِيقَتِهِ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ حَكِيمٍ إِلَّا أَنَّهُ مُحَوَّلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاكِمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا. نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةُ هَذَا التَّرْكِيبِ السَّابِقِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقِيلَ لَهُ التِّلَاوَةُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «4» فَقَالَ: هَكَذَا يَكُونُ عَزَّ فَحَكَمَ، ففهم من حكم أَنَّهُ مُحَوَّلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاكِمٍ، وَفَهِمَ هَذَا الْعَرَبِيُّ حُجَّةً قَاطِعَةً بِمَا قُلْنَاهُ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ سَهْلٌ سَائِغٌ جِدًّا، يُزِيلُ تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ والتركيبات المعقدة الَّتِي يُنَزَّهُ كِتَابُ اللَّهِ عنها.

_ (1) سورة هود: 11/ 1. (2) سورة النمل: 27/ 6. (3) سورة آل عمران: 3/ 85. (4) سورة المائدة: 5/ 38.

وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَذَلِكَ نَقُولُ، وَلَا نَجْعَلُ: أَنَّ الدِّينَ مَعْمُولًا: لشهد، كَمَا فَهِمُوا، وَأَنَّ: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، اعْتِرَاضٌ، وَأَنَّهُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْحَالِ وَبَيْنَ: أَنَّ الدِّينَ، اعْتِرَاضٌ آخَرُ، أَوِ اعْتِرَاضَانِ، بَلْ نَقُولُ: مَعْمُولُ: شَهِدَ، إِنَّهُ بِالْكَسْرِ عَلَى تَخْرِيجِ مَنْ خَرَّجَ أَنَّ شَهِدَ، لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ كُسِرَ مَا بَعْدَهَا إِجْرَاءً لَهَا مَجْرَى الْقَوْلِ، أَوْ نَقُولُ: إِنَّهُ مَعْمُولُهَا، وَعُلِّقَتْ وَلَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ فِي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِخِلَافٍ أَنْ لَوْ كَانَ مُثْبَتًا، فَإِنَّكَ تَقُولُ: شَهِدْتُ إِنَّ زيدا المنطلق، فَيُعَلَّقُ بِإِنَّ مَعَ وُجُودِ اللَّامِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ اللَّامُ لَفُتِحَتْ إِنَّ فَقُلْتَ: شَهِدْتُ أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، فَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ: أَنَّهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْوِ التَّعْلِيقَ، وَمَنْ كَسَرَ فَإِنَّهُ نَوَى التَّعْلِيقَ. وَلَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ فِي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالْإِسْلَامُ: هُنَا الْإِيمَانُ وَالطَّاعَاتُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ قَتَادَةُ، ومحمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ بِالْإِيمَانِ وَمُرَادُهُمَا أَنَّهُ مَعَ الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنْ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي تَمْيِيزٍ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، أَدْخَلَهُ بَعْضُ مَنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ فِي القراآت، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ: أَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ أَمْ هُمَا مُخْتَلِفَانِ؟ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أَيْ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَوْ هُمَا وَالْمَجُوسُ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: فَعَلَى أَنَّهُمُ الْيَهُودُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، الَّذِينَ اختلفوا فيه التَّوْرَاةِ. قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَفَاةُ، اسْتَوْدَعَ سَبْعِينَ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ عِنْدَ كُلِّ حَبْرٍ جُزْءٌ، وَاسْتَخْلَفَ يُوشَعُ، فَلَمَّا مَضَى ثَلَاثَةُ قُرُونٍ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمْ. وقيل: الذين اختلفوا فيه نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بُعِثَ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ لِأَنَّ ذَلِكَ حُقِّقَ فِي بَنِي إِسْحَاقَ. وَعَلَى أَنَّهُمُ النَّصَارَى، وَهُوَ قَوْلُ محمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ، فَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ: دِينُهُمْ، أَوْ أَمْرُ عِيسَى، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَاخْتَلَفُوا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْإِسْلَامَ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، فَثَلَّثَتِ

النَّصَارَى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» ، وَقَالُوا: كُنَّا أَحَقَّ بِأَنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ فِينَا مِنْ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ، وَنَحْنُ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهَذَا تَجْوِيرٌ لِلَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ آمَنَ بِهِ بَعْضٌ وَكَفَرَ بَعْضٌ، وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِمُوسَى، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ هُوَ: الْإِسْلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى تُنَكِّبُوهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَالِاتِّفَاقِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، لَكِنْ عَمُوا عَنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ وَسُلُوكِهِ بِالْبَغْيِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَسَدِ، وَالِاسْتِئْثَارِ بِالرِّيَاسَةِ، وَذَهَابِ كُلٍّ مِنْهُمْ مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ حَتَّى يَصِيرَ رَأْسًا يُتْبَعُ فِيهِ، فَكَانُوا مِمَّنْ ضَلَّ عَلَى عِلْمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ «2» . بَغْياً بَيْنَهُمْ وَإِعْرَابُ: بَغْيًا، فَإِنَّهُ أَتَى بَعْدَ إِلَّا شَيْئَانِ ظَاهِرَهُمَا أَنَّهُمَا مُسْتَثْنَيَانِ، وَتَخْرِيجُ ذَلِكَ: فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَلَا يُخَصُّ بِالْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ. وَآيَاتُهُ، هُنَا قِيلَ: حُجَجُهُ، وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَمَا فِيهِمَا مِنْ وَصْفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: سَرِيعُ الْحِسَابِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْعَائِدِ مِنْهَا عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: سَرِيعُ الْحِسَابِ لَهُ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ الضَّمِيرُ فِي: حَاجُّوكَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، قَدِمُوا الْمَدِينَةَ للمحاجة. وظاهر

_ (1) سورة التوبة: 9/ 30. (2) سورة البقرة: 2/ 213.

الْمِحَاجِّ فِيهِ أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ السَّابِقُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَالْمَعْنَى: انْقَدْتُ وَأَطَعْتُ وَخَضَعْتُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَعَبَّرَ: بِالْوَجْهِ، عَنْ جَمِيعِ ذَاتِهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَإِذَا خَضَعَ الْوَجْهُ فَمَا سِوَاهُ أَخْضَعُ وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ، وَسَبَقَهُ الْفَرَّاءُ إِلَى مَعْنَاهُ: مَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ، أَيْ: دِينِيَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ كَالْوَجْهِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ، وَجَاءَ فِي التفسير أقوال لَكُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ نُعَيْمٍ: وَقَدْ أَجْمَعْتُمْ عَلَى أَنَّهُ مُحِقٌّ قالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَسْلَمْتُ وَجْهِيَ، أَيْ: أَخْلَصْتُ نَفْسِيَ وَعَمَلِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَمْ أَجْعَلْ لَهُ شَرِيكًا بِأَنْ أَعْبُدَهُ وَأَدْعُوَ إِلَهًا مَعَهُ، يَعْنِي: أَنَّ دِينِي التَّوْحِيدُ، وَهُوَ الدِّينُ الْقَدِيمُ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَكُمْ صِحَّتُهُ، كَمَا ثَبَتَ عِنْدِي. وَمَا جِئْتُ بِشَيْءٍ بَدِيعٍ حَتَّى تُجَادِلُونِي فِيهِ، وَنَحْوِهِ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ «2» الْآيَةَ، فَهُوَ دَفْعٌ لِلْمُجَادَلَةِ. انْتَهَى. وَفِي تَفْسِيرِهِ أَطْلَقَ الْوَجْهَ عَلَى النَّفْسِ وَالْعَمَلِ مَعًا، إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسِيرَ اللَّفْظِ، فَيَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: فِي كَيْفِيَّةِ إِيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِعْرَاضٌ عَنِ الْمُحَاجَّةِ، إِذْ قَدْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى صِدْقِهِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَذَلِكَ بِإِظْهَارِ المعجزات بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ «3» عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي إِلَهِيَّةِ عِيسَى، وَبِقَوْلِهِ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ «4» عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَذَكَرَ شُبَهَ الْقَوْمِ وَأَجَابَ عَنْهَا، وَذَكَرَ مُعْجِزَاتٍ أُخْرَى، وَهِيَ مَا شَاهَدُوهُ يوم بدر، بين الْقَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِظْهَارٌ لِلدَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا مُتَمَسِّكٌ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالْخُلْفُ فِيمَا وَرَاءَهُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْإِثْبَاتُ. وَأَيْضًا كَانُوا مُعَظِّمِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَتْبَعَ مِلَّتَهُ، وَهُنَا أُمِرَ أَنْ يَقُولَ كَقَوْلِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ، أَيْ: أَنَا مُتَمَسِّكٌ بِطَرِيقِ مَنْ هُوَ عِنْدَكُمْ مُحِقٌّ، وَهَذَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَأَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامُ، قِيلَ لَهُ: إن

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 78 و 79. (2) سورة آل عمران: 3/ 64. (3) سورة آل عمران: 3/ 2 وقد وردت في سورة البقرة: 2/ 255. [.....] (4) سورة آل عمران: 3/ 3.

نَازَعُوكَ فَقُلِ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، فَهَذَا تَمَامُ الْوَفَاءِ بِلُزُومِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَصَحَّ أَنَّ الدِّينَ الْكَامِلَ الْإِسْلَامُ، وَأَيْضًا فَالْآيَةُ مُنَاسِبَةٌ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ «1» أَيْ: لَا تَجُوزُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِمَنْ يَكُونُ نَافِعًا وَضَارًّا وَقَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَعِيسَى لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ. وَلَيْسَ أَوَاخِرُ كَلَامِهِ بِظَاهِرَةٍ مِنْ مُرَادِ الْآيَةِ وَمَدْلُولِهَا. وَفَتَحَ الْيَاءَ: مِنْ: وَجْهِيَ، هُنَا، وَفِي الْأَنْعَامِ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَسَكَّنَهَا الْبَاقُونَ. وَمَنِ اتَّبَعَنِ قِيلَ: مَنْ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَمَعْنَاهُ: جَعَلْتُ مَقْصِدِي بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَلِمَنِ اتَّبَعَنِي بِالْحِفْظِ لَهُ، وَالتَّحَفِّي بِتَعَلُّمِهِ، وَصِحَّتِهِ. فَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَطْفًا عَلَى الْفَاعِلِ فِي: أَسْلَمْتُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ قَالَ: وَحَسَنٌ لِلْفَاصِلِ، يَعْنِي أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الْمَرْفُوعِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، عَلَى رأي البصريين. إلّا إن فَصَلَ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَالْمَعْطُوفِ، فَيَحْسُنُ. وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا، وَبَدَأَ بِهِ. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ إِذَا عُطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي نَحْوِ: أَكَلْتُ رَغِيفًا وَزَيْدٌ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَكْلِ الرَّغِيفِ، وَهُنَا لَا يُسَوَّغُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا هُمْ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَهُمْ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ، فَالَّذِي يَقْوَى فِي الْإِعْرَابِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ مِنْهُ الْمَفْعُولُ، لَا مُشَارِكَ فِي مَفْعُولِ: أَسْلَمْتُ، التَّقْدِيرُ: وَمَنِ اتَّبَعْنِي وَجْهَهُ. أَوْ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَمَنِ اتَّبَعَنِي كَذَلِكَ، أَيْ: أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ، كَمَا تَقُولُ: قَضَى زَيْدٌ نَحْبَهُ وَعَمْرٌو، أَيْ: وَعَمْرٌو كَذَلِكَ. أَيْ: قَضَى نَحْبَهُ. وَمِنَ الْجِهَةِ الَّتِي امْتَنَعَ عَطْفُ: وَمَنْ، عَلَى الضَّمِيرِ إِذَا حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ دُونَ

_ (1) سورة مريم: 19/ 42. (2) سورة البقرة: 2/ 131.

تَأْوِيلٍ، يَمْتَنِعُ كَوْنُ: مَنْ، مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَكَلْتُ رَغِيفًا وَعَمْرًا، أَيْ: مَعَ عَمْرٍو، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُشَارِكٌ لَكَ فِي أَكْلِ الرَّغِيفِ، وَقَدْ أَجَازَ هَذَا الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُ حَذْفِ الْمَفْعُولِ مَعَ كَوْنِ الْوَاوِ وَاوَ الْمَعِيَّةِ. وَأَثْبَتَ يَاءَ: اتَّبَعَنِي، فِي الْوَصْلِ أَبُو عَمْرٍو، وَنَافِعٌ، وَحَذْفَهَا الْبَاقُونَ، وَحَذْفُهَا أَحْسَنُ لِمُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهَا رَأْسُ آية كقوله: أكرمن وأهانن، فَتُشْبِهُ قَوَافِيَ الشَّعْرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَهَلْ يَمْنَعَنِّي ارْتِيَادُ الْبِلَا ... دِ مِنْ حَذَرِ الْمَوْتِ أَنْ يَأْتِيَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هُمُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِاتِّفَاقٍ وَالْأُمِّيِّينَ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَأَسْلَمْتُمْ تَقْدِيرٌ فِي ضِمْنِهِ الْأَمْرُ. وقال الزجاج: تهدّد. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حسن، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَأَسْلَمْتُمْ لَهُ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ أَتَاكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ مَا يُوجِبُ الْإِسْلَامَ وَيَقْتَضِي حُصُولَهُ لَا مَحَالَةَ، فَهَلْ أَسْلَمْتُمْ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ؟ وَهَذَا كقولك لِمَنْ لَخَّصْتَ لَهُ الْمَسْأَلَةَ، وَلَمْ تُبْقِ مِنْ طُرُقِ الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ طَرِيقًا إِلَّا سَلَكْتَهُ، هَلْ فَهِمْتَهَا لَا أُمَّ لَكَ؟ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1» بعد ما ذَكَرَ الصَّوَارِفَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ اسْتِقْصَارٌ وَتَغْيِيرٌ بِالْمُعَانَدَةِ وَقِلَّةِ الْإِنْصَافِ، لِأَنَّ الْمُنْصِفَ إِذَا تَجَلَّتْ لَهُ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ إِذْعَانُهُ لِلْحَقِّ، وَلِلْمُعَانِدِ بَعْدَ تَجَلِّي الْحُجَّةِ مَا يَضْرِبُ أَسَدَادًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِذْعَانِ، وَكَذَلِكَ فِي: هَلْ فَهِمْتَهَا؟ تَوْبِيخٌ بِالْبَلَادَةِ وَكَلَّةِ الْقَرِيحَةِ، وَفِي فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2» بِالتَّقَاعُدِ عَنِ الِانْتِهَاءِ وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلَى تَعَاطِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، وَأَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الْخَطَابَةِ. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا أَيْ إِنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ، وَعَبَّرَ بصيغة الماضي المصحوب بقد الدَّالَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ مُبَالَغَةً فِي الْإِخْبَارِ بِوُقُوعِ الْهُدَى، وَمِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ. انْتَهَى. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أَيْ: هُمْ لَا يَضُرُّونَكَ بِتَوَلِّيهِمْ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْتَ إِلَّا تَنْبِيهُهُمْ بِمَا تُبَلِّغُهُ إِلَيْهِمْ مِنْ طَلَبِ إِسْلَامِهِمْ وَانْتِظَامِهِمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: إنها آية

_ (2- 1) سورة المائدة: 5/ 91.

مواعدة منسوخة بآية السيف، ولا نحتاج إِلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخِ النُّزُولِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ وُفُودُ وَفْدِ نَجْرَانَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ بِقِتَالٍ وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. وفيه وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ تَوَلَّى عَنِ الْإِسْلَامِ، وَوَعْدٌ بِالْخَيْرِ لِمَنْ أَسْلَمَ، إِذْ مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ عَبِيدِهِ فَيُجَازِيهِمْ بِمَا تَقْتَضِي حِكْمَتُهُ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ هِيَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ محمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ، وَصَفَ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الْإِسْلَامِ وَكَفَرَ بثلاث صفات: إحداهما: كُفْرُهُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، جَعَلَ كُفْرَهُمْ بِبَعْضٍ مِثْلَ كُفْرِهِمْ بِالْجَمِيعِ، أَوْ يَجْعَلُ: بِآيَاتِ اللَّهِ، مَخْصُوصًا بِمَا يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْفَهْمُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. الثَّانِيَةُ: قَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ قَتْلِهِمْ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ «1» وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: النَّبِيِّينَ، لِلْعَهْدِ. وَالثَّالِثَةُ: قَتْلُ مَنْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ بدىء فِيهَا بِالْأَعْظَمِ فَالْأَعْظَمِ، وَبِمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْآخَرِ: فَأَوَّلُهَا: الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَثَانِيهَا: قَتْلُ مَنْ أَظْهَرَ آيَاتِ اللَّهِ وَاسْتَدَلَّ بِهَا. وَالثَّالِثُ: قَتْلُ أَتْبَاعِهِمْ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ وَعِيدًا لِمَنْ كَانَ فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ جَاءَتِ الصِّلَةُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ: إن، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ ضُمِّنَ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ، وَلَمَّا كَانُوا عَلَى طَرِيقَةِ أَسْلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، نُسِبَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُمْ أَرَادُوا قَتْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتْلَ أَتْبَاعِهِ، فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَجَازًا أَيْ: مِنْ شَأْنِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حِكَايَةً عَنْ حَالِ آبَائِهِمْ وَمَا فَعَلُوهُ فِي غَابِرِ الدَّهْرِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ، وَيَكُونَ فِي ذَلِكَ إِرْذَالٌ لِمَنِ انْتَصَبَ لِعَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُمْ سَالِكُونَ فِي ذَلِكَ طَرِيقَةَ آبَائِهِمْ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ آبَاءَكُمُ الَّذِينَ أَنْتُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِدِينِهِمْ كَانُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي أَنْتُمْ عَالِمُونَ بِهَا مِنَ الِاتِّصَافِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَسْلُكُوا غَيْرَ طَرِيقِهِمْ، فإنهم لم

_ (1) سورة البقرة: 2/ 61.

يَكُونُوا عَلَى حَقٍّ. فَذَكَرَ تَقْبِيحَ الْأَوْصَافِ، وَالتَّوَعُّدَ عَلَيْهَا بِالْعِقَابِ، مِمَّا يُنَفِّرُ عَنْهَا، وَيَحْمِلُ عَلَى التَّحَلِّي بِنَقَائِضِهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَإِجْلَالِ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَيُقَتِّلُونَ النَّبِيِّينَ، بِالتَّشْدِيدِ، وَالتَّشْدِيدُ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ بِحَسْبِ الْمَحَلِّ وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبْعَةِ: وَيُقَاتِلُونَ الثَّانِيَ. وَقَرَأَهَا الْأَعْمَشُ: وَقَاتَلُوا الَّذِينَ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ، وَمَنْ غَايَرَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ فَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَمَنْ حَذَفَ اكْتَفَى بِذِكْرِ فِعْلٍ وَاحِدٍ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْقَتْلِ، وَمَنْ كَرَّرَ الْفِعْلَ فَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ عَطْفِ الْجُمَلِ وَإِبْرَازِ كُلِّ جُمْلَةٍ فِي صُورَةِ التَّشْنِيعِ وَالتَّفْظِيعِ، لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، أَوْ لِاخْتِلَافِ تَرَتُّبِ الْعَذَابِ بِالنِّسْبَةِ عَلَى مَنْ وَقَعَ بِهِ الْفِعْلُ، فَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَجُعِلَ الْقَتْلُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَرْتَبَتِهِ كَأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَحَدِ الْقَتْلَيْنِ تَفْوِيتُ الرُّوحِ، وَبِالْآخَرِ الْإِهَانَةُ وَإِمَاتَةُ الذِّكْرِ، فَيَكُونَانِ إِذْ ذَاكَ مُخْتَلِفَيْنِ. وَجَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ، وَفِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ «1» بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ هُنَا أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وَهُوَ عَامٌّ لَا يَتَخَصَّصُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ حَتَّى يَكُونَ عَامًّا، وَفِي الْبَقَرَةِ جَاءَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ عَنْ نَاسٍ مَعْهُودِينَ، وَذَلِكَ قوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ «2» فَنَاسَبَ أَنْ يَأْتِيَ بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ، لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ يُسْتَبَاحُ بِهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ عِنْدَهُمْ كَانَ مَعْرُوفًا، كَقَوْلِهِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «3» فَالْحَقُّ هُنَا الَّذِي تُقْتَلُ بِهِ الْأَنْفُسُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ، بِخِلَافِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ «4» هِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، إِذْ لَا يَقَعُ قَتْلُ نَبِيٍّ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَوْضَحْنَا لَكَ ذَلِكَ. فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَإِيضَاحِهِ هُنَا. وَمَعْنَى: مِنَ النَّاسِ، أَيْ: غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، إِذْ لَوْ قَالَ: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، لَكَانَ مُنْدَرِجًا فِي ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ لِصِدْقِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنَ النَّاسِ بِمَعْنَى: مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ تَلِي مَنْزِلَتُهُ فِي الْعِظَمِ مَنْزِلَةَ الأنبياء. وعن أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ القيامة؟

_ (4- 2- 1) سورة البقرة: 2/ 61. (3) سورة المائدة: 5/ 45.

قَالَ: «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ رَجُلًا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ» . ثُمَّ قَرَأَهَا. ثُمَّ قَالَ: «يَا عُبَيْدَةُ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةٌ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا قَتَلَتَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ» . فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُعَاصِرُوهُ لَا آبَاؤُهُمْ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ مَجَازًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا أَنْبِيَاءَ لَكِنَّهُمْ رَضُوا ذَلِكَ وَرَامُوهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ خَبَرُ: إِنَّ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا يَتَضَمَّنُ الْمَوْصُولُ مِنْ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَمْ يُعَبْ بِهَذَا النَّاسِخِ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، أَعْنِي: إِنَّ. وَمَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ: الصَّحِيحُ جواز دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ: إِنَّ، إِذَا كَانَ اسْمُهَا مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شُرُوطُ جَوَازِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَتِلْكَ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةٌ هُنَا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي دُخُولِ الْفَاءِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «1» إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «2» إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ «3» . وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ جَعَلَ الْفَاءَ زَائِدَةً، وَلَمْ يَقِسْ زِيَادَتَهَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْبِشَارَةَ هِيَ أَوَّلُ خَبَرٍ سَارٍّ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ مَعَ مَا لَيْسَ بِسَارٍّ، فَقِيلَ: ذَلِكَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِهِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ أَيِ: الْقَائِمُ لَهُمْ مَقَامَ الْخَبَرِ السَّارِّ هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى تَأَثُّرِ الْبُشْرَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُؤْخَذْ فِيهِ قَيْدُ السُّرُورِ، بَلْ لُوحِظَ مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ. أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ «4» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو السَّمَّالِ: حَبَطَتْ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مَجِيءُ الْجَمْعِ هُنَا أَحْسَنُ مِنْ مَجِيءِ الْإِفْرَادِ، لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ،

_ (1) سورة محمد: 47/ 34. (2) سورة الأحقاف: 46/ 13. (3) سورة البروج: 85/ 10. (4) سورة البقرة: 2/ 217.

وَلِأَنَّهُ بِإِزَاءِ مَنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشُّفَعَاءِ الَّذِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ كَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَالْمَعْنَى: بِانْتِفَاءِ النَّاصِرِينَ انْتِفَاءَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّصْرِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَإِذَا انْتَفَتْ مِنْ جَمْعٍ فَانْتِفَاؤُهَا مِنْ وَاحِدٍ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ جَمْعٌ لَا يَنْصُرُ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَنْصُرَ وَاحِدٌ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعْصِيَتِهِمْ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ بِثَلَاثَةٍ، لِيُقَابِلَ كُلَّ وَصْفٍ بِمُنَاسَبَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمَ، كَانَ التَّبْشِيرُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ أَعْظَمَ، وَقَابَلَ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ بِحُبُوطِ العمل في الدنيا والآخرة، فَفِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعِقَابِ الدَّائِمِ، وَقَابَلَ قَتْلَ الْآمِرِينَ بِالْقِسْطِ، بِانْتِفَاءِ النَّاصِرِينَ عَنْهُمْ إِذَا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآمِرِينَ بِالْقِسْطِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ حِينَ حَلَّ بِهِمْ قَتْلُ الْمُعْتَدِينَ، كَذَلِكَ الْمُعْتَدُونَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ إِذَا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَفِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَأُخْبِرَ عَنْهُ: بِالَّذِينَ، إِذْ هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْخَبَرِ بِالْفِعْلِ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ انْحِصَارٍ، وَلِأَنَّ جَعْلَ الْفِعْلِ صِلَةً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مَعْلُومَةً لِلسَّامِعِ، مَعْهُودَةً عِنْدَهُ، فَإِذَا أَخْبَرْتَ بِالْمَوْصُولِ عَنِ اسْمٍ اسْتَفَادَ الْمُخَاطَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَعْهُودَ الْمَعْلُومَ عِنْدَهُ الْمَعْهُودَ هُوَ مَنْسُوبٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ، بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّكَ تُخْبِرُ الْمُخَاطَبَ بِصُدُودِهِ عَنْ مَنْ أَخْبَرْتَ بِهِ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَعْلُومًا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ جَعَلْتَهُ صِلَةً، وَأَخْبَرْتَ بِالْمَوْصُولِ عَنِ الِاسْمِ. قِيلَ وَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ضُرُوبًا مِنَ الْفَصَاحَةِ والبلاغة. أحدها: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ إِنَّهُ، بِالْكَسْرِ: وَأَنَّ الدِّينَ، بِالْفَتْحِ. وَأَطْلَقَ اسم السبب على المسبب فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ عَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أو النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ. وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ فِي: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَأَصْحَابُ النَّارِ. وَالْإِيمَاءُ فِي قَوْلِهِ: بَغْياً بَيْنَهُمْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النَّفْيَ دَائِرٌ شَائِعٌ فِيهِمْ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ تُجَاذِبُ طَرْفًا مِنْهُ. وَالتَّعْبِيرُ بِبَعْضٍ عَنْ كُلٍّ فِي: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيرُ أَوِ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ فِي قَوْلِهِ أَأَسْلَمْتُمْ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 إلى 32]

وَالطِّبَاقُ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ الِانْقِيَادُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالتَّوَلِّي ضِدُّ الْإِقْبَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ ضَلُّوا، وَالضَّلَالَةُ ضِدُّ الْهِدَايَةِ. وَالْحَشْوُ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ قَطُّ نَبِيٌّ بِحَقٍّ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الْحَشْوَةِ لِيَتَأَكَّدَ قُبْحُ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَعْظُمَ أَمْرُهُ فِي قَلْبِ الْعَازِمِ عَلَيْهِ. وَالتَّكْرَارُ فِي وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ تَأْكِيدًا لِقُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ. وَالزِّيَادَةُ فِي فَبَشِّرْهُمْ زَادَ الْفَاءَ إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَوْصُولَ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِيمَا سبق. [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

غَرَّ، يَغُرُّ، غُرُورًا: خَدَعَ وَالْغِرُّ: الصَّغِيرُ، وَالْغَرِيرَةُ: الصَّغِيرَةُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَنْخَدِعَانِ بِالْعَجَلَةِ، وَالْغِرَّةُ مِنْهُ يُقَالُ: أَخَذَهُ عَلَى غِرَّةٍ، أَيْ: تَغَفُّلٍ وَخِدَاعٍ، وَالْغُرَّةُ: بَيَاضٌ فِي الْوَجْهِ، يُقَالُ مِنْهُ: وَجْهٌ أَغَرُّ، وَرَجُلٌ أَغَرُّ، وَامْرَأَةٌ غَرَّاءُ. وَالْجَمْعُ عَلَى الْقِيَاسِ فِيهِمَا غُرٌّ. قَالُوا: وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ: وَغُرَّانٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طُهَارَى نَقِيَّةً ... وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ نَزَعَ يَنْزِعُ: جَذَبَ، وَتَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ تَجَاذَبْنَاهُ، وَمِنْهُ: نِزَاعُ الْمَيِّتِ، وَنَزَعَ إِلَى كَذَا: مَالَ إِلَيْهِ وَانْجَذَبَ، ثُمَّ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الزَّوَالِ، يُقَالُ: نَزَعَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّرَّ: أَزَالَهُ. وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا وَلِجَّةً وَوَلْجًا، وَوَلَجَ تَوَلُّجًا وَاتَّلَجَ اتِّلَاجًا قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنَّ الْقَوَافِيَ يَتَّلِجْنَ مَوَالِجًا ... تَضَايَقُ عَنْهَا أَنْ تَوَلَّجَهَا الْإِبَرْ الْأَمَدُ: غَايَةُ الشَّيْءِ، وَمُنْتَهَاهُ، وَجَمْعُهُ آمَادٌ. اللَّهُمَّ: هُوَ اللَّهُ إِلَّا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنِّدَاءِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْمِيمُ الَّتِي لَحِقَتْهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ عِوَضٌ مِنْ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَلِذَلِكَ لَا تَدَخُلَ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ. وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ: هِيَ مِنْ قَوْلِهِ: يَا اللَّهُ أَمِّنَّا بِخَيْرٍ، وَقَدْ أَبْطَلُوا هَذَا النَّصْبَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَكَبُرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ حَتَّى حَذَفُوا مِنْهَا: أَلْ، فَقَالُوا: لَا هُمَّ، بِمَعْنَى: اللَّهُمَّ. قَالَ الزَّاجِرُ: لَا هُمْ إِنِّي عَامِرُ بْنُ جَهْمِ ... أَحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ وَخُفِّفَتْ مِيمُهَا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ قَالَ: كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبِي رِيَاحٍ ... يَسْمَعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ الصَّدْرُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ: صُدُورٌ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ قَالَ السُّدِّيُّ: دَعَا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْيَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى: هَلُمَّ نُخَاصِمُكَ إِلَى الْأَحْبَارِ. فَقَالَ: «بَلْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ» . فَقَالَ: بَلْ إِلَى الْأَحْبَارِ. فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدَارِسِ عَلَى الْيَهُودِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ

نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ» . قَالَا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يهوديا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ» . فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ فِي دِينِنَا الرَّجْمُ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْفِيفًا لِلزَّانِيَيْنِ لشرفهما، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَحْكُمُ بِكِتَابِكُمْ» . فَأَنْكَرُوا الرَّجْمَ، فَجِيءَ بِالتَّوْرَاةِ، فَوَضَعَ حَبْرُهُمْ، ابْنُ صُورِيَا، يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: جَاوَزَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَظْهَرَهَا فَرُجِمَا. وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «هَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ فَفِيهَا صِفَتِي» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: دَعَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْهُدَى مِنْكَ، وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا من بين إِسْرَائِيلَ، قَالَ: «فَأَخْرِجُوا التَّوْرَاةَ فَإِنِّي مَكْتُوبٌ فِيهَا أَنِّي نبي» فأبوا، فنزلت الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هُمُ: الْيَهُودُ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: مِنَ الْكِتابِ جِنْسٌ لِلْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَبَدَأَ به الزمخشري و: من، تَبْعِيضٌ. وَفِي قَوْلِهِ: نَصِيبًا، أَيْ: طَرَفًا، وَظَاهِرُ بَعْضِ الْكِتَابِ، وَفِي ذَلِكَ إِذْ هُمْ لَمْ يَحْفَظُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوا جَمِيعَ مَا فِيهِ. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ هُوَ: التَّوْرَاةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وابن جريح: القرآن. و: يدعون، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ، وَالْعَامِلُ: تَرَ، وَالْمَعْنَى: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَدْعُوِّينَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ؟ أَيْ: فِي حَالِ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: لِيُحْكَمَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْمَحْكُومُ فِيهِ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ هَذَا اسْتِبْعَادٌ لِتَوَلِّيهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَنَسَبَ التَّوَلِّي إِلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ لَا إِلَى جَمِيعِ الْمُبْعَدِينَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَوَلَّ كَابْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ. وَهُمْ مُعْرِضُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ هُوَ الْإِعْرَاضُ، أَوْ مُبَيِّنَةٌ لِكَوْنِ التَّوَلِّي عَنِ الدَّاعِي، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا دَعَا إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمُتَعَلِّقُ مُخْتَلِفًا، أَوْ لِكَوْنِ التَّوَلِّي بِالْبَدَنِ

وَالْإِعْرَاضِ بِالْقَلْبِ، أَوْ لِكَوْنِ التَّوَلِّي مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَالْإِعْرَاضِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أخبر عنهم قَوْمٌ لَا يَزَالُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ شَأْنِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَاقِعًا لَا بَيْنُهُمْ وَبَيْنَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَإِنْ صَحَّ سَبَبٌ مِنْهَا كَانَ الْمَعْنَى: لِيَحْكُمَ بينهم وبين رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ حُمِلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، فَدُعُوا إِلَى التَّوْرَاةِ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِي صِحَّتِهَا عِنْدَكُمْ، لِيَحْكُمَ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، فَتَوَلَّى مَنْ لَمْ يُسْلِمْ. قِيلَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ لولا عِلْمُهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، لَمَا أَعْرَضُوا وَتَسَارَعُوا إِلَى مُوَافَقَةِ مَا فِي كتبهم، حتى ينبؤا عَنْ بُطْلَانِ دَعْوَاهُ. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَاهُ خَصْمُهُ إِلَى الْحُكْمِ الْحَقِّ لَزِمَتْهُ إِجَابَتُهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَيُعَضِّدُهُ: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ «1» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِذَا دُعِيَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَخَالَفَ تَعَيَّنَ زَجْرُهُ بِالْأَدَبِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالِفِ، وَالْمُخَالَفِ. وَهَذَا الْحُكْمُ جَارٍ عِنْدَنَا بِالْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَلَيْسَ بِالدِّيَارِ المصرية. قال ابن خويز منداذ الْمَالِكِيُّ: وَاجِبٌ عَلَى مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ يُجِيبَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى التَّوَلِّي، أَيْ: ذَلِكَ التَّوَلِّي بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ، وَتَسْهِيلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ، وَطَمَعِهِمْ فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا طَمِعَتِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْحَشْوِيَّةُ. وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ أَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ يَشْفَعُونَ لَهُمْ، كَمَا غَرَّى أُولَئِكَ بِشَفَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَبَائِرِهِمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ مِنَ اللَّهَجِ بِسَبِّ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَرَمْيِهِمْ بِالتَّشْبِيهِ، وَالْخُرُوجِ إِلَى الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ طريق أمكنه.

_ (1) سورة النور: 24/ 48.

وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ: الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ هُنَاكَ: مَعْدُودَةٌ، وَهُنَا: مَعْدُودَاتٌ، وَهُمَا طَرِيقَانِ فَصِيحَانِ تَقُولُ: جِبَالٌ شَامِخَةٌ، وَجِبَالٌ شَامِخَاتٌ. فَتَجْعَلُ صِفَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ لِلْمُذَكَّرِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً لِصِفَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَتَارَةً لِصِفَةِ الْمُؤَنَّثَاتِ. فَكَمَا تَقُولُ: نِسَاءٌ قَائِمَاتٌ، كَذَلِكَ تَقُولُ: جِبَالٌ رَاسِيَاتٌ، وَذَلِكَ مَقِيسٌ مُطَّرِدٌ فِيهِ. وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي افْتَرَوْهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وقال قتادة: بقولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَقِيلَ: لَنْ، يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» وَقِيلَ: مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَارْتَفَعَ: ذَلِكَ، بالابتداء، و: بأنهم، هُوَ الْخَبَرُ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي كَائِنٌ لَهُمْ وَحَاصِلٌ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، يَحْصُرُهَا الْعَدَدُ. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي: شَأْنُهُمْ ذَلِكَ، أَيِ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ: بِأَنَّهُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مَصْحُوبًا بهذا القول، وَ: مَا فِي: مَا كَانُوا، مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ، وَاسْتِعْظَامٌ لِعِظَمِ مَقَالَتِهِمْ حِينَ اخْتَلَفَتْ مَطَامِعُهُمْ، وَظَهَرَ كَذِبُ دَعْوَاهُمْ، إِذْ صَارُوا إِلَى عَذَابٍ مَا لَهُمْ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «2» هَذَا الْكَلَامُ يُقَالُ عِنْدَ التَّعْظِيمِ لِحَالِ الشَّيْءِ، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ؟ وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَكَيْفَ بِنَفْسٍ، كُلَّمَا قُلْتُ: أَشْرَفَتْ ... عَلَى الْبُرْءِ مِنْ دَهْمَاءَ، هِيضَ انْدِمَالُهَا وَقَالَ: فَكَيْفَ؟ وَكُلٌّ لَيْسَ يَعْدُو حِمَامَهُ ... وما لامرىء عَمَّا قَضَى اللَّهُ مُرْحَلُ وَانْتِصَابُ: فَكَيْفَ، قِيلَ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ وَقَدَّرَهُ الْحُوفِيُّ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ؟ فَإِنْ أَرَادَ كَانَ التَّامَّةَ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّاقِصَةَ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى: التَّقْدِيرُ: كَيْفَ حَالُهُمْ؟ وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، ذَلِكَ الفعل الذي

_ (2- 1) سورة البقرة: 2/ 111.

قَدَّرَهُ، وَالْعَامِلُ فِي: كَيْفَ، إِذَا كَانَتْ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ إِنْ قُلْنَا إِنَّ انْتِصَابَهَا انْتِصَابُ الظُّرُوفِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي: إِذَا، الْمُبْتَدَأَ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ، أَيْ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَكَذَا أَكْثَرُ اسْتِفْهَامَاتِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا اسْتِفْهَامُهُ تَعَالَى تَقْرِيعٌ. وَاللَّامُ، تَتَعَلَّقُ: بِجَمَعْنَاهُمْ، وَالْمَعْنَى: لِقَضَاءِ يَوْمٍ وَجَزَائِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ «1» قَالَ النَّقَّاشُ: الْيَوْمَ، هُنَا الْوَقْتُ، وَكَذَلِكَ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ «2» وفِي يَوْمَيْنِ «3» وفِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ «4» إِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَوْقَاتٍ، فَإِنَّمَا الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي عِنْدَنَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أنه يوم، لأن قَبْلَهُ لَيْلَةٌ وَفِيهِ شَمْسٌ. وَمَعْنَى: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ، أَوْ عِنْدَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَوْ حِينَ يَجْمَعُهُمْ فِيهِ، أَوْ مَعْنَاهُ: الْأَمْرُ. خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ، آخِرَ آيَاتِ الرِّبَا. قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: ظَهَرَتْ صَخْرَةٌ فِي الْخَنْدَقِ، فَضَرَبَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَرَقَ بَرْقٌ فَكَبَّرَ، وَكَذَا فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الْأُولَى: قُصُورُ الْعَجَمِ، وفي الثاني: قُصُورُ الرُّومِ. وَفِي الثَّالِثَةِ: قُصُورُ الْيَمَنِ فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَى الْكُلِّ» . فَعَيَّرَهُ الْمُنَافِقُونَ بِأَنَّهُ يَضْرِبُ الْمِعْوَلَ وَيَحْفُرُ الْخَنْدَقَ فَرْقًا، وَيَتَمَنَّى مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ، فَنَزَلَتْ. اخْتَصَرَهُ السَّجَاوَنْدِيُّ هَكَذَا، وَهُوَ سَبَبٌ مُطَوَّلٌ جِدًّا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَخَافُوا فَتْحَ الْعَجَمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي: هُمْ أَعَزُّ وَأَمْنَعُ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ: لَمَّا فَتَحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: بَلَغَ ذَلِكَ اليهود فقالوا: هَيْهَاتَ! هَيْهَاتَ! فَنَزَلَتْ، فَذُلُّوا وَطَلَبُوا الْمُوَاصَمَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ لِأُمَّتِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَى لَفْظِ النَّهْيِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ: وَاللَّهُ لَا نُطِيعُ رَجُلًا جَاءَ بِنَقْلِ النُّبُوَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 9. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 184 وآل عمران: 3/ 24. (3) سورة البقرة: 2/ 203 وفصلت: 41/ 9 و 12. (4) سورة فصلت: 41/ 10.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ عِيسَى هُوَ اللَّهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَالْمُلْكُ هُنَا ظَاهِرُهُ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جَاءَتْ أَسْبَابُ النُّزُولِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُلْكُ النُّبُوَّةُ، وَهَذَا يَتَنَزَّلُ عَلَى نَقْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقِيلَ: الْمَالُ وَالْعَبِيدُ، وَقِيلَ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ تَمَلُّكُ جِنْسِ الْمُلْكِ فَتَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِيمَا يَمْلِكُونَ. وَقَالَ: مَعْنَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي لَفْظَةِ: اللَّهُمَّ، مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ، فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مَضْمُومَةُ الْهَاءِ مُشَدَّدَةُ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، وَأَنَّهَا مُنَادَى. انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَشْدِيدِ الْمِيمِ قَدْ نَقَلَ الْفَرَّاءُ تَخْفِيفَ مِيمِهَا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، قَالَ: وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: كحلفة من أبي رياح ... يَسْمَعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ قَالَ الرَّادُّ عَلَيْهِ: تَخْفِيفُ الْمِيمِ خَطَأٌ فَاحِشٌ خُصُوصًا عِنْد الْفَرَّاءِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ هِيَ الَّتِي فِي أَمِّنَّا، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْفِيفُ أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ فِيهِ بَقِيَّةَ أَمِّنَّا. قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكُبَارُ. انْتَهَى. وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْبَيْتُ عَنِ الْعَرَبِ كَانَ فِيهِ شُذُوذٌ آخَرُ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَاعِلًا بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهُ؟ قَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: هَذِهِ الْمِيمُ تَجْمَعُ سَبْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ فَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُمَّ مَجْمَعُ الدُّعَاءِ. وَمَعْنَى قَوْلِ النَّضْرِ: إِنَّ اللَّهُمَّ هُوَ اللَّهُ زِيدَتْ فِيهِ الْمِيمُ، فَهُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ الْمُتَضَمِّنُ لِجَمِيعِ أَوْصَافِ الذَّاتِ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ، فَقَدْ ذَكَرْتَ الِاسْمَ الْخَاصَّ، فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ الَّتِي هِيَ فِيهِ مِنْ شُهْلَةٍ أَوْ طُولٍ أَوْ جُودٍ أَوْ شَجَاعَةٍ، أَوِ أَضْدَادِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَانْتِصَابُ: مَالِكَ الْمُلْكِ، عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى ثَانٍ أَيْ: يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، وَلَا يُوصَفُ اللَّهُمَّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَصْفَهُ، فَهُوَ عِنْدَهُمَا صِفَةٌ لِلَاهُمْ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي عِلْمِ النَّحْوُ. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُلْكَ هُوَ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْمُلْكِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ عَامًّا، وَهَذَانِ خَاصَّيْنِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تُعْطِي مَنْ شِئْتَ قِسْمًا مِنَ الْمُلْكِ، وَتَنْزِعُ مِمَّنْ شِئْتَ قِسْمًا مِنَ الْمُلْكِ وَقَدْ فَسَّرَ الْمُلْكَ

هُنَا بِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا، وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا التَّفْسِيرُ فِي: تَنْزِعُ الْمُلْكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُؤْتِ النُّبُوَّةَ لِأَحَدٍ ثم مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَنْزِعُ مَجَازًا بِمَعْنَى: تَمْنَعُ النُّبُوَّةَ مِمَّنْ تَشَاءُ، فَيُمْكِنُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هُوَ مُلْكُ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقِيلَ: الْعَافِيَةُ، وَقِيلَ: الْقَنَاعَةُ. وَقِيلَ: الْغَلَبَةُ بِالدِّينِ وَالطَّاعَةِ. وَقِيلَ: قِيَامُ اللَّيْلِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: هُوَ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْمُكَوِّنِ عَنِ الْكَوْنَيْنِ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: هُوَ قَهْرُ إِبْلِيسَ كَمَا كَانَ يَفِرُّ مِنْ ظِلِّ عُمَرَ، وَعَكْسُهُ مَنْ كَانَ يَجْرِي الشَّيْطَانُ مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ. وَقِيلَ: مُلْكُ الْمَعْرِفَةِ بِلَا عِلَّةِ، كَمَا أَتَى سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ، وَنَزَعَ مِنْ بَلْعَامَ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: هُوَ تَوْفِيقُ الْإِيمَانِ. وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَظْهَرِ: وَهُوَ السَّلْطَنَةُ وَالْغَلَبَةُ، وَكَوْنُ الْمُؤْتَى هُوَ الْآمِرَ الْمُتَّبَعَ، فَالَّذِي آتَاهُ الْمُلْكَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقِيلَ: الْمَنْزُوعُ مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ وَصَنَادِيدُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: الْعَرَبُ وَخُلَفَاءُ الْإِسْلَامِ وَمُلُوكُهُ، وَالْمَنْزُوعُ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَنْبِيَاءُ أُمِرَ النَّاسُ بِطَاعَتِهِمْ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ الْجَبَّارُونَ أُمِرَ النَّاسُ بِخِلَافِهِمْ. وَقِيلَ: آدَمُ وَوَلَدُهُ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ. وَقِيلَ: دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ طَالُوتُ. وَقِيلَ: صَخْرٌ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ سُلَيْمَانُ أَيَّامَ مِحْنَتِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تُؤْتِي الْمُلْكَ فِي الْجَنَّةِ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ مِمَّنْ تَشَاءُ. وَقِيلَ: الْمُلْكُ الْعُزْلَةُ وَالِانْقِطَاعُ، وَسَمَّوْهُ الْمُلْكَ الْمَجْهُولَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَتَخْصِيصَاتٌ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ فِي الْمُرَادِ. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ قِيلَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، حِينَ دَخَلُوا مَكَّةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ظَاهِرِينَ عَلَيْهَا، وَأَذَلَّ أَبَا جَهْلٍ وَصَنَادِيدَ قُرَيْشٍ حَتَّى حُزَّتْ رؤوسهم وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ. وَقِيلَ: بالتوفيق والعرفان، وتدل بِالْخِذْلَانِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتُذِلُّ فَارِسَ وَالرُّومَ. وَقِيلَ: بِالطَّاعَةِ وَتُذِلُّ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: بِالظَّفْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَتُذِلُّ بِالْقَتْلِ وَالْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: بِالْإِخْلَاصِ وَتُذِلُّ بِالرِّيَاءِ. وَقِيلَ بِالْغِنَى وَتُذِلُّ بِالْفَقْرِ. وَقِيلَ: بِالْجَنَّةِ وَالرُّؤْيَةِ وَتُذِلُّ بِالْحِجَابِ وَالنَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ. وَقِيلَ: بِقَهْرِ النَّفْسِ وَتُذِلُّ بِاتِّبَاعِ الْخِزْيِ، قَالَهُ الْوَرَّاقُ. وَقِيلَ: بِقَهْرِ الشَّيْطَانِ وَتُذِلُّ بِقَهْرِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، قَالَهُ الْكَتَّانِيُّ. وَقِيلَ: بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا وتذل بالحرص والطمع. وينبغي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ عَلَى التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ لَا مُخَصِّصَ فِي الْآيَةِ، بَلِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِزُّ وَالذُّلُّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَلِلْمُعْتَزِلَةِ هُنَا كَلَامٌ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ الْكَعْبِيُّ: تُؤْتِي

الْمُلْكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَلَا تَنْزِعُهُ إِلَّا مِمَّنْ فَسَقَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «1» إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ «2» جَعَلَ الِاصْطِفَاءَ سَبَبًا لِلْمُلْكِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلْكُ الظَّالِمِينَ بِإِيتَائِهِ وَقَدْ يَكُونُ: وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكُوهُ، فَصَحَّ أَنَّ الْمُلُوكَ الْعَادِلِينَ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِإِيتَاءِ اللَّهِ الْمُلْكَ، وَأَمَّا الظَّالِمُونَ فَلَا. أَمَّا النَّزْعُ فَبِخِلَافِهِ، فَكَمَا يَنْزِعُهُ مِنَ الْعَادِلِ لِمَصْلَحَةٍ، فَقَدْ يَنْزِعُهُ مِنَ الظَّالِمِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: الْإِعْزَازُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ تَعَالَى يَكُونُ فِي الدِّينِ بِالْإِمْدَادِ بِالْأَلْطَافِ وَمَدْحِهِمْ وَتَغَلُّبِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَيَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَإِعْطَاءِ الْهَيْبَةِ. وَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعِزَّةِ فِي الدِّينِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَأَذَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلذِّلَّةِ هُوَ الْكُفْرُ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مِنَ الْعَبْدِ لَكَانَ إِعْزَازُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِالْإِيمَانِ وَإِذْلَالُهُ نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ أَعْظَمَ مِنْ إِعْزَازِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِذْلَالِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ أَتَمَّ مِنْ حَظِّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يُذِلُّ أَعْدَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُذِلُّ أَوْلِيَاءَهُ وَإِنْ أَفْقَرَهُمْ وَأَمْرَضَهُمْ وَأَخَافَهُمْ وَأَحْوَجَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِعِزِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ أَوِ الْعِوَضِ فَصَارَ كَالْفَصْدِ يُؤْلِمُ فِي الْحَالِ وَيُعْقِبُ نَفْعًا. قَالَ: وَوُصْفُ الْفَقْرِ بِكَوْنِهِ ذُلًّا مَجَازًا، كَقَوْلِهِ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «3» وَإِذْلَالُ اللَّهِ الْمُبْطِلُ بِوُجُوهٍ بِالذَّمِّ وَاللَّعْنِ، وَخِذْلَانِهِمْ بِالْحُجَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَبِجَعْلِهِمْ لِأَهْلِ دِينِهِ غَنِيمَةً، وَبِعُقُوبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. بِيَدِكَ الْخَيْرُ أَيْ: بِقُدْرَتِكَ وَتَصْدِيقِكَ وَقَعَ الْخَيْرُ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ الْيَدِ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: الْمَعْنَى: وَالشَّرُّ، نَحْوَ: تَقِيكُمُ الْحُرَّ، أَيْ وَالْبَرْدَ. وَحَذْفُ الْمَعْطُوفِ جَائِزٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، إِذْ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ إِيتَاءَ الْمُلْكِ وَنَزْعَهُ، وَالْإِعْزَازَ وَالْإِذْلَالَ، وَذَلِكَ خَيْرٌ لِنَاسٍ وَشَرٌّ لِآخَرِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَجَاءَ بِهَذَا الْعَامِ الْمُنْدَرِجِ تَحْتَهُ الْأَوْصَافُ السَّابِقَةُ، وَجَمَعَ الْخُيُورَ وَالشُّرُورَ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ تَعْلِيمٌ لَنَا كَيْفَ نَمْدَحُ بِأَنْ نذكر أفضل الخصال.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 124. (2) سورة البقرة: 2/ 247. (3) سُورَةِ الْمَائِدَةِ: 5/ 54.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ بِيَدِكَ الْخَيْرُ فَذَكَرَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَتْهُ الْكَفَرَةُ، فَقَالَ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تُؤْتِيهِ أَوْلِيَاءَكَ عَلَى رَغْمِ أَعْدَائِكَ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَفْعَالِ اللَّهِ مِنْ نَافِعٍ وَضَارٍّ صَادِرٌ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَهُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يُدَافِعُ آخِرُهُ أَوَّلَهُ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ لِمَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ؟ وَأَجَابَ بِالْجَوَابِ الْأَوَّلِ: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِيَدِهِ تَعَالَى الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَإِنَّمَا كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْخَيْرِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِيمَا يَسُوقُهُ تَعَالَى مِنَ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَنَاسَبَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ فَقَطْ. وَأَجَابَ بِالْجَوَابِ الثَّانِي: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَمِيعُ أَفْعَالِهِ خَيْرٌ لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ، وَهَذَا الْجَوَابُ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَصَّ الْخَيْرَ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ تَعَالَى بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٌ، إِذِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى دُعَاءٍ وَرَغْبَةٍ، فَكَانَ الْمَعْنَى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ فَأَجْزِلْ حَظِي مِنْهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَمَّا كَانَتْ فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ لَا لِلْحُكْمِ، ذَكَرَ الْخَيْرَ إِذْ هُوَ الْمَشْكُورُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْخَيْرُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَتَقْدِيمُ: بِيَدِكَ، يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا خَيْرَ إِلَّا بِيَدِهِ، وَأَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ الْإِيمَانُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ. وَلِأَنَّ فَاعِلَ الْأَشْرَفِ أَشْرَفُ، وَالْإِيمَانُ أَشْرَفُ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَا يَنْتَقِصُ مِنَ النَّهَارِ يَزِيدُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا يَنْتَقِصُ مِنَ اللَّيْلِ يَزِيدُ فِي النَّهَارِ، دَأْبًا كُلُّ فَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ، قِيلَ: حَتَّى يَصِيرَ النَّاقِصُ تِسْعَ سَاعَاتٍ، وَالزَّائِدُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً. وَذَكَرَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: أَجْمَعَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ اللَّيْلِ والنهار يأخذ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً، فَتَنْتَهِي زِيَادَةُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْوُلُوجِ هُنَا تَغْطِيَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ إِذَا أَقْبَلَ، وَتَغْطِيَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، إِذَا أَقْبَلَ، فَصَيْرُورَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانِ الْآخَرِ كَالْوُلُوجِ فِيهِ، وَأَوْرَدَ هَذَا

الْقَوْلَ احْتِمَالًا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَيَحْتَمِلُ لَفْظُ الْآيَةِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَانَ زَوَالُ أَحَدِهِمَا وُلُوجَ الْآخَرِ. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ التَّكْوِينُ هُنَا، وَالْإِخْرَاجُ حَقِيقَةً هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنَ الظَّرْفِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالسُّدِّيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالَةَ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. تُخْرِجُ الْحَيَوَانَ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ إِذَا انْفَصَلَتِ النُّطْفَةُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَتُخْرِجُ النُّطْفَةَ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وَهُوَ حَيٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْتُ مَجَازًا إِذِ النُّطْفَةُ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا حَيَاةٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ مَا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَتُخْرِجُ مَا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ مِنَ الْحَيِّ، وَالْإِخْرَاجُ عِبَارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الْحَالِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْكَلْبِيُّ: أَيِ الْفَرْخَ مِنَ الْبَيْضَةِ، وَالْبَيْضَةَ مِنَ الطَّيْرِ، وَالْمَوْتُ أَيْضًا هُنَا مَجَازٌ وَالْإِخْرَاجُ حَقِيقَةٌ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: النَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ، وَالسُّنْبُلَةَ مِنَ الْحَبَّةِ، وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةَ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِي هَذَا مَجَازٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: تُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَهُمَا أَيْضًا مَجَازٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» . وَقَدْ رَأَى امْرَأَةً صَالِحَةً مَاتَ أَبُوهَا كَافِرًا وَهِيَ خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ مِنَ الْحَبِّ، وَيُخْرِجُ الْحَبَّ الْيَابِسَ مِنَ النَّبَاتِ الْحَيِّ. وَقِيلَ: الطَّيِّبَ مِنَ الْخَبِيثِ وَالْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُحْتَمَلُ يُخْرِجُ الْجَلْدَ الْفَطِنَ مِنَ الْبَلِيدِ الْعَاجِزِ، وَالْعَكْسُ، لِأَنَّ الْفِطْنَةَ حَيَاةُ الْحِسِّ وَالْبَلَادَةَ مَوْتُهُ. وَقِيلَ: يُخْرِجُ الْحِكْمَةَ مِنْ قَلْبِ الْفَاجِرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَالسَّقْطَةُ مِنْ لِسَانِ الْعَارِفِ وَهَذِهِ كُلُّهَا مَجَازَاتٌ بَعِيدَةٌ. وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ تَصَوُّرُ اثْنَيْنِ وَقِيلَ: عَنَى بِذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحَالُ، فَيَكُونُ مَيِّتًا ثُمَّ يَحْيَا، وَحَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ. نَحْوَ قَوْلِكَ: جَاءَ مِنْ فُلَانٍ أَسَدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ جُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ هُنَا حَقِيقَتَانِ لَا اسْتِعَارَةَ فِيهِمَا، ثُمَّ

اخْتَلَفُوا فِي الْمَثَلِ الَّذِي فسروا به، وذكره قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلَ عِكْرِمَةَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ إِذْ ذَاكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ، وَشَدَّدَ حَفْصٌ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: الْمَيِّتُ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَالرُّومِ، وَفَاطِرٍ زَادَ نَافِعٌ تَشْدِيدَ الْيَاءِ فِي: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «1» وفي الأنعام والْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «2» في يس ولَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً «3» فِي الْحُجُرَاتِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفَ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا تَقُولُ: لَيِّنٌ وَلَيْنٌ وَهَيِّنٌ وَهَيْنٌ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُخَفَّفَ لِمَا قَدْ مَاتَ، وَالْمُشَدَّدَ لِمَا قَدْ مَاتَ وَلِمَا لَمْ يَمُتْ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً «4» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ، فَذَكَرَ حَالَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْمُعَاقَبَةِ بَيْنَهُمَا، وَحَالَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِي إِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ الْمُحَيِّرَةِ لِلْأَفْهَامِ، ثُمَّ قَدَرَ أَنْ يَرْزُقَ بِغَيْرِ حِسَابٍ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْزِعَ الْمُلْكَ مِنَ الْعَجَمِ وَيُذِلَّهُمْ، وَيُؤْتِيَهُ الْعَرَبُ وَيُعِزَّهُمُ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ: الْفَصَاحَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، وَالْبَدِيعِ. الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ فِي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ. وَالْإِشَارَةُ فِي نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فَإِدْخَالُ: مِنْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُحِيطُوا بِالتَّوْرَاةِ عِلْمًا وَلَا حِفْظًا، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِزْرَاءِ بِهِمْ، وَتَنْقِيصِ قَدْرِهِمْ وَذَمِّهِمْ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَخْيَارٌ وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمُ اللَّذَيْنِ سَبَبُهُمَا افْتِرَاؤُهُمْ، وَفِي وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالتَّكْرَارُ فِي نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إِمَّا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ الْمَدْلُولُ وَاحِدًا، وَإِمَّا فِي اللَّفْظِ إِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا. وَفِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ إِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَفِي: مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ وَتَكْرَارُهُ فِي جُمَلٍ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ وَاحِدًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَانَ مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ فَقَطْ، وَتَكْرَارُ مَنْ تَشاءُ وَفِي تُولِجُ وَفِي تُخْرِجُ وَفِي مُتَعَلِّقَيْهِمَا. وَالِاتِّسَاعُ في جعل: في،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 122. (2) سورة يس: 36/ 33. (3) سورة الحجرات: 49/ 12. (4) سورة البقرة: 2/ 212 و 213.

بِمَعْنَى: عَلَى، عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أَيْ عَلَى النَّهَارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ عَلَى اللَّيْلِ. وَعَبَّرَ بِالْإِيلَاجِ عَنِ الْعُلُوِّ وَالتَّغْشِيَةِ. وَالنَّفْيُ الْمُتَضَمِّنُ الْأَمْرَ فِي لَا رَيْبَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي مالِكَ الْمُلْكِ وَالطِّبَاقُ: فِي: تُؤْتِي وَتَنْزِعُ، وَتُعِزُّ وَتُذِلُّ، وَفِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. وَرَدُّ الْعَجْزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي: تُولِجُ، وَمَا بَعْدَهُ، وَالْحَذْفُ وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيرِهَا. كَقَوْلِهِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أَيْ مَنْ تَشَاءُ أَنْ تُؤْتِيَهُ. وَالْإِسْنَادُ الْمَجَازِيُّ فِي لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَسْنَدَ الْحُكْمَ إِلَى الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ فَهُوَ سَبَبُ الْحُكْمِ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ دَيْنِهِ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ إِلَى بِغَيْرِ حِسَابٍ. ويقول رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، تُعْطِي مِنْهُمَا مَنْ تَشَاءُ اقْضِ عَنِّي دَيْنِي. فَلَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَأَدَّاهُ اللَّهُ» . لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، كَانَ لَهُ حُلَفَاءُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ. وَقِيلَ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَوَالَوْنَ الْيَهُودَ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمُ: الْحَجَّاجُ بْنُ عُمَرَ، وَكَهْمَسُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَقَيْسُ بْنُ يَزِيدَ، كَانُوا يُبَاطِنُونَ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَنَهَاهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ، فَأَبَوْا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَغَيْرِهِ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَتْ. وَمَعْنَى: اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ: اللُّطْفُ بِهِمْ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَذَلِكَ لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ. قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَدٍ سَابِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا يَظْهَرُ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ، وَالْمَنْهِيُّونَ هُنَا قَدْ قَرَّرَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، فَالنَّهْيُ هُنَا إِنَّمَا مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ، وَاللُّطْفُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ. وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» الْآيَةَ، وَالْمَحَبَّةُ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَتَّخِذِ، عَلَى النَّهْيِ. وَقَرَأَ الضَّبِّيُّ بِرَفْعِ الذَّالِ عَلَى النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَقَدْ أَجَازَ الْكِسَائِيُّ فِيهِ الرَّفْعَ كَقِرَاءَةِ الضَّبِّيِّ.

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 22.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَمِنُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا، ذَكَرَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ، وَكَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ فِي الْكُفَّارِ فَنُهُوا عَنْ مُوَالَاتِهِمْ وَأُمِرُوا بِالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَوْلِيَائِهِ دُونَ أَعْدَائِهِ إِذْ هُوَ تَعَالَى مَالِكُ الْمُلْكِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ إِلَّا مَا فَسَحَ لَنَا فِيهِ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ عَبِيدًا، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمُ اسْتِعَانَةَ الْعَزِيزِ بِالذَّلِيلِ، وَالْأَرْفَعِ بِالْأَوْضَعِ، وَالنِّكَاحِ فِيهِمْ. فَهَذَا كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُوَالَاةِ أُذِنَ لَنَا فِيهِ، وَلَسْنَا مَمْنُوعِينَ مِنْهُ، فَالنَّهْيُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ. مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: مِنْ دُونِ، فِي قَوْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَ: يَتَّخِذِ، هُنَا متعدية إلى اثنين، و: من دُونِ، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا يتخذ، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: أَيْ لَا تَجْعَلُوا ابْتِدَاءَ الْوِلَايَةِ مِنْ مَكَانٍ دُونَ مَكَانِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَرْكِ الْمُوَالَاةِ، إِذْ نَفَى عَنْ مُتَوَلِّيهِمْ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَلَيْسَ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ. وَقِيلَ: مِنْ دِينِهِ. وَقِيلَ: مِنْ عِبَادَتِهِ. وَقِيلَ: مِنْ حِزْبِهِ. وَخَبَرُ: لَيْسَ، هُوَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْفَائِدَةُ، وَهِيَ: في شيء، و: مِنَ اللَّهِ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً لِشَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ. وَ: مِنْ، تَبْعِيضِيَّةٌ نَفَى وِلَايَةَ اللَّهِ عَنْ مَنِ اتَّخَذَ عَدُوَّهُ وَلِيًّا، لِأَنَّ الْوِلَايَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَانِ، قَالَ: تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي ... صَدِيقُكَ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ وَتَشْبِيهُ مَنْ شَبَّهَ الْآيَةَ بِبَيْتِ النَّابِغَةِ: إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ: مِنْكَ وَمِنِّي، خَبَرُ لَيْسَ، وَتَسْتَقِلُّ بِهِ الْفَائِدَةُ. وَفِي الْآيَةِ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ، فَلَيْسَ الْبَيْتُ كَالْآيَةِ.

_ (1) سورة الْبَقَرَةِ: 2/ 23.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مَعْنَاهُ فِي شَيْءٍ مَرْضِيٍّ عَلَى الْكَمَالِ وَالصَّوَابِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «من غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّزَلُّفِ. وَنَحْوُ هَذَا مَقُولُهُ: فِي شَيْءٍ، هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ مُضْطَرِبٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: فَلَيْسَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ اللَّهِ خَبَرًا لِلَيْسَ، إِذْ لَا يَسْتَقِلُّ. فَقَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ، هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونُ خَبَرًا، فَيَبْقَى: لَيْسَ، عَلَى قَوْلِهِ لَا يَكُونُ لَهَا خَبَرٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَتَشْبِيهُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ فِي بَيْتِ النَّابِغَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَةِ. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّعٌ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَالْمَعْنَى لَا يَتَّخِذُوا كَافِرًا وَلِيًّا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِسَبَبِ التَّقِيَّةِ، فَيَجُوزُ إِظْهَارُ الْمُوَالَاةِ بِاللَّفْظِ وَالْفِعْلِ دُونَ مَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَالضَّمِيرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّقِيَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا مُدَارَاةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ: يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَيَتَّقِيهِمْ بِلِسَانِهِ، وَلَا مَوَدَّةَ لَهُمْ فِي قَلْبِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ غَالِبِينَ، أَوْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ فَيَخَافُونَهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُحَالِفُوهُمْ وَيُدَارُوهُمْ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَقَلْبُهُمْ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطُوا النَّاسَ وَزَايِلُوهُمْ وَعَامِلُوهُمْ بِمَا يَشْتَهُونَ، وَدِينُكُمْ فَلَا تُثْلِمُوهُ. وَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: خَالِصِ الْمُؤْمِنَ وَخَالِقِ الْكَافِرِ، إِنَّ الْكَافِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الصَّادِقُ: التَّقِيَّةُ وَاجِبَةٌ، إِنِّي لَأَسْمَعُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ يَشْتُمُنِي فَأَسْتَتِرُ مِنْهُ بِالسَّارِيَةِ لِئَلَّا يَرَانِي. وَقَالَ: الرِّيَاءُ مَعَ الْمُؤْمِنِ شِرْكٌ، وَمَعَ الْمُنَافِقِ عِبَادَةٌ. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَمُجَاهِدٌ: كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي جَدَّةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدِّينِ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّقُوهُمْ بِأَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقِيَّةَ فِي الْقَتْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا قَطِيعَةَ الرَّحِمِ فَخَالِطُوهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا الْتِفَاتٌ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى نَظْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ: إِلَّا أَنْ يَتَّقُوا، بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ أَسْفَلَ، وَهَذَا النَّوْعُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ،

لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ نُهُوا عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ، جَعَلَ ذَلِكَ فِي اسْمٍ غَائِبٍ، فَلَمْ يُوَاجَهُوا بِالنَّهْيِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ الْمُسَامَحَةُ وَالْإِذْنُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَوُجِّهُوا بِذَلِكَ إِيذَانًا بِلُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ، وَتَشْرِيفًا بِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُقَاةً، وَأَصْلُهُ: وُقِيَّةً، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً، كَمَا أَبْدَلُوهَا فِي: تُجَاهٍ وَتُكَاهٍ، وَانْقَلَبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى فِعْلَةٍ: كَالتُّؤْدَةِ وَالتُّخْمَةِ، وَالْمَصْدَرُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ فِعْلَةٍ جَاءَ قَلِيلًا. وَجَاءَ مصدرا على غير المصدر، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الْمَقِيسِ لَكَانَ: اتِّقَاءُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «1» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَاحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ ... رُكَامٌ يَحْفُرُ الْأَرْضَ احْتِفَارًا وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ خَوْفًا. وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ: تُقَاةً، وَحَقَّ تُقَاتِهِ، وَوَافَقَهُ حَمْزَةُ هُنَا وَقَرَأَ وَرْشٌ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَفَتَحَ الْبَاقُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْ جِهَتِهِمْ أَمْرًا يَجِبُ اتقاؤه. وقرىء: تَقِيَّةً. وَقِيلَ: لِلْمُتَّقِي تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ، كَقَوْلِهِمْ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ لِمَضْرُوبِهِ. انْتَهَى. فَجَعَلَ: تُقَاةً، مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ إِلَّا أَنْ تَخَافُوا أَمْرًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: تُقَاةً، مِثْلَ: رُمَاةً، حَالًا مِنْ: تَتَّقُوا، وَهُوَ جَمْعُ فَاعِلٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ فَاعِلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ تَقِيٍّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَكُونُ الْحَالُ مُؤَكِّدَةً لِأَنَّهُ قَدْ فَهِمَ مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ وَتَجْوِيزُ كَوْنِهِ جَمْعًا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَوْ كَانَ جَمْعُ: تَقِيٍّ، لَكَانَ أَتْقِيَاءً، كَغَنِيٍّ وَأَغْنِيَاءَ، وَقَوْلُهُمْ: كَمِيٌّ وَكَمَاةٌ، شَاذٌّ فَلَا يُخَرَّجُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَصْدَرِيَّةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «2» الْمَعْنَى حَقَّ اتِّقَائِهِ، وَحَسُنَ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ هَكَذَا ثُلَاثِيًّا أَنَّهُمْ قَدْ حَذَفُوا: اتَّقَى، حَتَّى صَارَ: تَقِيَ يَتَّقِي، تَقِ اللَّهَ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَصْدَرٌ لِثُلَاثِيٍّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ، وَحُمَيْدُ بن قَيْسٍ، وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: تَقِيَّةً عَلَى وَزْنِ مَطِيَّةٍ وَجَنِيَّةٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ: فَعِيلَةٍ، وَهُوَ قَلِيلٌ نَحْوَ: النَّمِيمَةِ. وَكَوْنُهُ مِنِ افتعل نادر.

_ (1) سورة المزمل: 73/ 8. (2) سورة آل عمران: 3/ 102. [.....]

وظاهر الآية يقتضي جواز مُوَالَاتِهِمْ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي التَّقِيَّةِ، إِذْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْآيَةِ، فَقَالُوا: أَمَّا الْمُوَالَاةُ بِالْقَلْبِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَحْرِيمِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ تَقِيَّةٍ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّظَرُ فِي التَّقِيَّةِ يَكُونُ فِيمَنْ يُتَّقَى مِنْهُ؟ وَفِيمَا يُبِيحُهَا؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ تَكُونُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؟ فَأَمَّا مَنْ يُتَّقَى مِنْهُ فَكُلُّ قَادِرٍ غَالِبٍ يُكْرَهُ بِجَوْرٍ مِنْهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْكُفَّارُ، وَجَوَرَةُ الرُّؤَسَاءِ، وَالسَّلَّابَةُ، وَأَهْلُ الْجَاهِ فِي الْحَوَاضِرِ. قَالَ مَالِكٌ: وَزَوْجُ الْمَرْأَةِ قَدْ يُكْرَهُ وَأَمَّا ما يببحها: فَالْقَتْلُ، وَالْخَوْفُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ، وَالْوَعِيدُ، وَعَدَاوَةُ أَهْلِ الْجَاهِ الْجَوْرَةِ. وَأَمَّا بِأَيِّ شَيْءٍ تَكُونُ مِنَ الْأَقْوَالِ؟ فَبِالْكُفْرِ فَمَا دُونَهُ مِنْ: بَيْعٍ، وَهِبَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مِنَ الْأَفْعَالِ: فَكُلُّ مُحَرَّمٍ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: إِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ دَخْلَ النَّارَ، وَهَذَا شَاذٌّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّقِيَّةُ تَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعِ، وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: التَّقِيَّةُ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَظْهَرَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَمْرٍ فِيهِ إِعْزَازُ الدِّينِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إِنْ عُرِضْتَ عَلَى السَّيْفِ تُجِيبُ؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ: إِذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً، وَالْجَاهِلُ يَجْهَلُ، فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ؟ وَالَّذِي نَقَلَ إِلَيْنَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ، وَتَابِعِيَهُمْ، بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَأَنَّهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَلَا سَطْوَةَ جَبَّارٍ ظَالِمٍ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّمَا تَجُوزُ التَّقِيَّةُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرُورَةً إِلَى الْغَيْرِ: كَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ، وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَاطِّلَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَغَيْرُ جَائِزٍ الْبَتَّةَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ، إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ جَازَتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنِ النَّفْسِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ وَالْمَالِ. انْتَهَى. قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ فِي شَيْءٍ، فَإِذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ وَلَا تَزَوُّجٍ وَلَا غَيْرِهِ.

قِيلَ: وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَةَ الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَطْشَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَفْسَهُ أَيْ: إِيَّاهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: يَوْمًا بِأَجْوَدَ نَائِلًا مِنْهُ إِذَا ... نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمَتْ سُؤَالُهُا أَرَادَ إِذَا الْبَخِيلُ تَجَهَّمَ سُؤَالُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ عَلَى مَعْهُودِ مَا يَفْهَمُهُ الْبَشَرُ، وَالنَّفْسُ فِي مِثْلِ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى الذَّاتِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُضَافٌ لِأَنَّ التَّحْذِيرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِقَابٍ وَتَنْكِيلٍ وَنَحْوِهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عِقَابَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، حَذَّرَهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ بِمُوَالَاةِ أَعَدَائِهِ قَالَ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَيْ: صَيْرُورَتُكُمْ وَرُجُوعُكُمْ، فَيُجَازِيكُمْ إِنِ ارْتَكَبْتُمْ مُوَالَاتِهُمْ بَعْدَ النَّهْيِ. وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ آيِ الْبَقَرَةِ، وَهُنَاكَ قُدِّمَ الْإِبْدَاءُ عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَهُنَا قُدِّمَ الْإِخْفَاءُ عَلَى الْإِبْدَاءِ، وَجَعَلَ مَحَلَّهُمَا مَا فِي الصُّدُورِ، وَأَتَى جَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ. وَالْمَفْهُومُ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، لَا يَتَفَاوَتُ عِلْمُهُ تَعَالَى بِخَفَايَاهَا، وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا فِيهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شرًا فَشَرٌّ. وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ، وَذِكْرِ عُمُومٍ بَعْدَ خُصُوصٍ، فَصَارَ عِلْمُهُ بِمَا فِي صُدُورِهِمْ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَحَدُهُمَا: بِالْخُصُوصِ، وَالْآخَرُ: بِالْعُمُومِ، إِذْ هُمْ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِهِمْ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى مَا أَكَنَّتْهُ صُدُورُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لِأَنَّ نَفْسَهُ، وَهِيَ ذَاتُهُ الْمُتَمَيِّزَةُ مِنْ سَائِرِ الذَّوَاتِ، مُتَّصِفَةٌ بِعِلْمٍ ذَاتِيٍّ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْلُومٍ دُونَ مَعْلُومٍ، فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا وَبِقُدْرَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَا تَخْتَصُّ بِمَقْدُورٍ دُونَ مَقْدُورٍ، فَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ

كُلِّهَا، فَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُحْذَرَ وَتُتَّقَى، فَلَا يَجْسُرُ أَحَدٌ عَلَى قَبِيحٍ، وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ وَاجِبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُطَّلَعٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، فَلَاحِقٌ بِهِ الْعَذَابُ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَشْيَاخُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمُوَافَقَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً اخْتُلِفَ فِي الْعَامِلِ فِي: يَوْمَ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَامِلُ فِيهِ: وَيُحَذِّرُكُمْ، وَرَجَّحَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: الْعَامِلُ فِيهِ: الْمَصِيرُ. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْعَامِلُ فِيهِ: قَدِيرٌ، وَقَالَ أَيْضًا: فِيهِ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا، وَيَضْعُفُ نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمْ، لِطُولِ الْفَصْلِ. هَذَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ التَّحْذِيرَ مَوْجُودٌ، وَالْيَوْمَ مَوْعُودٌ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْعَمَلُ فِيهِ، وَيَضْعُفُ انْتِصَابُهُ: بِالْمَصِيرِ، لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ، وَيَضْعُفُ نَصْبُهُ: بِقَدِيرٍ، لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ دُونَ يَوْمٍ، بَلْ هُوَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْقُدْرَةِ دَائِمًا. وَأَمَّا نَصْبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، فَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَوْمَ تَجِدُ منصوب: بتود، وَالضَّمِيرُ فِي: بَيْنَهُ، لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، حِينَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا حَاضِرَيْنِ تَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ لَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. انْتَهَى هَذَا التَّخْرِيجُ. وَالظَّاهِرُ فِي بادىء النَّظَرِ حُسْنُهُ وَتَرْجِيحُهُ، إِذْ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُضْعِفَاتِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ، لَكِنْ فِي جَوَازِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا خِلَافٌ بَيْنِ النَّحْوِيِّينَ، وَهِيَ: إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ اتَّصَلَ بِالْمَعْمُولِ لِلْفِعْلِ، نَحْوَ: غُلَامَ هِنْدٍ ضَرَبْتُ، وَثَوْبَيْ أَخَوَيْكَ يَلْبَسَانِ، وَمَالُ زَيْدٍ أُخِذَ، فَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ، وَهِشَامٌ، وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ: إِلَى جَوَازِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَمِنْهَا الْآيَةُ عَلَى تَخْرِيجِ الزمخشري، لأن الفاعل: بتودّ، هُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى شَيْءٍ اتَّصَلَ بِمَعْمُولِ: تَوَدُّ، وَهُوَ: يَوْمَ، لِأَنَّ: يَوْمَ، مُضَافٌ إِلَى: تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ وُجْدَانِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَمْثَالَهَا لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْمُولَ فَضْلَةٌ، فَيَجُوزُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ ذِكْرُ الْمَعْمُولِ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ الْفَاعِلُ

عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ امْتَنَعَ: زَيْدًا ضَرَبَ، وَزَيْدًا ظَنَّ قَائِمًا. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: أَجَلُ الْمَرْءِ يُسْتَحَثُّ وَلَا يَدْ ... رِي إِذَا يَبْتَغِي حُصُولَ الْأَمَانِي أَيِ: الْمَرْءُ فِي وَقْتِ ابْتِغَائِهِ حُصُولَ الْأَمَانِي يَسْتَحِثُّ أَجْلَهُ ولا يشعر. و: تجد، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ: مَا عَمِلَتْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى نَصِيبٍ، وَيَكُونُ: مُحْضَرًا، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: تَجِدُ، هُنَا بِمَعْنَى: تَعْلَمُ، فَتَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَنْتَصِبُ: مُحْضَرًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهَا، وَمَا، فِي: مَا عَمِلَتْ، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: عَمَلُهَا، وَيُرَادُ بِهِ إِذْ ذَاكَ اسْمُ الْمَفْعُولِ، أَيْ: مَعْمُولُهَا، فَقَوْلُهُ: مَا عَمِلَتْ، هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ وَثَوَابَهُ. قِيلَ: وَمَعْنَى: مُحْضَرًا عَلَى هَذَا مُوَفَّرًا غَيْرَ مَبْخُوسٍ. وَقِيلَ: تَرَى مَا عَمِلَتْ مَكْتُوبًا فِي الصُّحُفِ مُحْضَرًا إِلَيْهَا تَبْشِيرًا لَهَا، لِيَكُونَ الثَّوَابُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَمَلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُحْضَرًا، بِفَتْحِ الضَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: مُحْضِرًا بِكَسْرِ الضَّادِ، أَيْ مُحْضِرًا الْجَنَّةَ أَوْ مُحْضِرًا مُسْرِعًا بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْضَرَ الْفَرَسَ، إِذَا جَرَى وأسرع. و: مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، مَعْطُوفًا عَلَى: مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي إِنْ كَانَ: تَجِدُ، مُتَعَدِّيَةً إِلَيْهِمَا، أَوِ الْحَالُ إِنْ كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ مَحْذُوفًا، أَيْ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا. وَذَلِكَ نَحْوَ: ظَنَنْتُ زَيْدًا قَائِمًا وَعَمْرًا، إِذَا أَرَدْتَ: وَعَمْرًا قَائِمًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: تَوَدُّ، مُسْتَأْنَفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: تَوَدُّ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: وَادَّةٌ تُبَاعِدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُ عَائِدًا عَلَى مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، وَأَبْعَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي عَوْدِهِ عَلَى الْيَوْمِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ اللذين أحضر لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ: الْخَيْرُ الَّذِي عَمِلَهُ، وَلَا يُطْلَبُ تَبَاعُدُ وَقْتِ إِحْضَارِ الْخَيْرِ إِلَّا بِتَجَوُّزٍ إِذَا كَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِحْضَارِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَتَوَدُّ تَبَاعُدُهُ لِتَسْلَمَ مِنَ الشَّرِّ، وَدَعْهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَيْرُ. وَالْأَوْلَى: عَوْدُهُ عَلَى: مَا عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ السُّوءَ يَتَمَنَّى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ التَّبَاعُدَ مِنْهُ، وَإِلَى عَطْفِ: مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، عَلَى: مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَكَوْنِ، تَوَدُّ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ،

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ و: تودّ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ: لِمَا، التَّقْدِيرُ: وَالَّذِي عَمِلَتْهُ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ هِيَ لَوْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَثَنَى بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، شَرْطًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِارْتِفَاعِ: تَوَدُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَقْبَلٌ مَرْفُوعٌ يَقْتَضِي جَزْمُهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَهِيَ تَوَدُّ، وَفِي ذَلِكَ ضَعْفٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَهَرَ مِنْ كَلَامَيْهِمَا امْتِنَاعُ الشَّرْطِ لِأَجْلِ رَفْعِ: تَوَدُّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَ سَأَلَنِي عَنْهَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسْتَشْكَلَ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنَّ يَجُوزَ غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِ زُهَيْرِ: وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ: لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ وَكَتَبْتُ جَوَابَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ فِي كِتَابِي الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى: (بِالتَّذْكِرَةِ) ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ ذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ نُقَدِّمَ مَا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا، وَمَا بَعْدَهُ مُضَارِعٌ تُتِمُّ بِهِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، جَازَ فِي ذَلِكَ الْمُضَارِعِ الْجَزْمُ، وَجَازَ فِيهِ الرَّفْعُ، مِثَالُ ذَلِكَ: إِنْ قَامَ زَيْدٌ يَقُومُ عَمْرٌو، وَإِنْ قَامَ زَيْدٌ يَقُمْ عَمْرٌو. فَأَمَّا الْجَزْمُ فَعَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافًا، وَأَنَّهُ فَصِيحٌ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ كِتَابِ (الْإِعْرَابِ) عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ: لَا يَجِيءُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ مَعَ: كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها لِأَنَّهَا أَصْلُ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَنَصِّ الْجَمَاعَةِ، أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بَكَانِ، بَلْ سَائِرُ الْأَفْعَالِ فِي ذَلِكَ مِثْلُ كَانَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْفَرَزْدَقِ: دَسَّتْ رَسُولًا بِأَنَّ الْقَوْمَ إِنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُورًا ذَاتِ تَوْغِيرِ وَقَالَ أَيْضًا: تَعَالَ فَإِنْ عَاهَدْتَنِي لَا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ

وَأَمَّا الرَّفْعُ فَإِنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْجَزْمِ، وَمِنْهُ بَيْتُ زُهَيْرٍ السَّابِقُ إِنْشَادُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَيْضًا: وَإِنْ سُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيعِ مَخَافَةً ... يَقُولُ جِهَارًا: وَيْلَكُمْ لَا تَنْفِرُوا وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: وَلَا بِالَّذِي إِنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ ... يَقُولُ وَيُخْفِي الصَّبْرَ: إِنِّي لَجَازِعُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَإِنْ بَعُدُوا لَا يَأْمَنُونَ اقْتِرَابَهُ ... تَشَوُّفَ أَهِلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَرْ وَقَالَ الْآخَرُ: وَإِنْ كَانَ لَا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إِلَى قُطْرِي لَا إِخَالَكَ رَاضِيًا وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ يُسْأَلُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ، وَإِنْ خُبِّرُوا ... فِي الْجَهْدِ أُدْرِكَ مِنْهُمْ طِيبُ أَخْبَارِ فَهَذَا الرَّفْعُ، كَمَا رأيت كثير، ونصوص الأمة عَلَى جَوَازِهِ فِي الْكَلَامِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ تَأْوِيلَاتُهُمْ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَالَ صَاحِبُنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ رَشِيدٍ المالقي، وهو مصنف (رصف الْمَبَانِي) رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا أَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا جَاءَ فِي الْكَلَامِ، وَإِذَا جَاءَ فَقِيَاسُهُ الْجَزْمُ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعَمَلِ فِي الْمُضَارِعِ، تَقَدَّمَ الْمَاضِي أَوْ تَأَخَّرَ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْمَسْمُوعُ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَجَعْلِهِ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ. عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَعَلَ الْفَاءَ مِنْهُ مَحْذُوفَةً. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ الرَّفْعِ، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيمِ. وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ فَهُوَ مَحْذُوفٌ عِنْدَهُ. وَذَهَبُ الْكُوفِيُّونَ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْجَوَابُ حُذِفَتْ مِنْهُ الْفَاءُ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ فِي فِعْلِ الشَّرْطِ، لِكَوْنِهِ مَاضِيًا، ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ فِي فِعْلِ الْجَوَابِ، وَهُوَ عِنْدَهُ جَوَابٌ لَا عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَلَا عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، وَهَذَا وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَبْلَهُ ضَعِيفَانِ.

وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ: أَنَّ رَفْعَ الْمُضَارِعِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ شَرْطًا، لَكِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ: وَمَا عَمِلَتْ، شَرْطًا لِعِلَّةٍ أُخْرَى، لَا لِكَوْنِ: تَوَدُّ، مَرْفُوعًا، وَذَلِكَ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ بِالْمَرْفُوعِ التَّقْدِيمُ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ لَا نَفْسَ الْجَوَابِ، فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ: تود، منويا به كالتقديم أَدَّى إِلَى تَقَدُّمِ الْمُضْمَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي غَيْرِ الْأَبْوَابِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُ، عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ: مَا، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ؟ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ تَقَدُّمُ الْمُضْمَرِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَالضَّمِيرُ قَدْ تَأَخَّرَ عَنِ اسْمِ الشَّرْطِ؟ فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ التَّقْدِيمَ فَقَدْ حَصَلَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ نَظِيرُ: ضَرَبَ زَيْدًا غُلَامُهُ، فَالْفَاعِلُ رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ وَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ لِصِحَّةِ عَوْدِ الضَّمِيرِ. فَالْجَوَابُ: إِنَّ اشْتِمَالَ الدَّلِيلِ عَلَى ضَمِيرِ اسْمِ الشَّرْطِ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اقْتِضَاءُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِجُمْلَةِ الدَّلِيلِ، وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ إِنَّمَا تَقْتَضِي جُمْلَةَ الْجَزَاءِ لَا جُمْلَةَ دَلِيلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَامِلَةٍ فِي جُمْلَةِ الدَّلِيلِ، بَلْ إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَجُمْلَةُ الدَّلِيلِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَدَافَعَ الْأَمْرُ، لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُمْلَةُ دَلِيلٍ لَا يَقْتَضِيهَا فِعْلُ الشَّرْطِ، وَمِنْ حَيْثُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ اقْتَضَتْهَا، فَتَدَافَعَا. وَهَذَا بِخِلَافِ: ضَرَبَ زَيْدًا غُلَامُهُ، هِيَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْفِعْلُ عَامِلٌ فِي الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي صَاحِبَهُ، وَلِذَلِكَ جَازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: ضَرَبَ غُلَامُهَا هِنْدًا، لِاشْتِرَاكِ الْفَاعِلِ الْمُضَافِ لِلضَّمِيرِ وَالْمَفْعُولِ الَّذِي عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي الْعَامِلِ، وَامْتَنَعَ: ضَرَبَ غُلَامُهَا جَارَ هِنْدٍ، لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعَامِلِ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَلَا يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ: أَوَدُّ لَوْ أَنِّي أُكْرِمُهُ أَيًّا ضَرَبَتْ هِنْدٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ عَلَى مُفَسِّرِهِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مِنْ سُوءٍ وَدَّتْ لَوْ أَنَّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: مَا، شَرْطِيَّةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَعَمِلَتْ. أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ الْهَاءِ فِي: عَمِلَتْ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ، إِذْ يُجِيزُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الشَّرْطِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَتَكُونُ: وَدَّتْ، جَزَاءَ الشَّرْطِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ أَوْقَعُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ حِكَايَةُ الْكَائِنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَثْبَتُ لِمُوَافَقَةِ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ. انْتَهَى. وَ: لَوْ، هُنَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، وَمَفْعُولُ: تَوَدُّ، مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: تَوَدُّ تَبَاعُدَ مَا بَيْنَهُمَا لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا لَسَرَتْ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي: لَوْ، و: أَنْ، وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ: لَوْ، بِمَعْنَى: أَنْ، وَأَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ فَهُوَ بَعِيدٌ هُنَا لِوِلَايَتِهَا أَنَّ وَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا يُبَاشِرُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ حَرْفًا مصدريًّا إِلَّا قَلِيلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «1» والذي يقتضيه المعنى أن: لَوْ أَنَّ، وَمَا يَلِيهَا هُوَ مَعْمُولُ: لِتَوَدُّ، فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: يُسَرُّ أَحَدُهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَلِكَ أَبَدًا، ذَلِكَ مَعْنَاهُ. وَمَعْنَى أَمَدًا بَعِيدًا: غَايَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقِيلَ: مِقْدَارُ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: قَدْرُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ. كَرَّرَ التَّحْذِيرَ لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُونَ مُمْتَثِلِي أَمْرَهُ ونهيه. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ التَّخْوِيفِ وَكَرَّرَهَا، كَانَ ذَلِكَ مُزْعِجًا لِلْقُلُوبِ، وَمُنَبِّهًا عَلَى إِيقَاعِ الْمَحْذُورِ مَعَ مَا قَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَإِحْضَارِهِ لَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهَذَا هُوَ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ اللَّذَيْنِ يَجِبُ أَنْ يُحَذِّرَ لِأَجْلِهِمَا، فَذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِيُطْمَعَ فِي إِحْسَانِهِ، وَلِيُبْسَطَ الرَّجَاءُ فِي أَفْضَالِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مَا إِذَا ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْأَمْرِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2» وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَبْلَغَ فِي الْوَصْفِ مِنْ جُمْلَةِ التَّخْوِيفِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ التَّخْوِيفِ جَاءَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُطْلَقَ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، وَجَاءَ الْمُحَذَّرُ مَخْصُوصًا بِالْمُخَاطَبِ فَقَطْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتِ اسْمِيَّةً، فَتَكَرَّرَ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، إِذِ الْوَصْفُ مُحْتَمِلٌ ضَمِيرَهُ تَعَالَى، وَجَاءَ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ الْمُقْتَضِي لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، وَجَاءَ بِأَخَصِّ أَلْفَاظِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ: رؤوف، وَجَاءَ مُتَعَلِّقُهُ عَامًّا لِيَشْمَلَ المخاطب

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 23. (2) سورة الأنعام: 6/ 165 والأعراف: 7/ 167.

وَغَيْرَهُ، وَبِلَفْظِ الْعِبَادِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّامِّ، لِأَنَّ الْمَالِكَ مُحْسِنٌ لِعَبْدِهِ وَنَاظِرٌ لَهُ أَحْسَنَ نَظَرٍ، إِذْ هُوَ مِلْكُهُ. قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى التَّحْذِيرِ، أَيْ: إِنَّ تَحْذِيرَهُ نَفْسَهُ وَتَعْرِيفَهُ حَالَهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ الْعَظِيمَةِ بِالْعِبَادِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَحَذَرُوا دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ رِضَاهُ وَاجْتِنَابِ سُخْطِهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْحُوفِيُّ: جَعَلَ تَحْذِيرَهُمْ نَفْسَهُ إِيَّاهُ، وَتَخْوِيفَهُمْ عِقَابَهُ رَأْفَةً بِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي عَمًى مِنْ أَمْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَالْكَلَامُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ إِعْلَامِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيسِ وَالْإِطْمَاعِ لِئَلَّا يُفْرِطَ الْوَعِيدَ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، قَالُوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» أَوْ: فِي قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» قَالُوا ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَبَتْ قُرَيْشٌ أَصْنَامَهَا يَسْجُدُونَ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَقَدْ خَالَفْتُمْ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: فِي قَوْمٍ قَالُوا: إِنَّا لَنُحِبُّ رَبَّنَا حُبًّا شَدِيدًا. وَقَالَ محمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ: فِي وَفْدِ نَجْرَانَ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّا نُعَظِّمُ الْمَسِيحَ حُبًّا لِلَّهِ. انْتَهَى. وَلَفْظُ الْآيَةِ يَعُمُّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ قَلْبِهِ إِلَى مَا حَدَّهُ لَهُ تَعَالَى وَأَمَرَهُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ وَاخْتِصَاصُهُ إِيَّاهُ بِالْعِبَادَةِ، وَمَحَبَّتُهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَهَلْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَمْ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. رَتَّبَ تَعَالَى عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لَهُ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ مَحَبَّتُهُ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ إِلَى رِضَاهُ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ نَبِيِّهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ، إِذْ لا يهتدي لعقل إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا، بَلْ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُوَضِّحُ لِذَلِكَ، فَكَانَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا أَتَى بِهِ احْتِمَاءً لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُحِبُّونَ، وَيُحْبِبْكُمُ، مِنْ أَحَبِّ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: تَحِبُّونَ وَيَحْبِبْكُمُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْيَاءِ مِنْ حَبَّ، وَهُمَا لُغَتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ قرىء: يَحُبُّكُمُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْإِدْغَامِ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 18. (2) سورة الزمر: 39/ 3.

وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: فَاتَّبَعُونِّي، بِتَشْدِيدِ النُّونِ، أَلْحَقَ فِعْلَ الْأَمْرِ نُونَ التَّوْكِيدِ وَأَدْغَمَهَا فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَلَمْ يَحْذِفِ الواو شبها: بأتحاجوني، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ لِقَوْلِهِمْ تَصْدِيقًا مِنْ عَمَلٍ، فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِهِ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَكِتَابُ اللَّهِ يُكَذِّبُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ يَذْكُرُ مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَيُصَفِّقُ بِيَدَيْهِ مَعَ ذِكْرِهَا، وَيَطْرَبُ وَيَنْعَرُ وَيُصَفِّقُ، وَقُبِّحَ مَنْ فِعْلُهُ هَذَا، وَزَرَى عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إدغام: راء، و: يغفر لَكُمْ، فِي لَامِ: لَكُمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ مِمَّنْ رَوَاهَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكُوفَةِ: أبا جعفر الرؤاسي، وَالْكِسَائِيَّ، وَالْفَرَّاءَ رَوَوْا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، وَرَأْسَانِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَهُمَا: أَبُو عَمْرٍو، ويعقوب قرآ بِذَلِكَ وَرَوَيَاهُ، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ هَذَا تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُ بِأَنَّ نَحْبَهُ كَمَا أَحَبَّتِ النصارى عيسى بن مَرْيَمَ، فَنَزَلَ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: تَوَلَّوْا، مَاضِيًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا حُذِفَتْ مِنْهُ التَّاءُ، أَيْ: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا. وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ وَلَمْ يُطِعْهُ كَافِرًا، وَتَقْيِيدُ انْتِفَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ مُشْعِرٌ بِالْعَلِيَّةِ، فَالْمُؤْمِنُ الْعَاصِي لَا يَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ وَفُنُونِ الْبَلَاغَةِ الْخِطَابُ الْعَامُّ الَّذِي سَبَبُهُ خَاصٌّ. فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ وَالتَّكْرَارُ، فِي قَوْلِهِ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَإِلَى اللَّهِ، وَفِي: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَيَعْلَمُ، وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ عَلَى، وَفِي قَوْلِهِ: مَا عَمِلَتْ، وَمَا عَمِلَتْ، وَفِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ، والله رؤوف، وَفِي قَوْلِهِ: تُحِبُّونَ اللَّهَ، يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ، قل أطيعوا الله، فإن اللَّهَ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 إلى 41]

وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: تُحِبُّونَ وَيُحْبِبْكُمُ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ، فِي: تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، وَفِي يَغْفِرْ لَكُمْ وَغَفُورٌ. وَالطِّبَاقُ فِي: تُخْفُوا وَتُبْدُوهُ، وَفِي: مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ سُوءٍ، وَفِي: مُحْضَرًا وَبَعِيدًا. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَحَلِّ عَنِ الشَّيْءِ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي صُدُورِكُمْ، عَبَّرَ بِهَا عَنِ الْقُلُوبِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ «1» الْآيَةَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، الْآيَةَ. أَشَارَ إِلَى انْسِلَاخِهِمْ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي صُدُورِكُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَالتَّأْنِيسُ بَعْدَ الْإِيحَاشِ فِي قَوْلِهِ: والله رؤوف بِالْعِبَادِ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي التفسير. [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)

_ (1) سورة الحج: 22/ 46.

نُوحٌ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَصْرُوفٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا كَانَ يَقْتَضِي مَنْعَ صَرْفِهِ وَهُوَ: الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ الشَّخْصِيَّةُ، وَذَلِكَ لِخِفَّةِ الْبِنَاءِ بِكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِ سَبَبٌ آخَرُ، وَمَنْ جَوَّزَ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى هَذَا لَا بِالسَّمَاعِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّوَاحِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْعُجْمَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الِاشْتِقَاقُ الْعَرَبِيُّ إِلَّا أَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلُغَةُ الْعَجَمِ، فَيُمْكِنُ ذَلِكَ. وَيُسَمَّى: آدَمَ الثَّانِيَ وَاسْمُهُ السَّكَنُ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ابْنٌ لِمَلِكِ بْنِ مُتَوَشْلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ سَارِدَ بْنِ مَهْلَابِيلَ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ. عِمْرَانُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَلَوْ كَانَ عربيا لا متنع أَيْضًا لِلْعَلَمِيَّةِ، وَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ إِذْ كَانَ يَكُونُ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعُمْرِ وَاضِحًا. مُحَرَّرًا: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَرَّرَ، وَيَأْتِي اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَدْلُولِهِ فِي الْآيَةِ، وَالتَّحْرِيرُ: الْعِتْقُ، وَهُوَ تَصْيِيرُ الْمَمْلُوكِ حُرًّا. الْوَضْعُ: الْحَطُّ وَالْإِلْقَاءُ، تَقُولُ: وَضَعَ يَضَعُ وَضْعًا وَضَعَةً، وَمِنْهُ الْمَوْضِعُ. الْأُنْثَى وَالذَّكَرُ: مَعْرُوفَانِ، وَأَلِفُ أُنْثَى لِلتَّأْنِيثِ، وَجُمِعَتْ عَلَى إِنَاثٍ، كَرُبَى وَرَبَابٍ، وَقِيَاسُ الْجَمْعِ: أُنَاثَى، كَحُبْلَى وَحُبَالَى. وَجَمْعُ الذَّكَرِ: ذُكُورٌ وَذُكْرَانٌ. مَرْيَمُ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَقِيلَ عَرَبِيٌّ جَاءَ شَاذًّا: كَمَدْيَنَ، وَقِيَاسُهُ: مَرَامٍ كَمَنَالٍ، وَمَعْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تُغَازِلُ الْفِتْيَانَ، قَالَ الرَّاجِزُ: قُلْتُ لِزَيْدٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ عَاذَ بِكَذَا: اعْتَصَمَ بِهِ، عوذا وعياذا ومعاذا ومعاذة وَمَعْنَاهُ: الْتَجَأَ وَاعْتَصَمَ وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعَوْذِ وَهُوَ: عَوْذٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْحَشِيشُ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ.

رَجَمَ: رَمَى وَقَذَفَ، وَمِنْهُ رَجْماً بِالْغَيْبِ «1» أَيْ: رَمْيًا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ، وَالْحَدِيثُ الْمُرْجَمُ هُوَ: الْمَظْنُونُ لَيْسَ فِيهِ يَقِينٌ. وَالرَّجِيمُ: يحمل أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ فَاعِلٍ، أَيْ إِنَّهُ يَرْمِي وَيَقْذِفُ بِالشَّرِّ وَالْعِصْيَانِ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: مَرْجُومٌ، أَيْ يُرْجَمُ بِالشُّهُبِ أَوْ يُبْعَدُ وَيُطْرَدُ. الْكَفَالَةُ: الضَّمَانُ، يُقَالُ: كَفَلَ يَكْفُلُ فَهُوَ كَافِلٌ وَكَفِيلٌ، هَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ يُسْتَعَارُ لِلضَّمِّ وَالْقِيَامِ عَلَى الشَّيْءِ. زَكَرِيَّا: أَعْجَمِيٌّ شُبِّهَ بِمَا فِيهِ الْأَلِفُ الْمَمْدُودَةُ وَالْأَلِفُ الْمَقْصُورَةُ فَهُوَ مَمْدُودٌ وَمَقْصُورٌ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ نَكِرَةً، وَهَاتَانِ اللُّغَتَانِ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَلَوْ كَانَ امْتِنَاعُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ انْصَرَفَ نَكِرَةً. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَيُقَالُ: ذِكْرَى بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَفِي آخِرِهِ يَاءٌ كَيَاءِ بحتى، مُنَوَّنَةٌ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدَ، وَوَجْهُهُ فِيمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّهُ حَذَفَ يَاءَيِ الْمَمْدُودِ وَالْمَقْصُورِ، وَأَلْحَقَهُ يَاءَيِ النَّسَبِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرْفُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْيَاءَانِ هُمَا اللَّتَيْنِ كَانَتَا فِي زَكَرِيَّا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْرَفَ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ حُكِيَ: ذُكَرُ عَلَى وَزْنِ: عُمَرُ، وَحَكَاهَا الْأَخْفَشُ. الْمِحْرَابُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَيِّدُ الْمَجَالِسِ وَأَشْرَفُهَا وَمُقَدِّمُهَا، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْغُرْفَةُ وَقَالَ: وَمَاذَا عَلَيْهِ أَنْ ذَكَرْتُ أَوَانِسَا ... كَغِزْلَانِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أَقْيَالِ شَرَحَهُ الشُّرَّاحُ فِي غُرَفٍ أَقْيَالٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَوْضِعُ الْعَالِي الشَّرِيفُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْقَصْرُ، لِشَرَفِهِ وَعُلُوِّهِ. وَقِيلَ: الْمَسْجِدُ. وَقِيلَ: مِحْرَابُهُ الْمَعْهُودُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَحَارُبِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَتَنَافُسِهِمْ فِيهِ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ. هُنَا: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْمَكَانِ الْقَرِيبِ، وَالْتَزَمَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ إِلَّا أَنَّهُ يُجَرُّ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَإِنْ أَلْحَقْتَهُ كَافَ الْخِطَابِ دَلَّ عَلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ. وَبَنُو تَمِيمٍ تَقُولُ: هُنَاكَ، وَيَصِحُّ دُخُولُ حَرْفِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ اللَّامُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا ظَرْفُ الزَّمَانِ. النِّدَاءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَفُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا، أَيْ أَرْفَعُ، وَدَارُ النَّدْوَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَرْتَفِعُ أَصْوَاتُهُمْ بِهَا، وَالْمُنْتَدَى وَالنَّادِي مُجْتَمَعُ الْقَوْمِ مِنْهُ، وَيُقَالُ: نَادَى مُنَادَاةً وَنِدَاءً وَنُدَاءً، بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا. قِيلَ: فَبِالْكَسْرِ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَتِ الأصوات على

_ (1) سورة الكهف: 18/ 22.

الضَّمِّ: كَالدُّعَاءِ وَالرُّغَاءِ وَالصُّرَاخِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: يُمَدُّ مَعَ كَسْرِ النُّونِ، وَيُقْصَرُ مَعَ ضَمِّهَا. وَالنَّدَى: الْمَطَرُ، يُقَالُ مِنْهُ نَدَى يَنْدَى نَدًى. يَحْيَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ امْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ، وَهُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مِنْ: حَيِيَ، سُمِّيَ بِهِ فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يُجْمَعُ عَلَى: يَحْيَوْنَ، بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ، وَسِيبَوَيْهِ وَنُقِلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ: إِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فُتِحْتِ الْيَاءُ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا ضُمَّتِ الْيَاءُ. سَيِّدٌ: فَيْعِلٌ مِنْ: سَادَ، أَيْ: فَاقَ فِي الشَّرَفِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا، وَجَمْعُهُ عَلَى: فَعْلَةٍ، فَقَالُوا: سَادَةٌ، شَاذٌّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ السَّايِسُ بِسَوَادِ النَّاسِ، أَيْ: مُعْظَمِهِمْ، وَلِهَذَا يُقَالُ: سَيِّدُ الْعَبْدِ، وَلَا يُقَالُ سَيِّدُ الثَّوْبِ. انْتَهَى. الْحَصُورُ: فَعُولٌ مِنَ الْحَصْرِ، وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاصَرَ وَقِيلَ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْصُورٍ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ. الْغُلَامُ: الشَّابُّ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي طَرَّ شَارِبَهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطِّفْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، وَعَلَى الْكَهْلِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ: شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا تَسْمِيَةٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ مِنَ الْغُلْمَةِ وَالِاغْتِلَامِ، وَذَلِكَ شِدَّةُ طَلَبِ النِّكَاحِ. وَيُقَالُ: اغْتَلَمَ الْفَحْلُ: هَاجَ مِنْ شِدَّةِ شَهْوَةِ الضِّرَابِ، وَاغْتَلَمَ الْبَحْرُ: هَاجَ وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُهُ، وَجَمْعُهُ عَلَى: غُلْمَةٍ، شَاذٌّ وَقِيَاسُهُ فِي الْقِلَّةِ: أَغْلِمَةٌ، وَجُمِعَ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى: غِلْمَانٍ، وَهُوَ قِيَاسُهُ. الْكِبَرُ، مَصْدَرُ: كَبُرَ يَكْبُرُ مِنَ السِّنِّ قَالَ: صَغِيرَيْنِ نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم الْعَاقِرُ: مَنْ لَا يُوَلَدُ لَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَفِعْلُهُ لَازِمٌ، وَالْعَاقِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَقَرَ أَيْ: قَتَلَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ. الرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَأَصْلُهُ التَّحَرُّكُ يُقَالُ ارْتَمَزَ تَحَرَّكَ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَحْرِ الرَّامُوزُ. الْعَشِيُّ: مُفْرَدُ عَشِيَّةٍ، كَرَكِيٍّ، وَرَكِيَّةٍ. وَالْعَشِيَّةُ: أَوَاخِرُ النَّهَارِ، وَلَامُهَا وَاوَ، فَهِيَ كَمَطِيٍّ.

الْإِبْكَارُ: مَصْدَرُ أَبْكَرَ، يُقَالُ أَبْكَرَ: خَرَجَ بُكْرَةً. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ أَبْنَاءُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ. وَنَحْنُ عَلَى دِينِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: فِي نَصَارَى نَجْرَانَ لَمَّا غَلَوْا فِي عِيسَى، وَجَعَلُوهُ ابْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا، نَزَلَتْ رَدًّا عَلَيْهِمْ، وَإِعْلَامًا أَنَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ الْبَشَرِ الْمُتَنَقِّلِينَ فِي الْأَطْوَارِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى الْإِلَهِ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وِلَادَةِ أُمِّهِ، ثُمَّ إِلَى وِلَادَتِهِ هُوَ، وَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا. وَأَيْضًا. لِمَا قُدِّمَ قَبْلُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» وَوَلِيَهُ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ «2» وَخَتَمَهَا بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ «3» ذَكَرَ الْمُصْطَفَيْنَ الَّذِينَ يُحِبُّ اتِّبَاعَهُمْ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِأَوَّلِهِمْ وُجُودًا وَأَصْلِهِمْ، وَثَنَى بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ هُوَ آدَمُ الْأَصْغَرُ لَيْسَ أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ نَسْلِهِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِآلِ إِبْرَاهِيمَ، فَانْدَرَجَ فِيهِمْ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَأْمُورُ بِاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أَتَى رَابِعًا بِآلِ عِمْرَانَ، فَانْدَرَجَ فِي آلِهِ مَرْيَمُ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَصَّ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ لِخُصُوصِيَّةِ الْيَهُودِ بِهِمْ، وَعَلَى آلِ عِمْرَان لِخُصُوصِيَّةِ النَّصَارَى بِهِمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى جَعْلَ هَؤُلَاءِ صَفْوَةً، أَيْ مُخْتَارِينَ نَقَاوَةً. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَقَّاهُمْ مِنَ الْكَدَرِ. وَهَذَا مِنْ تَمْثِيلِ الْمَعْلُومِ بِالْمَحْسُوسِ.. وَاصْطِفَاءُ آدَمَ بِوُجُوهٍ. مِنْهَا خَلْقُهُ أَوَّلَ هَذَا الْجِنْسِ الشَّرِيفِ، وَجَعْلُهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَإِسْجَادُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، وَإِسْكَانُهُ جَنَّتَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَرَّفَهُ بِهِ. وَاصْطِفَاءُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا: أَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِتَحْرِيمِ: الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَسَائِرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ، وَأَنَّهُ أَبُ النَّاسِ بَعْدَ آدَمَ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَاصْطِفَاءُ آلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعَلَ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: آلُ إِبْرَاهِيمَ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: آلُهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «4» . وَعِمْرَانُ هَذَا الْمُضَافُ إِلَيْهِ: آلُ، قِيلَ هُوَ: عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ مِنْ وَلَدِ سليمان بن داود،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 31. (3- 2) سورة آل عمران: 3/ 32. (4) سورة البقرة: 2/ 248.

وَهُوَ أَبُو مَرْيَمَ الْبَتُولِ أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ: الْحَسَنُ وَوَهْبٌ. وَقِيلَ: هُوَ عِمْرَانُ أَبُو مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ نُصَيْرٍ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. فَعَلَى الْأَوَّلِ آلُهُ عِيسَى، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَلَى الثَّانِي آلُهُ مُوسَى وَهَارُونَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ عِمْرَانَ عِمْرَانُ نَفْسُهُ، وَالظَّاهِرُ فِي عِمْرَانَ أَنَّهُ أَبُو مَرْيَمَ لِقَوْلِهِ بَعْدُ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ فَذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا بِقَوْلِهِ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ «1» فقوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ كَالشَّرْحِ لِكَيْفِيَّةِ الِاصْطِفَاءِ، لِقَوْلِهِ: وَآلَ عِمْرَانَ، وَصَارَ نَظِيرَ تَكْرَارِ الِاسْمِ فِي جُمْلَتَيْنِ، فَيَسْبِقُ الذِّهْنُ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ، نحو: أكرم زيدا إن زَيْدًا رَجُلٌ صَالِحٌ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، كَانَ فِي ذَلِكَ إِلْبَاسٌ عَلَى السَّامِعِ. وَقَدْ رُجِّحَ الْقَوْلُ الْآخَرُ بِأَنَّ مُوسَى يُقْرَنُ بِإِبْرَاهِيمَ كَثِيرًا فِي الذِّكْرِ، وَلَا يَتَطَرَّقُ الْفَهْمُ إِلَى أَنَّ عِمْرَانَ الثَّانِيَ هُوَ أَبُو مُوسَى وَهَارُونَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ تُسَمَّى مَرْيَمَ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ سِنًّا، لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ وَلَدَتْ عِيسَى، وَأَنَّ زَكَرِيَّا كَفَلَ مَرْيَمَ أُمَّ عِيسَى، وَكَانَ زَكَرِيَّا قَدْ تَزَوَّجَ أُخْتَ مَرْيَمَ إِمْشَاعَ ابْنَةَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ فَكَانَ يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَيْ خَالَةٍ، وَبَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ وَالْمَرْيَمَيْنِ أَعْصَارٌ كَثِيرَةٌ. قِيلَ: بَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ أَلْفُ سَنَةٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآلَ من يؤول إِلَى الشَّخْصِ فِي قَرَابَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى هَؤُلَاءِ هُنَا فِي الِاصْطِفَاءِ لِلْمَزَايَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ. وَذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ بِالْأَنْدَلُسِ: أَبُو الْحَكَمِ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرِضَى عَنْهُ، إِلَى أَنَّ ذِكْرَ آدَمَ وَنُوحٍ تَضَمَّنَ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِهِمَا، وَأَنَّ الْآلَ الْأَتْبَاعُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِصَّةِ بَعْضِهِمُ. انْتَهَى مَا قَالَ مُلَخَّصًا، وَقَوْلُهُ شَبِيهٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ آدَمَ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى دِينَ آدَمَ. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْمُرَادُ اصْطَفَى دِينَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ لَكَانَ: وَنُوحٍ مَجْرُورًا، لِأَنَّ آدَمَ مَحَلُّهُ الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ التِّبْرِيزِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْلَا تَسْطِيرُهُ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُ. لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُجَرَّ الْمُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ، فَيَلْزَمُ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 42.

جَرُّ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْرَبُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِإِعْرَابِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» ؟ وَأَمَّا إِقْرَارُهُ مَجْرُورًا فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطٍ ذُكِرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. عَلَى الْعالَمِينَ متعلق باصطفى، ضَمَّنَهُ مَعْنَى فَضَّلَ، فَعَدَّاهُ بِعَلَى. وَلَوْ لَمْ يُضَمِّنْهُ مَعْنَى فَضَّلَ لَعُدِّيَ بِمِنْ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: وَيَضْحَى الْعَالَمُونَ لَهُ عِيَالًا وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: أَرَاحَ اللَّهُ مِنْكَ الْعَالَمِينَا وَكَمَا تؤول فِي وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ «2» . وَقَالَ الْقَتِبِيُّ: لِكُلِّ دَهْرٍ عَالَمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ بِمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ، وَيَكُونُ قَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ فُضِّلُوا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ التَّفْضِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسَاوِي فِي مَرَاتِبِ التَّفْضِيلِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ وَعُمَرُ وَخَالِدٌ أَغْنِيَاءٌ، فَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْغِنَى لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسَاوِي فِي مَرَاتِبِ الْغِنَى، وَإِذَا حَمَلْنَا: الْعَالَمِينَ، عَلَى مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ، كَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ: الْعَالَمِينَ، عَلَى عُمُومِهِ لِأَجْلِ التَّنَاقُضِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِذَا وُصِفُوا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ، يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَآلَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أَجَازُوا فِي نَصْبِ: ذَرِّيَّةً، وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ يَعْنِي أَنَّ الْآلَيْنِ ذَرِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَدَلٌ مِنْ نُوحٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ آدَمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذُرِّيَّةٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَسُوغُ أَنْ تَقُولَ فِي وَالِدِ هَذَا ذُرِّيَّةٌ لِوَلَدِهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الذَّرِّيَّةُ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ والأصل والنسل.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 82. (2) سورة البقرة: 2/ 47 و 122.

كَقَوْلِهِ: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «1» أَيْ آبَاءَهُمْ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: الذَّرَارِي. وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: الْآيَةُ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآبَاءُ ذَرِّيَّةً لِلْأَبْنَاءِ، وَالْأَبْنَاءُ ذَرِّيَّةً لِلْآبَاءِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فالأب ذرىء منه الولد، والولد ذرىء مِنَ الْأَبِ. وَقَالَ مَعْنَاهُ النَّقَّاشُ فَعَلَى قَوْلِ الرَّاغِبِ وَصَاحِبِ النَّظْمِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: ذَرِّيَّةً، بَدَلًا مِنْ: آدَمَ، وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ. وَأَجَازُوا أَيْضًا نَصْبَ: ذَرِّيَّةً، عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: وَهُوَ أَظْهَرُ مِنَ الْبَدَلِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذُرِّيَّةٍ دَلَالَةً وَاشْتِقَاقًا وَوَزْنًا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالضَّحَّاكُ: ذِرِّيَّةً، بِكَسْرِ الذَّالِ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ. بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لذرية و: من، لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً أَيْ: مُتَشَعِّبَةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاسُلِ، فَإِنْ فُسِّرَ عِمْرَانَ بِوَالِدِ مُوسَى وَهَارُونَ فَهُمَا مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ يَصْهَرَ، وَيَصْهَرُ مِنْ قَاهِثَ، وَقَاهِثُ مِنْ لَاوَى، وَلَاوَى مِنْ يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وإسحاق مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنْ فُسِّرَ عِمْرَانَ بِوَالِدِ مَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى، فَعِيسَى مِنْ مَرْيَمَ، وَمَرْيَمُ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ داود، وسليمان مِنْ وَلَدِ يَهُوذَا بْنِ يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ دَخَلَ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ مَجَازًا أَيْ: مِنْ بَعْضٍ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ، قَالَ: مِنْ بَعْضٍ فِي تَنَاصُرِ الدِّينِ، وَقَالَ أَبُورُوتُ: بَعْضُهَا عَلَى دِينِ بَعْضٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُهُ الْخَلْقُ، عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُونَهُ. أَوْ: سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُهُ امْرَأَةُ عِمْرَانَ، عَلِيمٌ بِمَا تَقْصِدُ. أَوْ: سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُهُ الذُّرِّيَّةُ، عَلِيمٌ بِمَا تُضْمِرُهُ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِلِاصْطِفَاءِ، أَوْ: يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ خَتْمَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مناسب لقوله آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا لآله فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ

_ (1) سورة يس: 36/ 41.

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ «1» بِقَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «2» وَحَمَدَ رَبَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3» وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ «4» ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَذُرِّيَّتَهُ، وَقَالَ حِينَ بنى هو وإسماعيل الْكَعْبَةَ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «5» إِلَى سَائِرِ مَا دَعَا بِهِ حَتَّى قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ «6» وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ» . فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ تَضَرُّعَاتٌ وَأَدْعِيَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي آلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، نَاسَبَ أَنْ يُخْتَمَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ آلُ عِمْرَانَ، دَعَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ بِقَبُولِ مَا كَانَتْ نَذَرَتْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَ أَيْضًا ذِكْرَ الْوَصْفَيْنِ، وَلِذَلِكَ حِينَ ذَكَرَتِ النَّذْرَ وَدَعَتْ بِتَقَبُّلِهِ، أَخْبَرَتْ عَنْ رَبِّهَا بِأَنَّهُ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ: السَّمِيعُ لِدُعَائِهَا، الْعَلِيمُ بِصِدْقِ نِيَّتِهَا بِنَذْرِهَا مَا فِي بَطْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ الْآيَةَ، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى اصْطَفَى آلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ مُعْظَمُ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَمْرِ النَّصَارَى وَفْدَ نَجْرَانَ، ذَكَرَ ابْتِدَاءً حَالَ آلِ عِمْرَانَ، وامرأة عِمْرَانَ اسْمُهَا: حَنَّةُ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَآخِرُهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَهِيَ حَنَّةُ بنت فاقود، ودير حَنَّةَ بِالشَّامِ مَعْرُوفٌ، وَثَمَّ دَيْرٌ آخَرُ يُعْرَفُ بِدَيْرِ حَنَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نواس دَيْرَ حَنَّةَ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ: يَا دَيْرَ حَنَّةَ من ذات الاكيداح ... مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإِنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِ وَقَبْرُ حَنَّةَ، جَدَّةُ عِيسَى، بِظَاهِرِ دِمَشْقَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِيِّ اسْمُ امْرَأَةٍ حَنَّةُ، وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ: حَنَّةُ أم عمرو يروي حَدِيثَهَا ابْنُ جُرَيْجٍ. وَيُسْتَفَادُ حَنَّةُ مَعَ: حَبَّةَ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَاءٍ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أسفل، و: حية، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ أَسْفَلَ، وَهُمَا اسْمَانِ لِنَاسٍ، وَمَعَ: خَبَّةَ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلَ، وَهِيَ خَبَّةُ بِنْتُ يحيى بن أكثم القاضي، أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَمَعَ: جَنَّةَ بِجِيمٍ وَنُونٍ وَهُوَ أَبُو جَنَّةَ خَالُ ذِي الرُّمَّةِ الشَّاعِرِ، لَا نَعْرِفُ سِوَاهُ. وَلَمْ تَكْتَفِ حَنَّةُ بِنِيَّةِ النَّذْرِ حَتَّى أَظْهَرَتْهُ بِاللَّفْظِ، وَخَاطَبَتْ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى، وَقَدَّمَتْ قَبْلَ التلفظ بذلك نداء هاله تَعَالَى بِلَفْظِ الرَّبِّ. الَّذِي هُوَ مَالِكُهَا وَمَالِكُ كُلِّ شيء، وتقدّم معنى

_ (2- 1) سورة إبراهيم: 14/ 37. [.....] (4- 3) سورة إبراهيم: 14/ 39. (5) سورة البقرة: 2/ 127. (6) سورة البقرة: 2/ 129.

النَّذْرِ وَهُوَ اسْتِدْفَاعُ الْمُخَوِّفِ بِمَا يَعْقِدُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ. وَقِيلَ: مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِشَرِيطَةٍ وَبِغَيْرِ شَرِيطَةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكَ قَدْ نَذَرُوا دَمِي ... وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بثين لقوني و: لك، اللَّامُ فِيهِ لَامُ السَّبَبِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ التَّقْدِيرِ: لِخِدْمَةِ بَيْتِكَ، أَوْ لِلِاحْتِبَاسِ عَلَى طَاعَتِكَ. مَا فِي بَطْنِي جَزَمَتِ النَّذْرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، أَوْ لِرَجَاءٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا. مُحَرَّراً مَعْنَاهُ عَتِيقًا مِنْ كُلِّ شُغْلٍ مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ. قَالَ محمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ: أَوْ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ: مُخْلِصًا لِلْعِبَادَةِ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَرَوَاهُ خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَتَى بِلَفْظِ: مَا، دُونَ: مِنْ، لِأَنَّ الْحَمْلَ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعَقْلِ، أَوْ لِأَنَّ: مَا، مُبْهَمَةٌ تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ: مِنْ. وَنُسِبَ هَذَا إِلَى سِيبَوَيْهِ. فَتَقَبَّلْ مِنِّي دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا مَا نَذَرَتْهُ لَهُ، وَالتَّقَبُّلُ أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَأَصْلُهُ الْمُقَابَلَةُ بالجزاء، و: تقبل، هُنَا بِمَعْنَى: قَبِلَ، فَهُوَ مِمَّا تَفَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشَّيْءَ وعداه، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا تَفَعَّلَ. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ خُتِمَتْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهَا اعْتَقَدَتِ النَّذْرَ، وَعَقَدَتْهُ بَنِيَّتِهَا، وَتَلَفَّظَتْ بِهِ، وَدَعَتْ بِقَبُولِهِ. فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: أَذْكُرُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالْمُبَرِّدُ، أَوْ مَعْنَى الِاصْطِفَاءُ، التَّقْدِيرُ: وَاصْطَفَى آلَ عِمْرَانَ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وعلى هذا يجعل وَآلَ عِمْرانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، لِأَنَّهُ إِنْ جُعِلَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ اصْطَفَى آدَمَ، وَلَا يَسُوغُ ذَلِكَ لِتَغَايُرِ زَمَانِ هَذَا الِاصْطِفَاءِ، وَزَمَانِ قَوْلِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ، فَلَا يَصِحُّ عَمَلُهُ فِيهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ: سَمِيعٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَوْ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لِقَوْلِ امْرَأَةِ عمران ونيتها، وَ: إِذْ، مَنْصُوبٌ بِهِ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلِيمٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ وَصْفًا لِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ:

سَمِيعٌ، فِي الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ قد وصف. اسم الْفَاعِلِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مَعْمُولِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى خِلَافٍ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اتِّصَافَهُ تَعَالَى: بِسَمِيعٍ عَلِيمٍ، لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى أَنَّ إِذْ زَائِدَةٌ، الْمَعْنَى: قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ. وَتَقَدَّمَ لَهُ نَظِيرُ هَذَا الْقَوْلِ فِي: مَوَاضِعَ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَضْعُفُ فِي النَّحْوِ. وَانْتَصَبَ: مُحَرَّرًا، عَلَى الْحَالِ. قِيلَ: من ما، فالعامل: نذرات. وَقِيلَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي: اسْتَقَرَّ، الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، فَالْعَامِلُ فِي هَذَا: اسْتَقَرَّ، وَقَالَ مَكِّيُّ فَمَنْ نَصَبَهُ عَلَى النَّعْتِ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ يُقَدِّرُهُ: غُلَامًا مُحَرَّرًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، يَعْنِي أَنَّ: نَذَرَ، قَدْ أَخَذَ مَفْعُولَهُ، وَهُوَ: مَا فِي بَطْنِي، فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى آخر، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ: مُحَرَّرًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَعْنَى: تَحْرِيرًا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى زِنَةِ الْمَفْعُولِ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ زَائِدٍ عَلَى الثَّلَاثَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي ... فَلَا عِيًّا بِهِنَّ وَلَا اجْتِلَابَا التَّقْدِيرُ: تَسْرِيحِي الْقَوَافِي، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: نَذَرَ تحرير، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى: نَذَرْتُ، لِأَنَّ مَعْنَى: نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي حَرَّرْتُ لَكَ بِالنَّذْرِ مَا فِي بَطْنِي. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ: مَا، وَيَكُونَ، إِذْ ذَاكَ حَالًا مُقَدَّرَةً إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مُحَرَّرًا، خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ، وَحَالًا مُصَاحِبَةً إِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَتِيقًا، لِأَنَّ عِتْقَ مَا فِي الْبَطْنِ يَجُوزُ. وَكَتَبُوا: امْرَأَةُ عِمْرَانَ، بِالتَّاءِ لَا بِالْهَاءِ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَامْرَأَةُ نُوحٍ، وَامْرَأَةُ لُوطٍ، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، سَبْعَةُ مَوَاضِعَ. فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقِفُونَ بِالتَّاءِ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ مَعَ أَنَّهَا لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يَقِفُونَ عَلَى طَلْحَةَ طَلَحَتْ، بِالتَّاءِ. وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ: بِالْهَاءِ وَلَمْ يَتْبَعُوا رَسْمَ الْمُصْحَفِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ سَبَبَ هَذَا الْحَمْلِ الَّذِي اتَّفَقَ لِامْرَأَةِ عِمْرَانَ. فَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةٌ، فَبَيْنَا هِيَ يَوْمًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ نَظَرَتْ إِلَى طَائِرٍ يَذُقْ فَرْخًا لَهُ، فَتَحَرَّكَتْ بِهِ نَفْسُهَا لِلْوَلَدِ، فَدَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا. فَحَمَلَتْ. وَمَاتَ عِمْرَانُ زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَحَسِبَتِ الْحَمْلَ وَلَدًا فَنَذَرَتْهُ لِلَّهِ حَبِيسًا لِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمُ التَّقَرُّبُ بِهِبَةِ أَوْلَادِهِمْ لِبُيُوتِ عِبَادَاتِهِمْ، وكان بنو ماثان رؤوس

بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُلُوكَهُمْ وَأَحْبَارَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَمِنْ نَسْلِهِ مُحَرَّرٌ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْغِلْمَانِ، وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَكَانَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُمْ، فَإِذَا حُرِّرَ خَدَمُ الْكَنِيسَةِ بِالْكَنْسِ وَالْإِسْرَاجِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيُخَيَّرُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ فِي الْكَنِيسَةِ أَقَامَ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِلَّا وَمِنْ نَسْلِهِ مُحَرَّرٌ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى أُنِّثَ الضَّمِيرُ فِي وَضَعَتْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى فِي: مَا، لِأَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا كَانَ أُنْثَى فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حملا على الموجودة، وَرَفْعًا لِلَفْظِ: مَا، فِي قَوْلِهَا: مَا فِي بَطْنِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْجِبِلَّةِ، أَوِ النَّفْسِ، أَوِ النَّسَمَةِ. جَوَابٌ: لِمَا، هُوَ: قَالَتْ وَخَاطَبَتْ رَبَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ رَجَائِهَا، وَخِلَافُ مَا قَدَّرَتْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَرْجُو أَنْ تَلِدَ ذَكَرًا يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ، وَلِذَلِكَ نَذَرَتْهُ مُحَرَّرًا. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي وَضَعْتُها الضَّمِيرُ مُؤَنَّثًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى النَّسَمَةِ أَوِ النَّفْسِ فَظَاهِرٌ، إِذْ تَكُونُ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ: أُنْثَى، مُبَيِّنَةً إِذِ النَّسَمَةُ وَالنَّفْسُ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ انْتِصَابُ أُنْثَى حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَضَعْتُهَا وَهُوَ كَقَوْلِكَ: وَضَعَتِ الْأُنْثَى أُنْثَى؟. قُلْتُ: الْأَصْلُ وَضَعَتْهُ أُنْثَى، وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْحَالِ لِأَنَّ الْحَالَ، وَذَا الْحَالِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، كَمَا أُنِّثَ الِاسْمُ فِي: مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ؟ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «1» . انْتَهَى. وَآلَ قَوْلُهُ إِلَى أَنَّ: أُنْثَى، تَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً، لَا يُخْرِجُهُ تَأْنِيثُهُ لِتَأْنِيثِ الْحَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مُؤَكِّدَةً. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ؟ حَيْثُ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، لِأَنَّ ذَلِكَ حَمْلٌ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، إِذِ الْمَعْنَى: أَيَّةُ امْرَأَةٍ، كَانَتْ أُمَّكَ، أَيْ: كَانَتْ هِيَ أَيُّ الْمَرْأَةِ أُمُّكَ، فَالتَّأْنِيثُ لَيْسَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ تَأْنِيثٌ لِلِاسْمِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ لَمْ يَكُنْ نَظِيرَ: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُخَصَّصٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الضَّمِيرِ، فَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ الْخَبَرِ مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْمِ بِخِلَافِ أُنْثَى، فَإِنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «2» فَيَعْنِي أَنَّهُ ثَنَّى بِالِاسْمِ لِتَثْنِيَةِ الخبر، والكلام

_ (1) سورة النساء: 4/ 176. (2) سورة النساء: 4/ 176.

عَلَيْهِ يَأْتِي فِي مَكَانِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ فِي: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، عَائِدًا عَلَى النَّسَمَةِ، أَوِ النَّفْسِ، فَتَكُونُ الْحَالُ مَبْنِيَّةً لَا مُؤَكِّدَةً. وَقِيلَ: خَاطَبَتِ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْ نَذْرِ مَا لَا يَصْلُحُ لِسَدَانَةِ الْبَيْتِ، إِذْ كَانَتِ الْأُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَتْ مَرْيَمُ أَجْمَلَ نِسَاءِ زَمَانِهَا وَأَكْمَلَهُنَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ أُمِّ مَرْيَمَ، وَكَأَنَّهَا خَاطَبَتْ نَفْسَهَا بِقَوْلِهَا: وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ تَأْتِ عَلَى لَفْظِ: رَبِّ، إِذْ لَوْ أَتَتْ عَلَى لَفْظِهِ لَقَالَتْ: وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ. وَلَكِنْ خَاطَبَتْ نَفْسَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ عَنِ الذَّكَرِ، وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَسَابِقَ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ التَّحَسُّرِ وَالتَّحَذُّرِ عَلَى مَا فَاتَنِي مِنَ الْمَقْصِدِ، إِذْ مُرَادُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبْتُهُ وَرَجَوْتُهُ مِثْلَ الْأُنْثَى الَّتِي عَلِمَهَا وَأَرَادَهَا وَقَضَى بِهَا. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأُنْثَى تَكُونُ خَيْرًا مِنَ الذَّكَرِ، إِذْ أَرَادَهَا اللَّهُ، سَلَّتْ بِذَلِكَ نَفْسَهَا. وَتَكُونُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الذَّكَرُ، لِلْعَهْدِ فَيَكُونُ مَقْصُودُهَا تَرْجِيحَ هَذِهِ الْأُنْثَى الَّتِي هِيَ مَوْهُوبَةُ اللَّهِ عَلَى مَا كَانَ قَدْ رَجَتْ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ ذَكَرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهَا أَنَّهُ لَيْسَ كَالْأُنْثَى فِي الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ وَالْمَزِيَّةِ، لِأَنَّ الذَّكَرَ يَصْلُحُ لِلتَّحْرِيرِ، وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى خِدْمَةِ مَوْضِعِ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ أَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ، وَلَا يَلْحَقُهُ عَيْبٌ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ وَلَا تُهْمَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَالْأُنْثَى، فِي امْتِنَاعِ نَذْرِهِ إِذِ الْأُنْثَى تَحِيضُ وَلَا تَصْلُحُ لِصُحْبَةِ الرُّهْبَانِ؟ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَبَدَأَتْ بِذِكْرِ الْأَهَمِّ فِي نَفْسِهَا، وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: وَلَيْسَتِ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، فَتَضَعُ حَرْفَ النَّفْيِ مَعَ الشَّيْءِ الَّذِي عِنْدَهَا، وَانْتَفَتْ عَنْهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ لِلْغَرَضِ الْمُرَادِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الذَّكَرُ، لِلْجِنْسِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِمَا وَضَعَتْ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ السَّاكِنَةِ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي وَضَعَتْهُ. أَيْ: بِحَالِهِ، وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الْأُنْثَى، فَإِنَّ قَوْلَهَا: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ مِنْ حَالِهَا إِلَّا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ النَّسَمَةِ جَاءَتْ أُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِلتَّحْرِيرِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَوْضُوعَةِ، فَأَتَى بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعِلْمِ

بِتَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْإِعْلَامُ بِمَا عَلِقَ بِهَا وَبِابْنِهَا مِنْ عَظِيمِ الْأُمُورِ، إِذْ جَعَلَهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ. وَوَالِدَتُهَا جَاهِلَةٌ بِذَلِكَ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا وَضَعْتِ، بِكَسْرِ تَاءِ الْخِطَابِ، خَاطَبَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذِهِ الْمَوْهُوبَةِ، وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِظَمِ شأنها وعلوّ قدرها. وَ: مَا، مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى: الَّذِي، أَوِ: الَّتِي، وَأَتَى بِلَفْظِ: مَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ عَلَى كُلِّ قِرَاءَةٍ. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ مَرْيَمُ فِي لُغَتِهِمْ مَعْنَاهُ: الْعَابِدَةُ، أَرَادَتْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ التَّفَاؤُلَ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّضَرُّعَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مُطَابِقًا لِاسْمِهَا، وَأَنْ تَصْدُقَ فِيهَا ظَنَّهَا بِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى إعاذتها بالله وإعاذتها ذُرِّيَّتِهَا مِنَ الشَّيْطَانِ؟ وَخَاطَبَتِ اللَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِتَرَتُّبِ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَيْهِ، وَاسْتِبْدَادُهَا بِالتَّسْمِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا عِمْرَانَ كَانَ قَدْ مَاتَ، كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُنْثَى أَنْ تَسْتَبِدَّ الْأُمُّ بِالتَّسْمِيَةِ لِكَرَاهَةِ الرِّجَالِ الْبَنَاتِ، وَفِي الْآيَةِ تَسْمِيَةُ الطِّفْلِ قُرْبَ الْوِلَادَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ فَسَمَّيْتُهُ بَاسِمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ» . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: «يُعَقُّ عَنِ الْمَوْلُودِ فِي السَّابِعِ وَيُسَمَّى» . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ كَلَامِهَا، وَهِيَ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِمَا وَضَعْتُ، بِضَمِّ التَّاءِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: بِمَا وَضَعَتْ، بِسُكُونِ التَّاءِ أَوْ بِالْكَسْرِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَانِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «1» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ كَلَامِهَا، وَيَكُونُ الْمُعْتَرِضُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِهَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَضَعْتُ، بِضَمِّ التَّاءِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُتَعَيَّنُ لِثُبُوتِ كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ فِي اعْتِرَاضِ جُمْلَتَيْنِ خلافا. مذهب أَبِي عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ جُمْلَتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَيْضًا تَشْبِيهُهُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اعْتُرِضَ بِهِمَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى زَعْمِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «2» لَيْسَ تَشْبِيهًا مُطَابِقًا لِلْآيَةِ، لِأَنَّهُ لم

_ (2- 1) سورة الواقعة: 56/ 76.

يَعْتَرِضْ جُمْلَتَانِ بَيْنَ طَالِبٍ وَمَطْلُوبٍ، بَلِ اعْتَرَضَ بَيْنَ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1» وَجَوَابِهِ الَّذِي هُوَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «2» بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «3» لَكِنَّهُ جَاءَ فِي جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَبَعْضٍ، اعْتِرَاضٌ بِجُمْلَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ «4» اعْتَرَضَ بِهِ بَيْنَ الْمَنْعُوتِ الَّذِي هُوَ: لَقَسَمٌ، وَبَيْنَ نَعْتِهِ الَّذِي هُوَ: عَظِيمٌ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ، فَلَيْسَ فَصْلًا بِجُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَسَمَّى مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهَا، وَإِلَى آخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ، وَإِثْبَاتُهُ هُوَ الْأَصْلُ، يَقُولُ: سَمَّيْتُ ابْنِي بِزَيْدٍ، وَسَمَّيْتُهُ زَيْدًا. قَالَ: وَسَمَّيْتُ كَعْبًا بِشْرَ الْعِظَامِ ... وَكَانَ أَبُوكَ يُسَمَّى الْجَعْلَ أَيْ: وَسُمِّيتُ بِكَعْبٍ، وَيُسَمَّى: بِالْجَعْلِ، وَهُوَ بَابٌ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَفِيهِ خِلَافٌ عَنِ الْأَخْفَشِ الصَّغِيرِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أَتَى خَبَرُ: إِنَّ، مُضَارِعًا وَهُوَ: أُعِيذُهَا، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا دَيْمُومَةُ الِاسْتِعَاذَةِ، وَالتَّكْرَارُ بِخِلَافِ: وَضَعْتُهَا، وَسَمَّيْتُهَا، فَإِنَّهُمَا مَاضِيَانِ قَدِ انْقَطَعَا، وَقَدَّمَتْ ذِكْرَ الْمُعَاذِ بِهِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الضَّمِيرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الذكر ذُرِّيَّتِهَا، وَمُنَاجَاتِهَا اللَّهَ بِالْخِطَابِ السَّابِقِ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ، كَمَا يُقَدِّمُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ يَدَيْ مَقْصُودِهِ مَا يَسْتَنْزِلُ بِهِ إِحْسَانَ مَنْ يَقْصِدُهُ، ثُمَّ يأتي بعد لك بِالْمَقْصُودِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كل مولولد مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طعن مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ وَابْنِهَا، فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعَتْهَا: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الْحِجَابِ» . وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَطَعَنَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى الشَّرِّ مَنْ يَعْرِفُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ هَذَا الْمَسِّ لَفَعَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ إِهْلَاكِ الصَّالِحِينَ وغير

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 75. (2) سورة الواقعة: 56/ 77. (4- 3) سورة الواقعة: 56/ 76.

ذَلِكَ، لِأَنَّهُ خَصَّ فِيهِ مَرْيَمَ وَابْنَهَا عِيسَى دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَسَّ لَنُفِيَ أَثَرُهُ، وَلَوْ نُفِيَ لَدَامَ الصُّرَاخُ وَالْبُكَاءُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا يُرْوَى فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ مولولد يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» . فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَطْمَعُ الشَّيْطَانُ فِي إِغْوَائِهِ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مَعْصُومَيْنِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي صِفَتِهِمَا لقوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1» وَاسْتِهْلَالُهُ صَارِخًا مِنْ مَسِّهِ، تَخْيِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِطَمَعِهِ فِيهِ كَأَنَّهُ يَمَسُّهُ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: هَذَا مِمَّنْ أَغْوِيهِ، وَنَحْوُهُ مِنَ التَّخْيِيلِ قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ: لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا ... يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمَسِّ وَالنَّخْسِ كَمَا يَتَوَهَّمُ أَهْلُ الْحَشْوِ فَكَلَّا، وَلَوْ سُلِّطَ إِبْلِيسُ عَلَى النَّاسِ بِنَخْسِهِمْ لَامْتَلَأَتِ الدُّنْيَا صُرَاخًا وَعِيَاطًا مِمَّا يَبْلُونَا بِهِ مِنْ نَخْسِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ، وَقَدْ مَرَّ لَنَا شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي قوله: الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «2» . فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ فَتَقَبَّلَهَا بِتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، وَلَكِنْ قَبُولٍ مَحْمُولٌ عَلَى: قَبِلَهَا قَبُولًا، يُقَالُ: قَبِلَ الشَّيْءَ قبولا وَالْقِيَاسُ فِيهِ الضَّمُّ: كَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِالْفَتْحِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ ضَمَّ الْقَافِ، وَنَقَلَهَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فقال: قيلته قبولا وقبولا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ السُّعَدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَكَفَّلَ بِتَرْبِيَتِهَا وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَمْ يُعَذِّبْهَا سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ تَقَبَّلَ بِمَعْنَى اسْتَقْبَلَ، فَيَكُونُ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، أَيِ: اسْتَقْبَلَهَا رَبُّهَا، نَحْوَ: تَعَجَّلْتُ الشَّيْءَ فَاسْتَعْجَلْتُهُ، وَتَقَصَّيْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَقْصَيْتُهُ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَقْبَلَ الْأَمْرَ أَيْ أَخَذَهُ بِأَوَّلِهِ. قَالَ: وَخَيْرُ الْأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا أَيْ فأخذها فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا حِينَ وُلِدَتْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَقَبِلَهَا أَيْ: رَضِيَ بِهَا فِي النَّذْرِ مَكَانَ الذَّكَرِ فِي النَّذْرِ كَمَا نَذَرَتْ أُمُّهَا وَسَنَى لَهَا الْأَمَلُ فِي ذَلِكَ، وَقَبِلَ دُعَاءَهَا فِي قولها: فتقبل

_ (1) سورة الحجر: 15/ 39 وص: 38/ 82. (2) سورة البقرة: 2/ 275.

مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَلَمْ تُقْبَلْ أُنْثَى قَبْلَ مَرْيَمَ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ: تَفَعَّلَ، بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ: تَعَجَّبَ وَعَجِبَ، وتبرأ وبرىء. وَالْبَاءُ فِي: بِقَبُولٍ، قِيلَ: زَائِدَةٌ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبُ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ. وَالْقَبُولُ اسْمٌ لِمَا يُقْبَلُ بِهِ الشَّيْءُ: كَالسَّعُوطِ وَاللَّدُودِ لِمَا يُسْعَطُ بِهِ وَيَلِدُ، وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ لَهَا بِإِقَامَتِهَا مَقَامَ الذَّكَرِ فِي النَّذْرِ، أَوْ: مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بِذِي قَبُولٍ حَسَنٍ، أَيْ: بِأَمْرٍ ذِي قَبُولٍ حَسَنٍ، وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً عِبَارَةٌ عَنْ حُسْنِ النَّشْأَةِ وَالْجَوْدَةِ فِي خَلْقٍ وَخَلْقٍ، فَأَنْشَأَهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ صامت النَّهَارِ وَقَامَتِ اللَّيْلَ حَتَّى أَرْبَتْ عَلَى الْأَحْبَارِ. وَقِيلَ: لَمْ تَجْرِ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: حُدِّثْنَا أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُصِيبُ الذُّنُوبَ كَمَا يُصِيبُ بَنُو آدَمَ. وقيل: معنى أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أَيْ: جَعَلَ ثَمَرَتَهَا مِثْلَ عِيسَى. وَانْتَصَبَ: نَبَاتًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، أَوْ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا، وَيُقَالُ: القبول الحسن تَرْبِيَتُهَا عَلَى نَعْتِ الْعِصْمَةِ حَتَّى قَالَتْ: أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا «1» وَالنَّبَاتُ الْحَسَنُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَإِيثَارُ رِضَا اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قَالَ قَتَادَةُ: ضَمَّهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا، وَمِنَ الْقَبُولِ الْحَسَنِ وَالنَّبَاتِ الْحَسَنِ أَنْ جَعَلَ تَعَالَى كَافِلَهَا وَالْقَيِّمَ بِأَمْرِهَا وَحِفْظِهَا نَبِيًّا. أَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا رَأَيْتَ لِي طَالِبًا فَكُنْ لَهُ خَادِمًا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: وَكَفَّلَهَا، بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِهَا. وَأُبَيٌّ: وَأَكْفَلَهَا، وَمُجَاهِدٌ: فَتَقَبَّلْهَا بِسُكُونِ اللَّامِ، رَبَّهَا، بالنصب على النداء، و: أنبتها، بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ، و: كفلها، بِكَسْرِ الْفَاءِ مُشَدَّدَةً وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى الدُّعَاءِ مِنْ أُمِّ مَرْيَمَ لِمَرْيَمَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: وَكَفِلَهَا، بَكَسْرِ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ يُقَالُ: كَفِلَ يَكْفَلُ وَكَفَلَ يكفل، كعلم يعلم.

_ (1) سورة مريم: 19/ 18.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: زَكَرِيَّا، مَقْصُورًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مَمْدُودًا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ اللُّغَاتِ فِيهِ. رُوِيَ أَنَّ حَنَّةَ حِينَ وَلَدَتْ مَرْيَمَ لَفَّتْهَا فِي خِرْقَةٍ وَحَمَلَتْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَضَعَتْهَا عِنْدَ الْأَحْبَارِ أَبْنَاءِ هَارُونَ، وَهُمْ فِي بيت المقدس كالحجة فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةُ! فَتَنَافَسُوا فِيهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ إِمَامِهِمْ، وَصَاحِبِ قُرْبَانِهِمْ، وَكَانَتْ بنو ماثان رؤوس بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ وَمُلُوكَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، عِنْدِي خَالَتُهَا. فَقَالُوا: لَا، حَتَّى نَقْتَرِعَ عَلَيْهَا. فَانْطَلَقُوا، وَكَانُوا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، إِلَى نَهْرٍ. قِيلَ: هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنْ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: فِي عَيْنِ مَاءٍ كَانَتْ هُنَاكَ، فَأَلْقَوْا فِيهِ أَقْلَامَهُمْ، فَارْتَفَعَ قَلَمُ زَكَرِيَّا وَرَسَبَتْ أَقْلَامُهُمْ فَتَكَفَّلَهَا. قِيلَ: وَاسْتَرْضَعَ لَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ تَلْتَقِمْ ثَدْيًا قَطُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فَجَرَى قَلَمُ زَكَرِيَّا عَكْسَ جَرْيَةِ الْمَاءِ. وَقِيلَ: عَامَتْ مَعَ الْمَاءِ مَعْرُوضَةً، وَبَقِيَ قَلَمُ زَكَرِيَّا وَاقِفًا كَأَنَّمَا رَكَزَ فِي طِينٍ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ زَكَرِيَّا كَانَ تَزَوَّجَ خَالَتَهَا لِأَنَّهُ وَعِمْرَانَ كَانَا سِلْفَيْنِ عَلَى أُخْتَيْنِ، وَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا يَحْيَى، وَوَلَدَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ مَرْيَمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُ: كَانَ زَكَرِيَّا تَزَوَّجَ ابْنَةً أُخْرَى لِعِمْرَانَ. وَيُعَضِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي يَحْيَى وَعِيسَى: ابْنَا الْخَالَةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَفَلَهَا لِأَنَّ أُمَّهَا هَلَكَتْ، وَكَانَ أَبُوهَا قَدْ هَلَكَ وَهِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهَا. وَقِيلَ: كَانَ زَكَرِيَّا ابْنَ عَمِّهَا وَكَانَتْ أُخْتُهَا تَحْتَهُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: تَرَعْرَعَتْ وَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَجَاعَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ إِنْفَاقِ مَرْيَمَ، فَاقْتَرَعُوا عَلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، فَفَعَلُوا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، فَجَعَلَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَهَذَا اسْتِهَامٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ، هَذَا الْمُرَادُ مِنْهُ دَفَعَهَا لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ مِنْهُ: أَخَذَهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ زَكَرِيَّا قَدْ كَفَلَهَا مِنْ لَدُنِ الطُّفُولَةِ دُونَ اسْتِهَامٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ أَنَّ زَكَرِيَّا إِنَّمَا كَفَلَهَا بِالِاسْتِهَامِ، وَلَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ زَكَرِيَّا كَفَلَهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا أَوْلَى بِكَفَالَتِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ أَقْرِبَائِهَا مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا، وَلِأَنَّ خَالَتَهَا أَوْ أُخْتَهَا تَحْتَهُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، فَهُوَ أَوْلَى بِهَا لِعِصْمَتِهِ. وَزَكَرِيَّا هُوَ ابْنُ أَذْنِ بْنِ مُسْلِمٍ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَذَكَرَ النَّقِيبُ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْجَوَّانِيُّ النَّسَّابَةُ: أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَالْيَسَعَ، وَإِلْيَاسَ، وَالْعُزَيْرَ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا زَكَرِيَّا مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ، وَلَا يَكُونُ ابْنَ عَمِّ مَرْيَمَ، لِأَنَّ مَرْيَمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السلام، وسليمان مِنْ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وموسى وهارون مِنْ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أُمِّ يَحْيَى حَتَّى إِذَا شَبَّتْ وَبَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ بَنَى لَهَا مِحْرَابًا فِي الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَ بَابَهُ فِي وَسَطِهِ لَا يُرْقَى إِلَيْهِ إِلَّا بِسُلَّمٍ، مِثْلَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا غَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ إِذَا خَرَجَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا الْبَابَ وَمَعَهُ الْمِفْتَاحُ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَإِذَا حَاضَتْ أَخْرَجَهَا إِلَى مَنْزِلَهِ تَكُونُ مَعَ خَالَتِهَا أُمِّ يَحْيَى أَوْ أُخْتِهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ رَدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: كَانَتْ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَكَلَّمَتْ فِي الْمَهْدِ وَلَمْ تُلْقَمْ ثَدْيًا قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنَ الْجَنَّةِ. وَالَّذِي وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ فِي المهد ثلاثة: عيسى، وصاحب جُرَيْجٍ، وَابْنُ الْمَرْأَةِ. وَوَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ شَاذٍّ: صَاحِبُ الْأُخْدُودِ. وَالْأَغْرَبُ أَنَّ مَرْيَمَ منهم. وقيل: كان جريح النَّجَّارُ، وَاسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ مَرْيَمَ حِينَ كَفَلَهَا بِالْقُرْعَةِ وَقَدْ ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا، يَأْتِيهَا مِنْ كَسْبِهِ بِشَيْءٍ لَطِيفٍ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ، فَيَزْكُو ذَلِكَ الطَّعَامُ وَيَكْثُرُ، فَيَدْخُلُ زَكَرِيَّا عَلَيْهَا فَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وُسْعِ جُرَيْجٍ، فَيَسْأَلُهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ كَبُرَتْ وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلصَّوَابِ. وَقِيلَ: كَانَتْ تُرْزَقُ مِنْ غَيْرِ رِزْقِ بِلَادِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عِنَبًا فِي مِكْتَلٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ عِنَبٌ، وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَأْتِيهَا بِالرِّزْقِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي كَفَلَهَا بِالتَّرْبِيَةِ هُوَ زَكَرِيَّا لَا غَيْرُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَاهُ لَمَّا كفلها مؤونة رِزْقِهَا، وَوَضَعَ عَنْهُ بِحُسْنِ التكفل مشقة التكلف. و: كلما، تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَيَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ تَعَهُّدِهِ وَتَفَقُّدِهِ لِأَحْوَالِهَا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُودِ الرِّزْقِ عِنْدَهَا كُلَّ وَقْتٍ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ غِذَاءٌ يُتَغَذَّى بِهِ لَمْ يَعْهَدْهُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يُوَجِّهْهُ هُوَ. وَأَبْعَدَ مَنْ فَسَّرَ الرِّزْقَ هُنَا بِأَنَّهُ فَيْضٌ كَانَ يَأْتِيهَا مِنَ اللَّهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ آدَمِيٍّ، فَسَمَّاهُ رِزْقًا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ، انْتَهَى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ. قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اسْتَغْرَبَ زَكَرِيَّا وُجُودَ الرِّزْقِ عِنْدَهَا وَهُوَ لَمْ يَكُنْ أَتَى بِهِ، وَتَكَرَّرَ وُجُودُهُ عِنْدَهَا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَأَلَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِنْ

وُصُولِ الرِّزْقِ إِلَيْهَا، وَكَيْفَ أتى هذا الرزق؟ و: أنّى، سُؤَالٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنِ الْمَكَانِ وَعَنِ الزَّمَانِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْجِهَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ أَيِّ جِهَةٍ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَيْنَ؟ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، أَيْ كَيْفَ تَهَيَّأَ وُصُولُ هَذَا الرِّزْقِ إِلَيْكِ؟ وَقَالَ الْكُمَيْتُ: أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ أَتَاكَ الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَةٌ وَلَا طَرَبُ وَجَوَابُهَا سُؤَالَهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ: يَأْتِ بِهِ آدَمِيٌّ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ رِزْقٌ يَتَعَهَّدُنِي بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ كُلَّمَا وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ فِي الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّانِي مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، فَتُجِيبُهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتُحِيلُهُ عَلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَمُبْرِزِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ الْمَحْضِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَرِيحُ قَلْبُ زَكَرِيَّا بِكَوْنِهِ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى تَعَهُّدِ مَرْيَمَ، وَبِكَوْنِهِ يَشْهَدُ مَقَامًا شَرِيفًا، وَاعْتِنَاءً لَطِيفًا بِمَنِ اخْتَارَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي كَفَالَتِهِ. وَهَذَا الْخَارِقُ الْعَظِيمُ، قِيلَ: هُوَ بِدَعْوَةِ زَكَرِيَّا لَهَا بِالرِّزْقِ، فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصَ زَكَرِيَّا. وَقِيلَ: كَانَ تَأْسِيسًا لِنُبُوَّةِ وَلَدِهَا عِيسَى. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَبِيهَانِ بِأَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ يَنْفُونَ وُجُودَ الْخَارِقِ على غَيْرِ النَّبِيِّ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ نَبِيٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهَا مَرْيَمَ، وَلَوْ كَانَ خَارِقًا لِأَجْلِ زَكَرِيَّا لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ زَكَرِيَّا، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ لِأَجْلِ نُبُوَّةِ عِيسَى، فَهُوَ كَانَ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْخَارِقُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «1» وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُعْجِزَاتِ زَكَرِيَّا، دَعَا لَهَا عَلَى الْإِجْمَالِ لِأَنْ يُوَصِّلَ لَهَا رِزْقَهَا، وَرُبَّمَا غَفَلَ عَنْ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، سَأَلَ عَنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ، فَدَعَا بِهِ، أَوْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ الْآتِي بِهِ إِنْسَانًا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَسَأَلَ لِئَلَّا يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ مَرْيَمَ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ مِنْ كَلَامِ مَرْيَمَ، وَأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 91.

وَرَوَى جَابِرٌ حَدِيثًا مُطَوَّلًا فِيهِ تَكْثِيرُ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهَا: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكِ شَبِيهَةً بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ. الْعُمُومُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْعَالَمِينَ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: آدَمَ، وَنُوحًا، وَآلَ إبراهيم، وآل عِمْرَانَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ. وَالْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، فِي قَوْلِهِ: ذَرِّيَّةً، فِيمَنْ قَالَ الْمُرَادُ الْآبَاءُ، وَالْإِبْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي بَطْنِي، لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا أَتَتْ بِلَفْظِ: مَا، الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالتَّأْكِيدُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَالْخَبَرُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاعْتِذَارُ فِي قَوْلِهَا: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَالِاعْتِرَاضُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ التَّاءَ أَوْ كَسَرَهَا. وَتَلْوِينُ الْخِطَابِ وَمَعْدُولِهِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ التَّاءَ، خَرَجَ مِنْ خِطَابِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهَا: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا، إِلَى خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا وَضَعْتِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: وَأَنِّي، وفي: زكريا، وزكريا، وَفِي: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ، وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا، وَفِي: رِزْقًا وَيَرْزُقُ. وَالْإِشَارَةُ، وَهُوَ أَنْ يُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ عَنِ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ، فِي قَوْلِهِ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ هُوَ رِزْقٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي قَوْلِهِ: رِزْقًا، أَتَى بِهِ مُنَكَّرًا مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ أَجْنَاسٍ كَثِيرَةٍ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ تَقْتَضِي الشُّيُوعَ وَالْكَثْرَةَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِاعْتِبَارِهَا. هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أَصْلُ: هُنَالِكَ، أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً لِلْمَكَانِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلزَّمَانِ وَقِيلَ بِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ دَعَا زَكَرِيَّا، أَوْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَّا رَأَى هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ لِمَرْيَمَ، وَأَنَّهَا مِمَّنِ اصْطَفَاهَا اللَّهُ، ارْتَاحَ إِلَى طَلَبِ الْوَلَدِ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَلِأَنْ يَرِثَ مِنْهُ وَمِنْ آلِ يَعْقُوبَ، كَمَا قَصَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ من طلب كَوْنُ امْرَأَتِهِ عَاقِرًا، إِذْ رَأَى مِنْ حَالِ مَرْيَمَ أَمْرًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ وَلَدًا مَعَ كَوْنِ امْرَأَتِهِ كَانَتْ عَاقِرًا، إِذْ كَانَتْ حَنَّةُ قَدْ رُزِقَتْ مريم بعد ما أَيِسَتْ مِنَ الْوُلْدِ. وَانْتِصَابُ: هُنَالِكَ، بِقَوْلِهِ: دَعَا، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ السَّجَاوَنْدِيِّ: أَنَّ هناك في المكان، وهنا لك فِي الزَّمَانِ، وَهُوَ وَهْمٌ، بَلِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَكَانِ سَوَاءٌ اتَّصَلَتْ بِهِ اللَّامُ وَالْكَافُ أَوِ الْكَافُ فَقَطْ أَوْ لَمْ يَتَّصِلَا. وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِهَا عَنِ الْمَكَانِ إِلَى الزَّمَانِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ: عِنْدَ، أَنْ يَكُونَ لِلْمَكَانِ، ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهَا لِلزَّمَانِ، كَمَا تَقُولُ: آتِيكَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.

قِيلَ: وَاللَّامُ فِي: هُنَالِكَ، دَلَالَةٌ عَلَى بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ، فَإِنَّهُ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَإِجَابَتِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: دَخَلَتِ اللَّامُ لِبُعْدِ مَنَالِ هَذَا الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، كَمَا أُدْخِلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ «1» لِبُعْدِ مَنَالِهِ وَعِظَمِ ارْتِفَاعِهِ وَشَرَفِهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: كَانَتْ نَفْسُهُ تُحَدِّثُهُ بِأَنْ يَهِبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا يَبْقَى بِهِ الذِّكْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ، إِذِ الْأَدَبُ أَنْ لَا يَدْعُوَ لِمُرَادٍ إِلَّا فِيمَا هُوَ مُعْتَادُ الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَى عِنْدَهَا مَا هُوَ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: كَانَتْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ. وَفِي قَوْلِهِ: هُنالِكَ دَعا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ يَتَوَخَّى الْعَبْدُ بِدُعَائِهِ الْأَمْكِنَةَ الْمُبَارَكَةَ وَالْأَزْمِنَةَ الْمُشَرَّفَةَ. قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً هَذِهِ الْجُمْلَةُ شَرْحٌ لِلدُّعَاءِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَنَادَاهُ بِلَفْظِ: رَبِّ، إِذْ هُوَ مُرَبِّيهِ وَمُصْلِحُ حَالِهِ، وَجَاءَ الطَّلَبُ بِلَفْظِ: هَبْ، لِأَنَّ الْهِبَةَ إِحْسَانٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ يَكُونُ عِوَضًا لِلْوَاهِبِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ مَا لَا تَسَبُّبَ فِيهِ: لَا مِنَ الْوَالِدِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَلَا مِنَ الْوَالِدَةِ لِكَوْنِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ، فَكَانَ وَجُودُهُ كَالْوُجُودِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، أَتَى هِبَةً مَحْضَةً مَنْسُوبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْكَ، أَيْ مِنْ جِهَةِ مَحْضِ قُدْرَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ سَبَبٍ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ: لدن، لما قرب، و: عند، لِمَا قَرُبَ وَلِمَا بَعُدَ، وَهِيَ أَقَلُّ إِبْهَامًا مِنْ: لَدُنْ، أَلَا تَرَى أَنَّ: عند، تقع جوابا لأين، وَلَا تَقَعُ لَهُ جَوَابًا: لَدُنْ؟. ومِنْ لَدُنْكَ مُتَعَلِّقٌ: بِهَبْ، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ: ذَرِّيَّةً، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، فَعَلَى هَذَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالذُّرِّيَّةُ جِنْسٌ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ، فَأَكْثَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ هُنَا وَاحِدًا دَلِيلُ ذَلِكَ طَلَبُهُ: وَلِيًّا، وَلَمْ يَطْلُبْ: أَوْلِيَاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِيمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ تَعَقُّبٌ، وَإِنَّمَا الذُّرِّيَّةُ وَالْوَلِيُّ اسْمَا جِنْسٍ يَقَعَانِ لِلْوَاحِدِ فَمَا زَادَ، وَهَكَذَا كَانَ طَلَبُ زَكَرِيَّا. انْتَهَى. وَفَسَّرَ: طَيِّبَةً، بِأَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً فِي الْخُلُقِ وَفِي الدِّينِ تَقِيَّةً. وَقَالَ الرَّاغِبُ: صَالِحَةً، وَاسْتِعْمَالُ الصَّالِحِ فِي الطَّيِّبِ كَاسْتِعْمَالِ الْخَبِيثِ فِي ضِدِّهِ، عَلَى أَنَّ فِي الطَّيِّبِ زِيَادَةَ مَعْنًى عَلَى الصَّالِحِ. وَقِيلَ: أَرَادَ: بِطَيِّبَةٍ، أَنَّهَا تَبْلُغُ فِي الدِّينِ رُتْبَةَ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ كَانَ أراد بالذرية

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2. [.....]

مَدْلُولَهَا مِنْ كَوْنِهَا اسْمَ جِنْسٍ، وَلَمْ يُقَيَّدْ بِالْوَحْدَةِ، فَوَصَفَهَا: بِطَيِّبَةٍ، وَاضِحٌ! وَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَكَرًا وَاحِدًا، فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ، كَمَا قَالَ: أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... سُكَاتٍ إِذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بأدْرَدَا وَكَمَا قَالَ: أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ وَفِي قَوْلِهِ: هَبْ لِي دَلَالَةٌ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالدُّعَاءِ بِحُصُولِهِ وَهِيَ سُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ لَمَّا دَعَا رَبَّهُ بِأَنَّهُ يَهِبُ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا، أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُجِيبُ الدُّعَاءِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى السَّمَاعِ الْمَعْهُودِ، بَلْ مِثْلُ قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. عَبَّرَ بِالسَّمَاعِ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى الْمَقْصِدِ، وَاقْتَفَى فِي ذَلِكَ جَدَّهُ الْأَعْلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ «1» فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَرَزَقَهُ عَلَى الْكِبَرِ كَمَا رَزَقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْكِبَرِ، وَكَانَ قَدْ تَعَوَّدَ مِنَ اللَّهِ إِجَابَةَ دُعَائِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا «2» ؟. قِيلَ: وَذَكَرَ تَعَالَى فِي كَيْفِيَّةِ دُعَائِهِ ثَلَاثَ صِيَغٍ: أَحَدُهُا: هَذَا، وَالثَّانِي: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي «3» إِلَى آخِرِهِ. وَالثَّالِثُ: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ «4» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ تَكَرَّرَ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ الصِّيَغِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ زَمَانًا. انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَكْرِيرُ الدُّعَاءِ، كَمَا قِيلَ: لِأَنَّهُ حَالَةُ الْحِكَايَةِ قَدْ يَكُونُ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً «5» عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِسْهَابِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّطِ. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ إِنَّمَا هِيَ بِالْمَعْنَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِسَانُهُمْ عَرَبِيًّا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ وَاحِدٌ مُتَعَقَّبٌ بِالتَّبْشِيرِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَفِي قَوْلِهِ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى «6» وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي مريم: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ «7» اعْتِقَابُ التَّبْشِيرِ الدُّعَاءُ لَا تَأَخُّرُهُ عَنْهُ.

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 39. (2) سورة مريم: 19/ 4. (3) سورة مريم: 19/ 4. (5- 4) سورة الأنبياء: 21/ 89. (6) سورة الأنبياء: 21/ 90. (7) سورة مريم: 19/ 7.

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ: النِّدَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّبْشِيرِ وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرَعَ بِهِ وَيَنْهَى إِلَى نَفْسِ السَّامِعِ لِيُسَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى عُرْفِ الْوَحْيِ، بَلْ نِدَاءٌ كَمَا نَادَى الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُ. وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُنَادَاةُ تَكُونُ لِتَبْشِيرٍ وَلِتَحْزِينٍ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ. «يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بِلَا موت» وجاء: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً «1» وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْبِشَارَةُ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ لَا أَنَّ لَفْظَ نَادَتْهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا بِالْوَضْعِ وَلَا بِالِاسْتِعْمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ، أَيْ: أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يُنَادُوهُ، أَوْ يَكُونَ نَادَوْهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا يُقَالُ لَكَ: بَلِّغْ زَيْدًا كَذَا وَكَذَا، فَتَقُولَ لَهُ: يَا زَيْدُ جَرَى كَذَا وَكَذَا. وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَقَبَّلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ، فَنَادَتْهُ. وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنَادِيَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَعَثَ تَعَالَى مَلَائِكَةً إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ وَفِي غَيْرِ مَا قَصَّهُ. وَذَكَرَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ جِبْرِيلُ وَحْدَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْحَفُهُ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قِيلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، يَعْنِي: إِنَّ الَّذِي نَادَاهُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، لَا يُرِيدُ خُصُوصِيَّةَ الْجَمْعِ، كَمَا أَنَّ قولهم: فلان يركب الخيل لَا يُرِيدُ خُصُوصِيَّةَ الْجَمْعِ، إِنَّمَا يُرِيدُ مَرْكُوبَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَخَرَجَ عَلَيْهِ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ، وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْفَضْلُ: الرَّئِيسُ يُخْبَرُ عَنْهُ أَخْبَارُ الْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، أَوْ لِاجْتِمَاعِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ فِيهِ، الْمُتَفَرِّقَةِ فِي غَيْرِهِ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بالكثرة لذلك. قيل: وجبريل رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَنَادَاهُ، مُمَالَةٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: فَنَادَتْهُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ و: الملائكة، جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْعَلَامَةُ، وَأَنْ لَا يَلْحَقَ. تَقُولُ: قَامَ الرِّجَالُ، وَقَامَتِ الرِّجَالُ. وَإِلْحَاقُ الْعَلَامَةِ قِيلَ. أَحْسَنُ، أَلَا تَرَى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ؟ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا؟ وَمُحَسَّنٌ الْحَذْفُ هُنَا الْفَصْلُ بِالْمَفْعُولِ. وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ الْحَبْرَ الْكَبِيرَ الَّذِي يقرب

_ (1) سورة غافر: 40/ 36.

الْقُرْبَانَ، وَيَفْتَحُ بَابَ الْمَذْبَحِ، فَلَا يَدْخُلُونَ حَتَّى يُؤْذَنَ. فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، يَعْنَى الْمَسْجِدَ عِنْدَ الْمَذْبَحِ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، فَفَزِعَ مِنْهُ، فَنَادَاهُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ: يَا زَكَرِيَّا! إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ. وَقِيلَ: الْمِحْرَابُ مَوْقِفُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْقِبْلَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ الْمِحْرَابُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ فَفِي الْمَكَانِ الَّذِي رَأَى فِيهِ خَرْقَ الْعَادَةِ، فِيهِ دَعَا، وَفِيهِ جَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي شَرِيعَتِهِمْ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ هُنَا الدُّعَاءُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِدَاءِ الْمُتَلَبِّسِ بِالصَّلَاةِ وَتَكْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ شَغْلٌ لَهُ عَنْ صَلَاتِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، أَوْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، و: يصلي، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً: لقائم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضمير المستكن في: قَائِمٌ، أَوْ: مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَ حَالَيْنِ مِنْ ذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانيا: لهو، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ لِمُبْتَدَأٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ. وَيَتَعَلَّقُ: فِي الْمِحْرَابِ، بِقَوْلِهِ: يُصَلِّي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بقائم، فِي وَجْهٍ مِنِ احْتِمَالَاتِ إِعْرَابِ: يُصَلِّي، إِلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ: يُصَلِّي، حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي اسْتَكَنَّ فِي: قَائِمٌ، فَيَجُوزُ. لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَتَّحِدُ الْعَامِلُ فِيهِ وَفِي: يُصَلِّي، وَهُوَ: قَائِمٌ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذْ ذَاكَ فِي الْحَالِ هُوَ: قَائِمٌ، إِذْ هُوَ الْعَامِلُ فِي ذِي الْحَالِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ. وَفِي قَوْلِهِ: قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ قَالُوا: دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ قِيَامِ الْإِمَامِ فِي مِحْرَابِهِ، وَقَدْ كَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا. وَرَقَّقَ وَرْشٌ رَاءَ: الْمِحْرَابِ، وَأَمَالَ الرَّاءَ ابْنُ ذَكْوَانَ إِذَا كَانَ: الْمِحْرَابِ، مَجْرُورًا وَنَسَبَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ. وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالْجَرِّ. أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ: إِنَّ اللَّهَ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْكَسْرُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقَالَتْ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لَا إِضْمَارَ، لِأَنَّ غَيْرَ الْقَوْلِ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ: كَالنِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ، يَجْرِي مَجْرَى الْقَوْلِ فِي الْحِكَايَةِ، فَكُسِرَتْ بِنَادَتْهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: قَالَتْ لَهُ.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَعْمُولٌ لِبَاءٍ مَحْذُوفَةٍ فِي الْأَصْلِ، أَيْ بِتَبْشِيرٍ: وَحِينَ حُذِفَتْ فَالْمَوْضِعُ نَصْبٌ بالفعل أوجر بِالْبَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، قَوْلَانِ قَدْ تَقَدَّمَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا زكرياء إِنَّ اللَّهَ. فَقَوْلُهُ: يَا زكرياء، هُوَ مَعْمُولُ النِّدَاءِ. فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يَجُوزُ فَتْحُ: إِنَّ، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدِ اسْتَوْفَى مَفْعُولَيْهِ، وَهُمَا: الضَّمِيرُ وَالْمُنَادَى. وَتَبْلِيغُ الْبِشَارَةِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ لَيْسَتْ بِشَارَةً مِنَ الرَّسُولِ، بَلْ مِنَ الْمُرْسِلِ. أَلَا تَرَى إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: يُبَشِّرُكَ؟ وَقَدْ قَالَ فِي سورة مريم: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ «1» فَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: يُبَشِّرُكَ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَقِصَّةِ مَرْيَمَ، وَفِي الْإِسْرَاءِ، وَفِي الْكَهْفِ، وَفِي الشُّورَى، مِنْ: بَشَرَ، مُخَفَّفًا. وَافَقَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو في الشُّورَى، زَادَ حَمْزَةُ فِي الْحِجْرِ: أَلَا فَبِمَ تُبَشِّرُونِ، ومريم. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يُبَشِّرُ، مِنْ بَشَّرَ الْمُضَعَّفِ الْعَيْنِ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ يُبَشِّرُ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ مِنْ أَبْشَرَ، وَهِيَ لُغًى ثَلَاثٌ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا وَقَالَ الْآخَرُ: يَا بِشْرُ حَقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلَّا غَضِبْتَ لَنَا وَأَنْتَ أَمِيرُ بِيَحْيَى، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نُبَشِّرُكَ، وَالْمَعْنَى: بِوِلَادَةِ يَحْيَى مِنْكَ وَمِنَ امْرَأَتِكَ، فَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَمَنْعُ صَرْفِهِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَلِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنُ الْفِعْلِ، كَيَعْمُرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا. وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَاحَظُوا فِيهِ مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ مِنَ الْحَيَاةِ. قَالَ قَتَادَةُ: سَمَّاهُ اللَّهُ يَحْيَى لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الحسن بن المفضل: حي بِالْعِصْمَةِ وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ: سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّهُ اسْتُشْهِدَ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ. رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بَيْنَ شَيْخٍ وَعَجُوزٍ. وقال الزجاج: حي بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيهَا.

_ (1) سورة مريم: 19/ 7.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ عُقْرَ أُمِّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَمُوتُ فَسُمِّيَ يَحْيَى تَفَاؤُلًا، كَالْمَفَازَةِ وَالسَّلِيمِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ النَّاسَ بِالْهُدَى. مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ هُوَ عِيسَى، وَسَيَأْتِي لِمَ سُمِّيَ كَلِمَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُ: كَانَ يَحْيَى أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى وَشَهِدَ أَنَّهُ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ يَحْيَى أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ وَقِيلَ: بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقُتِلَ قَبْلَ رَفْعِ عِيسَى، وَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ: إِنِّي لَأَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَتَحَرَّكُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَسْجُدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُومِي بِرَأْسِهِ لِمَا فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ التَّصْدِيقِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْقَعَ الْمُفْرَدَ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، فَالْكَلِمَةُ اسْمُ جِنْسٍ، وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الْقَصِيدَةَ كَلِمَةً. رُوِيَ أَنَّ الْحُوَيْدِرَةَ ذُكِرَ لِحَسَّانٍ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، أَيْ قَصِيدَتَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ» وَقِيلَ مَعْنَى: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ هُنَا أَيْ: بِوَعْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ: بِكِلْمَةٍ، بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ مِثْلَ: كَتِفٌ وَكِتْفٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ فَاءَ الْكَلِمَةِ لِعَيْنِهَا، فَيَقِلُّ اجْتِمَاعُ كَسْرَتَيْنِ، فَسَكَّنَ الْعَيْنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ اسْتِثْقَالًا لِلْكَسْرَةِ فِي الْعَيْنِ. وَانْتُصِبَ: مُصَدِّقًا، عَلَى الْحَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ بِحَسْبِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَسَيِّداً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّيِّدُ الْكَرِيمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَلِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَيِّدٌ لَا تَحِلُّ حَبْوَتُهُ ... بَوَادِرَ الْجَاهِلِينَ إِنْ جَهِلُوا وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَسَنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ سَالِمٌ: التَّقِيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرِيفُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْفَقِيهُ الْعَالِمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ: الرَّاضِي بِقَضَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْمُطَاعُ الْفَائِقُ أَقْرَانَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْمُتَوَكِّلُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَظِيمُ الْهِمَّةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: السَّيِّدُ مَنْ لَا يَحْسُدُ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْحَسُودُ لَا يَسُودُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: السَّيِّدُ الَّذِي يَفُوقُ فِي الْخَيْرِ قَوْمَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: السَّيِّدُ الْمَالِكُ الَّذِي

تَجِبُ طَاعَتُهُ. وَلِهَذَا قِيلَ لِلزَّوْجِ: سَيِّدٌ. وَقِيلَ: سَيِّدُ الْغُلَامِ، وَقَالَ سَلَمَةُ عَنِ الْفَرَّاءِ: السَّيِّدُ الْمَالِكُ، وَالسَّيِّدُ الرَّئِيسُ، وَالسَّيِّدُ الْحَكِيمُ، وَالسَّيِّدُ السَّخِيُّ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «السَّيِّدُ مَنْ أُعْطِيَ مَالًا وَرُزِقَ سَمَاحًا، فَأَدْنَى الْفُقَرَاءَ، وَقَلَّتْ شِكَايَتُهُ فِي النَّاسِ» . وَفِي مَعْنَاهُ: مَنْ بَذَلَ مَعْرُوفَهُ وَكَفَّ أَذَاهُ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ لِبَنِي سَلِمَةَ وَقَدْ سَأَلَهُمْ مَنْ سَيِّدُكُمْ فَقَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ» . وَسُمِّيَ أَيْضًا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيِّدًا فِي قَوْلِهِ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» . أَيْ رَئِيسِكُمْ وَالْمُطَاعُ فِيكُمْ. وَسُمِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: سَيِّدًا. فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّيِّدُ الَّذِي يَسُودُ قَوْمَهُ أَيْ يَفُوقُهَا فِي الشَّرَفِ. وَكَانَ يَحْيَى قَائِمًا لِقَوْمِهِ، قَائِمًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ فِي أَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ سَيِّئَةً قَطُّ، وَيَا لَهَا مِنْ سِيَادَةٍ؟! انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مُلَخَّصُهُ: خَصَّهُ اللَّهُ بِذِكْرِ السُّؤْدُدِ، وَهُوَ الِاعْتِمَالُ فِي رِضَا النَّاسِ عَلَى أَشْرَفِ الْوُجُوهِ دُونَ أَنْ يُوقَعَ فِي بَاطِلٍ، وَتَفْصِيلُهُ: بَذْلُ النَّدَى وَهُوَ الْكَرَمُ، وَكَفُّ الْأَذَى وَهِيَ الْعِفَّةُ فِي الْفَرْجِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ وَهُنَا هُوَ الْحُلْمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْغَرَامَاتِ وَجَبْرُ الْكَسِيرِ وَالْإِنْقَاذُ مِنَ الْهَلَكَاتِ. وَقَدْ يُوجَدُ من الثقات الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُبْرِزُ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، وَقَدْ يُوجَدُ مَنْ يَبْرُزُ فِيهَا، فَيُسَمَّى سَيِّدًا وَإِنْ قَصَّرَ فِي مَنْدُوبٍ، وَمُكَافَحَةٍ فِي حَقٍّ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ بِاللَّائِمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا رَأَيْتُ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ؟ قِيلَ لَهُ: وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟ قَالَ: هُمَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمُعَاوِيَةُ أَسْوَدُ مِنْهُمَا! انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيرِ السَّيِّدِ كُلُّهَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا فِي وَصْفِ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ هُمُ النَّبِيُّونَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَسَيِّدًا، دَلَالَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى مَنْ فِيهِ سِيَادَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَدْحِ. وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلظَّالِمِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ. وَوَرَدَ النَّهْيُ: «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا» ، وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ أَطَعْنا سادَتَنا «1» فَعَلَى مَا فِي اعْتِقَادِهِمْ وَزَعْمِهِمْ.

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 67.

قِيلَ: وَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ مِنْ قَوْلِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّوْلِ علينا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ، تَكَلَّمُوا بِكَلَامِكُمْ» ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُمْ مُتَكَلِّفِينَ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ، وَقَدْ سَمَّى هُوَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ سَيِّدًا، وَكَذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. وَحَصُوراً هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَحَصُورًا لَا يُرِيدُ نِكَاحًا ... لَا وَلَا يَبْتَغِي النِّسَاءَ الصِّبَاحَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَغَضَّ لِبَصَرِهِ. وَقِيلَ: الْحَاصِرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقِيلَ: عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. وَقِيلَ: الْحَصُورُ الْهَيُوبُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالضَّحَّاكُ، وَالْمُسَيَّبُ: هُوَ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا ذَكَرَ لَهُ يَتَأَتَّى بِهِ النِّكَاحُ وَلَا يَنْزِلُ. وَإِيرَادُ الْحَصُورِ وَصْفًا فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْفِعْلِ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْجِبِلَّةِ فِي الْغَالِبِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهُ مَقَامُ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ، وَلَعَلَّ تَرْكَ النِّسَاءِ زَهَادَةٌ فِيهِنَّ كَانَ شَرْعُهُمْ إِذْ ذَاكَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ طَعَامُ يَحْيَى الْعُشْبَ، وَكَانَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَارُ عَلَى عَيْنَيْهِ لَخَرَقَهُ، وَكَانَ الدَّمْعُ اتَّخَذَ مَجْرًى فِي وَجْهِهِ. قِيلَ: وَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَهُوَ فِي شَغْلٍ عَنِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْحَصُورُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي الْمَيْسِرِ. قَالَ الْأَخْطَلُ: وَشَارِبٌ مُرْبِحٌ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي ... لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَآرٍ فَاسْتُعِيرَ لِمَنْ لَا يَدْخُلُ فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ: مَرَّ وَهُوَ طِفْلٌ بِصِبْيَانٍ فَدَعَوْهُ إِلَى اللَّعِبِ، فَقَالَ: مَا لِلَعِبٍ خُلِقْتُ. وَالْحَصُورُ وَالْحَصِرُ كما تم السِّرِّ. قَالَ جَرِيرُ: وَلَقَدْ تشاقطني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِرًا بِسِرِّكَ يَا أُمَيْمُ ضَنِينَا وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ الْعَاصِي، مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ يَحْيَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا للرجل إِلَّا مِثْلَ هَذَا الْعُودِ، يُشِيرُ إِلَى عُوَيْدٍ صَغِيرٍ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ ذَكَرُهُ مِثْلَ هَذِهِ الْقَذَاةِ، يُشِيرُ إِلَى

قَذَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَخَذَهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَحَصُوراً مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّبَتُّلَ لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ بِالْعَكْسِ. وَنَبِيًّا هَذَا الْوَصْفُ الْأَشْرَفُ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَوْصَافِ، فَذَكَرَ أولا الوصف الذي تبنى عَلَيْهِ الْأَوْصَافُ بَعْدَهُ، وَهُوَ: التَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ السِّيَادَةَ وَهِيَ الْوَصْفُ يَفُوقُ بِهِ قَوْمَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الزَّهَادَةَ وَخُصُوصًا فِيمَا لَا يَكَادُ يُزْهَدُ فِيهِ وَذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا وَهِيَ: رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَشَابُهٌ مِنْ أَوْصَافِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا رَأَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَرْيَمُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَةِ، دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَهِبَ لَهُ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى عَلَى وَفْقِ مَا طَلَبَ، فَالتَّصْدِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى، وَكَانَتْ مَرْيَمُ سَيِّدَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَصِّ الرَّسُولِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ، وَكَانَ يَحْيَى سَيِّدًا، فَاشْتَرَكَا فِي هَذَا الْوَصْفِ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ عَذْرَاءَ بَتُولًا لَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ وَكَانَ يَحْيَى لَا يَقْرُبُ النِّسَاءَ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ أَتَاهَا الْمَلَكُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وحاورها عَنِ اللَّهِ بِمُحَاوَرَاتٍ حَتَّى زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً، وَكَانَ يَحْيَى نَبِيًّا، وَحَقِيقَةُ النُّبُوَّةِ هُوَ أَنَّ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْوَصْفِ. مِنَ الصَّالِحِينَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ أَصْلَابِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَصَالِحًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «1» قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ مِنْ صَالِحِي الْحَالِ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِذِكْرِ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ صَلَاحَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ وَإِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمُ. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ حُصُولِ النُّبُوَّةِ لَهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «2» قِيلَ: وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ قَدْرًا مِنَ الصَّلَاحِ لَوِ انْتَقَصَ لَانْتَفَتِ النُّبُوَّةُ، ثُمَّ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُمْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ نَصِيبًا مِنَ الصَّلَاحِ كَانَ أَعْلَى قَدْرًا. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الصَّلَاحُ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ نَبِيٍّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَفِي غَيْرِهِمْ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 130. (2) سورة النمل: 27/ 19.

لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بَعْضُهَا، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ لَكِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ فِي الْأَنْبِيَاءِ هُوَ تَحْقِيقُ الصَّلَاحِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ بَعْضِهَا، فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ حَتَّى يَنْقَطِعَ احْتِمَالُ جَوَازِ النُّبُوَّةِ فِي مُطْلَقِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِاسْمِ الصَّلَاحِ مُفِيدًا. وَقِيلَ: مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْأَمْنِ مِنْ خَوْفِ الْخَاتِمَةِ. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ سُؤَالُهُ به: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فَلَا شَكَّ فِي إِمْكَانِيَّةِ ذَلِكَ، وَجَوَازِهِ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَبَشَّرَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فَمَا وَجْهُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ؟. وَأُجِيبَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَيُولَدُ لِي عَلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ وَكَوْنِ امْرَأَتِي عَاقِرًا؟ أَيْ بَلَغَتْ سَنَّ مَنْ لَا تَلِدُ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَامْرَأَتُهُ بَلَغَتْ ثَمَانِيًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَوْمَ بُشِّرَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً. أَمْ أُعَادُ أَنَا وَامْرَأَتِي إِلَى سِنِّ الشَّبِيبَةِ وَهَيْئَةِ مَنْ يُولَدُ لَهُ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُولَدُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. قَالَ مَعْنَاهُ: الْحَسَنُ، وَالْأَصَمُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ اسْتَعْلَمَ: أَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَلَدُ مِنْ صُلْبِهِ نَفْسِهِ أَمْ من بينه؟. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ نَسِيَ السُّؤَالَ، وَكَانَ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالتَّبْشِيرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتُّونَ سَنَةً. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْلَامَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْظَامِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يَحْدُثُ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْآيَاتِ وَهُوَ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، لِكَوْنِهِ كَالْمَدْهُوشِ عِنْدَ حُصُولِ مَا كان مستبعدا لَهُ عَادَةً. الْخَامِسُ: إِنَّمَا سَأَلَ لِأَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْجِمَاعِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ: هَلْ يُقَوِّيهِ عَلَى الْجِمَاعِ وَامْرَأَتُهُ عَلَى الْقَبُولِ عَلَى حَالِ الْكِبَرِ؟ السَّادِسُ: سَأَلَ هَلْ يُرْزَقُ الْوَلَدُ مِنَ امْرَأَتِهِ الْعَاقِرِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا. السَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ لِيُكَدِّرَ عَلَيْهِ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَدْرِي

مَنْ نَادَاكَ؟ قَالَ: مَلَائِكَةُ رَبِّي! قَالَ لَهُ: بَلْ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ لَأَخْفَاهُ لَكَ كَمَا أَخْفَيْتَ نِدَاءَكَ، فَخَالَطَتْ قَلْبَهُ وَسْوَسَةٌ، فَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ لِيُبَيِّنَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ. قَالَ الْقَاضِي: لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الرُّسُلِ كَلَامُ الْمَلَكِ بِكَلَامِ الشَّيْطَانِ لَمْ يَبْقَ الْوُثُوقُ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا قَالَهُ لَا يَلْزَمُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَقُومَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى الْوَحْيِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحَ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا لَا يُؤَكَّدُ بِالْمُعْجِزَةِ، فَيَبْقَى الِاحْتِمَالُ، فَيَطْلُبُ زَوَالَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتِبْعَادٌ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ. كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ. انْتَهَى. وَعَلَى مَا قَالَهُ: لَوْ كَانَ اسْتِبْعَادًا لَمَا سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً لِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُ إِلَّا مَا كَانَ مُمْكِنًا لَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ فِي حَقِّهِمْ كَثِيرُ الْوُقُوعِ. وَ: يَكُونُ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً وَفَاعِلُهَا غُلَامٌ، أَيْ: أنَّى يَحْدُثُ لِي غُلَامٌ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَلَا يَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْمِ، لِأَنَّهُ قِيلَ: دُخُولُ كَانَ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، إِذْ تَقَدُّمُ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا: يَكُونُ، إِنْ كَانَتْ تَامَّةً، أَوِ الْعَامِلُ فِي: لِي، إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً. وَقِيلَ: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي: بَلَغَنِي، وَالْعَامِلُ بَلَغَنِي، وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِعْلِيَّةً لِأَنَّ الْكِبَرَ يَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَازِمًا، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةً وَالْخَبَرُ: عاقر، لأن كَوْنُهَا عَاقِرًا أَمْرٌ لَازِمٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا طَارِئًا عَلَيْهَا، فَنَاسَبَ لِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، وَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَمَعْنَى: بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، أَثَّرَ فِيَّ: وَحَقِيقَةُ الْبُلُوغِ فِي الْأَجْرَامِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْبَالِغُ إِلَى الْمَبْلُوغِ إِلَيْهِ. وَأَسْنَدَ الْبُلُوغَ إِلَى الْكِبَرِ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ، كَأَنَّ الْكِبَرَ طَالِبٌ لَهُ، لِأَنَّ الْحَوَادِثَ طَارِئَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَكَأَنَّهَا طَالِبَةٌ لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، كَمَا جَاءَ: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا «1» وَكَمَا قَالَ: مِثْلَ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أَوْ بلغت سوآتهم هَجَرُ وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِذَا بَلَغْتَ الْكِبَرَ فَقَدْ بَلَغَكَ الْكِبَرُ. انْتَهَى. وَهُنَا قَدَّمَ حَالَ نَفْسِهِ وَأَخَّرَ حَالَ

_ (1) سورة مريم: 19/ 69.

امْرَأَتِهِ، وَفِي مَرْيَمَ عَكَسَ، فَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لَا تُرَاعَى الْأَلْفَاظُ فِي الْحِكَايَةِ إِنَّمَا تُرَاعَى الْمَعَانِي الْمُدْرَجَةُ فِي الْأَلْفَاظِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: صَدْرُ الْآيَاتِ فِي مَرْيَمَ مُطَابِقٌ لِهَذَا التَّرْتِيبِ هُنَا، لِأَنَّهُ قَدَّمَ: أَنَّهُ وَهَنَ الْعَظْمُ مِنْهُ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1» وَقَالَ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً «2» فَلَمَّا أَعَادَ ذِكْرَهَا فِي الِاسْتِعْلَامِ أَخَّرَ ذِكْرَ الكبر ليوافق عتيا رؤوس الْآيِ، وَهُوَ بَابٌ مَقْصُودٌ فِي الْفَصَاحَةِ يَتَرَجَّحُ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى، وَالْعَطْفُ هُنَا بِالْوَاوِ، فَلَيْسَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مُشْعِرًا بِتَقَدُّمِ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْمُنَاسِبِ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ. قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ الْكَافُ: لِلتَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْفِعْلِ، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ تَكَوُّنُ الْوَلَدِ بَيْنَ الْفَانِي وَالْعَاقِرِ، يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مَشِيئَتُهُ فِعْلًا، مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، بَلْ سَبَبُ إِيجَادِهِ هُوَ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ: سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْعَادَةِ أَمْ مِنَ الَّتِي لَا تَجْرِي عَلَى الْعَادَةِ؟ وَإِذَا كَانَ تَعَالَى يُوجِدُ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفَ بِلَا مَادَّةٍ وَلَا سَبَبٍ، فَكَيْفَ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا مَادَّةٌ وَسَبَبٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ؟ وَتَكُونُ الْكَافُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِعْلًا مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ: مِنْ يَفْعَلُ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ اللَّهُ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَذَلِكَ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، أَيْ صُنْعُ اللَّهِ الْغَرِيبُ مِثْلُ ذَلِكَ الصُّنْعِ، وَيَكُونُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ شَرْحًا لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الصفة: الله، قال: يَفْعَلُ مَا يَشاءُ بَيَانٌ لَهُ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ: كَهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ هِيَ قُدْرَةُ اللَّهِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ، تَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ الْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لِابْنِ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى حَالِ زَكَرِيَّا وَحَالِ امْرَأَتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ لَنَا غُلَامٌ وَنَحْنُ بِحَالِ كَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: كَمَا أَنْتُمَا يَكُونُ لَكُمَا الْغُلَامُ. وَالْكَلَامُ تَامٌّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ،

_ (1) سورة مريم: 19/ 4. (2) سورة مريم: 19/ 5. [.....]

جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ مُقَرِّرَةٌ فِي النَّفْسِ وُقُوعَ هَذَا الْأَمْرِ الْمُسْتَغْرَبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَيَكُونُ: كَذَلِكَ، مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَشَرَحَ الرَّاغِبُ الْمَعْنَى فَقَالَ: يَهِبُ لَكَ الْوَلَدَ وَأَنْتَ بِحَالَتِكَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْأَوَّلُ. قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً قَالَ الرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ زَكَرِيَّا قَالَ: يَا رَبِّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ مِنْ قِبَلِكَ، وَالْبِشَارَةُ حَقٌّ، فَاجْعَلْ لِي آيَةً، عَلَامَةً أَعْرِفُ بِهَا صِحَّةَ ذَلِكَ! فَعُوقِبَ عَلَى هَذَا الشَّكِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ مُنِعَ الْكَلَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ النَّاسِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَشُكَّ قَطُّ زَكَرِيَّا، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْوَلَدُ، وَتَتِمُّ بِهِ الْبِشَارَةُ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ سَأَلَ عَلَامَةً عَلَى وَقْتِ الْحَمْلِ لِيَعْرِفَ مَتَى يَكُونُ الْعُلُوقُ بِيَحْيَى. وَاخْتَلَفُوا فِي مَنْعِهِ الْكَلَامَ: هَلْ كَانَ لِآفَةٍ نَزَلَتْ بِهِ أَمْ لِغَيْرِ آفَةٍ؟ فَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: رَبَا لِسَانُهُ فِي فِيهِ حَتَّى مَلَأَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ اللَّهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِسَانَهُ فَجُعِلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ مُعَاقَبَةً عَلَى سُؤَالِ آيَةٍ بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِالْبِشَارَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ تَكُنْ آفَةً، وَلَكِنَّهُ مُنِعَ مُجَاوَرَةَ النَّاسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَتِ الْآيَةُ حَبْسَ اللِّسَانِ لِتَخْلُصَ الْمُدَّةُ لِذِكْرِ اللَّهِ لَا يَشْغَلُ لِسَانَهُ بِغَيْرِهِ تَوَفُّرًا مِنْهُ عَلَى قَضَاءِ حَقِّ تِلْكَ النعمة الجسيمة وشكرها، وكأنه لَمَّا طَلَبَ الْآيَةَ مِنْ أَجْلِ الشُّكْرِ قِيلَ لَهُ: آيَتُكَ أَنْ يُحْبَسَ لِسَانُكَ إِلَّا عَنِ الشُّكْرِ. وَأَحْسَنُ الْجَوَابِ وَأَوْقَعُهُ مَا كَانَ مُشْتَقًّا مِنَ السُّؤَالِ، وَمُنْتَزَعًا مِنْهُ وَكَانَ الْإِعْجَازُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِهِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَجْزِهِ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ، مَعَ سَلَامَةِ الْبِنْيَةِ وَاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ، وَمِنْهُ جِهَةُ وُقُوعِ الْعُلُوقِ وَحُصُولِهِ عَلَى وَفْقِ الْأَخْبَارِ. وَقِيلَ: أُمِرَ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صَوْمِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: آيَتُكَ أَنْ تَصِيرَ مَأْمُورًا بِأَنْ لَا تُكَلِّمَ الْخَلْقَ، وَأَنْ تَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ شُكْرًا عَلَى إِعْطَاءِ هَذِهِ الْمَوْهِبَةِ، وَإِذَا أُمِرْتَ بِذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ. قِيلَ: فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ فَرْضًا يَجْعَلُهُ شُكْرًا لِذَلِكَ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ سَأَلَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُولَدُ لَهُ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ آيَتَهُ انْتِفَاءُ الْكَلَامِ مِنْهُ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، وَأُمِرَ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَانْتِفَاءِ الْكَلَامِ قَدْ يَكُونُ

لِمُتَكَلَّفٍ بِهِ، أَوْ بِمَلْزُومِهِ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَهُوَ الصَّوْمُ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَنْعٍ قَهْرِيٍّ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لِآفَةٍ تَعْرِضُ فِي الْجَارِحَةِ، أَوْ لِغَيْرِ آفَةٍ، قَالُوا: مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَلَامِ بِذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِلَى آخِرِهِ يَعْنِي فِي أَيَّامِ عَجْزِكَ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ احْتِمَالَاتِ وُجُوهِ الِانْتِفَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالزَّمَانِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَقْيِيدِ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ بِالنُّطْقِ بِالْكَلَامِ، وَظَاهِرُ: اجْعَلْ، هُنَا أَنَّهَا بِمَعْنَى صَيِّرْ، فَتَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: الْأَوَّلُ آيَةٌ، وَالثَّانِي الْمَجْرُورُ، قَبْلَهُ وَهُوَ: لِي، وَهُوَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ، لِأَنَّهُ قَبْلَ دُخُولِ: اجْعَلْ، هُوَ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَنْ لَا تُكَلِّمُ، بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ: أَنْ، هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَا تُكَلِّمُ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ: أَنْ، مَجْرَى: مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَانْتِصَابُ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، عَلَى الظَّرْفِ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ اسْمُ الزَّمَانِ يَسْتَغْرِقُهُ الْفِعْلُ، فَلَيْسَ بِظَرْفٍ، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ بِهِ نَحْوَ: صَمَتَ يَوْمًا، فَانْتِصَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْكَلَامِ مِنْهُ لِلنَّاسِ كَانَ وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ، لَمْ يَخْلُ جُزْءٌ مِنْهَا مِنِ انْتِفَاءٍ فِيهِ. وَالْمُرَادُ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا «1» وَهَذَا يَضَعِّفُ تَأْوِيلَ مَنْ قَالَ: أُمِرَ بِالصَّوْمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صَوْمِهِمْ، وَاللَّيَالِي تَبْعُدُ مَشْرُوعِيَّةُ صَوْمِهَا، وَلَمْ يُعَيِّنِ ابْتِدَاءَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلْ أَطْلَقَ فَقَالَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَكْلِيفٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى اخْتِيَارِهِ، يَمْتَنِعُ مِنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَتَى شَاءَ، وَيُمْكِنُ أن يكون ذلك من حِينِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ بِمَنْعٍ قَهْرِيٍّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ حِينِ الْخِطَابِ. قِيلَ: وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ قُدْرَةِ زَكَرِيَّا عَلَى الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ شَرْعَهُ مشرع لَنَا وَإِنْ نَسَخَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى الليل.

_ (1) سورة مريم: 19/ 10.

وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا صَمْتَ يَوْمٍ، أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا الصَّمْتُ عَمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، فَحَسُنٌ. وَاسْتِثْنَاءُ الرَّمْزِ، قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إذ الرَّمْزُ لَا يُدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيمِ، مِنْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْإِشَارَةِ الدالة على ما في نَفْسِ الْمُشِيرِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا عَلَى مَذْهَبِهِ. وَلِذَلِكَ أَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ: أَرَادَتْ كَلَامًا فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا ... فَلَمْ يَكُ إِلَّا وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ وَقَالَ: إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفُوَاتِرِ رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ وَاسْتَعْمَلَ الْمُوَلِّدُونَ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ حَبِيبٌ: كَلِمَتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ ... فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ وَكَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: لَمَّا أَدَّى مُؤَدِّي الْكَلَامِ، وَفَهِمَ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، سُمِّيَ كَلَامًا. وَأَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا. قَالَ: وَالْكَلَامُ المراد به في الآية إِنَّمَا هُوَ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ لَا الْإِعْلَامُ بِمَا فِي النَّفْسِ، فَحَقِيقَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَبَدَأَ بِهِ أَوَّلًا، فَقَالَ اسْتِثْنَاءُ الرَّمْزِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا إِلَى أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْكَلَامِ فِي الْإِيمَانِ وَنَحْوِهَا، فَعَلَى هَذَا يَجِيءُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَالرَّمْزُ هُنَا: تَحْرِيكٌ بِالشَّفَتَيْنِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. أَوْ: إِشَارَةٌ بِالْيَدِ وَالرَّأْسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ. أَوْ: إِشَارَةٌ بِالْيَدِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوْ: إِيمَاءٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ. فَالْإِيمَاءُ هُوَ الْإِشَارَةُ لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ بِمَاذَا أَشَارَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: إِشَارَةٌ بِالْيَدِ أَوْ إِشَارَةٌ بِالْعَيْنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: رَمْزُهُ الْكِتَابَةُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ الْمُسَبِّحَةِ. وَقِيلَ: بِاللِّسَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ظَلَّ أَيَّامًا لَهُ مِنْ دَهْرِهِ ... يَرْمُزُ الْأَقْوَالَ مِنْ غَيْرِ خُرْسٍ وَقِيلَ: الرَّمْزُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: رُمُزًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْمِيمِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ

جَمْعُ رُمُوزٍ، كَرُسُلٍ وَرَسُولٍ، وَعَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَرَمْزٍ جَاءَ عَلَى فِعْلٍ، وَأَتْبَعَتِ الْعَيْنُ الْفَاءَ كَالْيُسْرِ وَالْيُسُرِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: رَمَزًا، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ رَامِزٍ، كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ، وَانْتِصَابُهُ إِذَا كَانَ جَمْعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي تُكَلِّمَ، وَمِنَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ: النَّاسُ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنَّ ... أَيِّي وَأَيُّكَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ أَيْ: إِلَّا مُتَرَامِزِينَ كَمَا يُكَلِّمُ الْأَخْرَسُ النَّاسَ وَيُكَلِّمُونَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَمْزاً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَيْنَ اللَّهُ» . فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . فَأَجَازَ الْإِسْلَامُ بِالْإِشَارَةِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّيَانَةِ الَّتِي تَحْقِنُ الدَّمَ وَتَحْفَظُ الْمَالَ وَتُدْخِلُ الْجَنَّةَ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَامَّةً فِي جَمِيعِ الدِّيَانَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً قِيلَ: الذِّكْرُ هُنَا هُوَ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الذِّكْرِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ عَطَاءَ ربك وإجابته لدعائك. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ لِزَكَرِيَّا، وَلِلرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً «1» وَأَمَرَ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ لِيَكْثُرَ ذِكْرُ اللَّهِ لَهُ بِنِعَمِهِ وَأَلْطَافِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «2» . وَانْتِصَابُ: كَثِيرًا، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ: اذْكُرُوا، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَيْ: نَزِّهِ اللَّهَ عَنْ سِمَاتِ النَّقْصِ بِالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ بِقَوْلِكَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَسَبِّحْ وَصَلِّ، وَمِنْهُ: كَانَ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى أَرْبَعًا، فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ: أَوَّلَ الْفَجْرِ، وَوَقْتَ ميل الشمس

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 45. (2) سورة البقرة: 2/ 152.

لِلْغُرُوبِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْعَشِيِّ اللَّيْلَ، وَبِالْإِبْكَارِ النَّهَارَ، فَعَبَّرَ بِجُزْءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ جُمْلَتِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ. وَمَفْعُولُ: وَسَبِّحْ، مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً أَيْ: وَسَبِّحْ رَبَّكَ. و: الباء فِي: بِالْعَشِيِّ، ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: في العشي. وقرىء شَاذًّا وَالْأَبْكَارِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ جَمْعُ بَكَرٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْكَافِ، تَقُولُ: أَتَيْتُكَ بَكَرًا، وَهُوَ مِمَّا يَلْتَزِمُ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ إِذَا كَانَ مِنْ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَنَظِيرُهُ: سَحَرٌ وَأَسْحَارٌ، وَجَبَلٌ وَأَجْبَالٌ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلْعَشِيِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ جَمْعَ عَشِيَّةً إِذْ يَكُونُ فِيهَا تَقَابُلٌ مِنْ حَيْثُ الْجَمْعِيَّةُ، وَكَذَلِكَ هِيَ مُنَاسِبَةٌ إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ مُفْرَدًا، وَكَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» وَأَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَالْإِبْكَارِ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ قَدْ قَابَلَ الْعَشِيَّ الَّذِي هُوَ وَقْتٌ، بِالْمَصْدَرِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ أَيْ: بِالْعَشِيِّ وَوَقْتَ الْإِبْكَارِ. وَالظَّاهِرُ فِي: بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِمَا لِلْعُمُومِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ عَشِيُّ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ وَلَا وَقْتَ الْإِبْكَارِ فِيهَا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَمْ يَعْنِ التَّسْبِيحَ طَرَفَيِ النَّهَارِ فَقَطْ، بَلْ إِدَامَةَ الْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، ذِكْرُهُ الْعَشِيُّ وَالْإِبْكَارُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرْ رَبَّكَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَصَلِّ طَرَفَيِ النَّهَارِ. انْتَهَى. وَيَتَعَلَّقُ: بِالْعَشِيِّ، بِقَوْلِهِ: وَسَبِّحْ، وَيَكُونُ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَوْلَى، إِذْ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ، لَأُضْمِرَ فِي الثَّانِي، إِذْ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ. قِيلَ: أَوْ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، فَيَكُونَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِهَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ فُنُونِ الْفَصَاحَةِ أَنْوَاعًا: الزِّيَادَةُ فِي الْبِنَاءِ فِي قَوْلِهِ: هُنَالِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَائِدَتَهُ و: التكرار، فِي رَبِّهِ، قَالَ رَبِّ، وَفِي إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ، وَبِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَفِي آيَةٍ قَالَ: آيَتُكَ، وَفِي: يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ وَتَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ حَمْلًا عَلَى اللفظ

_ (1) سورة العصر: 103/ 2.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 إلى 51]

وفي: ذرية طيبة، و: الإسناد الْمَجَازِيُّ فِي: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، وَالسُّؤَالُ وَالْجَوَابُ: قَالَ رَبِّ أَنَّى؟ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً. قَالَ: آيَتُكَ. قَالَ أَرْبَابُ الصِّنَاعَةِ: أُحْسَنُ هَذَا النَّوْعِ مَا كَثُرَتْ فِيهِ الْقَلْقَلَةُ وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ. [سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 42 الى 51] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) الْقَلَمُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَجَمْعُهُ أَقْلَامٌ وَيَقَعُ عَلَى السَّهْمِ الَّذِي يُقْتَرَعُ بِهِ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ يُقَلَّمُ أَيْ: يُبْرَى وَيُسَوَّى. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُلَامَةِ، وَهِيَ نَبْتٌ ضَعِيفٌ لِتَرْقِيقِهِ، وَالْقُلَامَةُ أَيْضًا مَا سَقَطَ مِنَ الظُّفْرِ إِذَا قُلِّمَ، وَقَلَّمْتُ أَظْفَارَهُ أَخَذْتُ مِنْهَا وَسَوَّيْتُهَا قَالَ زُهَيْرٌ:

لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ وَقَالَ بَعْضَ الْمُوَلِّدِينَ: يُشَبَّهُ بِالْهِلَالِ وَذَاكَ نَقْصٌ ... قُلَامَةُ ظَفْرِهِ شِبْهُ الْهِلَالِ الْوَحْيُ: إِلْقَاءُ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ فِي خَفَاءٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِالْمَلَكِ لِلرُّسُلِ وَبِالْإِلْهَامِ كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «1» وَبِالْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ. لَأَوْحَتْ إِلَيْنَا وَالْأَنَامِلُ رُسْلُهَا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا «2» وَبِالْكِتَابَةِ: قَال زُهَيْرٌ: أَتَى الْعُجْمَ وَالْآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدُ ... بَقَيْنَ بَقَاءَ الْوَحْيِ فِي الْحَجَرِ الْأَصَمْ وَالْوَحْيُ: الْكِتَابُ قَالَ: فَمَدَافِعُ الرَيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيَّ سِلَامُهَا وَقِيلَ: الْوُحِيُّ جَمْعُ: وَحْيٍ، وَأَمَّا الْفِعْلُ فَيُقَالُ أَوْحَى وَوَحَى. الْمَسِيحُ: عِبْرَانِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَأَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيِّ مَشِيحًا، بِالشِّينِ عُرِّبَ بِالسِّينِ كَمَا غُيِّرَتْ فِي مُوَشَى، فَقِيلَ: مُوسَى، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ الْمُبَارَكُ، كَقَوْلِهِ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ «3» وَهُوَ مِنَ الْأَلْقَابِ الْمُشَرِّفَةِ، كَالصِّدِّيقِ، وَالْفَارُوقِ، انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَسِيحُ عَرَبِيٌّ، وَاخْتُلِفَ: أَهْوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّيَاحَةِ فَيَكُونُ وَزْنُهُ مُفْعِلًا؟ أَوْ من المسح فَيَكُونُ وَزْنُهُ فَعِيلًا؟ وَهَلْ يَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَوْ فَاعِلٍ خِلَافٌ، وَيَتَبَيَّنُ فِي التَّفْسِيرِ لِمَ سُمِّيَ بِذَلِكَ. الْكَهْلُ: الَّذِي بَلَغَ سِنَّ الْكُهُولَةِ وَآخِرُهَا سِتُّونَ. وَقِيلَ: خَمْسُونَ. وَقِيلَ: اثْنَانِ وَخَمْسُونَ، ثُمَّ يَدْخُلُ سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِهَا فَقِيلَ: ثَلَاثُونَ وَقِيلَ: اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ. وَقِيلَ: خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ عَامًا. وَهُوَ مِنِ اكْتَهَلَ النَّبَاتُ إِذَا قَوِيَ وَعَلَا، وَمِنْهُ: الْكَاهِلُ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: اكْتَهَلَ الرَّجُلُ وَخَطَّهُ الشَّيْبُ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اكْتَهَلَتِ الرَّوْضَةُ إِذَا عَمَّهَا النُّورُ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: كَهِلَةٌ. انْتَهَى.

_ (1) سورة النحل: 16/ 68. (2) سورة مريم: 19/ 11. (3) سورة مريم: 19/ 31.

وَنُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ فِي تَرْتِيبِ سَنِّ الْمَوْلُودِ وَتَنَقُّلِ أَحْوَالِهِ: أَنَّهُ فِي الرَّحِمِ: جَنَيْنٌ، فَإِذَا وُلِدَ: فَوَلِيدٌ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ الْأُسْبُوعَ: فَصَدِيعٌ، وَإِذَا دَامَ يَرْضَعُ: فَرَضِيعٌ، وَإِذَا فُطِمَ: فَفَطِيمٌ، وَإِذَا لَمْ يَرْضَعْ: فَجَحُوشٌ، فَإِذَا دَبَّ وَنَمَا: فَدَارِجٌ، فَإِذَا سَقَطَتْ رَوَاضِعَهُ: فَمَثْغُورٌ، فَإِذَا نَبَتَتْ بَعْدَ السُّقُوطِ: فمثغر، بِالتَّاءِ وَالثَّاءِ. فَإِذَا كَانَ يجاوز العشر: فمترعرع وناشيء، فَإِذَا كَانَ يَبْلُغُ الْحُلُمَ: فَيَافِعٌ، وَمُرَاهِقٌ، فَإِذَا احْتَلَمَ: فَمَحْزُورٌ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ: غُلَامٌ. فَإِذَا اخْضَرَّ شَارِبُهُ وَسَالَ عِذَارُهُ: فَبَاقِلٌ، فَإِذَا صَارَ ذَاقِنًا: فَفَتَى وَشَارِخٌ، فَإِذَا كَمُلَتْ لِحْيَتُهُ: فَمُجْتَمَعٌ، ثُمَّ مَا دَامَ بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ: فَهُوَ شَابٌّ، ثُمَّ هُوَ كَهْلٌ: إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ السِتِّينَ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. الطِّينُ: مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ طَانَهُ اللَّهُ عَلَى كَذَا، وَطَامَهُ بِإِبْدَالِ النُّونِ مِيمًا، جَبَلَهُ وَخَلَقَهُ عَلَى كَذَا، وَمُطَيَّنٌ لَقَبٌ لِمُحَدِّثٍ مَعْرُوفٍ. الْهَيْئَةُ: الشَّكْلُ وَالصُّورَةُ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ: هاء الشيء بهاء هَيْأً وَهَيْئَةً إِذَا تَرَتَّبَ وَاسْتَقَرَّ عَلَى حَالٍ مَا، وَتَعَدِّيهِ بِالتَّضْعِيفِ، فَتَقُولُ: هَيَّأْتُهُ، قَالَ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ «1» . النَّفْخُ: مَعْرُوفٌ. الْإِبْرَاءُ: إِزَالَةُ الْعِلَّةِ والمرض، يقال: برىء الرَّجُلُ وَبَرَأَ مِنَ الْمَرَضِ، وَأَمَّا مِنَ الذَّنْبِ وَمِنَ الدّين فبريء. الكمه: الْعَمَى يُولَدُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَقَدْ يَعْرِضُ، يُقَالُ: كَمَّهُ يُكِمُّهُ كَمَهًا: فَهُوَ أَكْمَهُ. وَكَمَّهْتُهَا أَنَا أَعْمَيْتُهَا قَالَ سُوَيْدٌ: كَمَّهْتُ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضَّتَا وَقَالَ رُؤْبَةُ. فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الْأَكْمَهِ الْبَرَصُ: دَاءٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بَيَاضٌ يَعْتَرِي الْجِلْدَ، يُقَالُ مِنْهُ: بَرَصٌ فَهُوَ أَبْرَصُ، وَيُسَمَّى الْقَمَرُ أَبْرَصَ لِبَيَاضِهِ، وَالْوَزَغُ سَامٌّ أَبْرَصُ لِلْبَيَاضِ الَّذِي يَعْلُو جِلْدَهُ. ذَخَرَ: الشَّيْءَ يَذْخَرُهُ خَبَّأَهُ، وَالذُّخْرُ الْمَذْخُورُ قال:

_ (1) سورة الكهف: 18/ 16.

لها أشارير من لخم تُثَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعَالِي وَذُخْرٌ مِنْ أَرَانِبِهَا وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا، وَكَانَ قَدِ اسْتَطْرَدَ مِنْ قِصَّةِ مَرْيَمَ إِلَيْهَا، رَجَعَ إِلَى قِصَّةِ مَرْيَمَ، وَهَكَذَا عَادَةُ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، مَتَى ذَكَرُوا شَيْئًا اسْتَطْرَدُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ لَهُمْ غَرَضٌ فِي الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ تَبْرِئَةُ مَرْيَمَ عَنْ مَا رَمَتْهَا بِهِ الْيَهُودُ، وَإِظْهَارُ اسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ عِيسَى إِلَهًا، فَذَكَرَ وِلَادَتَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُ جَمْعٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِبْرِيلُ وَمِنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُ نُقِلَ أَنَّهُ: لَا يَنْزِلُ لِأَمْرٍ إِلَّا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ وَحْدَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: وَإِذْ قَالَ الْمَلَائِكَةُ، وَفِي نِدَاءِ الْمَلَائِكَةِ لَهَا بِاسْمِهَا تَأْنِيسٌ لَهَا وَتَوْطِئَةٌ لِمَا تُلْقِيهِ إِلَيْهَا وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ الْجُمْلَةُ المؤكدة: بإن. وَالظَّاهِرُ مُشَافَهَةُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا بِالْقَوْلِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رُوِيَ أَنَّهُمْ كَلَّمُوهَا شِفَاهًا مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا، أَوْ إِرْهَاصًا لِنُبُوَّةِ عِيسَى. انْتَهَى. يَعْنِي: بِالْإِرْهَاصِ التَّقَدُّمَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّةِ عِيسَى وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ عَلَى يَدٍ غَيْرَ نَبِيٍّ إِلَّا إِنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ نَبِيٌّ، أَوِ انْتَظَرَ بَعْثَ نَبِيٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَارِقُ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ بَعْثَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ. وَطَهَّرَكِ التَّطْهِيرُ هُنَا مِنَ الْحَيْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَتْ مَرْيَمُ لَا تَحِيضُ. وَقَالَ قَوْمٌ: مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ مَسِّ الرِّجَالِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: عَمَّا يَصِمُ النِّسَاءَ فِي خَلْقٍ وَخُلُقٍ وَدِينٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: مِنَ الرَّيْبِ وَالشُّكُوكِ. وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ قِيلَ: كَرَّرَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: لَا تَوْكِيدَ إِذِ الْمُرَادُ بِالِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ اصْطِفَاءُ الْوِلَايَةِ، وَبِالثَّانِي اصْطِفَاءُ وِلَادَةِ عِيسَى، لِأَنَّهَا بِوِلَادَتِهِ حَصَلَ لَهَا زِيَادَةُ اصْطِفَاءٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ عَلَى الْأَكْفَاءِ. وَقِيلَ: الِاصْطِفَاءُ الْأَوَّلُ: اخْتِيَارٌ وَعُمُومٌ يَدْخُلُ فِيهِ صَوَالِحُ مِنَ النِّسَاءِ، وَالثَّانِي: اصْطِفَاءٌ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: لَمَّا أُطْلِقَ الِاصْطِفَاءُ الْأَوَّلُ بَيَّنَ بِالثَّانِي أَنَّهَا مُصْطَفَاةٌ عَلَى النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اصْطَفَاكِ أَوَّلًا حِينَ تَقَبَّلَكِ مِنْ أُمِّكِ وَرَبَّاكِ، وَاخْتَصَّكِ بِالْكَرَامَةِ السَّنِيَّةِ، وَطَهَّرَكِ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَمِمَّا قَذَفَكِ بِهِ الْيَهُودُ، وَاصْطَفَاكِ آخِرًا عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِأَنْ وَهَبَ لَكِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَيَكُونُ:

نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، عَلَى قَوْلِهِ عَامًّا، وَيَكُونُ الْأَمْرُ الَّذِي اصْطُفِيَتْ بِهِ مِنْ أَجْلِهِ هُوَ اخْتِصَاصُهَا بِوِلَادَةِ عِيسَى. وَقِيلَ: هُوَ خِدْمَةُ الْبَيْتِ. وَقِيلَ: التَّحْرِيرُ وَلَمْ تُحَرَّرْ أُنْثَى غَيْرَ مَرْيَمَ. وَقِيلَ: سَلَامَتُهَا مِنْ نَخْسِ الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: نُبُوَّتُهَا، فَإِنَّهُ قِيلَ إِنَّهَا نُبِّئَتْ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَظْهَرُ لَهَا وَتُخَاطِبُهَا بِرِسَالَةِ اللَّهِ لَهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: إِنَّ لِمَرْيَمَ لَشَأْنًا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنَبَّأِ امْرَأْةٌ، فَالْمَعْنَى الَّذِي اصْطُفِيَتْ لِأَجْلِهِ مريم على نساء العالمين هُوَ شَيْءٌ يَخُصُّهَا، فَهُوَ اصْطِفَاءٌ خَاصٌّ إِذْ سَبَبُهُ خَاصٌّ. وَقِيلَ: نِسَاءُ الْعَالَمِينَ، خَاصٌّ بِنِسَاءِ عَالَمِ زَمَانِهَا، فَيَكُونُ الِاصْطِفَاءُ إِذْ ذَاكَ عَامًّا، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ» . وَرُوِيَ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ» . وَرُوِيَ: «خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعُ: مَرْيَمُ بنت عمران، وآسية بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بِنْتُ مُحَمَّدٍ» . وَرُوِيَ: «فُضِّلَتْ خَدِيجَةُ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي كَمَا فُضِّلَتْ مَرْيَمُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» . وَرُوِيَ: أَنَّهَا مِنَ الْكَامِلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ تَفْضِيلُ مَرْيَمَ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّفْضِيلِ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: وَالَّذِي رَأَيْتُ مِمَّنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ: أَنَّ فَاطِمَةَ أَفْضَلُ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمَاتِ وَالْمُتَأَخِّرَاتِ لِأَنَّهَا بَضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُنَادِيَ لَهَا بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَالْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ هُنَا: الْعِبَادَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: طُولُ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالرَّبِيعُ، أَوِ: الطَّاعَةُ، أَوِ: الْإِخْلَاصُ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَفِي قَوْلِهِ: لِرَبِّكِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ تُفْرِدَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُخَصِّصَهُ بِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي وَرَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّهَا: لَمَّا خُوطِبَتْ بِهَذَا قَامَتْ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَامَتْ حَتَّى سَالَ الدَّمُ وَالْقَيْحُ مِنْ قَدَمَيْهَا. وَرُوِيَ: أَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى رَأْسِهَا تَظُنُّهَا جَمَادًا لِسُكُونِهَا فِي طُولِ قِيَامِهَا. وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أَمَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِفِعْلِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ هَيْئَاتِ

الصَّلَاةِ، فَإِنْ أُرِيدَ ظَاهِرُ الْهَيْئَاتِ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ، وَالْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ، فَلَا يُسْأَلُ لِمَ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّجُودَ لَمَّا كَانَتِ الْهَيْئَةُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا إِلَى اللَّهِ قُدِّمَ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْفِعْلِ عَلَى الرُّكُوعِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ التَّقْدِيمُ بِالشَّرَفِ. وَقِيلَ: كَانَ السُّجُودُ مُقَدَّمًا عَلَى الرُّكُوعِ فِي شَرْعِ زَكَرِيَّا وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ، ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى الدِّمَشْقِيُّ. وَقِيلَ: فِي كُلِّ الْمِلَلِ إِلَّا مِلَّةَ الْإِسْلَامِ، فَجَاءَ التَّقْدِيمُ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعُ فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ التَّقْدِيمُ زَمَانِيًّا مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعُ، وَهَذَا التَّقْدِيمُ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَيَانِيُّونَ، وَكَذَلِكَ التَّقْدِيمُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَوَارَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ ظَاهِرُ الْهَيْئَاتِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمِرَتْ بِالصَّلَاةِ بِذِكْرِ الْقُنُوتِ وَالسُّجُودِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ وَأَرْكَانِهَا، ثُمَّ قِيلَ لَهَا وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ الْمَعْنَى: وَلْتَكُنْ صَلَاتُكِ مَعَ الْمُصَلِّينَ أَيْ فِي الْجَمَاعَةِ، أَيْ وَانْظُمِي نَفْسَكِ فِي جُمْلَةِ الْمُصَلِّينَ، وَكُونِي مَعَهُمْ وَفِي عِدَادِهِمْ، وَلَا تَكُونِي فِي عِدَادِ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّ مَرْيَمَ أُمِرَتْ بِفِعْلَيْنِ وَمَعْلَمَيْنِ مِنْ مَعَالِمِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا: طُولُ الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ، وَخُصَّا بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَهَذَانِ يَخْتَصَّانِ بِصَلَاتِهَا مُنْفَرِدَةً، وَإِلَّا فَمَنْ يُصَلِّي وَرَاءَ إِمَامٍ لَا يُقَالُ لَهُ: أَطِلْ قِيَامَكَ، ثُمَّ أُمِرَتْ بَعْدُ بِالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، فَقِيلَ لَهَا: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَقُصِدَ هُنَا مَعْلَمٌ آخَرُ مِنْ مَعَالِمِ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ لَفْظٌ. وَلَمْ يَرِدْ بِالْآيَةِ السُّجُودَ وَالرُّكُوعَ الَّذِي هُوَ مُنْتَظِمٌ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا ضَرُورَةَ بِنَا تُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مُنَاسِبَةً لِتَقْدِيمِ السُّجُودِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا، فَقَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَدُّ إِشْكَالًا مِنْ قَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، لِأَنَّ قِيَامَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لَيْسَ لَهُ رُتْبَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَكَيْفَ جَاءَتِ الْوَاوُ بِعَكْسِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ ذَكَرَ أَنَّ الْوَاوَ يَكُونُ مَعَهَا فِي الْعَطْفِ الْمَعِيَّةُ، وَتَقْدِيمُ السَّابِقِ وَتَقْدِيمُ اللَّاحِقِ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ احْتِمَالَاتٍ سَوَاءً، فَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَرْجِيحِ الْمَعِيَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ السَّابِقِ وَعَلَى تَقْدِيمِ اللَّاحِقِ، وَلَا فِي تَرْجِيحِ تَقْدِيمِ السَّابِقِ عَلَى تَقْدِيمِ اللَّاحِقِ.

وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَوْجِيهًا آخَرَ فِي تَأْخِيرِ الرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ، فَقَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِهَا مَنْ كَانَ يَقُومُ وَيَسْجُدُ فِي صَلَاتِهِ وَلَا يَرْكَعُ، وَفِيهِ مَنْ يَرْكَعُ، فَأُمِرَتْ بِأَنَّ تَرْكَعَ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَلَا تَكُونَ مَعَ مَنْ لَا يَرْكَعُ. انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَقْتَصِرِي عَلَى الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ، بَلْ أَضِيفِي إِلَى ذَلِكَ الرُّكُوعَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بِاقْنُتِي: أَطِيعِي، وَبِاسْجُدِي: صَلِّي، وَمِنْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ «1» أَيِ: الصلوات، و: باركعي: اشْكُرِي مَعَ الشَّاكِرِينَ، وَمِنْهُ: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «2» وَيُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ تُشَرَّعْ صَلَاةٌ إِلَّا وَالرُّكُوعُ فِيهَا مُقَدَّمٌ عَلَى السُّجُودِ، فَإِنَّ الْمُشَاهَدَ مِنْ صَلَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خُلُوُّهَا مِنَ الرُّكُوعِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ الِانْحِنَاءُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ مِنْهُ إِلَى السُّجُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الرُّكُوعِ مِمَّا غَيَّرَتْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى من معالم شريعتهم. و: مع، فِي قَوْلِهِ: مَعَ الرَّاكِعِينَ، تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ وَالِاجْتِمَاعَ فِي إِيقَاعِ الرُّكُوعِ مَعَ مَنْ يَرْكَعُ، فَتَكُونُ مَأْمُورَةً بِالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُتَجَوَّزَ فِي: مَعَ، فَتَكُونَ لِلْمُوَافَقَةِ لِلْفِعْلِ فَقَطْ دُونَ اجْتِمَاعٍ، أَيِ: افْعَلِي كَفِعْلِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تُوقِعِي الصَّلَاةَ مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي مِحْرَابِهَا. وَجَاءَ: مَعَ الرَّاكِعِينَ، دُونَ الرَّاكِعَاتِ لِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ أَعَمُّ إِذْ يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَلِمُنَاسَبَةِ أَوَاخِرِ الْآيَاتِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَلِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالرِّجَالِ أَفْضَلُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَلَمْ تُكْرَهْ لَهَا الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً، لِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي قَرَابَةٍ مِنْهَا وَرَحِمٍ، وَلِذَلِكَ اخْتُصُّوا فِي ضَمِّهَا وَإِمْسَاكِهَا. انْتَهَى. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصَصِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ، وَبِنْتِهَا مَرْيَمَ، وزكريا، ويحيى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ وُصُولُهَا إِلَيْكَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ إِذْ لَسْتَ مِمَّنْ دَارَسَ الْكُتُبَ، وَلَا صَحِبَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، فَمُدْرَكُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْوَحْيُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ أَبْعَدِ النَّاسِ زَمَانًا مِنْ زَمَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتَوْفَاهَا لَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ أَكْثَرَ مِمَّا اسْتَوْفَاهَا فِي غَيْرِهَا تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا «3» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَخْبَرَ بِغُيُوبٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ

_ (1) سورة ق: 50/ 40. (2) سورة ص: 38/ 24. (3) سورة هود: 11/ 49.

شَاهَدَهَا، أَوْ: مَنْ قَرَأَهَا فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، أَوْ: مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِهَا. وَقَدِ انْتَفَى الْعِيَانُ وَالْقِرَاءَةُ، فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ وَهُوَ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. والكاف في: ذلك، و: إليك، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ: ذَلِكَ، مُبْتَدَأً وَ: مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، خَبَرَهُ. وَأَنْ يَكُونَ: نُوحِيهِ، جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَيَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: نُوحِيهِ، عَائِدًا عَلَى الْغَيْبِ، أَيْ: شَأْنُنَا أَنَّنَا نُوحِي إِلَيْكَ الْغَيْبَ وَنُعْلِمُكَ بِهِ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِالْمُضَارِعِ، وَيَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً مِنْ عَوْدِهِ عَلَى: ذَلِكَ، إِذْ يَشْتَمِلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يُوحِيهَا إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ يَصِيرُ نَظِيرَ: زَيْدٌ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، فَيَكُونُ إِخْبَارًا بِالْحَالَةِ الدَّائِمَةِ. وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ الْمُضَارِعُ، وَإِذْ يَلْزَمُ مِنْ عَوْدِهِ عَلَى: ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ: نُوحِيهِ، بِمَعْنَى: أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ قَدْ وَقَعَ وَانْفَصَلَ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ فِي الْمَجَازِ مِنْهُ إِذَا كَانَ شَامِلًا لِهَذِهِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سَيَأْتِي، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: نُوحِيهِ، خبرا: لذلك، وَ: مِنْ أَنْبَاءِ، حَالٌ مِنَ: الْهَاءِ، فِي: نُوحِيهِ، أو متعلقا: بنوحيه. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ هَذَا تَقْرِيرٌ وَتَثْبِيتٌ أَنَّ مَا عَلِمَهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُعْلَمُ بِهِ قِصَّتَانِ: قِصَّةُ مَرْيَمَ، وَقِصَّةُ زَكَرِيَّا. فَنَبَّهَ عَلَى قِصَّةِ مَرْيَمَ إِذْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِخْبَارِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ قِصَّةُ زَكَرِيَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَلِانْدِرَاجِ بَعْضِ قِصَّةِ زَكَرِيَّا فِي ذِكْرِ مَنْ يَكْفُلُ، فَمَا خَلَتْ مِنْ تَنْبِيهٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَمَعْنَى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ: مَا كُنْتَ مَعَهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ. وَنُفِيَ الْمُشَاهَدَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً بِالْعِلْمِ وَلَمْ تَنْتِفِ الْقِرَاءَةُ وَالتَّلَقِّي، مِنْ حُفَّاظِ الْأَنْبَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالْمُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَقْرَأُ، وَلَا مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنِ الْحُفَّاظِ لِلْأَخْبَارِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ «1» وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ «2» وفي قصة يوسف ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ «3» . وَالضَّمِيرُ، فِي: لَدَيْهِمْ، عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بَلْ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ: وَمَا كُنْتَ لَدَى الْمُتَنَازِعِينَ، كَقَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «4» أَيْ: بِالْمَكَانِ. وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، الْعَامِلُ فِي: لَدَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْعَامِلُ في: إذ،

_ (1) سورة القصص: 28/ 44. (2) سورة القصص: 28/ 46. (3) سورة يوسف: 12/ 102. [.....] (4) سورة العاديات: 100/ 4.

كُنْتَ. انْتَهَى. وَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِي كَانَ النَّاقِصَةِ. لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا سَلَبَتِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْحَدَثِ، وَتَجَرَّدَتْ لِلزَّمَانِ وَمَا سَبِيلُهُ هَكَذَا، فَكَيْفَ يَعْمَلُ فِي ظَرْفٍ؟ لِأَنَّ الظَّرْفَ وِعَاءٌ لِلْحَدَثِ وَلَا حَدَثَ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ، وَالْمُضَارِعُ بَعْدَ: إِذْ، فِي مَعْنَى الْمَاضِي، أَيْ: إِذْ أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ لِلِاسْتِهَامِ عَلَى مَرْيَمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْأَقْلَامُ الَّتِي لِلْكِتَابَةِ. وقيل: كَانُوا يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ، فَاخْتَارُوهَا لِلْقُرْعَةِ تَبَرُّكًا بِهَا. وَقِيلَ: الْأَقْلَامُ هُنَا الْأَزْلَامُ، وَهِيَ: الْقِدَاحُ، وَمَعْنَى الْإِلْقَاءِ هُنَا الرَّمْيُ وَالطَّرْحُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ مَا الَّذِي أَلْقَوْهَا فِيهِ، وَلَا كيفية حال الإلقاء، كيف خَرَجَ قَلَمُ زَكَرِيَّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كَانَتِ الْأُمَمُ يَكْتُبُونَ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى سِهَامٍ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ سُلِّمَ لَهُ الْأَمْرُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِأَمْرِ الْقِدَاحِ الَّتِي يُتَقَاسَمُ بِهَا الْجَزُورُ. وَارْتُفِعَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا عَلَى الْحِكَايَةِ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَقُولُونَ أيهم يكفل مريم، وإما بعلة محذوفة أي: ليعلموا أيّهم يكفل، وإما بحال محذوفة أي: ينظرون أَيُّهُمْ يَكْفُلُ، وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ: يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ أَيْ: بِسَبَبِ مَرْيَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاخْتِصَامُ هُوَ الِاقْتِرَاعُ، وَأَنْ يَكُونَ اخْتِصَامًا آخَرَ بَعْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ شِدَّةُ رَغْبَتِهِمْ فِي التَّكَفُّلِ بِشَأْنِهَا. وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، الْعَامِلُ فِي: لَدَيْهِمْ، أَوْ، كُنْتَ، عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ فِي: إِذْ يُلْقُونَ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ضروب الفصاحة: التَّكْرَارَ فِي: اصْطَفَاكِ، وَفِي: يَا مَرْيَمُ، وَفِي: مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ. قِيلَ: وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي، عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ. وَالِاسْتِعَارَةُ، فِيمَنْ جَعَلَ الْقُنُوتَ وَالسُّجُودَ وَالرُّكُوعَ لَيْسَ كِنَايَةً عَنِ الْهَيْئَاتِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَالْعُمُومُ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي نِسَاءِ الْعَالَمِينَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَالتَّشْبِيهُ فِي أَقْلَامِهِمْ، إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ أَرَادَ الْقِدَاحَ. وَالْحَذْفُ في عِدَّةِ مَوَاضِعَ. إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ العامل في: إذ، اذْكُرْ أَوْ: يَخْتَصِمُونَ، أَوْ إِذْ، بَدَلٌ مِنْ إِذْ، فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَخْتَصِمُونَ، أَوْ مِنْ: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، أَقْوَالٌ يَلْزَمُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَوَسِّطَيْنِ اتِّحَادُ زَمَانِ الِاخْتِصَامِ وَزَمَانِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ

قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَيَبْعُدُ الرَّابِعُ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَالرَّابِعُ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَبِهِ بَدَأَ. وَالْخِلَافُ فِي الْمَلَائِكَةِ: أَهُمْ جَمْعٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جِبْرِيلُ وَحْدَهُ عَلَى مَا سَبَقَ قَبْلُ فِي خِطَابِهِمْ لِزَكَرِيَّا وَلِمَرْيَمَ؟ وَتَقَدَّمَ تَكْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ قَبْلَ هَذَا التَّبْشِيرِ بِذِكْرِ الِاصْطِفَاءِ وَالتَّطْهِيرِ مِنَ اللَّهِ، وَبِالْأَمْنِ بِالْعِبَادَةِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيسِ وَاللُّطْفِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً لِهَذَا التَّبْشِيرِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ الْخَارِقِ الَّذِي لَمْ يَجْرِ لِامْرَأَةٍ قَبْلَهَا، وَلَا يَجْرِي لِامْرَأَةٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ أَنَّهَا تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ مَسِّ ذَكَرٍ لَهَا، وَكَانَ جَرْيُ ذَلِكَ الْخَارِقِ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ لَهَا أَيْضًا تَأْنِيسًا لِهَذَا الْخَارِقِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ: وَإِذْ قَالَ الْمَلَائِكَةُ. وَالْكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ كَلِمَةً لِصُدُورِهِ بِكَلِمَةِ: كُنْ، بِلَا أَبٍ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: لِتَسْمِيَتِهِ الْمَسِيحَ، وَهُوَ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَقِيلَ: لِوَعْدِ اللَّهِ بِهِ فِي كِتَابِهِ التَّوْرَاةِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَتَانَا اللَّهُ مِنْ سَيْنَاءَ، وَأَشْرَقَ مِنْ سَاعِرَ، وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جبال فاران. وساعر هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي بُعِثَ مِنْهُ الْمَسِيحُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي بِكَلِمَتِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى وَفْقِ كَلِمَةِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا «1» فَجَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وُصِفَ. وَقِيلَ: سَمَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ كَمَا سَمَّى مَنْ شَاءَ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا عَلَمًا مَوْضُوعًا لَهُ لَمْ تُلْحَظْ فِيهِ جِهَةٌ مُنَاسِبَةٌ. وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهَا عِيسَى، بَلِ الْكَلِمَةُ بِشَارَةُ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ بِعِيسَى. وَقِيلَ: بِشَارَةُ النَّبِيِّ لَهَا. اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الضَّمِيرُ فِي اسْمِهِ، عَائِدٌ عَلَى: الْكَلِمَةُ، عَلَى مَعْنَى: نُبَشِّرُكِ بِمُكَوِّنٍ مِنْهُ، أَوْ بِمَوْجُودٍ مِنَ اللَّهِ. وَسُمِّيَ: الْمَسِيحَ، لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَسَعِيدٌ، وَشَمِرٌ. أَوْ: بِالدُّهْنِ الَّذِي يُمْسَحُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِهِ، وَهُوَ دُهْنٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ إِذَا مُسِحَ بِهِ شَخْصٌ عُلِمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. أَوْ: بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ، أَوْ: بِمَسْحِ جِبْرِيلَ لَهُ بِجَنَاحِهِ أَوْ: لِمَسْحِ رِجْلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِمَا خَمْصٌ، وَالْأَخْمَصُ مَا تَجَافَى عَنِ الْأَرْضِ مِنْ بَاطِنِ الرِّجْلِ، وَكَانَ عِيسَى أَمْسَحَ الْقَدَمِ لَا أَخْمُصَ له. قال الشاعر:

_ (1) سورة مريم: 19/ 19.

بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ ... خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ أَوْ: لِمَسْحِ الْجِمَالِ إِيَّاهُ وَهُوَ ظُهُورُهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ مِنْ مَلَاحَةٍ أَوْ: لِمَسْحَةٍ مِنَ الْأَقْذَارِ الَّتِي تَنَالُ الْمَوْلُودِينَ، لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ لَا تَحِيضُ وَلَمْ تُدَنَّسْ بِدَمِ نِفَاسٍ. أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ، وَيَكُونُ: فَعِيلٌ، فِيهَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الْمَسِيحِ، لِلْغَلَبَةِ مِثْلُهَا فِي: الدَّبَرَانُ وَالْعَيُّوقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ بِيَدِهِ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِيءَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: فَعِيلٌ، مَبْنِيًّا لِلْمُبَالَغَةِ: كَعَلِيمٍ، وَيَكُونُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي حُوِّلَتْ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْمِسَاحَةِ، وَكَانَ يَجُولُ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُفْعِلٌ مِنْ سَاحَ يَسِيحُ مِنَ السِّيَاحَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ: الْمَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَسِيحُ: الْمَلِكُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَلَكَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَشِيحًا، فَغُيِّرَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْمًا مُرْتَجَلًا لَيْسَ هُوَ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَسْحِ وَلَا مِنَ السِّيَاحَةِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْأَبْنَاءُ يُنْسَبُونَ إِلَى الْآبَاءِ، وَنُسِبَ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لَهَا إِعْلَامًا أَنَّهُ يُولَدُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَلَا يُنْسَبُ إِلَّا إِلَيْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَهُ: الْمَسِيحُ، فَيَكُونُ: اسْمُهُ المسيح، مبتدأ وخبرا، و: عيسى، جَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَأَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ. وَمَنَعَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَالَ: كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَسْمَاهُ عَلَى الْمَعْنَى، أَوْ أَسْمَاهَا عَلَى لَفْظِ الْكَلِمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: عِيسَى، خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَدْعُو إِلَى هَذَا كَوْنُ قَوْلِهِ: ابْنُ مَرْيَمَ، صِفَةٌ: لِعِيسَى، إِذْ قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى كَتْبِهِ دُونَ الْأَلِفِ. وَأَمَّا عَلَى الْبَدَلِ، أَوْ عَطْفِ الْبَيَانِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: ابْنُ مَرْيَمَ، صِفَةً: لِعِيسَى، لِأَنَّ الِاسْمَ هُنَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الشَّخْصُ. هَذِهِ النَّزْعَةُ لِأَبِي عَلِيٍّ. وَفِي صَدْرِ الْكَلَامِ نَظَرٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الِاسْمُ مِنْهَا: عِيسَى، وَأَمَّا: المسيح و: الابن، فَلَقَبٌ وَصِفَةٌ؟. قُلْتُ: الِاسْمُ لِلْمُسَمَّى عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا، وَيَتَمَيَّزُ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ

وَيَتَمَيَّزُ مِمَّنْ سِوَاهُ مَجْمُوعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ اسْمَهُ مَجْمُوعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَتَكُونُ الثَّلَاثَةُ أَخْبَارًا عَنْ قَوْلِهِ: اسْمُهُ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، و: هذا أَعْسَرُ يَسِرُ. فَلَا يَكُونُ أَحَدُهَا عَلَى هَذَا مُسْتَقِلًّا بِالْخَبَرِيَّةِ. وَنَظِيرُهُ فِي كَوْنِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ كَيْفَ أمسيت مما ... يزرع الود فِي فُؤَادِ الْكَرِيمِ؟ أَيْ: مَجْمُوعُ هَذَا مِمَّا يَزْرَعُ الْوِدُّ، فَلَمَّا جَازَ فِي الْمُبْتَدَأِ أَنْ يَتَعَدَّدَ دُونَ حَرْفِ عَطْفٍ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْمَجْمُوعِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْخَبَرِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ: ابْنُ مَرْيَمَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ ابْنُ مَرْيَمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَلَا صِفَةً، لِأَنَّ: ابْنُ مَرْيَمَ، لَيْسَ بِاسْمٍ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ: اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ ابْنُ عَمْرٍو إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَمًا عَلَيْهِ؟ انْتَهَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمَسِيحَ صِفَةٌ لِعِيسَى، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: اسْمُهُ عِيسَى الْمَسِيحُ، لِأَنَّ الصِّفَةَ تَابِعَةٌ لِمَوْصُوفِهَا. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ صِفَةً، لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَالْمَسِيحَ مِنْ صِفَةِ الْمَدْلُولِ لَا مِنْ صِفَةِ الدَّالِ، إِذْ لَفْظُ عِيسَى لَيْسَ الْمَسِيحَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا اسْمَانِ تَقَدَّمَ الْمَسِيحُ عَلَى عِيسَى لِشُهْرَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ بِلَقَبِهِ لِأَنَّ: الْمَسِيحَ، أَشْهَرُ مِنْ: عِيسَى، لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى سَمِيٍّ يُشْتَبَهُ، وَعِيسَى قَدْ يَقَعُ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَقَدَّمَهُ لِشُهْرَتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَلْقَابَ الْخُلَفَاءِ أَشْهَرُ مِنْ أَسْمَائِهِمْ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ عِنْدَ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ لَقَبٌ لَا اسْمٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَعِيسَى مُعَرَّبٌ مِنَ: ايْسُوعَ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ عَرَبِيًّا لَمْ يَنْصَرِفْ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ تَأْنِيثٍ، وَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ: عَاسَهُ يَعُوسُهُ، إِذَا سَاسَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِيسِ كَالرَّقْمِ فِي الْمَاءِ. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْوَجِيهُ ذُو الْجَاهِ، يُقَالُ: وَجُهَ الرَّجُلُ يُوجَهُ وَجَاهَةً. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْوَجِيهُ الْمُحَبُّ الْمَقْبُولُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الشَّرِيفُ ذُو الْقَدْرِ وَالْجَاهِ. وَقِيلَ: الْكَرِيمُ عَلَى مَنْ يَسْأَلُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ لِكَرَمِ وَجْهِهِ. وَمَعْنَاهُ فِي حَقِّ عِيسَى أَنَّ وَجَاهَتَهُ فِي الدُّنْيَا بِنُبُوَّتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ. وَقِيلَ:

فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالشَّفَاعَةِ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَةِ وَالْأَبْرَصِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالشَّفَاعَةِ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا كَرِيمًا لَا يُرَدُّ وَجْهُهُ، وَفِي الْآخِرَةِ فِي عِلْيَةِ الْمُرْسَلِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَجَاهَةُ فِي الدُّنْيَا النُّبُوَّةُ وَالتَّقَدُّمُ عَلَى النَّاسِ، وَفِي الْآخِرَةِ الشَّفَاعَةُ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاهَةُ عِيسَى فِي الدُّنْيَا نُبُوَّتُهُ وَذَكَرُهُ وَرَفَعَهُ، وَفِي الآخرة مكانته ونعيمه وَشَفَاعَتُهُ. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ مَعْنَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَوْنُهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ رفع إِلَى السَّمَاءِ وَصَحِبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّاسِ بِالْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الْمُبَالَغُ فِي تَقْرِيبِهِمْ، لِأَنَّ فَعُلَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، فَقَالَ: قَرَّبَهُ يُقَرِّبُهُ إِذَا بَالَغَ فِي تَقْرِيبِهِ انْتَهَى. وَلَيْسَ فَعُلَ هُنَا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي نَحْوِ: جرّحت زيدا و: موّت النَّاسَ. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجِيهًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَمُقَرَّبًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَرَّبِينَ. أَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّ ثَمَّ مُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ عِيسَى مِنْهُمْ. وَنَظِيرُ هَذَا الْعَطْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ «1» فَقَوْلُهُ: وَبِاللَّيْلِ، جَارٌّ وَمَجْرُورٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى: مُصْبِحِينَ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْحَالُ هَكَذَا لِأَنَّهَا مِنَ الْفَوَاصِلِ، فَلَوْ جَاءَ: وَمُقَرَّبًا، لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً، وَأَيْضًا فَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّ عِيسَى مُقَرَّبٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالتَّقْرِيبُ صِفَةٌ جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ؟ «2» وَقَوْلِهِ: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ؟ «3» وَهُوَ تَقْرِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَكَانَةِ وَالشَّرَفِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَعَطَفَ: وَيُكَلِّمُ، وَهُوَ حَالٌ أَيْضًا عَلَى: وَجِيهًا، وَنَظِيرُهُ: إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ «4» أَيْ: وَقَابِضَاتٍ. وَكَذَلِكَ: وَيُكَلِّمُ، أَيْ: وَمُكَلِّمًا. وَأَتَى فِي الحال الأول بِالِاسْمِ لِأَنَّ الِاسْمَ هُوَ لِلثُّبُوتِ، وَجَاءَتِ الْحَالُ الثَّانِيَةُ جارا ومجرورا لأنه يقدر بالاسم. وجاءت الحال الثَّالِثَةُ جُمْلَةً لِأَنَّهَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ. أَلَا تَرَى أن

_ (1) سورة الصافات: 37/ 137. (2) سورة النساء: 4/ 172. (3) سورة الواقعة: 56/ 88 و 89. (4) سورة الملك: 67/ 19.

الْحَالَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى؟ فَكَمَا أَنَّ الْأَحْسَنَ وَالْأَكْثَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَوْصَافٌ مُتَغَايِرَةٌ بدىء بِالِاسْمِ، ثُمَّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ «1» فكذلك الحال، بدىء بِالِاسْمِ، ثُمَّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُضَارِعِيَّةً لِأَنَّ الْفِعْلَ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ، كَمَا أَنَّ الِاسْمَ يُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ، وَيَتَعَلَّقُ: فِي الْمَهْدِ، بِمَحْذُوفٍ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: كَائِنًا فِي الْمَهْدِ وكهلا، معطوف على هذا الْحَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: طِفْلًا وَكَهْلًا، فَعُطِفَ صَرِيحُ الْحَالِ عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَنَظِيرُهُ عَكْسًا: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ «2» وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ: وَكَهْلًا، مَعْطُوفٌ عَلَى: وَجِيهًا، فَقَدْ أَبْعَدَ. وَالْمَهْدُ: مَقَرُّ الصَّبِيِّ فِي رِضَاعِهِ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ يُقَالُ: مَهَّدْتُ لِنَفْسِي بِتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِهَا، أَيْ: وَطَّأْتُ، وَيُقَالُ: أَمْهَدَ الشَّيْءُ ارْتَفَعَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الْكَهْلِ لُغَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ الْحَلِيمُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ غَالِبًا، لِأَنَّ الْكَهْلَ يَقْوَى عَقْلُهُ وَإِدْرَاكُهُ وَتَجْرِبَتُهُ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ كَالشَّارِخِ، وَالْعَرَبُ تَتَمَدَّحُ بِالْكُهُولَةِ، قَالَ: وَمَا ضَرَّ مَنْ كَانَتْ بَقَايَاهُ مِثْلَنَا ... شَبَابٌ تَسَامَى لِلْعُلَى وَكُهُولُ وَلِذَلِكَ خُصَّ هَذَا السِّنُّ فِي الْآيَةِ دُونَ سَائِرِ الْعُمْرِ، لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الْوُسْطَى فِي اسْتِحْكَامِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَكَهْلًا، تَبْشِيرٌ بِأَنَّهُ يَعِيشُ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، وَيُقَالُ: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْهُ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ وُلِدَ لِذَلِكَ لَمْ يَعِشْ، فَكَانَ ذَلِكَ بِشَارَةً لَهَا بِعَيْشِهِ إِلَى هَذَا السِّنِّ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ مَاتَ، وَفِي قَوْلِهِ: فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا إِشَارَةٌ إِلَى تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ، وَرَدٌّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ إِلَهِيَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ إِعْلَامًا بِهِ أَنَّهُ يَكْتَهِلُ، فَإِذَا أُخْبِرَتْ بِهِ مَرْيَمُ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ. وَاخْتُلِفَ فِي كَلَامِهِ: فِي الْمَهْدِ، أَكَانَ سَاعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ النُّطْقِ؟ أَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ دَائِمًا فِي الْمَهْدِ حَتَّى بَلَغَ إِبَّانَ الْكَلَامِ؟ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَنَقَلَ الثَّعَالِبِيُّ أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِهِ لِأُمِّهِ وَهُوَ مُرْضَعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ حِينَ كَلَّمَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ نَبِيًّا لِقَوْلِهِ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا «3» وَلِظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ مِنْهُ وَالتَّحَدِّي بِهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكَلَامُ تَأْسِيسًا لِنُبُوَّتِهِ، فَيَكُونُ

_ (1) سورة غافر: 40/ 28. (2) سورة الصافات: 37/ 137. (3) سورة مريم: 19/ 30.

قَوْلُهُ: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا «1» إِخْبَارًا عما يؤول إِلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ «2» وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوَقْتِ كَلَامِهِ إِذَا كَانَ كَهْلًا، فَقِيلَ: كَلَامُهُ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ كَلَّمَهُمْ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ. وَقِيلَ: يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَهْلًا ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْمَهْدِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَكَهْلًا، أَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ كَهْلًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَ حَالِ الطُّفُولَةِ وَحَالِ الْكُهُولَةِ الَّتِي يَسْتَحْكِمُ فِيهَا الْعَقْلُ، وَيُنَبَّأُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ. انْتَهَى. قِيلَ: وَتَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ سبعة: عيسى، ويحيى، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيْجٍ. وَصَبِيُّ مَاشِطَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَصَاحِبُ الْجَبَّارِ، وَصَاحِبُ الْأُخْدُودِ، وَقَصَصُ هَؤُلَاءِ مَرْوِيَّةٌ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا جَاءَ مِنْ حَصْرِ مَنْ تَكَلَّمَ رَضِيعًا فِي ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِخْبَارًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ بِالْبَاقِينَ، فَأَخْبَرَ عَلَى سَبِيلِ مَا أَعْلَمَ بِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَعْلَمُ بِالْبَاقِينَ. وَمِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: وَصَالِحًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الصَّلَاحِ الْمَوْصُوفِ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. وَانْتِصَابُ: وَجِيهًا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ، وَحَسُنَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، كَوْنُهُ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: مِنْهُ، وَبِقَوْلِهِ: مِنْهُ، وَبِقَوْلِهِ: اسْمُهُ الْمَسِيحُ. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ لَمَّا أَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ بَشَّرَهَا بِالْمَسِيحِ، نَادَتْ رَبَّهَا، وَهُوَ اللَّهُ، مُسْتَفْهِمَةً عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْ حُدُوثِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعَجُّبِ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ أَعْجَبُ مِنْ قَضِيَّةِ زَكَرِيَّا، لِأَنَّ قَضِيَّةَ زَكَرِيَّا حَدَثَ مِنْهَا الْوَلَدُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَهُنَا حَدَثَ مِنِ امْرَأَةٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ بَشَرٍ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ. وَقِيلَ: اسْتَفْهَمَتْ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، كَمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، تَقْدِيرُهُ: هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ بِتَقَدُّمِ وَطْءٍ؟ أَمْ بِأَمْرٍ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ؟. وَقَالَ الْأَنْبَارِيُّ: لَمَّا خَاطَبَهَا جِبْرِيلُ ظَنَّتْهُ آدميا يريد بها سوأ، ولهذا قالت: إِنِّي أَعُوذُ

_ (1) سورة مريم: 19/ 30. (2) سورة مريم: 19/ 31.

بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا «1» فَلَمَّا بَشَّرَهَا لَمْ تَتَيَقَّنْ صِحَّةَ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ، فَقَالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ؟ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهَا: رَبِّ، وَقَوْلَ زَكَرِيَّا: رَبِّ، إِنَّمَا هُوَ نِدَاءٌ لِجِبْرِيلَ لَمَّا بَشَّرَهُمَا، وَمَعْنَاهُ: يَا سَيِّدِي فَقَدْ أَبْعَدَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ، و: يكون، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّاقِصَةَ وَالتَّامَّةَ، كَمَا سَبَقَ فِي قِصَّةٍ زكريا. و: لم يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمَسِيسُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، وَهَذَا نَفْيٌ عَامٌّ أَنْ يَكُونَ بَاشَرَهَا أَحَدٌ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ تَزَوُّجٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْبَشَرُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا النَّفْيُ الْعَامُّ، وَسُمِّيَ بَشَرًا لِظُهُورِ بَشْرَتِهِ وَهُوَ جِلْدُهُ، وَبَشَرْتُ الْأَدِيمَ قَشَّرْتُ وَجْهَهُ، وَأَبْشَرَتِ الْأَرْضُ أَخْرَجَتْ نَبَاتَهَا، وَتَبَاشِيرُ الصُّبْحِ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنْ نُورِهِ. قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِهَا فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا، إِلَّا أَنَّ فِي قِصَّتِهِ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ «2» مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَمْرَ زَكَرِيَّا دَاخِلٌ فِي الْإِمْكَانِ الْعَادِيِّ الَّذِي يَتَعَارَفُ، وَإِنْ قَلَّ، وَفِي قِصَّةِ مَرْيَمَ: يَخْلُقُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَارَفُ مِثْلُهُ، وَهُوَ وُجُودُ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ، فَهُوَ إِيجَادٌ وَاخْتِرَاعٌ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ عَادِيٍّ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بِلَفْظِ: يَخْلُقُ، الدَّالُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ أَلْغَزَ بَعْضُ الْعَرَبِ الْمُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِهَا فَقَالَ: أَلَا رُبَّ مَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وذي ولد لم يلده أبوان يريد: عيسى وآدم. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ: لُغَةً وَتَفْسِيرًا وَقِرَاءَةً وَإِعْرَابًا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ الْكِتَابُ: هُنَا مَصْدَرٌ، أَيْ: يُعَلِّمُهُ الْخَطَّ بِالْيَدِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُوَ كِتَابٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، عَلَّمَهُ اللَّهُ عِيسَى مَعَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ. وَقِيلَ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. قَالُوا: وَتَكُونُ الْوَاوُ فِي: وَالتَّوْرَاةُ، مُقْحَمَةٌ، وَالْكِتَابُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَكْتُوبِ، وَتَعْلِيمُهُ إِيَّاهَا قِيلَ: بِالْإِلْهَامِ، وَقِيلَ: بِالْوَحْيِ، وَقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ لِلتَّعَلُّمِ والحكمة. تقدم

_ (1) سورة مريم: 19/ 18. (2) سورة آل عمران: 3/ 40 والحج: 22/ 18.

تَفْسِيرُهَا، وَفُسِّرَتْ هُنَا: بِسُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِمَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ، وَبِالنُّبُوَّةِ، وَبِالصَّوَابِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَبِالْعَقْلِ، وَبِأَنْوَاعِ الْعِلْمِ. وَبِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ. رُوِيَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَسْتَظْهِرُ التَّوْرَاةَ، وَيُقَالُ لَمْ يَحْفَظْهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَيْرُ: مُوسَى، وَيُوشَعُ، وَعُزَيْرٌ، وَعِيسَى. وَذُكِرَ الْإِنْجِيلُ لِمَرْيَمَ وَهُوَ لم ينزل بعد لأنه كَانَ كِتَابًا مَذْكُورًا عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: وَيُعَلِّمُهُ، بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: قَالَ كَذَلِكِ، الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدٌ عَلَى الرَّبِّ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ هِيَ الْمَقُولَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَفْظُ اللَّهِ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ فِيمَا قَبْلَهُ، لَزِمَ مُبْتَدَأً وَخَبَرَهُ يَخْلُقُ عَلَى مَا مَرَّ إِعْرَابُهُ فِي: قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْمَقُولِ لِمَرْيَمَ، أَمْ عَلَى سَبِيلِ الِاغْتِبَاطِ وَالتَّبْشِيرِ بِهَذَا الْوَلَدِ الَّذِي يُوجِدُهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: يَخْلُقُ، سَوَاءٌ كَانَتْ خَبَرًا عَنِ اللَّهِ أَمْ تَفْسِيرًا لِمَا قَبْلَهَا، إِذَا أَعْرَبْتَ لَفْظَ: اللَّهُ مُبْتَدَأً وَمَا قَبْلَهُ الْخَبَرَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ كُلُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ النُّونِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَخَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَغَيْرُهُ عَطْفٌ: وَيُعَلِّمُهُ، عَلَى: يُبَشِّرُكِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: وَيُكَلِّمُ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: وَجِيهًا، فَيَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَفِيمَا أَجَازَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى خبر إن، وهذا الْقَوْلَانِ بِعِيدَانِ أَيْضًا لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَنُعَلِّمُهُ، بِالنُّونِ حَمَلَهُ عَلَى قَوْلِهِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ فَإِنْ عُنِيَ بِالْحَمْلِ الْعَطْفُ فَلَا شَيْءَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنْ عُنِيَ بِالْحَمْلِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى شيء مِنْ هَذِهِ الَّتِي ذُكِرَتْ، فَإِنْ عُنِيَ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ اللَّهِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمِنْ حَيْثُ ثُبُوتُ الْوَاوِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى شيء قَبْلَهُ، فَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ

زِيَادَةَ الْوَاوِ فِي: وَيُعَلِّمُهُ، فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَإِنْ عُنِيَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا ذُكِرَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ حَتَّى يَكُونَ الْمَعْطُوفُ كَذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قِرَاءَةُ الْيَاءِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَقِرَاءَةُ النُّونِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ مُفْسِدٌ لِلْمَعْنَى. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنِ ابْنُ عَطِيَّةَ جِهَةَ إِفْسَادِ الْمَعْنَى، أَمَّا قِرَاءَةُ النُّونِ فَظَاهِرٌ فَسَادُ عَطْفِهِ عَلَى: نُوحِيهِ، مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَمِثْلُهُ لَا يَقَعُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِبُعْدِ الْفَصْلِ الْمُفْرِطِ، وَتَعْقِيدِ التَّرْكِيبِ، وَتَنَافُرِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ شَرِيكُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ أَيْ: إِخْبَارُكُ يَا مُحَمَّدُ بِقِصَّةِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ، وَوِلَادَتِهَا لِمَرْيَمَ، وَكَفَالَةِ زَكَرِيَّا، وَقِصَّتِهِ فِي وِلَادَةِ يَحْيَى لَهُ، وَتَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ بِالِاصْطِفَاءِ وَالتَّطْهِيرِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، نُعَلِّمُهُ، أَيْ: نُعَلِّمُ عِيسَى الْكِتَابَ، فَهَذَا كَلَامٌ لَا يَنْتَظِمُ مَعْنَاهُ مَعَ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْيَاءِ وَعَطْفُ: وَيُعَلِّمُهُ، عَلَى: يَخْلُقُ، فَلَيْسَتْ مُفْسِدَةً لِلْمَعْنَى، بَلْ هُوَ أَوْلَى وَأَصَحُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ عَطْفُ: وَيُعَلِّمُهُ، لِقُرْبِ لَفْظِهِ وَصِحَّةِ مَعْنَاهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ قَبْلُ، وَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ مَرْيَمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي لَمْ تَجْرِ بِهَا عَادَةٌ، مِثْلَ مَا خَلَقَ لَكِ وَلَدًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُعَلِّمُ هَذَا الْوَلَدَ الَّذِي يَخْلُقُهُ لَكِ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُ قَبْلَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ أَعْظَمُ تَبْشِيرٍ لَهَا بِهَذَا الْوَلَدِ، وَإِظْهَارِ بَرَكَتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُشْبِهًا أَوْلَادَ النَّاسِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي أَصْلِ النَّشْأَةِ، وَفِيمَا يُعَلِّمُهُ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ، وَهَذَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ عَطْفُ: وَيُعَلِّمُهُ. وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ اخْتَلَفُوا فِي: رَسُولًا، هُنَا. فَقِيلَ: هُوَ وَصْفٌ بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ عَلَى ظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، إِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولًا يَكُونُ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، وَمِمَّنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فِيهِ هَنَا الْحُوفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَقَالَا: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ: وَيُعَلِّمُهُ رِسَالَةً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَكُونُ: رِسَالَةٌ، دَاخِلًا فِي مَا يُعَلِّمُهُ اللَّهُ عِيسَى. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَالُوا فِي إِعْرَابِهِ، وُجُوهًا.

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَيَجْعَلُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالُوا: فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا أَيْ: وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا. لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَشْرِيكُهُ مَعَ الْمَنْصُوبَاتِ قَبْلَهُ فِي الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ: يُعَلِّمُهُ، أُضْمِرَ لَهُ فِعْلٌ نَاصِبٌ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: ويعلمه، فَيَكُونَ: حَالًا، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَمُعَلِّمًا الْكِتَابَ، فَهَذَا كُلُّهُ عَطْفٌ بِالْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: وَجِيهًا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَثَنَى بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَبَدَأَ بِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِعْرَابِ: وَيُعَلِّمُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ إِعْرَابِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ: وَيُعَلِّمُهُ، مَعْطُوفٌ عَلَى: وَجِيهًا، لِلْفَصْلِ الْمُفْرِطِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: وَيُكَلِّمُ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَكَهْلًا، أَيْ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ طِفْلًا وَكَهْلًا وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً، وَيَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ: وَيُعَلِّمُهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِزِيَادَةِ الْوَاوِ، لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمُ: جَاءَ زَيْدٌ وَضَاحِكًا، أَيْ: ضَاحِكًا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ من لفظ رسول، وَيَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مِنْ عِيسَى، التَّقْدِيرُ: وَتَقُولُ أُرْسِلْتُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاحْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كُلِّهِ، لِقَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وَقَوْلِهِ: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ، إِذْ لَا يَصِحُّ فِي الظَّاهِرِ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَنْصُوبَاتِ لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ ضمير غائب، وهذان ضميرا مُتَكَلِّمٍ، فَاحْتَاجَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ لِتَصْحِيحِ الْمَعْنَى. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: هُوَ مِنَ الْمَضَايِقِ، يَعْنِي مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا إِشْكَالٌ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ، إِذْ فِيهِ إِضْمَارُ الْقَوْلِ وَمَعْمُولِهِ الَّذِي هُوَ: أُرْسِلْتُ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُمَا بِاسْمٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، إِذْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُرْسِلْتُ، أَنَّهُ رَسُولٌ، فَهِيَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ فِي إِعْرَابِ: وَرَسُولًا، أَوْلَاهَا الْأَوَّلُ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِضْمَارُ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ: وَيَجْعَلُهُ رَسُولًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مَعْمُولًا لرسول، أَيْ نَاطِقًا بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَمَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ

الْهَمْزَةَ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، أَيْ: قَائِلًا إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِقَوْلِهِ: وَرَسُولًا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ: وَرَسُولٍ، بِالْجَرِّ، وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ فِي الْقِيَاسِ لِطُولِ الْبُعْدِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ. وَأُرْسِلَ عِيسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَيِّنًا حُكْمَ التَّوْرَاةِ، وَدَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَمُحَلِّلًا أَشْيَاءَ مِمَّا حُرِّمَ فِيهَا: كَالثُّرُوبِ، وَلُحُومِ الْإِبِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الْحِيتَانِ. وَالطَّيْرِ، وَكَانَ عِيسَى قَدْ هَرَبَتْ بِهِ أُمُّهُ مِنْ قَوْمِهَا إِلَى مِصْرَ حِينَ عَزَلُوا أَوْلَادَهُمْ، وَنَهَوْهُمْ عَنْ مُخَالَطَتِهِ، وَحَبَسُوهُمْ فِي بَيْتٍ، فَجَاءَ عِيسَى يَطْلُبُهُمْ فَقَالُوا: لَيْسُوا هَاهُنَا، فَقَالَ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ؟ قَالُوا: خَنَازِيرُ، قَالَ: كَذَلِكَ يَكُونُونَ، فَفَتَحُوا عَنْهُمْ فَإِذَا هُمْ خَنَازِيرُ. فَفَشَا ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهَمُّوا بِهِ، فَهَرَبَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ. فَلَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: أَنِ انْطَلِقِي إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً جَاءَهُ الْوَحْيُ عَلَى رَأْسِ الثَّلَاثِينَ، فَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلَاثَ سِنِينٍ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَوَّلَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: يُوسُفُ، وَقِيلَ: مُوسَى، وَآخِرَهُمْ عِيسَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ إِلَى قَوْلِهِ مُسْتَقِيمٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ وَمَعْمُولٌ لَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْقَوْلِ السَّابِقِ. وَالْخِطَابُ لِمَرْيَمَ بِقَوْلِهِ: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ، فَتَكُونُ مَرْيَمُ قَدْ بُشِّرَتْ بِأَشْيَاءَ مِمَّا يَفْعَلُهَا اللَّهُ لِوَلَدِهَا عِيسَى: مِنْ تَعْلِيمِهِ مَا ذَكَرَ، وَمِنْ جَعْلِهِ رَسُولًا نَاطِقًا بِمَا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا أُرْسِلَ: مِنْ مَجِيئِهِ بِالْآيَاتِ، وَإِظْهَارِ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ إِلَى قَوْلِهِ: مُسْتَقِيمٌ. وَيَكُونُ بَعْدَ قَوْلِهِ: مُسْتَقِيمٌ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ: فَلَمَّا أَحَسَّ، مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَضْطَرُّ إِلَى تَقْدِيرِهِ، الْمَعْنَى، تَقْدِيرُهُ: فَجَاءَ عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَسُولًا، فَقَالَ لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَتَى بِالْخَوَارِقِ الَّتِي قالها، فكفروا به وتمالأوا عَلَى قَتْلِهِ وَإِذَايَتِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَا يَكُونَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَلَا دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ، وَالْخِطَابُ لِمَرْيَمَ، وَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ هُنَا لَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مُسْتَقِيمٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَاءَ عِيسَى كَمَا بَشَّرَ اللَّهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّهُ، عَلَى الْإِفْرَادِ، وَكَذَلِكَ فِي وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَفِي

مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: بِآيَاتٍ، عَلَى الْجَمْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ رَبِّكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أن يتعلق: بجئتكم، أَيْ: جِئْتُكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ بِآيَةٍ. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنِّي أَخْلُقُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ: آيَةٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، أَوْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ، أَيِ: الْآيَةُ أَنِّي أَخْلُقُ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَوْ عَلَى التَّفْسِيرِ لِلْآيَةِ. كَمَا فَسَّرَ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ آدَمَ «1» بِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «2» وَمَعْنَى: أَخْلُقُ: أُقَدِّرُ وَأُهَيِّءُ، وَالْخَلْقُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَإِبْرَازِ الْعَيْنِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَيَكُونُ بِمَعْنَى: التَّقْدِيرِ وَالتَّصْوِيرِ، وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَ صَانِعَ الْأَدِيمِ وَنَحْوَهُ: الْخَالِقَ، لِأَنَّهُ يُقَدِّرُ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَجْرَامِ، وَقَدْ نَقَلُوهُ إِلَى الْمَعَانِي قَالَ تَعَالَى وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً «3» وَمِمَّا جَاءَ الْخُلُقُ فِيهِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «4» أَيِ الْمُقَدَّرَيْنِ. وَقَالَ الشاعر: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يفري وَاللَّامُ فِي: لَكُمْ، مَعْنَاهَا التعليل، و: من الطِّينِ، تَقْيِيدٌ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ، بَلْ ذَكَرَ الْمَادَّةَ الَّتِي يُشَكِّلُ مِنْهَا صُورَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَهَيْئَةِ، عَلَى وَزْنِ: حيئة، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: كَهِيَّةِ، بِكَسْرٍ الْهَاءِ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ، و: الكاف، مِنْ: كَهَيْئَةِ، اسْمٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، فَهِيَ مفعولة: بأخلق، وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: يَكُونُ، صِفَةً لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَيْئَةٌ مِثْلُ هَيْئَةٍ، وَيَكُونُ: هَيْئَةُ، مَصْدَرًا فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: مِثَالًا مُهَيَّأً مِثْلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الطَّيْرِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ: كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ: فَأَنْفُخُ فِيهِ، الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، يَعُودُ عَلَى: الْكَافِ، أَوْ عَلَى مَوْصُوفِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: فَأَنْفُخُهَا، أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْهَيْئَةِ المحذوفة، إذ يكون

_ (2- 1) سورة آل عمران: 3/ 59. [.....] (3) سورة العنكبوت: 29/ 17. (4) سورة المؤمنون: 23/ 14.

التَّقْدِيرُ: هَيْئَةٌ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، أَوْ: عَلَى الْكَافِ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ هِيَ بِمَعْنَى: مُمَاثِلَةٍ هَيْئَةَ الطَّيْرِ، فَيَكُونُ التَّأْنِيثُ هُنَا كَمَا هُوَ فِي الْمَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ: فَتَنْفُخُ فِيها «1» وَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَدْ حَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ. كَمَا قَالَ: مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلَا قامتك نَائِحَةٌ ... وَلَا بَكَتْكَ جِيَادٌ عِندَ أَسْلَابِ يُرِيدُ: وَلَا قَامَتْ عَلَيْكَ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ نَقَلَهَا الْفَرَّاءُ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الفحما فَعَدَّى: نَفَخَ، لِمَنْصُوبٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّضْمِينِ، أَيْ: يُضْرِمُ بِالنَّفْخِ الْفَحْمَ، فَيَكُونُ هُنَا نَاقِصَةٌ عَلَى بَابِهَا، أَوْ بِمَعْنَى: تَصِيرُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ هُنَا وَفِي الْمَائِدَةِ: طَائِرًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: طَيْرًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ: يَكُونُ، وَمَنْ جَعَلَ: يكون، هنا تامّة، و: طائرا، حَالًا فَقَدْ أَبْعَدَ. وَتَعَلُّقُ بإذن الله، قيل: بيكون. وَقِيلَ: بِطَائِرٍ، وَمَعْنَى: بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ بِتَمْكِينِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنِّي أَفْعَلُ، وَتَعَاطِي عِيسَى التَّصْوِيرَ بِيَدِهِ وَالنَّفْخَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ تَبْيِينٌ لِتَلَبُّسِهِ بِالْمُعْجِزَةِ، وَتَوْضِيحُ أَنَّهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَأَمَّا خَلْقُ الْحَيَاةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الطِّينِيَّةِ فَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِاقْتِرَاحٍ مِنْهُمْ، بَلْ هَذِهِ الْخَوَارِقُ جَاءَتْ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِاقْتِرَاحٍ مِنْهُمْ، طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَخْلُقَ لَهُمْ خُفَّاشًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ جَرْيًا عَلَى عَادَاتِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَخَصُّوا الْخُفَّاشَ لِأَنَّهُ عَجِيبُ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَكْمَلُ الطَّيْرِ خَلْقًا، لَهُ: ثَدْيٌ، وَأَسْنَانٌ، وَآذَانٌ، وَضَرْعٌ، يَخْرُجُ مِنْهُ اللَّبَنُ، وَلَا يُبْصِرُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ وَلَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، إِنَّمَا يَرَى فِي سَاعَتَيْنِ: بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَاعَةٍ، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَاعَةٍ قَبْلَ أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا، وَيَضْحَكُ كَمَا يَضْحَكُ الْإِنْسَانَ، وَيَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ، وَتَحِيضُ أُنْثَاهُ وَتَلِدُ. رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: الْخُفَّاشُ. فَسَأَلُوهُ أَشَدَّ الطَّيْرِ خَلْقًا لِأَنَّهُ يَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ، وَيُقَالُ: مَا صَنَعَ غَيْرَ الْخُفَّاشِ، وَيُقَالُ: فَعَلَ ذَلِكَ أَوَّلًا وَهُوَ مَعَ مُعَلِّمِهِ فِي الْكِتَابِ، وَتَوَاطَأَ النَّقْلُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الطَّائِرَ الَّذِي خَلَقَهُ عِيسَى كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا لِيَتَمَيَّزَ فِعْلِ الْمَخْلُوقِ من

_ (1) سورة المائدة: 5/ 11.

فِعْلِ الْخَالِقِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَعَ مُعَايَنَتِهِمْ لِذَلِكَ الطَّائِرِ يَطِيرُ يَقُولُونَ فِي عِيسَى: هَذَا سَاحِرٌ. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَكْمَهُ هُوَ الْأَعْشَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْأَعْمَشُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى. وَقِيلَ: هُوَ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْمَهُ غَيْرَ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةِ السُّدُوسَيِّ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْأَعْمَى عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ: أَنَّ الْأَكْمَهَ هُوَ الْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ وَلَا يَفْهَمُ، الْمَيِّتُ الْفُؤَادِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى مَضْمُومَ الْعَيْنَيْنِ. قِيلَ: وقد كان عيسى يبرىء بِدُعَائِهِ، وَالْمَسْحِ بِيَدِهِ، كُلَّ عِلَّةٍ. وَلَكِنْ لَا يَقُومُ الْحُجَّةَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَعْنَى النُّبُوَّةِ إِلَّا بِالْإِبْرَاءِ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْ إِبْرَائِهَا الْأَطِبَّاءُ، حَتَّى يَكُونَ فِعْلُهُ ذَلِكَ خَارِقًا لِلْعَادَاتِ. وَالْإِبْرَاءُ مِنَ الْعَشَى وَالْعَمَشِ لَيْسَ بِخَارِقٍ، وَأَمَّا الْعَمَى فَالْأَبْلَغُ الْإِبْرَاءُ مِنْ عَمَى الْمَمْسُوحِ الْعَيْنِ. رُوِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَرْضَى، مَنْ أَطَاقَ مِنْهُمْ أَتَاهُ، وَمَنْ لَمْ يُطِقْ أَتَاهُ عِيسَى، وَمَا كَانَتْ مُدَاوَاتُهُ إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَحْدَهُ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ الْكَمَهَ وَالْبَرَصَ لأنهما داآن مُعْضِلَانِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنْهُمَا، إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى زَمَانِ عِيسَى الطِّبَّ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ الْمُعْجِزَةَ فِي جِنْسِ عِلْمِهِمْ، كَمَا أَرَى قَوْمَ مُوسَى، إِذْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ السِّحْرَ، الْمُعْجِزَةَ بِالْعَصَا وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ، وَكَمَا أَرَى الْعَرَبَ، إِذْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الْبَلَاغَةَ، الْمُعْجِزَةَ بِالْقُرْآنِ. رُوِيَ أَنَّ جَالِينُوسَ كَانَ فِي زَمَانِ عِيسَى، وَأَنَّهُ رَحَلَ إِلَيْهِ مِنْ رُومِيَّةَ إِلَى الشَّامِ لِيَلْقَاهُ، فَمَاتَ في طريقه. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ نَقَلَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ أَحْيَا أَرْبَعَةً: عَاذِرَ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. فَقَامَ مِنْ قَبْرِهِ يَقْطُرُ وَدَكُهُ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ ولد له. و: ابن الْعَجُوزِ، وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَنَزَلَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَبَقِيَ إِلَى أن ولد له، و: بنت العاشر، متعت بولدها بعد ما حَيِيَتْ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُحْيِيَ سَامَ بْنَ نُوحٍ لِيُخْبِرَهُمْ عَنْ حَالِ السَّفِينَةِ، فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ فَقَالَ: أَقَدْ قَامَتِ السَّاعَةُ؟ وَقَدْ شَابَ نِصْفُ رَأْسِهِ، وَكَانَ شَابًّا ابْنَ خَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ: شَيَّبَنِي هَوْلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ فِي إِحْيَائِهِ الْمَوْتَى كَانَ يَضْرِبُ بِعَصَاهُ الْمَيِّتَ، أَوِ الْقَبْرَ، أَوِ الْجُمْجُمَةَ، فَيُحْيِي الْإِنْسَانَ وَيُكَلِّمُهُ وَيَعِيشُ. وَقِيلَ: تَمُوتُ سَرِيعًا. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى خَرَجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ حَوَارِيِّيهِ حَتَّى بَلَغَ الْأَنْدَلُسَ، وَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا طُولٌ، مَضْمُونُهَا: أَنَّهُ أَحْيَا بِهَا مَيِّتًا، وَسَأَلُوهُ فَإِذَا هُوَ مِنْ قَوْمِ عَادٍ. وَوَرَدَتْ قَصَصٌ فِي إِحْيَاءِ خَلْقٍ كَثِيرٍ عَلَى يَدِ عِيسَى، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ مِمَّا كَانَ يَدْعُو بِهَا إِذَا أَحْيَا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ قَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ عِيسَى مِنْ لَدُنْ طُفُولِيَّتِهِ، وَهُوَ فِي الْكُتَّابِ يُخْبِرُ الصِّبْيَانَ بِمَا يَفْعَلُ آبَاؤُهُمْ، وَبِمَا يَؤْكَلُ مِنَ الطَّعَامِ، وَمَا يُدَّخَرُ إِلَى أَنْ نبىء، وَيَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَكَلْتَ البارحة هذا، وَادَّخَرْتَ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لَمَّا أَحْيَا لَهُمُ الْمَوْتَى، طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً أُخْرَى، وَقَالُوا: أَخْبِرْنَا بِمَا نَأْكُلُ وَمَا نَدَّخِرُ لِلْغَدِ، فَأَخْبَرَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ذَلِكَ فِي نُزُولِ الْمَائِدَةِ، عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يأكلوا منها ولا يخبأوا وَلَا يَدَّخِرُوا، فَخَالَفُوا، فَكَانَ عِيسَى يُخْبِرُهُمْ بِمَا أَكَلُوهُ وَمَا ادَّخَرُوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَعُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ. وَأَتَى بِهَذِهِ الْخَوَارِقِ الْأَرْبَعِ مُصَدَّرَةً بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَالْحَالَةِ الدَّائِمَةِ: وَبَدَأَ بِالْخَلْقِ إِذْ هُوَ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ، وَثَنَى بِإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَأَتَى ثَالِثًا بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَهُوَ خَارِقٌ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرَّرَ: بِإِذْنِ اللَّهِ، دَفْعًا لِمَنْ يَتَوَهَّمُ فِيهِ الْأُلُوهِيَّةَ، وَكَانَ، بِإِذْنِ اللَّهِ، عَقِبَ قَوْلِهِ: أَنِّي أَخْلُقُ، وعطف عليه: وأبرىء الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَلَمْ يَذْكُرْ: بِإِذْنِ اللَّهِ، اكْتِفَاءً بِهِ فِي الْخَارِقِ الْأَعْظَمِ، وَعَقَّبَ قَوْلَهُ: وَأُحْيِي الْمَوْتَى، بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ: وَأُنَبِّئُكُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ، بِإِذْنِ اللَّهِ، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ أَعْظَمُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَاكْتَفَى بِهِ فِي الْخَارِقِ الْأَعْظَمِ أَيْضًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَارِقَيْنِ الْأَعْظَمَيْنِ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا اكْتِفَاءً بِالْأَوَّلِ إِذْ كُلُّ هَذِهِ الْخَوَارِقِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَ: مَا، فِي: مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ، مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدَّخِرُونَ، بِدَالٍ مُشَدَّدَةٍ، وَأَصْلُهُ: اذْتَخَرَ، مِنَ الذُّخْرِ، أُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا، فَصَارَ: اذْدَخَرَ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الذَّالُ فِي الدَّالِ، فَقِيلَ: ادَّخَرَ، كَمَا قِيلَ: ادَّكَرَهُ. وَقَرَأَ

مُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَأَبُو السَّمَّالِ: تَذْخَرُونَ، بِذَالٍ سَاكِنَةٍ وَخَاءٍ مَفْتُوحَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو شُعَيْبٍ السُّوسِيُّ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَمَا تَذْدَخِرُونَ، بِذَالٍ سَاكِنَةٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، وَهَذَا الْفَكُّ جَائِزٌ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْإِدْغَامِ أَجْوَدُ، وَيَجُوزُ جَعْلُ الدَّالِ ذَالًا، وَالْإِدْغَامُ فَتَقُولُ: اذَّخَرَ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ عِيسَى لِاحْتِفَافِهَا بِكَلَامِهِ مِنْ قَبْلِهَا وَمِنْ بَعْدِهَا، حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، اسْتِئْنَافٌ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، وَأُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَعْلِ الطِّينِ طَائِرًا، وَالْإِبْرَاءِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِنْبَاءِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: آيات، عَلَى الْجَمْعِ، فَمَنْ أَفْرَدَ أَرَادَ الْجِنْسَ وَهُوَ صَالِحٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَيُعَيِّنُ الْمُرَادَ الْقَرَائِنُ: اللَّفْظِيَّةُ، وَالْمَعْنَوِيَّةُ، وَالْحَالِيَّةُ، وَمَنْ جَمَعَ فَعَلَى الْأَصْلِ، إِذْ هِيَ: آيَاتٌ، وَهِيَ: آيَةٌ فِي نَفْسِهَا، آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ حَتَّى يَتَّجِهَ التَّعْلِيقُ بِهَذَا الشرط، أَيْ: لَآيَةً نَافِعَةً هَادِئَةً لَكُمْ إِنْ آمَنْتُمْ، وَيَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِمَنْ آمَنَ فَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّثْبِيتِ وَتَطْمِينِ النَّفْسِ وَهَزِّهَا. كَمَا تَقُولُ لِابْنِكَ: أَطِعْنِي إِنْ كُنْتَ ابْنِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ابْنُكَ، وَلَكِنْ تُرِيدُ أَنْ تَهُزَّهُ بِذِكْرِ مَا هُوَ مُحَقَّقٌ. ذَكَرَ مَا جُعِلَ مُعَلَّقًا بِهِ مَا قَبْلَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنْ يَحْصُلَ. وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف و: مصدقا، عَلَى قَوْلِهِ: بِآيَةٍ إِذِ الْبَاءُ فِيهِ لِلْحَالِ، وَلَا تَكُونُ لِلتَّعْدِيَةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، فَالْمَعْنَى: وَجِئْتُكُمْ مَصْحُوبًا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ. وَمَنَعُوا أَنْ يكون: ومصدقا، معطوفا على: رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا عَلَى: وَجِيهًا، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، غَائِبًا. فَكَانَ يَكُونُ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: وَرَسُولًا، أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: وَأُرْسِلْتُ رَسُولًا، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ: وَمُصَدِّقًا، مَعْطُوفًا عَلَى: وَرَسُولًا. وَمَعْنَى تَصْدِيقِهِ لِلتَّوْرَاةِ الْإِيمَانُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ شَرِيعَتُهُ تُخَالِفُ فِي أَشْيَاءَ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ يُسَّبِتُ وَيُسْتَقْبَلُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَحَلَّ لَهُمْ لُحُومَ الْإِبِلِ وَالشُّحُومَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَأَشْيَاءَ مِنَ السَّمَكِ وَمَا لَا ضَئْضَئَةَ لَهُ مِنَ الطَّيْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ مُحَرَّمًا.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا حَرَّمَهُ الْأَحْبَارُ بَعْدَ مُوسَى وَشَرَّعُوهُ، فَكَأَنَّ عِيسَى رَدَّ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ إِلَى حَقَائِقِهَا الَّتِي نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِحْلَالِهِ لَهُمُ السَّبْتَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، أَوْ يَعُودُ عَلَى: اللَّهِ، مُنْزِلِ التَّوْرَاةِ، أَوْ عَلَى: مُوسَى، صَاحِبِ التَّوْرَاةِ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ. وَقَرَأَ: حَرُمَ، بِوَزْنِ: كَرُمَ، إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْمُرَادُ بِبَعْضِ مَدْلُولِهَا الْمُتَعَارَفِ، وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا مَعْنَى كُلِّ خَطَأٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يُحِلَّ لَهُمُ: الْقَتْلَ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ: بَعْضًا، تَأْتِي بِمَعْنَى: كُلٍّ، بِقَوْلِ لَبِيدٍ: تَرَّاكُ أَمكِنَةً إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ تَرْتَبِطْ بَعْضَ النُفوسِ حِمَامُهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ بَعْضًا عَلَى مَدْلُولِهِ، إِذْ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَهُوَ تَبْعِيضٌ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا الْأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلَا لِصِحَّةِ التَّبْعِيضِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا دَبَّرَهُ الْأَحْدَاثُ يَكُونُ فِيهِ الْخَلَلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَقُومُ: بَعْضٌ، مَقَامَ: كُلٍّ إِلَّا إِذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ يُرِيدُ: بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ كُلِّهِ. انْتَهَى. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. وَاللَّامُ فِي: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ، لَامُ كَيْ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُسَوِّغُ عَطْفَهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْنَى، إِذِ الْمَعْنَى فِي: وَمُصَدِّقًا، أَيْ: لِأُصَدِّقَ مَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ. وَهَذَا هُوَ الْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، لِأَنَّ مَعْقُولِيَّةَ الْحَالِ مُخَالِفَةٌ لِمَعْقُولِيَّةِ التَّعْلِيلِ، وَالْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ كَيْفَ اتَّحَدَ الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الصَّلَاحِيَةُ لِجَوَابِ التَّحْضِيضِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكْثِرْ غَنِيمَةً ... بِنَكْهَةِ ذِي قُرْبَى وَلَا بحفلد كَيْفَ اتَّحَدَ مَعْنَى النَّفْيِ في قوله: لم يكثر، وَ: لَا، فِي قَوْلِهِ: ولا بحفلد؟ أَيْ: لَيْسَ بِمُكْثِرٍ وَلَا بحفلد. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَقِيلَ: اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بَعْدَ الْوَاوِ يُفَسِّرُهُ

الْمَعْنَى: أَيْ وَجِئْتُكُمْ لِأُحِلَّ لَكُمْ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُونِ، وَالْمَعْنَى: وَاتَّبِعُونِ لِأُحِلَّ لَكُمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لِأُخَفِّفَ عَنْكُمْ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِأُحِلَّ، رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَيْ: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، لِأَنَّ: بِآيَةٍ، فِي مَوْضِعِ حال، و: لأحل، تَعْلِيلٌ، وَلَا يَصِحُّ عَطْفُ التَّعْلِيلِ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْحَرْفِ الْمُشْتَرِكِ فِي الْحُكْمِ يُوجِبُ التَّشْرِيكَ فِي جِنْسِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَطَفْتَ عَلَى مَصْدَرٍ، أَوْ مَفْعُولٍ بِهِ، أَوْ ظَرْفٍ، أَوْ حَالٍ، أَوْ تَعْلِيلٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْطُوفِ. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ لِلتَّأْسِيسِ لَا لِلتَّوْكِيدِ، لِقَوْلِهِ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِهِ، إِذْ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَانُوا عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَجُعِلَ هَذَا الْقَوْلُ آيَةً وَعَلَامَةً، لِأَنَّهُ رَسُولٌ كَسَائِرِ الرُّسُلِ، حَيْثُ هَدَاهُ لِلنَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَكَسْرُ: إِنَّ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ: قَوْلًا، قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ بَدَلٌ مِنَ الْآيَةِ، فَهُوَ مَعْمُولٌ لِلْبَدَلِ. وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ: أَنَّ، فَعَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ مِنْ: آيَةٍ، وَلَا تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ، بِالْكَسْرِ مُسْتَأْنَفَةً عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَقِيلَ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ هِيَ مُعْجِزَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ هِيَ الْآيَةُ مِنَ الْإِنْجِيلِ، فَاخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْمَجِيءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كُرِّرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَيْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بَعْدَ أُخْرَى مِمَّا ذَكَرْتُ لَكُمْ مِنْ: خَلْقِ الطَّيْرِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِنْبَاءِ بِالْخَفِيَّاتِ، وَبِغَيْرِهِ مِنْ وِلَادَتِي مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَمِنْ كَلَامِي فِي الْمَهْدِ، وَسَائِرِ الْآيَاتِ. فَعَلَى هَذَا مَنْ كَسَرَ: إِنَّ، فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَمِنْ فَتَحَ فَقِيلَ التَّقْدِيرُ، لِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوهُ، كَقَوْلِهِ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ «1» ثم قال: لْيَعْبُدُوا «2» فَقَدَّمَ: أَنَّ، عَلَى عَامِلِهَا. وَمِنْ جَوَّزَ: أَنْ تَتَقَدَّمَ: أَنَّ، وَيَتَأَخَّرَ عَنْهَا الْعَامِلُ فِي نَحْوِ هَذَا غَيْرُ مُصِيبٍ، لَا يَجُوزُ: أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ عَرَفْتُ، نَصَّ على

_ (1) سورة قريش: 106/ 1. (2) سورة قريش: 106/ 3.

ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّقْدِيرُ: أَطِيعُونِ لِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. انْتَهَى. وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِظَاهِرٍ. وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ تَحْذِيرٌ وَدُعَاءٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ: تَظَاهَرَ بِالْحُجَجِ وَالْخَوَارِقِ فِي صِدْقِهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي خِلَافِي، وَأَطِيعُونِ فِي أَمْرِي وَنَهْيِي. وَقِيلَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى، وَأَطِيعُونِ فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِي فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ. وَتَكْرَارُ: رَبِّي وَرَبُّكُمْ، أَبْلَغُ فِي الْتِزَامِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّنَا، وَأَدَلُّ عَلَى التَّبَرِّي مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ. هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: طَرِيقٌ وَاضِحٌ لِمَنْ يَسْلُكُهُ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَيْ إِفْرَادُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَلَفْظُ الْعِبَادَةِ يَجْمَعُ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ ضُرُوبِ الفصاحة وَالْبَدِيعِ: إِسْنَادُ الْفِعْلِ لِلْآمِرِ بِهِ لَا لِفَاعِلِهِ، فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ، إِذْ هُمُ الْمُشَافِهُونَ بِالْبِشَارَةِ، وَاللَّهُ الْآمِرُ بِهَا. وَمِثْلُهُ: نَادَى السُّلْطَانُ فِي الْبَلَدِ بِكَذَا، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ على المسبب في قوله: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ: كَلِمَةٍ. وَالِاحْتِرَاسُ: فِي قَوْلِهِ: وَكَهْلًا، مِنْ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي حَالِ الطُّفُولَةِ لَا يَعِيشُ. وَالْكِنَايَةُ: فِي قَوْلِهِ: ولم يمسسني بشر، كنى بِالْمَسِّ عَنِ الْوَطْءِ، كَمَا كَنَّى عَنْهُ: بِالْحَرْثِ، وَاللِّبَاسِ، وَالْمُبَاشَرَةِ. وَالسُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ. وَفِي أَنَّى يَكُونُ؟ وَالتَّكْرَارُ: فِي: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ. وَفِي: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ. وَفِي: الطَّيْرِ، وَفِي: بِإِذْنِ اللَّهِ، وَفِي: رَبِّي وَرَبُّكُمْ، وَفِي: مَا، فِي قَوْلِهِ: بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ فِي: الْآيَةِ، وَفِي: الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَفِي: إِذَا قَضَى أَمْرًا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 إلى 61]

وَالطِّبَاقُ فِي: وَأُحْيِي الْمَوْتَى، وَفِي: لِأُحِلَّ وَحُرِّمَ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: وَنُعَلِّمُهُ فِيمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ. وَالتَّفْسِيرُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ فِي مَنْ قَالَ: الْكِتَابُ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ تَفْسِيرٌ لَهُ. وَالْحَذْفُ في عدة مواضع. [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 61] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) الْإِحْسَاسُ: الْإِدْرَاكُ بِبَعْضِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَهِيَ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ. يُقَالُ: أَحْسَسْتُ الشَّيْءَ، وَحَسَسْتُ بِهِ. وَتُبْدَلُ سِينُهُ يَاءً فَيُقَالُ: حَسَيْتُ بِهِ، أَوْ تُحْذَفُ أُولَى سِينَيْهِ فِي أَحْسَسْتُ فَيَقُولُ: أَحَسْتُ. قَالَ: سِوَى أَنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمَا شَذَّ مِنَ الْمُضَاعَفِ، يَعْنِي فِي الْحَذْفِ، فَشَبِيهٌ بِبَابِ: أَقَمْتُ، وذلك

قولهم: أحست وأحسن يُرِيدُونَ: أَحْسَسْتُ، وَأَحْسَسْنَ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِكُلِّ بِنَاءٍ تُبْنَى لَامُ الْفِعْلِ فِيهِ عَلَى السُّكُونِ وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْحَرَكَةُ، فَإِذَا قُلْتَ لَمْ أُحِسَّ لَمْ تُحْذَفْ. الْحَوَارِيُّ: صَفْوَةُ الرَّجُلِ وَخَاصَّتُهُ. وَمِنْهُ قِيلَ: الْحَضَرِيَّاتُ الْحَوَارِيَّاتُ لِخُلُوصِ أَلْوَانِهِنَّ وَنَظَافَتِهِنَّ. قَالَ أَبُو جلدة اليشكري: فقل للحواريات يبكين غَيْرَنَا ... وَلَا تُبْكِنَا إِلَّا الْكِلَابُ النَّوَابِحُ وَمِثْلُهُ فِي الوزن: الحوالي، للكثير الحيل، وَلَيْسَتِ الْيَاءُ فِيهِمَا لِلنَّسَبِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ: الْحَوَرِ، وَهُوَ الْبَيَاضُ. حَوَّرْتُ الثَّوْبَ بَيَّضْتُهُ. الْمَكْرُ: الْخِدَاعُ وَالْخُبْثُ وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، يُقَالُ: مَكَرَ اللَّيْلُ إِذَا أَظْلَمَ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْمَكْرِ، وَهُوَ شَجَرٌ مُلْتَفٌّ، فَكَانَ الْمَمْكُورُ بِهِ يَلْتَفُّ بِهِ الْمَكْرُ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مَمْكُورَةٌ إِذَا كَانَتْ مُلْتَفَّةَ الْخَلْقِ. وَالْمَكْرُ: ضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ. تَعَالَى: تَفَاعَلَ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ فِعْلٌ، لِاتِّصَالِ الضَّمَائِرِ الْمَرْفُوعَةِ بِهِ، وَمَعْنَاهُ: اسْتِدْعَاءُ الْمَدْعُوِّ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى مَكَانِ دَاعِيهِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ قُصِدَ بِهَا أَوَّلًا تَحْسِينُ الْأَدَبِ مَعَ الْمَدْعُوِّ، ثُمَّ اطُّرِدَتْ حَتَّى يَقُولَهَا الْإِنْسَانُ لِعَدُوِّهِ وَلِبَهِيمَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. الِابْتِهَالُ: قَوْلُهُ بَهْلَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِ، وَالْبَهْلَةُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: اللَّعْنَةُ، وَيُقَالُ بَهَلَهُ اللَّهُ: لَعَنَهُ وَأَبْعَدَهُ، مِنْ قَوْلِكَ أَبْهَلَهُ إِذَا أَهْمَلَهُ، وَنَاقَةٌ بَاهِلَةٌ لَا ضِرَارَ عَلَيْهَا، وَأَصْلُ الِابْتِهَالِ هَذَا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ دُعَاءٍ يُجْتَهَدُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْتِعَانًا. وَقَالَ لَبِيدٌ: مِنْ قُرُومِ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِمْ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ تَقَدَّمَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ، وَهَلِ الْحَذْفُ بَعْدَ قَوْلِهِ صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ «1» أَوْ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ «2» وَذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ «3» . قَالَ مُقَاتِلٌ: أَحَسَّ، هُنَا رَأَى مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ أَوِ الْقَلْبِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَحَسَّ وَجَدَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَرَفَ. وَقِيلَ: عَلِمَ. وَقِيلَ: خَافَ. وَالْكُفْرُ: هُنَا جُحُودُ نُبُوَّتِهِ وَإِنْكَارُ مُعْجِزَاتِهِ، و: منهم، متعلق بأحس. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حالا من الكفر.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 51. (3- 2) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 49.

قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ استنصر عليهم، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ اسْتَنْصَرَ لَمَّا كَفَرُوا بِهِ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قَرْيَتِهِمْ. وَقِيلَ: اسْتَنْصَرَهُمْ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ. قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: إِنَّمَا قَالَ عِيسَى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَوْدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَجَمَعَ الْحَوَارِيِّينَ الِاثْنَى عَشَرَ، وَبَثَّهُمْ فِي الْآفَاقِ يَدْعُونَ إِلَى الْحَقِّ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَانَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ بَعِيدٌ جِدًّا، لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، بَلِ الْمَنْقُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ السُّدِّيُّ: مَنْ أَعْوَانِي مَعَ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ أَنْصَارِي فِي السَّبِيلِ إِلَى الله. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعْنَى: إِلَى اللَّهِ: لِلَّهِ، كَقَوْلِهِ: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ «1» أَيْ لِلْحَقِّ. وَقِيلَ: مَنْ يَنْصُرُنِي إِلَى نَصْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَنْ يَنْقَطِعُ مَعِي إِلَى اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: مَنْ يَنْصُرُنِي إِلَى أَنْ أُبَيِّنَ أَمْرَ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ أَعْوَانِي فِي ذَاتِ اللَّهِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ. عِبَارَةٌ عَنْ حَالِ عِيسَى فِي طَلَبِهِ مَنْ يَقُومُ بِالدِّينِ، وَيُؤْمِنُ بِالشَّرْعِ وَيَحْمِيهِ، كَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ، وَيَتَعَرَّضُ لِلْأَحْيَاءِ فِي الْمَوَاسِمِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِلَى اللَّهِ مِنْ صِلَةِ أَنْصَارِي مُضَمَّنًا مَعْنَى الْإِضَافَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنِ الَّذِينَ يُضِيفُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى اللَّهِ يَنْصُرُونَنِي كَمَا يَنْصُرُنِي؟ أَوْ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ حَالًا مِنَ الْيَاءِ، أَيْ: مَنْ أَنْصَارِي ذَاهِبًا إِلَى اللَّهِ مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ؟ انْتَهَى. قالَ الْحَوارِيُّونَ أَيْ أَصْفِيَاءُ عِيسَى. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: خَوَاصُّهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. أَوِ: الْبِيضُ الثِّيَابِ، رَوَاهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوِ: الْقَصَّارُونَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُجَوِّدُونَ الثِّيَابَ، أَيْ يُبَيِّضُونَهَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ. أَوِ: الْمُجَاهِدُونَ، أَوِ: الصَّيَّادُونَ، قَالَ لَهُمْ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلَا تَمْشُونَ مَعِي تَصْطَادُونَ النَّاسَ لِلَّهِ؟ فَأَجَابُوا. قَالَ مُصْعَبٌ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا يَسِيحُونَ مَعَهُ، يَخْرُجُ لَهُمْ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالُوا: مَنْ أَفْضَلُ مِنَّا؟ نَأْكُلُ مِنْ أَيْنَ شِئْنَا. فَقَالَ عِيسَى: مَنْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ؟ وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ؟ فَصَارُوا قَصَّارِينَ وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحَوَارِيُّونَ: الْمُلُوكُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَأَبُو أَرْطَاةَ: الْغَسَّالُونَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: الْحَوَارُ النُّورُ، وَنُسِبُوا إِلَيْهِ لِمَا كَانَ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ سِيمَا الْعِبَادَةِ وَنُورِهَا. وَقَالَ تَاجُ القراء: الحواري: الصديق.

_ (1) سورة يونس: 10/ 35 والأحقاف: 46/ 30.

قِيلَ: لَمَّا أَرَاهُمُ الْآيَاتِ وَضَعَ لَهُمْ أَلْوَانًا شَتَّى مِنْ حَبٍّ وَاحِدٍ آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحَوَارِيُّونَ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ، بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَثْقِلُ ضَمَّةَ الْيَاءِ الْمَكْسُورَ مَا قَبْلَهَا فِي مِثْلِ: الْقَاضِيُونَ، فَتَنْقِلُ الضَّمَّةَ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَتَحْذِفُ الْيَاءَ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ السَّاكِنِ بَعْدَهَا، فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: الْحَوَارُونَ، لَكِنْ أُقِرَّتِ الضَّمَّةُ وَلَمْ تَنْقُلْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ التَّشْدِيدَ مُرَادٌ، إِذِ التَّشْدِيدُ يَحْتَمِلُ الضَّمَّةَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَخْفَشُ فِي: يَسْتَهْزِئُونَ، إِذْ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ يَاءً، وَحَمَلَتِ الضَّمَّةَ تَذَكُّرًا لِحَالِ الْهَمْزَةِ الْمُرَادِ فِيهَا. نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أَيْ: أَنْصَارُ دِينِهِ وَشَرْعِهِ. وَالدَّاعِي إِلَيْهِ. آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ لَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَنْصَارُ الله ذكروا مستندا لِإِيمَانِهِمْ، لِأَنَّ انْقِيَادَ الْجَوَارِحِ تَابِعَةٌ لِانْقِيَادِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ، وَالرُّسُلُ تَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْمِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ كَمَا بَرَّأَ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا «1» الْآيَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: وَاشْهَدْ، خِطَابًا لِلَّهِ تَعَالَى أَيْ: وَاشْهَدْ يَا رَبَّنَا، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِنَصَارَى نَجْرَانَ، إِذْ حَكَى اللَّهُ مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى، فَلَيْسَ كَمَقَالِهِمْ فِيهِ، وَدَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ لَهُ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ أَيْ: مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِكَ، أَوْ: بِمَا أَنْزَلْتَ مِنْ كَلَامِكَ عَلَى الرُّسُلِ أَوْ بِالْإِنْجِيلِ. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ هُوَ: عِيسَى عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ هُمْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّتُهُ، لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ لَهُمْ بِالصِّدْقِ. رَوَى ذَلِكَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ: مَنْ آمَنَ قَبْلَهُمْ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس. أو: الْأَنْبِيَاءُ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ شَاهِدٌ عَلَى أُمَّتِهِ. أَوِ: الصَّادِقُونَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَوِ: الشَّاهِدُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالتَّصْدِيقِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوِ: الشَّاهِدُونَ لِنُصْرَةِ رُسُلِكَ، أَوِ: الشَّاهِدُونَ بِالْحَقِّ عِنْدَكَ، رَغِبُوا فِي أَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي عِدَادِ الشَّاهِدِينَ بِالْحَقِّ مِنْ مُؤْمِنِي الْأُمَمِ، وَعَبَّرُوا عَنْ فِعْلِ الله ذلك لهم بِلَفْظِ: فَاكْتُبْنَا، إِذْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ تُقَيِّدُ وَتَضْبُطُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقِهِ وَعِلْمِهِ في ثاني حال.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 67.

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ الضَّمِيرُ فِي: مَكَرُوا، عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وَهُمْ: بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمَكْرُهُمْ هُوَ احْتِيَالُهُمْ فِي قَتْلِ عِيسَى بِأَنْ وَكَّلُوا بِهِ مَنْ يَقْتُلُهُ غِيلَةً، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ كَيْفِيَّةِ حَصْرِهِ وَحَصْرِ أَصْحَابِهِ فِي مَكَانٍ، وَرَوْمِهِمْ قَتْلَهُ وَإِلْقَاءِ الشَّبَهِ عَلَى رَجُلٍ، وَقَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَصَلْبِهِ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَكَرَ اللَّهُ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى مَكْرِهِمْ سَمَّى ذَلِكَ مَكْرًا، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ لَهُمْ نَاشِئَةٌ عَنِ الْمَكْرِ، كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» وَقَوْلِهِ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «2» وَكَثِيرًا مَا تُسَمَّى الْعُقُوبَةُ بِاسْمِ الذَّنْبِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ رَدُّهُمْ عَمَّا أَرَادُوا بِرَفْعِ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، وَإِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى مَنْ أَرَادَ اغْتِيَالَهُ حَتَّى قُتِلَ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَهْلَ فَارِسٍ فَقَتَلُوهُمْ وَسَبَوْا ذَرَارِيهِمْ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْيَهُودَ غَزَوُا الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى، فَأَخَذُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ مَلِكُ الرُّومِ، وَكَانَ مَلِكُ الْيَهُودِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَأَنْقَذَهُمْ ثُمَّ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَصَارَ نَصْرَانِيًّا، وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ. ثمَ وَلِيَ مَلِكٌ آخَرُ بَعْدُ وَغَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ حَجْرًا عَلَى آخَرَ، وَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ قريظة والنضير إِلَى الْحِجَازِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: وَدَبَّرُوا وَدَبَّرَ اللَّهُ، وَالْمَكْرُ لُطْفُ التَّدْبِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْمَكْرُ قَبِيحٌ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُزَاوَجَةِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ إِعْلَاءُ دِينِهِ وَقَهْرُهُمْ بِالذُّلِّ، وَمَكْرُهُمْ لُزُومُهُمْ إِبْطَالَ دِينِهِ. وَالْمَكْرُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاحْتِيَالِ فِي إِيصَالِ الشَّرِّ فِي خُفْيَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَقِيلَ: الْمَكْرُ الْأَخْذُ بِالْغَفْلَةِ لِمَنِ اسْتَحَقَّهُ، وَسَأَلَ رَجُلٌ الْجُنَيْدَ، فَقَالَ: كَيْفَ رَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ الْمَكْرَ وَقَدْ عَابَ بِهِ غَيْرَهُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، وَلَكِنْ أَنْشَدَنِي فُلَانٌ الظَّهْرَانِيُّ: وَيُقَبِّحُ مَنْ سِوَاكَ الْفِعْلَ عِنْدِي ... فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ مَعْنَاهُ أَيِ: الْمُجَازِينَ أَهْلِ الْخَيْرِ بِالْفَضْلِ وَأَهْلِ الْجَوْرِ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 40. (2) سورة البقرة: 2/ 194.

بِالْعَدْلِ، لِأَنَّهُ فَاعِلُ حَقٍّ فِي ذَلِكَ، وَالْمَاكِرُ مِنَ الْبَشَرِ فَاعِلُ بَاطِلٍ فِي الْأَغْلَبِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا «1» . وَقِيلَ: خَيْرُ، هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، بَلْ هِيَ: كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «2» وَقَالَ حَسَّانَ. فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ: الِاسْتِعَارَةُ فِي: أَحَسَّ، إِذْ لَا يُحِسُّ إِلَّا مَا كَانَ مُتَجَسَّدًا، وَالْكُفْرُ لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ وَيُفْطَنُ بِهِ، وَلَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ إِلَّا إِنْ كَانَ أَحَسَّ، بِمَعْنَى رَأَى، أَوْ بِمَعْنَى: سَمِعَ مِنْهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ: أَحَسَّ، لَا اسْتِعَارَةَ فِيهِ، إِذْ يَكُونُ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، أَوْ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ ثَمَرَتِهِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: أَحَسَّ مِنْهُمُ الْقَتْلَ، وَقَتْلُ نَبِيٍّ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْكُفْرِ. وَالسُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ وَالتَّكْرَارُ فِي: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، وَأَنْصَارُ اللَّهِ، وَآمَنَّا بِاللَّهِ، وَآمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، وَالْمَاكِرِينَ، وَفِي هَذَا التَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ، وَالْمُغَايِرُ، وَالْحَذْفُ، فِي مَوَاضِعَ. إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ الْعَامِلُ فِي: إِذْ، وَمَكَرَ اللَّهُ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، أَوِ: اذْكُرْ، قَالَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ، أَوْ: خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، لِأَنَّ عِيسَى لَيْسَ بِمُكَلِّمٍ، قاله ابن عطية. و: متوفيك، هِيَ وَفَاةُ يَوْمَ رَفَعَهُ اللَّهُ فِي مَنَامِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «3» أَيْ: وَرَافِعُكَ وَأَنْتَ نَائِمٌ، حَتَّى لَا يَلْحَقَكَ خَوْفٌ، وَتَسْتَيْقِظَ وَأَنْتَ فِي السَّمَاءِ آمِنٌ مُقَرَّبٌ. أَوْ: وَفَاةُ مَوْتٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ وَهْبٌ: مَاتَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ وَرَفَعَهُ فِيهَا ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّمَاءِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: سَبْعَ سَاعَاتٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ وَفَاةُ مَوْتٍ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى: مُتَوَفِّيكَ فِي آخِرِ أَمْرِكَ عِنْدَ نُزُولِكَ وَقَتْلِكَ الدَّجَّالَ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 84. (2) سورة الفرقان: 25/ 24. (3) سورة الأنعام: 6/ 60. [.....]

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُسْتَوْفِي أَجَلَكَ، وَمَعْنَاهُ أَيْ: عَاصِمُكَ مِنْ أَنْ يَقْتُلَكَ الْكُفَّارُ، وَمُؤَخِّرُكَ إِلَى أَجَلٍ كَتَبْتُهُ لَكَ، وَمُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ لَا قَتْلًا بِأَيْدِيِهِمْ. وَقِيلَ: مُتَوَفِّيكَ: قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، ومطر الْوَرَّاقِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، مِنْ: تَوَفَّيْتُ مَالِي عَلَى فُلَانٍ إِذَا اسْتَوْفَيْتَهُ. وَقِيلَ: أَجْعَلُكَ كَالْمُتَوَفَّى، لِأَنَّهُ بِالرَّفْعِ يُشْبِهُهُ. وَقِيلَ: آخُذُكَ وَافِيًا بِرُوحِكَ وَبَدَنِكَ. وَقِيلَ: مُتَوَفِّيكَ: مُتَقَبِّلُ عَمَلِكَ، وَيَضْعُفُ هَذَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ: مُتَوَفِّيكَ عَنْ شَهَوَاتِكَ. قال ابن عطية: وأجمعت الْأُمَّةُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ: «أَنَّ عِيسَى فِي السَّمَاءِ حَيٌّ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيَفِيضُ الْعَدْلُ، وَتَظْهَرُ بِهِ الْمِلَّةُ، مِلَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحُجُّ الْبَيْتَ، وَيَعْتَمِرُ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً» وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً. انْتَهَى. وَرافِعُكَ إِلَيَّ الرَّفْعُ نَقْلٌ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ و: إليّ، إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ. وَالْمَعْنَى: إِلَى سَمَائِي وَمَقَرِّ مَلَائِكَتِي. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ فِي جِهَةٍ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمُشَبِّهَةُ فِي ثُبُوتِ الْمَكَانِ لَهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِلَى مَكَانٍ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ فِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَا، بِخِلَافِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَلَّى الْمَخْلُوقُونَ فِيهَا الْأَحْكَامَ ظَاهِرًا. وَقِيلَ: إِلَى مَحَلِّ ثَوَابِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَفْعُهُ إِلَى السَّمَاءِ، سَمَاءُ الدُّنْيَا، فَهُوَ فِيهَا يَسْبَحُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ يُهْبِطُهُ اللَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الدَّجَّالِ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قِيلَ: كَانَ عِيسَى عَلَى طُورِ سَيْنَاءَ، وَهَبَّتْ رِيحٌ فَهَرْوَلَ عِيسَى فَرَفَعَهُ اللَّهُ فِي هَرْوَلَتِهِ، وَعَلَيْهِ مَدْرَعَةٌ مِنْ شِعْرٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ عِيسَى فِي بَيْتٍ لَهُ كُوَّةٌ، فَدَخَلَ رَجُلٌ لِيَقْتُلَهُ، فَرُفِعَ عِيسَى مِنَ الْبَيْتِ وَخَرَجَ الرَّجُلُ فِي شَبَهِ عِيسَى يُخْبِرُهُمْ أَنَّ عِيسَى لَيْسَ فِي الْبَيْتِ، فَقَتَلُوهُ. وَرَوَيَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ كَانَتْ فِي الْبَيْتِ. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا دَنِسًا وَنَجِسًا فَطَهَّرَهُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ صُحْبَةَ الْأَشْرَارِ وَخَلْطَةَ الْفُجَّارِ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الدَّنَسِ فِي الثَّوْبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يُخَلِّصُهُ

مِنْهُمْ، فَكَنَّى عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ وَتَخْلِيصِهِ بِالتَّطْهِيرِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الظَّاهِرِ لَا بِالضَّمِيرِ، وَهُوَ: الَّذِينَ كَفَرُوا، إِشَارَةً إِلَى عِلَّةِ الدَّنَسِ وَالنَّجَسِ وَهُوَ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1» وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» فَجَعَلَ عِلَّةَ تَطْهِيرِهِ الْإِيمَانَ. وَقِيلَ: مُطَهِّرُكَ مِنْ أَذَى الْكَفَرَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ. وَقِيلَ: مِمَّا قَالُوهُ فِيكَ وَفِي أُمِّكَ. وَقِيلَ: وَمُطَهِّرُكَ أَيْ مُطَهِّرٌ بِكَ وَجْهَ النَّاسِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: مُتَوَفِّيكَ: آخِذُكَ عَنْ هَوَاكَ، وَرَافِعُكَ إِلَيَّ عَنْ شَهَوَاتِكَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَفْعًا مَكَانِيًّا وَإِنَّمَا هُوَ رِفْعَةُ الْمَحَلِّ، وَإِنْ كان قدر رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الْكَافِرِينَ إِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ. وَقِيلَ: تَخْلِيصُهُ مِنْ قَتْلِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَجَسٌ طَهَّرَهُ اللَّهُ مِنْهُ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: التَّخْلِيصُ وَالتَّطْهِيرُ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ التَّطْهِيرِ فِيهِ رِفْعَةٌ لِلْمُخَاطَبِ، كَمَا أَنَّ الشُّهُودَ وَالْحُضُورَ وَاحِدٌ، وَفِي الشُّهُودِ رِفْعَةٌ. وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ الْحُضُورَ وَالْإِحْضَارَ فِي الْكَافِرِينَ. وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ الْكَافُ: ضَمِيرُ عِيسَى كَالْكَافِ السَّابِقَةِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ، وَلَا يَظْهَرُ. وَمَعْنَى اتَّبَعُوكَ: أَيْ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. لِأَنَّهُمْ مُتَّبِعُوهُ فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ. فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْلُونَهُمْ بِالْحُجَّةِ، وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ بِهَا وَبِالسَّيْفِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ وَكَذَبُوا عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِي كَلَامِهِ. فَالْفَوْقِيَّةُ هُنَا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوْ: بِالْعِزِّ وَالْمَنَعَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. فَهُمْ فَوْقَ الْيَهُودِ، فَلَا تَكُونُ لَهُمْ مَمْلَكةٌ كَمَا لِلنَّصَارَى. فَالْآيَةُ، عَلَى قَوْلِهِ، مُخْبِرَةٌ عَنْ إِذْلَالِ الْيَهُودِ وَعُقُوبَتِهِمْ بِأَنَّ النَّصَارَى فَوْقَهُمْ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَخَصَّصَ ابْنُ زَيْدٍ الْمُتَّبِعِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَجَعَلَهُ حُكْمًا دُنْيَوِيًّا لا فضلية فِيهِ لِلْمُتَّبَعِينَ الْكُفَّارِ، بَلْ كَوْنُهُمْ فَوْقَ الْيَهُودِ عُقُوبَةٌ لِلْيَهُودِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بِعُمُومِ الْمُتَّبِعِينَ، فَتَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَصَّ عَلَيْهِ قتادة، وبعموم الكافرين.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 28.

وَالْآيَةُ تَقْتَضِي إِعْلَامَ عِيسَى أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا يُحِبُّ هُمْ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ، وَيَظْهَرُ من عِبَارَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ هُمْ فِي وَقْتِ اسْتِنْصَارِهِ، وَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ فَوْقَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهُ شَرَّفَهُمْ، وَأَبْقَى لَهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ذِكْرًا، فَهُمْ فَوْقَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ، إِذْ هُمْ فِي الْغُرُفَاتِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ فِي الدَّرَكَاتِ. وَتُلُخِّصَ مِنْ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مُتَّبِعِيهِ هُمْ مُتَّبِعُوهُ فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ عَامًّا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَعَامًّا فِي الْكَافِرِينَ، أَوْ هُمْ مُتَّبِعُوهُ فِي الِانْتِمَاءِ إِلَى شَرِيعَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يتبعوها حقيقة، يكون الْكَافِرُونَ خَاصًّا بِالْيَهُودِ، أَوْ مُتَّبِعُوهُ هُمُ الْحَوَارِيُّونَ، وَالْكَافِرُونَ: مَنْ كَفَرَ بِهِ. وَأَمَّا الْفَوْقِيَّةُ فَإِمَّا حَقِيقَةً وَذَلِكَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِمَّا مَجَازًا أَيْ: بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَيَكُونُ ذلك دينيا، و: إما بِالْعِزَّةِ وَالْغَلَبَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دُنْيَوِيًّا، وَإِمَّا بِهِمَا. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الظَّاهِرُ أَنَّ: إِلَى، تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي: فَوْقَ، وَهُوَ المفعول الثاني: لجاعل، إِذْ مَعْنَى جَاعِلُ هُنَا مُصَيِّرُ، فَالْمَعْنَى كَائِنِينَ فَوْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ مَجَازٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْفَوْقِيَّةُ حَقِيقَةً، وَهِيَ الْفَوْقِيَّةُ بِالْجَنَّةِ، فلا تتعلق: إلّا، بِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، بَلْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ: مُتَوَفِّيكَ، أَوْ مِنْ: رَافِعُكَ، أَوْ مِنْ: مظهرك، إِذْ يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، إِمَّا بِرَافِعُكَ أَوْ مُطَهِّرُكَ، فَظَاهَرٌ. وَإِمَّا بِمُتَوَفِّيكَ فَعَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْأَرْبَعَةُ تَرْتِيبُهَا فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، بَدَأَ أولا: بإخباره تعالى لعيسى أَنَّهُ مُتَوَفِّيهِ، فَلَيْسَ لِلْمَاكِرِينَ بِهِ تَسَلُّطٌ عَلَيْهِ وَلَا تَوَصُّلٌ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَشَّرَهُ ثَانِيًا: بِرَفْعِهِ إِلَى سَمَائِهِ وَسُكْنَاهُ مَعَ مَلَائِكَتِهِ وَعِبَادَتِهِ فِيهَا، وَطُولِ عُمْرِهِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ. ثُمَّ ثَالِثًا: بِرَفْعِهِ إِلَى سَمَائِهِ بِتَطْهِيرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَعَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ زَمَانِهِ حِينَ رَفَعَهُ، وَحِينَ يُنْزِلُهُ فِي آخِرِ الدُّنْيَا فَهِيَ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُ أَنَّهُ مُطَهَّرٌ مِنَ الْكُفَّارِ أَوَّلًا وَآخِرًا. وَلَمَّا كَانَ التَّوَفِّي وَالرَّفْعُ كُلٌّ منهما خاص بزمان، بدىء بِهِمَا. وَلَمَّا كَانَ التَّطْهِيرُ عَامًّا يَشْمَلُ سَائِرَ الْأَزْمَانِ أُخِّرَ عَنْهُمَا، وَلَمَّا بَشَّرَهُ بِهَذِهِ الْبَشَائِرِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ أَوْصَافٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ، بَشَّرَهُ بِرِفْعَةِ أَتْبَاعِهِ فَوْقَ كُلِّ كَافِرٍ، لِتُقَرَّ بِذَلِكَ عَيْنُهُ، وَيُسَرَّ قَلْبُهُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ مِنِ اعْتِلَاءِ تَابِعِيهِ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ أَوْصَافِ تَابِعِيهِ، تَأَخَّرَ عَنِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي لِنَفْسِهِ، إِذِ الْبَدَاءَةُ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي لِلنَّفْسِ أَهَمُّ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِهَذَا الْوَصْفِ

الرَّابِعِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْشِيرِ بِحَالِ تَابِعِيهِ فِي الدُّنْيَا، لِيُكْمِلَ بِذَلِكَ سُرُورَهُ بِمَا أُوتِيهِ، وَأُوتِيَ تَابِعُوهُ مِنَ الْخَيْرِ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ هَذَا إِخْبَارٌ بِالْحَشْرِ وَالْبَعْثِ، وَالْمَعْنَى ثُمَّ إِلَى حُكْمِي، وَهَذَا عِنْدِي مِنَ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرَ مُكَذِّبِيهِ: وَهُمُ الْيَهُودُ، وَذِكْرَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَذَكَرَ متبعيه الكافرين، فَلَوْ جَاءَ عَلَى نَمَطِ هَذَا السَّابِقِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُهُمْ، وَلَكِنَّهُ الْتَفَتَ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ لِلْجَمِيعِ، لِيَكُونَ الْإِخْبَارُ أَبْلَغَ فِي التَّهْدِيدِ، وَأَشَدَّ زَجْرًا لِمَنْ يَزْدَجِرُ. ثُمَّ ذَكَرَ لَفْظَةَ: إِلَيَّ، وَلَفْظَةَ: فَأَحْكُمُ، بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحَاكِمَ هُنَاكَ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَحْكُمُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ، وَأَتَى بِالْحُكْمِ مُبْهَمًا، ثُمَّ فَصَّلَ الْمَحْكُومَ بَيْنَهُمْ إِلَى: كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، وَذَكَرَ جَزَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مرجعكم، الخطاب لعيسى، وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ بِالْقِيَامَةِ وَالْحَشْرِ، فَلِذَلِكَ جَاءَ اللَّفْظُ عَامًّا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ لَا يَخُصُّ عِيسَى وَحْدَهُ، فَخَاطَبَهُ كَمَا يُخَاطِبُ الْجَمَاعَةَ، إِذْ هُوَ أَحَدُهَا، وَإِذْ هِيَ مُرَادَةٌ فِي الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الِالْتِفَاتِ كَمَا ذَكَرْتُهُ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، أَيْ: كَفَرُوا بِكَ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَكَ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ، مُبْتَدَأً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً وُصِفَ الْعَذَابُ بِالشِّدَّةِ لِتَضَاعُفِهِ وَازْدِيَادِهِ. وَقِيلَ: لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ. فِي الدُّنْيا بِالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ وَالْجِزْيَةِ وَالذُّلِّ، وَمَنْ لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فَهُوَ عَلَى وَجَلٍ، إِذْ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَطْلُبُهُ. وَالْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ. وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى بِمَا يَفْعَلُ بِالْكَافِرِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ فِي دُنْيَاهُ إِلَى آخِرِ أَمْرِهِ فِي عُقْبَاهُ.

وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ بَدَأَ أَوَّلًا بِقِسْمِ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ حُكْمِهِ تَعَالَى بَيْنَهُمْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلْكَفَّارِ، وَالْإِخْبَارِ بِجَزَائِهِمْ، فَنَاسَبَتِ الْبَدَاءَةَ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِكَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَفَرُوا بعيسى وَرَامُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ أَتَى ثَانِيًا بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَّقَ هُنَاكَ الْعَذَابَ عَلَى مُجَرَّدِ الْكُفْرِ، وَهُنَا عَلَّقَ تَوْفِيَةَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي الْإِيمَانِ، وَدُعَاءً إِلَيْهَا. وَالتَّوْفِيَةُ: دَفْعُ الشَّيْءِ وَافِيًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَالْأُجُورُ: ثَوَابُ الْأَعْمَالِ، شَبَّهَهُ بِالْعَامِلِ الَّذِي يُوَفَّى أَجْرَهُ عِنْدَ تَمَامِ عَمَلِهِ. وَتَوْفِيَةُ الْأُجُورِ هِيَ: قَسْمُ الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا رَتَّبَهَا تَعَالَى، وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا قَالَ: فَأُعَذِّبُهُمْ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: فَيُوَفِّيهِمْ، بِالْيَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ حفص، ورويس، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِلتَّنَوُّعِ فِي الْفَصَاحَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنُوَفِّيهِمْ، بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ شَأْنُهُ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْهَمْزَةِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ لِيُخَالِفَ فِي الْإِخْبَارِ بَيْنَ النِّسْبَةِ الْإِسْنَادِيَّةِ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِالْكَافِرِ وَبِالْمُؤْمِنِ، كَمَا خَالَفَ فِي الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَامِلَ لِلصَّالِحَاتِ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَنَاسَبَهُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمَجَازِيِّ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: الَّذِينَ آمَنُوا، مُبْتَدَأً، وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُ مَا بَعْدَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «1» فِيمَنْ نَصَبَ الدَّالَ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا يُشْبِهُ هَذَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ «2» وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، لِأَنَّ مُرِيدَ الشَّيْءِ مُحِبٌّ لَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا تُخَالِفُ الْمُحِبَّةُ الْإِرَادَةَ إِذَا عُلِّقَتَا بِالْأَشْخَاصِ، فَيُقَالُ: أُحِبُّ زَيْدًا، وَلَا يُقَالُ: أُرِيدُهُ، وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَهُمَا فِيهَا وَاحِدٌ، فَقَوْلُهُ: لَا يُحِبُّ: لَا يُرِيدُ ظُلْمَ الظَّالِمِينَ، هَكَذَا قَرَّرَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَعِنْدَ أصحابنا المحبة

_ (1) سورة فصلت: 41/ 17. (2) سورة آل عمران: 3/ 32.

عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ إِيصَالِ الْخَيْرِ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى، وَإِنْ أَرَادَ كُفْرَ الْكَافِرِ، لَا يُرِيدُ إِيصَالَ الثَّوَابِ إِلَيْهِ. ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ذَلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى وزكريا وغيرهما، و: نتلوه، نَسْرِدُهُ وَنَذْكُرُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَأَضَافَ التِّلَاوَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ هُوَ التَّالِيَ تَشْرِيفًا لَهُ، جَعَلَ تِلَاوَةَ الْمَأْمُورِ تِلَاوَةَ الْآمِرِ، وَفِي: نَتْلُوهُ، الْتِفَاتٌ، لأن قبله ضمير غائب فِي قَوْلِهِ: لَا يُحِبُّ، وَنَتْلُوهُ: مَعْنَاهُ تَلَوْنَاهُ، كَقَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ظَاهِرُهُ مِنَ الْحَالِ، لِأَنَّ قِصَّةَ عِيسَى لَمْ يَفْرَغْ مِنْهَا، وَيَكُونُ: ذَلِكَ، بِمَعْنَى: هَذَا. وَالْآيَاتُ هُنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُعْجِزَاتُ وَالْمُسْتَغْرَبَاتُ، أَيْ: نَأْتِيهِمْ بِهَذِهِ الْغُيُوبِ مِنْ قِبَلِنَا، وَبِسَبَبِ تِلَاوَتِنَا، وَأَنْتَ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَصْحَبُ أَهْلَ الْكِتَابِ، فَهِيَ آيَاتٌ لِنُبُوَّتِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورُ: وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ وَالْحَكِيمُ أَيِ: الْحَاكِمُ، أَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، وَوَصَفَ بِصِفَةِ مَنْ هُوَ مِنْ سَبَبِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ: كَأَنَّهُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ لِكَثْرَةِ حُكْمِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُ ذُو حِكْمَةٍ فِي تَأْلِيفِهِ وَنَظْمِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَحْكَمَ عَنْ طُرُقِ الْخَلَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ «2» وَيَكُونُ: فَعِيلٌ، بِمَعْنَى: مُفْعَلٍ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَمِنْهُ: أَعْقَدْتُ الْعَسَلَ فَهُوَ مُعْقَدٌ وَعَقِيدٌ، وَأَحْبَسْتُ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ مُحْبَسٌ وَحَبِيسٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي مِنْهُ نُقِلَتْ جَمِيعُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ على الْأَنْبِيَاءِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذِهِ الْقَصَصَ مِمَّا كُتِبَ هناك. وَ: ذَلِكَ، مُبْتَدَأٌ، وَ: نتلوه، خبر و: من الْآيَاتِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْآيَاتِ. وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ هَذَا الْمَتْلُوَّ بَعْضُ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: مِنَ الْآيَاتِ، خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ بِغَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ، إِذَا كَانَ لِمُبْتَدَأٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: مِنَ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ أَنْ تَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ هُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِلَّا بِمَجَازٍ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ: مِنَ، الْبَيَانِيَّةِ بِالْمَوْصُولِ. وَلَوْ قُلْتَ: ذلك نتلوه

_ (1- 2) سورة البقرة: 2/ 102.

عَلَيْكَ الَّذِي هُوَ الْآيَاتُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، لَاحْتِيجَ إِلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ هَذَا الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ نَبَأِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ لَيْسَ هُوَ جَمِيعَ الْآيَاتِ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْآيَاتِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ الْآيَاتِ، وَالذِّكْرُ هُوَ الْآيَاتُ، وَالذِّكْرُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ: أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ، وَبَدَأَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، أَيْ: نَتْلُو ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَفْصَحُ لِأَنَّهُ عَرِيَ مِنْ مُرَجِّحِ النَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ فَزَيْدٌ ضَرَبْتَهُ، أَفْصَحُ مِنْ: زَيْدًا ضَرَبْتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ يَكُونُ: نَتْلُوهُ، لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، وَيَكُونُ: مِنَ الْآيَاتِ، حَالًا مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي: نَتْلُوهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ: ذَلِكَ، بمعنى: الذي، و: نتلوه، صلته. و: من الْآيَاتِ، الْخَبَرُ. وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ نَزْعَةٌ كُوفِيَّةٌ، يُجِيزُونَ فِي أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، إِلَّا فِي: ذَا، وَحْدَهَا إِذَا سَبَقَهَا: مَا، الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ: مَنِ، الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِاخْتِلَافٍ. وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ: ذَلِكَ، مُبْتَدَأً وَ: مِنَ الْآيَاتِ، خَبَرٌ. و: نتلوه، حَالٌ. وَأَنْ يَكُونَ: ذَلِكَ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ ذَلِكَ. و: نتلوه، حَالٌ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْآيَاتِ، وَمَنْ جَعَلَهَا لِلْقَسَمِ وَجَوَابَ الْقَسَمِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى فَقَدْ أَبْعَدَ. إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: جَادَلَ وَفْدُ نَجْرَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ عِيسَى، وَقَالُوا: بَلَغَنَا أَنَّكَ تَشْتُمُ صَاحِبَنَا، وَتَقُولُ: هُوَ، عَبْدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يَضُرُّ ذَلِكَ عِيسَى، أَجَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ» . فَقَالُوا: فَهَلْ رَأَيْتَ بَشَرًا قَطُّ جَاءَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ أَوْ سَمِعْتَ بِهِ؟ فَخَرَجُوا، فَنَزَلَتْ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ قَالُوا: فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَرِنَا مِثْلَهُ! فَنَزَلَتْ. وَرَوَيَ وَكِيعٌ عَنْ مُبَارَكٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَاهِبَا نَجْرَانَ فَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، فَقَالَ: «كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثٌ: عِبَادَتُكُمَا

الصَّلِيبَ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ، وَقَوْلُكُمَا لِلَّهِ وَلَدٌ» . قَالَا: مَنْ أَبُو عِيسَى؟ وَكَانَ لَا يَعْجَلُ حَتَّى يَأْمُرَهُ رَبُّهُ. فَأَنْزَلَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِمْ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ شَأْنَ عِيسَى وَحَالَهُ الْغَرِيبَةَ كَشَأْنِ آدَمَ، فَجَعَلَ الْمَثَلَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْحَالِ. وَهُوَ رَاجِعٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمَثَلُ هُنَا الصِّفَةُ: كَقَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ «2» وَفِي هَذَا إِقْرَارُ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ آدَمَ عَلَى مَعْنَاهَا التَّشْبِيهِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَثَلَ هُنَا بِمَعْنَى الصِّفَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا عِنْدِي خَطَأٌ وَضَعْفٌ فِي فَهْمِ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَثَلَ الَّذِي تَتَصَوَّرُهُ النُّفُوسُ وَالْعُقُولُ، مِنْ عِيسَى فَهُوَ كَالْمُتَصَوَّرِ مِنْ آدَمَ، إِذِ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ. وَكَذَلِكَ مَثَلُ الْجَنَّةِ «3» عِبَارَةٌ عَنِ الْمُتَصَوَّرِ مِنْهَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ صِحَّةُ الْقِيَاسِ أَيْ إِذَا تُصُوِّرَ أَمْرُ آدَمَ قِيسَ عَلَيْهِ جَوَازُ أَمْرِ عِيسَى. وَالْكَافُ فِي كَمَثَلِ آدَمَ اسْمٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَظْهَرُ لِي فَرْقٌ بَيْنَ كَلَامِهِ هَذَا، وَكَلَامِ مَنْ جَعَلَ الْمَثَلَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْحَالِ. أَوْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، وَفِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) قِيلَ: الْمَثَلُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، وَقَوْلُكَ صِفَةُ عِيسَى كَصِفَةِ آدَمَ كَلَامٌ مُطَّرِدٌ، عَلَى هَذَا جُلَّ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَخَالَفَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْجَمِيعَ، وَقَالَ: الْمَثَلُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ، إِنَّمَا الْمَثَلُ الشَّبَهُ. عَلَى هَذَا تَدُورُ تَصَارِيفُ الْكَلِمَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْوَصْفِيَّةِ فِي التَّشَابُهِ. وَالْمَثَلُ كَلِمَةٌ يُرْسِلُهَا قَائِلُهَا لِحِكْمَةٍ يُشَبِّهُ بِهَا الْأُمُورَ، وَيُقَابِلُ بِهَا الْأَحْوَالَ. انْتَهَى. وَمَنْ جَعَلَ الْمَثَلَ هُنَا مُرَادِفًا لِلْمِثْلِ، كَالشَّبَهِ. وَالشِّبْهِ. قَالَ: جَمَعَ بَيْنَ أَدَاتَيْ تَشْبِيهٍ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ لِلشَّبَهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ خَطَرِهِ وَقَدْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْكَافُ زَائِدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَثَلَ زَائِدَةٌ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْمِثْلَ هُنَا مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. وَقَالَ: الْعَرَبُ تَضْرِبُ الْأَمْثَالَ لِبَيَانِ مَا خَفِيَ مَعْنَاهُ وَدَقَّ إِيضَاحُهُ، لَمَّا خَفِيَ سِرُّ وِلَادَةِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَعْرُوفَ، ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِآدَمَ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الْأَذْهَانِ. وَعُلِمَ أَنَّهُ أُوجِدَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، كَذَلِكَ خَلْقُ عِيسَى بِلَا أَبٍ، ولا بد

_ (1) سورة البقرة: 2/ 17. (3- 2) سورة الرعد: 13/ 35 ومحمد: 47/ 15.

مِنْ مُشَارَكَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ بَيْنَ مَنْ ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ، وَبَيْنَ مَنْ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ، مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ وُجُوهٍ لَا يُشْتَرَطُ الِاشْتِرَاكُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَالْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَ آدَمَ وعيسى كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: المشاركة بين آدم وعيسى فِي خَمْسَةَ عَشَرَ وَصْفًا: في التكوين، و: في الْخَلْقِ مِنَ الْعَنَاصِرِ الَّتِي رَكَّبَ اللَّهُ مِنْهَا الدُّنْيَا. وَفِي الْعُبُودِيَّةِ، وَفِي النُّبُوَّةِ. وَفِي الْمِحْنَةِ: عِيسَى بِالْيَهُودِ، وآدم بِإِبْلِيسَ، وَفِي: أَكْلِهِمَا الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَفِي الْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ. وَفِي الصُّورَةِ، وَفِي الرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ وَالْإِنْزَالِ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَفِي الْإِلْهَامِ، عَطَسَ آدَمُ فَأُلْهِمَ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأُلْهِمَ عِيسَى، حِينَ أُخْرِجَ مِنْ بَطْنِ أُمَّهِ فَقَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ «1» وَفِي الْعِلْمِ، قَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ «2» وَقَالَ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «3» وَفِي نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِمَا وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «4» فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا «5» وَفِي الْمَوْتِ، وَفِي فَقْدِ الْأَبِ، وَمَعْنَى: عِنْدَ اللَّهِ أَيْ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَكَيْفَ هُوَ. أَيْ: هَكَذَا هُوَ الْأَمْرُ فِيمَا غَابَ عَنْكُمْ وَلَمْ تَطَّلِعُوا عَلَى كُنْهِهِ. وَالْعَامِلُ فِي: عِنْدَ، الْعَامِلُ فِي: كَافِ التَّشْبِيهِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ هُوَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْوُجُودُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَهُمَا نَظِيرَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَوْجَدَهُ اللَّهُ خَارِجًا عَمَّا اسْتَقَرَّ وَاسْتَمَرَّ فِي الْعَادَةِ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مُتَوَلِّدًا مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى «6» وَالْوُجُودُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ أَغْرَبُ فِي الْعَادَةِ مِنْ وُجُودٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَشَبَّهَ الْغَرِيبَ بِالْأَغْرَبِ لِيَكُونَ أَقْطَعَ لِلْخَصْمِ وَأَحْسَمَ لِمَادَةِ شُبْهَتِهِ إِذَا نَظَرَ فِيمَا هُوَ أَغْرَبُ مِمَّا اسْتَغْرَبَهُ، وَأُسِرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالرُّومِ فَقَالَ لَهُمْ لِمَ تَعْبُدُونَ عِيسَى؟ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ. قَالَ: فَآدَمُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا أَبَوَيْنِ لَهُ. قَالُوا: كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ: فَحِزْقِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ عِيسَى أَحْيَا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، وَأَحْيَا حِزْقِيلُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ. فقالوا: كان يبرىء الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. قَالَ: فَجِرْجِيسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ طُحِنَ وَأُحْرِقَ، ثُمَّ قَامَ سَالِمًا. انْتَهَى. وَصَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قُلِعَتْ، وَرَدَّ اللَّهُ نُورَهَا، وَصَحَّ أَنَّ أَعْمَى دَعَا لَهُ فَرَدَّ اللَّهُ لَهُ بصره.

_ (1) سورة مريم: 19/ 30. (2) سورة البقرة: 2/ 31. (3) سورة آل عمران: 3/ 48. (4) سورة الحجر: 15/ 29 وص: 38/ 72. (5) سورة الأنبياء: 21/ 91 والتحريم: 66/ 12. (6) سورة الحجرات: 49/ 13.

وَفِي حَدِيثِ الشَّابِّ الَّذِي أُتِيَ بِهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْ سِحْرِ السَّاحِرِ، فَتَرَكَ السَّاحِرَ وَدَخَلَ فِي دِينِ عِيسَى وتعبد به، فصار يبرىء الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَفِيهِ أَنَّهُ دَعَا لِجَلِيسِ الْمَلِكِ وَابْنِ عَمِّهِ، وَكَانَ أَعْمَى، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ هِيَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بَاسِمِ أَصْلِهِ. كقوله اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ «1» كَانَ تُرَابًا ثُمَّ صَارَ طِينًا وَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ. كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «2» وَقَالَ تَعَالَى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ «3» وَقَالَ: قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «4» . وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: خَلَقَهُ، عَائِدٌ عَلَى آدَمَ، وَهَذِهِ الجملة تفسيرية لمثل آدَمَ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقُدِّرَ مَعَ خَلَقَهُ مَقْدِرَةً، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ صِفَةً لِآدَمَ وَلَا حَالًا مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذِ الْمَاضِي لَا يَكُونُ حَالًا أَنْتَ فِيهَا، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مَقْطُوعٌ مِنْهُ مُضَمِّنُهُ تَفْسِيرُ الْمَثَلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَعْنَى: قَدَّرَهُ جَسَدًا مِنْ طِينٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أَيْ أَنْشَأَهُ بَشَرًا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ. قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ، لَا بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، لَمْ يَأْتِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ لِأَنَّ مَا خُلِقَ لَا يُقَالُ لَهُ: كُنْ، وَلَا يَنْشَأُ إِلَّا إِنْ كَانَ مَعْنَى ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ عِبَارَةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وَقَالَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ بِمَعْنَى أَنْشَأَهُ لَا بِمَعْنَى قَدَّرَهُ. قِيلَ: أَوْ يَكُونَ: كُنْ، عِبَارَةً عَنْ كَوْنِهِ لَحْمًا وَدَمًا، وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ، حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَلَا قَوْلَ هُنَاكَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَكِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ الْخَلْقِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِيجَادِ مَا يُرِيدُ تَعَالَى إِيجَادَهُ، إِذِ الْمَعْدُومُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ. وَ: ثُمَّ، قِيلَ لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ، لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ خَلَقَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى تَفْسِيرٌ لِلْخَلْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ أَيْ: أَنْشَأَهُ أَوَّلًا مِنْ طِينٍ، ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْجَدَ فِيهِ الرُّوحَ أن صَيَّرَهُ لَحْمًا وَدَمًا عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَمَعْنَى: كُنْ. بَعْدَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ: كُنْ إِنْسَانًا حَيًّا نَاطِقًا، وَهُوَ لم

_ (1) سورة فاطر: 35/ 11. وغافر: 40/ 67 (2) سورة المؤمنون: 23/ 12. [.....] (3) سورة ص: 38/ 71. (4) سورة الإسراء: 17/ 61.

يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ دَهْرًا مُلْقًى لَا رُوحَ فِيهِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ الرُّوحَ. وَقَوْلُهُ: كُنْ عِبَارَةٌ عَنْ إِيجَادِ الصُّورَةِ الَّتِي صَارَ بِهَا الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا. انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي: لَهُ، عَائِدٌ عَلَى آدَمَ وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى عِيسَى، وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ خُلِقَ بِكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحُوفِيِّ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْحَقَّ، وَهُوَ الشَّيْءُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ وَارِدٌ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، فَجَمِيعُ مَا أَنْبَأَكَ بِهِ حَقٌّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ قِصَّةُ عِيسَى وآدم وَجَمِيعِ أَنْبَائِهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: الْحَقُّ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ. أَيْ: خَبَرُ عِيسَى فِي كَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ أُمٍّ فقط هو الحق، و: من رَبِّكَ، حَالٌ أَوْ: خَبَرٌ ثَانٍ وَأَخْبَرَ عَنْ قِصَّةِ عِيسَى بِأَنَّهَا حَقٌّ. وَمَعَ كَوْنِهَا حَقًّا فَهِيَ إِخْبَارٌ صَادِرٌ عَنِ اللَّهِ. فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قِيلَ: الْخِطَابُ بِهَذَا لِكُلِّ سَامِعٍ قِصَّةَ عِيسَى، وَالْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أُمَّةُ مَنْ ظَاهِرُ الْخِطَابِ لَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَهْيُهُ عَنِ الِامْتِرَاءِ وَجَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَرِيًا، مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ لِزِيَادَةِ الثَّبَاتِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لُطْفًا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِامْتِرَاءُ اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ لِلشَّكِّ الْعَارِضِ، وَيُجْعَلُ عِبَارَةً عَنِ الشَّكِّ، وَقَالَ: فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلَمْ يَكُنْ مُمْتَرِيًا لِيَكُونَ فِيهِ ذَمٌّ مِنْ شَكٍّ فِي عِيسَى. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ: مَنْ نَازَعَكَ وَجَادَلَكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَيْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ وَفْدِ نَجْرَانَ. وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى عِيسَى، لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ كَانَتْ فِيهِ، وَلِأَنَّ تَصْدِيرَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى وَمَا بَعْدَهُ جَاءَ مِنْ تَمَامِ أَمْرِهِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ، وَظَاهِرٌ مِنَ الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَنْ يُحَاجُّ فِي أَمْرِ عِيسَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَفْدُ نَجْرَانَ. وَ: مَنْ، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَيَصِحُّ أن تكون شرطية، و: العلم، هُنَا: الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي أَمْرِ عِيسَى، الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ. وَ: مَا، فِي: مَا جَاءَكَ، مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى: الَّذِي، وَفِي: جَاءَكَ، ضَمِيرُ الْفَاعِلِ يَعُودُ عَلَيْهَا. و: من الْعِلْمِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْعِلْمِ. وَتَكُونُ: مِنْ، تَبْعِيضِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ، وَيَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ

الْأَخْفَشِ: أَنْ تَكُونَ: مَا، مَصْدَرِيَّةً، و: من، زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ بَعْدِ مَجِيءِ الْعِلْمِ إِيَّاكَ. فَقُلْ تَعالَوْا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْقِيَاسُ، إذا التَّقْدِيرُ تَفَاعَلَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ وَأَصْلُهَا وَاوٌ، فَإِذَا أَمَرْتَ الْوَاحِدَ قُلْتَ: تَعَالَ، كَمَا تَقُولُ: اخْشَ وَاسْعَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو وَاقِدٍ، وَأَبُو السَّمَّالِ: بِضَمِّ اللَّامِ، وَوَجْهُهُمْ أَنَّ أَصْلَهُ: تَعَالَيُوا، كَمَا تَقُولُ: تَجَادَلُوا، نَقَلَ الضَّمَّةَ مِنَ الْيَاءِ إِلَى اللَّامِ بَعْدَ حَذْفِ فَتْحَتِهَا، فَبَقِيَتِ الْيَاءُ سَاكِنَةً وواو الضمير ساكنة فخذفت الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهَذَا تَعْلِيلُ شُذُوذٍ. نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أَيْ: يَدْعُ كُلٌّ منا وَمِنْكُمْ أَبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ وَنَفْسَهُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الدُّعَاءَ وَالْمُبَاهَلَةَ بَيْنَ المخاطب: بقل: وَبَيْنَ مَنْ حَاجَّهُ، وَفُسِّرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْأَبْنَاءُ بالحسن والحسين، و: بنسائه: فاطمة، و: الأنفس بِعَلِيٍّ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ حَاجَّهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاطِمَةَ وحسنا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي» . وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُبَاهَلَةُ كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، بِدَلِيلِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ عَلَى الْجَمْعِ، ولما دعاهم دعا بأهل الَّذِينَ فِي حَوْزَتِهِ، وَلَوْ عَزَمَ نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى المباهلة وجاؤا لَهَا، لَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا بِأَهَالِيهِمْ لِمُبَاهَلَتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بِأَنْفُسِنَا، الْإِخْوَانُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ «1» أَيْ: إِخْوَانَكُمْ. وَقِيلَ: أَهْلَ دِينِهِ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَقِيلَ: الْأَزْوَاجَ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ، ذَكَرَهُمَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ. ثُمَّ نَبْتَهِلْ أَيْ: نَدْعُ بِالِالْتِعَانِ. وَقِيلَ: نَتَضَرَّعْ إِلَى اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نُخْلِصُ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نُجْهِدُ فِي الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: نَتَدَاعَى بالهلاك. فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أَيْ: يَقُولُ كُلٌّ مِنَّا: لَعَنَ اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا فِي أَمْرِ عِيسَى، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اللَّعْنِ لِمَنْ أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ، وَقَدْ لَعَنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ. قَالَ أبو

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 11.

بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ علان: كَانَا إِذْ ذَاكَ مُكَلَّفَيْنِ، لِأَنَّ الْمُبَاهَلَةَ عِنْدَهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُكَلَّفٍ. وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ بِمَا رَوَوْا فِي قِصَّةِ الْمُبَاهَلَةِ، ومضمونها أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إِلَى الْمِيعَادِ، وَأَنَّهُمْ كَفُّوا عَنْ ذَلِكَ، وَرَضُوا بِالْإِقَامَةِ عَلَى دِينِهِمْ وَأَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَحْبَارُهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ بَاهَلُوا عُذِّبُوا، وَأَخْبَرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ إِنْ بَاهَلُوا عُذِّبُوا، وَفِي تَرْكِ النَّصَارَى الْمُلَاعَنَةَ لِعِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ شَاهِدٌ عَظِيمٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا كَانَ دُعَاؤُهُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ إِلَّا لِتَبْيِينِ الْكَاذِبِ مِنْهُ وَمِنْ خَصْمِهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَبِمَنْ يُكَاذِبُهُ، فَمَا مَعْنَى ضَمِّ الْأَبْنَاءِ وَالنِّسَاءِ؟. قُلْتُ: ذَلِكَ آكَدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ثِقَتِهِ بِحَالِهِ، وَاسْتِيقَانِهِ بِصِدْقِهِ، حَيْثُ اسْتَجْرَأَ عَلَى تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لَهُ، وَعَلَى ثِقَتِهِ بِكَذِبِ خَصْمِهِ حَتَّى يُهْلِكَ خَصْمَهُ مَعَ أَحِبَّتِهِ وَأَعِزَّتِهِ هَلَاكَ الِاسْتِئْصَالِ إِنْ تَمَّتِ الْمُبَاهَلَةُ. وَخَصَّ الْأَبْنَاءَ وَالنِّسَاءَ لِأَنَّهُمْ أَعَزُّ الْأَهْلِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِالْقُلُوبِ. وَرُبَّمَا فَدَاهُمُ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ وَحَارَبَ دُونَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَسُوقُونَ مَعَ أَنْفُسِهِمُ الظَّعَائِنَ فِي الْحُرُوبِ لِتَمْنَعَهُمْ مِنَ الْهَرَبِ، وَيُسَمُّونَ الذَّادَةَ عَنْهَا بِأَرْوَاحِهِمْ حُمَاةَ الْحَقَائِقِ، وَقَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْأَنْفُسِ لِيُنَبِّهَ عَلَى لُطْفِ مَكَانِهِمْ، وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَلِيُؤْذِنَ بِأَنَّهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْأَنْفُسِ يُفْدَوْنَ بِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لَا شَيْءَ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى فَضْلِ أَصْحَابِ الْكِسَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِيهِ بُرْهَانٌ وَاضِحٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ وَاحِدٌ مِنْ مُوَافِقٍ وَلَا مُخَالِفٍ أَنَّهُمْ أَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ مِنْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمُلَاعَنَةَ لِعِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ أَحَجُّ لَنَا عَلَى سَائِرِ الْكَفَرَةِ، وَأَلْيَقُ بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُعَاءُ النِّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لِلْمُلَاعَنَةِ أَهَزُّ لِلنُّفُوسِ وَأَدْعَى لِرَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ لِغَضَبِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ بِمَا يَخُصُّهُ، وَلَوْ عَزَمُوا اسْتَدْعَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَكْتَفِي بِنَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ فَقَطِ. انْتَهَى. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُظَاهَرَةِ بِطَرِيقِ الْإِعْجَازِ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْبَاطِلَ بَعْدَ وُضُوحِ الْبُرْهَانِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَمِنْ أَغْرَبِ الِاسْتِدْلَالِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنَ الْآيَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِمْصِيُّ. وَكَانَ مُتَكَلِّمًا عَلَى طَرِيقِ الْإِثْنَى عَشْرِيَّةَ، عَلَى: أَنَّ عَلِيًّا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ

محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْعُو نَفْسَهُ، بَلِ الْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ: عَلِيٌّ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ نَفْسَهُ نَفْسُ الرَّسُولِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَهَا، فَالْمُرَادُ مِثْلُهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ الْفَضْلَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَدَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ كَذَلِكَ. قَالَ: وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ مِنَ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ، ونوحا في طاعته، وإبراهيم في حلمه، وموسى في قومه، وعيسى فِي صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب» . فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ. قَالَ: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ. وَأَجَابَ الرَّازِيُّ: بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَعَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: اسْتِدْلَالُ الْحِمْصِيِّ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْعُو نَفْسَهُ بَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ نَفْسَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: دَعَوْتُ نَفْسِي إِلَى كَذَا فَلَمْ تُجِبْنِي، وَهَذَا يُسَمِّيهِ أَبُو عَلِيٍّ بِالتَّجْرِيدِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ هُوَ عَلِيٌّ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بِدَلِيلِ الْأَقْوَالِ الَّتِي سِيقَتْ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَأَنْفُسَنَا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَيَكُونُ نَفْسُهُ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ أَنْ تَكُونَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ تَكْفِي الْمُمَاثَلَةُ فِي شَيْءٍ مَا، هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، لَا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ: مِنْ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَكُونُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ النَّفْسِ، هَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ لَا لُغَةٌ. فَعَلَى هَذَا تَكْفِي الْمُمَاثَلَةُ فِي صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَذَا مِنْ أَنْفُسِنَا، أَيْ: مِنْ قَبِيلَتِنَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ فَمَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَهَذِهِ النَّزْغَةُ الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا هَذَا الْحِمْصِيُّ مِنْ كَوْنِ عَلِيٍّ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ سِوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَلَقَّفَهَا بَعْضُ مَنْ يَنْتَحِلُ كَلَامَ الصُّوفِيَّةِ، وَوَسَّعَ الْمَجَالَ فِيهَا، فَزَعَمَ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَقْصُرْ ذَلِكَ عَلَى وَلِيٍّ وَاحِدٍ، كَمَا قَصَرَ ذَلِكَ الْحِمْصِيُّ، بَلْ زَعَمَ: أَنَّ رُتْبَةَ الْوِلَايَةِ الَّتِي لَا نُبُوَّةَ مَعَهَا أَفْضَلُ مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ. قَالَ: لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 إلى 68]

وَاسِطَةٍ، وَالنَّبِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِوَاسِطَةٍ وَمَنْ أَخَذَ بِلَا وَاسِطَةٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَخَذَ بِوَاسِطَةٍ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَقَالَاتِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَحَدَ أَكْذَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، لَقَدْ يَقْشَعِرُّ الْمُؤْمِنُ مِنْ سَمَاعِ هَذَا الِافْتِرَاءِ. وَحَكَى لِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ عَنْ بَعْضِ الْمُنْتَمِينَ، إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، أَنَّهُ رُؤِيَ فِي يَدِهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ، فَسُئِلَ عَنْهُ. فَقَالَ: فِيهِ مَا أَخَذْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِيهِ مَا أَخَذْتُهُ عَنِ اللَّهِ شَفَاهًا، أَوْ شَافَهَنِي بِهِ، الشَّكُّ مِنَ السَّامِعِ. فَانْظُرْ إِلَى جَرَاءَةِ هَذَا الْكَاذِبِ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ ادَّعَى مَقَامَ مَنْ كَلَّمَهُ الله: كموسى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ؟ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ: مِنْهَا إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ، وَهُوَ: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى وَاللَّهُ لَمْ يُشَافِهْهُ بِذَلِكَ، بَلْ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: مُتَوَفِّيكَ وَفِي: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالتَّفْصِيلُ لِمَا أُجْمِلَ فِي: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا، وَأَمَّا، وَالزِّيَادَةُ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى فِي مِنْ ناصِرِينَ أَوِ: الْمَثَلُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى. وَالتَّجَوُّزُ بِوَضْعِ الْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ نَتْلُوهُ وَفِي فَيَكُونُ وَبِالْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاتَيْ تَشْبِيهٍ عَلَى قَوْلٍ فِي كَمَثَلِ آدَمَ وَبِالتَّجَوُّزِ بِتَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ أَصْلِهِ فِي خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ. وَخِطَابُ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، فِي فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَالْعَامُّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فِي نَدْعُ أَبْناءَنا الْآيَةَ وَالتَّجَوُّزُ بِإِقَامَةِ ابْنِ الْعَمِّ مَقَامَ النَّفْسِ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 68] إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَزْمٌ مُؤَكَّدٌ فُصِلَ بِهِ بَيْنَ الْمُخْتَصِمِينَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ من أَخْبَارِ عِيسَى، وَكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ. أَيْ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ لَا مَا يَدَّعِيهِ النَّصَارَى فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ إِلَهًا أَوِ ابْنَ اللَّهِ، وَلَا مَا تَدَّعِيهِ الْيَهُودُ فِيهِ، وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَيَضْعُفُ بِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ بِقَصَصٍ وَبِوُجُودِ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِلَّا إِنْ أَرَادَ بِالْقَصَصِ الْخَبَرَ، فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنَّ الْخَبَرَ الْحَقَّ أَنَّهُ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ. انْتَهَى. لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ وُجُودُ وَاوِ الْعَطْفِ وَاللَّامِ فِي: لَهُوَ، دَخَلَتْ عَلَى الْفَصْلِ. والقصص خبر إن، والحق صِفَةٌ لَهُ، وَالْقَصَصُ مَصْدَرٌ، أَوْ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ: الْمَقْصُوصِ، كَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: هُوَ، مُبْتَدَأً و: القصص، خبره، وَالْجُمْلَةُ، فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَوَصْفُ الْقَصَصِ بِالْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَصَصِ الْمَكْذُوبِ الَّذِي أَتَى بِهِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَغَيْرُهُمْ، فِي أَمْرِ عِيسَى وَإِلَاهِيَّتِهِ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ أَيِ: الْمُخْتَصُّ بِالْإِلَهِيَّةِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الثَّنَوِيَّةِ وَالنَّصَارَى، وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي غَيْرَ اللَّهِ إِلَهًا. وَ: مِنْ، زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَ: إِلَهٍ، مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، وَ: اللَّهُ، بَدَلٌ مِنْهُ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ زِيَادَةُ: مِنْ، فِي الْوَاجِبِ، وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَصْبُ مَا بَعْدَ: إِلَّا، نَحْوَ مَا مِنْ شُجَاعٍ إِلَّا زَيْدًا، وَلَمْ يُقْرَأْ بِالنَّصْبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى وَصْفَيِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُمَا: الْقُدْرَةُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْغَلَبَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَالْعِلْمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحِكْمَةِ فِيمَا صَنَعَ وَالْإِتْقَانُ لِمَا اخْتَرَعَ، فَلَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ عَنْ عِيسَى. وَيَجُوزُ فِي: لَهُوَ، مِنَ الْإِعْرَابِ مَا جَازَ فِي: لهو القصص، وتقديم ذِكْرُ فَائِدَةِ الْفَصْلِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْمُلَاعَنَةِ. وَقَالَ

الزَّجَّاجُ: عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي أَبَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ الْمُرْسِيُّ: عَنْ هَذَا الذِّكْرِ. وَقِيلَ: عَنِ الْإِيمَانِ. وَ: تَوَلَّوْا، مَاضٍ أَوْ مُضَارِعٌ حُذِفَتْ تَاؤُهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي الظَّاهِرِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ، وَالْمَعْنَى: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ بِالْمُفْسِدِينَ مِنْ مُعَاقَبَتِهِ لَهُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْعِقَابِ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ عِقَابُهُمْ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِقَابَ، وَهِيَ الْإِفْسَادُ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ، وَأَتَى بِهِ جَمْعًا لِيَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَلِغَيْرِهِمْ، وَلِكَوْنِهِ رَأْسَ آيَةٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ إِفْسَادٌ أَيُّ إِفْسَادٍ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا أَبَى أَهْلُ نَجْرَانَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْمُلَاعَنَةِ، دُعُوا إِلَى أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ بِالْحَبَشَةِ، فَقَرَأَهَا جَعْفَرٌ، وَالنَّجَاشِيُّ جَالِسٌ وَأَشْرَافُ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَاجُّوا فِي إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَقُولَ فِيكَ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ فِي عُزَيْرٍ؟ وَلَفْظُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، يَعُمُّ كُلَّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابًا، وَلِذَلِكَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ بِالْآيَةِ، وَالْأَقْرَبُ حَمْلُهُ عَلَى النَّصَارَى لِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَرَدَتْ عَلَيْهِمْ، وَالْمُبَاهَلَةَ مَعَهُمْ، وَخَاطَبَهُمْ: بيا أَهْلَ الْكِتَابِ، هَزًّا لَهُمْ فِي اسْتِمَاعِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلَ كِتَابٍ مِنَ اللَّهِ يَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَمَّا قَطَعَهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ فَلَمْ يُذْعِنُوا، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ فَامْتَنَعُوا، عَدَلَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّلَطُّفِ، وَهُوَ: دُعَاؤُهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ فِيهَا إِنْصَافٌ بَيْنَهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: كلمة، كضربة، و: كلمة، كَسِدْرَةٍ، وَتَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ «1» وَالْكَلِمَةُ هِيَ مَا فُسِّرَتْ بِهِ بَعْدُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وهذا تفسير المعنى.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 39.

وَعَبَّرَ بِالْكَلِمَةِ عَنِ الْكَلِمَاتِ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تُطْلِقُهَا الْعَرَبُ عَلَى الْكَلَامِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ، إِمَّا لِوَضْعِ الْمُفْرَدِ مَوْضِعَ الْجَمْعِ، كَمَا قَالَ: بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى، فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْكَلِمَاتِ مُرْتَبِطَةً بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَصَارَتْ فِي قُوَّةِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا اخْتَلَّ جُزْءٌ مِنْهَا اخْتَلَّتِ الْكَلِمَةُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، هِيَ كَلِمَاتٌ لَا تَتِمُّ النِّسْبَةُ الْمَقْصُودَةُ فِيهَا مِنْ حَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ فِي اللَّهِ إِلَّا بِمَجْمُوعِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَوَاءٍ، بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: سَوَاءً، بِالنَّصْبِ، وَخَرَّجَهُ الْحُوفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى اسْتَوَتِ اسْتِوَاءً، فَيَكُونُ: سَوَاءٍ، بِمَعْنَى اسْتِوَاءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الحال من: كَلِمَةٍ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً ذو الْحَالِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ وَقَاسَهُ، وَالْحَالُ وَالصِّفَةُ مُتَلَاقِيَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْمَصْدَرُ يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ عَامِلٍ، وَإِلَى تَأْوِيلِ: سَوَاءٍ، بِمَعْنَى: اسْتِوَاءٍ، وَالْأَشْهَرُ اسْتِعْمَالُ: سَوَاءٍ، بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: مُسْتَوٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَوَاءٍ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالزَّجَّاجُ: هُنَا يَعْنِي بِالسَّوَاءِ الْعَدْلَ، وَهُوَ مِنِ: اسْتَوَى الشَّيْءُ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَرُونِي خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ وَالْمَعْنَى: إِلَى كَلِمَةٍ عَادِلَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ دَعَاكَ فُلَانٌ إِلَى سَوَاءٍ فَاقْبَلْ مِنْهُ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: إِلَى كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ، أَيْ مُسْتَقِيمَةٍ. وَقِيلَ: إِلَى كَلِمَةِ قَصْدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُهُ فِي لَفْظَةِ: سَوَاءٍ، أَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ بِتَفْسِيرٍ خَاصٍّ بِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى مَعَانٍ جَمِيعُ النَّاسِ فِيهَا مُسْتَوُونَ، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ سِيرَةُ الْمَدْعُوِّينَ أَنْ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا، فَلَمْ يَكُونُوا عَلَى اسْتِوَاءِ حَالٍ، فَدَعَاهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا يَأْلَفُ النُّفُوسُ مِنْ حَقٍّ لَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهِ، فَسَوَاءٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ لِآخَرَ: هَذَا شَرِيكِي فِي مَالٍ سَوَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّفْسِيرِ وَبَيْنَ تَفْسِيرِ لَفْظَةِ: الْعَدْلِ، أَنَّكَ لَوْ دَعَوْتَ أَسِيرًا عِنْدَكَ إِلَى أَنْ يُسْلِمَ أَوْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ، لَكُنْتَ قَدْ دَعَوْتَهُ إِلَى السَّوَاءِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ، عَلَى هَذَا الْحَدِّ جَاءَتْ لَفْظَةُ: سَوَاءٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «1» عَلَى بعض

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 58.

التَّأْوِيلَاتِ، وَإِنْ دَعَوْتَ أَسِيرَكَ إِلَى أَنْ يُؤْمِنَ فَيَكُونَ حُرًّا مُقَاسِمًا لَكَ. فِي عَيْشِكِ لَكُنْتَ قَدْ دَعَوْتَهُ إِلَى السَّوَاءِ الَّذِي هُوَ اسْتِوَاءُ الْحَالِ عَلَى مَا فَسَّرْتُهُ. وَاللَّفْظَةُ عَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ فِيهَا مَعْنَى الْعَدْلِ، وَلَكِنِّي لَمْ أَرَ لِمُتَقَدِّمٍ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظَةِ مَعْنَى قَصْدِ اسْتِوَاءِ الْحَالِ، وَهُوَ عِنْدِي حَسَنٌ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَأْلَفُهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ تَكْثِيرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ الظَّرْفِ بِسَوَاءٍ. أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ مَوْضِعُ: أَنْ، جَرٌّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ: كَلِمَةٍ، بَدَلَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: سَوَاءٍ، وَارْتِفَاعُ: أَنْ لَا نَعْبُدَ، عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالُوا: وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ، وَهَذَا وَهْمٌ لِعُرُوِّ الْجُمْلَةِ مِنْ رَابِطٍ يَرْبُطُهَا بِالْمَوْصُوفِ، وَجَوَّزُوا أَيْضًا ارْتِفَاعَ: أَنْ لَا نَعْبُدَ، بِالظَّرْفِ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ حَيْثُ أَجَازُوا إِعْمَالَ الظَّرْفِ مِنْ غَيْرِ اعتماد، والبصريون يَمْنَعُونَ ذَلِكَ، وَجَوَّزَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِلَى كَلِمَةٍ مُسْتَوٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِيهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: أَنْ لَا نَعْبُدَ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِ بِسَوَاءٍ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِضْمَارَ الرَّابِطِ، وَهُوَ: فِيهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْمَعْنَى: أَنْ نُفْرِدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، أَيْ: لَا نَجْعَلَ لَهُ شَرِيكًا. وشيئا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَالْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَعُمُّ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنْ مَفْعُولٍ بِهِ وَمَصْدَرٍ وَزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهَيْئَةٍ. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ لَا نَتَّخِذَهُمْ أَرْبَابًا فَنَعْتَقِدَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ وَنَعْبُدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ: كعزير وعيسى، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَالزَّجَّاجُ، وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ سُجُودُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أَوْ لَا نُطِيعُ الْأَسَاقِفَةَ وَالرُّؤَسَاءَ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَنَجْعَلُ طَاعَتَهُمْ شَرْعًا. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ «1» وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمْ وَيُحَرِّمُونَ فَتَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِمْ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «هو ذاك» .

_ (1) سورة التوبة: 9/ 31.

وَفِي قَوْلِهِ: بَعْضُنَا بَعْضًا، إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ إِذْ هِيَ تُمَاثِلُ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِثْلَكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَإِذَا كَانُوا قَدِ اسْتَبْعَدُوا اتِّبَاعَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ لِلِاخْتِصَاصِ بِالنُّبُوَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «1» إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «2» أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا «3» فَادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا فِيهِ أَشَدَّ اسْتِبْعَادًا: وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا أَدَاةُ النَّفْيِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، يُؤَكِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، إِذِ اخْتِصَاصُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الِاشْتِرَاكِ وَنَفْيَ اتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ تَأْكِيدٍ وَإِسْهَابٍ وَنَشْرِ كَلَامٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُبَالِغِينَ فِي التَّمَسُّكِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّوْكِيدَ فِي انْتِفَاءِ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى جَمَعُوا بَيْنَ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ: عَبَدُوا عِيسَى، وَأَشْرَكُوا بِقَوْلِهِمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا فِي الطَّاعَةِ لَهُمْ فِي تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَفِي السُّجُودِ لَهُمْ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ: أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ رَبِّهِمْ فِي قَبُولِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُحِلُّهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كَتَقْدِيرَاتٍ دُونَ مُسْتَنَدٍ، وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِ الْإِمَامِ دُونَ إِبَانَةِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّوَافِضُ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيْ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْكَلِمَةِ السَّوَاءِ فَأَشْهِدُوهُمْ أَنَّكُمْ مُنْقَادُونَ إِلَيْهَا، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْمُبَايَنَةِ لَهُمْ، أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ مُتَوَلِّينَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّا قَابِلُونَ لَهَا وَمُطِيعُونَ. وَعَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، إِذْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ حَيِّزِ الْمَعْقُولِ إِلَى حَيِّزِ الْمَشْهُودِ، وَهُوَ الْمُحْضَرُ فِي الْحِسِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا أَمْرٌ بِإِعْلَامٍ بِمُخَالَفَتِهِمْ وَمُوَاجَهَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ، أَيْ سَتَرَوْنَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُتَوَلُّونَ عَاقِبَةَ تَوَلِّيكُمْ كَيْفَ يَكُونُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ، فَوَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْتَرِفُوا وَتُسَلِّمُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دُونَكُمْ، كَمَا يَقُولُ الْغَالِبُ لِلْمَغْلُوبِ فِي جِدَالٍ أَوْ صِرَاعٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا: اعْتَرِفْ بِأَنِّي أَنَا الْغَالِبُ، وَسَلِّمْ لِي الْغَلَبَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ، وَمَعْنَاهُ: اشْهَدُوا وَاعْتَرِفُوا بِأَنَّكُمْ كَافِرُونَ حَيْثُ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ. انتهى.

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 10. (2) سورة إبراهيم: 14/ 11. (3) سورة المؤمنون: 23/ 47.

وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي وَجَّهَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ. يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا، وَأَنَّ النَّصَارَى قَالُوا: كَانَ نَصْرَانِيًّا. فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1» فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ حَتَّى ادَّعَتْهُ كُلُّ فِرْقَةٍ. وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: لِمَ، اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَتْ أَلِفُهَا مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ، وَلِذَلِكَ عِلَّةٌ ذُكِرَتْ فِي النحو، وتتعلق: اللام بتحاجون، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارُ، وَمَعْنَى: فِي إِبْرَاهِيمَ، فِي شَرْعِهِ وَدِينِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى: الْمُحَاجَّةِ، ادِّعَاءُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهُ مِنْهَا وَجِدَالُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِمَا، وَمُحَالٌ أَنْ يُنْسَبَ الْمُتَقَدِّمُ إِلَى الْمُتَأَخِّرِ، وَلِظُهُورِ فَسَادِ هَذِهِ الدَّعْوَى قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْقِلُ، إِذِ الْعَقْلُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَهُمْ، لَا فِي الْعَقَائِدِ وَلَا فِي الْأَحْكَامِ. أَمَّا فِي الْعَقَائِدِ فَعِبَادَتُهُمْ عِيسَى وَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ اللَّهُ، أَوِ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. وَادِّعَاءُ اليهود أن عزير ابْنُ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فِيهِمَا أَحْكَامٌ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «2» وَقَوْلُهُ: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ «3» وَغَيْرُ ذَلِكَ فلا يمكن إِبْرَاهِيمُ عَلَى دِينٍ حَدَثَ بَعْدَهُ بِأَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ. ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وموسى أَلْفَ سَنَةٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى أَلْفَانِ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وموسى خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَسَبْعُونَ سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنتان وثلاثون سنة.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 84. (2) سورة النساء: 4/ 60. (3) سورة النحل: 16/ 124.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ بين إبراهيم وموسى خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَسِتُّونَ سنة، وبين موسى وعيسى أَلْفٌ وَتِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ. وَالْوَاوُ فِي: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، هَكَذَا ذَكَرُوا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْحَالِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ «1» وَقَوْلِهِ لِمَ تَلْبِسُونَ «2» ثُمَّ قَالَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «3» وَقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «4» أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ ادِّعَاءَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، وَالْحَالُ أَنَّ شَرِيعَتَيْهِمَا مُتَأَخِّرَتَانِ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهَا مَعَ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا؟ وَأَمَّا الْحَنِيفِيَّةُ وَالْإِسْلَامُ فَمِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا كُلُّ ذِي دِينٍ حَقٍّ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «5» إِذِ الْحَنِيفُ هُوَ الْمَائِلُ لِلْحَقِّ، وَالْمُسْلِمُ هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ لِلْحَقِّ، وَقَدْ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً «6» . وَفِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ تَوْبِيخٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَقَالَتِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ بِهِ غَلَطُهُمْ وَمُكَابَرَتُهُمْ. هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ الَّذِي لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ هُوَ دِينُهُمُ الَّذِي وَجَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ هُوَ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ وَدِينُهُ، لَيْسَ مَوْجُودًا فِي كُتُبِهِمْ، وَلَا أَتَتْهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَلَا شَاهَدُوهُ فَيَعْلَمُوهُ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا حُفَّ بِهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَمِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْحَدِيثِ فِي إِبْرَاهِيمَ، وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الطَّبَرِيِّ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ: ذَهَبَ عَنْهُ أَنَّ مَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُمْ فِيهِ إِلَى مُحَاجَّةٍ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ هُنَالِكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقِيلَ: الَّذِي لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ هُوَ أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لأنهم وَجَدُوا نَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمْ، فَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ. وَالَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ هُوَ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: فِيمَا يُشْبِهُ دَعْوَاكُمْ، وَيَكُونُ الدَّلِيلُ العقلي يرد

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 70. (3- 2) سورة آل عمران: 3/ 71. [.....] (4) سورة البقرة: 2/ 28. (5) سورة آل عمران: 3/ 19. (6) سورة آل عمران: 3/ 67.

عَلَيْكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: حَاجَجْتُمْ فِيمَا شَهِدْتُمْ وَرَأَيْتُمْ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَمْ تُشَاهِدُوا وَلَمْ تَعْلَمُوا؟ وَقَالَ الرَّازِيُّ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ الْآيَةَ. أَيْ: زَعَمْتُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُخَالِفَةٌ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ؟ وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ مُخَالِفَةٌ لِشَرِيعَةِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أَيْ: تَدَّعُونَ عِلْمَهُ، لَا أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْعِلْمِ حَقِيقَةً، فَكَيْفَ يُحَاجُّونَ فِيمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ أَلْبَتَّةَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْبَزِّيُّ: هَا أَنْتُمْ، بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ: أَنْتُمْ، مُحَقَّقَةٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بَهَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُسَهَّلَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَأَبْدَلَ أُنَاسٌ هَذِهِ الْهَمْزَةَ أَلِفًا مَحْضَةً لِوَرْشٍ هَا، لِلتَّنْبِيهِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهَا مَعَ الْمُضْمَرَاتِ الْمَرْفُوعَةِ مَفْصُولًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَيْثُ لَا اسْتِفْهَامَ، وَأَصْلُهَا أَنْ تُبَاشِرَ اسْمَ الْإِشَارَةِ، لَكِنِ اعْتُنِيَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، فَقُدِّمَ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ الْعَرَبِ: هَا أَنَا ذَا قَائِمًا، و: ها أَنْتَ ذَا تَصْنَعُ كَذَا. و: ها هوذا قَائِمًا. وَلَمْ يُنَبِّهِ الْمُخَاطَبَ هُنَا عَلَى وُجُودِ ذَاتِهِ، بَلْ نَبَّهَ عَلَى حَالٍ غَفَلَ عَنْهَا لِشَغَفِهِ بِمَا الْتَبَسَ بِهِ، وَتِلْكَ الْحَالَةُ هِيَ أَنَّهُمْ حَاجُّوا فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَمْ تَرِدْ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَتَقُولُ لَهُمْ: هَبْ أَنَّكُمْ تَحْتَجُّونَ فِيمَا تَدَّعُونَ أَنْ قَدْ وَرَدَ بِهِ كُتُبُ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَلِمَ تَحْتَجُّونَ فِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ؟ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَتْ مِنْهُمُ الْمُحَاجَّةُ فِيمَا يَعْلَمُونَ، وَلِذَاكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْمُحَاجَّةِ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ: هَا، قَدْ أُعِيدَتْ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ تَوْكِيدًا، وَتَكُونُ فِي قِرَاءَةِ قُنْبُلٍ قَدْ حَذَفَ أَلِفَ: هَا، كَمَا حَذَفَهَا مَنْ وَقَفَ عَلَى: أَيُّهَ الثَّقَلانِ «1» يَا أَيُّهْ بِالسُّكُونِ وَلَيْسَ الْحَذْفُ فِيهَا يَقْوَى فِي الْقِيَاسِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ: الْأَصْلُ فِي: هَا أَنْتُمْ. فَأُبْدِلَ مِنَ الْهَمْزَةِ الْأُولَى الَّتِي لِلِاسْتِفْهَامِ هَاءٌ. لِأَنَّهَا أُخْتُهَا. وَاسْتَحْسَنَهُ النَّحَّاسُ. وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ هَاءً مَسْمُوعٌ فِي كَلِمَاتٍ وَلَا يَنْقَاسُ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فِي هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِهِمْ: هَتَضْرِبُ زَيْدًا، بِمَعْنَى: أتضرب زَيْدًا إِلَّا فِي بَيْتٍ نَادِرٍ جَاءَتْ فِيهِ: هَا، بَدَلَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ: وَأَتَتْ صَوَاحِبُهَا وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي ... مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وجفانا ثم فصل بَيْنَ الْهَاءِ الْمُبْدَلَةِ مِنْ همزة الاستفهام، وهمزة: أتت، لَا يُنَاسِبُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يفصل

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 31.

لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَهُنَا قَدْ زَالَ الِاسْتِثْقَالُ بِإِبْدَالِ الْأُولَى: هَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ حَذَفُوا الْهَمْزَةَ فِي نَحْوِ: أُرِيقُهُ، إِذْ أَصْلُهُ: أَأُرِيقُهُ؟ فَلَمَّا أَبْدَلُوهَا هَاءً لَمْ يَحْذِفُوا، بَلْ قَالُوا: أَهْرِيقُهُ. وَقَدْ وَجَّهُوا قِرَاءَةَ قُنْبُلٍ عَلَى أَنَّ: الْهَاءَ، بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِكَوْنِهَا هَاءً لَا أَلِفَ بَعْدَهَا، وَعَلَى هَذَا مَنْ أَثْبَتَ الْأَلِفَ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ فَاصِلَةً بَيْنَ الْهَاءِ الْمُبْدَلَةِ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبَيْنَ هَمْزَةِ: أَنْتُمْ، أَجْرَى الْبَدَلَ فِي الْفَصْلِ مَجْرَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى هَذَا مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَمَاقَتِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ سَهَّلَ فَلِأَنَّهَا هَمْزَةٌ بَعْدَ أَلِفٍ عَلَى حَدِّ تَسْهِيلِهِمْ إِيَّاهَا فِي: هَيَّأَهُ. وَأَمَّا تَحْقِيقُهَا فَهُوَ الْأَصْلُ، وَأَمَّا إِبْدَالُهَا أَلِفًا فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «1» . وَ: أنتم، مبتدأ، و: هؤلاء. الخبر. و: حاججتم، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. كَقَوْلِ: هَا أَنْتَ ذَا قَائِمًا. وَهِيَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ «2» عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فِي إِعْرَابِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْتُمْ، مُبْتَدَأٌ، و: هؤلاء، خبره، و: حاججتم، جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، يَعْنِي: أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ الْحَمْقَى، وَبَيَانُ حَمَاقَتِكُمْ، وَقِلَّةِ عُقُولِكُمْ، أَنَّكُمْ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مِمَّا نَطَقَ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَلَا ذِكْرٌ لَهُ فِي كِتَابَيْكُمْ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ؟ انْتَهَى. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ: هَؤُلَاءِ، بَدَلًا، وَعَطْفَ بَيَانٍ، وَالْخَبَرُ: حَاجَجْتُمْ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ، هَؤُلَاءِ، مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَوْ: حَاجَجْتُمْ، صِلَتَهُ. وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُنَادَى أَيْ: يَا هَؤُلَاءِ، وَحُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مِنَ الْمُشَارِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ حَذْفُهُ، وَهُوَ قَلِيلٌ، نَحْوُ قَوْلِ رَجُلٍ مِنْ طيء: إِنَّ الْأُلَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَهُمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولَا وَقَالَ: لَا يَغُرُّنَّكُمْ أُولَاءِ من القنو ... مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهُوَ خداع

_ (1) سورة البقرة: 2/ 6. (2) سورة البقرة: 2/ 85.

يُرِيدُ: يَا هَذَا اعْتَصِمْ، و: يا أُولَاءِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ: يَعْلَمُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي حَاجَجْتُمْ فِيهِ، وَكَيْفَ حَالُ الشَّرَائِعِ فِي الْمُوَافَقَةِ. وَالْمُخَالَفَةِ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ فِي شَأْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ، اسْتِدْعَاءٌ لَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُخْبِرُهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ: اسْمَعْ فَإِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُ. مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَعْلَمَ تَعَالَى بَرَاءَةَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْيَانِ، وَبَدَأَ بِانْتِفَاءِ الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ أَقْدَمُ مِنْ شَرِيعَةِ النَّصَارَى، وَكَرَّرَ، لَا، لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَوَقَعَتْ لَكِنْ هُنَا أَحْسَنَ مَوْقِعِهَا، إِذْ هِيَ وَاقِعَةٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَعَ اليهود والنصارى، كان الاستدارك بَعْدَ ذِكْرِ الِانْتِفَاءِ عَنْ شَرِيعَتِهِمَا، ثُمَّ نَفَى عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ لِلتَّبَرِّي مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ كَوْنَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ: عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، كَالْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وكالمجوس عبدة النار، وكالصابئة عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى تَفْصِيلِهِمْ، لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَجْمَعُهُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِإِشْرَاكِهِمْ بِهِ عزيرا والمسيح، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَجَاءَ: مِنَ المشركين، ولم يجىء: وَمَا كَانَ مُشْرِكًا، فَيُنَاسِبَ النَّفْيَ قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا رَأْسُ آيَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَفَى عَنْهُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ وَالْإِشْرَاكَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْإِشْرَاكُ الَّذِي تَتَضَمَّنُهُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ. وَجَاءَ تَرْتِيبُ النَّفْيِ عَلَى غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، نَفَى نَفْسَ الْمِلَلِ، وَقَرَّرَ الْحَالَ الْحَسَنَةَ، ثُمَّ نَفَى نَفْيًا بَيَّنَ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْمِلَلَ فِيهَا هَذَا الْفَسَادُ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: مَا أَخَذْتُ لَكَ مَالًا، بَلْ حَفِظْتُهُ. وَمَا كُنْتُ سَارِقًا، فَنَفَيْتَ أَقْبَحَ مَا يَكُونُ فِي الْأَخْذِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَلَخَّصَ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ وَالنَّارِ وَالْكَوَاكِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالثَّالِثُ: عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: مَعْنَى مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا لَمْ يَكُنْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُحَاجُّونَ، وَلَكِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ شَرِيعَةَ موسى وعيسى لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: لَا يُوصَفُ إِبْرَاهِيمُ بِأَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا لِأَنَّهُمَا صِفَتَا ذَمٍّ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِفِرْقَتَيْنِ ضَالَّتَيْنِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ مُحَرَّفَانِ عن دين موسى وعيسى، وَكَوْنُهُ مُسْلِمًا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، بَلْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْإِسْلَامِ. وَالْحَنِيفُ: اسْمٌ لِمَنْ يَسْتَقْبِلُ فِي صَلَاتِهِ الْكَعْبَةَ، وَيَحُجُّ إِلَيْهَا، وَيُضَحِّي، وَيَخْتَتِنُ. ثُمَّ سُمِّيَ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا. انْتَهَى. وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. وَقَالَ لَهُ النَّصْرَانِيُّ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَمِنْ لَعْنَتِهِ. فَهَلْ تَدُلَّانِي عَلَى دِينٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا؟ قَالَا: مَا نَعْلَمَهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ النَّفْيَ إِنْ كَانَ فِي الْأُصُولِ، فَتَكُونُ فِي الْمُوَافَقَةِ لِيَهُودِ زمان رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَصَارَاهُ. لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. لَا فِي الْأُصُولِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وعيسى، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مُتَوَافِقُونَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفُرُوعِ فَلِأَنَّ اللَّهَ نَسَخَ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى وعيسى، وَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَانَ فِي الْأُصُولِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفُرُوعِ فَتَكُونُ الْمُوَافَقَةُ فِي الْأَكْثَرِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الْأَقَلِّ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي الْمُوَافَقَةِ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا أَوْلَى النَّاسِ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ مِنْكَ وَمِنْ غَيْرِكَ، وَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَمَا بِكَ إِلَّا الْحَسَدُ. فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فِي اجْتِمَاعِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَصْحَابِهِ.

بِالنَّجَاشِيِّ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَالَ: لَا دَهْوَرَةَ الْيَوْمَ عَلَى حِزْبِ إِبْرَاهِيمَ. أَيْ: لَا خَوْفَ وَلَا تَبِعَةَ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَنْ حِزْبُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ وَصَاحِبُهُمْ، يَعْنِي: جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ. وَرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي، وَخَلِيلُ رَبِّي إِبْرَاهِيمُ» . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَمَعْنَى: أَوْلَى النَّاسِ: أَخَصُّهُمْ بِهِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَهُ فِي زَمَانِهِ وَغَيْرِ زَمَانِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مُتَّبِعُوهُ فِي زَمَانِ الْفَتَرَاتِ. وَعُنِيَ بِالْأَتْبَاعِ أَتْبَاعُهُ فِي شَرِيعَتِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: أَحَقُّهُمْ بِنُصْرَتِهِ أَيْ: بِالْمَعُونَةِ وَبِالْحُجَّةِ، فَمَنْ تَبِعَهُ فِي زَمَانِهِ نَصَرَهُ بِمَعُونَتِهِ على مخالفته. ومحمد وَالْمُؤْمِنُونَ نَصَرُوهُ بِالْحُجَّةِ لَهُ أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا سَالِمًا مِنَ الْمَطَاعِنِ، وَهَذَا النَّبِيُّ: يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ سَائِرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لِتَخْصِيصِهِ بِالشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ، كَقَوْلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» . وَالَّذِينَ آمَنُوا قِيلَ: آمَنُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَخُصُّوا أَيْضًا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، إِذْ هُمْ أَفْضَلُ الْأَتْبَاعِ لِلرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ رَسُولَهُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَعُطِفَ وَهذَا النَّبِيُّ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَمَنْ أَعْرَبَ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ: هُمُ الْمُتَّبِعُونَ لَهُ، فَقَدْ تَكَلَّفَ إِضْمَارًا لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ. وقرىء: وَهَذَا النَّبِيَّ، بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى: الْهَاءِ، فِي اتَّبَعُوهُ، فَيَكُونُ مُتَّبَعًا لَا مَتَّبِعًا: أَيْ: أَحَقُّ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ من اتبعه، ومحمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، عَطْفًا عَلَى خَبَرِ: إِنَّ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقُرِئَ: وَهَذَا النَّبِيِّ، بِالْجَرِّ، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى: إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ وَبِهَذَا النَّبِيِّ للذين اتبعوا إبراهيم. و: النبي، قَالُوا: بَدَلٌ مِنْ هَذَا، أَوْ: نَعْتٌ، أَوْ: عَطْفُ بَيَانٍ. وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ اللَّهُ وَلِيًّا لِعِبَادِهِ، وَهُوَ: الْإِيمَانُ. فَقَالَ: وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلِيُّهُمْ. وَهَذَا وَعْدٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَبِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا. قِيلَ: وَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْبَلَاغَةِ: التَّنْبِيهَ وَالْإِشَارَةَ وَالْجَمْعَ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ، وَبِالْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَفِي: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ وَالِاخْتِصَاصِ فِي: عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ وَفِي: وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّجَوُّزِ بإطلاق اسم

_ (1) سورة البقرة: 2/ 98.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 إلى 71]

الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمْعِ فِي: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ وَبِإِطْلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى نَوْعِهِ فِي: يَا أَهْلَ الْكِتابِ إِذَا فُسِّرَ بِالْيَهُودِ. وَالتَّكْرَارِ في: إلا الله، و: إنّ اللَّهَ، وَفِي: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ. وَفِي: إِبْرَاهِيمَ، و: ما كان إبراهيم، و: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ. وَالتَّشْبِيهِ فِي: أَرْبَابًا، لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَأَذْعَنُوا إِلَيْهِمْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ: أَرْبَابًا تَشْبِيهًا بِالرَّبِّ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْإِجْمَالِ فِي الْخِطَابِ فِي: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، تَعَالَوْا يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، لِمَ تُحَاجُّونَ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ. يَا أَبَتِ. وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: بَنِي عَمِّنَا لَا تَنْبِشُوا الشَّرَّ بَيْنَنَا ... فَكَمْ مِنْ رَمَادٍ صَارَ مِنْهُ لَهِيبُ وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: أَوْلَى وولي. [سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي: مُعَاذٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَمَّارٍ. دَعَاهُمْ يَهُودُ: بَنِي النَّضِيرِ، وقريظة، وقينقاع، إِلَى دِينِهِمْ. وَقِيلَ: دَعَاهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَمِنْ يَهُودَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ، قَالُوا لِمُعَاذٍ وَعَمَّارٍ تَرَكْتُمَا دِينَكُمَا وَاتَّبَعْتُمَا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: عَيَّرَتْهُمُ الْيَهُودُ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: وَدَّ بِمَعْنَى: تَمَنَّى، فتستعمل معها: لو، و: أن، وَرُبَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَيُقَالُ: وَدِدْتُ أَنْ لَوْ فَعَلَ، وَمَصْدَرُهُ: الْوِدَادَةُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ: وُدٌّ، وَقَدْ يَتَدَاخَلَانِ فِي المصدر والاسم. قال الرَّاغِبُ: إِذَا كَانَ: وَدَّ، بِمَعْنَى أَحَبَّ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ: لَوْ فِيهِ أَبَدًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِذَا كَانَ: وَدَّ، بِمَعْنَى: تَمَنَّى، صَلَحَ لِلْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ لَمْ يَصْلُحْ لِلْمَاضِي لِأَنَّ الْإِرَادَةَ كَاسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ. وَإِذَا كَانَ لِلْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ جَازَ: أَنْ وَلَوْ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَاضِي لَمْ يَجُزْ: أَنْ، لِأَنَّ:

أَنْ، لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَمَا قَالَ فِيهِ نَظَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ: أَنْ، تُوصَلُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي نَحْوَ: سَرَّنِي أَنْ قُمْتَ؟. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِطَائِفَةٍ، وَالطَّائِفَةُ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ: مِنْ، أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَتَكُونُ الطَّائِفَةُ جَمِيعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا قَالَهُ يَبْعُدُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَلَوْ، هُنَا قَالُوا بِمَعْنَى: أَنْ فَتَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، وَلَا يَقُولُ بِذَلِكَ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْأَوْلَى إِقْرَارُهَا عَلَى وَضْعِهَا. وَمَفْعُولُ: وَدَّ، مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُ: لَوْ، مَحْذُوفٌ، حُذِفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَا يَدُلُّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَدُّوا إِضْلَالَكُمْ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ لَسُرُّوا بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا مُشَبَّعًا فِي قَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فَيُطَالَعُ هُنَاكَ. وَمَعْنَى: يُضِلُّونَكُمْ، يَرُدُّونَكُمْ إِلَى كُفْرِكُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: يُهْلِكُونَكُمْ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدِّمَشْقِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاسْتَدَلَّ، يَعْنِي ابْنَ جَرِيرِ الطَّبَرِيَّ بِبَيْتِ جَرِيرٍ: كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوجِ أَخْضَرَ مُزْبِدٍ ... قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا وَبِقَوْلِ النَّابِغَةِ: فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَينِ جَلِيَّةٍ ... وَغودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُخَلِّصٍ وَلَا خَاصٍّ بِاللَّفْظَةِ، وَإِنَّمَا اطَّرَدَ لَهُ، لِأَنَّ هَذَا الضَّلَالَ فِي الْآيَةِ فِي الْبَيْتَيْنِ اقْتَرَنَ بِهِ هَلَاكٌ، وَأَمَّا أَنْ يُفَسِّرَ لَفْظَةَ الضَّلَالَ بِالْهَلَاكِ فَغَيْرُ قَوِيمٍ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ أَضَلُّ الضَّلَالِ فِي اللُّغَةِ الْهَلَاكُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ، إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُوقِعُونَكُمْ فِي الضَّلَالِ، وَيُلْقُونَ إِلَيْكُمْ مَا يُشَكِّكُونَكُمْ بِهِ فِي دِينِكُمْ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْإِهْلَاكَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَشْيَاعَهُمْ، لِاسْتِحْقَاقِهِمْ بِإِيثَارِهِمْ إِهْلَاكَ الْمُؤْمِنِينَ سُخْطُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْإِخْرَاجَ عَنِ الدِّينِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ بِجَحْدِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَتَغْيِيرِ صِفَتِهِ صَارُوا بِذَلِكَ كُفَّارًا، وَخَرَجُوا عَنْ مِلَّةِ موسى وعيسى. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْإِيقَاعَ فِي الضَّلَالِ، فَذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى بِإِيضَاحِ الْحُجَجِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ.

_ (1) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 96.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِعْلَامٌ أَنَّ سُوءَ فِعْلِهِمْ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ يُبْعِدُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا يَعُودُ وَبَالُ الضَّلَالِ إِلَّا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ لَهُمْ بِضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ، أَوْ: وَمَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِضْلَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُضِلُّونَ أَمْثَالَهُمْ مِنْ أَشْيَاعِهِمُ. انْتَهَى. وَما يَشْعُرُونَ إِنَّ ذَلِكَ الضَّلَالَ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ أَيْ: لَا يَفْطِنُونَ لِذَلِكَ لَمَّا دَقَّ أَمْرُهُ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ لِمَا اعْتَرَى قُلُوبَهُمْ مِنَ الْقَسَاوَةِ، فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ جَاهِلًا كَانَ ضَالًّا، أَوْ وَما يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى إِضْلَالِكُمْ، أَوْ: لَا يَفْطِنُونَ بِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا لِظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ. أَوْ: مَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَالِهِمْ، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا يَشْعُرُونَ، مُبَالَغَةٌ فِي ذَمِّهِمْ حَيْثُ فَقَدُوا المنفعة بحواسهم. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام، وتحريف الكلام أو الآيات التي فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «1» قَالَهُ قَتَادَةُ، والسدي، والربيع، وابن جريح. أَوِ: الْقُرْآنُ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ «2» أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «3» وَالْآيَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا عَلَى يَدَيْهِ مِنِ: انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ. أَوْ: مُحَمَّدٌ وَالْإِسْلَامُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ: مَا تَلَاهُ مِنْ أَسْرَارِ كُتُبِهِمْ وَغَرِيبِ أَخْبَارِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. أَوْ: كُتُبُ اللَّهِ، أَوِ: الْآيَاتُ الَّتِي يُبَيِّنُ لَهُمْ فِيهَا صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَأُمِرُوا فِيهَا بِاتِّبَاعِهِ، قَالَهُ أبُو عَلِيٍّ. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّهَا آيَاتُ اللَّهِ، وَمُتَعَلِّقُ الشَّهَادَةِ مَحْذُوفٌ، يُقَدَّرُ عَلَى حَسَبِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، فَيُقَدَّرُ بِمَا يُنَاسِبُ ما

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 157. (2) سورة الفرقان: 25/ 4. (3) سورة الأنعام: 6/ 25. والأنفال: 8/ 31، والنحل: 16/ 24، والمؤمنون: 23/ 83، والفرقان: 25/ 5، والنمل: 27/ 681، والأحقاف: 46/ 17، والقلم: 68/ 15، والمطففين: 83/ 13.

فُسِّرَتْ بِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ كِتَابِكُمُ الَّذِي فِيهِ الْبِشَارَةُ. وَقِيلَ: تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُقِرُّونَ بِهَا، وَقِيلَ: بِمَا عَلَيْكُمْ فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ كُتُبَكُمْ حَقٌّ، وَلَا تَتَّبِعُونَ مَا أُنْزِلَ فِيهَا. وَقِيلَ: بِصِحَّتِهَا إِذَا خَلَوْتُمْ. فَيَكُونُ: تَشْهَدُونَ، بِمَعْنَى: تُقِرُّونَ وَتَعْتَرِفُونَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَوْ عَنَى مَا يَكُونُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ «1» . وَقِيلَ: تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ: تُنْكِرُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا، ثُمَّ تَشْهَدُونَ بِقُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ أَنَّهُ مُعْجِزٌ. يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ «2» وَفُسِّرَ: اللَّبْسُ، بِالْخَلْطِ وَالتَّغْطِيَةِ، وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، فَفَسَّرُوا الْحَقَّ بِمَا يَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ، وَالْبَاطِلَ الَّذِي يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ: قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: إِظْهَارُ الْإِسْلَامِ وَإِبْطَالُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالثَّعْلَبِيُّ. وَقِيلَ: الْإِيمَانُ بِمُوسَى وعيسى، وَالْكَفْرُ بِالرَّسُولِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَتَأَوَّلُونَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِهَا، لِيَظْهَرَ مِنْهَا لِلْعَوَامِّ خِلَافُ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَا تَقُولُونَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ وَقِيلَ: إِقْرَارُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالْبَاطِلُ: كِتْمَانُهُمْ لِبَعْضِ أَمْرِهِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِقْرَارُهُمْ بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَالْبَاطِلُ قَوْلُ أَحْبَارِهِمْ: لَيْسَ رَسُولًا إِلَيْنَا، بَلْ شَرِيعَتُنَا مُؤَبَّدَةٌ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: تَلْبَسُونَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ مُضَارِعُ: لَبِسَ، جَعَلَ الْحَقَّ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ لَبِسُوهُ، وَالْبَاءُ فِي: بِالْبَاطِلِ، لِلْحَالِ أَيْ: مَصْحُوبًا بِالْبَاطِلِ. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: تُلَبِّسُونَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَالتَّشْدِيدُ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: جَرَّحْتُ وَقَتَّلْتُ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ فِي: وَيَكْتُمُونَ، النصب، فتسقط النون

_ (1) سورة النور: 24/ 24. (2) سورة البقرة: 2/ 42.

مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ عَلَى قَوْلِكَ: لِمَ تَجْمَعُونَ ذَا وَذَا؟ فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى الصَّرْفِ فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَبِإِضْمَارِ: أَنْ، فِي قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ: الِاسْتِفْهَامُ وَقَعَ عَلَى اللَّبْسِ فَحَسْبُ. وَأَمَّا: يَكْتُمُونَ، فَخَبَرٌ حَتْمًا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى: تَلْبِسُونَ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ، خَبَرٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الصَّرْفُ هَاهُنَا يَقْبُحُ، وَكَذَلِكَ إِضْمَارُ: أَنْ، لِأَنَّ: يَكْتُمُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى مُوجَبٍ مُقَرَّرٍ، وَلَيْسَ بِمُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، وَإِنَّمَا اسْتُفْهِمَ عَنِ السَّبَبِ فِي اللَّبْسِ، وَاللَّبْسُ مُوجَبٌ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، وَبِمَنْزِلَةِ، قَوْلِكَ: أَتَقُومُ فَأَقُومَ؟ وَالْعَطْفُ عَلَى الْمُوجَبِ الْمُقَرَّرِ قَبِيحٌ مَتَى نُصِبَ، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، كَمَا رُوِيَ: وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: فِي قَوْلِكَ: أَسِرْتَ حَتَّى تَدْخُلَهَا، لَا يَجُوزُ إِلَّا النَّصْبُ، فِي: تَدْخُلَ، لِأَنَّ السَّيْرَ مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ غَيْرُ مُوجَبٍ: وَإِذَا قُلْنَا: أَيُّهُمْ سَارَ حَتَّى يَدْخُلُهَا، رُفِعَتْ، لِأَنَّ السَّيْرَ مُوجَبٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ. وَالظَّاهِرُ تَعَارُضُ مَا نُقِلَ مَعَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ فِيهِ: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَقَعَ عَلَى اللَّبْسِ فَحَسْبُ، وَأَمَّا: يَكْتُمُونَ، فَخَبَرٌ حَتْمًا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ، وَفِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ: يَكْتُمُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى مُوجَبٍ مُقَرَّرٍ، وَلَيْسَ بِمُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، فَيَدُلُّ الْعَطْفُ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ عَنْ سَبَبِ اللَّبْسِ وَسَبَبِ الْكَتْمِ الْمُوجَبَيْنِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ: وَيَكْتُمُونَ، إِخْبَارًا مَحْضًا لَمْ يَشْتَرِكْ مَعَ اللَّبْسِ فِي السُّؤَالِ عَنِ السَّبَبِ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِذَا تَضَمَّنَ وُقُوعَ الْفِعْلِ لَا يَنْتَصِبُ الْفِعْلُ بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِهِ، تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ. فَقَالَ فِي (التَّسْهِيلِ) حِينَ عَدَّ مَا يُضْمِرُ: أَنْ، لُزُومًا فِي الْجَوَابِ، فَقَالَ: أَوْ لِاسْتِفْهَامٍ لَا يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ الْفِعْلِ، فَإِنْ تَضَمَّنَ وَقْعَ الْفِعْلِ لَمْ يَجُزِ النَّصْبُ عِنْدَهُ، نَحْوَ: لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا، فَيُجَازِيكَ؟ لِأَنَّ الضَّرْبَ قَدْ وَقَعَ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَشْتَرِطُ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَتَبِعَهُ فِيهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الِاسْتِفْهَامِ، بَلْ إِذَا تَعَذَّرَ سَبْكُ مَصْدَرٍ مِمَّا قَبْلَهُ، إِمَّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ ثَمَّ فِعْلٌ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُ يَنْسَبِكُ مِنْهُ، وإما لإسحالة سَبْكِ مَصْدَرٍ مُرَادٍ اسْتِقْبَالُهُ لِأَجْلِ مُضِيِّ الْفِعْلِ، فَإِنَّمَا يُقَدَّرُ فِيهِ مَصْدَرُ اسْتِقْبَالِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَإِذَا قَالَ: لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا فَأَضْرِبُكَ. أَيْ: لِيَكُنْ مِنْكَ تَعْرِيفٌ بِضَرْبِ زَيْدٍ فَضَرْبٌ

مِنَّا، وَمَا رَدَّ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ لَيْسَ بِمُتَّجَهٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِمَ تَلْبِسُونَ لَيْسَ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِعَ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي حَقِيقَةً، إِذْ قَدْ يُنْكَرُ الْمُسْتَقْبَلُ لِتَحَقُّقِ صُدُورِهِ، لَا سِيَّمَا عَلَى الشَّخْصِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْهُ وُجُودُ أَمْثَالِهِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ مَاضٍ حَقِيقَةً، فَلَا رَدَّ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ كَمَا قَرَّرْنَا قَبْلُ: إِذَا لَمْ يُمْكِنْ سَبْكُ مَصْدَرٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنَ الْجُمْلَةِ، سَبَكْنَاهُ مِنْ لَازِمِ الْجُمْلَةِ. وَقَدْ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ نَصْبَ الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ، نَحْوَ: أَيْنَ ذَهَبَ زَيْدٌ فَنَتْبَعَهُ؟ وَكَذَلِكَ فِي: كَمْ مَالُكَ فَنَعْرِفَهُ؟ و: من أَبُوكَ فَنُكْرِمَهُ؟ لَكِنَّهُ يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ: لِيَكُنْ مِنْكَ إِعْلَامٌ بِذَهَابِ زَيْدٍ فاتباع منا. و: ليكن مِنْكَ إِعْلَامٌ بِقَدْرِ مَالِكَ فمعرفة منا. و: ليكن مِنْكَ إِعْلَامٌ بِأَبِيكَ فَإِكْرَامٌ مِنَّا لَهُ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لِمَ تَلْبِسُوا، وَتَكْتُمُوا، بِحَذْفِ النُّونِ فِيهِمَا، قَالُوا: وَذَلِكَ جَزْمٌ، قَالُوا: وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شُذُوذٌ مِنَ النُّحَاةِ فِي إِلْحَاقِ: لم بلم فِي عَمَلِ الْجَزْمِ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا أَنَّ: لِمَ، تَجْزِمُ الْفِعْلَ عِنْدَ قَوْمٍ كُلَّمٍ. انْتَهَى. وَالثَّابِتُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ: لِمَ، لَا يَنْجَزِمُ مَا بَعْدَهَا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَ أَنَّ لِمَ تَجْرِي مَجْرَى: لَمْ فِي الْجَزْمِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ هُنَا، وَإِنَّمَا هَذَا عِنْدِي مِنْ بَابِ حَذْفِ النُّونِ حَالَةَ الرَّفْعِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي النَّثْرِ قَلِيلًا جِدًّا، وَذَلِكَ فِي قراءة أبي عمرو، وَمِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ قَالُوا: ساحران تظاهرا، بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ، أَيْ أَنْتُمَا سَاحِرَانِ تَتَظَاهَرَانَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الظَّاءِ وَحَذَفَ النُّونَ، وَأَمَّا فِي النَّظْمِ، فَنَحْوَ: قَوْلِ الرَّاجِزِ: أَبِيتُ أُسَرِّي وَتَبِيتِي تُدَلِّكِي يُرِيدُ: وَتَبِيتِينَ تُدَلِّكِينَ. وَقَالَ: فَإِنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُو ... سَتَحْتَلِبُوهَا لَاقِحًا غَيْرَ بَاهِلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لُبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكَتْمَ الْحَقِّ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ مُنْقَسِمٌ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ خَلَطُوا فِيهِ الْبَاطِلَ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ، وَقِسْمٌ كَتَمُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا الْتَبَسُوا بِهِ مِنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِهِ، أَيْ: لَا يُنَاسِبُ مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ أَنْ يَكْتُمَهُ، وَلَا أَنْ يَخْلِطَهُ بِالْبَاطِلِ، وَالسُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ سُؤَالٌ عَنِ الْمُسَبِّبِ، فَإِذَا أَنْكَرَ السَّبَبَ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُنْكِرَ الْمُسَبِّبَ، وَخُتِمَتِ الْآيَةُ قَبْلَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 إلى 74]

هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وَهَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ هُوَ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ بَعْضُ الْحَقِّ، وَالشَّهَادَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، فَنَاسَبَ الْأَخَصُّ الْأَخَصَّ، وَهُنَا الْحَقُّ أَعَمُّ مِنَ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَنَاسَبَ الْأَعَمُّ الْأَعَمَّ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: أَنَّهُ نَبِيٌّ حَقٌّ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: قَالَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ بِمَا عَرَفْتُمُوهُ مِنْ كُتُبِكُمْ وَمَا سَمِعْتُمُوهُ مِنْ أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِكُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْبَدِيعِ. الطِّبَاقُ فِي قَوْلِهِ: الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِقْرَارٌ وَإِظْهَارٌ، وَالْكُفْرُ سَتْرٌ. والتجنيس المماثل في: يضلونك وما يضلون وَالتَّكْرَارُ فِي: أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ بينت. [سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: تَوَاطَأَ اثْنَا عَشَرَ حَبْرًا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ وَقُرَى عَرِينَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ بِاللِّسَانِ دُونَ الِاعْتِقَادِ، وَاكْفُرُوا بِهِ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَقُولُوا إِنَّا نَظَرْنَا فِي كُتُبِنَا، وَشَاوَرْنَا عُلَمَاءَنَا، فَوَجَدْنَا مُحَمَّدًا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَظَهَرَ لَنَا كَذِبُهُ وَبُطَلَانُ دِينِهِ، فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ شَكَّ أَصْحَابُهُ فِي دِينِهِمْ، وَقَالُوا: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا، فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ إِلَى دِينِكُمْ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: هَذَا فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ، لَمَّا صُرِفَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ

ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ: صَلُّوا إِلَيْهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، وَارْجِعُوا إِلَى كَعْبَتِكُمُ الصَّخْرَةِ آخِرَهُ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ رَجَعُوا آخِرَ النَّهَارِ فَصَلَّوْا صَلَاتَهُمْ لِيَرَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ مِنْهُ ضَلَالَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبَعُوهُ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِسَفَلَتِهِمْ: آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِذَا كَانَ بِالْعَشِيِّ قُولُوا: قَدْ عَرَّفَنَا عُلَمَاؤُنَا أَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ قَالَتْ ذَلِكَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ. انْتَهَى. جَعَلَتِ الْيَهُودُ هَذَا سَبَبًا إِلَى خَدِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَقُولُ لَهُمْ مَحْذُوفٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ لِبَعْضٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ لَهُمْ لَيْسُوا مِنْ هذه الطائفة، والمراد: بآمنوا، أَظْهِرُوا الْإِيمَانَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّصْدِيقُ، وَفِي قَوْلِهِ: بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا حَذْفٌ أَيْ: عَلَى زَعْمِهِمْ، وَإِلَّا فَهُمْ يَكْذِبُونَ، وَلَا يُصَدِّقُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَانْتَصَبَ: وَجْهَ النَّهَارِ، عَلَى الظَّرْفِ وَمَعْنَاهُ: أَوَّلَ النَّهَارِ، شُبِّهَ بِوَجْهِ الْإِنْسَانِ إِذْ هُوَ أَوَّلُ مَا يُوَاجَهُ مِنْهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ فِي مَالِكِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيِّ: مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ وَالضَّمِيرُ فِي: آخِرَهُ، عَائِدٌ عَلَى النَّهَارِ، أَيْ: آخِرَ النَّهَارِ. وَالنَّاصِبُ لِلظَّرْفِ الْأَوَّلِ: آمِنُوا، وَلِلْآخِرِ: اكْفُرُوا. وَقِيلَ: النَّاصِبُ لِقَوْلِهِ: وَجْهَ النَّهَارِ، أُنْزِلَ. أَيْ: بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالضَّمِيرُ فِي: آخِرَهُ، يَعُودُ عَلَى الَّذِي أُنْزِلَ، أَيْ: وَاكْفُرُوا آخِرَ الْمُنَزَّلِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَمُخَالَفَةٌ لِأَسْبَابِ النُّزُولِ، وَمُتَعَلِّقُ الرُّجُوعِ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا امْتِثَالُ الْأَمْرِ مِمَّنْ أُمِرُ بِهِ فَسُكُوتٌ عَنْ وُقُوعِهِ، وَأَسْبَابُ النُّزُولِ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ طَمِعُوا أَنْ يَنْخَدِعَ الْعَرَبُ بِهِ، أَوْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ الْقَدِيمِ وَجَوْدَةِ النَّظَرِ وَالِاطِّلَاعِ، دَخَلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ وَرَجَعُوا عَنْهُ، وَفِيهِ تَثْبِيتٌ أَيْضًا لِضُعَفَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ.

وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ اللَّامُ فِي: لِمَنْ، قِيلَ: زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ «1» أَيْ رَدِفَكُمْ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَا كُنْتُ أخدع للخليل بحله، حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا أَرَادَ: مَا كُنْتُ أَخْدَعُ الْخَلِيلَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ لَا تَكُونَ: اللَّامُ، زَائِدَةً بَلْ ضَمَّنَ، آمَنَ مَعْنَى: أَقَرَّ وَاعْتَرَفَ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقَدْ تَعَدَّى آمَنَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ «2» وآمَنْتُمْ لَهُ «3» ويُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» انْتَهَى. وَالْأَجْوَدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ طَائِفَةِ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ كَلَامِ الطَّائِفَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، يُثَبِّتُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَشُكُّوَا عِنْدَ تَلْبِيسِ الْيَهُودِ وَتَزْوِيرِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ طَائِفَةِ الْيَهُودِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ انْقَطَعَ كَلَامُهُمْ إِذْ لَا خِلَافَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا بَعْدَهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ وَأَنْ يُؤْتَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، لَا مَا رُمْتُمْ مِنَ الْخِدَاعِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَذَاكَ الْفِعْلِ، لِمَخَافَةِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْتُمْ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَدَبَّرْتُمْ تِلْكَ الْمَكِيدَةَ، أَيْ: فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَسَدًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ تَذْهَبَ رِئَاسَتُكُمْ، وَيُشَارِكَكُمْ أَحَدٌ فِيمَا أُوتِيتُمْ مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ: يُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ عند الله إذا كِتَابُكُمْ طَافِحٌ، بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُلْزِمٌ لَكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَتَتَّبِعُوهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إِلَى آخِرِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ أَنْ يُؤْتَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ وَالتَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ هُوَ مُثْبَتٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ أَلِمَخَافَةِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ؟ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْتُمْ ذَلِكَ وَفَعَلْتُمُوهُ؟ وَيَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، مَعْطُوفًا عَلَى: يُؤْتَى، وَأَوْ: لِلتَّنْوِيعِ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ: هُدَى اللَّهِ، بَدَلًا مِنَ: الْهُدَى. لَا خَبَرًا لِإِنَّ. وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَيْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ إِيتَاءُ أَحَدٍ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَيَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ: أَنْ، بَعْدَ أَوْ بمعنى:

_ (1) سورة النمل: 27/ 72. [.....] (2) سورة يونس: 10/ 83. (3) سورة طه: 20/ 71، والشعراء: 26/ 49. (4) سورة التوبة: 9/ 61.

حَتَّى، أَيْ: حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَيَغْلِبُوكُمْ وَيَدْحَضُوا حُجَّتَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ صِحَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُكُمُ اتِّبَاعُ هَذَا النَّبِيِّ، وَلَا يَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، مَعْطُوفًا عَلَى: يُؤْتَى، وَدَاخِلًا فِي خَبَرِ إِنَّ، و: أحد، فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ الَّذِي يَأْتِي فِي الْعُمُومِ مُخْتَصًّا بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْيٍ، أَوْ فِي خَبَرِ نَفْيٍ، بَلْ: أَحَدٌ، هُنَا بِمَعْنَى: وَاحِدٌ، وَهُوَ مُفْرِدٌ، إِذْ عُنِيَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَإِنَّمَا جُمِعَ الضَّمِيرُ فِي: يُحَاجُّوكُمْ، لِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ، لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاتِّبَاعِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ، هُنَا لِلنَّفْي بِمَعْنَى: لَا، التَّقْدِيرُ: لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَنُقِلَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْفَرَّاءِ، وَتَكُونُ: أَوْ، بِمَعْنَى إِلَّا، وَالْمَعْنَى إِذْ ذَاكَ: لَا يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، فَإِنَّ إِيتَاءَهُ مَا أُوتِيتُمْ مَقْرُونٌ بِمُغَالَبَتِكُمْ وَمُحَاجَّتِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، لِأَنَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْوَحْيَ لَا بُدَّ أَنْ يُحَاجَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، فَقَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، حَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَازِمَةٌ، إِذْ لَا يُوحِي اللَّهُ إِلَى رَسُولٍ إِلَّا وَهُوَ مُحَاجٍّ مُخَالِفِيهِ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ، أَحَدٌ، هُوَ الَّذِي لِلْعُمُومِ. لِتَقَدُّمِ النَّفْيِ عَلَيْهِ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي: يُحَاجُّوكُمْ، حملا على معنى: أحد، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» جَمَعَ حَاجِزِينَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى: أَحَدٍ، لَا عَلَى لَفْظِهِ، إِذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى لَفْظِهِ لَأُفْرِدَ. لَكِنْ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْقَوْلُ بِأَنَّ: أَنِ، الْمَفْتُوحَةَ تَأْتِي لِلنَّفْيِ بِمَعْنَى لَا، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْخِطَابُ فِي: أُوتِيتُمْ، وَفِي: يُحَاجُّوكُمْ، عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِلطَّائِفَةِ السَّابِقَةِ، الْقَائِلَةِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ وَأَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ، وَحُذِفَتْ: لَا، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَى الْحَذْفِ. قَالَ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «2» أَيْ: أَنْ لَا تَضِلُّوا. وَرَدَّ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَقَالَ: لَا تُحْذَفُ: لَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَكَذَلِكَ هُنَا: كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، أَيْ: مِمَّنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، فَهُدَى اللَّهِ بَعِيدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. والخطاب في: أوتيتم، و: يحاجوكم، لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى هَذَا: أَنْ يُؤْتَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى حَذْفِ كَرَاهَةَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ فِيهِ، وَيَصْعُبُ تَقْدِيرُهُ، إِذْ قَبْلَهُ جُمْلَةٌ لَا يَظْهَرُ تَعْلِيلُ النِّسْبَةِ فِيهَا بِكَرَاهَةِ الإيتاء المذكور.

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 47. (2) سورة النِّسَاءِ: 4/ 176.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: هُدَى اللَّهِ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ كَالَّذِي جَاءَنَا نَحْنُ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، بِمَعْنَى، أَوْ فَلْيُحَاجُّوكُمْ، فَإِنَّهُمْ يَغْلِبُونَكُمُ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ. وَفِيهِ الْجَزْمُ بِلَامِ الْأَمْرِ وَهِيَ مَحْذُوفَةٌ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ: أَنْ يُؤْتَى، بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فَلَا تَنْكَرُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ بَعِيدٌ، لأن فيه حذف حرف النَّهْيِ وَمَعْمُولِهِ، وَلَمْ يُحْفَظْ ذَلِكَ مِنْ لِسَانِهِمْ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: قُلْ، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ، مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْقَوْلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَا تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا وَتُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ جَاءَ بِمِثْلِ دِينِكُمْ، مَخَافَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَمَخَافَةَ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ بِتَصْدِيقِكُمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثَمَرَةُ الْحَسَدِ وَالْكُفْرِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا يُؤْتَى، فَحُذِفَتْ: لَا، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْتَفِيًا دَاخِلًا فِي حَيِّزِ: إِلَّا، لَا مُقَدَّرًا دُخُولُهُ قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، بِانْتِفَاءِ أَنْ يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم، وَانْتِفَاءِ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَيْ: إِلَّا بِانْتِفَاءِ كَذَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: بِأَنْ يُؤْتَى، وَيَكُونَ متعلقا بتؤمنوا، وَلَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ إِلَّا، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَجَاءَ بِمِثْلِهِ، وَعَاضِدًا لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْتَاهُ غَيْرُكُمْ. وَيَكُونُ مَعْنَى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا لَا أَتْرُكُكَ أَوْ تَقْضِينِي حَقِّي، وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ثَمَرَةُ التَّكْذِيبِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى اعْتِقَادٍ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَتُقِرُّوا بِنُبُوَّتِهِ إِذْ قَدْ عَلِمْتُمْ صِحَّتَهَا إِلَّا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ هم منكم، وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ صِفَةٌ لِحَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَالْمَعْنَى: تَسَتَّرُوا بِإِقْرَارِكُمْ أَنَّ قَدْ أُوتِيَ أَحَدٌ مِثْلَ أُوتِيتُمْ، أَوْ فَإِنَّهُمْ يَعْنُونَ الْعَرَبَ، يُحَاجُّونَكُمْ بِالْإِقْرَارِ عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَبَدَأَ بِهِ مَا نَصُّهُ: وَلَا تُؤْمِنُوا، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُؤْتَى أحد، و: ما بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَيْ: وَلَا تُظْهِرُوا إِيمَانَكُمْ بِأَنْ يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَرَادُوا: أَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا لِأَشْيَاعِكُمْ وَحْدِهِمْ دون المسلمين، لئلا يزيدوا ثَبَاتًا، وَدُونَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عُطِفَ عَلَى أَنْ يُؤْتى وَالضَّمِيرُ في: يحاجوكم، لأحد لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ بِمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا لِغَيْرِ أَتْبَاعِكُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَقِّ، وَيُغَالِبُونَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْحُجَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَمَّا: أَحَدٌ، عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي لِلْعُمُومِ، وَكَانَ مَا قَبْلَهُ مُقَدَّرًا بِالنَّفْي، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنَّ الْمَعْنَى: لَا يُؤْتَى، أَوْ: إِنَّ الْمَعْنَى: أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ، فَهُوَ جَارٍ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي النَّفْيِ أَوْ مَا أَشْبَهَ النَّفْيَ: كَالنَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُثْبَتًا يَدْخُلُ هُنَا لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ النَّفْيُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، كَمَا دَخَلَتْ مِنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «1» لِلنَّفْيِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ «2» . وَمَعْنَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ مَا رَامُوا مِنَ الْكَيْدِ وَالْخِدَاعِ بِقَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ الْآيَةَ، لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَلَا يَصُدُّ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، لِأَنَّ الْهُدَى هُوَ هُدَى اللَّهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَصِّلَهُ لِأَحَدٍ، وَلَا أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْ أَحَدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ؟ بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيٍّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَاطِعٌ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تُصَدِّقُونَ بِهِ، أَوْ تَعْتَرِفُونَ، أَوْ تَذْكُرُونَهُ لِغَيْرِكُمْ، وَنَحْوَهُ مِمَّا يَدُلُّ عليه الكلام. و: يحاجوكم، مَعْطُوفٌ عَلَى: أَنْ يُؤْتَى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ: أَنْ، نَصْبًا، فَيَكُونَ الْمَعْنَى: أَتُشِيعُونَ، أَوْ: أَتَذْكُرُونَ أَنْ يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم؟ وَيَكُونُ بِمَعْنَى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ فَعَلَى

_ (2- 1) سورة البقرة: 2/ 105.

كِلَا الْوَجْهَيْنِ مَعْنَى الْآيَةِ تَوْبِيخٌ مِنَ الْأَحْبَارِ لِلْأَتْبَاعِ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، وَيَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، فِي تَأْوِيلِ نَصْبِ أَنْ بِمَعْنَى: أَوْ تُرِيدُونَ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ؟. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَحَدٌ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ هُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَقَدْ مَنَعَ الِاسْتِفْهَامُ الْقَاطِعُ مِنْ أَنْ يَشِيعَ لِامْتِنَاعِ دُخُولِهِ فِي النَّفْيِ الَّذِي فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ: أَحَدٌ، الَّذِي فِي قَوْلِكَ: أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ يَقَعُ فِي الْإِيجَابِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: وَاحِدٌ، وَجُمِعَ ضَمِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، حَمْلًا على المعنى، إذ: لأحد، الْمُرَادُ بِمِثْلِ النُّبُوَّةِ أَتْبَاعٌ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى لِلْكَثْرَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي أَنْ تُرَجَّحَ فِيهِ قِرَاءَةُ غَيْرِ ابْنِ كَثِيرٍ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُفْرَدَةَ لَيْسَ بِالْمُسْتَمِرِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ. انْتَهَى تَخْرِيجُ أَبِي عَلِيٍّ لِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَخْرِيجُ قِرَاءَتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى، مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِهِ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مِنْ قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لِأُمَّتِهِ. وَذَهَبَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ: إِلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلطَّائِفَةِ الَّتِي قَالَتْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ قوله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ كُلَّهُ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ لِأَتْبَاعِهِمْ، وَقَوْلَهُ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ لِأَتْبَاعِهِمْ. وَذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ: قُلْ، يَقُولُهُ الرَّسُولُ لِلْيَهُودِ، وَتَمَّ مَقُولُهُ فِي قَوْلِهِ: أُوتِيتُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ الطَّائِفَةِ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَعَلَى هَذِهِ الْأَنْحَاءِ تَرْتِيبُ الْأَوْجُهِ السَّابِقَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَشُعَيْبُ بْنُ أبي حمزة: إِنْ يُؤْتَى، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى: لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خِطَابًا مِنَ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ؟ وَيَكُونُ قَوْلُهَا: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، بِمَعْنَى: أَوْ، فَلْيُحَاجُّوكُمْ، وَهَذَا عَلَى التَّصْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيَ، أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، وَهَذَا عَلَى تَجْوِيزِ: أَنْ

يُؤْتَى، أَحَدٌ ذَلِكَ إِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ لَهُ. هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهَا: كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أُمَّتَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي أَحَدًا، وَلَا أَعْطَى فِيمَا سَلَفَ مِثْلَ مَا أَعْطَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مِنْ كَوْنِهَا وَسَطًا، فَهَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ، وَمُنْدَرِجٌ تَحْتَ: قُلْ. وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَسَّرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، قال: وقرىء: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ عَلَى: أَنِ، النَّافِيَةِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِكَلَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تبع دينكم وقولوا مَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ: مَا يُؤْتُونَ مِثْلَهُ فَلَا يُحَاجُّوكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَنْ يُؤْتِيَ أَحَدٌ، بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى: أَحَدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِنْعَامَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُهُ إِنْعَامُ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَظْهَرُ مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْ يؤتى أحدا أَحَدًا. انْتَهَى. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلَفْظِ: أَنْ، فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَهِيَ بِالْكَسْرِ أَمْ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَنْ يؤتى، و: الحسن: أَنْ يُؤْتِيَ أَحَدًا، جَعَلَا: أَنْ، نَافِيَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَعْدَ إِلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «1» و: أَوْ، بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ اعْتِرَاضٍ: قُلْ، قَوْلَ الْيَهُودِ. انْتَهَى. وَفِي مَعْنَى: الْهُدَى، هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أُوتِيَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ التَّصْدِيقِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وَالثَّانِي: التَّوْفِيقُ وَالدَّلَالَةُ إِلَى الْخَيْرِ حَتَّى يُسْلِمَ، أَوْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَيَحْتَمِلُ: عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَالثَّانِي: عِنْدَ كُتُبِ رَبِّكُمُ الشَّاهِدَةِ عَلَيْكُمْ وَلَكُمْ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ تَشْرِيفًا، وَكَانَ الْمَعْنَى: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ الْحَقِّ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَدُورُ تَفَاسِيرُ الْآيَةِ، فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى مَا يُنَاسِبُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ هَذَا تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَفِي ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لليهود حيث قالو: شَرِيعَةُ مُوسَى مُؤَبَّدَةٌ وَلَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ أَحَدًا مِثْلَ مَا أُوتِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَالْفَضْلُ هُوَ بِيَدِ اللَّهِ. أَيْ: مُتَصَرِّفٌ فِيهِ كَالشَّيْءِ فِي الْيَدِ، وهذه كناية

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 26.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 79]

عَنْ قُدْرَةِ التَّصَرُّفِ وَالتَّمَكُّنِ فِيهَا، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِ مَنْ أَرَادَ، فَاخْتِصَاصُهُ بِالْفَضْلِ مَنْ شَاءَ، إِنَّمَا سَبَبُهُ الْإِرَادَةُ فَقَطْ، وَفُسِّرَ: الْفَضْلُ، هُنَا بِالنُّبُوَّةِ أَشْرَفُ أَفْرَادِهِ. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ: يُفْرِدُ بِنُبُوَّتِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بِالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: كَثْرَةُ الذِّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَتَفْسِيرُ مَا قَبْلَهُ فِي آخِرِ آيَةِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ «1» وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْبَدِيعِ: التَّجْنِيسَ الْمُمَاثِلَ، وَالتَّكْرَارَ فِي: آمَنُوا وَآمِنُوا، وَفِي الْهُدَى، هُدَى اللَّهِ وَفِي: يُؤْتَى وَأُوتِيتُمْ، وفي: ان أفضل، وَذُو الْفَضْلِ. وَالتَّكْرَارَ أَيْضًا فِي: اسْمِ اللَّهِ، فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ. وَالطِّبَاقَ: فِي آمِنُوا وَاكْفُرُوا، وَفِي وَجْهَ النَّهَارِ وَفِي آخِرَهُ، وَالِاخْتِصَاصَ. فِي: وَجْهَ النَّهَارِ، لِأَنَّهُ وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم، وآخره لِأَنَّهُ وَقْتُ خَلْوَتِهِمْ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ. [سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

_ (1) سورة البقرة: 2/ 105.

الدِّينَارُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ: ثَلَاثُ حَبَّاتٍ مِنْ وَسَطِ الشَّعِيرِ، فَمَجْمُوعُهُ: اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَفَاؤُهُ بَدَلٌ مِنْ نُونٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ، قَالُوا: دَنَانِيرُ، وَأَصْلُهُ: دِنَّارِ، أُبْدِلَ مِنْ أَوَّلِ الْمِثْلَيْنِ، كَمَا أَبْدَلُوا مِنَ النُّونِ فِي ثَالِثِ الْأَمْثَالِ يَاءً فِي: تَظَنَّيْتُ. أَصْلُهُ تَظَنَّنْتُ، لِأَنَّهُ مِنَ الظَّنِّ، وَهُوَ بَدَلٌ مَسْمُوعٌ، وَالدِّينَارُ: لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ تصرّفت فيه العرب وألقته بِمُفْرَدَاتِ كَلَامِهَا. دَامَ: ثَبَتَ، وَالْمُضَارِعُ: يَدُومُ، فَوَزْنُهُ، فَعَلَ نَحْوَ قَالَ: يَقُولُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَتَمِيمٍ تَقُولُ: دِمْتَ، بِكَسْرِ الدَّالِ. قَالَ: وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمُضَارِعِ، يَقُولُونَ: يَدُومُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ يَقُولُ: دُمْتَ تَدَامُ، مِثْلَ: نِمْتَ تَنَامُ، وَهِيَ لُغَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَزْنُ دَامَ، فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، نَحْوَ: خَافَ يَخَافُ. وَالتَّدْوِيمُ الِاسْتِدَارَةُ حَوْلَ الشَّيْءِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَهَا فِي الْجَوِّ تَدْوِيمُ وَقَالَ عَلْقَمَةُ فِي وَصْفِ خَمْرٍ: تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلَا يُؤْذِيكَ صَالِبُهَا ... وَلَا يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ وَالدَّوَامُ: الدَّوَّارُ، يَأْخُذُ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ فَيَرَى الْأَشْيَاءَ تَدُورُ بِهِ. وَتَدْوِيمُ الطَّائِرِ فِي السَّمَاءِ ثُبُوتُهُ إِذَا صَفَّ وَاسْتَدَارَ. وَمِنْهُ: الْمَاءُ الدَّائِمُ، كَأَنَّهُ يَسْتَدِيرُ حَوْلَ مَرْكَزِهِ. لَوَى الْحَبْلَ وَالْتَوَى: فَتَلَهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْإِرَاغَةِ فِي الْحُجَجِ وَالْخُصُومَاتِ، وَمِنْهُ: لِيَانُ الْغَرِيمِ: وَهُوَ دَفْعُهُ وَمَطْلُهُ، وَمِنْهُ: خَصْمٌ أَلْوَى: شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، شُبِّهَتِ الْمَعَانِي بِالْأَجْرَامِ. اللِّسَانُ: الْجَارِحَةُ الْمَعْرُوفَةُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: اللِّسَانُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَمَنْ ذَكَّرَ جَمَعَهُ أَلْسِنَةً وَمَنْ أَنَّثَ جَمَعَهُ أَلْسُنًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اللِّسَانُ بِعَيْنِهِ لَمْ نَسْمَعْهُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مُذَكَّرًا. انْتَهَى. وَيُعَبَّرُ بِاللِّسَانِ عَنِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَيْضًا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ. الرَّبَّانِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، وَزِيدَتِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ مُبَالَغَةً. كَمَا قَالُوا: لَحْيَانِيٌّ،

وَشَعْرَانِيٌّ، وَرَقْبَانِيٌّ. فَلَا يُفْرِدُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنْ يَاءِ النِّسْبَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى رَبَّانَ، وَهُوَ مُعَلِّمُ النَّاسِ وَسَائِسُهُمْ، وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ فِيهِ كَهِيَ فِي: غَضْبَانَ وَعَطْشَانَ، ثُمَّ نُسِبَ إِلَيْهِ فَقَالُوا: رَبَّانِيٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ النَّسَبِ فِي الْوَصْفِ، كَمَا قَالُوا: أحمري في أحمر، و: دواري فِي دَوَّارِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. دَرَسَ الْكِتَابَ يَدْرُسُهُ: أَدْمَنَ قِرَاءَتَهُ وَتَكْرِيرَهُ، وَدَرَسَ الْمَنْزِلُ: عَفَا، وَطَلَلٌ دَارِسٌ: عَافٍ. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَمِّ الْخَوَنَةِ مِنْهُمْ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَنْ يُؤْتَمَنُ فَيَفِي وَمَنْ يُؤْتَمَنُ فَيَخُونُ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ عَنَى بِهِ أَهْلَ الْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودُ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ لَمْ يَقُلْهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ إِلَّا الْيَهُودُ. وَقِيلَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ هُمُ النَّصَارَى لِغَلَبَةِ الْأَمَانَةِ عَلَيْهِمْ. وَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ هُمُ الْيَهُودُ لِغَلَبَةِ الْخِيَانَةِ عَلَيْهِمْ. وَعُيِّنَ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ هم مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ بَايَعَ بَعْضُ الْعَرَبِ بَعْضَ الْيَهُودِ وَأَوْدَعُوهُمْ فَخَانُوا مَنْ أَسْلَمَ، وَقَالُوا: قَدْ خَرَجْتُمْ عَنْ دِينِكُمُ الَّذِي عَلَيْهِ بَايَعْنَاكُمْ، وَفِي كِتَابِنَا: لَا حُرْمَةَ لِأَمْوَالِكُمْ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قِيلَ: وَهَذَا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام، اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةً ذَهَبًا، فَأَدَّاهُ إِلَيْهِ. وَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ دِينَارًا فَجَحَدَهُ وَخَانَهُ. انْتَهَى. وَلَا يَنْحَصِرُ الشَّرْطُ فِي ذَيْنِكَ الْمُعَيَّنَيْنِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرْدٌ مِمَّنْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ: مَنْ. أَلَا تَرَى كَيْفَ جُمِعَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا قَالُوا وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: تَأْمَنْهُ، هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِلَا خِلَافٍ، وَيُحْتَمَلُ

أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَجَمَعَ الْأُمِّيِّينَ وَهُمْ أَتْبَاعُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: تِئْمَنْهُ، في الحرفين، و: تئمنا، فِي يُوسُفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مسعود، والأشهب العقيلي، وابن وَثَّابٍ: تِيمَنْهُ، بِتَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا، قَالَ الدَّانِيُّ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَأَمَّا إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً فِي: تِئْمَنْهُ، فَلِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا كَمَا أَبْدَلُوا فِي بِئْرٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ عَلَى حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ: فِعْلٍ، وَمِنْ: مَا أَوَّلَهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ نَسْتَعِينُ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَالَ: ابْنُ عَطِيَّةَ، حِينَ ذَكَرَ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ: وَمَا أَرَاهَا إِلَّا لُغَةً: قُرَشِيَّةً، وَهِيَ كَسْرُ نُونِ الْجَمَاعَةِ: كَنَسْتَعِينَ، وَأَلِفُ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: لَا إِخَالَهُ، وَتَاءِ الْمُخَاطَبِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَكْسِرُونَ الْيَاءَ فِي الْغَائِبِ، وَبِهَا قَرَأَ أُبَيٌّ فِي: تِئْمَنْهُ. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا يُكْسَرُ فِيهِ حُرُوفُ الْمُضَارَعَةِ بِقَانُونٍ كُلِّيٍّ، وَمَا ظَنَّهُ مِنْ أَنَّهَا لُغَةٌ قُرَشِيَّةٌ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي نَسْتَعِينُ «2» وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الْقِنْطَارِ، فِي قَوْلِهِ: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ «3» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤَدِّهِ، بِكَسْرِ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِيَاءٍ. وَقَرَأَ قَالُونَ بِاخْتِلَاسِ الْحَرَكَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ بِالسُّكُونِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا الْإِسْكَانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ غَلَطٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّ الْهَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْزَمَ، وَإِذَا لَمْ تُجْزَمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ فِي الْوَصْلِ. وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَأَرَاهُ كَانَ يَخْتَلِسُ الْكَسْرَةَ، فَغَلَطٌ عَلَيْهِ كَمَا غَلِطَ عَلَيْهِ فِي: بَارِئِكُمْ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ ضَابِطٌ لِمِثْلِ هَذَا، أَنَّهُ كَانَ يَكْسِرُ كَسْرًا خَفِيفًا. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ الْإِسْكَانَ غَلَطٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ هِيَ قِرَاءَةٌ فِي السَّبْعَةِ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَكَفَى أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ إِمَامِ الْبَصْرِيِّينَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ صَرِيحٌ، وَسَامِعُ لُغَةٍ، وَإِمَامٌ فِي النَّحْوِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَذْهَبَ عَنْهُ جَوَازُ مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ. وَحَكَى ذَلِكَ لُغَةً لِبَعْضِ الْعَرَبِ تَجْزِمُ فِي الْوَصْلِ وَالْقَطْعِ. وَقَدْ رَوَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ لُغَةَ عَقِيلٍ وَكِلَابٍ: أَنَّهُمْ يَخْتَلِسُونَ الْحَرَكَةَ فِي هَذِهِ الْهَاءِ إِذَا كَانَتْ بَعْدَ مُتَحَرِّكٍ، وَأَنَّهُمْ يُسَكِّنُونَ أَيْضًا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابَ عقيل وكلاب

_ (2- 1) سورة الفاتحة: 1/ 2. (3) سورة آل عمران: 3/ 14.

يَقُولُونَ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «1» بِالْجَزْمِ، وَ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، بِغَيْرٍ تَمَامٍ وَلَهُ مَالٌ وَغَيْرُ عَقِيلٍ وَكِلَابٍ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمُ اخْتِلَاسٌ وَلَا سُكُونٌ فِي: لَهُ وَشَبَهِهِ، إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ. لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صَوْتٌ حَادٌّ وَقَالَ: إِلَّا لِأَنَّ عُيُونَهُ سَيْلُ وَادِيهَا وَنَصَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ حَرَكَةَ هَذِهِ الْهَاءِ بَعْدَ الْفِعْلِ الذَّاهِبِ مِنْهُ حَرْفٌ لِوَقْفٍ أَوْ جَزْمٍ يَجُوزُ فِيهَا الْإِشْبَاعُ، وَيَجُوزُ الِاخْتِلَاسُ، وَيَجُوزُ السُّكُونُ. وَأَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ، يُقَالُ عَنْهُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَى ثَعْلَبٍ فِي كِتَابِهِ: (الْفَصِيحُ) مَوَاضِعَ زَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُهَا، وَرَدَّ النَّاسُ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ فِي إِنْكَارِهِ، وَنَقَلُوهَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَمِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِ: أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ، وَكَانَ ثَعْلَبُ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَإِمَامًا فِي النَّحْوِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَنَقَلُوا أَيْضًا قِرَاءَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا ضَمُّ الهاء ووصلها بواو، وهي قِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ، وَالْأُخْرَى: ضَمُّهَا دُونَ وَصْلٍ، وَبِهَا قَرَأَ سَلَّامٌ. وَالْبَاءُ فِي: بِقِنْطَارٍ، وَفِي: بِدِينَارٍ قِيلَ: لِلْإِلْصَاقِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَلَى، إِذِ الْأَصْلُ أَنْ تَتَعَدَّى بِعَلَى، كَمَا قَالَ مَالِكٌ: لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ «2» وَقَالَ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ «3» وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي أَيْ: فِي حِفْظِ قِنْطَارٍ، وَفِي حِفْظِ دِينَارٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقِنْطَارَ وَالدِّينَارَ مِثَالَانِ لِلْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، فَيَدْخُلُ أَكْثَرُ مِنَ الْقِنْطَارِ وَأَقَلُّ. وَفِي الدِّينَارِ أَقَلُّ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أن يُرِيدَ طِبْقَهُ يَعْنِي فِي الدِّينَارِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي دِينَارٍ فَمَا زَادَ، وَلَمْ يَعْنِ بِذِكْرِ الْخَائِنِينَ فِي: أَقَلَّ، إِذْ هُمْ طُغَّامٌ حُثَالَةٌ. انْتَهَى. وَمَعْنَى: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: مُتَقَاضِيًا بِأَنْوَاعِ التَّقَاضِي مِنَ: الْخَفْرِ، وَالْمُرَافَعَةِ إِلَى الْحُكَّامِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ هَيْئَةَ الْقِيَامِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِيَامِ الْمَرْءِ عَلَى أَشْغَالِهِ: أَيِ اجْتِهَادِهِ فِيهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ وَهِيَ الْهَيْئَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَذَلِكَ نهاية الخفر، لأن

_ (1) سورة العاديات: 100/ 6. (2) سورة يوسف: 12/ 11. (3) سورة يوسف: 12/ 64.

مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فِي صَدَدِ شُغْلٍ آخَرَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَانْتَزَعُوا مِنَ الْآيَةِ جَوَازَ السِّجْنِ، لِأَنَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ هُوَ يَمْنَعُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ فِي غَيْرِ الْقَضَاءِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَبَيْنَ السِّجْنِ. وَقِيلَ: قَائِمًا بوجهك فيهابك وَيَسْتَحِي مِنْكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى: دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا، أَيْ: مُسْتَعْلِيًا، فَإِنِ اسْتَلَانَ جَانِبُكَ لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْكَ أَمَانَتَكَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ، وَطَلْحَةُ، وَغَيْرُهُمْ: دِمْتَ بِكَسْرِ الدَّالِّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مُضَارِعِهِ. وَ: مَا، فِي: مَا دمت، مصدرية ظرفية. و: دمت، نَاقِصَةٌ فَخَبَرُهَا: قَائِمًا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ: مَا، مَصْدَرِيَّةً فَقَطْ لَا ظرفية، فتقدر بِمَصْدَرٍ، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ يَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَحْوَالِ لَا مِنَ الْأَزْمَانِ. قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا فِي حَالِ مُلَازَمَتِكَ لَهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: قَائِمًا، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، لا خبرا لدام، لِأَنَّ شَرْطَ نَقْصِ: دَامَ، أن يكون صلة لما الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ رُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ اسْتِحْلَالَ أَمْوَالِ. الْعَرَبِ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ أَوْثَانٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَرَبِ، بَقِيَ الْيَهُودُ فِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُعْتَقَدِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَانِعَةً مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي، إلّا الأمانة فإنها مؤادّة إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» . وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى تَرْكِ الْأَدَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَا يُؤَدِّهِ، أَيْ: كَوْنُهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ كَانَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي: بِأَنَّهُمْ، قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى لَفِيفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى: مَنْ، فِي قَوْلِهِ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ تَرَكَ الْأَدَاءَ فِي الدِّينَارِ فَمَا دُونَهُ وَفَمَا فَوْقَهُ كَائِنٌ بِسَبَبِ قَوْلِ الْمَانِعِ لِلْأَدَاءِ الْخَائِنِ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْعَرَبُ. وَتَقَدَّمَ كَوْنُهُمْ سُمُّوا أُمِّيِّينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالسَّبِيلُ، قِيلَ: الْعِتَابُ وَالذَّمُّ. وَقِيلَ: الْحُجَّةُ عَلَى، نَحْوِ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:

وَهَلْ أَنَا إِنْ عَلَلْتُ نَفْسِي بِسَرْحَةٍ ... مِنَ السَّرْحِ موجود عَلَيَّ طَرِيقُ وَقَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: السَّبِيلُ هُنَا الْفِعْلُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِثْمِ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْهِمْ طَرِيقٌ فِيمَا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْأُمِّيِّينَ. قَالَ: وَسَبَبُ اسْتِبَاحَتِهِمْ لِأَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ أَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ بَاقُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِتَكْذِيبِ الْيَهُودِ لِلْقُرْآنِ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُمُ انْتُقِضَ الْعَهْدُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ إِسْلَامِهِمْ، فَصَارُوا كَالْمُحَارِبِينَ، فَاسْتَحَلُّوا أَمْوَالَهُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي كِتَابِهِمْ أَخْذُ مَالِ مَنْ خَالَفَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ: الْأَمْوَالُ كُلُّهَا كَانَتْ لَنَا، فَمَا فِي أَيْدِي الْعَرَبِ مِنْهَا فَهُوَ لَنَا، وَأَنَّهُمْ ظَلَمُونَا وَغَصَبُونَا، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْنَا فِي أَخْذِ أَمْوَالِنَا مِنْهُمْ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ صَعْصَعَةَ، أَنَّ رَجُلًا قال لابن عَبَّاسٍ: أَنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ: الشَّاةَ وَالدَّجَاجَةَ، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بَأْسٌ، فَقَالَ لَهُ: هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَنَّهُمْ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ. وَذَكَرَ هَذَا الْأَثَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّاةِ أَوِ الدَّجَاجَةِ، قَالَ: فَيَقُولُونَ مَاذَا قَالَ؟ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ بَأْسٌ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيِ الْقَوْلَ الْكَذِبَ يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ بِادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُمَا: ادَّعَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ إِحْلَالًا لَهُمْ أَمْوَالَ الْأُمِّيِّينَ كَذِبًا مِنْهَا وَهِيَ عَالِمَةٌ بِكَذِبِهَا، فَيَكُونُ الْكَذِبُ الْمَقُولُ هُنَا هُوَ هَذَا الْكَذِبَ الْمَخْصُوصَ فِي هَذَا الْفَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، فَيَنْدَرِجُ هَذَا فِيهِ، أَيْ: هُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ وَهُمْ عُلَمَاءُ بِمَوْضِعِ الصِّدْقِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: عَلَيْنَا، خَبَرَ: لَيْسَ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ: فِي الْأُمِّيِّينَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى عَمَلِ: لَيْسَ، فِي الْجَارِّ، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ: سَبِيلٌ، بعلينا، وَفِي: لَيْسَ، ضَمِيرُ الْأَمْرِ، ويتعلق: على الله، بيقولون بِمَعْنَى: يَفْتَرُونَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حالا من الْكَذِبِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَذِبِ.

قِيلَ: لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَنْعِي عَلَيْهِمْ قَبِيحَ مَا يَرْتَكِبُونَ مِنَ الْكَذِبِ، أَيْ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَبْعُدُ وَيَقْبُحُ أَنْ يُكْذَبَ فِيهِ، فَكِذْبُهُمْ لَيْسَ عَنْ غَفْلَةٍ وَلَا جَهْلٍ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ عِلْمٍ. بَلى جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِدَعْوَاهِمْ، وَالْمَعْنَى: بَلَى عَلَيْهِمْ فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: بَلَى، فِي قَوْلِهِ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِالْعَهْدِ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي نَقْضِهِ فَهُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتَّقَى هُنَا مَعْنَاهُ اتَّقَى الشِّرْكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ بعد بلى، وَ: مَنْ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، و: أوفى، لُغَةُ الْحِجَازِ. وَ: وَفَى، خَفِيفَةٌ لُغَةُ نَجْدٍ. وَ: وَفَّى، مُشَدَّدَةٌ لُغَةٌ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَالظَّاهِرُ فِي: بِعَهْدِهِ، أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى: مَنْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَدْخُلُ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، الْعَهْدُ الْأَعْظَمُ مِنْ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ أُضِيفَ الْعَهْدُ إِلَى: مَنْ، أَوْ: إِلَى اللَّهِ، وَالشَّرَائِطُ لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ أَوِ الْجَزَائِيَّةِ بِمَنْ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمُتَّقِينَ، أَوْ مَا قَبْلَهُ، فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: يُحِبُّهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَأَتَى بِلَفْظِ: الْمُتَّقِينَ، عَامًّا تَشْرِيفًا للتقوى دحضا عَلَيْهَا. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ: أَبِي رَافِعٍ، وَكِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. أَوْ: فِيمَنْ حَرَّفَ نَعْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْيَهُودِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوْ: فِي خُصُومَةِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَعَ يَهُودِيٍّ، أَوْ مَعَ بَعْضِ قَرَابَتِهِ. أَوْ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ مَسَاءً لَأُعْطِي بِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ كَذَا، يَمِينًا كَاذِبَةً، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ. وَالْإِضَافَةُ فِي بِعَهْدِ اللَّهِ إِمَّا لِلْفَاعِلِ وَإِمَّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: بِعَهْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ من الإيمان

_ (1) سورة البقرة: 2/ 81. [.....]

بِالرَّسُولِ الَّذِي بُعِثَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَبِأَيْمَانِهِمُ الَّتِي حَلَفُوهَا لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنَنْصُرَنَّهُ، أَوْ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ: مَتَاعُ الدُّنْيَا مِنَ الرُّشَى والتراؤس وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَا احْتَفَّ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْآيَاتِ الَّتِي بَعْدِهَا. أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ: لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، اعْتَاضُوا بِالْقَلِيلِ الْفَانِي عَنِ النَّعِيمِ الْبَاقِي، وَنَعْنِي: لَا نَصِيبَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ، نَفْيَ نَصِيبِ الْخَيْرِ عَنْهُ. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُكَلِّمُهُمْ جُمْلَةً وَإِنَّمَا تُحَاسِبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ، أَيْ: لَا يَحْفَلُ بِهِمْ، وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَقَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ شَرْحُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «1» . وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ وَالسُّخْطِ عَلَيْهِمْ، تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْظُرُ إِلَى فُلَانٍ، يُرِيدُ نَفْيَ اعْتِدَادِهِ بِهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ. فَإِنْ قُلْتَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ وَفِيمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. قُلْتُ أَصْلُهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ الْكِنَايَةُ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالْإِنْسَانِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَأَعَارَهُ نَظَرَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ عِبَارَةً عَنِ الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَظَرٌ، ثُمَّ جَاءَ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مُجَرَّدًا لِمَعْنَى الْإِحْسَانِ مَجَازًا عَمَّا وَقَعَ كِنَايَةً عَنْهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَا يَنْظُرُ. أَيْ: لَا يَرْحَمُ. قَالَ: فَقُلْتُ انْظُرِي يَا أَحْسَنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ... لِذِي غَلَّةِ صَدْيَانَ قَدْ شَفَّهُ الْوَجْدُ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ أَوْ لَا يُنَمِّي أَعْمَالَهُمْ، فَهِيَ تَنْمِيَةٌ لَهُمْ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ، قَالَهُ الْحَسَنُ: أَوْ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هم الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ غَيَّرُوا التَّوْرَاةَ. وَكَتَبُوا كِتَابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَخَذَتْ قُرَيْظَةُ مَا كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي عندهم.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 174.

يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أَيْ: يَفْتِلُونَهَا بِقِرَاءَتِهِ عَنِ الصَّحِيحِ إِلَى الْمُحَرَّفِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحَرِّفُونَ وَيَتَحَيَّلُونَ لِتَبْدِيلِ الْمَعَانِي مِنْ جِهَةِ اشْتِبَاهِ الْأَلْفَاظِ وَاشْتِرَاكِهَا وَتَشَعُّبِ التَّأْوِيلَاتِ فِيهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَاعِنَا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَيْسَ التَّبْدِيلَ الْمَحْضَ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّيَّ وَقَعَ بِالْكِتَابِ أَيْ: بِأَلْفَاظِهِ لَا بِمَعَانِيهِ وَحْدَهَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلِ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ وَقَعَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَالْمَعَانِي تَبَعٌ لِلْأَلْفَاظِ، وَمَنْ طَالَعَ التَّوْرَاةَ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ التَّبْدِيلَ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ أَشْيَاءَ يَجْزِمُ الْعَاقِلُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي كِتَابٍ إِلَهِيٍّ مِنْ كَثْرَةِ التَّنَاقُضِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَعْدَادِ وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَكْلِ وَالْمُصَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَذِبِ وَالسُّكْرِ مِنَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا بِبَنَاتِهِمْ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ الَّتِي يُنَزِّهُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَتَّصِفَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَضْلًا عَنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ صَنَّفَ الشيخ علاء الدين عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَطَّابٍ الْبَاجِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كِتَابًا فِي (السُّؤَالَاتِ عَلَى أَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ وَمَعَانِيهِ) وَمَنْ طَالَعَ ذَلِكَ الْكِتَابَ رَأَى فِيهِ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ، وَجَزَمَ بِالتَّبْدِيلِ لِأَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ وَمَعَانِيهَا، هَذَا مَعَ خُلُوِّهَا مِنْ ذِكْرِ: الْآخِرَةِ، وَالْبَعْثِ، وَالْحَشْرِ، وَالنَّشْرِ، وَالْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ الْأُخْرَوِيَّيْنِ، وَالتَّبْشِيرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَدْ ذَكَرَ رَسُولَهُ وَصَحَابَتَهُ. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ «2» . وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَقْتَضِي إِخْفَاءَهُمْ لِكَثِيرٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً «3» وَقَالَ تَعَالَى يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ «4» فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْفَوْهُ مِنَ الْكِتَابِ كَثِيرٌ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّ الَّذِي أَبْدَوْهُ من الكتاب قليل.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 157. (2) سورة الفتح: 48/ 29. (3) سورة الأنعام: 6/ 91. (4) سورة المائدة: 5/ 15.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَلْوُونَ، مُضَارِعُ: لَوَى وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَشَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ نَافِعٍ: يُلَوُّونَ بِالتَّشْدِيدِ، مُضَارِعُ: لَوَّى، مُشَدَّدًا. وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالتَّضْعِيفُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرُ فِي الْفِعْلِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ: يَلُونَ، بِضَمِّ اللَّامِ، وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهَا رِوَايَةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَوُجِّهَتْ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ: يَلْوُونَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا، وَحُذِفَتْ هِيَ. وَالْكِتَابُ: هُنَا التَّوْرَاةُ، وَالْمُخَاطَبُ في: لتحسبوه، المسلمون. وقرىء: لِيَحْسَبُوهُ، بِالْيَاءِ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ لَهُمْ، أَيْ: لِيَحْسَبَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ فِي: لِيَحْسَبُوهُ، عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّفِ، أَيْ لِيَحْسَبُوا الْمُحَرَّفَ مِنَ الْكِتَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِالْكِتَابِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِشِبْهِ الْكِتَابِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ «1» أَيْ: أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، فَأَعَادَ الْمَفْعُولَ فِي: يَغْشَاهُ، عَلَى: ذِي، الْمَحْذُوفِ. وَما هُوَ: مِنَ الْكِتابِ أَيْ: وَمَا الْمُحَرَّفُ وَالْمُبَدَّلُ الَّذِي لَوُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَلَا تَظُنُّوا ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَأْكِيدٌ لِمَا قَصَدُوهُ مِنْ حُسْبَانِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَافْتِرَاءٍ عَظِيمٍ عَلَى اللَّهِ، إِذْ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ حَتَّى عَضَّدُوا ذَلِكَ بِالْقَوْلِ لِيُطَابِقَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِضُونَ، وَلَا يَوَدُّونَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ هَكَذَا، وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُوسَى كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لفرط جرأتهم عَلَى اللَّهِ وَيَأْسِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ. وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي إِخْبَارِهِمْ بِالْكَذِبِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ نَفْيٌ أَوَّلًا أَخَصُّ، إِذِ التَّعْلِيلُ كَانَ لِأَخَصَّ، وَنَفْيٌ هُنَا أَعَمُّ، لِأَنَّ الدَّعْوَى مِنْهُمْ كَانَتْ الأعم، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ غَيْرِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولا

_ (1) سورة النور: 24/ 40.

مِنْ فِعْلِهِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ كَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى نَفْيًا عَامًّا لِكَوْنِ الْمَعَاصِي مِنْ عِنْدِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ الرَّازِيُّ يَجْنَحُ إِلَى مَذْهَبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَفَى أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا كَمَا ادَّعَوْا، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالْإِيجَادِ، وَمِنْهُمْ بِالتَّكَسُّبِ. وَلَمْ تَعْنِ الْآيَةُ إِلَّا مَعْنَى التَّنْزِيلِ، فَبَطُلَ تَعَلُّقُ الْقَدَرِيَّةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا آنِفًا. مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ رُوِيَ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ الْقُرَظِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالْوَفْدُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ وَنَتَّخِذَكَ إِلَهًا كَمَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى؟ فَقَالَ الرَّئِيسُ مِنْ نصارى نجران: أو ذاك تُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَاذَ اللَّهِ مَا بِذَلِكَ أَمَرْتُ وَلَا إِلَيْهِ دَعَوْتُ» ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ» . وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى مَنْ هِيَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِبَشَرٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَجَمَاعَةٌ: الْإِشَارَةُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرُوا سَبَبَ النُّزُولِ الْمَذْكُورَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ، وَغَيْرُهُ: الْإِشَارَةُ إِلَى عِيسَى، وَالْآيَةُ رَادَّةٌ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: عِيسَى إِلَهٌ، وَادَّعَوْا أَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ شِرْعَةٌ مُسْتَنَدَةٌ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَمَعْنَى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ وَمَا جَاءَ نَحْوَهُ أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ الْكَوْنَ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّفْيِ التَّامِّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «1» وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «2» . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاءُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِفَاءِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّفْيِ غَيْرِ التَّامِّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ الله عَنْهُ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

_ (1) سورة النمل: 27/ 60. (2) سورة آل عمران: 3/ 145.

وَمُدْرَكُ الْقِسْمَيْنِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ الَّذِي النَّفْيُ فِيهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي الْكَذَبَةَ وَالْمُدَّعِينَ النُّبُوَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَالْكِتَابُ: هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَالْحُكْمُ: قِيلَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ، وَمِنْهُ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحُكْمًا» . وَقِيلَ: الْحُكْمُ هُنَا السَّنَةُ، يَعْنُونَ لِمُقَابَلَتِهِ الْكِتَابَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ هُنَا الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرَقِّي، بَدَأَ أَوَّلًا بِالْكِتَابِ وَهُوَ الْعِلْمُ، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى التَّمْكِينِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَهِيَ مَجْمَعُ الْخَيْرِ. ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: أَتَى بِلَفْظِ: ثُمَّ، الَّتِي هِيَ لِلْمُهْلَةِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْقَوْلِ، وَإِذَا انْتَفَى هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ الْمُهْلَةِ كَانَ انْتِفَاؤُهُ بِدُونِهَا أَوْلَى وَأَحْرَى، أَيْ: إِنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ الْعَظِيمَ لَا يُجَامِعُ هَذَا الْقَوْلَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُهْلَةٍ مِنْ هَذَا الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ. كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادًا جَمْعُ عَبْدٍ. قال ابن عطية: ومن جُمُوعِهِ: عَبِيدٌ وَعِبَدَّى. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: هَذِهِ الْجُمُوعُ كُلُّهَا بِمَعْنًى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعِبَادُ لِلَّهِ وَالْعَبِيدُ لِلْبَشَرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعِبَدَّى إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْعَبِيدِ بَنِي الْعَبِيدِ، كَأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَالَّذِي اسْتُقْرِئَتْ فِي لَفْظَةِ: الْعِبَادِ، أَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ، مَتَى سِيقَتِ اللَّفْظَةُ فِي مِضْمَارِ التَّرْفِيعِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الطَّاعَةِ دُونَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَعْنَى التَّحْقِيرِ وَتَصْغِيرِ الشَّأْنِ فَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «1» وعِبادٌ مُكْرَمُونَ «2» ويا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «3» وَقَوْلَ عِيسَى فِي مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَالتَّعْرِيضِ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «4» . وَأَمَّا: الْعَبِيدُ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّحْقِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: قُولَا لِدُودَانَ عَبِيدِ الْعَصَا ... مَا غَرَّكُمْ بِالْأَسَدِ الْبَاسِلِ وَمِنْهُ قَوْلُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، وَمِنْهُ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «5» لِأَنَّهُ مَكَانُ تَشْقِيقٍ وَإِعْلَامٍ بِقِلَّةِ انْتِصَارِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ليس بظلام لهم

_ (1) سورة البقرة: 2/ 207 وآل عمران: 3/ 30. (2) سورة الأنبياء: 21/ 26. (3) سورة الزمر: 39/ 10. (4) سورة المائدة: 5/ 118. (5) سورة فصلت: 41/ 46.

مَعَ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ لَفْظَةُ الْعِبَادِ تَقْتَضِي الطَّاعَةَ، لَمْ يَقَعْ هُنَا، وَلِذَلِكَ أُنِسَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّظَرِ يَسْلُكُ بِكَ سَبِيلَ الْعَجَائِبِ في حين فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ السَّلِيمَةِ، وَمَعْنَى قوله: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ اعْبُدُونِي وَاجْعَلُونِي إِلَهًا. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَفِيهِ بَعْضُ مُنَاقَشَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ جُمُوعِهِ: عَبِيدٌ وَعِبَدَّى، أَمَّا عَبِيدٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَمْعٌ. وقيل: اسم جمع، و: أما عِبَدَّى فَاسْمُ جَمْعٍ، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ. وَأَمَّا مَا اسْتَقْرَأَهُ أَنَّ عِبَادًا يُسَاقُ فِي مِضْمَارِ التَّرْفِيعِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الطَّاعَةِ دُونَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَعْنَى التَّحْقِيرِ وَالتَّصْغِيرِ، وَإِيرَادِهِ أَلْفَاظًا فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ الْعِبَادِ، وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَيُسْتَعْمَلُ فِي تَحْقِيرٍ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَقَوْلَ حَمْزَةَ وَقَوْلَهُ تَعَالَى بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «2» فَلَيْسَ بِاسْتِقْرَاءٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ: عِبَادٍ، دُونَ: عَبِيدٍ، لِأَنَّ فعالا في جمع فعل غَيْرِ الْيَائِيِّ الْعَيْنِ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ، وَجَمْعُ فَعْلٍ عَلَى فَعِيلٍ لَا يَطَّرِدُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَرُبَّمَا جَاءَ فَعِيلًا وَهُوَ قَلِيلٌ، نَحْوَ: الْكُلَيْبُ وَالْعَبِيدُ. انْتَهَى. فَلَمَّا كَانَ فِعَالٌ هُوَ الْمَقِيسَ فِي جَمْعِ: عَبْدٍ، جَاءَ: عِبَادٌ، كَثِيرًا. وَأَمَّا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «3» فَحَسُنَ مَجِيئُهُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقِيسًا أَنَّهُ جَاءَ لِتَوَاخِي الْفَوَاصِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ «4» وَبَعْدَهُ قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ «5» فَحَسُنَ مَجِيئُهُ بِلَفْظِ الْعَبِيدِ مُوَاخَاةَ هَاتَيْنِ الْفَاصِلَتَيْنِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ ق: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «6» لِأَنَّ قَبْلَهُ قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ «7» وَبَعْدَهُ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ «8» وَأَمَّا مَدْلُولُهُ فَمَدْلُولُ: عِبَادٍ، سَوَاءً. وَأَمَّا بَيْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ فَلَمْ يُفْهَمِ التَّحْقِيرُ مِنْ لَفْظِ: عَبِيدٍ، إِنَّمَا فُهِمَ مِنْ إِضَافَتِهِمْ إِلَى الْعَصَا، وَمِنْ مَجْمُوعِ الْبَيْتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ حَمْزَةَ إِنَّمَا فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَى التَّحْقِيرِ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَأَتَى فِي الْبَيْتِ، وَفِي وقل حَمْزَةَ عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 10. [.....] (3- 2) سورة فصلت: 41/ 46. (4) سورة فصلت: 41/ 44. (5) سورة فصلت: 41/ 47. (6) سورة ق: 50/ 29. (7) سورة ق: 50/ 28. (8) سورة ق: 50/ 30.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثُمَّ يَقُولَ، بالنصب عطفا على: أن يُؤْتِيَهُ، وَقَرَأَ شِبْلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ: ثُمَّ هُوَ يَقُولُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عِبَادًا لِي، بِتَسْكِينِ يَاءِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِفَتْحِهَا. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ يَقُولُ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، وَالرَّبَّانِيُّ الْحَكِيمُ الْعَالِمُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَأَبُو رَزِينٍ. أَوِ: الْفَقِيهُ، قَالَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ. أَوِ: الْعَالِمُ الْحَلِيمُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. أَوِ: الْحَكِيمُ الْفَقِيهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أو: الفقيه العلم، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ. أَوْ: وَالِي الْأَمْرِ يُرَبِّيهِمْ وَيُصْلِحُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: الْحَكِيمُ التَّقِيُّ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أَوْ: الْمُعَلِّمُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوِ: الْعَالِمُ، قَالَهُ الْمِبْرَدُ. أَوِ: التَّائِبُ لِرَبِّهِ، قَالَه الْمُؤَرِّجُ. أَوِ: الشَّدِيدُ التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوِ: الْعَالِمُ الْحَكِيمُ النَّاصِحُ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ، قَالَهُ عَطَاءٌ. أَوِ: الْعَالِمُ الْعَامِلُ بِعِلْمِهِ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أَوْ: الْعَالِمُ الْمُعَلِّمُ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَلِلصُّوفِيَّةِ فِي تفسيره أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّ فَوْقَ الْحَبْرِ، لِأَنَّ الْحَبْرَ هُوَ الْعَالِمُ، وَالرَّبَّانِيَّ الَّذِي جَمَعَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ النَّظَرَ بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِ الرَّعِيَّةِ وَمَا يُصْلِحُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصَغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَجُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي الرَّبَّانِيِّ: إِنَّهُ الْعَالِمُ الْمُصِيبُ فِي التَّقْدِيرِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا فِي النَّاسِ انْتَهَى. وَلَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، وَ: مَا، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مصدرية، و: تعلمون، مُتَعَدٍ لِوَاحِدٍ عَلَى قِرَاءَةِ الحرميين وأبي عمرو إذ قرأوا بِالتَّخْفِيفِ مُضَارِعُ عَلِمَ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتَحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، إِذْ هِيَ مَنْقُولَةٌ بِالتَّضْعِيفِ مِنَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى وَاحِدٍ، وَأَوَّلُ الْمَفْعُولَيْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْكِتَابَ. وَتَكَلَّمُوا فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنِّي لَا أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِيحِ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَنْقُولَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ قرآنا، فَلَا تَرْجِيحَ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى.

[سورة آل عمران (3) : آية 80]

وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: تَعَلَّمُونَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ مُضَارِعٌ حُذِفَتْ مِنْهُ التَّاءُ، التَّقْدِيرُ: تَتَعَلَّمُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمَحْذُوفِ مِنْهُمَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: تَدْرِسُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُ: تُدَرِّسُونَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: تُدَرِّسُونَ غَيْرَكُمُ الْعِلْمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّضْعِيفُ لِلتَّكْثِيرِ لَا للتعدية. وقرىء: تَدْرُسُونَ، مِنْ أَدْرَسَ بِمَعْنَى دَرَّسَ نَحْوَ: أَكْرَمَ وَكَرَّمَ، و: أنزل نَزَّلَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْجَبَ أَنْ تَكُونَ الرِّئَاسَةُ الَّتِي هِيَ قُوَّةُ التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مُسَبَّبَةً عَنِ الْعِلْمِ وَالدِّرَاسَةِ، وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى خَيْبَةِ سَعْيِ مَنْ جهد نفسه وكدر وجه فِي جَمْعِ الْعِلْمِ، ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْهُ ذَرِيعَةً إِلَى الْعَمَلِ، فَكَانَ مِثْلَ مَنْ غَرَسَ شَجَرَةً حَسْنَاءَ تُونِقُهُ بِمَنْظَرِهَا وَلَا تَنْفَعُهُ بِثَمَرِهَا، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا، بَعْدَ أَسْطُرٍ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ وَدَرَسَ الْعِلْمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ السَّبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مُنْقَطِعٌ حَيْثُ لَمْ تَثْبُتِ النِّسْبَةُ إِلَيْهِ إِلَّا لِلْمُتَمَسِّكِينَ بِطَاعَتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا عَالِمًا إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ. [سورة آل عمران (3) : آية 80] وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالنَّحْوِيَّانِ، وَالْأَعْشَى وَالْبَرْجَمِيُّ: بِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى الْقَطْعِ، وَيَخْتَلِسُ أَبُو عَمْرٍو الْحَرَكَةَ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌّ فِي يَأْمُرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَائِدٌ عَلَى: بَشَرٍ، الْمَوْصُوفِ بِمَا سَبَقَ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْ بَشَرٍ مَوْصُوفٍ بِمَا وُصِفَ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ رَبًّا فَيُعْبَدَ، وَلَا هُوَ أَيْضًا يَأْمُرُ بِاتِّخَاذِ غَيْرِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَأَنْبِيَاءَ أَرْبَابًا، فَانْتَفَى أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، فَانْتَفَى أَمْرُ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَأَمْرُ أَنْبِيَائِهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ وَلَا يَأْمُرَكُمْ، بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَا لَهُ أَنْ يَأْمُرَكُمْ، فَقَدَّرُوا: أَنْ، مُضْمَرَةً بَعْدَ: لَا، وَتَكُونُ: لَا، مُؤَكِّدَةً مَعْنَى النَّفْيِ السَّابِقِ، كَمَا تَقُولُ: مَا كَانَ مِنْ زَيْدٍ إِتْيَانٌ وَلَا قِيَامٌ. وَأَنْتَ تُرِيدُ انْتِفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ زَيْدٍ، فَلَا لِلتَّوْكِيدِ فِي النَّفْيِ السَّابِقِ، وَصَارَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ زَيْدٍ إِتْيَانٌ وَلَا مِنْهُ قِيَامٌ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْمُرَكُمْ، بِالنَّصْبِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ لَا يَلْتَئِمُ بِهِ الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الْخَطَأِ وَلَا عَدَمَ الْتِئَامِ الْمَعْنَى بِهِ، وَوَجْهُ الْخَطَأِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى: ثُمَّ يَقُولَ، وَكَانَتْ لَا لِتَأْسِيسِ النَّفْيِ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ الْعَامِلُ قَبْلَ: لَا، وَهُوَ: أَنْ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ: أَنْ، وَالْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ مَصْدَرٌ مُنْتَفٍ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ مَوْصُوفٍ بِمَا وصف به انفاء أَمْرِهِ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الِانْتِفَاءُ كَانَ لَهُ الثُّبُوتُ، فَصَارَ آمِرًا بِاتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِذَا جَعَلْتَ لَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ السَّابِقِ كَانَ النَّفْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الْمَصْدَرَيْنِ الْمُقَدَّرِ ثُبُوتُهُمَا، فَيَنْتَفِي قَوْلُهُ: كُونُوا عِباداً لِي وَأَمَرُهُ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى وَضْعُ: غَيْرٍ، مَوْضِعَ: لَا، فَإِذَا قُلْتَ: مَا لِزَيْدٍ فِقْهٌ وَلَا نَحْوٌ، كَانَتْ: لَا، لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَانْتَفَى عَنْهُ الْوَصْفَانِ، وَلَوْ جَعَلْتَ: لَا، لِتَأْسِيسِ النَّفْيِ كَانَتْ بِمَعْنَى: غَيْرٍ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى انْتِفَاءَ الْفِقْهِ عَنْهُ وَثُبُوتَ النَّحْوِ لَهُ، إِذْ لَوْ قُلْتَ: مَا لِزَيْدٍ فِقْهٌ وَغَيْرُ نَحْوٍ، كَانَ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ النَّحْوِ له، كأنك قلت: ماله غَيْرُ نَحْوٍ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جِئْتُ بِلَا زَادٍ، كَانَ الْمَعْنَى: جِئْتُ بِغَيْرِ زَادٍ، وَإِذَا قُلْتَ: مَا جِئْتُ بِغَيْرِ زَادٍ، مَعْنَاهُ: أَنَّكَ جِئْتَ بِزَادٍ؟ لِأَنَّ: لَا، هُنَا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم القيام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين في: لا، وهي أن يكون لِتَأْسِيسِ النَّفْيِ، وَأَنْ يَكُونَ من عطف المنفي بلا عَلَى الْمُثْبَتِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ النَّفْيُ، نَحْوَ: مَا أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلَ وَأَنْ لَا تَتَعَلَّمَ، تُرِيدُ: مَا أُرِيدُ أَنْ لَا تَتَعَلَّمَ. وَأَجَازَ الزمخشري أن أَنْ تَكُونَ: لَا، لِتَأْسِيسِ النَّفْيِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا كَوْنَهَا زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، ثُمَّ قَالَ: وَالثَّانِي أَنْ يَجْعَلَ: لَا، غَيْرَ مَزِيدَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى قُرَيْشًا عَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عن عبادة عزير والمسيح، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ: أَنَتَّخِذُكَ رَبًّا، قِيلَ لَهُمْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْتَنْبِئَهُ اللَّهُ، ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: وَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ أَظْهَرُ، وَيَنْصُرُهَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَكَوْنُهُ بَعْدَ كَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ أَفْحَشُ وَأَقْبَحُ، إِذِ الْأَمْرُ بِالْكُفْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُنْكَرٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِكُفْرٍ لَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْآمِرُ اللَّهَ أَمِ الَّذِي اسْتَنْبَأَهُ اللَّهُ.

[سورة آل عمران (3) : آية 81]

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ إِذِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْمَلَائِكَةَ أَرْبَابًا هم الصَّابِئَةَ وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا النَّبِيِّينَ أَرْبَابًا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَمَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ سَمَّى اللَّهُ الْجَمِيعَ: كُفْرًا. وَ: بَعْدَ، ينتصب بالكفر، أو: بيأمركم، وَ: إِذْ، مُضَافَةٌ لِلْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «1» وَأُضِيفَ إِلَيْهَا: بَعْدَ، وَلَا يُضَافُ إِلَيْهَا إلّا ظرف زمان. [سورة آل عمران (3) : آية 81] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا نَفَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبَائِحَ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَكَانَ مِمَّا ذَكَرَ أَخِيرًا اشْتِرَاءَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَمَا يَؤُولُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَدَّلَ فِي كِتَابِهِ وَغَيَّرَ، وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَّهَ رَسُولَهُ عَنِ الْأَمْرِ بِأَنْ يَعْبُدَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، بَلْ تَفَرَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، أَخَذَ تَعَالَى يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ وَدِينَهُ، فَذَكَرَ أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ، وَإِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ، وَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَشَهَادَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْعَهْدُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ وَشَاهِدٌ بِذَلِكَ أَنْبِيَاؤُهُمْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ: ميثاق الذي أُوتُوا الْكِتَابَ، بَدَلَ: النَّبِيِّينَ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفَيْهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: هَكَذَا هُوَ الْقُرْآنُ، وَإِثْبَاتُ النَّبِيِّينَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ لِأَنَّ الرُّوَاةَ الثِّقَاتَ نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: النبيين، كعبد اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ خَطَأٌ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِمَا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى النَّبِيِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ أُمِرُوا أَنْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْعَامِلُ: اذْكُرْ، أَوِ: اذْكُرُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي: إِذْ، قَالَ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَهُوَ حَسَنٌ، إِذْ لَا تكلف فيه.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 26.

قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ لَفْظِ إِذْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: اصْطَفَى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْآخِذُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ. فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وطاووس، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الَّذِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ دُونَ أُمَمِهِمْ، أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْ يَنْصُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَنُصْرَةُ كُلِّ نَبِيٍّ لِمَنْ بَعْدَهُ تَوْصِيَةُ مَنْ آمَنَ بِهِ أَنْ يَنْصُرَهُ إِذَا أَدْرَكَ زَمَانَهُ. وَيَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى لَفْظُ: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فيما روي عنه: أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَأُمَمِهِمْ عَلَى الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصْرِهِ، وَاجْتَزَأَ بِذِكْرِ النَّبِيِّينَ مِنْ ذِكْرِ أُمَمِهَا لِأَنَّ الْأُمَمَ أَتْبَاعٌ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى قَوْمِهِ فِيهِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ إِنْ أَدْرَكُوا زَمَانَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ أَنْ يُقِرُّوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ عُنِيَ بِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَكُونُ جِنْسًا. وَيَبْعُدُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمِيثَاقَ كَانَ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَالذَّرِّ. قَرَأَ حَمْزَةُ: لَمَا آتَيْنَاكُمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ إيتاء الكتاب والحكمة. و: ميثاق، مُضَافٌ إِلَى النَّبِيِّينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّونَ هُمُ الْمُوَثِّقُونَ لِلْعَهْدِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُوَثَّقُ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ «1» الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً «2» أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ. وَكَثِيرًا مَا وُصِفَ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي الْقُرْآنِ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ «3» ؟ وَكَذَلِكَ وَصْفُ كِتَابِهِ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ الْمَجَازُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ أَتْبَاعِ النَّبِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِيثَاقَ أَوْلَادِ النَّبِيِّينَ، فَيُوَافِقُ صَدْرَ الْآيَةِ مَا بَعْدَهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 79. (2) سورة آل عمران: 3/ 85. (3) سورة البقرة: 2/ 101.

مِيثَاقًا لِلنَّبِيِّينَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِهَذَا الْمِيثَاقِ، أَوْ يَكُونُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ مُقَدَّرًا بَعْدَ النَّبِيِّينَ، التَّقْدِيرُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ. وَيُبَيِّنُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ أَبِي، وعبد اللَّهُ: مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَيُبَيِّنُ أَيْضًا أَنَّ الْمِيثَاقَ كَانَ عَلَى الْأُمَمِ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «1» وَمُحَالٌ هَذَا الْفَرْضُ فِي حَقِّ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَتْبَاعِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: لَمَا، بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: لِمَا، بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ: لَمَّا، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ. فَأَمَّا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ: مَا، شَرْطِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ بَعْدَهَا، وَاللَّامُ قَبْلَهَا مُوَطِّئَةٌ لِمَجِيءِ: مَا، بَعْدَهَا جَوَابًا لِلْقَسَمِ، وَهُوَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ. وَ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ كِتَابٍ، كَهِيَ، فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «2» وَالْفِعْلُ بَعْدَ: مَا، مَاضٍ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ لِتَقَدُّمِ، مَا، الشَّرْطِيَّةِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَاءَكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَ: مَا، فَهُوَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَاءَكُمْ، رَابِطٌ يَرْبُطُهَا بِمَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ: جَاءَكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى الفعل بعد: ما، و: لتؤمنن بِهِ، جَوَابٌ لِقَوْلِهِ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ وَنَظِيرُهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي التَّرْكِيبِ: أُقْسِمُ لَأَيُّهُمْ صَحِبْتُ، ثُمَّ أَحْسَنَ إِلَيْهِ رَجُلٌ تَمِيمِيٌّ لَأُحْسِنَنَّ إِلَيْهِ، تُرِيدُ لَأُحْسِنَنَّ إِلَى الرَّجُلِ التَّمِيمِيِّ. فَلَأُحْسِنَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ جواب الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى: رَسُولٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ، وَهُوَ أَنَّ: مَا، شَرْطِيَّةٌ هُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ. وَسَأَلَ سِيبَوَيْهِ الْخَلِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: مَا، هاهنا بِمَنْزِلَةِ: الَّذِي، وَدَخَلَتِ اللَّامُ كَمَا دَخَلَتْ عَلَى: إِنْ، حِينَ قُلْتَ: وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَأَفْعَلَنَّ، فَاللَّامُ فِي: مَا، كَهَذِهِ الَّتِي فِي: إِنْ، وَاللَّامُ الَّتِي فِي الْفِعْلِ كَهَذِهِ الَّتِي فِي الْفِعْلِ هُنَا. انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمِثْلُ ذَلِكَ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «3» إِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى نِيَّةِ الْيَمِينِ. انْتَهَى.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 82. (2) سورة البقرة: 2/ 106. (3) سورة الأعراف: 7/ 18.

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ يُرِدِ الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ: بِمَنْزِلَةِ الَّذِي أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، بَلْ أَنَّهَا اسْمٌ، كَمَا أَنَّ الذي اسم وفرّ أَنْ تَكُونَ حَرْفًا كَمَا جاءت حرفا: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ «1» وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ «2» انْتَهَى. وَتَحَصَّلَ مِنْ كَلَام الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ: مَا، فِي: لَمَا آتَيْتُكُمْ، شَرْطِيَّةٌ وَقَدْ خَرَّجَهَا عَلَى الشُّرْطِيَّةِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: كَالْمَازِنِيِّ، وَالزَّجَّاجِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَابْنِ عَطِيَّةَ وَفِيهِ خَدْشٌ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّهُ: إِذَا كَانَتْ شَرْطِيَّةً كَانَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَحْذُوفُ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ، وَمُتَعَلِّقَاتُهُ مُتَعَلِّقَاتُهُ، فَإِذَا قُلْتَ: وَاللَّهِ لَمَنْ جَاءَنِي لَأُكْرِمَنَّهُ، فَجَوَابُ: مَنْ، مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: مَنْ جَاءَنِي أُكْرِمْهُ. وَفِي الْآيَةِ اسْمُ الشَّرْطِ: مَا، وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ مِنْ جِنْسِ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَمُتَعَلِّقُ الْفِعْلِ هُوَ ضَمِيرُ الرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ لَا ضَمِيرُ: مَا، الْمُقَدَّرُ، فَجَوَابُ: مَا، الْمُقَدَّرُ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ جَوَابِ الْقَسَمِ فَلَا يَجُوزُ ذلك، لأنه تعرّ. وَالْجُمْلَةُ الْجَوَابِيَّةُ إِذْ ذَاكَ مِنْ ضَمِيرِ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ جَوَابِ الْقَسَمِ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ لَا يُحْذَفُ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ جَوَابِ الْقَسَمِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: وَاللَّهِ لَئِنْ ضَرَبَنِي زَيْدٌ لَأَضْرِبَنَّهُ؟ فَكَيْفَ تُقَدِّرُهُ: إِنْ ضَرَبَنِي زَيْدٌ أَضْرِبُهُ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ إِنْ ضَرَبَنِي زَيْدٌ أَشْكُهُ لَأَضْرِبَنَّهُ، لِأَنَّ: لَأَضْرِبَنَّهُ، لَا يَدُلُّ عَلَى: أَشْكُهُ، فَهَذَا مَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ خَرَّجَ: مَا، عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَلَتُؤْمِنُنَّ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالشَّرْطِ جَمِيعًا فَقَوْلٌ ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ: مَا، شَرْطِيَّةً، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِنْ عَنَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسِيرَ الإعراب يَسُدُّ مَسَدَّهُمَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا، أَعْنِي: الشَّرْطَ وَالْقَسَمَ، يَطْلُبُ جَوَابًا عَلَى حِدَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِيهِ عَلَى جِهَةِ الْعَمَلِ فِيهِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَالْقَسَمُ يَطْلُبُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعَلُّقِ الْمَعْنَوِيِّ بِهِ بِغَيْرِ عَمَلٍ فِيهِ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ: مَا، مَوْصُولَةً مبتدأة،

_ (1) سورة هود: 11/ 111. [.....] (2) سورة الزخرف: 43/ 35.

وَصِلَتُهَا: آتَيْنَاكُمْ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تقديره: آتيناكموه، و: ثُمَّ جَاءَكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَالْعَائِدُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِهِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، هَكَذَا خَرَّجُوهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَخَرَّجُوهُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ: أَنَّ الرَّبْطَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْعَارِيَةِ عَنِ الضَّمِيرِ حَصَلَ بِقَوْلِهِ: لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْصُولُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لَهُ، وَقَدْ جَاءَ الرَّبْطُ فِي الصِّلَةِ بِغَيْرِ الضَّمِيرِ، إِلَّا أَنَّهُ قَلِيلٌ: رَوَى مِنْ كَلَامِهِمْ: أَبُو سَعِيدٍ الَّذِي رَوَيْتُ عَنِ الْخُدْرِيِّ، يُرِيدُونَ: رَوَيْتُ عَنْهُ. وَقَالَ: فَيَا رَبَّ لَيْلَى أَنْتَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأَنْتَ الَّذِي فِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَطْمَعُ يُرِيدُ فِي رَحْمَتِهِ أَطْمَعُ. وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، الَّذِي هُوَ: مَا، الْجُمْلَةُ مِنَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ وَجَوَابِهِ، وَهُوَ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمُبْتَدَأِ، وَلَا يَعُودُ عَلَى: رَسُولٌ، لِئَلَّا تَخْلُو الْجُمْلَةُ الَّتِي وَقَعَتْ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ رَابِطٍ يَرْبُطُهَا بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ الَّتِي هِيَ: لَمَا آتَيْنَاكُمْ، إِلَى آخِرِهِ هِيَ الْجُمْلَةُ الْمُتَلَقِّي بِهَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْقَسَمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ: مَا، مَوْصُولَةً مَفْعُولَةً بِفِعْلِ جَوَابِ الْقَسَمِ، التَّقْدِيرُ: لَتَبْلُغُنَّ مَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ حذف: لتبلغن، للدلالة عَلَيْهِ، لِأَنَّ لَامَ الْقَسَمِ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ حُذِفَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْتَقِيمُ النَّظْمُ، انْتَهَى. وَيَعْنِي: يَكُونُ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، جَوَابَ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَاللَّهِ لَزَيْدًا تُرِيدُ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَهُ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ: لَمَا، تَخْفِيفَ لَمَّا، وَالتَّقْدِيرُ: حِينَ آتَيْنَاكُمْ، وَيَأْتِي تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ: فَاللَّامُ هِيَ للتعليل، و: ما، موصولة: بآتيناكم، والعائد محذوف. و: ثُمَّ جَاءَكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَالرَّابِطُ لَهَا بِالْمَوْصُولِ إِمَّا إِضْمَارُ: بِهِ، عَلَى مَا نُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَإِمَّا هَذَا الظَّاهِرُ الَّذِي هُوَ: لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمَوْصُولُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ.

وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَجَوَابُ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ هُوَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى رَسُولٌ، وَيَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، لَوْ قُلْتَ: أَقْسَمْتُ لِلْخَبَرِ الَّذِي بَلَغَنِي عن عمرو لأحسنن إِلَيْهِ، جَازَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، أَنْ تَكُونَ: مَا، مَصْدَرِيَّةً، وَبَدَأَ بِهِ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ لِأَجَلِ إِيتَائِي إِيَّاكُمْ بَعْضَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ لِمَجِيءِ رَسُولٍ مصدق لما معكم لتؤمنن بِهِ، عَلَى أَنَّ: مَا، مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْفِعْلَانِ مَعَهَا أَعْنِي: آتَيْنَاكُمْ وَجَاءَكُمْ، فِي مَعْنَى الْمَصْدَرَيْنِ، وَاللَّامُ دَاخِلَةٌ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى مَعْنَى: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ لِيُؤْمِنُنَّ بِالرَّسُولِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ لِأَجْلِ أَنَّ آتَيْتُكُمُ الْحِكْمَةَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَنَصَرْتُهُ مُوَافِقٌ لَكُمْ غَيْرُ مُخَالِفٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ، أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْفِعْلِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، فَإِنْ عُنِيَ هَذَا الظَّاهِرُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِأَخْذِ الْمِيثَاقِ لَا لِمُتَعَلَّقِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ. فَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بأخذ، وَعَلَى ظَاهِرِ تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّامَ الْمُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا. تَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا، فَلَا يَجُوزُ: وَاللَّهِ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ فِي: لَمَا، بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي مَعْمُولِ الْجَوَابِ، إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا، تَقَدَّمَهُ، وَجُعِلَ مِنْ ذَلِكَ عِوَضُ لَا نَتَفَرَّقُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «1» فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَذَكَرَ السَّجَاوَنْدِيُّ، عَنْ صَاحِبِ النَّظْمِ: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ هِيَ بِمَعْنَى: بَعْدَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةُ: تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ فَعَلَى ذَا لَا تَكُونُ اللَّامُ فِي: لَمَا، لِلتَّعْلِيلِ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ: لَمَّا، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَيْ لَمَّا آتَاكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ، وَتَكُونُ: لَمَّا، تَؤُولُ إِلَى الْجَزَاءِ كَمَا تَقُولُ: لَمَّا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. انْتَهَى كلامه.

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 40.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ: لَمَّا، هَذِهِ هِيَ الظَّرْفِيَّةُ، أَيْ: لَمَّا كُنْتُمْ بِهَذِهِ الْحَالِ رُؤَسَاءَ النَّاسِ وَأَمَاثِلَهُمْ أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقَ، إِذْ عَلَى الْقَادَةِ يُؤْخَذُ، فَيَجِيءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَالْمَعْنَى فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا، بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى: حِينَ آتَيْتُكُمْ بَعْضَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ. انْتَهَى. فَاتَّفَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ: لَمَّا، ظَرْفِيَّةٌ، وَاخْتَلَفَا فِي تَقْدِيرِ الْجَوَابِ الْعَامِلِ فِي: لَمَّا، عَلَى زَعْمِهِمَا. فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْقَسَمِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَكِلَا قَوْلَيْهِمَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي: لَمَّا، الْمُقْتَضِيَةِ جَوَابًا، فَإِنَّهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ حَرْفُ وجواب لِوُجُوبٍ، وَلَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً بِمَعْنَى: حِينَ، وَلَا بِمَعْنَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ظَرْفِيَّتِهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كَلَامًا مُشَبَّعًا فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَذَهَبَ ابْنُ جِنِّي فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى أَنَّ أَصْلَهَا: لَمِنْ مَا، وَزِيدَتْ: مِنْ، فِي الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ كَمَا يَجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا، فَجَاءَ: لَمَمَّا، فَثَقُلَ اجْتِمَاعُ ثَلَاثِ مِيمَاتٍ، فَحُذِفَتِ الْمِيمُ الْأُولَى فَبَقِيَ: لَمَّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ الْمُلْحَقِ تَفْسِيرَ: لَمَا، بِفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: لَمِنْ مَا، زَائِدَةٌ فِي الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّقْدِيرَ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ: لَمَّا، بِالتَّشْدِيدِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى أَحَدٍ، فَقَالَ: وَقِيلَ أَصْلُهُ: لَمِنْ مَا، فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثِ مِيمَاتٍ وَهِيَ: الْمِيمَانِ وَالنُّونُ الْمُنْقَلِبَةُ مِيمًا بِإِدْغَامِهَا فِي الْمِيمِ، فَحَذَفُوا إِحْدَاهَا، فَصَارَتْ: لَمَّا، وَمَعْنَاهُ: لَمِنْ أَجْلِ مَا آتَيْنَاكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فِي الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ ابْنِ جِنِّي فِي: مِنْ، الْمُقَدَّرِ دُخُولُهَا عَلَى: مَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ ابْنِ جِنِّي أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَفِي قَوْلِ الزمخشري: فحذفوا إحداهما، إِبْهَامٌ فِي الْمَحْذُوفِ، وَقَدْ عَيَّنَهَا ابْنُ جِنِّي: بِأَنَّ الْمَحْذُوفَةَ هِيَ الْأُولَى، وَهَذَا التَّوْجِيهُ فِي قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَيُنَزَّهُ كَلَامُ

الْعَرَبِ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مِثْلُهُ، فَكَيْفَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَكَانَ ابْنُ جِنِّي كثير التمحل فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيَلْزَمُ في: لما، عَلَى مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي: لَمِنْ مَا آتَيْنَاكُمْ، زَائِدَةً، وَلَا تَكُونُ اللَّامَ الْمُوَطِّئَةَ، لِأَنَّ اللَّامَ الْمُوَطَّئَةِ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى أَدَوَاتِ الشَّرْطِ لَا عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ، لَوْ قُلْتَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَمِنْ أَجْلِكَ لَأَضْرِبَنَّ عَمْرًا، لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُوَطِّئَةً لِأَنَّهَا تُوَطِّئُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِلْقَسَمِ، فَيَصِيرُ جَوَابُ الشَّرْطِ إِذْ ذَاكَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: آتَيْنَاكُمْ، عَلَى التَّعْظِيمِ وَتَنْزِيلُ الْوَاحِدِ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آتَيْتُكُمْ، عَلَى الْإِفْرَادِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، إِذْ تَقَدَّمَهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ وَجَاءَ بَعْدَهُ إِصْرِي. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رَسُولٌ مُصَدِّقًا، نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ جَائِزٌ مِنَ النَّكِرَةِ، وَإِنْ تَقَدَّمَتِ النَّكِرَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَاسَهُ، وَيُحَسِّنُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي اللَّفْظِ مُعَرَّفَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقَوْلُهُ: لَمَا آتَيْتُكُمْ، إِنْ أُرِيدَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِيتَاءِ الْإِنْزَالَ فَلَيْسَ كُلُّهُمْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْكُلِّ بِخِطَابِ أَشْرَفِ أَنْوَاعِهِ، وَيَكُونُ التَّعْمِيمُ فِي الْأَنْبِيَاءِ مَجَازًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِيتَاءِ كَوْنُهُ مُهْتَدًى بِهِ وَدَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ صَحَّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَكُونُ التَّعْمِيمُ حَقِيقَةً. وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَجَازُ، وَهُوَ: أُمَمُهُمْ، يَكُونُ إِيتَاؤُهُمُ الْكِتَابَ كَوْنُهُ تَعَالَى جَعَلَهُ هَادِيًا لَهُمْ وَدَاعِيًا. ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ أَيْ: ثُمَّ جَاءَ فِي زَمَانِكُمْ. وَمَعْنَى التَّصْدِيقِ كَوْنُهُ مُوَافِقًا فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ، وَجَمِيعُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي زَمَانِ كُلِّ نَبِيٍّ شَرْعُهُ وَفِي قَوْلِ: رَسُولٌ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ الْمَأْخُوذَ هُوَ مَا قُرِّرَ فِي الْعُقُولِ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ هُوَ شَرْحُهُ لِصِفَاتِ الرَّسُولِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ، وَأَوْجَبَ الْإِيمَانَ أَوَّلًا، وَالنُّصْرَةَ ثَانِيًا، وَهُوَ تَرْتِيبٌ ظَاهِرٌ. قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: قَالَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وفي: أقررتم، خُوطِبَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ عَلَى الْخِلَافِ، أَهُوَ

عَلَى ظَاهِرِهِ؟ أَمْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ؟ أَمْ هُوَ مِمَّا حُذِفَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَتَقْدِيرُهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ؟ لَمْ يَكْتَفِ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ حَتَّى اسْتَنْطَقَهُ بِالْإِقْرَارٍ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ النَّبِيِّينَ، أَيْ: قَالَ كُلُّ نَبِيٍّ لِأُمَّتِهِ، أَأَقْرَرْتُمْ، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الْإِثْبَاتُ وَالتَّأْكِيدُ، لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى الْأُمَمِ، بَلْ طَالَبُوهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَبُولِ. وَيَكُونُ: إِصْرِي، عَلَى الظَّاهِرِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ مُضَافًا إِلَى النَّبِيِّ وَالْإِصْرُ: الْعَهْدُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُؤْصَرُ أي يشدّ ويعقد. وقرىء بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لُغَةً فِي: أَصَرَّ، كَمَا قَالُوا: نَاقَةُ أَسْفَارٍ عُبْرٌ، وَعُبْرُ أَسْفَارٍ، وَهِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْأَسْفَارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِآصَارٍ، كَإِزَارٍ وَأُزُرٍ وَمَعْنَى الْأَخْذِ هُنَا: الْقَبُولُ. قالُوا أَقْرَرْنا مَعْنَاهُ أَقْرَرْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِنُصْرَتِهِ، وَقَبِلْنَا ذَلِكَ وَالْتَزَمْنَاهُ. وَثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ: أَقْرَرْنَا وَأَخَذْنَا عَلَى ذَلِكَ الْإِصْرَ، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا. قالَ فَاشْهَدُوا الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلنَّبِيِّينَ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ: فَاشْهَدُوا، وَمَعْنَاهُ مِنَ الشَّهَادَةِ أَيْ: لِيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْإِقْرَارِ وَأَخْذِ الْإِصْرِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: فَاشْهَدُوا هُوَ خِطَابٌ لِلْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ. وَقِيلَ: مَعْنَى: فَاشْهَدُوا، بَيِّنُوا هَذَا الْمِيثَاقَ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ لِكَيْلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ عُذْرٌ فِي الْجَهْلِ بِهِ، وَأَصْلُهُ: أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ صِدْقَ الدَّعْوَى، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَيَكُونُ: اشْهَدُوا، بِمَعْنَى: أَدُّوا، لَا بِمَعْنَى: تَحَمَّلُوا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اسْتَيْقِنُوا مَا قَرَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْمِيثَاقِ وَكُونُوا فِيهِ كَالْمُشَاهِدِ لِلشَّيْءِ الْمُعَايِنِ لَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: فَاشْهَدُوا، خِطَابٌ لِلْأَنْبِيَاءِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا شَاهِدِينَ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب. وَعَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْمَعْنَى فِي: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ، أَيْ: قَالَ كُلُّ نَبِيٍّ، يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ لِأُمَّتِهِ فَاشْهَدُوا، أَيْ: لِيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: فَاشْهَدُوا، مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ التقدير، قال: أأقرتم فَاشْهَدُوا، فَالْفَاءُ دَخَلَتْ لِلْعَطْفِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَلَقِيتَ زَيْدًا؟ قَالَ: لَقِيتُهُ! قَالَ: فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ. التَّقْدِيرُ: لَقِيتَ زَيْدًا فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، فَمَا فِيهِ الْفَاءُ بَعْضُ الْمَقُولِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ الْمَقُولِ لِأَجْلِ الْفَاءِ، أَلَا تَرَى قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ، وَقَوْلُهُ: قَالُوا أَقْرَرْنَا؟ لَمَّا كَانَ كُلَّ الْمَقُولِ لَمْ تدخل بالفاء.

[سورة آل عمران (3) : آية 82]

وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ يَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ عَلَى سَبِيلِ بالتوكيد، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً [سورة آل عمران (3) : آية 82] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ: مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ، وَعَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْتِزَامِ الْعَهْدِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْأُمَمِ بِهَذَا الْمِيثَاقِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فاشهدوا أمر بالأداء. و: من، الظَّاهِرِ أَنَّهَا شَرْطٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ: فَأُولَئِكَ وَمَا بَعْدَهُ جَزَاءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي: تَوَلَّى، مُفْرَدًا عَلَى لَفْظِ: مَنْ، وَجَمَعَ فِي: فَأُولَئِكَ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَهَذِهِ: ذلك، الْجُمْلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُخِذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ حَكَمَ تَعَالَى بِالْفِسْقِ عَلَى مَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَيْضًا فَالْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَانُوا أمواتا عند مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْلِمُنَا أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ هُمْ أُمُمُهُمْ. وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ. مِنْهَا: الطِّبَاقُ: فِي: بِقِنْطَارٍ وَبِدِينَارٍ، إِذْ أُرِيدَ بِهِمَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَفِي: يُؤَدِّهِ وَلَا يُؤَدِّهِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ مَعْنَاهُ الدَّفْعُ وَعَدَمَهُ مَعْنَاهُ الْمَنْعُ، وَهُمَا ضِدَّانِ، وَفِي قَوْلِهِ: بِالْكُفْرِ وَمُسْلِمُونَ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: اتَّقَى وَالْمُتَّقِينَ، وَفِي: فَاشْهَدُوا وَالشَّاهِدِينَ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَيَأْمُرُكُمْ، وَفِي: أقررتم وَأَقْرَرْنَا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ، وَفِي أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ. وَالسُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَهُوَ فِي: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ؟ ثُمَّ: قَالُوا أَقْرَرْنَا. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، اخْتَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ مُجَازَاةُ الْأَعْمَالِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: يُؤَدِّهِ وَلَا يُؤَدِّهِ، وَفِي اسْمِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي: مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: لَمَا آتَيْتُكُمْ، وَهُوَ خِطَابٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: النَّبِيِّينَ، وَهُوَ لَفْظٌ غَائِبٌ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ تقدمت. [سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

الْمِلْءُ: مِقْدَارُ مَا يُمْلَأُ، وَهُوَ اسْمٌ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ يُقَالُ: مِلْءَ الْقَدَحِ، وَمِلْأَهُ، وَثَلَاثَةَ أَمْلَائِهِ، وَبِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَصْدَرُ، يُقَالُ: مَلَأْتُ الشَّيْءَ امْلَأَهُ مَلْأً، وَالْمُلَاءَةُ الَّتِي تُلْبَسُ، وَهِيَ الْمُلْحَفَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْهَمْزِ. وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي شَرْحِ: الْمَلَأِ. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اخْتَصَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ فَزَعَمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ أَنَّهَا أَوْلَى بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَغَضِبُوا. وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ بِدِينِكَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ جِدًّا. وَالْهَمْزَةُ فِي: أَفَغَيْرَ؟ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ فِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، وَأُضِيفَ الدِّينُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ وَتَعَبَّدَ بِهِ الْخَلْقَ، وَمَعْنَى: تَبْغُونَ، تَطْلُبُونَ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى: تَدِينُونَ لِأَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِدِينٍ غَيْرِ دِينِ اللَّهِ لَا طَالِبُوهُ، وَعَبَّرَ بِالطَّلَبِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ الْوَقْتِ بَاحِثُونَ عَنْهُ وَمُسْتَخْرِجُوهُ وَمُبْتَغُوهُ.

وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كُلُّ عَاقِلٍ يَبْتَغِي دِينَ اللَّهِ وَيَدَّعِي أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ دِينُ اللَّهِ. قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَصَّرَ فِي الطَّلَبِ جُعِلَ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ بَاغٍ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ بَاغِيًا لَبَالَغَ فِي الطَّلَبِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بَاغِيًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ بَانَ لِلْبَعْضِ فِي الِابْتِغَاءِ مَا هُوَ الْحَقُّ لِظُهُورِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ، وَلَكِنْ أَبَى إِلَّا الْعِنَادَ، فَهُوَ بَاغٍ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي الْمُعَانِدِينَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَفَصٌ، وَعَيَّاشٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: يَبْغُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَيَنْسُبُهَا ابْنُ عَطِيَّةَ لِأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ بِكَمَالِهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ، عَلَى الْخِطَابِ، فَالْيَاءُ عَلَى نَسَقِ: هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَالتَّاءُ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَالْفَاءُ لِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ اعْتِنَاءً بِالِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَغَيْرَ؟ وَجَوَّزَ هَذَا الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ النُّحَاةِ قَبْلَهُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَيَتَوَلُّونَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا وَالْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَانْتَصَبَ: غَيْرَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَبْغُونَ، وَقُدِّمَ عَلَى فِعْلِهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْبَاطِلِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَلَا تَحْقِيقَ فِيهِ، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الذَّوَاتِ، إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، فَالَّذِي أُنْكِرَ إِنَّمَا هُوَ الِابْتِغَاءُ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، وَشَبَّهَ: يَبْغُونَ، بِالْفَاصِلَةِ بِآخِرِ الْفِعْلِ. وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً أَسْلَمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْلَمَ طَوْعًا بِحَالَتِهِ النَّاطِقَةِ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِ، وَكَرْهًا عِنْدَ دُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُجُودُ ظِلِّ الْمُؤْمِنِ طَائِعًا وَسُجُودُ ظَلِّ الْكَافِرِ كَارِهًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالشَّعْبِيُّ: مَا يُقَارِبُ مَعْنَاهُ: أسلم أقرّ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 15.

بِالْخَالِقِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَشْرَكَ فِي الْعِبَادَةِ، فَمَنْ أَشْرَكُ أَسْلَمَ كَرْهًا. وَمَنْ أَخْلَصَ أَسْلَمَ طَوْعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَسْلَمَ قَوْمٌ طَوْعًا وَقَوْمٌ خَوْفَ السَّيْفِ. وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: أسلم من في السموات طوعا وكذلك الأنصار، وبنو سليم، وعبد الْقَيْسِ، وَأَسْلَمَ سَائِرُ النَّاسِ كَرْهًا حَذِرَ الْقِتَالِ وَالسَّيْفِ. وَأَسْلَمَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي ضِمْنِهِ الْإِيمَانُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِسْلَامُ كَرْهًا هُوَ إِسْلَامُ الْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمُعَايَنَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ إِلَّا فِي أَفْرَادٍ. انْتَهَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: طَوْعًا بِاضْطِرَارِ الْحُجَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: طَوْعًا بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَرْهًا بِالسَّيْفِ، أَوْ بِمُعَايَنَةِ ما يلجىء إِلَى الْإِسْلَامِ كَنَتْقِ الْجَبَلِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِدْرَاكِ الْغَرَقِ فِرْعَوْنَ، وَالْإِشْفَاءِ عَلَى الْمَوْتِ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» . انْتَهَى. فَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَفْسِيرَ: طَوْعًا، مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ. وَتَفْسِيرَ قَوْلِهِ: وَكَرْهًا، مِنْ قَوْلِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ وَقَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَوْعًا بِالْوِلَادَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَرْهًا بِالسَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَعْنَى: وَلَهُ خَضَعَ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ فِيمَا صَوَّرَهُمْ فِيهِ وَدَبَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَا يُحْدِثُ فِيهِمْ فَهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَلَيْهِ كَرِهُوا ذَلِكَ أَوْ أَحَبُّوهُ، رَضُوا بِذَلِكَ أَوْ سَخَطُوهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا الْخُضُوعُ لِنُفُوذِ أَمْرِهِ فِي جبلته، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَمْتَنِعَ مِمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يُغَيِّرَهُ وَالَّذِي يَظْهَرُ عُمُومُ مَنْ فِي السموات، وَخُصُوصُ مَنْ فِي الْأَرْضِ. وَالطَّوْعُ هُوَ الَّذِي لَا تُكَلُّفَ فِيهِ، وَالْكَرْهُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، فَإِسْلَامُ مَنْ في السموات طَوْعٌ صِرْفٌ إِذْ هُمْ خَالُونَ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْمُخَالَفَةِ، وَإِسْلَامُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعْصُومًا كَانَ طَوْعًا، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ كَانَ كَرْهًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي مَشَقَّةٍ، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ جَاءَتْ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَأْتِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ مُبَشِّرٌ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرٌ بِالْعِقَابِ لَمْ يَلْتَزِمِ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنَ التَّكَالِيفِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تُخْرِجُ: أَسْلَمَ، فِيهَا عَنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ، وَعَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَعَلَى الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قِيلَ بِهَذَا كُلِّهِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ حالية. و: طوعا وَكَرْهًا، مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: طَائِعِينَ وَكَارِهِينَ. وَقِيلَ: هُمَا مَصْدَرَانِ عَلَى خلاف الصدر.

_ (1) سورة غافر: 40/ 84.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: كُرْهًا، بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنِ اتَّبَعَ وَابْتَغَى غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ فَيَكُونُ مُشَارِكًا لَهُ فِي الْحَالِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ نَعَى عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ غَيْرِ دِينِ مَنِ انْقَادَ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ وَمَنْ إِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ، فَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لَا يَبْتَغِي دِينًا غَيْرَ دِينِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا وَإِخْبَارًا بِأَنَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَصِيرُهُمْ وَمُنْقَلَبُهُمْ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَرَأَ حَفْصٌ، وَعَبَّاسٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: يَرْجِعُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ ضَمِيرِ يَبْغُونَ، فَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: تَبْغُونَ، بِالتَّاءِ إِذْ يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ، فَإِنْ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَنْ كَانَ الْتِفَاتًا، أَوْ عَلَى ضَمِيرِ: تَبْغُونَ، كَانَ الْتِفَاتًا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يَبْغُونَ، بِالْيَاءِ، أَوْ يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ. قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي الْبَقَرَةِ إِلَّا فِي: قُلْ، وَفِي: عَلَيْنَا، وَفِي: عِيسَى وَالنَّبِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا فِي الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، إِلَّا مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ، فَنَقُولُ: الظَّاهِرُ فِي: قُلْ، أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُمِرَ أَنْ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِهِ، وَيُقَوِّي أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ قَوْلُهُ أَخِيرًا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَأَفْرَدَهُ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: قُلْ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي قوله: ثم جاءكم رسول، فَعَيَّنَهُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ لِيُظْهِرَ فِيهِ كَوْنَهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ. وَقَالَ: آمَنَّا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّهِ، بَلْ هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ «1» بَعْدَ قَوْلِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ «2» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُلُوكُ إِجْلَالًا مِنَ اللَّهِ لِقَدْرِ نَبِيِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ وَأُمَّتُكَ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ ثَمَّ مَعْطُوفًا حُذِفَ، وَأَنَّ ثَمَّ الْأَمْرَ مُتَوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته.

_ (2- 1) سورة البقرة: 2/ 285.

وَأَمَّا تَعْدِيَةُ أُنْزِلَ، هُنَا: بعلى، وفي البقرة بإلى. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِنْزَالُ عَلَى نَبِيِّ الْأُمَّةِ إِنْزَالٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ عَدَّى أُنْزِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مِثْلِهَا بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ؟. قُلْتُ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ وَيَنْتَهِي إِلَى الرُّسُلِ، فَجَاءَ تَارَةً بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ وَأُخْرَى بِالْآخَرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّمَا قَالَ هُنَا: عَلَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ وَاصِلًا إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِلَا وَاسِطَةِ بِشْرٍ كَانَ لَفْظُ عَلَى الْمُخْتَصِّ بِالْعُلُوِّ أَوْلَى بِهِ، وَهُنَاكَ، لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ لَفْظُ: إِلَى، الْمُخْتَصِّ بِالْإِيصَالِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِنَّمَا عَلَى مَا أُمِرَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ، وَأُنْزِلَ إِلَيْهِ عَلَى مَا خُصَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ. وَإِلَيْهِ نِهَايَةُ الْإِنْزَالِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «1» وَقَالَ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «2» خُصَّ هُنَا: بإلى، لَمَّا كَانَ مَخْصُوصًا بِالذِّكْرِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ الْمُنَزَّلِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْأَوْلَى لَا فِي الْوُجُوبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ: مَنْ قَالَ هَذَا الْفَرْقَ فَقَدْ تَعَسَّفَ، قَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «3» وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ «4» وَإِلَى قَوْلِهِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا «5» ؟ انْتَهَى. وَأَمَّا إِعَادَةُ لَفْظِ: وَمَا أُوتِيَ، فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْخِطَابِ عَامًّا، وَمِنْ حِكَمِ خِطَابِ الْعَامِّ الْبَسْطُ دُونَ الْإِيجَازِ، وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ هُنَا خَاصًّا اكْتَفَى فِيهِ بِالْإِيجَازِ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ هُنَا قِيلَ هُوَ الاستسلام إلى الله

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 51. (2) سورة النحل: 16/ 44. (3) سورة البقرة: 2/ 4. والنساء: 4/ 60 و 162 والرعد: 13/ 36. (4) سورة النساء: 4/ 105. والمائدة: 5/ 48، والعنكبوت: 29/ 47 والزمر: 39/ 2. (5) سورة آل عمران: 3/ 72.

وَالتَّفْوِيضُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَشَرِيعَةٍ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالتَّوْحِيدِ، وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ تَحَرَّى بَعْدَ مَبْعَثِهِ شَرِيعَةً غَيْرَ شَرِيعَتِهِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي وَافَقَ فِي مُعْتَقَدَاتِهِ دِينَ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. قِيلَ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى «1» الْآيَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا: وَمَنْ يَبْتَغِ الْآيَةَ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نَسْخِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا «2» . وَعَنْ عِكْرِمَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: حُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَأَنْزَلَ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «3» فَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَقَعَدَ الْكُفَّارُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُ بَعْدَ هَذَا. وَقَبُولُ الْعَمَلِ هُوَ رِضَاهُ وَإِثَابَةُ فَاعِلِهِ عَلَيْهِ. وَانْتَصَبَ: دِينًا عَلَى التمييز: لغير، لِأَنَّ: غَيْرَ، مُبْهَمَةٌ، فَفُسِّرَتْ بِدِينٍ، كَمَا أَنَّ مِثْلًا مُبْهَمَةٌ فَتُفَسَّرُ أَيْضًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: لَنَا غَيْرُهَا إِبِلًا وَشَاءَ، وَمَفْعُولُ: يَبْتَغِ هُوَ: غَيْرَ، وَقِيلَ: دِينًا، مَفْعُولٌ، و: غير، مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ كَانَ نَعْتًا. وَقِيلَ: دِينًا، بَدَلٌ مِنْ: غَيْرَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِظْهَارِ الْغَيْنَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْإِدْغَامُ. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الْخُسْرَانُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ حِرْمَانُ الثَّوَابِ وَحُصُولُ الْعِقَابِ، شُبِّهَ فِي تَضْيِيعِ زَمَانِهِ فِي الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ بِالَّذِي خَسِرَ فِي بِضَاعَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ عُطِفَتْ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى ابْتِغَاءِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ دِينًا عَدَمُ الْقَبُولِ وَالْخُسْرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ بَلْ هِيَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَ: فِي الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَهُوَ خَاسِرٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ: بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أو: بالخاسرين عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَيْسَتْ مَوْصُولَةً بَلْ لِلتَّعْرِيفِ، كَهِيَ فِي: الرَّجُلِ، أَوْ: بِهِ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَتُسُومِحَ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا، وَكُلٌّ مَنْقُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا نَظِيرُهُ. كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ

_ (2- 1) سورة البقرة: 2/ 62. (3) سورة آل عمران: 3/ 97.

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَفِيهِمَا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَيَّرُوهُ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَرَوَى عَطِيَّةُ قَرِيبًا مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ ارْتَدُّوا فِيهِمُ الحارث بْنُ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَدِمَ وَرَجَعَ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ مجاهد، والسدّي: أن الحارث كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَتَلَ الْمُجَدَّرَ بْنَ زِيَادٍ بِدَمٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ زَيْدَ بْنَ قَيْسٍ، وَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ ظَفَرَ بِهِ، فَفَاتَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أَخِيهِ مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ، فَنَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فَكَتَبَ بِهَا قَوْمُهُ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ تَائِبًا. وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى أَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلًا. وَقِيلَ: لَحِقَ بِالرُّومِ. وَقِيلَ: ارْتَدَّ الحارث فِي أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَسَمَّى مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ: طُعْمَةَ بن أبيرق، والحارث بْنَ سُوَيْدٍ بْنِ الصَّامِتِ، وَوَحْوَحَ بْنَ الْأَسْلَتِ، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَسَمَّى مِنْهُمْ: أَبَا عامر الراهب، والحارث وَوُجُوهًا. وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ. أَلْفَاظُ الْآيَةِ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ وَغَيْرَهُمْ. وَقِيلَ: هِيَ فِي عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَمَلَ الْآيَاتِ إلى الحارث رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عليه فقال له الحارث: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ. قَالَ فرجع الحارث فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. كَيْفَ: سُؤَالٌ عَنِ الْأَحْوَالِ، وَهِيَ هُنَا لِلتَّعْجِيبِ وَالتَّعْظِيمِ لِكُفْرِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، أَيْ: كَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مَنْ أَتَى بِمَا يُنَافِيهَا بَعْدَ الْتِبَاسِهِ بها ووضوحها؟ فَاسْتُبْعِدَ حُصُولُهَا لَهُمْ مَعَ شِدَّةِ الْجَرَائِمِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَفْلَحُ أُمَّةٌ أَدْمَتْ وَجْهَ نَبِيِّهَا» ؟. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَيْفَ يَلْطُفُ بِهِمْ وَلَيْسُوا مَنْ أَهْلِ اللُّطْفِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ؟ انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْهِدَايَةَ فِيهِمْ كَمَا لَا يَخْلُقُ الضَّلَالَ فِيهِمْ، بَلْ هُمَا مَخْلُوقَانِ لِلْعَبْدِ. وَقِيلَ: الِاسْتِفْهَامُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْجَحْدُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ يهدي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَهَذِي سُيُوفٌ، يَا صَدِيُّ بْنَ مَالِكٍ ... كَثِيرٌ، وَلَكِنْ: أَيْنَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟

وَقَوْلُ الْآخَرِ: كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا ... يَشْمَلُ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟ وَالْهِدَايَةُ هُنَا هِيَ إِلَى الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا إِنْ تَجَوَّزَ، فَأَطْلَقَ الْمُسَبِّبَ عَلَى السَّبَبِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مُسَبَّبٌ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَعُودُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَشَهِدُوا: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَفَرُوا، وَبِهِ قال الحوفي، وابن عطية، وَرَدَّهُ مَكِّيٌّ. وَقَالَ: لَا يَجُوزُ عَطْفُ: شَهِدُوا، عَلَى: كَفَرُوا، لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ فَسَادُ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ التَّرْتِيبَ، فَلِذَلِكَ فَسَدَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى مَفْهُومٌ أَنَّ الشَّهَادَةَ قبل الكفر، و: الواو، لَا تُرَتِّبُ، وَأَجَازَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: مَكِّيٌّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: ما فِي إِيمَانِهِمْ، مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، إِذِ الْمَعْنَى: بَعْدَ أَنْ آمَنُوا وَشَهِدُوا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ: الواو، للحال لا للعطف، التَّقْدِيرُ: كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَقَدْ شَهِدُوا، وَالْعَامِلُ فِيهِ: كَفَرُوا. وَالرَّسُولُ هُنَا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ هُنَا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْبَيِّنَاتُ: هِيَ شَوَاهِدُ الْقُرْآنِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تَأْتِي بِمِثْلِهَا الْأَنْبِيَاءُ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ: لَا يَخْلُقُ في قلوبهم الهداية. و: الظالمين، عَامٌّ مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ أَيْ: لَا يَهْدِي مَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَنْ أَنَّ الظَّالِمَ فِي ظُلْمِهِ لَيْسَ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ، فَتَجِيءُ الْآيَةُ عَامَّةً تَامَّةَ الْعُمُومِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الْآيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظَّالِمِينَ، الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ اللُّطْفَ لَا يَنْفَعُهُمُ. انْتَهَى. وَتَفْسِيرُهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ: وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَيْ: جَزَاءُ كُفْرِهِمْ، وَهُنَاكَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ «1» ، لِأَنَّ هناك جاء الإخبار

_ (1) المقصودة الآية 161 من سورة البقرة.

عَنْ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، فَلِذَلِكَ تَحَتَّمَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمْ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى سَبَبِ النُّزُولِ؟ وَأَنَّ أَكْثَرَ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ارْتَدُّوا ثُمَّ رَاجَعُوا الْإِسْلَامَ؟ وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ. وَأَصْلَحُوا أَيْ: مَا أَفْسَدُوا، أَوْ: دَخَلُوا فِي الصَّلَاحِ، كَمَا تَقُولُ: أَمْسَى زَيْدٌ أَيْ: دَخَلَ فِي الْمَسَاءِ وَقِيلَ: مَعْنَى أَصْلَحُوا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا «1» . فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غَفُورٌ أَيْ لِكُفْرِهِمْ، رَحِيمٌ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَهُمَا صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ دَالَّتَانِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، كَفَرُوا بعيسى وَبِالْإِنْجِيلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِصِفَاتِهِ، وَإِقْرَارِهِمْ أَنَّهَا فِي التَّوْرَاةِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا فِي خِلَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتِ وَالسَّعْيِ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. أَوْ: مَعْنَى: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، تُمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَلَغُوا الْمَوْتَ بِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ وَالْمُرْتَدُّونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ نَحْوَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ أصحاب الحارث بْنِ سُوَيْدٍ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: نُقِيمُ بِبَكَّةَ وَنَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْبَ الْمَنُونِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَيُفَسَّرُ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعْنَى ازْدِيَادِ الْكُفْرِ، وَهُوَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، إِذِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي التَّحْقِيقِ لَا يَزْدَادَانِ وَلَا يَنْقُصَانِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لِلْمُتَعَلِّقَاتِ، فَيُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَازْدَادُوا افْتَعَلُوا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَانْتِصَابُ: كُفْرًا، عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ، الْمَعْنَى: ثُمَّ ازْدَادَ كَفْرُهُمْ، وَالدَّالُ الْأُولَى بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَكُونُ مِنْهُمْ تَوْبَةٌ وَلَا تُقْبَلُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَوْبَةَ كُلِّ كَافِرٍ تُقْبَلُ سَوَاءٌ كَفَرَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 160. [.....]

بَعْدَ إِيمَانٍ وَازْدَادَ كُفْرًا، أَمْ كَانَ كَافِرًا أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَاحْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَخْصِيصٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: نَفْيُ تَوْبَتِهِمْ مُخْتَصٌّ بِالْحَشْرَجَةِ وَالْغَرْغَرَةِ وَالْمُعَايَنَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا مَعَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَنْ تقبل توبتهم لأنها توبة غَيْرُ خَالِصَةٍ، إِذْ هُمْ مُرْتَدُّونَ، وَعَزَمُوا عَلَى إِظْهَارِ التَّوْبَةِ لِسَتْرِ أَحْوَالِهِمْ وَفِي ضَمَائِرِهِمُ الْكُفْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمُ الَّتِي تَابُوهَا قَبْلَ أَنْ كَفَرُوا، لِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ أَحْبَطَهَا. وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ إِذَا تَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ. وَفَاصِلُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِالزَّمَانِ، أو بوصف فِي التَّوْبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تَوْبَةَ لَهُمْ فَتُقْبَلَ، فَنَفَى الْقَبُولَ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ. عَلَى لا حب لَا يُهْتَدَى لِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، حَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ: لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ فَهُمْ لَا مَحَالَةَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَلَمْ تُدْخُلِ: الْفَاءُ، فِي: لَنْ تُقْبَلَ، هُنَا، وَدَخَلَتْ فِي: فَلَنْ تُقْبَلَ، لِأَنَّ الْفَاءَ مُؤْذِنَةٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ السَّابِقِ، وَهُنَاكَ قَالَ: وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَهُنَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا الْقَيْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فَحِينَ كَانَ مَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ بِمَعْنَى الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ فَهَلَّا جُعِلَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ مُسَبَّبًا عَنِ ارْتِدَادِهِمْ وَازْدِيَادِهِمُ الْكُفْرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ، وَرُكُوبِ الرَّيْنِ، وَجَرِّهِ إِلَى الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ؟. قُلْتُ: لِأَنَّهُ: كَمْ مِنْ مُرْتَدٍ ازْدَادَ الْكُفْرَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ؟. فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ: أَعْنِي: إِنْ كَنَّى عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بامتناع قبول التوبة؟.

_ (1) سورة النساء: 4/ 18.

قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فِيهَا جَلِيلَةٌ، وَهِيَ التَّغْلِيظُ فِي شَأْنِ أُولَئِكَ الْفَرِيقِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِبْرَازِ حَالِهِمْ فِي صُورَةِ حَالِ الْآيِسِينَ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ، وَأَشَدُّهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ إِنَّمَا يُخَافُ مِنْ أَجْلِ الْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: لَنْ نَقْبَلَ، بِالنُّونِ، تَوْبَتَهُمْ، بِالنَّصْبِ، وَالضَّالُّونَ الْمُخْطِئُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، أَوِ: الْهَالِكُونَ، مِنْ: ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ إِذَا صَارَ هَالِكًا. وَالْوَاوُ فِي: وَأُولَئِكَ، لِلْعَطْفِ إِمَّا عَلَى خَبَرِ إِنَّ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ: إِنَّ وَمَطْلُوبَيْهَا، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَذَكَرَ الرَّاغِبُ قَوْلًا: إِنَّ الْوَاوَ فِي: وَأُولَئِكَ، وَاوُ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ، فَالتَّوْبَةُ وَالضَّلَالُ مُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ. وَيَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبُ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُؤْتَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ فِي: هُمُ، الْفَصْلُ، وَالِابْتِدَاءُ، وَالْبَدَلُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً قَرَأَ عِكْرِمَةُ: فلن نقبل، بالنون و: ملء، بالنصب. وقرىء: فَلَنْ يَقْبَلَ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ فَلَنْ يَقْبَلَ الله. و: ملء، بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو السَّمَّالِ: مِلَّ الْأَرْضِ، بِدُونِ هَمْزٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلُ، وَهُوَ اللَّامُ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي كُلِّ مَا كَانَ نَحْوَ هَذَا، وَأَتَى بِلَفْظِ: أَحَدِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ: مِنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ وَأَنَصُّ فِي الْمَقْصُودِ، إِذْ كَانَ: مِنْهُمْ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يفيد الْجَمِيعِ. وَانْتِصَابُ: ذَهَبًا، عَلَى التَّمْيِيزِ، وَفِي نَاصِبِ التَّمْيِيزِ خِلَافٌ، وَسَمَّاهُ الْفَرَّاءُ: تَفْسِيرًا، لِأَنَّ الْمِقْدَارَ مَعْلُومٌ، وَالْمُقَدَّرُ بِهِ مُجْمَلٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: نُصِبَ عَلَى إِضْمَارِ: مِنْ، أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ، كَقَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً «1» أَيْ: مِنْ صِيَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: ذَهَبٌ، بِالرَّفْعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَدٌّ عَلَى: مِلْءَ، كَمَا يُقَالُ عِنْدِي عِشْرُونَ نَفْسًا رِجَالٌ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالرَّدِّ: الْبَدَلَ، وَيَكُونُ مِنْ بَدَلِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ: مِلْءَ الْأَرْضِ، مَعْرِفَةٌ ولذلك ضبط

_ (1) سورة المائدة: 5/ 95.

الْحُذَّاقُ قَوْلَهُ: لَكَ الْحَمْدُ ملء السموات وَالْأَرْضِ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ للحمد، واستضعفوا نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ لِكَوْنِهِ مَعْرِفَةً. وَلَوِ افْتَدى بِهِ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَوِ افْتَدَى بِهِ، دُونَ واو، و: لو، هُنَا هِيَ بِمَعْنَى: إِنِ، الشَّرْطِيَّةِ لَا: لَوِ، الَّتِي هِيَ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ: لَوْ، هُنَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ: فَلَنْ يُقْبَلَ، وَتِلْكَ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَاضِي. فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الِافْتِدَاءَ شَرْطًا فِي عَدَمِ الْقَبُولِ فَلَمْ يَتَعَمَّمْ نَفْيُ وُجُودِ الْقَبُولِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْوَاوِ، فَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى إِذْ ذَاكَ مَعْنَى قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ موقع قوله لَوِ افْتَدى بِهِ؟ قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْبُو عَنْهُ هَذَا التَّرْكِيبُ وَلَا يَحْتَمِلُهُ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا التَّرْكِيبُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ مَاتَ كَافِرًا لَا يُقْبَلَ مِنْهُ مَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ مَنْ ذَهَبٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَقْصِدُهَا، وَلَوْ فِي حَالَةِ الِافْتِدَاءِ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ حَالَةَ الِافْتِدَاءِ هِيَ حَالٌ لَا يَمْتَنَّ فِيهَا الْمُفْتَدِي عَلَى الْمُفْتَدَى مِنْهُ، إِذْ هِيَ حَالَةُ قَهْرٍ مِنَ الْمُفْتَدَى مِنْهُ لِلْمُفْتَدِي، وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ: لَوْ، تَأْتِي مُنَبِّهَةً عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا جَاءَ تَنْصِيصًا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَا تَنْدَرِجُ فِيمَا قَبْلَهَا، كَقَوْلِهِ: «اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ وَرُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ» كَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى بِهَا، لِأَنَّ كَوْنَ السَّائِلِ عَلَى فَرَسٍ يَشْعُرُ بِغِنَاهُ فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه، فكأن يناسب أن لا يرد السائل به، وكذلك حالة الفداء: يُنَاسِبُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا، لَكِنَّهُ لَا يُقْبَلُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «1» لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يُصَدِّقَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، حَتَّى فِي حَالَةِ صِدْقِهِمْ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقُوا فِيهَا. فَلَفَظُ: وَلَوْ، هُنَا لِتَعْمِيمِ النَّفْيِ وَالتَّأْكِيدِ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ مَجِيئِهَا. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ إِنْفَاقُهُ وَتَقَرُّبَاتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ أَنْفَقَ ملء الأرض ذهبا، ولو افْتَدَى أَيْضًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. قَالَ: فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 17.

لَا يُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُمُ الِافْتِدَاءَ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ، وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أَيْضًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدِ الِافْتِدَاءَ بِالْآخِرَةِ. وَحَكَى صَاحِبُ (رَيِّ الظَّمْآنِ) وَغَيْرُهُ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الدُّنْيَا مَعَ إِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ انْتِفَاءَ الْقَبُولِ، وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْفِدْيَةِ، إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَبَيَّنَهُ مَا ثَبَتَ فِي (صَحِيح) الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «يُحَاسَبُ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ أَيْ: لَوْ أَنَّ الْكَافِرَ قَدَرَ عَلَى أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى بَذْلِهِ، لَعَجَزَ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى تَخْلِيصِ نَفْسِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْ تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. فَهُوَ نَظِيرُ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» وَنَظِيرُ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي «2» الْآيَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَبْعُدُ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ أَنْفَقُوا فِي الدُّنْيَا مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ مَعَ الْكُفْرِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً. وَافْتَدَى: افْتَعَلَ مِنَ الْفِدْيَةِ. قِيلَ: وَهُوَ بِمَعْنَى فَعَلَ، كَشَوَى وَاشْتَوَى، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، وَيَحْتَاجُ فِي تَعْدِيَةِ افْتَدَى إِلَى سَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى: مِلْءِ الْأَرْضِ، وَهُوَ: مِقْدَارُ مَا يَمْلَؤُهَا، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى: الْمِلْءِ، أَوْ: عَلَى الذَّهَبِ. فَقِيلَ: عَلَى الذَّهَبِ غَلَطٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ، لِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ «3» وَالْمِثْلُ يُحْذَفُ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ زَيْدٍ، تُرِيدُ: مِثْلَ ضَرْبِهِ وَأَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ، تُرِيدُ: مِثْلَهُ. وَلَا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ للمطي

_ (3- 1) سورة الزمر: 39/ 47. (2) سورة المعارج: 70/ 11.

و: قضية وَلَا أَبَا حَسَنٍ لَهَا، تريد: ولا هيثم، و: لا مِثْلَ أَبِي حَسَنٍ، كَمَا أَنَّهُ يُرَادُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، تُرِيدُ: أَنْتَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمِثْلَيْنِ يَسُدُّ أَحَدُهُمَا مَسَدَّ الْآخَرِ، فَكَانَا فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: مِثْلَ، فِي قَوْلِهِ وَلَوِ افْتَدى بِهِ وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَخَيَّلَ أَنَّ مَا نُفِيَ أَنْ يُقْبَلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْتَدَى بِهِ، فَاحْتَاجَ إِلَى إِضْمَارِ: مِثْلَ، حَتَّى يُغَايِرَ بَيْنَ مَا نُفِيَ قَبُولُهُ وَبَيْنَ مَا يُفْتَدَى بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ لَا يُمْكِنُ عَادَةً أَنَّ أَحَدًا يَمْلِكُ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا بِحَيْثُ لَوْ بَذَلَهُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ بَذْلُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، بَلْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِ مِثْلَ، لِأَنَّهُ نَفَى قَبُولَهُ حَتَّى فِي حَالَةِ الِافْتِدَاءِ، وَلَيْسَ مَا قُدِّرَ فِي الْآيَةِ نَظِيرَ مَا مَثَّلَ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا فِي اللَّفْظِ وَلَا الْمَعْنَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلَا يُقَدَّرُ. وَأَمَّا فِيمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ زَيْدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَبِضَرُورَةِ الْعَقْلِ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ: مِثْلَ، إِذْ ضَرْبُكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ زَيْدٍ، وَذَاتُ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا: لَا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ. يَدُلُّ عَلَى حَذْفٍ: مِثْلَ مَا تَقَرَّرَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ: لَا، الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَعْلَامِ فَتُؤَثِّرُ فِيهَا، فَاحْتَاجَ إِلَى إِضْمَارِ: مِثْلَ، لِتَبْقَى عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِيهَا، إِذْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ إِلَّا فِي الْجِنْسِ، لِأَنَّ الْعَلَمِيَّةَ تُنَافِي عُمُومَ الْجِنْسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كما أنه يُزَادَ فِي: مِثْلِكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، تُرِيدُ، أَنْتَ، فَهَذَا قَوْلٌ قَدْ قِيلَ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ حُذَّاقُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ، وَلِتَقْرِيرِ أَنَّ مِثْلَكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، لَيْسَتْ فِيهِ مِثْلَ زَائِدَةً مَكَانَ غَيْرِ هَذَا. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هَذَا إِخْبَارٌ ثَانٍ عَمَّنْ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُخَلِّصَ بِهِ نَفْسَهُ، بَيَّنَ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ مَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْآلَامِ لَهُ، إِذِ الِافْتِدَاءُ، وَبَذْلُ الْأَمْوَالِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَلْحَقُ الْمُفْتَدِيَ مِنَ الْآلَامِ حَتَّى يَبْذُلَ فِي الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ. كَمَا قَالَ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ «1» الْآيَةَ، وَارْتِفَاعُ: عَذَابٌ، عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى أُولَئِكَ، لِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنْهُ وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الجملة، وَهَذَا إِخْبَارٌ ثَالِثٌ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ بِبَذْلِ الْمَالِ بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْهُ بِسَبَبِ النُّصْرَةِ، وَانْدَرَجَ فِيهَا النُّصْرَةُ بِالْمُغَالَبَةِ، وَالنُّصْرَةُ بِالشَّفَاعَةِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ: الطِّبَاقُ: فِي قَوْلِهِ: طَوْعًا وَكَرْهًا. وَفِي: كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فِي مَوْضِعَيْنِ. وَالتَّكْرَارَ: فِي: يَهْدِي وَلَا يَهْدِي. وَفِي: كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ. وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ: في كفروا وكفرا. وَالتَّأْكِيدُ: بِلَفْظٍ: هُمْ، فِي قَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. قِيلَ: وَالتَّشْبِيهَ فِي: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، شَبَّهَ تَمَادِيَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ بِالْأَجْرَامِ الَّتِي يُزَادُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَالْعُدُولَ مِنْ مِفْعَلٍ إِلَى فَعِيلٍ، فِي: عَذَابٌ أَلِيمٌ، لِمَا فِي: فَعِيلٍ، مِنَ الْمُبَالَغَةِ. وَالْحَذْفَ في مواضع. [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) النيل: حوق الشَّيْءِ وَإِدْرَاكُهُ، الْفِعْلُ مِنْهُ: نَالَ يَنَالُ. قِيلَ: وَالنَّيْلُ: الْعَطِيَّةُ. الْوَضْعُ: الْإِلْقَاءُ. وَضَعَ الشَّيْءَ أَلْقَاهُ، وَوَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَلْقَتْهُ، وَالْفِعْلُ: وَضَعَ يَضَعُ وَضْعًا وَضَعَةً، وَالْمَوْضِعُ: مَحَلُّ إِلْقَاءِ الشَّيْءِ. وَفُلَانٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ أَيْ: يُلْقِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ، يَخْتَلِقُهُ. بَكَّةُ: مُرَادِفٌ لِمَكَّةَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالزَّجَّاجُ. وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْمِيمِ، قَالُوا: لَازِمٌ، وَرَاتِمٌ. وَالنُّمَيْطُ، وَبِالْبَاءِ فِيهَا. وَقِيلَ: اسْمٌ لِبَطْنِ مَكَّةَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِمَكَانِ الْبَيْتِ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ خَاصَّةً، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ. قِيلَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَكَّ هُوَ دَفْعُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَازْدِحَامُهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الطَّوَافِ لَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ مَكَّةَ إن شاء الله.

_ (1) سورة المعارج: 70/ 11.

الْبَرَكَةُ: الزِّيَادَةُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: بَارَكَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَمِنْهُ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ «1» وَيُضَمَّنُ مَعْنَى مَا تعدى بعلى، لِقَوْلِهِ: وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، و: تبارك، لَازِمٌ. الْعِوَجُ: الْمَيْلُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي الدِّينِ وَالْكَلَامِ وَالْعَمَلِ. وَبِالْفَتْحِ فِي: الْحَائِطِ وَالْجِذْعِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ بِمَعْنَاهُ. قَالَ: فِيمَا لَا نَرَى لَهُ شَخْصًا، وَبِالْفَتْحِ فِيمَا لَهُ شَخْصٌ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: بِالْفَتْحِ فِي كُلِّ مُنْتَصِبٍ كَالْحَائِطِ. وَالْعِوَجُ: مَا كَانَ فِي بِسَاطٍ أَوْ دِينٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ مَعَاشٍ. الْعَصْمُ: الْمَنْعُ، وَاعْتَصَمَ وَاسْتَعْصَمَ: امْتَنَعَ، وَاعْتَصَمْتُ فُلَانًا هَيَّأْتُ لَهُ مَا يَعْتَصِمُ بِهِ، وَكُلُّ مُتَمَسِّكٍ بِشَيْءٍ مُعْتَصِمٌ، وَكُلُّ مَانِعِ شَيْءٍ عَاصِمٌ، وَيَرْجِعُ لِهَذَا الْمَعْنَى: الْأَعْصَمُ، وَالْمِعْصَمُ، وَالْعِصَامُ. وَيُسَمَّى الْخُبْزُ عَاصِمًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْجُوعِ. لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَمَّنْ مَاتَ كَافِرًا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مَا أَنْفَقَ فِي الدُّنْيَا ، أَوْ مَا أَحْضَرَهُ لِتَخْلِيصَ نَفْسِهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ، حَضَّ الْمُؤْمِنَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَنْ يُدْرِكَ الْبِرَّ حَتَّى يُنْفِقَ مِمَّا يُحِبُّ. وَالْبِرُّ هُنَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، ومجاهد، والسدّي، وعمرو بْنُ مَيْمُونٍ: الْبِرُّ: الْجَنَّةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الْخَيْرُ كُلُّهُ. وَقِيلَ: الصِّدْقُ. وَقِيلَ: أَشْرَفُ الدِّينِ، قَالَهُ عَطَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الطَّاعَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: التَّقْوَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَمَلٍ خَيْرٍ. وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَلَهُ مَوَاضِعُ، فَيُقَالُ: الصِّدْقُ الْبِرُّ، وَمِنْهُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، وَكِرَامٌ بَرَرَةٌ، وَالْإِحْسَانُ: وَمِنْهُ بَرَرْتُ وَالِدَيَّ، وَاللُّطْفُ وَالتَّعَاهُدُ: وَمِنْهُ يَبِرُّ أَصْحَابَهُ إِذَا كَانَ يَزُورُهُمْ وَيَتَعَاهَدُهُمْ، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ: بَرَّهُ بِكَذَا إِذَا وَهَبَهُ لَهُ. وَقَالَ: وَيُحْتَمَلُ لَنْ تَنَالُوا بِرَّ اللَّهِ بِكُمْ أَيْ، رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ. انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ، قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ لَنْ تَنَالُوا بِرِّي بِكُمْ إِلَّا بِبِرِّكُمْ بِإِخْوَانِكُمْ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وجاهكم. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: لَنْ تَنَالُوا دَرَجَةَ الْكَمَالِ مِنْ فِعْلِ الْبِرِّ حَتَّى تَكُونُوا أَبْرَارًا إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ الْمُضَافِ إِلَى سَائِرِ أَعْمَالِكُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.

_ (1) سورة النمل: 27/ 8.

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ «1» وَلَكِنْ فَعَلْنَا مَا قَالَ النَّاسُ فِي خُصُوصِيَّةِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ: مَنْ، فِي: مِمَّا تُحِبُّونَ، لِلتَّبْعِيضِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: حَتَّى تُنْفِقُوا بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ. وَ: مَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ هُنَا هُوَ مَيْلُ النَّفْسِ وَتَعَلُّقُهَا التَّعَلُّقَ التَّامَّ بِالْمُنْفِقِ، فَيَكُونُ إِخْرَاجُهُ عَلَى النَّفْسِ أَشَقَّ وَأَصْعَبَ مِنْ إِخْرَاجِ مَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: بِأَنَّهُ مَحْبُوبُ الْمَالِ، كَقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ «2» لِذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَصَدَّقُوا بِأَحَبِّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ، فَتَصَدَّقَ أَبُو طلحة ببئرحاء، وَتَصَدَّقَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُحِبُّهَا، وَابْنُ عُمَرَ بِالسُّكَّرِ وَاللَّوْزِ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهُ، وَأَبُو ذَرٍّ بِفَحْلِ خَيْرِ إِبِلِهِ وَبِبُرْنُسٍ عَلَى مَقْرُورٍ، وَتَلَا الْآيَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ بِالسُّكَّرِ لِحُبِّهِ لَهُ، وَأَعْتَقَ عُمَرُ جَارِيَةً أَعْجَبَتْهُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ جَارِيَةً كَانَتْ أَعْجَبَ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى مِمَّا تُحِبُّونَ، نَفَائِسُ الْمَالِ وَطِيِّبُهُ لَا رَدِيئُهُ وَخَبِيثُهُ. وَقِيلَ: مَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ. وَقِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ الْمُسْلِمُ مِنْ مَالِهِ يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ. وَلَفْظَةُ: تُحِبُّونَ، تَنْبُوُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْإِنْفَاقَ هُوَ فِي النَّدْبِ، لِأَنَّ الْمُزَكِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ أَشْرَفَ أَمْوَالِهِ وَلَا أَحَبَّهَا إِلَيْهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي النَّدْبِ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا يُنَافِي الزَّكَاةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ يَصِيرُ شِعْرًا بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا: قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى أَنْ يَكُونَ شِعْرًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَزْنِ بَيْتِ الرَّمَلِ، يسمى المجزؤ وَالْمُسَبَّعَ، وَهُوَ: يَا خَلِيلِيَّ أربعا واستخبر ال ... مَنْزِلِ الدَّارِسِ عَنْ حَيِّ حَلَالْ رَسْمًا بِعُسْفَانْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ شِعْرًا. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 244. (2) سورة الإنسان: 76/ 8.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 إلى 101]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ «1» قَالَ أَبُو رَوْقٍ وَابْنُ السَّائِبِ: نَزَلَتْ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ» فَقَالَتِ الْيَهُودُ: فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَأْكُلُ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ حَلَالٌ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَنَحْنُ نُحِلُّهُ» فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كُلُّ شَيْءٍ أَصْبَحْنَا الْيَوْمَ نُحَرِّمُهُ فَإِنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لَهُمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ الْمَرْءُ الْبِرَّ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ. وَنَبِيُّ اللَّهِ إِسْرَائِيلُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا إِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ أَنْ يُحَرِّمَ، أَوْ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحُومَ الْإِبِلِ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ أَلْبَانَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ. فَقَدِ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا فِي أَنَّ كُلًّا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 93.

مِنْهُمَا فِيمَا تَرَكَ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَمَا يُؤْثِرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَكُلٌّ: مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَالطَّعَامُ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ. وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبُرِّ خَاصَّةً. قَالَ الرَّازِيُّ: وَالْآيَةُ تُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ سِوَى الْحِنْطَةِ، وَسِوَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْمَاءِ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ. وَقَالَ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «1» وَأَرَادَ الذَّبَائِحَ انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الطَّعَامِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ كَانَا مُبَاحَيْنِ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُمَا طَعَامٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كَانَتِ الْيَهُودُ فِي وَقْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدَّعِي أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ يَعْنِي إِشْكَالَ الْعُمُومِ. وَالْحِلُّ: الْحَلَالُ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَلَّ نَحْوُ عَزَّ عِزًّا وَمِنْهُ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «2» أَيْ حَلَالٌ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِلِّهِ وَلِحُرْمِهِ» وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. قَالَ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ «3» وَهِيَ كَالْحُرُمِ، أَيِ الْحَرَامِ. وَاللُّبْسُ، أَيِ اللِّبَاسُ. وَإِسْرَائِيلُ: هُوَ يَعْقُوبُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ هُوَ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ: الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي آخَرِينَ. وَقِيلَ: الْعُرُوقُ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ: مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ فِي آخَرِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَرَضَتْ لَهُ الْآنِسَاءُ فَأَضْنَتْهُ، فَجَعَلَ لِلَّهِ إِنْ شَفَاهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَطْعَمَ عِرْقًا. قَالَ: فَلِذَلِكَ الْيَهُودُ تَنْزِعُ الْعُرُوقَ مِنَ اللَّحْمِ، وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْعُرُوقِ قُرْبَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَرَّمَ الْعُرُوقَ وَلُحُومَ الْإِبِلِ. وَقِيلَ: زِيَادَتَا الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَانِ وَالشَّحْمُ إِلَّا مَا عَلَى الظَّهْرِ قَالَهُ: عِكْرِمَةُ. وَتَقَدَّمَ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ لِمَا حَرَّمَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ هُوَ بِمَرَضٍ أَصَابَهُ، فَجَعَلَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى إِنْ شُفِيَ. وَقِيلَ: هُوَ وَجَعُ عِرْقِ النَّسَا. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يحتمل

_ (1) سورة آل عمران 5/ 5. (2) سورة البلد: 90/ 2. (3) سورة الممتحنة: 60/ 10.

الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ، فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا كَانَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَيْسَتْ فِيهَا الزَّوَائِدُ الَّتِي افْتَرَوْهَا وَادَّعَوْا تَحْرِيمَهَا. وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا كَانَ التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالِاتِّصَالُ أَظْهَرُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: عَلَى نَفْسِهِ، أَنَّ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ لَا بِتَحْرِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُحَرِّمُوا بِالِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ: كَانَ تَحْرِيمُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ فِي شَرْعِهِ كَالنَّذْرِ فِي شَرْعِنَا. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَعَلَّ نَفْسَهُ كَانَتْ مَائِلَةً إِلَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا قَهْرًا لِلنَّفْسِ وَطَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الزُّهَّادِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الِامْتِنَاعِ بِالتَّحْرِيمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ التَّحْرِيمِ لِلطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عَطِيَّةَ: حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا فِي التَّوْرَاةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَعْقُوبَ قَالَ: «إِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَا يَأْكُلُهُ لِي وَلَدٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَافَقُوا أَبَاهُمْ فِي تَحْرِيمِهِ، لَا أَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بِالشَّرْعِ، ثُمَّ أَضَافُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى الشَّرْعِ فَأَكْذَبُهُمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ لَا فِيهَا، وَكَانُوا إِذَا أَصَابُوا ذَنْبًا عَظِيمًا حَرُمَ بِهِ عَلَيْهِمْ طَعَامٌ طَيِّبٌ، أَوْ صُبَّ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ، وَيُؤَكِّدُهُ «فَبِظُلْمٍ» «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَلَا بِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ، وَلَا لِمُوَافَقَتِهِ بَلْ قَالُوا ذَلِكَ تحرضا وَافْتِرَاءً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ على أنفسهم قيل نُزُولِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطَاعِمَ كُلَّهَا لَمْ تَزَلْ حَلَالًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا لِظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، لَمْ يَحْرُمْ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَطْعُومِ الْوَاحِدِ الَّذِي حَرَّمَهُ أَبُوهُمْ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَتَبِعُوهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ حَيْثُ أَرَادُوا بَرَاءَةَ سَاحَتِهِمْ بِمَا نُعِيَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «2» الْآيَةَ. وَجُحُودَ مَا غَاظَهُمْ وَاشْمَأَزُّوا منه وامتعضوا. فما نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ لِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ فَقَالُوا: لَسْنَا بِأَوَّلِ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَمَا

_ (1) سورة النساء: 4/ 160. [.....] (2) سورة النساء: 4/ 160.

هُوَ إِلَّا تَحْرِيمٌ قَدِيمٌ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهَلُمَّ جَرًّا، إِلَى أَنِ انْتَهَى التَّحْرِيمُ إِلَيْنَا فَحَرُمَتْ عَلَيْنَا كَمَا حَرُمَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَغَرَضُهُمْ تَكْذِيبُ شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَمَا عُدِّدَ مِنْ مَسَاوِيهِمُ الَّتِي كُلَّمَا ارْتَكَبُوا مِنْهَا كَبِيرَةً حَرُمَ عَلَيْهِمْ نَوْعٌ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنَ متعلقة بحرم، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَيَبْعُدُ ذَلِكَ، إِذْ هُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْوَاضِحِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ ضَرُورَةً لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ وُجُودِ إِسْرَائِيلَ وَإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَفُصِلَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذْ هُوَ فَصْلٌ جَائِزٌ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ: فِي جَوَازِ أَنْ، يَعْمَلَ مَا قَبْلَ إِلَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا أَوْ حَالًا نَحْوَ: مَا حُبِسَ إِلَّا زَيْدٌ عِنْدَكَ، وَمَا أَوَى إِلَّا عَمْرٌو إِلَيْكَ، وَمَا جَاءَ إِلَّا زَيْدٌ ضَاحِكًا. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبٍ مُطْلَقًا نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدٌ عَمْرًا وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ذَلِكَ فِي مَرْفُوعٍ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدًا عَمْرٌو، وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ فَيُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ هُنَا: حِلٌّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فَأْتُوا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْحَقُّ، لَا زَعْمُكُمْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ. فَأْتُوا: وَهَذِهِ أَعْظَمُ مُحَاجَّةٍ أَنْ يُؤْمَرُوا بِإِحْضَارِ كِتَابِهِمُ الَّذِي فِيهِ شَرِيعَتُهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا ادَّعَوْهُ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْمَطَاعِمَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ مِنْ قَدِيمٍ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ حَادِثٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالتَّوْرَاةِ لِظُهُورِ افْتِضَاحِهِمْ بِإِتْيَانِهَا، بَلْ بُهِتُوا وَذَلِكَ كَعَادَتِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَفِي اسْتِدْعَاءِ التَّوْرَاةِ مِنْهُمْ وَتِلَاوَتِهَا الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَا عَرَفَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، ثُمَّ أَخَذَ يُحَاجُّهُمْ ويَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَلَا يَجِدُونَ مِنْ إِنْكَارِهِ مَحِيصًا. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي الشَّرَائِعِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَخَرَجَ قَوْلِهِ: «إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» مُخْرَجَ الْمُمْكِنِ، وَهُمْ مَعْلُومٌ كَذِبُهُمْ. وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِمْ كَقَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ شُجَاعًا فَالْقَنِي، وَمَعْلُومٌ، عِنْدَكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُجَاعٍ، وَلَكِنْ هَزُأْتَ بِهِ إِذْ جَعَلْتَ هَذَا الْوَصْفَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُتَّصَفَ بِهِ.

فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْقَوْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَافْتِرَاؤُهُ الْكَذِبَ هُوَ زَعْمُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ قِيلَ يُحْتَمَلُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِلَى التِّلَاوَةِ، إِذْ مُضَمَّنُهَا بَيَانُ مَذْهَبِهِمْ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ الْقَاطِعَةِ، وَيَكُونُ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى كُتُبِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِلَى اسْتِقْرَارِ التَّحْرِيمِ فِي التَّوْرَاةِ، إِذِ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ حَرَّمَتْهُ التَّوْرَاةُ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ. وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِلَى الْحَالِ بَعْدَ تَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ مِنْ سَنَنِ يَعْقُوبَ. وَشُرِعَ ذَلِكَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ «1» . فَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ ظُلْمٌ فِي مَعْنَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَكَانُوا يُشَدِّدُونَ فَيُشَدِّدُ عَلَيْهِمُ اللَّهُ كَمَا فَعَلُوا فِي أَمْرِ الْبَقَرَةِ. وَجَاءَتْ شَرِيعَتُنَا بِخِلَافِ هَذَا، دِينُ اللَّهِ «يُسْرٌ يَسِّرُوا وَلَا تعسروا، بعثت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» وَالْأَظْهَرُ فِي مِنْ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. وَجُمِعَ فِي فَأُولَئِكَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فَصْلًا، وَمُبْتَدَأً، وَبَدَلًا. وَالظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقِيلَ: هُوَ هُنَا الْكُفْرُ. قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَصْدَعَ بِخِلَافِهِمْ، أَيِ الْأَمْرُ الصِّدْقُ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ لَا مَا افْتَرَوْهُ مِنَ الْكَذِبِ. وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُّ الطَّعامِ وَسَائِرُ مَا تَقَدَّمَ صِدْقٌ، وَأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ» أَيْ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقِيلَ: فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ مُسْلِمًا. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: «كُلُّ الطَّعَامِ» «3» الْآيَةَ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. وَقِيلَ: فِي أَنَّهُ مَا كَانَ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا قَالَهُ: مُقَاتِلٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ، فَيَخْلُصُونَ مِنْ مِلَّةِ الْيَهُودِيَّةِ. وَعَرَّضَ بِقَوْلِهِ: «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» : إِلَى أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فِي اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 160. (2) سورة الحج: 22/ 78. (3) سورة آل عمران: 3/ 93.

عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَفْسِيرًا وَإِعْرَابًا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ قُلْ صَدَقَ: بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الصَّادِ، وَ «قُلْ سِيرُوا» «1» بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي السِّينِ. وَأَدْغَمَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ «بَلْ سَوَّلَتْ» «2» . قَالَ ابْنُ جِنِّي: عِلَّةُ ذَلِكَ فُشُوُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي الْفَمِ وَانْتِشَارُ الصَّوْتِ الْمُثْبَتِ عَنْهُمَا، فَقَارَبَتَا بِذَلِكَ مَخْرَجَ اللَّامِ، فَجَازَ إِدْغَامُهَا فِيهِمَا انْتَهَى. وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْإِدْغَامُ يَعْنِي إِدْغَامَ اللَّامِ مَعَ الطَّاءِ وَالصَّادِ وَأَخَوَاتِهِمَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ كَكَثْرَتِهِ مَعَ الرَّاءِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَرَاخَيْنَ عَنْهَا وَهِيَ مِنَ الثَّنَايَا. قَالَ: وَجَوَازُ الْإِدْغَامِ لِأَنَّ آخِرَ مَخْرَجِ اللَّامِ قَرِيبٌ مِنْ مَخْرَجِهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَهُوَ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ حَجُّ الْبَيْتِ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْ خُصُوصِيَّاتِ دِينِهِ، أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْبَيْتِ وفضائله ليبني الْحَجِّ وَوُجُوبِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَحَقُّ بِالِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ وُضِعَ قَبْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَقِبْلَةُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» كَمَا أَكْذَبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ قَبْلُ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى يَعْقُوبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى زَعَمَتْ أَنَّهَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ شَعَائِرِ مِلَّتِهِ حَجُّ الْكَعْبَةِ وَهُمْ لَا يَحُجُّونَهَا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ تِلْكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ غَيْرَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ أَوَّلَ فِي قَوْلِهِ: «وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ» «3» وَوُضِعَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ أول بيت وضع للناس. فَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ حين خلقت السموات وَالْأَرْضُ، خَلَقُهُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانَ زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ فَدُحِيَتِ الْأَرْضُ تَحْتَهُ. وَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ بَنَاهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: طُفْ حَوْلَ هَذَا الْبَيْتِ فَلَقَدْ طُفْنَا قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانَ فِي مَوْضِعِهِ قَبْلَ آدَمَ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، فَرُفِعَ فِي الطُّوفَانِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ يَطُوفُ بِهِ مَلَائِكَةُ السموات.

_ (1) سورة الأنعام 6/ 120، وسورة العنكبوت: 29/ 20. (2) سورة يوسف: 12/ 18. (3) سورة البقرة: 2/ 41.

وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو الْبَرَكَاتِ أَسْعَدُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْغَنَائِمِ الْحُسَيْنِيُّ الْجُوَانِيُّ النَّسَّابَةُ: أَنْ شِيثَ بْنَ آدَمَ هُوَ الَّذِي بَنَى الْكَعْبَةَ بِالطِّينِ وَالْحِجَارَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخَيْمَةِ الَّتِي كَانَ اللَّهُ وَضَعَهَا لِآدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، فَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يَكُونُ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ حُجَّ بَعْدَ الطُّوفَانِ، فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْحَجِّ إِذْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ: أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ ، فَأَخَذَ الْأَوَّلِيَّةَ بِقَيْدِ هَذِهِ الْحَالِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ جُرْهُمٍ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ: إِلَّا إِنْ حُمِلَ الْوَضْعُ عَلَى التَّجْدِيدِ فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ يُضَعِّفُ قَوْلَ الزَّجَّاجِ: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، بَلْ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ إِبْرَاهِيمَ، فَكَمَا وَضَعَ الْكَعْبَةَ وَضَعَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ بَيْنَ الْوَضْعَيْنِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» وَأَيْنَ زَمَانُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ زَمَانِ سُلَيْمَانَ! وَمَعْنَى وُضِعَ لِلنَّاسِ: أَيْ مُتَعَبَّدًا يَسْتَوِي فِي التَّعَبُّدِ فِيهِ النَّاسُ، إِذْ غَيْرُهُ مِنَ الْبُيُوتِ يُخْتَصُّ بِأَصْحَابِهَا، وَالْمُشْتَرَكُ فِيهِ النَّاسُ هُوَ مَحَلُّ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ وَقِبْلَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «وُضِعَ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ السميفع وَضَعَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ وَأَلْيَقُ وَأَوْفَقُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَلِلنَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِوَضَعَ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَلِلَّذِي بِبَكَّةَ خَبَرُ إِنَّ. وَالْمَعْنَى: لِلْبَيْتِ الَّذِي بِبَكَّةَ. وَأُكِّدَتِ النِّسْبَةُ بِتَأْكِيدَيْنِ: إِنَّ وَاللَّامِ. وَأَخْبَرَ هُنَا عَنِ النَّكِرَةِ وَهُوَ أَوَّلَ بَيْتٍ لِتَخَصُّصِهَا بِالْإِضَافَةِ، وَبِالصِّفَةِ الَّتِي هي وضع إمالها، وَإِمَّا لِمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ. إِذْ تَخْصِيصُهُ تَخْصِيصٌ لَهَا بِالْمَعْرِفَةِ وَهُوَ لِلَّذِي بِبَكَّةَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنْ أول بيت وضع للناس، وَيُحَسِّنُ الْإِخْبَارَ عَنِ النَّكِرَةِ بِالْمَعْرِفَةِ دُخُولُ إِنَّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ قَرِيبًا مِنْكَ زَيْدٌ. تُخَصَّصُ قَرِيبٌ بِلَفْظِ مِنْكَ، فَحَسُنَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ. وَقَدْ جَاءَ بِغَيْرِ تَخْصِيصٍ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الِاخْتِيَارِ قَالَ: وَإِنَّ حَرَامًا أَنْ أَسُبَّ مُجَاشِعًا ... بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الْخَضَارِمِ وَالْبَاءُ فِي بِبَكَّةَ ظَرْفِيَّةٌ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ. وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ بَكَّةُ هِيَ الْمَسْجِدُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ.

مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ أَمَّا بَرَكَتُهُ فَلِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ لِمَنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ وَطَافَ بِهِ وَعَكَفَ عِنْدَهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَرَكَتُهُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: «يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ» «1» . وَقِيلَ: بَرَكَتُهُ دَوَامُ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَلُزُومُهَا، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ لَهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: النُّمُوُّ، وَالْآخَرُ: الثُّبُوتُ، وَمِنْهُ الْبَرَكَةُ لِثُبُوتِ الْمَاءِ فِيهَا. وَالْبَرْكُ الصَّدْرُ لِثُبُوتِ الْحِفْظِ فِيهِ، وَالْبَرَاكَاءُ الثُّبُوتُ فِي الْقِتَالِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ ثَبَتَ وَلَمْ يَزَلْ. وَقِيلَ: بَرَكَتُهُ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ فِيهِ. رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَرْفَعْ قَدَمًا وَلَمْ يَضَعْ أُخْرَى إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ بِهَا لَهُ حَسَنَةً وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً» . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَ مُبَارَكًا لِأَنَّهُ مَغْفِرَةٌ لِلذُّنُوبِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: بَرَكَتُهُ تَطْهِيرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: بَرَكَتُهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ أَمِنَ حَتَّى الْوَحْشَ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الظَّبْيُ وَالْكَلْبُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُقَوِّمًا مُصْلِحًا كَانَ فِيهِ إِرْشَادٌ. وَبُولِغَ بِكَوْنِهِ هُدًى، أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَذَا هُدًى. قِيلَ: وَمَعْنَى هُدًى أَيْ قِبْلَةً. وَقِيلَ: رَحْمَةٌ. وَقِيلَ: صَلَاحٌ. وَقِيلَ: بَيَانٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ هُنَا هُدًى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أي من حيث دعى الْعَالَمُونَ إِلَيْهِ، وَانْتِصَابُ مُبَارَكًا عَلَى الْحَالِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي اسْتَكَنَّ فِي وُضِعَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا وُضِعَ أَيْ أَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ مُبَارَكًا، أَيْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ الْحَالِ بِأَجْنَبِيٍّ وَهُوَ: الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِأَنَّ خَبَرٌ لَهَا، فَإِنْ أَضْمَرْتَ وُضِعَ بَعْدَ الْخَبَرِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَالِ، وَكَانَ تَقْدِيرُهُ: لَلَّذِي بِبَكَّةَ وُضِعَ مُبَارَكًا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ تَفْسِيرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ عِنْدَ ذكر كون هذا البت أَوَّلًا، إِذْ كَانَ قَدْ لَاحَظَ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَوْنَهُ وُضِعَ أَوَّلًا بِقَيْدِ هَذِهِ الْحَالِ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْعَامِلُ فِي بِبَكَّةَ، أَيِ اسْتَقَرَّ بِبَكَّةَ فِي حَالِ بَرَكَتِهِ. وَهُوَ وَجْهٌ ظَاهِرُ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَأَمَّا هُدًى فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُبَارَكًا، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَهُوَ هُدًى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْإِضْمَارِ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أَيْ عَلَامَاتٌ وَاضِحَاتٌ مِنْهَا: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْحَجَرُ الَّذِي قَامَ

_ (1) سورة القصص: 28/ 57.

عَلَيْهِ، وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَهُوَ: مِنْ حِجَارَةِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَشْهَدُ لِمَنْ مَسَّهُ. وَالْحَطِيمُ، وَزَمْزَمُ، وَأَمْنُ الْخَائِفِ وَهَيْبَتُهُ وَتَعْظِيمُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَأَمْرُ الْفِيلِ، وَرَمْيُ طَيْرِ اللَّهِ عَنْهُ بِحِجَارَةِ السِّجِّيلِ، وَكَفُّ الْجَبَابِرَةِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَإِذْعَانُ نُفُوسِ الْعَرَبِ لِتَوْقِيرِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ دُونَ نَاهٍ وَلَا زَاجِرٍ، وَجِبَايَةُ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهِ، وَهُوَ «بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» «1» وَحِمَايَتُهُ مِنَ السُّيُولِ. وَدَلَالَةُ عُمُومِ الْمَطَرِ إِيَّاهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ عَلَى خِصْبِ آفَاقِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ مِنْ جَانِبٍ أَخْصَبَ الْأُفُقُ الَّذِي يَلِيهِ. وَذَكَرَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ كَوْنَ الطَّيْرِ لَا يعلوم عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالطَّيْرُ يُعَايَنُ بِعُلُوِّهِ، وَقَدْ عَلَتْهُ الْعُقَابُ الَّتِي أَخَذَتِ الْحَيَّةَ الْمُشْرِفَةَ عَلَى جِدَارِهِ، وَتِلْكَ كَانَتْ مِنْ آيَاتِهِ انْتَهَى. وَأَيُّ عَبْدٍ عَلَا عَلَيْهِ عَتَقَ. وَتَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ عَتَا فِيهِ، وَإِجَابَةُ دُعَاءِ مَنْ دَعَا تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَمُضَاعَفَةُ أَجْرِ الْمُصَلِّي، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْبَيْتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْبَيْتِ. لَكِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِي الظَّرْفِيَّةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ الْآيَاتِ تَكُونُ دَاخِلَ الْجُدْرَانِ. وَوَجْهُ التَّوَسُّعِ أَنَّ الْبَيْتَ وُضِعَ بِحَرَمِهِ وَجَمِيعِ فَضَائِلِهِ، فَهِيَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَلِذَلِكَ عَدَّ الْمُفَسِّرُونَ آيَاتٍ فِي الْحَرَمِ وَأَشْيَاءَ مِمَّا الْتُزِمَتْ فِي شَرِيعَتِنَا مِنْ: تَحْرِيمِ قَطْعِ شَجَرِهِ، وَمَنْعِ الِاصْطِيَادِ فِيهِ. وَالَّذِي تَعَرَّضَتْ لَهُ الْآيَةُ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ آيَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ وَقْتَ رَفْعِهِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ طَالَ لَهُ الْبِنَاءُ، فَكُلَّمَا عَلَا الْجِدَارُ ارْتَفَعَ الْحَجَرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ، فَمَا زَالَ يَبْنِي وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ حَتَّى كَمُلَ الْجِدَارُ. ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَ ذَلِكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ لَيَّنَ الْحَجَرَ فَغَرِقَتْ فِيهِ قَدَمَا إِبْرَاهِيمَ كَأَنَّهَا فِي طِينٍ، فَذَلِكَ الْأَثَرُ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ. وَقَدْ نَقَلَتْ كَافَّةُ الْعَرَبِ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مُرُورِ الْأَعْصَارِ. وَقَالَ فِي ذَلِكَ أبو طالب: وموطىء إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٍ ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ فَمَا حُفِظَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ نَازَعَ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَقِيلَ: سَبَبُ أَثَرِ قَدَمَيْهِ فِي هَذَا الْحَجَرِ أَنَّهُ وَافَى مَكَّةَ زَائِرًا مِنَ الشَّامِ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ: انْزِلْ. حَتَّى أَغْسِلَ رَأْسَكَ، فَأَبَى أَنْ يَنْزِلَ، فَجَاءَتْ بِهَذَا الْحَجَرِ مِنْ جِهَةِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ عليه حتى غسلت

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 37.

شِقَّ رَأْسِهِ، ثُمَّ حَوَّلَتْهُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ حَتَّى غَسَلَتِ الشِّقَّ الْآخَرَ، فَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِيهِ. وَارْتِفَاعُ آيَاتٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْحَالُ حَقِيقَةً. وَنِسْبَةُ الْحَالِيَّةِ إِلَى الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَجَازٌ، كَنِسْبَةِ الْخَبَرِ إِلَيْهَا. إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، أَوْ عِنْدَكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَمَا يُعْزَى لِلظَّرْفِ مِنْ خَبَرِيَّةٍ وَعَمَلٍ، فَالْأَصَحُّ كَوْنُهُ لِعَامِلِهِ. وَكَوْنُ فِيهِ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا هُوَ الْعَامِلُ فِي بِبَكَّةَ، أَمْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا هُوَ وُضِعَ عَلَى مَا أَعْرَبُوهُ، أَوْ عَلَى ما أعربناه. ويجوز أو يَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً. أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِ آيات بينات. مَقامُ إِبْراهِيمَ مَقَامٌ: مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وعمرو ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ «آيَةٌ بَيِّنَةٌ» عَلَى التَّوْحِيدِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَعْرَبُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، مِنْ قَوْلِهِ: آيَاتٌ، وَأَعْرَبُوهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ هُنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَعَلَى مَا أَعْرَبُوهُ فَكَيْفَ يُبْدَلُ الْمُفْرَدُ مِنَ الْجَمْعِ، أَوْ يُخْبَرُ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ؟ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِظُهُورِ شَأْنِهِ وَقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَنُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَأْثِيرِ قَدَمِهِ فِي حَجَرٍ صَلْدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً «1» . وَالثَّانِي: اشْتِمَالُهُ عَلَى آيَاتٍ، لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بعض آية، وإبقاؤه دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ لآية لِإِبْرَاهِيمَ خَاصَّةً، وَحِفْظَهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ أُلُوفَ سِنِينٍ آيَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِيهِ «آيات بينات مقام إبراهيم» وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْجَمْعِ كَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُتَرَجِّحُ عِنْدِي أَنَّ الْمَقَامَ وَأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلَا مِثَالًا مِمَّا فِي حَرَمِ اللَّهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَخُصَّا بِالذِّكْرِ لِعِظَمِهِمَا، وَأَنَّهُمَا تَقُومُ بِهِمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْكُفَّارِ إِذْ هُمْ مُدْرِكُونَ لِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِحَوَاسِّهِمْ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَبْلَهُ: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنَ الدَّاخِلِ تَفْسِيرٌ لِلْآيَاتِ وَهِيَ جِمْعٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُذْكَرْ أَمْنُ الدَّاخِلِ فِي الْآيَةِ تَفْسِيرًا صِنَاعِيًّا، إِنَّمَا جَاءَ «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» «2» جُمْلَةً مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، أَوْ مبتدأ وخبر، لَا عَلَى سَبِيلِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا يُعْطَفُ عَلَى قَوْلِهِ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا صِنَاعِيًّا. بَلْ لَمْ يَأْتِ بَعْدَ قَوْلِهِ: آياتٌ بَيِّناتٌ سِوَى مُفْرَدٍ وَهُوَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أجزت أن

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 120. (2) سورة آل عمران: 3/ 97.

يَكُونَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَمْنُ عَطْفَ بَيَانٍ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً: إِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ، وَإِمَّا شَرْطِيَّةٌ؟ قُلْتُ: أَجَزْتُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. لِأَنَّ قوله: «ومن دخله كان آمِنًا» دَلَّ عَلَى أَمْنِ دَاخِلِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ آيات بينات مقام إبراهيم، وَأَمْنُ دَاخِلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا صَحَّ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ أَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ انْتَهَى سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ. لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَأَمْنُ الدَّاخِلِ، هُوَ مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفَسَّرَ بِهِمَا الْآيَاتِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قوله: ومن دخله كان آمِنًا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فَتَدَافَعَا إِلَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، فَيُمْكِنُ التَّوْجِيهُ. فَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا فِي مَعْنَى: وَأَمْنِ دَاخِلِهِ، إِلَّا من حيث تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَيُطْوَى ذِكْرُ غَيْرِهِمَا دَلَالَةً عَلَى تَكَاثُرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ آيات بينات مقام إبراهيم وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ وَكَثِيرٌ سِوَاهُمَا. وَنَحْوُهُ فِي طَيِّ الذِّكْرِ قَوْلُ جَرِيرٍ: كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلُثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلُثٌ مِنْ مَوَالِيهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: الطِّيبُ، وَالنِّسَاءُ، وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةُ» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِعْرَابِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ آيات نكرة، ومقام إِبْرَاهِيمَ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّخَالُفُ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ. وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَحُكْمُ عَطْفِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ حُكْمُ النَّعْتِ، فَتَتْبَعُ النَّكِرَةُ النَّكِرَةَ وَالْمَعْرِفَةُ الْمَعْرِفَةَ، وَقَدْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَأَمَّا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا نَكِرَتَيْنِ. وَمَا أَعْرَبَهُ الْكُوفِيُّونَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: عَطْفُ بَيَانٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ عَلَى النَّكِرَةِ قَبْلَهُ، أَعْرَبَهُ الْبَصْرِيُّونَ بَدَلًا، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ عَطْفِ الْبَيَانِ فِي النَّكِرَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ. وَالْأَوْلَى وَالْأَصْوَبُ في إعراب مقام إبراهيم أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَحَدُهَا: أَيْ أَحَدُ تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ مِنْهَا: أَيْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَيَكُونُ ذِكْرُ الْمَقَامِ لِعِظَمِهِ وَلِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ، وَلِكَوْنِهِ مُشَاهَدًا لَهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِإِذْكَارِهِ إِيَّاهُمْ دِينَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: آيَةٌ بَيِّنَةٌ بِالتَّوْحِيدِ، فَإِعْرَابُهُ بَدَلٌ، وَهُوَ بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ،

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ «1» وَيَكُونُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الْحَجَرُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيْتُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ بَنَاهُ، وَقَامَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَكَّةُ كُلُّهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَالْحَرَمُ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ إِلَى مُنْتَهَى التَّنْعِيمِ، وَمِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ يُقَالُ لَهُ الْمَقْطَعُ، وَمِمَّا يَلِي عَرَفَةَ تِسْعَةُ أَمْيَالٍ إِلَى مُنْتَهَى الْحُدَيْبِيَةِ. وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً: الضَّمِيرُ فِي «وَمَنْ دَخَلَهُ» عَائِدٌ عَلَى الْبَيْتِ: إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَالْمُقَيَّدُ بِتِلْكَ الْقُيُودِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالْهُدَى وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِالْحَجَرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِبَعْضِ آيَاتِ الْبَيْتِ، وَمُذَكِّرَةٌ لِلْعَرَبِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنِ احْتِرَامِ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَمْنِ مَنْ دَخَلَهُ مِنْ ذَوِي الْجَرَائِمِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ بِالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ، إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «2» وَذَلِكَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً «3» فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَصَابَ حَدًّا فَإِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. فَمَنْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَتَلَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: أَنْ يَخْرُجَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى الْحِلِّ فَيُقْتَلَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَاسْتَجَارَ بِالْبَيْتِ فَهُوَ آمِنٌ. وَالْأَمْرُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا يَعْرِضُ أَحَدٌ لِقَاتِلِ وَلِيِّهِ. إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُ، وَلَا يُكَلِّمُوهُ، وَلَا يؤوه حَتَّى يَتَبَرَّمَ فَيَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالَ بِمِثْلِ هَذَا عَطَاءٌ أَيْضًا، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَالُوا: هَذَا فِيمَنْ يُقْتَلُ خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ يَعُوذُ بِالْحَرَمِ، أَمَّا مَنْ قُتِلَ فِيهِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ: إِذَا جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَأَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 52- 53. (2) سورة العنكبوت: 29/ 67. (3) سورة البقرة: 2/ 126. [.....]

لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَا يُخَالَطْ، أَوْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيهِ، لَا بِقَتْلٍ وَلَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَا يُخَالَطُ. قَالُوا: وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَنَى فِيهِ لَا يُؤَمَّنُ، لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَرَدَّ الْأَمَانَ. فَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ فِيمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ. وَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ. أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ. وَهُوَ عَامٌّ فِيمَنْ جَنَى فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ دَخَلَهُ، لَكِنْ صَدَّ الْإِجْمَاعَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَنْ جَنَى فِيهِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ مُخْتَصًّا بِمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ دَخَلَهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ فِي آخَرِينَ: آمِنًا مِنَ النَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ فِي. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا: أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ حَاجًّا، أَوْ مَنْ دَخَلَهُ مُخْلِصًا فِي دُخُولِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1» . وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ دَخَلَهُ وَرَقَى عَلَى الصَّفَا أَمِنَ أَمْنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ سِوَاهُ مُتَكَلَّفَاتٌ، وَيَنْبُو اللَّفْظُ عَنْهَا، وَيُخَالِفُ بَعْضُهَا ظَوَاهِرَ الْآيَاتِ وَقَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا رَوَى عِكْرِمَةُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا «2» قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ، قِيلَ لَهُ: حُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ، فَلْيَحُجُّوا إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَا نَحُجُّهُ أَبَدًا. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأْكِيدِ فَرْضِ الْحَجِّ، إِذْ جَاءَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى، وَجَاءَ بعلى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، وَجَاءَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّاسِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصَ لِيَكُونَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ. فَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يَعْنِي أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلَّهِ فِي رِقَابِ النَّاسِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ أَدَائِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ النَّاسَ ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَفِيهِ ضَرْبَانِ مِنَ التَّأْكِيدِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبْدَالَ تَنْبِيهٌ لِلْمُرَادِ وَتَكْرِيرٌ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِيضَاحَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَالتَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ إِيرَادٌ لَهُ فِي صُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ حِجٌّ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ: الْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ. وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ الْحِجَّ بِالْكَسْرِ مَصْدَرًا نَحْوَ: ذَكَرَ ذِكْرًا. وَجَعَلَهُ الزَّجَّاجُ اسْمَ الْعَمَلِ. وَلَمْ يختلفو فِي الْفَتْحِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَحَجٌّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ وَلِلَّهِ وَعَلَى النَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ فِي الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّاسِ حَالًا، وأن

_ (1) سورة الفتح: 48/ 27. (2) سورة آل عمران: 3/ 85.

يَكُونَ خَبَرَ الْحَجِّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «وَلِلَّهِ» حَالًا، لِمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَقَدُّمِهَا عَلَى العامل المعنوي. وحج مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ الْبَيْتُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ. إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» «1» هَذَا الْأَصْلُ ثُمَّ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ. فَمَتَى ذُكِرَ الْبَيْتُ لَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ إِلَّا أَنَّهُ الْكَعْبَةُ، وَكَأَنَّهُ صَارَ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيَتُ أَكْرَمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ فِي أَفَنَائِهِ بِالْأَصَائِلِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِهِ إِلَّا الِاسْتِطَاعَةُ. وَذَكَرُوا أَنَّ شُرُوطَهُ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ وُجُوبُهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهِ، وَقَالَ بِذَلِكَ دَاوُدُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ مُخَاطَبًا بِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٌ، إِذِ السَّيِّدُ يَمْنَعُهُ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِحُقُوقِهِ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ. فَلَوْ حَجَّ الْعَبْدُ فِي حَالِ رِقِّهِ، وَالصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ، ثُمَّ عَتَقَ وَبَلَغَ فَعَلَيْهِمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ. وَظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِحَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِذْ قَالَ: يَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ مَرَّةً، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْطَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ: مَشْيٍ، وَتَكَفُّفٍ، وَرُكُوبِ بَحْرٍ، وَإِيجَارِ نَفْسِهِ لِلْخِدْمَةِ. الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالْمَشْرُوطُ مُطْلَقُ الِاسْتِطَاعَةِ. وَلَيْسَتْ فِي الْآيَةِ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا عَلَى التَّرَاخِي، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي وَقْتِ حُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَالْقَوْلَانِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَرْكِ تَفْسِيقِ الْقَادِرِ عَلَى الْحَجِّ إِذَا أَخَّرَهُ الْعَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَنْ فَوَّتَ صَلَاةً حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَقَضَاهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ حَجَّ بَعْدَ أَعْوَامٍ مِنْ وَقْتِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْتَ قَاضٍ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي لَا يَجِدُ فِي ذَلِكَ حَدًّا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ: أَنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ وَهُوَ قَادِرٌ وَتَرَكَ فَسَقَ، وَرُوِيَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَفِي إِعْرَابِ مَنْ خِلَافٌ، ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، فَتَكُونُ مَنْ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَبَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الضَّمِيرِ، فَهُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: مِنْ شَرْطِيَّةٌ، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَيَلْزَمُ حَذْفُ الضَّمِيرِ الرَّابِطِ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَحَذْفُ جَوَابِ الشرط، إذ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 96.

التَّقْدِيرُ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، أَوْ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِقِلَّةِ الْحَذْفِ فِيهِ وَكَثْرَتِهِ فِي هَذَا. وَيُنَاسِبُ الشَّرْطَ مَجِيءُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ وَقِيلَ: مَنْ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمْ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: مَنْ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ حَجٌّ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ قَدْ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَرُفِعَ بِهِ الْفَاعِلُ نَحْوَ: عَجِبْتُ مِنْ شُرْبِ الْعَسَلِ زَيْدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعَ الْفَاعِلِ بِهِ قَلِيلٌ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَكَادُ يُحْفَظُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ مُسْتَطِيعِهِمْ وَغَيْرِ مُسْتَطِيعِهِمْ أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ الْمُسْتَطِيعُ. وَمُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ إِنَّمَا هُوَ الْمُسْتَطِيعُ لَا النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ يَعُودُ عَلَى الْبَيْتِ، وَقِيلَ: عَلَى الحج. وإليه متعلق باستطاع، وسبيلا مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ اسْتَطَاعَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ. قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ «1» وَكُلُّ مُوصِلٍ إِلَى شَيْءٍ، فَهُوَ سَبِيلٌ إِلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَى الْبَيْتِ سَبِيلًا، وَلَيْسَتِ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ حَالُ الَّذِي يَجِدُ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالضَّحَّاكُ: إِذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا غَيْرَ شَاقٍّ عَلَى نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا قَدَرَ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ، وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ مِيرَاثٌ بِمَكَّةَ، أَكَانَ يَتْرُكُهُ، بَلْ كَانَ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ؟ وَلَوْ حَبْوًا فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ وَجَدَ شَيْئًا يُبْلِغُهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ الصِّحَّةُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَثِقَ بِقُوَّتِهِ لَزِمَهُ، وَعَنْهُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ. وَقَدْ يَجِدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّفَرِ، وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَنْ لَا راحلة له وَلَا زَادَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ مَلَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَفْسِهِ: أَوَّلًا: فَمَنْ مَنَعَهُ مَرَضٌ أَوْ عُذْرٌ وَلَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لِذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ سَأَلَ ذاهبا وآئبا مِمَّنْ لَيْسَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ فِي إِقَامَتِهِ. فَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: لَا بَأْسَ بذلك.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 197.

وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَى الْحَجِّ وَالْغَزْوِ سَائِلًا. وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تَحُجَّ النِّسَاءُ فِي الْبَحْرِ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي حَجِّ النِّسَاءِ مَاشِيَاتٍ إِذَا قَدِرْنَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا حَجَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَاخْتُلِفَ إِذَا عَدِمَتْهُ. فَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: الْمَحْرَمُ مِنَ السَّبِيلِ وَلَا حَجَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَإِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَهَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا فِي الْفَرْضِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ: الْمَنْعُ، وَعَدَمُهُ. وَالْمَحْرَمُ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَرَابَةٍ، أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ صِهْرٍ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ نِكَاحِهَا أَوْ مُسْلِمًا غَيْرَ مَأْمُونٍ، فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تُسَافِرُ مَعَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَخْرُجُ مَعَ جَمَاعَةِ نِسَاءٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعَ حُرَّةٍ ثِقَةٍ مُسْلِمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَعَ رَجُلٍ ثِقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَعَ قَوْمٍ عُدُولٍ، وَتَتَّخِذُ سُلَّمًا تَصْعَدُ عَلَيْهِ وَتَنْزِلُ، وَلَا يَقْرَبُهَا رَجُلٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ مَعَ وُجُودِ الْمُكُوسِ وَالْغَرَامَةِ. فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِذَا كَانَ الْمُكْسُ، وَلَوْ دِرْهَمًا سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ عَنِ النَّاسِ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِذَا كَانَتِ الْغَرَامَةُ كَثِيرَةً مُجْحِفَةً سَقَطَ الْفَرْضُ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً غَيْرَ مُجْحِفَةٍ بِهِ لِسِعَةِ مَالِهِ فَلَا يَسْقُطُ، وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَيْهِ مَضَتِ الْأَعْصَارُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمَعْضُوبَ لَا يَلْزَمُهُمَا الْمَسِيرُ إِلَى الْحَجِّ. فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْقُطُ عَنِ الْمَعْضُوبِ فَرْضُ الْحَجِّ، وَلَا يُحَجُّ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. فَإِنْ وَصَّى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُجَّ مِنَ الثُّلُثِ، وَكَانَ تَطَوُّعًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَالٍ يَسْتَأْجِرُ بِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا بَذَلَ أَحَدٌ لَهُ الطَّاعَةَ وَالنِّيَابَةَ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، وَلَوْ بَذَلَ لَهُ مَالًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ. وَمَسَائِلُ فُرُوعِ الِاسْتِطَاعَةِ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِوُجُوبِ الْحَجِّ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ مِثْلَهُ: الضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِمْرَانُ الْقَطَّانُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ: وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَمَنْ كَفَرَ بِأَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ فَلَمْ يَحُجَّ، فَهَذَا كُفْرُ مَعْصِيَةٍ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ كُفْرُ جُحُودٍ. وَيَصِيرُ عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ لِقَوْلِهِ:

«مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْهَا يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ، مَكَانَ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ تَغْلِيظًا عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «من مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَنَحْوُهُ مِنَ التَّغْلِيظِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مِنْ مَعْنَى كَلَامِ السُّدِّيِّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَمَنْ كَفَرَ بِكَوْنِ الْبَيْتِ قِبْلَةَ الْحَقِّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها «1» وَكَفَرُوا بِهَا وَقَالُوا: لَا نَحُجُّ إِلَيْهَا أَبَدًا. ومن شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالْفَاءِ، وَالرَّابِطُ لَهَا بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: عَنِ الْعالَمِينَ إِذْ مَنْ كَفَرَ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ. وَفِي هَذَا اللَّفْظِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَصْدُ بِالْكَلَامِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ عَمَّ اللَّفْظُ لِيَبْرَعَ الْمَعْنَى وَيَتَنَبَّهَ الْفِكْرُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، حَتَّى لَيْسَ بِهِ افْتِقَارٌ إِلَى شَيْءٍ، لَا رَبَّ سِوَاهُ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْهَا يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْكِيدِ ذِكْرُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالسُّخْطِ وَالْخِذْلَانِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: عَنِ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُ. وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَى عَنِ الْعَالَمِينَ تَنَاوَلَهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ. وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ الْكَامِلِ، فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى عِظَمِ السُّخْطِ الَّذِي وَقَعَ عِبَارَةً عَنْهُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ حَجِّ الْعَالَمِينَ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ: قَالَ الطَّبَرِيُّ: سَبَبُ نُزُولِهَا وَنُزُولِ مَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلَ الْإِغْرَاءَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَاسْمُهُ: شَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ أَعْمًى شَدِيدَ الضَّغَنِ وَالْحَسَدِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَرَأَى ائْتِلَافَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَقَالَ: مَا لَنَا مِنْ قَرَارٍ بِهَذِهِ الْبِلَادِ مَعَ اجْتِمَاعِ مَلَإِ بَنِي قَيْلَةَ، فَأَمَرَ شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا جَرَى فِيهِ مِنَ الْحَرْبِ وَمَا قَالُوهُ مِنَ الشِّعْرِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمُوا حَتَّى ثَارُوا إِلَى السِّلَاحِ بِالْحَرَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» ؟ وَوَعَظَهُمْ فَرَجَعُوا وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، هَذَا مُلَخَّصُهُ وَذَكَرُوهُ مُطَوَّلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 142. (2) سورة آل عمران: 3/ 105.

الَّذِينَ كَانُوا يَصُدُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ فِي كِتَابِنَا، وَالظَّاهِرُ نِدَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عُمُومًا وَالْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ كَقِيَامِهَا عَلَى الْخَاصَّةِ. وَكَأَنَّهُمْ بِتَرْكِ الاستذلال وَالْعُدُولِ إِلَى التَّقْلِيدِ بِمَنْزِلَةِ من علم ثم أنكر. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: «وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ» «1» انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ. وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُورَدُ الدَّلَائِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُجَابُونَ عَنْ شُبَهِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ أَقْوَى لِتَقَدُّمِ اعْتِرَافِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَأَصْلِ النُّبُوَّةِ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْبَيْتِ آياتٌ بَيِّناتٌ «2» وَأَوْجَبَ حَجَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «3» نَاسَبَ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْكُفَّارِ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَنَادَاهُمْ بيا أهل الْكِتَابِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ يَعْتَزِي إِلَى كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ، بَلْ يَنْبَغِي طَوَاعِيَتُهُ وَإِيمَانُهُ بِهَا، إِذْ لَهُ مَرْجِعٌ مِنَ الْعِلْمِ يَصِيرُ إِلَيْهِ إِذَا اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ. وَالْآيَاتُ: هِيَ الْعَلَامَاتُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: آيَاتُ اللَّهِ هِيَ آيَاتٌ مِنَ التَّوْرَاةِ فِيهَا صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُحْتَمَلُ الْقُرْآنُ، وَمُعْجِزَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ فِيهَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مُطَّلِعًا عَلَى أَعْمَالِهِ مُشَاهِدًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ لَا يُنَاسِبُهُ أَنْ يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ، فَلَا يُجَامِعُ الْعِلْمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِ لَا يَكَادُ يَقَعُ مِنْهُ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ. وَأَتَتْ صِيغَةُ «شَهِيدٌ» لِتَدُلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِحَسَبِ الْمُتَعَلِّقِ. لِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تَقْبَلُ التَّفَاوُتَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. فَإِذَا جَاءَتِ الصِّفَةُ مِنْ أَوْصَافِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فَذَلِكَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى «لِمَ» وَحَذْفِ الْأَلِفِ مِنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْجَارُّ. وَقَوْلُهُ: «عَلَى مَا تَعْمَلُونَ» مُتَعَلِّقٌ بقوله: شهيد. وما مَوْصُولَةٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ عَلَى عَمَلِكُمْ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَضَلَالَهُمْ، وَلَمْ يكتفوا حتى

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 99. (2) سورة آل عمران: 3/ 97. (3) سورة آل عمران: 3/ 97.

سَعَوْا فِي إِضْلَالِ مَنْ آمَنَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَعَالَى ذَلِكَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عملها» . وصدّ: لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ. يُقَالُ: صَدَّ عَنْ كَذَا، وَصَدَّ غَيْرَهُ عَنْ كَذَا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: يَصُدُّونَ ثُلَاثِيًّا، وَهُوَ مُتَعَدٍّ وَمَفْعُولُهُ مَنْ آمَنَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَصُدُّونَ مِنْ أَصَدَّ، عَدَّى صَدَّ اللَّازِمَ بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ وَمَعْنَى صَدَّ هُنَا: صَرَفَ. وَسَبِيلُ اللَّهِ: هُوَ دِينُ اللَّهِ، وَطَرِيقُ شَرْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. وَمِنَ التَّأْنِيثِ قَوْلُهُ: فَلَا تَبْعُدْ فَكُلُّ فَتَى أُنَاسٍ ... سَيُصْبِحُ سَالِكًا تِلْكَ السَّبِيلًا قَالَ الرَّاغِبُ: وقد جاء يا أَهْلَ الْكِتابِ دُونَ قُلْ، وَجَاءَ هُنَا قُلْ. فَبِدُونِ قُلْ هُوَ اسْتِدْعَاءٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، فَجَعَلَ خِطَابَهُمْ مِنْهُ اسْتِلَانَةً لِلْقَوْمِ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ. وَلَمَّا قَصَدَ الْغَضَّ مِنْهُمْ ذَكَرَ قُلْ تَنْبِيهًا عَلَى أنهم غير متساهلين أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الْخِطَابَيْنِ وَصَلَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَطْلَقَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمَدْحِ تَارَةً، وَعَلَى الذَّمِّ أُخْرَى. وَأَهْلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَدْحِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا افْتَعَلُوهُ دُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ نَحْوَ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «1» وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَأَيْضًا فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ وَالتَّهَكُّمِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَنْ لَا يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، انتهى ما لخص من كَلَامِهِ. وَالْهَاءُ فِي يَبْغُونَهَا عَائِدَةٌ عَلَى السَّبِيلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ: يَطْلُبُونَ لَهَا اعْوِجَاجًا. تَقُولُ الْعَرَبُ: ابْغِنِي كَذَا بِوَصْلِ الْأَلِفِ، أَيِ اطْلُبْهُ. أَيْ وَأَبْغِنِي بِقَطْعِ الْأَلِفِ أَعِنِّي عَلَى طَلَبِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) كَيْفَ يَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُوَ مُحَالٌ؟ (قُلْتُ) فِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ تَلْبِسُونَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تُوهِمُوهُمْ أَنَّ فِيهَا عِوَجًا بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى لَا تُنْسَخُ، وَبِتَغْيِيرِكُمْ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَجْهِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ تُتْعِبُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي إِخْفَاءِ الْحَقِّ، وَابْتِغَاءِ مَا لَا يَتَأَتَّى لَكُمْ مِنْ وُجُودِ الْعِوَجِ فِيمَا هُوَ أَقْوَمُ مِنْ كُلِّ مُسْتَقِيمٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَبْغُونَ هُنَا مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ التَّعَدِّي. أَيْ يَتَعَدَّوْنَ عَلَيْهَا، أو فيها.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 79.

وَيَكُونُ عِوَجًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ الضَّمِيرِ في يبغون، أَيْ عِوَجًا مِنْكُمْ وَعَدَمَ اسْتِقَامَةٍ انْتَهَى. وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عِوَجًا مَفْعُولًا بِهِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: «يبغونها عِوَجًا» تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يصدّون أَوْ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِيهَا ضَمِيرَيْنِ يَرْجِعَانِ إِلَيْهِمَا. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أَيْ بالعقل نحو: «وألقى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» «1» أَيْ عَارِفٌ بِعَقْلِهِ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ. نَحْوَ قَالَ: «فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2» وَتَارَةً بِإِقَامَةِ ذَلِكَ، أَيْ شَهِدْتُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَعْثِهِ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَتِهِ وَصِدْقِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ أَنَّهَا سَبِيلُ اللَّهِ الَّتِي لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا ضَالٌّ مُضِلٌّ. أَوْ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ عُدُولٌ يَثِقُونَ بِأَقْوَالِكُمْ، وَيَسْتَشْهِدُونَ فِي عِظَامِ أُمُورِهِمْ، وَهُمُ الْأَحْبَارُ انْتَهَى. قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: «وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ» دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ شُهَدَاءَ، وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الِاسْمُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَكُونُ لَهُ شَهَادَةٌ. وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، فَتَعَيَّنَ وَصْفُهُمْ بِأَنْ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تُقْبَلُ بِحَالٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَهُمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ لَمَّا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ صَدَّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِغْوَاءِ الْكُفَّارِ وَإِضْلَالِهِمْ وَنَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ تَنْبِيهًا عَلَى تَبَايُنِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ «قُلْ» لِيَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ وَتَأْنِيسًا لَهُمْ. وَأَبْرَزَ نَهْيَهُ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَطَوَاعِيَّتِهِمْ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ تَقَعْ طاعتهم لهم. والإشارة بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى الْأَوْسِ والخزرج بسب ثَائِرَةِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ. وَأَطْلَقَ الطَّوَاعِيَةَ لِتَدُلَّ عَلَى عُمُومِ الْبَدَلِ، أَيْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْكُمْ طَوَاعِيَةٌ مَا فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِمَّا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ إِضْلَالِكُمْ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الطَّاعَةَ بِقِصَّةِ الأوس والخزرج عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالرَّدُّ هُنَا التَّصْيِيرُ أَيْ يُصَيِّرُونَكُمْ. وَالْكُفْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا لَيْسَ بِكُفْرٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ فِي إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَلَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ مَعْصِيَةً لَا كُفْرًا إِلَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مُسْتَحِبِّينَ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَحْسِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ مَنْهِيًّا بَعْدَ مَنْهِيٍّ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أن يخرجوا

_ (1) سورة ق: 50/ 37. (2) سورة آل عمران: 2/ 81.

عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَصِيرُوا كَافِرِينَ حَقِيقَةً. وَانْتِصَابُ كَافِرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليردّ، لِأَنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ: فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضًا ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودًا وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ هَذَا سُؤَالُ اسْتِبْعَادِ وُقُوعِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ مَعَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ: وَهُمَا تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ الظَّاهِرُ الْإِعْجَازِ، وَكَيْنُونَةُ الرَّسُولِ فِيهِمُ الظَّاهِرُ عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ. وَوُجُودُ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ تُنَافِي الْكُفْرَ وَلَا تُجَامِعُهُ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمْ كُفْرٌ مَعَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمُ الْكُفْرُ فَوُبِّخُوا عَلَى وُقُوعِهِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلِذَلِكَ نُودُوا بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. فَلَيْسَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً «1» وَالرَّسُولُ هُنَا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا خِلَافٍ. وَالْخِطَابُ قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ. وَقِيلَ: لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ آثَارَهُ وَسُنَّتَهُ فِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوهُ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَمَانِ بَيِّنَانِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَنَبِيُّ اللَّهِ. فَأَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَأَبْقَاهُ اللَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَحْمَةً مِنْهُ وَنِعْمَةً فِيهِ، حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَطَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُتْلَى بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: يُتْلَى بِالْيَاءِ، لِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَلِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّ الْآيَاتِ هِيَ القرآن. قال ابن عطية: وَفِيكُمْ رَسُولُهُ هِيَ ظَرْفِيَّةُ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ لِشَخْصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَقْوَالِهِ وَآثَارِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ الْإِنْكَارُ وَالتَّعْجِيبُ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْكُمُ الْكُفْرُ، وَالْحَالُ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ تُتْلَى عَلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ غَضَّةً طَرِيَّةً وَبَيْنَ أَظْهُرِكِمْ رَسُولُ اللَّهِ يُنَبِّهُكُمْ وَيَعِظُكُمْ وَيُزِيحُ شُبَهَكُمْ؟. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ. وَيُنَاسِبُ هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَهُ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ «2» . وَقِيلَ: يَسْتَمْسِكُ بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: يلتجىء عليه، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَقًّا عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ شُرُورِ الكفار. وجواب من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 28. (2) سورة آل عمران: 3/ 101. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 إلى 112]

فَقَدَ هُدِيَ وَهُوَ مَاضِيَ اللَّفْظِ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، وَدَخَلَتْ قَدْ لِلتَّوَقُّعِ، لِأَنَّ الْمُعْتَصِمَ بِاللَّهِ مُتَوَقِّعٌ لِلْهُدَى. وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ: الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْإِنْكَارُ فِي لِمَ تَكْفُرُونَ لِمَ تَصُدُّونَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَالتَّكْرَارُ: فِي يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَفِي اسْمِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِيمَا يَعْمَلُونَ، وَالطِّبَاقُ: فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَفِي الْكُفْرِ إِذْ هُوَ ضَلَالٌ وَالْهِدَايَةِ، وَفِي الْعِوَجِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالتَّجَوُّزُ: بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْجَمْعِ فِي فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَقِيلَ: هُوَ يَهُودِيٌّ غَيْرُ مُعَيَّنٍ. وَقِيلَ: هُوَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ. وَإِطْلَاقُ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ: فِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَالْحَذْفُ فِي مواضع. [سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 112] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)

أَصْبَحَ: مِنَ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ لِاتِّصَافِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ وَقْتَ الصَّبَاحِ. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ وَهِيَ نَاقِصَةٌ أَيْضًا، وَتَأْتِي أَيْضًا لَازِمَةً تَقُولُ: أَصْبَحْتُ أَيْ دَخَلْتُ فِي الصَّبَاحِ. وَتَقُولُ: أَصْبَحَ زَيْدٌ، أَيْ أَقَامَ فِي الصَّبَاحِ وَمِنْهُ. إِذَا سَمِعْتَ بِسُرَى الْقَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُصَبِّحٌ، أَيْ مُقِيمٌ فِي الصَّبَاحِ. شَفَا الشَّيْءُ طَرْفُهُ وَحَرْفُهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَتَثْنِيَتُهُ: شَفَوَانِ، وَهُوَ حَرْفُ كل جرم لَهُ مَهْوًى كَالْحُفْرَةِ وَالْبِئْرِ وَالْجُرْفِ وَالسَّقْفِ وَالْجِدَارِ. وَيُضَافُ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَى الْأَعْلَى نَحْوَ: شَفَا جُرُفٍ. وَإِلَى الأسف نَحْوَ: شَفَا حُفْرَةٍ. وَيُقَالُ: أَشَفَى عَلَى كَذَا أَيْ أَشْرَفَ. وَمِنْهُ أَشَفَى الْمَرِيضُ عَلَى الْمَوْتِ. قَالَ يَعْقُوبُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلِلْقَمَرِ عِنْدَ مُحَاقِهِ وَلِلشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا مَا بَقِيَ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا إِلَّا شَفَا أَيْ قَلِيلٌ.. الْحُفْرَةُ: مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ وَاحِدَةُ الْحُفَرِ، فِعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، كَغُرْفَةٍ مِنَ الْمَاءِ. أَنْقَذَ خَلَّصَ. الِابْيِضَاضُ وَالِاسْوِدَادُ مَعْرُوفَانِ، وَيُقَالُ: بَيَّضَ فَهُوَ أَبْيَضُ. وَسَوَّدَ: فَهُوَ أَسْوَدُ، وَيُقَالُ: هُمَا أَصْلُ الْأَلْوَانِ. ذَاقَ الشَّيْءَ اسْتَطْعَمَهُ، وَأَصْلُهُ بِالْفَمِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُحَسُّ وَيُدْرَكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِالَّذِي يُعْرَفُ عِنْدَ الطَّعْمِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ ذُقْتُ مِنْ إِكْرَامِ فُلَانٍ مَا يُرَغِّبُنِي فِي قَصْدِهِ. وَيَقُولُونَ: ذُقِ الْفَرْقَ وَاعْرِفْ مَا عِنْدَهُ. وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ: أَوْ كَاهْتِزَازِ رُدَيْنَيٍ تَذَاوَقَهُ ... أَيْدِي التِّجَارِ فَزَادُوا مَتْنَهُ لِينَا وَقَالَ آخَرُ: وَإِنَّ اللَّهَ ذَاقَ حُلُومَ قيس ... فلما راء حفتها قَلَاهَا يَعْنُونَ بِالذَّوْقِ الْعِلْمَ، إِمَّا بِالْحَاسَّةِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهَا. ثققت الرَّجُلَ غَلَبْتُهُ وَظَفِرْتُ بِهِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ. لَمَّا حَذَّرَهُمْ تَعَالَى مِنْ إِضْلَالِ مَنْ يُرِيدُ

إِضْلَالَهُمْ، أَمَرَهُمْ بِمَجَامِعِ الطَّاعَاتِ، فَرَهَّبَهُمْ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: اتَّقَوُا اللَّهَ، إِذِ التَّقْوَى إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ثُمَّ جَعَلَهَا سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ بِدِينِ اللَّهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الرَّهْبَةَ بِالرَّغْبَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأَعْقَبَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَالْأَمْرَ بِالِاعْتِصَامِ بِنَهْيٍ آخَرَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِصَامِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالرَّبِيعُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: حَقَّ تُقَاتِهِ هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيَشْكُرَ فَلَا يُكْفَرَ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: حَقَّ تُقَاتِهِ اتِّقَاءَ جَمِيعَ مَعَاصِيهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالرَّبِيعُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» أُمِرُوا أَوَّلًا بِغَايَةِ التَّقْوَى حَتَّى لَا يَقَعَ إِخْلَالٌ بِشَيْءٍ ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ: هي حكمة. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَيَقُومُ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ. وَقِيلَ: لَا يَتَّقِي اللَّهَ عَبْدٌ حَقَّ تُقَاتِهِ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى جَاهَدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَفِي حَرْفِ حَفْصَةَ اعْبُدُوا اللَّهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ. وَتُقَاةٌ هُنَا مَصْدَرٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً «2» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التُّقَاةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمْعُ فَاعِلٍ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَصَرَّفْ مِنْهُ، فَيَكُونُ: كَرُمَاةٍ وَرَامٍ، أَوْ يَكُونُ جَمْعُ تَقِيٍّ، إحد فَعِيلٌ وَفَاعِلٌ بِمَنْزِلَةٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: اتَّقَوُا اللَّهَ كَمَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مُتَّقُوهُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِ، وَلِذَلِكَ أُضِيفُوا إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْبُو عَنْهُ هَذَا اللَّفْظُ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: حَقَّ تُقَاتِهِ مِنْ باب إضافة إِلَى مَوْصُوفِهَا، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا شَدِيدَ الضَّرْبِ، أَيِ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ. فَكَذَلِكَ هَذَا أَيِ اتَّقَوُا اللَّهَ الِاتِّقَاءَ الْحَقَّ، أَيِ الْوَاجِبَ الثَّابِتَ. أَمَّا إِذَا جُعِلَتِ التُّقَاةُ جَمْعًا فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يَصِيرُ مِثْلَ: اضْرِبْ زَيْدًا حَقَّ ضِرَابِهِ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا التَّرْكِيبُ عَلَى مَعْنَى: اضْرِبْ زَيْدًا كَمَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ ضِرَابُهُ. بَلْ لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّرْكِيبِ لَاحْتِيجَ فِي فَهْمِ مَعْنَاهُ إِلَى تَقْدِيرِ أَشْيَاءَ يَصِحُّ بِهَا الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: اضْرِبْ زَيْدًا ضَرْبًا حَقًّا كَمَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ ضِرَابِهِ. وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى تَحْمِيلِ اللَّفْظِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ وَتَكَلُّفِ تَقَادِيرٍ يَصِحُّ بِهَا مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ظَاهِرُهُ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَمُوتُوا إِلَّا وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: دُومُوا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يُوَافِيَكُمُ الْمَوْتُ وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُهُ مَا حكى

_ (1) سورة التغابن: 64/ 16. (2) سورة آل عمران: 3/ 28.

سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَا تَكُنْ هُنَا فَتَكُونُ رُؤْيَتِي لَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ «1» الْآيَةَ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّعٌ مِنَ الْأَحْوَالِ. التَّقْدِيرُ: وَلَا تَمُوتُنَّ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا عَلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ. وَمَجِيئُهَا اسْمِيَّةٌ أَبْلَغُ لِتَكَرُّرِ الضَّمِيرِ، وَلِلْمُوَاجَهَةِ فِيهَا بِالْخِطَابِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ حَاصِلَةٌ قَبْلُ، وَمُسْتَصْحِبَةٌ. وَأَمَّا لَوْ قِيلَ: مُسْلِمِينَ، لَدَلَّ عَلَى الِاقْتِرَانِ بِالْمَوْتِ لَا مُتَقَدِّمًا وَلَا مُتَأَخِّرًا. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أَيِ اسْتَمْسِكُوا وَتَحَصَّنُوا. وَحَبْلُ اللَّهِ: الْعَهْدُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوِ الدِّينُ، أَوِ الطَّاعَةُ، أَوْ إِخْلَاصُ التَّوْبَةِ، أَوِ الْجَمَاعَةُ، أَوْ إِخْلَاصُ التَّوْحِيدِ، أَوِ الْإِسْلَامُ. أَقْوَالٌ لِلسَّلَفِ يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ رَشَدَ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وَقَوْلُهُمْ: اعْتَصَمْتُ بِحَبْلِ فُلَانٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، مِثْلَ اسْتِظْهَارِهِ بِهِ وَوُثُوقِهِ بِإِمْسَاكِ الْمُتَدَلِّي مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ بِحَبْلٍ وَثِيقٍ يَأْمَنُ انْقِطَاعَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، اسْتَعَارَ الْحَبْلَ لِلْعَهْدِ وَالِاعْتِصَامَ لِلْوُثُوقِ بِالْعَهْدِ، وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَاعْتَصِمُوا وَلا تَفَرَّقُوا نُهُوا عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهِ كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: عَنِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُعَادَاةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: عَنْ إِحْدَاثِ مَا يُوجِبُ التَّفَرُّقَ وَيَزُولُ مَعَهُ الِاجْتِمَاعُ. وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ: نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ كَالنَّظَّامِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الشِّيعَةِ، وَمُثْبِتُو الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ. قَالَ الْأَوَّلُونَ، غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: التَّفَرُّقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ فِي أُصُولِ الدين والإسلام. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها الْخِطَابُ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَهُ: الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ يَعْنِي مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، إِذْ كَانَ الْقَوِيُّ يَسْتَبِيحُ الضَّعِيفَ. وَقِيلَ: لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّ الْعَرَبَ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ تَكُنْ مُجْتَمِعَةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا مُؤْتَلِفَةَ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَى الإسلام

_ (1) سورة البقرة: 2/ 132.

وَتَأَلَّفَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْمُفْرِطَةِ وَالْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ- وَهُوَ الدِّينُ- وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ- وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، بِدَيْمُومَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ إِذْ كَانُوا مُعْتَصِمِينَ وَمُؤْتَلِفِينَ- ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِصَامِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَائْتِلَافِ الْقُلُوبِ إِنَّمَا كَانَ سَبَبُهُ إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. إِذْ حَصَلَ مِنْهُ تَعَالَى خَلْقُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قُلُوبِهِمُ الْمُسْتَلْزَمَةِ بِحُصُولِ الْفِعْلِ، فَذَكَّرَ بِالنِّعْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. أَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَتَأَلُّفُ قُلُوبِهِمْ وَصَيْرُورَتُهُمْ إِخْوَةً في الله متراحمين بعد ما أَقَامُوا مُتَحَارِبِينَ مُتَقَاتِلِينَ نَحْوًا مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ إِلَى أَنْ أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَ أَعْنِي- الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ- جَدَّاهُمْ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ. وَأَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ فَإِنْقَاذُهُمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشَفَوْا عَلَى دُخُولِهَا. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ بِالْفِعْلِ، وَلِاتِّصَالِهَا بِقَوْلِهِ: وَلا تَفَرَّقُوا وَصَارَ نَظِيرَ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ «1» وَمَعْنَى فَأَصْبَحْتُمْ، أَيْ صِرْتُمْ. وَأَصْبَحَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُفْرَدَاتِ تُسْتَعْمَلُ لِاتِّصَافِ الْمَوْصُوفِ بِصِفَتِهِ وَقْتَ الصَّبَاحِ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى صَارَ، فَلَا يُلْحَظُ فِيهَا وَقْتُ الصَّبَاحِ بَلْ مُطْلَقُ الِانْتِقَالِ وَالصَّيْرُورَةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَصْبَحْتُمْ عِبَارَةً عَنْ الِاسْتِمْرَارِ، وَإِنْ كَانَتِ اللَّفْظَةُ مَخْصُوصَةً بِوَقْتٍ مَا، وَإِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ هِيَ مُبْتَدَأُ النَّهَارِ، وَفِيهَا مَبْدَأُ الْأَعْمَالِ. فَالْحَالُ الَّتِي يَحْسَبُهَا الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ فِيهَا هِيَ الْحَالُ الَّتِي يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا يَوْمُهُ فِي الْأَغْلَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ ضَبُعٍ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ: مِنْ أَنَّ أَصْبَحَ لِلِاسْتِمْرَارِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَيْهِ، إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُهُمَا. وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ فِي «إِذْ» أن ينتصب باذكروا، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَنْتَصِبَ بنعمة. أَيْ إِنْعَامِ اللَّهِ، وَبِالْعَامِلِ فِي عَلَيْكُمْ. إِذْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ نِعْمَةَ، وَجَوَّزُوا أَيْضًا تَعَلُّقَ عليكم بنعمة، وَجَوَّزُوا فِي أَصْبَحْتُمْ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً وَالْخَبَرُ بِنِعْمَتِهِ والباء ظرفية وإخوانا حَالٌ يَعْمَلُ فِيهَا أَصْبَحَ، أَوْ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ. وَأَنْ يَكُونَ إِخْوَانًا خَبَرُ أَصْبَحَ وَالْجَارُّ حَالٌ يَعْمَلُ فِيهِ أَصْبَحَ، أو

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 106.

حَالٌ مِنْ إِخْوَانًا لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ، أَوِ الْعَامِلُ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى تَآخَيْتُمْ بِنِعْمَتِهِ. وَأَنْ يَكُونَ أَصْبَحْتُمْ تامة، وبنعمته مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ أَصْبَحْتُمْ أَوْ مِنْ إِخْوَانًا، وإخوانا حَالٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أصبح ناقصة وإخوانا خبر، وبنعمته متعلق بأصبحتم، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ لَا ظَرْفِيَّةٍ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْأَخُ فِي الدِّينِ يُجْمَعُ إِخْوَانًا، وَمِنَ النَّسَبِ إِخْوَةٌ، هَكَذَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يُقَالَانِ مِنَ النَّسَبِ. وَفِي الدِّينِ: وَجَمْعُ أَخٍ عَلَى إِخْوَةٍ لَا يَرَاهُ سِيبَوَيْهِ، بَلْ إِخْوَةٌ عِنْدَهُ اسْمُ جَمْعٍ، لِأَنَّ فِعْلًا لا يُجْمَعُ عَلَى فِعْلَةٍ. وَابْنُ السَّرَّاجِ يَرَى فِعْلَةً إِذَا فُهِمَ مِنْهُ الْجَمْعُ اسْمُ جَمْعٍ، لِأَنَّ فِعْلَةً لَمْ يَطَّرِدْ جَمْعًا لِشَيْءٍ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَوْ عَلَى الْحُفْرَةِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: يَعُودُ عَلَى الشَّفَا، وَأُنِّثَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الشَّفَا مُضَافًا إِلَى مُؤَنَّثٍ. كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: أَرَى مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوا، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الْآيَةِ إِلَى هَذِهِ الصِّنَاعَةِ إِلَّا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَعَادًا لِلضَّمِيرِ إِلَّا الشَّفَا. وَهُنَا مَعَنَا لَفْظُ مُؤَنَّثٍ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، وَيُعَضِّدُهُ الْمَعْنَى الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تِلْكَ الصِّنَاعَةِ انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَا يَحْسُنُ عَوْدُهُ إِلَّا عَلَى الشَّفَا، لِأَنَّ كَيْنُونَتَهُمْ عَلَى الشَّفَا هو أحد جزئي الْإِسْنَادِ، فَالضَّمِيرُ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَيْهِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْحُفْرَةِ فَإِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ غُلَامَ جَعْفَرٍ، لَمْ يَكُنْ جَعْفَرٌ مُحَدِّثًا عنه، وليس أحد جزئي الْإِسْنَادِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: ضَرَبَ زَيْدٌ غُلَامَ هِنْدٍ، لَمْ تَحَدَّثْ عَنْ هِنْدٍ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتَ جَعْفَرًا وَهِنْدًا مُخَصِّصًا لِلْمُحَدَّثِ عَنْهُ. أَمَّا ذِكْرُ النَّارِ. فَإِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِتَخْصِيصِ الْحُفْرَةِ، وليست أيضا أحد جزئي الْإِسْنَادِ، لَا مُحَدَّثًا عَنْهَا. وَأَيْضًا فَالْإِنْقَاذُ مِنَ الشَّفَا أَبْلَغُ مِنَ الْإِنْقَاذِ مِنَ الْحُفْرَةِ وَمِنَ النَّارِ، لِأَنَّ الْإِنْقَاذَ مِنْهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِنْقَاذَ مِنَ الْحُفْرَةِ وَمِنَ النَّارِ، وَالْإِنْقَاذُ مِنْهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِنْقَاذَ مِنَ الشَّفَا. فَعَوْدُهُ عَلَى الشَّفَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَمُثِّلَتْ حَيَاتُهُمُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ بَعْدَهَا الْوُقُوعُ فِي النَّارِ بِالْقُعُودِ عَلَى جُرْفِهَا مُشْفِينَ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا. وَقِيلَ: شَبَّهَ تَعَالَى كُفْرَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَحَرْبَهُمُ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمَوْتِ بِالشَّفَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْقُطُونَ فِي جَهَنَّمَ دَأَبًا، فَأَنْقَذَهُمُ الله

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 10.

بِالْإِسْلَامِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ: وَاللَّهِ مَا أَنْقَذَهُمْ مِنْهَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِيهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُذُوهَا مِنْ غَيْرِ فَقِيهٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا قِصَّةَ ابْتِدَاءِ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ وَمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَزَوَالِ ذَلِكَ بِبَرَكَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّ آخِرَ هَذِهِ مُخْتَتَمٌ بِالْهِدَايَةِ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» إِرَادَةُ أَنْ تَزْدَادُوا هُدًى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ، أَيْ مَنْ تَأَمَّلَ مِنْكُمُ الْحَالَ- رَجَاءَ- الِاهْتِدَاءِ. فَالزَّمَخْشَرِيُّ جَعَلَ التَّرَجِّيَ مَجَازًا عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ زِيَادَةَ الْهُدَى، وَابْنُ عَطِيَّةَ أَبْقَى التَّرَجِّيَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَكِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَشَرِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ يَسْتَحِيلُ التَّرَجِّي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ الْمَجَازُ. أَمَّا فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فَحَيْثُ جَعَلَ التَّرَجِّيَ بِمَعْنَى إِرَادَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ فَحَيْثُ أَسْنَدَ مَا ظَاهِرُهُ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ تَعَالَى إِلَى الْبَشَرِ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ لِمَنْ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وَهُمُ الأوس والخزرج على ما ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ مِنَ الْخِطَابِ الْخَاصِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ، وَقَالَهُ: الضَّحَّاكُ وَالطَّبَرِيُّ. لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِمَنْ عَلِمَ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ، وَكَيْفَ يُرَتِّبُ الْأَمْرَ فِي إِقَامَتِهِ، وَكَيْفَ يُبَاشِرُ؟ فَإِنَّ الْجَاهِلَ رُبَّمَا أَمَرَ بِمُنْكَرٍ، وَنَهَى عَنْ مَعْرُوفٍ، وَرُبَّمَا عَرَفَ حُكْمًا فِي مَذْهَبِهِ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَيَنْهَى عَنْ غَيْرِ مُنْكَرٍ وَيَأْمُرُ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ، وَقَدْ يُغْلِظُ فِي مَوَاضِعِ اللِّينِ وَبِالْعَكْسِ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ بِبَعْضِ الْأُمَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِذَلِكَ. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَأَتَى عَلَى زَعْمِهِ بِنَظَائِرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ جَمِيعَ الْأُمَّةِ يَكُونُونَ يَدْعُونَ جَمِيعَ الْعَالَمِ إِلَى الْخَيْرِ، الْكُفَّارَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى الطَّاعَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ الْفَرْضِيَّةُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا قَامَ بِهِ بَعْضٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ، مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَتَى قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي يُسْقِطُ

الْوُجُوبَ. فَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ عَلَى النَّفْسِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا يُسْقِطُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا تَحَقَّقَ ضَرْبًا أَوْ حَبْسًا أَوْ إِهَانَةً سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَانْتَقَلَ إِلَى النَّدْبِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَإِنْ كَانَا مُطْلَقَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ تَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا وُجُوبَ ذلك إلا قوم مِنَ الْحَشَوِيَّةِ وَجُهَّالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالسِّلَاحِ، مَعَ مَا سَمِعُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «1» وَزَعَمُوا أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْيَدِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِهِ فَصْلًا مُشْبَعًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن المنكر، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ دِمَاءَ أَصْحَابِ الضَّرَائِبِ وَالْمُكُوسِ مُبَاحَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مَنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ لَهُ وَلَا تَقَدُّمٍ بِالْقَوْلِ. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ هُوَ الْإِسْلَامُ قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوِ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، أَوِ الْجِهَادُ وَالْإِسْلَامُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلْتَكُنْ بِسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِهَا، وَعِلَّةُ بِنَائِهَا عَلَى الْكَسْرِ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. وَجَوَّزُوا فِي «وَلْتَكُنْ» أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، فَيَكُونُ مِنْكُمْ مُتَعَلِّقًا بِهَا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً لِأُمَّةٍ. وَأَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، ويدعون الْخَبَرَ، وَتُعَلَّقَ مِنْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ الْخَبَرَ، ويدعون صِفَةً. وَمَحَطُّ الْفَائِدَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي يَدْعُونَ فَهُوَ الخبر. ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ذُكِرَ أَوَّلًا الدُّعَاءُ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ عَامٌّ فِي التَّكَالِيفِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، ثُمَّ جِيءَ بِالْخَاصِّ إِعْلَامًا بِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ لِقَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «2» والصَّلاةِ الْوُسْطى «3» وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَعْرُوفَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْمُنْكَرَ بِالْكُفْرِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوْحِيدَ رَأْسُ الْمَعْرُوفِ، وَالْكَفْرَ رَأْسُ الْمُنْكَرِ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَعْرُوفٍ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي كُلِّ مَنْهِيٍّ نُهِيَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَحَادِيثَ مَرْوِيَّةً فِي فَضْلِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِي إِثْمِ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، وَآثَارًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَمَا طَرِيقُ الْوُجُوبِ هَلِ السَّمْعُ وَحْدَهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو هاشم؟

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 9. (2- 3) سورة البقرة: 2/ 238.

أَمِ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَبُو عَلِيٍّ؟ وَهَذَا عَلَى آرَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ النَّهْيِ وَالْوُجُوبِ، وَمَنْ يُبَاشِرُ، وَكَيْفِيَّةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَهَلْ يَنْهَى عَمَّا يَرْتَكِبُهُ، لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَوْضُوعُ هَذَا كُلِّهِ عِلْمُ الْفِقْهِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ. وَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ، فَلَا يَكُونُ قُرْآنًا. وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُصِيبُ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْأَذَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ «1» وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَهُوَ تَبْشِيرٌ عَظِيمٌ، وَوَعْدٌ كَرِيمٌ لِمَنِ اتَّصَفَ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ هَذِهِ وَالْآيَةُ قَبْلَهَا كَالشَّرْحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا «2» فَشَرَحَ الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ «3» وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. وَشَرَحَ وَلا تَفَرَّقُوا بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا «4» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ الَّتِي افْتَرَقَتْ فِي الدِّينِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا وَصَارُوا فِرَقًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. زَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ، وَالْمُجَبِّرَةُ، وَالْحَشَوِيَّةُ، وَأَشْبَاهُهُمْ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ: قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ نَظَرٌ، فَإِنَّ مُبْتَدِعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْحَرُورِيَّةَ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَمَانٍ، وَكَيْفَ نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا كَمَثَلِ قَوْمٍ مَا ظَهَرَ تَفَرُّقُهُمْ وَلَا بِدَعُهُمْ إِلَّا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَإِنَّكَ لَا تَنْهَى زَيْدًا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ عَمْرٍو إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ جَرَى مِنْ عَمْرٍو، وَلَيْسَ لِقَوْلَيْهِمَا وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنَ الْمَاضِي الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ يَتَفَرَّقُونَ وَيَخْتَلِفُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَقَعْ ثُمَّ وَقَعَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْبَيِّنَاتُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ. وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ: التَّوْرَاةُ. وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ: الْقُرْآنُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَتَّصِفُ عَذَابُ اللَّهِ بِالْعَظِيمِ، إِذْ هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَتَفَاوَتُ فِيهِ رُتَبُ الْمُعَذَّبِينَ، كَعَذَابِ أَبِي طَالِبٍ وَعَذَابِ الْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

_ (1) سورة لقمان: 31/ 17. (2) سورة آل عمران: 103. (3) سورة آل عمران: 3/ 104. (4) سورة آل عمران: 3/ 105.

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ابْيِضَاضَ الْوُجُوهِ وَاسْوِدَادَهَا عَلَى حَقِيقَةِ اللَّوْنِ. وَالْبَيَاضُ مِنَ النُّورِ، وَالسَّوَادُ مِنَ الظُّلْمَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ نُورِ الدِّينِ وُسِمَ بِبَيَاضِ اللَّوْنِ وَإِسْفَارِهِ وَإِشْرَاقِهِ، وَابْيَضَّتْ صَحِيفَتُهُ وَأَشْرَقَتْ، وَسَعَى النُّورُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِيَمِينِهِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ظَلَمَةِ الْبَاطِلِ وُسِمَ بِسَوَادِ اللَّوْنِ وَكُسُوفِهِ وَكَمَدِهِ، وَاسْوَدَّتْ صَحِيفَتُهُ وَأَظْلَمَتْ، وَأَحَاطَتْ بِهِ الظُّلْمَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِشْرَاقِهَا وَاسْتِنَارَتِهَا وَبِشْرِهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ قَالَهُ الزُّجَاجُ وَغَيْرُهُ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مِنْ آثَارِ الوضوء كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أأنتم الْغَرُّ الْمُحَجَّلُونَ» مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا سَوَادُ الْوُجُوهِ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِدَادِهَا وَإِظْلَامِهَا بِغَمَمِ الْعَذَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَسْوِيدًا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ بِهِمْ عَلَى جِهَةِ التَّشْوِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِمْ، عَلَى نَحْوِ: حَشْرِهِمْ زُرْقًا، وَهَذِهِ أَقْبَحُ طَلْعَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بِشَارٍ: وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ ... زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ مَثَلَانِ عُبِّرَ بِهِمَا عَنِ السُّرُورِ وَالْحُزْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا «1» وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ لِمَنْ نَالَ أُمْنِيَّتَهُ: ابْيَضَّ وَجْهُهُ. وَلِمَنْ جَاءَ خَائِبًا: جَاءَ مُسْوَدَّ الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَأَبْيَضُ فَيَّاضٌ يَدَاهُ غَمَامَةٌ وَبَدَأَ بِالْبَيَاضِ لِشَرَفِهِ، وَأَنَّهُ الْحَالَةُ الْمُثْلَى. وَأَسْنَدَ الِابْيِضَاضَ وَالِاسْوِدَادَ إِلَى الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْجَسَدِ أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ، لِأَنَّ الْوَجْهَ أَوَّلُ مَا يَلْقَاكَ مِنَ الشَّخْصِ وَتَرَاهُ، وَهُوَ أَشْرَفُ أَعْضَائِهِ. وَالْمُرَادُ: وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ وَوُجُوهُ الْكَافِرِينَ قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: وُجُوهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَوُجُوهُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَقِيلَ: وُجُوهُ السُّنَّةِ، وَوُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ.

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 17.

وَقَالَ عَطَاءٌ: وُجُوهُ الْمُخْلِصِينَ، وَوُجُوهُ الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَوُجُوهُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: وُجُوهُ الْمُجَاهِدِينَ، وَوُجُوهُ الْفُرَّارِ مِنَ الزَّحْفِ. وَقِيلَ: تَبْيَضُّ بِالْقَنَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ بِالطَّمَعِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: تَسْفُرُ وُجُوهُ مَنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ ابْيِضَاضِ الْوُجُوهِ وَاسْوِدَادِهَا، فَقِيلَ: وَقْتُ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: وَقْتُ قِرَاءَةِ الصُّحُفِ. وَقِيلَ: وَقْتُ رُجْحَانِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْمِيزَانِ. وَقِيلَ: عِنْدَ قَوْلِهِ: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ «1» . وَقِيلَ: وَقْتُ أَنْ يُؤْمَرَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَنْ يَتْبَعَ مَعْبُودَهُ. وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ تَبْيَضُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أَيْ وَعَذَابٌ عَظِيمٌ كَائِنٌ لَهُمْ يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْعَامِلُ، فِيهِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ، أَيْ: يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإِضْمَارِ اذْكُرُوا، أَوْ بِالظَّرْفِ وَهُوَ لَهُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعَامِلُ عَظِيمٌ، وَضَعُفَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ عِظَمَ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ عَذَابٌ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ وُصِفَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَأَبُو نَهِيكٍ: تَبْيَضُّ وَتَسْوَدُّ بِكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ: وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: تَبْيَاضُّ وَتَسْوَادُّ بِأَلِفٍ فِيهِمَا. وَيَجُوزُ كَسْرُ التَّاءِ فِي تَبْيَاضُّ وَتَسْوَادُّ، وَلَمْ ينقل أنه قرىء بِذَلِكَ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ هَذَا تَفْصِيلٌ لِأَحْكَامِ مَنْ تَبْيَضُّ وُجُوهُهُمْ وَتَسْوَدُّ. وَابْتُدِئَ بِالَّذِينِ اسْوَدَّتْ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِمُجَاوَرَةِ قَوْلِهِ: وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وَلِلِابْتِدَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالِاخْتِتَامِ بِحُكْمِهِمْ. فَيَكُونُ مَطْلَعُ الْكَلَامِ وَمَقْطَعُهُ شَيْئًا يَسُرُّ الطَّبْعَ، وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَمَّا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ وَأَنَّهَا حَرْفُ شَرْطٍ يَقْتَضِي جَوَابًا، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ بَعْدَهَا، وَالْخَبَرُ هُنَا مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ؟ كَمَا حُذِفَ الْقَوْلُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «2» أَيْ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَلَمَّا حُذِفَ الْخَبَرُ حُذِفَتِ الْفَاءُ، وَإِنْ كَانَ حَذْفُهَا فِي غَيْرِ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ نحو قوله:

_ (1) سورة يس: 36/ 59. (2) سورة الرعد: 13/ 23- 24. [.....]

فَأَمَّا الْقِتَالُ لَا قِتَالَ لَدَيْكُمُ ... وَلَكِنَّ سَيْرًا فِي عرض الْمِوَاكِبِ يُرِيدُ فَلَا قِتَالَ، وَقَالَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْأَنْصَارِيُّ في كتابه الموسوم بنهاية التَّأْمِيلِ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ: قَدِ اعْتُرِضَ عَلَى النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِمْ: لِمَا حُذِفَ. يُقَالُ: حُذِفَتِ الْفَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ «1» تَقْدِيرُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَحُذِفَ فَيُقَالُ، وَلَمْ تُحْذَفِ الْفَاءُ. فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا تَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ. وَلِقَوْلِهِ: أَكَفَرْتُمْ، وَمِنْ نَظْمِ الْعَرَبِ: إِذَا ذَكَرُوا حَرْفًا يَقْتَضِي جَوَابًا لَهُ أَنْ يَكْتَفُوا عَنْ جَوَابِهِ حَتَّى يَذْكُرُوا حَرْفًا آخَرَ يَقْتَضِي جَوَابًا ثُمَّ يَجْعَلُونَ لَهُمَا جَوَابًا وَاحِدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «2» فَقَوْلُهُ: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ جَوَابٌ لِلشَّرْطَيْنِ، وَلَيْسَ أَفَلَمْ جواب جَوَابَ أَمَّا، بَلِ الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ: أَأَهْمَلْتُكُمْ، فَلَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ آيَاتِي. انْتَهَى مَا نُقِلَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ كَلَامُ أَدِيبٍ لَا كَلَامَ نَحْوِيٍّ. أَمَّا قَوْلُهُ: قَدِ اعْتُرِضَ عَلَى النُّحَاةِ فَيَكْفِي فِي بُطْلَانِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى جَمِيعِ النُّحَاةِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ نَحْوِيٍّ إِلَّا خَرَّجَ الْآيَةَ عَلَى إِضْمَارٍ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ، وَقَالُوا: هَذَا هُوَ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ لَا يَسْتَغْنِي الْمَعْنَى عَنْهُ، فَالْقَوْلُ بِخِلَافِهِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَا اعْتَرَضَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي «3» وَأَنَّهُمْ قَدَّرُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي، فَحُذِفَ فَيُقَالُ: وَلَمْ تُحْذَفِ الْفَاءُ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هَذِهِ الْفَاءُ الَّتِي بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي أَفَلَمْ لَيْسَتْ فَاءَ، فَيُقَالُ الَّتِي هِيَ جَوَابُ أَمَّا حَتَّى يُقَالَ حُذِفَ، فَيُقَالُ: وَبَقِيَتِ الْفَاءُ، بَلِ الْفَاءُ الَّتِي هِيَ جواب أمّا، ويقال بَعْدَهَا مَحْذُوفٌ. وَفَاءُ أَفَلَمْ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً. وَقَدْ أَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: يَمُوتُ أُنَاسٌ أَوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ ... وَيَحْدُثُ نَاسٌ وَالصَّغِيرُ فَيَكْبُرُ يُرِيدُ: يَكْبُرُ وَقَوْلَ الْآخَرِ: لَمَّا اتقى بيد عظيم جرمها ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 31. (2) سورة البقرة: 2/ 38. (3) سورة الحديد: 57/ 29.

يُرِيدُ: تَرَكْتُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَرَانِي إِذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إِذَا أَصْبَحْتُ أَصْبَحْتُ غَادِيًا يُرِيدُ ثُمَّ. وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ: وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَخُوكَ، فَوُجِدَ يُرِيدُونَ أَخُوكَ وُجِدَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةً، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَسُوؤُهُمْ، فَأَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي، ثُمَّ اعْتُنِيَ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَتَقَدَّمَتْ عَلَى الْفَاءِ التَّفْسِيرِيَّةِ، كَمَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَاءِ الَّتِي لِلتَّعْقِيبِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «1» وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُثْبِتُ أَنَّ الْفَاءَ تَكُونُ تَفْسِيرِيَّةً نَحْوَ: تَوَضَّأَ زَيْدٌ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى آخِرِ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ. فَالْفَاءُ هُنَا لَيْسَتْ مُرَتِّبَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْوُضُوءِ. كَذَلِكَ تَكُونُ فِي أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ مُفَسِّرَةً لِلْقَوْلِ الَّذِي يَسُوؤُهُمْ وَقَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ. فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا يَعْنِي- أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فَذُوقُوا- أَيْ تَعَيَّنُ بُطْلَانُ حَذْفِ مَا قَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ مِنْ قَوْلِهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ لِوُجُودِ هَذَا الْفَاءِ فِي أَفَلَمْ تَكُنْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ لَمْ يَبْطُلْ، وَأَنَّهُ سَوَاءٌ فِي الْآيَتَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَوَابُ أَمَّا هُوَ، فَيُقَالُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ: أَأَهْمَلْتُكُمْ، فَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي، فَهَذِهِ نَزْعَةٌ زَمَخْشَرِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يُقَدِّرُ بَيْنَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَ الْفَاءِ فِعْلًا يَصِحُّ عَطْفُ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ وَثُمَّ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ أَصْلُهُنَّ التَّقْدِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ، لَكِنِ اعْتُنِيَ بِالِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَ عَلَى حُرُوفِ الْعَطْفِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَخِيرًا إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ، وَبُطْلَانُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ حِكَايَةُ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ: أَأَهْمَلْتُكُمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْقَوْلِ وَتَقْدِيرِهِ، فَيُقَالُ: أَأَهْمَلْتُكُمْ لِأَنَّ هَذَا الْمُقَدَّرَ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالْفَاءُ جَوَابُ أَمَّا. وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَيَقْتَضِيهِ ضَرُورَةً. وَقَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ: فَوَقَعَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ، وَلِقَوْلِهِ: أَكَفَرْتُمْ، يَعْنِي أَنَّ فَذُوقُوا العذاب جواب لأمّا، وَلِقَوْلِهِ: أَكَفَرْتُمْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَا جَوَابَ لَهُ، إِنَّمَا هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ وَالْإِرْذَالِ بِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ: وَمِنْ نَظْمِ الْعَرَبِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَيْسَ كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى مَا زَعَمَ، بَلْ يُجْعَلُ لِكُلِّ جَوَابٍ إِنْ لَا يَكُنْ ظَاهِرًا فَمُقَدَّرٌ، وَلَا يَجْعَلُونَ لَهُمَا جَوَابًا وَاحِدًا، وَأَمَّا دَعْوَاهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ «2» الْآيَةَ. وَزَعْمُهُ أَنَّ قَوْلَهَ تَعَالَى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «3» جَوَابٌ لِلشَّرْطَيْنِ. فَقَوْلٌ رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أن

_ (1) سورة يوسف: 12/ 109. (2) سورة البقرة: 2/ 38. (3) سورة البقرة: 2/ 38.

جَوَابَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَاتَّبِعُوهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ وَجَوَابَهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ. وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ الْآيَةَ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَكَفَرْتُمْ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ. وَالْخِطَابُ فِي أَكَفَرْتُمْ إِلَى آخِرِهِ يَتَفَرَّعُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا الْكُفَّارَ فَالتَّقْدِيرُ: بَعْدَ أَنْ آمَنْتُمْ حِينَ أُخِذَ عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ وَأَنْتُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ كَالذَّرِّ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ الْبِدَعِ فَتَكُونُ الْبِدْعَةَ الْمُخْرِجَةَ عَنِ الْإِيمَانِ. وَإِنْ كَانُوا قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ فَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِهِ بَعْدَهُ، أَوْ إِيمَانُهُمْ بِالتَّوْرَاةِ وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنْ نُبُوَّتِهِ وَوَصْفِهِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ، وَإِنْ كَانُوا الْمُنَافِقِينَ فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ كُفْرُهُمْ بِقُلُوبِهِمْ، وَبِالْإِيمَانِ الْإِيمَانُ بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَإِنْ كَانُوا الْحَرُورِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ فَقَدْ كَانَ حَصَلَ مِنْهُمْ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً وَفِي قَوْلِهِ: أَكَفَرْتُمْ. قَالُوا: تَلْوِينُ الْخِطَابِ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ غيبة، وأ كفرتم مُوَاجَهَةٌ بِمَا كُنْتُمْ، الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ انْظُرْ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ التَّقْسِيمَيْنِ هُنَاكَ جَمْعٌ لِمَنِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ بَيْنَ التَّعْنِيفِ بِالْقَوْلِ وَالْعَذَابِ، وَهُنَا جَعَلَهُمْ مُسْتَقِرِّينَ فِي الرَّحْمَةِ، فَالرَّحْمَةُ ظَرْفٌ لَهُمْ وَهِيَ شَامِلَتُهُمْ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَارَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ لَا زَوَالَ مِنْهُ وَلَا انْتِقَالَ، وَأَشَارَ بِلَفْظِ الرَّحْمَةِ إِلَى سَابِقِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ، وَأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَثُرَتْ طَاعَتُهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْجَنَّةُ، وَذَكَرَ الْخُلُودَ لِلْمُؤْمِنِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِلْكَافِرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ. وَأَضَافَ الرَّحْمَةَ هُنَا إِلَيْهِ وَلَمْ يُضِفِ الْعَذَابَ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ قَالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ «1» وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ عَلَّلَهُ بِفِعْلِهِمْ، وَلَمْ يَنُصَّ هُنَا عَلَى سَبَبِ كَوْنِهِمْ فِي الرَّحْمَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ وَابْنُ يَعْمُرَ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَادَّتْ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَاضَّتْ بِأَلِفٍ. وَأَصْلُ افْعَلَّ هَذَا افْعَلَلَ يَدُلُّ، عَلَى ذَلِكَ اسْوَدَدَتْ وَاحْمَرَرَتْ، وَأَنْ يَكُونَ لِلَوْنٍ أَوْ عَيْبٍ حِسِّيٍّ، كأسود، وأعوج، واعور. وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنَ مُضَعَّفٍ كَأَحَمَّ، وَلَا مُعْتَلِّ لَامٍ كَأَلْمَى، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطَاوَعَةِ. وَنَدَرَ نَحْوُ: انْقَضَّ الْحَائِطُ، وَابْهَارَّ اللَّيْلُ، وَاشْعَارَّ الرَّجُلُ بِفَرْقِ شَعْرِهِ، وشذا رعوى، لِكَوْنِهِ مُعْتَلَّ اللَّامِ بِغَيْرِ لَوْنٍ وَلَا عَيْبٍ مُطَاوِعًا لَرَعْوَتُهُ بِمَعْنَى كَفَفْتُهُ. وَأَمَّا دُخُولُ الْأَلِفِ فَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقْصَدَ عُرُوضُ الْمَعْنَى إِذَا جِيءَ بِهَا، وَلُزُومُهُ إِذَا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 106.

لَمْ يُجَأْ بِهِمَا. وَقَدْ يَكُونُ الْعَكْسُ. فَمِنْ قَصْدِ اللُّزُومِ مَعَ ثُبُوتِ الْأَلِفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ «1» وَمِنْ قَصْدِ الْعُرُوضِ مَعَ عَدَمِ الألف قوله تعالى: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ «2» وَاحْمَرَّ خَجَلًا. وَجَوَابُ أَمَّا فَفِي الْجَنَّةِ، وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ فَمُسْتَقِرُّونَ فِي الْجَنَّةِ. وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، لَمْ تَدْخُلْ فِي حَيِّزِ أَمَّا، وَلَا فِي إِعْرَابِ مَا بَعْدَهُ. دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَارَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ؟ (قُلْتُ) : مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُونَ فِيهَا؟ فَقِيلَ: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ. وَقِيلَ: جَوَابُ أَمَّا فَفِي الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وهم فِيهَا خَالِدُونَ ابْتِدَاءٌ. وَخَبَرٌ وَخَالِدُونَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفَيْنِ، وَكُرِّرَ عَلَى طَرِيقِ التَّوْكِيدِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِدْعَاءِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ قِيلَ: إِلَى الْقُرْآنِ كُلُّهُ. وَقِيلَ: إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَمْرِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ مَكَرُوا بِهِمْ، وَالتَّقَدُّمُ إِلَيْهِمْ بِتَجَنُّبِ الِافْتِرَاقِ. وَكَشَفَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ حَالِهِمْ وَحَالِ أَعْدَائِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «3» وَقِيلَ: تِلْكَ بِمَعْنَى هَذِهِ لَمَّا انْقَضَتْ صَارَتْ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ الْوَارِدَةُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَعْذِيبَ الكفارة وَتَنْعِيمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَتْلُوهَا بِالنُّونِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، لِمَا فِي إِسْنَادِ التِّلَاوَةِ لِلْمُعَظَّمِ ذَاتُهُ مِنَ الْفَخَامَةِ وَالشَّرَفِ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ بِالْيَاءِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي نَتْلُوهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، لِيَتَّحِدَ الضَّمِيرُ. وَلَيْسَ فِيهِ الْتِفَاتٌ، لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ غَائِبٌ عَادَ عَلَى اسْمٍ غَائِبٍ. وَمَعْنَى التِّلَاوَةِ: الْقِرَاءَةُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذِ التَّالِي هُوَ جِبْرِيلُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالتِّلَاوَةِ كَانَ كَأَنَّهُ هُوَ التَّالِي تَعَالَى. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يَتْلُوهَا يُنَزِّلُهَا مُتَوَالِيَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَجَوَّزُوا فِي قِرَاءَةِ أَبِي نَهِيكٍ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى جِبْرِيلَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذكر للعلم به.

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 64. (2) سورة الكهف: 18/ 17. (3) سورة آل عمران: 3/ 106.

وَمَعْنَى بِالْحَقِّ أَيْ بِإِخْبَارِ الصِّدْقِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مُتَضَمِّنَةُ الْأَفَاعِيلَ الَّتِي هِيَ أَنْفُسُهَا حَقٌّ مِنْ كَرَامَةِ قَوْمٍ وَتَعْذِيبِ آخَرِينَ. وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ أَوْ آيَاتُ اللَّهِ خَبَرُهُ، وَنَتْلُوهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالُوا: وَالْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ آيَاتُ اللَّهِ بَدَلًا، وَالْخَبَرُ نَتْلُوهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمَذْكُورَةُ حُجَجُ اللَّهِ وَدَلَائِلُهُ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ يَكُونُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ يَتِمُّ مَعْنَى الْآيَةِ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ، إِذِ الْكَلَامُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ تَامٌّ بِنَفْسِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ، فَهِيَ فِي الموضع الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ أَيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِالْحَقِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُلْتَبِسَةٌ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ مِنْ جَزَاءِ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ بِمَا يَسْتَوْجِبَانِهِ انْتَهَى. فَدَسَّ فِي قَوْلِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبَانِهِ دَسِيسَةً اعْتِزَالِيَّةً. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ لِأَحَدٍ. فَمَا وَقَعَ مِنْهُ تَعَالَى مِنْ تَنْعِيمِ قَوْمٍ وَتَعْذِيبٍ آخَرَيْنِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. رَوَى أَبُو ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطَعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَزِيدُ فِي إِسَاءَةِ الْمُسِيءِ وَلَا يُنِقُصُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَسْوِيدَ الْوُجُوهِ عَدْلٌ انْتَهَى. وَلِلْعَالَمِينَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ مَعَ الْمَصْدَرِ التَّقْدِيرُ: ظُلْمُهُ، وَالْعَائِدُ هُوَ ضَمِيرُ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: لَيْسَ اللَّهُ مُرِيدًا أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. وَنَكَّرَ ظُلْمًا لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهُوَ يَعُمُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ظُلْمَ الْعَالَمِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَاللَّفْظُ يَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا لَكَانَ مِنْ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا مِنَ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا فَيَأْخُذُ أَحَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ، أَوْ يَزِيدُ فِي عِقَابِ مُجْرِمٍ، أَوْ يُنْقِصُ مِنْ ثَوَابِ مُحْسِنٍ، ثُمَّ قَالَ: فَسُبْحَانَ مَنْ يَحْلُمُ عَنْ مَنْ يَصِفُهُ بِإِرَادَةِ الْقَبَائِحِ وَالرِّضَا بِهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ جَارِيًا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وَنَقُولُ لَهُ: فَسُبْحَانُ مَنْ يَحْلُمُ عَمَّنْ يَصِفُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَأَنَّ إِرَادَةَ الْعَبْدِ تَغْلِبُ إِرَادَةَ الرَّبِّ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ

الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِعَمَلِ مَنْ آمَنَ فَيَرْحَمُهُمْ بِهِ، وَيَخْتَصُّ بِعَمَلِ مَنْ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ هُوَ فِيمَا يَمْلِكُهُ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ تَعَالَى. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى اتِّسَاعِ مُلْكِهِ وَمَرْجِعُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الظُّلْمِ، لِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ عَنِ الظَّالِمِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. قَالُوا وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الطِّبَاقَ: فِي تَبْيَضُّ وَتَسْوَدُّ، وَفِي اسْوَدَّتْ وَابْيَضَّتْ، وَفِي أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، وَفِي بِالْحَقِّ وُظُلْمًا. وَالتَّفْصِيلَ: فِي فَأَمَّا وَأَمَّا. وَالتَّجْنِيسَ: الْمُمَاثِلَ فِي أَكَفَرْتُمْ وَتَكْفُرُونَ. وَتَأْكِيدَ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فِي: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَالتَّكْرَارَ: فِي لَفْظِ اللَّهِ. وَمُحَسِّنُهُ: أَنَّهُ فِي جُمَلٍ مُتَغَايِرَةِ الْمَعْنَى، وَالْمَعْرُوفُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْجُمَلُ أَعَادَتِ الْمُظْهَرَ لَا الْمُضْمَرَ، لِأَنَّ فِي ذِكْرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ. لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ لِاتِّحَادِ الْجُمْلَةِ. لَكِنَّهُ قَدْ يُؤْتَى فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْمُظْهَرِ قَصْدًا لِلتَّفْخِيمِ. وَالْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ، وَتَلْوِينَ الْخِطَابِ فِي فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ، وَالتَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ فِي تَبْيَضُّ وَتَسْوَدُّ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّلَاقَةِ وَالْكَآبَةِ وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وسالم مولى أبي حذيفة، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ بَعْضُ الْيَهُودِ: دِينُنَا خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ، وَنَحْنُ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ «1» وَتَوَالَتْ بَعْدَ هَذَا مُخَاطَبَاتُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ لِذِكْرِ مَنْ يَبْيَضُّ وَجْهُهُ وَيَسْوَدُّ، وَشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْخِطَابِ الْأَوَّلِ فَقَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تَحْرِيضًا بِهَذَا الْإِخْبَارِ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالطَّوَاعِيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ هُوَ لِمَنْ وَقَعَ الْخِطَابُ لَهُ أَوَّلًا وَهُمْ: أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بقوله: أنّة إِلَى أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالصَّحَابَةُ هُمْ خَيْرُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُ هذا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 102.

التَّأْوِيلَ كَوْنُهُمْ شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «1» وَقَوْلُهُ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» الْحَدِيثُ وَقَوْلُهُ: «نَحْنُ نُكَمِّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةٍ نَحْنُ آخِرُهَا وَخَيْرُهَا» . وَظَاهِرُ كَانَ هُنَا أَنَّهَا الناقصة، وخير أُمَّةٍ هُوَ الْخَبَرُ. وَلَا يُرَادُ بِهَا هُنَا الدَّلَالَةُ عَلَى مُضِيِّ الزَّمَانِ وَانْقِطَاعِ النِّسْبَةِ نَحْوِ قَوْلِكَ: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا، بَلِ الْمُرَادُ دَوَامُ النِّسْبَةِ كَقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «2» وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «3» وَكَوْنُ كَانَ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَمُرَادِفُهُ لَمْ يَزَلْ قَوْلًا مَرْجُوحًا، بَلِ الْأَصَحُّ أَنَّهَا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لَا يُرَادُ الِانْقِطَاعُ. وَقِيلَ: كَانَ هُنَا بِمَعْنَى صَارَ، أَيْ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: كَانَ هُنَا تَامَّةٌ، وَخَيْرُ أُمَّةٍ حَالٌ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ، لِأَنَّ الزَّائِدَةَ لَا تَكُونُ أَوَّلَ كَلَامٍ، وَلَا عَمَلَ لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ عِبَارَةً عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ في من مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ، وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ طَارِئٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَوْلُهُ: أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ بِمَعْنَى صَارَ، فَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى صَارَ دَلَّتْ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ. فَإِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا بِمَعْنَى صَارَ، دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ الْجَهْلِ إِلَى حَالَةِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ طَارِئٍ قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ يَدُلُّ لَفْظُ الْمُضِيِّ مِنْهَا عَلَى الِانْقِطَاعِ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لَا يَكُونُ انْقِطَاعٌ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الدَّلَالَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ؟ ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لَا يُرَادُ الْعُمُومُ، بَلِ الْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ قَالَ وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، هَذَا يُعَارِضُ أَنَّهَا مِثْلُ قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «4» لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَامَّةٌ، وَأَنَّ خَيْرَ أُمَّةٍ حَالٌ. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ الله غفورا لا شك أَنَّهَا هُنَا النَّاقِصَةُ فَتَعَارَضَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كُنْتُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: فِيمَا أُخْبِرَ بِهِ الْأُمَمُ قَدِيمًا عَنْكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ: كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا خَيْرَ أُمَّةٍ، وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَخَيْرٌ مُضَافٌ لِلنَّكِرَةِ، وَهِيَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ فَيَجِبُ إِفْرَادُهَا وَتَذْكِيرُهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى جمع.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143. (2) سورة النساء: 4/ 96. (3) سورة الإسراء: 17/ 32. [.....] (4) سورة آل عمران: 3/ 107.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمَمَ إِذَا فُضِّلُوا أُمَّةً أُمَّةً كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ خَيْرَهَا. وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الْخَيْرِيَّةِ فِي اللَّفْظِ وَهِيَ: سَبْقُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِدَارِهِمْ إِلَى نُصْرَتِهِ، وَنَقْلِهِمْ عَنْهُ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، وَافْتِتَاحِهِمُ الْبِلَادَ. وَهَذِهِ فَضَائِلُ اخْتُصُّوا بِهَا مَعَ مَا لَهُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ. وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ بَعْدَهُمْ حَسَنَةً فَلَهُمْ مِثْلُ أَجْرِهَا، لِأَنَّهُمْ سَبَبٌ فِي إِيجَادِهَا، إِذْ هُمُ الَّذِينَ سَنُّوهَا، وَأَوْضَحُوا طَرِيقَهَا «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا» . وَمَعْنَى أُخْرِجَتْ: أُظْهِرَتْ وَأُبْرِزَتْ، وَمُخْرِجُهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُخْرِجَتْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأُمَّةٍ، أَيْ خَيْرُ أُمَّةٍ مُخْرَجَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِخَيْرِ أُمَّةٍ، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ مُخْرَجَةٌ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَدْ رُوعِيَ هُنَا لَفْظُ الْغَيْبَةِ، وَلَمْ يُرَاعَ لَفْظُ الْخِطَابِ. وَهُمَا طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ، إِذَا تَقَدَّمَ ضَمِيرٌ حَاضِرٌ لِمُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٌ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ خَبَرُهُ اسْمًا، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، فَتَارَةً يُرَاعَى حَالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الصَّالِحُ لِلْوَصْفِ عَلَى حَسَبِ الضَّمِيرِ فَتَقُولُ: أَنَا رَجُلٌ آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْتَ رَجُلٌ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ. وَمِنْهُ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «1» وأنك امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ: وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَأَتْ لَكَ لِحْيَةٌ ... كَأَنَّكَ مِنْهَا قَاعِدٌ فِي جَوَالِقِ وَتَارَةً يُرَاعَى حَالُ ذَلِكَ الِاسْمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الصَّالِحُ لِلْوَصْفِ عَلَى حَسَبِهِ مِنَ الْغَيْبَةِ. فَتَقُولُ: أَنَا رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ. وَمِنْهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ وَلَوْ جَاءَ أُخْرِجْتُمْ فَيُرَاعَى ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي كُنْتُمْ لَكَانَ عَرَبِيًّا فَصِيحًا. وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ صِفَةً لِأُمَّةٍ، لَا لِخَيْرٍ لِتُنَاسِبَ الْخِطَابَ فِي كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَعَ الْخِطَابِ فِي تَأْمُرُونَ وَمَا بَعْدَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُخْرِجَتْ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِخَيْرِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْأُمَمِ مِنْ نَفْسِ هَذَا اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ. وَقِيلَ: بِتَأْمُرُونَ، وَالتَّقْدِيرُ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ. فَلَمَّا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ جُرَّ بِاللَّامِ كقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «2» أَيْ تَعْبُرُونَ الرُّؤْيَا، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ كَلَامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّنَاءِ مِنَ اللَّهِ قَالَهُ: الرَّبِيعُ. أَوْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي الْخَيْرِيَّةِ، رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ: عمر، وَمُجَاهِدٍ، وَالزَّجَّاجِ. فَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ بَيَّنَ بِهِ كَوْنَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كَمَا تَقُولُ: زيد كريم يطعم

_ (1) سورة النمل: 27/ 47. (2) سورة يوسف: 12/ 43.

النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَأْمُرُونَ وَمَا بَعْدَهُ أَحْوَالٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ انْتَهَى. وَقَالَهُ الرَّاغِبُ: وَالِاسْتِئْنَافُ أَمْكَنُ وَأَمْدَحُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ فِي أَنْ يَكُونَ تَأْمُرُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَأَنْ كون نَعْتًا لِخَيْرِ أُمَّةٍ. قِيلَ: وَقَدَّمَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَلَيْسَ الْمُؤَثِّرُ لِحُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ كَوْنُهُمْ أَقْوَى حَالًا في الأمر والنهي. وإنا الْإِيمَانُ شَرْطٌ لِلتَّأْثِيرِ، لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَضُرَّ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِفَةِ الْخَيْرِيَّةِ، وَالْمُؤَثِّرُ أَلْصَقُ بِالْأَثَرِ مِنْ شَرْطِ التَّأْثِيرِ. وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ انْتَهَى. وَهُوَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الرَّازِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ، مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ رَسُولٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ بَعْثٍ أَوْ حِسَابٍ أَوْ عِقَابٍ أَوْ ثَوَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَدَّ بِإِيمَانِهِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ. وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْآيَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَتُؤْمِنُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ فِي الْمَعْرُوفِ، وَالْمُنْكَرِ الْعُمُومُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْرُوفُ الرَّسُولُ، وَالْمُنْكَرُ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَعْرُوفُ التَّوْحِيدُ، وَالْمُنْكَرُ الشِّرْكُ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أَيْ وَلَوْ آمَنَ عَامَّتُهُمْ وَسَائِرُهُمْ. وَيَعْنِي الْإِيمَانَ التَّامَّ النَّافِعَ. وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ آمَنَ كَمَا يَقُولُ: مَنْ صَدَّقَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، أَيْ لَكَانَ هُوَ، أَيِ الْإِيمَانُ. وَعَلَّقَ كَيْنُونَةَ الْإِيمَانِ خَيْرًا لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ تَوْبِيخًا لَهُمْ مَقْرُونًا بِنُصْحِهِ تَعَالَى لَهُمْ أَنْ لَوْ آمَنُوا لَنَجَّوَا أَنْفُسَهُمْ من عذاب الله. وخبر هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْمَعْنَى: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا هم عليه، لأنهم إنما آثَرُوا دِينَهُمْ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ حُبًّا فِي الرِّئَاسَةِ وَاسْتِتْبَاعِ الْعَوَامِ، فَلَهُمْ فِي هذا خط دُنْيَوِيٌّ. وَإِيمَانُهُمْ يَحْصُلُ بِهِ الْحَظُّ الدُّنْيَوِيُّ مِنْ كَوْنِهِمْ يَصِيرُونَ رُؤَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْحَظُّ الْأُخْرَوِيُّ الْجَزِيلُ بِمَا وَعَدُوهُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ إِيتَائِهِمْ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَفْظَةُ خَيْرٍ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ كُفْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِمَا فِي لَفْظَةِ خَيْرٍ مِنَ الشِّيَاعِ وَتَشَعُّبِ الْوُجُوهِ، وَكَذَلِكَ هِيَ لَفْظَةُ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِبْقَاؤُهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ أَوْلَى إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَمْكَنَ إِذِ الْخَيْرِيَّةُ مُطْلَقَةٌ فَتَحْصُلُ بِأَدْنَى مُشَارَكَةٍ. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ظَاهِرُ اسْمِ الْفَاعِلِ التَّلَبُّسُ بِالْفِعْلِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ هُوَ مُلْتَبِسٌ بِالْإِيمَانِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَخِيهِ، وَثَعْلَبَةَ بْنِ

سَعِيدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ. وَكَالنَّجَاشِيِّ، وَبَحِيرَا، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّصَارَى إِذْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَعْدَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» الْخُصُوصُ، أَيْ بَاقِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ حَصَلَ لَهَا الْإِيمَانُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ هُنَا الِاسْتِقْبَالُ. أَيْ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْعُمُومُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِخْبَارًا بِمَغِيبٍ وَأَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمُ الْإِيمَانُ، وَلَا يَسْتَمِرُّونَ كُلُّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُؤْمِنُونَ وَفِي الْفَاسِقُونَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْكَمَالِ فِي الْوَصْفَيْنِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَبِالْقُرْآنِ فَهُوَ كَامِلٌ فِي إِيمَانِهِ، وَمَنْ كَذَّبَ بِكِتَابِهِ إِذْ لَمْ يَتْبَعُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ أَيْضًا كَامِلٌ فِي فِسْقِهِ مُتَمَرِّدٌ فِي كُفْرِهِ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ هَاتَانِ الجملتان تضمنتا الإخبار بمغيبين مُسْتَقْبَلَيْنَ وَهُوَ: إِنَّ ضَرَرَهُمْ إِيَّاكُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا أَذًى، أَيْ شَيْئًا تَتَأَذَّوْنَ بِهِ، لَا ضَرَرًا يَكُونُ فِيهِ غَلَبَةٌ وَاسْتِئْصَالٌ. وَلِذَلِكَ إِنْ قَاتَلُوكُمْ خُذِلُوا وَنُصِرْتُمْ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا ضَرَّهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ضَرَرًا يُبَالُونَ بِهِ، وَلَا قَصَدُوا جِهَةَ كَافِرٍ إِلَّا كَانَ لَهُمُ النَّصْرُ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةُ لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَذًى اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ التَّقْدِيرُ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ ضَرَرًا إلا ضررا لَا نِكَايَةَ فِيهِ، وَلَا إِجْحَافَ لَكُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ لَكِنْ أَذًى بِاللِّسَانِ، فَقِيلَ: هُوَ سَمَاعُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: هُوَ بُهْتُهُمْ وَتَحْرِيفُهُمْ. وَقِيلَ: مَوْعِدٌ وَطَعْنٌ. وَقِيلَ: كَذِبٌ يَتَقَوَّلُونَهُ عَلَى اللَّهِ قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَرْغِيبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَتَثْبِيتِهِمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى تَحْقِيرِ شَأْنِ الْكُفَّارِ، إِذْ صَارُوا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ إِلَّا مَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ مِنْ إِسْمَاعِ كَلِمَةٍ بِسُوءٍ. وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي عَدَمِ مُكَافَحَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادُوا قِتَالَهُمْ، بَلْ بِنَفْسِ مَا تَقَعُ الْمُقَابَلَةُ وَلَّوُا الْأَدْبَارَ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُغْلَبُ وَيُقْتَلُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى قرنه

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 110.

غَيْرُ مُدْبِرٍ عَنْهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ كَالْمُؤَكِّدَةِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، إِذْ تَضَمَّنَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُمْ لَا تَكُونُ لَهُمْ غَلَبَةٌ وَلَا قَهْرٌ وَلَا دَوْلَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ سَبَبُهُ صِدْقُ الْقِتَالِ وَالثَّبَاتِ فِيهِ، أَوِ النَّصْرُ الْمُسْتَمَدُّ مِنَ اللَّهِ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ لَهُمْ. وَأَتَى بِلَفْظِ الْأَدْبَارِ لَا بِلَفْظِ الظُّهُورِ، لِمَا فِي ذِكْرِ الْأَدْبَارِ مِنَ الْإِهَانَةِ دُونَ مَا فِي الظُّهُورِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِانْهِزَامِ وَالْهَرَبِ. وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَعْمَلًا دُونَ لَفْظِ الظُّهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ «2» ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ: هَذَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ أَبَدًا. وَلَمْ يُشْرَكْ فِي الْجَزَاءِ فَيُجْزَمُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَتَّبًا عَلَى الشَّرْطِ، بَلِ التَّوْلِيَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ. وَالنَّصْرُ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ أَبَدًا سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، إِذْ مَنْعُ النَّصْرِ سَبَبُهُ الْكُفْرُ. فَهِيَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَمَا أَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى. وَلَيْسَ امْتِنَاعُ الْجَزْمِ لِأَجْلِهِمْ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ زَعَمَ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ يَقَعُ عَقِيبَ الْمَشْرُوطِ. قَالَ: وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي، فَلِذَلِكَ لَمْ تَصْلُحُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ كَالْجَوَابِ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الذَّاهِبُ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَدْ جَاءَ فِي أَفْصَحِ كَلَامٍ. قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «3» فَجَزَمَ الْمَعْطُوفَ بِثُمَّ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَثُمَّ هُنَا لَيْسَتْ لِلْمُهْلَةِ فِي الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ. فَالْإِخْبَارُ بِتَوَلِّيهِمْ فِي الْقِتَالِ وَخِذْلَانِهِمْ وَالظَّفْرِ بِهِمْ أَبْهَجُ وَأَسَرُّ لِلنَّفْسِ. ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِانْتِفَاءِ النَّصْرِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّرَاخِي فِي الْمَرْتَبَةِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِتَسْلِيطِ الْخِذْلَانِ عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِتَوَلِّيهِمُ الْأَدْبَارَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَوْقِعُ الْجُمْلَتَيْنِ، أَعْنِي مِنْهُمْ: الْمُؤْمِنُونَ وَلَنْ يَضُرُّوكُمْ؟ (قُلْتُ) : هُمَا كَلَامَانِ وَارِدَانِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ عِنْدَ إِجْرَاءِ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: وَعَلَى ذِكْرِ فُلَانٍ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مِنْ غَيْرِ عَاطِفٍ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَهِيَ وَصْفُ حَالٍ تَقَرَّرَتْ عَلَى الْيَهُودِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْحَسَنُ: جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالْمَجُوسُ تَجْبِي الْيَهُودَ الْجِزْيَةَ، وَمَا كَانَتْ لَهُمْ غَيْرَةٌ وَمِنْعَةٌ إِلَّا بِيَثْرِبَ وَخَيْبَرَ وَتِلْكَ الْأَرْضِ، فَأَزَالَهَا بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ رَايَةٌ في الأرض.

_ (1) سورة القمر: 54/ 45. (2) سورة الأنفال: 8/ 16. (3) سورة محمد: 47/ 38.

أَيْنَما ثُقِفُوا عَامٌّ فِي الْأَمْكِنَةِ. وَهِيَ شَرْطٌ، وَمَا مَزِيدَةٌ بَعْدَهَا، وَثُقِفُوا فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَمَنْ أَجَازَ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ قَالَ: ضُرِبَتْ هُوَ الْجَوَابُ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الذِّلَّةِ مُسْتَقْبَلًا. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ مَاضٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَحَيْثُمَا ظُفِرَ بِهِمْ وَوُجِدُوا تُضْرَبُ عَلَيْهِمُ، وَدَلَّ ذِكْرُ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا دَلَّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَنَدْمَانٌ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا ... سَقَيْتُ إِذَا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ التَّقْدِيرُ: سَقَيْتُ، وَأَسْقِيهِ إِذَا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ ظَاهِرُهُ الِانْقِطَاعُ، وَهُوَ قَوْلُ: الْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ. وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، لِأَنَّ الذِّلَّةَ لَا تُفَارِقُهُمْ. وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ: إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، فَحَذَفَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ كَمَا قَالَ حُمَيْدُ بْنُ نُورٍ الْهِلَالِيُّ: رَأَتْنِي بِحَبْلَيْهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً وَنَظَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً قال «1» : لأن بادىء الرَّأْيِ يُعْطِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ خَطَأً. وَأَنَّ الْحَبْلَ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ النَّاسِ يُزِيلُ ضَرْبَ الذِّلَّةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ يُدْرِكُهُ فَهْمُ السَّامِعِ النَّاظِرِ فِي الْأَمْرِ وَتَقْدِيرُهُ: فِي أُمَّتِنَا، فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا بِحَبْلٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى مَا قَدَّرَهُ لَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا مِنْ الْأَوَّلِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا مُتَّصِلًا. وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ كَمَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. عَلَى تَقْدِيرِ الِانْقِطَاعِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ اعتصامهم بحبل من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَسَبْيِ الذَّرَارِي وَاسْتِئْصَالِ أَمْوَالِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطَعُ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «2» فَلَمْ يَسْتَثْنِ هُنَاكَ. وَذَهَبُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ قَالَ: وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْأَحْوَالِ، وَالْمَعْنَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ اعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، يَعْنِي: ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ. أَيْ لَا عزلهم قَطُّ إِلَّا هَذِهِ الْوَاحِدَةُ، وهي التجاؤهم

_ (1) سورة النساء: 4/ 91. (2) سورة البقرة: 2/ 61.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 إلى 120]

إِلَى الذِّمَّةِ لِمَا قَبِلُوهُ مِنَ الْجِزْيَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَشَبَّهَ الْعَهْدَ بِالْحَبْلِ لِأَنَّهُ يَصِلُ قَوْمًا بِقَوْمٍ، كَمَا يَفْعَلُ الْحَبْلُ فِي الْأَجْرَامِ. وَالظَّاهِرُ فِي تَكْرَارِ الْحَبْلِ أَنَّهُ أُرِيدَ حَبْلَانِ، وَفُسِّرَ حَبْلُ اللَّهِ بِالْإِسْلَامِ، وَحَبْلُ النَّاسِ بِالْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ. وَقِيلَ: حَبْلُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ. وَالثَّانِي: هُوَ الَّذِي فُوِّضَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَيَزِيدُ فِيهِ وَيُنْقِصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَبْلٌ وَاحِدٌ، إِذْ حَبْلُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ وَهُوَ الْعَهْدُ. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظَائِرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هنا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

الْآنَاءُ: السَّاعَاتُ. وَفِي مُفْرَدِهَا لُغَاتٌ أَنْيٌ كَمَعْيٌ، وَأَنَى كَفَتَى، وَأَنَّى كَنَحَّى، وَأَنْيٌ كَظَبْيٍ، وَأَنْوٌ كَجَرْوٍ. الصَّرُّ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُحْرِقُ. وَقِيلَ: الْبَارِدُ بِمَعْنَى الصَّرْصَرُ كَمَا قال: لا تعدلن إناء بين تضربهم ... نَكْبَاءَ صَرٍّ بِأَصْحَابِ الْمَحَلَّاتِ وَقَالَتْ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةُ: وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الْأَلَدَّ وَيَمْلَأَ الجفان سديفا يوم منكباء صَرْصَرِ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ صَوْتُ لَهَبِ النَّارِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ مِنَ الصَّرِيرِ. وَهُوَ الصَّوْتُ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَرَّ الشَّيْءُ، وَمِنْهُ الرِّيحُ الصَّرْصَرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالصَّرُّ صَوْتُ النَّارِ الَّتِي فِي الرِّيحِ. الْبِطَانَةُ فِي الثَّوْبِ بِإِزَاءِ الظِّهَارَةِ، وَيُسْتَعَارُ لِمَنْ يَخْتَصُّهُ الْإِنْسَانُ كَالشِّعَارِ وَالدِّثَارِ. يُقَالُ: بَطَنَ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ بُطُونًا وَبِطَانَةٍ إِذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ، دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أُولَئِكَ خُلْصَانِي نَعَمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ أَلَوْتُ فِي الْأَمْرِ: قَصَّرْتُ فِيهِ. قَالَ زُهَيْرٌ: سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ ... فَلَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَلِيمُوا لَمْ يَأْلُوا أَيْ لَمْ يُقَصِّرُوا. الْخَبَالُ وَالْخَبَلُ: الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ. يُقَالُ: فِي قَوَائِمِ الْفَرَسِ خَبَلٌ وَخَبَالٌ أَيْ فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الِاضْطِرَابِ. وَالْخَبَلِ وَالْجُنُونِ. وَيُقَالُ: خَبَلُهُ الْحُبُّ أَيْ أَفْسَدَهُ. الْبَغْضَاءُ: مَصْدَرٌ كَالسَّرَّاءِ وَالْبَأْسَاءِ يُقَالُ: بُغِضَ الرَّجُلُ فَهُوَ بَغِيضٌ، وَأَبْغَضْتُهُ أَنَا اشْتَدَّتْ كَرَاهَتِي لَهُ. الْأَفْوَاهُ مَعْرُوفَةٌ، وَالْوَاحِدُ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ فُوهٌ. وَلَمْ تَنْطِقْ بِهِ الْعَرَبُ بَلْ قَالَتْ: فَمٌ. وَفِي الْفَمِ لُغَاتٌ تِسْعٌ ذُكِرَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّحْوِ. الْعَضُّ: وَضْعُ الْأَسْنَانِ عَلَى الشَّيْءِ بِقُوَّةِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ بِالضَّادِ. فَأَمَّا عَظُّ الزَّمَانَ وَعَظُّ الْحَرْبِ فَهُوَ بِالظَّاءِ أُخْتِ الطَّاءِ قَالَ: وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرَوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ وَالْعُضُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَفُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِثْلُ: الْكَسْبِ وَالنَّوَى الْمَرْضُوضِ: يُقَالُ مِنْهُ:

أَعَضَّ الْقَوْمُ إِذَا أَكَلَ إِبِلُهُمُ الْعَضَّ. وَبَعِيرٌ عُضَاضِيٌّ أَيْ سَمِينٌ، كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ. وَالْعِضُّ بِالْكَسْرِ الدَّاهِيَةُ مِنَ الرِّجَالِ. الْأَنَامِلُ جَمْعُ أُنْمُلَةٍ، وَيُقَالُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا، وَهِيَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ. قَالَ ابْنُ عِيسَى: أَصْلُهَا النَّمْلُ الْمَعْرُوفُ، وَهِيَ مُشَبَّهَةٌ بِهِ فِي الدِّقَّةِ وَالتَّصَرُّفِ بِالْحَرَكَةِ. وَمِنْهُ رَجُلٌ نَمِلٌ: أَيْ نَمَّامٌ. الْغَيْضُ: مَصْدَرُ غاضة، وَغَيْضُ اسْمُ عَلَمٍ. الْفَرَحُ: مَعْرُوفٌ يُقَالُ مِنْهُ: فَرِحٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. الْكَيْدُ: الْمَكْرُ كَادَهُ يَكِيدُهُ مَكَرَ بِهِ. وَهُوَ الِاحْتِيَالُ بِالْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَصْلُهُ الْمَشَقَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ، أَيْ يُعَالِجُ مَشَقَّاتِ النَّزْعِ وَسَكَرَاتِ الْمَوْتِ. لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ سببت النُّزُولِ إِسْلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وغيره من الْيَهُودِ، وَقَوْلُ الْكُفَّارِ مِنْ أَحْبَارِهِمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ إِلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا خِيَارًا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَالْوَاوُ فِي لَيْسُوا هِيَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ السَّابِقِ ذِكْرِهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ «1» وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْوَاوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَسَوَاءً خَبَرُ لَيْسَ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُسْتَوِينَ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَبِالْقُرْآنِ مِمَّنْ أَدْرَكَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ فَمَاتَ قَبْلَ أن يدركها. ومن أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أُمَّةٌ مُرْتَفِعَةٌ بِسَوَاءٍ، أَيْ لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُسْتَوِيًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِمَا ذُكِرَ وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ، فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُعَادِلَةُ، وَدَلَّ عَلَيْهَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهِ ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا التَّقْدِيرُ: أَمْ غَيٌّ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أَرُشْدٌ وَقَالَ: أَرَاكَ فَمَا أَدْرِي أَهَمٌّ ضَمَمْتُهُ ... وَذُو الْهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ التَّقْدِيرُ: أَمْ غَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ. وَيَضْعُفُ قَوْلُ الْفَرَّاءِ مِنْ حَيْثُ الحذف. ومن حذف وضع

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 110.

الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُسْتَوِيًا مِنْهُمْ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ كَذَا، وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي لَيْسُوا عَلَامَةُ جَمْعٍ لَا ضَمِيرٌ مِثْلُهَا، فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَلُومُونَنِي فِي شِرَاءِ النَّخِي ... لِ قَوْمِي وَكُلُّهُمُ أَلْوَمُ وَاسْمُ لَيْسَ: أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، أَيْ لَيْسَ سَوَاءٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ مَوْصُوفَةٌ بما ذكروا أمة كَافِرَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ خَطَأٌ مَرْدُودٌ انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الْخَطَأِ، وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ اسْمَ لَيْسَ هُوَ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ فَقَطْ، وَأَنَّهُ لَا مَحْذُوفَ. ثُمَّ إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ تَفَاوُتُ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ التَّالِيَةِ، فَإِذَا قُدِّرَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ خَطَأً مَرْدُودًا. قِيلَ: وَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَهِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ وَالْعَرَبُ عَلَى خِلَافِهَا، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ انْتَهَى. وَقَدْ نَازَعَ السُّهَيْلِيُّ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَكَثِيرًا مَا جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ. وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ مُسْتَأْنَفَ بَيَانٍ لِانْتِفَاءِ التَّسْوِيَةِ كَمَا جَاءَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ «1» بَيَانًا لِقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «2» وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأُمَّةٌ قَائِمَةٌ أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ مِنْ أَقَمْتُ الْعُودَ فَقَامَ، أَيِ اسْتَقَامَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: عَادِلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ مُهْتَدِيَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَانِتَةٌ مُطِيعَةٌ، وَكُلُّهَا رَاجِعٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ فِي لَيْسُوا عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ. وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْيَهُودِ وَذِكْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» . وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جِنْسُ كُتُبِ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِالْمَعْهُودِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَقَطْ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ «3» لِتَوَالِي الضَّمَائِرِ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ ضَمِيرُ لَيْسُوا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ الْآيَةَ يُرِيدُ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنَ الحبشة، وثمانية من الروم، كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى وَصَدَّقُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ نَاسٌ من

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 110. (2) سورة آل عمران: 3/ 110. (3) سورة آل عمران: 3/ 110.

الْأَنْصَارِ مُوَحِّدِينَ وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَقُومُونَ بِمَا عَرَفُوا مِنْ شَرَائِعِ الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَاءَهُمْ مِنْهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَقَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ بْنِ أَنَسٍ. يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ وَصَفَ الْأُمَّةَ الْقَائِمَةَ بِأَنَّهَا تَالِيَةُ آيَاتِ اللَّهِ، وَعَبَّرَ بِالتِّلَاوَةِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ عَنِ التَّهَجُّدِ بِالْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى يَتْلُونَ، وَصَفَهُمْ بِالتِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ وَبِالسُّجُودِ. فَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِي الْقِيَامِ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَلَمْ تُشْرَعْ فِيهِ التِّلَاوَةُ. وَجَاءَتِ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةٌ لِتَدُلَّ عَلَى التَّوْكِيدِ بِتَكَرُّرِ الضَّمِيرِ وَهُوَ هُمْ، وَالْوَاوُ فِي يَسْجُدُونَ إِذْ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالْمُضَارِعِ، وَجَاءَتِ الصِّفَةُ الْأَوْلَى بِالْمُضَارِعِ أَيْضًا لِتَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَعُطِفَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأَوْلَى بِالْوَاوِ لِتُشْعِرَ بِأَنَّ تِلْكَ التِّلَاوَةَ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ، فَلَمْ تَكُنِ التِّلَاوَةُ وَحْدَهَا وَلَا السُّجُودُ وَحْدَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: آنَاءَ اللَّيْلِ أَنَّهَا جَمِيعُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ. فَيَبْعُدُ صُدُورُ ذَلِكَ- أَعْنِي التِّلَاوَةَ وَالسُّجُودَ- مِنْ كُلِّ شَخْصٍ شَخَصَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جَمَاعَةٍ إِذْ بَعْضُ النَّاسِ يَقُومُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَبَعْضُهُمْ آخِرَهُ، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَ هَجْعَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى نَوْمِهِ، فَيَأْتِي مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ فِي الْمُدُنِ وَالْجَمَاعَاتِ اسْتِيعَابُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ بِالْقِيَامِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَرَفُ النَّاسُ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، وَالْقَائِمُ طُولَ اللَّيْلِ قَلِيلٌ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّالِحِينَ مَنْ يَلْتَزِمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الْقَصْدَ فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُزَّمِّلِ «1» . وَآنَاءُ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ قَالَهُ الرَّبِيعُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَوْفُهُ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، إِذِ الْجَوْفُ فَرْدٌ مِنَ الْجَمْعِ. وَعَنْ مَنْصُورٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُصَلِّينِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتْمَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا هُوَ احْتِبَاكُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَلَمْ يَأْتِ حَتَّى مَضَى الليل، فجاءوا منّ الْمُصَلِّي وَمِنَّا الْمُضْطَجِعُ فَقَالَ: «أَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ» وَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسُوا سَوَاءً عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنِ الصَّلَاةِ تَسْمِيَةً للشيء

_ (1) سورة المزمل: 73/ 1- 2. [.....]

بِجُزْءٍ شَرِيفٍ مِنْهُ، كَمَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّكُوعِ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَالزُّجَاجُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَكُونُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا فِي السُّجُودِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ مُتَلَبِّسِينَ بِالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالسُّجُودِ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ أَهْلُ سُجُودٍ، وَيُحَسِّنُهُ أَنْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ. وَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ نَعْتًا عُدِّدَ بِوَاوِ الْعَطْفِ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ الْكَرِيمُ وَالْعَاقِلُ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَائِمَةٌ، وَحَالًا مِنْ أُمَّةٌ، لِأَنَّهَا قَدْ وصفت بقائمة. فَتَلَخَّصَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَيَكُونُ رَفْعًا بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتْلُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَائِمَةٍ، أَوْ مِنْ أُمَّةٍ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «2» . يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ «3» . وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَهُ وقبه، نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ» وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ كَانَ يَدْرُسُ الْكُتُبَ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ كَلَامًا مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: أَيَحْسَبُ رَاعِي إِبِلٍ وَغَنَمٍ إِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ انْجَدَلَ كَمَنْ هُوَ قَائِمٌ وَسَاجِدُ اللَّيْلِ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ. وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرِ نَاشِئَةٌ عَنْ فَرْطِ الرَّغْبَةِ فِيهِ، لِأَنَّ مَنْ رَغِبَ فِي أَمْرٍ بَادَرَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَآثَرَ الْفَوْرَ عَلَى التَّرَاخِي. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ» . وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا إِلَى خَيْرٍ مِنْ نَصْرِ مَظْلُومٍ، وَإِغَاثَةِ مَكْرُوبٍ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ، بَادَرُوا إِلَى فِعْلِهِ. وَالظَّاهِرُ فِي يُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أَيْ تَالِيَةٌ مُؤْمِنَةٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ تكون

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 79. (2) سورة الزمر: 39/ 9. (3) سورة المزمل: 73/ 1- 2.

الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَسْجُدُونَ، وَأَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ السُّجُودِ. قِيلَ: لِأَنَّ السُّجُودَ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَفَهُمْ بِخَصَائِصَ مَا كَانَتْ فِي الْيَهُودِ مِنْ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ بِاللَّيْلِ سَاجِدِينَ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِهِ كَلَا إِيمَانٍ، لِإِشْرَاكِهِمْ بِهِ عُزَيْرًا وَكُفْرِهِمْ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُدَاهِنِينَ، وَمِنَ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَبَاطِئِينَ عَنْهَا غَيْرَ رَاغِبِينَ فِيهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ وَصَفَهَا بِصِفَاتٍ سِتٍّ: إِحْدَاهَا: أَنَّهَا قَائِمَةٌ، أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى النَّهْجِ الْقَوِيمِ. وَلَمَّا كَانَتِ الِاسْتِقَامَةُ وَصْفًا ثَابِتًا لَهَا لَا يَتَغَيَّرُ جَاءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. الثَّانِيَةُ: الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتِّلَاوَةِ وَالسُّجُودِ، وَهِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْخُلُوُّ لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ بِاللَّيْلِ. الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ الْحَامِلُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَذَكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ لِأَنَّ فِيهِ ظُهُورَ آثَارِ عِبَادَةِ اللَّهِ مِنَ الْجَزَاءِ الْجَزِيلِ. وَتَضَمَّنَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ أَخْبَرُوا بِكَيْنُونَةِ هَذَا الْجَائِزِ فِي الْعَقْلِ وَوُقُوعِهِ، فَصَارَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا. الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ. الْخَامِسَةُ: النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمَّا كَمِلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ سَعَوْا فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. السَّادِسَةُ: الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ. وَهِيَ صِفَةٌ تَشْمَلُ أَفْعَالَهُمُ الْمُخْتَصَّةَ بِهِمْ، وَالْأَفْعَالَ الْمُتَعَدِّيَةَ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ نَاشِئَةٌ أَيْضًا عَنِ الْإِيمَانِ، فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ سِيَاقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَيْثُ تَوَسَّطَ الْإِيمَانُ، وَتَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ الصِّفَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِنْسَانِ فِي ذَاتِهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ، وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصِّفَتَانِ الْمُتَعَدِّيَتَانِ وَالصِّفَةُ الْمُشْتَرِكَةُ، وَكُلُّهَا نَتَائِجُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ السِّتَّ، أَيْ وَأُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ مِنَ الَّذِينَ صَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالصَّالِحِينَ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى. وَيُشْبِهُ قَوْلُهُ قول ابن عباس من أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدُ بَلْ: الظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْوَصْفِ بِالصَّلَاحِ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَصْفِ

بِالْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ هَذِهِ الرُّتْبَةَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «1» وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ «3» وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ: وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ «4» . وَقَالَ: وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ «5» ومن لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ فِيهِ إِبْهَامٌ فَيَبِينَ جِنْسُهُ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ. فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مَرْدُودٌ إِلَى قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «6» فَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ وَمَعْدُولِهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: التَّاءُ فِيهَا عُمُومٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا الْتِفَاتٌ إِلَى قَوْلِهِ: أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، لَمَّا وَصَفَهُمْ بِأَوْصَافٍ جَلِيلَةٍ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ تَأْنِيسًا لَهُمْ وَاسْتِعْطَافًا عَلَيْهِمْ، فَخَاطَبَهُمْ بِأَنَّ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ الْخَيْرِ فَلَا تُمْنَعُونَ ثَوَابَهُ. وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ عَطْفٍ عَلَيْهِمْ وَتَرَحُّمٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الشَّرِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا يُفْعَلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَوْعُودُهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِالْتِفَاتَ وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ قِرَاءَةُ الْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَحَفْصٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَبَاقِي رُوَاةِ أَبِي عَمْرٍو، خَيَّرَ بَيْنَ التَّاءِ وَالْيَاءِ، وَمَعْلُومٌ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، أَنْ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، كَمَا عَادَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتْلُونَ وَمَا بَعْدَهُ. وَكَفَرَ: يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، يُقَالُ: كَفَرَ النِّعْمَةَ، وَهُنَا ضَمَّنَ مَعْنَى حَرَمَ، أَيْ: فَلَنْ تُحْرَمُوا ثَوَابَهُ، وَلَمَّا جَاءَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَكُورٌ فِي مَعْنَى تَوْفِيَةِ الثَّوَابِ، نَفَى عَنْهُ تَعَالَى نَقِيضَ الشُّكْرِ وَهُوَ كُفْرُ الثَّوَابِ، أَيْ حِرْمَانُهُ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ لَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ وَارِدَةً فِيمَنِ اتُّصِفَ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُثِيبُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ نَاسَبَ خَتْمَ الْآيَةِ بِذِكْرِ عِلْمِهِ بِالْمُتَّقِينَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمُتَّقِينَ وَبِضِدِّهِمْ. وَمَعْنَى عَلِيمٌ بِهِمْ: أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ عَلَى تَقْوَاهُمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعْدٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَوَعِيدٌ للمفرطين.

_ (1) سورة النمل: 27/ 19. (2) سورة البقرة: 2/ 130. (3) سورة الأنبياء: 21/ 72. (4) سورة الأنبياء: 21/ 85- 86. (5) سورة النساء: 4/ 69. (6) سورة آل عمران: 3/ 110.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ. وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ لِيَتَّضِحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ. َلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحْرَمُونَ ثَوَابَهُ، بَلْ يَجْنُونَ فِي الْآخِرَةِ ثَمَرَةَ مَا غَرَسُوهُ فِي الدُّنْيَا، أَخَذَ فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْكَافِرِينَ، فَضَرَبَ لَهَا مَثَلًا اقْتَضَى بُطْلَانَهَا وَذَهَابَهَا مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَفَقَاتِ الْكُفَّارِ وَصَدَقَاتِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَفَقَاتِ سَفَلَةِ الْيَهُودِ عَلَى عُلَمَائِهِمْ. وَقِيلَ: فِي نَفَقَةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: فِي نَفَقَةِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا خَرَجُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِحَرْبِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَ مَا كَانُوا يُنْفِقُونَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي الْمَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَكَسْبِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَبْتَغُونَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بِالزَّرْعِ الَّذِي حَسَّهُ الْبَرْدُ فَصَارَ حُطَامًا. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ مَعَ كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: مَا أَنْفَقُوا فِي. عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بِإِنْفَاقِهِ مَا أَنْفَقُوهُ لِأَجْلِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ الْمِثَالُ القائم في النفس من إِنْفَاقِهِمُ الَّذِي يَعُدُّونَهُ قُرْبَةً وَحِسْبَةً وَتَحَنُّثًا، وَمِنْ حَبْطِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَوْنِهِ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَذَهَابِهِ كَالْمِثَالِ الْقَائِمِ فِي النَّفْسِ. مِنْ زَرْعِ قَوْمٍ نَبَتَ وَاخْضَرَّ وَقَوِيَ الْأَمَلُ فِيهِ فَهَبَّتْ عَلَيْهِ رِيحٌ صِرٌّ مُحْرِقٌ فَأَهْلَكَتْهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يُنْفِقُونَهُ. وَالظَّاهِرُ تَشْبِيهُ مَا يُنْفِقُونَهُ بِالرِّيحِ، وَالْمَعْنَى: تَشْبِيهُهُ بِالْحَرْثِ. فَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ لَمْ يُقَابَلْ فِيهِ الْإِفْرَادُ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «1» وَلِذَلِكَ قَالَ ثَعْلَبٌ: بَدَأَ بِالرِّيحِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْحَرْثِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقِيلَ: وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَشَيْئَيْنِ، وَذَكَرَ أَحَدَ الْمُشَبَّهَيْنِ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْآخَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا وَلَيْسَ الَّذِي يُوَازِنُ الْمَذْكُورَ الْأَوَّلَ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْآخَرِ، وَدَلَّ الْمَذْكُورَانِ عَلَى الْمَتْرُوكَيْنَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَهَذِهِ غَايَةُ الْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 17.

كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «1» انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ: مَثَلُ مَهْلِكِ مَا يُنْفِقُونَ. أَوْ مِنَ الثَّانِي تَقْدِيرُهُ: كَمَثَلِ مَهْلِكِ رِيحٍ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مَثَلُ إِنْفَاقِهِمْ، فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ الْمَعْقُولَ بِالْمَحْسُوسِ، إِذْ شَبَّهَ الْإِنْفَاقَ بِالرِّيحِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُنْفِقُونَ أَنَّهُ مِنْ نَفَقَةِ الْمَالِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ يُنْفِقُونَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يُبْطِنُونَ ضِدَّهَا. وَيُضَعِّفُ هَذَا أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ لَا فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُبْطِنُونَ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْإِنْفَاقِ هُوَ أَعْمَالُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ، هِيَ كَالرِّيحِ الَّتِي فِيهَا صِرٌّ أَبْطَلَتْ أَعْمَالَهُمْ كُلَّ مَا لَهُمْ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَتَحَنُّثٍ بِعِتْقٍ، كَمَا يُبْطِلُ الرِّيحُ الزَّرْعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لَوْلَا بُعْدُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْإِنْفَاقِ انْتَهَى. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا يُنْفِقُونَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا، لَكِنَّهُ خَصَّ الْإِنْفَاقَ لكونه أظهروا أَكْثَرَ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ وَالْأَعْرَجُ: تُنْفِقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى قُلْ لَهُمْ، وَأَفْرَدَ رِيحًا لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْعَذَابِ، كَمَا أُفْرِدَتْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ «2» وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صرصرا كالريح الْعَقِيمَ. كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ مُخْتَصٌّ بِالرَّحْمَةِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «3» وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «4» يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً «5» وَلِذَلِكَ رُوِيَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» وَارْتِفَاعُ صِرٌّ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، إِذْ قَدِ اعْتَمَدَ بِكَوْنِهِ وَقْعَ صِفَةٍ لِلرِّيحِ. فَإِنْ كَانَ الصِّرُّ الْبَرْدَ وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن، وقتادة، وَالسُّدِّيِّ، أَوْ صَوْتَ لَهِيبِ النَّارِ أَوْ صَوْتَ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ. فَظَاهِرُ كَوْنِ ذَلِكَ فِي الرِّيحِ. وَإِنْ كَانَ الصِّرُّ صِفَةً لِلرِّيحِ كَالصَّرْصَرِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا قِرَّةٌ صِرٌّ كَمَا تَقُولُ: بَرْدٌ بَارِدٌ، وَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ. أَوْ تَكُونُ الظَّرْفِيَّةُ مَجَازًا جَعَلَ الْمَوْصُوفَ ظَرْفًا لِلصِّفَةِ. كَمَا قَالَ: وَفِي الرَّحْمَنِ كَافٍ لِلضُّعَفَاءِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنْ ضَيَّعَنِي فُلَانٌ فَفِي اللَّهِ كَافٍ. الْمَعْنَى الرَّحْمَنُ كَافٍ، وَاللَّهُ كَافٍ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقَوْلُهُ: أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرِيحٍ. بَدَأَ أَوَّلًا بِالْوَصْفِ بِالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ. وَقَوْلُهُ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْمٍ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعَاصِيهِمْ، فَكَانَ الْإِهْلَاكُ أَشَدَّ إِذْ كَانَ عُقُوبَةً لهم.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 171. (2) سورة الأحقاف: 26/ 24. (3) سورة الروم: 30/ 46. (4) سورة الحجر: 15/ 22. [.....] (5) سورة الأعراف: 7/ 57.

وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا إِنَّمَا هِيَ بِمَعَاصِي الْعَبْدِ. وَيُسْتَنْبَطُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَيَسْتَقِيمُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَرْثٍ تَحْرِقُهُ الرِّيحُ فَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَقِيلَ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَعْنَاهُ زَرَعُوا فِي غَيْرِ أَوَانِ الزِّرَاعَةِ، أَيْ وَضَعُوا أَفْعَالَ الْفِلَاحَةِ غَيْرَ مَوْضِعِهَا مِنْ وَقْتٍ أَوْ هَيْئَةِ عَمَلٍ. وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْحَرْثَ فِيمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى أَوْعَبُ وَأَشَدُّ تَمَكُّنًا، وَنَحَا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ المهدوي. ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ جَوَّزُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمُنْفِقِينَ، أَيْ: مَا ظَلَمَهُمْ بِأَنْ لَمْ تُقْبَلْ نَفَقَاتُهُمْ. وَأَنْ يَعُودَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَرْثِ أَيْ: مَا ظَلَمَهُمْ بِإِهْلَاكِ حَرْثِهِمْ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي ظَلَمَهُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ضَمِيرَهُمْ فِي يُنْفِقُونَ، وَلَيْسَ هُوَ لِلْقَوْمِ ذَوِي الْحَرْثِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُذْكَرُوا لِيَرُدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَا لِتَبَيُّنِ ظُلْمِهِمْ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ فِي حَاضِرِينَ انْتَهَى. وَهُوَ تَرْجِيحٌ حسن. وقرىء شَاذًا: وَلَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، وَاسْمُهَا أَنْفُسُهُمْ، وَالْخَبَرُ يَظْلِمُونَ. وَالْمَعْنَى: يَظْلِمُونَهَا هُمْ. وَحَسَّنَ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْحَذْفُ فِي مِثْلِهِ قَلِيلًا كَوْنُ ذَلِكَ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ، فَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَزَالَ هَذَا الْمَعْنَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ اسْمَ لَكِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون، لِأَنَّ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ يَهُودٍ لِلْجِوَارِ وَالْحِلْفِ وَالرَّضَاعِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ شَبَّهَ الصِّدِّيقُ الصِّدْقَ بِمَا يُبَاشِرُ بَطْنَ الْإِنْسَانِ مِنْ ثَوْبِهِ. يُقَالُ: لَهُ بِطَانَةٌ وَوَلِيجَةٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِبِطَانَةٍ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ دُونِ أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ مِنْ بِقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ بِطَانَةِ دُونِكُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ نُهُوا أَنْ يَتَّخِذُوا أَصْفِيَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَدَلَّ هَذَا النَّهْيُ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِكْتَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَصْرِيفِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ والاستبانة إِلَيْهِمْ. وَقَدْ عَتَبَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى عَلَى اسْتِكْتَابِهِ ذِمِّيًّا، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ لِعُمَرَ فِي كَاتِبٍ مُجِيدٍ مِنْ نَصَارَى الْحِيرَةِ: أَلَا يَكْتُبُ عَنْكَ؟ فَقَالَ: إِذَنْ أَتَّخِذُ بِطَانَةً. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، إِذْ جَاءَتْ بَيَانًا لِحَالِ

الْبِطَانَةِ الْكَافِرَةِ، هِيَ وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَهَا لِتَنْفِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلْبِطَانَةِ أَوْ حَالٌ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ، فَبَعِيدٌ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ. لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ كَافِرَةٍ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَشْيَاءَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ ابْتِغَاءِ الْغَوَائِلِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَوِدَادَةِ مَشَقَّتِهِمْ، وَظُهُورِ بُغْضِهِمْ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِالْحَالِ يُؤْذِنُ بِجَوَازِ الِاتِّخَاذِ عند انتفائهما. وألا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ بِحَرْفِ الْجَرِّ، يُقَالُ: مَا أَلَوْتُ فِي الْأَمْرِ أَيْ مَا قَصَّرْتُ فِيهِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ خَبَالًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1» التَّقْدِيرُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالَكُمْ، أَيْ فِي خَبَالِكِمْ. فَكَانَ أَصْلُ هَذَا الْمَفْعُولِ حَرْفُ الْجَرِّ. وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفٍ، التَّقْدِيرُ: لَا يَأْلُونَكُمْ فِي تَخْبِيلِكُمْ. وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ لَا يُقَصِّرُونَ لَكُمْ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ عَلَيْكُمْ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ تَعَدَّى لِلضَّمِيرِ عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ، وَلِلْخَبَالِ عَلَى إِسْقَاطِ فِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ: أَلَا فِي الْأَمْرِ يَأْلُو إِذَا قَصَّرَ فِيهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا آلُوكَ نُصْحًا، وَلَا آلُوكَ جُهْدًا، عَلَى التَّضْمِينِ. وَالْمَعْنَى: لَا أَمْنَعُكَ نُصْحًا وَلَا أَنْقُصُكَهُ انْتَهَى. وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَدُّوا إِضْلَالَكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَشَقَّتَكُمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمُعَانَدَةُ وَالْمُعَانَتَةُ يَتَقَارَبَانِ، لَكِنَّ الْمُعَانَدَةَ هِيَ الْمُمَانَعَةُ، وَالْمُعَانَتَةُ أَنْ تَتَحَرَّى مَعَ الْمُمَانَعَةِ الْمَشَقَّةَ انْتَهَى. وَيُقَالُ: عَنِتَ بِكَسْرِ النُّونِ، وَأَصْلُهُ انْهِيَاضُ الْعَظْمِ بعد جبره. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا عَنِتُّمْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِبِطَانَةٍ، وَحَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْلُونَكُمْ، وقد مَعَهُ مُرَادَةٌ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ بَدَا، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُؤَنَّثٌ مَجَازًا أَوْ عَلَى مَعْنَى الْبُغْضِ، أَيْ لَا يَكْتَفُونَ بِبُغْضِكُمْ بِقُلُوبِهِمْ حَتَّى يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَذَكَرَ الْأَفْوَاهَ دُونَ الْأَلْسِنَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّ مَا تَلَفَّظُوا بِهِ يَمْلَأُ أَفْوَاهَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: كَلِمَةٌ تَمْلَأُ الفم إذا تشدّق به. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَتَمَالَكُونَ مَعَ ضَبْطِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَتَحَامُلَهُمْ عَلَيْهَا أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ بُغْضُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا انْطَوَوْا عَلَيْهِ مِنْ وِدَادِهِمْ عَنَتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ قَلْبِيٍّ، ذَكَرَ مَا أَنْتَجَهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْقَلْبِيُّ مِنَ الْفِعْلِ الْبَدَنِيِّ، وَهُوَ: ظُهُورُ الْبُغْضِ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ في

_ (1) سورة القمر: 54/ 12.

أَقْوَالِهِمْ، فَجَمَعُوا بَيْنَ كَرَاهَةِ الْقُلُوبِ وَبَذَاذَةِ الْأَلْسُنِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَا أَبَطَنُوهُ مِنَ الشَّرِّ وَالْإِيذَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْبُغْضِ لَهُمْ أَعْظَمُ مِمَّا ظَهَرَ مِنْهُمْ فَقَالَ: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أَيْ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بُدُوَّ الْبَغْضَاءِ مِنْهُمْ هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَظْهَرُوا لِلْمُؤْمِنِينَ الْبُغْضَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ لِاطِّلَاعِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَدَتْ بِإِقْرَارِهِمْ بَعْدَ الْجُحُودِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُجَاهِرِ. وَأَسْنَدَ الْإِخْفَاءَ إِلَى الصُّدُورِ مَجَازًا، إِذْ هِيَ مَحَالُّ الْقُلُوبِ الَّتِي تُخْفَى كَمَا قَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «1» . قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أَيِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الدِّينِ، وَمُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ مَا بَيَّنَ لَكُمْ فَعَمِلْتُمْ بِهِ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ عُقَلَاءَ وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، لَكِنْ عَلَّقَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ عَلَى سَبِيلِ الْهَزِّ لِلنُّفُوسِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَلَا تُصَافُوهُمْ، بَلْ عَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِنْ مَعْنَى إِذْ أَيْ إِذْ كُنْتُمْ عُقَلَاءَ. هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا، أَنْتُمْ أُولَاءِ فِي قَوْلِهِ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ «2» قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا. وَتَلْخِيصُهُ هُنَا أَنْ يَكُونَ أُولَاءِ خَبَرًا عَنْ أَنْتُمْ، وَتُحِبُّونَهُمْ مُسْتَأْنَفٌ أَوْ حَالٌ أَوْ صِلَةٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أُولَاءِ موصولا أو خبرا لأنتم، وأولاء منادا، أَوْ يَكُونَ أُولَاءِ مُبْتَدَأً ثانيا، وتحبونهم خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الْأَوَّلِ. أَوْ يَكُونَ أُولَاءِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَحْوَ: أَنَا زَيْدًا ضَرَبْتُهُ، فَيَكُونُ مِنَ الِاشْتِغَالِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَاقِعٌ عَلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ أَنْتُمْ، لِأَنَّ أَنْتُمْ خطاب للمؤمنين، وأولاء إِشَارَةٌ إِلَى الْكَافِرِينَ. وَفِي الْأَوْجُهِ السَّابِقَةِ مَدْلُولُهُ وَمَدْلُولُ أَنْتُمْ وَاحِدٌ. وَهُوَ: الْمُؤْمِنُونَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ فِي تُحِبُّونَهُمْ، لَا يَنْعَقِدُ مِمَّا قَبْلَهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ إِلَّا بِإِضْمَارِ وَصْفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمْ أُولَاءِ الْخَاطِئُونَ فِي مُوَالَاةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ. بَيَانٌ لِخَطَئِهِمْ فِي مُوَالَاتِهِمْ حَيْثُ يَبْذُلُونَ الْمَحَبَّةَ لِمَنْ يَبْغَضُهُمْ، وَضَمِيرُ المفعول

_ (1) سورة الحج: 22/ 46. (2) سورة آل عمران: 3/ 66.

فِي تُحِبُّونَهُمْ قَالُوا لِمُنَافِقِي الْيَهُودِ. وَفِي الزَّمَخْشَرِيِّ: لِمُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ كُلُّ مُنَافِقٍ حَتَّى مُنَافِقِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَحَبَّةُ هُنَا: الْمَيْلُ بِالطَّبْعِ لِمَوْضِعِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ وَالْحِلْفِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ لِأَجْلِ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ: أَبُو الْعَالِيَةِ: أَوِ الرَّحْمَةُ لَهُمْ لِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَالَهُ: قَتَادَةُ. أَوْ إِرَادَةُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ قَالَهُ: الْمُفَضَّلُ وَالزَّجَّاجِ. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ تَوْبِيخٌ عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ إِسْلَامِ الْكَافِرِ، أَوِ الْمُصَافَاةِ، لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَةِ الْمَحَبَّةِ. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، الْكِتَابُ: اسْمُ جِنْسٍ، أَيْ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ أَوِ التَّوْرَاةُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَقْدِيرُهَا: وَلَا تُؤْمِنُونَ بِهِ كُلِّهِ بَلْ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ. يَدُلُّ عَلَيْهَا إِثْبَاتُ الْمُقَابِلِ فِي تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ. وَالْوَاوُ فِي وَتُؤْمِنُونَ لِلْعَطْفِ عَلَى تُحِبُّونَهُمْ، فَلَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ مَا لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاوُ فِي وَتُؤْمِنُونَ لِلْحَالِ، وَانْتِصَابُهَا مِنْ لَا يُحِبُّونَكُمْ أَيْ لَا يُحِبُّونَكُمْ. وَالْحَالُ: إِنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ كُلِّهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَبْغَضُونَكُمْ، فَمَا بَالُكُمْ تُحِبُّونَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِكُمْ؟ وَفِيهِ تَوْبِيخٌ شَدِيدٌ بِأَنَّهُمْ فِي باطلهم أصل مِنْكُمْ فِي حَقِّكُمْ وَنَحْوِهُ. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ حَسَنٌ. إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ مِنَ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ مَا يَخْدِشُهُ، وَهُوَ: أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاوَ فِي وَتُؤْمِنُونَ لِلْحَالِ، وَأَنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ مِنْ لَا يُحِبُّونَكُمْ. وَالْمُضَارِعُ الْمُثْبَتُ إِذَا وَقَعَ حَالًا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ، وَلَا يَجُوزُ وَيَضْحَكُ. فَأَمَّا قَوْلِهِمْ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ فَفِي غَايَةِ الشُّذُوذِ. وَقَدْ أُوِّلَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ قُمْتُ وَأَنَا أَصُكُّ عَيْنَهُ، فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً. وَيُحْتَمَلُ هَذَا التَّأْوِيلُ هُنَا، أَيْ: وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَأَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهَا لِلْعَطْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ، لَا مُنَافِقِي الْعَرَبِ. وَيَعْتَرِضُهَا: أَنَّ مُنَافِقِي الْيَهُودِ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ فِي الظَّاهِرِ إِيمَانًا مُطْلَقًا وَيَكْفُرُونَ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْعَرَبِ، إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَمْرِ زَيْدِ بْنِ الصَّيْفِ الْقَيْنُقَاعِيِّ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا، مَعْنَاهُ صَدَّقْنَا أَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَيْكُمْ. أَيْ فَكُونُوا عَلَى دِينِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ لَا نُضْمِرُ لَكُمْ إِلَّا الْمَوَدَّةَ، وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَّخِذُهُمْ بِطَانَةً. وَهَذَا مَنْزَعٌ قَدْ حَفِظَ أَنْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُعَادِلَ لِقَوْلِهِمْ: آمنا غض الْأَنَامِلِ مِنَ الْغَيْظِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا

يَقْتَضِي الِارْتِدَادَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «1» بَلْ هُوَ مَا يَقْتَضِي الْبُغْضَ وَعَدَمَ الْمَوَدَّةِ. وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: هُمُ الْأَبَاضِيَّةُ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ قَدْ تَتَرَتَّبُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ النَّاسِ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ مُنَافِقِي الْيَهُودِ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ فِي الظَّاهِرِ إِيمَانًا مُطْلَقًا وَيَكْفُرُونَ فِي الْبَاطِنِ إِلَّا مَا روي من أمر زيد فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ كَانُوا يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ لَمْ يَرْوِ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ زَيْدٍ الْقَيْنُقَاعِيِّ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مَذَمَّةٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي جِنْسِهِمْ. وَكَثِيرًا مَا تَمْدَحُ الْعَرَبُ أَوْ تَذُمُّ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَيُؤَيِّدُ صُدُورَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ «2» . وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا هَذَا الْإِخْبَارُ جَرَى عَلَى مُنَازَعَتِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالسِّتْرِ وَالْخُبْثِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرُوا مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ. وَإِذا خَلَوْا أَيْ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَانْفَرَدُوا دُونَكُمْ. وَالْمَعْنَى: خَلَتْ مَجَالِسُهُمْ، مِنْكُمْ، فَأَسْنَدَ الْخُلُوَّ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وَظَاهِرُهُ فِعْلُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُمْ عَضُّ الْأَنَامِلِ لِشِدَّةِ الْغَيْظِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْفَاذِ مَا يُرِيدُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ: وَقَدْ صَالَحُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَشِحَّةً ... يَعَضُّونَ عَضًّا خَلْفَنَا بِالْأَبَاهِمِ وَقَالَ الْآخَرُ: إِذَا رَأَوْنِي أَطَالَ اللَّهُ غَيْظَهُمُ ... عَضُّوا مِنَ الْغَيْظِ أَطْرَافَ الْأَبَاهِيمِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَقَدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فما كان نصرها ... قتيببة إِلَّا عَضَّهَا بِالْأَبَاهِمِ وَقَالَ الْحَرْثُ بْنُ ظَالِمٍ الْمُرِّيُّ: وَأَقْبَلَ أَقْوَامًا لِئَامًا أَذِلَّةً ... يعضون من غيظ رؤوس الْأَبَاهِمِ وَيُوصَفُ الْمُغْتَاظُ وَالنَّادِمُ بِعَضِّ الْأَنَامِلِ وَالْبَنَانِ وَالْإِبْهَامِ. وَهَذَا الْعَضُّ هُوَ بِالْأَسْنَانِ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 14. (2) سورة آل عمران: 3/ 72.

وَهِيَ هَيْئَةٌ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ الْغَاضِبَةِ. كَمَا أَنَّ ضَرْبَ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ يَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ الْمُتَلَهِّفَةِ عَلَى فَائِتٍ قَرِيبِ الْفَوْتِ. وَكَمَا أَنَّ قَرْعَ السِّنِّ هَيْئَةٌ تَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ النَّادِمَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ عَدِّ الْحَصَى وَالْخَطِّ فِي الْأَرْضِ لِلْمَهْمُومِ وَنَحْوِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ عَضُّ أَنَامِلٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ عُبِّرَ بِذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ إِذَايَتِكُمْ. وَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ: بُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ، وَالرِّيَاءِ بِإِظْهَارِ مَا لَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ بَاطِنُهُ، جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُتَّخَذَ صَدِيقًا. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ظاهره: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهِيَ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَمَعْنَاهَا الدُّعَاءُ: أَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَمَّا يَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ مُوَاجَهَةً. وَقِيلَ: أُمِرَ هُوَ وَأُمَّتُهُ أَنْ يُوَاجِهُوهُمْ بِهَذَا. فَعَلَى هَذَا زَالَ مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَبَقِيَ مَعْنَى التَّقْرِيعِ، قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: صُورَتُهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَالْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ تَمُوتُونَ وَمَعَكُمُ الْغَيْظُ وَهُوَ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ عَلَى قَبِيحِ مَا عَمِلُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَزْدَادَ غَيْظُهُمْ حَتَّى يُهْلَكُوا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْغَيْظِ مَا يَغِيظُهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّةِ أَهْلِهِ، وَمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الذُّلِّ وَالْخِزْيِ وَالتَّبَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ مَا فَسَّرَ بِهِ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، وَيَكُونُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يُشْبِهُ قَوْلَهُمْ: مِتْ بِدَائِكَ، أَيْ أَبْقَى اللَّهُ دَاءَكَ حَتَّى تَمُوتَ بِهِ. لَكِنْ فِي لَفْظِ الزَّمَخْشَرِيِّ زِيَادَةُ الْغَيْظِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: هَذَا لَيْسَ بِأَمْرٍ جَازِمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لَمَاتُوا مِنْ فَوْرِهِمْ كَمَا جَاءَ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا. وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لَمَاتُوا جَمِيعَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ لَا تُرَدُّ. وَقَدْ آمَنَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ بِخَبَرٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَقْعِ عَلَى حُكْمٍ مَا أَخْبَرَ بِهِ يَعْنِي وَلَمْ يُؤْمِنْ أَحَدٌ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ قَوْلٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِطِيبِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِوَعْدِ اللَّهِ أَنْ يُهْلَكُوا غَيْظًا بِإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِهِمْ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَدِّثْ نَفْسَكَ بِذَلِكَ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَالْمَعْنَى: أَخْبِرْهُمْ بِمَا يُسِرُّونَهُ مِنْ عَضِّهِمُ الْأَنَامِلَ غَيْظًا إِذَا خَلَوْا وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِمَّا تُسِرُّونَهُ بَيْنَكُمْ وَهُوَ مُضْمَرَاتُ الصُّدُورِ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَسْرَارِكُمْ يَخْفَى عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَدْخُلَ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَمَعْنَاهُ: قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا تَتَعَجَّبْ مِنِ اطْلَاعِي إِيَّاكَ عَلَى

مَا يُسِرُّونَ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُضْمَرَاتُ صُدُورِهِمْ لَمْ يُظْهِرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَعِيدٌ مُوَاجَهُونَ بِهِ. وَالذَّاتُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ وَمَعْنَاهُ هُنَا أَنَّهُ تَأْنِيثُ ذِي بِمَعْنَى صَاحِبٍ. فَأَصْلُهُ هُنَا عَلِيمٌ بِالْمُضْمَرَاتِ ذَوَاتِ الصُّدُورِ، ثُمَّ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَغَلَبَتْ إِقَامَةُ الصِّفَةِ مَقَامَهُ. وَمَعْنَى صَاحِبَةِ الصُّدُورِ: الْمُلَازِمَةُ لَهُ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ صَاحِبُ فُلَانٍ، وَمِنْهُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ النَّارِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْفِ عَلَى ذَاتٍ. فَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ: بِالتَّاءِ مُرَاعَاةً لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْجِرْمِيُّ: بِالْهَاءِ لِأَنَّهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها الْحَسَنَةُ هُنَا مَا يَسُرُّ مِنْ رَخَاءٍ وَخَصْبٍ وَنُصْرَةٍ وَغَنِيمَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَالسَّيِّئَةُ ضِدُّ ذَلِكَ. بَيَّنَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَرْطَ عداوتهم حيث يسوءهم مَا نَالَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَسُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ «1» الْآيَةَ مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «2» إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً «3» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسَّ فِي الْحَسَنَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ بِأَدْنَى طُرُوءِ الْحَسَنَةِ تَقَعُ الْمَسَاءَةُ بِنُفُوسِ هَؤُلَاءِ الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ عَادَلَ ذَلِكَ فِي السَّيِّئَةِ بِلَفْظِ الْإِصَابَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ. لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُصِيبَ لِشَيْءٍ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، أَوْ فِيهِ. فَدَلَّ هَذَا النَّوْعُ الْبَلِيغُ عَلَى شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، إِذْ هُوَ حِقْدٌ لَا يَذْهَبُ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ، بَلْ يَفْرَحُونَ بِنُزُولِ الشَّدَائِدِ بِالْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالنَّكِرَةُ هُنَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ بِأَنْ تَعُمَّ عُمُومَ الْبَدَلِ، وَلَمْ يَأْتِ مُعَرَّفًا لِإِيهَامِ التَّعْيِينِ بِالْعَهْدِ، وَلِإِيهَامِ الْعُمُومِ الشُّمُولِيِّ. وَقَابَلَ الْحَسَنَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَالْمُسَاءَةَ بِالْفَرَحِ وَهِيَ مُقَابَلَةٌ بَدِيعَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْحَسَنَةُ بِظُهُورِكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ، وَالتَّتَابُعِ بِالدُّخُولِ فِي دِينِكُمْ، وَخَصْبِ مَعَاشِكُمْ. وَالسَّيِّئَةُ بِإِخْفَاقِ سَرِيَّةٍ مِنْكُمْ، أَوْ إِصَابَةِ عَدُوٍّ مِنْكُمْ، أَوِ اخْتِلَافٍ بَيْنَكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَسَنَةُ الْأُلْفَةُ، وَاجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ. وَالسَّيِّئَةُ إِصَابَةُ الْعَدُوِّ، وَاخْتِلَافُ الْكَلِمَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَسَنَةُ النِّعْمَةُ. وَالسَّيِّئَةُ الْمُصِيبَةُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَلَيْسَتْ عَلَى سبيل التعيين.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 50. (2) سورة النساء: 4/ 79. (3) سورة المعارج: 70/ 20- 21.

وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى أَذَاهُمْ، وَتَتَّقُوا اللَّهَ، وَلَا تَقْنَطُوا، وَلَا تَسْأَمُوا أذاهم وإن تكرر. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَتَتَّقُوا مُبَاطَنَتَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَتَتَّقُوا الشِّرْكَ. وَقِيلَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَتَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ. وَقِيلَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى حَرْبِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ، وَلَا مُتَعَلِّقَ التَّقْوَى. لَكِنَّ الصَّبْرَ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَالتَّقْوَى اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. فَيَحْسُنُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَحْذُوفُ مِنْ جِنْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الصَّبْرِ وَلَفْظُ التَّقْوَى. وَفِي هَذَا تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَثْبِيتٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَإِرْشَادٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى كَيْدِ الْعَدُوِّ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْيَاءِ مُعْجَمَةٌ مِنْ أَسْفَلَ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْحَسَنَةِ مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا يَضُرُّكُمْ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ. وَيُقَالُ: ضَارَ يَضُورُ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى ضَرَّ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الضَّادِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ. وَاخْتُلِفَ، أَحَرَكَةُ الرَّاءِ إِعْرَابٌ فَهُوَ مَرْفُوعٌ؟ أَمْ حَرَكَةُ إِتْبَاعٍ لِضَمَّةِ الضَّادِ وَهُوَ مَجْزُومٌ كَقَوْلِكَ: مَدَّ؟ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى سِيبَوَيْهِ، فَخَرَجَ الْإِعْرَابُ عَلَى التَّقْدِيمِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَضُرُّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا، وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى سِيبَوَيْهِ. وَخَرَجَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ، مَعَ إِضْمَارِ الْفَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ، وَقَالَهُ: الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِيمَا رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْهُ: بِضَمِّ الضَّادِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ قِرَاءَةِ ضَمِّ الرَّاءِ نَحْوَ لَمْ يَرُدَّ زَيْدٌ، وَالْفَتْحُ هُوَ الْكَثِيرُ الْمُسْتَعْمَلُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: بِضَمِّ الضَّادِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَمَّا الْكَسْرُ فَلَا أَعْرِفُهُ قِرَاءَةً، وَعِبَارَةُ الزَّجَّاجِ فِي ذَلِكَ مُتَجَوَّزٌ فِيهَا، إِذْ يَظْهَرُ مِنْ دَرَجِ كَلَامِهِ أَنَّهَا قِرَاءَةٌ انْتَهَى. وَهِيَ قِرَاءَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: لَا يَضْرُرْكُمْ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَعَلَيْهَا في الآية إن يمسسكم. وَلُغَةُ سَائِرِ الْعَرَبِ الْإِدْغَامُ فِي هَذَا كُلِّهِ. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَهُوَ وَعِيدٌ، وَالْمَعْنَى: مُحِيطٌ جَزَاؤُهُ. وَعَبَّرَ بِالْإِحَاطَةِ عَنْ الِاطِّلَاعِ التَّامِّ وَالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ وَهُوَ: الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ فَعَلَى الِالْتِفَاتِ لِلْكُفَّارِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ قُلْ: لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ تَضَمَّنَ تَوَعُّدَهُمْ فِي اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ. قَالُوا: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ضُرُوبًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ. مِنْهَا: الْوَصْلُ وَالْقَطْعُ فِي لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وَالتَّكْرَارُ: فِي أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 127]

الْفَاعِلِ إِلَى غَيْرِهِ: فِي يَتْلُونَ وَمَا بَعْدَهُ، وَفِي يَظْلِمُونَ. وَالِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ بَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ إِذَا كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَاقِي فِي: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْمُقَابَلَةُ: فِي تأمرون وتنهون، وَفِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طِبَاقًا مَعْنَوِيًّا، وفي حسنة وسيئة، وفي تسؤهم ويفرحوا. والاختصاص: في عليم بالمتقين، وفي أموالهم ولا أولادهم، وفي كمثل ريح، وفي حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وفي عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. وَالتَّشْبِيهُ: فِي مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ، وَفِي بِطَانَةً، وَفِي عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَفِي تمسسكم حسنة وتصبكم سَيِّئَةٌ. شَبَّهَ حُصُولَهُمَا بِالْمَسِّ وَالْإِصَابَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ. وَفِي مُحِيطٍ شَبَّهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَالْعِلْمَ بِهَا بِالشَّيْءِ الْمُحْدِقِ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: في ظلمهم ويظلمون، وَفِي تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ، وفي تؤمنون وآمنا، وفي من الغيظ وبغيظكم. والالتفات: في وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، وَفِي ما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ: فِي مِنْ أَفْوَاهِهِمْ عَبَّرَ بِهَا عَنِ الْأَلْسِنَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّهَا. وَالْحَذْفُ فِي مواضع. [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) غَدَا الرَّجُلُ: خَرَجَ غُدْوَةً. وَالْغُدُوُّ يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. وَفِي اسْتِعْمَالِ غَدَا بِمَعْنَى صَارَ، فَيَكُونُ فِعْلًا نَاقِصًا خِلَافٌ. الْهَمُّ: دُونَ الْعَزْمِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ هَمَّ يَهُمُّ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَمَمْتُ وَهَمْتُ يَحْذِفُونَ أَحَدَ

الْمُضَعَّفَيْنِ كَمَا قَالُوا: أَمَسْتُ، وَظَلْتُ، وَأَحَسْتُ، فِي مَسَسْتُ وَظَلَلْتُ وَأَحْسَسْتُ. وَأَوَّلُ مَا يَمُرُّ الْأَمْرُ بِالْقَلْبِ يُسَمَّى خَاطِرًا، فَإِذَا تَرَدَّدَ صَارَ حديث نفس، فإذ تَرَجَّحُ فِعْلُهُ صَارَ هَمًّا، فَإِذَا قَوِيَ وَاشْتَدَّ صَارَ عَزْمًا، فَإِذَا قَوِيَ الْعَزْمُ وَاشْتَدَّ حَصَلَ الْفِعْلُ أَوِ الْقَوْلُ. الْفَشَلُ فِي الْبَدَنِ: الْإِعْيَاءُ. وَفِي الْحَرْبِ: الْجُبْنُ وَالْخَوَرُ، وَفِي الرَّأْيِ: الْعَجْزُ وَالْفَسَادُ. وَفِعْلُهُ: فَشِلَ بِكَسْرِ الشِّينِ. التَّوَكُّلُ: تَفَعُّلٌ مِنْ وَكَّلَ أَمْرَهُ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا فَوَّضَهُ لَهُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ إِظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِكِ، يُقَالُ. فُلَانٌ وَكَلَةٌ تُكَلَةٌ، أي عاجز يكل أَمْرِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْوِكَالَةِ، وَهُوَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِهِ ثِقَةً بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ. بَدْرٌ فِي الْآيَةِ: اسْمُ عَلَمٍ لِمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَفَائِهِ، أَوْ لِرُؤْيَةِ الْبَدْرِ فِيهِ لِصَفَائِهِ، أَوْ لِاسْتِدَارَتِهِ. قِيلَ: وَسُمِّيَ بِاسْمِ صَاحِبِهِ بَدْرِ بْنِ كلدة. قيل: بَدْرُ بْنُ بَجِيلِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَقِيلَ: هُوَ بِئْرٌ لِغِفَارٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ وَادِي الصَّفْرَاءِ. وَقِيلَ: اسْمُ قَرْيَةٍ بَيْنَ المدينة والحجاز. الْفَوْرُ: الْعَجَلَةُ وَالْإِسْرَاعُ. تَقُولُ: اصْنَعْ هَذَا عَلَى الْفَوْرِ. وَأَصْلُهُ مِنْ فَارَتِ الْقِدْرُ اشْتَدَّ غَلَيَانُهَا، وَبَادَرَ مَا فِيهَا إِلَى الْخُرُوجِ. وَيُقَالُ: فَارَ غَضَبُهُ إِذَا جَاشَ وَتَحَرَّكَ. وَتَقُولُ: خَرَجَ مِنْ فَوْرِهِ، أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ، لَمْ يَلْبَثْ اسْتُعِيرَ الْفَوْرُ لِلسُّرْعَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَا تَعْرِيجَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صَاحِبِهَا. الْخَمْسَةُ: رُتْبَةٌ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٌ، وَيُصَرَّفُ مِنْهَا فَعَّلَ يُقَالُ: خَمَّسْتُ الْأَرْبَعَةَ أَيْ صَيَّرْتُهُمْ فِي خَمْسَةٍ. الطَّرْفُ: جَانِبُ الشَّيْءِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ لِلْقِطْعَةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَانِبًا أَخِيرًا. الْكَبْتُ: الْهَزِيمَةُ. وَقِيلَ: الصَّرْعُ عَلَى الْوَجْهِ أَوْ إِلَى الْيَدَيْنِ. وَقَالَ النَّقَاشُ وَغَيْرُهُ: التَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ. أَصْلُهُ: كَبَّدَهُ، أَيْ فَعَلَ فِعْلًا يُؤْذِي كَبِدَهُ. الْخَيْبَةُ: عَدَمُ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ. وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَيْ خَالِ أَخْبِرْنِي عَنْ قِصَّتِكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: اقْرَأِ الْعِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ تَجِدُ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ- إِلَى- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ «1» وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 21- 154.

قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا نَهَاهُمْ عن اتخاذ بطانة من الْكُفَّارِ وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا فَلَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ. ذَكَّرَهُمْ بِحَالَةٍ اتَّفَقَ فِيهَا بَعْضٌ طَوَاعِيَةً، وَاتِّبَاعٌ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ مَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ حِينَ انْخَذَلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعَهُ فِي الِانْخِذَالِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَفِيهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ هَذَا الْغُدُوُّ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. وَهُوَ قَوْلُ: مُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. لِأَنَّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ كَانَ فِيهِ ظَفْرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَجِرِ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ قِصَّتَاهُمَا مُتَبَايِنَتَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: كَانَ هَذَا الْغُدُوُّ يَوْمَ بَدْرٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ قِصَّةَ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِ الْآيَةِ بَعْضَ تَعَلُّقٍ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ، خُرُوجُهُ غُدْوَةً مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ. وَفُسِّرَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُدْوَةً حِينَ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَمِنْ مُشِيرٍ بِالْإِقَامَةِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ. وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إن جاؤوا قَاتَلُوهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ رأيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ مُشِيرٍ بِالْخُرُوجِ وَهُمْ: جَمَاعَةٌ مِنْ صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ فَاتَتْهُمْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَتَبْوِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنْ يقسم أفطار الْمَدِينَةِ عَلَى قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ. وَقِيلَ: غُدُوُّهُ هُوَ نُهُوضُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَتَبْوِئَتُهُ فِي وَقْتِ حُضُورِ الْقِتَالِ. وَسَمَّاهُ غُدُوًّا إِذْ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ غُدْوَةً. وَقِيلَ: غُدُوُّهُ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلْقِتَالِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ مُوَافِقَةً لِلْغُدُوِّ وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ، وَالْعَامِلُ فِي إذا ذكر. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا «1» أَيْ وَآيَةٌ إِذْ غَدَوْتَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مَسْطُورٌ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مِنْ فِي مَعْنَى مَعَ، أَيْ: وَإِذْ غَدَوْتَ مَعَ أَهْلِكَ. وَهَذِهِ تَخْرِيجَاتٌ يَقُولُهَا وَيَنْقُلُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ مَنْ لَا بَصَرَ لَهُ بِلِسَانِ العرب. ومعنى تبوىّء: تُنَزِّلُ، مِنَ الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَرْجِعُ وَمِنْهُ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٌ ... بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا وَقَالَ الْأَعْشَى: وَمَا بَوَّأَ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مَنْزِلًا ... بِشَرْقِيِّ أَجْيَادِ الصفا والمحرم

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 13. (2) سورة العنكبوت: 29/ 58.

وَمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٌ، وَهُوَ هُنَاكَ مَكَانُ الْقُعُودِ. وَالْمَعْنَى: مَوَاطِنُ وَمَوَاقِفُ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْمَقْعَدُ وَالْمَقَامُ فِي مَعْنَى الْمَكَانِ. وَمِنْهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «1» وقَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدِ اتَّسَعَ فِي قَعَدَ وَقَامَ حَتَّى أُجْرِيَا مَجْرَى صَارَ انْتَهَى. أَمَّا إِجْرَاءُ قَعَدَ مَجْرَى صَارَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا جَاءَ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ شَاذَّةٌ لَا تَتَعَدَّى، وَهِيَ فِي قَوْلِهِمْ: شَحَذَ شَفْرَتَهُ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا حَرْبَةٌ، أَيْ صَارَتْ. وَقَدْ نُقِدَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَخْرِيجُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَقْعُدَ مَلُوماً «3» عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَتَصِيرُ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لَا يَطَّرِدُ. وَفِي الْيَوَاقِيتِ لِأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَعْدُ الصَّيْرُورَةُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَعَدَ فُلَانٌ أميرا بعد ما كَانَ مَأْمُورًا أَيْ صَارَ. وَأَمَّا إِجْرَاءٌ قَامَ مَجْرَى صَارَ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا عَدَّهَا فِي أَخَوَاتِ كَانَ، وَلَا ذَكَرَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ، وَلَا ذَكَرَ لَهَا خَبَرًا إِلَّا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ الخضراوي فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... إِنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظَةُ الْقُعُودِ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الرُّمَاةَ إِنَّمَا كَانُوا قُعُودًا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ صُفُوفُ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا، وَالْمُبَارِزَةُ وَالسَّرَعَانُ يَجُولُونَ. وَجَمَعَ الْمَقَاعِدَ لِأَنَّهُ عَيَّنَ لَهُمْ مَوَاقِفَ يَكُونُونَ فِيهَا: كَالْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ، وَالْقَلْبِ، وَالشَّاقَّةِ. وَبَيَّنَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَوْضِعَهُمُ الَّذِي يَقِفُونَ فِيهِ. خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، فَمَشَى عَلَى رِجْلَيْهِ، فَجَعَلَ يَصِفُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ كَأَنَّمَا يَقُومُ بِهِمُ الْقَدَحُ. إِنْ رَأَى صَدْرًا خَارِجًا قَالَ: «تَأَخَّرَ» ، وَكَانَ نُزُولُهُ فِي غُدْوَةِ الْوَادِي، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ. وَأَمَّرَ عبد الله بن جبير عَلَى الرُّمَاةِ وَقَالَ لَهُمْ: «انصحوا عَنَّا بِالنَّبْلِ» لَا يَأْتُونَا من ورائنا» . وتبوىء جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. فَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ خَرَجْتَ قَاصِدَ التَّبْوِئَةِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْغُدُوِّ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التَّبْوِئَةِ. وقرأ الجمهور تبوىء مِنْ بَوَّأَ. وَقَرَأَ عَبْدُ الله: تبوّىء مِنْ أَبْوَأَ، عَدَّاهُ الْجُمْهُورُ بِالتَّضْعِيفِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بِالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: تَبْوَى بِوَزْنِ تَحْيَا، عَدَّاهُ بِالْهَمْزَةِ، وَسَهَّلَ لَامَ الْفِعْلِ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً نَحْوَ: يقرى في يقرىء. وقرأ

_ (1) سورة القمر: 59/ 55. (2) سورة النمل: 27/ 39. [.....] (3) سورة الإسراء: 17/ 29.

عَبْدُ اللَّهِ: لِلْمُؤْمِنِينَ بِلَامِ الْجَرِّ عَلَى مَعْنَى: تُرَتِّبُ وتهيىء. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَصْلَ تَعْدِيَتُهُ لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَلِلْآخَرِ بِاللَّامِ لِأَنَّ ثَلَاثِيهِ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ: مَقَاعِدَ الْقِتَالِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَانْتِصَابُ مَقَاعِدَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لتبوى. وَمَنْ قَرَأَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَانَ مفعولا لتبوىء، وَعَدَّاهُ بِاللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ «1» وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لِإِبْرَاهِيمَ زَائِدَةٌ، وَاللَّامُ فِي لِلْقِتَالِ لَامُ الْعِلَّةِ تتعلق بتبوئ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لمقاعد. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَ الْعَسَاكِرِ وَيَخْتَارُونَ لَهُمُ الْمَوَاضِعَ لِلْحَرْبِ، وَعَلَى الْأَجْنَادِ طَاعَتُهُمْ قَالَهُ: الْمَاتُرِيدِيُّ. وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِكُمْ. وَجَاءَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُنَا لِأَنَّ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُشَاوَرَةً وَمُجَاوَبَةً بِأَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَانْطِوَاءً على نيات مضطربة حبسما تَضَمَّنَتْهُ قِصَّةُ غَزْوَةِ أُحُدٍ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا الطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَهُمَا الْجَنَاحَانِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الطَّائِفَتَانِ هُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي أَلْفٍ. وَقِيلَ: فِي تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ. وَوَعَدَهُمُ الْفَتْحَ إِنْ صَبَرُوا، فَانْخَذَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ. وَسَبَبُ انْخِذَالِهِ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ شَاوَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُشَاوِرْهُ قَبْلَهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ فِي الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَخَرَجَ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ، وَعَصَانِي. وَقَالَ: يَا قَوْمُ على م نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا وَأَوْلَادَنَا، فَتَبِعَهُمْ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَبُو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: أُنْشِدُكُمُ اللَّهَ فِي نَبِيِّكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، فَهَمَّ الْجَبَانُ بِاتِّبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ وَمَضَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَضْمَرُوا أَنْ يَرْجِعُوا، فَعَزَمَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى الرُّشْدِ فَثَبَتُوا، وَهَذَا الْهَمُّ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ، إِذْ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ، إِنَّمَا هُوَ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ. وَلَا شك أن النفس عند ما تُلَاقِي الْحُرُوبَ وَمَنْ يُجَالِدُهَا يُزِيدُ عَلَيْهَا مِثْلَيْنِ وَأَكْثَرَ، يَلْحَقُهَا بَعْضُ الضَّعْفِ عَنِ الْمُلَاقَاةِ، ثُمَّ يُوَطِّئُهَا صَاحِبُهَا عَلَى الْقِتَالِ فَتَثْبُتُ وَتَسْتَقِرُّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشاعر:

_ (1) سورة الحج: 22/ 26.

وَقَوْلِي: كُلَّمَا جَشَأْتُ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي وإِذْ هَمَّتْ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ غَدَوْتَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَمِلَ فِيهِ مَعْنَى سَمِيعٌ عَلِيمٌ انْتَهَى. وَهَذَا غَيْرُ مُحَرَّرٍ، لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنْ وَصْفَيْنِ، فَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: أَوْ عَمِلَ فِيهِ مَعْنَى سَمِيعٍ أَوْ عَلِيمٍ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لتبوىء، ولغدوت. وهمّ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَالتَّقْدِيرُ: بِأَنْ تَفْشَلَا وَالْمَعْنَى: أَنْ تَفْشَلَا عن القتال. وأما أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَشَلِ: قَاتِلُوا الْقَوْمَ بِالْخِدَاعِ وَلَا ... يَأْخُذْكُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ فَشَلُ الْقَوْمُ أَمْثَالُكُمْ لهم شعر ... في الرأس لا ينشرون إن قتلوا وَأَدْغَمَ السَّبْعَةُ تَاءَ التَّأْنِيثِ فِي الطَّاءِ، وَعَنْ قَالُونَ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي عِقْدِ اللآلئ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الْعَوَالِي مِنْ إِنْشَائِنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْهَمَّ كَانَ عِنْدَ تَبْوِئَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَانْخِذَالِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَنِ انْخَذَلَ. وَقِيلَ: حِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ وَخَالَفُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ. وَفِي قَوْلِهِ: طَائِفَتَانِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى الْكِنَايَةِ عَنْ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ مَا لَا يُنَاسِبُ وَالسِّتْرِ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يُعَيِّنِ الطَّائِفَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَلَا صَرَّحَ بِمَنْ هَمَّا مِنْهُ مِنَ الْقَبَائِلِ سَتْرًا عَلَيْهِمَا. وَاللَّهُ وَلِيُّهُما مَعْنَى الْوِلَايَةِ هُنَا التَّثْبِيتُ وَالنَّصْرُ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يَفْشَلَا. وَقِيلَ: جَعَلَهَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُثَابِرِينَ عَلَى طَاعَتِهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ، وبنو سلمة. وما تحب أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِ اللَّهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قَالَ ذَلِكَ جَابِرٌ لِفَرْطِ الِاسْتِبْشَارِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ بِثَنَاءِ اللَّهِ، وَإِنْزَالِهِ فِيهِمْ آيَةً نَاطِقَةً بِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْهِمَّةَ الْمَصْفُوحَ عَنْهَا لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ عَزْمًا كَانَتْ سَبَبًا لِنُزُولِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمْ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» وهذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «2» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، بَلْ جَاءَتْ مُسْتَأْنِفَةً لِثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا هَمَّتْ بِهِ الطَّائِفَتَانِ مِنَ الْفَشَلِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّهُمَا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَلِيُّهُ فَلَا يُفَوِّضْ أَمْرَهُ إِلَّا إِلَيْهِ. أَمَرَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ لِلِاعْتِنَاءِ بِمَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَنَبَّهَ

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 9. (2) سورة الحج: 22/ 19.

عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ خَيْرٌ أَنْ لَا يَكُونَ اتِّكَالُهُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» وَأَتَى بِهِ عَامًّا لِتَنْدَرِجَ الطَّائِفَتَانِ الْهَامَّتَانِ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ مَنْ قَامَ بِهِ الْإِيمَانُ. وَفِي هَذَا الْأَمْرِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّغْبِيطِ بِمَا فَعَلَتْهُ الطَّائِفَتَانِ مِنِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسِيرِ مَعَهُ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ذَكَّرَهُمْ بِمَا يُوجِبُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا سَنَّى لَهُمْ وَيَسَّرَ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ فِي حَالِ قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ النَّصْرُ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالثِّقَةِ بِهِ. وَالنَّصْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِبَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ، أَوْ بِكَفِّ الْحَصَى الَّتِي رَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2» أَقْوَالٌ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي نَصَرَكُمْ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فِي أَعْيُنِ غَيْرِكُمْ، إِذْ كَانُوا أَعِزَّةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدُوِّهِمْ، وَجَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عِنْدَ الْمُتَأَمِّلِ مَغْلُوبِينَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَمْ تُعْبَدْ» . وَالْأَذِلَّةُ: جَمْعُ ذَلِيلٍ. وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ ذِلَّانٌ، فَجَاءَ عَلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ لِيَدُلَّ أَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ. وَالذِّلَّةُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ هِيَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الضَّعْفِ وَقِلَّةِ السِّلَاحِ وَالْمَالِ وَالْمَرْكُوبِ. خَرَجُوا عَلَى النَّوَاضِحِ يَعْتَقِبُ النَّفَرُ عَلَى الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ، وَمَعَ عَدُوِّهِمْ مِائَةُ فَرَسٍ. وَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا: سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَصَاحِبُ رَايَتِهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَصَاحِبُ رَايَتِهِمْ سَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ. وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَكَانَ عَدُوُّهُمْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ زُهَاءَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَقَائِلَةٍ ما بال أسوة عَادِيًا ... تَفَانَتْ وَفِيهَا قِلَّةٌ وَخُمُولُ تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا ... فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وجار الأكثرين ذليل

_ (1) سورة المائدة: 5/ 23. (2) سورة آل عمران: 3/ 126.

وَالنَّصْرُ بِبَدْرٍ هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، وَعَلَى يَوْمِ بَدْرٍ انْبَنَى الْإِسْلَامُ. وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَمَرَ بِالتَّقْوَى مُطْلَقًا. وَقِيلَ: فِي الثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَجِّيهِ الشُّكْرَ إِمَّا عَلَى الْإِنْعَامِ السَّابِقِ بِالنَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ عَلَى الْإِنْعَامِ الْمَرْجُوِّ أَنْ يَقَعَ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَعَلَّكُمْ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً أُخْرَى فَتَشْكُرُونَهَا. وَضَعَ الشُّكْرَ مَوْضِعَ الْإِنْعَامِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ اتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا مِنْ قِصَّةِ بَدْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فيكون إذ معمولا لنصركم. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ قِصَّةِ أُحُدٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ «1» مُعْتَرَضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّوَكُّلِ وَالثَّبَاتِ لِلْقِتَالِ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ الْمَدَدُ فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَلِفٍ، وَهُنَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسَةِ آلَافٍ. وَالْكُفَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا أَلْفًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى الثُّلُثِ. فَكَانَ عَدَدُ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَوُعِدُوا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ أَيِ الْإِمْدَادُ. وَيَوْمَ بَدْرٍ ذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ؟ (قُلْتُ) : قَالَهُ لَهُمْ مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَتَّقُوا حَيْثُ خَالَفُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلِ الْمَلَائِكَةُ، وَلَوْ تَمُّوا عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ لَنَزَلَتْ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْوَعْدَ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ وَيَعْزِمُوا عَلَى الثَّبَاتِ، وَيَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ: لَمْ تَنْزِلْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ مُجَاهِدٌ: حَضَرَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَلَمْ تُقَاتِلْ، فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ يَسْقُطُ السُّؤَالُ. وَقَوْلُهُ: قَالَهُ لَهُمْ مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَتَّقُوا إِلَى آخِرِهِ الْمَشْرُوطُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى هُوَ الْإِمْدَادُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ. أَمَّا الْإِمْدَادُ الْأَوَّلُ وَهُوَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَلَيْسَ بِمَشْرُوطٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِنْزَالِ خَمْسَةِ آلَافٍ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَنْ لَا يُنْزِلَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا، وَأُجِيبَ عَنْ عَدَمِ إِنْزَالِ ثَلَاثَةِ آلَافٍ: أَنَّهُ وَعْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَوَّأَهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وَأَمَرَهُمْ بِالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا الْوَعْدُ مَشْرُوطًا بِالثُّبُوتِ فِي تلك المقاعد. فلما

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 123.

أَهْمَلُوا الشَّرْطَ لَمْ يَحْصُلِ الْمَشْرُوطُ انْتَهَى. وَلَا خَفَاءَ بِضَعْفِ هَذَا الْجَوَابِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ هَذَا الْوَعْدُ وَالْمَقَالَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَفَرَّ النَّاسُ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا مُدُّوا يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ يَصْبِرُوا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يَصْبِرُوا، وَلَمْ يَتَّقُوا يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَمُدُّوا. وَلَوْ مَدُّوا لَمْ يَنْهَزِمُوا. وَكَانَ الْوَعْدُ بِالْإِمْدَادِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَرَجَّحَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَظَاهَرُ اتِّصَالِ الْكَلَامِ. وَلِأَنَّ قِلَّةَ الْعَدَدِ، وَالْعُدَدِ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِلَى تَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ بِالْوَعْدِ أَحْوَجَ. وَلِأَنَّ الْوَعْدَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ كَانَ، غَيْرَ مَشْرُوطٍ، فَوَجَبَ حُصُولُهُ. وَإِنَّمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَ أَلْفٍ وَثَلَاثَةِ آلَافٍ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوطٍ، فَوَجَبَ حُصُولُهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّهُمْ مُدُّوا أَوَّلًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ زِيدَ فِيهِمْ أَلْفَانِ، وَصَارَتْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ. أَوْ مُدُّوا بِأَلْفٍ أَوَّلًا، ثُمَّ بَلَغَهُمْ إِمْدَادُ الْمُشْرِكِينَ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، فوعدوا بِالْخَمْسَةِ عَلَى تَقْدِيرِ إِمْدَادِ الْكُفَّارِ. فَلَمْ يَمُدَّ الْكُفَّارَ، فَاسْتَغْنَى عَنْ إِمْدَادِ الْمُسْلِمِينَ. وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْأَعْدَادِ إِدْخَالُ النَّاقِصِ فِي الزَّائِدِ، فَيَكُونُ وُعِدُوا بِأَلْفٍ، ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهِ أَلْفَانِ، ثُمَّ أَلْفَانِ، فَصَارَ خَمْسَةً. وَمَنْ ضَمَّ النَّاقِصَ إِلَى الزَّائِدِ وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، فَيَكُونُونَ قَدْ وُعِدُوا بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ. أَوْ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ فَيَكُونُونَ قَدْ وُعِدُوا بِتِسْعَةِ آلَافٍ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا لِقِتَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَقَتْلِهِمْ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ وَتَظَافَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَضَرَتْ بَدْرًا وَقَاتَلَتْ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَمَّا لَمْ تَتَعَرَّضُ لَهُ الْآيَةُ لَمْ نُكَثِّرْ كِتَابَنَا بِنَقْلِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: لَمْ تُمَدَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْضُرُ حُرُوبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدَدًا، وَهِيَ تَحْضُرُ حُرُوبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَخَالَفَ النَّاسُ الشَّعْبِيَّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن عُمَرَ الرَّازِيُّ مَا نَصُّهُ وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْكُفَّارَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَذَكَرَ عَنْهُ حُجَجًا ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ هَذِهِ الشُّبَهِ تَلِيقُ بِمَنْ يُنْكِرُ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ نَاطِقَانِ بِذَلِكَ، يَعْنِي بِإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي نُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ. فَقِيلَ: بِالْقِتَالِ. وَقِيلَ: بِتَقْوِيَةِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ فِي الْمَدَدِ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ الْجَيْشَ فِي الْقِتَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ حُضُورِهِمْ كَافِيًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَدَخَلَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، لِانْتِفَاءِ الْكِفَايَةِ بِهَذَا

الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَكَانَ حَرْفُ النَّفْيِ «لَنْ» الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِقْبَالِ مِنْ لَا، إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ كَالْآيِسِينَ مِنَ النصر. وَبَلَى: إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ لَنْ، يَعْنِي: بَلَى يَكْفِيكُمُ الْإِمْدَادُ بِهِمْ، فَأَوْجَبَ الْكِفَايَةَ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: أَلَا يَكْفِيَكُمْ انْتَهَى. وَمُعْظَمُهُ مِنْ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تَقْرِيرٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمُ الْكِفَايَةَ فِي هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَافِيَةٌ، بَادَرَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى جَوَابٍ لِيَبْنِيَ مَا يَسْتَأْنِفُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: بَلَى، وَهِيَ جَوَابُ الْمُقَرِّرِينَ. وَهَذَا يَحْسُنُ فِي الْأُمُورِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي لَا مَحِيدَ فِي جَوَابِهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «1» انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن أَبِي الْفَضْلِ الْمَرْسِيُّ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ جَوَابُ الصَّحَابَةِ حِينَ قَالُوا: هَلَّا أَعْلَمْتَنَا بِالْقِتَالِ لِنَتَأَهَّبَ. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ» . قَالَ ابْنُ عِيسَى: وَالْكِفَايَةُ مِقْدَارُ سَدِّ الْخُلَّةِ، وَالْإِمْدَادُ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِثَلَاثَهْ آلَافٍ يَقِفُ عَلَى الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُضَافَ وَالْمُضَافَ إِلَيْهِ يَقْتَضِيَانِ الِاتِّصَالَ، إِذْ هُمَا كَالِاسْمِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا الثَّانِي كَمَالُ الْأَوَّلِ. وَالْهَاءُ إِنَّمَا هِيَ أَمَارَةُ وَقْفٍ، فَتَعَلَّقَ الْوَقْفُ فِي مَوْضِعٍ إِنَّمَا هُوَ لِلِاتِّصَالِ، لَكِنْ قَدْ جَاءَ نَحْوُ هَذَا لِلْعَرَبِ فِي مَوَاضِعَ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَكَلْتُ لَحْمًا شَاةً، يُرِيدُونَ لَحْمَ شَاةٍ، فَمَطَلُوا الْفُتْحَةَ حَتَّى نَشَأَتْ عَنْهَا أَلِفٌ، كَمَا قَالُوا فِي الْوَقْفِ قَالَا: يُرِيدُونَ. قَالَ: ثُمَّ مَطَلُوا الْفُتْحَةَ فِي الْقَوَافِي وَنَحْوِهَا فِي مَوَاضِعِ الرَّوِيَّةِ وَالتَّثَبُّتِ. وَمِنْ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ قَوْلُ الشاعر: ينباع من زفرى غَضُوبٍ جَسْرَةً ... زيَّانَةٍ مِثْلِ الْعَتِيقِ الْمُكْرَمِ يُرِيدُ يَنْبُعَ فَمَطَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: أقول إذ حزت عَلَى الْكَلْكَالِ ... يَا نَاقَتَا مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ يُرِيدُ الْكَلْكَلَ فَمَطَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: فَأَنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى ... وَمِنْ ذَمَّ الرِّجَالَ بِمُنْتَزَاحِ يُرِيدُ بِمُنْتَزِحٍ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْتَرِضَ هَذَا التَّمَادِيَ بَيْنَ أَثْنَاءِ الكلمة

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 19.

الْوَاحِدَةِ، جَازَ التَّمَادِي وَالتَّأَنِّي بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذْ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ اثْنَانِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَتَنْظِيرٌ بِغَيْرِ مَا يُنَاسِبُ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ تَوْجِيهَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنَّهَا مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، أَبْدَلَهَا هَاءً فِي الْوَصْلِ، كَمَا أَبْدَلُوا لَهَا هَاءً فِي الْوَقْفِ، وَمَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِجْرَاءُ الْوَقْفِ مَجْرَى الْوَصْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَكِنْ قَدْ جَاءَ نَحْوُ هَذَا لِلْعَرَبِ فِي مَوَاضِعَ، وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ إِشْبَاعِ الْحَرَكَةِ. وَإِشْبَاعُ الْحَرَكَةِ لَيْسَ نَحْوَ إِبْدَالِ التَّاءِ هَاءً فِي الْوَصْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: ثَلَاثَهَ ارْبَعَهْ، أَبْدَلَ التَّاءَ هَاءً، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ هَمْزَةِ أَرْبَعَةٍ إِلَيْهَا، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ، فَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ فِي الْإِبْدَالِ. وَلِأَجْلِ الْوَصْلِ نُقِلَ إِذْ لَا يَكُونُ هَذَا النَّقْلُ إِلَّا فِي الْوَصْلِ. وقرىء شاذا بثلاثة آلاف بتسكين التَّاءِ فِي الْوَصْلِ، أَجْرَاهُ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ التَّاءِ السَّاكِنَةِ أَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي يُوقَفُ عَلَيْهَا أَمْ تَاءُ التَّأْنِيثِ هِيَ؟ وَهِيَ الَّتِي يُوقَفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ كَمَا هِيَ؟ وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنْزَلِينَ بِالتَّخْفِيفِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا، وَالْهَمْزَةُ وَالتَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُمَا سِيَّانِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُنَزِّلِينَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ بِتَخْفِيفِهَا وَكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: يُنْزِلُونَ النَّصْرَ. إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ رَتَّبَ تَعَالَى عَلَى مَجْمُوعِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَإِتْيَانِ الْعَدَدِ مِنْ فَوْرِهِمْ إِمْدَادَهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْثَرِ مِنَ الْعَدَدِ السَّابِقِ وَعَلَّقَهُ عَلَى وُجُودِهَا، بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ تَحَلِّيهِمْ بِثَلَاثَةِ الْأَوْصَافِ. وَمَعْنَى مِنْ فَوْرِهِمْ: مِنْ سَفَرِهِمْ. هَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَقَيْسٍ، وَغَيْلَانَ، وَكِنَانَةَ: أَوْ من غصبهم هَذَا قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ مَوْلَى أم هانىء أَوْ مَعْنَاهُ فِي نَهْضَتِهِمْ هَذِهِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. أَوْ الْمَعْنَى مِنْ سَاعَتِهِمْ هَذِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَلَفْظَةُ الْفَوْرِ تَدُلُّ عَلَى السُّرْعَةِ وَالْعَجَلَةِ. تَقُولُ: افْعَلْ هَذَا عَلَى الْفَوْرِ، لَا عَلَى التَّرَاخِي. وَمِنْهُ الْفَوْرُ فِي الْحَجِّ وَالْوُضُوءِ. وَفِي إِسْنَادِ الْإِمْدَادِ إِلَى لَفْظَةِ رَبِّكُمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ إِشْعَارٌ بِحُسْنِ النَّظَرِ لَهُمْ، وَاللُّطْفِ بِهِمْ. وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ وَالْأَخَوَانِ مُسَوَّمِينَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ:

بكسرها. وقيل: مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ يكون عَلَى الشَّاةِ وَغَيْرِهَا، يُجْعَلُ عَلَيْهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَهَا لِتُعْرَفَ. وَقِيلَ: مِنَ السَّوْمِ وَهُوَ تَرْكُ الْبَهِيمَةِ تَرْعَى. فَعَلَى الْأَوَّلِ رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ، إِلَّا جِبْرِيلَ فَبِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ كَالزُّبَيْرِ قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: بِعَمَائِمَ صُفْرٍ كَالزُّبَيْرِ قَالَهُ: عُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الزُّبَيْرِ، وَعَبَّادُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَالْكَلْبِيُّ وَزَادَ: مُرْخَاةٌ عَلَى أَكْتَافِهِمْ. قِيلَ: وَكَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، وَكَانَتْ سِيمَاهُمْ قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ خَيْلُهُمْ مَجْزُوزَةَ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ، مَعْلَمَتُهَا بِالصُّوفِ وَالْعِهْنِ. قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. فبفتح الواو ومعلمين، وَبِكَسْرِهَا مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَيْلَهُمْ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ، بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: «سَوِّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَوَّمَتْهُ» وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ السَّوْمُ. فَمَعْنَى مُسَوِّمِينَ بكسر الواو: وسوّموا خَيْلَهُمْ أَيْ أَعْطَوْهَا مِنَ الْجَرْيِ وَالْجَوَلَانِ لِلْقِتَالِ، وَمِنْهُ سَائِمَةُ الْمَاشِيَةِ. وَأَمَّا بِفَتْحِ الْوَاوِ فَيَصِحُّ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، قَالَهُ: الَمَهَدَوِيُّ وَابْنُ فُورَكٍ. أَيْ سَوَّمَهُمُ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ يَجُولُونَ وَيَجْرُونَ لِلْقِتَالِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَوَّمَ الرَّجُلُ خَيْلَهُ أَيْ أَرْسَلَهَا فِي الْغَارَةِ. وَحَكَى بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: سَوَّمَ الرَّجُلُ غُلَامَهُ أَرْسَلَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَلِهَذَا قال الأخفش: معنى مسوّميم مُرْسَلِينَ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْعَلَامَةِ لِلْقَبَائِلِ وَالْكَتَائِبِ لِتَتَمَيَّزَ كُلُّ قَبِيلَةٍ وَكَتِيبَةٍ عِنْدَ الْحَرْبِ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْهَاءَ فِي جَعَلَهُ عَائِدَةٌ عَلَى المصدر والمفهوم مِنْ يُمْدِدْكُمْ وَهُوَ الْإِمْدَادُ. وَجَوَّزَ أَنْ يَعُودَ عَلَى التَّسْوِيمِ، أَوْ عَلَى النَّصْرِ، أَوْ عَلَى التَّنْزِيلِ، أَوْ عَلَى الْعَدَدِ، أَوْ عَلَى الوعد. وإلّا بُشْرَى مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، أَيْ: مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِشَيْءٍ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ. فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ فَرُغَ لَهُ الْعَامِلُ، وَبُشْرَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَشُرُوطُ نَصْبِهِ مَوْجُودَةٌ وَهُوَ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ متحد الفاعل والزمان. ولتطمئن مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ بُشْرَى، إِذْ أَصْلُهُ لِبُشْرَى. وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ فِي وَلِتَطْمَئِنَّ، أُتِيَ بِاللَّامِ إِذْ فَاتَ شَرْطُ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ فَاعِلَ بُشْرَى هُوَ اللَّهُ، وَفَاعِلُ تَطْمَئِنُّ هُوَ قُلُوبُكُمْ. وَتَطْمَئِنُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ لَامِ كَيْ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى تَوَهُّمِ. مَوْضِعِ اسْمٍ آخَرَ، وجعل عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِلَّا بُشْرَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى البدل من الْهَاءِ، وَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَى الْوَعْدِ بِالْمَدَدِ. وَقِيلَ: بُشْرَى مفعول ثان لجعله اللَّهُ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَتَعَلَّقُ اللَّامُ فِي لِتَطْمَئِنَّ بِمَحْذُوفٍ، إِذْ لَيْسَ قَبْلَهُ عَطْفٌ يُعْطَفُ عَلَيْهَا. قَالُوا: تَقْدِيرُهُ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ

بَشَّرَكُمْ. وَبُشْرَى: فُعْلَى مَصْدَرٌ كرجعى، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ بَشَرَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، وَالْهَاءُ فِي بِهِ تَعُودُ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ فِي جَعْلَهُ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ فِي ولتطمئن متعلقة تفعل مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعَلَهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا كَانَ هَذَا الْإِمْدَادُ إِلَّا لِتَسْتَبْشِرُوا بِهِ، وَتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمُ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ عِنْدَهُ أَنْ يَعْطِفَ وَلِتَطْمَئِنَّ عَلَى بُشْرَى عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ مِنْ شرط العطف على الموضع- عِنْدَ أَصْحَابِنَا- أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ لِلْمَوْضِعِ، وَلَا مُحْرِزَ هُنَا، لِأَنَّ عَامِلَ الْجَرِّ مَفْقُودٌ. وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُحْرِزَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَإِنْ لَا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى التَّوَهُّمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ فِي وَلِتَطْمَئِنَّ. وَقَالَ أَيْضًا فِي ذِكْرِ الْإِمْدَادِ: مَطْلُوبَانِ، أَحَدُهُمَا: إِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بُشْرَى. وَالثَّانِي: حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةَ بِالنَّصْرِ، فَلَا تَجْبُنُوا، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ. فَفَرَّقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَعَطَفَ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَقْوَى حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَرْتِيبٍ وَتَنَاقُشٍ فِي قَوْلِهِ: فَعَطَفَ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ، إِذْ لَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرَ. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ حَصَرَ كَيْنُونَةَ النَّصْرِ فِي جِهَتِهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ تَكْثِيرِ الْمُقَاتِلَةِ، وَلَا مِنْ إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرَ الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ تَقْوِيَةً لِرَجَاءِ النَّصْرِ لَهُمْ، وَتَثْبِيتًا لِقُلُوبِهِمْ. وَذَكَرَ وَصْفَ الْعِزَّةِ وَهُوَ الْوَصْفُ الدَّالُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، وَوَصْفَ الْحِكْمَةِ وَهُوَ الْوَصْفُ الدَّالُّ عَلَى وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا مِنْ: نَصْرٍ وَخِذْلَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ الطَّرَفُ: مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ هُمْ سَبْعُونَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، أَوْ من قتل بأحد وَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، أَوْ مَجْمُوعُ الْمَقْتُولِينَ فِي الْوَقْعَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَكَنَّى عَنِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ: طَرَفًا، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي حَرْبٍ هُمْ طَرَفٌ مِنَ الْكُفَّارِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يَلُونَ الْقَاتِلِينَ، فَهُمْ حَاشِيَةٌ مِنْهُمْ. فَكَانَ جَمِيعُ الْكُفَّارِ رُفْقَةٌ، وَهَؤُلَاءِ الْمَقْتُولُونَ طَرَفًا مِنْهَا. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: طَرَفًا دَابِرًا أَيْ آخِرًا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الطَّرَفِ، لِأَنَّ آخِرَ الشَّيْءِ طَرَفٌ مِنْهُ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 إلى 132]

أَوْ يَكْبِتَهُمْ: أَيْ لِيُخْزِيَهُمْ وَيَغِيظَهُمْ، فَيَرْجِعُوا غَيْرَ ظَافِرِينَ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمْلَوْهُ. وَمَتَى وَقَعَ النَّصْرُ عَلَى الْكُفَّارِ، فَإِمَّا بِقَتْلٍ، وَإِمَّا بِخَيْبَةٍ، وَإِمَّا بِهِمَا. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوْ تَكْبِتَهُمْ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَوْ يَكْبِدَهُمْ بِالدَّالِ مَكَانَ التَّاءِ، وَالْمَعْنَى: يُصِيبُ الْحُزْنُ كَبِدَهُمْ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي يَكْبِتَهُمْ أَقْوَالٌ: يَهْزِمَهُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّجَّاجُ، أَوْ يُخْزِيَهِمْ قَالَهُ: قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ يَصْرَعَهُمْ قَالَهُ: أَبُو عبيد وَالْيَزِيدِيُّ، أَوْ يُهْلِكَهُمْ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ. أَوْ يَلْعَنَهُمْ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوْ يَظْفَرَ عَلَيْهِمْ قَالَهُ: الْمُبَرِّدُ. أَوْ يَغِيظَهُمْ قَالَهُ: النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ لَاحِقٍ فَهِيَ مِنْ إِبْدَالِ الدَّالِ بِالتَّاءِ كَمَا قَالُوا. هَوَتَ الثَّوْبَ وَهَرَدَهُ إِذَا حَرَقَهُ، وَسَبَتَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ إِذَا حَلَقَهُ، فَكَذَلِكَ كَبَتَ الْعَدُوَّ وَكَبَدَهُ أَيْ أَصَابَ كَبِدَهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَقْطَعَ يَتَعَلَّقُ قِيلَ: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمَدَّكُمْ أَوْ نصركم. وقال الحوفي: بتعلق بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ «2» أَيْ نَصَرَكُمْ لِيَقْطَعَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِيُمْدِدْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بجعله، وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ. وَلِتَطْمَئِنَّ، وَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ مِنْهُ، التَّقْدِيرُ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَلِيَقْطَعَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ وهو: العامل من في عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا كَائِنٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ. لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا قَطْعُ طَرَفٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِقَتْلٍ وَأَسْرٍ، وَإِمَّا بِخِزْيٍ وَانْقِلَابٍ بِخَيْبَةٍ. وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّصْرُ لَيْسَتْ لِلْعَهْدِ فِي نَصْرٍ مَخْصُوصٍ، بَلْ هِيَ لِلْعُمُومِ، أَيْ: لَا يَكُونُ نَصْرٌ أَيْ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ إِلَّا لأحد أمرين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 132] لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 25. (2) سورة آل عمران: 3/ 123.

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَمُلَخَّصِهِ: أَنَّهُ لَعَنَ نَاسًا أَوْ شَخْصًا عَيَّنَ أَنَّهُ عَتَبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَوْ أَشْخَاصًا دَعَا عَلَيْهِمْ وَعُيِّنُوا: أَبَا سُفْيَانٍ، والحرث بْنَ هُشَامٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ. أَوْ قَبَائِلَ عَيَّنَ مِنْهَا: لِحْيَانَ، وَرِعْلٌ، وَذَكْوَانَ، وعصية. أَوْ هُمْ بِسَبَبِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ، أَوِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَدْعُوَ. وَدَعَا يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ شُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ، وَرُمِيَ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى صُرِعَ لِجَنْبِهِ، فَلَحِقَهُ نَاسٌ مِنْ فُلَّاحِهِمْ، وَمَالَ إِلَى أَنْ يَسْتَأْصِلَهُمُ اللَّهُ وَيُرِيحَ مِنْهُمْ، فَنَزَلَتْ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: التَّوْقِيفُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا هِدَايَةُ هَؤُلَاءِ وَإِقْرَارُهُمْ عَلَى حَالَةٍ. وَفِي خِطَابِهِ: دَلِيلٌ عَلَى صُدُورِ أَمْرٍ مِنْهُ أَوْ هَمٍّ بِهِ، أَوِ اسْتِئْذَانٍ فِي الدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَنَّ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ بِيَدِ اللَّهِ. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْقُنُوتَ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعَصِيَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: لَيْسَ هَذَا شَرْطُ النَّاسِخِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَخْ قُرْآنًا. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَنْصُوبَةِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُمْ، أَوْ يَهْزِمَهُمْ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: أَنْ مُضْمَرَةٌ بَعْدَ أَوْ، بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَأُلْزِمَنَّكَ أَوْ تَقْضِينِي حَقِّيَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ فَيُسَرُّ بِهُدَاهُمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بِقَتْلٍ وَأَسْرٍ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِنَارٍ فِي الْآخِرَةِ، فَيَسْتَشْفِي بِذَلِكَ وَيَسْتَرِيحُ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ لِلتَّأْسِيسِ، لَا لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: أَوْ يَتُوبَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَمْرِ. وَقِيلَ: عَلَى شَيْءٍ. أَيْ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ، أَوْ مِنْ تَوْبَتِهِمْ، أَوْ تَعْذِيبِهِمْ شَيْءٌ. أَوْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شيء أو توبتهم، أَوْ تَعْذِيبِهِمْ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ التَّخَارِيجِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ أَمْرِ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هَمَّتَا أَنْ تَفْشَلَا. وَقَالَ ابْنُ بحر: من الأمر، مِنْ هَذَا النَّصْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ «1» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَمْرُ الْقِتَالِ. وَالظَّاهِرُ الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْأُمُورُ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أو يتوب عليهم أو يُعَذِّبُهُمْ بِرَفْعِهِمَا عَلَى مَعْنَى: أَوْ هُوَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، ثم نبه

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 17.

عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْذِيبِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، وَأَتَى بِإِنَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّأْكِيدِ فِي نِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهِمْ. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَمَّا قَدَّمَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَيَّنَ أَنَّ الْأُمُورَ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ لَهُ الْمُلْكُ، وَالْمِلْكُ فَجَاءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكِّدَةً لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَمَا: إِشَارَةٌ إِلَى جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَمَا هَيْأَتُهُ، فَلِذَلِكَ حَسُنَتْ مَا هُنَا. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لَمَّا تَقَدَّمَ قوله: أو يتوب عليهم أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُوَضِّحَةً أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ تَعَالَى عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ، وَنَاسَبَ الْبَدَاءَةَ بِالْغُفْرَانِ، وَالْإِرْدَافِ بِالْعَذَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أو يتوب عليهم أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، وَلَمْ يَشْرُطْ فِي الْغُفْرَانِ هُنَا التَّوْبَةَ. إِذْ يَغْفِرُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ تَائِبٍ وَغَيْرِ تَائِبٍ، مَا عَدَا مَا اسْتَثْنَاهُ تَعَالَى مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا نَصُّهُ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ إِلَّا لِلتَّائِبِينَ. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَشَاءُ أَنْ يُعَذِّبَ إِلَّا الْمُسْتَوْجِبِينَ لِلْعَذَابِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ لَقِيَهُ ظَالِمًا وَإِتْبَاعُهُ قَوْلُهُ: أو يتوب عليهم أو يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، تَفْسِيرٌ بَيِّنٌ لِمَنْ يَشَاءُ، فَإِنَّهُمُ الْمَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوِ الظَّالِمُونَ. وَلَكِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ يَتَصَامُّونَ وَيَتَعَامَوْنَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَخْبِطُونَ خَبْطَ عَشْوَاءٍ، وَيُطَيِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يَفْتَرُونَ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَهَبُ الذَّنْبَ الْكَبِيرَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنَبِ الصَّغِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى كَبِيرَةٍ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ الْحَسَنِ لَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى كَبِيرَةٍ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَرْجِيحٌ لِجِهَةِ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا اعْتَرَضَ أَثْنَاءَ قِصَّةِ أُحُدٍ، وَلَا أَحْفَظُ شَيْئًا فِي ذَلِكَ مَرْوِيًّا انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَمَجِيئُهَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ: أَنَّهُ لَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَاسْتَطْرَدَ لِذِكْرِ قِصَّةِ أُحُدٍ. وَكَانَ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ مُعَامَلَاتِهِمْ بِالرِّبَا مَعَ أَمْثَالِهِمْ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى مُخَالَطَةِ الْكُفَّارِ، نُهُوا عَنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي هِيَ الرِّبَا قَطْعًا لِمُخَالَطَةِ الْكُفَّارِ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَاتِّخَاذِ أَخِلَّاءٍ مِنْهُمْ، لَا سِيَّمَا وَالْمُؤْمِنُونَ فِي أَوَّلِ حَالِ الْإِسْلَامِ ذَوُو إِعْسَارٍ، وَالْكُفَّارُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ ذَوُو يَسَارٍ. وَكَانَ أَيْضًا أَكْلُ الْحَرَامِ لَهُ مَدْخَلٌ

عَظِيمٌ فِي عَدَمِ قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَدْعِيَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْتَجِيبُ لِمَنْ مَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ إِذَا دَعَا» ، «وَإِنَّ آكِلَ الْحَرَامِ يَقُولُ إِذَا حَجَّ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ» فَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا. وَقِيلَ: نَاسَبَ اعْتِرَاضَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُنَا أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالْإِمْدَادِ مَقْرُونًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، فَبَدَأَ بِالْأَهَمِّ مِنْهَا وَهُوَ: مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَأَمْرٍ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ بِالطَّاعَةِ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ «1» وَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكٌ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ. وَآكِلُ الرِّبَا مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَنَهَى عَمَّا كَانُوا فِي الْإِسْلَامِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرِّبَا فِي سُورَةِ البقرة. وانتصب أضعافا، فانهوا عَنِ الْحَالَةِ الشَّنْعَاءِ الَّتِي يُوقِعُونَ الرِّبَا عَلَيْهَا، كَانَ الطَّالِبُ يَقُولُ: أَتَقْضِي أَمْ تَرْبِي، وَرُبَّمَا اسْتَغْرَقَ بِالنَّزْرِ الْيَسِيرِ مَالَ الْمَدِينِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ وَفَاءً زَادَ فِي الدَّيْنِ، وَزَادَ فِي الْأَصْلِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: مُضَاعَفَةً، إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَرِّرُونَ التَّضْعِيفَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ. وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، فَهَذِهِ الْحَالُ لَا مَفْهُومَ لَهَا، وَلَيْسَتْ قَيْدًا فِي النَّهْيِ، إِذْ مَا لَا يَقَعُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً مُسَاوٍ فِي التَّحْرِيمِ لِمَا كَانَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نِسْبَةِ الْأَكْلِ إِلَى الرِّبَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقِيلَ: الْمُضَاعَفَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى الْأَمْوَالِ. فَإِنْ كَانَ الرِّبَا فِي السِّنِّ يَرْفَعُونَهَا ابْنَةَ مَخَاضٍ بِابْنَةِ لَبُونٍ، ثُمَّ حِقَّةً، ثُمَّ جَذَعَةً، ثُمَّ رَبَاعٌ، هَكَذَا إِلَى فَوْقُ. وَإِنْ كَانَ فِي النُّقُودِ فَمِائَةٌ إِلَى قَابِلٍ بِمِائَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُوَفِّهِمَا فَأَرْبَعُمِائَةٍ. وَالْأَضْعَافُ: جَمْعُ ضِعْفٍ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ. فَلِذَلِكَ أَرْدَفَهُ بِالْمُضَاعَفَةِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ أَمْرٍ صَعْبٍ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ وَهُوَ الرِّبَا، أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ إِذْ هِيَ الْحَامِلَةُ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا تَعَوَّدَهُ الْمَرْءُ مِمَّا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ التَّقْوَى سَبَبٌ لِرَجَاءِ الْفَلَّاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ، وَأَمَرَ بِهَا مُطْلَقًا لَا مُقَيَّدًا بِفِعْلِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الرِّبَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَسْرَعَ شَيْءٍ لِطَوَاعِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَأْتِ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَكْلِ الرِّبَا بَلْ أُمِرُوا بِالتَّقْوَى، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ خَاصٍّ مَنَعُوهُ مِنْ جهة الشريعة. وَاتَّقُوا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 129.

النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ لِمَا تَقَدَّمَ «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وَالذَّوَاتُ لَا تُتَّقَى، فَإِنَّمَا الْمُتَّقَى مَحْذُوفٌ أَوْضَحَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ: وَاتَّقَوُا النَّارَ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّارِ لِلْجِنْسِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ الَّتِي وَعَدَ بِهَا آكِلَ الرِّبَا أَخَفَّ مِنْ نَارِ الْكَافِرِ، أَيْ أَعَدَّ جِنْسَهَا لِلْكَافِرِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، فَيَكُونُ آكِلُ الرِّبَا قَدْ تُوُعِّدَ بِالنَّارِ الَّتِي يُعَذَّبُ بِهَا الْكَافِرُ. وَقِيلَ: تُوُعِّدُ أَكَلَةُ الرِّبَا بِنَارِ الْكَفَرَةِ، إِذِ النَّارُ سَبْعُ طَبَقَاتٍ: الْعُلْيَا مِنْهَا وَهِيَ جَهَنَّمُ لِلْعُصَاةِ، وَالْخَمْسُ لِلْكُفَّارِ، وَالدَّرْكُ الْأَسْفَلُ لِلْمُنَافِقِينَ. فَأَكَلَةُ الرِّبَا يُعَذَّبُونَ بِنَارِ الْكُفَّارِ، لَا بِنَارِ الْعُصَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَسْتَحِلُّوا الرِّبَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى وَاتَّقُوا أَنْ تُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَكْفُرُوا. وَقِيلَ: اتَّقُوا الْعَمَلَ الَّذِي يَنْزِعُ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ وَتَسْتَوْجِبُونَ بِهِ النَّارَ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: هِيَ أَخْوَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، حَيْثُ أَوْعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّارِ الْمُعَدَّةِ لِلْكَافِرِينَ إِنْ لَمْ يَتَّقُوهُ بِاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أَمَدَّ ذَلِكَ أَتْبَعَهُ مِنْ تَعْلِيقِ رَجَاءِ الْمُؤْمِنِ لِرَحْمَتِهِ بِتَوَفُّرِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا لَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْأَطْمَاعِ الْفَارِغَةِ، وَالتَّمَنِّي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى لعل وعسى فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنْ قَالَ النَّاسُ مَا قَالُوا مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ الْفَطِنِ مِنْ دِقَّةِ مَسْلَكِ التَّقْوَى، وَصُعُوبَةِ إِصَابَةِ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَزَّةِ التَّوَصُّلِ إِلَى رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ انْتَهَى. كَلَامُهُ وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَقْنِيطِ الْعَاصِي غَيْرِ التَّائِبِ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَوُلُوعِهِ بِمَذْهَبِهِ يَجْعَلُهُ يُحَمِّلُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، أَوْ مَا هُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قِيلَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِي الْفَرَائِضِ، وَالرَّسُولَ فِي السُّنَنِ. وَقِيلَ: فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَالرَّسُولَ فِيمَا بَلَّغَكُمْ مِنَ التَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ وَيَنْهَاكُمْ عَنْهُ. فَإِنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةُ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: ذِكْرُ الرَّسُولِ زِيَادَةٌ فِي التَّبْيِينِ وَالتَّأْكِيدِ وَالتَّعْرِيفِ بِأَنَّ طَاعَتَهُ طاعة الله. وقال ابن إِسْحَاقَ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ ابْتِدَاءُ الْمُعَاتَبَةِ فِي أَمْرِ أُحُدٍ، وَانْهِزَامِ مَنْ فَرَّ، وَزَوَالِ الرُّمَاةِ مِنْ مَرْكَزِهِمْ. وَقِيلَ: صِيغَتُهَا الْأَمْرُ وَمَعْنَاهَا الْعَتْبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا جَرَى مِنْهُمْ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا، وَالْمُخَالَفَةِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِعَبِيدِهِ، أَوْ ثَوَابُهُمْ على أعمالهم.

_ (1) سورة النساء: 4/ 80.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 إلى 141]

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ضُرُوبًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَدِيعِ. مِنْ ذَلِكَ الْعَامُّ الْمُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ: فِي مِنْ أَهْلِكَ، قَالَ الْجُمْهُورُ: أَرَادَ بِهِ بَيْتَ عَائِشَةَ. فَالِاخْتِصَاصُ فِي: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَفِي: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَفِي: ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَفِي: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ خَصَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ «1» نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «2» وَفِي الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «3» لِأَنَّ الْعِزَّ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّصْرِ، وَالتَّدْبِيرَ الْحَسَنَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْحِكْمَةِ. وَالتَّشْبِيهُ: فِي لِيَقْطَعَ طَرَفًا، شَبَّهَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَتَفَرَّقَ بِالشَّيْءِ الْمُقْتَطَعِ الَّذِي تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ وَانْخَرَمَ نِظَامُهُ، وَفِي: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ شَبَّهَ زَوَالَ الْخَوْفِ عَنِ الْقَلْبِ وَسُكُونَهُ عَنْ غَلَيَانِهِ بِاطْمِئْنَانِ الرَّجُلِ السَّاكِنِ الْحَرَكَةِ. وَفِي: فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ شَبَّهَ رُجُوعَهُمْ بِلَا ظَفَرٍ وَلَا غَنِيمَةٍ بِمَنْ أَمَلَ خَيْرًا مِنْ رَجُلٍ فَأَمَّهُ، فَأَخْفَقَ أَمَلَهُ وَقَصْدَهُ. وَالطِّبَاقُ: في نصركم وأنتم أَذِلَّةٌ، النَّصْرُ إِعْزَازٌ وَهُوَ ضِدُّ الذُّلِّ. وَفِي: يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ، الْغُفْرَانُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالتَّعْذِيبُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذَّنْبِ. وَالتَّجَوُّزُ بِإِطْلَاقِ التَّثْنِيَةِ عَلَى الْجَمْعِ فِي: أَنْ يَفْشَلَا. وَبِإِقَامَةِ اللَّامِ مَقَامَ إِلَى فِي: لَيْسَ لَكَ أَيْ إِلَيْكَ، أَوْ مَقَامَ عَلَى: أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ. وَالْحَذْفُ وَالِاعْتِرَاضُ فِي مَوَاضِعَ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي: لَا تَأْكُلُوا سَمَّى الْأَخْذَ أَكْلًا، لِأَنَّهُ يؤول إليه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 141] وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 135. [.....] (2) سورة الحجر: 15/ 49. (3) سورة آل عمران: 3/ 126.

الْكَظْمُ: الْإِمْسَاكُ عَلَى غَيْظٍ وغم. والكظيم: الممتلئ أسفار، وَهُوَ الْمَكْظُومُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: فَحَضَضْتُ قَوْمِيَ وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ ... وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ الْمَنَايَا كُظَّمُ وَكَظْمُ الْغَيْظِ رَدَّهُ فِي الْجَوْفِ إِذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ كَثْرَتِهِ، فضبطه ومنعه كظلم لَهُ. وَيُقَالُ: كَظَمَ الْقِرْبَةَ إِذَا شَدَّهَا وَهِيَ مَلْأَى. وَالْكِظَامُ: السَّيْرُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ فَمُهَا. وَكَظَمَ الْبَعِيرَ: جَرَّتَهُ رَدَّهَا فِي جَوْفِهِ، أَوْ حَبَسَهَا قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهَا إِلَى فِيهِ. وَيُقَالُ: كَظَمَ الْبَعِيرَ وَالنَّاقَةَ إِذَا لَمْ يَجْتَرَّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي: فَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ ... مِنْ ذِي الْأَبَاطِحِ أذرعين حَقِيلَا الْحَقِيلُ: مَوْضِعٌ، وَالْحَقِيلُ أَيْضًا نَبْتٌ. وَيُقَالُ: لَا تَمْنَعُ الْإِبِلُ جَرَّتَهَا إِلَّا عِنْدَ الْجَهْدِ وَالْفَزَعِ. فَلَا تَجْتَرُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ يَصِفُ نَحَّارَ الْإِبِلِ: قد تكظم البذل مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ ... حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أَجْوَافِهَا الْجُرُرُ الْإِصْرَارُ: اعْتِزَامُ الدَّوَامِ عَلَى الْأَمْرِ. وَتَرْكُ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ، مِنْ صَرَّ الدَّنَانِيرَ رَبَطَ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو السَّمَّالِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا مِنِّي صِرًى أَيْ عَزِيمَةٌ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ يَصِفُ الْخَيْلَ: عَوَابِسَ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إِذَا ابْتَغَوْا ... عَلَالَيْهَا بِالْمُحْضَرَاتِ أَصَرَّتِ أَيْ ثَبَتَتْ عَلَى عَدْوِهَا. وَقَالَ آخَرُ: يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تَخْفَى شَوَاكِلُهُ ... يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ الْقَلْبِ خَتَّارِ السُّنَّةُ: الطَّرِيقَةُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الْأُمَّةُ وَأَنْشَدَ:

مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فضل كفضلكم ... ولا رؤى مِثْلَهُ فِي سَالِفِ السُّنَنِ وَسُنَّةُ الْإِنْسَانِ الشَّيْءُ الَّذِي يَعْمَلُهُ وَيُوَالِيهِ، كَقَوْلِ خَالِدٍ الْهُذَلِيِّ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ: فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يُسِيرُهَا وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّ الْأُلَى بِأَلْطَفِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّأَسِّيَا وَقَالَ لَبِيدٌ: مِنْ أُمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا وَقَالَ الْخَلِيلُ: سَنَّ الشَّيْءَ صَوَّرَهُ. وَالْمَسْنُونُ الْمُصَوَّرُ، وَسَنَّ عَلَيْهِمْ شَرًّا صَبَّهُ، وَالْمَاءُ وَالدِّرْعُ صَبَّهُمَا. وَاشْتِقَاقُ السُّنَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَوْ مِنْ سَنَّ السِّنَانَ وَالنَّصْلَ حَدَّهُمَا عَلَى الْمِسَنِّ، أَوْ مِنْ سَنَّ الْإِبِلَ إِذَا أَحْسَنَ رَعْيَهَا. السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ: الذِّهَابُ. وَهَنَ الشَّيْءُ ضَعُفَ، وَوَهَنَهُ الشَّيْءُ أَضْعَفَهُ. يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَهْنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَالْوَهْنُ» وَالْوَهْنُ الضَّعْفُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِنًا خَلِقَا الْقَرْحُ وَالْقُرْحُ لُغَتَانِ، كَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ، وَالْكَرْهِ وَالْكُرْهِ: الْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ: وَهُوَ الْجُرْحُ. قَالَ حُنْدُجٌ: وَبُدِّلْتُ قَرْحًا دَامِيًا بَعْدَ صِحَّةٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أَبْؤُسًا وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُمَا مَصْدَرَانِ. وَمَنْ قَالَ: الْقَرْحُ بِالْفَتْحِ الجرح، وبالضم المد، فَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ عَنِ الْعَرَبِ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ الْخُلُوصُ، وَمِنْهُ: مَاءٌ قِرَاحٌ لَا كُدُورَةَ فِيهِ، وَأَرْضٌ قِرَاحٌ خَالِصَةُ الطِّينِ، وَقَرِيحَةُ الرَّجُلِ خَالِصَةُ طَبْعِهِ. الْمُدَاوَلَةُ: الْمُعَاوَدَةُ، وَهِيَ الْمُعَاهَدَةُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. يُقَالُ: دَاوَلْتُ بَيْنَهُمُ الشَّيْءَ فَتَدَاوَلُوهُ. قَالَ: يَرِدُ الْمِيَاهَ فلا يزال مداويا ... فِي النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّلٍ وَسَمَاعِ وَأَدَلْتُهُ جَعَلْتُ لَهُ دَوْلَةً وَتَصْرِيفًا، وَالدُّولَةُ بِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ، وَبِالْفَتْحِ الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ،

فَلِذَلِكَ يُقَالُ: فِي دَوْلَةِ فُلَانٍ، لِأَنَّهَا مَرَّةً فِي الدَّهْرِ. وَالدُّورُ وَالدَّوْلُ مُتَقَارِبَانِ، لَكِنَّ الدَّوْرَ أَعَمُّ. فَإِنَّ الدَّوْلَةَ لَا تُقَالُ إِلَّا فِي الْحَظِّ الدُّنْيَوِيِّ. الْمَحْصُ كَالْفَحْصِ، لَكِنَّ الْفَحْصَ يُقَالُ فِي إِبْرَازِ الشَّيْءِ عَنْ خِلَالِ أَشْيَاءَ مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ. وَالْمَحْصُ عَنْ إِبْرَازِهِ عَنْ أَشْيَاءَ مُتَّصِلَةٍ بِهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: التَّمْحِيصُ التَّخْلِيصُ عَنِ الْعُيُوبِ، وَيُقَالُ: مَحَّصَ الْحَبْلَ إِذَا زَالَ عَنْهُ بِكَثْرَةِ مره على اليد زبيره وَأَمْلَسَ، هَكَذَا سَاقَ الزَّجَّاجُ اللَّفْظَةَ الْحَبْلَ. وَرَوَاهَا النَّقَّاشُ: مَحَّصَ الْجَمَلَ إِذَا زَالَ عَنْهُ وَبَرَهُ وَأَمْلَسَ. وَقَالَ حَنِيفُ الْحَنَاتِمِ: وَقَدْ وَرَدَ مَاءً اسْمُهُ طُوَيْلِعٌ، إِنَّكَ لَمَحْصُ الرِّشَاءِ، بَعِيدُ الْمُسْتَقَى، مُطِلٌّ عَلَى الْأَعْدَاءِ. الْمَعْنَى: أَنَّهُ لِبُعْدِهِ يَمْلَسُ حَبْلُهُ بِمَرِّ الْأَيْدِي. وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ: سَارِعُوا بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ عَلَى الْعَطْفِ. لَمَّا أُمِرُوا بِتَقْوَى النَّارِ أُمِرُوا بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ. وَأَمَالَ الدُّورِيُّ فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ: وَسَارِعُوا لِكَسْرَةِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: وَسَابِقُوا وَالْمُسَارَعَةُ: مُفَاعَلَةٌ. إِذِ النَّاسُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَيَصِلُ قَبْلَ غَيْرِهِ فَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ مُفَاعَلَةٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: سْتَبِقُوا الْخَيْراتِ «1» وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ، قَالَهُ عُثْمَانُ. أَوْ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ قَالَهُ عَلِيٌّ. أَوِ الْإِسْلَامُ قَالَهُ: ابْنُ عباس. أو التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ قَالَهُ: أَنَسٌ وَمَكْحُولٌ. أَوِ الطَّاعَةُ قَالَهُ: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. أَوِ التَّوْبَةُ قَالَهُ: عِكْرِمَةُ. أَوِ الْهِجْرَةُ قَالَهُ: أَبُو الْعَالِيَةِ. أَوِ الْجِهَادُ قَالَهُ: الضَّحَّاكُ. أَوِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ قَالَهُ: يَمَانٌ. أَوِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَالْحَصْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ الْإِقْبَالُ عَلَى مَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ انْتَهَى. وَفِي ذِكْرِ الِاسْتِحْقَاقِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَتَقَدَّمِ ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا السَّبَبُ الْمُوصِلُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ مِنَ السموات أي: عرض السموات بَعْدَ حَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ أَيْ: كَعَرْضِ. وَبَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ اخْتَلَفُوا، هَلْ هُوَ تَشْبِيهٌ حَقِيقِيٌّ؟ أَوْ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ السِّعَةِ الْعَظِيمَةِ؟ لَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالِانْفِسَاحِ فِي الْغَايَةِ القصوى، إذ السموات وَالْأَرْضُ أَوْسَعُ مَا عَلِمَهُ النَّاسُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَبْسَطِهِ، وَخَصَّ الْعَرْضَ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ أَدْنَى مِنَ الطُّولِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُرَادُ عَرْضٌ وَلَا طُولٌ حَقِيقَةً قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: بِلَادٌ عَرِيضَةٌ، أَيْ واسعة. وقال الشاعر:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 148.

كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَالْجُمْهُورُ تقرن السموات وَالْأَرْضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا تُبْسَطُ الثِّيَابُ، فَذَلِكَ عَرْضُ الْجَنَّةِ، وَلَا يَعْلَمُ طُولَهَا إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى وَلَا يُنْكَرُ هَذَا. فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَسِعَتِهَا مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ. وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ فِي كِتَابِهِ. وَالْجَنَّةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْبَرُ مِنَ السموات، وَهِيَ مُمْتَدَّةٌ فِي الطُّولِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ. وَخَصَّ الْعَرْضَ بِالذِّكْرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الطُّولِ، وَالطُّولُ إِذَا ذُكِرَ لَا يَدُلُّ عَلَى سِعَةِ الْعَرْضِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْعَرْضُ يَسِيرًا كَعَرْضِ الْخَيْطِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ كَعَرْضِ السموات وَالْأَرْضِ طِبَاقًا، لَا بِأَنْ تقرب كَبَسْطِ الثِّيَابِ. فَالْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ وَعَرْضُهَا كَعَرْضِهَا، وَعَرَضُ مَا وَازَاهَا مِنَ الْأَرَضِينَ إِلَى السَّابِعَةِ، وَهَذِهِ دَلَالَةٌ على العظيم. وَأَغْنَى ذِكْرُ الْعَرْضِ عَنْ ذِكْرِ الطُّولِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ، وَيُزَادُ فِيهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْجَنَّةِ أَخُلِقَتْ؟ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَنَصُّ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ النَّبَوِيَّةِ أَمْ لَمْ تَخْلُقْ بَعْدُ؟ وَهُوَ قَوْلُ: الْمُعْتَزِلَةِ، وَوَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ بِلَادِنَا الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ فُورَكٍ إِنَّهُ يُزَادُ فِيهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْجِنَانُ أَرْبَعٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ، وَجَنَّةُ الْمَأْوَى، وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ، وَجَنَّةُ النَّعِيمِ. كُلُّ جَنَّةٍ مِنْهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مَا عَلِمَ طُولَهَا إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُوَ مِنْ عَرْضِ الْمَتَاعِ عَلَى الْبَيْعِ، لَا الْعَرْضُ الْمُقَابِلُ لِلطُّولِ. أَيْ لَوْ عُورِضَتْ بِهَا لساوها نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، وَجَاءَ إِعْدَادُهَا لِلْمُتَّقِينَ فَخُصُّوا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَإِعْلَامًا بِأَنَّهُمُ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ، وَغَيْرُهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ فِي إِعْدَادِهَا. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُتَّقِينَ مُتَّقُو الشِّرْكِ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ مُسْلِمٍ طَائِعٍ أَوْ عَاصٍ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: السَّرَّاءُ الْيُسْرُ، وَالضَّرَّاءُ الْعُسْرُ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: الرَّخَاءُ وَالشِّدَّةُ. وَقِيلَ: فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ يُوصِيَ. وَقِيلَ: فِي الْفَرَحِ وَفِي التَّرَحِ. وَقِيلَ: فِيمَا يَسُرُّ كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَالْقَرَابَةِ، وَفِيمَا يَضُرُّ كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: فِي ضِيَافَةِ الْغَنِيِّ وَالْإِهْدَاءِ إِلَيْهِ، وَفِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِ الضُّرِّ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَيُحْتَمَلُ التَّقْيِيدُ بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِمَا جَمِيعَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لَا يَخْلُو الْمُنْفِقُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِحْدَاهُمَا. وَالْمَعْنَى: لَا يَمْنَعُهُمْ حَالُ سُرُورٍ وَلَا حَالُ ابْتِلَاءٍ عَنْ بَذْلِ

الْمَعْرُوفِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِحَبَّةِ عِنَبٍ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ بِبَصَلَةٍ. وابتدئ بصفة التقوى الشاملة لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ جِيءَ بَعْدَهَا بِصِفَةِ الْبَذْلِ، إِذْ كَانَتْ أَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ وَأَدَلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ. وَأَعْظَمِ الْأَعْمَالِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ، وَمُوَاسَاةِ الفقراء. ويجوز في الدين الْإِتْبَاعُ وَالْقَطْعُ لِلرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أَيِ الْمُمْسِكِينَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ بِالصَّبْرِ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ، وَالْغَيْظُ: أَصْلُ الْغَضَبِ، وَكَثِيرًا مَا يَتَلَازَمَانِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ هُنَا بِالْغَضَبِ. وَالْغَيْظُ فِعْلٌ نَفْسَانِيٌّ لَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالْغَضَبُ فِعْلٌ لَهَا مَعَهُ ظُهُورٌ فِي الْجَوَارِحِ، وَفِعْلٌ مَا وَلَا بُدَّ، وَلِذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُسْنَدُ الْغَيْظُ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلَأَهُ اللَّهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ يَتَجَرَّعُهَا الْعَبْدُ خَيْرٌ لَهُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ فِي اللَّهِ» وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ خَادِمًا لَهَا غَاظَهَا فَقَالَتْ: لِلَّهِ دَرُّ التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لِذِي غَيْظٍ شِفَاءً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «إِنَّ هَذِهِ فِي أُمَّتِي لَقَلِيلٌ وَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ» . وَأَنْشَدَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ: وَإِذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُورًا كَاظِمًا ... لِلْغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُولُ وَتَسْمَعُ فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَصَبُّرُ سَاعَةً ... يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الْإِلَهُ وَيَدْفَعُ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أَيِ الْجُنَاةِ وَالْمُسِيئِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: الْمَمَالِيكُ. وَهَذَا مِثَالٌ، إِذِ الْأَرِقَّاءُ تَكْثُرُ ذُنُوبُهُمْ لِجَهْلِهِمْ وَمُلَازَمَتِهِمْ، وَإِنْفَاذُ الْعُقُوبَةِ عليهم سبيل لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ عَنِ الْأَرِقَّاءِ، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ إِذَا جَهِلُوا عَلَيْهِمْ. وَوَرَدَتْ أَخْبَارٌ نَبَوِيَّةٌ فِي الْعَفْوِ مِنْهَا: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ: مَنْ ذَا الَّذِي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا» . وَرَوَاهُ أَبُو سُفْيَانَ لِلرَّشِيدِ وَقَدْ غَضِبَ عَلَى رَجُلٍ فَخَلَّاهُ. وَيَجُوزُ فِي الْكَاظِمِينَ وَالْعَافِينَ الْقَطْعُ إِلَى النَّصْبِ وَالْإِتْبَاعُ، بِشَرْطِ إِتْبَاعْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْسِنٍ. أَوْ لِلْعَهْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، فَيَعُمُّ هَؤُلَاءِ وَغَيْرَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَنْدُوبِ إليهم. أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

«مَا الْإِيمَانُ» فَبَيَّنَ لَهُ الْعَقَائِدَ «مَا الْإِسْلَامُ» ؟ فَبَيَّنَ لَهُ الْفَرَائِضَ. «مَا الْإِحْسَانُ؟» قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُوقِعُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، مُرَاقِبِينَ اللَّهَ كَأَنَّهُمْ مُشَاهِدُوهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْإِحْسَانُ أَنْ تَعُمَّ وَلَا تَخُصَّ، كَالرِّيحِ وَالْمَطَرِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى الْمُسِيءِ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ مُنَاجَزَةٌ كَنَقْدِ السُّوقِ، خُذْ مِنِّي وَهَاتِ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِسَبَبِ مَنْهَالِ التَّمَّارِ، وَيُكَنَّى: أَبَا مُقْبِلٍ، أَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَشْتَرِي مِنْهُ تَمْرًا فَضَمَّهَا وَقَبَّلَهَا ثُمَّ نَدِمَ. وَقِيلَ: ضَرَبَ عَلَى عَجُزِهَا. وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ مُشْعِرٌ بِالْمُغَايَرَةِ. لَمَّا ذَكَرَ الصِّنْفَ الْأَعْلَى وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ، ذَكَرَ مَنْ دُونِهِمْ مِمَّنْ قَارَفَ الْمَعَاصِيَ وَتَابَ وَأَقْلَعَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَاتِ وَاتِّحَادِ الْمَوْصُوفِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَإِنَّهُ مِنْ نَعْتِ الْمُتَّقِينَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا، وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا دُونَهُ مِنَ النَّظَرِ وَاللَّمْسَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا، وَظُلْمُ النَّفْسِ سَائِرُ الْمَعَاصِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْفَاحِشَةُ الْقَبَائِحُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ الْمَعَاصِي وَظُلْمُ النَّفْسِ الْعَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَقَالَ الْبَاقِرُ: الْفَاحِشَةُ النَّظَرُ إِلَى الْأَفْعَالِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ رُؤْيَةُ النَّجَاةِ بِالْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الصَّغِيرَةُ. وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ مَا تُظُوهِرَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: مَا أُخْفِيَ مِنْهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْفَاحِشَةُ مَا دُونَ الزِّنَا مِنْ قُبْلَةٍ أَوْ لَمْسَةٍ أَوْ نَظْرَةٍ فِيمَا لَا يَحِلُّ، وَظُلْمُ النَّفْسِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الذَّنْبُ الَّذِي فِيهِ تَبِعَةٌ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَهَذِهِ تَخْصِيصَاتٌ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْفَاحِشَةِ فِي الزِّنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ حِينَ سَمِعَ الْآيَةَ: زَنَوْا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَمَعْنَى ذَكَرُوا اللَّهَ ذَكَرُوا وَعِيدَهُ قَالَهُ: ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْعَرْضُ عَلَى اللَّهِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. أَوِ السُّؤَالُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالْوَاقِدِيُّ. وَقِيلَ: نَهْيُ اللَّهِ. وَقِيلَ: غُفْرَانُهُ. وَقِيلَ: تَعَرَّضُوا لِذِكْرِهِ بِالْقُلُوبِ لِيَبْعَثَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ. وَقِيلَ: عَظِيمُ عَفْوِهِ فَطَمِعُوا فِي مَغْفِرَتِهِ. وَقِيلَ: إِحْسَانُهُ فَاسْتَحْيَوْا مِنْ إِسَاءَتِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: هُوَ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ. ذَكَرُوا اللَّهَ بِقُلُوبِهِمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا

ذُنُوبَنَا، قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءٌ فِي آخَرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ اسْتِغْفَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلَا بُدَّ مَعَ ذِكْرِ اللِّسَانِ مِنْ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ، وَإِلَّا فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ. وَمَنِ اسْتَغْفَرَ وَهُوَ مصرّفا فَاسْتِغْفَارُهُ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ. وَالِاسْتِغْفَارُ سُؤَالُ اللَّهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ الْغُفْرَانَ. وَقِيلَ: نَدِمُوا وَإِنْ لَمْ يَسْأَلُوا. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَمَفْعُولُ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ وَتَعْدِيَتِهِ. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ جملة اعتراض الْمُتَعَاطِفِينَ، أَوْ بَيْنَ ذِي الْحَالِ وَالْحَالِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِعْرَابًا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ «1» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ فِيهَا تَرْفِيقٌ لِلنَّفْسِ، وَدَاعِيَةٌ إِلَى رَجَاءِ اللَّهِ وَسِعَةِ عَفْوِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ بِغُفْرَانِ الذَّنْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصْفُ ذَاتِهِ بِسِعَةِ الرَّحْمَةِ وَقُرْبِ الْمَغْفِرَةِ، وَأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ عِنْدَهُ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا مَفْزَعَ لِلْمُذْنِبِينَ إِلَّا فَضْلُهُ وَكَرَمُهُ، وَأَنَّ عَدْلَهُ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ فِي الِاعْتِذَارِ وَالتَّنَصُّلِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَجَبَ الْعَفْوُ وَالتَّجَاوُزُ. وَفِيهِ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِ الْعِبَادِ، وَتَنْشِيطٌ لِلتَّوْبَةِ وَبَعْثٌ عَلَيْهَا، وَرَدْعٌ عَنِ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ. وَأَنَّ الذُّنُوبَ وَإِنْ جَلَّتْ فَإِنَّ عَفْوَهُ أَجَلُّ، وَكَرَمَهُ أَعْظَمُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَحْدَهُ مَعَهُ مُصَحِّحَاتُ الْمَغْفِرَةِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَلْفَاظِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ عَدْلَهُ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَجَبَ الْعَفْوُ وَالتَّجَاوُزُ، وَلَوْ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَهُ الِاعْتِزَالُ لَتَأَوَّلْنَا كَلَامَهُ بِأَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ هُوَ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَقَطْ. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى فَاسْتَغْفَرُوا، فَهِيَ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْجَزَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الشَّرْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَيَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي فَاسْتَغْفَرُوا فَهِيَ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْجَزَاءِ، أَيْ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ غَيْرَ مُصِرِّينَ. وَمَا مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. قَالَ قَتَادَةُ: الْإِصْرَارُ الْمُضِيُّ فِي الذَّنْبِ قُدُمًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ إِتْيَانُ الذَّنْبِ حَتَّى يَتُوبَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يُصِرُّوا لَمْ يَمْضُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ تَرْكُ الِاسْتِغْفَارِ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 130.

مَعَ الذَّنْبِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَالٌ مِنْ فِعْلِ الْإِصْرَارِ، وَحَرْفُ النَّفْيِ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَالْمَعْنَى: وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ وَهُمْ عَالِمُونَ بِقُبْحِهَا وَبِالنَّهْيِ عَنْهَا وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ قُبْحَ الْقَبِيحِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ قَاطِعٌ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: مُتَّقُونَ، وَتَائِبُونَ، وَمُصِرُّونَ. وَأَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالتَّائِبِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْمُصِرِّينَ، وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَابَرَ عَقْلَهُ وَعَانَدَ رَبَّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَآخِرُهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ مِنْ: أَنَّ مَنْ مَاتَ مُصِرًّا دَخَلَ النَّارِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَاسْتَغْفَرُوا، فَإِنْ أَعْرَبْنَا وَلَمْ يُصِرُّوا جُمْلَةً حَالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَاسْتَغْفَرُوا، جَازَ أَنْ يَكُونَ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالًا مِنْهُ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ وَلَمْ يُصِرُّوا مَعْطُوفًا عَلَى فَاسْتَغْفَرُوا كَانَ مَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ بَعِيدًا لِلْفَصْلِ بَيْنَ ذِي الْحَالِ وَالْحَالِ بِالْجُمْلَةِ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ فَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَا، أَوْ عَفْوَ اللَّهِ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى مِنَ التَّمَادِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو عِمَارَةَ: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذْنَبُوا. وَقِيلَ: يَذْكُرُونَ ذُنُوبَهُمْ فَيَتُوبُونَ مِنْهَا، أَطْلَقَ اسْمَ الْعِلْمَ عَلَى الذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يَعْلَمُونَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: يَعْلَمُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: يَعْلَمُونَ بِالذَّنْبِ. وَقِيلَ: يَعْلَمُونَ الْعَفْوَ عَنِ الذُّنُوبِ وَإِنْ كَثُرَتْ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّنْفَيْنِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالصِّنْفِ الثَّانِي، وَيَكُونَ: وَالَّذِينَ إذا فعلوا مبتدأ، وأولئك وما بعده خبره، وجزاؤهم مغفرة مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ أُولَئِكَ. وَثَمَّ مَحْذُوفٌ أَيْ: جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ لِذُنُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْخَبَرِ الصَّادِقِ قَبُولَ تَوْبَةِ التَّائِبِ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ لَا مُعَقِّبَ لِأَمْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ جَزَاؤُهُمْ، لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءٌ وَاجِبٌ عَلَى عَمَلٍ، وَأَجْرٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، لَا كَمَا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أَقَلَّ حَيَاءً مَنْ يَطْمَعُ فِي

جَنَّتِي بِغَيْرِ عَمَلٍ، كَيْفَ أَجُودُ بِرَحْمَتِي عَلَى مَنْ يَبْخَلُ بِطَاعَتِي؟ وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَانْتِظَارُ الشَّفَاعَةِ بِلَا سَبَبٍ نَوْعٌ مِنَ الْغُرُورِ، وَارْتِجَاءُ الرَّحْمَةِ مِمَّنْ لَا يُطَاعُ حُمْقٌ وَجَهَالَةٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جُوزُوا الصِّرَاطَ بِعَفْوِي، وَادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَاقْتَسِمُوهَا بِأَعْمَالِكُمْ. وَعَنْ رَابِعَةَ الْبَصْرِيَّةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُنْشِدُ: تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي كَانَتْ رَابِعَةُ تُنْشِدُهُ هُوَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الاعتزال مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ دُونَ عَمَلٍ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ذَلِكَ، أَيِ الْمَغْفِرَةُ وَالْجَنَّةُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْكُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ أُحُدٍ فَإِنَّ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنْ أُدِيلَ الْكُفَّارُ فَالْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكُمْ كُفَّارُكُمْ هَؤُلَاءِ عَاقِبَتُهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ وَلا تَهِنُوا «1» وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْجُمَلَ الْمُعْتَرِضَةَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ عَادَ إِلَى كَمَالِهَا، فَخَاطَبَهُمْ بِأَنَّهُ إِنْ وَقَعَتْ إِدَالَةُ الْكُفَّارِ فَالْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى: قَدْ تَقَدَّمَتْ وَمَضَتْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَهْلُ سُنَنٍ أَيْ طَرَائِقَ أَوْ أُمَمٍ، عَلَى شَرْحِ الْمُفَضَّلِ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُمَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سُنَّةٌ أَقْضِيَةٌ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمْثَالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَائِعُ وَطَلَبُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ أَحْوَالُ مَنْ تَقَدَّمَ تُدْرَكُ بِالْأَخْبَارِ دُونَ السِّيَرِ. لِأَنَّ الْأَخْبَارَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ سَارَ وَعَايَنَ، وَعَنْهُ يُنْقَلُ: فَطَلَبَ مِنْهُ الْوَجْهَ الْأَكْمَلَ إِذْ لِلْمُشَاهَدَةِ أَثَرٌ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ السَّمَاعِ. وَقِيلَ: السَّيْرُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ التَّفَكُّرِ، وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: النَّظَرُ هُنَا مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ بِالْفِكْرِ. وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ المفعول لا نظروا لأنها معلقة وَكَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ كَانَ. وَالْمَعْنَى: مَا سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ وَقَائِعِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «2» وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ «3» .

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 139. (2) سورة العنكبوت: 29/ 40. (3) سورة الأحزاب: 33/ 61- 62.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ فِي فِجَاجِ الْأَرْضِ لِلِاعْتِبَارِ، وَنَظَرِ مَا حَوَتْ مِنْ عَجَائِبِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَارَةِ الصَّالِحِينَ وَزِيَارَةِ الْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ سُيَّاحُ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَجَوَازُ النَّظَرِ فِي كُتُبِ الْمُؤَرِّخِينَ لِأَنَّهَا سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ سِيَرِ الْعَالَمِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَثُلَاثِ. هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالرَّبِيعُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالطَّبَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ. أَيْ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلنَّاسِ إِنْ قَبِلُوهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ. هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَمَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، إِيضَاحٌ لِسُوءِ عَاقِبَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ. يَعْنِي: حَثَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي سُوءِ عَوَاقِبِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، وَالِاعْتِبَارَ بِمَا يُعَايِنُونَ مِنْ آثَارِ هَلَاكِهِمْ. وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يَعْنِي: أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ بَيَانًا وَتَنْبِيهًا لِلْمُكَذِّبِينَ فَهُوَ زِيَادَةٌ وَتَثْبِيتٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَتْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِلْبَعْثِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِينَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: هَذَا بَيَانٌ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَخَّصَ وَبَيَّنَ مِنْ أَمْرِ الْمُتَّقِينَ وَالتَّائِبِينَ وَالْمُصِرِّينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرًا وَاضِحًا قَالَ: بَيَانٌ لِلنَّاسِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَوْعِظَةُ وَالْهُدَى لَا يَكُونَانِ إِلَّا لِمَنِ اتَّقَى خَصَّ بِذَلِكَ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ مَنْ عَمَى فِكْرُهُ وَقَسَا فُؤَادُهُ لَا يَهْتَدِي وَلَا يَتَّعِظُ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ الْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. لَمَّا انْهَزَمَ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْبَلَ خَالِدٌ يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ الْجَبَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ» فَنَزَلَتْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَزَادَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَّ رُمَاةَ الْمُسْلِمِينَ صَعِدُوا الجبل ورموا بحبل الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمُوهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ بَعْدَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا ظَفِرُوا فِي كُلِّ عَسْكَرٍ كَانَ فِي عَهْدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي كُلِّ عَسْكَرٍ كَانَ بَعْدُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ بَعْدَ أُحُدٍ حِينَ أُمِرُوا بِطَلَبِ الْقَوْمِ مَعَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ. وَقَالَ: لَا يَخْرُجُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ مَعَنَا أَمْسِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ. نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَضْعُفُوا عَنْ جِهَادِ أَعْدَائِهِمْ، وَعَنِ الْحُزْنِ عَلَى مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى كَرَامَةِ اللَّهِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ لِأَجْلِ هَزِيمَتِهِمْ وَقَتْلِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَهُ: مقاتل. أو لما أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَجِّهِ وَكَسْرِ رُبَاعِيَّتِهِ ذَكَرَهُ: الْمَاوَرْدِيُّ. أو لما فَاتَ مِنَ الْغَنِيمَةِ ذَكَرُهُ: أَحْمَدُ النَّيْسَابُورِيُّ. أَوْ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ.

وَآنَسَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، أَيِ الْغَالِبُونَ وَأَصْحَابُ الْعَاقِبَةِ. وَهُوَ إِخْبَارٌ بِعُلُوِّ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الظاهر. وقيل: أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، أَيْ قَدْ أَصَبْتُمْ بِبَدْرٍ ضِعْفَ مَا أَصَابُوا منكم بأحد أَسْرًا وَقَتْلًا فَيَكُونُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، أي لا تَحْزَنُوا عَالِينَ أَيْ مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوِّكُمْ انْتَهَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ عُلُوِّهِمُ الْجَبَلَ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ كَرَمِ الْخُلُقِ أَنْ لَا يَهُنِ الْإِنْسَانُ فِي حَرْبِهِ وَخِصَامِهِ، وَلَا يَلِينُ إِذَا كَانَ مُحِقًّا، وَأَنْ يَتَقَصَّى جَمِيعَ قُدْرَتِهِ، وَلَا يَضْرَعَ وَلَوْ مَاتَ. وَإِنَّمَا يُحْسِنُ اللِّينَ فِي السِّلْمِ وَالرِّضَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ وَالْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُوُنَ» وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: يَجِبُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا يُوَادِعَ الْعَدُوَّ مَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ، فَإِنْ كَانُوا فِي قُطْرٍ مَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْظُرُ الْإِمَامُ لَهُمْ فِي الْأَصْلَحِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ دَلَالَةٌ عَلَى فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِذْ خَاطَبَهُمْ مِثْلَ مَا خَاطَبَ مُوسَى كَلِيمَهُ صلّى الله وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ، إِذْ قَالَ لَهُ: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى. وَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالنَّهْيِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ هَزًّا لِلنُّفُوسِ يُوجِبُ قُوَّةَ الْقَلْبِ وَالثِّقَةَ بِصُنْعِ اللَّهِ، وَقِلَّةَ الْمُبَالَاةِ بِالْأَعْدَاءِ. أَوْ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ: أَيْ إِنْ صَدَّقْتُمْ بِمَا وَعَدَكُمْ وَبَشَّرَكُمْ بِهِ مِنَ الْغَلَبَةِ. وَيَكُونُ شَرْطًا عَلَى بَابِهِ يَحْصُلُ بِهِ الطَّعْنُ عَلَى مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَيْ: لَا تَكُونُ الْغَلَبَةُ وَالْعُلُوُّ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَاسْتَمْسِكُوا بِالْإِيمَانِ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ الْمَعْنَى: إِنْ نَالُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ نِلْتُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ لَمْ يَضْعُفُوا إِنْ قَاتَلُوكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا تَضْعُفُوا أَنْتُمْ. أَوْ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ قَبْلَ مُخَالَفَةِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ. وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَالتَّأَسِّي فِيهِ أَعْظَمُ مَسْلَاةٍ. وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ: وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي وَالْمِثْلِيَّةُ تَصْدُقُ بِأَدْنَى مُشَابَهَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُتِلَ يَوْمَئِذَ أَيْ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ

فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ هُنَا الْأُمَمُ الَّتِي قَدْ خَلَتْ، أَيْ نَالَ مُؤْمِنُهُمْ مِنْ أَذَى كَافِرِهِمْ مِثْلَ الَّذِي نَالَكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ. ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَكُمْ بِهِمْ أُسْوَةٌ. فَإِنَّ تَأَسِّيَكُمُ بِهِمْ مِمَّا يُخَفِّفُ أَلَمَكُمْ، وَيُثَبِّتُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَقْدَامَكُمْ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ مِنْ طَرِيقَه قُرْحٌ بِضَمِّ الْقَافِ فِيهِمَا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ، وَالسَّبْعَةُ عَلَى تَسْكِينِ الرَّاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْفَتْحُ أَوْلَى انْتَهَى. وَلَا أَوْلَوِيَّةَ إِذْ كِلَاهُمَا مُتَوَاتِرٌ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَابْنُ السميفع قَرْحٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ: كَالطَّرْدِ وَالطَّرَدِ، وَالشَّلِّ وَالشَّلَلِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ قُرُوحٌ بِالْجَمْعِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَأَسَّوْا فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ مَعْنًى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ فَقَدْ مَسَّ، فَهُوَ ذَاهِلٌ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أَخْبَرَ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ أَنَّ الْأَيَّامَ عَلَى قَدِيمِ الدهر لا تبقي الناس عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ أَوْقَاتُ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ، يَصْرِفُهَا اللَّهُ عَلَى مَا أَرَادَ تَارَةً لِهَؤُلَاءِ وَتَارَةً لِهَؤُلَاءِ، كَمَا جَاءَ: الْحَرْبُ سِجَالٌ. وَقَالَ: فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ وَسَمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ الْأَقْحَاحِ قَارِئًا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الْعَرَبِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّا الله، ذَهَبَ مُلْكُ الْعَرَبِ وَرَبِّ الكعبة. وقرىء شاذا: يدا، ولها بِالْيَاءِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْغَيْبَةِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَقِرَاءَةُ النُّونِ فِيهَا الْتِفَاتٌ، وَإِخْبَارٌ بِنُونِ الْعَظَمَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِمُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ، وَالْأَيَّامُ: صِفَةٌ لِتِلْكَ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَالْخَبَرُ نُدَاوِلُهَا، أَوْ خبر لتلك، ونداولها جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا هَذِهِ لَامُ كَيْ قَبْلَهَا حَرْفُ الْعَطْفِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ مُتَأَخِّرٍ أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ وَهُوَ الْمُدَاوَلَةُ، أَوْ نَيْلُ الْكُفَّارِ مِنْكُمْ. أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبَبٍ مَحْذُوفٍ هُوَ وَعَامِلُهُ أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَلِيَعْلَمَ. هَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ فَاعِلَ الْعِلَّةِ الْمَحْذُوفَةِ إِنَّمَا كَنَّى عَنْهُ بِكَيْتَ وَكَيْتَ، وَلَا يُكَنَّى عَنِ الشَّيْءِ حَتَّى يُعْرَفَ. فَفِي هَذَا الْوَجْهِ حَذْفُ الْعِلَّةِ، وَحَذْفُ عَامِلِهَا، وَإِبْهَامُ فَاعِلِهَا. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ حَذْفِ العامل. ويعلم هُنَا ظَاهِرُهُ التَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ كَعَرَفَ. وَقِيلَ: يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مُمَيَّزِينَ بِالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ. أَيِ الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ:

أَنْ يَصِيرَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ عَنْ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَجَدَّدُ، بَلْ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ بِمَعْنَى فَعَلْنَا ذَلِكَ فِعْلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مِنَ الثَّابِتِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْكُمْ مِنْ غَيْرِ الثَّابِتِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَظْهَرَ فِي الْوُجُودِ إِيمَانُ الَّذِينَ قَدْ عُلِمَ أَزَلًا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، وَيُسَاوِقَ عِلْمُهُ إِيمَانَهُمْ وَوُجُودَهُمْ، وَإِلَّا فُقِدَ عِلْمُهُمْ فِي الْأَزَلِ. إِذْ عِلْمُهُ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ. وَمِثْلُهُ أَنْ يَضْرِبَ حَاكِمٌ رَجُلًا ثُمَّ يُبَيِّنَ سَبَبَ الضَّرْبِ وَيَقُولَ: فَعَلْتُ هَذَا التَّبْيِينَ لِأَضْرِبَ مُسْتَحِقًّا مَعْنَاهُ: لِيَظْهَرَ أَنَّ فِعْلِي وَافَقَ اسْتِحْقَاقَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلِيَعْلَمَهُمْ عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَهُمْ مَوْجُودًا مِنْهُمُ الثَّبَاتُ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ بَاقٍ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ: وَلِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ تفخيما. ويتخذ منهم شُهَدَاءَ أَيْ بِالْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ، فَيُكْرِمُهُمْ بِالشَّهَادَةِ. يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الشَّهِيدِ غَيْرُ مَا آيَةٍ وَحَدِيثٍ. أَوْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ وَلِيَتَّخِذَ مِنْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا يَبْتَلِي بِهِ صَبْرَكُمْ عَلَى الشَّدَائِدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «1» . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَلْيَقُ بِقِصَّةِ أُحُدٍ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أَيْ لَا يُحِبُّ مِنْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا عَلَى الْإِيمَانِ صَابِرًا عَلَى الْجِهَادِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنِ انْخَذَلَ يَوْمَ أُحُدٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ بِانْخِذَالِهِمْ، لَمْ يَطْهُرْ إِيمَانُهُمْ بَلْ نَجَمَ نِفَاقُهُمْ، وَلَمْ يَصْلُحُوا لِاتِّخَاذِهِمْ شُهَدَاءَ بِأَنْ يُقْتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذَلِكَ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مَا فُعِلَ مِنْ إِدَالَةِ الْكُفَّارِ، لَيْسَ سَبَبُهُ الْمَحَبَّةَ مِنْهُ تَعَالَى، بَلْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْ ظُهُورِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ وَثُبُوتِهِ، وَاصْطِفَائِهِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلشَّهَادَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتُرِضَتْ بين بعض الملل وَبَعْضٍ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّأْكِيدِ. وَأَنَّ مَنَاطَ انْتِفَاءِ الْمَحَبَّةِ هُوَ الظُّلْمُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَحَاشَتِهِ وَقُبْحِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ يُطَهِّرَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيُخَلِّصَهُمْ مِنَ الْعُيُوبِ، وَيُصَفِّيهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ فِي آخَرِينَ: التَّمْحِيصُ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ. قَالَ الشَّاعِرُ: رَأَيْتُ فُضَيْلًا كَانَ شَيْئًا مُلَفَّفًا ... فَكَشَفَهُ التَّمْحِيصُ حتى بدا ليا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّنْقِيَةُ وَالتَّخْلِيصُ، وَذَكَرَهُ عَنِ: الْمُبَرِّدِ، وَعَنِ الْخَلِيلِ. وَقِيلَ: التَّطْهِيرُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ ذُنُوبَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَيْ يُهْلِكَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الدَّوْلَةَ إِنْ كَانَتْ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ سَبَبًا لِتَمْيِيزِ الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَبَبًا لِاسْتِشْهَادِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَسَبَبًا لِتَطْهِيرِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الذَّنْبِ. فَقَدْ جَمَعَتْ فَوَائِدَ كَثِيرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ كَانَ سَبَبًا لِمَحْقِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْتِئْصَالِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: يُنْقِصُهُمْ وَيُقَلِّلُهُمْ، وَقَالَهُ: الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُذْهِبُ دَعْوَتَهُمْ. وَقِيلَ: يُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَافِرِينَ هُنَا طَائِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَمْحَقْ كُلَّ كَافِرٍ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ. فَلَفْظَةُ الْكَافِرِينَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. قِيلَ: وَقَابَلَ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِ بِمَحْقِ الْكَافِرِ، لِأَنَّ التَّمْحِيصَ إِهْلَاكُ الذُّنُوبِ، وَالْمَحْقُ إِهْلَاكُ النُّفُوسِ، وَهِيَ مُقَابَلَةٌ لَطِيفَةٌ فِي الْمَعْنَى انْتَهَى. وَفِي ذِكْرِ مَا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ إِدَالَةِ الْكُفَّارِ تَسْلِيَةٌ لَهُمْ وتبشر بِهَذِهِ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْإِدَالَةَ لَمْ تَكُنْ لِهَوَانٍ بِهِمْ، وَلَا تَحُطُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، بَلْ لِمَا ذَكَرَ تَعَالَى. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فُنُونًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَدِيعِ وَالْبَيَانِ: مِنْ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضُ فِي: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَفِي: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ فِي: إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. وَالتَّشْبِيهُ فِي: عرضها السموات وَالْأَرْضُ. وَقِيلَ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ وَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْأَكْثَرِ فِي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، وَهِيَ مُعَدَّةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُصَاةِ. وَالطِّبَاقُ فِي: السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِي: وَلَا تَهِنُوا والأعلون، لِأَنَّ الْوَهَنَ وَالْعُلُوَّ ضِدَّانِ. وفي آمنوا والظالمين، لِأَنَّ الظَّالِمِينَ هُنَا هُمُ الكافرون، وفي: آمنوا ويمحق الْكَافِرِينَ. وَالْعَامُّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فِي: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ يَعْنِي مَنْ ظَلَمَهُمْ أَوِ الْمَمَالِيكَ. وَالتَّكْرَارُ فِي: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاتَّقُوا النَّارَ، وَفِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَفِي والله يحب، وذكروا اللَّهَ، وَفِي وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ، وَفِي الَّذِينَ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَفِي: وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَفِي: عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وَفِي: مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَفِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَفِي: لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَفِي: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَفِي: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 إلى 152]

فَسِيرُوا، عَلَى أَنَّهُ مِنْ سَيْرِ الْفِكْرِ لَا الْقَدَمِ، وَفِي: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ عُلُوِّ الْمَكَانِ، وَفِي: تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا، وَفِي: وَلِيُمَحِّصَ وَيَمْحَقَ، وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا بَيَانٌ. وَفِي: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ. وَإِدْخَالُ حَرْفِ الشَّرْطِ فِي الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ فِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِذَا عُلِّقَ عَلَيْهِ النَّهْيَ وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

كائن: كَلِمَةٌ يُكَثَّرُ بِهَا بِمَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ. وَقَلَّ الِاسْتِفْهَامُ بِهَا. وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، دَخَلَتْ عَلَى أَيْ وَزَالَ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَزَعَمَ أَبُو الْفَتْحِ: أَنَّ أَيًّا وَزْنُهُ فِعْلٌ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَوَى يَأْوِي إِذَا انْضَمَّ وَاجْتَمَعَ، أَصْلُهُ: أَوَى عُمِلَ فِيهِ مَا عُمِلَ فِي طَيٍّ مَصْدَرِ طَوَيَ. وَهَذَا كُلُّهُ دَعْوَى لَا يَقُومُ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. وَالَّذِي يَظْهُرُ أَنَّهُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ بَسِيطٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ، يَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ مِثْلَ كَمْ، وَفِيهِ لُغَاتٌ: الْأُولَى وَهِيَ التي تقدمت. وكائن وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَانَ فقوله بعيد. وكئن عَلَى وَزْنِ كَعَنَ، وَكَأَيِّنْ وَكَيَيِّنْ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالنُّونِ. وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ تَمْيِيزُهَا مَصْحُوبًا بِمِنْ. وَوَهَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ، وَإِذَا حُذِفَتِ انتصب التمييز سواء أولها أَمْ لَمْ يَلِيهَا، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَطْرُدُ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ فَكَأَيِّنْ ... أَلَمًا عَمَّ يَسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ وَقَوْلِ الآخر: وكائن لَنَا فَضْلًا عَلَيْكُمْ وَنِعْمَةً ... قَدِيمًا وَلَا تَدْرُونَ مَا مِنْ مُنْعِمِ الرُّعْبُ: الْخَوْفُ، رَعَبْتُهُ فَهُوَ مَرْعُوبٌ. وَأَصْلُهُ من الملي. يُقَالُ: سَيْلٌ رَاعِبٌ يَمْلَأُ الْوَادِي، وَرَعَبْتُ الْحَوْضَ مَلَأْتُهُ. السُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَالِي: سُلْطَانٌ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُ السُّلْطَانِ مِنَ السَّلِيطِ، وَهُوَ مَا يُضِيءُ بِهِ السِّرَاجُ مِنْ دُهْنِ السِّمْسِمِ. وَقِيلَ: السَّلِيطُ الْحَدِيدُ، وَالسَّلَاطَةُ الْحِدَّةُ، وَالسَّلَاطَةُ مِنَ التَّسْلِيطِ وَهُوَ الْقَهْرُ. وَالسُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ فَالنُّونُ زَائِدَةٌ. وَالسَّلِيطَةُ: الْمَرْأَةُ الصَّخَّابَةُ. وَالسَّلِيطُ: الرَّجُلُ الْفَصِيحُ اللِّسَانِ. الْمَثْوَى: مَفْعَلْ مِنْ ثَوَى يَثْوِي أَقَامَ. يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالثَّوَاءُ: الْإِقَامَةُ بِالْمَكَانِ. الْحَسُّ: الْقَتْلُ الذَّرِيعُ، يُقَالُ: حَسَّهُ يُحُسُّهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا

وَجَرَادٌ مَحْسُوسٌ قَتَلَهُ الْبَرْدُ، وَسَنَةٌ حَسُوسٌ أَتَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. التَّنَازُعُ: الِاخْتِلَافُ، وَهُوَ مِنَ النَّزْعِ وَهُوَ الْجَذْبُ. وَنَزَعَ يَنْزِعُ جَذَبَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. وَنَازَعَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ، وَتَنَازَعَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. قَالَ: فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وَأَسْمَحَتْ ... هَصَرْتُ بِغُصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا عَتْبٌ شَدِيدٌ لِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُمُ الْهَفَوَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَاسْتَفْهَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ مُخِلٌّ بِمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ انْتِفَاءُ مُتَعَلِّقِهِ، لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ «1» الْمَعْنَى: لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَيْرٌ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى مَوْجُودًا لَا يَكُونُ مَوَجُودًا أبدا. وأم هُنَا مُنْقَطِعَةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ تَتَقَدَّرُ بِبَلْ، وَالْهَمْزَةُ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ. وَقِيلَ: أَمْ مُتَّصِلَةٌ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هِيَ عَدِيلَةُ هَمْزَةٍ تَتَقَدَّرُ مِنْ مَعْنَى مَا تَتَقَدَّمُ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها «2» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ يَقْتَضِي أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ التَّكْلِيفَ يُوجِبُ ذَلِكَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ اخْتِبَارٍ وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ وَأَنْ تُجَاهِدُوا فَيَعْلَمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْكُمْ وَاقِعًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا إِبْطَالُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالْإِضْرَابُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ أَيْضًا هُوَ تَرْكٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ وَأَخْذٍ فِيمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: أَمْ حَسِبْتُمْ نَهْيٌ وَقَعَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّبْكِيتِ. وَتَلْخِيصُهُ: لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَقَعْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ. لَمَّا قَالَ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا «3» كَانَ فِي مَعْنَى: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَدَةٍ وَصَبْرٍ. وَإِنَّمَا اسْتُبْعِدَ هَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْجِهَادَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَأَوْجَبَ الصَّبْرَ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَاقِّهَا، وَبَيَّنَ وُجُوهَ مَصَالِحِهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْبُعْدِ أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى السَّعَادَةِ وَالْجَنَّةِ مَعَ إِهْمَالِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُهُ: أَنَّ أَمْ مُتَّصِلَةٌ، وَحَسِبْتُمْ هُنَا بِمَعْنَى ظَنَنْتُمُ التَّرْجِيحِيَّةِ، وَسَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهَا أن وما

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 23. (2) سورة آل عمران: 3/ 140. (3) سورة آل عمران: 3/ 139.

بَعْدَهَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَسَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ. وَلَمَّا يَعْلَمِ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهِيَ نَفْيٌ مُؤَكَّدٌ لِمُعَادَلَتِهِ لِلْمُثْبَتِ الْمُؤَكَّدِ بِقَدْ. فَإِذَا قُلْتَ: قَدْ قَامَ زَيْدٌ فَفِيهِ مِنَ التَّثْبِيتِ وَالتَّأْكِيدِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكَ: قَامَ زَيْدٌ. فَإِذَا نَفَيْتَهُ قُلْتَ: لَمَّا يَقُمْ زَيْدٌ. وَإِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ كَانَ نَفْيُهُ لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَادِ فِيمَا مَضَى، وَعَلَى وقعه فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَتَقُولُ: وَعَدَنِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَمَّا تُرِيدْ، وَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَنَا أَتَوَقَّعُ فِعْلَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي لَمَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَهُ. بَلْ ذَكَرُوا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَمَّا يَخْرُجْ زَيْدٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُرُوجِ فِيمَا مَضَى مُتَّصِلًا نَفْيُهُ إِلَى وَقْتِ الْإِخْبَارِ. أَمَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوَقُّعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا، لَكِنَّنِي وَجَدْتُ فِي كَلَامِ الْفَرَّاءِ شَيْئًا يُقَارِبُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: لَمَّا لِتَعْرِيضِ الْوُجُودِ بِخِلَافِ لَمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ بِفَتْحِهَا، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ إِتْبَاعٌ لِفَتْحَةِ اللَّامِ وَعَلَى إِرَادَةِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ وَحَذْفِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَيَعْلَمُ» بِرَفْعِ الْمِيمِ فَقِيلَ: هُوَ مَجْزُومٌ، وَأَتْبَعَ الْمِيمَ اللَّامَ فِي الْفَتْحِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَلَمَّا يَعْلَمِ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ. فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ وَاوٍ مَعَ نَحْوِ، لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ. وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ بِوَاوِ الصَّرْفِ، وَتَقْرِيرُ الْمَذْهَبَيْنِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَطْفًا عَلَى وَلَمَّا يَعْلَمِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْلَمُ بِرَفْعِ الْمِيمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَمَّا تُجَاهِدُوا وَأَنْتُمْ صابرون انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَ، لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ لَا تدخل على المضارع، لَا يَجُوزُ: جَاءَ زَيْدٌ وَيَضْحَكُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ جَاءَ زَيْدٌ وَضَاحِكًا، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَاءَ زَيْدٌ وَيَضْحَكُ. فَإِنْ أُوِّلَ عَلَى أَنَّ الْمُضَارِعَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ، التَّقْدِيرُ: وَهُوَ يَعْلَمُ الصَّابِرِينَ كَمَا أَوَّلُوا قَوْلَهُ: نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكًا، أَيْ وَأَنَا أَرْهَنُهُمْ. وَخَرَّجَ غَيْرُ الزَّمَخْشَرِيِّ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْإِخْبَارِ، أَيْ: وَهُوَ يَعْلَمُ الصَّابِرِينَ.

وَفِي إِنْكَارِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ ظَنَّ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ يَكُونُ مَعَ انْتِفَاءِ الْجِهَادِ، وَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ دَلِيلٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ إِذْ ذَاكَ، وَالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ التَّوَلِّيَ عِنْدَ الزَّحْفِ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ» . وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْضُرُوا غَزْوَةَ بَدْرٍ، إِذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ مُبَادِرًا يُرِيدُ عير القريش، فَلَمْ يَظُنُّوا حَرْبًا، وَفَازَ أَهْلُ بَدْرٍ بِمَا فَازُوا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ لِيَكُونَ لَهُمْ يَوْمٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ حَرَّضُوا عَلَى الْخُرُوجِ لِأُحُدٍ. فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَمِيئَةَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ الذَّابَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَانًّا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا وَصَرَخَ بذلك صارخ، وفشاد ذَلِكَ فِي النَّاسِ انْكَفُّوا فَارِّينَ، فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم «إلي عِبَادَ اللَّهِ» حَتَّى انْحَازَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ وَاسْتَعْذَرُوا عَنِ انْكِفَافِهِمْ قَائِلِينَ: أَتَانَا خَبَرُ قَتْلِكَ، فَرُعِبَتْ قُلُوبُنَا، فَوَلَّيْنَا مُدْبِرِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَلُومُهُمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَعَ مَا كَانُوا قَرَّرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَعَبَّرَ عَنْ مُلَاقَاةِ الرِّجَالِ وَمُجَالَدَتِهِمْ بِالْحَدِيدِ بِالْمَوْتِ، إِذْ هِيَ حَالَةٌ تَتَضَمَّنُ فِي الْأَغْلَبِ الْمَوْتَ، فَلَا يَتَمَنَّاهَا إِلَّا مَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِالْمَوْتِ. وَمُتَمَنِّي الْمَوْتِ فِي الْجِهَادِ لَيْسَ مُتَمَنِّيًا لِغَلَبَةِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمِ، إِنَّمَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الضِّمْنِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ، إِنَّمَا مَقْصِدُهُ نَيْلُ رُتْبَةِ الشهادة لما فيه مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَدْ نَهَضَ إِلَى مَوْتِهِ وَقَالَ لَهُمْ: رَدَّكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا على جدثي ... يا رشد اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشَاهِدُوا شَدَائِدَهُ وَمَضَائِقَهُ. وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي تَلْقَوْهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَدُوِّ، وَأُضْمِرَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَذْكُورٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ: تُلَاقُوهُ وَمَعْنَاهَا وَمَعْنَى تَلْقَوْهُ سَوَاءٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى لَقِيَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ مِنْ قَبْلُ بِضَمِّ اللَّامِ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَيَكُونُ مَوْضِعُ أَنْ تَلْقَوْهُ نَصْبًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْتِ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيْ عَايَنْتُمْ أَسْبَابَهُ وَهِيَ الْحَرْبُ الْمُسْتَعِرَةُ كَمَا قَالَ:

لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ وَقَالَ: وَوَجَدْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ ... فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ وَقِيلَ: مَعْنَى الرُّؤْيَةِ هُنَا الْعِلْمُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيْ: فَقَدْ عَلِمْتُمُ الْمَوْتَ حَاضِرًا، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَحَذْفُ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا عَزِيزٌ جِدًّا، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. فَلَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ بِاللَّامِ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَرُفِعَ مَا يَحْتَمِلُهُ رَأَيْتُمُوهُ مِنَ الْمَجَازِ أَوْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي بَيْنَ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ وَرُؤْيَةِ الْعَيْنِ، أَيْ مُعَايِنِينَ مُشَاهِدِينَ لَهُ حِينَ قُتِلَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مَنْ قُتِلَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ وَشَارَفْتُمْ أَنْ تُقْتَلُوا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُتَعَلِّقُ النَّظَرِ مُتَعَلِّقَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ بُصَرَاءُ أَيْ لَيْسَ بِأَعْيُنِكُمْ عِلَّةٌ. وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْأَخْفَشُ أَيْضًا. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَعَلَ بِهِ. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ نَظَرَ تَأَمَّلَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ فِي أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالْفِرَارِ، وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ قُتِلَ أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ مَا تَمَنَّيْتُمْ وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْتِ. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ فِي فِعْلِكُمُ الْآنَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، هَلْ وَفَّيْتُمْ أَوْ خَالَفْتُمْ؟ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تَكُونُ جُمْلَةً حَالِيَّةً، بَلْ هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةُ الْإِخْبَارِ أَتَى بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْتُمْ حُسَبَاءُ أَنْفُسَكُمْ فتملوا قُبْحَ فِعْلِكُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهَا صِيغَةُ الْخَبَرِ فَمَعْنَاهَا الْعَتْبُ وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِيهَا مَحْذُوفٌ أَخِيرًا بَعْدَ قَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، أَيْ تَفَرُّقِهِمْ بَعْدَ رُؤْيَةِ أَسْبَابِهِ وَكَشْفِ الْغَيْبِ، أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَمَنِّيكُمْ نَكَصْتُمْ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى رَأَيْتُمُوهُ قَابَلْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ بِعُيُونِكُمْ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ ذُكِرَ النَّظَرُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ حِينَ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ وَالثَّانِي بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ انْتَهَى. وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُبَيِّنَةِ لَا الْمُؤَكِّدَةِ إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ هِيَ الْإِبْصَارُ، لَا الْمُقَابَلَةُ وَالْمُوَاجَهَةُ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ هَذَا اسْتِمْرَارٌ فِي عَتْبِهِمْ آخَرُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ كَمَنْ مَضَى مِنَ الرُّسُلِ، بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ كَمَا بَلَّغُوا. وَلَيْسَ بَقَاءُ الرُّسُلِ شَرْطًا فِي

بَقَاءِ شَرَائِعِهِمْ، بَلْ هُمْ يَمُوتُونَ وَتَبْقَى شَرَائِعُهُمْ يَلْتَزِمُهَا أَتْبَاعُهُمْ. فَكَمَا مَضَتِ الرُّسُلُ وَانْقَضَوْا، فَكَذَلِكَ حُكْمُهُمْ هُوَ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرُّسُلُ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لِلرُّسُلِ، وَالتَّنْوِيهِ بِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى حَالِهِمْ مِنَ اللَّهِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ رُسُلٌ بِالتَّنْكِيرِ، وَبِهَا قَرَأَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَحْطَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَوَجْهُهَا أَنَّهُ مَوْضِعُ تَبْشِيرٍ لَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الْحَيَاةِ، وَمَكَانُ تَسْوِيَةٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ. وَهَكَذَا يَتَّصِلُ فِي أَمَاكِنِ الِاقْتِضَاءِ بِهِ بِالشَّيْءِ وَمِنْهُ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1» وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ «2» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ذَكَرَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ فِي نَحْوِ هَذَا الْمَسَاقِ أَبُو الْفَتْحِ، وَقِرَاءَةُ التَّعْرِيفِ أَوْجَهُ، إِذْ تَدُلُّ عَلَى تَسَاوِي كُلٍّ فِي الْخَلْقِ وَالْمَوْتِ، فَهَذَا الرَّسُولُ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ. أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ لَمَّا صُرِخَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، تَزَلْزَلَتْ أَقْدَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَرُعِبَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَمْعَنُوا فِي الْفِرَارِ، وَكَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالَتْ: مَا نَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ، فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا، مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ. وَفِرْقَةٌ قَالُوا: نُلْقِي إِلَيْهِمْ بِأَيْدِينَا فَإِنَّهُمْ قَوْمُنَا وَبَنُو عَمِّنَا. وَفِرْقَةٌ أَظْهَرَتِ النِّفَاقَ وَقَالُوا: ارْجِعُوا إِلَى دِينِكُمُ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا قُتِلَ. وَظَاهِرُ الِانْقِلَابِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ هُوَ الِارْتِدَادُ. وَقِيلَ: هُوَ بِالْفِرَارِ لَا الِارْتِدَادُ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الِارْتِدَادِ وَالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ «3» وَهَذِهِ الْهَمْزَةُ هِيَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ. وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ، وَأَصْلُهَا التَّقْدِيمُ. إذ التقدير: فأ إن مَاتَ. لَكِنَّهُمْ يَعْتَنُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُ هَذَا وَخِلَافُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِيهِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيِّ: الْأَوْجُهُ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ الْفَاءُ، تَكُونُ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَيْهِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَقِيلَ: أَتُؤْمِنُونَ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، فَإِنْ مَاتَ ارْتَدَدْتُمْ، فَتُخَالِفُوا سُنَنَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ فِي ثَبَاتِهِمْ عَلَى مِلَلِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ زَمَخْشَرِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ. وَأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ إِنَّمَا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ قَبْلَهَا، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ. وَجَزَاؤُهُ، هُوَ انْقَلَبْتُمْ، فَلَا تُغَيِّرُ هَمْزَةُ الاستفهام شيئا من

_ (1) سورة سبأ: 34/ 13. (2) سورة هود: 11/ 40. (3) سورة البقرة: 2/ 143. [.....]

أَحْكَامِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ. فَإِذَا كَانَا مُضَارِعَيْنِ كَانَا مَجْزُومَيْنِ نَحْوَ: أَإِنْ تَأْتِنِي آتِكَ. وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يُبْنَى عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَيُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ، وَلَا بُدَّ إِذْ ذَاكَ مِنْ جَعْلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ مَاضِيًا لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَلَا يُحْذَفُ الْجَوَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ عَمَلٌ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُ عِنْدَهُ أَنْ تَقُولَ: أَإِنْ أَكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ. التَّقْدِيرُ فِيهِ: أُكْرِمْكَ إِنْ أَكْرَمْتَنِي، ولا يجوز عنده إن تُكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ بِجَزْمِهِمَا أَصْلًا، وَلَا إِنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمُكَ بِجَزْمِ الْأَوَّلِ وَرَفْعِ الثَّانِي إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ النَّحْوِ. فَعَلَى مَذْهَبِ يُونُسَ: تَكُونُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى انْقَلَبْتُمْ، وَهُوَ مَاضٍ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْقَتْلِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ عِنْدَ يُونُسَ مَحْذُوفٌ، وَبِقَوْلِ يُونُسَ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ قَالُوا: أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنَّمَا هُوَ أَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ. وَدَخَلَتْ إِنْ هُنَا عَلَى الْمُحَقَّقِ وَلَيْسَ مِنْ مَظَانِّهَا، لِأَنَّهُ أُورِدَ مَوْرِدَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ، وَتَجْوِيزِ قَتْلِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُخَاطَبِينَ. أَلَا تَرَى إِلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا أَنَّهُ قُتِلَ اضْطَرَبُوا وَفَرُّوا، وَانْقَسَمُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ، وَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ أَكْثَرِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنْ يُقْتَلَ. فَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَذَوِي الْبَصِيرَةِ مِنْهُمْ، وَمَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعَرَفَ سَبَبَ نُزُولِهَا. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أَيْ مَنْ رَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ أَوِ ارْتَدَّ فَارًّا عَنِ الْقِتَالِ وَعَنْ مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ هِيَ عَامَّةٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَنِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَلْحَقُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَضَارُّ الْعَبْدِ. وَلَمْ تَقَعْ رِدَّةٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَى عَقِبَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى عَقِبِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَانْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ. أَيْ: شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَالِانْقِلَابُ عَلَى الأعقاب أو

_ (1) سورة المائدة: 5/ 67.

عَلَى الْعَقِبَيْنِ أَوِ الْعَقِبِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ مِثْلَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ بِمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَعْدٌ عَظِيمٌ بِالْجَزَاءِ. وَجَاءَ بِالسِّينِ الَّتِي هِيَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَرِينَةُ التَّفْسِيرِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ: لَا يَتَأَخَّرُ جَزَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُمْ. وَالشَّاكِرِينَ هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى دِينِهِ، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِيمَا وَعَدُوهُ، وَثَبَتُوا. شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكْفُرُوهَا، كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَالْأَنْصَارِيِّ الَّذِي كان يتشخط فِي دَمِهِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ثَبَتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَالشَّاكِرُونَ لَفْظٌ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ شَاكِرٍ فِعْلًا وَقَوْلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الشُّكْرِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْجَزَاءِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ. وَفَسَّرُوا الشَّاكِرِينَ هُنَا بِالثَّابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ قَالَهُ: عَلِيٌّ. وَقَالَ هُوَ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَبُو بَكْرٍ، أَمِيرُ الشَّاكِرِينَ يُشِيرَانِ إِلَى ثَبَاتِهِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاضْطِرَابِ النَّاسِ إِذْ ذَاكَ، وَثَبَاتِهِ فِي أَمْرِ الرِّدَّةِ وَمَا قَامَ بِهِ مِنْ أَعْبَاءِ الْإِسْلَامِ. وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالطَّائِعِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ مَوْتَ الْأَنْفُسِ مُحَالٌ أَنْ تَكُونَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ فِعْلٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدُمَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ تَمْثِيلًا. وَلِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَفْسًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ. وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَتَشْجِيعُهُمْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ وَإِنْ خَاضَ الْمَهَالِكَ وَاقْتَحَمَ الْمَعَارِكَ. وَالثَّانِي: ذِكْرُ مَا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ لَهُ نُهْزَةً لِلْمُخْتَلِسِينَ مِنَ الْحِفْظِ وَالْكِلَاءِ وَتَأَخُّرِ الْأَجَلِ انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَهُوَ بَسْطُ كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ إِلَّا بِأَجَلٍ مَحْتُومٍ. فَالْجُبْنُ لَا يَزِيدُ فِي الْحَيَاةِ وَالشَّجَاعَةُ لَا تُنْقِصُ مِنْهَا. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقْوِيَةٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْجِهَادِ، وَفِيهَا تَسْلِيَةٌ فِي مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُ الْعَرَبِ: مَا كَانَ لِزَيْدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَعْنَاهُ انْتِفَاءُ الْفِعْلِ عَنْ زَيْدٍ وَامْتِنَاعُهُ. فَتَارَةً يَكُونُ الِامْتِنَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «1» وَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «2» وَتَارَةً لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا عَادَةً نَحْوَ: ما كان

_ (1) سورة مريم: 16/ 35. (2) سورة النمل: 27/ 60.

لِزَيْدٍ أَنْ يَطِيرَ. وَتَارَةً لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا شَرْعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً «1» وَتَارَةً لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا أَدَبًا، كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَلَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الصِّيغَةُ نَهْيًا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ. وَقَوْلُهُ: لِنَفْسٍ، الْمُرَادُ الْجِنْسُ لَا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ. وَمَعْنَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ بِتَمْكِينِهِ وَتَسْوِيغِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْإِذْنِ، وَالْأَحْسَنُ فِيهِ أَنَّهُ تَمْكِينٌ مِنَ الشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلٌ فَيَكُونُ أَمْرًا. وَالْمَعْنَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالْقَبْضِ. وأن تَمُوتَ فِي مَوْضِعِ اسْمِ كان، ولنفس هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ كان رائدة. فَيَكُونُ أَنْ تَمُوتَ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، وَلِنَفْسٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِهِ. وَقَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: وَمَا كَانَتْ نَفْسٌ لِتَمُوتَ، فَجَعَلَ مَا كَانَ اسْمًا خَبَرًا، وَمَا كَانَ خَبَرًا اسْمًا، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِعْرَابَ، إِنَّمَا فَسَّرَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: اللَّامُ فِي: لِنَفْسٍ، لِلتَّبْيِينِ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَانَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ كانت تَامَّةً. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا كَانَ الْمَوْتُ لِنَفْسٍ وأن تَمُوتَ، تَبْيِينٌ لِلْمَحْذُوفِ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، لِأَنَّ اسْمَ كَانَ إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَوِ الْفَاعِلَ إِنْ كَانَتْ تَامَّةً لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَلِمَا فِي حَذْفِهِ أَنْ لَوْ جَازَ مِنْ حَذْفِ الْمَصْدَرِ وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. كِتاباً مُؤَجَّلًا أَيْ لَهُ أَجَلٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْأَجَلَيْنِ. وَالْكِتَابَةُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُبَيَّنًا فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا. وَانْتِصَابُ كِتَابًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَنَظِيرُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ صُنْعَ اللَّهِ ووَعْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ الزمور وَآمِنُوا بِالْقَدَرِ وَهَذَا بِعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كِتَابًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهَذَا لَا يَظْهَرُ فَإِنَّ التَّمْيِيزَ كَمَا قَسَّمَهُ النُّحَاةُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْقُولٍ وَغَيْرِ مَنْقُولٍ، وَأَقْسَامُهُ فِي النَّوْعَيْنِ مَحْصُورَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا وَاحِدًا مِنْهَا. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها هَذَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ رَغِبُوا فِي الْغَنَائِمِ يَوْمَ أُحُدٍ وَاشْتَغَلُوا بِهَا، وَالَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الْقِتَالِ فِيهِ وَلَمْ يشغلهم

_ (1) سورة النساء: 4/ 92.

شَيْءٌ عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَهَذَا الْجَزَاءُ مِنْ إِيتَاءِ اللَّهِ مَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الدُّنْيَا مَشْرُوطٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «1» . وَقَوْلُهُ: «نُؤْتِهِ بِالنُّونِ فِيهِمَا» وَفِي: سَنَجْزِي قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى تَكَلُّمٍ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يُؤْتِهِ بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَفِي سَيَجْزِي، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْغَيْبَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ الْفَاعِلِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ وَهْمٌ، وَصَوَابُهُ: عَلَى إِضْمَارِ الْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ. وَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا أَرَادَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ دُنْيَاهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، لَكِنَّ مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ قَدْ يُؤْتَى نَصِيبًا مِنَ الدُّنْيَا. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقْوَالٌ: نُؤْتِهِ نَصِيبًا مِنَ الْغَنِيمَةِ لِجِهَادِهِ الْكُفَّارَ، أَوْ لَمْ نَحْرِمْهُ مَا قَسَمْنَاهُ لَهُ إِذْ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ نَصِيبٍ. أَوْ هِيَ خَاصَّةٌ فِي أَصْحَابِ أُحُدٍ أَوْ مَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِالتَّعَرُّضِ لَهَا بِعَمَلِ النَّوَافِلِ مَعَ مُوَاقَعَةِ الْكَبَائِرِ جُوزِيَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَعْدٌ لِمَنْ شَكَرَ نِعَمَ اللَّهِ فَقَصَرَ هَمَّهُ وَنِيَّتَهُ عَلَى طَلَبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُنَعِّمُهُمُ اللَّهُ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا، وَلَا يُقْصِرُهُمْ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَأَظْهَرَ الْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي بَعْضِ طُرُقٍ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَابْنِ ذَكْوَانَ دَالَ يُرِدْ عِنْدَ ثَوَابَ، وَأَدْغَمَ فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَ قَالُونُ وَالْحَلْوَانِيُّ عَنْ هِشَامٍ من طريق: باختلاص الْحَرَكَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِشْبَاعِ. وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَبِالسُّكُونِ لِلْجَمِيعِ. وَوَجْهُ الْإِسْكَانِ أَنَّ الْهَاءَ لَمَّا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي كَانَ حَقُّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَرْفَ عِلَّةٍ أَنْ يَسْكُنَ، فَأُعْطِيَتِ الْهَاءُ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ السُّكُونِ. وُوَجْهُ الِاخْتِلَاسِ بِأَنَّهُ اسْتَصْحَبَ مَا كَانَ لِلْهَاءِ قَبْلَ أَنْ تُحْذَفَ الْيَاءُ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْحَذْفِ كَانَ أَصْلُهُ يُؤْتِيهِ وَالْحَذْفُ عَارِضٌ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَوَجْهُ الإشباع بأنّه جاز نظر إِلَى اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتِ الْهَاءُ مُتَّصِلَةً بِحَرَكَةٍ وَالْأَوْلَى تَرْكُ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ. فَإِنَّ اخْتِلَاسَ الضَّمَّةِ وَالْكَسْرَةِ بَعْدَ مُتَحَرِّكٍ لُغَةٌ حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ عَنْ بَنِي عَقِيلٍ وَبَنِي كِلَابٍ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابَ كِلَابٍ وَعَقِيلٍ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «2» وَلِرَبِّهِ لَكَنُودٌ بِغَيْرٍ تَمَامٍ وَلَهُ مَالٌ، وَلَهُ مَالٌ. وَغَيْرُ بَنِي كِلَابٍ وَبَنِي عَقِيلٍ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمُ اخْتِلَاسٌ، وَلَا سُكُونٌ فِي لَهُ وَشَبَهِهِ إِلَّا فِي صورة نحو قول الشاعر:

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 18. (2) سورة العاديات: 100/ 6.

لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صَوْتٌ حَادٍ ... إِذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أَوْ زَمِيرُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَأَشْرَبِ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إِلَّا لِأَنَّ عُيُونَهُ سَيْلُ وَادِيهَا وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعَتَبَ عَلَيْهِمُ اللَّهُ مَا حَذَّرَ مِنْهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ قَتَلَتْ أَنْبِيَاءً لَهُمْ كَثِيرُونَ أَوْ قُتِلَ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْحَقْهُمْ مَا لَحِقَكُمْ مِنَ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ، وَلَا ثَنَاهُمْ عَنِ الْقِتَالِ فَجْعُهُمْ بِقَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ، أَوْ قَتْلِ ربيبهم، بَلْ مَضَوْا قُدُمًا فِي نُصْرَةِ دِينِهِمْ صَابِرِينَ عَلَى مَا حَلَّ بِهِمْ. وَقَتْلُ نَبِيٍّ أَوْ أَتْبَاعِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَابِ، فَكَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي لَكُمُ التَّأَسِّي بِمَنْ مَضَى مِنْ صَالِحِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، هَذَا وَأَنْتُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَنَبِيُّكُمْ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْعَتْبِ لِمَنْ فَرَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكَأَيِّنْ قَالُوا: وَهِيَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ، إِذْ هِيَ أَيٌّ دَخَلَ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَكُتِبَتْ بِنُونٍ فِي الْمُصْحَفِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَبُو عَمْرٍو. وَسَوْرَةُ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْكِسَائِيِّ بِيَاءٍ دُونَ نُونٍ، وَوَقَفَ الْجُمْهُورُ عَلَى النُّونِ اتْبَاعًا لِلرَّسْمِ. وَاعْتَلَّ لِذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ وَذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْمُعَلِّلِينَ، وَمِمَّا جَاءَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قول الشاعر: وكائن فِي الْمَعَاسِرِ مِنْ أُنَاسٍ ... أخوهم فرقهم وَهُمُ كِرَامُ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَائِنْ وَهِيَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. قَالَ: وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِينٍ وَالْأَشْهَبُ الْعَقِيلِيُّ: وَكَأَيِّنْ عَلَى مِثَالِ كَعَيِّنْ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِنَ الشَّوَاذِّ كَيْئِنْ، وَهُوَ مَقْلُوبُ قِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِينٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِينٍ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ الدَّانِي كَانَ عَلَى مِثَالِ كَعِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَانَ صَدِيقٌ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخا ... أبان اختياري أَنَّهُ لِي مُدَاهِنُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ كَيٍّ بِكَافٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ. وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ ابْنُ عَطِيَّةَ

وَغَيْرُهُ بِتَعْلِيلِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي كَأَيِّنْ، وَبِمَا عُمِلَ فِي كَأَيِّنْ، وَبِمَا عُمِلَ فِي كَأَيِّنْ، فَلِذَلِكَ أَضْرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو قُتِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَتَادَةُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ التَّاءَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ قَاتَلَ بِأَلِفٍ فِعْلًا مَاضِيًا. وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ يَصْلُحُ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الضَّمِيرِ هُوَ الَّذِي قُتِلَ أَوْ قُتِّلَ عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الْأَشْخَاصِ، لَا بِالنِّسْبَةِ لِفَرْدٍ فَرْدٍ. إِذِ الْقَتْلُ لَا يَتَكَثَّرُ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. أَوْ هُوَ قَاتِلٌ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ مُحْتَمِلًا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَرْتَفِعُ رِبِّيُّونَ بِالِابْتِدَاءِ، وَالظَّرْفُ قَبْلَهُ خَبَرُهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْوَاوِ لِأَجْلِ الضَّمِيرِ فِي مَعَهُ الْعَائِدِ عَلَى ذِي الْحَالِ، وَمُحْتَمِلًا أَنْ يَرْتَفِعَ رِبِّيُّونَ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالظَّرْفِ، وَيَكُونَ الظَّرْفُ هُوَ الْوَاقِعُ حَالًا التَّقْدِيرُ: كَائِنًا مَعَهُ رِبِّيُّونَ، وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ. لِأَنَّ وُقُوعَ الْحَالِ مُفْرَدًا أَحْسَنُ مِنْ وُقُوعِهِ جُمْلَةً. وَقَدِ اعْتُمِدَ الظَّرْفُ لِكَوْنِهِ وَقَعَ حَالًا فَيَعْمَلُ وَهِيَ حَالٌ مَحْكِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ رِبِّيُّونَ بِالظَّرْفِ. وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ مَاضِيًا لِأَنَّهُ حَكَى الْحَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ «1» وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا إِعْمَالُ اسْمِ الفاعل الماضي غير المعروف بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، بِكَوْنِهِ حِكَايَةَ حَالٍ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى رِبِّيُّونَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ ضَمِيرٌ، وَيَكُونُ الرِّبِّيُّونَ هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا أَوْ قُتِّلُوا أَوْ قَاتَلُوا، وَمَوْضِعُ كَأَيِّنْ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَهُ بِالْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُتِلَ أَوْ قُتِّلَ أَوْ قَاتَلَ، سَوَاءٌ أَرَفَعَ الْفِعْلُ الضَّمِيرَ، أَمِ الرِّبِّيِّينَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ قُتِلَ إِذَا رُفِعَ الضَّمِيرُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ كَمَا تَقُولُ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ مَعَهُ مَالٌ. أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ قَدْ وُصِفَ بِكَوْنِهِ مَقْتُولًا، أَوْ مُقَتَّلًا، أَوْ مُقَاتِلًا، وَبِكَوْنِهِ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. وَيَكُونُ خَبَرُ كَأَيِّنْ قَدْ حُذِفَ تَقْدِيرُهُ: فِي الدُّنْيَا أَوْ مَضَى. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ إِضْمَارٍ. وَأَمَّا إِذَا رَفَعَ الظَّاهِرَ فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ مِنْ قُتِلَ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِنَبِيٍّ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا ضَعِيفٌ. وَلَمَّا ذَكَرُوا أَنَّ أَصْلَ كَأَيِّنْ هُوَ أَيٍّ دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ فَجَرَّتْهَا، فَهِيَ عَامِلَةٌ فِيهَا، كَمَا دَخَلَتْ عَلَى ذَا فِي قَوْلِهِمْ: لَهُ عِنْدِي كَذَا. وَكَمَا دَخَلَتْ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: كَأَنَّ ادَّعَى أَكْثَرُهُمْ أَنَّ كَأَنَّ، بَقِيَتْ فِيهَا الْكَافُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ. وَأَنَّ كَذَا، وَكَأَنَّ، زَالَ عَنْهُمَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ. فعلى هذا

_ (1) سورة الكهف: 18/ 18.

لَا تَتَعَلَّقُ الْكَافُ بِشَيْءٍ، وَصَارَ مَعْنَى كَأَيِّنْ مَعْنَى كَمْ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى التَّشْبِيهِ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَمَّا الْعَامِلُ فِي الْكَافِ فَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى: إِصَابَتْكُمْ كَإِصَابَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَصْحَابِهِمْ. وَإِنْ حَمَلْنَا الْحُكْمَ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى مَعْنَى كَمْ، كَانَ الْعَامِلُ بِتَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ، وَكَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وقتل الْخَبَرُ. وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ أَوْضَحُ لِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى بِمَا يَجِبُ مِنَ الْخَفْضِ فِي أَيٍّ. وَإِذَا كَانَتْ أَيٍّ عَلَى بَابِهَا مِنْ مُعَامَلَةِ اللَّفْظِ، فمن مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَافُ مِنَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ غَرَابَةٌ. وَجَرَّهُمْ إِلَى التَّخْلِيطِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ ادِّعَاؤُهُمْ بِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ: كَافِ التَّشْبِيهِ، وَأَنَّ أَصْلَهَا أَيٌّ: فَجُرَّتْ بِكَافِ التَّشْبِيهِ. وَهِيَ دَعْوَى لَا يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهَا دَلِيلٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا رَأْيَنَا فِيهَا أَنَّهَا بَسِيطَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَالنُّونُ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ وَلَيْسَ بِتَنْوِينٍ، وَحُمِلَتْ فِي الْبِنَاءِ عَلَى نَظِيرَتِهَا كَمْ. وَإِلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى الضَّمِيرِ. ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ وَرَجَّحَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِصَّةَ هِيَ سَبَبُ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَتَخَاذُلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضُرِبَ الْمَثَلُ بِنَبِيٍّ قُتِلَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّرْجِيحَ قَوْلُهُ: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «1» النَّبِيُّ يُقْتَلُ، فَكَيْفَ لَا يُخَانُ؟ وَإِذَا أُسْنِدَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ كَانَ الْمَعْنَى تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ لِفَقْدِ مَنْ فُقِدَ مِنْهُمْ فَقَطْ. وَإِلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى الرِّبِّيِّينَ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ. قَالَ هُوَ وَابْنُ جُبَيْرَ: لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ قَطُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ قَاتَلَ أَعَمُّ فِي الْمَدْحِ، لِأَنَّهُ يُدْخِلُ فِيهَا مَنْ قُتِلَ وَمَنْ بَقِيَ. وَيَحْسُنُ عِنْدِي عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الرِّبِّيِّينَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ قُتِلَ إِسْنَادُهُ إِلَى نَبِيٍّ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَقُولُ: قُتِلَ: يَظْهَرُ أَنَّهَا مَدْحٌ، وَهِيَ أَبْلَغُ فِي مَقْصُودِ الْخِطَابِ، لِأَنَّهَا نَصٌّ فِي وُقُوعِ الْقَتْلِ، وَيَسْتَلْزِمُ الْمُقَاتَلَةَ. وَقَاتَلَ: لَا تَدُّلُ عَلَى الْقَتْلِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وُجُودُ الْقَتْلِ. قَدْ تَكُونُ مُقَاتَلَةً وَلَا يَقَعُ قَتْلٌ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَهُ مَا ذُكِرَ لَا يَظْهَرُ حُسْنُهُ، بَلِ الْقِرَاءَتَانِ تَحْتَمِلَانِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: فِي قِرَاءَةِ قَتَادَةَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَسْتَنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الرِّبِّيِّينَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي قَتْلِ شَخْصٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: يَسْتَنِدُ إِلَى نَبِيٍّ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى كَأَيِّنْ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ مَشَى عَلَى جِهَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَبِيٍّ، وَدَلَّ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ فِي مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ التَّمْثِيلُ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَأَيِّنْ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُقَوِّي

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 16.

قَوْلَ مَنْ قَالَ لِمَنْ قُتِلَ وَقَاتَلَ: إِنَّمَا يَسْتَنِدُ إِلَى الرِّبِّيِّينَ. انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. لِأَنَّ كَأَيِّنْ مِثْلَ كَمْ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ إِذَا قُلْتَ: كَمْ مِنْ عَانٍ فَكَكْتُهُ، فَأَفْرَدْتَ. رَاعَيْتَ لَفْظَ كَمْ وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ: وَإِذَا قُلْتَ: كَمْ مِنْ عَانٍ فَكَكْتُهُمْ، رَاعَيْتَ مَعْنَى كَمْ لَا لَفْظَهَا. وَلَيْسَ مَعْنَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ إِلَّا أَنَّكَ أَفْرَدْتَ الضَّمِيرَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ. فَلَا فَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْن فَكَكْتُهُ وَفَكَكْتُهُمْ، كَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ قُتِلُوا مَعَهُمْ رِبِّيُّونَ وَقُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ، وَإِنَّمَا جَازَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ تَارَةً، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى تَارَةً، لِأَنَّ مَدْلُولَ كَمْ وَكَأَيِّنْ كَثِيرٌ، وَالْمَعْنَى جَمْعٌ كَثِيرٌ. وَإِذَا أُخْبِرْتَ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ فَتَارَةً تُفْرِدُ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَتَارَةً تَجْمَعُ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» فَقَالَ: مُنْتَصِرٌ، وَقَالَ: وَيُوَلُّونَ. فَأَفْرَدَ مُنْتَصِرٌ، وَجَمَعَ فِي يُوَلُّونَ. وَقَوْلُ أَبِي الْفَتْحِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الَّذِي فَرَضَهُ: إِنَّ اللَّفْظَ قَدْ جَرَى عَلَى جِهَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَبِيٍّ، أَيْ رُوعِيَ لَفْظُ كَأَيِّنْ لِكَوْنِ تَمْيِيزِهَا جَاءَ مُفْرَدًا، فَنَاسَبَ لَمَّا مُيِّزَتْ بِمُفْرَدٍ أَنْ يُرَاعَى لَفْظُهَا، وَالْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُ: وَدَلَّ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ فِي مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ التَّمْثِيلُ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ، هَذَا الْمُرَادُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَنْ يُفْرَدَ الضَّمِيرُ، أَوْ يُجْمَعَ. لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُفْرَدَ لَيْسَ مَعْنَاهُ هُنَا إِفْرَادُ مَدْلُولِهِ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ مُفْرَدًا وَمَجْمُوعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَإِذْ لَا فَرْقَ فَدَلَالَتُهُ عَامَّةٌ، وَهِيَ دَلَالَتُهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. وَقَوْلُهُ: فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَنْ مَعْنَى كَأَيِّنْ، لَمْ يَخْرُجِ الْكَلَامُ عَنْ مَعْنَى كَأَيِّنْ، إِنَّمَا خَرَجَ عَنْ جَمْعِ الضَّمِيرِ عَلَى مَعْنَى كَأَيِّنْ دُونَ لَفْظِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ لَفْظًا لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ مُفْرَدًا، إِنَّمَا يَكُونُ جَمْعًا كَمَا قَالُوا: هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلُهُ، مَعْنَاهُ: وَأَجْمَلُهُمْ. وَمَنْ أَسْنَدَ قُتِلَ أَوْ قُتِّلَ إِلَى رِبِّيُّونَ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: قُتِلَ بَعْضُهُمْ. كَمَا تَقُولُ: قُتِلَ بَنُو فُلَانٍ فِي وَقْعَةِ كَذَا، أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ. وَالرِّبِّيُّ عَابِدُ الرَّبِّ. وَكُسِرَ الرَّاءُ مِنْ تَغْيِيرِ النِّسَبِ، كَمَا قَالُوا: أَمْسِيٌّ في النسب إِلَى أَمْسِ، قَالَهُ: الْأَخْفَشُ. أَوِ الْجَمَاعَةُ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ. أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَى الرِّبَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، ثُمَّ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. أَوِ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ قَالَهُ: يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ. وَرِبِّيُّونَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا. قَالَ قُطْرُبٌ: جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْأُلُوفُ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. عَدَّدَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ: هُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعكرمة، والضحاك، وقتادة،

_ (1) سورة القمر: 54/ 44- 45.

وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ: هُمُ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: هُمُ الْعُلَمَاءُ الْأَتْقِيَاءُ الصُّبَّرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ. وَاخْتَارَهُ الْيَزِيدِيُّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَتْبَاعُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ الْوُلَاةُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الصَّالِحُونَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: وُزَرَاءُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ أَلْفٌ، وَالرِّبِّيُونَ جَمْعُهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ عَشَرَةُ آلَافٍ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: هُمُ الْمُكْثِرُونَ الْعِلْمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا كَثُرَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ، لِأَنَّ رِبَا أُصُولُهُ رَاءٌ وَبَاءٌ وَوَاوٌ، وَأُصُولُ هذا راء وباء وياء. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهُوَ مِنْ تغيير النسب. كما قالوا: دُهْرِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّهْرِ الطَّوِيلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْهُ: بِفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ وَالضَّمِيرُ فِي وَهَنُوا عَائِدٌ عَلَى الرِّبِّيِّينَ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قُتِلَ عائدا على النبي. وَإِنْ كَانَ رِبِّيُّونَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَكَذَلِكَ أَوْ لِلْمَفْعُولِ، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ. إِذْ لَا يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى رِبِّيُّونَ لِأَجْلِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ، لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِقَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ رِبِّيِّيهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَهَنُوا بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو السَّمَّالِ بِكَسْرِهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهَنَ يَهِنُ كَوَعَدَ يَعِدُ، وَوَهَنَ يَوْهَنُ كَوَجَلَ يَوْجَلُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو السَّمَّالِ أَيْضًا: وَهْنُوا بِإِسْكَانِ الْهَاءِ. كَمَا قَالُوا نَعْمٌ فِي نَعَمْ، وَشَهْدَ فِي شَهَدَ. وَتَمِيمُ تُسَكِّنُ عَيْنَ فَعْلَ. وَمَا ضَعُفُوا عَنِ الْجِهَادِ بَعْدَ مَا أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ: مَا ضَعُفَ يَقِينُهُمْ، وَلَا انْحَلَّتْ عَزِيمَتُهُمْ. وَأَصْلُ الضَّعْفَ نُقْصَانُ الْقُوَّةِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ والعقل. وقرىء ضَعَفُوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَحَكَاهَا الْكِسَائِيُّ لُغَةً. وَمَا اسْتَكَانُوا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَا قَعَدُوا عَنِ الْجِهَادِ فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا ذَلُّوا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا تَضَرَّعُوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَا اسْتَسْلَمُوا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ: مَا جَبُنُوا. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَا خَشَعُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: مَا ارْتَدُّوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ دِينَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَاتَلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ نَبِيُّهُمْ حَتَّى لَحِقُوا بِرَبِّهِمْ. وَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْوَهْنِ وَالِانْكِسَارِ عِنْدَ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِضَعْفِهِمْ عِنْدَ ذلك عن

مُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتِكَانَتِهِمْ لَهُمْ، حِينَ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَعْتَضِدَ بِالْمُنَافِقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ. وَاسْتَكَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْكَوْنِ، فَتَكُونُ أَصْلُ أَلِفِهِ وَاوًا أَوْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَاتَ فُلَانٌ بِكِينَةِ سُوءٍ، أَيْ بِحَالَةِ سُوءٍ. وَكَانَهُ يَكِينُهُ إِذَا خَضَّعَهُ قَالَ هَذَا: الْأَزْهَرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ. فَعَلَى قَوْلِهِمَا أَصْلُ الْأَلِفِ يَاءٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَطَائِفَةٌ مِنَ النُّحَاةِ: أَنَّهُ افْتَعَلَ مِنَ السُّكُونِ، وَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا أَلِفٌ. كَمَا قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ، يُرِيدُ مِنَ الْعَقْرَبِ. وَهَذَا الْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي جَمِيعِ تَصَارِيفِهَا بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ تَقُولُ: اسْتَكَانَ يَسْتَكِينُ فَهُوَ مُسْتَكِينٌ وَمُسْتَكَانٌ لَهُ، وَالْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ أَيْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ. أَوْ عَلَى دِينِهِمْ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ بَلَاءٍ، أَوْ أَذًى يَنَالُهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ مُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ، أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَكَثِيرًا مَا تَمَدَّحَتِ الْعَرَبُ بِالصَّبْرِ وَحَرَصَتْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ: وَتَشَكِّي النَّفْسُ مَا أَصَابَ بِهَا ... فَاصْبِرِي إِنَّكِ مِنْ قَوْمٍ صُبُرُ إِنْ تُلَاقِي سفسيالا بَلَغْنَا ... فُرُحَ الْخَيْرِ وَلَا تكبو الضبر وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْجَلَدِ وَالصَّبْرِ وَعَدَمِ الْوَهْنِ وَالِاسْتِكَانَةِ لِلْعَدُوِّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ، ذَكَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ، وَحَصَرَ قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ وَلَا مَفْزَعٌ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا قَوْلٌ إِلَّا هَذَا الْقَوْلٌ. لَا مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. فَمِنْ قَائِلٍ: نَأْخُذُ أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَمِنْ قَائِلٍ: نَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا، وَمِنْ قَائِلٍ مَا قَالَ حِينَ فَرَّ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ فُجِعُوا بِمَوْتِ نَبِيِّهِمْ أَوْ رِبِّيِّيهِمْ لَمْ يَهِنُوا، بَلْ صَبَرُوا وَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَهُمْ رِبِّيُّونَ أَحْبَارٌ هَضْمًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِشْعَارًا أَنَّ مَا نَزَلْ من بلاد الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ بِذُنُوبٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا كَانَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ بِعِصْيَانِ مَنْ عَصَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وإن قَالُوا فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ، جَعَلُوا مَا كَانَ أَعْرَفَ الِاسْمَ، لِأَنَّ إِنْ وَصِلَتَهَا تتنزل منزلة الضمير. وقولهم: مضاف للمضير، يَتَنَزَّلُ

مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الَمَهَدَوِيُّ بِرَفْعِ قَوْلِهِمْ، جعلوه اسم كان، والخبران قَالُوا. وَالْوَجْهَانِ فَصِيحَانِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَدْ قرىء: ثم لم تكن فتنتهم بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ، وَقَدَّمَ طَلَبَ الِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَلَبِ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ وَالنُّصْرَةِ، لِيَكُونَ طَلَبُهُمْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَنْ زَكَاةٍ وَطَهَارَةٍ. فَيَكُونُ طَلَبُهُمُ التَّثْبِيتَ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِغْفَارِ حَرِيًّا بِالْإِجَابَةِ، وَذُنُوبُنَا وَإِسْرَافُنَا مُتَقَارِبَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَجَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: الذُّنُوبُ مَا دُونُ الْكَبَائِرِ، وَالْإِسْرَافُ الْكَبَائِرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذُّنُوبُ هِيَ الْخَطَايَا، وَإِسْرَافُنَا أَيْ تَفْرِيطُنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الذُّنُوبُ عَامٌّ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَمْرِ الْكَبَائِرُ خَاصَّةً. وَالْأَقْدَامُ هُنَا قِيلَ: حَقِيقَةٌ، دَعَوْا بِتَثْبِيتِ الأقدام في مواطىء الْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ كَيْ لَا تَزُلْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى شَجِّعْ قُلُوبَنَا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَقِيلَ: ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ. وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مِنْ مَظَانِّهَا. وَثُبُوتُ الْقَدَمِ فِي الْحَرْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ثُبُوتِ صَاحِبِهَا فِي الدِّينِ. وَكَثِيرًا مَا جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ دَائِرَةً فِي الْحَرْبِ وَمَعَ النُّصْرَةِ كَقَوْلِهِ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا «1» إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ «2» وَقِيلَ: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فِي الْمُخَالَفَةِ، وَإِسْرَافَنَا فِي الْهَزِيمَةِ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا بِالْمُصَابَرَةِ، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ بِالْمُجَاهَدَةِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: فِي هَذَا الدُّعَاءِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لم يسع أَنْ يُدْعَى فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمُعَيَّنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَدْعِيَةٌ أَعْقَبَ اللَّهُ بِالْإِجَابَةِ فِيهَا فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: فَأَثَابَهُمُ مِنَ الْإِثَابَةِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ فِي دُعَائِهِمْ مَا يَتَضَمَّنُ الْإِجَابَةَ فِيهِ الثَّوَابَيْنَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا، فَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ. وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا يَتَضَمَّنُ ثَوَابَ الدُّنْيَا، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَنَحَهُمُ الثَّوَابَيْنِ. وَهُنَاكَ بَدَأُوا فِي الطَّلَبِ بِالْأَهَمِّ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَهُنَا أَخْبَرَ بِمَا أَعْطَاهُمْ مُقَدَّمًا. ذَكَرَ ثَوَابَ الدُّنْيَا لِيَكُونَ ذَلِكَ إِشْعَارًا لَهُمْ بِقَبُولِ دُعَائِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ قتادة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 250. (2) سورة محمد: 47/ 7.

وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: ثَوَابُ الدُّنْيَا هُوَ الظُّهُورُ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ الظَّفَرُ وَالْغَنِيمَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثَوَابُ الدُّنْيَا مِنَ النُّصْرَةِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْعِزِّ وَطِيبِ الذِّكْرِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: لَيْسَ إِلَّا الظَّفَرُ وَالْغَلَبَةُ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَمْ تَحِلَّ إِلَّا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا صَحِيحٌ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» وَهِيَ إِحْدَى الْخَمْسِ الَّذِي أُوتِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤْتَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ. وَحُسْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ بِلَا خِلَافٍ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: الْأَجْرُ وَالْمَغْفِرَةُ. وَخَصَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِالْحُسْنِ دَلَالَةً عَلَى فَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَهُ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ «1» وَتَرْغِيبًا فِي طَلَبِ مَا يُحَصِّلُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمُنَاسِبَةً لِآخِرِ الْآيَةِ. قَالَ عَلِيٌّ: مَنْ عَمِلَ لِدُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْسَانَ حِينَ سُئِلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» وَفَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا بِأَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَهُوَ مَنْ أَحْسَنَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فِي لُزُومِ طَاعَتِهِ، أَوْ مَنْ ثَبَتَ فِي الْقِتَالِ مَعَ نَبِيِّهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَغْلِبَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ الْخِطَابُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَمَا زَالَ الْكُفَّارُ مُثَابِرِينَ عَلَى رُجُوعِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً. وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ، لَنْ تَنْفَعَكُمْ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً «2» . وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ «3» وَقِيلَ: الْخِطَابُ خَاصٌّ بِمَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. فَعَلَى الْأَوَّلِ عَلَّقَ عَلَى مُطْلَقِ طَاعَتِهِمُ الرَّدَّ عَلَى الْعَقِبِ وَالِانْقِلَابِ بِالْخُسْرَانِ وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُمْ وَالْمُجَانَبَةِ لَهُمْ، فَلَا يُطَاعُونَ فِي شَيْءٍ وَلَا يُشَاوَرُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَجِرُّ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، وَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَامًّا. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا خَاصًّا. فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا أَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فَارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالَهُ: الْحَسَنُ. وَعَنْهُ: إِنْ تَسْتَنْصِحُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَغْوُونَهُمْ، وَيُوقِعُونَ لَهُمُ الشُّبَهَ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لَكُمْ نَبِيًّا حَقًّا لَمَا غُلِبَ وَلَمَا أَصَابَهُ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ حَالُهُ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، يَوْمًا لَهُ ويوما عليه.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 67. (2) سورة البقرة: 2/ 109. (3) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 69. [.....]

وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ كَعْبٌ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا، لَكِنْ أَجْمَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَنْ وَثِقْنَا بِنُصْحِهِ مِنْهُمْ، كَالْجَاسُوسِ وَالْخِرِّيتِ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ، وَصَاحِبِ الرَّأْيِ ذِي الْمَصْلَحَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالزَّوْجَةِ تُشِيرُ بِصَوَابٍ. وَالرِّدَّةُ هُنَا عَلَى الْعَقِبِ كِنَايَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ. وَخَاسِرِينَ: أَيْ مَغْبُونِينَ بِبَيْعِكُمُ الْآخِرَةَ. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ بَلْ: لِتَرْكِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ وَأَخْذٍ فِي كَلَامٍ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْكُفَّارُ أَوْلِيَاءَ فَيُطَاعُوا فِي شَيْءٍ، بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ عَلَى مَعْنَى: بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ السَّابِقَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُطِيعُوا الْكُفَّارَ فَتَكْفُرُوا، بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ مَوْلَاكُمْ. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَوْلَاهُمْ، أَيْ نَاصِرِهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ خَيْرُ نَاصِرٍ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى نُصْرَةِ أَحَدٍ، وَلَا وِلَايَتِهِ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَاتَلَ لِنَصْرِ دِينِ اللَّهِ لَا يُخْذَلُ وَلَا يُغْلَبُ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَاهُ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ «1» إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ «2» . سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَإِنَّا نَخْذُلُهُمْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَأَتَى بِالسِّينِ الْقَرِيبَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَكَذَا وَقَعَ. أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يَوْمَ أُحُدٍ فَانْهَزَمُوا إِلَى مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ إِذْ ذَاكَ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ. وَقِيلَ: ذَهَبُوا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالُوا: مَا صَنَعْنَا شَيْئًا، قَتَلْنَا مِنْهُمْ ثُمَّ تَرَكْنَاهُمْ وَنَحْنُ قَاهِرُونَ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ، فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَمْسَكُوا. وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْرَامِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْجَعْلِ، وَنَظِيرُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ «3» وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ من فويهما ... عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أَشَدَّ رِجَامِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنُلْقِي بِالنُّونِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِعِظَمِ مَا يُلْقَى، إِذْ أَسْنَدَهُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: سَيُلْقِي بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى الْغَيْبَةِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وَقَدَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ: وَهُوَ مَجْرُورٌ عَلَى المفعول للاهتمام بالمحل

_ (1) سورة محمد: 47/ 7. (2) سورة آل عمران: 3/ 16. (3) سورة النور: 24/ 4.

الْمُلْقَى فِيهِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمُلْقَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: الرُّعُبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا. فَقِيلَ: لُغَتَانِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ السُّكُونُ، وَضُمَّ إِتْبَاعًا كَالصُّبْحِ وَالصُّبُحِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ الضَّمُّ، وَسُكِّنَ تَخْفِيفًا، كَالرُّسْلِ وَالرُّسُلِ. وَذَكَرُوا فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ يَوْمَ أُحُدٍ قِصَّةً طَوِيلَةً أَرَدْنَا أَنْ لَا نُخَلِّيَ الْكِتَابَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَخَّصْنَا مِنْهَا أَنْ عَلِيًّا أَخْبَرَ الرَّسُولَ بِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ حِينَ ارْتَحَلُوا رَكِبُوا الْإِبِلَ وَجَنَبُوا الْخَيْلَ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَجَهَزَ وَاتَّبَعَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ. وَأَنَّ مَعْبَدَ الْخُزَاعِيَّ جَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِرٌ مُمْتَعِضٌ مِمَّا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ تَمِيلُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هَمُّوا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْقِتَالِ فَخَذَلَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمَعْبَدٌ. وَقَالَ مَعْبَدٌ: خَرَجُوا يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، وَلَمْ أَرَ إِلَّا نَوَاصِيَ خَيْلِهِمْ قَدْ جَاءَتْكُمْ. وَحَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ أَنِّي قُلْتُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا وَأَنْشَدَ: كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بالحرد الْأَبَابِيلِ تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٍ مَهَازِيلٍ فَظَلْتُ أَعْدُو أَظُنُّ الْأَرْضَ مَائِلَةً ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ إِلَى آخِرِ الشِّعْرِ، فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. وَقَوْلُهُ: سَنُلْقِي، وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ بَعْدَ أُحُدٍ، وَالظَّفَرِ. وَقَالَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ يُلْقِي الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ. بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ آلِهَةً لَمْ يُنَزِّلْ بِإِشْرَاكِهَا حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا، وَتَسْلِيطُ النَّفْيِ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَالْمَقْصُودُ: نَفْيُ السُّلْطَانِ، أَيْ آلِهَةٌ لَا سُلْطَانَ فِي إِشْرَاكِهَا، فَيَنْزِلُ نَحْوَ قَوْلِهِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ وَقَوْلُهُ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ أَيْ لَا يَنْجَحِرُ الضَّبُّ فَيُرَى بِهَا. وَالْمُرَادُ نَفْيُ السُّلْطَانِ وَالنُّزُولُ مَعًا. وَكَانَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ سَبَبًا لِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ، لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الْمَوْتَ وَيُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ، إِذْ لَمْ تَتَعَلَّقْ آمَالُهُمْ بِالْآخِرَةِ وَلَا بِثَوَابٍ فِيهَا وَلَا عِقَابٍ، فَصَارَ اعْتِقَادُهُمْ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِي الرَّغْبَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا قَالُوا:

إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، إِذْ لَا بُرْهَانَ مَعَ الْمُقَلِّدِ. وَمَأْواهُمُ النَّارُ أُخْبِرَ تَعَالَى بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَرْجِعَهُمْ إِلَى النَّارِ فَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَرْعُوبُونَ وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبُونَ، بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ. فَهُوَ جَالِبٌ لَهُمُ الشَّرَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ بَالَغَ فِي ذَمِّ مَثْوَاهُمْ وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ النَّارُ. وَجَعَلَ النَّارَ مَأْوَاهُمْ وَمَثْوَاهُمْ. وَبَدَأَ بِالْمَأْوَى وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الثَّوَاءُ، لِأَنَّ الثَّوَاءَ دَالٌّ عَلَى الْإِقَامَةِ، فَجَعَلَهَا مَأْوًى وَمَثْوًى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ «2» وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ النَّارَ وَهُوَ الظُّلْمُ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إِذْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ. كَمَا قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «3» . وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ هَذَا جَوَابٌ لِمَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ وَالْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ، فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ أُتِينَا فَنَزَلَتْ إِعْلَامًا أَنَّهُ تَعَالَى صَدَقَهُمُ الْوَعْدَ وَنَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَوَّلًا، وَكَانَ الْإِمْدَادُ مَشْرُوطًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى. وَاتَّفَقَ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ مَا نَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَجَاءَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِجَمْعِ ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَصْدُرْ مَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَةِ مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِلْجَمِيعِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، وَفِي ذَلِكَ إِبْقَاءٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ وَسَتَرَ، إِذْ لَمْ يُعَيِّنْ وَزَجْرٌ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ أَنْ يَفْعَلَ. وَصِدْقُ الْوَعْدُ: هُوَ أَنَّهُمْ هَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا، وَكَانَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالزُّبَيْرِ وَأَبِي دُجَانَةَ وَعَاصِمِ بْنِ أَبِي الْأَفْلَحِ بَلَاءٌ عَظِيمٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي السِّيَرِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ. وَالْمُسْلِمُونَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ. وَتَعَدَّتْ صَدَقَ هُنَا إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، تَقُولُ: صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، وَصَدَقْتُ زَيْدًا فِي الْحَدِيثِ، ذَكَرَهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي بَابِ مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَيَكُونُ من باب استغفر. واختاروا العامل فِي إِذْ صَدَقَكُمُ. وَمَعْنَى تَحَسُّونَهُمْ: تَقْتُلُونَهُمْ. وَكَانُوا قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ رجلا. وقرأ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 37. (2) سورة فصلت: 41/ 24. (3) سورة لقمان: 31/ 13

عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ تَحُسُّونَهُمْ رُبَاعِيًّا مِنَ الْإِحْسَاسِ، أَيْ تُذْهِبُونَ حِسَّهُمْ بِالْقَتْلِ. وَتَمَنِّي الْقَتْلَ بِوَقْتِ الْفَشَلِ وَهُوَ: الْجُبْنُ، وَالضَّعْفُ. وَالتَّنَازُعُ وَهُوَ التَّجَاذُبُ فِي الْأَمْرِ. وَهَذَا التَّنَازُعُ صَدَرَ مِنَ الرُّمَاةِ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَتَّبَ الرُّمَاةَ عَلَى فَمِ الْوَادِي وَقَالَ: «اثْبُتُوا مَكَانَكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَاهُمْ، فَإِنَّا لَا نَزَالُ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ» وَوَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ إِنِ انْتَهَوْا إِلَى أَمْرِهِ. فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ بَعْضُ الرُّمَاةِ: قَدِ انْهَزَمُوا فَمَا مَوْقِفُنَا هُنَا؟ الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، الْحَقُوا بِالْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَثْبُتُ مَكَانَنَا كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: التَّنَازُعُ هُوَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاخْتِلَافِ حِينَ صِيحَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. وَالْعِصْيَانُ هُوَ ذَهَابُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الرُّمَاةِ مِنْ مَكَانِهِ طَلَبًا لِلنَّهْبِ وَالْغَنِيمَةِ، وَكَانَ خَالِدٌ حِينَ رَأَى قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ وَحَمَلَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الرُّمَاةِ فَقَتَلَهُمْ، وَحَمَلَ عَلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَاجَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ رَجُلًا. مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ، وَهُوَ ظَفَرُ الْمُؤْمِنِينَ وَغَلَبَتُهُمْ. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدٍ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ مَا دُونَ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، إِذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلُّوا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ أَدْبَارِنَا وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلَا أن محمدا قد قتل، فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ الْقَوْمُ عَلَيْنَا. وإذا فِي قَوْلِهِ: إِذَا فَشِلْتُمْ، قِيلَ: بِمَعْنَى إِذْ، وَحَتَّى حَرْفُ جَرٍّ وَلَا جَوَابَ لَهَا إِذْ ذَاكَ، وَيَتَعَلَّقُ بِتَحُسُّونَهُمْ أَيْ: تَقْتُلُونَهُمْ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. وَقِيلَ: حَتَّى حَرْفُ ابْتِدَاءٍ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى جُمَلِ الِابْتِدَاءِ وَالْجَوَابُ مَلْفُوظٌ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَتَنَازَعْتُمْ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، قَالَهُ: الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَثُمَّ صَرَفَكُمْ عَلَى زِيَادَةِ ثُمَّ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَاللَّذَانِ قَبْلَهُمَا ضِعَافٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: انْهَزَمْتُمْ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ: مَنَعَكُمْ نَصْرَهُ، وَغَيْرُهُمَا: امْتُحِنْتُمْ. وَالتَّقَادِيرُ مُتَقَارِبَةٌ. وَحَذْفُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ «1» تَقْدِيرُهُ فَافْعَلْ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَحْذُوفَ غَيْرُ مَا قَدَّرُوهُ وَهُوَ: انْقَسَمْتُمْ إِلَى قِسْمَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ «2» التَّقْدِيرُ: انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ لَا يُقَالُ: كَيْفَ، يقال: انقسموا فيمن

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 35. (2) سورة لقمان: 31/ 32.

فَشِلَ وَتَنَازَعَ، وَعَصَى. لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمْ تَصْدُرْ مِنْ كُلِّهِمْ، بَلْ مِنْ بَعْضِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَقَدُّمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَعْصُوا بِتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ، وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ هَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْغُيُوبِ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَا يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَلَا ينتهي علمنا إِلَيْنَا إِلَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ يُخْبِرُ بِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الدُّنْيَا الْغَنِيمَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، مَا شَعَرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَالَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ هُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزِهِمْ مَعَ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جبير فِي نَفَرٍ دُونَ الْعَشْرَةِ قُتِلُوا جَمِيعًا، وَكَانَ الرُّمَاةُ خَمْسِينَ ذَهَبَ مِنْهُمْ نَيِّفٌ عَلَى أَرْبَعِينَ لِلنَّهْبِ وَعَصَوُا الْأَمْرَ. وَمِمَّنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ مَنْ ثَبَتَ بَعْدَ تَخَلْخُلِ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَضْطَرِبْ فِي قِتَالِهِ وَلَا فِي دِينِهِ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أَيْ جَعَلَكُمْ تَنْصَرِفُونَ. لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَكُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ وَثَبَاتَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ عِنْدَهَا. وَقِيلَ: صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أَيْ لَمْ تَتَمَادَ الْكَسْرَةُ عَلَيْكُمْ فَيَسْتَأْصِلُوكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ يُكَلِّفْكُمْ طَلَبَهُمْ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ. وَتَأَوَّلَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَعْنَى: ثُمَّ انْصَرَفْتُمْ عَنْهُمْ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْبَ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ابْتِلَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَى لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ لِيُنْزِلَ بِكُمْ ذَلِكَ الْبَلَاءَ مِنَ الْقَتْلِ وَالتَّمْحِيصِ. وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ قِيلَ: عَنْ عُقُوبَتِكُمْ عَلَى فِرَارِكُمْ، وَلَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: بِرَدِّ الْعَدُوِّ عَنْكُمْ. وَقِيلَ: بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْعَوْدِ إِلَى قِتَالِهِمْ مِنْ فَوْرِكُمْ. وَقِيلَ: بِتَرْكِ الِاسْتِئْصَالِ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ. فَمَعْنَى عَفَا عَنْكُمْ أَبْقَى عَلَيْكُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ سَبْعُونَ، وَقُتِلَ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ. وَإِنَّمَا الْعَفْوُ إِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ هَؤُلَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ غِضَابٌ لِلَّهِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 إلى 163]

يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ، نُهُوا عن شيء فضيعوه، فو الله مَا تُرِكُوا حَتَّى غُمُّوا بِهَذَا الْغُمِّ. يَا فِسْقَ الْفَاسِقِينَ الْيَوْمَ يُحِلُّ كُلَّ كَبِيرَةٍ، وَيَرْكَبُ كُلَّ دَاهِيَةٍ، وَيَسْحَبُ عَلَيْهَا ثِيَابَهُ، وَيَزْعُمُ أَنْ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُ الْحَسَنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ لَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِالْعِصْيَانِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ قَوْلِهِ: وَعَصَيْتُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الذَّنْبَ كَانَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِمَّا نَزَلَ بِكُمْ، فَعَفَا عَنْكُمْ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِالْعَفْوِ عَمَّا كَانَ يُسْتَحَقُّ بِالذَّنْبِ مِنَ الْعِقَابِ. وَقَالَ بِهَذَا: ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَجَمَاعَةٌ. وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَحْذِيرٌ. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فِي الْأَحْوَالِ، أَوْ بِالْعَفْوِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ ضُرُوبًا: مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ فِي: أَمْ حَسِبْتُمْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: انْقَلَبْتُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ، وَفِي ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ. وَالْمُغَايِرُ فِي قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ قَالُوا. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ فِي: تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أَيِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا فِيمَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالْقُلُوبِ، لِأَنَّ ثَبَاتَ الْأَقْدَامِ مُتَسَبِّبٌ عَنْ ثَبَاتِ الْقُلُوبِ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وَالتَّكْرَارُ فِي: وَلَمَّا يَعْلَمْ وَيَعْلَمْ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ. أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ الصَّابِرِ. وَفِي: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْمَوْتِ خِلَافُ الْعُرْفِ فِي الْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى: مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ فَهُوَ وَاحِدٌ. وَمَنْ فِي وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَفِي: ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي قَوْلِ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَفِي: ثواب وحسن ثواب. وَفِي: لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَفِي: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْجُمْلَتَيْنِ. وَالتَّقْسِيمُ فِي: وَمَنْ يُرِدْ وَفِي مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: الشَّاكِرِينَ، وَالصَّابِرِينَ، وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالطِّبَاقُ: فِي آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالتَّشْبِيهُ فِي: يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، شَبَّهَ الرُّجُوعَ عَنِ الدِّينِ بِالرَّاجِعِ الْقَهْقَرَى، وَالَّذِي حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْكُفْرِ بِالْخَاسِرِ الَّذِي ضَاعَ رِبْحُهُ وَرَأْسُ مَالِهِ وَبِالْمُنْقَلِبِ الَّذِي يَرُوحُ فِي طَرِيقٍ وَيَغْدُو فِي أُخْرَى، وَفِي قَوْلِهِ: سَنَلْقَى. وَقِيلَ: هَذَا كُلُّهُ اسْتِعَارَةٌ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)

الْإِصْعَادُ: ابْتِدَاءُ السَّفَرِ، وَالْمَخْرَجُ. وَالصُّعُودُ: مَصْدَرُ صَعِدَ رَقَى مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ، قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أَصْعَدَ أَبْعَدَ فِي الذَّهَابِ، فَكَأَنَّهُ إِبْعَادٌ كَإِبْعَادِ الِارْتِفَاعِ. قَالَ:

أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ صَعِدْتَ ... فَإِنَّ لَهَا فِي أَرْضِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ كُنْتَ تُبْكِينِي عَلَى الْإِصْعَادِ ... فَالْيَوْمَ سَرَحْتُ وَصَاحَ الْحَادِي وَقَالَ المفضل: صعد، وأصعد وصعّده بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ. وَصَعَدَةٌ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَرْضِ. وَأَصْعَدَ: مَعْنَاهُ دَخَلَ فِي الصَّعِيدِ. فَاتَ الشَّيْءُ أَعْجَزَ إِدْرَاكُهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَمَصْدَرُهُ: فَوْتٌ، وَهُوَ قِيَاسُ فِعْلِ الْمُتَعَدِّي. النُّعَاسُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ. يُقَالُ: نَعِسَ يَنْعَسُ نُعَاسًا فَهُوَ نَاعِسٌ، وَلَا يُقَالُ: نَعْسَانُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ سَمِعْتُهَا وَلَكِنِّي لَا أَشْتَهِيهَا. الْمَضْجَعُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُتَّكَأُ فِيهِ لِلنَّوْمِ، وَمِنْهُ: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ «1» وَالْمَضَاجِعُ: الْمَصَارِعُ، وَهِيَ أَمَاكِنُ الْقَتْلِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِضَجْعَةِ الْمَقْتُولِ فِيهَا. الْغَزْوُ الْقَصْدُ وَكَذَلِكَ الْمَغْزَى، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى قَصْدٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ: الْإِيقَاعُ بِالْعَدُوِّ. وَتَقُولُ: غَزَا بَنِي فُلَانٍ، أَوْقَعَ بِهِمُ الْقَتْلَ وَالنَّهْبَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَغُزًّى: جَمْعُ غَازٍ، كعاف وعفى. وَقَالُوا: غُزَّاءٌ بِالْمَدِّ. وَكِلَاهُمَا لَا يَنْقَاسُ. أَجْرَى جَمْعَ فَاعِلِ الصِّفَةِ مِنَ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ مَجْرَى صَحِيحِهَا، كَرُكَّعٍ وَصُوَّامٍ. وَالْقِيَاسُ: فُعَلَةٌ كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ. وَيُقَالُ: أَغْزَتِ النَّاقَةُ عَسُرَ لَقَاحُهَا. وَأَتَانٌ مُغْزِيَةٌ تَأَخَّرَ نِتَاجُهَا ثُمَّ تُنْتِجُ. يُقَالُ: لِأَنَّ الشَّيْءَ يَلِينُ، فَهُوَ لَيِّنٌ. وَالْمَصْدَرُ: لِينٌ وَلَيَانٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَأَصْلُهُ فِي الْجِرْمِ وَهُوَ نُعُومَتُهُ، وَانْتِفَاءُ خُشُونَتِهِ، وَلَا يُدْرَكُ إِلَّا بِاللَّمْسِ. ثُمَّ تَوَسَّعُوا وَنَقَلُوهُ إِلَى الْمَعَانِي. الْفَظَاظَةُ الْجَفْوَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا. قَالَ الشَّاعِرُ فِي ابْنَةٍ لَهُ: أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ... وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ الْغِلَظُ: أَصْلُهُ فِي الْجِرْمِ، وَهُوَ تَكَثُّرُ أَجْزَائِهِ. ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي قِلَّةِ الِانْفِعَالِ وَالْإِشْفَاقِ وَالرَّحْمَةِ. كَمَا قَالَ: يَبْكِي عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَدٍ ... لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكْبَادًا مِنَ الْإِبِلِ الِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ. وَفَضَضْتُ الشَّيْءَ كَسَرْتُهُ، وَهُوَ تَفْرِقَةُ أجزائه.

_ (1) سورة النساء: 4/ 34.

الْخَذْلُ وَالْخِذْلَانُ: هُوَ التَّرْكُ فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّارِكِ. وَأَصْلُهُ: مِنْ خَذْلِ الظَّبْيِ، وَلِهَذَا قِيلَ لَهَا: خَاذِلٌ إِذَا تَرَكَتْهَا أُمُّهَا. وَهَذَا عَلَى النَّسَبِ أَيْ ذَاتُ خَذْلٍ، لِأَنَّ الْمَتْرُوكَةَ هِيَ الْخَاذِلُ بِمَعْنَى مَخْذُولَةٍ، وَيُقَالُ: خَاذِلَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْمَاءَ خَاذِلَةٍ ... مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِنًا خَرِقَا وَيُقَالُ أَيْضًا لَهَا: خَذُولٌ فَعُولٌ، بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ: خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيدِ وَتَرْتَدِي الْغُلُولُ: أَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي خَفَاءٍ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ غَلَّ يَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَالْغِلُّ الضَّغَنُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ غَلَّ يَغِلُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَغَلَّ الرَّجُلُ إِغْلَالًا، خَانَ فِي الْأَمَانَةِ. قَالَ النَّمِرُ: جَزَى اللَّهُ عَنِّي جَمْرَةَ بْنَ نَوْفَلٍ ... جَزَاءَ مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: الْغُلُولُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَلَلِ وَهُوَ الْمَاءُ الْجَارِي فِي أُصُولِ الشَّجَرِ وَالرُّوحِ. وَيُقَالُ أَيْضًا فِي الْغُلُولِ: أَغَلَّ إِغْلَالًا وَأَغَلَّ الْحَارِزُ سَرَقَ شَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ مَعَ الْجِلْدِ. وَيُقَالُ: أَغَلَّهُ وَجَدَهُ غَالًّا كَقَوْلِكَ: أَبْخَلْتُهُ وَجَدْتَهُ بَخِيلًا. السُّخْطُ مَصْدَرُ سَخِطَ، جَاءَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَيُقَالُ فِيهِ: السُّخْطُ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْخَاءِ. وَيُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ فِي سُخْطَةِ الْمَلِكِ أَيْ فِي سُخْطِهِ. وَالسُّخْطُ الْكَرَاهَةُ الْمُفْرِطَةُ، وَيُقَابِلُهُ الرِّضَا. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ هَذِهِ الْجُمَلُ الَّتِي تَضَمَّنَتِ التَّوْبِيخَ وَالْعَتَبَ الشَّدِيدَ. إِذْ هُوَ تِذْكَارٌ بِفِرَارِ مَنْ فَرَّ وَبَالَغَ فِي الْهَرَبِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ. فَمِنْ شِدَّةِ الْفِرَارِ وَاشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَرُومُ نَجَاتَهَا لَمْ يُصْغِ إِلَى دُعَاءِ الرَّسُولِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَتَبِ حَيْثُ فَرَّ، وَالْحَالَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُصْعِدُونَ مُضَارِعُ أَصْعَدَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَصْعَدَ لِلدُّخُولِ. أَيْ: دَخَلْتُمْ فِي الصَّعِيدِ، ذَهَبْتُمْ فِيهِ. كَمَا تَقُولُ: أَصْبَحَ زَيْدٌ، أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ. فَالْمَعْنَى: إِذْ تَذْهَبُونَ فِي الْأَرْضِ. وَتُبَيِّنُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْيَزِيدِيُّ: تُصْعِدُونَ مِنْ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ إِذَا ارْتَقَى إِلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْرَةَ: تَصَعَّدُونَ مِنْ تَصَعَّدَ فِي السُّلَّمِ، وَأَصْلُهُ: تَتَصَعَّدُونْ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى

الخلاف في ذلك، أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ؟ أَمْ تَاءُ تَفْعَلُ؟ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ أَوَّلًا أَصْعَدُوا فِي الْوَادِي لَمَّا أَرْهَقَهُمُ الْعَدْوُ، وَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ: يَصْعَدُونَ وَلَا يَلْوُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَائِبِ. والعامل في إذا ذكر مَحْذُوفَةٌ. أَوْ عَصَيْتُمْ، أَوْ تَنَازَعْتُمْ، أَوْ فَشِلْتُمْ، أَوْ عَفَا عَنْكُمْ، أَوْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، أَوْ صَرَفَكُمْ، وَهَذَانِ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَمَا قَبْلَهُ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَالثَّلَاثَةُ قَبْلَهُ بَعِيدَةٌ لِطُولِ الْفَصْلِ. وَالْأَوَّلُ جَيِّدٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ إِذْ جُمَلٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ إِعْرَابِيٌّ بِمَا بَعْدَهَا، إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السِّيَاقَ كُلَّهَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَتَعَلُّقُهُ بِصَرَفَكُمْ جَيِّدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَبِعَفَا عَنْكُمْ جَيِّدٌ مِنْ حَيْثُ الْقُرْبِ. وَمَعْنَى ولا تلوون على أحد: أَيْ لَا تَرْجِعُونَ لِأَحَدٍ من شدة الفرار. يقال: لَوَى بِكَذَا ذَهَبَ بِهِ. وَلَوَى عَلَيْهِ: كَرَّ عَلَيْهِ وَعَطَفَ. وَهَذَا أَشَدُّ فِي الْمُبَالَغَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَخُو الْجَهْدِ لَا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا لِأَنَّهُ فِي الْآيَةِ نَفْيٌ عَامٌّ، وَفِي هَذَا نَفْيٌ خَاصٌّ، وَهُوَ عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا. وَقَالَ دريد ابن الصِّمَّةَ: وَهَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شيء؟ وقرىء تلو من بِإِبْدَالِ الوَاوِ هَمْزَةَ، وَذَلِكَ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ. وَقِيَاسُ هَذِهِ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ أَنْ لَا تُبْدَلَ هَمْزَةً لِأَنَّ الضَّمَّةَ فِيهَا عَارِضَةٌ. وَمَتَى وَقَعَتِ الْوَاوُ غَيْرَ أَوَّلٍ وَهِيَ مَضْمُومَةٌ، فَلَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ مِنْهَا هَمْزَةً إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الضَّمَّةُ لَازِمَةً. الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهَا بِالْإِسْكَانِ. مِثَالُ ذَلِكَ: فَوُوجٌ وَفَوُولٌ. وَغَوُورٌ. فَهُنَا يَجُوزُ فؤوج وقؤول وغؤور بِالْهَمْزِ. وَمِثْلُ كَوْنِهَا عَارِضَةٌ: هَذَا دُلُوكٌ. وَمِثْلُ إِمْكَانِ تَخْفِيفِهَا بِالْإِسْكَانِ: هَذَا سُورٌ، وَنُورٌ، جَمْعُ سُوَارٍ وَنُوَارِ. فَإِنَّكَ تَقُولُ فِيهِمَا: سُورٌ وَنُورٌ. وَنَبَّهَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ مُدْغَمًا فيها نحو: تعود، فلا يجوز فيه تعود بِإِبْدَالِ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً. وَزَادَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ شَرْطًا آخَرُ وَهُوَ: أَنْ لَا تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ نَحْوَ: التَّرَهْوُكُ وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَلُونَ، وَخَرَّجُوهَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ هَمَزِ الْوَاوِ، وَنَقَلَ الْحَرَكَةَ إِلَى اللَّامِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحذفت إحدى الواوين الساكنين، وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: هِيَ قِرَاءَةٌ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ هَمَزَ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةِ، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ تَخَيَّلَ هَذَا الرَّجُلُ أَنَّهُ قَدْ نُقِلَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى اللَّامِ فَاجْتَمَعَ وَاوَانِ سَاكِنَانِ، إِحْدَاهُمَا: الْوَاوُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، وَالْأُخْرَى: وَاوُ الضَّمِيرِ. فَحُذِفَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لِأَنَّهُمَا سَاكِنَتَانِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي صِنَاعَةِ النَّحْوِ. لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُتَرَكِّبَةً عَلَى لُغَةِ مَنْ هَمَزَ الْوَاوَ ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَتَهَا إِلَى اللَّامِ، فَإِنَّ الْهَمْزَةَ إِذْ ذَاكَ تُحْذَفُ، وَلَا يَلْتَقِي

واوان ساكنتان. وَلَوْ قَالَ: اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ، لِأَنَّ الضَّمَّةَ كَأَنَّهَا وَاوٌ، فَصَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ جَمَعَ ثَلَاثَ وَاوَاتٍ، فَتَنْقَلِبُ الضَّمَّةُ إِلَى اللَّامِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ، فَحُذِفَتِ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَلَمْ يُبْهِمْ فِي قَوْلِهِ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لَأَمْكَنَ ذَلِكَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، أَمَّا أَنْ يَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ هَمَزَ عَلَى زَعْمِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعَ وَلِيَ وَعُدِّيَ بِعَلَى، عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى الْعَطْفِ. أَيْ: لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَاصِمٍ: تُلْوُونَ مِنْ أَلْوَى، وَهِيَ لُغَةٌ فِي لَوَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَى أَحَدٍ الْعُمُومُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبَّرَ بأحد عَنْهُ تَعْظِيمًا لَهُ وَصَوْنًا لِاسْمِهِ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ ذَهَابِهِمْ عَنْهُ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أُحُدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ، وَهُوَ الْجَبَلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقِرَاءَةُ الشَّهِيرَةُ أَقْوَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْجَبَلِ إِلَّا بَعْدَ مَا فَرَّ النَّاسُ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ إِصْعَادِهِمْ إِنَّمَا كَانَتْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْخِطَابُ فِيهِ لِمَنْ أَمْعَنَ فِي الْهَرَبِ ولم يصعد الجبل مع مَنْ صَعِدَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تلوون على أحد، أي مَنْ كَانَ عَلَى جَبَلِ أُحُدٍ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ الَّذِينَ صَعِدُوا. وَتَلْوُونَ هُوَ مِنْ لَيِّ الْعُنُقِ، لِأَنَّ مَنْ عَرَجَ عَلَى الشَّيْءِ يَلْوِي عُنُقَهُ، أَوْ عِنَانَ دَابَّتِهِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الرَّسُولُ لِلْعَهْدِ. وَدُعَاءُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ» وَالنَّاسُ يَفِرُّونَ عَنْهُ. وَرُوِيَ: «أَيْ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا» قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ : وَفِي رِوَايَةٍ: «ارْجِعُوا إِلَيَّ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ مَنْ يَكِرُّ لَهُ الْجَنَّةُ» وَهُوَ قَوْلُ: السُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَانَ دُعَاؤُهُ تَغْيِيرٌ لِلْمُنْكَرِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَرَى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْكَرَ وَهُوَ الِانْهِزَامُ ثُمَّ لَا يَنْهَى عَنْهُ. وَمَعْنَى فِي أُخْرَاكُمْ: أَيْ فِي سَاقَتِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمُ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ. يُقَالُ: جِئْتُ فِي آخِرِ النَّاسِ وَأُخْرَاهُمْ، كَمَا تَقُولُ: فِي أَوَّلِهِمْ وَأُولَاهُمْ بِتَأْوِيلِ مُقَدِّمَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمُ الْأُولَى. وَفِي قَوْلِهِ: فِي أُخْرَاكُمْ دَلَالَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى شَجَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَعْقَابِ الشُّجْعَانِ وَهُمْ فُرَّارٌ وَالثَّبَاتُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِلْأَبْطَالِ الْأَنْجَادِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْجَعَ النَّاسِ. قَالَ سَلَمَةُ: كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَاهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ الْفَاعِلُ بِأَثَابَكُمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِثَابَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُغَالَبَةِ انْتَهَى. وَسُمِّيَ الْغَمُّ ثَوَابًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَائِمٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ مَقَامَ الثَّوَابِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لَوْلَا الْفِرَارُ. فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ:

تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ وَقَوْلُهُ: أَخَافَ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا جَعَلَ الْقُيُودَ وَالسِّيَاطَ عَطَاءً، وَمُحَدْرَجَةٌ بِمَعْنَى مُدَحْرَجَةٍ. وَالْبَاءُ فِي بِغَمٍّ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَوْ لِلسَّبَبِ. فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُصَاحَبَةِ وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا بِمَعْنَى: مَعَ. وَالْمَعْنَى: غَمًّا مُصَاحِبًا لِغَمٍّ، فَيَكُونُ الْغَمَّانِ إِذْ ذَاكَ لَهُمْ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ. وَالثَّانِي: إِشْرَافُ خَالِدٍ بِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ سَبَبُهُ فِرَارُهُمُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي سَبَبُهُ فِرَارُهُمْ حِينَ سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَأَصَابَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ. وَالثَّانِي حِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ، قَالَهُ: قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ. وَقِيلَ: عَكْسُ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَعَزَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ. وَالثَّانِي: إِشْرَافُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ هُوَ قَتْلُهُمْ وَجِرَاحُهُمْ وَكُلُّ مَا جَرَى فِي ذَلِكَ الْمَأْزِقِ. وَالثَّانِي: إِشْرَافُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، قَالَهُ: السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَغَيْرُهُمَا. وَعَبَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْغَمَّيْنِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: غَمًّا بَعْدَ غَمٍّ، وَغَمًّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ مِنَ الِاغْتِمَامِ بِمَا أُرْجِفَ بِهِ مِنْ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْجُرْحِ، وَالْقَتْلِ، وَظَفَرِ الْمُشْرِكِينَ، وَفَوْتِ الْغَنِيمَةِ، وَالنَّصْرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ: غَمًّا بَعْدَ غَمٍّ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى، لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ. لِأَنَّ الْبَاءَ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى بَعْدَ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى غَمًّا عَلَى غَمٍّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، فَيَكُونُ الْغَمُّ الْأَوَّلُ لِلصَّحَابَةِ. وَالثَّانِي قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: مُتَعَلِّقُهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمَعْنَى: أَثَابَكُمْ غَمًّا بِالْغَمِّ الَّذِي أُوقِعَ عَلَى أَيْدِيكُمْ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْبَاءُ عَلَى هَذَا بَاءُ مُعَادِلَةٍ، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ بَدْرٍ: وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقُهُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: جَازَاكُمْ غَمًّا بِسَبَبِ الْغَمِّ الَّذِي أَدْخَلْتُمُوهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَعِصْيَانِكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: فَأَثَابَكُمْ لِلرَّسُولِ، أَيْ فَآسَاكُمْ فِي الِاغْتِمَامِ، وَكَمَا غَمَّكُمْ مَا نَزَلْ بِهِ مِنْ كَسْرِ الرَّبَاعِيَةِ وَالشَّجَّةِ وَغَيْرِهِمَا غَمَّهُ مَا نَزَلْ بِكُمْ، فأثابكم غما اغْتَمَّهُ لِأَجْلِكُمْ بِسَبَبِ غَمٍّ اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم عَلَى عِصْيَانِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ

لِيُسْلِيَكُمْ وَيُنَفِّسَ عَنْكُمْ، كَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنْ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الْأَفْعَالُ السَّابِقَةُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ «1» وَقَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ «2» وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ «3» وَاللَّهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَثَابَكُمْ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَذِكْرُ الرَّسُولِ إِنَّمَا جَاءَ فِي جُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ نَعَى عَلَيْهِمْ فِرَارَهُمْ مَعَ كَوْنِ مَنِ اهْتَدَوْا عَلَى يَدِهِ يَدْعُوهُمْ، فَلَمْ يجىء مَقْصُودًا لِأَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ، إِنَّمَا الْجُمْلَةُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ إِذْ هِيَ حَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأَثَابَكُمْ عَطْفٌ عَلَى صَرَفَكُمْ انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ، لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِي، لِأَنَّ إِذْ تَصْرِفُ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي، إِذْ هِيَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى. وَالْمَعْنَى: إِذْ صَعِدْتُمْ وَمَا لَوَيْتُمْ عَلَى أَحَدٍ فَأَثَابَكُمْ. لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ اللَّامُ لَامُ كَيْ، وَتَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَأَثَابَكُمْ. فَقِيلَ: لَا زَائِدَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاغْتِمَامِ انْتِفَاءُ الْحُزْنِ. فَالْمَعْنَى: عَلَى أَنَّهُ غَمَّهُمْ لِيُحْزِنَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ مُوَافَقَتِهِمْ قَالَهُ: أَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُ. وَتَكُونُ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «4» إِذْ تَقْدِيرُهُ: لِأَنْ يَعْلَمَ. وَيَكُونُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ تَبْكِيتًا لَهُمْ، وَزَجْرًا أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَا ثَابِتَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ النَّفْيِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ الْإِثَابَةِ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا لِتَتَمَرَّنُوا عَلَى تَجَرُّعِ الْغُمُومِ، وَتُضْرَوْا بِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، فَلَا تَحْزَنُوا فِيمَا بَعْدُ عَلَى فَائِتٍ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلَا عَلَى مُصِيبٍ مِنَ الْمَضَارِّ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ ثُبُوتِيَّةً، وَهِيَ التَّمَرُّنُ عَلَى تَجَرُّعِ الْغُمُومِ وَالِاعْتِيَادِ لِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْحُزْنِ، وَجَعَلَ ظَرْفَ الْحُزْنِ هُوَ مستقبل لا تعلق له بِقِصَّةِ أُحُدٍ، بَلْ لِيَنْتَفِيَ الْحُزْنُ عَنْكُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى لِتَعْلَمُوا أَنَّ مَا وَقَعَ بِكُمْ إِنَّمَا هُوَ بِجِنَايَتِكُمْ، فَأَنْتُمْ آذَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَعَادَةُ الْبَشَرِ أَنَّ جَانِيَ الذَّنْبِ يَصْبِرُ لِلْعُقُوبَةِ، وَأَكْثَرُ قَلَقِ الْمُعَاقَبِ وَحُزْنِهِ إِنَّمَا وَقَعَ هُوَ مَعَ ظَنِّهِ الْبَرَاءَةَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ، وَيَكُونُ اللَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ تَسْلِيَةً لِمَصَابِهِمْ وَعِوَضًا لَهُمْ عَنْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْغَمِّ، لِأَنَّ عَفْوَهُ يُذْهِبُ كُلَّ غَمٍّ. وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور، وهو فأثابكم.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 152. (2) سورة آل عمران: 3/ 152. (3) سورة آل عمران: 3/ 152. (4) سورة الْحَدِيدِ: 29/ 57.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالَّذِي أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْهَزِيمَةِ، وَمِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ إِصْعَادَهُمْ وَفِرَارَهُمْ مُجِدِّينَ فِي الْهَرَبِ فِي حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْهَرَبِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَتِهِ، كَانَ الْجِدُّ فِي الْهَرَبِ سَبَبًا لِاتِّصَالِ الْغُمُومِ بِهِمْ، وَشُغْلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ طَلَبًا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ: شُغْلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاغْتِمَامُهُمُ الْمُتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ خَوْفِ الْقَتْلِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَلَى فَائِتٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَمُصَابٍ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ لِإِخْوَانِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَارُوا فِي حَالَةٍ مِنِ اغْتِمَامِهِمْ وَاهْتِمَامِهِمْ بِنَجَاةِ أَنْفُسِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ حُزْنٌ عَلَى شَيْءٍ فَايِتٍ وَلَا مُصَابٍ وَإِنْ جَلَّ، فَقَدْ شَغَلَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِيَنْتَفِيَ الْحُزْنُ مِنْهُمْ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْتَضِي تَهْدِيدًا، وَخَصَّ الْعَمَلَ هُنَا وَإِنْ كَانَ تَعَالَى خَبِيرًا بِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ مِنْ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْفِرَارِ، وَهِيَ أَعْمَالٌ تُخْشَى عَاقِبَتُهَا وَعِقَابُهَا. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الْأَمَنَةُ: الْأَمْنُ، قَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْأَمَنَةُ تَكُونُ مَعَ بَقَاءِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ، وَالْأَمْنُ يَكُونُ مَعَ زَوَالِ أَسْبَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَنَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْنِ. أَوْ جمع آمن كبار وَبَرَرَةٍ، وَيَأْتِي إِعْرَابُهُ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَمْنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى الْأَمْنِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: امْتِنَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَمْنِهِمْ بَعْدَ الْخَوْفِ وَالْغَمِّ، بِحَيْثُ صَارُوا مِنَ الْأَمْنِ يَنَامُونَ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّدِيدَ الْخَوْفَ وَالْغَمَّ لَا يَكَادُ يَنَامُ. وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ مِنْ غَلَبَةِ النَّوْمِ الَّذِي غَشِيَهُمْ كَأَبِي طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي غَشِيَهُمْ فِيهِ النُّعَاسُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: حِينَ ارْتَحَلَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَوْضِعِ الْحَرْبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ وَكَانَ مِنَ الْمُتَحَيِّزِينَ إِلَيْهِ: «اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى الْقَوْمِ فَإِنْ كَانُوا جَنَبُوا الْخَيْلَ فَهُمْ نَاهِضُونَ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى خَيْلِهِمْ فَهُمْ عَائِدُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا» وَوَطِّنْهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَمَضَى عَلِيٌّ ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ: أَنَّهُمْ جَنَبُوا الْخَيْلَ، وَقَعَدُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ عِجَالًا، فَأَمِنَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ. وَبَقِيَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يُصَدِّقُونَ، بَلْ كَانَ ظَنُّهُمْ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ يَؤُمُّ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ نَوْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّهُمْ فِي أَحْوَالِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنًا يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَفِي طَرِيقٍ رَفَعْتُ رَأْسِي فَجَعَلْتُ مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا وَهُوَ يَمِيلُ تَحْتَ

جَحْفَتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَشِيَهُمُ النُّعَاسُ وَهُمْ فِي الْمَصَافِّ وَسِيَاقُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلَّانِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ. وَالْغَمُّ كَانَ بَعْدَ أَنْ كُسِرُوا وَتَفَرَّقُوا عَنْ مَصَافِّهِمْ وَرَحَلَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْمَصَافَّ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ أَبُو طَلْحَةَ كَانَ فِي الْجَبَلِ بَعْدَ الْكَسْرَةِ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ عُلُوٍّ فِي الْخَيْلِ الْكَثِيرَةِ، فَرَمَاهُمْ مَنْ كَانَ انْحَازَ إِلَى الْجَبَلِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْحِجَارَةِ، وَأَغْنَى هُنَاكَ عُمَرُ حَتَّى أَنْزَلُوهُمْ، وَمَا زَالُوا صَافِّينَ حَتَّى جَاءَهُمْ خَبَرُ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، فَأَمِنُوا وَلَمْ يَأْمَنِ المنافقون. والفاعل بأنزل ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فأثابكم. وعليكم يَدُلُّ عَلَى تَجَلُّلِ النُّعَاسِ وَاسْتِعْلَائِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَنِسْبَةُ الْإِنْزَالِ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْأَجْرَامِ. وَأَعْرَبُوا أَمَنَةً مَفْعُولًا بِأَنْزَلَ، وَنُعَاسًا بَدَلٌ مِنْهُ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يَتَصَوَّرُ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ يَتَصَوَّرُ اشْتِمَالَ الْعَامِلِ عَلَيْهِمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ. أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ عَطْفِ الْبَيَانِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعَارِفِ. أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِاخْتِلَالِ أَحَدِ الشُّرُوطِ وَهُوَ: اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، فَفَاعِلُ الْإِنْزَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفَاعِلُ النُّعَاسِ هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الشَّرْطُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقِيلَ: نُعَاسًا هُوَ مَفْعُولُ أَنْزَلَ، وَأَمَنَةً حَالٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ. التَّقْدِيرُ: نُعَاسًا ذَا أَمَنَةٍ، لِأَنَّ النُّعَاسَ لَيْسَ هُوَ إلا من. أَوْ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَوِي أَمَنَةٍ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ آمِنٍ، أَيْ آمِنِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ لِأَمَنَةٍ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِمَا ضَعَّفْنَا بِهِ قَوْلَ مَنْ أَعْرَبَ نُعَاسًا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ. يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، عَامٌّ مَخْصُوصٌ، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَنْزَلَ إِلَّا عَلَى مَنْ آمَنَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَغْشَى بِالتَّاءِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ أَمَنَةٍ هَكَذَا قَالُوا. وَقَالُوا: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاضِحٍ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْبَدَلِ وَعَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ إِذَا اجْتَمَعَتْ. فَمَنْ أَعْرَبَ نُعَاسًا بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ لَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمَنْ أَعْرَبَهُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ فَفِيهِ أَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ بِهَذِهِ الْفَضْلَةِ. وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ نَظَرٌ مَعَ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ: اتِّحَادُ الْفَاعِلِ. فَإِنْ جَعَلْتَ تَغْشَى جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً وَكَأَنَّهَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ: مَا حُكْمُ هَذِهِ

الْأَمَنَةِ؟ فَأَخْبَرَ تَعَالَى تَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ، جَازَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ انْتَهَى. لَمَّا أَعْرَبَ نُعَاسًا بَدَلًا مِنْ أَمَنَةٍ، كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُحَدَّثَ عَنِ الْبَدَلِ لَا عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَحَدَّثَ هُنَا عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَإِذَا قُلْتَ: إِنَّ هِنْدًا حُسْنُهَا فَاتِنٌ، كَانَ الْخَبَرُ عَنْ حُسْنِهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَجَازَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ كَمَا أَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الْآيَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ السُّيُوفَ غُدُوُّهَا وَرَوَاحُهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الْأَعْضَبِ وَبِقَوْلِ الْآخَرِ: وَكَأَنَّهُ لَهَقُ السَّرَاةِ كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ فَقَالَ: تَرَكْتُ، وَلَمْ يَقُلْ تَرَكَا. وَقَالَ مُعَيَّنٌ: وَلَمْ يَقُلْ مُعَيَّنَانِ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ السُّيُوفُ، وَالضَّمِيرُ فِي كَأَنَّهُ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى الْبَدَلِ وَهِيَ: غُدُوُّهَا وَرَوَاحُهَا وحاجبيه. وما زَائِدَةٌ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ. وَلَا حُجَّةَ فِيمَا اسْتُدِلَّ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ غُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا عَلَى الظَّرْفِ لَا عَلَى الْبَدَلِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنٌ خَبَرًا عَنْ حَاجِبَيْهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إِخْبَارَ الْوَاحِدِ. كَمَا قَالَ: لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلُّ ... بِهَا الْعَيْنَانِ تَنْهَلُّ وَقَالَ: وَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبُلًا كُحِّلَتْ بِهِ فَانْهَلْتِ فَقَالَ: تَنْهَلُ وَكُحِلَتْ له، وَلَمْ يَقُلْ: تَنْهَلَانِ، وَلَا كُحّلَتَا بِهِ. وَهَذَا كَمَا أَجَازُوا أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ مِنْ هَذَيْنِ إِخْبَارَ الْمُثَنَّى قَالَ: إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنَيَّ الزَّمَانَ الَّذِي مَضَى ... بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تَكِفَانِ فَقَالَ: ظَلَّتَا وَلَمْ يَقُلْ: ظَلَّتْ تَكِف. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يَغْشَى بِالْيَاءِ، حَمَلَهُ عَلَى لَفْظِ النُّعَاسِ. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ قَالَ مَكِّيٌّ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هُمُ

الْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: غَشِيَ النُّعَاسُ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، فَكَانَ سَبَبًا لِأَمْنِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ. وَعَرَّى مِنْهُ أَهْلَ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ، فَكَانَ سَبَبًا لِجَزَعِهِمْ وَانْكِشَافِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِهِمْ فِي مَصَافِّهِمْ انْتَهَى. وَيُقَالُ: أَهَمَّنِي الشَّيْءُ، أَيْ: كَانَ مِنْ هَمِّي وَقَصْدِي. أَيْ: مِمَّا أَهَمَّ به وأقصد. وَأَهَمَّنِي الْأَمْرُ أَقْلَقَنِي وَأَدْخَلَنِي فِي الْهَمِّ، أَيِ الْغَمِّ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. فَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَأَكْثَرُهُمْ: هُوَ بِمَعْنَى الْغَمِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُفُوسَهُمُ الْمَرِيضَةَ وَظُنُونَهُمُ السَّيِّئَةَ قَدْ جَلَبَتْ إِلَيْهِمْ خَوْفَ الْقَتْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَوْ قَدْ أَوْقَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ فِي الْغُمُومِ وَالْأَشْجَانِ، فَهُمْ فِي التَّشَاكِي. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ مِنْ هَمَّ بِالشَّيْءِ أَرَادَ فِعْلَهُ. وَالْمَعْنَى: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمُ الْمُكَاشِفَةَ وَنَبْذَ الدِّينِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْ قَالَ: قد قتل محمد فلترجع إِلَى دِينِنَا الْأَوَّلِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، مَا بِهِمْ إِلَّا هَمُّ أَنْفُسِهِمْ، لَا هَمُّ الدِّينِ، وَلَا هَمُّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَهَمَّنِي الشَّيْءُ أَيْ: كَانَ مِنْ هَمِّي وَإِرَادَتِي. وَالْمَعْنَى: أَهَمَّهُمْ خَلَاصُ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، أَيْ: كَانَ مِنْ هَمِّهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ خَلَاصُ أَنْفُسِهِمْ فَقَطْ، وَمِنْ غَيْرِ الْحَقِّ يَظُنُّونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَأَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْهَبُ وَيَزُولُ. وَمَعْنَى ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْمُدَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ الْقَدِيمَةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ «1» وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ «2» وَكَمَا تَقُولُ: شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى ظَنُّ الْفِرْقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ، وَنَحَا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ: قَتَادَةُ وَالطَّبَرِيُّ. قَالَ مُقَاتِلٌ: ظَنُّوا أَنَّ أَمْرَهُ مُضْمَحِلٌّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ مُدَّتَهُ قَدِ انْقَضَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ. وَقِيلَ: ظَنُّ الْجَاهِلِيَّةِ إِبْطَالُ النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ. وَقِيلَ: يَأْسُهُمْ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ وَشَكُّهُمْ فِي سَابِقِ وَعْدِهِ بِالنُّصْرَةِ. وَقِيلَ: يَظُنُّونَ أَنَّ الْحَقَّ مَا عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، فَلِذَلِكَ نُصِرُوا. وَقِيلَ: كَذَّبُوا بِالْقَدَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَظَنُّ الْجَاهِلِيَّةِ كَقَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ وَرَجُلُ صِدْقٍ، تُرِيدُ الظَّنَّ الْمُخْتَصَّ بِالْمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ لَا يَظُنُّ مِثْلَ ذَلِكَ الظَّنِّ إِلَّا أَهْلُ الشِّرْكِ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ. انْتَهَى وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ الِاسْتِفْهَامُ؟

_ (1) سورة الفتح: 48/ 26. [.....] (2) سورة الأحزاب: 33/ 33.

فَقِيلَ: سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ لَهُمْ مَعَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّصْرِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْعَدُوِّ شَيْءٌ أَيْ نَصِيبٌ؟ وَأَجِيبُوا بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ «1» وَهُوَ النَّصْرُ وَالْغَلَبَةُ. «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» «وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» . وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ النَّصْرُ لَنَا، بَلْ هُوَ لِلْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ: قُتِلَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: وَهَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ يُرِيدُ: أَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ لَنَا، وَلَوْ كَانَ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ لَسُمِعَ مِنْ رَأْيِنَا وَلَمْ نَخْرُجْ وَلَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنَّا. وَهَذَا مِنْهُمْ قَوْلٌ بِأَجَلَيْنِ. وَذَكَرَ الَمَهَدَوِيُّ وَابْنُ فُورَكٍ: أَنَّ الْمَعْنَى لَسْنَا عَلَى حَقٍّ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ. وَيُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ. فَافْهَمْ أَنَّ كَلَامَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَى سُوءِ الرَّأْيِ فِي الْخُرُوجِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ. وَلَمَّا أُكِّدَ فِي كَلَامِهِمْ بِزِيَادَةِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ، جَاءَ الْكَلَامُ مُؤَكَّدًا بِأَنْ، وَبُولِغَ فِي تَوْكِيدِ الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: كُلُّهُ لِلَّهِ. فَكَانَ الْجَوَابُ أَبْلَغَ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ، مُتَوَجِّهٌ إِلَى الرَّسُولِ بِلَا خِلَافٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لِأَنَّهُمْ أُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ لَمْ يُجَابُوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ لَا يُجَاوَبُ بِذَلِكَ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ مَعَ جُمْلَةِ النَّفْيِ جُمْلَةً ثُبُوتِيَّةً لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ بَلْ لِغَيْرِنَا مِمَّنْ حَمَلَنَا عَلَى الْخُرُوجِ وَأَكْرَهَنَا عَلَيْهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لِهَذَا الْمُقَدَّرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْجَوَابِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَطَائِفَةٌ، وَاوُ الْحَالِ. وَطَائِفَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِهِ خَبَرُهُ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ هُنَا إِذْ فِيهِ مُسَوِّغَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاوُ الْحَالِ وَقَدْ ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْمُسَوِّغَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّاعِرُ: سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ وَالْمُسَوِّغُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ. إِذِ الْمَعْنَى: يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَنَامُوا، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لم يحوّل

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 154.

وَنَصْبُ طَائِفَةً عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ الْإِعْرَابِ جَائِزٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ في موضع الصفة، ويظنون الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَالْجُمْلَتَانِ صِفَتَانِ، التَّقْدِيرُ: وَمِنْكُمْ طَائِفَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَظُنُّونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَهَمَّتْهُمْ، وَانْتِصَابُ غَيْرَ الْحَقِّ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِتَظُنُّونَ، أَيْ أَمْرًا غَيْرَ الْحَقِّ، وَبِاللَّهِ الثَّانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَيْرَ الْحَقِّ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَاهُ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنَّ الجاهلية، وغير الْحَقِّ تَأْكِيدٌ لِيَظُنُّونَ كَقَوْلِكَ: هَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مَا تَقُولُ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا قَوْلُكَ، انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَمْ يَذْكُرْ لِيَظُنُّونَ مَفْعُولَيْنِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً كَمَا تَقُولُ: ظَنَنْتُ بِزَيْدٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَتَعَدَّ ظَنَنْتُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: جَعَلْتُ مَكَانَ ظَنِّي زَيْدًا. وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى هَذَا. وَعَلَيْهِ: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سُرَاتُهُمْ فِي السَّائِرِيِّ الْمَسَرَّدِ أَيِ: اجْعَلُوا مَكَانَ ظَنِّكُمْ أَلْفَيْ مُدَجَّجٍ. وَانْتِصَابُ ظَنَّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ، أَيْ: ظَنًّا مِثْلَ ظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيَجُوزُ فِي: يَقُولُونَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَظُنُّونَ، أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ فِي غَيْرِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى جواز تعداده. ومن شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، إِذْ مِنْ زَائِدَةٌ، وَخَبَرُهُ في لنا، ومن الْأَمْرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ شَيْءٍ لَكَانَ نَعْتًا لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يكون من الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ، وَلَنَا تَبْيِينٌ وَبِهِ تَتِمُّ الْفَائِدَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» وَهَذَا لَا يَجُوزُ: لِأَنَّ مَا جَاءَ لِلتَّبْيِينِ الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أَعْنِي لَنَا هو من جُمْلَةٌ أُخْرَى، فَيَبْقَى الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ جُمْلَةً لَا تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فَهُمَا لَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ لَهُ مَعْمُولٌ لِكُفُوًا، وَلَيْسَ تَبْيِينًا. فَيَكُونُ عَامِلُهُ مُقَدَّرًا، وَالْمَعْنَى: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ، أَيْ مُكَافِيًا لَهُ، فَصَارَ نَظِيرَ لَمْ يكن له ضار بالعمرو، فَقَوْلُهُ: لِعَمْرٍو لَيْسَ تَبْيِينًا، بَلْ مَعْمُولًا لِضَارِبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُلَّهُ بِالنَّصْبِ تَأْكِيدًا للأمر. وقرأ أبو عمر: وكله عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ تَوْكِيدًا لِلْأَمْرِ عَلَى الْمَوْضِعِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ وَهُوَ: الْجَرْمِيُّ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَجَّحَ النَّاسُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ أَمْلَكُ بِلَفْظَةِ كُلٍّ انْتَهَى. وَلَا تَرْجِيحَ، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَوَاتِرٌ، وَالِابْتِدَاءُ بِكُلٍّ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ.

_ (1) سورة الإخلاص: 112/ 4.

يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَتَسَتَّرُونَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْضِ كُفْرٍ، بَلْ هِيَ جَهَالَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَمَّا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُظْهِرُوا مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ النَّزَغَاتِ. وَقِيلَ: الَّذِي أَخْفَوْهُ قَوْلَهُمْ: لَوْ كُنَّا فِي بُيُوتِنَا مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. وَقِيلَ: النَّدَمُ عَلَى حُضُورِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِأُحُدٍ. يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِيمَا أَسْنَدَ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ: وَاللَّهِ لِكَأَنِّي أَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَالنُّعَاسُ يَغْشَانِي مَا أَسْمَعُهُ إِلَّا كَالْحُلُمِ حِينَ قَالَ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. وَمُعَتِّبٌ هَذَا شَهِدَ بَدْرًا، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ. وَالْمَعْنَى: مَا قُتِلَ أَشْرَافُنَا وَخِيَارُنَا، وَهَذَا إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ مَجَازًا. وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي أَخْفَوْهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا بَعْدَ إِبْهَامِ قَوْلِهِ: مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ. وَمَعْنَاهُ: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْأَمْرِ، فُسِّرَ الْأَمْرُ هُنَا بِمَا فُسِّرَ فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَإِنَّهُمُ الْغَالِبُونَ، لَمَا غُلِبْنَا قَطُّ، وَلَمَا قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ. وَقِيلَ: مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ. أَيْ لَسْنَا عَلَى حَقٍّ فِي اتِّبَاعِهِ. وَجَوَابُ لَوْ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِمَا. وَإِذَا نَفَيْتَ بِمَا فَالْفَصِيحُ أَنْ لَا تُدْخِلَ عَلَيْهِ اللَّامَ. قِيلَ: وَفِي قِصَّةِ أُحُدٍ اضْطِرَابٌ. فَفِي أَوَّلِهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَجَعُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا أُحُدًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَالُوا هَذَا بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ أَصْحَابِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا قُتِلُوا بِأُحُدٍ، فَكَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ فِي سَمَاعِهِ مُعَتِّبًا يَقُولُ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُعَتِّبًا حَضَرَ أُحُدًا؟ فَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ الزُّبَيْرِ فَيَكُونُ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَحَضَرَ أُحُدًا، فَيَتَّجِهُ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَيُوَجَّهُ قَوْلُهُ: هَاهُنَا إِلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أُحُدٍ إِشَارَةَ الْقَرِيبِ الْحَاضِرِ لِقُرْبِ أُحُدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ هَذَا النَّوْعُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ يُسَمَّى الِاحْتِجَاجُ النَّظَرِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَعْقُولِ نَحْوَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «2»

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 22. (2) سورة يس: 36/ 79.

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ «1» وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ: الْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: جَرَى الْقَضَاءُ بِمَا فِيهِ فَإِنْ تُلِمِ ... فَلَا مَلَامَ عَلَى مَا خُطَّ بِالْقَلَمِ وَكَتَبَ: بِمَعْنَى فَرَضَ، أَوْ قَضَى وَحَتَّمَ، أَوْ خَطَّ فِي اللَّوْحِ، أَوْ كَتَبَ ذَلِكَ الْمَلَكُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَجِنَّةٌ، أَقْوَالٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَوْ تَخَلَّفْتُمْ فِي الْبُيُوتِ لَخَرَجَ مَنْ حُتِّمَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى مَكَانِ مَصْرَعِهِ فَقُتِلَ فِيهِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى قَوْلِ مُعَتِّبٍ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ امْرِئٍ لَهُ أَجْلٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي سَبَقَ لَهُ فِي الْأَزَلِ وَإِلَّا مَاتَ لِذَلِكَ الْأَجَلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَخُرُوجِ رُوحِهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ بِأَيِّ أَسْبَابِ الْمَرَضِ، أَوْ فَجَأَهُ مِنْ غَيْرِ مَرْضٍ هُوَ أَجَلٌ وَاحِدٌ لِكُلِّ امْرِئٍ وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا بِأَلْفَاظٍ مُسْهَبَةٍ عَلَى عَادَتِهِ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ يَعْنِي- مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْرَعُ فِي هَذِهِ الْمُصَارِعِ- وَكَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُجُودِهِ. فَلَوْ قَعَدْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ مِنْ بَيْنِكُمُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَهِيَ مَصَارِعُهُمْ، لِيَكُونَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ قَتْلَ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَتَبَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي الْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ يَظْهَرُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَإِنَّمَا يَنْكُبُونَ بِهِ فِي بَعْضِ الأوقات. تمحيص لهم، وترغيب فِي الشَّهَادَةِ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ مِمَّا يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَتَحْصُلُ الْغَلَبَةُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْخَطَابَةِ وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ وَاضِحٌ جِدًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّطْوِيلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَبَرَزَ، ثُلَاثِيًّا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. أَيْ لَصَارُوا فِي الْبَرَازِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: لَبُرِّزَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ الرَّاءِ، عَدَّى بَرَّزَ بِالتَّضْعِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُتِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُفِعَ القتل. وقرىء: كَتَبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنُصِبَ الْقَتْلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: الْقِتَالُ مَرْفُوعًا. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: لَوْ تَخَلَّفْتُمْ أَنْتُمْ لَبَرَزَ الْمُطِيعُونَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَخَرَجُوا طَائِعِينَ إِلَى مَوَاضِعِ اسْتِشْهَادِهِمْ، فَاسْتَغْنَى بِهِمْ عَنْكُمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالَ وَلَمْ يَنْصُرْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لِيَخْتَبِرَ

_ (1) سورة يس: 36/ 81.

صَبْرَكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ إِنْ تُبْتُمْ وَأَخْلَصْتُمْ. وَقِيلَ: لِيُعَامِلَكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ. وَقِيلَ: لِيَقَعَ مِنْكُمْ مُشَاهَدَةُ عِلْمِهِ غَيْبًا كَقَوْلِهِ: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «1» . وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. أَيْ: وَلِيَبْتَلِيَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَا فِي صُدُورِكُمْ، فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ. وَالْوَاوُ قِيلَ: زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرَهُ وَلِيَبْتَلِيَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَطْفٌ عَلَى لِيَبْتَلِيَكُمْ، لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أَعَادَهُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ لِيُمَحِّصَ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مُتَأَخِّرٍ، التَّقْدِيرُ: وَلِيَبْتَلِيَ وَلِيُمَحِّصَ فِعْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ. وَكَانَ مُتَعَلِّقُ الِابْتِلَاءِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الصُّدُورُ وَهِيَ الْقُلُوبُ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2» وَمُتَعَلِّقُ التَّمْحِيصِ وَهُوَ التَّصْفِيَةُ وَالتَّطْهِيرُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ مِنَ النِّيَّاتِ وَالْعَقَائِدِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَجَاءَ بِهَا عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الصُّدُورُ، وَمَا أَضْمَرَتْهُ مِنَ الْعَقَائِدِ، فَهُوَ يُمَحِّصُ مِنْهَا مَا أَرَادَ تَمْحِيصَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا خَطَبَ عُمَرُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَطَبَ أَنْ يَقْرَأَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ فَهُزِمْنَا مَرَرْتُ حَتَّى صَعِدْتُ الْجَبَلَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْزُو كَأَنَّنِي أَرَوَى، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لَا أَجِدُ أَحَدًا يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا عَلَى الْجَبَلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِيمَنْ فَرَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِرَارًا كَثِيرًا مِنْهُمْ: رَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ. وَالَّذِينَ تَوَلَّوْا: كُلُّ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَهُ: عُمَرُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ كُلُّ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَقْتَ الْهَزِيمَةِ قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ رِجَالٌ بِأَعْيَانِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ: عَتَبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الزُّرَقِيُّ، وَأَخُوهُ سَعْدٌ وَغَيْرُهُمَا، بَلَغُوا الْجَلْعِبَ جَبَلًا بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الْأَعْوَصَ فَأَقَامُوا بِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً» وَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَبَاقِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ منهم: أبو

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 129. (2) سورة الحج: 22/ 46.

طَلْحَةَ ، وَظَاهِرُ تَوَلَّوْا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ التَّوَلِّي يَوْمَ اللِّقَاءِ، سَوَاءٌ فَرَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمْ صَعِدَ الْجَبَلَ. وَالْجَمْعُ: اسْمُ جَمْعٍ. وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَا يُثَنَّى، لَكِنَّهُ هُنَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَعْقُولِيَّةَ اسْمِ الْجَمْعِ، بَلْ بَعْضَ الْخُصُوصِيَّاتِ. أَيْ: جَمْعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَمْعَ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ تَثْنِيَتُهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإِنْ هُمَا ... تَعَاطَى القنا قوما هما أَخَوانِ فَثَنَّى قَوْمًا لِأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى الْقَبِيلَةِ. وَاسْتَزَلَّ هنا استفعل لطلب، أَيْ طَلَبَ مِنْهُمُ الزَّلَلَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى وَسْوَسَتِهِ وَتَخْوِيفِهِ، هَكَذَا قَالُوهُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ طَلَبِ الشَّيْءِ وَاسْتِدْعَائِهِ حُصُولُهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلْ هُنَا بِمَعْنَى أَفْعَلَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ، فَيَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الزَّلَلِ، وَيَكُونُ اسْتَزَلَّ وَأَزَلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَاسْتَبَانَ وَأَبَانَ، وَاسْتَبَلَّ وَأَبَلَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «1» عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَاتِهِ. وَاسْتِزْلَالُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ سَابِقٌ عَلَى وَقْتِ التَّوَلِّي، أَيْ كَانُوا أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ وَاجْتَرَحُوا ذُنُوبًا قَبْلُ مَنَعَتْهُمُ النَّصْرَ فَفَرُّوا. وَقِيلَ: الِاسْتِزْلَالُ هُوَ تَوَلِّيهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. أَيْ: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ فِي التَّوَلِّي بِبَعْضِ مَا سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ الذَّنْبَ يَجُرُّ إِلَى الذَّنْبِ، فَيَكُونُ نَظِيرُ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا. وَفِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ بَعْضُ مَا كسبوا هو ذنوب سلفت لهم. قال الحسن: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. وقيل: بَعْضُ مَا كَسَبُوا هُوَ تَرْكُهُمُ الْمَرْكَزَ الَّذِي أَمَرَهُمْ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّبَاتِ فِيهِ، فَجَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْهَزِيمَةِ. وَلَا يَظْهَرُ هَذَا لِأَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَزَ مِنَ الرُّمَاةِ كَانُوا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا هُوَ حُبُّهُمُ الْغَنِيمَةَ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ. وَذَهَبُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ ذَكَّرَهُمْ بِذُنُوبٍ لَهُمْ مُتَقَدِّمَةٍ، فَكَرِهُوا الْمَوْتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالْإِقْلَاعِ عَنْهَا، فَأَخَّرُوا الْجِهَادَ حَتَّى يُصْلِحُوا أَمْرَهُمْ وَيُجَاهِدُوا عَلَى حَالَةٍ مَرْضِيَّةٍ. وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ وَفِي حَالِ الْقَتَّالِ، «وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَظَاهِرُ التَّوَلِّي: هُوَ تَوَلِّي الْإِدْبَارِ وَالْفِرَارِ عَنِ الْقِتَالِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُتَحَيِّزٍ إِلَى جِهَةٍ اجْتَمَعَ فِي التَّحَيُّزِ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ فِيهَا. وَظَاهِرُ هَذَا التولي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 36.

أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِذِكْرِ اسْتِزْلَالِ الشَّيْطَانِ وَعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ لَيْسَ مَعْصِيَةً، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا التَّحَصُّنَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَطْعَ طَمَعِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ» لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَالْعَدُوُّ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَعِنْدَ هَذَا يَجُوزُ الِانْهِزَامُ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الرَّسُولَ مَا انْحَازَ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ ظَهْرَهُ الْمَدِينَةَ. فَمَذْهَبُهُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَجُوزُ الْفِرَارُ مَعَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِزْلَالَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ وَعَفْوَهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، وَلَمْ يجىء بِمَا كَسَبُوا، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ كَمَا قال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1» فَالِاسْتِزْلَالُ كَانَ بِسَبَبِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَعْفُ عَنْهَا، فَجُعِلَتْ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلَالِ. وَلَوْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لَمَا كَانَ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلَالِ. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ هُنَا هُوَ حَطُّ التَّبِعَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ عُثْمَانُ فِي مُحَاوَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَدْ كُنْتَ تَوَلَّيْتَ مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْمَ الْجَمْعِ، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: قَالَ اللَّهُ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ الرَّجُلِ الْعِرَاقِيِّ حِينَ نَشَدَهُ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ: أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ أَجَابَهُ: بِأَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعٍ فِيمَا عَلِمْتُ، وَعَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْمُوبِقَاتِ مَعَ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمَا» انْتَهَى وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ عَنِ الذَّنْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ تَابَ، وَأَنَّ الذَّنْبَ إِذَا لَمْ يُتَبْ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْعَفْوُ، دَسَّ مَذْهَبَهُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لِتَوْبَتِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ انْتَهَى. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أَيْ غَفُوُرُ الذُّنُوبِ حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّعْلِيلِ لِعَفْوِهِ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، وَاسِعُ الْحِلْمِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ: وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قتلوا،

_ (1) سورة المائدة: 5/ 15.

وَكَانَ قَوْلًا بَاطِلًا وَاعْتِقَادًا فَاسِدًا نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ وَالِاعْتِقَادِ السيّء. وَهُوَ أَنَّ مَنْ سَافَرَ فِي تِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا فَمَاتَ، أَوْ قَاتَلَ فَقُتِلَ، لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ لَعَاشَ وَلَمْ يَمُتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلسَّفَرِ فِيهِ أَوْ لِلْقِتَالِ، وَهَذَا هُوَ مُعْتَقَدُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْقَوْلِ بِالْأَجَلَيْنِ، وَالْكُفَّارِ الْقَائِلُونَ. قِيلَ: هُوَ عَامٌّ، أَيِ اعْتِقَادُ الْجَمِيعِ هَذَا قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ سُمِعَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَوْ هُوَ وَمُعَتِّبٌ وَجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَأَصْحَابُهُمْ. وَاللَّامُ فِي: لِإِخْوَانِهِمْ لَامُ السَّبَبِ، أَيْ لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ. وَلَيْسَتْ لَامَ التَّبْلِيغِ، نَحْوَ: قُلْتُ لَكَ. وَالْأُخُوَّةُ هُنَا أُخُوَّةُ النَّسَبِ، إِذْ كَانَ قَتْلَى أُحُدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ. وَقِيلَ: خَمْسَةٌ. وَيَكُونُ الْقَائِلُونَ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ جَمَعَهُمْ أَبٌ قَرِيبٌ، أَوْ بَعِيدٌ، أَوْ أُخُوَّةُ الْمُعْتَقَدِ وَالتَّآلُفِ، كَقَوْلِهِ» فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً «1» وَقَالَ: صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ ... وَقُلْنَا الْقَوْمُ إِخْوَانُ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: الْإِبْعَادُ فِيهَا، وَالذَّهَابُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الضَّرْبُ هُنَا السَّيْرُ فِي التِّجَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: السَّيْرُ فِي الطَّاعَاتِ. وَإِذَا ظَرْفٌ لما يستقبل. وقالوا: مَاضٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ جَرَّدَهُ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ وَجَعَلَهُ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ بِمَعْنَى حِينَ، فَأَعْمَلُ فِيهِ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلَتْ إِذَا وَهِيَ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ مِنْ حَيْثُ الَّذِينَ اسْمٌ فِيهِ إِبْهَامٌ يَعُمُّ مَنْ قَالَ فِي الْمَاضِي، وَمَنْ يَقُولُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ حَيْثُ هَذِهِ النَّازِلَةِ تُتَصَوَّرُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قِيلَ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ مَعَ قَالُوا؟ (قُلْتُ) : هُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْلِكَ: حِينَ تَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُمْكِنُ إِقْرَارُ إِذَا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ لَهَا مِنَ الِاسْتِقْبَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مُضَافٌ مُسْتَقْبَلٌ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّا نُقَدِّرُهُ مُسْتَقْبَلًا حَتَّى يَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ، لَكِنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كَانُوا عَائِدًا عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَفْظًا، وَعَلَى غَيْرِهِمْ مَعْنًى، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ «2» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: قَالَتْ: أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حمامتنا ونصفه فقد

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 103. (2) سورة فاطر: 35/ 11.

الْمَعْنَى: مِنْ مُعَمَّرٍ آخَرَ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وَنِصْفُ حَمَامٍ آخَرَ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى دِرْهَمٍ وَالْحَمَامِ لَفْظًا لَا مَعْنًى. كَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كَانُوا، يَعُودُ عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَفْظًا وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ إِخْوَانُنَا الْآخَرُونَ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: وَقَالُوا مَخَافَةَ هَلَاكِ إِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى: لَوْ كَانَ إِخْوَانُنَا الْآخَرُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ مَوْتُهُمْ وَقَتْلُهُمْ عِنْدَنَا- أَيْ مُقِيمِينَ- لَمْ يُسَافِرُوا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ تَثْبِيطًا لِإِخْوَانِهِمُ الْبَاقِينَ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَعَنِ الْغَزْوِ، وَإِيهَامًا لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ إِخْوَانِهِمُ الْآخَرِينَ الَّذِينَ سَبَقَ مَوْتُهُمْ وَقَتْلُهُمْ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْغَزْوِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي إِذَا هَلَاكٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ بِأَنْ وَالْمُضَارِعِ، أَيْ مَخَافَةَ أَنْ يَهْلَكَ إِخْوَانُهُمُ الْبَاقُونَ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ كَانُوا غُزًّا. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى إِذْ عَرَضُوا لِلْأَحْيَاءِ بِالْإِقَامَةِ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقَالُوا فِي مَعْنَى. وَيَقُولُونَ: وَتَعْمَلُ فِي إِذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا بِمَعْنَى إِذْ فَيَبْقَى، وَقَالُوا عَلَى مُضِيِّهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِذْ ذَاكَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فَمَاتُوا، أَوْ كَانُوا غُزًّا فَقُتِلُوا. وَمَا أَجْهَلُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ لَوْلَا الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْغَزْوُ وَتَرْكُ الْقُعُودِ فِي الْوَطَنِ لَمَا مَاتَ الْمُسَافِرُ وَلَا الْغَازِي، وَأَيْنَ عَقْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عَقْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِ حَيْثُ يَقُولُ: يَقُولُونَ لِي: لَوْ كَانَ بِالرَّمْلِ لَمْ يمت ... نسيبة وَالطُّرَّاقِ يَكْذِبُ قِيلُهَا وَلَوْ أَنَّنِي اسْتَوْدَعْتُهُ الشَّمْسَ لَارْتَقَتْ ... إِلَيْهِ الْمَنَايَا عَيْنُهَا، وَرَسُولُهَا قَالَ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الْغَزْوَ بَعْدَ الضَّرْبِ، لِأَنَّ مِنَ الْغَزْوِ مَا لَا يَكُونُ ضَرْبًا، لِأَنَّ الضَّرْبَ الْإِبْعَادُ، وَالْجِهَادُ قَدْ يَكُونُ قَرِيبَ الْمَسَافَةِ، فَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْغَزْوَ عَنِ الضَّرْبِ انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا فَتَغَايَرَا، فَصَحَّ إِفْرَادُهُ، إِذْ لَمْ يَنْدَرِجْ مِنْ جِهَةٍ تَحْتَهُ. وَقِيلَ: لَا يُفْهَمُ الْغَزْوُ مِنَ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِكَثْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غزا بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَوَجْهٌ عَلَى حَذْفِ أَحَدِ الْمُضَعَّفَيْنِ تَخْفِيفًا، وَعَلَى حَذْفِ التَّاءِ، وَالْمُرَادُ: غُزَاةٌ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ وَجَّهَ عَلَى أَنَّهُ حَذْفُ التَّاءِ وَهُوَ: ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَهَذَا الْحَذْفُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَمْدَحُ الْكِسَائِيَّ:

_ (1) سورة المزمل: 73/ 20.

أَبَى الذَّمُّ أَخْلَاقَ الْكِسَائِيِّ وَانْتَحَى ... بِهِ الْمَجْدُ أَخْلَاقَ الْأُبُوِّ السَّوَابِقِ يُرِيدُ الْأُبُوَّةَ. جَمْعُ أَبٍ، كَمَا أَنَّ الْعُمُومَةَ جَمْعُ عَمٍّ، وَالْبُنُوَّةُ جَمْعُ ابْنٍ. وَقَدْ قَالُوا: ابْنٌ وَبُنُوٌّ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَهَذَا الْحَذْفُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، بَلْ لَا يُوجَدُ مِثْلُ رَامٍ وَرَمَى، وَلَا حَامٍ وَحَمَى، يُرِيدُ: رُمَاةٌ وَحُمَاةٌ. وَإِنْ أَرَادَ حَذْفَ التَّاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَالْمُدَّعَى إِنَّمَا هُوَ الْحَذْفُ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الْحَذْفَ- أَعْنِي حَذْفَ التَّاءِ- كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ بِنَاءَ الْجَمْعِ جَاءَ عَلَيْهَا، ثُمَّ حُذِفَتْ كَثِيرًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْجَمْعُ جَاءَ عَلَى فَعُولٍ نَحْوَ: عَمٌّ وَعُمُومٌ، وَفَحْلٌ وَفُحُولٌ، ثُمَّ جِيءَ بِالتَّاءِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْجَمْعِ، فَلَا نَقُولُ فِي عُمُومٍ: إِنَّهُ حُذِفَتْ مِنْهُ التَّاءُ كَثِيرًا لِأَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ قُضَاةٍ وَرُمَاةٍ فَإِنَّ الْجَمْعَ بُنِيَ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا تَكَلَّفَ النَّحْوِيُّونَ لِدُخُولِهَا فِيمَا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ، أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ تَأْكِيدِ الْجَمْعِ، لَمَّا رَأَوْا زَائِدًا لَا مَعْنًى لَهُ ذَكَرُوا أَنَّهُ جَاءَ بِمَعْنَى التَّوْكِيدِ، كَالزَّوَائِدِ الَّتِي لَا يُفْهَمُ لَهَا مَعْنًى غَيْرُ التَّأْكِيدِ. وَأَمَّا الْبَيْتُ فَالَّذِي يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ: إِنَّهُ مِمَّا شَذَّ جَمْعُهُ وَلَمْ يُعَلَّ، فَيُقَالُ فِيهِ: أَبَى كَمَا قَالُوا: عَصَى فِي عَصَا، وَهُوَ عِنْدَهُمْ جَمْعٌ عَلَى فُعُولٍ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ أُبُوَةُ. وَلَا يُجْمَعُ ابْنٌ عَلَى بُنُوَّةٍ، وَإِنَّمَا هُمَا مَصْدَرَانِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ لَوْ وَجَوَابُهَا هِيَ مَعْمُولُ الْقَوْلِ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَجَاءَتْ عَلَى نَظْمِ مَا بَعْدَ إِذَا مِنْ تَقْدِيمِ نَفْيِ الْمَوْتِ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ، كَمَا قَدَّمَ الضَّرْبَ عَلَى الْغَزْوِ. وَالضَّمِيرُ فِي: لَوْ كَانُوا، هُوَ لِقَتْلَى أُحُدٍ، قَالَهُ: الْجُمْهُورُ. أَوْ لِلسَّرِيَّةِ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَالَهُ: بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ الدِّمْيَاطِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَا قُتِلُوا بِتَخْفِيفِ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِتَشْدِيدِهَا لِلتَّكْثِيرِ فِي الْمَحَالِّ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّكْثِيرُ فِيهِ. لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ اللَّامِ فَقِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ. وَقِيلَ: لَامُ الصَّيْرُورَةِ. فَإِذَا كَانَتْ لَامُ كَيْ فَبِمَاذَا تَتَعَلَّقُ، وَلِمَاذَا يُشَارُ بِذَلِكَ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَسِيَاقُهُ، التَّقْدِيرُ: أَوْقَعَ ذَلِكَ، أَيِ الْقَوْلَ وَالْمُعْتَقَدَ فِي قُلُوبِهِمْ لِيَجْعَلَهُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ عَلَى أَنَّهَا لَامُ كَيْ يُقَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَثْبِيطًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالنَّهْيِ وَهُوَ: لَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ كَفَرُوا. لِأَنَّ جَعْلَ اللَّهِ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، لَا يَكُونُ سَبَبًا لِنَهْيِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْكُفَّارِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أَوْرَدَ سُؤَالًا عَلَى مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ لِيَجْعَلَ، قَالَ: أَوْ لَا يَكُونُوا بِمَعْنَى: لَا يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي النُّطْقِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَاعْتِقَادِهِ، لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ خَاصَّةً، وَيَصُونَ مِنْهَا قُلُوبَكُمْ انتهى كلمه. وَهُوَ كَلَامُ شَيْخٍ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ، لِأَنَّ جَعْلَ الْحَسْرَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلنَّهْيِ كَمَا قُلْنَا، إِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ امْتِثَالِ النَّهْيِ وَهُوَ: انْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ، فَحُصُولُ ذَلِكَ الِانْتِفَاءُ وَالْمُخَالَفَةِ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ يَحْصُلُ عَنْهُ مَا يَغِيظُهُمْ وَيَغُمُّهُمْ، إِذْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ. فَلَا تَضْرِبُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا تَغْزُوا، فَالْتَبَسَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ اسْتِدْعَاءُ انْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ لِحُصُولِ الِانْتِفَاءِ، وَفَهْمُ هَذَا فِيهِ خَفَاءٌ وَدِقَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَوْنِ، أَيْ: لَا تَكُونُوا كَهَؤُلَاءِ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ دُونَكُمْ انْتَهَى. وَمِنْهُ أَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: لَكِنَّ ابْنَ عِيسَى نَصَّ عَلَى مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ، وَذَاكَ لَمْ يُنَصَّ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ. وَإِذَا كَانَتْ لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ تَعَلَّقَتْ بِقَالُوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِجَعْلِ الْحَسْرَةِ، إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِعِلَّةٍ، فَصَارَ مَآلُ ذَلِكَ إِلَى الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، وَنَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، وَلَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِذَلِكَ، إِنَّمَا آلَ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا لَا يُثْبِتُونَ لِلَّامِ هَذَا الْمَعْنَى- أَعْنِي أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ وَالْمَآلِ- وَيَنْسُبُونَ هَذَا الْمَذْهَبَ لِلْأَخْفَشِ. وَأَمَّا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الظَّنِّ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَحْضُرُوا لَمْ يُقْتَلُوا، كَانَ حَسْرَتُهُمْ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَشَدَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى النُّطْقِ وَالِاعْتِقَادِ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ الَّذِي لَهُمْ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً، لِأَنَّ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ مَوْتٍ وَقَتْلٍ بِأَجَلٍ سَابِقٍ يَجِدُ بَرْدَ الْيَأْسِ وَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى قَلْبِهِ، وَالَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ حَمِيمَهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَمُتْ يَتَحَسَّرُ وَيَتَلَهَّفُ انْتَهَى. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَوَافِقَةٌ فِيمَا أُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَوْنِ مِثْلَ الْكَافِرِينَ فِي هَذَا الْمُعْتَقَدِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَسَمَهُمْ بِمُعْتَقَدٍ وَأَمَرَ بِخِلَافِهِمْ كَانَ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّهْيِ وَالِانْتِهَاءِ مَعًا، فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَالُوا، وَأَنَّ اللَّامَ لِلصَّيْرُورَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَاصِدِينَ التَّثْبِيطَ عَنِ الْجِهَادِ وَالْإِبْعَادِ فِي الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ صِحَّتَهَا أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِيهَا، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ قَائِلٌ بِأَجَلٍ وَاحِدٍ، فَخَابَ هَذَا الْقَصْدُ، وَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ

أَيْ غَمًّا عَلَى مَا فَاتَهُمْ، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا مَقْصِدَهُمْ مِنَ التَّثْبِيطِ عَنِ الْجِهَادِ. وَظَاهِرُ جَعْلِ الْحَسْرَةِ وَحُصُولِهَا أَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْغَمُّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ بُلُوغِ مَقْصِدِهِمْ. وَقِيلَ: الْجَعْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ، وَلِمَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ. وَأَسْنَدَ الْجَعْلَ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْغَمَّ وَالْحَسْرَةَ فِي قُلُوبِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ الْحَتْمِ وَالْأَمْرُ بِيَدِهِ. قَدْ يُحْيِي الْمُسَافِرَ وَالْغَازِي، وَيُمِيتُ الْمُقِيمَ وَالْقَاعِدَ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عنه مَوْتِهِ: مَا فِيَّ مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ أَوْ طَعْنَةٌ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ متعلقة بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا «1» أَيْ: لَا تَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُحْيِي، مَنْ قَدَّرَ حَيَاتَهُ لَمْ يُقْتَلْ فِي الْجِهَادِ، وَالْمُمِيتُ مَنْ قَدَّرَ لَهُ الْمَوْتَ لَمْ يَبْقَ وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدْ، قَالَهُ: الرَّازِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: الْمُرَادُ مِنْهُ إِبْطَالُ شُبْهَتِهِمْ، أَيْ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ آخَرَ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَا يَتَبَدَّلُ. وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ انْتَهَى. وَرُدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ سَائِرَ الْأَعْمَالِ مَفْرُوغٌ مِنْهَا كَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، فَمَا قُدِّرَ وُقُوعُهُ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَمَا لَمْ يُقَدَّرْ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، فَإِذًا لَا فَرْقَ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَالَ الرَّاغِبُ: عَلَّقَ ذَلِكَ بِالْبَصَرِ لَا بِالسَّمْعِ، وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ مِنْهُمْ قَوْلًا مَسْمُوعًا لَا فَعْلًا مَرْئِيًّا. لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَ الْكَافِرِ قَصْدًا مِنْهُمْ إِلَى عَمَلٍ يُحَاوِلُونَهُ، فَخَصَّ الْبَصَرَ بِذَلِكَ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ يَقْصِدُ فِعْلًا يُحَاوِلُهُ: أَنَا أَرَى مَا تَفْعَلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْأَخَوَانِ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَهُوَ وَعِيدٌ لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: لَا تَكُونُوا، فَهُوَ تَوْكِيدٌ لِلنَّهْيِ وَوَعِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ، وَوَعْدٌ لِمَنِ امْتَثَلَ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ: أَنَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فِي سَفَرٍ وَغَزْوٍ لَوْ كَانَ أَقَامَ مَا مَاتَ وَمَا قُتِلَ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّخَاذُلِ عَنِ الْغَزْوِ وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إِنْ تَمَّ مَا يَحْذَرُونَهُ مِنَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْمَوْتِ فِيهِ، فَمَا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 156. [.....]

يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، لَوْ لَمْ يَهْلَكُوا بِالْقَتْلِ أَوِ الْمَوْتِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ. لِأَنَّ اللَّامَ فِي لَئِنْ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ: لَمَغْفِرَةٌ. وَكَانَ نَكِرَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَيْسَرَ جُزْءٍ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ كَافٍ فِي فَوْزِ الْمُؤْمِنِ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ بِقَوْلِهِ مِنَ اللَّهِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ نَكِرَةً وَمُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ بِهَا، كَوْنُهَا عُطِفَتْ عَلَى مَا يَسُوغُ بِهِ الِابْتِدَاءُ. أَوْ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً فِي الْمَعْنَى إِذِ التَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةٌ مِنْهُ. وَثَمَّ صِفَةٌ أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا وَتَقْدِيرُهَا: وَرَحْمَةٌ لَكُمْ. وَخَيْرٌ هُنَا عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ ذَهَبَةٌ حَمْرَاءُ. وَارْتِفَاعُ خَيْرٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَمَغْفِرَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ إِشَارَةً إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَمَّى ذَلِكَ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً، إِذْ هُمَا مُقْتَرِنَانِ بِهِ. وَيَجِيءُ التَّقْدِيرُ لِذَلِكَ: مَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ. وَتَرْتَفِعُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ الْمُقَدَّرِ. وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ صِفَةٌ لَا خَبَرُ ابْتِدَاءٍ انْتَهَى قَوْلُهُ. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ إِنْ قُتِلْتُمْ مَحْذُوفٌ، لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: سد مسد جواب الشرط إِنْ عَنَى أَنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَتِ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ الموت فيه. وَقَالَ الرَّازِيُّ: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَبُّدِهِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَرَحْمَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَبُّدِهِ لِطَلَبِ ثَوَابِهِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِالظَّاهِرِ. وَقَدَّمَ الْقَتْلَ هُنَا لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ، فَقَدَّمَ الْأَشْرَفَ الْأَهَمَّ فِي تَحْصِيلِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، إِذِ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ: تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِلْزَامًا هُوَ جَارٍ مَجْرَى قِيَاسَيْنِ شَرْطِيَّيْنِ اقْتَضَيَا الْحِرْصَ عَلَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلُهُ: إِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مُتُّمْ، حَصَلَتْ لَكُمُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَهُمَا خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ. فَإِذَا الْمَوْتُ وَالْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ فَالْحَشْرُ لَكُمْ حَاصِلٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ وَالْقَتْلُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْحَشْرُ فَنَتِيجَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ اللَّذَيْنِ يوجبان المغرفة وَالرَّحْمَةَ خَيْرٌ مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ اللَّذَيْنِ لَا يُوجِبَانِهِمَا انْتَهَى. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَالْأَبَوَانِ بِضَمِّ الْمِيمِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَحَفْصٍ فِي هَذَيْنِ أَوْ مُتُّمْ، وَلَئِنْ

مُتُّمْ، وَكَسَرَ الْبَاقُونَ. وَالضَّمُّ أَقْيَسُ وَأَشْهَرُ. وَالْكَسْرُ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْقِيَاسِ، جَعَلَهُ الْمَازِنِيُّ مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ، نَظِيرُ دُمْتَ تَدُومُ، وَفَضَّلْتَ تُفَضِّلُ، وَكَذَا أَبُو عَلِيٍّ، فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِالشُّذُوذِ. وَقَدْ نَقَلَ غَيْرُهُمَا فِيهِ لُغَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: فَعَلَ يَفْعُلُ، فَتَقُولُ مَاتَ يَمُوتُ. وَالْأُخْرَى: فَعَلَ يَفْعَلُ نَحْوَ مَاتَ يَمَاتُ، أَصْلُهُ مَوَتَ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ بِشَاذٍّ، إِذْ هُوَ مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، فَأَصْلُهُ مَوَتَ يَمُوتُ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا شُذُوذَ فِيهِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: مُتُّمْ مِنْ مَاتَ يَمَاتُ قَالَ الشَّاعِرُ: عِيشِي وَلَا تُومِي بِأَنْ تَمَاتِي وَسُفْلَى مُضَرَ يَقُولُونَ: مُتُّمْ بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، نَقَلَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَجْمَعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى سِيَاقِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ. وَقَرَأَ قَوْمٌ مِنْهُمْ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالْيَاءِ، أَيْ مِمَّا يَجْمَعُهُ الْكُفَّارُ الْمُنَافِقُونَ وَغَيْرُهُمْ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. أَعْلَمَ فِيهِ أَنَّ مَصِيرَ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ أُطْلِقَا وَلَمْ يُقَيَّدَا بِذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قُيِّدَا فِي الْآيَةِ، فَهِمَ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْخِطَابِ السَّابِقِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَإِلَى الرَّحِيمِ الْوَاسِعِ الرَّحْمَةِ الْمُمِيتِ الْعَظِيمِ الثَّوَابِ تُحْشَرُونَ. قَالَ: وَلِوُقُوعِ اسْمِ اللَّهِ هَذَا الْمَوْقِعَ مَعَ تَقْدِيمِهِ وَإِدْخَالِ اللَّامِ عَلَى الْحَرْفِ الْمُتَّصِلِ بِهِ سِيَّانِ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ انْتَهَى. يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَذْهَبِهِ: مِنْ أَنَّ التَّقْدِيمَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ، فَكَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَإِلَى اللَّهِ لَا غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ. وَهُوَ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ التَّقْدِيمُ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالشَّيْءِ وَالِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَزَادَهُ حُسْنًا هُنَا أَنَّ تأخر الفعل هنا فاضلة، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْمَجْرُورُ لَفَاتَ هَذَا الْغَرَضُ وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ تَحْقِيرَ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْحِرْصَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ مَصِيرَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَالْمُوَافَاةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَمْثَلُ بِالْمَرْءِ لِيُحْرِزَ ثَوَابَهَا وَيَجِدْهُ وَقْتَ الْحَشْرِ. وَقَدَّمَ الْمَوْتَ هُنَا عَلَى الْقَتْلِ لِأَنَّهَا آيَةُ وَعْظٍ بِالْآخِرَةِ وَالْحَشْرِ، وَتَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ، وَالْمَوْتُ فِيهَا مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيَّدْ بِشَيْءٍ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُخْتَصًّا بِمَنْ خُوطِبَ قَبْلُ أَوْ عَامًّا وَانْدَرَجَ أُولَئِكَ فِيهِ، فَقُدِّمَ لِعُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ أَغْلَبُ فِي النَّاسِ مِنَ الْقَتْلِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ. مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا: فَقَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْقَتْلِ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى «1»

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 156.

وَتَقَدَّمَ الْقَتْلُ عَلَى الْمَوْتِ بَعْدُ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَحْرِيضٍ عَلَى الْجِهَادِ، فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ وَالْأَشْرَفَ. وَقَدَّمَ الْمَوْتَ هُنَا لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ، وَلَمْ يُؤَكَّدِ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ اللام المتلقى بها القسم وَبَيْنَهُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ: لَتُحْشَرُنَّ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: لِيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ بِمَعْمُولِ الْفِعْلِ كَهَذَا، أَوْ بِسَوْفَ. كَقَوْلِهِ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «1» أَوْ بِقَدْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: كَذَبْتِ لَقَدْ أَصْبَى عَلَى الْمَرْءِ عِرْسِهِ ... وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يَزِنَّ بِهَا الْخَالِي قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْأَصْلُ دُخُولُ النُّونِ فَرْقًا بَيْنَ لَامِ الْيَمِينِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْفَضَلَاتِ، فَبِدُخُولِ لَامِ الْيَمِينِ عَلَى الْفَضْلَةِ وَقَعَ الْفَصْلُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى النُّونِ. وَبِدُخُولِهَا عَلَى سَوْفَ وَقَعَ الْفَرْقُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى النُّونِ، لِأَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ حَالًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَلَا. فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ مُتَعَلِّقُ الرَّحْمَةِ الْمُؤْمِنُونَ. فَالْمَعْنَى: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِنْتَ لَهُمْ، فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ امْتُنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ. أَيْ: دَمِثَتْ أَخْلَاقُكَ وَلَانَ جَانِبُكَ لَهُمْ بَعْدَ مَا خَالَفُوا أَمَرَكَ وَعَصَوْكَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَذَلِكَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الرَّحْمَةِ الْمُخَاطَبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاكَ جَعَلَكَ لَيِّنَ الْجَانِبِ مُوَطَّأَ الْأَكْنَافِ، فَرَحِمْتَهُمْ وَلِنْتَ لَهُمْ، وَلَمْ تُؤَاخِذْهُمْ بِالْعِصْيَانِ وَالْفِرَارِ وَإِفْرَادِكَ لِلْأَعْدَاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ امْتِنَانًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الرَّحْمَةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جَعَلَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَبَعْثَهُ بِتَتْمِيمِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَالْمُؤْمِنِينَ، بأن لينه لهم. وما هُنَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَزِيَادَتُهَا بَيْنَ الْبَاءِ وَعَنْ وَمِنْ وَالْكَافِ، وَبَيْنَ مَجْرُورَاتِهَا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ فِي اللِّسَانِ، مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهَا منكرة تامة، ورحمة بَدَلٌ مِنْهَا. كَأَنَّهُ قِيلَ: فَبِشَيْءٍ أُبْهِمَ، ثُمَّ أُبْدِلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْضِيحِ، فَقَالَ: رَحْمَةٌ. وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا يَفِرُّ مِنَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهَا أنهار زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: مَا هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: دُخُولُ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ الْوَضْعِ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ لِلتَّعَجُّبِ تَقْدِيرُهُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّ جِنَايَتَهُمْ لَمَّا كَانَتْ عَظِيمَةً ثُمَّ إِنَّهُ مَا أَظْهَرَ أَلْبَتَّةَ تَغْلِيظًا فِي الْقَوْلِ، وَلَا خُشُونَةً فِي الْكَلَامِ، عَلِمُوا أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَأْيِيدٍ رَبَّانِيٍّ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا قاله المحققون:

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 49.

صَحِيحٌ، لَكِنَّ زِيَادَةَ مَا لِلتَّوْكِيدِ لَا يُنْكِرُهُ فِي أَمَاكِنِهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَعَلُّقٍ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ مَنْ يَتَعَاطَى تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مَا فِي هَذَا الْمَكَانِ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ أَحَدٌ مُهْمَلًا فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِأَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لِلتَّعَجُّبِ. ثُمَّ إِنَّ تَقْدِيرَهُ ذَلِكَ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ مَا مُضَافَةً لِلرَّحْمَةِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تُضَافُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَلَا أَسْمَاءُ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرُ أي بلا خلاف، وكم عَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالثَّانِي: إِذَا لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ فَيَكُونُ إِعْرَابُهُ بَدَلًا، وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْبَدَلِ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَحَظَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَلْفَاظِ، وَكَانَ يُغْنِيهِ عَنْ هَذَا الِارْتِبَاكِ وَالتَّسَلُّقِ إِلَى مَا لَا يُحْسِنُهُ وَالتَّسَوُّرُ عَلَيْهِ. قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي مَا هَذِهِ؟ إِنَّهَا صِلَةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ثَمَرَةَ اللِّينِ هِيَ الْمَحَبَّةُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ. وَأَنَّ خِلَافَهَا مِنَ الْجَفْوَةِ وَالْخُشُونَةِ مُؤَدٍّ إِلَى التَّفَرُّقِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ شَافَهْتُهُمْ بِالْمَلَامَةِ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْفِرَارِ لِتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِكَ هَيْبَةً مِنْكَ وَحَيَاءً، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَفَرُّقِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَضَعْفِ مَادَّتِهِ، وَإِطْمَاعًا لِلْعَدُوِّ وَاللِّينِ وَالرِّفْقِ، فَيَكُونُ فِيمَا لَمْ يُفْضِ إِلَى إِهْمَالِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1» وفي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ. وَالْوَصْفَانِ قِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَجُمِعَا لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: الْفَظَاظَةُ الْجَفْوَةُ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَغِلَظُ الْقَلْبِ: عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ خُلِقَ صُلْبًا لَا يَلِينُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَعَنِ الْغِلَظِ تَنْشَأُ الْفَظَاظَةُ تَقَدَّمَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْحِسِّ عَلَى مَا هُوَ خَافٍ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِظُهُورِ أَثَرِهِ. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ خَاصًّا بِهِ مِنْ تَبِعَةٍ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمُشَاوَرَتِهِمْ. وَفِيهَا فَوَائِدُ تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ، وَالرَّفْعُ مِنْ مِقْدَارِهِمْ بِصَفَاءِ قَلْبِهِ لَهُمْ، حَيْثُ أَهَّلَهُمْ لِلْمُشَاوَرَةِ، وَجَعَلَهُمْ خَوَاصَّ بَعْدَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ، وَتَشْرِيعُ الْمُشَاوَرَةِ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَالِاسْتِظْهَارُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ. فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَاخْتِبَارُ عُقُولِهِمْ، فَيُنْزِلُهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَاجْتِهَادُهُمْ فِيمَا فِيهِ وَجْهُ الصَّلَاحِ. وَجَرَى عَلَى مَنَاهِجِ الْعَرَبِ وَعَادَتِهَا فِي الِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ، وَإِذَا لَمْ يُشَاوِرْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَصَلَ فِي نفسه شيء،

_ (1) سورة التوبة: 9/ 73.

وَلِذَلِكَ عَزَّ عَلَى عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ كَوْنُهُمُ اسْتَبَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْمَشُورَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وفيما ذا أُمِرَ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ. قِيلَ: فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَالدُّنْيَا وَقِيلَ: فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ، وَلِذَلِكَ اسْتَشَارَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمَرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى تريب زَمَانِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَرَ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغٍ، أَمَرَ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ فِيمَا يَخُصُّهُ، فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ فِيمَا لِلَّهِ، فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّدْرِيجُ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَكِنْ هَذِهِ حِكْمَةُ تَقْدِيمِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. أَمَرَ أَوَّلًا بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، إِذْ عَفْوُهُ عَنْهُمْ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ، وَدَلِيلٌ على رضاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِ. وَلَمَّا سَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِهِ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ اللَّهُ لِيَكْمُلَ لَهُمْ صَفْحُهُ وَصَفْحُ اللَّهِ عَنْهُمْ، ويحصل لهم رضاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا زَالَتْ عَنْهُمُ التَّبِعَاتُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ شَاوَرَهُمْ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ وَالْخُلَّةِ النَّاصِحَةِ، إِذْ لَا يَسْتَشِيرُ الْإِنْسَانَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُعْتَقِدًا فِيهِ الْمَوَدَّةَ وَالْعَقْلَ وَالتَّجْرِبَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْفُ عَنْهُمْ أَمْرٌ لَهُ بِالْعَفْوِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ سَلْنِي الْعَفْوَ عَنْهُمْ لِأَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ وَالْمَسْئُولُ الِاسْتِغْفَارُ لِأَجْلِهِ. قِيلَ: فِرَارُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرْكُ إِجَابَتِهِ، وَزَوَالُ الرُّمَاةِ عَنْ مَرَاكِزِهِمْ. وَقِيلَ: مَا يُبْدُونَ مِنْ هَفَوَاتِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ السَّقَطَاتِ الَّتِي لَا يَعْتَقِدُونَهَا، كَمُنَادَاتِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: أن كان ابن عمتك وَجَرُّ رِدَاءِهِ حَتَّى أَثَّرَ فِي عُنُقِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْهَفْوَةِ. وَمِنْ غَرِيبِ النُّقُولِ وَالْمَقُولِ وَضَعِيفِهِ الَّذِي يُنَزَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ قَوْلُ بَعْضُهُمْ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، أَنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ. وَالْمَعْنَى: وَلِيُشَاوِرُوكَ فِي الْأَمْرِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا جُمْلَةً مِمَّا وَرَدَ فِي الْمُشَاوَرَةِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ الشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ، هَذَا مَا لَا خِلَافَ لَهُ. وَالْمُسْتَشَارُ فِي الدِّينِ عَالِمُ دِينٍ، وَقَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا كَمُلَ دِينُ امْرِئٍ لَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَاقِلٌ مُجَرِّبٌ وَادٍ فِي الْمُسْتَشِيرِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: فِي الْأَمْرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ. إِذْ لَا يُشَاوِرُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَالْأَمْرُ: اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ لِلْكُلِّ وَلِلْبَعْضِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ: فَإِذَا عَقَدْتَ قَلْبَكَ عَلَى أَمْرٍ بَعْدَ الِاسْتِشَارَةِ فَاجْعَلْ تَفْوِيضَكَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالْأَصْلَحِ لَكَ، وَالْأَرْشَدِ لِأَمْرِكَ، لَا يَعْلَمُهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ وَتَخْمِيرِ

الرَّأْيِ وَتَنْقِيحِهِ، وَالْفِكْرِ فِيهِ. وَإِنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا خِلَافًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنْ: تَرْكِ الْمَشُورَةِ، وَمِنَ: الِاسْتِبْدَادِ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِي عَاقِبَةٍ، كَمَا قَالَ: إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ ... وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبًا وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ ... وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَزَمْتَ عَلَى الْخِطَابِ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَزَمْتُ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى أَنَّهَا ضَمِيرٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْنَى فَإِذَا عَزَمْتُ لَكَ عَلَى شَيْءٍ أَيْ أَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُكَ تَقْصِدُهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى اللَّهِ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نَسَقِ ضَمِّ التَّاءِ لَكَانَ فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ وَنَظِيرُهُ فِي نِسْبَةِ الْعَزْمِ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ عَزَمَ الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ حَثَّ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، إِذْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَالْمَرْءُ سَاعٍ فِيمَا يُحَصِّلُ لَهُ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فُنُونًا مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْإِبْهَامِ فِي: وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ قَالَ: هُوَ الرَّسُولُ أَبْهَمَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ فِيهِ هَضْمٌ لِقَدْرِهِ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: غَمًّا بِغَمٍّ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ. وَالطِّبَاقُ: فِي يُخْفُونَ وَيُبْدُونَ، وَفِي فَاتَكُمْ وَأَصَابَكُمْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: تَظُنُّونَ وَظَنَّ، وَفِي فَتَوَكَّلْ وَالْمُتَوَكِّلِينَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي فَظًّا وَلَانْفَضُّوا، وَلَيْسَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَادَّتَانِ وَالتَّفْسِيرُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ فِي مَا لَا يُبْدُونَ يَقُولُونَ. وَالِاحْتِجَاجُ النَّظَرِيُّ فِي: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ فِي: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَفِي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَفِي يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ، وَفِي لِنْتَ، وَفِي غَلِيظَ الْقَلْبِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: مَا مَاتُوا، وَمَا قُتِلُوا، وَمَا بَعْدَهُمَا، وَفِي: عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ. وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ لِلتَّأْكِيدِ فِي: فَبِمَا رَحْمَةٍ. وَالِالْتِفَاتُ وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ هَذَا الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى الْخِطَابِ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْضَحَ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنَ النَّصْرِ أَوِ الْخِذْلَانِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِمَا يَشَاءُ. وَأَنَّهُ مَتَى نَصَرَكُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَغْلِبَكُمْ أَحَدٌ، وَمَتَى خَذَلَكُمْ فَلَا نَاصِرَ لَكُمْ فِيمَا وَقَعَ لَكُمْ مِنَ النَّصْرِ، أَوْ بِكُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ كَيَوْمَيْ: بَدْرٍ وَأُحُدٍ، فَبِمَشِيئَتِهِ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُمْ عَمَّا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْفِرَارِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ

بِالتَّوَكُّلِ، وَنَاطَ الْأَمْرَ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يُنَاسِبُ مَعَهُ التَّوَكُّلَ وَهُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُصَدِّقٌ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ بِيَدِهِ النَّصْرُ وَالْخِذْلَانُ. وَأَشْرَكَهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي مَطْلُوبِيَّةِ التَّوَكُّلِ، وَهُوَ إِضَافَةُ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَفْوِيضِهَا إِلَيْهِ. وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ مِنْ فُرُوضِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِالتَّشْمِيرِ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَزَامَةِ بِغَايَةِ الْجُهْدِ، وَمُعَاطَاةِ أَسْبَابِ التَّحَرُّزِ، وَلَيْسَ الْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ وَالْإِهْمَالُ لِمَا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بِتَوَكُّلٍ، وَإِنَّمَا هو كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «1» وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا يُخْذَلُ مِنَ الَّذِي يُنْصَرُ. وَإِمَّا أَنْ لَا يحتاج إلى تقدير هذا الْمَحْذُوفِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: إِذَا جَاوَزْتَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَقَدْ خَذَلَكَ فَمَنْ ذَا الَّذِي تُجَاوِزُهُ إِلَيْهِ فَيَنْصُرُكَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْخِذْلَانِ. وَجَاءَ جَوَابُ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ بِصَرِيحِ النَّفْيِ الْعَامِّ، وَجَوَابُ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ، وَهُوَ مِنْ تَنْوِيعِ الْكَلَامِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّلَطُّفِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يُصَرِّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، بَلْ أَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقْتَضِي السُّؤَالَ عَنِ النَّاصِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ النَّاصِرِ. لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْمُتَضَمِّنِ، فَلَمْ يُجْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْكُفَّارِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ بِالصَّرِيحِ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ: أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «2» وظاهره النُّصْرَةِ أَنَّهَا فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى مُكَافَحَتِهِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا النُّصْرَةَ بِالْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَبِالْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَقَالُوا: الْمَعْنَى إِنْ حَصَلَتْ لَكُمُ النُّصْرَةُ فَلَا تَعُدُّوا مَا يَعْرِضُ مِنَ الْعَوَارِضِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ غَلَبَةً، وَإِنْ خَذَلَكُمْ فِي ذَلِكَ فَلَا تَعُدُّوا مَا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْقَهْرِ فِي الدُّنْيَا نُصْرَةً، فَالنُّصْرَةُ وَالْخِذْلَانُ معتبران بالمئال. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ نَصَرَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ، وَلِيَخُصَّ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، لعلمهم أَنَّهُ لَا نَاصِرَ سِوَاهُ، وَلِأَنَّ إِيمَانَكُمْ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَقْتَضِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَخَذَ الِاخْتِصَاصَ مِنْ تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يُوجِبُ الْحَصْرَ وَالِاخْتِصَاصَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخْذُلُكُمْ مِنْ خَذَلَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَخْذُلُكُمْ

_ (1) سورة فاطر: 35/ 2. (2) سورة محمد: 47/ 13.

مِنْ أَخْذَلَ رُبَاعِيًّا، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ أَيْ: يَجْعَلُكُمْ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: فُقِدَتْ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ مِنَ الْمَغَانِمِ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا، فَنَزَلَتْ ، وَقَائِلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ لَمْ يَظُنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا. وَقِيلَ: مُنَافِقٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَفْقُودَ سَيْفٌ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: قَالَتِ الرُّمَاةُ يَوْمَ أُحُدٍ: الْغَنِيمَةُ الْغَنِيمَةُ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ قَالَ: «خَشِيتُمْ أَنْ نَغُلَّ» فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ إِعْلَامًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَضَمَّنَتْ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْغَنَائِمِ فِي الْجِهَادِ، وَهِيَ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِالنَّارِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ مِدْعَمٍ، فَحَذَّرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي مَعْنَى مَا كَانَ لِزَيْدٍ أَنْ يَفْعَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ أَنْ يَغُلَّ مِنْ غَلَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْغُلُولَ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْمَعَاصِي، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَهَذَا النَّفْيُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: أَنْ يُغَلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ مِنْ غَلَّ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخُونَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَهِيَ نَهْيٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْغُلُولِ فِي الْمَغَانِمِ، وَخُصَّ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا مَعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ أشنع لما يحب مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، كَالْمَعْصِيَةِ بِالْمَكَانِ الشَّرِيفِ، وَالْيَوْمِ الْمُعَظَّمِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَغَلَّ رُبَاعِيًّا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ غَالًّا كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدَ الرَّجُلُ وَجَدَ مَحْمُودًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ أَغَلَّ أَيْ نُسِبَ إِلَى الْغُلُولِ. وَقِيلَ لَهُ: غَلَلْتَ كَقَوْلِهِمْ: أَكْفَرَ الرَّجُلُ، نُسِبَ إِلَى الْكُفْرِ. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَأْتِي بِعَيْنِ مَا غَلَّ، وَرَدَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. فَفِي الْحَدِيثِ ذَكَرَ الْغُلُولَ وَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ: مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ» الْحَدِيثَ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا وفرس له حمجة وَفِي حَدِيثِ مِدْعَمٍ: «إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي غُلَّتْ مِنَ الْمَغَانِمِ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا وَمَجِيئُهُ بِمَا غَلَّ

فضيحة له على رؤوس الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ الكلبي بمثل لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي غَلَّهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: انْزِلْ فَخُذْهُ، فَيَنْزِلُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَإِذَا بَلَغَ صَوْمَعَتَهُ وَقَعَ فِي النَّارِ، ثُمَّ كُلِّفَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ، يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ. وَقِيلَ: يَأْتِي حَامِلًا إِثْمَ مَا غَلَّ. وَقِيلَ: يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ عِوَضَ مَا غَلَّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَعْظِيمِ الْغُلُولِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْغُلُولِ، وَمَا يَجْرِي لِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ غَلَّ، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ تُوَفَّى جَزَاءً مَا كَسَبَتْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ، فَصَارَ الْغَالُّ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِخُصُوصِهِ، وَمَرَّةً بِانْدِرَاجِهِ فِي هَذَا الْعَامِّ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَخَلِّصٍ مِنْ تَبِعَةِ مَا غَلَّ، وَمِنْ تبعة مَا كَسَبَتْ مِنْ غَيْرِ الْغُلُولِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَيْسَ مَنِ اتَّبَعَ رِضَا اللَّهِ فَامْتَثَلَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ مَنَاهِيهِ كَمَنْ عَصَاهُ فَبَاءَ بِسَخَطِهِ، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعِيَّةِ. جَعَلَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ كَالدَّلِيلِ الَّذِي يَتْبَعُهُ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ، وَجَعَلَ الْعَاصِيَ كَالشَّخْصِ الَّذِي أُمِرَ بِأَنْ يَتَّبِعَ شَيْئًا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَرَجَعَ مَصْحُوبًا بِمَا يُخَالِفُ الِاتِّبَاعَ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أفمن اتبع ما يؤول بِهِ إِلَى رِضَا اللَّهِ عَنْهُ، فَبَاءَ بِرِضَاهُ كَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ ذَلِكَ فَبَاءَ بِسَخَطِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْجُمْهُورُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فَلَمْ يَغُلَّ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ حِينَ غَلَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِتَخَلُّفِهِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: رِضْوَانُ اللَّهِ الْجِهَادُ، وَالسُّخْطُ الْفِرَارُ. وَقِيلَ: رِضَا اللَّهِ طَاعَتُهُ، وَسُخْطُهُ عِقَابُهُ. وَقِيلَ: سُخْطُهُ مَعْصِيَتُهُ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَيَعْسُرُ مَا يَزْعُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ بَيْنَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَتَقْدِيرُهُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا فِيهِ، رَجَحَ إِذْ ذَاكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: مِنْ أَنَّ الْفَاءَ مَحَلُّهَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ، لَكِنْ قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي رِضْوَانَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالظَّاهِرُ اسْتِئْنَافٌ. وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فَمَكَانُهُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ هُوَ جَهَنَّمُ، وَأَفْهَمَ هَذَا أَنَّ مُقَابِلَهُ وَهُوَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ مَأْوَاهُ الْجَنَّةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي صِلَةِ مَنْ فَوَصَلَهَا بِقَوْلِهِ: بَاءَ. وَبِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كَانَ الْمَعْنَى: كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَآلَ إِلَى النَّارِ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: أَيْ جَهَنَّمَ.

هُمْ دَرَجاتٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَقَوْلِهِ: هُمْ طَبَقَاتٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ ذَوُو دَرَجَاتٍ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْغَالِّ وَتَارِكِ الْغُلُولِ، وَالدَّرَجَةُ: الرُّتْبَةُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: تَقْدِيرُهُ لَهُمْ دَرَجَاتٌ. قَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ رَادًّا عَلَيْهِ: اتَّبَعَ الرَّازِيُّ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ بِجَهْلِهِ وَجَهْلِهِمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ حَذْفَ لَامِ الْجَرِّ هُنَا لَا مَسَاغَ لَهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُحْذَفُ لَامُ الْجَرِّ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ، أَوْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ. عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى دُونَ حَذْفِهَا حَسَنٌ مُتَمَكِّنٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ مُنْتَظِرٌ لِلْجَوَابِ قِيلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ: لَا، لَيْسُوا سَوَاءً، بَلْ هُمْ دَرَجَاتٌ. عِنْدَ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ اللَّامِ، لَوْ كَانَ سَائِغًا كَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ انْتَهَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ. وَيَحْمِلُ تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ الْمَعْنَى: لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَلَى تَفْسِيرَ الْمَعْنَى، لَا تَفْسِيرَ اللَّفْظِ الْإِعْرَابِيِّ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُمْ دَرَجَاتٌ، أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ، فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ جَاءَ التَّفَاوُتُ فِي الْعَذَابِ كَمَا جَاءَ التَّفَاوُتُ فِي الثَّوَابِ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فِي حُكْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الرِّضْوَانِ، فَيَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مَعْنَاهَا التَّشْرِيفُ وَالْمَكَانَةُ لَا الْمَكَانُ. كَقَوْلِهِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «1» وَالدَّرَجَاتُ إِذْ ذَاكَ مَخْصُوصَةٌ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ: ابْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُقَاتِلٍ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض في الْمَسَافَةِ أَوْ فِي التَّكْرِمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دَرَجَاتٌ، فَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلَفْظِ هُمْ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ دَرَجَةً بِالْإِفْرَادِ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أَيْ: عَالِمٌ بِأَعْمَالِهِمْ وَدَرَجَاتِهَا، فَمُجَازِيهِمْ عَلَى حَسَبِهَا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الطِّبَاقَ فِي: يَنْصُرُكُمْ وَيَخْذُلُكُمْ، وَفِي رِضْوَانِ اللَّهِ وَبِسَخَطٍ. وَالتَّكْرَارُ فِي: يَنْصُرُكُمْ وَيَنْصُرُكُمْ، وَفِي الْجَلَالَةِ فِي مَوَاضِعَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: فِي يَغُلُّ وَمَا غَلَّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الذي معناه النفي فِي: أَفَمَنِ اتَّبَعَ الْآيَةَ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَفِي: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ، وَفِي: بِمَا يَعْمَلُونَ خُصَّ الْعَمَلُ دُونَ الْقَوْلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ جُلُّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

_ (1) سورة القمر: 54/ 55.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 إلى 170]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقَ الرِّضْوَانِ، وَفَرِيقَ السُّخْطِ، وَأَنَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَصَلَ أَحْوَالَهُمْ وَبَدَأَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ مَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ بَعْثِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ تَالِيًا لِآيَاتِ اللَّهِ، وَمُبَيِّنًا لَهُمْ طَرِيقَ الْهُدَى، وَمُطَهِّرًا لَهُمْ مِنْ أَرْجَاسِ الشِّرْكِ، وَمُنْقِذًا لَهُمْ مِنْ غَمْرَةِ الضَّلَالَةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِيهَا. وَسَلَّاهُمْ عَمَّا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، لِمَا أَنَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ. ثُمَّ فَصَّلَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ السُّخْطِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى مَنَّ تَطَوَّلَ وَتَفَضَّلُ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِبَعْثِهِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهُمْ، كَمَا قَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» وَالْمَعْنَى: مِنْ جِنْسِ بَنِي آدَمَ، وَالِامْتِنَانُ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْأُنْسِ بكونه من

_ (1) سورة التوبة: 9/ 128.

الْإِنْسِ، فَيَسْهُلُ الْمُتَلَقَّى مِنْهُ، وَتَزُولُ الْوَحْشَةُ وَالنَّفْرَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَلِمَعْرِفَةِ قُوَى جِنْسِهِمْ. فَإِذَا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ أَدْرَكُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي قُوَى بَنِي آدَمَ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيَةً إِلَى الْإِجَابَةِ. وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَتُخُيِّلَ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ هِيَ فِي طِبَاعِهِ، أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَاتُرِيدِيُّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْعَرَبُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ، مِنْ قَبْلِ أُمَّهَاتِهِ، إِلَّا بَنِي تَغْلِبَ لِنَصْرَانِيَّتِهِمْ قَالَهُ: النَّقَّاشُ، فَصَارَ بَعْثُهُ فِيهِمْ شَرَفًا لَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَيَكُونُ مَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ: أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ عَرَبِيًّا مِثْلَهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، كَمَا أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: قَالَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفَ النِّسَبِ فِيهِمْ، مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمُ التَّعْلِيمُ مِنْهُ، لِمُوَافَقَةِ اللِّسَانِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ شَرَفَهُمْ يَتِمُّ بِظُهُورِ نَبِيٍّ مِنْهُمْ انْتَهَى. وَالْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، إِذْ كَانَ اللِّسَانُ وَاحِدًا، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ أَخْذُ مَا يَجِبُ أَخْذُهُ عَنْهُ. وَكَانُوا وَاقِفِينَ عَلَى أَحْوَالِهِ فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى تَصْدِيقِهِ وَالْوُثُوقِ به. وقرىء شَاذًّا: لِمِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمِنِ الْجَارَّةِ ومن مَجْرُورٌ بِهَا بَدَلَ قَدْ مَنَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يُرَادَ لِمِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أَوْ بَعَثَهُ فِيهِمْ، فَحُذِفَ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ. أَوْ يَكُونُ إِذْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ كَإِذَا فِي قَوْلِكَ: أَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ، إذا كَانَ قَائِمًا بِمَعْنَى لِمِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقْتَ بَعْثِهِ انْتَهَى. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ سَائِغٌ، وَقَدْ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ مَعَ مِنْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ «1» وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ «2» وما دُونَ ذلِكَ عَلَى قَوْلٍ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ جَعَلَ إِذْ مُبْتَدَأَةً وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا الْعَرَبُ مُتَصَرِّفَةً أَلْبَتَّةَ، إِنَّمَا تَكُونُ ظَرْفًا أَوْ مُضَافًا إِلَيْهَا اسْمُ زَمَانٍ، وَمُفَعْوِلَةً بِاذْكُرْ عَلَى قَوْلٍ. أَمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ مُبْتَدَأَةً فَلَمْ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ نَحْوُ: إِذْ قَامَ زَيْدٌ طَوِيلٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ وَقْتَ قِيَامِ زَيْدٍ طَوِيلٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمْ تَرِدْ إِذْ وَإِذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا ظَرْفَيْنِ، وَلَا يَكُونَانِ فَاعِلَيْنِ وَلَا مَفْعُولَيْنِ، وَلَا مُبْتَدَأَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ كَإِذَا، فَهَذَا التشبيه فاسد،

_ (1) سورة النساء: 4/ 159. (2) سورة الصافات: 37/ 164.

لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمُشَبَّهَ بِهِ لَيْسَ مُبْتَدَأً. إِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَلَى زَعْمِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، بَلْ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْعَامِلِ الْمَحْذُوفِ، وَذَلِكَ الْعَامِلُ هُوَ مَرْفُوعٌ. فَإِذَا قَالَ النُّحَاةُ: هَذَا الظَّرْفُ الْوَاقِعُ خَبَرًا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَيَعْنُونَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَرْفُوعِ صَارَ فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي قَوْلِكَ: أَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ إِذَا كَانَ قَائِمًا، فَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. لِأَنَّ هَذَا الظَّرْفَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ أَخْطَبُ، لَا يُجِيزُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ. وَنَصَّ أَرْبَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِإِعْرَابِ أَخْطَبَ مُبْتَدَأً، أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ سَدَّتْ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ حَذْفُ الْخَبَرِ فِيهِ لِسَدِّ هَذِهِ الْحَالِ مَسَدَّهُ. وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْخَبَرِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ، ذُكِرَتْ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِضَمِّ الْفَاءِ، جَمْعُ نَفْسٍ. وَقَرَأَتْ فَاطِمَةُ، وَعَائِشَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: مِنْ أَنْفَسِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَالشَّيْءِ النَّفِيسِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَهَا كَذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى عَلِيٌّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا مِنْ أَنْفَسِكُمْ نَسَبًا وَحَسَبًا وَصِهْرًا، وَلَا فِي آبَائِي مِنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ وُلِدْتُ سِفَاحٌ كُلُّهَا نِكَاحٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ» . قِيلَ: وَالْمَعْنَى مِنْ أَشْرَفِهِمْ، لِأَنَّ عَدْنَانَ ذُرْوَةُ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَمُضَرَ ذُرْوَةُ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَخِنْدِفَ ذُرْوَةُ مُضَرَ، وَمُدْرِكَةَ ذُرْوَةُ خندف، وقريش ذُرْوَةُ مُدْرِكَةَ، وَذُرْوَةَ قُرَيْشٍ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَفِيمَا خَطَبَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ فِي تَزْوِيجِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ حَضَرَ مَعَهُ بَنُو هَاشِمٍ وَرُؤَسَاءُ مُضَرٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَرْعِ إِسْمَاعِيلَ، وضئضىء معه، وَعُنْصُرِ مُضَرَ، وَجَعَلَنَا حَضَنَةَ بَيْتِهِ وَسُوَّاسَ حَرَمَهُ، وَجَعَلَ لَنَا بَيْتًا مَحْجُوجًا، وَحَرَمًا آمِنًا، وَجَعَلَنَا الْحُكَّامَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أَخِي هَذَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ لَا يُوَازَنُ بِهِ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رَجَحَ بِهِ، وَهُوَ وَاللَّهِ بَعْدَ هَذَا لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ جَلِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا خَلَقَ اللَّهُ نَفْسًا هِيَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ فقال: لعمرك. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمَلِ. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ بَعْثِهِ. لَفِي ضَلالٍ أَيْ حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ فَهَدَاهُمْ بِهِ. وَإِنْ هُنَا هِيَ الْخَفِيفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَتَقَدَّمَ

الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَعَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «1» وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. انْتَهَى. وَقَالَ مَكِّيٌّ: وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَبْلَ إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْلُ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا مُضْمَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ حِينَ خُفِّفَتْ حُذِفَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْحَدِيثِ. وَمِنْ كَلَامِ مَكِّيٍّ أَنَّهَا حِينَ خُفِّفَتْ حُذِفَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلَا هَذَيْنِ الوجهين لا نعرف. نحو: يا ذَهَبَ إِلَيْهِ. إِنَّمَا تَقَرَّرَ عِنْدَنَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ وَمِنَ الشُّيُوخِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ثُمَّ خَفَّفْتَ، فَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فِيهَا إِذْ ذَاكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الْإِعْمَالِ، وَيَكُونُ حَالُهَا وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ كَحَالِهَا وَهِيَ مُشَدَّدَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ فِي مُضْمَرٍ. وَمَنَعَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالسَّمَاعِ الثَّابِتِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَكْثَرُ عِنْدَهُمْ أَنْ تُهْمَلَ فَلَا تَعْمَلُ، لَا فِي ظَاهِرٍ، وَلَا فِي مُضْمَرٍ لَا مَلْفُوظٍ بِهِ وَلَا مُقَدَّرٍ أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ وَلِيَهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ ارْتَفَعَتْ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَلَزِمَتِ اللَّامُ فِي ثَانِي مَضْمُونَيْهَا إِنْ لَمْ يُنْفَ، وَفِي أَوَّلِهِمَا إِنْ تَأَخَّرَ فَنَقُولُ: إِنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ وَمَدْلُولُهُ مَدْلُولُ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ. وَإِنْ وَلِيَهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَلَا بُدَّ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تَكُونَ مِنْ فَوَاتِحِ الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ جَاءَ الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِهَا فَهُوَ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانُوا، حَالِيَّةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا هُوَ: وَيَعْلَمُهُمْ، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ، عَلَى مَعْنَى إِلْزَامِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولمّا نُصِبَ بِقُلْتُمْ وَأَصَابَتْكُمْ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بِإِضَافَةِ لَمَّا إِلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَقَلْتُمْ حِينَ أَصَابَتْكُمْ، وَأَنَّى هَذَا نَصْبٌ لِأَنَّهُ مَقُولٌ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ والتقريع. (فإن قلت) : على م عَطَفَتِ الْوَاوُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ؟ (قُلْتُ) : عَلَى مَا مَضَى مِنَ قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» «2» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَحْذُوفٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَعَلْتُمْ كَذَا وَقُلْتُمْ حينئذ كذا؟ انتهى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143. (2) سورة آل عمران: 3/ 152.

أَمَّا الْعَطْفُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. فَفِيهِ بُعْدٌ، وَبِعِيدٌ أَنْ يَقَعَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ قَالُوا: وَأَصْلُهَا التَّقْدِيمُ، وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمَّا نُصِبَ إِلَى آخِرِهِ وَتَقْدِيرُهُ: وَقُلْتُمْ حِينَئِذٍ كَذَا، فَجَعَلَ لَمَّا بِمَعْنَى حِينَ فَهَذَا لَيْسَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. زَعَمَ أَنَّ لَمَّا ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِهَا، فَجَعَلَهَا مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي تَجِبُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْجُمَلِ، وَجَعَلَهَا مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابًا لَهَا فِي نَحْوِ: لَمَّا جاء زيد عَمْرٌو، فَلَمَّا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِجَاءَ مِنْ قَوْلِكَ: جَاءَ عَمْرٌو. وَأَمَّا مَذْهَبُ سيبويه فأما حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، وَهُوَ حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ مِنْ وُجُوهٍ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى: بِالتَّكْمِيلِ. وَالْمُصِيبَةُ: هِيَ مَا نَزَلَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ قَتْلِ سَبْعِينَ مِنْهُمْ، وَكَفِّهِمْ عَنِ الثَّبَاتِ لِلْقِتَالِ. وَإِسْنَادُ الْإِصَابَةِ إِلَى الْمُصِيبَةِ هُوَ مَجَازٌ، كَإِسْنَادِ الْإِرَادَةِ إِلَى الْجِدَارِ، وَالْمِثْلَانِ اللَّذَانِ أَصَابُوهُمَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وقتادة، وَالرَّبِيعُ، وَجَمَاعَةٌ: قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، وَأَسْرُهُمْ سَبْعِينَ، فَالْمِثْلِيَّةُ وَقَعَتْ فِي الْعَدَدِ مِنْ إِصَابَةِ الرِّجَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَقَتْلُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، فَهُوَ قَتْلٌ بِقَتْلٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْأَسْرَى فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ فُدُوا فَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ حَالِهِمْ وَبَيْنَ قَتْلِ سَبْعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: الْمِثْلِيَّةُ فِي الِانْهِزَامِ. هَزَمَ الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَزَمُوهُمْ أَوَّلًا يَوْمَ أُحُدٍ، وَهَزَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي آخِرِ يَوْمِ أُحُدٍ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ: هَلِ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ، أَوْ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ مِنْ هَزِيمَةٍ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّفَضُّلِ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِدَالَتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالتَّسْلِيَةِ لَهُمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْأَبْلَغِ فِي التَّسْلِيَةِ. وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ أَبْلَغُ فِي الْمِنَّةِ وَفِي التَّسْلِيَةِ. وَأَدْعَى إِلَى أَنْ يَذْكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ السَّابِقَةَ، وَأَنْ يَتَنَاسَوْا مَا جَرَى عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَأَنَّى هَذَا: جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِ: قُلْتُمْ. قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ لِمَا أَصَابَهُمْ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ أَصَابَنَا هَذَا وَنَحْنُ نُقَاتِلُ أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَقَدْ وُعِدْنَا بِالنَّصْرِ وَإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ؟! فَاسْتَفْهَمُوا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ عَنْ ذَلِكَ. وَأَنَّى سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ هُنَا، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَا بِمَعْنَى أَيْنَ أَوْ مَتَى،

لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْمَكَانِ وَلَا عَنِ الزَّمَانِ هُنَا، إِنَّمَا الِاسْتِفْهَامُ وَقَعَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ لَهُمْ ذَلِكَ، سَأَلُوا عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّى هَذَا مِنْ أَيْنَ هَذَا، كَقَوْلِهِ: «أَنَّى لَكِ هَذَا» «1» لِقَوْلِهِ: «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» «2» وَقَوْلِهِ: «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» «3» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالظَّرْفُ إِذَا وَقَعَ خبر للمبتدأ ألا يُقَدَّرُ دَاخِلًا عَلَيْهِ حَرْفُ جَرٍّ غَيْرُ فِي، أَمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دَاخِلًا عَلَيْهِ مِنْ فَلَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ فِي. ولك إِذَا أُضْمِرَ الظَّرْفُ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِوَسَاطَةِ فِي إِلَّا أَنْ يُتَّسَعَ فِي الفعل فينصبه نَصْبَ التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، فَتَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّى هَذَا، مِنْ أَيْنَ هَذَا تَقْدِيرٌ غَيْرُ سَائِغٍ، وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، وَقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وُقُوفٌ مَعَ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ فِي اللَّفْظِ، وَذُهُولٌ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ الْجَوَابَ جَاءَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، لَا عَلَى مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ فِي اللَّفْظِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْجَوَابَ يَأْتِي عَلَى حَسَبِ السُّؤَالِ مُطَابِقًا لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَمُرَاعًى فِيهِ الْمَعْنَى لَا اللَّفْظُ. وَالسُّؤَالُ بِأَنَّى سُؤَالٌ عَنْ تَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ حُصُولِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يَتَضَمَّنُ تَعْيِينَ الْكَيْفِيَّةِ، لِأَنَّهُ بِتَعْيِينِ السَّبَبِ تَتَعَيَّنُ الْكَيْفِيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. لَوْ قِيلَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ: كَيْفَ لَا يَحُجُّ زَيْدٌ الصَّالِحُ، وَأُجِيبَ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: بِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ حَصَلَ الْجَوَابُ وَانْتَظَمَ مِنَ الْمَعْنَى، أَنَّهُ لَا يَحُجُّ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ الْإِضْمَارُ فِي هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُصِيبَةِ عَلَى الْمَعْنَى، لَا عَلَى اللَّفْظِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُصِيبَةِ فِي تَفْسِيرِ مُقَابِلِ الْمِثْلَيْنِ: أَهْوَ الْقَتْلُ الْمُقَابِلُ لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، أَوِ الْمُقَابِلُ لِلْقَتْلِ فَقَطْ؟ أَوِ الِانْهِزَامُ الْمُقَابِلُ لِلِانْهِزَامَيْنِ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ صَدَرَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. فَقِيلَ: هُوَ الْفِدَاءُ الَّذِي آثَرُوهُ عَلَى الْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ مَعْنَاهُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَرَوَى عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا فَرُغَتْ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمْ فَدَاءَ الْأَسْرَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَسْرَى فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، أَوْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ عِدَّةُ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا، وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عُدَّتُهُمْ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ما نكره» . فقتل

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 37. (2) سورة آل عمران: 3/ 165. (3) سورة آل عمران: 3/ 37. [.....]

مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ فِي الرَّأْيِ حِينَ رَأَى أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ وَيَتْرُكَ الْكُفَّارَ بِشَرِّ مَجْلِسٍ، فَخَالَفُوا وَخَرَجُوا حَتَّى جَرَتِ الْقِصَّةُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: هُوَ عِصْيَانُ الرُّمَاةِ وَتَسْبِيبِهِمُ الْهَزِيمَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ لَخَّصَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ أَحْسَنَ تَلْخِيصٍ. فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنْتُمُ السَّبَبُ فِيمَا أَصَابَكُمْ لِاخْتِيَارِكُمُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَوْ لِتَخْلِيَتِكُمُ الْمَرْكَزَ. وَعَنْ عَلِيٍّ: لِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ انْتَهَى. وَلَمْ يُعَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى السَّبَبَ مَا هُوَ لُطْفًا بِالْمُؤْمِنِينَ فِي خِطَابِهِ تَعَالَى لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: «أَنَّى هَذَا» «1» هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ طَعْنَهُمْ فِي الرَّسُولِ بِأَنْ نَسَبُوهُ إِلَى الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ، حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمَا انْهَزَمَ عَسْكَرُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّى هَذَا. فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، أَيْ هَذَا الِانْهِزَامُ إِنَّمَا حَصَلَ بِشُؤْمِ عِصْيَانِكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّى هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ أَيْضًا: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ. وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ «2» لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ، لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَلَمْ يَحْضُرُوا الْقِتَالَ، إِلَّا أَنْ تَجُوزَ فِي قَوْلِهِ: أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ بِمَعْنَى أَصَابَتْ أَقْرِبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ، فَهُوَ يُمْكِنُ عَلَى بُعْدٍ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ قَادِرٌ عَلَى النَّصْرِ، وَعَلَى مَنْعِهِ، وَعَلَى أَنْ يُصِيبَ بِكُمْ تَارَةً، وَيُصِيبَ مِنْكُمْ أُخْرَى. وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ كَانَ لِوَهَنٍ فِي دِينِهِمْ، لَا لِضَعْفٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى دِفَاعِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ هُوَ يَوْمُ أُحُدٍ. وَالْجَمْعَانِ، جَمْعُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَالْخِطَابُ للمؤمنين. وما مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارٍ أَيْ: فَهُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَدُخُولُ الْفَاءِ هُنَا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: لَمَّا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِطِلْبَتِهِ لِلْفِعْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ رَابِطَةً مُسَدِّدَةً. وَذَلِكَ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا فَأَشْبَهَ الْكَلَامُ الشَّرْطَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: الَّذِي قَامَ فَلَهُ دِرْهَمَانِ، فَيَحْسُنُ دُخُولَ الْفَاءِ إِذَا كَانَ الْقِيَامُ سَبَبَ الْإِعْطَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامِ الْحَوْفِيِّ، لأن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 165. (2) سورة آل عمران: 3/ 165.

الْحَوْفِيَّ زَعَمَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَشْبَهَ الْكَلَامُ الشَّرْطَ. وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَقَرَّرُوهُ قَلَقٌ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَرَّرُوا فِي جَوَازِ دُخُولِ الْفَاءِ عَلَى خَبَرِ الْمَوْصُولِ أَنَّ الصِّلَةَ تَكُونُ مُسْتَقِلَّةً، فَلَا يُجِيزُونَ الَّذِي قَامَ أَمْسِ فَلَهُ دِرْهَمٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ لِشُبْهَةٍ بِالشَّرْطِ. فَكَمَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ مَاضِيًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَذَلِكَ الصِّلَةُ. وَالَّذِي أَصَابَهُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ هُوَ مَاضٍ حَقِيقَةً، فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَعَلَى مَا قَرَّرُوهُ يُشْكِلُ دُخُولُ الْفَاءِ هُنَا. وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ واصلة مَاضِيَةً مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ «1» وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَاضٍ مَعْنًى مَقْطُوعٌ بوقوعه صلة وخبر، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ: وَمَا يَتَبَيَّنُ إِصَابَتُهُ إِيَّاكُمْ. كَمَا تَأَوَّلُوا: «إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ» «2» أَيْ إِنْ تَبَيَّنَ كَوْنُ قَمِيصِهِ قُدَّ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «3» وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «4» فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ كُلِّهَا إِخْبَارٌ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى التَّبَيُّنِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَفُسِّرَ الْإِذْنَ هُنَا بِالْعِلْمِ. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. أَوْ بِتَمْكِينِ اللَّهِ وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ قَالَهُ: الْقَفَّالُ. أَوْ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ، أَوْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ كَائِنٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، اسْتَعَارَ الْإِذْنَ لِتَخْلِيَةِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُمْ لِيَبْتَلِيَهُمْ، لِأَنَّ الْآذِنَ مُخِلٌّ بَيْنَ الْمَأْذُونِ لَهُ وَمُرَادِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، لِأَنَّ قَتْلَ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَبِيحٌ عِنْدَهُ، فَلَا إِذَنْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْسُنُ دُخُولُ الْفَاءِ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْإِعْطَاءِ، وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا هُوَ وَمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ الَّذِي أَصَابَ، لَكِنْ قَدَّمَ الْأَهَمَّ فِي نُفُوسِهِمْ وَالْأَقْرَبَ إِلَى حِسِّهِمْ. وَالْإِذْنُ: التَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. لَمَّا كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِصَابَةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى تَمْكِينِ اللَّهِ، مِنْ ذَلِكَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَادَّعَى تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَلَا تَحْتَاجُ الْآيَةُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا وَجَزَاءً فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ مَاضٍ، وَالْإِخْبَارُ صحيح. أخبر

_ (1) سورة الحشر: 59/ 6. (2) سورة يوسف: 12/ 26. (3) سورة النساء: 4/ 79. (4) سورة الشورى: 42/ 30.

تَعَالَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ لَا مَحَالَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَهَذَا إِخْبَارٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنًى صَحِيحٌ، فَلَا نَتَكَلَّفُ تَقْدِيمًا وَلَا تَأْخِيرًا، وَنَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ. وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَلِيَعْلَمَ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْلَمَ نِفَاقَ الَّذِينَ نَافَقُوا. أَوِ الْمَعْنَى: وَلِيُمَيِّزَ أَعْيَانَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: لِيَكُونَ الْعِلْمُ مَعَ وُجُودِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مُسَاوِقًا لِلْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَقِيلَ: لِيُظْهِرَ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ وَنِفَاقَ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ «1» وَقَالُوا: تَتَعَلَّقُ الْآيَةُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَلِكَذَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ، عَطَفَ السَّبَبِ عَلَى السَّبَبِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَاءِ وَاللَّامِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْبَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ كَائِنٌ. وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أبي وأصحابه. وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا الْقَائِلُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا انْخَذَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةٍ تَبِعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيَّكُمْ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: مَا أَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ، وَلَوْ عَلِمْنَاهُ لَكُنَّا مَعَكُمْ. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: اذْهَبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ، وَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ: كَثِّرُوا السَّوَادَ وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا فَتَدْفَعُونَ الْقَوْمَ بِالتَّكْثِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ مَعْنَاهُ: رَابِطُوا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمُرَابِطَ فِي الثغور دافع للعبد، إِذْ لَوْلَاهُ لَطَرَقَهَا. قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَوْمَ القادسية وعليه درع بجر أَطْرَافَهَا، وَبِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أنزل الله عذرا؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُكَثِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِي. وَقِيلَ: الْقِتَالُ بِالْأَنْفُسِ، وَالدَّفْعُ بِالْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوِ ادْفَعُوا حَمِيَّةً، لِأَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُمْ أَوَّلًا إِلَى أَنْ يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَدَ عَزَائِمَهُمْ مُنْحَلَّةً عَنْ ذَلِكَ، إِذْ لَا بَاعِثَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِنِفَاقِهِمْ، فَاسْتَدْعَى مِنْهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا عَنِ الْحَوْزَةِ، فَنَبَّهَ عَلَى مَا يُقَاتِلُ لِأَجْلِهِ: إِمَّا لِإِعْلَاءِ الدِّينِ، أَوْ لِحِمَى الذِّمَارِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ قُزْمَانَ: وَاللَّهِ مَا قَاتَلْتُ إِلَّا عَلَى أَحْسَابِ قَوْمِي. وَقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ رَأَى قُرَيْشًا تريع زَرْعَ قَنَاهُ: أَتَرْعَى زُرُوعَ بَنِي قِيلَةَ وَلَمَّا تَضَارَبُ، مع أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ لَا يُقَاتِلَ أحد حتى يأمره.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143.

وَأَوْ عَلَى بَابِهَا مِنَ أَنَّهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَطَلَبَ مِنْهُمُ الشَّيْئَيْنِ: الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالدَّفْعَ عَنِ الْحَرِيمِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ. فَكُفَّارُ قُرَيْشٍ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فِي الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقِيلَ لَهُمْ، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. قَسَّمَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يُقَاتِلُوا لِلْآخِرَةِ، أَوْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى نَافَقُوا، فَيَكُونُ مِنَ الصِّلَةِ. قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ إِنَّمَا لَمْ تَرِدْ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ اقْتَضَاهُ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الْقِتَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالُوا؟ فَقِيلَ: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ، وَنَعْلَمُ هُنَا فِي مَعْنَى عَلِمْنَا، لِأَنَّ لَوْ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِمَعْنَى الْمَاضِي إِذَا كَانَتْ حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَمَضْمُونُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُمْ عَلَّقُوا الِاتِّبَاعَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ عِلْمِ الْقِتَالِ، وَعِلْمُهُمْ لِلْقِتَالِ مُنْتَفٍ، فَانْتَفَى الِاتِّبَاعُ وَإِخْبَارُهُمْ بِانْتِفَاءِ عِلْمِ الْقِتَالِ مِنْهُمْ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ والمكايدة، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ عَسْكَرَانِ وَتَلَاقَيَا وَقَدْ قَصَدَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَعُدَدٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْعَسْكَرُ الْآخَرُ مِنْ بَلَدِهِمْ لِلِقَائِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بَلَدَهُمْ وَاثِقِينَ بِنَصْرِ اللَّهِ مُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أُولَئِكَ، أَنَّهُ سَيَنْشُبُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ لَا مَحَالَةَ، فَأَنْكَرُوا عِلْمَ ذَلِكَ رَأْسًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ النِّفَاقِ وَالدَّغَلِ وَالْفَرَحِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّخْطِئَةِ لَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ قِتَالٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ رَمْيُ النُّفُوسِ فِي التَّهْلُكَةِ، إِذْ لَا مُقَاوَمَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ الْكُفَّارِ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَ فِي الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ وَجَعْلِهَا ظَهْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ يَسْتَصْوِبُ الْخُرُوجَ كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ وَجْهُ الْأَقْرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْقُرْبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَلَمْ تَكُنْ تَظْهَرُ لَهُمْ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا انْخَذَلُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا مَا قَالُوا زَادُوا قُرْبًا لِلْكُفْرِ، وَتَبَاعَدُوا عَنِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: هُمْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ أَقْرَبُ نُصْرَةً مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ تَقْلِيلَهُمْ سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ بِالِانْخِذَالِ تَقْوِيَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَأَقْرَبُ هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَهِيَ مِنَ الْقُرْبِ الْمُقَابِلِ لِلْبُعْدِ. وَيُعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ

وَبِمِنْ، فَيُقَالُ: زَيْدٌ أَقْرَبُ لِكَذَا، وَإِلَى كَذَا، وَمِنْ كَذَا مِنْ عَمْرٍو. فَمِنِ الْأُولَى لَيْسَتِ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا فِي نَحْوِ: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو. وَحَرْفَا الْجَرِّ هُنَا يَتَعَلَّقَانِ بِأَقْرَبَ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفَا جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفًا عَلَى الْآخَرِ. وَلَا بَدَلًا مِنْهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعَوَامِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفَا جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَّا بِالْعَطْفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. فَتَقُولُ: زَيْدٌ بِالنَّحْوِ أَبْصَرُ مِنْهُ بِالْفِقْهِ. وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ. ومنهم مُتَعَلِّقٌ بِأَقْرَبَ أَيْضًا، وَالْجُمْلَةُ الْمُعَوَّضُ مِنْهَا التَّنْوِينُ هِيَ السَّابِقَةُ، أَيْ: هُمْ قَوْمٌ إِذْ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا حَكَى النَّقَّاشُ: إِلَى أَنَّ أَقْرَبَ لَيْسَ هُوَ هُنَا الْمُقَابِلُ لِلْأَبْعَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْقَرَبِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَهُوَ الْمَطْلَبُ، وَالْقَارِبُ طَالِبُ الْمَاءِ، وَلَيْلَةُ الْقَرَبِ لَيْلَةُ الْوِدَادِ، فَاللَّفْظَةُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ التَّعْدِيَةُ بِاللَّامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَدَّى بِإِلَى وَلَا بِمِنِ الَّتِي لَا تَصْحَبُ كُلَّ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَصَارَ نَظِيرَ زَيْدٌ أَقْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ بَكْرٍ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَضَمَّنَتِ النَّصَّ عَلَى كُفْرِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ اللَّهُ: أَقْرَبُ، فَهُوَ الْيَقِينُ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. كَقَوْلِهِ: «مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» «1» فَالزِّيَادَةُ لَا شَكَّ فِيهَا، وَالْمُكَلَّفُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْكُفْرِ أَوِ الْإِيمَانِ. فَلَمَّا دَلَّتْ عَلَى الْأَقْرَبِيَّةِ مِنَ الْكُفْرِ لَزِمَ حُصُولُ الْكُفْرِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْوَسِيطِ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَكْفُرْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُطْلِقِ الْقَوْلَ عَلَيْهِمْ بِتَكْفِيرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ مَعَ إِظْهَارِهِمْ لِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَقْرَبُ أَيْ أَلْزَمُ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَقْبَلَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، لَا عَلَى الْقُرْبِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَالْوُجُودِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «2» أَيْ هِيَ لَهُمْ لَا عَلَى الْقُرْبِ قَبْلَ الْوُجُودِ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَهْلَ نِفَاقٍ وَالْكُفْرُ لَمْ يُفَارِقْ قُلُوبَهُمْ وَمَا كَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، كَانَ بِظَاهِرِ اللِّسَانِ قَدْ يُفَارِقُهَا فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِمْ، وُصِفُوا بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا شَاكِّينَ فِي الْأَمْرِ، وَالشَّاكُّ فِي أَمْرِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَارِكٌ لِلْإِيمَانِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الكفر. أو من حيث قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: «أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» «3» وَلِلْكَافِرِينَ: «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «4» أَوْ مِنْ حَيْثُ مَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ كَذِبٌ، وَالْكُفْرُ نَفْسُهُ كَذِبٌ. فَمَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ فَهُوَ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 147. (2) سورة الأعراف: 7/ 56. (3) سورة النساء: 4/ 141. (4) سورة النساء: 4/ 141.

كَذِبٌ إِلَى الْكَذِبِ الَّذِي هُمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الكفر، أو من حيث إِنَّهُمْ أَحَقُّ بِهِ أَنْ يَعْرِفُوا. كَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ أَعْلَامًا يُعْرَفُونَ بِهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، بَلْ هُمْ عِبَادُ الْأَصْنَامِ لِاتِّخَاذِهِمْ لَهَا أَرْبَابًا، أَوْ لِتَقَرُّبِهِمْ بِهَا إِلَى اللَّهِ، فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٌ فَزِعُوا إِلَى اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا يَحْقِنُونَ بِهِ دِمَاءَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ أَهْلِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ، وَأَمْوَالَهُمْ مِنَ النَّهْبِ. وَلَيْسَ مَا يُظْهِرُونَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ، بَلْ هُوَ لَا يَتَجَاوَزُ أَفْوَاهَهُمْ وَمَخَارِجَ الْحُرُوفِ مِنْهَا، وَلَمْ تَعِ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ شَيْئًا. وَذِكْرُ الْأَفْوَاهِ مَعَ الْقُلُوبِ تَصْوِيرٌ لِنِفَاقِهِمْ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ مَوْجُودٌ فِي أَفْوَاهِهِمْ مَعْدُومٌ فِي قُلُوبِهِمْ، بِخِلَافِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُوَاطَأَةِ عَقْدِ قُلُوبِهِمْ لِلَفْظِ أَلْسِنَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِأَفْوَاهِهِمْ تَوْكِيدٌ مِثْلُ: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ تَوْكِيدٌ، إِذِ الْقَوْلُ يَنْطَلِقُ عَلَى اللِّسَانِيِّ وَالنَّفْسَانِيِّ، فَهُوَ مُخَصَّصٌ لِأَحَدِ الِانْطِلَاقَيْنِ إِلَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى النَّفْسَانِيِّ مَجَازٌ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ تَوْكِيدًا لِحَقِيقَةِ الْقَوْلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ أَيْ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الدِّينِ. وَقَالَ: أَعْلَمُ، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى بِهِمْ عِلْمُ إِحَاطَةٍ بِتَفَاصِيلِ مَا يَكْتُمُونَهُ وَكَيْفِيَّاتِهِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بَعْضَ ذَلِكَ عِلْمًا مُجْمَلًا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ التَّوَعُّدَ الشَّدِيدَ لَهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى: تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يَكْتُمُونَ. الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا هذه الآية نظير قوله: «وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ» «1» الْآيَةَ وَفُسِّرَ الْإِخْوَانُ هُنَا بِمَا فُسِّرَ بِهِ هُنَاكَ. وَتَحْتَمِلُ لَامُ الْجَرِّ مَا احْتَمَلَتْهُ فِي تِلْكَ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ وُجُوهًا: الرَّفْعُ عَلَى النَّعْتِ لِلَّذِينِ نَافَقُوا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي يَكْتُمُونَ، وَالنَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ أَيْ: أَذُمُّ الَّذِينَ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِأَفْوَاهِهِمْ أَوْ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَعَدُوا حَالِيَّةٌ أَيْ: وَقَدْ قَعَدُوا. وَوُقُوعُ الْمَاضِي حَالًا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَصْحُوبًا بِقَدْ، أَوْ بِالْوَاوِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ دُونِهِمَا، ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ بِالسَّمَاعِ. وَمُتَعَلِّقُ الطَّاعَةِ هُوَ تَرْكُ الْخُرُوجِ. وَالْقُعُودُ كَمَا قَعَدُوا هُمْ، وَهَذَا مِنْهُمْ قَوْلٌ بِالْأَجَلَيْنِ أَيْ: لَوْ وَافَقُونَا فِي التَّخَلُّفِ وَالْقُعُودِ مَا قُتِلُوا، كَمَا لَمْ نُقْتَلْ نَحْنُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: ما قتلوا بالتشديد.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 156.

قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْقَتْلُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ سَبِيلٌ إِلَى دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ فَادْفَعُوا عَنْهَا الْمَوْتَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ فِي دعواكم. والدرة: الدَّفْعُ، وَتَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: «فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا» «1» وَقَالَ دَغْفَلٌ النَّسَّابَةُ: صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ دَرْأً يَدْفَعُهُ ... وَالْعِبْءُ لَا تَعْرِفُهُ أَوْ تَرْفَعُهُ وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ التَّحَيُّلَ وَالتَّحَرُّزَ يُنْجِي مِنَ الْمَوْتِ، فَجِدُّوا أَنْتُمْ فِي دَفْعِهِ، وَلَنْ تَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُمْ بَعْضُ أَسْبَابِ الْمَنُونِ. وَهَبْ أَنَّكُمْ عَلَى زَعْمِكُمْ دَفَعْتُمْ بِالْقُعُودِ هَذَا السَّبَبَ الْخَاصَّ، فَادْفَعُوا سَائِرَ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، وَهَذَا لا يمن لَكُمْ أَلْبَتَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَقَدْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ دَفَعُوا الْقَتْلَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْقُعُودِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟ (قُلْتَ) : مَعْنَاهُ أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْقَتْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا الْقُعُودَ عَنِ الْقِتَالِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ. لِأَنَّ أَسْبَابَ النَّجَاةِ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ يَكُونُ قِتَالُ الرَّجُلِ نَجَاتَهُ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لَقُتِلَ، فَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّ سَبَبَ نَجَاتِكُمُ الْقُعُودُ وَأَنَّكُمْ صَادِقُونَ فِي مُقَاتَلَتِكُمْ وَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ غَيْرَهُ؟ وَوَجْهٌ آخَرُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ: لَوْ أَطَاعُونَا وَقَعَدُوا مَا قُتِلُوا، يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَوْ أَطَاعُوكُمْ وَقَعَدُوا لَقُتِلُوا قَاعِدِينَ، كَمَا قُتِلُوا مقاتلين. وقوله: فادرؤا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ، اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ رِجَالًا دَفَّاعِينَ لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ فادرؤا جَمِيعَ أَسْبَابِهِ حَتَّى لَا تَمُوتُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ عَلَى طُولِهِ. وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قِيلَ: هُمْ قَتْلَى أُحُدٍ، وَقِيلَ: شُهَدَاءُ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ بَدْرٍ. وَهَلْ سَبَبُ ذَلِكَ قَوْلُ مَنِ اسْتُشْهِدَ وَقَدْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَأَكَلَ مِنْ ثِمَارِهَا: مَنْ يُبَلِّغُ عَنَّا إِخْوَانَنَا أَنَّا فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ، لَا تَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ اللَّهُ: أَنَّا أُبَلِّغُ عَنْكُمْ، فَنَزَلَتْ. أَوْ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَسْتَشْهِدْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشُّهَدَاءِ: إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ نَحْنُ فِي النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ، وَآبَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فِي الْقُبُورِ، فَنَزَلَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ، أَيْ وَلَا تَحْسَبَنَّ أَيُّهَا السَّامِعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَهِشَامٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ، أَيْ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 72.

وَلَا يَحْسَبَنَّ هُوَ، أَيْ: حَاسِبٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَرَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِضَمِّ الْيَاءِ، فَالْمَعْنَى: وَلَا يُحْسَبَنَّ النَّاسُ انْتَهَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون الَّذِينَ قُتِلُوا فَاعِلًا، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا أَمْوَاتًا، أَيْ: لَا تَحْسَبَّنَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمْوَاتًا. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ فِي الْأَصْلِ مُبْتَدَأٌ فَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ فِي قَوْلِهِ: أَحْيَاءٌ. وَالْمَعْنَى: هُمْ أَحْيَاءٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا أَمْوَاتًا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ عَلَى مُفَسِّرِهِ، وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي أَمَاكِنَ لَا تَتَعَدَّى وَهِيَ بَابُ: رُبَّ بِلَا خِلَافٍ، نَحْوَ: رُبَّهُ رَجُلًا أَكْرَمْتُهُ، وَبَابُ نِعْمَ وَبِئْسَ فِي نَحْوِ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَبَابُ التَّنَازُعِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ: ضَرَبَانِي وَضَرَبْتُ الزَّيْدَيْنِ، وَضَمِيرِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَجْهُولِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ نَحْوَ: هُوَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَبَابُ الْبَدَلِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ فِي نَحْوِ: مَرَرْتُ بِهِ زَيْدٌ، وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ الْمُفَسَّرُ خَبَرًا لِلضَّمِيرِ، وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «1» التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَمَشَّى عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ: يَجُوزُ حَذْفُ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا اخْتِصَارًا، وَحَذْفُ الِاخْتِصَارِ هُوَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ عِنْدَهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَذْفُهُ عَزِيزٌ جِدًّا، كَمَا أَنَّ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الْقُبْحِ انْتَهَى. قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ. وَقَدْ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَلْكُونَ الْحَضْرَمِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ اقْتِصَارًا، وَالْحُجَّةُ لَهُ وَعَلَيْهِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مَمْنُوعًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَزِيزًا حَذْفُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. فَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْفَاعِلَ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ هُوَ أَيْ أَحَدٌ، أَوْ حَاسِبٌ أَوْلَى. وَتَتَّفِقُ الْقِرَاءَتَانِ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ ضَمِيرًا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِالْخِطَابِ والغيبة. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى مَوْتِ الشُّهَدَاءِ وَحَيَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ «2» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ قُتِّلُوا بِالتَّشْدِيدِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: قَاتَلُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُتِلُوا مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الجمهور: بل

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 29. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 154.

أَحْيَاءٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَحْيَاءً بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى مَعْنَى بَلْ احْسَبْهُمْ أَحْيَاءً انْتَهَى. وَتَبِعَ فِي إِضْمَارِ هَذَا الْفِعْلِ الزَّجَّاجَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى: بَلْ احْسَبْهُمْ أَحْيَاءً. وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي الْإِغْفَالِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقِينٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ فِيهِ بِمَحْسَبَةٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ لَهُ إِلَّا فِعْلُ الْمَحْسَبَةِ. فَوَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ أَنْ يُضْمِرَ فِعْلًا غَيْرَ الْمَحْسَبَةِ اعْتَقِدْهُمْ أَوِ اجْعَلْهُمْ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يُضْمَرُ انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ. وَقَوْلُهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقِينٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ فِيهِ بِمَحْسَبَةٍ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَحْسَبَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْيَقِينِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَقَعُ حَسِبَ لِلْيَقِينِ كَمَا تَقَعُ ظَنَّ، لَكِنَّهُ فِي ظَنَّ كَثِيرٌ، وَفِي حَسِبَ قَلِيلٌ. وَمِنْ ذَلِكَ فِي حَسِبَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: حَسِبْتُ التُّقَى وَالْحَمْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: شَهِدْتُ وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتِنِي ... فَقِيرًا إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا وَتَغِيبِي فَلَوْ قُدِّرَ بَعْدَ: بَلْ احْسَبْهُمْ بِمَعْنَى اعْلَمْهُمْ، لَصَحَّ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، لَا لِدَلَالَةِ لَفْظِ وَلَا تَحْسَبَنَّ، لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَدْلُولُ فَلَا يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ لَهُ إِلَّا فِعْلُ الْمَحْسَبَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِضْمَارُهُ أَضْمَرَ غَيْرَهُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ لَا اللَّفْظِ. وَقَوْلُهُ: أَوِ اجْعَلْهُمْ، هَذَا لَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ اجْعَلْهُمْ بِمَعْنَى اخْلَقْهُمْ، أَوْ صَيِّرْهُمْ، أَوْ سَمِّهِمْ، أَوْ أَلْقِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ ضَعِيفٌ أَيِ النَّصْبُ، وَقَوْلُهُ: إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يُضْمَرُ إِنْ عَنَى مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ عَنَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ، بَلِ الْمَعْنَى يُسَوِّغُ النَّصْبَ عَلَى مَعْنَى أَعْتَقِدُهُمْ، وَهَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ حَسِبَ لَا يُذْهَبُ بِهَا مَذْهَبَ الْعِلْمِ. وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ: بِالْمَكَانَةِ وَالزُّلْفَى، لَا بِالْمَكَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ، لِأَنَّ عِنْدَ تَقْتَضِي غَايَةَ الْقُرْبِ، وَلِذَلِكَ يَصْغُرُ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَصِفَةً، وَحَالًا. وَكَذَلِكَ يُرْزَقُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَالِثًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً ثَانِيَةً. وَقَدَّمَ صِفَةَ الظَّرْفِ عَلَى صِفَةِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْأَفْصَحَ هَذَا وَهُوَ: أَنْ يُقَدِّمَ الظَّرْفَ أَوِ الْمَجْرُورَ عَلَى الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَا وَصْفَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْوَصْفِ

بِالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ أَشْرَفُ مِنَ الْوَصْفِ بِالرِّزْقِ. وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الظَّرْفِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، هَذَا مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ. وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ فِي التُّرَابِ، وَأَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ كَأَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفُضِّلُوا بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَتْلِ، حَتَّى كَأَنَّ حَيَاةَ الدُّنْيَا دَائِمَةٌ لَهُمْ. فَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْيَاءٌ مُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ، إِذْ لَا يُرْزَقُ إِلَّا حَيٌّ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ لِمَنْ ذَمَّ رَجُلًا. بَلْ هُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ، فَتَجِيءُ بِاسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي تَرَكَّبَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِالْفَضْلِ انْتَهَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لَفْظَةَ أَحْيَاءٍ جِيءَ بِهَا مُجْتَلَبَةً لِذِكْرِ الرِّزْقِ، لِكَوْنِ الْحَيَاةِ مُشْتَرِكًا فِيهَا الشَّهِيدُ وَالْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِخْبَارُ بِحَيَاةِ الشُّهَدَاءِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْعُمُومِ حَيَّةٌ فاستفيد، أو لا حَيَاةُ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِحَيَاةِ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَيْضًا فَفِي ذِكْرِهِ النَّصُّ عَلَى نَقِيضِ مَا حَسِبُوهُ وَهُوَ: كَوْنُ الشُّهَدَاءِ أَمْوَاتًا. وَالْبُعْدُ عَنْ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ، مَا يَحْتَمِلُهُ الْمُضَارِعُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ. فَإِذَا سَبَقَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِبَاسِ بِالْوَصْفِ حَالَةَ الْإِخْبَارِ كَانَ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ حُكْمُهُ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِخْبَارِ أَنْ يَكُونَ مَنْ أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ فِي الْحَالِ، إِلَّا إِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى مُضِيٍّ أَوِ اسْتِقْبَالٍ مِنْ لَفْظٍ أَوْ مَعْنًى، فَيُصَارُ إِلَيْهِ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مَسْرُورِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ قُرْبِهِ، وَدُخُولِ جَنَّتِهِ، وَرَزَقَهُمْ فِيهَا، إِلَى سَائِرِ مَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ: فَرِحِينَ، وَبَيْنَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» فِي قِصَّةِ قَارُونَ. لِأَنَّ ذَاكَ بِالْمَلَاذِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذَا بِالْمَلَاذُ الْأُخْرَوِيَّةُ. ولذك جَاءَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وَجَاءَ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «2» . وَمَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِ، أَيْ: مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مُتَسَبَّبٌ عَنْ فَضْلِهِ، فَتَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بِآتَاهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، أَيْ: بِمَا آتَاهُمُوهُ اللَّهُ كَائِنًا مِنْ فَضْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِآتَاهُمْ. وَجَوَّزُوا فِي فَرِحِينَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُرْزَقُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَحْيَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَحْيَاءٍ إِذَا نصب.

_ (1) سورة القصص: 28/ 176. (2) سورة المطففين: 83/ 26.

وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَهُمْ: جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: يَحْصُلُ لَهُمُ الْبُشْرَى بِانْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ، فَهُمْ فَرِحُونَ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ، مُسْتَبْشِرُونَ بِمَا يَحْصُلُ لِإِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ وَابْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ: هُمُ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يَأْتُونَهُمْ بَعْدُ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ يُجَاهِدُونَ فَيَسْتَشْهِدُونَ، فَرِحُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، إِذْ يَصِيرُونَ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَتِ اسْتَفْعَلْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى طَلَبِ الْبِشَارَةِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى اسْتَغْنَى اللَّهُ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَيْسَتْ بِمَعْنَى طَلَبِ الْبِشَارَةِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ هِيَ بِمَعْنَى اسْتَغْنَى اللَّهُ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، فَيَعْنِي أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ كَاسْتَغْنَى بِمَعْنَى غَنِيَ، وَاسْتَمْجَدَ بِمَعْنَى مَجَّدَ، وَنُقِلَ أَنَّهُ يُقَالُ: بُشِّرَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الشِّينِ، فَيَكُونُ اسْتَبْشَرْ بِمَعْنَاهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطَاوِعًا لِأَفْعَلَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: أَبْشَرَهُ اللَّهُ فَاسْتَبْشَرَ، كَقَوْلِهِمْ: أَكَانَهُ فَاسْتَكَانَ، وَأَشْلَاهُ فَاسْتَشْلَى، وَأَرَاحَهُ فَاسْتَرَاحَ، وَأَحْكَمَهُ فَاسْتَحْكَمَ، وَأَكَنَّهُ فَاسْتَكَنَّ، وَأَمَرَهُ فَاسْتَمَرَّ، وَهُوَ كَثِيرٌ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْأَظْهَرُ هُنَا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمُطَاوَعَةِ يَكُونُ مُنْفَعِلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَحَصَلَتْ لَهُ الْبُشْرَى بِإِبْشَارِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ. وَمَعْنَى: مِنْ خَلْفِهِمْ، قَدْ بَقُوا بَعْدَهُمْ، وَهُمْ قَدْ تَقَدَّمُوهُمْ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى بِالَّذِينِ لَمْ يَلْحَقُوا الشُّهَدَاءَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ: لَمْ يُدْرِكُوا فضلهم ومنزلتهم. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ وَيَسْتَبْشِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فَرِحِينَ وَمُسْتَبْشِرِينَ كَقَوْلِهِ: «صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ» «1» أَيْ قَابِضَاتٍ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِهِمْ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ حَالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَرِحِينَ، أو من ضمير المفعولين فِي آتَاهُمْ، أَوْ لِلْعَطْفِ. وَيَكُونُ مُسْتَأْنَفًا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى نَظِيرِهَا. وَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِلَا. وَإِنَّ مَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من الَّذِينَ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُسْتَبْشَرُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَيَكُونُ عِلَّةً للاستبشار،

_ (1) سورة الملك: 67/ 19.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 إلى 180]

وَالْمُسْتَبْشَرُ بِهِ غَيْرُهُ. التَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. وَالذَّوَاتُ لَا يُسْتَبْشَرُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مُنَاسِبٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَفِي ذِكْرِ حَالِ الشُّهَدَاءِ وَاسْتِبْشَارِهِمْ بِمَنْ خَلْفَهُمْ بَعْثٌ لِلْبَاقِينَ بَعْدَهُمْ عَلَى ازْدِيَادِ الطَّاعَةِ، وَالْجِدِّ فِي الْجِهَادِ، وَالرَّغْبَةِ فِي نَيْلِ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ وَإِصَابَةِ فَضْلِهِمْ، وَإِحْمَادٍ لِحَالِ مَنْ يَرَى نَفْسَهُ فِي خَيْرٍ فَيَتَمَنَّى مِثْلَهُ لِإِخْوَانِهِ فِي اللَّهِ، وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْفَوْزِ فِي الْمَآبِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ ضُرُوبِ الْبَدِيعِ، الطِّبَاقُ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ الْآيَةَ، إِذِ التَّقْدِيرُ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْمُقَدَّرِ. وَفِي قَوْلِهِ: فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَفِي: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَالْقَوْلُ ظَاهِرٌ ويكتمون. وَفِي قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا، إِذِ التَّقْدِيرُ حِينَ خَرَجُوا وَقَعَدُوا هُمْ. وَفِي: أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ وَفِي: فَرِحِينَ وَيَحْزَنُونَ. وَالتَّكْرَارَ فِي: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا الِاخْتِلَافُ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ. وَفِي فَرِحِينَ وَيَسْتَبْشِرُونَ. وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي: أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، وَالْمُمَاثِلَ فِي: أَصَابَتْكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الإنكار في: أو لما أَصَابَتْكُمْ. وَالِاحْتِجَاجَ النَّظَرِيَّ فِي: قل فادرأوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ. وَالتَّأْكِيدَ فِي: وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِتَقْدِيرِهَا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

الْحَظُّ النَّصِيبُ، وَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ. مَازَ وَمَيَّزَ: فَصَلَ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ. قَالَ يَعْقُوبُ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. وَالتَّضْعِيفُ لَيْسَ لِلنَّقْلِ. وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ أَقْرَبُ إِلَى الْفَخَامَةِ وَأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الْمَصْدَرَ عَلَى نِيَّةِ التَّشْدِيدِ فَقَالُوا: التَّمْيِيزُ، وَلَمْ يَقُولُوا الْمَيْزَ انْتَهَى. وَيَعْنِي: وَلَمْ تَقُولُوهُ مَسْمُوعًا، وَأَمَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَيُقَالُ. وَقِيلَ: لا يكون مازالا فِي كَثِيرٍ مِنْ كَثِيرٍ، فَأَمَّا وَاحِدٌ مِنْ وَاحِدٍ فَيَتَمَيَّزُ عَلَى مَعْنَى يَعْزِلُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو مُعَاذٍ: يُقَالُ: مَيَّزْتُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَمِزْتُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. اجْتَبَى: اخْتَارَ وَاصْطَفَى، وَهِيَ مَنْ جَبَيْتُ الْمَاءَ، وَالْمَالَ وَجَبَوْتُهُمَا فَاجْتَبَى، افْتَعَلَ مِنْهُ. فَيُحْتَمَلُ أن تكون اللام واو أَوْ يَاءً. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ كَرَّرَ الْفِعْلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِنْ كَانَتِ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ بَيَانًا لِمُتَعَلِّقِ الِاسْتِبْشَارِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَكَرَّرَ يَسْتَبْشِرُونَ لِيُعَلِّقَ بِهِ مَا هُوَ بَيَانٌ لقوله: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» مِنْ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَجْرٌ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، يَجِبُ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ وَلَا يَضِيعَ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ، فِي ذِكْرِهِ وُجُوبَ الْأَجْرِ وَتَحْصِيلَهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَسَلَكَ ابْنُ عَطِيَّةَ طَرِيقَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ: أَكَّدَ اسْتِبْشَارَهُمْ بِقَوْلِهِ: يَسْتَبْشِرُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَفَضْلُ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ الَّذِي هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، لَا بِعَمَلِ أَحَدٍ، وَأَمَّا النِّعْمَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالدَّرَجَاتُ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ انتهى.

_ (1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 170.

وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهِ وَاوَ الْعَطْفِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَحْزَنُونَ، وَيَحْزَنُونَ هُوَ الْعَامِلُ فِيهَا، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ اخْتِلَافُ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْحُزْنُ وَالْمُسْتَبْشِرِ، وَلِأَنَّ الْحَالَ قُيِّدَ، وَالْحُزْنُ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَسْتَبْشِرُونَ لَيْسَ بِتَأْكِيدٍ لِلْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، لَا بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْفِعْلَيْنِ، فَلَا تَأْكِيدَ لِأَنَّ هَذَا الْمُسْتَبْشِرَ بِهِ هُوَ لَهُمْ، وَهُوَ: نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلُهُ. وَفِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةٌ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِشَارَةٌ إِلَى إِبْهَامِ الْمُرَادِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى صُعُوبَةِ إِدْرَاكِهِ، كَمَا جَاءَ فِيهَا «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَالظَّاهِرُ تَبَايُنُ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ لِلْعَطْفِ، وَيُنَاسِبُ شَرْحُهُمَا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى «1» وَزِيَادَةٌ فَالْحُسْنَى هِيَ النِّعْمَةُ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ الْفَضْلُ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَحْسَنُوا وَقَوْلِهِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ «2» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النِّعْمَةُ هِيَ الْجَزَاءُ وَالْفَضْلُ زَائِدٌ عَلَيْهِ قَدْرَ الْجَزَاءِ. وَقِيلَ: النِّعْمَةُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ، وَالْفَضْلُ الْمُضَاعَفُ عَلَيْهَا مَعَ مُضَاعَفَةِ السُّرُورِ بِهَا وَاللَّذَّةِ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اتِّسَاعِهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وجماعة: وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْحَفُهُ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اعْتِرَاضٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ هُنَا اعْتِرَاضًا لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِاسْتِئْنَافِ أَخْبَارٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى مُتَعَلِّقِ الِاسْتِبْشَارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَسْتَبْشِرُونَ بِتَوْفِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضِعْهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَبْخَسُوهُ. وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِبْشَارُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الِاسْتِبْشَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عِلْمٌ، وَقَدْ عَلِمُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مَا أَضَاعَ أُجُورَهُمْ حَتَّى اخْتَصَّهُمْ بِالشَّهَادَةِ وَمَنَحَهُمْ أَتَمَّ النِّعْمَةِ، وَخَتَمَ لَهُمْ بِالنَّجَاةِ وَالْفَوْزِ، وَقَدْ كَانُوا يَخْشَوْنَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ الْمُحْبِطَةِ لِلْأَعْمَالِ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَمَا اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَهَا الْأُجُورُ وَتُضَاعَفُ الْأَعْمَالُ، اسْتَبْشَرُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وفيه

_ (1) سورة يونس: 10/ 26. (2) سورة آل عمران: 3/ 172.

تَطْوِيلٌ شَبِيهٌ بِالْخَطَابَةِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْشَارُ لِمَنْ خَلَّفُوهُ بَعْدَهُمْ مِنَ المؤمنين لما عاينوا منزلتهم عِنْدَ اللَّهِ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ قِيلَ: الِاسْتِجَابَةُ كَانَتْ أَثَرَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ. اسْتَنْفَرَ الرَّسُولُ لِطَلَبِ الْكُفَّارِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ تِسْعُونَ. وَذَلِكَ لَمَّا ذُكِرَ لِلرَّسُولِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَأَبَى الرَّسُولُ إِلَّا أَنْ يَطْلُبَهُمْ، فَسَبَقَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَدَخَلَ مَكَّةَ فَنَزَلَتْ، قَالَهُ: عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَفِي ذِكْرِ هَذَا السَّبَبِ اخْتِلَافٌ فِي مَوَاضِعَ. وَقِيلَ: الِاسْتِجَابَةُ كَانَتْ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ بَعْدَ قِصَّةِ أُحُدٍ، حَيْثُ تَوَاعَدَ أَبُو سُفْيَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْسِمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فَأُرْعِبَ، وَبَدَا لَهُ الرُّجُوعُ وَقَالَ لِنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَاعَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَنْ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَهُوَ عَامُ جَدْبٍ لَا يَصْلُحُ لنا، فثبطتهم عَنَّا وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فَفَعَلَ، وَخَوَّفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ وَأَقَامُوا بِبَدْرٍ يَنْتَظِرُونَ أَبَا سُفْيَانَ فَنَزَلَتْ. قَالَ مَعْنَاهُ: مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ الثَّانِي مِنْ أُحُدٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ، نَادَى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: «لَا يَخْرُجَنَّ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَاهَدَنَا بِالْأَمْسِ» وَكَانَتْ بِالنَّاسِ جِرَاحَةٌ وَقَرْحٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ تَجَلَّدُوا، وَنَهَضَ مَعَهُ مِائَتَا رَجُلٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَهِيَ: عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَجَرَتْ قِصَّةُ مَعْبَدِ بْنِ أَبِي مَعْبَدٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ وَمَرَّتْ قُرَيْشٌ، فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ أَخَوَانِ وَبِهِمَا جِرَاحَةٌ شَدِيدَةٌ، وَضَعُفَ أَحَدُهُمَا فَكَانَ أَخُوهُ يَحْمِلُهُ عُقْبَةً وَيَمْشِي هُوَ عُقْبَةً، وَلَمَّا لَمْ تَتِمَّ اسْتِجَابَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ إِلَّا بِاسْتِجَابَتِهِ لِلرَّسُولِ جَمَعَ بَيْنِهِمَا ، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. قِيلَ: وَالِاسْتِجَابَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَإِنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ، وَلِلرَّسُولِ بِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ مِنْهُ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا اسْتِجَابَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ إِجَابَتُهُمْ لَهُ حِينَ انْتَدَبَهُمْ لِاتِّبَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى مَا نُقِلَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالْإِحْسَانُ هُنَا مَا هُوَ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الِاتِّصَافِ بِمَا يُسْتَحَبُّ مَعَ الِاتِّصَافِ بِمَا يَجِبُ. وَالظَّاهِرُ إِعْرَابُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْخَبَرُ. وَجَوَّزُوا الْإِتْبَاعَ نَعْتًا، أَوْ بَدَلًا، وَالْقَطْعَ إِلَى الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. وَمَنْ فِي مِنْهُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلتَّبْيِينِ مِثْلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً «1» لِأَنَّ الذين استجابوا

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 29.

لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قَدْ أَحْسَنُوا كُلَّهُمْ وَاتَّقَوْا، إِلَّا بَعْضَهُمْ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَوَيْكَ لَمِمَّنِ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ تَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ وَالزُّبَيْرَ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَحْسَنُوا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يَرَى أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قِيلَ: أُرِيدَ بِالنَّاسِ الْأُوَلِ أَبُو نعيم بن مسعود الأشجعي، وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَبِالثَّانِي: أَبُو سُفْيَانَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِصَّةِ نُعَيْمٍ وَذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ مُطَوَّلَةً، وَفِيهَا: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ جَعَلَ لَهُ جُعْلًا عَلَى تَثْبِيطِ الصَّحَابَةِ عَنْ بَدْرٍ الصُّغْرَى وَذَلِكَ عَشْرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ ضَمِنَهَا لَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْزَعَ النَّاسَ وَخَوَّفَهُمُ اللِّقَاءَ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرُجَنَّ وَلَوْ وَحْدِي» فَأَمَّا الْجَبَانُ فَرَجَعَ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ فَتَجَهَّزَ لِلْقِتَالِ وَقَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَوَافَى بَدْرًا الصُّغْرَى فَجَعَلُوا يَلْقَوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ فَيَقُولُونَ: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، وَكَانَتْ مَوْضِعَ سُوقٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهَا فِي كُلِّ عَامٍ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَأَقَامَ بِبَدْرٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، وَقَدِ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَجَنَّةَ إِلَى مَكَّةَ، فَسَمَّى أَهْلُ مَكَّةَ حَبْسَةَ جَيْشِ السَّوِيقِ قَالُوا: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَشْرَبُوا السَّوِيقَ. وَكَانَتْ مَعَ الصَّحَابَةِ تِجَارَاتٌ وَنَفَقَاتٌ، فَبَاعُوا وَأَصَابُوا لِلدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ غَانِمِينَ، وَحَسَبَهَا الرَّسُولُ لَهُمْ غَزْوَةً، وَظَفِرَ فِي وُجْهَةِ ذَلِكَ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي غزة الْجُمَحِيِّ فَقَتَلَهُمَا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُثَبِّطَ أَبُو نُعَيْمٍ وَحْدَهُ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، وَيَلْبَسُ الْبُرُودَ، وَمَا لَهُ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ، وَبُرْدٌ وَاحِدٌ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: وَلِأَنَّهُ حِينَ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُضَامُّونَهُ وَيَصِلُونَ جَنَاحَ كَلَامِهِ، وَيُثَبَّطُونَ مِثْلَ تَثْبِيطِهِ انْتَهَى. وَلَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ وَهُوَ: أَنْ نُعَيْمًا وَحْدَهُ هُوَ الْمُثَبِّطُ، لِأَنَّهُ قَدِ انْضَافَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مُنْفَرِدًا بِالتَّثْبِيطِ. وَقِيلَ: النَّاسُ الْأُوَلُ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَرُّوا عَلَى أَبِي سُفْيَانَ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ لِلْمِيرَةِ، فَجَعَلَ لَهُمْ جُعْلًا وَهُوَ حِمْلُ إِبِلِهِمْ زَبِيبًا عَلَى أَنْ يُخْبِرُوا أَنَّهُ جَمَعَ لِيَسْتَأْصِلَ بَقِيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ إِذْ ذَاكَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَالنَّاسُ الثَّانِي قُرَيْشٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ.

وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ قَالَ: أَوْجُهُ الَّذِينَ قَبْلَهُ، والفاعل بزاد ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌّ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَالَ أَيْ: فَزَادَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ إِيمَانًا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقَوْلِ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى النَّاسِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ نُعَيْمٌ وَحْدَهُ. وَهُمَا ضَعِيفَانِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَزِيدُ إِيمَانًا إِلَّا بِالنُّطْقِ بِهِ، لَا هُوَ فِي نَفْسِهِ. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الثَّانِي إِذَا أَطْلَقَ عَلَى الْمُفْرَدِ لَفْظَ الْجَمْعِ مَجَازًا فَإِنَّ الضمائر تجزي عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ، لَا عَلَى الْمُفْرَدِ. فَيَقُولُ: مَفَارِقُهُ شَابَتْ، بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمْعِ، وَلَا يَجُوزُ مَفَارِقُهُ شَابَ، بِاعْتِبَارِ مَفْرِقِهِ شَابَ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ، وَمَعْنَاهُ هُنَا: أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ زَادَهُمْ تَثْبِيتًا وَاسْتِعْدَادًا، فَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا هِيَ فِي الْأَعْمَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذلك، فقال قوم: يزيد وَيَنْقُصُ بِاعْتِبَارِ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَهُوَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْخَوْفِ وَالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ طَرِيقِ الْأَدِلَّةِ وَكَثْرَتِهَا وَتَظَافُرِهَا عَلَى مُعْتَقَدٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ طَرِيقِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَخْبَارِ فِي مُدَّةِ الرَّسُولِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْإِرْشَادِ: زِيَادَتُهُ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتِهِ وَتَعَاوُرِهِ دَائِمًا، لِأَنَّهُ عَرْضٌ لَا يُثْبِتُ زَمَانَيْنِ، فَهُوَ لِلصَّالِحِ مُتَعَاقِبٌ مُتَوَالٍ، وَلِلْفَاسِقِ وَالْغَافِلِ غَيْرُ مُتَوَالٍ، فَهَذَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَرُوِيَ شِبْهَهُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ التَّصْدِيقُ فَيُعَلَّقُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ: أَنَّهُ تَسْتَحِيلُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ دُونَ ذَاتِهِ، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالتَّصْنِيفِ فِي كِتَابٍ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُثَبِّطِينَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، وَأَمْرٌ مِنْهُمْ لَهُمْ بِخَشْيَتِهِمْ لِهَذَا الْجَمْعِ الَّذِي جَمَعُوهُ، تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: قَلْبِيٌّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ. فَأَخْبَرَ بِحُصُولِ طُمَأْنِينَةٍ فِي الْقَلْبِ تُقَابِلَ الْخَشْيَةَ، وَأَخْبَرَ بَعْدُ بِمَا يُقَابِلُ جَمْعَ النَّاسِ وَهُوَ: إِنَّ كَافِيَهُمْ شَرَّ النَّاسِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَثْنَوْا عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ هُوَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَرَبْطِ أُمُورِهِمْ بِهِ تَعَالَى. فَانْظُرْ إِلَى بَرَاعَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَبَلَاغَتِهِ، حَيْثُ قُوبِلَ قَوْلٌ بِقَوْلٍ، وَمُتَعَلِّقُ قَلْبٍ بِمُتَعَلِّقِ قَلْبٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حَسْبُ فِي قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ «1» وَمِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْسَبَهُ الشَّيْءُ كَفَاهُ. وَحَسْبُ بِمَعْنَى الْمُحْسِبِ، أَيِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 173.

الْكَافِي، أُطْلِقَ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُوصَفُ بِهِ فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسْبِكَ مِنْ رَجُلٍ، أَيْ: كَافِيكَ. فَتَصِفُ بِهِ النَّكِرَةَ، إِذْ إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ غَيْرِ الْمَاضِي الْمُجَرَّدِ مِنْ أَلْ. وَقَالَ: وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٍ وَرِيِّ أَيْ كَافِيكَ. وَالْوَكِيلُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْحَسْبَلَةُ هِيَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَكِيلُ الرَّبُّ قَالَهُ: قَوْمٌ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَمَا تَقُولُ: الْقَهَّارُ هُوَ اللَّهُ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْوَلِيِّ وَالْحَفِيظِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْوَكِيلُ الْكَفِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ أَيْ: فَرَجَعُوا مِنْ بَدْرٍ مَصْحُوبِينَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ: السَّلَامَةُ وَحَذَرُ الْعَدُوِّ إِيَّاهُمْ، وَفَضْلٌ: وَهُوَ الرِّبْحُ فِي التِّجَارَةِ. كَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «1» هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِانْقِلَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ، يُرِيدُ: فِي السَّلَامَةِ وَالظُّهُورِ، وَفِي اتِّبَاعِ الْعَدُوِّ، وَحِمَايَةِ الْحَوْزَةِ، وَبِفَضْلٍ فِي الْأَجْرِ الَّذِي حَازُوهُ، وَالْفَخْرِ الَّذِي تَخَلَّلُوهُ، وَأَنَّهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي الْخَرْجَةِ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. وَشَذَّ مُجَاهِدٌ وَقَالَ: فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَذَكَرَ قِصَّةَ نُعَيْمٍ وَأَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ تَفْسِيرِهَا. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الِانْقِلَابِ وَالرُّجُوعِ، بِأَنَّ الِانْقِلَابَ صَيْرُورَةُ الشَّيْءِ إِلَى خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّكَ تَقُولُ: انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا، وَلَا تَقُولُ: رَجَعَتِ الْخَمْرُ خَلًّا انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. وَقِيلَ: النِّعْمَةُ الْأَجْرُ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْعَافِيَةُ وَالنَّصْرُ. قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. قِيلَ: وَالْفَضْلُ رِبْحُ التِّجَارَةِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالزُّهْرِيُّ. وَتَقَدَّمَ حِكَايَةُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: أَصَابُوا سَرِيَّةً بِالصَّفْرَاءِ فَرُزِقُوا مِنْهَا قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الثَّوَابُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قوله:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 198. (2) سورة آل عمران: 3/ 172.

لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ سَالِمِينَ. وبنعمة حَالٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْبَاءَ فِيهِ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ، أَيِ: انْقَلَبُوا مُتَنَعِّمِينَ سَالِمِينَ. وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ الْمَنْفِيَّةُ بِلَمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ضَمِيرِ ذِي الْحَالِ، يَجُوزُ دُخُولُ الْوَاوِ عَلَيْهَا، وَعَدَمُ دُخُولِهَا. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ «1» وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً «2» وَقَوْلُ قَيْسِ بن الأسلت: واضرب القوس يَوْمَ الْوَغَى ... بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي وَوَهِمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ فِي ذَلِكَ فَزَعَمَ: أَنَّهَا إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَاضِيَةً مَعْنًى لَا لَفْظًا احْتَاجَتْ إِلَى الْوَاوِ كَانَ فِيهَا ضَمِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا. وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاتِّبَاعُهُمْ رِضْوَانَ اللَّهِ هُوَ بِخُرُوجِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَجَرَاءَتِهِمْ، وَطَوَاعِيَّتِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ «3» تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّوْفِيقِ فِي مَا فَعَلُوهُ، وَفِي ذَلِكَ تَحْسِيرٌ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ حَيْثُ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَا فَازَ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ يَكُونُ هَذَا غَزْوًا؟ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ثَوَابَ الْغَزْوِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ. وَهَذِهِ عَاقِبَةُ تَفْوِيضِ أَمْرِهِمْ إِلَيْهِ تَعَالَى، جَازَاهُمْ بِنِعْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ، وَسَلَامَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ رِضَاهُ. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مَا: هِيَ الْكَافَّةُ لِإِنَّ عَنِ الْعَمَلِ. وَهِيَ الَّتِي يَزْعُمُ مُعْظَمُ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَوْصُولَةً أَفَادَتْ مَعَ أَنَّ الْحَصْرَ. وَذَلِكُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى الرَّكْبِ الْمُثَبِّطِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ أَبُو سُفْيَانَ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْيَانٍ. وَقِيلَ: ذَلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا جَرَى مِنْ أَخْبَارِ الرَّكْبِ الْعَبْدِيِّينَ عَنْ رِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَتَحْمِيلِ أَبِي سُفْيَانَ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَجَزَعِ مَنْ جَزِعَ مِنْهُ مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ مُتَرَدِّدٍ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعَانٍ، ولا بد

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 93. (2) سورة الأحزاب: 33/ 25. (3) سورة البقرة: 2/ 174. [.....]

إِذْ ذَاكَ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا ذَلِكُمْ فِعْلُ الشَّيْطَانِ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُ الشَّيْطَانِ، أَيْ قَوْلُ إِبْلِيسَ. فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَى الْقَوْلِ السَّابِقِ وَهُوَ: أَنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فَالْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ ذَلِكُمْ بِالشَّيْطَانِ هُوَ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مَا جَرَى مِنْ قَوْلٍ فَقَطْ، أَوْ مِنْ قَوْلٍ، وَمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِمَّا صَدَرَ مِنَ الْعَدُوِّ مِنْ تَخْوِيفٍ، وَمَا صَدَرَ مِنْ جَزَعٍ، لَيْسَ نَفْسَ قَوْلِ الشَّيْطَانِ وَلَا فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ وَأُضِيفَ، لأنه ناشيء عَنْ وَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ وَإِلْقَائِهِ. وَالتَّشْدِيدُ فِي يُخَوِّفُ لِلنَّقْلِ، كَانَ قَبْلَهُ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَلَمَّا ضُعِّفَ صَارَ يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ. وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَجُوزُ حَذْفُ مَفْعُولَيْهَا، وَأَحَدُهُمَا اقْتِصَارٌ أَوِ اخْتِصَارٌ، أَوْ هُنَا تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَالْآخِرُ مَحْذُوفٌ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ وَيَكُونَ التقدير: يخوفكم أولياء، أَيْ شَرَّ أَوْلِيَائِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ. لِأَنَّ الذَّوَاتَ لَا تَخَافُ، وَيَكُونُ الْمُخَوَّفُونَ إذ ذاك الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، أَيْ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ شَرَّ الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ أَوْلِيَاءَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى تَخْوِيفُهُ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ تَخْوِيفَهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ أَوْلِيَاءَهُ هُمُ الْكُفَّارِ: أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، إِذْ ظَهَرَ فِيهَا أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالنَّخَعِيُّ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً مِثْلَهَا فِي يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ بِأَوْلِيَائِهِ، أَيْ: أَوْلِيَاءَهُ، كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، وَيَكُونَ مَفْعُولُ يُخَوِّفُ الثَّانِي مَحْذُوفًا أَيْ: يُخَوِّفُكُمُ الشَّرَّ بِأَوْلِيَائِهِ، فَيَكُونُونَ آلَةً لِلتَّخْوِيفِ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: بِأَوْلِيَائِهِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ حَذَفَ مَفْعُولَا يُخَوِّفُ لِدَلَالَةِ، الْمَعْنَى عَلَى الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُخَوِّفُكُمُ الشَّرَّ بِأَوْلِيَائِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ مُبْتَدَأٌ، وَالشَّيْطَانُ خَبَرُهُ، وَيُخَوِّفُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالٌ مَجِيءُ الْمُفْرَدِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مَكَانَهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» وَهذا بَعْلِي شَيْخاً «2» وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ بَدَلًا أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، ويكون يخوف خَبَرًا عَنْ ذَلِكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّيْطَانُ خَبَرُ ذَلِكُمْ، بِمَعْنَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الْمُثَبِّطُ هو الشيطان، ويخوّف أَوْلِيَاءَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِتَثْبِيطِهِ، أَوِ الشَّيْطَانُ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُخَوِّفُ الْخَبَرُ. وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ نُعَيْمٌ أَوْ أبو

_ (1) سورة النمل: 27/ 52. (2) سورة هود: 11/ 72.

سُفْيَانَ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ نُعَيْمٌ، أَوْ أَبُو سُفْيَانَ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ صِفَةً، وَالْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ. لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِبْلِيسُ كَانَ إِذْ ذَاكَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ، إِذْ أَصْلُهُ صِفَةٌ كَالْعَيُّوقِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى إِبْلِيسَ، كَمَا غَلَبَ الْعَيُّوقُ عَلَى النَّجْمِ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكُمْ فِي الْإِعْرَابِ ابْتِدَاءٌ، وَالشَّيْطَانُ مُبْتَدَأٌ آخَرُ، وَيُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ خَبَرٌ عَنِ الشَّيْطَانِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ خَبَرٌ فِي تَنَاسُقِ الْمَعْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ خَبَرُ ذَلِكُمْ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ فِي الْمَعْنَى اسْتِعَارَةٌ بَعِيدَةٌ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ إِعْرَابٌ لَا يَجُوزُ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي أَوْلِيَاءَهُ عَائِدًا عَلَى الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ خَبَرًا عَنْ ذَلِكُمْ لَيْسَ فِيهَا رَابِطٌ يَرْبِطُهَا بِقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ، وَلَيْسَتْ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْمَعْنَى نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هِجِّيرَى أَبِي بَكْرٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى ذَلِكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَنِ الشَّيْطَانِ جَازَ، وَصَارَ نَظِيرَ: إِنَّمَا هِنْدٌ زَيْدٌ يَضْرِبُ غُلَامَهَا وَالْمَعْنَى: إِذْ ذَاكَ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الرَّكْبُ، أَوْ أَبُو سُفْيَانَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، أَيْ: أَوْلِيَاءَ الرَّكْبِ، أَوْ أَبِي سُفْيَانَ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَخَافُوهُمُ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى أَوْلِيَاءَهُ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْلِيَاءَهُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «1» قَوَّى نُفُوسَ الْمُسْلِمِينَ فَنَهَاهُمْ عَنْ خَوْفِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَأَمَرَ بِخَوْفِهِ تَعَالَى، وَعَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ. أَيْ إِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَخَافَ الْمُؤْمِنُ إِلَّا اللَّهَ كَقَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ «2» وَأَبْرَزَ هَذَا الشَّرْطَ فِي صِفَةِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا إِذْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا. وَأَثْبَتَ أَبُو عَمْرٍو يَاءَ وَخَافُونِ وَهِيَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ، وَالْأَصْلُ الْإِثْبَاتُ. وَيَجُوزُ حَذْفُهَا لِلْوَقْفِ عَلَى نُونِ الْوِقَايَةِ بِالسُّكُونِ، فَتَذْهَبُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً لَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ خَوْفِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَأَمَرَهُمْ بِخَوْفِهِ وَحْدَهُ تَعَالَى، نَهَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُزْنِ لِمُسَارَعَةِ مَنْ سَارَعَ فِي الْكُفْرِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَتَوَقَّعُ حُزْنًا وَلَا ضَرَرًا مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، أَيْ: لَنْ يَضُرُّوا نَبِيَّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَنْفِيُّ هُنَا ضَرَرٌ خَاصٌّ، وَهُوَ إِبْطَالُ الْإِسْلَامِ وَكَيْدُهُ حَتَّى يَضْمَحِلَّ، فَهَذَا لَنْ يَقَعَ أَبَدًا، بَلْ أَمْرُهُمْ يَضْمَحِلُّ وَيَعْلُو أَمْرُكَ عَلَيْهِمْ.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 173. (2) سورة الأحزاب: 33/ 39.

قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ارْتَدُّوا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ «1» وَقِيلَ: مُثِيرُ الحزن وهو شفقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيثَارُهُ إِسْلَامَهُمْ حَتَّى يُنْقِذَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَنُهِيَ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «2» وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «3» وَهَذَا مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِهِ لِلنَّاسِ، وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: يُحْزِنْكَ مِنْ أَحْزَنَ، وَكَذَا حَيْثُ وَقَعَ الْمُضَارِعُ، إِلَّا فِي لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، فَقَرَأَهُ مِنْ حَزِنَ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. يُقَالُ: حَزِنَ الرَّجُلُ أَصَابَهُ الْحُزْنُ، وَحَزَنْتُهُ جَعَلْتُ فِيهِ ذَلِكَ، وَأَحْزَنْتُهُ جَعَلْتُهُ حَزِينًا. وَقَرَأَ النَّحْوِيُّ: يُسْرِعُونَ مِنْ أَسْرَعَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ أَبْلَغُ، لِأَنَّ مَنْ يُسَارِعُ غَيْرَهُ أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنَ الَّذِي يُسْرِعُ وَحْدَهُ. وَفِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَانْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ. وَقِيلَ: انتصابه عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ شَيْءٌ يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ هُوَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. فَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنْهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ هُوَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَهُمْ بَدَلُ النَّعِيمِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ قِيلَ: لَا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الْإِرَادَةِ؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى حِرْمَانِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ قَدْ خَلَصَ خُلُوصًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ صَارِفٌ قَطُّ، حِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الطُّغْيَانِ وَبُلُوغِهِمُ الْغَايَةَ فِيهِ، حَتَّى أَنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَرْحَمُهُمْ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ لِأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ أَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ مُوجِبَةٌ، إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ مُرِيدٌ لَهُ تَعَالَى وَهُوَ: الْكُفْرُ. وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَلَا يَشَاؤُهُ، فَتَأَوَّلَ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ بِانْتِفَاءِ حَظِّهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ بِتَعَلُّقِهَا بِانْتِفَاءِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي يُرِيدُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِذَلِكَ. والثاني: يريد في

_ (1) سورة المائدة: 5/ 41. (2) سورة فاطر: 35/ 8. (3) سورة الشعراء: 26/ 3.

الْآخِرَةِ أَنْ يَحْرِمَهُمْ ثَوَابَهُمْ لِإِحْبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِكُفْرِهِمْ. وَالثَّالِثُ: يُرِيدُ يُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ بِمَا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هَذَا عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ «1» كَانَ عَامًّا، فَكَرَّرَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْمُنَافِقِينَ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ أَوْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَيَكُونُ لَيْسَ تَكْرِيرًا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، بَلْ حُكِمَ عَلَى الْعَامِّ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا. وَيَنْدَرِجُ فِيهِ ذَلِكَ الْخَاصُّ أَيْضًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ لِلْخَاصِّ الْعَذَابَ بِنَوْعَيْهِ مِنَ الْعِظَمِ وَالْأَلَمِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي حَقِّهِمْ فِي الْعَذَابِ. وَجَعَلَ ذَلِكَ اشْتِرَاءً. مِنْ حَيْثُ تَمَكُّنِهُمْ مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَآثَرُوا الْكُفْرَ على الإيمان. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً مَعْنَى نُمْلِي: نُمْهِلُ وَنَمُدُّ فِي الْعُمْرِ. وَالْمُلَاءَةُ الْمُدَّةُ مِنَ الدَّهْرِ، وَالْمَلَوَانُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَيُقَالُ: مَلَّاكَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ، أَيْ مَنَحَكَهَا عُمْرًا طَوِيلًا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ تَحْسَبَنَّ بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولًا أول. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ، فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَنْسَبِكُ مِنْهُ مَصْدَرُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْمَصْدَرُ لَا يَكُونُ الذَّاتُ، فَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ: وَلَا تَحْسَبَنَّ شَأْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أَوْ مِنَ الثَّانِي أَيْ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَصْحَابَ، أَنَّ الْإِمْلَاءَ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَصِحَّ كَوْنُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ. وَخَرَّجَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَاذِشِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنْ يَكُونَ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ. قَالَ ابْنُ الْبَاذِشِ: وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرِيَّةُ إِمْلَائِنَا لَهُمْ كَائِنَةٌ أَوْ وَاقِعَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ الْبَدَلِ وَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِفِعْلِ الْحُسْبَانِ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ؟ (قُلْتُ) : صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمُنَحَّى، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: جَعَلْتُ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَعَ امْتِنَاعِ سُكُوتِكَ عَلَى مَتَاعَكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ الْبَاذِشِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ سَبَقَهُمَا إليه الكسائي والفراء، فالأوجه هَذِهِ الْقِرَاءَةِ التَّكْرِيرُ وَالتَّأْكِيدُ. التَّقْدِيرُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَمِثْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ، أَيْ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 41.

تأتيهم انتهى. وقد ردّ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ فَقَالَ: حَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ، فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُمَا انْتَهَى. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي حَذْفِ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ اخْتِصَارًا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً «1» إِنَّ تَقْدِيرَهُ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ مَلْكُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ لَكِنَّهُ عَزِيزٌ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا نَادِرًا وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ. وَعَلَى الْبَدَلِ خَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهَا بِنَصْبِ خَيْرٍ. قَالَ: وَقَدْ قَرَأَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَاقَ عَلَيْهَا مِثَالًا قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا بِنَصْبِ هُلْكٍ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ بَدَلٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ: أَنَّمَا نُمْلِي بَدَلٌ، وَخَيْرًا: الْمَفْعُولُ الثاني أي إملائنا خَيْرًا. وَأَنْكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي حَكَاهَا الزَّجَّاجُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ. وَابْنُ مُجَاهِدٍ فِي بَابِ الْقِرَاءَاتِ هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَمِعْتُ الْأَخْفَشَ يَذْكُرُ قُبْحَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا لِأَهْلِ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ انْتَهَى. وَعَلَى مَقَالَةِ الْأَخْفَشِ يكون إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وإنما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيْ إِمْلَاؤُنَا لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِأَنَّ الْمَفْتُوحَةَ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْأَخْفَشِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَلِإِشْكَالِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ زَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا لَحْنٌ وَرَدُّوهَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ مِنْ إِنَّمَا مَكْسُورَةٌ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَتَكُونَ إِنَّ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي مُشْكِلِهِ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَرَأَ تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ إِنَّمَا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ، وَإِعْرَابُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَسَدَّتْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ كَمَا تَقُولُ: حَسِبْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ. وَتَحْتَمِلُ مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَمَصْدَرِيَّةً، أَيْ: أَنَّ الَّذِي نُمْلِي، وَحُذِفَ الْعَائِدُ أَيْ: عَلَيْهِ وَفِيهِ شَرْطُ جَوَازِ الْحَذْفِ مِنْ كَوْنِهِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 169.

مُتَّصِلًا مَعْمُولًا لِفِعْلٍ تَامٍّ مُتَعَيَّنًا لِلرَّبْطِ، أَوْ أَنَّ إملائنا خَيْرٌ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ فَاعِلُ الْغَيْبِ كَفَاعِلِ الْخِطَابِ، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: وَلَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ، وإنما نُمْلِي بِالْكَسْرِ. فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيَكُونُ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ مُسْنَدًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا فَيَحْتَاجُ يَحْسَبَنَّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. فَلَوْ كَانَتْ أَنَّمَا مَفْتُوحَةً سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَكِنَّ يَحْيَى قَرَأَ بِالْكَسْرِ، فَخُرِّجَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيقُ فَكُسِرَتْ إِنَّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ اللَّامُ فِي حَيِّزِهَا. وَالْجُمْلَةُ الْمُعَلَّقُ عَنْهَا الْفِعْلُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ، وَهُوَ بَعِيدٌ: لِحَذْفِ اللَّامِ نَظِيرَ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ عَنِ الْعَمَلِ، مَعَ حَذْفِ اللَّامِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ كَقَوْلِهِ: إِنِّي وَجَدْتُ مَلَاكَ الشِّيمَةِ الْأَدَبُ أَيْ لَمِلَاكُ الشِّيمَةِ الْأَدَبُ، وَلَوْلَا اعْتِقَادُ حَذْفِ اللَّامِ لَنُصِبَ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَحْيَى بْنَ وَثَّابٍ قَرَأَ بِكَسْرِ إِنَّمَا الْأُولَى، وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا تحسبن الذين كفروا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا كَمَا يَفْعَلُونَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَتُوبُوا وَيَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَعْمُولِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ إِمْلَاءَنَا خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنْ عَمِلُوا فِيهِ وَعَرَفُوا إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِتَفْسِيحِ الْمُدَّةِ، وَتَرْكِ الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ. وَظَاهِرُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعُمُومُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا، وَلَيْسَتْ فِي كُلِّ كَافِرٍ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْإِمْلَاءُ مِمَّا يُدْخِلُهُ فِي الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ لَهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَعَانِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ كَوْنَنَا ظَاهِرِينَ مُمَوَّلِينَ أَصِحَّةً دَلِيلٌ عَلَى رِضَا اللَّهِ بِحَالِنَا وَاسْتِقَامَةِ طَرِيقَتِنَا عِنْدَهُ. وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ وَالْإِهْمَالَ إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ وَاسْتِدْرَاجٌ لِتَكْثِيرِ الْآثَامِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا أَمَّا الْبَرَّةُ فَلْتُسْرِعْ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَرَأَ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ «1» وَأَمَّا الْفَاجِرَةُ فَلِئَلَّا تَزْدَادَ إِثْمًا، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ انْتَهَى.

_ (1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 198.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْإِمْلَاءُ لَهُمْ تحليتهم، وَشَأْنُهُمْ مُسْتَعَارٌ مِنْ أَمْلَى لِفَرَسِهِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الطُولَ لِيَرْعَى كَيْفَ شَاءَ. وَقِيلَ: هُوَ إِمْهَالُهُمْ وَإِطَالَةُ عُمْرِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِمْلَاءَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ مَنْعِهِمْ أَوْ قَطْعِ آجَالِهِمْ، أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ يَحْسَبُونَ الْإِمْلَاءَ خَيْرًا لَهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ غَرَضًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي إِمْلَائِهِ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) : هُوَ عِلَّةُ الْإِمْلَاءِ، وَمَا كُلُّ عِلَّةٍ بِغَرَضٍ. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الْغَزْوِ لِلْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِغَرَضٍ لَكَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ. فَكَذَلِكَ ازْدِيَادُ الْإِثْمِ جُعِلَ عِلَّةً لِلْإِمْلَاءِ، وَسَبَبًا فِيهِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَكُونُ ازْدِيَادُ الْإِثْمِ عِلَّةً لِلْإِمْلَاءِ، كَمَا كَانَ الْعَجْزُ عِلَّةً لِلْقُعُودِ عَنِ الْحَرْبِ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُمْ مُزْدَادُونَ إِثْمًا، فَكَانَ الْإِمْلَاءُ وَقَعَ لِأَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكُلُّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْمُعْتَزِلَةُ تَنَاوَلُوهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. أَيْ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنما نملي لهم ليزدادو إِثْمًا، أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ حُسْبَانِهِمْ فِيمَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّ إِمْهَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَإِصَابَتَهُمُ الصِّحَّةَ وَالسَّلَامَةَ وَالْأَمْوَالَ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الْعَاقِبَةِ، بَلْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ شَرٌّ. وَفِي التأويل الأول إِفْسَادُ النَّظْمِ، وَفِي الثَّانِي تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ تَنْبِيهُهُ. فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْعَاقِبَةِ يَكُونُ لِسَهْوٍ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ غَفْلَةٍ، وَالْعَالِمُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُنَبِّهُ نَفْسَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَتَبُوا مَا مُتَّصِلَةً بِأَنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قِيلَ: وَكَانَ الْقِيَاسُ الْأَوْلَى فِي عِلْمِ الْخَطِّ أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً، وَلَكِنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْإِمَامِ مُتَّصِلَةً فَلَا تُخَالَفُ، وَنَتَّبِعُ سُنَّةَ الْإِمَامِ فِي الْمَصَاحِفِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مُتَّصِلَةً لِأَنَّهَا كَافَّةٌ دُونَ الْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي. وَلَا مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّ لَامَ كَيْ لَا يَصِحَّ وُقُوعُهَا خبر لِلْمُبْتَدَأِ وَلَا لِنَوَاسِخِهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لِيَزْدَادُوا لِلصَّيْرُورَةِ. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ هَذِهِ الْوَاوُ فِي: وَلَهُمْ، لِلْعَطْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، يَعْنِي قِرَاءَةَ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ بِكَسْرِ إِنَّمَا الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لِزِيَادَةِ الْإِثْمِ وَلِلتَّعْذِيبِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا مُعَدًّا لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ انْتَهَى. وَالَّذِينَ نَقَلُوا قِرَاءَةَ يَحْيَى لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ أَحَدًا قَرَأَ الثَّانِيَةَ بِالْفَتْحِ إِلَّا هُوَ، إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ قَرَأَ الْأُولَى بِالْكَسْرِ. وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ مِنْ وُلُوعِهِ بِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ يَرُومُ رَدَّ كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَلَمَّا قَرَّرَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ الْمَعْنَى عَلَى نَهْيِ

الْكَافِرِ أَنْ يَحْسَبَ أَنَّمَا يُمْلِي اللَّهُ لِزِيَادَةِ الْإِثْمِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُمْلِي لِأَجْلِ الْخَيْرِ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يَدْفَعُ هَذَا التَّفْسِيرَ، فَخُرِّجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ حَتَّى يَزُولَ هَذَا التَّدَافُعَ الَّذِي بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ ظَاهِرِ آخِرِ الْآيَةِ. وَوَصَفَ تَعَالَى عَذَابَهُ فِي مَقَاطِعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: بِعَظِيمٍ، وَأَلِيمٍ، وَمَهِينٍ. وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُنَاسَبَةٌ تَقْتَضِي خَتْمَ الْآيَةِ بِهَا. أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّ الْمُسَارَعَةَ فِي الشَّيْءِ وَالْمُبَادَرَةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَالتَّحَلِّي بِهِ يَقْتَضِي جَلَالَةَ مَا سُورِعَ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنَ النَّفَاسَةِ وَالْعِظَمِ بِحَيْثُ يَتَسَابَقُ فِيهِ، فَخُتِمَتِ الْآيَةُ بِعِظَمِ الثَّوَابِ وَهُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ إِشْعَارًا بِخَسَاسَةِ مَا سَابَقُوا فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا اشْتِرَاءَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ، وَمِنْ عَادَةِ الْمُشْتَرِي الِاغْتِبَاطُ بِمَا اشْتَرَاهُ وَالسُّرُورُ بِهِ وَالْفَرَحُ، فَخُتِمَتِ الْآيَةُ لِأَنَّ صَفْقَتَهُ خَسِرَتْ بِأَلَمِ الْعَذَابِ، كَمَا يَجِدُهُ الْمُشْتَرِي الْمَغْبُونُ فِي تِجَارَتِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْإِمْلَاءَ وَهُوَ الْإِمْتَاعُ بِالْمَالِ وَالْبَنِينِ وَالصِّحَّةِ وَكَانَ هَذَا الْإِمْتَاعُ سَبَبًا لِلتَّعَزُّزِ وَالتَّمَتُّعِ وَالِاسْتِطَاعَةِ فَخُتِمَتِ الْآيَةُ بِإِهَانَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ. وَأَنَّ ذَلِكَ الْإِمْلَاءَ الْمُنْتَجَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا التَّعَزُّزُ وَالِاسْتِطَالَةُ مَآلُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى إِهَانَتِهِمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي يُهِينُ الْجَبَابِرَةَ. مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْخِطَابُ فِي أَنْتُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنِ اخْتِلَاطِكُمْ بِالْمُنَافِقِينَ. وَإِشْكَالِ أَمْرِهِمْ وَإِجْرَاءِ الْمُنَافِقِ مَجْرَى الْمُؤْمِنِ، وَلَكِنَّهُ مَيَّزَ بَعْضًا مِنْ بَعْضٍ بِمَا ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيُّهَا الْكُفَّارُ مِنِ اخْتِلَاطِكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: قَالَ الْكُفَّارُ فِي بَعْضِ جَدَلِهِمْ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَزْعُمُ فِي الرَّجُلِ مِنَّا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا؟ وَلَكِنْ أَخْبِرْنَا بِمَنْ يُؤْمِنُ مِنَّا، وَبِمَنْ يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ، فَنَزَلَتْ. فَقِيلَ لَهُمْ: لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَدَّلَ الْكَافِرِينَ بِالْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَنِ الْخِطَابُ فِي أَنْتُمْ؟ (قُلْتُ) : لِلْمُصَدِّقِينَ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالنِّفَاقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُخْلِصِينَ مِنْكُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مِنِ اخْتِلَاطِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مُخْلِصُكُمْ مِنْ مُنَافِقِكُمْ، لِاتِّفَاقِكُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ جَمِيعًا حَتَّى يُمَيِّزَهُمْ مِنْكُمْ بِالْوَحْيِ إِلَى نَبِيِّهِ بِإِخْبَارِهِ بِأَحْوَالِكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا يَتْرُكُكُمْ مُخْتَلِطِينَ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ، بِأَنْ يُكَلِّفَكُمُ التَّكَالِيفَ الصَّعْبَةَ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا إِلَّا الْخُلَّصُ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ

قُلُوبَهُمْ كَبَذْلِ الْأَرْوَاحِ فِي الْجِهَادِ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عِيَارًا عَلَى عَقَائِدِكُمْ، وَشَاهِدًا بِضَمَائِرِكُمْ، حَتَّى يَعْلَمَ بَعْضُكُمْ مَا فِي قَلْبِ بَعْضٍ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَاتِ الصُّدُورِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ انْتَهَى. وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ لِابْنِ كَيْسَانَ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَعْنَى مَا يَذَرُكُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ حَتَّى يَخْتَبِرَكُمْ بِالشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، فَأَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقَوْلَ الَّذِي قَبْلَهُ وَنَمَّقَهُمَا بِبَلَاغَتِهِ وَحُسْنِ خَطَابَتِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمُ الَّذِينَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يستهزؤون بِالْمُؤْمِنِينَ سِرًّا فَقَالَ: لَا يَدَعُكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَلَكِنْ يَمْتَحِنُكُمْ لِتَفْتَضِحُوا وَيَظْهَرَ نِفَاقُكُمْ عِنْدَهُمْ، لَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ يَجْعَلُ لَهُمْ دَارًا أُخْرَى يُمَيِّزُ فِيهَا الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَجْعَلُ الْخَبِيثَ فِي النَّارِ، وَالطَّيِّبَ فِي الْجَنَّةِ. وَالْخَبِيثُ الْكَافِرُ، وَالطَّيِّبُ الْمُؤْمِنُ، وَتَمْيِيزُهُ بِالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّيِّبُ الْمُؤْمِنُ، وَالْخَبِيثُ الْمُنَافِقُ، مَيَّزَ بَيْنَهُمَا يَوْمَ أُحُدٍ. وَقِيلَ: الْخَبِيثُ الْكَافِرُ، وَالطَّيِّبُ الْمُؤْمِنُ، وَتَمْيِيزُهُ بِإِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا مِنْ صَلْبِ الْآخَرِ. وَقِيلَ: تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ هُوَ إِخْرَاجُ الذُّنُوبِ مِنْ أَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا. وَقِيلَ: الْخَبِيثُ الْعَاصِي، وَالطَّيِّبُ الْمُطِيعُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ، إِذْ كَانَ الْمَعْهُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الْكَافِرُ وَالطَّيِّبَ هُوَ الْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ «1» الْآيَةَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَذَرَ هِيَ الْمُسَمَّاةُ لَامُ الْجُحُودِ، وَهِيَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَتَعْمَلُ بِنَفْسِهَا النَّصْبَ فِي الْمُضَارِعِ. وَخَبَرُ كَانَ هُوَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا فَتَقُولُ: مَا كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَمَا كَانَ زَيْدٌ لِيَقُومَ، إِذَا أَكَّدْتَ النَّفْيَ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ خَبَرَ كَانَ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ النَّصْبَ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ وَاجِبَةِ الْإِضْمَارِ، وَأَنَّ اللَّامَ مُقَوِّيَةٌ لِطَلَبِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ لِمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا كَانَ اللَّهُ مُرِيدًا لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَيْ: مَا كَانَ مُرِيدًا لِتَرْكِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالتَّكْمِيلِ في شرح التسهيل.

_ (1) سورة النور: 24/ 26.

وَحَتَّى لِلْغَايَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى أَنْ يُمَيِّزَهَا كَذَا قَالُوا، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ غَايَةً عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَتْرُكُهُمْ مُخْتَلِطِينَ إِلَى أَنْ يُمَيِّزَ، فَيَكُونُ قَدْ غَيَّا نَفْيَ التَّرْكِ إِلَى وُجُودِ التَّمْيِيزِ، فَإِذَا وُجِدَ التَّمْيِيزُ تَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَاطِ، وَصَارَ نَظِيرَ مَا أَضْرِبُ زَيْدًا إِلَى أَنْ يَجِيءَ عَمْرٌو، فَمَفْهُومُهُ: إِذَا جَاءَ عَمْرٌو ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هِيَ غَايَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لَهُ. وَمَعْنَى مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى يُخَلِّصُ مَا بَيْنَكُمْ بِالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، إِلَى أَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: يُمَيِّزَ مِنْ مَيَّزَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ يَمِيزَ مِنْ مَازَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرِ: يُمَيِّزُ مِنْ أَمَازَ، وَالْهَمْزَةُ لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ، كَمَا أَنَّ التَّضْعِيفَ لَيْسَ لِلنَّقْلِ، بَلْ أَفْعَلَ وَفَعِلَ بِمَعْنَى الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ كَحَزِنَ وَأَحْزَنَ، وَقَدَرَ اللَّهُ وَقَدَّرَ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَلَيْسَ لَهُمْ تَمْيِيزُ ذَلِكَ، أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَيْبِ. وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أَيْ: يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَيُطْلِعَهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ. فَوُقُوعُ لَكِنَّ هنا لكون هُنَا لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا ضِدًّا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى. إِذْ تَضَمَّنَ اجْتِبَاءَ مَنْ شَاءَ مِنْ رُسُلِهِ إِطْلَاعَهُ إِيَّاهُ عَلَى مَا أَرَادَ تَعَالَى مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَإِطْلَاعُ الرَّسُولِ عَلَى الْغَيْبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيْهِ، فَيُخْبِرُ بِأَنَّ فِي الْغَيْبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، لَا مِنْ جِهَةِ إِطْلَاعِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، فِيمَنْ يُؤْمِنُ، وَمَنْ يَبْقَى كَافِرًا، وَلَكِنَّ هَذَا رَسُولٌ مُجْتَبًى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ فِي أَمْرِ أَحَدٍ أَيْ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى أَنَّكُمْ تُهْزَمُونَ، أَوْ تَكُفُّونَ عَنِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَصْرِيحًا بِهِمْ، وَتَسْمِيَةً بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَكِنْ بِقَرَائِنِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ. وَالْغَيْبُ هُنَا مَا غَابَ عَنِ الْبَشَرِ مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ، وَمِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُونَهَا إِذَا غَابُوا عَنِ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ قَالَ: لِمَ لَا يَكُونُ جَمِيعُنَا أَنْبِيَاءُ؟ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالُوا: لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ؟ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَهَلَّا كَانَ الْوَحْيُ إِلَيْنَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَسْتَرْقُونَ السَّمْعَ، فَيَأْتُونَ بِأَخْبَارِهَا إِلَى الْكَهَنَةِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ

رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ بِعْثَتِهِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ فَيَجْعَلُهُ رَسُولًا فَيُوحِي إِلَيْهِ، أَيْ: لَيْسَ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ، أَخْبَرَ أَنَّكُمْ لَا تُدْرِكُونَ أَنْتُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَى مَا أَكَنَّتْهُ الْقُلُوبُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَيُطْلِعُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَتُطْلَعُونَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ بِإِخْبَارِهِ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ بِوَحْيِ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: حُكِمَ بِأَنَّهُ يَظْهَرُ هَذَا التَّمْيِيزُ. ثُمَّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي عَوَامِّ النَّاسِ بِأَنْ يُطْلِعَهُمْ عَلَى غَيْبَهِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ فُلَانًا مُنَافِقٌ، وَفُلَانًا مُؤْمِنٌ. بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ بِأَنْ لَا يُطْلِعَ عَوَامَّ النَّاسِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا بِالِامْتِحَانِ. فَأَمَّا مَعْرِفَةُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ فَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَخُصُّهُمْ بِإِعْلَامِ أَنَّ هَذَا مُؤْمِنٌ وَهَذَا مُنَافِقٌ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَالتَّفَاسِيرُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْغَيْبَ الَّذِي نَفَى اللَّهُ إِطْلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ. أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَكُمْ كُلَّكُمْ عَالِمِينَ بِالْمُغَيَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ الرَّسُولُ حَتَّى تَصِيرُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ، بَلِ اللَّهُ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِذَلِكَ وَهُوَ الرَّسُولُ، فَتَنْدَرِجُ أَحْوَالُ الْمُنَافِقِ وَالْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْعَامِّ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ من يشاء فيطلعه على الْمُغَيَّبَاتِ، أَمَرَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْمُجْتَبَى، وَالْمُجْتَبَى وَمَنْ يَشَاءُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، إِذْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَإِخْبَارِهِ لَكُمْ بِهَا فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ. وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ وَرُسُلِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَى أَيْدِيهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، بِأَنْ تُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَتُعْلِمُونَهُ وَحْدَهُ مُطَّلِعًا عَلَى الْغُيُوبِ، وَأَنْ يُنْزِلُوهُمْ مَنَازِلَهُمْ بِأَنْ تَعْلَمُوهُمْ عِبَادًا مُجْتَبِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، وَلَا يُخْبِرُونَ إِلَّا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ، وَلَيْسُوا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي شَيْءٍ انْتَهَى. وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ رَتَّبَ حُصُولَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: الْإِيمَانُ السَّابِقُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَعَلَى التَّقْوَى وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَكَأَنَّهَا مُرَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ

قَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: نَزَلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ، وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: فِي أهل الكتاب وبخلهم تبيان مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْأَرْوَاحِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، شَرَعَ فِي التَّحْرِيضِ هُنَا عَلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ، وَالْبُخْلُ الشَّرْعِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ بَذْلِ الْوَاجِبِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ، فَتَكُونُ الَّذِينَ أَوَّلَ مَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَبَنَّ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بُخْلَ الَّذِينَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى ضمير الرسول أو ضمير أحد فيكون الَّذِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: بُخْلُهُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ. وَحَذْفُهُ كَمَا قُلْنَا: عَزِيزٌ جِدًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَلِذَلِكَ الْأَوْلَى تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى قِرَاءَةِ التَّاءِ مِنْ كَوْنِ الَّذِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ فَصْلٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِإِسْقَاطِ هُوَ، وَخَيْرًا هُوَ الْمَفْعُولُ بِتَحْسَبَنَّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَدَلَّ قَوْلُهُ: يَبْخَلُونَ عَلَى هَذَا الْبُخْلِ الْمُقَدَّرِ، كَمَا دَلَّ السَّفِيهُ عَلَى السَّفَهِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إليه ... وخالف وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافٍ وَالْمَعْنَى: جَرَى إِلَى السَّفَهِ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الدَّلَالَةُ فِيهِمَا سَوَاءً لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّالَّ فِي الْآيَةِ هُوَ الْفِعْلُ، وَفِي الْبَيْتِ هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِضْمَارُ الْمَصْدَرِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَمْ تَكْثُرْ دَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَصْدَرِ إِنَّمَا جَاءَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي غَيْرِهِ إِنْ وُجِدَ. وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْآيَةِ حَذْفًا لِظَاهِرٍ، إِذْ قَدَّرُوا الْمَحْذُوفَ بُخْلُهُمْ، وَأَمَّا فِي الْبَيْتِ فَهُوَ إِضْمَارٌ، لَا حَذْفٌ. وَيَظْهَرُ لِي تَخْرِيجٌ غَرِيبٌ فِي الْآيَةِ تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، إِذَا جَعَلْنَا الْفِعْلَ مُسْنَدًا لِلَّذِينِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْسَبَنَّ تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ، وَيَبْخَلُونَ يَطْلَبُ مَفْعُولًا بِحَرْفِ جَرٍّ، فَقَوْلُهُ: مَا آتَاهُمْ يَطْلُبُهُ يَحْسَبَنَّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ هُوَ فَصْلًا، وَخَيْرًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَيَطْلُبُهُ يَبْخَلُونَ بِتَوَسُّطِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَأَعْمَلَ الثَّانِي عَلَى الْأَفْصَحِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَعَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يَبْخَلُونَ. فَعُدِّيَ بِحَرْفِ

الْجَرِّ وَاحِدٌ مَعْمُولُهُ، وَحُذِفَ مَعْمُولُ تَحْسَبَنَّ الْأَوَّلُ، وَبَقِيَ مَعْمُولُهُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ، إِنَّمَا التَّنَازُعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ. وَسَاغَ حَذْفُهُ وَحْدَهُ، كَمَا سَاغَ حَذْفُ الْمَفْعُولَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ سِيبَوَيْهِ: مَتَى رَأَيْتُ أَوْ قُلْتُ: زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ، لِأَنَّ رَأَيْتُ وَقُلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَنَازَعَا زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ، وَفِي الْآيَةِ: لَمْ يَتَنَازَعَا إِلَّا فِي الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِهِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّخْرِيجِ يَكُونُ هُوَ فَصْلًا لِمَا آتَاهُمُ الْمَحْذُوفُ، لَا لِتَقْدِيرِهِمْ بُخْلَهُمْ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ ظَنَّ الَّذِي مَرَّ بِهِنْدٍ هِيَ الْمُنْطَلِقَةُ الْمَعْنَى، ظَنَّ هَنْدًا الشَّخْصَ الَّذِي مَرَّ بِهَا هِيَ الْمُنْطَلِقَةُ، فَالَّذِي تَنَازَعَهُ الْفِعْلَانِ هُوَ الِاسْمُ الْأَوَّلُ، فَأَعْمَلَ الْفِعْلُ الثَّانِيَ وَبَقِيَ الْأَوَّلُ يَطْلُبُ مَحْذُوفًا، وَيَطْلُبُ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مُثْبَتًا، إِذْ لَمْ يَقَعُ فِيهِ التَّنَازُعُ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ النَّهْيُ انْتِفَاءَ كَوْنِ الْبُخْلِ أَوِ الْمَبْخُولِ بِهِ خَيْرًا لَهُمْ، وَكَانَ تَحْتَ الِانْتِفَاءِ قَسَمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ، وَالْآخَرُ إِثْبَاتُ الشَّرِّ، أَتَى بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تُعَيِّنُ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ: إِثْبَاتُ كَوْنِهِ شَرًّا لَهُمْ. سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ «1» وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ سَيُلْزَمُونَ عِقَابَهُ إِلْزَامَ الطَّوْقِ، وَفِي الْمَثَلِ لِمَنْ جَاءَ بِهَنَةٍ تَقَلَّدُهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَوْقٌ مِنْ نَارٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: هُوَ مِنَ الطَّاقَةِ لَا مِنَ التَّطْوِيقِ، وَالْمَعْنَى: سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ. كقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ «2» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: إِنَّ الْبُخْلَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مَالًا فَيَمْنَعُ مِنْهُ قَرَابَتَهُ الْحَقَّ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِي مَالِهِ، فَيُجْعَلُ حَيَّةً يُطَوَّقُهَا فَيَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ» وَالْأَحَادِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ مَنْعِ الزَّكَاةِ وَاكْتِنَازِ الْمَالِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ مَا يَقَعُ مِنْ إرث في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ حَقِيقَةً، فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِلْكُهُ هُوَ مَالِكُهُ حقيقة. وإذا كَانَ هُوَ مَالِكُهُ فَمَا لَكُمْ تَبْخَلُونَ بِشَيْءٍ أَنْتُمْ مُمَتَّعُونَ بِهِ لَا مَالِكُوهُ حَقِيقَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «3» .

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 180. (2) سورة البقرة: 2/ 184. (3) سورة الحديد: 57/ 7. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 185]

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَّرَ بِفَنَاءِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ جَمِيعَ ما يخلفونه فَهُوَ وَارِثُهُ. وَهُوَ خِطَابٌ عَلَى مَا يَفْهَمُ الْبَشَرُ، دَلَّ عَلَى فَنَاءِ الْجَمِيعِ، وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَالِكٌ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَزَلْ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خَتَمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَعْنَاهَا التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ عَلَى قَبِيحِ مُرْتَكَبِهِمْ مِنَ الْبُخْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: يَعْمَلُونَ عَلَى الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى يَبْخَلُونَ وَسَيُطَوَّقُونَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْبَاخِلِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا «1» . انْتَهَى. فَلَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِهِ الْتِفَاتًا، وَالْأَحْسَنُ الِالْتِفَاتُ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فُنُونًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ. الِاخْتِصَاصُ فِي: أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالتَّكْرَارُ فِي: يَسْتَبْشِرُونَ، وَفِي: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، وَفِي: اسْمِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَفِي: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَفِي: ذِكْرِ الْإِمْلَاءِ. وَالطِّبَاقِ فِي: اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَفِي: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: يُسَارِعُونَ، وَفِي: اشْتَرَوْا، وَفِي: نُمْلِي وَفِي: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، وَفِي: الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: فَآمِنُوا وَإِنْ تُؤْمِنُوا. وَالِالْتِفَاتُ فِي: أَنْتُمْ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِهِمْ كَانَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، وَفِي: تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فِيمَنْ قَرَأَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالْحَذْفُ في مواضع. [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 179.

الزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ. يُقَالُ: زَبَرْتُ أَيْ كَتَبْتُ، فَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ: مَزْبُورٍ، كَالرُّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي ... كَخَطِّ زَبُورٍ فِي عَسِيبِ يَمَانِ وَيُقَالُ: زَبَرْتُهُ قَرَأْتُهُ، وَزَبَرْتُهُ حَسَّنْتُهُ، وَتَزَبَّرْتُهُ زَجَرْتُهُ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُ الزَّبُورِ مِنَ الزُّبْرَةِ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْحَدِيدِ الَّتِي تُرِكَتْ بِحَالِهَا. الزَّحْزَحَةُ: التَّنْحِيَةُ وَالْإِبْعَادُ، تَكْرِيرُ الزَّحِّ وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ وَيُقَالُ: مَكَانٌ زَحْزَحٌ أَيْ بَعِيدٌ. الْفَوْزُ: النَّجَاةُ مِمَّا يُحْذَرُ وَالظَّفَرُ بِمَا يُؤَمَّلُ، وَسُمِّيَتِ الْأَرْضُ الْقَفْرُ الْبَعِيدَةُ الْمَخُوفُ مِنَ الْهَلَاكِ فِيهَا مَفَازَةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ تَفْوِيزٍ، وَمَظِنَّةُ هَلَاكٍ. تَقُولُ الْعَرَبُ: فَوَّزَ الرَّجُلُ مَاتَ. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَاءَ، حَاوَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَقَالَ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ فَضَرَبَهُ أَبُو بَكْرٍ وَمَنَعَهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَهْدَ، فَشَكَاهُ إِلَى الرَّسُولِ وَأَنْكَرَ مَا قَالَ، فَنَزَلَتْ تَكْذِيبًا لِفِنْحَاصٍ، وَتَصْدِيقًا لِلصَّدِيقِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ إِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَاقُوا الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَالَ هُوَ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمْ: فِي الْيَهُودِ. وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ فِي إِلْيَاسِ بْنِ عُمَرَ. وَلَمَّا نَزَلَ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» قَالَ أَوْ قَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَمْعٌ، فَيُمْكِنُ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ فِنْحَاصٍ أَوْ حَيِيٍّ أَوَّلًا، ثُمَّ تَقَاوَلَهَا الْيَهُودُ، أَوْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَنُسِبَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى عَادَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الْقَبِيلَةِ فِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْهَا. وَمَعْنَى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ: أَنَّهُ لَمْ يُخْفَ عَلَيْهِ تَعَالَى مَقَالَتُهُمْ، وَمَقَالَتُهُمْ هَذِهِ إِمَّا على سبيل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 245.

الْجَوَالِيقِيُّ: الْمُتَفَتِّيَةُ وَالْفَتَاةُ الْمُرَاهِقَةُ، وَالْفَتَى الرَّفِيقُ، وَمِنْهُ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ «1» وَالْفَتَى: الْعَبْدُ. وَمِنْهُ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» . الْمَيْلُ: الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النِّسَاءِ. وَالْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا: الْمُسَاحَقَةُ، جَعَلَ حَدَّهُنَّ الْحَبْسَ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يَتَزَوَّجْنَ. قَالَ: ونزلت وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ «2» فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ. وَالَّتِي فِي النُّورِ: فِي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «3» وَخَالَفَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَبَنَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى أَصْلٍ لَهُ. وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النِّسَاءِ فَذَكَرَ إِيتَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ وَتَوْرِيثَهُنَّ، وَقَدْ كُنَّ لَا يُوَرَّثْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِنَّ، إِذْ هُوَ نَظَرٌ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِنَّ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ من الإحسان إليهن أن لا تُقَامَ عَلَيْهِنَّ الْحُدُودُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ فِي أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ. وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُدُودَهُ وَأَشَارَ بِتِلْكَ إِلَى جَمِيعِ مَا وَقَعَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ، فَكَانَ فِي مَبْدَأِ السُّورَةِ التَّحَصُّنُ بِالتَّزْوِيجِ وَإِبَاحَةُ مَا أَبَاحَ مِنْ نِكَاحِ أَرْبَعٍ لِمَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ، اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حُكْمِ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ مِنَ الزَّوَانِي، وَأَفْرَدَهُنَّ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُنَّ عَلَى مَا قِيلَ أَدْخَلُ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ مِنَ الرِّجَالِ، ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ ثَانِيًا مَعَ الرِّجَالِ الزَّانِينَ في قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَصَارَ ذِكْرُ النِّسَاءِ الزَّوَانِي مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْإِفْرَادِ، وَمَرَّةً بِالشُّمُولِ. وَاللَّاتِي جَمْعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلَّتِي، وَلَهَا جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ أغربها: اللاآت، وَإِعْرَابُهَا إِعْرَابُ الْهِنْدَاتِ. وَمَعْنَى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ: يَجِئْنَ وَيَغْشَيْنَ. وَالْفَاحِشَةُ هُنَا الزِّنَا بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَتَبِعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسَاحَقَةُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأُطْلِقَ عَلَى الزِّنَا اسْمُ الْفَاحِشَةِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْقُبْحِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِحِ. قِيلَ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ أَكْبَرُ مِنَ الزِّنَا، قِيلَ: الْقُوَى الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ ثَلَاثٌ: النَّاطِقَةُ وَفَسَادُهَا بِالْكُفْرِ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 60. (2) سورة النساء: 4/ 16. (3) سورة النور: 24/ 2.

وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِحَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَعَنَهُ وَحْشِيٌّ: ذُقْ عُقُقُ، وَاسْتُعِيرَ لِمُبَاشَرَةِ الْعَذَابِ الذَّوْقُ، لِأَنَّ الذَّوْقَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْمُبَاشَرَةِ، وَحَاسَّتُهَا مُتَمَيِّزَةٌ جِدًّا. وَالْحَرِيقُ: الْمُحْرِقُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٌ، كَأَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ. وَقِيلَ: الْحَرِيقُ طَبَقَةٌ مِنْ طِبَاقِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: الْحَرِيقُ الْمُلْتَهِبُ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ تَشْمَلُ الْمُلْتَهِبَةَ وَغَيْرَ الْمُلْتَهِبَةِ، وَالْمُلْتَهِبَةُ أَشَدُّهَا. وَالظَّاهِرُ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِمْ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْحِسَابِ، أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَأَنَّ وَمَا بَعْدَهَا مَحْكِيٌّ بِقَالُوا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِالْمَصْدَرِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ. قَالَ: وَإِعْمَالُ الْأَوَّلِ أَصْلٌ ضَعِيفٌ، وَيَزْدَادُ ضَعْفًا لِأَنَّ الثَّانِي فِعْلٌ وَالْأَوَّلُ مَصْدَرٌ، وَإِعْمَالُ الْفِعْلِ أَقْوَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِيمَا قَالُوا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنَكْتُبُ وَقَتْلَهُمْ بِالنَّصْبِ. وَنَقُولُ: بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ. أَوْ تَكُونُ لِلْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ سَيَكْتُبُ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: سَيَكْتُبُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَتْلُهُمْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَا، إِذْ هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِسَيَكْتُبُ، وَيَقُولُ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُونَ. وَحَكَى الدَّانِيُّ عَنْهُ: سَتَكْتُبُ مَا قَالُوا بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى مَعْنَى مَقَالَتِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُقَالُ ذُوقُوا. وَنَقَلُوا عَنْ أَبِي مُعَاذٍ النَّحْوِيِّ أَنَّ فِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُونَ وَنَقُولُ لَهُمْ ذُوقُوا. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ من عِقَابِهِمْ، وَنُسِبَ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّةِ إِلَى الْأَيْدِي عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ الْأَيْدِيَ تُزَاوِلُ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ، فَكَانَ كُلُّ عَمَلٍ وَاقِعٌ بِهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ فِي المقول، وبخوا بِذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُمُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمُ الْعِقَابَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ مَعْمُولِ قَوْلِهِ وَنَقُولُ. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، أَيْ ذَلِكَ الْعِقَابُ حَاصِلٌ بِسَبَبِ مَعَاصِيكُمْ، وَعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيكُمْ. وَجَاءَ لَفْظُ ظَلَّامٍ الْمَوْضُوعُ لِلتَّكْثِيرِ، وَهَذَا تَكْثِيرٌ بِسَبَبِ الْمُتَعَلِّقِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ فِعَالًا قَدْ يَجِيءُ لَا يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، كَقَوْلِ طَرَفَةَ: وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً ... وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدُ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ التِّلَاعَ قَلِيلًا، لِأَنَّ عَجُزَ الْبَيْتِ يَدْفَعُهُ، فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْبُخْلِ فِي

كُلِّ حَالٍ، وَتَمَامُ الْمَدْحِ لَا يَحْصُلُ بِإِرَادَةِ الْكَثْرَةِ، وَقِيلَ: إِذَا نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ اتَّبَعَ الْقَلِيلَ ضَرُورَةً، لِأَنَّ الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ، فَإِذَا تَرَكَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ نَفْعِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّفْعُ وَالضَّرَرُ كَانَ لِلظُّلْمِ الْقَلِيلِ الْمَنْفَعَةِ أَتْرَكُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِمْ: لَوْ كَانَ ظَالِمًا لَكَانَ عَظِيمًا، فَنَفَاهُ عَلَى حَدِّ عِظَمِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا وَالْعَبِيدُ جَمْعُ عَبْدٍ، كَالْكَلِيبِ. وَقَدْ جَاءَ اسْمُ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ نَحْوِ الضَّيْفَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، جَوَازَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ إِخْبَارُ الْوَاحِدِ كَأَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، وَنَاسَبَ لَفْظُ هَذَا الْجَمْعِ دُونَ لَفْظِ الْعِبَادِ، لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ الَّتِي قَبْلَهُ مِمَّا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ، كَمَا نَاسَبَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ، وَكَمَا نَاسَبَ لَفْظُ الْعِبَادِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجُمِعَ عَبْدًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَبِيدٍ لِأَنَّهُ مَكَانُ تَشْقِيقٍ وَتَنْجِيَةٍ مِنْ ظُلْمٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا تَظْهَرُ لِي هَذِهِ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْجَمْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَلِمَ عَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، على بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَكَيْفَ جَعَلَ كونه غير ظلام للعبيد شَرِيكًا لِاجْتِرَاحِهِمُ السَّيِّئَاتِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَى كونه غير ظلام للعبيد: أَنَّهُ عَادِلٌ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُعَاقِبَ الْمُسِيءَ منهم ويشيب الْمُحْسِنَ انْتَهَى. وَفِيهِ رَائِحَةُ الِاعْتِزَالِ. الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قَالَ الْكَعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَوَهْبٌ بنِ يَهُوذَا، وَزَيْدِ بْنِ مَانُوهٍ، وَفِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَاءَ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ كِتَابًا، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَهِدَ إِلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَإِنْ جِئْتَنَا بِهِ صَدَّقْنَاكَ. وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَقِيلَ: كَانَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ كَانَ تَمَامُ الْكَلَامِ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَسِيحُ وَمُحَمَّدٌ، فَإِذَا أَتَيَاكُمْ فَآمِنُوا بِهِمَا مِنْ غَيْرِ قُرْبَانٍ. وَقِيلَ: كَانَ أَمْرُ الْقَرَابِينِ ثَابِتًا، إِلَى أَنْ نُسِخَتْ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ. وَقِيلَ: ذِكْرُهُمْ هَذَا الْعَهْدِ هُوَ مِنْ كَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ. وَمَعْنَى عَهِدَ: وَصَّى، وَالْعَهْدُ أَخَصُّ مِنَ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَا يَتَطَاوَلُ أَمْرُهُ وَيَبْقَى فِي غَابِرِ الزَّمَانِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَتَعَدَّى نُؤْمِنُ بِاللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَما آمَنَ لِمُوسى «1» يؤمن

_ (1) سورة يونس: 10/ 83.

لِلَّهِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَالرَّهْنِ، وَكَانَ حُكْمُهُ قَدِيمًا فِي الْأَنْبِيَاءِ. أَلَا تَرَى إِلَى قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ، وَكَانَ أَكْلُ النَّارِ ذَلِكَ الْقُرْبَانِ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِ الْعَمَلِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَمَلٍ، أَوْ صِدْقِ مَقَالَةٍ. وَإِذَا لَمْ تَنْزِلِ النَّارُ فَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ، وَكَانَتِ النَّارُ أَيْضًا تَنْزِلُ لِلْغَنَائِمِ فَتَحْرِقُهَا. وَإِسْنَادُ الْأَكْلِ إِلَى النَّارِ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ عَنْ إِذْهَابِ الشَّيْءِ وَإِفْنَائِهِ، إِذْ حَقِيقَةُ الْأَكْلِ إِنَّمَا تُوجَدُ فِي الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي، وَالْقُرْبَانُ وَأَكْلُ النَّارِ مُعْجِزٌ لِلنَّبِيِّ يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِهِ، فَهُوَ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ سَوَاءٌ. وَلِلَّهِ أَنْ يُعَيِّنَ مِنَ الْآيَاتِ مَا شَاءَ لِأَنْبِيَائِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا يَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ وَالتَّعْجِيزِ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَا اقْتَرَحُوهُ لَمَا آمَنُوا. وَالَّذِينَ قَالُوا صِفَةٌ لِلَّذِينِ قَالُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ صِفَةٌ لِلْعَبِيدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْمَعْنَى وَالْوَصْفِ انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَجَوَّزُوا قَطْعَهُ لِلرَّفْعِ، وَالنَّصْبِ، وَإِتْبَاعَهُ بَدَلًا. وَفِي أَنْ لَا نُؤْمِنَ تَقْدِيرُ حَرْفِ جَرٍّ، فَحُذِفَ وَبَقِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ: أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ؟ وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى تَضْمِينِ عَهِدَ مَعْنَى الْزَمْ، فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَنَا أَنْ لَا نُؤْمِنَ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِقُرُبَانٍ بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَافِ، وَلَيْسَ بِلُغَةٍ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فُعُلَانِ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ السُّلُطَانُ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِتْبَاعِ انْتَهَى. وَلَمْ يَقُلْ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِتْبَاعِ، بَلْ قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي الْكَلَامِ فُعْلَانِ وَلَا فُعُلَانِ، وَلَا شَيْئًا مِنْ هَذَا النَّحْوِ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَلَكِنَّهُ جَاءَ فُعُلَانِ وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالُوا: السُّلْطَانُ وَهُوَ اسْمٌ انْتَهَى. وَقَالَ الشارح: صاحب في اللُّغَةِ لَا يُسَكَّنُ وَلَا يُتْبَعُ، وَكَذَا ذَكَرَ التَّصْرِيفِيُّونَ أَنَّهُ بِنَاءُ مُسْتَقْبَلٍ. قَالُوا فِيمَا لَحِقَهُ زِيَادَتَانِ بَعْدَ اللَّامِ وَعَلَى فُعْلَانِ وَلَمْ يجيء إِلَّا اسْمًا: وَهُوَ قَلِيلٌ نَحْوَ سُلْطَانٍ. قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَأَكْذَبَهُمْ فِي اقْتِرَاحِهِمْ، وَأَلْزَمَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالَّذِي قَالُوهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ وَبِالْآيَاتِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ، بَلْ قَتَلُوهُمْ. وَلَمْ يَكْتَفُوا بِتَكْذِيبِهِمْ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِمْ شَرَّ فِعْلٍ، وَهُوَ إِتْلَافُ النَّفْسِ بِالْقَتْلِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مِنْكُمْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ تَعَلُّلٌ وَتَعَنُّتٌ، وَلَوْ جَاءَهُمْ بِالْقُرْبَانِ لَتَعَلَّلُوا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَرِحُونَهُ. وَالِاقْتِرَاحُ لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَا يُجَابُ طَالِبُهُ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَهُ، كَقِصَّةِ قَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اقْتِرَاحِ قُرَيْشٍ فَأَبَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: بَلْ أَدْعُوهُمْ

وَأُعَالِجُهُمْ وَمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ يُلْزِمُ بِإِتْيَانِ الْبَيِّنَاتِ وَالْقُرْبَانِ، أَوْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْكُمْ. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لَمَّا ظَهَرَ كَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ بِذِكْرِ الْعَهْدِ الَّذِي افْتَرَوْهُ، وَكَانَ فِي ضِمْنِهِ تَكْذِيبُهُ إِذْ عَلَّقُوا الْإِيمَانَ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مُقْتَرَحٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَلَمْ يُجِبْهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ، فَسَلَّى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَذَا دَأْبُهُمْ، وَسَبَقَ مِنْهُمْ تَكْذِيبُهُمْ لِرُسُلٍ جَاءُوا بِمَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ مِنْ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَبِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ النَّيِّرَةِ الْمُزِيلَةِ لِظُلَمِ الشُّبَهِ. وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ سُمِّيَ بِذَلِكَ قِيلَ: لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ، إِذْ يُقَالُ: زَبَرَهُ كَتَبَهُ. أَوْ لِكَوْنِهِ زَاجِرًا مِنْ زَبَرَهُ زَجَرَهُ، وَبِهِ سُمِّي كِتَابُ دَاوُدَ زَبُورًا لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْمَوَاعِظِ، أَوْ لِأَحْكَامِهِ. وَالزُّبُرُ: الْأَحْكَامُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّبُورُ كُلُّ كِتَابٍ فِيهِ حِكْمَةٌ. قِيلَ: وَالْكِتَابُ هُوَ الزُّبُرُ. وَجَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ وَاحِدٌ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَيَاهُمَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا جِنْسٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَالزُّبُرُ الزَّوَاجِرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُتُبُ. أي: جاؤوا بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ وَالتَّخْوِيفَاتِ وَالْكُتُبِ النَّيِّرَةِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَتَسَلَّ بِهِ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ الْجَوَابَ لِمُضِيِّهِ، إِذْ جَوَابُ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلٌ لَا مَحَالَةَ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَاضِي هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَامُحِ لَا الْحَقِيقَةِ. وَبَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَلَى تَكْذِيبِ الْيَهُودِ وَحْدَهُمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، بَلْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ تَكْذِيبُ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: فَقَدْ كَذَّبَتْ أُمَمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمُ الرُّسُلَ. قِيلَ: وَنَكَّرَ رُسُلٌ لِكَثْرَتِهِمْ وَشِيَاعِهِمْ. وَمِنْ قَبْلِكَ: مُتَعَلِّقٌ بِكُذِّبَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: جاؤوا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرُسُلٍ انْتَهَى. وَالْبَاءُ فِي بِالْبَيِّنَاتِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالتَّعْدِيَةَ، أَيْ: جاؤوا أُمَمَهُمْ مَصْحُوبَيْنَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَوْ جاؤوا الْبَيِّنَاتَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالزُّبُرُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: وَبِالزُّبُرِ، وَكَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّأْمِ. وَقَرَأَ هِشَامٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَبِالْكِتَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْكِتَابُ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْعَطْفِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَكَانَ ذِكْرُ

الْكِتَابِ مُفْرَدًا وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ، وَلَمْ يُلْحَظْ فِيهِ أَنْ يُجْمَعَ كَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا لِذَلِكَ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا الْوَعْظَ وَالتَّسْلِيَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عن الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَالْوَعْدَ بِالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ بِذَكَرِ الْمَوْتِ، وَالْفِكْرَةِ فِيهِ تُهَوِّنُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَغَيْرِهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُكَذِّبِينَ الْكَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَذِكْرُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، نُبِّهُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَمَآلُهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، فَفِيهَا يَظْهَرُ النَّاجِي وَالْهَالِكُ، وَأَنَّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمَتُّعِ الْمَغْرُورِ بِهِ، كُلُّهَا تَضْمَحِلُّ وَتَزُولُ وَلَا يَبْقَى إِلَّا مَا عَمِلَهُ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ يُوَفَّاهُ فِي الْآخِرَةِ، يُوَفَّى عَلَى طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ، وَعَلَى أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ انْتَهَى. وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ، فَإِنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النفس تموت. وقال أَيْضًا: لَفْظُ النَّفْسِ مُخْتَصٌّ بِالْأَجْسَامِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ: ذَائِقَةٌ بِالتَّنْوِينِ، الْمَوْتَ بِالنَّصْبِ، وَذَلِكَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَنَقَلَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ، وَنَقَلَهَا غَيْرُهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، وَيَحْيَى، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فِيمَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَائِقَةُ بِغَيْرِ تَنْوِينِ الْمَوْتَ بِالنَّصْبِ وَمِثْلُهُ: فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلَا حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ «1» بِحَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْ أَحَدٍ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لَفْظُ التَّوْفِيَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْمِيلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ الْقَبْرِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ، هُوَ بَعْضُ الْأُجُورِ وَمَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ فَهُوَ غَيْرُ مُوَفًّى. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَنَّ الْأُجُورَ هِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْأَجْرَ هُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّ تَعَالَى ذِكْرَ الْأُجُورِ لِشَرَفِهَا، وَإِشَارَةٍ إِلَى مَغْفِرَتِهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأمته. وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ يَوْمَ القيامة يقع فيه توفية الْأُجُورُ، وَتَوْفِيَةُ الْعُقُوبَاتِ انْتَهَى. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ عَلَّقَ الْفَوْزَ وَهُوَ نَيْلُ الحظ من الخير

_ (1) سورة الإخلاص: 112/ 1- 2.

وَالنَّجَاةِ مِنَ الشَّرِّ عَلَى التَّنْحِيَةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ ينح عَنِ النَّارِ بَلْ أُدْخِلَهَا، وَإِنْ كَانَ سَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَمْ يَفُزْ كَمَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَمَنْ نُحِّيَ عَنْهَا وَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ كَأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، لَمْ يَفُزْ أَيْضًا. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، قِيلَ: فَازَ مَعْنَاهُ نَجَا. وَقِيلَ: سَبَقَ. وَقِيلَ: غَنِمَ. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ الْمَتَاعُ: مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مِنْ آلَاتٍ وَأَمْوَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ: بِالْفَأْسِ، وَالْقَصْعَةِ، وَالْقِدْرِ. وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ فَقَالَ: هُوَ كَخُضْرَةِ النَّبَاتِ، وَلَعِبِ الْبَنَاتِ لَا حَاصِلَ لَهُ يَلْمَعُ لَمْعَ السَّرَابِ، وَيَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَهَذَا مِنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ وَيَغُرُّ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُدَلِّسُ. الْغَرُورُ انْتَهَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا هَذَا لِمَنْ آثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ بِهَا فَإِنَّهَا مَتَاعٌ بَلَاغٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا: مَتَاعُ الْغُرُورِ الْقَوَارِيرُ الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مَنْ الِانْكِسَارِ وَالْفَسَادِ، فَكَذَلِكَ أَمْرُ الدُّنْيَا كُلُّهُ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ مِنْ عِكْرِمَةَ وَالْغُرُورُ الْخُدَعُ وَالتَّرْجِئَةُ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: مَتَاعُ الْغُرُورِ كَزَادِ الرَّاعِي يُزَوِّدُ الْكَفَّ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّيْءَ مِنَ الدَّقِيقِ يَشْرَبُ عَلَيْهِ اللَّبَنَ، يَعْنِي: أَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ لَا يَكْفِي مَنْ تَمَتَّعَ بِهِ وَلَا يُبَلِّغُهُ سَفَرَهُ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عِشْ وَلَا تَغْتَرَّ. أَيْ: لَا تجتزىء بِمَا لَا يَكْفِيكَ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُرُورُ مَا رَأَيْتَ لَهُ ظَاهِرًا حَسَنًا وَلَهُ بَاطِنٌ مَكْرُوهٌ أَوْ مَجْهُولٌ، وَالشَّيْطَانُ غَرُورٌ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى مَخَبَّآتِ النَّاسِ وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا يَسُوءُ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا بَيْعُ الْغَرُورِ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِرُ بَيْعٍ وَبَاطِنٌ مَجْهُولٌ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ تَقْدِيرُهُ: وَمَا نَفْعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَّا نَفْعُ الْغُرُورِ. أَيْ: نَفْعٌ يُغْفِلُ عَنِ النَّفْعِ الْحَقِيقِيِّ لِدَوَامِهِ، وَهُوَ النَّفْعُ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَإِضَافَةُ الْمَتَاعِ إِلَى الْغُرُورِ إِنْ جُعِلَ الْغُرُورُ جَمْعًا فَهُوَ كَقَوْلِكَ: نَفْعُ الْغَافِلِينَ. وَإِنْ جُعِلَ مَصْدَرًا فَهُوَ كَقَوْلِكَ: نَفْعُ إِغْفَالٍ، أَيْ إِهْمَالٍ فَيُورِثُ الْغَفْلَةَ عَنِ التَّأَهُّبِ لِلْآخِرَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر: المغرور بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَفُسِّرَ بِالشَّيْطَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعُولًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: مَتَاعُ الْمَغْرُورِ، أَيْ: الْمَخْدُوعِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ التَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قَالُوا: وَالْمُمَاثِلَ فِي: قَالُوا، وَسَنَكْتُبُ مَا قَالُوا، وَفِي: كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ. وَالطِّبَاقُ فِي: فَقِيرُ وَأَغْنِيَاءُ، وَفِي: الْمَوْتُ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 إلى 200]

وَالْحَيَاةُ، وَفِي: زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: سَنَكْتُبُ وَنَقُولُ، وَفِي: أُجُورَكُمْ، إِذْ تَقَدَّمَهُ كُلُّ نَفْسٍ. وَالتَّكْرَارُ فِي: لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَفِي الْبَيِّنَاتِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: سَنَكْتُبُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْكِتَابَةَ حَقِيقَةً، وَفِي: قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَفِي: تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَفِي: ذُوقُوا وَذَائِقَةٌ. وَالْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ فِي: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: أَيْدِيكُمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي: ذَلِكَ، وَالشَّرْطُ الْمُتَجَوَّزُ فِيهِ. وَالزِّيَادَةُ لِلتَّوْكِيدِ فِي: وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَالْحَذْفُ فِي مواضع. [سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

الْجُنُوبُ: جَمْعُ جَنْبٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. الْمُرَابَطَةُ: الْمُلَازَمَةُ فِي الثَّغْرِ لِلْجِهَادِ، وَأَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ حِينَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ الْقُرْآنَ: إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: أَغْشِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَتَسَابَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ. وَقِيلَ: فِيمَا جَرَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَفِنْحَاصٍ. وَقِيلَ: فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ كَانَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ فِي شِعْرِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ تَعَالَى بِهَذَا الِابْتِلَاءِ وَالسَّمَاعِ لِيَكُونُوا أَحْمَلَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا سَبَقَ الْإِخْبَارُ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ فَجْأَةً فَإِنَّهُ يَكْثُرُ تَأَلُّمُهُ. وَالْآيَةُ مَسُوقَةٌ فِي ذَمِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَاسَبَتْ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي ذَمِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: لَتُبْلَوْنَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُهَاجِرُونَ، أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رِبَاعَهَمْ فَبَاعُوهَا، وَأَمْوَالَهُمْ فَنَهَبُوهَا. وَقِيلَ: الِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ هُوَ مَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ نَهْبِ أَمْوَالِهِمْ وَعَدَدِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَقَعُ مِنَ الِامْتِحَانِ فِي

الْأَمْوَالِ، بِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمَصَائِبِ وَالذَّهَابِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي تَكَالِيفِ الشَّرْعِ، وَالِابْتِلَاءِ فِي النَّفْسِ بِالشَّهَوَاتِ أَوِ الْفُرُوضِ الْبَدَنِيَّةِ أَوِ الْأَمْرَاضِ، أَوْ فَقْدِ الْأَقَارِبِ وَالْعَشَائِرِ، أَوْ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ وَالْأَسْرِ، وَأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ أَقْوَالٌ. وَقَدَّمَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَنْفُسِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي إِلَى الْأَشْرَفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْكَثْرَةِ. لِأَنَّ الرَّزَايَا فِي الْأَمْوَالِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّزَايَا فِي الْأَنْفُسِ. وَالْأَذَى: اسْمٌ جَامِعٌ فِي مَعْنَى الضَّرَرِ، وَيَشْمَلُ أَقْوَالَهُمْ فِي الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، وَفِي اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْبِيَائِهِ. وَالْمَطَاعِنِ فِي الدِّينِ وَتَخْطِئَةِ مَنْ آمَنَ، وَهِجَاءِ كَعْبٍ وَتَشْبِيبِهِ بِنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ وَذَلِكَ السَّمَاعِ. وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ أَيْ فَإِنَّ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى. مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قِيلَ: مِنْ أَشَدِّهَا وَأَحْسَنِهَا. وَالْعَزْمُ: إِمْضَاءُ الْأَمْرِ الْمُرَوَّى الْمُنَقَّحِ. وقال النقاش: العزم والحزم بِمَعْنًى وَاحِدٍ، الْحَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ. الْحَزْمُ جَوْدَةُ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ، وَنَتِيجَتُهُ الْحَذَرُ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ. وَالْعَزْمُ قَصْدُ الْإِمْضَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ «1» فَالْمُشَاوَرَةُ وَمَا كَانَ فِي معناها هو الجزم. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أَحْزِمُ لَوْ أَعْزِمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ. أَيْ: مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ مِنَ الْأُمُورِ. أَوْ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا. وَقِيلَ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مِنْ جَدِّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ، أَيْ فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ هُمُ الْيَهُودُ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَمُوهُ وَنَبَذُوهُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَعُلَمَاءُ هَذَا الْأُمَّةِ دَاخِلُونَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْيَاءِ فِيهِمَا عَلَى الْغَيْبَةِ، إِذْ قَبْلَهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَبَعْدَهُ فَنَبَذُوهُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «2» قرىء بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: لِلْمِيثَاقِ. وَقِيلَ: لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ لِقَوْلِهِ:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 159. (2) سورة البقرة: 2/ 83.

لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» وَارْتِفَاعُ وَلَا تَكْتُمُونَهُ لِكَوْنِهِ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: غَيْرَ كَاتِمِينَ لَهُ وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. قَالُوا وَلِلْحَالِ لا للعطف، كَقَوْلِهِ: فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ «2» وَقَوْلِهِ: وَلَا يَسْأَلُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ النُّونَ وَرَفَعَ اللَّامَ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ مَنْفِيًّا بِلَا لَمْ يُؤَكَّدْ، تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ زَيْدٌ، فَلَا تَدْخُلُهُ النُّونُ. وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، قَبْلَ لَا، حَتَّى تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسمية في موضع الحال، إِذِ الْمُضَارِعُ الْمَنْفِيُّ بِلَا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: لَيُبَيِّنُونَهُ بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ لَا تَلْزَمُ هَذِهِ النُّونَ لَامُ التَّوْكِيدِ، قَالَهُ: سِيبَوَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، بَلْ تَعَاقُبُ اللَّامِ وَالنُّونِ عِنْدَهُمْ ضَرُورَةٌ. وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي سِعَةِ الْكَلَامِ، فَيُجِيزُونَ: والله لا لأقوم، والله أَقُومَنَّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَعَيْشُكِ يَا سَلْمَى لَأُوقِنُ إِنَّنِي ... لِمَا شِئْتِ مُسْتَحْلٍ وَلَوْ أَنَّهُ الْقَتْلُ وَقَالَ آخَرُ: يَمِينًا لَأُبْغِضُ كُلَّ امْرِئٍ ... يُزَخْرِفُ قَوْلًا وَلَا يَفْعَلُ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي فَنَبَذُوهُ عَلَى النَّاسِ إِذْ يَسْتَحِيلُ عَوْدُهُ عَلَى النَّبِيِّينَ، أَيْ: فَنَبَذَهُ النَّاسُ الْمُبَيَّنُ لَهُمُ الْمِيثَاقُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ فِي قَوْلِهِ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «3» . وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ مَا بَعْدَ بِئْسَ فأغنى ذلك عَنِ الْإِعَادَةِ. لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَزْوِ، فَإِذَا جَاءَ اسْتَعْذَرُوا لَهُ، فَيُظْهِرُ الْقَبُولَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَهُ: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ. وَأَتَى تَكُونُ بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا «4» أي مفعولا.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 81. (2) سورة يونس: 10/ 19. (3) سورة البقرة: 2/ 101. (4) سورة مريم: 19/ 61.

فَمَعْنَى بِمَا أَتَوْا بِمَا فَعَلُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِمَا فَعَلُوا. وَفِي الَّذِي فَعَلُوهُ وَفَرِحُوا بِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا كَتْمُ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ الرَّسُولُ، وَإِخْبَارُهُمْ بِغَيْرِهِ، وَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِهِ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي مَا أَصَابُوا مِنَ الدُّنْيَا وَأَحَبُّوا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ عُلَمَاءُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الثَّالِثُ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَتْمُهُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ قَالَهُ: ابْنُ جُبَيْرٍ. الرَّابِعُ كُتُبُهُمْ إِلَى الْيَهُودِ يَهُودِ الْأَرْضِ كلها أن محمدا لَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَاثْبُتُوا عَلَى دِينِكُمْ، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ. وَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ قَالَهُ: الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ. الْخَامِسُ قَوْلُ يَهُودِ خَيْبَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: نَحْنُ عَلَى دِينِكُمْ، وَنَحْنُ لَكُمْ رِدْءٌ، وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِضَلَالِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يَحْمَدَهُمْ بِمَا لَمْ يفعلوا قاله: قتادة. السَّادِسُ تَجْهِيزُ الْيَهُودِ جَيْشًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْفَاقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ قَالَهُ: النَّخَعِيُّ. السَّابِعُ إِخْبَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ عَرَفُوهَا، فَحَمِدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَبْطَنُوا خلاف ما أظهر، وأذكره الزَّجَّاجُ. الثَّامِنُ اتِّبَاعُ النَّاسِ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ تَأْوِيلِ التَّوْرَاةِ، وَأَحَبُّوا حَمْدَهُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا نَافِعًا وَلَا صَحِيحًا قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. التَّاسِعُ تَخَلُّفُ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْغَزْوِ وَحَلِفُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يُسَرُّونَ بِنَصْرِهِمْ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُجَاهِدِينَ قَالَهُ: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَالْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ غَيْرُ هَذَا الْأَخِيرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي اليهود. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِكُلِّ مَنْ يَأْتِي بِحَسَنَةٍ فَرِحَ بِهَا فَرَحَ إِعْجَابٍ، وَيُحِبُّ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِالدِّيَانَةِ وَالزُّهْدِ، وَبِمَا لَيْسَ فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: لَا يَحْسَبُنَّ وَلَا يَحْسَبُنَّهُمْ بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَرَفْعِ بَاءِ يَحْسَبَنَّهُمْ عَلَى إِسْنَادِ يَحْسَبَنَّ لِلَّذِينَ، وَخُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ: وَهُوَ أَنَّ لَا يَحْسَبُنَّ لَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ، وَالَّذِينَ رُفِعَ بِهِ. وَقَدْ تَجِيءُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَغْوًا لَا فِي حُكْمِ الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَمَا خِلْتُ أَبْقَى بَيْنَنَا مِنْ مودّة ... عراض المداكي الْمُشْنِقَاتِ الْقَلَائِصَا وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ، وَمَا ظَنَنْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَتَتَّجِهُ الْقِرَاءَةُ بِكَوْنِ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ وَهُمَا: الضَّمِيرُ وَبِمَفَازَةٍ، وَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنِ الْمَفْعُولَيْنِ، كَمَا اسْتَغْنَى فِي قَوْلِهِ: بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحَسَبُ

أَيْ: وَتَحْسَبُ حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مَا قاله الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا عَلَى لَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَفَازَةٍ، بِمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ أَنْفُسَهُمُ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فَائِزِينَ. وَفَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ تَأْكِيدٌ، وَتَقَدَّمَ لَنَا الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَقْدِيرِهِ لَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما «1» وَإِنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَصِحُّ فَيُطَّلَعُ هُنَاكَ. وَتَعَدَّى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِعْلُ الْحُسْبَانِ إِلَى ضَمِيرَيْهِ الْمُتَّصِلَيْنِ: الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْصُوبِ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ ظَنَنْتُ وَأَخَوَاتُهَا، وَمِنْ غَيْرِهَا: وَجَدْتُ، وَفَقَدْتُ، وَعَدِمْتُ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ حمزة، والكسائي، وعاصم: لَا تَحْسَبَنَّ، وَفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ فِيهِمَا خِطَابًا لِلرَّسُولِ، وَخُرِّجَتِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ هُوَ: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ. وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ كَمَا قِيلَ آنِفًا فِي الْمَفْعُولَيْنِ. وَحَسُنَ تَكْرَارُ الْفِعْلِ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ لِطُولِ الْكَلَامِ، وَهِيَ عَادَةُ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِذِهْنِ الْمُخَاطَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: وَأَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ، وَالثَّانِي بِمَفَازَةٍ. وَقَوْلُهُ: فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ تَوْكِيدٌ تَقْدِيرُهُ لَا يَحْسَبَنَّهُمْ، فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ فائزين. وقرىء لا تحسبن فلا تحسبنهم بِتَاءِ الْخِطَابِ وَضَمِّ الْبَاءِ فِيهِمَا خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَالْخِلَافِ فِيهِ فِي قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَحْسَبَنَّ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ فِيهِمَا، وَخَرَجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى حَذْفِ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُمَا عَلَيْهِمَا. وَلَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْبَدَلُ الَّذِي جُوِّزَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو لِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ. وَإِذَا كَانَ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ تَوْكِيدًا أَوْ بَدَلًا، فَدُخُولُ الْفَاءِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ، وَلَا أَنْ تَكُونَ فَاءَ جَوَابِ الْجَزَاءِ. وَأَنْشَدُوا عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: حَتَّى تَرَكْتُ الْعَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ ... يَقُلْنَ فَلَا تَبْعُدْ وَقُلْتُ لَهُ: ابْعُدِ وَقَالَ آخَرُ: لَمَّا اتَّقَى بيد عظيم جرمها ... فتركت ضَاحِيَ: كَفِّهِ يَتَذَبْذَبُ أَيْ: لَا تَبْعُدْ، وَأَيْ تَرَكْتُ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِمَا آتَوْا بِمَعْنَى: أعطوا.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 178. [.....]

وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّلَمِيُّ: بِمَا أُوتُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي أَتَوْا، وَبَعْضُهَا يَسْتَقِيمُ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا بِمَفَازَةٍ، وَأُسْقِطَ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ. ومفازة مَفْعَلَةٌ مِنْ فَازَ، وَهِيَ لِلْمَكَانِ أَيْ: مَوْضِعِ فَوْزٍ، أَيْ: نَجَاةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أي ببعد مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ مَعْنَاهُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَزَيُّنَ الْإِنْسَانَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَحُبَّهُ الْمَدْحَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَذْمُومٌ شَرْعًا. وَقَالَ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ «1» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَنَاسَبَ وَصْفُهُ بِأَلِيمٍ لِأَجْلِ فَرَحِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمُ الْمَحْمَدَةَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلُوا. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا مَلَكَ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ مَمْلُوكُونَ مَقْهُورُونَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسُوا بِنَاجِينَ مِنَ الْعَذَابِ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى لَآيَاتٍ: لَعَلَامَاتٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الصَّانِعِ وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إِلَّا لِذَوِي الْعُقُولِ يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْفِكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَا كَمَا تَنْظُرُ الْبَهَائِمُ. وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، حِينَ ذَكَرَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ موسى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مالك السموات وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ، ذَكَرَ أَنَّ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَاتٍ وَاضِحَةً لِذَوِي الْعُقُولِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ التَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَذْكَارِ. هَذِهِ الْهَيْئَاتُ الثَّلَاثَةُ هِيَ غَالِبُ مَا يَكُونُ عَلَيْهَا الْمَرْءُ، فَاسْتُعْمِلَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا جَمِيعُ الْأَحْوَالِ. كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَلَاءِ. وَقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ: عَبْدُ اللَّهُ بْنُ عُمَرَ، وابن سيرين والنخعي. وكرهه:

_ (1) سورة الصف: 61/ 2.

ابن عباس، وعطاء، والشعبي. وعن ابن عمر وعروة بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمَ الْعِيدِ إِلَى المصلى فجعلوا يذكروا اللَّهَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قِيَامًا وَقُعُودًا؟ فَقَامُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ» وَإِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. ذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ: وَالذِّكْرُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الصَّلَوَاتُ، فَفِي حَالِ الْعُذْرِ يُصَلُّونَهَا قُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَسَمَّاهَا ذِكْرًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الذِّكْرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ صَلَاةُ النَّفْلِ يُصَلِّيهَا كَيْفَ شَاءَ. وَجَلَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشْيَاءَ مِنْ كَيْفِيَّةِ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَخِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَدَلَائِلِهِمْ. وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ. وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ تَفْسِيرِ الذِّكْرِ فَتَقْدِيمُ الْقِيَامِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ فِيهِ أَخَفُّ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حَالَةِ الْقُعُودِ وَالذِّكْرُ فِيهِ أَشَقُّ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْعُدُ غَالِبًا إِلَّا لِشُغْلٍ يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى هَيْئَةِ الِاضْطِجَاعِ وَالذِّكْرُ فِيهَا أَشَقُّ مِنْهُ فِي هَيْئَةِ الْقُعُودِ، لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ هُوَ هَيْئَةُ اسْتِرَاحَةٍ وَفَرَاغٍ عَنِ الشَّوَاغِلِ. وَيُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَا هُوَ أقصر زمانا، فبدىء بِالْقِيَامِ لِأَنَّهَا هَيْئَةٌ زَمَانُهَا فِي الْغَالِبِ أَقْصَرُ مِنْ زَمَانِ الْقُعُودِ، ثُمَّ بِالْقُعُودِ إِذْ زَمَانُهُ أَطْوَلُ، وَبِالِاضْطِجَاعِ إِذْ زَمَانُهُ أَطْوَلُ مِنْ زَمَانِ الْقُعُودِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّيْلَ جَمِيعَهُ هُوَ زَمَانُ الِاضْطِجَاعِ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِزَمَانِ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ، وَهُوَ النَّهَارُ؟ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذِّكْرُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَالْهَيْئَاتُ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ. فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لَا يُصَلِّي قَاعِدًا، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ لَا يُصَلِّي مُضْطَجِعًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ يُرَادُ بِهِ صَلَاةُ النَّفْلِ فَالْهَيْئَاتُ عَلَى سَبِيلِ الْأَفْضَلِيَّةِ، إِذِ الْأَفْضَلُ التَّنَفُّلُ قَائِمًا ثُمَّ قَاعِدًا ثُمَّ مُضْطَجِعًا. وَأَبْعَدُ فِي التَّفْسِيرِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا بِأَوَامِرِهِ، وَقُعُودًا عَنْ زَوَاجِرِهِ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ أَيْ تَجَانُبُهُمْ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِكَلَامِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ، وَقَرِيبٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ. وَجَوَّزُوا فِي الَّذِينَ النَّعْتَ وَالْقَطْعَ لِلرَّفْعِ وَالنَّصْبَ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ، وَهُنَا عَطَفَ الْمَجْرُورَ عَلَى صَرِيحِ الِاسْمِ. وَفِي قَوْلِهِ: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا عَطَفَ صَرِيحَ الِاسْمِ عَلَى الْمَجْرُورِ. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ، فَلَا

مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، عُطِفَتْ عَلَى الْحَالِ قَبْلَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ الذِّكْرَ الَّذِي مَحَلُّهُ اللِّسَانُ، ذَكَرَ الْفِكْرَ الَّذِي مَحَلُّهُ الْقَلْبُ. وَيَحْتَمِلُ خَلْقِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ، فَإِنَّ الْفِكْرَةَ فِي الْخَلْقِ لِهَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ الْغَرِيبَةِ الشَّكْلِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِنْشَاءِ هَذِهِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ، يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْأَحَدِيَّةِ إِلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ. وَفِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ مَا يُبْهِرُ الْعُقُولَ، وَيَسْتَغْرِقُ الْخَوَاطِرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَيَكُونُ أَضَافَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى الظَّرْفَيْنِ، لَا إِلَى المفعول، والفكر في ما أودع الله في السموات مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ وَالْأَفْلَاكِ الَّتِي جَاءَ النَّصْرُ فِيهَا وَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا أَيْضًا يُبْهِرُ الْعَقْلَ وَيُكْثِرُ الْعِبَرَ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي اللَّهِ فَقَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ فَإِنَّكُمْ لَا تُقَدِّرُونَ قَدْرَهُ» . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَفَكِّرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَالنَّاظِرِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَإِنَّمَا التَّفَكُّرُ وَانْبِسَاطُ الذِّهْنِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَفِي مَخْلُوقِ الْآخِرَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ» . وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِي التَّفَكُّرِ وَمِنْ أَعْيَانِ الْمُتَفَكِّرِينَ كَثِيرًا، رَأَيْنَا أَنْ لَا نُطَوِّلَ كِتَابَنَا بِنَقْلِهَا رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَقُولُونَ. وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْخَلْقِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ، أَوْ إلى السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمَخْلُوقِ. أَيْ: مَا خَلَقْتَ هَذَا الْمَخْلُوقَ الْعَجِيبَ بَاطِلًا. قِيلَ: الْمَعْنَى خَلْقًا بَاطِلًا أَيْ: لِغَيْرِ غَايَةٍ، بَلْ خَلَقْتَهُ وَخَلَقْتَ الْبَشَرَ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَيُوَحِّدَ وَيَعْبُدَ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَعَّمْتَهُ، وَمَنْ ضَلَّ عَنْ ذَلِكَ عَذَّبْتَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى مَا خَلَقْتَهُ خَلْقًا بَاطِلًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ بَلْ خَلَقْتَهُ لِدَاعِي حِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهُوَ: أَنْ تَجْعَلَهَا مَسَاكِنَ لِلْمُكَلَّفِينَ وَأَدِلَّةً لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَوُجُوبِ طَاعَتِكَ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِكَ. وَلِذَلِكَ وَصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَقِنَا عذاب النار، لأنه جَزَاءُ مَنْ عَصَى وَلَمْ يُطِعْ انْتَهَى. وَفِيهِ إِشَارَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ خَلَقْتَهُ لِدَاعِي حِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ انْتِصَابُ بَاطِلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بَاطِلًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ الْبَاءِ، أَيْ بِبَاطِلٍ، بَلْ خَلَقْتَهُ بِقُدْرَتِكَ الَّتِي هِيَ حَقٌّ. وَقِيلَ: عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَفَاعِلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ بُطُولًا. وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِخَلَقَ،

وَهِيَ بِمَعْنَى جَعَلَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَهَذَا عَكْسُ الْمَنْقُولِ فِي النَّحْوِ وَهُوَ: أَنَّ جَعَلَ يَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. أَمَّا أَنَّ خَلَقَ يَكُونُ بِمَعْنَى جَعَلَ فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ وَمِنْهُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَالْأَحْسَنُ مِنْ أَعَارِيبِهِ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ هَذَا، وَهِيَ حَالٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا نَحْوُ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ «1» لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تُحْذَفَ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَلَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ الْبَدِيعَ لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامُ أُولِي الْأَلْبَابِ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَالْمُتَفَكِّرِينَ فِي الْخَلْقِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهَالَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى خِلَافِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَنَزَّهُوهُ تَعَالَى عَنْ مَا يَقُولُ أُولَئِكَ الْمُبْطِلُونَ مِنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: لَاعِبِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً «2» وَاعْتُرِضَ بِهَذَا التَّنْزِيهِ الْمُتَضَمِّنِ بَرَاءَةَ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَأَفْعَالِ الْمُحْدَثِينَ. بَيْنَ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ رَغْبَتِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَمٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَلَا اكْتِرَاثٌ بِهَا، إِنَّمَا تَضَرَّعُوا فِي سُؤَالِ وِقَايَتِهِمُ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ نَتِيجَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْإِقْرَارِ وَالتَّنْزِيهِ. وَالْفَاءُ فِي: فَقِنَا لِلْعَطْفِ، وَتَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى الْإِقْرَارِ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: لِتَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ سُبْحَانَ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ: نَزَّهْنَاكَ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُونَ فَقِنَا. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى مَا تَضَمَّنَ النِّدَاءَ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ هذه استجارة واستعادة. أَيْ: فَلَا تَفْعَلْ بِنَا ذَلِكَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْمَلُ بِعَمَلِهَا. وَمَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: فَضَحْتَهُ. مِنْ خَزِيَ الرَّجُلُ يَخْزَى خِزْيًا، إِذَا افْتَضَحَ. وَخِزَايَةً إِذَا اسْتَحْيَا الْفِعْلُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ فِي الْمَصْدَرِ فَمِنَ الِافْتِضَاحِ خِزْيٌ، وَمِنَ الِاسْتِحْيَاءِ خَزَايَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي «3» أَيْ لَا تَفْضَحُونِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَهَنْتَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَهْلَكْتَهُ. وَيُقَالُ: خَزَيْتُهُ وَأَخْزَيْتُهُ ثُلَاثِيًّا وَرُبَاعِيًّا، وَالرُّبَاعِيُّ أَكْثَرُ وَأَفْصَحُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَخْزِيُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُذَلُّ الْمَحْقُورُ بِأَمْرٍ قَدْ لَزِمَهُ،

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 16. (2) سورة المؤمنون: 23/ 115. (3) سورة هود: 11/ 78.

يُقَالُ: أَخْزَيْتُهُ أَلْزَمْتُهُ حُجَّةً أَذْلَلْتُهُ مَعَهَا. وَقَالَ أَنَسٌ وسعيد، وقتادة، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُمْ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، أَمَّا مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَالْإِيمَانِ فَلَيْسَ بِمَخْزِيٍّ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله وَغَيْرُهُ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ مَخْزِيٌّ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا، وَإِنَّ فِي دُونِ ذَلِكَ لَخِزْيًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ هُوَ مِنْ قَوْلِ الدَّاعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الظَّالِمُونَ هُنَا هُمُ الْكَافِرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» وَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «2» وَيُنَاسِبُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ فِيمَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، لِأَنَّ نَفْيَ النَّاصِرِ إِمَّا بِمَنْعٍ أَوْ شَفَاعَةِ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَاللَّهُ نَاصِرُهُ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَافِعُهُ، وَبَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ يَشْفَعُ لِبَعْضٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا لِلظَّالِمِينَ اللَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، فَلَا نَاصِرَ لَهُ بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَمْ فاسقا، ومن مَفْعُولَةٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ. وَحَكَى بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ مَا نَصُّهُ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ: فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. وَأَجَازَ آخَرُونَ أَنْ يَكُونَ مَنْ مُبْتَدَأً، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ الْخَبَرَ انْتَهَى. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَصَادِرٌ عَنْ جَاهِلٍ بِعِلْمِ النَّحْوِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِعْرَابُ مَنْ مُبْتَدَأً فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. وَأَمَّا إِدْخَالُهُ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْخَبَرِ مَعَ فِعْلِ الشَّرْطِ فَجَهَالَةٌ. وَمَنْ أَعْظَمُ وِزْرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا سَمِعَ إِنْ دَخَلَ عَلَى مَسْمُوعٍ تَعَدَّى لِوَاحِدٍ نَحْوُ: سَمِعْتُ كَلَامَ زِيدٍ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَوَاسِّ. وَإِنْ دَخَلَ عَلَى ذَاتٍ وَجَاءَ بَعْدَهُ فِعْلٌ أَوِ اسْمٌ فِي مَعْنَاهُ نَحْوُ: سَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، وَسَمِعْتُ زَيْدًا يَقُولُ كَذَا، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ. مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ أَوِ الِاسْمَ إِنْ كَانَ قَبْلَهُ نَكِرَةٌ كَانَ صِفَةً لَهَا، أَوْ مَعْرِفَةٌ كَانَ حَالًا مِنْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ أَوِ الِاسْمَ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِسَمِعَ، وَجَعَلَ سَمِعَ مِمَّا يُعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ إِنْ دَخَلَ عَلَى مَسْمُوعٍ، وَإِلَى اثْنَيْنِ إِنْ دَخَلَ عَلَى ذَاتٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ يُنَادِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَنَّ قَبْلَهُ نَكِرَةً، وَعَلَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 254. (2) سورة لقمان: 31/ 13.

مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ: تَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ كَذَا، وَسَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، لِتُوقِعَ الْفِعْلَ عَلَى الرَّجُلِ، وَتَحْذِفَ الْمَسْمُوعَ لِأَنَّكَ وَصَفْتَهُ بِمَا يَسْمَعُ، أَوْ جَعَلْتَهُ حَالًا عَنْهُ، فَأَغْنَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ. وَلَوْلَا الْوَصْفُ أَوِ الْحَالُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ. وَأَنْ يُقَالَ: سَمِعْتُ كَلَامَ فُلَانٍ، أَوْ قَوْلَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْلَا الْوَصْفُ أَوِ الْحَالُ إِلَى آخِرِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَكُونُ وَصْفٌ وَلَا حَالٌ، وَيَدْخُلُ سَمِعَ عَلَى ذَاتٍ، لَا عَلَى مَسْمُوعٍ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ بِالْمَسْمُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا وَلَا حَالًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ «1» أَغْنَى ذِكْرُ ظَرْفِ الدُّعَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْمَسْمُوعِ. وَالْمُنَادَى هُنَا هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ تَعَالَى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ «2» ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ «3» قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا: أَوِ الْقُرْآنُ، قَالَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْقَوُا الرَّسُولَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَصْفُهُ بِالنِّدَاءِ حَقِيقَةً، وَعَلَى الثَّانِي مَجَازًا، وَجُمِعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: مُنَادِيًا يُنَادِي، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَوَّلَ مُطْلَقًا وَقَيَّدَ الثَّانِيَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْمُنَادِي، لِأَنَّهُ لَا مُنَادِيَ أَعْظَمُ مِنْ مُنَادٍ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَادِيَ إِذَا أُطْلِقَ ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَى مُنَادٍ لِلْحَرْبِ، أَوْ لِإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ، أَوْ لِإِغَاثَةِ الْمَكْرُوبِ، أَوْ لِكِفَايَةِ بَعْضِ النَّوَازِلِ، أَوْ لِبَعْضِ الْمَنَافِعِ. فَإِذَا قُلْتَ: يُنَادِي لِلْإِيمَانِ فَقَدْ رَفَعْتَ مِنْ شَأْنِ الْمُنَادِي وَفَخَّمْتَهُ. واللام متعلقة بينادي، وَيُعَدَّى نَادَى، وَدَعَا، وَنَدَبَ بِاللَّامِ وَبِإِلَى، كَمَا يُعَدَّى بِهِمَا هَدَى لِوُقُوعِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، وَانْتِهَاءِ الْغَايَةِ جَمِيعًا. ولهذا قال بعضهم: إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى. لَمَّا كَانَ يُنَادِي فِي مَعْنَى يَدْعُو، حَسُنَ وُصُولُهَا بِاللَّامِ بِمَعْنَى: إِلَى. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ بِالْإِيمَانِ. وَالسَّمَاعُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ سَمِعْنَا صَوْتَ مُنَادٍ. قِيلَ: وَمَنْ جَعَلَ الْمُنَادِيَ هُوَ الْقُرْآنَ، فَالسَّمَاعُ عِنْدَهُ مَجَازٌ عن القبول، وأن مُفَسِّرَةٌ التَّقْدِيرُ: أَنْ آمِنُوا. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وُصِلَتْ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، أَيْ: بِأَنْ آمِنُوا. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَعَلَى الثَّانِي لَهَا مَوْضِعٌ وَهُوَ الْجَرُّ، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْخِلَافِ. وَعَطْفُ فَآمَنَّا بِالْفَاءِ مُؤْذِنٌ بِتَعْجِيلِ الْقَبُولِ، وَتَسْبِيبِ الْإِيمَانِ عَنِ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَالْمَعْنَى: فَآمَنَّا بِكَ أَوْ بربنا.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 72. (2) سورة الأحزاب: 33/ 46. (3) سورة النحل: 16/ 125.

رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الذُّنُوبُ هِيَ الْكَبَائِرُ، وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الصَّغَائِرُ. وَيُؤَيِّدُهُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «1» وَقِيلَ: الذُّنُوبُ تَرْكُ الطَّاعَاتِ، وَالسَّيِّئَاتُ فِعْلُ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: غُفْرَانُ الذُّنُوبِ وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ أَمْرٌ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لَكِنَّهُ كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، وَلِأَنَّهَا مَنَاحٍ مِنَ السَّتْرِ وَإِزَالَةِ حُكْمِ الذُّنُوبِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَالْغُفْرَانُ وَالتَّكْفِيرُ بِمَعْنًى، وَالذُّنُوبُ وَالسَّيِّئَاتُ بِمَعْنًى، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً، وَلِيَكُونَ فِي ذَلِكَ إِلْحَاحٌ فِي الدُّعَاءِ. فَقَدْ رُوِيَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» . وَقِيلَ: في التفكير مَعْنًى وَهُوَ: التَّغْطِيَةُ، لِيَأْمَنُوا الْفُضُوحَ. وَالْكَفَّارَةُ هِيَ الطَّاعَةُ الْمُغَطِّيَةُ لِلسَّيِّئَةِ، كَالْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ. وَرَجُلٌ مُكَفَّرٌ بِالسِّلَاحِ، أَيْ مُغَطًّى. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ جَمْعُ بَرٍّ، عَلَى زن فَعَلٍ، كَصَلَفٍ. أَوْ جَمْعُ بَارٍّ عَلَى وَزْنٍ فَاعِلٍ كَضَارِبٍ، وَأُدْغِمَتِ الرَّاءُ فِي الرَّاءِ. وَهُمُ: الطَّائِعُونَ لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْبِرِّ. وَقِيلَ: هُمْ هُنَا الَّذِينَ بَرُّوا الآباء والأبناء. ومع هُنَا مَجَازٌ عَنِ الصُّحْبَةِ الزَّمَانِيَّةِ إِلَى الصُّحْبَةِ فِي الْوَصْفِ، أَيْ: تَوَفَّنَا أَبْرَارًا مَعْدُودِينَ فِي جُمْلَةِ الْأَبْرَارِ. وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَفَّيْتَهُمْ طَائِعِينَ لَكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى احْشُرْنَا مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى رُسُلِهِ، فَفَسَّرَ هَذَا الْمَوْعُودَ بِهِ بِالْجَنَّةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَوْعُودُ بِهِ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: اسْتِغْفَارُ الأنبياء، كاستغفار نوح وابراهيم وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: عَلَى رُسُلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَقَدَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى تصديق رسلك. قال: فعلى هَذِهِ صِلَةٌ لِلْوَعْدِ فِي قَوْلِكَ: وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا وَعَدْتَنَا عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ. أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ أَتْبَعَ ذِكْرَ الْمُنَادِي لِلْإِيمَانِ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَقَوْلُهُ: آمَنَّا وَهُوَ التَّصْدِيقُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أَيْ: مَا وَعَدْتَنَا مُنْزِلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى رُسُلِكَ، لِأَنَّ الرُّسُلَ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، لِأَنَّ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ وَالظَّرْفَ مَتَى كَانَ الْعَامِلُ فِيهِمَا مُقَيَّدًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَلَا يُحْذَفُ الْعَامِلُ إِلَّا إِذَا كَانَ كَوْنًا مُطْلَقًا. مثال ذلك: زيد

_ (1) سورة النساء: 4/ 31.

ضَاحِكٌ فِي الدَّارِ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ ضَاحِكٌ أَلْبَتَّةَ. وَإِذَا قُلْتَ: زِيدٌ فِي الدَّارِ فَالْعَامِلُ كَوْنٌ مُطْلَقٌ يُحْذَفُ. وَكَذَلِكَ زِيدٌ نَاجٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ نَاجٍ. وَلَوْ قُلْتَ: زِيدٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ جَازَ عَلَى تَقْدِيرِ كَائِنٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْمَحْذُوفُ فِيمَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُنْزَلًا أَوْ مَحْمُولًا، لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ مُقَيَّدًا صَارَ ذَلِكَ الظَّرْفُ أَوِ الْمَجْرُورُ نَاقِصًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ صلة، ولا خبر إلا فِي الْحَالِ. وَلَا فِي الْأَصْلِ، وَلَا صِفَةً، وَلَا حَالًا، وَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ: أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْتِيهُمُ اللَّهُ مَا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى مُنْجِزٌ مَا وَعَدَ، فَسَأَلُوا إِنْجَازَ مَا تَرَتَّبَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَالْمَعْنَى: التَّثْبِيتُ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْجَازَ الْوَعْدِ. وَقِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّضَرُّعَ لَهُ، كَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْتَغْفِرُونَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّذَلُّلَ وَالتَّضَرُّعَ إِلَيْهِ وَالِالْتِجَاءَ. وَقِيلَ: استبطؤوا النَّصْرَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَسَأَلُوا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمْ وَعْدَهُ، فَعَلَى هَذَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْعُودُ بِهِ النَّصْرَ يَكُونُ الْإِيتَاءُ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ الْجَنَّةَ يَكُونُ الْإِيتَاءُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عَلَى رُسْلِكَ بِإِسْكَانِ السِّينِ. وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ فُسِّرَ الْإِخْزَاءُ هُنَا بِمَا فُسِّرَ في فقد أخزيته. ويوم الْقِيَامَةِ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: وَلَا تُخْزِنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، إِذْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بتخزنا وبآتنا مَا وَعَدْتَنَا، إِذَا كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ الْجَنَّةَ. إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ «2» فَهَذَا وَعْدُهُ تَعَالَى، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْخِزْيَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْخُلُودِ انْتَهَى. وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ مُحَاوَرَةِ هَؤُلَاءِ الذَّاكِرِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ خَاطَبُوا اللَّهَ تَعَالَى بِلَفْظَةِ رَبَّنَا، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَبُّهُمْ أَصْلَحَهُمْ وَهَيَّأَهُمْ لِلْعِبَادَةِ، فَأَخْبَرُوا أَوَّلًا بِنَتِيجَةِ الْفِكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا «3» ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمُ النَّارَ بَعْدَ تَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ. وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِ مَنْ يَدْخُلِ النَّارَ وَهُمُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَلَا يتفكرون فِي

_ (1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 194. (2) سورة التحريم: 66/ 8. (3) سورة آل عمران: 3/ 191.

مَصْنُوعَاتِهِ. ثُمَّ ذَكَرُوا أَيْضًا مَا أَنْتَجَ لَهُمُ الْفِكْرُ مِنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ، إِذْ ذَاكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ بَاطِلًا. ثُمَّ سَأَلُوا غُفْرَانَ ذُنُوبِهِمْ وَوَفَاتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ فِي قَوْلِهِمْ: فَآمَنَّا. ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَنْ لَا يَفْضَحَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ هُوَ غَايَةُ مَا سَأَلُوهُ. وَتَكَرَّرَ لَفْظُ رَبَّنَا خَمْسَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْطَافِ وَتَطَلُّبِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِنِدَائِهِ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ الدَّالِّ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْمِلْكِ وَالْإِصْلَاحِ. وَكَذَلِكَ تَكَرَّرَ هَذَا الِاسْمُ فِي قصة آدم ونوح وَغَيْرِهِمَا. وَفِي تَكْرَارِ رَبَّنَا رَبَّنَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِلْحَاحِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَاعْتِمَادِ كَثْرَةِ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالُوا يَقُولُونَ ربنا ربنا حتى استحاب لَهُمْ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَجْمَعَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ خِلَافًا لبعض الصوفية، إذا جاز ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ لا بالدنيا، ولبعض المتصرفة أَيْضًا إِذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَوَلَّى مَنِ اتَّبَعَ الْأَمْرَ «1» وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ وَارْتَفَعَ عَنْهُ كُلَفَ طَلَبَاتِهِ وَدُعَائِهِ. خرج أبو نصر الوابلي السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ» يَعْنِي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنِ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى وَجْهِهِ، ويستفتح قيامه بقراءة هذه الْعَشْرِ آيَاتٍ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالْعَمَلِ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ، وَنَزَلَ آيَاتٌ فِي مَعْنَاهَا فِيهَا ذِكْرُ النِّسَاءِ. وَمَعْنَى اسْتَجَابَ: أَجَابَ، وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي «2» وَنَقَلَ تَاجُ الْقُرَّاءِ أَنَّ أَجَابَ عَامٌّ، واستجاب خَاصٌّ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنِّي عَلَى إِسْقَاطِ الْبَاءِ، أَيْ: بِأَنِّي. وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِأَنِّي بِالْبَاءِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَيَكُونُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، أَوْ عَلَى الْحِكَايَةِ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجَابَ. لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُضِيعُ مِنْ أَضَاعَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: أُضَيِّعُ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ ضَيَّعَ، وَالْهَمْزَةُ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ لِلنَّقْلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

_ (1) سورة. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 186.

كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَا أَتْرُكُ جَزَاءَ عَامِلٍ منكم. ومنكم فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ: كَائِنٍ مِنْكُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، قِيلَ: مِنْ تَبْيِينٌ لِجِنْسِ الْعَامِلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الَّذِي هُوَ ذكر أو أنثى. ومن قِيلَ: زَائِدَةٌ لِتَقَدُّمِ النَّفْيِ فِي الْكَلَامِ. وَقِيلَ: مِنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْعَامِلِ فِي مِنْكُمْ أَيْ: عَامِلٍ كَائِنٍ مِنْكُمْ كَائِنًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَدَلٌ مِنْ مِنْكُمْ، بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ قَدْ أَعَادَ العامل وهو حرف الجر، وَيَكُونُ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا مِنْ مُخَاطَبٍ. وَيُعَكِّرُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا عَطْفُهُ بأو، وَالْبَدَلُ التَّفْصِيلِيُّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ: وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنٍ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ وَيُعَكِّرُ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ مُخَاطَبٍ أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ بَدَلَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ. هَكَذَا أَطْلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْخِلَافَ وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا كَانَ الْبَدَلُ فِيهِ لِإِحَاطَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِذْ ذَاكَ. وَهَذَا التَّقْيِيدُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ «تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا» «1» فَقَوْلُهُ لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: لَنَا. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا فِي مَقَامِنَا ... ثَلَاثَتِنَا حتى أرينا المنائيا فثلاثتنا بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَأَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدَلٌ فِي مَعْنَى التَّوْكِيدِ، وَيَشْهَدُ لِمَذْهَبِ الْأَخْفَشِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وَأَمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَشَوْهَاءُ تَغْدُو بِي إِلَى صَارِخِ الْوَغَى ... بِمُسْتَلْئِمٍ مثل الفنيق المرجل فقريش بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. وبمستلئم بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ تَجِيءُ أَوْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ إِذَا عَطَفَتْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: قَوْمٌ إِذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 114.

يُرِيدُ: وَسَافِعِ. فَكَذَلِكَ يَجُوزُ ذَلِكَ هُنَا فِي أَوْ، أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ عَمَلَ عَامِلٍ دَلَّ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَعَطَفَ عَلَى أحد الجزئين مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَكَّدُ الْعُمُومُ إِلَّا بِعُمُومٍ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْعَطْفِ حَتَّى يُفِيدَ الْمَجْمُوعُ مِنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ تَأْكِيدَ الْعُمُومِ، فَصَارَ نَظِيرَ مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ. لِأَنَّ بَيْنَ لَا تَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَطْفِ مُصَاحِبِ مَجْرُورِهَا. وَمَعْنَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: أَيْ مَجْمَعُ ذُكُورِكُمْ وَإِنَاثِكُمْ أَصْلٌ وَاحِدٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنَ الْآخَرِ أَيْ مِنْ أَصْلِهِ. فَإِذَا كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْأَجْرِ وَتَقَبُّلِ الْعَمَلِ. فَيَكُونُ مِنْ هُنَا تُفِيدُ التَّبْعِيضَ الْحَقِيقِيَّ، وَيُشِيرُ بِذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ الْأَصْلِيِّ إِلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَجْرِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ وَالنُّصْرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ يَجْمَعُهُمْ، كَمَا جَاءَ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الذُّكُورُ مِنَ الْإِنَاثِ، وَالْإِنَاثُ مِنَ الذُّكُورِ، فَكَذَلِكَ الثَّوَابُ. فَكَمَا اشْتَرَكُوا فِي هَذِهِ الْبَعْضِيَّةِ كَذَلِكَ اشْتَرَكُوا فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَمَحْصُولُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ جِيءَ بِهَا لِتَبْيِينِ شَرِكَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْعَامِلِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا وَهُوَ: سُؤَالُ أُمِّ سَلَمَةَ وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ. فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ، ذَكَرَ مَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ السَّنِيَّةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا أَنْ لَا يَضِيعَ عَمَلُهُ، وَأَنْ لَا يُتْرَكَ جَزَاؤُهُ. فَذَكَرَ أَوَّلًا الْهِجْرَةَ وَهِيَ: الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ دِينِهِ فِيهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ أَصْعَبِ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ مُفَارَقَةُ الْمَكَانِ الَّذِي رَبَا فِيهِ وَنَشَأَ مَعَ أَهْلِهِ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَلَوْلَا نَوَازِعُ الْغَوَى الْمُرَبَّى عَلَى وَازِعِ النَّشْأَةِ مَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى لِقَوْلِ الشَّاعِرِ هُمَا لِابْنِ الرُّومِيِّ: وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرجال إليهم ... مآب قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ ... عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَا وَقَالَ ابْنُ الصَّفِيِّ رَفَاعَةُ بْنُ عَاصِمٍ الْفَقْعَسِيُّ: أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ مَا بَيْنَ مَنْعِجٍ ... إِلَيَّ وَسَلْمَى أَنْ يصوب سجابها بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِمِي ... وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا بِهَا طَالَ تجراري ردائي حقبة ... وزينت رَيَّا الْحَجْلِ دَرْمٌ كِعَابُهَا

وَاسْمُ الْهِجْرَةِ وَفَضْلُهَا الْخَاصُّ قَدِ انْقَطَعَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي هَاجَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِخْرَاجَ مِنَ الدِّيَارِ وَهُوَ: أَنَّهُمْ أُلْجِئُوا وَاضْطُرُّوا إِلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إِلْزَامُ الذَّنْبِ لِلْكُفَّارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّمَا أَخْرَجَهُمْ سُوءُ عِشْرَةِ الْكُفَّارِ وَقَبِيحُ أَفْعَالِهِمْ مَعَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ «1» وَإِذَا كَانَ الْخُرُوجُ بِرَأْيِ الْإِنْسَانِ وَقُوَّةٍ مِنْهُ عَلَى الْأَعْدَاءِ جَاءَ الْكَلَامُ بِنِسْبَةِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَقِيلَ: خَرَجَ فُلَانٌ، قَالَ مَعْنَاهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: فَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَارُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ أَنْشَدَهُ. وَرَدَّنِي إِلَى اللَّهِ مَنْ طَرَدْتُهُ كُلَّ مَطْرَدِ فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مَطْرَدٍ» إِنْكَارًا عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْإِذَايَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: فِي دِينِ اللَّهِ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْخَاصِّ وَهِيَ الْهِجْرَةُ وَكَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَنَّى بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ. فَقَدْ يَخْرُجُ إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا كَخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَخُرُوجِ أَبِي جَنْدَلٍ إِذْ لَمْ يُتْرَكْ يُقِيمُ بِالْمَدِينَةِ. وَأَتَى ثَالِثًا بِذِكْرِ الْإِذَايَةِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِإِخْرَاجٍ مِنَ الدِّيَارِ أو غير ذلك من أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَارْتَقَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ السَّنِيَّةِ إِلَى رُتْبَةِ جِهَادِ مَنْ أَخْرَجَهُ وَمُقَاوَمَتِهِ وَاسْتِشْهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ رُتَبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنْ تَنْقِيصِ أَحْوَالِهِ فِي الْحَيَاةِ لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ بِالْمُهَاجَرَةِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِهِ وَإِذَايَتِهِ فِي اللَّهِ، وَمَآلِهِ أَخِيرًا إِلَى إِفْنَائِهِ بِالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ: الْإِخْبَارُ عَنْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا بِالْخَبَرِ الَّذِي بَعْدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ من عطف الصلاة. وَالْمَعْنَى: اخْتِلَافُ الْمَوْصُولِ لَا اتِّحَادُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا، وَالَّذِينَ أُخْرِجُوا، وَالَّذِينَ أُوذُوا، وَالَّذِينَ قَاتَلُوا، وَالَّذِينَ قُتِلُوا، وَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنْ كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا يَبْدَآنِ بِالْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 217.

ثُمَّ بِالْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، فَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ الْوَاوِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ الثَّانِي وَقَعَ أَوَّلًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْزِيعِ فَالْمَعْنَى: قُتِلَ بَعْضُهُمْ وَقَاتَلَ بَاقِيهِمْ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَبَدَأَ بِبِنَاءِ الْأَوَّلِ لِلْفَاعِلِ، وَبِنَاءِ الثَّانِي لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْمَعْنَى، مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْحَالَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُتَعَارَفِ. وَقَرَأَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: وَقَتَلُوا بِفَتْحِ الْقَافِ وَقَاتَلُوا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا بِضَمِّ قَافِ الْأُولَى، وَتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَهِيَ فِي التَّخْرِيجِ كَالْقِرَاءَةِ الْأُولَى. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ: وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ قُطِّعُوا فِي الْمَعْرَكَةِ. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَأُكَفِّرَنَّ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْقَسَمُ وَمَا تَلَقَّى بِهِ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا «1» وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ «2» وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «3» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: جَشَأَتْ فَقُلْتُ اللَّذْ خَشِيتِ لِيَأْتِيَنْ ... وَإِذَا أَتَاكِ فَلَاتَ حِينَ مَنَاصِ رَدٌّ عَلَى أحمد بن يحيى ثعلب إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ لَا تَكُونُ قَسَمِيَّةً. ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ انْتَصَبَ ثَوَابًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ هُوَ الْمُثَابُ بِهِ، كَمَا كَانَ الْعَطَاءُ هُوَ الْمُعْطَى. وَاسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِعْطَاءُ، فَوَضَعَ ثَوَابًا مَوْضِعَ إِثَابَةً، أَوْ مَوْضِعَ تَثْوِيبًا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ فِي مَعْنَى لَأُثِيبَنَّهُمْ. وَنَظِيرُهُ صُنْعَ اللَّهِ وَوَعْدَ اللَّهِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَّاتٍ أَيْ: مُثَابًا بِهَا، أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ «4» أَيْ مُثَابِينَ. وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جَنَّاتٍ عَلَى تَضْمِينِ، وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ مَعْنَى: وَلَأُعْطِيَنَّهُمْ. وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ: يُعْطِيهِمْ ثَوَابًا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ لِي مَعْنَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ هُنَا. وَمَعْنَى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ فَضْلِ اللَّهِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ، لَا يُثِيبُهُ غَيْرُهُ، وَلَا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 195. (2) سورة النحل: 16/ 41. (3) سورة العنكبوت: 29/ 69. (4) سورة آل عمران: 3/ 195.

يَقْدِرُ عَلَيْهِ. كَمَا تَقُولُ عِنْدِي مَا تُرِيدُ، تُرِيدُ اخْتِصَاصَكَ بِهِ وَتَمَلُّكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِكَ. وَأَعْرَبُوا عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَرْتَفِعَ حُسْنُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، إِذْ قَدِ اعْتَمَدَ الظَّرْفُ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا فَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ مُسْتَقِرٌّ، أَوِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ كَيْفَ يُدْعَى، وَكَيْفَ يُبْتَهَلُ إِلَيْهِ وَيُتَضَرَّعُ، وَتَكْرِيرُ رَبَّنَا مِنْ بَابِ الِابْتِهَالِ، وَإِعْلَامٌ بِمَا يُوجِبُ حُسْنَ الْإِجَابَةِ وَحُسْنَ الْإِثَابَةِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي دِينِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى صُعُوبَةِ تَكَالِيفِهِ، وَقَطْعٍ لِأَطْمَاعِ الْكُسَالَى الْمُتَمَنِّينَ عَلَيْهِ، وَتَسْجِيلٍ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الثَّوَابَ مَوْصُولًا إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِالْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ انْتَهَى. وَآخِرُ كَلَامِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَطَعْنٍ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ كَانُوا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ فَيُصِيبُونَ الْأَمْوَالَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ. وَرُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَرَوْنَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءِ وَلِينِ الْعَيْشِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ وَالْجَهْدِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَفْظٌ عَامٌّ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ. فَقِيلَ: لِكُلِّ سَامِعٍ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: نَزَلَتْ لَا يَغُرُّنَّكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزِلَةَ لَا تَظُنَّ أَنَّ حَالَ الْكُفَّارِ حَسَنَةٌ فَتَهْتَمَّ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُغْتَرَّ فَارِحٌ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَغْتَرُّ بِهِ. فَالْكُفَّارُ مُغْتَرُّونَ بِتَقَلُّبِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ مُهْتَمُّونَ بِهِ. لَكِنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ فِي نَفْسِ مُؤْمِنٍ أَنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لِلْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، فَيَجِيءُ هَذَا جُنُوحًا إِلَى حَالِهِمْ، وَنَوْعًا مِنَ الِاغْتِرَارِ، وَلِذَلِكَ حَسُنَتْ لَا يَغُرَّنَّكَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ لِحَفْصَةَ: «لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْمَعْنَى: لا تغتري بما ينم لِتِلْكَ مِنَ الْإِدْلَالِ فَتَقَعِي فِيهِ فَيُطَلِّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَغُرَّنَّكَ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ. أَيْ: لَا تَنْظُرْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَالْمُضْطَرِبِ وَدَرْكِ الْعَاجِلِ وَإِصَابَةِ حُظُوظِ الدُّنْيَا، وَلَا نغترر بِظَاهِرِ مَا تَرَى مِنْ تَبَسُّطِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي الْبِلَادِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَغْتَرَّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَتَّى يُنْهَى عَنْهُ وَعَنِ الِاغْتِرَارِ بِهِ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَدَرَةَ الْقَوْمِ وَمُقَدِّمَهُمْ يُخَاطَبُ بِشَيْءٍ فَيَقُومُ خِطَابُهُ مَقَامَ خِطَابِهِمْ جَمِيعًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ. وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ غَيْرَ مَغْرُورٍ بِحَالِهِمْ، فَأَكَّدَ عَلَيْهِ مَا كَانَ وَثَبَتَ عَلَى الْتِزَامِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ «1» وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «2»

_ (1) سورة هود: 13/ 14. (2) سورة الأنعام: 6/ 14.

فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «1» وَهَذَا فِي النَّهْيِ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْأَمْرِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «2» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «3» وَقَدْ جُعِلَ النَّهْيُ فِي الظَّاهِرِ لِلتَّقَلُّبِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى لِلْمُخَاطَبِ. وَهَذَا مِنْ تَنْزِيلِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ، لِأَنَّ التَّقَلُّبَ لَوْ غَرَّهُ لَاغْتَرَّ بِهِ، فَمَنَعَ السَّبَبَ لِيَمْتَنِعَ الْمُسَبَّبَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، أوله عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّنْبِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ كَمَا قِيلَ: قَدْ يُهَزُّ الْحُسَامُ وَهْوَ حُسَامٌ ... وَيُجَبُّ الْجَوَادُ وَهْوَ جَوَادُ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ: لَا يَغُرَّنْكَ ولا يصدنك ولا يصدنكم ولا يَغُرَّنْكُمْ وَشِبْهَهُ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَتَقَلُّبُهُمْ: هُوَ تَصَرُّفُهُمْ فِي التِّجَارَاتِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ. أَوْ مَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ قَالَهُ: عِكْرِمَةُ، وَمُقَاتِلٌ. أَوْ تَصَرُّفُهُمْ غَيْرَ مَأْخُوذِينَ بِذُنُوبِهِمْ قَالَهُ: بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ أَيْ ذَلِكَ التَّقَلُّبُ وَالتَّبَسُّطِ شَيْءٌ قَلِيلٌ مُتِّعُوا بِهِ، ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. وَقِلَّتُهُ بِاعْتِبَارِ انْقِضَائِهِ وَزَوَالِهِ، وَرُوِيَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» أخرجه التِّرْمِذِيُّ. وَرُوِيَ: «مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ حَارٍّ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا فَاتَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثَّوَابِ. ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ثُمَّ الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ جَهَنَّمُ، وَعَبَّرَ بِالْمَأْوَى إِشْعَارًا بِانْتِقَالِهِمْ عَنِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَقَلَّبُوا فِيهَا وَكَأَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي تَقَلَّبُوا فِيهَا إِنَّمَا كَانَتْ لَهُمْ أَمَاكِنَ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، لَا قَرَارَ لَهُمْ وَلَا خُلُودَ. ثُمَّ الْمَأْوَى الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ. وَبِئْسَ الْمِهادُ أَيْ وَبِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: أُطَوِّفُ مَا أُطَوِّفُ ثُمَّ آوِي ... إِلَى بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لَكَاعِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لَمَّا تَضَمَّنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ التَّقَلُّبَ وَالتَّصَرُّفَ فِي الْبِلَادِ هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَأَنَّهُمْ يَأْوُونَ بَعْدُ إِلَى جَهَنَّمَ،

_ (1) سورة القلم: 68/ 8. (2) سورة الفاتحة: 1/ 5. (3) سورة النساء: 4/ 136.

فَدَلَّ عَلَى قِلَّةِ مَا مُتِّعُوا بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْقَضٍ بِانْقِضَاءِ حَيَاتِهِمْ، وَدَلَّ عَلَى اسْتِقْرَارِهِمْ فِي النَّارِ. استدرك بلكن الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُتَّقِينَ بِمُقَابِلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ وَهِيَ الْجَنَّاتُ، وَالثَّانِي ذِكْرُ الْخُلُودِ فِيهَا وَهُوَ الْإِقَامَةُ دَائِمًا وَالتَّمَتُّعُ بِنَعِيمِهَا سَرْمَدًا. فَقَابَلَ جَهَنَّمَ بِالْجَنَّاتِ، وَقَابَلَ قِلَّةَ مَتَاعِهِمْ بِالْخُلُودِ الَّذِي هُوَ الدَّيْمُومَةُ فِي النَّعِيمِ، فَوَقَعَتْ لَكِنْ هُنَا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، لِأَنَّهُ آلَ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ إِلَى تَكْذِيبِ الْكُفَّارِ وَإِلَى تَنْعِيمِ الْمُتَّقِينَ، فَهِيَ وَاقِعَةٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَكِنْ خَفِيفَةَ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِالتَّشْدِيدِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا عَمَلٌ، لِأَنَّ اسْمَهَا مَبْنِيٌّ. نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النُّزُلُ مَا يُعَدُّ لِلنَّازِلِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالْقَرَى. ويجوز تسكين رايه، وَبِهِ قَرَأَ: الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، ومسلمة بْنُ مُحَارِبٍ، وَالْأَعْمَشُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ خَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزْلَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّزُلُ الثَّوَابُ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، وَالنَّزِيلُ الضَّيْفُ. وَقِيلَ: النُّزُلُ الرِّزْقُ وَمَا يُتَغَذَّى بِهِ. وَمِنْهُ: فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ «2» أَيْ فَغِذَاؤُهُ. وَيُقَالُ: أَقَمْتُ لِلْقَوْمِ نُزُلَهُمْ أَيْ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَجَمْعُهُ أَنْزَالٌ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْأَنْزَالُ الَّتِي سُوِّيَتْ، وَنُزِلَ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: أَيْ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، وَسَمَّاهُ نُزُلًا لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ عَنْهُمْ تَكَالِيفُ السَّعْيِ وَالْكَسْبِ، فَهُوَ شَيْءٌ مُهَيَّأٌ يُهَيَّأُ لَهُمْ لَا تَعَبَ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِهِ هُنَاكَ، وَلَا مَشَقَّةَ. كَالطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلضَّيْفِ لَمْ يَتْعَبْ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَا فِي تَسْوِيَتِهِ وَمُعَالَجَتِهِ. وَانْتِصَابُ نُزُلًا قَالُوا: إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٍ لِتَخَصُّصِهَا بِالْوَصْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِي لَهُمْ. وَإِمَّا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: جَعَلَهَا نُزُلًا. وَإِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَكْرِمَةً، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: رِزْقًا أَوْ عَطَاءً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: انْتَصَبَ عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ لَكَ هِبَةً وَصَدَقَةً انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَالِ. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ظَاهِرُهُ حَوَالَةُ الصِّلَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبْرَارِ أَيْ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَجَاءَ «لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلى الكفار،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 195. (2) سورة الواقعة: 56/ 93. [.....]

أَيْ: خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْكُفَّارُ مِنَ الْمَتَاعِ الزَّائِلِ. وَقِيلَ: خَيْرُ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، كَمَا أَنَّهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وللأبرار متعلق بخير، وَالْأَبْرَارُ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ لِلْأَبْرَارِ خَيْرٌ لَهُمْ، وَهَذَا ذُهُولٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمَجْرُورَ إِذْ ذَاكَ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ الْوَاقِعُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، وَلَا يُخْبَرُ عَنِ الْمَوْصُولِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ صِلَتَهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهَا. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ لَمَّا مَاتَ أصمحة النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ. وَمَعْنَى أصمحة بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةٌ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: «صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ قَائِلٌ: يُصَلَّى عَلَيْهِ الْعِلْجُ النَّصْرَانِيُّ وَهُوَ فِي أَرْضِهِ فَنَزَلَتْ، قَالَهُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عباس، وأنس. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ: فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَبِهِ قَالَ: مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي أَرْبَعِينَ مِنْ نَجْرَانَ، وَاثْنَيْنِ وثلاثين من الحبشة، وثمانية مِنَ الرُّومِ، كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن فِي لَمَنْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً أَيْ: لَقَوْمًا. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ هُوَ كِتَابُهُمْ. خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كَمَا اشْتَرَتْ بِهَا أَحْبَارُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَانْتِصَابُ خَاشِعِينَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤَمِنُ، وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرُونَ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِلَيْهِمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أُنْزِلَ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا يَشْتَرُونَ، وَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ. وَمَنْ جَعْلَ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، يُجَوِّزُ أَنْ يكون خاشعين ولا يَشْتَرُونَ صِفَتَيْنِ لِلنَّكِرَةِ. وَجُمِعَ خَاشِعِينَ عَلَى مَعْنَى مَنْ كَمَا جُمِعَ فِي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُ، فَأُفْرِدَ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَمْلَانِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُبْدَأَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ. وَأَتَى فِي الْآيَةِ بِلَفْظِ يُؤْمِنُ دُونَ آمَنَ، وَإِنْ كَانَ إِيمَانُ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ قَدْ وَقَعَ إِشَارَةً إِلَى الدَّيْمُومَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ. وَوَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ وَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ الْمُنَافِي لِلتَّعَاظُمِ وَالِاسْتِكْبَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ «2» .

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 24. (2) سورة المائدة: 5/ 82.

أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ ثَوَابُ إِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْأَجْرُ مُضَاعَفٌ مَرَّتَيْنِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: / وَأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ يُضَاعَفُ لَهُمُ الثَّوَابُ بِمَا تَضَاعَفَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ. وعند ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ، وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ: أَيْ فِي الْجَنَّةِ. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ سَرِيعُ الْإِتْيَانِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَجْرَهُمْ قَرِيبٌ إِتْيَانُهُ أَوْ سَرِيعٌ حِسَابُهُ لِنُفُوذِ عِلْمِهِ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا لِكُلِّ عَامِلٍ مِنَ الْأَجْرِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَوْفًى. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْوِصَايَةِ الَّتِي جَمَعَتِ الظُّهُورَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ وَالرِّبَاطِ. فَقِيلَ: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي تَكَالِيفِهِ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ، وَرَابِطُوا فِي الثُّغُورِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَيْ: ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ كَمَا يَرْتَبِطُهَا أَعْدَاؤُكُمْ. وَقَالَ أُبَيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هِيَ مُصَابَرَةُ وَعْدِ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، أَيْ: لَا تَسْأَمُوا وَانْتَظِرُوا الْفَرَجَ. وَقِيلَ: رَابِطُوا، اسْتَعِدُّوا لِلْجِهَادِ كَمَا قَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «1» . وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرباط انتظارا الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ مُرَابَطٌ فِيهِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ثَلَاثًا فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ رَابِطُوا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ هُوَ أَنَّ الرِّبَاطَ هُوَ الْمُلَازَمَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مُلَازِمٍ لِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ مُرَابِطًا، فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا، وَاللَّقْطَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرَّبْطِ. وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيهٌ بِالرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِذِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ إِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ مِنَ السُّبُلِ الْمُنْجِيَةِ، وَالرِّبَاطُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ. وَالْمُرَابِطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي يَشْخَصُ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ لِيُرَابِطَ فِيهِ مُدَّةً مَا قَالَهُ: ابْنُ الْمَوَّازِ، وَرَوَاهُ. فَأَمَّا سُكَّانُ الثُّغُورِ دَائِمًا بِأَهْلِيهِمُ الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ هناك فهم وإن

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 60.

كَانُوا حُمَاةً، لَيْسُوا بِمُرَابِطِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ أَيْ غَالِبُوهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْحَرْبِ، لَا تَكُونُوا أَقَلَّ صَبْرًا مِنْهُمْ وَثَبَاتًا. وَالْمُصَابَرَةُ بَابٌ مِنَ الصَّبْرِ، ذُكِرَ بَعْدَ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِشِدَّتِهِ وَصُعُوبَتِهِ. وَرَابِطُوا: وَأَقِيمُوا فِي الثغور رباطين خَيْلَكُمْ فِيهَا مُتَرَصِّدِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «1» وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَابَطَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ كَعِدْلِ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَنْفَتِلُ عَنْ صَلَاتِهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ» انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَفِي مُسْلِمٍ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: «كُلُّ الْمَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ» . وتضمنت هذه الآيات من ضُرُوبِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ الِاسْتِعَارَةَ. عَبَّرَ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَنِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبِالنَّبْذِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ عَنْ تَرْكِ عَمَلِهِمْ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَبِاشْتِرَاءِ ثَمَنٍ قَلِيلٍ عَنْ مَا تَعَوَّضُوهُ مِنَ الْحُطَامِ عَلَى كَتْمِ آيَاتِ اللَّهِ، وَبِسَمَاعِ الْمُنَادِي إِنْ كَانَ الْقُرْآنَ عَنْ مَا تَلَقَّوْهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالِاسْتِجَابَةِ عَنْ قَبُولِ مَسْأَلَتِهِمْ، وَبِانْتِفَاءِ التَّضْيِيعِ عَنْ عَدَمِ مُجَازَاتِهِ عَلَى يَسِيرِ أَعْمَالِهِمْ، وَبِالتَّقَلُّبِ عَنْ ضَرْبِهِمْ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْمَكَاسِبِ، وَبِالْمِهَادِ عَنِ الْمَكَانِ المستقر فيه، وبالنزل عَمَّا يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَبِالْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ تَهَدُّمُ الْمَكَانِ وَتَغَيُّرُ مَعَالِمِهِ عَنْ خُضُوعِهِمْ وَتَذَلُّلِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبِالسُّرْعَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَشْيِ عَنْ تَعْجِيلِ كَرَامَتِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحِسَابُ اسْتُعِيرَ لِلْجَزَاءِ، كَمَا اسْتُعِيرَ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ «2» لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُقَامُ لَهُمْ حِسَابٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «3» وَالطِّبَاقَ في: لتبيينه لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، وَفِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالسَّمَاءُ جِهَةُ الْعُلُوِّ وَالْأَرْضُ جِهَةُ السُّفْلِ، وَاللَّيْلُ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّلْمَةِ وَالنَّهَارُ عِبَارَةٌ عَنِ النُّورِ، وَفِي: قِيَامًا وقعودا ومن: ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَالتَّكْرَارَ: فِي لَا تَحْسَبَنَّ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ، وَفِي: رَبَّنَا فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ، وَفِي: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا إِنْ كَانَ الْمَعْنَى واحدا

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 60. (2) سورة الحاقة: 69/ 26. (3) سورة الكهف: 18/ 105.

وَفِي: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَفِي: ثوابا وحسن لثواب. وَالِاخْتِصَاصَ فِي: لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَفِي: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، وفي: توفنا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَفِي: وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ. وَالتَّجْنِيسَ الْمُمَاثِلَ فِي: أن آمنوا فَآمَنَّا، وَفِي: عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ. وَالْمُغَايِرَ فِي: مُنَادِيًا يُنَادِي. وَالْإِشَارَةَ فِي: مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا، وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ.

سورة النساء

سورة النّساء [سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

الرَّقِيبُ: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْبًا وَرُقُوبًا وَرِقْبَانًا، أَحَدَّ النَّظَرَ إِلَى أَمْرٍ لِيَتَحَقَّقَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَيَقْتَرِنُ بِهِ الْحِفْظُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّذِي يَرْقُبُ خُرُوجَ السَّهْمِ: رَقِيبٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِ أَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ وَالرَّقِيبُ: السَّهْمُ الثَّالِثُ مِنَ السَّبْعَةِ الَّتِي لَهَا أَنْصِبَاءُ. وَالرَّقِيبُ: ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْمَرْقَبُ: الْمَكَانُ الْعَالِي الْمُشْرِفُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الرَّقِيبُ. وَالِارْتِقَابُ: الِانْتِظَارُ. الْحُوبُ: الْإِثْمُ. يُقَالُ: حَابَ يَحُوبُ حَوْبًا وَحُوبًا وَحَابًا وَحُؤُوبًا وَحِيَابَةً. قَالَ: الْمُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ. فَلَا يُدْخِلَنِّي الدَّهْرُ قَبْرَكَ حُوبُ ... فَإِنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ وَقَالَ آخَرُ: وَإِنْ تُهَاجِرِينَ تَكْفُفَاهُ ... غِرَايَتَهُ لَقَدْ خَطَيَا وَحَابَا وَقِيلَ: الْحَوْبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمَصْدَرُ وَبِضَمِّهَا الِاسْمُ، وَتَحَوَّبَ الرَّجُلُ أَلْقَى الْحُوبَ عَنْ نَفْسِهِ كَتَحَنَّثَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ. وَفُلَانٌ يَتَحَوَّبُ مِنْ كَذَا يَتَوَقَّعُ. وَأَصْلُ الْحُوبِ: الزَّجْرُ لِلْإِبِلِ، فَسُمِّيَ الْإِثْمُ حُوبًا لِأَنَّهُ يُزْجَرُ عَنْهُ، وَبِهِ الْحَوْبَةُ الْحَاجَةُ، وَمِنْهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْكَ أَرْفَعُ حَوْبَتِي. وَيُقَالُ: أَلْحَقَ اللَّهُ بِهِ الْحَوْبَةَ أَيِ الْمَسْكَنَةَ وَالْحَاجَةَ. مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ: مَعْدُولَةٌ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. وَلَا يُرَادُ بِالْمَعْدُولِ عَنْهُ التَّوْكِيدُ، إِنَّمَا يُرَادُ بِذَلِكَ تَكْرَارُ الْعَدَدِ إِلَى غَايَةِ الْمَعْدُودِ. كَقَوْلِهِ: وَنَفَرُوا بَعِيرًا بَعِيرًا، وَفَصَّلْتُ الْحِسَابَ لَكَ بَابًا بَابًا، وَيُتَحَتَّمُ مَنْعُ صَرْفِهَا لِهَذَا الْعَدْلِ. وَالْوَصْفِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تُصْرَفَ، وَمَنْعُ الصَّرْفِ عِنْدَهُ أَوْلَى. وَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَهُ الْعَدْلُ وَالتَّعْرِيفُ بِنِيَّةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَامْتَنَعَ عِنْدَهُ إِضَافَتُهَا لِأَنَّهَا فِي نِيَّةِ

الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَامْتَنَعَ ظُهُورُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لِأَنَّهَا فِي نِيَّةِ الْإِضَافَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا مُنِعَتِ الصَّرْفَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعَدْلَيْنِ: عَدْلِهَا عَنْ صِيغَتِهَا، وَعَدْلِهَا عَنْ تَكْرِيرِهَا. وَهِيَ نَكِرَاتٌ تَعَرَّفْنَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْكِحُ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثَ وَالرُّبَاعَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنِ امْتِنَاعِ الصرف لما فيها من الْعَدْلَيْنِ: عَدْلِهَا عَنْ صِيغَتِهَا، وَعَدْلِهَا عَنْ تَكَرُّرِهَا، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، بَلِ الْمَذَاهِبُ فِي عِلَّةِ مَنْعِ الصَّرْفِ الْمَنْقُولَةُ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَالثَّانِي: مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَالثَّالِثُ: مَا نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَهُوَ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنِ اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وَأَرْبَعَةٍ أَرْبَعَةٍ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ التَّأْنِيثِ. وَالرَّابِعُ: مَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الصَّرْفِ هِيَ تَكْرَارُ الْعَدْلِ فِيهِ، لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ اثْنَيْنِ وَعَدَلَ عَنْ مَعْنَاهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعٍ تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْأَعْدَادُ غَيْرُ الْمَعْدُولَةِ تَقُولُ: جَاءَنِي اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ، وَلَا يَجُوزُ: جَاءَنِي مَثْنَى وَثُلَاثٌ حَتَّى يَتَقَدَّمَ قَبْلَهُ جَمْعٌ، لِأَنَّ هَذَا الْبَابَ جُعِلَ بَيَانًا لِتَرْتِيبِ الْفِعْلِ. فَإِذَا قَالَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى، أَفَادَ أَنَّ تَرْتِيبَ مَجِيئِهِمْ وَقَعَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. فَأَمَّا الْأَعْدَادُ غَيْرُ الْمَعْدُولَةِ فَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهَا الْإِخْبَارُ عَنْ مِقْدَارِ المعدودون غَيْرِهِ. فَقَدْ بَانَ بِمَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَقُومَ الْعِلَّةُ مَقَامَ الْعِلَّتَيْنِ لِإِيجَابِهِمَا حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ انْتَهَى مَا قُرِّرَ بِهِ هَذَا الْمَذْهَبُ. وَقَدْ رَدَّ النَّاسُ عَلَى الزَّجَّاجِ قَوْلَهُ: أَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ التَّأْنِيثِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، والزمخشري لَمْ يَسْلُكْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعِلَلِ الْمَنْقُولَةِ، فَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَهُ سَلَفٌ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ تَبِعَهُ، وَإِلَّا فَيَكُونُ مِمَّا انْفَرَدَ بِمَقَالَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُعَرَّفْنَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْكِحُ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثَ وَالرُّبَاعَ، فَهُوَ مُعْتَرَضٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زَعْمُهُ أَنَّهَا تُعَرَّفُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، بَلْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا نَكِرَاتٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَثَّلَ بِهَا، وَقَدْ وَلِيَتِ الْعَوَامِلَ فِي قَوْلِهِ: فُلَانٌ يَنْكِحُ الْمَثْنَى، وَلَا يَلِي الْعَوَامِلَ، إِنَّمَا يَتَقَدَّمُهَا مَا يَلِي الْعَوَامِلَ، وَلَا تَقَعُ إِلَّا خَبَرًا كَمَا جَاءَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى» . أَوْ حَالًا نَحْوَ: مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى «1» أَوْ صِفَةً نَحْوَ: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «2» وقوله:

_ (1) سورة النساء: 4/ 3. (2) سورة فاطر: 35/ 1.

ذئاب يبغي النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدَا وَقَدْ تَجِيءُ مُضَافَةً قَلِيلًا نَحْوَ، قَوْلِ الْآخَرِ: بِمَثْنَى الزِّقَاقِ الْمُتْرَعَاتِ وَبِالْجُزُرْ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَلِي الْعَوَامِلَ عَلَى قِلَّةٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ ... أَدَارَ سُدَاسَ أَنْ لَا يَسْتَقِيمَا وَمِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْمَعْدُولِ أَنَّهُ لَا يُؤَنَّثُ، فَلَا تَقُولُ: مَثْنَاةٌ، وَلَا ثُلَاثَةٌ، وَلَا رُبَاعَةٌ، بَلْ يَجْرِي بِغَيْرِ تَاءٍ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. عَالَ: يَعُولُ عَوْلًا وَعِيَالَةً، مَالَ. وَمِيزَانُ فُلَانٍ عَائِلٌ. وَعَالَ الْحَاكِمُ فِي حُكْمِهِ جَارَ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ كَثُرَ عِيَالُهُ. وَيُقَالُ: عَالَ يَعِيلُ افْتَقَرَ وَصَارَ عَالَةً. وَعَالَ الرَّجُلُ عياله يعولهم ما نهم وَمِنْهُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَالْعَوْلُ فِي الْفَرِيضَةِ مُجَاوَزَتُهُ لِحَدِّ السِّهَامِ الْمُسَمَّاةِ. وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي عَالَ: أَنَّهَا تَكُونُ لَازِمَةً وَمُتَعَدِّيَةً. فَاللَّازِمَةُ بِمَعْنَى: مَالَ، وَجَارَ، وَكَثُرَ عِيَالُهُ، وَتَفَاقَمَ، وَهَذَا مُضَارِعُهُ يَعُولُ. وَعَالَ الرَّجُلُ افْتَقَرَ، وَعَالَ فِي الْأَرْضِ ذَهَبَ فِيهَا، وَهَذَا مُضَارِعُهُ يَعِيلُ. وَالْمُتَعَدِّيَةُ بِمَعْنَى أثقل، ومان من المئونة. وَغَلَبَ مِنْهُ أُعِيلَ صَبْرِي وَأُعْجِزَ. وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَعْجَزَ فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، تَقُولُ: عَالَنِي الشَّيْءُ يعيلي عَيْلًا وَمَعِيلًا أَعْجَزَنِي، وَبَاقِي الْمُتَعَدِّي مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. الصَّدُقَةُ عَلَى وَزْنِ سَمُرَةٍ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَسْكُنُ الدَّالُ، وَضَمُّهَا وَفَتْحُ الصَّادِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَيُقَالُ: صَدْقَةٌ بِوَزْنِ غَرْفَةٍ. وَتُضَمُّ دَالُهُ فَيُقَالُ: صَدُقَةٌ وَأَصْدَقَهَا أَمْهَرَهَا. النِّحْلَةُ: الْعَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. وَالنِّحْلَةُ الشِّرْعَةُ، وَنِحْلَةُ الْإِسْلَامِ خَيْرُ النِّحَلِ. وَفُلَانٌ يَنْحَلُ بِكَذَا أَيْ يَدِينُ بِهِ. هَنِيئًا مَرِيئًا: صِفَتَانِ مِنْ هَنُؤَ الطَّعَامُ وَمَرُؤَ، إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ. وَيُقَالُ: هَنَا يَهْنَا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَهَنَّأَنِي الطَّعَامُ وَمَرَّأَنِي، فَإِذَا لَمْ تَذْكُرْ هَنَّأَنِي قُلْتَ: أَمْرَأَنِي رُبَاعِيًّا، وَاسْتُعْمِلَ مَعَ هَنَّأَنِي ثُلَاثِيًّا لِلْإِتْبَاعِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَنِيئًا مَرِيئًا صِفَتَانِ نَصَبُوهُمَا نَصْبَ الْمَصَادِرِ الْمَدْعُوِّ

بِهَا بِالْفِعْلِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ إِظْهَارُهُ الْمُخْتَزَلِ، لِلدَّلَالَةِ الَّتِي فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ ذَلِكَ هَنِيئًا مَرِيئًا انْتَهَى. وَقَالَ كُثَيِّرٌ: هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعِزَّةٍ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ قِيلَ: وَاشْتِقَاقُ الْهَنِيءِ مِنْ هِنَاءِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ مِنَ الْجَرَبِ، وَيُوضَعُ فِي عَقْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مُتَبَذِّلٌ تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقَبِ وَالْمَرِيءُ مَا يُسَاغُ فِي الْحَلْقِ، وَمِنْهُ قِيلٌ لِمَجْرَى الطَّعَامِ فِي الْحُلْقُومِ إِلَى فَمِ الْمَعِدَةِ: الْمَرِيءُ. آنَسَ كَذَا أَحَسَّ بِهِ وَشَعَرَ. قَالَ: آنَسْتُ شَاةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّاصُ عصرا وقددنا الْإِمْسَاءُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَدَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلِمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَبْصَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَرَفَ. وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. السَّدِيدُ مِنَ الْقَوْلِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْحَقِّ مِنْهُ: أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي الْمَعْنَى: لَمَّا وَافَقَ الْأَغْرَاضَ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا. صَلَى بِالنَّارِ تَسَخَّنَ بِهَا، وَصَلَيْتُهُ أَدْنَيْتُهُ مِنْهَا. التَّسْعِيرُ: الْجَمْرُ الْمُشْتَعِلُ مِنْ سَعَّرْتُ النَّارَ أَوْقَدْتُهَا، وَمِنْهُ مِسْعَرُ حَرْبٍ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «1» . وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ عِنْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْتَهَى. وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «2» . وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ «3» عَلَى الْمُجَازَاةِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي أَصْلِ التَّوَالُدِ، نَبَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى إِيجَادِ الْأَصْلِ، وَتَفَرُّعِ الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْهُ لِيَحُثَّ عَلَى التَّوَافُقِ وَالتَّوَادِّ وَالتَّعَاطُفِ وعدم

_ (1) سورة النساء: 4/ 58. (2) سورة النساء: 4/ 176. (3) سورة آل عمران: 3/ 195.

الِاخْتِلَافِ، وَلِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُفْرِدَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى، طَائِعًا لَهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فُرُوعُهُ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهُ. فَنَادَى تَعَالَى: دُعَاءً عَامًّا لِلنَّاسِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَجَعَلَ سَبَبًا لِلتَّقْوَى تَذْكَارَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ أَوْجَدَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِيجَادِ الْغَرِيبِ الصُّنْعِ وَإِعْدَامِ هَذِهِ الْأَشْكَالِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّقَى. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى مَا هُوَ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ مِنْ مَيْلِ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ إِلَى بَعْضٍ، وَإِلْفِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ عِبَادَهُ عَلَى تَقْوَاهُ. وَالظَّاهِرُ فِي النَّاسِ: الْعُمُومُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ تُفِيدُهُ، وَلِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَلِلْعِلَّةِ، إِذْ لَيْسَا مَخْصُوصَيْنِ بَلْ هُمَا عَامَّانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ مَكَّةَ، كَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَنْظُرُ إِلَى قوله: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «1» لِأَنَّ الْعَرَبَ هُمُ الَّذِينَ يَتَسَاءَلُونَ بِذَلِكَ. يَقُولُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «2» وَقَوْلِهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ إِذَا كان الخطاب والنداء بيا أيها النَّاسُ وَكَانَ لِلْكَفَرَةِ فَقَطْ، أَوْ لَهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ أَعْقَبَ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِاللَّهِ، فَنُبِّهُوا عَلَى الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ لِأَنْ يَعْرِفُوا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ «3» يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «4» وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ أُعْقِبَ بِذِكْرِ النِّعَمِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ. قِيلَ: وَجَعَلَ هَذَا الْمَطْلَعَ مَطْلَعًا لِسُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: هَذِهِ وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِيَةُ: سُورَةُ الْحَجِّ، وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي. وَعَلَّلَ هُنَا الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَهُنَاكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ. وَبَدَأَ بِالْمَبْدَأِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنَّهَا تَقْوَى عَامَّةٌ فِيمَا يُتَّقَى مِنْ مُوجِبِ الْعِقَابِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِاجْتِنَابِ مَا جَاءَ فِيهِ الْوَعِيدُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالتَّقْوَى تَقْوَى خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يَتَّقُوهُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِحِفْظِ الْحُقُوقِ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَقْطَعُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَصْلُهُ. فَقِيلَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي وَصَلَ بَيْنَكُمْ بِأَنْ جَعَلَكُمْ صِنْوَانًا مُفَرَّعَةً مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا يَجِبُ لِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلِبَعْضٍ، فَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُطَابِقٌ لِمَعَانِي السُّورَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى الطَّاعَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَشْيَةُ. وقيل: اجتناب

_ (1) سورة النساء: 4/ 1. (2) سورة الحجرات: 49/ 10. (3) سورة فاطر: 35/ 5. [.....] (4) سورة البقرة: 2/ 21.

الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ آدَمُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاحِدَةٍ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَاحِدٍ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ، أَوْ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَجَاءَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَى تَذْكِيرِ النَّفْسِ. وَمَعْنَى الْخَلْقِ هُنَا: الِاخْتِرَاعُ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِلَى عِرْقِ الثَّرَى وَشَجَتْ عروقي ... وهذا الموت يسلبني شَبَابِي قَالَ: فِي رَيِّ الظَّمْآنِ، وَدَلَّتِ الْإِضَافَةُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ الرَّاجِعُ إِلَى التَّوَالُدِ وَالتَّعَاقُبِ وَالتَّتَابُعِ. وَعَلَى أَنَّا لَسْنَا فِيهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الدَّهْرِيَّةِ، وَإِلَّا لَقَالَ: أَخْرَجَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَأَضَافَ خَلْقَنَا إِلَى آدَمَ، وَإِنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ كُنَّا مِنْ نُطْفَةٍ وَاحِدَةٍ حَصَلَتْ بِمَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَلَكِنَّهُ الْأَصْلُ انْتَهَى. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ السَّمْعُ. وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا مَا قَرَأَ كِتَابًا، كَانَ مَعْنَى خَلَقَكُمْ دَلِيلًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْمُفَاخَرَةِ وَالْكِبْرِ، لِتَعْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَدَلَالَةٌ عَلَى الْمَعَادِ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِخْرَاجِ أَشْخَاصٍ مُخْتَلِفِينَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَقُدْرَتُهُ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بطريق الأولى. وزوجها: هِيَ حَوَّاءُ. وَظَاهِرٌ مِنْهَا ابْتِدَاءُ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ أَصْلُهَا الَّذِي اخْتُرِعَتْ وَأُنْشِئَتْ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والسدّي. وقتادة قَالُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَحْشًا فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهُ، ثُمَّ نَامَ فَانْتَزَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَ أَضْلَاعِهِ الْقُصْرَى مِنْ شِمَالِهِ. وقيل: من يمينه، فحلق مِنْهَا حَوَّاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُعَضِّدُ هَذَا الْقَوْلَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» . انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لِاضْطِرَابِ أَخْلَاقِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ لَا يَثْبُتْنَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ: صَعْبَاتُ الْمِرَاسِ، فَهِيَ كَالضِّلْعِ الْعَوْجَاءِ كَمَا جَاءَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ، فَأَتَى بِالْجِنْسِ وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ حَوَّاءَ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا قَالَهُ: ابْنُ بَحْرٍ وَأَبُو مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «1» ورَسُولًا مِنْهُمْ «2» . قَالَ الْقَاضِي: الْأَوَّلُ أَقْوَى، إِذْ لَوْ كَانَتْ حَوَّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِدَاءً لَكَانَ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 11. (2) سورة البقرة: 2/ 129.

النَّاسُ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسَيْنِ لَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ وَقَعَ بِآدَمَ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا حَذْفَ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا، لَيْسَ عَائِدًا عَلَى نَفْسٍ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الطِّينَةِ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْ طِينَةِ آدَمَ. وَخُلِقَتْ مِنْهَا حَوَّاءُ أَيْ: أَنَّهَا خُلِقَتْ مِمَّا خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تقدم: أنها خلقت وآدم فِي الْجَنَّةِ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: قَبْلَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ وَبِهِ قَالَ: كعب الأحبار ووهب، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَجَاءَتِ الْوَاوُ فِي عَطْفِ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى أَحَدِ مَحَامِلِهَا، مِنْ أَنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ النَّاسِ. إِذِ الْوَاوِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبٍ زَمَانِيٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصِّلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهَا وَاقِعًا بَعْدَ خَلْقِ حَوَّاءَ، لِأَجْلِ أَنَّهُمُ الْمُنَادَوْنَ الْمَأْمُورُونَ بِتَقْوَى رَبِّهِمْ. فَكَانَ ذِكْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِمْ أَوَّلًا آكَدَ، وَنَظِيرُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «1» وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَهُمْ تَأَخَّرَ عَنْ خَلْقِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا هُمُ الْمَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُنَادَيْنَ لِأَجْلِهَا، اعْتَنَى بِذِكْرِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِنْشَائِهِمْ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ إِنْشَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَقَدْ تَكَلَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِقْرَارِ مَا عُطِفَ بِالْوَاوِ مُتَأَخِّرًا عَنْ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، فَقَدَّرَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مَحْذُوفًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَعْطُوفِ فِي الزَّمَانِ، فَقَالَ: يُعْطَفُ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهَا أَوِ ابْتَدَأَهَا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: شُعَبُكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا، وَهِيَ أَنَّهُ أَنْشَأَهَا مِنْ تُرَابٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ مَسَاغِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْعَرَبِيَّةُ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: يُعْطَفُ عَلَى خَلَقَكُمْ. وَيَكُونُ الخطاب فِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ الْمُفَرَّعِ مِنْهُ، وَخَلَقَ مِنْهَا أُمَّكُمْ حَوَّاءَ انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ وَاحِدَةٍ التَّقْدِيرُ مِنْ نَفْسٍ وَحَدَتْ، أَيِ انْفَرَدَتْ. وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، فَيَكُونُ نَظِيرَ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ «2» وَتَقُولُ الْعَرَبُ: وَحَدَ يَحِدُ وَحْدًا وَوَحْدَةً، بِمَعْنَى انْفَرَدَ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ عَنَى بِالنَّفْسِ الرُّوحَ الْمَذْكُورَةَ فِيمَا قِيلَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَامِ بِكَذَا وَكَذَا سَنَةً» وَعَنَى بِزَوْجِهَا الْبَدَنَ، وعنى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 21. (2) سورة الصافات: 37/ 19.

بِالْخَلْقِ التَّرْكِيبَ. وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «1» وَقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ «2» وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي النَّبَاتِ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّرْكِيبِ. وَبَدَأَ بِذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ تَرْكِيبٍ، وَالْوَاحِدُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى نَقْصِهَا وَكَمَالِهَا، لِكَوْنِهَا بَعْضَهُ. وَبَثَّ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ، وَزَوْجِهَا أَيْ: نَشَرَ وَفَرَّقَ فِي الْوُجُودِ. وَيُقَالُ: أَبَثُّ اللَّهُ الْخَلْقَ رُبَاعِيًّا، وَبَثَّ ثُلَاثِيًّا، وَهُوَ الْوَارِدُ فِي الْقُرْآنِ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً. قِيلَ: نَكَّرَ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الشُّيُوعِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالشُّيُوعِ حَتَّى صَرَّحَ بِالْكَثْرَةِ وَقَدَّمَ الرِّجَالِ لِفَضْلِهِمْ عَلَى النِّسَاءِ، وَخَصَّ رِجَالًا بِذِكْرِ الْوَصْفِ بِالْكَثْرَةِ، فَقِيلَ: حَذَفَ وَصْفَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ وَصْفِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنِسَاءً كَثِيرَةً. وَقِيلَ: لَا يُقَدَّرُ الْوَصْفُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ نَبَّهَ بِخُصُوصِيَّةِ الرِّجَالِ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِهِمُ الِاشْتِهَارُ وَالْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ، وَاللَّائِقَ بِحَالِ النِّسَاءِ الْخُمُولُ وَالِاخْتِفَاءُ. وَفِي تَنْوِيعِ مَا خَلَقَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ إِلَى رِجَالٍ وَنِسَاءٍ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُنْثَى، إِذْ حَصَرَ مَا خَلَقَ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا ظَاهِرُهُ الْإِشْكَالُ فَلَا بُدَّ مِنْ صَيْرُورَتِهِ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. وقرىء: وخالق منها زوجها، وبات عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تقديره وَهُوَ خَالِقٌ. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ. وَقِيلَ: لِاخْتِلَافِ التَّعْلِيلِ وَذَكَرَ أَوَّلًا: الرَّبَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَثَانِيًا: اللَّهَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَهْرِ وَالْهَيْبَةِ. بَنَى أَوَّلًا عَلَى التَّرْغِيبِ، وَثَانِيًا عَلَى التَّرْهِيبِ. كَقَوْلِهِ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً «3» ويَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً «4» كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ رَبُّكَ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَاتَّقِ مُخَالَفَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تَتَّقِهِ لِذَلِكَ فَاتَّقِهِ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: تَسَّاءَلُونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ تَتَسَاءَلُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَذَفُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ تَخْفِيفًا، وَهَذِهِ تَاءُ تَتَفَاعَلُونَ تُدْغَمُ فِي لُغَةٍ وَتُحْذَفُ فِي أُخْرَى لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْمُتَقَارِبَةُ خُفِّفَتْ بِالْحَذْفِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِبْدَالِ، كَمَا قَالُوا: طَسْتٌ فَأَبْدَلُوا مِنَ السِّينِ الْوَاحِدَةِ تَاءً، إِذِ الْأَصْلُ طَسٌّ. قَالَ العجاج:

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 49. (2) سورة يس: 36/ 36. (3) سورة السجدة: 32/ 16. (4) سورة الأنبياء: 21/ 90.

لَوْ عَرَضَتْ لِأَسْقُفِيٍّ قَسِّ ... أَشْعَثَ فِي هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ حَنَّ إِلَيْهَا كَحَنِينِ الطَّسِّ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: حَذَفُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ فَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَذَهَبَ هِشَامُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ الْكُوفِيُّ: إِلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَةَ هِيَ الْأُولَى، وَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ ذُكِرَتْ دَلَائِلُهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذِهِ تَاءُ تَتَفَاعَلُونَ تُدْغَمُ فِي لُغَةٍ وَتُحْذَفُ فِي أُخْرَى، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى الْإِثْبَاتِ، إِذْ يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِدْغَامُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَصْلِ، إِذْ لَمْ يَذْهَبِ الْحَرْفُ إِلَّا بِأَنْ أُبْدِلَ مِنْهُ مُمَاثِلُ مَا بَعْدَهُ وَأُدْغِمَ. وَالْحَذْفُ، لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ اخْتِصَاصُ الْإِدْغَامِ والحذف بتتفاعلون، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَمَّا الْإِدْغَامُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ، بَلْ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَالْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا الْحَذْفُ فَيَخْتَصُّ بِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ التَّاءُ مِنَ الْمُضَارِعِ، فَقَوْلُهُ: لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ ظَاهِرُهُ تَعْلِيلُ الْحَذْفِ فَقَطْ لِقُرْبِهِ، أَوْ تَعْلِيلُ الْحَذْفِ وَالْإِدْغَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَمَّا إِنْ كَانَ تَعْلِيلًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْحَذْفُ عِلَّةُ اجْتِمَاعٍ مُتَمَاثِلَةٌ لَا مُتَقَارِبَةٌ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ تَعْلِيلًا لَهُمَا فَيَصِحُّ الْإِدْغَامُ لَا الْحَذْفُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الْمُتَقَارِبَةُ فَكَذَا، فَلَا يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَازِمٌ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ التَّخْفِيفُ بِكَذَا، فَكَمْ وُجِدَ مِنِ اجْتِمَاعِ مُتَقَارِبَةٍ لَمْ يُخَفَّفْ لَا بِحَذْفٍ وَلَا إِدْغَامٍ وَلَا بَدَلٍ. وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِطَسْتٍ فِي طَسٍّ فَلَيْسَ الْبَدَلُ هُنَا لِاجْتِمَاعٍ، بَلْ هَذَا مِنِ اجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ كَقَوْلِهِمْ فِي لِصٍّ لَصْتٌ. وَمَعْنَى يَتَسَاءَلُونَ بِهِ: أَيْ يَتَعَاطَوْنَ بِهِ السُّؤَالَ، فَيَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. أَوْ يَقُولُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ، وَظَاهِرُ تَفَاعَلَ الِاشْتِرَاكُ أَيْ: تَسْأَلُهُ بِاللَّهِ، وَيَسْأَلُكَ بِاللَّهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَاهُ تَسْأَلُونَ بِهِ حُقُوقَكُمْ وَتَجْعَلُونَهُ مُعَظَّمًا لَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: تَسْأَلُونَ بِهِ مضارع سأل الثلاثي. وقرى: تَسَلُونَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السِّينِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى تَسَاءَلُونَ بِهِ أَيْ تَتَعَاطَفُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: تَتَعَاقَدُونَ وَتَتَعَاهَدُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَتَطَلَّبُونَ بِهِ حُقُوقَكُمْ وَالْأَرْحَامَ. قَرَأَ جُمْهُورُ: السَّبْعَةِ بِنَصْبِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِجَرِّهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَالْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: بِضَمِّهَا، فَأَمَّا النَّصْبُ فَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ.

وَالْجَامِعُ بَيْنَ تَقْوَى اللَّهِ وَتَقْوَى الْأَرْحَامِ هَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَى التَّقَوَيَيْنِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَاتِّقَاءَ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تُوصَلَ وَلَا تُقْطَعَ فِيمَا يَفْضُلُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَبِالْحَمْلِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْقَاضِي: كَيْفَ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ؟ وَنَقُولُ أَيْضًا إِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيِ اتَّقَوُا مُخَالَفَةَ اللَّهِ. وَفِي عَطْفِ الْأَرْحَامِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ قَطْعِ الرَّحِمِ، وَانْظُرْ إِلَى قَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى «1» كَيْفَ قَرَنَ ذَلِكَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَبِرُّ؟ قَالَ: أَمَّكَ وَفِيهِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ مَنْ أَضَلَّهُ: مِنَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «2» . وَقِيلَ: النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ بِهِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرَتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا. لَمَّا لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الْإِتْبَاعِ عَلَى اللَّفْظِ أُتْبِعَ عَلَى مَوْضِعِهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ. أَمَّا الرَّفْعُ فَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَرْحَامُ أَهْلٌ أَنْ تُوصَلَ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَّقَى، أَوْ مِمَّا يُتَسَاءَلُ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ أَحْسَنُ مِنْ تَقْدِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، إِذْ قَدَّرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ السَّابِقُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَدَّرَ مِنَ الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْجَرُّ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَعَلَى هَذَا فَسَّرَهَا الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَبِالْأَرْحَامِ. وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالرَّحِمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ يَعْنِي: الْجَرَّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ. قَالَ: لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ مُتَّصِلٌ كَاسْمِهِ، وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَانَا فِي قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ وَزَيْدٍ، وَهَذَا غُلَامُهُ وَزَيْدٍ شَدِيدِي الِاتِّصَالِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الِاتِّصَالُ لِتَكَرُّرِهِ اشْتَبَهَ الْعَطْفُ عَلَى بَعْضِ الْكَلِمَةِ فَلَمْ يُجَرَّ، وَوَجَبَ تَكْرِيرُ الْعَامِلِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ وَبِزَيْدٍ، وَهَذَا غُلَامُهُ وَغُلَامُ زَيْدٍ. أَلَا تَرَى إِلَى صِحَّةِ رَأَيْتُكَ وَزَيْدًا، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمَّا لَمْ يَقْوَ الِاتِّصَالُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ؟ وَقَدْ تَمَحَّلَ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْجَارِّ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ القراءة عند رؤساء نحويين الْبَصْرَةِ لَا تَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعْطَفَ ظَاهِرٌ عَلَى مُضْمَرٍ مَخْفُوضٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ عَنِ المازني: لأن المعطوف

_ (1) سورة البقرة: 2/ 83. (2) سورة البقرة: 2/ 27.

وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ شَرِيكَانِ، يَحِلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلَّ صَاحِبِهِ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ مررت بزيدوك، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِكَ وَزَيْدٍ. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَهِيَ عِنْدَهُ قَبِيحَةٌ لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كما قال: فاليوم قدبت تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وَكَمَا قَالَ: تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا ... وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَفُّ غَوْطٌ تَعَانَفُ وَاسْتَسْهَلَهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَتَعْلِيلُ الْمَازِنِيِّ مُعْتَرَضٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: رَأَيْتُكَ وَزَيْدًا، ولا يجوز رأيت زيداوك، فَكَانَ الْقِيَاسُ رَأَيْتُكَ وَزَيْدًا، أَنْ لَا يَجُوزَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: الْمُضْمَرُ الْمَخْفُوضُ لَا يَنْفَصِلُ، فَهُوَ كَحَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَى حَرْفٍ. وَيَرُدُّ عِنْدِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمَعْنَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذِكْرَ الْأَرْحَامِ مِمَّا تَسَاءَلَ بِهِ لَا مَعْنَى لَهُ فِي الْحَضِّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْأَرْحَامَ يُتَسَاءَلُ بِهَا، وَهَذَا تَفْرِيقٌ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ. وَغَضٌّ مِنْ فَصَاحَتِهِ، وَإِنَّمَا الْفَصَاحَةُ فِي أَنْ تَكُونَ فِي ذِكْرِ الْأَرْحَامِ فَائِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي ذِكْرِهَا عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيرَ التَّسَاؤُلِ بِهَا وَالْقَسَمِ بِحُرْمَتِهَا، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَرُدُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي وَالْأَرْحَامَ وَاوُ الْقَسَمِ لَا وَاوُ الْعَطْفِ، وَالْمُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ هِيَ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ. وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى مَا جَاءَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَهَبُوا إِلَى تَخْرِيجِ ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَذَهَابًا إِلَى أَنَّ فِي الْقَسَمِ بِهَا تَنْبِيهًا عَلَى صِلَتِهَا وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول يَأْبَاهُ نَظْمُ الْكَلَامِ وَسِرُّهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَتَبِعَهُمْ فِيهِ الزمخشري وابن عطية: من امْتِنَاعِ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَمِنِ اعْتِلَالِهِمْ لِذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلِ الصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ. وَقَدْ أَطَلْنَا الِاحْتِجَاجَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1» . وَذَكَرْنَا ثُبُوتَ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هنا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 217.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّ عِنْدِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمَعْنَى وَجْهَانِ، فَجَسَارَةٌ قَبِيحَةٌ مِنْهُ لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ وَلَا بِطَهَارَةِ لِسَانِهِ. إِذْ عَمَدَ إِلَى قِرَاءَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ، وَاتَّصَلَتْ بِأَكَابِرِ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وزيد بن ثابت. وَأَقْرَأِ الصَّحَابَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَمَدَ إِلَى رَدِّهَا بِشَيْءٍ خَطَرَ لَهُ فِي ذِهْنِهِ، وَجَسَارَتُهُ هَذِهِ لَا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَطْعَنُ فِي نَقْلِ الْقُرَّاءِ وَقِرَاءَتِهِمْ، وحمزة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخَذَ الْقُرْآنَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مهران الأعمش، وحمدان بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، وَلَمْ يَقْرَأْ حَمْزَةُ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بِأَثَرٍ. وَكَانَ حَمْزَةُ صَالِحًا وَرِعًا ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَأَحْكَمَ الْقِرَاءَةَ وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّ النَّاسَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مِنْ نُظَرَائِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَمِنْ تَلَامِيذِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِمَامُ الْكُوفَةِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: غَلَبَ حَمْزَةُ النَّاسَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْفَرَائِضِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا وَأَطَلْتُ فِيهِ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عمر عَلَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَيُسِيءَ ظَنًّا بِهَا وَبِقَارِئِهَا، فَيُقَارِبَ أَنْ يَقَعَ فِي الْكُفْرِ بِالطَّعْنِ فِي ذَلِكَ. وَلَسْنَا مُتَعَبَّدِينَ بِقَوْلِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، فَكَمْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْكُوفِيِّينَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَنْقُلْهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَكَمْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْبَصْرِيِّينَ لَمْ يَنْقُلْهُ الْكُوفِيُّونَ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ اسْتِبْحَارٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، لَا أَصْحَابُ الْكَنَانِيسِ الْمُشْتَغِلُونَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعُلُومِ الْآخِذُونَ عَنِ الصُّحُفِ دُونَ الشُّيُوخِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً لَا يُرَادُ بكان تَقْيِيدُ الْخَبَرِ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي الْمُنْقَطِعِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُ كَانَ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى الدَّيْمُومَةِ فَهُوَ تَعَالَى رَقِيبٌ فِي الْمَاضِي وَغَيْرِهِ عَلَيْنَا، وَالرَّقِيبُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُنَا هُوَ الْعَلِيمُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُرَاعٍ لَكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ فَاتَّقُوهُ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ الْمَالِ فَمَنَعَهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْأَرْحَامَ أَتْبَعَ بِالْأَيْتَامِ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِحَيْثُ لَا كَافِلَ لَهُمْ، فَفَارَقَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَهُ رَحِمٌ مَاسَّةٌ. وَظَاهِرُهُ الْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. وَالْيُتْمُ فِي بَنِي آدَمَ: فَقْدُ الْأَبِ، وَهُوَ جَمْعٌ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ. وَيَنْقَطِعُ هَذَا الِاسْمُ

شَرْعًا بِالْبُلُوغِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَجَازٍ، إِمَّا فِي الْيَتَامَى لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْبَالِغِينَ اعْتِبَارًا وَتَسْمِيَةً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ شَرْعًا قَبْلَ الْبُلُوغِ مِنِ اسْمِ الْيُتْمِ، فَيَكُونُ الْأَوْلِيَاءُ قَدْ أُمِرُوا بِأَنْ لَا تُؤَخَّرَ الْأَمْوَالُ عَنْ حَدِّ الْبُلُوغِ، وَلَا يُمْطَلُوا إِنْ أُونِسَ مِنْهُمُ الرُّشْدُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ فِي أُوتُوا، وَيَكُونَ مَعْنَى إيتاؤهم الْأَمْوَالَ: الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَأَنْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ، وَيَكُفُّوا عَنْهَا أَيْدِيَهُمُ الْخَاطِئَةَ. وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْخِطَابُ لِمَنْ لَهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ شَرْعًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْخِطَابُ لِمَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَرِثَ الصَّغِيرُ مِنَ الْأَوْلَادِ مَعَ الْكَبِيرِ، فَقِيلَ لَهُمْ: وَرِّثُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا تَتْرُكُوا أَيُّهَا الْكِبَارُ حُظُوظَكُمْ حَلَالًا طَيِّبًا حَرَامًا خَبِيثًا، فَيَجِيءُ فِعْلُكُمْ ذَلِكَ تَبَدُّلًا. وَقِيلَ: كَانَ الْوَلِيُّ يَرْبَحُ عَلَى يَتِيمِهِ فَتَسْتَنْفِدُ تِلْكَ الْأَرْبَاحُ مَالَ الْيَتِيمِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى السَّفِيهِ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ: لِأَنَّ وَآتُوا الْيَتَامَى مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ سَفِيهًا وَغَيْرَهُ، أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَا، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ السِّنِّ الْمَذْكُورِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى أَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ قَبْلَ بُلُوغِ هَذَا السِّنِّ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ الْأَمْرِ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَخُصِّصَتْ بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ بَعْضُهُمْ يُبَدِّلُ الشَّاةَ السَّمِينَةَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِالْهَزِيلَةِ مِنْ مَالِهِ، وَالدِّرْهَمَ الطَّيِّبَ بِالزَّيْفِ مِنْ مَالِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: الْمَعْنَى وَلَا تَتَعَجَّلُوا أَكْلَ الْخَبِيثِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتَدَعُوا انْتِظَارَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ خَبِيثًا وَتَدَعُوا أَمْوَالَكُمْ طَيِّبًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَأْخُذُوا مَالَ الْيَتِيمِ وَهُوَ خَبِيثٌ لِيُؤْخَذَ مِنْكُمُ الْمَالُ الَّذِي لَكُمْ وَهُوَ طَيِّبٌ. وَقِيلَ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا فتكون هي نار تَأْكُلُونَهَا وَتَتْرُكُونَ الْمَوْعُودَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ إِبْقَاءِ الْخَبَائِثِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَقِيلَ: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْأَمْرَ الْخَبِيثَ وَهُوَ: اخْتِزَالُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِالْأَمْرِ الطَّيِّبِ وَهُوَ: حِفْظُهَا وَالتَّوَرُّعُ مِنْهَا. وَتَفَعَّلَ هُنَا بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ كَتَعَجَّلَ، وَتَأَخَّرَ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ وَاسْتَأْخَرَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ وَصْفَانِ فِي الْأَجْرَامِ الْمُتَبَدِّلَةِ وَالْمُتَبَدَّلِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْكَرِيهِ الْمُتَنَاوَلِ وَاللَّذِيذِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ. أَمَّا أَنْ يَكُونَا وَصْفَيْنِ لِاخْتِزَالِ الْأَمْوَالِ وَحِفْظِهَا فَفِيهِ بُعْدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ مَا بِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَا تَبَدَّلُوا بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ.

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ لَمَّا نُهُوا عَنِ اسْتِبْدَالِ الْخَبِيثِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِالطَّيِّبِ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، ارْتَقَى فِي النَّهْيِ إِلَى مَا هُوَ أَفْظَعُ مِنَ الِاسْتِبْدَالِ وَهُوَ: أَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَنُهُوا عَنْهُ. وَمَعْنَى إِلَى أَمْوَالِكُمْ: قِيلَ مَعَ أَمْوَالِكُمْ، وَقِيلَ: إِلَى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ التَّقْدِيرُ: مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بتأكلوا عَلَى مَعْنَى التَّضْمِينِ أَيْ: وَلَا تَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ فِي الأكل إلى موالكم. وَحِكْمَةُ: إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِغَيْرِ حَقٍّ، أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى غِنَى الْأَوْلِيَاءِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ مَعَ كَوْنِكُمْ ذَوِي مَالٍ أَيْ: مَعَ غِنَاكُمْ، لِأَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِلْوَلِيِّ إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْأَكْلِ، وَفِي حُكْمِهِ التَّمَوُّلُ عَلَى جَمِيعِ وُجُوهِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ نَاهِيَةٌ عَنِ الْخَلْطِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَخْلِطُ نَفَقَتَهَا بِنَفَقَةِ أَيْتَامِهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «1» . وَقَالَ الْحَسَنُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا. قَالَ: تَأَوَّلَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنِ الْخَلْطِ، فَاجْتَنَبُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَحَسَّنَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: وَحَقِيقَتُهُ وَلَا تَضُمُّوهَا إِلَيْهَا فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ أَمْوَالِكُمْ وَأَمْوَالِهِمْ قِلَّةَ مُبَالَاةٍ بِمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ، وَتَسْوِيَةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْحَلَالِ. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلُ مَالِ الْيَتَامَى وَحْدَهُ وَمَعَ أَمْوَالِهِمْ، فَلِمَ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِهِ مَعَهَا؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ مَالٍ حَلَالٍ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَطْمَعُونَ فِيهَا، كَانَ الْقُبْحُ أَبْلَغَ وَالذَّمُّ أَحَقَّ. وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَنَعَى عَلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ وَسَمَّعَ بِهِمْ لِيَكُونَ أَزْجَرَ لَهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى أَمْوَالِكُمْ لَيْسَ قَيْدًا لِلِاحْتِرَازِ، إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ، وَلِأَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ الْوَاقِعِ، فَيَكُونَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً «2» وَإِنْ كَانَ الرِّبَا عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ نَحْنُ يَكُونُ ذَلِكَ قَيْدًا لِلِاحْتِرَازِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا جَازَ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ لِمَنْ كَانَ غَنِيًّا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ «3» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 220. (2) سورة آل عمران: 3/ 130. [.....] (3) سورة النساء: 4/ 6.

إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَالْحَسَنُ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: إِنَّهُ كَانَ حَابًا كَبِيرًا، وَكُلُّهَا مَصَادِرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: الْحُوبُ الْإِثْمُ. وَقِيلَ: الظُّلْمُ. وَقِيلَ: الْوَحْشَةُ. وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ. وَقِيلَ: عَلَى التَّبَدُّلِ. وَعَوْدُهُ عَلَى الْأَكْلِ أَقْرَبُ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِمَا. كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ أي كأن ذلك وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي أَوْلِيَاءِ الْيَتَامَى الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ جَمَالُ وَلِيَّاتِهِمْ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَبْخَسُوهُمْ فِي الْمَهْرِ لمكان ولايتهم عليهن. فقيل لَهُمْ: أَقْسِطُوا فِي مُهُورِهِنَّ، فَمَنْ خَافَ أَنْ لَا يُقْسِطَ فَلْيَتَزَوَّجْ مَا طَابَ لَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ اللَّوَاتِي يُمَاكَسْنَ فِي حُقُوقِهِنَّ. وَقَالَهُ أَيْضًا رَبِيعَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ يَتَزَوَّجُ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الْعَشَرَةَ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ، فَإِذَا ضَاقَ مَالُهُ مَالَ عَلَى مَالِ يَتِيمِهِ فَيَتَزَوَّجُ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ خِفْتُمْ عَجْزَ أَمْوَالِكُمْ حَتَّى تَجُورُوا فِي الْيَتَامَى فَاقْتَصِرُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَرَّجُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا تَتَحَرَّجُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، يَتَزَوَّجُونَ الْعَشَرَةَ فَأَكْثَرَ، فَنَزَلَتْ في ذلك أي: كما تخافون أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا فِي النِّسَاءِ، وَانْكِحُوا عَلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي يَبْعُدُ الْجَوْرُ عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنَ الزِّنَا وزجر عنه، أي كَمَا تَتَحَرَّجُونَ فِي مَالِ الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ تَحَرَّجُوا مِنَ الزِّنَا، وَانْكِحُوا عَلَى مَا حُدَّ لَكُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْأَوَّلِ لَا يَخْتَصُّ الْيَتَامَى بِإِنَاثٍ وَلَا ذُكُورٍ، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْإِنَاثِ كَأَنَّهُ قِيلَ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي نِكَاحِ يَتَامَى النِّسَاءِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ، لَمَّا أُمِرُوا بِأَنْ يُؤْتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَنُهُوا عَنِ الِاسْتِبْدَالِ الْمَذْكُورِ، وَعَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، كَانَ فِي ذَلِكَ مَزِيدُ اعْتِنَاءٍ بِالْيَتَامَى وَاحْتِرَازٌ مِنْ ظُلْمِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا «1» فَخُوطِبَ أَوْلِيَاءُ يَتَامَى النِّسَاءِ أَوِ النَّاسُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى أَيْ: فِي نِكَاحِ يَتَامَى النِّسَاءِ، فَانْكِحُوا غَيْرَهُنَّ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ المعنى في

_ (1) سورة النساء: 4/ 10.

نِكَاحِ الْيَتَامَى. فَالْيَتَامَى إِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ الْيُتْمُ الشَّرْعِيُّ فَيَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرَاتِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَيْسَتْ يَتِيمَةً، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَحُطَّ عَنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا جَازَ لَهَا. خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ إِذْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْيُتْمَ اللُّغَوِيَّ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْبَالِغَاتُ، وَالْبَالِغَةُ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا رَضِيَتْ، فَأَيُّ مَعْنًى لِلْعُدُولِ إِلَى نِكَاحِ غَيْرِهَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُدُولَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَسْتَضْعِفُهَا وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَالِهَا وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْيَتَامَى هُنَا الْبَالِغَاتِ فَلَا حُجَّةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ. وَمَعْنَى: خِفْتُمْ حَذِرْتُمْ، وَهُوَ عَلَى مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الْخَوْفَ هُوَ الْحَذَرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى خِفْتُمْ هُنَا أَيْقَنْتُمْ، وَخَافَ تَكُونُ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَقُلْتُ لَهُمْ خافوا بألفي مدحج وَمَا قَالَهُ لَا يَصِحُّ، لَا يَثْبُتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ خَافَ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ أَفْعَالِ التَّوَقُّعِ، وَقَدْ يَمِيلُ فِيهِ الظَّنُّ إِلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ الْبَيْتُ: فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مدحج. هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَشْهَرُ مِنْ خَافُوا. قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَوْفُ يُقَالُ فِيمَا فِيهِ رَجَاءٌ مَا، وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: خِفْتُ أَنْ لَا أَقْدِرُ عَلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ، أَوْ نَسْفِ الْجِبَالِ انْتَهَى. وَمَعْنَى أن لا تقسطوا أي: أن لا تَعْدِلُوا. أَيْ: وَإِنْ خِفْتُمُ الْجَوْرَ وَأَقْسَطَ: بِمَعْنَى عَدَلَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ تَقْسِطُوا بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ قَسَطَ، وَالْمَشْهُورُ فِي قَسَطَ أَنَّهُ بِمَعْنَى جَارَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقَالُ قَسَطَ بِمَعْنَى أَقْسَطَ أَيْ عَدَلَ. فَإِنْ حُمِلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى مَشْهُورِ اللُّغَةِ كَانَتْ لَا زَائِدَةً، أَيْ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تُقْسِطُوا أَيْ: أَنْ تَجُورُوا لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَتِمُّ إِلَّا بِاعْتِقَادِ زِيَادَتِهَا. وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى أَنْ تُقْسِطُوا بِمَعْنَى تُقْسِطُوا، كَانَتْ لِلنَّفْيِ كَمَا فِي تُقْسِطُوا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مَنْ طَابَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا طَابَ. فَقِيلَ: مَا بِمَعْنَى مَنْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يُجَوِّزُ وُقُوعُ مَا عَلَى آحَادِ الْعُقَلَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بما عَنِ النِّسَاءِ، لِأَنَّ إِنَاثَ الْعُقَلَاءِ لِنُقْصَانِ عُقُولِهِنَّ يَجْرِينَ مَجْرَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَقِيلَ: ما واقعة على النوع، أَيْ: فَانْكِحُوا النَّوْعَ الَّذِي طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا تَقَعُ عَلَى أَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَا لِتَعْمِيمِ الْجِنْسِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ

الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: فَانْكِحُوا النِّكَاحَ الَّذِي طَابَ لَكُمْ. وَقِيلَ: مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَيْ: فَانْكِحُوا جِنْسًا أَوْ عَدَدًا يَطِيبُ لَكُمْ. وَقِيلَ: مَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: مُدَّةَ طِيبِ النِّكَاحِ لَكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَفْعُولَةٌ بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا، وَأَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَعْنَاهُ: مِنَ الْبَالِغَاتِ. ومن فِيهِ إِمَّا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى، وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ وَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنًا مِنَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً أَوْ ظَرْفِيَّةً، فَمَفْعُولُ فَانْكِحُوا هُوَ مِنَ النِّسَاءِ، كَمَا تَقُولُ: أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ: شَيْئًا مِنَ الرَّغِيفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ فَانْكِحُوا مَثْنَى، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْدُولَ مِنَ الْعَدَدِ لَا يَلِي الْعَوَامِلَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْمَشُ طَابَ بِالْإِمَالَةِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ طِيبَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْإِمَالَةِ. وَظَاهِرُ فَانْكِحُوا الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا الْأَمْرِ وَبِغَيْرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ نَدْبٌ لِقَوْمٍ، وَإِبَاحَةٌ لِآخَرِينَ بِحَسَبِ قَرَائِنِ الْمَرْءِ، وَالنِّكَاحُ فِي الْجُمْلَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى مَا طَابَ: أَيْ مَا حَلَّ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ كَثِيرٌ قَالَهُ: الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ. وَقِيلَ: مَا اسْتَطَابَتْهُ النَّفْسُ وَمَالَ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. قَالُوا: وَلَا يَتَنَاوَلُ قَوْلُهُ فَانْكِحُوا الْعَبِيدَ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ عَامًّا فِي الْأَعْدَادِ كُلِّهَا، خَصَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. فَظَاهِرُ هَذَا التَّخْصِيصِ تَقْسِيمُ الْمَنْكُوحَاتِ إِلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَتَزَوَّجَ اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَزَوَّجَ خَمْسَةً خَمْسَةً، وَلَا مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْدَادِ. وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: أُقَسِّمُ الدَّرَاهِمَ بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ دُونَ غَيْرِهِ. فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ أَحَدًا مِنَ الْمَقْسُومِ عَلَيْهِمْ خَمْسَةً خَمْسَةً، وَلَا يَسُوغُ دُخُولُ أَوْ هُنَا مَكَانَ الْوَاوِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَنْكِحُونَ كُلُّهُمْ إِلَّا عَلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَهُ عَلَى تَثْنِيَةٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَثْلِيثٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَرْبِيعٍ، لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ. وَالْوَاوُ تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَيَأْخُذُ النَّاكِحُونَ مَنْ أَرَادُوا نِكَاحَهَا عَلَى طريق الجميع إن شاؤوا مُخْتَلِفِينَ فِي تِلْكَ الْأَعْدَادِ، وإن شاؤوا مُتَّفِقِينَ فِيهَا مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ مَا زَادَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الشِّيعَةِ: إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَا عَدَدٍ، كَمَا يَجُوزُ التَّسَرِّي بِلَا عَدَدٍ. وَلَيْسَتِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتٍ فِي الْعَدَدِ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَقَوْلِكَ: تَنَاوَلْ مَا أَحْبَبْتَ وَاحِدًا

وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثًا. وَذِكْرُ بَعْضِ مُقْتَضَى الْعُمُومِ جَاءَ عَلَى طَرِيقِ التَّبْيِينِ، وَلَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ تِسْعٍ، لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْجَمْعَ. فَمَعْنَى: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَذَلِكَ تِسْعٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْدَادَ وَكَوْنَهَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ تَدُلُّ عَلَى نكاح جواز ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْهَا مَعْدُولٌ عَنْ مُكَرَّرٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِذَا جُمِعَتْ تِلْكَ الْمُكَرَّرَاتُ كَانَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ اسْتِدْلَالًا وَإِبْطَالًا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الْخِلَافِيَّةِ. وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ النِّكَاحُ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ إِلَّا لِمَنْ خَافَ الْجَوْرَ فِي الْيَتَامَى لِأَجْلِ تَعْلِيقِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَخَفْ فَمَفْهُومُ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ مِنِ اخْتِصَاصِ الْإِبَاحَةِ بِمَنْ خَافَ الْجَوْرَ. أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يجف الْجَوْرَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا كَمَنْ خَافَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ جَوَابٌ لِمَنْ خَافَ ذَلِكَ، وَحُكْمُهَا أَعَمُّ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: وَرُبَعَ سَاقِطَةَ الألف، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: وَحَلَيَانًا بَرَدًا يُرِيدُ بَارِدًا. وَإِذَا أَعْرَبْنَا مَا مِنْ مَا طَابَ مَفْعُولَةً وَتَكُونُ مَوْصُولَةً، فَانْتِصَابُ مَثْنَى وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْحَالِ مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَالٌ مِنَ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَوْضِعُهَا مِنَ الْإِعْرَابِ نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا طَابَ، وَهِيَ نَكِرَاتٌ لَا تَتَصَرَّفُ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ وَصِفَةٌ انْتَهَى. وَهُمَا إِعْرَابَانِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ هُوَ ما طاب، ومن النِّسَاءِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّبْيِينِ وَلَيْسَ مُحَدَّثًا عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الْحَالُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْحَالِ تَقْيِيدُ الْمَنْكُوحَاتِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْبَدَلُ هُوَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فيلزم من ذلك أن يُبَاشِرَهَا الْعَامِلُ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّهَا لَا يُبَاشِرُهَا الْعَامِلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَكِرَةٌ وَصِفَةٌ، وَمَا كَانَ نَكِرَةً وَصِفَةً فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ تَابِعًا لِنَكِرَةٍ كَانَ صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «1» وَمَا وَقَعَ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ وَقَعَ حالا للمعرفة. وما طَابَ مَعْرِفَةٌ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى حَالًا. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي أن لا تَعْدِلُوا بَيْنَ ثِنْتَيْنِ إِنْ نَكَحْتُمُوهُمَا، أَوْ بَيْنَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ إِنْ نَكَحْتُمُوهُنَّ فِي الْقَسْمِ أَوِ النَّفَقَةِ أو الكسوة، فاختاروا

_ (1) سورة فاطر: 35/ 1.

واحدة. أو ما ملكت أَيْمَانُكُمْ هَذَا إِنْ حَمَلْنَا فَانْكِحُوا عَلَى تَزَوَّجُوا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَطْءِ قَدَّرْنَا الْفِعْلَ النَّاصِبَ لِقَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً. فَانْكِحُوا وَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا عَلَى أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ فِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَانْكِحُوا أَيْ تَزَوَّجُوا وَاحِدَةً، أوطئوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَلَمْ يُقَيِّدْ مَمْلُوكَاتِ الْيَمِينِ بِعَدَدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَطَأَ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ لَا فِي الْقَسْمِ وَلَا فِي النَّفَقَةِ وَلَا فِي الْكُسْوَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ هُرْمُزَ: فَوَاحِدَةٌ بِالرَّفْعِ. وَوَجَّهَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ أَيْ: فَوَاحِدَةٌ كَافِيَةٌ. وَوَجَّهَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ: فَالْمَقْنَعُ، أَوْ فَحَسْبُكُمْ وَاحِدَةٌ، أَوْ مَا ملكت أيمانكم. وأو هُنَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ: إِمَّا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِمَّا عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: فَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يُرِيدُ بِهِ الْإِمَاءَ، وَالْمَعْنَى: عَلَى هَذَا إِنْ خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ فِي عِشْرَةِ وَاحِدَةٍ فَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَوْ مَنْ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَأَسْنَدَ الْمِلْكَ إِلَى الْيَمِينِ لِأَنَّهَا صِفَةُ مَدْحٍ، وَالْيَمِينُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَحَاسِنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ فِي قَوْلِهِ: «حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَهِيَ الْمُعَاهِدَةُ وَالْمُتَلَقِّيَةُ لِرَايَاتِ الْمَجْدِ، وَالْمَأْمُورُ فِي تَنَاوُلِ الْمَأْكُولِ بِالْأَكْلِ بِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا. وَهَذَانِ شَرْطَانِ مُسْتَقِلَّانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ، فأول الشرطين: وإن ختفم أن لا تُقْسِطُوا، وَجَوَابُهُ: فَانْكِحُوا. صَرَفَ مَنْ خَافَ مِنَ الْجَوْرِ فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى إِلَى نِكَاحِ الْبَالِغَاتِ مِنْهُنَّ وَمِنْ غَيْرِهِنَّ وَذَكَرَ تِلْكَ الْأَعْدَادَ. وَثَانِي الشَّرْطَيْنِ قَوْلُهُ: فَإِنْ خفتم أن لا تَعْدِلُوا وَجَوَابُهُ: فَوَاحِدَةً، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ صَرَفَ مَنْ خَافَ مِنَ الْجَوْرِ فِي نِكَاحِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْعَدَدِ إِلَى نِكَاحِ وَاحِدَةٍ، أَوْ تَسَرٍّ بِمَا مَلَكَ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِالْمُكَلَّفِ وَالرِّفْقِ بِهِ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنَّظَرِ لَهُنَّ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ اشْتَمَلَتْ عَلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ، وَجُمْلَةِ اعْتِرَاضٍ. فَالشَّرْطُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا، وَجَوَابُهُ: فَوَاحِدَةً. وَجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، وَكَرَّرَ الشَّرْطَ بقوله: فإن خفتم أن لا تَعْدِلُوا. لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ بِالِاعْتِرَاضِ إِذْ مَعْنَاهُ: كَمَا جَاءَ فِي فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا بَعْدَ قَوْلِهِ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ لَمَّا وَجَوَابِهَا فَأُعِيدَتْ. وَكَذَلِكَ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ «1» بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ «2» إِذْ طَالَ الْفَصْلُ بِمَا بَعْدَهُ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 188. (2) سورة آل عمران: 3/ 188.

بَيْنَ: لَا تَحْسَبَنَّ، وَبَيْنَ بِمَفَازَةٍ، فَأُعِيدَتِ الْجُمْلَةُ، وَصَارَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، أَنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا فَانْكِحُوا وَاحِدَةً. قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَدْلَ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ «1» انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ. وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّ أَبَا عَلِيٍّ كَانَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ بِمَكَانٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ إِفْسَادُ نَظْمِ الْقُرْآنِ التَّرْكِيبِيِّ، وَبُطْلَانٌ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ: لِأَنَّهُ إِذَا أَنْتَجَ مِنَ الْآيَتَيْنِ هَذِهِ وَقَوْلِهِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا بِمَا نَتَجَ مِنَ الدَّلَالَةِ، اقْتَضَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَتَسَرَّى بِمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ. وَيَبْقَى هَذَا الْفَصْلُ بِالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ جَوَابِهِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ لَهُ عَلَى زَعْمِهِ. وَالْعَدْلُ الْمَنْفِيُّ اسْتِطَاعَتُهُ غَيْرُ هَذَا الْعَدْلِ الْمَنْفِيِّ هُنَا، ذَاكَ عَدْلٌ فِي مَيْلِ الْقَلْبِ وَقَدْ رُفِعَ الْحَرَجُ فِيهِ عَنِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا عَدْلٌ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ. وَلِذَلِكَ نُفِيَتْ هُنَاكَ اسْتِطَاعَتُهُ، وَعُلِّقَ هُنَا عَلَى خَوْفِ انْتِفَائِهِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ فِيهِ رَجَاءٌ وَظَنٌّ غَالِبًا. وَانْتَزَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ عَكَسَ. وَوَجْهُ انْتِزَاعِهِ ذَلِكَ وَاسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَ تَزَوُّجِ الْوَاحِدَةِ وَالتَّسَرِّي، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَالْحِكْمَةُ سُكُونُ النَّفْسِ بِالْأَزْوَاجِ، وَتَحْصِينُ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالطَّرِيقَيْنِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسَرِّي، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْمُتَسَاوِيَيْنِ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْمُسَاوِي الثَّانِي لَا مَحَالَةَ. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا الْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِيَارِ الْحُرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَمَةِ. أَدْنَى مِنَ الدُّنُوِّ أَيْ: أَقْرَبُ أَنْ لَا تَعُولُوا، أَيْ: أَنْ لَا تَمِيلُوا عَنِ الْحَقِّ. قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، والربيع بْنُ أَنَسٍ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَضِلُّوا. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَا تَخُونُوا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ. وَقَدْ رُدَّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ وَالرَّازِيُّ مَا مَعْنَاهُ: غَلِطَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِمَاءِ فِي الْعِيَالِ كَصَاحِبِ الْأَزْوَاجِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ كَثْرَةَ السَّرَارِي، وَفِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ الْعِيَالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى أن لا يَكْثُرُوا؟ وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: قال: أولا أن لا تعدلوا يجب أَنْ يَكُونَ ضِدُّ الْعَدْلِ هُوَ الْجَوْرَ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَيَقْتَضِي أَيْضًا الرَّدَّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فتفسير الشافعي

_ (1) سورة النساء: 4/ 129.

تَعُولُوا بِتُعِيلُوا. وَقَالُوا: يُقَالُ أَعَالَ يُعِيلُ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ لَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي الْمَادَّةِ، فَلَيْسَ مَعْنَى تَعُولُوا تُعِيلُوا. وَقَالَ الرَّازِيُّ أَيْضًا عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ خَالَفَ الْمُفَسِّرِينَ. وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ قَدْ قَالَ بِمَقَالَتِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ زَيْدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ تَعُولُوا بِتُعِيلُوا فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَعُولُوا وَتُعِيلُوا مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُمَا يَجْمَعُهُمَا اشْتِقَاقٌ وَاحِدٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَلَا يَجْمَعُهُمَا اشْتِقَاقٌ وَاحِدٌ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: دُمْتُ وَدَشِيرُ، وَسِبْطٌ وَسِبْطَةٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَقَدْ نَقَلَ عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ، أَيْ كَثُرَ عِيَالُهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَنَقَلَهُ أَيْضًا الْكِسَائِيُّ قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: عَالَ يَعُولُ، وَأَعَالَ يُعِيلُ كَثُرَ عِيَالُهُ، وَنَقَلَهَا أَيْضًا أَبُو عَمْرٍو الدُّورِيُّ الْمُقْرِي وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ غَيْرَ مُدَافَعٍ قَالَ: هِيَ لُغَةُ حِمْيَرَ. وَأَنْشَدَ أَبُو عَمْرٍو حُجَّةً لَهَا: وَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلَا شَكٍّ وَإِنْ أَمْشَى وَعَالَا أَمَشَى كَثُرَتْ ماشيته، وعال كثير عِيَالُهُ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ وَتَفْسِيرَهُ تَعُولُوا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ عَلَى أَنْ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِكَ: عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ يَعُولُهُمْ. وَقَالَ: لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ حَوَّلَ تُعِيلُوا إِلَى تَعُولُوا، وَأَثْنَى عَلَى الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَى كَعْبًا وَأَطْوَلَ بَاعًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا. قَالَ: وَلَكِنَّ لِلْعُلَمَاءِ طُرُقًا وَأَسَالِيبَ، فَسَلَكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ طَرِيقَةَ الْكِنَايَاتِ. وَأَمَّا مَا رَدَّ بِهِ ابْنُ دَاوُدَ وَالرَّازِيُّ وَالزَّجَّاجُ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَدْحُ يُشِيرُ إِلَى قَدْحِ الزَّجَّاجِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ السَّرَارِيَ إِنَّمَا هِيَ مَالٌ يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الْعِيَالُ الْقَادِحُ الْحَرَائِرُ ذَوَاتُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَرَضُ بِالتَّزَوُّجِ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ، بِخِلَافِ التَّسَرِّي. وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَزْلُ عَنِ السَّرَارِي بِغَيْرِ إِذْنِهِنَّ، فَكَانَ التَّسَرِّي مَظِنَّةً لِقِلَّةِ الْوَلَدِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى التَّزَوُّجِ، وَالْوَاحِدَةُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَزَوُّجِ الْأَرْبَعِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِذَا كَثُرَتِ الْجَوَارِي فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُنَّ الْكَسْبَ فَيُنْفِقْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ وَعَلَى مَوْلَاهُنَّ أَيْضًا، وَتَقِلُّ الْعِيَالُ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ حُرَّةً فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ لَا تَعُولُوا بِمَعْنَى أَنْ لَا تَفْتَقِرُوا، وَلَا يُرِيدُ أَنْ تَعُولُوا مِنْ مَادَّةِ تُعِيلُوا مَنْ عَالَ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَيْضًا

الْكِنَايَةَ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَتَسَبَّبُ عَنْهَا الْفَقْرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اخْتِيَارَ الْحُرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الْأَمَةِ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاءِ الْجَوْرِ، إِذْ هُوَ الْمَحْذُورُ الْمُعَلَّقُ عَلَى خَوْفِهِ الِاخْتِيَارُ الْمَذْكُورُ. أَيْ: عَبَّرَ عَنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعُولُوا بِأَنْ لَا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَنْشَأُ عَنْهُ الْجَوْرُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَنْ لَا تَعِيلُوا بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ لَا تَفْتَقِرُوا مِنَ الْعَيْلَةِ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «1» وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَلَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَقَرَأَ طَاوُسُ: أَنْ لَا تُعِيلُوا مِنْ أَعَالَ الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُعَضِّدُ تَفْسِيرَ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَيْثُ المعنى الذي قصده. وأن تَتَعَلَّقُ بِأَدْنَى وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أدنى إلى أن لا تَعُولُوا. وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ يَتَعَدَّى هُوَ إِلَيْهِ. تَقُولُ: دَنَوْتُ إِلَى كَذَا فَلِذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَدْنَى إِلَى أَنْ تَعُولُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الْمَحْذُوفُ لَامَ الْجَرِّ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: دَنَوْتُ لِكَذَا. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً الظَّاهِرُ: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ قَبْلَهُ لَهُمْ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. قِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ بِلَا مَهْرٍ يَقُولُ: أَرِثُكِ وَتَرِثِينِي فَتَقُولُ: نَعَمْ. فَأُمِرُوا أَنْ يُسْرِعُوا إِعْطَاءَ الْمُهُورِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ، وَكَانَتْ عَادَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنْ يَأْكُلَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ. قَالَهُ: أَبُو صَالِحٍ، وَاخْتَارَهُ: الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَرْكُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُتَشَاغِرُونَ مِنْ تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِأُخْرَى، وَأُمِرُوا بِضَرْبِ الْمُهُورِ قَالَهُ: حَضْرَمِيٌّ، وَالْأَمْرُ بِإِيتَاءِ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّوَرَ كُلَّهَا. وَالصَّدُقَاتُ الْمُهُورُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زيد وقتادة: نِحْلَةً فَرِيضَةً. وَقِيلَ: عَطِيَّةَ تمليك قاله الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: شِرْعَةً وَدِينًا قَالَهُ: ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالنِّحْلَةُ أَخَصُّ مِنَ الْهِبَةِ، إِذْ كُلُّ هِبَةٍ نِحْلَةٌ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَسُمِّيَ الصَّدَاقُ نِحْلَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَجِبُ فِي مُقَابَلَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَمَتُّعٍ دُونَ عِوَضٍ مَالِيٍّ. وَمَنْ قَالَ: النِّحْلَةُ الْفَرِيضَةُ نَظَرَ إِلَى حُكْمِ الْآيَةِ، لَا إِلَى مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَالْآيَةُ اقْتَضَتْ إِتْيَانَهُنَّ الصَّدَاقَ انْتَهَى. وَدَلَّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى التَّحَرُّجِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمُهُورِ النِّسَاءِ كَمَا دَلَّ الأمر في:

_ (1) سورة التوبة: 9/ 28.

وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ «1» ، وَأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلَمَّا أَذِنَ فِي نِكَاحِ الْأَرْبَعِ أَمَرَ الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلِيَاءَ بِاجْتِنَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدُقَاتِهِنَّ جَمْعُ صَدُقَةٍ، عَلَى وزن سمرة. وقرأ قتادة وَغَيْرُهُ: بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَضَمِّ الصَّادِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمُوسَى بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَفَيَّاضُ بْنُ غَزَوَانَ وَغَيْرُهُمْ: بِضَمِّهَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: صَدُقَتَهِنَّ بِضَمِّهَا وَالْإِفْرَادِ، وَانْتَصَبَ نِحْلَةً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، لِأَنَّ مَعْنَى: وَآتُوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل: بانحلوهن مُضْمَرَةً. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، إِمَّا عَنِ الْفَاعِلِينَ أَيْ نَاحِلِينَ، وَإِمَّا مِنَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي أَيْ: مَنْحُولَاتٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ بِمَعْنَى شَرَعَ، أَيْ: أَنْحَلَ اللَّهُ ذَلِكَ نِحْلَةً، أَيْ شَرَعَهُ شِرْعَةً وَدِينًا. وَقِيلَ: إِذَا كَانَ بِمَعْنَى شِرْعَةٍ فَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الصَّدُقَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِمِقْدَارِ الصَّدَاقِ، وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ هُنَا، وَمَحَلُّ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ كُتُبُ الْفِقْهِ. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الْخِطَابُ فِيهِ الْخِلَافُ: أَهْوَ لِلْأَزْوَاجِ؟ أَوْ لِلْأَوْلِيَاءِ؟ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي: وَآتُوا النِّسَاءَ. وَقَالَ حَضْرَمِيٌّ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قَوْمًا تَحَرَّجُوا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِمَّا دَفَعُوا إِلَى الزَّوْجَاتِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّدَاقِ قَالَهُ: عِكْرِمَةٌ. إِذْ لَوْ وَقَعَ مَكَانَ صَدُقَاتِهِنَّ لَكَانَ جَائِزًا وَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِمْ: هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلُهُ لِصَلَاحِيَّةِ، هُوَ أَحْسَنُ فَتًى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ لِيَنْصَرِفَ إِلَى الصَّدَاقِ الْوَاحِدِ، فَيَكُونَ مُتَنَاوِلًا بَعْضَهُ. فَلَوْ أَنَّثَ لَتَنَاوَلَ ظَاهِرُهُ هِبَةَ الصَّدَاقِ كُلِّهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ وَاحِدٌ مِنْهَا فَصَاعِدًا انْتَهَى. وَأَقُولُ: حَسُنَ تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ مَعْنَى: فَإِنْ طِبْنَ، فَإِنْ طَابَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ مِنْهُ أَيْ: مِنْ صَدَاقِهَا، وَهُوَ نَظِيرُ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «2» أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ مُتَّكَأً. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى صَدُقَاتِهِنَّ مَسْلُوكًا بِهِ مَسْلَكَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى مَجْمُوعٍ كقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ «3» .

_ (1) سورة النساء: 4/ 2. (2) سورة يوسف: 12/ 31. (3) سورة آل عمران: 3/ 15.

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ. وَقِيلَ: لِرُؤْبَةَ كَيْفَ قُلْتَ: كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ. فَقَالَ: أَرَدْتُ كَانَ ذَاكَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ صَدُقَاتِهِنَّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْإِيتَاءِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ: وَآتُوا، قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورَانِ بقوله: طبن، ومنه فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَيْءٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَظَاهِرُ مِنِ التَّبْعِيضُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا تَهَبُهُ يَكُونُ بَعْضًا مِنَ الصَّدَاقِ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهَا لَهُ إِلَّا بِالْيَسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ تَتَضَمَّنُ الْجِنْسَ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَهَبَ الْمَهْرَ كُلَّهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى التَّبْعِيضِ لَمَا جَازَ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ نَفَسًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ. وَإِذَا جَاءَ التَّمْيِيزُ بَعْدَ جَمْعٍ وَكَانَ مُنْتَصِبًا عَنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى، أَوْ مُخَالِفًا فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا طَابَقَهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ نَحْوُ: كَرُمَ الزَّيْدُونَ رِجَالًا، كَمَا يُطَابِقُ لَوْ كَانَ خَبَرًا، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا، فإما أن يكون مفردا لمدلول أَوْ مُخْتَلِفَهُ، إِنْ كَانَ مفردا لمدلول لَزِمَ إِفْرَادُ اللَّفْظِ الدَّالِّ كَقَوْلِكَ فِي أَبْنَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ: كَرُمَ بَنُو فُلَانٍ أَصْلًا وَأَبًا. وَكَقَوْلِكَ: زَكَا الأتقياء منقبا، وَجَادَ الْأَذْكِيَاءُ وَعْيًا. وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَقْصِدْ بِالْمَصْدَرِ اخْتِلَافَ الْأَنْوَاعِ لِاخْتِلَافِ مَحَالِّهِ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفَ الْمَدْلُولِ، فَإِمَّا أَنْ يَلْبَسَ أَفْرَادُهُ لَوْ أُفْرِدَ، أَوْ لَا يَلْبَسَ. فَإِنْ أَلْبَسَ وَجَبَتِ الْمُطَابَقَةُ نَحْوُ: كَرُمَ الزَّيْدُونَ آبَاءً، أَيْ: كَرُمَ آبَاءُ الزَّيْدِينَ. وَلَوْ قُلْتَ: كَرُمَ الزَّيْدُونَ أَبًا، لَأَوْهَمَ أَنَّ أَبَاهُمْ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِالْكَرَمِ. وَإِنْ لَمْ يَلْبَسْ جَازَ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ. وَالْإِفْرَادُ أَوْلَى، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلٍّ نَفْسًا، وَأَنَّهُنَّ لَسْنَ مُشْتَرِكَاتٍ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَّ الزَّيْدُونَ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَنْفُسًا وَأَعْيُنًا. وَحَسَّنَ الْإِفْرَادَ أَيْضًا فِي الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ مُحَسِّنِ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ وَإِفْرَادِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ طَابَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: أَرَادَ بِالنَّفْسِ الْهَوَى. وَالْهَوَى مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَكُلُوهُ، وَهُوَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. وَالْمَعْنَى: فَانْتَفِعُوا بِهِ. وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الِانْتِفَاعِ. وَهَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ: شَافِيًا سَائِغًا. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: هَنِيئًا لَا إِثْمَ فِيهِ، مريئا لأداء فِيهِ. وَقِيلَ: هَنِيئًا لَذِيذًا، مَرِيئًا مَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ: هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ مَا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَا

سَاغَ فِي مَجْرَاهُ وَلَا غَصَّ بِهِ مَنْ تَحَسَّاهُ. وَقِيلَ: هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ: حَلَالًا طَيِّبًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: هَنِيًّا مَرِيًّا دُونَ هَمْزَةٍ، أَبْدَلُوا الْهَمْزَةِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ يَاءً، وَأَدْغَمُوا فِيهَا يَاءَ الْمَدِّ. وَانْتِصَابُ هَنِيئًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَكُلُوهُ أَكْلًا هَنِيئًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، هَكَذَا أَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُفْرَدَاتِ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى ذَلِكَ. فَعَلَى مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ يَكُونُ هَنِيئًا مَرِيئًا مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي هَنِيئًا: أَنَّهَا حَالٌ قَائِمَةٌ مقام الفعل النَّاصِبِ لَهَا. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ فُلَانًا أَصَابَ خَيْرًا فَقُلْتَ هَنِيئًا لَهُ، ذَلِكَ فَالْأَصْلُ ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ هَنِيئًا فَحُذِفَ ثَبَتَ، وَأُقِيمَ هَنِيئًا مَقَامَهُ. وَاخْتَلَفُوا إِذْ ذَاكَ فِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ ذَلِكَ. فَذَهَبَ السِّيرَافِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُخْتَزَلِ الَّذِي هُوَ ثَبَتَ، وهنيئا حَالٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي هَنِيئًا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا وَلَمْ تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلِ اقْتَصَرْتَ عَلَى قَوْلِكَ: هَنِيئًا، فَفِيهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الَّذِي اسْتَتَرَ فِي ثَبَتَ الْمَحْذُوفَةِ. وَذَهَبَ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا لَهُ، ذَلِكَ مَرْفُوعٌ بِهَنِيئًا الْقَائِمِ مَقَامَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّهُ صَارَ عِوَضًا مِنْهُ، فَعَمِلَ عَمَلَهُ. كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، رَفَعَ الْمَجْرُورُ الضَّمِيرَ الَّذِي كَانَ مَرْفُوعًا بِمُسْتَقِرٍّ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ مِنْهُ. وَلَا يَكُونُ فِي هَنِيئًا ضَمِيرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ رَفَعَ الظَّاهِرَ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَإِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا فَفِيهِ ضَمِيرٌ فَاعِلٌ بِهَا، وَهُوَ الضَّمِيرُ فَاعِلًا لَثَبَتَ، وَيَكُونُ هَنِيئًا قَدْ قَامَ مَقَامَ الْفِعْلِ الْمُخْتَزَلِ مُفَرَّعًا مِنَ الْفِعْلِ. وَإِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا مَرِيئًا، فَاخْتَلَفُوا فِي نَصْبِ مَرِيءٍ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِكَ هَنِيئًا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْحَوْفِيُّ. وَذَهَبَ الْفَارِسِيُّ: إِلَى أَنَّ انْتِصَابَهُ انْتِصَابُ قَوْلِكَ هَنِيئًا، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: ثَبَتَ مَرِيئًا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أن يكون صفة لهنيئا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَنِيئًا لَمَّا كَانَ عِوَضًا مِنَ الْفِعْلِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْفِعْلِ الَّذِي نَابَ مَنَابَهُ، وَالْفِعْلُ لَا يُوصَفُ، فَكَذَلِكَ لَا يُوصَفُ هُوَ. وَقَدْ أَلَمَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ النُّحَاةُ فِي هَنِيئًا لَكِنَّهُ حَرَّفَهُ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ أَنَّ انْتِصَابَهُ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَكُلُوهُ أَيْ: كُلُوهُ وَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ. قَالَ: وَقَدْ يُوقَفُ عَلَى فَكُلُوهُ، وَيُبْتَدَأُ هَنِيئًا مَرِيئًا عَلَى الدُّعَاءِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ أُقِيمَتَا مَقَامَ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَنِئًا مَرِئًا انْتَهَى. وَتَحْرِيفُهُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا أَقِيمَا مَقَامَ الْمَصْدَرِ، فَانْتِصَابُهُمَا عَلَى هَذَا انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ هَنَأً مَرَأً، فَصَارَ كَقَوْلِكَ: سَقْيًا وَرَعْيًا، أَيْ: هَنَاءَةً

وَمَرَاءَةً. وَالنُّحَاةُ يَجْعَلُونَ انْتِصَابَ هَنِيئًا عَلَى الْحَالِ، وَانْتِصَابَ مَرِيئًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ. إِمَّا عَلَى الْحَالِ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا حَرَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَصِحَّةِ قَوْلِ النُّحَاةِ ارْتِفَاعُ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ بَعْدَ هَنِيئًا مَرِيئًا، وَلَوْ كَانَا يَنْتَصِبَانِ انْتِصَابَ الْمَصَادِرِ. والمراد بها: الدعاء لما أَجَازَ ذَلِكَ فِيهَا تَقُولُ: سَقْيًا لَكَ وَرَعْيًا، وَلَا يَجُوزُ سَقْيًا اللَّهُ لَكَ، وَلَا رَعْيًا اللَّهُ لَكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي فِعْلِهِ فَتَقُولُ: سَقَاكَ اللَّهُ وَرَعَاكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ بَعْدَهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعِزَّةٍ مِنْ أَعْرَاضِنَا ما استحلت فما: مَرْفُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَنِيءٍ أَوْ مَرِيءٍ. أَوْ بثبت الْمَحْذُوفَةِ عَلَى اخْتِلَافِ السِّيرَافِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ. وَجَازَ الْإِعْمَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا رَابِطُ عَطْفٍ، لِكَوْنِ مَرِيئًا لَا يُسْتَعْمَلُ إلا تابعا لهنيئا، فَصَارَا كَأَنَّهُمَا مُرْتَبِطَانِ لِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ لَوْ قُلْتَ: قَامَ خَرَجَ زَيْدٌ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِعْمَالِ إِلَّا عَلَى نِيَّةِ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّ مَرِيئًا يُسْتَعْمَلُ وَحْدَهُ غَيْرَ تَابِعٍ لهنيئا، وَلَا يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وهنيئا مَرِيئًا اسْمَا فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ جَاءَا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، كَالصَّهِيلِ وَالْهَدِيرِ، وَلَيْسَا مِنْ بَابِ مَا يَطَّرِدُ فِيهِ فَعِيلٌ فِي الْمَصْدَرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهَا غَيْرَ مُضْطَرَّةٍ إِلَى ذَلِكَ بِإِلْحَاحٍ أَوْ شَكَاسَةِ خُلُقٍ، أَوْ سُوءِ مُعَاشَرَةٍ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهَا وَيَتَمَلَّكَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ. وَلَمْ يُوَقَّتْ هَذَا التَّبَرُّعُ بِوَقْتٍ، وَلَا اسْتِثْنَاءٍ فِيهِ رُجُوعٌ. وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهَا مَا لَمْ تَلِدْ، أَوْ تُقِمْ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً، فَلَوْ رَجَعَتْ بَعْدَ الْهِبَةِ فَقَالَ شُرَيْحٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: لَهَا أَنْ تَرْجِعَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ. كَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُضَاتِهِ: أَنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَلَهَا ذَلِكَ. قَالَ شُرَيْحٌ: لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا لَمَا رَجَعَتْ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَالَ تَعَالَى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «1» وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي تَعْلِيقِ الْقَبُولِ عَلَى طيب النفس ذون لَفْظَةِ الْهِبَةِ أَوِ الْإِسْمَاحِ، دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي الْأَخْذِ، وَإِعْلَامٌ أَنَّ الْمُرَاعَى هُوَ طِيبُ نَفْسِهَا بِالْمَوْهُوبِ. وَفِي قَوْلِهِ: هَنِيئًا مَرِيئًا مُبَالَغَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْقَبُولِ وَزَوَالِ التَّبِعَةِ. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 20.

وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي وَلَدِ الرَّجُلِ الصِّغَارِ وَامْرَأَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: فِي الْمَحْجُورِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ اقْتَضَى الصِّفَةَ الَّتِي شَرَطَ اللَّهُ مِنَ السَّفَهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَيُضْعِفُ قول مجاهد أنها في النِّسَاءِ، كَوْنُهَا جَمْعَ سَفِيهَةٍ، وَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَجْمَعُ فَعِيلَةً عَلَى فَعَائِلَ أَوْ فَعِيلَاتٍ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَنَقَلُوا أَنَّ الْعَرَبَ جَمَعَتْ سَفِيهَةً عَلَى سُفَهَاءَ، فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ قَالَتْهُ الْعَرَبُ لِلْمُؤَنَّثِ، فَلَا يَضْعُفُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَإِنْ كَانَ جَمْعُ فَعَيْلَةٍ الصِّفَةِ لِلْمُؤَنَّثِ نَادِرًا لَكِنَّهُ قَدْ نُقِلَ فِي هَذَا اللَّفْظِ خُصُوصًا. وَتَخْصِيصُ ابْنِ عَطِيَّةَ جَمْعَ فَعِيلَةٍ بِفَعَائِلَ أَوْ فَعَيْلَاتٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ يَطَّرِدُ فِيهِ فِعَالٌ كَظَرِيفَةٍ وَظِرَافٍ، وَكَرِيمَةٍ وَكِرَامٍ، وَيُوَافِقُ فِي ذَلِكَ الْمُذَكَّرَ. وَإِطْلَاقُهُ فَعِيلَةً دُونَ أَنْ يَخُصَّهَا بِأَنْ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ نَحْوُ: قَتِيلَةٍ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فَعِيلَةً لَا تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ. وَقِيلَ: عَنَى بِالسُّفَهَاءِ الْوَارِثِينَ الَّذِينَ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَسَفَّهُونَ فِي اسْتِعْمَالِ مَا تَنَالُهُ أَيْدِيهِمْ، فَنَهَى عَنْ جَمْعِ الْمَالِ الَّذِي تَرِثُهُ السُّفَهَاءُ. وَالسُّفَهَاءُ: هُمُ الْمُبَذِّرُونَ الْأَمْوَالَ بِالْإِنْفَاقِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَلَا يَدَ لَهُمْ بِإِصْلَاحِهَا وَتَثْمِيرِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: أَمْوَالَكُمْ أَنَّ الْمَالَ مُضَافٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تُؤْتُوا. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَهَى أَنْ يُدْفَعَ إِلَى السَّفِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ هَذَا فَأَنْ لَا يُؤْتَى شَيْئًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِالنَّهْيِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ. قِيلَ: يَكُونُ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَرْأَةِ جَائِزَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَوْصَى عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهَا لَا تَكُونُ وَصِيًّا. قَالَ: وَلَوْ فَعَلَ حُوِّلَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ. قِيلَ: وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا الْجَاهِلُ بِأَحْكَامِ الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ فَلَا يَتَّجِرْ فِي أَسْوَاقِنَا، وَالْكُفَّارُ» . وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، أَوْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ يُضَارِبَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يُرِيدُ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَأَضَافَهَا إِلَى الْمُخَاطِبِينَ تَغْبِيطًا بِالْأَمْوَالِ، أَيْ: هِيَ لَهُمْ إِذَا احْتَاجُوهَا كَأَمْوَالِكُمُ الَّتِي تَقِي أَعْرَاضَكُمْ وَتَصُونُكُمْ وَتُعَظِّمُ أَقْدَارَكُمْ. وَمِنْ مِثْلِ هَذَا: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوَّلًا قَالَ: وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَأَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا من جنس

_ (1) سورة النساء: 4/ 29.

مَا يُقِيمُ بِهِ النَّاسُ مَعَائِشَهُمْ. كَمَا قَالَ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ «1» ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ «2» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: اللَّاتِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الَّتِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَمْوَالُ جَمْعٌ لَا يَعْقِلُ، فَالْأَصْوَبُ فِيهِ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ انْتَهَى. وَاللَّاتِي جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى لِلَّتِي، فَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ لَا يُوصَفُ بِهِ الْإِمَاءُ وَصْفَ مُفْرَدِهِ بِالَّتِي، وَالْمُذَكَّرُ لَا يُوصَفُ بِالَّتِي سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ غَيْرَ عَاقِلٍ، فَكَانَ قِيَاسُ جَمْعِهِ أَنْ لَا يُوصَفُ بِجَمْعِ الَّتِي الَّذِي هُوَ اللَّاتِي. وَالْوَصْفُ بِالَّتِي يَجْرِي مَجْرَى الْوَصْفِ بِغَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَلْحَقُهَا التَّاءُ لِلْمُؤَنَّثِ. فَإِذَا كَانَ لَنَا جَمْعٌ لَا يَعْقِلُ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَيْهِ كَجَرَيَانِهِ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَيْهِ كَجَرَيَانِهِ عَلَى جَمْعِ الْمُؤَنَّثَاتِ فَتَقُولُ: عِنْدِي جُذُوعٌ مُنْكَسِرَةٌ، كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ، وَجُذُوعٌ مُنْكَسِرَاتٌ. كَمَا تَقُولُ: نِسَاءٌ صَالِحَاتٌ جَرَى الْوَصْفُ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْفِعْلِ. وَالْأَوْلَى فِي الْكَلَامِ مُعَامَلَتُهُ مُعَامَلَةَ مَا جَرَى عَلَى الْوَاحِدَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ لِلْكَثْرَةِ. فَإِذَا كَانَ جَمْعَ قِلَّةٍ، فَالْأَوْلَى عَكْسُ هَذَا الْحُكْمِ: فَأَجْذَاعٌ مُنْكَسِرَاتٌ أَوْلَى مِنْ أَجْذَاعٍ مُنْكَسِرَةٍ، وَهَذَا فِيمَا وُجِدَ لَهُ الْجَمْعَانِ: جَمْعُ الْقِلَّةِ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ. أَمَّا مَا لَا يُجْمَعُ إِلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تُطْلِقُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَإِذَا تقرر هذا أنتج أَنَّ الَّتِي أَوْلَى مِنَ اللَّاتِي، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِجَمْعٍ لَا يَعْقِلُ. وَلَمْ يُجْمَعُ مَالٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ الْقِلَّةُ لِجَرَيَانِ الْوَصْفِ بِهِ مَجْرَى الْوَصْفِ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَلْحَقُهَا التَّاءُ لِلْمُؤَنَّثِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ أَصْوَبَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ فِي النِّسَاءِ: اللَّاتِي، أَكْثَرَ مِمَّا تَقُولُ الَّتِي. وَفِي الْأَمْوَالِ تَقُولُ الَّتِي أَكْثَرَ مِمَّا تَقُولُ اللَّاتِي، وَكِلَاهُمَا فِي كِلَيْهِمَا جائز. وقرىء شاذا للواتي، وَهُوَ أَيْضًا فِي الْمَعْنَى جَمْعُ الَّتِي. وَمَعْنَى قِيَامًا تَقُومُونَ بِهَا وَتَنْتَعِشُونَ بِهَا، وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَتَلِفَتْ أَحْوَالُكُمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَامًا لِأَنَّهُ يُقَامُ بِهَا الْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَإِكْمَالُ الْبِرِّ، وَبِهَا فِكَاكُ الرِّقَابِ مِنْ رِقٍّ وَمِنَ النَّارِ، وَكَانَ السَّلَفُ تَقُولُ: الْمَالُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَلَأَنْ أَتْرُكَ مَا يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَكَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ يُقَلِّبُهَا: لو لاها لَتَمَنْدَلَ أَيْ: بَنُو الْعَبَّاسِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: اتَّجِرُوا فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ إِذَا احْتَاجَ أَحَدُكُمْ كَانَ أَوَّلُ مَا يأكل

_ (1) سورة النساء: 4/ 25. (2) سورة النساء: 4/ 5. [.....]

دِينَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: قِيَمًا، وَجُمْهُورُ السَّبْعَةِ: قياما، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قِوَامًا بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: قَوَامًا بِفَتْحِهَا. وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وقرىء شَاذًّا: قِوَمًا. فَأَمَّا قِيَمًا فَمُقَدَّرٌ كَالْقِيَامِ، وَالْقِيَامِ قَالَهُ: الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ، وَلَيْسَ مَقْصُورًا مِنْ قِيَامٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَقْصُورٌ مِنْهُ. قَالُوا: وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ كَمَا حُذِفَتْ فِي خِيَمٍ وَأَصْلُهُ خِيَامٌ، أَوْ جَمْعُ قِيمَةٍ كَدِيَمٍ جَمْعِ دِيمَةٍ قَالَهُ: الْبَصْرِيُّونَ غَيْرَ الْأَخْفَشِ. وَرَدَّهُ أَبُو عَلِيٍّ: بِأَنَّهُ وُصِفَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: دِيناً قِيَماً «1» وَالْقِيَمُ لَا يُوصَفُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الثَّبَاتُ وَالدَّوَامُ. وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَمَا أُعِلَّ كَمَا لَمْ يُعِلُّوا حِوَلًا وَعِوَضًا، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالِ الْفِعْلِ، لَا سِيَّمَا الثُّلَاثِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ اتَّبَعَ فِعْلَهُ فِي الْإِعْلَالِ فَأُعِلَّ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، فَكَمَا أُعِلَّ الْقِيَامُ أُعِلَّ هُوَ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ: قِيَمًا وَقِوَمًا، قَالَ: وَالْقِيَاسُ تَصْحِيحُ الْوَاوِ، وَإِنَّمَا اعْتَلَّتْ عَلَى وَجْهِ الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِمْ: تِيرَةٌ، وَقَوْلِ بَنِي ضَبَّةَ: طِيَالٌ فِي جميع طَوِيلٍ، وَقَوْلِ الْجَمِيعِ: جِيَادٌ فِي جَمْعِ جَوَادٍ. وَإِذَا أَعَلُّوا دِيَمًا لِاعْتِلَالِ دِيمَةٍ، فَإِنَّ إِعْلَالَ الْمَصْدَرِ لِاعْتِلَالِ فِعْلِهِ أَوْلَى. أَلَا تَرَى إِلَى صِحَّةِ الْجَمْعِ مَعَ اعْتِلَالِ مُفْرَدِهِ فِي مَعِيشَةٍ وَمَعَائِشَ، وَمَقَامَةٍ وَمَقَاوِمَ، وَلَمْ يُصَحِّحُوا مَصْدَرًا أَعَلُّوا فِعْلَهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ هُنَا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِيمَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُهُ دِينًا قِيَمًا. وَأَمَّا قِيَامٌ فَظَاهِرٌ فِيهِ الْمَصْدَرُ، وَأَمَّا قِوَامٌ فَقِيلَ: مَصْدَرُ قَاوَمَ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ مَا يُقَامُ بِهِ كَقَوْلِكَ: هُوَ مِلَاكُ الْأَمْرِ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ. وَأَمَّا قِوَامٌ فَخَطَأٌ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: الْقِوَامُ امْتِدَادُ الْقَامَةِ، وَجَوَّزَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ: هُوَ فِي مَعْنَى الْقَوَامِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: الْقِوَامُ الْقَامَةُ، وَالْمَعْنَى: الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبَ بَقَاءِ قَامَاتِكُمْ. وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أَيْ: أَطْعِمُوهُمْ وَاجْعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا. قِيلَ: مَعْنَاهُ فِيمَنْ يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَتُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَبَنِيهِ الصِّغَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَعْمِدْ إِلَى هَلَاكِ الشَّيْءِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَكَ مَعِيشَةً فَتُعْطِيَهُ امْرَأَتَكَ أَوْ بَنِيَكَ ثُمَّ تُنْظَرَ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَمْسِكْ ذَلِكَ وَأَصْلِحْهُ، وَكُنْ أَنْتَ تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم. وَقِيلَ: فِي الْمَحْجُورِينَ، وَهُوَ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا مَنْ هُمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: اجْعَلُوهَا مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَرْبَحُوا، حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ، فَلَا يَأْكُلُهَا الْإِنْفَاقُ. قِيلَ: وَقَالَ فِيهَا: وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا تَنْبِيهًا عَلَى مَا قَالَهُ عَلَيْهِ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 161.

السَّلَامُ: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى التِّجَارَةَ لَا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ» وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضَلَاتِهَا الْمُكْتَسَبَةِ. وَقِيلَ فِي: بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ مِنْهَا. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً الْمَعْرُوفُ: مَا تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ وَتَأْنَسُ إِلَيْهِ وَيَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْمَحْجُورِينَ، فَمِنَ الْمَعْرُوفِ وَعْدُهُمُ الْوَعْدَ الْحَسَنَ بِأَنَّكُمْ إِذَا رَشَدْتُمْ سَلَّمَنَا إِلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعطاء، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا رَبِحْتُ أَعْطَيْتُكَ، وَإِذَا غَنِمْتُ فِي غَزَاتِي، جَعَلْتُ لَكَ حَظًّا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ النِّسَاءَ وَالْبَنِينَ الْأَصَاغِرَ وَالسُّفَهَاءَ الْأَجَانِبَ، فَتَدْعُو لَهُمْ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَحَاطَكُمْ، وَشِبْهُهُ قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الرَّدُّ الْجَمِيلُ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى بِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ «1» وَأَمَرَ ثَانِيًا بِإِيتَاءِ أَمْوَالِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ «2» وَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَنَّ ذَلِكَ الْإِيتَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِغَيْرِ السَّفِيهِ، وَخَصَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ، وَقَيَّدَ الْإِطْلَاقَ الَّذِي فِي الْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ. وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ قِيلَ: تُوُفِّيَ رِفَاعَةُ وَتَرَكَ ابْنَهُ ثَابِتًا صَغِيرًا فَسَأَلَ: إِنَّ ابْنَ أَخِي فِي حِجْرِي، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِهِ، وَمَتَى أَدْفَعُ إِلَيْهِ مَالَهُ؟ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: تُوُفِّيَ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَيُقَالُ: أَوْسُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنْ زَوْجَتِهِ أُمِّ كَجَّةَ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ وَابْنَيْ عَمِّ سويد. وقيل: قتادة وَعَرْفَجَةُ فَأَخَذَا مَالَهُ وَلَمْ يُعْطِيَا الْمَرْأَةَ وَلَا الْبَنَاتِ شَيْئًا. وَقِيلَ: الْمَانِعُ إِرْثَهُنَّ هُوَ عَمُّ بَنِيهَا وَاسْمُهُ: ثَعْلَبَةُ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْبَنَاتِ وَلَا الِابْنَ الصَّغِيرَ الذَّكَرَ، فَشَكَتْهُمَا أُمُّ كَجَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَدُهَا لَا يَرْكَبُ فَرَسًا، وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا، وَلَا يُنْكِي عَدُوًّا فَقَالَ: «انْصَرِفُوا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ» فَنَزَلَتْ. وَابْتِلَاءُ الْيَتَامَى اخْتِبَارُهُمْ فِي عُقُولِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ، ومقاتل، وسفيان. أَوْ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ وَحِفْظِهِمْ لِأَمْوَالِهِمْ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا. ذَكَرَهُ: الثَّعْلَبِيُّ. وَكَيْفِيَّةُ اخْتِبَارِ الصَّغِيرِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنَ الْمَالِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَالْوَصِيُّ يُرَاعِي حَالَهُ فِيهِ لِئَلَّا يُتْلِفَهُ. وَاخْتِبَارُ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهَا أَمْرُ الْبَيْتِ وَالنَّظَرُ فِي الِاسْتِغْزَالِ دَفْعًا وَأُجْرَةً وَاسْتِيفَاءً. وَاخْتِلَافُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِحَالِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِمَا يُعَانِيهِ مِنَ الْأَشْغَالِ وَالصَّنَائِعِ، فَإِذَا أَنِسَ منه الرشد بعد البلوغ وَالِاخْتِبَارِ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ يَعْقُبُ الدَّفْعَ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 1. (2) سورة النساء: 4/ 4.

وَالْإِشْهَادُ الْإِينَاسُ الْمَشْرُوطُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِينَاسِ وَالِاخْتِبَارِ الْمَذْكُورَيْنِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَنَةٌ وَتُدَاوِلُهُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعُ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِسِنِّ الْبُلُوغِ، وَلَا بِمَاذَا يَكُونُ. وَتَكَلَّمَ فِيهَا هُنَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْكَلَامُ فِي الْبُلُوغِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ بَقِيَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ دَائِمًا، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمَالُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُنْتَظَرُ بِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْدَادِ الْوَصِيِّ بِالدَّفْعِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَيُثْبِتَ عِنْدَهُ رُشْدَهُ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ يَأْمَنُهُ الْحَاكِمُ. وَظَاهِرُ عُمُومِ الْيَتَامَى انْدِرَاجُ الْبَنَاتِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُنَّ حُكْمَ الْبَنِينَ فِي ذَلِكَ. فَقِيلَ: يُعْتَبَرُ رُشْدُهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بِالْبُلُوغِ. وَقِيلَ: الْمُدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ. وَقِيلَ: سَنَةٌ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ فِي ذَاتِ الْأَبِ، وَعَامٌ وَاحِدٌ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا. وحتى هُنَا غَايَةٌ لِلِابْتِلَاءِ، وَدَخَلَتْ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ: إِذَا، وَجَوَابُهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ، وَجَوَابُهُ وجواب إن آنستم: فَادْفَعُوا. وَإِينَاسُ الرُّشْدِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى بُلُوغِ النِّكَاحِ، فَيَلْزَمُ أن يكون بعده. وحتى إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الشَّرْطِ لَا تَكُونُ عَامِلَةً، بَلْ هِيَ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمَلُ كَقَوْلِهِ: وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ وَقَوْلِهِ: وَحَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ دُرَسْتَوَيْهِ إِلَى أَنَّ الجملة في موضع جر، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ عَامِلَةٍ أَلْبَتَّةَ. وَفِي قَوْلِهِ: بَلَغُوا النِّكَاحَ تَقْدِيرٌ مَحْذُوفٌ وَهُوَ: بَلَغُوا حَدَّ النِّكَاحِ أَوْ وَقْتَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى آنَسْتُمْ عَرَفْتُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: رَأَيْتُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَدْتُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلِمْتُمْ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَإِنْ أَحَسْتُمْ، يُرِيدُ أَحْسَسْتُمْ. فَحَذَفَ عَيْنَ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا الْحَذْفُ شُذُوذٌ لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ. وَحَكَى غَيْرُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّهَا لُغَةُ سُلَيْمٍ، وَأَنَّهَا تَطَّرِدُ فِي عَيْنِ كُلِّ فِعْلٍ مُضَاعَفٍ اتَّصَلَ بِتَاءِ الضَّمِيرِ أَوْ نُونِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأبو السمال وعيسى الثقفي: رشدا بفتحتين. وقرىء شَاذًّا: رُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ، وَنَكَّرَ رُشْدًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَوْعٌ

مِنَ الرُّشْدِ، وَطَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ مِنْ مَخِيلَتِهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ تَمَامُ الرُّشْدِ. قَالَ ابن عطية ومالك: يَرَى الشَّرْطَيْنِ: الْبُلُوغَ وَالرُّشْدَ، وَحِينَئِذٍ يُدْفَعُ الْمَالُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَرَى أَنْ يُدْفَعَ الْمَالُ بِالشَّرْطِ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يُحْفَظْ لَهُ سَفَهٌ، كَمَا أُبِيحَتِ التَّسْرِيَةُ بِالشَّرْطِ الْوَاحِدِ. وَكِتَابُ اللَّهِ قَدْ قَيَّدَهَا بِعَدَمِ الطَّوَلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ. وَالتَّمْثِيلُ عِنْدِي فِي دَفْعِ الْمَالِ بِتَوَالِي الشَّرْطَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُلُوغَ لَمْ تَسُقْهُ الْآيَةُ سَبَبًا فِي الشَّرْطِ، وَلَكِنَّهَا حَالَةُ الْغَالِبِ عَلَى بَنِي آدَمَ أَنْ تَلْتَئِمَ عُقُولُهُمْ فِيهَا، فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ شَرْطُ الرُّشْدِ إِلَّا فِيهِ. فَقَالَ: إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الشَّرْطِ وَهُوَ: الرُّشْدُ حِينَئِذٍ. وَفَصَاحَةُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ بالبلوغ جاء بإذا، والمشروط جاء بإن الَّتِي هِيَ قَاعِدَةُ حُرُوفِ الشرط. وإذا لَيْسَتْ بِحَرْفِ شَرْطٍ لِحُصُولِ مَا بَعْدَهَا، وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ يُجَازَى بِهَا فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ: فَعَلُوا ذَلِكَ مُضْطَرِّينَ، وَإِنَّمَا جُوزِيَ بِهَا لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَلِأَنَّهَا يَلِيهَا الْفِعْلُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا. وَاحْتَجَّ الْخَلِيلُ عَلَى مَنْعِ شَرْطِيَّتِهَا بِحُصُولِ مَا بَعْدَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَجِيئُكَ إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ، وَلَا تَقُولُ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ إِذَا ظَرْفٌ مُجَرَّدٌ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِكَلَامِ النَّحْوِيِّينَ. بَلِ النَّحْوِيُّونَ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ إِذَا ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا، وَإِنْ صَرَّحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَدَاةَ شَرْطٍ فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَجْزِمُ كَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ، لَا نَفَى كَوْنَهَا تَأْتِي لِلشَّرْطِ. وَكَيْفَ تَقُولُ ذَلِكَ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا أَنَّهَا تَكُونُ شَرْطًا؟ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَى حُكْمِ مَنْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّفَهِ، أَيَعُودُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ مَالِكٌ: يَعُودُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعُودُ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِالْأَكْلِ عَنِ الْأَخْذِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَعْظَمُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَأْخُوذِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ. نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَإِتْلَافِهَا بِسُوءِ التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ وَشَرْطَهُ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى بُلُوغِ النِّكَاحِ. وَهُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ: وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا، فَيَلْزَمُ مِنْهُ مَشَقَّةٌ عَلَى مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَتَّضِحُ خَطَأُ مَنْ جَعَلَ وَلَا تَأْكُلُوهَا عَطْفًا عَلَى فَادْفَعُوا، وَلَيْسَ تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِمَّا يُبِيحُ الْأَكْلَ بِدُونِهِمَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالسَّرَفُ الْخَطَأُ فِي مَوَاضِعِ الْإِنْفَاقِ. قَالَ: أعطوا هنيدة تجدوها ثَمَانِيَةٌ ... مَا فِي عَطَائِهِمْ مَنٌّ وَلَا سَرَفُ

أَيْ: لَيْسَ يُخْطِئُونَ مَوَاضِعَ الْعَطَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَمُبَادَرَةُ كِبَرِهِمْ أَنَّ الْوَصِيَّ يَسْتَغْنِمُ مَالَ مَحْجُورِهِ فَيَأْكُلُ وَيَقُولُ: أُبَادِرُ كِبَرَهُ لِئَلَّا يَرْشُدَ وَيَأْخُذَ مَالَهُ. وَانْتَصَبَ إِسْرَافًا وَبِدَارًا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُسْرِفِينَ وَمُبَادِرِينَ. وَالْبِدَارُ مَصْدَرُ بَادَرَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. لِأَنَّ الْيَتِيمَ مُبَادِرٌ إِلَى الْكِبَرِ، وَالْوَلِيُّ مُبَادِرٌ إِلَى أَخْذِ مَالِهِ، فَكَأَنَّهُمَا مُسْتَبِقَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ، وَأُجِيزَ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يَكْبَرُوا مَفْعُولٌ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ: كِبَرُكُمْ كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعَامٌ يَتِيمًا «1» وَفِي إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ خِلَافٌ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرُوا، فَيَكُونُ أَنْ يَكْبَرُوا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَمَفْعُولُ بِدَارًا مَحْذُوفٌ. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَقْسِيمٌ لِحَالِ الْوَصِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ، فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعْفَافِ عَنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَاقْتِنَاعِهِ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْغِنَى، وَأَبَاحَ لَهُ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا، بِحَيْثُ يَأْخُذُ قُوتًا مُحْتَاطًا فِي تَقْدِيرِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ أَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ مَا أَخَذَ مِمَّا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ بِمَا لَا يَكُونُ رَفِيعًا مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا يَقْضِي إِذَا أيسر قاله: ابراهيم، وعطاء، والحسن، وقتادة، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفُقَهَاءُ. وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وعبيدة، والشعبي، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: يَقْضِي إِذَا أَيْسَرَ، وَلَا يَسْتَلِفُ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو العالية، والحسن، والشعبي: إِنَّمَا يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا شَرِبَ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَكَلَ مِنَ التَّمْرِ، بِمَا يَهْنَأُ الجرباء ويليط الحوض، ويجد التَّمْرَ وَمَا أَشْبَهَهُ. فَأَمَّا أَعْيَانُ الْأَمْوَالِ وَأُصُولُهَا فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَعْرُوفُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرٌ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَفَصَّلَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ فَلَهُ الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ وَصِيَّ حَاكِمٍ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْمَالِ بِوَجْهٍ، وَأُجْرَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَفَصَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ وَصِيُّ الْيَتِيمِ مُقِيمًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْتَنِي شَيْئًا. وَفَصَّلَ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مُضْطَرًّا بِحَالِ مَنْ

_ (1) سورة النساء: 4/ 6.

يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَكَلَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَرَدَّ إِذَا وَجَدَ، وَإِلَّا فَلَا يَأْكُلْ لَا سَفَرًا وَلَا حَضَرًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْإِبَاحَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «1» . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَعَلَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «2» فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيُّ أَيْضًا: هَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغَنِيَّ يَسْتَعْفِفُ بِغِنَاهُ، وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَيَقُومُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالِهِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى مَالِ يَتِيمِهِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلْكَيَا الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ كَثِيرًا يَحْتَاجُ إِلَى قِيَامٍ كَثِيرٍ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَشْغَلُ الْوَلِيَّ عَنْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَمُهِمَّاتِهِ فُرِضَ لَهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَجْرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْغَلُهُ فَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ شُرْبُ قَلِيلِ اللَّبَنِ، وَأَكْلُ قَلِيلِ الطَّعَامِ وَالسَّمْنِ، غَيْرَ مضربه وَلَا مُسْتَكْثِرٍ مِنْهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالْمُسَامَحَةُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ رَبِيعَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: هَذَا تَقْسِيمٌ لِحَالِ الْيَتِيمِ، لَا لِحَالِ الْوَصِيِّ. وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا فَلْيَعِفَّ بِمَالِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا فَلْيُقْتِرْ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَالِاقْتِصَادِ. وَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْعَيْنِ، وَيُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ. خُوطِبَ الْيَتَامَى بِالِاسْتِعْفَافِ وَالْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمُرَادُ الْأَوْلِيَاءُ. لِأَنَّ الْيَتَامَى لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ: إِنْ كَانَ الْيَتِيمُ غَنِيًّا فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِ نَفَقَةَ مُتَعَفِّفٍ مُقْتَصِدٍ لِئَلَّا يَذْهَبَ مَالُهُ بِالتَّوَسُّعِ فِي نَفَقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيُنْفِقْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَالِهِ لِئَلَّا يَذْهَبَ فَيَبْقَى كَلًّا مُضْعَفًا. فَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُلَخَّصُهَا: هَلْ تَقْسِيمٌ فِي الْوَلِيِّ أَوِ الصَّبِيِّ قَوْلَانِ: فَإِذَا كَانَ فِي الْوَلِيِّ فَهَلِ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ مَالِ الصَّبِيِّ؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَالِ الصَّبِيِّ، هَلْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا، فَهَلْ يَكُونُ تَفْصِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكْلِ أَوِ الْمَأْكُولِ؟ قَوْلَانِ. فَإِذَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكْلِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِوَلِيِّ الْأَبِ، أَوْ بِالْمُسَافِرِ، أَوْ بِالْمُضْطَرِّ، أَوْ بِالْمُشْتَغِلِ بِذَلِكَ عَنْ مُهِمَّاتِ نَفْسِهِ؟ أَقْوَالٌ. وَإِذَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْكُولِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِالتَّافِهِ أَمْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَهَلْ يَكُونُ أُجْرَةً أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أُجْرَةً فَأَخَذَ، فَهَلْ يَتَرَتَّبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ إِذَا أَيْسَرَ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَلَفْظَةُ فَلْيَسْتَعْفِفْ أَبْلَغُ مِنْ فَلْيَعِفَّ، لِأَنَّ فِيهِ طَلَبَ زيادة العفة.

_ (1) سورة النساء: 4/ 10. (2) سورة البقرة: 2/ 188.

فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ لِحَسْمِ مَادَّةِ النِّزَاعِ، وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الضَّمَانِ وَالْغُرْمِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْكَارِ الْيَتِيمِ، وَطَيَّبَ خَاطِرَ الْيَتِيمِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَانْتِظَامِهِ فِي سِلْكِ مَنْ يُعَامَلُ وَيُعَامِلُ. وَإِذَا لَمْ يَشْهَدْ فَادَّعَى عَلَيْهِ صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ. وَالشَّافِعِيِّ: لَا يُصَدَّقُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ. فَكَانَ فِي الْإِشْهَادِ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَوَجُّهِ الْحَلِفِ الْمُفْضِي إِلَى التُّهْمَةِ، أَوْ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ إِذْ لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ نَدْبٌ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَهِيَ الْمَأْمُورُ بِدَفْعِهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «1» وَقَالَ عَمْرُو بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا الْإِشْهَادُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى دَفْعِ الْوَلِيِّ مَا اسْتَقْرَضَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ حَالَةَ فَقْرِهِ إِذَا أَيْسَرَ. وَقِيلَ: فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، الْمَعْنَى: أَقْرَضْتُمْ أَوْ أَكَلْتُمْ فَأَشْهِدُوا إِذَا غَرِمْتُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا أَنْفَقْتُمْ شَيْئًا عَلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَأَشْهِدُوا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ خِلَافٌ أَمْكَنَ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ مَالًا قُبِضَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ بِإِشْهَادٍ لَا يُبْرَأُ مِنْهُ إِلَّا بِإِشْهَادٍ عَلَى دَفْعِهِ. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أَيْ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْكُمْ. وَمَعْنَاهُ: مُحْسِبًا مِنْ أَحْسَبَنِي كَذَا، أَيْ كَفَانِي، قَالَهُ: الْأَعْمَشُ وَالطَّبَرِيُّ. فَيَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، أَوْ مُحَاسِبًا، أَوْ حَاسِبًا لِأَعْمَالِكُمْ يُجَازِيكُمْ بِهَا، فَعَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِجَاحِدِ الْحَقِّ. وَحَسِيبٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، حُوِّلَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْبَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَى حَسِيبًا شَهِيدًا. وَفِي كَفَى خِلَافٌ: أَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ، أَمْ فِعْلٌ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِعْلٌ، وَفَاعِلُهُ اسْمُ اللَّهِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الِاكْتِفَاءِ، أَيْ: كَفَى هُوَ، أَيِ الِاكْتِفَاءُ بِاللَّهِ، وَالْبَاءُ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، فَيَكُونُ بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِالْفَاعِلِ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُسَوَّغُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ يُجِيزُونَ إِعْمَالَ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ كَإِعْمَالِ ظَاهِرِهِ. وَإِنْ عَنَى بِالْإِضْمَارِ الْحَذْفَ فَفِيهِ إِعْمَالُ الْمَصْدَرِ وهو موصول، وإبقاء معموله وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ، أَعْنِي: حَذْفَ الْفَاعِلِ وَحَذْفَ الْمَصْدَرِ. وَانْتَصَبَ حَسِيبًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِصَلَاحِيَّةِ دُخُولِ من عليه. وقيل:

_ (1) سورة النساء: 4/ 6.

على الحال. وكفى هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَكَفَاكُمُ اللَّهُ حَسِيبًا. وَتَأْتِي بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، فَتُعَدِّيهِ إِلَى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «1» لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا هُوَ خَبَرُ أُمِّ كَجَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، قاله: عكرمة وقتادة وَابْنُ زَيْدٍ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: كَانَ الْيُونَانُ يُعْطُونَ جَمِيعَ الْمَالِ لِلْبَنَاتِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْجَزُ عَنِ الْكَسْبِ، وَالْمَرْأَةُ تَعْجَزُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ لَا يُعْطُونَ الْبَنَاتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. وَالْمَعْنِيُّ: بِالرِّجَالِ الذُّكُورُ، وَبِالنِّسَاءِ الْإِنَاثُ كَقَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً «2» . وَأَبْهَمَ فِي قوله: نصيب، ومما تَرَكَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لنصيب. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ نَصِيبٌ فَهُوَ مِنْ تَمَامِهِ. وَالْوَالِدَانِ: يَعْنِي وَالِدَيِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهُمَا أَبَوَاهُمْ، وَسُمِّيَ الْأَبُ وَالِدًا، لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَمِنَ الْوَالِدَةِ. وَلِلِاشْتِرَاكِ جَاءَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّاءِ كَقَوْلِهِ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «3» وَجُمِعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ قِيَاسًا كَقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ «4» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بِحَيْثُ يَعْتَشُّ الْغُرَابُ الْبَائِضُ لِأَنَّ الْبَيْضَ مِنَ الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَادَ بِالْغُرَابِ هُنَا الذَّكَرُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْغُرَابِ يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَيْسَ مِمَّا فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَنَّثِهِ بِالتَّاءِ. فَهُوَ كَالرُّعُوبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَا يُرَجِّحُ كَوْنَهُ ذَكَرًا وَصْفُهُ بِالْبَائِضِ، وَهُوَ وَصْفُ مُذَكَّرٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يكون ذكر حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ، إِذْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ كَمَا أُنِّثَ الْمُذَكَّرُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ: وَعَنْتَرَةُ الْفَلْحَاءُ. وفي قوله: أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى. وَالْأَقْرَبُونَ: هُمُ الْمُتَوَارِثُونَ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَاتِ. وَقَدْ أَبْهَمَ فِي لَفْظِ الْأَقْرَبُونَ كَمَا أَبْهَمَ فِي النَّصِيبِ، وَعَيَّنَ الْوَارِثَ وَالْمِقْدَارَ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ، هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ الْأَخِيرِ، أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرِّ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ الْأَخِيرِ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مُرَادٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يضطرّ إلى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 137. (2) سورة النساء: 4/ 1. (3) سورة البقرة: 2/ 233. (4) سورة البقرة: 2/ 233.

ذِكْرِهِ لِأَنَّ الْبَدَلَ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَوْضِيحُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ الْعُمُومُ فِي الْمَتْرُوكِ. وَهَذَا الْبَدَلُ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعَيِ الْمَتْرُوكِ مِنَ الْقِلَّةِ أَوِ الْكَثْرَةِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِمَّا قَلَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي تَرَكَ، أَيْ: مِمَّا تَرَكَهُ مُسْتَقِرًّا مِمَّا قَلَّ. وَمَعْنَى نَصِيبًا مَفْرُوضًا: أَيْ حَظًّا مَقْطُوعًا بِهِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَحُوزُوهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَمَكِّيٌّ: نَصِيبًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، الْمَعْنَى: لِهَؤُلَاءِ أَنْصِبَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هُنَا فِي حَالِ الْفَرْضِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ وَحَّدَهُ كَقَوْلِكَ لَهُ: عَلَيَّ كَذَا حَقًّا لَازِمًا، وَنَحْوُهُ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ «1» وَلَوْ كَانَ اسْمًا صَحِيحًا لَمْ يُنْصَبْ، لَا تَقُولُ: لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ دِرْهَمًا انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، كَأَنَّهُ قِسْمَةٌ مَفْرُوضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوًا مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ نُصِبَ كَمَا يُنْصَبُ الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تقدبره: فَرْضًا. وَلِذَلِكَ جَازَ نَصْبُهُ كَمَا تَقُولُ لَهُ: عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا حَقًّا وَاجِبًا، وَلَوْلَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي فِيهِ مَا جَازَ فِي الاسم الَّذِي لَيْسَ بِمَصْدَرٍ هَذَا النَّصْبَ، وَلَكِنْ حَقُّهُ الرَّفْعُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ، وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ لِأَنَّ الِانْتِصَابَ عَلَى الْحَالِ مُبَايِنٌ لِلِانْتِصَابِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ مُخَالِفٌ له. وقال الزمخشري: ونصيبا مَفْرُوضًا نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي: نَصِيبًا مَفْرُوضًا مَقْطُوعًا وَاجِبًا انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى بِالِاخْتِصَاصِ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِكَوْنِهِ نَكِرَةً، وَالْمَنْصُوبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَكِرَةً. وَقِيلَ: انْتَصَبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ أَيْ نَصِيبُهُ نَصِيبًا. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ. وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: جَعَلْتُهُ أَوْ، أَوْجَبْتُ لَهُمْ نَصِيبًا. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَاسْتُدِلَّ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِسْمَةِ فِي الْحُقُوقِ الْمُتَمَيِّزَةِ إِذَا أَمْكَنَتْ وَطَلَبَ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ، إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِغَيْرِهِ عَلَى حاله كالحمام والرحا والبئر وَالدَّارِ الَّتِي تَبْطُلُ مَنَافِعُهَا بِافْتِرَاقِ السِّهَامِ. فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تُقَسَّمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُقَسَّمُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَا أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ تَوْرِيثِ الأخ للميت مع

_ (1) سورة النساء: 4/ 11.

الْبِنْتِ، فَإِذَا أَخَذَتِ النِّصْفَ أَخَذَ الْبَاقِيَ. وَاخْتُلِفَ فِي ابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ: لِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وقال عمر وعبد الله وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ: الْمَالُ لِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ. وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ يقسمونها عند ما يَحْضُرُ الْمَوْتُ فِي وَصِيَّةٍ، وَجِهَاتٍ يَخْتَارُونَهَا، وَيَحْضُرُهُمْ مِنَ الْقَرَابَاتِ مَحْجُوبٌ عَنِ الْإِرْثِ، فَيُوصُونَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكُونَ الْمَحْجُوبِينَ فَيُحْرَمُونَ الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَابِ الْفَرَائِضِ يَحْضُرُهُمْ أَيْضًا مَحْجُوبٌ، فَأُمِرُوا أَنْ يَرْضَخُوا لَهُمْ مِمَّا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَبِهِ قَالَ: عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ قَالُوا: كَانَتْ قِسْمَةً جَعَلَهَا اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَظٍّ حَظَّهُ، وَجَعَلَ الْوَصِيَّةَ لِلَّذِينَ يُحْرَمُونَ وَلَا يَرِثُونَ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمَرَ اللَّهُ مَنِ اسْتَحَقَّ إِرْثًا، وَحَضَرَ الْقِسْمَةَ قَرِيبٌ أَوْ يَتِيمٌ أَوْ مِسْكِينٌ لَا يَرِثُ، أَنْ لَا يُحْرَمُوا إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا، وَأَنْ يُعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَأَمَرَ بِهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ يَقْسِمُونَ لَهُمْ مِنَ الْعَيْنِ الْوَرِقَ وَالْفِضَّةَ، فَإِذَا قَسَّمُوا الْأَرَضِينَ وَالرَّقِيقَ قَالُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا: بُورِكَ فِيكُمْ. وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي بَكْرٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا لَا يَتَصَرَّفُ، هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْوَلِيُّ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِيبَ مَا قَبْلَهَا أَنَّهَا فِي الْوَارِثِينَ لَا فِي الْمُحْتَضَرِينَ الْمُوصِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْقِسْمَةِ أَنَّهَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقَسَمِ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقِسْمَةِ الْمَقْسُومُ. وَقِيلَ: الْقِسْمَةُ الِاسْمُ مِنَ الِاقْتِسَامِ لَا مِنَ الْقَسْمِ، كَالْخِيرَةِ مِنَ الِاخْتِيَارِ. وَلَا يَكَادُ الْفُصَحَاءُ يَقُولُونَ قَسَمْتُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً، وَرَوَى ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ. وَقِسْمَتُكَ مَا أَخَذْتَهُ مِنَ الْأَقْسَامِ، وَالْجَمْعُ قِسَمٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْقَسْمُ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنَ الْجُزْءِ، وَيُقَالُ: قَاسَمْتُ فُلَانًا الْمَالَ وَتَقَاسَمْنَاهُ وَاقْتَسَمْنَاهُ، وَالْقَسْمُ الَّذِي يُقَاسِمُكَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ، الْوُجُوبُ. وَبِهِ قَالَ جماعة منهم: مجاهد، وعطاء، وَالزُّهْرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ: هُوَ نَدْبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ إضافة

_ (1) سورة النجم: 53/ 22.

الرِّزْقِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «1» وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْوَرَثَةِ وَاجِبًا فَنَسَخَتْهُ آيَةُ الْمِيرَاثِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَالِ الْمَقْسُومِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَهِيَ الْمَصْدَرُ تَدُلُّ عَلَى مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ الْمَالُ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ. وَمَنْ قَالَ: الْقِسْمَةُ الْمَقْسُومُ، أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْقِسْمَةِ عَلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ، إِذِ الْمُرَادُ الْمَقْسُومُ. وَقَدَّمَ الْيَتَامَى عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ ضَعْفَهُمْ أَكْثَرُ، وَحَاجَتُهُمْ أَشَدُّ، فَوَضْعُ الصَّدَقَاتِ فِيهِمْ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ الْمَقْسُومِ، وَرَأَى عُبَيْدَةُ وَابْنُ سِيرِينَ: أَنَّ الرِّزْقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُصْنَعَ لَهُمْ طَعَامٌ يَأْكُلُونَهُ، وَفَعَلَا ذَلِكَ وَذَبَحَا شَاةً مِنَ التَّرِكَةِ، وَقُسِّمَ عِنْدَ عُبَيْدَةَ مَالٌ لِيَتِيمٍ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً وَذَبَحَهَا، وَقَالَ عُبَيْدَةُ: لَوْلَا هَذِهِ لَكَانَتْ مِنْ مَالِي. وَقَوْلُهُ: مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ، وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ. إِذْ لَوْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ لَبَيَّنَ اللَّهُ قَدْرَ ذَلِكَ الْحَقِّ، كَمَا بَيَّنَ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَعَلَى هَذَا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ كِبَارًا، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَلَيْسَ إِلَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَقُولُوا لَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي: فارزقوهم، وهم: أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ فِي فَارْزُقُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى أُولِي الْقُرْبَى الْمُوصَى لَهُمْ، وَفِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. أَمَرَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَقِيلَ أَيْضًا بِتَفْرِيقِ الضَّمِيرِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ. فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ رَاجِعٌ إِلَى أُولِي الْقُرْبَى. وَقَوْلُهُ: لَهُمْ، رَاجِعٌ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَمَا قِيلَ مِنْ تَفْرِيقِ الضَّمِيرِ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْمَقُولُ الْمَعْرُوفُ فَسَّرَهُ هُنَا ابْنُ جُبَيْرٍ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: هَذَا الْمَالُ لِقَوْمٍ غُيَّبٍ أَوْ لِيَتَامَى صِغَارٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالرِّزْقِ وَالْغِنَى. وَقِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ مَا أَرْضَخُوهُمْ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: الْعِدَةُ الْحَسَنَةُ بِأَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ أَيْتَامٌ صِغَارٌ، فَإِذَا بَلَغُوا أَمَرْنَاهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَقَّكُمْ قَالَهُ: عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ مَا يُؤْنَسُ بِهِ مِنْ دُعَاءٍ وَغَيْرِهِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ يَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: إِمَّا أَنْ يُعْطُوا وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لهم قول معروف.

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 11. [.....]

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِخَشْيَةِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ. وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مَنْ يَنْظُرُ فِي حَالِ ذَرِّيَّةٍ ضِعَافٍ لِتَنْبِيهِهِ على ذلك بِكَوْنِهِ هُوَ يَتْرُكُ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وُلَاةُ الْأَيْتَامِ، وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالَّذِي يَنْهَى الْمُحْتَضِرَ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ وَيَحْسُنُ لَهُ الْإِمْسَاكُ عَلَى قَرَابَتِهِ وَأَوْلَادِهِ. وَبِهِ فَسَّرَ مِقْسَمٌ وَحَضْرَمِيٌّ، وَالَّذِي يَأْمُرُ الْمُحْتَضِرَ بِالْوَصِيَّةِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَيُذَكِّرُهُ بِأَنْ يُقَدِّمَ لِنَفْسِهِ، وَقَصْدُهُ إِيذَاءُ وَرَثَتِهِ بِذَلِكَ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ جَمِيعُ النَّاسِ أُمِرُوا بِاتِّقَاءِ اللَّهِ فِي الْأَيْتَامِ وَأَوْلَادِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي حِجْرِهِمْ. وَأَنَّ يُسَدِّدُوا لَهُمُ الْقَوْلَ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُفْعَلَ بِأَوْلَادِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَنْ يَكُونَ آمِرًا لِلْوَرَثَةِ بِالشَّفَقَةِ عَلَى الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْقِسْمَةَ مِنْ ضُعَفَاءِ أَقَارِبِهِمْ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَوْلَادَهُمْ بَقُوا خَلْفَهُمْ ضَائِعِينَ مُحْتَاجِينَ، هَلْ كَانُوا يَخَافُونَ عَلَيْهِمُ الْحِرْمَانَ وَالْخَشْيَةَ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. قَالَ الْقَاضِي: الْأَلْيَقُ بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَيْتَامِ، فَجَعَلَ تَعَالَى آخِرَ مَا دَعَاهُمْ بِهِ إِلَى حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى حَالِ أَنْفُسِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِذَا تَصَوَّرُوهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ فِي: وَلِيَخْشَ، وَفِي: فَلِيَتَّقُوا، وَلِيَقُولُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِسْكَانِ. وَمَفْعُولُ وَلْيَخْشَ مَحْذُوفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ الْجَلَالَةِ أَيِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَذْفُ عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ، أَعْمَلَ فَلْيَتَّقُوا. وَحَذَفَ مَعْمُولَ الْأَوَّلِ، إِذْ هُوَ مَنْصُوبٌ يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ اقْتِصَارًا، فَكَانَ حَذْفُهُ اخْتِصَارًا أَجْوَزَ، وَيَصِيرُ نَحْوَ قَوْلِكَ: أَكْرَمْتُ فَبَرَرْتُ زَيْدًا. وَصِلَةُ الَّذِينَ الْجُمْلَةُ مِنْ لَوْ وَجَوَابِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ لَوْ تَرَكُوا لَخَانُوا. وَيَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ فِي جَوَابِ لَوْ تَقُولُ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو، وَلَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا خَلْفَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا وَذَلِكَ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ، خَافُوا عَلَيْهِمُ الضَّيَاعَ بَعْدَهُمْ لِذَهَابِ كَافِلِهِمْ وَكَاسِبِهِمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إِلَيَّ حُبًّا ... بَنَاتِي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ أُحَاذِرُ أَنْ يَرِثْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِي ... وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقًا بَعْدَ صَافِ

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَوْ تَرَكُوا، لَوْ يَمْتَنِعُ بِهَا الشَّيْءُ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، وخافوا جَوَابُ لَوِ انْتَهَى. فَظَاهِرُ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ لَوْ هنا هي الَّتِي تَكُونُ تَعْلِيقًا فِي الْمَاضِي، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا سِيبَوَيْهِ: بِأَنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ يَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ. وَيُعَبِّرُ غَيْرُهُ عَنْهَا بِأَنَّهَا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ. وَذَهَبَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ: إِلَى أَنَّ لَوْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى إِنْ فَتَقْلِبُ الْمَاضِيَ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ إِنْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ. قَالَ: وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ لَوْ هَذِهِ مُضَارِعٌ لَكَانَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى كَمَا يَكُونُ بَعْدَ إِنْ قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يُلْفِكَ الراجيك إِلَّا مُظْهِرًا ... خُلُقَ الْكَرِيمِ وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمَا وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أُمِرُوا بِالْخَشْيَةِ، وَالْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ هُوَ مَوْصُولٌ، لَمْ يَصْلُحْ أَنْ تَكُونَ الصِّلَةُ مَاضِيَةً عَلَى تَقْدِيرِ دَالَّةٍ عَلَى الْعَدَمِ الَّذِي يُنَافِي امْتِثَالَ الْأَمْرِ. وَحَسُنَ مَكَانَ لَوْ لَفْظُ إِنْ فَقَالَ: إِنَّهَا تَعْلِيقٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهَا بِمَعْنَى إِنْ. وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ عَرَضَ لَهُ هَذَا التَّوَهُّمُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: مَعْنَاهُ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يُتْرَكُوا، فَلَمْ تَدْخُلْ لَوْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، بَلْ أُدْخِلَتْ عَلَى شَارَفُوا الَّذِي هُوَ مَاضٍ أُسْنِدَ لِلْمَوْصُولِ حَالَةَ الْأَمْرِ. وَهَذَا الَّذِي تَوَهَّمُوهُ لَا يَلْزَمُ فِي الصِّلَةِ إِلَّا إِنْ كَانَتِ الصِّلَةُ مَاضِيَةً فِي الْمَعْنَى، وَاقِعَةً بِالْفِعْلِ. إِذْ مَعْنَى: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، أَيْ مَاتُوا فَتَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ التَّأْوِيلُ فِي لَوْ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: إِنْ إِذْ لَا يُجَامَعُ الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ فِعْلِ مَنْ مَاتَ بِالْفِعْلِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَاضِيًا عَلَى تَقْدِيرٍ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ صِلَةً، وَأَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَوْصُولِ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ نَحْوُ قَوْلِكَ: لِيَزُرْنَا الَّذِي لَوْ مَاتَ أَمْسِ بَكَيْنَاهُ. وَأَصْلُ لَوْ أَنْ تَكُونَ تَعْلِيقًا فِي الْمَاضِي، وَلَا يُذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى: أَنْ، إِلَّا إِذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةٌ كَالْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ. لِأَنَّ جَوَابَ لَوْ فِيهِ مَحْذُوفٌ مُسْتَقْبَلٌ لِاسْتِقْبَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يُلْفِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: قَوْمٌ إِذَا حاربوا شدّة مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بانت بِأَطْهَارِ لِدُخُولِ مَا بَعْدَهَا في حيز إذا، وإذا لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، لتبادر إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ذُرِّيَّةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضِعَافًا جَمْعُ ضَعِيفٍ، كَظَرِيفٍ وَظِرَافٍ. وَأَمَالَ فَتْحَةَ الْعَيْنِ حَمْزَةُ،

وَجَمْعُهُ عَلَى فِعَالٍ قِيَاسٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: ضُعُفًا بِضَمَّتَيْنِ، وَتَنْوِينِ الْفَاءِ. وَقَرَأَتْ عائشة والسلمي وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا: ضُعَفَاءَ بِضَمِّ الضَّادِ وَالْمَدِّ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ، وهو أيضا قياس. وقرىء ضعافى وضعافى بِالْإِمَالَةِ، نَحْوَ سُكَارَى وَسَكَارَى. وَأَمَالَ حَمْزَةُ خَافُوا لِلْكَسْرَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فِي نَحْوِ: خِفْتُ. وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ حَيْثُ بَدَأَ أَوَّلًا بِالْخَشْيَةِ الَّتِي مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَهِيَ الِاحْتِرَازُ مِنَ الشَّيْءِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَهِيَ الْحَامِلَةُ عَلَى التَّقْوَى، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ثَانِيًا وَهِيَ مُتَسَبِّبَةٌ عَنِ الْخَشْيَةِ، إِذْ هِيَ جَعْلُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي وِقَايَةٍ مِمَّا يَخْشَاهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْفِعْلِ النَّاشِئِ عَنِ التَّقْوَى النَّاشِئَةِ عَنِ الْخَشْيَةِ. وَلَا يُرَادُ تَخْصِيصُ الْقَوْلِ السَّدِيدِ فَقَطْ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ السَّدِيدَيْنِ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ لِسُهُولَةِ ذَلِكَ عَلَى الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَقَلُّ مَا يُسْلَكُ هُوَ الْقَوْلُ السَّدِيدُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ لِلَّذِينَ يُفَرِّقُونَ الْمَالَ زِدْ فُلَانًا وَأَعْطِ فُلَانًا. وَقِيلَ: هُوَ الْأَمْرُ بِإِخْرَاجِ الثُّلُثِ فَقَطْ. وَقِيلَ: هُوَ تَلْقِينُ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ. وَقِيلَ: الصِّدْقُ فِي الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ: الْمُوَافِقُ لِلْحَقِّ. وَقِيلَ: لِلْعَدْلِ. وَقِيلَ: لِلْقَصْدِ. وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَالسَّدَادُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَأَصْلُ السَّدِّ إِزَالَةُ الِاخْتِلَالِ. وَالسَّدِيدُ يُقَالُ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ، وَفِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَرَجُلٌ سَدِيدٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنَّهُ يُسَدَّدُ مِنْ قِبَلِ مَتْبُوعِهِ، وَيُسَدِّدُ لِتَابِعِهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَلَا يُوَرِّثُونَهُمْ وَلَا النِّسَاءَ، قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: فِي حَنْظَلَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ، وَلِيَ يَتِيمًا فَأَكَلَ مَالَهُ. وَقِيلَ: فِي زَيْدِ بْنِ زَيْدٍ الْغَطَفَانِيِّ وَلِيَ مَالَ ابْنِ أَخِيهِ فَأَكَلَهُ، قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: نَزَلَتْ فِي الْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مَا لَمْ يُبَحْ لَهُمْ، وَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ أَكْلٍ بظلم وإن لَمْ يَكُنْ وَصِيًّا وَانْتِصَابُ ظُلْمًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَخَبَرُ أَنَّ هِيَ الْجُمْلَةُ من قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وقوع الجملة المصدرة بأن خبرا، لأن وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَحَسَّنَ ذلك هنا تباعدهما يكون اسْمِ إِنَّ مَوْصُولًا، فَطَالَ الْكَلَامُ بِذِكْرِ صِلَتِهِ. وَفِي بُطُونِهِمْ: مَعْنَاهُ مِلْءُ بُطُونِهِمْ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ، وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ. كَمَا قَالَ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ

وَالظَّاهِرُ: تَعَلُّقُ فِي بُطُونِهِمْ بيأكلون، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: نَارًا. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: فِي بُطُونِهِمْ عَلَى نَقْصِهِمْ، وَوَصْفِهِمْ بِالشَّرَهِ فِي الْأَكْلِ، وَالتَّهَافُتِ فِي نَيْلِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ الْبَطْنِ. وَأَيْنَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ؟! تَرَاهُ خَمِيصَ الْبَطْنِ وَالزَّادُ حَاضِرُ وَقَوْلِ الشَّنْفَرَى: وَإِنْ مُدَّتِ الْأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: نَارًا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ نَارًا حَقِيقَةً. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ، وَقَدْ وُكِلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ ثُمَّ يُجْعَلُ في أفواههم صحرا مِنْ نَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا وَبِأَكْلِهِمُ النَّارَ حَقِيقَةً» قَالَتْ طَائِفَةٌ: وَقِيلَ: هُوَ مُجَازٌ، لَمَّا كَانَ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ يَجُرُّ إِلَى النَّارِ وَالتَّعْذِيبِ، بِهَا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَكْلِ فِي الْبَطْنِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْحَامِلِ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ وَهُوَ الْبَطْنُ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِالْمَالِ لِأَجْلِهَا، إِذْ مَآلُ مَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَى الِاضْمِحْلَالِ وَالذَّهَابِ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ: «مَا مَلَأَ الْإِنْسَانُ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَصْلَوْنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ. وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ مُشَدَّدَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. والصلا مِنَ: التَّسَخُّنِ بِقُرْبِ النَّارِ، وَالْإِحْرَاقُ إِتْلَافُ الشَّيْءِ بِالنَّارِ. وعبر بالصلا بِالنَّارِ عَنِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ بِهَا، إِذِ النَّارُ لَا تُذْهِبُ ذَوَاتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ كَمَا قَالَ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «1» وَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ عَلَى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ. وَجَاءَ يَأْكُلُونَ بِالْمُضَارِعِ دُونَ سين الاستقبال، وسيصلون بِالسِّينِ، فَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ لِلنَّارِ حَقِيقَةً فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَقْيِيدِهِ بِالسِّينِ بِعَطْفِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَلَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ، إِذِ الْمَعْنَى: يَأْكُلُونَ مَا يَجُرُّ إِلَى النَّارِ وَيَكُونُ سَبَبًا إِلَى الْعَذَابِ بِهَا. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ نَارٍ مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، قُيِّدَ فِي قَوْلِهِ سَعِيرًا، إِذْ هُوَ الْجَمْرُ الْمُتَّقِدُ. وتضمنت هذه الآيات من ضُرُوبِ الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ. الطِّبَاقَ في: واحدة وزوجها،

_ (1) سورة النساء: 4/ 56.

[سورة النساء (4) : الآيات 11 إلى 14]

وفي غنيا وفقيرا، وَفِي: قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَالتَّكْرَارَ فِي: اتَّقُوا، وَفِي: خلق، وفي: خفتم، وأن لا تقسطوا، وأن لَا تَعْدِلُوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَفِي الْيَتَامَى، وَفِي النِّسَاءِ، وَفِي فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَفِي نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَفِي قوله: وليخش، وخافوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمَا مُتَرَادِفَيْنِ، وَإِطْلَاقَ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ فِي: وَلَا تَأْكُلُوا وَشِبْهِهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ سَبَبٌ لِلْأَكْلِ. وَتَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي: وَآتُوا الْيَتَامَى، سَمَّاهُمْ يَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَالتَّأْكِيدَ بِالْإِتْبَاعِ فِي: هَنِيئًا مَرِيئًا وَتَسْمِيَةَ الشيء باسم ما يؤول إِلَيْهِ فِي: نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ، وَفِي نَارًا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أنها حَقِيقَةٌ. وَالتَّجْنِيسَ الْمُمَاثِلَ فِي: فَادْفَعُوا فَإِذَا دَفَعْتُمْ، وَالْمُغَايِرَ فِي: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا. وَالزِّيَادَةَ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى فِي: فَلْيَسْتَعْفِفْ. وَإِطْلَاقَ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ فِي: الْأَقْرَبُونَ، إِذِ الْمُرَادُ أَرْبَابُ الْفَرَائِضِ. وَإِقَامَةَ الظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ مَقَامَ الزماني في: من خَلْفِهِمْ، أَيْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِمْ. وَالِاخْتِصَاصَ فِي: بُطُونِهِمْ، خَصَّهَا دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لِلْمَأْكُولَاتِ. وَالتَّعْرِيضَ فِي: فِي بُطُونِهِمْ، عَرَّضَ بِذِكْرِ البطون لخستهم وَسُقُوطِ هِمَمِهِمْ وَالْعَرَبُ تَذُمُّ بِذَلِكَ قَالَ: دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي وَتَأْكِيدَ الْحَقِيقَةِ بِمَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ بِقَوْلِهِ: فِي بُطُونِهِمْ. رُفِعَ الْمَجَازُ الْعَارِضُ فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً «1» وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ فَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ تَرْشِيحِ الْمَجَازِ، وَنَظِيرُ كَوْنِهِ رَافِعًا لِلْمَجَازِ قَوْلُهُ: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» ، وَقَوْلُهُ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «3» . وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. [سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 12. (2) سورة الأنعام: 6/ 38. (3) سورة البقرة: 2/ 79.

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ «1» فِي الْمِقْدَارِ وَالْأَقْرَبِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَقَادِيرَ وَمَنْ يَرِثُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَبَدَأَ بِالْأَوْلَادِ وَإِرْثِهِمْ مِنْ وَالِدَيْهِمْ، كَمَا بَدَأَ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ بِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ إِجْمَالٌ أَيْضًا بَيَّنَهُ بَعْدُ. وَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ، وَتَبَيَّنَ مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِهِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الذَّكَرِ أَدَلَّ عَلَى فَضْلِهِ مِنْ ذِكْرِ بَيَانِ نَقْصِ الْأُنْثَى عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ، فَكَفَاهُمْ إِنْ ضُوعِفَ لَهُمْ نَصِيبُ الْإِنَاثِ فَلَا يُحْرَمْنَ إِذْ هُنَّ يُدْلِينَ بِمَا يُدْلُونَ بِهِ مِنَ الْوَلَدِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَمُضْمَنُ أَكْثَرِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَزَلَتْ تَبْيِينًا لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي جَابِرٍ إِذْ مَرِضَ، فعاده الرسول فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ وَقِيلَ: كَانَ الْإِرْثُ لِلْوَلَدِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. قِيلَ: مَعْنَى يُوصِيكُمْ يَأْمُرُكُمْ. كَقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ «2» وعدل

_ (1) سورة النساء: 4/ 7. (2) سورة الأنعام: 6/ 151.

إِلَى لَفْظِ الْإِيصَاءِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَطَلَبِ حُصُولِهِ سُرْعَةً، وَقِيلَ: يَعْهَدُ إِلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً «1» وَقِيلَ: يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي أَوْلَادِكُمْ مَقَادِيرَ مَا أَثْبَتَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ للرّجال وأولوا الْأَرْحَامِ «2» وَقِيلَ: يَفْرِضُ لَكُمْ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَالْخِطَابُ فِي: يُوصِيكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي أَوْلَادِكُمْ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. أَيْ: فِي أَوْلَادِ مَوْتَاكُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ الْحَيُّ بِقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فِي أَوْلَادِهِ وَيُفْرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ المعنى بيوصيكم يُبَيِّنُ جَازَ أَنْ يُخَاطِبَ الْحَيَّ، وَلَا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَالْأَوْلَادُ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ مَنْ قَامَ بِهِ مَانِعُ الْإِرْثِ، فَأَمَّا الرِّقُّ فَمَانِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَكَذَلِكَ، إِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ مِنْ: أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَإِنْ قَتَلَ أَبَاهُ لَمْ يَرِثْ، وَكَذَا إِذَا قَتَلَ جَدَّهُ وَأَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ، لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وعطاء، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يَرِثُ مِنَ الْمَالِ، وَلَا مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا. وَاسْتَثْنَى النَّخَعِيُّ مِنْ عُمُومِ أَوْلَادِكُمُ الْأَسِيرَ، فَقَالَ: لَا يَرِثُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ يَرِثُ، فَإِنْ جُهِلَتْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ. وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْعُمُومِ الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْجَنِينُ فَإِنْ خَرَجَ مَيْتًا لَمْ يَرِثْ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا فَقَالَ الْقَاسِمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وقتادة، والشعبي، والزهري، ومالك، وَالشَّافِعِيُّ: يَسْتَهِلُّ صَارِخًا، وَلَوْ عَطَسَ أَوْ تَحَرَّكَ أَوْ صَاحَ أَوْ رَضَعَ أَوْ كَانَ فِيهِ نَفَسٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَيِّ فِي الْإِرْثِ. وَأَمَّا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَرِثُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قِسْمَةِ الْمَالِ الَّذِي لَهُ فِيهِ سَهْمٌ. وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا خِلَافَ فِي تَوْرِيثِهِ، وَالْخِلَافُ فِيمَا يَرِثُ وَفِيمَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ خُنْثَى، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرِثُ فِي حَالِ فَقْدِهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ نَصِيبُهُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ: وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ وَالسَّفِيهُ فَيَرِثُونَ إِجْمَاعًا، وَالْوَلَدُ حَقِيقَةٌ فِي وَلَدِ الصُّلْبِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي وَلَدِ الِابْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجَازٌ. إِذْ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوِ التَّوَاطُؤِ لَشَارَكَ وَلَدَ الصلب مطلقا،

_ (1) سورة الشورى: 42/ 13. (2) إشارة إلى الآية 7 من سورة النساء.

وَالْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ، أَوْ عِنْدَ وُجُودِ مَنْ لَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ مِنْهُمْ. وَهَذَا الْبَحْثُ جَارٍ فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ هَذَا الِاتِّفَاقُ. وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْوَلَدِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَدْخُلُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْخُلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ وَلَدُ صُلْبٍ. وللذكر: إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ أَيْ: لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ، أَوْ تَنُوبُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنِ الضَّمِيرِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِذَكَرِهِمْ. ومثل: صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حَظٌّ مِثْلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَعْمَلْ يُوصِيكُمُ فِي مِثْلُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْقَبُولِ فِي حِكَايَةِ الْجُمَلِ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيوصيكم. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: ارْتَفَعَ مِثْلُ عَلَى حَذْفِ أَنْ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لِلذَّكَرِ. وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ حَالَةُ اجْتِمَاعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَلَهُ سَهْمَانِ، كَمَا أَنَّ لَهُمَا سَهْمَيْنِ. وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ الِابْنُ فَيَأْخُذُ الْمَالَ أَوِ الْبِنْتَانِ، فَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلنَّصِّ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: نَصِيبُ الذَّكَرِ هُنَا هُوَ الثُّلُثَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبَ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا كَانَ نَصِيبُهَا مَعَ الذَّكَرِ الثلث، فلا أن يَكُونَ نَصِيبُهَا مَعَ أُنْثَى الثُّلُثَ أَوْلَى، لِأَنَّ الذَّكَرَ أَقْوَى مِنَ الْأُنْثَى. وَقِيلَ: حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَى، وَإِلَّا لَزِمَ حَظُّ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَى، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُمَا الثُّلُثَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ. وَفِي آخِرِ السُّورَةِ ذَكَرَ حُكْمَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ، وَحُكْمَ الْأُخْتَيْنِ، وَلَمْ يُذْكَرْ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ، فَصَارَتِ الْآيَتَانِ مُجْمَلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ، مُبَيَّنَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ. فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْأُخْتَيْنِ الثُّلْثَيْنِ، كَانَتِ الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ. وَلَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْبَنَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَجَبَ أَنْ لَا يُزَادَ نَصِيبُ الْأَخَوَاتِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْبِنْتَ لَمَّا كَانَتْ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَيِّتِ امْتَنَعَ جَعْلُ الْأَضْعَفِ زَائِدًا عَلَى الْأَقْوَى. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ إِذَا لَمْ يكن مَعَهُ أُنْثَى، لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ مَا لِلْأُنْثَيَيْنِ. وَقَدْ جَعَلَ لِلْأُنْثَى النِّصْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذَكَرٌ

بِقُولِهِ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ «1» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلذَّكَرِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ مِثْلَيْ ذَلِكَ وَمِثْلَا النِّصْفِ، هُوَ الْكُلُّ انْتَهَى. وَقَرَأَ الحسن واب أَبِي عَبْلَةَ: يُوَصِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ. قرأ الْحَسَنُ وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ والأعرج: ثلثا وثلث وَالرُّبْعَ وَالسُّدْسَ وَالثُّمْنَ بِإِسْكَانِ الْوَسَطِ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ لغة الحجاز وبني أَسَدٍ، قَالَهُ: النَّحَّاسُ مِنَ الثُّلْثِ إِلَى الْعُشْرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ هِيَ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالسُّكُونَ تَخْفِيفٌ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي شَأْنِ أَوْلَادِكُمُ الْوَارِثِينَ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ حَظٌّ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِمْ مِمَّا تَرَكَ الموروثون إِنِ انْفَرَدَ بِالْإِرْثِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ذُو فَرْضٍ كَانَ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ لَهُمَا، وَالْفُرُوضُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ سِتَّةٌ: النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ. فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ ظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثِّنْتَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ يَرِثْنَ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا تَرَكَ مَوْرُوثُهُمَا، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ انْحِصَارُ الْوَارِثِ فِيهِنَّ. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَقَصَدَ هُنَا بَيَانَ حُكْمِ الْإِنَاثِ، أَخْلَصَ الضَّمِيرَ لِلتَّأْنِيثِ. إِذِ الْإِنَاثُ أَحَدُ قِسْمَيْ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْأَوْلَادُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي أَوْلادِكُمْ «2» فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: فِي أَوْلادِكُمْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْعَاقِلِ الْمُذَكَّرِ بِالنُّونِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَنْ أَضْلَلْنَ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْإِنَاثِ كَقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ «3» فَلَأَنْ يَعُودَ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْعَاقِلِ الْجَامِعِ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَنَّثُ أَوْلَى، وَاسْمُ كَانَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيِ الْأَوْلَادِ، وَالْخَبَرُ نِسَاءً بِصِفَتِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا تَسْتَقِلُّ فَائِدَةُ الْأَخْبَارِ بِقَوْلِهِ: نِسَاءً وَحْدَهُ، وَهِيَ صِفَةٌ لِلتَّأْكِيدِ تَرْفَعُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَمْعِ قَبْلَهُمَا طَرِيقُ الْمَجَازِ، إِذْ قَدْ يُطْلَقُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ التثنية. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ نساء خبرا ثانيا، لكان، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِهِ فَائِدَةُ الْإِسْنَادِ. وَلَوْ سَكَتَ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً لَكَانَ نَظِيرَ، إِنْ كَانَ الزَّيْدُونَ رِجَالًا، وَهَذَا لَيْسَ بِكَلَامٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: التَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْبَنَاتُ أَوِ الْمَوْلُودَاتُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ فِي كن وكانت مبهمين، ويكون نساء وواحدة تَفْسِيرًا لَهُمَا عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ؟ (قُلْتُ) : لَا أبعد ذلك انتهى.

_ (1) سورة النساء: 4/ 11. (2) سورة النساء: 4/ 11. (3) سورة البقرة: 2/ 233.

وَنَعْنِي بِالْإِبْهَامِ أَنَّهُمَا لَا يَعُودَانِ عَلَى مُفَسِّرٍ مُتَقَدِّمٍ، بَلْ يَكُونُ مُفَسِّرُهُمَا هُوَ الْمَنْصُوبَ بَعْدَهُمَا، وَهَذَا الَّذِي لَمْ يُبْعِدْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ بَعِيدٌ، أَوْ مَمْنُوعٌ أَلْبَتَّةَ. لِأَنَّ كَانَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَكُونُ فَاعِلُهَا مُضْمَرًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ مِنَ الْأَفْعَالِ بِنِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا حُمِلَ عَلَيْهِمَا، وَفِي بَابِ التَّنَازُعِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَمَعْنَى فَوْقَ اثْنَتَيْنِ: أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ، فَلَيْسَ لَهُنَّ إِلَّا الثُّلُثَانِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، اثْنَتَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَأَنَّ قُوَّةَ الْكَلَامِ تَقْتَضِي ذلك كابن عَطِيَّةَ، أَوْ أَنَّ فَوْقَ زَائِدَةٌ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ فَوْقَ قَدْ زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «1» فَلَا يُحْتَاجُ فِي رَدِّ مَا زَعَمَ إِلَى حُجَّةٍ لِوُضُوحِ فَسَادِهِ. وَذَكَرُوا أَنَّ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ الثُّلُثَانِ كَالْبَنَاتِ. قَالُوا: وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ يَرَى لَهُمَا النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَا كَحَالِهِمَا إِذَا اجْتَمَعَا مَعَ الذَّكَرِ، وَمَا احْتَجُّوا بِهِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ أَوْسِ بْنِ ثابت: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ» وَبَنَاتُ الِابْنِ أَوِ الْأَخَوَاتُ الْأَشِقَّاءُ أَوْ لِأَبٍ كَبَنَاتِ الصُّلْبِ فِي الثُّلُثَيْنِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَنْ مَنْ يَحْجُبُهُنَّ. وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَاحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ: وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيِ الْبِنْتُ فَذَّةً لَيْسَ مَعَهَا أُخْرَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَاحِدَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ وواحدة الْفَاعِلُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: النُّصْفُ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا فِي فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ «2» فِي الْبَقَرَةِ. وَبِنْتُ الِابْنُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتَ صُلْبٍ، وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ لِأَبٍ، وَالزَّوْجُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ وَلَدٌ، وَلَا وَلَدُ ابْنٍ كَبِنْتِ الصُّلْبِ لِكُلٍّ مِنْهُمُ النِّصْفُ. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ لَمَّا ذَكَرَ الْفُرُوعَ وَمِقْدَارَ مَا يَرِثُونَ أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْأُصُولِ وَمِقْدَارِ مَا يَرِثُونَ، فَذَكَرَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَرِثُ مِنْهُ أَبَوَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ السُّدُسَ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، وَأَبَوَاهُ هُمَا: أَبُوهُ وَأُمُّهُ. وَغَلَبَ لَفْظُ الْأَبِ فِي التَّثْنِيَةِ كَمَا قِيلَ: الْقَمَرَانِ، فَغَلَبَ الْقَمَرُ لِتَذْكِيرِهِ عَلَى الشَّمْسِ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ لَا تُقَاسُ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: وَلَهُ وَلَدٌ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ فَرْضَ الْأَبِ السُّدُسُ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَيَّ وَلَدٍ كَانَ، وَبَاقِي الْمَالِ لِلْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى أخذ السدس فرضا،

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 12. (2) سورة البقرة: 2/ 237.

وَالْبَاقِي تَعْصِيبًا. وَتَعَلَّقَتِ الرَّوَافِضُ بِظَاهِرِ لَفْظِ وَلَدٌ فَقَالُوا: السُّدُسُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ أَوِ الِابْنِ، إِذِ الْوَلَدُ يَقَعُ عَلَى: الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْجَدِّ، وَبَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ، وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ مَعَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْوَاحِدَةِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَالْجَدَّاتِ كَالْأَبِ مَعَ الْبِنْتِ فِي السُّدُسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَرِثُ جَدَّةُ أَبِي الْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا تَرِثُ أُمُّ الْأُمِّ. وَالضَّمِيرُ فِي لِأَبَوَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي تَرَكَ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْمَيِّتِ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وسياقه. ولكل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَيُفِيدُ مَعْنَى التَّفْصِيلِ. وَتَبْيِينِ أَنَّ السُّدُسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْلَا هَذَا الْبَدَلُ لَكَانَ الظَّاهِرُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي السُّدُسِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنْ قَوْلِكَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ، إِذْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْإِظْهَارِ، وَمَرَّةً بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والسدس مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ لِأَبَوَيْهِ، وَالْبَدَلُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: السُّدُسُ رُفِعَ بالابتداء، ولكل واحد منهما الخبر، ولكل بدل من الأبوين، ومنهما نعت لواحد. وَهَذَا الْبَدَلُ هُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِالضَّمِيرِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لِجَوَازِ أَبَوَاكَ يَصْنَعَانِ كَذَا، وَامْتِنَاعِ أَبَوَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْنَعَانِ كَذَا. بَلْ تَقُولُ: يَصْنَعُ كَذَا. وَفِي قول الزمخشري: والسدس مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لِأَبَوَيْهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْخَبَرُ لَهُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، كَمَا مَثَّلْنَاهُ فِي قَوْلِكَ: أَبَوَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْنَعُ كَذَا، إِذَا أَعْرَبْنَا كُلًّا بَدَلًا. وَكَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا عَيْنَهُ حَسَنَةٌ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِذَا وَقَعَ الْبَدَلُ خَبَرًا فَلَا يَكُونُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ هُوَ الْخَبَرَ، وَاسْتَغْنَى عَنْ جَعْلِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ خَبَرًا بِالْبَدَلِ كَمَا اسْتَغْنَى عَنِ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ إِنَّ وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْبَدَلِ. وَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ: وَلِأَبَوَيْهِ السدسان لا وهم التَّنْصِيفَ أَوِ التَّرْجِيحَ فِي الْمِقْدَارِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ الْقُرْآنِيُّ فِي غَايَةِ النَّصِّيَّةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلِأَبَوَيْهِ، أَنَّهُمَا اللَّذَانِ وَلَدَا الْمَيِّتَ قَرِيبًا لَا جَدَّاهُ، وَلَا مَنْ عَلَا مِنَ الْأَجْدَادِ. وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْلَادِكُمْ، يَتَنَاوَلُ مَنْ سَفَلَ مِنَ الْأَبْنَاءِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ لَفْظٌ مُثَنًّى لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَلَا الْجَمْعَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي أولادكم. وفيما قالوه: نظروهما عِنْدِي سَوَاءٌ فِي الدَّلَالَةِ، إِنْ نُظِرَ إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْأَبْنَاءَ الَّذِينَ وَلَدَهُمُ الْأَبَوَانِ قَرِيبًا، لَا مَنْ سَفَلَ كَالْأَبَوَيْنِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَنْ وَلَدَاهُ قَرِيبًا، لَا مَنْ عَلَا. أَوْ إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ، فَيَشْتَرِكُ اللَّفْظَانِ فِي ذَلِكَ، فَيَنْطَلِقُ الْأَبَوَانِ عَلَى مَنْ وَلَدَاهُ قَرِيبًا. وَمَنْ عَلَا كَمَا يَنْطَلِقُ الْأَوْلَادُ عَلَى مَنْ وَلَدَاهُمْ قَرِيبًا وَمَنْ سَفَلَ يُبَيِّنُ حَمْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ

لا يرث مع الِابْنَ، وَأَنَّ الْجَدَّةَ لَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ بِإِجْمَاعٍ، فَلَمْ يُنَزَّلِ ابْنُ الِابْنِ مَنْزِلَةَ الِابْنِ مَعَ وُجُودِهِ، وَلَا الْجَدَّةُ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ «1» وورثه أَبَوَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا انْفَرَدَا بِمِيرَاثِهِ لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ، لَا وَلَدٌ وَلَا غَيْرُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ حُكْمًا لَهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ. فَإِذَا خَلُصَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، فَذِكْرُ الْقِسْمِ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، لِزَيْدٍ مِنْهُ الثُّلُثُ، فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ بَاقِيَهُ وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِعَمْرٍو. فَلَوْ كَانَ مَعَهُمَا زَوْجٌ كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَهُوَ: الثُّلُثُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ الزَّوْجِ، وَالنِّصْفُ لِلزَّوْجِ، وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، فَيَكُونُ مَعْنَى: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مَعَ غَيْرِ وَلَدٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ. إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا انْفَرَدَا بِالْإِرْثِ، فَيَتَقَاسَمَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبَ أَقْوَى فِي الْإِرْثِ مِنَ الْأُمِّ، إِذْ يَضْعُفُ نصيبه على نصيبها إذ انْفَرَدَا بِالْإِرْثِ، وَيَرِثُ بِالْفَرْضِ وَبِالتَّعْصِيبِ وَبِهِمَا. وَفِي قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ: يَكُونُ لَهَا مَعَ الزَّوْجِ وَالْأَبِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، فَتَصِيرُ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ، وَتَصِيرُ الْأُنْثَى لَهَا مِثْلَا حَظِّ الذَّكَرِ، وَلَا دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ. وَفِي إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ خِلَافٌ. فَمَنْ قَالَ: أَنَّهُ أَبٌ وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ. وَقَالَ بِمَقَالَتِهِ بَعْدَ وفاته: أبي ومعاذ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وإسحاق، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَهَبَ عَلِيٌّ، وزيد، وَابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَى تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنَ الثُّلُثِ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ، إِلَّا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْقَصُ مَعَهُمْ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا فِي قَوْلِ: زَيْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ: مَالِكٍ، والأوزاعي، والشافعي، ومحمد، وَأَبِي يُوسُفَ. كَانَ عَلِيٌّ يُشْرِكُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فِي السُّدُسِ، وَلَا يُنْقِصُهُ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ بَنِي الْإِخْوَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ علي: أنه أجرى بين الْإِخْوَةِ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَجْرَى الإخوة.

_ (1) سورة النساء: 4/ 11. [.....]

وَأَمَّا أُمُّ الْأُمِّ فَتُسَمَّى أُمًّا مَجَازًا، لَكِنْ لَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ إِجْمَاعًا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ، وَعَلَى أَنَّ الْأُمَّ تَحْجُبُ أُمَّهَا وَأُمَّ الْأَبِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَحْجُبُ أُمَّ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ وَابْنَتِهَا. فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ: أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَابْنَتُهَا حَيَّةٌ، وَبِهِ قال: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أيضا، وعمرو ابن مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَجَابِرٍ: أَنَّهَا تَرِثُ مَعَهَا. وَقَالَ به: شريك، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ: كَمَا أَنَّ الْجَدَّ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا الْأَبُ، كَذَلِكَ الْجَدَّةُ لَا يَحْجُبُهَا إِلَّا الْأُمُّ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: فَلِإِمِّهِ هُنَا مَوْضِعَيْنِ، وَفِي الْقَصَصِ فِي أُمِّها «1» وَفِي الزُّخْرُفِ: فِي أُمِّ الْكِتابِ «2» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، لِمُنَاسَبَةِ الْكَسْرَةِ وَالْيَاءِ. وَكَذَا قَرَأَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «3» فِي النَّحْلِ وَالزَّمَرِ وَالنَّجْمِ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ «4» فِي النُّورِ. وَزَادَ حَمْزَةُ: فِي هَذِهِ كَسْرَ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْهَمْزَةِ وَهَذَا فِي الدرج. فإذا ابتدأ بضم الْهَمْزَةَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ دَرَجًا وَابْتِدَاءً. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كَسْرَ الْهَمْزَةِ مِنْ أُمٍّ بَعْدَ الْيَاءِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ. وَذَكَرَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَنَّهَا لُغَةٌ هوازن وهذيل. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، الْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ أب وأم وإخوة، كان نصيب الأم السدس، وحطها الإخوة مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَصَارَ الْأَبُ يَأْخُذُ خَمْسَةَ الْأَسْدَاسِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ يَأْخُذُونَ مَا حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ وَهُوَ السُّدُسُ، وَلَا يَأْخُذُهُ الْأَبُ. وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ الْأَبَ يَأْخُذُهُ لَا الْإِخْوَةَ، لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قال قتادة: وَإِنَّمَا أَخَذَهُ الْأَبُ دُونَهُمْ لِأَنَّهُ يَمُونُهُمْ وَيَلِي نِكَاحَهُمْ وَالنَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ. وَظَاهِرُ لَفْظِ إِخْوَةٌ اخْتِصَاصُهُ بِالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، لِأَنَّ إِخْوَةٌ جَمْعُ أَخٍ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: الْإِخْوَةُ تَحْجُبُ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ دُونَ الْأَخَوَاتِ، وَعِنْدَنَا يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ. فَإِذَنْ يَصِيرُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِخْوَةٌ، مُطْلَقَ الْأُخُوَّةِ، أَيْ: أَشِقَّاءُ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، ذكورا أو إناثا، أو الصِّنْفَيْنِ. وَظَاهِرُ لَفْظِ إِخْوَةٌ، الْجَمْعُ. وَأَنَّ الَّذِينَ يَحُطُّونَ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَخَوَاتُ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ لَا يُحَطَّانِ كَمَا لَا يُحَطُّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَيْنِ حُكْمُهُمَا فِي الْحَطِّ حُكْمُ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ: هَلِ الْجَمْعُ أَقَلُّهُ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا في أصول

_ (1) سورة القصص: 28/ 10، 12. (2) سورة الزخرف: 43/ 4. (3) سورة النحل: 16/ 78، وسورة الزمر: 39/ 6. (4) سورة النور: 24/ 61.

الْفِقْهِ، وَالْبَحْثُ فِيهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَلْيَقُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِخْوَةُ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ، وَالتَّثْنِيَةُ كَالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ فِي إِفَادَةِ الْكَمِّيَّةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَدَلَّ بِالْإِخْوَةِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَلَا نُسَلِّمُ لَهُ دَعْوَى أَنَّ الْإِخْوَةَ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، بَلْ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الَّتِي بَعْدَ التَّثْنِيَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ فِيمَا بَعْدَ التَّثْنِيَةِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ دَعَوَاهُ إِلَى دَلِيلٍ. وَظَاهِرُ إِخْوَةٌ الْإِطْلَاقُ، فَيَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ فَيَحْجُبُونَ كَمَا قُلْنَا قَبْلُ. وَذَهَبَ الرَّوَافِضُ: إِلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ، لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْجُبُوهَا وَيَجْعَلُوهُ لِغَيْرِهَا فَيَصِيرُونَ ضَارِّينَ لَهَا نَافِعِينَ لِغَيْرِهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَ تَقْلِبُ حَقَّ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ، لِأَنَّهَا إِذَا حُرِمَتِ الثُّلُثَ بِالْإِخْوَةِ وَانْتَقَلَتْ إِلَى السُّدُسِ فَلَأَنْ تُحْرَمَ بِالْبِنْتِ أَوْلَى. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ الْمَعْنَى: أَنَّ قِسْمَةَ الْمَالِ بَيْنَ مَنْ ذُكِرَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِوَصِيَّةٍ، أَوْ بِدَيْنٍ. وَلَيْسَ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِالتَّرِكَةِ سَوَاءً، إِذْ لَوْ هَلَكَ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ذَهَبَ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا، وَيَبْقَى الْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِالشَّرِكَةِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنَ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِهَلَاكِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ. وَتَفْصِيلُ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ وَصِيَّةٍ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، بَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِنَقْصِ الْمَالِ. وَيُبَيِّنُ أَيْضًا ذَلِكَ قَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ «1» ، الْآيَةَ. إِذْ لَوْ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَكَانَ هَذَا الْجَوَازُ نَاسِخًا لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ دَلَّ الْخَبَرُ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَقَدِ اسْتَحَبُّوا النُّقْصَانَ عَنْهُ هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا فِي الثُّلُثِ. وَقَالَ شَرِيكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ مُعَلَّلٌ بِوُجُودِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَأَجَازَ لِظَاهِرِ إِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا فُقِدَ مُوجِبُ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ جَازَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: من بعد وصية يوصي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ وَلَا وَصِيَّةٌ، يَكُونُ جَمِيعُ مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٌ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ. وَالْوَصِيَّةُ مَنْدُوبٌ إليها، وقد كانت

_ (1) سورة النساء: 4/ 7.

وَاجِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ فَنُسِخَتْ. وَادَّعَى قَوْمٌ وُجُوبَهَا. وَتَتَعَلَّقُ مِنْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ، كَمَا فَصَّلَ من بعد وصية، ويوصي في موضع الصفة، وبها متعلق بيوصي، وَهُوَ مُضَارِعٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي. وَالْمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا. وَمَعْنَى: أَوْ دَيْنٍ، لَزِمَهُ. وَقَدَّمَ الْوَصِيَّةَ عَلَى الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَدَاءُ الدَّيْنِ هُوَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِإِجْمَاعٍ اهْتِمَامًا بِهَا وَبَعْثًا عَلَى إِخْرَاجِهَا، إِذْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ شَاقًّا عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا مَظِنَّةً لِلتَّفْرِيطِ فِيهَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ. فَإِنَّ نَفْسَ الْوَارِثِ مُوَطَّنَةٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَلِذَلِكَ سَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ: أَوْ، فِي الْوُجُوبِ. أَوْ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الشَّرْعِ مَحْضُوضٌ عَلَيْهَا، فَصَارَتْ لِلْمُؤْمِنِ كَالْأَمْرِ اللَّازِمِ لَهُ. وَالدَّيْنُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وقد لا يكون، فبدىء بِمَا كَانَ وُقُوعُهُ كَاللَّازِمِ، وَأُخِّرَ مَا لَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ. وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ العطف بأو، إِذْ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ رَاتِبٌ لَازِمٌ لَهُ، لَكَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ حَظُّ مَسَاكِينَ وَضِعَافٍ، وَالدَّيْنَ حَظُّ غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِقُوَّةٍ. وَلَهُ فِيهِ مَقَالٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى أَوْ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا قُدِّمَ عَلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ، أَوِ ابْنَ سيرين انتهى. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا وَجَبَ بِالْوَصِيَّةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ مَا وَجَبَ بِهَا سَابِقٌ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَسْبَقُ مَا يُخْرَجُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، إِذِ الْأَسْبَقُ هُوَ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ مِنْ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَحَمْلِهِ وَوَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ، أَوْ ما يحتاج إليه من ذَلِكَ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: يُوصَى فِيهِمَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَتَابَعَهُمْ حَفْصٌ عَلَى الثَّانِي فَقَطْ، وَقَرَأَهُمَا الْبَاقُونَ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَدْرُونَ أَيُّ الْوَالِدَيْنِ أَرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ لِيَشْفَعَ فِي وَلَدِهِ، وَكَذَا الْوَلَدُ فِي وَالِدَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: إِذَا اضْطُرَّ إِلَى إِنْفَاقِهِمْ لِلْفَاقَةِ. وَنَحَا إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقَدْ يُنْفِقُونَ دُونَ اضْطِرَارٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْمِيرَاثِ وَالشَّفَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَسْرَعُ مَوْتًا فَيَرِثُهُ الْآخَرُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: أَيْ فَاقْسِمُوا الْمِيرَاثَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَكُمْ مَنْ يَعْلَمُ النَّفْعَ وَالْمَصْلَحَةَ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَنْتُمْ ذَلِكَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. قَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ الْفَرَائِضَ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَهُ حِكْمَةً، وَلَوْ وَكَلَ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ لَمْ تَعْلَمُوا أَيُّهُمْ

أَنْفَعُ لَكُمْ، فَتَضَعُونَ الْأَمْوَالَ عَلَى غَيْرِ حِكْمَةٍ، وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً «1» حكما أَيْ عَلِيمٌ بِمَا يَصْلُحُ لِخَلْقِهِ، حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِلْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَتَأْنِيسٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُوَرِّثُونَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَقِيلَ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي مَوْتِ الْمَوْرُوثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا الْأَبُ بِالْحِفْظِ وَالتَّرْبِيَةِ، أَوِ الْأَوْلَادُ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي يَعْلَى، قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ يَتَفَاوَتُونَ فِي النَّفْعِ، حَتَّى لَا يُدْرَى أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَفْعًا، لِأَنَّ الْأَوْلَادَ يَنْتَفِعُونَ فِي صِغَرِهِمْ بِالْآبَاءِ، وَالْآبَاءَ يَنْتَفِعُونَ فِي كِبَرِهِمْ بِالْأَبْنَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُعَلِّقًا هَذِهِ الْجُمْلَةَ: بِالْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهَا جَاءَتْ تَرْغِيبًا فِيهَا وَتَأْكِيدًا. قَالَ: لَا تَدْرُونَ مَنْ أَنْفَعُ لَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ، أَمَنْ أَوْصَى مِنْهُمْ أَمْ مَنْ لَمْ يُوصِ يَعْنِي: أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ فَعَرَّضَكُمْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، وَأَحْضَرُ جَدْوَى مِمَّنْ تَرَكَ الْوَصِيَّةَ فَوَفَّرَ عَلَيْكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَجَعَلَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَقْرَبَ وَأَحْضَرَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ذَهَابًا إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ عَاجِلًا قَرِيبًا فِي الصُّورَةِ إِلَّا أَنَّهُ فَانٍ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَبْعَدُ الْأَقْصَى، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ آجِلًا إِلَّا أَنَّهُ بَاقٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَقْرَبُ الْأَدْنَى انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ خِطَابُهُ. وَالْوَصِيَّةُ فِي الْآيَةِ لَمْ يَأْتِ ذِكْرُهَا لِمَشْرُوعِيَّتِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا وَإِخْرَاجِ الدَّيْنِ، فَلَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ عَنْهَا، وَتُفَسَّرُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَا. وَلَكِنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الِابْنِ وَالْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، فَكَانَ حُكْمُ الِابْنِ إِذَا مَاتَ الْأَبُ عَنْهُ وَعَنْ أُنْثَى، أَنْ يَرِثَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَكَانَ حُكْمُ الْأَبَوَيْنِ إِذَا مَاتَ الِابْنُ عَنْهُمَا وَعَنْ وَلَدٍ أَنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَكَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْوَالِدِ أَوْفَرَ مِنْ نَصِيبِ الِابْنِ، إِذْ ذَاكَ لِمَا لَهُ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّرْبِيَةِ مِنْ نَشْئِهِ إِلَى اكْتِسَابِهِ الْمَالَ إِلَى مَوْتِهِ، مَعَ مَا أُمِرَ بِهِ الِابْنُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ بِرِّ أَبِيهِ. أَوْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِجْرَاءً لِلْأَصْلِ مَجْرَى الْفَرْعِ فِي الْإِرْثِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ قِسْمَتَهُ هِيَ الْقِسْمَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا وَشَرَعَهَا، وَأَنَّ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ الَّذِينَ شُرِعَ فِي مِيرَاثِهِمْ مَا شُرِعَ لَا نَدْرِي نَحْنُ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَفْعًا، بَلْ عِلْمُ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. فَالَّذِي شَرَعَهُ هُوَ الْحَقُّ لَا مَا يَخْطُرُ بِعُقُولِنَا نَحْنُ، فَإِذَا كَانَ عِلْمُ ذَلِكَ عَازِبًا عَنَّا فَلَا نَخُوضُ فِيمَا لَا نَعْلَمُهُ، إِذْ هِيَ أَوْضَاعٌ مِنَ الشَّارِعِ لَا نَعْلَمُ نَحْنُ عِلَلَهَا ولا

_ (1) سورة النساء: 4/ 11.

نُدْرِكُهَا، بَلْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَجَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كَوْنِهَا لَا تُعْقَلُ عِلَلُهَا هِيَ مِثْلُ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ سَوَاءٌ. قَالُوا: وَارْتَفَعَ أَيُّهُمْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أَقْرَبُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم اسْتِفْهَامٌ تَعَلَّقَ عَنِ الْعَمَلِ فِي لَفْظِهِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي غَيْرِ الِاسْتِثْبَاتِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَيَجُوزُ فِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ أَيُّهُمْ مَوْصُولَةً مَبْنِيَّةً عَلَى الضم، وهي مفعول بتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هُمْ أَقْرَبُ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ «1» وَقَدِ اجْتَمَعَ شَرْطُ جَوَازِ بِنَائِهَا وَهُوَ أَنَّهَا مُضَافَةٌ لَفْظًا مَحْذُوفٌ صَدْرُ صِلَتِهَا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ انْتَصَبَ فَرِيضَةً انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ مَعْنَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ يَفْرِضُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ هِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، حَكِيمًا فِيمَا فَرَضَ، وَقَسَّمَ مِنَ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَانَ إِذَا جَاءَتْ فِي نِسْبَةِ الْخَبَرِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا التَّامَّةُ وَانْتَصَبَ عَلِيمًا عَلَى الْحَالِ فقوله: ضعيف، أو أنهار زَائِدَةٌ فَقَوْلُهُ: خَطَأٌ. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِيرَاثَ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ، وَمِيرَاثَ الْأُصُولِ مِنَ الْفُرُوعِ، أَخَذَ فِي ذِكْرِ مِيرَاثِ الْمُتَّصِلِينَ بِالسَّبَبِ لَا بِالنَّسَبِ وَهُوَ لِلزَّوْجِيَّةِ هُنَا، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ التَّوَارُثُ بِسَبَبِ الْوَلَاءِ. وَالتَّوَارُثُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرْعِ هُوَ بِالنَّسَبِ، وَالسَّبَبِ الشَّامِلِ لِلزَّوْجِيَّةِ وَالْوَلَاءِ. وَكَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يُتَوَارَثُ بِالْمُوَالَاةِ وَالْخَلَفِ وَالْهِجْرَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقُدِّمَ ذِكْرُ مِيرَاثِ سَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الْكَلَالَةِ وَإِنْ كَانَ بِالنَّسَبِ، لِتَوَاشُجِ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَاتِّصَالِهِمَا، وَاسْتِغْنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِعِشْرَةِ صَاحِبِهِ دُونَ عِشْرَةِ الكلالة، وبدىء بِخِطَابِ الرِّجَالِ لِمَا لَهُمْ مِنَ الدَّرَجَاتِ عَلَى النِّسَاءِ. وَلِمَا كَانَ الذَّكَرُ مِنَ الْأَوْلَادِ حَظُّهُ مَعَ الْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، جُعِلَ فِي سَبَبِ التَّزَوُّجِ الذِّكْرُ لَهُ مِثْلَا حَظِّ الْأُنْثَى. وَمَعْنَى: كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ أَيْ: مِنْكُمْ أَيُّهَا الْوَارِثُونَ، أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَالْوَلَدُ: هُنَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْ وَلَدَتْهُ لِبَطْنِهَا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا كَانَ أو أكثر، وحكم بين الذُّكُورِ مِنْهَا وَإِنْ سَفَلُوا حُكْمُ الْوَلَدِ لِلْبَطْنِ، فِي أَنَّ فَرْضَ الزَّوْجِ مِنْهَا الرُّبُعُ مَعَ وُجُودِهِ بِإِجْمَاعٍ.

_ (1) سورة مريم: 19/ 69.

وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ الْوَلَدُ هُنَا كَالْوَلَدِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ. وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَاتُ إِنْ وُجِدْنَ، وَتَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدَةُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُمَا يُعْطَيَانِ فَرْضَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَوْلَ يَلْحَقُ فَرْضَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، كَمَا يَلْحَقُ سَائِرَ الْفَرَائِضِ الْمُسَمَّاةِ. وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ الْكَلَالَةُ: خُلُوُّ الْمَيِّتِ عن الوالد والوالد قاله: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وسليم بن عبيد، وقتادة، والحكم، وابن زيد، والسبيعي. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هِيَ الْخُلُوُّ مِنَ الْوَلَدِ فَقَطْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: إِنَّهُمْ يَحُطُّونَ الْأُمَّ وَيَأْخُذُونَ مَا يَحُطُّونَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ وَرِثَهُمْ بِأَنَّ الْفَرِيضَةَ كَلَالَةً أَنْ يُعْطِيَهُمُ الثُّلُثَ بِالنَّصِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ: الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هِيَ الْخُلُوُّ مِنَ الْوَلَدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إن الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، لِأَنَّ مَنْ بَقِيَ وَالِدُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَهُوَ مَوْرُوثٌ بِنَسَبٍ لَا بِتَكَلُّلٍ. وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ الْآنَ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ لَا يَرِثُونَ مَعَ ابْنٍ وَلَا أَبٍ، وَعَلَى هَذَا مَضَتِ الْأَعْصَارُ وَالْأَمْصَارُ انْتَهَى. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا. فَقِيلَ: مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، فَكَأَنَّهُ يَصِيرُ الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَارِثِ مِنْ بَعْدِ إِعْيَاءٍ. قَالَ الأعشى: فيا ليت لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ ... وَلَا مِنْ وَجًى حَتَّى نُلَاقِيَ مُحَمَّدًا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَلَالَةُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَلَالِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْقُوَّةِ مِنَ الْإِعْيَاءِ. فَاسْتُعِيرَتْ لِلْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، لِأَنَّهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَرَابَتِهَا كَالَّةٌ ضَعِيفَةٌ. انْتَهَى. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مَنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَحَاطَ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا فَقَدِ انْقَطَعَ طَرَفَاهُ، وَهُمَا عَمُودَا نَسَبِهِ، وَبَقِيَ مَوْرُوثُهُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ أَيْ: يُحِيطُ بِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ كَالْإِكْلِيلِ. وَمِنْهُ رَوْضٌ مُكَلَّلٌ بِالزَّهْرِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا يَرِثُهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْكَلَالَةَ الْمَيِّتُ الَّذِي لَا والد لَهُ وَلَا مَوْلُودَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ صاحب الْعَيْنِ، وَأَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ، وَابْنِ عَرَفَةَ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، والعتبي، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَغَلِطَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي ذِكْرِ الْأَخِ

مَعَ الْأَبِ وَالْوَلَدِ. وَقُطْرُبٌ فِي قَوْلِهِ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِمَنْ عَدَا الْأَبَوَيْنِ وَالْأَخِ، وَسُمِّي مَا عَدَا الْأَبَ وَالْوَلَدَ كَلَالَةً، لِأَنَّهُ بِذَهَابِ طَرَفَيْهِ تَكَلَّلَهُ الْوَرَثَةُ وَطَافُوا بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي جَابِرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَ نُزُولِهَا ابْنٌ وَلَا أَبٌ، لِأَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَصَارَتْ قِصَّةُ جَابِرٍ بَيَانًا لِمُرَادِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فِي الْآيَةِ فَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الْمَالُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْكَلَالَةُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاغِبِ قَالَ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِكُلِّ وَارِثٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَالْمَرْءُ يَجْمَعُ لِلْغِنَى ... وَلِلْكَلَالَةِ مَا يسيم وقال عمرو ابن عَبَّاسٍ: الْكَلَالَةُ الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْوَرَثَةُ بِجُمْلَتِهَا كُلُّهُمْ كَلَالَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُورَثُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مِنْ أُورِثَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مَنْ أَوْرَثَ أَيْضًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا. مِنْ وَرَّثَ. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَمَعْنَى الْكَلَالَةِ أَنَّهُ الْمَيِّتُ أَوِ الوارث، فانتصاب الكلالة عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن فِي يُورَثُ. وَإِذَا وَقَعَ عَلَى الْوَارِثِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ: ذَا كَلَالَةٍ، لِأَنَّ الْكَلَالَةَ إِذْ ذَاكَ لَيْسَتْ نَفْسَ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَالَةِ الْقَرَابَةَ، فَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: يُورَثُ لِأَجْلِ الْكَلَالَةِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْكَلَالَةُ هِيَ الْمَيِّتَ فَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ، وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ، التَّقْدِيرُ: يُورِثُ وَارِثَهُ مَالَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ كَلَالَةً. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهَا الْوَارِثَ فَانْتِصَابُ الْكَلَالَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ به بيورث، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: يُورَثُ كَلَالَةً مَالُهُ أَوِ الْقَرَابَةُ، فَعَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ فِي كَانَ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، فَيَكُونَ يُورَثُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ. وَتَامَّةً فَتَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ. وَيَجُوزُ إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةً وَالْكَلَالَةُ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ، أَنْ يَكُونَ يُورَثُ صِفَةً، وَيَنْتَصِبُ كَلَالَةً عَلَى خَبَرِ كَانَ، أَوْ بِمَعْنَى الْوَارِثِ. فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مَوْرُوثٌ ذَا كَلَالَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْكَلَالَةُ الْمَالُ، فَيَنْتَصِبُ كَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، سَوَاءٌ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْفَاعِلِ أَوْ لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلَالَةُ الْوِرَاثَةُ، وَيَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وِرَاثَةً كَلَالَةً. وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمُلَخَّصُ مَا قِيلَ فِيهَا: أَنَّهَا الْوَارِثُ، أَوِ الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ، أَوِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ، أَوِ الْوِرَاثَةُ، أَوِ الْقَرَابَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُورَثُ أَيْ: يُورَثُ مِنْهُ،

فَيَكُونُ هُوَ الْمَوْرُوثَ لَا الْوَارِثَ. وَيُوَضِّحُهُ قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ الرَّاءَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَإِنْ جَعَلْتَ يُورَثُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَوْرَثَ فَمَا وَجْهُهُ؟ (قُلْتُ) : الرَّجُلُ حِينَئِذٍ هُوَ الْوَارِثُ لَا الْمَوْرُوثُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى مَنْ يَرْجِعُ حِينَئِذٍ؟ (قُلْتُ) : إِلَى الرَّجُلِ وَإِلَى أَخِيهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِلَيْهِمَا (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا أَفَادَ اسْتِوَاءَهُمَا فِي حِيَازَةِ السُّدُسِ مِنْ غَيْرِ مُفَاضَلَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهَلْ تَبْقَى هَذِهِ الْفَائِدَةُ قَائِمَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ؟ [قُلْتُ] : نَعَمْ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: السُّدُسُ لَهُ، أَوْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَخِ أَوِ الْأُخْتِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَقَدْ سَوَّيْتَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُ مَا قَالَ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ كَانَ أَحَدُ اللَّذَيْنِ يُورِثُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ لَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ مِنْ أَخٍ أَوْ أخت، فلكل واحد منهما السدس. وعطف وامرأة عَلَى رَجُلٌ، وَحَذَفَ مِنْهَا مَا قَيَّدَ بِهِ الرَّجُلَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: أَوِ امرة تُورَثُ كَلَالَةً. وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْعَطْفِ لَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ بِقَيْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَلَهُ، عَائِدٌ عَلَى الرَّجُلِ نَظِيرُ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» فِي كَوْنِهِ عَادَ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْطُوفِ تَقُولُ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ قَامَتْ، نَقَلَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ هَذَا الْحُكْمِ. وَزَادَ الْفَرَّاءُ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ: أَنْ يُسْنَدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا رَدَّدَتْ بَيْنَ اسمين بأو، أَنْ تُعِيدَ الضَّمِيرَ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِلَى أَحَدِهِمَا أَيَّهَمَا شِئْتَ. تَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلْيَصِلْهُ. وَإِنْ شِئْتَ فَلْيَصِلْهَا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «2» وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ مَنَعَ الْوَجْهَ. وَأَصْلُ أُخْتٍ أَخَوَةٍ عَلَى وَزْنِ شَرَرَةٍ، كَمَا أَنَّ بِنْتًا أَصْلُهُ بَنَيَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي ابْنٍ، أَهُوَ الْمَحْذُوفُ مِنْهُ وَاوٌ أَوْ يَاءٌ؟ قِيلَ: فَلَمَّا حُذِفَتْ لَامُ الْكَلِمَةِ وَتَاءُ التَّأْنِيثِ، وَأَلْحَقُوا الْكَلِمَةَ بِقُفْلٍ وَجِذْعٍ بِزِيَادَةِ التَّاءِ آخِرَهُمَا قَالَ الْفَرَّاءُ: ضُمَّ أَوَّلُ أُخْتٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ وَاوٌ، وَكُسِرَ أَوَّلُ بِنْتٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَاءٌ انْتَهَى. وَدَلَّتْ هَذِهِ التَّاءُ الَّتِي لِلْإِلْحَاقِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ مِنَ التَّأْنِيثِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ الْإِطْلَاقُ، إِذِ الْأُخُوَّةُ تكون بين الأحفاد وَالْأَعْيَانِ وَأَوْلَادِ الْعَلَّاتِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنَ الْأُمِّ. وَقِرَاءَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: وَلَهُ أخ أو أخت من أُمٍّ، وَاخْتِلَافُ الْحُكْمَيْنِ هُنَا، وَفِي آخِرِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَحْكُومِ لَهُ، إِذْ هُنَا الِابْنَانِ أَوِ الْإِخْوَةُ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ فَقَطْ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ. وَهُنَاكَ يَحُوزُونَ المال للذكر

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 11. (2) سورة النساء: 4/ 135.

مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْبِنْتَانِ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى أَخٌ أَوْ أُخْتٌ. وَعَلَى مَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَأَحَدِ أَخٍ وَأُخْتٍ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَشِقَّاءَ فَلَهُ النِّصْفُ وَلَهُمَا السُّدُسُ، وَلَهُمُ الْبَاقِي أو لأم فَلَهُمُ الثُّلُثُ. أَوْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَشِقَّاءَ فَهَذِهِ الْحَمَّادِيَّةُ. فَهَلْ يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِي الثُّلُثِ، أَمْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَخَوَانِ لِأُمٍّ؟ قَوْلَانِ، قَالَ بِالتَّشْرِيكِ عُمَرُ فِي آخِرِ قَضَائِهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ بِالِانْفِرَادِ: عَلِيٌّ وأبو موسى، وأبي، وَابْنُ عَبَّاسٍ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَخٍ أَوْ أُخْتٍ، أَيْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ السُّدُسَ هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَهُوَ وَاحِدٌ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِأَنَّ لَهُمَا جَمِيعًا السُّدُسَ، فَتَصِحُّ الْأَكْثَرِيَّةُ فِيمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ وَهُوَ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى هُنَا بِأَكْثَرَ يَعْنِي: فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ أَيْ: عَلَى الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِتَنَافِي مَعْنَى كَثِيرٍ وَوَاحِدٍ، إِذِ الْوَاحِدُ لَا كَثْرَةَ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فإن كانوا، وفهم شُرَكَاءُ غَلَبَ ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِالْوَاوِ وَبِلَفْظِ، فَهُمْ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا قُرِّرَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ أَخًا أَوْ أُخْتًا، أَيْ أَحَدَ هَذَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أَوْ أَكْثَرُ اشْتَرَكُوا فِي الثُّلُثِ، أَمَّا إِذَا تَرَكَ اثْنَيْنِ مِنْ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ الضَّمِيرُ فِي يُوصَى عَائِدٌ عَلَى رَجُلٌ، كَمَا عَادَ عَلَيْهِ فِي: وَلَهُ أَخٌ. وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْرُوثُ لَا الْوَارِثُ، لِأَنَّ الَّذِي يُوصِي أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ هُوَ الْمَوْرُوثَ لَا الْوَارِثَ. وَمَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ «1» أَنَّهُ هُوَ الْوَارِثُ لَا الْمَوْرُوثُ، جَعَلَ الْفَاعِلَ فِي يُوصَى عَائِدًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ المعنى من الْوَارِثِ. كَمَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ «2» لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ الْمُوصِيَ وَالتَّارِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمَوْرُوثَ، لَا الْوَارِثَ. وَالْمُرَادُ: غَيْرُ مُضَارٍّ، وَرَثَتَهُ بِوَصِيَّتِهِ أَوْ دَيْنِهِ. وَوُجُوهُ الْمُضَارَّةِ كَثِيرَةٌ: كَأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ لِوَارِثِهِ، أَوْ بِالثُّلُثِ، أَوْ يُحَابِيَ بِهِ، أَوْ يَهَبَهُ، أَوْ يَصْرِفَهُ إِلَى وُجُوهِ الْقُرْبِ مِنْ عِتْقٍ وَشِبْهِهِ فِرَارًا عَنْ وَارِثٍ مُحْتَاجٍ، أَوْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ لَيْسَ عَلَيْهِ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا دَامَ فِي الثُّلُثِ لَا يُعَدُّ مُضَارًّا، وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُ هَذَا الْقَيْدِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ فِيمَا تَقَدَّمَ من ذكر قوله:

_ (1) سورة النساء: 4/ 12. (2) سورة النساء: 4/ 11.

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها «1» وتُوصُونَ ويُوصِينَ «2» ويكون قَدْ حُذِفَ مِمَّا سَبَقَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْتَصُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ الضَّرَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ ضَارَّ فِي وَصِيَّتِهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي وَادِي جَهَنَّمَ» . وَقَالَ قتادة: نَهَى اللَّهُ عَنِ الضِّرَارِ فِي الْحَيَاةِ وَعِنْدَ الْمَمَاتِ. قَالُوا: وَانْتِصَابُ غَيْرَ مُضَارٍّ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يُوصَى، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا يُوصَى. وَلَا يَجُوزُ مَا قَالُوهُ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ دَيْنٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ دَيْنٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى وَصِيَّةٍ الْمَوْصُوفَةِ بِالْعَامِلِ فِي الْحَالِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنَ الْأَعْرَابِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا غَيْرَ مُضَارٍّ أَوْ دَيْنٍ. وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَّ لَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ مَحْذُوفٌ قَامَ مَقَامَهُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْحَالِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. لَوْ قُلْتَ: تُرْسَلُ الرِّيَاحُ مُبَشِّرًا بِهَا بِكَسْرِ الشِّينِ، لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرًا بِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ لَهُ نَاصِبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ عَامًّا لِمَعْنَى مَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَلْزَمُ ذَلِكَ مَالَهُ أَوْ يُوجِبُهُ فِيهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِوَرَثَتِهِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ أَوِ الْإِيجَابِ. وَقِيلَ: يُضْمَرُ يُوصِي لِدَلَالَةِ يُوصَى عَلَيْهِ، كَقِرَاءَةِ يُسَبَّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَالَ رِجَالٌ: أَيْ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَصِيَّةً، كَمَا انْتَصَبَ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ «3» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يُوصِيكُمُ. وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «4» أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ «5» وَجَوَّزَ هُوَ والزمخشري نصب وصية بمضار عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا تَقَعُ بِالْوَرَثَةِ لَا بِالْوَصِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَرَثَةُ قَدْ وَصَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ صَارَ الضَّرَرُ الْوَاقِعُ بِالْوَرَثَةِ كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْوَصِيَّةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ، فَخَفَضَ وَصِيَّةً بِإِضَافَةِ مُضَارٍّ إِلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ الْمَعْنَى: يَا سارقا في الليلة،

_ (1) سورة النساء: 4/ 11. (2) سورة النساء: 4/ 12. (3) سورة النساء: 4/ 11. [.....] (4) سورة النساء: 4/ 11. (5) سورة النساء: 4/ 12.

لَكِنَّهُ اتَّسَعَ فِي الْفِعْلِ فَعَدَّاهُ إِلَى الظَّرْفِ تَعْدِيَتَهُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ، وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي هَذَا غَيْرَ مُضَارٍّ فِي: وَصِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ، فَاتَّسَعَ وَعَدَّى اسْمَ الْفَاعِلِ إِلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَسَاطَةٍ فِي تَعْدِيَتِهِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ عَلِيمٌ بِمَنْ جَارَ أَوْ عَدَلَ، حَلِيمٌ عَنِ الْجَائِرِ لَا يُعَاجِلُهُ بِالْعُقُوبَةِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ أَيْ: أَنَّ الْجَائِرَ وَإِنْ لَمْ يُعَاجِلْهُ اللَّهُ بِالْعُقُوبَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ حَلِيمٌ هُوَ أَنْ لَا يؤاخذه بِالذَّنْبِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ يَدُلُّ عَلَى الصَّفْحِ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ. وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ، وَدَلَّ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمَوْرُوثُ فِي مُضَارَّتِهِ بِوَرَثَتِهِ فِي وَصِيَّتِهِ وَدَيْنِهِ، وَأَنَّ ذِكْرَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مُجَازَاتِهِ عَلَى مُضَارَّتِهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّفْحِ عَمَّنْ شَاءَ، وَذَلِكَ عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ، إِلَّا وَيُرْدِفُ بِمَا دَلَّ عَلَى الْعَفْوِ. وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمِيرَاثِ، وَسَبَبُ الْمِيرَاثِ هُوَ الِاتِّصَالُ بِالْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَهُوَ النَّسَبُ أَوِ الزَّوْجِيَّةُ، أَوْ بِوَاسِطَةٍ فَهُوَ الْكَلَالَةُ. فَتَقَدَّمَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ ذَاتِيٌّ، وَالثَّانِي عَرَضٌ، وَأَخَّرَ الْكَلَالَةَ عَنْهُمَا لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يَعْرِضُ لَهُمَا سُقُوطٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِكَوْنِ اتِّصَالِهِمَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلِأَكْثَرِيَّةِ الْمُخَالَطَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قِيلَ: الْإِشَارَةُ بتلك إِلَى الْقِسْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ فِي أَحْوَالِ الْيَتَامَى وَالزَّوْجَاتِ وَالْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الشَّرَائِعَ حُدُودًا، لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَعَدُّوهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُدُودُ اللَّهِ طَاعَتُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: شُرُوطُهُ. وَقِيلَ: فَرَائِضُهُ. وَقِيلَ: سُنَنُهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لَمَّا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى عَامِلٍ بِهَا مُطِيعٍ، وَإِلَى غَيْرِ عَامِلٍ بِهَا عَاصٍ. وَبَدَأَ بِالْمُطِيعِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ تَعَالَى الطَّاعَةُ، إِذِ السُّورَةُ مُفْتَتَحَةٌ بِخِطَابِ النَّاسِ عَامَّةً، ثُمَّ أَرْدَفَ بِخِطَابِ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِيمَانِ إِلَى آخِرِ الْمَوَارِيثِ، وَلِأَنَّ قِسْمَ الْخَيْرِ يَنْبَغِي أَنْ يُبْتَدَأَ بِهِ وَأَنْ يُعْتَنَى بِتَقْدِيمِهِ. وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: يطع، ويدخله، فَأَفْرَدَ ثُمَّ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ. وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ

عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُدْخِلْهُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي يُدْخِلْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَمَعَ خَالِدِينَ عَلَى مَعْنَى مَنْ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ الْإِفْرَادُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ، وَعَكْسُ هَذَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ تَقَدُّمِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ جَائِزٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَفِي مُرَاعَاةِ الْحَمْلَيْنِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ الْمُطَوَّلَةِ. وَقَالَ الزمخشري: وانتصب خالدين وخالدا عَلَى الْحَالِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صفتين لجنات ونارا؟ (قُلْتُ) : لَا، لِأَنَّهُمَا جَرَيَا عَلَى غَيْرِ مَنْ هُمَا لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الضَّمِيرِ وَهُوَ قَوْلُكَ: خَالِدِينَ هُمْ فِيهَا، وَخَالِدًا هُوَ: فِيهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ فُرِّعَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى إِبْرَازِ الضَّمِيرِ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ في الآية الزجاج والتبريزي أَخَذَ بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: نُدْخِلْهُ هُنَا، وَفِي: نُدْخِلْهُ نَارًا بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الرَّاغِبُ: وَوَصْفُ الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدُّنْيَا الْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1» وَالصَّغِيرُ وَالْقَلِيلُ فِي وَصْفِهِمَا مُتَقَارِبَانِ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مُرَاعِي الْحُدُودِ ذَكَرَ عِقَابَ مَنْ يَتَعَدَّاهَا، وَغَلَّظَ فِي قِسْمِ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْعِصْيَانِ بَلْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ، وَنَاسَبَ الْخَتْمَ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ الْمُتَعَدِّيَ لِلْحُدُودِ بَرَزَ فِي صُورَةِ مَنِ اغْتَرَّ وَتَجَاسَرَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقِلُّ الْمُبَالَاةُ بِالشَّدَائِدِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا الْهَوَانُ، وَلِهَذَا قَالُوا: الْمَنِيَّةُ وَلَا الدَّنِيَّةُ. قِيلَ: وَأَفْرَدَ خَالِدًا هُنَا، وَجَمَعَ فِي خَالِدِينَ فِيهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ أَهْلُ الشَّفَاعَةِ، وَإِذَا شَفَعَ فِي غَيْرِهِ دَخَلَهَا، وَالْعَاصِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ بِهِ غَيْرَهُ، فَبَقِيَ وَحِيدًا انْتَهَى. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ: التَّفْصِيلَ فِي: الْوَارِثِ وَالْأَنْصِبَاءِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ الْآيَةَ. وَالْعُدُولَ مِنْ صِيغَةِ: يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ إِلَى يُوصِيكُمُ، لِمَا فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْحِرْصِ عَلَى اتِّبَاعِهَا. وَالطِّبَاقَ فِي: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَفِي: مَنْ يُطِعْ وَمَنْ يَعْصِ، وَإِعَادَةَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ أَيْ: تَرَكَ الْمَوْرُوثُ. وَالتَّكْرَارَ فِي: لَفْظِ كَانَ، وَفِي فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ، وفي:

_ (1) سورة النساء: 4/ 77.

[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 28]

ولدا، وأبواه، وفي: من يعد وصية يوصي بها أو دَيْنٍ، وَفِي: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ، وَفِي: حُدُودُ اللَّهِ، وَفِي: اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَتَلْوِينَ الْخِطَابِ فِي: مَنْ قَرَأَ نُدْخِلْهُ بِالنُّونِ. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ. [سُورَةُ النساء (4) : الآيات 15 الى 28] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

الْعِشْرَةُ: الصُّحْبَةُ وَالْمُخَالَطَةُ. يُقَالُ: عَاشَرُوا، وَتَعَاشَرُوا، وَاعْتَشَرُوا. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْشَارِ الْجُذُورِ، لِأَنَّهَا مُقَاسَمَةٌ وَمُخَالَطَةٌ. الْإِفْضَاءُ إِلَى الشَّيْءِ: الْوُصُولُ إِلَى فَضَاءٍ مِنْهُ، أَيْ سَعَةٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ. وَفِي مَثَلِ النَّاسِ فَوْضَى فُضِّيَ أَيْ: مُخْتَلِطُونَ، يُبَاشِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَيُقَالُ: فَضَا يَفْضُو فَضَاءً إِذَا اتَّسَعَ، فَأَلِفُ أَفْضَى مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ أَصْلُهَا وَاوٌ. الْمَقْتُ: الْبُغْضُ

الْمَقْرُونُ بِاسْتِحْقَارٍ حَصَلَ بِسَبَبِ أَمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صَاحِبُهُ. الْعَمَّةُ: أُخْتُ الْأَبِ. الْخَالَةُ: أُخْتُ الْأُمِّ، وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَخْوَالٌ فِي جَمْعِ الْخَالِ، وَرَجُلٌ مُخْوِلٌ كَرِيمُ الْأَخْوَالِ. الرَّبِيبَةُ: بِنْتُ زَوْجِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ. الْحَِجْرُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا: مُقَدَّمُ ثَوْبِ الْإِنْسَانِ وَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْهُ فِي حَالِ اللُّبْسِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ اللَّفْظَةُ فِي السَّيْرِ وَالْحِفْظِ، لِأَنَّ اللَّابِسَ إِنَّمَا يَحْفَظُ طِفْلًا، وَمَا أَشْبَهَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الثَّوْبِ، وَجَمْعُهُ حُجُورٌ. الْحَلِيلَةُ: الزَّوْجَةُ، وَالْحَلِيلُ الزَّوْجُ قَالَ: أَغْشَى فَتَاةَ الْحَيِّ عِنْدَ حَلِيلِهَا ... وَإِذَا غَزَا فِي الْجَيْشِ لَا أَغْشَاهَا سُمِّيَتْ حَلِيلَةً لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُ حَلَّ، فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ لَفْظِ الْحَلَالِ، فَهِيَ حَلِيلَةٌ بِمَعْنَى مُحَلَّلَةٍ. وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحُلُّ إِزَارَ صَاحِبِهِ. الصُّلْبُ: الظَّهْرُ، وَصَلُبَ صَلَابَةً قَوِيَ وَاشْتَدَّ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقُرْآنِ لَهُ: أَنَّ الصُّلْبَ وَهُوَ الظَّهْرُ، عَلَى وَزْنِ قُفْلٍ هُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ويقول فيه تميم وأسد: الصَّلَبُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ. قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ: وَصَلَبٌ مِثْلُ الْعِنَانِ الْمُؤْدَمِ ... قَالَ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي أَسَدٍ إذا أقوم أشتكي صَلَبِي الْمُحْصَنَةُ: الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ. يُقَالُ: أُحْصِنَتْ فَهِيَ مُحْصَنٌ، وَحَصُنَتْ فَهِيَ حَصَانٌ عَفَّتْ عَنِ الرِّيبَةِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا مِنْهَا. وَقَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ امْرَأَةٌ حَصَانٌ، وَحَاصِنٌ. قَالَ: وَحَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسِ ... مِنَ الْأَذَى وَمِنْ فِرَاقِ الْوَقْسِ وَمَصْدَرُ حَصُنَتْ حَصْنٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: حَصَانَةٌ. وَيُقَالُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَحْصَنَ وَأَسْهَبَ وَأَبْعَجَ، مُفْعَلٌ بِفَتْحِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ، وَهُوَ شُذُوذٌ نَقَلَهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. وَأَصْلُ الْإِحْصَانِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدِّرْعِ وَلِلْمَدِينَةِ: حَصِينَةٌ وَالْحِصْنُ وَفَرَسٌ حَصَانٌ. الْمُسَافَحَةُ وَالسِّفَاحُ: الزِّنَا، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّفْحِ وَهُوَ الصَّبُّ، يَسْفَحُ كُلٌّ مِنَ الزَّانِيَيْنِ نُطْفَتَهُ. الْخِدْنُ وَالْخَدِينُ: الصَّاحِبُ. الطَّوْلُ: الْفَضْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: طَالَ عَلَيْهِ يَطُولُ طَوْلًا فَضَلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَالزَّجَّاجُ: الطَّوْلُ الْقُدْرَةُ. انْتَهَى. وَيُقَالُ لَهُ: عَلَيْهِ طَوْلٌ أَيْ زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ، وَقَدْ طَالَهُ طَوْلًا فَهُوَ طَائِلٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِيَ أَنَّنِي ... بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئٍ غَيْرِ طَائِلٍ وَمِنْهُ الطُّولُ فِي الْجِسْمِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْقِصَرَ قُصُورٌ فِيهِ وَنُقْصَانٌ. الْفَتَاةُ الْحَدِيثَةُ السِّنِّ وَالْفَتَاءُ الْحَدَاثَةُ. قَالَ: فَقَدْ ذَهَبَ الْمُرُوءَةُ وَالْفَتَاءُ. وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ

الْجَوَالِيقِيُّ: الْمُتَفَتِّيَةُ وَالْفَتَاةُ الْمُرَاهِقَةُ، وَالْفَتَى الرَّفِيقُ، وَمِنْهُ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ «1» وَالْفَتَى: الْعَبْدُ. وَمِنْهُ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» . الْمَيْلُ: الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النِّسَاءِ. وَالْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا: الْمُسَاحَقَةُ، جَعَلَ حَدَّهُنَّ الْحَبْسَ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يَتَزَوَّجْنَ. قَالَ: ونزلت وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ «2» فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ. وَالَّتِي فِي النُّورِ: فِي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «3» وَخَالَفَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَبَنَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى أَصْلٍ لَهُ: وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النِّسَاءِ فَذَكَرَ إِيتَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ وَتَوْرِيثَهُنَّ، وَقَدْ كُنَّ لَا يُوَرَّثْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِنَّ، إِذْ هُوَ نَظَرٌ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِنَّ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ من الإحسان إليهن أن لا تُقَامَ عَلَيْهِنَّ الْحُدُودُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ فِي أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ. وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُدُودَهُ وَأَشَارَ بِتِلْكَ إِلَى جَمِيعِ مَا وَقَعَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ، فَكَانَ فِي مَبْدَأِ السُّورَةِ التَّحَصُّنُ بِالتَّزْوِيجِ، وَإِبَاحَةُ مَا أَبَاحَ مِنْ نِكَاحِ أَرْبَعٍ لِمَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ، اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حُكْمِ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ مِنَ الزَّوَانِي، وَأَفْرَدَهُنَّ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُنَّ عَلَى مَا قِيلَ أَدْخَلُ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ مِنَ الرِّجَالِ، ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ ثَانِيًا مَعَ الرِّجَالِ الزَّانِينَ في قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَصَارَ ذِكْرُ النِّسَاءِ الزَّوَانِي مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْإِفْرَادِ، وَمَرَّةً بِالشُّمُولِ. وَاللَّاتِي جَمْعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلَّتِي، وَلَهَا جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ أغربها: اللاآت، وَإِعْرَابُهَا إِعْرَابُ الْهِنْدَاتِ. وَمَعْنَى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ: يَجِئْنَ وَيَغْشَيْنَ. وَالْفَاحِشَةُ هُنَا الزِّنَا بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَتَبِعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسَاحَقَةُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأُطْلِقَ عَلَى الزِّنَا اسْمُ الْفَاحِشَةِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْقُبْحِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِحِ. قِيلَ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ أَكْبَرُ مِنَ الزِّنَا، قِيلَ: الْقُوَى الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ ثَلَاثٌ: النَّاطِقَةُ وَفَسَادُهَا بِالْكُفْرِ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 60. (2) سورة النساء: 4/ 16. (3) سورة النور: 24/ 2.

وَالْبِدْعَةِ وَشِبْهِهِمَا، وَالْغَضَبِيَّةُ وَفَسَادُهَا بِالْقَتْلِ وَالْغَضَبِ وَشِبْهِهِمَا، وَشَهْوَانِيَّةٌ وَفَسَادُهَا بِالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسِّحْرِ وَهِيَ: أَخَسُّ هَذِهِ الْقُوَى، فَفَسَادُهَا أَخَسُّ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، فَلِهَذَا خَصَّ هَذَا الْعَمَلَ بِالْفَاحِشَةِ. وَحُجَّةُ أَبِي مُسْلِمٍ فِي أَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ السِّحَاقُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَفِي الرِّجَالِ: وَالَّذانِ ومنكم وَظَاهِرُهُ التَّخْصِيصُ، وَبِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهِ نَسْخٌ، وَبِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ التَّكْرَارُ. وَلِأَنَّ تَفْسِيرَ السَّبِيلِ بِالرَّجْمِ أَوِ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزِّنَا، يَكُونُ عَلَيْهِنَّ لَا لَهُنَّ، وَعَلَى قَوْلِنَا: يَكُونُ السَّبِيلُ تَيَسُّرَ الشَّهْوَةِ لَهُنَّ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ. وَرَدُّوا عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِأَنَّ مَا قَالَهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَكَانَ بَاطِلًا. وَأَجَابَ: بِأَنَّهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، فَلَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا وَتَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا «الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الزُّنَاةِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ اللُّوطِيَّةِ وَلَمْ يَتَمَسَّكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ فِيهِمْ. وَأَجَابَ بِأَنَّ مَطْلُوبَ الصَّحَابَةِ: هَلْ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى اللُّوطِيِّ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ؟ فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ. انْتَهَى. مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ، وَمَا رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَا أَجَابَ بِهِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ اللَّاتِي مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ، وَهُوَ عَامٌّ أُحْصِنَتْ أَوْ لَمْ تُحْصَنْ. وَأَنَّ وَاللَّذَانِ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ. فَعُقُوبَةُ النِّسَاءِ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةُ الرِّجَالِ الْأَذَى. وَيَكُونُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَآيَةُ النُّورِ قَدِ اسْتَوْفَتْ أَصْنَافَ الزُّنَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الظَّاهِرَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسَائِكُمْ وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ، لَا يُقَالُ: إِنَّ السِّحَاقَ وَاللِّوَاطَ لَمْ يَكُونَا مَعْرُوفَيْنِ فِي الْعَرَبِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، لَكِنَّهُ كَانَ قَلِيلًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: مَلَكُ النَّهَارِ وَأَنْتِ اللَّيْلَ مُومِسَةٌ ... مَاءَ الرِّجَالِ عَلَى فَخْذَيْكِ كَالْقُرُسِ وَقَالَ الرَّاجِزُ: يَا عَجَبًا لِسَاحِقَاتِ الورس ... الجاعلات المكس فوق المكس وقرأ عبد الله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ بِالْفَاحِشَةِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسَائِكُمْ اخْتُلِفَ، هَلِ الْمُرَادُ الزَّوْجَاتُ أَوِ الْحَرَائِرُ أَوِ الْمُؤْمِنَاتُ أَوِ الثَّيِّبَاتُ دُونَ الْأَبْكَارِ؟ لِأَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ فِي الْعُرْفِ بِالثَّيِّبِ، أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ مِنْ نِسَائِكُمْ إِضَافَةٌ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْكَافِرَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ ينسب وَلَا يَلْحَقُهَا هَذَا الْحُكَمُ

انْتَهَى. وَظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ النِّسَاءِ مُضَافَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الزَّوْجَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «1» وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «2» وَكَوْنِ الْمُرَادِ الزَّوْجَاتِ وَأَنَّ الْآيَةَ فِيهِمْ، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَمَرَ تَعَالَى بِاسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةٍ تَغْلِيظًا عَلَى الْمُدَّعِي، وَسَتْرًا لِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاهِدَانِ. وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِنَّ، أَيْ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ الْفَاحِشَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِشْهَادُ لِمُعَايَنَةِ الزِّنَا. وَإِنْ تَعَمَّدَ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الزِّنَا. وَإِعْرَابُ اللَّاتِي مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ فَاسْتَشْهِدُوا. وَجَازَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَوْصُولٌ بِفِعْلٍ مُسْتَحِقٍّ بِهِ الْخَبَرَ، وَهُوَ مُسْتَوْفٍ شُرُوطَ مَا تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، فَأُجْرِيَ الْمَوْصُولُ لِذَلِكَ مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ. وَإِذْ قَدْ أُجْرِيَ مَجْرَاهُ بِدُخُولِ الْفَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ فَاسْتَشْهِدُوا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، لِأَنَّ فَاسْتَشْهِدُوا لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ هَكَذَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَجَازَ قَوْمٌ النَّصْبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اقْصِدُوا اللَّاتِي. وَقِيلَ: خَبَرُ اللَّاتِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ اللَّاتِي يَأْتِينَ، كَقَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «3» وَفِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «4» وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ. وَيَتَعَلَّقُ مِنْ نِسَائِكُمْ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: يَأْتِينَ، تَقْدِيرُهُ: كَائِنَاتٍ مِنْ نسائكم. ومنكم يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَشْهِدُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ فَيَكُونُ صِفَةً لأربعة، أَيْ: كَائِنِينَ مِنْكُمْ. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ: فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ عَلَيْهِنَّ. وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْأَمْرِ: أَهُمُ الْأَزْوَاجُ أُمِرُوا بِذَلِكَ إِذَا بَدَتْ مِنَ الزَّوْجَةِ فَاحِشَةُ الزِّنَا، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ عُقُوبَةً لَهُنَّ وَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ جَرِيمَتِهِنَّ؟ أَمِ الْأَوْلِيَاءُ إِذَا بَدَتْ مِمَّنْ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ وِلَايَةٌ وَنَظَرٌ يُحْبَسْنَ حَتَّى يَمُتْنَ؟ أَوْ أولوا الْأَمْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ إِذْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْحُدُودَ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَوَاحِشِ؟ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ لَهُنَّ، وَأَنَّ حدهن كان ذلك

_ (1) سورة البقرة: 2/ 226. (2) سورة المجادلة: 58/ 2. (3) سورة المائدة: 5/ 38. (4) سورة النور: 24/ 2.

حَتَّى نُسِخَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَالْحَبْسُ فِي الْبَيْتِ آلَمُ وَأَوْجَعُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَخْذُ الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، لِأَنَّ أَلَمَ الْحَبْسِ مُسْتَمِرٌّ، وَأَلَمَ الضَّرْبِ يَذْهَبُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُنِعْنَ مِنَ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُتْنَ عُقُوبَةً لَهُنَّ حِينَ طَلَبْنَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ بِحَدٍّ بَلْ هُوَ إِمْسَاكٌ لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ يَحُدَّهُنَّ الْإِمَامُ صِيَانَةً لَهُنَّ أَنْ يَقَعْنَ فِي مِثْلِ مَا جَرَى لَهُنَّ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ حَدًّا. وَإِذَا كَانَ يَتَوَفَّى بِمَعْنَى يُمِيتُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، وَهُنَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِالتَّوَفِّي الْأَخْذَ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَأْخُذَهُنَّ الْمَوْتُ. وَالسَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُنَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ. فَقِيلَ: هُوَ النِّكَاحُ الْمُحَصِّنُ لَهُنَّ الْمُغْنِي عَنِ السِّفَاحِ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لِلْأُمَرَاءِ أَوِ الْقُضَاةِ، دُونَ الْأَزْوَاجِ. وَقِيلَ: السَّبِيلُ هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا مِنَ الْحَدِّ، وَهُوَ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ. وَثَبَتَ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِهَذَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا لِأَنَّهُ الْجَلْدُ، بَلْ هُوَ مُبَيِّنٌ لِمُجْمَلٍ فِي هَذِهِ الآية إذ غيا إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ آيَةِ الْجَلْدِ. وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ طَعْنُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ، بِدَعْوَاهُ أَنَّ آيَةَ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةٌ، بِحَدِيثِ عُبَادَةَ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، خِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، بَلِ الْبَيَانُ وَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ نَسْخٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ آيَةَ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ، وَآيَةَ الْجَلْدِ مَنْسُوخَةٌ بآية الرجم. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهَا فِي اللِّوَاطَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ ظَاهِرُ التَّثْنِيَةِ. وَظَاهِرُ مِنْكُمْ إِذْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ لِلذُّكُورِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فِي الزُّنَاةِ الذكور والإناث. واللذان أُرِيدَ بِهِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ، وَغَلَبَ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَتَرَتَّبَ الْأَذَى عَلَى إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِتْيَانِهَا. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ: شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ. وَالْأَمْرُ بِالْأَذَى يدل عَلَى مُطْلَقِ الْأَذَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ بِهِمَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ، وَضَرْبُ النِّعَالِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ

وَالسُّدِّيُّ: هُوَ التَّعْبِيرُ وَالتَّوْبِيخُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِالْفِعْلِ دُونَ الْقَوْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ السَّبُّ وَالْجَفَا دُونَ تَعْيِيرٍ. وَقِيلَ: الْأَذَى الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ: الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَفَعَلَهُ فِي الْهَمْدَانِيَّةِ: جَلَدَهَا ثُمَّ رَجَمَهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا الْعُمُومُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْبِكْرَيْنِ، وَأَمَّا الْأُولَى فَفِي النِّسَاءِ الْمُزَوَّجَاتِ، وَيَدْخُلُ مَعَهُنَّ فِي ذَلِكَ مَنْ أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالْمَعْنَى. وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْجَلْدِ، إِلَّا فِي تَفْسِيرِ عَلِيٍّ الْأَذَى فَلَا نَسْخَ، وَإِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَذَى بِالتَّعْيِيرِ مَعَ الْجَلْدِ بَاقٍ فَلَا نَسْخَ عِنْدَهُ، إِذْ لَا تَعَارُضَ، بَلْ يُجْمَعَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا حُمِلَتِ الْآيَتَانِ عَلَى الزِّنَا تَكُونُ الْأُولَى قَدْ دَلَّتْ عَلَى حَبْسِ الزَّوَانِي، وَالثَّانِيَةُ عَلَى إِيذَائِهَا وَإِيذَائِهِ، فَيَكُونُ الْإِيذَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَالْحَبْسُ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ فَيُجْمَعُ عَلَيْهَا الْحَبْسُ وَالْإِيذَاءُ، هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقِيلَ: جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الْحَبْسَ لِتَنْقَطِعَ مَادَّةُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَعُقُوبَةُ الرَّجُلِ الْإِيذَاءَ، وَلَمْ يُجْعَلِ الْحَبْسَ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْبُرُوزِ وَالِاكْتِسَابِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: مِنْ أَنَّ الْأُولَى فِي الثَّيِّبِ وَالثَّانِيَةَ فِي الْبِكْرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْعُقُوبَتَيْنِ، فَلَيْسَ الْإِيذَاءُ مُشْتَرَكًا. وَذَهَبَ الْحَسَنُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ نَزَلَ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ «1» يَعْنِي إِنْ لَمْ يَتُبْنَ وَأَصْرَرْنَ فَأَمْسِكُوهُنَّ إِلَى إِيضَاحِ حَالِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ فَسَادَ التَّرْتِيبِ، فَهُوَ بَعِيدٌ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَظْهَرُ لِلتَّكْرَارِ فَوَائِدُ. وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: لَا تَكْرَارَ، وَكَذَلِكَ لَا تَكْرَارَ عَلَى قَوْلِ: مُجَاهِدٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ. وَإِعْرَابُ وَاللَّذَانِ كَإِعْرَابِ وَاللَّاتِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاللَّذَانِ بِتَخْفِيفِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِالتَّشْدِيدِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ عِلَّةَ حَذْفِ الْيَاءِ، وَعِلَّةَ تَشْدِيدِ النُّونِ، وَمَوْضُوعُ ذَلِكَ عِلْمُ النحو. وقرأ عبد الله: وَالَّذِينَ يَفْعَلُونَهُ مِنْكُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ مُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَمُتَدَافِعَةٌ مَعَ مَا بَعْدَهَا. إِذْ هَذَا جَمْعٌ، وَضَمِيرُ جَمْعٍ وَمَا بَعْدَهُمَا ضَمِيرُ تَثْنِيَةٍ، لَكِنَّهُ يُتَكَلَّفُ لَهُ تَأْوِيلٌ: بِأَنَّ الَّذِينَ جُمِعَ تَحْتَهُ صِنْفَا الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَعَادَ الضَّمِيرُ بَعْدَهُ مُثَنًّى بِاعْتِبَارِ الصِّنْفَيْنِ، كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا عَلَى الْمُثَنَّى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُثَنَّى تَحْتَهُمَا أَفْرَادٌ كَثِيرَةٌ هِيَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «2»

_ (1) سورة النساء: 4/ 15. (2) سورة الحجرات: 49/ 9.

وهذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «1» وَالْأَوْلَى اعْتِقَادُ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ الْعُمُومُ فِي الزناة. وقرىء وَاللَّذَأَنِّ بِالْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ النُّونَ الْتَقَى سَاكِنَانِ، فَفَرَّ الْقَارِئُ مِنِ الْتِقَائِهِمَا إِلَى إِبْدَالِ الْأَلِفِ هَمْزَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِأَلِفِ فَاعِلٍ الْمُدْغَمِ عَيْنُهُ فِي لامه، كما قرىء: وَلَا الضَّالِّينَ «2» وَلا جَانٌّ «3» وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ فِي الْفَاتِحَةِ. فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أَيْ: إِنْ تَابَا عَنِ الْفَاحِشَةِ وَأَصْلَحَا عَمَلَهُمَا فَاتْرُكُوا أَذَاهُمَا. وَالْمَعْنَى: أَعْرِضُوا عَنْ أَذَاهُمَا. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قُوَّةِ اللَّفْظِ غَضٌّ مِنَ الزُّنَاةِ وَإِنْ تَابُوا، لِأَنَّ تَرْكَهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِعْرَاضٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «4» وَلَيْسَ هَذَا الْإِعْرَاضُ فِي الْآيَتَيْنِ أَمْرًا بِهِجْرَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُتَارَكَةُ مُعْرِضٍ، وَفِي ذَلِكَ احْتِقَارٌ لَهُمْ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً أَيْ رَجَّاعًا بِعِبَادِهِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، رَحِيمًا لَهُمْ بِتَرْكِ أَذَاهُمْ إِذَا تَابُوا. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِنَّمَا وَفِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْحَصْرِ، أَهْوَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ، أَوِ الِاسْتِعْمَالِ؟ أَمْ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَيْهِ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا قَبُولُ التَّوْبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، فَتَكُونُ عَلَى بَاقِيَةً عَلَى بَابِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي إِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْغُفْرَانُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَأَمَّا مَا ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ عَلَى نَفْسِهِ كَتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ وَقَبُولِ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ بِشَرْطِهِ فَذَلِكَ وَاقِعٌ قَطْعًا، وَأَمَّا قَبُولُ التَّوْبَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ عَقْلًا وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَتَظَافَرَتْ ظَوَاهِرُ الْآيِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَبُولِ اللَّهِ التَّوْبَةَ، وَأَفَادَتِ الْقَطْعَ بِذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ: إِلَى أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ إِنَّمَا تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ لا القطع بقبول

_ (1) سورة الحج: 22/ 19. (2) سورة الفاتحة: 1/ 7. [.....] (3) سورة الرحمن: 55/ 39. (4) سورة الأعراف: 7/ 199.

التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ فَرْضٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَتَصِحُّ وَإِنْ نَقَضَهَا فِي ثَانِي حَالٍ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ وَمِنْ ذَنْبٍ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَنْبٍ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى السُّنَّةِ، إِذْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَائِبًا مَنْ أَقَامَ عَلَى ذَنْبٍ. وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِمَعْنَى مِنْ، وَالسُّوءُ يَعُمُّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي غَيْرُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ. وَمَوْضِعُ بِجَهَالَةٍ حَالٌ، أَيْ: جَاهِلِينَ ذَوِي سَفَهٍ وَقِلَّةِ تَحْصِيلٍ، إِذِ ارْتِكَابُ السُّوءِ، لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَلَبَةِ الْهَوَى لِلْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ يَدْعُو إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْهَوَى وَالشَّهْوَةُ يَدْعُوَانِ إِلَى الْمُخَالَفَةِ، فَكُلُّ عَاصٍ جَاهِلٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ. وَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ هُنَا التَّعَمُّدَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ: عَلَى أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الذَّنْبَ وَتَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ هِيَ بِجَهَالَةٍ عَمْدًا كَانَتْ أَوْ جَهْلًا. وقال الْكَلْبِيُّ: بِجَهَالَةٍ أَيْ لَا يَجْهَلُ كَوْنَهَا مَعْصِيَةً، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ كُنْهَ الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ، يَعْنِي مَا اخْتَصَّ بِهَا وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَهَالَتُهُ مِنْ حَيْثُ آثَرَ اللَّذَّةَ الْفَانِيَةَ عَلَى اللَّذَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْحَظَّ الْعَاجِلَ عَلَى الْآجِلِ. وَقِيلَ: الْجَهَالَةُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَعَلَهُ غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْجَاهِلَ الَّذِي لَا يَتَعَمَّدُ الشيء. وقال الماتريدي: جَهْلُ الْفِعْلِ الْوُقُوعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَفْوَ عَنِ الْخَطَأِ، وَيُحْتَمَلُ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالْجَهْلُ بِمَوْقِعِهِ أَيْ: أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ فِي الْحُرْمَةِ: أَيُّ: قَدْرٍ هِيَ فَيَرْتَكِبُهُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِحَالِهِ، لَا قَصْدَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ. وَالْعَمَلُ بِالْجَهَالَةِ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَلَبَةِ شَهْوَةٍ، فَيَعْمَلُ لِغَرَضِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ عَلَى طَمَعِ أَنَّهُ سَيَتُوبُ مِنْ بَعْدُ وَيَصِيرُ صَالِحًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى طَمَعِ الْمَغْفِرَةِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ. وَقَدْ تَكُونُ الْجَهَالَةُ جَهَالَةَ عُقُوبَةٍ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى مِنْ قَرِيبٍ: أَيْ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ. وَالْقُرْبُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَانِ الْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مُدَّةِ حَيَاتِهِ إِلَى أَنْ يُغَرْغِرَ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَانِ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ. فَإِذَا كَانَتْ تَوْبَتُهُ تُقْبَلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَبُولُهَا قَبْلَهُ أَجْدَرُ، وَقَدْ بَيَّنَ غَايَةَ مَنْعِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا بِحُضُورِ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ السُّوءُ بِحَسَنَاتِهِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَكْثُرَ سَيِّئَاتُهُ وَتَزِيدَ عَلَى حَسَنَاتِهِ، فَيَبْقَى كَأَنَّهُ بِلَا حَسَنَاتٍ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ تَتَرَاكَمَ ظُلُمَاتُ قَلْبِهِ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، وَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ الْمُحِيطِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَلَائِكَةِ وَالسَّوْقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: قَبْلَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ. فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَحْسَنَ أَوْقَاتِ التَّوْبَةِ، وَذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُ آخِرَ وَقْتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ

بِهِ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، وَرَوَى أَبُو أَيُّوبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ حِينَ أَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ: وَعِزَّتِكَ لَا أُفَارِقُ ابْنَ آدَمَ مَا دَامَ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. قِيلَ: وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ قَرِيبَةً لِأَنَّ الْأَجَلَ آتٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عُمُرِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ طَالَتْ فَهِيَ قَلِيلَةٌ قَرِيبَةٌ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَقَّعُ كُلَّ لَحْظَةٍ نُزُولَ الْمَوْتِ بِهِ، وَمَا هَذِهِ حَالُهُ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُرْبِ. وَارْتِفَاعُ التَّوْبَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ هو على الله، وللذين مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ لِلَّذِينَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الظَّرْفُ، وَالِاسْتِقْرَارُ أَيْ ثَابِتَةً لِلَّذِينَ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هذا التَّكَلُّفِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ لِلَّذِينَ، وَيَتَعَلَّقُ عَلَى اللَّهِ بِمَحْذُوفٍ، وَيَكُونُ حَالًا مِنْ مَحْذُوفٍ أَيْضًا وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ إِذَا كَانَتْ، أَوْ إِذْ كَانَتْ عَلَى اللَّهِ. فَإِذَا وَإِذْ ظَرْفَانِ الْعَامِلُ فِيهِمَا لِلَّذِينَ، لِأَنَّ الظَّرْفَ يَعْمَلُ فِيهِ الْمَعْنَى وَإِنَّ تَقَدَّمَ عليه. وكان تَامَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ لِكَانَ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى اللَّهِ حَالًا يَعْمَلُ فِيهَا لِلَّذِينَ، لِأَنَّهُ عَامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالْحَالُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمْ: هَذَا بُسْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ رُطَبًا انْتَهَى. وَهُوَ وَجْهٌ مُتَكَلِّفٌ فِي الْإِعْرَابِ، غَيْرُ مُتَّضِحٍ فِي الْمَعْنَى، وبجهالة فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: مَصْحُوبِينَ بِجَهَالَةٍ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ بَاءَ السَّبَبِ أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ هُوَ الْجَهَالَةُ، إِذْ لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُتَذَكِّرِينَ لَهُ حَالَةَ إِتْيَانِ الْمَعْصِيَةِ مَا عَمِلُوهَا كَقَوْلِهِ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لِأَنَّ الْعَقْلَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَغْلُوبًا أو مسلوبا. ومن فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرِيبٍ، تتعلق بيتوبون، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ بَعْضَ زَمَانٍ قَرِيبٍ، فَفِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ أَتَى بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ قَرِيبٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ يبتدىء التَّوْبَةَ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَعْصِيَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْإِصْرَارِ. وَمَفْهُومُ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ: أَنَّهُ لَوْ تَابَ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ مَنْ خُصَّ بِكَرَامَةِ خَتْمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَى اللَّهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الآية بعلى، فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ. وَقَوْلِهِ: يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْعُودِينَ بِكَلِمَةِ عَسَى فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ «1» .

_ (1) سورة التوبة: 9/ 102.

وَدُخُولُ مِنِ الِابْتِدَائِيَّةِ عَلَى الزَّمَانِ لَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ هُنَا وَهُوَ زَمَانٌ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ قَرِيبٍ مَقَامَهُ، لَيْسَ مَقِيسًا. لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ وَهِيَ الْقَرِيبُ لَيْسَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجُوزُ حَذْفُهَا بِقِيَاسٍ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَلَمْ يُلْفَظْ بِمَوْصُوفِهَا كَالْأَبْطَحِ، وَالْأَبْرَقِ، وَلَا مُخْتَصَّةً بِجِنْسِ الْمَوْصُوفِ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِمُهَنْدِسٍ، وَلَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْصُوفِهَا نَحْوُ: اسْقِنِي مَاءً وَلَوْ بَارِدًا، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْوَصْفُ فِيهِ اسْمًا وَحُذِفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ عَلَى الله لمن ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ يَتَعَطَّفُ عَلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقَا التَّوْبَةِ بِاخْتِلَافِ الْمَجْرُورِ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى اللَّهِ، وَالثَّانِي عَلَيْهِمْ، فَفَسَّرَ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَلَمَّا ضَمَّنَ يَتُوبُ مَعْنَى مَا يُعَدَّى بِعَلَى عَدَّاهُ بِعَلَى، كَأَنَّهُ قَالَ: يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ. وَفِي عَلَى الْأُولَى رُوعِيَ فِيهَا الْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ قَبُولٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) : قوله: إنما التوبة على اللَّهِ إِعْلَامٌ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْضُ الطَّاعَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، عِدَةٌ بِأَنَّهُ يَفِي بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْغُفْرَانَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَمَا بعد الْعَبْدَ الْوَفَاءَ بِالْوَاجِبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُشِيرٌ إِلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ قَبُولُهَا لُزُومَ إِحْسَانٍ لا استحقاق، ويتوب عَلَيْهِمْ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ. أَوْ يَكُونُ الْأُولَى بِمَعْنَى الْهِدَايَةِ إِلَى التَّوْبَةِ والإرشاد، ويتوب عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. أَيْ عَلِيمًا بِمَنْ يُطِيعُ وَيَعْصِي، حَكِيمًا أَيْ: يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَيَقْبَلُ تَوْبَةَ مَنْ أَنَابَ إِلَيْهِ. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ نَفَى تَعَالَى أَنْ يَكُونَ التَّوْبَةُ لِلْعَاصِي الصَّائِرِ فِي حَيِّزِ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَا لِلَّذِي وَافَى عَلَى الْكُفْرِ. فَالْأَوَّلُ: كَفِرْعَوْنَ إِذْ لَمْ يَنْفَعْهُ إِيمَانُهُ وَهُوَ فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ وَالْغَرَقِ، وَكَالَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» وَحُضُورُ الْمَوْتِ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَكَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْبَةُ في

_ (1) سورة غافر: 40/ 85.

الْآخِرَةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّى بَيْنَ الَّذِينَ سَوَّفُوا تَوْبَتَهُمْ إِلَى حَضْرَةِ الْمَوْتِ، وَبَيْنَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ، لِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْتِ إلى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ. فَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ عَلَى الْكُفْرِ قَدْ فَاتَتْهُ التَّوْبَةُ عَلَى الْيَقِينِ، فَكَذَلِكَ الْمُسَوِّفُ إِلَى حَضْرَةِ الْمَوْتِ، لِمُجَاوَزَةِ كُلِّ وَاحِدٍ منهما. أو أنّ التَّكْلِيفِ وَالِاخْتِيَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا، فَإِذَا صَارَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ ضَرُورِيًّا سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وَأَهْلُ الْآخِرَةِ لِأَجْلِ مُشَاهَدَتِهِمْ أَهْوَالَهَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وَكَذَلِكَ الْحَالَةُ الَّتِي يَحْصُلُ عِنْدَهَا الْعِلْمُ بِاللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ. وَالَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَكَلَّفَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْمَوْتِ لَا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ، وَلِأَنَّ الشَّدَائِدَ الَّتِي تَلَقَّاهَا عِنْدَ قُرْبِ الْمَوْتِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِمَّا تَلَقَّاهَا بِالْقُولَنْجِ وَالطَّلْقِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ، فَكَذَلِكَ تِلْكَ. وَلِأَنَّهُ عِنْدَ الْقُرْبِ يَصِيرُ مُضْطَرًّا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْقَبُولِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَعَدَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَبِعَدْلِهِ أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمَقْبُولَ مَرْدُودًا، وَالْمَرْدُودَ مقبولا، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» وَقَدْ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَاهُمْ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ بِالْعِلْمِ بِاللَّهِ إِذَا صَارَ ضَرُورَةً، وَفِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ يُوجِبُ العلم بالله على سبيل الِاضْطِرَارِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَسَخَهَا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» فَحَتَمَ أَنْ لَا يَغْفِرُ لِلْكَافِرِينَ، وَأَرْجَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَشِيئَتِهِ. وَطُعِنَ عَلَى ابْنِ زَيْدٍ: بِأَنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَقْرِيرَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فَيَجُوزُ نَسْخُ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ادِّعَاءِ نَسْخٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ أَنَّ مَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ مَقْبُولَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُغْفَرُ لَهُ، فَيُحْتَاجُ أَنْ يُنْسَخَ بِقَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ مغايرون لقوله: للذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ أَنْ يَكُونَا غَيْرَيْنِ، وللتأكيد بلا الْمُشْعِرَةِ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ تَقُولُ: هَذَا لَيْسَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بَلْ لِأَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ هَذَا لِزَيْدٍ وَلَا لِعَمْرٍو، فَيَنْتَفِي عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: بَلْ لأحدهما، وإذا

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 23. (2) سورة النساء: 4/ 48.

تَقَرَّرَ هَذَا اتَّضَحَ ضَعْفُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَنِ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، أَهُمُ الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، أَمِ الْكُفَّارُ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُفَّارُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَهُمْ كُفَّارٌ، وَأَنْ يُرَادَ الْفُسَّاقُ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الزَّانِيَيْنِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمَا إِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهُمْ كُفَّارٌ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «1» وَقَوْلِهِ: «فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» ، مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُصَدِّقًا وَمَاتَ وَهُوَ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ حَالُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ حَالِ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُ لَا يَجْتَرِي عَلَى ذَلِكَ إِلَّا قَلْبٌ مُصْمَتٌ انتهى لامه. وَهُوَ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَابِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ سَوَّفُوا التَّوْبَةَ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ، وَالثَّانِي: الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا أُرِيدَ بِهَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ. إِمَّا الْكُفَّارُ فَقَطْ وَهُمُ الَّذِينَ وُصِفُوا عِنْدَهُ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَيَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَعَلَّلَ هَذَا الْوَجْهَ بِقَوْلِهِ: لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَهُمْ كُفَّارٌ، فَجَعَلَ هَذِهِ الْحَالَ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ هُمُ الْكُفَّارُ، وَإِمَّا الْفُسَّاقُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهُمْ كُفَّارٌ لَا يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ حَقِيقَةً، وَلَا أَنَّهُمْ يُوَافُونَ عَلَى الْكُفْرِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ عِنْدَهُ: فَقَدْ خَالَفَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ صَدْرَ تَفْسِيرِهِ الْآيَةَ، أَوَّلًا وَكُلُّ ذَلِكَ انْتِصَارٌ لِمَذْهَبِهِ حَتَّى يُرَتِّبَ الْعَذَابَ: إِمَّا لِلْكَافِرِ، وَإِمَّا لِلْفَاسِقِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ قَوَانِينِ النَّحْوِ، وَالْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ كُفَّارٌ، لَيْسَ ظَاهِرُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَيْدٌ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ، وَظَاهِرُهُ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ حَقِيقَةً. وَكَمَا أَنَّهُ شَرَطَ فِي انْتِفَاءِ قَبُولِ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ إِيقَاعَهَا فِي حَالِ حُضُورِ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ كُفْرَهُمْ حَالَةَ الْمَوْتِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التغاير والزمخشري كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ. وَجَاءَ يَعْمَلُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى عَمَلِ السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ يَحْضُرَهُمُ الْمَوْتُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: قَالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، هُوَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، فَلَا تقبل توبتهم لأنها توبة دَفْعٍ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ تُبْتُ الْآنَ تَوْبَةٌ شَرِيطِيَّةٌ فَلَمْ تُقْبَلْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ظَاهِرُهُ النَّفْيُ لِوُجُودِهَا، وَالْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ أَيْ: أَنَّ تَوْبَتَهُمْ وَإِنْ وُجِدَتْ فَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، وُقُوعُ الْمَوْتِ حَقِيقَةً. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ تَابُوا فِي الْآخِرَةِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ مَاتُوا مُلْتَبِسِينَ بِالْكُفْرِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 97.

بِقَوْلِهِ: يَمُوتُونَ، يَقْرُبُونَ مِنَ الْمَوْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ «1» أَيْ عَلَامَاتُهُ. فَكَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الصِّنْفَيْنِ، وَيَكُونَانِ قَدْ شُرِكَا فِي إِعْدَادِ الْعَذَابِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ أَحَدِهِمَا مُنْقَطِعًا وَالْآخَرُ خَالِدًا. وَيَكُونُ ذَلِكَ وَعِيدًا لِلْعَاصِي الَّذِي لَمْ يَتُبْ إِلَّا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ حَيْثُ شَرَّكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي وَافَى عَلَى الْكُفْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى الصِّنْفِ الْأَخِيرِ إِذْ هُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمِيرِ، فَيُشَارُ بِهِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرِ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَيَكُونُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ مُرَتَّبًا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، إِذِ الْكُفْرُ هُوَ مَقْطَعُ الرَّجَاءِ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى. وَظَاهِرُ الْإِعْدَادِ أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ فِي الْوَعِيدِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «2» فِي الْوَعْدِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَائِنَانِ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. وَتَلَطَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي دَسِّهِ الِاعْتِزَالَ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ قَرَّرَ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِأَنَّ مَنْ نَفَى عنهم التوبة صفنان، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَهُ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَمَا أَنَّ الْوَعْدَ لِلَّذِينَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ مِنَ الصِّنْفِ الْمَذْكُورِ، قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُصَاةَ الَّذِينَ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ وَعِيدُهُمْ كَائِنٌ مَعَ وَعِيدِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَمَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى الَّذِينَ يُوَافُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُرَجِّحُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَ الْكَافِرِ أَقْبَحُ مِنْ فِعْلِ الْفَاسِقِ، لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ مَقْطُوعًا بِهِ لِلْفَاسِقِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ لِلْفَاسِقِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، إِذْ يَجُوزُ الْعِقَابُ وَيَجُوزُ الْعَفْوُ. وَفَائِدَةُ وُرُودِهِ حُصُولُ التَّخْوِيفِ لِلْفَاسِقِ. وَكُلُّ وَعِيدٍ لِلْفُسَّاقِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «3» وَهَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ الَّتِي يُرْجَعُ إِلَيْهَا. وَذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ «4» فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، وَاخْتَارَهُ الْمَرْوَزِيُّ. قَالَ: فَرَّقَ بِالْعَطْفِ، ودل على أنّ

_ (1) سورة النساء: 4/ 18. (2) سورة النساء: 4/ 17. (3) سورة النساء: 4/ 48. (4) سورة النساء: 4/ 18.

الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْمُنَافِقُونَ. كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» لِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ مُخَالِفًا لِلْكَافِرِ بِظَاهِرِهِ فِي الدُّنْيَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا فِي عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتُوبُونَ حَالَ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُنْدَرِجُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ «2» فَهُمْ قِسْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ لَا قَسِيمَ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّغَائِرِ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ فِي الْكَبَائِرِ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فِي الْكُفْرِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو مِجْلَزٍ: كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا، إن شاؤوا تَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ، أَوْ زَوَّجُوهَا غَيْرَهُمْ، أَوْ مَنَعُوهَا. وَكَانَ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا يَتَزَوَّجُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَنْصَارِ لَازِمًا، وَفِي قُرَيْشٍ مُبَاحًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الِابْنُ الْأَكْبَرُ أَحَقَّ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنْ سَبَقَ الْوَلِيُّ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، أَوْ سَبَقَتْهُ إِلَى أَهْلِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْأَوْلِيَاءِ نُهُوا أَنْ يَرِثُوا النِّسَاءَ الْمُخَلَّفَاتِ عَنِ الْمَوْتَى كَمَا يُورَثُ الْمَالُ. وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْوِرَاثَةِ فِي حَالِ الطَّوْعِ وَالْكَرَاهَةِ، لَا جَوَازُهَا فِي حَالِ الطَّوْعِ اسْتِدْلَالًا بِالْآيَةِ، فَخَرَجَ هَذَا الْكُرْهُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مَجْبُورَاتٍ عَلَى ذَلِكَ إِذْ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ أَوْلِيَاءِ نَفْسِهَا. وَقِيلَ: هُوَ إِمْسَاكُهُنَّ دُونَ تَزْوِيجٍ حَتَّى يَمُتْنَ فَيَرِثُونَ أَمْوَالَهُنَّ، أَوْ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ لَهَا مَالٌ فَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ مُحَافَظَةً عَلَى مَالِهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا كُرْهًا لِأَجْلِهِ. أَوْ تَحْتَهُ عَجُوزٌ ذَاتُ مَالٍ، وَيَتُوقُ إِلَى شَابَّةٍ فَيُمْسِكُ الْعَجُوزَ لِمَالِهَا، وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَالِهَا، أَوْ تَمُوتَ فَيَرِثَ مَالَهَا. وَالْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمَا قَبْلَهُ يَكُونُ الْمَوْرُوثُ مَالَهُنَّ، لَا هُنَّ. وَانْتَصَبَ كَرْهًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النِّسَاءِ، فَيُقَدَّرُ بَاسِمِ فَاعِلٍ أَيْ: كَارِهَاتٍ، أَوْ بِاسْمِ مَفْعُولٍ أَيْ: مُكْرَهَاتٍ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الْكَافِ، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها، وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي التَّوْبَةِ، وَبِضَمِّهَا فِي الْأَحْقَافِ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا لُغَتَانِ: كَالصَّمْتِ وَالصُّمْتِ قَالَهُ: الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عَلِيٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَتْحُ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ، وَالضَّمُّ مِنْ فِعْلِكَ تَفْعَلُهُ كَارِهًا لَهُ مِنْ غَيْرِ مُكْرِهٍ كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ وَتَعَبٌ، وَقَالَهُ: أَبُو عَمْرِو بن

_ (1) سورة الحديد: 57/ 15. (2) سورة النساء: 4/ 18.

الْعَلَاءِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «1» في البقرة. وقرىء: لَا تَحِلُّ لَكُمْ بِالتَّاءِ عَلَى تَقْدِيرِ لَا تَحِلُّ لَكُمُ الْوِرَاثَةُ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا «2» أَيْ إِلَّا مَقَالَتَهُمْ، وَانْتِصَابُ النِّسَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ إِمَّا لِكَوْنِهِنَّ هُنَّ أَنْفُسِهِنِّ الْمَوْرُوثَاتِ، وَإِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَمْوَالَ النِّسَاءِ. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَيْ لَا تَحْبِسُوهُنَّ وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ. وَظَاهِرُ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ لِقَوْلِهِ: بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا الصَّدَاقَ. وَكَانَ يَكْرَهُ صُحْبَةَ زَوْجَتِهِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ، فَيَحْبِسُهَا وَيَضْرِبُهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ. أَوْ يَنْكِحُ الشَّرِيفَةَ فَلَا تُوَافِقُهُ، فَيُفَارِقَهَا عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا خُطِبَتْ وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا، وَإِلَّا عَضَلَهَا قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ مَنْعَ الْمُطَلَّقَةِ مِنَ الزَّوْجِ ثَلَاثًا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً «3» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا «4» فلقوا فِي هَذَا الْخِطَابِ، ثُمَّ أُفْرِدَ كُلٌّ فِي النَّهْيِ بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَخُوطِبَ الْأَوْلِيَاءُ بِقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، وَخُوطِبَ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، فَعَادَ كُلُّ خِطَابٍ إِلَى مَنْ يُنَاسِبُهُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَضْلِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ «5» والباء في ببعض مَا آتَيْتُمُوهُنَّ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: لِتُذْهِبُوا بَعْضَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ: لِتَذْهَبُوا مَصْحُوبِينَ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى الِانْقِطَاعِ فِيهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ظَرْفِ زَمَانٍ عَامٍّ، أَوْ مِنْ عِلَّةٍ. كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَأْتِينَ. أَوْ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِأَنَّ يَأْتِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِلْأَزْوَاجِ إِذْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَبْسُهَا حَتَّى يَذْهَبَ بِمَالِهَا إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ. وَالْفَاحِشَةُ هُنَا الزِّنَا قَالَهُ: أَبُو قُلَابَةَ وَالْحَسَنُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا زَنَتِ الْبِكْرُ جُلِدَتْ مِائَةً وَنُفِيَتْ سَنَةً، وَرَدَّتْ إِلَى زَوْجِهَا مَا أَخَذَتْ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: إِذَا زنت امرأة الرجل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 216. [.....] (2) سورة الأنعام: 6/ 23. (3) سورة النساء: 4/ 19. (4) سورة النساء: 4/ 19. (5) سورة البقرة: 2/ 232.

فَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَارَّهَا وَيَشُقَّ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَخُذُوا مُهُورَهُنَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثُمَّ نُسِخَ بِالْحُدُودِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو قِلَابَةَ: لَا يَحِلُّ الْخُلْعُ حَتَّى يُوجَدَ رَجُلٌ عَلَى بطنها. وقال قتادة: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا ضِرَارًا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ، يَعْنِي: وَإِنْ زَنَتْ. وقال ابن عباس وعائشة وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ: الْفَاحِشَةُ هُنَا النُّشُوزُ، فَإِذَا نَشَزَتْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ قوم: الفاحشة البذاء بِاللِّسَانِ وَسُوءُ الْعِشْرَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَهَذَا فِي مَعْنَى النُّشُوزِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُوءُ الْعِشْرَةِ مِنْ جهتهن، فَيَجُوزُ أَخْذُ مَالِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْخُلْعِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قراءة أبي: إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ عَلَيْكُمْ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ وَعَاشِرُوهُنَّ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُخَالِفَتَانِ لِمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَكَذَا ذَكَرَ الدَّانِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ وَالْإِيضَاحِ، لَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ مَا أَعْطَاهَا رُكُونًا لِقَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ «1» وَقَالَ مَالِكٌ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النَّاشِزِ جَمِيعَ مَا تَمْلِكُهُ. وَظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْعَضْلِ لَهُ لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا لِأَكْلِهِ، وَلَا مَا لَمْ يُعْطِهَا مِنْ مَالِهِ إِذَا أَتَتْ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بكر: مُبَيِّنَةٍ هُنَا، وَفِي الْأَحْزَابِ، وَالطَّلَاقِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ أَيْ يُبَيِّنُهَا مَنْ يَدَّعِيهَا وَيُوَضِّحُهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْكَسْرِ أَيْ: بَيِّنَةٍ فِي نَفْسِهَا ظَاهِرَةٍ. وَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَيَّنَ، وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ بِمَعْنَى بَانَ أَيْ ظَهَرَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، أَنْ لَا نَهْيَ، فَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ بِهَا، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ. فَإِنْ قُلْنَا: شَرْطُ عَطْفِ الْجُمَلِ الْمُنَاسَبَةُ، فَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ تِلْكَ الْخَبَرِيَّةَ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّهْيِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا فَإِنَّهُ غَيْرُ حَلَالٍ لَكُمْ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَطْفِ الْمُنَاسَبَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، فَظَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون تَعْضُلُوهُنَّ نَصْبًا عَطْفًا عَلَى تَرِثُوا، فَتَكُونُ الْوَاوُ مُشْرِكَةً عَاطِفَةً فِعْلًا عَلَى فِعْلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَا أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُقَوِّي احْتِمَالَ النَّصْبِ، وَأَنَّ الْعَضْلَ مِمَّا لَا يَحِلُّ بِالنَّصِّ. وَعَلَى تَأْوِيلِ الْجَزْمِ هِيَ نَهْيٌ مُعَوِّضٌ لِطَلَبِ الْقَرَائِنِ فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ، وَاحْتِمَالُ النَّصْبِ أَقْوَى انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَجْوِيزِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا عَطَفْتَ فِعْلًا مَنْفِيًّا بِلَا عَلَى مُثْبَتٍ وَكَانَا مَنْصُوبَيْنِ، فَإِنَّ النَّاصِبَ لَا يُقَدَّرُ إِلَّا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ، لَا بَعْدَ لَا. فَإِذَا قُلْتَ: أُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ وَلَا أَدْخُلَ النَّارَ، فَالتَّقْدِيرُ: أُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ وَأَنْ لَا أَدْخُلَ النَّارَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُطْلَبُ الْأَوَّلُ عَلَى سَبِيلِ الثُّبُوتِ، وَالثَّانِي على سبيل

_ (1) سورة النساء: 4/ 19.

النَّفْيِ. فَالْمَعْنَى: أُرِيدُ التَّوْبَةَ وَانْتِفَاءَ دُخُولِي النَّارَ. فَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الْمُتَعَاطِفَيْنِ مَنْفِيًّا، فَكَذَلِكَ وَلَوْ قَدَّرْتَ هَذَا التَّقْدِيرَ فِي الْآيَةِ لَمْ يَصِحَّ لَوْ قُلْتَ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لَمْ يَصِحَّ، إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ لَا زَائِدَةً لَا نَافِيَةً، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَأَمَّا أَنْ تُقَدِّرَ أَنْ بَعْدَ لَا النَّافِيَةِ فَلَا يَصِحُّ. وَإِذَا قَدَّرْتَ أَنْ بَعْدَ لَا كَانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ، لَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَالْتَبَسَ عَلَى ابْنِ عَطِيَّةَ الْعَطْفَانِ، وَظَنَّ أَنَّهُ بِصَلَاحِيَّةِ تَقْدِيرِ أَنْ بَعْدَ لَا يَكُونُ مِنْ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ: لَا أُرِيدُ أَنْ يَقُومَ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ، وَقَوْلِكَ: لَا أُرِيدُ أَنْ يَقُومَ وَلَا أَنْ يَخْرُجَ، فَفِي الْأَوَّلِ: نَفْيُ إِرَادَةِ وُجُودِ قِيَامِهِ وَإِرَادَةِ انْتِفَاءِ خُرُوجِهِ، فَقَدْ أَرَادَ خُرُوجَهُ. وَفِي الثَّانِيَةِ نَفْيُ إِرَادَةِ وُجُودِ قِيَامِهِ، وَوُجُودِ خُرُوجِهِ، فَلَا يُرِيدُ لَا الْقِيَامَ وَلَا الْخُرُوجَ. وَهَذَا فِي فَهْمِهِ بَعْضُ غُمُوضٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَمَرَّنْ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.. وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ هَذَا أَمْرٌ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ التَّلَبُّسَ بِالْمُعَاشَرَةِ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ لِلْأَزْوَاجِ، وَكَانُوا يُسِيئُونَ مُعَاشَرَةَ النِّسَاءِ، وَبِالْمَعْرُوفِ هُوَ النَّصَفَةُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالُ فِي الْقَوْلِ. وَيُقَالُ: الْمَرْأَةُ تَسْمَنُ مِنْ أُذُنِهَا. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً أَدَّبَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِهَذَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَحْمِلْكُمُ الْكَرَاهَةُ عَلَى سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ الْأَنْفُسِ لِلشَّيْءِ لَا تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْخَيْرِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «1» وَلَعَلَّ مَا كَرِهَتِ النَّفْسُ يَكُونُ أَصْلَحَ فِي الدِّينِ وَأَحْمَدَ فِي الْعَاقِبَةِ، وَمَا أَحَبَّتْهُ يَكُونُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ عَسَى فِعْلًا جَامِدًا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَاءُ الْجَوَابِ، وَعَسَى هُنَا تَامَّةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى اسْمٍ وَخَبَرٍ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى شَيْءٍ أَيْ: وَيَجْعَلُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ. (وَقِيلَ) : عَائِدٌ عَلَى الْكُرْهِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْفِعْلِ. (وَقِيلَ) : عَائِدٌ عَلَى الصَّبْرِ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْخَيْرَ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ. وَانْظُرْ إِلَى فَصَاحَةِ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا، حَيْثُ عَلَّقَ الْكَرَاهَةَ بِلَفْظِ شَيْءٍ الشَّامِلِ شُمُولَ الْبَدَلِ، ولم يعلق الكراهة بضميرهن، فَكَانَ يَكُونُ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوهُنَّ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْحَثُّ عَلَى إِمْسَاكِهِنَّ وَعَلَى صُحْبَتِهِنَّ، وَإِنْ كَرِهَ الْإِنْسَانُ مِنْهُنَّ شَيْئًا مِنْ أَخْلَاقِهِنَّ. وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ. (وقيل) : معنى الآية:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 216.

وَيَجْعَلُ اللَّهُ فِي فِرَاقِكُمْ لَهُنَّ خَيْرًا كَثِيرًا لَكُمْ وَلَهُنَّ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ «1» قَالَهُ الْأَصَمُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. وَقَلَّ أَنْ تَرَى مُتَعَاشِرَيْنِ يَرْضَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ خُلُقِ الْآخَرِ، وَيُقَالُ: مَا تَعَاشَرَ اثْنَانِ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا يَتَغَاضَى عَنِ الْآخَرِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَا يفزك مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» . وَأَنْشَدُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَمَنْ لَا يُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهُوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً لَمَّا أَذِنَ فِي مُضَارَّتِهِنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا، بَنَى تَحْرِيمَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَالِ الْفَاحِشَةِ، وَأَقَامَ الْإِرَادَةَ مَقَامَ الْفِعْلِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنِ اسْتَبْدَلْتُمْ. أو حذف معطوف أَيْ: وَاسْتَبْدَلْتُمْ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ أَنَّ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ: وَقَدْ آتَيْتُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَالِاسْتِبْدَالُ وَضْعُ الشَّيْءِ مَكَانَ الشَّيْءِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنِ اخْتِيَارِكُمْ فَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَاطَبَتْ عُمَرَ حِينَ خَطَبَ وَقَالَ: «أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ نِسَائِكُمْ» . وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُغَالَاةِ، لِأَنَّهُ تَمْثِيلٌ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ كَأَنَّهُ: قِيلَ وَآتَيْتُمْ هَذَا الْقَدْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يُؤْتِيهِ أَحَدٌ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَسْجِدًا لَا يَكُونُ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّغَرِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أمهر مأتين وَجَاءَ يَسْتَعِينُ فِي مَهْرِهِ وغضب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنَّكُمْ تَقْطَعُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ الْحَرَّةِ» وَقَالَ محمد بن عمر الرازي: لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْمُغَالَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِيتَاءِ الْقِنْطَارِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كُونُ ذَلِكَ الشَّرْطِ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ، خِطَابًا لِجَمَاعَةٍ كَانَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِبْدَالِ أَزْوَاجًا مَكَانَ أَزْوَاجٍ، وَاكْتَفَى بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ لِدَلَالَةِ جَمْعِ الْمُسْتَبْدَلِينَ، إِذْ لَا يُوهِمُ اشْتِرَاطُ الْمُخَاطَبِينَ فِي زَوْجٍ وَاحِدَةٍ مَكَانَ زَوْجٍ واحدة، ولا إرادة معنى الجماع عَادَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إحداهن

_ (1) سورة النساء: 4/ 130.

جَمْعًا وَالَّتِي نَهَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْهَا هِيَ الْمُسْتَبْدَلُ مكانها، لا الْمُسْتَبْدَلَةَ. إِذْ تِلْكَ هِيَ الَّتِي أَعْطَاهَا الْمَالَ، لَا الَّتِي أَرَادَ اسْتِحْدَاثَهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ «1» وَقَالَ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمُ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَأَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إِحْدَاهُنَّ، أَيْ إِحْدَى الْأَزْوَاجِ قِنْطَارًا، وَلَمْ يَقُلْ: وَآتَيْتُمُوهُنَّ قِنْطَارًا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْجَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ آتَوُا الْأَزْوَاجَ قِنْطَارًا. وَالْمُرَادُ: آتَى كُلُّ وَاحِدٍ زَوْجَتَهُ قِنْطَارًا. فَدَلَّ لَفْظُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: آتَيْتُمْ، الْمُرَادُ مِنْهُ كُلٍّ وَاحِدٌ وَاحِدٌ، كَمَا دَلَّ لَفْظُ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِبْدَالُ أَزْوَاجٍ مَكَانَ أَزْوَاجٍ، فَأُرِيدَ بِالْمُفْرَدِ هُنَا الْجَمْعُ لِدَلَالَةِ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ لِدَلَالَةِ إِحْدَاهُنَّ، وَهِيَ مُفْرَدَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْبَلَاغَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَلَا أَفْصَحَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قِنْطَارٍ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ «2» وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى قِنْطَارٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِوَصْلِ أَلِفِ إِحْدَاهُنَّ، كما قرىء: إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ بِوَصْلِ الْأَلِفِ، حُذِفَتْ عَلَى جِهَةِ التَّحْقِيقِ كَمَا قَالَ: وَتَسْمَعُ مِنْ تَحْتِ الْعَجَاجِ لَهَا ازْمَلَا وَقَالَ: إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعَا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا تَحْرِيمُ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا إِذَا كَانَ استبدل مَكَانِهَا بِإِرَادَتِهِ. قَالُوا: وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ «3» قَالُوا: وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. وَيُجْرَى هَذَا الْمَجْرَى الْمُخْتَلِعَةُ لِأَنَّهَا طَابَتْ نَفْسُهَا أَنْ تَدْفَعَ لِلزَّوْجِ مَا افْتَدَتْ بِهِ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ: لَا تَأْخُذْ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ شَيْئًا لِقَوْلِهِ: فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا وَآيَةُ الْبَقَرَةِ مَنْسُوخَةٌ بِهَذَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا، وَالنَّهْيُ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ مَا آتَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ. أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي آتَاهَا مَهْرًا فَقَطْ، بَلِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ صَارَ بَيْنَهُمَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَالِامْتِزَاجِ مَا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا آتَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الخطاب عموما في

_ (1) سورة النساء: 4/ 21. (2) سورة آل عمران: 3/ 14. (3) سورة النساء: 4/ 4.

جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْمُ، وَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ فِيهِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ خُصُوصَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مِنْهُ تَسْلِيمٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ، أَيِ الْمَهْرَ. وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَفَ امْرَأَتَهُ نَفَقَتَهَا لِمُدَّةٍ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، لَا يَرْجِعُ فِي مِيرَاثِهَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ، أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى بَعْدَ مَوْتِهَا مُسْتَبْدِلًا بِهَا مَكَانَ الْأُولَى. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ قَدْ تَنَاوَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ عُدِمَ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُسْتَبْدِلَ يَتْرُكُ هَذَا وَيَأْخُذُ آخَرَ بَدَلًا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يَتْرُكُهُ وَيَأْخُذُ بَدَلَهُ آخَرَ؟ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إِنْ أَرَادَ الِاسْتِبْدَالَ، وَآخِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ بِتَعْلِيلِهِ بِالْإِفْضَاءِ عَلَى الْعُمُومِ، فِي حَالَةِ الِاسْتِبْدَالِ وَغَيْرِهَا. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيهَا أَنَّهُ لِمَكَانِ الِاسْتِبْدَالِ وَقِيَامِ غَيْرِهَا مَقَامَهَا، لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا وَيُعْطِيَهُ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمُفَارِقَةِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الَّتِي اسْتَبْدَلَ مَكَانَهَا لَمْ يبح له أحد شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا، مَعَ سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ بَضْعِهَا، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُبَاحَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ وَاسْتِبَاحَةِ بَضْعِهَا، وَكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْهَا بِنَفْسِهِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: شَيًّا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَنْوِينِهَا، حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْيَاءِ. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أَصْلُ الْبُهْتَانِ: الْكَذِبُ الَّذِي يُوَاجِهُ بِهِ الْإِنْسَانُ صَاحِبَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَابَرَةِ فَيُبْهَتُ الْمَكْذُوبُ عَلَيْهِ. أَيْ: يَتَحَيَّرُ ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ بَاطِلٍ يُتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُهْتَانًا. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَتَفْعُلُونَ هَذَا مَعَ ظُهُورِ قُبْحِهِ؟ وَسُمِّيَ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَطْلِيقَ امْرَأَةٍ رَمَوْهَا بِفَاحِشَةٍ حَتَّى تَخَافَ وَتَفْتَدِيَ مِنْهُ مَهْرَهَا، فَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بُهْتَانًا لِأَنَّهُ كَانَ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ، وَاسْتِرْدَادُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أَفْرِضْهُ، وَهَذَا بُهْتَانٌ. وَانْتَصَبَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، التَّقْدِيرُ: بَاهِتِينَ وَآثِمِينَ. أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ التَّقْدِيرُ: مُبْهِتًا مُحَيِّرًا لِشُنْعَتِهِ وَقُبْحِ الْأُحْدُوثَةِ، أَوْ مَفْعُولَيْنِ مِنْ أَجْلِهِمَا أَيْ: أَتَأْخُذُونَهُ لِبُهْتَانِكُمْ وَإِثْمِكُمْ؟ قَالَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا كَقَوْلِكَ: قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ جَبْنًا. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْضًا، أَنْكَرَ أَوَّلًا الْأَخْذَ، وَنَبَّهَ عَلَى امْتِنَاعِ الْأَخْذِ بِكَوْنِهِ بُهْتَانًا وَإِثْمًا. وَأَنْكَرَ ثَانِيًا حَالَةَ الْأَخْذِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ

مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجَامَعَ حَالَ الْإِفْضَاءِ، لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ وَهُوَ الْمُبَاشَرَةُ وَالدُّنُوُّ الَّذِي مَا بَعْدَهُ دُنُوٌّ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يُؤْخَذُ مَعَهُ شَيْءٌ مِمَّا أَعْطَاهُ الزَّوْجُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْإِفْضَاءِ أَخْذَ النِّسَاءِ الْمِيثَاقَ الْغَلِيظَ مِنَ الْأَزْوَاجِ. وَالْإِفْضَاءُ: الْجِمَاعُ قَالَهُ، ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، ومجاهد، والسدي. وقال عمر، وعلي، وناس من الصحابة، والكلبي، وَالْفَرَّاءُ: هِيَ الْخَلْوَةُ وَالْمِيثَاقُ ، هُوَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «1» قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالسُّدِّيُّ، وقتادة. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّاكِحِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ: عَلَيْكُمْ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: الْمِيثَاقُ كَلِمَةُ اللَّهِ الَّتِي اسْتَحْلَلْتُمْ بِهَا فُرُوجَهُنَّ، وَهِيَ قَوْلُ الرَّجُلِ: نَكَحْتُ وَمَلَكْتُ النِّكَاحَ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» وَقَالَ قَوْمٌ: الْمِيثَاقُ الْوَلَدُ، إِذْ بِهِ تَتَأَكَّدُ أَسْبَابُ الْحُرْمَةِ وَتَقْوَى دَوَاعِي الْأُلْفَةِ. وَقِيلَ: مَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ مِنْ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنَ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ حَقُّ الصُّحْبَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَخَذْنَ بِهِ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، أَيْ بِإِفْضَاءِ بَعْضِكُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَوَصَفَهُ بِالْغِلَظِ لِقُوَّتِهِ وَعِظَمِهِ، فَقَدْ قَالُوا: صُحْبَةُ عِشْرِينَ يَوْمًا قَرَابَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِاتِّحَادِ وَالِامْتِزَاجِ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً «2» وَقَدْ ذَكَرُوا قِصَصًا مَضْمُونُهَا: أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَسَمَّوْا جَمَاعَةً تَزَوَّجُوا زَوْجَاتِ آبَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ آبَائِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي النِّكَاحِ: أَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، أَمْ فِي الْعَقْدِ، أَمْ مُشْتَرَكٌ؟ قَالُوا: وَلَمْ يَأْتِ النِّكَاحُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ إِلَّا فِي فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ «3» وَهَذَا الْحَصْرُ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «4» . وَاخْتُلِفَ فِي مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ. فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهَا مَفْعُولُهُ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى النَّوْعِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «5» أَيْ: وَلَا تَنْكِحُوا النَّوْعَ الَّذِي نَكَحَ آبَاؤُكُمْ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَا تَقَعُ عَلَى أنواع من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 229. (2) سورة النساء: 4/ 19. (3) سورة النساء: 4/ 25. (4) سورة الأحزاب: 33/ 49. [.....] (5) سورة النساء: 4/ 3.

يَعْقِلُ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ. أَمَّا مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَّضِحُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ مِنْ إِطْلَاقِ مَا عَلَى مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ تَلَقَّتِ الصَّحَابَةُ الْآيَةَ وَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يَحْرُمُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ أَيْ: مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِكُمُ الْفَاسِدِ، أَوِ الْحَرَامِ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَالشِّغَارِ وَغَيْرِهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ الْأَمِيرِ أَيْ: مِثْلَ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَيُبَيِّنُ كَوْنَهُ حَرَامًا أَوْ فَاسِدًا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «1» وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ وَلَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ اللَّاتِي نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ مَا مِنْ. وَحَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ النِّكَاحِ هُنَا عَلَى الْوَطْءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرِثُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، لَا مَا كَانَ مِنْهُمْ بِالزِّنَا انْتَهَى. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، إِذْ لَا يُجَامِعُ الِاسْتِقْبَالُ الْمَاضِيَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَعَاطِيَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ آثِمٌ، وَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ قَبْلُ النَّهْيِ مَا حُكْمُهُ. فَقِيلَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ: لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّهْيُ فَلَا إِثْمَ فِيهِ. وَلَمَّا حَمَلَ ابْنُ زَيْدٍ النِّكَاحَ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، حَمَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَا بِالنِّسَاءِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَكُمْ زَوَاجُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ زِنَاهُمْ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوهُمْ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَقِيلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطِئَهَا أَبُوهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْأَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلِابْنِ تَزَوُّجُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، إِذْ مَا قَدْ سَلَفَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ، إِذِ المراد: ما

_ (1) سورة النساء: 4/ 22.

وَطِئَ آبَاؤُكُمْ. وَمَا وَطِئَ يَشْمَلُ الْمَوْطُوءَةَ بِزِنًا وَغَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا وَطِئَ آبَاؤُكُمْ إِلَّا الَّتِي تَقَدَّمَ هُوَ أَيْ: وَطْؤُهَا بِزِنًا مِنْ آبَائِكُمْ فَانْكِحُوهُنَّ. وَمَنْ جَعَلَ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ مَصْدَرِيَّةً كَمَا قَرَّرْنَاهُ، قَالَ: الْمَعْنَى إِلَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْكُمْ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فَمُبَاحٌ لَكُمُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، إِذَا كَانَ مِمَّا تَقَرَّرَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ اسْتَثْنَى ما قد سلف من مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ؟ (قُلْتُ) : كَمَا اسْتَثْنَى غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ. يَعْنِي: إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهُ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا يُعَلَّقُ بالمحال فِي التَّأْبِيدِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُّ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وقال الأخفش المعنى: فإنكم تُعَذَّبُونَ بِهِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، فَقَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ عَنْكُمْ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، وَهَذَا جَهْلٌ بِعِلْمِ النَّحْوِ، وَعِلْمِ الْمَعَانِي. أَمَّا مِنْ حَيْثُ عِلْمِ النَّحْوِ فَمَا كَانَ فِي حَيِّزِ إِنَّ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَثْنَى لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهَا بِالِاتِّصَالِ أَوِ الِانْقِطَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا خِلَافٌ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَاحِشَةٌ وَمَقْتٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَاضِي، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى هُوَ فَاحِشَةٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، إِلَّا مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَيْسَ بِفَاحِشَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي كَلَامٍ عَرَبِيٍّ لِتَهَافَتِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ نَكَحَهَا أَبُو الرَّجُلِ بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَهَا بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا نِكَاحٌ أَوْ سِفَاحٌ، وَالسِّفَاحُ هُوَ الزِّنَا، وَالنِّكَاحُ هُوَ الْمُبَاحُ، وَأَشَارَ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أَيْ أَنَّ نِكَاحَ الْأَبْنَاءِ نِسَاءَ آبَائِهِمْ هُوَ فَاحِشَةٌ أَيْ: بَالِغَةٌ فِي الْقُبْحِ. وَمَقْتٌ: أَيْ يَمْقُتُ اللَّهُ فَاعِلَهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. أَوْ تَمْقُتُهُ الْعَرَبُ أَيْ: مُبْغَضٌ مُحْتَقَرٌ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ نَاسٌ مِنْ ذوي المروءات فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَمْقُتُونَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْوَلَدَ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ زَوْجِ الْوَالِدِ الْمَقْتِيَّ، نِسْبَةً إِلَى الْمَقْتِ. وَمَنْ فَسَّرَ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِالزِّنَا جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ عائد عَلَيْهِ أَيْ: أَنَّ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ زِنَا الآباء كان فاحشة، وكان يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا بِمَعْنَى لَمْ يَزَلْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ فَاحِشَةً، بَلْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْفُحْشِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَالْفُحْشُ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ.

وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ زَائِدَةٌ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْخَبَرِ، إِذِ الزَّائِدَةُ لَا خَبَرَ لَهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ كَانَ لَا يُرَادُ بِهَا تَقْيِيدُ الْخَبَرِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي فَقَطْ، فَجَعَلَهَا زَائِدَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَسَاءَ سَبِيلًا هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ، كَمَا يُبَالَغُ بِبِئْسَ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُ، فَإِنَّهَا لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أحكام بئس. وان الضَّمِيرُ فِيهَا مُبْهَمًا كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَتَفْسِيرُهُ سَبِيلًا، وَيَكُونُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ إِذْ ذَاكَ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ سَبِيلًا سَبِيلُ هَذَا النِّكَاحِ، كَمَا جَاءَ بِئْسَ الشَّرَابُ أَيْ: ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي كَالْمُهْلِ. وَبَالَغَ فِي ذَمِّ هَذِهِ السَّبِيلِ، إِذْ هِيَ سَبِيلٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: لَقِيتُ خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ لَمَّا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ امْرَأَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَلَيْسَتْ أُمَّهُ، كَانَ تَحْرِيمُ أُمِّهِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُجْمَلِ، بَلْ هَذَا مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: حُرِّمَ عَلَيْكَ الْخَمْرُ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ شُرْبُهَا. وَحُرِّمَتْ عَلَيْكَ الْمَيْتَةُ أَيْ: أَكْلُهَا. وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَالْمَعْنَى: نِكَاحُ أُمَّهَاتِكُمْ. وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» . وَقَالَ محمد بن عمر الرازي: فِيهَا عِنْدِي بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ بِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ اللَّهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ حُرِّمَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ، إِذْ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى الْمُؤَبَّدِ وَالْمُؤَقَّتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ عَلَيْكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ، فَيَخْتَصُّ بِالْحَاضِرِينَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ حُرِّمَتْ مَاضٍ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَالْمُسْتَقْبَلَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُحَرِّمُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جَمِيعَ أُمَّهَاتِهِمْ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ حُرِّمَتْ يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِسَبْقِ الْحِلِّ، إِذْ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا قِيلَ: حُرِّمَتْ. وَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذِهِ الْبُحُوثُ الَّتِي ذَكَرَهَا لَا تَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا طَائِلَ فِيهَا، إِذْ مِنَ الْبَوَاعِثِ عَلَى حَذْفِ الْفَاعِلِ الْعِلْمُ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. أَلَا تَرَى إِلَى آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «2» وقال بعد:

_ (1) سورة النساء: 4/ 22. (2) سورة النساء: 4/ 23.

وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ «1» عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ بَنَاهُ لِلْفَاعِلِ. وَمَتَى جَاءَ التَّحْرِيمُ مِنَ اللَّهِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّأْبِيدُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَالَةُ إِبَاحَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ «2» وَأَمَّا أَنَّهُ صِيغَةُ مَاضٍ فَيَخُصُّهُ فَالْأَفْعَالُ الَّتِي جَاءَتْ يُسْتَفَادُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَإِنَّهَا لَا تَخُصُّهُ، فَإِنَّهَا نَظِيرُ أَقْسَمْتُ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ إِقْسَامٌ فِي زَمَانٍ مَاضٍ. فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُرُودِ الْفِعْلِ فَفَائِدَتُهُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَفَائِدَتُهُ إِنْشَاءُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَتَجْدِيدُهُ. وَأَمَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُحَرِّمُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جَمِيعَ أُمَّهَاتِهِمْ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَلَا مَفْهُومٍ مِنَ اللَّفْظِ. لِأَنَّ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ عَامٌّ يُقَابِلُهُ عَامٌّ، وَمَدْلُولُ الْعُمُومِ أَنَّ تُقَابِلَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. أَمَّا أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِيَّةِ فَلَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةَ الْعَامِّ. فَإِنَّمَا الْمَفْهُومُ: حُرِّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كُلُّ وَاحِدَةٍ، وَاحِدَةٍ مِنْ أُمِّ نَفْسِهِ. وَالْمَعْنَى: حُرِّمَ عَلَى هَذَا أُمُّهُ. وَعَلَى هَذَا أُمُّهُ وَالْأُمُّ الْمُحَرَّمَةُ شَرْعًا هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَبِيكَ، أَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّكَ. وَلَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةٌ فِي الَّتِي ولدتك نفسه. وَدَلَالَةُ لَفْظِ الْأُمِّ عَلَى الجدّة إن كان بالتواطىء أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ، كَانَ حَقِيقَةً، وَتَنَاوَلَهَا النَّصُّ. وَإِنْ كَانَ بِالْمَجَازِ وَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَيُسْتَفَادُ تَحْرِيمُ الْجَدَّاتِ مِنَ الْإِجْمَاعِ أَوْ مِنْ نَصٍّ آخَرَ. وَحُرْمَةُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ كَانَتْ مِنْ زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّحْرِيمِ: أَنَّ الْوَطْءَ إِذْلَالٌ وَامْتِهَانٌ، فَصِينَتِ الْأُمَّهَاتُ عَنْهُ، إِذْ إِنْعَامُ الْأُمِّ عَلَى الْوَلَدِ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ. وَالْبِنْتُ الْمُحَرَّمَةُ كُلُّ أُنْثَى رَجَعَ نَسَبُهَا إِلَيْكَ بِالْوِلَادَةِ بِدَرَجَةٍ أَوْ دَرَجَاتٍ بِإِنَاثٍ أَوْ ذُكُورٍ، وَبِنْتُ الْبِنْتِ هَلْ تُسَمَّى بِنْتًا حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا الْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْجَدَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهُوَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ تَمَجَّسَ، ذَكَرَ ذَلِكَ: النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فِي كِتَابِ الْمَثَالِبِ. وَأَخَواتُكُمْ الْأُخْتُ الْمُحَرَّمَةُ كُلُّ مَنْ جَمْعَكَ وَإِيَّاهَا صُلْبٌ أَوْ بَطْنٌ. وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ الْعَمَّةُ: أُخْتُ الْأَبِ، وَالْخَالَةُ: أُخْتُ الْأُمِّ. وَخَصَّ تَحْرِيمَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ دُونَ أَوْلَادِهِنَّ. وَتَحْرُمُ عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَتُهُ وَعَمَّةُ الْأُمِّ وَخَالَتُهَا، وَعَمَّةُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 24. (2) سورة البقرة: 2/ 173.

العمة. وأما خَالَةِ الْعَمَّةِ فَإِنْ كَانَتِ الْعَمَّةُ أُخْتَ أَبٍ لِأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَا تَحِلُّ خَالَةُ الْعَمَّةِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْجَدَّةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْعَمَّةُ إِنَّمَا هِيَ أُخْتُ أَبٍ لِأَبٍ فَقَطْ، فَخَالَتُهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ بَنِي أَخِيهَا تَحِلُّ لِلرِّجَالِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا عَمَّةُ الْخَالَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْخَالَةُ أُخْتَ أُمٍّ لِأَبٍ فَلَا تَحِلُّ عَمَّةُ الْخَالَةِ، لِأَنَّهَا أُخْتُ جَدٍّ. وَإِنْ كَانَتِ الْخَالَةُ أُخْتَ أُمٍّ لِأُمٍّ فَقَطْ فَعَمَّتُهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ بَنِي أُخْتِهَا. وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ تَحْرُمُ بَنَاتُهُمَا وَإِنْ سَفُلْنَ. وَأُفْرِدَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَلَمْ يَأْتِ جَمْعًا، لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ، فَكَانَ لَفْظُ الْإِفْرَادِ أَخَفَّ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ الْمُنْتَظِمُ فِي الدَّلَالَةِ الْوَاحِدَةِ وَغَيْرُهُ. فَهَؤُلَاءِ سَبْعٌ مِنَ النَّسَبِ تَحْرِيمُهُنَّ مُؤَبَّدٌ. وَأَمَّا اللَّوَاتِي صِرْنَ مُحَرَّمَاتٍ بِسَبَبٍ طَارِئٍ فَذَكَرَهُنَّ فِي الْقُرْآنِ سَبْعًا وَهُنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَسَمَّى الْمُرْضِعَاتِ أُمَّهَاتٍ لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ، كَمَا سَمَّى أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا سَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا وَالْمُرْضِعَةَ مَعَ الرَّاضِعِ أُخْتًا، نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِجْرَاءِ الرَّضَاعِ مَجْرَى النَّسَبِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَرُمَ بِسَبَبِ النَّسَبِ سَبْعٌ: اثْنَتَانِ هُمَا الْمُنْتَسِبَتَانِ بِطَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَهُمَا: الْأُمُّ وَالْبِنْتُ. وَخَمْسٌ بِطَرِيقِ الْأُخُوَّةِ وَهُنَّ: الْأُخْتُ، وَالْعَمَّةُ، وَالْخَالَةُ، وَبِنْتُ الْأَخِ، وَبِنْتُ الْأُخْتِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الرَّضَاعَ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ صُورَةً تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي، فَذَكَرَ مِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْأَوْلَادِ الْأُمَّهَاتِ، وَمِنْ قِسْمِ قرابة الإخوة والأخوات، وَنَبَّهَ بِهَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ كَالْحَالِ فِي بَابِ النسب. ثم أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَّدَ هَذَا بِصَرِيحِ قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» فَصَارَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ مُطَابِقًا لِمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ. فَزَوْجُ الْمُرْضِعَةِ أَبُوهُ، وَأَبَوَاهُ جَدَّاهُ، وَأُخْتُهُ عَمَّتُهُ. وَكُلُّ وَلَدٍ وُلِدَ لَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ فَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأَبِيهِ، وَأُمُّ الْمُرْضِعَةِ جَدَّتُهُ، وَأُخْتُهَا خَالَتُهُ. وَكُلُّ مَنْ وُلِدَ لَهَا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ فَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. وَأَمَّا وَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأُمِّهِ. وَقَالُوا: تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ كَتَحْرِيمِ النَّسَبِ إِلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنَ النَّسَبِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنَ الرَّضَاعِ. لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّسَبِ وَطْؤُهُ أُمَّهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الرَّضَاعِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أَخِيهِ مِنَ النَّسَبِ، وَيَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ. لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي النَّسَبِ وَطْءُ الْأَبِ إِيَّاهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الرَّضَاعِ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ إِطْلَاقُ الرَّضَاعِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَى سِنِّ الرَّاضِعِ،

وَلَا عَدَدَ الرَّضَعَاتِ. وَلَا لِلَبَنِ الْفَحْلِ، وَلَا لِإِرْضَاعِ الرَّجُلِ لَبَنَ نَفْسِهِ لِلصَّبِيِّ، أَوْ إِيجَارِهِ بِهِ، أَوْ تَسْعِيطِهِ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اللَّاتِي أرضعنكم. وقرأ عبد الله: اللَّايِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: الَّتِي. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: مِنَ الرِّضَاعَةِ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ. فَسَوَاءٌ عَقَدَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَدْخُلْ، أَمْ دَخَلَ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهُمَا: أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا. وَأَنَّهَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيبَةِ. وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي تَحْرِيمِهَا أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَلِيٌّ، وَبِهِ أَخَذَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. فَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ وَفَارَقَ أُمَّهَا بَعْدَ الدُّخُولِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. قَالُوا: حَرَّمَ اللَّهُ الرَّبِيبَةَ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ. الثَّانِي: الدُّخُولُ بِالْأُمِّ. فَإِذَا فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يُوجَدِ التَّحْرِيمُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ» فَشَرَطَ الْحَجْرَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِضَافَتُهُنَّ إِلَى الْحُجُورِ حَمْلًا عَلَى أَغْلَبِ مَا يَكُونُ الرَّبَائِبُ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْحِجْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: فِي حُجُورِكُمْ؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ التَّعْلِيلُ لِلتَّحْرِيمِ، وَأَنَّهُنَّ لِاحْتِضَانِكُمْ لَهُنَّ، أَوْ لِكَوْنِهِنَّ بِصَدَدِ احْتِضَانِكُمْ. وَفِي حُكْمِ التَّقَلُّبِ فِي حُجُورِكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ بِأُمَّهَاتِهِنَّ، وَتَمَكَّنَ حُكْمُ الزَّوَاجِ بِدُخُولِكُمْ جَرَتْ أَوْلَادُهُنَّ مَجْرَى أَوْلَادِكُمْ، كَأَنَّكُمْ فِي الْعَقْدِ عَلَى بَنَاتِهِنَّ عَاقِدُونَ عَلَى بَنَاتِكُمْ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ. مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَرَبَائِبُكُمْ فَقَطْ. وَاللَّاتِي: صفة لنسائكم المجرور بمن، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ اللاتي وصفا لنسائكم مِنْ قَوْلِهِ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ، ونسائكم المجرور بمن، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمَنْعُوتَيْنِ قَدِ اخْتَلَفَ: هَذَا مَجْرُورٌ بِمِنْ، وَذَاكَ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ. وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسَائِكُمُ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ يَنْتَظِمُ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ، لِاخْتِلَافِ مَدْلُولِ حَرْفِ الْجَرِّ إِذْ ذَاكَ، لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ يكون من نسائكم لبيان النِّسَاءِ، وَتَمْيِيزُ الْمَدْخُولِ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، يكون من نسائكم لبيان ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا ابْنِي مِنْ فُلَانَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ

أُعَلِّقَهُ بِالنِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ، وَأَجْعَلَ مِنْ لِلِاتِّصَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ «1» ، فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، مَا أَنَا مِنْ دَدٍّ وَلَا الدَّدُّ مِنِّي. وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ مُتَّصِلَاتٌ بِالنِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُهُنَّ. كَمَا أَنَّ الرَّبَائِبَ مُتَّصِلَاتٌ بِأُمَّهَاتِهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُهُنَّ انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مِنْ مَعَانِي مَنِ الِاتِّصَالَ. وَأَمَّا مَا شَبَّهَ بِهِ مِنَ الْآيَةِ وَالشِّعْرِ وَالْحَدِيثِ، فَمُتَأَوَّلٌ: وَإِذَا جَعَلْنَا مِنْ نِسَائِكُمُ مُتَعَلِّقًا بِالنِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبِ كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِكُلٍّ مِنَ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ. فأما تركيبه مع لربائب فَفِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْحُسْنِ، وَهُوَ نَظْمُ الْآيَةِ. وَأَمَّا تَرْكِيبُهُ مَعَ قَوْلِهِ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَهَذَا تَرْكِيبٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ، لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ نِسَائِكُمْ. وَالدُّخُولُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِمْ: بَنَى عَلَيْهَا، وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ. وَالْبَاءُ: لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: اللَّاتِي أَدْخَلْتُمُوهُنَّ السِّتْرَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَابْنُ دِينَارٍ. فَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ الْجِمَاعِ، جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا. وقال عطاء، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث: إِذَا مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ وَالِابْنِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يُحَرِّمُ النَّظَرُ حَتَّى تَلْمِسَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَرِّمُ النَّظَرُ إِلَى شَعَرِهَا، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا بِلَذَّةٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يُحَرِّمُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُحَرِّمُ إِذَا كَانَ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّهْوَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ فَلَا يَنْكِحُ أُمَّهَا وَلَا ابْنَتَهَا، وَعَدَّوْا هَذَا الْحُكْمَ إِلَى الْإِمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا مَلَكَ الْأَمَةَ وَغَمَزَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ كَشَفَهَا، أَوْ قَبَّلَهَا، لَا تَحِلُّ لِوَلَدِهِ بِحَالٍ. وَأَمَرَ مَسْرُوقٌ أَنْ تُبَاعَ جَارِيَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْهَا إِلَّا مَا يُحَرِّمُهَا عَلَى وَلَدِي مِنَ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ. وَجَرَّدَ عُمَرُ أَمَةً خَلَا بِهَا فَاسْتَوْهَبَهَا ابْنٌ لَهُ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ لَكَ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَيْ: فِي نِكَاحِ الرَّبَائِبِ. وَلَيْسَ جَوَازُ نِكَاحِ الرَّبَائِبِ مَوْقُوفًا عَلَى انْتِفَاءِ مُطْلَقِ الدُّخُولِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وَفَارَقْتُمُوهُنَّ بِطَلَاقٍ مِنْكُمْ إِيَّاهُنَّ، أو موت منهن.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 67.

وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْأَبْنَاءُ عَلَى الْآبَاءِ كَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَطْءٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالْحَلِيلَةُ: اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ. وَلَمَّا عَلَّقَ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ الْوَطْءِ، اقْتَضَى تَحْرِيمَهُنَّ بِالْعَقْدِ دُونَ شَرْطِ الْوَطْءِ. وَجَاءَ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَهُوَ وَصْفٌ لِقَوْلِهِ: أَبْنَائِكُمْ، بِرَفْعِ الْمَجَازِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ أَبْنَائِكُمْ إِذْ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى مَنِ اتَّخَذَتْهُ الْعَرَبُ ابْنًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَتَبَنَّتْهُ ابْنًا، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، إِلَى أَنْ نَزَلَ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «1» الْآيَةَ وَكَمَا قَالَتِ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي سَالِمٍ: إِنَّا كُنَّا نَرَاهُ ابْنًا. وَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ وَهِيَ بِنْتُ عَمَّتِهِ، أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ فَارَقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ كَحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنَ الصُّلْبِ، اسْتِنَادًا إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالزَّوْجَاتِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الشِّرَاءِ لِلْجَارِيَةِ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى أَبِيهِ وَلَا ابْنِهِ، فَلَوْ لَمَسَهَا أَوْ قَبَّلَهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مُجَرَّدِ النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَنْ تَجْمَعُوا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِعَطْفِهِ عَلَى مَرْفُوعٍ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَوْجَيْنِ، أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّزْوِيجِ، فَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَقْدِ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدَانِ مَعًا، أَمْ مُرَتَّبًا. وَاخْتَلَفُوا فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا: فَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد فِي آخَرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ الْعِدَّةَ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِذَا كَانَتْ مِنَ الثَّلَاثِ وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَرُوِيَ عَنْ عروة، والقاسم، وخلاس: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَهُوَ قَوْلُ: مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ. وَاخْتُلِفَ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَالْجَوَازُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا خِلَافَ فِي شِرَائِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الوطء:

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 40.

فذهب عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، والزبير، وابن عمر، وعمار وَزَيْدٌ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ؟ فَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْكَرَاهَةَ. وَذَكَرَ عَنْ إِسْحَاقَ: التَّحْرِيمَ وَكَانَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصٍ مِلْكُ أَفْرِيقِيَّةَ قَدْ سَأَلَ أَحَدَ شُيُوخِنَا الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ بِتُونِسَ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَابِدُ الْمُنْقَطِعُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَالِصٍ الْإِشْبِيلِيُّ: أَلَا تَرَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ؟ فَأَجَابَهُ بِالْمَنْعِ، وَكَانَ غَيْرُهُ قَدْ أَفْتَاهُ بِالْجَوَازِ. وَاسْتَدَلَّ شَيْخُنَا عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: إِبَاحَةُ ذَلِكَ. وَإِذَا انْدَرَجَ أَيْضًا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ بِتَزَوُّجٍ وَمِلْكِ يَمِينٍ، فَيَكُونُ قَدْ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً، وَمَلَكَ أُخْتَهَا. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْفُرُوعِ هُنَا، وَمَوْضِعُ ذَلِكَ كُتُبُ الْفِقْهِ. إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ استثناء مُنْقَطِعٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَخِيرِ، وَهُوَ: أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَعَ. وَأَزَالَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ حُكْمَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهُ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّهُ وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلُهُ. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتَيْنِ، بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَيُطَلِّقُ الْوَاحِدَةَ، وَيُمْسِكُ الْأُخْرَى كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلِمِيِّ: أَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ إِحْدَاهُمَا وَأَمْسِكِ الْأُخْرَى» وَظَاهِرُ حَدِيثِ فَيْرُوزٍ: التَّخْيِيرُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مذهب مالك، ومحمد، والليث، وَذَهَبَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يوسف، والثوري إِلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مَنْ سَبَقَ نِكَاحُهَا، فَإِنْ كَانَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ كَانَ مُبَاحًا، هَذَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ أُمِّ يُوسُفَ وَأُخْتِهَا. وَيَضْعُفُ هَذَا لِبُعْدِ صِحَّةِ إِسْنَادِ قِصَّةِ يَعْقُوبَ فِي ذَلِكَ، وَكَوْنِ هَذَا التَّحْرِيمِ مُتَعَلِّقًا بِشَرْعِنَا نَحْنُ، لَا يَظْهَرُ مِنْهُ ذِكْرُ عَفْوٍ عَنْهُ فِيمَا فَعَلَ غَيْرُنَا. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الْإِحْصَانُ: التَّزَوُّجُ، أَوِ الْحُرِّيَّةُ، أَوِ الْإِسْلَامُ، أَوِ الْعِفَّةُ. وَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي تَصَرَّفَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْقُرْآنِ، وَيُفَسَّرُ كُلُّ مَكَانٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْهَا. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسَ، فَلَقَوْا عَدُوًّا وَأَصَابُوا سَبْيًا لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَتَأَثَّمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ

غِشْيَانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ. فَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْمُزَوَّجَاتُ. وَالْمُسْتَثْنَى هُوَ السَّبَايَا، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ مَنْ لَهَا زَوْجٌ فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: أَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ عباس، وأبو قلابة، ومكحول، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَذَاتُ حَلِيلٍ أَنَكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ وَقِيلَ: الْمُحْصَنَاتُ الْمُزَوَّجَاتُ، وَالْمُسْتَثْنَى هُنَّ الْإِمَاءُ، فَتَحْرُمُ الْمُزَوَّجَاتُ إِلَّا مَا مُلِكَ مِنْهُنَّ بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إِرْثٍ. فَإِنَّ مَالِكَهَا أَحَقُّ بِبُضْعِهَا مِنَ الزَّوْجِ، وَبَيْعِهَا، وَهِبَتِهَا، وَالصَّدَقَةِ بِهَا وَإِرْثُهَا طَلَاقٌ لَهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عبد الله، وأبي جَابِرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وسعيد، وَالْحَسَنُ. وَذَهَبَ عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وعبيدة، وطاووس، وابن جبير، وعطاء: إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَّ الْعَفَائِفُ، وَأُرِيدَ بِهِ كُلُّ النِّسَاءِ حَرَامٌ، وَالشَّرَائِعِ كُلُّهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَالْمُسْتَثْنَى مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكٍ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَحْتَ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمَعْنَى تَحْرِيمَ الزِّنَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي الْمُحْصَنَاتِ أَنَّهُنَّ الْحَرَائِرُ؟ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ بِنِكَاحٍ إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَإِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ الْإِمَاءُ كَانَ مُنْقَطِعًا. قِيلَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْإِحْصَانِ إِنْ تَعَلَّقَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعَانِيهِ الْأَرْبَعَةُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُ الْإِحْصَانِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ. وَعَرْفِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِمَاءُ، وَيَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مَا صَحَّ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَاتِ الْإِحْصَانِ. وَكُلُّ مَا صَحَّ مِلْكُهَا مِلْكَ يَمِينٍ حَلَّتْ لِمَالِكِهَا مِنْ مَسْبِيَّةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ مُزَوَّجَةٍ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فِي فَتْحِ الصَّادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِوَى هَذَا فَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الصَّادِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، أَمْ نَكِرَةً. وَقَرَأَ بَاقِيهِمْ وَعَلْقَمَةُ: بِالْفَتْحِ، كَهَذَا الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ: وَالْمُحْصُنَاتُ بِضَمِّ الصَّادِ اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الْمِيمِ، كَمَا قَالُوا: مُنْتُنٌ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالْحَاجِزِ لِأَنَّهُ سَاكِنٌ، فَهُوَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: فَائِدَةُ قَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ، أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ تَقَعُ عَلَى الْأَنْفُسِ فَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ «1» لَوْ أُرِيدَ بِهِ النِّسَاءُ خَاصَّةً، لَمَا حُدَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَدَّهُ بِهَذَا النَّصِّ. كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ وَهُوَ فِعْلٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ

_ (1) سورة النور: 24/ 4.

من قوله: حرمت عليكم. وَكَأَنَّهُ قِيلَ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ كِتَابًا. وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «1» كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فَقَدْ أَبْعَدَ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِسَائِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي بَابِ الإعراب الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ تَقْدِيرُ ذَلِكَ عِنْدَهُ: عَلَيْكُمْ كِتَابَ اللَّهِ أَيِ: الْزَمُوا كِتَابَ اللَّهِ. لَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ ومحمد بن السميفع الْيَمَانِيِّ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا رَافِعًا مَا بَعْدَهُ، أَيْ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ السميفع أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: كُتُبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ جَمْعًا وَرَفْعًا أَيْ: هَذِهِ كُتُبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: فَرَائِضُهُ وَلَازِمَاتُهُ. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَحَلَّ مَا سِوَى مَنْ ذَكَرَ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ الْعُمُومُ. وَبِهَذَا الظَّاهِرِ اسْتَدَلَّتِ الْخَوَارِجُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خَالَتِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ أَطَالَ الِاسْتِدْلَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو جعفر الطاوسي أَحَدُ عُلَمَاءِ الشِّيعَةِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ فِي كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمُلَخَّصُ مَا قَالَ: أَنَّهُ لَا يُعَارَضُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ آحَادٍ. وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» بَلْ إِذَا وَرَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنْ وَافَقَهُ قُبِلَ، وَإِلَّا رُدَّ. وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُعَارِضِ الْقُرْآنَ، غَايَةُ مَا فيه أنه تَخْصِيصُ عُمُومٍ، وَمُعْظَمُ الْعُمُومَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ لا بد فيها من التَّخْصِيصَاتِ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ خَبَرَ آحَادٍ بَلْ هُوَ مُسْتَفِيضٌ، رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَوَاهُ: عَلِيٌّ، وَابْنُ عباس، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وعائشة. حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ مَنْ ذُكِرَ لِشُذُوذِهِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا التَّخْصِيصُ نَسْخًا لِلْعُمُومِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَقَدْ خَصَّصَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْعُمُومَ بِالْأَقَارِبِ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ مِنْ أَقَارِبِكُمْ، فَهِيَ حَلَالٌ لَكُمْ تَزْوِيجُهُنَّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ، وخصه قتادة بِالْإِمَاءِ: أَيْ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلكم من الْإِمَاءِ. وَأَبْعَدَ عُبَيْدَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي رَدِّ ذَلِكَ إِلَى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَالْمَعْنَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا دُونَ الْخَمْسِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ. وَقَالَ

_ (1) سورة النساء: 4/ 3.

السُّدِّيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ يَعْنِي النِّكَاحَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ الْمُسْتَفِيضَةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ عَمِّهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ خَالِهَا، أَوْ بِنْتِ خَالَتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ: إِسْحَاقَ بْنِ طلحة، وعكرمة، وقتادة، وعطاء. وَقَدْ نَكَحَ حَسَنُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَبِنْتَ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَمَعَ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ هَذَا، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا، أَبْطَلَ هَذَا النِّكَاحَ وَهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي جُمْلَةِ مَا أُبِيحَ بِالنِّكَاحِ، غَيْرَ خَارِجَتَيْنِ مِنْهُ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمَّةٍ وَابْنَتَيْ خَالَةٍ انْتَهَى. وَانْدَرَجَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ زَنَا بِامْرَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا لِأَجْلِ زِنَاهُ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ إِذَا زَنَا بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا. وَلَوْ زَنَا بِامْرَأَةٍ ثُمَّ أَرَادَ نِكَاحَ أُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا لَمْ يَحْرُمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بن حصين والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان، وأحمد، وإسحاق، أَنَّهُمَا يَحْرُمَانِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ. وَيَنْدَرِجُ أَيْضًا تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ: أنه لو عبت رَجُلٌ بِرَجُلٍ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَلَا ابْنَتُهُ، وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ قَالُوا: لَا يُحَرِّمُ النِّكَاحَ الْعَبَثُ بالرجال. وقال الثَّوْرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ مِثْلُ وَطْءِ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ فِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، فَمَنْ حَرُمَ بِهَذَا مِنَ النِّسَاءِ حَرُمَ مِنَ الرِّجَالِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي غُلَامَيْنِ: يَعْبَثُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَتُولَدُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ جَارِيَةٌ قَالَ: لَا يَتَزَوَّجُهَا الْفَاعِلُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: وَأُحِلَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ «1» . وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَأَحَلَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَيْضًا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ. وَلَا فَرْقَ فِي الْعَطْفِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَوْ لِلْمَفْعُولِ. وَلَا يُشْتَرَطُ الْمُنَاسِبَةُ وَلَا يُخْتَارُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ لِقِيَامِ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ، وَالْفَاعِلُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْفَاعِلِ، فَكَيْفَ إِذَا اتَّحَدَ كَهَذَا، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي حُرِّمَتْ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُضْمَرُ فِي: أَحَلَّ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : علام عطف قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ؟ (قُلْتُ) : على الفعل

_ (1) سورة النساء: 4/ 23.

الْمُضْمَرِ الَّذِي نَصَبَ كِتَابَ اللَّهِ: أَيْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْيَمَانِيِّ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَأَحَلَّ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ وَأُحِلَّ لَكُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، فَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَفَرَّقَ فِي الْعَطْفِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَمَا اخْتَارَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ غَيْرُ مُخْتَارٍ. لِأَنَّ انْتِصَابَ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا هُوَ انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، فَالْعَامِلُ فِيهِ وَهُوَ كَتَبَ، إِنَّمَا هُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، فَلَمْ يُؤْتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْسِيسِ لِلْحُكْمِ، إِنَّمَا التَّأْسِيسُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، وَهَذِهِ جِيءَ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمُؤَسَّسَةِ وَمَا كَانَ سَبِيلُهُ هَكَذَا فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُؤَسِّسَةُ لِلْحُكْمِ، إِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤَسِّسَةٍ مِثْلِهَا، لَا سِيَّمَا وَالْجُمْلَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ: إِذْ إِحْدَاهُمَا لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأُخْرَى لِلتَّحْلِيلِ، فَنَاسَبَ أَنَّ يَعْطِفَ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ. وَقَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَأُحِلَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِيهِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَمَفْعُولُ أُحِلُّ هُوَ: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَرَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهُوَ وَرَاءَ أُولَئِكَ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَيْ: مَا سِوَى ذَلِكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا دُونَ ذَلِكُمْ، أَيْ: مَا بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حُرِّمَتْ. وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ بَعْضُهَا يُقَرِّبُ مِنْ بَعْضٍ. وَمَوْضِعُ أَنْ تَبْتَغُوا نَصْبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وَيَشْمَلُ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ النِّكَاحَ وَالشِّرَاءَ. وَقِيلَ: الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ هُوَ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولٌ لَهُ، بِمَعْنَى: بين لكم ما يحل مِمَّا يَحْرُمُ، إِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاؤُكُمْ بِأَمْوَالِكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ لِئَلَّا تُضَيِّعُوا أَمْوَالَكُمْ وَتُفْقِرُوا أَنْفُسَكُمْ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَتَخْسَرُوا دُنْيَاكُمْ وَدِينَكُمْ، وَلَا مَفْسَدَةَ أَعْظَمُ مِمَّا يَجْمَعُ بَيْنَ الْخُسْرَانَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَانْظُرْ إِلَى جَعْجَعَةِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَتِهَا، وَتَحْمِيلِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ بِاللَّفْظِ الْمُعَقَّدِ، وَدَسِّ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي غُضُونِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الطَّوِيلَةِ دَسًّا خَفِيًّا إِذْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ بمعنى بين لكم ما يَحِلُّ. وَجُعِلَ قَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ: أَيْ إِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاؤُكُمْ، أَيْ: إِرَادَةُ كَوْنِ ابْتِغَائِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ. وَفُسِّرَ الْأَمْوَالُ بَعْدُ بِالْمُهُورِ، وَمَا يَخْرُجُ فِي الْمَنَاكِحِ، فَتَضَمَّنَ تَفْسِيرُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَكُمْ مَا يَحِلُّ لِإِرَادَتِهِ كَوْنَ ابْتِغَائِكُمْ بِالْمُهُورِ، فَاخْتَصَّتْ إِرَادَتُهُ بِالْحَلَالِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ

دُونَ السِّفَاحِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا الَّذِي فَهِمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ لَنَا ابْتِغَاءَ مَا سِوَى الْمُحَرَّمَاتِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا بِأَمْوَالِنَا حَالَةَ الْإِحْصَانِ، لَا حَالَةَ السِّفَاحِ. وَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ: أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولًا لَهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ فِي الْعَامِلِ وَالْمَفْعُولِ لَهُ. لِأَنَّ الْفَاعِلَ بِقَوْلِهِ: وَأُحِلَّ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْفَاعِلُ فِي: أَنْ تَبْتَغُوا، هُوَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ، فَقَدِ اخْتَلَفَا. وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنْ كَانَ أَحَسَّ بِهَذَا، جَعَلَ أَنْ تَبْتَغُوا عَلَى حَذْفِ إِرَادَةٍ حَتَّى يَتَّحِدَ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ، وَفِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولًا لَهُ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ دَاعٍ إِلَى ذَلِكَ. وَمَفْعُولُ تَبْتَغُوا مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا، إِذْ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْ تَبْتَغُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيْنَ مَفْعُولُ تَبْتَغُوا؟ (قُلْتُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا وَهُوَ: النِّسَاءُ، وَأَجُودُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ. وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْ تُخْرِجُوا أَمْوَالَكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مَفْعُولًا لَهُ غَايَرَ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْمَفْعُولِ لَهُ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْمَعْلُولِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَجُودُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْ تُخْرِجُوا أَمْوَالَكُمْ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ تَبْتَغُوا لَيْسَ مَدْلُولَ تُخْرِجُوا، وَلِأَنَّ تَعَدِّي تَبْتَغُوا إِلَى الْأَمْوَالِ بِالْبَاءِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْمَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ، كَمَا هُوَ فِي تُخْرِجُوا، وَهَذَا كُلُّهُ تَكَلُّفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِأَمْوَالِكُمْ، أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَمَّى مَالًا وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي سعيد، والحسن، وابن المسيب، وعطاء، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وربيعة قَالُوا: يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ. وَقِيلَ: لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرُوِيَ عَنْ عليّ ، والشعبي، والنخعي، فِي آخَرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ. وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي حَنِيفَةَ، وأبي يوسف، وزفر، والحسن، ومحمد بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّ الْمَهْرِ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ دَرَاهِمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: من كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ مَالٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِأَمْوَالِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَنْفَعَةً، لَا تَعْلِيمَ قُرْآنٍ وَلَا غَيْرَهُ، وَقَدْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ خِدْمَتَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الشَّافِعِيُّ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ: مَالِكٌ وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَحُجَجُهُمْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي كُتُبِ أحكام القرآن.

والإحصان: العفة، وَتُحْصِينُ النَّفْسَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ. وَانْتَصَبَ مُحْصِنِينَ على الحال، وغير مُسَافِحِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يُجَامِعُ السِّفَاحَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ «1» وَالْمُسَافِحُونَ هُمُ الزَّانُونَ الْمُبْتَذِلُونَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِحَاتُ هُنَّ الزَّوَانِي الْمُبْتَذِلَاتُ اللَّوَاتِي هُنَّ سُوقٌ لِلزِّنَا. وَمُتَّخِذُو الْأَخْدَانِ هُمُ الزُّنَاةُ الْمُتَسَتِّرُونَ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ مُتَّخِذَاتُ الْأَخْدَانِ هُنَّ الزَّوَانِي الْمُتَسَتِّرَاتُ اللَّوَاتِي يَصْحَبْنَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَيَزْنِينَ خُفْيَةً. وَهَذَانِ نَوْعَانِ كَانَا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، والشعبي، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَصْلُ الْمُسَافِحِ مِنَ السَّفْحِ، وَهُوَ الصَّبُّ لِلْمَنِيِّ. وَكَانَ الْفَاجِرُ يَقُولُ للفاجرة: سافحيني وماذيني مِنَ الْمَذْيِ. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والحسن، وابن زيد، وغيرهم: الْمَعْنَى فَإِذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِالزَّوْجَةِ وَوَقَعَ الْوَطْءُ، وَلَوْ مَرَّةً، فَقَدْ وَجَبَ إِعْطَاءُ الْأَجْرِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَلَفْظَةُ مَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَسِيرَ الوطء يوجب إيتاء الأجر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ خَلْوَةٍ صَحِيحَةٍ، أَوْ عَقْدٍ عَلَيْهِنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَأُدْرِجَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ هُوَ مَذْهَبُهُ. وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ الِاسْتِمْتَاعَ هُنَا بِالْوَطْءِ، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْأَجْرِ كَامِلًا لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أيضا ومجاهد، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمُ: الْآيَةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي نَضْرَةَ: هَكَذَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَقِيٌّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَوَازُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ عَنْهُ: بِجَوَازِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْأَصَحُّ عَنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى تَحْرِيمِهَا. وَاتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِهَا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمتعة، ومات بعد ما أَمَرَنَا بِهَا، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ قَالَ رَجُلٌ بَعْدَهُ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي شُرُوطِهِ، وَفِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ لَحَاقِ وَلَدٍ أَوْ حَدٍّ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وكتب أحكام القرآن.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 5.

وما مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ، مُبْتَدَأٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْخَبَرُ الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا، وَالْجَوَابُ: فَآتُوهُنَّ، وَلَا بُدَّ إِذْ ذَاكَ مِنْ رَاجِعٍ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَتْ مَا وَاقِعَةً عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ فَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ما واقعة على النوع الْمُسْتَمْتَعِ بِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، فَالرَّاجِعُ هُوَ الْمَفْعُولُ بِآتُوهُنَّ وَهُوَ الضَّمِيرُ، وَيَكُونُ أَعَادَ أَوَّلًا فِي بِهِ عَلَى لَفْظِ مَا، وَأَعَادَ عَلَى المعنى في: فآتوهن، ومن فِي: مِنْهُنَّ عَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَبْعِيضًا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، وَخَبَرُهَا إِذْ ذَاكَ هُوَ: فَآتُوهُنَّ، وَالْعَائِدُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: فَآتُوهُنَّ إِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى النِّسَاءِ، أَوْ مَحْذُوفٌ إِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى مَا بُيِّنَ قَبْلُ. وَالْأُجُورُ: هِيَ الْمُهُورُ. وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يُسَمَّى أَجْرًا، إِذْ هُوَ مُقَابِلٌ لِمَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ مَا هُوَ؟ أَهُوَ بَدَنُ الْمَرْأَةِ، أَوْ مَنْفَعَةُ الْعُضْوِ، أَوِ الْكُلِّ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الظَّاهِرُ الْمَجْمُوعُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي كُلَّ هَذَا. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ هُنَا الْمُتْعَةَ، فَالْأَجْرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْمَهْرُ بَلِ الْعِوَضُ كَقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا «1» وَقَوْلِهِ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً «2» وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِصِدْقِ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يَجِبُ الْمُسَمَّى. وَالْحُجَّةُ لَهُمْ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا» وَانْتَصَبَ فَرِيضَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ أُجُورِهِنَّ، أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ. أَيْ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إِيتَاءً، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مَفْرُوضٌ. أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ فَرَضَ ذَلِكَ فَرِيضَةً. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ لَمَّا أُمِرُوا بِإِيتَاءِ أُجُورِ النِّسَاءِ الْمُسْتَمْتَعِ بِهِنَّ، كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ وَلَا إِثْمَ فِي نَقْصِ مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ، أَوْ رَدِّهِ، أَوْ تَأَخُّرِهِ. أَعْنِي: الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. فَلَهَا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَنْقُصَ، وَأَنْ تُؤَخِّرَ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَهُوَ نظير

_ (1) سورة القصص: 28/ 25. (2) سورة الكهف: 18/ 77. [.....]

فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «1» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ فِي الْمُتْعَةِ. وَالْمَعْنَى: فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ زِيَادَةً فِي الْأَجَلِ، وَزِيَادَةً فِي الْمَهْرِ قَبْلَ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي رَدِّ مَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ إِلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ: فيما تراضيتم به من النُّقْصَانِ فِي الصَّدَاقِ إِذَا أُعْسِرْتُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِبْرَاءُ الْمَرْأَةِ عَنِ الْمَهْرِ، أَوْ تَوْفِيَتُهُ، أَوْ تَوْفِيَةُ الرَّجُلِ كُلَّ الْمَهْرِ إِنَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَقِيلَ: فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ فُرْقَةٍ، أَوْ إِقَامَةٍ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ بِقَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، قِيلَ: لِأَنَّ مَا عُمُومٌ فِي الزِّيَادَةِ والنقصان والتأخير والحط وَالْإِبْرَاءِ، وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْجَمِيعِ، وَهُوَ بِالزِّيَادَةِ أَخَصُّ مِنْهُ بِغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْحَطَّ وَالتَّأْجِيلَ لَا يَحْتَاجُ فِي وُقُوعِهِ إِلَى رِضَا الرَّجُلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذُكِرَ دُونَ الزِّيَادَةِ يُسْقِطُ فَائِدَةَ ذِكْرِ تَرَاضِيهِمَا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ جَائِزَةٌ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ إِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَصِحُّ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ مَا زَادَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَلَا شَيْءَ لَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ: الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ إِنْ أَقْبَضَهَا جَازَتْ، وَإِلَّا بَطَلَتْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بِمَا يُصْلِحُ أَمْرَ عِبَادِهِ. حَكِيماً فِي تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَشْرِيعِهِ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ الطَّوْلُ: السَّعَةُ فِي الْمَالِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زيد، ومالك فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ مسعود، وجابر، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وربيعة: الطَّوْلُ هُنَا الْجَلَدُ وَالصَّبْرُ لمن أحب أمة وهويها حَتَّى صَارَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ سَعَةً فِي الْمَالِ لِنِكَاحِ حُرَّةٍ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْحَرَائِرُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْسِيمُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْإِمَاءِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ الْعَفَائِفُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِوَاجِدِ طَوْلِ الْحُرَّةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ الْمُؤْمِنَةَ وَخَافَ الْعَنَتَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنَّ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ، وَيَكُونُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 4.

هَذَا تَخْصِيصًا لْعُمُومِ قَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ «1» فَيَكُونُ تَخْصِيصًا فِي النَّاكِحِ بِشَرْطِ أن لا يَجِدَ طَوْلَ الْحُرَّةِ وَيَخَافَ الْعَنَتَ، وَتَخْصِيصًا فِي إِمَائِكُمْ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَتَخْصِيصُ جَوَازِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ بِالْمُؤْمِنَاتِ لِغَيْرِ وَاجِدِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَبِهِ قال: الأوزاعي، والليث، ومالك، وَالشَّافِعِيُّ. وَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ ومحمد والحسن بن زياد وَالثَّوْرِيُّ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَنِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ أَفْضَلُ، فَحَمَلُوهُ عَلَى الْفَضْلِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِكَوْنِهِ وُصِفَ بِهِ الْحَرَائِرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِنَّ اتِّفَاقًا، لَكِنَّهُ أَفْضَلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ، وَالْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وجابر، وابن جبير، والشعبي، ومكحول: لَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ إِلَّا مَنْ لَا يَجِدُ طَوْلًا لِلْحُرَّةِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنِ مَسْرُوقٍ، والشعبي: أَنَّ نِكَاحَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، يَعْنِي: أَنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي جعفر، ومجاهد، وابن المسيب، وابراهيم، والحسن، والزهري: أَنَّ لَهُ نِكَاحَهَا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا إِنْ خَشِيَ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا، وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ حرة. فقال عَطَاءٌ: يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا إِلَّا المملوك. وَقَالَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ المسيب، ومكحول فِي آخَرِينَ: لَا يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا. وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِلَّا مَنْ لَا يَجِدُ طَوْلًا لِلْحُرَّةِ. فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، فَبِالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، لِأَنَّ وِجْدَانَ الطَّوْلِ لِلْحُرَّةِ إِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِهَا، فَإِذَا كَانَتْ حَاصِلَةً كَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَمَةِ وَلَدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَنْكِحُهَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَشَاءَ الْحُرَّةُ، وَيَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ يَوْمَيْنِ، وَلِلْأَمَةِ يَوْمًا وَظَاهِرُ قوله: فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، جَوَازُ نِكَاحِ عَادِمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ أَرْبَعًا مِنَ الْإِمَاءِ إِنْ شَاءَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ مِنَ الْإِمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْأَمَةِ الْإِيمَانُ فظاهر قوله: فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْكِتَابِيَّةُ مَوْلَاهَا كَافِرٌ لَمْ يَجُزْ

_ (1) سورة النور: 24/ 32.

نِكَاحُهَا، لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِقَوْلِهِ: فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، فَاخْتَصَّ بِفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَالظَّاهِرُ جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ وَثَنِيَّةً، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيَّةِ: كَالْمَجُوسِيَّةِ، وَالْوَثَنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا وَطْءُ الْمَجُوسِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَأَجَازَهُ: طاوس، وعطاء، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَدَلَّتْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي عُمُومِ: مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَعُمُومِ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «1» قَالُوا: وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ مَهْجُورٌ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالُوا: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تُسْلِمَ. وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مُنْحَطًّا عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ لِمَا فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ فِي الرِّقِّ، وَلِثُبُوتِ حَقِّ سَيِّدِهَا فِيهَا، وَفِي اسْتِخْدَامِهَا، وَلِتَبَذُّلِهَا بِالْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ، وَفِي ذَلِكَ نُقْصَانُ نِكَاحِهَا وَمَهَانَتُهُ إِذْ رَضِيَ بِهَذَا كُلِّهِ، وَالْعِزَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. ومن مُبْتَدَأٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ. والفاء في: فمما ملكت فاء الجواب، ومن تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَنْكِحْ مِنْ مَا مَلَكَتْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، وَيَكُونُ الْعَامِلُ الْمَحْذُوفُ الَّذِي يتعلق به قوله: مما مَلَكَتْ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَمُسَوِّغَاتُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مَوْجُودَةٌ هُنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ يستطع هو طولا، وأن يَنْكِحَ عَلَى هَذَا أَجَازُوا، فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قدره بإلى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِاللَّامِ أَيْ: طَوْلًا إِلَى أَنْ يَنْكِحَ، أَوْ لِأَنْ يَنْكِحَ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَإِذَا قَدَّرَ إِلَى، كَانَ الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ وَصَلَهُ إِلَى أَنْ يَنْكِحَ. وَإِذَا قُدِّرَ بِاللَّامِ، كَانَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ التَّقْدِيرُ: طَوْلًا أَيْ: مَهْرًا كَائِنًا لِنِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ. وَقِيلَ: اللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ لَامُ الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ: طَوْلًا لِأَجْلِ نِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ: أَنْ يَنْكِحَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَنَاصِبُهُ طَوْلٌ. إِذْ جَعَلُوهُ مَصْدَرَ طُلْتُ الشَّيْءَ أَيْ نِلْتَهُ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: إِنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ عَادِيَّةٌ ... طَالَتْ فَلَيْسَ تنالها الأوعالا أي طالت الْأَوْعَالَ أَيْ: وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ ومن لم يستطع منكم أَنْ يَنَالَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ. وَيَكُونُ قَدْ أَعْمَلَ الْمَصْدَرَ الْمُنَوَّنَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ كقوله:

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 6.

بضرب بالسيوف رؤوس قَوْمٍ ... أَزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ الْمَقِيلِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ إِذْ أَجَازُوا إِعْمَالَ الْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ. وَإِلَى أَنَّ طولا مفعول ليستطع، وإن يَنْكِحَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ بِقَوْلِهِ: طَوْلًا، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ. ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ فِي التَّذْكِرَةِ، وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَنْ يَنْكِحَ بَدَلًا مِنْ طَوْلٍ، قَالُوا: بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الطَّوْلَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالنِّكَاحُ قُدْرَةٌ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ يَسْتَطِعْ قَوْلَهُ: أَنْ يَنْكِحَ. وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ: طَوْلًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ومن لم يستطع منكم لِعَدَمِ طَوْلِ نِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ. وَالثَّانِي: قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ طَوْلًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الِاسْتِطَاعَةُ، لِأَنَّهَا بمعنى يتقارب. وأن يَنْكِحَ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ، أَوْ بِالْمَصْدَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الطَّوْلَ هُوَ اسْتِطَاعَةٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمُ اسْتِطَاعَةً أَنْ يَنْكِحَ. وما من قوله: فمما مَلَكَتْ، مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ أَيْ: فَلْيَنْكِحْ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي مَلَكَتْهُ أيمانكم. ومن فَتَيَاتِكُمْ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي مَا مَلَكَتْ، الْعَائِدِ عَلَى مَا. وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ فَلْيَنْكِحْ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَلْيَنْكِحْ أَمَةً مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، نَحْوَ: أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ. وقيل: من في من مَا زَائِدَةٌ، وَمَفْعُولُ ذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَقِيلَ: مَفْعُولُهُ فَتَيَاتِكُمُ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ. وَقِيلَ: مَفْعُولُهُ الْمُؤْمِنَاتُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَنْكِحْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ صِفَةٌ لِفَتَيَاتِكُمْ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ، مِنْ مِلْكِ إِيمَانِكُمْ. وَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا سَطَّرُوهُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَنَقَلُوهُ عَنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ: أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ هُوَ قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ «1» وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَلْيَنْكِحْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْفَتَيَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ يُنَزَّهُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ جَمَعَ الْجَهْلَ بِعِلْمِ النَّحْوِ وَعِلْمِ الْمَعَانِي، وَتَفْكِيكَ نَظْمِ الْقُرْآنِ عَنْ أُسْلُوبِهِ الْفَصِيحِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْطَرَ وَلَا يُلْتَفَتَ إليه. ومنكم: خِطَابٌ لِلنَّاكِحِينَ، وَفِي: أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ خِطَابٌ لِلْمَالِكِينَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ يَنْكِحُ فَتَاةَ نَفْسِهِ، وَهَذَا التَّوَسُّعُ فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 25.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ لَمَّا خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَجْوِيزِ نِكَاحِ عَادِمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ لِلْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ وَصْفٌ بَاطِنٌ، وَأَنَّ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إِيمَانِ الْفَتَيَاتِ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ الْعِلْمَ الْيَقِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَكْفِي مِنَ الْإِيمَانِ مِنْهُنَّ إِظْهَارُهُ. فَمَنْ كَانَتْ مُظْهِرَةً لِلْإِيمَانِ فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ، وَرُبَّمَا كَانَتْ خَرْسَاءَ، أَوْ قَرِيبَةَ عَهْدٍ بِسِبَاءٍ وَأَظْهَرَتِ الْإِيمَانَ، فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ مِنْهَا. وَالْخِطَابُ فِي بِإِيمَانِكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، حُرِّهِمْ وَرَقِّهِمْ، وَانْتَظَمَ الْإِيمَانُ فِي هَذَا الْخِطَابِ، وَلَمْ يُفْرِدْنَ بِذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- بِإِيمَانِهِنَّ، لِئَلَّا يَخْرُجَ غَيْرُهُنَّ عَنْ هَذَا الْخِطَابِ. وَالْمَقْصُودُ: عُمُومُ الْخِطَابِ، إِذْ كُلُّهُمْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَكَمْ أَمَةٍ تَفُوقُ حُرَّةً فِي الْإِيمَانِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَامْرَأَةٍ تَفُوقُ رَجُلًا فِي ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ تَأْنِيسٌ لِنِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يعتبر الأفضل الإيمان، لا فضل الْأَحْسَابِ وَالْأَنْسَابِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا عَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى» . بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ فِي أَنَّ ارْتِفَاعَ بَعْضُكُمْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ: التَّأْنِيسُ أَيْضًا بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْأَحْرَارَ وَالْأَرِقَّاءَ كُلَّهُمْ مُتَوَاصِلُونَ مُتَنَاسِبُونَ يَرْجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدِ اشْتَرَكُوا فِي الْإِيمَانِ، فَلَيْسَ بِضَائِرٍ نِكَاحُ الْإِمَاءِ. وَفِيهِ تَوْطِئَةُ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْتَهْجِنُ وَلَدَ الْأَمَةِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْهَجِينَ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ أَزَالَ ذَلِكَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ: النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكْفَاءُ ... أَبُوهُمُ آدَمُ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ هَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَالْمَعْنَى: بِوِلَايَةِ مُلَّاكِهِنَّ. وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ هُنَا: الْعَقْدُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ إِيتَاءَ الْأَجْرِ بَعْدَهُ أَيِ الْمَهْرِ. وَسُمِّيَ مُلَّاكُ الْإِمَاءِ أَهْلًا لَهُنَّ، لِأَنَّهُمْ كَالْأَهْلِ، إِذْ رُجُوعُ الْأَمَةِ إِلَى سَيِّدِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بِإِذْنِ أَهْلِ وِلَايَتِهِنَّ، وَأَهْلُ وِلَايَةِ نِكَاحِهِنَّ هُمُ الْمُلَّاكُ. وَمُقْتَضَى هَذَا الْخِطَابِ أَنَّ الْأَدَبَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَوْ أَجَازَهُ السَّيِّدُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ. فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَ

الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وشريح، والشعبي، ومالك، وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ تَزَوُّجَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، والشافعي، وداود: لَا يَجُوزٌ، أَجَازَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يُجِزْهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَعُدُّهُ زَانِيًا وَيَحُدُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِزِنًا، وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُلَّاكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَيُشْتَرَطُ إِذْنُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِ أَمَتِهَا، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ هُوَ الْعَقْدَ فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا وَتُبَاشِرَ الْعَقْدَ، كَمَا يَجُوزُ لِلذَّكَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، بَلْ تُوَكِّلُ غَيْرَهَا فِي التَّزْوِيجِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، اشْتَرَطَ الْإِذْنَ لِلْمَوَالِي فِي نِكَاحِهِنَّ، وَيَحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ لَهُنَّ أَنْ يُبَاشِرْنَ الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِنَّ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ إِذْنَ الْمَوَالِي لَا عَقْدَهُمْ. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الْأُجُورُ هُنَا الْمُهُورُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إِيتَاءِ الْأَمَةِ مَهْرَهَا لَهَا، وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَ أَمَتِهِ وَيَدَعَهَا بِلَا جَهَازٍ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُهُ لِلسَّيِّدِ دُونَهَا. قِيلَ: الْإِمَاءُ وَمَا فِي أَيْدِيهِنَّ مَالُ الْمُوَالِي، فَكَانَ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِنَّ أَدَاءً إِلَى الْمَوَالِي. وَقِيلَ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَآتُوا مَوَالِيَهُنَّ. وَقِيلَ: حَذَفَ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «1» لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ «2» عليه وصار نظيرا الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ «3» أَيْ فُرُوجَهُنَّ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ «4» أَيِ اللَّهَ كَثِيرًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُجُورُهُنَّ نَفَقَاتُهُنَّ. وَكَوْنُ الْأُجُورِ يُرَادُ بِهَا الْمُهُورُ هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّمْكِينِ لَا بِالْعَقْدِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ، أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. قِيلَ: وَمَعْنَاهُ بِغَيْرِ مَطْلٍ وَضِرَارٍ، وَإِخْرَاجٍ إِلَى اقْتِضَاءٍ وَلَزٍّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِالشَّرْعِ وَالسُّنَّةِ أَيِ: الْمَعْرُوفُ مِنْ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ اللَّاتِي سَاوَيْنَهُنَّ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ. وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ، أَيْ: فَانْكِحُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، وَمَهْرِ مِثْلِهِنَّ، وَالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي غَالِبِ الأنكحة.

_ (1) سورة النساء: 4/ 25. (2) سورة النساء: 4/ 25. (3) سورة الأحزاب: 33/ 35. (4) سورة الأحزاب: 33/ 35.

مُحْصَناتٍ أَيْ عَفَائِفَ، وَيُحْتَمَلُ مُسْلِمَاتٍ. غَيْرَ مُسافِحاتٍ أَيْ غَيْرَ مُعْلِنَاتٍ بِالزِّنَا. وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أَيْ: وَلَا مُتَسَتِّرَاتٍ بِالزِّنَا مَعَ أَخْدَانِهِنَّ. وَهَذَا تَقْسِيمُ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ كَانَ زِنَا الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمٌ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ مِنْهُ. وَالْخِدْنُ: هُوَ الصَّدِيقُ لِلْمَرْأَةِ يَزْنِي بِهَا سِرًّا، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَانْتِصَابُ مُحْصَنَاتٍ عَلَى الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ: وَآتُوهُنَّ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مُحْصَنَاتٍ مُزَوَّجَاتٍ أَيْ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فِي حَالِ تَزْوِيجِهِنَّ، لَا فِي حَالِ سِفَاحٍ، وَلَا اتِّخَاذِ خِدْنٍ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي مُحْصَنَاتٍ فَانْكِحُوهُنَّ مُحْصَنَاتٍ أَيْ: عَفَائِفَ أَوْ مُسْلِمَاتٍ، غَيْرَ زَوَانٍ. فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِحْصَانُ هُنَا الْإِسْلَامُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمَةَ الْمُسْلِمَةَ عَلَيْهَا نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ. وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ، بِأَنَّ الصِّفَةَ لَهُنَّ بِالْإِيمَانِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ «1» فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الْمُؤْمِنَاتِ: فَإِذَا أَسْلَمْنَ؟ قَالَهُ: إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنَّ يَقْطَعَ فِي الْكَلَامِ وَيَزِيدَ، فَإِذَا كُنَّ على هذا الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْإِيمَانِ فَإِنْ أَتَيْنَ فَعَلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ سَائِغٌ صَحِيحٌ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَلَامُهُ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ أَسْلَمْنَ فِعْلٌ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ، فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ مَفْرُوضُ التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُتَقَدِّمٌ سَابِقٌ لَهُنَّ. ثُمَّ إِنَّهُ شَرْطٌ جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ «2» فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ أَتَيْنَ. وَمَنْ فَسَّرَ الْإِحْصَانَ هُنَا بِالْإِسْلَامِ جَعَلَهُ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، فَلَوْ زَنَتِ الْكَافِرَةُ لَمْ تُحَدَّ، وَهَذَا قَوْلُ: الشعبي، والزهري، وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ التَّزْوِيجُ، فَإِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وابن جبير، وقتادة. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ التَّزَوُّجُ. وَتُحَدُّ الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ بِالسُّنَّةِ تزوجت أو لم

_ (1) سورة النساء: 4/ 25. (2) سورة النساء: 4/ 25.

تَتَزَوَّجْ، بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْأَمَةُ، إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدَّ» . قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَالْمُتَزَوِّجَةُ مَحْدُودَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُسْلِمَةُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَحْدُودَةٌ بِالْحَدِيثِ. وَهَذَا السُّؤَالُ مِنَ الصَّحَابَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ مَعْنَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ، تَزَوَّجْنَ. وَجَوَابُ الرَّسُولِ: يَقْتَضِي تَقْرِيرَ ذَلِكَ، ولا مفهوم لشرط الْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ التَّزَوُّجُ، لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ تُحْصَنْ، وَإِنَّمَا نُبِّهَ عَلَى حَالَةِ الْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ التَّزَوُّجُ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ حَدَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ كَحَدِّ الْحُرَّةِ إِذَا أُحْصِنَتْ وَهُوَ الرَّجْمُ، فَزَالَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِالْإِخْبَارِ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا نِصْفُ الْحَدِّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْحَرَائِرِ اللَّوَاتِي لَمْ يُحْصَنَّ بِالتَّزْوِيجِ، وَهُوَ الْجَلْدُ خَمْسِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْجِلْدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1» وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ الرَّجْمُ، لِأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ. وَالْمُرَادُ بِفَاحِشَةٍ هُنَا: الزِّنَا، بِدَلِيلِ إِلْزَامِ الْحَدِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرَّةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْحُرَّةُ عَذَابُهَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَحَدُّ الْأَمَةِ خَمْسُونَ وَتَغْرِيبُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا جَلْدُ خَمْسِينَ فَقَطْ، وَلَا تُغَرَّبُ. فَإِنْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعَذَابِ لِعَهْدِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْجَلْدُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ فِي الْعَذَابِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْحُرَّةِ كَانَ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ. وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْحَدِّ مِنْ قَوْلِهِ: فَعَلَيْهِنَّ، فَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الْأَمَةِ مِنَ السَّيِّدِ إِذَا زَنَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ إِلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَحُدَّ الْأَمَةَ وَالْعَبْدَ فِي الزِّنَا أَهْلُوهُمْ، إِلَّا أَنْ يُرْفَعَ أَمْرُهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْتُ بَقَايَا الْأَنْصَارِ يَضْرِبُونَ الوليدة من ولائدهم إِذَا زَنَتْ فِي مَجَالِسِهِمْ. وَأَقَامَ الْحَدَّ عَلَى عَبِيدِهِمْ جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر، وأنس. وَجَاءَتْ بِذَلِكَ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ» وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَحُدُّ السَّيِّدُ إِلَّا فِي الْقَطْعِ، فَلَا يَقْطَعُ إِلَّا الْإِمَامُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ إِلَّا السُّلْطَانُ دُونَ الْمُوَالِي وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا أَمَةً، فَلَوْ

_ (1) سورة النور: 24/ 2.

عُتِقَتْ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أُقِيمَ عَلَيْهَا حَدُّ أَمَةٍ، وَهَذَا مَجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْأَبْكَارُ الْحَرَائِرُ، لِأَنَّ الثَّيِّبَ عَلَيْهَا الرَّجْمُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا هَذَا الْحَدُّ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُدُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بَيْعُهَا إِذَا زَنَتْ زَنْيَةً رَابِعَةً. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَحْصَنَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ إِلَّا عَاصِمًا، فَاخْتُلِفَ عَنْهُ. وَمَنْ بَنَاهُ لِلْمَفْعُولِ فَهُوَ ظَاهِرٌ حَدًّا فِي أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّزَوُّجُ، وَيُقَوِّي حَمْلُهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْ: أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ بِالتَّزْوِيجِ. وَجَوَابُ فَإِذَا الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ، فَالْفَاءُ فِي: فَإِنْ أَتَيْنَ هِيَ فَاءُ الْجَوَابِ، لَا فَاءُ الْعَطْفِ، وَلِذَلِكَ تَرَتَّبَ الثَّانِي، وَجَوَابُهُ عَلَى وُجُودِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ نَظِيرُ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا إِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ أَوَّلًا ثُمَّ كَلَّمَتْ زَيْدًا ثَانِيًا. وَلَوْ أُسْقِطَتِ الْفَاءُ مِنَ الشَّرْطِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ حُكْمٌ غَيْرُ هَذَا، وَتَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَمِنْ الْعَذَابِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضمير المستكن في صِلَةِ مَا. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى نِكَاحِ عَادِمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ. وَالْعَنَتُ: هُوَ الزِّنَا. قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وابن جبير، والضحاك، وعطية الْعَوْفِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. وَالْعَنَتُ: أَصْلُهُ الْمَشَقَّةُ، وَسُمِّيَ الزِّنَا عَنَتًا بِاسْمِ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ الْعَنَتِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْعِشْقُ وَالشَّبَقُ عَلَى الزِّنَا، فَيَلْقَى الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْحَدَّ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: الْعَنَتُ الْهَلَاكُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْحَدُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِثْمُ الَّذِي تُؤَدِّي إِلَيْهِ غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ لا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرِّ الْأَمَةَ إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: اثْنَانِ فِي النَّاكِحِ وَهَمَا: عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَخَوْفُ الْعَنَتِ. وَوَاحِدٌ فِي الْأَمَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ عَنْ صَبْرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ غَيْرُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: وَجِهَةُ الْخَيْرِيَّةِ كَوْنُهُ لَا يَرِقُّ وَلَدُهُ، وَأَنْ لَا يَبْتَذِلُ هُوَ، وَيُنْتَقَصُ فِي الْعَادَةِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجِ الْحَرَائِرَ» وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «انْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَاخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَإِنْ تَصْبِرُوا عَنِ الزِّنَا بِنِكَاحِ

الْإِمَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْخَيْرِيَّةُ ظَاهِرَةٌ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ إِينَاسٌ لِنِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَتَقْرِيبٌ مِنْهُ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْفِرُ عَنْهُ. وَإِذَا جُعِلَ: وَأَنْ تَصْبِرُوا عَامًّا، انْدَرَجَ فِيهِ الصَّبْرُ الْمُقَيَّدُ وَهُوَ: عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَعَنِ الزِّنَا. إِذِ الصَّبْرُ خَيْرٌ، مِنْ عَدَمِهِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شَجَاعَةِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ عَزْمِهَا، وَعِظَمِ إِبَائِهَا، وَشَدَّةِ حِفَاظِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَحْسِنُهُ الْعَقْلُ، وَيَنْدُبُ إِلَيْهِ الشَّرْعُ، وَرُبَّمَا أَوْجَبَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ الصَّابِرِ مُوَفَّاةً بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العلم: إن سَائِرَ الْعِبَادَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ الصَّبْرِ. قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ «1» . وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا نَدَبَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَصْبِرُوا إِلَى الصَّبْرِ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، صَارَ كَأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْكَرَاهَةِ، فَجَاءَ بِصِفَةِ الْغُفْرَانِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا سَامَحَ فِيهِ تَعَالَى، وَبِصِفَةِ الرَّحْمَةِ حَيْثُ رَخَّصَ فِي نِكَاحِهِنَّ وَأَبَاحَهُ. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ مَفْعُولُ يَتُوبَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ: تَحْلِيلُ مَا حَلَّلَ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ، وَتَشْرِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالْمَعْنَى: يُرِيدُ اللَّهُ تَكْلِيفَ مَا كَلَّفَ بِهِ عِبَادَهُ مِمَّا ذَكَرَ لِأَجْلِ التَّبْيِينِ لَهُمْ بِهِدَايَتِهِمْ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ غَيْرُ التَّبْيِينِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ التَّبْيِينَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ الْمُتَأَخِّرِ بِوَسَاطَةِ اللَّامِ، وَإِلَى إِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ لَامٍ لَيْسَتْ لَامَ الْجُحُودِ، وَلَا لَامَ كَيْ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ. وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ هُوَ التَّبْيِينُ، وَاللَّامُ هِيَ النَّاصِبَةُ بِنَفْسِهَا لَا أَنْ مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: إِذَا جَاءَ مِثْلُ هَذَا قُدِّرَ الْفِعْلُ الَّذِي قَبْلَ اللَّامِ بِالْمَصْدَرِ فَالتَّقْدِيرُ: إِرَادَةُ اللَّهِ لِمَا يُرِيدُ لِيُبَيِّنَ، وَكَذَلِكَ أُرِيدُ لَا يَنْسَى ذِكْرَهَا، أَيْ: إِرَادَتِي لَا يَنْسَى ذِكْرَهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» أَيْ: أُمِرْنَا بِمَا أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ نَسَبَهُ ابن عيسى لسيبويه والبصريين، وَهَذَا يُبْحَثُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ، فَزِيدَتِ اللَّامُ مُؤَكِّدَةً لِإِرَادَةِ التَّبْيِينِ، كَمَا زِيدَتْ فِي لَا أَبَا لَكَ لِتَأْكِيدِ إِضَافَةِ الْأَبِ، وَالْمَعْنَى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا خَفِيَ عَنْكُمْ مِنْ مَصَالِحِكُمْ وَأَفَاضِلِ أَعْمَالِكُمُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ خَارِجٌ عن أقوال البصريين والكوفيين.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 45. (2) سورة الأنعام: 6/ 71.

وَأَمَّا كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْبَصْرِيِّينَ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّامَ مُؤَكِّدَةً مُقَوِّيَةً لِتَعَدِّي يُرِيدُ، وَالْمَفْعُولُ مُتَأَخِّرٌ، وَأَضْمَرَ أَنْ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ النصب باللام، لا بأن، وهو جعل النصب بأن مُضْمَرَةً بَعْدَ اللَّامِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، لَامُ الْعَاقِبَةِ، قَالَ: كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «1» وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ يُبَيِّنَ. قَالَ عَطَاءٌ: يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يقربكم. وقال الْكَلْبِيُّ: يُبَيِّنُ لَكُمْ أَنَّ الصبر عن نكاح الإماء خَيْرٌ. وَقِيلَ: مَا فَصَّلَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ. وَقِيلَ: شَرَائِعَ دِينِكُمْ، وَمَصَالِحَ أُمُورِكُمْ. وَقِيلَ: طَرِيقَ مَنْ قَبْلَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنَ بَابِ الْإِعْمَالِ، فَيَكُونُ مَفْعُولُ لِيُبَيِّنَ ضَمِيرًا مَحْذُوفًا يُفَسِّرُهُ مَفْعُولُ وَيَهْدِيَكُمْ، نَحْوَ: ضَرَبْتُ وَأَهَنْتُ زَيْدًا، التَّقْدِيرُ: لِيُبَيِّنَهَا لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سنن الذين من قبلكم. وَالسُّنَنُ: جُمَعُ سُنَّةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: سنن الذين من قبلكم، هَلْ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ لِسُنَنِهِمْ؟ أَوْ عَلَى التَّشْبِيهِ؟ أَيْ: سُنَنًا مثل سنن الذين قَبْلِكُمْ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَرَادَ أَنَّ السُّنَنَ هِيَ مَا حَرُمَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّنَنِ مَا عَنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «2» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً «3» وَقِيلَ: طُرُقُ مَنْ قَبْلَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: مَنَاهِجُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَالطُّرُقُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي دِينِهِمْ لِتَقْتَدُوا بِهِمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَيَكُونُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَهْلُ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ سُنَنَ طُرُقُ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ وَالْغَيِّ، وَمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، لِتَجْتَنِبُوا الْبَاطِلَ، وَتَتَّبِعُوا الْحَقَّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ قَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ طُرُقَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي هِدَايَتِهَا كَانَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ جُعِلَ طَرِيقُكُمْ أَنْتُمْ. فَأَرَادَ أَنْ يُرْشِدَكُمْ إِلَى شَرَائِعِ دِينِكُمْ وَأَحْكَامِ مِلَّتِكُمْ بِالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ، كَمَا أَرْشَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَمَّا أَنَّا خُوطِبْنَا فِي كُلِّ قِصَّةٍ نَهْيًا أَوْ أمرا

_ (1) سورة القصص: 28/ 8. [.....] (2) سورة النحل: 16/ 123. (3) سورة الشورى: 42/ 13.

كَمَا خُوطِبُوا هُمْ أَيْضًا فِي قِصَصِهِمْ، وَشُرِعَ لَنَا كَمَا شُرِعَ لَهُمْ، فَهِدَايَتُنَا سُنَنُهُمْ فِي الْإِرْشَادِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُنَا وَأَحْكَامُهُمْ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ هِدَايَتَنَا سُنَنَهُمْ فِي أَنْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا كَمَا سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، فَوَقَعَ التَّمَاثُلُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا الْإِرْشَادُ وَالتَّوْضِيحُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ السُّنَنِ، وَالَّذِينَ من قبلناهم الْمُؤْمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرِيعَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ رَيِّ الظَّمْآنِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ، أَوْ يُرِيدُ إِنْزَالَ الْآيَاتِ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيكُمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالتَّكْرَارُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَوَّلِ تَبْيِينُ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَهْدِيَكُمْ. وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ لَنَا وَتَحْلِيلَهُ مِنَ النِّسَاءِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي نَفْسِهَا، مُتَّفِقَةً فِي بَابِ الْمَصَالِحِ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا. وَقَوْلُهُ: أَيْ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ، مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَرُدَّكُمْ مِنْ عِصْيَانِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيُوَفِّقَكُمْ لَهَا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَصَالِحِ، حَكِيمٌ يُصِيبُ بِالْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً تُعَلَّقُ الْإِرَادَةُ أَوَّلًا بِالتَّوْبَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعِلِّيَّةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى العلة، فهو علة. ونعلقها هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْعُولِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ التَّعَلُّقَانِ فَلَا تَكْرَارَ. وَكَمَا أَرَادَ سَبَبَ التَّوْبَةِ فَقَدْ أَرَادَ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ، إِذْ قَدْ يَصِحُّ إِرَادَةُ السَّبَبِ دُونَ الْفِعْلِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ كَانَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ تَكْرَارًا لِقَوْلِهِ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَكْرَارُ إِرَادَةِ اللَّهِ لِلتَّوْبَةِ عَلَى عِبَادِهِ تَقْوِيَةٌ لِلْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ الْمَقْصِدُ فِي الْآيَةِ إِلَّا الْإِخْبَارَ عَنْ إِرَادَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فَقُدِّمَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَوْطِئَةً مُظْهِرَةً لِفَسَادِ مُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَاخْتَارَ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنْ جَعَلُوا قَوْلَهُ: لِيُبَيِّنَ، فِي مَعْنَى أَنْ يُبَيِّنَ، فَيَكُونُ مفعولا ليريد، وَعُطِفَ عَلَيْهِ: وَيَتُوبَ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مِثْلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَتَكْرَارُ إِرَادَةِ اللَّهِ التَّوْبَةَ عَلَى عِبَادِهِ إِلَى آخَرَ كَلَامِهِ. وَكَانَ قَدْ

حَكَى قَوْلَ الْكُوفِيِّينَ وَقَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَرَجَعَ أَخِيرًا إِلَى مَا ضَعَّفَهُ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ مَفْعُولَ: يُرِيدُ، مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُ اللَّهُ هَذَا التَّبْيِينَ. وَالشَّهَوَاتُ جَمْعُ شَهْوَةٍ، وَهِيَ مَا يَغْلِبُ عَلَى النَّفْسِ مَحَبَّتُهُ وَهَوَاهُ. وَلَمَّا كَانَتِ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ فِيهَا قَمْعُ النَّفْسِ وَرَدُّهَا عَنْ مُشْتَهَيَاتِهَا، كَانَ اتِّبَاعُ شَهَوَاتِهَا سَبَبًا لِكُلِّ مَذَمَّةٍ، وَعُبِّرَ عَنِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ بِمُتَّبَعِ الشَّهَوَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «1» وَاتِّبَاعُ الشَّهْوَةِ فِي كُلِّ حَالٍ مَذْمُومٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ ائْتِمَارٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ مَا دَعَتْهُ الشَّهْوَةُ إِلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الِاتِّبَاعُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ فَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعٌ لَهُمَا لَا لِلشَّهْوَةِ. وَمُتَّبِعُو الشَّهَوَاتِ هُنَا هُمُ الزُّنَاةُ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. أَوِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوِ الْيَهُودُ خَاصَّةً لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي نكاح الأخوات من الأب، أَوِ الْمَجُوسُ كَانُوا يُحِلُّونَ نكاح الأخوات من الأب، وَنِكَاحَ بَنَاتِ الْأَخِ، وَبَنَاتِ الْأُخْتِ، فَلَمَّا حَرَّمَهُنَّ اللَّهُ قَالُوا: فَإِنَّكُمْ تُحِلُّونَ بِنْتَ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ، وَالْعَمَّةُ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، فَانْكِحُوا بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، أَوْ مُتَّبِعُو كُلِّ شَهْوَةٍ قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَظَاهَرَهُ الْعُمُومُ وَالْمَيْلُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَالْمُرَادُ هُنَا الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْجَوْرُ وَالْخُرُوجُ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ. وَلِذَلِكَ قَابَلَ إِرَادَةَ اللَّهِ بِإِرَادَةِ مُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ. وَأَكَّدَ فِعْلَ الْمَيْلِ بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَكْتَفِ حَتَّى وَصْفَهُ بِالْعِظَمِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُيُولَ قَدْ تَخْتَلِفُ، فَقَدْ يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ فِعْلَ الْخَيْرِ لِعَارِضٍ شَغَلَ أَوْ لِكَسَلٍ أَوْ لِفِسْقٍ يَسْتَلِذُّ بِهِ، أَوْ لِضَلَالَةٍ بِأَنْ يَسْبِقَ لَهُ سُوءُ اعْتِقَادٍ. وَيَتَفَاوَتُ رُتَبُ مُعَالَجَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَبَعْضُهَا أَسْهَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَوُصِفَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ بِالْعِظَمِ، إِذْ هُوَ أَبْعَدُ الْمُيُولِ مُعَالَجَةً وَهُوَ الْكُفْرُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ «2» وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ «3» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء: بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. فَالضَّمِيرُ فِي يَمِيلُوا يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَيْلًا بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى اسْمِيَّةً، وَالثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً لِإِظْهَارِ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ. وَلِتَكْرِيرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِظْهَارِ وَالْإِضْمَارِ. وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَجَاءَتْ فِعْلِيَّةً مُشْعِرَةً بِالتَّجَدُّدِ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُمْ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَالْوَاوُ في قوله:

_ (1) سورة مريم: 19/ 59. (2) سورة النساء: 4/ 89. (3) سورة النساء: 4/ 44.

وَيُرِيدُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَأَجَازَ الرَّاغِبُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ لَا لِلْعَطْفِ، قَالَ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْبَةَ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ مَا تُرِيدُونَ أَنْ تَمِيلُوا، فَخَالَفَ بَيْنَ الْإِخْبَارَيْنِ فِي تَقْدِيمِ الْمُخْبَرِ عنه في الجملة الْأُولَى، وَتَأْخِيرِهِ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ عَلَى الْعِطْفِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى التَّوْبَةَ عَلَيْنَا لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ غَيْرِهِ الْمَيْلَ، وَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ بَاشَرَتْهُ الْوَاوُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ نادر يؤوّل عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ قَبْلَهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِلْكَلَامِ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ فَصِيحٌ، فَحَمْلُهُ عَلَى النَّادِرِ تَعَسُّفٌ لَا يَجُوزُ. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ لَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ التَّخْفِيفِ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّخَصِ. الثَّانِي فِي تَكْلِيفِ النَّظَرِ وَإِزَالَةِ الْحَيْرَةِ فِيمَا بَيَّنَ لَكُمْ مِمَّا يَجُوزُ لَكُمْ مِنَ النِّكَاحِ وَمَا لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: فِي وَضْعِ الْإِصْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَبِمَجِيءِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ سَهْلَةً سَمْحَةً. الرَّابِعُ: بِإِيصَالِكُمْ إِلَى ثَوَابِ مَا كَلَّفَكُمْ مِنْ تَحَمُّلِ التَّكَالِيفِ. الْخَامِسُ: أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِثْمَ مَا تَرْتَكِبُونَ مِنَ الْمَآثِمِ لِجَهْلِكُمْ. وَأَعْرَبُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ يُرِيدُ، التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ مُرِيدًا أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْحَالِ بِجُمْلَةٍ مَعْطُوفَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهَا الْعَامِلُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ مِنَ الْعَامِلِ وَالْحَالِ، فلا ينبغي أن تجوز إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ. وَلِأَنَّهُ رَفَعَ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ حَالًا الِاسْمَ الظَّاهِرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ ضَمِيرَهُ لَا ظَاهِرَهُ، فَصَارَ نَظِيرَ: زَيْدٌ يَخْرُجُ يَضْرِبُ زَيْدٌ عَمْرًا. وَالَّذِي سُمِعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَوَاسِخِهَا. أَمَّا فِي جُمْلَةِ الْحَالِ فَلَا أَعْرِفُ ذَلِكَ. وَجَوَازُ ذَلِكَ فِيمَا وَرَدَ إِنَّمَا هُوَ فَصِيحٌ حَيْثُ يُرَادُ التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ، فَيَكُونُ الرَّبْطُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا بِالظَّاهِرِ. أَمَّا جُمْلَةُ الْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ فَيَحْتَاجُ الرَّبْطُ بِالظَّاهِرِ فِيهَا إِلَى سَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. أَخْبَرَ بِهَا تَعَالَى عَنْ إِرَادَتِهِ التَّخْفِيفَ عَنَّا، كَمَا جَاءَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «1» . وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً قَالَ مُجَاهِدٌ وطاووس وَابْنُ زَيْدٍ: الْإِخْبَارُ عَنْ ضعف

_ (1) سورة البقرة: 2/ 185.

الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَابِ النِّسَاءِ، أَيْ لَمَّا عَلِمْنَا ضَعْفَكُمْ عَنِ النِّسَاءِ خَفَّفْنَا عَنْكُمْ بِإِبَاحَةِ الْإِمَاءِ. قال طاووس: لَيْسَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَا أَيِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ بَنِي آدَمَ قَطُّ إِلَّا أَتَاهُمْ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَدْ أَتَى عَلَيَّ ثَمَانُونَ سُنَّةً وَذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيَّ وَأَنَا أَعْشَقُ بِالْأُخْرَى، وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيَّ فِتْنَةُ النِّسَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضَعِيفًا لَا يَصْبِرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَلَى مَشَاقِّ الطَّاعَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْمَقْصِدِ أَيْ: تَخْفِيفِ اللَّهِ بِإِبَاحَةِ الْإِمَاءِ، يُخْرِجُ الْآيَةَ مَخْرَجَ التَّفَضُّلِ، لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ الدِّينُ يُسْرًا، وَيَقَعُ الْإِخْبَارُ عَنْ ضعف الإنسان عاما حسبما هُوَ فِي نَفْسِهِ ضَعِيفٌ يَسْتَمِيلُهُ هَوَاهُ فِي الْأَغْلَبِ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَوَصْفُ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ خُلِقَ ضَعِيفًا، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِهِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى نَحْوَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «1» أَوْ بِاعْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ مَا يَعْتَرِيهِ مِنْ فَيْضِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ، أَوِ اعْتِبَارًا بِكَثْرَةِ حَاجَاتِهِ وَافْتِقَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، أَوِ اعْتِبَارًا بِمَبْدَئِهِ وَمُنْتَهَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ «2» فَأَمَّا إِذَا اعْتُبِرَ بِعَقْلِهِ وَمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ خِلَافَةِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَيَبْلُغُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَى جِوَارِهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَقْوَى مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «3» . وَقَالَ الْحَسَنُ: ضَعِيفًا لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، وَانْتِصَابُ ضَعِيفًا عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. لِأَنَّهُ يَجُوزُ أن يقدر بمن، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ، أَيْ مِنْ طِينٍ، أَوْ مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ وَمُضْغَةٍ. وَلَمَّا حَذَفَ الْمَوْصُوفَ والجار انْتَصَبَتِ الصِّفَةُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خُلِقَ بِمَعْنَى جُعِلَ، فَيُكْسِبُهَا ذَلِكَ قُوَّةَ التَّعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ضَعِيفًا مَفْعُولًا ثَانِيًا انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ خَلَقَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ بِجَعْلِهَا بِمَعْنَى جَعَلَ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، بَلِ الَّذِي ذَكَرَ النَّاسُ أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ جَعَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «4» أَمَّا الْعَكْسُ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ،

_ (1) سورة النازعات: 76/ 27. (2) سورة الروم: 19/ 54. (3) سورة الإسراء: 17/ 70. (4) سورة الأنعام: 6/ 1.

وَالْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ تَتَبَّعُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. مِنْهَا: التَّجَوُّزُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ، لِأَنَّ أَلْ تَسْتَغْرِقُ كُلَّ فَاحِشَةٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَلْ بَعْضُهَا، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِقُبْحِهِ وَفُحْشِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ فِي الْفَاحِشَةِ الزِّنَا، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِذْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَالتَّجَوُّزُ بِالْمُرَادِ مِنَ الْمُطْلَقِ بَعْضُ مَدْلُولِهِ فِي قَوْلِهِ: فَآذُوهُمَا إِذْ فُسِّرَ بِالتَّعْيِيرِ أَوِ الضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَبِقَوْلِهِ: سَبِيلًا وَالْمُرَادُ الْحَدُّ، أَوْ رَجْمُ الْمُحْصَنِ. وَبِقَوْلِهِ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا أَيِ اتْرُكُوهُمَا. وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. وَالتَّجْنِيسُ المغاير في: فإن تَابَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ توّابا، وفي: أرضعنكم ومن الرَّضَاعَةِ، وَفِي: مُحْصَنَاتُ فَإِذَا أُحْصِنَّ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا، وَفِي: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ. وَالتَّكْرَارُ فِي: اسْمِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي: إِنَّمَا التَّوْبَةُ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ، وَفِي: زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ، وَفِي: أُمَّهَاتُكُمْ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي، وَفِي: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، وَفِي: الْمُؤْمِنَاتِ فِي قَوْلِهِ: الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَفِي: فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَفِي: فريضة ومن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، وَفِي: الْمُحْصَنَاتُ من النساء والمحصنات، ونصف مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ، وَفِي: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَفِي: يُرِيدُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، وفي: يتوب وأن يَتُوبَ، وَفِي: إِطْلَاقِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَاضِي، فِي: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ وَفِي: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، وَفِي: يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَفِي: ثُمَّ يَتُوبُونَ، وَفِي: يُرِيدُ وَفِي: لِيُبَيِّنَ، لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ وَبَيَانَهُ قَدِيمَانِ، إِذْ تِبْيَانُهُ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْإِرَادَةُ وَالْكَلَامُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهِيَ قَدِيمَةٌ. وَالْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ فِي قَوْلِهِ: كَرْهًا، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الإرث كرها يومىء إِلَى جَوَازِهِ طَوْعًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، فَلَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِمَصْلَحَةٍ لَهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، أَوْ بِمَالِهَا، وَفِي: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً أَوْمَأَ إِلَى نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِسَاءَ الْآبَاءِ، وَفِي: أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْوِيجِ الْإِمَاءِ. وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدِهِ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا عَظَّمَ الْأَمْرَ حَتَّى يُنْتَهَى عَنْهُ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، اسْتَعَارَ الْأَخْذَ لِلْوُثُوقِ بِالْمِيثَاقِ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَالْمِيثَاقُ مَعْنًى لَا يَتَهَيَّأُ فِيهِ الْأَخْذُ حَقِيقَةً، وَفِي: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيْ فَرْضَ اللَّهِ، اسْتَعَارَ لِلْفَرْضِ لَفْظَ الْكِتَابِ لِثُبُوتِهِ وَتَقْرِيرِهِ، فَدَلَّ بِالْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ. وَفِي: مُحْصِنِينَ، اسْتَعَارَ لَفْظَ الْإِحْصَانِ وَهُوَ

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 38]

الِامْتِنَاعُ فِي الْمَكَانِ الْحَصِينِ لِلِامْتِنَاعِ بِالْعِقَابِ، وَاسْتَعَارَ لِكَثْرَةِ الزِّنَا السَّفْحَ وَهُوَ صَبُّ الْمَاءِ فِي الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ بِتَدَفُّقٍ وَسُرْعَةٍ، وَكَذَلِكَ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اسْتَعَارَ لَفْظَ الْأُجُورِ لِلْمُهُورِ، وَالْأَجْرُ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَمَلٍ، فَجَعَلَ تَمْكِينَ الْمَرْأَةِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَأَنَّهُ عَمَلٌ تَعْمَلُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: طَوْلًا اسْتِعَارَةٌ لِلْمَهْرِ يُتَوَصَّلُ بِهِ لِلْغَرَضِ، وَالطَّوْلُ وَهُوَ الْفَضْلُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ اسْتَعَارَ الِاتِّبَاعَ وَالْمَيْلَ اللَّذَيْنِ هُمَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِجْرَامِ لِمُوَافَقَةِ هَوَى النَّفْسِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ يُخَفِّفَ، وَالتَّخْفِيفُ أَصْلُهُ مِنْ خِفَّةِ الْوَزْنِ وَثِقَلِ الْجِرْمِ، وَتَخْفِيفُ التَّكَالِيفِ رَفْعُ مَشَاقِّهَا مِنَ النَّفْسِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، سُمِّيَ تَزْوِيجُ النِّسَاءِ أَوْ مَنْعُهُنَّ لِلْأَزْوَاجِ إِرْثًا، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْإِرْثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا جَعَلَهُ ضَعِيفًا بَاسِمِ ما يؤول إِلَيْهِ، أَوْ بِاسْمِ أَصْلِهِ. وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَدْ فُسِّرَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ الطِّبَاقِ اللَّفْظِيِّ، لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، ثُمَّ نَسَقَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ، فَهَذَا هُوَ الطِّبَاقُ. وَفِي قَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَالْمُحْصِنُ الَّذِي يَمْنَعُ فَرْجَهُ، وَالْمُسَافِحُ الَّذِي يَبْذُلُهُ. وَالِاحْتِرَاسُ فِي قَوْلِهِ: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ احْتَرَزَ مِنَ اللَّاتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهِنَّ، وَفِي وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ احْتَرَسَ مِنَ اللَّاتِي لَيْسَتْ فِي الْحُجُورِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِذِ الْمُحْصَنَاتُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الرِّجَالُ، فَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ. وَالِاعْتِرَاضُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِهَا. [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 38] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)

الْجَارُ: الْقَرِيبُ الْمَسْكَنِ مِنْكَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِقَوْلِهِمْ: جَاوَرْتُ، وَيُجْمَعُ عَلَى جِيرَانٍ وَجِيرَةٍ. وَالْجُنُبُ: الْبَعِيدُ. وَالْجَنَابَةُ الْبُعْدُ قَالَ: فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسَطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ

وَهُوَ مِنَ الِاجْتِنَابِ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الرَّجُلُ جَانِبًا. وَقَالَ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي «1» أَيْ بَعِّدْنِي، وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى فِعْلٍ كَنَاقَةٍ سَرَحٍ. الْمُخْتَالُ: الْمُتَكَبِّرُ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ اخْتَالَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ لِقَوْلِهِمُ: الْخُيَلَاءُ وَالْمَخِيلَةُ. وَيُقَالُ: خَالَ الرَّجُلُ يَخُولُ خَوْلًا إِذَا تَكَبَّرَ وَأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ مَادَّةً أُخْرَى، لِأَنَّ تِلْكَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ خَيَلَ خ ي ل، وَهَذِهِ مَادَّةٌ من خ ول. الْفَخُورُ: فَعُولٌ مِنْ فَخَرَ، وَالْفَخْرُ عَدُّ الْمَنَاقِبِ عَلَى سَبِيلِ الشُّغُوفِ وَالتَّطَاوُلِ. الْقَرِينُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، مِنْ قَارَنَهُ إِذَا لَازَمَهُ وَخَالَطَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ قَرِينَةً. وَمِنْهُ قِيلَ لَمَّا يَلْزَمْنَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ: قَرِينَانِ، وَلِلْحَبَلِ الَّذِي يَشُدَّانِ بِهِ قَرْنٌ قَالَ الشَّاعِرُ: وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ وَقَالَ: كَمُدْخِلٍ رَأْسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أَحَدٌ ... مِنَ الْقَرِينَيْنِ حَتَّى لَزَّهُ الْقَرَنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا «2» وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النُّفُوسِ بِالنِّكَاحِ، بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى النِّكَاحِ، وَإِلَى مِلْكِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْمُهُورَ وَالْأَثْمَانَ الْمَبْذُولَةَ فِي ذَلِكَ لَا تَكُونُ مِمَّا مُلِكَتْ بِالْبَاطِلِ، وَالْبَاطِلُ هُوَ كُلُّ طَرِيقٍ لَمْ تُبِحْهُ الشَّرِيعَةُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ: السَّرِقَةُ، وَالْخِيَانَةُ، وَالْغَصْبُ، وَالْقِمَارُ، وَعُقُودُ الرِّبَا، وَأَثْمَانُ الْبَيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ بَيْعُ الْعُرْبَانِ وَهُوَ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْكَ السِّلْعَةَ وَيَكْرِيَ الدَّابَّةَ وَيُعْطِيَ دِرْهَمًا مَثَلًا عُرْبَانًا، فَإِنِ اشْتَرَى، أَوْ رَكِبَ، فَالدِّرْهَمُ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ أَوِ الْكِرَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْبَائِعِ. فَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ مِنْهُمُ: ابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، ونافع بْنُ عُبَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بَيْعَ الْعُرْبَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ، وَالْحُجَجُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِالْبَاطِلِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، إِذْ يَجُوزُ أَكْلُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إِذَا كَانَ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ تَمْلِيكًا أو إرثا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَهُ بِغَيْرِ

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 35. (2) سورة البقرة: 2/ 188.

عِوَضٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالْبَخْسِ وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُبِحِ اللَّهُ تَعَالَى أَكْلَ الْمَالِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِالْبَاطِلِ، بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الطَّرِيقُ الْمَشْرُوعَةُ مَذْكُورَةً هُنَا عَلَى التَّفْصِيلِ، صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً. وَإِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مَعْنَاهُ: أَمْوَالُ بَعْضِكُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «1» وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» وَقِيلَ: يَشْمَلُ قَوْلُهُ: أَمْوَالُكُمْ، مَالَ الْغَيْرِ وَمَالَ نَفْسِهِ. فَنَهَى أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ إِلَّا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ، وَنَهَى أَنْ يَأْكُلَ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ: إِنْفَاقُهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وعبرهنا عَنْ أَخْذِ الْمَالِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ أَغْلَبِ مَقَاصِدِهِ وَأَلْزَمِهَا. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التِّجَارَةَ لَمْ تَنْدَرِجْ فِي الْأَمْوَالِ الْمَأْكُولَةِ بِالْبَاطِلِ فَتُسْتَثْنَى مِنْهَا سَوَاءٌ أَفَسَّرْتَ قَوْلَهُ بِالْبَاطِلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، أَمْ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْكَوْنِ، وَالْكَوْنُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَيْسَ مَالًا مِنَ الْأَمْوَالِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ فَغَيْرُ مُصِيبٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ الْمَالِ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ فَقَطْ، بَلْ ذُكِرَ نَوْعٌ غَالِبٌ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ وَهُوَ: التِّجَارَةُ، إِذْ أَسْبَابُ الرِّزْقِ أَكْثَرُهَا مُتَعَلِّقٌ بِهَا. وَفِي قَوْلِهِ: عَنْ تَرَاضٍ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ التِّجَارَةِ فَشَرْطُهُ التَّرَاضِي، وَهُوَ مِنِ اثْنَيْنِ: الْبَاذِلِ لِلثَّمَنِ، وَالْبَائِعِ لِلْعَيْنِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ غَيْرُ التَّرَاضِي، فَعَلَى هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِدِرْهَمٍ جَازَ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ مِقْدَارَ مَا يُسَاوِي أَمْ لَمْ يَعْلَمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِذَا لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ الْغَبْنِ وَتَجَاوَزَ الثُّلُثَ، رُدَّ الْبَيْعُ. وَظَاهِرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَاقَدَ بِالْكَلَامِ أَنَّهُ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَلَا خِيَارَ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، ومالك، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ. وقال الثوري، والليث، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا عَقَدَا فَهُمَا عَلَى الْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَاسْتَثْنَوْا صُوَرًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّفَرُّقُ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَرُّقِ. فَقِيلَ: بِأَنْ يَتَوَارَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: بِقِيَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْمَجْلِسِ. وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الْخِيَارَ يَقُولُ: إِذَا خَيَّرَهُ فِي الْمَجْلِسِ فاختار، فقد

_ (1) سورة النساء: 4/ 25. (2) سورة النساء: 4/ 29. [.....]

وَجَبَ الْبَيْعُ. وَرُوِيَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا. وَأَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِذِكْرِ الِاحْتِجَاجِ لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَمَوْضُوعُ ذَلِكَ كُتُبِ الْفِقْهِ. وَالتِّجَارَةُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ الْأَرْبَاحِ. وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: لَكِنَّ كَوْنَ تِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: تِجَارَةً بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً عَلَى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ فِيهَا يَعُودُ عَلَى الْأَمْوَالِ، أَوْ يُفَسِّرُهُ التِّجَارَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً، أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ. كَمَا قال: إذا كان يوماذا كَوْكَبٍ أَشْنَعَا. أَيْ إِذَا كان هواي اليوم يوماذا كَوْكَبٍ. وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ الْكُوفِيِّينَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: تِجَارَةٌ بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ فِيهَا عَلَى مَعْنَى يَحْدُثُ أَوْ يَقَعُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِاخْتِيَارِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَمَامُ كَانَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَ بَعْضٍ لِأَنَّهَا صِلَةٌ، فَهِيَ مَحْطُوطَةٌ عَنْ دَرَجَتِهَا إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ صِلَةٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا تَرْجِيحٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَكِنَّهُ حَسَنٌ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَيَحْتَاجُ هَذَا الْكَلَامُ إِلَى فِكْرٍ، وَلَعَلَّهُ نَقَصَ مِنَ النُّسْخَةِ شَيْءٌ يَتَّضِحُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أراده. وعن تَرَاضٍ: صِفَةٌ لِلتِّجَارَةِ أَيْ: تِجَارَةٌ صَادِرَةٌ عَنْ تَرَاضٍ. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ظَاهِرُهُ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ بِقَصْدٍ مِنْهُ، أَوْ بِحَمْلِهَا عَلَى غَرَرٍ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ، كَمَا يَصْنَعُ بَعْضُ الْفُتَّاكِ بِالْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْمَلِكَ وَيُقْتَلُونَ بِلَا شَكٍّ. وَقَدِ احْتَجَّ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِهَذِهِ الْآيَةِ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَأَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتِجَاجَهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تَفْعَلُوا مَا تَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْقَتْلَ مِنَ الْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعُ الْمُتَأَوِّلُونَ أَنَّ الْقَصْدَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا تَقْتُلُوا إِخْوَانَكُمُ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَضَافَ الْقَتْلَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ. وَلِأَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قَتَلَ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ، وَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ إِجْمَاعِ الْمُتَأَوِّلِينَ ذَكَرَ غَيْرُهُ فِيهِ الْخِلَافَ. قَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةُ الْقَتْلِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَقْتُلْ أَحَدٌ نَفْسَهُ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، أَوْ ظُلْمٍ أَصَابَهُ، أَوْ جُرْحٍ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَجَازُ الْقَتْلِ أَيْ: يَأْكُلُ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ، أَوْ بِطَلَبِ الْمَالِ وَالِانْهِمَاكِ فِيهِ، أَوْ يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْغَرَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الهلاك، أو يفعل هَذِهِ

الْمَعَاصِي وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ الْقَتْلُ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الْهَلَاكِ مَجَازًا كَمَا جَاءَ: شَاهِدٌ قَتَلَ ثَلَاثًا نَفْسَهُ، وَالْمَشْهُودَ لَهُ، وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ أَيْ: أَهْلَكَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ: وَلَا تَقْتُلُوا بِالتَّشْدِيدِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً حَيْثُ نَهَاكُمْ عَنْ إِتْلَافِ النُّفُوسِ، وَعَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَبَيَّنَ لَكُمْ جِهَةَ الْحِلِّ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قِوَامَ الْأَنْفُسِ. وَحَيَاتَهَا بِمَا يُكْتَسَبُ مِنْهَا، لِأَنَّ طِيبَ الْكَسْبِ يَنْبَنِي عَلَيْهِ صَلَاحُ الْعِبَادَاتِ وَقَبُولُهَا. أَلَا تَرَى إِلَى مَا وَرَدَ مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: لَبَّيْكَ قَالَ اللَّهُ لَهُ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ. وَأَلَا تَرَى إِلَى الدَّاعِي رَبَّهُ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ كَيْفَ جَاءَ أَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟ وَكَانَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُتَقَدِّمًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُقُوعًا، وَأَفْشَى فِي النَّاسِ مِنَ الْقَتْلِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ نَادِرَةٌ. وَقِيلَ: رَحِيمًا حَيْثُ لَمْ يُكَلِّفْكُمْ قَتْلَ أَنْفُسِكُمْ حِينَ التَّوْبَةِ كَمَا كَلَّفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتْلَهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَوْبَةً لَهُمْ وَتَمْحِيصًا لِخَطَايَاهُمْ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ. لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا جَاءَ مُتَّسِقًا مَسْرُودًا، ثُمَّ وَرَدَ الْوَعِيدُ حَسَبَ النَّهْيِ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةٌ. وَتَقْيِيدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِالِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ يَقَعَ عَلَى جِهَةٍ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً وَظُلْمًا، بَلْ هُوَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا يَقَعُ الْفِعْلُ إِلَّا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: عُدْوَانًا وَظُلْمًا لِيَخْرُجَ مِنْهُ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ، وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا تَقْيِيدُ قَتْلِ الْأَنْفُسِ عَلَى تَفْسِيرِ قَتْلِ بَعْضِنَا بَعْضًا بِقَوْلِهِ: عُدْوَانًا وَظُلْمًا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَقَعُ كَذَلِكَ، وَيَقَعُ خَطَأً وَاقْتِصَاصًا. وَقِيلَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ: قَتْلُ الْأَنْفُسِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَتْلِ أَيْ: وَمَنْ يُقْدِمُ عَلَى قَتْلِ الْأَنْفُسِ عُدْوَانًا وَظُلْمًا لَا خَطَأً وَلَا اقْتِصَاصًا انْتَهَى. وَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «1» وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ: إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ النَّهْيِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ وَعِيدٌ وَهُوَ مِنْ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ «2» إِلَى هَذَا النَّهْيِ الَّذِي هُوَ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، فَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ فَقَدِ اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ. وَمَا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 93. (2) سورة النساء: 4/ 19.

ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ قَدِ اسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا، وَلَا يَظْهَرُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا بَعْدَهَا إِلَّا تَعَلُّقَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ اضْطِرَارِ الْمَعْنَى. وَأَبْعَدُ مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْقَضَايَا، مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى النَّهْيِ الَّذِي أَعْقَبَهُ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. وَجَوَّزَ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ: وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، أَوْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. وَانْتِصَابُ عُدْوَانًا وَظُلْمًا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: معتدين وظالمين. وقرىء عِدْوَانًا بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُصْلِيهِ بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ: بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَاهُ، وَمِنْهُ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ. وقرىء أيضا: نصليه مشددا. وقرىء: يُصْلِيهِ بِالْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ: فَسَوْفَ يُصْلِيهِ هُوَ أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْمُصَلِّي، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَمَدْلُولُ نَارًا مُطْلَقٌ، وَالْمُرَادُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- تَقْيِيدُهَا بِوَصْفِ الشِّدَّةِ، أَوْ مَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِرْمَ الْعَظِيمَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِصْلَائِهِ النَّارَ، وَيُسْرُهُ عَلَيْهِ تَعَالَى سُهُولَتُهُ، لِأَنَّ حُجَّتَهُ بَالِغَةٌ وَحُكْمَهُ لَا مُعَقِّبَ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَا صَارِفَ عَنْهُ مِنْ ظُلْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ، ذَكَرَ الْوَعْدَ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ وَسَيِّئَاتٍ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِالصَّغَائِرِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، فَمِنَ الصَّغَائِرِ النَّظْرَةُ وَاللَّمْسَةُ وَالْقُبْلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّحْرِيمِ، وَتُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الاسفرايني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ: إِلَى أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا، وَلَا ذَنْبَ يُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ ذَنْبٍ آخَرَ، بَلْ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ وَصَاحِبُهُ وَمُرْتَكِبُهُ فِي الْمَشِيئَةِ غَيْرَ الْكُفْرِ. وَحَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ

عَلَى أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ كَبِيرٌ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَى الْيَسِيرِ، كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَالَ: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعَضَّدَهُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وَضَوْءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» . وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَبَائِرِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ ثَلَاثٌ: الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا أَرْبَعٌ: فَزَادَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ سَبْعٌ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ كَقَوْلِ عَلِيٍّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَجَعَلَ الْآيَةَ فِي التَّعَرُّبِ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى «1» الْآيَةَ وَفِي الْبُخَارِيِّ: «اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» فَذَكَرَ هَذِهِ إِلَّا التَّعَرُّبَ، فَجَاءَ بَدَلَهُ السِّحْرُ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ هِيَ هَذِهِ السَّبْعُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَكَرَ هَذِهِ إِلَّا السِّحْرَ، وَزَادَ الْإِلْحَادَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ بِالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعُقُوقِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ جَمِيعُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى ثَلَاثِينَ آيَةً مِنْهَا، وَهِيَ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ «2» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْكَبَائِرُ كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَعِيدٌ بِنَارٍ، أَوْ عَذَابٍ، أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ الْفَارِسِيُّ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: قَدْ أَطَلْتُ التَّفْتِيشَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سِنِينَ فَصَحَّ لِي أَنَّ كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَوَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَدْخَلَ فِي الْكَبَائِرِ بِنَصِّ لَفْظِهِ أَشْيَاءَ غَيْرَ الَّتِي ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ- يعني

_ (1) سورة محمد: 47/ 25. (2) سورة النساء: 4/ 31.

الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ- فَمِنْهَا: قَوْلُ الزُّورِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، والكذب عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ أَبَوَيْهِ لِلسَّبِّ بِأَنْ يَسُبَّ آبَاءَ النَّاسِ، وَذَكَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالنَّارِ عَلَى الْكِبْرِ، وَعَلَى كُفْرِ نِعْمَةِ الْمُحْسِنِ فِي الْحَقِّ، وَعَلَى النِّيَاحَةِ فِي الْمَآتِمِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ فِيهَا، وَخَرْقِ الْجُيُوبِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَتَرْكِ التَّحَفُّظِ مِنَ الْبَوْلِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَعَلَى الْخَمْرِ، وَعَلَى تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ لِأَكْلِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْهَا أَوْ مَا أُبِيحَ أَكْلُهُ مِنْهَا، وَعَلَى إِسْبَالِ الْإِزَارِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّهِ، وَعَلَى الْمَنَّانِ بِمَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَى الْمُنْفِقِ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَعَلَى الْمَانِعِ فَضْلَ مَائِهِ مِنَ الشَّارِبِ، وَعَلَى الْغَلُولِ، وَعَلَى مُتَابَعَةِ الْأَئِمَّةِ لِلدُّنْيَا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا وُفِّيَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا لَمْ يُوَفَّ لَهُمْ، وَعَلَى الْمُقْتَطِعِ بِيَمِينِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَعَلَى الْإِمَامِ الْغَاشِّ لِرَعِيَّتِهِ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَعَلَى مَنْ غَلَّ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَعَلَى لَاعِنِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، وَعَلَى بُغْضِ الْأَنْصَارِ، وَعَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى تَارِكِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى بُغْضِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَوَجَدْنَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ عَلَى الزُّنَاةِ، وَعَلَى الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْحِرَابَةِ، فَصَحَّ بِهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. يَعْنِي قَوْلُهُ هِيَ: إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ، لِأَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، هَلِ التَّكْفِيرُ قَطْعِيٌّ؟ أَوْ غَالِبُ ظَنٍّ؟ فَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ قَطْعِيٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْأَحَادِيثُ، وَالْأُصُولِيُّونَ قَالُوا: هُوَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَطْعِيًّا لَكَانَتِ الصَّغَائِرُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ يُقْطَعُ بِأَنْ لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَوَصَفَ مُدْخَلًا بِقَوْلِهِ: كَرِيمًا وَمَعْنَى كَرَمِهِ: فَضِيلَتُهُ، وَنَفَى الْعُيُوبَ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ: ثَوْبٌ كَرِيمٌ، وَفُلَانٌ كَرِيمُ الْمَحْتِدِ. وَمَعْنَى تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ إِزَالَةُ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ، وَجَعْلُهَا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ مُرَتَّبٌ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ الْكُفْرُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَهُ جِنْسٌ. وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: يُكَفِّرْ وَيُدْخِلْكُمْ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ بِزِيَادَةِ مِنْ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ: مُدْخَلًا هُنَا، وَفِي الْحَجِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا وَانْتِصَابِ الْمَضْمُومِ الْمِيمِ إِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: إِدْخَالًا، وَالْمُدْخَلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَيُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ إِدْخَالًا كَرِيمًا. وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَكَانُ الدُّخُولِ، فَيَجِيءُ الْخِلَافُ الَّذِي فِي دَخَلَ، أَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ لِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ عَلَى سَبِيلِ التعدية للمفعول به؟ أَمْ عَلَى سَبِيلِ الظَّرْفِ؟ فَإِذَا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ فَالْخِلَافُ. وَأَمَّا انْتِصَابُ الْمَفْتُوحِ الْمِيمِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ الدَّخْلِ الْمُطَاوِعِ لِأَدْخَلَ، التَّقْدِيرُ: وَيُدْخِلْكُمْ فَتَدْخُلُونَ دُخُولًا كَرِيمًا، وَحَذَفَ فَتَدْخُلُونَ لِدَلَالَةِ الْمُطَاوِعِ عَلَيْهِ، وَلِدَلَالَةِ مَصْدَرِهِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَكَانُ، فَيَنْتَصِبُ إِذْ ذاك إما بيدخلكم، وإما بدخلتم الْمَحْذُوفَةِ عَلَى الْخِلَافِ، أَهْوَ مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ ظَرْفٌ. وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ «1» قَالَ الرِّجَالَ: إِنَّا لَنَرْجُوَ أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْحَسَنَاتِ كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ النِّسَاءُ: إِنَّا لِنَرْجُوَ أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ النِّسَاءَ: وَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَنَا الْغَزْوَ فَنُصِيبُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا يُصِيبُ الرِّجَالُ. وَزَادَ مُجَاهِدٌ: أَنَّ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَأَنَّهَا قَالَتْ: وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْتَنَا كُنَّا رِجَالًا فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَكَانَ مَا نَهَى عَنْهُ مَدْعَاةً إِلَى التَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا وَالْعُلُوِّ فِيهَا وَتَحْصِيلِ حُطَامِهَا، نَهَاهُمْ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذِ التَّمَنِّي لِذَلِكَ سَبَبٌ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَشَوْقِ النَّفْسِ إِلَيْهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ، حَتَّى نَهَى عَنِ السَّبَبِ الْمُحَرِّضِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُسَبِّبِ آكَدُ لفظاعته ومشقته فبدىء بِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالنَّهْيِ عَنِ السَّبَبِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْمُسَبِّبِ، وَلِيُوَافِقَ الْعَمَلُ الْقَلْبِيُّ الْعَمَلَ الْخَارِجِيَّ فَيَسْتَوِي الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ فِي الِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 11.

وَتَمَنِّي ذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لِذَلِكَ الْمُفَضَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مَالَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُهُوا عَنِ الْحَسَدِ، وَعَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَعِلْمٍ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ، وَبِمَا يَصْلُحُ لِلْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ بَسْطٍ فِي الرِّزْقِ أَوْ قَبْضٍ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَظَاهِرُ النَّهْيِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا تَمَنِّي أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالٍ صَالِحَةٍ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَعْمَالٍ يَرْجُو بِهَا الثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ حَسَنٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَدِدْتُ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أحيى ثم أقتل» وفي آخر الآية: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «1» فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ مُطْلَقُ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَيْدِ زَوَالِ نِعْمَةِ مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ عَنْهُ بِجِهَةِ الْأَحْرَى. وَالْأَوْلَى إِذْ هُوَ الْحَسَدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، وَالْمُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهُ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا إِذَا تَمَنَّى حُصُولَ مِثْلِ نِعْمَةِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَذْهَبَ عَنِ الْمُفَضَّلِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ، لِأَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ رُبَّمَا كَانَتْ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِ فِي الدِّينِ، وَمَضَرَّةً عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي دَارًا مِثْلَ دَارِ فُلَانٍ، وَلَا زَوْجًا مِثْلَ زَوْجِهِ، بَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُ النَّاسِ. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تُوَرِّثُ النِّسَاءَ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ لَفْظَ الِاكْتِسَابِ يَنْبُو عَنْهُ، لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِمَالِ وَالتَّطَلُّبِ لِلْمَكْسُوبِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِرْثِ، لِأَنَّهُ مَالٌ يَأْخُذُهُ الْوَارِثُ عَفْوًا بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ فِيهِ، وَتَفْسِيرُ قَتَادَةَ هَذَا مُتَرَكِّبٌ عَلَى مَا قَالَهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: يُعَبَّرُ بِالْكَسْبِ عَنِ الْإِصَابَةِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ أَصَابَ كَنْزًا فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: بِاللَّهِ يَا أَبَةِ أَعْطِنِي مِنْ كَسْبِكَ نَصِيبًا، أَيْ مِمَّا أَصَبْتَ. وَمِنْهُ قَوْلُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنْ أَكْسَبُونِي نَزْرَ مَالٍ فَإِنَّنِي ... كَسَبْتَهُمُ حَمْدًا يَدُومُ مَعَ الدَّهْرِ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَكَاسِبَ تَخْتَصُّ بِهِ، فَلَا يَتَمَنَّى أَحَدٌ مِنْهَا مَا جُعِلَ لِلْآخَرِ. فَجُعِلَ لِلرِّجَالِ الْجِهَادُ وَالْإِنْفَاقُ فِي المعيشة، وحمل

_ (1) سورة النساء: 4/ 32.

التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ كَالْأَحْكَامِ وَالْإِمَارَةِ وَالْحِسْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَجُعِلَ لِلنِّسَاءِ الْحَمْلُ وَمَشَقَّتُهُ، وَحُسْنُ التَّبَعُّلِ، وَحِفْظُ غَيْبِ الزَّوْجِ، وَخِدْمَةُ الْبُيُوتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْوَالِ الدُّنْيَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى نَصِيبٌ مِنَ الْأَجْرِ وَالْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ مَا قُسِمَ لِكُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى حَسَبِ مَا عَرَفَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَسْطِ وَالْقَبْضِ كَسْبًا لَهُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: عَرَفَ اللَّهُ نظر، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي اللَّهِ عَارِفٌ، نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي اللُّغَةِ تَسْتَدْعِي قَبْلَهَا جَهْلًا بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي جَهْلًا قَبْلَهُ. وَتَسْمِيَةُ مَا قَسَمَ اللَّهُ كَسْبًا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا، فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ يَقْتَضِي الِاعْتِمَالَ وَالتَّطَلُّبَ كَمَا قُلْنَاهُ، إِلَّا إِنْ قُلْنَا أَنَّ أَكْثَرَ مَا قَسَمَ لَهُ يَسْتَدْعِي اكْتِسَابًا مِنَ الشَّخْصِ، فَأُطْلِقَ الِاكْتِسَابُ عَلَى جَمِيعِ مَا قَسَمَ لَهُ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ. وَفِي تَعْلِيقِ النَّصِيبِ بِالِاكْتِسَابِ حَضٌّ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى كسب الخير. وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مِنْ زِيَادَةِ إِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْتَمِدُوا فِي الْمَزِيدِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ، الْعُمُومُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: وَلا تَتَمَنَّوْا «1» مَا فَضَّلَ الْعُمُومُ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: هَذَا فِي الْعِبَادَاتِ وَالدِّينِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَلَيْسَ فِي فَضْلِ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ، دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَطْلُوبِ، لَكِنْ يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِصْلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً «2» . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ: وَسَلُوا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى السِّينِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا لِلْمُخَاطَبِ، وَقَبْلَ السِّينِ وَاوٌ أو فاء نحو: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ «3» وفَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «4» . وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ «5» فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْهَمْزِ فِيهِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُمْ، بَلْ نُصُوصُ المقرءين فِي كُتُبِهِمْ عَلَى أَنَّ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. بَيْنَ ابْنِ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَبَيْنَ الْجَمَاعَةِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِلَفْظِهِ ابْنُ شِيطَا فِي كِتَابِ التِّذْكَارِ، وَلَعَلَّ الْوَهْمَ وَقَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ

_ (1) سورة النساء: 4/ 32. (2) سورة البقرة: 2/ 201. (3) سورة يونس: 10/ 24. (4) سورة النحل: 16/ 43، وسورة الأنبياء: 21/ 7. (5) سورة الممتحنة: 60/ 10.

مِنْ قَوْلِ ابْنِ مُجَاهِدٍ فِي كِتَابِ السَّبْعَةِ لَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا «1» أَنَّهُ مَهْمُوزٌ لِأَنَّهُ لِغَائِبٍ انْتَهَى. وَرَوَى الْكِسَائِيُّ عَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: أَنَّهُمَا لَمْ يَهْمِزَا وَسَلْ وَلَا فَسَلْ ، مِثْلَ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، وَحَذْفُ الْهَمْزَةِ فِي سَلْ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَإِثْبَاتُهَا لُغَةٌ لِبَعْضِ تَمِيمٍ. وَرَوَى الْيَزِيدِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ سَلْ. فَإِذَا أَدْخَلُوا الْوَاوَ وَالْفَاءَ هَمَزُوا، وَسَأَلَ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ: وَاسْأَلُوا اللَّهَ هُوَ قَوْلُهُ: مِنْ فَضْلِهِ. كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمْتُ زَيْدًا مِنَ اللَّحْمِ، وَكَسَوْتُهُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: شَيْئًا مِنْ فَضْلِهِ، وَشَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ، وَشَيْئًا مِنَ الْحَرِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: مِنْ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَسَلُوا اللَّهَ فَضْلَهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ عِنْدِي أَنْ يُقَدَّرَ الْمَفْعُولُ أَمَانِيَكُمْ إِذْ مَا تَقَدَّمَ يُحَسِّنُ هَذَا الْمَعْنَى. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أَيْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا يَصْلُحُ لِكُلٍّ مِنْكُمْ مِنْ تَوْسِيعٍ أَوْ تَقْتِيرٍ فَإِيَّاكُمْ وَالِاعْتِرَاضَ بِتَمَنٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ عَالِمٌ أَيْضًا بِسُؤَالِكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَكُمْ وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ لَمَّا نَهَى عَنِ التَّمَنِّي الْمَذْكُورِ، وَأَمَرَ بِسُؤَالِ اللَّهِ مِنْ فَضْلِهِ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمِيرَاثِ، وَأَنَّ فِي شَرْعِهِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً مِنْ تَحْصِيلِ مَالٍ لِلْوَارِثِ لَمْ يَسْعَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَنَّ بِطَلَبِهِ، فَرُبَّ ساع لقاعد. وكلّ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافَةً، إما للظاهر، وَإِمَّا لْمُقَدَّرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْمُقَدَّرِ هُنَا، فَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ إِنْسَانٌ، وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ مَالٌ. وَالْمَوْلَى: لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: الْوَارِثُ وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ هُنَا، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْدِيرِ إِنْسَانٍ وَتَقْدِيرِ مَالٍ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْمَوَالِيَ الْعُصْبَةُ وَالْوَرَثَةُ، فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ، احْتَمَلَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لكلّ متعلقا بجعلنا، وَالضَّمِيرُ فِي تَرَكَ عَائِدٌ عَلَى كُلٍّ الْمُضَافِ لِإِنْسَانٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَارِثًا مِمَّا تَرَكَ، فَيَتَعَلَّقُ مِمَّا بِمَا فِي مَعْنَى مَوَالِي مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَوْ بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: يَرِثُونَ مِمَّا تَرَكَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ قَدْ تَمَّتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ، وَيَرْتَفِعُ الْوَالِدَانِ عَلَى إِضْمَارٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنِ الْوَارِثُ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ورّاثا، والكلام جملتان.

_ (1) سورة الممتحنة: 60/ 10.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَجَعَلْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُوَالِيَ، أَيْ وُرَّاثًا. ثُمَّ أُضْمِرَ فِعْلٌ أَيْ: يَرِثُ الْمَوَالِي مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ بِتَرْكِ الْوَالِدَانِ. وَكَأَنَّهُ لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُوَالِيَ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ الَّذِي جَعَلَ لَهُ وَرَثَةً هُوَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، فَأُولَئِكَ الْوُرَّاثُ يَرِثُونَ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَاهُمْ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَيَكُونُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مَوْرُوثِينَ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ فِي: جَعَلْنَا، مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ مَفْعُولُ جَعَلْنَاهُ لَفْظَ مَوَالِيَ. وَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ أَيْ: وُرَّاثًا نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَاهُمْ وَأَقْرَبُوهُمْ، فَيَكُونُ جعلنا صفة لكلّ، وَالضَّمِيرُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مَفْعُولُ جعلنا. وموالي مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَفَاعِلُ تَرَكَ الْوَالِدَانِ. وَالْكَلَامُ مُنْعَقِدٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، فَيَتَعَلَّقُ لِكُلٍّ بِمَحْذُوفٍ، إِذْ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ صِفَتُهُ وَهُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، إِذْ قُدِّرَ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. وَالْكَلَامُ إِذْ ذَاكَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا تَقُولُ: لِكُلِّ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ إِنْسَانًا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، أَيْ حَظٌّ مِنْ رِزْقِ اللَّهَ. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ مَالٍ، فَقَالُوا: التَّقْدِيرُ وَلِكُلِّ مَالٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، جَعَلْنَا مَوَالِيَ أَيْ وُرَّاثًا يَلُونَهُ وَيُحْرِزُونَهُ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مِمَّا تَرَكَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكُلِّ، وَالْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ فَاعِلٌ بِتَرَكَ وَيَكُونُونَ مَوْرُوثِينَ، وَلِكُلٍّ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنَا. إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْجُمْلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِعْلِ الَّذِي فِيهَا الْمَجْرُورُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِكَ: بِكُلِّ رِجْلٍ مَرَرْتُ تِمِيمِيٍّ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ نَظَرٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْمُعَاقَدَةِ هُنَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، والحسن، وقتادة وَغَيْرُهُمْ: هِيَ الْحَلِفُ. فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَوَارَثُ بِالْحَلِفِ، فَقَرَّرَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ثم نسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1» وَعَنْهُ أَيْضًا هِيَ: الْحَلِفُ، وَالنَّصِيبُ هُوَ الْمُؤَازَرَةُ فِي الْحَقِّ وَالنَّصْرِ، وَالْوَفَاءُ بِالْكُلَفِ، لَا الْمِيرَاثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هِيَ الْمُؤَاخَاةُ، كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا حَتَّى نُسِخَ. وَعَنْهُ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَرِثُونَ الْأَنْصَارَ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِمْ حَتَّى نُسِخَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَبَقِيَ اثْنَانِ: النَّصِيبُ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، وَمِنَ الْمَالِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: هِيَ التَّبَنِّي وَالنَّصِيبُ الَّذِي أُمِرْنَا بِإِتْيَانِهِ، هُوَ الْوَصِيَّةُ لَا الْمِيرَاثُ، وَمَعْنَى عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ: عاقدتهم أيمانكم

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 75.

وما سحتموهم. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالتَّبَنِّي لِقَوْمٍ يَمُوتُونَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَوُجُوبِهَا، فَأُمِرَ الْمُوصِي أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي لَهُ. وَقِيلَ: الْمُعَاقَدَةُ هُنَا الزَّوَاجُ، وَالنِّكَاحُ يُسَمَّى عَقْدًا، فَذَكَرَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَذَكَرَ مَعَهُمُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ. وَقِيلَ: الْمُعَاقَدَةُ هُنَا الْوَلَاءُ. وَقِيلَ: هِيَ حَلِفُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنْ لَا يُوَرِّثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ شَيْئًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ نَصِيبَهُ مِنَ الْمَالِ، قَالَ أَبُو رَوْقٍ: وَفِيهِمَا نَزَلَتْ. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُعَاقَدَةِ أَهِيَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يُورَثُ الْحَالِفُ؟ أَمِ الْمُؤَاخَاةُ؟ أَمِ التَّبَنِّي؟ أَمِ الْوَصِيَّةُ الْمَشْرُوحَةُ؟ أَمِ الزَّوَاجُ؟ أَمِ الْمُوَالَاةُ؟ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَفْظَةُ الْمُعَاقَدَةِ وَالْأَيْمَانِ تُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَحْلَافُ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ الْأَحْلَافِ لَيْسَ فِي جَمِيعِهِ مُعَاقَدَةٌ وَلَا أَيْمَانٌ انْتَهَى. وَكَيْفِيَّةُ الْحَلِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ، وهدمي هدمك، وثاري ثارك، وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وَسِلْمِي سِلْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ، وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ. فَيَكُونُ لِلْحَلِيفِ التسدس مِنْ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ. وَعَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ جَاءَ الْخِلَافُ فِي قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أَهْوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى مِيرَاثِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَبِهِ قَالَ: أَبُو يُوسُفَ، وأبو حنيفة، وزفر، ومحمد، قَالُوا: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَمِيرَاثُهُ لَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ يَحْيَى بن سعيد، وربيعة، وابن المسيب، والزهري، وابراهيم، والحسن، وعمر، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وابن شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ نَاصِرًا مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: عَقَدَتْ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَشَدَّدَ الْقَافَ حَمْزَةُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ كَبْشَةَ، وَالْبَاقُونَ عَاقَدَتْ بِأَلِفِ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ فَآتُوهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ نَحْوَ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا مَعْطُوفًا عَلَى الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي فَآتُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَوَالِيَ إِذَا كَانَ الْوَالِدَانِ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ مَوْرُوثِينَ، وَإِنْ كَانُوا وَارِثِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَوَالِيَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مَعْطُوفًا عَلَى مَوَالِيَ قَالَهُ: أَبُو الْبَقَاءِ، وَقَالَ: أَيْ وَجَعَلْنَا الَّذِينَ عَاقَدَتْ وُرَّاثًا، وَكَانَ ذَلِكَ وَنُسِخَ انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوَالِيَ

لِفَسَادِ الْعَطْفِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَوْ: لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ جَعَلْنَا وُرَّاثًا. وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَمْكَنَ ذَلِكَ، أَيْ جَعَلْنَا وُرَّاثًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، أَيْ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ، وَجَعَلْنَا الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ وُرَّاثًا. وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوْجِيهٌ مُتَكَلَّفٌ، وَمَفْعُولُ عَاقَدَتْ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: عَاقَدَتْهُمْ أَيْمَانُكُمْ، وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَقَدَتْ هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَقَدَتْ حِلْفَهُمْ، أَوْ عَهْدَهُمْ أَيْمَانُكُمْ. وَإِسْنَادُ الْمُعَاقَدَةِ أَوِ الْعَقْدِ لِلْإِيمَانِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا الْقَسَمُ، أَمِ الْجَارِحَةُ، مَجَازٌ بَلْ فَاعِلُ ذَلِكَ هُوَ الشَّخْصُ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَشْرِيعَ التَّوْرِيثِ، وَأَمَرَ بِإِيتَاءِ النَّصِيبِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ الْمُجَازِي بِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ لِلْعَاصِي، وَوَعْدٌ لِلْمُطِيعِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَى الْمُعَاقَدَةِ بَيْنَكُمْ. وَالصِّلَةُ فَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ امْرَأَةً لَطَمَهَا زَوْجُهَا فَاسْتَعْدَتْ، فَقُضِيَ لَهَا بِالْقِصَاصِ، فَنَزَلَتْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَدْتِ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غيره» قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. فَذَكَرَ التِّبْرِيزِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّهَا حَبِيبَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ زَوْجُ الرَّبِيعِ بْنِ عُمَرَ، وَأَحَدُ النُّقَبَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَطَوَّلُوا الْقِصَّةَ وَفِي آخِرِهَا: فَرُفِعَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وقال الْكَلْبِيُّ: هِيَ حَبِيبَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: هِيَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى زَوْجُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شماس. وَقِيلَ: نَزَلَ مَعَهَا: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1» وَفِي سَبَبٍ مِنْ عَيْنِ الْمَرْأَةِ أَنَّ زَوْجَهَا لَطَمَهَا بِسَبَبِ نُشُوزِهَا. وَقِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ: لَمَّا تَمَنَّى النِّسَاءُ دَرَجَةَ الرِّجَالِ عَرَفْنَ وَجْهَ الْفَضِيلَةِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالرِّجَالِ هُنَا مَنْ فِيهِمْ صَدَامَةٌ وَحَزْمٌ، لَا مُطْلَقُ مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ. فَكَمْ مِنْ ذِي لِحْيَةٍ لَا يَكُونُ لَهُ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ وَلَا حُرَمٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرُّجُولِيَّةِ وَالرُّجُولَةِ. وَلِذَلِكَ ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ إِنْ كَانُوا رِجَالًا. وأنشد: أكل امرئ تحسبن امْرَأً ... وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْجِنْسِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ إِلَى اعْتِبَارِ أَفْرَادِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:

_ (1) سورة طه: 20/ 114. [.....]

هَذَا الْجِنْسُ قَوَّامٌ عَلَى هَذَا الْجِنْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوَّامُونَ مُسَلَّطُونَ عَلَى تَأْدِيبِ النِّسَاءِ فِي الْحَقِّ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ طَاعَتُهُنَّ لَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوَّامُ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ، وَيُقَالُ: قَيَّامٌ وَقَيِّمٌ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالْأَمْرِ وَيَحْفَظُهُ. وَفِي الحديث: «أنت قيّام السموات وَالْأَرْضِ وَمِنْ فِيهِنَّ» وَالْبَاءُ في بما للسبب، وما مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَقَدَ أَبْعَدَ، إِذْ لَا ضَمِيرَ فِي الْجُمْلَةِ وَتَقْدِيرُهُ محذوفا لا مُسَوِّغٌ لِحَذْفِهِ، فَلَا يَجُوزُ. وَالضَّمِيرُ فِي بَعْضُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَذُكِرَ تَغْلِيبًا لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْأَوَّلِ الرِّجَالُ، وَبِالثَّانِي النِّسَاءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَوَّامُونَ عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ تَفْضِيلِ اللَّهِ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ، هَكَذَا قَرَّرُوا هَذَا الْمَعْنَى. قَالُوا: وَعَدَلَ عَنِ الضَّمِيرَيْنِ فَلَمْ يَأْتِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ لِمَا فِي ذِكْرِ بَعْضٍ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الضَّمِيرِ، فَرُبَّ أُنْثَى فَضَلَتْ ذَكَرًا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْفَضْلِ لَا بِالتَّغَلُّبِ وَالِاسْتِطَالَةِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَقَالَ الرَّبِيعُ: الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّفَقَةُ عَلَيْهِنَّ. وَيَنْبُو عَنْهُ قَوْلُهُ: وَبِمَا أَنْفَقُوا. وَقِيلَ: التَّصَرُّفُ وَالتِّجَارَاتُ. وَقِيلَ: الْغَزْوُ، وَكَمَالُ الدِّينِ، وَالْعَقْلِ. وَقِيلَ: الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ، وَحِلُّ الْأَرْبَعِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَكَمَالُ الْعِبَادَاتِ، وَفَضِيلَةُ الشَّهَادَاتِ، وَالتَّعْصِيبُ، وَزِيَادَةُ السَّهْمِ فِي الْمِيرَاثِ، وَالدِّيَاتِ، وَالصَّلَاحِيَّةُ لِلنُّبُوَّةِ، وَالْخِلَافَةُ، وَالْإِمَامَةُ، وَالْخَطَابَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالرَّمْيُ، وَالْأَذَانُ، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْحَمَالَةُ، وَالْقَسَامَةُ، وَانْتِسَابُ الْأَوْلَادِ، وَاللِّحَى، وَكَشْفُ الْوُجُوهِ، وَالْعَمَائِمُ الَّتِي هِيَ تِيجَانُ الْعَرَبِ، وَالْوِلَايَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، وَالِاسْتِدْعَاءُ إِلَى الْفِرَاشِ، وَالْكِتَابَةُ فِي الْغَالِبِ، وَعَدَدُ الزَّوْجَاتِ، وَالْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ «1» . وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أموالهم: معناه عليهن، وما: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ فِيهِ مُسَوِّغُ الْحَذْفِ. قِيلَ: الْمَعْنَى بِمَا أَخْرَجُوا بِسَبَبِ النِّكَاحِ مِنْ مُهُورِهِنَّ، وَمِنَ النَّفَقَاتِ عَلَيْهِنَّ الْمُسْتَمِرَّةِ. وَرَوَى مُعَاذٌ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِبَعْلِهَا» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا كَانَ لَهَا فَسْخُ الْعَقْدِ لِزَوَالِ الْمَعْقُودِ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ النِّكَاحُ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ على

_ (1) هكذا وجد بياض في نسخة الأصل التي بأيدينا وكذا عموم النسخ التي قوبلت عليها اهـ. مصححه.

ثُبُوتِ فَسْخِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْسَخُ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «1» . فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّالِحَاتُ الْمُحْسِنَاتُ لِأَزْوَاجِهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ إِذَا أَحْسَنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ فَقَدْ صَلَحَ حَالُهُنَّ مَعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: الْمُعَامَلَاتُ بِالْخَيْرِ. وَقِيلَ: اللَّائِي أصلحن اللَّهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ «2» . وَقِيلَ: اللَّوَاتِي أَصْلَحْنَ أَقْوَالَهُنَّ وَأَفْعَالَهُنَّ. وقيل: الصلاة الدِّينُ هُنَا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَالْقَانِتَاتُ: الْمُطِيعَاتُ لِأَزْوَاجِهِنَّ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حِفْظِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِمْ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَحْوَالِهِنَّ، أَوْ قَائِمَاتٌ بِمَا عَلَيْهِنَّ لِلْأَزْوَاجِ، أَوِ الْمُصَلِّيَاتُ، أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِلزَّجَّاجِ. حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ: قَالَ عَطَاءٌ وقتادة: يَحْفَظْنَ مَا غَابَ عَنِ الْأَزْوَاجِ، وَمَا يَجِبُ لَهُنَّ من صيانة أنفسهن لهن، وَلَا يَتَحَدَّثْنَ بِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْغَيْبُ، كُلُّ مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ زَوْجِهَا مِمَّا اسْتَتَرَ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَعُمُّ حَالَ غَيْبَةِ الزَّوْجِ، وَحَالَ حُضُورِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَيْبُ خِلَافُ الشَّهَادَةِ، أَيْ حَافِظَاتٍ لِمَوَاجِبِ الْغَيْبِ إِذَا كَانَ الْأَزْوَاجُ غَيْرَ شَاهِدِينَ لَهُنَّ، حَفِظْنَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ حِفْظُهُ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ مِنَ الزَّوْجِ وَالْبُيُوتِ وَالْأَمْوَالِ انْتَهَى. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْغَيْبِ تُغْنِي عَنِ الضَّمِيرِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِهَا كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «3» أَيْ رَأْسِي. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ تُرِيدُ: وَفِي لِثَاتِهَا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِهَا وَنَفْسِهَا، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ الْجَلَالَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: بِحِفْظِ اللَّهِ إِيَّاهُنَّ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْحِفْظُ وُجُوهًا أَيْ: يَحْفَظُ، أَيْ: بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُنَّ لِحِفْظِ الْغَيْبِ، أَوْ لِحِفْظِهِ إِيَّاهُنَّ حِينَ أَوْصَى بِهِنَّ الْأَزْوَاجَ فِي كِتَابِهِ وَأَمَرَ رَسُولُهُ، فَقَالَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» أَوْ بِحِفْظِهِنَّ حِينَ وَعَدَهُنَّ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ عَلَى حِفْظِ الْغَيْبِ، وَأَوْعَدَهُنَّ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ عَلَى الْخِيَانَةِ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، والعائد

_ (1) سورة البقرة: 2/ 280. (2) سورة الأنبياء: 21/ 90. (3) سورة مريم: 19/ 4.

عَلَى مَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا حَفِظَهُ اللَّهُ لَهُنَّ مِنْ مُهُورِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى إِمَّا حِفْظُ اللَّهِ وَرِعَايَتُهُ الَّتِي لَا يَتِمُّ أَمْرٌ دُونَهَا، وَإِمَّا أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ لِلنِّسَاءِ، وَكَأَنَّهَا حِفْظُهُ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّ النِّسَاءَ يَحْفَظْنَ بِإِزَاءِ ذَلِكَ وَبِقَدْرِهِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ: بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِي حَفِظَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا مَرْفُوعٌ أَيْ: بِالطَّاعَةِ وَالْبِرِّ الَّذِي حَفِظَ اللَّهُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بِالْأَمْرِ الَّذِي حَفِظَ حَقَّ اللَّهِ وَأَمَانَتَهُ، وَهُوَ التَّعَفُّفُ وَالتَّحَصُّنُ وَالشَّفَقَةُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ. وَقَدَّرَهُ ابْنُ جِنِّي: بِمَا حَفِظَ دِينَ اللَّهِ، أَوْ أَمْرَ اللَّهِ. وَحَذْفُ الْمُضَافِ مُتَعَيِّنٌ تَقْدِيرُهُ: لِأَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهَا أَنَّهَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَفِي حَفِظَ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ تَقْدِيرُهُ: بِمَا حَفِظْنَ اللَّهَ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الصَّالِحَاتِ. قِيلَ: وَحُذِفَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ، وَفِي حَذْفِهِ قُبْحٌ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَمَا قَالَ: فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا. يريد: أو دين بِهَا. وَالْمَعْنَى: يَحْفَظْنَ اللَّهَ في أمره حين امتثلنه. وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا أَنْ لَا يُقَالَ إِنَّهُ حَذَفَ الضَّمِيرَ، بَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِنَّ مُفْرَدًا، كَأَنَّهُ لُوحِظَ الْجِنْسُ، وَكَأَنَّ الصَّالِحَاتِ فِي مَعْنَى مَنْ صَلَحَ، وَهَذَا كُلُّهُ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ أَدَّى إِلَيْهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنْ مَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَفِي قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْحَفُهُ: فَالصَّوَالِحُ قَوَانِتُ حَوَافِظُ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ، فَأَصْلِحُوا إِلَيْهِنَّ. وَيَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْإِمَامِ، وَفِيهَا زِيَادَةٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ بِالنَّقْلِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَ: وَأَقْرَأُ عَلَى رَسْمِ السَّوَادِ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنَّ تُحْمَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّفْسِيرِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَالتَّكْسِيرُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى، إِذْ هُوَ يُعْطِي الْكَثْرَةَ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ هُنَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا إِلَيْهِنَّ أَيْ أَحْسِنُوا ضُمِّنَ أَصْلِحُوا مَعْنَى أَحْسِنُوا، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بإلى. رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «يَسْتَغْفِرُ لِلْمَرْأَةِ الْمُطِيعَةِ لِزَوْجِهَا الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، وَالْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ، وَالسِّبَاعُ فِي الْبَرَارِيِّ» . قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ أَمِ الْحُورُ؟ فَقَالَ: نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْحُورِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ؟ قَالَ: بِصَلَاتِهِنَّ، وَصِيَامِهِنَّ، وَعِبَادَتِهِنَّ، وَطَاعَةِ أَزْوَاجِهِنَّ. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى صَالِحَاتِ الْأَزْوَاجِ وَأَنَّهُنَّ مِنَ الْمُطِيعَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، ذَكَرَ مُقَابِلَهُنَّ وَهُنَّ الْعَاصِيَاتُ لِلْأَزْوَاجِ. وَالْخَوْفُ هُنَا قِيلَ: مَعْنَاهُ الْيَقِينُ، ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الَّتِي

بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّمَا يُوجِبُهَا وُقُوعُ النُّشُوزِ لَا تَوَقُّعُهُ، وَاحْتُجَّ فِي جَوَازِ وُقُوعِ الْخَوْفِ مَوْقِعَ الْيَقِينِ بِقَوْلِ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَقِيلَ الْخَوْفُ عَلَى بَابِهِ مِنْ بَعْضِ الظَّنِّ. قَالَ: أَتَانِي كَلَامُ مَنْ نُصِيبُ بِقَوْلِهِ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلَّامُ أَنَّكَ عَاتِبِي أَيْ: وَمَا ظَنَنْتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أُمِرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَّى خِفْتُ لَأَدْرَدَنَّ» وَقِيلَ: الْخَوْفُ عَلَى بَابِهِ مِنْ ضِدِّ الْأَمْنِ، فَالْمَعْنَى: يَحْذَرُونَ وَيَتَوَقَّعُونَ، لِأَنَّ الْوَعْظَ وَمَا بَعْدَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي دَوَامِ مَا ظَهَرَ مِنْ مَبَادِئِ مَا يُتَخَوَّفُ. وَالنُّشُوزُ: أَنْ تَتَعَوَّجَ الْمَرْأَةُ وَيَرْتَفِعَ خُلُقُهَا وَتَسْتَعْلِي عَلَى زَوْجِهَا، وَيُقَالُ: نُسُورٌ بِالسِّينِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَيُقَالُ: نُصُورٌ، وَيُقَالُ: نُشُوصٌ. وَامْرَأَةٌ نَاشِرٌ وَنَاشِصٌ. قَالَ الْأَعْشَى: تَجَلَّلَهَا شيخ عشاء فأصبحت ... مضاعية تَأْتِي الْكَوَاهِنَ نَاشِصَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُشُوزُهُنَّ عِصْيَانُهُنَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نُشُوزُهَا أَنْ لَا تَتَعَطَّرُ، وَتَمْنَعُهُ مِنْ نفسه، وَتَتَغَيَّرُ عَنْ أَشْيَاءَ كَانَتْ تَتَصَنَّعُ لِلزَّوْجِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: نُشُوزُهَا كَرَاهِيَّتُهَا لِلزَّوْجِ. وَقِيلَ: امْتِنَاعُهَا مِنَ الْمَقَامِ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَإِقَامَتُهَا فِي مَكَانٍ لَا يُرِيدُ الْإِقَامَةَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَنْعُهَا نَفْسَهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إِذَا طَلَبَهَا لِذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَوَعْظُهُنَّ: تَذْكِيرُهُنَّ أَمْرَ اللَّهِ بِطَاعَةِ الزَّوْجِ، وَتَعْرِيفُهُنَّ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ ضَرْبَهُنَّ عِنْدَ عِصْيَانِهِنَّ، وَعِقَابُ اللَّهِ لَهُنَّ عَلَى الْعِصْيَانِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ، وَارْجِعِي إِلَى فِرَاشِكِ. وَقِيلَ: يَقُولُ لَهَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» وَقَالَ: «لَا تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَتْ عَلَى قَتَبٍ» . وَقَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ بَاتَتْ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» وَزَادَ آخَرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمُ: الْعَبْدُ الْآبِقُ وَامْرَأَةٌ بَاتَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا سَاخِطًا وَإِمَامُ قَوْمٍ هُمْ لَهُ كَارِهُونَ» . وَهَجْرُهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ: تَرْكُهُنَّ لِكَرَاهَةٍ فِي الْمَرَاقِدِ. وَالْمَضْجَعُ الْمَكَانُ الَّذِي يُضْطَجَعُ فِيهِ عَلَى جَنْبٍ. وَأَصْلُ الِاضْطِجَاعِ الِاسْتِلْقَاءُ، يُقَالُ: ضَجَعَ ضُجُوعًا وَاضْطَجَعَ اسْتَلْقَى لِلنَّوْمِ، وَأَضْجَعْتُهُ أَمَلْتُهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَمَلْتَهُ مِنْ إِنَاءٍ وَغَيْرِهِ فَقَدَ أَضْجَعْتَهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ لَا تُجَامِعُوهُنَّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: اتْرُكُوا كلامهن، وو لوهن ظُهُورَكُمْ فِي الْفِرَاشِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَارِقُوهُنَّ فِي الْفَرْشِ، أَيْ نَامُوا نَاحِيَةً فِي فَرْشٍ غَيْرِ فَرْشِهِنَّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: قُولُوا لَهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ هَجْرًا، أَيْ كَلَامًا غَلِيظًا. وَقِيلَ: اهْجُرُوهُنَّ فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا. وَكَنَّى بِالْمَضَاجِعِ عَنِ الْبُيُوتِ، لِأَنَّ كُلَّ مَكَانٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلِاضْطِجَاعِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، والشعبي، وقتادة، وَالْحَسَنُ: مِنَ الْهِجْرَانِ، وَهُوَ الْبُعْدُ وَقِيلَ: اهْجُرُوهُنَّ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَإِظْهَارِ التَّجَهُّمِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُنَّ مُدَّةً نِهَايَتُهَا شهرا كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا» وَقِيلَ: ارْبُطُوهُنَّ بِالْهِجَارِ، وَأَكْرِهُوهُنَّ عَلَى الْجِمَاعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَجَرَ الْبَعِيرَ إِذَا شَدَّهُ بِالْهِجَارِ، وَهُوَ حَبَلٌ يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ قَالَهُ: الطَّبَرِيُّ وَرَجَّحَهُ. وَقَدَحَ فِي سَائِرِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِ الطَّبَرِيِّ: وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الثُّقَلَاءِ انْتَهَى. وَقِيلَ فِي لِلسَّبَبِ: أَيِ اهْجُرُوهُنَّ بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِنَّ عَنِ الْفَرْشِ. وقرأ عبد الله وَالنَّخَعِيُّ: فِي الْمَضْجَعِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ. وَضَرْبُهُنَّ هُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا نَاهِكٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ. وَالضَّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ هُوَ الَّذِي لَا يُهَشِّمُ عَظْمًا، وَلَا يُتْلِفُ عُضْوًا، وَلَا يعقب شينا، وَالنَّاهِكُ الْبَالِغُ، وَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّقْ سَوْطَكَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ» وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كُنْتُ رَابِعَةَ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ عِنْدَ الزُّبَيْرِ، فَإِذَا غَضِبَ عَلَى إِحْدَانَا ضَرَبَهَا بِعُودِ الْمِشْجَبِ حَتَّى يَكْسِرَهُ عَلَيْهَا. وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَسْمَاءَ زَوْجَ الزُّبَيْرِ كَانَتْ تَخْرُجُ حَتَّى عُوتِبَتْ فِي ذَلِكَ وَعِيبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّاتِهَا، فَعَقَدَ شَعَرَ وَاحِدَةٍ بِالْأُخْرَى، ثُمَّ ضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الضَّرَّةُ أَحْسَنَ اتِّقَاءً، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ لَا تَتَّقِي الضَّرْبَ، فَكَانَ الضَّرْبُ بِهَا أَكْثَرَ، فَشَكَتْ إِلَى أَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ اصْبِرِي فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَكِ فِي الْجَنَّةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُ يَعِظُ، وَيَهْجُرُ فِي الْمَضْجَعِ، وَيَضْرِبُ الَّتِي يَخَافُ نُشُوزَهَا. وَيَجْمَعُ بَيْنَهَا، وَيَبْدَأُ بِمَا شَاءَ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ. وَقَالَ بِهَذَا قَوْمٌ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْوَعْظُ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، وَالضَّرْبُ عِنْدَ ظُهُورِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْعِظَةُ وَالْهَجْرُ وَالضَّرْبُ مَرَاتِبُ، إِنْ وَقَعَتِ الطَّاعَةُ عِنْدَ إِحْدَاهَا لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى سَائِرِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمِرَ بِوَعْظِهِنَّ أَوَّلًا، ثُمَّ بِهِجْرَانِهِنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، ثُمَّ بِالضَّرْبِ إِنْ لَمْ يَنْجَعْ فِيهِنَّ الْوَعْظُ

وَالْهِجْرَانُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: يُبْدَأُ بِلَيِّنِ الْقَوْلِ فِي الْوَعْظِ، فَإِنْ لَمْ يفسد فَبِخَشِنِهِ، ثُمَّ يَتْرُكُ مُضَاجَعَتَهَا، ثُمَّ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا كُلِّيَّةً، ثُمَّ بِالضَّرْبِ الْخَفِيفِ كَاللَّطْمَةِ وَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُشْعِرُ بِالِاحْتِقَارِ وَإِسْقَاطِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ بِالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ وَالْقَضِيبِ اللَّيِّنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ وَالْإِنْكَاءُ وَلَا يَحْصُلُ عَنْهُ هَشْمٌ وَلَا إِرَاقَةُ دَمٍ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ رَبَطَهَا بِالْهِجَارِ وَهُوَ الْحَبْلُ، وَأَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ. وَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ رَجَعَتْ بِهِ عَنْ نُشُوزِهَا عَلَى مَا رَتَّبْنَاهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أَيْ: وَافَقْنَكُمْ وَانْقَدْنَ إِلَى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ طَاعَتِكُمْ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ عَاصِيَاتٍ بِالنُّشُوزِ، وَأَنَّ النُّشُوزَ منهن كان واقعا، فإذن لَيْسَ الْأَمْرُ مُرَتَّبًا عَلَى خَوْفِ النُّشُوزِ. وَآخِرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى عِصْيَانِهِنَّ بِالنُّشُوزِ، فَهَذَا مِمَّا حَمَلَ عَلَى تَأَوُّلِ الْخَوْفِ بِمَعْنَى التَّيَقُّنِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ثمّ معطوفا حُذِفَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَاقْتِضَائِهِ لَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ وَنَشَزْنَ. كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ «1» تَقْدِيرُهُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، لِأَنَّ الِانْفِجَارَ لَا يَتَسَبَّبُ عَنِ الْأَمْرِ، إِنَّمَا هُوَ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الضَّرْبِ. فَرُتِّبَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ عَلَى الْمَلْفُوظِ بِهِ. وَالْمَحْذُوفُ: أَمَرَ بِالْوَعْظِ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، وَأَمَرَ بِالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ النُّشُوزِ. وَمَعْنَى فَلَا تَبْغُوا: فَلَا تَطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا مِنَ السُّبُلِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَاحَةِ وَهِيَ: الْوَعْظُ، وَالْهَجْرُ، وَالضَّرْبُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَعْنَاهُ لَا تُكَلِّفُوهُنَّ مَا لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِنَّ مِنَ الْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تبغوا مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ الظُّلْمُ، وَالْمَعْنَى: فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ طَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ. وَانْتِصَابُ سَبِيلًا عَلَى هَذَا هُوَ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ الْبَغْيِ لَهُنَّ وَالْإِضْرَارِ بِهِنَّ تَوْصِيلًا بِذَلِكَ إِلَى نُشُوزِهِنَّ أَيْ: إِذَا كَانَتْ طَائِعَةً فَلَا يَفْعَلُ مَعَهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى نُشُوزِهَا. وَلَفْظُ عَلَيْهِنَّ يُؤْذِنُ بهذا المعنى. وسبيلا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَعُمُّ النَّهْيَ عَنِ الْأَذَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً لَمَّا كَانَ فِي تَأْدِيبِهِنَّ بِمَا أَمَرَ تَعَالَى بِهِ الزَّوْجَ اعْتِلَاءٌ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ، خَتَمَ تَعَالَى الْآيَةَ بِصِفَةِ الْعُلُوِّ وَالْكِبَرِ، لِيُنَبِّهَ الْعَبْدَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا أَذِنَ لَكُمْ فِيمَا أَذِنَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُنَّ، فَلَا تَسْتَعْلُوا عليهن، ولا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 60.

تَتَكَبَّرُوا عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَشْرُوعًا لَكُمْ. وَفِي هَذَا وَعْظٌ عَظِيمٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنْذَارٌ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَوْقَ قُدْرَتِكُمْ عَلَيْهِنَّ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ وَقَدْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ. أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّكُمْ تَعْصُونَهُ تَعَالَى عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ وَكِبْرِيَاءِ سُلْطَانِهِ، ثُمَّ يَتُوبُ عَلَيْكُمْ، فَيَحِقُّ لَكُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُنَّ إِذَا أَطَعْنَكُمْ. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها الْخِلَافُ فِي الْخَوْفِ هُنَا مِثْلُهُ فِي: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ. وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا إِمَّا الطَّوَاعِيَةَ، وَإِمَّا النُّشُوزَ. وَكَانَ النُّشُوزُ إِمَّا تَعْقُبُهُ الطَّوَاعِيَةُ، وَإِمَّا النُّشُوزُ الْمُسْتَمِرُّ، فَإِنْ أَعْقَبَتْهُ الطَّوَاعِيَةُ فَتَعُودُ كَالطَّائِعَةِ أَوَّلًا. وَإِنِ اسْتَمَرَّ النُّشُوزُ وَاشْتَدَّ، بُعِثَ الْحَكَمَانِ. وَالشِّقَاقُ: الْمُشَاقَّةُ. وَالْأَصْلُ شِقَاقًا بَيْنَهُمَا، فَاتَّسَعَ وَأُضِيفُ. وَالْمَعْنَى عَلَى الظَّرْفِ كَمَا تَقُولُ: يُعْجِبُنِي سَيْرُ اللَّيْلَةِ الْمُقْمِرَةِ. أَوْ يَكُونُ اسْتُعْمِلَ اسْمًا وَزَالَ مَعْنَى الظَّرْفِ، أَوْ أَجْرَى الْبَيْنَ هُنَا مَجْرَى حَالِهِمَا وَعِشْرَتِهِمَا وَصُحْبَتِهِمَا. وَالْخِطَابُ فِي: وَإِنْ خِفْتُمْ، وَفِي فَابْعَثُوا، لِلْحُكَّامِ، وَمَنْ يَتَوَلَّى الْفَصْلَ بَيْنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: لِلْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَلُونَ أَمْرَ النَّاسِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، وَلَهُمْ نَصْبُ الْحَكَمَيْنِ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، إِذْ لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ لَقَالَ: وَإِنْ خَافَا شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَلْيَبْعَثَا، أَوْ لَقَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِكُمْ، لَكِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِ الْأَزْوَاجِ إِلَى خِطَابِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ. وَالضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمَا عَائِدٌ على الزوجين، ولم يجر ذِكْرَهُمَا، لَكِنْ جَرَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ ذِكْرِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالْحَكَمُ: هُوَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْحُكُومَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْإِصْلَاحِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَاذَا يَحْكُمَانِ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الْأَهْلِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِبَاطِنِ الْحَالِ، وَتَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَيُطْلِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا حَكَمَهُ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ حُبٍّ وَبُغْضٍ وَإِرَادَةِ صُحْبَةٍ وَفُرْقَةٍ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا عَارِفَيْنِ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ، عَدْلَيْنِ، حَسَنَيِ السِّيَاسَةِ وَالنَّظَرِ فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ، عَالِمَيْنِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي حَكَمَا فِيهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرِهِمَا عَدْلَيْنِ عَالِمَيْنِ، وَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ أَمْرُهُمَا ورغبا فيمن يفصل بينها. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا هَذَا الشَّرْطُ فِي الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يَبْعَثُهُمَا الْحَاكِمُ. وَأَمَّا الْحَكَمَانِ اللَّذَانِ يَبْعَثُهُمَا الزَّوْجَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ،

مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالسِّتْرِ، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نُصْحُهُمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَنْظُرُ فِيهِ الْحَكَمَانِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمَا يَنْظُرَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَحْمِلَانِ عَلَى الظَّالِمِ، وَيَمْضِيَانِ مَا رَأَيَا مِنْ بَقَاءٍ أَوْ فِرَاقٍ، وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وإسحاق، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ: عَلِيٍّ ، وعثمان، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وأبي سلمة، وطاووس. قَالَ مَالِكٌ: إِذَا رَأَيَا التَّفْرِيقَ فَرَّقَا، سَوَاءٌ أَوَافَقَ مَذْهَبَ قَاضِي الْبَلَدِ أَوْ خَالَفَهُ، وَكَّلَاهُ أَمْ لَا، وَالْفِرَاقُ فِي ذَلِكَ طَلَاقٌ بَائِنٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَنْظُرُ الْحَكَمَانِ إِلَّا فِيمَا وَكَّلَهُمَا بِهِ الزَّوْجَانِ وَصَرَّحَا بِتَقْدِيمِهِمَا عَلَيْهِ، فَالْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ: أَحَدُهُمَا لِلزَّوْجِ، وَالْآخَرُ لِلزَّوْجَةِ، وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: يَنْظُرُ الْحَكَمَانِ فِي الْإِصْلَاحِ وَفِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، إِلَّا فِي الْفُرْقَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ إِلَيْهِمَا. وَأَمَّا مَا يَقُولُ الْحَكَمَانِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: يَقُولُ حَكَمُ الزَّوْجِ لَهُ أَخْبِرْنِي مَا فِي خَاطِرِكَ، فَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، خُذْ لِي مَا اسْتَطَعْتَ وَفَرِّقْ بَيْنَنَا، عَلِمَ أَنَّ النُّشُوزَ مِنْ قِبَلِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَهْوَاهَا وَرَضِّهَا مِنْ مَالِي بِمَا شِئْتَ وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا، عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاشِزٍ وَيَقُولُ الْحَكَمُ مِنْ جِهَتِهَا لَهَا كَذَلِكَ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمَا أَنَّ النُّشُوزَ مِنْ جِهَتِهِ وَعَظَاهُ، وَزَجَرَاهُ، وَنَهَيَاهُ. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما الضَّمِيرُ فِي يُرِيدَا عَائِدٌ عَلَى الْحَكَمَيْنِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا. وَفِي بَيْنِهِمَا عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، أَيْ: قَصَدَا إِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَصَحَّتْ نِيَّتُهُمَا، وَنَصَحَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَفَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْقَى فِي نُفُوسِهِمَا الْمَوَدَّةَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ مَعًا عَائِدَانِ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَيْ: إِنْ قَصَدَا إِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَتَسَاعَدَانِ فِي طَلَبِ الْوِفَاقِ حَتَّى يَحْصُلَ الْغَرَضُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ أَيْ: إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا بَيْنَهُمَا، وَزَوَالَ شِقَاقٍ، يُزِلِ اللَّهُ ذَلِكَ وَيُؤَلِّفْ بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: يَكُونُ فِي يُرِيدَا عَائِدًا عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَفِي بَيْنِهِمَا عَائِدًا عَلَى الْحَكَمَيْنِ: أَيْ: إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا وَفَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَكَمَيْنِ فَاجْتَمَعَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَصْلَحَا، وَنَصَحَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِرْسَالِ الْحَكَمَيْنِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يجزي إِرْسَالٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِعَدَالَةِ الْحَكَمَيْنِ، فَلَوْ كَانَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: حُكْمُهُمَا مَنْقُوضٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ نُفُوذُهُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ: عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَجُوزُ تَحْكِيمُهُمَا. وَذَهَبَتِ الْخَوَارِجُ: إِلَى أَنَّ

التَّحْكِيمَ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَلَوْ فَرَّقَ الْحَكَمَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ خَلَعَا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ. فَهَلْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ سُلْطَانٍ؟ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ إِلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَذَهَبَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً يَعْلَمُ مَا يَقْصِدُ الْحَكَمَانِ، وَكَيْفَ يُوَفِّقَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَيَخْبُرُ خَفَايَا مَا يَنْطِقَانِ بِهِ فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ. وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِتَفْضِيلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَبِإِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَوَّامًا عَلَى غَيْرِهِنَّ، أَوْضَحَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ قَوَّامًا عَلَى النِّسَاءِ هُوَ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِلَى مَنْ عَطَفَهُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ. فَجَاءَتْ حَثًّا عَلَى الْإِحْسَانِ، وَاسْتِطْرَادًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكْتَفِي مِنَ التَّكَالِيفِ الْإِحْسَانِيَّةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِزَوْجَتِهِ فَقَطْ، بَلْ عَلَيْهِ غَيْرُهَا مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِهِمْ. وَافْتَتَحَ التَّوَصُّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِإِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، إِذْ هِيَ مَبْدَأُ الْخَيْرِ الَّذِي تَتَرَتَّبُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «1» وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ «2» إِلَّا أَنْ هُنَا وَبِذِي، وَهُنَاكَ وَذِي، وَإِعَادَةُ الْبَاءِ تَدُلُّ عَلَى التَّوْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، فَبُولِغَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُبَالَغْ فِي حَقِّ تِلْكَ، لِأَنَّهَا فِي حَقِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالِاعْتِنَاءُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِغَيْرِهَا، إِذْ هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانٌ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وخبر فِيهِ مَا فِي الْمَنْصُوبِ مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً نَحْوَ قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمُجَاهِدٌ، وعكرمة، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُقَاتِلٌ فِي آخَرِينَ: هُوَ الْجَارُ الْقَرِيبُ النَّسَبِ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ هُوَ الْجَارُ الْأَجْنَبِيُّ، الَّذِي لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ: لَا يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَدًا ... ذُو رَحِمٍ أَوْ مُجَاوِرٌ جُنُبُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 83. (2) سورة البقرة: 2/ 83.

وَقَالَ نَوْفٌ الشَّامِيُّ: هُوَ الْجَارُ الْمُسْلِمُ. وَالْجارِ الْجُنُبِ هُوَ: الْجَارُ الْيَهُودِيُّ، وَالنَّصْرَانِيُّ. فَهِيَ عِنْدَهُ قَرَابَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَجْنَبِيَّةُ الْكُفْرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ، هُوَ الْجَارُ الْقَرِيبُ الْمَسْكَنِ مِنْكَ، وَالْجُنُبُ هُوَ الْبَعِيدُ الْمَسْكَنِ مِنْكَ. كَأَنَّهُ انْتُزِعَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا» . وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى أُرِيدَ بِهِ الْجَارُ الْقَرِيبُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ فِي اللِّسَانِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ عَلَى تَأْوِيلِهِ بَيْنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ، وَكَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ: وَجَارِ ذِي الْقُرْبَى انْتَهَى. وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ قَوْلِ مَيْمُونٍ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ عَلَى مَا زَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ذِي الْقُرْبَى بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَالْجَارِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ: وَالْجَارِ جَارِ ذِي الْقُرْبَى، فَحَذَفَ جَارِ لِدَلَالَةِ الْجَارِ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَذَفُوا الْبَدَلَ فِي مِثْلِ هَذَا. قَالَ الشَّاعِرِ: رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ يُرِيدُ: أَعْظُمَ طَلْحَةِ الطَّلَحَاتِ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: لَوْ يَعْلَمُونَ الْعِلْمَ الْكَبِيرَةِ سَنَةً، يُرِيدُونَ: عِلْمَ الْكَبِيرَةِ سَنَةً. وَالْجُنُبُ: هُوَ الْبَعِيدُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُعْدِهِ عَنِ الْقَرَابَةِ. وَقَالَ: فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ. وَالْمُجَاوَرَةُ مُسَاكَنَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ مَدِينَةٍ، أَوْ كَيْنُونَةُ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، أَوْ يُعْتَبَرُ بِسَمَاعِ الْأَذَانِ، أَوْ بِسَمَاعِ الْإِقَامَةِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ ثَانِيهَا: قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَمَرَ مُنَادِيَهُ يُنَادِي: «أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جِوَارٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» وَالْمُجَاوَرَةُ مَرَاتِبُ، بَعْضُهَا أَلْصَقُ مِنْ بَعْضٍ، أَقْرَبُهَا الزَّوْجَةُ. قَالَ الْأَعْشَى: أَجَارَتَنَا بِينِي فإنك طالقة وقرىء: وَالْجَارَ ذَا الْقُرْبَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ كما قرىء حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «1» تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ حَقِّهِ لِإِدْلَائِهِ بِحَقَّيِ الْجِوَارِ وَالْقُرْبَى انْتَهَى، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ عَنْهُ: وَالْجَارِ الْجَنْبِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَمَعْنَاهُ الْبَعِيدُ. وَسُئِلَ أَعْرَابِيٌّ عَنِ الْجَارِ الْجُنُبِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَجِيءُ فَيَحِلُّ حَيْثُ تَقَعُ عينك عليه.

_ (1) سورة البقرة: 238.

وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، ومجاهد، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الزَّوْجَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَنْ يَعْتَرِيكَ وَيُلِمُّ بِكَ لِتَنْفَعَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ الَّذِي صَحِبَكَ بأن حصل يجنبك إِمَّا رَفِيقًا فِي سَفَرٍ، وَإِمَّا جَارًا مُلَاصِقًا، وَإِمَّا شَرِيكًا فِي تَعَلُّمِ عِلْمٍ أَوْ حِرْفَةِ، وَإِمَّا قَاعِدًا إِلَى جَنْبِكَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَدْنَى صُحْبَةٍ الْتَأَمَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُرَاعِيَ ذَلِكَ الْحَقَّ وَلَا تَنْسَاهُ، وَتَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً لِلْإِحْسَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ الَّذِي يَصْحَبُكَ سَفَرًا وَحَضَرًا. وَقِيلَ: الرَّفِيقُ الصَّالِحُ. وَابْنِ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قِيلَ: مَا وَقَعَتْ عَلَى الْعَاقِلِ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ «1» وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ مَنْ، فَتَشْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى إِطْلَاقِهَا مِنْ عَبِيدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْأَرِقَّاءِ أَكْثَرُ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرِقَّاءِ، فَغَلَّبَ جَانِبَ الْكَثْرَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ مَمْلُوكٍ مِنْ آدَمِيٍّ وَحَيَوَانٍ غَيْرِهِ. وَقَدْ وَرَدَ غَيْرُ مَا حَدِيثٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْأَرِقَّاءِ خَيْرًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ مَا نُقِلَ عَنْ سَهْلٍ التُّسْتَرِيِّ قَالَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى هُوَ الْقَلْبُ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ النَّفْسُ، وَالصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ الْعَقْلُ الَّذِي يَجْهَرُ عَلَى اقْتِدَاءِ السُّنَّةِ وَالشَّرَائِعِ، وَابْنُ السَّبِيلِ الْجَوَارِحُ الْمُطِيعَةُ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً نَفَى تَعَالَى مَحَبَّتَهُ عَمَّنِ اتَّصَفَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: الِاخْتِيَالُ وَهُوَ التَّكَبُّرُ، وَالْفَخْرُ هُوَ عَدُّ الْمَنَاقِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَاوُلِ بِهَا وَالتَّعَاظُمِ عَلَى النَّاسِ. لِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ حَمَلَتَاهُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِمَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْهَرَوِيُّ: لا تجد سيىء الْمَلَكَةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَلَا عَاقًّا إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُخْتَالُ التَّيَّاهُ الْجَهُولُ الَّذِي يَتَكَبَّرُ عَنْ إِكْرَامِ أَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ، فَلَا يتحفى بِهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَكَرَ تَعَالَى الِاخْتِيَالَ لِأَنَّ الْمُخْتَالَ يَأْنَفُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَمِنْ جِيرَانِهِ إِذَا كَانُوا ضُعَفَاءَ، وَمِنَ الْأَيْتَامِ لِاسْتِضْعَافِهِمْ وَمِنَ الْمَسَاكِينِ لِاحْتِقَارِهِمْ، وَمِنِ ابْنِ السَّبِيلِ لِبُعْدِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَمِنْ مَمَالِيكِهِ لِأَسْرِهِمْ فِي يَدِهِ انْتَهَى. وَتَظَافَرَتْ هَذِهِ النُّقُولُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إِنَّمَا جَاءَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ يَأْنَفُ مِنَ

_ (1) سورة سورة النساء: 4/ 3.

الْإِحْسَانِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ اتِّصَافُهُ بِتَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَسَاقَهُمَا غَيْرُ هَذَا الْمَسَاقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ وَالتَّحَفِّي بِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْشَأَ عَنْ مَنِ اتَّصَفَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَجِدَ فِي نَفْسِهِ زَهْوًا وَخُيَلَاءَ، وَافْتِخَارًا بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَكَثِيرًا مَا افْتَخَرَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ وَتَعَاظَمَتْ فِي نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا بِهِ، فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى التَّحَلِّي بِصِفَةِ التَّوَاضُعِ، وَأَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ شفوقا عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَفْخَرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى «1» فَنَفَى تَعَالَى مَحَبَّتَهُ عَنِ الْمُتَحَلِّي بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى الوالدين. ومن ذكر معهما: وَنُهُوا عَنِ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَخْتَالُوا وَتَفْخَرُوا عَلَى مَنْ أَحْسَنْتُمْ إِلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا. إِلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبْتَدَأً مُقْتَطَعًا مِمَّا قَبْلَهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ فَيَأْتِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَيَأْتِي إِعْرَابُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وحضرمي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ بَخِلُوا بِالْإِعْلَامِ بِأَمْرِ محمد صلى الله عليه وسلّم، وَكَتَمُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرُوا بِالْبُخْلِ عَلَى جِهَتَيْنِ: أَمَرُوا أَتْبَاعَهُمْ بِجُحُودِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا لِلْأَنْصَارِ: لِمَ تُنْفِقُونَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَتَفْتَقِرُونَ؟ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَعَلَى اخْتِلَافِ سَبَبِ النُّزُولِ اخْتَلَفَ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمَعْنَى بِالَّذِينِ يَبْخَلُونَ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَبْخَلُ وَيَأْمُرُ بِالْبُخْلِ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ. وَالْبُخْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَنْعُ السَّائِلِ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ الْمَسْئُولِ مِنَ الْمَالِ، وَعِنْدَهُ فضل. قال طاووس: الْبُخْلُ أَنْ يَبْخَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَالشُّحُّ أَنْ يَشُحَّ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَالْبُخْلُ فِي الشَّرِيعَةِ، هُوَ مَنْعُ الْوَاجِبِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَمْ يُرِدِ الْبُخْلَ بِالْمَالِ، بَلْ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ نَفْعٌ لِلْغَيْرِ انْتَهَى. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُمَا مِنَ المحتاجين على

_ (1) سورة البقرة: 2/ 264.

سَبِيلِ ابْتِدَاعِ أَمْرِ اللَّهِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يُقْدِمُ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى أَفْرَطَ فِي ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالْبُخْلِ. وَالثَّانِي: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ، لَا لِغَرَضِ أَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالِهِ وَطَاعَتِهِ. وَذَمَّ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ بِأَنْ أَعْقَبَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ، وَأَعْقَبَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً «1» . وَالْبُخْلُ أَنْوَاعٌ: بُخْلٌ بِالْمَالِ، وَبُخْلٌ بِالْعِلْمِ، وَبُخْلٌ بِالطَّعَامِ، وَبُخْلٌ بِالسَّلَامِ، وَبُخْلٌ بِالْكَلَامِ، وَبُخْلٌ عَلَى الْأَقَارِبِ دُونَ الْأَجَانِبِ، وبخل بالجاه، وكلها نقائص وَرَذَائِلُ مَذْمُومَةٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي مَدْحِ السَّمَاحَةِ وَذَمِّ الْبُخْلِ مِنْهَا: «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ» وَظَاهِرُ قَوْلِهِ بِالْبُخْلِ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَيَأْمُرُونَ، كَمَا تَقُولُ: أَمَرْتُ زَيْدًا بِالصَّبْرِ، فَالْبُخْلُ مَأْمُورٌ بِهِ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ مَحْذُوفٌ، وَالْبَاءُ فِي بِالْبُخْلِ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِشُكْرِهِمْ مَعَ الْتِبَاسِهِمْ بِالْبُخْلِ، فَيَكُونُ نَحْوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: أَجْمَعْتَ أَمْرَيْنِ ضَاعَ الْحَزْمُ بَيْنَهُمَا ... تِيهَ الْمُلُوكِ وَأَفْعَالَ الْمَمَالِيكِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْبُخْلِ بِضَمِّ الْبَاءِ وسكون الخاء. وعيسى بن عمر والحسن: بضمهما. وحمزة الْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِهِمَا، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وقتادة وَجَمَاعَةٌ. بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَسُكُونِ الْخَاءِ. وَهِيَ كُلُّهَا لُغَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَخَلُ مُثَقَّلَةً لِأَسَدٍ، وَالْبُخْلُ خَفِيفَةً لِتَمِيمٍ، وَالْبُخْلُ لِأَهْلِ الْحِجَازِ. وَيُخَفِّفُونَ أَيْضًا فَتَصِيرُ لُغَتُهُمْ وَلُغَةُ تَمِيمٍ وَاحِدَةً، وَبَعْضُ بَكْرِ بن وائل بقولون الْبَخْلَ قَالَ جَرِيرٌ: تُرِيدِينَ أن ترضي وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ ... وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْضِي الْأَخِلَّاءَ بِالْبَخْلِ وَأَنْشَدَنِي الْمُفَضَّلُ: وَأَوْفَاهُمْ أَوَانَ بَخْلٍ وَيُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ بِفَتْحَتَيْنِ وَضَمَّتَيْنِ: وَإِنَّ امْرَأً لَا يُرْتَجَى الْخَيْرُ عِنْدَهُ ... لَذُو بَخَلٍ كُلٌّ عَلَى مَنْ يُصَاحِبُ وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، فَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنَ كَانَ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِ مُخْتَالًا فَخُورًا. أَفْرَدَ اسْمَ كَانَ، وَالْخَبَرَ عَلَى لَفْظِ من، وجمع الذين

_ (1) سورة النساء: 4/ 38.

حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الذَّمِّ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَنْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذَا الْوَجْهَ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ الَّذِينَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَخُورًا، وَهُوَ قَلِقٌ. فَهَذِهِ سِتَّةُ أَوْجُهٍ يَكُونُ فِيهَا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَيَكُونُ الْبَاخِلُونَ مَنْفِيًّا عَنْهُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ الآية إذن فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: أَحْسِنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مَنْ سَمَّى اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ فِيهِ الْخِلَالُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَهِيَ: الْخُيَلَاءُ، وَالْفَخْرُ، وَالْبُخْلُ، وَالْأَمْرُ بِهِ، وَكِتْمَانُ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ وَالْمَالِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ: أَهُوَ مَحْذُوفٌ؟ أَمْ مَلْفُوظٌ بِهِ؟ فَقِيلَ: هُوَ مَلْفُوظٌ بِهِ وَهُوَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها «1» وَيَكُونُ الرَّابِطُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ لَهُمْ، أَوْ لَا يَظْلِمُهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَنْتَظِمُ مَعَ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَاهُ: انْتِظَامًا وَاضِحًا لِأَنَّ سِيَاقَ الْمُبْتَدَأِ وَمَا عُطِفَ عليه ظاهرا مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، بَلْ مَسَاقُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ إِخْبَارًا عَنْ عَدْلِهِ وَعَنْ فَضْلِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَفْعَلُونَ وَيَصْنَعُونَ أَحِقَّاءُ بِكُلِّ مَلَامَةٍ. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُعَذَّبُونَ أَوْ مُجَازَوْنَ وَنَحْوَهُ. وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: أُولَئِكَ قُرَنَاؤُهُمُ الشَّيْطَانُ، وَقَدَّرَهُ أَيْضًا: مُبْغَضُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَافِرُونَ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ «2» فَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَ الْخَبَرِ مِمَّا يَقْتَضِي كُفْرًا حَقِيقَةً كَتَفْسِيرِهِمُ الْبُخْلَ بِأَنَّهُ بُخْلٌ بِصِفَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِإِظْهَارِ نُبُوَّتِهِ. وَالْأَمْرُ بِالْبُخْلِ لِأَتْبَاعِهِمْ أَيْ: بِكِتْمَانِ ذَلِكَ، وَكَتْمِهِمْ مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّوْرَاةُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ، كَانَ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ، حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَ الْخَبَرِ كُفْرَ نِعْمَةٍ كَتَفْسِيرِهِمْ: أَنَّهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ كُفْرَ نِعْمَةٍ وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ مُنَاسِبٌ مِنَ الْآيَةِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ. وَقَوْلِ الزَّجَّاجِ: فِي الْكُفَّارِ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ سَبَبُ النُّزُولِ الْمُتَقَدِّمُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْبُخْلِ وَالْأَمْرِ بِهِ، وَالْكِتْمَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ: أَيْ أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا. وَالْعَتِيدُ: الْحَاضِرُ الْمُهَيَّأُ وَالْمَهِينُ الَّذِي فِيهِ خِزْيٌ وَذُلٌّ، وَهُوَ أَنَكَى وَأَشُدُّ عَلَى المعذب.

_ (1) سورة النساء: 4/ 40. (2) سورة النساء: 4/ 37.

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» وَهُنَا: وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُنَاكَ: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قَالَ السُّدِّيُّ، وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَالْجُمْهُورُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَإِنْفَاقُهُمْ هُوَ إِعْطَاؤُهُمُ الزَّكَاةَ، وَإِخْرَاجُهُمُ الْمَالَ فِي السَّفَرِ لِلْغَزْوِ رِئَاءً وَدَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، لَا إِيمَانًا وَلَا حُبًّا فِي الدِّينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمُقَاتِلٌ، ومجاهد: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَضَعَّفَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَوَجَّهَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا عَلَى مَا يَنْبَغِي جَعَلَ إِيمَانَهُمْ كَلَا إِيمَانٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ. وَقِيلَ: هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. وَإِنْفَاقُ الْيَهُودِ هُوَ مَا أَعَانُوا بِهِ قُرَيْشًا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَغَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَإِنْفَاقُ مُشْرِكِي مَكَّةَ هُوَ مَا كَانَ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبِهِمُ الِانْتِصَارَ. وَفِي إِعْرَابِ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، وَيُقَدَّرُ: مُعَذَّبُونَ، أَوْ قَرِينُهُمُ الشَّيْطَانُ، وَيَكُونُ الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ مَجْرُورًا قَالَهُ: الطَّبَرِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، فَيَكُونُ إِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ. وَالْعَطْفُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ من عطف المفردات. ورئاء مَصْدَرُ رَاءَ، أَوِ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أجله، وفيه شروطه فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ غَيْرَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا يُؤْمِنُونَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، فَيَكُونُ صِلَةً. وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ بِمَعْمُولٍ لِلصِّلَةِ، إِذِ انْتِصَابُ رِئَاءَ عَلَى وجهيه بينفقون. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: وَلَا يُؤْمِنُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ أَيْ: غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا يُنْفِقُونَ أَيْضًا. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ: أَنَّهُ يَجُوزُ انْتِصَابُ رِئَاءَ عَلَى الْحَالِ مِنْ نَفْسِ الْمَوْصُولِ لَا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُنْفِقُونَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَلَا يُؤْمِنُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ، وَلَا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يُنْفِقُونَ، لِمَا يُلْزَمُ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ أَبِعَاضِ الصِّلَةِ، أَوْ بَيْنَ مَعْمُولِ الصِّلَةِ بِأَجْنَبِيٍّ وَهُوَ رِئَاءَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْحَالِ مِنْ نَفْسِ الْمَوْصُولِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَا يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفٌ. وَهَذَا وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ. وَتُعَلُّقُ رِئَاءَ بِقَوْلِهِ: يُنْفِقُونَ وَاضِحٌ، إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، أَوِ الْحَالِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ. وَتَكْرَارُ لَا وَحَرْفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُفِيدٌ لِانْتِفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. لأنك إذا قلت:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 264. [.....]

لَا أَضْرِبُ زَيْدًا وَعَمْرًا، احْتَمَلَ أَنْ لَا تَجْمَعُ بَيْنَ ضَرْبَيْهِمَا. وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ: بَلْ أَحَدَهُمَا. وَاحْتَمَلَ نَفْيَ الضَّرْبِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، وَعَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ. فَإِذَا قُلْتَ: لَا أَضْرِبُ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا، تَعَيَّنَ هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي الَّذِي كَانَ دُونَ تَكْرَارِ. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنِ اتَّصَفَ بِالْبُخْلِ وَالْأَمْرِ بِهِ، وَكِتْمَانِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِنْفَاقِ رِئَاءً، وَانْتِفَاءَ إِيمَانِهِ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ نَتَائِجِ مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ وَمُخَالَطَتِهِ وَمُلَازَمَتِهِ لِلْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا شَرٌّ مَحْضٌ، إِذْ جَمَعَتْ بَيْنَ سُوءِ الِاعْتِقَادِ الصَّادِرِ عَنْهُ الْإِنْفَاقُ رِئَاءً، وَسَائِرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ. وَلِذَلِكَ قَدَّمَ تِلْكَ الْأَوْصَافَ وَذَكَرَ مَا صَدَرَتْ عَنْهُ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ بِالْمُوجِدِ، وَبِدَارِ الْجَزَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ. وَالْقَرِينُ هُنَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، كَالْجَلِيسِ وَالْخَلِيطِ أَيِ: الْمُجَالِسُ وَالْمُخَالِطُ. وَالشَّيْطَانُ هُنَا جِنْسٌ لَا يُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ وَحْدَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «1» وَلَهُ متعلق بقرينا أَيْ: قَرِينًا لَهُ. وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَسَاءَ هُنَا هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى بِئْسَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ، وَفَاعِلُهَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ ضَمِيرٌ عَامٌّ، وَقَرِينًا تَمْيِيزٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْعَائِدُ عَلَى الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ قَرِينٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَاءَ هُنَا هِيَ الْمُتَعَدِّيَةُ وَمَفْعُولُهَا مَحْذُوفٌ وَقَرِينًا حَالَ، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَكُونُ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا فَلَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ، أَوْ تَدْخُلُهُ مَصْحُوبَةً بِقَدْ. وَقَدْ جَوَّزُوا انْتِصَابَ قَرِينًا عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَبُولِغَ فِي ذَمِّ هَذَا الْقَرِينِ لِحَمْلِهِ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا لَهُمْ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُقْرَنُ بِهِمْ فِي النَّارِ انْتَهَى. فَتَكُونُ الْمُقَارَنَةُ إِذْ ذَاكَ فِي الْآخِرَةِ يُقْرَنُ بِهِ فِي النَّارِ فَيَتَلَاعَنَانِ وَيَتَبَاغَضَانِ كَمَا قَالَ: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ «2» وإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ «3» . وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذِهِ المقاربة هِيَ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ «4» ونُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «5» وقالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ «6» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَنَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا «7» وَذَلِكَ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ بَدَلًا حَالٌ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. والذي قاله

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 36. (2) سورة ابراهيم: 14/ 49. (3) سورة الفرقان: 25/ 13. (4) سورة فصلت: 41/ 25. (5) سورة الزخرف: 43/ 36. (6) سورة ق: 50/ 27. (7) سورة الكهف: 18/ 50.

[سورة النساء (4) : آية 39]

الطَّبَرِيُّ صَحِيحٌ، وَبَدَلًا تَمْيِيزٌ لَا حَالٌ، وَهُوَ مُفَسِّرٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي بِئْسَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هُمْ أَيِ الشَّيْطَانُ وَذُرِّيَّتُهُ. وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى إِعْرَابِ الْمَنْصُوبِ بَعْدَ نِعْمَ وَبِئْسَ حَالًا الْكُوفِيُّونَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. [سورة النساء (4) : آية 39] وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مُلْتَحِمٌ لُحْمَةً وَاحِدَةً، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ: ذَمُّهُمْ وَتَوْبِيخُهُمْ وَتَجْهِيلُهُمْ بِمَكَانِ سَعَادَتِهِمْ، وَإِلَّا فَكَلُّ الْفَلَاحِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِمَا ذَكَرَ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ، وَتَكُونُ لَوْ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ لَحَصَلَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُثْبِتُ أَنَّ لَوْ تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً فِي مَعْنَى: أَنْ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ أَنْ آمَنُوا، أَيْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَلَا جَوَابَ لَهَا إِذْ ذَاكَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَمَاذَا عَلَيْهِ إِنْ ذُكِّرْتُ أَوَانِسَا ... كَغِزْلَانِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أَقْيَالِ قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ، مُسْتَقِلًّا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا بَعْدَهُ، بَلْ مَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ. أَيْ: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ بِاتِّصَافِهِمْ بِالْبُخْلِ وَتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَقَالَ: لَوْ آمَنُوا، وَحَذَفَ جَوَابَ لَوْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَوَابُ لَوْ فِي قَوْلِهِ: مَاذَا، فَهُوَ جَوَابٌ مُقَدَّمٌ انْتَهَى. فَإِنْ أَرَادَ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ فَلَيْسَ مُوَافِقًا لِكَلَامِ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَقَعُ جَوَابَ لَوْ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَكْرَمْتُكَ لَوْ قَامَ زَيْدٌ، إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حُمِلَ عَلَى أن أَكْرَمْتُكَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَابِ، لَا جَوَابٌ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ. وَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَيُمْكِنُ مَا قَالَهُ. وَمَاذَا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَالْخَبَرُ فِي عَلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ الِاسْتِفْهَامَ، وذا بِمَعْنَى الَّذِي وَهُوَ الْخَبَرُ، وَعَلَيْهِمْ صِلَةُ ذَا. وَإِذَا كَانَ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ مُتَعَلِّقَاتِ قَوْلِهِ: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ، كَانَ فِي ذَلِكَ تَفَجُّعٌ عَلَيْهِمْ وَاحْتِيَاطٌ وَشَفَقَةٌ، وَقَدْ تَعَلَّقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ أَهَّلِ الْجَبْرِ،

لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَطِيعِينَ لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِنْفَاقِ لَمَا أَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ، لِأَنَّ عُذْرَهُمْ وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَمَكِّنِينَ مِمَّا دُعُوا إِلَيْهِ، وَلَا قَادِرِينَ، كَمَا لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ أَبْصَرَ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا. وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَطَعَ عُذْرَهُمْ فِي فِعْلِ مَا كَلَّفَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ فِعْلِهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمَذَاهِبُ فِي هَذَا أَرْبَعَةٌ كَمَا تَقَرَّرَ: الْجَبْرِيَّةُ، والقدرية، والمعتزلة، وَأَهْلُ السُّنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالِانْفِصَالُ عَنْ شُبْهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا هُوَ تَكَسُّبُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ وَإِقْبَالُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الِاخْتِرَاعُ فَاللَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِهِ انْتَهَى. وَلَمَّا وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ كَانَ فِيهِ التَّرَقِّي مِنْ وَصْفٍ قَبِيحٍ إِلَى أَقْبَحَ مِنْهُ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْبُخْلِ، ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِهِ، ثُمَّ بِكِتْمَانِ فَضْلِ اللَّهِ، ثُمَّ بِالْإِنْفَاقِ رِيَاءً، ثُمَّ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ وَتَلَطَّفَ فِي اسْتِدْعَائِهِمْ بَدَأَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ بِذَلِكَ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقَ أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِذْ بِهِ يَحْصُلُ نَفْيُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ مِنَ الْبُخْلِ، وَالْأَمْرِ بِهِ وَكِتْمَانِ فَضْلِ اللَّهِ وَالْإِنْفَاقِ رِئَاءَ النَّاسِ. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا وَتَنْبِيهًا عَلَى سُوءِ بَوَاطِنِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا أَخْفَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ. التَّكْرَارُ وَهُوَ فِي: نصيب مما اكتسبوا، ونصيب مِمَّا اكْتَسَبْنَ. وَالْجَلَالَةِ: فِي واسئلوا الله، إن الله، وحكما مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمًا مِنْ أهلها، وبعضكم عَلَى بَعْضٍ، وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَوْلِهِ: لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وأنفوا مما رزقهم الله وقرينا وساء قَرِينًا. وَالْجَلَالَةِ فِي: مِمَّا رزقهم الله، وكان اللَّهَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله، وفي: يبخلون وبالبخل. وَنَسَقُ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ فِي: قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ. وَالنَّسَقُ بِالْحُرُوفِ عَلَى طَرِيقِ ذِكْرِ الْأَوْكَدِ فَالْأَوْكَدِ فِي: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَمَا بَعْدَهُ. وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: نُشُوزَهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ، وَفِي: شِقَاقَ بينهما ويوفق اللَّهُ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: من أهله ومن أَهْلِهَا، وَفِي قَوْلِهِ: عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَالْإِبْهَامُ فِي قَوْلِهِ: به شيئا وإحسانا، وما ملكت فشيوع شيئا وإحسانا وما وَاضِحٌ. وَالتَّعْرِيضُ فِي: مُخْتَالًا فخورا. أعرض بِذَلِكَ إِلَى ذَمِّ الْكِبْرِ الْمُؤَدِّي لِلْبُعْدِ عَنِ الْأَقَارِبِ الْفُقَرَاءِ وَاحْتِقَارِهِمْ وَاحْتِقَارِ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِإِضَافَةِ الْمِلْكِ إِلَى الْيَمِينِ فِي:

[سورة النساء (4) : الآيات 40 إلى 43]

وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَالتَّمْثِيلُ: فِي وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. [سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 43] إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) الْمِثْقَالُ: مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ، وَمِثْقَالُ كُلِّ شَيْءٍ وَزْنُهُ، وَلَا تَظُنَّ أَنَّهُ الدِّينَارُ لَا غَيْرَ. الذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ: أَصْغُرُ مَا تَكُونُ إِذَا مَرَّ عَلَيْهَا حَوْلٌ، وَقِيلَ فِي وَصْفِهَا. الْحَمْرَاءُ. قِيلَ: إِذَا مَرَّ عَلَيْهَا حَوْلٌ صَغُرَتْ وَجَرَتْ. قَالَ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَقَالَ حَسَّانُ: لَوْ يَدُبُّ الْحَوْلِيُّ من ولد الذر ... ر عَلَيْهَا لَأَنْدَبَتْهَا الْكُلُومُ وَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الذَّرَّةُ رَأْسُ النَّمْلَةِ. وَقِيلَ عَنْهُ: أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التُّرَابِ وَرَفَعَهَا ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ، وَقَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ذَرَّةٌ. وَقِيلَ: كُلُّ جُزْءِ الْهَبَاءِ فِي الْكُوَّةِ ذَرَّةٌ. وَقِيلَ: الذَّرَّةُ هِيَ الْخَرْدَلَةُ. السُّكْرُ: انْسِدَادُ طَرِيقِ التَّمْيِيزِ بِشُرْبِ مَا يُسْكِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَكِرَتْ عَيْنُ الْبَازِي، إِذَا خَالَهَا النَّوْمُ. وَمِنْهُ: سَكِرَ النَّهْرُ إِذَا انْسَدَّتْ مَجَارِيهِ وَسَكِرْتُهُ أَنَا. وَالسُّكْرُ: أَيْضًا بِضَمِّ السِّينِ السَّدُّ. قَالَ: فَمَا زِلْنَا عَلَى الشُّرْبِ ... نُدَاوِي السُّكْرَ بِالسُّكْرِ

وَالسَّكَرُ: بِالْفَتْحِ مَا أَسْكَرَ، أَيْ مَنَعَ مِنَ التَّمْيِيزِ. الْغَائِطُ: مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَمْعُهُ غِيطَانُ. وَيُقَالُ: عَيْطٌ وَغَوْطٌ. وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّي: أَنَّ غَيْطًا فَعِيلٌ، إِذْ أَصْلُهُ عِنْدَهُ غَيِّطٌ مِثْلَ هَيِّنٍ وَسَيِّدٍ إِذَا أَخْفَفْتَهُمَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ فَعْلٌ. كَمَا أَنَّ غَوْطًا فَعْلٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ: غَاطَ يَغُوطُ وَيَغِيطُ، فَأَتَتْ بِهِ مَرَّةً فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَمَرَّةً فِي ذَوَاتِ الْوَاوِ. وَجَمَعُوا غَوْطًا عَلَى أَغْوَاطٍ وَيُقَالُ: تَغَوَّطَ إِذَا أَحْدَثَ وَغَاطَ فِي الْأَرْضِ يَغِيطُ وَيَغُوطُ غَابَ فِيهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ إِلَّا لِمَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ. وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ التَّبَرُّزَ ارْتَادَ غَائِطًا مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَتِرُ فِيهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، ثُمَّ قِيلَ: لِلْحَدَثِ. نَفْسِهِ غَائِطًا، كَمَا قِيلَ: سَالَ الْمِيزَانُ وَجَرَى النَّهْرُ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ: فِي الْخُصُومِ. وَقِيلَ: فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى وَبِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذَمِّ الْبُخْلِ وَالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ، ثُمَّ وَبَّخَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَلَمْ يُنْفِقْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ تَوْطِئَةً لِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِصِفَةِ عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَظْلِمُ أَدْنَى شَيْءٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وَضَرَبَ مَثَلًا لِأَحْقَرِ الْأَشْيَاءِ وَزْنَ ذَرَّةٍ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الِانْتِفَاءِ عَنِ الظُّلْمِ الْبَتَّةَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، أَنَّ الذَّرَّةَ لَهَا وَزْنٌ. وَقِيلَ: الذَّرَّةُ لَا وَزْنَ لَهَا، وَأَنَّهُ امْتَحَنَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَزْنٌ. وَإِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فَلِأَنْ لَا يَظْلِمُ فَوْقَ ذَلِكَ أَبْلَغُ، وَلَمَّا كَانَتِ الذَّرَّةُ أَصْغَرَ الْمَوْجُودَاتِ ضَرَبَ بِهَا الْمَثَلَ فِي الْقِلَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مِثْقَالَ نَمْلَةٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْحِ لِلذَّرَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ أَدْنَى شَيْءٍ وَأَصْغُرُهُ، أَوْ زَادَ فِي الْعِقَابِ، لَكَانَ ظُلْمًا. وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي الْحِكْمَةِ، لَا لِاسْتِحَالَتِهِ فِي الْقُدْرَةِ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطَعَمُ بِحَسَنَاتِهِ ما عمل بها فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بها» ويظلم يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَهُوَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَيَنْتَصِبُ مِثْقَالَ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: ظُلْمًا وَزَنَ ذَرَّةٍ، كَمَا تَقُولُ: لَا أَظْلِمُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَقِيلَ: ضُمِّنَتْ

مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَانْتَصَبَ مِثْقَالَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرِ: لَا يَنْقُصُ، أَوْ لا يغضب، أَوْ لَا يَبْخَسُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. حُذِفَتِ النون من تك لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ إِثْبَاتَ الْوَاوِ، لِأَنَّ الْوَاوَ إِنَّمَا حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنَّهُ إِذَا حُذِفَتْ تَرْجِعُ الْوَاوُ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِحَذْفِهَا قَدْ زَالَ. وَلِجَوَازِ حَذْفِهَا شَرْطٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ: أَنْ تُلَاقِيَ سَاكِنَانِ، فَإِنْ لَاقَتْهُ نَحْوَ: لَمْ يَكُنِ ابْنُكَ قَائِمًا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ ذَاهِبًا، لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا. وَأَجَازَهُ يُونُسُ، وَشَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْحَذْفِ دُخُولُ جَازِمٍ عَلَى مُضَارِعٍ مُعْرَبٍ مَرْفُوعٍ بِالضَّمَّةِ، فَلَوْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى نُونِ التَّوْكِيدِ، أَوْ نُونِ الْإِنَاثِ، أَوْ مَرْفُوعًا بِالنُّونِ، لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَسَنَةً بِالنَّصْبِ، فَتَكُونُ نَاقِصَةً، وَاسْمُهَا مُسْتَتِرٌ فِيهَا عَائِدٌ عَلَى مِثْقَالٍ. وَأَنَّثَ الْفِعْلَ لِعَوْدِهِ عَلَى مُضَافٍ إِلَى مُؤَنَّثٍ، أَوْ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مِثْقَالَ مَعْنَاهُ زِنَةٌ أَيْ: وَإِنْ تَكْ زِنَةَ ذَرَّةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْحَرَمِيَّانِ: حَسَنَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ تَكُ تَامَّةٌ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَقَعْ أَوْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ: يُضَعِّفْهَا مُشَدَّدَةً مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1» وفَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «2» . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ وَالطَّبَرِيُّ: ضَاعَفَ يَقْتَضِي مِرَارًا كَثِيرَةً، وَضَعَّفَ يَقْتَضِي مَرَّتَيْنِ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ يَقْتَضِي عَكْسَ هَذَا. لِأَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمِثْلِ، فَإِذَا شدّدت اقتضت البينة التَّكْثِيرَ فَوْقَ مَرَّتَيْنِ إِلَى أَقْصَى مَا يَزِيدُ مِنَ الْعَدَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُضَاعَفُ ثَوَابُهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا ضِدَّهُ الثَّوَابَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ. وَوَرَدَ تَضْعِيفُ الْحَسَنَةِ لِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَتَضْعِيفُ النَّفَقَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ بِالتَّضْعِيفِ أَلْفًا وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَلَا تَضَادَّ فِي ذَلِكَ، إِذِ الْمُرَادُ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ. وَإِنْ أُرِيدَ التَّحْدِيدُ فَلَا تَضَادَّ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَوْعُودَ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الْآيَةَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ أَحَدٍ، وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْمُهَاجِرِينَ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ لَدُنْهُ أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَمَّاهُ أَجْرًا لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأَجْرِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِثَبَاتِهِ. انْتَهَى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ الْأَجْرُ: هُنَا الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: لَا حَدَّ لَهُ ولا عد.

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 30. (2) سورة البقرة: 2/ 245.

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً هُوَ نَبِيُّهُمْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا فَعَلُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ «1» وَالْأُمَّةُ هُنَا مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمُ النبي مِنْ مُؤْمِنٍ بِهِ وَكَافِرٍ. لَمَّا أَعْلَمَ تَعَالَى بِعَدْلِهِ وَإِيتَاءِ فَضْلِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ نُبِّهَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَحْضُرُونَهَا لِلْجَزَاءِ وَيَشْهَدُ عليهم فيها. وكيف فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ إِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ مُبْتَدَأً التَّقْدِيرُ: فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمْ، أَوْ كَيْفَ صُنْعُهُمْ. وَهَذَا الْمُبْتَدَأُ هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ فِعْلًا أَيْ: فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ، أَوْ كَيْفَ يَكُونُونَ. وَالْفِعْلُ أَيْضًا هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيٍّ: أَنَّ الْعَامِلَ فِي كَيْفَ جِئْنَا. قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ، وَالتَّقْرِيعِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى أُمَّةِ الرَّسُولِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: إِلَى الْمُكَذِّبِينَ وَشَهَادَتُهُ بِالتَّبْلِيغِ لِأُمَّتِهِ قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ. أَوْ بِإِيمَانِهِمْ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ بِأَعْمَالِهِمْ قاله: مجاهد وقتادة. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: وَجِئْنَا بِكَ لِهَؤُلَاءِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجِيُّ: يَشْهَدُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَحُذِفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ لِجَرَيَانِ ذِكْرِهِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فَاخْتُصِرَ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ عَلَى أُمَّتِهِ. وَظَاهِرُ الْمُقَابَلَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ إِلَّا وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ مُكَذِّبِينَ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَكَذَلِكَ حِينَ قَرَأَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ وَبُكَاؤُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هُوَ إِشْفَاقٌ عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةٌ لَهُمْ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَجِئْنَا بِكَ، أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: حَالٌ عَلَى تَقْدِيرِ قَدْ أَيْ وَقَدْ جِئْنَا. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ التَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ هُوَ تَنْوِينُ الْعِوَضِ، حُذِفَتِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ وَعُوِّضَ مِنْهَا هَذَا التَّنْوِينُ، وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذْ جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَّرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ أَيْ: كَفَرُوا بِاللَّهِ وَعَصَوْا رَسُولَهُ. وَالرَّسُولُ: هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ عِوَضًا مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُبْرِزَ ظَاهِرًا، وَلَمْ يَأْتِ وَعَصَوْكَ لِمَا في ذكر

_ (1) سورة المائدة: 5/ 117.

الرَّسُولِ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّنْوِيهِ بِالرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ مَا تَحَمَّلَهَا الْإِنْسَانُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هِيَ سَبَبُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَالْعَامِلَ فِي: يَوْمَ يَوَدُّ. وَمَعْنَى يَوَدُّ: يَتَمَنَّى. وَظَاهَرُ وَعَصَوْا أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى كَفَرُوا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مَوْصُولٍ آخَرَ أَيْ: وَالَّذِينَ عَصَوْا فَهُمَا فِرْقَتَانِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ أَيْ: كَفَرُوا وَقَدْ عَصَوُا الرَّسُولَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ مَبْنِيًّا مَعَ إِذْ، لِأَنَّ الظَّرْفَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ جَازَ بِنَاؤُهُ مَعَهُ. وإذ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمٌ لَيْسَتْ بِظَرْفٍ، لِأَنَّ الظُّرُوفَ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهَا خَرَجَتْ إِلَى مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ مِنْ أَجْلِ تَخْصِيصِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا، كَمَا تُخَصَّصُ الْأَسْمَاءُ، وَمَعَ اسْتِحْقَاقِهَا الْجَرَّ، وَالْجَرُّ لَيْسَ مِنْ عَلَامَاتِ الظُّرُوفِ انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ جَيِّدٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَعَصَوُا الرَّسُولَ بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو السَّمَّالِ: وَعَصَوُا الرَّسُولَ بِكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وعاصم: تُسَوَّى بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مُضَارِعُ سَوَّى. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ تَتَسَوَّى، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ، وَهُوَ مُضَارِعُ تَسَوَّى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَسَوَّى بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ، إِذْ أَصْلُهُ تَتَسَوَّى وَهُوَ مُضَارِعُ تَسَوَّى. فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَتَسَوَّى وَتُسَوَّى فَتَكُونُ الْأَرْضُ فَاعِلَةً. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ لَوْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَيَكُونُونَ فِيهَا، وَتَتَسَوَّى هِيَ فِي نَفْسِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ لَوْ تُسَوَّى هِيَ مَعَهُمْ فِي أَنْ يَكُونُوا تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ، فَجَاءَ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ هِيَ الْمُسَوِّيَةُ مَعَهُمْ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُمْ يَسْتَوُونَ مَعَ الْأَرْضِ. فَفِي اللَّفْظِ قَلْبٌ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِهِمْ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: تُسَوَّى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ يُدْفَنُونَ فَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ كَمَا تُسَوَّى بِالْمَوْتَى، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ تُعْدَلُ بِهِمُ الْأَرْضُ أَيْ: يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا عَلَيْهَا فِدْيَةً. وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ، وَمَفْعُولُ يَوَدُّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ بِهِمْ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ. وَلَوْ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ: لَسُرُّوا بِذَلِكَ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ يَوَدُّ عَلَيْهِ. وَمَنْ أَجَازَ فِي لَوْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مِثْلَ أَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ هُنَا، وَكَانَتْ إِذْ ذَاكَ لَا جَوَابَ لَهَا، بَلْ تَكُونُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ يَوَدُّ. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ: وَدُّوا إِذْ فَضَحَتْهُمْ

جَوَارِحُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُمُوا اللَّهَ شِرْكَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ لَمْ يَكْتُمُوا اللَّهَ شَيْئًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقِيَامَةُ مَوَاقِفُ، فَفِي مَوْطِنٍ يَعْرِفُونَ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ وَيَسْأَلُونَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا، وَفِي مَوْطِنٍ يَكْتُمُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا يتعلق بقوله: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِتْمَانِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: وَدُّوا لَوْ سُوِّيَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُمُوا اللَّهَ حَدِيثًا. وَقِيلَ: لَمْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ طَاعَةٌ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ الْقَاضِي: أَخْبَرُوا بِمَا تَوَهَّمُوا، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا. وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ يَوَدُّ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ قَوْلُهُمْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمْرُ الرَّسُولِ وَنَعْتُهُ وَبَعْثُهُ، وَهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالدُّنْيَا انْتَهَى. مَا لُخِّصَّ مِنْ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مُلَخَّصُهُ: اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ حَدِيثًا لِنُطْقِ جَوَارِحِهِمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَبْتُمْ، ثُمَّ تَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ فَلَا تَكْتُمُ حَدِيثًا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلَهُ: إِلَّا أَنَّهَا قَالَتِ: اسْتَأْنَفَ لِيُخْبِرَ أَنَّ الْكَتْمَ لَا يَنْفَعُ وَإِنْ كَتَمُوا لَعَلِمَ اللَّهُ جَمِيعَ أَسْرَارِهِمْ، فَالْمَعْنَى: لَيْسَ ذَلِكَ الْمَقَامُ الْهَائِلُ مَقَامًا يَنْفَعُ فِيهِ الْكَتْمُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ، أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَتْمَ لَا يَقَعُ بِوَجْهٍ، وَالْآخَرُ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَتْمَ لَا يَنْفَعُ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا مَجْلِسٌ لَا يُقَالُ فِيهِ بَاطِلٌ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَلَا يَسْتَمِعُ إِلَيْهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْكَلَامُ كُلُّهُ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى: وَيَوَدُّونَ أَنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا. وَوَدُّهُمْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَدَمٌ عَلَى كَذِبِهِمْ حِينَ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هِيَ مَوَاطِنُ وَفِرَقٌ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِتْمَانِهِ، لِأَنَّ جَوَارِحَهُمْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ يَوَدُّونَ أَنْ يُدْفَنُوا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وَلَا يَكْذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ وَجَحَدُوا شِرْكَهُمْ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ، وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ. فَلِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَتَلَخَّصُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَكْتُمُونَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْحَالِ، أَوْ لِلْعَطْفِ فَإِنْ كَانَتْ لِلْحَالِ كَانَ الْمَعْنَى:

أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوَدُّونَ إِنْ كَانُوا مَاتُوا وَسُوِّيَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، غَيْرَ كَاتِمِينَ اللَّهَ حَدِيثًا، فَهِيَ حَالٌ مِنْ بِهِمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا تُسَوَّى. وَهَذِهِ الْحَالُ عَلَى جَعْلِ لَوْ مَصْدَرِيَّةً بِمَعْنَى أَنْ، وَيَصِحُّ أَيْضًا الْحَالُ عَلَى جَعْلِ لَوْ حَرْفًا لِمَا سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، أَيْ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ غَيْرَ كَاتِمِينَ اللَّهَ حَدِيثًا لَكَانَ بُغْيَتَهَمْ وَطِلْبَتَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْعَامِلُ يَوَدُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ لَوْ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ كَانُوا سُوِّيَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ غَيْرَ كَاتِمِينَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْحَالُ قَيْدًا فِي الْوِدَادَةِ. أَيْ تَقَعُ الْوِدَادَةُ مِنْهُمْ لِمَا ذُكِرَ فِي حَالِ انْتِفَاءِ الْكِتْمَانِ، وَهِيَ حَالَةُ إِقْرَارِهِمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ فِي مَوْطِنٍ دُونَ مَوْطِنٍ، إِذْ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَلَوْ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَالِ، وَعَامِلِهَا بِالْجُمْلَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي: وَلَا يَكْتُمُونَ، لِلْعَطْفِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَمِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ كَانَ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى مَفْعُولِ يَوَدُّ أَيْ: يَوَدُّونَ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ بِهِمْ وَانْتِفَاءَ الْكِتْمَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ الْكِتْمَانِ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ عُطِفَ عَلَى مَفْعُولِ يَوَدُّ الْمَحْذُوفِ، وَلَوْ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يَوَدُّ، أَيْ: يَوَدُّونَ كَذَا وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِخَبْرَيْنِ الْوِدَادَةِ وَانْتِفَاءِ الْكِتْمَانِ، وَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْكِتْمَانِ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ يَوَدُّ مَحْذُوفًا كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَوْ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَكْتُمُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى لَوْ وَمُقْتَضِيَتُهَا، وَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِثَلَاثِ جُمَلٍ: جُمْلَةِ الْوِدَادَةِ، وَالْجُمْلَةِ التَّعْلِيقِيَّةِ مِنْ لَوْ وَجَوَابِهَا، وَجُمْلَةِ انْتِفَاءِ الْكِتْمَانِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ رُوِيَ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ شَرِبُوا الْخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَحَانَتْ صَلَاةٌ، فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ فَقَرَأَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَخَلَطَ فِيهَا فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْلِ عُمَرَ ثَانِيًا: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، وَكَانُوا يَتَحَامَوْنَهَا أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، فَإِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا، فَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُمُ السُّكْرُ، إِلَى أَنْ سَأَلَ عُمَرُ ثَالِثًا فَنَزَلَ تَحْرِيمُهَا مُطْلَقًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ: إِنَّ قَوْلَهُ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ

فَاغْسِلُوا «1» الْآيَةَ أَيْ أُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَزُولَ السُّكْرُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَأُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ نُسِخَ شُرْبُ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوهُ «2» وَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي إِبَاحَةِ الْخَمْرِ فَلَا تَكُونُ مَنْسُوخَةً، وَلَا أَبَاحَ بَعْدَ إِنْزَالِهَا مُجَامَعَةَ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ. وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَفْهُومَ الْخِطَابِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السُّكْرِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ قُرْبَانُ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَنُسِخَ مَا فُهِمَ مِنْ جَوَازِ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَأَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَذَمَّ الْبُخْلَ وَاسْتَطْرَدَ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ تَخْلِيطٌ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الْعِبَادَةِ بِسَبَبِ شُرْبِ الْخَمْرِ، نَاسَبَ أَنْ تَخْلُصَ الصَّلَاةُ مِنْ شَوَائِبِ الْكَدَرِ الَّتِي يُوقِعُهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، فَأَمَرَ تَعَالَى بِإِتْيَانِهَا عَلَى وَجْهِهَا دُونَ مَا يُفْسِدُهَا، لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ إِخْلَاصِ عِبَادَةِ الْحَقِّ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلصَّاحِينَ، لِأَنَّ السَّكْرَانَ إِذَا عَدِمَ التَّمْيِيزَ لِسُكْرِهِ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ، لَكِنَّهُ مُخَاطَبٌ إِذَا صَحَا بِامْتِثَالِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَبِتَكْفِيرِهِ مَا أَضَاعَ فِي وَقْتِ سُكْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَرَّرَ تَكْلِيفُهُ إِيَّاهَا قَبْلَ السُّكْرِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ. وَبَالَغَ تَعَالَى فِي النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ سَكْرَانُ بِقَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لِأَنَّ النهي عن قربان الصلاة أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَمِنْهُ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى «3» وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ «4» وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «5» وَالْمَعْنَى: لَا تَغُشُّوا الصَّلَاةَ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي عَابِرِي سَبِيلٍ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَوَاضِعُ الصَّلَاةِ هِيَ الْمَسَاجِدُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ» . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَأَنْتُمْ سُكَارَى مِنَ الْخَمْرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ السُّكْرُ من النوم، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ» وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَأَنْتُمْ سُكَارَى إذا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 6. (2) سورة المائدة: 5/ 9. (3) سورة الإسراء: 17/ 32. (4) سورة الأنعام: 6/ 151. [.....] (5) سورة الأنعام: 6/ 152.

كُنْتُمْ حَاقِنِينَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ حَاقِنٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَهُوَ ضَامٌّ فَخِذَيْهِ» وَاسْتُضْعِفَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَعَبِيدَةَ وَاسْتُبْعِدَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُمَا صَحِيحُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْمُصَلِّي الْإِقْبَالُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ، بِصَرْفِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُشَوِّشُ عَلَيْهِ وَتُقِلُّ خُشُوعَهُ مِنْ: نَوْمٍ، وَحُقْنَةٍ، وَجُوعٍ، وَغَيْرِهِ مِمَّا يَشْغَلُ الْبَالَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السُّكْرِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ وَأَوْقَاتُ السُّكْرِ لَيْسَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَهُمْ وَلَا بِمُقَدَّرَةٍ، لِأَنَّ السُّكْرَ قَدْ يَقَعُ تَارَةً بِالْقَلِيلِ وَتَارَةً بِالْكَثِيرِ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَرَّرْ وَقْتُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ تَرَكُوا الشُّرْبَ احْتِيَاطًا لِأَدَاءِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَوَاتِ. وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ الشَّارِبِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ سُكْرُهُ الْكَثِيرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُكْرُهُ الْقَلِيلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُكَارَى بِضَمِّ السِّينِ. وَاخْتَلَفُوا: أَهْوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ؟ أَمِ اسْمُ جَمْعٍ؟ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي حَدِّ تَكْسِيرِ الصِّفَاتِ: وَقَدْ يُكَسِّرُونَ بَعْضَ هَذَا عَلَى فُعَالَى، وَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: سُكَارَى وَعُجَالَى. فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ عَلَى أن فعلى جَمْعٌ. وَوَهِمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَاذِشِ فَنَسَبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ جَمْعٌ، وَأَنَّ سِيبَوَيْهِ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْأَبْنِيَةِ. قَالَ ابْنُ الْبَاذِشِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى بِنَاءٍ لم يجيء عَلَيْهِ جَمْعٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْأَبْنِيَةِ إِلَّا نَصُّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ تَكْسِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَيَكُونُ فُعَالَى فِي الِاسْمِ نَحْوَ حُبَارَى وَسُمَانَى وَكُبَارَى، وَلَا يَكُونُ وَصْفًا، إِلَّا أَنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ لِلْجَمْعِ نَحْوَ عُجَالَى وَسُكَارَى وَكُسَالَى. وَحَكَى السِّيرَافِيُّ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ، وَرَجَّحَ أَنَّهُ تَكْسِيرٌ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: سُكَارَى بِفَتْحِ السِّينِ نَحْوَ نَدْمَانَ وَنَدَامَى، وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: سَكْرَى، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِوَاحِدَةٍ مُؤَنَّثَةٍ كَامْرَأَةٍ سَكْرَى، وَجَرَى عَلَى جَمَاعَةٍ إِذْ مَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ جَمَاعَةٌ سَكْرَى. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هُوَ جَمْعُ سَكْرَانَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى كَقَوْلِهِ: رَوْبَى نِيَامًا وَكَقَوْلِهِمْ: هَلْكَى وَمَيْدَى جَمْعُ هَالِكٍ وَمَائِدٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: سُكْرَى بِضَمِّ السِّينِ عَلَى وَزْنِ حُبْلَى، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمَاعَةٍ أَيْ: وَأَنْتُمْ جَمَاعَةٌ سُكْرَى. وَحَكَى جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: كَسْلَى وَكُسْلَى بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمَعْنَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ: حَتَّى تَصْحُوا فَتَعْلَمُوا. جَعَلَ غَايَةَ السَّبَبِ وَالْمُرَادُ السَّبَبُ، لِأَنَّهُ مَا دَامَ سَكْرَانُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ عُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وطاووس، وعطاء، والقاسم، وربيعة، والليث، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ أَجْمَعُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى

أَنَّ طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ لَا يَجُوزُ، وَالسَّكْرَانُ مَعْتُوهٌ كَالْمُوَسْوِسِ، مَعْتُوهٌ بِالْوَسْوَاسِ. وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ طَلَاقَ مَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبِنْجِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ سَكِرَ مِنَ الشَّرَابِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: أَنَّ طَلَاقَهُ نَافِذٌ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي حَنِيفَةَ، والثوري، والأوزاعي. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَفْعَالُهُ وَعُقُودُهُ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ كَأَفْعَالِ الصَّاحِي إِلَّا الرِّدَّةَ، فَإِنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ لَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ مُرْتَدًّا فِي حَالِ سُكْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ، وَلَا يَسْتَتِيبُهُ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَأَلْزَمَ مَالِكٌ السَّكْرَانَ الطَّلَاقَ وَالْقَوَدَ فِي الْجِرَاحِ وَالْعَقْلَ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ النِّكَاحَ وَالْبَيْعَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ رُوِيَتْ عِنْدَنَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلَا عِتَاقٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي السُّكْرِ. فَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ صَاحِبُهُ الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ قَالَهُ: جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ. فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ صَاحِبُهُ مَا يَقُولُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: السُّكْرُ اخْتِلَالُ الْعَقْلِ، فَإِذَا خَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ وَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْرِفُ حَدَّهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا تَغَيَّرَ عَقْلُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَهُوَ سَكْرَانُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ. قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى السُّكْرِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ أُبِيحَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَابِ مَا يُحَرِّكُ الطَّبْعَ إِلَى السَّخَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَأَمَّا مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ حَتَّى يَصِيرَ صَاحِبُهُ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ فَمَا أُبِيحَ قَصْدُهُ، بَلْ لَوْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَانَ مَرْفُوعًا عَنْ صَاحِبِهِ. وَلا جُنُباً هَذِهِ حَالَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ سُكَارَى. إِذْ هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَبْلَغُ لِتَكْرَارِ الضَّمِيرِ، فَالتَّقْيِيدُ بِهَا أَبْلَغُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهَا مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْمُفْرَدِ الَّذِي هُوَ: وَلَا جُنُبًا. وَدُخُولُ لَا دَالٌّ عَلَى مُرَاعَاةِ كُلِّ قَيْدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ. وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ مُصَاحِبَةً لِكُلِّ حَالٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، فَالنَّهْيُ عَنْ إِيقَاعِهَا بِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَأُدْخِلَ فِي الْحَظْرِ. وَالْجُنُبُ: هُوَ غير الصَّحَابَةِ: لَا غُسْلَ إِلَّا عَلَى مَنْ أَنْزَلَ، وَبِهِ قَالَ الْأَعْمَشُ وَدَاوُدُ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ أَدِلَّتُهَا فِي عِلْمِ الْفِقْهِ. وَالْجُنُبُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَهِيَ الْبُعْدُ، كَأَنَّهُ جَانَبَ الطُّهْرَ، أَوْ مِنَ الْجَنْبِ كَأَنَّهُ ضَاجَعَ وَمَسَّ بِجَنْبِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْجَنُبُ يستوي فيه الواجد وَالْجَمْعُ، وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ

جَرَى مَجْرَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِجْنَابُ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَالْفَصِيحِ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ. وَقَدْ جَمَعُوهُ جَمْعَ سَلَامَةٍ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ قَالُوا: قَوْمٌ جُنُبُونَ، وَجَمْعَ تَكْسِيرٍ قَالُوا: قَوْمٌ أَجْنَابٌ. وَأَمَّا تَثْنِيَتُهُ فَقَالُوا: جُنُبَانِ. إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ الْعُبُورُ: الْخُطُورُ والجواز، ومنه ناقة عير الْهَوَاجِرِ وَعُبْرُ أَسْفَارٍ قَالَ: عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ شَمْلَةٌ ... عُبْرُ الْهَوَاجِرِ كَالْهِجَفِّ الْخَاضِبِ وَعَابِرُ السَّبِيلِ هُوَ الْمَارُّ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ: يَمُرُّ فِيهِ وَلَا يَقْعُدُ فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا يَمُرُّ فِيهِ إِلَّا إِنْ كَانَ بَابُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِذَا تَوَضَّأَ الْجُنُبُ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالْمَسْجِدِ قَالَ: مَعْنَاهُ لَا تَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ جُنُبًا إِلَّا مُجْتَازِينَ فِيهِ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ فِيهِ إِلَى الْمَاءِ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ فِيهِ، أَوِ احْتَلَمْتُمْ فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ أَبْوَابُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَتُصِيبُهُمُ الْجَنَابَةُ وَلَا يَجِدُونَ مَمَرًّا إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، فَرُخِّصَ لَهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ أَنْ يجلس في المسجد أو يَمُرَّ فِيهِ وَهُوَ جُنُبٌ، إلا لعلي. لأن بَيْتُهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ» وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَكَمُ وَغَيْرُهُمْ: عَابِرُ السَّبِيلِ الْمُسَافِرُ، فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاةَ وَهُوَ جُنُبٌ إِلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، إِلَّا الْمُسَافِرَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ، قَالُوا: لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِلَّا الطَّاهِرُ سَوَاءٌ أَرَادَ الْقُعُودَ فِيهِ أَمِ الِاجْتِيَازَ، وَهُوَ قَوْلُ: مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ. وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ يَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهِ، وَحَقِيقَتُهُ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَجَازٌ، وَلَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَلَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ قَوْلٌ مَشْرُوطٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّكْرِ، وَفِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ مَشْرُوطَةٌ يُمْنَعُ لِأَجْلِ تَعَذُّرِ إِقَامَتِهَا مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ. وَسُمِّيَ الْمُسَافِرُ عَابِرَ سَبِيلٍ لِأَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، كَمَا سُمِّيَ ابْنُ السَّبِيلِ. وَأَفَادَ الْكَلَامُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَالصَّلَاةِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ، لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جُنُبًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَيَمِّمًا. وعلى هذا المعنى فسر الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ أَوَّلًا فَقَالَ: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عَامَّةِ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالِ وَالَّتِي قَبْلَهَا؟ (قُلْتُ) : كَأَنَّهُ

قِيلَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ فِي حَالِ الْجَنَابَةِ إِلَّا وَمَعَكُمْ حَالٌ أُخْرَى تُعْذَرُونَ فِيهَا وَهِيَ حَالُ السَّفَرِ، وَعُبُورُ السَّبِيلِ عِبَارَةٌ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ حَالًا وَلَكِنْ صِفَةً كَقَوْلِهِ: جُنُبًا أَيْ: وَلَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ جُنُبًا غَيْرَ عَابِرِي سَبِيلٍ، أَيْ: جُنُبًا مُقِيمِينَ غَيْرَ مَعْذُورِينَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ عَلَى الْجَنَابَةِ لِعُذْرِ السَّفَرِ؟ (قُلْتُ) : أُرِيدَ بِالْجُنُبِ الَّذِينَ لَمْ يَغْتَسِلُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ غَيْرَ مُغْتَسِلِينَ حَتَّى تَغْتَسِلُوا، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَنْ قَالَ: بِمَنْعِ الْجُنُبِ مِنَ الْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ وَالْحَائِضَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَقْرَآ مِنْهُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلًا حَتَّى يَغْتَسِلَا، وَرَخَّصَ مَالِكٌ لَهُمَا فِي الْآيَةِ الْيَسِيرَةِ لِلتَّعَوُّذِ، وَأَجَازَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ مُطْلَقًا إِذَا خَافَتِ النِّسْيَانَ عِنْدَ الْحَيْضِ، وَذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ. حَتَّى تَغْتَسِلُوا هَذِهِ غَايَةٌ لِامْتِنَاعِ الْجُنُبِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْحَظْرِ إِلَى أَنْ يُوقِعَ الِاغْتِسَالَ مُسْتَوْعِبًا جَمِيعَهُ. وَالْخِلَافُ: هَلْ يَدْخُلُ فِي مَاهِيَّةِ الْغُسْلِ إِمْرَارُ الْيَدِ أَوْ شَبَهِهَا مَعَ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ؟ فَلَوِ انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ أَوْ صَبَّهُ عَلَيْهِ فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَدَلَّكَ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ غَيْرِ تَدَلُّكٍ. وَهَلْ يَجِبُ فِي الْغَسْلِ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ؟ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ خِلَافٌ. وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الْغَسْلِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى فَرْضِيَّتِهِمَا فِيهِ لَا فِي الْوُضُوءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُدَ: هُمَا فَرْضٌ فِيهِمَا. وروي عن عطاء، والزهري وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التابعين، ومالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، ومحمد بْنُ جَرِيرٍ: لَيْسَا بِفَرْضٍ فِيهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْمَضْمَضَةَ سُنَّةٌ، وَالِاسْتِنْشَاقَ فَرْضٌ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُدَ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا حُصُولُ الِاغْتِسَالِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ نِيَّةُ الِاغْتِسَالِ، بَلْ ذُكِرَ حُصُولُ مُطْلَقِ الِاغْتِسَالِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي كُلِّ طَهَارَةٍ بِالْمَاءِ. وَرَوَى هَذَا الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ قَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدَمِ الصَّحَابَةِ الْمَاءَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، حِينَ أَقَامَ عَلَى الْتِمَاسِ الْعِقْدِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: فِي قَوْمٍ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحٌ وَأَجْنَبُوا. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، ومرضى يَعْنِي فِي

الْحَضَرِ. وَيَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرَضِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، زَادَ أَوْ نَقَصَ، تَأَخَّرَ بُرْؤُهُ أَوْ تَعَجَّلَ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ. فَأَجَازَ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الِاسْمِ. وَخَصَّصَ الْعُلَمَاءُ غَيْرُهُ الْمَرَضَ بِالْجُدَرِيِّ، وَالْحَصْبَةِ، وَالْعِلَلِ الْمَخُوفِ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَقَالُوا: إِنْ خَافَ تَيَمَّمَ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: أَنَّهُ يَتَطَهَّرُ وَإِنْ مَاتَ، وَهُمَا مَحْجُوجَانِ بِحَدِيثِ عمرو بن العاص في غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَأَنَّهُ أَشْفَقَ أَنْ يَهْلَكَ إِنِ اغْتَسَلَ فَتَيَمَّمَ، فَأَقَرَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَإِنْ خَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ تَأَخُّرَ الْبُرْءِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا خَافَ طُولَ الْمَرَضِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ عَلَى سَفَرٍ مُطْلَقُ السَّفَرِ، فَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرِيُّ: لَا يَتَيَمَّمُ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا: إِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ أَعَادَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ: لَا يَتَيَمَّمُ إِلَّا لِخَوْفِ الْوَقْتِ. وَالسَّفَرُ الْمُبِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُطْلَقُ السَّفَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَوْ لَا تُقْصَرُ. وَشَرَطَ قَوْمٌ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَشَرَطَ آخَرُونَ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ طَاعَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ لِغَيْرِ سَفَرٍ فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَقَدْرُ الْمَسَافَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ مَيْلٌ. وَقِيلَ: إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ أَصْوَاتَ النَّاسِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُسَافِرِ. فَلَوْ وَجَدَ مَاءً قَلِيلًا إِنْ تَوَضَّأَ بِهِ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ تَيَمَّمَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَلَوْ وَجَدَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ، أَوْ بِمَا زَادَ. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. يَتَيَمَّمُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: يَشْتَرِيهِ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَيَبْقَى عَدِيمًا. فَلَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحُولُ فَكَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ. وَمَجِيئُهُ مِنَ الْغَائِطِ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ بِالْغَائِطِ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ الرِّيحُ وَالْبَوْلُ وَالْمَنِيُّ وَالْوَدْيُ، لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ السِّتَّةَ أَحْدَاثٌ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقَهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مِنَ الْغَيْطِ وَخُرِّجَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ إِذْ قَالُوا: غَاطَ يَغِيطُ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلَهُ فَيْعِلٌ، ثُمَّ حُذِفَ كَمَيِّتٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ اللَّمْسِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ، وَلَا ذِكْرَ لِلْجُنُبِ إِنَّمَا يَغْتَسِلُ أَوْ يَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِهِمْ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِحَدِيثِ عمار، وأبي ذر، وعمران بْنِ حَصِينٍ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْمُرَادُ الْجِمَاعُ، وَالْجُنُبُ يَتَيَمَّمُ. وَلَا ذِكْرَ لِلَّامِسِ بِيَدِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَلَوْ قَبَّلَ وَلَوْ

بِلَذَّةٍ لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُلَامِسُ بِالْجِمَاعِ يَتَيَمَّمُ، وَكَذَا بِالْيَدِ إِذَا الْتَذَّ فَإِنْ لَمَسَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا وُضُوءَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَفْضَى بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَى بَدَنِ الْمَرْأَةِ نَقَضَ الطَّهَارَةَ، وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عمر، والزهري، وربيعة، وعبيدة، والشعبي، وابراهيم، ومنصور، وَابْنِ سِيرِينَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ بِالْيَدِ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، والكسائي: لَمَسْتُمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْأَلْفِ، وَفَاعِلُ هُنَا مُوَافِقٌ فِعْلَ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ: جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ، وَلَيْسَتْ لِأَقْسَامِ الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ لَفْظًا، وَالِاشْتِرَاكُ فيهما مَعْنًى، وَقَدْ حَمَلَهَا الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ. فَقَالَ: الْمَلْمُوسُ كَاللَّامِسِ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلَى سَفَرٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَرْضَى. وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ جَاءَ، أَوْ لَامَسْتُمْ دَلِيلُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْمَاضِي خَبَرًا لِكَانَ مِنْ غَيْرِ قَدْ وَادِّعَاءُ إِضْمَارِهَا تَكَلُّفٌ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ لِعَطْفِهَا عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ. فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِمُ الْحُكْمُ فِي الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ. وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ إِذْ قَدِ اجْتَمَعَ خِطَابٌ وَغَيْبَةٌ، فَالْخِطَابُ: كُنْتُمْ مَرْضَى، أَوْ عَلَى سَفَرٍ، أَوْ لَامَسْتُمُ. وَالْغَيْبَةُ قَوْلُهُ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ. وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَتْ هَذِهِ الْغَيْبَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَنَّى عَنِ الْحَاجَةِ بِالْغَائِطِ كَرِهَ إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، فَنَزَعَ بِهِ إِلَى لَفْظِ الْغَائِبِ بِقَوْلِهِ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمُلَاحَظَاتِ وَأَجْمَلِ الْمُخَاطَبَاتِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَلَمْسُ النِّسَاءِ لَا يَفْحُشُ الْخِطَابُ بِهَا جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ. وَظَاهِرُ انْتِفَاءِ الْوِجْدَانِ سَبَقَ تَطَلُّبُهُ وَعَدَمُ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَجَعَلَ الْمَوْجُودَ حِسًّا فِي حَقِّهِ إِذَا كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ اسْتِعْمَالَهُ كَالْمَفْقُودِ شَرْعًا، وَأَمَّا غَيْرُهُ بَاقِي الْأَرْبَعَةِ فَانْتِفَاءُ وِجْدَانِ الْمَاءِ فِي حَقِّهِمْ هُوَ على ظاهره. وفلم تَجِدُوا مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ وَفُقْدَانِ الْمَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ نَظَمَ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ بَيْنَ الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ، وَبَيْنَ الْمُحْدِثِينَ وَالْمُجْنِبِينَ، وَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ سَبَبَانِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ، وَالْحَدَثُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَالْجَنَابَةُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْغُسْلِ؟ (قُلْتُ) : أَرَادَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُرَخِّصَ لِلَّذِينِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّطَهُّرُ وَهُمْ عَادِمُونَ لِلْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ وَالتُّرَابِ، فَخَصَّ أَوَّلًا مِنْ بَيْنِهِمْ مَرْضَاهُمْ وَسَفَرَهُمْ لِأَنَّهُمُ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَيَانِ الرُّخْصَةِ لَهُمْ، لِكَثْرَةِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَغَلَبَتِهِمَا عَلَى سَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلرُّخْصَةِ، ثُمَّ عَمَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّطَهُّرُ وَأَعْوَزَهُ

الْمَاءُ لِخَوْفِ عَدُوٍّ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ عَدَمِ آلَةِ اسْتِقَاءٍ، أَوْ إِرْهَاقٍ فِي مَكَانٍ لَا مَاءَ فِيهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكْثُرُ كَثْرَةَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَفْسِيرُهُ: أو لمستم النِّسَاءَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَنَابَةُ، فَسَّرَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَنْقُلْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ. وَمُلَخَّصُ مَا طُوِّلَ بِهِ: أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ تَقْدِيمِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ بِمَا ذَكَرَ. وَمَنْ يَحْمِلُ اللَّمْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَقَلِّ إِلَى الْأَكْثَرِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ أَقَلُّ مِنْ حَالَةِ السَّفَرِ، وَحَالَةُ السَّفَرِ أَقَلُّ مِنْ حَالَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَحَالَةُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَقَلُّ مِنْ حَالَةِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ حَالَةَ الصِّحَّةِ غَالِبًا أَكْثَرُ مِنْ حَالِ الْمَرَضِ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْبَوَاقِي؟. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: الصَّعِيدُ التُّرَابُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ لَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ غِرَاسٍ وَنَبَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، قَالَ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الصَّعِيدُ مَا صَعِدَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، يُرِيدُ وَجْهَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَابًا كان أو غيره، وإن كَانَ صَخْرًا لَا تُرَابَ عَلَيْهِ زَادَ غَيْرُهُ: أَوْ رَمْلًا، أَوْ مَعْدِنًا، أَوْ سَبْخَةً. وَالطَّيِّبُ الطَّاهِرُ وَهَذَا تَفْسِيرُ طَائِفَةٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَاخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَمِنْهُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ «1» أَيْ طَاهِرِينَ مِنْ أَدْنَاسِ الْمُخَالَفَاتِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الطَّيِّبُ هُنَا الْحَلَالُ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: الطَّيِّبُ الْمَنْبَتِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ «2» فَالصَّعِيدُ عَلَى هَذَا التُّرَابُ. وَهَؤُلَاءِ يُجِيزُونَ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَحَلُّ الْإِجْمَاعِ هُوَ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِتُرَابٍ مُنْبِتٍ طَاهِرٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ وَلَا مَغْصُوبٍ. وَمَحَلُّ الْمَنْعِ إِجْمَاعًا هُوَ: أَنْ يَتَيَمَّمَ عَلَى ذَهَبٍ صَرْفٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ يَاقُوتٍ، أَوْ زُمُرُّدٍ، وَأَطْعِمَةٍ كَخُبْزٍ وَلَحْمٍ، أَوْ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعَادِنِ: فَأُجِيزَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمُنِعَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفِي الْمِلْحِ، وَفِي الثَّلْجِ، وَفِي التُّرَابِ الْمَنْقُولِ، وَفِي الْمَطْبُوخِ كَالْآجُرِّ، وَعَلَى الْجِدَارِ، وَعَلَى النَّبَاتِ، وَالْعُودِ، وَالشَّجَرِ خِلَافٌ. وَأَجَازَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بِغُبَارِ الْيَدِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِجَازَتِهِ بِالسِّبَاخِ، إِلَّا ابْنَ رَاهَوَيْهِ. وَأَجَازَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَابْنُ كَيْسَانَ التَّيَمُّمَ بِالْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ: أَنَّ التَّيَمُّمَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِنَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَمَتَى حَصَلَتْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ حَصَلَ التَّيَمُّمُ. وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْبَاءُ فِي بِوُجُوهِكُمْ مِمَّا يُعَدَّى بِهَا الْفِعْلُ تَارَةً، وَتَارَةً بِنَفْسِهِ. حَكَى سِيبَوَيْهِ: مسحت رأسه وبرأسه،

_ (1) سورة النحل: 16/ 32. (2) سورة الأعراف: 7/ 58.

وَخَشَنْتُ صَدْرَهُ وَبِصَدْرِهِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَظَاهِرُ مَسْحِ الْوَجْهِ التَّعْمِيمُ، فَيَمْسَحُهُ جَمِيعَهُ كَمَا يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ جَمِيعَهُ. وأجاز بعضهم أن لا يَتَتَبَّعَ الْغُضُونَ. وَأَمَّا الْيَدَانِ فَظَاهِرُ مَسْحِهِمَا تَعْمِيمُ مَدْلُولِهِمَا، وَهِيَ تَنْطَلِقُ لُغَةً إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: يَمْسَحُ إِلَى الْآبَاطِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسَحَ إِلَى أَنْصَافِ ذِرَاعَيْهِ» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِيمَا حَفِظْتُ انْتَهَى. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا والثوري وابن أبي سلمة والليث: أَنَّهُ يَمْسَحُ إِلَى بُلُوغِ الْمِرْفَقَيْنِ فَرْضًا وَاجِبًا، وَهُوَ قَوْلُ: جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، والحسن، وابراهيم. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَهُمَا الرُّسْغَانِ، وَهُوَ: قَوْلُ علي ، وعطاء، والشعبي، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود بن علي، والطبري، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ كَفَّيْهِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُذْهَبَ إِلَيْهِ لِصِحَّتِهِ فِي الْحَدِيثِ. فَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدِكَ الْأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ وَتَمْسَحَ بِهَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ» وَعَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَنَفَضَ يَدَيْهِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وكفيه» وللبخاري: «ثم أَدْنَاهُمَا مِنْ فِيهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ» وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا: «أَمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدِكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ» وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ «فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَقَبَضَهَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ وَبِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى الْكَفَّيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُبِيِّنَةٌ مَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ فِي الْآيَةِ مِنْ مَحَلِّ الْمَسْحِ وَكَيْفِيَّتِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِزَاءِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ: عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ فِي رِوَايَةٍ، والأوزاعي في الأشهر عنه، وأحمد وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ وَالطَّبَرِيِّ. وَذَهَبَ مالك في المدوّنة، والأوزاعي فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ، والثوري، والليث، وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِلَى وُجُوبِ ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَةٍ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٍ لِلْيَدَيْنِ، وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ إِلَى أَنَّهُ ضَرْبَتَانِ، وَيَمْسَحُ بِكُلِّ ضَرْبَةٍ مِنْهُمَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرَهُمَا. وَأَحْكَامُ التَّيَمُّمِ وَمَسَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُ، وَذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ، فَدَلَّتْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي نَقْلِ شَيْءٍ مِنَ الْمَمْسُوحِ بِهِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَحُمِلَ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ

[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 46]

الْمَائِدَةِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ «1» أَيْ بَعْضَهُ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الصَّخْرِ الَّذِي لَا تُرَابَ عَلَيْهِ؟ (قُلْتُ) : قَالُوا: إِنَّهَا أَيْ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ (فَإِنْ قُلْتَ) : قَوْلُهُمْ إِنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ قَوْلٌ مُتَعَسِّفٌ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ مِنَ الدُّهْنِ، وَمِنَ الْمَاءِ، وَمِنَ التُّرَابِ، إِلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ (قُلْتُ) : هُوَ كَمَا تَقُولُ، وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَحَقُّ مِنَ الْمِرَاءِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً كِنَايَةٌ عَنِ التَّرْخِيصِ وَالتَّيْسِيرِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْخَطَّائِينَ وَيَغْفِرَ لَهُمْ، آثَرَ أَنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا غَيْرَ مُعَسِّرٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ إِذْ أَذَعْنَ إِلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ مَنْ عَادَتِهِ، بَلْ عَادَتُهُ أَنْ يُحَرِّفَ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَحْمِلَهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ لِأَجْلِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَأَيْضًا فَكَلَامُهُ أَخِيرًا حَيْثُ أَطْلَقَ أَنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنِ الْخَطَّائِينَ وَيَغْفِرُ لَهُمْ، الْعَجَبُ لَهُ إِذْ لَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَعَادَتِهِ فِيمَا هُوَ يُشْبِهُ هذا الكلام. [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ. وَقِيلَ: فِي غَيْرِهِ مِنَ الْيَهُودِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ إِذْ ذَاكَ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُعَادَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يُعَامِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَأْتِي شَهِيدًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ الْيَهُودُ أَشَدَّ إِنْكَارًا لِلْحَقِّ، وَأَبْعَدَ مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ. وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ، وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تَحَلِّيًا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، أَخَذَ يُذَكِّرُهُمْ بِخُصُوصِيَّتِهِمْ. وتقدم

_ (1) سورة المائدة: 5/ 6.

تَفْسِيرُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ. وَمِنَ الْكِتَابِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يتعلق بأوتوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لنصيبا. وَظَاهِرُ لَفْظِ الَّذِينَ أُوتُوا، يَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَيَكُونُ الْكِتَابُ عِبَارَةً عَنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ، وَالنَّصِيبُ قِيلَ: بَعْضُ عِلْمِ التَّوْرَاةِ، لَا الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا. وَقِيلَ: عِلْمُ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنْهُ فَحَسْبُ. وَقِيلَ: كُفْرُهُمْ بِهِ. وَقِيلَ: عِلْمُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم. يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ الْمَعْنَى: يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، كَمَا قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «2» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَبْدَلُوا الضَّلَالَةَ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَبْدَلُوا التَّكْذِيبَ بِالنَّبِيِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَاسْتِنْصَارِهِمْ بِهِ انْتَهَى. وَدَلَّ لَفْظُ الِاشْتِرَاءِ عَلَى إِيثَارِ الضَّلَالَةِ عَلَى الْهُدَى، فَصَارَ ذَلِكَ بَغْيًا شَدِيدًا عَلَيْهِمْ، وَتَوْبِيخًا فَاضِحًا لَهُمْ، حَيْثُ هُمْ عِنْدَهُمْ حَظٌّ مِنْ عِلْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَمَعَ ذَلِكَ آثَرُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَكِتَابُهُمْ طَافِحٌ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: اشْتِرَاءُ الضَّلَالَةِ هُنَا هُوَ مَا كَانُوا يَبْذُلُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِأَحْبَارِهِمْ عَلَى تَثْبِيتِ دِينِهِمْ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أَيْ: لَمْ يَكْفِهِمْ أَنْ ضَلُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى تَعَلَّقَتْ آمَالُهُمْ بِضَلَالِكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ كَرِهُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ مُخْتَصِّينَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَأَرَادُوا أَنْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلُّوا هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً «3» وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: وَتُرِيدُونَ بِالتَّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ وَتُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أَيْ: تَدَّعُونَ الصَّوَابَ فِي اجْتِنَابِهِمْ، وَتَحْسَبُونَهُمْ غَيْرَ أعداء الله. وقرىء: أَنْ يَضِلُّوا بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَافِي لِوِدَادِ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ الْعَدَاوَةُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْهُمْ، وَتَوْبِيخٌ عَلَى الِاسْتِنَامَةِ إِلَيْهِمْ وَالرُّكُونِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِعَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَجِبُ حَذَرُهُمْ كَمَا قَالَ تعالى:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 243. (2) سورة البقرة: 2/ 16 و 175. (3) سورة النساء: 4/ 89.

هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ «1» وَأَعْلَمُ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، أَيْ: أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَلِيمٍ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَعْدَائِكُمْ. وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً ومن كان الله وليه وَنَصِيرَهُ فَلَا يُبَالِي بِالْأَعْدَاءِ، فَثِقُوا بِوِلَايَتِهِ وَنُصْرَتِهِ دُونَهُمْ أَوْ لَا تُبَالُوا بِهِمْ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَكْفِيكُمْ مَكْرَهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلِيًّا لِرَسُولِهِ، نَصِيرًا لِدِينِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِاللَّهِ زَائِدَةٌ وَيَجُوزُ حَذْفُهَا كَمَا قَالَ: سُحَيْمٌ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَزِيَادَتُهَا فِي فَاعِلِ كَفَى وَفَاعِلِ يَكْفِي مُطَّرِدَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «2» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دَخَلَتِ الْبَاءُ فِي الْفَاعِلِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الْأَمْرُ أَيِ: اكْتَفُوا بِاللَّهِ. وَكَلَامُ الزَّجَّاجِ مُشْعِرٌ أَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَ مِنَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُمُ الْمُخَاطِبُونَ، وَيَكُونُ بِاللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَكَوْنُ الْبَاءِ دَخَلَتْ فِي الْفَاعِلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ لَا الْمُخَاطَبُونَ، فَتُنَاقِضُ قَوْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: مَعْنَاهُ كَفَى الِاكْتِفَاءُ بِاللَّهِ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ زَائِدَةً إِذْ تَتَعَلَّقُ بِالِاكْتِفَاءِ، فَالِاكْتِفَاءُ هُوَ الْفَاعِلُ لِكَفَى. وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ: هَلْ تَذْكُرُنَّ إِلَى الدِّيرَيْنِ هِجْرَتَكُمْ ... وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانَ قُرْبَانَا التَّقْدِيرُ: وَقَوْلُكُمْ يَا رَحْمَنُ قُرْبَانَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ زِيَادَةِ الْخَافِضِ، وَفَائِدَةُ زِيَادَتِهِ تَبْيِينُ مَعْنَى الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، أَيِ: اكْتَفَوْا بِاللَّهِ، فَالْبَاءُ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُلَفَّقٌ بَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَهُوَ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ، لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى تَنَاقُضِ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِ تناقض اخْتِلَافَ مَعْنَى الْحَرْفِ، إِذْ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِ اللَّهِ فَاعِلًا هُوَ زَائِدٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ اكْتَفُوا بِاللَّهِ هُوَ غَيْرُ زَائِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: إِنَّمَا دَخَلَتِ الْبَاءُ فِي كَفَى بِاللَّهِ لأنه كان يتصل اتصال الْفَاعِلُ، وَبِدُخُولِ الْبَاءِ اتَّصَلَ اتصال مضاف، واتصال الفاعل لأن الكفارية مِنْهُ لَيْسَتْ كَالْكِفَايَةِ مِنْ غيره، فضوعف لفظها لمضاعفة مَعْنَاهَا، وَهُوَ كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَفَى بِاللَّهِ في قوله:

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 4. (2) سورة فصلت: 41/ 53.

فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً «1» لَكِنْ تَكَرَّرَ هُنَا لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ مَزِيدِ: نُقُولٍ: وَرَدَ بَعْضُهَا. وَانْتِصَابُ وَلِيًّا وَنَصِيرًا قِيلَ: عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ أَجْوَدُ لِجَوَازِ دُخُولِ مِنْ. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ظَاهِرُهُ الِانْقِطَاعُ فِي الْإِعْرَابِ عَنْ مَا قَبْلَهُ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مَوْصُوفٍ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَمِنَ الَّذِينَ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ بَعْدَ مِنْ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ فِعْلًا كَقَوْلِهِمْ: مِنَّا ظَعَنَ، وَمِنَّا أَقَامَ أَيْ: مِنَّا نَفَرٌ ظَعَنَ، وَمِنَّا نَفَرٌ أَقَامَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ يُرِيدُ: فَمِنْهُمَا تَارَةً أَمُوتُ فِيهَا. وَخَرَّجَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى إِضْمَارِ مَنِ الْمَوْصُولَةِ أَيْ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا مَنْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ. وَتَأَوَّلُوا مَا جَاءَ مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهَا ... وَآخَرُ يُثْنِي دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ وَهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مَوْصُولًا، بَلْ يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا لِعَطْفِ النَّكِرَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ آخَرُ، إِذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ عَاشِقٌ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ التَّقْدِيرُ: هُمْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، وَيُحَرِّفُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ هَادُوا، وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قبله، فقيل: بنصيرا أَيْ نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هادوا، وعداه بمن كَمَا عَدَّاهُ فِي: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «2» وفَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ «3» أي ومنعناه وفمن يَمْنَعُنَا. وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: بِأَعْدَائِكُمْ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي يُرِيدُونَ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أُوتُوا لِأَنَّ شَيْئًا وَاحِدًا لَا يَكُونُ لَهُ أكثر من حال واحدة، إِلَّا أَنْ يَعْطِفَ بَعْضَ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ ذَا الْحَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّدًا لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ من حال واحدة، مسئلة خِلَافٍ فَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا بَيَانُ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «4» لِأَنَّهُمْ يَهُودُ وَنَصَارَى، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ «5»

_ (1) سورة النساء: 4/ 6. (2) سورة الأنبياء: 21/ 77. (3) سورة غافر: 40/ 29. (4) سورة آل عمران: 3/ 23، وسورة النساء: 4/ 44 و 51. (5) سورة النساء: 4/ 45. [.....]

وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا «1» وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً «2» جُمَلٌ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ. وَيُضَعِّفُهُ أَنَّ هَذِهِ جُمَلٌ ثَلَاثٌ، وَإِذَا كَانَ الْفَارِسِيُّ قَدْ مَنَعَ أَنْ يُعْتَرَضَ بِجُمْلَتَيْنِ، فَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُعْتَرَضَ بِثَلَاثٍ. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أَيْ: كَلِمَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. أَوْ كَلِمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ، أَوْ كَلِمَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْأَمْرِ فَيُخْبِرُهُمْ، وَيَرَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا انْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ حَرَّفُوا الْكَلَامَ. وَكَذَا قَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّهُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَحْرِيفُ كَلِمِ التَّوْرَاةِ بِتَغْيِيرِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ لِتَحْرِيفِهِمْ أَسْمَرَ رَبْعَةً فِي صِفَتِهِ عَلَيْهِ السلام بآدم طُوَالٍ مَكَانَهُ، وَتَحْرِيفِهِمُ الرَّجْمَ بِالْحَدِيدِ لَهُ، وَبِتَغْيِيرِ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ التَّوْرَاةَ بِغَيْرِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ مَعَانِي ألفاظها الأمور يَخْتَارُونَهَا وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى أَمْوَالِ سِفْلَتِهِمْ، وَأَنَّ التَّحْرِيفَ فِي كَلِمِ الْقُرْآنِ أَوْ كَلِمِ الرَّسُولِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي التأويل. وقرىء: يُحَرِّفُونَ الْكِلْمَ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ، جَمْعُ كِلْمَةٍ تَخْفِيفِ كَلِمَةٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ: يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ، وَجَاءَ هُنَا عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَفِي الْمَائِدَةِ جَاءَ: عَنْ مَواضِعِهِ «3» وَجَاءَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ «4» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا عَنْ مَوَاضِعِهِ فَعَلَى مَا فَسَّرْنَا مِنْ إِزَالَتِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَضْعَهُ فِيهَا بِمَا اقْتَضَتْ شَهَوَاتُهُمْ مِنْ إِبْدَالِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ. وَأَمَّا مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ: فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مَوَاضِعُ هُوَ قَمِنٌ بَأَنْ يَكُونَ فِيهَا، فَحِينَ حَرَّفُوهُ تَرَكُوهُ كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا مَوْضِعَ لَهُ بَعْدَ مَوَاضِعِهِ وَمَقَارِّهِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا سِيَاقَانِ، فَحَيْثُ وُصِفُوا بِشِدَّةِ التَّمَرُّدِ وَالطُّغْيَانِ، وَإِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ، وَاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ، وَنَقْضِ الْمِيثَاقِ، جَاءَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا «5» وَقَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «6» فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الْكَلِمَ مِنَ التَّحْرِيفِ عَنْ مَا يُرَادُ بِهَا، وَلَمْ تَسْتَقِرَّ فِي مَوَاضِعِهَا، فَيَكُونُ التَّحْرِيفُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا، بَلْ بَادَرُوا إِلَى تَحْرِيفِهَا بِأَوَّلِ وهلة. وحيث

_ (1) سورة النساء: 4/ 45. (2) سورة النساء: 4/ 45. (3) سورة المائدة: 5/ 13. (4) سورة المائدة: 5/ 41. (5) سورة النساء: 4/ 46. (6) سورة المائدة: 5/ 13.

وُصِفُوا بِبَعْضِ لِينٍ وَتَرْدِيدٍ وَتَحْكِيمٍ لِلرَّسُولِ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، جَاءَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا «1» وَقَوْلِهِ بَعْدُ: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ «2» فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُبَادِرُوا بِالتَّحْرِيفِ، بَلْ عَرَضَ لَهُمُ التَّحْرِيفُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْكَلِمِ فِي مَوَاضِعِهَا. وَقَدْ يُقَالُ: أَنَّهُمَا شَيْئَانِ، لَكِنَّهُ حَذَفَ هُنَا. وَفِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ: مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَنْ مَوَاضِعِهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ مَوَاضِعَ لَهُ، وَحُذِفَ فِي ثَانِي الْمَائِدَةِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. لِأَنَّ التَّحْرِيفَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَحْرِيفٌ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَالْأَصْلُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ. فَحَذَفَ هُنَا الْبَعْدِيَّةَ، وَهُنَاكَ حَذَفَ عَنْهَا. كُلُّ ذَلِكَ تَوَسُّعٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَكَانَتِ الْبَدَاءَةُ هُنَا بِقَوْلِهِ: عَنْ مَوَاضِعِهِ، لِأَنَّهُ أَخْصَرُ. وَفِيهِ تَنْصِيصٌ بِاللَّفْظِ عَلَى عَنْ، وَعَلَى الْمَوَاضِعِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْدِيَّةِ. وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ، أَوْ سَمِعْنَاهُ جَهْرًا، وَعَصَيْنَاهُ سِرًّا قَوْلَانِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ شَافَهُوا بِالْجُمْلَتَيْنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَالَغَةً مِنْهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَجَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا «3» . وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ هَذَا الْكَلَامُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ، وَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْوَجْهَ الْمَكْرُوهَ لِسِيَاقِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ. دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالصَّمَمِ، وَأَرَادُوا ذَلِكَ في الباطن، وأروا فِي الظَّاهِرِ تَعْظِيمَهُ بِذَلِكَ. إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاسْمَعْ غَيْرَ مَأْمُورٍ وَغَيْرَ صَالِحٍ أَنْ تَسْمَعَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ اسْمَعْ غَيْرَ مُجَابٍ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ جَوَابًا يُوَافِقُكَ، فَكَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ شَيْئًا انْتَهَى، وَقَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ كَلَامًا تَرْضَاهُ، فَسَمْعُكَ عَنْهُ نَابٍ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ غَيْرُ مَسْمَعٍ مَفْعُولَ اسْمَعْ، أَيِ: اسْمَعْ كَلَامًا غَيْرَ مُسْمَعٍ إِيَّاكَ، لِأَنَّ أُذُنَكَ لَا تَعِيهِ نُبُوًّا عَنْهُ. وَيُحْتَمَلُ الْمَدْحُ أَيِ: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا مِنْ قَوْلِكَ: أَسْمَعَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا سَبَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ قَالَ: غَيْرَ مُسْمَعٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ، فَإِنَّهُ لَا يُسَاعِدُهُ التَّصْرِيفُ، وَقَدْ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ انْتَهَى. وَوَجْهُ أَنَّ التَّصْرِيفَ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ أَسْمَعْتُكَ بِمَعْنَى قَبِلْتُ مِنْكَ، وَإِنَّمَا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 41. (2) سورة المائدة: 5/ 42. (3) سورة البقرة: 2/ 93.

تَقُولُ: سَمِعْتُ مِنْكَ بِمَعْنَى قَبِلْتُ، فَيُعَبِّرُونَ عَنِ الْقَبُولِ بِالسَّمَاعِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، لَا بِالْأَسْمَاعِ. وَلَوْ أُرِيدَ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ لَكَانَ اللَّفْظُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مَسْمُوعٍ مِنْكَ. وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ رَاعِنَا فِي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ «1» أَيْ فَتْلًا بِهَا. وَتَحْرِيفًا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ حَيْثُ يَضَعُونَ رَاعِنَا مَكَانَ انْظُرْنَا، وَغَيْرَ مُسْمَعٍ مَكَانَ لَا أُسْمِعْتَ مَكْرُوهًا. أَوْ يَفْتِلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّتْمِ إِلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ التَّوْقِيرِ نِفَاقًا. وَانْتِصَابُ غَيْرَ مُسْمَعٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي اسْمَعْ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِيَّاهُ مَفْعُولًا فِي أَحَدِ التَّقَادِيرِ، وَانْتِصَابُ لَيًّا وَطَعْنًا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ. وَقِيلَ: هُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: لَاوِينَ وَطَاعِنِينَ. وَمَعْنَى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ، أَيْ بِاللِّسَانِ. وَطَعْنُهُمْ فِيهِ إِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ، وَتَغْيِيرُ نَعْتِهِ، أَوْ عَيْبُ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، أَوْ تَجْهِيلُهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَدَرَى أَنَّا نَسُبُّهُ، أَوِ اسْتِخْفَافُهُمْ وَاعْتِرَاضُهُمْ وَتَشْكِيكُهُمُ أَتْبَاعَهُ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا اللَّيُّ بِاللِّسَانِ إِلَى خِلَافِ مَا فِي الْقَلْبِ مَوْجُودٌ حَتَّى الْآنَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُحْفَظُ مِنْهُ فِي عَصْرِنَا أَمْثِلَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بِهَذَا الْكِتَابِ انْتَهَى. وَهُوَ يُحْكَى عَنْ يَهُودِ الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ شَاهَدْنَاهُمْ وَشَاهَدْنَا يَهُودَ دِيَارِ مِصْرَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَكَأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمُ الصِّغَارَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحَفِّظُونَهُمْ مَا يُخَاطِبُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا ظَاهِرُهُ التَّوْقِيرُ وَيُرِيدُونَ بِهِ التَّحْقِيرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كيف جاؤوا بِالْقَوْلِ الْمُحْتَمِلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ، بعد ما صَرَّحُوا وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ (قُلْتُ) : جَمِيعُ الْكَفَرَةِ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَا يُوَاجِهُونَهُ بِالسَّبِّ وَدُعَاءِ السُّوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَنْطِقُوا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ جَعَلُوا كَأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أَيْ: لَوْ تَبَدَّلُوا بِالْعِصْيَانِ الطَّاعَةَ، وَمِنَ الطَّاعَةِ الْإِيمَانُ بِكَ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى لَفْظِ اسْمَعْ، وَتَبَدَّلُوا بِرَاعِنَا قَوْلَهُمْ: وَانْظُرْنَا، فَعَدَلُوا عَنِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الِانْقِيَادِ، وَالْمُوهِمَةِ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، لَكَانَ أَيْ: ذَلِكَ الْقَوْلُ، خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْدَلَ أَيْ: أَقْوَمُ وَأَصْوَبُ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: أَنْظِرْنَا أَيِ انْتَظِرْنَا بِمَعْنَى أَفْهِمْنَا وَتَمَهَّلْ عَلَيْنَا حَتَّى نَفْهَمَ عَنْكَ وَنَعِيَ قَوْلَكَ، كَمَا قال الحطيئة:

_ (1) سورة النساء: 4/ 46.

وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ أَثْنَاءَ صَادِرَةٍ ... لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحِي وَإِبْسَاسِي وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ انْظُرْ إِلَيْنَا، وَكَأَنَّهُ اسْتِدْعَاءُ اهْتِبَالٍ وَتَحَفٍّ مِنْهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ: ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كَمَا تَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَأَنْظِرْنَا مِنَ الْإِنْظَارِ وَهُوَ الْإِمْهَالُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى وَلَوْ ثَبَتَ قَوْلُهُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لَكَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَأَعْدَلَ وَأَسَدَّ انْتَهَى. فَسَبَكَ مِنْ أَنَّهُمْ قَالُوا مصدرا مرتفعا يثبت عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ خِلَافًا لِسِيبَوَيْهِ. إِذْ يَرَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ أَنْ بَعْدَ لَوْ مَعَ مَا عَمِلَتْ فِيهِ مُقَدَّرٌ بِاسْمٍ مُبْتَدَأٍ، وَهَلِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ لِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي صِلَةِ أَنْ؟ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا هَذَا. فَالزَّمَخْشَرِيُّ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُبَرِّدِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أَيْ: أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْهُدَى بِسَبَبِ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ خَذَلَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ أَلْطَافِهِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيِّ. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي لَعَنَهُمْ أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا لَمْ يَلْعَنْهُمْ فَآمَنُوا، أَوِ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: فَلَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا فَآمَنُوا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وكعب الْأَحْبَارِ، وَغَيْرِهِمَا. أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا قَلَّلَهُ إِذْ آمَنُوا بِالتَّوْحِيدِ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِشَرَائِعِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا أَيْ: ضَعِيفًا رَكِيكًا لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَهُوَ إِيمَانُهُمْ بِمَنْ خَلَقَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِهِ. وَأَرَادَ بِالْقِلَّةِ الْعَدَمَ كَقَوْلِهِ: قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْهُمُومِ تُصِيبُهُ. أَيْ عَدِيمُ التَّشَكِّي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ عَبَّرَ بِالْقِلَّةِ عَنِ الْإِيمَانِ قَالَ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عدمه على مَا حَكَى سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ قَلَّمَا تُنْبِتُ كَذَا، وَهِيَ لَا تُنْبِتُهُ جُمْلَةً. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطية من أَنَّ التَّقْلِيلَ يُرَادُ بِهِ الْعَدَمُ هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا التَّرْكِيبُ الِاسْتِثْنَائِيُّ مِنْ تَرَاكِيبِهِ. فَإِذَا قُلْتَ: لَا أَقُومُ إِلَّا قَلِيلًا، لَمْ يُوضَعْ هذا لانتفاء الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْقِيَامِ مِنْكَ إِلَّا قَلِيلًا فَيُوجَدُ مِنْكَ. وَإِذَا قُلْتَ: قَلَّمَا يَقُومُ أَحَدٌ إِلَّا زِيدٌ، وَأَقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ احْتَمَلَ هَذَا، أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّقْلِيلُ الْمُقَابِلُ لِلتَّكْثِيرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّفْيُ الْمَحْضُ. وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا يَقُومُ أَحَدٌ إِلَّا زِيدٌ، وَمَا رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ. إِمَّا أَنْ تَنْفِيَ ثُمَّ تُوجِبَ

[سورة النساء (4) : الآيات 47 إلى 56]

وَيَصِيرُ الْإِيجَابُ بَعْدَ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، فَلَا إِذْ تَكُونُ إِلَّا وَمَا بَعْدَهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، جِيءَ بِهَا لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِذِ الِانْتِفَاءُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِكِ: لَا أَقُومُ. فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي اسْتِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يُرَادُ بِهِ الِانْتِفَاءُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ؟ وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ إِلَّا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى. وَبَابُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَكُونُ فِيهِ مَا بَعْدَ إِلَّا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، إِذَا جَعَلْنَاهُ عَائِدًا إِلَى الْإِيمَانِ، أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَجَزَّأُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ زِيَادَتَهُ وَنَقَصَهُ هُوَ بِحَسَبِ قِلَّةِ الْمُتَعَلِّقَاتِ وَكَثْرَتِهَا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ. قَالُوا: التَّجَوُّزُ بِإِطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُقَارِبُهُ فِي الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ، أَطْلَقَ الظُّلْمَ عَلَى انْتِقَاصِ الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَقْصَهُ عَنِ الْمَوْعُودِ بِهِ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنَ الظُّلْمِ. وَالتَّنْبِيهُ بِمَا هُوَ أَدْنَى عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى فِي قَوْلِهِ: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَالْإِبْهَامُ فِي قَوْلِهِ: يُضَاعِفْهَا، إِذْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ الْمُضَاعَفَةَ فِي الْأَجْرِ. وَالسُّؤَالُ عَنِ الْمَعْلُومِ لِتَوْبِيخِ السَّامِعِ، أَوْ تَقْرِيرِهِ لِنَفْسِهِ فِي: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا. وَالْعُدُولُ مِنْ بِنَاءٍ إِلَى بِنَاءٍ لِمَعْنَى فِي: بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ في: وجئنا وفي: بشهيد وشهيدا. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ: فِي وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. وَالتَّجَوُّزُ بِإِطْلَاقِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ فِيهِ فِي: مِنَ الْغَائِطِ. وَالْكِنَايَةُ فِي: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَتَيَمَّمُوا. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ فِي: أَلَمْ تَرَ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ. وَالطِّبَاقُ فِي: هَذَا أَيْ بِالْهُدَى، وَالطِّبَاقُ الظاهر في: وعصينا وأطعنا. وَالتَّكْرَارُ فِي: وَكَفَى بِاللَّهِ وليا، وكفى بالله، وفي سمعنا وسمعنا. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. [سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 56] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

طَمَسَ: مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ. تَقُولُ: طَمَسَ الْمَطَرُ الْأَعْلَامَ أَيْ مَحَا آثَارَهَا، وَطُمِسَتِ الْأَعْلَامُ دَرَسَتْ، وَطَمَسَ الطَّرِيقُ دَرَسَ وَعَفَتْ أَعْلَامُهُ قَالَهُ: أَبُو زَيْدٍ. وَمِنَ الْمُتَعَدِّي: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ «1» أَيِ اسْتُؤْصِلَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ: اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَيْ أَذْهِبْهَا كُلِّيَّةً، وَأَعْمَى مَطْمُوسٌ أَيْ: مَسْدُودُ الْعَيْنَيْنِ. وَقَالَ كَعْبٌ: مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ وَالطَّمْسُ وَالطَّسْمُ وَالطَّلْسُ وَالدَّرْسُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. الْفَتِيلُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. فَقِيلَ: هُوَ الْخَيْطُ الَّذِي فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ. وَقِيلَ: مَا خَرَجَ مِنَ الْوَسَخِ مِنْ بَيْنِ كَفَّيْكَ وَأُصْبُعَيْكَ إِذَا فَتَلْتَهُمَا. الْجِبْتُ: اسْمٌ لِصَنَمٍ ثُمَّ صَارَ مُسْتَعْمَلًا لِكُلِّ بَاطِلٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْجِبْتُ الْجِبْسُ، وَهُوَ الَّذِي لَا خَيْرَ عِنْدَهُ، قُلِبَتِ السِّينُ تَاءً. قِيلَ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الْجِبْتَ مُهْمَلٌ. النَّقِيرُ: النُّقْطَةُ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ النَّوَاةِ مِنْهَا تَنْبُتُ النَّخْلَةُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي فِي وَسَطِهَا. النُّضْجُ: أَخْذُ الشَّيْءِ فِي التَّهَرِّي وَتَفَرَّقُ أَجْزَائِهِ، وَمِنْهُ نُضْجُ اللَّحْمِ، وَنُضْجُ الثَّمَرَةِ. يُقَالُ: نَضِجَ الشَّيْءُ يَنْضَجُ نُضْجًا وَنِضَاجًا. الْجِلْدُ معروف. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم أحبار اليهود مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي جِئْتُ بِهِ حَقٌّ» فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قبلها

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 8.

هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَجَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا «1» الْآيَةَ. خَاطَبَ مَنْ يُرْجَى إِيمَانُهُ مِنْهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ، وَقَرَنَ بِالْوَعِيدِ الْبَالِغِ عَلَى تَرْكِهِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ، ثُمَّ أَزَالَ خَوْفَهُمْ مِنْ سُوءِ الْكَبَائِرِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «2» الْآيَةَ. وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ تَزْكِيَتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَا لَمْ يُزَكِّهِمْ بِهِ اللَّهُ لَا يَنْفَعُ. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هُنَا الْيَهُودُ، وَالْكِتَابُ التَّوْرَاةُ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ، أَوِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَهُ: الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. والكتاب التوراة والإنجيل، وبما نَزَّلْنَا هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا خِلَافٍ، وَلِمَا مَعَكُمْ مِنْ شَرْعٍ وَمِلَّةٍ لَا لِمَا مَعَهُمْ مِنْ مُبَدَّلٍ وَمُغَيَّرٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وجوها فنردها على أدباها. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَطْمِسَ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: بِضَمِّهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِالْوُجُوهِ مَدْلُولُهَا الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا طَمْسُهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هُوَ أَنْ تُزَالَ الْعَيْنَانِ خَاصَّةً مِنْهَا وَتُرَدَّ فِي الْقَفَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الدُّبُرِ وَيَمْشِي الْقَهْقَرَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ عُيُونَ وُجُوهٍ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ مُطْلَقُ وُجُوهٍ، بَلِ الْمَعْنَى وُجُوهُكُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: طَمْسُ الْوُجُوهِ أَنْ يُعَفَّى آثَارُ الْحَوَاسِّ مِنْهَا فَتَرْجِعَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ فِي الْخُلُوِّ مِنْ آثَارِ الْحَوَاسِّ مِنْهَا، وَالرَّدُّ عَلَى الْأَدْبَارِ هُوَ بِالْمَعْنَى أَيْ: خُلُوُّهُ مِنَ الْحَوَاسِّ. دَثِرَ الْوَجْهُ لِكَوْنِهِ عَابِرًا بِهَا، وَحَسَّنَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَوَّزَهُ وَأَوْضَحَهُ، فَقَالَ: أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا أَيْ نَمْحُوَ تَخْطِيطَ صُوَرِهَا مِنْ عَيْنٍ وَحَاجِبٍ وَأَنْفٍ وَفَمٍ، فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، فَنَجْعَلَهَا عَلَى هَيْئَةِ أَدْبَارِهَا وَهِيَ الْأَقْفَاءُ مَطْمُوسَةً مِثْلَهَا. وَالْفَاءُ لِلتَّسْبِيبِ، وَإِنْ جَعَلْتَهَا لِلتَّعْقِيبِ عَلَى أَنَّهُمْ تُوُعِّدُوا بِالْعِقَابَيْنِ أَحَدُهُمَا عَقِيبَ الْآخَرِ رَدُّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا بَعْدَ طَمْسِهَا، فَالْمَعْنَى: أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنُنَكِّسَهَا الْوُجُوهُ إِلَى خَلْفُ، وَالْأَقْفَاءُ إِلَى قُدَّامُ انْتَهَى. وَالطَّمْسُ بِمَعْنَى الْمَحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الْقُتَبِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ نُعْمِي أَعْيُنَهَا. وَذَكَرَ الْوُجُوهَ وَأَرَادَ الْعُيُونَ، لِأَنَّ الطَّمْسَ مِنْ نُعُوتِ الْعَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ «3» . وَيُرْوَى هَذَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: طَمْسُ الْوُجُوهِ جَعْلُهَا مَنَابِتَ لِلشَّعْرِ كَوُجُوهِ الْقِرَدَةِ. وَقِيلَ: رَدُّهَا إلى صورة بشيعة كَوُجُوهِ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ. ذَلِكَ تَجَوُّزٌ، وَالْمُرَادُ وُجُوهُ الْهُدَى وَالرُّشْدِ، وَطَمْسُهَا حَتْمُ الْإِضْلَالِ وَالصَّدِّ عَنْهَا، وَالرَّدُّ عَلَى الْأَدْبَارِ التَّصْيِيرُ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوُجُوهُ هِيَ أَوْطَانُهُمْ وَسُكْنَاهُمْ فِي بِلَادِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا إِلَيْهَا،

_ (1) سورة النساء: 4/ 46. (2) سورة النساء: 4/ 48. (3) سورة القمر: 54/ 37. [.....]

وَطَمْسُهَا إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا. وَالرَّدُّ عَلَى الْأَدْبَارِ رُجُوعُهُمْ إِلَى الشَّامِ مِنْ حَيْثُ أَتَوْا أَوَّلًا. وَحَسَّنَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ، فَقَالَ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالطَّمْسِ الْقَلْبُ وَالتَّغْيِيرُ، كَمَا طَمَسَ أَمْوَالَ الْقِبْطِ فَقَلَبَهَا حِجَارَةً، وبالوجوه رؤوسهم وَوُجَهَاؤُهُمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نُغَيِّرَ أَحْوَالَ وُجَهَائِهِمْ فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوها صِغَارُهُمْ وَأَدْبَارُهُمْ، أَوْ نَرُدُّهُمْ إلى حيث جاؤوا مِنْهُ. وَهِيَ أَذْرِعَاتُ الشَّامِ، يُرِيدُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ انْتَهَى. أَوْ نَلْعَنَهُمْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أن نَطْمِسَ. وَظَاهِرُ اللَّعْنَةِ هُوَ الْمُتَعَارَفُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ «1» . وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ نَمْسَخُهُمْ كَمَا مَسَخْنَا أَصْحَابَ السَّبْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمْ أَصْحَابُ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ بِالصَّيْدِ، وَكَانَتْ لَعْنَتُهُمْ أَنْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ وَقِرْدَةً. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَهِيمُهُمْ فِي التِّيهِ حَتَّى يَمُوتَ أَكْثَرُهُمْ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ أَوْ نَلْعَنَ، إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ وَيَدُهُ عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْلَمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتُ أَرَى أَنْ أَصِلَ إِلَيْكَ حَتَّى يُحَوَّلَ وَجْهِي فِي قَفَايَ. وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ إِسْلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى إِلَى بَيْتِهِ فَأَسْلَمَ مَكَانَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا أَبْلُغُ بَيْتِي حَتَّى يُطْمَسَ وَجْهِي. وَقِيلَ: الطَّمْسُ الْمَسْخُ لِلْيَهُودِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا بُدَّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَنَكَى لَهُمْ لِفَضِيحَتِهِمْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا عُجِّلَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَهَذَا إِذَا حُمِلَ طَمْسُ الْوُجُوهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ تَغْيِيرُ أَحْوَالِ وُجَهَائِهِمْ أَوْ وُجُوهِ الْهُدَى وَالرُّشْدِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ، فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ. وَتَعْلِيقُ الْإِيمَانِ بِقَبْلِيَّةِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُهُمَا، بَلْ مَتَى وَقَعَ أَحَدُهُمَا صَحَّ التَّعْلِيقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: الْوَعِيدُ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ آمَنَ منهم ناس. ومن قبل: متعلق بآمنوا، وعلى أدبارها متعلق بفنردها. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى أَدْبَارِهَا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْوُجُوهِ، وَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَلْعَنَهُمْ. قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْوُجُوهِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوُجَهَاءُ، أَوْ عَائِدٌ عَلَى أصحاب الوجوه، لأن

_ (1) سورة المائدة: 5/ 60.

الْمَعْنَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ قَوْمٍ، أَوْ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَهَذَا عِنْدِي أَحْسَنُ. وَمُحَسِّنُ هَذَا الِالْتِفَاتِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَادَاهُمْ كَانَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَهَزَّ السَّمَاعِ مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِمَا نَزَلَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ مِنْ كِتَابٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْوَعِيدَ الْبَالِغَ فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا وَالْمَعْنَى: وُجُوهَكُمْ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ، فَأَتَى بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ حِينَ كَانَ الْوَعِيدُ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ وَبِاللَّعْنَةِ لَيْسَ لَهُمْ لِيَبْقَى التَّأْنِيسُ وَالْهَمُّ وَالِاسْتِدْعَاءُ إِلَى الْإِيمَانِ غَيْرَ مَشُوبٍ بِمُفَاجَأَةِ الْخِطَابِ الَّذِي يُوحِشُ السَّامِعَ وَيُرَوِّعُ الْقَلْبَ وَيَصِيرُ أَدْعَى إِلَى عَدَمِ الْقَبُولِ، وَهَذَا مِنْ جَلِيلِ الْمُخَاطَبَةِ. وَبَدِيعِ الْمُحَاوَرَةِ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا الْأَمْرُ هُنَا وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَاكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ: كَالْعَذَابِ، وَاللَّعْنَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ، مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعُ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي أَرَادَهُ أَوْجَدَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ أُخِّرَ تَكْوِينُهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَقَالَ: وَكَانَ إِخْبَارًا عَنْ جَرَيَانِ عَادَةِ اللَّهِ فِي تَهْدِيدِهِ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَاحْتَرِزُوا وَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا يَعْنِي: الطَّمْسَ وَاللَّعْنَةَ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ جُعِلَ لَهُ عَلَى قَتْلِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعْتَقَ، فَلَمْ يُوَفَّ لَهُ، فَقَدِمَ مَكَّةَ وَنَدِمَ عَلَى الَّذِي صَنَعَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَكَتَبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا صَنَعْنَا، وَلَيْسَ يَمْنَعُنَا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّا سَمِعْنَاكَ تَقُولُ بِمَكَّةَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «1» الْآيَاتِ وَقَدْ دَعَوْنَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَزَنَيْنَا، فَلَوْلَا هَذِهِ الْآيَاتُ لَاتَّبَعْنَاكَ، فَنَزَلَتْ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ «2» الْآيَاتِ، فَبُعِثَ بِهَا إِلَيْهِمْ فَكَتَبُوا: إِنَّ هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ أَنْ لَا نَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ، فَبُعِثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَبَعَثُوا إِنَّا نَخَافُ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْ أَهْلِ مَشِيئَتِهِ، فَنَزَلَتْ:

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 68. (2) سورة مريم: 19/ 60.

قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «1» الْآيَاتِ فَبُعِثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَقُبِلَ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ لِوَحْشِيٍّ: «أَخْبِرْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟» فَلَمَّا أَخْبَرَهُ قَالَ: «وَيْحَكَ غَيِّبْ عَنِّي وَجْهَكَ» فَلَحِقَ وَحْشِيٌّ بِالشَّامِ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَخْلِيدِ مَنْ مَاتَ كَافِرًا فِي النَّارِ، وَعَلَى تَخْلِيدِ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ فِي الْجَنَّةِ. فَأَمَّا تَائِبٌ مَاتَ عَلَى تَوْبَتِهِ فَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ لَاحِقٌ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يُذْنِبْ، وَطَرِيقَةُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ فِي الْمَشِيئَةِ. وَأَمَّا مُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَالْخَوَارِجُ تَقُولُ: هُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ أَمْ صَاحِبَ صَغِيرَةٍ. وَالْمُرْجِئَةُ تَقُولُ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ بِإِيمَانِهِ ولا تضره سيئاته. والمعتزلة تَقُولُ: إِنْ كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ خُلِّدَ فِي النَّارِ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: هُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، فَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنَ النَّارِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بَعْدُ مُخَلَّدًا فِيهَا. وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَعَارُضُ عُمُومَاتِ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَآيَاتِ الْوَعْدِ، فَالْخَوَارِجُ جَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ عَامَّةً فِي الْعُصَاةِ كَافِرِينَ وَمُؤْمِنِينَ غَيْرَ تَائِبِينَ. وَآيَاتُ الوعد مخصوصة في المؤمن الَّذِي لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ، أَوِ الْمُذْنِبِ التَّائِبِ. وَالْمُرْجِئَةُ جَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ مَخْصُوصَةً فِي الْكُفَّارِ، وَآيَاتِ الْوَعْدِ مَخْصُوصَةً فِي الْمُؤْمِنِ تَقِيِّهِمْ وَعَاصِيهِمْ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ خَصَّصُوا آيات الوعيد بالكفرة، وَبِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُصَاةِ، وَخَصَّصُوا آيَاتِ الْوَعْدِ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يُذْنِبْ، وَبِالتَّائِبِ، وَبِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْعَفُوُّ عَنْهُ مِنَ المؤمنين العصاة. والمعتزلة خَصَّصُوا آيَاتِ الْوَعْدِ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يُذْنِبْ، وَبِالتَّائِبِ. وَآيَاتِ الْوَعِيدِ بِالْكَافِرِ وَذِي الْكَبِيرَةِ الَّذِي لَمْ يَتُبْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ بِالنَّصِّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَهِيَ جَلَتِ الشَّكَّ، وَرَدَّتْ عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا لَا يُغْفَرُ لَهُ، هُوَ أَصْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنَ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعِ. وَقَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ، رَادٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَعَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ عَامٌّ تَدْخُلُ فِيهِ الْكَبَائِرُ وَالصَّغَائِرُ. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ يَشَاءُ رَادٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ، إِذْ مَدْلُولُهُ أَنَّ غُفْرَانَ مَا دُونَ الشِّرْكِ إِنَّمَا هُوَ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ عَلَى مَا شَاءَ تَعَالَى، بِخِلَافِ مَا زَعَمُوهُ بِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مَغْفُورٌ لَهُ. وَأَدِلَّةُ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ مذكورة في

_ (1) سورة الزمر: 39/ 53.

عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَقَدْ رَامَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُرْجِئَةُ رَدَّ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَقَالَاتِهِمَا بِتَأْوِيلَاتٍ لَا تَصِحُّ، وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ تَابَ مِنْهُ، وأنه لا يغفر مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الكبائر إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ؟ (قُلْتُ) : الْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمَنْفِيُّ وَالْمُثْبَتُ جَمِيعًا مُوَجَّهَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشَاءُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الشِّرْكَ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مَا دُونَ الشِّرْكِ. عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَبِالثَّانِي مَنْ تَابَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: إِنَّ الْأَمِيرَ لَا يَبْذُلُ الدِّينَارَ وَيَبْذُلُ الْقِنْطَارَ لِمَنْ يَسْتَأْهِلُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَقَوْلُهُ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ تَابَ عَنْهُ، هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الْكَبَائِرِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. فَنَقُولُ لَهُ: وَأَيْنَ ثَبَتَ هَذَا؟ وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّونَ بِعُمُومَاتٍ تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، كَاسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً «1» الْآيَةَ، وَقَدْ خَصَّصَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْمُسْتَحِلِّ ذَلِكَ وَهُوَ كَافِرٌ. وَقَوْلُهُ: قَالَ: فَجَزَاؤُهُ أَنْ جَازَاهُ اللَّهُ. وَقَالَ: الْخُلُودُ يُرَادُ بِهِ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ لَا الدَّيْمُومَةُ لَا إِلَى نِهَايَةٍ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْوَجْهَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمَنْفِيُّ وَالْمُثْبَتُ جَمِيعًا مُوَجَّهَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشَاءُ، إِنْ عَنَى أَنَّ الْجَارَّ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ. وَإِنْ عَنَى أَنْ يُقَيِّدَ الْأَوَّلَ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا قَيَّدَ الثَّانِي فَهُوَ تَأْوِيلٌ. وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الضَّمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: يَشَاءُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ، لَا عَلَى اللَّهِ. لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ لَا يَغْفِرَ لَهُ بِكَوْنِهِ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهُ، ويغفر مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الْكَبَائِرِ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِكَوْنِهِ تَابَ مِنْهَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا قَيْدَ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ مُتَوَقِّفًا وُجُودُهَا عَلَى مَشِيئَتِهِ عَلَى مَذْهَبِنَا. وَأَنَّ الْفَاعِلَ فِي يَشَاءُ هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا عَلَى مَنْ، وَالْمَعْنَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ الشرك لمن يشاء أن يَغْفِرَ لَهُ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنْ يَشَاءُ، تَرْجِئَةٌ عَظِيمَةٌ بِكَوْنِ مَنْ مَاتَ عَلَى ذَنْبٍ غَيْرِ الشِّرْكِ لَانْقَطَعَ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ، وَإِنْ مات مصرّا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَى كَبِيرَةٍ شَهِدْنَا لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَمْسَكْنَا عَنِ الشَّهَادَاتِ. وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي آخِرِهِ «وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَيْ- مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا- فستره

_ (1) سورة النساء: 4/ 93.

عَلَيْهِ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يُسَمَّى مُشْرِكًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَإِلَّا كَانَ مُغَايِرًا لِلْمُشْرِكِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَغْفُورًا لَهُ. وَلِأَنَّ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَهْدِيدَ اليهود، فاليهودية دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الشِّرْكِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا «1» ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا «2» وَقَوْلُهُ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ «3» ولَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ «4» فَالْمُغَايَرَةُ وَقَعَتْ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَالِاتِّحَادُ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ. وَقَدْ قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ كَافِرٍ مُشْرِكٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ مَثَلًا بِنَبِيٍّ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَتَى بِهَا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَجْعَلُ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَصِيرُ مُشْرِكًا بِهَذَا الْمَعْنَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ كُفْرَ مَنْ كَفَرَ بِهِ، أَوْ بِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ. وَالْمُرَادُ: إِذْ أَلْقَى اللَّهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُزِيلُ عَنْهُ إِطْلَاقَ الْوَصْفِ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِإِجْمَاعٍ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» . وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أَيِ اخْتَلَقَ وَافْتَعَلَ مَا لَا يُمْكِنُ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قال: «أن تجعل الله نِدًّا وَقَدْ خَلَقَكَ» . أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ قَالَ الْجُمْهُورُ: هُمُ الْيَهُودُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُمُ النَّصَارَى. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُزَكِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِتُقْبِلَ عَلَيْهِمُ الْمُلُوكُ وَسَفِلَتُهُمْ، وَيُوَاصِلُوهُمْ بِالرِّشَا. وَقَالَ عطية عن ابن عباس: قَالُوا آبَاؤُنَا الَّذِينَ مَاتُوا يُزَكُّونَنَا عِنْدَ اللَّهِ وَيَشْفَعُونَ لَنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ فِي آخَرِينَ: أَتَى مَرْحَبُ بْنُ زَيْدٍ وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمْ أَطْفَالُهُمْ فَقَالُوا: هَلْ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ ذَنْبٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالُوا: نَحْنُ كَهُمْ مَا أذنبنا بالليل يكفر عنها بِالنَّهَارِ، وَمَا أَذْنَبْنَا بِالنَّهَارِ يُكَفَّرُ عَنَّا بِاللَّيْلِ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فتزكيتهم أنفسهم. قال عكرمة، ومجاهد، وَأَبُو مَالِكٍ: كَانُوا يُقَدِّمُونَ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ فَيُصَلُّونَ بِهِمْ وَيَقُولُونَ: لَيْسَتْ لَهُمْ ذُنُوبٌ، فَإِذَا صَلَّى بِنَا الْمَغْفُورُ لَهُ غُفِرَ لَنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 62. (2) سورة. (3) سورة البقرة: 2/ 105. (4) سورة البينة: 98/ 1.

وَالْحَسَنُ: هُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «2» وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى الْغَضِّ مِمَّنْ يُزَكِّي نَفْسَهُ بِلِسَانِهِ وَيَصِفُهَا بِزِيَادَةِ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى وَالزُّلْفَى عِنْدَ الله. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ، أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ» حِينَ قَالَ لَهُ الْمُنَافِقُونَ: اعْدِلْ فِي الْقِسْمَةِ، إِكْذَابٌ لَهُمْ إِذْ وَصَفُوهُ بِخِلَافِ مَا وَصَفَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَشَتَّانَ مَنْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ أَوْ شَهِدَ لَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. قَالَ الرَّاغِبُ مَا مُلَخَّصُهُ: التَّزْكِيَةُ ضَرْبَانِ: بِالْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى فِعْلَ مَا يُظْهِرُهُ وَبِالْقَوْلِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِذَلِكَ وَمَدْحُهُ بِهِ. وَحَظَرَ أَنْ يُزَكِّيَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، بَلْ أَنْ يُزَكِّيَ غَيْرَهُ، إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ. فَالتَّزْكِيَةُ إِخْبَارٌ بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بَلْ: إِضْرَابٌ عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، إِذْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُزَكِّيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعْتَدُّ بِتَزْكِيَتِهِ، إِذْ هُوَ الْعَالِمُ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى خَفِيَّاتِهَا. وَمَعْنَى يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أَيْ: مَنْ يَشَاءُ تَزْكِيَتَهُ بِأَنْ جَعْلَهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَصِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُزَكًّى. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى أَقَلِّ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «3» فَإِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ مِقْدَارَ فَتِيلٍ، فَكَيْفَ يَظْلِمُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؟ وَجَوَّزُوا أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي: ولا يظلمون، إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى مَنْ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ لَوْ عَادَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ: وَلَا يَظْلِمُ وَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَلِقَطْعِ بل ما بعدها عن ما قَبْلَهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَذْكُورَيْنِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ، وَمَنْ يُزَكِّيهِ اللَّهُ. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يُظْلَمُونَ أَيِ، الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ حَقَّ جَزَائِهِمْ، أَوْ مَنْ يَشَاءُ يُثَابُونَ وَلَا يُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِهِمْ وَنَحْوِهِ، فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلَمْ تَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: بِسُكُونِهَا إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقِيلَ: هِيَ لُغَةُ قَوْمٍ لَا يَكْتَفُونَ بِالْجَزْمِ بِحَذْفِ لَامِ الْفِعْلِ، بل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 111. (2) سورة البقرة: 2/ 135. (3) سورة النساء: 4/ 40.

يُسَكِّنُونَ بَعْدَهُ عَيْنَ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا يُظْلَمُونَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ: وَلَا تُظْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَانْتِصَابُ فَتِيلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَيَعْنِي عَلَى تَضْمِينِ تُظْلَمُونَ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَالْمَعْنَى: مِقْدَارَ فَتِيلٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَحْقَرِ شَيْءٍ، وَإِلَى أَنَّهُ الْخَيْطُ الَّذِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَإِلَى أَنَّهُ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ أَوِ الْكَفَّيْنِ بِالْفَتْلِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ، وَإِلَى أَنَّهُ نَفْسُ الشِّقِّ ذَهَبَ الْحَسَنُ. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا خَاطَبَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ «1» أَيْ أَلَا تَعْجَبُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ؟ خَاطَبَهُ ثَانِيًا بِالنَّظَرِ فِي كَيْفِيَّةِ افْتِرَائِهِمُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ يَفْتَرُونَ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُلَابَسَةِ وَالدَّيْمُومَةِ، وَلَمْ يَخُصَّ الْكَذِبَ فِي تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، بَلْ عَمَّمَ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ. وَأَيُّ ذَنْبٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «2» فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ عَلَى اللَّهِ. وَكَيْفَ: سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يَفْتَرُونَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِانْظُرْ، لِأَنَّ انْظُرْ مُعَلَّقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نصب بيفترون؟ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: يَفْتَرُونَ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيفترون فَصَحِيحٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ في قوله يَفْتَرُونَ، فَهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، لِأَنَّ كَيْفَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي التَّرْكِيبِ نَظِيرُ كَيْفَ يَضْرِبُ زَيْدٌ عَمْرًا، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً فِي هَذَا التَّرْكِيبِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْخَبَرَ هِيَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَفْتَرُونَ، وَلَيْسَ فِيهَا رَابِطٌ يَرْبُطُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِالْمُبْتَدَأِ، وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ. فَهَذَا الَّذِي قَالَ فِيهِ: وَيَصِحُّ، هُوَ فَاسِدٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً تَقَدَّمَ الكلام في نظير وَكَفَى بِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى الِافْتِرَاءِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى الْكَذِبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَفَى بِزَعْمِهِمْ لِأَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» «3» فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَزْكِيَاءُ، وكفى

_ (1) سورة النساء: 4/ 49. (2) سورة سبأ: 34/ 8. [.....] (3) سورة النساء: 4/ 50.

بِزَعْمِهِمْ هَذَا إِثْمًا مُبِينًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ آثَامِهِمْ انْتَهَى. فَجَعَلَ افْتِرَاءَهُمُ الْكَذِبَ مَخْصُوصًا بِالتَّزْكِيَةِ، وَذَكَرْنَا نَحْنُ أَنَّهُ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ، وَانْتِصَابُ إِثْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَمَعْنَى مُبِينًا أَيْ: بَيِّنًا وَاضِحًا لِكُلِّ أَحَدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَفَى بِهِ خَبَرٌ فِي ضِمْنِهِ تَعَجُّبٌ وَتَعْجِيبٌ مِنَ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّعَجُّبِ أَنْ يَكْتَفِيَ لَهُمْ بِهَذَا الْكَذِبِ إِثْمًا، وَلَا يَطْلُبَ لَهُمْ غَيْرَهُ، إِذْ هُوَ مَوْبِقٌ وَمُهْلِكٌ انْتَهَى. وَفِي مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْبَاءَ دَخَلَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّعَجُّبِ نَظَرٌ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي قَوْلِهِ. وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا «1» فَيُطَالَعُ هُنَاكَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ أَجْمَعُوا أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ كَعْبَ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَجَمَاعَةً مَعَهُمَا وَرَدُوا مَكَّةَ يُحَالِفُونَ قُرَيْشًا عَلَى مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَأَنْتُمْ أَقْرَبُ إِلَى مُحَمَّدٍ منكم إلينا فلانا من مَكْرَكُمْ فَاسْجُدُوا لِآلِهَتِنَا حَتَّى نَطْمَئِنَّ إِلَيْكُمْ، فَفَعَلُوا. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَحْنُ أَهْدَى سَبِيلًا أَمْ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: مَاذَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: يَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ. قَالَ: وَمَا دِينُكُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ نَسْقِي الْحَاجَّ، وَنُقْرِي الضَّيْفَ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، وَذَكَرُوا أَفْعَالَهُمْ. فَقَالَ: أَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا السَّبَبِ خِلَافٌ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، خَرَجَ كَعْبٌ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنَ الْيَهُودِ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَالْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ صَنَمَانِ كَانَا لِقُرَيْشٍ قَالَهُ: عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ. أَوِ الْجِبْتُ هُنَا حُيَيٌّ، وَالطَّاغُوتُ كَعْبٌ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. أَوِ الْجِبْتُ السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَالْجِبْتُ السَّاحِرُ، وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ قَالَهُ: زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. أَوِ الْجِبْتُ السَّاحِرُ، وَالطَّاغُوتُ الْكَاهِنُ، قَالَهُ: رَفِيعٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ. أَوِ الْجِبْتُ الْكَاهِنُ، وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ، قَالَهُ: ابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا. أَوِ الْجِبْتُ الْكَاهِنُ، وَالطَّاغُوتُ السَّاحِرُ، قَالَهُ: ابْنُ سِيرِينَ. أَوِ الْجِبْتُ الشَّيْطَانُ، وَالطَّاغُوتُ الْكَاهِنُ قَالَهُ: قَتَادَةُ. أَوِ الْجِبْتُ كَعْبٌ، وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ كَانَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، أَوِ الْجِبْتُ الْأَصْنَامُ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ،

_ (1) سورة النساء: 4/ 45.

وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوِ الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ كُلُّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ صُورَةٍ، أَوْ شَيْطَانٍ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْخِلَافَ مُفَرَّقًا فَقَالَ: الْجِبْتُ السِّحْرُ قَالَهُ: عُمَرُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ. أَوِ الْأَصْنَامُ رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْفَرَّاءُ، أَوْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. أَوِ الْكَاهِنُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ: مَكْحُولٌ، وَابْنُ سِيرِينَ. أَوِ الشَّيْطَانُ قَالَهُ: ابْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ، وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ أَوِ السَّاحِرُ قَالَهُ: أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ. وَرَوَى أَبُو بِشْرٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْجِبْتُ السَّاحِرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا الطَّاغُوتُ فَالشَّيْطَانُ قَالَهُ: عُمَرُ، وَمُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ وَابْنُ زَيْدٍ. أَوِ الْمُتَرْجِمُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ كَعْبٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ: الضَّحَّاكُ، وَالْفَرَّاءُ. أَوِ الْكَاهِنُ قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَوِ السَّاحِرُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمَكْحُولٍ، أَوْ كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَهُ: مَالِكٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ مُتَرَادِفَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْجُمْهُورُ وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا اثْنَانِ. وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ جِبْتًا لِكَوْنِ عَلِمَ الْغَيْبِ يَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى. خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الطَّرْقُ وَالطِّيَرَةُ وَالْعِيَافَةُ مِنَ الْجِبْتِ» الطَّرْقُ الزَّجْرُ، وَالْعِيَافَةُ الْخَطُّ. فَإِنَّ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ الْأَصْنَامُ أَوْ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَالْإِيمَانُ بِهِمَا التَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمَا آلِهَةٌ يَشْرَكُونَهُمَا فِي الْعِبَادَةِ مَعَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ حُيَيًّا، وَكَعْبًا، أَوْ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ، أَوِ السَّاحِرَ، أَوِ الْكَاهِنَ، أَوِ الشَّيْطَانَ، فَالْإِيمَانُ بِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ طَاعَتِهِمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ وَهِيَ الطَّاعَةُ عَلَى الْإِيمَانِ. وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا الضَّمِيرُ فِي: يَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا. وَفِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ كَعْبًا هُوَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ يُؤْمِنُونَ حَالٌ، وَيَقُولُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُؤْمِنُونَ فَهِيَ حَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ أَخْبَارٍ تُبَيِّنُ التَّعَجُّبَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: أَلَا تَعْجَبُ إِلَى حَالِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا حَالُهُمْ وَهُمْ قَدْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يُؤْمِنُونَ بِكَذَا، وَيَقُولُونَ كَذَا. أَيْ: أَنَّ أَحْوَالَهُمْ مُتَنَافِيَةٌ. فَكَوْنُهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَقْتَضِي لَهُمْ أَنْ لَا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَلَكِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْحَسَدُ. وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينِ كَفَرُوا لِلتَّبْلِيغِ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَقُولُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ قُرَيْشٌ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا هُمُ النَّبِيُّ وَأُمَّتُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا أَفْعَلَ

التَّفْضِيلِ وَلَمْ يَلْحَظُوا مَعْنَى التَّشْرِيكِ فِيهِ، أَوْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِكُفْرِهِمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ آمَنَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَقَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَقَتَهُمْ. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَيْ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ آثَارِ اللَّعْنَةِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةُ التَّقْدِيرِ: بَلْ أَلَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ إِلَى كَلَامٍ تَامٍّ، وَاسْتَفْهَمَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ أَمْ يُسْتَفْهَمُ بِهَا ابْتِدَاءً. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. أَمْ هُنَا بِمَعْنَى بَلْ، وَفَسَّرُوا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ أَنَّهُمْ مُلُوكُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَعُتُوٌّ وَتَنَعُّمٌ لَا يَبْغُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهُمْ بُخَلَاءُ حَرِيصُونَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ ظُهُورٌ لِغَيْرِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى القول الأوّل: أَلَهُمْ نَصِيبٌ، مِنَ الْمُلْكِ؟ فَلَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ لَبَخِلُوا بِهِ. وَالْمُلْكُ مُلْكُ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. أَوْ مُلْكُ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ» «1» وَقِيلَ: الْمَالُ، لِأَنَّهُ بِهِ يُنَالُ الْمُلْكُ وَهُوَ أَسَاسُهُ. وَقِيلَ: اسْتِحْقَاقُ الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: صِدْقُ الْفِرَاسَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْأَفْصَحُ إلغاء اذن بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس: لا يؤنوا بِحَذْفِ النُّونِ عَلَى إِعْمَالِ اذن. وَالنَّاسُ هُنَا الْعَرَبُ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، أَوِ النَّبِيُّ، أَوْ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ. وَالنَّقِيرُ: النُّقْطَةُ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٍ، وَالْفَرَّاءِ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ فِي آخَرِينَ. وَقِيلَ: الْقِشْرُ يَكُونُ فِي وَسَطِ النَّوَاةِ، رَوَاهُ التَّمِيمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوِ الْخَيْطُ فِي وَسَطِ النَّوَاةِ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَوْ نَقْرُ الرَّجُلِ الشَّيْءَ بِطَرَفِ إِبْهَامِهِ رَوَاهُ أَبُو الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ حَبَّةُ النَّوَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِهَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْفَتِيلُ وَالنَّقِيرُ، وَالْقِطْمِيرُ، يُضْرَبُ مَثَلًا لِلشَّيْءِ التَّافِهِ الْحَقِيرِ، وَخُصَّتِ الْأَشْيَاءُ الْحَقِيرَةُ بِقَوْلِهِ: «فَتِيلًا» فِي قَوْلِهِ: «وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» «2» وَهُنَا بِقَوْلِهِ نقير الوفاق النَّظِيرِ مِنَ الْفَوَاصِلِ. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَمْ أَيْضًا مُنْقَطِعَةٌ فَتُقَدَّرُ ببل.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 100. (2) سورة النساء: 4/ 49.

والهمزة فبل: لِلِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَصْحَبُهُ الْإِنْكَارُ. أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا الْبُخْلَ، ثُمَّ ثَانِيًا الْحَسَدَ. فَالْبُخْلُ مَنْعُ وُصُولِ خَيْرٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ مَا أَعْطَى اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْخَيْرِ وَإِيتَاؤُهُ لَهُ. نَعَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ تَحَلِّيَهُمْ بِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَسَدُ شَرَّ الْخَصْلَتَيْنِ تَرَقَّى إِلَى ذِكْرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْبُخْلِ. وَالنَّاسُ هُنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَضْلُ النُّبُوَّةُ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا: وَالْفَضْلُ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّوَاضُعِ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ طَعَامًا، لَيْسَ هَمُّهُ إِلَّا فِي النِّسَاءِ وَنَحْوَ هَذَا، فَنَزَلَتْ. وَالْمَعْنَى: لِمَ تَخُصُّونَهُ بِالْحَسَدِ، وَلَا تَحْسُدُونَ آلَ إِبْرَاهِيمَ- يَعْنِي-: سُلَيْمَانَ وَدَاوُدَ فِي أَنَّهُمَا أُعْطِيَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَأُعْطِيَا مَعَ ذَلِكَ مُلْكًا عَظِيمًا فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَثَلَاثُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وَلِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ. فَالْمُلْكُ فِي هذه الْقَوْلِ إِبَاحَةُ النِّسَاءِ، كَأَنَّهُ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا بِالذِّكْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّاسُ هُنَا الْعَرَبُ حَسَدَتْهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ كان الرسول مِنْهَا، وَالْفَضْلُ هُنَا الرَّسُولُ. وَالْمَعْنَى: لِمَ يَحْسُدُونَ الْعَرَبَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ وَقَدْ أُوتِيَ أَسْلَافُهُمْ أَنْبِيَاءً. وَكُتُبًا كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ، وَحِكْمَةً وَهِيَ الْفَهْمُ فِي الدِّينِ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ؟ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ النَّاسُ يُرِيدُ قُرَيْشًا. فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً أَيْ مُلْكَ سُلَيْمَانَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ النُّبُوَّةُ. وَقَالَ هَمَّامُ بْنُ الحرث وَأَبُو مَسْلَمَةَ وَابْنُ زَيْدٍ هُوَ التَّأْيِيدُ بِالْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: النَّاسُ هُنَا الرَّسُولُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ أَوِ هُمَا، وَالزَّبُورُ أَقْوَالٌ، وَالْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ قَالَهُ: السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ. أَوِ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَقِيلَ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ سِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَشَرْعِ الدِّينِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمْ يَحْسُدُونَهُمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ النُّصْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَازْدِيَادِ الْعِزِّ وَالتَّقَدُّمِ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَدْ آتَيْنَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ إِيتَاءِ اللَّهِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ آلَ إِبْرَاهِيمَ الذين أَسْلَافُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ أَسْلَافُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُلْكُ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ مُلْكُ يُوسُفَ، وَدَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أَيْ: مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ كَقَوْلِهِ: «فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ» «1» قَالَهُ السُّدِّيُّ: أَوْ فَمِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ مَنْ آمَنَ بِالْكِتَابِ، أَوْ فَمِنَ الْيَهُودِ المخاطبين بِقَوْلِهِ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا» «2» مَنْ آمَنَ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا نَزَّلْنَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَالْجُمْهُورُ وَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الطَّمْسُ وَلَمْ يَقَعْ. أَوْ فَمِنَ الْيَهُودِ مَنْ آمَنَ بِالْفَضْلِ الَّذِي أُوتِيَهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَوِ الْعَرَبُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. أَوْ فَمِنَ الْيَهُودِ مَنْ آمَنَ بِهِ، أَيْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ آلِ إِبْرَاهِيمَ. أَوْ فَمِنَ الْيَهُودِ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِ حَسَدَهُمُ النَّاسَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُمْ، أَتَى بِمَا بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَحْسُدُوا فَقَدْ حَازَ أَسْلَافُكُمْ مِنَ الشَّرَفِ مَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَحْسُدُوا أَحَدًا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَوْنِهِمْ يَحْسُدُونَهُ وَلَا يَتَّبِعُونَهُ، فَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَيْضًا مَعَ أَسْلَافِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمُ انْقَسَمُوا إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، هَذَا وَهُمْ أَسْلَافُهُمْ فَكَيْفَ بِنَبِيٍّ لَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ؟. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَمَنْ صُدَّ عَنْهُ بِرَفْعِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَأَبُو الْحَوْرَاءِ وأبو رجاء والحوقي، بِكَسْرِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَالْمُضَاعَفُ الْمُدْغَمُ الثُّلَاثِيُّ يَجُوزُ فِيهِ إِذَا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ مَا جَازَ فِي بَاعَ إِذَا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، فَتَقُولُ: حُبُّ زَيْدٍ بِالضَّمِّ، وَحِبٌّ بِالْكَسْرِ. وَيَجُوزُ الْإِشْمَامُ. وَالصَّدُّ لَيْسَ مُقَابِلًا لِلْإِيمَانِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ بِهِ وَصَدَّ عَنْهُ. وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أَيِ احْتِرَاقًا وَالْتِهَابًا أَيْ لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ. وسعيرا يميز وَهُوَ شِدَّةُ تَوَقُّدِ النَّارِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَفَى بِسَعِيرِ جَهَنَّمَ سَعِيرًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ، وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ بِآيَاتِهِ، ثُمَّ بَعْدُ يُتْبَعُ بِمَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَصَارَ نَظِيرَ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» «3» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُصْلِيهِمْ مِنْ أَصْلَى. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ: نَصْلِيهِمْ مِنْ صَلِيَتْ. وَقَرَأَ سَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ: نُصْلِيهِمْ بِضَمِّ الهاء.

_ (1) سورة الحديد: 53/ 26. (2) سورة النساء: 4/ 47. (3) سورة آل عمران: 3/ 106.

[سورة النساء (4) : آية 57]

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها انتصاب كل على الظَّرْفِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ بَدَّلْنَاهُمْ، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا نُصْلِيهِمْ. وَالتَّبْدِيلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: تَبْدِيلٌ فِي الصِّفَاتِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَتَبْدِيلٌ فِي الذَّوَاتِ بِأَنْ تَذْهَبَ الْعَيْنُ وَتَجِيءَ مَكَانَهَا عَيْنٌ أُخْرَى، يُقَالُ: هَذَا بَدَلُ هَذَا. وَالظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي. وَأَنَّهُ إِذَا نَضِجَ ذَلِكَ الْجِلْدُ وَتَهَرَّى وَتَلَاشَى جِيءَ بِجِلْدٍ آخَرَ مَكَانَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: جُلُودًا غَيْرَهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْجُلُودَ تُخْلَقُ مِنَ اللَّحْمِ، فَإِذَا أُحْرِقَ جِلْدٌ بَدَّلَهُ اللَّهُ مِنْ لَحْمِ الْكَافِرِ جِلْدًا آخَرَ. وَقِيلَ: هِيَ بِعَيْنِهَا تُعَادُ بَعْدَ إِحْرَاقِهَا، كَمَا تُعَادُ الْأَجْسَادُ بَعْدَ الْبِلَى فِي الْقُبُورِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى الصِّفَةِ، لَا إِلَى الذَّاتِ. وقال الفضيل: يجعل النضيج غَيْرَ نَضِيجٍ. وَقِيلَ: تُبَدَّلُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَبْعِينَ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجُلُودَ هِيَ سَرَابِيلُ مِنْ قَطِرَانٍ تُخَالِطُ جُلُودَهُمْ مُخَالَطَةً لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا. فَيُبَدِّلُ اللَّهُ تِلْكَ السَّرَابِيلَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. أَوْ كَمَا قِيلَ: مِائَةَ أَلْفِ مَرَّةٍ. وَسُمِّيَتْ جُلُودًا لِمُلَابَسَتِهَا الْجُلُودَ. وَأَبْعَدُ أَيْضًا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ، كُلَّمَا انْتَهَى فَقَدِ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ، يَعْنِي: كُلَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَضِجُوا وَاحْتَرَقُوا وَانْتَهَوْا إِلَى الْهَلَاكِ أَعْطَيْنَاهُمْ قُوَّةً جَدِيدَةً مِنَ الْحَيَاةِ، بِحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمُ الْآنَ حَدَّثُوا وَوَجَدُوا، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بَيَانُ دَوَامِ الْعَذَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُلْبِسُهُمُ اللَّهُ جُلُودًا بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قَرَاطِيسُ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: يَلْبَسُ أَهْلُ النَّارِ جُلُودًا تُؤْلِمُهُمْ وَلَا تُؤْلَمُ هِيَ. لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أَيْ ذَلِكَ التَّبْدِيلَ كُلَّمَا نَضِجَتِ الْجُلُودُ، هُوَ لِيَذُوقُوا أَلَمَ الْعَذَابِ. وَأَتَى بِلَفْظِ الذوق المشعر بالإحسان الْأَوَّلِ وَهُوَ آلَمُ، فَجَعَلَ كُلَّمَا وَقَعَ التَّبْدِيلُ كَانَ لِذَوْقِ الْعَذَابِ بِخِلَافِ مَنْ تَمَرَّنَ عَلَى الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ لِيَدُومَ لَهُمْ دُونَهُ وَلَا يَنْقَطِعَ، كَقَوْلِكَ لِلْعَزِيزِ: أَعَزَّكَ اللَّهُ أَيْ أَدَامَكَ عَلَى عِزِّكَ، وَزَادَكَ فِيهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً أَيْ عَزِيزًا لَا يُغَالَبُ، حَكِيمًا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُرِيدُهُ بالمجرمين، حكيما لَا يُعَذِّبُ إِلَّا بِعَدْلٍ من يستحقه. [سورة النساء (4) : آية 57] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَعْقَبَ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَاءَتْ جُمْلَةُ الْكُفَّارِ مُؤَكَّدَةً بِأَنَّ عَلَى سَبِيلِ تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ الْمُؤَكَّدِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَتَى فِيهَا بِالسِّينِ الْمُشْعِرَةِ بِقِصَرِ مُدَّةِ التَّنْفِيسِ عَلَى سَبِيلِ تَقْرِيبِ الْخَيْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَتَبْشِيرِهِ بِهِ. لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا. وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ ظِلٌّ لَا يَنْتَقِلُ، كَمَا يَفْعَلُ ظِلُّ الدُّنْيَا فَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ظَلِيلًا لِذَلِكَ وَيَصِحُّ أَنْ يَصِفَهُ بِظَلِيلٍ لِامْتِدَادِهِ، فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يُسَيِّرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضْمَرَ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُهَا» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الظَّلِيلُ: هُوَ الْقَوِيُّ الْمُتَمَكِّنُ. قَالَ: وَنَعْتُ الشَّيْءِ بِمِثْلِ مَا اشْتُقَّ مِنْ لَفْظِهِ يَكُونُ مُبَالَغَةً كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ظِلًّا ظَلِيلًا لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، فَكَانَ الظِّلُّ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الرَّاحَةِ وَوَصْفُهُ بِالظَّلِيلِ مبالغة في مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الرَّاحَةِ وَوَصْفُهُ بِالظَّلِيلِ مُبَالَغَةٌ فِي الرَّاحَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ظَلِيلٌ صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ لَفْظِ الظِّلِّ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ، كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَيَوْمٌ أَيْوَمُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهُوَ مَا كَانَ فَيْنَانًا لَا جَوْبَ فِيهِ، وَدَائِمًا لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ. وَسَجْسَجًا لَا حَرَّ فِيهِ وَلَا بَرْدَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا ظَلُّ الْجَنَّةِ رَزَقَنَا اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ مَا يزلف إليه التفيؤ تَحْتَ ذَلِكَ الظِّلِّ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: سَيُدْخِلُهُمْ بِالْيَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: قد يكون ظل لَيْسَ بِظَلِيلٍ يَدْخُلُهُ الْحَرُّ وَالشَّمْسُ، فَلِذَلِكَ وَصَفَ ظَلَّ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ: ظِلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَقِي الْحَرَّ وَالسَّمُومِ، وَظِلُّ أَهْلِ النَّارِ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَوْقَاتِ الْجَنَّةِ كُلُّهَا سَوَاءٌ اعْتِدَالٌ، لَا حَرَّ فِيهَا وَلَا بَرْدَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: سَيُدْخِلُهُمْ بِالْيَاءِ، وَكَذَا وَيُدْخِلُهُمْ ظِلًّا، فَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ فَلَاحَظَ قَوْلَهُ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ «1» وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ لَاحَظَ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً «2» فَأَجْرَاهُ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ فِي: أَلَمْ تَرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالْخِطَابُ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فِي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا وَهُوَ دُعَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ صُورِيَّا وَكَعْبًا وَغَيْرَهُمَا مِنَ

_ (1) سورة النساء: 4/ 56. (2) سورة النساء: 4/ 56.

[سورة النساء (4) : الآيات 58 إلى 63]

الْأَحْبَارِ إِلَى الْإِيمَانِ حَسَبَ مَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا، فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: هُوَ الصَّرْفُ عَنِ الْحَقِّ، وَفِي: لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، أُطْلِقَ اسْمُ الذَّوْقِ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِحَاسَّةِ اللِّسَانِ وَسَقْفِ الْحَلْقِ عَلَى وُصُولِ الْأَلَمِ لِلْقَلْبِ. وَالطِّبَاقُ فِي: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، وَالْوَجْهُ ضِدُّ الْقَفَا، وَفِي: لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَفِي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَفِي: مَنْ آمَنَ وَمَنْ صَدَّ، وَهَذَا طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ. وَالِاسْتِطْرَادُ فِي: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: يَغْفِرُ، وَفِي: لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَفِي: لَفْظِ الناس، وفي: آتينا وآتيناهم، وَفِي: فَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، وَفِي: جلودهم وجلودا، وفي: سندخلهم وندخلهم. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا وَفِي: لَا يَغْفِرُ وَيَغْفِرُ، وَفِي: لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ، وفي: لا يؤتون ما آتَاهُمُ آتَيْنَا وَآتَيْنَاهُمْ وَفِي: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَآمَنُوا أَهْدَى. وَالتَّعَجُّبُ: بِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ. وَتَلْوِينُ الْخِطَابِ فِي: يَفْتَرُونَ أَقَامَ الْمُضَارِعَ مَقَامَ الْمَاضِي إِعْلَامًا أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ فِي: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ وَفِي: أَمْ يَحْسُدُونَ. وَالْإِشَارَةُ فِي: أُولَئِكَ الَّذِينَ. وَالتَّقْسِيمُ فِي: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ. وَالتَّعْرِيضُ في: فإذن لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا عَرَّضَ بِشِدَّةِ بُخْلِهِمْ. وَإِطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ إِذًا فُسِّرَ بِالرَّسُولِ، وَإِقَامَةُ الْمُنَكَّرِ مَقَامَ الْمُعَرَّفِ لِمُلَاحَظَةِ الشُّيُوعِ. وَالْكَثْرَةُ فِي: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: عَزِيزًا حَكِيمًا. وَالْحَذْفُ فِي: مَوَاضِعَ. [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)

الزَّعْمُ: قَوْلٌ يَقْتَرِنُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الظَّنِّيُّ. وَهُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ: فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلَ فِيكُمْ ... فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحُلْمَ بَعْدَكَ بِالْجَهْلِ وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَكْثَرُ مَا يَقَعُ عَلَى الْبَاطِلِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» . وَقَالَ الْأَعْشَى: وَنُبِّئْتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ ... كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنْ فَقَالَ الْمَمْدُوحُ وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّعْمُ وَحَرَمَهُ. وَإِذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ، فَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا انْفَرَدَ الْخَلِيلُ بِهِ، وَكَانَ أَقْوَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي زَعْمِ أَنْ تُوقَعَ عَلَى أَنْ قَالَ، قَالَ. وَقَدْ تُوقَعُ فِي الشِّعْرِ عَلَى الِاسْمِ. وَأَنْشَدَ بَيْتَ أَبِي ذُؤَيْبٍ هَذَا وَقَوْلَ الْآخَرِ: زَعَمَتْنِي شَيْخًا وَلَسْتُ بِشَيْخِ ... إِنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبِيبًا وَيُقَالُ: زَعَمَ بِمَعْنَى كَفَلَ، وَبِمَعْنَى رَأَسَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ مَرَّةً، وَبِحَرْفِ جَرٍّ أُخْرَى. وَيُقَالُ: زَعَمَتِ الشَّاةُ أَيْ سَمِنَتْ، وَبِمَعْنَى هَزَلَتْ، وَلَا يَتَعَدَّى. التَّوْفِيقُ: مَصْدَرُ وَفَقَ، وَالْوِفَاقُ وَالْوَفْقُ ضِدَّ الْمُخَالَفَةِ. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ: مُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ مَا ذَكَرُوا فِي قِصَّةٍ مُطَوَّلَةٍ مَضْمُونُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ مِنْ سَادِنِيهَا عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بَعْدَ تَأَبٍّ مِنْ عُثْمَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ، فَسَأَلَ الْعَبَّاسُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ السِّقَايَةِ وَالسِّدَانَةِ، فَنَزَلَتْ. فَرَدَّ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِمَا وَأَسْلَمَ عُثْمَانُ. وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَأْخُذُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ: زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَكْحُولٌ، وَاخْتَارَهُ أَبُو

سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأُمَرَاءِ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَةَ فِيمَا ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ رَعِيَّتِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَامِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ: أُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ، نَبَّهَ عَلَى هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ اللَّذَيْنِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِمَا كَانَ أَحْرَى أَنْ يَتَّصِفَ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَأَحَدُهُمَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَالثَّانِي مَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْحُكْمِ الْعَدْلِ الْخَالِي عَنِ الْهَوَى، وَهُوَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ أَنْ يَبْدَأَ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِحَالِ غَيْرِهِ، أُمِرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ بِالْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ. وَالظَّاهِرُ فِي: يَأْمُرُكُمْ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ أَسْلَمَ، وَشَهْرٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: خِطَابٌ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، فَهُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَرَائِهِ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْوُلَاةِ أَنْ يَعِظُوا النِّسَاءَ فِي النُّشُوزِ وَنَحْوَهُ، وَيَرُدُّوهُنَّ إِلَى الْأَزْوَاجِ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْيَهُودِ أُمِرُوا بِرَدِّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمَانَةِ، مِنْ نَعْتِ الرَّسُولِ أَنْ يُظْهِرُوهُ لِأَهْلِهِ، إِذِ الْخِطَابُ مَعَهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَقَلَ التَّبْرِيزِيُّ: أَنَّهَا خِطَابٌ لِأُمَرَاءِ السَّرَايَا بِحِفْظِ الْغَنَائِمِ وَوَضْعِهَا فِي أَهْلِهَا. وَقِيلَ: ذَلِكَ عَامٌّ فِيمَا كَلَّفَهُ الْعَبْدُ مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْوُلَاةَ فِيمَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمَانَاتِ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ، وَرَدِّ الظُّلَامَاتِ، وَعَدْلِ الْحُكُومَاتِ. وَمِنْهُ دُونَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي الْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِي، وَالشَّهَادَاتِ، وَالرَّجُلُ يَحْكُمُ فِي نَازِلَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُرَخِّصِ اللَّهُ لِمُوسِرٍ وَلَا مُعْسِرٍ أن يمسك الأمانة. وقرىء: أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَنْ تَحْكُمُوا، ظَاهِرُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا، وَفَصَلَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِإِذَا. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً «1» وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا «2» سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «3» فَفَصَلَ فِي هَذِهِ الآية بين

_ (1) سورة البقرة: 2/ 201. (2) سورة يس: 36/ 9. (3) سورة الطلاق: 65/ 2.

الْوَاوِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَجْرُورِ. وَأَبُو عَلِيٍّ يَخُصُّ هَذَا بِالشِّعْرِ، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ مَجْرُورًا أُعِيدَ الْجَارُّ نَحْوَ: امْرُرْ بِزَيْدٍ وَغَدًا بِعَمْرٍو. وَلَكِنْ قَوْلُهُ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا، لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ يَتَعَلَّقُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْعَامِلِ فِي الْمَعْطُوفِ، وَالظَّرْفُ هُنَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ تَحْكُمُوا، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي صلة، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَصِبَ بالناصب لأن تَحْكُمُوا لِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ وَاقِعًا وَقْتَ الْحُكْمِ. وَقَدْ خَرَّجَهُ عَلَى هَذَا بَعْضُهُمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِذَا معمولة لأن تَحْكُمُوا مُقَدَّرَةٍ، وَأَنْ تَحْكُمُوا الْمَذْكُورَةُ مُفَسِّرَةٌ لِتِلْكَ الْمُقَدَّرَةِ، هذا إذا فرغنا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْفَرَّاءِ فإذا منصوبة بأن تَحْكُمُوا هَذِهِ الْمَلْفُوظُ بِهَا، لِأَنَّهُ يُجِيزُ: يُعْجِبُنِي الْعَسَلُ أَنْ يُشْرَبَ، فَتَقَدَّمَ مَعْمُولُ صِلَةِ أَنْ عَلَيْهَا. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أصله: نعم ما، وما مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ. كَأَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ الشَّيْءُ يَعِظُكُمْ بِهِ، أَيْ شَيْءٌ يَعِظُكُمْ بِهِ. وَيَعِظُكُمْ صِفَةٌ لِشَيْءٍ، وَشَيْءٌ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَمَوْصُولَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالْمَخْصُوصُ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ: نِعْمَ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ تَأْدِيَةُ الْأَمَانَةِ وَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ. وَنَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَعِظُكُمْ صِفَةٌ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْمَخْصُوصُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَتَقْدِيرِ مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ تَأَوَّلْتُ مَا هُنَا عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا الْمُرْدَفَةُ عَلَى نِعْمَ إِنَّمَا هِيَ مُهَيَّئَةٌ لِاتِّصَالِ الْفِعْلِ بِهَا كَمَا هِيَ فِي رُبَّمَا، ومما فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ وَنَحْوِهِ. وَفِي هَذَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ رُبَّمَا، وَهِيَ لَهَا مُخَالِفَةٌ فِي الْمَعْنَى: لِأَنَّ رُبَّمَا مَعْنَاهَا التَّقْلِيلُ، وَمِمَّا مَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ. وَمَعَ أَنَّ مَا مُوَطِّئَةٌ، فَهِيَ بمعنى الذي. وما وَطَّأَتْ إِلَّا وَهِيَ اسْمٌ، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَلِيهَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْفِعْلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ مُتَهَافِتٌ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَعْلُهَا مُوَطِّئَةً مُهَيِّئَةً لَا تَكُونُ اسْمًا، وَمِنْ حَيْثُ جَعْلُهَا بِمَعْنَى الَّذِي لَا تَكُونُ مُهَيِّئَةً مُوَطِّئَةً فَتَدَافَعَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نِعِمَّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: نَعِمَّا بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ نَعِمَ عَلَى وَزْنِ شَهِدَ. وَنُسِبَ إِلَى أَبِي عَمْرٍو سُكُونُ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً أَيْ لِأَقْوَالِكُمُ الصَّادِرَةِ مِنْكُمْ فِي الْأَحْكَامِ.

بَصِيراً بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أُمَرَاءِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرُوا قِصَّةً طَوِيلَةً مَضْمُونُهَا: أَنَّ عَمَّارًا أَجَارَ رَجُلًا قَدْ أَسْلَمَ، وَفَرَّ أَصْحَابُهُ حِينَ أُنْذِرُوا بِالسَّرِيَّةِ فَهَرَبُوا، وَأَقَامَ الرَّجُلُ وَإِنَّ أَمِيرَهَا خَالِدًا أَخَذَ الرَّجُلَ وَمَالَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَمَّارٌ بِإِسْلَامِهِ وَإِجَارَتِهِ إِيَّاهُ فَقَالَ خالد: وأنت تجيز؟ فَاسْتَبَّا وَارْتَفَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجَازَ أَمَانَ عَمَّارٍ، وَنَهَاهُ أَنْ يُجِيرَ عَلَى أَمِيرٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْوُلَاةَ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِطَاعَتِهِمْ، قَالَ عَطَاءٌ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِي فَرِيضَتِهِ، والرسول فِي سُنَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَالرَّسُولَ مَا دَامَ حَيًّا، وَسُنَّتَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَقِيلَ: فيما شرع، والرسول فِيمَا شَرَحَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالسُّدِّيُّ، وابن زيد: أولوا الْأَمْرِ هُمُ الْأُمَرَاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ. وَقِيلَ: الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَالَ جَابِرٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْعُلَمَاءُ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ. وَقَالَ مَيْمُونٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، أُمَرَاءُ السَّرَايَا، أَوِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ قَالَهُ: الشِّيعَةُ. أَوْ عَلِيٌّ وَحْدَهُ قَالُوهُ أَيْضًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ شَيْءٍ وِلَايَةً صَحِيحَةً. قَالُوا: حَتَّى الْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا طَاعَةُ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ مَعَ سَيِّدِهِ، وَالْوَلَدُ مَعَ وَالِدَيْهِ، وَالْيَتِيمُ مَعَ وَصِيِّهِ فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَهُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمراد، بأولي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، أُمَرَاءُ الْحَقِّ، لِأَنَّ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُمْ، فَلَا يُعْطَفُونَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَانَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءُ يَقُولُ: أَطِيعُونِي مَا عَدَلْتُ فِيكُمْ، فَإِنْ خَالَفْتُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ: أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: أَلَسْتُمْ أُمِرْتُمْ بِطَاعَتِنَا فِي قَوْلِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نُزِعَتْ مِنْكُمْ إِذْ خَالَفْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «1» . وَقِيلَ: هُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «من أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعْ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ الدَّيِّنُونَ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الدِّينَ، يَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ انْتَهَى. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: أَطِيعُوا السُّلْطَانَ فِي سَبْعَةٍ: ضَرْبِ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ، وَالْمَكَايِيلِ، وَالْأَوْزَانِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجُمْعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْجِهَادِ. وَإِذَا نَهَى السُّلْطَانُ الْعَالِمَ أَنْ يُفْتِيَ

_ (1) سورة النساء: 4/ 59.

فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ، فَإِنْ أَفْتَى فَهُوَ عَاصٍ وَإِنْ كَانَ أَمِيرًا جَائِرًا. قِيلَ: وَيُحْمَلُ قَوْلُ سَهْلٍ عَلَى أَنَّهُ يَتْرُكُ الْفُتْيَا إِذَا خَافَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَأَمَّا طَاعَةُ السُّلْطَانِ فَتَجِبُ فِيمَا كَانَ فِيهِ طَاعَةٌ، وَلَا تَجِبُ فِيمَا كَانَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ. قَالَ: وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ أُمَرَاءَ زَمَانِنَا لَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ، وَلَا مُعَاوَنَتُهُمْ، وَلَا تَعْظِيمُهُمْ، وَيَجِبُ الْغَزْوُ مَعَهُمْ مَتَى غَزَوْا، وَالْحُكْمُ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَتَوْلِيَةُ الْإِمَامَةِ وَالْحِسْبَةِ، وَإِقَامَةُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الشَّرِيعَةِ. فَإِنْ صَلَّوْا بِنَا وَكَانُوا فَسَقَةً مِنْ جِهَةِ الْمَعَاصِي جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا فَتُصَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةً، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ فِيمَا بَعْدُ. انْتَهَى. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: بِإِمَامٍ مَعْصُومٍ بِقَوْلِهِ: وأولي الأمر منكم. فإن الْأُمَرَاءَ وَالْفُقَهَاءَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِمْ. وَمِنْ شَرْطِ الْإِمَامِ الْعِصْمَةُ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِمَامَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إِمَامٌ مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ لَكَانَ الرَّدُّ إِلَيْهِ وَاجِبًا، وَكَانَ هُوَ يَقْطَعُ التَّنَازُعَ، فَلَمَّا أَمَرَ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْإِمَامِ، دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ الْإِمَامَةِ. وَتَأْوِيلُهُمْ: أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعَلِيٌّ وَاحِدٌ. وَكَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فِي حَيَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَرَاءَ، وَعَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ. فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ طَاعَتَهُمْ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ عَلَى الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، وَإِلَّا لَكَانَ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْخَطَأِ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِهِ، وَالْخَطَأُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا بَعْدَ الرَّسُولِ إِلَّا جَمْعُ الْأُمَّةِ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ، وَمُوجِبُ ذَلِكَ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: فَرُدُّوهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُؤَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ قُولُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَأُولُوا الْأَمْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَرُدُّوهُ ارْجِعُوا فِيهِ إِلَى

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ انْتَهَى. وَقَدِ اسْتَدَلَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَمُثْبِتُوهُ بِقَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شَرْطٌ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَهُوَ شَرْطٌ يُرَادُ بِهِ الْحَضُّ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ نَادَاهُمْ أولا بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فَصَارَ نَظِيرَ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِوَعِيدِ مَنْ لَمْ يَرُدَّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ذَلِكَ الرَّدُّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ إِلَى أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَحْسَنُ عَاقِبَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَحْسَنُ جَزَاءً. وَقِيلَ: أَحْسَنُ تَأْوِيلًا مِنْ تَأْوِيلِكُمْ أَنْتُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحْسَنُ نَظَرًا وَتَأْوِيلًا مِنْكُمْ إِذَا انْفَرَدْتُمْ بِتَأْوِيلِكُمْ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَصَصٌ طَوِيلٌ مُلَخَّصُهُ: أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ كَانَ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَسْلَمَ، أَوْ أَنَّ قَيْسًا الْأَنْصَارِيَّ أَحَدَ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ تَدَاعَيَا إِلَى الْكَاهِنِ وَتَرَكَا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بعد ما دَعَا الْيَهُودِيُّ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْأَنْصَارِيُّ يَأْبَى إِلَّا الْكَاهِنَ. أَوْ أَنَّ مُنَافِقًا وَيَهُودِيًّا اخْتَصَمَا، فَاخْتَارَ الْيَهُودِيُّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَارَ الْمُنَافِقُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، فَأَبَى الْيَهُودِيُّ، وَتَحَاكَمَا إِلَى الرَّسُولِ، فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ، فَخَرَجَا وَلَزِمَهُ الْمُنَافِقُ، وَقَالَ: نَنْطَلِقُ إِلَى عُمَرَ، فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: قَدْ تَحَاكَمْنَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ، فَأَقَرَّ الْمُنَافِقُ بِذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَتَلَهُ عُمَرُ وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي فِيمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَضَاءِ رَسُولِهِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ، ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْجَبُ بَعْدَ وُرُودِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ حَالِ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ وَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَيَتْرُكَ الرَّسُولَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُ قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أنزل مِنْ قَبْلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ فِي يَهُودٍ أَوْ فِي مُؤْمِنٍ وَيَهُودِيٍّ كَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوْزِيعِ، فَيَجْعَلُ بِمَا أَنْزِلُ إِلَيْكَ فِي مُنَافِقٍ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فِي يَهُودِيٍّ، وَشُمِلُوا فِي ضَمِيرِ يَزْعُمُونَ فَيُمْكِنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، تَفَاخَرُوا بِسَبَبِ تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ، إِذْ كَانَتِ

النَّضِيرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَدِي مَنْ قَتَلَتْ وَتَسْتَقِيهِ إِذَا قَتَلَتْ قُرَيْظَةُ مِنْهُمْ، فَأَبَتْ قُرَيْظَةُ لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَطَلَبُوا الْمُنَافَرَةَ، فَدَعَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا الْمُنَافِقُونَ إِلَى بُرْدَةَ الْكَاهِنِ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: احْتَكَمَ الْمُنَافِقُونَ بِالْقِدَاحِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا عِنْدَ الْأَوْثَانِ فَنَزَلَتْ. أَوْ لِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ اخْتَلَفُوا فِي الطَّاغُوتِ. فَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقِيلَ: الْأَوْثَانُ. وَقِيلَ: مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْكُهَّانُ. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: يريدون، ويريدون حال، فهي حال متداخل. وَأَعَادَ الضَّمِيرُ هُنَا مُذَكَّرًا، وَأَعَادَهُ مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ: اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا. وَقَرَأَ بِهَا هَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ كَضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ «1» . وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً ضَلَالًا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى يُضِلَّهُمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُعِلَ مَكَانَ إِضْلَالٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ الْمُطَاوِعِ يُضِلَّهُمْ، أَيْ: فَيَضِلُّونَ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا أُنْزِلَ إليك وما أنزل مبنيا للمفعول فيهما. وقرىء: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فِيهِمَا. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً قَرَأَ الْحَسَنُ: تَعَالُوا بِضَمِّ اللَّامِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَجْهُهَا أَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْ تَعَالَيْتُ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَضُمَّتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ لِوُقُوعِ وَاوِ الْجَمْعِ بَعْدَهَا. ولظهر الزَّمَخْشَرِيُّ حَذْفَ لَامِ الْكَلِمَةِ هُنَا بِحَذْفِهَا فِي قَوْلِهِمْ: مَا بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، وَأَصْلُهُ: بَالِيَةٌ كَعَافِيَةٍ. وَكَمَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ فِي آيَةٍ، أَنَّ أَصْلَهَا أَيْلَةٌ فَحُذِفَتِ اللَّامُ. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ أَهْلِ مَكَّةَ: تَعَالِي بِكَسْرِ اللَّامِ لِلْمَرْأَةِ. وَفِي شِعْرِ الْحَمَدَانِيِّ: تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي وَالْوَجْهُ: فَتْحُ اللَّامِ انْتَهَى. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: قَوْلُ أَهْلِ مَكَّةَ تَعَالِي يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً قَدِيمَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا غَيَّرَتْهُ عَنْ وَجْهِهِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ عَرَبِيًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي شِعْرِ الْحَمَدَانِيِّ فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ أَبُو فِرَاسٍ، وَطَالَعْتُ دِيوَانَهُ جَمْعَ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالَوَيْهِ فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِيهِ. وَبَنُو حَمْدَانَ كَثِيرُونَ، وَفِيهِمْ عِدَّةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي شِعْرِهِمْ لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِ الْمُوَلَّدِينَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: رأيت

_ (1) سورة البقرة: 2/ 257. [.....]

الْمُنَافِقِينَ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، صَدُّوا مُجَاهَرَةً وَتَصْرِيحًا، ويحتمل أن يكون من رُؤْيَةِ الْقَلْبِ أَيْ: عُلِمَتْ. وَيَكُونُ صَدُّهُمْ مَكْرًا وَتَخَابُثًا وَمُسَارَقَةً حَتَّى لَا يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ عليه. وصدودا: مصدر لصد، وَهُوَ هُنَا مُتَعَدٍّ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ نَحْوَ: «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» «1» وَقِيَاسُ صَدَّ فِي الْمَصْدَرِ فَعَلَ نَحْوَ: صَدَّهُ صَدًّا. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ صُدُودًا هُنَا لَيْسَ مَصْدَرًا، وَالْمَصْدَرُ عِنْدَهُ صَدٌّ. فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً قَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ تَرَاهُمْ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ: فَكَيْفَ صَنِيعُهُمْ وَالْمُصِيبَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قُتِلَ عُمَرُ الَّذِي رَدَّ حُكْمَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى مَا سَبَقَ يُخْبِرُ عَنْ فعلهم فقال: ثم جاؤك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ هَدْمُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، حَلَفُوا دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ إِلَّا طَاعَةً وَمُوَافَقَةَ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ وَمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الذُّلِّ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، وَالَّذِي قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ رَدُّهُمْ حُكْمَ الرَّسُولِ أَوْ مَعَاصِيهِمُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَوْ نِفَاقُهُمْ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أَيْ: مَا أَرَدْنَا بِطَلَبِ دَمِ صَاحِبِنَا الَّذِي قَتَلَهُ عُمَرُ إِلَّا إِحْسَانًا إِلَيْنَا، وَمَا يُوَافِقُ الْحَقَّ فِي أَمْرِنَا. وَقِيلَ: مَا أَرَدْنَا بِالرَّفْعِ إِلَى عُمَرَ إِلَّا إِحْسَانًا إِلَى صَاحِبِنَا بِحُكُومَةِ الْعَدْلِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهُ وبين خصمه. وقيل: جاؤوا يَعْتَذِرُونَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من مُحَاكَمَتِهِمْ إِلَى غَيْرِهِ مَا أَرَدْنَا فِي عُدُولِنَا عَنْكَ إِلَّا إِحْسَانًا بِالتَّقْرِيبِ فِي الْحُكْمِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَ الْخُصُومِ، دُونَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِّ. وَفِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ، وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ حُلُولِ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمُ الِاعْتِذَارُ. أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أَيْ: يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ. وَالْمَعْنَى: يَعْلَمُهُ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ، أَوْ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَظْهَرُوهُ مِنَ الْحَلِفِ الْكَاذِبِ. وَعَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْمُجَازَاةِ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ: أَيْ عَنْ مُعَاتَبَتِهِمْ وَشَغْلِ الْبَالِ بِهِمْ، وَقَبُولِ إِيمَانِهِمْ وَأَعْذَارِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِالْإِعْرَاضِ مُعَامَلَتُهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ، فَفِي ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لَهُمْ، وَهُوَ عِتَابُهُمْ. وَلَا

_ (1) سورة النمل: 27/ 24.

يُرَادُ بِالْإِعْرَاضِ الْهَجْرُ وَالْقَطِيعَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَعِظْهُمْ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَعِظْهُمْ: أَيْ خَوِّفْهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ وَازْجُرْهُمْ، وَأَنْكَرُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِ مَا فَعَلُوا. وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ هُوَ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ التَّوَعُّدُ بِالْقَتْلِ إِنِ اسْتَدَامُوا حَالَةَ النِّفَاقِ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ خَالِيًا بِهِمْ لَا يَكُونُ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ مُسَارًّا لِأَنَّ النُّصْحَ إِذَا كَانَ فِي السِّرِّ كَانَ أَنْجَحَ، وَكَانَ بِصَدَدِ أَنْ يُقْبَلَ سَرِيعًا. وَمَعْنَى بَلِيغًا: أَيْ مُؤَثِّرًا فِيهِمْ. أَوْ قُلْ لَهُمْ فِي مَعْنَى أَنْفُسِهِمُ النَّجِسَةِ الْمُنْطَوِيَةِ عَلَى النِّفَاقِ قَوْلًا يَبْلُغُ مِنْهُمْ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى مَا فَعَلُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ؟ (قُلْتُ) : بِقَوْلِهِ: بَلِيغًا أَيْ: قُلْ لَهُمْ قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ، مُؤَثِّرًا فِي قُلُوبِهِمْ يَغْتَمُّونَ بِهِ اغْتِمَامًا، وَيَسْتَشْعِرُونَ مِنْهُ الْخَوْفَ اسْتِشْعَارًا، وَهُوَ التَّوَعُّدُ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِئْصَالِ إِنْ نَجَمَ مِنْهُمُ النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهن أَنَّ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الدَّغَلِ وَالنِّفَاقِ مَعْلُومٌ عند الله، وأنه لا فَرْقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. وَمَا هَذِهِ الْمُكَافَّةُ إِلَّا لِإِظْهَارِكُمُ الْإِيمَانَ، وَإِسْرَارِكُمُ الْكُفْرَ وَإِضْمَارِهِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ مَا تَكْشِفُونَ بِهِ غِطَاءَكُمْ لَمْ يبق إلا السيت انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَعْلِيقُهُ فِي أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلِيغًا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْمُولَ الصِّفَةِ لَا يَتَقَدَّمُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَوْصُوفِ. لَوْ قُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ ضَارِبٌ زَيْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُولَ: هَذَا زَيْدًا رَجُلٌ ضَارِبٌ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَعْمُولِ أَلَّا يَحِلَّ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يَحِلُّ فِيهِ الْعَامِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّعْتَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَنْعُوتِ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ، وَالتَّابِعُ فِي ذَلِكَ بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُسْهَبِ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْخَطَابَةِ، وَتَحْمِيلِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَتَقْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَتِلْكَ عَادَتُهُ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ تَكْثِيرُ الْأَلْفَاظِ. وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقُلْهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا دَلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَالتَّفْسِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ شَرْحُ اللَّفْظِ الْمُسْتَغْلَقِ عِنْدَ السَّامِعِ مِمَّا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَهُ مِمَّا يُرَادِفُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ، أَوْ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِإِحْدَى طُرُقِ الدَّلَالَاتِ. وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مُصِيبَةٌ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ، وَهَذَا يُنَزَّهُ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَهُ، فَإِنَّهُ فِي غاية الفساد.

[سورة النساء (4) : الآيات 64 إلى 72]

[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) شَجَرَ الْأَمْرُ: الْتَبَسَ، يَشْجُرُ شُجُورًا وَشَجَرًا، وَشَاجَرَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ فِي الْأَمْرِ نَازَعَهُ فِيهِ، وَتَشَاجَرُوا. وَخَشَبَاتُ الْهَوْدَجِ يُقَالُ لَهَا شِجَارٌ لِتَدَاخُلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. وَرُمْحٌ شَاجِرٌ، وَالشَّجِيرُ الَّذِي امْتَزَجَتْ مَوَدَّتُهُ بِمَوَدَّةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّجَرِ شُبِّهَ بِالْتِفَافِ الْأَغْصَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي الْبَقَرَةِ وَأُعِيدَتْ لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ. نَفَرَ الرَّجُلُ يَنْفِرُ نَفِيرًا، خَرَجَ مُجِدًّا بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي الْمُضَارِعِ وَضَمِّهَا، وَأَصْلُهُ الْفَزَعُ، يُقَالُ: نَفَرَ إِلَيْهِ إِذَا فَزِعَ إِلَيْهِ، أَيْ طَلَبَ إِزَالَةَ الْفَزَعِ. وَالنَّفِيرُ النَّافُورُ، وَالنَّفَرُ الْجَمَاعَةُ. وَنَفَرَتِ الدَّابَّةُ تَنْفِرُ بِضَمِّ الْفَاءِ نُفُورًا أَيْ هَرَبَتْ بِاسْتِعْجَالٍ. الثِّبَةُ: الْجَمَاعَةُ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَهُ: الْمَاتُرِيدِيُّ. وَقِيلَ: هِيَ فَوْقَ الْعَشْرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَزْنُهَا فِعْلَةٌ. وَلَامُهَا قِيلَ: وَاوٌ، وَقِيلَ: يَاءٌ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَثَبَّيْتُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا أَثْنَيْتَ عَلَيْهِ، كَأَنَّكَ جَمَعْتَ مَحَاسِنَهُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ لَامَهَا وَاوٌ، جَعَلَهَا مِنْ ثَبَا يَثْبُو مِثْلَ حَلَا يَحْلُو. وَتُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ وَبِالْوَاوِ وَالنُّونِ فَتُضَمُّ فِي هَذَا الْجَمْعِ تَاؤُهْا، أَوْ تُكْسَرُ وَثِبَةُ الْحَوْضِ وَسَطُهُ الَّذِي يَثُوبُ الْمَاءُ إِلَيْهِ، الْمَحْذُوفُ مِنْهُ عَيْنُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ، وَتَصْغِيرُهُ ثُوَيْبَةٌ كَمَا تَقُولُ فِي سَهٍّ سُيَيْهَةٌ، وَتَصْغِيرُ تِلْكَ ثُبَيَّةٌ. الْبُطْءُ التَّثَبُّطُ عَنِ الشَّيْءِ. يُقَالُ: أَبْطَأَ وَبَطُؤَ مِثْلَ أَسْرَعَ وَسَرُعَ مُقَابِلَهُ، وَبُطْآنِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى بَطُؤَ.

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى جَلَالَةِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ يَلْزَمُهُمْ طَاعَتُهُمْ، وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ تَجِبُ طَاعَتُهُ. وَلَامُ لِيُطَاعَ لَامُ كَيْ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِأَجْلِ الطَّاعَةِ. وَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ بِأَمْرِهِ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ بِعِلْمِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِرْشَادِهِ. وَحَقِيقَةُ الْإِذْنِ التَّمْكِينُ مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِ مَا مُكِّنَ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِإِذْنِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيُطَاعَ. وَقِيلَ: بِأَرْسَلْنَا أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا بِأَمْرِ اللَّهِ أَيْ: بِشَرِيعَتِهِ، وَدِينِهِ وَعِبَادَتِهِ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى التَّعْلِيقَيْنِ فَالْكَلَامُ عَامُّ اللَّفْظِ، خَاصُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَرَادَ مِنْ بَعْضِ خَلْقِهِ أَنْ لَا يُطِيعُوهُ، وَلِذَلِكَ خَرَّجَتْ طَائِفَةٌ مَعْنَى الْإِذْنِ إِلَى الْعِلْمِ، وَطَائِفَةٌ خَرَّجَتْهُ إِلَى الْإِرْشَادِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ. لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا عَلِمَ مِنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يُؤْمِنُ وَفَّقَهُ لِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِيُطَاعَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِيُطِيعَهُ الْعَالَمُ، بَلِ الْمَحْذُوفُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَاصًّا لِيُوَافِقَ الْمَوْجُودَ، فَيَكُونَ أَصْلَهُ: إِلَّا لِيُطِيعَهُ مَنْ أَرَدْنَا طَاعَتَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رَسُولَ إِلَّا وَمَعَهُ شَرِيعَةٌ لِيَكُونَ مُطَاعًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَمَتْبُوعًا فِيهَا، إِذْ لَوْ كَانَ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُطَاعًا، بَلِ الْمُطَاعُ هُوَ الرَّسُولُ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي هُوَ الْوَاضِعُ لِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى كُلِّ رَسُولٍ بِأَنَّهُ مُطَاعٌ انْتَهَى. وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُهُ: الْوَاضِعُ لِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الَّذِي جَاءَ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُخْطِهِمْ لِقَضَائِكَ أَوْ بِتَحَاكُمِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ، أَوْ بِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. جاؤوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ، وَاعْتَذَرُوا إِلَيْكَ. وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أَيْ: شَفَعَ لَهُمُ الرَّسُولُ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ. وَالْعَامِلُ في إذ جاؤوك، وَالْتَفَتَ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفَرَ لهم الرسول، ولم يجىء عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي جاؤوك تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الرَّسُولِ، وَتَعْظِيمًا لِاسْتِغْفَارِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الشَّرِيفَ وَهُوَ إِرْسَالُ اللَّهِ إِيَّاهُ مُوجِبٌ لِطَاعَتِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ «1» وَمَعْنَى وَجَدُوا: عَلِمُوا، أَيْ: بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ قَبِلَ توبتهم ورحمهم.

_ (1) سورة النساء: 4/ 64.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: فَائِدَةٌ ضُمَّ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ بِتَحَاكُمِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ خَالَفُوا حُكْمَ اللَّهِ، وَأَسَاءُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَذِرُوا وَيَطْلُبُوا مِنَ الرَّسُولِ الِاسْتِغْفَارَ، أَوْ لَمَّا لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ الرَّسُولِ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّمَرُّدُ، فَإِذَا تَابُوا وَجَبَ أَنْ يظهر منهم ما يزيد التَّمَرُّدَ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الرَّسُولِ وَيَطْلُبُوا مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ، أَوْ إِذَا تَابُوا بِالتَّوْبَةِ أَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْخَلَلِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهَا: لَوَجَدُوا اللَّهَ «1» وَهَذَا لَا يَنْطَبِقُ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَوَّاباً رَحِيماً «2» قَبُولَ تَوْبَتِهِ انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَعْرَابِيٌّ بعد ما دَفَنَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَبْرِهِ وَحَثَا مِنْ تُرَابِهِ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي التُّرْبِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَوَعَيْتَ عَنِ اللَّهِ فَوَعَيْنَا عَنْكَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظلموا أنفسهم جاؤوك الْآيَةَ، وَقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجِئْتُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبِي، فَاسْتَغْفِرْ لِي مِنْ رَبِّي، فَنُودِيَ مِنَ الْقَبْرِ أَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَكَ. فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ. وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّهُ أشبه بنسف الْآيَاتِ. وَقِيلَ: فِي شَأْنِ الرَّجُلِ الَّذِي خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي السَّقْيِ بِمَاءِ الْحَرَّةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَغَضِبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَوْعَبَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فَقَالَ: احْبِسْ يَا زُبَيْرُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ» . وَالرَّجُلُ هُوَ مِنَ الأنصار بدري. وقيل: هو حَاطِبِ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ نَافِيَةً لِإِيمَانِ الرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَهُ عُمَرُ، لِكَوْنِهِ رَدَّ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُقِيمَةً عُذْرَ عُمَرَ فِي قَتْلِهِ، إذ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ عمر يجترىء عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ» . وَأَقْسَمَ بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى كَافِ الْخِطَابِ تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ رَاجِعٌ إِلَى قوله: جاؤُكَ «3» وَلَا فِي قَوْلِهِ: فَلَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ رَدٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أنهم آمنوا بما

_ (1) سورة النساء: 4/ 64. (2) سورة النساء: 4/ 64. (3) سورة النساء: 4/ 64.

أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدَّمَ لَا عَلَى الْقَسَمِ اهْتِمَامًا بِالنَّفْيِ، ثُمَّ كَرَّرَهَا بَعْدُ توكيدا للتهم بِالنَّفْيِ، وَكَانَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ لَا الثَّانِيَةِ، وَيَبْقَى أَكْثَرُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ الْأُولَى، وَكَانَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْأُولَى وَيَبْقَى مَعْنَى النَّفْيِ، وَيَذْهَبُ مَعْنَى الِاهْتِمَامِ. وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ، وَالْقَسَمُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ حَرْفِ النفي والنفي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ، كَمَا زِيدَتْ فِي لِئَلَّا يَعْلَمَ لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ الْعِلْمِ. وَلَا يُؤْمِنُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّهَا زِيدَتْ لِتُظَاهِرَ لَا فِي. لَا يُؤْمِنُونَ. (قُلْتُ) : يَأْبَى ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «1» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمِثْلُ الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ولا والله لا يلقى لِمَا بِي ... وَلَا لِلِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ وَحَتَّى هُنَا غَايَةٌ، أَيْ: يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْإِيمَانُ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِذَا وَجَدَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَفِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ نِزَاعٌ وَتَجَاذُبٌ. وَمَعْنَى يُحَكِّمُوكَ، يَجْعَلُوكَ حَكَمًا. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ: فَتَقْضِي بَيْنَهُمْ. ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أَيْ ضِيقًا مِنْ حُكْمِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَكًّا لِأَنَّ الشَّاكَّ فِي ضِيقٍ مِنْ أَمْرِهِ حَتَّى يَلُوحَ لَهُ الْبَيَانُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِثْمًا أَيْ: سَبَبُ إِثْمٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مَا يَأْثَمُونَ بِهِ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا. وَقِيلَ: هَمًّا وَحُزْنًا، وَيُسَلِّمُوا أَيْ يَنْقَادُوا وَيُذْعِنُوا لِقَضَائِكَ، لَا يُعَارِضُونَ فِيهِ بِشَيْءٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُسَلِّمُوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ لِحُكْمِكَ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَكَّدَ الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ صُدُورِ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً، وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةً. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: فِيمَا شَجْرَ بِسُكُونِ الْجِيمِ، وَكَأَنَّهُ فَرَّ مِنْ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ بِخِلَافِ الضَّمَّةِ وَالْكَسْرَةِ، فَإِنَّ السُّكُونَ بَدَلَهُمَا مُطَّرِدٌ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قَالَتِ الْيَهُودُ لَمَّا لَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ بِحُكْمِ الرَّسُولِ: مَا رَأَيْنَا أَسْخَفَ مِنْ هَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيَطَئُونَ عَقِبَهُ، ثُمَّ لَا يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا، وَبَلَغَ الْقَتْلُ فِينَا سَبْعِينَ أَلْفًا. فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: لَوْ كُتِبَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ هَذَا السَّبَبُ بِأَلْفَاظٍ مُتَغَايِرَةٍ وَالْمَعْنَى قريب.

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 38- 40.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ، أَوْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا فَرَضَ ذَلِكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ اسْتُتِيبُوا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ لَمْ يُطِعْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهَذَا فِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ حَيْثُ لَا يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَقَالَ السَّبِيعِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَمَرَنَا لَفَعَلْنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: الرَّجُلُ القائل ذلك هو أبو بَكْرٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لَبَدَأْتُ بِنَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ: أَنَّهُ عُمَرُ. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أَنَّ الْقَائِلَ مِنْهُمْ عَمَّارٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَحِينَئِذٍ يَصْعُبُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُ كُفْرُهُمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَمُنَافِقِهِمْ. وَكَسَرَ النُّونَ مِنْ أَنِ، وَضَمَّ الْوَاوَ مِنْ أَوُ، أَبُو عَمْرٍو. وَكَسَرَهُمَا حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ، وَضَمَّهُمَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَأَنْ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى مَا قَرَّرُوا أَنَّ أَنْ تُوصَلُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صُعُوبَةِ الْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ، إِذْ قَرَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَقَدْ خَرَجَ الصَّحَابَةُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَفَارَقُوا أَهَالِيَهُمْ حِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، وَارْتَفَعَ قَلِيلٌ، عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي فَعَلُوهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: إِلَّا قَلِيلًا بِالنَّصْبِ، وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ اتِّبَاعُ مَا بَعْدَ إِلَّا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ على طريقة البدل أو الْعَطْفِ، بِاعْتِبَارِ الْمَذْهَبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذكرناهما. وقال الزمخشري: وقرىء إِلَّا قَلِيلًا بِالنَّصْبِ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ عَلَى إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا انْتَهَى. إِلَّا مَا النَّصْبُ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَهُوَ الَّذِي وَجَّهَ النَّاسُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَى إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا فَهُوَ ضَعِيفٌ لِمُخَالَفَةِ مَفْهُومِ التَّأْوِيلِ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ، وَلِقَوْلِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ: لَوْ قُلْتَ مَا ضَرَبُوا زَيْدًا إِلَّا ضَرْبًا قَلِيلًا مِنْهُمْ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي فَعَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِ الْمَصْدَرَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِ اقْتُلُوا أَوِ اخْرُجُوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ مَا فَعَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى

الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صُورَتُهُ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ نَحْوِيٍّ. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً الضَّمِيرُ فِي: وَلَوْ أَنَّهُمْ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا وَآخِرُهَا خَاصًّا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِمَا يَرَاهُ وَيَحْكُمُ بِهِ، لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لِإِيمَانِهِمْ، وَأَبْعَدَ مِنْ الِاضْطِرَابِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ اتَّعَظُوا وَأَنَابُوا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَتَثْبِيتًا مَعْنَاهُ يَقِينًا وَتَصْدِيقًا انْتَهَى. وَكِلَاهُمَا شَرَحَ مَا يُوعَظُونَ بِهِ بِخِلَافِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ. لِأَنَّ الَّذِي يُوعَظُ بِهِ لَيْسَ هُوَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَطَاعَتَهُ، وَلَيْسَ مَدْلُولُ مَا يُوعَظُونَ بِهِ اتَّعَظُوا وَأَنَابُوا، وَقِيلَ: الْوَعْظُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ فَانْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ. وَقَالَ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ: مَا يُوعَظُونَ بِهِ أَيْ: مَا يُوصَوْنَ وَيُؤْمَرُونَ بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّسْلِيمِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا الْمَوْعِظَةَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا مَا كُلِّفُوا بِهِ وَأُمِرُوا، وَسُمِّيَ هَذَا التَّكْلِيفُ وَالْأَمْرُ وَعْظًا، لِأَنَّ تَكَالِيفَ اللَّهِ تَعَالَى مَقْرُونَةٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَعْظًا. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَقِيلَ مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا تَفَاسِيرُ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ الْوَعْظَ هُوَ التِّذْكَارُ بِمَا يَحِلُّ بِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ العقاب، فالموعظ بِهِ هِيَ الْجُمَلُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِأَنْ يفعلوا الموعظ بِهِ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ شَرْحُ ذَلِكَ بِمَا خَالَفَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّهُمْ عَلَّقُوا بِهِ بِقَوْلِهِ: مَا يُوعَظُونَ، عَلَى طَرِيقَةِ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِكَ: وَعَظْتُكَ بِكَذَا، فَتَكُونُ الْبَاءُ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى الشيء الموعظ بِهِ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَعْظِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ فَيُحْمَلُ إِذْ ذَاكَ اللَّفْظُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَيَصِحُّ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا الشَّيْءَ الَّذِي يُوعَظُونَ بِسَبَبِهِ أَيْ: بِسَبَبِ تَرْكِهِ. وَدَلَّ عَلَى حَذْفِ تَرْكِهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا. وَيَبْقَى لَفْظُ يُوعَظُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا تَأَوَّلُوهُ. لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ: أَيْ يَحْصُلُ لَهُمْ خَيْرُ الدَّارَيْنِ، فَلَا يَكُونُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَهُ أَيْ: لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا، لِأَنَّهُ حَقٌّ، فَهُوَ أَبْقَى وَأَثْبَتُ. أَوْ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى أَمْثَالِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ أَوَّلًا تَحْصِيلَ الْخَيْرِ، فَإِذَا حَصَّلَهُ طَلَبَ

بَقَاءَهُ. فَقَوْلُهُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَه: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذًا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَاذَا يَكُونُ لَهُمْ أَيْضًا بَعْدَ التَّثْبِيتِ؟ فَقِيلَ: وَإِذًا لَوْ ثَبَتُوا لَأَتَيْنَاهُمْ. لِأَنَّ إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ انْتَهَى. وَظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأَنَّ إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمَعْنَيَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ. ذَهَبَ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَوَابًا فَقَطْ فِي مَوْضِعٍ، وَجَوَابًا وَجَزَاءً فِي موضع نفي، مثل: إذن أَظُنُّكَ صَادِقًا لِمَنْ قَالَ: أَزُورُكَ، هِيَ جَوَابُ خَاصَّةٍ. وفي مثل: إذن أُكْرِمَكَ لِمَنْ قَالَ: أَزُورُكَ، هِيَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى أَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِالْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وُقُوفًا مَعَ ظَاهِرِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْأَجْرُ كِنَايَةٌ عَنِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَوَصْفُهُ بِالْعِظَمِ بِاعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الشَّرَفِ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِيمَانُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. وَلَمَّا فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْإِيمَانِ قَالَ: وَجَاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهِدَايَةَ قَبْلَ إِعْطَاءِ الْأَجْرِ، لِأَنَّ الْمَقْصِدَ إِنَّمَا هُوَ تَعْدِيدُ مَا كَانَ اللَّهُ يُنْعِمُ بِهِ عَلَيْهِمْ دُونَ تَرْتِيبٍ، فَالْمَعْنَى: وَكَهَدَيْنَاهُمْ قَبْلُ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْتَى الْأَجْرَ انْتَهَى. وَأَمَّا إِذَا فُسِّرَتِ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ هُنَا بِأَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، أَوِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، فَإِنَّهُ يُظْهِرُ التَّرْتِيبَ. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي ثَوْبَانِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ فَقَالَ: «يَا ثَوْبَانُ مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ، غَيْرَ أَنِّي إِذَا لَمْ أَرَكَ اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، وَاسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاكَ ثُمَّ ذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَأَخَافُ أَنْ لَا أَرَاكَ هُنَاكَ، لِأَنِّي أَعْرِفُ أَنَّكَ تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلٍ أَدْنَى مِنْ مَنْزِلِكَ، وَإِنْ لَمْ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَذَلِكَ حِينَ لَا أَرَاكَ أَبَدًا. انْتَهَى قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَحُكِيَ مِثْلُ قَوْلِ ثَوْبَانِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ قَالَ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا مُتَّ وَمُتْنَا، كُنْتَ فِي عِلِّيِّينَ فَلَا نَرَاكَ وَلَا نَجْتَمِعُ بِكَ، وَذَكَرَ حُزْنَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ. وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْمِنِي حَتَّى لَا أَرَى شَيْئًا بَعْدَهُ، فَعَمِيَ. وَالْمَعْنَى فِي مَعَ النَّبِيِّينَ: إِنَّهُ مَعَهُمْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ مَنْ فِيهَا رُزِقَ الرِّضَا بِحَالِهِ، وَهُمْ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ. وَقِيلَ: الْمَعِيَّةُ هُنَا كَوْنُهُمْ يُرْفَعُونَ إِلَى مَنَازِلِ الأنبياء متى شاؤوا تَكْرِمَةً لَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ لِيَتَذَاكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَادِ: الْأَوَّلُ: إِشْرَاقُ الْأَرْوَاحِ بِأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ. وَالثَّانِي: كَوْنُهُمْ مَعَ النَّبِيِّينَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَعِيَّةِ فِي الدَّرَجَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، بَلْ مَعْنَاهُ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ النَّاقِصَةَ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ عَلَائِقَهَا مَعَ الْأَرْوَاحِ الْكَامِلَةِ فِي الدُّنْيَا بَقِيَتْ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ تِلْكَ الْعَلَائِقُ، فَيَنْعَكِسُ الشُّعَاعُ مِنْ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَتَصِيرُ أَنْوَارُهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ لِي انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا قَالَتْهُ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْأَرْوَاحِ إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ. وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ يَأْبَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَدْلُولَاتِهَا، وَلَكِنْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَحُبُّهُ جَرَى فِي كَلَامِهِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «1» وَهُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ النَّبِيِّينَ، تَفْسِيرٌ لِلَّذِينِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْكُمْ أَلْحَقَهُ اللَّهُ بِالَّذِينِ تَقَدَّمَهُمْ مِمَّنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ. قَالَ الرَّاغِبُ: مِمَّنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالثَّوَابِ: النَّبِيُّ بِالنَّبِيِّ، وَالصِّدِّيقُ بِالصِّدِّيقِ، وَالشَّهِيدُ بِالشَّهِيدُ، وَالصَّالِحُ بِالصَّالِحِ. وَأَجَازَ الرَّاغِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنَ النَّبِيِّينَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ. أَيْ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِشَارَةً إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى. ثُمَّ قَالَ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «2» وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حِينَ الْمَوْتِ «اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى» وَهَذَا ظَاهِرٌ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ ظَاهِرٌ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَمِنْ جِهَةِ النَّحْوِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ يُطِيعُهُ وَيُطِيعُ رَسُولَهُ فَهُوَ مَعَ مَنْ ذَكَرَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّينَ مُعَلَّقًا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، لَكَانَ قَوْلُهُ: مِنَ النَّبِيِّينَ تَفْسِيرًا لِمَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ أَوْ بَعْدَهُ أَنْبِيَاءُ يُطِيعُونَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، لأنه قد

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 6. (2) سورة النساء: 4/ 69.

أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَقَالَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ فَمَا قَبْلَ فَاءِ الْجَزَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، لَوْ قُلْتَ: إِنْ تَقُمْ هِنْدٌ فَعَمْرٌو ذَاهِبٌ ضَاحِكَةً، لَمْ يَجُزْ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بَعْدَ النَّبِيِّينَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّهَا أَوْصَافٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ صِفَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا وَشَهِيدًا وَصَالِحًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكُلِّ وَصْفِ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ. فَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَهُوَ فِعِّيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَشِرِّيبٍ. فَقِيلَ: هُوَ الْكَثِيرُ الصِّدْقِ، وَقِيلَ: هُوَ الْكَثِيرُ الصَّدَقَةِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِكُلِّ الَّذِي لَا يَتَخَالَجُهُ فِيهِ شَكٌّ فَهُوَ صِدِّيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ «1» . الثَّانِي: أَفَاضِلُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ. الثَّالِثُ: السَّابِقُ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ. فَصَارَ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً لِسَائِرِ النَّاسِ. وَأَمَّا الشَّهِيدُ: فَهُوَ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْمَخْصُوصُ بِفَضْلِ الْمَيْتَةِ. وَفَرَّقَ الشَّرْعُ حُكْمَهُمْ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُمْ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِهِمْ سُمُّوا شُهَدَاءَ، وَلَكِنَّ لَفْظَ الشُّهَدَاءِ فِي الْآيَةِ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَقْتُولَ الْكَافِرِ، بَلْ نَقُولُ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لِدِينِ اللَّهِ تَارَةً بِالْحُجَّةِ بِالْبَيَانِ، وَتَارَةً بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ. فَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْقِسْطِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «2» . وَالصَّالِحُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا فِي اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ. وَجَاءَ هَذَا التَّرْكِيبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى حَسَبِ التَّنَزُّلِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، إِلَى أَدْنَى مِنْهُ. وَفِي هَذَا التَّرْغِيبُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، حَيْثُ وُعِدُوا بِمُرَافَقَةِ أَقْرَبِ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَرْفَعِهِمْ دَرَجَاتٍ عِنْدَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: قَسَّمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ مَنَازِلَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ، وَحَثَّ كَافَّةَ النَّاسِ أَنْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: الْأَوَّلُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تُمِدُّهُمْ قُوَّةُ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ عِيَانًا مِنْ قَرِيبٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى «3» . الثَّانِي: الصِّدِّيقُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يُزَاحِمُونَ الأنبياء في المعرفة،

_ (1) سورة الحديد: 57/ 19. (2) سورة آل عمران: 3/ 18. (3) سورة النجم: 53/ 12.

وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ عِيَانًا مِنْ بَعِيدٍ وَإِيَّاهُ عَنَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قِيلَ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأعبد شيئا لَمْ أَرَهُ ثُمَّ قَالَ: «لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِشَوَاهِدِ الْأَبْصَارِ، وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. الثَّالِثُ: الشُّهَدَاءُ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الشَّيْءَ بِالْبَرَاهِينِ. وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ فِي الْمِرْآةِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، كَحَالِ حَارِثَةَ حَيْثُ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَإِيَّاهُ قَصَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» . الرَّابِعُ: الصَّالِحُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الشَّيْءَ بِاتِّبَاعَاتِ وَتَقْلِيدَاتِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ مِنْ بَعِيدٍ فِي مِرْآةٍ. وَإِيَّاهُ قَصَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الْمُتَصَوِّفَةِ. وَقَالَ عكرمة: النبيون محمد صلى الله عليه وسلّم، وَالصِّدِّيقُونَ أَبُو بَكْرٍ، وَالشُّهَدَاءُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَالصَّالِحُونَ صالحو أمة محمد صلى الله عليه وسلّم انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ، وَأَمَّا عَلَى طَرِيقِ الْحَصْرِ فَلَا، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالطَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، إِذِ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الصِّفَةِ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُولَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مَرَّةً وَاحِدَةً لِدُخُولِ الْمُنَافِقِينَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ بِأَنْ تُحْمَلَ الطَّاعَةُ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أُولَئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. لَمْ يَكْتَفِ بِالْمَعِيَّةِ حَتَّى جَعَلَهُمْ رُفَقَاءَ لَهُمْ، فَالْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يُوَافِقُونَهُ وَيَصْحَبُونَهُ، وَالرَّفِيقُ الصَّاحِبُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلِارْتِفَاقِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ رَفِيقًا عَلَى الْحَالِ مِنْ أُولَئِكَ، أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَإِذَا انْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْقُولًا، فَيَجُوزُ دُخُولُ مِنْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمُمَيَّزَ. وَجَاءَ مُفْرَدًا إِمَّا لِأَنَّ الرَّفِيقَ مِثْلَ الْخَلِيطِ وَالصَّدِيقِ، يَكُونُ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَإِمَّا لِإِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ فِي بَابِ التَّمْيِيزِ اكْتِفَاءً وَيُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، وَيُحَسِّنُ ذَلِكَ هُنَا كَوْنُهُ فَاصِلَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا مِنَ الْفَاعِلِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُمَيَّزَ وَالتَّقْدِيرُ: وَحَسُنَ رَفِيقُ أُولَئِكَ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، وَجُمِعَ عَلَى مَعْنَى مِنْ وَيَجُوزُ فِي انْتِصَابِ رَفِيقًا إلا وجه السَّابِقَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحَسُنَ بِضَمِّ السِّينِ، وَهِيَ الْأَصْلُ، وَلُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ:

وَحَسْنَ بِسُكُونِ السِّينِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمَ. وَيَجُوزُ: وَحُسْنٌ بِسُكُونِ السِّينِ وَضَمِّ الْحَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ نَقْلِ حَرَكَةِ السِّينِ إِلَيْهَا، وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ بَنِي قَيْسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَلِاسْتِقْلَالِهِ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ قرىء: وَحَسُنَ بِسُكُونِ السِّينِ. يَقُولُ الْمُتَعَجِّبُ. وَحَسُنَ الْوَجْهُ وَجْهُكَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَعَ التَّسْكِينِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَخْلِيطُ، وَتَرْكِيبُ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ. فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِي فِعْلٍ الْمُرَادُ بِهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، فَذَهَبَ الْفَارِسِيُّ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى جَوَازِ إِلْحَاقِهِ بِبَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ فَقَطْ، فَلَا يَكُونُ فَاعِلًا إِلَّا بِمَا يَكُونُ فَاعِلًا لَهُمَا. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ إِلَى جَوَازِ إِلْحَاقِهِ بِبَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ، فَيُجْعَلُ فَاعِلُهَا كَفَاعِلِهِمَا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْهُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ. وَإِلَى جَوَازِ إِلْحَاقِهِ بِفِعْلِ التَّعَجُّبِ فَلَا يَجْرِي مَجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ فِي الْفَاعِلِ، وَلَا فِي بَقِيَّةِ أَحْكَامِهِمَا، بَلْ يَكُونُ فَاعِلُهُ مَا يَكُونُ مَفْعُولًا لِفِعْلِ التَّعَجُّبِ، فَيَقُولُ: لَضَرَبْتُ يَدَكَ وَلَضَرَبْتُ الْيَدَ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ تَصْحِيحًا وَإِبْطَالًا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَتَّبِعْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ، بَلْ خَلَّطَ وَرَكَّبَ، فَأَخَذَ التَّعَجُّبَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَأَخَذَ التَّمْثِيلَ بِقَوْلِهِ: وَحَسُنَ الْوَجْهُ وَجْهُكَ، وَحَسُنَ الْوَجْهُ وَجْهُكَ مِنْ مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلِاسْتِقْلَالِهِ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، قرىء: وَحُسْنٌ بِسُكُونِ السِّينِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُتَعَجِّبَ يَقُولُ: وَحَسُنَ وَحُسْنٌ، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْفَرَّاءَ ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ لُغَاتٌ لِلْعَرَبِ، فَلَا يَكُونُ التَّسْكِينُ، وَلَا هُوَ والنقل لأجل التَّعَجُّبِ. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى كَيْنُونَةِ الْمُطِيعِ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحْكُومُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ وَكَأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ أَيْ: وَمَا الْمُوجِبُ لَهُمُ اسْتِوَاؤُهُمْ مَعَ النَّبِيِّينَ فِي الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا بَيِّنٌ؟ فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ، لَا بِوُجُوبٍ عَلَيْهِ. وَمَعَ اسْتِوَائِهِمْ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَهُمْ مُتَبَايِنُونَ فِي الْمَنَازِلِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الثَّوَابِ فِي قَوْلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: إِلَى الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: إِلَى الْمُرَافَقَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ مَا أُعْطِيَ الْمُطِيعُونَ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَمُرَافَقَةِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ تَفَضَّلَ بِهِ عليهم تبعا لثوابهم، وذلك مبتدأ والفضل خبره، ومن اللَّهِ حَالٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ صِفَةً، وَالْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ.

وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً لَمَّا ذَكَرَ الطَّاعَةَ وَذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ يُطِيعُ أَتَى بِصِفَةِ الْعِلْمِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْجَزَاءَ أَيْ: وَكَفَى بِهِ مُجَازِيًا لِمَنْ أَطَاعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِيهِ مَعْنَى أَنْ تَقُولَ: فَشَمِلُوا فِعْلَ اللَّهِ وَتَفَضُّلَهُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَاكْتَفَوْا بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَدُلَّ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَكَفَى، انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ قَوْلَكَ: كَفَى بِزَيْدٍ مَعْنَاهُ اكْتَفِ بِزَيْدٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا، بِجَزَاءِ مَنْ أَطَاعَهُ. أَوْ أَرَادَ فَصْلَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَمَزِيَّتَهُمْ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ اكْتَسَبُوهُ بِتَمْكِينِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا بِعِبَادِهِ، فَهُوَ يُوَفِّقُهُمْ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِهِمْ انْتَهَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهَمِّ الطَّاعَاتِ إِحْيَاءُ دِينِ اللَّهِ، أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِإِحْيَاءِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ دَعْوَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَقْتَحِمُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ عَلَى جَهَالَةٍ فَقَالَ: خُذُوا حِذْرَكُمْ. فَعَلَّمَهُمْ مُبَاشَرَةَ الْحُرُوبِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبُولِ مَقَالَاتِهِمْ وَتَثْبِيطِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ، فَنَادَى أولا بَاسِمِ الْإِيمَانِ عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَنْهَاهُمْ، وَالْحَذَرَ وَالْحَذَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالُوا: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الْأَخْذُ حِذْرَكَ لِأَخْذِ حِذْرِكَ. وَمَعْنَى خُذْ حِذْرَكَ: أَيِ اسْتَعِدَّ بِأَنْوَاعِ مَا يُسْتَعَدُّ بِهِ لِلِقَاءِ مَنْ تَلَقَّاهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَخْذُ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ. وَيُقَالُ: أَخَذَ حِذْرَهُ إِذَا احْتَرَزَ مِنَ الْمُخَوَّفِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ الْحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَتَّقِي بِهَا وَيَعْتَصِمُ، وَالْمَعْنَى: احْتَرِزُوا مِنَ الْعَدُوِّ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ جَمَاعَةً جَمَاعَةً، وَسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، أَوْ كَتِيبَةً وَاحِدَةً مُجْتَمِعَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَانْفِرُوا بكسر الفاء فبهما. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِضَمِّهَا فِيهِمَا، وانتصاب ثبات وجميعا عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يُقْرَأْ ثُبَاتٍ فِيمَا عَلِمْنَاهُ إِلَّا بِكَسْرِ التَّاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَخْفِضُ هَذِهِ التَّاءَ فِي النَّصْبِ وَتَنْصِبُهَا. أَنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ: فَلَمَّا جَلَاهَا بِالَايَّامِ تَحَيَّزَتْ ... ثُبَاتًا عَلَيْهَا ذُلُّهَا وَاكْتِئَابُهَا يُنْشَدُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا انْتَهَى. وَأَوْفَى أَوِ انْفَرُوا لِلتَّخْيِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْهَا. وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «2» قِيلَ: وَإِنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ التَّخْصِيصُ إِذْ لَيْسَ يلزم النفر جماعتهم.

_ (1) سورة النساء: 4/ 45. (2) سورة التوبة: 9/ 122.

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الْخِطَابُ لِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنِ زيد فِي آخَرِينَ: لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَجُعِلُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، أَوِ النَّسَبِ، أَوِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ ظَاهِرًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وأصحابه. وقيل: هُمْ ضَعَفَةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ: عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً «1» وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ «2» وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ، إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ مُنَافِقٍ. وَاللَّامُ فِي لَيُبَطِّئَنَّ لَامُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: لَلَّذِي وَاللَّهِ لَيُبَطِّئَنَّ. وَالْجُمْلَتَانِ مِنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ صِلَةٌ لِمَنْ، وَالْعَائِدُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي لَيُبَطِّئَنَّ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ قُدَمَاءِ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَصْلُ الْمَوْصُولِ بِالْقَسَمِ وَجَوَابِهِ إِذَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ قَدْ عَرِيَتْ مِنْ ضَمِيرٍ، فَلَا يَجُوزُ جَاءَنِي الَّذِي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ قَامَ أَبُوهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِأَنَّ جُمْلَةَ الْقَسَمِ مَحْذُوفَةٌ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ. وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ «3» فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ كُلًّا وَخَفَّفَ مِيمَ لَمَا أَيْ: وَإِنْ كُلًّا لَلَّذِي لَيُوَفِّيَنَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ التَّخَارِيجِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ فِي لَيُبَطِّئَنَّ لَامُ قَسَمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ تَأْكِيدٍ بَعْدَ تَأْكِيدٍ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي خَطَأٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُبَطِّئَنَّ، بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: لَيُبَطِّئَنَّ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْقِرَاءَتَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِيهِمَا لَازِمًا، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَبْطَأَ وَبَطَّأَ فِي مَعْنَى بَطُؤَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ مِنْ بَطُؤَ، فعل اللُّزُومِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَثَاقَلُ وَيُثَبَّطُ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، وعلى التعدّي يكون قد ثبط غيره وأشار له بالقعود، وَعَلَى التَّعَدِّي أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً الْمُصِيبَةُ: الْهَزِيمَةُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعَتَبِ بِتَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْتَارُ الْمَوْتَ عَلَى الْهَزِيمَةِ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: إِنْ كُنْتِ صَادِقَةً كَمَا حَدَّثْتِنِي ... فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهُمُ ... وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ

_ (1) سورة النساء: 4/ 72. [.....] (2) سورة النساء: 4/ 73. (3) سورة هود: 11/ 111.

[سورة النساء (4) : آية 73]

عَيَّرَهُ بِالِانْهِزَامِ وَبِالْفِرَارِ عَنِ الْأَحِبَّةِ. وَقَالَ آخَرُ فِي الْمَدْحِ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْحَرْبِ وَالْقَتْلِ فِيهِ: وَقَدْ كَانَ فَوْتُ الْمَوْتِ سَهْلًا فرده ... إليه الحفاظ المرء وَالْخُلُقُ الْوَعْرُ فَأَثْبَتَ فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَوْتِ رِجْلَهُ ... وَقَالَ لَهَا مِنْ تَحْتِ أُخْمُصِكِ الْحَشْرُ وَقِيلَ: الْمُصِيبَةُ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، سَمَّوْا ذَلِكَ مُصِيبَةً عَلَى اعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ كُلَّهُ مُصِيبَةٌ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمُصِيبَةُ الْهَزِيمَةُ وَالْقَتْلُ. وَالشَّهِيدُ هُنَا الْحَاضِرُ مَعَهُمْ فِي مُعْتَرَكِ الْحَرْبِ، أَوِ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَقُولُهُ الْمُنَافِقُ اسْتِهْزَاءً، لِأَنَّهُ لَا يعتقد حقيقة الشهادة في سبيل الله. [سورة النساء (4) : آية 73] وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) الْفَضْلُ هُنَا: الظَّفَرُ بِالْعَدُوِّ وَالْغَنِيمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيَقُولَنَّ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَيَقُولُنَّ بِضَمِّ اللَّامِ، أُضْمِرَ فِيهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ عَلَى مَعْنَى مَنْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ. كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ النَّحْوِيُّ: فَأَفُوزُ بِرَفْعِ الزَّايِ عَطْفًا عَلَى كُنْتُ، فَتَكُونُ الْكَيْنُونَةُ مَعَهُمْ وَالْفَوْزُ بِالْقِسْمَةِ دَاخِلَيْنِ فِي التَّمَنِّي، أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ فَأَنَا أَفُوزُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ الزَّايِ، وَهُوَ جَوَابُ التَّمَنِّي، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ، وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ عَطَفَتِ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةِ وَالْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ. وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّهُ انْتَصَبَ بِالْخِلَافِ، وَمَذْهَبُ الْجَرْمِيِّ: أَنَّهُ انْتَصَبَ بالفاء نفسها، ويا عِنْدَ قَوْمٍ لِلنِّدَاءِ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يَا قَوْمُ لَيْتَنِي. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ: إِلَى أَنَّ يَا لِلتَّنْبِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مُنَادًى محذوف، وهو الصحيح. وكأن هُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَإِذَا وَلِيَتْهَا الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ فَتَكُونُ مَبْدُوءَةً بِقَدْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: لَا يَهُولَنَّكَ اصْطِلَاؤُكَ للحر ... ب فَمَحْذُورُهَا كَأَنْ قَدْ أَلَمَّا أو بلم كَقَوْلِهِ: «كَأَنْ لَمْ يَكُنْ» «كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» «1» وَوَجَدْتُ فِي شِعْرِ عَمَّارٍ الْكَلْبِيِّ ابْتِدَاءَهَا فِي قَوْلِهِ:

_ (1) سورة يونس: 10/ 24.

بَدَّدَتْ مِنْهَا اللَّيَالِي شَمْلَهُمْ ... فَكَأَنْ لَمَّا يَكُونُوا قَبْلُ ثَمَّ وَيَنْبَغِي التَّوَقُّفُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ حَتَّى يُسْمَعَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكأن مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَالثَّقِيلَةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَإِنَّمَا تَجِيءُ بَعْدَهَا الْجُمَلُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرَ مُحَرَّرٍ، وَلَا عَلَى إِطْلَاقِهِ. أَمَّا إِذَا خُفِّفَّتْ وَوَلِيَهَا مَا كَانَ يَلِيهَا وَهِيَ ثَقِيلَةٌ، فَالْأَكْثَرُ وَالْأَفْصَحُ أَنْ تَرْتَفِعَ تِلْكَ الْجُمْلَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَيَكُونُ اسْمُ كَانَ ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا، وَتَكُونُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ كَانَ. وَإِذَا لَمْ يُنْوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ جَازَ لَهَا أَنَّ تَنْصِبَ الِاسْمَ إِذَا كَانَ مُظْهَرًا، وَتَرْفَعَ الْخَبَرَ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَلَا يخص ذلك بالشعر، فتقول: كَأَنْ زَيْدًا قَائِمٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَحَدَّثَنَا مَنْ يَوْثَقُ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: إِنْ عُمَرَ الْمُنْطَلِقُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يقرؤون: وَإِنْ كُلًّا لَمَّا يُخَفِّفُونَ وَيَنْصِبُونَ كَمَا قَالَ: كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْفَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ، فَلَمَّا حُذِفَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ لَمْ يُغَيِّرْ عَمَلَهُ، كَمَا لَمْ يُغَيِّرْ عَمَلَ لَمْ يَكُ، وَلَمْ أُبْلَ حِينَ حُذِفَ انْتَهَى. فَظَاهِرُ تَشْبِيهِ سِيبَوَيْهِ أَنْ عُمَرَ الْمُنْطَلِقُ بِقَوْلِهِ: كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ جواز ذلك في الكلام، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ. وقد نقل صاحب رؤوس الْمَسَائِلِ: أَنَّ كَأَنْ إِذَا خُفِّفَتْ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُهَا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَأَنَّ الْبَصْرِيِّينَ أَجَازُوا ذَلِكَ. فَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ قَدْ يَتَمَشَّى قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي أَنْ كأن الْمُخَفِّفَةِ لَيْسَتْ كَالثَّقِيلَةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فَلَا، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ اسْمٍ وَخَبَرٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا وَنَحْنُ نَسْرُدُ كَلَامَ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ فِيهَا. فَنَقُولُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ لَيَقُولَنَّ، وَبَيْنَ مَفْعُولِهِ وَهُوَ يَا لَيْتَنِي، وَالْمَعْنَى: كَأَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَعَكُمْ مَوَدَّةٌ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُوَادُّونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَادِقُونَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانُوا يَبْغُونَ لَهُمُ الْغَوَائِلَ فِي الْبَاطِنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَهَكُّمٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَى عَدُوٍّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَشَدَّهُمْ حَسَدًا لَهُمْ، فَكَيْفَ يُوصَفُونَ بِالْمَوَدَّةِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْعَكْسِ تَهَكُّمًا بِحَالِهِمْ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُنَافِقُ يُعَاطِي الْمُؤْمِنِينَ الْمَوَدَّةَ، وَيُعَاهِدُ عَلَى الْتِزَامِ كُلَفِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَتَخَلَّفُ نِفَاقًا وَشَكًّا وَكُفْرًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثم يتمنى عند ما يَكْشِفُ الْغَيْبَ الظَّفَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَعَلَى هَذَا يَجِيءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، الْتِفَاتَةً بَلِيغَةً وَاعْتِرَاضًا بَيْنَ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ بِلَفْظٍ يُظْهِرُ زِيَادَةً فِي قُبْحِ

فِعْلِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَادُّونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ أَيْضًا، وَتَبِعَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ، فَإِنَّهُ لَا يفصل بين بعض الْجُمْلَةِ وَبَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى. وَقَالَ أَيْضًا: وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: مَوْضِعُ الْجُمْلَةِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرَتُ بِزَيْدٍ وَكَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ، فَضْلًا عَنْ مَوَدَّةٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَقْعَدُوهُمْ عَنِ الْجِهَادِ وَخَرَجُوا هُمْ، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ أَيْ: وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوَدَّةٌ فَيُخْرِجَكُمْ مَعَهُمْ لِتَأْخُذُوا مِنَ الْغَنِيمَةِ، لِيُبَغِّضُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ. وَتَبِعَ أَبُو عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ مُقَاتِلًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَلَا مَوَدَّةَ بَيْنَكُمْ، يُرِيدُ: أَنَّ الْمُبَطِّئَ قَالَ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْغَزْوِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ بِإِذْنٍ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ مَوَدَّةٌ فَيُخْرِجَكُمْ إِلَى الْجِهَادِ، فَتَفُوزُونَ بِمَا فَازَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هُوَ اعْتِرَاضٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ إِنْسَانًا فَرِحَ عِنْدَ فَرَحِهِ، وَحَزِنَ عِنْدَ حُزْنِهِ، فَإِذَا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ فَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِلْعَدَاوَةِ. فَنَقُولُ: حَكَى تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِ سُرُورَهُ وَقْتَ نَكْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَ حُزْنَهُ عِنْدَ دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الْغَنِيمَةُ، فَقَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ الْكَلَامَ بِتَمَامِهِ أَلْقَى قوله: كأن لم يكن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَالْمُرَادُ التَّعَجُّبُ. كَأَنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: انْظُرُوا إِلَى مَا يَقُولُهُ هَذَا الْمُنَافِقُ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَا مُخَالَطَةَ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُ الْمُنَافِقِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ عَلَى مَعْنَى الْحَسَدِ مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي نَيْلِ رَغْبَتِهِ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في لَيَقُولَنَّ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى المفعول بيقولن عَلَى الْحِكَايَةِ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَجُمْلَةُ الْمَقُولِ هُوَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةُ التَّشْبِيهِ، وَجُمْلَةُ التَّمَنِّي. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَبَيْنَهُ لِلرَّسُولِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ لِلْقَائِلِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ لِكَوْنِهَا اعْتِرَاضًا فِي الْأَصْلِ بَيْنَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجُمْلَةِ الْقَسَمِ وَأُخِّرَتْ، وَالنِّيَّةُ بِهَا التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ. أَوْ لِكَوْنِهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ: لَيَقُولَنَّ وَمَعْمُولِهِ الَّذِي هُوَ جُمْلَةُ التَّمَنِّي، وَلَيْسَ اعْتِرَاضًا يَتَعَلَّقُ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بمضمون الجملتين،

والضمير الذي لِلْخِطَابِ هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي بَيْنَهُ لِلْقَائِلِ. وَاعْتَرَضَ بِهِ بَيْنَ أَثْنَاءَ الْحَمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَأَخِّرًا إِذْ مَعْنَاهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْقَوْلِ النِّيَّةُ بِهِ التَّقْدِيمُ، لَكِنَّهُ حَسَّنَ تَأْخِيرَهُ كَوْنُهُ وَقَعَ فَاصِلَةً. وَلَوْ تَأَخَّرَتْ جُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِ لَمْ يَحْسُنْ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ فَاصِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيَقُولَنَّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، إِذْ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ وَقْتَ الْمُصِيبَةِ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا. وَقَوْلُهُ: وَقْتَ الْغَنِيمَةِ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ مَوَدَّةٌ لَكُمْ. وَفِي الْآيَتَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ مِنَ الْمَنْحِ إِلَّا أَغْرَاضَ الدُّنْيَا، يَفْرَحُونَ بِمَا يَنَالُونَ مِنْهَا، وَلَا مِنَ الْمِحَنِ إِلَّا مَصَائِبَهَا فَيَتَأَلَّمُونَ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ «1» الْآيَةَ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَدِيعِ: دُخُولُ حَرْفِ الشَّرْطِ عَلَى مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ. وَالْإِشَارَةُ فِي ذَلِكَ: خَيْرٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ، فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ فِي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا، وَفِي: أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ، وَفِي: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا، وَفِي: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، وَفِي: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وَفِي: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، وَفِي: فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ، أَصْلُ الْمُنَازَعَةِ الْجَذْبُ بِالْيَدِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّنَازُعِ فِي الْكَلَامِ. وَفِي: ضَلَالًا بَعِيدًا اسْتَعَارَ الْبُعْدَ الْمُخْتَصَّ بِالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَصَّةِ بِالْقُلُوبِ لِدَوَامِ الْقُلُوبِ عَلَيْهَا، وَفِي: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ اسْتَعَارَ مَا اشْتَبَكَ وَتَضَايَقَ مِنَ الشَّجَرِ لِلْمُنَازَعَةِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا بَعْضُ الْكَلَامِ فِي بَعْضٍ اسْتِعَارَةَ الْمَحْسُوسِ للمعقول وفي: أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا أَطْلَقَ اسْمَ الْحَرَجِ الَّذِي هُوَ مِنْ وَصْفِ الشَّجْرِ إِذَا تَضَايَقَ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ مِنَ الضِّيقِ وَالتَّتْمِيمِ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَ الْكَلَامَ كَلِمَةٌ تَزِيدُ الْمَعْنَى تَمُكُّنًا وَبَيَانًا لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: قَوْلًا بَلِيغًا أَيْ: يَبْلُغُ إِلَى قُلُوبِهِمْ أَلَمُهُ أَوْ بَالِغًا فِي زَجْرِهِمْ. وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى فِي: مِنْ رَسُولٍ أَتَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ إِذْ لَوْ لَمْ تَدْخُلْ لَا وَهُمُ الْوَاحِدُ. وَالتَّكْرَارُ فِي: استغفر واستغفروا أنفسهم، وفي أَنْفُسِهِمْ وَاسْمُ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. وَالتَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ في: ويسلموا

_ (1) سورة الفجر: 89/ 15.

[سورة النساء (4) : الآيات 74 إلى 78]

تَسْلِيمًا. وَالتَّقْسِيمُ الْبَلِيغُ فِي قَوْلِهِ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْهُ حَقِيقَةً فِي: أصابتكم مصيبة، وأصابكم فَضْلٌ. وَجَعْلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَلَيْسَ مِنْهُ لِمُنَاسَبَةٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئُنَّ. وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. وَالْحَذْفُ فِي مواضع. [سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) إِدْرَاكُ الشَّيْءِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ وَنَيْلُهُ. الْبُرْجُ: الْحَصِنُ. وَقِيلَ: الْقَصْرُ. وَالْبُرُوجُ: مَنَازِلُ الْقَمَرِ، وَكُلُّهَا مِنْ بَرَجَ إِذَا ظَهَرَ، وَمِنْهُ التَّبَرُّجُ وَهُوَ إِظْهَارُ الْمَرْأَةِ مَحَاسِنَهَا، وَالْبَرَجُ فِي الْعَيْنِ اتِّسَاعُهَا. الْمُشَيَّدُ: الْمَصْنُوعُ بِالشِّيدِ وَهُوَ الْجِصُّ. يُقَالُ: شَادَ وَشَيَّدَ كَرَّرَ الْعَيْنَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَكَسَرْتُ الْعُودَ مَرَّةً وَكَسَّرْتُهُ فِي مَوَاضِعَ، وَخَرَقْتُ الثَّوْبَ وَخَرَّقْتُهُ إِذَا كَانَ الْخَرِقُ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ. فَعَلَى هَذَا يُقَالُ: شاد الجدار. ومنه قال والشاعر: شاده مرمرا وجلله كلسا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ

وَالْمُشَيَّدُ: الْمُطَوَّلُ الْمَرْفُوعُ يُقَالُ: شَيَّدَ وَأَشَادَ الْبِنَاءَ رَفَعَهُ وَطَوَّلَهُ، وَمِنْهُ أَشَادَ الرَّجُلُ ذِكْرَ الرَّجُلِ إِذَا رَفَعَهُ. الْفِقْهُ: الْفَهْمُ. يُقَالُ: فَقِهْتُ الْحَدِيثَ إِذَا فَهِمْتُهُ، وَفَقُهَ الرَّجُلُ صَارَ فَقِيهًا. فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ أُحُدٍ. وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يَشْتَرُونَ. وَالْمَعْنَى: أَخْلَصُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يبيعون وَيُؤْثِرُونَ الْآجِلَةَ عَلَى الْعَاجِلَةِ، وَيَسْتَبْدِلُونَهَا بِهَا أَمْرَ اللَّهِ تعالى بِالْجِهَادِ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ثُمَّ وَعَدَ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، سَوَاءٌ اسْتُشْهِدَ، أَوْ غُلِبَ. وَاكْتَفَى فِي الْحَالَتَيْنِ بِالْغَايَةِ، لِأَنَّ غَايَةَ الْمَغْلُوبِ فِي الْقِتَالِ أَنْ يُقْتَلَ، وَغَايَةُ الَّذِي يَقْتُلُ أَنْ يَغْلِبَ وَيَغْنَمَ، فأشرف الحالتين ما بدء بِهِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَلِيهَا أَنْ يَقْتُلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَدُونَ ذَلِكَ الظَّفَرُ بِالْغَنِيمَةِ، وَدُونَ ذَلِكَ أَنْ يَغْزُوَ فَلَا يُصِيبَ وَلَا يُصَابَ. وَلَفْظُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَشْمَلُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ، وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ فُسِّرَ بِالْجَنَّةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَزِيدُ ثَوَابٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَوْعُودٌ دُخُولُهَا بِالْإِيمَانِ. وَكَأَنَّ الَّذِي فَسَّرَهُ بِالْجَنَّةِ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «1» الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلْيُقَاتِلْ بِسُكُونِ لَامِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِكَسْرِهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيُقْتَلْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: فَيَقْتُلْ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ. وَأَدْغَمَ باء يَغْلِبْ فِي الْفَاءِ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ وَخَلَّادٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَأَظْهَرَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُؤْتِيهِ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: يُؤْتِيهِ بِالْيَاءِ. وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ حَثٌّ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى تَخْلِيصِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُقَاتِلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَا لَكَمْ فِي أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، وَحُذِفَ أَنْ، ارْتَفَعَ الْفِعْلُ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَيْ: وَفِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وقال المبرد

_ (1) سورة التوبة: 9/ 111.

وَالزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي خَلَاصِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ: في سبيل الْمُسْتَضْعَفِينَ بِغَيْرِ وَاوِ عَطْفٍ. فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَإِمَّا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِأَنَّهُ سَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ يَعْنِي: وَاخْتَصَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ خَلَاصَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ عَامٌّ فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَخَلَاصُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرِ وَأَخَصِّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ نَصْبِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، إِذْ هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَيَعْنِي بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ إِذْلَالِ قُرَيْشٍ وَأَذَاهُمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ خُرُوجًا، وَلَا تَطِيبُ لَهُمْ عَلَى الْأَذَى إِقَامَةٌ. وَمِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأُمُّهُ، وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجَاةِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَمَّى مِنْهُمْ: الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ تَبْيِينٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوِلْدَانَ الْمُرَادُ بِهِ الصِّبْيَانُ، وَهُوَ جَمْعُ وَلِيدٍ. قِيلَ: وَقَدْ يَكُونُ جَمْعَ وَلَدٍ، كَوَرَلٍ وَوِرْلَانٍ. وَنَبَّهَ عَلَى الْوِلْدَانِ تَسْجِيلًا بِإِفْرَاطِ ظُلْمِ مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ لِيَتَأَذَّى بِذَلِكَ آبَاؤُهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ آبَاءَهُمْ فِي الدُّعَاءِ طَلَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ. وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذُنُوبٌ كَمَا فَعَلَ قَوْمُ يُونُسَ، وَكَمَا هِيَ السُّنَّةُ فِي خُرُوجِ الصِّبْيَانِ في الِاسْتِسْقَاءَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَحْرَارُ، وَبِالْوِلْدَانِ الْعَبِيدُ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ وَلِيدٌ، وَعَلَى الْأَمَةِ وَلِيدَةٌ وَغَلَبَ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ إِذْ دَرَجَ المؤنث في جمع المذكر والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ مِنَ الظُّلْمِ إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَرْيَةُ هُنَا مَكَّةُ بِإِجْمَاعٍ. وَتَكَلَّمُوا فِي جَرَيَانِ الظَّالِمِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ عَلَى الْقَرْيَةِ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَهَذَا مِنْ وَاضِحِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ أُنِّثَ فَقِيلَ: الظَّالِمَةِ، أَوْ جُمِعَ فَقِيلَ: الظَّالِمِينَ، وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَمْ يُقْرَأْ بِهِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ. وَلَوْ تَعَرَّضْنَا لِمَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي تَرَاكِيبِ الْقُرْآنِ لَطَالَ ذَلِكَ وَخَرَجْنَا بِهِ عَنْ طَرِيقَةِ التَّفْسِيرِ. وَوَصَفَ أَهْلَهَا بِالظُّلْمِ إِمَّا لِإِشْرَاكِهِمْ، وَإِمَّا لِمَا حَصَلَ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْوَطْأَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْلَالِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَسْرَى، وَحَوَاضِرَ الشِّرْكِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

انْتَهَى. وَلَمَّا دَعَوْا رَبَّهُمْ أَجَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي الْخُرُوجِ، فَهَاجَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْفَتْحِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْهُ خَيْرَ وَلِيٍّ وَنَاصِرٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فَتَوَلَّاهُمْ أَحْسَنَ التَّوَلِّي، وَنَصَرَهُمْ أَقْوَى النَّصْرِ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَلَّى عَلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ وَعُمْرُهُ أحد وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَرَأَوْا مِنْهُ الْوِلَايَةَ وَالنَّصْرَ كَمَا سَأَلُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يُنْصِفُ الضَّعِيفَ مِنَ الْقَوِيِّ، حتى كانوا أعزبها مِنَ الظَّلَمَةِ. الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِالنَّفْرِ إِلَى الْجِهَادِ «1» ، ثُمَّ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» ثُمَّ ثَالِثًا عَلَى طَرِيقِ الْحَثِّ وَالْحَضِّ بِقَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ «3» أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، لِيُبَيِّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَيُقَوِّيَهُمْ بِذَلِكَ وَيُشَجِّعَهُمْ وَيُحَرِّضَهُمْ. وَإِنَّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ. وَمَنْ قَاتَلَ في سبيل الطاغوت فهو المخذوف الْمَغْلُوبُ. وَالطَّاغُوتُ هُنَا الشَّيْطَانُ لِقَوْلِهِ: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ. وَهُنَا مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَقَاتِلُوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لِقُوَّتِكُمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا الْمَحْذُوفَ وَهُوَ غَلَبَتُكُمْ إِيَّاهُمْ بِأَنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ ضَعِيفٌ، فَلَا يُقَاوِمُ نَصْرَ اللَّهِ وَتَأْيِيدَهُ، وَشَتَّانَ بَيْنِ عَزْمٍ يَرْجِعُ إِلَى إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَبِمَا وَعَدَ عَلَى الْجِهَادِ، وَعَزْمٍ يَرْجِعُ إِلَى غرور وأماني كَاذِبَةٍ. وَدَخَلَتْ كَانَ فِي قَوْلِهِ: كَانَ ضَعِيفًا إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ سَابِقٌ لِكَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ضَعِيفًا. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى صَارَ أَيْ: صَارَ ضَعِيفًا بِالْإِسْلَامِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانَ ضَعِيفًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً خَرَّجَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً. فَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 71. (2) سورة النساء: 4/ 74. (3) سورة النساء: 4/ 75.

وَنَحْوُ هَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ وَاصِفَةً أَحْوَالَ قَوْمٍ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: كأنه يومىء إِلَى قِصَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: «ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا» «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ، أَيْ: مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَالْخَشْيَةُ هِيَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ الْمَخَافَةِ، لَا عَلَى الْمُخَالَفَةِ. وَنَحْوُ مَا قَالَ الْحَسَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ كَعَّ فَرِيقٌ مِنْهُمْ لَا شَكًّا فِي الدِّينِ وَلَا رَغْبَةً عَنْهُ، وَلَكِنْ نُفُورًا عَنِ الْأَخْطَارِ بِالْأَرْوَاحِ، وَخَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ اسْتَحْسَنُوا الدُّخُولَ فِي الدِّينِ عَلَى فَرَائِضِهِ الَّتِي قَبْلَ الْقِتَالِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُوَادَعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقِتَالُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَجَزِعُوا لَهُ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ حِينَ طَلَبُوهُ وَجَبَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَعَّ عَنْهُ بَعْضُهُمْ قَالَ تَعَالَى: أَلَا تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ نَاسٍ طَلَبُوا الْقِتَالَ فَأُمِرُوا بِالْمُوَادَعَةِ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ فَرِقَ فَرِيقٌ وَجَزِعَ. وَمَعْنَى كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ: أَيْ عَنِ الْقِتَالِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا يُقَالُ كُفُّوا إِلَّا لِلرَّاغِبِينَ فِيهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: يُرِيدُ الْمُنَافِقِينَ. وَإِنَّمَا قَالَ: كُفُّوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الرَّغْبَةَ فِيهِ انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا: وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى إِيجَابِ الْجِهَادِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالزَّكَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مُتَقَدِّمَانِ عَلَى الْجِهَادِ. وَالْفَرِيقُ إِمَّا مُنَافِقُونَ، وَإِمَّا مُؤْمِنُونَ، أَوْ نَاسٌ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ، أَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ فَرْضِ الْقِتَالِ حَسَبَ اخْتِلَافِ سَبَبِ النُّزُولِ. وَالنَّاسُ هُنَا أَهْلُ مَكَّةَ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ كُفَّارُ أَهْلِ الكتاب ومشركو العرب. ولمّا حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ. وَإِذَا كَانَتْ حَرْفًا وَهُوَ الصَّحِيحُ فَجَوَابُهُ إِذَا الْفُجَائِيَّةُ، وَإِذَا كَانَتْ ظَرْفًا فَيَحْتَاجُ إِلَى عَامِلٍ فِيهَا فَيَعْسُرُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِي لَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا، لِأَنَّ لَمَّا هِيَ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَامِلُ فِي لَمَّا مَعْنَى يَخْشَوْنَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَزِعُوا. قَالَ: وَجَزِعُوا هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 246.

بِتَقْدِيرِ الِاسْتِقْبَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ لِأَنَّ فِيهَا ظَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِمَا مَضَى، وَالْآخَرُ: لِمَا يُسْتَقْبَلُ انْتَهَى. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي لَمَّا، وَأَنَّهَا حَرْفٌ. وَنَخْتَارُ أَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةَ ظَرْفُ مَكَانٍ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا لِلِاسْمِ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ مَعْمُولًا لِلْخَبَرِ. فَإِذَا قُلْتَ: لَمَّا جَاءَ زَيْدٌ إِذَا عَمْرٌو قَائِمٌ، يَجُوزُ نَصْبُ قَائِمٌ عَلَى الْحَالِ. وَإِذَا حَرْفٌ يَصِحُّ رَفْعُهُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ عَامِلٌ فِي إِذَا. وَهُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا مَعْمُولًا لِيَخْشَوْنَ، وَيَخْشَوْنَ خَبَرُ فَرِيقٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، ويخشون حال من فريق، ومنهم عَلَى الْوَجْهَيْنِ صِفَةٌ لِفَرِيقٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِذَا هُنَا ظَرْفُ زَمَانٍ لِمَا يُسْتَقْبَلُ فَقَوْلُهُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا اسْتَحَالَ، لِأَنَّ كتب ماض، وإذا لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَإِنْ تُسُومِحَ فَجُعِلَتْ إِذَا بِمَعْنَى إِذْ صَارَ التَّقْدِيرُ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فِي وَقْتِ خَشْيَةِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا يَفْتَقِرُ إِلَى جَوَابِ لَمَّا، وَلَا جَوَابَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا بَعْدَهَا، احْتَاجَتْ إِلَى جَوَابٍ هُوَ الْعَامِلُ فِيهَا، وَلَا جَوَابَ لَهَا. وَالْقَوْلُ فِي إِذَا الْفُجَائِيَّةِ: أَهِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ؟ أَمْ ظَرْفُ مَكَانٍ؟ أَمْ حَرْفٌ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ؟ وَالْكَافُ فِي كَخَشْيَةِ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. قِيلَ: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: خَشْيَةً كَخَشْيَةِ اللَّهِ. وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخَشْيَةِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: يَخْشَوْنَهَا النَّاسَ أَيْ: يَخْشَوْنَ الْخَشْيَةَ النَّاسَ مُشْبِهَةً خَشْيَةَ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَحَلٌّ كَخَشْيَةِ اللَّهِ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ (قُلْتُ) : مَحَلُّهَا النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَخْشَوْنَ، أَيْ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ مِثْلَ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ: مُشْبِهِينَ لِأَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ. أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، يَعْنِي: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ أهل خشية الله. وأشد مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ عَدَلْتَ عَنِ الظَّاهِرِ وَهُوَ كَوْنُهُ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ وَلَمْ تُقَدِّرْهُ: يَخْشَوْنَ خَشْيَةَ اللَّهِ، بِمَعْنَى مِثْلَ مَا يُخْشَى اللَّهُ؟ (قُلْتُ) : أَبَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، لِأَنَّهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ قُلْتَ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ أَشَدَّ خَشْيَةً لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَالًا عَنْ ضَمِيرِ الْفَرِيقِ، وَلَمْ يَنْتَصِبِ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: خَشِيَ فُلَانٌ أَشَدَّ خَشْيَةً، فَتَنْصِبَ خَشْيَةً وَأَنْتِ تُرِيدُ الْمَصْدَرَ، إِنَّمَا تَقُولُ: أَشَدَّ خَشْيَةٍ فَتَجُرُّهَا، وَإِذَا نَصَبْتَهَا لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ خَشْيَةً إِلَّا عِبَارَةً عَنِ الْفَاعِلِ حَالًا مِنْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الْخَشْيَةَ خَاشِيَةً عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: جِدُّ جِدِّهِ، فَتَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَخْشَوْنَ النَّاسَ خَشْيَةً مِثْلَ خَشْيَةٍ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ أَشَدَّ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، يُرِيدُ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ كَخَشْيَةٍ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْهَا انْتَهَى كلامه. وقد يصح نصب خَشْيَةً، وَلَا يَكُونُ تَمْيِيزًا فَيَلْزَمُ مِنْ

ذَلِكَ مَا الْتَزَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَلْ يَكُونُ خَشْيَةً مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ، وَأَشَدَّ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ كَانَ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ مِثْلَ خَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ خَشْيَةً أَشَدَّ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا التَّخْرِيجَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً «1» وَأَوْضَحْنَاهُ هُنَاكَ. وَخَشْيَةُ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ أَيْ: كَخَشْيَتِهِمُ اللَّهَ. وَأَوْ عَلَى بَابِهَا مِنَ الشَّكِّ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ، وَقِيلَ: لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ: لِلتَّخْيِيرِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى بَلْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «2» وَلَوْ قِيلَ إِنَّهَا لِلتَّنْوِيهِ، لَكَانَ قَوْلًا يَعْنِي: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَخْشَى النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْشَاهُمْ خَشْيَةً تَزِيدُ عَلَى خَشْيَتِهِمُ اللَّهَ. وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلِينَ هَذَا: هُمْ مُنَافِقُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ لَا يَسْأَلُ عَنْ عِلَّتِهِ مَنْ هُوَ خَالِصُ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا جَاءَ السِّيَاقُ بَعْدَهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «3» وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ. ولولا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنَى هَلَّا وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَجَلُ الْقَرِيبُ هُنَا هُوَ مَوْتُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ كَذَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَذُكِرَ فِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَنَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِنَا وَلَا نُقْتَلَ، فَتُسَرُّ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُونَ قَدْ طَلَبُوا التَّأْخِيرَ فِي كُتُبِ الْقِتَالِ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَتِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. لِأَنَّ لَفْظَ لَمْ رُدَّ فِي صَدْرِ أَمْرِ اللَّهِ، وَعَدَمِ اسْتِسْلَامِهِمْ لَهُ مَعَ قَوْلِهِمْ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ اسْتِزَادَةٌ فِي مُدَّةِ الْكَفِّ، وَاسْتِمْهَالٌ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ «4» . وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَقَالُوا ربنا لم كتبت علينا الْقِتَالَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفَوَّهُوا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتَقَدُوهُ وَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَحَكَى تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَصْعَبُوا ذَلِكَ دَلَّ اسْتِصْعَابُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ وَاثِقِينَ بِأَحْوَالِهِمْ. قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَوْنِ مَتَاعِ الدُّنْيَا قَلِيلًا فِي قَوْلِهِ: مَتاعٌ قَلِيلٌ «5» وَإِنَّمَا قَلَّ: لِأَنَّهُ فَانٍ، وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ مُؤَبَّدٌ، فهو خير لمن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 200. (2) سورة البقرة: 2/ 74. (3) سورة النساء: 4/ 78. (4) سورة المنافقون: 63/ 10. (5) سورة النساء: 4/ 77. [.....]

اتَّقَى اللَّهَ وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي مَا أَحَبَّ، وَفِي مَا كَانَ شَاقًّا مِنْ قِتَالٍ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَا يُظْلَمُونَ بِالْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ أَيْ: لَا تُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِكُمْ وَمَشَاقِّ التَّكَالِيفِ أَدْنَى شَيْءٍ، فَلَا تَرْغَبُوا عَنِ الْأَجْرِ. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ: هَذَا التَّأَخُّرُ الَّذِي سَأَلُوهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا مُنْجِيَ مِنَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِقَتْلٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي خَوَرِ الطَّبْعِ وَحُبِّ الْحَيَاةِ. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحْتَ مَعْمُولِ قُلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ مُسْتَأْنَفًا بِأَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ أَحَدٌ. وَالْبُرُوجُ هُنَا الْقُصُورُ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْجُمْهُورُ. أَوِ الْقُصُورُ مِنْ حَدِيدٍ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ قُصُورٌ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوِ الْحُصُونُ وَالْآكَامُ وَالْقِلَاعُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْبُيُوتُ الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ الْحُصُونِ قَالَهُ: بَعْضُهُمْ. أَوْ بُرُوجُ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ قَالَهُ: الربيع أنس، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ «1» وَجَعَلَ فِيهَا بُرُوجًا وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً «2» وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنِيَةِ يَلْقَهَا ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ مُشَيَّدَةٌ مُطَوَّلَةٌ قَالَهُ: أَبُو مَالِكٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ. أَوِ مَطْلِيَّةٌ بِالشِّيدِ قَالَهُ: أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. أَوْ حَصِينَةٌ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا بُرُوجٌ فِي السَّمَاءِ فَلِأَنَّهَا بِيضٌ شَبَّهَهَا بِالْمِبْيَضِ بِالشِّيدِ، وَلِهَذَا قَالَ الَّذِي هِيَ قُصُورٌ بِيضٌ فِي السَّمَاءِ مَبْنِيَّةٌ. وَالْجَزْمُ فِي يُدْرِكْكُمْ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَأَيْنَمَا تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِي أَيِّ مَكَانٍ تَكُونُونَ فِيهِ أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ. وَلَوْ هُنَا بِمَعْنَى إِنْ، وَجَاءَتْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ بِتَقْدِيرِ: إِنْ لَوْ كَانُوا فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَلِإِظْهَارِ اسْتِقْصَاءِ الْعُمُومِ فِي أَيْنَمَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: يُدْرِكُكُمْ بِرَفْعِ الْكَافَيْنِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْفَتْحِ: عَلَى حَذْفِ فَاءِ الْجَوَابِ أَيْ: فَيُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حُمِلَ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعَ أَيْنَمَا تَكُونُوا، وَهُوَ: أَيْنَمَا كُنْتُمْ كَمَا حُمِلَ وَلَا نَاعِبَ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعَ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ، وَهُوَ لَيْسُوا بِمُصْلِحِينَ. فَرُفِعَ كَمَا رَفَعَ زُهَيْرٌ يَقُولُ: لَا غَائِبَ مَا لِي وَلَا حَرَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ نَحْوِيٍّ سِيبَوَيْهِيٍّ انْتَهَى. وَيَعْنِي: أَنَّهُ جَعَلَ يُدْرِكُكُمُ ارْتَفَعَ لِكَوْنِ أَيْنَمَا تَكُونُوا فِي مَعْنَى أَيْنَمَا كنتم،

_ (1) سورة البروج: 85/ 1. (2) سورة الحجر: 95/ 16.

بِتَوَهُّمِ أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمُضَارِعِ بَعْدَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَزْمُ عَلَى الْجَوَابِ. وَالثَّانِي: الرَّفْعُ. وَفِي تَوْجِيهِ الرَّفْعِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْجَوَابَ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ. وَإِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ اللَّفْظِ، فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا يَأْبَاهُ كَوْنُ فِعْلِ الشَّرْطِ مُضَارِعًا. وَحَمْلُهُ عَلَى وَلَا نَاعِبَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ وَلَا نَاعِبَ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ، وَالْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ لَا يَنْقَاسُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا «1» أَيْ: لَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِمَّا كُتِبَ مِنْ آجَالِكُمْ أَيْنَمَا تَكُونُوا فِي مَلَاحِمِ حُرُوبٍ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْنَمَا تَكُونُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا تَخْرِيجٌ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا، لِأَنَّ ظَاهِرَ انْتِفَاءِ الظُّلْمِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى «2» وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ فَإِنَّهُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَيْنَمَا تَكُونُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا تُظْلَمُونَ، مَا فَسَّرَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَيْ: لَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِمَّا كُتِبَ مِنْ آجَالِكُمْ أَيْنَمَا تَكُونُوا فِي مَلَاحِمِ الْحَرْبِ أَوْ غَيْرِهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ أَيْنَمَا اسْمُ شَرْطٍ، فَالْعَامِلُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ. وَلِأَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ عَامِلُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، وَلَا تُظْلَمُونَ. بَلْ إِذَا جَاءَ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا مَتَى جَاءَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاصِبُ لِمَتَى اضْرِبْ. فَإِنْ قَالَ: يُقَدَّرُ لَهُ جَوَابٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ: ولا تظلمون، كما يقدر فِي اضْرِبْ زَيْدًا: مَتَى جَاءَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَيْنَمَا تَكُونُوا فَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: فَلَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنْ آجَالِكُمْ وَحَذَفَهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يُحْذَفُ الْجَوَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِعْلُ الشَّرْطِ هُنَا مُضَارِعٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَلَا تَقُلْ أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ تَفْعَلْ. وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: مَشِيدَةٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَصْفًا لَهَا بِفِعْلِ فَاعِلِهَا مَجَازًا، كَمَا قَالَ: قَصِيدَةٌ شَاعِرَةٌ، وَإِنَّمَا الشَّاعِرُ نَاظِمُهَا. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضَّمِيرُ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لِلْيَهُودِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصْدُرُ مِنْ مُؤْمِنٍ، وَالْيَهُودُ لَمْ يكونوا في طاعة

_ (1) سورة النساء: 2/ 77. (2) سورة النساء: 4/ 77.

الْإِسْلَامِ حَتَّى يُكْتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحَسَنَةَ هُنَا هِيَ السَّلَامَةُ وَالْأَمْنُ، وَالسَّيِّئَةُ الْأَمْرَاضُ وَالْخَوْفُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْحَسَنَةُ الْخِصْبُ وَالرَّخَاءُ، وَالسَّيِّئَةُ الْجَدْبُ وَالْغَلَاءُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْحَسَنَةُ السَّرَّاءُ، وَالسَّيِّئَةُ الضَّرَّاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْحَسَنَةُ النِّعْمَةُ وَالْفَتْحُ وَالْغَنِيمَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالسَّيِّئَةُ الْبَلِيَّةُ وَالشِّدَّةُ وَالْقَتْلُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الْغِنَى، وَالسَّيِّئَةُ الْفَقْرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ حَسَنَةٌ نَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَلَا الْإِيمَانِ بِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أَضَافُوهَا إِلَى الرَّسُولِ وَقَالُوا: هِيَ بِسَبَبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْمِ مُوسَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ «1» وَفِي قَوْمِ صَالِحٍ: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ «2» . وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ: مَا زِلْنَا نَعْرِفُ النَّقْصَ فِي ثِمَارِنَا وَمَزَارِعِنَا مُذْ قَدِمَ عَلَيْنَا هَذَا الرَّجُلُ وَأَصْحَابُهُ. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا خَالِقَ وَلَا مُخْتَرِعَ سِوَاهُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ، وَعَنْ إِرَادَتِهِ تَصْدُرُ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ. فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَكَيْفَ يُنْسَبُ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ؟ أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَفَهَّمُ الْأَشْيَاءَ، وَيَتَوَقَّفُونَ عَمَّا يُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا حَتَّى يَعْرِضُوهُ عَلَى عُقُولِهِمْ. وَبَالَغَ تَعَالَى فِي قِلَّةِ فهمهم وتعقلهم، حَتَّى نَفَى مُقَارَبَةَ الْفِقْهِ، وَنَفْيُ الْمُقَارَبَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارَ مَا اسْتُفْهِمَ عَنْ عِلَّتِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ مُقَابِلُهُ. فَإِذَا قِيلَ: مَا لَكَ قَائِمًا، فَهُوَ إِنْكَارٌ لِلْقِيَامِ، وَمُتَضَمِّنٌ أَنْ يُوجَدَ مُقَابِلُهُ. وَإِذَا قِيلَ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ، فَهُوَ إِنْكَارٌ لِتَرْكِ الْقِيَامِ، وَمُتَضَمِّنٌ أَنْ يُوجَدَ مُقَابِلُهُ. قِيلَ فِي قَوْلِهِ: حَدِيثًا، أَيِ الْقُرْآنُ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَبَصَّرَهُمْ فِي الدِّينِ، وَأَوْرَثَهُمُ الْيَقِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَامَهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّفَقُّهِ فِيمَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَأَدَّبَهُمْ فِي كِتَابِهِ. وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَا، وَوَقَفَ الْبَاقُونَ عَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: فَمَالِ، اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ. وَلَا يَنْبَغِي تَعَمُّدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى فَمَا فِيهِ قَطْعٌ عَنِ الْخَبَرِ، وَعَلَى اللَّامِ فِيهِ قَطْعٌ عَنِ الْمَجْرُورِ دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ انْقِطَاعِ النَّفَسِ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 131. (2) سورة النمل: 27/ 47.

[سورة النساء (4) : آية 79]

[سورة النساء (4) : آية 79] مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الْخِطَابُ عَامٌّ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَصَابَكَ يَا إِنْسَانُ. وقيل: لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُوَ خِطَابٌ لِلْفَرِيقِ فِي قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ «1» قَالَ: وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْفَرِيقِ مُفْرَدًا، صَحَّ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ تَارَةً، وَبِلَفْظِ الْجَمْعِ تَارَةً. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: تُفَرِّقُ أَهْلًا نَابِثِينَ فَمِنْهُمُ ... فَرِيقٌ أَقَامَ وَاسْتَقَلَّ فَرِيقُ هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى بِالنَّاسِ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالرَّبِيعُ، وَأَبُو صَالِحٍ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْهُ بِفَضْلِهِ، وَالسَّيِّئَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِذُنُوبِهِ، وَمِنَ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ. وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَمِنْ نَفْسِكَ، وَإِنَّمَا قَضَيْتُهَا عَلَيْكَ، وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو: وأنها فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَا كَتَبْتُهَا. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُبَيًّا قَرَآ: وَأَنَا قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَعْنَاهَا: «أَنَّ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَإِنَّمَا هُوَ عُقُوبَةُ ذُنُوبِهِ» وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ عَلَى قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟ يَقُولُونَ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ الْآيَةَ «2» . وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَمِنْ نَفْسِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، هُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْهُ وَبِفَضْلِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ «3» أَيْ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ. وَكَذَا بازِغاً قالَ: هَذَا رَبِّي «4» عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَالْعَرَبُ تَحْذِفُ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ: رَمَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرْعَ ... فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هم هم

_ (1) سورة النساء: 4/ 77. (2) سورة النساء: 4/ 79. (3) سورة الشعراء: 26/ 22. (4) سورة الأنعام: 6/ 77.

أَيْ: أَهُمْ هُمْ. وَحُكِيَ هَذَا الْوَجْهُ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحَسَنَةَ هُنَا مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالسَّيِّئَةَ مَا نُكِبُوا بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ وَصَبٌ وَلَا نَصَبٌ، حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا، حَتَّى انْقِطَاعَ شسع نَعْلِهِ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ» . وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1» . وَقَدْ تَجَاذَبَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ الدَّلَالَةَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، فَتَعَلَّقَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِالثَّانِيَةِ وَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْسَبَ فِعْلُ السَّيِّئَةِ إِلَى اللَّهِ بِوَجْهٍ، وَجَعَلُوا الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ فِي الْأُولَى بِمَعْنَى الْخِصْبِ وَالْجَدَبِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ. وَتَعَلَّقَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِالْأُولَى وَقَالُوا: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2» عَامٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الظَّاهِرَةَ مِنَ الْعِبَادِ هِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأَوَّلُوا الثَّانِيَةَ وَهِيَ: مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَّا الْجُهَّالُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّهُمْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَةَ هِيَ الْمَعْصِيَةُ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَالْقَدَرِيَّةُ قَالُوا: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أَيْ: مِنْ طَاعَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَلَيْسَ هَذَا اعْتِقَادَهُمْ، لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ مَذَاهِبَهُمْ: أَنَّ الْحَسَنَةَ فِعْلُ الْمُحْسِنِ، وَالسَّيِّئَةَ فِعْلُ الْمُسِيءِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لَكَانَ يَقُولُ: مَا أَصَبْتَ مِنْ حَسَنَةٍ وَمَا أَصَبْتَ مِنْ سَيِّئَةٍ، لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ جَمِيعًا، فَلَا تُضَافُ إِلَيْهِ إِلَّا بِفِعْلِهِ لَهُمَا لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ، نَصَّ عَلَى هَذَا الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ شِيثُ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بن حيدرة فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِحَزِّ الْعَلَاصِمِ فِي إِفْحَامِ الْمُخَاصِمِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِذَا تُؤُمِّلَ مَوْرِدُ الْكَلَامِ وَسَبَبُ النُّزُولِ فَلَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يُثْلِجُ صَدْرًا أَوْ يُزِيلُ شَكًّا، إِذْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا ذَرِيعَةً إِلَى غِنًى وَخِصْبٍ يَنَالُونَهُ، وَظَفَرٍ يُحَصِّلُونَهُ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ، أَوْ فَاتَهُ مَحْبُوبٌ، أَوْ نَالَهُ مَكْرُوهٌ، أَضَافَ سَبَبَهُ إِلَى الرَّسُولِ مُتَطَيِّرًا بِهِ. وَالْحَسَنَةُ هُنَا وَالسَّيِّئَةُ كَهُمَا فِي: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ «3» وَفِي فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ «4» انْتَهَى. وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالَ: هَذَا تَنَاقُضٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَالَ عَقِيبَهُ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ الْآيَةَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَهَذَا ظَاهِرُ الْوَهْيِ، لِأَنَّ الْحَسَنَةَ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 30. (2) سورة النساء: 4/ 78. (3) سورة الأعراف: 7/ 168. (4) سورة الأعراف: 7/ 131. [.....]

وَالسَّيِّئَةَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ كَالْحَيَوَانِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ. وَمِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالْعَيْنِ. فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: الْحَيَوَانُ الْمُتَكَلِّمُ وَالْحَيَوَانُ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِ الْإِنْسَانَ، وَبِالثَّانِي الْفَرَسَ أَوِ الْحِمَارَ، لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: الْعَيْنُ فِي الْوَجْهِ، وَالْعَيْنُ لَيْسَ فِي الْوَجْهِ، وَأَرَادَ بِالْأُولَى الْجَارِحَةَ، وَبِالثَّانِيَةِ عَيْنَ الْمِيزَانِ أَوِ السَّحَابِ. وَكَذَلِكَ الْآيَةُ أُرِيدُ بِهِمَا فِي الْأُولَى غَيْرُ مَا أُرِيدُ فِي الثَّانِيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ انْتَهَى. وَالَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ بِالْمُشْتَرَكَةِ وَبِالْمُخْتَلِفَةِ لَيْسَ اصْطِلَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ، لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ هُوَ عِنْدَهُمْ كَالْعَيْنِ، وَالْمُخْتَلِفَةَ هِيَ الْمُتَبَايِنَةُ. وَالرَّاغِبُ جَعَلَ الْحَيَوَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَجَعَلَ الْعَيْنَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ: أَنَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَعَمَّ. يُقَالُ: فِيمَا كَانَ بِرِضَاهُ وَبِسُخْطِهِ، وَفِيمَا يَحْصُلُ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا فِيمَا كَانَ بِرِضَاهُ وَبِأَمْرِهِ، وَبِهَذَا النَّظَرِ قَالَ عُمَرُ: إِنْ أَصَبْتُ فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنَ الشَّيْطَانِ انْتَهَى. وَعَنَى بِالنَّفْسِ هُنَا الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «1» وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَمِنْ نَفْسِكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ السين، فمن اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ أَيْ: فَمَنْ نَفْسُكَ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَيْهَا فِعْلُ الْمَعْنَى مَا لِلنَّفْسِ فِي الشَّيْءِ فِعْلٌ. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِإِرْسَالِهِ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» وَلِلنَّاسِ عَامٌّ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، وَانْتَصَبَ رَسُولًا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى إِرْسَالًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ مُطَّلِعًا عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْكَ وَمِنْهُمْ، أَوْ شَهِيدًا عَلَى رِسَالَتِكَ. وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ اللَّهُ شَاهِدَهُ إِلَّا أَنْ يُطَاعَ وَيُتَّبَعَ، لِأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ، وَشَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ: الِاسْتِعَارَةُ فِي: يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَفِي: فَسَوْفَ نؤتيه أجرا عظيما لما يَنَالُهُ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي: سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي: سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، اسْتَعَارَ الطَّرِيقَ لِلِاتِّبَاعِ وَلِلْمُخَالَفَةِ وَفِي: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أَطْلَقَ كَفَّ الْيَدِ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْإِجْرَامِ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنِ الْقِتَالِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ الاستبطاء

_ (1) سورة يوسف: 12/ 53. (2) سورة الإسراء: 17/ 15.

[سورة النساء (4) : الآيات 80 إلى 86]

وَالِاسْتِبْعَادُ فِي: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ فِي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا. وَالتَّجَوُّزُ بِفِي الَّتِي لِلْوِعَاءِ عَنْ دُخُولِهِمْ فِي: الْجِهَادِ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ فِي قِرَاءَةِ النُّونِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي: وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ، وَفِي: يُقَاتِلُونَ، وَفِي: الشَّيْطَانِ، وَفِي: وَإِنْ تُصِبْهُمْ، وَفِي: مَا أَصَابَكَ وَفِي: اسْمِ اللَّهِ. وَالطِّبَاقُ اللَّفْظِيُّ فِي: الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْمَعْنَوِيُّ فِي: سَبِيلِ اللَّهِ طَاعَةٌ وَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ مَعْصِيَةٌ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وَفِي: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى. وَالتَّجَوُّزُ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ فِي: يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ، وَفِي: إِنْ تُصِبْهُمْ، وَفِي: مَا أَصَابَكَ. وَالتَّشْبِيهُ فِي: كَخَشْيَةِ. وَإِيقَاعُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ حَيْثُ لَا مُشَارَكَةَ فِي: خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى. وَالتَّجْنِيسُ المغاير في: يخشون وكخشية. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ. [سُورَةُ النساء (4) : الآيات 80 الى 86] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) التَّبْيِيتُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ: كُلُّ أَمْرٍ قُضِيَ بِلَيْلٍ، قِيلَ: قَدْ بُيِّتَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ أَمْرٍ مُكِرَ فِيهِ أَوْ خِيضَ بِلَيْلٍ فَقَدْ بُيِّتَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بِأَمْرٍ نُكُرْ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ إِذَا قُدِّرَ: بُيِّتَ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: بيت ألف. وقيل: هيىء وَزُوِّرَ. وَقِيلَ: قُصِدَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَمَّا تَبَيَّتْنَا أَخَا تَمِيمٍ ... أَعْطَى عَطَاءَ اللَّحِزِ اللَّئِيمِ أَيْ: قَصَدْنَا. وَقِيلَ: التَّبْيِيتُ التَّبْدِيلُ بِلُغَةِ طيىء، قَالَ شَاعِرُهُمْ: وَتَبْيِيتُ قَوْلِي عِنْدَ الْمَلِيكِ قَاتَلَكَ اللَّهُ عَبْدًا كَفُورًا التَّدَبُّرُ: تَأَمُّلُ الْأَمْرِ وَالنَّظَرُ فِي أَدْبَارِهِ وما يؤول إِلَيْهِ فِي عَاقِبَتِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ تَأَمُّلٍ. وَالدَّبَرُ: الْمَالُ الْكَثِيرُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَبْقَى لِلْأَعْقَابِ وَلِلْأَدْبَارِ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. الْإِذَاعَةُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ وَإِفْشَاؤُهُ يُقَالُ: ذَاعَ، يَذِيعُ، وَأَذَاعَ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ أَذَاعَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: أَذَاعُوا بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءِ نَارٍ أُوقِدَتْ بِثُقُوبِ الِاسْتِنْبَاطُ: الِاسْتِخْرَاجُ، وَالنَّبَطُ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ أَوَّلَ مَا تُحْفَرُ، وَالْإِنْبَاطُ وَالِاسْتِنْبَاطُ إِخْرَاجُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: نَعَمْ صَادِقًا وَالْفَاعِلُ الْقَائِلُ الَّذِي ... إِذَا قَالَ قَوْلًا أَنْبَطَ الْمَاءَ فِي الثَّرَى وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ بَعِيدَ الْعِزِّ وَالْمَنَعَةِ مَا يَجِدُ عَدُوُّهُ لَهُ: نَبَطًا. قَالَ كَعْبٌ: قَرِيبٌ تَرَاهُ لَا يَنَالُ عَدُوُّهُ ... لَهُ نَبَطًا آبَى الْهَوَانَ قُطُوبُ وَالنَّبَطُ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ الْمِيَاهَ وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَبَطَ مِثْلَ اسْتَنْبَطَ، وَنَبَطَ الْمَاءُ يَنْبُطُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا. التَّحْرِيضُ: الْحَثُّ. التَّنْكِيلُ: الْأَخْذُ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَتَرْدِيدُهُ عَلَى الْمُعَذَّبِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النِّكْلِ وَهُوَ: الْقَيْدُ. الْكِفْلُ: النَّصِيبُ، وَالنَّصِيبُ فِي الْخَيْرِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا. وَالْكِفْلُ فِي الشَّرِّ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْخَيْرِ. الْمُقِيتُ: الْمُقْتَدِرُ. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَذِي ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وَكَانَ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتًا أَيْ مُقْتَدِرًا. وَقَالَ السموأل:

لَيْتَ شِعْرِي وَأَشْعَرْنَ إِذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ أتى الفصل ثم عَلَيَّ إِذَا حُو ... سِبْتُ إني على الحساب مقيت وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُقِيتُ الْحَاضِرُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمُقِيتُ الْمُقْتَدِرُ، وَالْمُقِيتُ: الْحَافِظُ وَالشَّاهِدُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ، وَالْقُوتُ مِقْدَارُ مَا يُحْفَظُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّلَفِ. التَّحِيَّةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ: هِيَ الْمُلْكُ وَأَنْشَدَ: أوّم بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى ... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: التَّحِيَّةُ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، وَبِمَعْنَى الْبَقَاءِ، ثُمَّ صَارَتْ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ. انْتَهَى. وَوَزْنُهَا تَفْعِلَةٌ، وَلَيْسَ الْإِدْغَامُ فِي هَذَا الْوَزْنِ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ الْمَازِنِيِّ، بَلْ يَجُوزُ الْإِظْهَارُ كَمَا قَالُوا: أَعْيِيَةٌ بِالْإِظْهَارِ، وَأَعِيَّةٌ بِالْإِدْغَامِ فِي جَمْعِ عَيِيٍّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِدْغَامُ فِي تَحِيَّةٍ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ» فَاعْتَرَضَتِ الْيَهُودُ فَقَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ يَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُدَّعٍ لِلرُّبُوبِيَّةِ فَنَزَلَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ لَقَدْ قَارَبَ الشِّرْكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالُوا مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ إِلَّا أَنْ يُتَّخَذَ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى. وَتَعَلُّقُ الطَّاعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، ولا ينهى إلا عَنْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ طَاعَةَ اللَّهِ. وَمَنْ تَوَلَّى بِنِفَاقٍ أَوْ أَمْرٍ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ هَذَا الْتِفَاتٌ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى الرَّسُولِ لَكَانَ فَمَا أَرْسَلَهُ. وَالْحَافِظُ هُنَا الْمُحَاسِبُ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَوِ الْحَافِظُ لِلْأَعْمَالِ، أَوِ الْحَافِظُ مِنَ الْمَعَاصِي، أَوِ الْحَافِظُ عَنِ التَّوَلِّي، أَوِ الْمُسَلَّطُ مِنَ الْحُفَّاظِ أَقْوَالٌ. وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِعْرَاضَ عمن تولى، والترك رفقا مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ قَبْلَ نُزُولِ الْقِتَالِ. وَيَقُولُونَ طاعَةٌ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ بِاتِّفَاقٍ. أَيْ: إِذَا أَمَرْتَهُمْ بِشَيْءٍ قَالُوا طَاعَةٌ، أَيْ: أَمْرُنَا طَاعَةٌ، أَوْ مِنَّا طَاعَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِمَعْنَى أَطَعْنَاكَ طَاعَةً، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُرْتَسِمِ سَمْعًا وَطَاعَةً، وَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَسَمِعْنَا بَعْضَ الْعَرَبِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ يُقَالُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَيَقُولُ: حَمْدًا لِلَّهِ وَثَنَاءً عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَمْرِي وَشَأْنِي حَمْدُ اللَّهِ. وَلَوْ نَصَبَ حَمْدَ اللَّهِ وَثَنَاءً عَلَيْهِ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ، وَالرَّفْعُ يَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الطَّاعَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ مَا لَمْ يُقْرَأْ بِهِ وَلَا لِتَوْجِيهِهِ وَلَا لِتَنْظِيرِهِ بِغَيْرِهِ، خُصُوصًا فِي كِتَابِهِ الَّذِي وَضَعَهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ لَا عَلَى التَّطْوِيلِ.

فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أَيْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ رَوَوْا وَسَوَّوْا أَيْ: طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ كَاذِبُونَ عَاصُونَ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ فِي تَقُولُ عَائِدٌ عَلَى الطَّائِفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الرَّسُولِ أَيْ: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ وَتُرْسَمُ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الْخِلَافُ وَالْعِصْيَانُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بَيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ يَقُولُ: بِالْيَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ، وَيَكُونَ الْتِفَاتًا إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي مِنْ عِنْدِكَ، إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الطَّائِفَةِ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْقَوْمِ أَوِ الْفَرِيقِ، وَخَصَّ طَائِفَتَهُ بِالتَّبْيِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُونُوا لِيَجْتَمِعُوا كُلُّهُمْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ. وَأَدْغَمَ حَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍوُ بَيَّتَ طَائِفَةٌ، وَأَظْهَرَ الْبَاقُونَ. وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ أَيْ: يَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ حَسَبَمَا تَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ لِيُجَازَوْا بِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَكْتُبُهُ فِي كِتَابِهِ إِلَيْكَ، أَيْ: يُنْزِلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَيَعْلَمُ بِهِ وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِمْ. وَقِيلَ: يَكْتُبُ يُعَلِّمُ عَبَّرَ بِالْكِتَابَةِ عَنِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا هَذَا مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «1» أَيْ لَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى فَأَعْرِضْ عَنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَعَنْ وَعْظِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى أَعْرِضْ عَنْهُمْ لَا تُخْبِرْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيُجَاهِرُوكَ بِالْعَدَاوَةِ بَعْدَ الْمُجَامَلَةِ فِي الْقَوْلِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بإدامة التوكل عليه، فهو يَنْتَقِمُ لَكَ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَيْضًا قَبْلَ نُزُولِ الْقِتَالِ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَدَبَّرُونَ بِيَاءٍ وَتَاءٍ بَعْدَهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الدَّالِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ أَيْ: فَلَا يَتَأَمَّلُونَ مَا نَزَلَ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا يُعْرِضُونَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ فِي تَدَبُّرِهِ يَظْهَرُ بُرْهَانُهُ وَيَسْطَعُ نُورُهُ وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَتَأَمَّلْهُ. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُضْمَرَ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَهَذَا فِي عِلْمِ الْبَيَانِ الِاحْتِجَاجُ النَّظَرِيُّ، وَقَوْمٌ يُسَمُّونَهُ الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ. وَوَجْهُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُتَكَلِّمٍ كَلَامًا طَوِيلًا إِلَّا وُجِدَ فِي كَلَامِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، إِمَّا في

_ (1) سورة النساء: 4/ 80.

الْوَصْفِ وَاللَّفْظِ، وَإِمَّا فِي الْمَعْنَى بِتَنَاقُضِ أَخْبَارٍ، أَوِ الْوُقُوعِ عَلَى خِلَافِ الْمُخْبَرِ بِهِ، أَوِ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَا يَلْتَئِمُ، أَوْ كَوْنِهِ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ. وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَلَامُ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ مُنَاسِبٌ بَلَاغَةً مُعْجِزَةً فَائِتَةً لِقُوَى البلغاء، وتظافر صِدْقِ أَخْبَارٍ، وَصِحَّةِ مَعَانٍ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْعَالِمُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ عَرَضَتْ لِأَحَدٍ شُبْهَةٌ وَظَنَّ اخْتِلَافًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَتَّهِمَ نَظَرَهُ، وَيَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَنَّ فِيهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً وَأَلْفَاظًا غَيْرَ مُؤْتَلِفَةٍ فَقَدْ أَبْطَلَ مَقَالَتَهُمْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ اخْتِلَافٍ فِي تَفْسِيرٍ وَتَأْوِيلٍ وَقِرَاءَةٍ وَنَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَمُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ وَعَامٍّ وَخَاصٍّ وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَةِ، بَلْ هَذِهِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّسَاعِ مَعَانِيهِ، وَأَحْكَامِ مَبَانِيهِ. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى مَا يُخْبِرُهُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا يُبَيِّتُونَ وَيُسِرُّونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تُخْبِرُهُمْ بِهِ عَلَى حَدِّ مَا يَقَعُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ غَيْبٌ مِنَ الْغُيُوبِ. وَفِي ذِكْرِ تُدَبِّرُ الْقُرْآنِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الرَّافِضَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلّم. وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ رَوَى مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اعْتَزَلَ نِسَاءَهُ، فَدَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا. فَخَرَجَ فَنَادَى: أَلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فَنَزَلَتْ» . وَكَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَنْبَطَ الْأَمْرَ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً مِنَ السَّرَايَا فَغَلَبَتْ، أَوْ غُلِبَتْ، تَحَدَّثُوا بِذَلِكَ وَأَفْشَوْهُ وَلَمْ يَصْبِرُوا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُحَدِّثَ بِهِ، فَنَزَلَتْ. وَالضَّمِيرُ فِي: جَاءَهُمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ. أَوْ عَلَى نَاسٍ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ: الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ أَوْ عَلَيْهِمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ عَلَى الْيَهُودِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَالْأَمْرُ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ فَوْزُ السَّرِيَّةِ بِالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، أَوِ الْخَيْبَةِ وَالنَّكْبَةِ، فَيُبَادِرُونَ بِإِفْشَائِهِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ. أَوْ مَا كَانَ يَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ بِالْوَعْظِ بِالظَّفَرِ، أَوْ بِتَخْفِيفٍ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ، كَانَ يُسِرُّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فَيُفْشُونَهُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَا يَعْزِمُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ مِنَ الْوَدَاعَةِ وَالْأَمَانِ لِقَوْمٍ، وَالْخَوْفُ الْخَبَرُ يَأْتِي. أَنَّ قَوْمًا يَجْمَعُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَخَافُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَشْرَئِبُّونَ إِلَى سَمَاعِ مَا يَسُوءُ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي سَرَايَاهُ، فَإِذَا طَرَأَتْ لَهُمْ شُبْهَةُ أَمْنٍ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ، حَقَّرُوهَا وَصَغَّرُوا شَأْنَهَا انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرِ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ، أَوْ تَقْتَضِي أَحَدَهُمَا. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أَيْ: وَلَوْ رَدُّوا الْأَمْرَ الَّذِي بَلَغَهُمْ إِلَى الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ وَهُمُ: الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَمَنْ يَجْرِي عَلَى سَنَنِهِمْ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ خَاصَّةً، قَالَهُ: عِكْرِمَةُ. أَوْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا قَالَهُ: السُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ زَيْدٍ. أَوِ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَالْمَعْنَى: لَوْ أَمْسَكُوا عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا بَلَغَهُمْ، وَاسْتَقْصَوُا الْأَمْرَ مِنَ الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ، لَعَلِمَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ مَنْ لَهُ بَحْثٌ وَنَظَرٌ وَتَجْرِبَةٌ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى أَوَّلِ خَبَرٍ يَطْرَأُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمْ نَاسٌ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ فِيهِمْ خِبْرَةٌ بِالْأَحْوَالِ وَالِاسْتِبْطَانِ لِلْأُمُورِ، كَانُوا إِذَا بَلَغَهُمْ خَبَرٌ عَنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْنٍ وَسَلَامَةٍ أَوْ خَوْفٍ وَخَلَلٍ أَذَاعُوا بِهِ، وَكَانَتْ إِذَاعَتُهُمْ مَفْسَدَةً. وَلَوْ رَدُّوا ذَلِكَ الْخَبَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَهُمْ: كِبَارُ الصَّحَابَةِ الْبُصَرَاءُ بِالْأُمُورِ، أَوِ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَمَّرُونَ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ، لِعِلْمِ تَدْبِيرِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ أَيِ: الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ تَدْبِيرَهُ بِفِطْنِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِأُمُورِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِهَا. وَقِيلَ: كَانُوا يَقِفُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولِي الْأَمْرِ عَلَى أَمْنٍ وَوُثُوقٍ بِالظُّهُورِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْدَاءِ، أَوْ عَلَى خَوْفٍ وَاسْتِشْعَارٍ، فَيُذِيعُونَهُ فَيُنْشَرُ، فَيَبْلُغُ الْأَعْدَاءَ فَتَعُودُ إِذَاعَتُهُمْ مَفْسَدَةً، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ وَفَوَّضُوهُ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ تَدْبِيرَهُ كَيْفَ يُدَبِّرُونَهُ، وَمَا يَأْتُونَ وَيَدْرُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَفْوَاهِ الْمُنَافِقِينَ شَيْئًا مِنَ الْخَبَرِ عَنِ السَّرَايَا مَظْنُونًا غَيْرَ مَعْلُومِ الصِّحَّةِ فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى الْمُؤْمِنِينَ. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَقَالُوا: نَسْكُتُ حَتَّى نَسْمَعَهُ مِنْهُمْ، وَنَعْلَمَ هَلْ هُوَ مِمَّا يُذَاعُ أَوْ لَا يُذَاعُ؟ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ لِعِلْمِ صِحَّتِهِ، وَهَلْ هُوَ مِمَّا يُذِيعُ هَؤُلَاءِ الْمُذِيعُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنَ الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ أَيْ: يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْهُمْ وَيَسْتَخْرِجُونَ عِلْمَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا تَأْوِيلَاتٌ حَسَنَةٌ، وَأَجْرَاهَا عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ هَذَا التَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى إِذَا طَرَأَ خَبَرٌ بِأَمْنِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ خَوْفٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لا يُشَاعَ، وَأَنْ يُرَدَّ إِلَى الرَّسُولِ

وَأُولِي الْأَمْرِ، فَإِنَّهُمْ يُخْبِرُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَيَعْلَمُهُ مَنْ يَسْأَلُهُمْ، وَيَسْتَخْرِجُ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِمْ، لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولَ وَأُولُوا الْأَمْرِ إِذْ هُمْ مُخْبِرُونَ عَنْهُ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْحَوَادِثِ إِلَى الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ إِذْ كَانُوا بِحَضْرَتِهِ، وَإِلَى الْعُلَمَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْغَيْبَةِ عَنْ حَضْرَتِهِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِنْبَاطِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا هُوَ مُودَعٌ فِي النَّصِّ قَدْ كُلِّفَ الْوُصُولُ إِلَى عِلْمِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَطَوَّلَ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِرَاضًا وَانْفِصَالًا وَاسْتَقْرَأَ مِنَ الْآيَةِ أَحْكَامًا. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِ بِالْإِمَامَةِ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ يَعْرِفُهُ الْإِمَامُ لَزَالَ مَوْضِعُ الِاسْتِنْبَاطِ، وَسَقَطَ الرَّدُّ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ الرَّدَّ إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي يَعْرِفُ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ بَاطِلِهِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ. وَقَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ النَّقِيبِ وَهُوَ جَامِعُ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ لِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مَا نَصُّهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ: وَقَدْ لَاحَ لِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَعَلِّقٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ مَرْدُودٌ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ تَدَبَّرُوهُ لَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَالْمُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ مُتَشَابِهِهِ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يَعْنِي: لَعَلِمَ مَعْنَى ذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ إِلَّا قَلِيلًا، وَهُوَ مَا ستأثر اللَّهُ بِهِ مِنْ عَلِمِ كِتَابِهِ وَمَكْنُونِ خِطَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، وَالَّذِي حَسَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَزَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «1» الْآيَةَ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِقُوتِ الْقُلُوبِ، وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا قَلِيلًا «2» مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «3» وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِنْبَاطُ اسْتِخْرَاجًا مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمُتَشَابِهِ بِنَوْعٍ مِنَ النَّظْرَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَالتَّفَكُّرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَمَا تَرَى تَرْكِيبٌ وَنَظْمٌ غَيْرُ تَرْكِيبِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ هَذَا الرَّجُلُ فِي الْقُرْآنِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَأَصْحَابُنَا وَحُذَّاقُ النَّحْوِيِّينَ يَجْعَلُونَهُ مِنْ بَابِ ضَرَائِرِ الْأَشْعَارِ، وَشَتَّانَ مَا بين القولين. وقرأ

_ (1) سورة النساء: 4/ 83. (2) سورة النساء: 4/ 83. (3) سورة النساء: 4/ 83.

أَبُو السَّمَّالِ: لَعَلْمَهُ بِسُكُونِ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِثْلُ شَجْرَ بَيْنَهُمْ انْتَهَى. وَلَيْسَ مِثْلَهُ لِأَنَّ تَسْكِينَ عِلْمٍ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ في لغة تميم، وشجر لَيْسَ قِيَاسًا مُطَّرِدًا، إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الشُّذُوذِ. وَتَسْكِينُ عَلْمَ مِثْلُ التَّسْكِينِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَبْلُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... مِنَ الْأُدْمِ دَبَرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهُ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَالْمَعْنَى لَوْلَا هِدَايَةُ اللَّهِ لَكُمْ وَإِرْشَادُهُ لَبَقِيتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ الرَّسُولُ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: فِي الرَّحْمَةِ أَنَّهَا الْوَحْيُ. وَقِيلَ: اللُّطْفُ. وَقِيلَ: النِّعْمَةُ. وَقِيلَ: التَّوْفِيقُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مِنْ فَاعِلِ اتَّبَعْتُمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هَدَى الْكُلَّ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَمَكَّنَ فِيهِ حَتَّى لَمْ يَخْطُرْ لَهُ قَطُّ خَاطِرُ شَكٍّ، وَلَا عَنَتْ لَهُ شُبْهَةُ ارْتِيَابٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْقَلِيلُ، وَسَائِرُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَخْلُ مِنَ الْخَوَاطِرِ، فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ بِتَجْرِيدِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ لَضَلُّوا وَاتَّبَعُوا الشَّيْطَانَ، وَيَكُونُ الْفَضْلُ مُعَيَّنًا أَيْ: رسالة محمد صلى الله عليه وسلّم وَالْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْكُلَّ إِنَّمَا هُدِيَ بِفَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِلَّا قَلِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مُتَّبِعٍ لِلشَّيْطَانِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، أَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَوَحَّدُوهُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ، كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَدْرَكَ فَسَادَ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبُ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا إِذْ لَيْسَ مُنْدَرِجًا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: لَاتَّبَعْتُمُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الِاتِّبَاعِ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا اتَّبَاعًا قَلِيلًا، فَجَعَلَهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ وَهُوَ لَاتَّبَعْتُمُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الِاتِّبَاعِ قَالَ: أَيْ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ كُلُّكُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأُمُورِ كُنْتُمْ لَا تَتَّبِعُونَهُ فِيهَا، فَفَسَّرَهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَّبَعِ فِيهِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمُتَّبَعِ فِيهِ الْمَحْذُوفِ لَا مِنَ الِاتِّبَاعِ، ويكون استثناء مفرّعا، والتقدير: لا تبعتم الشَّيْطَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَتَّبِعُونَهُ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ شَرَحَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّبَاعُ الْقَلِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّبَعُ فِيهِ قَلِيلًا، وَإِنْ كَانَ شَرْحٌ مِنْ حيث الصناعة النحوية فليس بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا اتِّبَاعًا قَلِيلًا، لَا يُرَادِفُ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأُمُورِ كُنْتُمْ لَا تَتَّبِعُونَهُ فِيهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ إِلَّا قَلِيلًا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدَمِ، يُرِيدُ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ كُلُّكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا

قَوْلٌ قَلِقٌ، وَلَيْسَ يُشْبِهُ مَا حَكَى سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ قَلَّمَا تُنْبِتُ كَذَا، بِمَعْنَى لَا تُنْبِتُهُ. لِأَنَّ اقْتِرَانَ الْقِلَّةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي حُصُولَهَا، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ قَدْ جَوَّزَهُ هُوَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا «1» وَلَمْ يَقْلَقْ عِنْدَهُ هُنَاكَ وَلَا رَدَّهُ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ هُنَاكَ فَيُطَالَعُ ثَمَّةَ. وَقِيلَ: إِلَّا قَلِيلًا مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: أَذَاعُوا بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ: الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ حَرْبٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: رَحْمَتُهُ وَنِعْمَتُهُ إِذْ عَافَاكُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالتَّبْيِيتِ، وَالْخِلَافِ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ هُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ «2» وَقِيلَ: الْخِطَابُ عَامٌّ، وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى هُمْ أُمَّةُ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَالرَّقْمَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ» . فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ الصُّغْرَى. دَعَا النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ، وكان أبو سفيان وعاد رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّقَاءَ فِيهَا، فَكَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَخْرُجُوا فَنَزَلَتْ. فَخَرَجَ وَمَا مَعَهُ إِلَّا سَبْعُونَ لَمْ يَلْوِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ لَخَرَجَ وَحْدَهُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا تَثْبِيطَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ يُدْرِكُ كُلَّ أَحَدٍ وَلَوِ اعْتَصَمَ بِأَعْظَمِ مُعْتَصِمٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْهَرَبِ مِنَ الْقِتَالِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا أَتْبَعَ مِنْ سُوءِ خِطَابِ الْمُنَافِقِينَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِعْلِهِمْ مَعَهُ مِنْ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ بِالْقَوْلِ وَخِلَافِهَا بِالْفِعْلِ، وَبَكَّتَهُمْ فِي عَدَمِ تَأَمُّلِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، عَادَ إِلَى أَمْرِ الْقِتَالِ. وَهَكَذَا عَادَةُ كَلَامِ الْعَرَبِ تَكُونُ فِي شَيْءٍ ثُمَّ تَسْتَطْرِدُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ لَهُ بِهِ مُنَاسَبَةٌ وَتَعَلُّقٌ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْأَوَّلِ. وَالْفَاءُ هُنَا عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ يَلِيهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ وَجْهَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ «3» أَوْ بِقَوْلِهِ:

_ (1) سورة النساء: 4/ 46. (2) سورة النساء: 4/ 71. (3) سورة النساء: 4/ 75.

فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً «1» وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ أَيْ: إِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ فَقَاتِلْ. أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ «2» فَقَدْ أُبْعِدَ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَيُؤَكِّدُهُ: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ. وَحَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ، قَالَ: أَيْ إِنْ أَفْرَدُوكَ وَتَرَكُوكَ وَحْدَكَ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحْدَهَا أَنْ تُقَدِّمَهَا لِلْجِهَادِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ نَاصِرُكَ لَا الْجُنُودُ، فَإِنْ شَاءَ نَصَرَكَ وَحْدَكَ كَمَا يَنْصُرُكَ وَحَوْلَكَ الْأُلُوفُ انْتَهَى. وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ قَالَ: أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ وَإِنْ قَاتَلَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ النُّصْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ نَجِدْ قَطُّ فِي خَبَرٍ أَنَّ الْقِتَالَ فُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ دُونَ الْأُمَّةِ مَرَّةً مَا، فَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ مِثَالُ مَا يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ: أَيْ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِكَ الْقَوْلُ لَهُ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَسْتَشْعِرَ، أَنْ يُجَاهِدَ وَلَوْ وَحْدَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأُقَاتِلَنَّهُمْ حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتَيَّ» وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَقْتَ الرِّدَّةِ: وَلَوْ خَالَفَتْنِي يَمِينِي لَجَاهَدْتُهَا بِشِمَالِي. وَمَعْنَى لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ: أَيْ: لَا تُكَلَّفُ فِي الْقِتَالِ إِلَّا نَفْسَكَ، فَقَاتِلْ وَلَوْ وَحْدَكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلَّا طَاقَتَكَ وَوُسْعَكَ. وَالنَّفْسُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْقُوَّةِ يُقَالُ: سَقَطَتْ نَفْسُهُ أَيْ قُوَّتُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تُكَلَّفُ خَبَرًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، قَالُوا: وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ، لَا حَالًا شُرِعَ لَهُ فِيهَا أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ أَمْرَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا يُكَلَّفُ أمر نفسه فقط. وقرىء: لَا نُكَلِّفُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيِ الْإِعْرَابِ: الْحَالُ وَالِاسْتِئْنَافُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَا تُكَلَّفْ بِالتَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِحَثِّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَتَحْرِيكِ هِمَمِهِمْ إِلَى الشَّهَادَةِ. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَمِنَ الْبَشَرِ مُتَوَقَّعَةٌ مَرْجُوَّةٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقَدْ كَفَّ اللَّهُ تَعَالَى بَأْسَهُمْ، وَبَدَا لِأَبِي سُفْيَانَ تَرْكُ الْقِتَالِ. وَقَالَ: هَذَا عَامٌ مُجْدِبٌ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ إِلَّا السَّوِيقُ، وَلَا يَلْقَوْنَ إِلَّا فِي عَامٍ مُخْصِبٍ فَرَجَعَ بِهِمْ. وَقِيلَ: كَفُّ الْبَأْسِ يَكُونُ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ. وَقِيلَ: هِيَ فِيمَنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى. وَالظَّاهِرُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ كَفُّ بَأْسِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا ذَكَرُوا، وَالتَّخْصِيصُ بِشَيْءٍ يحتاج إلى دليل.

_ (1) سورة النساء: 4/ 74. (2) سورة النساء: 4/ 76.

وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا هَذَا تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ بَأْسَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ بَأْسِ الْكُفَّارِ. وَقَدْ رَجَى كَفَّ بَأْسِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ النَّكَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ أَشَدُّ عُقُوبَةً. فَذَكَرَ قُوَّتَهُ وَقُدْرَتَهُ عليهم، وما يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ التَّعْذِيبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَأَشَدُّ تنكيلا أي عقوبة فاصحة، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ هُنَا عَلَى بَابِهَا. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، لِأَنَّ بَأْسَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَأْسِهِ تَعَالَى لَيْسَ بِشَيْءٍ. مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها قَالَ قَوْمٌ: مَنْ يَكُنْ شَفِيعًا لِوِتْرِ أَصْحَابِكِ يَا مُحَمَّدُ فِي الْجِهَادِ فَيُسْعِفُهُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْجِهَادِ، أَوْ مَنْ يَشْفَعْ وِتْرَ الْإِسْلَامِ بِالْمَعُونَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتِلْكَ حَسَنَةٌ، وَلَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا. وَحَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْقِتَالِ وَالْأَمْرِ بِهِ، وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وغيرهم: هِيَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، فَمَنْ يَشْفَعْ لِنَفْعٍ فَلَهُ نَصِيبٌ، وَمَنْ يَشْفَعْ لِضُرٍّ فَلَهُ كِفْلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الَّتِي رُوعِيَ فِيهَا حَقُّ مُسْلِمٍ، وَدُفِعَ عَنْهُ بِهَا شَرٌّ، أَوْ جُلِبَ إِلَيْهِ خَيْرٌ وَابْتُغِيُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهَا رِشْوَةٌ، وَكَانَتْ فِي أَمْرٍ جَائِزٍ لَا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَلَا حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ. وَالسَّيِّئَةُ مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا بَسْطُ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، قَالَ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ فِي الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ، وَالسَّيِّئَةُ فِي الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الدَّعْوَةُ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الشَّفَاعَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ اسْتُجِيبَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: وَلَكَ مِثْلُ ذَلِكَ النَّصِيبِ» ولدعوة عَلَى الْمُسْلِمِ بِضِدٍّ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هُنَا الصُّلْحُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَالسَّيِّئَةُ الْإِفْسَادُ بَيْنَهُمَا وَالسَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ. وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَى الْكَافِرِ حَتَّى يُوَضِّحَ لَهُ مِنَ الْحُجَجِ لَعَلَّهُ يُسْلِمُ، وَالسَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَى الْمُسْلِمِ عَسَى يَرْتَدُّ أَوْ يُنَافِقُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ لِلسَّبَبِ أَيْ: نَصِيبٌ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهَا، وَكِفْلٌ مِنَ الشَّرِّ بِسَبَبِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ الْكِفْلَ النصيب. وسمي المجازي. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلَبٍ: الْكِفْلُ الْمِثْلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْوِزْرُ وَالْإِثْمُ، وَغَايَرَ فِي النَّصِيبِ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْكِفْلِ فِي الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْخَيْرِ لِقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ «1» قَالُوا: وَهُوَ مستعار من كفل

_ (1) سورة الحديد: 57/ 28.

الْبَعِيرِ، وَهُوَ كِسَاءٌ يُدَارُ عَلَى سَنَامِهِ لِيُرْكَبَ عَلَيْهِ، وَسُمِّي كِفْلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَعُمَّ الظَّهْرَ، بَلْ نَصِيبًا مِنْهُ. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أَيْ: مُقْتَدِرًا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْكِسَائِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: حَفِيظًا وَشَهِيدًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: وَاصِبًا قَيِّمًا بِالْأُمُورِ. وَقِيلَ: الْمُحِيطُ. وَقِيلَ: الْحَسِيبُ. وَقِيلَ: الْمُجَازِي. وَقِيلَ: الْمُوَاظِبُ لِلشَّيْءِ الدَّائِمُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ لِاسْتِلْزَامِ بَعْضِهَا مَعْنَى بَعْضٍ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتٌ، إِنَّهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنَّهُ بِمَعْنَى مَوْقُوتٍ. وَهَذَا يُضْعِفُهُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى بِنَاءِ اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ مُقْتَدِرٌ. وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحِيَّةَ هُنَا السَّلَامُ، وَأَنَّ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ أَحْسَنَ مِنْهَا، أَوْ أَنْ يَرُدَّهَا يَعْنِي مثلها. فأوهنا لِلتَّخْيِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، أَوْ رَدُّوهَا إِذَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَافِرٌ فَارْدُدْ، وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا فَتَكُونُ أَوْ هُنَا لِلتَّنْوِيعِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مِثْلُ تَحِيَّتِهِ، لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: وَعَلَيْكُمْ، وَلَا يُزَادُوا عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِذَا حُيِّيتُمْ مَعْنَاهُ: وَإِذَا حَيَّاكُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ. عَطَاءٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْكَافِرِ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَلَا يَقُلْ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا اسْتِغْفَارٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِنَصْرَانِيٍّ سَلَّمَ عَلَيْهِ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ يَعِيشُ؟ وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا أَخَذَ بِعُمُومِ وَإِذَا حُيِّيتُمْ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ النَّبَوِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: «فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ» وَكَيْفِيَّةُ رَدِّ الْأَحْسَنِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَإِذَا قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ قَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ هَذَا بِكَمَالِهِ رُدَّ عَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ غَايَةَ السَّلَامِ إِلَى الْبَرَكَةِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ لِأَجْلِ الْأَمْرِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَدَاءَةِ، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، هَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنْ لَا يُبْدَأَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَأَبَاحُوا ذَلِكَ. وَقَدْ طَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ بِذَكَرِ فُرُوعٍ كَثِيرَةٍ فِي السَّلَامِ، وَمَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ. وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ: إِلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ التَّحِيَّةِ بِالْجِهَادِ، فَقَالَ: إِذَا حُيِّيتُمْ فِي سَفَرِكُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً «1» فَإِنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي

_ (1) سورة النساء: 4/ 94.

تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشَمِّتِ. وَضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةٌ. أَمَّا أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْمُشَمِّتِ مِمَّا يَدْخُلُ بِالْقِيَاسِ فِي مَعْنَى رَدِّ التَّحِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَنْحَى مَالِكٍ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ هُنَا الْهِدَايَةُ وَاللُّطْفُ، وَقَالَ: حَقُّ مَنْ أَعْطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعْطَى مِثْلَهُ أَوْ أَحْسَنَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: يَجُوزُ أَنَّ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْهِبَةِ إِذَا كَانَتْ لِلثَّوَابِ، وَقَدْ شَحَنَ بَعْضُ النَّاسِ تَأْلِيفَهُ هُنَا بِفُرُوعٍ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالسَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَالْهَدَايَا، وَمَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ، وَذَكَرُوا أَيْضًا فِي مَا يَدْخُلُ فِي التَّحِيَّةِ مُقَارِنًا لِلسَّلَامِ، وَاللِّقَاءِ وَالْمُصَافَحَةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَا وَفَعَلَهَا مَعَ السَّلَامِ وَالْمُعَانَقَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقِبْلَةُ. وَعَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1» قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى أَخَاهُ فَمَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَلْزَمَهُ وَيُقَبِّلَهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ قُبْلَةُ الْوَلَدِ رَحْمَةٌ، وَقُبْلَةُ الْمَرْأَةِ شَهْوَةٌ، وَقُبْلَةُ الْوَالِدَيْنِ بِرٌّ، وَقُبْلَةُ الْأَخِ دِينٌ، وَقُبْلَةُ الْإِمَامِ الْعَادِلِ طَاعَةٌ، وَقُبْلَةُ الْعَالِمِ إِجْلَالُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي الْآيَةِ تَعْلِيمٌ لَهُمْ حُسْنَ الْعِشْرَةِ وَآدَابَ الصُّحْبَةِ، وَأَنَّ مَنْ حَمَّلَكَ فَضْلًا صَارَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِكَ قَرْضًا، فَإِنْ زِدْتَ عَلَى فِعْلِهِ وَإِلَّا فَلَا تَنْقُصْ عَنْ مِثْلِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أَيْ: حَاسِبًا مِنَ الْحِسَابِ، أَوْ مُحْسِبًا مِنَ الْإِحْسَابِ، وَهُوَ الْكِفَايَةُ. فَإِمَّا فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ. وتضمنت هذه الآيات من الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ أَنْوَاعًا الِالْتِفَاتَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا أَرْسَلْنَاكَ. وَالتَّكْرَارَ فِي: مَنْ يُطِعِ فَقَدْ أَطَاعَ، وَفِي: بَيَّتَ ويبيتون، وَفِي: اسْمِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي: أَشَدَّ، وَفِي: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً. وَالتَّجْنِيسَ المماثل في: يطع وأطاع، وفي: بيت ويبيتون، وَفِي: حُيِّيتُمْ فَحَيُّوا. وَالْمُغَايِرَ في: وتوكل ووكيلا، وَفِي: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً، وَفِي: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ. وَالِاسْتِفْهَامَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِنْكَارُ فِي: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ. وَالطِّبَاقَ فِي: مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، وَفِي: شَفَاعَةً حَسَنَةً وشفاعة سَيِّئَةً. وَالتَّوْجِيهَ فِي: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ. وَالِاحْتِجَاجَ النَّظَرِيَّ وَيُسَمَّى الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ فِي: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ. وَخِطَابُ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ فِي: فَقَاتِلْ. وَالِاسْتِعَارَةَ فِي: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي: أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ. وَأَفْعَلَ فِي: غَيْرِ الْمُفَاضَلَةِ فِي أَشَدُّ. وَإِطْلَاقَ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ فِي: بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّفْظُ مُطْلَقٌ وَالْمُرَادُ بَدْرٌ الصُّغْرَى. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ تقتضيها الدلالة.

_ (1) سورة الفتح: 48/ 29. [.....]

[سورة النساء (4) : الآيات 87 إلى 93]

[الجزء الرابع] [تتمة سورة النساء] [سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

الْإِرْكَاسُ: الرَّدُّ وَالرَّجْعُ. قِيلَ: مِنْ آخِرِهِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَالرِّكْسُ: الرَّجِيعُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «الرَّوْثَةِ هَذَا رِكْسٌ» وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ أَنَّهُمُ ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الْإِفْكَ وَالزُّورَا وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: رَكَسَ وَأَرْكَسَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ: رَجَعَهُمْ. وَيُقَالُ: رَكَّسَ مُشَدَّدًا بِمَعْنَى أَرْكَسَ، وَارْتَكَسَ هُوَ أَيِ ارْتَجَعَ. وَقِيلَ: أَرْكَسَهُ أَوْبَقَهُ قَالَ: بِشُؤْمِكَ أَرْكَسْتَنِي فِي الْخَنَا ... وَأَرْمَيْتَنِي بِضُرُوبِ الْعَنَا وَقِيلَ: أَضَلَّهُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَأَرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ... وَصَيَّرْتَنِي مَثَلًا لَلْعِدَا وَقِيلَ: نَكَّسَهُ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ قَالَ: رَكَسُوا فِي فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ... كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ الدِّيَةُ: مَا غُرِمَ فِي الْقَتْلِ مِنَ الْمَالِ، وَكَانَ لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحْكَامٌ وَمَقَادِيرُ، وَلَهَا فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ وَمَقَادِيرُ، سَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَصْلُهَا: مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَالِ الْمَذْكُورِ، وَتَقُولُ: مِنْهُ وَدَى، يَدِي، وَدْيًا وَدِيَةً. كَمَا تَقُولُ: وَشَى يَشِي، وَشْيًا وَشِيَةً، وَمِثَالُهُ مِنْ صَحِيحِ اللَّامِ: زِنَةٌ وَعِدَةٌ. التَّعَمُّدُ وَالْعَمْدُ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ شَكَّ فِي الْبَعْثِ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ لَيَبْعَثَنَّهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا، تَلَاهُ بِالْإِعْلَامِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَشْرِ وَالْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ لِلْحِسَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا، وَحُذِفَ هُنَا الْقَسَمُ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَإِلَى إِمَّا عَلَى بَابِهَا وَمَعْنَاهَا: مِنَ الْغَايَةِ، وَيَكُونُ الْجَمْعُ فِي الْقُبُورِ، أَوْ يُضَمَّنُ مَعْنَى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ مَعْنَى: لَيَحْشُرَنَّكُمْ، فَيُعَدَّى بِإِلَى. قِيلَ: أَوْ تَكُونُ إِلَى بِمَعْنَى فِي، كَمَا أَوَّلُوهُ فِي قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي ... إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ أَيْ: فِي النَّاسِ. وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى مَعَ. وَالْقِيَامَةُ وَالْقِيَامُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالطِّلَابَةِ

وَالطِّلَابِ. قِيلَ: وَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ لِشِدَّةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ إِمَّا لِقِيَامِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، أَوْ لِقِيَامِهِمْ لِلْحِسَابِ. قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» وَلَمَّا كَانَ الْحَشْرُ جَائِزًا بِالْعَقْلِ، وَاجِبًا بِالسَّمْعِ، أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ قَبْلَهُ وَبِالْجُمْلَةِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ. وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْيَوْمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً. هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، التَّقْدِيرُ: لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا. وَفَسَّرَ الْحَدِيثَ بِالْخَبَرِ أَوْ بِالْوَعْدِ قَوْلَانِ، وَالْأَظْهَرُ هُنَا الْخَبَرُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ الْبَشَرِ إِنَّمَا عِلَّتُهُ الْخَوْفُ أَوِ الرَّجَاءُ أَوْ سُوءُ السَّجِيَّةِ، وَهَذِهِ مَنْفِيَّةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصِّدْقُ فِي حَقِيقَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْمُخْبِرِ مُوَافِقًا لِمَا فِي قَلْبِهِ، وَالْأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي وُجُودِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ أَنَّكُمْ تَقْبَلُونَ حَدِيثَ بَعْضِكُمْ مِنْ بَعْضٍ مَعَ احْتِمَالِ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ، فَإِنْ تَقْبَلُوا حَدِيثَ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا إِشْعَارًا بِمَذْهَبِهِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الكذب مستقل بِصَارِفٍ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ قُبْحُهُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ كَذِبًا وَإِخْبَارًا عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَذَبَ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَكْذِبَ، لِيَجُرَّ مَنْفَعَةً، أَوْ يَدْفَعَ مَضَرَّةً، أَوْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْهَلُ غِنَاهُ، أَوْ هُوَ جَاهِلٌ بِقُبْحِهِ، أَوْ هُوَ سَفِيهٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ، وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا نَطَقَ، وَرُبَّمَا كَانَ الْكَذِبُ أَحْلَى عَلَى حَنَكِهِ مِنَ الصِّدْقِ. وَعَنْ بَعْضِ السُّفَهَاءِ: أَنَّهُ عُوتِبَ عَلَى الْكَذِبِ فَقَالَ: لَوْ غَرْغَرَتْ لهراتك بِهِ، مَا فَارَقْتَهُ. وَقِيلَ لِكَذَّابٍ: هَلْ صَدَقْتَ قَطُّ؟ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي صَادِقٌ فِي قَوْلِي لَا، لَقُلْتُهَا. فَكَانَ الْحَكِيمُ الْغَنِيُّ الَّذِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَاجَاتُ، الْعَالِمُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، مُنَزَّهًا عَنْهُ كَمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ سَائِرِ الْقَبَائِحِ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ تَكْثِيرٌ لَا يَلِيقُ بِكِتَابِهِ، فَإِنَّهُ مُخْتَصَرٌ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَصْدَقُ بِإِشْمَامِ الصَّادِ زَايًا، وَكَذَا فِيمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ صَادٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا دَالٌ، نَحْوَ: يَصْدُقُونَ وَتَصْدِيَةً. وَأَمَّا إِبْدَالُهَا زَايًا مَحْضَةً فِي ذَلِكَ فَهِيَ لُغَةُ كَلْبٍ. وَأَنْشَدُوا: يَزِيدُ اللَّهُ فِي خَيْرَاتِهِ ... حَامِي الذِّمَارِ عند مَصْدُوقَاتُهُ يُرِيدُ: عِنْدَ مَصْدُوقَاتِهِ.

_ (1) سورة المطففين: 83/ 6.

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالًا طَوَّلُوا بِهَا وَمُلَخَّصُهَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا فَاسْتَوْبَئُوا الْمَدِينَةَ فَخَرَجُوا، فَقِيلَ لِهُمْ: أَمَا لَكُمْ فِي الرَّسُولِ أُسْوَةٌ؟ أَوْ نَاسٌ رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ لَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. أَوْ نَاسٍ بِمَكَّةَ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ يُعِينُونَ الْكُفَّارَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ. قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ: خَرَجُوا لِحَاجَةٍ لَهُمْ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اخْرُجُوا إِلَيْهِمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَدُوَّكُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَيْفَ نَقْتُلُهُمْ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ؟ رَوَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ قَوْمٌ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ، أَوْ قَوْمٌ أَعْلَنُوا الْإِيمَانَ بِمَكَّةَ وَامْتَنَعُوا مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَهُ: الضَّحَّاكُ. أَوِ الْعُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَى السَّرْحِ وَقَتَلُوا يَسَارًا، أَوِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ. وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، يَرُدُّهُ قَوْلُهُ: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» إِلَّا إِنْ حَمَلْتَ الْمُهَاجَرَةَ عَلَى هِجْرَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اخْتِلَافَهُمْ فِي نِفَاقِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ النِّفَاقُ أَيْ: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ النِّفَاقُ قُطِعَ بِنِفَاقِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا بَادِيًا نِفَاقُهُمْ، لَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسم النفاق. وفي الْمُنَافِقِينَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَكُمْ، وَهُوَ كَائِنٌ أَيْ: أَيْ شَيْءٌ كَائِنٌ لَكُمْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ. أَوْ بِمَعْنَى فِئَتَيْنِ أَيْ: فِرْقَتَيْنِ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ. وَانْتَصَبَ فِئَتَيْنِ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي لَكُمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِي لَكُمْ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ: كنتم فئتين. ويجيزون مالك الشَّاتِمَ أَيْ: كُنْتَ الشَّاتِمَ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ حَالٌ، وَالْحَالُ لَا يَجُوزُ تَعْرِيفُهَا. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَيْ: رَجَّعَهُمْ وَرَدَّهُمْ فِي كُفْرِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَوْبَقَهُمْ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ أَضَلَّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ أَهْلَكَهُمْ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ نَكَّسَهُمْ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَمَنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِهْلَاكِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِلَازِمِ الْإِرْكَاسِ. وَمَعْنَى بِمَا كَسَبُوا أَيْ: بِمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَذَلِكَ الْإِرْكَاسُ هُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَاخْتِرَاعِهِ، وَيُنْسَبُ لِلْعَبْدِ كَسْبًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أَيْ: رَدَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانُوا بِمَا كَسَبُوا مِنِ ارْتِدَادِهِمْ، وَلُحُوقِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ، وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ أركسهم في الكفر

_ (1) سورة النساء: 4/ 89.

بأن خذلهم حتى ارتكسوا فِيهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى عَقِيدَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ، فَلَا يَنْسُبُ الْإِرْكَاسَ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةً، بَلْ يُؤَوِّلُهُ عَلَى مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَتَرْكِ اللُّطْفِ، أَوْ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِذْ هُمْ فَاعِلُو الْكُفْرِ وَمُخْتَرِعُوهُ، لَا اللَّهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رَكَسَهُمْ ثُلَاثِيًّا. وَقُرِئَ: رَكَّسَهُمْ رَكَسُوا فِيهَا بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الرِّكْسُ وَالنِّكْسُ الرَّذْلُ، وَالرِّكْسُ أَبْلَغُ مِنَ النِّكْسِ، لِأَنَّ النِّكْسَ مَا جُعِلَ أَسْفَلُهُ أَعْلَاهُ، وَالرِّكْسُ أَصْلُهُ مَا رَجَعَ رَجِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ طَعَامًا فَهُوَ كَالرِّجْسِ وَصَفَ أَعْمَالَهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1» وَأَرْكَسَهُ أَبْلَغُ مَنْ رَكَسَهُ، كَمَا أَنَّ أَسْقَاهُ أَبْلَغُ مِنْ سَقَاهُ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمُ اخْتِلَافَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ رَدَّهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَمَنْ يَرُدُّهُ اللَّهُ إِلَى الْكُفْرِ لَا يُخْتَلَفُ فِي كُفْرِهِ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: مَنْ أَرَادَ اللَّهُ ضَلَالَهُ، لَا يُرِيدُ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ لِئَلَّا تَقَعَ إِرَادَتُهُ مخالفة لإرادة اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ لَا يُمْكِنُ إِرْشَادُهُ، وَمَنْ أَضَلَّ اللَّهُ انْدَرَجَ فِيهِ الْمُرْكِسُونَ وَغَيْرُهُمْ. مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ؟ وَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِهِمْ وَانْدِرَاجُهُمْ فِي عُمُومِ مَنْ بَعْدِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ ذُكِرُوا أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ، وَثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُهْتَدِينَ؟ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ الضُّلَّالِ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ خَذَلَهُ حَتَّى ضَلَّ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْسُبُ الْإِضْلَالَ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ: فَلَنْ تَجِدَ لِهِدَايَتِهِ سَبِيلًا. وَالْمَعْنَى: لِخَلْقِ الْهِدَايَةِ فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْفِيُّ. وَالْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالتَّبْيِينِ، هِيَ لِلرُّسُلِ. وَخَرَجَ مِنْ خِطَابِهِمْ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ فِي حَقِّ الْمُخْتَلِفِينَ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَالْأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَقِيلَ: مَنْ يَحْرِمُهُ الثَّوَابَ وَالْجَنَّةَ لَا يَجِدُ لَهُ أَحَدٌ طَرِيقًا إِلَيْهِمَا. وَقِيلَ: مَنْ يُهْلِكُهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ طَرِيقٌ إِلَى نَجَاتِهِ مِنَ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ مَخْرَجًا وَحُجَّةً. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ لَوْ تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً قدره:

_ (1) سورة التوبة: 9/ 28.

وَدُّوا كُفْرَكُمْ كَمَا كَفَرُوا. وَمَنْ جَعَلَ لَوْ حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لوقوع غَيْرِهِ، جَعَلَ مَفْعُولَ وَدُّوا مَحْذُوفًا، وَجَوَابَ لَوْ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَدُّوا كُفْرَكُمْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً، لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وَسَبَبُ وُدِّهِمْ ذَلِكَ إِمَّا حَسَدًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ فِي نَظِيرَتِهَا: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ «1» وَإِمَّا إِيثَارًا لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ لِكَوْنِهِمْ يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَهَذَا كَشْفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَبِيثِ مُعْتَقَدِهِمْ، وَتَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ. وَفَتَكُونُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَكْفُرُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ نُصِبَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي لَجَازَ، وَالْمَعْنَى: وَدُّوا كُفْرَكُمْ وَكَوْنَكُمْ مَعَهُمْ شَرْعًا وَاحِدًا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ وَاتِّبَاعِ دِينِ الْآبَاءِ انْتَهَى. وَكَوْنُ التَّمَنِّي بِلَفْظِ الْفِعْلِ، وَيَكُونُ لَهُ جَوَابٌ فِيهِ نَظَرٌ. وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّ الْفِعْلَ يَنْتَصِبُ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي إِذَا كَانَ بِالْحَرْفِ نَحْوَ: لَيْتَ، وَلَوْ، وَإِلَّا، إِذَا أُشْرِبَتَا مَعْنَى التَّمَنِّي، أَمَّا إِذَا كَانَ بِالْفِعْلِ فَيَحْتَاجُ إِلَى سَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ. بَلْ لَوْ جَاءَ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الْجَوَابِيَّةُ، لِأَنَّ وَدَّ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّمَنِّي إِنَّمَا مُتَعَلِّقُهَا الْمَصَادِرُ لَا الذَّوَاتُ، فَإِذَا نُصِبَ الْفِعْلُ بَعْدَ الْفَاءِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ تَكُونَ فَاءَ جَوَابٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَّا نَصَّ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ بَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، فَنَهَى تَعَالَى أَنْ يُوَالَى مِنْهُمْ أَحَدٌ وَإِنْ آمَنُوا، حَتَّى يُظَاهِرُوا بِالْهِجْرَةِ الصَّحِيحَةِ لأجل الإيمان، لا لأجل حظ الدّنيا، وإنما غيابا بِالْهِجْرَةِ فَقَطْ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَزَلْ حُكْمُهَا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ، فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . وَخَالَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ بِوُجُوبِهَا، وَأَنَّ حُكْمَهَا لَمْ يُنْسَخْ، وَهُوَ بَاقٍ فَتَحْرُمُ الْإِقَامَةُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الشِّرْكِ. وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فَهِيَ تَجِبُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «2» وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 109. (2) سورة النساء: 4/ 97.

اسْتُحِبَّتْ لَهُ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ وَلَا عَلَى الْحَرَكَةِ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ، لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أَيْ. فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْإِيمَانِ الْمُظَاهَرِ بِالْهِجْرَةِ الصَّحِيحَةِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْكُفَّارِ يُقْتَلُونَ حَيْثُ وُجِدُوا فِي حِلٍّ وَحَرَمٍ، وَجَانِبُوهُمْ مُجَانَبَةً كُلِّيَّةً، وَلَوْ بَذَلُوا لَكُمُ الْوِلَايَةَ وَالنُّصْرَةَ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ. إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، وَالْوُصُولُ هُنَا: الْبُلُوغُ إِلَى قَوْمٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْتَسِبُونَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَأَنْشَدَ الْأَعْشَى: إِذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ لِبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالْأُنُوفُ رَوَاغِمُ وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَظَرَ أَنْ يُقَاتَلَ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ نَسَبٌ وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ السَّابِقِينَ أَنْسَابٌ. يَعْنِي: وَقَدْ قَاتَلَ الرَّسُولُ وَمَنْ مَعَهُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ الْحَقِيقِيِّ، فَضْلًا عَنْ الِانْتِسَابِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ ثُمَّ نُسِخَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَهُ بَرَاءَةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَبَعْدَ أَنِ انْقَطَعَتِ الْحُرُوبُ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْنَى يَنْتَسِبُونَ عَلَى الْأَمَانِ، أَوْ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى أَهْلِ الْأَمَانِ، لَا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ الَّذِي هُوَ الْقَرَابَةُ انْتَهَى. قَالَ عِكْرِمَةُ: إِلَى قَوْمٍ هُمْ قَوْمُ هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَادَعَ الرَّسُولَ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ فَلَهُ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ بَنُو بَكْرِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ خُزَاعَةُ وَذُو خُزَاعَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خُزَاعَةُ وَبَنُو مُدْلِجٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ أَمْرُ الطَّاعَةِ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ هَادَنَ مِنَ الْعَرَبِ قَبَائِلَ كَرَهْطِ هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَسُرَاقَةَ بْنِ مالك بني جُعْشُمٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّهُ مَنْ وَصَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا عَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَى هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَدَخَلَ فِي عِدَادِهِمْ، وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنَ الْمُوَادَعَةِ، وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنَ الْمُوَادَعَةِ، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ . قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: ثُمَّ لَمَّا تَقَوَّى الْإِسْلَامُ

وَكَثُرَ نَاصِرُهُ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا بِمَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُمْ خُزَاعَةُ وَخُزَيْمَةُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ. وَالَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ هُمْ، بَنُو مُدْلِجٍ، اتَّصَلُوا بِقُرَيْشٍ. وَبِهِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ اعْتَزَلُوا الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ الْكَافِرِينَ، وَلَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْقِتَالِ. وَأَصْلُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ مُعَانِدِينَ، أَوْ يَصِلُونَ إلى قوم جاؤوكم غَيْرَ مُقَاتِلِينَ وَلَا مُقَاتِلِي قومهم. إن كان جاؤوكم عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ صِفَةِ قَوْمٍ، وَكِلَا الْعَطْفَيْنِ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، إِلَّا أَنَّهُمَا اخْتَارَا الْعَطْفَ عَلَى الصِّلَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْعَطْفَ عَلَى الصِّلَةِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَالْمَعْنَى فِي الْعَطْفَيْنِ مُخْتَلِفٌ انْتَهَى. وَاخْتِلَافُهُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَا صِنْفَيْنِ وَاصِلًا إِلَى مُعَاهَدٍ، وَجَائِيًا كَافًّا عَنِ الْقِتَالِ. أَوْ صِنْفًا وَاحِدًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ مُعَاهَدٍ أَوْ كَافٍّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَيْضًا حُكْمٌ، كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُ إِذَا جَاءَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسَالِمًا كَارِهًا لِقِتَالِ قَوْمِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَلِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قَوْمِهِ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ نُسِخَتْ أَيْضًا بِمَا فِي بَرَاءَةَ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَجْهُ العطف على الصلة لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ «1» الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، فَقَرَّرَ أَنَّ كَفَّهُمْ عَنِ الْقِتَالِ أَحَدُ سَبَبَيِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِنَفْيِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَتَرْكِ الْإِيقَاعِ بِهِمْ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاتِّصَالَيْنِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاسْتِحْقَاقُ تَرْكِ التَّعَرُّضِ الِاتِّصَالُ بِالْمُعَاهَدِينَ وَالِاتِّصَالُ بِالْكَافِّينَ، فَهَلَّا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى صِفَةِ قَوْمٍ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ تَقْرِيرًا لِحُكْمِ اتِّصَالِهِمْ بِالْكَافِّينِ، وَاخْتِلَاطِهِمْ فِيهِمْ، وَجَرْيِهِمْ عَلَى سَنَنِهِمْ؟ (قُلْتُ) : هُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أظهر وأجرى على أسلوب الْكَلَامِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ أظهروا وَأَجْرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عَنْهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَإِذَا عُطِفَتْ عَلَى الصِّلَةِ كَانَ مُحَدَّثًا عَنْهُ، وَإِذَا عُطِفَتْ عَلَى الصِّفَةِ لَمْ يَكُنْ مُحَدَّثًا عَنْهُ، إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْيِيدًا فِي قَوْمِ الَّذِينَ هُمْ قَيْدٌ فِي الصِّلَةِ الْمُحَدَّثِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَمَتَى دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النِّسْبَةُ إِسْنَادِيَّةً فِي الْمَعْنَى، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَقْيِيدِيَّةً، كَانَ حَمْلُهَا عَلَى الْإِسْنَادِيَّةِ أَوْلَى لِلِاسْتِثْقَالِ الْحَاصِلِ

_ (1) سورة النساء: 4/ 90.

بِهَا، دُونَ التَّقْيِيدِيَّةِ هَذَا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ مَا يترتب عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَطْفَيْنِ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَرْكُهُمُ الْقِتَالَ سَبَبًا لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَهُوَ سَبَبٌ قَرِيبٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الصِّلَةِ، وَوُصُولُهُمْ إِلَى مَنْ يَتْرُكُ الْقِتَالَ سَبَبٌ لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَهُوَ سَبَبٌ بَعِيدٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الصِّفَةِ. وَمُرَاعَاةُ السَّبَبِ الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْبَعِيدِ. وَعَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ مِنْ مَفْعُولِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ قَتْلَ الْكَافِرِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُعَاهَدًا أَوْ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْمُعَاهَدِ، أَوْ تَارِكًا لِلْقِتَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَيْنَ كُفَّارٌ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ، اسْتَثْنَى مَنْ لَهُ عُذْرٌ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ «1» وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَصَدُوا الرَّسُولَ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا إِلَيْهِ خَوْفًا مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَصَارُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُمُ الْخَلَاصُ، وَاسْتَثْنَى بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ صَارَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ يَخَافُ اللَّهَ فِيهِ، وَلَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ بَيْنَهُمْ فَيَخَافُ لَوْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُ وَأَصْحَابَهُ. فَهَذَانِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُمُ الْهِجْرَةُ، وَلَا مُقَاتَلَةُ الْكُفَّارِ انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ الرَّاغِبُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَدْخُلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ «2» . وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ أَيْ: إِنْ لَحِقَ الْمُنَافِقُونَ بِمَنْ لَا مِيثَاقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُهَاجِرُوا، وَإِنْ لَحِقُوا بِأَهْلِ الْمِيثَاقِ فَلَا تقاتلوهم، أو جاؤوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ هَذَا صِفَةٌ لِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَنِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ، إِذَا كَانَ وَصْفُهُمْ أَنْ تَضِيقَ صُدُورُهُمْ عَنْ مُقَاتَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ جَمِيعًا، إِمَّا لِنِفَارِ طِبَاعِهِمْ، وَإِمَّا لِوَفَاءِ الْعَهْدِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ لِيَتَبَيَّنُوا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعَلَى هَذَا وَصَفَ اللَّهُ جَمِيعَ الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَبِلُوا الْعَهْدَ وَالذِّمَّةَ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْمُسْلِمِينَ وَأَبَتْ نُفُوسُهُمْ مُعَاوَنَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَلَمْ يُسْلِمُوا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ سَالَمُوا لِقَبُولِ الْعَهْدِ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ دَخَلَ فِي عَهْدِ مَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عَهْدِكُمْ، فَهُوَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي الْعَهْدِ، قَالَ: وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ أَنْ يقصد قوم

_ (1) سورة النساء: 4/ 90. (2) سورة النساء: 4/ 88.

حضرت الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، فَيَلِجُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ، إِلَى أَنْ يَجِدُوا السَّبِيلَ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَقِرَاءَتِهِ: ميثاق جاؤوكم بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ جاؤوكم بَيَانًا لِيَصِلُونَ، أَوْ بَدَلًا، أَوِ اسْتِئْنَافًا، أَوْ صِفَةً بَعْدَ صِفَةٍ لِقَوْمٍ انْتَهَى. وَهِيَ وُجُوهٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَفِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ. وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْبَدَلُ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَتَأَتَّى لِكَوْنِهِ لَيْسَ إِيَّاهُ، وَلَا بَعْضًا، وَلَا مُشْتَمِلًا. وَمَعْنَى حَصِرَتْ: ضَاقَتْ، وَأَصْلُ الْحَصْرِ فِي الْمَكَانِ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ فِي الْقَوْلِ. قَالَ: وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِرًا بِسِرِّكَ يَا أُمَيْمُ ضَنِينَا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَرِهَتْ. وَالْمَعْنَى: كَرِهُوا قِتَالَكُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ مَعَكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ، فَيَكُونُونَ لَا عَلَيْكُمْ وَلَا لَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَصِرَتْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ: حَصْرَةٌ عَلَى وَزْنِ نَبْقَةٍ، وَكَذَا قَالَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ: حَصِرَاتٍ. وَقُرِئَ: حَاصِرَاتٍ. وَقُرِئَ: حَصْرَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، أَيْ: صُدُورُهُمْ حَصْرَةٌ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اسمية في موضع الحال. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَجُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. فَمَنْ شَرَطَ دُخُولَ قَدْ عَلَى الْمَاضِي إِذَا وَقَعَ حَالًا زَعَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهَا، فَقَدْ جَاءَ مِنْهُ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً بِغَيْرِ قَدْ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ اسْمًا مَنْصُوبًا، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا هُوَ الْحَالُ، وَهَذَا الْفِعْلُ صِفَتُهُ أَيْ: أو جاؤوكم قَوْمًا حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَرَدَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى الْمُبَرِّدِ فِي أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ أَوْقِعْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الْعَدَاوَةَ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: أو يقاتلوا قومهم، نفي مَا اقْتَضَاهُ دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَخْرُجُ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ تَعْجِيزٌ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ تَحْقِيرٌ لَهُمْ، أَيْ: هُمْ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ، وَيُسْتَغْنَى عَنْهُمْ كَمَا تَقُولُ إِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْمَعْنَى: لَا جَعَلَ اللَّهُ فُلَانًا عَلَيَّ وَلَا مَعِي، بِمَعْنَى: أَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَأَسْتَقِلُّ دُونَهُ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ: أَوْ تَكُونُ سُؤَالًا لِمَوْتِهِمْ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَوْمَهُمْ، قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَنْ لَيْسُوا مِنْهُمْ، بَلْ عَنْ مُعَادِيهِمْ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَصِرَتْ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لقوم، وأو جاؤوكم مُعْتَرِضٌ. قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ أَسْقَطَ أَوْ، وَهُوَ أُبَيٌّ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَصِرَتْ بَدَلًا من جاؤوكم، قَالَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الْمَجِيءَ مُشْتَمِلٌ

عَلَى الْحَصْرِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُفَرِّقُ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْحَالِ، وَبَيْنَ خَبَرٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ رَكِبَ الْفَرَسَ، أَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ الْحَالَ بِقَوْلِكَ: رَكِبَ الْفَرَسَ، قَدَّرْتَ قَدْ. وَإِنْ أدرت خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهَا. وَقَالَ الجرجاني: تقديره إن جاؤوكم حَصِرَتْ، فَحَذْفُ إِنْ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِضْمَارِ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ تَقْدِيرُهُ: عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِقْدَارِ نِعْمَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَوَّاهُمْ وَجَرَّأَهُمْ عَلَيْكُمْ، فإذ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالْهُدْنَةِ فَاقْبَلُوهَا. وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَوْنَ كُفَّارًا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَهْدِهِمْ لَكَانُوا فِي جُمْلَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ مُكَافَّتُهُمْ إِلَّا لِقَذْفِ اللَّهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ؟ وَلَوْ شَاءَ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا مِنِ ابْتِلَاءٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَقْذِفْهُ، فَكَانُوا مُسَلَّطِينَ مُقَاتِلِينَ غَيْرَ كَافِّينَ، فَذَلِكَ مَعْنَى التَّسْلِيطِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ قَبْلَهُ. قَالَ: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ أَنْ يَفْعَلَ، وَتَسْلِيطُ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ بِأَمْرٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِإِزَالَةِ خَوْفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَتَقْوِيَةِ أَسْبَابِ الْجُرْأَةِ عَلَيْهِمْ. وَالْغَرَضُ بِتَسْلِيطِهِمْ عليهم لأمور ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: تَأْدِيبًا لَهُمْ وَعُقُوبَةً لِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ الذُّنُوبِ. الثَّانِي: ابْتِلَاءً لِصَبْرِهِمْ وَاخْتِبَارًا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ كَمَا قَالَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ «1» الْآيَةَ. الثَّالِثُ: لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَتَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِمْ. أَوِ الْمَجْمُوعِ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ انْتَهَى. وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ اسْتُثْنُوا مُؤْمِنُونَ لَا كَافِرُونَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إن أقدمتهم عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ فَعَلَ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ، إِلَّا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبُحُ مِنْهُ تَسْلِيطُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وتقويته عليه.

_ (1) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 155.

وقرأ الجمهور: فيقاتلوكم بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَطَائِفَةٌ: فَلَقَتَلُوكُمْ عَلَى وَزْنِ ضَرَبُوكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَلَقَتَّلُوكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَاللَّامُ فِي لَقَاتَلُوكُمْ لَامُ جَوَابِ لَوْ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو وَلَقَامَ بَكْرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي لَسَلَّطَهُمْ جَوَابُ لَوْ، وَفِي فَلَقَاتَلُوكُمْ لَامُ الْمُحَاذَاةِ وَالِازْدِوَاجِ، لِأَنَّهَا بِمَثَابَةِ الْأُولَى لَوْ لَمْ تَكُنِ الْأُولَى كُنْتَ تَقُولُ: لَقَاتَلُوكُمْ انْتَهَى. وَتَسْمِيَتُهُ هَذِهِ اللَّامَ لَامَ الْمُحَاذَاةِ وَالِازْدِوَاجِ تَسْمِيَةٌ غَرِيبَةٌ، لَمْ أَرَ ذَلِكَ إِلَّا فِي عِبَارَةِ هَذَا الرَّجُلِ، وَعِبَارَةِ مَكِّيٍّ قَبْلَهُ. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَوْنَ كُفَّارًا فَالِاعْتِزَالُ حَقِيقَةً لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا فِي حَالَةِ الْمُوَاجَهَةِ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا اعْتَزَلُوكُمْ بِانْفِرَادِهِمْ عَنْ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالِاعْتِزَالِ هُنَا الْمُهَادَنَةَ، وَسُمِّيَتِ اعْتِزَالًا لِأَنَّهَا سَبَبُ الِاعْتِزَالِ عَنِ الْقِتَالِ. وَالسَّلَمُ هُنَا الِانْقِيَادُ قَالَهُ: الْحَسَنُ، أَوِ الصُّلْحُ قَالَهُ: الرَّبِيعُ وَمُقَاتِلٌ، أَوِ الْإِسْلَامُ قَالَهُ: الْحَسَنُ أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَيْنَ مُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذْ قَدِ اعْتَزَلُوكُمْ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَاتْرُكُوهُمْ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي «الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَسْتَحْكِمْ إِيمَانُهُمْ» وَالْمَعْنَى: سَبِيلًا إِلَى قَتْلِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: السَّلْمُ بِسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِ السِّينِ، وَسُكُونِ اللَّامِ. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْمُحِقِّينَ فِي الْمُتَارَكَةِ، الْمُجِدِّينَ فِي إِلْقَاءِ السَّلَمِ، نَبَّهَ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مُخَادِعَةٍ يُرِيدُونَ الْإِقَامَةَ فِي مَوَاضِعِهِمْ مَعَ أَهْلِيهِمْ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ مَعَكُمْ وَعَلَى دِينِكُمْ، وَيَقُولُونَ لِلْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ إِذَا وَجَدُوا. قِيلَ: كَانَتْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ، قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ كَانَ يَنْقُلُ بَيْنَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْأَخْبَارَ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ يَجِيئُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِيَاءً وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ يَكْفُرُونَ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَعْلَمَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى صِفَةِ مَنْ تَقَدَّمَ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ قَالَهُ: قَتَادَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَهُ: الْحَسَنُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ، أَنَّهُمْ قَوْمٌ غَيْرُ الْمُسْتَثْنَيْنَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ «1» . وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَالْقَوْمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هُمُ الَّذِينَ

_ (1) سورة النساء: 4/ 90.

نَزَلَتْ فِيهِمُ الْأُولَى، وَجَاءَتْ مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْأُولَى مُقَرِّرَةً لَهَا. وَالسِّينُ فِي سَتَجِدُونَ لَيْسَتْ لِلِاسْتِقْبَالِ قَالُوا: إِنَّمَا هِيَ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ «1» وَمَا نَزَلَتْ إِلَّا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ «2» فَدَخَلَتِ السِّينُ إِشْعَارًا بِالِاسْتِمْرَارِ انْتَهَى. وَلَا تَحْرِيرَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ السِّينَ لَيْسَتْ لِلِاسْتِقْبَالِ وَإِنَّمَا تُشْعِرُ بِالِاسْتِمْرَارِ، بَلِ السِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، لَكِنْ فِي اسْتِمْرَارِهِ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ أَيْ: يَأْمَنُوا أَذَاكُمْ وَيَأْمَنُوا أَذَى قَوْمِهِمْ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا: الْمِحْنَةُ فِي إِظْهَارِ الْكُفْرِ. وَمَعْنَى أُرْكِسُوا فِيهَا رَجَعُوا أَقْبَحَ رُجُوعٍ وَأَشْنَعَهُ، وَكَانُوا شَرًّا فِيهَا مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ. وَحُكِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: قُلْ رَبِّي الْخُنْفُسَاءُ، وَرَبِّي الْقِرَدَةُ، وَرَبِّي الْعَقْرَبُ، وَنَحْوَهُ فَيَقُولُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: رِدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ، لَمَّا أَدْغَمَ نَقَلَ الْكَسْرَةَ إِلَى الرَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رُكِسُوا بِضَمِّ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ مُخَفَّفًا. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ عَنْهُ: بِشَدِّ الْكَافِ. فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ فِي أَيِّ مَكَانٍ ظَفِرَ بِهِمْ، عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ الِاعْتِزَالِ وَإِلْقَاءِ السَّلَمِ، وَكَفِّ الْأَيْدِي. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَّهُوا الِاعْتِزَالَ وَإِلْقَاءَ السَّلَمِ وَكَفَّ الْأَيْدِي، لَمْ يُؤْخَذُوا وَلَمْ يُقْتَلُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ حَضٌّ عَلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعِينَ إِذَا لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ حَالِهِمْ إِلَى حَالِ الْآخَرِينَ الْمُعْتَزِلِينَ الْمُلْقِينَ لِلسَّلَمِ. وَتَأَمَّلْ فَصَاحَةَ الْكَلَامِ فِي أَنْ سَاقَهُ فِي الصِّيغَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ هَذِهِ سِيَاقَ إِيجَابِ الِاعْتِزَالِ، وَإِيجَابِ إِلْقَاءِ السَّلَمِ، وَنَفْيِ الْمُقَاتَلَةِ، إِذْ كَانُوا مُحِقِّينَ فِي ذَلِكَ مُعْتَقِدِينَ لَهُ. وَسِيَاقُهُ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ سِيَاقُ نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السَّلَمِ، إِذْ كَانُوا مُبْطِلِينَ فِيهِ مُخَادِعِينَ، وَالْحُكْمُ سَوَاءٌ عَلَى السِّيَاقَيْنِ. لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا لَوْ لَمْ يَعْتَزِلُوا، لَكَانَ حُكْمُهُمْ، حُكْمَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جُعِلَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَانُ الْمُبِينُ. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَانُ إِذَا لَمْ يَعْتَزِلُوا، لو اعتزلوا لكان حُكْمُهُمْ حُكْمَ الَّذِينَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بِهَذِهِ العبارة نحت الْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْفِرْقَةِ الْأُولَى أَخَفَّ، رَتَّبَ تَعَالَى انْتِفَاءَ جَعْلِ السَّبِيلِ عَلَيْهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ سَبَبَيْنِ: وُجُودُ الِاعْتِزَالِ، وَإِلْقَاءُ السَّلَمِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ هَذِهِ الْفِرْقَةِ المخادعة أشدّ، رتب

_ (1) سورة البقرة: 2/ 142. (2) سورة البقرة: 2/ 142.

أَخْذَهُمْ وَقَتْلَهُمْ عَلَى وُجُودِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: نَفْيُ الِاعْتِزَالِ، وَنَفْيُ إِلْقَاءِ السَّلَمِ، وَنَفْيُ كَفِّ الْأَذَى. كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ فِي حَقِّهِمْ وَالتَّشْدِيدِ. وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ عَلَى أَخْذِهِمْ وَقَتْلِهِمْ حُجَّةً وَاضِحَةً، وَذَلِكَ لِظُهُورِ عَدَاوَتِهِمْ، وَانْكِشَافِ حَالِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ، وَإِضْرَارِهِمْ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ حُجَّةً ظَاهِرَةً حَيْثُ أَذِنَّا لَكُمْ فِي قَتْلِهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: حَيْثُمَا وَقَعَ السُّلْطَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً رُوِيَ أَنَّ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَكَانَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ، أَسْلَمَ وَهَاجَرَ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْسَمَتْ أُمُّهُ لَا تَأْكُلُ وَلَا تشرب ولا يأويها سَقْفٌ حَتَّى يَرْجِعَ، فَخَرَجَ أبو جهل ومعه الحرث بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فَأَتَيَاهُ وَهُوَ فِي أُطُمٍ، فَفَتَكَ مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ فِي الزَّرُودِ وَالْغَارِبِ وَقَالَ: أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ يَحُثُّكَ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ؟ انْصَرِفْ وَبِرَّ أُمَّكَ وَأَنْتَ عَلَى دِينِكَ، حَتَّى نَزَلَ وَذَهَبَ مَعَهُمَا، فَلَمَّا أَبْعَدَا عَنِ الْمَدِينَةِ كَتَّفَاهُ وَجَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَقَالَ للحرث: هَذَا أَخِي، فَمَنْ أَنْتَ يا حرث الله؟ عَلَيَّ إِنْ وَجَدْتُكَ خَالِيًا أَنْ أَقْتُلَكَ. وَقَدِمَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ فَحَلَفَتْ لَا تُحَلُّ كِتَافُهُ أَوْ يَرْتَدَّ، فَفَعَلَ. ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدَ ذلك، وأسلم الحرث، وَهَاجَرَ فَلَقِيَهُ عَيَّاشٌ بِظَهْرِ قبا وَلَمْ يَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ، فَأَنْحَى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أُخْبِرَ بِإِسْلَامِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَتَلْتُهُ وَلَمْ أَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَ يَرْعَى غَنَمًا فَقَتَلَهُ فِي بَعْضِ السَّرَايَا أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَسَاقَ غَنَمَهُ، فَعَنَّفَهُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ حِينَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ فِي مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَارَبَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَظُنَّ رَجُلًا حَرْبِيًّا وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَقْتُلَهُ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «2» وَكَانَ يُغْنِي الْكَلَامُ هُنَاكَ عَنِ الْكَلَامِ هُنَا، وَلَكِنْ رَأَيْنَا جَمْعَ مَا قَالَهُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كَانَ لمؤمن: ما صح لَهُ، وَلَا اسْتَقَامَ، وَلَا لاق بحاله، كقوله:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 114. (2) سورة آل عمران: 3/ 161. [.....]

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ، أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ابْتِدَاءً غَيْرَ قِصَاصٍ إِلَّا خَطَأً عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَا انْتَصَبَ خَطَأٌ؟ (قُلْتُ) : بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِلْخَطَأِ وَحْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا بِمَعْنَى: لَا يَقْتُلُهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْخَطَأِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ أَيْ: إِلَّا قَتْلًا خَطَأً. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ تَنْتَفِيَ عَنْهُ وُجُوهُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ ابْتِدَاءً الْبَتَّةَ، إِلَّا إِذَا وُجِدَ مِنْهُ خَطَأٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ يَرْمِيَ كَافِرًا فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، أَوْ يَرْمِيَ شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: مَا كَانَ فِي إِذَنْ اللَّهِ وَلَا فِي أَمْرِهِ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِوَجْهٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يَقَعُ، وَيَتَّجِهُ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ تُقَدَّرَ كَانَ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَوُجِدَ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا وُجِدَ وَلَا تَقَرَّرَ وَلَا سَاغَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً إِذْ هُوَ مَغْلُوبٌ فِيهِ أَحْيَانًا، فَيَجِيءُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا إِعْظَامَ الْعَهْدِ وَبَشَاعَةَ شَأْنِهِ كَمَا تَقُولُ: مَا كَانَ لَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهَذَا إِلَّا نَاسِيًا إِعْظَامًا لِلْعَمْدِ وَالْقَصْدِ، مَعَ حَظْرِ الْكَلَامِ بِهِ الْبَتَّةَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنْ قِيلَ: أَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ خَطَأً حَتَّى يُقَالَ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً قِيلَ قَوْلُكَ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَمَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ كَذَا مُتَقَارِبَانِ، وَهُمَا لَا يُقَالَانِ بِمَعْنًى. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ الْإِحْجَامُ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَيْ: مَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لِيَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، لَكِنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ خَطَأً. وَكَذَا مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنْ يقتل المؤمن الْمُؤْمِنُ إِلَّا خَطَأً. وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ لَيْسَ الْقَتْلُ لِمُؤْمِنٍ بِمَتْرُوكٍ أَنْ يَقْتَضِيَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ خَطَأً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَمَا كَانَ أَيْ: فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ، أَوْ عَهِدَ إِلَيْهِ، أَوْ مَا كَانَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ ذَلِكَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا وَيَبْقَى مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً، فَيَبْقَى حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ قَالَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ السُّدِّيُّ: قَتْلُ الْمُؤْمِنِ الْمُؤْمِنَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً، وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَقَدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: هُوَ نَفْيُ جَوَازِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، وَمَعْنَاهُ: النَّهْيُ، وَأَفَادَ دُخُولُ كَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حُكْمَ اللَّهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْإِشْكَالُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنَ عَنِ الْقَتْلِ مُطْلَقًا،

وَاسْتَثْنَى الْخَطَأَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنَ التَّحْرِيمِ إِبَاحَةٌ، وَقَتْلُ الْخَطَأِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي كَوْنِهِ حَرَامًا كَلَامٌ انْتَهَى. وَمُلَخَّصُ مَا بُنِيَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَفْيًا وَأُرِيدَ بِهِ مَعْنَى النَّهْيِ كَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِلَّا خَطَأً فَلَهُ قَتْلُهُ. وَإِنْ كَانَ نَفْيًا أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِلَّا خَطَأً بِأَنْ عَرَفَهُ كَافِرًا فَقَتَلَهُ، وَكَشَفَ الْغَيْبُ أَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا، فَيَكُونُ قَدْ أُبِيحَ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ الْكَفَرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْحَظْرِ إِبَاحَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمَعْنَى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا وَلَا خَطَأً فَيَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى: وَلَا، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ: مِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ، وَيَكُونُ الثَّانِي عَطْفَ اسْتِثْنَاءٍ عَلَى اسْتِثْنَاءٍ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا دَارَ مَرْوَانَا وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ سَأَلَ رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، وَلَكِنَّهُ أَقَامَ إِلَّا مَقَامَ الْوَاوِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا خَطَأً، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ: أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ. وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ خَطَأً، وَالْقَتْلُ عِنْدَ مَالِكٍ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَيُقَادُ بِاللَّطْمَةِ، وَالْعَضَّةِ، وَضَرْبِ السَّوْطِ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ. وَلَا قِصَاصَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَلَا الْخَطَأِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ، عَمْدٍ، وَمَا لَيْسَ بِخَطَأٍ وَلَا عَمْدٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ. وَالْخَطَأُ ضَرْبَانِ: أَنْ يَقْصِدَ رَمْيَ مُشْرِكٍ أَوْ طَائِرٍ فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، أَوْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ سِيمَا أَهْلِ الشِّرْكِ، أَوْ فِي حَيِّزِهِمْ. وَشِبْهُ الْعَمْدِ مَا يُعْمَدُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا مِنْ حَجَرٍ أَوْ عَصًا، وَمَا لَيْسَ بِخَطَأٍ وَلَا عَمْدٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ قَتْلُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَطَّاءً عَلَى وَزْنِ بَنَّاءٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: عَلَى وَزْنِ سَمَاءٍ مَمْدُودًا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: عَلَى وَزْنِ عَصًا مَقْصُورًا لِكَوْنِهِ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا، أَوْ إِلْحَاقًا بِدَمٍ، أَوْ حَذَفَ الْهَمْزَةَ حَذْفًا كَمَا حَذَفَ لَامَ دَمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وُجُوهُ الْخَطَأِ كَثِيرَةٌ، وَمَرْبِطُهَا عَدَمُ الْقَصْدِ. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا

التَّحْرِيرُ: الْإِعْتَاقُ، وَالْعَتِيقُ: الْكَرِيمُ، لِأَنَّ الْكَرَمَ فِي الْأَحْرَارِ كَمَا أَنَّ اللُّؤْمَ فِي الْعَبِيدِ. وَمِنْهُ عِتَاقُ الطَّيْرِ، وَعِتَاقُ الْخَيْلِ لِكِرَامِهَا. وَحُرُّ الْوَجْهِ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَالرَّقَبَةُ عُبِّرَ بِهَا عَنِ النَّسَمَةِ، كَمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالرَّأْسِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا رَأْسًا مِنَ الرَّقِيقِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ رَقَبَةٍ اتَّصَفَتْ بِأَنْ يُحْكَمَ لَهَا بِالْإِيمَانِ مُنْتَظِمٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، انْتِظَامَ عُمُومِ الْبَدَلِ. فَيَنْدَرِجُ فِيهَا مَنْ وُلِدَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، وَمَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَمَنْ سَبَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وقال ابراهيم: لا يجزي إِلَّا الْبَالِغُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: لَا يُجْزِئُ إِلَّا الَّتِي صَامَتْ وَعَقَلَتِ الْأَيْمَانَ، لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زياد، وزفر: يجزى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الصَّبِيُّ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُجْزِئُ الصَّغِيرُ الْمَوْلُودُ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ صَلَّى وَصَامَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا، يَنْتَظِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النَّاقِصَ النُّقْصَانَ الْكَبِيرَ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأَعْمَى، لَا يُجْزِئُ فِيمَا حَفِظْتُ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يُمْكِنُ مَعَهُ الْمَعِيشَةُ وَالتَّحَرُّفُ كَالْعَرَجِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٌ، وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا أَشَلُّهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَعْرَجِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ: لَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمُ الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ، وَلَا عِنْدَ مَالِكٍ الذي يجن ويفين، وَلَا الْمُعْتَقُ إِلَى سِنِينَ، وَيُجْزِئَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَيُجْزِئُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ مَنْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ. فَقِيلَ: تمحيصا وطهر الذنب الْقَاتِلِ، حَيْثُ تَرَكَ الِاحْتِيَاطَ وَالتَّحَفُّظَ حَتَّى هَلَكَ عَلَى يَدَيْهِ امْرُؤٌ مَحْقُونُ الدَّمِ. وَقِيلَ: لَمَّا أَخْرَجَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً عَنْ جُمْلَةِ الْأَحْيَاءِ، لَزِمَهُ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسًا مِثْلَهَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَهَا مِنْ قَيْدِ الرِّقِّ حَيَاتُهَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرَّقِيقَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَحْرَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ وَالدِّيَةِ عَلَى القاتل، لأنه مستقرا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا يَلْزَمُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ الْغَرَامَاتِ مِثْلَ الْكَفَّارَاتِ، إِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ. فَأَمَّا

التَّحْرِيرُ فَفِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الثُّلُثُ فَفِي مَالِ الْجَانِي، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ. وَهِيَ خِلَافُ قِيَاسِ الْأُصُولِ فِي الْغَرَامَاتِ وَالْمُتْلَفَاتِ. وَالدِّيَةُ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: نَأْسُوا بِأَمْوَالِنَا آثَارَ أَيْدِينَا وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمِقْدَارِ مَا يُعْطَى فِي الدِّيَةِ، وَلَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَكُونُ. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْإِبِلِ مِائَةٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهَا، وَالدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ أَلْفُ دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالْحُلَلِ، وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَدَنِيِّينَ. فَمِنَ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَمِنَ الشَّاةِ أَلْفُ شَاةٍ، وَمِنَ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ، وَذَلِكَ فِعْلُ عُمَرَ وَجَعَلَهُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الْإِبِلِ أَهْلُ الْبَوَادِي، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ إِلَّا الْإِبِلُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ إِلَّا الذَّهَبُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ إِلَّا الْوَرَقُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ منهم طاووس وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ لَا غَيْرُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بَدَلٌ عَنْهَا إِذَا عُدِمَتْ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ يَجِبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَبُو حَنِيفَةَ والشافعي ومالك أن آية الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَسْنَانِ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: عِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ: مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: عِشْرُونَ حِقَاقًا، وَعِشْرُونَ جِذَاعًا، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الدِّيَةُ قِسْمَانِ، مُغَلَّظَةٌ أَثْلَاثًا، ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذْعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، وَمُخَفَّفَةٌ أَخْمَاسًا كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنِ عَطَاءٍ أَنَّ دية الخطأ أرباع: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذْعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، مِثْلَ أَسْنَانِ الذُّكُورِ. وَقَالَ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: فِي الْخَطَأِ ثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَرُوِيَ عَنْهُمَا مَكَانَ الْجِذَاعِ الْحِقَّاتُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَتْلِ خَطَأً فِي الْحَرَمِ وَفِي شَهْرٍ حَرَامٍ، وَبَيْنَهُ فِي الْحِلِّ، وَفِي شَهْرٍ غَيْرِ حَرَامٍ. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ، هَلْ تُغَلَّظُ فِيهِ الدِّيَةُ؟ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ زِيدَ عَلَى الْقَاتِلِ الثُّلُثُ، وَيُزَادُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ. وَأَمَّا مَنِ الْعَاقِلَةِ فَقِيلَ هُمُ الْعَصَبَاتُ الْأَرْبَعَةُ: الْأَبُ، وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، وَالِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هُمْ أَهْلُ دِيوَانِهِ دُونَ أَقْرِبَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فُرِضَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَيُضَمُّ إليهم أقرب الْقَبَائِلُ فِي النَّسَبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: الْعَقْلُ عَلَى ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَالْحُلَفَاءِ، عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ بَنِي أَبِيهِ ثُمَّ جَدِّهِ، ثُمَّ بَنِي جَدِّ أَبِيهِ. وَأَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهَا الدِّيَةُ فَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ: أَنَّهَا تَتَأَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَفِي الدِّيَةِ وَالْعَاقِلَةِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَعَرَّضَ لَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَمَعْنَى مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ: أَيْ مُؤَدَّاةٌ مَدْفُوعَةٌ إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ، أَيْ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ يَقْتَسِمُونَهَا كَالْمِيرَاثِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ التَّرِكَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقْضَى مِنْهَا الدَّيْنُ، وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ فَهِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ شَرِيكٌ: لَا يُقْضَى مِنَ الدِّيَةِ دَيْنٌ، وَلَا تُنَفَّذُ مِنْهَا وَصِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَرِثُ كُلُّ وَارِثٍ مِنْهَا غَيْرَ الْقَاتِلِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أَيَ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ وُرَّاثُهُ عَنِ الدِّيَةِ فَلَا دِيَةَ. وَجَاءَ بِلَفْظِ التَّصَدُّقِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضِيلَةِ الْعَفْوِ وَحَضًّا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الصَّدَقَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ الْآجِلِ بِهِ دُونَ طَلَبِ الْعَرَضِ الْعَاجِلِ، وَهَذَا حُكْمُ مَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَطَأً. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْإِبْرَاءِ خِلَافًا لِزُفَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَ الْبَرَاءَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ، وَتَرْتِيبُ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَدِيَةٍ عَلَى ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ هَكَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَارِثُ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْكَفَّارَةُ.

وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ قِيلَ: مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَّصِلٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَ أَنْ يَصَّدَّقُوا؟ وَمَا مَحَلُّهُ؟ (قُلْتُ) : تَعَلَّقَ بِعَلَيْهِ، أو بمسلمة. كَأَنْ قِيلَ: وَتَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ أَوْ يُسَلِّمُهَا، إِلَّا حِينَ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّمَانِ كَقَوْلِهِمُ: اجْلِسْ مَا دَامَ زَيْدٌ جَالِسًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَهْلِهِ بِمَعْنَى: إِلَّا مُتَصَدِّقِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ خَطَأٌ. أَمَّا جَعْلُ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا ظَرْفًا فَلَا يَجُوزُ، نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِمَّا انْفَرَدَتْ بِهِ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ وَمَنَعُوا أَنْ تَقُولَ: أَجِيئُكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، يُرِيدُ وَقْتَ صِيَاحِ الدِّيكِ. وَأَمَّا أَنْ يَنْسِبَكَ مِنْهَا مَصْدَرٌ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَنَصُّوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَنْتَ الرَّجُلُ أَنْ تُنَازِلَ أَوْ أَنْ تُخَاصِمَ، فِي مَعْنَى أَنْتَ الرَّجُلُ نِزَالًا وَخُصُومَةً، إِنَّ انْتِصَابَ هَذَا انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَكُونُ حَالًا، فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ كَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا هُوَ الصَّوَابُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَصَّدَّقُوا، وَأَصْلُهُ يَتَصَدَّقُوا، فَأُدْغِمَتِ التَّاءِ فِي الصَّادِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: تَصَّدَّقُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطِبَةِ لِلْحَاضِرَةِ. وَقُرِئَ: تَصَدَّقُوا بِالتَّاءُ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ تَتَصَدَّقُوا، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَيِّهِمَا هِيَ الْمَحْذُوفَةُ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ: يَتَصَدَّقُوا بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ: الْمَعْنَى إِنْ كَانَ هَذَا الْمَقْتُولُ خَطَأً رَجُلًا مُؤْمِنًا قَدْ آمَنَ وَبَقِيَ فِي قَوْمِهِ وَهُمْ كَفَرَةٌ عَدُوٌّ لَكُمْ فَلَا دِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَفَّارَتُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَالسَّبَبُ عِنْدَهُمْ فِي نُزُولِهَا: أَنَّ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ تَمُرُّ بِقَبَائِلِ الْكَفَرَةِ، فَرُبَّمَا قُتِلَ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، أَوْ مَنْ هَاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُقْتَلُ فِي حَمَلَاتِ الْحَرْبِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَسَقَطَتِ الدِّيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ كَفَرَةٌ، فَلَا يُعْطَوْنَ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ. وَلِأَنَّ حُرْمَتَهُ إِذَا آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ قَلِيلَةٌ فَلَا دِيَةَ. وَإِذَا قُتِلَ مؤمنا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْمُهُ حَرْبٌ، فَفِيهِ الدِّيَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْوَجْهُ فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ كُفَّارٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتْلُ خَطَأً بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ قَوْمِهِ ولم يهاجر، ولو هَاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَكَفَّارَتُهُ لَيْسَ إِلَّا التَّحْرِيرَ، لِأَنَّهُ إِنْ قُتِلَ بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمِهِ فَهُوَ مُسَلِّطٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَأَهْلُهُ لَا يَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ، وَلَا الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَهُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْحَالَيْنِ، هَذَا قَوْلُ: مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:

الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً إِنْ كَانَ قَوْمُهُ الْمُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَعَلَى قَاتِلِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، أَوْ كَانَ فَتُؤَدَّى دِيَتُهُ لِقَرَابَتِهِ الْمُعَاهَدِينَ. قَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ: اخْتَلَفَتْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إِنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ مُسْتَأْمَنٌ فَكَفَّارَةُ الْخَطَأِ، أَوْ كَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَكَفَّارَةُ الْخَطَأِ، أَوْ أَسِيرَيْنِ فَعَلَى الْقَاتِلِ كَفَّارَةُ الْخَطَأِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ: الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى قَاتِلِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَخْرُجِ، الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ خَطَأً. وَالْآيَةُ إِنَّمَا كَانَتْ فِي صُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ، لِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يُوَرَّثْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إِذَا أَقَامَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي نفسه وماله وأدّ الحق بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ بِتَرْكِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْغَارَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا عَقْلَ فِيهِ وَلَا قَوْدَ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا، أَوْ رَجُلًا أَسْلَمَ هُنَاكَ، وَإِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوْدُ انْتَهَى مَا نَقَلَهُ هَذَا الْمُصَنِّفُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَدْلُولِ هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِ الْمَقْتُولِ خَطَأً فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً إِنْ كَانَ أَهْلُهُ مُؤْمِنِينَ أَوْ مُعَاهَدِينَ، فَالتَّحْرِيرُ وَالدِّيَةُ. وَنَزَلَ الْمُعَاهَدُونَ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ مَنْزِلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِينَ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ حَرْبِيِّينَ فَالتَّحْرِيرُ فَقَطْ. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قَالَ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَغَيْرُهُمْ: وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ خَطَأً مُؤْمِنًا مِنْ قَوْمٍ مُعَاهَدِينَ لَكُمْ، فَعَهْدُهُمْ يُوجِبُ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِدِيَةِ صَاحِبِهِمْ، وَكَفَّارَتُهُ التَّحْرِيرُ، وَأَدَاءُ الدِّيَةِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيُّ: الْمَقْتُولُ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ خَطَأً كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا عَلَى عَهْدِ قَوْمِهِ، فِيهِ الدِّيَةُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالتَّحْرِيرُ. وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا فِي دِيَةِ الْمُعَاهَدِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ أَنَّهَا قَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى

بِكَوْنِهِ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ، وَقَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِكَوْنِهِ مِنْ قَوْمٍ مُعَاهَدِينَ، وَالْمَعْنَى فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَهُمْ كُفَّارٌ. فَإِذَا تَقَيَّدَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْيِيدِ الْأُولَى بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّسَبِ، وَهِيَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَهْلُهُ مُؤْمِنُونَ لَا حَرْبِيُّونَ وَلَا مُعَاهَدُونَ. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّعَارُضِ وَالتَّعَانُدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ بَعْدُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمُ، اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَعْطِ هَذَا رَجُلًا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَأَعْطِهِ، فَهَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ حَكِيمٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْأَوَّلِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْخِطَابِ. ثُمَّ قَالَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ ذَا عَهْدٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إِضْمَارُ الْإِيمَانِ لَهُ إِلَّا بِدَلَالَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ذَكَرَ الْإِيمَانَ فَقَالَ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَاقْتَضَى الْإِطْلَاقُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: اسْتِئْنَافٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ اسْتِئْنَافًا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّقْسِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. بَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَشْرَفِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، وَأَهْلُهُ مُؤْمِنُونَ لَيْسُوا بِحَرْبِيِّينَ وَلَا مُعَاهَدِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَعْطِ هَذَا رَجُلًا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَأَعْطِهِ، فَهَذَا لَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا الضَّمِيرُ فِي كَانَ عَائِدًا عَلَى الْمَقْتُولِ خَطَأً، الْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ، وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لَا سَبِيلِ التَّقْيِيدِ، إِذِ الْقَيْدُ مَفْهُومٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَالَ مُؤَكِّدَةٌ، وَفَائِدَةُ تَأْكِيدِهَا أَنْ لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى مُطْلَقِ الْمَقْتُولِ لَا بِقَيْدِ الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لو أطلق لاقتضى الإطلاق أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَكَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي كَانَ عَائِدًا عَلَى الْمَقْتُولِ خَطَأً، لأنّه لم يجر ذِكْرَ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وَيُتْرَكُ عَوْدُهُ عَلَى مَا يَجْرِي عَلَيْهِ ذِكْرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ يَعْنِي: رَقَبَةً لَمْ يَمْلِكْهَا، وَلَا وَجَدَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مِلْكِهَا، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُ ذَلِكَ، إِذْ

لَوْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ لِعَطَفَهَا عَلَى الصِّيَامِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: الشَّعْبِيُّ، وَمَسْرُوقٌ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَهْمٌ، لِأَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى الْقَاتِلِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِوَهْمٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَمَعْنَى التَّتَابُعِ: لَا يَتَخَلَّلُهَا فِطْرٌ. فَإِنْ عَرَضَ حَيْضٌ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يُعَدَّ قَاطِعًا بِإِجْمَاعٍ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ، وَالْمَرَضُ كَالْحَيْضِ عِنْدَ: ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، ومجاهد، وقتادة، وطاووس، ومالك. وقال ابن جبير، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَسْتَأْنِفُ إِذَا أَفْطَرَ لِمَرَضٍ. وَلِلشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَحْدَهُ إِنْ كَانَ عُذْرٌ غَالِبٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: رُجُوعًا مِنْهُ إِلَى التَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، حَيْثُ نَقَلَكُمْ مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الصَّوْمِ. أَوْ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ قَبُولًا مِنْهُ وَرَحْمَةَ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذَا قَبِلَ تَوْبَتَهُ. وَدَعَا تَعَالَى قَاتِلَ الْخَطَأِ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّزْ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا بِمَنْ قَتَلَ خَطَأً، حَكِيمًا حَيْثُ رَتَّبَ مَا رَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ هِشَامَ بْنَ صُبَابَةَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَخَذَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّيَةَ، ثُمَّ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلٍ مِنْ فِهْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ مَا، فَقَتَلَهُ مِقْيَسٌ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا وَجَعَلَ يُنْشِدُ: قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَّاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ حَلَلْتُ بِهِ وَتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَوْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أوّل راجع فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُؤَمِّنُهُ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَعْبَةِ» وَهَذَا السَّبَبُ يَخُصُّ عُمُومَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلُ، فَيَكُونُ خَاصًّا بِالْكَافِرِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَعْنَى مُتَعَمِّدًا أَيْ: مُسْتَحِلًّا، فهذا. يؤول أَيْضًا إِلَى الْكُفْرِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَامَّةً فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ كَسَائِرِ التَّوَعُّدَاتِ عَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي، وَالْمَعْنَى: فَجَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، أَيْ: هُوَ ذَلِكَ ومستحقه لعطم ذَنْبِهِ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَيَكُونُ الْخُلُودُ عِبَارَةً

فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي عَنِ الْمُكْثِ الطَّوِيلِ، لَا الْمُقْتَرِنِ بِالتَّأْبِيدِ، إِذْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِعُمُومِهَا لِقَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» وَاعْتَمَدُوا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتِ الشَّدِيدَةُ بَعْدَ الْهَيِّنَةِ، يُرِيدُ نَزَلَتْ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا بِعَدُوٍّ يَغْفِرْ مَا دُونَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ قَتَلَ عَمْدًا. وَقَدْ نَازَعُوا فِي دَلَالَةِ مَنِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى الْعُمُومِ. وَقِيلَ: هُوَ لَفْظٌ يَقَعُ كَثِيرًا لِلْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «2» وَلَيْسَ مَنْ حَكَمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِكَافِرٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ ... يُهَدَّمْ وَمَنْ لَا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ وَإِذَا سُلِّمَ الْعُمُومُ فَقَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَتَلَ عَمْدًا، وَأَتَى السُّلْطَانَ أَوِ الْأَوْلِيَاءَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَقُتِلَ، فَهَذَا غَيْرُ مُتَّبَعٍ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَعِيدُ غَيْرُ صَائِرٍ إِلَيْهِ إِجْمَاعًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ: «أَنَّهُ مَنْ عُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ. وَإِذَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِ، وَيَشْهَدُ لَهُ سَبَبُ النزول كما قدمناه. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِتَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَتَكَلَّمَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ هُنَا. فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الشِّرْكُ وَالْقَتْلُ سَهْمَانِ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِمَا خُلِّدَ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ نَسَخَتِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ إِذَا سَأَلَهُ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ قَالَ لَهُ: تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ قَالَ: لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نَحْوٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ. وَعَنْ سُفْيَانَ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلُوا قَالُوا: لَا تَوْبَةَ لَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَإِلَّا فَكَلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» والعجب من قوم يقرأون هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرَوْنَ مَا فِيهَا، وَيَسْمَعُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْقَطْعِيَّةَ، وَقَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ لَا تَدَعُهُمْ أَشْعِبِيَّتُهُمْ وَطَمَاعِيَّتُهُمُ الْفَارِغَةُ، وَاتِّبَاعُهُمْ هَوَاهُمْ، وَمَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ مُنَاهُمْ أَنْ يَطْمَعُوا في العفو

_ (1) سورة النساء: 4/ 48. (2) سورة المائدة: 5/ 44.

عَنْ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْبَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لِمَا عَسَى أَنْ يَقَعَ مِنْ نَوْعِ تَفْرِيطٍ فِيمَا يَجِبُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَفُّظِ فيه حسم لِلْأَطْمَاعِ وَأَيُّ حَسْمٍ، وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى طَرْدِ مَنْ لَمْ يَتُبْ مَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ؟ (قُلْتُ) : مَا أَبْيَنَ الدَّلِيلَ فِيهَا، وَهُوَ تُنَاوَلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ، أَيُّ قَاتِلٍ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ كَافِرٍ تَائِبٍ، أَوْ غير نائب، إِلَّا أَنَّ التَّائِبَ أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ. فَمَنِ ادَّعَى إِخْرَاجَ الْمُسْلِمِ غَيْرِ التَّائِبِ فَلْيَأْتِ بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ وَالتَّعَرُّضُ لِمُخَالِفِيهِ بِالسَّبِّ وَالتَّشْنِيعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا أَبْيَنَ الدليل فيها، فليس ببين، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَلْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى خُلُودِ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكَبَائِرِ. وَالْآيَةُ فِي كَبِيرَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: الْقَتْلُ لِمُؤْمِنٍ عَمْدًا، وَهِيَ كَوْنُهَا أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ الْمَخْصُوصَةُ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ سَائِرِ الْكَبَائِرِ، مَخْصُوصَةٌ كَوْنُهَا أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَبْيَنَ الدَّلِيلَ مِنْهَا، غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَا بِهِ يَكُونُ قَتْلُ الْعَمْدِ، وَفِي الْحُرِّ يَقْتُلُ عَبْدًا عَمْدًا مُؤْمِنًا، هَلْ يُقْتَصُّ مِنْهُ؟ وَذَلِكَ مُوَضَّحٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَانْتَصَبَ مُتَعَمِّدًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن فِي يَقْتُلْ، وَالْمَعْنَى: مُتَعَمِّدًا قَتْلَهُ. وَرَوَى عَبْدَانُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: تَسْكِينَ تَاءِ مُتْعَمِّدًا، كَأَنَّهُ يَرَى تَوَالِيَ الْحَرَكَاتِ. وتضمنت هذه الآيات من الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ أَنْوَاعًا. التَّتْمِيمُ فِي: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا. وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ فِي: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَفِي: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا. وَالطِّبَاقُ فِي: أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا، وَفِي: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَفِي: أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا، وَفِي: أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ويأمنوا، وفي: خطأ وخطأ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَفِي: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَفِي: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السلم، وفي: سبيلا وكلما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ الْآيَةَ. وَالِاعْتِرَاضُ فِي: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ. وَالتَّكْرَارُ فِي مَوَاضِعَ. وَالتَّقْسِيمُ فِي: وَمَنْ قَتَلَ إِلَى آخِرِهِ. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ.

_ (1) سُورَةُ محمد: 47/ 24.

[سورة النساء (4) : الآيات 94 إلى 100]

[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) الْمَغْنَمُ: مَفْعَلٌ مِنْ غَنِمَ، يَصْلُحُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْمَصْدَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْغَنِيمَةِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ أَيِ: الْمَغْنُومُ، وَهُوَ مَا يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ فِي الْغَزْوِ. الْمُرَاغَمُ: مَكَانُ الْمُرَاغَمَةِ، وَهِيَ: أَنْ يُرْغِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ بِحُصُولِهِ فِي مَنَعَةٍ مِنْهُ أَنْفَ صَاحِبِهِ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى مُرَادِهِ يُقَالُ: رَاغَمْتُ فُلَانًا إِذَا فَارَقْتَهُ وَهُوَ يَكْرَهُ مُفَارَقَتَكَ لِمَذَلَّةٍ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ. وَالرَّغْمُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَأَصْلُهُ: لُصُوقُ الْأَنْفِ بِالرِّغَامِ، وَهُوَ التُّرَابُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ سُلَيْمٍ مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَعَهُ غَنَمٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غَنَمَهُ وأتوا بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَبْرَحْ، فَتَشَهَّدَ، فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ: «أَقَتَلْتَ رَجُلًا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَدًا؟»

وَقِيلَ: لَقِيَ الصَّحَابَةُ الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمُوهُمْ، فَشَدَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى رَجُلٍ، فَلَمَّا غَشِيَهُ السِّنَانُ قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَتَاعَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قَتَلْتُهُ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؟» فَقَالَ: قَالَهَا مُتَعَوِّذًا قَالَ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟» فِي قِصَّةٍ آخِرُهَا: إِنَّ الْقَاتِلَ مَاتَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَطُرِحَ فِي بَعْضِ الشِّعَابِ. وَقِيلَ: هِيَ السَّرِيَّةُ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَقِيلَ: بَعَثَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَا حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ وَأَبَا قَتَادَةَ وَمُحَلَّمَ بْنَ جَثَّامَةَ فِي سِرِّيَّةٍ إِلَى أَسْلَمَ، فَلَمَّا بَلَغُوا إِلَى عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيِّ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَقَتَلَهُ محكم وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ: «أقتلته بعد ما قَالَ آمَنْتُ؟» فَنَزَلَتْ . وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا وَأَنَّ لَهُ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَعْنَتَهُ وَإِعْدَادَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ، وَأَنْ لَا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ، وَأَنْ لَا يَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا بِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ آخِرَ الْآيَةِ تَأْكِيدًا أَنْ لَا يُقَدَّمَ عِنْدَ الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ خَفَاءُ ذَلِكَ مَنُوطًا بِالْأَسْفَارِ وَالْغَمَزَاتِ قَالَ: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِلَّا فَالتَّثَبُّتُ وَالتَّبَيُّنُ لَازِمٌ فِي قَتْلِ مَنْ تَظَاهَرَ بِالْإِسْلَامِ فِي السَّفَرِ وَفِي الْحَضَرِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الضَّرْبِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ «1» . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَتَثَبَّتُوا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْبَاقُونَ: فَتَبَيَّنُوا. وَكِلَاهُمَا تَفَعَّلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ الَّتِي لِلطَّلَبِ، أَيِ: اطْلُبُوا إِثْبَاتَ الْأَمْرِ وَبَيَانَهُ، وَلَا تَقَدَّمُوا مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَإِيضَاحٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَبَيَّنُوا أَبْلَغُ وَأَشَدُّ مِنْ فَتَثَبَّتُوا، لِأَنَّ الْمُتَثَبِّتَ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَثَبُّتٍ، وقد يكون التثبت ولاتبين، وَقَدْ قُوبِلَ بِالْعَجَلَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّبَيُّنُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُمَا: مُتَقَارِبَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّ تَبَيُّنَ الرَّجُلِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّيْءَ بَانَ، بَلْ يَقْتَضِي مُحَاوَلَةً لِلتَّبَيُّنِ، كَمَا أَنَّ تَثَبَّتَ يَقْتَضِي مُحَاوَلَةً لِلتَّبَيُّنِ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّثَبُّتُ هُوَ خِلَافُ الْإِقْدَامِ، وَالْمُرَادُ: التَّأَنِّي، وَالتَّثَبُّتُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً «2» أَيْ أَشَدَّ وَقْفًا لَهُمْ عَنْ مَا وُعِظُوا بِأَنْ لَا يُقْدِمُوا عَلَيْهِ، وَكَلَامُ النَّاسِ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 273. (2) سورة النساء: 4/ 66.

تَثَبَّتْ فِي أَمْرِكَ. وَقَدْ جَاءَ إِنَّ التَّبَيُّنَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشيطان، وَمُقَابَلَةُ الْعَجَلَةِ بِالتَّبَيُّنِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقَارُبِ اللَّفْظَيْنِ. وَالْأَكْثَرُونَ على أنّ القاتل هو مُحَلَّمٌ، وَالْمَقْتُولَ عَامِرٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا هُوَ فِي سِيَرِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَمُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي الِاسْتِيعَابِ. وَقِيلَ: الْمَقْتُولُ مِرْدَاسٌ، وَقَاتِلُهُ أُسَامَةُ. وَقِيلَ: قَاتِلُهُ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ اللِّيثِيُّ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُ أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَقِيلَ: أَبُو قَتَادَةَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، السَّلَامَ بِأَلِفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ كَثِيرٍ. مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ، وَجَبَلَةُ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ: بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّلَامِ الِانْحِيَازُ وَالتَّرْكُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ فُلَانٌ سَلَامٌ إِذَا كَانَ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنِ اعْتَزَلَكُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّلَامَةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَ عَنِ النَّاسِ طَالِبٌ لِلسَّلَامَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مَأْمَنًا بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: لَا نُؤَمِّنُكَ فِي نَفْسِكَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ. وَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَيْسَ لِإِيمَانِكَ حَقِيقَةٌ أَنَّكَ أَسْلَمْتَ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: حَكَمَ تَعَالَى بِصِحَّةِ إِسْلَامِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَأَمَرَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْغَيْبِ عَلَى خِلَافِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ انْتَهَى. وَالْغَرَضُ هُنَا هُوَ مَا كَانَ مَعَ الْمَقْتُولِ مِنْ غَنِيمَةٍ، أَوْ مِنْ حَمْلٍ، وَمَتَاعٍ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالْمَعْنَى: تَطْلُبُونَ الْغَنِيمَةَ الَّتِي هِيَ حُطَامٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ. وَتَبْتَغُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: وَلَا تَقُولُوا، وَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى تَرْكِ التَّثَبُّتِ أَوِ التَّبَيُّنِ هُوَ طَلَبُكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ هَذِهِ عِدَّةٌ بِمَا يُسْنِي اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ حِلٍّ دُونَ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ بِشُبْهَةٍ وَغَيْرِ تَثَبُّتٍ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ مَا أَعَدَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ جَزِيلِ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمِ الَّذِي هُوَ أَجَلُّ الْمَغَانِمِ. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ كُنْتُمْ مُسْتَخْفِينَ مِنْ قَوْمِكُمْ بِإِسْلَامِكُمْ، خَائِفِينَ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِ دِينِكُمْ، فَهُمُ

الْآنَ كَذَلِكَ كُلٌّ مِنْهُمْ خَائِفٌ فِي قَوْمِهِ، مُتَرَبِّصٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمْ، فَلَمْ يَصْلُحْ إِذَا وَصَلَ أَنْ تَقْتُلُوهُ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا أَمْرَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْإِيمَانِ مَا كَانَ عَامًّا فِيهِمْ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ يُحِبُّونَ دِينَهُمْ، فَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ بِتِلْكَ الْحَالِ الْأُولَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ إِخْفَاءَ الْإِيمَانِ مَا كَانَ عَامًّا فِيهِمْ، لَا إِشْكَالَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى الْجُمْلَةِ مَا وُجِدَ مِنْ بَعْضِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرَةً فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِأَنْ أَسْلَمْتُمْ، فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ كَافِرًا ثُمَّ يُسْلِمُ لِحِينِهِ حِينَ لَقِيَكُمْ، فَيَجِبُ أَنْ يُتَثَبَّتَ فِي أَمْرِهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ كُنْتُمْ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ تُؤْمِنُونَ بِكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا كَانَ إِيمَانُنَا مِثْلَ إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّا آمَنَّا اخْتِيَارًا، وَهَؤُلَاءِ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ إِذْ كَانَ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ هُوَ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَا مِنْ مُعْظَمِ الْوُجُوهِ. وَالتَّشْبِيهُ هُنَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ: أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ كَانَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ حَسَّنَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَطَوَّلَهُ جِدًّا. فَقَالَ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ سَمِعْتُ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، فَحَصَّنْتُ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مُوَاطَأَةِ قُلُوبِكُمْ لِأَلْسِنَتِكُمْ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالِاشْتِهَارِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقَدُّمِ، وَإِنْ صِرْتُمْ أَعْلَامًا فِيهِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا بِالدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فُعِلَ بِكُمْ، وَأَنْ تَعْتَبِرُوا ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ فِي الْكَافَّةِ، وَلَا تَقُولُوا إِنَّ تَهْلِيلَ هَذَا لِاتِّقَاءِ الْقَتْلِ، لَا لِصِدْقِ النِّيَّةِ، فَتَجْعَلُوهُ سِلْمًا إِلَى اسْتِبَاحَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ، وَقَدْ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ يَنْتَقِلُ عَنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَحْدُثُ لَهُ مَيْلٌ بِسَبَبٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ الْمَيْلُ يَتَأَكَّدُ وَيَتَقَوَّى إِلَى أَنْ يَكْمُلَ وَيَسْتَحْكِمَ وَيَحْصُلَ الِانْتِقَالُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: كُنْتُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا حَدَثَ فِيكُمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ بِأَسْبَابِ ضَعِيفَةٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوِيَةِ ذَلِكَ الْمَيْلِ وَتَأْكِيدِ النُّفْرَةِ عَنِ الْكُفْرِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لَمَّا حَدَثَ فِيهِمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ هَذَا الْإِيمَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَكِّدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُقَوِّي تِلْكَ الرَّغْبَةَ فِي صُدُورِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ آمَنَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ مَيْلُهُ أَوَّلًا إِلَى الْإِسْلَامِ مَيْلًا ضَعِيفًا ثُمَّ يَقْوَى، بَلْ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنِ اسْتَبْصَرَ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ دُعَاءَ الرَّسُولِ، أو رَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

كَأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مُسْتَبْصِرًا مُنْتَظِرًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أن يكون المعنى إِشَارَةً بِذَلِكَ إِلَى الْقَتْلِ قَبْلَ التَّثَبُّتِ، أَيْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ لَا تَثْبُتُونَ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، هُوَ مِنْ تَمَامِ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ. وَقِيلَ: مِنْ تَمَامِ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا قَبْلَهُ، فَالْمَعْنَى: مَنَّ عَلَيْكُمْ بِأَنْ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ قَالَه: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، فَتَبَيَّنُوا: تَقَدَّمَ أَنَّهُ قُرِئَ فَتَثَبَّتُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَتَبَيَّنُوا فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ التَّبَيُّنِ، أَنْ لَا يَكُونَ تَأْكِيدُ الِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقَ التَّبَيُّنِ. فَالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ: فَتَبَيَّنُوا أَمْرَ مَنْ تُقْدِمُونَ عَلَى قَتْلِهِ، وَفِي الثَّانِي: فَتَبَيَّنُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أَيْ خَبِيرًا بِنِيَّاتِكُمْ وَطَلَبَاتِكُمْ، فَكُونُوا مُحْتَاطِينَ فِيمَا تَقْصِدُونَهُ، مُتَوَخِّينَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ، فَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ مَوَارِدِ الزَّلَلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِقَوْلِهِ: فَتَبَيَّنُوا «1» . لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ كَانُوا إِذَا حَضَرَتْ غَزَاةٌ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فَسَبَبُهَا قَوْلُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: كَيْفَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ؟. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ الْكُفَّارَ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً وَعَمْدًا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَبِتَأْوِيلٍ، فَنَهَى أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلِهِ بِتَأْوِيلِ أَمْرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَ بَيَانَ فَضْلِ الْمُجَاهِدِ عَلَى الْقَاعِدِ، وَبَيَانَ تَفَاوُتِهِمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ كَوْنُ الْجِهَادِ، مَظِنَّةَ أَنْ يُصِيبَ الْمُجَاهِدُ مُؤْمِنًا خَطَأً، أَوْ مَنْ يُلْقِي السَّلَمَ فيقتله بتأويل فيتقاعسن عَنِ الْجِهَادِ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، فَأَتَى عَقِيبَ ذَلِكَ بِفَضْلِ الْجِهَادِ وَفَوْزِهِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنَ الدَّرَجَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، دَفْعًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ. وَيَسْتَوِي هُنَا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْتَفِي بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ، وَإِثْبَاتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عموم

_ (1) سورة النساء: 4/ 94.

الْمُسَاوَاةِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُهُ. وَإِنَّمَا عَنَى نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفَضْلِ، وَفِي ذَلِكَ إِبْهَامٌ عَلَى السَّامِعِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيرِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقَاعِدِ وَالْمُجَاهِدِ. فَالْمُتَأَمِّلُ يَبْقَى مَعَ فِكْرِهِ، وَلَا يَزَالُ يَتَخَيَّلُ الدَّرَجَاتِ بَيْنَهُمَا، وَالْقَاعِدُ هُوَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْجِهَادِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقُعُودِ، لِأَنَّ الْقُعُودَ هَيْئَةُ مَنْ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَى الْأَمْرِ الْمَقْعُودِ عَنْهُ فِي الأغلب. وأولوا الضَّرَرِ هُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لِعَمًى، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عَرَجٍ، أَوْ فَقْدِ أُهْبَةٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْقَادِرُونَ عَلَى الْغَزْوِ وَالْمُجَاهِدُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ: غَيْرُ بِرَفْعِ الرَّاءِ. وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنَّصْبِ، وَرَوَيَا عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِهَا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ فَوَجَّهَهَا الْأَكْثَرُونَ عَلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، كَمَا هِيَ عِنْدَهُ صِفَةٌ فِي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «1» وَمِثْلُهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجُمَلْ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَيُرْوَى: لَيْسَ الْجَمَلْ. وَأَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ الْبَدَلَ. قِيلَ: وَهُوَ إِعْرَابٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ نَفْيٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الصِّفَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْأَفْصَحَ فِي النَّفْيِ الْبَدَلُ، ثُمَّ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ الْوَصْفُ فِي رُتْبَةٍ ثَالِثَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنْ غَيْرًا نَكِرَةٌ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَإِنْ أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ هَذَا، هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَتَعَرَّفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَجَعَلَهَا هُنَا صِفَةً يُخْرِجُهَا عَنْ أَصْلِ وَضْعِهَا إِمَّا بِاعْتِقَادِ التَّعْرِيفِ فِيهَا، وَإِمَّا بِاعْتِقَادِ أَنَّ الْقَاعِدِينَ لَمَّا لَمْ يَكُونُوا نَاسًا مُعَيَّنِينَ، كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ جِنْسِيَّةً، فَأُجْرِيَ مَجْرَى النَّكِرَاتِ حَتَّى وُصِفَ بِالنَّكِرَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَهِيَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَاعِدِينَ. وَقِيلَ: اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْقَاعِدِينَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَرِّ فَعَلَى الصِّفَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَتَخْرِيجِ مَنْ خَرَّجَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلَى الصِّفَةِ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «2» وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: الْقَاعِدُونَ. أَيْ: كَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَاخْتَلَفُوا: هل أولوا الضَّرَرِ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ أَمْ لَا؟ فَإِنِ اعْتَبَرْنَا مَفْهُومَ الصِّفَةِ، أَوْ قُلْنَا بِالْأَرْجَحِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، لَزِمَتِ الْمُسَاوَاةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مردود، لأن أولي الضَّرَرَ لَا يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ، وَغَايَتُهُمْ إِنْ خَرَجُوا مِنَ التوبيخ والمذمة

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 7. (2) سورة الفاتحة: 1/ 6.

الَّتِي لَزِمَتِ الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الِاسْتِثْنَاءُ لِرَفْعِ الْعِقَابِ، لَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ. المعذور يستوي فِي الْأَجْرِ مَعَ الَّذِي خَرَجَ إِلَى الْجِهَادِ، إِذْ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ قَادِرًا لَخَرَجَ. قَالَ: اسْتَثْنَى الْمَعْذُورَ مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَثَبَتَ الِاسْتِوَاءُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الْمَعْذُورِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا نَفَى الِاسْتِوَاءَ فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُ مُنْتَفٍ ضَرُورَةً لِإِذْكَارِهِ مَا بَيْنَ الْقَاعِدِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمُجَاهِدِ مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ، فَيَأْنَفُ الْقَاعِدُ مِنَ انْحِطَاطِ مُنْزِلَتِهِ فَيَهْتَزُّ لِلْجِهَادِ وَيَرْغَبُ فِيهِ. وَمِثْلُهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ «1» أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيكُ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِ وَأَنَفَتِهِ لِيَنْهَضِمَ إِلَى التَّعَلُّمِ، وَيَرْتَقِيَ عَنْ حَضِيضِ الْجَهْلِ إِلَى شَرَفِ الْعِلْمِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ تَطَوُّعًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي مَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَرْضَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَالْآتِي بِهِ، بَلْ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِالتَّارِكِ، وَيَرْغَبُ الْآتِي بِهِ فِي الثَّوَابِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: نَفْيُ التَّسَاوِي بَيْنَ فَاعِلِ الْجِهَادِ وَتَارِكِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ مَا كَانَ فَرْضًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ «2» نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ المؤمن والفاسق، والإيمان فرض. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ «3» الْآيَةَ وَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَالْعِلْمُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَرْضٌ. وَإِذْ جَازَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ فَاعِلِ التَّطَوُّعِ وَتَارِكِهِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْنَ فَاعِلِ الْفَرْضِ وَتَارِكِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْحَقِ الْإِثْمُ تَارِكَهُ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ هَذَا الِاسْتِوَاءِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِقَاعِدَةٍ عَنْ جِهَادٍ مَخْصُوصٍ، وَلَا مُجَاهِدٍ جِهَادًا مَخْصُوصًا بَلْ ذَلِكَ عام. وعن ابن عابس: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَيْهَا. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: إِلَى تَبُوكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أولوا الضَّرَرِ هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ. إِذْ قَدْ أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمُ الْجِهَادَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» وَجَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَنْفُسِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «4» تَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَمْوَالِ لِتَبَايُنِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ بَائِعٌ، فَأَخَّرَ ذِكْرَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُضَايَقَةَ فِيهَا أَشَدُّ، فَلَا يَرْضَى بِبَذْلِهَا إِلَّا في آخر

_ (1) سورة الزمر: 39/ 9. (2) سورة السجدة: 32/ 18. (3) سورة الجاثية: 45/ 21. (4) سورة التوبة: 9/ 111.

الْمَرَاتِبِ. وَالْمُشْتَرِي قُدِّمَتْ لَهُ النَّفْسُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الرَّغْبَةَ فِيهَا أَشَدُّ، وَإِنَّمَا يرعب أَوَّلًا فِي الْأَنْفَسِ الْغَالِي. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً الظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ، فَذَكَرَ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَيْهِمْ بِدَرَجَةٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا لَهُمْ لَا يَسْتَوُونَ؟ فَقِيلَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ هُنَا دَرَجَةً هُمُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ آخِرًا دَرَجَاتٍ، وَمَا بَعْدَهَا وَهُمُ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وَتَكَرَّرَ التَّفْضِيلَانِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِمَا، فَالتَّفْضِيلُ الْأَوَّلُ بِالدَّرَجَةِ هُوَ مَا يُؤْتَى فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالتَّفْضِيلُ الثَّانِي هُوَ مَا يُخَوِّلُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَنَبَّهَ بِإِفْرَادِ الْأَوَّلِ، وَجَمَعَ الثَّانِي عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ يَسِيرٌ. وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ تَتَسَاوَى رُتَبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِهِمْ، كَتَسَاوِي الْقَاتِلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخْذِ سَلَبِ مَنْ قَتَلُوهُ وَتَسَاوِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مُتَفَاوِتُونَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ، فَلَهُمْ دَرَجَاتٌ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ الْغُفْرَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ الرَّحْمَةُ فَقَطْ. فَكَأَنَّ الرَّحْمَةَ أَدْنَى الْمَنَازِلِ، وَالْمَغْفِرَةُ فَوْقَ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ بُعْدُ الدَّرَجَاتِ عَلَى الطَّبَقَاتِ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ «1» وَمَنَازِلُ الْآخِرَةِ تَتَفَاوَتُ. وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ الْمَدْحُ وَالتَّعْظِيمُ، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا غَيْرُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا. فَالْأَوَّلُ هُمُ الْقَاعِدُونَ بِعُذْرٍ، وَالثَّانِي هُمُ الْقَاعِدُونَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَضَّلُ بِهِ: فَفِي الْأَوَّلِ دَرَجَةٌ، وَفِي الثَّانِي دَرَجَاتٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَنْ لَا يستوي عنده أولوا الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ. وَقِيلَ: اخْتَلَفَ الْجِهَادَانِ، فَاخْتَلَفَ مَا فُضِّلَ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجِهَادَ جِهَادَانِ: صَغِيرٌ، وَكَبِيرٌ. فَالصَّغِيرُ مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ، وَالْكَبِيرُ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» وَإِنَّمَا كَانَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فَقَدْ جَاهَدَ الدُّنْيَا، وَمَنْ غَلَبَ الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ مُجَاهَدَةُ الْعِدَا، فَخَصَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ بِالدَّرَجَاتِ تَعْظِيمًا لَهَا. وَقَدْ تَنَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْقَاعِدِينَ فَقَالَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ جُمْلَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِمَا نُفِيَ مِنَ اسْتِوَاءِ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَهُمْ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 163.

لَا يَسْتَوُونَ؟ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ: وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، لِكَوْنِ الْجُمْلَةِ بَيَانًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِهَذَا الْوَصْفِ. ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَضَّلِينَ دَرَجَةً وَمُفَضَّلِينَ دَرَجَاتٍ مَنْ هُمْ؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْمُفَضَّلُونَ دَرَجَةً وَاحِدَةً فَهُمُ الَّذِينَ فُضِّلُوا عَلَى الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ، وَأَمَّا الْمُفَضَّلُونَ دَرَجَاتٍ فَالَّذِينَ فُضِّلُوا عَلَى الْقَاعِدِينَ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ اكْتِفَاءً بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَالَ: أَوَّلًا الْمَعْنَى عَلَى الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْجَوَابِ: عَلَى الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: دَرَجَاتٍ، لَا يُرَادُ بِهِ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي بَرَاءَةَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ «1» الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَرَجَاتُ الْجِهَادِ لَوْ حُصِرَتْ لَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: الدَّرَجَاتُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعُونَ دَرَجَةً، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ حَضْرُ الْجَوَادِ الْمُضْمَرِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَإِلَى نَحْوِهِ ذَهَبَ: مُقَاتِلٌ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لَا أَنَّ مَدْلُولَ دَرَجَةٍ مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ دَرَجَاتٍ فِي الْمَعْنَى، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ «2» لَا يُرَادُ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، بَلْ أَشْيَاءُ. وَكَرَّرَ التَّفْضِيلَ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّرْغِيبِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَاتُرِيدِيُّ قَالَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، حَيْثُ يَسْقُطُ بِقِيَامِ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ خِطَابُ قَوْلِهِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعُمُّ انْتَهَى. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيْ وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ. وَقِيلَ: وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَأُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدِينَ. وَالْحُسْنَى هُنَا: الْجَنَّةُ بِاتِّفَاقٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: هَذَا الْوَعْدُ لَا يَلِيقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنَ الْحَظِّ عَاجِلًا جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ كَمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ النِّعَمِ، فَكَذَلِكَ يُخْتَصُّ بِالثَّوَابِ. فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْقَاعِدِينَ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنَ الْحُسْنَى فِي الْوَعْدِ مَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ فَضْلَ دَرَجَاتٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَأَوْهَمَ أَنَّ حَالَهُمَا فِي الْوَعْدِ بِالْحُسْنَى سَوَاءٌ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ كُلًّا عَلَى أَنَّهُ مفعول أوّل لوعد، وَالثَّانِي هُوَ الْحُسْنَى. وَقُرِئَ: وَكُلٌّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَحَذْفِ الْعَائِدِ أَيْ: وَكُلَّهُمْ وعد الله.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 120. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 228.

وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قِيلَ: الدَّرَجَاتُ بِاعْتِبَارِ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ بَعْدَ إِدْخَالِ الْجَنَّةِ، وَالْمَغْفِرَةِ بِاعْتِبَارِ سَتْرِ الذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ الْخَاصَّ لِلْمُجَاهِدِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَنْ تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَاهَدَ، وَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْجِهَادِ، لَيْسَ كَمَنْ جَاهَدَ بِنَفَقَةٍ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ. وَفِي انْتِصَابِ دَرَجَةً وَدَرَجَاتٍ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يَنْتَصِبَانِ انْتِصَابَ الْمَصْدرِ لِوُقُوعِ دَرَجَةٍ مَوْقِعَ الْمَرَّةِ فِي التَّفْضِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَضَّلَهُمْ تَفْضِيلَهُ. كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ سَوْطًا، وَوُقُوعُ دَرَجَاتٍ مَوْقِعَ تَفْضِيلَاتٍ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ أَسْوَاطًا تَعْنِي: ضَرَبَاتٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَنْتَصِبَانِ انْتِصَابَ الْحَالِ أَيْ: ذَوِي دَرَجَةٍ، وَذَوِي دَرَجَاتٍ. وَالثَّالِثُ: عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ: بِدَرَجَةٍ وَبِدَرَجَاتٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمَا انْتَصَبَا عَلَى مَعْنَى الظَّرْفِ، إِذْ وَقَعَا مَوْقِعَهُ أَيْ: فِي دَرَجَةٍ وَفِي دَرَجَاتٍ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ دَرَجَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَجْرًا قِيلَ: وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَانِ عَلَى دَرَجَاتٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَا بِإِضْمَارِ فِعْلِهِمَا أَيْ: غَفَرَ ذَنْبَهُمْ مَغْفِرَةً وَرَحِمَهُمْ رَحْمَةً. وَأَمَّا انْتِصَابُ أَجْرًا عَظِيمًا فَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى فَضَّلَ مَعْنَى أَجْرٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَعْنَى، لَا مِنَ اللَّفْظِ. وَقِيلَ: عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ بِأَجْرٍ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ بِفَضْلِهِمْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَعْطَاهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَصَبَ أَجْرًا عَظِيمًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ دَرَجَاتٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، لِأَنَّ أَجْرًا عَظِيمًا مُفْرَدٌ، وَلَا يَكُونُ نَعْتًا لِدَرَجَاتٍ، لِأَنَّهَا جَمْعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَصَبَ دَرَجَاتٍ، إِمَّا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْأَجْرِ، وَإِمَّا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلْأَجْرِ، كَمَا نَقُولُ لَكَ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ عُرْفًا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَعْرِفُهَا عُرْفًا انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ، أَوْ يُضْرَبُ فَيَقْتُلُ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا هَاجَرَ الرَّسُولُ أَقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وَفُتِنَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ خَرَجَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مَعَ الْكُفَّارِ، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ فَنَزَلَتْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةٍ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ: قَيْسُ بْنُ النَّائِحَةِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، والحرث بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ أَسَدٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو الْعَاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَعَلِيُّ بْنُ

أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: فِي أُنَاسٍ سِوَاهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْجِهَادِ، أَتْبَعَهُ بِعِقَابِ مَنْ قَعَدَ عَنِ الْجِهَادِ وَسَكَنَ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: التَّوَفِّي هُنَا قَبْضُ الْأَرْوَاحِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَشْرُ إِلَى النَّارِ. وَالْمَلَائِكَةُ هُنَا قِيلَ: مَلَكُ الْمَوْتِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدَةِ تَفْخِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «1» هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ وَهُمْ: سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَلَاثَةٌ لِأَرْوَاحِ الْكَافِرِينَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ «2» وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ، وَقُعُودِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ حِينَ رَجَعُوا لِلْقِتَالِ، أَوْ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِشَكِّهِمْ، أَوْ بِإِعَانَةِ الْمُشْرِكِينَ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ: وَتَوَفَّاهُمْ: مَاضٍ لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَوَفَّتْهُمْ، وَلَمْ يُلْحِقْ تَاءَ التَّأْنِيثِ لِلْفَصْلِ، وَلِكَوْنِ تَأْنِيثِ الْمَلَائِكَةِ مَجَازًا أَوْ مُضَارِعٌ، وَأَصْلُهُ تَتَوَفَّاهُمْ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ: تُوَفَّاهُمْ بِضَمِّ التَّاءِ مُضَارِعُ وَفَّيْتُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يُوَفِّي الْمَلَائِكَةَ أَنْفُسَهُمْ فَيَتَوَفَّوْنَهَا، أَيْ: يُمَكِّنُهُمْ مِنَ اسْتِيفَائِهَا فَيَسْتَوْفُونَهَا. وَالضَّمِيرُ فِي قَالُوا لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَالرَّابِطُ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، التقدير: قَالُوا لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَالْمَعْنَى: فِي أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دينكم؟ وقيل: من أَحْوَالَ الدُّنْيَا، وَجَوَابُهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ اعْتِذَارٌ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَإِقَامَتِهِمْ بِدَارِ الْكُفْرِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ وُقُوعُ قَوْلِهِ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: فِيمَ كُنْتُمْ؟ وَكَانَ حَقُّ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا: كُنَّا فِي كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ، التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَقَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعْتِذَارًا مِمَّا وُبِّخُوا بِهِ، وَاعْتِلَالًا بِالِاسْتِضْعَافِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْهِجْرَةِ حَتَّى يَكُونُوا فِي شَيْءٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فِيمَ كُنْتُمْ عَلَى الْمَعْنَى، لَا عَلَى اللَّفْظِ. لِأَنَّ مَعْنَى: فِيمَ كُنْتُمْ فِي أَيِّ حَالٍ مَانِعَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ كُنْتُمْ، قَالُوا: كنا مستضعفين أي

_ (1) سورة السجدة: 32/ 11. (2) سورة الأنعام: 6/ 61.

فِي حَالَةِ اسْتِضْعَافٍ فِي الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَا نَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَهُوَ جَوَابٌ كَذِبٌ، وَالْأَرْضُ هُنَا أَرْضُ مَكَّةَ. قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها هَذَا تَبْكِيتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَرَدٌّ لِمَا اعْتَذَرُوا بِهِ. أَيْ لَسْتُمْ مُسْتَضْعَفِينَ، بَلْ كَانَتْ لَكُمُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى بَعْضِ الْأَقْطَارِ فَتُهَاجِرُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِالْمُهَاجِرِينَ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ لَحِقُوا بَعْدُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَمَعْنَى فَتُهَاجِرُوا فِيهَا أَيْ: فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِهَا، بِحَيْثُ تَأْمَنُونَ عَلَى دِينِكُمْ. وَقِيلَ: أَرْضُ اللَّهِ أَيِ الْمَدِينَةُ. وَاسِعَةً آمِنَةً لَكُمْ مِنَ الْعَدُوِّ فَتَخْرُجُوا إِلَيْهَا. وَهَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي قِتَالٍ فَقُتِلُوا؟ أَوْ مُنَافِقُونَ، أَوْ مُشْرِكُونَ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الثَّالِثُ قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بَعْدَ تَوَفِّي أَرْوَاحِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَمْ يُقَلْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرُوا فِي الصَّحَابَةِ لِشِدَّةِ مَا وَاقَعُوهُ، وَلِعَدَمِ تَعَيُّنِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَاحْتِمَالِ رِدَّتِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ كَافِرًا حَتَّى يُهَاجِرَ، إِلَّا مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلًا انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأُصُولُ أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أُولَئِكَ كَافِرٌ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ عَلَى جِهَةِ الْخُلُودِ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَمَاتَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، أَوْ أُخْرِجَ كُرْهًا فَقُتِلَ، عَاصٍ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ دُونَ خُلُودٍ. وَلَا حُجَّةَ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَعَاصِي. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ فِي بَلَدٍ كَمَا يُحِبُّ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ وَإِنْ كَانَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ اسْتَوْجَبْتُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَكَانَ رَفِيقَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً الْفَاءُ لِلْعَطْفِ، عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ. وَقِيلَ: فَأُولَئِكَ خَبَرُ إِنَّ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ إِنَّ تَشْبِيهًا لِاسْمِهَا بِاسْمِ الشَّرْطِ، وَقَالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ حَالٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ صِفَةٌ لِظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ قَائِلًا لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: فِيمَ كُنْتُمْ؟ وَقِيلَ: خَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هَلَكُوا، ثُمَّ فَسَّرَ الْهَلَاكَ بِقَوْلِهِ: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا مِنَ الرِّجَالِ جَمَاعَةٌ، كَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي زَمْعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَمِنَ النِّسَاءِ جَمَاعَةٌ: كَأُمِّ الفضل أمامة بنت الحرث أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنَ الْوِلْدَانِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. فَإِنْ أُرِيدَ بِالْوِلْدَانِ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ الْبَالِغُونَ فَلَا إِشْكَالَ فِي دُخُولِهِمْ

فِي الْمُسْتَثْنَيْنَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْوِلْدَانِ الْأَطْفَالُ فَهُمْ لَا يَكُونُونَ إِلَّا عَاجِزِينَ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ وَعِيدٌ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَدْ يَكُونُونَ عَاجِزِينَ، وَقَدْ يَكُونُونَ غَيْرَ عَاجِزِينَ. وَإِنَّمَا ذُكِرُوا مَعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَجْزَهُمْ هُوَ عجزهم لِآبَائِهِمُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لِأَنَّ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَجْزِ وعدم الحنكة وكون الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَشْغُولِينَ بِأَطْفَالِهِمْ، مَشْغُوفِينَ بِهِمْ، فَيَعْجِزُونَ عَنِ الْهِجْرَةِ بِسَبَبِ خَوْفِ ضَيَاعِ أَطْفَالِهِمْ وَوِلْدَانِهِمْ. فَذِكْرُ الْوِلْدَانِ فِي الْمُسْتَثْنَيْنَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَعْظَمِ طَرْقِ الْعَجْزِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لِأَنَّ طُرُقَ الْعَجْزِ لَا تَنْحَصِرُ، فَنَبَّهَ بِذِكْرِ عَجْزِ الْوِلْدَانِ عَلَى قُوَّةِ عَجْزِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ بِسَبَبِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمُرَاهِقُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ عَقَلُوا مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَيَلْحَقُوا بِهِمْ فِي التَّكْلِيفِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ لَا يَلْحَقُ بِالْمُكَلَّفِ أَصْلًا، وَلَا وَعِيدَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُكَلَّفْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً إِلَى الْخُرُوجِ، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «1» . قَالَ غَيْرُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأُولَئِكَ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَعَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «2» إِلَى آخِرِهِ يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي مَأْوَاهُمْ إِلَيْهِمْ. وَهُمْ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ إِمَّا كَفَّارٌ، وَإِمَّا عُصَاةٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْهِجْرَةِ وَهُمْ قَادِرُونَ، فَلَمْ يَنْدَرِجْ فِيهِمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ الْمُسْتَثْنَوْنَ لِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. الْحِيلَةُ: لَفْظٌ عَامٌّ لِأَنْوَاعِ أَسْبَابِ التَّخَلُّصِ. وَالسَّبِيلُ هُنَا طَرِيقُ الْمَدِينَةِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ. وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ السُّبُلِ، يَعْنِي الْمُخَلِّصَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ انْتَهَى. وَقِيلَ: لَا يَعْرِفُونَ طَرِيقًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ وَالْجُمَلُ نَكِرَاتٌ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي انتهى كلامه.

_ (1) سورة النساء: 4/ 97. (2) سورة النساء: 4/ 97.

وَهُوَ تَخْرِيجٌ ذَهَبَ إِلَى مِثْلِهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» وَهُوَ هَدْمٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ: بِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالنَّكِرَةِ، وَالْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: الْمُسْتَضْعَفِينَ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: «إِلَّا الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فَجَاءَ بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ الِاسْتِضْعَافَ يَكُونُ بِوُجُوهٍ، فَبَيَّنَ جِهَةَ الِاسْتِضْعَافِ النَّافِعِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْهِجْرَةِ وَهِيَ عَدَمُ اسْتِطَاعَةِ الْحِيلَةِ وَعَدَمُ اهْتِدَاءِ السَّبِيلِ. وَالثَّانِي مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِيلَةِ الَّتِي يَتَخَلَّصُ بِهَا انْتِفَاءُ اهْتِدَاءِ السَّبِيلِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ: وَيُقَالُ: جُنْدُعٌ بِالْعَيْنِ، أَوْ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي فَإِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِنِّي لَأَهْتَدِي الطَّرِيقَ، وَاللَّهِ لَا أَبِيتُ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ، فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ عَسَى: كَلِمَةُ إِطْمَاعٍ وَتَرْجِيَةٍ، وَأَتَى بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةً، دَلَالَةً عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْهِجْرَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ لَا فُسْحَةَ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُضْطَرَّ الْبَيِّنَ الِاضْطِرَارِ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَأَنَّهُ وَعَدَهُمْ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرَتْ لَكُمْ» . وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً تَأْكِيدٌ فِي وقوع عَفْوِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَرَجَّى هُوَ وَاقِعٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَكْثَمِ بْنِ صَيْفِيِّ، وَلَمَّا رَغَّبَ تَعَالَى فِي الْهِجْرَةِ ذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ وُجُودِ السَّعَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْكَثِيرَةِ، لِيَذْهَبَ عَنْهُ مَا يَتَوَهَّمُ وُجُودَهُ فِي الْغُرْبَةِ وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ، وَهَذَا مُقَرَّرُ مَا قَالَتْهُ الْمَلَائِكَةُ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «2» . وَمَعْنَى مُرَاغَمًا: مُتَحَوَّلًا وَمَذْهَبًا قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، والربيع، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُزَحْزَحُ عَمَّا يَكْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُهَاجَرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُبْتَغَى لِلْمَعِيشَةِ. وَقَرَأَ الْجَرَّاحُ، ونبيح، والحسن بن عمران: مَرْغَمًا عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ كمذهب. قال

_ (1) سورة يس: 36/ 37. (2) سورة النساء: 4/ 97.

ابْنُ جِنِّيٍّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ مِنْ رَاغَمَ. وَالسِّعَةُ هُنَا فِي الرِّزْقِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَعَةٌ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْقِلَّةِ إِلَى الْغِنَى. وَقَالَ مَالِكٌ: السِّعَةُ سَعَةُ الْبِلَادِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُشْبِهُ لِفَصَاحَةِ الْعَرَبِ أَنْ يُرِيدَ سَعَةَ الْأَرْضِ وَكَثْرَةَ الْمَعَاقِلِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَاتِّسَاعِ الصَّدْرِ عَنْ هُمُومِهِ وَفِكْرِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْفَرَحِ، وَنَحْوُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَكَانَ لِي مُضْطَرَبٌ وَاسِعٌ ... فِي الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ والعرش انْتَهَى. وَقَدَّمَ مُرَاغَمَةَ الْأَعْدَاءِ عَلَى سَعَةِ الْعَيْشِ، لِأَنَّ الِابْتِهَاجَ بِرَغْمِ أُنُوفِ الْأَعْدَاءِ لِسُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ أَشَدُّ مِنْ الِابْتِهَاجِ بِالسَّعَةِ. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ ضَمْرَةَ وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ قَبْلُ. وَقِيلَ: فِي ضَمْرَةِ بْنِ بَغِيضٍ. وَقِيلَ: أَبُو بَغِيضٍ ضَمْرَةُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْخُزَاعِيُّ. وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ حَرَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ أَخُو حَكِيمِ بْنِ حَرَامٍ خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ. وَقِيلَ: ضَمْرَةُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ نُعَيْمٍ. وَقِيلَ: ضَمْرَةُ بْنُ خُزَاعَةَ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ هَاجَرَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَسَخِرَ مِنْهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: لَا هُوَ بَلَغَ مَا يُرِيدُ، وَلَا هُوَ أَقَامَ فِي أَهْلِهِ حَتَّى دُفِنَ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ بَغِيضٍ، أَوْ بَغِيضُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ الزِّنْبَاعِ، لِأَنَّ عِكْرِمَةَ سَأَلَ عَنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَصَحَّحَهُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي ثُبُوتِ الْأَجْرِ وَلُزُومِهِ، وَوُصُولِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَتَكْرِيمًا، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْوُقُوعِ مُبَالَغَةً. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: ثُمَّ يُدْرِكْهُ بِرَفْعِ الْكَافِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: ثُمَّ هُوَ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ، فَعَطَفَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْزُومِ، وَفَاعِلِهِ. وَعَلَى هَذَا حَمَلَ يُونُسُ قَوْلَ الْأَعْشَى: إِنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الْخَيْرِ عَادَتُنَا ... أَوْ تَنْزِلُونَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ الْمُرَادُ: أَوْ أَنْتُمْ تَنْزِلُونَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْآخَرِ: إِنْ تُذْنِبُوا لم يَأْتِينِي نَعِيقُكُمْ ... فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ عِنْدِكُمْ قُوتُ الْمَعْنَى: ثُمَّ أَنْتُمْ يَأْتِينِي نَعِيقُكُمْ. وَهَذَا أَوْجَهُ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَلَمْ يَأْتِيكَ انْتَهَى. وَخُرِّجَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ رَفْعَ الْكَافِ مَنْقُولٌ مِنَ الْهَاءِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَاءِ إِلَى الْكَافِ كَقَوْلِهِ:

مِنْ عُرَى سَلْبِي لَمْ أَضْرِبُهُ يُرِيدُ: لَمْ أَضْرِبْهُ، فَنَقَلَ حَرَكَةَ الْهَاءِ إِلَى الْبَاءِ الْمَجْزُومَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَنُبَيْحٌ، وَالْجَرَّاحُ: ثُمَّ يُدْرِكَهُ بِنَصْبِ الكاف، وذلك على إضماران كَقَوْلِ الْأَعْشَى: وَيَأْوِي إِلَيْهَا الْمُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا لَيْسَ بِالسَّهْلِ، وَإِنَّمَا بَابُهُ الشِّعْرُ لَا الْقُرْآنُ وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ فِيهِ: سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ ... وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا وَالْآيَةُ أَقْوَى مِنْ هَذَا لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْمَعْطُوفِ انْتَهَى. وَتَقُولُ: أَجْرَى ثُمَّ مُجْرَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ، فَكَمَا جَازَ نَصْبُ الْفِعْلِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَهُمَا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، كَذَلِكَ جَازَ فِي ثُمَّ إِجْرَاءُ لَهَا مُجْرَاهُمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الْفَاءِ: وَمَنْ لَا يُقَدِّمْ رِجْلَهُ مُطَمْئِنَةً ... فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوَى الْقَاعِ يَزْلَقُ وَقَالَ آخَرُ فِي الْوَاوِ: وَمَنْ يَقْتَرِبْ مِنَّا وَيُخْضِعْ نوؤه ... وَلَا يَخْشَ ظُلْمًا مَا أَقَامَ وَلَا هَضْمًا وَقَالُوا: كُلُّ هِجْرَةٍ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ مِنْ: طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ جِهَادٍ، أَوْ فِرَارٍ إِلَى بَلَدٍ يَزْدَادُ فِيهِ طَاعَةً، أَوْ قَنَاعَةً، وَزُهْدًا فِي الدُّنْيَا، أَوِ ابْتِغَاءَ رِزْقٍ طَيِّبٍ، فَهِيَ هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَجْرُهُ واقع عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَمَاتَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَلَهُ سَهْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْحَرْبَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يُحْرَمِ الْأَجْرَ لَمْ يُحْرَمِ الْغَنِيمَةَ. وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ، فَالسَّهْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحِيَازَةِ، وَهَذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمَ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَمَا دَخَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا وَقَعَ أَجْرُ الَّذِي خَرَجَ مُهَاجِرًا فَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ دَارَ الْهِجْرَةِ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ: غَفُورًا لِمَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ، رَحِيمًا بِوُقُوعِ أَجْرِهِ عَلَيْهِ وَمُكَافَأَتِهِ عَلَى هِجْرَتِهِ وَنِيَّتِهِ.

[سورة النساء (4) : الآيات 101 إلى 102]

وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ. مِنْهَا الِاسْتِعَارَةُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، اسْتَعَارَ الضَّرْبَ لِلسَّعْيِ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَالسَّبِيلَ لِدِينِهِ، وَفِي: لَا يَسْتَوِي عَبَّرَ بِهِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ عَنِ التَّسَاوِي فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَفِي: دَرَجَةِ حَقِيقَتِهَا فِي الْمَكَانِ فَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَى التَّفْضِيلَ، وَفِي: يُدْرِكْهُ اسْتَعَارَ الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ مَنْ فِيهِ حَيَاةٌ لِحُلُولِ الْمَوْتِ، وَفِي: فَقَدْ وَقَعَ اسْتَعَارَ الْوُقُوعَ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْإِجْرَامِ لِثُبُوتِ الْأَجْرِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي: فتبينوا، وفي: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: مَغْفِرَةً وغفورا. وَالْمُغَايِرُ فِي: أَنْ يَعْفُوَ عنهم وعفوا، وفي: يهاجر ومهاجرا. وَإِطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي: تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنه مَلَكُ الْمَوْتِ وَحْدَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّوْبِيخُ فِي: فِيمَ كُنْتُمْ، وَفِي: أَلَمْ تَكُنْ. وَالْإِشَارَةُ فِي كَذَلِكَ وَفِي: فَأُولَئِكَ. وَالسُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي: فِيمَ كُنْتُمْ وَمَا بَعْدَهَا. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. [سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) السلاح: معروف وما هو مَا يَتَحَصَّنُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَخِنْجَرٍ وَدَبُّوسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ، يُجْمَعُ عَلَى أَسْلِحَةٍ، وَأَفْعِلَةٍ جَمْعَ فِعَالٍ. الْمُذَكَّرِ نَحْوَ: حِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ. قَالَ الطِّرِّمَاحُ: يَهُزُّ سَلَاحًا لَمْ يَرِثْهَا كَلَالَةً ... يَشُكُّ بِهَا مِنْهَا غُمُوضَ الْمَغَابِنِ

وَقَالَ اللَّيْثَ: يُقَالُ لِلسَّيْفِ وَحْدَهُ سِلَاحٌ، وَلِلْعَصَا وَحْدَهَا سِلَاحٌ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: يُقَالُ: السِّلَاحُ، وَالسِّلْحُ، وَالْمَسْلَحُ، وَالْمُسْلَحَانُ، يَعْنِي: عَلَى وَزْنِ الْحِمَارِ، وَالضِّلْعِ، وَالنَّعْرِ، وَالسُّلْطَانِ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ سَالِحٌ إِذَا كَانَ مَعَهُ السِّلَاحُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السِّلَاحُ مَا قُوتِلَ بِهِ. وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسَفَانَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَصَبْنَا غِرَّةً لَوْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْقَصْرِ فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ . وَالظَّاهِرُ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَاخْتَلَفَتْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي حَدِّ الْمَسَافَةِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: تُقْصَرُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ، وَحَكَاهُ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَقَصَرَ أَنَسٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ نَوْعُ سَفَرٍ، بَلْ يَكْفِي مُطْلَقُ السَّفَرِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي طَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ لَا يُقْصَرُ إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي سَفَرِ طَاعَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى الْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَمَا ضَارَعَهَا مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ، وَإِحْيَاءِ نَفْسٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَالْبَاغِي، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ إِلَّا حَتَّى يَتَّصِفَ بِالسَّفَرِ بِالْفِعْلِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَسَافَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَا زَمَانٍ. وَرُوِيَ عن الحرث بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنَّهُ أَرَادَ سَفَرًا فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فِي مَنْزِلِهِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ يَوْمَهُ الْأَوَّلَ حَتَّى اللَّيْلِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنَّ الْقَصْرَ مُبَاحٌ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ: سُنَّةٌ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: فُرِضَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَقْصُرُوا، مُطْلَقٌ فِي الْقَصْرِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مِقْدَارِ مَا يَنْقُصُ مِنْهَا. فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ

إِلَى أَنَّهُ قَصْرٌ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى اثْنَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَةٍ، وَالرَّكْعَتَانِ فِي السَّفَرِ تَمَامٌ. إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ظَاهِرُهُ أَنَّ إِبَاحَةَ الْقَصْرِ مَشْرُوطَةٌ بِالْخَوْفِ الْمَذْكُورِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ مِنْ رَكْعَتِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَةٍ، شَرَطَ الْخَوْفَ، وَقَالَ: تُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُرَادُ بِالْقَصْرِ الصَّلَاةُ هُنَا الْقَصْرُ مِنْ رَكْعَتَيْهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ القصر من هيآتها بِتَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الْإِيمَاءِ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ إِلَى الرُّكُوعِ، وَرُوِيَ فِعْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وطاووس. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُبِيحَةٌ الْقَصْرَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ وَهَيْآتِهَا عِنْدَ الْمُسَايَفَةِ وَاشْتِعَالِ الْحَرْبِ، فَأُبِيحَ لِمَنْ هَذِهِ حَالَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِيمَاءً بِرَأْسِهِ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً حَيْثُ تَوَجَّهَ إِلَى رَكْعَتَيْنِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ «1» أَيْ بِحُدُودِهَا وَهَيْآتِهَا الْكَامِلَةِ. وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ، وَحَدِيثُ يَعْلَى فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ صَحِيحٌ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا هِيَ التَّعَرُّضُ بِمَا يَكْرَهُ مِنْ قِتَالٍ وَغَيْرِهِ. وَلُغَةُ الْحِجَازِ: فَتَنَ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ وَرَبِيعَةَ وَقَيْسٍ: أَفْتَنَ رُبَاعِيًّا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: قَصَرَ مِنْ صَلَاتِهِ قصر، أَنْقَصَ مِنْ عَدَدِهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَصَرَ وَأَقْصَرَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ تَقْصُرُوا رُبَاعِيًّا، وَبِهِ قَرَأَ الضَّبِّيُّ عَنْ رِجَالِهِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تَقْصُرُوا مُشَدَّدًا، وَمَنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَقِيلَ: زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: الشَّرْطُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِقَصْرِ الصَّلَاةِ، بَلْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ حُكْمُ الْخَوْفِ. وَيُؤَيِّدُهُ عَلَى قَوْلٍ: أَنَّ تُجَّارًا قَالُوا: إِنَّا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ فَنَزَلَتْ: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ انْقَطَعَ الْكَلَامُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ فِي غَزَاةِ بَنِي أَسَدٍ حِينَ صُلِّيَتِ الظُّهْرُ قَالَ بَعْضُ الْعَدُوِّ: هَلَّا شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ وَقَدْ مَكَّنُوكُمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّ لَهُمْ بَعْدَهَا صَلَاةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَنَزَلَتْ: إِنْ خِفْتُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- عَذاباً مُهِيناً صَلَاةُ الْخَوْفِ. وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ الشَّرْطَ بِمَا قَبْلَهُ كَانَ جَوَازُ الْقَصْرِ مَعَ الْأَمْنِ مُسْتَفَادًا مِنْ السُّنَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ لَا يَلْزَمُ، وَمَتَى اسْتَقَامَ اللَّفْظُ وَتَمَّ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ مَحْذُورِ النَّسْخِ كَانَ أَوْلَى انْتَهَى.

_ (1) سورة النساء: 4/ 103.

وَلَيْسَ هَذَا بِنَسْخٍ، إِنَّمَا فِيهِ عَدَمُ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَزِيزٌ إِذَا حَلَّ الْخَلِيقَانِ حَوْلَهُ ... بِذِي لُحْبِ لَجْأَتِهِ وَضَوَاهِلِهْ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ: أَنْ تقصروا من الصلاة إن يَفْتِنَكُمْ، بِإِسْقَاطِ إِنْ خِفْتُمْ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْ: مَخَافَةَ أَنْ يَفْتِنَكُمْ. وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ بِالشَّدَائِدِ. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً عَدُوٌّ: وَصْفٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. قَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ، وَمَعْنَى مُبِينًا: أَيْ مُظْهِرًا لِلْعَدَاوَةِ، بِحَيْثُ إِنَّ عَدَاوَتَهُ لَيْسَتْ مَسْتُورَةً، وَلَا هُوَ يُخْفِيهَا، فَمَتَى قَدَرَ عَلَى أَذِيَّةٍ فَعَلَهَا. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من لَا يَرَى صَلَاةَ الْخَوْفِ بَعْدَ الرَّسُولِ حَيْثُ شَرَطَ كَوْنَهُ فِيهِمْ، وَكَوْنَهُ هُوَ الْمُقِيمَ لَهُمُ الصَّلَاةَ. وَهُوَ مَذْهَبُ: ابْنِ عُلَيَّةَ، وَأَبِي يُوسُفَ. لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِإِمَامَتِهِ لَا عِوَضَ عَنْهَا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْعِوَضِ، فَيُصَلِّي النَّاسُ بِإِمَامَيْنِ طَائِفَةً بَعْدَ طَائِفَةٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْخِطَابُ لَهُ يَتَنَاوَلُ الْأُمَرَاءَ بَعْدَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهِمْ، عَائِدٌ عَلَى الْخَائِفِينَ. وَقِيلَ: عَلَى الضَّارِبِينَ فِي الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي السَّفَرِ، وَلَا تَكُونُ فِي الْحَضَرِ، وَإِنْ كَانَ خَوْفٌ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْحَضَرَ إِذَا كَانَ خَوْفٌ كَالسَّفَرِ. وَمَعْنَى: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، أَقَمْتَ حُدُودَهَا وَهَيْآتِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى فَأَقَمْتَ بِهِمْ. وَعَبَّرَ بِالْإِقَامَةِ إِذْ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْمُصَلِّي فِي قَوْلٍ: عَنْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى: فَلْتَقُمْ هُوَ مِنَ الْقِيَامِ، وَهُوَ الْوُقُوفُ. وَقِيلَ: فَلْتَقُمْ بِأَمْرِ صَلَاتِهَا حَتَّى تَقَعَ عَلَى وَفْقِ صَلَاتِكَ، مَنْ قَامَ بِالْأَمْرِ اهْتَمَّ بِهِ وَجَعَلَهُ شُغْلَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ عَائِدٌ عَلَى طَائِفَةٍ لِقُرْبِهَا مِنَ الضَّمِيرِ، وَلِكَوْنِهَا لَهَا فِيمَا بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا سَجَدُوا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الْحَارِسَةُ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ. وَقَالَ النَّحَاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ أَهَيْبُ لِلْعَدُوِّ: فَإِذَا سَجَدُوا أَيْ: هَذِهِ الطَّائِفَةُ. وَمَعْنَى سَجَدُوا: صَلَّوْا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» أَيْ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.

«فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَلْيَكُونُوا عَائِدٌ عَلَى السَّاجِدِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا فَرَغُوا مِنَ السُّجُودِ انْتَقَلُوا إِلَى الْحِرَاسَةِ فَكَانُوا وَرَاءَكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلْيَكُونُوا يَعْنِي: غَيْرَ الْمُصَلِّينَ مِنْ وَرَائِكُمْ يَحْرُسُونَكُمْ، وَجَوَّزَ الْوَجْهَيْنِ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ سَجَدُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الْقَائِمَةُ أَوَّلًا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: فَلِتَقُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَلِيَأْتِ بِيَاءٍ بِثِنْتَيْنِ تَحْتَهَا عَلَى تَذْكِيرِ الطَّائِفَةِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، فِي إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الطَّاءِ. وفي قوله: فلتأت طَائِفَةٌ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمُ انْقَسَمُوا طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ حَارِسَةٌ أَوَّلًا، وَطَائِفَةٌ مُصَلِّيَةٌ أَوَّلًا مَعَهُ، ثُمَّ الَّتِي صَلَّتْ أَوَّلًا صَارَتْ حَارِسَةً، وَجَاءَتِ الْحَارِسَةُ أَوَّلًا فَصَلَّتْ مَعَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ فِيهِ اطْمِئْنَانَ الْمُصَلِّي، وَبِهِ قَالَ: الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بَعْضَ صَلَاةٍ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مِقْدَارِ مَا صَلَّتْ مَعَهُ، وَلَا كَيْفِيَّةِ إِتْمَامِهِمْ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ مَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ. الْكَيْفِيَّةُ الْأُولَى: صَلَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَثَبَتَتْ قَائِمَةً حَتَّى تَتِمَّ صَلَاتُهُمْ وَيَذْهَبُوا وُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الَّتِي كَانَتْ وُجَاهَ الْعَدُوِّ أَوَّلًا فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا حَتَّى أَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ، وَهَذِهِ كَانَتْ بِذَاتِ الرِّقَاعِ. الْكَيْفِيَّةُ الثَّانِيَةُ: كَالْأُولَى، إِلَّا أَنَّهُ حِينَ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأَخِيرَةِ رَكْعَةً سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَتْ بَعْدَ سَلَامِهِ. وَهَذِهِ مَرْوِيَّةٌ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ أَيْضًا. الْكَيْفِيَّةُ الثَّالِثَةُ: صَفَّ الْعَسْكَرَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، ثُمَّ كَبَّرَ وَكَبَّرُوا جَمِيعًا، وَرَكَعُوا مَعَهُ، وَرَفَعُوا مِنَ الرُّكُوعِ جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ هُوَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا سَجَدَ الْآخَرُونَ فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا إِلَى مَصَافِّ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمُونَ إِلَى مَصَافِّ الْمُتَأَخِّرِينَ، ثُمَّ رَكَعُوا مَعَهُ جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، فَلَمَّا صَلَّى سَجَدَ الْآخَرُونَ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا. وَهَذِهِ صَلَاتُهُ بِعُسَفَانَ وَالْعَدُوُّ فِي قِبْلَتِهِ. الْكَيْفِيَّةُ الرَّابِعَةُ: مِثْلَ هَذَا إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَنْكُصُ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ الْقَهْقَرَى حِينَ يرفعون رؤوسهم مِنَ السُّجُودِ، وَيَتَقَدَّمُ الْآخَرُ فَيَسْجُدُونَ فِي مَصَافِّ الْأَوَّلِينَ. الْكَيْفِيَّةُ الْخَامِسَةُ: صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالْأُخْرَى مُوَاجَهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً فِي حِينٍ وَاحِدٍ. الْكَيْفِيَّةُ السَّادِسَةُ: يُصَلِّي بِطَائِفَةٍ

رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ تُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَتَقُومُ الَّتِي مَعَهُ تَقْضِي، فَإِذَا فَرَغُوا سَارُوا تُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَقَضَتِ الْأُخْرَى. الْكَيْفِيَّةُ السَّابِعَةُ: صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضِ أَحَدٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. الْكَيْفِيَّةُ الثَّامِنَةُ: صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ لَهُ أَرْبَعٌ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ رَكْعَتَانِ. الْكَيْفِيَّةُ التَّاسِعَةُ: يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً إِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَقِفُ هَذِهِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَتَأْتِي الْأُولَى فَتُؤَدِّي الرَّكْعَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَتُتِمُّ صَلَاتَهَا ثُمَّ تَحْرُسُ، وَتَأْتِي الْأُخْرَى فَتُؤَدِّي الرَّكْعَةَ بِقِرَاءَةٍ وَتُتِمُّ صِلَاتَهَا، وَكَذَا فِي الْمَغْرِبِ. إِلَّا أَنَّهُ يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً. الْكَيْفِيَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ وَظُهُورُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَتِ الطَّائِفَتَانِ مَعَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعَ مَعَهُ الَّذِينَ مَعَهُ وَسَجَدُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَصَارَتِ الَّتِي مَعَهُ إِلَى إِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَقْبَلَتِ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَهُوَ قَائِمٌ كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا فَرَكَعَ رَكْعَةً أُخْرَى وَرَكَعُوا مَعَهُ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَهُوَ قَاعِدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمَ الطَّائِفَتَانِ مَعَهُ جَمِيعًا. وَهَذِهِ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ نَجْدٍ. الْكَيْفِيَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ كَانَتْ بِبَطْنِ نَخْلٍ. وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ يَرُدُّ عَلَى مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مَا صَلَّى الرَّسُولُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَمُرَّةً بِعُسَفَانَ وَالْمُشْرِكُونَ بِضِخْيَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ. وَذَكَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذِي قُرَدٍ صَلَاةُ الْخَوْفِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً ، يَعْنِي كَيْفِيَّةً. وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ: لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَّا حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، فَعَلَى أَيِّ حَدِيثٍ صَلَّيْتَ أَجْزَأَ. وَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَجَمَعَ فِي الْأَخْذِ بَيْنَ الْحَذَرِ وَالْأَسْلِحَةِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحَذَرَ أَنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهَا كَمَا يُحْتَرَزُ بِالْأَسْلِحَةِ كَمَا جَاءَ: تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ «1» جَعَلَ الْإِيمَانَ مُسْتَقِرًّا لِتَمَكُّنِهِمْ فِيهِ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَوْ بَعْدَ وَدَّ فِي قَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ «2» أَيْ: يَشُدُّونَ عَلَيْكُمْ شِدَّةً وَاحِدَةً. وقرى: وَأَمْتِعَاتِكُمْ، وَهُوَ شَاذٌّ إِذْ هُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ كَمَا قَالُوا: أَشَقِيَاتٌ وَأُعْطِيَاتٌ فِي

_ (1) سورة الحشر: 59/ 9. (2) سورة البقرة: 2/ 96.

[سورة النساء (4) : الآيات 103 إلى 113]

أَشَقِيَةٍ وَأُعْطِيَةٍ، جَمْعُ شَقَاءٍ وَعَطَاءٍ. وَفِي هَذَا الْإِخْبَارِ تَنْبِيهٌ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَأَفْرَدَ الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْإِيصَالِ. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، كَانَ مَرِيضًا فَوَضَعَ سِلَاحَهُ فَعَنَّفَهُ بَعْضُ النَّاسِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَاتَانِ الْحَالَتَانِ مِمَّا يَشُقُّ حَمْلُ السِّلَاحِ فِيهِمَا، وَرُخِّصَ فِي ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ لِأَنَّ حَمْلَهُ السِّلَاحَ مِمَّا يُكْرَهُ بِهِ وَيَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَرُخِّصَ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ مَطَرٌ، لِأَنَّ الْمَطَرَ مِمَّا يُثْقِلُ الْعَدُوَّ وَيَمْنَعُهُ مِنْ خِفَّةِ الْحَرَكَةِ لِلْقِتَالِ. وَقَالَ: إِنْ يَتَأَذَّوْا مِنْ مَطَرٍ إِلَّا لَحِقَ الْكُفَّارَ مِنْ أَذَاهُ مَا لَحِقَ الْمُسْلِمِينَ غَالِبًا إِنْ كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْمَسَافَةِ ومرضا إِمَّا لِجِرَاحَةٍ سَبَقَتْ، أَوْ لِضَعْفِ بِنْيَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مَرَضًا، وَتَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الْحَذَرِ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَوْكِيدِ التَّأَهُّبِ وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْجَيْشَ كَثِيرًا مَا يُصَابُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي الْحَذَرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ، أَيْ: تَقَلَّدُوا سُيُوفَكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَذَرَ الْغُزَاةَ. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ مِنَ الْعَدُوِّ يُوهِمُ تَوَقُّعَ غَلَبَةٍ وَاغْتِرَارٍ، فَنَفَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الْإِيهَامَ بِإِخْبَارِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُهِينُ عَدُوَّهُمْ، وَيَخْذُلُهُمْ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِ لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَذَرِ لَيْسَ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدٌ مِنَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1» . [سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 113] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)

_ (1) سورة البقرة: 2/ 195.

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الظَّاهِرُ: أَنَّ مَعْنَى قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ أَيَّ فَرَغْتُمْ مِنْهَا، وَالصَّلَاةُ هُنَا صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالذِّكْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ إِثْرَ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى حَدِّ مَا أُمِرُوا بِهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَأُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ مِنَ: التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ، وَالتَّأْيِيدِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ ارْتِقَابِ مُقَارَعَةِ الْعَدُوِّ، حَقِيقٌ بِالذِّكْرِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ. أَيْ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَيْ أَتِمُّوهَا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ: تَلَبَّسْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَشَرَعْتُمْ فِيهَا. وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ أَيْ: صَلُّوهَا قِيَامًا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، وَقُعُودًا جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ مِنْ أَنِينٍ، وَعَلَى جُنُوبِكُمْ مُثْخَنِينَ بِالْجِرَاحِ، فَهِيَ هَيْآتٌ لِأَحْوَالٍ عَلَى حَسَبِ تَفْصِيلِهَا. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ حِينَ تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَآمَنْتُمْ، فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَيْ: فَاقْضُوا مَا صَلَّيْتُمْ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ أَحْوَالُ الْقَلَقِ وَالِانْزِعَاجِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، وَالْمَشْيِ وَالِاضْطِرَابِ فِي الْمَعْرَكَةِ إِذَا حَضَرَ وَقْتُهَا، فَإِذَا اطْمَأَنَّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ،

وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِهَا إِلَى أَنْ يَطْمَئِنَّ. وَقِيلَ: قوله: فإذا قضيتم الصلاة فَاذْكُرُوا، أَنَّهُ أَمْرٌ بِالصَّلَاةِ حاله إلا من بَعْدِ الْخَوْفِ قِيَامًا لِلْأَصِحَّاءِ، وقعودا للعاجزين عن القيام، وعلى جنوبكم العاجزين عَنِ الْقُعُودِ لِزَمَانَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْقُعُودَ مَعَهَا، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أَيْ: أَمِنْتُمْ مِنَ الْخَوْفِ قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَيْ: صَلُّوهَا لَا كَصَلَاةِ الْخَوْفِ، بَلْ كَصَلَاةِ الْأَمْنِ فِي السَّفَرِ. وَقِيلَ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أَيْ: فَإِذَا رَجَعْتُمْ مِنْ سَفَرِكُمْ إِلَى الْحَضَرِ فَأَقِيمُوهَا تَامَّةً أَرْبَعًا. إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «1» أَيْ وَاجِبَةً فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَلَمْ يَقُلْ مَوْقُوتَةً، لِأَنَّ الْكِتَابَ مَصْدَرٌ، فَهُوَ مُذَكَّرٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْنَى فَرْضًا مَفْرُوضًا، فَهُمَا لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ أَيْ: فَرْضًا مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَجْمَلَ هُنَا تِلْكَ الْأَوْقَاتَ وَفَسَّرَهَا فِي أَوْقَاتٍ خَمْسًا، وَتَوْقِيتُهَا بِأَوْقَاتٍ خَمْسَةٍ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْقُولِ، لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَهَا مَرَاتِبُ خَمْسٌ: مَرْتَبَةُ الْحُدُوثِ، وَمَرْتَبَةُ الْوُقُوفِ، وَمَرْتَبَةُ الْكُهُولَةِ وَفِيهَا نُقْصَانٌ خَفِيٌّ، وَمَرْتَبَةُ الشَّيْخُوخَةِ، وَالْخَامِسَةُ: أَنْ تَبْقَى آثَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً ثُمَّ تُمْحَى. وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ حَصَلَتْ لِلشَّمْسِ بِحَسَبِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، فَأَوْجَبَ اللَّهُ عِنْدَ كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ أَحْوَالِهَا الْخَمْسِ صَلَاةً انْتَهَى. مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ وَطَوَّلَ هُوَ كَثِيرًا فِي شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيُطَالِعْهُ فِيهِ. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: فِي انْصِرَافِ الصَّحَابَةِ مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، أَمَرَ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي أُحُدٍ، فَشَكَوْا بِأَنَّ فِيهِمْ جِرَاحَاتٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ إِنَّمَا هُوَ قَضَاءُ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَهِنُوا بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ. فُتِحَتِ الْهَاءُ كَمَا فُتِحَتْ دَالُ يَدَعُ، لأجل حَرْفُ الْحَلْقِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَضْعُفُوا أَوْ تَخُورُوا جُبْنًا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَلَا تُهَانُوا مِنَ الْإِهَانَةِ. نُهُوا عَنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِهَانَتُهُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ يَجْنُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَيُهَانُونَ كَقَوْلِهِمْ: «لَا أَرَيْنَاكَ هَاهُنَا» ، ثُمَّ شَجَّعَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْقَوْمِ وَأَلْزَمْهُمُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 103.

الْحُجَّةَ، فَإِنَّ مَا فِيهِمْ مِنَ الْأَلَمِ مُشْتَرَكٌ، وَتَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ أَنَّكُمْ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابَ وَإِظْهَارَ دِينِهِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ، وَهُمْ لَا يَرْجُونَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا أَشْجَعَ مِنْهُمْ وَأَبْعَدَ عَنِ الْجُبْنِ. وَإِذَا كَانُوا يَصْبِرُونَ عَلَى الْآلَامِ وَالْجِرَاحَاتِ وَالْقَتْلِ، وَهُمْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، فَأَنْتُمْ أَحْرَى إِنْ تَصْبِرُوا. وَنَظِيرُ ذِكْرِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَاتِلُوا الْقَوْمَ يَا خِدَاعُ وَلَا ... يَأْخُذْكُمْ مِنْ قِتَالِهِمْ قَتْلُ الْقَوْمُ أمثالكم لهم شعر ... في الرأس لا ينشرون إن قُتِلُوا وَالرَّجَاءُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْخَوْفُ الَّذِي تَخَافُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا لَا تَخَافُونَ كَقَوْلِهِ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا، أَيْ: لَمْ يَخَفْ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرَّجَاءَ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ إِلَّا مَعَ النَّفْيِ، وَلَا يُقَالُ رَجَوْتُكَ بِمَعْنَى خِفْتُكَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: أَنْ تَكُونُوا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: تِئْلِمُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: تِئْلِمُونَ بِكَسْرِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ فِيهِمَا وَيَائِهِمَا، وَهِيَ لُغَةٌ. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا بِنِيَّاتِكُمْ حَكِيمًا فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ وَيَنْهَاكُمْ عَنْهُ. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَلَخَّصْنَا مِنْهُ انْتِهَاءَ مَا فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، سَرَقَ دِرْعًا في جرب فِيهِ دَقِيقٌ لِقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَخَبَّأَهَا عِنْدَ يَهُودِيٍّ، فَحَلَفَ طُعْمَةُ مَا لِي بِهَا عِلْمٌ، فَاتَّبَعُوا أَثَرَ الدَّقِيقِ إِلَى دَارِ الْيَهُودِيِّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: دَفَعَهَا إِلَيَّ طُعْمَةُ. وَقِيلَ: اسْتَوْدَعَ يَهُودِيٌّ دِرْعًا فَخَانَهُ، فَلَمَّا خَافَ اطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهَا أَلْقَاهَا فِي دَارِ أَبِي مَلِيكٍ الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَقِيلَ: السِّلَاحُ وَالطَّعَامُ كَانَ لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ عَمِّ قَتَادَةَ، وَأَنَّ بَنِي أُبَيْرِقٍ نَقَبُوا مَشْرَبِيَّتَهُ وَأَخَذُوا ذَلِكَ، وَهُمْ بُشَيْرٌ بِضَمِّ الْبَاءِ وَمُبَشِّرٌ وَبِشْرٌ، وأهموا أنّ فاعل ذلك هو لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ، فَشَكَاهُمْ قَتَادَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هَمَّ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ طُعْمَةَ، أَوْ عَنْ أُبَيْرِقٍ، وَيُقَالُ فِيهِ: طُعَيْمَةُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث، إِلَّا ابْنَ بَحْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ «1» انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تشريف لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أراك الله.

_ (1) سورة النساء: 4/ 88.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَاتَّصَلَ بِذَلِكَ أَمَرَ الْمُحَارِبَةَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، رَجَعَ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ خَانُوا الرَّسُولَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ بُشَيْرٌ مُنَافِقًا وَيَهْجُو الصَّحَابَةَ وَيَنْحِلُ الشِّعْرَ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا طُعْمَةُ فَارْتَدَّ، وَأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ عَرَفَ أَنَّ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحِيدَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا طَلَبًا لِرِضَا قَوْمٍ. أَوْ أَنَّهُ لِمَا أَنَّهُ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ مَا لَمْ يَفْعَلُوا بِهِمْ، وَأَنَّ كُفْرَهُ لَا يُبِيحُ الْمُسَامَحَةَ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ، بَلِ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَا يَلْحَقُ بِهِ حَيْفٌ لِأَجْلِ أَنْ يُرْضِيَ الْمُنَافِقَ. وَالْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ. وَمَعْنَى بِالْحَقِّ: أَيْ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا مَيْلَ. وَالنَّاسُ هُنَا عَامٌّ، وَبِمَا أَرَاكَ اللَّهُ بِمَا أَعْلَمَكَ مِنَ الْوَحْيِ. وَقِيلَ: بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ مَحْرُوسٌ فِي اجْتِهَادِهِ، مَعْصُومٌ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: بِمَا أَلْقَاهُ فِي قَلْبِكَ مِنْ أَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ وَصَفَاءِ الْبَاطِنِ. وَعَنْ عُمَرَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِي اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِنَبِيِّهِ، لِأَنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصِيبًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَهُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكْلِيفُ دون الإهمال، أو بماله عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ عَبَثٌ وَبَاطِلٌ» . وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: بِالْحَقِّ أَيْ: مُوَافِقًا لِمَا هُوَ الْحَقُّ عَلَى الْعِبَادِ، وَلِمَا لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ، أَوْ بَيَانًا لِأَمْرِهِ. وَحُقٌّ كَائِنٌ ثَابِتٌ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْقِيَامَةُ، لِيَتَزَوَّدُوا لَهُ. أَوْ بِمَا يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَاعِلُهُ، أَوْ بِالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ عَلَى الْأَمْنِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. بِمَا أَرَاكُ اللَّهُ: فِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اجْتِهَادِهِ، وَاجْتِهَادُهُ كَالنَّصِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيهِ ذَلِكَ أَوْ لَا يُرِيهِ غَيْرَ الصَّوَابِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أَيْ: مُخَاصِمًا، كَجَلِيسٍ بِمَعْنَى مَجَالِسٍ، قَالَهُ: الزَّجَّاجُ وَالْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ خَصَمَ، وَالْخَائِنُونَ جَمْعٌ. فَإِنَّ بَنِي أُبَيْرِقٍ الثَّلَاثَةِ هُمُ الَّذِينَ نَقَبُوا الْمَشْرُبَةَ، فَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي خَانَ فِي الدِّرْعِ أَوْ سَرَقَهَا، فَجَاءَ الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِهِ وَاعْتِبَارِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْمِهِ كَأُسَيْدِ بْنِ عُرْوَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِمَّنْ زَكَّاهُ، فَكَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِثْمِ، خُصُوصًا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ السَّارِقُ. أَوْ جَاءَ الْجَمْعُ لِيَتَنَاوَلَ طُعْمَةَ وَكُلَّ مِنْ خَانَ خِيَانَتَهُ، فَلَا يُخَاصِمُ لِخَائِنٍ قَطُّ، وَلَا يُحَاوِلُ عَنْهُ. وَخَصِيمًا يَحْتَاجُ مُتَعَلِّقًا مَحْذُوفًا أَيِ الْبَرَاءُ. وَالْبَرِيءُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ حَسَبَ الِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ: أَهُوَ الْيَهُودِيُّ الَّذِي دَفَعَ إليه طعمة الدّرع وهو زَيْدُ بْنُ السُّمَيْنِ، أَوْ أَبُو مَلِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ؟ وَهُوَ الَّذِي أَلْقَى طُعْمَةُ الدِّرْعَ فِي دَارِهِ لَمَّا خَافَ الِافْتِضَاحَ، أَوْ لَبِيدُ بْنُ

سَهْلٍ؟ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: وَكَانَ يَهُودِيًّا. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا. وَأَدْخَلَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ عَلَى إِسْلَامِهِ كَمَا ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ هَرَبَ طُعْمَةُ إِلَى مَكَّةَ وَارْتَدَّ، وَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ فَرَمَاهَا حَسَّانُ بِهِ فِي شِعْرٍ قَالَهُ وَمِنْهُ: وَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ وَأَصْبَحَتْ ... يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِهَا وَتُنَازِعُهْ ظَنَنْتُمْ بِأَنْ يَخْفَى الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُو ... وَفِينَا نَبِيٌّ عِنْدَهُ الْوَحْيُ وَاضِعُهْ فَأَخْرَجَتْهُ وَرَمَتْ رَحْلَهُ خَارِجَ الْمَنْزِلِ وَقَالَتْ: مَا كُنْتَ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ أَهْدَيْتَ لِي شَعْرَ حِسَانَ، فَنَزَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ وَسَرَقَهُ فَطَرَدَهُ، ثُمَّ نَقَبَ بَيْتًا لِيَسْرِقَ مِنْهُ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ فَمَاتَ. وَقِيلَ: اتَّبَعَ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ فَسَرَقَهُمْ فَقَتَلُوهُ. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أَيِ: اسْتَغْفِرْ لِأُمَّتِكَ الْمُذْنِبِينَ الْمُتَخَاصِمِينَ بِالْبَاطِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا هَمَمْتَ بِهِ مِنْ عِقَابِ الْيَهُودِيِّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ: وَاسْتَغْفَرِ اللَّهَ أَيْ مِنْ ذَنْبِكَ فِي خِصَامِكَ لِأَجْلِ الْخَائِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَيْسَ بِذَنْبٍ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا دَافَعَ عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ بَرَاءَتَهُمْ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْبِيحِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ أَوْ قَصْدِ تَوْبَةٍ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ صُورَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَالْمُرَادُ بَنُو أُبَيْرِقٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا هَمَمْتَ بِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ هَذَا عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ أَصْحَابُ النَّازِلَةِ وَيَتَقَرَّرُ بِهِ تَوْبِيخُهُمْ. وَاخْتِيَانُ الْأَنْفُسِ هُوَ مِمَّا يَعُودُ عَلَيْهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، كَمَا جَاءَ نِسْبَةُ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ مُلَابِسًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم خَاصَمَ عَنْ طُعْمَةَ، وَقَامَ يَعْذُرُ خَطِيبًا. وَرَوَى قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً أَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ لِيُخْرِجَ مِنْهُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْمَرَّةَ، وَمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْخِيَانَةُ عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ. وَفِي صِفَتِي الْمُبَالَغَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِفْرَاطِ طُعْمَةَ فِي الْخِيَانَةِ وَارْتِكَابِ الْمَآثِمِ. وَقِيلَ: إِذَا عَثَرْتَ مِنْ رَجُلٍ سَيِّئَةً فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا أَخَوَاتٍ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ تَبْكِي وَقَالَتْ: هَذِهِ أَوَّلُ سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَاعْفُ عَنْهُ فَقَالَ: كَذَبْتِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَبْدَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ.

وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ الْخِيَانَةِ عَلَى صِفَةِ الْمَآثِمِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْإِثْمِ خَانَ فَأَثِمَ، وَلِتَوَاخِيَ الْفَوَاصِلِ. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ الضَّمِيرُ فِي يَسْتَخْفُونَ الظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ يَخْتَانُونَ، وَفِي ذَلِكَ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ وَتَقْرِيعٌ، حَيْثُ يَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ مُسْتَتِرِينَ بِهَا عَنِ النَّاسِ إِنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهَا، وَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الصِّنْفِ الْمُرْتَكِبِ لِلْمَعَاصِي، وَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْخِيَانَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُتَنَاصِرُونَ لَهُمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَنْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ نَعْتًا. وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْ: عَالِمٌ بِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَخْفَى عَنْهُ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ أَسْرَارِهِمْ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ نَاعِيَةً عَلَى النَّاسِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ فِي حَضْرَتِهِ لَا سُتْرَةَ وَلَا غَفْلَةَ وَلَا غَيْبَةَ، وَلَيْسَ إِلَّا الْكَشْفُ الصَّرِيحُ وَالِافْتِضَاحُ انْتَهَى. وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا لَلْعِجَاجِ لِمَنْ يَعْصِي وَيَزْعُمُ إِذْ ... قَدْ آمَنُوا بِالَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَتَى بِجَامِعِ إِيمَانٍ لِمَعْصِيَةٍ ... كُلًّا أَمَانِي كَذِبٍ سَاقَهَا الْأَمَلُ أَيْ إِنَّ الْمَعْصِيَةَ كُلًّا أَمَانِي كَذِبٍ سَاقَهَا الْأَمَلُ الِاسْتِخْفَاءُ: الِاسْتِتَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الِاسْتِحْيَاءُ اسْتَحَى فَاسْتَخْفَى، إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي رَمَوْا بِهِ الْبَرِيءَ، وَدَافَعُوا بِهِ عَنِ السَّارِقِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ الْعَامِلُ فِي مَعَهُمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّبْيِيتِ. وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ. وَلِمَا كَانَتْ قِصَّةُ طُعْمَةَ جَمَعَتْ بَيْنَ عَمَلٍ وَقَوْلٍ: جَاءَ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَالتَّقْرِيعَ الْبَالِغَ، إِذْ كَانَ تَعَالَى مُحِيطًا بِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَرَ الْقَبَائِحُ عَنْهُ بِعَدَمِ ارْتِكَابِهَا. هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا تَقَدَّمَ الكلام على ها أنتم هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْخِطَابُ لِلَّذِينِ يَتَعَصَّبُونَ لِأَهْلِ الرِّيَبِ وَالْمَعَاصِي، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْعُمُومِ أَهْلُ النَّازِلَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْمُتَعَصِّبِينَ فِي قِصَّةِ طُعَيْمَةَ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ

مَنْ عَمِلَ عَمَلَهُمْ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرِينَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْ: عَنْ طُعْمَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ، وَعِيدٌ مَحْضٌ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْبِسَ عَلَيْهِ بِجِدَالٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ النَّفْيُ أَيْ: لَا أَحَدَ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا حَلَّ بِهِمْ عَذَابُهُ. وَالْوَكِيلُ: الْحَافِظُ الْمُحَامِي، وَالَّذِي يَكِلُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ أُمُورَهُ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْضًا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ يَكُونُ وَكِيلًا عَلَيْهِمْ فَيُدَافِعُ عَنْهُمْ وَيَحْفَظُهُمْ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ انْتَفَى فِي الْأُولَى مِنْهُمَا الْمُجَادَلَةُ، وَهِيَ الْمُدَافَعَةُ بِالْفِعْلِ وَالنُّصْرَةُ بِالْقُوَّةِ. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً الظاهر أنهما غير أنّ عَمَلُ السُّوءِ الْقَبِيحِ الَّذِي يَسُوءُ غَيْرَهُ، كَمَا فَعَلَ طُعْمَةُ بِقَتَادَةَ وَالْيَهُودِيِّ. وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كَالْحَلِفِ الْكَاذِبِ. وَقِيلَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا مِنْ ذَنْبٍ دُونَ الشِّرْكِ، أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بِالشِّرْكِ انْتَهَى. وَقِيلَ: السُّوءُ الذَّنْبُ الصَّغِيرُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الذَّنْبُ الْكَبِيرُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَخَصَّ مَا يُبْدِي إِلَى الْغَيْرِ بِاسْمِ السُّوءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ لَا يَكُونُ ضَرَرًا حَاضِرًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَصِّلُ الضَّرَرَ إِلَى نَفْسِهِ. وَقِيلَ: السُّوءُ هُنَا السَّرِقَةُ. وَقِيلَ: الشِّرْكُ. وَقِيلَ: كُلُّ مَا يَأْثَمُ بِهِ. وَقِيلَ: ظُلْمُ النَّفْسِ هُنَا رَمْيُ الْبَرِيءِ بِالتُّهْمَةِ. وَقِيلَ: مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الْمَعَاصِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ تَكَرَّرَ بِاخْتِلَافِ لَفْظٍ مُبَالَغَةً. وَالظَّاهِرُ تَعْلِيقُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ لِلْعَاصِي عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ وَأَنَّهُ كَافٍ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةَ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَعْصِيَةُ مِمَّا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، دُونَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبِيدِ. وَقِيلَ: الِاسْتِغْفَارُ التَّوْبَةُ. وَفِي لَفْظَةٍ: يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا، مُبَالَغَةٌ فِي الْغُفْرَانِ. كَأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مُعَدَّانِ لِطَالِبِهِمَا، مُهَيَّآنِ لَهُ مَتَى طَلَبَهُمَا وَجَدَهُمَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا لُطْفٌ عَظِيمٌ وَوَعْدٌ كَرِيمٌ لِلْعُصَاةِ إِذَا اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ، وَفِيهَا تُطْلَبُ تَوْبَةُ بَنِي أُبَيْرِقٍ وَالذَّابِّينَ عَنْهُمْ وَاسْتِدْعَاؤُهُمْ لَهَا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا مِنْ أَرْجَى الْآيَاتِ. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً الْإِثْمُ: جَامِعٌ لِلسُّوءِ وَظُلْمِ النَّفْسِ السَّابِقَيْنِ وَالْمَعْنَى: إِنَّ وَبَالَ ذلك لا حق لَهُ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَزَاءِ اللَّاحِقِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَخَتَمَهَا بِصِفَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَكْسِبُ، لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ بِصِفَةِ الْحِكْمَةِ لِأَنَّهُ وَاضِعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا فَيُجَازِي عَلَى

ذَلِكَ الْإِثْمِ بِمَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ. فَالصِّفَتَانِ أَشَارَتَا إِلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ الْإِثْمِ، وَإِلَى مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ. وَفِي لَفْظَةٍ: عَلَى، دَلَالَةِ اسْتِعْلَاءِ الْإِثْمِ عَلَيْهِ، وَاسْتِيلَائِهِ وَقَهْرِهِ لَهُ. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً قِيلَ: نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ حِينَ سَرَقَ الدِّرْعَ وَرَمَاهَا فِي دَارِ الْيَهُودِيِّ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولَ، إِذْ رَمَى عَائِشَةَ بالإفك. وظاهر العطف بأو الْمُغَايِرَةُ، فَقِيلَ: الْخَطِيئَةُ مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ. وَالْإِثْمُ: مَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ، وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، أَوِ الْقَاصِرُ عَلَى فِعْلٍ وَالْمُتَعَدِّي إِلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْخَطِيئَةُ سَرِقَةُ الدِّرْعِ، وَالْإِثْمُ يَمِينُهُ الْكَاذِبَةُ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: الْخَطِيئَةُ يَمِينُ السَّارِقِ الْكَاذِبَةُ، وَالْإِثْمُ سَرِقَةُ الدِّرْعِ، وَرَمْيُ الْيَهُودِيِّ بِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخَطِيئَةُ تَكُونُ عَنْ عَمْدٍ وَغَيْرِ عَمْدِ، وَالْإِثْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَمْدٍ. وَقِيلَ: هُمَا لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كُرِّرَا مُبَالَغَةً. وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى الإثم، والمعطوف بأو يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَعَلَى الْمَعْطُوفِ كَهَذَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكَسْبِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَكْسِبُ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَكْسُوبِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ الدَّالِّ عليه العطف بأو، كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ يَرْمِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا، وَهَذِهِ تَخَارِيجُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْبَرِيءُ الْمُتَّهَمُ بِالذَّنْبِ وَلَمْ يُذْنِبْ. وَمَعْنَى: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا، أَيْ بِرَمْيِهِ الْبَرِيءَ، فَإِنَّهُ يَبْهَتُهُ بِذَلِكَ. وَإِثْمًا مُبِينًا أَيْ: ظَاهِرًا لِكَسْبِهِ الْخَطِيئَةَ أَوِ الْإِثْمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عِقَابَيْنِ: عِقَابَ الْكَسْبِ، وَعِقَابَ الْبُهْتِ. وَقَدَّمَ الْبُهْتَ لِقُرْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا، وَلِأَنَّهُ ذَنْبٌ أَفْظَعُ مِنْ كَسْبِ الْخَطِيئَةِ أَوِ الْإِثْمِ. وَلَفْظٌ احْتَمَلَ أَبْلَغَ مِنْ حَمْلٍ، لِأَنَّ افْتَعَلَ فِيهِ لِلتَّسَبُّبِ كَاعْتَمَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ افْتَعَلَ فِيهِ كَالْمُجَرَّدِ كَمَا قَالَ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ «1» فَيَكُونُ كَقَدَرَ وَاقْتَدَرَ. لَمَّا كَانَ الْوِزْرُ يُوصَفُ بِالْفِعْلِ، جَاءَ ذِكْرُ الْحَمْلِ وَالِاحْتِمَالِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ. جُعِلَ الْمَجْنِيُّ كَالْجِرْمِ الْمَحْمُولِ. وَلَفْظَةُ: وَمَنْ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخَصَّ بِبَنِي أُبَيْرِقٍ، بَلْ هُمْ مُنْدَرِجُونَ فِيهَا. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: وَمَنْ يَكِسِّبْ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ: يَكْتَسِبْ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: خَطِيَّةً بالتشديد.

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 13. [.....]

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ الظَّاهِرُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَنِي ظُفَرٍ الْمُجَادِلِينَ وَالذَّابِّينَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ. أَيْ: فَلَوْلَا عِصْمَتُهُ وَإِيحَاؤُهُ إِلَيْكَ بِمَا كَتَمُوهُ، لَهَمُّوا بِإِضْلَالِكَ عَنِ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَتَوَخِّي طَرِيقِ الْعَدْلِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْجَانِيَ هُوَ صَاحِبُهُمْ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْقِصَّةِ، هَذَا فِيهِ بَعْضُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ من رِوَايَةِ السَّائِبِ: أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقِصَّةِ طُعْمَةَ وَأَصْحَابِهِ، حَيْثُ لَبَّسُوا عَلَى الرَّسُولِ أَمْرَ صَاحِبِهِمْ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ قَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: جِئْنَاكَ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُحْشَرَ وَلَا نُعْشَرَ، وَعَلَى أَنْ تَمَتِّعَنَا بِالْعُزَّى سَنَةً، فَلَمْ يُجِبْهُمْ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفَّقَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى مِقْدَارِ عِصْمَتِهِ لَهُ، وَأَنَّهَا بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهَمَّتْ مَعْنَاهُ لَجَعَلَتْهُ هَمَّهَا وَشُغْلَهَا حَتَّى تُنَفِّذَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ عَامَّةٌ فِي غَيْرِ أَهْلِ النَّازِلَةِ، وَإِلَّا فَأَهْلُ الْغَضَبِ لِبَنِي أُبَيْرِقٍ، وَقَدْ وَقَعَ هَمُّهُمْ وَثَبَتَ. وَالْمَعْنَى: وَلَوْلَا عِصْمَةُ اللَّهِ لَكَ لَكَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَشْتَغِلُ بِإِضْلَالِكَ وَيَجْعَلُهُ هَمَّ نَفْسِهِ، كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ، لَكِنَّ الْعِصْمَةَ تُبْطِلُ كَيْدَ الْجَمْعِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ كَمَا ذَكَرْنَا، إِلَّا أَنَّ الْهَمَّ يَحْتَاجُ إِلَى قَيْدٍ أَيْ: لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ هَمًّا يُؤَثِّرُ عِنْدَكَ. وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ، لِأَنَّهُمْ هَمُّوا حَقِيقَةً أَعْنِي: الْمُجَادِلِينَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ، أَوْ يَخُصُّ الضَّلَالَ عَنِ الدِّينِ فَإِنَّ الْهَمَّ بِذَلِكَ أَيْ: لَهَمُّوا بِإِضْلَالِكَ عَنْ شَرِيعَتِكَ وَدِينِكَ، وَعِصْمَةُ اللَّهِ إِيَّاكَ مَنَعَتْهُمْ أَنْ يُخْطِرُوا ذَلِكَ بِبَالِهِمْ. وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: وَبَالُ ما أقدموا عليه من التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْبُهْتِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، إِنَّمَا هُوَ يَخُصُّهُمْ. وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ تَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ نَصًّا أَيْ: لَا يَضُرُّونَكَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا وَعْدٌ بِالْعِصْمَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ الْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَالْحِكْمَةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَالْمَعْنَى: إِنَّ مَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأَهَّلَهُ لِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ، هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ وَالشُّبَهِ. وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الشَّرْعُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِقْدَارَ نَفْسِكَ النَّفِيسَةِ. وَقِيلَ: خَفِيَّاتُ الْأُمُورِ، وَضَمَائِرُ الصُّدُورِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا بِوَحْيٍ.

وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَأَطْلَعَكَ عَلَى أَسْرَارِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَعَلَى حَقَائِقِهِمَا، مَعَ أَنَّكَ مَا كُنْتَ عَالِمًا بِشَيْءٍ، فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِكَ فِي مُسْتَأْنَفِ أَيَّامِكَ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى إِضْلَالِكَ وَلَا عَلَى اسْتِزْلَالِكَ. الثَّانِي: مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، فَكَذَلِكَ يُعَلِّمُكَ مِنْ حِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَكَيْدِهِمْ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ. فَالْمَعْنَى: الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهَا. لَوْلَا إِعْلَامُهُ إِيَّاكَ إِيَّاهَا. وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً قِيلَ: الْمِنَّةُ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: هُوَ مَا خَصَّهُ بِهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَعْطَى الْخَلْقَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَنَصِيبُ الشَّخْصِ مِنْ عُلُومِ الْخَلَائِقِ يَكُونُ قَلِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ الْقَلِيلَ عَظِيمًا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. مِنْهَا الِاسْتِعَارَةُ فِي: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَفِي: فَيَمِيلُونَ اسْتَعَارَ الْمَيْلَ لِلْحَرْبِ. والتكرار في: جناح ولا جُنَاحَ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِمَا، وَفِي: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ: وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ، وَفِي: الْحَذَرِ وَالْأَسْلِحَةِ، وَفِي: الصَّلَاةِ، وَفِي: تَأْلَمُونَ، وَفِي: اسْمِ اللَّهَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: فَيَمِيلُونَ مَيْلَةً، وَفِي: كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ، وَفِي: تختانون وخوانا، وَفِي: يَسْتَغْفِرُوا غَفُورًا. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: فَأَقَمْتَ فَلْتَقُمْ، وَفِي: لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا، وفي: يستخفون ولا يَسْتَخْفُونَ، وَفِي: جَادَلْتُمْ فَمَنْ يجادل، وفي: يكسب ويكسب، وَفِي: يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ، وفي: وعلمك وتعلم. قِيلَ: وَالْعَامُّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فِي: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ خَاصَّةً، لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ أَلْ لِلْعَهْدِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّ أَلْ لِلْعُمُومِ وأل لِلْعَهْدِ فَهُمَا قَسِيمَانِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ لِأَحَدِ الْقَسِيمَيْنِ فَلَيْسَ مَوْضُوعًا لِلْآخَرِ. وَالْإِبْهَامُ فِي قَوْلِهِ: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَفِي: مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. وَخِطَابُ عَيْنٍ وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ وَفِي: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْرُوسٌ بِالْعِصْمَةِ أَنْ يُخَاصِمَ عَنِ الْمُبْطِلِينَ. وَالتَّتْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَهُمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّغْلِيظِ لِقُبْحِ فِعْلِهِمْ لِأَنَّ حَيَاءَ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَصْحَبُهُ أَكْثَرُ مِنْ حَيَائِهِ وحده،

_ (1) سورة الشورى: 42/ 52.

[سورة النساء (4) : الآيات 114 إلى 126]

وَأَصْلُ الْمَعِيَّةِ فِي الْإِجْرَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مَعَ عَبْدِهِ بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ. وَإِطْلَاقُ وَصْفِ الْإِجْرَامِ عَلَى الْمَعَانِي فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا. وَالْحَذْفُ فِي مواضع. [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126] لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)

النَّجْوَى مَصْدَرٌ كَالدَّعْوَى يُقَالُ: نَجَوْتُ الرَّجُلَ أَنْجُوهُ نَجْوًى إِذَا نَاجَيْتُهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَا تَكُونُ النَّجْوَى إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّجْوَى مَا انْفَرَدَ بِهِ الْجَمَاعَةُ، أَوِ الِاثْنَانِ سِرًّا كَانَ وَظَاهِرًا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُسَارَّةُ، وَتُطْلَقُ النَّجْوَى عَلَى الْقَوْمِ الْمُتَنَاجِينَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْمٌ عَدْلٌ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: نَجْوَى جَمْعُ نَجِيٍّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَتَكَرَّرَ هُنَا لِخُصُوصِيَّةِ الْبِنْيَةِ. مَرِيدٌ مِنْ مَرَدَ، عَتَا وَعَلَا فِي الْحَذَاقَةِ، وتجرد للشر والغواية. قال ابْنُ عِيسَى: وَأَصْلُهُ التَّمَلُّسُ، وَمِنْ شَجَرَةٍ مَرْدَاءَ أَيْ مَلْسَاءَ تَنَاثَرَ وَرَقُهَا، وَغُلَامٌ أَمَرَدُ لَا نَبَاتَ بِوَجْهِهِ، وَصَرْحٌ مُمَرَّدٌ مُمَلَّسٌ لَا يُعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ لِمَلَاسَتِهِ، وَالْمَارِدُ الَّذِي لَا يُعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ. الْبَتْكُ: الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، بَتَكَ يَبْتِكُ، وَبَتَّكَ لِلتَّكْثِيرِ، وَالْبَتْكُ الْقَطْعُ وَاحِدُهَا بَتْكَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيدِ لَهَا ... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بَتَكُ مَحِيصٌ: مَفْعِلٌ مِنْ حَاصَ يَحِيصُ، زَاغَ بِنُفُورٍ وَمِنْهُ: فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمْرِ الْوَحْشِ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَمْ نَدْرِ إِنْ حِصْنَا مِنَ الْمَوْتِ حَيْصَةً ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ وَالْمَدَا مُتَطَاوِلُ وَيُقَالُ جَاضَ بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُحَاصُ مِثْلَ الْمَحِيصِ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَحَيَّصَ مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِدًا ... مَا لِلرِّجَالِ عَنِ الْمَنُونِ مُحَاصُ وَفِي الْمَثَلِ: وَقَعُوا فِي حَيْصَ بَيْصَ. وَحَاصَ بَاصَ إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَيُقَالُ: حَاصَ يَحُوصُ حَوْصًا وَحِيَاصًا إِذَا نَفَرَ وَزَايَلَ الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ. وَالْحَوْصُ فِي الْعَيْنِ ضِيقُ مُؤَخَّرِهَا. الْخَلِيلُ: فَعِيلٌ مِنَ الْخَلَّةِ، وَهِيَ الْفَاقَةُ وَالْحَاجَةُ. أَوْ مِنَ الْخُلَّةِ وَهِيَ صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ، أَوْ مِنَ الْخَلَلِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: سُمِّيَ خَلِيلًا لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إِلَّا مَلَأَتْهُ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ بِشَارٍ: قَدْ تَخَلَّلَتْ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الضَّمِيرُ فِي نَجْوَاهُمْ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ طُعْمَةَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ نَاجَوْا قَوْمَ طُعْمَةَ، واتفقا مَعَهُمْ عَلَى التَّلْبِيسِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ طُعْمَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعَ.

وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَامَّةً فَانْدَرَجَ أَصْحَابُ النَّازِلَةِ وَهُمْ قَوْمُ طُعْمَةَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِيجَازِ وَالْفَصَاحَةِ، لِكَوْنِ الْمَاضِي وَالْمُغَايِرِ تَشْمَلُهُمَا عِبَارَةٌ وَاحِدَةٌ انْتَهَى. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ إِنْ كَانَ النَّجْوَى مَصْدَرًا، وَيُمْكِنُ اتِّصَالُهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: إِلَّا نَجْوًى مِنْ أَمْرٍ، وَقَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ. وَإِنْ كَانَ النَّجْوَى الْمُتَنَاجِينَ قِيلَ: وَيَجُوزُ فِي: مَنْ الْخَفْضُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِكَثِيرٍ، أَوْ تَابِعًا لِلنَّجْوَى، كَمَا تَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا زِيدٍ إِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَ زيد الْجَمَاعَةَ، وَإِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَهُ القوم. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَمَرَ مَجْرُورًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كَثِيرٍ، لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، أَوْ عَلَى الصِّفَةِ. وَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فَالْخَيْرُ فِي نَجْوَاهُ. وَمَعْنَى أَمَرَ: حَثَّ وَحَضَّ. وَالصَّدَقَةُ تَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ. وَالْمَعْرُوفُ عَامٌّ فِي كُلِّ بِرٍّ. وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ. فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الصَّدَقَةُ وَالْإِصْلَاحُ. لَكِنَّهُمَا جُرِّدَا مِنْهُ وَاخْتُصَّا بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا، إِذْ هُمَا عَظِيمَا الْغِذَاءِ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ. وَعُطِفَ بأو فَجُعِلَا كَالْقِسْمِ الْمُعَادِلِ مُبَالَغَةً فِي تَجْرِيدِهِمَا، حَتَّى صَارَ الْقِسْمُ قَسِيمًا. وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ الْفَرْضُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عباس ومقاتل. وقيل: إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْوَاجِبُ، وَبِالْمَعْرُوفِ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عن منكر أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى» . وَحَدَّثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَامًا فَقَالَ أَحَدُهُمْ: مَا أَشَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ! فقال له: أَلَمْ تَسْمَعْ كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يُعْدَمْ جَوَازِيَهُ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، أَنَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَنِزَاعٌ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ طُعْمَةَ وَالْيَهُودِيِّ الْمَذْكُورَيْنِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. أَوْ بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إِمَّا جُسْمَانِيًّا وَهُوَ إِعْطَاءُ الْمَالِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بِصَدَقَةٍ. أَوْ رُوحَانِيًّا وَهُوَ تَكْمِيلُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعُلُومِ، أَوِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَمَجْمُوعُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَوْ مَعْرُوفٍ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْعَقْلُ وَيَعْرِفُهُ مَعْرُوفٌ، وَلِكُلِّ مَا يَسْتَقْبِحُهُ وَيُنْكِرُهُ مُنْكَرٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى رَكَّزَ فِي الْعُقُولِ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:

صِبْغَةَ اللَّهِ «1» وفِطْرَتَ اللَّهِ «2» وَعَلَى ذَلِكَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ لِمَعْرِفَتِهَا بِهِ انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ فِي أَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ. وَقِيلَ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَضَمَّنَتِ الْأَفْعَالَ الْحَسَنَةَ، وَبَدَأَ بِأَكْثَرِهَا نَفْعًا وَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ، وَنَبَّهَ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى النَّوَافِلِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى سِيَاسَتِهِمْ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى نَظْمِ شَمْلِهِمْ انْتَهَى. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ قِيلَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ» وَخَصَّ مَنْ أَمَرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا مِنَ الْأَمْرِ، وَإِذَا كَانَ الْخَيْرُ فِي نَجْوَى الْأَمْرِ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي مَنْ يَفْعَلُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْخَيْرَ فِي مَنْ أَمَرَ ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ فَعَلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، فَيُعَبِّرُ بِالْفِعْلِ عَنِ الْأَمْرِ، كَمَا يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ: يُؤْتِيهِ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، لِيُنَاسِبَ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ «3» فَيَكُونُ إِسْنَادُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ لِحَظِّ الِاسْمِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يجزي مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَخُلُوصُهُ لِلَّهِ دُونَ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ. وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ لَمَّا فَضَحَهُ اللَّهُ بِسَرِقَتِهِ، وَبَرَّأَ الْيَهُودِيَّ، ارْتَدَّ وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ مَوْتُهُ وَسَبَبُهُ. وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا مَالًا فَعُلِمَ بِهِ، فَأُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: لَمَّا سَرَقَ الْحَجَّاجَ السُّلَمِيَّ اسْتَحَى الْحَجَّاجُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ ضَيْفَهُ فَأَطْلَقَهُ، فَلَحِقَ بُحَيْرَةَ بَنِي سُلَيْمٍ فَعَبَدَ صَنَمًا لَهُمْ وَمَاتَ عَلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ طُعْمَةَ قَدِمُوا فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُشَاقَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ «4» وَمَنْ يُشَاقِقِ: عَامٌّ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ طُعْمَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُشَاقِّينَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى: أَيِ اتَّضَحَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا إِخْبَارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقِصَّةِ طُعْمَةَ وَإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُ عَلَى مَا بَيَّتُوهُ وَزَوَّرُوهُ، لَكَانَ لَهُ فِي ذلك أعظم

_ (1) سورة البقرة: 2/ 138. (2) سورة الروم: 30/ 3. (3) سورة النساء: 4/ 115. (4) سورة البقرة: 2/ 137.

وَازِعٍ وَأَوْضَحُ بَيَانٍ، وَكَانَ ذَنْبُ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَزِيغُ عَنْهُ أَعْظَمَ مِنْ ذَنْبِ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِتَرْكِ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ، أَوْ يَعْرِفَهُ مَنْ يُصَدِّقُهُ. وَالْعَالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِ مَا يَقْتَضِيهِ مَعْرِفَتُهُ، فَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا إِذَا اطَّلَعَ عَلَى الْحَقِّ وَعَمِلَ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ جُعِلَ لَهُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ. وَسَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ: هُوَ الدِّينُ الْحَنِيفِيُّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالتَّشْنِيعِ، وَالَا فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ هُوَ مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ضَرُورَةً، وَلَكِنَّهُ بَدَأَ بِالْأَعْظَمِ فِي الْإِثْمِ، وَأَتْبَعَ بِلَازِمِهِ تَوْكِيدًا. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ. وَقَدْ طَوَّلَ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَالَةِ مِنْهَا، وَمَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ فِي الشَّرْطِ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، فَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا كَمُوَالَاةِ الرَّسُولِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْمُرَتَّبِ عَلَى وَصْفَيْنِ اثْنَيْنِ، لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يترتب عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَالْوَعِيدُ إِنَّمَا تَرَتَّبَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ مَعْطُوفًا عَلَى الْفِعْلِ، وَلَمْ يُعَدْ مَعَهُ اسْمُ شَرْطٍ. فَلَوْ أُعِيدَ اسْمُ الشَّرْطِ وَكَأَنْ، يَكُونَ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، وَمَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ فِيهِ ظُهُورُ مَا عَلَى مَا ادَّعَوْا، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ. وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُغَايِرٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ وَتَفْظِيعِ الْأَمْرِ وَتَشْنِيعِهِ. وَالْآيَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ هِيَ وَعِيدُ الْكُفَّارِ، فَلَا دلالة فيها عَلَى جُزْئِيَّاتِ فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِثْمُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا تَوَلَّى قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِيدٌ بِأَنْ يَتْرُكَ مَعَ فَاسِدِ اخْتِيَارَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجْعَلُهُ بِالْيَاءِ، وَمَا تَوَلَّى مِنَ الضَّلَالَةِ بِأَنْ تَخْذُلَهُ وَتُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اخْتَارَ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَنْزَعِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وقرئ: وتصله بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ صَلَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَيْلَةَ: يوله ويصله بِالْيَاءِ فِيهِمَا جَرْيًا عَلَى قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يُؤْتِيهِ بِالْيَاءِ، وَفِي هَاءِ نُوَلِّهِ وَنُصْلِهِ: الْإِشْبَاعُ وَالِاخْتِلَاسُ وَالْإِسْكَانُ وَقُرِئَ بِهَا.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً تَقَدَّمَ مِثْلُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَزَلَتْ قِيلَ: فِي طُعْمَةَ. وَقِيلَ: فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمُوا ثُمَّ انْقَلَبُوا إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدِّينَ. وَقِيلَ: فِي شَيْخٍ قَالَ: لَمْ أُشْرِكْ بِاللَّهِ مُنْذُ عَرَفْتُهُ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي ذُنُوبًا، وَأَنَّهُ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ، إِلَّا أَنَّ آخِرَ مَا تَقَدَّمَ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا، وَآخِرُ هَذِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا خُتِمَتْ كُلُّ آيَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا. فَتِلْكَ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ مُطَّلِعُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ عَلَى مَا لَا يَشُكُّونَ فِي صِحَّتِهِ من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ، وَنَسْخِهَا لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَعَ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانِ بِمَا نَزَلَ، فَصَارَ ذلك افتراء واختلاقا مُبَالَغًا فِي الْعِظَمِ وَالْجُرْأَةُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ فِي نَاسٍ مُشْرِكِينَ لَيْسُوا بِأَهْلِ كُتُبٍ وَلَا عُلُومٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَهُمْ بِالْهُدَى مِنَ اللَّهِ، وَبَانَ لَهُمْ طَرِيقُ الرُّشْدِ فَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَضَّلُوا بِذَلِكَ ضَلَالًا يُسْتَبْعَدُ وُقُوعُهُ، أَوْ يَبْعُدُ عَنِ الصَّوَابِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً «1» وَجَاءَ بَعْدَ تِلْكَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ «2» وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ «3» وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْيَهُودُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا. وَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، كَانَ الضَّلَالُ النَّاشِئُ عَنْهُ بَعِيدًا عَنِ الصَّوَابِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَإِنْ كَانَ ضَلَالًا لَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ أَنْ يُرَاجِعَ صَاحِبُهُ الْحَقَّ، لِأَنَّ لَهُ رَأْسَ مَالٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ. وَلِذَلِكَ قال تعالى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ «4» وَنَاسَبَ هُنَا ذِكْرُ الضلال لتققدم الْهُدَى قَبْلَهُ. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً الْمَعْنَى: مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَتَّخِذُونَهُ إِلَهًا إِلَّا مُسَمَّيَاتٍ تَسْمِيَةَ الْإِنَاثِ. وَكَنَّى بِالدُّعَاءِ عَنِ الْعِبَادَةِ، لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا دَعَاهُ عِنْدَ حَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ. وَكَانُوا يُحَلُّونَ الْأَصْنَامَ بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ، وَيُسَمُّونَهَا أُنْثَى وَإِنَاثٌ، جَمْعُ أُنْثَى كَرِبَابٍ جَمْعُ رُبَّى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْمُرَادُ الْخَشَبُ وَالْحِجَارَةُ، فَهِيَ مُؤَنَّثَاتٌ لَا تَعْقِلُ، فَيُخْبَرُ عَنْهَا كَمَا يُخْبَرُ عَنِ الْمُؤَنَّثِ مِنَ الْأَشْيَاءِ. فَيَجِيءُ قَوْلُهُ: إِلَّا إِنَاثًا، عِبَارَةً عَنِ الْجَمَادَاتِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي أَصْنَامَهَا بِأَسْمَاءٍ

_ (1) سورة النساء: 4/ 117. (2) سورة النساء: 4/ 49. (3) سورة النساء: 4/ 50. (4) سورة الحج: 22/ 12.

مُؤَنَّثَةٍ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَنَايِلَةَ. وَيُرَدُّ عَلَى هَذَا بِأَنَّهَا كَانَتْ تُسَمَّى أَيْضًا بِأَسْمَاءٍ مُذَكَّرَةٍ: كَهُبَلَ، وَذِي الْخُلَصَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِنْ تَأْنِيثِ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: هَذَا عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ مِنْ فَاسِدِ قَوْلِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُمْ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ يُسَمُّونَهُ أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، وَفِي هَذَا تَعْبِيرُهُمْ بِالتَّأْنِيثِ لِنَقْصِهِ وَخَسَاسَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّذْكِيرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَكْثَرُ مَا عَبَدَتْهُ الْعَرَبُ مِنَ الْأَصْنَامِ كَانَتْ أَشْيَاءَ مُنْفَعِلَةً غَيْرَ فَاعِلَةٍ، فَبَكَّتْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ فَاعِلِينَ مِنْ وَجْهٍ يَعْبُدُونَ مَا لَيْسَ هُوَ إِلَّا مُنْفَعِلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ «1» . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: إِنْ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ. وَفِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِلَّا أَوْثَانًا جَمْعُ وَثَنٍ، وَهُوَ الصَّنَمُ. وَقَرَأَ بذلك أبو السوار والهناي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِلَّا أُنْثَى عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَأَبُو نَهِيكٍ، وَمُعَاذٌ الْقَارِئُ: أُنْثًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِيمَا حَكَى إِنَاثٌ كَثِمَارٍ وَثَمَرٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَنَثٌ جَمْعُ أَنِيثٍ، كَغَرِيرٍ وَغَرَرٍ. وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ: إِلَّا إِنَاثًا إِلَّا ضِعَافًا عَاجِزِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ، يُقَالُ: سَيْفٌ أَنِيثٌ وَمِينَاثَةٌ بِالْهَاءِ وَمَيْنَاثٌ غَيْرُ قَاطِعٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَتُخْبِرُنِي بِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدِي ... جُرَازٌ لَا أَقَلَّ وَلَا أَنِيثُ أَنَّثَ فِي أَمْرِهِ لَانَ، وَالْأَنِيثُ الْمُخَنَّثُ الضَّعِيفُ مِنَ الرِّجَالِ. وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: إِلَّا وَثَنًا بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالثَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عمر، وعطاء: الا أنثا، يُرِيدُونَ وَثَنًا، فَأَبْدَلَ الْهَمْزَةَ وَاوًا، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ جَمْعٍ إِذْ أَصْلُهُ وَثَنٌ، فَجُمِعَ عَلَى وِثَانٍ كَجَمَلٍ وَجِمَالٍ، ثُمَّ وِثَانٍ عَلَى وُثُنٍ كَمِثَالٍ، وَمُثُلٍ وَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ فعالا في جمع فعل إِنَّمَا هُوَ لِلتَّكْثِيرِ، وَالْجَمْعُ الَّذِي هُوَ لِلتَّكْثِيرِ لَا يُجْمَعُ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ جُمُوعَ التَّقْلِيلِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وُثْنٌ جَمْعُ وَثَنٍ دُونَ وَاسِطَةٍ، كَأَسَدٍ وَأُسْدٍ انْتَهَى. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يُجْمَعُ جُمُوعُ التَّقْلِيلِ بِصَوَابٍ، كَامِلٍ الْجُمُوعُ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ أَنْ تُجْمَعَ بِقِيَاسٍ سَوَاءٌ كَانَتْ لِلتَّكْثِيرِ أَمْ لِلتَّقْلِيلِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ. وقرأ أيوب

_ (1) سورة مريم: 19/ 42.

السِّجِسْتَانِيُّ: إِلَّا وُثُنًا بِضَمِّ الواو والثناء مِنْ غَيْرِ هَمْزَةٍ، كَشُقَقٍ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: إِلَّا أَثْنًا بِسُكُونِ الثَّاءِ، وَأَصْلُهُ وَثْنًا، فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا اللَّفْظِ ثماني قراءات: إناثا، وأنثى، وَأُنْثًا، وَأَوْثَانًا، وَوَثْنًا، وَوُثُنًا، وَاثِنًا، وَأَثَنًا. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ الْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ مَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُبَيِّنٌ أَنَّهُ هُوَ. وَقِيلَ: الشَّيْطَانُ الْمُعَيَّنُ بِكُلِّ صَنَمٍ: أُفْرِدَ لَفْظًا وَهُوَ مَجْمُوعٌ فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدُ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ. قِيلَ كَانَ يَدْخُلُ فِي أَجْوَافِ الْأَصْنَامِ فَيُكَلِّمُ دَاعِيَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَعَنَهُ اللَّهُ صِفَةً، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ، وَلَا يَتَعَارَضُ الْحَصْرَانِ، لِأَنَّ دُعَاءَ الْأَصْنَامِ نَاشِئٌ عَنْ دُعَائِهِمُ الشَّيْطَانَ، لَمَّا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ أَغْرَاهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَوْ لِاخْتِلَافِ الدُّعَاءَيْنِ، فَالْأَوَّلُ عِبَادَةٌ، وَالثَّانِي طَوَاعِيَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: هُوَ مِثْلُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» يَعْنِي: أَنَّ نِسْبَةَ دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَهُمْ يَدْعُونَ الشَّيْطَانَ. وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَيْ نَصِيبًا وَاجِبًا اقْتَطَعْتُهُ لِنَفْسِي مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ، وَفَرْضُ الْجُنْدِ رِزْقُهُمْ. وَالْمَعْنَى: لَأَسْتَخْلِصَنَّهُمْ لِغَوَايَتِي، وَلَأَخُصَّنَّهُمْ بِإِضْلَالِي، وَهُمُ الْكَفَرَةُ وَالْعُصَاةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَفْرُوضُ هُنَا مَعْنَاهُ الْمُنْحَازُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَرْضِ، وَهُوَ الْحَزُّ فِي الْعُودِ وَغَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ وَاجِبًا إِنِ اتَّخَذَهُ، وَبَعْثُ النَّارِ هُوَ نَصِيبُ إِبْلِيسَ. قَالَ الْحَسَنُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ قَالُوا: وَلَفْظُ نَصِيبٍ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ فَقَطْ. وَالنَّصُّ أَنَّ أَتْبَاعَ إِبْلِيسَ هُمُ الْكَثِيرُ بِدَلِيلِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «2» فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3» وَهَذَا مُتَعَارِضٌ. وَأُجِيبَ أَنَّ التَّفَاوُتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي نَوْعِ الْبَشَرِ، أَمَّا إِذَا ضَمَمْتَ أَنْوَاعَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَتِ الْكَثْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَيْضًا فَالْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي الْعَدَدِ، نُصِيبُهُمْ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَإِنْ كَانُوا كَثِيرِينَ فَهُمْ كَالْعَدَمِ. انْتَهَى تلخيص ما أحب بِهِ. وَالَّذِي أَقُولُ: إِنَّ لَفْظَ نَصِيبٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ «4» الْآيَةَ. وَالْوَاوُ: قِيلَ عَاطِفَةٌ، وَقِيلَ واو الحال.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 17. (2) سورة الإسراء: 17/ 62. (3) سورة سبأ: 34/ 20. (4) سورة النساء: 4/ 7. [.....]

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ هَذِهِ خَمْسَةٌ أَقْسَمَ إِبْلِيسُ عَلَيْهَا: أَحَدُهَا: اتِّخَاذُ نَصِيبٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ إِيَّاهُمْ. وَالثَّانِي: إِضْلَالُهُمْ وَهُوَ صَرْفُهُمْ عَنِ الْهِدَايَةِ وَأَسْبَابِهَا. وَالثَّالِثُ: تَمْنِيَتُهُ لَهُمْ وَهُوَ التَّسْوِيلُ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يُمَنِّي كُلَّ إِنْسَانٍ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ مِنْ طُولِ عُمْرٍ وَبُلُوغِ وَطَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ كُلُّهَا أَمَانِيُّ كَوَاذِبُ بَاطِلَةٌ. وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ تَأْخِيرُ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ: هِيَ اعْتِقَادٌ أَنْ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَلَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمُ الْأَمَانِيَّ الْبَاطِلَةَ مِنْ طُولِ الْأَعْمَارِ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ، وَرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُجْرِمِينَ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، وَالْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا بِالشَّفَاعَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَنْزَعِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَوَلُوعِهِ بِتَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارِ لَفْظِ الْقُرْآنِ بِمَا يَقُولُهُ وَيَنْحِلُهُ. وَالرَّابِعُ: أَمْرُهُ إِيَّاهُمُ النَّاشِئُ عَنْهُ تَبْتِيكِ آذَانِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ فِعْلُهُمْ بِالْبَحَائِرِ كَانُوا يَشُقُّونَ آذَانَ النَّاقَةِ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أبطن. وجاء الخامس: ذكروا وَحَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الِانْتِفَاعَ بِهَا قَالَهُ: عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ كَامِلًا بِفِطْرَتِهِ، فَجَعَلَ الْإِنْسَانَ نَاقِصًا بِسُوءِ تَدْبِيرِهِ. وَالْخَامِسُ أَمْرُهُ إِيَّاهُمُ النَّاشِئُ عَنْهُ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. أَرَادَ تَغْيِيرَ دِينِ اللَّهِ، ذَهَبُوا فِي ذَلِكَ إلى الاحتجاج بقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ «1» أَيْ لِدِينِ اللَّهِ. وَالتَّبْدِيلُ يَقَعُ مَوْقِعَةَ التَّغْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ أَعَمَّ مِنْهُ. وَلَفْظُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ: النَّهْيُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: هُوَ جَعْلُ الْكُفَّارِ آلِهَةً لَهُمْ مَا خُلِقَ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ مِنَ الشَّمْسِ وَالنَّارِ وَالْحِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَبَدُوهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ: هُوَ الْوَشْمُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ التَّصَنُّعِ لِلتَّحْسِينِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي: «لَعْنِ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ وَلَعْنِ الْوَاصِلَةِ وَالْمُسْتَوْصِلَةِ» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَنَسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا: هُوَ الْخِصَاءُ، وَهُوَ فِي بَنِي آدَمَ مَحْظُورٌ. وَكَرِهَ أَنَسٌ خِصَاءَ الْغَنَمِ، وَقَدْ رَخَّصَ جَمَاعَةٌ فِيهِ لِمَنْفَعَةِ السِّمَنِ فِي الْمَأْكُولِ، وَرَخَّصَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خِصَاءِ الْخَيْلِ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ: هُوَ الْخِصَاءُ قَالَ: كَذَبَ عِكْرِمَةُ، هُوَ دِينُ الله تعالى. وقيل: التخنث. وقال

_ (1) سورة الروم: 30/ 30.

الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ فَقْءُ عَيْنِ الْحَامِي وَإِعْفَاؤُهُ عَنِ الرُّكُوبِ انْتَهَى. وَنَاسَبَ هَذَا أَنَّهُ ذَكَرَ أَثَرَ ذَلِكَ تَبْتِيكَ آذَانِ الْأَنْعَامِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ التَّغْيِيرُ هَذَا. وَقِيلَ: تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يُوجِدُهُ اللَّهُ لِفَضِيلَةٍ فَاسْتَعَانَ بِهِ فِي رَذِيلَةٍ فَقَدْ غَيَّرَ خَلْقَهُ. وَقَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِهِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ مِنْ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلتَّنَاسُلِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، فَاسْتَعَانَ بِهِ فِي السِّفَاحِ وَاللِّوَاطِ، فَذَلِكَ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْمُخَنَّثُ إِذَا نَتَفَ لِحْيَتَهُ، وَتَقَنَّعَ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ، وَالْفَتَاةُ إِذَا تَرَجَّلَتْ مُتَشَبِّهَةً بِالْفِتْيَانِ. وَكُلُّ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فَحَرَّمُوهُ، أَوْ حَرَّمَهُ تَعَالَى فَحَلَّلُوهُ. وَعَلَى ذَلِكَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا «1» وَإِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَشَارَ الْمُفَسِّرُونَ، وَلِهَذَا قَالُوا: هُوَ تَغْيِيرُ أَحْكَامِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ تَغْيِيرُ الْإِنْسَانِ بِالِاسْتِلْحَاقِ أَوِ النَّفْيِ. وَقِيلَ: خِضَابُ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ. وَقِيلَ: مُعَاقَبَةُ الْوُلَاةِ بَعْضَ الْجُنَاةِ بِقَطْعِ الْآذَانِ، وَشَقِّ الْمَنَاخِرِ، وَكَلِّ الْعُيُونِ، وَقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ. وَمَنْ فَسَّرَ بِالْوَشْمِ أَوِ الْخِصَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ فِي التَّغْيِيرِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ. وَفِي حَدِيثِ عِيَاضٍ الْمُجَاشِعِيِّ: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ أَلْهَتْهُمْ وَأَحَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ لَا يُغَيِّرُوا خَلْقِي» . وَمَفْعُولُ أَمَرَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ أَيْ: وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتبتيك فيبتكن، وَلَآمُرُنَّهُمْ بِالتَّغَيُّرِ فَلَيُغَيِّرُنَّ. وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَلَآمُرَنَّهُمْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَأُضِلَّنَّهُمْ وَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَآمُرُنَّهُمْ انْتَهَى. فَتَكُونُ جُمَلًا مَقُولَةً، لَا مُقْسَمًا عَلَيْهَا. وَجَاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ، بَدَأَ أَوَّلًا بِاسْتِخْلَاصِ الشَّيْطَانِ نَصِيبًا مِنْهُمْ وَاصْطِفَائِهِ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ ثَانِيًا بِإِضْلَالِهِمْ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَحْصُلُ فِي عَقَائِدِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، ثُمَّ ثالثا بتمنيهم الْأَمَانِيَّ الْكَوَاذِبَ وَالْإِطْمَاعَاتِ الْفَارِغَةَ، ثُمَّ رَابِعًا بِتَبْتِيكِ آذَانِ الْأَنْعَامِ، هُوَ حُكْمٌ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ، ثُمَّ خَامِسًا بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَهُوَ شَامِلٌ لِلتَّبْتِيكِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ. وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْتِيكِ وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ التَّغْيِيرِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ الْعَامِّ، وَاسْتِيضَاحًا مِنْ إِبْلِيسَ طَوَاعِيَتَهُمْ فِي أَوَّلِ شَيْءٍ يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ، فَيَعْلَمَ بِذَلِكَ قَبُولَهُمْ لَهُ. فَإِذَا قَبِلُوا ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِجَمِيعِ التَّغْيِيرَاتِ الَّتِي يُرِيدُهَا مِنْهُمْ، كَمَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ بِمَنْ يَقْصِدُ خِدَاعَهُ: يَأْمُرُهُ أَوَّلًا بِشَيْءٍ سَهْلٍ، فإذا رآه قد

_ (1) سورة يونس: 10/ 59.

قَبِلَ مَا أَلْقَاهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِجَمِيعِ مَا يُرِيدُ مِنْهُ. وَإِقْسَامُ إِبْلِيسَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيَفْعَلَنَّهَا يَقْتَضِي عِلْمَ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا تَقَعُ إِمَّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» أَوْ لِكَوْنِهِ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ لكونه لما استنزل آدَمَ عَلِمَ أَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أَيْ مِنْ يُؤْثِرُ حَظَّ الشَّيْطَانِ عَلَى حَظِّهِ مِنَ اللَّهِ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إِبْلِيسُ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَصْطَفِيهِمْ لِنَفْسِهِ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا ذَلِكَ الِاتِّخَاذَ وَانْفَعَلُوا لَهُ، فَاتَّخَذُوهُ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالْوَلِيُّ هُنَا قَالَ مُقَاتِلٌ: بِمَعْنَى الرَّبِّ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الِاتِّخَاذِ الْخُسْرَانَ الْمُبِينَ، لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ حَظَّهُ مِنَ اللَّهِ لِحَظِّ الشَّيْطَانِ فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَيْدٌ لَازِمٌ. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا إِلَّا إِذَا لَمْ يَتَّخِذِ اللَّهَ وَلِيًّا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا وَيَتَّخِذَ اللَّهَ وَلِيًّا، لِأَنَّهُمَا طَرِيقَانِ مُتَبَايِنَانِ، لَا يَجْتَمِعَانِ هُدًى وَضَلَالَةٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُحَذِّرَةٌ مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ لَفْظَانِ مُتَقَارِبَانِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي أَقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُمَنِّيَهُمْ وَقَعَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِذَلِكَ، وَاكْتَفَى مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْجُمَلِ الَّتِي أَقْسَمَ عَلَيْهَا إِبْلِيسُ بِوُضُوحِهَا وَظُهُورِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْوَعْدُ وَالتَّمْنِيَةُ مِنْ أُمُورِ الْبَاطِنِ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعِدُهُمْ بِالْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ وَالزَّخَارِفِ الْكَاذِبَةِ، وَأَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً قَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَا يَعِدُهُمْ بِسُكُونِ الدَّالِ، خُفِّفَ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغُرُورِ وَمَعْنَاهُ: هُنَا الْخُدَعُ الَّتِي تُظَنُّ نَافِعَةً، وَيَكْشِفُ الْغَيْبُ أَنَّهَا ضَارَّةٌ. وَاحْتَمَلَ النَّصْبُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، أَوْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ مَصْدَرًا عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِتَضْمِينِ يَعِدُهُمْ مَعْنَى يَغُرُّهُمْ، وَيَكُونُ ثَمَّ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: إِلَّا غُرُورًا وَاضِحًا أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَعْدًا غُرُورًا. أَيْ: ذَا غُرُورٍ. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَرَاغًا يَرُوغُونَ إِلَيْهِ. وَعَنْهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، لأنها لا تتعدّى بعن، ولا بمحيصا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَبْيِينًا عَلَى إضمارا عَنِّي. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَحِيصٍ، فَيَتَعَلَّقُ بمحيص أَيْ: كَائِنًا عَنْهَا، وَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً.

_ (1) سورة ص: 38/ 85.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَمَّا ذَكَرَ مَأْوَى الْكُفَّارِ، ذَكَرَ مَأْوَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ، اعْتِنَاءً بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى إِدْخَالَهُمُ الْجَنَّةَ وَتَشْرِيفًا لَهُمْ. وَقُرِئَ: سَيُدْخِلُهُمْ بِالْيَاءِ. وَلَمَّا رَتَّبَ تَعَالَى مَصِيرَ مَنْ كَانَ تَابِعًا لِإِبْلِيسَ إِلَى النَّارِ لِإِشْرَاكِهِ وَكُفْرِهِ وَتَغْيِيرِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، رَتَّبَ هُنَا دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ وَعْدَ الشَّيْطَانِ هُوَ غُرُورٌ بَاطِلٌ، ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا ارْتِيَابَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ فِي إِنْجَازِهِ. وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، وَسَيُدْخِلُهُمُ الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ أَيْ: وَسَنُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا سَنُدْخِلُهُمْ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لغيره، فوعد الله مؤكدا لِقَوْلِهِ: سَيُدْخِلُهُمْ، وَحَقًّا مُؤَكِّدٌ لِوَعْدِ اللَّهِ. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا الْقِيلُ وَالْقَوْلُ وَاحِدٌ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَصْدَقُ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ. وَهِيَ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ أَيْضًا لِمَا قَبْلَهَا. وَفَائِدَةُ هَذِهِ التَّوَاكِيدِ الْمُبَالَغَةُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، بِخِلَافِ مَوَاعِيدِ الشَّيْطَانِ وأمانيه الْكَاذِبَةِ الْمُخَلِّفَةِ لِأَمَانِيهِ. لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: اخْتَلَفُوا مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالُوا: دِينُنَا أَقْدَمُ مِنْ دِينِكُمْ. وَأَفْضَلُ، فَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: كِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْمُحَاوَرَةِ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: الْخِطَابُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، وَإِنَّمَا هِيَ حَيَاتُنَا لَنَا فِيهَا النَّعِيمُ، ثُمَّ لَا عَذَابَ. وَقَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. إِلَى نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ كَقَوْلِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي لَيْسَ: ضَمِيرُ وَعْدِ اللَّهِ، أَيْ: لَيْسَ يُنَالُ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَنَّى وَعْدَ اللَّهِ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ مَعَهُمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أماني المغفرة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 111.

حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ، وَقَالُوا: نُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ، وَكَذَبُوا لَوْ أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِهِ لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ لَنَكُونَنَّ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَحْسَنَ حَالًا، لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى. وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَيُعَضِّدَهُ تَقَدُّمُ ذِكْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ انْتَهَى. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي اسم ليس، وأقربها إِنَّ الَّذِي يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ هُوَ الْوَعْدُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَلِيهِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْإِيمَانِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَا وَقَعَتْ فِيهِ مُحَاوَرَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مَا قَالَتْهُ قُرَيْشٌ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: اسْمُ لَيْسَ مُضْمَرٌ فِيهَا عَلَى مَعْنَى: لَيْسَ الثَّوَابُ عَنِ الْحَسَنَاتِ وَلَا الْعِقَابُ عَلَى السَّيِّئَاتِ بِأَمَانِيِّكُمْ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْعَمَلِ، لَا بِالْأَمَانِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَيْسَ مُضْمَرٌ فِيهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ سَبَبُ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: نَحْنُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَا نُبْعَثُ. فَقَالَ: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ أَيْ: لَيْسَ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ بِأَمَانِيِّكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ نِصَاحٍ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَعْرَجُ: بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ سَاكِنَةَ الْيَاءِ، جُمِعَ عَلَى فَعَالِلْ، كَمَا يُقَالُ: قَرَاقِيرُ وَقَرَاقِرْ، جَمْعُ قُرْقُورٍ. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: اللَّفْظُ عَامٌّ، وَالْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ مُجَازَيَانِ بِالسُّوءِ يَعْمَلَانِهِ. فَمُجَازَاةُ الْكَافِرِ النَّارُ، وَالْمُؤْمِنِ بِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عنه: لَمَّا نَزَلَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَتْ قَاصِمَةَ الظهر، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ الْمُصِيبَاتُ فِي الدُّنْيَا» وَقَالَتْ بِمِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ بِهِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَسَأَلَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ وَكَأَنَّهُ خَافَهَا فَقَالَ لَهُ: أَيْ مَا كُنْتُ أَظُنُّكَ إِلَّا أَفْقَهَ مِمَّا أَرَى، مَا يُصِيبُ الرَّجُلَ خَدْشٌ أَوْ غَيْرُهُ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ. وَخَصَّصَ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ بِالْكُفَّارِ يُجَازَوْنَ عَلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَكَفَّارَ الْعَرَبِ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ. وَخَصَّصَ السُّوءَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ بِالشِّرْكِ. وَقِيلَ: السُّوءُ عَامٌّ فِي الْكَبَائِرِ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 122.

وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً رَوَى ابْنُ بَكَّارٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَلَا يَجِدُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنَ الْأُولَى هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَمَلِ كُلِّ الصَّالِحَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ مِنْهَا مَا هُوَ تَكْلِيفُهُ وَفِي وُسْعِهِ. وَكَمْ مُكَلَّفٍ لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا جِهَادٌ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضِ الْمَذَاهِبِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ: وَمَنْ يَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ. وَزِيَادَةُ مِنْ فِي الشَّرْطِ ضَعِيفٌ، وَلَا سِيَّمَا وَبَعْدَهَا مَعْرِفَةٌ. ومن الثَّانِيَةُ لِتَبْيِينِ الْإِبْهَامِ فِي: وَمَنْ يَعْمَلْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ في أوفى قَوْلِهِ: لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى «1» وَهُوَ مُؤْمِنٌ. جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَقَيَّدَ فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَوْ عَمِلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا عَمِلَ فَلَا يَنْفَعُهُ إِلَّا أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا أَبْطَلَ اللَّهُ الْأَمَانِيَّ وَأَثْبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ مَعْقُودٌ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَنَّ مَنْ أَصْلَحَ عَمَلَهُ فَهُوَ الْفَائِزُ، وَمَنْ أَسَاءَ عَمَلَهُ فَهُوَ الْهَالِكُ، تَبَيَّنَ الْأَمْرُ وَوَضَحَ، وَوَجَبَ قَطْعُ الْأَمَانِيِّ وَحَسْمُ الْمَطَامِعِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَكِنَّهُ نُصْحٌ لَا تَعِيهِ الْآذَانُ، وَلَا تُلْقَى إِلَيْهِ الْأَذْهَانُ انْتَهَى. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْكُفَّارِ كَذَلِكَ. إِذْ ذِكْرُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ، أَنَّ كِلَاهُمَا يُجْزَى بِعَمَلِهِ، وَلِأَنَّ ظُلْمَ الْمُسِيءِ أَنَّهُ يُزَادُ فِي عِقَابِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَزِيدُ فِي عِقَابِ الْمُجْرِمِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. وَالْمُحْسِنُ لَهُ ثَوَابٌ، وَتَوَابِعُ لِلثَّوَابِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ هِيَ فِي حُكْمِ الثَّوَابِ، فَجَازَ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْفَضْلِ. فَنَفْيُ الظُّلْمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ نَقْصٌ فِي الْفَضْلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي: وَلَا يُظْلَمُونَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، عَامِلُ السُّوءِ، وَعَامِلُ الصَّالِحَاتِ. وَقَرَأَ: يُدْخَلُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ هُنَا، وَفِي مَرْيَمَ، وَأَوَّلَيْ غَافِرٍ بن كثير وأبو عمرو أبو بَكْرٍ. وَقَرَأَ كَذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ فِي ثَانِيَةِ غَافِرٍ. وَقَرَأَ كَذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو فِي فَاطِرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِهِ فِي قَوْلَيْنِ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ محسن.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 195.

وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «1» وَاتِّبَاعُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي التَّوْحِيدِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: فِي الْقِيَامِ لِلَّهِ بِمَا فَرَضَهُ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ شَرِيعَتِهِ إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا. وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا هَذَا مَجَازٌ عَنِ اصْطِفَائِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِكَرَامَةٍ تُشْبِهُ كَرَامَةَ الْخَلِيلِ عِنْدَ خَلِيلِهِ. وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ الْخَلِيلِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْخُلَّةِ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَلَلٌ. وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيِّ: إِنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ خَلِيلًا لِأَنَّهُ تَخَلَّى عَمَّا سِوَى خَلِيلِهِ. فَإِنْ كَانَ فَسَّرَ الْمَعْنَى فَيُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الِاشْتِقَاقَ فَلَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ. وَعَنْ رَسُولِ الله قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ بِمَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا؟ قَالَ: لِإِطْعَامِهِ الطَّعَامَ» وَالْكَرَامَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهَا ذَكَرُوهَا فِي قِصَّةٍ مُطَوَّلَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَضْمُونُهَا: أَنَّ اللَّهَ قَلَبَ لَهُ غَرَائِرَ الرَّمْلِ دَقِيقًا حُوَّارًى عَجَنَ، وَخَبَزَ وَأَطْعَمَ النَّاسَ مِنْهُ. وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَمُوسَى نَجِيًّا وَاتَّخَذَنِي حَبِيبًا ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُوثِرَنَّ حَبِيبِي عَلَى خَلِيلِي وَنَجِيِّي» لَمَّا أَثْنَى عَلَى مَنِ اتَّبَعَ مِلَّةً إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَ بِمَزِيَّتِهِ عِنْدَهُ وَاصْطِفَائِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى اتِّبَاعِهِ. لِأَنَّ مَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِالْخُلَّةِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّبَعَ أَوْ لِيُبَيِّنَ أَنَّ تِلْكَ الْخُلَّةَ إِنَّمَا سَبَبُهَا حَنِيفِيَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «2» أَيْ قُدْوَةً لِإِتْمَامِكَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ. وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِشَرْعِهِ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ مَقَامِهِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ معطوفة على الجملة قبلها، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ قَبْلَهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ، وَلَا تَصْلُحُ هَذِهِ لِلصِّلَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الَّتِي مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، نَبَّهَتْ عَلَى شَرَفِ الْمَنْبَعِ وَفَوْزِ الْمُتَّبِعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ؟ (قُلْتُ) : هِيَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ كَنَحْوِ مَا يَجِيءُ فِي الشِّعْرِ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ، وَفَائِدَتُهَا تَأْكِيدُ وُجُوبِ اتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنَ الزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ أَنِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ تُتَّبَعَ مِلَّتُهُ وَطَرِيقَتُهُ انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى بِالِاعْتِرَاضِ غَيْرَ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الضَّوْءِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ قَوْلُهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اعْتَرَضْتُ الْكَلَامَ. وَإِنْ عَنَى بِالِاعْتِرَاضِ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لَا يَعْتَرِضُ إِلَّا بَيْنَ مُفْتَقِرَيْنِ كَصِلَةٍ وَمَوْصُولٍ، وَشَرْطٍ وَجَزَاءٍ، وَقَسَمٍ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ، وَتَابِعٍ ومتبوع، وعامل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 135. (2) سورة البقرة: 2/ 124.

وَمَعْمُولٍ، وَقَوْلُهُ: كَنَحْوِ مَا يَجِيءُ فِي الشِّعْرِ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ، فَالَّذِي نَحْفَظُهُ أَنَّ مَجِيءَ الْحَوَادِثِ جَمَّةً إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ مُفْتَقِرَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قَوْمٍ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ ونحو قال الْآخَرِ: أَلَا هَلْ أَتَاهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... بِأَنَّ أَمْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا وَلَا نَحْفَظُهُ جَاءَ آخِرَ كَلَامٍ. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ عَامِلِ السُّوءِ وَعَامِلِ الصَّالِحَاتِ، أَخْبَرَ بِعَظِيمِ مُلْكِهِ. وَمُلْكُهُ بِجَمِيعِ ما في السموات، وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَالْعَالَمُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ طَاعَةُ مَالِكِهِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخُلَّةِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مَعَ الْخُلَّةِ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْخُلَّةَ لَيْسَتْ لِاحْتِيَاجٍ، وَإِنَّمَا هِيَ خُلَّةُ تَشْرِيفٍ منه تعالى لابراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أَيْ: عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. مِنْهَا التَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا، وَفِي: فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا، وَفِي: ومن أحسن وهو مُحْسِنٌ. وَالتَّكْرَارُ فِي: لَا يغفر ويغفر، وفي: يشرك ومن يُشْرِكْ، وَفِي: لَآمُرَنَّهُمْ، وَفِي: اسْمِ الشَّيْطَانِ، وَفِي: يَعِدُهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ، وَفِي: الْجَلَالَةِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي: بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ، وَفِي: مَنْ يعمل ومن يَعْمَلْ، وَفِي: إِبْرَاهِيمَ. وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: وَمَنْ يُشَاقِقِ والهدى، وَفِي: أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ولمن يَشَاءُ يَعْنِي الْمُؤْمِنَ، وَفِي: سواء والصالحات. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ، وَفِي: وهو مؤمن، وملة إِبْرَاهِيمَ، وَفِي: مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَالْمُقَابَلَةُ فِي: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَالتَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ فِي: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: وَجْهَهُ لِلَّهِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْقَصْدِ أَوِ الْجِهَةِ وَفِي: مُحِيطًا عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

[سورة النساء (4) : الآيات 127 إلى 141]

[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

الشُّحُّ: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ. وَتَشَاحَّ الرَّجُلَانِ فِي الْأَمْرِ لَا يُرِيدَانِ أَنْ يَفُوتَهُمَا، وَهُوَ بِضَمِّ الشِّينِ وَكَسْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشُّحُّ الضَّبْطُ عَلَى الْمُعْتَقَدَاتِ وَالْإِرَادَةِ، فَفِي الْهِمَمِ وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَفْرَطَ فِيهِ، وَفِيهِ بَعْضُ الْمَذَمَّةِ. وَمَا صَارَ إِلَى حَيِّزِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمُرُوءَةُ فَهُوَ الْبُخْلُ، وَهُوَ رَذِيلَةٌ. لَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: نَعَمْ» وَأَمَّا الشُّحُّ فَفِي كُلِّ أَحَدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ» «1» و «مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» «2» أثبت لكل نفس شحا وَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» وَلَمْ يُرِدْ بِهِ واحدا بعينه، وليس بحمد أَنْ يُقَالَ هُنَا أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ بَخِيلٌ. الْمُعَلَّقَةُ: هِيَ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَلَّقَةً وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ. قَالَ الرَّجُلُ: هَلْ هِيَ إِلَّا خُطَّةٌ، أَوْ تَعْلِيقٌ، أَوْ صَلَفٌ، أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقٌ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ إِنْ أُنْطِقَ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ» شَبَّهَتِ الْمَرْأَةَ بِالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ مِنْ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا عَلَى الْأَرْضِ اسْتَقَرَّ، وَلَا عَلَى مَا عُلِّقَ مِنْهُ. وَفِي الْمَثَلِ: أَرْضٌ مِنَ الْمَرْكَبِ بِالتَّعْلِيقِ. الْخَوْضُ: الِاقْتِحَامُ فِي الشَّيْءِ تَقُولُ: خُضْتُ الْمَاءَ خَوْضًا وَخِيَاضًا، وَخُضْتُ الْغَمَرَاتِ اقْتَحَمْتُهَا، وَخَاضَهُ بِالسَّيْفِ حَرَّكَ سَيْفَهُ فِي الْمَضْرُوبِ، وَتَخَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ تَفَاوَضُوا فِيهِ، وَالْمَخَاضَةُ مَوْضِعُ الْخَوْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ: إِذَا شَالَتِ الْجَوْزَاءُ وَالنَّجْمُ طَالِعٌ ... فَكُلُّ مَخَاضَاتِ الْفُرَاتِ معابر

_ (1) سورة النساء: 4/ 128. (2) سورة الحشر: 59/ 9.

وَالْخَوْضَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ اللُّؤْلُؤَةُ، وَاخْتَاضَ بِمَعْنَى خَاضَ وَتَخَوَّضَ، تَكَلَّفَ الْخَوْضَ. الِاسْتِحْوَاذُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالتَّغَلُّبُ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ. وَيُقَالُ: حَاذَ يَحُوذُ حَوْذًا وَأَحَاذَ، بِمَعْنًى مِثْلَ حاذ وأحاذ. وشدت هَذِهِ الْكَلِمَةُ فَصَحَّتْ عَيْنُهَا فِي النَّقَّالِ، قَاسَ عَلَيْهَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَأَلُوا عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ وَأَحْكَامِهِنَّ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مُنَاسَبَتُهَا فَكَذَلِكَ عَلَى تَرْبِيعِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَمْرٍ ثُمَّ، تَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَا كَانَتْ فِيهِ أَوَّلًا. وَهَكَذَا كِتَابُ اللَّهِ يُبَيَّنُ فِيهِ أَحْكَامُ تَكْلِيفِهِ، ثُمَّ يُعْقَبُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، ثُمَّ يُعْقَبُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمُخَالِفِينَ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ، ثُمَّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ، ثُمَّ يُعَادُ لِتَبْيِينِ مَا تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ عَرَضَ هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْ بَدَأَ بِأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْمَوَارِيثِ، وَذِكْرِ الْيَتَامَى، ثُمَّ ثَانِيًا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ أَخِيرًا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَوَارِيثِ أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَتِ النِّسَاءُ مُطَّرِحًا أَمْرُهُنَّ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْيَتَامَى أَكَدَّ الْحَدِيثَ فِيهِنَّ مِرَارًا لِيَرْجِعُوا عَنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَالِاسْتِفْتَاءُ طَلَبَ الْإِفْتَاءِ، وَأَفْتَاهُ إِفْتَاءً وَفُتْيَا وَفَتْوَى، وَأَفْتَيْتُ فُلَانًا فِي رُؤْيَاهُ عَبَرْتُهَا لَهُ. وَمَعْنَى الْإِفْتَاءِ إِظْهَارُ الْمُشْكِلِ عَلَى السَّائِلِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الَّذِي قَوِيَ وَكَمُلَ، فَالْمَعْنَى: كَأَنَّهُ بَيَانُ مَا أَشْكَلَ فَيَثْبُتُ وَيَقْوَى. وَالِاسْتِفْتَاءُ لَيْسَ فِي ذَوَاتِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِنَّ، وَلَمْ يُبَيَّنْ فَهُوَ مُجْمَلٌ. وَمَعْنَى يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ: يُبَيِّنُ لَكُمْ حَالَ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ وَحُكْمَهُ. وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ذَكَرُوا فِي مَوْضِعِ مَا مِنَ الْإِعْرَابِ: الرَّفْعَ، وَالنَّصْبَ، وَالْجَرَّ، فَالرَّفْعُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسم الله أي: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ، وَالْمَتْلُوُّ فِي الْكِتَابِ فِي مَعْنَى الْيَتَامَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي قَوْلَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى «1» وَهُوَ قَوْلُهُ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ انْتَهَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضمير المستكن في يُفْتِيكُمْ، وَحَسُنَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالْمَفْعُولِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا يُتْلَى مُبْتَدَأً، وَفِي الْكِتَابِ خَبَرُهُ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 3.

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ تَعْظِيمًا لِلْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْعَدْلَ وَالنُّصْفَةَ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ الْمَرْفُوعَةِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وَالْمُخِلُّ ظَالِمٌ مُتَهَاوِنٌ بِمَا عَظَّمَهُ اللَّهُ. وَنَحْوُهُ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «1» . وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ لَكُمْ أَوْ يُفْتِيكُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يتعلق فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: يُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يتلى، وفي يَتَامَى بَدَلٌ مِنْ فِي الْكِتَابِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي الثَّانِيَةِ: تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأُولَى، لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَخْتَلِفُ، فَالْأُولَى ظَرْفٌ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِسَبَبِ الْيَتَامَى، كَمَا تَقُولُ: جِئْتُكَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فِي أَمْرِ زَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الثَّانِيَةُ بِالْكِتَابِ أَيْ: فِيمَا كَتَبَ بِحُكْمِ الْيَتَامَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ حَالًا، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى التَّقْدِيرِ: وَيُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يُتْلَى، لِأَنَّ يُفْتِيكُمْ مَعْنَاهَا يُبَيِّنُ فَدَلَّتْ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْجَرُّ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْقَسَمِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأُقْسِمُ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَسَمُ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي فِيهِنَّ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى. وَقَالَ: أَفْتَاهُمُ اللَّهُ فِيمَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَفِي مَا لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ. قَالَ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَيُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا فِيهِ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ بِغَيْرِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْخَفْضِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيْسَ بِسَدِيدٍ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَجْرُورِ فِي فِيهِنَّ، لِاخْتِلَالِهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى انْتَهَى. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ هَذَا الْوَجْهُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورَ مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، لَكِنْ قَدْ ذَكَرْتُ دَلَائِلَ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ. وَأَمْعَنْتُ فِي ذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ «2» والْمَسْجِدِ الْحَرامِ «3» وَلَيْسَ مُخْتَلًّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، لِأَنَّا قَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ أَيْ: يُفْتِيكُمْ فِي مَتْلُوِّهِنَّ وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، مِنْ إِضَافَةِ مَتْلُوٍّ إِلَى ضَمِيرِهِنَّ سَائِغَةٌ، إِذِ الْإِضَافَةَ تَكُونُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِمَا كَانَ مَتْلُوًّا فِيهِنَّ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 4. (2) سورة البقرة: 2/ 217. (3) سورة البقرة: 2/ 144، 149، 150، 217. [.....]

إِذَا كَوْكَبُ الْخَرْقَاءِ لَاحَ بِسَحَرَةٍ وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِاخْتِلَالِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ بِعَيْنِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّفْظِ وإلى المعنى، أما اللفظ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. كَمَا لَمْ يَجُزْ قوله: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «1» وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ تَعَالَى أَفْتَى فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَتَقْدِيرُ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْتَى فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُفْتِي فِيمَا سَأَلُوهُ مِنَ الْمَسَائِلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى اللَّهِ، أَوْ عَلَى ضَمِيرٍ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْسِيسِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ تَخْرُجُ الْجُمْلَةَ بِأَسْرِهَا عَنِ التَّأْسِيسِ، وَكَذَلِكَ الْجَرُّ عَلَى الْقَسَمِ. فَالنَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ يَجْعَلُهُ تَأْسِيسًا. وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ: التَّأْسِيسَ وَالتَّأْكِيدَ، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ هُوَ الْأَوْلَى، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا عِنْدَ اتِّضَاحِ عَدَمِ التَّأْسِيسِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَعَلُّقِ قوله: «في يتامى النساء» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ؟ (قُلْتُ) : فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ صِلَةُ يُتْلَى أَيْ: يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي مَعْنَاهُنَّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ بَدَلًا مِنْ فِيهِنَّ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَبَدَلٌ لَا غَيْرُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنْ يَكُونَ وَمَا يُتْلَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَأَمَّا مَا أَجَازَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ صِلَةَ يُتْلَى فَلَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا إِنْ كَانَ فِي يَتَامَى بَدَلًا مِنْ فِي الْكِتَابِ، أَوْ تَكُونُ فِي لِلسَّبَبِ، لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ حَرْفَا جَرٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ كَانَ على طريقة البدل أو بِالْعَطْفِ. وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّ فِي يَتَامَى بَدَلٌ مِنْ فِيهِنَّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِالْعَطْفِ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ: زَيْدٌ يُقِيمُ فِي الدَّارِ وَعَمْرٌو فِي كِسْرٍ مِنْهَا، فَفَصَلَتْ بَيْنَ فِي الدَّارِ وَبَيْنَ فِي كِسْرٍ مِنْهَا بِالْعَطْفِ، وَالتَّرْكِيبِ الْمَعْهُودِ: زَيْدٌ يُقِيمُ فِي الدَّارِ فِي كِسْرٍ مِنْهَا. وَعَمْرٌو وَاتَّفَقَ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَضَى فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً «2» وَقَوْلُهُ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ «3» وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «4» قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى أَوَّلًا، ثُمَّ سَأَلَ نَاسٌ بعدها

_ (1) سورة النساء: 4/ 1. (2) سورة النساء: 4/ 4. (3) سورة النساء: 4/ 2. (4) سورة النساء: 4/ 3.

رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ فَنَزَلَتْ : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ «1» وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَعَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَمَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ يَكُونُ يُفْتِيكُمْ وَيُتْلَى فِيهِ وُضِعَ الْمُضَارِعُ مَوْضِعَ الْمَاضِي، لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ وَالتِّلَاوَةَ قَدْ سَبَقَتْ. وَالْإِضَافَةُ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْخَاصِّ إِلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْقَسِمْنَ إِلَى يَتَامَى وَغَيْرِ يَتَامَى. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْإِضَافَةُ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ مَا هِيَ؟ (قُلْتُ) : إِضَافَةٌ بِمَعْنَى مِنْ هِيَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى جِنْسِهِ، كَقَوْلِكَ: خَاتَمُ حَدِيدٍ، وَثَوْبُ خَزٍّ، وَخَاتَمُ فِضَّةٍ. وَيَجُوزُ الْفَصْلُ وَإِتْبَاعُ الْجِنْسِ لِمَا قَبْلَهُ ونصبه وجره بمن، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ وَفِي سَحْقِ عِمَامَةٍ أَنَّهَا إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، وَمَعْنَى اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ بِيَاءَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَيَامَى، فَأُبْدِلَ مِنَ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَمَا قَالُوا: بَاهِلَةُ بْنُ يَعْصُرَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَعْصُرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ: أَثْنَاكَ أَنَّ أَبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَهُ ... كَرُّ اللَّيَالِي وَاخْتِلَافُ الْأَعْصُرِ وَقَالُوا فِي عَكْسِ ذَلِكَ: قَطَعَ اللَّهُ أَيْدَهُ يُرِيدُونَ يَدَهُ، فَأُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ هَمْزَةً. وَأَيَامَى جَمْعُ أَيِّمٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، وَهُوَ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الْمُعْتَلُّ، وَأَصْلُهُ: أَيَايِمُ كَسَيَايِدَ جَمْعُ سَيِّدٍ، قُلِبَتِ اللَّامُ مَوْضِعَ الْعَيْنِ فَجَاءَ أَيَامَى، فَأُبْدِلَ مِنَ الْكَسْرَةِ فَتْحَةً انْقَلَبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كُسِّرَ أَيِّمٍ عَلَى أَيْمَى عَلَى وَزْنِ سَكْرَى، ثُمَّ كُسِّرَ أَيْمَى عَلَى أَيَامَى لَكَانَ وَجَهًا حَسَنًا. وَمَعْنَى مَا كُتِبَ لَهُنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ الْمِيرَاثُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الصَّدَاقُ، وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: لَا تُؤْتُونَهُنَّ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ كَانُوا يَأْخُذُونَ صَدَقَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يُعْطُونَهُنَّ شَيْئًا. وَقِيلَ: أَوْلِيَاءُ الْيَتَامَى كَانُوا يُزَوِّجُونَ الْيَتَامَى اللَّوَاتِي فِي حُجُورِهِنَّ وَلَا يَعْدِلُونَ فِي صَدَقَاتِهِنَّ. وَقُرِئَ: مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُنَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ وَالنَّفْرَةَ فَالْمَعْنَى فِي الرَّغْبَةِ فِي أن تنكحوهن لمالهن أَوْ لِجَمَالِهِنَّ، وَالنَّفْرَةِ وَتَرْغَبُونَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِقُبْحِهِنَّ فَتُمْسِكُوهُنَّ رَغْبَةً فِي أَمْوَالِهِنَّ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَمَاعَةٍ انْتَهَى. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْخُذُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 127.

النَّاسَ بِالدَّرَجَةِ الْفُضْلَى فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ إِذَا سَأَلَ الْوَلِيَّ عَنْ وَلِيَّتِهِ فَقِيلَ: هِيَ غَنِيَّةٌ جَمِيلَةٌ قَالَ لَهُ: اطْلُبْ لَهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَعْوَدُ عَلَيْهَا بِالنَّفْعِ. وَإِذَا قِيلَ: هِيَ دَمِيمَةٌ فَقِيرَةٌ قَالَ لَهُ: أَنْتَ أَوْلَى بِهَا وَبِالسَّتْرِ عَلَيْهَا مِنْ غيرك. والمستضعفين مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَامَى النِّسَاءِ، وَالَّذِي تُلِيَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ «1» الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تُوَرِّثُ الصَّبِيَّةَ وَلَا الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ، وَكَانَ الْكَبِيرُ يَنْفَرِدُ بِالْمَالِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَرِثُ مَنْ يَحْمِي الْحَوْزَةَ وَيَرُدُّ الْغَنِيمَةَ، وَيُقَاتِلُ عَنِ الْحَرِيمِ، فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ حَقَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْأَوْصِيَاءِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ «2» وَقِيلَ: الْمُسْتَضْعَفِينَ هُنَا الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ. وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ: وَفِي أَنْ تَقُومُوا. وَالَّذِي تُلِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «3» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَنْصُوبًا بِمَعْنَى وَيَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقُومُوا. وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأَئِمَّةِ فِي أَنْ يَنْظُرُوا لَهُمْ، وَيَسْتَوْفُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَلَا يُخَلُّوا أَحَدًا يَهْتَضِمُهُمْ انْتَهَى. وَفِي رَيِّ الظَّمْآنِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنْ تَقُومُوا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ انْتَهَى. وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ حَذْفٍ بِكَوْنِهِ قَدْ عُطِفَ عَلَى مَجْرُورٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ نَاصِبٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً قَدْ حُذِفَ خَبَرُهُ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النِّسَاءِ، وَيَتَامَى النِّسَاءِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ مَنْ ذَكَرَ، فَيُجَازِي عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ فِعْلِ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ، وَيُجَازِي عَلَى ذَلِكَ بِثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ. وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً نَزَلَتْ بِسَبَبِ ابْنِ بِعَكَكَ وَامْرَأَتِهِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَبِسَبَبِ رَافِعِ بْنِ خُدَيْجٍ وَامْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَكَانَتْ قَدْ أَسَنَّتْ فَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا شَابَّةً فَآثَرَهَا، فَلَمْ تَصْبِرْ خَوْلَةُ فطلقها

_ (1) سورة النساء: 4/ 11. (2) سورة النساء: 4/ 2. (3) سورة النساء: 4/ 2.

ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ، فَإِمَّا أَنْ تَقْوَيْ عَلَى الْأَثَرَةِ وَإِلَّا طَلَّقْتُكِ فَفَرَّتْ. قَالَهُ: عُبَيْدَةُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ. أَوْ بِسَبَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ خَشِيَتْ طَلَاقَهَا فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وَاحْبِسْنِي مَعَ نِسَائِكَ، وَلَا تَقْسِمْ لِي، فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ. وَالْخَوْفُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِظُهُورِ أَمَارَاتٍ مَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْخَوْفِ. وَقِيلَ: مَعْنَى خَافَتْ عَلِمَتْ. وَقِيلَ: ظَنَّتْ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الظَّاهِرِ، إِذِ الْمَعْنَى مَعَهُ يَصِحُّ. وَالنُّشُوزُ: أَنْ يُجَافِيَ عَنْهَا بِأَنْ يَمْنَعَهَا نَفْسَهُ وَنَفَقَتَهُ، وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ يُؤْذِيَهَا بِسَبَبٍ أَوْ ضَرْبٍ. وَالْإِعْرَاضُ: أن يقل محادثتها ومؤانستها لِطَعْنٍ فِي سِنٍّ أَوْ دَمَامَةٍ، أَوْ شَيْنٍ فِي خُلُقٍ أَوْ خَلْقٍ أَوْ مَلَالٍ، أَوْ طُمُوحِ عَيْنٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَخَفُّ النُّشُوزِ. فَرَفَعَ الْجُنَاحَ بَيْنَهُمَا فِي الصُّلْحِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعٍ مِنْ بَذْلٍ مِنَ الزَّوْجِ لَهَا عَلَى أَنْ تَصْبِرَ، أَوْ بَذْلٍ مِنْهَا لَهُ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَهَا وَعَنْ أَنْ يُؤْثِرَ وَتَتَمَسَّكُ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ عَلَى صَبْرٍ عَلَى الْأَثَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ. وَرَتَّبَ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَلَى تَوَقُّعِ الْخَوْفِ، وَظُهُورِ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، وَهُوَ مَعَ وُقُوعِ تِلْكَ وَتَحَقُّقِهَا أَوْلَى. لِأَنَّهُ إِذَا أُبِيحَ الصُّلْحُ مَعَ خَوْفِ ذَلِكَ فَهُوَ مَعَ الْوُقُوعِ أَوْكَدُ، إِذْ فِي الصُّلْحِ بَقَاءُ الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ أَنْ تَهَبَ يَوْمَهَا لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ كَمَا فَعَلَتْ سَوْدَةُ، وَأَنْ تَرْضَى بِالْقَسْمِ لَهَا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مَرَّةً، أَوْ تَهَبَ لَهُ الْمَهْرَ أَوْ بَعْضَهُ، أَوِ النَّفَقَةَ، وَالْحَقُّ الَّذِي لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ هُوَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ، وَالْقَسَمُ هُوَ عَلَى إِسْقَاطِ ذَلِكَ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: يُصْلِحَا مِنْ أَصْلَحَ عَلَى وَزْنِ أَكْرَمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: يَصَّالَحَا، وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، وَأُدْغِمَتِ التَّاءِ فِي الصَّادِ. وَقَرَأَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: يُصَالِحَا مِنَ الْمُفَاعَلَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: إِنِ اصَّالَحَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، جُعِلَ مَاضِيًا. وَأَصْلُهُ تَصَالَحَ عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلَ، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ، وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَالصُّلْحُ لَيْسَ مَصْدَرَ الشَّيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي قُرِئَتْ، فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِمَا يُصْلَحُ بِهِ كَالْعَطَاءِ وَالْكَرَامَةِ مَعَ أَعْطَيْتُ وَأَكْرَمْتُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ: يُصْلَحُ أَيْ بِشَيْءٍ يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ظَاهِرُهُ أَنَّ خَيْرًا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَأَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ مِنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنَ الْفُرْقَةُ. وَقِيلَ: مِنَ الْخُصُومَةِ، وَتَكُونُ

الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الصُّلْحِ لِلْعَهْدِ، وَيَعْنِي بِهِ صُلْحًا السَّابِقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» . وَقِيلَ: الصُّلْحُ عَامٌّ. وَقِيلَ: الصُّلْحُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيَزُولُ بِهِ الْخِلَافُ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُلْحُ الزَّوْجَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. وَقِيلَ: خَيْرٌ هُنَا لَيْسَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، كَمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرٌّ مِنَ الشُّرُورِ. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ جُعِلَ الشُّحُّ كَأَنَّهُ شَيْءٌ مُعَدٌّ فِي مَكَانٍ. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ وَسِيقَتْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِ، وَأُحْضِرَ الشُّحُّ الْأَنْفُسَ فَيَكُونُ مَسُوقًا إِلَى الْأَنْفُسِ، بَلِ الْأَنْفُسُ سِيقَتْ إِلَيْهِ لِكَوْنِ الشُّحِّ مَجْبُولًا عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَمَرْكُوزًا فِي طَبِيعَتِهِ، وَخَصَّ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ هُنَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ شُحُّ الْمَرْأَةِ بِنَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَمَالِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ شُحُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشُّحِّ الْحِرْصُ، وَهُوَ أَنْ يَحْرِصَ كُلٌّ عَلَى حَقِّهِ يُقَالُ: هُوَ شَحِيحٌ بِمَوَدَّتِكَ، أَيْ حَرِيصٌ عَلَى بَقَائِهَا، وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا بَخِيلٌ، فَكَأَنَّ الشُّحَّ وَالْحِرْصَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ الشُّحُّ لِلْمَنْعِ والحرص للطلب، فَأُطْلِقَ عَلَى الْحِرْصِ الشُّحُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِكَوْنِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْبُخْلَ يُحْمَلُ عَلَى الْحِرْصِ، وَالْحِرْصُ يُحْمَلُ عَلَى الْبُخْلِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. وَمَعْنَى إِحْضَارِ الْأَنْفُسِ الشُّحَّ: أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ حَاضِرًا لَهَا لَا يَغِيبُ عَنْهَا أَبَدًا وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، يَعْنِي: أَنَّهَا مَطْبُوعَةٌ عَلَيْهِ. وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكَادُ تَسْمَحُ بِأَنْ يُقْسَمَ لَهَا، أَوْ يُمْسِكَهَا إِذَا رَغِبَ عَنْهَا وَأَحَبَّ غَيْرَهَا انْتَهَى. قوله. والصلح خبر جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا «2» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا «3» وَقَوْلُهُ: وَمَعْنَى إِحْضَارِ الْأَنْفُسِ الشُّحَّ أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ حَاضِرًا لَا يَغِيبُ عَنْهَا أَبَدًا، جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلِ التَّرْكِيبُ الْقُرْآنِيُّ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَنْفُسَ جُعِلَتْ حَاضِرَةً لِلشُّحِّ لَا تَغِيبُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْأَنْفَسَ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ فَاعِلَةً قَبْلَ دُخُولِ هَمْزَةِ النَّقْلِ، إِذِ الْأَصْلُ: حَضَرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ إِقَامَةُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مَقَامَ

_ (1) سورة المزمل: 73/ 15- 16. (2) سورة النساء: 4/ 130. (3) سورة النساء: 4/ 128.

الْفَاعِلِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَجْوَدُ عِنْدَهُمْ إِقَامَةَ الْأَوَّلِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَسُ هِيَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَالشُّحُّ هُوَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ، وَقَامَ الثَّانِي مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَفْصَحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْعَدَوِيُّ: الشِّحُّ بِكَسْرِ الشِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً نَدَبَ تَعَالَى إِلَى الْإِحْسَانِ فِي الْعِشْرَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَإِنْ كَرِهْنَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الصُّحْبَةِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى فِي حَالِهِنَّ، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ تَحْمِلُهُ الْكَرَاهَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى أَذِيَّتِهَا وَخُصُومَتِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الْكَرَاهَةِ مِنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ. وَقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِنَّ «فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَ الْأَزْوَاجِ» . وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَإِنْ تُحْسِنُوا فِي أَنْ تُعْطُوهُنَّ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِنَّ، وَتَتَّقُوا فِي أَنْ لَا تَنْقُصُوا مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا،. أَوْ أَنْ تُحْسِنُوا فِي إِيفَاءِ حَقِّهِنَّ، وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ، وَتَتَّقُوا الْجَوْرَ وَالْمَيْلَ وَتَفْضِيلَ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ. أَوْ أَنْ تُحْسِنُوا فِي اتِّبَاعِ مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِنَّ، وَتَتَّقُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ انْتَهَى. وَخَتَمَ آخَرَ هَذِهِ بِصِفَةِ الْخَبِيرِ وَهُوَ عِلْمُ مَا يَلْطُفُ إِدْرَاكُهُ وَيَدِقُّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ خَفَايَا الْأُمُورِ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا الله تعالى، ولا يظهران ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَكَانَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الْخَارِجِيُّ مِنْ آدَمِ النَّاسِ، وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَجْمَلِهِنَّ، فَأَجَالَتْ فِي وَجْهِهِ نَظَرَهَا ثُمَّ تَابَعَتِ الْحَمْدَ لِلَّهِ، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَى أَنِّي وَإِيَّاكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّكَ رُزِقْتَ مِثْلِي فَشَكَرْتَ، وَرُزِقْتُ مِثْلَكَ فَصَبَرْتُ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ الشَّاكِرِينَ وَالصَّابِرِينَ. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْلِهِ بِقَلْبِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا انْتَهَى. وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى انْتِفَاءِ اسْتِطَاعَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالتَّسْوِيَةِ حَتَّى لَا يَقَعَ مَيْلٌ الْبَتَّةَ، ولا زيادة ولا نقصان فِيمَا يَجِبُ لَهُنَّ، وَفِي ذَلِكَ عُذْرٌ لِلرِّجَالِ فِيمَا يَقَعُ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ، وَالتَّعَهُّدِ، وَالنَّظَرِ، وَالتَّأْنِيسِ، وَالْمُفَاكَهَةِ. فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ في ذلك محال خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطَاعَةِ، وَعَلَّقَ انْتِفَاءَ الِاسْتِطَاعَةِ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْحِرْصِ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَنْ تَعْدِلُوا فِي الْمَحَبَّةِ قَالَهُ: عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ: فِي التَّسْوِيَةِ وَالْقَسَمِ. وَقِيلَ: فِي الْجِمَاعِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمَلِكُ» يَعْنِي الْمَحَبَّةَ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قَلْبِي فَلَا أَمْلِكُهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَأَرْجُو أَنْ أَعْدِلَ فِيهِ. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ نَهَى تَعَالَى عَنِ الجور على المرغوب

عنها بمنع قسمتها من غير رضا منها، واجتناب كل الميل داخل في الوسع، ولذلك وقع النهي عنه أَيْ: إِنْ وَقَعَ مِنْكُمُ التَّفْرِيطُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فَلَا تَجُورُوا كُلَّ الْجَوْرِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَتَذَرُوهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَمِيلِ عَنْهَا الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَتَذْرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَتَذْرُوهَا كَأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُعَلَّقَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْمَحْبُوسَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقِيلَ: مَعْنَى كَالْمُعَلَّقَةِ كَالْبَعِيدَةِ عَنْ زَوْجِهَا. قِيلَ: أَوْ عَنْ حَقِّهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مَأْخُوذٌ مِنْ تَعْلِيقِ الشَّيْءِ لِبُعْدِهِ عَنْ قَرَارِهِ. وَتَذْرُوهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَمِيلُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِ النَّهْيِ. وَكَالْمُعَلِّقَةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، فَتَتَعَلَّقَ الْكَافُ بِمَحْذُوفٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ» وَالْمَعْنَى: يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا كُلَّ الْمَيْلِ، لَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ. وَقَدْ فَاضَلَ عُمَرُ فِي عَطَاءٍ بَيْنَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْدِلُ بيننا في القسمة بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ ، فَسَاوَى عُمَرُ بَيْنَهُنَّ، وَكَانَ لِمُعَاذٍ امْرَأَتَانِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي بَيْتِ الْأُخْرَى، فَمَاتَتَا فِي الطَّاعُونِ فَدَفَنَهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ تُصْلِحُوا مَا مَضَى مِنْ قِبَلِكُمْ وَتَتَدَارَكُوهُ بِالتَّوْبَةِ، وَتَتَّقُوا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ انْتَهَى. وَفِي ذَلِكَ نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنْ تُصْلِحُوا مَا أَفْسَدْتُمْ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَتَلْزَمُوا مَا يَلْزَمُكُمْ مِنَ الْعَدْلِ فِيمَا تَمْلِكُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا لِمَا تَمْلِكُونَهُ مُتَجَاوِزًا عَنْهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: غَفُورًا لِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَيْلِ كُلَّ الْمَيْلِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا هِيَ مَغْفِرَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَاقَعُوا الْمَحْظُورَ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَتَمَتْ تِلْكَ بِالْإِحْسَانِ، وَهَذِهِ بِالْإِصْلَاحِ. لِأَنَّ الْأُولَى فِي مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ إِذْ لَهُ أَنْ لَا يُحْسِنَ وَأَنْ يَشِحَّ وَيُصَالِحَ بِمَا يُرْضِيهِ، وَهَذِهِ فِي لَازِمٍ، إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُصْلِحَ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْعَدْلُ فِيمَا يَمْلِكُ. وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ الضَّمِيرُ فِي يَتَفَرَّقَا عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها «1» وَالْمَعْنَى: وَإِنْ شَحَّ كُلٌّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَصْطَلِحَا وَتَفَرَّقَا بِطَلَاقٍ، فَاللَّهُ يغني كلا منهما عَنْ صَاحِبِهِ بِفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ فِي الْمَالِ وَالْعِشْرَةِ وَالسِّعَةِ. وَوُجُودِ الْمُرَادِ وَالسِّعَةُ الْغِنَى وَالْمَقْدِرَةُ وَهَذَا وَعْدٌ بِالْغِنَى لِكُلِّ وَاحِدٍ إِذَا تَفَرَّقَا، وهو

_ (1) سورة النساء: 4/ 128.

مَعْرُوفٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَدْخَلًا فِي التَّفَرُّقِ، وَهُوَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ وَتَرَاخِي الْمُدَّةِ بِزَوَالِ الْعِصْمَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجِ، وَلَا نَصِيبَ لِلْمَرْأَةِ فِي التَّفَرُّقِ الْقَوْلِيِّ، فَيُسْنَدُ إِلَيْهَا خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ هَاهُنَا هُوَ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الطَّلَاقُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أَفْلَحَ: وَإِنْ يَتَفَارَقَا بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ أَيْ: وَإِنْ يُفَارِقْ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «1» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ وِفَاقٌ فَطَلَاقٌ. فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَتَفَارَقَا، كَمَا أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْغِنَى بِالْمَالِ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَوْا طُلَقَةً ذُوَقَةً فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْغِنَى بِأَمْرَيْنِ فَقَالَ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى «2» الْآيَةَ، وَقَالَ: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً نَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ السَّعَةِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْ سِعَتِهِ. وَالْوَاسِعُ عَامٌّ فِي الْغِنَى وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَسَائِرِ الْكِمَالَاتِ. وَنَاسَبَ ذِكْرَ وَصْفِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ مَا يُنَاسِبُ، لِأَنَّ السَّعَةَ مَا لَمْ تَكُنْ مَعَهَا الْحِكْمَةُ كَانَتْ إِلَى فَسَادٍ أَقْرَبَ مِنْهَا لِلصَّلَاحِ قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ وَوَعَظَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِيمَا حَكَمَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِمْسَاكِهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَوْ حَيْثُ نُدِبَ إِلَى الْفُرْقَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى سَعَةَ رِزْقِهِ وَحِكْمَتَهُ، ذَكَرَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَعْتَاضُّ عَلَيْهِ غِنَى أَحَدٍ، وَلَا التَّوْسِعَةُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ ذَلِكَ هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ. وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَصَّيْنَا: أَمَرْنَا أَوْ عَهِدْنَا إِلَيْهِمْ وَإِلَيْكُمْ، وَمِنْ قَبْلِكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بأوتوا وهو الأقرب، أو بوصينا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالتَّقْوَى هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَلَسْتُمْ مَخْصُوصِينَ بهذه الوصية. وإياكم عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَتَقَدَّمَ الْمَوْصُولُ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ السَّابِقَةُ عَلَى وَصَّيْنَا فَهُوَ تَقَدُّمٌ بِالزَّمَانِ. وَمِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ أَعْنِي: عَطْفَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُنْفَصِلِ عَلَى الظَّاهِرِ فَصِيحٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ، وَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ بعض

_ (1) سورة البقرة: 2/ 229. (2) سورة النور: 24/ 32. [.....]

أَصْحَابِنَا وَشُيُوخِنَا فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، لِأَنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مُتَّصِلًا فَتَقُولُ: آتِيكَ وَزَيْدًا. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَإِيَّاكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَهَذَا وَهْمٌ فَاحِشٌ، بَلْ مِنْ مُوجَبِ انْفِصَالِ الضَّمِيرِ كَوْنُهُ يَكُونُ مَعْطُوفًا فَيَجُوزُ قَامَ زَيْدٌ وَأَنْتَ، وَخَرَجَ بَكْرٌ وَأَنَا، لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ ضَرَبْتُ زَيْدًا وَإِيَّاكَ. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هُوَ عَامٌّ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا ضرورة تدعوا إِلَى تَخْصِيصِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى لَمْ تَزَلْ مُذْ أَوْجَدَ الْعَالَمَ، فَلَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَنِ اتَّقُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: بِأَنِ اتَّقُوا اللَّهَ، وَأَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً التَّقْدِيرُ أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ لِأَنَّ وَصَّيْنَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَإِنْ تَكْفُرُوا ظَاهِرُهُ الْخِطَابُ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكُمْ، وَهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِلَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ وَلِلْمُخَاطَبِينَ، وَغَلَبَ الْخِطَابُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ كَمَا تَقُولُ: قُلْتُ لِزَيْدٍ ذَلِكَ لَا تَضْرِبْ عَمْرًا، وَكَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ وَأَنْتَ تَخْرُجَانِ. فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ أَنْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَمْلِكُهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيكُمْ، إِذْ هُوَ خَالِقُكُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ وَأَنْتُمْ مَمْلُوكُونَ لَهُ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ تَكْفُرُوا مَنْ هُوَ مَالِكُكُمْ وتخالفون مره، بَلْ حَقُّهُ أَنْ يُطَاعَ وَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُتَّقَى عِقَابُهُ وَيُرْجَى ثَوَابُهُ، وَلِلَّهِ مَا فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ مَنْ يُوَحِّدُهُ وَيَعْبُدُهُ وَلَا يَعْصِيهِ. وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا أَيْ عَنْ خَلْقِهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُمْ، وَلَا يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ. حَمِيداً أَيْ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُحْمَدَ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ وَإِنْ كَفَرْتُمُوهُ أَنْتُمْ. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا الْوَكِيلُ الْقَائِمُ بِالْأُمُورِ الْمُنْفِذُ فِيهَا مَا يَرَاهُ، فَمَنْ لَهُ ملك ما في السموات وَالْأَرْضِ فَهُوَ كَافٍ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَعَادَ قَوْلَهُ: ولله ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسَبِ السِّيَاقِ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَوَّلُ: تَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ الرَّجَاءِ يَهْدِي الْمُتَفَرِّقِينَ. وَالثَّانِي: تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْعِبَادِ. وَالثَّالِثُ: مُقَدِّمَةٌ لِلْوَعِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَكْرِيرُ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَقْرِيرٌ لِمَا هُوَ مُوجِبٌ تَقْوَاهُ لِيَتَّقُوهُ، فَيُطِيعُوهُ وَلَا يَعْصُوهُ، لِأَنَّ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى أَصْلُ الْخَيْرِ كُلِّهِ. وَقَالَ

الرَّاغِبُ: الْأَوَّلُ: لِلتَّسْلِيَةِ عَمَّا فَاتَ. وَالثَّانِي: أَنَّ وَصِيَّتَهُ لِرَحْمَتِهِ لَا لِحَاجَةٍ، وَأَنَّهُمْ إِنْ كَفَرُوهُ لَا يَضُرُّوهُ شَيْئًا. وَالثَّالِثُ: دَلَالَتُهُ عَلَى كَوْنِهِ غَنِيًّا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَوَّلُ: تَقْرِيرُ كَوْنِهِ وَاسِعَ الْجُودِ. وَالثَّانِي: لِلتَّنْزِيهِ عَنْ طَاعَةِ الْمُطِيعِينَ. وَالثَّالِثُ: لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِفْنَاءِ وَالْإِيجَادِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَحْسُنُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ مَدْلُولَاتِهِ، وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ إِعَادَةُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ يُحْضِرُ فِي الذِّهْنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ، وَكَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الْمَدْلُولِ أَقْوَى وَأَجَلَّ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْرَارَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: نَبَّهْنَا أَوَّلًا عَلَى مُلْكِهِ وَسَعَتِهِ. وَثَانِيًا عَلَى حَاجَتِنَا إِلَيْهِ وَغِنَاهُ، وَثَالِثًا عَلَى حِفْظِهِ لَنَا وَعِلْمِهِ بِتَدْبِيرِنَا. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الْخِطَابُ أَوَّلًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى: وَيَأْتِ بِآخَرِينَ مِنْكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قال: إن يشاء يُهْلِكْكُمْ كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ إِذْ كَفَرُوا بِرُسُلِهِ. وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ شَاءَ يُهْلِكْكُمْ كَمَا أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ قَوْمًا آخَرِينَ يَعْبُدُونَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلَّذِينِ شَفَعُوا فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَخَاصَمَ وَخَاصَمُوا عَنْهُ فِي أَمْرِ خِيَانَتِهِ فِي الدِّرْعِ وَالدَّقِيقِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْعُمُومُ فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْعَالِمِ الْحَاضِرِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ. وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أَيْ: بِنَاسٍ غَيْرِكُمْ، فَالْمَأْتِيُّ بِهِ مِنْ نَوْعِ الْمُذْهَبِ، فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُخَاطَبِ الْمُنَادَى وَهُمُ النَّاسُ. وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ عَلَى ظَهْرِ سَلْمَانَ وَقَالَ: «إِنَّهُمْ قَوْمُ هَذَا يُرِيدُ ابْنَ فَارِسَ» ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآخَرِينَ مِنْ نَوْعِ الْمُخَاطَبِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَأْتِ بِآخَرِينَ مَكَانَكُمْ أَوْ خَلْقًا آخَرِينَ غَيْرَ الْإِنْسِ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون وَعِيدًا لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ، وَيَكُونَ الْآخَرُونَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِمْ. كَمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ قَبْلَ بَنِي آدَمَ انْتَهَى. وَمَا جَوَّزَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَدْلُولَ آخَرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَدْلُولٌ غَيْرُ خَاصٍّ بِجِنْسِ مَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ وَآخَرُ مَعَهُ، أَوْ مَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ وَأُخْرَى مَعَهَا، أَوِ اشْتَرَيْتُ فَرَسًا وَآخَرَ، وَسَابَقْتُ بَيْنَ حِمَارٍ وَآخَرَ، لَمْ يَكُنْ آخَرُ وَلَا أُخْرَى مُؤَنَّثُهُ، وَلَا تَثْنِيَتُهُ وَلَا جَمْعُهُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ قَبْلَهُ. وَلَوْ قُلْتَ:

اشْتَرَيْتُ ثَوْبًا وَآخَرَ، وَيَعْنِي بِهِ: غَيْرَ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ، فَعَلَى هَذَا تَجْوِيزُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِآخَرِينَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا تَقَدَّمَ وَهُمُ النَّاسُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَيْرٍ وَبَيْنَ آخَرَ، لِأَنَّ غَيْرًا تَقَعُ عَلَى الْمُغَايِرِ فِي جِنْسٍ أَوْ فِي صِفَةٍ، فَتَقُولُ: اشْتَرَيْتُ ثَوْبًا وَغَيْرَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثَوْبٍ وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُ هَذَا الْفَرْقَ. وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أَيْ عَلَى إِذْهَابِكُمْ وَالْإِتْيَانِ بِآخَرِينَ. وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُدْرَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَهَذَا غَضَبٌ عَلَيْهِمْ وَتَخْوِيفٌ، وَبَيَانٌ لِاقْتِدَارِهِ. مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ مَنْ كَانَ لَا رَغْبَةَ لَهُ إِلَّا فِي ثَوَابِ الدُّنْيَا وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ ثَمَّ سِوَاهُ فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدَّارَيْنِ. فَمَنْ قَصَدَ الْآخِرَةَ أَعْطَاهُ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَأَعْطَاهُ قَصْدَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الدُّنْيَا فَقَطْ أَعْطَاهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا قُدِّرَ لَهُ، وَكَانَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ طَلَبًا لِلْعِزِّ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ عِزُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ لِلتَّقْرِيبِ وَالشَّفَاعَةِ أَيْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَعِنْدَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا عِنْدَ مَنْ تَطْلُبُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي أَهْلِ النفاق الذين يراؤون بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا لِثَوَابِ الدُّنْيَا لَا غَيْرَ. وَمَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطٌ وَجَوَابُهُ الْجُمْلَةُ الْمَقْرُونةُ بِفَاءِ الْجَوَابِ: وَلَا بُدَّ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِاسْمِ الشَّرْطِ غَيْرِ الظَّرْفِ مِنْ ضَمِيرٍ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ إِنْ أَرَادَهُ، هَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَلْيَطْلُبِ الثَّوَابَيْنِ، فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَبْكِيتٌ لِلْإِنْسَانِ حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ السُّؤَالَيْنِ مَعَ كَوْنِ الْمَسْئُولِ مَالِكًا لِلثَّوَابَيْنِ، وَحَثَّ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ تَعَالَى مَا هُوَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ مَطْلُوبِهِ، فَمَنْ طَلَبَ خَسِيسًا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْلُبَ نَفِيسًا فَهُوَ دَنِيءُ الْهِمَّةِ. قِيلَ: وَالْآيَةُ وَعِيدٌ لِلْمُنَافِقِينَ لَا يُرِيدُونَ بِالْجِهَادِ غَيْرَ الْغَنِيمَةِ. وَقِيلَ: هِيَ حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ سَمِيعًا لِأَقْوَالِهِمْ، بَصِيرًا بِأَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ

وَالْأَقْرَبِينَ قَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ سَبَبُ نَازِلَةِ ابْنِ أُبَيْرِقٍ وَقِيَامِ مَنْ قَامَ فِي أَمْرِهِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي اخْتِصَامِ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ النِّسَاءَ وَالنُّشُوزَ وَالْمُصَالَحَةَ، أَعْقَبَهُ بِالْقِيَامِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الشَّهَادَةِ حُقُوقُ اللَّهِ. أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَالِبَ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ عِنْدَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ وَفِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى «1» وَالْإِشْهَادُ عِنْدَ دَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ ابْنِ أُبَيْرِقٍ وَاجْتِمَاعَ قَوْمِهِ عَلَى الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَنَدَبَ لِلْمُصَالَحَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوَّامِينَ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ جَوْرٌ مَا، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ. وَمَعْنَى شُهَدَاءَ لِلَّهِ أَيْ: لِوَجْهِ اللَّهِ، لَا يُرَاعِي فِي الشَّهَادَةِ إِلَّا جِهَةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: شُهَدَاءَ لِلَّهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: ولو على أنفسكم، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ قَوْلُهُ: شُهَدَاءَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، بِقَوْلِهِ: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَبْيَنُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُضَعِّفُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ شُهَدَاءُ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ اسْتِمْرَارُ الشَّهَادَةِ. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ عَلَى شُهَدَاءَ لِلَّهِ. لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ أَعَمُّ، وَالشَّهَادَةَ أَخَصُّ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فِعْلٌ وَقَوْلٌ، وَالشَّهَادَةَ قَوْلٌ فَقَطْ. وَمَعْنَى: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَيْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَيْ تُقِرُّونَ بِالْحَقِّ وَتُقِيمُونَ الْقِسْطَ عَلَيْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْفُسَ الشُّهَدَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَبْعَدَ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي أَنْفُسِكُمْ: الْأَهْلُ وَالْأَقَارِبُ، وَأَنْ يَكُونَ «أَوِ الْوَالِدَيْنِ» تَفْسِيرًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَيُضَعِّفُهُ الْعَطْفُ بأو. وَانْتَصَبَ شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى جَعْلِهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوَّامِينَ كَأَبِي الْبَقَاءِ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. لأن فيها تقييدا لقيام بِالْقِسْطِ، سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَ هَذَا أَمْ لَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الضَّعِيفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْعَدْلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ كَانَ وَمَجِيءُ لَوْ هُنَا لِاسْتِقْصَاءِ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الشَّهَادَةُ، لَمَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِصَدَدِ أَنْ لَا يُقِيمَهَا لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 3.

مِنْ مُحَابَاةِ نَفْسِهِ وَمُرَاعَاتِهَا، نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي الِاسْتِقْصَاءِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْفَصَاحَةِ. فَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعَزُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَالِدَيْنِ وَهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَسَبَبُ نَشْأَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِبِرِّهِمَا وَتَعْظِيمِهِمَا، وَالْحَوْطَةِ لَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَبِينَ وَهُمْ مَظِنَّةُ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعَصُّبِ. وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أُمِرَ فِي حَقِّهِمْ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْأَجْنَبِيُّ أَحْرَى بِذَلِكَ. وَالْآيَةُ تَعَرَّضَتْ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ لَهُمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَوْ شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى: إِنْ وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَإِنْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ، هَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ. وَحَذْفُ كَانَ بَعْدَ لَوْ كَثِيرٌ تَقُولُ: ائْتِنِي بِتَمْرٍ وَلَوْ حَشَفًا، أَيْ: وَإِنْ كَانَ التَّمْرُ حَشَفًا فَائْتِنِي بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِشُهَدَاءَ. فَإِنْ عَنَى شُهَدَاءَ هَذَا الْمَلْفُوظَ بِهِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَإِنْ عَنَى الَّذِي قَدَّرْنَاهُ نَحْنُ فَيَصِحُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ أَوْ أَقَارِبِكُمْ. (فَإِنْ قُلْتَ) : الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى وَالِدِي كَذَا وَعَلَى أَقَارِبِي، فَمَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ؟ (قُلْتُ) : هِيَ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِإِلْزَامِ الْحَقِّ لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَوْ عَلَى آبَائِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ تَوَقَّعَ ضَرَرَهُ مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ أَوْ غَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَلْفُوظِ بِهِ قَبْلُ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ. فَإِذَا قُلْتَ: كُنْ مُحْسِنًا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَتُحْذَفُ كَانَ وَاسْمُهَا وَالْخَبَرُ، وَيَبْقَى مُتَعَلِّقُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَلَا تُقَدِّرُهُ: وَلَوْ كَانَ إِحْسَانُكَ لِمَنْ أَسَاءَ. فَلَوْ قُلْتَ: لِيَكُنْ مِنْكَ إِحْسَانٌ وَلَوْ لِمَنْ أَسَاءَ، فَتُقَدِّرُ: وَلَوْ كَانَ الْإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَّرْتَهُ. وَلَوْ كُنْتَ مُحْسِنًا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا، لِأَنَّكَ تَحْذِفُ مَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ مُطَابِقٍ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ هَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ كَوْنٌ مُقَيَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْكَوْنِ الْمُقَيَّدِ، لَوْ قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ فِيكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ مُحِبًّا فِيكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ مُحِبًّا مُقَيَّدٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْكَوْنِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ: تَقْدِيرٌ كَائِنٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَنِيًّا فَلَا تَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ لِغِنَاهُ، أَوْ فَقِيرًا فَلَا تَمْنَعْهَا تَرَحُّمًا عَلَيْهِ وَإِشْفَاقًا. فَعَلَى هَذَا الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ العطف هو بأو، وَلَا يُثَنَّى الضَّمِيرُ إِذَا عُطِفَ بِهَا، بَلْ يُفْرَدُ. وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: فَلْيَشْهَدْ

عَلَيْهِ وَلَا يُرَاعِي الْغَنِيَّ لِغِنَاهُ، وَلَا لِخَوْفٍ مِنْهُ، وَلَا الْفَقِيرَ لِمَسْكَنَتِهِ وَفَقْرِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا لَيْسَ هُوَ الْجَوَابَ، بَلْ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِجِنْسَيِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ أَيْ: بِالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمْ مَا يَشْهَدُ بِإِرَادَةِ الْجِنْسِ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَقَوْمٌ، إِلَى أَنَّ أَوْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ الْجَوَابُ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا، أَيْ: حَيْثُ شَرَعَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ أَنْظَرُ لَهُمَا مِنْكُمْ. وَلَوْلَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمَا مَصْلَحَةٌ لَهُمَا لَمَا شَرَعَهَا. وَقَالَ الأستاذ أبو الحن بْنُ عُصْفُورٍ: وَقَدْ ذَكَرَ العطف بالواو والفاء وَثُمَّ وَحَتَّى مَا نَصُّهُ تَقُولُ: زَيْدٌ أَوْ عُمَرُ، وقام زيد لا عمرو قام، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ يَعْنِي غَيْرَ الْوَاوِ وَحَتَّى وَالْفَاءِ وَثُمَّ، وَالَّذِي بَقِيَ بَلْ وَلَكِنْ وَأَمْ. قَالَ: لَا تَقُولُ قَامَا لِأَنَّ الْقَائِمَ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُهُمَا لَا غَيْرُ، وَلَا يَجُوزُ قَامَا إِلَّا فِي أَوْ خَاصَّةً، وَذَلِكَ شُذُوذٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لِتَفَرُّقِهِمَا فِي الذِّكْرِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ. وَلَا شُذُوذَ فِي الْآيَةِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَامَا عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، وَلَا غَيْرُهُ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا لَيْسَ بِجَوَابٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَالضَّمِيرُ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ الْمَلْفُوظِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يَعُودَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ جِنْسَيِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ يَكُنْ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَبِالشَّهَادَةِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ نَهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِمَّا لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ تَعْدِلُوا مِنَ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ مِنَ الْعَدْلِ وَهُوَ الْقِسْطُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِرَادَةَ أَنْ تَجُورُوا، أَوْ مَحَبَّةَ أَنْ تَجُورُوا. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ: كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النَّاسِ وَتُقْسِطُوا. وَعَكَسَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا التَّقْدِيرَ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَخَافَةَ أَنْ تَعْدِلُوا، وَيَكُونُ الْعَدْلُ بِمَعْنَى الْقِسْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: انْتَهُوا خَوْفَ أَنْ تَجُورُوا، أَوْ مَحَبَّةَ أَنْ تُقْسِطُوا. فَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ تَتَّبِعُوا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَحَبَّةَ أَنْ تَجُورُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ مِنَ التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي أَنْ تَعْدِلُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا مِنْ مَعْنَى النَّهْيِ، وَكَانَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى، ثُمَّ أَضْمَرَ فِعْلًا وَقَدَّرَهُ: انْتَهُوا خوف أن تجورا، أَوْ مَحَبَّةَ أَنْ تُقْسِطُوا، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ تَتَبَّعُوا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ هُوَ تَتَّبِعُوا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ فِعْلُهَا عَامِلًا فِي أَنْ تَعْدِلُوا. وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ تَتَّبِعُوا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُتَّجِهُ، وَعَلَى هذا التقادير فإنّ تَعْدِلُوا مَفْعُولٌ مِنْ

أَجْلِهِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا تَعْدِلُوا، فَحَذَفَ لَا، أَيْ: لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى فِي تَرْكِ الْعَدْلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِتَعْدِلُوا أَيْ: لِتَكُونُوا فِي اتِّبَاعِكُمُوهُ عُدُولًا، تَنْبِيهًا أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَتَحَرِّيَ الْعَدَالَةِ مُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى حَتَّى تَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الْعَدْلِ، وَالْعَدْلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمَنْ تَرَكَ أَحَدَ النَّقِيضَيْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْآخَرُ، فَالتَّقْدِيرُ: لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمَأْمُورِينَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ، وَالْمَنْهِيِّينَ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ فِي لَيِّ الْحَاكِمِ عُنُقَهُ عَنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ نَحْوَهُ قَالَ: لَيُّ الْحَاكِمِ شِدْقَهُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَيْلًا إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ: هِيَ فِي الشُّهُودِ يَلْوِي الشَّهَادَةَ بِلِسَانِهِ فَيُحَرِّفُهَا وَلَا يَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا، أَوْ يُعْرِضُ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ فِيهَا، وَيَقُولُ مَعْنَاهُ: يُدَافِعُوا الشَّهَادَةَ مِنْ لَيِّ الْغَرِيمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ شَهَادَةِ الْحَقِّ، أَوْ حُكُومَةِ الْعَدْلِ، أَوْ تُعْرِضُوا عَنِ الشَّهَادَةِ بِمَا عِنْدَكُمْ وَتَمْنَعُوهَا. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ فِي الشَّاذِّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ: وَإِنْ تَلُوا بِضَمِّ اللَّامِ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ، وَلَحَّنَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ قَارِئَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. قَالَ: لَا مَعْنَى لِلِّوَايَةِ هُنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي السَّبْعِ، وَلَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَتَخْرِيجٌ حَسَنٌ. فَنَقُولُ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَلْوُوا. فَقِيلَ: هِيَ مِنَ الْوِلَايَةِ أَيْ: وَإِنْ وَلِيتُمْ إِقَامَةَ الشَّهَادَةِ أَوْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ إِقَامَتِهَا، وَالْوِلَايَةُ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ اللَّيِّ وَأَصْلُهُ: تَلْوُوا، وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الْمَضْمُومَةُ هَمْزَةً، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى اللَّامِ وَحُذِفَتْ. قَالَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَأَبُو عَلِيٍّ، وَالنَّحَّاسُ، وَنُقِلَ عَنِ النَّحَّاسِ أَيْضًا أَنَّهُ اسْتُثْقِلَتِ الْحَرَكَةُ عَلَى الْوَاوِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى اللَّامِ، وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً هَذَا فِيهِ وَعِيدٌ لِمَنْ لَوَى عَنِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَعْرَضَ عَنْهَا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالشَّهَادَةِ

لِلَّهِ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ رَاسِخَ الْقَدَمِ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَمَرَ بِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. ومعنى: آمنوا دوموا عَلَى الْإِيمَانِ قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَهُوَ أَرْجَحُ. لِأَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِ مَتَى أُطْلِقَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُسْلِمَ. وَقِيلَ: لِلْمُنَافِقِينَ أَيْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ آمِنُوا بِقُلُوبِكُمْ. وَقِيلَ: لِمَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَيْ: يَا مَنْ آمَنَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الْخَلْقِ أَيْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» . وَقِيلَ: الْيَهُودُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ آمَنُوا بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: آمَنُوا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، آمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ. وَقِيلَ: آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، آمِنُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَنَظِيرُهُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «2» مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، وَسَلَّامًا ابْنَ أُخْتِهِ، وَسَلَمَةَ ابْنَ أخيه، وأسد وَأُسَيْدًا ابْنَيْ كَعْبٍ، وَثَعْلَبَةَ بْنَ قَيْسٍ وَيَامِينَ، أَتَوُا الرسول صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ، وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَعُزَيْرٍ، وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَلْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ» فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ فَآمَنُوا كُلُّهُمْ. وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: آخَرًا. وَكَتَبَهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ قِيلَ لَهُمْ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِمَا فَحَسْبُ، وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، فَأُمِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ الْكُتُبِ. أَوْ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِبَعْضٍ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ طَرِيقَ الْإِيمَانِ بِالْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: نُزِّلَ وأنزل بِالْبَنَّاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْبَاقُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ قَالَ نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً بِخِلَافِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ انْتَهَى. وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بين نزل وأنزل لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِي نَزَّلَ لَيْسَ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّفْرِيقِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّعْدِيَةِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْهَمْزَةِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً جَوَابُ الشَّرْطِ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْكُفْرِ بِالْمَجْمُوعِ، بَلِ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقُرِئَ: وَكِتَابِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكُتُبِ. وَلَمَّا كَانَ خَيْرَ الْإِيمَانِ علق بثلاثة: بالله،

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 172. (2) سورة محمد: 47/ 19.

وَالرَّسُولِ، وَالْكُتُبِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ تَضَمَّنَ الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبُولِغَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ مُغَيَّبٌ عَنَّا، وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ الْآخِرُ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ، فَنَصَّ عَلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَلِئَلَّا يَتَأَوَّلَهُمَا مُتَأَوِّلٌ عَلَى خِلَافِ مَا هُمَا عَلَيْهِ. فَمَنْ أَنْكَرَ الْمَلَائِكَةَ أَوِ الْقِيَامَةَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَدَّمَ الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ عَلَى التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ، لِأَنَّ الْمَلَكَ يَنْزِلُ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلُ تَتَلَقَّى الْكُتُبَ مِنَ الْمَلَكِ. وَقَدَّمَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ الْمَوْصُولِ عَلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ أَوَّلُ مَا يُبَاشِرُهُ الْمُؤْمِنَ ثُمَّ يَتَلَقَّى الْكِتَابَ مِنْهُ. فَحَيْثُ نَفَى الْإِيمَانَ كَانَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ، وَحَيْثُ أَثْبَتَ كَانَ عَلَى التَّرْتِيبِ اللِّقَائِيِّ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِلْوُجُودِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا لَمَّا أَمَرَ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ ضَالٌّ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِفَسَادٍ، وَطَرِيقَةِ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ إِذْ هُمُ الْمُتَلَاعِبُونَ بِالدِّينِ، فَحَيْثُ لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ «قالُوا آمَنَّا» وَإِذَا لَقُوا أَصْحَابَهُمْ «قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «1» وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ، فَهُمْ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَلْقَوْنَهُ. وَمَعْنَى ازْدَادَ كُفْرًا بِأَنْ تَمَّ عَلَى نِفَاقِهِ حَتَّى مَاتَ. وَقِيلَ: ازْدِيَادُ كُفْرِهِمْ هُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فِي حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي قَالَتْ: «آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ» «2» قَصَدُوا تَشْكِيكَ الْمُسْلِمِينَ وَازْدِيَادَ كُفْرِهِمْ هُوَ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْإِسْلَامِ. قَالَ قَتَادَةَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَطَائِفَةٌ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ: هِيَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، آمَنَتِ الْيَهُودُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازدادوا كفرا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: يَدْفَعُهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا فِي طَائِفَةٍ يَتَّصِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْمُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ يَزْدَادُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي الْيَهُودِ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى ثُمَّ كَفَرَا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِدَاوُدَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا عِنْدَ مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْآيَةَ فِي الْمُتَرَدِّدِينَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ آمَنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِلَى الثَّلَاثِ، ثُمَّ لَا تُقْبَلُ توبته وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ. وَقَالَ القفال: ليس لمراد بيان

_ (1) سورة البقرة: 2/ 14. (2) سورة آل عمران: 3/ 72.

هَذَا الْعَدَدِ، بَلِ الْمُرَادُ تَرَدُّدُهُمْ كَمَا قَالَ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَكَرَّرَ مِنْهُمُ الِارْتِدَادُ وَعُهِدَ مِنْهُمُ ازْدِيَادُ الْكُفْرِ وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْمَغْفِرَةَ وَيَسْتَوْجِبُونَ اللُّطْفَ مِنْ إِيمَانٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ يَرْضَاهُ اللَّهُ، لِأَنَّ قُلُوبَ أُولَئِكَ الذين هذا دينهم قُلُوبٌ قَدْ ضُرِبَتْ بِالْكُفْرِ، وَمَرِئَتْ عَلَى الرِّدَّةِ، وَكَانَ الْإِيمَانُ أَهْوَنَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ وَأَدْوَنَهُ حَيْثُ يَدُلُّونَهُمْ فِيهِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ أَخْلَصُوا الْإِيمَانَ بَعْدَ تَكْرَارِ الرِّدَّةِ وَنَصَحَتْ تَوْبَتُهُمْ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمْ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ حَيْثُ هُوَ بَذْلُ الطَّاقَةِ وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِبْعَادٌ لَهُ وَاسْتِغْرَابٌ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يكاد يكون. وهكذا ترى الْفَاسِقَ الَّذِي يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ لَا يَكَادُ يُرْجَى مِنْهُ الثَّبَاتُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى شَرِّ حَالٍ وَأَقْبَحِ صُورَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي بَعْضِهِ أَلْفَاظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الِاعْتِزَالِ. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ الْجُمْهُورُ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا وَمَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَوْ آمَنَ وَكَفَرَ مِرَارًا ثُمَّ تَابَ عَنِ الْكُفْرِ وَآمَنَ وَوَافَى تَائِبًا، أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ مَا جَنَاهُ فِي كُفْرِهِ السَّابِقِ وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ مِرَارًا. وَقِيلَ: يَحْمِلُ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يَتُوبُونَ عَنْهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إِخْبَارًا عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَقْعٌ وَلَا عِظَمُ قَدْرٍ. وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْتُومٌ عَلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ وَهِدَايَةِ السَّبِيلِ، وَأَنَّهُمْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ أَحْيَاءُ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْمَجِيءِ بِلَامِ الْجُحُودِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ يَقُومُ وَبَيْنَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ لِيَقُومَ. فَالْأَوَّلُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا انْتِفَاءُ الْقِيَامِ، وَالثَّانِي فِيهِ انْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ وَالْإِيتَاءِ لِلْقِيَامِ، وَيَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ إِرَادَةِ الْقِيَامِ نَفْيُ الْقِيَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبِعًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفْيٌ لِلْغُفْرَانِ وَالْهِدَايَةِ، وَهِيَ اللُّطْفُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي تُوَطِّئُهَا اللَّامُ، وَالْمُرَادُ: بِنَفْيِهِمَا نَفْيُ مَا يَقْتَضِيهِمَا وَهُوَ الْإِيمَانُ الْخَالِصُ الثَّابِتُ انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا قُلْتَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ لِيَقُومَ، إِنَّ خَبَرَ لَمْ يَكُنْ هُوَ قَوْلُكَ لِيَقُومَ، وَاللَّامُ للتأكيد زيدت في

_ (1) سورة النساء: 4/ 143. (2) سورة النساء: 4/ 138.

النَّفْيِ، وَالْمَنْفِيُّ هُوَ الْقِيَامُ، وَلَيْسَتْ أَنْ مُضْمَرَةً بَلِ اللَّامُ هِيَ النَّاصِبَةُ. وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَيَنْسَبِكُ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةِ وَالْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لِأَنَّهُ مَعْنًى وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ جُثَّةٌ. وَلَكِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ تَقْوِيَةٌ لِتَعْدِيَةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ جُثَّةٌ. وَأُضْمِرَتْ أَنْ بَعْدَهَا وَصَارَتِ اللَّامُ كَالْعِوَضِ مِنْ أَنِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ، وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْ ظَاهِرَةً. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْمُرَادُ بِنَفْيِهِمَا نَفْيُ مَا يَقْتَضِيهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَهْدِيَهُمْ. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى: بَشِّرْ أَخْبِرْ، وَجَاءَ بِلَفْظِ بَشِّرْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» أَيِ الْقَائِمُ لَهُمْ مَقَامَ الْبِشَارَةِ، هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْعَذَابِ كَمَا قَالَ: «تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَاءَتِ الْبِشَارَةِ هُنَا مِصُرَّحًا بقيدها، فَلِذَلِكَ حَسُنَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَكْرُوهِ. وَمَتَى جَاءَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّمَا عَرَفَهَا فِي الْمَحْبُوبِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «2» فِي أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْمُرَاءَاةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِلْمُنَافِقِينَ سِوَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْلِيَاءَ أَنْصَارًا وَمُعِينِينَ يُوَالُونَهُمْ عَلَى الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَنَصَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى أَشَدِّهَا ضَرَرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ: مُوَالَاتُهُمُ الْكُفَّارَ، وَاطِّرَاحُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ لِيَدَعَهُ مَنْ عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَفْلَةً أَوْ جَهَالَةً أَوْ مُسَامَحَةً. وَالَّذِينَ: نَعْتٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، أَوْ رَفْعٌ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. أَيْ: هُمُ الَّذِينَ. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أَيِ: الْغَلَبَةَ وَالشِّدَّةَ وَالْمَنَعَةَ بِمُوَالَاتِهِمْ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: لا يتم أمر محمد. وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا عِزَّةَ لَهُمْ فَكَيْفَ تَبْتَغِي مِنْهُمْ؟ وَعَلَى خُبْثِ مَقْصِدِهِمْ. وَهُوَ طَلَبُ الْعِزَّةِ بِالْكَفَّارِ وَالِاسْتِكْثَارُ بِهِمْ. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أَيْ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ كَتَبَ لَهُمُ الْعِزَّ وَالْغَلَبَةَ على اليهود وغيرهم.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 21. (2) سورة النساء: 4/ 144.

قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» . وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ «2» . وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً «3» وَالْفَاءُ فِي فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ دَخَلَتْ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: أَنْ تَبْتَغُوا الْعِزَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ الْعِزَّةَ، وَانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ الْخِطَابُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مِنْ مُخْلِصٍ وَمُنَافِقٍ. وَقِيلَ: لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَيَكُونُ الْتِفَاتًا. وَكَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَهُمْ يَخُوضُونَ فِي الْقُرْآنِ يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَذُكِّرُوا بما نزل عليهم بمكة مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقَدْ نُزِّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ: نَزَّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيْدٌ: نَزَلَ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: أُنْزِلَ بِالْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَحَلُّ أَنْ رَفْعٌ أَوْ نَصْبٌ عَلَى حَسَبِ الْعَامِلِ، فَنُصِبَ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ، وَرُفِعَ عَلَى الْفَاعِلِ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي حَيْوَةَ وَحُمَيْدٍ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ. وَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا سَمِعْتُمْ. وَمَا قَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّكُمْ إِذَا سَمِعْتُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ إِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي ضَمِيرِ إِلَّا إِذَا كَانَ ضَمِيرَ أَمْرٍ، وَشَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَإِعْمَالُهَا فِي غَيْرِهِ ضَرُورَةٌ نَحْوُ قَوْلِهِ: فَلَوْ أَنْكِ فِي يَوْمِ الرَّخَاءِ سَأَلْتِنِي ... طَلَاقَكِ لَمْ أَبْخَلْ وَأَنْتِ صَدِيقُ وَخَبَرُ أَنَّ هِيَ الْجُمْلَةُ مِنْ إِذَا وَجَوَابِهَا. وَمِثَالُ وُقُوعِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ خَبَرًا لأن الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَعَلِمْتُ أَنْ مَنْ تَتَّقُوهُ فَإِنَّهُ ... جُزْرٌ لِخَامِعَةٍ وفرخ عقاب ويكفر بِهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالضَّمِيرُ فِي مَعَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 21. (2) سورة المنافقون: 63/ 8. (3) سورة فاطر: 35/ 10.

الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ أَيْ: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَ الْكَافِرِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَحَتَّى غَايَةٌ لِتَرْكِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ. وَمَفْهُومُ الْغَايَةِ أَنَّهُمْ إِذَا خَاضُوا فِي غَيْرِ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ ارْتَفَعَ النَّهْيُ، فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ: فِي حَدِيثٍ غَيْرِ حَدِيثِهِمُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ وَاسْتِهْزَاءٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفْرَدَ الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الِاسْتِهْزَاءِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، لِأَنَّهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهُ أُجْرِىَ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي كَوْنِهِ لِمُفْرَدٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ اثْنَيْنِ. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ حَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إِذَا قَعَدُوا مَعَهُمْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ مِثْلُهُمْ فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رَاضِينَ بِالْكُفْرِ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ. وَالْخِطَابُ فِي أَنَّكُمْ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَهْوَ لِلْمُنَافِقِينَ؟ أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَمْ يَحْكُمْ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْخَائِضِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مِثْلُ الْمُشْرِكِينَ، لِعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ ذَاكَ عَنِ الْإِنْكَارِ بِخِلَافِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ الْغَالِبَ فِيهَا وَالْأَعْلَى، فَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالسَّامِعُ لِلذَّمِّ شَرِيكٌ لِلْقَائِلِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَسَمْعَكَ صُنْ عَنْ سَمَاعِ الْقَبِيحِ ... كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ إِلْزَامٌ شُبِّهَ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ من المقارنة كقوله الشَّاعِرِ: عَنِ الْمَرْءِ لَا تسئل وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَقِيلَ لَهُ عَنْ أَحَدِ الْحَاضِرِينَ: إِنَّهُ صَائِمٌ فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَدَبَ، وَقَرَأَ: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، إِنْ خُضْتُمْ كَخَوْضِهِمْ وَوَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتُمْ كُفَّارٌ مِثْلُهُمْ، قَوْلُهُ تَنْبُو عَنْهُ دَلَالَةُ الْكَلَامِ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّكُمْ إِذَا قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ مِثْلُهُمْ. وَإِذَا هُنَا تَوَسَّطَتْ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَأَفْرَدَ مِثْلَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إِنَّ عِصْيَانَكُمْ مِثْلُ عِصْيَانِهِمْ، فَالْمَعْنَى عَلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا «1» وَقَدْ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2» وَفِي قَوْلِهِ: حُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ «3» والإفراد

_ (1) سورة المؤمنون: 3/ 47. (2) سورة محمد: 47/ 38. [.....] (3) سورة الواقعة: 56/ 22- 23.

وَالْمُطَابَقَةُ فِي التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ جَائِزَانِ. وَقُرِئَ شَاذًّا مِثْلَهُمْ بِفَتْحِ اللَّامِ، فَخَرَّجَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ كَقَوْلِهِ: لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ اللَّامَ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ فِي مِثْلَ أَنْ يَنْتَصِبَ مَحَلًّا وَهُوَ الظَّرْفُ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ زَيْدٌ مِثْلَكَ بِالنَّصْبِ أَيْ: فِي مِثْلِ حَالِكَ. فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ انْتِصَابُ مِثْلَهُمْ عَلَى الْمَحَلِّ، وَهُوَ الظَّرْفُ. إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لِمَا اتَّخَذُوهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْلِيَاءَ جَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ، وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَهَذَا تَوَعُّدٌ مِنْهُ تَعَالَى تَأَكَّدَ بِهِ التَّحْذِيرُ مِنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَعْنَى الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ بِكُمْ مَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْوَالِ مَنْ ظَفَرٍ لَكُمْ أَوْ بِكُمْ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مُظَاهِرِينَ. وَالْمَعْنَى: فَأَسْهِمُوا لَنَا بِحُكْمِ أَنَّنَا مُؤْمِنُونَ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ أَيِ الْيَهُودِ نَصِيبٌ، أَيْ: نَيْلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، أَيْ: أَلَمْ نَغْلِبْكُمْ وَنَتَمَكَّنْ مِنْ قَتْلِكُمْ وَأَسْرِكُمْ، وَأَبْقَيْنَا عَلَيْكُمْ، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ ثَبَّطْنَاهُمْ عَنْكُمْ، فَأَسْهِمُوا لَنَا بِحُكْمِ أَنَّنَا نُوَالِيكُمْ فَلَا نُؤْذِيكُمْ، وَلَا نَتْرُكُ أَحَدًا يُؤْذِيكُمْ. قِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْيَهُودَ هَمُّوا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَحَذَّرَهُمُ الْمُنَافِقُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَبَالَغُوا فِي تَنْفِيرِهِمْ سَيَضْعُفُ أَمْرُ الرَّسُولِ، فَمَنُّوا عَلَيْهِمْ عِنْدَ حُصُولِ نَصِيبٍ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَرْشَدُوهُمْ لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ فَأَسْهِمُوا لَنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَلَمْ نُخْبِرْكُمْ بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَنُطْلِعْكُمْ عَلَى سِرِّهِمْ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ نَحُطَّ مِنْ وَرَائِكُمْ؟ وَالَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ، أَوْ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، أَوْ رَفْعٌ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ مَحْذُوفٌ. وَسَمَّى تَعَالَى ظَفَرَ الْمُؤْمِنِينَ فَتْحًا عَظِيمًا لَهُمْ، وَجَعَلَ مَنَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، وَظَفَرَ الْكَافِرِينَ نَصِيبًا، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ تَعَالَى تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَخْسِيسًا لِمَا نَالُوهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ظَفَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرٌ عَظِيمٌ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ فِي فَتْحِ الْمُعْتَصِمِ عَمُّورِيَّةَ بِلَادَ الرُّومِ: فَتْحٌ تُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَهُ ... وَتَبْرُزُ الْأَرْضُ فِي أَثْوَابِهَا الْقُشُبِ وَأَمَّا ظَفَرُ الْكَافِرِينَ فَهُوَ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ يُصِيبُونَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَنَمْنَعَكُمْ بِنَصْبِ

الْعَيْنِ بِإِضْمَارٍ بَعْدَ وَاوِ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ الِاسْتِحْوَاذِ عَلَيْكُمْ، وَمَنْعِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالْإِخَاءُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَمْنَعَكُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّرْفِ انْتَهَى. يَعْنِي الصَّرْفَ عَنِ التَّشْرِيكِ لِمَا بَعْدَهَا فِي إِعْرَابِ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ النَّصْبُ عَلَى الصَّرْفِ مِنَ اصْطِلَاحِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَمَنَعْنَاكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى التَّقْدِيرِ: لِأَنَّ الْمَعْنَى أَمَا اسْتَحْوَذْنَا عَلَيْكُمْ وَمَنَعْنَاكُمْ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا «1» . إِذِ الْمَعْنَى: أَمَا شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ وَبَيْنَهُمْ وَيُنْصِفُكُمْ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا عَطْفَ، وَمَعْنَى بَيْنَكُمْ أَيْ: بَيْنَ الجميع مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، وَغَلَبَ الْخِطَابُ. وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأُنْسٌ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَهُ: عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ سُبَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيَّ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا كَيْفَ ذَلِكَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا وَيَظْهَرُونَ عَلَيْنَا أَحْيَانًا؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَعْنَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ، وَإِنْ أَوْهَمَ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ لِقَوْلِهِ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَمْحُو بِالْكُفْرِ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: «فَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْ لَا يَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ، وَلَا يَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَتَقَاعَدُوا عَنِ التَّوْبَةِ، فَيَكُونَ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «2» . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا. وَذَلِكَ أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ، فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ

_ (1) سورة الشرح: 94/ 1- 2. (2) سورة الشورى: 42/ 3.

[سورة النساء (4) : الآيات 142 إلى 159]

عَدُوَّهُمْ فَيَسْتَبِيحُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْهُمْ هَلَاكُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَسَبْيُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ بِالْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَغَلُظَتْ شَوْكَةُ الْكُفَّارِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَقَلُّهُ. وَقِيلَ: سَبِيلًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وُجِدَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ. وَقِيلَ: سَبِيلًا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ يَسْتَظْهِرُونَ بِهَا إِلَّا أَبْطَلَهَا وَدُحِضَتْ. وَقِيلَ: سَبِيلًا أَيْ ظُهُورًا قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ. وَيُحْمَلُ عَلَى الظُّهُورِ الدَّائِمِ الْكُلِّيِّ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَبِيحُونَ بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَقَدَ ظَهَرُوا فِي مَوَاطِنَ كَأُحُدٍ قَبْلُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْفَصَاحَةِ والبديع فنونا التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ فِي: أَنْ يصالحا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، وَفِي: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، وَفِي: فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا، وَفِي: كفروا وكفروا. وَالتَّجْنِيسِ الْمُمَاثِلِ فِي: وَيَسْتَفْتُونَكَ ويفتيكم، وفي: صلحا والصلح، وفي: جامع وجميعا. وَالتَّكْرَارَ فِي: لَفْظِ النِّسَاءِ، وَفِي لَفْظِ يَتَامَى، وَالْيَتَامَى، وَرَسُولُهُ، وَلَفْظِ الْكِتَابِ، وَفِي آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، وَفِي الْمُنَافِقِينَ. وَالتَّشْبِيهِ فِي: كَالْمُعَلَّقَةِ. وَاللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِلضِّدَّيْنِ فِي: ترغبون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: نُشُوزًا، وَفِي: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، وَفِي: فَلَا تَمِيلُوا، وَفِي: قَوَّامِينَ، وَفِي: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا، وَفِي: ازدادوا كفرا وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، وَفِي: يَتَرَبَّصُونَ، وَفِي: فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، وَفِي: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ، وَفِي: سَبِيلًا. وَهَذِهِ كُلُّهَا لِلْأَجْسَامِ اسْتُعِيرَتْ لِلْمَعَانِي. وَالطِّبَاقُ فِي: غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَفِي: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَاتِّبَاعُ الْهَوَى جَوْرٌ وَفِي الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا خَصَّ الْعَمَلَ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ. [سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)

الْكَسَلُ: التَّثَاقُلُ، وَالتَّثَبُّطُ، وَالْفُتُورُ عَنِ الشَّيْءِ. وَيُقَالُ: أَكْسَلَ الرَّجُلُ إِذَا جَامَعَ فَأَدْرَكَهُ الْفُتُورُ وَلَمْ يُنْزِلْ. الذَّبْذَبَةُ: الِاضْطِرَابُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى عَلَى حَالٍ، قَالَهُ: ابْنُ عَرَفَةَ وَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ وَقَالَ آخَرُ: خَيَالٌ لِأُمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا ... مَسِيرَةَ شَهْرٍ لِلْبَرِيدِ الْمُذَبْذَبِ بِكَسْرِ الثَّانِيَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: أَيِ الْقَلَقُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ الذَّبُّ، وَهُوَ ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ ضُعِّفَ فَقِيلَ: ذَبَبَ، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْ أَحَدِ الْمُضَعَّفَيْنِ وَهِيَ الْبَاءُ الثَّانِيَةُ ذَالًا فَقِيلَ ذَبْذَبَ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ رُبَاعِيٌّ كَدَحْرَجَ. إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرٌ يُخَادِعُونَ اللَّهَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى وَهُوَ خَادِعُهُمْ: أَيْ مُنْزِلٌ الْخِدَاعَ بِهِمْ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ عُقُوبَةٍ سَمَّاهَا بِاسْمِ الذَّنْبَ. فَعُقُوبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا ذُلُّهُمْ وَخَوْفُهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابُ جَهَنَّمَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا الْخِدَاعُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي هَذِهِ الْأُمَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُؤْمِنٍ أَوْ مُنَافِقٍ، فَيَفْرَحُ الْمُنَافِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فإذا جاؤوا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ كُلِّ مُنَافِقٍ، وَنَهَضَ الْمُؤْمِنُونَ. وَذَلِكَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وَذَلِكَ هُوَ الْخِدَاعُ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ خَادِعُهُمْ، وَهُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ مَا يَفْعَلُ الْغَالِبُ فِي الْخِدَاعِ، حَيْثُ تَرَكَهُمْ مَعْصُومِينَ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لَهُمُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُخْلِهِمْ فِي الْعَاجِلِ مِنْ فَضِيحَةٍ وَإِحْلَالِ بَأْسٍ وَنِقْمَةٍ وَرُعْبٍ دَائِمٍ. وَالْخَادِعُ مِنْ خَدَعْتُهُ إِذَا غَلَبْتَهُ، وَكُنْتَ أَخْدَعَ مِنْهُ انْتَهَى. وَبَعْضُهُ مُسْتَرَقٌ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا أَمَرَ بِقَبُولِ مَا أَظْهَرُوا كَانَ خَادِعًا لَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ: خَادِعْهُمْ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ عَلَى التَّخْفِيفِ. استثقال الْخُرُوجِ مِنْ كَسْرٍ إِلَى ضَمٍّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ إِنَّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى أَيْ مُتَوَانِينَ لَا نَشَاطَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُصَلُّونَ تَسَتُّرًا وَتَكَلُّفًا، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي ذَمَّ الْمُنَافِقُونَ، وَأَنْ

يُقْبِلَ إِلَى صَلَاتِهِ بِنَشَاطٍ وفراغ قَلْبٍ وَتَمَهُّلٍ فِي فِعْلِهَا، وَلَا يَتَقَاعَسُ عَنْهَا فِعْلَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى كُرْهٍ لَا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَرَغْبَةٍ. وَمَا زَالَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مُنَافِقُونَ يَتَسَتَّرُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَيَحْضُرُونَ الصَّلَوَاتِ كَالْمُتَفَلْسِفِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَيْهِمْ فِي شِعْرٍ قَالَهُ وَضَمَّنَ فِيهِ بَعْضَ الْآيَةِ، فَقَالَ فِي أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ مُتَفَلْسِفَةِ الْإِسْلَامِ: لِأَشْيَاعِ الْفَلَاسِفَةِ اعْتِقَادُ ... يَرَوْنَ به عن الشرع انْحِلَالًا أَبَاحُوا كُلَّ مَحْظُورٍ حَرَامٍ ... وَرَدُّوهُ لِأَنْفُسِهِمْ حَلَالًا وَمَا انْتَسَبُوا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا ... لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسَالَا فَيَأْتُونَ الْمَنَاكِرَ فِي نَشَاطٍ ... وَيَأْتُونَ الصَّلَاةَ وَهُمْ كُسَالَى وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُسَالَى بِضَمِّ الْكَافِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: كَسَالَى بِفَتْحِ الْكَافِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: كَسْلَى عَلَى وَزْنِ فَعْلَى، وُصِفَ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ الْمُفْرَدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَمَاعَةِ كقراءة: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى «1» . يُراؤُنَ النَّاسَ أَيْ يَقْصِدُونَ بِصَلَاتِهِمُ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ. وَهِيَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، يُرِي الْمُرَائِي النَّاسَ تَجَمُّلَهُ بِأَفْعَالِ الطَّاعَةِ، وَهُمْ يُرُونَهُ اسْتِحْسَانَ ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، نَحْوَ نِعْمَةٍ وَنَاعِمَةٍ. وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ: رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْمِرْآةَ إِذَا أَمْسَكَتْهَا لِتَرَى وَجْهَهَا. وَقُرِئَ: يرؤن بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ مُشَدَّدَةٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالْوَاوِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ أَقْوَى فِي المعنى من يراؤون، لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَى أَنْ يَرَوْهُمْ وَيَتَظَاهَرُونَ لَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ يُبْطِنُونَ النِّفَاقَ. وَنَسَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ قَرَأَ: يرؤنهم هَمْزَةٌ مُشَدَّدَةٌ مِثْلَ: يُرَعُّونَهُمْ أي يبصرونهم أعمالهم، ويراؤونهم كَذَلِكَ. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ الْحَسَنُ: قُلْ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا مَعْنَاهُ إِنَّمَا قَلَّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَمَا رَدَّهُ اللَّهُ فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ، وَمَا قَبِلَهُ فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قُلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَوْضِهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَقَوْلِهِمُ الزُّورَ وَالْكُفْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ قَطُّ غَائِبِينَ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ إِلَّا مَا يُجَاهِرُونَ بِهِ، وَمَا يُجَاهِرُونَ بِهِ قَلِيلٌ، لِأَنَّهُمْ مَا وَجَدُوا مَنْدُوحَةً مِنْ تَكَلُّفِ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لم يتكلفوه، أولا يذكرون الله بالتسبيح

_ (1) سورة الحج: 22/ 2.

وَالتَّهْلِيلِ إِلَّا ذِكْرًا قَلِيلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقِلَّةِ الْعَدَمُ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَدَمُ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَأْبَاهُ، وَقَدْ رَدَدْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ وَعَلَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: قَلَّ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتَهَا، وَذَلِكَ فَإِنَّ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَا يَذْكُرُونَ عِقَابَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ إِلَّا قَلِيلًا لِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَغَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُنَا هُوَ بِاللِّسَانِ، وَأَنَّهُمْ قَلَّ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى أَحْوَالِهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مقلقلين. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَبْذَبَهُمُ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَهُمَا مُتَحَيِّرِينَ، كَأَنَّهُ يُذَبُّ عَنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ أَيْ يُذَادُ فَلَا يَقِرُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْمِي بِهِ الرَّحَوَانِ، إِلَّا أَنَّ الذَّبْذَبَةَ فِيهَا تَكْرِيرٌ لَيْسَ فِي الذَّبِّ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: كُلَّمَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ ذُبَّ عَنْهُ انْتَهَى. وَنَسَبَ الذَّبْذَبَةَ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ وَالذَّبْذَبَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِإِيجَادِ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ العابر بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ» وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى حَالَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» أَيْ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْفَارِضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَشَارَ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الظُّهُورِ لِضِمْنِ الْكَلَامِ لَهُ، كَمَا جَاءَ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «2» وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «3» انْتَهَى وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ تَقَدَّمَ مَا تَصِحُّ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنَ الْمَصْدَرَيْنِ اللَّذَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِمَا ذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: مُذَبْذِبِينَ بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيَةِ، جَعَلَاهُ اسْمَ فَاعِلٍ أَيْ مُذَبْذِبِينَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ دِينَهُمْ، أَوْ بِمَعْنَى مُتَذَبْذِبِينَ كَمَا جَاءَ صَلْصَلَ وَتَصَلْصَلَ بِمَعْنَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مُتَذَبْذِبِينَ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ تَذَبْذَبَ أَيِ اضْطَرَبَ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَذَبْذَبِينَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالذَّالَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَرْدُودَةٌ انْتَهَى. وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ يُحْتَجُّ بِكَلَامِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ قِرَاءَتُهُ، وَلَهَا وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الْمِيمِ بِحَرَكَةِ الذَّالِ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ أَتْبَعُوا حَرَكَةَ الْمِيمِ بِحَرَكَةِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي مِثْلِ مِنْتِنٍ وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ فَلَأَنْ يُتْبِعُوا بِغَيْرِ حَاجِزٍ أَوْلَى، وكذلك اتبعوا حركة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 68. (2) سورة ص: 38/ 32. (3) سورة الرحمن: 55/ 26.

عَيْنِ مُنْفَعِلٍ بِحَرَكَةِ اللَّامِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ فَقَالُوا: مُنْحَدِرٌ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ لَيْسَتْ ثَابِتَةً خِلَافَ حَرَكَةِ الذَّالِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مُدَبْدِبِينَ بِالدَّالِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: أَخَذَتْهُمْ تَارَةً بِدَبَّةٍ، وَتَارَةً فِي دَبَّةٍ، فَلَيْسُوا بِمَاضِينَ عَلَى دَبَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَالدَّبَّةُ الطَّرِيقَةُ، وَهِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «اتَّبِعُوا دَبَّةَ قُرَيْشٍ، وَلَا تُفَارِقُوا الْجَمَاعَةَ» وَيُقَالُ: دَعْنِي وَدُبَّتِي، أَيْ طَرِيقَتِي وَسَجِيَّتِي. قَالَ الشَّاعِرُ: طَهَا هِذْرِيَانُ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ ... عَلَى دَبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيقِ الْمُرَعْبَلِ وَانْتِصَابُ مُذَبْذَبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يراؤون، أَوْ فَاعِلٍ وَلَا يَذْكُرُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُذَبْذَبِينَ: إِمَّا حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يذكرون عن واو يراؤونهم، أي يراؤونهم غَيْرَ ذَاكِرِينَ مُذَبْذَبِينَ. أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ. لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَالْمُرَادُ بِأَحَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبِالْآخَرِ الْكَافِرُونَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَعْتَقِدُونَ الْإِيمَانَ فَيُعَدُّوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ فَيُعَدُّوا مَعَ الْكَافِرِينَ. وَيَتَعَلَّقُ إِلَى بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَا مَنْسُوبِينَ إِلَى هَؤُلَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَالِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ فَلَنْ تَجِدَ لِهِدَايَتِهِ سَبِيلًا، أَوْ فَلَنْ تَجِدَ سَبِيلًا إِلَى هِدَايَتِهِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ مِنِ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَقَدَّمَ ذَمُّهُمْ بِذَلِكَ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ. وَكَانَ لِلْأَنْصَارِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ رَضَاعٌ وَحِلْفٌ وَمَوَدَّةٌ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: من نَتَوَلَّى؟ فَقَالَ: «الْمُهَاجِرُونَ» . وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ: قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ أَخْلَاقَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا هَلِ الْكَافِرُونَ هُنَا الْيَهُودُ أَوِ الْمُنَافِقُونَ قَوْلَانِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خِطَابُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ فِيهِ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ الْمُنَافِقُونَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِيمَانِ، وَفِي اللَّفْظِ رِفْقٌ بِهِمْ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ هَذَا التَّوْفِيقُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَقْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَالْمُؤْمِنُونَ الْمُخْلِصُونَ مَا أَلَمُّوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيُقَوِّي هَذَا الْمَنْزَعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَالْمُؤْمِنُونَ الْعَارِفُونَ الْمُخْلِصُونَ غُيَّبٌ عَنْ هَذِهِ الْمُوَالَاةِ، وَهَذَا لَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِينَ

الْمُخْلِصِينَ بَلِ الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالْتَزَمُوا لَوَازِمَهُ انْتَهَى. قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أنّ الكافر لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِ وِلَايَةً بِوَجْهٍ وَلَدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَأَنْ لَا يُسْتَعَانَ بِذِمِّيٍّ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ نُصْرَةٌ وَوِلَايَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ «1» وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَوْكِيلَهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَفِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ مُضَارَبَةً. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَاضِحَةً بِمُوَالَاتِكُمُ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْخُذُكُمْ إِنْ وَالَيْتُمُ الْكُفَّارَ بِانْتِقَامٍ مِنْهُ، وَلَهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، إِذْ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ أَحْوَالَهُمْ وَنَهَاكُمْ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ. وَقِيلَ: السُّلْطَانُ هُنَا الْقَهْرُ وَالْقُدْرَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ اتِّخَاذِكُمِ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَالسُّلْطَانَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أُنِّثَ وَذُكِّرَ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: قَضَتْ بِهِ عَلَيْكَ السُّلْطَانُ، وَقَدْ أَخَذَتْ فُلَانًا السُّلْطَانُ، وَالتَّأْنِيثُ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ أَكْثَرُ انْتَهَى. فَمَنْ ذَكَّرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْبُرْهَانِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَمَنْ أَنَّثَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ التَّذْكِيرُ هُنَا فِي الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ التَّأْنِيثُ أَكْثَرَ، لِأَنَّهُ وَقَعَ الْوَصْفُ فَاصِلَةً، فَهَذَا هُوَ الْمُرَجِّحُ لِلتَّذْكِيرِ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّذْكِيرُ أَشْهَرُ وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ حَيْثُ وَقَعَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَإِذَا سُمِّيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَمْرِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَالتَّقْدِيرُ: ذُو السُّلْطَانِ، أَيْ: ذُو الْحُجَّةِ عَلَى النَّاسِ إِذْ هُوَ مُدَبِّرُهُمْ وَالنَّاظِرُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَتَشَبَّهُوا بِالْمُنَافِقِينَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْيَهُودَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ أَوْلِيَاءَ سُلْطَانٌ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ يَعْنِي: أَنَّ مُوَالَاةَ الْكَافِرِينَ بَيِّنَةٌ عَلَى المنافقين. وعن صعصعة بْنِ صَرْحَانِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أَخٍ لَهُ خَالِصِ الْمُؤْمِنَ وَخَالِقِ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرَ: فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تُخَالِصَ الْمُؤْمِنَ. إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدَّرْكُ لِأَهْلِ النَّارِ كَالدَّرَجِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا أَنَّ الدَّرَجَاتِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالدِّرْكَاتُ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الدَّرَكَاتُ الطَّبَقَاتُ: وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِدْرَاكِ أَيْ: هِيَ مُتَدَارِكَةٌ مُتَلَاحِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ مِنْ تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُتَعَلِّقَةٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَالنَّارُ سَبْعُ دَرَكَاتٍ، قِيلَ: أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثُمَّ لَظًى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. وَقَدْ تُسَمَّى جَمِيعُهَا بِاسْمِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى، وَبَعْضُ الطَّبَقَاتِ باسم

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 118.

بَعْضٍ، لِأَنَّ لَفْظَ النَّارِ يَجْمَعُهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَآلِ فِرْعَوْنَ. وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ في المنافقين: وفَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «1» وأَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2» وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْكُفْرِ، وَضَمَّ إِلَى الْكُفْرِ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَالْمُدَاجَاةَ وَإِطْلَاعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَشَدُّ غَوَائِلَ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَشَدُّ تَمْكِينًا مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْعَرَبِيَّانِ: فِي الدَّرْكِ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِسُكُونِهَا، وَاخْتُلِفَ عَنْ عَاصِمٍ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ وَالْبَرْجَمِيُّ: الْفَتْحَ، وَغَيْرُهُمَا الْإِسْكَانَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهُمَا لُغَتَانِ كَالشَّمْعِ وَالشَّمَعِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْفَتْحَ لِقَوْلِهِمْ: فِي الْجَمْعِ أَدْرَاكٌ كَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْقَاسُ فِي فَعَلٍ أفعال، وَلَا يَنْقَاسُ فِي فَعْلٍ. وَقَالَ عَاصِمٌ: لَوْ كَانَ بِالْفَتْحِ لَقِيلَ: السُّفْلَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَهَبَ عَاصِمٌ إِلَى أَنَّ الْفَتْحَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ دَرَكَةٍ كَبَقَرَةٍ وَبَقَرٍ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مَا ذكره من التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ الْجِنْسَ الْمُمَيَّزَ مُفْرَدُهُ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، يُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَيُذَكَّرُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ وَنَجْدٍ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ لِأَنَّهُ يَتَحَتَّمُ فِيهِ التَّأْنِيثُ أَوِ التَّذْكِيرُ، وَلَيْسَ دَرَكَةٌ وَدَرَكٌ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَذْكِيرُ الدَّرَكِ وَتَأْنِيثُهُ. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أَيْ مَانِعًا مِنَ الْعَذَابِ وَلَا شَافِعًا يَشْفَعُ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَابُوا مِنَ النِّفَاقِ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ وَلَا مَلَاذٌ إِلَّا اللَّهَ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أَيْ: لَا يَبْتَغُونَ بِعَمَلِ الطَّاعَاتِ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ مُتَّصِفًا بِنَقَائِصِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْكُفْرِ وَفَسَادِ الْأَعْمَالِ وَالْمُوَالَاةِ لِلْكَافِرِينَ وَالِاعْتِزَازِ بِهِمْ وَالْمُرَاءَاةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، شَرَطَ فِي تَوْبَتِهِمْ مَا يُنَاقِضُ تِلْكَ الْأَوْصَافَ وَهِيَ التَّوْبَةُ مِنَ النِّفَاقِ، وَهِيَ الْوَصْفُ الْمُحْتَوِي عَلَى بَقِيَّةِ الْأَوْصَافِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. ثُمَّ فَصَّلَ مَا أَجْمَلَ فِيهَا، وَهُوَ الْإِصْلَاحُ لِلْعَمَلِ الْمُسْتَأْنَفِ الْمُقَابِلِ لِفَسَادِ أَعْمَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْمُقَابِلُ لِمُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَاضِي، ثُمَّ الْإِخْلَاصِ لِدِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُقَابِلُ لِلرِّيَاءِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِي الْمَاضِي، ثُمَّ بَعْدَ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ جميعها

_ (1) سورة المائدة: 5/ 115. (2) سورة غافر: 40/ 46.

أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا مِنَ المؤمنين، وإن كانوا قَدْ صَارُوا مُؤْمِنِينَ تَنْفِيرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِظَمِ كُفْرِ النِّفَاقِ وَتَعْظِيمًا لِحَالِ مَنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ. وَمَعْنَى: مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، رُفَقَاؤُهُمْ وَمُصَاحِبُوهُمْ فِي الدَّارَيْنِ. وَالَّذِينَ تَابُوا مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فِي الدَّرْكِ. وَقِيلَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فَأُولَئِكَ. وقال الخوفي: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ الْمُتَعَلِّقِ بِالَّذِينَ. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً أتى بسوف، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْأَجْرِ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ زَمَانٌ مُسْتَقْبَلٌ لَيْسَ قَرِيبًا مِنَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ سَوْفَ أَبْلَغُ فِي التَّنْفِيسِ مِنَ السِّينِ، وَلَمْ يَعُدِ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ: وَسَوْفَ يُؤْتِيهِمْ، بَلْ أَخْلَصَ ذَلِكَ الْأَجْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ رُفَقَاؤُهُمْ، فَيُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ وَيُسَاهِمُونَهُمْ. وَكَتَبَ يُؤْتِ فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ، لَمَّا حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ حُذِفَتْ فِي الْخَطِّ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَوَقَفَ يَعْقُوبُ عَلَيْهَا بِالْيَاءِ، وَوَقَفَ السَّبْعَةُ بِغَيْرِ يَاءٍ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَدْ رُوِيَ الْوَقْفُ بِالْيَاءِ عَنْ: حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَنَافِعٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوقَفَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ إِنْ وُقِفَ بِغَيْرِ يَاءٍ خَالَفَ النَّحْوِيِّينَ، وَإِنْ وَقَفَ بِيَاءٍ خَالَفَ لَفْظَ الْمُصْحَفِ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ هُوَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ. مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ الْخِطَابُ قِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: لِلْكَافِرِينَ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ: مَا يُعَذِّبُكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ، لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ يَعُودُ نَفْعُهُ أَوْ يَنْدَفِعُ ضُرُّهُ عَنِ الْمُعَذَّبِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عِقَابُهُ الْمُسِيءَ لِأَمْرٍ قَضَتْ بِهِ حِكْمَتُهُ تَعَالَى، فَمَنْ شَكَرَهُ وَآمَنَ بِهِ لَا يُعَذِّبُهُ. وما اسْتِفْهَامٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: أَيَّ شَيْءٍ يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ، اسْتِشْفَاءً أم إدراك ثأر، أَمْ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ، أَمْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، فَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، قَالَ: وَالْمَعْنَى: مَا يُعَذِّبُكُمْ. وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ أَيْ: إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فَمَا يَفْعَلُ بِعَذَابِكُمْ. ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّكْرِ هُنَا تَوْحِيدُ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) :

لِمَ قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلَى الْإِيمَانِ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي خَلْقِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِلْمَنَافِعِ فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُبْهَمًا، فَإِذَا انْتَهَى بِهِ النَّظَرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُؤْمِنِ بِهِ الْمُنَعَّمِ آمَنَ بِهِ، ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُفَصَّلًا، فَكَانَ الشُّكْرُ مُتَقَّدِمًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَكَانَ أَصْلَ التَّكْلِيفِ وَمَدَارَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشُّكْرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ الْإِيمَانَ تَأْكِيدًا وَتَنْبِيهًا عَلَى جَلَالَةِ مَوْقِعِهِ انْتَهَى. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْ: إِنْ آمَنْتُمْ وَشَكَرْتُمْ. وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً شَاكِرًا أَيْ: مُثِيبًا مُوفِيًا أُجُورَكُمْ. وَأَتَى بِصِفَةِ الشُّكْرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ بِلَا مُبَالَغَةٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَبَّلُ وَلَوْ أَقَلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ، وَيُنَمِّيهِ عَلِيمًا بِشُكْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فَيُجَازِيكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: عَلِيمًا، تَحْذِيرٌ وَنَدْبٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ إِدَامَةُ النِّعَمِ عَلَى الشَّاكِرِ. لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَالَ مُجَاهِدٌ: تَضَّيَفُ رَجُلٌ قَوْمًا فأساؤوا قِرَاهُ، فَاشْتَكَاهُمْ، فَعُوتِبَ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَالَ رَجُلٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَاضِرٌ، فَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ مِرَارًا ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ، فَقَامَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَتَمَنِي فَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا رَدَدْتُ عَلَيْهِ قُمْتَ، فَقَالَ: «إِنْ مَلَكًا كَانَ يُجِيبُ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَّدْتَ عَلَيْهِ ذَهَبَ وَجَاءَ الشَّيْطَانُ» فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ وَإِظْهَارِ فَضَائِحِهِمْ مَا ذَكَرَ، وَبَيَّنَ ظُلْمَهُمْ وَاهْتِضَامَهُمْ جَانِبَ الْمُؤْمِنِينَ، سَوَّغَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذَكِّرُوهُمْ بِمَا فِيهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَدْعُو عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ ظُلْمِي. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُجَازِيهِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالشَّتْمِ فَيَرُدَّ عَلَى مَنْ شَتَمَهُ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا فِي الضَّيْفِ يَشْكُو سُوءَ صَنِيعِ الْمُضِيفِ مَعَهُ، وَنُسِبَ إِلَى الظُّلْمِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ. وَقَالَ الْمُنِيرُ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ كُفْرًا وَنَحْوَهُ فَذَلِكَ مُبَاحٌ، وَالْآيَةُ فِي الْإِكْرَاهِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أي: الأجهر مَنْ ظُلِمَ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ الْمَظْلُومَ لَهُ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْ ظَالِمِهِ بِمَا يُوَازِي ظُلَامَتَهُ قَالَهُ: السُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا. وبالسوء

مُتَعَلِّقٌ بِالْجَهْرِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَالْفَاعِلُ محذوف، وبالجهر فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَمِنْ أَجَازَ أَنْ يُنْوَى فِي الْمَصْدَرِ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ قَدَّرَ أَنَّ بِالسُّوءِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: أَنْ يُجْهَرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَنْ ظُلِمَ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَحَدٌ إِلَّا الْمَظْلُومَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ. أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِيمَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ أَنْ يَكُونُ زَيْدٌ بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى الَّذِي فَرَغَ لَهُ الْعَامِلُ، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَصْدَرِ. وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ الْجَهْرِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَجْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا الْمَظْلُومُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ: إلا من ظلم مبنيا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الظَّالِمَ رَاكِبٌ مَا لَمْ يُحِبَّهُ اللَّهُ فَيَجْهَرُ بِالسُّوءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فِي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فَاجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَالتَّوْبِيخِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا بِسُوءٍ مِنَ الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «1» الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى التَّأْسِيسِ وَالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى الشُّكْرِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فِي إِقَامَتِهِ عَلَى النِّفَاقِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: أَلَسْتَ الْمُنَافِقَ الْكَافِرَ الَّذِي لَكَ فِي الْآخِرَةِ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ؟ وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَهُوَ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ وَهُوَ ظَالِمٌ فِي ذَلِكَ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ تَقَادِيرَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ: أَحَدُهَا: رَاجِعٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ لَا يُحِبُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَكِنَّ الظَّالِمَ يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ فَهُوَ يَفْعَلُهُ، وَالثَّانِي: رَاجِعٌ إِلَى فَاعِلِ الْجَهْرِ أَيْ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ بِالسُّوءِ، لَكِنَّ الظَّالِمَ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ. وَالثَّالِثُ: رَاجِعٌ إِلَى مُتَعَلِّقِ الْجَهْرِ الْفَضْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ أَيْ: إِنْ يَجْهَرْ أَحَدُكُمْ لِأَحَدٍ بِالسُّوءِ، لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ فَاجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِعْرَابُ مَنْ يَحْتَمِلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ النَّصْبَ، وَيَحْتَمِلُ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ أَحَدٌ الْمُقَدَّرِ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِأَحَدٍ الْمُقَدَّرِ فِي الْمَصْدَرِ إِذِ التَّقْدِيرُ إِنْ يَجْهَرْ أَحَدٌ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ الرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ لَا يَصِحُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُسَوَّغُ فِيهِ الْبَدَلُ وَهُوَ مَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، فَهَذَا فِيهِ الْبَدَلُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ، وَالنُّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ في لغة الحجاز.

_ (1) سورة النساء: 4/ 147.

وَإِنَّمَا جَازَ فِيهِ الْبَدَلُ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: مَا فِي الدَّارِ إِلَّا حِمَارٌ صَحَّ الْمَعْنَى. وَقِسْمٌ يَتَحَتَّمُ فِيهِ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يُسَوَّغُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ: الْمَالُ مَا زَادَ إِلَّا النَّقْصَ. التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ النَّقْصَ حَصَلَ لَهُ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَجَّهَ زَادَ عَلَى النَّقْصِ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: مَا زَادَ إِلَّا النَّقْصُ لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى، وَالْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بالسوء إلا الظالم، فيفرع أَنْ يَجْهَرَ لِأَنْ يَعْمَلَ فِي الظَّالِمِ لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَرْفُوعًا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ إِلَّا الظَّالِمُ، عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، بِمَعْنَى: مَا جَاءَنِي إِلَّا عَمْرٌو. وَمِنْهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «1» انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ يُذْكَرُ لَغْوًا زَائِدًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ، وَلَا عَمْرٌو بَدَلًا مِنْ زَيْدٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي هَذَا الْبَابِ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى كَوْنِهِ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ نَحْوِ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ نَحْوَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلَمٌ وَكَذَا زَيْدٌ هُوَ عَلَمٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَخَيَّلَ فِيهِ عُمُومٌ، فَيَكُونُ الظَّالِمُ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ، وَعَمْرٌو بَدَلًا مِنْ زَيْدٍ. وَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَدَلُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فَإِنَّهُ يُتَخَيَّلُ فِيمَا قَبْلَهُ عُمُومٌ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الْبَدَلُ منه على طريق المحاز، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَقِيقَةً. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، فَلَا نَعْلَمُ هَذِهِ اللُّغَةَ، إِلَّا أَنَّ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَنْشَدَ أَبْيَاتًا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ آخِرُهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَشِيَّةَ لَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمَّمُ مَا نَصُّهُ وَهَذَا يُقَوِّي: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، وَمَا أَعَانَهُ إِخْوَانُكُمْ إِلَّا إِخِوَانُهُ، لِأَنَّهَا مَعَارِفُ لَيْسَتِ الْأَسْمَاءُ الْآخِرَةُ بِهَا وَلَا مِنْهَا، انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ وَلَا لَوَّحَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: مِنْ شَرْحِ سِيبَوَيْهِ، فَهَذَا يُقَوِّي: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ، لِأَنَّ النَّبْلَ مَعْرِفَةٌ لَيْسَ بِالْمَشْرَفِيِّ، كَمَا أَنَّ زَيْدًا لَيْسَ بِعَمْرٍو، وَكَمَا أَنَّ أُخْوَةَ زَيْدٍ لَيْسُوا إِخْوَانَكُمْ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو نَظِيرًا لِلْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ عُمُومٌ فِي الْبَيْتِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَأَنَّهُ قيل: لا يغني

_ (1) سورة النمل: 27/ 65.

السِّلَاحُ مَكَانَهَا إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ، بِخِلَافِ مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، فَإِنَّهُ لَا يُتَخَيَّلُ فِي مَا أَتَانِي زَيْدٌ عُمُومٌ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُمِعَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ حَتَّى يَصِحَّ الْبَدَلُ، فَكَانَ يَصِحُّ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَلَا غَيْرُهُ إِلَّا عَمْرٌو. كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ الْمَعْطُوفِ وُجُودُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى إِلْغَاءِ هَذَا الْفَاعِلِ وَزِيَادَتِهِ، أَوْ عَلَى كَوْنِ عمرو بدلا من زيد، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَمِنْهُ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مفعولة، والغيب بَدَلًا مِنْ بَدَلِ اشْتِمَالٍ أَيْ: لَا يَعْلَمُ غَيْبَ من في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ مَا يُسِرُّونَهُ وَيُخْفُونَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَنْ مَرْفُوعَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بَدَلًا مِنْ مَنْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فِي مَنْ، لأن من في السموات يُتَخَيَّلُ فِيهِ عُمُومٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ لَا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَ دُونَ الْغَيْبِ إِلَّا اللَّهُ. أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فِي الظَّرْفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا جَاءَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ «2» وَفِي الْحَدِيثِ أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: لَا ودي. وفي السَّمَاءِ بَيْتُهُ يَعْنُونَ اللَّهَ تَعَالَى. وَإِذَا احْتَمَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْوُجُوهَ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَمْلُهَا عَلَى مَا ذُكِرَ، وَخَصَّ الْجَهْرَ بِالذِّكْرِ إِمَّا إِخْرَاجًا لَهُ مُخْرَجَ الْغَائِبِ، وَإِمَّا اكْتِفَاءً بِالْجَهْرِ عَنْ مُقَابِلِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَفْحَشَ. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً أَيْ سَمِيعًا لِمَا يُجْهَرُ بِهِ مِنَ السُّوءِ، عَلِيمًا بِمَا يُسَرُّ بِهِ مِنْهُ. وَقِيلَ: سَمِيعًا لِكَلَامِ الْمَظْلُومِ، عَلِيمًا بِالظَّالِمِ. وَقِيلَ: سَمِيعًا بِشَكْوَى الْمَظْلُومِ، عَلِيمًا بِعُقْبَى الظَّالِمِ، أَوْ عَلِيمًا بِمَا فِي قَلْبِ الْمَظْلُومِ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلَا يَقُلْ إِلَّا الْحَقَّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّحْذِيرُ. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً الظَّاهِرُ أَنَّ الْهَاءَ فِي تُخْفُوهُ تَعُودُ عَلَى الْخَيْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ من أعمال البر كَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي تُخْفُوهُ عَائِدٌ عَلَى السُّوءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ لِمَنْ كَانَ مَظْلُومًا قَالَ لَهُ وَلِجِنْسِهِ: إِنْ تُبْدُو خيرا، بدل مِنَ السُّوءِ، أَوْ تُخْفُوا السُّوءَ، أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ. فَالْعَفْوُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الْمَعْفُوِّ مُبَاحًا انْتَهَى. وَذَكَرَ إِبْدَاءَ الْخَيْرِ وإخفاءه

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 3. (2) سورة الزخرف: 43/ 84. [.....]

تَسَبُّبًا لِذَلِكَ الْعَفْوِ، ثُمَّ عَطَفَهُ عَلَيْهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَاعْتِدَادًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا فِي إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ، فَجَعَلَهُ قَسَمًا بِالْعَطْفِ لَا قَسِيمًا اعْتِنَاءً بِهِ. وَلِذَلِكَ أَتَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصِفَةِ الْعَفْوِ وَالْقُدْرَةِ مَنْسُوبَةً لَهُ تَعَالَى لِيُقْتَدَى بِسُنَّتِهِ، وَيُتَخَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الْجَانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَكَانَ بِالصِّفَتَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْثُرَ مِنْهُ الْعَفْوُ مَعَ كَثْرَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» . وَقَالَ تَعَالَى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ «1» . وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْجَانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ فَعَلَيْكُمْ بِالْعَفْوِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنِّي أَقْدَرُ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ ذُنُوبِكَ مِنْكَ عَلَى عَفْوِكَ عَنْ صَاحِبِكَ. وَقِيلَ: عَفُوًّا لِمَنْ عَفَى قَدِيرًا عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، آمَنَتِ الْيَهُودُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرَتْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى والإنجيل وكفرت بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، آمَنُوا بِمُوسَى وعزيرا وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ وَمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ سُوءِ الْخَلِيقَةِ وَمَذْمُومِ الطَّرِيقَةِ، أَخَذَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، جَعَلَ كُفْرَهُمْ بِبَعْضِ الرُّسُلِ كُفْرًا بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَكُفْرَهُمْ بِالرُّسُلِ كُفْرًا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا نُؤْمِنُ، بِفُلَانٍ، وَفُلَانٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ يَعْنِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ تَصْدِيقُ اليهود بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَنَحْوُ هَذَا مِنْ تَفَرُّقَاتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَعَنُّتًا وَرَوَغَانًا. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا وَسَطًا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: هُمْ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذلك الإيمان ينفعهم.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 134.

وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. أَوْ هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: كُفْرًا حَقًّا أَيْ: ثَابِتًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ. أَوْ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ، وَقَدْ طَعَنَ الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ وَقَالَ: الْكُفْرُ لَا يَكُونُ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِحَقًّا الْحَقُّ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ لِلْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ كُفْرٌ ثَابِتٌ مُتَيَقَّنٌ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّوْكِيدُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ دَاعِيَ الْإِيمَانِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَكَوْنُهُمْ فَرَّقُوا فِي الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجَمِيعِ، إِذْ لَيْسَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضٍ نَاشِئًا عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا هُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي وَالتَّلَاعُبِ. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْإِهَانَةِ فِي الْعَذَابِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دُخُولِ بَيْنَ عَلَى أَحَدٍ فِي الْبَقَرَةِ. فِي قَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ صَرَّحَ تَعَالَى بِوَعْدِ هَؤُلَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: يُؤْتِيهِمْ بِالْيَاءِ لِيَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَمُقَابِلُهُ وَأَعْتَدْنَا. وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ: قِرَاءَةُ النُّونِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَنْهَمُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَشَاكِلٌ لِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا، لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا مُتَوَاتِرَةٌ، هَكَذَا نَزَلَتْ، وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لَمَّا وَعَدَهُمْ تَعَالَى بالثواب زادهم تبشيرا بالتجاوز عَنِ السَّيِّئَاتِ وَبِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ. يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إن كنت صادقا فجيء بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالْكِتَابِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: قَالُوا: ائْتِ بِأَلْوَاحٍ فِيهَا كِتَابُكَ كَمَا أَتَى مُوسَى بِأَلْوَاحٍ فِيهَا التَّوْرَاةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: سَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكِتَابٍ خَاصٍّ لِلْيَهُودِ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالُوا: لَنْ نُتَابِعَكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى فُلَانٍ وَإِلَى فُلَانٍ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَقْتَضِي أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَلَى نَحْوِ سُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 285.

أُمَيَّةَ الزُّهْرِيِّ، وَقِيلَ: كِتَابًا نُعَايِنُهُ حَتَّى يَنْزِلَ، وَسَمَّى مِنْ سَائِلِي الْيَهُودِ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وفنحاص بْنَ عَازُورَاءَ. وَقِيلَ: السَّائِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَسُؤَالُهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْ سَأَلُوهُ لِكَيْ يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ لَأَعْطَاهُمْ، فَإِنَّ فِيمَا أَعْطَاكُمْ كِفَايَةً. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً قَدَّرُوا قَبْلَ هَذَا كَلَامًا مَحْذُوفًا، فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ شَرْطًا هَذَا جَوَابُهُ وَتَقْدِيرُهُ: إِنِ اسْتَكْبَرْتَ مَا سَأَلُوهُ مِنْكَ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَلَا تُبَالِ يَا مُحَمَّدُ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَتَشْطِيطِهِمْ، فَإِنَّهَا عَادَتُهُمْ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى. وَأَسْنَدَ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ آبَائِهِمْ مِنْ نُقَبَائِهِمُ السَبْعِينَ، لِأَنَّهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِ آبَائِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَمُشَابِهُونَ لَهُمْ فِي التَّعَنُّتِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَكْثَرَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَمَعْنَى جَهْرَةً: عِيَانًا رُؤْيَةً مُنْكَشِفَةً بَيِّنَةً. وَالْجَهْرَةُ مِنْ وَصْفِ الرّوية. وَاخْتُلِفَ فِي النَّقْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُ: «أَنَّ جَهْرَةً مِنْ صِفَةِ السُّؤَالِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى. أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ سَأَلُوا أَيْ: سَأَلُوهُ مُجَاهِرِينَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَقَالُوا جَهْرَةً مِنْهُ وَتَصْرِيحًا أَرِنَا اللَّهَ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَةِ الْقَوْلِ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ أَيْ: تَعَنُّتِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِظُلْمِهِمْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمُ الرُّؤْيَةَ، وَلَوْ طَلَبُوا أَمْرًا جَائِزًا لَمَا سُمُّوا ظَالِمِينَ، وَلَمَا أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ. كَمَا سَأَلَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى فَلَمْ يُسَمِّهِ ظَالِمًا، وَلَا رَمَاهُ بِالصَّاعِقَةِ لِلْمُشَبِّهَةِ وَرَمْيًا بِالصَّوَاعِقِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي اسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا مُحَالًا عَقْلًا، لَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، إِذْ قَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُ لَا يُرَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالرُّؤْيَةُ فِي الْآخِرَةِ ثَابِتَةٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بِالتَّوَاتُرِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَقْلًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَقَرَةِ عَلَى الصَّاعِقَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ، وَالْجُمْهُورُ الصَّاعِقَةُ. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ثُمَّ: لِلتَّرْتِيبِ فِي الْأَخْبَارِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ثُمَّ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ: أَيْ آبَاؤُهُمْ، وَالَّذِينَ صُعِقُوا غَيْرُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ. وَالْبَيِّنَاتُ: إِجَازَةُ الْبَحْرِ، وَالْعَصَا، وَغَرَقُ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَعْلَمَ نَبِيَّهُ بِعِنَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الَّذِي سَأَلُوا لَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ كَمَا خَالَفُوهُ مِنْ بَعْدِ إِحْيَاءِ اللَّهِ لَهُمْ مِنْ صَعْقَتِهِمْ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أَيْ: عَنِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا عَنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ.

وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ بِالتَّوْبَةِ. وَيَعْنِي: بِمَا امْتَحَنَهُمْ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ الْعَفْوُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ: حُجَّةً وَتَسَلُّطًا وَاسْتِيلَاءً ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ حِينَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يُتَابَ عَلَيْهِمْ فَأَطَاعُوهُ، وَاحْتَبَوْا بِأَفْنِيَتِهِمْ، وَالسُّيُوفُ تتساقط عليهم، فياله مِنْ سُلْطَانٍ مُبِينٍ. وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ تَقَدَّمَ مَا الْمَعْنِيُّ بِالطُّورِ. وَفِي الشَّامِ جَبَلٌ عُرِفَ بِالطُّورِ وَلَزِمَهُ هَذَا الِاسْمُ، وَهُوَ طور سيناء. وَلَيْسَ هُوَ الْمَرْفُوعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ رَفْعَ الْجَبَلِ كَانَ فِيمَا يَلِي التِّيهَ مِنْ جِهَةِ دِيَارِ مِصْرَ وَهُمْ نَاهِضُونَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ رَفْعِ الطُّورِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِمِيثَاقِهِمْ لِلسَّبَبِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ مُوسَى عَلَيْهِمْ بَعْدَ تَصْدِيقِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا، فَنَقَضُوا مِيثَاقَهُمْ وعدبوا الْعِجْلَ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّورَ. وَفِي كَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: بِنَقْضِ مِيثَاقِهِمْ. وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ اعْتِدَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ «1» . وَقَرَأَ وَرْشٌ لَا تَعَدُّوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ لا تَعْتَدُوا، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ التَّاءِ عَلَى الْعَيْنِ، وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَقَرَأَ قَالُونُ: بِإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَالنَّصُّ بِالْإِسْكَانِ. وَأَصْلُهُ أَيْضًا لَا تَعْتَدُوا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: لَا تَعْدُوا بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الدال من عدى يَعْدُو. وَقَالَ تَعَالَى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ «2» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْأَخْفَشُ: لَا تَعْتَدُوا مِنَ اعْتَدَى. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قِيلَ: هُوَ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: بِمِيثاقِهِمْ «3» وَوُصِفَ بِالْغِلَظِ لِلتَّأْكِيدِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يَأْخُذُوا التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ، وَيَعْمَلُوا بِجَمِيعِ مَا فِيهَا، وَيُوصِلُوهُ إِلَى أَبْنَائِهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا الْمِيثَاقُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمِيثَاقُ الثَّانِي الَّذِي أُخِذَ عَلَى أنبيائهم بالتصديق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ «4» الْآيَةَ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 65. (2) سورة الأعراف: 7/ 163. (3) سورة النساء: 4/ 154. (4) سورة آل عمران: 3/ 81.

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيمَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَشْيَاءَ وَاقَعُوهَا فِي الضِّدِّ مِمَّا أُخِذُوا بِهِ، نَقَضُوا الْمِيثَاقَ الَّذِي رُفِعَ عَلَيْهِمُ الطُّورُ بِسَبَبِهِ، وَجَعَلُوا بَدَلَ الْإِيمَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا الْمُتَضَمِّنُ التَّوَاضُعَ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ، كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَبَذْلِ الطَّاعَةِ، وَامْتِثَالِ مُوَافَقَتِهِ، فِي أَنْ لَا يَعْدُوا فِي السَّبْتِ انْتِهَاكَ أَعْظَمِ الْحُرُمِ، وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَابَلُوا أَخْذَ الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ بِتَجَاهُلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ: أَيْ: فِي حُجُبٍ، وَغُلُفٍ: فَهِيَ لَا تَفْهَمُ. وَأَضْرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ طَبَعَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ انْتَهَى. وَالْمِيثَاقُ الْمَنْقُوضُ: أَهُوَ كِتْمَانُهُمْ صِفَةَ الرَّسُولِ وَتَكْذِيبُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ؟ أَوْ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ؟ مَعَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا وَالْتَزَمُوا الْعَمَلَ بِهَا قَوْلَانِ. وَآيَاتُ اللَّهِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا أَهِيَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ؟ أَوْ جَمِيعُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ؟ قَوْلَانِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قُلُوبُنَا غُلْفٌ فِي الْبَقَرَةِ. بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ أَدْغَمَ لَامَ بَلْ فِي طَاءِ طَبَعَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ، وَأَظْهَرَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الذَّمُّ، عَلَى أَنَّ قُلُوبَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا الَّتِي لَا تَفْهَمُ أَبَدًا وَلَا تُطِيعُ مُرْسَلًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَنَا غُلْفًا، أَيْ: فِي أَكِنَّةٍ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ «1» وَتَكْذِيبُ الْمُجْبِرَةِ أَخْزَاهُمُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُمْ: خَذَلَهَا اللَّهَ وَمَنَعَهَا الْأَلْطَافَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَصَارَتْ كَالْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا، لَا إِنْ تخلق غلفا غير قَابِلَةَ الذِّكْرِ، وَلَا مُتَمَكِّنَةً مِنْ قَبُولِهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ طَبَعَ عَلَيْهَا حَقِيقَةً كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى إِذْ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ. وَالْبَاءُ فِي فَبِمَا نَقْضِهِمْ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَاهُ. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَعَنَّاهُمْ وَأَذْلَلْنَاهُمْ، وَحَتَّمْنَا عَلَى الْوَافِينَ مِنْهُمُ الْخُلُودَ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَذْفُ جَوَابِ هَذَا الْكَلَامِ بَلِيغٌ مَتْرُوكٌ مَعَ ذِهْنِ السَّامِعِ انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ بِأَنَّهُ جَوَابُ اصْطِلَاحٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَلَا تُسَاعِدُهُ اللُّغَةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ «2» عَلَى أَنَّ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا «3» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ، وأبو بكر، والزمخشري،

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 20. (2) سورة النساء: 4/ 16. (3) سورة النساء: 4/ 160.

وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى السَّبَبِ سَبَبٌ، فَيَلْزَمُ تَأَخُّرُ بَعْضِ أَجْزَاءِ السَّبَبِ الَّذِي لِلتَّحْرِيمِ فِي الْوَقْتِ عَنْ وَقْتِ التَّحْرِيمِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ سَبَبٍ أَوْ مُسَبِّبًا إِلَّا بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلَهُمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ، مُتَأَخِّرٌ فِي الزَّمَانِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَعَنَّاهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً «1» . فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَبِكُفْرِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ وَمَا بَعْدَهُ. عَلَى أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، مَعْطُوفًا عَلَى بِكُفْرِهِمْ. وَتَكْرَارُ نِسْبَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، إِذْ كَفَرُوا بِمُوسَى، ثُمَّ بِعِيسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَعَطَفَ بَعْضَ كُفْرِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَطَفَ مَجْمُوعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَجْمُوعِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قيل: فبجمعهم بَيْنَ نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَالْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ «2» ، وَجَمْعِهِمْ بَيْنَ كُفْرِهِمْ وَبُهْتِهِمْ مَرْيَمَ، وَافْتِخَارِهِمْ بِقَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاقَبْنَاهُمْ. أَوْ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَجَمَعَهُمْ بَيْنَ كَفْرِهِمْ، وَكَذَا وَكَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْبَاءُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ؟ (قُلْتُ) : لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّ قوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ، رَدٌّ وَإِنْكَارٌ لِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْعَطْفَ بِبَلْ يَكُونُ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَإِثْبَاتِهِ لِلثَّانِي عَلَى جِهَةِ إِبْطَالِ الْأَوَّلِ، أَوْ الِانْتِقَالِ عَامًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْإِخْبَارِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا لِلِانْتِقَالِ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَالَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يُسَوَّغُ فِيهِ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَهُوَ لَا يَجُوزُ. لَوْ قُلْتَ: مَرَّ زَيْدٌ بِعَمْرٍو، بَلْ مَرَّ زَيْدٌ بِعَمْرٍو، لَمْ يَجُزْ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ وَهُوَ أَنْ يكون

_ (1) سورة المائدة: 5/ 13. (2) سورة النساء: 4/ 155.

التَّقْدِيرُ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَكَذَا طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَالْفَاءُ مُقْحَمَةٌ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ «1» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا. وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ رَمْيُهُمْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِالزِّنَا مَعَ رُؤْيَتِهِمُ الْآيَةَ فِي كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَهْدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِلَّا فَلَوْلَا الْآيَةُ لَكَانُوا فِي قَوْلِهِمْ جَارِينَ عَلَى حُكْمِ الْبَشَرِ فِي إِنْكَارِ حَمْلٍ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ انْتَهَى. وَوُصِفَ بِالْعِظَمِ لِأَنَّهُمْ تَمَادَوْا عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ وَقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ بِالْبَرَاءَةِ، وَقَدْ جَاءَتْ تَسْمِيَةُ الرَّمْيِ بِذَلِكَ بُهْتَانًا عَظِيمًا فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ «2» . وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ «3» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَعَ الذِّكْرَ الْحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهِمُ الْقَبِيحِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُ رَفْعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا كَانُوا يُذَكِّرُونَهُ بِهِ. ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ سِوَى الثَّانِي قَالَ: هُوَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ عَلَى جِهَةِ إِظْهَارِ ذَنْبِ هَؤُلَاءِ الْمُقِرِّينَ بِالْقَتْلِ وَلَزِمَهُمُ الذَّنْبُ، وَهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا عِيسَى، لِأَنَّهُمْ صَلَبُوا ذَلِكَ الشَّخْصَ عَلَى أَنَّهُ عِيسَى، وَعَلَى أَنَّ عِيسَى كَذَّابٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ. وَلَكِنْ لَزِمَهُمُ الذَّنْبُ مِنْ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ قَتْلَهُمْ وَقَعَ فِي عِيسَى، فَكَأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَلَيْسَ يَدْفَعُ الذَّنْبَ عَنْهُمُ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ رَسُولٍ. وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا عِيسَى وَمَا صَلَبُوهُ. وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. وَمُنْتَهَى مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طَلَبَتْهُ الْيَهُودُ فَاخْتَفَى هُوَ وَالْحَوَارِيُّونَ فِي بَيْتٍ، فَدُلُّوا عَلَيْهِ وَحَضَرُوا لَيْلًا وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَفَرَّقَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَوَجَّهَهُمْ إِلَى الْآفَاقِ، وَبَقِيَ هُوَ وَرَجُلٌ مَعَهُ، فَرُفِعَ عِيسَى، وَأُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى الرَّجُلِ فَصُلِبَ. وَقِيلَ: هُوَ الْيَهُودِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شبهي فيقتل ويخلص

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 159. (2) سورة النور: 24/ 16. (3) سورة هود: 11/ 87. [.....]

هَؤُلَاءِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَرْجِسُ: أَنَا، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى. وَقِيلَ: أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَلَمَّا أُخْرِجُوا نَقَصَ وَاحِدٌ مِنَ الْعِدَّةِ، فَأَخَذُوا وَاحِدًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الشَّبَهُ فَصُلِبَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ وَالْمُتَنَاوِلِينَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ عِيسَى لِمَا رَأَوْهُ مِنْ نُقْصَانِ الْعِدَّةِ وَاخْتِلَاطِ الْأَمْرِ، فَصُلِبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ، وَأُبْعِدَ النَّاسُ عَنْ خَشَبَتِهِ أَيَّامًا حَتَّى تَغَيَّرَ، وَلَمْ تَثْبُتْ لَهُ صِفَةٌ، وَحِينَئِذٍ دَنَا النَّاسُ مِنْهُ، وَمَضَى الْحَوَارِيُّونَ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْآفَاقِ إِنَّ عِيسَى صُلِبَ. وَقِيلَ: لَمْ يُلْقَ شَبَهُهُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَى: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، أَيْ شَبَّهَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْمُمَخْرِقُ لِيَسْتَدِيمَ بِمَا نَقَصَ وَاحِدٌ مِنَ الْعِدَّةِ، وَكَانَ بَادَرَ بِصَلْبِ وَاحِدٍ وَأَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ، وَقَالَ: هَذَا عِيسَى، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. أَمَّا أَنْ يُلْقَى شَبَهُهُ عَلَى شَخْصٍ، فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْتَمَدَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. فَقِيلَ: الْيَهُودِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: خَلِيفَةُ قَيْصَرَ الَّذِي كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ. وَقِيلَ: وَاحِدٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: دَخَلَ لِيَقْتُلَهُ. وَقِيلَ: رَقِيبٌ وَكَلَتْهُ بِهِ الْيَهُودُ. وَقِيلَ: أُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلَى كُلِّ الْحَوَارِيِّينَ. وَقِيلَ: أُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلَى الْوَجْهِ دُونَ الْبَدَنِ، وَهَذَا الْوُثُوقُ مِمَّا يَدْفَعُ الْوُثُوقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْقِي شَبَهَ إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ، فَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ السَّفْسَطَةِ. وَقِيلَ: سَبَبُ اجْتِمَاعِ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلِهِ هُوَ أَنَّ رَهْطًا مِنْهُمْ سَبُّوهُ وَسَبُّوا أُمَّهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، وَبِكَلِمَتِكَ خَلَقْتَنِي، اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ سَبَّنِي وَسَبَّ وَالِدَتِي» فَمَسَخَ اللَّهُ مَنْ سَبَّهُمَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، فَاجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ على قتله. وشبه مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: خُيِّلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُمُ التَّشْبِيهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى ضَمِيرِ الْمَقْتُولِ الدَّالِّ عَلَيْهِ: إِنَّا قَتَلْنَا أَيْ: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ مَنْ قَتَلُوهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْمَسِيحِ، لِأَنَّ الْمَسِيحَ مُشَبَّهٌ بِهِ لَا مُشَبَّهٌ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ اخْتَلَفَ فِيهِ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُصْلَبْ، الْوَجْهُ وَجْهُ عِيسَى، وَالْجَسَدُ جَسَدُ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: أَدْخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا لِيَقْتُلَهُ، فَأُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلَيْهِ فَصُلِبَ، وَنَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ وَاحِدٌ. وَكَانُوا عَلِمُوا عَدَدَ الْحَوَارِيِّينَ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمَصْلُوبُ صَاحِبَنَا فَأَيْنَ عِيسَى؟ وَإِنْ كَانَ عِيسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا؟ وَقِيلَ: قَالَ الْعَوَامُّ: قَتَلْنَا عِيسَى، وَقَالَ مَنْ عَايَنَ: رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مَا قُتِلَ وَلَا صُلِبَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْيَقِينُ الَّذِي صَحَّ فِيهِ نَقْلُ الْكَافَّةِ عَنْ حَوَاسِّهَا هو أنّ شخصا ب، وَهَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ لَا؟ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْحَوَّاسِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ

كَافَّةً. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقَتْلِ مَعْنَاهُ: فِي قَتْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي اخْتَلَفُوا عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ أَيْضًا، وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ إِلَهٌ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ أَنَّ النَّسْطُورِيَّةَ قَالُوا: وَقَعَ الصَّلْبُ عَلَى نَاسُوتِهِ دُونَ لَاهُوتِهِ. وَقِيلَ: وَقَعَ الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ عَلَيْهِمَا. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: هُوَ ابْنُ زِنًا. وَقَالَتِ النَّصَارَى: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا: إِنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ وَصَلَبَتْهُ، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ عَايَنُوا رَفْعَهُ قَالُوا: رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ. أَيْ: وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إعراب. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، إِذِ الظَّنُّ وَالْعِلْمُ يَضُمُّهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ مُعْتَقَدَاتِ الْيَقِينِ. وَقَدْ يَقُولُ الظَّانُّ عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ: عِلْمِي فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ كَذَا، وَهُوَ يَعْنِي ظَنَّهُ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَيْسَ مِنْ مُعْتَقَدَاتِ الْيَقِينِ، لِأَنَّهُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَمَا كَانَ تَرْجِيحًا فَهُوَ يُنَافِي الْيَقِينَ، كَمَا أَنَّ الْيَقِينَ يُنَافِي تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الظَّنَّ وَالْعِلْمَ يَضُمُّهُمَا مَا ذُكِرَ، فَلَا يَكُونُ أَيْضًا اسْتِثْنَاءً متصلا، لأنه لم يستثني الظَّنَّ مِنَ الْعِلْمِ. فَلَيْسَتِ التِّلَاوَةُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّمَا التِّلَاوَةُ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ، وَالِاتِّبَاعُ لِلظَّنِّ لَا يَضُمُّهُ وَالْعِلْمُ جِنْسُ مَا ذُكِرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ وُصِفُوا بِالشَّكِّ وَالشَّكُّ أَنْ لَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ؟ ثُمَّ وُصِفُوا بِالظَّنِّ وَالظَّنُّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَكَيْفَ يَكُونُونَ شَاكِّينَ ظَانِّينَ؟ (قُلْتُ) : أُرِيدَ أَنَّهُمْ شَاكُّونَ مَا لَهُمْ مِنْ عِلْمٍ قَطُّ، وَلَكِنْ لَاحَتْ لَهُمْ أَمَارَةٌ فَظَنُّوا انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالِهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لَا يَرِدُ هَذَا السُّؤَالُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الشَّكَّ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ الْقَطْعُ، وَالْيَقِينُ فيدخل فيه كلما يَتَرَدَّدُ فِيهِ، إِمَّا عَلَى السَّوَاءِ بِلَا تَرْجِيحٍ، أَوْ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْدَفَعَ السُّؤَالُ. وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: الضَّمِيرُ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى الظَّنِّ. تَقُولُ: قَتَلْتُ هَذَا الْأَمْرَ عِلْمًا إِذَا قَطَعْتَ بِهِ وَجَزَمْتَ الْجَزْمَ الَّذِي لَا يُخَالِجُهُ شَيْءٌ. فَالْمَعْنَى: وَمَا صَحَّ ظَنُّهُمْ عِنْدَهُمْ وَمَا تَحَقَّقُوهُ يَقِينًا، وَلَا قَطَعُوا الظَّنَّ بِالْيَقِينِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ أَيْ: مَا قَتَلُوا الْعِلْمَ يَقِينًا. يُقَالُ: قَتَلْتُ الْعِلْمَ وَالرَّأْيَ يَقِينًا، وَقَتَلْتُهُ عِلْمًا، لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلشَّيْءِ يَكُونُ عَنْ قَهْرٍ وَاسْتِعْلَاءٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ بِقَتْلِ الْمَسِيحِ عِلْمًا أُحِيطَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ ظَنًّا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ تَهَكُّمٌ، لأنه إِذَا نُفِيَ

عَنْهُمُ الْعِلْمُ نَفْيًا كُلِّيًا بِحَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ ثُمَّ قِيلَ: وَمَا عَلِمُوهُ عِلْمَ يَقِينٍ، وَإِحَاطَةٍ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَهَكُّمًا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى عِيسَى بِجَعْلِ الضَّمَائِرِ كُلِّهَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَخْتَلِفُ. وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ بَلِيغٌ، وَانْتِصَابُ يَقِينًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ قَتَلُوهُ أَيْ: مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ عِيسَى كَمَا ادَّعَوْا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: قَتْلًا يَقِينًا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا قَتَلُوهُ حَقًّا انْتَهَى. فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ كَقَوْلِكَ: وَمَا قَتَلُوهُ حَقًّا أَيْ: حَقَّ انْتِفَاءِ قَتْلِهِ حَقًّا. وَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الأنباري أنه فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وإن يقينا منصوب برفعه اللَّهُ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَقِينًا، فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ. وَقَدْ نَصَّ الْخَلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ بَلْ فِي مَا قَبْلَهَا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، وَهُوَ حَيٌّ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ. وَهُوَ هُنَالِكَ مُقِيمٌ حَتَّى يُنْزِلَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، وَلِيَمْلَأَهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَحْيَا فِيهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ كَمَا تَمُوتُ الْبَشَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى إِلَيْهِ فَكَسَاهُ الرِّيشَ وَأَلْبَسَهُ النور، وقطع عنه المطعم والمشرب، فَصَارَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ مَعَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ، فَصَارَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا. وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَذْفِ التَّقْدِيرِ إِلَى سَمَائِهِ، وَقَدْ جَاءَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «1» . وَقِيلَ: إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ فِيهِ إِلَّا لَهُ. وَلَا يُوَجَّهُ الدُّعَاءُ إِلَّا نَحْوَهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى عِيسَى أَنْوَاعٌ مِنَ الْبَلَايَا، أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ رَفْعَهُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ فِي إِيصَالِ الثَّوَابِ مِنَ الْجَنَّةِ وَمِنْ كُلِّ مَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَفْتَحُ عَلَيْكَ بَابَ مَعْرِفَةِ السِّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَحْوٌ مِنْ كَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَعَزَّةِ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ كَمَالُ الْعِلْمِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ رَفْعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الدُّنْيَا إلى السموات وَإِنْ كَانَ كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَى الْبَشَرِ، لَكِنْ لَا تُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِي وحكمتي

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 55.

انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَزِيزًا أَيْ قَوِيًّا بِالنِّقْمَةِ مِنَ الْيَهُودِ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ الرُّومِيّ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً. حَكِيمًا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ. وَقِيلَ: عَزِيزًا أَيْ: لَا يُغَالَبُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ حَاوَلَتْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خِلَافَهُ. حَكِيمًا أَيْ: وَاضِعَ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. فَمِنْ حَكَمَتِهِ تَخْلِيصُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَرَفْعُهُ إِلَى السَّمَاءِ لِمَا يُرِيدُ وَتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعَالَى. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلَاثَ سِنِينٍ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَدْخَلَهُ خَوْخَةً فِيهَا رَوْزَنَةٌ فِي سَقْفِهَا، فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ مِنْ تِلْكَ الرَّوْزَنَةِ. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إِنْ هُنَا نَافِيَةٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ قَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ، التَّقْدِيرُ: وَمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» وَالْمَعْنَى: وَمَا مِنَ الْيَهُودِ. وَقَوْلُهُ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «2» أَيْ: وَمَا أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ، وَمَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَحُذِفَ أَحَدٌ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ نَفْيٍ يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ نَحْوَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، مَعْنَاهُ مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَاقِعَةٌ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَنَحْوُهُ: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا. وَالْمَعْنَى: وَمَا مِنَ الْيَهُودِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ انْتَهَى. وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ إِذْ زَعَمَ أَنَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَاقِعَةٌ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ إِلَى آخِرِهِ، وَصِفَةُ أَحَدٌ الْمَحْذُوفِ إِنَّمَا هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّقْدِيرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، فَلَيْسَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ، وَلَا هِيَ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ كَمَا زَعَمَ، إِنَّمَا هِيَ جُمْلَةُ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالْقَسَمُ مَحْذُوفٌ، وَالْقَسَمُ وَجَوَابُهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ أَحَدٌ الْمَحْذُوفُ، إِذْ لَا يَنْتَظِمُ مِنْ أَحَدٍ. وَالْمَجْرُورِ إِسْنَادٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ الْإِسْنَادُ بِالْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ وَجَوَابِهَا، فَذَلِكَ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْخَبَرُ هُوَ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ، وَكَذَلِكَ إِلَّا وَارِدُهَا، إِذْ لَا يَنْتَظِمُ مِمَّا قَبْلَ إِلَّا تَرْكِيبٌ إِسْنَادِيٌّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي: بِهِ، وموته، عائدان أنّ عَلَى عِيسَى وَهُوَ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي زمان نزوله.

_ (1) سورة مريم: 19/ 71. (2) سورة الصافات: 37/ 164.

رُوِيَ أَنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا يُؤْمِنُ بِهِ، حَتَّى تَكُونَ الْمِلَّةُ وَاحِدَةً وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ لِعِيسَى، وَفِي مَوْتِهِ لِكِتَابِيٍّ وَقَالُوا: وَلَيْسَ يَمُوتُ يَهُودِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى وَيَعْلَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَوْتِ فَهُوَ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُهُ كَمَا لَمْ يَنْفَعْ فِرْعَوْنَ إِيمَانُهُ وَقْتَ الْمُعَايَنَةِ. وَبَدَأَ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ: وَالْمَعْنَى مَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعِيسَى، وَبِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ؟ يَعْنِي: إِذَا عَايَنَ قَبْلَ أَنْ تَزْهَقَ رُوحُهُ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ لِانْقِطَاعِ وَقْتِ التَّكْلِيفِ. ثُمَّ حُكِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَالْحَجَّاجِ حِكَايَةٌ فِيهَا طُولٌ يَمَسُّ بِالتَّفْسِيرِ مِنْهَا: أَنَّ الْيَهُودِيَّ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ دُبُرَهُ وَوَجْهَهُ وَقَالُوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَكَذَّبْتَ بِهِ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. وَتَقُولُ لِلنَّصْرَانِيِّ: أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَزَعَمْتَ أَنَّهُ اللَّهُ أَوِ ابْنُ اللَّهِ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ أنه عبد الله ورسوله حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: فَإِنْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ؟ قَالَ: لَا تَخْرُجُ نَفْسُهُ حَتَّى يُحَرِّكَ بِهَا شَفَتَيْهِ. قَالَ: وَإِنْ خرجت فَوْقَ بَيْتٍ، أَوِ احْتَرَقَ، أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهَا فِي الْهَوَى، وَلَا تَخْرُجُ رُوحُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، بِضَمِّ النُّونِ عَلَى مَعْنَى: وَإِنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُؤْمِنُونَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، لِأَنَّ أَحَدًا يَصْلُحُ لِلْجَمْعِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِمْ؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ الْوَعِيدُ، وَلْيَكُنْ عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ عَنْ قَرِيبٍ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ بَعْثًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى مُعَالَجَةِ الْإِيمَانِ بِهِ فِي أَوَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِيَكُونَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يَشْهَدُ عَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ، وَعَلَى النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ دَعَوْهُ ابْنُ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحْيِيهِمْ فِي قُبُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيُعْلِمُهُمْ نُزُولَهُ وَمَا نَزَلَ لَهُ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي مَوْتِهِ لِلْكِتَابِيِّ. قَالَ: وَلَيْسَ يَخْرُجُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ، وَلَوْ غَرِقَ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ جِدَارٌ فَإِنَّهُ يُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقِيلَ: يَعُودُ فِي بِهِ عَلَى اللَّهِ، وَفِي مَوْتِهِ عَلَى أَحَدٍ الْمُقَدَّرِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِذَا نَزَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ إِلَّا آمَنَ بِاللَّهِ حِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الدَّجَّالِ، وَتَصِيرُ الْأُمَمُ كُلُّهَا

[سورة النساء (4) : الآيات 160 إلى 172]

وَاحِدَةً عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيُعْزَى هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا إِلَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ غَزْوَانَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ عَسِرَةُ التَّخْرِيجِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا أَيْ: شَهِيدًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْيَهُودِ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَطَعْنِهِمْ فِيهِ، وَعَلَى النصارى بجعلهم إياه إلها مَعَ اللَّهِ أَوِ ابْنًا لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي يَكُونُ لِعِيسَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَدِيعِ. فَمِنْهَا التَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: يخادعون وخادعهم، وشكرتم وشاكرا. وَالْمُمَاثِلُ فِي: وَإِذَا قَامُوا. وَالتَّكْرَارُ فِي: اسْمِ اللَّهِ، وفي: هؤلاء وهؤلاء، وفي: ويرون ويريدون، وفي: الكافرين والكافرين، وفي: أهل الكتاب وكتابا، وفي: بميثاقهم وميثاقا. وَالطِّبَاقُ فِي: الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَفِي: إِنْ تَبْدُوا أَوْ تخفوه، وفي: نؤمن ونكفر، وَالِاخْتِصَاصُ فِي: إِلَى الصَّلَاةِ، وَفِي: الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَفِي: الْجَهْرَ بِالسُّوءِ. وَالْإِشَارَةُ فِي مَوَاضِعَ. الِاسْتِعَارَةِ فِي: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ اسْتَعَارَ اسْمَ الْخِدَاعِ لِلْمُجَازَاةِ وَفِي: سَبِيلًا، وَفِي سُلْطَانًا لِقِيَامِ الحجة والدرك الأسفل لا نخفاض طبقاتهم في النار، واعتصموا لِلِالْتِجَاءِ، وَفِي: أَنْ يُفَرِّقُوا، وَفِي: وَلَمْ يُفَرِّقُوا وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ اسْتُعِيرَ لِلْمَعَانِي، وَفِي: سُلْطَانًا اسْتُعِيرَ للحجة، وفي: غلف وبل طَبَعَ اللَّهُ. وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ لِمَعْنَى فِي: فَبِمَا نَقْضِهِمْ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ فِي: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وجاءتهم الْبَيِّنَاتُ وَإِلَى الرَّاضِي بِهِ وَفِي: وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَفِي: وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا وقولهم إنا قتلنا المسيح. وَحُسْنُ النَّسَقِ فِي: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَالْمَعَاطِيفِ عَلَيْهِ حَيْثُ نُسِّقَتْ بِالْوَاوِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْجَمِيعِ فَقَطْ. وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْصَارٌ مُتَبَاعِدَةٌ فَشَرَكَ أَوَائِلَهُمْ وَأَوَاخِرَهُمْ لِعَمَلِ أُولَئِكَ وَرِضَا هَؤُلَاءِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ وَفِي: كُفْرِهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِنْجِيلُ وَلَمْ يَكْفُرُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ إِلَّا بِهِمَا وَفِي قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُهُمْ. وَالتَّعْرِيضُ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَالتَّوْجِيهُ فِي غُلْفٌ مِنَ احْتِمَالِ الْمَصْدَرِ جَمْعُ غِلَافٍ أَوْ جَمْعُ أَغْلُفٍ. وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ فِي لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَنْ جَعَلَهُمَا لِغَيْرِ عِيسَى. وَالنَّقْلُ مِنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ فِي شَهِيدٍ. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ. [سُورَةُ النساء (4) : الآيات 160 الى 172] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)

الْغُلُوُّ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ. وَمِنْهُ غَلَا السِّعْرُ وَغَلْوَةُ السَّهْمِ. الِاسْتِنْكَافُ: الْأَنَفَةُ وَالتَّرَفُّعُ، مِنْ نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذَا نَحَّيْتَهُ بأصبعك من خدك، وَمَنَعْتَهُ مِنَ الْجَرْيِ قَالَ: فَبَاتُوا فَلَوْلَا مَا تَدَكَّرَ مِنْهُمُ ... مِنَ الْحَلْقِ لَمْ يَنْكَفْ بِعَيْنِكَ مَدْمَعُ وَسُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ الِاسْتِنْكَافِ فَقَالَ: هُوَ مِنَ النَّكْفِ، يُقَالُ: مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ نَكْفٌ وَلَا وَكَفٌ، وَالنَّكْفُ أَنْ يُقَالَ لَهُ سُوءٌ، وَاسْتَنْكَفَ دَفَعَ ذَلِكَ السُّوءَ. فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الْمَعْنَى: فبظلم عظيم، أو فيظلم أَيَّ ظُلْمٍ. وَحَذْفُ الصِّفَةِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ كَمَا قَالَ: لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمٍ أَيَّ لَحْمٍ مُتَّبَعٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِحَرَّمْنَا. وَتَقَدَّمَ السَّبَبُ عَلَى الْمُسَبَّبِ تَنْبِيهًا عَلَى فُحْشِ الظُّلْمِ وَتَقْبِيحًا لَهُ وَتَحْذِيرًا مِنْهُ. وَالطَّيِّبَاتُ هِيَ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ «1» الْأَلْبَانُ وَبَعْضُ الطَّيْرِ وَالْحُوتُ، وَأُحِلَّتْ لَهُمْ صِفَةُ الطَّيِّبَاتِ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ. وَأَوْضَحَ ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ. وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أَيْ نَاسًا كَثِيرًا، فَيَكُونُ كَثِيرًا مَفْعُولًا بِالْمَصْدَرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ. قَالَ: صَدُّوا بِجَحْدِهِمْ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمْعًا عَظِيمًا مِنَ النَّاسِ، أو صدا كَثِيرًا. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ زَمَانًا كثيرا. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُفِيدُ تَأْكِيدَ قُبْحِ فِعْلِهِمْ وَسُوءِ صَنِيعِهِمْ، إِذْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يُبْعَدَ عَنْهُ. قَالُوا: وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ. وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أَيِ الرُّشَا الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَهَا مِنْ سِفْلَتِهِمْ فِي تَحْرِيفِ الْكِتَابِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فُصِّلَتْ أَنْوَاعُ الظُّلْمِ الْمُوجِبِ لِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ. قِيلَ: كَانُوا كُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ، وَأُهْمِلَ هُنَا تَفْصِيلُ الطَّيِّبَاتِ، بَلْ ذُكِرَتْ نَكِرَةً مُبْهَمَةً. وَفِي الْمَائِدَةِ فَصَّلَ أَنْوَاعَ مَا حَرَّمَ وَلَمْ يُفَصِّلِ السَّبَبَ. فَقِيلَ: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَأُعِيدَتِ الْبَاءُ فِي: وَبِصَدِّهِمْ «2» لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْفَصْلِ بِمَا لَيْسَ مَعْمُولًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ فِي الْعَامِلِ فِيهِ. وَلَمْ يَعُدْ فِي: وَأَخْذِهِمُ «3» وَأَكْلِهِمْ لِأَنَّ الْفَصْلَ وَقَعَ بِمَعْمُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُ إِعَادَةِ الْحَرْفِ وَتَرْكِ إِعَادَتِهِ قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «4»

_ (1) سورة النساء: 4/ 160. (2) سورة النساء: 4/ 160. (3) سورة النساء: 4/ 160. (4) سورة النساء: 4/ 155.

الْآيَةَ. وَبُدِئَ فِي أَنْوَاعِ الظُّلْمِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ، وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ، وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَذَى فِي بَعْضِ الْمَالِ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى الْأَبْلَغِ فِي الْمَالِ الدُّنْيَوِيِّ وَهُوَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ أَيْ مَجَّانًا لَا عِوَضَ فِيهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ امْتِنَانٌ عَلَى هذه الْأُمَّةِ حَيْثُ لَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الْيَهُودِ فَيُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً لَمَّا ذَكَرَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عَامًّا لِلْيَهُودِ بِسَبَبِ ظُلْمِ مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، فَالْتَزَمَهُ ظَالِمُهُمْ وَغَيْرُ ظَالِمِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» بَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ إِنَّمَا أُعِدَّ لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ. لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً مَجِيءُ لَكِنْ هُنَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ وَجَزَائِهِمَا، وَهُمُ: الْكَافِرُونَ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالرَّاسِخُونَ الثَّابِتُونَ الْمُنْتَصِبُونَ الْمُسْتَبْصِرُونَ مِنْهُمْ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي مِنْهُمْ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي مَنْ آمَنَ. وَارْتَفَعَ الرَّاسِخُونَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ يُؤْمِنُونَ لَا غَيْرَ، لِأَنَّ الْمَدْحَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْجُمْلَةِ. وَمَنْ جَعَلَ الْخَبَرَ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَانْتَصَبَ الْمُقِيمِينَ عَلَى الْمَدْحِ، وَارْتَفَعَ وَالْمُؤْتُونَ أَيْضًا عَلَى إِضْمَارٍ وَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ إِلَى الرَّفْعِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَرْفُوعِ قَبْلَهُ، لِأَنَّ النَّعْتَ إِذَا انْقَطَعَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَعُدْ مَا بَعْدَهُ إِلَى إِعْرَابِ الْمَنْعُوتِ، وَهَذَا الْقَطْعُ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَكَثُرَ الْوَصْفُ بِأَنْ جُعِلَ فِي جُمَلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَعِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ وَيُونُسُ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْمُقِيمُونَ بِالرَّفْعِ نَسَقًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ فِيهِ، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ كَمُصْحَفِ عُثْمَانَ. وَذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ: إِنَّ كَتْبَهَا بِالْيَاءِ مِنْ خَطَأِ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُمَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا عربيان فصيحان، قطع

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 25.

النُّعُوتِ أَشْهَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ ذَكَرَ عَلَيْهِ شَوَاهِدَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى الْقَطْعِ خَرَّجَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ وَمَا لَهُمْ فِي النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنَ الِافْتِتَانِ، وَعَنَى عَلَيْهِ: أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلْمَةً يَسُدُّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمُ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ اسْمَ الْكِتَابِ عَلَمٌ عَلَيْهِ، وَلِجَهْلِ مَنْ يُقْدِمَ عَلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ وَإِعْرَابِ أَلْفَاظِهِ بِغَيْرِ أَحْكَامِ عِلْمِ النَّحْوِ، جَوَّزُوا فِي عَطْفِ وَالْمُقِيمِينَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ. وَاخْتَلَفُوا في هذا الوجه من الْمَعْنِيُّ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، فَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: الْمُسْلِمُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَدْبُ الْمُقِيمِينَ، ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَعْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي مِنْهُمْ أَيْ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْمُقِيمِينَ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَافِ فِي أُولَئِكَ أي: ما أنزل إليك وَإِلَى الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَافِ قَبْلَكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ: وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَقِيلَ: الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَافِ قَبْلَكَ وَيَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَرَّقَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْبَيْتِ يَعْنِي بَيْتَ الْخِرْنَقِ، وَكَانَ أَنْشَدَهُ قَبْلُ وَهُوَ: النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزُرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي فِي الْآيَةِ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ انْتَهَى. إِنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَحَدٌ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَيَأْوِي إِلَى نِسْوَةٍ عُطُلٍ ... وَشُعْثٍ مَرَاضِيعَ مِثْلِ السَّعَالِي وَكَذَلِكَ جَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وُجُوهًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: مِنْ أَنَّهُ ارْتَفَعَ عَلَى خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عَلَى سَبِيلِ قَطْعِ الصِّفَاتِ فِي الْمَدْحِ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّاسِخُونَ. الثَّانِي: عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْمُؤْمِنُونَ. الثَّالِثُ: عَلَى الضَّمِيرِ فِي يُؤْمِنُونَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَمَا يَلِيهِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَعَطْفٌ عَلَى وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي رَفْعِ وَالْمُؤْتُونَ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا وَالْمُؤْمِنُونَ تَضَمَّنَ الْإِيمَانَ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ وَعَنِ الرَّاسِخِينَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَبِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِصِفَاتِ الْمَدْحِ مِنَ امْتِثَالِ أَشْرَفِ أَوْصَافِ الْإِيمَانِ الْفِعْلِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ: الصَّلَاةُ، وَالْمَالِيَّةِ وَهِيَ الزَّكَاةُ، ثُمَّ ارْتَقَى فِي الْمَدْحِ إِلَى أَشْرَفِ الْأَوْصَافِ الْقَلْبِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَهِيَ الإيمان بالموجد الَّذِي أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَشَرَعَ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْمَعَادُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَامْتِثَالِ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا. ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ سَيُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا وَهُوَ مَا رَتَّبَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأُولَئِكَ، لِيَدُلَّ عَلَى مَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَمَنْ أَعْرَبَ والمؤمنون بالله مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِدْرَاكِ الْفَصَاحَةِ. وَالْأَجْوَدُ إِعْرَابُ أُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ، وَمَنْ نَصَبَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَفْسِيرُهُ مَا بَعْدَهُ: أَنَّهُ سَيُؤْتِي أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ، فَيَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِرَاجِحٍ، لِأَنَّ زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ أَفْصَحُ وَأَكْثَرُ مِنْ زَيْدًا ضَرْبَتُهُ، وَلِأَنَّ مَعْمُولَ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ فِي نَحْوِ: سَأَضْرِبُ زَيْدًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ. فَالْأَجْوَدُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: سَيُؤْتِيهِمْ بِالْيَاءِ عَوْدًا عَلَى قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ. عَلَى الِالْتِفَاتِ وَمُنَاسِبَةِ وَأَعْتَدْنَا. إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ سكين الْحبْرَ وَعَدِيَّ بْنَ زَيْدٍ قَالَا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ شَيْئًا بَعْدَ مُوسَى وَلَا أَوْحَى إِلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي: لما نزلت: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» الْآيَاتِ فَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ وَسَمِعُوا الْخَبَرَ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَلَا عَلَى عِيسَى، وَجَحَدُوا جَمِيعَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» إِذْ قَالُوا الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ جَوَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ شَأْنَهُ فِي الْوَحْيِ إليه

_ (1) سورة النساء: 4/ 153. (2) سورة الأنعام: 6/ 91.

كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَلَفُوا انْتَهَى. وَقَدَّمَ نُوحًا وَجَرَّدَهُ مِنْهُمْ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْأَبُ الثَّانِي، وَأَوَّلُ الرُّسُلِ، وَدَعْوَتُهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ مَنْ كَانَ إِذْ ذَاكَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ دَعْوَةَ محمد صلى الله عليه وسلم عَامَّةٌ لِجَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ خَصَّ تَعَالَى بِالذِّكْرِ هَؤُلَاءِ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا لَهُمْ، وَبَدَأَ بِإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ الْأَبُ الثَّالِثُ، وَقَدَّمَ عِيسَى عَلَى من بعده تحقيقا لِنُبُوَّتِهِ، وَقَطْعًا لِمَا رَآهُ الْيَهُودُ فِيهِ، وَدَفْعًا لِاعْتِقَادِهِمْ، وَتَعْظِيمًا لَهُ عِنْدَهُمْ، وَتَنْوِيهًا بِاتِّسَاعِ دَائِرَتِهِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نَسَبِ نُوح وَإِبْرَاهِيمَ وَهَارُونَ فِي نَسَبِ أَخِيهِ مُوسَى. وَأَمَّا أَيُّوبُ فَذَكَرَ الْحُسَيْنُ بن أحمد ابن الْقَاضِي الْفَاضِلِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَلِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ نَسَبَهُ فَقَالَ: أَيُّوبُ بْنُ أَمْوَصَ بْنِ بَارِحِ بْنِ تُورَمَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأُمُّهُ مِنْ وَلَدِ لُوطِ بْنِ هَارُونَ. وَأَمَّا يُونُسُ فَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَمَّازٍ عَنْهُ: يُونِسُ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ عَقِيلٍ وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَهْمِزُ وَيَكْسِرُ، وَبَعْضُ أَسَدٍ يَهْمِزُ وَيَضُمُّ النُّونَ، وَلُغَةُ الْحِجَازِ مَا قَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ تَرْكِ الْهَمْزِ وَضَمِّ النُّونِ. وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أَيْ كِتَابًا. وَكُلُّ كِتَابٍ يُسَمَّى زَبُورًا، وَغَلَبَ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ. وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْحَلُوبِ وَالرَّكُوبِ، وَلَا يَطَّرِدُ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سُورَةً لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ وَلَا حَرَامٌ وَلَا حَلَالٌ، إِنَّمَا هِيَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ، وَقَدْ قَرَأْتُ جُمْلَةً مِنْهَا بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ. قِيلَ: وَقَدَّمَ سُلَيْمَانُ فِي الذِّكْرِ عَلَى دَاوُدَ لِتَوَفُّرِ عِلْمِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً «1» وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ امْتِحَانٍ وَبَلَايَا فِي الدُّنْيَا، وَجَمَعَ بَيْنَ هَارُونَ وَسُلَيْمَانَ لِأَنَّ هَارُونَ كَانَ مُحَبَّبًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعَظَّمًا مُؤْثَرًا، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ النَّاسِ قَاهِرًا لَهُمْ مُسْتَحِقًّا لَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فَجَمَعَهُمَا التَّحْبِيبُ، وَالتَّعْظِيمُ. وَتَأَخَّرَ ذِكْرُ دَاوُدَ لِتَشْرِيفِهِ بِذِكْرِ كِتَابِهِ، وَإِبْرَازِهِ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ لَهُ بِالذِّكْرِ وَلِكِتَابِهِ، فَمَا فَاتَهُ مِنَ التَّقْدِيمِ اللَّفْظِيِّ حَصَلَ بِهِ التَّضْعِيفُ مِنَ التَّشْرِيفِ الْمَعْنَوِيِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: زُبُورًا بِضَمِّ الزَّايِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْقُعُودِ يُسَمَّى بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى دَاوُدَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ زَبُورٍ عَلَى حَذْفِ الزائد وهو

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 79.

الْوَاوُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَمَا قَالُوا طَرِيقٌ وَطُرُوقٌ، وَكَرَوَانٌ وَكُرُوَانٌ، وَوَرَشَانُ وَوُرُشَانٌ، مِمَّا يُجْمَعُ بِحَذْفِ الزِّيَادَةِ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّوْجِيهَ أَنَّ التَّكْسِيرَ مِثْلُ التَّصْغِيرِ، وَقَدِ اطَّرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَصْغِيرِ التَّرْخِيمِ نَحْوَ أَزْهَرَ وزهير، والحرث وَحُرَيْثٍ، وَثَابِتٍ وَثُبَيْتٍ، وَالْجَمْعُ مِثْلُهُ فِي الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ زبرا وقع عَلَى الْمَزْبُورِ كَمَا قَالُوا: ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَنَسْجُ الْيَمَنِ. وَكَمَا سُمِّيَ الْمَكْتُوبُ كِتَابًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أَيْ ذَكَرْنَا أَخْبَارَهُمْ لَكَ. وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ سئل عَنِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ الْمُرْسَلُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، خَرَّجَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي مُسْنَدٍ صَحِيحٍ لَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ هَذَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ كَمْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ؟ فَقَالَ: «مِائَةُ أَلْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ آلاف مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ أَلْفُ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا يذكر مِنْ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ انْتَهَى. وَانْتِصَابُ وَرُسُلًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: قَدْ قَصَصْنَا رُسُلًا عَلَيْكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ قَصَصْنَاهُمْ، مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَرُسُلٌ بِالرَّفْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ هُنَا، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ كَمَا أَنْشَدُوا: فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ وَمِنْ حُجَجِ النَّصْبِ عَلَى الرَّفْعِ كَوْنُ الْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَهِيَ: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ وَهُمْ: رُسُلٌ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا نَصْبَ وَرُسُلًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ وَأَرْسَلْنَا رُسُلًا، لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْيَهُودِ إِنَّمَا هُوَ فِي إِنْكَارِهِمْ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَاطِّرَادَ الْوَحْيِ.

وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً هَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ شَرَّفَ مُوسَى بِكَلَامِهِ، وَأَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا عَلَى مَجَازِهِ، هَذَا هُوَ الْغَالِبُ. وَقَدْ جَاءَ التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ فِي الْمَجَازِ، إِلَّا أَنَّهُ قَلِيلٌ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ هِنْدَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ: بَكَى الْخَزُّ مِنْ عَوْفٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ الْمَطَارِفُ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: لَوْلَا التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ لَجَازَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ كَلَّمْتُ لَكَ فُلَانًا بِمَعْنَى كَتَبْتُ إِلَيْهِ رُقْعَةً وَبَعَثْتُ إِلَيْهِ رَسُولًا، فَلَمَّا قَالَ: تَكْلِيمًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا كَلَامًا مَسْمُوعًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَسْأَلَةُ الْكَلَامِ مِمَّا طَالَ فِيهِ الْكَلَامُ وَاخْتَلَفَ فِيهَا عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سُمِّيَ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ وَثَّابٍ: وَكَلَّمَ اللَّهَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ مُوسَى هُوَ الْمُكَلِّمُ. وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ مِنَ الْكَلْمِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: وَجَرَحَ اللَّهُ مُوسَى بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ وَمَخَالِبِ الْفِتَنِ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَقُولُ: رَبِّ لَا أَفْهَمُ، حَتَّى كَلَّمَهُ بِلِسَانِ مُوسَى آخِرَ الْأَلْسِنَةِ. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أَيْ يُبَشِّرُونَ بِالْجَنَّةِ مَنْ أَطَاعَ، وَيُنْذِرُونَ بِالنَّارِ مَنْ عَصَى. وَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَقْطَعَ بِالرُّسُلِ احْتِجَاجَ مَنْ يَقُولُ: لَوْ بعث إلي رسول لآمنت. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَيْسَ أَحَدٌ أحب إليه العذر من اللَّهِ» فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي النَّظَرُ فِيهَا مُوصِلٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالرُّسُلُ فِي أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَى الْمَعْرِفَةِ إِلَّا بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ فِيهَا؟ (قُلْتُ) : الرُّسُلُ مَنْهِيُّونَ عَنِ الْغَفْلَةِ، وَبَاعِثُونَ عَلَى النَّظَرِ كَمَا تَرَى عُلَمَاءَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، مَعَ تَبْلِيغِ مَا حَمَلُوهُ مِنْ تَفْصِيلِ أُمُورِ الدِّينِ، وَبَيَانِ أَحْوَالِ التَّكْلِيفِ وَتَعَلُّمِ الشَّرَائِعِ، فَكَانَ إِرْسَالُهُمْ إِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ وَتَتْمِيمًا لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ لِئَلَّا يَقُولُوا: لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَيُوقِظُنَا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَيُنَبِّهُنَا لَمَا وَجَبَ الِانْتِبَاهُ لَهُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا هُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِحَالَتَيِ: التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. وَالتَّبْشِيرُ هُوَ بِالْجَنَّةِ، وَالْإِنْذَارُ هُوَ بِالنَّارِ. وَلَيْسَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ حَاكِمًا بِوُجُوبِهِمَا الْعَقْلُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَوِّزٌ لَهُمَا، وَجَاءَ السَّمْعُ فَصَارَا وَاجِبًا وُقُوعُهُمَا، وَلَمْ يُسْتَفَدْ وُجُوبُهُمَا إِلَّا مِنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ. فَلَوْ لَمْ يُبَشِّرِ الرُّسُلُ بِالْجَنَّةِ لِمَنِ امْتَثَلَ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَمْ يُنْذِرُوا بِالنَّارِ مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْ، وَكَانَتْ تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهَا الْعِقَابُ بِمَا لَا شُعُورَ لِلْمُكَلَّفِ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ يُعْلِمُهُ بِأَنَّ

تِلْكَ مَعْصِيَةٌ، لَكَانَتْ لَهُ الْحُجَّةُ إِذْ عُوقِبَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ. وَأَمَّا مَا نَصَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَهِيَ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَلَى مَا يَجِبُ، وَالْعِلَلُ فِي الْآيَةِ هُوَ غَيْرُ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَانْتَصَبَ رُسُلًا عَلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِانْتِصَابِهِ عَلَى التَّكْرِيرِ. قَالَ: وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِأَرْسَلْنَا مُقَدَّرَةً، وَأَنْ يَكُونَ حالا موطئة. ولئلا مُتَعَلِّقَةٌ بِمُنْذِرِينَ عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُقَدَّرٍ أَيْ: أَرْسَلْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَيْ: بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لِئَلَّا يَكُونَ. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أَيْ لَا يُغَالِبُهُ شَيْءٌ، وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، صَادِرَةٌ أَفْعَالُهُ عَنْ حِكْمَةٍ، فَلِذَلِكَ قَطَعَ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: عَزِيزًا فِي عِقَابِ الْكُفَّارِ، حَكِيمًا فِي الْإِعْذَارِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِنْذَارِ. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ الِاسْتِدْرَاكُ بلكن يَقْتَضِي تَقَدُّمَ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، لِأَنَّ لَكِنْ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا، فَالتَّقْدِيرُ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قَالُوا: مَا نَشْهَدُ لَكَ بِهَذَا، لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ، وَشَهَادَتُهُ تَعَالَى بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ إِثْبَاتُهُ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ كَمَا تَثْبُتُ الدَّعَاوَى بِالْبَيِّنَاتِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْجَرَّاحُ الْحَكَمِيُّ: لَكِنَّ اللَّهَ بِالتَّشْدِيدِ، وَنَصْبِ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِمَا أُنْزِلُ إِلَيْكَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ قَرَأَ السُّلَمِيُّ: نَزَّلَهُ مُشَدَّدًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَنْزَلَهُ مِنْ عِلْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ بِعِلْمٍ مِنْهُ أَنَّكَ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ. وَقِيلَ: أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ بِعِلْمِهِ أَنَّكَ أهل لإنزاله عَلَيْكَ لِقِيَامِكَ بِحَقِّهِ، وَعِلْمِكَ بِمَا فِيهِ، وَحُسْنِ دُعَائِكَ إِلَيْهِ، وَحَثِّكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ. وَقِيلَ: بِعِلْمِهِ أَنَّكَ تُبَلِّغُهُ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مُتَعَلِّقَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، خِلَاِفًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنْزَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ إِنْزَالَهُ وَنُزُولَهُ. وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُقْتَرِنًا بِعِلْمِهِ، أَيْ فِيهِ عِلْمُهُ مِنْ غُيُوبٍ وَأَوَامِرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِ الْخَضِرِ، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْزَلَهُ مُلْتَبِسًا بِعِلْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ تَأْلِيفُهُ عَلَى نَظْمٍ وَأُسْلُوبٍ يَعْجِزُ عَنْهُ كُلُّ بَلِيغٍ وَصَاحِبُ بَيَانٍ، وَمَوْقِعُهُ مِمَّا قَبْلَهُ

مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلشَّهَادَةِ بِصِحَّتِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ الْفَائِتِ لِلْقَدْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ رَقِيبٌ عَلَيْهِ حَافِظٌ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِرَصَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أَيْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ تَبَعٌ لِشَهَادَةِ اللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ، إِذْ أَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ الْمُعْجِزَاتِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لَهُ عَنْ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ. إِنْ كَذَّبَكَ الْيَهُودُ وَكَذَّبُوا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ، فَلَا تُبَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ لَكَ وَمَلَائِكَتَهُ، فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى تَكْذِيبِهِمْ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ غَيْرُهُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ. «1» إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً أَيْ ضَلَالًا لَا يَقْرُبُ رُجُوعُهُمْ عَنْهُ، وَلَا تَخَلُّصُهُمْ منه، لأنه يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مُحِقٌ ثُمَّ يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ الضَّلَالِ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَإِلْقَاءِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَهُوَ ضَلَالٌ فِي أَقْصَى غَايَاتِهِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ هُرْمُزَ: وَصُدُّوا بِضَمِّ الصَّادِ، قِيلَ: وَهِيَ فِي الْيَهُودِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قِيلَ: هَذِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَامِ الْجُحُودِ وَمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَا أَبْلَغُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ عَنْهَا. وَهَذَا الْحُكْمُ مُقَيَّدٌ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: الْمَعْنَى لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَسْتُرَ عَلَيْهِمْ قَبِيحَ أَفْعَالِهِمْ، بَلْ يَفْضَحُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقِبُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ وَالسَّبْيِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَفَرُوا وَظَلَمُوا، جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَكَانَ بَعْضُهُمْ كَافِرِينَ وَبَعْضُهُمْ ظَالِمِينَ أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا لَا يَلْطُفُ بِهِمْ فَيَسْلُكُونَ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ إِلَى جَهَنَّمَ، وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا طَرِيقَهَا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْكَبَائِرِ لَا يُغْفَرُ لَهُ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ طَرِيقًا مَخْصُوصًا أَيْ عَمَلًا صَالِحًا يَدْخُلُونَ بِهِ الْجَنَّةَ، كَانَ قَوْلُهُ: إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أَيِ انْتِفَاءُ غُفْرَانِهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ وَطَرْدُهُمْ فِي النَّارِ سَهْلًا لَا صَارِفَ لَهُ عَنْهُ، وَهَذَا تَحْقِيرٌ لِأَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْبَأُ بِهِمْ وَلَا يُبَالِي.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 19.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً فَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرٌ عَامٌّ، وَلَوْ كَانَ خَاصًّا بِتَكْلِيفٍ مَا لَكَانَ النِّدَاءُ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْغَالِبِ. وَالرَّسُولُ هَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَالْحَقُّ هُوَ شَرْعُهُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَبِالدِّينِ وَبِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ. وَفِي انْتِصَابِ خَيْرًا لَكُمْ هُنَا. وَفِي قَوْلِهِ: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ فِي تَقْدِيرِ النَّاصِبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: مذهب الجليل، وَسِيبَوَيْهِ. وَأْتُوا خَيْرًا لَكُمْ، وَهُوَ فِعْلٌ يَجِبُ إِضْمَارُهُ. وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ: يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، وَيُضْمَرُ إِنْ يَكُنْ وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ إِيمَانًا خَيْرًا لَكُمْ وَانْتِهَاءً خَيْرًا لَكُمْ، بِجَعْلِ خَيْرًا نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْجُهِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً عَلِيمًا بِمَا يَكُونُ مِنْكُمْ مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، حَكِيمًا فِي تَكْلِيفِكُمْ مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يكون منكم. يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي عَامَّةِ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الثَّالُوتَ يَقُولُونَ: الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، نَهَاهُمْ عَنْ تَجَاوُزِ الْحَدِّ. وَالْمَعْنَى: فِي دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ مَطْلُوبُونَ بِهِ، وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى دِينِهِمُ الْمُضَلِّلِ، وَلَا أُمِرُوا بِالثُّبُوتِ عَلَيْهِ دُونَ غُلُوٍّ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِتَرْكِ الْغُلُوِّ فِي دِينِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَغَلَتِ الْيَهُودُ فِي حَطِّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مَنْزِلَتِهِ حَيْثُ جَعَلَتْهُ مَوْلُودًا لِغَيْرِ رُشْدِهِ، وَغَلَتِ النَّصَارَى فِيهِ حَيْثُ جَعَلُوهُ إِلَهًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ خِطَابٌ لِلنَّصَارَى، بِدَلِيلِ آخِرِ الْآيَةِ. وَلَمَّا أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ شُبَهِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُبَالِغُونَ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْمَسِيحِ أَخَذَ فِي أَمْرِ النَّصَارَى الَّذِينَ يُفَرِّطُونَ فِي تَعْظِيمِ الْمَسِيحِ حَتَّى ادَّعَوْا فِيهِ مَا ادَّعَوْا. وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَهُوَ تَنْزِيهُهُ عَنِ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّمَا الْمِسِّيحُ عَلَى وَزْنِ السِّكِّيتِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْكَلِمَةِ فِي بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ «1» وَمَعْنَاهَا أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَوْجَدَ هَذَا الْحَادِثَ فِي مَرْيَمَ وَحَصَّلَهُ فيها. وهذه

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 45.

الْجُمْلَةُ قِيلَ: حَالٌ. وَقِيلَ: صِفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ نِيَّةِ الِانْفِصَالِ أَيْ: وَكَلِمَةٌ مِنْهُ. وَمَعْنَى رُوحٍ مِنْهُ أَيْ: صَادِرَةٌ، لِأَنَّهُ ذُو رُوحٍ وُجِدَ مِنْ غَيْرِ جُزْءٍ مِنْ ذِي رُوحٍ، كَالنُّطْفَةِ الْمُنْفَصِلَةِ مِنْ الْأَبُ الْحَيُّ، وَإِنَّمَا اخْتُرِعَ اخْتِرَاعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: عِيسَى رُوحٌ مِنْ أَرْوَاحِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهَا وَاسْتَنْطَقَهَا بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى مَرْيَمَ فَدَخَلَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو رَوْقٍ: وَرُوحٌ مِنْهُ أَيْ نَفْخَةٌ مِنْهُ، إِذْ هِيَ مِنْ جِبْرِيلَ بِأَمْرِهِ. وَأَنْشَدَ بَيْتَ ذِي الرُّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهُ اضْمُمْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ وَاجْعَلْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا يَصِفُ سَقْطَ النَّارِ وَسُمِّيَ رُوحًا لِأَنَّهُ حَدَثَ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: وَمَعْنَى وَرُوحٌ مِنْهُ أَيْ رَحْمَةٌ. وَمِنْهُ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «2» . وَقِيلَ: سُمِّيَ رُوحًا لِإِحْيَاءِ النَّاسِ بِهِ كَمَا يَحْيَوْنَ بِالْأَرْوَاحِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ رُوحًا. وَقِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِالرُّوحِ هُنَا الْوَحْيُ أَيْ: وَوَحْيٌ إِلَى جِبْرِيلَ بِالنَّفْخِ فِي دِرْعِهَا، أَوْ إِلَى ذَاتِ عِيسَى أَنْ كُنْ، وَنُكِّرَ وَرُوحٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ لَا عَلَى إِطْلَاقِ رُوحٍ، أَيْ: وَرُوحٌ شَرِيفَةٌ نَفِيسَةٌ من قبله تعالى. وَمِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُ النَّصَارَى فَادَّعَى أَنَّ عِيسَى جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَافِدٍ الْمَرْوَزِيُّ حِينَ اسْتَدَلَّ النَّصْرَانِيُّ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يَشْهَدُ لِمَذْهَبِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ، فَأَجَابَهُ ابْنُ وَافِدٍ بِقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «3» . وَقَالَ: إِنْ كَانَ يَجِبُ بِهَذَا أن يكون عيسى جزأ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ما في السموات وما في الأرض جزأ مِنْهُ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَأَسْلَمَ. وَصَنَّفَ ابْنُ فَايِدٍ إِذْ ذَاكَ كِتَابَ النَّظَائِرِ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ الَّذِينَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ التَّصْرِيحُ مِنْهُمْ بِأَنَّ الله والمسيح ومريم ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ وَلَدُ اللَّهِ مِنْ مَرْيَمَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «4» . وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمَشْهُورُ الْمُسْتَفِيضُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ لَاهُوتِيَّتُهُ وَنَاسُوتِيَّتُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ،

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 172. [.....] (2) سورة المجادلة: 58/ 22. (3) سورة الجاثية: 45/ 13. (4) سورة المائدة: 5/ 116.

فَأَثْبَتَ أَنَّهُ وَلَدٌ لِمَرْيَمَ اتَّصَلَ بِهَا اتِّصَالَ الْأَوْلَادِ بِأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ اتِّصَالَهُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولُهُ، وَإِنَّهُ مَوْجُودٌ بِأَمْرِهِ، وَابْتِدَاعُهُ جَسَدًا حَيًّا مِنْ غَيْرِ أَبٍ يَنْفِي أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ اتِّصَالَ الْأَبْنَاءِ بِالْآبَاءِ. وَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ «1» وَحِكَايَةُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْ حِكَايَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي رَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَهُ يُرِيدُ بِالتَّثْلِيثِ: اللَّهَ تَعَالَى، وَصَاحِبَتَهُ، وَابْنَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا إِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: أُقْنُومُ الْأَبِ، وَأُقْنُومُ الِابْنِ، وَأُقْنُومُ رُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِأُقْنُومِ الْأَبِ الذَّاتَ، وَبِأُقْنُومِ الِابْنِ الْعِلْمَ، وَبِأُقْنُومِ رُوحِ الْقُدُسِ الْحَيَاةَ، فَتَقْدِيرُهُ اللَّهُ ثَلَاثَةٌ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْمَعْبُودُ ثَلَاثَةٌ، أَوِ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ، أَوِ الْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ. وَكَيْفَمَا تَشَعَّبَ اخْتِلَافُ عِبَارَاتِ النَّصَارَى فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ انْتَهَى. وَقَالَ الزجاج: تقديره إلها ثَلَاثَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: تَقْدِيرُهُ ثَلَاثَةٌ كَقَوْلِهِ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ «2» وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: التَّقْدِيرُ اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُضَافُ انْتَهَى. أَرَادَ أَبُو عَلِيٍّ مُوَافَقَةَ قَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «3» أَيْ أَحَدُ آلِهَةٍ ثَلَاثَةٍ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ هُوَ مَا أُثْبِتَ فِي الْآيَةِ خِلَافُهُ، وَالَّذِي أُثْبِتَ فِي الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْحَصْرِ إِنَّمَا هُوَ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَنْزِيهُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَا تَقُولُوا اللَّهُ ثَلَاثَةٌ. وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بِمُوَافَقَتِهِ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَالنَّصَارَى وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِرَقُهُمْ فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى التَّثْلِيثِ. انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي انْتِصَابِ خَيْرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي نَصْبِهِ لَمَّا بَعَثَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ «4» وَعَلَى الِانْتِهَاءِ عَنِ التَّثْلِيثِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ، عُلِمَ أَنَّهُ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَمْرٍ فَقَالَ: خَيْرًا لَكُمْ أَيِ اقْصُدُوا وَأْتُوا خَيْرًا لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّثْلِيثِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ انْتَهَى. وَهُوَ تَقْدِيرُ سِيبَوَيْهِ فِي الْآيَةِ. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَاصِرَةٌ، اقْتَضَى ذَلِكَ الْعَقْلُ فِي الْمَعْنَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، وَلَيْسَتْ صِيغَةُ، إِنَّمَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ، وَلَكِنَّهَا تَصْلُحُ لِلْحَصْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَصْرٌ نَحْوَ: إِنَّمَا الشُّجَاعُ عَنْتَرَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 171. (2) سورة الكهف: 18/ 22. (3) سورة المائدة: 5/ 73. (4) سورة النساء: 4/ 170.

وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُنَا مُشْبَعًا فِي إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ «1» وَكَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِيهَا هُنَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي بِوَضْعِهَا الْحَصْرَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مَا فِي أَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مَعْنَاهُ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَعْظِيمًا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى فِي أَمْرِهِ، إِذْ قَدْ نَقَلُوا أُبُوَّةَ الْحَنَانِ وَالرَّأْفَةِ إِلَى أُبُوَّةِ النَّسْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ النُّونِ مِنْ يَكُونُ، عَلَى أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ: مَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ فَيَكُونُ التَّنْزِيهُ عَنِ التَّثْلِيثِ، وَالْإِخْبَارُ بِانْتِفَاءِ الْوَلَدِ، فَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ، وَفِي قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ. لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِخْبَارٌ لِمِلْكِهِ بِجَمِيعِ مَنْ فِيهِنَّ، فَيَسْتَغْرِقُ مِلْكُهُ عِيسَى وَغَيْرَهُ. وَمَنْ كَانَ مِلْكًا لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْمَالِكِ عَلَى أَنَّ الْجُزْئِيَّةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي الْجِسْمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ كَافِيًا فِي تَدْبِيرِ مَخْلُوقَاتِهِ وَحِفْظِهَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ وَلَا مُعِينٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَفِيلًا لِأَوْلِيَائِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَكِلُ الْخَلْقُ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ، فَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ. ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ رُوِيَ أَنَّ «وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ تَعِيبُ صَاحِبَنَا؟ قَالَ: وَمَا صَاحِبُكُمُ؟ قَالُوا: عِيسَى قَالَ: وَأَيَّ شَيْءٍ أَقُولُ؟ قَالُوا: تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِعَارٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا قَالُوا: بَلَى» . فَنَزَلَتْ أَيْ لَا يَسْتَنْكِفُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَسْتَنْكِفُوا لَهُ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ مَوْضِعَ اسْتِنْكَافٍ لَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَسْتَنْكِفَ لِأَنَّ الْعَارَ أَلْصَقُ بِهِ، أَيْ: لَنْ يَأْنَفَ وَيَرْتَفِعَ وَيَتَعَاظَمَ. وقرأ على عبيد الله عَلَى التَّصْغِيرِ. وَالْمُقَرَّبُونَ أَيْ: الْكَرُوبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ كَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ انْتَهَى. وَعُطِفُوا عَلَى عِيسَى لِأَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أن يكونوا عبيد الله، فَإِنْ ضُمِّنَ عَبْدًا مَعْنَى مِلْكًا لِلَّهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ وَلَا الْمَلَائِكَةُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لُحِظَ فِي عَبْدٍ الْوَحْدَةُ. فَإِنَّ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 11.

قَوْلَهُ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ لِاخْتِلَافِ الْخَبَرِ. وَإِنْ لُحِظَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ مَعْنَى: وَلَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَانَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَقَدْ تَشَبَّثَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ زِيَادَةٌ فِي الْحُجَّةِ وَتَقْرِيبٌ مِنَ الْأَذْهَانِ أَيْ: وَلَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ مَنْ سِوَاهُمُ؟ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مِنْ أَيْنَ دَلَّ قَوْلُهُ تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَلَا مَنْ فَوْقَهُ؟ (قُلْتُ) : مِنْ حَيْثُ إِنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي لَا يَقْتَضِي غَيْرَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا سِيقَ لِرَدِّ مَذْهَبِ النَّصَارَى وَغُلُوِّهِمْ فِي رَفْعِ الْمَسِيحِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: لَنْ يَرْتَفِعَ عِيسَى عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ دَرَجَةً. كَأَنَّهُ قِيلَ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، فَكَيْفَ بِالْمَسِيحِ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً بَيِّنَةً تَخْصِيصُ الْمُقَرَّبِينَ لِكَوْنِهِمْ أَرْفَعَ الْمَلَائِكَةِ دَرَجَةً وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَمَا مِثْلُهُ مِمَّنْ يُجَاوِدُ حَاتِمٌ ... وَلَا الْبَحْرُ ذُو الْأَمْوَاجِ يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ لَا شُبْهَةَ بِأَنَّهُ قَصَدَ بِالْبَحْرِ ذِي الْأَمْوَاجِ مَا هُوَ فَوْقَ حَاتِمٍ فِي الْجُودِ. وَمَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ فَلْيَذُقْ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى «1» حَتَّى يَعْتَرِفَ بِالْفَرْقِ الْبَيِّنِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالتَّفْضِيلُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالسَّمْعِ، إِذْ نَحْنُ لَا نُدْرِكُ جِهَةَ التَّفْضِيلِ بِالْعَقْلِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ يُقَالُ: مَتَى نُفِيَ شَيْءٌ عَنِ اثْنَيْنِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ أَرْفَعُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي. (فَإِذَا قُلْتَ) : لَنْ يَأْنَفَ فُلَانٌ أَنْ يَسْجُدَ لله ولا عمر، وفلا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ عَمْرًا أَفْضَلُ مِنْ زَيْدٍ. وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّهُ قَابَلَ مُفْرَدًا بِجَمْعٍ، وَلَمْ يُقَابِلْ مُفْرَدًا بِمُفْرَدٍ وَلَا جَمْعًا بِجَمْعٍ. فَقَدْ يُقَالُ: الْجَمْعُ أَفْضَلُ مِنَ الْمُفْرَدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ، وَلَا الْمُفْرَدُ عَلَى الْمُفْرَدِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي الْآيَةِ أَرْفَعُ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا أُلْقِيَ فِي أَذْهَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَلَكِ وَتَرْفِيعِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَنْفُونَ الْبَشَرِيَّةَ عَنِ الْمَمْدُوحِ وَيُثْبِتُونَ لَهُ الملكية، ولا يدل تحيلهم ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ ثَوَابًا وَمِمَّا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا أُلْقِيَ فِي الْأَذْهَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ النِّسْوَةِ التي فاجأهنّ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 12.

حُسْنُ يُوسُفَ: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «1» وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَسْتَ بِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوْفِ السَّمَاءِ يُصَوِّبُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : عَلَامَ عُطِفَ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ؟ (قُلْتُ) : إِمَّا أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَسِيحِ، أَوْ عَلَى اسْمِ يَكُونَ، أَوْ عَلَى الْمُسْتَتِرِ فِي عَبْدًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْفِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَقَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَبْدٌ أَبُوهُ، فَالْعَطْفُ عَلَى الْمَسِيحِ هُوَ الظَّاهِرُ لِأَدَاءِ غَيْرِهِ إِلَى مَا فِيهِ بَعْضُ انْحِرَافٍ عَنِ الْغَرَضِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسِيحَ لَا يَأْنَفُ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَلَا مَنْ فَوْقَهُ مَوْصُوفِينَ بِالْعُبُودِيَّةِ، أَوْ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ هُوَ وَمَنْ فَوْقَهُ انْتَهَى. وَالِانْحِرَافُ عَنِ الْغَرَضِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ كَوْنُ الِاسْتِنْكَافِ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمَسِيحِ، وَالْمَعْنَى الْقَائِمُ اشْتِرَاكُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ الْمَسِيحِ فِي انْتِفَاءِ الِاسْتِنْكَافِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ اسْتِنْكَافِهِ وَحْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ عَبِيدًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَهُمْ يَعْبُدُ رَبَّهُ اسْتِنْكَافُهُمْ هُمْ، فَقَدْ يَرْضَى شَخْصٌ أَنْ يَضْرِبَ هُوَ وَزَيْدٌ عَمْرًا وَلَا يَرْضَى ذَلِكَ زَيْدٌ وَيَظْهَرُ أَيْضًا مَرْجُوحِيَّةُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ دُخُولِ لَا، إِذْ لَوْ أُرِيدَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي يَكُونَ، أَوْ عَلَى الْمُسْتَتِرِ فِي عَبْدًا. لَمْ تَدْخُلْ لَا، بَلْ كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ بِدُونِهَا تَقُولُ: مَا يُرِيدُ زَيْدٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَأَبُوهُ قَائِمَيْنِ، وَتَقُولُ: مَا يُرِيدُ زَيْدٌ أَنْ يَصْطَلِحَ هُوَ وَعَمْرٌو، فَهَذَانِ وَنَحْوُهُمَا لَيْسَا مِنْ مَظِنَّاتِ دُخُولِ لَا، فَإِنْ وُجِدَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ دُخُولُ لَا فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا فهي زائدة. مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يَسْتَنْكِفْ وَيَسْتَكْبِرْ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَسَيَحْشُرُهُمْ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَامًّا عَائِدًا عَلَى الْخَلْقِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَشْرَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْمُسْتَنْكِفِ، وَلِأَنَّ التَّفْصِيلَ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ رَبْطُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِاسْمِ الشَّرْطِ بِالْعُمُومِ الَّذِي فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ لِمُقَابَلَتِهِ إِيَّاهُ التَّقْدِيرُ: فَسَيَحْشُرُهُمْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَنْكِفْ إِلَيْهِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» أَيْ: وَالْبَرْدَ. وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَكُونُ مَا فُصِّلَ بِإِمَّا مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يطابق. والإخبار

_ (1) سورة يوسف: 12/ 31. (2) سورة النحل: 16/ 31.

[سورة النساء (4) : الآيات 173 إلى 176]

بِالْحَشْرِ إِلَيْهِ وَعِيدٌ إِذِ. الْمَعْنِيُّ بِهِ الْجَمْعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ يُذَلُّ الْمُسْتَنْكِفُ الْمُسْتَكْبِرُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِالنُّونِ بَدَلَ الْيَاءِ فِي فَسَيَحْشُرُهُمْ، وَبَاءُ فَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى التَّخْفِيفِ. [سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 176] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا يَبْخَسُ أَحَدًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَالزِّيَادَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَالتَّضْعِيفُ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْصُورٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «1» قَالَ مَعْنَاهُ ابْنِ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلَّذِينِ يَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ أَنَفَةً تَكَبُّرًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الِاسْتِنْكَافُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْكُفَّارِ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ كَفِعْلِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَأَخِيهِ أَبِي يَاسِرٍ وَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمْ بِالرَّسُولِ، فَإِذَا فَرَضْتَ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ عَرَفَ اللَّهَ فَمُحَالٌ أَنْ تَجِدَهُ يَكْفُرُ بِهِ تَكَبُّرًا عَلَيْهِ، وَالْعِنَادُ إِنَّمَا يَسُوقُ إِلَيْهِ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى الْبَشَرِ، وَمَعَ تَفَاوُتِ الْمَنَازِلِ فِي ظَنِّ الْمُسْتَكْبِرِ انْتَهَى. وَقَدَّمَ ذِكْرَ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ مِمَّا يَعُمُّ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 261.

الْمُسْتَنْكِفَ إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ التَّنْكِيلِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيُعَذَّبُ بِالْحَشْرِ إِذَا رَأَى أُجُورَ الْعَامِلِينَ، وَبِمَا يُصِيبُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْبُرْهَانَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمَّاهُ بُرْهَانًا لِأَنَّ مِنْهُ الْبُرْهَانَ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبُرْهَانُ هنا الحجة. وقيل: البرهان الْإِسْلَامُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ هُوَ الْقُرْآنُ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ لِقُرْبِهِ وَصِحَّةِ الْمَعْنَى، وَلِقَوْلِهِ: وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ عُصِمَ» وَالرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ: الْجَنَّةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ فِي ثَوَابٍ مُسْتَحَقٍّ وَتَفَضُّلٍ انْتَهَى. وَلَفْظُ مُسْتَحَقٍّ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ زِيَادَةُ تَرْقِيَةٍ، وَرَفْعُ دَرَجَاتٍ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ التَّوْفِيقُ، وَالْفَضْلُ الْقَبُولُ. وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْفَضْلِ، وَهِيَ هِدَايَةُ طَرِيقِ الْجِنَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ «1» لِأَنَّ هِدَايَةَ الْإِرْشَادِ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَتَحَصَّلَتْ حِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا، وَعَلَى هَذَا الصِّرَاطِ طَرِيقُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَهْدِيهِمْ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَجَعَلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَفِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ لَيْسَ مُحَدَّثًا عَنْهُمَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطِهِ، فَإِذَا جَعَلْنَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا نَصْبًا عَلَى الْحَالِ كَانَتِ الْحَالُ مِنْ هَذَا الْمَحْذُوفِ انْتَهَى. وَيَعْنِي: دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الثَّوَابِ. وَقِيلَ: هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مَعْنَى صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا عَمَلًا صَالِحًا. يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: هِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَتْ بِسَبَبٍ عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي وَكَانَ لِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ؟ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ جَابِرًا أَتَاهُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: إِنَّ لِي أُخْتًا، فَكَمْ آخُذُ مِنْ مِيرَاثِهَا إِنْ مَاتَتْ، فَنَزَلَتْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظِ الكلالة اشتقاقا

_ (1) سورة محمد: 47/ 5- 6.

وَمَدْلُولًا وَكَانَ أَمْرُهَا أَمْرًا مُشْكِلًا، رُوِيَ عَنْهُ فِي أَخْبَارِهَا رِوَايَاتٌ، وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» . وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ هِيَ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً» وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا يَسْتَفْتُونَكَ لِأَنَّ الْبَرَاءَ قَالَ: هِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفِيكَ مِنْهَا آيَةُ الصَّيْفِ بَيَانٌ فِيهِ كِفَايَةٌ وَجَلَاءٌ. وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَشْكَلَ مِنْهَا عَلَى الْفَارُوقِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ اضْطَرَبَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَلَالَةُ الْمَيِّتُ نَفْسُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَلَالَةُ الْمَالُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِلَافِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ خُتِمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا بُدِئَتْ أَوَّلًا بِأَحْكَامِ الْأَمْوَالِ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ، لِيَتَشَاكَلَ الْمَبْدَأُ وَالْمَقْطَعُ، وَكَثِيرًا مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي السُّورِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلَا إِنَّ آيَةَ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْآيَةَ الثَّانِيَةَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْأُخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ» وفي الكلالة متعلق بيفتيكم عَلَى طَرِيقِ إِعْمَالِ الثَّانِي. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ الْمُرَادُ بِالْوَلَدِ الِابْنُ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، لِأَنَّ الِابْنَ يُسْقِطُ الْأُخْتَ، وَلَا تُسْقِطُهَا الْبِنْتُ إِلَّا فِي مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُرَادُ بِالْأُخْتِ الشَّقِيقَةُ، أَوِ الَّتِي لِأَبٍ دُونَ الَّتِي لِأُمٍّ، لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ لَهَا النِّصْفَ، وَجَعَلَ أَخَاهَا عَصَبَةً. وَقَالَ: للذكر مثل حظ الأنثيين. وَأَمَّا الْأُخْتُ لِلْأُمِّ فَلَهَا السُّدُسُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، سَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخِيهَا. وَارْتَفَعَ امْرُؤٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ له ولد، في موضع الصفة لا مرؤ، أَيْ: إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ غَيْرُ ذِي وَلَدٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ بِالْجُمْلَةِ الْمُفَسَّرَةِ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ زَيْدًا ضَرَبْتُهُ الْعَاقِلَ. وَكُلَّمَا جَازَ الْفَصْلُ بِالْخَبَرِ جَازَ بِالْمُفَسِّرِ، وَمَنَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ قوله: ليس له ولد، جُمْلَةً حَالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ فِي هَلَكَ، فَقَالَ: وَمَحَلُّ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرَّفْعُ عَلَى الصِّفَةِ، لَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي هَلَكَ، وَلَهُ أُخْتٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْضًا. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ الِاسْمُ الظَّاهِرُ الْمَعْمُولُ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ لَهُ، أَمَّا الضَّمِيرُ فَإِنَّهُ فِي جُمْلَةٍ مفسرة لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فَصَارَتْ كَالْمُؤَكِّدَةِ لِمَا سَبَقَ. وَإِذَا تَجَاذَبَ الِاتْبَاعَ وَالتَّقْيِيدَ مُؤَكِّدٌ أَوْ مُؤَكَّدٌ بِالْحُكْمِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُؤَكَّدِ، إِذْ هُوَ مُعْتَمَدُ الْإِسْنَادِ الْأَصْلِيِّ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قُلْتَ:

ضَرَبْتُ زَيْدًا ضَرَبْتُ زَيْدًا الْعَاقِلَ، انْبَغَى أَنْ يَكُونَ العاقل نعتا لزيد فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، لَا لزيد فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَالْمَقْصُودُ بِالْإِسْنَادِ إِنَّمَا هُوَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةُ. قِيلَ: وَثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ لِلِاخْتِصَارِ، وَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ. وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أَيْ إِنْ قُدِّرَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ مَوْتِهَا وَبَقَائِهِ بَعْدَهَا. وَالْمُرَادُ بِالْوَلَدِ هُنَا الِابْنُ، لِأَنَّ الِابْنَ يُسْقِطُ الْأَخَ دُونَ الْبِنْتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الِابْنُ لَا يُسْقِطُ الْأَخَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْأَبَ نَظِيرُهُ فِي الْإِسْقَاطِ، فَلِمَ اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ؟ (قُلْتُ) : وُكِلَ حُكْمُ انْتِفَاءِ الْوَالِدِ إِلَى بَيَانِ السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ» ذَكَرٍ الْأَبُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ، وَلَيْسَا بِأَوَّلِ حُكْمَيْنِ بُيِّنَ أَحَدُهُمَا بِالْكِتَابِ وَالْآخَرِ بِالسُّنَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ بِحُكْمِ انْتِفَاءِ الْوَلَدِ عَلَى حُكْمِ انْتِفَاءِ الْوَالِدِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنَ الْوَالِدِ. فَإِذَا وَرِثَ الْأَخُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْأَقْرَبِ، فَأَوْلَى أَنْ يَرِثَ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْأَبْعَدِ، وَلِأَنَّ الْكَلَالَةَ تَتَنَاوَلُ انْتِفَاءَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا، فَكَانَ ذِكْرُ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا دَالًّا عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ وَفِي يَرِثُهَا عَائِدٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ لَفْظًا دُونَ مَعْنًى، فَهُوَ مِنْ بَابِ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا يَرِثُ، وَالْحَيَّةُ لَا تُورَثُ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ «1» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهِيَ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي بَعْدَهَا. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ قَالُوا: الضَّمِيرُ فِي كَانَتَا ضَمِيرُ أُخْتَيْنِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَهُ أُخْتٌ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْخَبَرَ يُفِيدُ مَا لَا يُفِيدُهُ الِاسْمُ. وَقَدْ مَنَعَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ سَيِّدُ الْجَارِيَةِ مَالِكُهَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ أَفَادَ مَا أَفَادَهُ الْمُبْتَدَأُ. وَالْأَلِفُ فِي كَانَتَا تُفِيدُ التَّثْنِيَةَ كَمَا أَفَادَهُ الْخَبَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ اثْنَتَيْنِ. وَأَجَابَ الْأَخْفَشِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: اثْنَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِالصِّغَرِ أَوِ الْكِبَرِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ، فَاسْتَحَقَّ الثُّلْثَانِ بِالِاثْنَيْنِيَّةِ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقُيُودِ، فَلِهَذَا كَانَ مُفِيدًا وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْأَلِفَ فِي الضَّمِيرِ لِلِاثْنَتَيْنِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مُجَرَّدِ الِاثْنَيْنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَيْدٍ، فَصَارَ مَدْلُولُ الْأَلِفِ وَمَدْلُولُ اثْنَتَيْنِ سَوَاءً، وَصَارَ الْمَعْنَى: فَإِنْ كَانَتَا الْأُخْتَانِ اثْنَتَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُخْتَيْنِ اثْنَتَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِلَى مَنْ يَرْجِعُ ضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً؟ (قُلْتُ) : أَصْلُهُ فَإِنْ كَانَ من يرث

_ (1) سورة فاطر: 35/ 11. [.....]

بِالْأُخُوَّةِ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا. وَإِنَّمَا قِيلَ: فَإِنْ كَانَتَا، وَإِنْ كَانُوا. كَمَا قِيلَ: مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ، فَكَمَا أَنَّثَ ضَمِيرَ مَنْ لِمَكَانِ تَأْنِيثِ الْخَبَرِ، كَذَلِكَ ثَنَّى، وَجَمَعَ ضَمِيرَ مَنْ يَرِثُ فِي كَانَتَا وَكَانُوا، لِمَكَانِ تَثْنِيَةِ الْخَبَرِ وَجَمْعِهِ انْتَهَى. وَهُوَ تَابِعٌ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ غَيْرَهُ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ لَا يَصِحُّ، وَلَيْسَ نَظِيرَ مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ، لِأَنَّ مَنْ صُرِّحَ بِهَا وَلَهَا لَفْظٌ وَمَعْنًى. فَمَنْ أَنَّثَ رَاعَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: أَيَّةُ أُمٍّ كَانَتْ أُمَّكَ. وَمَدْلُولُ الْخَبَرِ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ الِاسْمِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْمَدْلُولَيْنِ وَاحِدٌ،. وَلَمْ يُؤَنَّثْ فِي مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، إِنَّمَا أُنِّثَ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى مَنْ إِذْ أَرَادَ بِهَا مُؤَنَّثًا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: مَنْ قَامَتْ فَتُؤَنَّثُ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى إِذَا أَرَدْتَ السُّؤَالَ عَنْ مُؤَنَّثٍ، وَلَا خَبَرَ هُنَا فَيُؤَنَّثُ قَامَتْ لِأَجْلِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ. وَذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي كَانَتَا لَا يَعُودُ عَلَى أُخْتَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ يَعُودُ عَلَى الْوَارِثَتَيْنِ، وَيَكُونُ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ، وَاثْنَتَيْنِ بِصِفَتِهِ هُوَ الْخَبَرُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَتِ الْوَارِثَتَانِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ فَلَهُمَا الثُّلْثَانِ مِمَّا تَرَكَ، فَيُفِيدُ إِذْ ذَاكَ الْخَبَرُ مَا لَا يُفِيدُ الِاسْمُ، وَحَذْفُ الصِّفَةِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْأُخْتَيْنِ كَمَا ذَكَرُوا، وَيَكُونَ خَبَرُ كَانَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَذْفُهُ قَلِيلًا، وَيَكُونَ اثْنَتَيْنِ حَالًا مُؤَكِّدَةً وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَتْ أُخْتَانِ لَهُ أَيْ لِلْمَرْءِ الْهَالِكِ. وَيَدُلُّ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ لَهُ وَلَهُ أُخْتٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ كَانَتْ أُخْتَانِ لَهُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ: إِنْ كَانَ لِزَيْدٍ أَخٌ فَحُكْمُهُ كَذَا، وَإِنْ كَانَ أَخَوَانِ فَحُكْمُهُمَا كَذَا. تُرِيدُ وَإِنْ كَانَ أَخَوَانِ لَهُ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَحُوزُونَ الْمَالَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ مِنْ أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَالضَّمِيرُ فِي كَانُوا إِنْ عَادَ عَلَى الْإِخْوَةِ فَقَدْ أَفَادَ الْخَبَرُ بِالتَّفْصِيلِ الْمُحْتَوِي عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، مَا لَمْ يُفِدْهُ الِاسْمُ، لِأَنَّ الِاسْمَ ظَاهِرٌ فِي الذُّكُورِ. وَإِنْ عَادَ عَلَى الْوَارِثِ فَظَهَرَتْ إفادة الْخَبَرُ مَا لَا يُفِيدُ الْمُبْتَدَأُ ظُهُورًا وَاضِحًا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِخْوَةً الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَغَلَبَ حُكْمُ الْمُذَكَّرِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَإِنَّ للذكر مثل حظ الأنثيين. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أَنْ تَضِلُّوا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَفْعُولُ يُبَيِّنُ مَحْذُوفٌ أَيْ: يُبَيِّنُ لَكُمُ الْحَقَّ. فَقَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّ وَالْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ: كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَتَبِعَهُمُ الزَّجَّاجُ: لِأَنْ لَا تَضِلُّوا، وَحَذَفَ لَا وَمِثْلُهُ عِنْدَهُمْ قَوْلُ الْقَطَامِيِّ:

رَأَيْنَا مَا رَأَى الْبُصَرَاءُ مِنَّا ... فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعَا أَيْ أَنْ لَا تُبَاعَا، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثْتُ الْكِسَائِيَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِيهِ: «لَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللَّهِ إِجَابَةً» فَاسْتَحْسَنَهُ أَيْ لِئَلَّا يُوَافِقَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السموات وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا» أَيْ لِأَنْ لَا تَزُولَا وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ قَوْلَ الْمُبَرِّدِ بِأَنْ قَالَ حَذْفُ الْمُضَافِ أَسْوَغُ وَأَشْبَعُ مِنْ حَذْفِ لَا. وَقِيلَ أَنْ تَضِلُّوا مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الضَّلَالَةَ أَنْ تَضِلُّوا فِيهَا. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَعْلَمُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَفِيمَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي: في هذه السُّورَةِ لَطِيفَةٌ عَجِيبَةٌ وَهِيَ أَنَّ أَوَّلَهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى كَمَالِ تَنَزُّهِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ قُدْرَتِهِ، وَآخِرُهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ كَمَالِ الْعِلْمِ، وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ بِهِمَا تَثْبُتُ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْإِلَهِيَّةُ وَالْجَلَالُ وَالْعِزَّةُ، وَبِهِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُنْقَادًا لِلتَّكَالِيفِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. فَمِنْ ذَلِكَ الطِّبَاقُ فِي: حَرَّمْنَا وَأُحِلَّتْ، وَفِي: فَآمِنُوا وَإِنْ تَكْفُرُوا. وَالتَّكْرَارُ فِي: وَمَا قَتَلُوهُ، وَفِي: وَأَوْحَيْنَا، وَفِي: ورسلا، وفي: يشهد ويشهدون، وَفِي: كَفَرُوا، وَفِي: مَرْيَمَ، وَفِي: اسْمِ اللَّهِ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِمْ، وَفِي: فَسَنَحْشُرُهُمْ وَمَا بَعْدَ مَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي: كَمَا أَوْحَيْنَا. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: الرَّاسِخُونَ وَهِيَ فِي الْأَجْرَامِ اسْتُعِيرَتْ لِلثُّبُوتِ فِي الْعِلْمِ وَالتَّمَكُّنِ فِيهِ، وَفِي: سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي: يَشْهَدُ، وَفِي: طَرِيقًا، وَفِي: لَا تَغْلُوا وَالْغُلُوُّ حَقِيقَةً فِي ارْتِفَاعِ السِّعْرِ، وَفِي: وَكِيلًا اسْتُعِيرَ لِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِهِمْ، وَفِي: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ اسْتُعِيرَ لِلْمُجَازَاةِ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: يَسْتَفْتُونَكَ ويفتيكم. وَالتَّفْصِيلُ فِي: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

سورة المائدة

سورة المائدة [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) الْبَهِيمَةُ: كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَهِيمَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا أُبْهِمَ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ النُّطْقِ وَالْفَهْمِ انْتَهَى. وَمَا كَانَ على فعيل أو فعلية وَعَيْنُهُ حَرْفُ حَلْقٍ اسْمًا كَانَ أَوْ صِفَةً، فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ عَيْنِهِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي

تَمِيمٍ تَقُولُ: رِئِيٍّ وَبِهِيمَةٍ، وَسِعِيدٍ وَصِغِيرٍ، وَبِحِيرَةٍ وَبِخِيلٍ. الصَّيْدُ: مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ وَيُصَادُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَصِيدِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ: الصَّيْدُ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ وَكَانَ حَلَالًا أَكْلُهُ، وَكَأَنَّهُ فَسَّرَ الصَّيْدَ الشَّرْعِيَّ. الْقِلَادَةُ فِي الْهَدْيِ: مَا قُلِّدَ بِهِ مِنْ نَعْلٍ، أَوْ عُرْوَةٍ مُزَادَةٍ، أَوْ لحا شَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَانَ الْحَرَمِيُّ رُبَّمَا قَلَّدَ رِكَابَهُ بلحا شَجَرِ الْحَرَمِ، فَيَعْتَصِمُ بِذَلِكَ مِنَ السُّوءِ. الْآمُّ: الْقَاصِدُ أَمَمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ. جَرَمَهُ عَلَى كَذَا حَمَلَهُ، قَالَهُ: الْكِسَائِيُّ وَثَعْلَبٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: جَرَمَهُ كَسَبَهُ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ، وَالْجَارِمُ الْكَاسِبُ. وَأَجْرَمَ فُلَانٌ اكْتَسَبَ الْإِثْمَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: جَرَمَ وَأَجْرَمَ أَيْ كَسَبَ غَيْرَهُ، وَجَرَمَ يَجْرِمُ جَرْمًا إِذَا قَطَعَ. قَالَ الرُّمَّانِيُّ: وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَرَمَ حَمَلَ عَلَى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَجَرَمَ كَسَبَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْكَسْبِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ، لِأَنَّ الْحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ أَيْ لَقَدْ حَقَّ. الشَّنَآنُ: الْبُغْضُ، وهو أحد مصادر شيء. يقال: شنيء يشنأ شنأ وَشَنَآنًا مُثَلَّثَيِ الشِّينِ فَهَذِهِ سِتَّةٌ: وَشَنَاءً، وَشَنَاءَةً، وَشِنَاءً، وَشَنْأَةً، وَمَشْنَأَةً، وَمَشْنِئَةً، وَمِشْنِئَةً، وَشَنَانًا، وَشِنَانًا. فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدَرًا وَهِيَ أَكْثَرُ مَا حُفِظَ لِلْفِعْلِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: كُلُّ بِنَاءٍ كَانَ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى فَعَلَانٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَمْ يَتَعَدَّ فِعْلُهُ إِلَّا أَنْ يَشِذَّ شَيْءٌ كَالشَّنَآنِ. الْمُعَاوَنَةُ: الْمُسَاعَدَةُ. الْمُنْخَنِقَةُ: هِيَ الَّتِي تَحْتَبِسُ نَفَسَهَا حَتَّى تَمُوتَ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَبْسُهَا بِحَبْلٍ أَمْ يَدٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ. الْوَقْذُ: ضَرْبُ الشَّيْءِ حَتَّى يَسْتَرْخِيَ وَيُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ. وَقِيلَ: الْمَوْقُوذَةُ الْمَضْرُوبَةُ بِعَصَا أَوْ حَجَرٍ لَا حَدَّ لَهُ، فَتَمُوتُ بِلَا ذَكَاةٍ. وَيُقَالُ: وَقَذَهُ النُّعَاسُ غَلَبَهُ، وَوَقَذَهُ الْحُكْمُ سَكَّنَهُ. التَّرَدِّي: السُّقُوطُ فِي بِئْرٍ أَوِ التَّهَوُّرُ مِنْ جَبَلٍ. وَيُقَالُ: رَدَى وَتَرَدَّى أَيْ هَلَكَ، وَيُقَالُ: مَا أَدْرِي أَيْنَ رَدَى؟ أَيْ ذَهَبَ. النَّطِيحَةُ: هِيَ الَّتِي يَنْطَحُهَا غَيْرُهَا فَتَمُوتُ بِالنَّطْحِ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ فَوَلِيَتِ الْعَوَامِلَ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِيهَا الْهَاءُ. السَّبُعُ: كُلُّ ذِي نَابٍ وَظُفُرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ: كَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالدُّبِّ، وَالذِّئْبِ، وَالثَّعْلَبِ، وَالضَّبُعِ، وَنَحْوِهَا. وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ مِنَ الطَّيْرِ سِبَاعٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَسِبَاعُ الطَّيْرِ تَغْدُو بِطَانًا ... تَتَخَطَّاهُمْ فَمَا تَسْتَقِلُّ

وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخُصُّ السَّبُعَ بِالْأَسَدِ، وَسُكُونُ الْبَاءِ لُغَةٌ نَجْدِيَّةٌ، وَسُمِعَ فَتْحُهَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لُغَةٌ. التَّذْكِيَةُ: الذَّبْحُ، وَتَذْكِيَةُ النَّارِ رَفْعُهَا، وَذَكَّى الرَّجُلُ وَغَيْرُهُ أَسَنَّ. قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَى أَعْرَاقِهِ تَجْرِي الْمَذَاكِي ... وَلَيْسَ عَلَى تَقَلُّبِهِ وَجَهْدِهِ النُّصُبُ، قِيلَ جَمْعُ نِصَابٍ، وَهِيَ حِجَارَةٌ مَنْصُوبَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَهَا وَيَذْبَحُونَ عَلَيْهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَلَهَا أَيْضًا وَتُلَطَّخُ بِالدِّمَاءِ، وَيُوضَعُ عَلَيْهَا اللَّحْمُ قِطَعًا قِطَعًا لِيَأْكُلَ مِنْهَا النَّاسُ. وَقِيلَ: النُّصُبُ مُفْرَدٌ. قَالَ الْأَعْشَى: وَذَا النُّصُبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَقْرَبَنَّهُ. الْأَزْلَامُ: الْقِدَاحُ وَاحِدُهَا زَلَمٌ وَزُلَمٌ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِهَا وَهِيَ السِّهَامُ، كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ تِجَارَةً أَوْ نِكَاحًا أَوْ أَمْرًا مِنْ مَعَاظِمِ الْأُمُورِ ضَرَبَ بِالْقِدَاحِ، وَهِيَ مَكْتُوبٌ عَلَى بَعْضِهَا نَهَانِي رَبِّي، وَعَلَى بَعْضِهَا أَمَرَنِي رَبِّي، وَبَعْضُهَا غُفْلٌ، فَإِنْ خَرَجَ الْآمِرُ مَضَى لِطِلْبَتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ النَّاهِي أَمْسَكَ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الضَّرْبَ. الْيَأْسُ: قَطْعُ الرجاء. يقال: يئس ييئس وَيَيْئِسُ، وَيُقَالُ: أَيِسَ وَهُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ يَئِسَ، وَدَلِيلُ الْقَلْبِ تخلف الحكم عن ما ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْلِبُوا يَاءَهُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَلَمْ يَقُولُوا آسَ كَمَا قَالُوا هَابَ. الْمَخْمَصَةُ: الْمَجَاعَةُ الَّتِي تخمص فِيهَا الْبُطُونُ أَيْ تَضْمُرُ، وَالْخَمْصُ ضُمُورُ الْبَطْنِ، وَالْخِلْقَةِ مِنْهُ حَسَنَةٌ فِي النِّسَاءِ وَمِنْهُ يُقَالُ: خَمْصَانَةٌ، وَبَطْنٌ خَمِيصٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ. وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ وَالْغَرَثِ. قَالَ الْأَعْشَى: تَبِيتُونَ فِي الْمَشْتَى مِلَاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا وَقَالَ آخَرُ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خميص يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ مُنْصَرِفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمِنْهَا مَا نَزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمِنْهَا مَا نَزَلْ عَامَ الْفَتْحِ. وَكُلُّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ فِي سَفَرٍ، أَوْ بِمَكَّةَ، فَهُوَ مَدَنِيٌّ. وَذَكَرُوا فَضَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَنَّهَا تُسَمَّى: الْمَائِدَةَ، وَالْعُقُودَ، وَالْمُنْقِذَةَ، وَالْمُبَعْثِرَةَ. وَمُنَاسَبَةُ افْتِتَاحِهَا لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ اسْتِفْتَاءَهُمْ فِي الْكَلَالَةِ وَأَفْتَاهُمْ فِيهَا، ذَكَرَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَرَاهَةَ الضَّلَالِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ

السُّورَةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً هِيَ تَفْصِيلٌ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ. قَالُوا: وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرِيضَةً لَمْ يُبَيِّنْهَا فِي غَيْرِهَا، وَسَنُبَيِّنُهَا أَوَّلًا فَأَوَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرُوا أَنَّ الْكِنْدِيَّ الْفَيْلَسُوفَ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ، وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّدَاءَ لِأُمَّةِ الرَّسُولِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ وَهِيَ جَمْعُ عَقْدٍ، وَهُوَ الْعَهْدُ، قَالَهُ: الْجُمْهُورُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعُقُودُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَجْرَامِ ثُمَّ تَوَسَّعَ فَأَطْلَقَ فِي الْمَعَانِي، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: هُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ شُبِّهَ بِعَقْدِ الْحَبْلِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُخْلِصِ وَالْمُظْهِرِ، وَعُمُومُ الْعُقُودِ فِي كُلِّ رَبْطٍ يُوَافِقُ الشَّرْعَ سَوَاءٌ كَانَ إِسْلَامِيًّا أَمْ جَاهِلِيًّا وَقَدْ سَأَلَ فُرَاتُ بْنُ حَنَانٍ الْعِجْلِيُّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تَسْأَلُ عَنْ حِلْفِ تَيْمِ اللَّهِ» قَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: «لَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِلْفِ الْفُضُولِ وَكَانَ شَهِدَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمُرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ» وَكَانَ هَذَا الْحِلْفُ أَنَّ قُرَيْشًا تَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا مَظْلُومًا بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ مَظْلَمَتُهُ، وسميت ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ. وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَتَحَامَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مَالٍ فَقَالَ: لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي وَإِلَّا أَخَذْتُ بِسَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَئِنْ دَعَانِي لَآخُذَنَّ سَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ خَصْمِهِ، أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا. وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ فَأَنْصَفَهُ. وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ عَقْدٍ مَعَ إِنْسَانٍ كَأَمَانٍ، وَدِيَةٍ، وَنِكَاحٍ، وَبَيْعٍ، وَشَرِكَةٍ،

وَهِبَةٍ، وَرَهْنٍ، وَعِتْقٍ، وَتَدْبِيرٍ، وَتَخْيِيرٍ، وَتَمْلِيكٍ، وَمُصَالَحَةٍ، وَمُزَارَعَةٍ، وَطَلَاقٍ، وَشِرَاءٍ، وَإِجَارَةٍ، وَمَا عَقَدَهُ مَعَ نَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ طَاعَةٍ: كَحَجٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَقِيَامٍ، وَنَذْرٍ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِيمَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي عَقَدَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَلْزَمَهَا إِيَّاهُمْ مِنْ وَاجِبِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّهُ كَلَامٌ قُدِّمَ مُجْمَلًا ثُمَّ عُقِّبَ بِالتَّفْصِيلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْحِلْفُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: وَرُوِيَ لَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوْفُوا بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا تُحْدِثُوا عَقْدًا فِي الْإِسْلَامِ» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ كُلُّ مَا رَبَطَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ: الْعُقُودُ خَمْسٌ: عُقْدَةُ الْإِيمَانِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةُ الْبَيْعِ، وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ. وَقِيلَ: هِيَ عُقُودُ الْأَمَانَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَرَأْتُ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ وَفِي صَدْرِهِ: «هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» وَقِيلَ: الْعُقُودُ هُنَا الْفَرَائِضُ. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قِيلَ: هَذَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ. وَقِيلَ: اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ بَيَّنَ فِيهِ فَسَادَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السَّوَائِبِ، وَالْوَصَائِلِ، وَالْبَحَائِرِ، وَالْحَوَامِّ، وَأَنَّهَا حَلَالٌ لَهُمْ. وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ مِنْ بَابِ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى جِنْسِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى مِنْ، لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ أَعَمُّ، فَأُضِيفَتْ إِلَى أَخَصٍّ. فَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ كُلُّهَا قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالْحَسَنُ. وَهِيَ الثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ قتيبة: هي الإبل، والبقرة، وَالْغَنَمُ، وَالْوُحُوشُ كُلُّهَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَالْفَرَّاءُ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَحْشِيُّهَا كَالظِّبَاءِ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهِ. وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَا يُمَاثِلُ الْأَنْعَامَ وَيُدَانِيهَا مِنْ جِنْسِ الْأَنْعَامِ الْبَهَائِمِ، وَالْأَضْرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ، فَأُضِيفَتْ إِلَى الْأَنْعَامِ لِمُلَابَسَةِ الشَّبَهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَدْلُولِ لَفْظِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ ذَبْحِ أُمَّهَاتِهَا فَتُؤْكَلُ دُونَ ذَكَاةٍ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الَّتِي تَرْعَى مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَكَانَ الْمُفْتَرِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْأَسَدِ وَكُلُّ ذِي نَابٍ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِبْهَامِ فَصَارَ لَهُ نَظَرٌ مَا. إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ

تَحْرِيمُهُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1» وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمَعْنَى يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهُ «كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلٌ، وَاسْتِثْنَاءُ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُفَصَّلِ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلًا، إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ إِلَى قَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «2» وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، يَقْتَضِي إِحْلَالَهَا لَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ. فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَيْتَةً أَوْ مَذْبُوحَةً عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، أَوْ مُنْخَنِقَةً أَوْ مَوْقُوذَةً أَوْ مُتَرَدِّيَةً أَوْ نَطِيحَةً، أَوِ افْتَرَسَهَا السَّبُعُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَوْضِعُ مَا نَصْبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَجُوزُ الرفع على الصفة لبهيمة. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجَازَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَعَلَى أَنْ تَكُونَ إِلَّا عَاطِفَةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا مِنْ نَكِرَةٍ أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نَحْوَ قَوْلِكَ: جَاءَ الرَّجُلُ إِلَّا زَيْدٌ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: غَيْرَ زَيْدٍ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ مِنْ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ لَا يَصِحُّ الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ مُوجَبٌ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ عَلَى الْبَدَلِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْبَدَلُ فِي: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا كَوْنُ إِلَّا عَاطِفَةً فَهُوَ شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، ظَاهِرُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى وَجْهَيِ الرَّفْعِ الْبَدَلِ وَالْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مِنْ نَكِرَةٍ، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُبْهَمٌ لَا يُدْرَى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ. وَكِلَا وَجْهَيِ الرَّفْعِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْهُ، لِأَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الْمُوجَبِ لَا يُجِيزُهُ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ لَا بَصَرِيٌ وَلَا كُوفِيٌّ. وَأَمَّا الْعَطْفُ فَلَا يُجِيزُهُ بَصْرِيٌّ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَا قَبْلَهُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَشَرَطَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمَنْعُوتِ نَكِرَةٌ، أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَلَعَلَّ ابْنَ عَطِيَّةَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ وَالنَّعْتُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَلَوْ فَرَضْنَا تَبَعِيَّةَ مَا بَعْدَ إِلَّا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ حَتَّى يُسَوِّغَ ذَلِكَ، لَمْ يُشْتَرَطْ تَنْكِيرُ مَا قَبْلَ إِلَّا وَلَا كَوْنُهُ مُقَارِبًا لِلنَّكِرَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ مِنْهُ يَجُوزُ اخْتِلَافُهُمَا بِالتَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ. غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرَ بِالنَّصْبِ. وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي صَاحِبِ الْحَالِ. فَقَالَ الْأَخْفَشِ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي أوفوا. وقال

_ (1) سورة المائدة: 5/ 3. (2) سورة المائدة: 5/ 3.

الْجُمْهُورُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي أُحِلَّ لَكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ من أجل الْقَائِمُ مَقَامَهُ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ضَمِيرُ الْمَجْرُورِ فِي عَلَيْكُمْ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ، اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ مِنْهُ. فَالِاسْتِثْنَاءَانِ مَعْنَاهُمَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ «1» عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَهُوَ قَوْلٌ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَحْظُورِ إِذَا كَانَ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مُسْتَثْنًى مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا وَجْهٌ سَاقِطٌ، فَإِذَا مَعْنَاهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غير مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ سِوَى الصَّيْدِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ خَلَطَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي نَصْبِ غَيْرَ، وَقَدَّرُوا تَقْدِيمَاتٍ وَتَأْخِيرَاتٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى اطِّرَادِهِ مُتَمَكِّنٌ اسْتِثْنَاءٌ بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ أَيْضًا مِمَّنْ خَلَطَ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ. فَأَمَّا قَوْلُ الْأَخْفَشِ: فَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ ذِي الْحَالِ وَالْحَالِ بِجُمْلَةٍ اعْتِرَاضِيَّةٍ، بَلْ هِيَ مُنْشِئَةٌ أَحْكَامًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَفِيهِ تَقْيِيدُ الْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ بِانْتِفَاءِ إِحْلَالِ الْمُوفِينَ الصَّيْدَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فِي حَالِ انْتِفَاءِ كَوْنِكُمْ مُحَلِّينَ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَهُمْ قَدْ أُحِلَّتْ لَهُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ أَنْفِسِهَا. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ وَحُمُرُهُ فَيَكُونَ الْمَعْنَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ هَذِهِ فِي حَالِ انْتِفَاءِ كَوْنِكُمْ محلين الصيد وأنتم حرم، وَهَذَا تَرْكِيبٌ قَلِقٌ مُعَقَّدٌ، يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا. وَلَوْ أُرِيدَ بِالْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى لَجَاءَ عَلَى أَفْصَحِ تَرْكِيبٍ وَأَحْسَنِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ: مَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ. وَقَدَّرَهُ: وَأَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلٍّ لَكُمُ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، قَالَ كَمَا تَقُولُ: أَحْلَلْتُ لَكَ كَذَا غَيْرَ مُبِيحِهِ لَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَهُوَ فَاسِدٌ. لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ يَصِيرُ نِسْيًا مَنْسِيًّا، وَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْحَالِ مِنْهُ. لَوْ قُلْتَ: أُنْزِلَ الْمَطَرُ لِلنَّاسِ مُجِيبًا لِدُعَائِهِمْ، إِذِ الْأَصْلُ أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ مُجِيبًا لِدُعَائِهِمْ لَمْ يَجُزْ، وَخُصُوصًا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ صِيغَةٌ وُضِعَتْ أَصْلًا كَمَا وُضِعَتْ صِيغَتُهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَلَيْسَتْ مُغَيَّرَةً مِنْ صِيغَةٍ

_ (1) سورة الحجر: 15/ 58.

بُنِيَتْ لِلْفَاعِلِ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَيَّدُ إِحْلَالُهُ تَعَالَى بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا ثَمَانِيَةُ الْأَزْوَاجِ بِحَالِ انْتِفَاءِ إِحْلَالِهِ الصَّيْدَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَهُوَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَهُوَ يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَقُولُ: إِنَّمَا عَرَضَ الْإِشْكَالُ فِي الْآيَةِ مِنْ جَعْلِهِمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حَالًا مِنَ الْمَأْمُورِينَ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ، أَوْ مِنَ الْمُحَلَّلِ لَهُمْ، أَوْ مِنَ الْمُحَلِّلِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ مِنَ الْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ. وَغَرَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ كَتَبَ مُحِلِّي بِالْيَاءِ، وَقَدَّرُوهُ هُمْ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَحَلَّ، وَأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الصَّيْدِ إِضَافَةَ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولِ، وَأَنَّهُ جَمْعٌ حُذِفَ مِنْهُ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ. وَأَصْلُهُ: غَيْرَ مُحِلِّينَ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، إِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ، فَلَا يُقَدَّرُ فِيهِ حَذْفُ النُّونِ، بَلْ حَذْفُ التَّنْوِينِ. وَإِنَّمَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مُحِلِّي الصَّيْدِ، مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: حِسَانُ النِّسَاءِ. وَالْمَعْنَى: النِّسَاءُ الْحِسَانُ، وَكَذَلِكَ هَذَا أَصْلُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ الْمُحِلِّ. وَالْمُحِلُّ صِفَةٌ لِلصَّيْدِ لَا لِلنَّاسِ، وَلَا لِلْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ. وَوَصْفُ الصَّيْدِ بِأَنَّهُ مُحِلٌّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ دَخَلَ فِي الْحِلِّ كَمَا تَقُولُ: أَحَلَّ الرَّجُلُ أَيْ: دَخَلَ فِي الْحِلِّ، وَأَحْرَمَ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ صَارَ ذَا حِلٍّ، أَيْ حَلَالًا بِتَحْلِيلِ اللَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الصَّيْدَ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَلَالٌ، وَحَرَامٌ. وَلَا يَخْتَصُّ الصَّيْدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِالْحَلَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ لَيَصِيدُ الْأَرَانِبَ حَتَّى الثَّعَالِبَ لَكِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ شَرْعًا؟ وَقَدْ تَجَوَّزَتِ الْعَرَبُ فَأَطْلَقَتِ الصَّيْدَ عَلَى مَا لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إِذَا ... مَا كَذَّبَ اللَّيْثُ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا وَقَالَ آخَرُ: وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ ... فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أَحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ وَقَالَ آخَرُ: وَمَيٌّ تَصِيدُ قُلُوبَ الرِّجَالِ ... وَأَفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عُمَرٍ وَحَجَرٍ وَمَجِيءُ أَفْعَلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. فَمِنْ مَجِيءِ أَفْعَلَ لِبُلُوغِ الْمَكَانِ وَدُخُولِهِ قَوْلُهُمْ: أَحْرَمَ الرَّجُلُ، وَأَعْرَقَ، وَأَشْأَمَ، وَأَيْمَنَ، وَأَتْهَمَ، وَأَنْجَدَ إِذَا بَلَغَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ وَحَلَّ بِهَا. وَمِنْ مَجِيءِ أَفْعَلَ بِمَعْنَى صَارَ ذَا كَذَا قَوْلُهُمْ: أَعْشَبَتِ الْأَرْضُ،

وَأَبْقَلَتْ، وَأَغَدَّ الْبَعِيرُ، وَأَلْبَنَتِ الشَّاةُ، وَغَيْرُهَا، وَأَجْرَتِ الْكَلْبَةُ، وَأَصْرَمَ النَّخْلُ، وَأَتْلَتِ النَّاقَةُ، وَأَحْصَدَ الزَّرْعُ، وَأَجْرَبَ الرَّجُلُ، وَأَنْجَبَتِ الْمَرْأَةُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّيْدَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُحِلًّا بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ كَوْنِهِ بَلَغَ الْحِلَّ، أَوْ صَارَ ذَا حِلٍّ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مِنِ اسْتِثْنَاءٍ، إِذْ لَا يمكن ذلك لتناقض الْحُكْمِ. لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُحَلَّلِ مُحَرَّمٌ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُحَرَّمِ مُحَلَّلٌ. بَلْ إِنَّ كَانَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، الْأَنْعَامُ أَنْفُسُهَا، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الظِّبَاءَ وَبَقَرَ الْوَحْشِ وَحُمُرَهُ وَنَحْوَهَا، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيِ الْمُحِلِّ، اسْتَثْنَى الصَّيْدَ الَّذِي بلغ الحل في حال كَوْنِهِمْ مُحْرِمِينَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةٌ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَيْدِ بُلُوغِ الْحِلِّ وَالصَّيْدِ الَّذِي فِي الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ أَيْضًا؟ (قُلْتُ) : الصَّيْدُ الَّذِي فِي الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ وَلَا لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ الَّذِي فِي الْحِلِّ، فَنَبَّهَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ الَّذِي فِي الْحِلِّ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا لِغَيْرِهِ، فَأَحْرَى أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ الَّذِي هُوَ بِالْحَرَمِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ قوله: حرمت عليكم الميتة الْآيَةَ، اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، إِذْ لَا يَخْتَصُّ الْمَيْتَةَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا بِالظِّبَاءِ وَحُمُرِ الْوَحْشِ وَبَقَرِهِ وَنَحْوِهَا، فَيَصِيرُ لَكِنْ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْ: تَحْرِيمُهُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْأَنْعَامَ وَالْوُحُوشَ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءَانِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْمَجْمُوعِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَيَرْجِعُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَى ثَمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ، وَيَرْجِعُ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ إِلَى الْوُحُوشِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي اسْتِثْنَاءً مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، وَأَمْكَنَ رُجُوعُهُ إِلَى الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ مَا جَازَ. وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ بَعْضٍ كَانَتْ كُلُّهَا مُسْتَثْنَيَاتٍ مِنَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، إِلَّا عَمْرًا، إِلَّا بَكْرًا (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ الْغَرِيبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُحِلُّ مِنْ صِفَةِ الصَّيْدِ، لَا مِنْ صِفَةِ النَّاسِ، وَلَا مِنْ صِفَةِ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ، يُعَكِّرُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ كُتِبَ فِي رَقْمِ الْمُصْحَفِ بِالْيَاءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ النَّاسِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الصَّيْدِ لَمْ يُكْتَبْ بِالْيَاءِ، وَبِكَوْنِ الْفَرَّاءِ وَأَصْحَابِهِ وَقَفُوا عَلَيْهِ بِالْيَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ. (قُلْتُ) : لَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوا كَثِيرًا رَسْمَ الْمُصْحَفِ عَلَى مَا يُخَالِفُ النُّطْقَ نَحْوَ: بِأَيْيدٍ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَكَتْبُهُمْ أُولَئِكَ بِوَاوٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَبِنَقْصِهِمْ مِنْهُ أَلِفًا. وَكِتَابَتُهُمُ الصَّلِحَتِ وَنَحْوِهِ بِإِسْقَاطِ الْأَلِفَيْنِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الرَّسْمِ. وَأَمَّا وَقْفُهُمْ عَلَيْهِ بِالْيَاءِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِذَلِكَ الِاخْتِبَارَ أَوْ يَنْقَطِعُ النَّفَسُ، فَوَقَفُوا عَلَى

الرَّسْمِ كَمَا وَقَفُوا عَلَى سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «1» مِنْ غَيْرِ وَاوٍ إِتْبَاعًا لِلرَّسْمِ. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ كِتَابَتِهِ بِالْيَاءِ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ بِيَاءٍ بِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى لُغَةِ الْأَزْدِ، إِذْ يَقِفُونَ عَلَى بِزَيْدٍ بِزَيْدِي بِإِبْدَالِ التَّنْوِينِ يَاءً، فَكُتِبَ مُحِلِّي بِالْيَاءِ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ رَسْمِيٍّ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ مِمَّا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: غَيْرُ بِالرَّفْعِ، وَأَحْسَنُ مَا يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، وَلَا يلزم من الوصف بغير أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُمَاثِلًا لِلْمَوْصُوفِ فِي الْجِنْسِيَّةِ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَخُرِّجَ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ لِلضَّمِيرِ فِي يُتْلَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ هُوَ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ غَيْرُ مُسْتَحَلٍّ إِذَا كَانَ صَيْدًا انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هذا التكلف عَلَى تَخْرِيجِنَا مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ جُمْلَةً حَالِيَّةً. وَحُرُمٌ جَمْعُ حَرَامٍ. وَيُقَالُ: أَحْرَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، أَوْ بِهِمَا، فَهُوَ مُحْرِمٌ وَحَرَامٌ، وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ الشاعر: فقلت لها فيئ إِلَيْكِ فَإِنَّنِي ... حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ أَيْ: مُلَبٍّ. وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، إِذِ الصَّيْدُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ، وَعَلَى مَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، حَالٌ عَنْ مَحَلِّ الصَّيْدِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَحْلَلْنَا لَكُمْ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ امْتِنَاعِكُمْ مِنَ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ لِئَلَّا يَتَحَرَّجَ عَلَيْكُمْ انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْأَنْعَامَ مُبَاحَةٌ مَطْلَقًا لَا بِالتَّقْيِيدِ بِهَذِهِ الْحَالِ. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ. وَقِيلَ: يَحْكُمُ فِيمَا خَلَقَ بِمَا يُرِيدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ مُقَوِّيَةً لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَعْهُودِ أَحْكَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ وَتَحْلِيلِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا مَا يُتْلَى تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ إِلَّا فِي اضْطِرَارٍ، وَاسْتِثْنَاءِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَتَضَمُّنِ ذَلِكَ حِلَّهُ لِغَيْرِ الْمُحَرَّمِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. فَمُوجِبُ الْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ هُوَ إِرَادَتُهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، لَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ مِنَ الأحكام، ويعلم أنه

_ (1) سورة العلق: 96/ 18.

حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا نَصُّهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَلُوحُ فَصَاحَتُهَا وَكَثْرَةُ مَعَانِيهَا عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهَا لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ بِالْكَلَامِ، وَلِمَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْحِكَايَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عَنِ الْكِنْدِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا أَقُولُ مِنْ قَصِيدَةٍ مَدَحْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَارِضًا لِقَصِيدَةِ كَعْبٍ مِنْهُ فِي وَصْفِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: جَارٍ عَلَى مَنْهَجِ الْأَعْرَابِ أَعْجَزَهُمْ ... بَاقٍ مَدَى الدَّهْرِ لَا يَأْتِيهِ تَبْدِيلُ بَلَاغَةٌ عِنْدَهَا كَعَّ الْبَلِيغُ فَلَمْ ... يَنْبِسْ وَفِي هَدْيِهِ طَاحَتْ أَضَالِيلُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ خَرَجَ سُرَيْحٌ أَحَدُ بَنِي ضُبَيْعَةَ إِلَى مَكَّةَ حَاجًّا وَسَاقَ الْهَدْيَ. وَفِي رِوَايَةٍ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ، وَكَانَ قَبْلُ قَدْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَتَكَلَّمَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَوَّى فِي إِسْلَامِهِ، وَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بِعَقِبَيْ غَادِرٍ» فَمَرَّ بِسَرْحٍ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرَادَ أَهْلُ السَّرْحِ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْمُهُ الْحَطِيمُ بْنُ هِنْدٍ الْبَلَدِيُّ أَحَدُ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَأَرَادَ الرَّسُولُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَحَجَّ الْمُشْرِكُونَ وَاعْتَمَرُوا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ هَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ فَلَنْ نَدَعَهُمْ إِلَّا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «1» وَالشَّعَائِرُ جَمَعَ شَعِيرَةٍ أَوْ شَعَارَةٍ، أَيْ: قَدْ أَشْعَرَ اللَّهُ أَنَّهَا حَدُّهُ وَطَاعَتُهُ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَعَالِمِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «2» . قَالَ الْحَسَنُ: دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ يَعْنِي شَرَائِعَهُ الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَمُجَاهِدٌ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: شَعَائِرُ الْحَجِّ وَهِيَ سِتٌّ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَالْبُدْنُ، وَالْجِمَارُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَعَرَفَةُ، وَالرُّكْنُ. وَقَالَ أَيْضًا: الْمُحَرَّمَاتُ خَمْسٌ: الْكَعْبَةُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، حَتَّى يُحَلَّ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ عَامَّةُ الْعَرَبِ لَا يَعُدُّونَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنَ الشَّعَائِرِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقِفُ بِعَرَفَاتٍ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْأَعْلَامُ الْمَنْصُوبَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ نُهُوا أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا إِلَى

_ (1) سورة المائدة: 5/ 2. (2) سورة البقرة: 2/ 158.

مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْهَدَايَا تُطْعَنُ فِي سَنَامِهَا وَتُقَلَّدُ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «1» وَضُعِّفَ قَوْلُهُ، بِأَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ. وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ. وَقِيلَ: هِيَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مَا أُشْعِرَ أَيْ جُعِلَ إِشْعَارًا وَعَلَمًا لِلنُّسُكِ مِنْ مَوَاقِفِ الْحَجِّ وَمَرَامِي الْجِمَارِ وَالطَّوَافِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ عَلَامَاتُ الْحَاجِّ يَعْرِفُ بِهَا مِنَ الْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ وَالنَّحْرِ انْتَهَى. وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ مَعْهُودٌ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ شَهْرُ الْحَجِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هُوَ ذُو الْقَعْدَةِ مِنْ حَيْثُ كَانَ أَوَّلَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: رَجَبٌ. وَيُضَافُ إِلَى مُضَرَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُحَرِّمُ فِيهِ الْقِتَالَ وَتُعَظِّمُهُ، وَتُزِيلُ فِيهِ السِّلَاحَ وَالْأَسِنَّةَ مِنَ الرِّمَاحِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ مُجْمِعَةً عَلَى تَعْظِيمِ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ، وَمُخْتَلِفَةً فِي رَجَبٍ، فَشَدَّدَ تَعَالَى أَمْرَهُ. فَهَذَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: الشَّهْرُ مُفْرَدٌ مُحَلَّى بِأَلِ الْجِنْسِيَّةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ عُمُومُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ. وَالْمَعْنَى: لَا تُحِلُّوا بِقِتَالٍ وَلَا غَارَةٍ وَلَا نَهْبٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَكَانَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ يَقُومُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ كُلَّ يَوْمٍ فَيَقُولُ: أَلَا إِنِّي قَدْ حَلَّلْتُ كَذَا وَحَرَّمْتُ كَذَا. وَلَا الْهَدْيَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْهَدْيَ مَا هُدِيَ مِنَ النَّعَمِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَقُصِدَ بِهِ الْقُرْبَةُ، فَأَمَرَ تَعَالَى أَنْ لَا يُسْتَحَلَّ، وَلَا يَغَارَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَالْخِلَافُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ مَوْجُودٌ. قِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَمِنْهُ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ «كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً» فَسَمَّى هَذِهِ هَدْيًا. وَقِيلَ: الشَّعَائِرُ الْبُدْنُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَالْهَدْيُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالثِّيَابُ وَكُلُّ مَا أُهْدِيَ. وَقِيلَ: الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَرًا بِإِسَالَةِ الدَّمِ مِنْ سَنَامِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَلَائِمِ، وَالْهَدْيُ مَا لَمْ يُشْعَرِ اكْتُفِيَ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ. وَقَالَ مَنْ فَسَّرَ الشَّعَائِرَ بِالْمَنَاسِكِ، ذَكَرَ الْهَدْيَ تَنْبِيهًا عَلَى تَفْصِيلِهَا. وَلَا الْقَلائِدَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَمُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: الْقَلَائِدُ هِيَ مَا كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ بِهِ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لِيَأْمَنُوا بِهِ، فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَنْ أَخْذِ الْقَلَائِدِ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعَضَدُ شَجَرُهَا» . وَقَالَ الجمهور:

_ (1) سورة الحج: 22/ 36.

الْقَلَائِدُ مَا كَانُوا يَتَقَلَّدُونَهُ مِنَ السَّمَرِ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْحَجِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَامَةَ حَجَّةٍ. وَقِيلَ: أَوْ مَا يُقَلَّدُهُ الْحَرَمِيُّ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَرَمِيٌّ، فَنَهَى تَعَالَى عَنِ اسْتِحْلَالِ مَنْ يُحْرِمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْقَلَائِدَ هِيَ الْهَدْيُ الْمُقَلَّدُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ هَدْيًا مَا لَمْ يُقَلَّدْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا الْهَدْيَ الَّذِي لَمْ يُقَلَّدْ وَلَا الْمُقَلَّدُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَامُلٌ عَلَى أَلْفَاظِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْهَدْيَ، إِنَّمَا يُقَالُ: لِمَا لَمْ يُقَلَّدْ. وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنِ الْهَدْيِ جُمْلَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَلَّدَ مِنْهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي الْمُقَلَّدِ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْقَلَائِدَ نَفْسَهَا فَنَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَلَائِدِ الْهَدْيِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْيِ، أَيْ: لَا تُحِلُّوا قَلَائِدَهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَحِلُّوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ «1» نَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاقِعَهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ اسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ الْمُقَلَّدِ هَدْيًا كَانَ أَوْ إِنْسَانًا، وَاجْتَزَأَ بِذِكْرِ الْقَلَائِدِ عَنْ ذِكْرِ الْمُقَلَّدِ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ: وَلَا آمِّي بِحَذْفِ النُّونِ لِلْإِضَافَةِ إِلَى الْبَيْتِ، أَيْ: وَلَا تُحِلُّوا قَوْمًا قَاصِدِينَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَهُمُ الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِحْلَالُ هَذِهِ أَيْ: يُتَهَاوَنُ بِحُرْمَةِ الشَّعَائِرِ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَنَسِّكِينَ وَأَنْ يُحْدِثُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَا يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنِ الْحَجِّ، وَأَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْهَدْيِ بِالْغَصْبِ أَوْ بِالْمَنْعِ مِنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْتَغُونَ بِالْيَاءِ، فيكون صفة لآمين. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْفَضْلَ بِالثَّوَابِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ التِّجَارَةُ وَالْأَرْبَاحُ فِيهَا. وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ يَبْتَغُونَ رَجَاءَ الزِّيَادَةِ فِي هَذَا. وَأَمَّا الرِّضْوَانُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَنَالُونَهُ، وَابْتِغَاءُ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ. وَقِيلَ: هُوَ تَوْزِيعٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَبْتَغِي التِّجَارَةَ إِذْ لَا يَعْتَقِدُ مَعَادًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَغِي الرِّضْوَانَ بِالْحَجِّ إِذْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ الْجَزَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يُبْعَثُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ لَهُ رِضْوَانُ الله، فأخبر بذلك على بناء ظَنِّهِ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ، فَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ مِنْهُمَا، وَابْتِغَاءُ الرِّضْوَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَنْ يُصْلِحَ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِيهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْفَضْلُ وَالرِّضْوَانُ فِي الْآيَةِ في

_ (1) سورة النور: 24/ 31.

مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلُهُ بِالرَّحْمَةِ. نَهَى تَعَالَى أَنْ يُتَعَرَّضَ لِقَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ تَعْظِيمًا لَهُمْ وَاسْتِنْكَارًا أَنْ يُتَعَرَّضَ لِمِثْلِهِمْ. وَفِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمُ اسْتِئْلَافٌ لِلْعَرَبِ وَلُطْفٌ بِهِمْ وَتَنْشِيطٌ لِوُرُودِ الْمَوْسِمِ، وَفِي الْمَوْسِمِ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، وَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيُرْجَى دُخُولُهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَالَّذِي كَانَ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَ الْفَتْحِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِيهَا فِي حَقِّ مُسْلِمٍ حَاجٍّ فَهُوَ مُحْكَمٌ، أَوْ فِي حَقِّ كَافِرٍ فَهُوَ مَنْسُوخٌ، نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ عَامِ سَنَةِ تِسْعٍ، إِذْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ بِسُورَةِ بَرَاءَةَ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي مَيْسَرَةَ: لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَالْأَعْرَجُ: تَبْتَغُونَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَقْصِدُونَ قِتَالَهُمْ وَالْغَارَةَ عَلَيْهِمْ، وَصَدَّهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، إِذْ أَمَرَ تَعَالَى بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَرُضْوَانًا بِضَمِّ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي ثَانِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَعَنْهُ فِيهِ خِلَافٌ. وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا تَضَمَّنَ آخِرُ قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ حَالَةَ الْإِحْرَامِ، وَآخِرُ قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ، النَّهْيَ عَنْ إِحْلَالِ آمِّي الْبَيْتِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ رَاجِعًا حُكْمُهَا إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَجَاءَ مَا بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ «1» رَاجِعًا إِلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْفَصَاحَةِ. فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ، بَلْ هِيَ مُؤَسِّسَةٌ حُكْمًا لَا مُؤَكِّدَةٌ مسددة فَيَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، فَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا. وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ ربهم ورضوانا ولا يجر منكم، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قِصَّةَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ: وَجْهُ النَّظَرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «2» الْآيَةَ ثُمَّ يُقَالُ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «3» وَكَثِيرًا مَا ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الضَّرَائِرِ، فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 2. (2) سورة البقرة: 2/ 72. (3) سورة البقرة: 2/ 54.

قَالَ: وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا جَمَعُوا الْقُرْآنَ لَمْ يُرَتِّبُوهُ عَلَى حُكْمِ نُزُولِهِ، وَإِنَّمَا رَتَّبُوهُ عَلَى تَقَارُبِ الْمَعَانِي وَتَنَاسُقِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الَّذِي نَعْتَقِدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي رَتَّبَهُ لَا الصَّحَابَةُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي سُوَرِهِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ. وَالْأَمْرُ بِالِاصْطِيَادِ هُنَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصْطَادُوا انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الِاصْطِيَادُ مُبَاحًا، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، وَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ. وَتَكَلَّمُوا هُنَا عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَعَلَيْهَا إِذَا جَاءَتْ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، وَعَلَى مَا تحمل عليه، وعلى مواقع اسْتِعْمَالِهَا، وَذَلِكَ مِنْ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ فَيُبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ فِيهِ. وَقُرِئَ: فَإِذَا حَلَلْتُمْ وَهِيَ لُغَةٌ يُقَالُ: حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَأَحَلَّ. وَقَرَأَ أَبُو وَاقِدٍ، وَالْجَرَّاحُ، ونبيح، والحسن بن عمران: فِاصْطَادُوا بِكَسْرِ الْفَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِيلَ هُوَ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ، وَمِنْ تَوْجِيهِهَا أَنْ يَكُونَ رَاعَى كَسْرَ أَلِفِ الْوَصْلِ إِذَا بَدَأْتَ فَقُلْتَ: اصْطَادُوا بِكَسْرِ الْفَاءِ مُرَاعَاةً وَتَذْكِرَةً لِأَصْلِ أَلِفِ الْوَصْلِ انْتَهَى. وَلَيْسَ عِنْدِي كَسْرًا مَحْضًا بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِمَالَةِ الْمَحْضَةِ لِتَوَهُّمِ وُجُودِ كَسْرَةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، كَمَا أَمَالُوا الْفَاءَ فِي، فَإِذَا لِوُجُودِ كَسْرَةِ إِذَا. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ، يُقَالُ: جَرَمَنِي كَذَا عَلَى بُغْضِكَ. فَيَكُونُ أَنْ تَعْتَدُوا أَصْلُهُ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا، وَحُذِفَ مِنْهُ الْجَارُّ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهَا كَسَبَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَيَكُونُ أَنْ تَعْتَدُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيْ: اعْتِدَاؤُكُمْ عَلَيْكُمْ. وَتَتَعَدَّى أَيْضًا إِلَى وَاحِدٍ تَقُولُ: أَجْرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ الْمُتَعَدِّيَةِ لِاثْنَيْنِ، يُقَالُ فِي مَعْنَاهَا: جَرَمَ وَأَجْرَمَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَجْرَمَ أَعْرَفُهُ الْكَسْبَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ. وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْوَلِيدُ عَنْ يَعْقُوبَ: يَجْرِمَنْكُمْ بِسُكُونِ النُّونِ، جَعَلُوا نُونَ التَّوْكِيدِ خَفِيفَةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ، لِأَنْ صَدُّوكُمُ الِاعْتِدَاءَ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ حَمَلَ وَكَسَبَ فِي اسْتِعْمَالٍ وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ مُقْتَضَاهُمَا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ: أَنْ تَعْتَدُوا فِي مَحَلِّ مَفْعُولٍ بِهِ، وَمَحَلِّ مَفْعُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، وَنَافِعٌ: شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ

وَأَبُو بَكْرٍ بِسُكُونِهَا، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْفَتْحِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَقَدْ كَثُرَ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ عَلَى فَعَلَانَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا وَفَعَلَانُ فِي الْأَوْصَافِ مَوْجُودٌ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: حِمَارٌ قَطَوَانُ أَيْ: عَسِيرُ السَّيْرِ، وَتَيْسٌ عَدَوَانُ كَثِيرُ الْعَدْوِ، وَلَيْسَ فِي الْكَثْرَةِ كَالْمَصْدَرِ. قَالُوا: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ. وَيَعْنُونَ بِبَغِيضٍ مُبْغِضٍ اسْمُ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ من شنيء بِمَعْنَى الْبُغْضِ. وَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَيْسَ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ وَلَا لِفَاعِلٍ بِخِلَافِهِ إِذَا كَانَ مَصْدَرًا، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: بُغْضُ قَوْمٍ إِيَّاكُمْ، وَالْأَظْهَرُ فِي السُّكُونِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، فَقَدْ حُكِيَ رَجُلٌ شَنْآنٌ وَامْرَأَةٌ شَنْآنَةٌ، وَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. وَحُكِيَ أَيْضًا شَنْآنُ وَشَنْأَى مِثْلُ عَطْشَانَ وَعَطْشَى، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ مَنْ فِعْلٍ لَازِمٍ. وَقَدْ يُشْتَقُّ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمُ نحو: فغر فاه، وغرّفوه بِمَعْنَى فَتَحَ وَانْفَتَحَ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَقَدْ حكى في مصادر شنيء، وَمَجِيءِ الْمَصْدَرِ عَلَى فَعْلَانَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ، قَالُوا: لَوَيْتُهُ دَيْنَهُ لَيَّانًا. وَقَالَ الْأَحْوَصُ: وَمَا الْحُبُّ إِلَّا مَا تُحِبُّ وَتَشْتَهِي ... وَإِنْ لَامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا أَصْلُهُ الشَّنْآنُ، فَحَذَفَ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الساكن قبلها. وَالْوَصْفُ فِي فَعْلَانَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَصْدَرِ نَحْوَ رَحْمَانَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ: إِنْ صَدُّوكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَيُؤَيِّدُ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنْ صَدُّوكُمْ وَأَنْكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّحَّاسُ وَغَيْرُهُمَا قِرَاءَةَ كسران، وَقَالُوا: إِنَّمَا صَدَّ الْمُشْرِكُونَ الرسول والمؤمنون عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَالْحُدَيْبِيَةُ سَنَةَ سِتٍّ، فَالصَّدُّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْكَسْرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدُ، وَلِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ عَامَ الْفَتْحِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُصَدُّونَ عَنْهَا وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ؟ وَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ صَعْبٌ جِدًّا، فَإِنَّهَا قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، إِذْ هِيَ فِي السَّبْعَةِ، وَالْمَعْنَى مَعَهَا صَحِيحٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ وَقَعَ صَدٌّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّدِّ الَّذِي كَانَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا النَّهْيُ تَشْرِيعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَيْسَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامَ الْفَتْحِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ ذَكَرَ الْيَزِيدِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يَصُدُّوهُمْ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الشَّرْطُ وَاضِحًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: إِنْ بفتح الْهَمْزَةِ جَعَلُوهُ تَعْلِيلًا لِلشَّنَآنِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةٌ أَيْ: شَنَآنُ قَوْمٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ صَدُّوكُمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالِاعْتِدَاءُ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ.

وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى لَمَّا نَهَى عَنِ الِاعْتِدَاءِ بأمر بِالْمُسَاعَدَةِ وَالتَّظَافُرِ عَلَى الْخَيْرِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ التَّعَاوُنُ عَلَى الْخَيْرِ، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً وَهُوَ الْخُلُوُّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالتَّعَاوُنِ. وَشَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى بِالْعَفْوِ وَالْإِغْضَاءِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْعُمُومُ لِكُلِّ بِرٍّ وَتَقْوَى، فَيَتَنَاوَلُ الْعَفْوَ انْتَهَى. وَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَرَّرَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ تَأْكِيدًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَسَامُحٌ، وَالْعُرْفُ فِي دَلَالَةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى رِعَايَةُ الْوَاجِبِ. فَإِنْ جُعِلَ أَحَدُهُمَا بَدَلَ الْآخَرِ فَتَجُوزُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبِرُّ مَا ائْتُمِرْتَ بِهِ، وَالتَّقْوَى مَا نُهِيتَ عَنْهُ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْبِرُّ الْإِيمَانُ، وَالتَّقْوَى السُّنَّةُ. يَعْنِي: اتِّبَاعَ السُّنَّةِ. وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ الْإِثْمُ: الْمَعَاصِي، وَالْعُدْوَانُ: التَّعَدِّي فِي حُدُودِ اللَّهِ قَالَهُ عَطَاءٌ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ الْكُفْرُ، وَالْعِصْيَانُ وَالْعُدْوَانُ الْبِدْعَةُ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ الْحُكْمُ اللَّاحِقُ لِلْجَرَائِمِ، وَالْعَدُوَانُ ظُلْمُ النَّاسِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ الِانْتِقَامُ وَالتَّشَفِّي قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْعُمُومُ لِكُلِّ إِثْمٍ وَعُدْوَانٍ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أَمَرَ بِالتَّقْوَى مُطْلَقَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَ بِهَا فِي التَّعَاوُنِ تَأْكِيدًا لِأَمْرِهَا، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. فَيَجِبُ أَنْ يُتَّقَى وَشِدَّةُ عِقَابِهِ بِكَوْنِهِ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ وَلِاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنَّ غالب الدنيا منقض. قال مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ نَهْيًا عَنِ الطَّلَبِ بِدُخُولِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ أَرَادَ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، وَلَقَدْ قِيلَ: ذَلِكَ حَلِيفٌ لِأَبِي سُفْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مُقْتَضٍ لِشَحْمِهِ بِإِجْمَاعٍ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ دَاوُدُ وَغَيْرُهُ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ، وَتَأَخَّرَ هُنَا بِهِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ تَفَنَّنًا فِي الْكَلَامِ وَاتِّسَاعًا، وَلِكَوْنِ الْجَلَالَةِ وَقَعَتْ هناك فصلا أولا كَالْفَصْلِ، وَهُنَا جَاءَتْ مَعْطُوفَاتٌ بَعْدَهَا، فَلَيْسَتْ فَصْلًا وَلَا كَالْفَصْلِ، وَمَا جَاءَ كَذَلِكَ يَقْتَضِي فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ الْمَدَّ. وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ وَغَيْرَهَا، فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ الْمَوْقُوذَةُ إِلَّا فِي مِلْكٍ، وَلَيْسَ فِي صَيْدٍ وَقِيذٌ. وَقَالَ مَالِكٌ

وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي: الصَّيْدِ مَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَقِيذِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمِعْرَاضِ: «وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ: النَّطِيحَةُ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا أُخْرَى فَيَمُوتَانِ، أَوِ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَقَالَ قَوْمٌ: النَّطِيحَةُ الْمُنَاطَحَةُ، لِأَنَّ الشَّاتَيْنِ قَدْ يَتَنَاطَحَانِ فَيَمُوتَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُلُّ مَا مَاتَ ضَغْطًا فَهُوَ نَطِيحٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو مَيْسَرَةَ: وَالْمَنْطُوحَةُ وَالْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ: مَا افْتَرَسَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ. وَلَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ مَا فُرِضَ أَنَّهُ أَكَلَهُ السَّبُعُ لَا وُجُودَ لَهُ فَيَحْرُمُ أَكْلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ بَعْضَهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْفَيَّاضُ، وَطَلْحَةُ بْنُ سَلْمَانَ، وَأَبُو حَيْوَةَ: السَّبْعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكِيلُ السَّبُعِ وَهُمَا بِمَعْنَى مَأْكُولِ السَّبُعِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ هُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي عُمُومِ قوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ «1» وَبِهَذَا صَارَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى مَعْلُومَيْنِ. إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وقتادة، وابراهيم، وطاووس، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْجُمْهُورُ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ أَيْ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَى وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ. فَمَا أَدْرَكَ مِنْهَا بِطَرْفٍ بَعْضٌ، أو بضرب بِرِجْلٍ، أَوْ يُحَرِّكُ ذَنَبًا. وَبِالْجُمْلَةِ مَا تُيُقِّنَتْ فِيهِ حَيَاةٌ ذُكِّيَ وَأُكِلَ. وَقَالَ بِهَذَا مَالِكٌ فِي قَوْلٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْمَدَنِيِّينَ: أَنَّ الذَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ هِيَ مَا لَمْ يُنْفَذْ مَقَاتِلُهَا وَيُتَحَقَّقْ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ، وَمَتَى صَارَتْ إِلَى ذَلِكَ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، لَكِنَّهُ خِلَافٌ فِي الْحَالِ الَّتِي يُؤْثَرُ فِيهَا الذَّكَاةُ فِي الْمَذْكُورَاتِ. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَالَ إِلَى مَشْهُورِ قَوْلِ مالك فإنه قال: إلا مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ وَهُوَ يَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْمَذْبُوحِ وَتَشْخُبُ وِدَاجُهُ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ مَا أَكَلَ السَّبُعُ وَمُخْتَصٌّ بِهِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا أَدْرَكْتُمْ فِيهِ حَيَاةً مِمَّا أَكَلَ السَّبُعُ فَذَكَّيْتُمُوهُ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ فَكُلُوهُ. وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ رَأَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ وُجِدَتْ فِيمَا مَاتَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، إِمَّا بِالْخَنْقِ، وَإِمَّا بِالْوَقْذِ، أَوِ التَّرَدِّي، أَوِ النَّطْحِ، أَوِ افْتِرَاسِ السَّبُعِ، وَوَصَلَتْ إِلَى حَدٍّ لا تعيش فيه بسب بِوَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى مذهب

_ (1) سورة المائدة: 5/ 1.

مَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ عَلَى الْمَأْكُولِ كَالذَّكَاةِ، وَأَنَّ الْمَيْتَةَ مَا مَاتَتْ بِوَجَعٍ دُونَ سَبَبٍ يُعْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ، يَقْتَضِي أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ كَالْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ الْمَذْبُوحَةِ مَيْتًا، إِذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَيَنْدَرِجُ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ أَكْلِهِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَنْبَطُوا مِنْهُ الْجَوَازَ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَا لَهُمْ. وَهُوَ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» الْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ مِثْلُ ذَكَاةِ أُمِّهِ فَكَمَا أَنَّ ذَكَاتَهَا الذَّبْحُ فَكَذَلِكَ ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ التَّرْكِيبُ ذَكَاةُ أُمِّ الْجَنِينِ ذَكَاتُهُ. وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُحِلُّونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَلَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، الصَّنَمُ مُصَوَّرٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَيَنْضَحُونَ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ، وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم فنزلت. وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَنَزَلَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا انْتَهَى. وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ فِي بِلَادِهَا أَنْصَابٌ حِجَارَةٌ يَعْبُدُونَهَا، وَيُحِلُّونَ عَلَيْهَا أَنْصَابَ مَكَّةَ، وَمِنْهَا الْحَجَرُ الْمُسَمَّى بِسَعْدٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ وَشَرَفِ الْمَوْضِعِ وَتَعْظِيمِ النُّفُوسِ لَهُ. وَقَدْ يُقَالُ لِلصَّنَمِ أَيْضًا: نُصُبٌ، لِأَنَّهُ يُنْصَبُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: بِضَمِّ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الصَّادِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِفَتْحَتَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَالْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الصَّادِ. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ: وَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ، وَهُوَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْقِسْمِ، وَهُوَ النَّصِيبُ أَوِ الْقَسْمُ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَاهُ أَنْ تَطْلُبُوا عَلَى مَا قُسِّمَ لَكُمْ بِالْأَزْلَامِ، أَوْ مَا لَمْ يُقَسَّمْ لَكُمْ انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ كِعَابُ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهَا سِهَامُ الْعَرَبِ، وَكِعَابُ فَارِسَ، وَقَالَ سُفْيَانُ وَوَكِيعٌ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ. وَقِيلَ: الْأَزْلَامُ حَصًى كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:

لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: وَأَزْلَامُ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا كُلُّ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ فِي أَحَدِهَا افْعَلْ وَفِي الْآخَرِ لَا تَفْعَلْ وَالثَّالِثُ غُفْلٌ فَيَجْعَلُهَا فِي خَرِيطَةٍ، فَإِذَا أَرَادَ فِعْلَ شَيْءٍ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْخَرِيطَةِ مُنْسَابَةً، وَائْتَمَرَ بِمَا خَرَجَ لَهُ مِنَ الْآمِرِ أَوِ النَّاهِي. وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الضَّرْبَ. وَالثَّانِي: سَبْعَةُ قداح كانت عندها فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فِي أَحَدِهَا الْعَقْلُ فِي أَمْرِ الدِّيَاتِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ فَيَضْرِبُ بِالسَّبْعَةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ قَدَحُ الْعَقْلِ لَزِمَهُ الْعَقْلُ، وَفِي آخَرَ تَصِحُّ، وَفِي آخَرَ لَا، فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبَ فَيَتَّبِعُ مَا يَخْرُجُ، وَفِي آخَرَ مِنْكُمْ، وَفِي آخَرَ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَفِي آخَرَ مُلْصَقٌ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي إِنْسَانٍ أَهْوَ مِنْهُمْ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ضَرَبُوا فَاتَّبَعُوا مَا خَرَجَ، وَفِي سَائِرِهَا لِأَحْكَامِ الْمِيَاهِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْفُرُوا لِطَلَبِ الْمِيَاهِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ، وَفِيهَا ذَلِكَ الْقِدَاحُ، فَحَيْثُ مَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ. وَهَذِهِ السَّبْعَةُ أَيْضًا مُتَّخَذَةٌ عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِ الْعَرَبِ وَحُكَّامِهِمْ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ عِنْدَ هُبَلَ. وَالثَّالِثُ: قِدَاحُ الْمَيْسِرِ وَهِيَ عَشَرَةٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَيْسِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ذلِكُمْ فِسْقٌ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الاستقسام خاصة، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ، وَإِلَى تَنَاوُلِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: حُرِّمَ عَلَيْهِمْ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَكَذَا وَكَذَا. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ كَانَ اسْتِقْسَامُ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ بِالْأَزْلَامِ لِيَعْرِفَ الْحَالَ فِسْقًا؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ دُخُولٌ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَقَالَ: لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «1» وَاعْتِقَادُ أَنَّ إِلَيْهِ طَرِيقًا وَإِلَى اسْتِنْبَاطِهِ. وَقَوْلُهُ: أَمَرَنِي رَبِّي وَنَهَانِي رَبِّي افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يُبْدِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَوْ نَهَاهُ الْكَهَنَةُ وَالْمُنَجِّمُونَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالرَّبِّ الصَّنَمَ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِلُّونَ بِهَا عِنْدَ أَصْنَامِهِمْ، وَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ انْتَهَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَنَهَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْكُهَّانُ وَالْمُنَجِّمُونَ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي الْمُغَيَّبَاتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ كَوْنُهَا يُؤْكَلُ بِهَا الْمَالُ بِالْبَاطِلِ، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا أَوْ يَنْكِحُوا أَوْ يَدْفِنُوا مَيِّتًا أَوْ شَكُّوا فِي نَسَبٍ، ذَهَبُوا إِلَى هُبَلَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَزُورٍ، فَالْمِائَةُ لِلضَّارِبِ بِالْقِدَاحِ، وَالْجَزُورُ يُنْحَرُ وَيُؤْكَلُ، وَيُسَمُّونَ صَاحِبَهُمْ وَيَقُولُونَ لِهُبَلَ: يَا إلهنا هذا

_ (1) سورة النمل: 27/ 65.

فُلَانٌ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا فَأَخْرِجِ الْحَقَّ فِيهِ، وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَمَا خَرَجَ عُمِلَ بِهِ، فَإِنْ خَرَجَ لَا أَخَّرُوهُ عَامَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، يَنْتَهُونَ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ إِلَى مَا خَرَجَتْ بِهِ الْقِدَاحُ. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَهُوَ يَوْمُ نُزُولِهَا بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْقِفِ عَلَى نَاقَتِهِ، وَلَيْسَ فِي الْمَوْقِفِ مُشْرِكٌ. وَقِيلَ: اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَنَادَى مُنَادِيهِ بِالْأَمَانِ لِمَنْ لَفَظَ بِشَهَادَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِمَنْ وَضَعَ السِّلَاحَ، وَلِمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يُرِدْ يَوْمًا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: الْآنَ يَئِسُوا، كَمَا تَقُولُ: أَنَا الْيَوْمَ قَدْ كَبِرْتُ انْتَهَى. وَاتَّبَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ الزَّجَّاجَ فَقَالَ: الْيَوْمَ لَمْ يُرِدْ بِهِ يَوْمًا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الزَّمَانَ الْحَاضِرَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَيُدَانِيهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، كَقَوْلِكَ: كُنْتَ بِالْأَمْسِ شائبا وَأَنْتَ الْيَوْمَ أَشْيَبُ، فَلَا يُرِيدُ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَلَا بِالْيَوْمِ يَوْمَكَ. وَنَحْوُهُ الْآنَ فِي قَوْلِهِ: الْآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِي ... وَعَضَضْتُ مِنْ نَابَى عَلَى جَدَمِ انْتَهَى. وَالَّذِينَ كَفَرُوا: مشركوا الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَطَاءٌ: أَيِسُوا مِنْ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظُهُورُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَظُهُورُ دينه، يقتضي أن يئس الْكُفَّارِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى دِينِهِمْ قَدْ كَانَ وَقَعَ مُنْذُ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا هَذَا الْيَأْسُ عِنْدِي مِنِ اضْمِحْلَالِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَفَسَادِ جَمْعِهِ، لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ كَانَ يَتَرَجَّاهُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي يَوْمِ هَوَازِنَ حِينَ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ فَظَنَّهَا هَزِيمَةً. أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَئِسُوا مِنْهُ أَنْ يُبْطِلُوهُ وَأَنْ يَرْجِعُوا مُحَلِّلِينَ لِهَذِهِ الْخَبَائِثِ بعد ما حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: يَئِسُوا مِنْ دِينِكُمْ أَنْ يَغْلِبُوهُ لِأَنَّ اللَّهَ وَفَّى بِوَعْدِهِ مِنْ إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَيِسَ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى دِينِكُمْ. وَقِيلَ: فَلَا تَخْشَوْا عَاقِبَتَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَشْيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَحْتَمِلُ الْيَوْمَ الْمَعَانِيَ الَّتِي قِيلَتْ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ.

قَالَ الْجُمْهُورُ: وَإِكْمَالُهُ هُوَ إِظْهَارُهُ، وَاسْتِيعَابُ عِظَمِ فَرَائِضِهِ، وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ كَآيَاتِ الرِّبَا، وَآيَةِ الْكَلَالَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَمُلَ مُعْظَمُ الدِّينِ، وَأَمْرُ الْحَجِّ، إِنْ حَجُّوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ مُشْرِكٌ. وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: كَفَيْتُكُمْ أَمْرَ عَدُوِّكُمْ، وَجَعَلْتُ الْيَدَ الْعُلْيَا لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ الْمُلُوكُ: الْيَوْمَ كَمُلَ لَنَا الْمُلْكُ وَكَمُلَ لَنَا مَا نُرِيدُ إِذَا كُفُوا مَنْ يُنَازِعُهُمُ الْمُلْكَ، وَوَصَلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمْ وَمَبَاغِيهِمْ. أَوْ أَكْمَلْتُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الشَّرَائِعِ، وَقَوَانِينِ الْقِيَاسِ، وَأُصُولِ الِاجْتِهَادِ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ: قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ قالا: إكمال فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ شَرَائِعَ دِينِكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: كما له أَنْ يَنْفِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَحُجَّ مُشْرِكٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَمَالُ الدِّينِ هُوَ عِزُّهُ وَظُهُورُهُ، وَذُلُّ الشِّرْكِ وَدُرُوسُهُ، لَا تَكَامُلُ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَنْزِلُ إِلَى أَنْ قبض. وقيل: إكماله إلا من مِنْ نَسْخِهِ بَعْدَهُ كَمَا نُسِخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: الدِّينُ مَا كَانَ نَاقِصًا الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَتِ الشَّرَائِعُ تَنْزِلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ بِأَنَّ مَا هُوَ كَامِلٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي الْغَدِ، وَكَانَ يَنْسَخُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَيَزِيدُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَمَّا فِي آخِرِ زَمَانِ الْمَبْعَثِ فَأَنْزَلَ شَرِيعَةً كَامِلَةً، وَأَحْكَمَ ثَبَاتَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكَ؟» فَقَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةِ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقْتَ» . وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أَيْ فِي ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَكَمَالِ الدِّينِ، وَسِعَةِ الْأَحْوَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا انْتَظَمَتْهُ هَذِهِ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ، إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْخُلُودِ، وَحَسَّنَ الْعِبَارَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: بِفَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِهَا آمِنِينَ ظَاهِرِينَ، وَهَدْمِ مَنَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنَاسِكِهِمْ، وَأَنْ لَمْ يَحُجَّ مُشْرِكٌ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ انْتَهَى. فَكَلَامُهُ مَجْمُوعُ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جبير، وَقَتَادَةُ: إِتْمَامُ النِّعْمَةِ مَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْإِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِإِكْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ وَالشَّرَائِعِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَتَمَّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يَعْنِي: اخْتَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ، وَأَذِنْتُكُمْ بِأَنَّهُ هُوَ

[سورة المائدة (5) : الآيات 4 إلى 6]

الدِّينُ الْمَرْضِيُّ وَحْدَهُ «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» «1» «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً» «2» قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية الرضا في: هَذَا الْمَوْضِعُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ فِعْلٍ عِبَارَةً عَنْ إِظْهَارِ اللَّهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ الرِّضَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ الْإِسْلَامَ وَأَرَادَهُ لَنَا، وَثَمَّ أَشْيَاءُ يُرِيدُ اللَّهُ وُقُوعَهَا وَلَا يَرْضَاهَا. وَالْإِسْلَامُ هُنَا هُوَ الدِّينُ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «3» انْتَهَى وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّضَا إِذَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَهُوَ صِفَةٌ تُغَايِرُ الْإِرَادَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَعْلَمْتُكُمْ بِرِضَائِي بِهِ لَكُمْ دِينًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ رَاضِيًا بِالْإِسْلَامِ لَنَا دِينًا، فَلَا يَكُونُ الاختصاص الرِّضَا بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَائِدَةٌ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: رَضِيتُ عَنْكُمْ إِذَا تَعَبَّدْتُمْ لِي بِالدِّينِ الَّذِي شَرَعْتُهُ لَكُمْ. وَقِيلَ: رَضِيتُ إِسْلَامَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ دِينًا كَامِلًا إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ لَا يُنْسَخُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَذَلِكُمْ فِسْقٌ أَكَّدَهُ بِهِ وَبِمَا بَعْدَهُ يَعْنِي التَّحْرِيمَ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنْ جُمْلَةِ الدِّينِ الْكَامِلِ وَالنِّعَمِ التَّامَّةِ، وَالْإِسْلَامِ الْمَنْعُوتِ بِالرِّضَا دُونَ غَيْرِهِ من الملك. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: فَمَنِ اطَّرَّ بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ. وَمَعْنَى مُتَجَانِفٍ: مُنْحَرِفٌ وَمَائِلٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُتَجَانِفٍ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: مُتَجَنِّفٍ دُونَ أَلْفٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى مِنْ مُتَجَانِفٍ، وَتَفَاعَلَ إِنَّمَا هُوَ مُحَاكَاةُ الشَّيْءِ وَالتَّقَرُّبُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَمَايَلَ الْغُصْنُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأَوُّدًا وَمُقَارَبَةَ مَيْلٍ، وَإِذَا قُلْتَ: تَمَيَّلَ، فَقَدْ ثَبَتَ الْمَيْلُ. وَكَذَلِكَ تَصَاوَنَ الرَّجُلُ وَتَصَوَّنَ وَتَغَافَلَ وَتَغَفَّلَ انْتَهَى. وَالْإِثْمُ هُنَا قِيلَ: أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ. وَقِيلَ: الْعِصْيَانُ بِالسَّفَرِ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ هُنَا الْحَرَامُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: مَا تَجَانَفْنَا فِيهِ لِإِثْمٍ، ولا تعهدنا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ. أَيْ: مَا ملنا فيه لحرام. [سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 6] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 85. [.....] (2) سورة الأنبياء: 21/ 92. (3) سورة آل عمران: 3/ 19.

الْجَوَارِحُ: الْكَوَاسِبُ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ، كَالْكَلْبِ وَالْفَهِدِ وَالنَّمِرِ وَالْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَالْبَازِ وَالشَّاهِينِ. وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَجْرَحُ مَا تَصِيدُ غَالِبًا، أَوْ لِأَنَّهَا تَكْتَسِبُ، يُقَالُ امْرَأَةٌ: لَا جَارِحَ لَهَا، أَيْ لَا كَاسِبَ. وَمِنْهُ: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ «1» أَيْ مَا كَسَبْتُمْ. وَيُقَالُ: جَرَحَ وَاجْتَرَحَ بِمَعْنَى اكْتَسَبَ. الْمُكَلِّبُ بِالتَّشْدِيدِ: مُعَلِّمُ الْكِلَابِ وَمُضَرِّيهَا عَلَى الصَّيْدِ، وَبِالتَّخْفِيفِ صَاحِبُ كِلَابٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: رَجُلٌ مُكَلِّبٌ وَمُكَلَّبٌ وَكَلَّابٌ صَاحِبُ كِلَابٍ. الْغُسْلُ فِي اللُّغَةِ: إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْمَغْسُولِ مَعَ إِمْرَارِ شَيْءٍ عَلَيْهِ كَالْيَدِ وَنَحْوِهَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ: فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا الْمِرْفَقُ: الْمِفْصَلُ بَيْنَ الْمِعْصَمِ وَالْعَضُدِ، وفتح الميم وكسر الراء أَشْهَرُ. الرِّجْلُ: مَعْرُوفَةٌ، وَجُمِعَتْ عَلَى أَفْعُلٍ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَالْكَعْبُ: هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي وَجْهِ الْقَدَمِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ شِرَاكُ النَّعْلِ. الْحَرَجُ: الضِّيقُ، وَالْحَرَجُ النَّاقَةُ الضامر، والحرج النعش.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 60.

يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا قَالَ: عِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، سُؤَالُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ خَيْثَمَةَ وَعُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ. مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْكِلَابِ؟ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ أَمَرَ الرَّسُولُ بِقَتْلِهَا فَقُتِلَتْ حَتَّى بَلَغَتِ الْعَوَاصِمَ لِقَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ» وَفِي صَحِيحِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ. قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ» ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُحِلَّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَصِيدُ بِالْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ، وَإِنَّ كِلَابَ آلِ دِرْعٍ وَآلَ أَبِي حُورِيَّةَ لَتَأْخُذُ الْبَقَرَ وَالْحُمُرَ وَالظِّبَاءَ وَالضَّبَّ، فَمِنْهُ مَا نُدْرِكُ ذَكَاتَهُ، وَمِنْهُ مَا يُقْتَلُ فَلَا نُدْرِكُ ذَكَاتَهُ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَنَزَلَتْ. وَعَلَى اعْتِبَارِ السَّبَبِ يَكُونُ الْجَوَابُ أَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ خَاصٍّ مِنَ الْمَطْعَمِ، فَأُجِيبُوا بِمَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَبِشَيْءٍ عَامٍّ فِي الْمَطْعَمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا، وذا خَبَرًا. أَيْ: مَا الَّذِي أُحِلَّ لَهُمْ؟ وَالْجُمْلَةُ إِذْ ذَاكَ صِلَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا حَرَّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَبَائِثِ، سَأَلُوا عَمَّا يَحِلُّ لَهُمْ؟ وَلَمَّا كَانَ يَسْأَلُونَكَ الْفَاعِلُ فِيهِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ قَالَ لَهُمْ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ مَاذَا أُحِلَّ لَنَا، كَمَا تَقُولُ: أَقْسَمَ زَيْدٌ لَيَضْرِبَنِّ وَلَأَضْرِبَنَّ، وَضَمِيرُ التَّكَلُّمِ يَقْتَضِي حِكَايَةَ مَا قَالُوا كَمَا لَأَضْرِبَنَّ يَقْتَضِي حِكَايَةَ الْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَقُولُونَ: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا ذَكَرَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ كَقَوْلِهِ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ، فَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي ليسألونك. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ فِعْلَ السُّؤَالِ يُعَلَّقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، فَكَمَا تَعَلَّقَ الْعِلْمُ فَكَذَلِكَ سَبَبُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَوْ كَانَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ لَكَانُوا قَدْ قَالُوا: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: مَاذَا أُحِلَّ لَنَا. بَلِ الصَّحِيحُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ حِكَايَةَ كَلَامِهِمْ بِعِبَارَتِهِمْ، بَلْ هُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ انْتَهَى. قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ لَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ، بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَرَّرَ هُنَا أَنَّ الَّذِي أُحِلَّ هِيَ الطَّيِّبَاتُ.

وَيُقَوِّي قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمَعْنَى الْمُسْتَلَذَّاتُ، وَيُضَعَّفُ أَنَّ الْمَعْنَى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الْمُحَلَّلَاتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «1» كالخنافس والوزع وَغَيْرِهِمَا. وَالطَّيِّبُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يُسْتَعْمَلُ لِلْحَلَالِ وَلِلْمُسْتَلَذِّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِلْذَاذِ وَالِاسْتِطَابَةِ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ والأخلاق الجميلة، كان بَعْضَ النَّاسِ يَسْتَطِيبُ أَكْلَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ فِعْلِيَّةً، فَهِيَ جَوَابٌ لِمَا سَأَلُوا عَنْهُ فِي الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ السَّابِقَةَ وَهِيَ: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ اسْمِيَّةٌ، وَهَذِهِ فِعْلِيَّةٌ. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ظَاهِرُ عَلَّمْتُمْ يُخَالِفُ ظَاهِرَ اسْتِئْنَافِ مُكَلِّبِينَ، فَغَلَّبَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ ظَاهِرَ لَفْظِ مُكَلِّبِينَ فَقَالُوا: الْجَوَارِحُ هِيَ الْكِلَابُ خَاصَّةً. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُصْطَادُ بِالْكِلَابِ. وَقَالَ هُوَ وَأَبُو جَعْفَرٍ: مَا صِيدَ بِغَيْرِهَا مِنْ بَازٍ وَصَقْرٍ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَحِلُّ، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ فَتُذَكِّيَهُ. وَجَوَّزَ قَوْمٌ الْبُزَاةَ، فَجَوَّزُوا صَيْدَهَا لِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ. وَغَلَّبَ الْجُمْهُورُ ظَاهِرَ: وَمَا عَلَّمْتُمْ، وَقَالُوا: مَعْنَى مُكَلِّبِينَ مُؤَدِّبِينَ وَمُضْرِينَ وَمُعَوِّدِينَ، وَعَمَّمُوا الْجَوَارِحَ فِي كَوَاسِرِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ مِمَّا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ. وَأَقْصَى غَايَةِ التَّعْلِيمِ أَنْ يُشْلَى فَيَسْتَشْلِيَ، وَيُدْعَى فَيُجِيبَ، وَيُزْجَرَ بَعْدَ الظَّفْرِ فَيَنْزَجِرَ، وَيَمْتَنِعَ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الصَّيْدِ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكِّدَةً لِقَوْلِهِ: عَلَّمْتُمْ، فَكَانَ يُسْتَغْنَى عَنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ مَؤْتَمِرًا بِالتَّعْلِيمِ حَاذِقًا فِيهِ مَوْصُوفًا بِهِ، وَاشْتُقَّتْ هَذِهِ الْحَالُ مِنَ الْكَلْبِ وَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ غَايَةً فِي الْجَوَارِحِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ التَّأْدِيبَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْكِلَابِ، فَاشْتُقَّتْ مِنْ لَفْظِهِ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ فِي جِنْسِهِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَإِنَّمَا قِيلَ مُكَلِّبِينَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ صَيْدِهِمْ أَنْ يَكُونَ بِالْكِلَابِ انْتَهَى. وَاشْتُقَّتْ مِنَ الْكَلَبِ وَهِيَ الضَّرَاوَةُ يُقَالُ: هُوَ كَلِبٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ ضَارِيًا بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ لِأَنَّ السَّبُعَ يُسَمَّى كَلْبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ» فَأَكَلَهُ الْأَسَدُ ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاشْتِقَاقُ، لِأَنَّ كَوْنَ الْأَسَدِ كَلْبًا هُوَ وَصْفٌ فِيهِ، وَالتَّكْلِيبُ مِنْ صِفَةِ الْمُعَلِّمِ، وَالْجَوَارِحُ هِيَ سِبَاعٌ بِنَفْسِهَا لَا بِجَعْلِ الْمُعَلِّمِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ، أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَلَوْ كَانَ الْمُعَلِّمُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَكَرِهَ الصَّيْدَ بِهِ الْحَسَنُ، أَوْ مَجُوسِيًّا فَكَرِهَ الصَّيْدَ بِهِ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، ومجاهد، والنخعي،

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 157.

وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَأَجَازَ أَكْلَ صَيْدِ كِلَابِهِمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ إِذَا كَانَ الصَّائِدُ مُسْلِمًا. قَالُوا: وَذَلِكَ مِثْلُ شَفْرَتِهِ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى جَوَازِ مَا صَادَ الْكِتَابِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ فَرْقٌ بَيْنَ صَيْدِهِ وَذَبِيحَتِهِ. وَمَا صَادَ الْمَجُوسِيُّ فَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ أَكْلِهِ: عَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: فِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وأن صيدهم جائز، وما علمتم مَوْضِعُ مَا رَفْعٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّيِّبَاتِ، وَيَكُونُ حَذْفَ مُضَافٍ أَيْ: وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: وَاتِّخَاذُ مَا عَلَّمْتُمْ. أَوْ رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وما شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: فَكُلُوا. وَهَذَا أَجْوَدُ، لِأَنَّهُ لَا إِضْمَارَ فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةَ: وَمَا عُلِّمْتُمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: مِنْ أَمْرِ الْجَوَارِحِ وَالصَّيْدِ بِهَا. وَقَرَأَ: مُكْلِبِينَ مِنْ أَكْلَبَ، وَفَعَّلَ وَأَفْعَلَ، قَدْ يَشْتَرِكَانِ. وَالظَّاهِرُ دُخُولُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ فِي عُمُومِ الْجَوَارِحِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ صَيْدِهِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وجماعة من أهل الظاهر: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ صَيْدِهِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ، وَمَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ قَتْلَهُ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُ صَيْدِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ إِذَا كَانَ بَهِيمًا وَبِهِ قَالَ: ابْنُ رَاهَوَيْهِ. وَكَرِهَ الصَّيْدَ بِهِ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَقْصَى غَايَةِ التَّعْلِيمِ فِي الْكَلْبِ، أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ ائْتَمَرَ، وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ. وَزَادَ قَوْمٌ شَرْطًا آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِمَّا صَادَ، فَأَمَّا سِبَاعُ الطَّيْرِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَكْلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: مَا أَجَابَ مِنْهَا فَهُوَ الْمُعَلَّمُ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إِلَّا شَرْطٌ وَاحِدٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْ، فَإِنَّ انْزِجَارَهَا إِذَا زُجِرَتْ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ، حُصُولُ التَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عَدَدٍ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يجد فِي ذَلِكَ عَدَدًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا صَادَ الْكَلْبُ وَأَمْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ التَّعْلِيمُ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ صَارَ مُعَلَّمًا. تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أَيْ: إِنَّ تَعْلِيمَكُمْ إِيَّاهُنَّ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنْ جَعْلَ لَكُمْ رَوِيَّةً وَفِكْرًا بِحَيْثُ قَبِلْتُمُ العلم. فكذلك الجوارح بصبر لَهَا إِدْرَاكٌ مَا وَشُعُورٌ، بِحَيْثُ يَقْبَلْنَ الِائْتِمَارَ وَالِانْزِجَارَ. وَفِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، إِشْعَارٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِهِ، إِذْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الامتنان. ومفعول علم وتعلمونهنّ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَا عَلَّمْتُمُوهُ طَلَبَ الصَّيْدِ لَكُمْ لَا لِأَنْفُسِهِنَّ تُعَلِّمُونَهُنَّ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ صَيْدَ مَا لَمْ يُعَلَّمْ حَرَامٌ أَكْلُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَبَاحَ ذَلِكَ بِشَرْطِ التَّعْلِيمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْخِطَابِ فِي عَلَيْكُمْ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا

أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ إِنَّمَا يَمْسِكُ لِنَفْسِهِ. وَمَعْنَى مما علمكم الله أي: مِنَ الْأَدَبِ الَّذِي أَدَّبَكُمْ بِهِ تَعَالَى، وَهُوَ اتِّبَاعُ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، فَإِذَا أُمِرَ فَائْتَمَرَ، وَإِذَا زُجِرَ فَانْزَجَرَ، فَقَدْ تَعَلَّمَ مِمَّا عَلَّمَنَا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنْ كَلِمِ التَّكْلِيفِ، لِأَنَّهُ إِلْهَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُكْتَسَبٌ بِالْعَقْلِ انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تُعَلِّمُونَهُنَّ، حَالٌ ثَانِيَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ لَا تَكُونَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ، شَرْطِيَّةً، إِلَّا إِنْ كَانَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ. وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: وَفِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ آخِذٍ عِلْمًا أَنْ لَا يَأْخُذَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ أَهْلِهِ عِلْمًا وَأَبْحَرِهِمْ دِرَايَةً، وَأَغْوَصِهِمْ عَلَى لَطَائِفِهِ وَحَقَائِقِهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ تُضْرَبَ إِلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ، فَكَمْ مِنْ آخِذٍ مِنْ غَيْرِ مُتْقِنٍ فَقَدْ ضَيَّعَ أَيَّامَهُ وَعَضَّ عِنْدَ لِقَاءِ النَّحَارِيرِ أَنَامِلَهُ. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ هذا أمر إباحة. ومن هُنَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْمَعْنَى: كُلُوا مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَلَى مُرْسِلِهِ جَازَ الْأَكْلُ سَوَاءٌ أَكَلَ الْجَارِحُ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ، وَبِهِ قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ. وَلَوْ بَقِيَتْ بِضْعَةٌ بَعْدَ أَكْلِهِ جَازَ أَكْلُهَا وَمِنْ حُجَّتِهِمْ: أَنَّ قَتْلَهُ هِيَ ذَكَاتُهُ، فَلَا يَحْرُمُ مَا ذَكَّى. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنْ أَكْلِ الْكَلْبِ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُمْسِكْ عَلَى مُرْسِلِهِ. وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ «وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ: «إِذَا أَكَلَ الْبَازِي فَلَا تأكل» وفرق قوم مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ فَمَنَعُوا مِنْ أَكْلِهِ، وَبَيْنَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي، فَرَخَّصُوا فِي أَكْلِهِ مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، لِأَنَّ الْكَلْبَ إِذَا ضُرِبَ انْتَهَى، وَالْبَازِيَ لَا يُضْرَبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَارِحَ إِذَا شَرِبَ مِنَ الدَّمِ أُكِلَ الصَّيْدَ، وَكَرِهَ ذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا انْفَلَتَ مِنْ صَاحِبِهِ فَصَادَ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ مَا صَادَ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ لِلصَّيْدِ جَازَ أَكْلُ مَا صَادَ. وَمِمَّنْ مَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ إِذَا صَادَ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالِ صَاحِبِهِ: رَبِيعَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالظَّاهِرُ جَوَازُ أَكْلِ مَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ بِفَمِهِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ لِعُمُومِ مِمَّا أَمْسَكْنَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ.

وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَكُلُوا، أَيْ عَلَى الْأَكْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَا أَمْسَكْنَ، عَلَى مَعْنَى: وَسَمُّوا عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: على ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ أَيْ: سَمُّوا عَلَيْهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ لِقَوْلِهِ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ» وَاخْتَلَفُوا فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ: أَهِيَ عَلَى الْوُجُوبِ؟ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهَا بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَأَنَّ الْأَصْلَ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ لِضَعْفِهِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا حَرَّمَ وَأَحَلَّ مِنَ الْمَطَاعِمِ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ التَّقْوَى بِهَا يُمْسِكُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْحَرَامِ. وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِأَنَّهُ تَعَالَى سَرِيعُ الْحِسَابِ لِمَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَقْوَاهُ، فَهُوَ وَعِيدٌ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ حِسَابَهُ تَعَالَى إِيَّاكُمْ سَرِيعٌ إِتْيَانُهُ، إِذْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ. أَوْ يُرَادُ بِالْحِسَابِ الْمُجَازَاةُ، فَتَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يَتَّقِ بِمُجَازَاةٍ سَرِيعَةٍ قَرِيبَةٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُحِيطًا بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَحْتَاجُ فِي الْحِسَابِ إِلَى مُجَادَلَةِ عَدٍّ، بَلْ يُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ دُفْعَةً وَاحِدَةً. الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فَائِدَةُ إِعَادَةِ ذِكْرِ إِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ التَّنْبِيهُ بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهَا إِحْلَالُ الطَّيِّبَاتِ كَمَا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1» عَلَى إِتْمَامِ النِّعْمَةِ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْيَوْمَ وَاحِدٌ قَالَ: كَرَّرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْكِيدًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَوْقَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي الثَّلَاثَةِ: إِنَّهَا أَوْقَاتٌ أُرِيدَ بِهَا مُجَرَّدُ الْوَقْتِ، لَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هُنَا هِيَ الطَّيِّبَاتُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلُ. وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ طَعَامُهُمْ هُنَا هِيَ الذَّبَائِحُ كَذَا قَالَ مُعْظَمُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. قَالُوا: لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَوْعِ الْبُرِّ وَالْخُبْزِ وَالْفَاكِهَةِ وَمَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذَكَاةٍ لَا يُخْتَلَفُ فِي حِلِّهَا بِاخْتِلَافِ حَالِ أَحَدٍ، لِأَنَّهَا لَا تُحَرَّمُ بوجه سواء كان المباشرة لَهَا كِتَابِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَنَّهَا لَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذَا فِي بَيَانِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ فَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الذَّبَائِحِ أَوْلَى. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ المراد بقوله:

_ (1) سورة المائدة: 5/ 3.

وَطَعَامُ، جَمِيعُ مَطَاعِمِهِمْ. وَيُعْزَى إِلَى قَوْمٍ وَمِنْهُمْ بَعْضُ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ حَمْلُ الطَّعَامِ هُنَا عَلَى مَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الذَّكَاةِ كَالْخُبْزِ وَالْفَاكِهَةِ، وَبِهِ قَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ. قَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ حَرَامٌ، وَذَبَائِحُهُمْ وَطَعَامُهُمْ وَطَعَامُ مَنْ يُقْطَعُ بِكُفْرِهِ. وَإِذَا حَمَلْنَا الطَّعَامَ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الذَّبَائِحِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، أَيَحِلُّ لَنَا أَمْ يَحْرُمُ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ تَذْكِيَةَ الذِّمِّيِّ مُؤَثِّرَةٌ فِي كُلِّ الذَّبِيحَةِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا وَمَا حَلَّ، فَيَجُوزُ لَنَا أَكْلُهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيمَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَحِلُّ لَنَا أَكْلُهُ كَالشُّحُومِ الْمَحْضَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَهَذَا الْمُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ. وَهَذَا الْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالظَّاهِرُ حِلُّ طَعَامِهِمْ سَوَاءٌ سَمَّوْا عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ، أَمِ اسْمَ غَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ: عَطَاءٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ بَحْصَرَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَكْحُولٌ، وَاللَّيْثُ، وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكِتَابِيَّ إِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَذَكَرَ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ تُؤْكَلْ وَبِهِ قَالَ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ. وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ أَكْلَ مَا ذُبِحَ وَأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: «أُوتُوا الْكِتَابَ» أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، دُونَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ، فَلَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ لَنَا كَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَبَائِحِهِمْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَالْحَكَمُ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالنَّصَارَى وَمَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ فِي حِلِّ أَكْلِ ذَبِيحَتِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ لَا تَحِلُّ لَنَا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَبُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ يُقَالُ: رزادشت لَا يَصِحُّ. وَقَدْ أَجَازَ قَوْمٌ أَكْلَ ذَبِيحَتِهِمْ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مَرِيضًا فَأَمَرَ الْمَجُوسِيَّ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ وَيَذْبَحَ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَإِنْ أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا بَأْسَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَبِيحَةَ الصَّابِئِ لَا يَجُوزُ لَنَا أَكْلُهَا، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: هُمْ صنفان، صنف يقرأون الزَّبُورَ وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَصِنْفٌ لا يقرأون كِتَابًا وَيَعْبُدُونَ النُّجُومَ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ: ذَبَائِحُكُمْ وَهَذِهِ رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ. لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي أَنْ شَيْئًا شُرِعَتْ لَنَا فِيهِ التَّذْكِيَةُ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَحْمِيَهُ مِنْهُمْ، فَرُخِّصَ لَنَا فِي ذَلِكَ رَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ بِحَسَبِ التَّجَاوُزِ، فَلَا عَلَيْنَا بَأْسٌ أَنْ نُطْعِمَهُمْ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ طَعَامُ الْمُؤْمِنِينَ، لَمَا سَاغَ لِلْمُؤْمِنِينَ إِطْعَامُهُمْ. وَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَحَلَّ لَكُمْ أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَأَحَلَّ لَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ طَعَامِكُمْ، وَالْحِلُّ الْحَلَّالُ وَيُقَالُ فِي الْإِتْبَاعِ هَذَا حِلٌّ بِلٌّ. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَالْمَعْنَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ نِكَاحُ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْإِحْصَانُ أن يَكُونَ بِالْإِسْلَامِ وَبِالتَّزْوِيجِ، وَيَمْتَنِعَانِ هُنَا، وَبِالْحَرِيَّةِ وَبِالْعِفَّةِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَجَمَاعَةٌ: الْإِحْصَانُ هُنَا الْحُرِّيَّةُ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ، وَسُفْيَانُ، الْإِحْصَانُ هُنَا الْعِفَّةُ، فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ. وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِ الْعَفِيفَةِ بِهَذَا الْمَفْهُومِ الثَّانِي. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا اطَّلَعَ الْإِنْسَانُ مِنِ امْرَأَتِهِ عَلَى فَاحِشَةٍ فَلْيُفَارِقْهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يَحْرُمُ الْبَغَايَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إِحْصَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ أَنْ لَا تَزْنِيَ، وَأَنْ تَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: رَخَّصَ فِي التَّزْوِيجِ بِالْكِتَابِيَّةِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمُسْلِمَاتِ قِلَّةٌ، فَأَمَّا الْآنَ فَفِيهِنَّ الْكَثْرَةُ، فَزَالَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِنَّ. وَالرُّخْصَةُ فِي تَزْوِيجِهِنَّ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: اقْرَأْ آيَةَ التَّحْلِيلِ يُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَآيَةَ التَّحْرِيمِ يُشِيرُ إِلَى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَايِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ عَلَى نِسَائِهِ، وَتَزَوَّجَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَهُودِيَّةً مِنَ الشَّامِ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ يَهُودِيَّةً. (فَإِنْ قُلْتَ) : يَكُونُ ثَمَّ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَالْمُحْصَنَاتُ اللَّاتِي كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ فَأَسْلَمْنَ، وَيَكُونُ قَدْ وَصَفَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِاعْتِبَارِ مَا كُنَّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ «2» . وقال:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 221. (2) سورة البقرة: 2/ 199.

مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ «1» ثُمَّ قَالَ بَعْدُ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «2» (قُلْتُ) : إِطْلَاقُ لَفْظِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى مُسْلِمٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ. فَأَمَّا الْآيَتَانِ فَأُطْلِقَ الِاسْمُ مُقَيَّدًا بِذِكْرِ الْإِيمَانِ فِيهِمَا، وَلَا يُوجَدُ مُطْلَقًا فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ، إِلَّا وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، فَانْتَظَمَ ذَلِكَ سَائِرَ الْمُؤْمِنَاتِ مِمَّنْ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، عَلَى الْكِتَابِيَّاتِ اللَّاتِي لَمْ يُسْلِمْنَ وَإِلَّا زَالَتْ فَائِدَتُهُ، إِذْ قَدِ انْدَرَجْنَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ. وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «3» أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَعَامَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلِ الْمُرَادُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ. (فَإِنْ قِيلَ) : يَتَعَلَّقُ فِي تَحْرِيمِ الْكِتَابِيَّاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «4» (قِيلَ) : هَذَا فِي الْحَرْبِيَّةِ إِذَا خَرَجَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا، أَوِ الْحَرْبِيُّ تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا «5» وَلَوْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ لَكَانَ مَخْصُوصًا بِقَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُ نِكَاحِ الْحَرْبِيَّةِ الْكِتَابِيَّةِ لِانْدِرَاجِهَا فِي عُمُومِ. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَخَصَّ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْعُمُومَ بِالذِّمِّيَّةِ، فَأَجَازَ نِكَاحَ الذِّمِّيَّةِ دُونَ الْحَرْبِيَّةِ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ وَهُمْ صاغِرُونَ «6» وَلَمْ يُفَرِّقْ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْحَرْبِيَّاتِ وَالذِّمِّيَّاتِ. وَأَمَّا نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَمَنَعَ نِكَاحَ نِسَائِهِنَّ عَلِيٌّ وَإِبْرَاهِيمُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ. وَانْتَزَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ زَوْجٌ بِزَوْجَتِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْذُلَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ مَا يَسْتَحِلُّهَا بِهِ، وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَدْخُلَ دُونَ بَذْلِ ذَلِكَ رَأَى أَنَّهُ مُحْكَمُ الِالْتِزَامِ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَى. وَفِي ظَاهِرِ قَوْلِهِ: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِمَاءَ الْكِتَابِيَّاتِ لَسْنَ مُنْدَرِجَاتٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ، فَيُقَوِّي أن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 113 (2) سورة آل عمران: 3/ 114 (3) سورة المائدة: 5/ 5. (4) سورة الممتحنة: 60/ 10. (5) سورة الممتحنة: 60/ 10. (6) سورة التوبة: 29.

يُرَادَ بِهِ الْحَرَائِرُ، إِذِ الْإِمَاءُ لَا يُعْطَوْنَ أُجُورَهُنَّ، وَإِنَّمَا يُعْطَى السَّيِّدُ. إِلَّا أن يجوز فجعل إِعْطَاءَ السَّيِّدِ إِعْطَاءً لَهُنَّ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الصَّدَاقِ لَا يَتَقَدَّرُ، إِذْ سَمَّاهُ أَجْرًا، وَالْأَجْرُ فِي الْإِجَارَاتِ لَا يَتَقَدَّرُ. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ تَقَدَّمَ تفسيره نَظِيرِهِ فِي النِّسَاءِ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْخَصَ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ قُلْنَ بَيْنَهُنَّ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ رَضِيَ دِينَنَا وَقَبِلَ عَمَلَنَا لَمْ يُبِحْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَزْوِيجَنَا، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيمَا أَحْصَنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ نِكَاحِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ: لَيْسَ إِحْصَانُ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُنَّ بِالَّذِي يُخْرِجُهُنَّ مِنَ الْكُفْرِ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ فَرَائِضَ وَأَحْكَامًا يَلْزَمُ الْقِيَامُ بِهَا، أَنْزَلَ مَا يَقْتَضِي الْوَعِيدَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا لِيَحْصُلَ تَأْكِيدُ الزَّجْرِ عَنْ تَضْيِيعِهَا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: مَا مَعْنَاهُ، لَمَّا حَصَلَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَضِيلَةُ مُنَاكَحَةِ نِسَائِهِمْ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ، مِنَ الْفَرْقِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ مَنْ كَفَرَ حَبِطَ عَمَلُهُ انْتَهَى. وَالْكُفْرُ بِالْإِيمَانِ لَا يُتَصَوَّرُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: أَيْ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ. وَحَسَّنَ هَذَا الْمَجَازَ أَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْإِيمَانِ وَخَالِقُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، جَعَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ إِيمَانًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ، أَيْ بِالْمُنَزَّلِ فِي الْقُرْآنِ، فَسُمِّيَ الْقُرْآنُ إِيمَانًا لِأَنَّهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِيمَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ مَنْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، أَوْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَعَرَّفَهُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ فَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ أَيْ: بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ وَحَرَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: إِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ الْكِتَابِيَّاتِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يعجبه حسنهن، فحذر نكاحهن مِنَ الْمَيْلِ إِلَى دِينِهِنَّ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. وَقَرَأَ ابن السميفع: حَبَطَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ حُبُوطُ عَمَلِهِ وَخُسْرَانُهُ. فِي الْآخِرَةِ مَشْرُوطٌ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ فَقَدَتِ الْعِقْدَ بِسَبَبِ فَقْدِ الْمَاءِ وَمَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ، وَكَانَ الْوُضُوءُ مُتَعَذِّرًا عندهم، وإنما؟؟؟

الْمُرَيْسِيعِ وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَفِيهَا كَانَ هُبُوبُ الرِّيحِ وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَحَدِيثُ الْإِفْكِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ الْفَغْوِ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ رُخْصَةً لِلرَّسُولِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا عَلَى وُضُوءٍ، وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدًا وَلَا يَرُدُّ سَلَامًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوُضُوءَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا افْتَتَحَ بِالْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْعُهُودِ، وَذَكَرَ تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَنْكَحِ وَاسْتَقْصَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَطْعَمُ آكَدَ مِنَ الْمَنْكَحِ وَقَدَّمَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ النَّوْعَانِ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا الْجِسْمِيَّةِ وَمُهِمَّاتِهَا لِلْإِنْسَانِ وَهِيَ مُعَامَلَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، اسْتَطْرَدَ مِنْهَا إِلَى الْمُعَامَلَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ الصَّلَاةُ، وَالصَّلَاةُ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، بَدَأَ بِالطَّهَارَةِ وَشَرَائِطِ الْوُضُوءِ، وَذَكَرَ الْبَدَلَ عَنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ. وَلَمَّا كَانَتْ مُحَاوَلَةُ الصَّلَاةِ فِي الْأَغْلَبِ إِنَّمَا هِيَ بِقِيَامٍ، جَاءَتِ الْعِبَارَةُ: إِذَا قُمْتُمْ أَيْ: إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ. وَعَبَّرَ عَنْ إِرَادَةِ الْقِيَامِ بِالْقِيَامِ، إِذِ الْقِيَامُ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الْإِرَادَةِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِمْ: الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِبْصَارِ، وَقَوْلُهُ: نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ «1» أَيْ قَادِرِينَ عَلَى الْإِعَادَةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ «2» أَيْ إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ مُتَسَبِّبًا عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ أُقِيمَ الْمُسَبَّبُ مَقَامَ السَّبَبِ. وَقِيلَ: مَعْنَى قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، قَصَدْتُمُوهَا، لِأَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَى شَيْءٍ وَقَامَ إِلَيْهِ كَانَ قَاصِدًا لَهُ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقَصْدِ لَهُ بِالْقِيَامِ إِلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مُتَطَهِّرًا كَانَ أَوْ مُحْدِثًا، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: دَاوُدُ. وَرُوِيَ فِعْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وعكرمة. وقال ابن شيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ مَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ إِلَّا عَلَى الْمُحْدِثِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «3» وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ مُحْدِثِينَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ، وَامْسَحُوا هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ. وَإِنْ كُنْتُمْ مُحْدِثِينَ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ فَاغْسِلُوا جَمِيعَ الْجَسَدِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ: السُّدِّيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِذَا قُمْتُمْ مِنَ الْمَضَاجِعِ يَعْنُونَ النَّوْمَ. وَقَالُوا: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ، أَوْ لا مستم النساء

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 104. [.....] (2) سورة النحل: 16/ 98. (3) سورة المائدة: 5/ 6.

أَيْ الْمُلَامَسَةَ الصُّغْرَى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُنَزَّهُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ طَلَبًا لِأَنْ يُعَمَّ الْإِحْدَاثُ بِالذِّكْرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخِطَابُ خَاصٌّ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَهُوَ رُخْصَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أمر بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِالسِّوَاكِ، فَرُفِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُهُ طَلَبًا لِلْفَضْلِ مِنْهُمْ: ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَانَ فَرْضًا وَنُسِخَ. وَقِيلَ: فَرْضًا عَلَى الرَّسُولِ خَاصَّةً، فَنُسِخَ عَنْهُ عَامَ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: فَرْضًا عَلَى الْأُمَّةِ فَنُسِخَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: فَاغْسِلُوا، أَمْرًا لِلْمُحْدِثِينَ عَلَى الْوُجُوبِ وَلِلْمُتَطَهِّرِينَ عَلَى النَّدْبِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْكَلَامِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، الْوَجْهُ: مَا قَابَلَ النَّاظِرَ وَحَدُّهُ، طُولًا مَنَابِتُ الشَّعْرِ فَوْقَ الْجَبْهَةِ مَعَ آخِرِ الذَّقْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللِّحْيَةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي غَسْلِ الْوَجْهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْأُذُنَانِ عَرْضًا مِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْغَسْلَ هُوَ إِيصَالُ الْمَاءِ مَعَ إِمْرَارِ شَيْءٍ عَلَى الْمَغْسُولِ أَوْجَبَ الدَّلْكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْجُمْهُورُ لَا يُوجِبُونَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِمَا فِي الْآيَةِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ سُنَّةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الِاسْتِنْشَاقُ شَطْرُ الْوُضُوءِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ: مَنْ تَرَكَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي الْوُضُوءِ أَعَادَ الصَّلَاةَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُعِيدُ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْشَاقَ، وَلَا يُعِيدُ مَنْ تَرَكَ الْمَضْمَضَةَ: وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْضَحُ الْمَاءَ فِي عَيْنَيْهِ. وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، الْيَدُ: فِي اللُّغَةِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَقَدْ غَيَّا الْغَسْلَ إِلَيْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُولِهَا فِي الْغَسْلِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ دُخُولِهَا، وَذَهَبَ زُفَرُ وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَى، تُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ مُطْلَقًا، وَدُخُولُهَا فِي الْحُكْمِ وَخُرُوجُهَا أَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلًا مِمَّا دَخَلَ وَخَرَجَ ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ: إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ «1» لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِمَا بَعْدَ إِلَى قَرِينَةُ دُخُولٍ أَوْ خُرُوجٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ دَاخِلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ المحققين: وذلك أنه

_ (1) سورة المائدة: 5/ 6.

إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ فَإِنَّ الْأَكْثَرَ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ دَاخِلٍ، فَإِذَا عُرِّيَ مِنَ الْقَرِينَةِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ. وَأَيْضًا فَإِذَا قُلْتَ: اشْتَرَيْتُ الْمَكَانَ إِلَى الشَّجَرَةِ فَمَا بَعْدَ إِلَى هُوَ دَاخِلُ الْمَوْضِعِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ الْمَكَانُ الْمُشْتَرَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ مِنَ الْمَكَانِ الْمُشْتَرَى، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْتَهِي مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُتَجَوَّزَ، فَيُجْعَلُ مَا قَرُبَ مِنَ الِانْتِهَاءِ انْتِهَاءً. فَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا إِلَّا بِمَجَازٍ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ، لِأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ مَا أَمْكَنَتِ الْحَقِيقَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ قَرِينَةٌ مُرَجِّحَةٌ الْمَجَازَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: عِنْدَ انْتِفَاءِ قَرِينَةِ الدُّخُولِ أَوِ الْخُرُوجِ، لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، مُخَالِفٌ لِنَقْلِ أَصْحَابِنَا، إِذْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّحْوِيِّينَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الدُّخُولُ، وَالْآخَرُ: الْخُرُوجُ. وَهُوَ الَّذِي صَحَّحُوهُ. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يُتَوَقَّفُ، وَيَكُونُ مِنَ الْمُجْمَلِ حَتَّى يَتَّضِحَ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ عَنِ الْكَلَامِ. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا يَكُونُ مِنَ الْمُبَيَّنِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَارِجٍ فِي بَيَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ مَا بَعْدَ إِلَى لَيْسَ مِمَّا قَبْلَهَا فَالْحَدُّ أَوَّلُ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا، فَإِذَا كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَبْلَهَا فَالِاحْتِيَاطُ يُعْطِي أَنَّ الْحَدَّ آخِرُ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ يَتَرَجَّحُ دُخُولُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ. فَالرِّوَايَتَانِ مَحْفُوظَتَانِ عَنْ مَالِكٍ. رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ: أَنَّهُمَا غَيْرُ دَاخِلَتَيْنِ، وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْسِيمُ ذَكَرَهُ عَبْدُ الدَّائِمِ الْقَيْرَوَانِيُّ فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَهَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا دَخَلَ فِي الْحُكْمِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، فَالْآتِي بِهَا دُونَهُ تَارِكٌ لِلْمَأْمُورِ، وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ. وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ مَتَى عَدِمَ الْوَضُوءَ انْتَقَلَ إِلَى التَّيَمُّمِ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوَّلَ فُرُوضِ الْوُضُوءِ هُوَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: النِّيَّةُ أَوَّلُهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: تَجِبُ التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَ وَضُوءُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ تَرْكُ الْكَلَامِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا هُوَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَعْمِيمِ الْوَجْهِ بِالْغَسْلِ بَدَأْتَ بِغَسْلِ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ غَسْلِ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ: لَا يَجِبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ الْخَفِيفَةِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ وَإِنَّ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ الشَّعْرِ تَحْتَ الذَّقْنِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ: يَجِبُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَيْدِيَكُمْ، لَا تَرْتِيبَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ، وَلَا فِي الرِّجْلَيْنِ، بَلْ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِيهِمَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ وَاجِبٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التغيية بإلى تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءُ الْغَسْلِ إِلَى مَا بَعْدَهَا، وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ مِنَ الْمِرْفَقِ حَتَّى يَسِيلَ الْمَاءُ إِلَى الْكَفِّ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُخِلُّ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْوُضُوءِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَبَّ الْمَاءُ مِنَ الْكَفِّ بِحَيْثُ يَسِيلُ مِنْهُ إِلَى الْمِرْفَقِ. وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ هَذَا أَمَرٌ بِالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَدْلُولِ بَاءِ الْجَرِّ هُنَا فَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ إِلْصَاقُ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَمَا مَسَحَ بَعْضَهُ وَمُسْتَوْفِيهِ بِالْمَسْحِ كِلَاهُمَا مُلْصِقٌ الْمَسْحَ بِرَأْسِهِ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، ليس ماسح بَعْضَهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُلْصِقُ الْمَسْحِ بِرَأْسِهِ، إِنَّمَا يطلق عليه أنه ملصق الْمَسْحِ بِبَعْضِهِ. وَأَمَّا أَنْ يطلق عليه أنه ملصق الْمَسْحِ بِرَأْسِهِ حَقِيقَةً فَلَا، إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَتَسْمِيَةٌ لِبَعْضٍ بِكُلٍّ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ، وَكَوْنُهَا لِلتَّبْعِيضِ يُنْكِرُهُ أَكْثَرُ النُّحَاةِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ. الْبَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا لِلتَّبْعِيضِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ «1» وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «2» وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ «3» أَيْ إلحاد أو جذع وَأَيْدِيَكُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ هَزَّهُ وَهَزَّ بِهِ، وَخُذِ الْخِطَامَ وَبِالْخِطَامِ، وَحَزَّ رَأْسَهُ وَبِرَأْسِهِ، وَمَدَّهُ وَمَدَّ بِهِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: خَشَنْتُ صَدْرَهُ وَبِصَدْرِهِ، وَمَسَحْتُ رَأْسَهُ وَبِرَأْسِهِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ مَسَحَ الْيَافُوخَ فَقَطْ، وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ: أَيَّ نَوَاحِي رَأْسِكَ مَسَحْتَ أَجْزَأَكَ، وَعَنِ الْحَسَنِ: إِنْ لَمْ تُصِبِ الْمَرْأَةُ إِلَّا شَعْرَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهَا. وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: وُجُوبُ التَّعْمِيمِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: وُجُوبُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ، وَمَشْهُورُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْأَفْضَلَ اسْتِيعَابُ الْجَمِيعِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا نُقِلَ عَمَّنِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرَّأْسِ يَكْفِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، كَقَوْلِكَ: مَسَحْتُ بِالْمِنْدِيلِ يَدَيَّ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى تَعْمِيمِ جَمِيعِ الْيَدِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمِنْدِيلِ فَكَذَلِكَ الْآيَةُ، فتكون

_ (1) سورة الحج: 22/ 25. (2) سورة مريم: 19/ 25. (3) سورة البقرة: 2/ 195.

الرَّأْسُ وَالرِّجْلُ آلَتَيْنِ لِمَسْحِ تِلْكَ الْيَدِ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ إِذْ ذَاكَ لَيْسَ مَسْحَ الرَّأْسِ وَالْأَرْجُلِ، بَلِ الْفَرْضُ مَسْحُ تِلْكَ الْيَدِ بِالرَّأْسِ وَالرِّجْلِ، وَيَكُونُ فِي الْيَدِ فَرْضَانِ: أَحَدُهُمَا: غَسْلُ جَمِيعِهَا إِلَى الْمِرْفَقِ، وَالْآخَرُ: مَسْحُ بَلَلِهَا بِالرَّأْسِ وَالْأَرْجُلِ. وَعَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّبْعِيضِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّبْعِيضُ فِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ التَّيَمُّمِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ «1» أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ الْوَجْهِ وَبَعْضِ الْيَدِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَعَلَى مَنْ جَعَلَ الْبَاءَ آلَةً يَلْزَمُ أَيْضًا ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي التَّيَمُّمِ هُوَ مَسْحُ الصَّعِيدِ بِجُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ يَقَعُ الِامْتِثَالُ فِيهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وتثليث المعسول سُنَّةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِتَثْلِيثِ الْمَسْحِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ مِثْلُهُ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: يَمْسَحُ مَرَّتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّهُ كَيْفَمَا مَسَحَ أَجْزَأَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ ابْتِدَاءً بِالْمُقَدَّمِ إِلَى الْقَفَا، ثُمَّ إِلَى الْوَسَطِ، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ الثَّابِتُ مِنْهَا فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَالثَّانِي: مِنْهَا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. وَالثَّالِثُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَدَّ الْيَدَيْنِ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَتَحَقَّقَ الْمَسْحُ بِدُونِ الرَّدِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَرْضٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَسْحًا لِلرَّأْسِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ: يُجْزِئُ، وَأَنَّ الْمَسْحَ يُجْزِئُ وَلَوْ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُجْزِئُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْغَسْلَ لَيْسَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَهُوَ قول: أبي العباس ابن الْقَاضِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْغَسْلَ يُجْزِيهِ مِنَ الْمَسْحِ إِلَّا مَا رَوَى لَنَا الشَّاشِيُّ فِي الدَّرْسِ عَنِ ابْنِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَنَسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْبَاقِرِ، وَقَتَادَةَ، وَعَلْقَمَةَ، وَالضَّحَّاكِ: وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ انْدِرَاجُ الْأَرْجُلِ فِي الْمَسْحِ مَعَ الرَّأْسِ. وَرُوِيَ وُجُوبُ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ عَنِ. ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَرَضُهُمَا الْغَسْلُ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الناصر

_ (1) سورة المائدة: 5/ 6.

لِلْحَقِّ مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ وَمَنْ أَوْجَبَ الْغَسْلَ تَأَوَّلَ أَنَّ الْجَرَّ هُوَ خَفْضٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي النَّعْتِ، حَيْثُ لَا يَلْبَسُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ قَدْ قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ تَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْأَرْجُلَ مَجْرُورَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ أَيْ: وَافْعَلُوا بِأَرْجُلِكُمُ الْغَسْلَ، وَحُذِفَ الْفِعْلُ وَحَرْفُ الْجَرِّ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. أَوْ تَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْأَرْجُلَ مِنْ بَيْنِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَغْسُولَةِ مَظِنَّةُ الْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَعَطَفَ عَلَى الرَّابِعِ الْمَمْسُوحَ لَا لِيُمْسَحَ، وَلَكِنْ لِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَجِيءَ بِالْغَايَةِ إِمَاطَةً لِظَنِّ ظَانٍّ يَحْسَبُهَا مَمْسُوحَةً، لِأَنَّ الْمَسْحَ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ غَايَةٌ انْتَهَى هَذَا التَّأْوِيلُ. وَهُوَ كَمَا تَرَى فِي غَايَةِ التَّلْفِيقِ وَتَعْمِيَةٌ فِي الْأَحْكَامِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْغَسْلَ الْخَفِيفَ مَسْحًا وَيَقُولُونَ: تَمَسَّحْتُ لِلصَّلَاةِ بِمَعْنَى غَسَلْتُ أَعْضَائِي. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ: وَأَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِجُمْلَةٍ لَيْسَتْ بِاعْتِرَاضٍ، بَلْ هِيَ مُنْشِئَةٌ حُكْمًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هَذَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: وَقَدْ ذَكَرَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَقْبَحُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْجُمَلِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ يُنَزِّهَ كِتَابَ اللَّهِ عَنْ هَذَا التَّخْرِيجِ. وَهَذَا تَخْرِيجُ مَنْ يَرَى أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْغَسْلُ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْمَسْحَ فَيَجْعَلُهُ معطوفا على موضع برؤوسكم، وَيَجْعَلُ قِرَاءَةَ النَّصْبِ كَقِرَاءَةِ الْجَرِّ دَالَّةً عَلَى الْمَسْحِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَأَرْجُلُكُمْ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ: اغْسِلُوهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ يَغْسِلُ، أَوْ مَمْسُوحَةً إِلَى الْكَعْبَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ يَمْسَحُ. وَتَقَدَّمَ مَدْلُولُ الْكَعْبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ هُمَا حَدُّ الْوُضُوءِ بِإِجْمَاعٍ فِيمَا عَلِمْتُ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا جَعَلَ حَدَّ الْوُضُوءِ إِلَى الْعَظْمِ الَّذِي فِي وَجْهِ الْقَدَمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ: وَكُلُّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ الْكَعْبِ هُوَ الَّذِي فِي وَجْهِ الْقَدَمِ، فَيَكُونُ الْمَسْحُ مُغَيًّا بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: الْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ الملتصغان بِالسَّاقِ الْمُحَاذِيَانِ لِلْعَقِبِ، وَلَيْسَ الْكَعْبُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي فِي وَجْهِ الْقَدَمِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي الْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ، إِذْ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْأَرْجُلِ لَقِيلَ إِلَى الْكُعُوبِ، فَلَمَّا كَانَ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ خُصَّتَا بِالذِّكْرِ انْتَهَى. وَلَا دَلِيلَ فِي قَوْلِهِ فِي

الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مُوَالَاةَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهِ لِقَبُولِ الْآيَةِ التَّقْسِيمَ فِي قَوْلِكَ: مُتَوَالِيًا وَغَيْرَ مُتَوَالٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا شَرْطٌ. وَعَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْأَفْعَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِعَطْفِهَا بِالْوَاوِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ وَاسْتِيفَاءُ حُجَجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلنَّصِّ عَلَى الْأُذُنَيْنِ. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ فَيُمْسَحَانِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُمَا مِنَ الْوَجْهِ فَيُغْسَلَانِ مَعَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنَ الْوَجْهِ هُمَا عُضْوٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ وَلَا مِنَ الرَّأْسِ، وَيُمْسَحَانِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ. وَقِيلَ: مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنَ الْوَجْهِ وَمَا أَدْبَرَ مِنَ الرَّأْسِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ تُبْنَى فَرْضِيَّةُ الْمَسْحِ أَوِ الْغَسْلِ وَسُنِّيَّةُ ذَلِكَ. وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى ذَكَرَ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى، وَتَقَدَّمَ مَدْلُولُ الْجُنُبِ فِي وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُنُبَ مَأْمُورٌ بِالِاغْتِسَالِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَتَيَمَّمُ الْجُنُبُ الْبَتَّةَ، بَلْ يَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَقَدْ رَجَعَا إِلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ وَالتَّطَهُّرَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْمَاءِ لِقَوْلِهِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً «2» أَيْ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْأَصَمُّ: إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَالْغَسْلُ بِجَمِيعِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ التَّطْهِيرِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ. وَلَا تَرْتِيبَ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ، وَلَا دَلْكَ، وَلَا مَضْمَضَةَ، وَلَا اسْتِنْشَاقَ، بَلِ الْوَاجِبُ تَعْمِيمُ جَسَدِهِ بِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَيْهِ. وَقَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى الْغَسْلِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: تَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ الدَّلْكُ، وَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الظَّاهِرِيُّ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الِانْغِمَاسُ فِي الْمَاءِ دُونَ تَدُلُّكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَزُفَرُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ: تَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِيهِ، وَزَادَ أَحْمَدُ الْوُضُوءَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِذَا كَانَ شَعْرُهُ مَفْتُولًا جِدًّا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جِلْدَةِ الرَّأْسِ لَا يَجِبُ نَقْضُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاطَّهَرُوا بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ، وَأَصْلُهُ: تَطَهَّرُوا، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَقُرِئَ: فَأَطْهِرُوا بِسُكُونِ الطَّاءِ، وَالْهَاءُ مَكْسُورَةٌ مِنْ أَطْهَرَ رُبَاعِيًّا، أَيْ: فَأَطْهِرُوا أَبْدَانَكُمْ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ للتعدية.

_ (1) سورة النساء: 4/ 43. (2) سورة المائدة: 5/ 6.

وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَجَوَابِهَا فِي النِّسَاءِ، إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةَ مِنْهُ وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي تِلْكَ الَّتِي فِي النِّسَاءِ. وَفِي لَفْظَةِ: مِنْهُ دَلَالَةٌ عَلَى إِيصَالِ شَيْءٍ مِنَ الصَّعِيدِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِمَا لَا يَعْلَقُ بِالْيَدِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَالرَّمْلِ الْعَارِي عَنْ أَنْ يَعْلَقَ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْيَدِ فَيَصِلَ إِلَى الْوَجْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: إِذَا ضَرَبَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُبَارِ وَمَسَحَ بِهَا أَجْزَأَهُ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ لِلصَّعِيدِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَسْحِ، أَنَّهُ لَوْ يَمَّمَهُ غَيْرُهُ، أَوْ وَقَفَ فِي مَهَبِّ رِيحٍ فَسَفَتْ عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُمِرَّ، أَوْ ضَرَبَ ثَوْبًا فَارْتَفَعَ مِنْهُ غُبَارٌ إِلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُهُ. وَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ خِلَافٌ. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أَيْ مِنْ تَضْيِيقٍ، بَلْ رَخَّصَ لَكُمْ فِي تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ. وَالْإِرَادَةُ صِفَةُ ذَاتٍ، وَجَاءَتْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مُرَاعَاةً لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَظْهَرُ عَنْهَا، فَإِنَّهَا تَجِيءُ مَؤْتَنِقَةً مِنْ نَفْيِ الْحَرَجِ، وَوُجُودِ التَّطْهِيرِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ اللَّامِ فِي لِيَجْعَلَ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَفْعُولَ يُرِيدُ مَحْذُوفٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ، جَعَلَ زيادة فِي الْوَاجِبِ لِلنَّفْيِ الَّذِي فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْيُ وَاقِعًا عَلَى فِعْلِ الْحَرَجِ، وَيَجْرِي مَجْرَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ، وَبُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» وَجَاءَ لَفْظُ الدِّينِ بِالْعُمُومِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الَّذِي ذُكِرَ بِقُرْبٍ وَهُوَ التَّيَمُّمُ. وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أَيْ بِالتُّرَابِ إِذَا أَعْوَزَكُمُ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ» . وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّطْهِيرِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ خُرُوجِ الْحَدَثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيُطَهِّرَكُمْ مِنْ أَدْنَاسِ الْخَطَايَا بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، كَمَا جَاءَ فِي مُسْلِمٍ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيُطَهِّرَكُمْ عَنِ التَّمَرُّدِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لِيُطْهِرَكُمْ بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ وَلِيُتِمَّ بِرُخَصِهِ العامة عَلَيْكُمْ بِعَزَائِمِهِ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ متعلق

_ (1) سورة النساء: 4/ 26.

[سورة المائدة (5) : الآيات 7 إلى 11]

بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ السُّورَةِ مِنْ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، أَيِ النِّعْمَةَ الْمَذْكُورَةَ ثَانِيًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ. وَقِيلَ: تَبْيِينُ الشَّرَائِعِ وَأَحْكَامِهَا، فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لِقَوْلِهِ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1» وَقِيلَ: بِغُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ. وَفِي الْخَبَرِ: «تَمَامُ النِّعْمَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ» . لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ تَشْكُرُونَهُ عَلَى تَيْسِيرِ دِينِهِ وَتَطْهِيرِكُمْ وإتمام النعمة عليكم. [سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالنِّعْمَةُ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَالْعِزَّةِ. وَالْمِيثَاقُ: هُوَ مَا أَخَذَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَكُلِّ مَوْطِنٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا أُخِذَ عَلَى النَّسَمِ حِينَ اسْتُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ. وَقِيلَ: هُوَ الْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ حِينَ بَايَعَهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ هُوَ الدَّلَائِلُ الَّتِي نَصَبَهَا لِأَعْيُنِهِمْ وَرَكَّبَهَا فِي عُقُولِهِمْ، وَالْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا فِي أَيَّامِهِمْ حَتَّى سَمِعُوا وَأَطَاعُوا. وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ إِقْرَارُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِمَا ائْتُمِرَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُلِّ مَا فِيهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْبِشَارَةُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَزِمَهُمُ الإقرار به. ولا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 3.

يَتَأَتَّى هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا أَنَّ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْقَوْلَانِ بَعْدَهُ يَكُونُ الْمِيثَاقُ فِيهِمَا مَجَازٌ، وَالْأَجْوَدُ حَمْلُهُ عَلَى مِيثَاقِ الْبَيْعَةِ، إِذْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتَنَاسَوْا نِعْمَتَهُ، وَلَا تَنْقُضُوا مِيثَاقَهُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ شِبْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي النِّسَاءِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي النِّسَاءِ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ بُدِئَ بِالْقِسْطِ، وَهُنَا أُخِّرَ. وَهَذَا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ. وَيَلْزَمُ مَنْ كَانَ قَائِمًا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا بِالْقِسْطِ، وَمَنْ كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا لِلَّهِ، إِلَّا أَنَّ الَّتِي فِي النِّسَاءِ جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ الِاعْتِرَافِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَبُدِئَ فِيهَا بِالْقِسْطِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ وَالسَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةِ نَفْسٍ وَلَا وَالِدٍ وَلَا قَرَابَةٍ، وَهُنَا جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ تَرْكِ الْعَدَاوَاتِ وَالْإِحَنِ، فَبُدِئَ فِيهَا بِالْقِيَامِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَرْدَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِالشَّهَادَةِ بِالْعَدْلِ فَالَّتِي فِي مَعْرِضِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُحَابَاةِ بُدِئَ فِيهِ بِمَا هُوَ آكَدُ وَهُوَ الْقِسْطُ، وَفِي مَعْرِضِ الْعَدَاوَةِ وَالشَّنَآنِ بُدِئَ فِيهَا بِالْقِيَامِ لِلَّهِ، فَنَاسَبَ كُلَّ مَعْرِضٍ بِمَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ. وَأَيْضًا فَتَقَدَّمَ هُنَاكَ حَدِيثُ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا «1» وَقَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا «2» فَنَاسَبَ ذِكْرَ تَقْدِيمِ الْقِسْطِ، وَهُنَا تَأَخَّرَ ذِكْرُ الْعَدَاوَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجَاوِرَهَا ذِكْرُ الْقِسْطِ، وَتَعْدِيَةُ يجرمنكم بعلى إِلَّا أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِهَا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ: الْعَدْلُ نَهَاهُمْ أَوَّلًا أَنْ تَحْمِلَهُمُ الضَّغَائِنُ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا تَأْكِيدًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَذَكَرَ لَهُمْ وَجْهَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، أَيْ: أَدْخَلُ فِي مُنَاسَبَتِهَا، أَوْ أَقْرَبُ لِكَوْنِهِ لُطْفًا فِيهَا. وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْعَدْلِ، إِذْ كَانَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ مَعَ الْكَافِرِينَ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لَمَّا كَانَ الشَّنَآنُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَهُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَأَتَى بِصِفَةِ خَبِيرٌ وَمَعْنَاهَا عَلِيمٌ، وَلَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَا لَطُفَ إِدْرَاكُهُ، فَنَاسَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ أَنْ يُنَبَّهَ بِهَا عَلَى الصِّفَةِ الْقَلْبِيَّةِ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 129. (2) سورة النساء: 4/ 1280.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ ذَكَرَ وعده مَنِ اتَّبَعَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ نواهيه، ووعد تتعدى لأنين، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْجَنَّةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ تَفْسِيرَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْغُفْرَانِ وَحُصُولِ الْأَجْرِ. وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةً فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْكَلَامُ قَبْلَهَا تَامٌّ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، بَيَانًا لِلْوَعْدِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: قَدَّمَ لَهُمْ وَعْدًا فَقِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ وَعْدُهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. أَوْ يَكُونُ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ وَعَدَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: مَغْفِرَةٌ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ وَعَدَ مَجْرَى قَالَ: لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ يَجْعَلُ وَعَدَ وَاقِعًا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ مغفرة، كما رفع تَرَكْنَا عَلَى قَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ «1» كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَدَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَإِذَا وَعَدَهُمْ مَنْ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَقَدْ وَعَدَهُمْ مَضْمُونَهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَلَقَّوْنَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُسَرُّونَ وَيَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهِ، وَتُهَوَّنُ عَلَيْهِمُ السَّكَرَاتُ وَالْأَهْوَالُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التُّرَابِ انْتَهَى. وَهِيَ تَقَادِيرُ مُحْتَمَلَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُهَا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لَمَّا ذَكَرَ مَا لِمَنْ آمَنَ، ذَكَرَ مَا لِمَنْ كَفَرَ. وَفِي الْمُؤْمِنِينَ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةً مُتَضَمِّنَةً الْوَعْدَ بِالْمَاضِي الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُقُوعِ، فَأَنْفُسُهُمْ مُتَشَوِّقَةٌ لِمَا وُعِدُوا بِهِ، متشوفة إِلَيْهِ مُبْتَهِجَةٌ طُولَ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ. وَفِي الْكَافِرِينَ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً دَالَّةً عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَهُمْ دَائِمُونَ فِي عَذَابٍ، إِذْ حَتَّمَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَلَمْ يَأْتِ بِصُورَةِ الْوَعِيدِ، فَكَانَ يَكُونُ الرَّجَاءُ لَهُمْ فِي ذلك. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ «2» وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ رَجُلًا لِيَقْتُلَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ إِلَى يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ فَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَسْتَقْرِضُهُمْ دِيَةَ مُسْلِمَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ خطأ حسبهما

_ (1) سورة الصافات: 37/ 79. [.....] (2) سورة المائدة: 5/ 2.

مُشْرِكَيْنِ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُقْرِضَكَ، فَأَجْلَسُوهُ فِي صُفَّةٍ وَهَمُّوا بِالْقَتْلِ بِهِ، وَعَمَدَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشٍ إِلَى رَحًى عَظِيمَةٍ يَطْرَحُهَا عَلَيْهِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ يَدَهُ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ فَخَرَجَ. وَقِيلَ: نَزَلَ مَنْزِلًا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ حفصة بْنِ قَيْسِ بْنِ غَيْلَانَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِهَا، فَعَلَّقَ الرَّسُولُ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَسَلَّ سَيْفَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُهُ غَوْرَثٌ، وَقِيلَ: دَعْثُورُ بْنُ الحرث، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ قَالَهَا ثَلَاثًا» وَقَالَ: أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: لَا، فَشَامَ السَّيْفَ وَحُبِسَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَمْ يُعَاقِبْهُ. قِيلَ: أَسْلَمَ. وَقِيلَ: ضَرَبَ بِرَأْسِهِ سَاقَ الشَّجَرَةِ حَتَّى مَاتَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ قَامُوا إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ يُصَلُّونَ مَعًا بِعُسْفَانَ فِي غَزْوَةِ ذِي أَنْمَارٍ، فَلَمَّا صَلَّوْا نَدِمُوا أَنْ لَا كَانُوا أَكَبُّوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّ لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَهَا هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهَمُّوا أَنْ يُوقِعُوا بِهِمْ إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ. وَقَدْ طَوَّلُوا بِذِكْرِ أَسْبَابٍ أُخَرَ. وَمُلَخَّصُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ قُرَيْشًا، أَوْ بَنِي النَّضِيرِ، أَوْ قُرَيْظَةَ، أَوْ غَوْرَثًا، هَمُّوا بِالْقَتْلِ بِالرَّسُولِ، أَوِ الْمُشْرِكِينَ هَمُّوا بِالْقَتْلِ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَزَلَتْ فِي مَعْنَى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ «1» قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَقِيبَ الْخَنْدَقِ حِينَ هَزَمَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ «2» وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعَمِهِ إِذْ أَرَادَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ لَمْ يُعَيِّنْهُمُ اللَّهُ بَلْ أَبْهَمَهُمْ أَنْ يَنَالُوا الْمُسْلِمِينَ بِشَرٍّ، فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: بَسَطَ إِلَيْهِ لِسَانَهُ أَيْ شَتَمَهُ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ مَدَّهَا لِيَبْطِشَ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ «3» وَيُقَالُ: فُلَانٌ بَسِيطُ الْبَاعِ، وَمَدَّ يَدَ الْبَاعِ، بِمَعْنًى. وَكَفُّ الْأَيْدِيَ مَنْعُهَا وَحَبْسُهَا. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى أَمْرَ مُوَاجَهَةٍ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ اذْكُرُوا. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ أَمْرَ غَائِبٍ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، وَإِشْعَارًا بِالْغَلَبَةِ، وَإِفَادَةً لِعُمُومِ وَصْفِ الْإِيمَانِ، أَيْ: لِأَجْلِ تَصْدِيقِهِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَكُّلِ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَلِابْتِدَاءِ الْآيَةِ بِمُؤْمِنِينَ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَاصِ وَخَتْمِهَا بِمُؤْمِنِينَ عَلَى جِهَةِ التقريب.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 3. (2) سورة الأحزاب: 33/ 25. (3) سورة الممتحنة: 60/ 2.

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 إلى 26]

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)

نَقَّبَ فِي الْجَبَلِ وَالْحَائِطِ فَتَحَ فِيهِ مَا كَانَ مُنْسَدًّا، وَالتَّنْقِيبُ التَّفْتِيشُ، وَمِنْهُ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ «1» وَنَقُبَ عَلَى الْقَوْمِ يَنْقُبُ إِذَا صَارَ نَقِيبًا، أَيْ يُفَتِّشُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَهِيَ النِّقَابَةُ. وَالنِّقَابُ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ، وَالنُّقَبُ الْجَرَبُ وَاحِدُهُ النُّقْبَةُ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى نُقْبٍ عَلَى وَزْنِ ظُلْمٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مُتَبَذِّلًا تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ أَيِ الْجَرَبِ. وَالنُّقْبَةُ سَرَاوِيلُ بِلَا رِجْلَيْنِ، وَالْمَنَاقِبُ الْفَضَائِلُ الَّتِي تَظْهَرُ بِالتَّنْقِيبِ. وَفُلَانَةٌ حَسَنَةُ النُّقْبَةِ النقاب أَيْ جَمِيلَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّقِيبَ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلِيمٍ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يَعْنِي أَنَّهُمُ اخْتَارُوهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: هُوَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ، عَزَّرَ الرَّجُلَ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: أَثْنَى عَلَيْهِ بِخَيْرٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:

_ (1) سورة ق: 50/ 36.

عَظَّمَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رَدَّهُ عَنِ الظُّلْمِ: وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ. قَالَ الْقَطَامِيُّ: أَلَا بَكَرَتْ مَيٌّ بِغَيْرِ سَفَاهَةٍ ... تُعَاتِبُ وَالْمَوْدُودُ يَنْفَعُهُ الْعَزْرُ أَيِ الْمَنْعُ. وَقَالَ آخَرُ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ: وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ فِي النَّدِيِّ وَعَلَى هَذِهِ النُّقُولُ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ. وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ بَابِ الْمُتَوَاطِئِ قَالَ: عَزَّرْتُمُوهُ نَصَرْتُمُوهُ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ وَهُوَ التَّنْكِيلُ وَالْمَنْعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْفَسَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، قَالَ: التَّعْزِيرُ الرَّدْعُ، عَزَّرْتُ فُلَانًا فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرْدَعُهُ عَنِ الْقَبِيحِ، مِثْلَ نَكَّلْتُ بِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ عَزَّرْتُمُوهُمْ رَدَدْتُمْ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي عَزَّرْتُمُوهُمْ أَيْ عَزَّرْتُمْ بِهِمْ. طَلَعَ الشَّيْءُ بَرَزَ وَظَهَرَ، وَاطَّلَعَ افْتَعَلَ مِنْهُ. غرا بالشيء غراء، وغر ألصق بِهِ وَهُوَ الْغِرَى الَّذِي يُلْصَقُ بِهِ. وَأَغْرَى فُلَانٌ زَيْدًا بِعَمْرٍو وَلَّعَهُ بِهِ، وَأَغْرَيْتُ الْكَلْبَ بِالصَّيْدِ أَشْلَيْتُهُ. وَقَالَ النَّضْرُ: أَغْرَى بَيْنَهُمْ هَيَّجَ. وَقَالَ مُوَرِّجٌ: حَرَّشَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَلْصَقَ بِهِمُ. الصُّنْعُ: الْعَمَلُ. الْفَتْرَةُ: هِيَ الِانْقِطَاعُ، فَتَرَ الْوَحْيُ أَيِ انْقَطَعَ. وَالْفَتْرَةُ السُّكُونُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ فِي الْأَجْرَامِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْمَعَانِي. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكَ فَتْرَةٌ وَالْهَاءُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ فَتْرَةٌ مُرَادِفٌ لِلْفُتُورِ. وَيُقَالُ: طَرْفٌ فَاتِرٌ إِذَا كَانَ سَاجِيًا. الْجَبَّارُ: فَعَّالٌ مِنَ الْجَبْرِ، كَأَنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَبَطْشِهِ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يَخْتَارُونَهُ. وَالْجَبَّارَةُ النَّخْلَةُ الْعَالِيَةُ الَّتِي لَا تُنَالُ بِيَدٍ، وَاسْمُ الْجِنْسِ جَبَّارٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: سَوَابِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فُرُوعُهُ ... وَعَالَيْنَ قُنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا التِّيهُ فِي اللُّغَةِ: الْحَيْرَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَاهَ، يَتِيهُ، وَيَتُوهُ، وَتَوَّهْتُهُ، وَالتَّاءُ أَكْثَرُ، وَالْأَرْضُ التَّوْهَاءُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا، وَأَرْضٌ تِيهٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التِّيهُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ إِلَى غَيْرِ مَقْصُودٍ. الْأَسَى: الْحُزْنُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَسَى يَأْسَى. وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِذِكْرِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى

الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ «1» ثُمَّ ذَكَرَ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ عليه إِذْ كَفَّ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، ذَكَّرَهُمْ بِقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَوَعْدِهِ لَهُمْ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، فَنَقَضُوا الْمِيثَاقَ وَهَمُّوا بِقَتْلِ الرَّسُولِ، وَحَذَّرَهُمْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. وَبَعْثُ النُّقَبَاءِ قِيلَ: هُمُ الْمُلُوكُ بُعِثُوا فِيهِمْ يُقِيمُونَ الْعَدْلَ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالنَّقِيبُ: كَبِيرُ الْقَوْمِ الْقَائِمُ بِأُمُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ عَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ فِي أَنْ بَعَثَ لِأَعْدَائِهِمْ هَذَا الْعَدَدَ مِنَ الْمُلُوكِ قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ: مَا وَفَّى مِنْهُمْ إِلَّا خَمْسَةٌ: دَاوُدُ. وَسُلَيْمَانُ ابْنُهُ، وَطَالُوتُ، وَحَزْقِيلُ، وَابْنُهُ وَكَفَرَ السَّبْعَةُ وَبَدَّلُوا وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَخَرَجَ خِلَالَ الِاثْنَيْ عَشَرَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ جَبَّارًا كُلُّهُمْ يَأْخُذُ الْمُلْكَ بِالسَّيْفِ، وَيَعْبَثُ فِيهِمْ، وَالْبَعْثُ: مِنْ بَعْثِ الْجُيُوشِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ وَهُوَ إِرْسَالُهُمْ وَالنُّقَبَاءُ الرُّسُلُ جَعَلَهُمُ اللَّهُ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ كُلُّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ إِلَى سِبْطٍ. وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ هُنَا وَالنُّقَبَاءُ هُوَ مَا جَرَى لِمُوسَى مَعَ قَوْمِهِ فِي جِهَادِ الْجَبَّارِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِمِصْرَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَرِيحَا أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَ يَسْكُنُهَا الْكُفَّارُ الْكَنْعَانِيُّونَ الْجَبَابِرَةُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي كَتَبْتُهَا لَكُمْ دَارًا وَقَرَارًا فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا، وَجَاهِدُوا مَنْ فِيهَا، وَإِنِّي نَاصِرُكُمْ. وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا يَكُونُ كَفِيلًا عَلَى قَوْمِهِ بِالْوَفَاءِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ تَوْثِقَةً عَلَيْهِمْ، فَاخْتَارَ النُّقَبَاءَ، وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِهِ النُّقَبَاءُ، وَسَارَ بِهِمْ فَلَمَّا دَنَا مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ بَعَثَ النُّقَبَاءَ يَتَجَسَّسُونَ فَرَأَوْا أَجْرَامًا عِظَامًا وَقُوَّةً وَشَوْكَةً، فَهَابُوا وَرَجَعُوا وَحَدَّثُوا قَوْمَهُمْ، وَقَدْ نَهَاهُمْ مُوسَى أَنْ يُحَدِّثُوهُمْ، فَنَكَثُوا الْمِيثَاقَ، إِلَّا كَالَبَ بْنَ يُوقَنَّا مِنْ سِبْطِ يُهُودَا، وَيُوشِعَ بْنِ نُونَ مِنْ سِبْطِ إفرائيم بْنِ يُوسُفَ وَكَانَا مِنَ النُّقَبَاءِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ فِي الْمُحَبَّرِ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَلْفَاظٍ لَا تَنْضَبِطُ حُرُوفُهَا وَلَا شَكْلُهَا، وَذَكَرَهَا غَيْرُهُ مُخَالِفَةً فِي أَكْثَرِهَا لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ لَا ينضبط أَيْضًا. وَذَكَرُوا مِنْ خَلْقِ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ وَعِظَمِ أَجْسَامِهِمْ وَكِبَرِ قَوَالِبِهِمْ مَا لَا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ، قَالُوا: وَعَدَدُ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ كَانَ بِعَدَدِ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّبْعِينَ رُجُلًا وَالْمَرْأَتَيْنِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَسَمَّاهُمْ: النُّقَبَاءَ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 7.

وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْحِيَاطَةِ. وَفِي هَذِهِ الْمَعِيَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الِاعْتِنَاءِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَحْلِيلِ مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَأْتِي بَعْدُ، وَضَمِيرُ الْخِطَابِ هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: هُوَ خِطَابٌ لِلنُّقَبَاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ لِانْسِحَابِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اللَّامُ فِي لَئِنْ أَقَمْتُمْ هِيَ الْمُؤْذِنَةُ بِالْقَسَمِ وَالْمُوَطِّئَةُ بِمَا بَعْدَهَا، وَبَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ مَحْذُوفًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَأُكَفِّرَنَّ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: وَبَعَثْنَا وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ يَكُونَانِ جُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا الْجَوَابُ يَعْنِي لَأُكَفِّرَنَّ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ جَمِيعًا انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لَا يَسُدُّ لَأُكَفِّرَنَّ مَسَدَّهُمَا، بَلْ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ فَقَطْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالزَّكَاةُ هُنَا مَفْرُوضٌ مِنَ الْمَالِ كَانَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَعْطَيْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كُلَّ مَا فِيهِ زَكَاةٌ لَكُمْ حَسْبَمَا نُدِبْتُمْ إِلَيْهِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. والأول هو الرَّاجِحُ. وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي، الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ ما جاؤوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدَّمَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ تَشْرِيفًا لَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عَمَلٌ إِلَّا بِالْإِيمَانِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: كَانَ الْيَهُودُ مُقِرِّينَ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ مَعَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَكَانُوا مُكَذِّبِينَ بَعْضَ الرُّسُلِ، فَذَكَرَ بَعْدَهُمَا الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ لَا تَحْصُلُ نَجَاةٌ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِهِمْ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِرُسْلِي بِسُكُونِ السِّينِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: وَعَزَرْتُمُوهُمْ خَفِيفَةَ الزَّايِ. وَقَرَأَ فِي الْفَتْحِ: وَتُعَزِّرُوهُ «1» بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَمَصْدَرُهُ الْعَزْرُ. وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ فِي الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْقَرْضُ هُوَ فِي الْمَنْدُوبِ. وَنَبَّهَ عَلَى الصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَةِ بِذِكْرِهَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَجْمُوعِ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا لِمَوْقِعِهَا مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ جَاءَ إِقْرَاضًا لَكَانَ صَوَابًا، أُقِيمَ الِاسْمُ هُنَا مَقَامَ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «2» لَمْ يَقُلْ بِتَقْبِيلٍ ولا إنباتا

_ (1) سورة الفتح: 48/ 9. (2) سورة آل عمران: 3/ 37.

انْتَهَى. وَقَدْ فُسِّرَ هَذَا الْإِقْرَاضُ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ، وَبِالزَّكَاةِ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ تَكْرَارٌ. وَوَصَفَهُ بِحَسَنٍ إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُتْبَعُ بِمَنٍّ وَلَا أَذًى، وَإِمَّا لِأَنَّهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ: رَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْمَشْرُوطَةِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ، وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِزَالَةِ الْعِقَابِ، وَإِدْخَالِ الْجَنَّاتِ، وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ. فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ وَالشَّرْطِ الْمُؤَكَّدِ فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ. وَسَوَاءُ السَّبِيلِ وَسَطُهُ وَقَصْدُهُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْقَصْدِ، وَهُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ. وَتَخْصِيصُ الْكُفْرِ بِتَعْدِيَةِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ ضَلَالًا عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الشَّرْطِ الْمُؤَكَّدِ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ الْعَظِيمِ أَفْحَشُ وَأَعْظَمُ، إِذْ يُوجِبُ أَخْذُ الْمِيثَاقِ الْإِيفَاءَ بِهِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ عِظَمُ الْكُفْرِ هُوَ بِعِظَمِ النِّعْمَةِ الْمَكْفُورَةِ. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. لَعَنَّاهُمْ أَيْ طَرَدْنَاهُمْ وَأَبْعَدْنَاهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ قَالَهُ: عَطَاءٌ وَالزَّجَّاجُ. أَوْ عذبناهم بالمسح قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ كَمَا قَالَ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ «1» أَيْ نَمْسَخَهُمْ كَمَا مَسَخْنَاهُمْ قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَمُقَاتِلٌ: أَوْ عَذَّبْنَاهُمْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَقَضُوا الْمِيثَاقَ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ مُوسَى وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَضْيِيعِ الْفَرَائِضِ. وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَافِيَةً جَافَّةً. وَقِيلَ: غَلِيظَةً لَا تَلِينُ. وَقِيلَ: مُنْكِرَةً لَا تَقْبَلُ الْوَعْظَ، وَكُلُّ هَذَا مُتَقَارِبٌ. وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ غِلَظُهُ وَصَلَابَتُهُ حَتَّى لَا يَنْفَعِلَ لِخَيْرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: قَاسِيَةً اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَسَا يَقْسُو. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قَسِيَّةً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَشَاهِدٍ وَشَهِيدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَعْنَى الْقَسْوَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالْقَسِيَّةِ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَهِيَ الَّتِي خَالَطَهَا غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ، وَكَذَلِكَ القلوب لم يصل الْإِيمَانُ بَلْ خَالَطَهَا الْكُفْرُ وَالْفَسَادُ. قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ الطائي:

_ (1) سورة النساء: 4/ 47.

لَهُمْ صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلَاحِ كَمَا ... صَاحَ الْقَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ وَقَالَ آخَرُ: فَمَا زَادُونِي غَيْرَ سَحْقِ عِمَامَةٍ ... وَخَمْسَ مِيءٍ فِيهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ قَالَ الْفَارِسِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُعَرَّبَةٌ وَلَيْسَتْ بِأَصْلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ قَسِيَّةً أَيْ رَدِيئَةً مَغْشُوشَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ، وَهُوَ مِنَ الْقَسْوَةِ، لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَتَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، وَالْمَغْشُوشُ فِيهِ يُبْسٌ وَصَلَابَةٌ. وَالْقَاسِي وَالْقَاسِحُ بِالْحَاءِ أَخَوَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْيُبْسِ وَالصَّلَابَةِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سُمِّيَ الدِّرْهَمُ الزَّائِفُ قَسِيًّا لِشِدَّتِهِ بِالْغِشِّ الَّذِي فِيهِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْقَاسِي وَالْقَاسِحُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. وَقَوْلُ الْمُبَرِّدِ: مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْفَارِسِيِّ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ جَعْلُهُ عَرَبِيًّا مِنَ الْقَسْوَةِ، وَالْفَارِسِيُّ جَعَلَهُ مُعَرَّبًا دَخِيلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِهَا. وَقَرَأَ الْهَيْصَمُ بن شراح: قُسِيَّةً بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الياء، كحيى. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْقَافِ إِتْبَاعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَذَلْنَاهُمْ وَمَنَعْنَاهُمُ الْأَلْطَافَ حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، أَوْ أَمْلَيْنَا لَهُمْ وَلَمْ نُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى قَسَتْ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أَيْ يُغَيِّرُونَ مَا شَقَّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحْكَامِهَا، كَآيَةِ الرَّجْمِ بَدَّلُوهَا لِرُؤَسَائِهِمْ بِالتَّحْمِيمِ وَهُوَ تَسْوِيدُ الْوَجْهِ بِالْفَحْمِ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: التَّحْرِيفُ بِالتَّأْوِيلِ لَا بِتَغْيِيرِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِهَا وَلَا يُمْكِنُ. أَلَا تَرَاهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ؟ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَحْرِيفُهُمُ الْكَلِمَ هُوَ تَغْيِيرُهُمْ صِفَةَ الرَّسُولِ أَزَالُوهَا وَكَتَبُوا مَكَانَهَا صِفَةً أُخْرَى فَغَيَّرُوا الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ هُوَ التَّغْيِيرُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى التَّوْرَاةِ عَلِمَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا جَاءَتْ بَيَانًا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وَلَا قَسْوَةَ أَشَدُّ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَغْيِيرِ وَحْيِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالنَّخَعِيُّ الْكَلَامَ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: الكلم بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْكَلِمَ بِفَتْحِ الْكَافِ. وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَسُوءِ فِعْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ ذُكِّرُوا بِشَيْءٍ فَنَسُوهُ وَتَرَكُوهُ، وَهَذَا الْحَظُّ مِنَ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا غَيَّرُوا مَا غَيَّرُوا مِنَ التَّوْرَاةِ اسْتَمَرُّوا عَلَى تِلَاوَةِ مَا غَيَّرُوهُ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

وَقِيلَ: أَنْسَاهُمْ نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ بِسَبَبِ مَعَاصِيهِمْ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَدْ يَنْسَى الْمَرْءُ بَعْضَ الْعِلْمِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ... فَأَوْمَأَ لِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي وَقِيلَ: تَرَكُوا نَصِيبَهُمْ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَبَيَانِ نَعْتِهِ. وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أَيْ هَذِهِ عَادَتُهُمْ وَدَيْدَنُهُمْ مَعَكَ، وَهُمْ عَلَى مَكَانِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ خِيَانَةِ الرُّسُلِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ. فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يُخَوِّفُونَكَ وَيَنْكُثُونَ عُهُودَكَ، وَيُظَاهِرُونَ عَلَيْكَ أَعْدَاءَكَ، وَيَهُمُّونَ بِالْقَتْلِ بِكَ، وَأَنْ يُسِمُّوكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَائِنَةُ مَصْدَرًا كَالْعَافِيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ عَلَى خِيَانَةٍ، أَوِ اسْمَ فَاعِلٍ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَاوِيَةٍ أَيْ خَائِنٍ، أَوْ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ أَيْ قَرْيَةٍ خَائِنَةٍ، أَوْ فِعْلَةٍ خَائِنَةٍ، أَوْ نَفْسٍ خَائِنَةٍ. وَالظَّاهِرُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ مِنَ الْأَشْخَاصِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْمُسْتَثْنَوْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابن عطية: ويحتمل إن يكون فِي الْأَفْعَالِ أَيْ: إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَلَا تَطَّلِعُ فِيهِ عَلَى خِيَانَةٍ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً «1» وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ الْقَسْوَةَ زَالَتْ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ظَاهِرُهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالصَّفْحُ عَنْهُمْ جَمِيعِهُمْ، وَذَلِكَ بَعْثٌ عَلَى حُسْنِ التَّخَلُّقِ مَعَهُمْ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ يعفو عنهم في غدرة فَعَلُوهَا مَا لَمْ يَنْصِبُوا حَرْبًا، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ أَدَاءِ جِزْيَةٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، فَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْمُسْتَثْنَيْنَ. وَقِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «2» . وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً «3» وَفُسِّرَ قَوْلُهُ: يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، بِالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَبِالَّذِينِ أَحْسَنُوا عَمَلَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَبِالْمُسْتَثْنَيْنَ وَهُمُ الَّذِينَ مَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَبِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ فِي الْآيَةِ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ. الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: أَخَذْنَا وَأَنَّ الضمير في ميثاقهم عائد عَلَى الْمَوْصُولِ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ «4» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ مِنَ النَّصَارَى مِيثَاقَ أنفسهم وهو

_ (1) سورة المائدة: 5/ 13. (2) سورة التوبة: 9/ 29. (3) سورة الأنفال: 8/ 58. (4) سورة المائدة: 5/ 12.

الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالرُّسُلِ وَبِأَفْعَالِ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي مِيثَاقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا شَبِيهًا أَيْ: وَأَخَذْنَا مِنَ النَّصَارَى مِيثَاقًا مِثْلَ مِيثَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: وَمِنَ الَّذِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْهُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ «5» مِنْهُمْ أي من اليهود، ومن الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ مُسْتَأْنَفًا، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِلْفَصْلِ، وَلِتَهْيِئَةِ الْعَامِلِ لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ وَقَطْعِهِ عَنْهُ دُونَ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أُخِذَ عَلَى النَّصَارَى الْمِيثَاقُ كَمَا أُخِذَ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ بِالْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ، وَبِكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا نَصَارَى، تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَزَجْرٌ عَمَّا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّهُمْ ناصر ودين اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ، إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُجَرَّدَ دَعْوَى لَا حَقِيقَةً. وَحَيْثُ جَاءَ النَّصَارَى مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ إِلَى أَنَّهُمْ قَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعَلَمِ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي قَصَدُوهُ مِنَ النَّصْرِ، كَمَا صَارَ الْيَهُودُ عَلَمًا لم يحلظ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: هُدْنَا إِلَيْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا قِيلَ: وَمَنِ النَّصَارَى؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمُ ادِّعَاءً لِنُصْرَةِ اللَّهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِعِيسَى: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدُ إِلَى نَسْطُورِيَّةَ وَيَعْقُوبِيَّةَ وَمَلْكَانِيَّةَ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ قِيلَ: سُمُّوا نَصَارَى لِأَنَّهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ بِالشَّامِ تُسَمَّى نَاصِرَةً، وَقَوْلُهُ: وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِعِيسَى نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ الْقَائِلُ لِذَلِكَ هُمُ الْحَوَارِيُّونَ، وَهُمْ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ كُفَّارٌ، وقد أَوْضَحَ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وعند غيره مُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا هُمْ، إِنَّمَا اخْتَلَفَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَدَّعِي تَبَعِيَّتَهُمْ. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِي مَكْتُوبِ الْإِنْجِيلِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَظُّ هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ، وتنكيرا لحظ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَظٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ، وَخُصَّ هَذَا الْوَاحِدُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْثَرَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُهِمُّ. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُمْ يُعُودُ عَلَى النَّصَارَى قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصَارَى مِنْهُمْ وَالنَّسْطُورِيَّةُ وَالْيَعْقُوبِيَّةُ وَالْمَلْكَانِيَّةُ، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ تُعَادِي الْأُخْرَى. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَيْ: بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءٌ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

_ (5) سورة المائدة: 5/ 13. [.....]

وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، إِذْ مُوجَبُ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا هُوَ الْخُلُودُ فِي النار. يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ثُمَّ نَزَلَ سَائِرُ السُّورَةِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَعُمُّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ خَاصَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَى الْيَهُودُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الرَّجْمِ، فَاجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ أَعْلَمُ» ؟ فَأَشَارُوا إِلَى ابْنِ صُورِيَّا فَقَالَ: «أَنْتَ أَعْلَمُهُمْ» قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ قَالَ: «أَنْتَ أَعْلَمُهُمْ» ؟ قَالَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، قَالَ: «فَنَاشَدْتُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالَّذِي رَفَعَ الطُّورَ فَنَاشَدَهُ بِالْمَوَاثِيقِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخَذَهُ أَفْكَلٌ، فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَنَا نِسَاءٌ حِسَانٌ فَكَثُرَ فِينَا الْقَتْلُ، فَاخْتَصَرْنَا فَجَلَدْنَا مِائَةً مائة، وحلقنا الرؤوس، وخالفنا بين الرؤوس على الدبرات أَحْسَبُهُ قَالَ: الْإِبِلِ. قَالَ: فأنزل الله يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يُخْفُونَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّجْمَ وَنَحْوَهُ. وَأَكْثَرُ نَوَازِلِ الْإِخْفَاءِ إِنَّمَا نَزَلَتْ لِلْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجَاوِرِي الرَّسُولِ فِي مُهَاجَرِهِ. وَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ إِعْلَامَهُ بِمَا يُخْفُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا يَصْحَبُ الْقُرَّاءَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْكِتَابِ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أَيْ: مِمَّا يُخْفُونَ لَا يُبَيِّنُهُ إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلَا يَفْضَحُكُمْ بِذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَيْكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ تَخْفِيفِ مَا كَانَ شُدِّدَ عَلَيْهِمْ، وَتَحْلِيلِ مَا كَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِهَا، وَهَذَا الْمَتْرُوكُ الَّذِي لَا يُبَيَّنُ هُوَ فِي مَعْنَى افْتِخَارِهِمْ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَضْحُهُمْ بِهِ وَتَكْذِيبُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاعِلَ يُبَيِّنُ وَيَعْفُو عَائِدٌ عَلَى رَسُولُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ قِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ سَمَّاهُ نُورًا لِكَشْفِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ، أَوْ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْإِعْجَازِ. وَقِيلَ: النُّورُ الرَّسُولُ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: النُّورُ مُوسَى، وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ التَّوْرَاةُ. وَلَوِ اتَّبَعُوهَا حَقَّ الِاتِّبَاعِ لَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هِيَ آمِرَةٌ بِذَلِكَ مُبَشِّرَةٌ بِهِ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ أَيْ رِضَا اللَّهِ سُبُلُ السَّلَامِ طُرُقُ النَّجَاةِ،

وَالسَّلَامَةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعُودُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الرَّسُولِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ على الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: سُبُلُ السَّلَامِ، قِيلَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسُبُلُهُ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَهُ. وَقِيلَ: طُرُقُ الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسَلَّامٌ، وَحُمَيْدٌ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: بِهُ اللَّهُ بِضَمِّ الْهَاءِ حَيْثُ وَقَعَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ شِهَابٍ: سُبْلَ سَاكِنَةَ الْبَاءِ. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَيْ بِتَمْكِينِهِ وَتَسْوِيغِهِ. وَقِيلَ: ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ وَنُورُ الْعِلْمِ. وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هُوَ دِينُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ. وَقِيلَ: طَرِيقُ الْجَنَّةِ. وقيل: ريق الْحَقِّ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ كُلَّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَتُكَرَّرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْفِعْلُ فِيهَا مُسْنَدٌ إِلَيْهِ تَعَالَى. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ حَقِيقَةً، وَحَقِيقَةُ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ، وَمَنْ كَانَ ابْنَ امْرَأَةٍ مَوْلُودًا مِنْهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَائِلُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَقَالَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ مَعْبُودَهُمْ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ أَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ: الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَالرُّوحُ أَيِ الْحَيَاةُ وَيُسَمُّونَهَا رُوحَ الْقُدُسِ. وَأَنَّ الِابْنَ لَمْ يَزَلْ مَوْلُودًا مِنَ الْأَبِ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَبُ وَالِدًا لِلِابْنِ، وَلَمْ تَزَلِ الرُّوحُ مُنْتَقِلَةً بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَاهُوتٌ وَنَاسُوتٌ أَيْ: إِلَهٌ وَإِنْسَانٌ. فَإِذَا قَالُوا: الْمَسِيحُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَقَدْ قَالُوا اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ القائلين هذا الْقَوْلِ فِرْقَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ يقولون: إن الكلمة اتخذت بِعِيسَى سَوَاءٌ قُدِّرَتْ ذَاتًا أَمْ صِفَةً. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ مِنَ النَّصَارَى هِيَ الْقَائِلَةُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَكُلُّ طَوَائِفِهِمُ الثَّلَاثَةُ الْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالْمَلْكَانِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ، يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالَّذِي يُقِرُّونَ بِهِ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ إِلَهٌ. وَإِذَا اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ إِلَهٌ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّهُ اللَّهُ انْتَهَى. وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ نَصَارَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ فِيهِمْ، وَذَكَرَ لِي أَنَّ عِيسَى نَفْسَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَصَارَى الْأَنْدَلُسِ مَلْكِيَّةٌ. قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَعَجَّبَ مِنْ

قَوْلِي وَقَالَ: إِذَا كُنْتَ أَنْتَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ قَادِرًا عَلَى أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ؟ فَاسْتَدْلَلْتُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَرْطِ غَبَاوَتِهِ وَجَهْلِهِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ نَجْرَانَ، وَزَعَمَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهُ الْأَرْضِ، وَاللَّهُ إِلَهُ السَّمَاءِ. وَمِنْ بَعْضِ اعْتِقَادَاتِ النَّصَارَى اسْتَنْبَطَ مَنْ تَسَتَّرَ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا وَانْتَمَى إِلَى الصُّوفِيَّةِ حُلُولَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنْ مَلَاحِدَتِهِمْ إِلَى الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ وَالْوَحْدَةِ: كَالْحَلَّاجِ، وَالشَّوْذِيِّ، وَابْنِ أَحْلَى، وَابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمُقِيمِ كَانَ بِدِمَشْقَ، وَابْنِ الْفَارِضِ. وَأَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ كَابْنِ سَبْعِينَ، وَالتُّسْتَرِيِّ تِلْمِيذِهِ، وَابْنِ مُطَرِّفٍ الْمُقِيمِ بِمُرْسِيَةَ، وَالصَّفَّارِ الْمَقْتُولِ بِغِرْنَاطَةَ، وَابْنِ اللَّبَّاجِ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْمُقِيمُ كَانَ بِلُورَقَةَ. وَمِمَّنْ رَأَيْنَاهُ يُرْمَى بِهَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ الْعَفِيفُ التِّلِمْسَانِيُّ وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، وَابْنُ عَيَّاشٍ الْمَالِقِيُّ الْأَسْوَدُ الْأَقْطَعُ الْمُقِيمُ كَانَ بِدِمَشْقَ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُؤَخَّرِ الْمُقِيمُ كَانَ بِصَعِيدِ مِصْرَ، وَالْأَيْكِيُّ الْعَجَمِيُّ الَّذِي كَانَ تَوَلَّى الْمَشْيَخَةَ بَخَانِقَاهِ سَعِيدِ السعداء بالقاهر مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَأَبُو يَعْقُوبَ بْنُ مُبَشِّرٍ تِلْمِيذُ التُّسْتَرِيِّ الْمُقِيمُ كَانَ بِحَارَةِ زُوَيْلَةَ. وَإِنَّمَا سَرَدْتُ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ نُصْحًا لِدِينِ اللَّهِ يَعْلَمُ اللَّهُ ذَلِكَ وَشَفَقَةً عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَحْذَرُوا فَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَرُسُلَهُ وَيَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. وَقَدْ أُولِعَ جَهَلَةٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي لِلتَّصَوُّفِ بِتَعْظِيمِ هَؤُلَاءِ وَادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ صَفْوَةُ اللَّهِ وَأَوْلِيَاؤُهُ، وَالرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةِ وَالْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ هُوَ مِنْ عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هو المسيح فِرْقَةٌ مِنَ النَّصَارَى، وَكُلُّ فِرَقِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ يَجْعَلُ لِلْمَسِيحِ حَظًّا مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِيلَ: كَانَ فِي النَّصَارَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ يُؤَدِّي إِلَيْهِ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يَخْلُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُدَبِّرُ الْعَالَمَ. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ. وَالْفَاءُ فِي: فَمَنْ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ تَضَمَّنَتْ كَذِبَهُمْ فِي مَقَالَتِهِمْ التَّقْدِيرُ: قُلْ كَذَبُوا، وَقُلْ لَيْسَ كَمَا قَالُوا فَمَنْ يَمْلِكُ، وَالْمَعْنَى: فَمَنْ يَمْنَعُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْئًا؟ أَيْ: لَا أَحَدَ يَمْنَعُ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ مَنِ ادَّعَوْهُ إِلَهًا مِنَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَأُمَّهُ عَبْدَانِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى رَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُمَا، بَلْ تَنْفُذُ فِيهِمَا إرادة الله تعالى، ومن تَنْفُذُ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَعَطَفَ عَلَيْهِمَا: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِيَكُونَا قَدْ ذُكِرَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا،

وَمَرَّةً بِالِانْدِرَاجِ فِي الْعَامِّ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَعَلُّقِ نَفَاذِ الْإِرَادَةِ فِيهِمَا. وَلِيُعْلَمَ، أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهِمَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ أَنْ تَحِلَّ بِهِ الْحَوَادِثُ، وَأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهَا. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْكَرَّامِيَّةِ. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي الْأَرْضِ، فَهُمَا مَقْهُورَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، مَمْلُوكَانِ لَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ فَعَلَ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ ذَلِكَ الْمُلْكُ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ. يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَيْ إِنَّ خَلْقَهُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، بَلْ مَا تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ بإيجاده أو جده وَاخْتَرَعَهُ، فَقَدْ يُوجِدُ شَيْئًا لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى كَآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَوَائِلِ الْأَجْنَاسِ الْمُتَوَلِّدِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقَدْ يَخْلُقُ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَقَدْ يَخْلُقُ مِنْ أُنْثَى لَا مِنْ ذَكَرٍ مَعَهَا كَالْمَسِيحِ. فَفِي قَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ مَخْلُوقَانِ. وَقِيلَ: مَعْنَى يخْلُقُ مَا يَشَاءُ كَخَلْقِ الطَّيْرِ عَلَى يَدِ عِيسَى مُعْجِزَةً، وَكَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَةِ وَالْأَبْرَصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِ وَلَا تُنْسَبَ إِلَى الْبَشَرِ الْمُجْرَى عَلَى يَدِهِ. وَتَضَمَّنَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ أَنْ مَنْ كَانَ مَخْلُوقًا مَقْهُورًا بِالْمِلْكِ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقدم تفسير هذه لجملة، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْقُدْرَةَ عَقِيبَ الِاخْتِرَاعِ وَذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ جَمِيعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالُوا عَنْ جَمِيعِهِمْ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي الْكَلَامِ لَفٌّ وَإِيجَازٌ. وَالْمَعْنَى: وَقَالَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنْ نَفْسِهَا خَاصَّةً: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، ويدل على ذلك، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ. وَالْبُنُوَّةُ هُنَا بُنُوَّةُ الْحَنَانِ وَالرَّأْفَةِ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَوْلَادَكَ بِكْرِي فَضَلُّوا بِذَلِكَ. وَقَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، لَا يَصِحُّ. وَلَوْ صَحَّ مَا رَوَوْا، كَانَ مَعْنَاهُ بِكْرًا فِي التَّشْرِيفِ وَالنُّبُوَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُمْ: أَبْنَاءُ اللَّهِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَأُقِيمَ هَذَا مَقَامَهُ أي: نحن أشياع الله ابْنَيِ اللَّهِ عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ، كَمَا قِيلَ لِأَشْيَاعِ أَبِي خُبَيْبٍ

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْخُبَيْبِيُّونَ، وَكَمَا كَانَ يَقُولُ رَهْطُ مَسْلَمَةَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ، وَيَقُولُ أَقْرِبَاءُ الْمَلِكِ وَحَشَمُهُ: نَحْنُ الْمُلُوكُ. وَأَحِبَّاؤُهُ جَمْعُ حَبِيبٍ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْبُوبُوهُ، أُجْرِيَ مَجْرَى فَعِيلٍ مِنَ الْمُضَاعَفِ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ نَحْوَ: لَبِيبٍ وَأَلِبَّاءَ. وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: بَعْضُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ، فَنُسِبَ إِلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضٍ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَمِيعِ. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنُونَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ أَيْ: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ لَهُ، يَفْخَرُونَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ خَوَّفَهُمُ الرَّسُولُ عِقَابَ اللَّهِ فَقَالُوا: أَتُخَوِّفُنَا بِاللَّهِ وَنَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ؟ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَغَيْرَهُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ السَّيِّدِ وَالْعَاقِبِ، خَاصَمُوا أَصْحَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَيَّرَهُمُ الصَّحَابَةُ بِالْكُفْرِ وَغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّمَا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْنَا كَمَا يَغْضَبُ الرَّجُلُ عَلَى وَلَدِهِ، نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. هَذَا قَوْلُ الْيَهُودِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ. قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ كَمَا زَعَمْتُمْ، فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ وَكَانُوا قَدْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ: نَحْنُ نَدْخُلُ النَّارَ فَنُقِيمُ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَتْ مَنْزِلَتُكُمْ مِنْهُ فَوْقَ مَنْزِلَةِ الْبَشَرِ لَمَا عَذَّبَكُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِمَسْخِ آبَائِهِمْ عَلَى تَعَدِّيهِمْ فِي السَّبْتِ، وَبِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَبِالتِّيهِ عَلَى امْتِنَاعِهِمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَبِافْتِضَاحِ مَنْ أَذْنَبَ مِنْهُمْ بِأَنْ يُصْبِحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ ذَنْبُهُ وَعُقُوبَتُهُ عَلَيْهِ فَتُنَفَّذُ فِيهِمْ، وَالْإِلْزَامُ بِكِلَا التَّعْذِيبَيْنِ صَحِيحٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِإِقْرَارِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَقَعُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَالِاحْتِجَاجُ بِمَا وَقَعَ أَقْوَى. وَخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ التَّعْذِيبَيْنِ: الدُّنْيَوِيَّ، وَالْأُخْرَوِيَّ فِي كَلَامِهِ، وَأَشْرَبَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَحَرَّفَ التَّرْكِيبَ الْقُرْآنِيَّ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَ: إِنْ صَحَّ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فَلِمَ تُذْنِبُونَ وَتُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِكُمْ فَتُمْسَخُونَ، وَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَى زَعْمِكُمْ؟ وَلَوْ كُنْتُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ لَكُنْتُمْ مِنْ جِنْسِ الْأَبِ غَيْرَ فَاعِلِينَ لِلْقَبَائِحِ، وَلَا مُسْتَوْجَبِينَ لِلْعَذَابِ. وَلَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّاءَهُ لَمَا عَصَيْتُمُوهُ، وَلَمَا عَاقَبَكُمُ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّاءَهُ لَمَا عَصَيْتُمُوهُ، أَنْ يَكُونَ أَحِبَّاؤُهُ جَمْعَ حَبِيبٍ بِمَعْنَى مُحِبٍّ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَعْصِي مَنْ يُحِبُّهُ، بِخِلَافِ الْمَحْبُوبِ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْصِي مُحِبَّهُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: النبوّة تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ، وَالْحَقُّ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ تَقْتَضِي الِاخْتِلَاطَ وَالْمُؤَانَسَةَ، وَالْحَقُّ

مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا لِلْقَدِيمِ، وَالْقَدِيمُ لَا بَعْضَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَحَدِيَّةَ حَقُّهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَحَبَّةً. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أَضْرَبَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لَهُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ آخَرَ مِنْ ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِنْ بَعْضِ مَنْ خَلَقَ، فَهُمْ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالْحُدُوثِ، وَهُمَا يَمْنَعَانِ الْبُنُوَّةَ. فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَلِدُ بَشَرًا، وَالْأَبُ لَا يَخْلُقُ ابْنَهُ، فَامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْبُنُوَّةُ، وَامْتَنَعَ بِتَعْذِيبِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَحِبَّاءَ اللَّهِ، فَبَطَلَ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ ادَّعَوْهُمَا. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَيْ يَهْدِيهِ لِلْإِيمَانِ فَيَغْفِرُ لَهُ. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أَيْ يُوَرِّطُهُ فِي الْكُفْرِ فَيُعَذِّبُهُ، أَوْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَهُمْ أَهْلُ الطَّاعَةِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَهُمُ الْعُصَاةُ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ، لِأَنَّ مِنَ الْعُصَاةِ عِنْدَنَا مَنْ لَا يُعَذِّبُهُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ يَغْفِرُ لَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ يُوجِبُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، أَوْ يَمْنَعَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلَهُ التَّصَرُّفُ التَّامُّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ الرُّجُوعُ بِالْحَشْرِ وَالْمَعَادِ. يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ والنصارى، والرسول هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَيُرَجِّحُهُ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ: وَأَنَّ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنَ عُبَادَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ، فو الله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. وَيُبَيِّنُ لَكُمْ أَيْ يُوَضِّحُ لَكُمْ وَيُظْهِرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ يُبَيِّنُ حذف اختصار، أَوْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. قَبْلَ هَذَا، أَيْ: يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ، أَوْ يَكُونَ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ: شَرَائِعَ الدِّينِ. أَوْ حذف اقتصارا واكتفاء بِذِكْرِ التَّبْيِينِ مُسْنَدًا إِلَى الْفَاعِلِ، دُونَ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّقَهُ بِمَفْعُولٍ، وَالْمَعْنَى: يَكُونُ مِنْهُ التَّبْيِينُ وَالْإِيضَاحُ. وَيُبَيِّنُ لَكُمْ هُنَا وَفِي الْآيَةِ قَبْلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحال. وعلى فترة متعلق بجاءكم، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى فُتُورٍ وَانْقِطَاعٍ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَالْفَتْرَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم وعيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ قَتَادَةُ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ

وَسِتُّونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: أَرْبَعُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ وَسِتُّونَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ كَانَ بَيْنَ مِيلَادِ عِيسَى وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، بُعِثَ فِي أَوَّلِهَا ثَلَاثَةُ أَنْبِيَاءَ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» وَهُوَ شَمْعُونُ وَكَانَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَنْبِيَاءَ، وَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ بَنِي عَبْسٍ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ» . وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ. وَقَالَ وَهْبٌ: سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَعِشْرُونَ. وَقِيلَ: سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ هَذَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ. فَإِنْ كَانَا كَمَا ذَكَرَ وَجَبَ أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْهُ لِسِوَاهُ. وَهَذِهِ التَّوَارِيخُ نَقَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنْ كُتُبِ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَتَحَرَّى النَّقْلَ. وَذَكَرَ ابْنُ سعد في الطبقات عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزَّمَخْشَرِيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَا: كَانَ بَيْنَ موسى وعيسى أَلْفُ سَنَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَلْفُ نَبِيٍّ، زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ دُونَ مَنْ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ. وَالْمَعْنَى: الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ عَلَى حِينِ انْطَمَسَتْ آثَارُ الْوَحْيِ، وَهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِ لِيَعُدُّوهُ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحَ بَابٍ إِلَى الرَّحْمَةِ، وَيُلْزِمُهُمُ الْحُجَّةَ فَلَا يَعْتَلُّوا غَدًا بِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنَبِّهُهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ. وَأَنْ تَقُولُوا: مفعول من أجله فقده الْبَصْرِيُّونَ: كَرَاهَةَ أَوْ حَذَارِ أَنْ تَقُولُوا. وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ: لِئَلَّا تَقُولُوا. وَيَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ: لَا تَعْتَدُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ، أَيْ لِمَنْ أَطَاعَ بِالثَّوَابِ، وَنَذِيرٌ لِمَنْ عَصَى بِالْعِقَابِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى وَلَا أَرْسَلَ بَعْدَهُ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هَذَا عَامٌّ فَقِيلَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنِ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ. وَقِيلَ: مِنَ الْبَعْثَةِ وَإِمْسَاكِهَا. وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا ذَكَرُوا. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ تَمَرُّدَ أَسْلَافِ الْيَهُودِ عَلَى مُوسَى، وعصيانهم إياهم، مَعَ تَذْكِيرِهِ إِيَّاهُمْ نِعَمَ اللَّهِ وَتَعْدَادِهِ لِمَا هُوَ الْعَظِيمُ مِنْهَا، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ هُمْ جَارُونَ مَعَكُمْ مَجْرَى أسلافهم مع

_ (1) سورة يس: 36/ 14.

مُوسَى. وَنِعْمَةُ اللَّهِ يُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ، وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى جِهَةِ إِعْلَامِهِمْ بِغَيْبِ كُتُبِهِمْ لِيَتَحَقَّقُوا نُبُوَّتَكَ. وَيَنْتَظِمُ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَلَقِّيهِمْ تِلْكَ النِّعَمِ بِالْكُفْرِ وَقِلَّةِ الطَّاعَةِ. وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ ثَلَاثًا: الْأُولَى: جَعْلُ أَنْبِيَاءَ فِيهِمْ وَذَلِكَ أَعْظَمُ الشَّرَفِ، إِذْ هُمُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَالْمُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ شَرَائِعَهُ. قِيلَ: لَمْ يُبْعَثْ فِي أُمَّةٍ مَا بُعِثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: الْأَنْبِيَاءُ هُنَا هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا مِنْ بَعْدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمُوسَى ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ جَعَلَ لَا يُرَادُ بِهَا حَقِيقَةُ الْمَاضِي بِالْفِعْلِ، إِذْ بَعْضُهُمْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ خِطَابِ مُوسَى إِيَّاهُمْ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُخْلَقْ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِيهِمْ. الثَّانِيَةُ: جَعْلُهُمْ مُلُوكًا ظَاهِرُهُ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا إِذْ جَعَلَ مِنْهُمْ مُلُوكًا، إِذِ الْمُلْكُ شَرَفٌ فِي الدُّنْيَا وَاسْتِيلَاءٌ، فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ مِنْهُمْ قَادَةَ الْآخِرَةِ وَقَادَةَ الدُّنْيَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: وَجَعَلَكُمْ أَحْرَارًا تَمْلِكُونَ وَلَا تُمْلَكُونَ، إِذْ كُنْتُمْ خَدَمًا لِلْقِبْطِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُمْ، فسمي استنقاذكم مُلْكًا. وَقَالَ قَوْمٌ: جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ وَتَفْجِيرِ الْحَجَرِ لَهُمْ، وَكَوْنِ ثِيَابِهِمْ لَا تَبْلَى ولا تنسخ وَتَطُولُ كُلَّمَا طَالُوا، فَهُمْ مُلُوكٌ لِرَفْعِ هَذِهِ الْكُلَفِ عَنْهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُلُوكًا لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْخُدَّامَ وَاقْتَنَوُا الْأَرِقَّاءَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَتَادَةُ: وَإِنَّمَا قَالَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، لِأَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَدَمَهُ آخَرُ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقِبْطَ كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَظَاهِرُ أَمْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُسَخِّرُ بعضا مدة تَنَاسَلُوا وَكَثُرُوا انْتَهَى. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ: مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَامْرَأَةٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَلَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ فَهُوَ مَلِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَخَادِمٌ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقال عكرمة: مَنْ مَلَكَ عِنْدَهُمْ خَادِمًا وَبَيْتًا دُعِيَ عِنْدَهُمْ مَلِكًا. وَقِيلَ: مِنْ لَهُ مَنْزِلٌ وَاسِعٌ فِيهِ مَاءٌ جَارٍ. وَقِيلَ: مَنْ لَهُ مَالٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفِ الْأَعْمَالِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ. وَقِيلَ: مُلُوكٌ لِقَنَاعَتِهِمْ، وَهُوَ مُلْكٌ خَفِيٌّ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَنْفَدُ» . وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا أَنْفُسَهُمْ وَذَادُوهَا عَنِ الْكُفْرِ وَمُتَابَعَةِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: مَلَكُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ التِّبْرِيزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. الثَّالِثَةُ: إِيتَاؤُهُ إِيَّاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ: بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالْحَجَرِ، وَالْغَمَامِ. وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ الدَّارُ وَالزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ. وَقِيلَ: كَثْرَةُ

الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَا أُوتِيَ أَحَدٌ مِنَ النِّعَمِ فِي زَمَانِ قَوْمِ مُوسَى مَا أُوتُوا، خُصُّوا بِفَلْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَإِخْرَاجِ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ مِنَ الْحَجَرِ، وَمَدِّ الْغَمَامِ فَوْقَهُمْ. وَلَمْ تُجْمَعِ النُّبُوَّةُ وَالْمُلْكُ لِقَوْمٍ كَمَا جُمِعَا لَهُمْ، وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ هُمُ الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَنْصَارُ دِينِهِ انْتَهَى. وَإِنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ خُصُوصَاتُ مَجْمُوعِ آيَاتِ مُوسَى. فَلَفْظُ الْعَالِمِينَ مُقَيَّدٌ بِالزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ أمة محمد قَدْ أُوتِيَتْ مِنْ آيَاتِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ: قَدْ ظُلِّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَمَامَةٍ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَكَلَّمَتْهُ الْحِجَارَةُ وَالْبَهَائِمُ، وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الشَّجَرَةُ، وَحَنَّ لَهُ الْجِذْعُ، ونبع الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَشَبِعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَلِيلِ الطَّعَامِ بِبَرَكَتِهِ، وَانْشَقَّ لَهُ الْقَمَرُ، وعد الْعُودُ سَيْفًا، وَعَادَ الْحَجَرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْخَنْدَقِ رَمْلًا مَهِيلًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ آيَاتِهِ الْعُظْمَى وَمُعْجِزَاتِهِ الْكُبْرَى. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ هِيَ تَوْطِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَتَقَدُّمٌ إِلَيْهِمْ بِمَا يُلْقِي مِنْ أَمْرِ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ لِيَقْوَى جَأْشُهُمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ لَا يَخْذُلُهُ اللَّهُ، بَلْ يُعْلِيهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَيَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ السَّلْطَنَةَ وَالْقَهْرَ عَلَيْهِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَآتَاكُمْ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لَهُمْ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ خِطَابٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَهَى الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمَا ذَكَّرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ، ذَكَّرَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ جَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُ آتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ الْعُمُومُ، فَإِنَّ اللَّهَ فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ مَا لَمْ يُسْبِغْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا ضُعِّفَ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ مِنَ خِطَابِ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ عَلَى قَانُونِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنْ خِطَابٍ إِلَى خِطَابٍ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ لَا يُنَاسِبُ مَنْ خُوطِبَ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ ثَانِيًا، فَيُقَوِّي بِذَلِكَ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ إِلَى الثَّانِي إِذَا حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: يَا قَوْمُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَذَا حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَهَذَا الضَّمُّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: قُلْ رَبُّ احْكُمْ بِالْحَقِّ بِالضَّمِّ وَهِيَ إِحْدَى اللُّغَاتِ الْخَمْسِ الْجَائِزَةِ فِي الْمُنَادَى المضاف لياء المتكلم. يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُقَدَّسَةُ الْمُطَهَّرَةُ، وَهِيَ

أَرِيحَا قَالَهُ: السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَوْضِعُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: إِيلِيَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَرَأْتُ فِي مُنَاجَاةِ مُوسَى قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ اخْتَرْتَ فَذَكَرَ أشياء ثم قالت: رَبَّ إِيلِيَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ قَالَ: إِيلِيَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَبَيْتَانِ بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ نَزُورُهُ ... وَبَيْتٌ بِأَعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ وَقِيلَ: الطُّورُ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: فِلَسْطِينُ وَدِمَشْقُ وَبَعْضُ الْأُرْدُنِّ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الشَّامُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: صَعِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَبَلَ لُبْنَانٍ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: انْظُرْ فَمَا أَدْرَكَهُ بَصَرُكَ فَهُوَ مُقَدَّسٌ، وَهُوَ مِيرَاثٌ لِذُرِّيَّتِكَ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَعَرِيشِ مِصْرَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يُخْتَلَفُ أَنَّهَا مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَعَرِيشِ مِصْرَ قَالَ: وَقَالَ الْأُدْفُوِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَالسِّيَرِ وَالْعُلَمَاءُ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهَا مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَعَرِيشِ مِصْرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّ دِمَشْقَ هِيَ قَاعِدَةُ الْجَبَّارِينَ انْتَهَى. وَالتَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ قِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ. وَقِيلَ: مِنَ الشِّرْكِ، جُعِلَتْ مَسْكَنًا وَقَرَارًا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَغَلَبَةُ الْجَبَّارِينَ عَلَيْهَا لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّسَةً. وَقِيلَ: الْمُقَدَّسَةُ الْمُبَارَكَةُ طُهِّرَتْ مِنَ الْقَحْطِ وَالْجُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: سُمِّيتْ مُقَدَّسَةً لِأَنَّ فِيهَا الْمَكَانَ الَّذِي يُتَقَدَّسُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلسَّطْلِ قدس لأنه يتوضأ وَيُتَطَهَّرُ. وَمَعْنَى كَتَبَهَا اللَّهُ لَكُمْ: قَسَمَهَا، وَسَمَّاهَا، أَوْ خَطَّ فِي اللَّوْحِ أَنَّهَا لَكُمْ مَسْكَنٌ وَقَرَارٌ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهَبَهَا لَكُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَنْشِيطٌ لَهُمْ وتقوية إذ أخبرهم بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَهَا لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ اسْتِعْمَالُ كَتَبَ فِي الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «1» وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ «2» وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَتَبَهَا بِمَعْنَى خَطَّ فِي الْأَزَلِ، وَقَضَى، فَلَا يَحْتَاجُ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ: اللَّفْظُ عَامٌّ. وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَكْتُوبَةٌ لِبَعْضِهِمْ وَحَرَامٌ عَلَى بَعْضِهِمْ، أَوْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِقَيْدِ امْتِثَالِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَمْتَثِلُوا، فَلَمْ يَقَعِ الْمَشْرُوطُ أَوِ التَّحْرِيمُ، مُقَيَّدٌ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمَّا انْقَضَتْ جَعَلَ مَا كَتَبَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَتَبَهَا لَهُمْ بِمَعْنَى أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا، فَلَا يُعَارِضُ التَّحْرِيمَ. حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا وَمَاتُوا فِي التِّيهِ، وَدَخَلَ مَعَ مُوسَى أَبْنَاؤُهُمُ الَّذِينَ لَمْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ماتا في

_ (1) سورة البقرة: 2/ 183. (2) سورة البقرة: 2/ 216.

التِّيهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ أَبْنَاؤُهُمْ مَعَ حَزْقِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ هِبَةً، ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِعِصْيَانِهِمْ. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أَيْ لَا تَنْكِصُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ مِنْ خَوْفِ الْجَبَابِرَةِ جُبْنًا وَهَلَعًا. وَقِيلَ: حَدَّثَهُمُ النُّقَبَاءُ بِحَالِ الْجَبَابِرَةِ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْبُكَاءِ وَقَالُوا: لَيْتَنَا مُتْنَا بِمِصْرَ، وَقَالُوا: تَعَالَوْا نَجْعَلْ عَلَيْنَا رَأْسًا يَنْصَرِفُ بِنَا إِلَى مِصْرَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ: لَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ، فِي دِينِكُمْ لِمُخَالَفَتِكُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَانْقِلَابِهِمْ خَاسِرِينَ، إِنْ كَانَ الِارْتِدَادُ حَقِيقِيًّا وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خُرِجَ مِنْهُ فَمَعْنَاهُ: يَصِيرُونَ إِلَى الذُّلِّ بَعْدَ الْعِزِّ وَالْخَلَاصِ مِنْ أَيْدِي الْقِبْطِ. وَإِنْ كَانَ الِارْتِدَادُ مَجَازًا وَهُوَ ارْتِدَادُهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَمَعْنَاهُ: يَخْسَرُونَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَثَوَابَ الْآخِرَةِ. وَحَقِيقٌ بِالْخُسْرَانِ مَنْ خَالَفَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ. قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ أَيْ: قَالَ النُّقَبَاءُ الَّذِينَ سَيَّرَهُمْ مُوسَى لِكَشْفِ حَالِ الْجَبَابِرَةِ، أَوْ قَالَ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ أَنْ يُطْلَعُوا عَلَى الْأَسْرَارِ وَأَنْ يُشَاوَرُوا فِي الْأُمُورِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ لِتَقَاعُسِهِمْ عَنِ الْقِتَالِ أَيْ: إِنَّ فِيهَا مَنْ لَا نُطِيقُ قِتَالَهُمْ. قِيلَ: هُمْ مِنْ بَقَايَا عَادٍ، وَقِيلَ: مِنَ الرُّومِ مِنْ وَلَدِ عِيصَ بْنِ إسحاق. وقرأ ابن السميفع: قَالُوا يَا مُوسَى فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ. وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها هَذَا تَصْرِيحٌ بِالِامْتِنَاعِ التَّامِّ مِنْ أَنْ يُقَاتِلُوا الْجَبَابِرَةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّفْيُ بِلَنْ. وَمَعْنَى حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا: بِقِتَالِ غَيْرِنَا، أَوْ بِسَبَبٍ يُخْرِجُهُمُ اللَّهُ بِهِ فَيَخْرُجُونَ. فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ وَهَذَا تَوْجِيهٌ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِخُرُوجِ الْجَبَّارِينَ مِنْهَا، إِذْ عَلَّقُوا دُخُولَهُمْ عَلَى شَرْطٍ مُمْكِنٍ وُقُوعُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَشُكُّوا فِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنْ كَانَ نُكُوصُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مِنْ خَوَرِ الطَّبِيعَةِ وَالْجُبْنِ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ «1» . وَقِيلَ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَقَعَ خُرُوجُ الْجَبَّارِينَ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ الْأَشْهَرُ عند

_ (1) سورة البقرة: 2/ 246.

الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونَ بْنِ إفرائيم بْنِ يُوسُفَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مُوسَى، وَكَالِبُ بْنُ يُوقَنَّا خَتَنُ مُوسَى عَلَى أُخْتِهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَيُقَالُ فِيهِ: كِلَابُ، وَيُقَالُ: كَالُوبُ، وَهُمَا اللَّذَانِ وَفَّيَا مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ مُوسَى فِي كَشْفِ أَحْوَالِ الْجَبَابِرَةِ فَكَتَمَا مَا اطَّلَعَا عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْجَبَابِرَةِ إِلَّا عَنْ مُوسَى، وَأَفْشَى ذَلِكَ بَقِيَّةُ النُّقَبَاءِ فِي أَسْبَاطِهِمْ فَآلَ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْخَوَرِ وَالْجُبْنِ بِحَيْثُ امْتَنَعُوا عَنِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: الرَّجُلَانِ كَانَا مِنَ الْجَبَّارِينَ آمَنَا بِمُوسَى وَاتَّبَعَاهُ، وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ. فَإِنْ كَانَ الرَّجُلَانِ هُمَا يُوشَعُ وَكَالِبُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَخَافُونَ، أَيْ: يَخَافُونَ اللَّهَ، وَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ مَعَ مُوسَى أَقْوَامٌ يَخَافُونَ اللَّهَ فَلَا يُبَالُونَ بِالْعَدُوِّ لِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ وَرَبْطِ جَأْشِهِمْ، وَهَذَانِ مِنْهُمْ. أَوْ يَخَافُونَ الْعَدُوَّ، وَلَكِنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ، أَوْ يَخَافُهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي يَخَافُونَ عَائِدًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالضَّمِيرُ الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَهُمْ أَيْ: يَخَافُهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، ومجاهد، يُخَافُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلَانِ يُوشِعَ وَكَالِبَ. وَمَعْنَى يُخَافُونَ أَيْ: يُهَابُونَ وَيُوَقَّرُونَ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُمْ لِتَقْوَاهُمْ وَفَضْلِهِمْ، ويحتمل أن يكون من أَخَافَ أَيْ يُخِيفُونَ: بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ وَزَجْرِهِ وَوَعِيدِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَدْحًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى «1» وَالْجُمْلَةُ مِنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: رَجُلَانِ، وَصْفًا أَوَّلًا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِالْجُمْلَةِ. وَهَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَكْثَرِ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ أَوِ الظَّرْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ إِذَا وُصِفَتْ بِهِمَا، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، وَأَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَيْلَكُمُ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ. وَالْبَابُ: بَابُ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ، وَالْمَعْنَى: أَقْدِمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَكَافِحُوا حَتَّى تَدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى كَانَ قَدْ أَنْزَلَ مَحَلَّتَهُ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قَالَا ذَلِكَ ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «2» . وَقِيلَ: رَجَاءً لِنَصْرِ اللَّهِ رُسُلَهُ، وَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِمْ. وَمَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دِيَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا حَافِظِي بَابِ مَدِينَتِهِمْ حَتَّى دُخِلَ وَهُوَ الْمُهِمُّ، فَلَأَنْ لَا يَحْفَظُوا مَا وَرَاءَ الْبَابِ أَوْلَى. وَعَلَى قَوْلِ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا مِنَ الْجَبَّارِينَ فَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَالَا

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 3. (2) سورة المائدة: 5/ 21.

لَهُمْ: إِنَّ الْعَمَالِقَةَ أَجْسَامٌ لَا قُلُوبَ فِيهَا فَلَا تَخَافُوهُمْ، وَارْجِعُوا إِلَيْهِمْ فَإِنَّكُمْ غَالِبُوهُمْ تَشْجِيعًا لَهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَيَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ عَصَوُا الرَّسُولَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِهَادِ مَعَ وَعْدِ اللَّهِ لَهُمُ السَّابِقِ، اسْتَرَابَا فِي إِيمَانِهِمْ، فَأَمَرَاهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ إِذْ هُوَ الْمَلْجَأُ وَالْمَفْزَعُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وعلق ذَلِكَ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ الَّذِي اسْتَرَابَا فِي حُصُولِهِ لِبَنِي إسرائيل. قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها لَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْقِتَالِ كَرَّرُوا الِامْتِنَاعَ عَلَى سَبِيلِ التوكيد بالمولين، وَقَيَّدُوا أَوَّلًا نَفْيَ الدُّخُولِ بِالظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ بِالِاسْتِقْبَالِ وَحَقِيقَتُهُ التَّأْبِيدُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ الْمُتَطَاوِلِ فَكَأَنَّهُمْ نَفَوُا الدُّخُولَ طُولَ الْأَبَدِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى تَعْلِيقِ ذَلِكَ بِدَيْمُومَةِ الْجَبَّارِينَ فِيهَا، فَأَبْدَلُوا زَمَانًا مُقَيَّدًا مِنْ زَمَانٍ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهُوَ بدل بعض من كل. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ظَاهِرُ الذَّهَابِ الِانْتِقَالُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشَبِّهَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ كُفْرٌ مِنْهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهَانَةً بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَقِلَّةَ مُبَالَاةٍ بِهِمَا وَاسْتِهْزَاءً، وَقَصَدُوا ذَهَابَهُمَا حَقِيقَةً لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَقَسْوَةِ قُلُوبِهِمُ الَّتِي عَبَدُوا بِهَا الْعِجْلَ، وَسَأَلُوا بِهَا رُؤْيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ ذَهَابِهِمَا بِقُعُودِهِمْ. وَيُحْكَى أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ خَرَّا لِوُجُوهِهِمَا قُدَّامَهُمْ لِشِدَّةِ مَا ورد عليهما فسموا بِرَجْمِهِمَا ، وَلِأَمْرٍ مَا قَرَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ بِالْمُشْرِكِينَ وَقَدَّمَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا «1» وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقْصِدُوا الذَّهَابَ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ كَمَا تَقُولُ: كَلَّمْتُهُ فذهب يحيبني، يُرِيدُ مَعْنَى الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ لِلْجَوَابِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أُرِيدَ إِقْبَالُهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالرَّبِّ هُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّبِّ هَارُونُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُحَبَّبًا لِسِعَةِ خُلُقِهِ وَرُحْبِ صَدْرِهِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: اذْهَبْ أَنْتَ وَكَبِيرُكَ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ يُخَلِّصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْكُفْرِ. وَرَبُّكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اذْهَبِ الْمُؤَكَّدِ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «2» وَرَدَدْنَا قَوْلَ من ذهب

_ (1) سورة المائدة: 5/ 82. (2) سورة البقرة: 2/ 35.

إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ يُمْكِنُ رَفْعُهُ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ التَّقْدِيرُ: فَاذْهَبْ وَلْيَذْهَبْ رَبُّكَ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ، وَرَبُّكَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. أَوْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ دُعَاءً وَالتَّقْدِيرُ فِيهِمَا: وَرَبُّكَ يُعِينُكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فَاسِدٌ بِقَوْلِهِ فَقَاتِلَا. إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ خَارَتْ طِبَاعُهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى النُّهُوضِ مَعَهُ لِلْقِتَالِ، وَلَا عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا، بَلْ أَقَامُوا حَيْثُ كَانَتِ الْمُحَاوَرَةُ بين موسى وبينهم. وها مِنْ قَوْلِهِ هَاهُنَا لِلتَّنْبِيهِ، وهنا ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْقَرِيبِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ قَاعِدُونَ. وَيَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أن يَكُونَ الْخَبَرُ الظَّرْفَ وَمَا بَعْدَهُ حَالٌ فَيَنْتَصِبُ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الِاسْمَ وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لَهُ. وَهُوَ أَفْصَحُ. قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي لَمَّا عَصَوْا أَمْرَ اللَّهِ وَتَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى وَسَمِعَ مِنْهُمْ مَا سَمِعَ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَسُوءِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ إِلَّا هَارُونَ قَالَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْطَوِي صَاحِبُهُ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالشَّكْوَى إِلَيْهِ، وَرِقَّةِ الْقَلْبِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ الرَّحْمَةَ وَتَسْتَنْزِلُ النُّصْرَةَ وَنَحْوُهُ قَوْلُ يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ «1» وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ إِلَى قِتَالِ الْمُنَافِقِينَ فَمَا أَجَابَهُ إِلَّا رَجُلَانِ، فَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَدَعَا لَهُمَا وَقَالَ: أَيْنَ تَتْبَعَانِ مِمَّا أُرِيدُ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَأَخِي مَعْطُوفٌ عَلَى نَفْسِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَأَخِي مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ: وَأَخِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، فَيَكُونُ قَدْ عَطَفَ جُمْلَةً غَيْرَ مُؤَكَّدَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤَكَّدَةٍ، أَوْ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ أَيْ: وَإِنَّ أَخِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ قَدْ عُطِفَ الِاسْمُ وَالْخَبَرُ عَلَى الْخَبَرِ نَحْوَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَعَمْرًا شَاخِصٌ، أَيْ: وَإِنَّ عَمْرًا شَاخِصٌ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَأَخِي مَرْفُوعًا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي أَمْلِكُ، وَأَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْمَفْعُولِ الْمَحْصُورِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَا يَمْلِكَانِ إِلَّا نَفْسَ مُوسَى فَقَطْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ مُوسَى يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ وَأَمْرَ أَخِيهِ فَقَطْ. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا مَعْطُوفًا عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي نَفْسِي، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ. وَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْحَصْرِ لَمْ يَثِقْ بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَى ثَبَاتِهِمَا لِمَا عَايَنَ من أحوال

_ (1) سورة يوسف: 12/ 86.

قَوْمِهِ وَتَلَوُّنِهِمْ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ، فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا النَّبِيَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي ثَبَاتِهِ. قِيلَ: أَوْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضجر عند ما سَمِعَ مِنْهُمْ تَعْلِيلًا لِمَنْ يُوَافِقُهُ، أَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَخِي، مَنْ يُوَافِقُنِي فِي الدِّينِ لَا هَارُونَ خَاصَّةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِمَا. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ دَعَا بِأَنْ يُفَرِّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ يَفْقِدَ وُجُوهَهُمْ وَلَا يُشَاهِدَ صُوَرَهُمْ إِذَا كَانُوا عَاصِينَ لَهُ مُخَالِفِينَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُسَّقِ. فَالْمُطِيعُ لَا يُرِيدُ صُحْبَةَ الْفَاسِقِ وَلَا يُؤْثِرُهَا لِئَلَّا يُصِيبَهُ بِالصُّحْبَةِ مَا يُصِيبُهُ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» «أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ» وَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَلَمْ يَكُونَا مَعَهُمْ فِي التِّيهِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، لِأَنَّ التِّيهَ كَانَ عِقَابًا خُصَّ بِهِ الْفَاسِقُونَ الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى فَافْصِلْ بَيْنَنَا بِحُكْمٍ يُزِيلُ هَذَا الِاخْتِلَافَ وَيَلُمُّ الشَّعَثَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى تَكُونَ مَنْزِلَةُ الْمُطِيعِ مُفَارَقَةً لِمَنْزِلَةِ الْعَاصِي الْفَاسِقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ تَحْكُمَ لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّ، وَعَلَيْهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ وَصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَيُوسُفُ بْنُ دَاوُدَ: فَافْرِقْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَالَ الرَّاجِزُ: يَا رَبِّ فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبيني ... أشدّ ما فرّق بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ السُّمَيْفِعِ: فَفَرِّقْ. وَالْفَاسِقُونَ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَاذِبُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَافِرُونَ. قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَأُضْمِرَ فِي قَالَ وَضَمِيرُ، فَإِنَّهَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُحَرَّمٌ دُخُولُهَا وَتَمَلُّكُهُمْ إِيَّاهَا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى انْتِظَامِ قَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «2» مَعَ قَوْلِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ. فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا مَعَهُمْ فِي التِّيهِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَرَوْحًا وَسَلَامًا لَهُمَا، لَا عُقُوبَةً، كَمَا كَانَتِ النَّارُ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى سَارَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ يُوشَعُ وَكَالِبُ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ، فَفَتَحَ أَرِيحَا وَقَتَلَ عُوجَ بْنَ عُنُقَ ، وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ عُوجَ وَكَيْفِيَّةِ قَتْلِ مُوسَى لَهُ مَا لَا يَصِحُّ. وَأَقَامَ مُوسَى فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قُبِضَ. وَقِيلَ: مَاتَ هارون في

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 25. (2) سورة المائدة: 5/ 21.

التِّيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي هَذَا. وَرُوِيَ: أَنَّ مُوسَى مَاتَ فِي التِّيهِ بَعْدَ هَارُونَ بِثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ. وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ. وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَنَبَّأَ اللَّهُ يُوشَعَ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً فَصَدَّقَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْجَبَابِرَةِ فَصَدَّقُوهُ وَبَايَعُوهُ، وَسَارَ فِيهِمْ إِلَى أَرِيحَا وَقَتَلَ الْجَبَّارِينَ وَأَخْرَجَهُمْ، وَصَارَ الشَّامُ كُلُّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفِي تِلْكَ الْحَرْبِ وَقَفَتْ لَهُ الشَّمْسُ سَاعَةً حَتَّى اسْتَمَرَّ هزم الْجَبَّارِينَ ، وَقَدْ أَلَمَّ بِذِكْرِ وُقُوفِ الشَّمْسِ لِيُوشَعَ أَبُو تَمَّامٍ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ: فَرُدَّتْ عَلَيْنَا الشَّمْسُ وَاللَّيْلُ رَاغِمٌ ... بِشَمْسٍ بَدَتْ مِنْ جَانِبِ الْخِدْرِ تَطْلُعُ نَضَا ضوؤها صِبْغَ الدُّجُنَّةِ وَانْطَوَى ... لِبَهْجَتِهَا ثوب السماء المجزع فو الله مَا أَدْرِي أَأَحْلَامُ نَائِمٍ ... أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي قَوْلِهِ: أَرْبَعِينَ مُحَرَّمَةٌ، فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ مُقَيَّدًا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ يَتِيهُونَ مُسْتَأْنَفًا أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ يَتِيهُونَ أَيْ: يَتِيهُونَ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مُؤَقَّتٍ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، بَلْ يَكُونُ إِخْبَارًا بِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَمُوتُ فِيهَا مَنْ مَاتَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَنْ كَانَ جَاوَزَ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يَعِشْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ دُونَ الْعِشْرِينَ عَاشُوا، كَأَنَّهُ لَمْ يَعِشِ الْمُكَلَّفُونَ الْعُصَاةُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الزَّجَّاجُ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي أَرْبَعِينَ مُحَرَّمَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي أَرْبَعِينَ مُضْمَرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ يَتِيهُونَ الْمُتَأَخِّرُ انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْعَامِلَ مُضْمَرٌ كَمَا ذَكَرَ؟ بَلِ الَّذِي جَوَّزَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلَ فِيهِ يَتِيهُونَ نَفْسُهُ، لَا مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. وَالْأَرْضُ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا عَلَى مَا حُكِيَ طُولُهَا ثَلَاثُونَ مِيلًا، فِي عَرْضِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِسْعَةُ فَرَاسِخَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا عَرْضُهَا، وَطُولُهَا ثَلَاثُونَ فَرْسَخًا. وَقِيلَ: سِتَّةُ فَرَاسِخَ فِي طُولِ اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَقِيلَ: تِسْعَةُ فَرَاسِخَ. وَتَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التِّيهَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ عَجِيبٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ جَازَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَسِيرُوا فَرَاسِخَ يَسِيرَةً وَلَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِاللَّيْلِ وَيَسِيرُونَ لَيْلَهُمْ أَجْمَعَ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا وَجَدُوا جُمْلَتَهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَدَأُوا مِنْهُ، وَيَسِيرُونَ النَّهَارَ جَادِّينَ حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا إِذَا هُمْ بِحَيْثُ ارْتَحَلُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَيْرُهُمْ تَحْلِيقًا. قَالَ مُجَاهِدٌ

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 إلى 38]

وَغَيْرُهُ: كَانُوا يَسِيرُونَ النَّهَارَ أَحْيَانًا وَاللَّيْلَ أَحْيَانًا، فَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَيُصْبِحُونَ حَيْثُ يُمْسُونَ، وَذَلِكَ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، وَكَانُوا فِي سَيَّارَةٍ لَا قَرَارَ لَهُمْ انْتَهَى. وَذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ مُقَاتِلِينَ، وَذَكَرُوا أَنَّ حِكْمَةَ التِّيهِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» عُوقِبُوا بِالْقُعُودِ، فَصَارُوا فِي صُورَةِ الْقَاعِدِينَ وَهُمْ سَائِرُونَ، كُلَّمَا سَارُوا يَوْمًا أَمْسَوْا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصْبَحُوا فِيهِ. وَذَكَرُوا أَنَّ حِكْمَةَ كَوْنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً هِيَ كَوْنُهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، جُعِلَ عِقَابُ كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً فِي التِّيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون تِيهُهُمْ بِافْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، وَقِلَّةِ اجْتِمَاعِ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى رَمَاهُمْ بِالِاخْتِلَافِ، وَعَلِمُوا أَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَفَرَّقَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْفَحْصِ، وَأَقَامُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَاجْتِمَاعٍ حَتَّى كَمُلَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُرُوجِهِمْ، وَهَذَا تِيهٌ مُمْكِنٌ مُحْتَمَلٌ عَلَى عُرْفِ الْبَشَرِ. وَالْآخَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ إِنَّمَا هُوَ خَرْقُ عَادَةٍ وَعَجَبٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ مِنَ الله تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَدِمَ مُوسَى عَلَى دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَحَزِنَ عَلَيْهِمْ انْتَهَى. فَهَذِهِ مَسْلَاةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَحْزَنَ عَلَى مَا أَصَابَ قَوْمَهُ، وَعَلَّلَ كَوْنَهُ لَا يَحْزَنُ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ فَاسِقُونَ بُهُوتٌ أَحِقَّاءُ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ مُعَاصِرُوهُ أَيْ: هَذِهِ فِعَالُ أَسْلَافِهِمْ فَلَا تَحْزَنْ أَنْتَ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ مَعَكَ وَرَدِّهِمْ عَلَيْكَ فَإِنَّهَا سَجِيَّةٌ خَبِيثَةٌ مَوْرُوثَةٌ عندهم. [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

_ (1) سورة المائدة: 5/ 24.

الْغُرَابُ: طَائِرٌ مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَغْرِبَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى غِرْبَانٍ. وَغُرَابٌ اسْمُ جِنْسٍ وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً مِنْ شَيْءٍ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهَا مَا يُمْكِنُ اشْتِقَاقُهُ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا، بَلِ الْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُشْتَقَّةٍ نَحْوَ: تُرَابٌ، وَحَجَرٌ، وَمَاءٌ. وَيُمْكِنُ غُرَابٌ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الِاغْتِرَابِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَتَشَاءَمُ بِهِ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْفِرَاقِ. وَقَالَ حَرَّانُ الْعُودِ: وَأَمَّا الْغُرَابُ فَالْغَرِيبُ الْمُطَوَّحُ. وَقَالَ الشَّنْفَرَى:

غُرَابٌ لِاغْتِرَابٍ مِنَ النَّوَى ... وبالباذين مِنْ حَبِيبٍ تُعَاشِرُهُ الْبَحْثُ فِي الْأَرْضِ نَبْشُ التُّرَابِ وَإِثَارَتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ بَرَاءَةُ بَحُوثٌ. وَفِي الْمَثَلِ: لَا تَكُنْ كَالْبَاحِثِ عَنِ الشَّفْرَةِ. السَّوْأَةُ: الْعَوْرَةُ. الْعَجْزُ: عَدَمُ الْإِطَاقَةِ، وَمَاضِيهِ عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَاشِيَةُ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ فِيهِ: فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. النَّدَمُ: التَّحَسُّرُ يُقَالُ مِنْهُ: نَدِمَ يَنْدَمُ. الصَّلْبُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ إِصَابَةُ صُلْبِهِ بِجِذْعٍ، أَوْ حَائِطٍ كَمَا تَقُولُ: عَانَهُ أي أصاب عينه، وكيده أصاب كيده. الْخِلَافُ: الْمُخَالَفَةُ، وَيُقَالُ: فَرَسٌ بِهِ شِكَالٌ مِنْ خِلَافٍ إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ. نَفَاهُ: طَرَدَهُ فَانْتَفَى، وَقَدْ لَا يَتَعَدَّى نَفَى. قَالَ القطامي: فأصبح جاراكم قَتِيلًا وَنَافِيًا. أَيْ مَنْفِيًّا. الْوَسِيلَةُ الْوَاسِلَةُ مَا يُتَقَرَّبُ مِنْهُ. يُقَالُ: وَسَلَهُ وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ، وَاسْتُعِيرَتِ الْوَسِيلَةُ لِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ لَبِيدٌ: أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ ... أَلَا كُلُّ ذِي لُبٍّ إِلَى اللَّهِ وَاسِلُ وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ: إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَابِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ السَّارِقُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا وَالسَّرَقُ وَالسَّرِقَةُ الِاسْمُ كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَرُبَّمَا قَالُوا سَرِقَةَ مَالًا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ السَّارِقُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَمَرُّدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعِصْيَانَهُمْ، أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النُّهُوضِ لِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، ذَكَرَ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ وَعِصْيَانَ قَابِيلَ أَمْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُمُ اقْتَفَوْا فِي الْعِصْيَانِ أَوَّلَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمُ انْتَهَوْا فِي خَوَرِ الطَّبِيعَةِ وَهَلَعِ النُّفُوسِ وَالْجُبْنِ وَالْفَزَعِ إِلَى غَايَةٍ بِحَيْثُ قَالُوا لِنَبِيِّهِمُ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ خَوَارِقُ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُمُ الْأَرْضَ المقدسة: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» وَانْتَهَى قَابِيلُ إِلَى طَرَفِ نَقِيضٍ مِنْهُمْ مَنِ الْجَسَارَةِ وَالْعُتُوِّ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِأَنْ أَقْدَمَ عَلَى أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَكْبَرِ الْمَعَاصِي بَعْدَ الشِّرْكِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا، بحيث كان

_ (1) سورة المائدة: 5/ 24.

أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَاشْتَبَهَتِ الْقِصَّتَانِ مِنْ حَيْثُ الْجُبْنُ عَنِ الْقَتْلِ وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْصِيَةُ بِهِمَا. وَأَيْضًا فَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ أَوَائِلَ الْآيَاتِ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ «1» وَبَعْدَهُ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ «2» وَقَوْلُهُ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «3» ثُمَّ قِصَّةُ مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا سَبَبُهُ الْحَسَدُ هَذَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ. وَقِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ انْطَوَتْ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ بَسْطِ الْيَدِ، وَمِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ، وَمِنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْبِ، وَدَعَوَاهُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنَ الْقَتْلِ، وَمِنَ الْحَسَدِ. وَمَعْنَى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ: أَيِ اقْرَأْ وَاسْرُدْ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعُودُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ أَوَّلًا، وَالْمُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ بِسَبَبِ هَمِّهِمْ بِبَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَى الرَّسُولِ. وَالْمُؤْمِنِينَ فَأُعْلِمُوا بِمَا هُوَ فِي غَامِضِ كُتُبِهِمُ الْأُوَّلِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لِلرَّسُولِ بِهَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، إِذْ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. وَالنَّبَأُ: هُوَ الْخَبَرُ. وَابْنَا آدَمَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقتادة، وغيرهما: هُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وَهُمَا ابْنَاهُ لِصُلْبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُونَا وَلَدَيْهِ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ: لِأَنَّ الْقُرْبَانَ إِنَّمَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلُ، وَوَهِمَ الْحَسَنُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ عَلَيْهِ كَيْفَ يُجْهَلُ الدَّفْنُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يُقْتَدَى فِيهِ بِالْغُرَابِ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ عَنْهُ: «إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» وَقَدْ كَانَ الْقَتْلُ قَبْلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ، أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي: وَاتْلُ أَيْ: مَصْحُوبًا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الصِّدْقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: تِلَاوَةً مُلْتَبِسَةً بِالْحَقِّ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ نَبَأَ أَيْ حَدِيثَهُمَا وَقِصَّتَهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ النَّبَأِ أَيِ: اتْلُ عَلَيْهِمُ النَّبَأَ نَبَأَ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ إِذْ لَا يُضَافُ إِلَيْهَا إلا الزمان، ونبأ لَيْسَ بِزَمَانٍ. وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ تَقْرِيبِ هَذَا الْقُرْبَانِ وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَكَانَ آدَمُ يُزَوِّجُ ذَكَرَ هَذَا الْبَطْنِ أُنْثَى ذَلِكَ الْبَطْنِ، وَأُنْثَى هَذَا ذَكَرَ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 11. [.....] (2) سورة المائدة: 5/ 15. (3) سورة المائدة: 5/ 18.

ذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لِلذَّكَرِ نكاح توءمته، فَوُلِدَ مَعَ قَابِيلَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا إِقْلِيمِيَا، وَوُلِدَ مَعَ هَابِيلَ أُخْتٌ دُونَ تِلْكَ اسْمُهَا لِبُوذَا، فَأَبَى قَابِيلُ إِلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ توءمته لا توءمة هَابِيلَ وَأَنْ يُخَالِفَ سُنَّةَ النِّكَاحِ إِيثَارًا لِجَمَالِهَا، وَنَازَعَ قَابِيلُ هَابِيلَ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: أَمَرَهُمَا آدَمُ بِتَقْرِيبِ الْقُرْبَانِ. وَقِيلَ: تَقَرَّبَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا، إِذْ كَانَ آدَمُ غَائِبًا تَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَالْقُرْبَانُ الَّذِي قَرَّبَاهُ: هُوَ زَرْعٌ لِقَابِيلَ، وَكَانَ صاحب زرع، وكبش هابل وَكَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ هَابِيلُ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وَهُوَ قَابِيلُ. أَيْ: فَتُقُبِّلَ الْقُرْبَانُ، وَكَانَتْ عَلَامَةُ التَّقَبُّلِ أَكْلَ النَّارِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ الْقُرْبَانَ الْمُتَقَبَّلَ، وَتَرْكَ غَيْرِ الْمُتَقَبَّلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ النَّارُ تَأْكُلُ الْمَرْدُودَ، وَتَرْفَعُ الْمَقْبُولَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ: قَرَّبَ صَدَقَةً وَتَقَرَّبَ بِهَا، لِأَنَّ تَقَرَّبَ مُطَاوِعُ قَرَّبَ انْتَهَى. وَلَيْسَ تَقَرَّبَ بِصَدَقَةٍ مُطَاوِعُ قَرَّبَ صَدَقَةً، لِاتِّحَادِ فَاعِلِ الْفِعْلَيْنِ، وَالْمُطَاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْفَاعِلُ، فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِعْلٌ، وَمِنَ الْآخَرِ انْفِعَالٌ نَحْوَ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَفَلَقْتُهُ فَانْفَلَقَ، وَلَيْسَ قَرَّبْتُ صَدَقَةً وَتَقَرَّبْتُ بِهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ فَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ. قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ هَذَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ أُبْرِزَ هَذَا الْخَبَرُ مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: لَأَقْتُلَنَّكَ حَسَدًا عَلَى تَقَبُّلِ قُرْبَانِكَ، وَعَلَى فَوْزِكَ بِاسْتِحْقَاقِ الْجَمِيلَةِ أُخْتِي. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَأَقْتُلَنْكَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَبْلَهُ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِمَ تَقْتُلُنِي وَأَنَا لَمْ أَجْنِ شَيْئًا وَلَا ذَنْبَ لِي فِي قَبُولِ اللَّهِ قُرْبَانِي؟ أَمَا إِنِّي أَتَّقِيهِ؟ وكتب علي: لأحب الخلق إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، جَوَابًا لِقَوْلِهِ: لَأَقْتُلَنَّكَ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ الْحَسَدُ لِأَخِيهِ عَلَى تَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى تَوَعُّدِهِ بِالْقَتْلِ قَالَ لَهُ: إِنَّمَا أُتِيتَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ لِانْسِلَاخِهَا مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى، لَا مِنْ قِبَلِي، فَلِمَ تَقْتُلُنِي؟ وَمَا لَكَ لَا تُعَاقِبُ نَفْسَكَ وَلَا تَحْمِلُهَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ فِي الْقَبُولِ، فَأَجَابَهُ بِكَلَامٍ حَكِيمٍ مُخْتَصَرٍ جَامِعٍ لِمَعَانٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ طَاعَةً إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ، فَمَا أَنْعَاهُ عَلَى أَكْثَرِ الْعَامِلِينَ أَعْمَالَهُمْ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ بَكَى حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ فَقَدْ كُنْتَ وَكُنْتَ: قَالَ: إِنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1» انْتَهَى

_ (1) سورة المائدة: 5/ 27.

كَلَامُهُ. وَلَمْ يَخْلُ مِنْ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ عَلَى عَادَتِهِ، يَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِي فَهْمِهِ إِلَى هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، وَالَّذِي قَدَّرْنَاهُ أَوَّلًا كَافٍ وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى لَأَقْتُلَنَّكَ حَسَدًا عَلَى تَقَبُّلِ قُرْبَانِكَ، فَعَرَّضَ لَهُ بِأَنَّ سَبَبَ قَبُولِ الْقُرْبَانِ هُوَ التَّقْوَى وَلَيْسَ مُتَّقِيًا، وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُنَّةِ النِّكَاحِ الَّتِي قَرَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَصَدَ خِلَافَهَا وَنَازَعَ، ثُمَّ كَانَتْ نَتِيجَةَ ذَلِكَ أَنْ بَرَزَتْ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أنها اتقاه الشِّرْكِ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَهُوَ مُوَحِّدٌ فَأَعْمَالُهُ الَّتِي تَصْدُقُ فِيهَا نِيَّتُهُ مَقْبُولَةٌ. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ: قُرْبَانُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّلَاةُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمَقْتُولِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّسُولِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ كَلَامِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ فِي قَالَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى مَا أَنَا بِمُنْتَصِرٍ لِنَفْسِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى مَا كُنْتُ لِأَبْتَدِئَكَ بِالْقَتْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: لَمْ يَكُنِ الدَّفْعُ عَنِ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَائِزًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: كَانَ هَابِيلُ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قَابِيلَ، وَلَكِنَّهُ تَحَرَّجَ مِنَ الْقَتْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَاصٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمَا تَحَرَّجَ هَابِيلُ مِنْ قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَسْلَمَ لَهُ كَمَا اسْتَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَرَكَ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ مَخِيلَةُ انْقِضَاءِ عُمْرِهِ فَبَنَى عَلَيْهَا، أَوْ بِإِخْبَارِ أَبِيهِ، وَكَمَا جَرَى لِعُثْمَانَ إِذْ بَشَّرَهُ الرَّسُولُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ، وَرَآهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قتل فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّكَ تُفْطِرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا» فَتَرَكَ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى قُتِلَ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْقِ عَلَى وَجْهِكَ وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» . وَقِيلَ: إِنَّ هَابِيلَ لَاحَتْ لَهُ أَمَارَاتُ غَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْ قَابِيلَ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ لِيَزْدَجِرَ عَنْهُ وَتَقْبِيحًا لِهَذَا الْفِعْلِ، وَلِهَذَا يُرْوَى أَنَّ قَابِيلَ صَبَرَ حَتَّى نَامَ هَابِيلُ فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ فَقَتَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المقتول علم عزل الْقَاتِلِ عَلَى قَتْلِهِ، ثُمَّ تَرَكَ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ جَاءَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَالْجَزَاءُ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ؟ (قُلْتُ) : لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ هَذَا الْوَصْفَ الشَّنِيعَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِالْبَاءِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ وَلَمْ يَنْسُبْهُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ انْتِقَادٌ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ، لَيْسَ جَزَاءً بَلْ هُوَ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ اللَّامِ فِي لَئِنْ الْمُؤْذِنَةِ بِالْقَسَمِ

وَالْمُوَطِّئَةِ لِلْجَوَابِ، لَا لِلشَّرْطِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَكَانَ بِالْفَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ جواب الشرط منفيا بما فلابد مِنَ الْفَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ «1» مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: وَلَوْ كَانَ أَيْضًا جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ خَرْمُ الْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ فَالْجَوَابُ لِلْقَسَمِ لَا لِلشَّرْطِ. وَقَدْ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلَامَهُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ «2» . فَقَالَ: مَا تَبِعُوا جَوَابَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَتَكَلَّمْنَا مَعَهُ هُنَاكَ فَيُنْظَرُ. إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ هَذَا ذِكْرٌ لِعِلَّةِ الِامْتِنَاعِ فِي بَسْطِ يَدِهِ إِلَيْهِ لِلْقَتْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَخَافُ اللَّهَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا مَجَازٌ لَا مَحَبَّةُ إِيثَارِ شَهْوَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ تَخْيِيرٌ فِي شَرَّيْنِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي الشَّرِّ خِيَارٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ قَتَلْتَنِي وَسَبَقَ بِذَلِكَ قَدَرٌ، فَاخْتِيَارِي أَنْ أَكُونَ مَظْلُومًا يَنْتَصِرُ اللَّهُ لِي فِي الْآخِرَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، لَا يُقَالُ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُرِيدَ شَقَاوَةَ أَخِيهِ وَتَعْذِيبَهُ بِالنَّارِ، لِأَنَّ جَزَاءَ الظَّالِمِ حَسَنٌ أَنْ يُرَادَ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ أَنْ يُرِيدَهُ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا مَا هُوَ حَسَنٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّمَا وَقَعَتِ الْإِرَادَةُ بَعْدَ مَا بَسَطَ يَدَهُ لِلْقَتْلِ وَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ، فَصَارَ بِذَلِكَ كَافِرًا لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَالْكَافِرُ يُرِيدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشَّرُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُرِيدَ مَا أَرَادَ اللَّهُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمَا آثِمَانِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، والحسن وقتادة: تَحْمِلُ إِثْمَ قَتْلِي وَإِثْمَكَ الَّذِي كَانَ مِنْكَ قَبْلَ قَتْلِي، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُكَ، وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا قَبْلَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِإِثْمِي أَنْ لَوْ قَاتَلْتُكَ وَقَتَلْتُكَ، وَإِثْمِ نَفْسِكَ فِي قِتَالِي وَقَتْلِي، وَهَذَا هُوَ الْإِثْمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» فَكَأَنَّ هَابِيلَ أَرَادَ أَنِّي لَسْتُ بِحَرِيصٍ عَلَى قَتْلِكَ، فَالْإِثْمُ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِكَ أُرِيدُ أَنْ تَحْمِلَهُ أَنْتَ مَعَ إِثْمِكَ فِي قَتْلِي.

_ (1) سورة يونس: 10/ 15. (2) سورة البقرة: 2/ 145.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَحْتَمِلُ إِثْمَ قَتْلِهِ لَهُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» ؟ (قُلْتُ) : الْمُرَادُ بِمِثْلِ إِثْمِي عَلَى الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ قِرَاءَةَ فُلَانٍ، وَكَتَبْتُ كِتَابَتَهُ، تُرِيدُ الْمِثْلَ وَهُوَ اتِّسَاعٌ فَاشٍ مُسْتَفِيضٌ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ غَيْرُهُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَحِينَ كَفَّ هَابِيلُ عَنْ قَتْلِ أَخِيهِ وَاسْتَسْلَمَ وَتَحَرَّجَ عَمَّا كَانَ مَحْظُورًا فِي شَرِيعَتِهِ مِنَ الدَّفْعِ، فَأَيْنَ الْإِثْمُ حَتَّى يَتَحَمَّلَ أَخُوهُ مِثْلَهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْإِثْمَانِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ مُقَدَّرٌ فَهُوَ يَتَحَمَّلُ مِثْلَ الْإِثْمِ الْمُقَدَّرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِمِثْلِ إِثْمِي لَوْ بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدِي انْتَهَى. وَقِيلَ: بِإِثْمِي، الَّذِي يَخْتَصُّ بِي فِيمَا فَرَطَ لِي، أَيْ: يُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِي فَتُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي، وَتَبُوءُ بِإِثْمِكَ فِي قَتْلِي. وَيُعَضِّدُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ فَيُزَادُ فِي حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِفَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ» وَتَلَخَّصَ مِنْ قَوْلِهِ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِإِثْمِي اللَّاحِقِ لِي، أَيْ: بِمِثْلِ إِثْمِي اللَّاحِقِ لِي عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ قَتْلِي لَكَ، وَإِثْمِكَ اللَّاحِقِ لَكَ بسبب قتلي. الثاني: بِإِثْمِي اللَّاحِقِ لَكَ بِسَبَبِ قَتْلِي، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ، وَإِثْمِكَ اللَّاحِقِ لَكَ قَبْلَ قَتْلِي. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِرَادَةِ الْمَجَازِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، التَّقْدِيرُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ لَا تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ كَقَوْلِهِ: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «2» أَيْ أَنْ لَا تَمِيدَ، وأن تَضِلُّوا أَيْ: لَا تَضِلُّوا، فَحَذَفَ لَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِرَارٌ مِنْ إِثْبَاتِ إِرَادَةِ الشَّرِّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَضَعَّفَ القرطبي هذا الوجه بقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ إِثْمَ الْقَاتِلِ حَاصِلٌ انْتَهَى. وَلَا يُضَعَّفُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، لِأَنَّ قَائِلَ هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ إِرَادَتِهِ الْقَتْلَ أَنْ لَا يَقَعَ الْقَتْلُ، بَلْ قَدْ لَا يُرِيدُهُ وَيَقَعُ. وَنَصَرَ تَأْوِيلَ النَّفْيِ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَبِيحٌ، وَإِرَادَةُ الْقَبِيحِ قَبِيحَةٌ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْبَحُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أَنَّى أُرِيدُ، أَيْ كَيْفَ أُرِيدُ؟ وَمَعْنَاهُ اسْتِبْعَادُ الْإِرَادَةِ وَلِهَذَا قَالَ، بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا استفهام عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَنَّى، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِرَادَةَ الْقَتْلِ مَعْصِيَةٌ حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْإِرَادَةِ، وَجَوَازُ وُرُودِهَا هُنَا، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا وَرَدَ في

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 164. (2) سورة النحل: 16/ 15.

الْقُرْآنِ فِي الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَقْوَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لِأَنَّهُ يُكَنَّى عَنِ الْمُقَامِ فِي النَّارِ مُدَّةً بِالصُّحْبَةِ. وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أَيْ وَكَيْنُونَتُكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ جَزَاؤُكَ، لِأَنَّكَ ظَالِمٌ فِي قَتْلِي. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: الظَّالِمِينَ، عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقَتْلِ، وَأَنَّهُ قَتْلٌ بِظُلْمٍ لَا بِحَقٍّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ هَابِيلَ نَبَّهَهُ عَلَى الْعِلَّةِ لِيَرْتَدِعَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا حِكَايَةُ كَلَامِ هَابِيلَ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَمُجَاهِدٌ: شَجَّعَتْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: زَيَّنَتْ لَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشِ: رَخَّصَتْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مِنَ الطَّوْعِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طَاعَ لَهُ كَذَا أَيْ أَتَاهُ طَوْعًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَابَعَتْهُ وَانْقَادَتْ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَّعَتْهُ لَهُ وَيَسَّرَتْهُ، مِنْ طَاعَ لَهُ الْمَرْتَعُ إِذَا اتَّسَعَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ فِعْلٌ مِنَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ، كَأَنَّ الْقَتْلَ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مُتَعَاصِيًا. وَأَصْلُهُ: طَاعَ لَهُ قَتْلُ أَخِيهِ أَيِ انْقَادَ لَهُ وَسَهُلَ، ثُمَّ عُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ فَصَارَ الْفَاعِلُ مَفْعُولًا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَتْلَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَصْعَبٌ عَظِيمٌ عَلَى النُّفُوسِ، فَرَدَّتْهُ هَذِهِ النَّفْسُ اللَّحُوحُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ طَائِعًا مُنْقَادًا حَتَّى أَوْقَعَهُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْجَرَّاحُ، وَالْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ، وَأَبُو وَاقِدٍ: فَطَاوَعَتْهُ، فَيَكُونُ فَاعَلَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ نَحْوَ: ضَارَبْتُ زَيْدًا، كَأَنَّ الْقَتْلَ يَدْعُوهُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ إِصَابَةَ قَابِيلَ، أَوْ كَأَنَّ النَّفْسَ تَأْبَى ذَلِكَ وَيَصْعُبُ عَلَيْهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ أَنْ يُطِيعَهُ الْآخَرُ، إِلَى أَنْ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَاوَعَتِ النَّفْسُ الْقَتْلَ فَوَافَقَتْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا جَاءَ مِنْ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَأَنْ يُرَادَ أَنْ قَتَلَ أَخِيهِ، كَأَنَّهُ دَعَا نَفْسَهُ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فطاوعته ولم تمتنع، وله لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ كَقَوْلِكَ: حَفِظْتُ لِزَيْدٍ مَالَهُ انْتَهَى. فَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ: ضَاعَفْتُ وَضَعِفْتُ مِثْلَ: نَاعَمْتُ وَنَعِمْتُ. وَقَالَ: فَجَاءُوا بِهِ عَلَى مِثَالِ عَاقَبْتُهُ، وَقَالَ: وَقَدْ يَجِيءُ فَاعَلْتُ لَا يُرِيدُ بِهَا عَمَلَ اثْنَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَيْهِ الْفِعْلَ كَمَا بَنَوْهُ عَلَى أَفْعَلْتُ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً مِنْهَا عَافَاهُ اللَّهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، أَغْفَلَهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي التَّصْرِيفِ: كَابْنِ عُصْفُورٍ، وَابْنِ مَالِكٍ، وَنَاهِيكَ بِهِمَا جَمْعًا وَاطِّلَاعًا، فَلَمْ يذكرا أَنَّ فَاعَلَ يَجِيءُ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَلَا فَعَلَ بِمَعْنَى فاعل. وقوله: وله لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ، يَعْنِي: فِي قَوْلِهِ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ

فَطَوَّعَتْ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ لَكَانَ كَلَامًا تَامًّا جَارِيًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ زِيَادَةِ الرَّبْطِ لِلْكَلَامِ، إِذِ الرَّبْطُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ. كَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: حَفِظْتُ مَالَ زَيْدٍ كَانَ كَلَامًا تَامًّا فَقَتَلَهُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَتَلَهُ وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ كَيْفِيَّتِهِ، وَمَكَانِ قَتْلِهِ، وَعُمْرِهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أَصْبَحَ: بِمَعْنَى صَارَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُقِيمَ بَعْضُ الزَّمَانِ مَقَامَ كُلِّهِ، وَخُصَّ الصَّبَاحُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدْءُ النَّهَارِ وَالِانْبِعَاثِ إِلَى الْأُمُورِ وَمَظِنَّةُ النَّشَاطِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّبِيعِ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا. وَقَوْلُ سَعْدٍ: ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو سَعْدٍ تُعَزِّزُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَعْلِيلِ كَوْنِ أَصْبَحَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، وَأُقِيمَ بَعْضُ الزَّمَانِ مَقَامَ كُلِّهِ بِكَوْنِ الصَّبَاحِ خُصَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدْءُ النَّهَارِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَضْحَى وَظَلَّ وَأَمْسَى وَبَاتَ بِمَعْنَى صَارَ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ بَدْءَ النَّهَارِ؟ فَكَمَا جَرَتْ هَذِهِ مَجْرَى صَارَ كَذَلِكَ أَصْبَحَ لَا لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ فِي الدُّنْيَا بِإِسْخَاطِ وَالِدَيْهِ وَبَقَائِهِ بِغَيْرِ أَخٍ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِسْخَاطِ رَبِّهِ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْخَاسِرِينَ لِلْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: مِنَ الْخَاسِرِينَ أَنْفُسَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ إِيَّاهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خُسْرَانُهُ أَنْ عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ لِسَاقِهَا إِلَى فَخْذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ نَارٍ وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَاصٍ لَا كَافِرٌ، فَيَكُونُ خُسْرَانَهُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مِنَ الْخَاسِرِينَ بِاسْوِدَادِ وَجْهِهِ، وَكُفْرِهِ بِاسْتِحْلَالِهِ مَا حُرِّمَ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا لَنَجِدُ ابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ يُقَاسِمُ أَهْلَ النَّارِ قِسْمَةً صَحِيحَةً فِي الْعَذَابِ عَلَيْهِ شِطْرُ عَذَابِهِمْ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ رُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ، فَخَافَ السِّبَاعَ فَحَمَلَهُ فِي جِرَابٍ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً حَتَّى أَرْوَحَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ السِّبَاعُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ لَهُ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحُفْرَةِ فَقَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ. وَقِيلَ: حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: طَلَبَ فِي ثَانِي يَوْمٍ إِخْفَاءَ قَتْلِ أَخِيهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا إِلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ، فَجَعَلَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ وَيُلْقِي التُّرَابَ

عَلَى الْغُرَابِ الْمَيِّتِ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا وَاحِدًا فَجَعَلَ يَبْحَثُ وَيُلْقِي التُّرَابَ عَلَى هَابِيلَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَيِّتٍ مَاتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ جَهِلَ سُنَّةَ الْمُوَارَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غُرَابٌ بَعَثَهُ اللَّهُ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَ قَابِيلَ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ هَابِيلَ، فَاسْتَفَادَ قَابِيلُ بِبَحْثِهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَبْحَثَ هُوَ فِي الْأَرْضِ فَيَسْتُرَ فِيهِ أَخَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّوْءَةِ هُنَا قِيلَ: الْعَوْرَةُ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مُوَارَاةُ جَمِيعِ الْجَسَدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَلِأَنَّ سَتْرَهَا أَوْكَدُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ جِيفَتِهِ. قِيلَ: فَإِنَّ الْمَيِّتَ كُلَّهُ عَوْرَةٌ، وَلِذَلِكَ كُفِّنَ بِالْأَكْفَانِ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يراد بِالسَّوْءَةِ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَسُوءُ النَّاظِرَ بِمَجْمُوعِهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَى الْمَقْتُولِ مِنْ حَيْثُ نَزَلَتْ بِهِ النَّازِلَةُ، لَا عَلَى جِهَةِ الْغَضِّ مِنْهُ، بل الغض لا حق لِلْقَاتِلِ وَهُوَ الَّذِي أَتَى بِالسَّوْءَةِ انْتَهَى. وَالسَّوْءَةُ الْفَضِيحَةُ لِقُبْحِهَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَا لقومي للسوءة السواء أَيْ لِلْفَضِيحَةِ الْعَظِيمَةِ. قَالُوا: وَيَحْتَمِلُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ قَتَلَ غُرَابٌ غُرَابًا أَوْ كَانَ مَيِّتًا، أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَخِيهِ عَائِدًا عَلَى الْغُرَابِ، أَيْ: لِيُرِيَ قَابِيلَ كَيْفَ يُوَارِي الْغُرَابُ سَوْءَةَ أَخِيهِ وَهُوَ الْغُرَابُ الْمَيِّتُ، فَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ بِالْأَدَاةِ كَيْفَ يُوَارِي قَابِيلُ سَوْءَةَ هَابِيلَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. لِأَنَّ الْغُرَابَ لَا تَظْهَرُ لَهُ سَوْءَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الإرادة هُنَا مِنْ جَعْلِهِ يَرَى أَيْ: يُبْصِرُ، وَعَلَّقَ لِيُرِيَهُ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وكيف معمولة ليواري. وليريه متعلق بيبحث. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَبَعَثَ، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي لِيُرِيَهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ حَقِيقَةٌ هِيَ مِنَ اللَّهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْغُرَابِ قَصْدُ الْإِرَاءَةِ وَإِرَادَتُهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْغُرَابِ أَيْ: لِيُرِيَهُ الْغُرَابُ، أَيْ: لِيُعَلِّمَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبَ تَعْلِيمِهِ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنْ كَانَ هَذَا الْمَبْعُوثُ غُرَابًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَمِنَ الطُّيُورِ كَوْنُهُ يُتَشَاءَمُ بِهِ فِي الْفِرَاقِ وَالِاغْتِرَابِ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقِيلَ: فَبَعَثَ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَجَهِلَ مُوَارَاتَهُ فَبَعَثَ. قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي اسْتَقْصَرَ إِدْرَاكَهُ وَعَقْلَهُ فِي جَهْلِهِ مَا يَصْنَعُ بِأَخِيهِ حَتَّى يُعَلَّمَ، وَهُوَ ذُو الْعَقْلِ الْمُرَكَّبُ فِيهِ الْفِكْرُ وَالرُّؤْيَةُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ طَائِرٍ لَا يَعْقِلُ. وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: الْإِنْكَارُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالنَّعْيُ أَيْ: لَا أَعْجَزُ عَنْ كَوْنِي مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، وَفِي ذَلِكَ هَضْمٌ لِنَفْسِهِ وَاسْتِصْغَارٌ لَهَا بِقَوْلِهِ: مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.

وَأَصْلُ النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ، ثُمَّ قَدْ يُنَادَى مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِمْ: يَا عَجَبًا وَيَا حَسْرَةً، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّعَجُّبُ. كَأَنَّهُ قَالَ: انْظُرُوا لِهَذَا الْعَجَبِ وَلِهَذِهِ الْحَسْرَةِ، فَالْمَعْنَى: تَنَبَّهُوا لِهَذِهِ الْهَلَكَةِ. وَتَأْوِيلُهُ هَذَا أوانك فاحصري. وقرأ الجمهور: يا ويلتا بِأَلِفٍ بَعْدِ التَّاءِ، وَهِيَ بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَصْلُهُ يَا وَيْلَتِي بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ. وَأَمَالَ حمزة والكسائي وأبو عمر وألف وَيْلَتَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَعَجَزْتُ بِفَتْحِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَفَيَّاضٌ، وَطَلْحَةُ، وَسُلَيْمَانُ: بِكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَإِنَّمَا مَشْهُورٌ الْكَسْرُ فِي قَوْلِهِمْ: عَجِزَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَبُرَتْ عَجِيزَتُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأُوَارِيَ بِنَصْبِ الْيَاءِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ أَكُونَ. كَأَنَّهُ قَالَ: أَعَجَزْتُ أَنْ أُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأُوَارِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ الْفَاءَ الْوَاقِعَةَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ تَنْعَقِدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالْجَوَابُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَهُنَا تَقُولُ: أَتَزُورُنِي فَأُكْرِمَكَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَزُرْنِي أُكْرِمْكَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا «1» أَيْ إِنْ يَكُنْ لَنَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُوا. وَلَوْ قُلْتَ هُنَا: إِنْ أَعْجَزْ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ أُوَارِ سَوْءَةَ أَخِي لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْمُوَارَاةَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَى عَجْزِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِثْلَ الْغُرَابِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ: فَأُوَارِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ: فَأَنَا أُوَارِي سَوْءَةَ أَخِي، فَيَكُونُ أُوَارِي مَرْفُوعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ بِالسُّكُونِ عَلَى فَأَنَا أُوَارِي، أَوْ عَلَى التَّسْكِينِ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ لِلتَّخْفِيفِ انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّهُ حَذَفَ الْحَرَكَةَ وَهِيَ الْفَتْحَةُ تَخْفِيفًا اسْتَثْقَلَهَا عَلَى حَرْفِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لُغَةٌ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى النَّصْبِ، لِأَنَّ نَصْبَ مِثْلَ هَذَا هُوَ بِظُهُورِ الْفَتْحَةِ، وَلَا تُسْتَثْقَلُ الْفَتْحَةُ فَتُحْذَفُ تَخْفِيفًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا ذَلِكَ لُغَةٌ كَمَا زَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَا يَصْلُحُ التَّعْلِيلُ بِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَالَ فِيهِ الْحَرَكَاتُ. وَهَذَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ- أَعْنِي النَّصْبَ- بِحَذْفِ الْفَتْحَةِ، لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، فَلَا تُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا إِذَا وُجِدَ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الِاسْتِئْنَافُ أَيْ: فَأَنَا أُوَارِي. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: سَوَةَ أَخِي بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْوَاوِ. وَلَا يَجُوزُ قَلْبُ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ عَارِضَةٌ كَهِيَ فِي سَمَوَلٍ وجعل. وَقَرَأَ أَبُو حَفْصٍ: سَوَّةَ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، وَأَدْغَمَ الْوَاوَ فِيهِ، كَمَا قَالُوا فِي شَيْءٍ شَيٍّ، وَفِي سَيِّئَةٍ سَيَّةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 53.

وَإِنْ رَأَوْا سَيَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... مِنِّي وَمَا عَلِمُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ قيل: هذه جملة محذوفة تقديره: فَوَارَى سَوْءَةَ أَخِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَدَمَهُ كَانَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ عِصْيَانِ وَإِسْخَاطِ أَبَوَيْهِ، وَتَبْشِيرِهِ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا لَا كَافِرًا. قِيلَ: وَلَمْ يَنْفَعْهُ نَدَمُهُ، لِأَنَّ كَوْنَ النَّدَمِ تَوْبَةً خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى حَمْلِهِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّادِمِينَ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِهِ لما تعب فيه مِنْ حَمْلِهِ، وَتَحَيُّرِهِ فِي أمر، وَتَبَيَّنَ لَهُ مِنْ عَجْزِهِ وَتَلْمَذَتِهِ لِلْغُرَابِ، وَاسْوِدَادِ لَوْنِهِ، وَسَخَطِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَنْدَمْ نَدَمَ التَّائِبِينَ انْتَهَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَابِيلَ، أَكَانَ كَافِرًا أَمْ عَاصِيًا؟ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهَا وَدَعُوا شَرَّهَا» وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ عَجَائِبَ مِمَّا جَرَى بِقَتْلِ هَابِيلَ مِنْ رَجَفَانِ الْأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَشُرْبِ الْأَرْضِ دَمَهُ، وَإِيسَالِ الشَّجَرِ، وَتَغَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ، وَحُمُوضَةِ الْفَوَاكِهِ، وَمَرَارَةِ الْمَاءِ، وَاغْبِرَارِ الْأَرْضِ، وَهَرَبِ قَابِيلَ بِأُخْتِهِ إِقْلِيمِيَا إِلَى عَدَنَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، وَعِبَادَتِهِ النَّارَ، وَانْهِمَاكِ أَوْلَادِهِ فِي اتِّخَاذِ آلَاتِ اللَّهْوِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ حَتَّى أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ بِالطُّوفَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَرُوِيَ أَنَّ آدَمَ مَكَثَ بَعْدَ قَتْلِهِ مِائَةَ سَنَةٍ لَا يَضْحَكُ، وَأَنَّهُ رَثَاهُ بِشِعْرٍ. وَهُوَ كَذِبٌ بَحْتٌ، وَمَا الشِّعْرُ إِلَّا مَنْحُولٌ مَلْحُونٌ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّعْرِ. وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ آدَمَ قَالَ شِعْرًا فَهُوَ كَذِبٌ، وَرَمَى ردم بِمَا لَا يَلِيقُ بِالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كُلَّهُمْ فِي النَّفْيِ عَنِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ «1» وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنُوحُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوَّلُ شَهِيدٍ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَيَصِفُ حُزْنَهُ عَلَيْهِ نَثْرًا مِنَ الْكَلَامِ شِبْهَ الْمُرْثِيَّةِ، فَتَنَاسَخَتْهُ الْقُرُونُ وَحَفِظُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْعَرَبِيَّةِ فَنَظَمَهُ فَقَالَ: تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ سِتَّةَ أَبْيَاتٍ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَجَابَهُ فِي الْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ بِخَمْسَةِ أَبْيَاتٍ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الشِّعْرِ: إِنَّهُ مَلْحُونٌ، يشير فيه إلى البيت وهو الثاني:

_ (1) سورة يس: 36/ 69.

تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةَ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ يَرْوِيهِ بَشَاشَةَ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ عَلَى الْإِقْوَاءِ، وَيُرْوَى بِنَصْبِ بَشَاشَةٍ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَرَفْعِ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ. وَلَيْسَ بِلَحْنٍ، قَدْ خَرَّجُوهُ عَلَى حَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْ بَشَاشَةٍ، وَنَصْبِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَحَذْفُ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. قَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ قُرِئَ: أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ «1» وَرُوِيَ وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ بِحَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كَتَبْنَا. وَقَالَ قَوْمٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ النَّادِمِينَ، أَيْ نَدِمَ مِنْ أَجْلِ مَا وَقَعَ. وَيُقَالُ: أَجَلَ الْأَمْرَ أَجَلًا وَآجِلًا إِذَا اجْتَنَاهُ وَحْدَهُ. قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ أَيْ جانبه، وَنَسَبَ هَذَا الْبَيْتَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى جَوَابٍ، وَهُوَ فِي دِيوَانِ زُهَيْرٍ. وَالْمَعْنَى: بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَإِذَا قُلْتَ: فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكَ، أَرَدْتُ أَنَّكَ جَنَيْتَ ذَلِكَ وَأَوْجَبْتَهُ. وَمَعْنَاهُ وَمَعْنَى مِنْ جَرَّاكَ وَاحِدٌ أَيْ: مِنْ جَرِيرَتِكَ. وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَتْلِ أَيْ: مِنْ جَنْيِ ذَلِكَ الْقَتْلِ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيِ: ابْتِدَاءِ الْكَتْبِ، وَنَشَأَ مِنْ أَجْلِ الْقَتْلِ، وَيَدْخُلُ عَلَى أَجْلِ اللَّامِ لِدُخُولِ مِنْ، وَيَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ وَاتِّصَالِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ بِشَرْطِهِ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ. وَيُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكَ وَلِأَجْلِكَ، وَتُفْتَحُ الْهَمْزَةُ أَوْ تُكْسَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ: بِكَسْرِهَا وَحَذْفِهَا وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا، كَمَا قَرَأَ وَرْشٌ بِحَذْفِهَا وَفَتْحِهَا وَنَقْلِ الْحَرَكَةِ إِلَى النُّونِ. وَمَعْنَى كَتَبْنَا أَيْ: كُتِبَ بِأَمْرِنَا فِي كُتُبٍ مُنَزَّلَةٍ عَلَيْهِمْ تَضَمَّنَتْ فَرْضَ ذَلِكَ، وَخُصَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمْ أُمَمٌ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ قَتْلُ النَّفْسِ وَكَانَ الْقِصَاصُ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلَى مَا رُوِيَ أَوَّلُ أُمَّةٍ نَزَلَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِمْ فِي قَتْلِ النَّفْسِ، وَغِلَظُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ طُغْيَانِهِمْ وَسَفْكِهِمُ الدِّمَاءَ، وَلِتَظْهَرَ مَذَمَّتُهُمْ فِي أَنْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ هَذَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَرْعَوُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ، بَلْ هَمُّوا بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظُلْمًا. وَمَعْنَى بِغَيْرِ نَفْسٍ: أَيْ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ فَيَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ إِلَّا بِإِحْدَى مُوجِبَاتِ قَتْلِهِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ فَسَادٍ، هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى نَفْسٍ أَيْ: وَبِغَيْرِ فَسَادٍ، وَالْفَسَادُ قِيلَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَقَطْعُ الْأَشْجَارِ، وَقَتْلُ الدَّوَابِّ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَحَرْقُ الزَّرْعِ وَمَا يَجْرِي مجراه، وهو

_ (1) سورة الإخلاص: 112/ 1- 2.

الْفَسَادُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَتَخَلَّصِ التَّشْبِيهُ إِلَى طَرَفَيْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَالَّذِي أَقُولُ: إِنَّ التَّشْبِيهَ بَيْنَ قَاتِلِ النَّفْسِ وَقَاتِلِ الْكُلِّ لَا يطرد مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، لَكِنَّ الشَّبَهَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ. إِحْدَاهَا: الْقَوَدُ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ. وَالثَّانِيَةُ: الْوَعِيدُ، فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ قَاتِلَ النَّفْسِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَتِلْكَ غَايَةُ الْعَذَابِ. فَإِنْ تَرَقَّبْنَاهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ قَاتِلُ الْجَمِيعِ أَنْ لَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ. وَالثَّالِثَةُ: انْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ فَإِنَّ نَفْسًا وَاحِدَةً فِي ذَلِكَ وَجَمِيعَ الْأَنْفُسِ سَوَاءٌ، وَالْمُنْتَهِكُ فِي وَاحِدَةٍ مَلْحُوظٌ بِعَيْنِ مُنْتَهِكِ الْجَمِيعِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ رَجُلَانِ حَلَفَا عَلَى شَجَرَتَيْنِ أَنْ لَا يَطْعَمَا مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا شَيْئًا، فَطَعِمَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَتِهِ، وَطَعِمَ الْآخَرُ ثَمَرَ شَجَرَتَيْهِ كُلَّهُ، فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْحِنْثِ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ الْمُشَابَهَةُ فِي الْإِثْمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا قَالَهُ: الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ فِي الْعَذَابِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، كما لو قال قَتَلَ النَّاسَ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ الْعَذَابَ يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ مِنْ حَيْثُ الْقِصَاصُ قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. وَتَقَدَّمَ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى قُبْحِ الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يُعِينُوا وَلِيَّ الْمَقْتُولِ حَتَّى يُقِيدُوهُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ أَوْلِيَاءَهُمْ جَمِيعًا ذَكَرَهُ: الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى. وَهَذَا الْأَمْرُ كَانَ مُخْتَصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، غُلِّظَ عَلَيْهِمْ كَمَا غُلِّظَ عَلَيْهِمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ: قُلْتُ: لِلْحَسَنِ يَا أَبَا سَعِيدٍ هِيَ لَنَا كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: أَيْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا كَانَ دِمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ دِمَائِنَا. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيِ: اسْتَنْقَذَهَا مِنَ الْهَلَكَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ أَيْ مَنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَلَاكٍ. وَقِيلَ مَنْ عَضَّدَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامًا عَادِلًا، لِأَنَّ نَفْعَهُ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا. وَقِيلَ: مَنْ تَرَكَ قَتْلَ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ بِكَفِّهِ أَذَاهُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: مَنْ زَجَرَ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَنَهَى عَنْهُ. وَقِيلَ: مَنْ أَعَانَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «1» . قَالَ الْحَسَنُ: وَأَعْظَمُ إِحْيَائِهَا أَنْ يُحْيِيَهَا مِنْ كُفْرِهَا، وَدَلِيلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً «2» انْتَهَى وَالْإِحْيَاءُ هُنَا مَجَازٌ، لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ حَقِيقَةً هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَمَنِ اسْتَسْقَاهَا وَلَمْ يُتْلِفْهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْمَجَازِ قَوْلُ مُحَاجِّ إِبْرَاهِيمَ: أَنَا أُحْيِي سَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 179. (2) سورة الأنعام: 6/ 122.

أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْإِسْرَافَ وَالْفَسَادَ فِيهِمْ هَذَا مَعَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَجِيءِ رُسُلِ اللَّهِ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمْ إِسْرَافٌ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ فِي الْحَدِّ، فَخَالَفُوا هَذَا الْمُقْتَضَى. وَالْعَامِلُ فِي بَعْدَ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَبَرُ إِنَّ، وَلَمْ تَمْنَعْ لَامُ الِابْتِدَاءِ مِنَ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَتْقَدِّمًا، لِأَنَّ دُخُولَهَا عَلَى الْخَبَرِ لَيْسَ بِحَقِّ التَّأَصُّلِ، وَالْإِشَارَةُ بذلك إِلَى مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، والمراد بالأرض أي: حيث ما حَلُّوا أَسْرَفُوا. وَظَاهِرُ الْإِسْرَافِ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ. وَقِيلَ لَمُسْرِفُونَ أَيْ: قَاتِلُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ كَقَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «1» . وَقِيلَ: هُوَ طَلَبُهُمُ الْكَفَاءَةَ فِي الْحَسَبِ حَتَّى يُقْتَلَ بِوَاحِدٍ عِدَّةٌ مِنْ قَتَلَتِهِمْ. إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةُ: نَزَلَتْ فِي عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ وَحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَبِهِ قَالَ: الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ، وَأَفْسَدُوا فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَبِي بُرْدَةَ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ قَتَلُوا قَوْمًا مَرُّوا بِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ بَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَبِي بُرْدَةَ مُوَادَعَةٌ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَلَا يُهَيِّجَ مَنْ أَتَاهُ مُسْلِمًا فَفَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُهُ وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَاسِخَةً وَلَا مَنْسُوخَةً. وَقِيلَ: نَسَخَتْ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالْعُرَنِيِّينَ مِنَ الْمُثْلَةِ، وَوَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا تَغْلِيظَ الْإِثْمِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَلَا فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ مَا هُوَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَرَتِّبٌ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّ الْمُحَارِبَ هُوَ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ فِي مِصْرٍ أَوْ بَرِيَّةٍ، فَكَادَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ ثَائِرَةٍ، وَلَا دَخَلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّ الْمُحَارِبِينَ هُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَيَلْزَمُهُ حَدُّ مَا اجْتَرَحَ مِنْ قَتْلٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَدْنَى الْحِرَابَةِ إِخَافَةُ الطَّرِيقِ ثُمَّ أَخْذُ الْمَالِ مَعَ الْإِخَافَةِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِخَافَةِ وَأَخْذِ المال والقتل

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 33.

وَمُحَارَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ حَمْلًا عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ انْدَفَعَ ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحَارَبَةُ هَنَا الشِّرْكُ، وَقَوْلُ عُرْوَةَ: الِارْتِدَادُ، غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ أَوْرَدَ مَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمَا. وَفِي قَوْلِهِ: يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، تَغْلِيظٌ شَدِيدٌ لِأَمْرِ الْحِرَابَةِ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِمُحَارَبَتِهِمْ، أَوْ يُضِيفُونَ فَسَادًا إِلَى الْمُحَارَبَةِ. وَانْتَصَبَ فَسَادًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ: يُفْسِدُونَ، لَمَّا كَانَ السَّعْيُ لِلْفَسَادِ جُعِلَ فَسَادًا. أَيْ: إِفْسَادًا. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: الْعُقُوبَاتُ الْأَرْبَعُ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِيقَاعِ مَا شَاءَ مِنْهَا بِالْمُحَارِبِ فِي أَيِّ رُتْبَةٍ كَانَ الْمُحَارِبُ مِنَ الرُّتَبِ على قَدَّمْنَاهَا، وَبِهِ قَالَ: النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَهُوَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ بِأَيْسَرِ الْعِقَابِ، وَلَا سِيَّمَا: إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا شُرُورٍ مَعْرُوفَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قتل فلابد مِنْ قَتْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَجَمَاعَةٌ: لِكُلِّ رُتْبَةٍ مِنَ الْحِرَابَةِ رُتْبَةٌ مِنَ الْعِقَابِ، فَمَنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَالْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ أَخَافَ فَقَطْ فَالنَّفْيُ، وَمَنْ جَمَعَهَا قُتِلَ وَصُلِبَ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: يُصْلَبُ حَيًّا وَيُطْعَنُ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ نَكَالًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَتْلُ إِمَّا ضَرْبًا بِالسَّيْفِ لِلْعُنُقِ، وَقِيلَ: ضَرْبًا بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنًا بِالرُّمْحِ أَوِ الْخِنْجَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِهِ مُكَافَأَةٌ لِمَنْ قَتَلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ فِي الْقِصَاصِ. وَمُدَّةُ الصَّلْبِ يَوْمٌ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، أَوْ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ، أَوْ مِقْدَارُ مَا يَسْتَبِينُ صَلْبُهُ. وَأَمَّا الْقَطْعُ فَالْيَدُ الْيُمْنَى مِنَ الرُّسْغِ، وَالرِّجْلُ الشِّمَالُ مِنَ الْمِفْصَلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مِنَ الْأَصَابِعِ وَيَبْقَى الْكَفُّ، وَمِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقِبُ. وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْأَصَابِعَ لَا تُسَمَّى يَدًا، وَنِصْفُ الرِّجْلِ لَا يُسَمَّى رِجْلًا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَلِيلُ الْمَالِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، فَيُقْطَعُ الْمُحَارِبُ إِذَا أَخَذَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُقْطَعُ إِلَّا مَنْ أَخَذَ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ. وَأَمَّا النَّفْيُ فَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُطَالِبَ أَبَدًا بِالْخَيْلِ وَالرَّجِلِ حَتَّى يُؤْخَذَ فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ وَيُخْرَجَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ: نَفْيُهُ أَنْ يُطْلَبَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ اللَّيْثِ وَمَالِكٍ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يُضْطَرُّ

مُسْلِمٌ إِلَى دُخُولِ دَارِ الشِّرْكِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ: النَّفْيُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الشِّرْكِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَمَاعَةٌ: يُنْفَى مِنْ بَلَدٍ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ قَاصٍ بَعِيدٌ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ النَّفْيُ قَدِيمًا إِلَى دَهْلَكٍ وَنَاصِعٍ، وَهُمَا مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَهْلَكٌ فِي أَقْصَى تِهَامَةَ، وَنَاصِعٌ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّفْيُ السَّجْنُ، وَذَلِكَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ: قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ مَسْجُونٌ: خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدنيا وتعجبنا الرؤيا بحل حَدِيثَنَا ... إِذَا نَحْنُ أَصْبَحَنَا الْحَدِيثُ عَنِ الرُّؤْيَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَهُ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي حَارَبَ فِيهَا إِنْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ فَيُنْفَى مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ فَلَا يَزَالُ يُطْلَبُ وَيُزْعَجُ وَهُوَ هَارِبٌ، فَزِعٌ إِلَى أَنْ يَلْحَقَ بِغَيْرِ عَمَلِ الْإِسْلَامِ. وَصَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَخُوفَ الْجَانِبِ غُرِّبَ وَسُجِنَ حَيْثُ غُرِّبَ، وَالتَّشْدِيدُ فِي أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ لِلتَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ يُوقِعُ بِهِمُ الْفِعْلَ، وَالتَّخْفِيفُ فِي ثَلَاثَتِهَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أَيْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ مِنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالنَّفْيِ. وَالْخِزْيُ هُنَا الْهَوَانُ وَالذُّلُّ وَالِافْتِضَاحُ. وَالْخِزْيُ الْحَيَاءُ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الِافْتِضَاحِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ افْتَضَحَ فَاسْتَحْيَا. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْصِيَةَ الْحِرَابَةِ مُخَالِفَةٌ لِلْمَعَاصِي غَيْرَهَا، إِذْ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ تَغْلِيظًا لِذَنْبِ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ «فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ التَّوْزِيعِ، فَيَكُونَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا إِنْ عُوقِبَ، وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ إِنْ سَلِمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعِقَابِ، فَتَجْرِيَ مَعْصِيَةُ الْحِرَابَةِ مَجْرَى سَائِرِ الْمَعَاصِي. وَهَذَا الْوَعِيدُ كَغَيْرِهِ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ هَذَا الذَّنْبَ، وَلَكِنْ فِي الْوَعِيدِ خَوْفٌ عَلَى الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ نَفَاذَ الْوَعِيدِ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُعَاقَبِينَ عِقَابَ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ مَا

تَرَتَّبَ عَلَى الْحِرَابَةِ، وَهَذَا فِعْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْعُرَانِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ لَهُ سُقُوطَ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا. وَقَالُوا: لَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ فِيهِ إِلَّا كَمَا يَنْظُرُ فِي سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ طُولِبَ بِدَمٍ نُظِرَ فيه أو قيد مِنْهُ بِطَلَبِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ طُولِبَ بِمَالٍ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ: يُؤْخَذُ مَا وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَيُطَالَبُ بِقِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: لَا يُطَالَبُ بِمَا اسْتَهْلَكَ، وَيُؤْخَذُ مَا وُجِدَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ، وَلَكِنْ لَوْ فَرَّ إِلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ جَاءَنَا تَائِبًا لَمْ أَرَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَا أَدْرِي هَلْ أَرَادَ ارْتَدَّ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَنَا تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْعَذَابِ الْعَظِيمِ الْمُعَدِّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَابْتِغَاءِ الْقُرُبَاتِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنَجِّي مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْعِقَابِ الْمُعَدِّ لِلْمُحَارِبِينَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ وَالْكَلْبِيِّينَ، أَوْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ، أَوْ فِي الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، نَصَّ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ ابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ لِأَنَّ بِهِ صَلَاحَ الْأَرْضِ، وَبِهِ قِوَامَ الدِّينِ، وَحِفْظَ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ مُغَايِرٌ لِأَمْرِ الْمُحَارَبَةِ، إِذِ الْجِهَادُ مُحَارَبَةٌ مَأْذُونٌ فِيهَا، وَبِالْجِهَادِ يُدْفَعُ الْمُحَارِبُونَ. وَأَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ وَالْبَأْسُ الَّذِي لِلْمُحَارِبِ مَقْصُورًا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يَضَعَ تِلْكَ النَّجْدَةَ الَّتِي وَهَبَهَا اللَّهُ لَهُ لِلْمُحَارَبَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلِ الْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ بِهَا، أَوِ الْحَاجَةُ، أَوِ الطَّاعَةُ، أَوِ الْجَنَّةُ، أَوْ أَفْضَلُ دَرَجَاتِهَا، أَقْوَالٌ لِلْمُفَسِّرِينَ. وَذَكَرَ رَجَاءٌ الْفَلَاحَ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ مَا أَمَرَ بِهِ قَبْلُ مِنَ التَّقْوَى وَابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ. وَالْفَلَاحُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَلَاصِ عَنِ الْمَكْرُوهِ، وَالْفَوْزِ بِالْمَرْجُوِّ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لَمَّا أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَعَاقِدِ الْخَيْرِ وَمَفَاتِحِ السَّعَادَةِ، وَذَكَرَ فَوْزَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَا آلوا إليه مِنَ الْفَلَاحِ، شَرَحَ حَالَ الْكُفَّارِ وَعَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. والجملة من لو وجوابها فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَمَعْنَى مَا فِي الْأَرْضِ: مِنَ صُنُوفِ الْأَمْوَالِ الَّتِي

يُفْتَدَى بِهَا، وَمِثْلَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَلَامُ كَيْ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ خَبَرُ إِنَّ وَهُوَ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مُسْتَقِرٌّ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِلْكِ لِيَجْعَلُوهُ فَدِيَةً لَهُمْ مَا تُقُبِّلَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَلُزُومِ الْعَذَابِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى نَجَاتِهِمْ مِنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ «يُقَالُ لِلْكَافِرِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ» وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ شَيْئَانِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمَعْطُوفٌ، وَهُوَ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، إِمَّا لِفَرْضِ تَلَازُمِهِمَا فَأُجْرِيَا مُجْرَى الْوَاحِدِ كَمَا قَالُوا: رُبَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَرَّ بِي، وَإِمَّا لِإِجْرَاءِ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: لِيَفْتَدُوا بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تكون الواو في: ومثله، بِمَعْنَى مَعَ، فَيُوَحَّدُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَبِمَ يَنْتَصِبُ الْمَفْعُولُ مَعَهُ؟ (قُلْتُ) : بِمَا تَسْتَدْعِيهِ لَوْ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا يُوَحَّدُ الضَّمِيرُ لِأَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ فِي الْخَبَرِ، وَالْحَالِ، وَعَوْدِ الضَّمِيرِ مُتَأَخِّرًا حُكْمُهُ مُتَقَدِّمًا، تَقُولُ: الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ اسْتَوَى، كَمَا تَقُولُ: الْمَاءُ اسْتَوَى وَالْخَشَبَةُ وَقَدْ أَجَازَ الْأَخْفَشِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْطَى حُكْمَ الْمَعْطُوفِ فَتَقُولَ: الْمَاءُ مَعَ الْخَشَبَةِ اسْتَوَيَا، وَمَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: تكون الواو في: ومثله، بِمَعْنَى مَعَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مَعَ مِثْلِهِ مَعَهُ، أَيْ: مَعَ مِثْلِ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا فِي الْأَرْضِ، إِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ فِي مَعَهُ عَائِدًا عَلَى مِثْلَهُ أَيْ: مَعَ مِثْلِهِ مَعَ ذَلِكَ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْنِ. فَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ عَيٌّ، إِذِ الْكَلَامُ الْمُنْتَظِمُ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ إِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ إِلَى آخَرِ السُّؤَالِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يُرَدُّ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ مَعَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهِ فَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ لَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: لَوْ ثَبَتَ كَيْنُونَةُ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مِثْلِهِ لَهُمْ لِيَفْتَدُوا بِهِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا فَقَطْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ فِي أَنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَمَذْهَبُ سيبويه إِنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي تَصَانِيفِهِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ ثَبَتَ بِوَسَاطَةِ الْوَاوِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُودِ لَفْظِ مَعَهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ثَبَتَ لَيْسَتْ رَافِعَةً لِمَا الْعَائِدِ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ، وَإِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ مَصْدَرًا مُنْسَبِكًا مِنْ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ كَوْنُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَوْ

كَوْنُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا لَهُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا دُونُ الْكَوْنِ. فَالرَّافِعُ لِلْفَاعِلِ غَيْرُ النَّاصِبِ لِلْمَفْعُولِ مَعَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ الثُّبُوتِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى كَيْنُونَةِ مَا فِي الْأَرْضِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، لَا عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَهَذَا فِيهِ غُمُوضٌ، وَبَيَانُهُ، أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ وعمر، أَوْ جَعَلْتَ عَمْرًا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُعْجِبُنِي، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ عَمْرًا لَمْ يَقُمْ، وَأَنَّهُ أَعْجَبَكَ الْقِيَامُ وَعَمْرٌو، وَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ فِيهِ الْقِيَامَ كَانَ عَمْرٌو قَائِمًا، وَكَانَ الْإِعْجَابُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْقِيَامِ مُصَاحِبًا لِقِيَامِ عَمْرٍو. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا، كَانَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. (قُلْتُ) : لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُودِ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَوْلَكَ: هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ مَمْنُوعٌ فِي الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ، فَقَبِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِعْلًا وَلَا حَرْفًا فِيهِ مَعْنَى فِعْلٍ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْفِعْلِ، فَأَفْصَحَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَحَرْفَ الْجَرِّ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ لَا يَعْمَلَانِ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ الْمَفْعُولُ مَعَهُ لَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَنْسُبَ الْعَمَلَ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ لِحَرْفِ الْجَرِّ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ الظَّرْفُ وَحَرْفُ الْجَرِّ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجُوزُ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خَالِيَةً مِنْ قَوْلِهِ: مَعَهُ، أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تُقُبِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ: مَا تَقَبَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ: مَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَفِي الْكَلَامِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ: وَبَذَلُوهُ وَافْتَدَوْا بِهِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ انْتِفَاءُ التَّقَبُّلِ عَلَى كَيْنُونَةِ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى بَذْلِ ذَلِكَ أَوِ الِافْتِدَاءِ بِهِ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هَذَا الْوَعِيدُ هُوَ لِمَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْرِ، وَتُبَيِّنُهُ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ «1» الْآيَةَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى خَبَرِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ. يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ أَيْ يَرْجُونَ، أَوْ يَتَمَنَّوْنَ، أَوْ يَكَادُونَ، أَوْ يَسْأَلُونَ، أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْإِرَادَةُ مُمْكِنَةٌ فِي حَقِّهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخَرَّجَ عن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 91. [.....] (2) سورة المائدة: 5/ 36.

ظَاهِرِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا فَارَتْ بِهِمُ النَّارُ فَرُّوا مِنْ بَأْسِهَا، فَحِينَئِذٍ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ وَيَطْمَعُونَ فِيهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ. وَقِيلَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ تَقُولُونَ: إن قوما يخرجون من النَّارِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها «1» فَقَالَ جَابِرٌ إِنَّمَا هَذَا فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ نَافِعِ بْنِ الأزراق الْخَارِجِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَعْمَى الْبَصَرِ، يَا أَعْمَى الْقَلْبِ، أَتَزْعُمُ إن قوما يخرجون من النَّارِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْرَأْ مَا فَوْقُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا يُرْوَى عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الْحِكَايَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَمِمَّا لَفَّقَتْهُ الْمُجَبِّرَةُ وَلَيْسَ بِأَوَّلِ تَكَاذِيبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَكَفَاكَ بِمَا فِيهِ مِنْ مُوَاجَهَةِ ابْنِ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِ أَعْضَادِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنْضَادِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَحْرُهَا، وَمُفَسِّرُهَا بِالْخِطَابِ الَّذِي لَا يَجْسَرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَبِرَفْعِهِ إِلَى عِكْرِمَةَ دَلِيلَيْنِ نَاصَّيْنِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِرْيَةٌ مَا فِيهَا مِرْيَةٌ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ وَسَفَاهَتِهِ فِي سَبِّ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمَذْهَبُهُ: أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَخْرُجُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَيُنَاسِبُهُ: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو وَاقِدٍ: أَنْ يُخْرَجُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ مُتَأَبِّدٌ لَا يُحَوَّلُ. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قَالَ السَّائِبُ: نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَمَضَتْ قِصَّتُهُ فِي النِّسَاءِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِينَ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي فِيهَا قَطْعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خلاف، ثم أمر بالتقوى لِئَلَّا يَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحِرَابَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ حُكْمَ السَّرِقَةِ لِأَنَّ فِيهَا قَطْعَ الْأَيْدِي بِالْقُرْآنِ، وَالْأَرْجُلِ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَيْضًا حِرَابَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ فِيهِ سَعْيًا بِالْفَسَادِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الشَّوْكَةِ وَالظُّهُورِ. وَالسَّرِقَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِفَاءِ وَالتَّسَتُّرِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْقَطْعِ بِمُسَمَّى السَّرِقَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْجَمَلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ اليمنى، شرق شَيْئًا مَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا قُطِعَتْ يَدُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ: الْحَسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ وَدَاوُدَ. وَقَالَ دَاوُدُ وَمَنْ وَافَقَهُ: لَا يُقْطَعُ فِي سرقة حبة واحدة

_ (1) سورة المائدة: 5/ 37.

وَلَا تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ أَقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مَالًا، وَفِي أَقَلِّ شَيْءٍ يُخْرِجُ الشُّحَّ وَالضِّنَةَ. وَقِيلَ: النِّصَابُ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ غَيْرِهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وابن عمر، وأيمن الْحَبَشِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ قَوْلُ: الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ: الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقِيلَ: خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ: أَنَسٍ، وَعُرْوَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَهَبًا فَلَا تُقْطَعُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: دِرْهَمٌ فَمَا فَوْقَهُ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَقَطَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي دِرْهَمٍ. وَلِلسَّرِقَةِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الْيَدُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي الْفِقْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ، وَقَالَ الْخَفَّافُ: وَجَدْتُ فِي مُصْحَفِ أُبِيٍّ وَالسُّرُقُ وَالسُّرُقَةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ فِيهِمَا كَذَا ضَبَطَهُ أَبُو عَمْرٍو. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَصْحِيفًا مِنَ الضَّابِطِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ إِذَا كُتِبَتِ السَّارِقُ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَافَقَتْ فِي الْخَطِّ هَذِهِ. وَالرَّفْعُ فِي وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ، السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أَيْ: حُكْمُهُمَا. وَلَا يُجَوِّزُ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: فَاقْطَعُوا، لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ إِلَّا فِي خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَوْصُولٍ بِظَرْفٍ أَوْ مَجْرُورٍ، أَيْ جُمْلَةٍ صَالِحَةٍ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ. وَالْمَوْصُولُ هُنَا أَلْ، وَصِلَتُهَا اسْمِ فَاعِلٍ أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَا تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ جُمْلَةُ الْأَمْرِ، أَجْرَوْا أَلْ وَصِلَتَهَا مُجْرَى الْمَوْصُولِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ إِذْ مَعْنَاهُ: الَّذِي سَرَقَ وَالَّتِي سَرَقَتْ. وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، تَأَوَّلَهُ عَلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ فَيَصِيرُ تَأَوُّلُهُ: فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ. جُمْلَةً ظَاهِرُهَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا، فَجِيءَ بِالْفَاءِ رَابِطَةً لِلْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَالْأُولَى مُوَضِّحَةٌ لِلْحُكْمِ الْمُبْهَمِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْوَجْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النَّصْبُ كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الرَّفْعَ، يَعْنِي عَامَّةَ الْقُرَّاءِ وَجُلَّهُمْ. وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ، تَأَوَّلَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَهُوَ

أَنَّهُ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ فَاقْطَعُوا لَكَانَ تَخْرِيجًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَكَانَ قَدْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ أَلْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ. وَقَدْ تَجَاسَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمَدْعُوُّ بِالْفَخْرِ الرازي ابن خَطِيبِ الرِّيِّ عَلَى سِيبَوَيْهِ وَقَالَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ فَقَالَ: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ طَعَنَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَنْقُولَةِ بِالْمُتَوَاتِرِ عَنِ الرَّسُولِ، وَعَنْ أَعْلَامِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا. (قُلْتُ) : هَذَا تَقَوُّلٌ عَلَى سِيبَوَيْهِ، وَقِلَّةُ فَهْمٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَطْعَنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، بَلْ وَجَّهَهَا التَّوْجِيهَ الْمَذْكُورَ، وَأَفْهَمَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ الْمَبْنِيِّ عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَكَوْنِ جُمْلَةِ الْأَمْرِ خَبَرَهُ، أَوْ لَمْ يَنْصِبِ الِاسْمَ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مِنْهُ لَكَانَ النَّصْبُ أَوْجَهَ كَمَا كَانَ فِي زَيْدًا اضْرِبْهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَوْنُ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ عَدَلُوا إِلَى الرَّفْعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى الِابْتِدَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَاءِ. فَقَوْلُهُ: أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الرَّفْعَ تَقْوِيَةٌ لِتَخْرِيجِهِ، وَتَوْهِينٌ لِلنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ مَعَ وُجُودِ الْفَاءِ، لِأَنَّ النَّصْبَ عَلَى الِاشْتِغَالِ الْمُرَجَّحِ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يُفَسِّرُ الْعَامِلَ فِي الِاشْتِغَالِ، وَهُنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَاءِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْخَبَرِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ النَّصْبُ. فَمَعْنَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ يُقَوِّي الرَّفْعَ عَلَى مَا ذُكِرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ طَاعِنًا فِي الرَّفْعِ؟ وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ يَحْسُنُ وَيَسْتَقِيمُ: عَبْدُ اللَّهِ فَاضْرِبْهُ، إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ أَوْ مُظْهَرٍ، فَأَمَّا فِي الْمُظْهَرِ فَقَوْلُكَ: هَذَا زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُظْهِرْ هَذَا وَيَعْمَلُ عَمَلَهُ إِذَا كَانَ مُظْهَرًا وَذَلِكَ كقولك: الْهِلَالُ وَاللَّهِ فَانْظُرْ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: هَذَا الْهِلَالُ ثُمَّ جِئْتَ بِالْأَمْرِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خَلْوٌ كَمَا هِيَا هَكَذَا سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ تُنْشِدُهُ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: وَقَدْ يَحْسُنُ وَيَسْتَقِيمُ. عَبْدُ اللَّهِ فَاضْرِبْهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ طَاعِنًا فِي الرَّفْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَّهُ يَحْسُنُ وَيَسْتَقِيمُ؟ لَكِنَّهُ جَوَّزَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَرْفُوعُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، كَمَا تَأَوَّلَهُ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ: الْهِلَالُ وَاللَّهِ فَانْظُرْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : - يَعْنِي سِيبَوَيْهِ- لَا أَقُولُ إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ أَوْلَى، فَنَقُولُ لَهُ: هَذَا أَيْضًا رَدِيءٌ، لِأَنَّ تَرْجِيحَ الْقِرَاءَةِ التي لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ

وَالتَّابِعِينَ أَمْرٌ مُنْكَرٌ مَرْدُودٌ. (قُلْتُ) : هَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَقُلْهُ سِيبَوَيْهِ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يَقُولُهُ، وَكَيْفَ يَقُولُهُ وَهُوَ قَدْ رَجَّحَ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ؟ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ تَرْجِيحَ القراءة التي لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَشْنِيعٌ، وَإِيهَامٌ أَنَّ عِيسَى بْنَ عُمَرَ قَرَأَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قِرَاءَتُهُ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الصَّحَابَةِ وَإِلَى الرَّسُولِ، فَقِرَاءَتُهُ قِرَاءَةُ الرَّسُولِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ، لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِطْلَاقُ لِأَنَّ عِيسَى بْنَ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا وَأَشْيَاخَهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ هُمْ مِنَ الْأُمَّةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ قَرَأَ نَاسٌ وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ وَالزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ نَاسٍ. وَقَوْلُهُ: وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَصِحُّ هَذَا الْعُمُومُ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَوْ كَانَتْ أَوْلَى لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما «1» بِالنَّصْبِ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْقِرَاءَةِ أَحَدٌ قَرَأَ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا سُقُوطَ هَذَا الْقَوْلِ. (قُلْتُ) : لَمْ يَدَّعِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ أَوْلَى فَيَلْزَمُهُ مَا ذَكَرَ، وَإِنَّمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ قَرَأَ نَاسٌ وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ وَالزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ، وَهُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ الْقُوَّةِ، وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ. وَيَعْنِي سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْقُوَّةِ، لَوْ عُرِّيَ مِنَ الْفَاءِ الْمُقَدَّرِ دُخُولُهَا عَلَى خَبَرِ الِاسْمِ الْمَرْفُوعِ عَلَى الابتداء، وجملة الأمر خبره، وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ أَيْ- جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ- إِلَّا الرَّفْعَ لِعِلَّةِ دُخُولِ الْفَاءِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرًا لِهَذَا الْمُبْتَدَأِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْفَاءُ رَجَّحَ الْجُمْهُورُ الرَّفْعَ. وَلِذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ اخْتِيَارَ النَّصْبِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَمْ يُمَثِّلْهُ بِالْفَاءِ بَلْ عَارِيًا مِنْهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَذَلِكَ قَوْلُكَ: زَيْدًا اضْرِبْهُ وعمرا أمر ربه، وَخَالِدًا اضْرِبْ أَبَاهُ، وَزَيْدًا اشْتَرِ لَهُ ثَوْبًا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنْ يُبْنَى الْفِعْلُ عَلَى الِاسْمِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ فَاضْرِبْهُ، ابْتَدَأْتَ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعْتَ بِالِابْتِدَاءِ، وَنَبَّهْتَ الْمُخَاطَبَ لَهُ لِيَعْرِفَهُ بِاسْمِهِ، ثُمَّ بَنَيْتَ الْفِعْلَ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ. فَإِذَا قُلْتَ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، لَمْ يَسْتَقِمْ، لَمْ تَحْمِلْهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، لَمْ يَسْتَقِمْ؟ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً يَعْنِي مُخْبَرًا عَنْهُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِالْفَاءِ الْجَائِزِ دُخُولُهَا عَلَى الْخَبَرِ. ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى شَيْءٍ هَذَا يُفَسِّرُهُ. لَمَّا مَنَعَ سِيبَوَيْهِ الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرُهُ لِأَجْلِ الْفَاءِ، أَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، لَا عَلَى أَنَّ الْفَاءَ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ المبتدإ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 16.

وَتَلْخِيصُ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ أَمْرًا بِغَيْرِ فَاءٍ بَعْدَ اسْمٍ يُخْتَارُ فِيهِ النَّصْبُ وَيَجُوزُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرُهُ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ فَإِمَّا أَنْ تُقَدِّرَهَا الْفَاءَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْخَبَرِ، أَوْ عَاطِفَةً. فَإِنْ قَدَّرْتَهَا الدَّاخِلَةَ عَلَى الْخَبَرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ أُجْرِيَ مُجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ لِشَبَهِهِ بِهِ، وَلَهُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَإِنْ كَانَتْ عَاطِفَةً كَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا، إِمَّا مُبْتَدَأٌ كَمَا تَأَوَّلَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، وَإِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قِيلَ: الْقَمَرُ وَاللَّهِ فَانْظُرْ إِلَيْهِ. وَالنَّصْبُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى دُونَ الرَّفْعِ، لِأَنَّكَ إِذَا نَصَبْتَ احْتَجْتَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ تُعْطَفُ عَلَيْهَا بِالْفَاءِ، وَإِلَى حَذْفِ الْفِعْلِ النَّاصِبِ، وَإِلَى تَحْرِيفِ الْفَاءِ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا. فَإِذَا قُلْتَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، فَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهْ فَاضْرِبْ زَيْدًا اضْرِبْهُ. حُذِفَتْ تَنَبَّهْ، وَحُذِفَتِ اضْرِبْ، وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ إِلَى دُخُولِهَا عَلَى الْمُفَسَّرِ. وَكَانَ الرَّفْعُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَذْفُ مُبْتَدَأٍ، أَوْ حَذْفُ خَبَرٍ. فَالْمَحْذُوفُ أَحَدُ جُزْئَيِ الْإِسْنَادِ فَقَطْ، وَالْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي مَوْقِعِهَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما «1» وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «2» فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُبْنَ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ «3» ثُمَّ قَالَ بَعْدُ فِيهَا: أَنْهارٌ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّمَا وُضِعَ مَثَلٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَذُكِرَ بَعْدَ أَخْبَارٍ وَأَحَادِيثَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ الْقَصَصِ مَثَلُ الْجَنَّةِ أَوْ مِمَّا نَقُصُّ عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْ نَحْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لَمَّا قَالَ تَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها «4» قَالَ فِي الْفَرَائِضِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أَوِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «5» فِي الْفَرَائِضِ ثُمَّ قَالَ: فَاجْلِدُوا، فَجَاءَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ مَضَى فِيهَا الرَّفْعُ كَمَا قَالَ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ، فَجَاءَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ فِيهِ الضَّمِيرُ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ. كَأَنَّهُ قَالَ: مِمَّا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، أَوِ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ. وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَعْدَ قَصَصٍ وَأَحَادِيثَ انْتَهَى. فَسِيبَوَيْهِ إِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا التَّخْرِيجَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ كُلْفَةً مِنَ النَّصْبِ مَعَ وُجُودِ الْفَاءِ، وَلَيْسَتِ الْفَاءُ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِي أَلِ الْمَوْصُولَةِ. فَالْآيَتَانِ عِنْدَهُ من

_ (1) سورة النور: 24/ 2. (2) سورة المائدة: 5/ 38. (3) سورة الرعد: 13/ 35. (4) سورة النور: 24/ 1. (5) سورة النور: 24/ 2.

بَابِ زَيْدٍ فَاضْرِبْهُ، فَكَمَا أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي هَذَا الرَّفْعِ فَكَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ. وَقَوْلُ الرَّازِيِّ: لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ قرأ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما «1» بِالنَّصْبِ إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، لَمْ يَقُلْ سِيبَوَيْهِ إِنَّ النَّصْبَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَوْلَى، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ يَنْصِبُ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا، بَلْ حَلَّ سيبويه هذا الْآيَةَ مَحَلَّ قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ «2» فَخَرَّجَ سِيبَوَيْهِ الْآيَةَ عَلَى الْإِضْمَارِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ يَجْرِي هَذَا فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو عَلَى هَذَا الْحَدِّ إِذَا كُنْتَ تُخْبِرُ بِأَشْيَاءَ، أَوْ تُوصِي، ثُمَّ تَقُولُ: زَيْدٌ أَيْ زَيْدٌ فِيمَنْ أُوصِي فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ وَأَكْرِمْهُ، وَيَجُوزُ فِي: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا الْفَاءُ خَبَرٌ لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ مُسْتَوْفٍ شُرُوطَ الْمَوْصُولِ الَّذِي يَجُوزُ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ لِشَبَهِهِ بِاسْمِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ دُخُولَ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا يُشَبَّهُ بِهِ فِي دُخُولِ الْفَاءِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الثَّالِثُ يَعْنِي: مِنْ وُجُوهِ فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ إِنَّا إِنَّمَا قُلْنَا السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ هُوَ الَّذِي يُضْمِرُهُ، وَهُوَ قَوْلُنَا: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، وَفِي شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. (قُلْتُ) : تَقَدَّمَ لَنَا حِكْمَةُ الْمَجِيءِ بِالْفَاءِ وَمَا رَبَطَتْ، وَقَدْ قَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ: وَمِمَّا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، وَالْمَعْنَى: حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، لِأَنَّهَا آيَةٌ جَاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَأَحْكَامِهِمْ، فَنَاسَبَ تَقْدِيرَ سِيبَوَيْهِ. وَجِيءَ بِالْفَاءِ رَابِطَةً الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ جَاءَتْ مُوَضِّحَةً لِلْحُكْمِ الْمُبْهَمِ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قَالَ- يَعْنِي سِيبَوَيْهِ- الْفَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، يَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالسَّرِقَةِ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَنَقُولُ: إِذَا احْتَجْتَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَنْ تَقُولَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ تَقْدِيرُهُ مَنْ سَرَقَ، فَاذْكُرْ هَذَا أَوَّلًا حَتَّى لَا يُحْتَاجَ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ. (قُلْتُ) : هَذَا لَا يَقُولُهُ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْفَاءِ وَفَائِدَتَهَا. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الرَّابِعُ: يَعْنِي مِنْ وُجُوهِ فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ إِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ. وَإِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَفَادَتِ الْآيَةُ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَوْلَى. (قُلْتُ) : هَذَا عَجِيبٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، يَزْعُمُ أَنَّ النَّصْبَ لَا يُشْعِرُ بِالْعِلَّةِ الموجبة للقطع

_ (1) سورة النساء: 4/ 16. (2) سورة النساء: 4/ 15.

وَيُفِيدُهَا الرَّفْعُ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْحُكْمُ؟ فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ لَوْ قُلْتَ: السَّارِقُ لِيُقْطَعَ، أَوِ اقْطَعِ السَّارِقَ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيلُ. وَكَذَلِكَ الزَّانِي لِيُجْلَدْ، أَوِ اجْلِدِ الزَّانِيَ. ثُمَّ قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا، وَالنَّصْبُ أَيْضًا يَحْسُنُ أَنَّ يُؤَكَّدَ بِمِثْلِ هَذَا، لَوْ قُلْتَ: اقْطَعِ اللِّصَّ جَزَاءً بِمَا كَسَبَ صَحَّ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْخَامِسُ: يَعْنِي مِنْ وُجُوهِ فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: وَهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ. وَالَّذِي هُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى: فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ تَقْتَضِي ذِكْرَ كَوْنِهِ سَارِقًا عَلَى ذِكْرِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْعِنَايَةِ مَصْرُوفًا إِلَى شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ السَّارِقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَارِقٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِ الْقَطْعِ أَتَمَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِكَوْنِهِ سَارِقًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ تَقْبِيحِ السَّرِقَةِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ قَطْعًا. (قُلْتُ) : الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيَانُهُ أَهَمُّ لَهُمْ، وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى هُوَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ نِسْبَةُ الْإِسْنَادِ كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِنْ قَدَّمْتَ الْمَفْعُولَ وَأَخَّرْتَ الْفَاعِلَ جَرَى اللَّفْظُ كَمَا جَرَى فِي الْأَوَّلِ يَعْنِي: فِي ضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ زَيْدًا قَالَ: وَذَلِكَ ضَرَبَ زَيْدًا عَبْدُ اللَّهِ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ بِهِ مُؤَخَّرًا مَا أَرَدْتَ بِهِ مُقَدَّمًا، وَلَمْ تُرِدْ أَنْ تُشْغِلَ الْفِعْلَ بِأَوَّلَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي اللَّفْظِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ حَدُّ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُقَدَّمًا، وَهُوَ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كَثِيرٌ كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيَانُهُ لَهُمْ أَهَمُّ، وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى: وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يُهِمَّانِهِمْ وَيَعْنِيَانِهِمْ انْتَهَى. وَالرَّازِيُّ حَرَّفَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ وَأَخَذَهُ حَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافُ نِسْبَةٍ وَهُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، لِأَنَّ الْمُخَاطِبَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي ذِكْرِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ فَيُقَدِّمُ الْفَاعِلَ، أَوْ فِي ذِكْرِ مَنْ حَلَّ بِهِ الضَّرْبُ فَيُقَدِّمُ الْمَفْعُولَ، لِأَنَّ نِسْبَةَ الضَّرْبِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ مِنْ بَابِ مَا النِّسْبَةُ فِيهِ لَا تَخْتَلِفُ، إِنَّمَا هِيَ الْحُكْمُ عَلَى السَّارِقِ بِقَطْعِ يَدِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ بِوَجْهٍ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَتَجَاسُرِهِ عَلَى الْعُلُومِ حَتَّى صَنَّفَ فِي النَّحْوِ كِتَابًا سَمَّاهُ الْمُحَرَّرَ، وَسَلَكَ فِيهِ طَرِيقَةً غَرِيبَةً بَعِيدَةً مِنْ مُصْطَلَحِ أَهْلِ النَّحْوِ وَمِنْ مَقَاصِدِهِمْ، وَهُوَ كِتَابٌ لَطِيفٌ مُحْتَوٍ عَلَى بَعْضِ أَبْوَابِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا أَبَا جَعْفَرِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَذْكُرُ هَذَا التَّصْنِيفَ

وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْقَوْمِ، وَإِنَّ مَا سَلَكَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّخْلِيطِ فِي الْعُلُومِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ فَنٌّ ظَهَرَ فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَنِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ بِدِيَارِ مِصْرَ رَأَيْتُ مَا كَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرٍ يَذُمُّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَيَسْتَزِلُّ عَقْلَ فَخْرِ الدِّينِ فِي كَوْنِهِ صَنَّفَ فِي عِلْمٍ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ: لِكُلِّ عِلْمٍ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ مُتَكَلِّمًا فِي فَنٍّ مَا وَمَزَجَهُ بِغَيْرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْلِيطِهِ وَتَخْبِيطِ ذِهْنِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِلَّةِ مَحْصُولِهِ وَقُصُورِهِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَتَجِدُهُ يَسْتَرِيحُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَعْرِفُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ فِي إِعْرَابِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مَا نَصُّهُ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَرْتَفِعَا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَالَّذِي سَرَقَ وَالَّتِي سَرَقَتْ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ، وَفَضَّلَهَا سِيبَوَيْهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ لِأَجْلِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي أَجَازَهُ وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ لَمْ يُوصَلْ بِجُمْلَةٍ تَصْلُحُ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، وَلَا بِمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مَجْرُورٍ، بَلِ الْمَوْصُولُ هُنَا أَلْ وَصِلَةُ، أَلْ لَا تَصْلُحُ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، وَقَدِ امْتَزَجَ الْمَوْصُولُ بِصِلَتِهِ حَتَّى صَارَ الْإِعْرَابُ فِي الصِّلَةِ بِخِلَافِ الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ، فَإِنَّ الْعَامِلَ فِيهِمَا جُمْلَةٌ لَا تَصْلُحُ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي قِرَاءَةِ عِيسَى، إِنْ سِيبَوَيْهِ فَضَّلَهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الَّذِي ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمَا تَرْكِيبَانِ: أَحَدُهُمَا زَيْدًا اضْرِبْهُ، وَالثَّانِي زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ. فَالتَّرْكِيبُ الْأَوَّلُ اخْتَارَ فِيهِ النَّصْبَ، ثُمَّ جَوَّزُوا الرَّفْعَ بِالِابْتِدَاءِ. وَالتَّرْكِيبُ الثَّانِي مَنَعَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ خَبَرًا لَهُ لِأَجْلِ الْفَاءِ. وَأَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ رَفْعُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جُمْلَتَانِ، وَيَكُونَ زَيْدٌ خبر مبتدأ محذوف أي: هَذَا زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْآيَةَ فَخَرَّجَهَا عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، وَدَلَّ كَلَامُهُ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ هُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى جُمْلَتَيْنِ: الْأُولَى ابْتِدَائِيَّةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ قِرَاءَةَ نَاسٍ بِالنَّصْبِ وَلَمْ يُرَجِّحْهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، إِنَّمَا قَالَ: وَهِيَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ الْقُوَّةِ أَيْ: نَصَبَهَا عَلَى الِاشْتِغَالِ أَوِ الْإِغْرَاءِ، وَهُوَ قَوِيٌّ لَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ مَنَعَ سِيبَوَيْهِ رَفْعَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ خَبَرٌ لِأَجْلِ الْفَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا التَّرْجِيحَ بَيْنَ رَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَوْ خَبَرٌ حُذِفَ مُبْتَدَؤُهُ، وَبَيَّنَ نَصْبَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَنَّ الرَّفْعَ يَلْزَمُ فِيهِ حَذْفُ خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَالنَّصْبُ يَلْزَمُ فِيهِ حَذْفُ جُمْلَةٍ وَإِضْمَارُ أُخْرَى، وَزَحْلَقَةُ الْفَاءِ عَنْ

مَوْضِعِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِرْزٌ لِلْمَسْرُوقِ، وَبِهِ قَالَ: دَاوُدُ، وَالْخَوَارِجُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْقَطْعِ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْحِرْزِ، وَلَوْ جَمَعَ الثِّيَابَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُخْرِجْهَا لَمْ يُقْطَعْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُقْطَعُ. وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ كُلِّ مَنْ يُسَمَّى سَارِقًا فِي عُمُومِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ لَا يُقْطَعُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ الِابْنُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ كَانَا يَنْهَيَانِهِ عَنِ الدُّخُولِ قُطِعَ، وَلَا يُقْطَعُ ذَوُو الْمَحَارِمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا الْأَجْدَادُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَالْأُمِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ أَشْهَبَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ كُلُّ سَارِقٍ سَرَقَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، إِلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ فَيُسَلَّمُ لِلْإِجْمَاعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْطَعُ الْمَرْأَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا، وَلَا هُوَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعَانِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ مَرَّةً بِسَرِقَةٍ قُطِعَ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يُقْطَعُ حَتَّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْطَعُ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا. وَالظَّاهِرُ قَطْعُ الطَّيَّارِ نِصَابًا وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةً فِي كُمِّهِ لَمْ يُقْطَعْ، أَوْ فِي دَاخِلِهِ قُطِعَ. وَاخْتُلِفَ فِي النَّبَّاشِ إِذَا أَخَذَ الْكَفَنَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَكْحُولٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَجْمَعَ أصحاب رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنٍ كَانَ مَرْوَانُ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ النَّبَّاشَ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْطَعُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ مُتَوَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ السَّرِقَةَ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ الْقَطْعِ فِيهَا لَمْ يُقْطَعْ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ، وَأَنَّهُ إِذَا سَرَقَ نِصَابًا مِنْ سَارِقٍ لَا يُقْطَعُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وقال مالك: يقطع وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا «1» الرَّسُولُ أَوْ وُلَاةُ الْأَمْرِ كَالسُّلْطَانِ، وَمَنْ أُذِنَ لَهُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ، أَوِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، لِيَكُونُوا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 38.

مُتَظَافِرِينَ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَفَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ إِمَامٌ أَوْ نَائِبٌ لَهُ فَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفِيهَا حَاكِمٌ فَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِلَى عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إِذْ ذَاكَ، إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا أَنَّهُ يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ الثِّنْتَانِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ يُمْنَاهُ، وَمِنَ السَّارِقَةِ يُمْنَاهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْدِيَهُمَا يَدَيْهِمَا وَنَحْوُهُ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» اكْتَفَى بِتَثْنِيَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنْ تَثْنِيَةِ الْمُضَافِ، وَأُرِيدَ بِالْيَدَيْنِ الْيَمِينَانِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: والسارقون والسارقات فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ انْتَهَى. وَسَوَّى بَيْنَ أَيْدِيَهُمَا وَقُلُوبُكُمَا وَلَيْسَا بِشَيْئَيْنِ، لِأَنَّ بَابَ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا يَطَّرِدُ فِيهِ وَضْعُ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ اثْنَيْنِ مِنْ شَيْئَيْنِ كَالْقَلْبِ وَالْأَنْفِ وَالْوَجْهِ وَالظَّهْرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُمَا اثْنَانِ كَالْيَدَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ فَإِنَّ وَضْعَ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ لَا يَطَّرِدُ، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الذِّهْنَ إِنَّمَا يَتَبَادَرُ إِذَا أُطْلِقَ الْجَمْعُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ، فَلَوْ قِيلَ: قُطِعَتْ آذَانُ الزَّيْدَيْنِ، فَظَاهِرُهُ قَطْعُ أَرْبَعَةِ الْآذَانِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَدْلُولِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَمَعَ الْأَيْدِي مِنْ حَيْثُ كَانَ لِكُلِّ سَارِقٍ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْمُعَرَّضَةُ لِلْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَلِلسُّرَّاقِ أَيْدٍ، وَلِلسَّارِقَاتِ أَيْدٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: اقْطَعُوا أَيْمَانَ النَّوْعَيْنِ، فَالتَّثْنِيَةُ لِلضَّمِيرِ إِنَّمَا هِيَ لِلنَّوْعَيْنِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَيْدِيَهُمَا، أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ الرِّجْلُ، فَإِذَا سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سق عُزِّرَ وَحُبِسَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَحْمَدُ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ عُزِّرَ وَحُبِسَ. وَرَوَى عَطَاءٌ: لَا تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ إِلَّا الْيَدُ الْيُمْنَى فَقَطْ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ عُزِّرَ وَحُبِسَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا سَرَقَ أَوَّلًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ. قِيلَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. وَظَاهِرُ قَطْعِ الْيَدِ أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمَنْكِبِ مِنَ الْمِفْصَلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ فِي الْيَدِ مِنَ الْأَصَابِعِ، وَفِي الرِّجْلِ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ وَهُوَ معقد الشرك. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ: رَأَيْتُ الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ مَقْطُوعًا مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ قَطَعَكَ؟ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى السَّرِقَةِ هُوَ قَطْعُ الْيَدِ فَقَطْ. فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ

_ (1) سورة التحريم: 66/ 4.

[سورة المائدة (5) : الآيات 39 إلى 40]

اسْتَهْلَكَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ: مَكْحُولٌ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ فِي قَوْلِ حَمَّادٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يَضْمَنُ وَيُغَرَّمُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ أَوْ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ جَزَاءً عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: جَازَاهُمْ جَزَاءً. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، وَبِمَا مُتَعَلِّقٌ بِجَزَاءً، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَيْ: بِالَّذِي كَسَبَاهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: جَزَاءً بِكَسْبِهِمَا، وَانْتِصَابُ نَكَالًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَالْعَذَابُ: النَّكَالُ، وَالنَّكَلُ الْقَيْدُ تَقَدَّمَ الْكَلَامِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلْناها نَكالًا «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَزَاءً وَنَكَالًا مَفْعُولٌ لَهُمَا انْتَهَى، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الزَّجَّاجَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ يَعْنِي جَزَاءً. قَالَ: وَكَذَلِكَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. إِلَّا إِذَا كَانَ الْجَزَاءُ هُوَ النَّكَالُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَا مُتَبَايِنَيْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَفْعُولَيْنِ لَهُمَا إِلَّا بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قِيلَ: الْمَعْنَى عَزِيزٌ فِي شَرْعِ الرَّدْعِ، حَكِيمٌ فِي إِيجَابِ الْقَطْعِ. وَقِيلَ: عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ مِنَ السَّارِقِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، حَكِيمٌ فِي فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ. رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ إِلَى آخِرِهَا وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقَالَ: مَا هَذَا كَلَامٌ فَصِيحٌ، فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ التِّلَاوَةُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ عَزَّ، فحكم، فقطع. [سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) أَيْ فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ بِالسَّرِقَةِ. وَظُلْمِهِ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ أَنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَالٍ أَوْ سَرِقَةٍ. قِيلَ: أَوْ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ أَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَفِي جَوَازِ هَذَا الْوَجْهِ نَظَرٌ إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: مِنْ بَعْدِ أَنْ ظَلَمَهُ. وَلَوْ صُرِّحَ بِهَذَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ فِيهِ تَعَدِّي الْفِعْلِ الرَّافِعِ الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلِ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الْمَنْصُوبِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ، وفقد،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 66.

وَعَدِمَ. وَمَعْنَى يَتُوبُ عَلَيْهِ أَيْ: يَتَجَاوَزُ عَنْهُ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا إِنْ ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْإِصْلَاحَ وَهُوَ التَّنَصُّلُ مِنَ التَّبِعَاتِ بِرَدِّهَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا بِالِاسْتِحْلَالِ مِنْهَا، أَوْ بِإِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْ جَهِلَ صَاحِبَهَا. وَالْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ كِنَايَةٌ عَنْ سُقُوطِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّارِقِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّوْبَةُ وَالْإِصْلَاحُ هِيَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَصَرُّفَهُ فِي أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ وَأَحْكَامِ السُّرَّاقِ، وَلَمْ يُحَابِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهِمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ تَصَرُّفٌ فِي مُلْكِهِ، وَمِلْكِهِ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَذَابَهُ وَهُمُ الْمُخَالِفُونَ لِأَمْرِهِ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَهُمُ التَّائِبُونَ. وَالْخِطَابُ فِي أَلَمْ تَعْلَمْ قِيلَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لِكُلِّ مُكَلَّفٍ، وَقِيلَ: لِلْمُجْتَرِئِ عَلَى السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَحْظُورَاتِ. فَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّكَ عَاجِزٌ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ مُلْكِي، هَارِبًا مِنِّي وَمِنْ عَذَابِي، فَلِمَ اجْتَرَأْتَ عَلَى مَا مَنَعْتُكَ مِنْهُ؟ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ أَنَّهُ خِطَابُ الْيَهُودِ كَانُوا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمُوا أنه له ملك السموات وَالْأَرْضِ، لَا قَرَابَةَ وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ حَتَّى يُحَابِيَهُ، وَيَتْرُكَ الْقَائِلِينَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ يَشَاءُ مَنْ يَجِبُ فِي الْحُكْمِ تَعْذِيبُهُ وَالْمَغْفِرَةُ لَهُ مِنَ الْمُصِرِّينَ وَالتَّائِبِينَ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَدْ يَسْقُطُ حَدُّ الْحَرْبِيِّ إِذَا سَرَقَ بِالتَّوْبَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَبْعَدَ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَلَا نُسْقِطُهُ عَنِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ فِي إِقَامَتِهِ الصَّلَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْحَيَاةَ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «1» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، أَيْ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ تَابَ عَنْ كُفْرِهِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ بِالْقَتْلِ وَالْخَسْفِ وَالسَّبْيِ وَالْأَسْرِ وَإِذْهَابِ الْمَالِ وَالْجَدْبِ وَالنَّفْيِ وَالْخِزْيِ وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَيُنْقِذُهُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَيُنْجِيهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَثِيرًا مَا يَعْقُبُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَا دَلَّ عَلَى التَّصَرُّفِ التَّامِّ، وَالْمُلْكِ وَالْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ عَقِيبَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «2»

_ (1) سورة البقرة: 2/ 179. [.....] (2) سورة المائدة: 5/ 17.

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 48]

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 48] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

السَّحْتُ وَالسُّحُتُ بِسُكُونِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا الْحَرَامُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الْبَرَكَةَ أَيْ يُذْهِبُهَا. يُقَالُ: سَحَتَهُ اللَّهُ أَيْ أَهْلَكَهُ، وَيُقَالُ: أَسْحَتَهُ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «1» أَيْ يَسْتَأْصِلَكُمْ ويهلككم، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرَوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ وَمَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ سَحَتٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَسَحْتُ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ السُّحْتِ كَلْبُ الْجُوعِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ إِذَا كَانَ لَا يُلْقَى أَبَدًا إِلَّا خَائِفًا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْهَلَاكِ. الْحَبْرُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا الْعَالِمُ، وَجَمْعُهُ الْأَحْبَارُ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بِالْكَسْرِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْفَتْحَ. وَتُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ الْأَحْبَارِ، وَيُقَالُ: كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَالْحِبْرُ بِالْكَسْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ الْحِبْرِيُّ الْحَبَّارُ. وَيُقَالُ: كُتُبُ الْحِبْرِ لِمَكَانِ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَسُمِّيَ حِبْرًا لِتَحْسِينِهِ الْخَطَّ وَتَبْيِينِهِ إِيَّاهُ. وَقِيلَ: سُمِّيَ حِبْرًا لِتَأْثِيرِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مِنَ الْحَبَّارِ وَهُوَ الْأَثَرُ. الْعَيْنُ: حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَتُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَعْيُنٍ وَأَعْيَانٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى عُيُونٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَكِنَّنِي أَغْدُو عَلَيَّ مُفَاضَةٌ ... دِلَاصٌ كَأَعْيَانِ الْجَرَادِ المنظم

_ (1) سورة طه: 20/ 61.

وَيُقَالُ لِلْجَاسُوسِ: ذُو الْعَيْنَيْنِ، وَالْعَيْنُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا اللُّغَوِيُّونَ. الْأَنْفُ: مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ آنَافٌ وَآنُفٌ وَأُنُوفٌ. الْمُهَيْمِنُ: الشَّاهِدُ الرَّقِيبُ عَلَى الشَّيْءِ الْحَافِظُ لَهُ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ هَيْمَنَ قَالُوا: وَلَمْ يَجِئْ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ إِلَّا خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ: هَيْمَنَ، وَسَيْطَرَ، وَبَيْطَرَ، وَحَيْمَرَ، وَبَيْقَرَ، ذَكَرَ هَذَا الْخَامِسَ الزَّجَّاجِيُّ فِي شَرْحِهِ خُطْبَةَ أَدَبِ الْكَاتِبِ، وَمَعْنَاهُ: سَارَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الْيَمَنِ، وَمِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ. وَهَيْمَنَ بِنَا أَصْلٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ إِلَى أَنَّ مُهَيْمِنًا اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَ غَيْرَهُ مِنَ الْخَوْفِ قَالَ: فَأَصْلُهُ مَأْمَنٌ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ يَاءً كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ فَصَارَ مُؤَيْمِنٌ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً كَمَا قَالُوا: أَهْرَاقَ فِي أَرَاقَ، وَهِيَّاكَ فِي إِيَّاكَ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ نَظِيرُ هَذَا الْوَزْنِ فِي أَلْفَاظٍ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهَا. وَأَيْضًا فَالْهَمْزَةُ فِي مُؤْمِنٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَ قَدْ سَقَطَتْ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، فَلَا يُدَّعَى أَنَّهَا أُقِرَّتْ وَأُبْدِلَ مِنْهَا. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنْ أَنَّهُ تَصْغِيرُ مُؤْمِنٍ، وَأُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ هَاءً، فَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ يُحَذِّرُهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُصَغَّرُ. الشِّرْعَةُ: السُّنَّةُ وَالطَّرِيقَةُ شَرَعَ يَشْرَعُ شَرْعًا أَيْ سَنَّ، وَالشَّارِعُ الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ، وَمَنْزِلٌ شَارِعٌ إِذَا كَانَ بَابُهُ قَدْ شَرَعَ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ. الْمِنْهَاجُ وَالْمَنْهَجُ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَنَهَجَ الْأَمْرُ اسْتَبَانَ، وَنَهَجْتُ الطَّرِيقَ أَبَنْتُهُ وَأَوْضَحْتُهُ، ونهجت الطريق سلكته. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودِيًّا زَنَى بِيَهُودِيَّةٍ، قِيلَ: بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: بِغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، فَسَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَمِعُوا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الرَّجْمِ حَدُّهُمَا، وَكَانَ فِي التَّوْرَاةِ رَجْمٌ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي التَّوْرَاةِ وَافْتَضَحُوا إِذْ أَحْضَرُوهَا، وَحَكَمَ الرَّسُولُ فِيهِمَا بِالرَّجْمِ وَأَنْفَذَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السَّبَبُ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانُوا إِذَا غَزَوْا بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنْ قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضِيرِيًّا قُتِلَ بِهِ، أَوْ نَضِيرِيٌّ قُرَظِيًّا أَعْطَى الدِّيَةَ. وَقِيلَ: كَانَتْ دِيَةُ الْقُرَظِيِّ عَلَى نِصْفِ دِيَةِ النَّضِيرِيِّ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ الْمَدِينَةَ طَلَبَتْ قُرَيْظَةُ الاستواء لأنهما أبناء عَمٍّ، وَطَلَبَتِ الْحُكُومَةُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقَالَتْ بَنُو النَّضِيرِ: إِنْ حَكَمَ بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَخُذُوهُ، وَإِلَّا فَاحْذَرُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ مَسَاقِ الْآيَةِ. وَذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَشَارَتْ إِلَيْهِ قُرَيْظَةُ يَوْمَ حَصْرِهِمْ عَلَامَ يُنْزَلُ مِنَ الْحُكْمِ، فَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ الذَّبْحُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ قَتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ آخَرَ، فَكَلَّفُوا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ

قَالُوا: فَإِنْ أَفْتَى بِالدِّيَةِ قَبِلْنَا، وَإِنْ أَفْتَى بِالْقَتْلِ لَمْ نَقْبَلْ. وَهَذَا نَحْوٌ مَنْ قَوْلِ قَتَادَةَ فِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْحِرَابَةِ وَالسَّرِقَةِ، وَكَانَ فِي ذِكْرِ الْمُحَارِبِينَ أَنَّهُمْ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْزَنَ وَلَا يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَمْرِ الْيَهُودِ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَتَرَبُّصِهِمْ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ الدَّوَائِرَ وَنَصْبِهِمْ لَهُ حَبَائِلَ الْمَكْرُوهِ، وَمَا يَحْدُثُ لَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَنَصْبِ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ. وَنِدَاؤُهُ تَعَالَى لَهُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ هُنَا، وفي يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ «1» وَيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ فِي مَوَاضِعَ تَشْرِيفٌ وَتَعْظِيمٌ وَتَفْخِيمٌ لِقَدْرِهِ، وَنَادَى غَيْرَهُ مِنَ الأنبياء باسمه فقال: يا آدَمُ اسْكُنْ «2» ويا نُوحُ اهْبِطْ «3» يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «4» يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ «5» يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ «6» يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ «7» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، هُمُ الْيَهُودُ الْمُنَافِقُونَ، وَسَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ هُمُ الْيَهُودُ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لَا تَهْتَمَّ بِمُسَارَعَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْكُفْرِ وَالْيَهُودِ بِإِظْهَارِ مَا يَلُوحُ لَهُمْ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ وَهُوَ كَيْدُهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُقَالُ: أَسْرَعَ فِيهِ السَّبَبُ، وَأَسْرَعَ فِيهِ الْفَسَادُ، إِذَا وَقَعَ فِيهِ سَرِيعًا. وَمُسَارَعَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وُقُوعُهُمْ وَتَهَافُتُهُمْ فِيهِ. أَسْرَعُ شَيْءٍ إِذَا وَجَدُوا فُرْصَةً لَمْ يُخْطِئُوهَا، وَتَكُونُ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ عَلَى هَذَا تَنْبِيهًا وَتَقْسِيمًا لِلَّذِينِ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، وَيَكُونُ سَمَّاعُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُمْ سَمَّاعُونَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَلَى الْيَهُودِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ الضَّحَّاكِ: سَمَّاعِينَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الذَّمِّ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهُ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُخَادِعُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا «8» اسْتِئْنَافًا، وَسَمَّاعُونَ مُبْتَدَأٌ وَهُمُ الْيَهُودُ، وَبِأَفْوَاهِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَالُوا لَا بِآمَنَّا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يُجَاوِزْ قَوْلُهُمْ أَفْوَاهَهُمْ، إِنَّمَا نَطَقُوا بِالْإِيمَانِ خَاصَّةً دُونَ اعْتِقَادٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَحْزُنْكَ الْمُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْيَهُودِ، وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تؤمن قلوبهم إلزاما

_ (1) سورة المائدة: 5/ 67. (2) سورة البقرة: 2/ 35. (3) سورة هود: 11/ 48. (4) سورة الصافات: 37/ 104- 105. (5) سورة الأعراف: 7/ 144. (6) سورة آل عمران: 3/ 55. (7) سورة مريم: 19/ 12. (8) سورة النساء: 4/ 46.

مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ حَرَّفُوا تَوْرَاتَهُمْ وَبَدَّلُوا أَحْكَامَهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ: نَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى، وَقُلُوبُهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنَةٍ مِنْ حَيْثُ بَدَّلُوا وَجَحَدُوا مَا فِيهَا مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُنْكِرُونَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تعالى بَعْدَ هَذَا وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ «1» وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُمْ، وَلَكِنْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْيَهُودِ مِنْ حَيْثُ الطَّائِفَةُ السَّمَّاعَةُ غَيْرُ الطَّائِفَةِ الَّتِي تُبَدِّلُ التَّوْرَاةَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهَا انْتَهَى. وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ، وَسَمَّاعُونَ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ السَّمَاعِ إِلَّا إِنْ كَانَ لِلْكَذِبِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ سَمَّاعُونَ مِنْكَ أَقْوَالَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْكَ، وَيَنْقُلُونَ حَدِيثَكَ، وَيَزِيدُونَ مَعَ الْكَلِمَةِ أَضْعَافَهَا كَذِبًا. وَإِنْ كَانَ لِلْكَذِبِ مَفْعُولًا بِهِ لِقَوْلِهِ: سَمَّاعُونَ، وَعُدِّيَ بِاللَّامِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْوِيَةِ لِلْعَامِلِ، فَمَعْنَى السَّمَاعِ هُنَا قَبُولُهُمْ مَا يَفْتَرِيهِ أَحْبَارُهُمْ وَيَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَتَحْرِيفِ كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْمَلِكُ يَسْمَعُ كَلَامَ فُلَانٍ، وَمِنْهُ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي قِرَاءَةِ يَحْزُنْكَ ثُلَاثِيًا وُرُبَاعِيًّا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: يُسْرِعُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنْ أَسْرَعَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: لِلْكِذْبِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ جَمْعُ كَذُوبٍ، نَحْوَ صَبُورٍ وَصُبُرٍ، أَيْ: سماعون للكذب الْكُذُبِ. سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: سَمَّاعُونَ لِكَذِبِ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أَيْ كَذِبُهُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَأْتُوهُ يَهُودُ فَدَكَ. وَقِيلَ: يَهُودُ خَيْبَرَ. وَقِيلَ: أَهْلُ الرَّأْيَيْنِ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْخِصَامِ فِي الْقَتْلِ وَالدِّيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: سَمَّاعُونَ لِأَجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ، أَيْ هُمْ عُيُونٌ لَهُمْ وَجَوَاسِيسُ يَسْمَعُونَ مِنْكَ وَيَنْقُلُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، وَهَذَا الْوَصْفُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَيَهُودُ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: السَّمَّاعُونَ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَالْقَوْمُ الْآخَرُونَ يَهُودُ خَيْبَرَ. وَقِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هَلْ جَرَى ذِكْرُ الْجَاسُوسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، لَمْ يَأْتُوكَ: صِفَةٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. وَمَعْنَى لَمْ يَأْتُوكَ: لَمْ يَصِلُوا إِلَى مَجْلِسِكَ وَتَجَافَوْا عَنْكَ لِمَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنْ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَعَلَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: هُمْ قَائِلُونَ مِنَ الْأَحْبَارِ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَمِنْ أُولَئِكَ الْمُفْرِطِينَ فِي الْعَدَاوَةِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قُرِئَ الْكَلِمُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ أَيْ: يُزِيلُونَهُ وَيُمِيلُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: هي حدود

_ (1) سورة المائدة: 5/ 43.

اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا الرَّجْمَ أَيْ: وَضَعُوا الْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُغَيِّرُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: بِإِخْفَاءِ صِفَةِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: بِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ. وَقِيلَ: بِسُوءِ التَّأْوِيلِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى يُحَرِّفُونَ حُكْمَ الْكَلَامِ، فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَصْفًا لِلْيَهُودِ فَقَطْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَهُمْ وَلِلْمُنَافِقِينَ فِيمَا يُحَرِّفُونَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ عِنْدَ كَذِبِهِمْ، لِأَنَّ مَبَادِئَ كَذِبِهِمْ يَكُونُ مِنْ أَشْيَاءَ قِيلَتْ وَفُعِلَتْ، وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَقْرُبُ قَبُولُهُ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ: قَالَ الزَّجَّاجُ مِنْ بَعْدِ أَنْ وَضَعَهُ اللَّهُ مَوَاضِعَهُ، فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ. يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ الْإِشَارَةُ بِهَذَا قِيلَ: إِلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فِي الزِّنَا. وَقِيلَ: إِلَى قَبُولِ الدِّيَةِ فِي أَمْرِ الْقَتْلِ. وَقِيلَ: عَلَى إِبْقَاءِ عِزَّةِ النَّضِيرِ عَلَى قُرَيْظَةَ، وَهَذَا بِحَسَبِ الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ أُوتِيتُمْ، هَذَا الْمُحَرَّفَ الْمُزَالَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَخُذُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاعْمَلُوا بِهِ انْتَهَى. وَهُوَ رَاجِعٌ لِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الرَّسُولُ أَيْ: إِنْ أَتَاكُمُ الرَّسُولُ هَذَا. وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أَيْ: وَإِنْ أَفْتَاكُمْ مُحَمَّدٌ بِخِلَافِهِ فَاحْذَرُوا وَإِيَّاكُمْ مِنْ قَبُولِهِ فَهُوَ الْبَاطِلُ وَالضَّلَالُ. وَقِيلَ: فَاحْذَرُوا أن تعلموه بقوله السديد. وَقِيلَ: أَنْ تُطْلِعُوهُ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فَيَأْخُذَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ. وَقِيلَ: فَاحْذَرُوا أَنْ تَسْأَلُوهُ بَعْدَهَا، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: فَخُذُوهُ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ وَأَتَاكُمْ بِغَيْرِهِ فَاحْذَرُوا قَبُولَهُ. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: فِتْنَتَهُ أَيْ عَذَابَهُ بِالنَّارِ. وَمِنْهُ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أَيْ يُعَذَّبُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَضِيحَتَهُ. وَقِيلَ: اخْتِبَارَهُ لِمَا يَظْهَرُ بِهِ أَمْرُهُ. وَقِيلَ: إِهْلَاكَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كُفْرَهُ وَإِضْلَالَهُ، يُقَالُ: فَتَنَهُ عَنْ دِينِهِ صَرَفَهُ عَنْهُ، وَأَصْلُهُ فَلَنْ يَقْدِرَ عَلَى دَفْعِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ تَرْكَهُ مَفْتُونًا وَخِذْلَانَهُ، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ شَيْئًا انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ مِنْ ثِقَلِ حُزْنِهِ عَلَى مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَقَطْعًا لِرَجَائِهِ مِنْ فَلَاحِهِمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أَيْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونُوا مُدَنَّسِينَ بِالْكُفْرِ. وَفِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَمْنَحَهُمْ مِنْ أَلْطَافِهِ مَا يُطَهِّرُ بِهِ قُلُوبَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا

لِعِلْمِهِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَنْجَعُ فِيهَا. إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أَيْ ذُلٌّ وَفَضِيحَةٌ. فَخِزْيُ الْمُنَافِقِينَ بِهَتْكِ سِتْرِهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ إِنِ اطَّلَعَ عَلَى كُفْرِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَخِزْيُ الْيَهُودِ تَمَسْكُنِهِمْ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَوْنِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَحْتَ ذِمَّةِ غَيْرِهِمْ وَفِي إِيَالَتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خِزْيُ قُرَيْظَةَ بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِهِمْ، وَخِزْيُ بَنِي النَّضِيرِ بِإِجْلَائِهِمْ. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وُصِفَ بِالْعِظَمِ لِتَزَايُدِهِ فَلَا انْقِضَاءَ لَهُ، أَوْ لِتَزَايُدِ أَلَمِهِ أَوْ لَهُمَا. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قَالَ الْحَسَنُ: يَسْمَعُونَ الْكَلَامَ مِمَّنْ يَكْذِبُ عِنْدَهُمْ فِي دَعْوَاهُ فَيَأْتِيهِمْ بِرِشْوَةٍ فَيَأْخُذُونَهَا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: هُمُ الْيَهُودُ وَيَسْمَعُونَ الْكَذِبَ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: مُحَمَّدٌ كَاذِبٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ. وَقِيلَ: الْكَذِبُ هُنَا شَهَادَةُ الزُّورِ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَصْفُ إِنْ كَانَ قَوْلُهُ أَوَّلًا: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، وَصْفًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ السُّحْتَ الْمَالُ الْحَرَامُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ هُنَا، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَمَهْرُ الْبَغْيِ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَالنَّرْدِ، وَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَعَسْبِ الْفَحْلِ، وَأُجْرَةُ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ، وَالسَّاحِرِ، وَأَجْرُ مُصَوِّرِ التَّمَاثِيلِ، وَهَدِيَّةُ الشَّفَاعَةِ. قَالُوا وَسُمِّيَ سُحْتًا الْمَالُ الْحَرَامُ لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الطَّاعَاتِ أَوْ بَرَكَةَ الْمَالِ أَوِ الدِّينَ أَوِ الْمُرُوءَةَ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٍ: إِنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى الشَّفَاعَةِ سُحْتٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ سُحْتٌ. وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: كُنَّا نَرَى أَنَّهُ مَا أُخِذَ عَلَى الْحُكْمِ يَعْنُونَ الرِّشَا، قَالَ: ذَلِكَ كُفْرٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1» . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى الْحَاكِمُ يُعْزَلُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» وَقَالَ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: كَسْبُ الْحَجَّامِ سُحْتٌ ، يَعْنِي أَنَّهُ يُذْهِبُ الْمُرُوءَةَ، وَمَا ذُكِرَ فِي مَعْنَى السُّحْتِ فَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ. وَمِنْ أَعْظَمِ السُّحْتِ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ. كَانَ الْيَهُودُ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 45.

يَأْخُذُونَ الرِّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَ الْحَاكِمُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَاهُ أَحَدُهُمْ بِرِشْوَةٍ جَعَلَهَا فِي كُمِّهِ فَأَرَاهُ إِيَّاهَا، وَتَكَلَّمَ بِحَاجَتِهِ، فَيَسْمَعُ مِنْهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى خَصْمِهِ، فَيَأْكُلُ الرِّشْوَةَ وَيَسْمَعُ الْكَذِبَ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: السُّحُتُ بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِإِسْكَانِ الْحَاءِ. وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ نَافِعٍ: بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ، وَقُرِئَ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ، فَبِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَالْفَتْحَتَيْنِ اسْمُ الْمَسْحُوتِ كَالدَّهْنِ وَالرَّعْيِ وَالنَّبْضِ، وَبِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ كَالصَّيْدِ بِمَعْنَى الْمَصِيدِ، أَوْ سُكِّنَتِ الْحَاءُ طَلَبًا للخفة. فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ أي فإن جاؤوك لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَحْكُمَ، أَوْ تُعْرِضَ. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ مِنَ التَّخْيِيرِ لِحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَصَمِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ: أَنَّهُمْ إِذَا ارْتَفَعُوا إِلَى حُكَّامِ المسلمين، فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أَعْرَضُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ: التَّخْيِيرُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» فَإِذَا جاؤوا فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِهِمْ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ غَيْرِهِمْ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِذَا اخْتَرْتَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ دُونَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ احْتَكَمُوا إِلَيْنَا حُمِلُوا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي بِمُسْلِمَةٍ، وَالسَّارِقِ مِنْ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَلَا يَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ صُولِحُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْحُدُودِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ رَجْمَ الْيَهُودِيَّيْنِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْجِزْيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ حَاكِمَ الْمُسْلِمِينَ يحكم بين أهل الذمة فِي التَّظَالُمِ، وَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ فِي تَغْيِيرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَبْسُ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ وَغَصْبُ الْمَالِ. فَأَمَّا نَوَازِلُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَظَالُمَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَمُحْتَمِلَةٌ، فَهِيَ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا الْحَاكِمُ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَرِضَاهُمَا بِحُكْمِهِ كَافٍ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ رِضَا الْأَسَاقِفَةِ وَالرُّهْبَانِ، فَإِنْ رَضِيَ الْأَسَاقِفَةُ دُونَ الْخَصْمَيْنِ، أَوِ الْخَصْمَانِ دُونَ الْأَسَاقِفَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: فإن جاؤوك يَعْنِي أَهْلَ نَازِلَةِ الزَّانِيَيْنِ، ثُمَّ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ سَائِرَ النوازل.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 49.

وَقَالَ قَوْمٌ: فِي قَتِيلِ الْيَهُودِ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: التَّخْيِيرُ مُخْتَصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ لَازِمَةٌ لَهُمْ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ فِي إِمْضَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ صَغَارًا لَهُمْ، فَأَمَّا الْمُعَاهَدُونَ الَّذِينَ لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، بَلْ يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمُعَاهَدِينَ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أَيْ أَنْتَ آمِنٌ مِنْ ضَرَرِهِمْ، مَنْصُورٌ عَلَيْهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَكَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ لِطَلَبِ الْأَيْسَرِ وَالْأَهْوَنِ عَلَيْهِمْ، فَالْجَلْدُ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَأَبَى الْحُكُومَةَ بَيْنَهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَتَكَرَّهُوا إِعْرَاضَهُ عَنْهُمْ، وَكَانُوا خُلَقَاءَ بِأَنْ يُعَادُوهُ وَيَضُرُّوهُ، فَأَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا قَادِرِينَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ضَرَرِهِ. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ: وَإِنْ أَرَدْتَ الْحُكْمَ بِالْقِسْطِ بِالْعَدْلِ كَمَا تَحْكُمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْقِسْطُ: هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْقِسْطِ، فَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ أَيْ: فَحُكْمُكَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْعَدْلِ، لِأَنَّكَ مَعْصُومٌ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَأَنْتَ سَيِّدُهُمْ، فَمَحَبَّتُهُ إِيَّاكَ أَعْظَمُ مِنْ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى تَوَخِّي الْقِسْطِ وَإِيثَارِهِ، حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُحِبُّ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ تَحْكِيمِهِمْ إِيَّاهُ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ. وَفِي كِتَابِهِمُ الَّذِي يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى نَصٌّ جَلِيٌّ، فَلَيْسُوا قَاصِدِينَ حُكْمَ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِذَلِكَ أَنْ يكون عنده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُخْصَةٌ فِيمَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فيه اتباعا لأهوائهم، وأنهما كافي شَهَوَاتِهِمْ. وَمَنْ عَدَلَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ إِلَى تَحْكِيمِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ، فَهُوَ لَا يُحَكِّمُ إِلَّا رَغْبَةً فِيمَا يَقْصِدُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ كِتَابِهِ. وَإِذَا خَالَفُوا كِتَابَهُمْ لِكَوْنِهِ لَيْسَ عَلَى وَفْقِ شَهَوَاتِهِمْ، فَلَأَنْ يُخَالِفُوكَ إِذَا لَمْ تُوَافِقْهُمْ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَالْوَاوُ فِي: وَعِنْدَهُمْ، لِلْحَالِ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقَوْلُهُ: فِيهَا. حُكْمُ اللَّهِ، حَالٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَارْتَفَعَ حُكْمٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَيْ: كَائِنًا فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرًا عَنِ التَّوْرَاةِ كَقَوْلِكَ: وَعِنْدَهُمُ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 42. [.....]

التَّوْرَاةُ نَاطِقَةً بِحُكْمِ اللَّهِ. أو لَا مَحَلَّ لَهُ، وَتَكُونُ جُمْلَةً مُبَيِّنَةً، لِأَنَّ عِنْدَهُمْ مَا يُغْنِيهِمْ عَنِ التَّحْكِيمِ كَمَا تَقُولُ: عِنْدَكَ زَيْدٌ يَنْصَحُكَ وَيُشِيرُ عَلَيْكَ بِالصَّوَابِ فَمَا تَصْنَعُ بِغَيْرِهِ؟ وَهَذَانِ الْإِعْرَابَانِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ تَحْكِيمِكَ الْمُوَافِقِ لِمَا فِي كِتَابِهِمْ، لِأَنَّ التَّعْجِيبَ مِنَ التَّحْكِيمِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ صُدُورِهِ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، أَيْ مِنْ بَعْدِ حُكْمِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا أَمْرَ اللَّهِ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْ: ثُمَّ هُمْ يَتَوَلَّوْنَ بَعْدُ. وَهِيَ أَخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِتَوَلِّيهِمْ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي أَنَّهُمْ إِذَا وَضُحَ لَهُمُ الْحَقُّ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَوَلَّوْا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : عَلَامَ عَطَفَ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ؟ (قُلْتُ) : عَلَى يُحَكِّمُونَكَ انْتَهَى. وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاخِلًا فِي الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ، أَيْ ثُمَّ كَيْفَ يَتَوَلَّوْنَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَدْ تَعَجَّبَ مِنْ تَحْكِيمِهِمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ مِنْ تَوَلِّيهِمْ عَنْهُ. أَيْ: كَيْفَ رَضُوا بِهِ ثُمَّ سَخِطُوهُ؟. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُهُ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، أَيْ: مَنْ حَكَّمَ الرَّسُولَ، وَخَالَفَ كِتَابَهُ، وَأَعْرَضَ عَمَّا حَكَمَ لَهُ، إِذْ وَافَى كِتَابَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا الْمَاضِي. وَقِيلَ: نَفْيُ الْإِيمَانِ بالتوراة وبموسى عَنْهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ تَعْلِيقٌ بِقَوْلِهِ: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ، أَيِ اعْجَبْ لِتَحْكِيمِهِمْ إِيَّاكَ، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِكَ، وَلَا مُعْتَقِدِينَ فِي صِحَّةِ حُكْمِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَصْدُهُمْ تَحْصِيلُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَأَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ دُونَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْجَاحِدِينَ حُكْمَ اللَّهِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: نَزَلَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ- إِلَى- فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1» فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً وَذَكَرَ قِصَّةَ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ. وَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «2» نَزَلَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ نَعَمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو مِجْلِزٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: هِيَ فِي الْيَهُودِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ عَلَى الْيَهُودِ وَعَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ» وَفِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ لِلْيَهُودِ بِأَنْ يَكُونُوا كَمُتَقَدِّمِيهِمْ مِنْ مُسْلِمِي أَحْبَارِهِمْ، وَتَنْبِيهُ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُوبِ الرجم. وقال

_ (1) سورة المائدة: 5/ 41- 44. (2) سورة المائدة: 5/ 45.

جَمَاعَةٌ: الْهُدَى وَالنُّورُ سَوَاءٌ، وَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَا سَوَاءً، فَالْهُدَى مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَالنُّورُ وَالْبَيَانُ لِلتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَهْدِي لِلْعَدْلِ وَالْحَقِّ، وَنُورٌ يُبَيِّنُ مَا اسْتُبْهِمَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْهُدَى الْإِرْشَادُ الْمُعْتَقَدُ وَالشَّرَائِعُ، وَالنُّورُ مَا يُسْتَضَاءُ بِهِ مِنْ أَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِيهَا بَيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ وَمَا جَاءُوا يَسْتَفْتُونَ فِيهِ. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: النَّبِيُّونَ، الْجَمْعُ. قَالُوا: وَهُمْ مِنْ لَدُنْ مُوسَى إِلَى عِيسَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُحَمَّدٌ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: النَّبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ حِينَ حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ بِالرَّجْمِ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «1» والَّذِينَ أَسْلَمُوا وَصْفٌ مَدَحَ الْأَنْبِيَاءَ كَالصِّفَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأُرِيدَ بِإِجْرَائِهَا التَّعْرِيضُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، حَيْثُ قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يَهُودًا، وَالنَّصَارَى قَالَتْ: كَانُوا نَصَارَى، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، كَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ «2» وَنَبَّهَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بُعَدَاءُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ هَادُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ. وَقِيلَ: بِأَنْزَلْنَا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينِ هَادُوا يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ. وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ هَادُوا، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، بَلْ هُمْ بُعَدَاءُ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينِ هَادُوا إِذَا عُلِّقَتْ بَيَحْكُمُ لِلِاخْتِصَاصِ، فَيَشْمَلُ مَنْ يَحْكُمُ لَهُ وَمَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ أَيْ: لِلَّذِينِ هَادُوا وَعَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ. قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ وَمِنْهُمُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّونَ الْفُقَهَاءُ الْعُلَمَاءُ، وَهُمْ فَوْقَ الْأَحْبَارِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الرَّبَّانِيُّونَ الْعُلَمَاءُ، وَالْأَحْبَارُ الْفُقَهَاءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبَّانِيُّونَ الْوُلَاةُ، وَالْأَحْبَارُ الْعُلَمَاءُ. وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ النَّصَارَى، وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الرَّبَّانِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ الزُّهَّادُ، وَالْعُلَمَاءُ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ الَّذِينَ الْتَزَمُوا طَرِيقَةَ النَّبِيِّينَ وَجَانَبُوا، دِينَ الْيَهُودِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ هُنَا بِالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ الَّذِينَ يحكمون

_ (1) سورة النساء: 4/ 54. (2) سورة الحج: 22/ 78.

بِالتَّوْرَاةِ ابْنَا صُورِيَّا كَانَ أَحَدُهُمَا رَبَّانِيًّا، وَالْآخَرُ حَبْرًا، وَكَانَا قَدْ أَعْطَيَا النَّبِيَّ عَهْدًا أَنْ لَا يَسْأَلَهُمَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ التَّوْرَاةِ إِلَّا أَخْبَرَاهُ بِهِ، فَسَأَلَهُمَا عَنْ أَمْرِ الرَّجْمِ فَأَخْبَرَاهُ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَيْهِمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ ابْنَا صُورِيَّا وَغَيْرَهُمْ جَحَدُوا أَمْرَ الرَّجْمِ، وَفَضَحَهُمْ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَإِنَّمَا اللَّفْظُ فِي كُلِّ حَبْرٍ مُسْتَقِيمٍ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، وَأَمَّا فِي مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ وُجِدَ لَأَسْلَمَ، فَلَمْ يُسَمَّ حَبْرًا وَلَا رَبَّانِيًّا انْتَهَى. بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ الْبَاءُ فِي بِمَا لِلسَّبَبِ، وَتَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يَحْكُمُ. وَاسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، وَالْمَعْنَى: بِسَبَبِ مَا اسْتُحْفِظُوا. وَالضَّمِيرُ فِي اسْتُحْفِظُوا عَائِدٌ عَلَى النَّبِيِّينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ أَيْ: بِسَبَبِ مَا طَلَبَ اللَّهُ مِنْهُمْ حِفْظَهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَكَلَّفَهُمْ حِفْظَهَا، وَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهَا وَالْقَوْلِ بِهَا، وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ حِفْظَ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حِفْظُهُ فِي صُدُورِهِمْ وَدَرْسُهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَالثَّانِي: حِفْظُهُ بِالْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِ. وَهَؤُلَاءِ ضَيَّعُوا مَا اسْتُحْفِظُوا حَتَّى تَبَدَّلَتِ التَّوْرَاةُ. وَفِي بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وَكَوْنِ الْفِعْلِ لِلطَّلَبِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَكَفَّلْ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ، بَلْ طَلَبَ مِنْهُمْ حِفْظَهَا وَكَلَّفَهُمْ بِذَلِكَ، فَغَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَخَالَفُوا أَحْكَامَ اللَّهِ بِخِلَافِ كِتَابِنَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَبْدِيلٌ وَلَا تَغْيِيرٌ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي اسْتُحْفِظُوا عَائِدٌ عَلَى الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ فَقَطْ. وَالَّذِينَ اسْتَحْفَظَهُمُ التَّوْرَاةَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَيْ: كَانُوا عَلَيْهِ رُقَبَاءَ لِئَلَّا يُبَدَّلَ. وَالْمَعْنَى يَحْكُمُ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ النَّبِيُّونَ بَيْنَ موسى وعيسى، وَكَانَ بَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ لِلَّذِينِ هَادُوا يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ لَا يَتْرُكُونَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَنْهَا، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حَمْلِهِمْ عَلَى حُكْمِ الرَّجْمِ وَإِرْغَامِ أُنُوفِهِمْ، وَإِبَائِهِمْ عَلَيْهِمْ مَا اشْتَهَوْهُ مِنَ الْجَلْدِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى الْحُكْمِ أَيْ: وَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى الْحُكْمِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ أَيْ: وَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا هَذَا نَهْيٌ لِلْحُكَّامِ عَنْ خَشْيَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ فِي حُكُومَاتِهِمْ، وَإِذْهَابِهِمْ فِيهَا وَإِمْضَائِهَا عَلَى خِلَافِ ما أمروا به من العدل

_ (1) سورة الحجر: 15/ 9.

بِخَشْيَةِ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ، أَوْ خِيفَةِ أَذِيَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ وَالْأَصْدِقَاءِ. وَلَا تَسْتَعْطُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَهُوَ الرِّشْوَةُ وَابْتِغَاءُ الْجَاهِ وَرِضَا النَّاسِ، كَمَا حَرَّفَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوا أَحْكَامَهُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَطَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ فَهَلَكُوا. وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ المكاسب الخبيثة بالعلم والتحليل لِلدُّنْيَا بِالدِّينِ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَخْشَوُا النَّاسَ فِي إِظْهَارِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالْعَمَلِ بِالرَّجْمِ، وَاخْشَوْنِ فِي كِتْمَانِ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْكَامِ اللَّهِ سَبَبُهُ شَيْئَانِ: الْخَوْفُ، وَالرَّغْبَةُ، وَكَانَ الْخَوْفُ أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنَ الرَّغْبَةِ، قَدَّمَ النَّهْيَ عَنِ الْخَوْفِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الرَّغْبَةِ وَالطَّمَعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لِلْيَهُودِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، وَالْقَوْلِ لِعُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْخِطَابُ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ قِيلَ لَهُمْ: لَا تَخْشَوْا يَهُودَ خَيْبَرَ أَنْ تُخْبِرُوهُمْ بِالرَّجْمِ، وَاخْشَوْنِي فِي كِتْمَانِهِ انْتَهَى. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِعُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَيْ لَا تَخْشَوُا النَّاسَ كَمَا خَشِيَتِ الْيَهُودُ النَّاسَ، فَلَمْ يَقُولُوا الْحَقَّ. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومُ، فَيَشْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي سِيَاقِ خِطَابِ الْيَهُودِ، وَإِلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ. ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَطَاءٌ، وَجَمَاعَةٌ وَلَكِنْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ يَعْنِي: أَنَّ كُفْرَ الْمُسْلِمِ لَيْسَ مِثْلَ كُفْرِ الْكَافِرِ، وَكَذَلِكَ ظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنِ الْمِلَّةِ قَالَهُ: ابْنُ عباس وطاووس. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الشِّرْكِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ. وَبِهِ قَالَ: أَبُو صَالِحٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَرُوِيَ فِي هَذَا حَدِيثٌ عَنِ الْبَرَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا الثَّلَاثَةُ فِي الْكَافِرِينَ» قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هِيَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فَقَالَ: إِنَّ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ يَتَأَوَّلُونَ الْآيَاتِ عَلَى مَا لَمْ تُنَزَّلْ عَلَيْهِ، وَمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَّا فِي حَيَّيْنِ مِنْ يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَذَكَرَ حِكَايَةَ الْقَتْلِ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ. وَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: نِعْمَ، الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ لكل حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْكَافِرِينَ وَالظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَعَنْهُ نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ مَا كَانَ مِنْ حُلْوٍ فَلَكُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ مُرٍّ فَهُوَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. مَنْ جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ كَفَرَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ ظَالِمٌ فَاسِقٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: الْكَافِرُونَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالظَّالِمُونَ فِي الْيَهُودِ، وَالْفَاسِقُونَ فِي

النَّصَارَى. وَكَأَنَّهُ خَصَّصَ كُلَّ عَامٍّ مِنْهَا بِمَا تَلَاهُ، إِذْ قَبْلَ الْأُولَى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ «1» ووَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ «2» وكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ «3» ويَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ «4» وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها «5» وَقَبْلَ الثَّالِثَةِ: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ «6» الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ لَمْ يحكم بما أنزل الله مُسْتَهِينًا بِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ، وَصْفٌ لَهُمْ بِالْعُتُوِّ فِي كُفْرِهِمْ حِينَ ظَلَمُوا آيَاتِ اللَّهِ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِهَانَةِ وَتَمَرَّدُوا بِأَنْ حَكَمُوا بِغَيْرِهَا انْتَهَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَنْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَتَرَكَهُ عَامِدًا وَتَجَاوَزَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ حَقًّا، وَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْجُحُودِ، فَهُوَ الْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَاحْتَجَّتِ الْخَوَارِجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَالُوا: هِيَ نَصٌّ فِي كُلِّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَكُلُّ مَنْ أَذْنَبَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا. وَأُجِيبُوا: بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِمْ. وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَقْدِيرُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ قَبْلُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ شَرْطٌ وَهِيَ عَامٌّ، وَزِيَادَةُ مَا قُدِّرَ زِيَادَةٌ فِي النَّقْصِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْكُفْرَ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْكُفْرِ فِي الدِّينِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: مَا أَنْزَلَ صِيغَةُ عُمُومٍ، فَالْمَعْنَى: مَنْ أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالْفَاسِقُ لَمْ يَأْتِ بِضِدِّ حُكْمِ اللَّهِ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ وَهُوَ الْعَمَلُ، أَمَّا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ فَهُوَ مُوَافِقٌ. وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا الْوَعِيدُ الْيَهُودَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّهِ فِي وَاقِعَةِ الرَّجْمِ، فَدَلَّ على سقوط هَذَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَجَحَدَ بِلِسَانِهِ، أَمَّا مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُضَادُّ، فَهُوَ حَاكِمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، لَكِنَّهُ تَارِكٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ في التوراة أن

_ (1) سورة المائدة: 5/ 42. (2) سورة المائدة: 5/ 42. (3) سورة المائدة: 5/ 43. (4) سورة المائدة: 5/ 44. (5) سورة المائدة: 5/ 45. (6) سورة المائدة: 5/ 46.

حُكْمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَغَيَّرَهُ الْيَهُودُ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَغَيَّرَهُ الْيَهُودُ أَيْضًا، فَفَضَّلُوا بَنِي النَّضِيرِ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَخَصُّوا إِيجَابَ الْقَوَدِ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ دُونَ بَنِي النَّضِيرِ. وَمَعْنَى وَكَتَبْنَا: فَرَضْنَا. وَقِيلَ: قُلْنَا وَالْكِتَابَةُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْكِتَابَةُ حَقِيقَةً، وَهِيَ الْكِتَابَةُ فِي الْأَلْوَاحِ، لِأَنَّ التَّوْرَاةَ مَكْتُوبَةٌ فِي الْأَلْوَاحِ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهَا عَائِدٌ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَفِي: عَلَيْهِمْ، عَلَى الَّذِينَ هَادُوا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ: بِنَصْبِ، وَالْعَيْنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَعَاطِيفِ عَلَى التَّشْرِيكِ فِي عَمَلِ أَنَّ النَّصْبَ، وَخَبَرُ أَنَّ هُوَ الْمَجْرُورُ، وَخَبَرُ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ. وَقَدَّرَ أَبُو عَلِيٍّ الْعَامِلَ فِي الْمَجْرُورِ مَأْخُوذٌ بِالنَّفْسِ إِلَى آخَرِ الْمَجْرُورَاتِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوَّلًا: مَأْخُوذَةٌ بِالنَّفْسِ مَقْتُولَةٌ بِهَا إِذَا قَتَلَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ مفقوأة بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفُ مَجْدُوعٌ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنُ مَأْخُوذَةٌ مَقْطُوعَةٌ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنُّ مَقْلُوعَةٌ بِالسِّنِّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ إِذَا وَقَعَ خَبَرًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ كَوْنًا مُطْلَقًا، لَا كَوْنًا مُقَيَّدًا. وَالْبَاءُ هُنَا بَاءُ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ، فَقَدَّرَ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْكَوْنِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ. فَإِذَا قُلْتَ: بِعْتُ الشَّاءَ شَاةً بِدِرْهَمٍ، فَالْمَعْنَى مَأْخُوذٌ بِدِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. التَّقْدِيرُ: الْحُرُّ مَأْخُوذٌ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ مَأْخُوذٌ بِالْعَبْدِ. وَكَذَلِكَ هَذَا الثَّوْبُ بِهَذَا الدِّرْهَمِ مَعْنَاهُ مَأْخُوذٌ بِهَذَا الدِّرْهَمِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بِالنَّفْسِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَجِبُ، أَوْ يَسْتَقِرُّ. وَكَذَا الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ وَمَا بَعْدَهَا مُقَدَّرُ الْكَوْنِ الْمُطْلَقِ، وَالْمَعْنَى: يَسْتَقِرُّ قَتْلُهَا بِقَتْلِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِرَفْعِ وَالْعَيْنُ وَمَا بَعْدَهَا. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ فِي تَوْجِيهِ الرَّفْعِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، كَمَا تَعْطِفُ مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَهِيَ: وَكَتَبْنَا، فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْجُمَلُ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ كَتَبْنَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّشْرِيكُ فِي مَعْنَى الْكُتُبِ، بَلْ ذَلِكَ اسْتِئْنَافُ إِيجَابٍ وَابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: إن النفس بالنفس، أَيْ: قُلْ لَهُمُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا الْعَطْفُ هُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى التَّوَهُّمِ، إِذْ يُوهِمُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، إِنَّهُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالْجُمَلُ مُنْدَرِجَةُ تَحْتَ الْكَتْبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ: وَالْعَيْنُ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ بِالنَّفْسِ هِيَ وَالْعَيْنِ وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهَا. وَتَكُونُ الْمَجْرُورَاتُ عَلَى هَذَا أَحْوَالًا مُبَيِّنَةً لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَرْفُوعَ عَلَى هَذَا فَاعِلٌ، إِذْ عُطِفَ عَلَى فَاعِلٍ.

وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ ضَعِيفَانِ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَى التَّوَهُّمِ، وَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، إِنَّمَا يُقَالُ مِنْهُ مَا سُمِعَ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا فِيهِ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الْمَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَا بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِلَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَفِيهِ لُزُومُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ أَنْ لَا تَكُونَ لَازِمَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الرَّفْعُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ: أَنَّ النَّفْسَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، إِمَّا لِإِجْرَاءِ كَتَبْنَا مُجْرَى قُلْنَا، وَإِمَّا أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُكَ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الْكَتْبُ كَمَا تقع عليه القراءة تقول: كَتَبْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقَرَأْتُ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ قُرِئَ أَنَّ النَّفْسَ لَكَانَ صَحِيحًا انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ تَوْجِيهِ أَبِي عَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْمُصْطَلَحِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسَمَّى عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ، لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ هُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَوْضِعِ هُوَ مَحْصُورٌ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ. أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَقُولُ إِنَّ قوله: إن النفس بالنفس فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ طَالِبَ الرَّفْعِ مَفْقُودٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا لَفْظُهُ وَمَوْضِعُهُ وَاحِدٌ وَهُوَ النَّصْبُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، إِمَّا لِإِجْرَاءِ كَتَبْنَا مُجْرَى قُلْنَا، فَحُكِيَتْ بِهَا الْجُمْلَةُ: وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَتَسَلَّطَ الْكَتْبُ فِيهَا نَفْسُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْجُمَلَ مِمَّا تُكْتَبُ كَمَا تُكْتَبُ الْمُفْرَدَاتُ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ مَوْضِعَ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَقَعَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِنَصْبِ وَالْعَيْنَ، وَالْأَنْفَ، وَالْأُذُنَ، وَالسِّنَّ، وَرَفْعِ وَالْجُرُوحُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: نَافِعٍ. وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ: رَفْعَ وَالْجُرُوحُ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي رَفْعِ وَالْعَيْنُ وَمَا بَعْدَهَا. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَرَأَ أَنِ النَّفْسُ بِتَخْفِيفِ أَنَّ، وَرَفْعِ الْعَيْنِ وَمَا بَعْدَهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مُخَفَّفَةً مِنْ أَنَّ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَهُوَ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرِ أَنْ فَمَعْنَاهَا مَعْنَى الْمُشَدَّدَةِ الْعَامِلَةِ فِي كَوْنِهَا مَصْدَرِيَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً التَّقْدِيرُ أَيِ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، لِأَنَّ كَتَبْنَا جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِنَصْبِ النَّفْسِ، وَالْأَرْبَعَةِ بَعْدَهَا. وَقَرَأَ: وَأَنِ الْجُرُوحُ قِصَاصٌ بِزِيَادَةِ أَنِ الْخَفِيفَةِ، وَرَفْعِ الْجُرُوحِ. وَيَتَعَيَّنُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّفْسِيرِيَّةَ مِنْ حَيْثُ الْعَطْفُ، لِأَنَّ كَتَبْنَا تَكُونُ عَامِلَةً مِنْ حَيْثُ الْمُشَدَّدَةُ غَيْرَ عَامِلَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّفْسِيرِيَّةُ، فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ، فَإِذَا لَمْ

يَكُنْ عَمَلٌ فَلَا تَشْرِيكَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: وَالْأُذْنَ بِالْأُذْنِ بِإِسْكَانِ الذَّالِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا وَمُثَنًّى حَيْثُ وَقَعَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالضَّمِّ. فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، كَالنُّكُرِ وَالنُّكْرِ. وَقِيلَ: الْإِسْكَانُ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا ضُمَّ إِتْبَاعًا. وَقِيلَ: التَّحْرِيكُ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا سُكِّنَ تَخْفِيفًا. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِحَدٍّ أُخِذَ نَفْسُهُ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَعْمُولٌ بِهِ فِي مِلَّتِنَا إِجْمَاعًا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ عُمُومٌ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَلَا بِالْحَرْبِيِّ، وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَلَا سَيِّدٌ بِعَبْدِهِ. وَتُقْتَلُ جَمَاعَةٌ بِوَاحِدٍ خِلَافًا لِعَلِيٍّ، وَوَاحِدٌ بِجَمَاعَةٍ قِصَاصًا، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَوَدِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمْ وَتَجِبُ دِيَةُ الْبَاقِينَ، قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «1» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ أَيْضًا: رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَوَسَّعَ عَلَيْهَا بِالدِّيَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَةً فِيمَا نَزَلَ عَلَى مُوسَى وَكُتِبَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَسَخَ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ «2» قوله: إن النفس بالنفس، وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْعُمُومُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا يَخْرُجُ بِالدَّلِيلِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ فَتُفْقَأُ عَيْنُ الْأَعْوَرِ بِعَيْنِ مَنْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعُمَرَ فِي آخَرِينَ: أَنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ فَقَأَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ كَامِلَةً. وَبِهِ قَالَ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّخَعِيُّ. وَرُوِيَ نِصْفُ الدِّيَةِ عَنْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، وَمَسْرُوقٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ. وَتُفْقَأُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى، وَتُقْلَعُ الثَّنِيَّةُ بِالضِّرْسِ، وَعَكْسُهُمَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا خَاصٌّ بِالْمُسَاوَاةِ، فَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى مَعَ وُجُودِهَا إِلَّا مَعَ الرِّضَا. وَلَوْ فَقَأَ عَيْنًا لَا يُبْصَرُ بِهَا فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، وَعَنْ عُمَرَ: ثُلُثُ دِيَتِهَا. وَقَالَ مَسْرُوقٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: فِيهَا حُكُومَةٌ. وَلَوْ أذهب بعض نور

_ (1) سورة البقرة: 2/ 178. (2) سورة البقرة: 2/ 178.

الْعَيْنِ وَبَقِيَ بَعْضٌ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: فِيهَا الْأَرْشُ. وَعَنْ عَلِيٍّ: اخْتِبَارُ بَصَرِهِ، وَيُعْطَى قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ مَالِ الْجَانِي. وَفِي الْأَجْفَانِ كُلِّهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ جَفْنٍ رُبُعُ الدِّيَةِ قَالَهُ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فِي الْجَفْنِ الْأَعْلَى ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْأَسْفَلِ ثُلُثَاهَا. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ قَطَعَ أَنْفًا هَلْ يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ فِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ إِذَا اسْتَوْعَبَ. وَاخْتُلِفَ فِي كَسْرِ الْأَنْفِ: فَمَالِكٌ يَرَى الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ مِنْهُ، وَالِاجْتِهَادَ فِي الْخَطَأِ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ: لَا دِيَةَ فِيهِ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي كَسْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ جُبِرَ كَسْرُهُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَمَا قُطِعَ مِنَ الْمَارِنِ بِحِسَابِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز وَالشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي الْمَارِنِ إِذَا قُطِعَ وَلَمْ يُسْتَأْصَلِ الْأَنْفُ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، قَالَهُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَالْمَارِنُ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ، وَالْأَرْنَبَةُ وَالرَّوْثَةُ طَرْفُ الْمَارِنِ. وَلَوْ أَفْقَدَهُ الشَّمَّ أَوْ نَقَصَهُ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ. وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ إِذَا اسْتَوْعَبَ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا فَفِيهِ الْقِصَاصُ إِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْأُذُنَيْنِ حُكُومَةٌ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ، وَيُقَاسُ نقصاه كَمَا يُقَاسُ فِي الْبَصَرِ. وَفِي إِبْطَالِهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ إِلَّا بِهَا. وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَلْعَ قِصَاصٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَوْ كُسِرَ بَعْضُهَا. وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ: ثَنَايَاهَا، وَأَنْيَابُهَا، وَأَضْرَاسُهَا، وَرُبَاعِيَّاتُهَا، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ. وَبِهِ قَالَ: عُرْوَةُ، وطاووس، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ قَضَى فِيمَا أَقْبَلَ مِنَ الْفَمِ بِخَمْسِ فَرَائِضَ وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَارًا، كُلُّ فَرِيضَةٍ عَشْرُ دَنَانِيرَ، وَفِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرٌ بَعِيرٌ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَلَوْ أُصِيبَ الْفَمُ كُلُّهُ فِي قَضَاءِ عُمَرَ نَقَصَتِ الدِّيَةُ، أَوْ فِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ زَادَتْ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَعَلْتُهَا فِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ. قَالَ عُمَرُ:

الْأَضْرَاسُ عِشْرُونَ، وَالْأَسْنَانُ اثْنَا عَشَرَ: أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رُبَاعِيَّاتٍ، وَأَرْبَعُ أَنْيَابٍ. وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَضْرَاسِ لَا فِي الْأَسْنَانِ، فَفِي قَضَاءِ عُمَرَ الدِّيَةُ ثَمَانُونَ، وَفِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مِائَةٌ، وَهِيَ الدِّيَةُ كَامِلَةً مِنَ الْإِبِلِ. وَقَالَ عَطَاءُ فِي الثَّنِيَّتَيْنِ وَالرُّبَاعِيَّتَيْنِ وَالنَّابَيْنِ: خَمْسٌ خَمْسٌ، وَفِيمَا بَقِيَ بَعِيرَانِ بَعِيرَانِ، أَعْلَى الْفَمِ وَأَسْفَلُهُ سَوَاءٌ. وَلَوْ قُلِعَتْ سِنُّ صَبِيٍّ لَمْ يُثْغَرْ فَنَبَتَتْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَى الْقَالِعِ. إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ قَالَا: إِذَا نَبَتَتْ نَاقِصَةَ الطُّولِ عَنِ الَّتِي تُقَارِبُهَا أُخِذَ لَهُ مِنْ أَرْشِهَا بِقَدْرِ نَقْصِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِيهَا حُكُومَةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَلَوْ قُلِعَتْ سِنُّ كَبِيرٍ فَأَخَذَ دِيَتَهَا ثُمَّ نَبَتَتْ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرُدُّ مَا أَخَذَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَرُدُّ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَلَوْ قُلِعَتْ سِنٌّ قَوَدًا فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا فَالْتَحَمَتْ فَلَا يَجِبُ قَلْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ، بِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَيُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِهَا. وَكَذَا لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَرَدَّهَا فِي حَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عطاء أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَوْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً فَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِيهَا حُكُومَةٌ، فَإِنْ كُسِرَ بَعْضُهَا أَعْطَى بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. قَالَ الْأُدْفُوِيُّ: وَمَا عَلِمْتُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِي السِّنِّ الزَّائِدَةِ ثُلُثُ السِّنِّ، وَلَوْ جَنَى عَلَى سِنٍّ فَاسْوَدَّتْ ثُمَّ عَقَلَهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَبِهِ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَشُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ: فِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَبِهِ قَالَ: أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: فِيهَا حُكُومَةٌ، فَإِنْ طُرِحَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَفِيهَا عَقْلُهَا، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَإِنِ اسْوَدَّ بَعْضُهَا كَانَ بِالْحِسَابِ قَالَهُ: الثَّوْرِيُّ. وَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ أَيْ ذَاتُ قِصَاصٍ. وَلَفْظُ الْجُرُوحِ عَامٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَتُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ وَلَا يُخَافُ فِيهَا عَلَى النَّقْصِ، فَإِنْ خِيفَ كَالْمَأْمُومَةِ وَكَسْرِ الْفَخِذِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا. وَمَدْلُولُ: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمِثْلِهِ فَلَيْسَ بِقِصَاصٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ. وَجَمِيعُ مَا عَدَا النَّفْسَ هُوَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، لَكِنَّهُ فَصَّلَ أَوَّلَ الْآيَةِ وَأَجْمَلَ آخِرَهَا لِيَتَنَاوَلَ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُنَصَّ، فَيَحْصُلَ الْعُمُومُ. مَعْنَى: وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَفْظًا. وَمِنْ جُمْلَةِ الْجُرُوحِ الشِّجَاجِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ

الْقِصَاصُ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهَا فِيهِ، وَمَا لَا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ كَالْمَأْمُومَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الشِّجَاجِ قِصَاصٌ إِلَّا فِي الْمُوضِحَةِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا لَهُ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ سِوَاهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الشِّجَاجِ فَفِيهِ دِيَتُهُ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي الْخَارِصَةِ الْقِصَاصُ بِمِقْدَارِهَا إِذَا لَمْ يَخْشَ مِنْهَا سَرَايَةً، وَأَقَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْمَأْمُومَةِ، وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ. قَالَ عَطَاءٌ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَقَادَ مِنْهَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا الْجُرُوحُ فِي اللَّحْمِ فَقَالَ: فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقِصَاصَ فِيهَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يُقَاسَ بِمِثْلٍ، وَيُوضَعَ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الْجُرْحِ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الْمُتَصَدِّقُ صَاحِبُ الْحَقِّ. وَمُسْتَوْفِي الْقِصَاصِ الشَّامِلِ لِلنَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ وَلِلْجُرُوحِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ، وَهُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى التَّصَدُّقِ أي: فالتصدق كفارة للمتصدق، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِجُرْحِهِ يُكَفِّرُ عَنْهُ، قَالَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَجَابِرٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ. وَذَكَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً» وَذَكَرَ مَكِّيٌّ حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: «أَنَّهُ يَحُطُّ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ مَا عَفَى عَنْهُ مِنَ الدِّيَةِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَهْدِمُ عَنْهُ ذُنُوبَهُ بِقَدْرِ مَا تَصَدَّقَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْجَانِي وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى. وَالْمَعْنَى: فَذَلِكَ الْعَفْوُ وَالتَّصَدُّقُ كفارة للجاني تسقط عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْقِصَاصِ. وَكَمَا أَنَّ الْقِصَاصَ كَفَّارَةٌ، كَذَلِكَ الْعَفْوُ كَفَّارَةٌ، وَأَجْرُ الْعَافِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسَّبِيعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْمُتَصَدِّقُ هُوَ الْجَانِي، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ يَعُودُ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا جَنَى جَانٍ فَجُهِلَ وَخَفِيَ أَمْرُهُ فَتَصَدَّقَ هُوَ بِأَنْ عَرَّفَ بِذَلِكَ وَمَكَّنَ مِنْ نَفْسِهِ، فَذَلِكَ الْفِعْلُ كَفَّارَةٌ لِذَنْبِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَصَابَ رَجُلٌ رَجُلًا وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُصَابُ مَنْ أَصَابَهُ فَاعْتَرَفَ لَهُ الْمُصِيبُ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمُصِيبِ. وَأَصَابَ عُرْوَةُ عِنْدَ الرُّكْنِ إِنْسَانًا وَهُمْ يَسْتَلِمُونَ فَلَمْ يَدْرِ الْمُصَابُ مَنْ أَصَابَهُ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَنَا أَصَبْتُكَ، وَأَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنْ كَانَ يَلْحَقُكَ بِهَا بَأْسٌ فَأَنَا بِهَا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَصَدَّقَ تَفَعَّلَ مِنَ الصَّدَقَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّدْقِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ يَعْنِي: فَالتَّصَدُّقُ كَفَّارَتُهُ، أَيِ الْكَفَّارَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا لَهُ لَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَهُوَ تَعْظِيمٌ لِمَا فَعَلَ لِقَوْلِهِ: فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1» وَتَرْغِيبٌ فِي الْعَفْوِ. وَتَأَوَّلَ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 40. [.....]

قَوْمٌ الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، فَمَنْ أُعْطِيَ دِيَةَ الْجُرْحِ وَتَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ إِذَا رُضِيَتْ مِنْهُ وَقُبِلَتْ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: وَمَنْ يَتَصَدَّقْ بِهِ فَإِنَّهُ كَفَّارَةٌ لَهُ. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ نَاسَبَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّهُ جَاءَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «1» الْآيَةَ فَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِجَمِيعِهَا، بَلْ يُخَالِفُ رَأْسًا. وَلِذَلِكَ جَاءَ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا «2» وَهَذَا كُفْرٌ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ الْكَافِرِينَ. وَهُنَا جَاءَ عَقِيبَ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ مِنْ أَمْرِ الْقَتْلِ وَالْجُرُوحِ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ الظُّلْمِ الْمُنَافِي لِلْقِصَاصِ وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ، وَإِشَارَةً إِلَى مَا كَانُوا قَرَّرُوهُ مِنْ عَدَمِ التَّسَاوِي بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ التَّوْرَاةَ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ، ذَكَرَ أَنَّهُ قَفَّاهُمْ بِعِيسَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَنْوِيهًا بِاسْمِهِ، وَتَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا يَدَّعِيهِ الْيَهُودُ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مُصَدِّقِي التَّوْرَاةِ. وَمَعْنَى: قَفَّيْنَا، أَتَيْنَا بِهِ، يَقْفُو آثَارَهُمْ أَيْ يَتْبَعُهَا. وَالضَّمِيرُ فِي آثارهم يعود على النبيين مِنْ قَوْلِهِ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ «3» وَقِيلَ: عَلَى الَّذِينَ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ. وَعَلَى آثَارِهِمْ، مُتَعَلِّقٌ بِقَفَّيْنَا، وَبِعِيسَى مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَيْضًا. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ أَيْ: ثُمَّ جِئْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَافِيًا لَهُمْ، وَلَيْسَ التَّضْعِيفُ فِي قَفَّيْنَا لِلتَّعْدِيَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّعْدِيَةِ مَا جَاءَ مَعَ الْبَاءِ الْمُعَدِّيَةِ، وَلَا تَعَدَّى بِعَلَى. وَذَلِكَ أَنَّ قَفَا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «4» وَتَقُولُ: قَفَا فُلَانٌ الْأَثَرَ إِذَا اتَّبَعَهُ، فَلَوْ كَانَ التَّضْعِيفُ لِلتَّعَدِّي لَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ مَنْصُوبَيْنِ، وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَكَانَ يَكُونُ عِيسَى هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَآثَارِهِمْ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، لَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى جَاءَ وَعُدِّيَ بِالْيَاءِ، وَتَعَدَّى إِلَى آثَارِهِمْ بِعَلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَفَّيْتُهُ مِثْلَ عَقِبْتُهُ إِذَا اتَّبَعْتَهُ، ثُمَّ يُقَالُ: قَفَّيْتُهُ بِفُلَانٍ وَعَقِبْتُهُ بِهِ، فَتُعَدِّيهِ إِلَى الثَّانِي بِزِيَادَةِ الْبَاءِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَأَيْنَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي الْآيَةِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ مَحْذُوفٌ، وَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ عَلَى آثَارِهِمْ كَالسَّادِّ مَسَدَّهُ، لِأَنَّهُ إِذَا قُفِّيَ بِهِ عَلَى أثره فقد قفي به إِيَّاهُ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ يَحْتَاجُ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 44. (2) سورة المائدة: 5/ 44. (3) سورة المائدة: 5/ 44. (4) سورة الإسراء: 17/ 36.

إِلَى تَأْوِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ قَفَّيْتُهُ الْمُضَعَّفَ بِمَعْنَى قَفَوْتُهُ، فَيَكُونُ فَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ نَحْوَ: قَدَرَ اللَّهُ، وَقَدَرَ اللَّهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَعَلَ، ثُمَّ عَدَّاهُ بِالْبَاءِ، وَتَعْدِيَةُ الْمُتَعَدِّي لِمَفْعُولٍ بِالْبَاءِ لِثَانٍ قَلَّ أَنْ يُوجَدَ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ. وَلَا يَجُوزُ فَلَا يُقَالُ: فِي طَعِمَ زَيْدٌ اللَّحْمَ، أَطْعَمْتُ زَيْدًا بِاللَّحْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى قِلَّةٍ تَقُولُ: دَفَعَ زَيْدٌ عَمْرًا، ثُمَّ تُعَدِّيهِ بِالْبَاءِ فَتَقُولُ: دَفَعْتُ زَيْدًا بِعَمْرٍو. أَيْ: جَعَلْتُ زَيْدًا يَدْفَعُ عَمْرًا، وَكَذَلِكَ صَكَّ الْحَجَرُ الْحَجَرَ. ثُمَّ تَقُولُ: صَكَكْتُ الْحَجَرَ بِالْحَجَرِ أَيْ جَعَلْتُهُ يَصُكُّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفُ الظَّرْفِ كَالسَّادِّ مَسَدَّهُ فَلَا يَتَّجِهُ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ صَرِيحٌ، وَلَا يَسُدُّ الظَّرْفُ مَسَدَّهُ، وَكَلَامُهُ مُفْهِمُ التَّضْمِينِ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ إِذَا قَفَّى بِهِ أَثَرَهُ فَقَدْ قَفَّى بِهِ إِيَّاهُ؟ وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فقد قفي به إياه فَصَلَ الضَّمِيرَ، وَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ فَصْلٍ لَوْ قُلْتَ: زيد ضربت بسوط إيتاه لَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، فَإِصْلَاحُهُ زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ بِسَوْطٍ، وَانْتُصِبَ مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ مِنْ عِيسَى. وَمَعْنَى: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ قَبْلَهُ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهَا هُوَ بِكَوْنِهِ مُقِرًّا أَنَّهَا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ حَقًّا وَاجِبٌ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ النَّسْخِ، إِذْ شَرِيعَتُهُ مُغَايِرَةٌ لِبَعْضِ مَا فِيهَا. وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَفَّيْنَا. وَفِيهِ تَعْظِيمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ آتَاهُ كِتَابًا إِلَهِيًّا. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ الْأَنْجِيلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي اشْتِقَاقِهِ إِنْ كَانَ عَرَبِيًّا. وَقَوْلُهُ: فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَارْتِفَاعُ هُدًى عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، إِذْ قَدِ اعْتَمَدَ بِأَنْ وَقَعَ حَالًا لِذِي حَالٍ أَيْ: كَائِنًا فِيهِ هُدًى. وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ «1» وَالضَّمِيرُ فِي يَدَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْإِنْجِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عِيسَى وَكِتَابَهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ هُمَا مُصَدِّقَانِ لِمَا تَقَدَّمَهُمَا مِنَ التَّوْرَاةِ، فَتَظَافَرَ عَلَى تَصْدِيقِهِ الْكَتَابُ الْإِلَهِيُّ الْمُنَزَّلُ، وَالنَّبِيُّ الْمُرْسَلُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْكِتَابُ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ فِيهِ هُدًى أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْمِثْلِ وَالضِّدِّ، وَعَلَى الْإِرْشَادِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى إِحْيَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَالنُّورُ هُوَ مَا فِيهِ مِمَّا يُسْتَضَاءُ بِهِ إِذْ فِيهِ بَيَانُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَتَفَاصِيلِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمُصَدِّقًا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ معطوفة على موضع

_ (1) سورة المائدة: 5/ 46.

الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ فِيهِ هُدًى، فَإِنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ مُصَدِّقًا، حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الإنجيل كتابا إلهيا أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ فِيهِ هُدًى، فَإِنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فِيهِ هُدًى وَنُورٌ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْجُمْلَةِ، إِذْ قَدَّرْنَاهُ كَائِنًا فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، وَمَتَى دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مُفْرَدًا أَوْ جُمْلَةً، كَانَ تَقْدِيرُ الْمُفْرَدِ أَجْوَدَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ جُمْلَةٌ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْقَلِيلِ، لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَلَمْ تَأْتِ بِالْوَاوِ، وَإِنْ كَانَ يُغْنِي عَنِ الرَّابِطِ الَّذِي هو الضمير، لكن الأحسن وَالْأَكْثَرَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْوَاوِ، حَتَّى إِنَّ الْفَرَّاءَ زَعَمَ أَنَّ عَدَمَ الْوَاوِ شَاذٌّ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ ضَمِيرٌ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَمُصَدِّقًا مَعْطُوفٌ عَلَى مُصَدِّقًا الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ حَالًا مِنْ عِيسَى، كَرَّرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِيبِ وَاتِّسَاقِ الْمَعَانِي، وَتَكَلُّفُهُ أَنْ يَكُونَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ جُمْلَةً حَالِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى مُصَدِّقًا. وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ قَرَأَ الضَّحَّاكُ: وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ هُدًى وَمَوْعِظَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: وَمُصَدِّقًا، جَعَلَهُ أَوَّلًا فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، وَجَعَلَهُ ثَانِيًا هُدًى وَمَوْعِظَةً. فَهُوَ فِي نَفْسِهِ هُدًى، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْهُدَى، وَجَعَلَهُ هُدًى مُبَالَغَةً فِيهِ إِذْ كَانَ كِتَابُ الْإِنْجِيلِ مُبَشِّرًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ ظَاهِرَةٌ. وَلَمَّا كَانَتْ أَشَدُّ وُجُوهِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ذَلِكَ، أَعَادَ اللَّهُ ذِكْرَ الْهُدَى تَقْرِيرًا وَبَيَانًا لِنُبُوَّةِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَوَصَفَهُ بِالْمَوْعِظَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى نَصَائِحَ وَزَوَاجِرَ بَلِيغَةٍ، وَخَصَّصَهَا بِالْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» فَهُمُ الْمَقْصُودُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ يُدْعَى وَيُوعَظُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَّقِينَ عَمًى وَحَسْرَةٌ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ هُدًى وَمَوْعِظَةً عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ لَهُمَا لِقَوْلِهِ: وَلْيَحْكُمْ. قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِلْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ آتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، وَلِلْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ مُسْنَدَيْنِ فِي الْمَعْنَى إِلَى اللَّهِ، لَا إِلَى الْإِنْجِيلِ، لِيَتَّحِدَ الْمَفْعُولُ مِنْ أَجْلِهِ مَعَ الْعَامِلِ فِي الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مَنْصُوبًا. وَلَمَّا كَانَ: وَلْيَحْكُمَ، فَاعِلُهُ غَيْرُ اللَّهِ، أَتَى مُعَدًّى إِلَيْهِ بِلَامِ الْعِلَّةِ. وَلِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ قَارَنَ الْهِدَايَةَ وَالْمَوْعِظَةَ فِي الزَّمَانِ، وَالْحُكْمَ خَالَفَ فِيهِ لِاسْتِقْبَالِهِ وَمُضِيِّهِ فِي الْإِيتَاءِ، فَعُدِيَّ أيضا لذلك

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2.

بِاللَّامِ، وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ نَظَمْتَ هُدًى وَمَوْعِظَةً فِي سِلْكِ مُصَدِّقًا فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: وَلْيَحْكُمَ؟ (قُلْتُ) : أَصْنَعُ بِهِ كَمَا صَنَعْتُ بِهُدًى وَمَوْعِظَةً، حِينَ جَعَلْتُهُمَا مَفْعُولًا لَهُمَا، فَأُقَدِّرُ: لِيَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آتَيْنَاهُ إِيَّاهُ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ وَاضِحٌ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أَمَرَ تَعَالَى أَهْلَ الْإِنْجِيلِ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، وَقُلْنَا لَهُمُ: احْكُمُوا، أَيْ حِينَ إِيتَائِهِ عِيسَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْحُكْمِ بِمَا فِيهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، إِذْ شَرِيعَتُهُ نَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، أَوْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَخْصُوصًا بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، أَوْ بِخُصُوصِ الزَّمَانِ إِلَى بَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَبَّرَ بِالْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ عَنْ عَدَمِ تَحْرِيفِهِ وَتَغْيِيرِهِ. فَالْمَعْنَى: وَلْيَقْرَأْهُ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُنْزِلَ لَا يُغَيِّرُونَهُ وَلَا يُبَدِّلُونَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَرُدُّ قول من قال: إن عِيسَى كَانَ مُتَعَبِّدًا بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «1» وَلِهَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: بما أنزل الله فيه مِنْ إِيجَابِ الْعَمَلِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْإِنْجِيلِ قَلِيلَةٌ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ زَوَاجِرُ. وَتِلْكَ الْأَحْكَامُ الْمُخَالِفَةُ لِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ أُمِرُوا بِالْعَمَلِ بِهَا، وَلِهَذَا جَاءَ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ «2» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلْيَحْكُمْ بِلَامِ الْأَمْرِ سَاكِنَةً، وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ يَكْسِرُهَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَأَنْ لِيَحْكُمَ بِزِيَادَةِ أَنْ قَبْلَ لَامِ كَيْ، وَتَقَدَمَ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ لِيَتَضَمَّنَ الْهُدَى وَالنُّورَ وَالتَّصْدِيقَ، وَلِيَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بما أنزل الله فيه انْتَهَى. فَعَطَفَ وَلِيَحْكُمَ عَلَى تَوَهُّمِ عِلَّةٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: لِيَتَضَمَّنَ الْهُدَى. وَالزَّمَخْشَرِيُّ جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى هُدًى وَمَوْعِظَةً، عَلَى تَوَهُّمِ النُّطْقِ بِاللَّامِ فِيهِمَا كَأَنَّهُ قَالَ: وَلِلْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ وَلِلْحُكْمِ أَيْ: جَعَلَهُ مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَقُدِّرَ الْعَامِلُ مُؤَخَّرًا أَيْ: وَلْيَحْكُمَ أهل الإنجيل بما أنزل اللَّهُ فِيهِ آتَيْنَاهُ إِيَّاهُ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، لِأَنَّ الْهُدَى الْأَوَّلَ وَالنُّورَ وَالتَّصْدِيقَ لَمْ يُؤْتَ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْعِلَّةِ، إِنَّمَا جِيءَ بِقَوْلِهِ: فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، عَلَى مَعْنَى كَائِنًا فِيهِ ذَلِكَ وَمُصَدِّقًا، وَهَذَا مَعْنَى الْحَالِ، وَالْحَالُ لَا يَكُونُ عِلَّةً. فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: لِيَتَضَمَّنَ كَيْتَ وكيت، وليحكم، بعيد.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 50. (2) سورة المائدة: 5/ 48.

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ نَاسَبَ هُنَا ذِكْرُ الْفِسْقَ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَلْيَحْكُمْ، وَهُوَ أَمْرٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «1» أَيْ: خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى. فَقَدِ اتَّضَحَ مُنَاسَبَةُ خَتْمِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالْكَافِرِينَ، وَالثَّانِيَةِ بِالظَّالِمِينَ، وَالثَّالِثَةِ بِالْفَاسِقِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَكْرِيرُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ، وَأَصْوَبُ مَا يُقَالُ فِيهَا: إِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَيَجِيءُ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ، وَفِي الْمُؤْمِنِ عَلَى مَعْنَى كُفْرِ الْمَعْصِيَةِ وَظُلْمِهَا وَفِسْقِهَا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هِيَ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقُولُ: مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَهُوَ الْبَرُّ، وَمَنْ أَطَاعَ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ، وَمَنْ أَطَاعَ فَهُوَ الْمُتَّقِي. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ فِي الْجَاحِدِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي الْمُقِرِّ التَّارِكِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثُ فِي النَّصَارَى. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ يَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، يَكُونُ إِطْلَاقُ الْكَافِرِينَ وَالظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ عَلَيْهِمْ لِلِاشْتِرَاكِ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ لِاشْتِرَاكِ كُلِّهِمْ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ لِلْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ عِيسَى وَأَنَّهُ آتَاهُ الْإِنْجِيلَ، فَذَكَرَهُ لِيُقِرُّوا أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، إِذِ الْيَهُودُ تُنْكِرُ نُبُوَّتَهُ، وَإِذَا أَنْكَرَتْهُ أَنْكَرَتْ كِتَابَهُ، فَنَصَّ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى كِتَابِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْكِتَابَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ مُقَرِّرًا لِنُبُوَّتِهِ وَكِتَابِهِ، لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ وَكِتَابَهُ. وَجَاءَ هُنَا ذِكْرُ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ بِكَافِ الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ أَنَصُّ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَكَثِيرًا مَا جَاءَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ لِأَنَّهُ لَا يُلْبِسُ الْبَتَّةَ وبالحق: مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ وَمُصَاحِبًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ، لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا حَقَائِقَ الْأُمُورِ، فَكَأَنَّهُ نَزَلَ بِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَنْزَلْنَا أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ بِأَنْ حَقَّ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى اللَّهِ، لَكِنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْكِتَابِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ الْقُرْآنُ بِلَا خِلَافٍ. وَانْتُصِبَ مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ: لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكِتَابِ. الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ جِنْسَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِتَابِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ نَوْعٌ مَعْلُومٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ سِوَى الْقُرْآنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ، وَأَنَّهَا حُذِفَتْ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الْكِتَابِ الإلهي.

_ (1) سورة الكهف: 18/ 50.

وَفِي الثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ فِي الِاسْمِ يَتَضَمَّنُ الِاسْمُ بِهِ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي لِلِاسْمِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ. وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أَيْ أَمِينًا عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ التَّيْمِيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَمَا أَخْبَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ كِتَابِهِمْ فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ فَصَدِّقُوا، وَإِلَّا فَكَذِّبُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ: شَاهِدًا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُصَدِّقًا عَلَى مَا أَخْبَرَ مِنَ الْكُتُبِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْمُهَيْمِنُ هُوَ الرَّقِيبُ الْحَافِظُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ وَحَكَاهُ الزَّجَّاجُ، وَبِهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَمُهَيْمِنًا رَقِيبًا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ، لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهَا بِالصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ فُسِّرَ بِالْحَافِظِ، وَهَذَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ. وَأَمَّا فِي الْقُرْآنِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ حَافِظٌ لِلدِّينِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: مَعْنَاهُ قَاضِيًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا: مَعْنَاهُ دَالًّا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالًا أَنَّهُ شَاهِدٌ، وَأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، وَأَنَّهُ مُصَدِّقٌ، وَأَنَّهُ أَمِينٌ، وَأَنَّهُ رَقِيبٌ، قَالَ: وَلَفْظَةُ الْمُهَيْمِنِ أَخَصُّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، لِأَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِأَمْرِهِ الشَّاهِدُ عَلَى حَقَائِقِهِ الْحَافِظُ لِحَامِلِهِ، فَلَا يُدْخِلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ جَعَلَهُ اللَّهُ مُهَيْمِنًا عَلَى الْكُتُبِ يَشْهَدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقَائِقِ وَعَلَى مَا نَسَبَهُ الْمُحَرِّفُونَ إِلَيْهَا، فَيُصَحِّحُ الْحَقَائِقَ وَيُبْطِلُ التَّحْرِيفَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَمُهَيْمَنًا بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ، جَعَلَهُ اسْمَ مَفْعُولٍ أَيْ مُؤَمَّنٌ عَلَيْهِ، أَيْ: حُفِظَ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ. وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ هُوَ اللَّهُ أَوِ الْحَافِظُ فِي كُلِّ بَلَدٍ، لَوْ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفٌ أَوْ حَرَكَةٌ أَوْ سُكُونٌ لَتَنَبَّهَ لَهُ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَرَدَّ فَفِي قِرَاءَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ الثَّانِي. وَفِي قِرَاءَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ هُوَ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُصَدِّقًا وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قِرَاءَتَهُ بِالْفَتْحِ وَقَالَ: مَعْنَاهُ مُحَمَّدٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُهَيْمِنًا حَالًا مِنَ الْكَافِ فِي إِلَيْكَ. وَطُعِنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ لِوُجُودِ الْوَاوِ فِي وَمُهَيْمِنًا، لِأَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى مُصَدِّقًا، وَمُصَدِّقًا حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ لَا

حَالٌ مِنَ الْكَافِ، إِذْ لَوْ كَانَ حَالًا مِنْهَا لَكَانَ التَّرْكِيبُ لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ بِكَافِ الْخِطَابِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ بَعِيدٌ عَنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَجَعَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أَبْعَدُ. وَأَنْكَرَ ثَعْلَبٌ قَوْلَ الْمُبَرِّدِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ أَصْلَهُ مُؤْتَمَنٌ. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ «1» وقال الْجُمْهُورِ: إِنِ اخْتَرْتَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدًا عَلَى الْيَهُودِ، وَيَكُونُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَمْرَ نَدْبٍ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلْمُتَحَاكِمِينَ عُمُومًا، فَالْخِطَابُ لِلْوُجُوبِ وَلَا نَسْخَ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أَيْ لَا تُوَافِقْهُمْ فِي أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنَ التَّفْرِيقِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَائِهِمُ الَّتِي هِيَ رَاجِعَةٌ لِغَيْرِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ. عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ. وَضُمِّنَ تَتَّبِعْ مَعْنَى تَنْحَرِفْ، أَوْ تَنْصَرِفْ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِعَنْ أَيْ: لَا تَنْحَرِفْ أَوْ تَتَزَحْزَحْ عَمَّا جَاءَكَ مُتَّبِعًا أَهْوَاءَهُمْ، أَوْ بِسَبَبِ أَهْوَائِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَمَّا جَاءَكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: عَادِلًا عَمَّا جَاءَكَ، وَلَمْ يُضَمِّنْ تَتَّبِعْ مَعْنَى مَا تَعَدَّى بِعَنْ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. لِأَنَّ عَنْ حَرْفٌ نَاقِصٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الجثة، كَمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، وَإِذَا كَانَ نَاقِصًا فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى بِكَوْنٍ مُقَيَّدٍ لَا بِكَوْنٍ مُطْلَقٍ، وَالْكَوْنُ الْمُقَيَّدُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كُلٍّ الْمَحْذُوفُ هُوَ: أُمَّةٌ أَيْ: لِكُلِّ أُمَّةٍ. وَالْخِطَابُ فِي مِنْكُمْ لِلنَّاسِ أَيْ: أَيُّهَا النَّاسُ لِلْيَهُودِ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ، وَلِلنَّصَارَى كَذَلِكَ، قَالَهُ: عَلِيٌّ ، وَقَتَادَةُ وَالْجُمْهُورُ، وَيَعْنُونَ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا الْمُعْتَقَدُ فَوَاحِدٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ تَوْحِيدٌ، وَإِيمَانٌ بِالرُّسُلِ، وَكُتُبِهَا وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَعَادِ، وَالْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى جَمَاعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ شَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «2» وَالْمَعْنَى فِي الْمُعْتَقَدَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون الْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَذِكْرُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَتَجِيءُ الْآيَةُ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ تَنْبِيهًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: فَاحْفَظْ شَرْعَكَ وَمِنْهَاجَكَ لِئَلَّا تَسْتَزِلَّكَ الْيَهُودُ وَغَيْرُهُمْ فِي شَيْءٍ منه

_ (1) سورة المائدة: 5/ 42. (2) سورة الأنعام: 6/ 90.

انْتَهَى. فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِكُلِّ نَبِيٍّ، أَيْ: لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْأَنْبِيَاءُ. وَالشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ لَفْظَانِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ: طَرِيقًا، وَكَرَّرَ لِلتَّوْكِيدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: سَبِيلًا وَسُنَّةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ دِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى لِكُلٍّ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلْنَا هَذَا الدِّينَ الْخَالِصَ فَاتَّبِعُوهُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ إِنَّا أَمَرْنَاكُمْ بِاتِّبَاعِ دِينِ مُحَمَّدٍ إِذْ هُوَ نَاسِخٌ لِلْأَدْيَانِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الشِّرْعَةُ ابْتِدَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الشِّرْعَةُ الطَّرِيقُ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ وَاضِحًا وَغَيْرَ وَاضِحٍ، وَالْمِنْهَاجُ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاضِحًا. وَقِيلَ: الشِّرْعَةُ الدِّينُ، وَالْمِنْهَاجُ الدَّلِيلُ. وَقِيلَ: الشِّرْعَةُ النَّبِيُّ، وَالْمِنْهَاجُ الْكِتَابُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمِنْهَاجُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنَ النَّهْجِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالشِّرْعَةِ الْأَحْكَامُ، وَبِالْمِنْهَاجِ الْمُعْتَقَدُ أَيْ هُوَ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِكُمْ، وَفِي هَذَا الِاحْتِمَالِ بُعْدٌ انْتَهَى. قِيلَ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّا غَيْرُ مُتَعَبَّدِينَ بِشَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: شَرْعَةً بِفَتْحِ الشِّينِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَعَلْنَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، وَمَفْعُولُهَا الثَّانِي هُوَ لِكُلٍّ، وَمِنْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَعْنِي مِنْكُمْ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ صِفَةً لِكُلٍّ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْأَجْنَبِيِّ الَّذِي لَا تَشْدِيدَ فِيهِ لِلْكَلَامِ، وَيُوجِبُ أَيْضًا أن يفصل بين جعلتا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا وَهُوَ شِرْعَةٌ انْتَهَى. فَيَكُونُ فِي التَّرْكِيبِ كَقَوْلِكَ: مِنْ كُلٍّ ضَرَبْتُ تَمِيمِيٍّ رَجُلًا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلَكُمُوهَا أَيْ جَمَاعَةً مُتَّفِقَةً عَلَى شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الضَّلَالِ. وَقِيلَ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَقِّ. وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أَيْ: وَلَكِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لِيَخْتَبِرَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ مِنَ الْكُتُبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، هل تعلمون بِهَا مُذْعِنِينَ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهَا مَصَالِحُ قَدِ اخْتَلَفَتْ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْصِدْ بِاخْتِلَافِهَا إِلَّا مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ، أَمْ تَتَّبِعُونَ الشُّبَهَ وَتُفَرِّطُونَ فِي الْعَمَلِ انْتَهَى؟ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ اخْتِبَارَهُمْ وَابْتِلَاءَهُمْ فِيمَا آتَاهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يَجِدُوا فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيِ ابْتَدِرُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَهِيَ الَّتِي عَاقِبَتُهَا أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْخَيْرَاتُ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ.

[سورة المائدة (5) : الآيات 49 إلى 50]

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً هُوَ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يُظْهِرُ ثَمَرَةَ اسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُجَازَاتِهِ. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُوَ إِخْبَارُ إِيقَاعٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِالدَّلَالَةِ وَالْحُجَجِ، وَغَدًا يُبَيِّنُهُ بِالْمُجَازَاةِ انْتَهَى. وَبِهَذَا التَّنْبِيهِ يَظْهَرُ الْفَضْلُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَالْمُسْبِقِ وَالْمُقَصِّرِ فِي الْعَمَلِ. وَنَبَّأَ هُنَا جَاءَتْ عَلَى وَضْعِهَا الْأَصْلِيِّ مِنْ تَعْدِيَتِهَا إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهَا، وَإِلَى آخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَلَمْ يُضَمِّنْهَا مَعْنَى أَعْلَمَ فَيُعَدِّيَهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ. [سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِبَعْضٍ مِنْهُمْ ابْنُ صُورِيَّا وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ، وَإِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ كُلُّ الْيَهُودِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ وَنُؤْمِنُ بِكَ، فَأَبَى ذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم فنزلت. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ لَنَا عَلَى أَصْحَابِنَا بَنِي قُرَيْظَةَ فِي أَمْرِ الدِّمَاءِ كَمَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَنُبَايِعَكَ؟ فَنَزَلَتْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَلَيْسَ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْرَارًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: شَأْنُ الرَّجْمِ، وَالْآخَرُ التَّسْوِيَةُ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ لِلتَّخْيِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ «1» وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَأَجَازُوا فِي: وَأَنِ احْكُمْ، أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ: وَالْحُكْمَ. وَفِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى بِالْحَقِّ، وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ مُؤَخَّرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَحُكْمُكَ بِمَا أَنْزَلَ أَنْزَلَ اللَّهُ أَمْرَنَا وَقَوْلَنَا. أَوْ مُقَدَّمًا وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَ الْوَاجِبِ حُكْمُكَ بِمَا أَنْزَلَ الله. وقيل: أن

_ (1) سورة المائدة: 5/ 42.

تَفْسِيرِيَّةٌ، وَأُبْعِدَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْوَاوِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَ فِعْلِ الْأَمْرِ فِعْلًا مَحْذُوفًا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: وَأَمَرْنَاكَ أَنِ احْكُمْ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ بِأَنْ وَمَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقُرِئَ بِضَمِّ النُّونِ مِنْ: وَأَنِ احْكُمْ، إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْكَافِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ. وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ الْمُتَحَاكِمِينَ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أَيْ يَسْتَزِلُّوكَ. وَحَذَّرَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْ فِتْنَتِهِمْ إِيَّاهُ لِقَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ، وَقَالَ: عَنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ الَّذِي سَأَلُوهُ هُوَ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ، سَأَلُوهُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى خُصُومِهِمْ فَأَبَى مِنْهُ. وَمَوْضِعُ أَنْ يَفْتِنُوكَ نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ، وَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَرَادُوا غَيْرَهُ. وَمَعْنَى: أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِبَعْضِ آثَامِهِمْ. وَأَبْهَمَ بَعْضًا هُنَا وَيَعْنِي بِهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- التَّوَلِّيَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَإِرَادَةَ خِلَافِهِ، فَوَضَعَ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ مَوْضِعَ ذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنَّهُمْ ذَوُو ذُنُوبٍ جَمَّةٍ كَثِيرَةٍ لَا الْعَدَدَ، وَهَذَا الذَّنْبُ مَعَ عِظَمِهِ وَهَذَا الْإِبْهَامُ فِيهِ تَعْظِيمُ التَّوَلِّي، وَفَرْطُ إِسْرَافِهِمْ فِي ارْتِكَابِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا أَرَادَ نَفْسَهُ وَقَصَدَ تَفْخِيمَ شَأْنِهَا بِهَذَا الْإِبْهَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: نَفْسًا كَبِيرَةً أَوْ نَفْسًا أَيَّ نَفْسٍ، وَهَذَا الْوَعْدُ بِالْمُصِيبَةِ قَدْ أَنْجَزَهُ لَهُ تَعَالَى بِقِصَّةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَقِصَّةِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَإِجْلَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَغَيْرَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّصَ إِصَابَتَهُمْ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا وَذُنُوبُهُمْ فِيهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَخُصُّهُمْ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَزِنَاهُمْ وَرِشَاهُمْ، وَنَوْعٌ يَتَعَدَّى إِلَى النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ كَمُمَالَأَتِهِمْ لِلْكُفَّارِ، وَأَقْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ، فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُونَ بِكُلِّ الذُّنُوبِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: فَإِنْ تَوَلَّوْا قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: لَا تَتَّبِعْ وَاحْذَرْ، فَإِنْ حَكَّمُوكَ مَعَ ذَلِكَ وَاسْتَقَامُوا فَنِعِمَّا ذَلِكَ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ. وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَدَّرَ هَذَا الْمَحْذُوفُ الْمُعَادِلُ لِقَوْلِهِ: لَفَاسِقُونَ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أَيْ مُتَمَرِّدُونَ مُبَالِغُونَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا الْكُفْرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعَاصِي. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَذِبُ وَظَاهِرُ النَّاسِ الْعُمُومُ، وَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ فِي الْيَهُودِ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ لِيُنَبِّهَ مَنْ سِوَاهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ لِلْعَهْدِ، وَهُمُ الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْيَهُودِ، حَيْثُ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَتَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ يُعْرِضُونَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَيَخْتَارُونَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَشْرَفِ عِنْدَهُمْ، وَتَرْجِيحِ الْفَاضِلِ عِنْدَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمَفْضُولِ، وَفِي هَذَا أَشَدُّ النَّعْيِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ تَرَكُوا الْحُكْمَ الْإِلَهِيَّ بِحُكْمِ الْهَوَى وَالْجَهْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ يَبْتَغِي غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ. وَالْحُكْمُ حُكْمَانِ: حُكْمٌ بِعِلْمٍ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ. وَحُكْمٌ بِجَهْلٍ فَهُوَ حُكْمُ الشَّيْطَانِ. وَسُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُفَضِّلُ بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَحُكْمَ بِنَصْبِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَفْعُولُ يَبْغُونَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ: أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ: يَبْغُونَ، وَحَسَّنَ حَذْفَ الضَّمِيرِ قَلِيلًا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَوْنُ الْجُمْلَةِ فَاصِلَةً. وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: هَذَا خَطَأٌ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وُجِدَ غَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ النَّحْوِيِّينَ. وَبَعْضُهُمْ يُجِيزُ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ فِي الْكَلَامِ، وَبَعْضُهُمْ يَخُصُّهُ بِالشِّعْرِ، وَبَعْضُهُمْ يُفَصِّلُ. وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ وَدَلَائِلُهَا مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِسْقَاطُ الرَّاجِعِ عَنْهُ كَإِسْقَاطِهِ عَنِ الصِّلَةِ فِي «أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» وَعَنِ الصِّفَةِ فِي: النَّاسُ رَجُلَانِ، رَجُلٌ أَهَنْتَ وَرَجُلٌ أَكْرَمْتَ. وَعَنِ الْحَالِ فِي: مَرَرْتُ بِهِنْدٍ تَضْرِبُ زَيْدًا انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ جَعْلُ الْإِسْقَاطِ فِيهِ مِثْلَ الْإِسْقَاطِ فِي الْجَوَازِ وَالْحُسْنِ، فَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، بَلْ حَذْفُهُ مِنَ الصِّلَةِ بِشُرُوطِ الْحَذْفِ فَصِيحٌ، وَحَذْفُهُ مِنَ الصِّفَةِ قَلِيلٌ، وَحَذْفُهُ مِنَ الْخَبَرِ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ، أَوْ فِي نَادِرٍ. وَإِنْ كَانَ شَبَهُهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ مُطْلَقُ الْإِسْقَاطِ فَهُوَ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا تَتَّجِهُ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ حُكْمٌ تَبْغُونَ، فَلَا تُجْعَلُ تَبْغُونَ خَبَرًا بَلْ تُجْعَلُ صِفَةَ خَبَرٍ مَحْذُوفٍ، وَنَظِيرُهُ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ «1» تَقْدِيرُهُ قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ انْتَهَى. وَهُوَ تَوْجِيهٌ مُمْكِنٌ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: أَفَحَكَمَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْكَافِ وَالْمِيمِ، وَهُوَ جِنْسٌ لَا يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ كأنه

_ (1) سورة المائدة: 5/ 41.

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 75]

قِيلَ: أَحُكَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكُهَّانِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْحُلْوَانَ وَهِيَ رَشَا الْكُهَّانِ، وَيَحْكُمُونَ لَهُمْ بِحَسَبِهِ وَبِحَسَبِ الشَّهَوَاتِ، أَرَادُوا بِسَفَهِهِمْ أَنْ يَكُونَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ حَكَمًا كَأُولَئِكَ الْحُكَّامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَبْغُونَ بِالْيَاءِ عَلَى نَسَقِ الْغَيْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ مُوَاجَهَتُهُمْ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْغَيْبَةِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ وَالْخِطَابِ لِيَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا. وتقدّم وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» فَجَاءَتْ هَذِهِ الآية مشيرة لهذا الْمَعْنَى وَالْمَعْنَى: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْحُسْنِ وَفِي الْعَدْلِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، وَيَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنَ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ. وَاللَّامُ فِي: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، لِلْبَيَانِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: فِي هَيْتَ لَكَ وَسُقْيًا لَكَ أَيْ: هَذَا الْخِطَابُ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحُسْنُ دُخُولِ اللَّامِ فِي لِقَوْمٍ مِنْ حَيْثُ المعنى يبين ذَلِكَ، وَيَظْهَرُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عِنْدَ أَيْ عِنْدَ قَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: حُكْمًا، أَيْ أَنَّ أحكم اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ. ومتعلق يوقنون محذوف تقديره: يوقنون بالقرآن قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: يُوقِنُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُوقِنُونَ يُثْبِتُونَ عَهْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِسُرْعَةِ إِذْعَانِهِمْ لِحُكْمِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَنْ لَا أَعْدَلَ مِنْهُ ولا أحسن حكما. [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 75] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

_ (1) سورة المائدة: 5/ 49. [.....]

الدَّائِرَةُ: وَاحِدَةُ الدَّوَائِرِ، وَهِيَ صُرُوفُ الدَّهْرِ، وَدُوَلُهُ، وَنَوَازِلُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ اللَّعِبُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَفِعْلُهُ لَعِبَ يَلْعَبُ. الْإِطْفَاءُ: الْإِخْمَادُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَثَرٌ. الْأَفْكُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَصْدَرُ أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ، أَيْ قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ. وَمِنْهُ: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا «1» يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ. قَالَ عُرْوَةُ بن أذينة:

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 22.

إِنْ كُنْتَ عَنْ أَحْسَنِ الْمُرُوءَةِ مَأْ ... فُوكًا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْمَأْفُوكُ الْمَأْفُونُ، وَهُوَ الضَّعِيفُ الْعَقْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَجُلٌ مَأْفُوكٌ لَا يُصِيبُ خَيْرًا، وَائْتُفِكَتِ الْبَلْدَةُ بِأَهْلِهَا انْقَلَبَتْ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَلَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُؤْتَفِكَاتُ أَيْضًا الرِّيَاحُ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَهَابُّهَا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ وغيره: سبب نزولها ولها قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَاسْتِمْسَاكِهِ بِحِلْفِ يَهُودَ، وَتَبَرُّؤِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ حِلْفِهِمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ بَدْرٍ وَعُبَادَةُ، فِي قِصَّةٍ فِيهَا طُولٌ هَذَا مُلَخَّصُهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَبَبُهَا أَمْرُ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَإِشَارَتُهُ إِلَى قُرَيْظَةَ أَنَّهُ الذَّبْحُ حِينَ اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ رَأْيِهِ فِي نُزُولِهِمْ عَنْ حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ أَمْرُ أُحِدٍ فَزِعَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَأْخُذُ مِنَ الْيَهُودِ عَهْدًا يُعَاضِدُونَا إِنْ أَلَمَّتْ بِنَا قَاصِمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ سَائِرِ الْعَرَبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَلْحَقُ بِالنَّصَارَى فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي الْمُنَافِقِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَظَاهَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَنْصُرُونَهُمْ وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ، وَيُعَاشِرُونَهُمْ مُعَاشَرَةَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَرْبَابًا مَكَانَ أَوْلِيَاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ مِنَ النَّهْيِ مُشْعِرَةٌ بِعِلَّةِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمُمَالَأَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بَعْضِهِمْ يَعُودُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ: بَعْضُ الْيَهُودِ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَبَعْضُ النَّصَارَى أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ النَّصَارَى، وَلَا النَّصَارَى أَوْلِيَاءَ الْيَهُودِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: جَمَعَهُمْ فِي الضَّمِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَدَلَّ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَادَاةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ لَا يَتَوَلَّى إِلَّا جِنْسَهُ، وَبَعْضُ النَّصَارَى كَذَلِكَ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: هِيَ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِأَوْلِيَاءَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الْكُفْرِ، أَيْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فِي الدِّينِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فِي الْعَهْدِ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَهَذَا تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ فِي الِانْتِفَاءِ مَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَتَرْكِ مُوَالَاتِهِمْ، وَإِنْحَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍ وَمَنِ اتَّصَفَ بِصِفَتِهِ. وَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُوَالَاةِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ غير مصافاة، وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ بِأَفْعَالِهِ دُونَ مُعْتَقَدِهِ وَلَا إِخْلَالٍ بِإِيمَانٍ فَهُوَ

مِنْهُمْ فِي الْمَقْتِ وَالْمَذَمَّةِ، وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَقَالَ: مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. وَسُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ رَجُلٍ يَبِيعُ دَارَهُ لِنَصْرَانِيٍّ لِيَتَّخِذَهَا كَنِيسَةً: فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى فِي كَاتِبِهِ النَّصْرَانِيِّ: لَا تُكْرِمُوهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تَأْمَنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تُدْنُوهُمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ لَهُ أَبُو موسى لا قوام للصرة إِلَّا بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَالْمَعْنَى عَلَى الْخُصُوصِ، أَيْ: مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْ يُرَادُ التَّخْصِيصُ مُدَّةَ الظُّلْمِ وَالتَّلَبُّسِ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا هُدَى فِيهِ، وَالظَّالِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَالِمٌ لَيْسَ بِمُهْتَدٍ فِي ظُلْمِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الظَّالِمُ مَنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَرَادَ الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ الْوِلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، قَالَ: يَعْنِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمُوَالَاةِ الْكُفْرِ يَمْنَعُهُمُ اللَّهُ أَلْطَافَهُ، وَيَخْذُلُهُمْ مَقْتًا لَهُمْ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ مِنْ مُؤْمِنِي الْخَزْرَجِ مُتَابَعَةَ جَهَالَةٍ وَعَصَبِيَّةٍ، فَهَذَا الصِّنْفُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ مَرَضِ الْقَلْبِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَمَعْنَى يُسَارِعُونَ فِيهِمْ: أَيْ فِي مُوَالَاتِهِمْ وَيَرْغَبُونَ فِيهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَرَضِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ وَثَّابٍ: فَيَرَى بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أو الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فَاعِلَ تَرَى، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُسَارِعُوا، فَحُذِفَتْ أَنْ إِيجَازًا انْتَهَى. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ حَذْفَ إِنْ مِنْ نَحْوِ هَذَا لَا يَنْقَاسُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: يُسْرِعُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنْ أَسْرَعَ، وَفَتَرَى إِنْ كَانَتْ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَانَ يُسَارِعُونَ حَالًا، أَوْ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ فَفِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، يقولون: نخشى أن تصيبنا دَائِرَةٌ، هَذَا مَحْفُوظٌ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَقَالَهُ مَعَهُ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ نَخْشَى أَنْ لَا يَتِمَّ أَمْرُ مُحَمَّدٍ فَيَدُورَ الْأَمْرُ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: الدَّائِرَةُ مِنْ جَدْبٍ وَقَحْطٍ. وَلَا يُمِيرُونَنَا وَلَا يُقْرِضُونَنَا. وَقِيلَ: دَائِرَةٌ تُحْوِجُ إِلَى يَهُودَ وإلى مَعُونَتِهِمْ.

فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ هَذَا بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِوَعْدِهِ تَعَالَى بِالْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَنَى بِهِ الْقَضَاءَ فِي هَذِهِ النوازل والفتاح الفاضي. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِهِ فَتْحَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ الْفَتْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ظُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُلُوِّ كَلَمَتِهِ فَيُسْتَغْنَى عَنِ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: فَتْحُ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فَتْحُ قُرَى الْيَهُودِ، يُرِيدُونَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ وَفَدَكَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُمَا. وَقِيلَ: الْفَتْحُ الْفَرَجُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ «1» هُوَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ فِعْلٌ بَلْ طَرَحَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ عَلَيْهِمْ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَقَتْلُ قُرَيْظَةَ وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ قَالَهُ: ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: إِذْلَالُهُمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَقِيلَ: الخصب والرّخاء قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِظْهَارُ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْفَتْحَ الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ مِمَّا تَرَتَّبَ عَلَى سَعْيِ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَنِسَبِ جِدِّهِمْ وَعَمَلِهِمْ، فَوَعْدُ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا بِفَتْحٍ يَقْتَضِي تِلْكَ الْأَعْمَالَ، وَإِمَّا بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُهْلِكُ أَعْدَاءَ الشَّرْعِ، هُوَ أَيْضًا فَتْحٌ لَا يَقَعُ لِلْبَشَرِ فِيهِ تَسَبُّبٌ انْتَهَى. فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ أَيْ يَصِيرُونَ نَادِمِينَ عَلَى مَا حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ لَا يَتِمُّ، وَلَا تَكُونُ الدَّوْلَةُ لَهُمْ إِذَا أَتَى اللَّهُ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَقِيلَ: مُوَالَاتُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَتُصْبِحُ الْفُسَّاقُ جَعَلَ الْفُسَّاقَ مَكَانَ الضَّمِيرِ. قَالَ بن عَطِيَّةَ: وَخُصَّ الْإِصْبَاحُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي لَيْلِهِ مُفَكِّرٌ، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَرَى الْحَالَةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِكْرُهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا نَحْوٌ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَذَكَرْنَا أَنْ أَصْبَحَ تَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ كَيْنُونَةٍ فِي الصَّبَاحِ، وَاتَّفَقَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَيُصْبِحُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ يَأْتِيَ «2» وهو الظاهر، ومجور ذَلِكَ هُوَ الْفَاءُ، لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّسَبُّبِ، فَصَارَ نَظِيرَ الَّذِي يَطِيرُ فَيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبَابُ، فَلَوْ كَانَ الْعَطْفُ بِغَيْرِ الْفَاءِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ خَبَرٌ لِعَسَى، وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَابِطٌ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى الرَّابِطِ، وَلَا رَابِطَ هُنَا، فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ. لَكِنَّ الْفَاءَ انْفَرَدَتْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ بِتَسْوِيغِ الِاكْتِفَاءِ بِضَمِيرٍ وَاحِدٍ فِيمَا تَضَمَّنَ جُمْلَتَيْنِ مِنْ صِلَةٍ كَمَا مَثَّلَهُ، أَوْ صِفَةٍ نَحْوَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرٌو، أَوْ خبر

_ (1) سورة المائدة: 5/ 52. (2) سورة المائدة: 5/ 52.

نَحْوَ زَيْدٌ يَقُومُ فَيَقْعُدُ بِشْرٌ. وَجَوَّزَ أَنْ لَا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ، وَلَكِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي، إِذْ عَسَى تَمَنٍّ وَتَرَجٍّ فِي حَقِّ الْبَشَرِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ قَالَ المفسرون: لما أجلى بني النَّضِيرِ تَأَسَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى فِرَاقِهِمْ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقُ يَقُولُ لِقَرِيبِهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا رَآهُ جَادًّا فِي مُعَادَاةِ الْيَهُودِ: هَذَا جَزَاؤُهُمْ مِنْكَ طَالَ، وَاللَّهِ مَا أَشْبَعُوا بَطْنَكَ، فَلَمَّا قُتِلَتْ قُرَيْظَةُ لَمْ يُطِقْ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ سَتْرَ مَا فِي نَفْسِهِ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: أَرْبَعُمِائَةٍ حُصِدُوا فِي لَيْلَةٍ؟ فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ مَا قَدْ ظَهَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: أَهَؤُلَاءِ أَيِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟ وَالْمَعْنَى: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعَجُّبًا مِنْ حَالِهِمْ إِذْ أَغْلَظُوا بِالْأَيْمَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ مَعَكُمْ، وَإِنَّهُمْ مُعَاضِدُوكُمْ عَلَى الْيَهُودِ، فَلَمَّا حَلَّ بِالْيَهُودِ مَا حَلَّ ظَهَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالتَّمَالُؤِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ، وَيَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ لِلْيَهُودِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ حَلَفُوا لِلْيَهُودِ بِالْمُعَاضَدَةِ وَالنُّصْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «1» فَقَالُوا ذَلِكَ لِلْيَهُودِ يُجَسِّرُونَهُمْ عَلَى مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَغْتَبِطُونَ بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِخْلَاصِ الْإِيمَانِ وَمُوَالَاةِ الْيَهُودِ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَنَافِعٌ: بِغَيْرِ وَاوٍ، كَأَنَّهُ جَوَابُ قَائِلٍ مَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ. فَقِيلَ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَكَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْوَاوِ، وَنَصَبَ اللَّامَ أَبُو عَمْرٍو، وَرَفَعَهَا الْكُوفِيُّونَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَبِي عُمَرَ: وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَقَالُوا: وَهِيَ فِي مَصَاحِفِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْمَشْرِقِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، هَذَا إِذَا رَفَعَ اللَّامَ، وَمَعَ حَذْفِ الْوَاوِ الِاتِّصَالُ مَوْجُودٌ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، ذِكْرٌ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ إِذِ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ وَقَالُوا: نَخْشَى، وَيُصْبِحُوا هُمُ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، وَتَارَةً يُكْتَفَى فِي الِاتِّصَالِ بِالضَّمِيرِ، وَتَارَةً يُؤَكَّدُ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ صَادِرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْفَتْحِ كَمَا قَدَّمْنَا. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقولون: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ «2» وعند ما ظَهَرَ سُؤَالُهُمْ فِي أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَسُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِيهِمْ، وَنَزْلِ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ لَهُ، وَإِظْهَارِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ خَشْيَةَ الدَّوَائِرِ هِيَ خَوْفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَنْ بِهَا من

_ (1) سورة الحشر: 59/ 11. (2) سورة المائدة: 5/ 52.

الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ موطنا أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ وَيَقُولَ بِالنَّصْبِ، فَوُجِّهَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عِنْدَ الْفَتْحِ، وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ، إِذْ مَعْنَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ، مَعْنَى فَعَسَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ، وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ الْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ، يَكُونُ الْكَلَامُ فِي قَالَبٍ فَيُقَدِّرُهُ فِي قَالَبٍ آخَرَ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ. وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، أَيْ بِاللَّهِ. فَهَذَا الضَّمِيرُ يَصِحُّ بِهِ الرَّبْطُ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ لَا خَبَرًا، فَتَكُونُ عَسَى إِذْ ذَاكَ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، كَأَنَّكَ قُلْتَ: عَسَى أَنْ يَأْتِيَ، وَيَقُولَ: أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى فَيُصْبِحُوا، عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَيُصْبِحُوا مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ جَوَابًا لَعَسَى، إِذْ فِيهَا مَعْنَى التَّمَنِّي. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ نظر، أو هل هو تَجْرِي عَسَى فِي التَّرَجِّي مَجْرَى لَيْتَ فِي التَّمَنِّي؟ أَمْ لَا تَجْرِي؟ وَذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الْحَاجِبِ غَيْرَهُ. وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ فَلَا تَرَجِّي فِيهَا، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ تَخْرِيجُ أَبِي عَلِيٍّ. وَخَرَّجَهُ النَّحَّاسُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قوله: بِالْفَتْحِ «1» بِأَنْ يَفْتَحَ، وَيَقُولَ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، وحقه أن يكون «2» بلعه لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مِنْ تَمَامِهِ، فَلَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا إِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْفَتْحَ مَصْدَرٌ، فَيَحِلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِكَ: يُعْجِبُنِي مِنْ زَيْدٍ ذَكَاؤُهُ وَفَهْمُهُ، لَا يُرَادُ بِهِ انْحِلَالُهُ، لِأَنْ وَالْفِعْلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ، بِأَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَا. وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَيُصْبِحُوا «3» وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ فَيُصْبِحُوا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: هِنْدٌ الْفَاسِقَةُ أَرَادَ زَيْدٌ إِذَايَتَهَا بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ وَإِصْبَاحَهَا ذَلِيلَةً، وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: أَهَذِهِ الْفَاسِقَةُ الَّتِي زَعَمْتَ أَنَّهَا عَفِيفَةٌ؟ فَيَكُونُ وَقَوْلِ مَعْطُوفًا عَلَى بِضَرْبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عِنْدِي فِي مَنْعِ جَوَازِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ نَظَرٌ، إِذِ الَّذِينَ نَصَرَهُمْ يَقُولُونَ: نَنْصُرُهُ بِإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا لِأَنَّهُ صَارَ فِي الْجُمْلَةِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 52. (2) هكذا وجدت هذه الكلمة بالنسخ التي بأيدينا وكذا جميع النسخ المقابلة عليها هذه النسخة ولم نعرف لها معنى فلتحررا هـ. مصححة. (3) سورة المائدة: 5/ 52.

ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ تَقْدِيرُهُ بِنَصْرِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ. وَإِنَّمَا مَنَعُوا حَيْثُ لَا يَكُونُ رَابِطٌ وَانْتِصَابُ جَهْدَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، وَالْمَعْنَى: أَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُقْسِمُونَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهُمْ مَعَكُمْ؟ ثُمَّ ظَهَرَ الْآنَ مِنْ مُوَالَاتِهِمُ الْيَهُودَ مَا أَكْذَبَهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، كَمَا جَوَّزُوا فِي فَعَلْتَهُ جَهْدَكَ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ، حِكَايَةٌ لِمَعْنَى الْقَسَمِ لَا لِلَفْظِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَ لَفْظُهُمْ لَكَانَ إِنَّا لَمَعَكُمْ. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ اعْتِمَادًا فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَيْ: بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمْ إِنْ كانوا يتكفلونها فِي رَأَيِ الْعَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ فَمَا أَخْسَرَهُمْ! وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ خَبَرًا بَلْ دُعَاءً إِمَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَبْطُ الْعَمَلِ هُنَا هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَإِلَّا فَلَا عَمَلَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَيُحْبَطُ وَجُوَّزَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ هَؤُلَاءِ، وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُهُ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِينَ، صِفَةً لِهَؤُلَاءِ، وَيَكُونَ حَبِطَتْ هُوَ الْخَبَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ أَبِي وَاقِدٍ وَالْجَرَّاحِ حَبَطَتْ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَأَنَّهَا لُغَةٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَابْنُ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ يَرْتَدَّ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهِيَ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ. وَتَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا لِمَنِ ارْتَدَّ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ نَخْتَصِرُهَا، فَنَقُولُ: ارْتَدَّ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَذْحِجٌ وَرَئِيسُهُمْ عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ ذُو الْخِمَارِ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ، وَسَمَّى قَاتِلَهُ لَيْلَةَ قُتِلَ. وَمَاتَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَدِ، وَأَتَى خَبَرُ قَتْلِهِ فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَبَنُو حَنِيفَةَ رَئِيسُهُمْ مُسَيْلِمَةُ قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ، وَبَنُو أَسَدٍ رَئِيسُهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ هَزَمَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَفْلَتَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. هَذِهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ ارْتَدَّتْ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَتَنَبَّأَ رُؤَسَاؤُهُمْ. وَارْتَدَّ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعُ فِرَقٍ. فَزَارَةُ قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَغَطَفَانُ قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ الْقُشَيْرِيِّ، وَسُلَيْمٌ قوم الفجاه بن عبد يا ليل، وَيَرْبُوعٌ قَوْمُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَبَعْضُ تَمِيمٍ قَوْمُ سَجَاحِ بِنْتِ الْمُنْذِرِ وَقَدْ تَنَبَّأَتْ وَتَزَوَّجَهَا مُسَيْلِمَةُ وَقَالَ: الشَّاعِرُ: أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا

وَقَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ: أَمَّتْ سَجَاحِ وَوَالَاهَا مُسَيْلِمَةُ ... كَذَّابَةٌ فِي بَنِي الدُّنْيَا وَكَذَّابُ وَكِنْدَةُ قَوْمُ الْأَشْعَثِ، وَبَكْرُ بْنُ وَائِلٍ بِالْبَحْرَيْنِ قوم الحظم بْنِ يَزِيدَ. وَكَفَى اللَّهُ أَمْرَهُمْ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِرْقَةٌ فِي عَهْدِ عُمَرَ: غَسَّانُ قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ نَصَّرَتْهُ اللَّطْمَةُ وَسَيَّرَتْهُ إِلَى بَلَدِ الرُّومِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ. وَفِي الْقَوْمِ الَّذِينَ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ: أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَصْحَابُهُمَا، أَوْ قَوْمُ أَبِي مُوسَى، أَوْ أَهْلُ الْيَمَنِ أَلْفَانِ مِنَ الْبَحْرِ وَخَمْسَةُ آلَافٍ مِنْ كِنْدَةَ وَبَجِيلَةَ، وَثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنْ أَخْلَاطِ النَّاسِ جَاهَدُوا أَيَّامَ الْقَادِسِيَّةِ أَيَّامَ عُمَرَ. أَوِ الْأَنْصَارُ، أَوْ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، أَوْ أَحْيَاءٌ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ كِنْدَةَ وَبَجِيلَةَ وَأَشْجَعَ لَمْ يَكُونُوا وَقْتَ النُّزُولِ قَاتَلَ بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ فِي الرِّدَّةِ، أَوِ الْقُرْبَى، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ أَقْوَالٌ تِسْعَةٌ. وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ بِإِسْنَادٍ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إلي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ لَهُمْ بَلَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَامَّةُ فَتُوحِ عُمَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: مَنْ يَرْتَدِدْ بِدَالَيْنِ مَفْكُوكًا، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَالْبَاقُونَ بِوَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَالْعَائِدُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ غَيْرِهِمْ، أَوْ مَكَانَهُمْ. وَيُحِبُّونَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُحِبُّهُمْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ تقديره: وهن يُحِبُّونَهُ انْتَهَى. وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يُسَوَّغُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَوَصَفَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، مَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ هِيَ تَوْفِيقُهُمْ لِلْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ «1» وَإِثَابَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَتَعْظِيمُهُ إِيَّاهُمْ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ، ومحبتهم له طاعته، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، وَامْتِثَالُ مَأْمُورَاتِهِ. وَقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ إِذْ هِيَ أَشْرَفُ وَأَسْبَقُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ أَجْهَلُ النَّاسِ وَأَعْدَاهُمْ لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَأَمْقُتُهُمْ لِلشَّرْعِ، وَأَسْوَأُهُمْ طَرِيقَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ عِنْدَ أَمْثَالِهِ مِنَ السُّفَهَاءِ وَالْجَهَلَةِ شَيْئًا وَهُمُ: الْفِرْقَةُ الْمُنْفَعِلَةُ وَالْمُتَفَعِّلَةُ مِنَ الصُّوفِ وَمَا يَدِينُونَ بِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْعِشْقِ وَالتَّغَنِّي على

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 7.

كَرَاسِيِّهِمْ خَرَّبَهَا اللَّهُ، وَفِي مَرَاقِصِهِمْ عَطَّلَهَا اللَّهُ، بِأَبْيَاتِ الْغَزَلِ الْمَقُولَةِ فِي الْمُرْدَانِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ شُهَدَاءَ اللَّهِ وَصَعَقَاتِهِمُ الَّتِي تُشْبِهُ صَعْقَةَ مُوسَى عِنْدَ دَكِّ الطُّورِ، فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمِنْ كَلِمَاتِهِ كَمَا أَنَّهُ بِذَاتِهِ يُحِبُّهُمْ، كَذَلِكَ يُحِبُّونَ ذَاتَهُ، فَإِنَّ الْهَاءَ رَاجِعَةٌ إِلَى الذَّاتِ دُونَ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ. وَمِنْهَا الْحُبُّ شَرْطُهُ أَنْ تَلْحَقَهُ سَكَرَاتُ الْمَحَبَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقِيقَةً انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعَاصِرِينَ: قَدْ عَظُمَ أَمْرُ هَؤُلَاءِ الْمُنْفَعِلَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَكَثُرَ الْقَوْلُ فِيهِمْ بِالْحُلُولِ وَالْوَحْدَةِ، وَسِرِّ الْحُرُوفِ، وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقِ الْقَرَامِطَةِ الْكُفَّارِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَادِّعَاءِ أَعْظَمِ الْخَوَارِقِ لِأَفْسَقِ الْفُسَّاقِ، وَبُغْضِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُحَدِّثِينَ قَصَدُوا قِرَاءَةَ الْحَدِيثِ عَلَى شَيْخٍ فِي خَانِقَاتِهِمْ يَرْوِي الْحَدِيثَ فَبِنَفْسِ ما قرأوا شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ الرَّسُولِ. خَرَجَ شَيْخُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ هُمْ يَقْتَدُونَ بِهِ، وَقَطَعَ قِرَاءَةَ الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَ الشَّيْخَ الْمُسَمِّعَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ: رُوحُوا إِلَى الْمَدَارِسِ شَوَّشْتُمْ عَلَيْنَا. وَلَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَهْرًا، وَلَا مِنَ الدَّرْسِ لِلْعِلْمِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِالدَّهْرِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، سَمِعَ نَاسًا فِي جَامِعٍ يقرأون الْقُرْآنَ فَصَعِدَ كُرْسِيَّهُ الَّذِي يَهْدِرُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَصْحَابَنَا شَوَّشُوا عَلَيْنَا، وَقَامَ نَافِضًا ثَوْبَهُ، فَقَامَ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يَدُلُّهُمْ لِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، فَضَرَبُوهُمْ أَشَدَّ الضَّرْبِ، وَسُلَّ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ مِنَ أَتْبَاعِ ذَلِكَ الْهَادِرِ وَهُوَ لَا يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ عَلَّمَ أَصْحَابَهُ كَلَامًا افْتَعَلُوهُ عَلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ حَفَّظَهُمْ إِيَّاهُ يَسْرُدُونَهُ حِفْظًا كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَلِّمُهُمْ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ، وَلَا سُنَنَهُ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلًّا من هؤلاء الرؤوس يُحْدِثُ كَلَامًا جَدِيدًا يُعَلِّمُهُ أَصْحَابَهُ حَتَّى يَصِيرَ لَهُمْ شِعَارًا، وَيَتْرُكُ مَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَثَاثَةِ كَلَامِهِمْ، وَعَامِّيَّتِهِ، وَعَدَمِ فَصَاحَتِهِ، وَقِلَّةِ مَحْصُولِهِ، وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِهِ كَأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ. وَلَنْ تَرَى أَطْوَعَ مِنَ الْعَوَامِّ لِهَؤُلَاءِ يَبْنُونَ لَهُمُ الْخَوَانِقَ وَالرُّبُطَ، وَيَرْصُدُونَ لَهُمُ الْأَوْقَافَ، وَهُمْ أَبْغَضُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَأَحَبُّهُمْ لِهَذِهِ الطَّوَائِفِ. وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءٌ. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ هُوَ جَمْعُ ذَلِيلٍ لَا جَمْعُ ذَلُولٍ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الضَّعْفِ، لِأَنَّ ذَلُولًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَذِلَّةٍ بَلْ ذَلَلٍ، وَعُدِّيَ أَذِلَّةٍ بِعَلَى وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بِاللَّامِ، لِأَنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنَى الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: عَاطِفِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ. قِيلَ: أَوْ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ: عَلَى فَضْلِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَذِلُّونَ وَيَخْضَعُونَ لِمَنْ فُضِّلُوا عَلَيْهِ مَعَ شَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَكَانِهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ:

أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1» وَجَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ بِالِاسْمِ الَّذِي فِيهِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّ أَذِلَّةً جَمْعُ ذَلِيلٍ وَأَعِزَّةً جَمْعُ عَزِيزٍ، وَهُمَا صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَجَاءَتِ الصِّفَةُ قَبْلَ هَذَا بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «2» لِأَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، فَلَمَّا كَانَتْ صِفَةَ مُبَالَغَةٍ، وَكَانَتْ لَا تَتَجَدَّدُ بَلْ هِيَ كَالْغَرِيزَةِ، جَاءَ الْوَصْفُ بِالِاسْمِ. وَلَمَّا كَانَتْ قَبْلُ تَتَجَدَّدُ، لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالِ الطَّاعَةِ وَالثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، جَاءَ الْوَصْفُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ. وَلَمَّا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِ أَوْكَدَ، وَلِمَوْصُوفِهِ الَّذِي قُدِّمَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَافِرِ، وَلِشَرَفِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَرَبِّهِ أَشْرَفَ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنِ، قُدِّمَ قَوْلُهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ عَلَى قَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَصْفَ إِذَا كَانَ بِالِاسْمِ وَبِالْفِعْلِ لَا يَتَقَدَّمُ الْوَصْفُ بِالْفِعْلِ عَلَى الْوَصْفِ بِالِاسْمِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ إِذْ جَاءَ مَا ادَّعَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الضَّرُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقُدِّمَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ- وَهُوَ فِعْلٌ- عَلَى قَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ وَهُوَ اسْمٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «3» وَقُرِئَ شَاذًّا أَذِلَّةً، وَهُوَ اسْمٌ وَكَذَا أَعِزَّةً نَصْبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ إِذَا قُرِّبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِوَصْفِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: غُلَظَاءَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَكَانَ أَعِزَّةٍ. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا صِفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَعِزَّةٍ. وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أَيْ هُمْ صِلَابٌ فِي دِينِهِ، لَا يُبَالُونَ بِمَنْ لَامَ فِيهِ. فَمَتَى شَرَعُوا فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نهى عن منكر، أَمْضَوْهُ لَا يَمْنَعُهُمُ اعْتِرَاضُ مُعْتَرِضٍ، وَلَا قَوْلُ قَائِلٍ هَذَانِ الْوَصْفَانِ أَعْنِي: الْجِهَادَ وَالصَّلَابَةَ فِي الدِّينِ هُمَا نَتِيجَةُ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَا يَخْشَى إِلَّا إِيَّاهُ، وَمَنْ كَانَ عَزِيزًا عَلَى الْكَافِرِ جاهد فِي إِخْمَادِهِ وَاسْتِئْصَالِهِ. وَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْجِهَادِ عَلَى انْتِفَاءِ الخوف من اللائمين لمحاورته أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَلِأَنَّ

_ (1) سورة الفتح: 48/ 29. (2) سورة المائدة: 5/ 54. (3) سورة الأنعام: 6/ 92.

الْخَوْفَ أَعْظَمُ مِنَ الْجِهَادِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي: وَلَا يَخَافُونَ، وَاوَ الْحَالِ أَيْ: يُجَاهِدُونَ، وَحَالُهُمْ فِي الْمُجَاهَدَةِ غَيْرُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُوَالِينَ لِلْيَهُودِ، فَإِذَا خَرَجُوا فِي جَيْشِ الْمُؤْمِنِينَ خَافُوا أَوْلِيَاءَهُمُ الْيَهُودَ وَتَخَاذَلُوا وَخَذَلُوا حَتَّى لَا يَلْحَقُهُمْ لَوْمٌ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَكَانُوا يُجَاهِدُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ، لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَلَوْمَةٌ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. فَتَعُمُّ أَيْ: لَا يَخَافُونَ شَيْئًا قَطُّ مِنَ اللَّوْمِ. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ما تقدم من الْأَوْصَافِ الَّتِي تَحَلَّى بِهَا الْمُؤْمِنُ. ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ أَرَادَ، لَيْسَ ذَلِكَ بِسَابِقَةٍ مِمَّنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ وَحُبِّهِمْ لَهُ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ لِينُ الْجَانِبِ، وَتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلَى الْمُؤْمِنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ لُطْفًا انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَيُؤْتِيهِ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ حَالٌ. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ وَاسْعُ الْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَضَعُ ذَلِكَ فِيهِ. إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بَيَّنَ هُنَا مَنْ هُوَ وَلِيُّهُمْ، وَهُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَفُسِّرَ الْوَلِيُّ هُنَا بِالنَّاصِرِ، أَوِ الْمُتَوَلِّي الْأَمْرَ، أَوِ الْمُحِبِّ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَالْمَعْنَى: لَا وَلِيَّ لَكُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ: وَلِيُّكُمْ بِالْإِفْرَادِ، وَلَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاؤُكُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبَرُ بِهِ مُتَعَدِّدًا، لِأَنَّ وَلِيًّا اسْمُ جِنْسٍ. أَوْ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ حَقِيقَةً هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّأَصُّلِ، ثُمَّ نَظَمَ فِي سِلْكِهِ مَنْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، وَلَوْ جَاءَ جَمْعًا لَمْ يُتَبَيَّنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مَوْلَاكُمُ اللَّهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، عُمُومُ مَنْ آمَنَ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ وَمَنْ بَقِيَ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَسُئِلَ الْبَاقِرُ عَمَّنْ نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، أَهوَ عَلِيٌّ؟ فَقَالَ: عَلِيٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: الَّذِينَ آمَنُوا هوَ عَلِيٌّ رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ ، وَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازًا. وَقِيلَ ابْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: عُبَادَةُ لَمَّا تَبَرَّأَ مِنْ حُلَفَائِهِ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ هَذِهِ أَوْصَافٌ مُيِّزَ بِهَا الْمُؤْمِنُ الْخَالِصُ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُنَافِقِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَدُومُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ.

قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى «1» وَقَالَ تَعَالَى: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ «2» وَلَمَّا كَانَتِ الصَّحَابَةُ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مُقِيمِي صَلَاةٍ وَمُؤْتِي زَكَاةٍ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّذَلُّلِ لَهُ، نَزَلَتِ الْآيَةُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ. وَالرُّكُوعُ هُنَا ظَاهِرُهُ الْخُضُوعُ، لَا الْهَيْئَةُ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْهَيْئَةُ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَعَبَّرَ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَكْرِيرُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ: يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعِظَمِهَا فِي التَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الْفَرَائِضُ، وَبِالرُّكُوعِ التَّنَفُّلُ. يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْكَعُ إِذَا تَنَفَّلَ بِالصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الصَّلَاةِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ رَاكِعُونَ، أَنَّهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا، مُنْتَظِمَةٌ فِي سِلْكِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ خَاضِعُونَ لَا يَشْتَغِلُونَ عَلَى مَنْ يُعْطُونَهُمْ إِيَّاهَا، أَيْ يُؤْتُونَهَا فَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالصَّلَاةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. (فَإِنْ قُلْتَ) : الَّذِينَ يُقِيمُونَ مَا مَحَلُّهُ؟ (قُلْتُ) : الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، أَوْ عَلَى هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الصِّفَةِ إِذْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ، لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا طَرْحُ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُ هُوَ الْوَصْفُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ صِحَّةُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ مَنْ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: يَكُنْ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَيَغْلِبْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ، وَيَكُونَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَيْ: فَإِنَّهُمْ هُمُ الْغَالِبُونَ. وَفَائِدَةُ وَضْعِ الظَّاهِرِ هُنَا مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْرُفُونَ بِذَلِكَ، وَصَارُوا بِذَلِكَ أَعْلَامًا. وَأَصْلُ الْحِزْبِ الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ لِأَمْرِ حِزْبِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ حِزْبَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَقَدْ تَوَلَّى حِزْبَ اللَّهِ، وَاعْتَضَدَ بِمَنْ لَا يُغَالَبُ انْتَهَى. وَهُوَ قَلَقٌ فِي التَّرْكِيبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فَإِنَّهُ غَالِبُ كُلِّ مَنْ نَاوَأَهُ، وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَامَّةً إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ اخْتِصَارًا، لِأَنَّ هَذَا الْمُتَوَلِّيَ هُوَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ، وَحِزْبُ اللَّهِ غَالِبٌ، فَهَذَا الَّذِي تَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ غَالِبٌ. وَمَنْ يُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ لَا مُفْرَدٌ، وَهُمْ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً.

_ (1) سورة النساء: 4/ 142. (2) سورة الأحزاب: 33/ 19. [.....]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسُوَيْدُ بْنُ الحرث قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ ثُمَّ نَافَقَا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عن اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ يَهُودًا كَانُوا أَوْ نَصَارَى، أَوْ غَيْرَهُمَا. وَكَرَّرَ ذِكْرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بُقُولِهِ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُنْدَرِجِينَ فِي عُمُومِ الْكُفَّارِ عَلَى سَبِيلِ النَّصِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِسَبْقِهِمْ فِي الذِّكْرِ فِي الْآيَاتِ قَبْلُ، وَلِأَنَّهُ أَوْغَلُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَبْعَدُ انْقِيَادًا لِلْإِسْلَامِ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ إِلَهِيَّةٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْكُفَّارِ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفَرَّقَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، مِنْ حَيْثُ الْغَالِبُ فِي اسْمِ الْكُفْرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ إِشْرَاكَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ شَأْوًا فِي الْكُفْرِ. وَقَدْ قَالَ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ إِرَادَةَ الْبَيَانِ. وَالْجَمِيعُ كَفَّارٌ، وَكَانُوا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، هُمْ كُفَّارٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَهَذِهِ الْفِرَقُ تَلْحَقُ بِهِمْ فِي حَدِّ الْكُفْرِ، وَتُخَالِفُهُمْ فِي رُتَبٍ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُنَافِقُونَ يُؤْمِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفَصَّلَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً انْتَهَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا، بَلْ يُعَادَى وَيُبْغَضُ وَيُجَانَبُ. وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ قِيلَ: بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْفَاءِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ: احْفَظُوا دِينَكُمْ وَدُومُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ الْحَقُّ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: لَعِبْنَا بِعُقُولِهِمْ وَضَحِكْنَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَحِكُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ سُجُودِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي هُزُؤًا. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ: وَالْكُفَّارِ خَفْضًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَمِنَ الْكُفَّارِ بِزِيَادَةِ مِنْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: نَصْبًا وَهِيَ رِوَايَةُ الْحُسَيْنِ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَإِعْرَابُ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ وَاضِحٌ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لَمَّا نُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ، أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَامِلَةُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي. أَيِ: اتَّقَوُا اللَّهَ فِي مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْحَامِلِ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ الْإِيمَانُ أَيْ: مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا حَقًّا يَأْبَى مُوَالَاةَ أَعْدَاءِ الدِّينِ.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 73.

وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ قَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا فَتَقُولُ الْيَهُودُ: قَامُوا لَا قَامُوا، صَلَّوْا لَا صَلَّوْا، رَكَعُوا لَا رَكَعُوا، عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالضَّحِكِ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ نَصْرَانِيٌّ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أُحْرِقَ الْكَاذِبُ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فِي بَيْتِهِ فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: حَسَدَ الْيَهُودُ الرَّسُولَ حِينَ سَمِعُوا الْآذَانَ وَقَالُوا: ابْتَدَعْتَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الصِّيَاحُ كَصِيَاحِ الْعِيرِ؟ فَمَا أَقْبَحَهُ مِنْ صَوْتٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَنْزَلَ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ «1» الْآيَةَ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: إِذَا نَادَى بَعْضُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَا يُنَادُونَ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ هُزُوًا وَلَعِبًا انْدَرَجَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ الدِّينُ، فَجَرَّدَ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ أَرْكَانِ الدِّينِ وَنَصَّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِالصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَّخَذَ وَلِيًّا وَيُطْرَدَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ كَالتَّوْكِيدِ لِلْآيَةِ قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْأَذَانِ بِنَصِّ الْكِتَابِ، لَا بِالْمَنَامِ وَحْدَهُ انْتَهَى. وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا نَادَيْتُمْ، وَلَمْ يَقُلْ نَادُوا عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ دَلَّتْ عَلَى سَبْقِ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا عَلَى إِنْشَائِهَا بِالشَّرْطِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي اتَّخَذُوهَا عَائِدٌ عَلَى الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أن يعود عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ نَادَيْتُمْ أَيِ: اتَّخَذُوا الْمُنَادَاةَ وَالْهُزْءَ وَالسُّخْرِيَةَ وَاللَّعِبَ الْأَخْذَ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُمْ، وَنَفَى الْعَقْلَ عَنْهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي الدِّينِ، وَاتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا، فِعْلَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى نَفَرٌ مَنْ يُهُودَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ؟ فَقَالَ: أُؤْمِنُ بِاللَّهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا- إِلَى قَوْلِهِ- وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «2» فَقَالُوا حِينَ سَمِعُوا ذِكْرَ عِيسَى، مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ، وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَنَزَلَتْ. وَالْمَعْنَى: هَلْ تَعِيبُونَ عَلَيْنَا، أَوْ تُنْكِرُونَ، وَتَعُدُّونَ ذَنْبًا، أَوْ نَقِيصَةً مَا لَا يُنْكَرُ وَلَا يُعَابُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كُلِّهَا؟ وَهَذِهِ مُحَاوَرَةٌ لَطِيفَةٌ وَجِيزَةٌ تُنَبِّهُ النَّاقِمَ عَلَى أَنَّهُ مَا نَقَمَ عَلَيْهِ إِلَّا مَا لَا يُنْقَمُ وَلَا يُعَدُّ عَيْبًا ونظيره قول الشاعر:

_ (1) سورة فصّلت: 41/ 33. (2) سورة المائدة: 5/ 59.

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَالْخِطَابُ قِيلَ: لِلرَّسُولِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَنْقِمُونَ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْمَاضِي نَقَمَ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ. وَنَقِمَ بِالْكَسْرِ، يَنْقَمُ بِالْفَتْحِ لُغَةٌ حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَرَأَ بِهَا أَبُو حَيْوَةَ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو الْبِرِّ هُشَيْمٌ، وَفُسِّرَ تَنْقِمُونَ بِتَسْخَطُونَ وَتَتَكَرَّهُونَ وَتُنْكِرُونَ وَتَعِيبُونَ وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَإِلَّا أَنْ آمَنَّا اسْتِثْنَاءٌ فُرِّغَ لَهُ الْفَاعِلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْزَلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَذَلِكَ فِي اللَّفْظَيْنِ، وَقَرَأَهُمَا أَبُو نَهِيكٍ: مَبْنِيَّيْنِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: وَإِنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ وَاضِحُ الْمَعْنَى، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَتَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ بِفِسْقِ أَكْثَرِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ وَخُرِّجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَفِي مَوْضِعِ جَرٍّ. فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْخَبَرَ مُؤَخَّرًا مَحْذُوفًا أَيْ: وَفِسْقُ أَكْثَرِكُمْ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ عِنْدَكُمْ، لِأَنَّكُمْ عَلِمْتُمْ أَنَّا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، إِلَّا أَنَّ حُبَّ الرِّيَاسَةِ وَالرَّشَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدَمَ الْخَبَرُ إِلَّا مُقَدَّمًا أَيْ: وَمَعْلُومٌ فِسْقُ أَكْثَرِكُمْ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ لَا يُبْدَأَ بِهَا مُتَقَدِّمَةً إِلَّا بَعْدَ أَمَّا فَقَطْ. وَالنَّصْبُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ آمَنَّا أَيْ: مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا وَفِسْقَ أَكْثَرِكُمْ، فَيَدْخُلُ الْفِسْقُ فِيمَا نَقِمُوهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَلَا يَتَّجِهُ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ فِسْقَ أَكْثَرِهِمْ، فَكَيْفَ يَنْقِمُونَهُ، لَكِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا هَذَا الْمَجْمُوعَ مِنْ أَنَّا مُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُسَلِّمُونَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ، كَمَا تَقُولُ: مَا تَنْقِمُ مِنِّي إِلَّا أَنِّي صَدَقْتُ وَأَنْتَ كَذَبْتَ، وَمَا كَرِهْتَ مِنِّي إِلَّا أَنِّي مُحَبَّبٌ إِلَى النَّاسِ وَأَنْتَ مُبْغَضٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَرِفُ أَنَّهُ كَاذِبٌ وَلَا أَنَّهُ مُبْغَضٌ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا مُخَالَفَتَكُمْ حَيْثُ دَخَلْنَا فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ خَارِجُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ آمَنَّا، إِلَّا أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: وَاعْتِقَادُنَا فِيكُمْ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وَهَذَا مَعْنًى وَاضِحٌ. وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مَا تَنْقِمُونَ حَقِيقَةً. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ مَعَ، فَتَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولًا مَعَهُ التَّقْدِيرُ: وَفِسْقَ أَكْثَرِهِمْ أَيْ: تَنْقِمُونَ ذَلِكَ مَعَ فِسْقِ أَكْثَرِكُمْ وَالْمَعْنَى: لَا يَحْسُنُ أَنْ تَنْقِمُوا مَعَ وُجُودِ فِسْقِ أَكْثَرِكُمْ كَمَا تَقُولُ: تُسِيءُ إِلَيَّ مَعَ أَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، هَلْ تَنْقِمُونَ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَنْقِمُونَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ. وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَبِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ التَّقْدِيرُ: مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا

الْإِيمَانَ لِقِلَّةِ إِنْصَافِكُمْ وَفِسْقِكُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ بِفِسْقِكُمْ نَقَمْتُمْ ذَلِكَ عَلَيْنَا. فَهَذِهِ سَبْعَةُ وُجُوهٍ فِي مَوْضِعِ أَنْ وَصِلَتِهَا، وَيَظْهَرُ وَجْهٌ ثَامِنٌ وَلَعَلَّهُ يَكُونُ الْأَرْجَحَ، وَذَلِكَ أَنَّ نَقَمَ أَصْلُهَا أَنْ تَتَعَدَّى بِعَلَى، تَقُولُ: نَقَمْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْقِمُ، ثُمَّ تُبْنَى مِنْهَا افْتَعَلَ فَتُعَدَّى إِذْ ذَاكَ بِمِنْ، وَتُضَمَّنُ مَعْنَى الْإِصَابَةِ بِالْمَكْرُوهِ. قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ «1» وَمُنَاسَبَةُ التَّضْمِينِ فِيهَا أَنَّ مَنْ عَابَ عَلَى شَخْصٍ فِعْلَهُ فَهُوَ كَارِهٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ وَمُصِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْمَكْرُوهِ، وَإِنْ قُدِّرَ، فَجَاءَتْ هُنَا فَعَلَ بِمَعْنَى افْتَعَلَ لِقَوْلِهِمْ: وَقَدْ رَأَوْهُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَتْ بِمِنْ دُونَ الَّتِي أَصْلُهَا أَنْ يُعَدَّى بِهَا، فَصَارَ الْمَعْنَى: وَمَا تَنَالُونَ مِنَّا أَوْ وَمَا تُصِيبُونَنَا بِمَا نَكْرَهُ إِلَّا أَنْ آمَنَّا أَيْ: لِأَنْ آمَنَّا، فَيَكُونُ أَنْ آمَنَّا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَكُونُ وَإِنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ مَعْطُوفًا عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- سَبَبُ تَعْدِيَتِهِ بِمِنْ دُونَ عَلَى، وَخُصَّ أَكْثَرَكُمْ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ لِأَنَّ فُسَّاقَهُمْ وَهُمُ الْمُبَالِغُونَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الطَّاعَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ تَقَرُّبًا إِلَى الْمُلُوكِ، وَطَلَبًا لِلْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ، فَهُمْ فُسَّاقٌ فِي دِينِهِمْ لَا عُدُولٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْكَافِرُ عَدْلًا فِي دِينِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ، فَلِذَلِكَ حُكِمَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ بِالْفِسْقِ. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَضَمَّنَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَهُمْ أَوْ يُخَاطِبَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ فِي وَقْتِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أُولَئِكَ أَسْلَافُهُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى حَالِهِمْ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ يَكُونُ قَوْلُهُ: بِشَرٍّ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ بَاقِيَةً عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْوَصْفِ، وَزِيَادَةِ الْفَضْلِ عَلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي الْوَصْفِ، فَيَكُونُ ضَلَالُ أُولَئِكَ الْأَسْلَافِ وَشَرُّهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ خِطَابًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ شَرٌّ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى مُعْتَقَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ قَالُوا: مَا نَعْلَمُ دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ. وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا ضَلَالَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَرِكَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ،

_ (1) سورة المائدة: 5/ 95.

وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا إِشَارَةٌ إِلَى دِينِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ: إِمَّا قَبْلَهُ، وَإِمَّا بَعْدَهُ. فَيُقَدَّرُ قَبْلَهُ: بِشَرٍّ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْحَالِ، وَيُقَدَّرُ بَعْدَهُ: حَالُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَلِكَوْنِ «لَعَنَهُ اللَّهُ» «1» أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَكُونُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَنْ تَأْنِيثٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ كَمَا يَكُونُ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، فَيَصِيرَ إِشَارَةً إِلَى الْأَشْخَاصِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِشَرٍّ مِنْ أُولَئِكُمْ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، لَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَلَا بَعْدَهُ، إِذْ يَصِيرُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ تَفْسِيرُ أَشْخَاصٍ بِأَشْخَاصٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ أَيْضًا إِشَارَةً إِلَى مُتَشَخِّصٍ، وَأُفْرِدَ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ جِنْسِ الْكِتَابِيِّ، أَوْ مِنْ جِنْسِ الْمُؤْمِنِ، عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ سَبَقَا، وَيَكُونُ أَيْضًا مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ تَفْسِيرَ شَخْصٍ بِشَخْصٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: أُنْبِئُكُمْ مِنْ أَنْبَأَ، وَابْنُ بُرَيْدَةَ، والأعرج، ونبيح، وَابْنُ عِمْرَانَ: مَثْوَبَةً كَمَعْوَرَةٍ. وَالْجُمْهُورُ: مِنْ نَبَّأَ وَمَثُوبَةً كَمَعُونَةً. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2» وَانْتَصَبَ مَثُوبَةً هُنَا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ الْأَكْثَرُ الْأَفْصَحُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً «3» وَتَقْدِيمُ التَّمْيِيزِ عَلَى الْمُفَضَّلِ أَيْضًا فَصِيحٌ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ «4» وَهَذِهِ الْمَثُوبَةُ هِيَ فِي الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَإِنْ لُوحِظَ أَصْلُ الْوَضْعِ فَالْمَعْنَى مَرْجُوعًا، وَلَا يَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ. وَإِنْ لُوحِظَ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، فَوُضِعَتِ الْمَثُوبَةُ هُنَا مَوْضِعَ الْعُقُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةٍ بَيْنَهُمْ فِي: «تحية بينهم ضرب وجيع» فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «5» وَمَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: بِشَرٍّ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَوْضِعِ بِشَرٍّ أَيْ: أُنَبِّئُكُمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَيَحْتَمِلُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَسْلَافُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوِ الْأَسْلَافُ وَالْأَخْلَافُ، فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرُونَ فِيهِمْ. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ كَوْنُهُ شَرًّا مَثُوبَةً، وَهِيَ اللَّعْنَةُ وَالْغَضَبُ. وَجَعَلَ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ مِنْهُمْ، وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أَنْتُمْ أَيْ: هُوَ أَنْتُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدُ: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا «6» فَيَكُونُ الضَّمِيرُ وَاحِدًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وجعلهم

_ (1) سورة النساء: 4/ 18 وسورة المائدة: 5/ 60. (2) سورة فصلت: 41/ 33. (3) سورة النساء: 4/ 81. (4) سورة فصلت: 41/ 33. (5) سورة آل عمران: 3/ 21. (6) سورة المائدة: 5/ 61.

قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: بِمَعْنَى خَلَقَ، لِأَنَّ بَعْدَهُ وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ، وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ لَا يَرَى أَنَّ اللَّهَ يُصَيِّرُ أَحَدًا عَابِدَ طَاغُوتٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَسْخِهِمْ قِرَدَةً فِي الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ مُسِخُوا خَنَازِيرَ فَقِيلَ: شُيُوخُ أَصْحَابِ السَّبْتِ، إِذْ مسح شُبَّانُهُمْ قِرَدَةً قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَصْحَابُ مَائِدَةِ عِيسَى. وَذُكِرَتْ أَيْضًا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ فِي مَسْخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَنَازِيرَ مُلَخَّصُهَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ مُؤْمِنَةً قَاتَلَتْ مَلِكَ مَدِينَتِهَا وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا قَدْ كَفَرُوا بِمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهَا مِمَّنْ دَعَتْهُ إِلَى الْجِهَادِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَتْبَاعُهَا يُقْتَلُونَ، وَتَنْفَلِتُ هِيَ، فَبَعْدَ الثَّالِثَةِ سُبِيَتْ وَاسْتَبْرَأَتْ فِي دِينِهَا، فَمَسَخَ اللَّهُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَنَازِيرَ فِي لَيْلَتِهِمْ تَثْبِيتًا لَهَا عَلَى دِينِهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ قَالَتِ: الْيَوْمَ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ أَعَزَّ دِينَهُ وَأَقَرَّهُ، فَكَانَ الْمَسْخُ خَنَازِيرَ عَلَى يَدَيْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطَّاغُوتِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ: وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَعَبْدًا مُنَوَّنًا فَحُذِفَ التَّنْوِينُ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْرِيجِ، لِأَنَّ عَبْدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْصِبَ الطَّاغُوتَ، إِذْ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ، وَالتَّخْرِيجُ الصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ تَخْفِيفًا مِنْ عَبَدَ بِفَتْحِهَا كَقَوْلِهِمْ: فِي سَلَفَ سَلْفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ: عَبُدَ بِضَمِّ الْبَاءِ نَحْوَ شَرُفَ الرَّجُلُ أَيْ: صَارَ لَهُ عَبْدٌ كَالْخُلُقِ وَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ صَارَ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ: أَمُرَ إِذَا صَارَ أَمِيرًا انْتَهَى. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةِ هَارُونَ، وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَضُرِبَ زَيْدٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِي رِوَايَةٍ: وَعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَضُرِبَتِ الْمَرْأَةُ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَإِعْرَابُهَا وَاضِحٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَفْعُولَ مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ وُصِلَتْ بِلَعَنَهُ، وَغَضِبَ، وَجَعَلَ، وَعَبَدَ، وَالْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ ضَعَّفَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ يَتَّجِهُ عَلَى حَذْفِ الرَّابِطِ أَيْ: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أَوْ بَيْنَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَعَبَدَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الصِّلَةِ، لَكِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَنْ، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا مُظْهَرَةً عَبْدُ اللَّهِ قَرَأَ، وَمَنْ عَبَدَ فَإِمَّا عَطْفًا عَلَى الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَإِمَّا عَطْفًا عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَرَأَ أَبُو وَاقِدٍ الْأَعْرَابِيُّ: وعباد الطاغوت جمع عابد، كَضُرَّابِ زَيْدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ: وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ جَمْعُ عَبْدٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: جَمْعُ عَابِدٍ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَابِعًا لِلْأَخْفَشِ: جَمْعُ عَبِيدٍ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَمْعَ جَمْعٍ وَأَنْشَدُوا:

انْسُبِ الْعَبْدَ إِلَى آبَائِهِ ... أَسْوَدَ الْجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ: وعبد الطاغوت جمع عابد، كَضَارِبٍ وَضُرُبٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: وَعِبَادَ الطَّاغُوتِ جَمْعُ عَابِدٍ كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، أَوْ جَمْعُ عَبْدٍ. أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: أتوعدني بقومك يا ابن حِجْلٍ ... أُسَابَاتٍ يُخَالُونَ الْعِبَادَا وَسُمِّيَ عَرَبُ الْحِيرَةِ مِنَ الْعِرَاقِ لِدُخُولِهِمْ فِي طَاعَةِ كِسْرَى: عِبَادًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: وَعَبِيدَ الطاغوت جمع عبيد، نَحْوَ كَلْبٍ وَكَلِيبٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَأَعْبُدَ الطَّاغُوتِ جَمْعُ عَبْدٍ كَفَلْسٍ وَأَفْلُسَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ يُرِيدُ وَعَبَدَةَ جَمْعُ عَابِدٍ، كَفَاجِرٍ وَفَجَرَةٍ، وَحَذَفَ التَّاءَ لِلْإِضَافَةِ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ، وَغَائِبٍ وَغَيَبٍ. وَقُرِئَ: وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ بِالتَّاءِ نَحْوَ فَاجِرٍ وَفَجَرَةٍ، فَهَذِهِ ثَمَانِ قِرَاءَاتٍ بِالْجَمْعِ الْمَنْصُوبِ عَطْفًا عَلَى الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ مُضَافًا إِلَى الطَّاغُوتِ. وَقُرِئَ وَعَابِدِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: وعابدوا. وقرأ عون العقيلي: وعابد، وَتَأَوَّلَهَا أَبُو عَمْرٍو عَلَى أَنَّهَا عَآبِدُ. وَهَذَانِ جَمْعَا سَلَامَةٍ أُضِيفَا إِلَى الطَّاغُوتِ، فَبِالتَّاءِ عَطْفًا عَلَى الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَبِالْوَاوِ عَطْفًا عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَوْ على إضمارهم. ويحتمل قِرَاءَةُ عَوْنٍ أَنْ يَكُونَ عَابِدَ مُفْرَدًا اسْمَ جِنْسٍ. وَقَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَعَابِدَ عَلَى وَزْنِ ضَارِبٍ مُضَافًا إِلَى لَفْظِ الشَّيْطَانِ، بَدَلَ الطَّاغُوتِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ عَلَى وَزْنِ كَلْبٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِي رِوَايَةٍ: وَعَبَّدَ عَلَى وَزْنِ حَطَّمَ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ: وَعَبِدَ عَلَى وَزْنِ يَقِظٍ وَنَدِسٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ بِالْمُفْرَدِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ أُضِيفَتْ إِلَى الطَّاغُوتِ. وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ نُصَيْرٌ النَّحْوِيُّ صَاحِبُ الْكِسَائِيِّ وَهُوَ وَهْمٌ مِمَّنْ قَرَأَ بِهِ، وَلْيَسْأَلْ عَنْهُ الْعُلَمَاءَ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ يَكُنْ لُغَةً مِثْلَ حَذِرَ وَعَجِلَ فَهُوَ وَجْهٌ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا مَعْنَى العبد عندهم إلا عبد، يُرِيدُونَ خَدَمَ الطَّاغُوتِ، وَلَمْ نَجِدْ هَذَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ أَنَّ الْعَبْدَ يُقَالُ فِيهِ عَبِدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ وَأَعْبُدٌ بِالْأَلِفِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَيْسَ فِي أَبْنِيَةِ الْمَجْمُوعِ مِثْلُهُ، وَلَكِنَّهُ وَاحِدٌ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، وَهُوَ بِنَاءٌ يُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، فَكَأَنَّ هَذَا قَدْ ذَهَبَ فِي عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ الْعُلُوُّ فِي الْعُبُودِيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ حَذِرٌ فَطِنٌ لِلْبَلِيغِ فِي الْحَذَرِ وَالْفِطْنَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَبَنِي لُبَيْنَى إِنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ وَإِنَّ أَبَاكُمُ عَبِدُ انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَبِدٌ لَفْظُ مُبَالَغَةٍ كَيَقِظٍ وَنَدِسٍ، فَهُوَ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَبُنِيَ بِنَاءَ الصِّفَاتِ لِأَنَّ عَبْدًا فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الصِّفَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ. وَأَنْشَدَ أَبَنِي لُبَيْنَى الْبَيْتَ، وَقَالَ: ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ بِضَمِّ الْبَاءِ انْتَهَى. وَعَدَّ ابْنُ مَالِكٍ فِي أَبْنِيَةِ أَسْمَاءِ الْجَمْعِ فُعُلًا فَقَالَ: وَمِنْهَا فُعُلٌ كَنَحْوِ سُمُرٍ وَعُبُدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ عِكْرِمَةُ: وَعُبُدَ الطَّاغُوتَ جَمْعُ عَابِدٍ كَضَارِبٍ وَضُرُبٍ، وَنَصَبَ الطَّاغُوتَ أَرَادَ عُبُدًا مُنَوَّنًا فَحُذِفَ التَّنْوِينُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا قال: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا «1» فَهَذِهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ قِرَاءَةً بِقِرَاءَةِ بُرَيْدٍ، تَكُونُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ قِرَاءَةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ عِبَادَ الطَّاغُوتِ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَذَلَهُمْ حَتَّى عَبَدُوهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَوَصَفَهُمْ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2» انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطَّاغُوتِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الطَّوَاغِيتِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُعَيِّرُونَ الْيَهُودَ يَقُولُونَ: يَا إِخْوَةَ القردة والخنازير، فينكسون رؤوسهم. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِاللَّعْنَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَانْتَصَبَ مَكَانًا عَلَى التَّمْيِيزِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يُرَادَ بِالْمَكَانِ حَقِيقَةً، إِذْ هُوَ جَهَنَّمُ، وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ كِنَايَةً وَاسْتِعَارَةً لِلْمَكَانَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ شَرٌّ، لِدُخُولِهِ فِي بَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لِوِزَامِهِ وَتَوَابِعِهِ قَبْلَ الْمَفْضُولِ، وَهُوَ مَكَانُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَرَّ فِي مَكَانِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: شَرٌّ مَكَانًا عَلَى قَوْلِكُمْ وَزَعْمِكُمْ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ شَرٌّ مَكَانًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الدُّنْيَا، لِمَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ الشَّرِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَانُهُمْ سَقَرٌ، وَلَا مَكَانَ أَشَدُّ شَرًّا مِنْهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَفْضُولَ هُوَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَالرُّسُلُ وَالْمُعْجِزَاتُ مَا لَمْ يَجِئْ غَيْرُهُمْ كَثْرَةً، فَكَانُوا أَبْعَدَ نَاسٍ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَأَوْغَلَهُمْ فِي الْعِصْيَانِ، وَكَفَرُوا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْكُفْرِ وَالرُّسُلِ، تَنْتَابُهُمُ الْغَيْبَةُ بَعْدَ الْغَيْبَةِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ شَرٌّ مِنَ الْكُفَّارِ. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أَيْ عَنْ وَسَطِ السَّبِيلِ، وَقَصْدِهِ: أَيْ هُمْ حَائِرُونَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مستقيم الطريق.

_ (1) سورة النساء: 4/ 142. (2) سورة الزخرف: 43/ 19.

وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ضَمِيرُ الغيبة في جاؤوكم لِلْيَهُودِ وَالْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ وَخَاصَّةً بِالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. إِذْ ظَاهِرُ الضَّمِيرِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ التَّقْدِيرُ: وإذا جاؤوكم أَهْلُهُمْ أَوْ نِسَاؤُهُمْ. وَتَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا: أَنْ يَكُونَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ إِلَى آخِرِهِ عِبَارَةً عَنِ الْمُخَاطَبِينَ في قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ «1» وَأَنَّهُ مِمَّا وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْتُمْ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ. كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يَدْخُلُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُونَ لَهُ الْإِيمَانَ نِفَاقًا فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِشَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ كَمَا دَخَلُوا، لَمْ يَتَعَلَّقُوا بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعُوا مِنْ تَذْكِيرٍ وَمَوْعِظَةٍ، فَعَلَى هذا الخطاب في جاؤوكم للرسول، وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ حَالَانِ، وَبِالْكُفْرِ وَبِهِ حَالَانِ أَيْضًا أَيْ: مُلْتَبِسِينَ. وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ قَدْ تَقْرِيبًا لَهَا مِنْ زَمَانِ الْحَالِ وَلِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ كَانَتْ لَائِحَةً عَلَيْهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَقِّعًا لإظهار ما كتموه، فَدَخَلَ حَرْفُ التَّوَقُّعِ وَخَالَفَ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْحَالِ اتِّسَاعًا فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: وَهُمْ، تَخْلِيصٌ مِنِ احْتِمَالِ الْعِبَارَةِ أَنْ يَدْخُلَ قَوْمٌ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ، فَأَزَالَ الِاحْتِمَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ، أَيْ هُمْ بِأَعْيَانِهِمْ انْتَهَى. وَالْعَامِلُ فِي الْحَالَيْنِ آمَنَّا أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ وَهَذِهِ حَالُهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى هُمْ لِلتَّأْكِيدِ فِي إِضَافَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ، وَنَفَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّسُولِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُمْ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِ لَهُمْ، بَلْ كَانَ يَلْطُفُ بِهِمْ وَيُعَامِلُهُمْ بِأَحْسَنِ مُعَامَلَةٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِالْكُفْرِ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ، لَا أَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي تَسَبَّبْتَ لِبَقَائِهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَالَّذِي نَقُولُ: إِنَّ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا الْمُصَدَّرَةَ بِضَمِيرِ ذِي الْحَالِ الْمُخْبَرَ عَنْهَا بِفِعْلٍ أَوِ اسْمٍ يَتَحَمَّلُ ضَمِيرَ ذِي الْحَالِ آكَدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ نَظِيرَ: قَامَ زَيْدٌ زَيْدٌ. وَلَمَّا كَانُوا حِينَ جَاءُوا الرَّسُولَ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آمَنَّا مُلْتَبِسِينَ بِالْكُفْرِ، كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يَخْرُجُوا بِالْكُفْرِ، لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِيَةٌ فِي الْإِيمَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ حِينَ رَأَى الرَّسُولَ: عَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، مَعَ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْآيَاتِ وَبَاهِرِ الدِّلَالَاتِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أَنْ لَا يَخْرُجُوا بِهِ، بَلْ يَخْرُجُونَ بِالرَّسُولِ مُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَأَكَّدَ وَصْفَهُمْ بِالْكُفْرِ بِأَنْ كَرَّرَ الْمُسْنَدَ إليه تنهبيا على

_ (1) سورة المائدة: 5/ 59.

تَحَقُّقِهِمْ بِالْكُفْرِ وَتَمَادِيهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ رُؤْيَةَ الرَّسُولِ لَمْ تُجْدِ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَتَأَثَّرُوا لَهَا. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا، كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِمَا يَرَوْنَ مِنِ اخْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَصْدِيقِهِمْ لِلرَّسُولِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ حَالُ مَنْ يَنْبَغِي مُوَافَقَتُهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي إِذْ شَاهَدُوهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِالْقَوْلِ مُوَافِقًا لِاعْتِقَادِ قُلُوبِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مَجِيءِ حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، إِنْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي: وَهُمْ، وَاوَ حَالٍ، لَا وَاوَ عَطْفٍ، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ حَقِيقَةٌ. وَقِيلَ: هَمَّا اسْتِعَارَةٌ، وَالْمَعْنَى: تَقَلَّبُوا فِي الْكُفْرِ أَيْ دَخَلُوا فِي أَحْوَالِهِمْ مُضْمِرِينَ الْكُفْرَ وَخَرَجُوا بِهِ إِلَى أَحْوَالٍ أُخَرَ مُضْمِرِينَ لَهُ، وَهَذَا هُوَ التَّقَلُّبُ. وَالْحَقِيقَةُ فِي الدُّخُولِ انْفِصَالٌ بِالْبَدَنِ مِنْ خَارِجِ مَكَانٍ إِلَى دَاخِلِهِ، وَفِي الْخُرُوجِ انْفِصَالٌ بِالْبَدَنِ مِنْ دَاخِلِهِ إِلَى خَارِجِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أَيْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتُهُ وَفِي هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي إِفْشَاءِ مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنَ الْمَكْرِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْكَيْدِ وَالْعَدَاوَةِ. وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يَحْتَمِلُ تَرَى أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً، فَيَكُونَ يُسَارِعُونَ صِفَةً. وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً، فيكون مفعو ثَانِيًا. وَالْمُسَارَعَةُ: الشُّرُوعُ بِسُرْعَةٍ. وَالْإِثْمُ الْكَذِبُ. وَالْعُدْوَانُ الظُّلْمُ. يَدُلُّ قَوْلُهُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ حَقِيقَةَ الْإِثْمِ الْكَذِبُ، إِذِ الْإِثْمُ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ، أَوِ الْإِثْمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَالْعُدْوَانُ مَا يَتَعَدَّى بِهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. أَوِ الْإِثْمُ الْكُفْرُ، وَالْعُدْوَانُ الِاعْتِدَاءُ. أَوِ الْإِثْمُ مَا كَتَمُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْعُدْوَانُ مَا يُتَعَدَّى فِيهَا. وَقِيلَ: الْعُدْوَانُ تَعَدِّيهِمْ حُدُودَ اللَّهِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السُّحْتَ هُوَ الرَّشَا، وَقِيلَ: هُوَ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُوَ الرَّشَا وَسَائِرُ مَكْسَبِهِمُ الْخَبِيثِ. وَعَلَّقَ الرُّؤْيَةَ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَا يَتَعَاطَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ أَوْ بَعْضَهُ. وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرِ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِي عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الطَّاعَاتِ، فَلِذَلِكَ يُسَارِعُونَ فِيهَا. وَالْإِثْمُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعِقَابُ، فَجُرِّدَ مِنْ ذَلِكَ الْعُدْوَانُ وَأَكْلُ السُّحْتِ، وَخُصَّا بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِهَاتَيْنِ الْمَعْصِيَتَيْنِ وَهُمَا: ظُلْمُ غَيْرِهِمْ، وَالْمَطْعَمُ الْخَبِيثُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ عَدَمُ قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: الْعِدْوَانِ بِكَسْرِ ضَمَّةِ الْعَيْنِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَا بَعْدَ بِئْسَ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ «1» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 90. [.....]

لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ لَوْلَا تَحْضِيضٌ يَتَضَمَّنُ تَوْبِيخَ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ عَلَى سُكُوتِهِمْ عَنِ النَّهْيِ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْهَا لِلْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا فِي الْقُرْآنِ أَخْوَفُ مِنْهَا، وَنَحْوُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْإِثْمُ هُنَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ، أَوْ يُرَادُ بِهِ سَائِرُ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِثْمُ. وَقَرَأَ الْجَرَّاحُ وَأَبُو وَاقِدٍ: الرِّبِّيُّونَ مَكَانَ الرَّبَّانِيُّونَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِغَيْرِ لَامِ قَسَمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي كَانُوا عَائِدٌ عَلَى الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْأَحْبَارِ إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَالْمُوَبَّخُونَ بِعَدَمِ النَّهْيِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُلُّ عَامِلٍ لَا يُسَمَّى صَانِعًا، وَلَا كُلُّ عَمَلٍ يُسَمَّى صِنَاعَةً حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِيهِ وَيَتَدَرَّبَ وَيُنْسَبَ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: إِنَّ مُوَاقِعَ الْمَعْصِيَةِ مَعَهُ الشَّهْوَةُ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَيْهَا وَتَحْمِلُهُ عَلَى ارْتِكَابِهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَنْهَاهُ فَلَا شَهْوَةَ مَعَهُ فِي فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَفْرَطَ فِي الْإِنْكَارِ كَانَ أَشَدَّ حَالًا مِنَ الْمُوَاقِعِ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَمِّ مُتَعَاطِي الذَّنْبِ، وَبَيْنَ تَارِكِ النَّهْيِ عَنْهُ، حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ عَمَلًا وَهَذَا صِنَاعَةً. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ غَايَرَ فِي ذَلِكَ لِتَفَنُّنِ الْفَصَاحَةِ، وَلِتَرْكِ تَكْرَارِ اللفظ. وفي الحديث: «من مِنْ رَجُلٍ يُجَاوِرُ قَوْمًا فَيَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَلَا يَأْخُذُونَ عَلَى يَدَيْهِ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ وَأُوحِيَ إِلَى يُوشَعَ بِهَلَاكِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِ قَوْمِهِ، وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا بَالُ الْأَخْيَارِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي، وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنْ عَذِّبُوا قَرْيَةَ كَذَا، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ فِيهَا عَبْدَكَ الْعَابِدَ فَقَالَ: أَسْمِعُونِي ضَجِيجَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ أَيْ: لَمْ يَحْمَرَّ غَضَبًا. وَكَتَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى عَابِدٍ تَزَهَّدَ وَانْقَطَعَ فِي الْبَادِيَةِ: إِنَّكَ تَرَكْتَ الْمَدِينَةَ مُهَاجَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَهْبِطَ وَحْيِهِ وَآثَرْتَ الْبَدَاوَةَ. فَقَالَ: كَيْفَ لَا أَتْرُكُ مَكَانًا أَنْتَ رَئِيسُهُ، وَمَا رَأَيْتُ وَجْهَكَ تَمَعَّرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَطُّ يَوْمًا أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَاهُ. وَأَمَّا زَمَانُنَا هَذَا وَعُلَمَاؤُنَا وَعُبَّادُنَا فَحَالُهُمْ مَعْرُوفٌ فِيهِ، وَلَمْ نَرَ فِي أَعْصَارِنَا مَنْ يُقَارِبُ السَّلَفَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أُسْتَاذُنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّ لَهُ مَقَامَاتٍ فِي ذَلِكَ مَعَ مُلُوكِ بِلَادِهِ وَرُؤَسَائِهِمْ حُمِدَتْ فِيهَا آثَارُهُ، فَفِي بَعْضِهَا ضُرِبَ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ وَخُرِّبَتْ دِيَارُهُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنْجَاهُ مِنَ الْمَوْتِ فِرَارُهُ، وَفِي بَعْضِهَا جُعِلَ السِّجْنُ قَرَارَهُ. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهِ وَفِي ابْنِ صُورِيَّا، وَعَازِرَ بْنِ أَبِي عَازِرَ قَالُوا ذَلِكَ. وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْيَهُودِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ

عُلَمَاؤُهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُهُمْ فِي ذَلِكَ. وَالْيَدُ فِي الْجَارِحَةِ حَقِيقَةٌ، وَفِي غَيْرِهَا مَجَازٌ، فَيُرَادُ بِهَا النِّعْمَةُ تَقُولُ العرب: كم يدلي عِنْدَ فُلَانٍ، وَالْقُوَّةُ وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ. قُلْ: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَنْتَ عَلَى أَعْبَاءِ مُلْكِكَ ذُو يَدِ أَيْ ذُو قُدْرَةٍ، وَالتَّأْيِيدُ وَالنَّصْرُ يَدُ اللَّهِ مَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي، وَالْقَاسِمِ حِينَ يَقْسِمُ. وَتَأْتِي صِلَةً مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً «1» أَيْ مِمَّا عملنا أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ «2» أَيِ الَّذِي لَهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْيَهُودِ إن الله يَدًا فَإِنْ كَانُوا أَرَادُوا الْجَارِحَةَ فَهُوَ مُنَاسِبُ مَذْهَبِهِمْ إِذْ هُوَ التَّجْسِيمُ، زَعَمُوا أَنَّ رَبَّهُمْ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ فَرَغَ مِنْ خلق السموات وَالْأَرْضِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى لِلِاسْتِرَاحَةِ. وَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ «3» وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ «4» وَظَاهِرُ مَسَاقِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِغَلِّ الْيَدِ وَبَسْطِهَا الْمَجَازَ عَنِ الْبُخْلِ وَالْجُودِ، وَمِنْهُ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «5» وَلَا يَقْصِدُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتَ يَدٍ وَلَا غَلٍّ وَلَا بَسْطٍ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ مَا وَقَعَ مَجَازًا عَنْهُ، كَأَنَّهُمَا كَلَامَانِ مُتَعَاقِبَانِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى إِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي مَلِكٍ لَا يُعْطِي عَطَاءً قَطُّ، وَلَا يَمْنَعُهُ إِلَّا بِإِشَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِ يَدٍ وَبَسْطِهَا وَقَبْضِهَا. وَقَالَ حَبِيبٌ فِي الْمُعْتَصِمِ: تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ ... ثَنَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَرَمِ. وَسَبَبُ مُقَالَةِ الْيَهُودِ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ يَبْسُطُ لَهُمُ الرِّزْقَ، فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ وَكَفَرُوا بِهِ كَفَّ عَنْهُمْ مَا كَانَ يَبْسُطُ لَهُمْ فَقَالُوا ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا اسْتَقْرَضَ مِنْهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَهُوَ بَخِيلٌ. وَقِيلَ: لَمَّا اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي الدِّيَاتِ. وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مُنَاسِبَةٌ لِسِيَاقِ الْآيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: لَمَّا أَعَانَ النَّصَارَى بُخْتَ نَصَّرَ الْمَجُوسِيَّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَنَعَنَا مِنْهُ، فَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَغْلُولَةٌ عَنْ عَذَابِهِمْ فَهِيَ فِي مَعْنَى: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَدْفَعُهُمَا قَوْلُهُ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «6» . وقال الكلبي:

_ (1) سورة يس: 36/ 71. (2) سورة البقرة: 2/ 237. (3) سورة الأحقاف: 46/ 33. (4) سورة ق: 5/ 38. (5) سورة الإسراء: 17/ 29. (6) سورة المائدة: 5/ 64.

كَانُوا مُخْصِبِينَ وَقَالُوا ذَلِكَ عِنَادًا وَاسْتِهْزَاءً وَتَهَكُّمًا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ خَبَرٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ. أَيَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ حَيْثُ قَتَّرَ الْمَعِيشَةَ عَلَيْنَا، وَإِلَى أَنَّهَا مَمْسُوكَةٌ عَنِ الْعَطَاءِ ذَهَبَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ. أَوْ عَنْ عَذَابِهِمْ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ بِقَدْرِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ قَالَهُ: الْحَسَنُ. أَوْ إِلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْنَا مُلْكَنَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ خَبَرٌ، وَإِيعَادٌ وَاقِعٌ بِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لَا مَحَالَةَ. قَالَهُ الْحَسَنُ: أَوْ خَبَرٌ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَبْخَلَ قَوْمٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَمْسَكَتْ عَنِ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ وَالنَّكَدِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا أَبْخَلَ خَلْقِ اللَّهِ وَأَنْكَدَهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِغَلِّ الْأَيْدِي حَقِيقَةً يُغَلَّلُونَ فِي الدُّنْيَا أُسَارَى، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبِينَ بِأَغْلَالِ جَهَنَّمَ. وَالطِّبَاقُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمُلَاحَظَةُ أَصْلِ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ: سَبَّنِي سَبَّ اللَّهُ دَابِرَهُ، لِأَنَّ السَّبَّ أَصْلُهُ الْقَطْعُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ قَبِيحٌ وَهُوَ الْبُخْلُ وَالنَّكَدُ؟ (قُلْتُ) : الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ بِالْخِذْلَانِ الَّذِي تَقْسُو بِهِ قُلُوبُهُمْ، فَيَزِيدُونَ بُخْلًا إِلَى بُخْلِهِمْ وَنَكَدًا إِلَى نَكَدِهِمْ، وَبِمَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَنِ الْبُخْلِ وَالنَّكَدِ مِنْ لُصُوقِ الْعَارِ بِهِمْ، وَسُوءِ الْأُحْدُوثَةِ الَّتِي تُخْزِيهِمْ، وَتُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ انْتَهَى كلامه. وأخرجه جار عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، اسْتِعَارَةٌ عَنْ إِمْسَاكِ الْإِحْسَانِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَقْهُورِ عَلَى الْإِمْسَاكِ. وَلِذَلِكَ جاؤوا بِلَفْظِ مَغْلُولَةٌ، وَلَا يُغَلُّ إِلَّا الْمَقْهُورُ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ، دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِغَلِّ الْأَيْدِي، فَهُمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَعَ كُلِّ أُمَّةٍ مَقْهُورُونَ مَغْلُوبُونَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَطِيلَ وَلَا أَنْ يَسْتَعْلِيَ، فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ عَنْ ذُلِّهِمْ وَقَهْرِهِمْ، وَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَا تَنْبَسِطُ إِلَى دَفْعِ ضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِمْ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ بِدْعًا مِنْهُمْ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ «1» . غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَبِمَا قَالُوا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بِهِ مَقَالَتُهُمْ هَذِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي عُمُومِ مَا قَالُوا. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: بِسُكُونِ الْعَيْنِ كَمَا قَالُوا: فِي عُصِرَ عصرون. وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْبَانُ وَالْمِسْكُ انْعَصَرْ وَيُحَسِّنُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّهَا كَسْرَةٌ بَيْنَ ضَمَّتَيْنِ، فَحَسُنَ التخفيف.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 181.

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ مُعْتَقَدُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَارِحَةَ لَهُ، وَلَا يُشَبَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُكَيَّفُ، وَلَا يَتَحَيَّزُ، وَلَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ، وَكُلُّ هَذَا مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنْ جُودِهِ وَإِنْعَامِهِ السَّابِغِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْيَدَيْنِ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْيَدَيْنِ هُنَا بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ قَرِينَةُ الْإِنْفَاقِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَرَفَ يَقِينًا أَنَّ بَسْطَ الْيَدِ وَقَبْضَهَا اسْتِعَارَةٌ لِلْجُودِ وَالْبُخْلِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ قَالَ الشَّاعِرُ: جَادَ الْحِمَى بَسِطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلٍ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُهُ وَوِهَادُهُ وَقَالَ لَبِيدٌ: وَغَدَاةِ رِيحٍ قَدْ وَزَعْتُ وَقُرَّةٍ ... قَدْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا وَيُقَالُ: بَسَطَ الْيَأْسُ كَفَّهُ فِي صَدْرِي، وَالْيَأْسُ مَعْنًى لَا عَيْنٌ وَقَدْ جَعَلَ لَهُ كَفًّا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ عَمِيَ عَنْ تَبَصُّرِ مَحَجَّةِ الصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ يَدِ الطَّاعِنِ إِذَا عَبَثَتْ بِهِ ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ ثُنِّيَتِ الْيَدُ فِي بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وَهِيَ مُفْرَدَةٌ فِي يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ؟ (قُلْتُ) : لِيُكُونَ رَدُّ قَوْلِهِمْ وَإِنْكَارُهُ أَبْلَغَ وَأَدَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ غَايَةِ السَّخَاءِ لَهُ وَنَفْيِ الْبُخْلِ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ مَا يَبْذُلُهُ السَّخِيُّ بِمَا لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُعْطِيَهُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، فَبُنِيَ الْمَجَازُ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَدَاهُ نِعْمَتَاهُ، فَقِيلَ: هُمَا مَجَازَانِ عَنْ نِعْمَةِ الدِّينِ وَنِعْمَةِ الدُّنْيَا، أَوْ نِعْمَةِ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْحَوَاسِّ وَنِعْمَةِ الرِّزْقِ وَالْكِفَايَةِ، أَوِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، أَوْ نِعْمَةِ الْمَطَرِ وَنِعْمَةِ النَّبَاتِ، وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ التَّجْسِيمَ كَهَذَا. وَقَوْلُهُ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «1» ومِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «2» ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «3» ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «4» وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا «5» وهالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «6» وَنَحْوُهَا. فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ أَنَّهَا تُفَسَّرُ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ وَمَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَانِينِ الكلام.

_ (1) سورة ص: 38/ 75. (2) سورة يس: 36/ 71. (3) سورة الفتح: 48/ 10. (4) سورة طه: 20/ 39. (5) سورة القمر: 54/ 14. (6) سورة القصص: 28/ 88.

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَجْدِيدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالثَّوْرِيُّ: نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ كَمَا نَصَّتْ، وَلَا نُعَيِّنُ تَفْسِيرَهَا، وَلَا يَسْبِقُ النَّظَرُ فيه. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَدِيثُ مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَجُهَا فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بَسِيطَتَانِ يُقَالُ: يَدٌ بَسِيطَةٌ مطلقة بالمعروف. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: بَسْطَانِ، يُقَالُ: يَدُهُ بَسْطٌ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ عَلَى فَعْلٍ كَمَا تَقُولُ: نَاقَةٌ صَرْحٌ، وَمِشْيَةٌ سَجْحٌ، يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْوَصْفِ بِالسَّخَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ إِلَّا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، وَلَا مَوْضِعَ لِقَوْلِهِ تُنْفِقُ مِنَ الْإِعْرَابِ إِذْ هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الضَّمِيرِ فِي مَبْسُوطَتَانِ انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ فِي هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، أَوْ عَلَى ذِي الْحَالِ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ: يُنْفِقُ بِهِمَا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: كَيْفَ سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ، وَهِيَ نَصْبٌ بَيَشَاءُ انْتَهَى. وَلَا يُعْقَلُ هُنَا كَوْنُهَا سُؤَالًا عَنْ حَالٍ، بَلْ هِيَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ تَكُونُ أَكُونُ، وَمَفْعُولُ يَشَاءُ مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُ كَيْفَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يُنْفِقُ الْمُتَقَدِّمُ، كَمَا يَدُلُّ فِي قَوْلِكَ: أَقُومُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ وَالتَّقْدِيرُ: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ أَنْ يُنْفِقَ يُنْفِقُ، كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ تَشَاءُ أَنْ أَضْرِبَكَ أَضْرِبُكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ كَيْفَ يُنْفِقُ لِأَنَّ اسم بالشرط لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ إِلَّا إِنْ كَانَ جَارًّا، فَقَدْ يَعْمَلُ فِي بَعْضِ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ «1» . وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً عَلَّقَ بِكَثِيرٍ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمَنْ لَا يَزْدَادُ إِلَّا طُغْيَانًا، وَهَذَا إِعْلَامٌ لِلرَّسُولِ بِفَرْطِ عُتُوِّهِمْ إِذْ كَانُوا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُبَادِرُوا بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي يَكْتُمُونَهَا وَلَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُمْ، لَكِنْ رَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مُقْتَضَاهُ، وَزَادَهُمْ ذَلِكَ طغيانا وكفروا، وَذَلِكَ لِفَرْطِ عِنَادِهِمْ وَحَسَدِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلَّمَا نَزَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَيَزِيدَنَّ بَنِي النَّضِيرِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مِنْ أَمْرِ الرَّجْمِ وَالدِّمَاءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ زِيَادَةٌ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدٌ على

_ (1) سورة الروم: 30/ 48. [.....]

الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «1» ولشمول قَوْلَهُ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ «2» لِلْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ: الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، إِذْ هُمْ جَبْرِيَّةٌ وَقَدَرِيَّةٌ وَمُوَحِّدَةٌ وَمُشَبِّهَةٌ، وَكَذَلِكَ فَرَّقَ النَّصَارَى كَالْمَلْكَانِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى لاه زالون مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ، فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ كَلِمَتِهِمْ عَلَى قِتَالِكَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ضَرَرِكَ، وَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَتْبَاعِكَ، لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَوَادَّ بَيْنَهُمْ فَيَجْتَمِعَانِ عَلَى حَرْبِكَ. وَفِي ذَلِكَ إِخْبَارٌ بِالْمُغَيَّبِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ جَيْشَا يَهُودٍ وَنَصَارَى مُذْ كَانَ الْإِسْلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَكُلُّهُمْ أَبَدًا مُخْتَلِفٌ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، لَا يَقَعُ اتِّفَاقٌ بَيْنَهُمْ، وَلَا تَعَاضُدٌ انْتَهَى. وَالْعَدَاوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَغْضَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ، وَقَدْ يُبْغَضُ مَنْ لَيْسَ بِعَدُوٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَأَنَّ الْعَدَاوَةَ شَيْءٌ يُشْهَدُ يَكُونُ عَنْهُ عَمَلٌ وَحَرْبٌ، وَالْبَغْضَاءُ لَا تَتَجَاوَزُ النُّفُوسَ انْتَهَى كَلَامُهُ. كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَيْسَ اسْتِعَارَةً، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَوَاعَدُ لِلْقِتَالِ، وَعَلَامَتُهُمْ إِيقَادُ نَارٍ عَلَى جَبَلٍ أَوْ رَبْوَةٍ، فَيَتَبَادَرُونَ وَالْجَيْشُ يَسْرِي لَيْلًا فَيُوقِدُ مَنْ مَرَّ بِهِمْ لَيْلًا النَّارَ فَيَكُونُ إِنْذَارًا، وَهَذِهِ عَادَةٌ لَنَا مَعَ الرُّومِ عَلَى جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، يَكُونُ قريبا من ديارهم رئية لِلْمُسْلِمِينَ مُسْتَخْفٍ فِي جَبَلٍ فِي غَارٍ، فَإِذَا خَرَجَ الْكُفَّارُ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ أَوْقَدَ نارا، فإذا رآها رئية آخَرُ قَدْ أَعَدَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ أَوْقَدَ نَارًا، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْخَبَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ جِهَةِ نَهْرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُعِدُّ الْمُسْلِمُونَ لِلِقَائِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَنَازَلَ الْعَسْكَرَانِ أَوْقَدُوا بِاللَّيْلِ نَارًا مَخَافَةَ الْبَيَاتِ، فَهَذَا أَصْلُ نَارِ الْحَرْبِ. وَقِيلَ: كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا عَلَى الْجِدِّ فِي حَرْبِهِمْ أَوْقَدُوا نَارًا وَتَحَالَفُوا، فَعَلَى كَوْنِ النَّارِ حَقِيقَةً يَكُونُ مَعْنَى إِطْفَائِهَا أَنَّهُ أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَخَافُوا أَنْ يُغْشَوْا فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَضَعُونَ، فلما تقاعدوا عنهم أطفئوها، وَأَضَافَ تَعَالَى الْإِطْفَاءَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ الْمُسَبَّبِ إِلَى سَبَبِهِ الْأَصْلِيِّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ اسْتِعَارَةٌ، وَإِيقَادُ النَّارِ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْحِقْدِ وَالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالِاغْتِيَالِ وَالْقِتَالِ، وَإِطْفَاؤُهَا صَرْفُ اللَّهِ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَتَفَرُّقِ آرَائِهِمْ، وَحَلِّ عَزَائِمِهِمْ، وَتَفَرُّقِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَهُمْ لَا يُرِيدُونَ مُحَارَبَةَ أَحَدٍ إلا غلبوا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 51. (2) سورة المائدة: 5/ 68.

وَقُهِرُوا، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ، وَقَدْ أَتَاهُمُ الْإِسْلَامُ وَهُمْ فِي مِلْكِ الْمَجُوسِ. وَقِيلَ: خَالَفُوا الْيَهُودَ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِطْرِيقَ الرُّومِيَّ، ثُمَّ أفسدوا فسلط الله عليهم الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِاجْتِهَادِهِمْ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَالْتِهَابِ شُوَاظِ قُلُوبِهِمْ، وَغَلَيَانِ صُدُورِهِمْ. وَمِنْهُ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ لِلْجِدِّ فِي الْحَرْبِ، وَفُلَانٌ مُسْعِرُ حَرْبٍ يُهَيِّجُهَا بِبَسَالَتِهِ، وَضُرِبَ الْإِطْفَاءُ مَثَلًا لِإِرْغَامِ أُنُوفِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ تَبْشِيرٌ لِلرَّسُولِ بِأَنَّهُمْ كُلَّمَا حَارَبُوهُ نُصِرَ عَلَيْهِمْ، وَإِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرِيهِ مِنَ الْيَهُودِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ إِخْبَارٌ عَنْ أَسْلَافِهِمْ مُنْذُ عُصُورٍ هَدَّ اللَّهُ مُلْكَهُمْ، فَلَا تُرْفَعُ لَهُمْ رَايَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُقَاتِلُونَ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْيَهُودَ بِبَلْدَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ. وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّعْيِ نَقْلَ الْأَقْدَامِ أَيْ: لَا يَكْتَفُونَ فِي إِظْهَارِ الْفَسَادِ إِلَّا بِنَقْلِ أَقْدَامِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ. وَالْفِعْلُ أَيْ: يَجْتَهِدُونَ، فِي كَيْدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمَحْوِ ذِكْرِ الرَّسُولِ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَالْأَرْضُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْجِنْسُ، أَوْ أَرْضُ الْحِجَازِ، فَتَكُونُ أَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: فَسَادُهُمْ بِالْمَعَاصِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِدَفْعِ الْإِسْلَامِ وَمَحْوِ ذِكْرِ الرَّسُولِ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَقِيلَ: بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ. وَقِيلَ: بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ: بِالظُّلْمِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ظَاهِرُ الْمُفْسِدِينَ الْعُمُومُ، فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ. وَقِيلَ: أَلْ لِلْعَهْدِ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ. وَانْتِفَاءُ الْمَحَبَّةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَهَؤُلَاءِ يُثِيبُهُمْ. وَإِذَا لَمْ يُثِبْهُمْ فَهُوَ مُعَاقِبُهُمْ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. قِيلَ: المر. أَسْلَافُهُمْ، وَدَخَلَ فِيهَا الْمُعَاصِرُونَ بِالْمَعْنَى. وَالْغَرَضُ الْإِخْبَارُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَطْفَأَ اللَّهُ نِيرَانَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ بِمَعَاصِيهِمْ، وَالَّذِي يظهر أنهم معاصر وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَهُمَا: الْإِيمَانُ، وَالتَّقْوَى. وَرَتَّبَ عَلَيْهِمْ شَيْئَيْنِ: قَابَلَ الْإِيمَانَ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ إِذِ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَتَرَتَّبَ عَلَى التَّقْوَى وَهِيَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الْمَنَاهِي دُخُولُ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَإِضَافَةُ الْجَنَّةِ إِلَى النَّعِيمِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ لَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَيَتَّقُوا. وَقِيلَ: وَاتَّقَوْا أَيِ: الْكُفْرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وبعيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: الْمَعَاصِي الَّتِي لُعِنُوا بِسَبَبِهَا. وَقِيلَ: الشِّرْكُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَرَنُوا إِيمَانَهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ الشَّرِيطَةُ فِي الْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ، لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَلَمْ نُؤَاخِذْهُمْ بِهَا، وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ. وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِعِظَمِ مَعَاصِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَدَلَالَةٌ عَلَى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَتْحِهِ بَابَ التَّوْبَةِ عَلَى كُلِّ عَاصٍ وَإِنْ عَظُمَتْ مَعَاصِيهِ وَبَلَغَتْ مَبَالِغَ سَيِّئَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُنْجِي وَلَا يُسْعِدُ إِلَّا مَشْفُوعًا بِالتَّقْوَى كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْعَمُودُ فَأَيْنَ الْأَطْنَابُ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ مِنَ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَنُوا إِيمَانَهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ الشَّرِيطَةُ فِي الْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُنْجِي وَلَا يُسْعِدُ إِلَّا مَشْفُوعًا بِالتَّقْوَى. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ هَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِإِيمَانِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَبَسْطِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، إِذْ أَكْثَرُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى الطَّاعَاتِ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا رَغَّبَهُمْ فِي الْآيَةِ قَبْلُ فِي مَوْعُودِ الْآخِرَةِ مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، رَغَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْعُودِ الدُّنْيَا لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ مَوْعُودِ الْآخِرَةِ أَهَمَّ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّائِمُ الْبَاقِي، وَالَّذِي بِهِ النَّجَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ، وَالنَّعِيمُ الَّذِي لَا يَنْقَضِي. وَمَعْنَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: هُوَ إِظْهَارُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّبْشِيرِ بِالرَّسُولِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ كَقَوْلِهِمْ: أَقَامُوا السُّوقَ أَيْ حَرَّكُوهَا وَأَظْهَرُوهَا، وَذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْقَائِمِ مِنَ النَّاسِ إِذْ هِيَ أَظْهَرُ هيئاته. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْإِنْجِيلَ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ النَّصَارَى فِي لَفْظِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، الْعُمُومُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مِثْلَ: كِتَابِ أَشْعِيَاءَ، وَكِتَابِ حَزْقِيلَ، وَكِتَابِ دَانْيَالَ، فَإِنَّهَا مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَبْعَثِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ رَبِّهِمْ هُوَ الْقُرْآنُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ عَنْ سُبُوغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: قَدْ عَمَّهُ الرِّزْقُ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: لَأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ مَطَرَهَا وَبَرَكَتَهَا، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» وَذَكَرَ النَّقَّاشُ مِنْ فوقهم من

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 96.

رِزْقِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْ رِزْقِ الدُّنْيَا إِذْ هُوَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِهِمْ كَثْرَةُ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمُ الزَّرْعُ الْمُغِلَّةُ. وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِهِمُ الْجِنَانُ الْيَانِعَةُ الثِّمَارِ يَجْتَنُونَ مَا تهدّل منها من رؤوس الشَّجَرِ، وَيَلْتَقِطُونَ مَا تَسَاقَطَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَتَحْتَ أَرْجُلِهِمْ. وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ: مِنْ فَوْقِهِمْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ سِفْلَتِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنِ الْأَخْذِ، لِأَنَّهُ أَجَلُّ مَنَافِعِهِ وَأَبْلَغُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دَيْمُومَةِ الْحَيَاةِ. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْأُمَّةُ هُنَا يُرَادُ بِهَا الْجَمَاعَةُ الْقَلِيلَةُ لِلْمُقَابِلَةِ لَهَا بِقَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَالِاقْتِصَادُ مِنَ الْقَصْدِ وَهُوَ الِاعْتِدَالُ، وَهُوَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اعْتَمَلَ وَاكْتَسَبَ أَيْ: كَانَتْ أَوَّلًا جَائِزَةً ثُمَّ اقْتَصَدَتْ. قِيلَ: هُمْ مُؤْمِنُو الْفَرِيقَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ، وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِنَ النَّصَارَى. وَاقْتِصَادُهُمْ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُقْتَصِدَةُ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: أَنَّهَا الطَّوَائِفُ الَّتِي لَمْ تُنَاصِبِ الْأَنْبِيَاءَ مُنَاصَبَةَ الْمُتَمَرِّدِينَ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُقْتَصِدَةٌ حَالُهَا أُمَمٌ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ يَقْتَصِدُ فِي عِيسَى فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْأَكْثَرُ منهم غلافية فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْإِلَهُ، وَعَلَى هَذَا مَشَى الرُّومُ وَمَنْ دَخَلَ بِآخِرَةٍ فِي مِلَّةِ عِيسَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: هُوَ آدَمِيٌّ كَغَيْرِهِ لغير رشده، فتخلص فِي الِاقْتِصَادِ أَهُوَ فِي حَقِّ عِيسَى؟ أَوْ فِي الْمُنَاصَبَةِ؟ أَوْ فِي الْإِيمَانِ؟ فَإِنْ كَانَ فِي الْمُنَاصَبَةِ فَهَلْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ وَحْدَهُ أَمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَوْلَانِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْإِيمَانِ فَهَلْ هُوَ فِي إِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ مَنْ آمَنَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؟ قَوْلَانِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ هَذَا تَنْوِيعٌ فِي التَّفْصِيلِ. فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى جَاءَتْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، جَاءَ الْخَبَرُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ، وَبَيْنَ التَّرْكِيبَيْنِ تَفَاوُتٌ غَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِصَادَ جُعِلَ وَصْفًا، وَالْوَصْفُ أَلْزَمُ لِلْمَوْصُوفِ مِنَ الْخَبَرِ، فَأَتَى بِالْوَصْفِ اللَّازِمِ فِي الطَّائِفَةِ الْمَمْدُوحَةِ، وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ، وَالْخَبَرُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ اللُّزُومُ وَلَا سِيَّمَا هُنَا، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ قَدْ تَزُولُ هَذِهِ النِّسْبَةُ بِالْإِسْلَامِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ. وَأَمَّا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، فَجَاءَ الْوَصْفُ

بِالْإِلْزَامِ، وَلَمْ يُجْعَلْ خَبَرًا، وَجُعِلَ خَبَرَ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ اللُّزُومُ، فَهُمْ بِصَدَدِ أَنَّ يُسْلِمَ نَاسٌ مِنْهُمْ فَيَزُولَ عَنْهُمُ الْإِخْبَارُ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سَاءَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي لَا تَنْصَرِفُ، فَإِنَّ فِيهِ التَّعَجُّبَ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَسْوَأَ عَمَلَهُمْ! وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْمُتَصَرِّفَةَ تَقُولُ: سَاءَ الْأَمْرُ يَسُوءُ، وَأَجَازَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمُتَصَرِّفَةِ فَتُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمَالَ نِعْمَ وَبِئْسَ كَقَوْلِهِ: سَاءَ مَثَلًا. فَالْمُتَصَرِّفَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ أَيْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرُ الْمُتَصَرِّفَةِ تَحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ أَيْ: سَاءَ عَمَلًا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هَذَا نِدَاءٌ بِالصِّفَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَوْصَافِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ، وَأَمْرٌ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالدَّيْمُومَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَأَيَّ شَيْءٍ أُنْزِلَ غَيْرَ مُرَاقِبٍ فِي تَبْلِيغِهِ أَحَدًا وَلَا خَائِفٍ أَنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِالتَّبْلِيغِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَالْكَمَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: بَلِّغْ، فَإِنَّمَا أُمِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ مَخَافَةَ أَحَدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رِسَالَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَضَمَّنَتِ الطَّعْنَ عَلَى أَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ وَفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ، فَكَانَ يَلْقَى مِنْهُمْ عَنَتًا، وَرُبَّمَا خَافَهُمْ أَحْيَانًا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمَّا بَعَثَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ ضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُكَذِّبُنِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ» . وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِتَبْلِيغٍ خَاصٍّ أَيْ: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ الَّذِي غَيَّرَهُ الْيَهُودُ فِي التَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى فِي الْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: أَمْرٌ بِتَبْلِيغِ أَمْرِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَنِكَاحِهَا. وَقِيلَ: بِتَبْلِيغِ الْجِهَادِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَهُ لِأَجْلِ أَحَدٍ. وَقِيلَ: أَمْرٌ بِتَبْلِيغِ مَعَائِبِ آلِهَتِهِمْ، إِذْ كَانَ قَدْ سَكَتَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» الْآيَةَ عَنْ عَيْبِهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا التَّبْلِيغِ الْخَاصِّ. قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَّنَهُ مِنْ مَكْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ بِأَحَدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا هُوَ مَعَهُمْ، فَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ أَجْنَبِيَّةً عَمَّا قَبْلَهَا وَعَمَّا بَعْدَهَا. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أَيْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَظَاهِرُ هَذَا الْجَوَابِ لَا يُنَافِي الشَّرْطَ، إِذْ صَارَ الْمَعْنَى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَمْ تَفْعَلْ، وَالْجَوَابُ لَا بُدَّ أن يغاير

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 108.

الشَّرْطَ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَكَتَمَهَا كُلَّهَا كَأَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ رَسُولًا، كَانَ أَمْرًا شَنِيعًا. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ مِنْهَا أَدْنَى شَيْءٍ وَإِنْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَأَنْتَ كَمَنْ رَكِبَ الْأَمْرَ الشَّنِيعَ الَّذِي هُوَ كِتْمَانُ كُلِّهَا، كَمَا عَظَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ بِقَوْلِهِ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «1» وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ كِتْمَانُ الْوَحْيِ كُلِّهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَوُضِعَ السَّبَبُ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَاتِي لَأُعَذِّبَنَّكَ» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ إِنْ تَرَكْتَ شَيْئًا فَكَأَنَّكَ قَدْ تَرَكْتَ الْكُلَّ، وَصَارَ مَا بَلَّغْتَ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ. فَمَعْنَى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَوْفِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ نَائِلًا ... فَسِيَّانَ لَا ذَمٌّ عَلَيْكَ وَلَا حَمْدُ أَيْ إِنْ لَمْ تُعْطِ مَا يُعَدُّ نَائِلًا وَأَلَّا تَتَكَاذَبَ الْبَيْتَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَجَابَ الْجُمْهُورُ بِإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِدًا مِنْهَا كُنْتَ كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئًا. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ كَاذِبًا، وَلَوْ قِيلَ: إِنْ مِقْدَارَ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ مِثْلُ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ، فهذا هو المحلل الْمُمْتَنِعُ، فَسَقَطَ هَذَا الْجَوَابُ انْتَهَى. وَمَا ضَعَّفَ بِهِ جَوَابَ الْجُمْهُورِ لَا يُضَعَّفُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ كَاذِبًا، وَلَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ إِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ أَوْلَى بِالْأَدَاءِ من بعض، فإذا لَمْ تُؤَدِّ بَعْضَهَا فَكَأَنَّكَ أغفلت أداها جَمِيعًا. كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِبَعْضِهَا كَانَ كَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِكُلِّهَا لِأَدَاءِ كُلٍّ مِنْهَا بِمَا يُدْلِي بِهِ غَيْرُهَا، وَكَوْنِهَا لِذَلِكَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُبَلَّغًا غَيْرَ مُبَلَّغٍ مُؤْمَنًا بِهِ غَيْرَ مُؤْمَنٍ، فَصَارَ ذَلِكَ التَّبْلِيغُ لِلْبَعْضِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مِقْدَارَ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ مِثْلُ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ، فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ. وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُرَتِّبَ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، وَلَهُ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَيُؤَاخِذَ بالذنب الحقير: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «2» وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي تَرْتِيبِ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، رَتَّبَ عَلَى مَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِالِاخْتِفَاءِ وَالتَّسَتُّرِ، قَطْعَ الْيَدِ مَعَ رَدِّ مَا أَخَذَهُ أَوْ قِيمَتِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى مَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالْغَصْبِ رَدَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ فُقِدْ دُونَ قطع اليد. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ شِعْرِي بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْمَتَانَةِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 32. (2) سورة الأنبياء: 21/ 23.

بِحَيْثُ مَتَى قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ شِعْرِي فَقَدِ انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ مُفِيدٌ الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ مِنْ هَذَا الوجه، فكذا هاهنا. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِفَ الْبَلِيغُ بِتَرْكِ التَّهْدِيدِ بِأَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّعْظِيمَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: رِسَالَاتِهِ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: عَلَى التَّوْحِيدِ. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أَيْ لَا تُبَالِ فِي التَّبْلِيغِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْصِمُكَ فَلَيْسَ لَهُمْ تَسْلِيطٌ عَلَى قَتْلِكَ لَا بِمُؤَامَرَةٍ، وَلَا بِاغْتِيَالٍ، وَلَا بِاسْتِيلَاءٍ عَلَيْكَ بِأَخْذٍ وَأَسْرٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اخْتَرَطَ سَيْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلَهُ انْتَهَى، وَهُوَ غَوْرَثُ بْنُ الحرث، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يُرْسِلُ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْرُسُنِي. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ يَهَابُ قُرَيْشًا فَلَمَّا نَزَلَتِ اسْتَلْقَى وَقَالَ: «مَنْ شَاءَ فَلْيَخْذُلْنِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ حَدِيثَ رُكَانَةَ مِنْ: وَلَدِ هَاشِمٍ مُشْرِكًا أَفْتَكَ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ، تَصَارَعَ هُوَ وَالرَّسُولُ، فَصَرَعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَسَأَلَهُ آيَةً، فَدَعَا الشَّجَرَةَ فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ. وَقَدِ انْشَقَّتْ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَهُ رَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا فَالْتَأَمَتْ وَعَادَتْ، فَالْتَمَسَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَدَلَّا عَلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى وَادِ أُضْمٍ حَيْثُ رُكَانَةُ، فَسَارَا نَحْوَهُ وَاجْتَمَعَا بِهِ، وَذَكَرَا أَنَّهُمَا خَافَا الْفَتْكَ مِنْ رُكَانَةَ، فَأَخْبَرَهُمَا خَبَرَهُ مَعَهُ وَضَحِكَ، وَقَرَأَ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَالرَّسُولُ بِهَا مُقِيمٌ شَهْرًا، وَحَرَسَهُ سَعْدٌ وَحُذَيْفَةُ، فَنَامَ حَتَّى غَطَّ، فَنَزَلَتْ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمَا رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةٍ آدَمَ وَقَالَ: «انْصَرِفُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ لَا أُبَالِي مَنْ نَصَرَنِي وَمَنْ خَذَلَنِي» وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : وَأَمَّا شَجُّ جَبِينِهِ وَكَسْرُ رُبَاعِيَّتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقِيلَ: الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَلَمْ تَتَضَمَّنِ الْعِصْمَةُ هَذَا الِابْتِلَاءَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ بِالْقَوْلِ، بَلْ تَضَمَّنَتِ الْعِصْمَةَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَأَمَّا مثل هذه ففيها الِابْتِلَاءُ الَّذِي فِيهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَاحْتِمَالُ كُلِّ الْأَذَى دُونَ النَّفْسِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَابْتِلَاءُ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ، وَمَا أَعْظَمَ تَكْلِيفَهُمْ. وَأَتَى بِلَفْظِ يَعْصِمُكَ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْمُومَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالنَّاسُ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْإِخْبَارَ بِمُغَيَّبٍ وَوُجِدَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ بِقَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ مَعَ قَصْدِ الَأَعْدَاءِ

لَهُ مُغَالَبَةً وَاغْتِيَالًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا جَمِيعُ مَا أَخْبَرَ بِهِ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لَا الْهِدَايَةُ، فَمَنْ قَضَيْتُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ لَا يَهْتَدِي أَبَدًا، فَيَكُونُ خَاصًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى أَنْ لَا هِدَايَةَ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَهْدِي اللَّهُ الْكَافِرَ فِي سَبِيلِ كُفْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَ إِنْزَالَهُ، بَلْ مِنَ الْهَلَاكِ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لَا يُعِينُهُمْ عَلَى بُلُوغِ غَرَضِهِمْ مِنْكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْهِدَايَةِ إِذَا أُطْلِقَتْ مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ أَوَّلًا. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ رَافِعُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمَلَةَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّكَ تُؤْمِنُ بِالتَّوْرَاةِ وَنُبُوَّةِ مُوسَى، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ؟ قَالَ: «بَلَى وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَغَيَّرْتُمْ وَكَتَمْتُمْ» فَقَالُوا: إِنَّا نَأْخُذُ بِمَا فِي أَيْدِينَا فَإِنَّهُ الْحَقُّ، وَلَا نُصَدِّقُكَ، وَلَا نَتَّبِعُكَ فَنَزَلَتْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَمَا أُنْزِلَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَنَفْيُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ جَعَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ عَدَمًا صِرْفًا لِفَسَادِهِ وَبُطْلَانِهِ فَنَفَاهُ من أصله، أو لاحظ فِيهِ، صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ: عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، فَيَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَى الصِّفَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. فَأَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِعَدَمِ التَّأَسُّفِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ فَيَنْدَرِجُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ «1» جَمَعَ فِي الضَّمِيرِ، وَالْمَقْصُودُ التَّفْصِيلُ أَيْ: حَتَّى يُقِيمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، وَيُقِيمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ فِيهِ مُتَسَاوِيَةٌ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 68.

وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ، وَأُبَيٌّ وَعَائِشَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَالصَّابِئِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: والصابئون بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّ الْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ تَخْفِيفِ الْهَمْزِ كَقِرَاءَةِ: يَسْتَهْزِئُونَ. وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ: وَالصَّابِئُونَ بِالرَّفْعِ، وَعَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ، وَالْجُمْهُورُ. وَفِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ وَنُحَاةِ الْبَصْرَةِ: أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مَنَوِيٌّ بِهِ التَّأْخِيرُ، وَنَظِيرُهُ: إِنَّ زَيْدًا وعمرو قائم، التقدير: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ، فَحُذِفَ خَبَرُ عَمْرٍو لِدَلَالَةِ خَبَرِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَالنِّيَّةُ بِقَوْلِهِ: وَعَمْرٌو، التَّأْخِيرُ. وَيَكُونُ عَمْرٌو قَائِمٌ بِخَبَرِهِ هَذَا الْمُقَدَّرِ مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَكِلَاهُمَا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ لِأَنَّهُ قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ كَانَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ. أَمَّا الْكِسَائِيُّ فَإِنَّهُ أَجَازَ رَفْعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَوْضِعِ سَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ مِمَّا خَفِيَ فِيهِ الْإِعْرَابُ، أَوْ مِمَّا ظَهَرَ فِيهِ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَإِنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ بِشَرْطِ خَفَاءِ الْإِعْرَابِ. وَاسْمُ إِنَّ هُنَا خَفِيَ فِيهِ الْإِعْرَابُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي هَادُوا: وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّابِئِينَ تَهَوَّدُوا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ إِنَّ بِمَعْنَى نَعَمْ حَرْفُ جَوَابٍ، وَمَا بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ وَالصَّابِئُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَرْفُوعِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. لِأَنَّ ثُبُوتَ أَنَّ بِمَعْنَى نَعَمْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ فَتَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يَتَقَدَّمُهَا يَكُونُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَلَا تَجِيءُ ابْتِدَائِيَّةً أَوَّلَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِكَلَامٍ سَابِقٍ. وَقَدْ أَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَنُصْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَوْرَدَ أَسْئِلَةً وَجَوَابَاتٍ فِي الْآيَةِ إِعْرَابِيَّةً تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادَوْا وَالصَّابِئُونَ. لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا هَذَا إِخْبَارٌ بِمَا صَدَرَ مِنْ أَسْلَافِ الْيَهُودِ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الْجَرَائِمِ الْعِظَامِ مِنْ تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَالَّذِينَ هُمْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ هُمْ أَخْلَافُ أُولَئِكَ، فَغَيْرُ بِدْعٍ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ مِنَ الْأَذَى وَالْعِصْيَانِ، إِذْ ذَاكَ شِنْشِنَةٌ مِنْ أَسْلَافِهِمْ. كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ نَابَ عَنِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ، وَلِأَنَّهُ

لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَكْرَمْتَ أَخِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ. (قُلْتُ) : هُوَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ نَاصَبُوهُ. وَقَوْلُهُ: فَرِيقًا كَذَّبُوا، جَوَابٌ مُسْتَأْنَفٌ لِسُؤَالِ قاتل: كَيْفَ فَعَلُوا بِرُسُلِهِمْ؟ انْتَهَى قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ سَمَّى قَوْلَهُ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ شَرْطًا وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ كُلَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ مَا يَأْتِي بَعْدَ مَا الْمَذْكُورَةِ، وَصِلَتِهَا مِنَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ «1» كُلَّمَا أُلْقُوا فِيها «2» وَأَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى أنه لا يحزم بِكُلَّمَا، وَعَلَى تَسْلِيمِ تَسْمِيَتِهِ شَرْطًا فَذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَرِيقًا كَذَّبُوا يَنْبُو عَنِ الْجَوَابِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. وَأَيُّ نَجْمٍ طَلَعَ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ انْقَسَمَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ كُذِّبَ، وَفَرِيقٌ قُتِلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُه: وَلِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ إِنْ أَكْرَمْتَ أَخِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَنْصُوبِ فِعْلٍ لِلْجَوَابِ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّ ذَاكَ جَائِزٌ حَسَنٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا الْفَرَّاءُ وَحْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ كُلَّمَا شَرْطٌ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْتَذِرَ بِهَذَا، بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَنْصُوبِ الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي كُلَّمَا عَلَيْهِ. فَتَقُولُ فِي كُلَّمَا جِئْتَنِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ، وَعُمُومُ نُصُوصِ النَّحْوِيِّينَ عَلَى ذلك، لأنهم حين حصر، وأما يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ وَمَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ قَالُوا: وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَجُوزُ فِيهِ التَّقْدِيمُ عَلَى الْعَامِلِ وَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَا ذَكَرُوا فِيهَا خِلَافًا. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي كُلَّمَا قَوْلُهُ: كَذَّبُوا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ مَحْذُوفًا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: كُلَّمَا ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ كَذَّبُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَذَّبُوا جَوَابُ كُلَّمَا انْتَهَى. وَجَاءَ بِلَفْظِ يَقْتُلُونَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ اسْتِفْظَاعًا لِلْقَتْلِ، وَاسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالِ الشَّنِيعَةِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْهَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحَسِّنُ مَجِيئُهُ أَيْضًا كَوْنُهُ رَأْسَ آيَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ فَرِيقًا فَقَطْ، وَقَتَلُوا فَرِيقًا وَلَا يَقْتُلُونَهُ إِلَّا مَعَ التَّكْذِيبِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْقَتْلِ عَنْ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ أَيِ: اقْتَصَرَ ناس على كذيب فَرِيقٍ، وَزَادَ نَاسٌ عَلَى التَّكْذِيبِ الْقَتْلَ. وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال ابن الأنباري:

_ (1) سورة النساء: 4/ 56. (2) سورة الملك: 67/ 7.

نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا عَلَى الْكُفْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَلَمَّا بُعِثَ الرَّسُولُ كَذَّبُوهُ بَغْيًا وَحَسَدًا، فَعَمُوا وَصَمُّوا لِمُجَانَبَةِ الْحَقِّ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ: عَرَّضَهُمْ لِلتَّوْبَةِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم، وإن لَمْ يَتُوبُوا ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِهِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي: وَحَسِبُوا، عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحُسْبَانُهُمْ سَبَبُهُ اغْتِرَارُهُمْ بِإِمْهَالِ اللَّهِ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَقَتَلُوا، أَوْ وُقُوعُ كَوْنِهِمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ وَأَحِبَّاءَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا مِقْدَارَ الزَّمَانِ الَّذِي عَبَدُوا فِيهِ الْعِجْلَ، وَإِمْدَادُ اللَّهِ لَهُمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ وَسِعَةِ الْأَرْزَاقِ، أَوْ وُقُوعُ كَوْنِ الْجَنَّةِ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى فِي أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِقَادُهُمُ امْتِنَاعُ النَّسْخِ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى، فَكُلُّ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ رَسُولٍ كَذَّبُوهُ وَقَتَلُوهُ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ. فَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِالْقَحْطِ وَالْوَبَاءِ وَهُوَ الطَّاعُونُ، أَوِ الْقَتْلِ، أَوِ الْعَدَاوَةِ، أَوْ ضِيقِ الْحَالِ، أَوِ الْقُمَّلِ، وَالضَّفَادِعِ، وَالدَّمِ، أَوِ التِّيهِ، وَقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، أَوْ مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ بالافتضاح على رؤوس الْأَشْهَادِ، أَوْ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَشِدَّتُهُ، أَوِ الْعَذَابُ بِالنَّارِ وَالْخُلُودِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ مَا نَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَسَدَّتْ أَنْ وَصِلَتُهَا مَسَدَّ مَفْعُولَيْ حَسِبَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ: بِنَصْبِ نُونِ تَكُونَ بِأَنِ النَّاصِبَةِ لِلْمُضَارِعِ، وَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ إِذْ حَسِبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِغَيْرِ الْمُتَيَقَّنِ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ بِرَفْعِ النُّونِ، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. نَزَلَ الْحُسْبَانُ فِي صُدُورِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ حَسِبَ فِي الْمُتَيَقَّنِ قَلِيلًا قَالَ الشَّاعِرُ: حَسِبْتُ التُّقَى وَالْجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا وَتَكُونُ هُنَا تَامَّةً. ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ قَالَتْ جَمَاعَةٌ: تَوْبَتُهُمْ هَذِهِ رَدُّهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ الْأَوَّلِ وعماهم وصممهم. قيل: ولو جهم فِي شَهَوَاتِهِمْ فَلَمْ يُبْصِرُوا الْحَقَّ، وَلَمْ يَسْمَعُوا دَاعِيَ اللَّهِ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: تَوْبَتُهُمْ بِبَعْثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ: فِي زَمَانِ زكريا ويحيى وعيسى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِتَوْفِيقِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ جَمَاعَةٌ بِهِ، وَأَقَامَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عِبَادَةُ الْعِجْلِ ثُمَّ التَّوْبَةُ عَنْهُ، ثُمَّ الثَّانِي بِطَلَبِ الرُّؤْيَةِ وَهِيَ مُحَالُّ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي صِفَاتِ اللَّهِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي إِنْكَارِ رُؤْيَةِ اللَّهِ

تَعَالَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: الْأَوَّلُ بَعْدَ مُوسَى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ بِبَعْثِ عِيسَى. وَالثَّانِي بِالْكُفْرِ بِالرَّسُولِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى حَسِبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَيْثُ هُمْ أَبْنَاءُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يُبْتَلَوْا إِذَا عَصَوُا اللَّهَ، فَعَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى وَكَنَّى عَنِ الْعِصْيَانِ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِذْ حَلَّتْ بِهِمُ الْفِتْنَةُ بِرُجُوعِهِمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبُدِئَ بِالْعَمَى لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَعْرِضُ لِلْمُعْرِضِ عَنِ الشَّرَائِعِ أَنْ لَا يُبْصِرَ مَنْ أَتَاهُ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ لَوْ أَبْصَرَهُ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ، فَعَرَضَ لَهُمُ الصَّمَمُ عَنْ كَلَامِهِ. وَلَمَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُمُ الضَّلَالُ، نُسِبَ الْفِعْلُ إِلَيْهِمْ وَأُسْنِدَ لَهُمْ وَلَمْ يَأْتِ، فَأَعْمَاهُمُ اللَّهُ وَأَصَمَّهُمْ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ «1» إِذْ هَذَا فِيمَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ هِدَايَةٌ، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ الشَّرِيفُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «2» لَمْ يَأْتِ، ثُمَّ تَابُوا إِظْهَارًا لِلِاعْتِنَاءِ بِهِمْ وَلُطْفِهِ تَعَالَى بِهِمْ. وَفِي الْعَطْفِ بِالْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْقُبُ الْحُسْبَانَ عِصْيَانُهُمْ وَضَلَالُهُمْ، وَفِي الْعَطْفِ بِثُمَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَادَوْا فِي الضَّلَالِ زَمَانًا إِلَى أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالصَّادِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ عَمُوا، جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرَّجُلُ وَأَزْكَمَهُ، وَحُمَّ وَأَحَمَّهُ، وَلَا يُقَالُ: زَكَمَهُ اللَّهُ وَلَا حَمَّهُ اللَّهُ، كَمَا لَا يُقَالُ: عُمِيتُهُ وَلَا صُمِمْتُهُ، وَهِيَ أَفْعَالٌ جَاءَتْ مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ ثُلَاثِيَّةٌ، فَإِذَا بُنِيَتْ لِلْفَاعِلِ صَارَتْ قَاصِرَةً، فَإِذَا أَرَدْتَ بِنَاءَهَا لِلْفَاعِلِ مُتَعَدِّيَةً أَدْخَلْتَ هَمْزَةَ التَّنَقُّلِ وَهِيَ نَوْعٌ غَرِيبٌ فِي الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعُمُوا وَصُمُّوا بِالضَّمِّ عَلَى تَقْدِيرِ عَمَاهُمُ اللَّهُ وَصَمَّهُمْ أَيْ: رَمَاهُمْ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ كَمَا يُقَالُ: نَزَكْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِالنَّيْزَكِ، وَرَكَبْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ انْتَهَى. وَارْتِفَاعُ كَثِيرٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُضْمَرِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الْفَاعِلِ، وَالْوَاوُ عَلَامَةٌ لِلْجَمْعِ لَا ضَمِيرٌ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِقِلَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تقديره هم أي: الْعَمَى وَالصَّمُّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ قَبِلَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، فَلَا يُنْوَى بِهِ التَّأْخِيرُ. وَالْوَجْهُ هُوَ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: كَثِيرًا مِنْهُمْ بِالنَّصْبِ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ هَذَا فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَنَاسَبَ خَتْمُ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى بَصِيرٍ، إِذْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ فَعَمُوا.

_ (1) سورة محمد: 47/ 23. (2) سورة المائدة: 5/ 71.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَقَائِلُو ذَلِكَ: هُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ، زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَلَّى فِي شَخْصِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى مَقَالَتَهُمْ بِقَوْلِ مَنْ يَدَّعُونَ إلهيته وهو عيسى، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مَرْبُوبُونَ، وَأَمَرَهُمْ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ الرُّبُوبِيَّةُ. وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي فَسَادِ دَعْوَاهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيَرْفَعُونَ قَدْرَهُ عَمَّا لَيْسَ لَهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَقَالَتَهُمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى عَنْهُ هُوَ مذكور في إنجيلهم يقرأونه وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَسِيحِ: يَا مَعْشَرَ بَنِي الْمَعْمُودِيَّةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَا مَعْشَرَ الشُّعُوبِ قُومُوا بِنَا إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ، وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ، وَمُخَلِّصِي وَمُخَلِّصِكُمْ. إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ الظَّاهِرُ أنه كَلَامِ الْمَسِيحِ، فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَوْلِ. وَفِيهِ أَعْظَمُ رَدْعٍ مِنْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، إِذْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ مَنَعَهُ اللَّهُ دَارَ مَنْ أَفْرَدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَجَعَلَ مَأْوَاهُ النَّارَ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» . وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَأْنَفٌ، أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وفي الحديث الصحيح من حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أن اللَّهَ حَرَّمَ النَّارَ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» . وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عِيسَى، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَنْ تَجَاوَزَ وَوَضَعَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ فَلَا نَاصِرَ لَهُ، وَلَا مُسَاعِدَ فِيمَا افْتَرَى وَتَقَوَّلَ، وَفِي ذَلِكَ رَدْعٌ لَهُمْ عَمَّا انْتَحَلُوهُ فِي حَقِّهِمْ مِنْ دَعْوَى أَنَّهُ إِلَهٌ، وَأَنَّهُ ظلم إذ جَعَلُوا مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ وَاجِبًا وُقُوعُهُ، أَوْ فَلَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُنَجِّيَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا وَعَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَتَقَوُّلِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلْكِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى الْقَائِلُونَ بِالتَّثْلِيثِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، أَحَدُ أَلِهَةٍ ثَلَاثَةٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادُوا بِذَلِكَ أن الله تعالى وعيسى وَأُمَّهُ آلِهَةٌ ثَلَاثَةٌ، وَيُؤَكِّدُهُ

_ (1) سورة النساء: 4/ 48.

أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً «2» أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ «3» مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ «4» . وَحَكَى الْمُتَكَلِّمُونَ عَنِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: أَبٌ، وَابْنٌ، وَرُوحُ قُدُسٍ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ تَتَنَاوَلُ الْقُرْصَ وَالشُّعَاعَ وَالْحَرَارَةَ، وَعَنَوْا بِالْأَبِ الذَّاتَ، وَبِالِابْنِ الْكَلِمَةَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ. وَأَثْبَتُوا الذَّاتَ وَالْكَلِمَةَ وَالْحَيَاةَ وَقَالُوا: إِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ اخْتَلَطَتْ بِجَسَدِ عِيسَى اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ، أَوِ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَبَ إِلَهٌ، وَالِابْنَ إِلَهٌ، وَالرُّوحَ إِلَهٌ، وَالْكُلُّ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا تَكُونُ وَاحِدًا، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ ثَلَاثَةً، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ إِلَّا الْإِضَافَةُ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ ثَلَّثْتُ الثَّلَاثَةَ. وَأَجَازَ النَّصْبَ فِي الَّذِي يَلِي اسْمَ الْفَاعِلِ الْمُوَافِقَ لَهُ فِي اللَّفْظِ أحمد بن يحيى ثعلب، وَرَدُّوهُ عَلَيْهِ جَعَلُوهُ كَاسْمِ الْفَاعِلِ مَعَ الْعَدَدِ الْمُخَالِفِ نَحْوَ: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ مِثْلَهُ إِذْ تَقُولُ: رَبَّعْتُ الثَّلَاثَةَ أَيْ صَيَّرْتُهُمْ بِكَ أَرْبَعَةً. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مُتَّصِفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَكَدَّ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ مِنِ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ وَحَصْرِ إِلَهِيَّتِهِ فِي صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَإِلَهٌ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ إِلَهٍ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ إِتْبَاعَهُ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ يُجِيزُ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْوَاجِبِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أَيْ: مَوْصُوفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَا ثَانِيَ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ عَمَّا يَفْتَرُونَ وَيَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى مِنْ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، أَوْعَدَهُمْ بِإِصَابَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَقَدَّمَ الْوَعِيدَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ إِبْلَاغًا فِي الزَّجْرِ أَيْ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِفُ الْعُقُولُ فِي فَسَادِهَا، فَلِذَلِكَ تَوَعَّدَ أَوَّلًا عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ، ثُمَّ أَتْبَعَ الْوَعِيدَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ عَلَى بُطْلَانِهَا. وَلَيَمَسَّنَّ: اللَّامُ فِيهِ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ هَذَا التَّرْكِيبُ وَقَدْ صَحِبَتْ إِنِ اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله:

_ (1) سورة المائدة: 5/ 116. (2) سورة الجن: 72/ 3. [.....] (3) سورة الأنعام: 6/ 101. (4) سورة المؤمنون: 23/ 91.

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ «1» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «2» وَمِثْلُهُ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ «3» وَمَعْنَى مَجِيءِ إِنَّ بغير باء، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ إِنْ قَسَمٌ مَحْذُوفٌ إِذْ لَوْلَا نِيَّةُ الْقَسَمِ لَقَالَ: فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ: الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ. وَأَقَامَ الظَّاهِرَ مُقَامَ الْمُضْمَرِ، إِذْ كَانَ الرَّبْطُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: لَيَمَسَّنَّهُمْ، لِتَكْرِيرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ وَلِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِمَكَانٍ مِنَ الْكُفْرِ، إِذْ جَعَلَ الْفِعْلَ فِي صِلَةِ الَّذِينَ وَهِيَ تَقْتَضِي كَوْنَهَا مَعْلُومَةً لِلسَّامِعِ مَفْرُوغًا مِنْ ثُبُوتِهَا، واستقرارها لهم ومن فِي مِنْهُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ كَائِنًا مِنْهُمْ، وَالرَّبْطُ حَاصِلٌ بِالضَّمِيرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كَافِرَهُمْ وَلَيْسُوا كُلُّهُمْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ، بَلْ قَدْ تَابَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ. وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَجَازَ ذَلِكَ هُنَا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «4» . أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ هَذَا لُطْفٌ بِهِمْ وَاسْتِدْعَاءٌ إِلَى التَّنَصُّلِ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ الشَّنْعَاءِ بَعْدَ أَنْ كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الشَّهَادَةَ بِالْكُفْرِ. وَالْفَاءُ فِي أَفَلَا لِلْعَطْفِ، حَجَزَتْ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلَا. وَعَلَى طَرِيقَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ تَكُونُ قَدْ عَطَفَتْ فِعْلًا عَلَى فِعْلٍ، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: أَيَثْبُتُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَا يَتُوبُونَ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ مِنِ انْتِفَاءِ تَوْبَتِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِغْفَارِهِمْ، وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَقْبَحُ الْكُفْرِ، وَأَفْضَحُ فِي سُوءِ الِاعْتِقَادِ، فَتَعَجَّبَ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَتُوبُونَ مِنْ هَذَا الْجُرْمِ الْعَظِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «5» . قَالَ: إِنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الصِّيغَةِ طَلَبُ التَّوْبَةِ وَالْحَثُّ عَلَيْهَا، فَمَعْنَاهُ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ مِنْ ذَنْبِكُمُ الْقَوْلَيْنِ الْمُسْتَحِيلَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَفَقَ جَلَّ وَعَلَا بِهِمْ بِتَحْضِيضِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَثِّ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، لِأَنَّ أَفَلَا غَيْرُ مَدْلُولِ أَلَا الَّتِي لِلْحَضِّ وَالْحَثِّ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَحْصُلُ قَبُولُ التَّوْبَةِ وَالْغُفْرَانِ لِلْحَوْبَةِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ لَا تُوجَدُ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الذَّنَبِ وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالْمَسْئُولُ مِنْهُ ذَلِكَ مُتَّصِفٌ بِالْغُفْرَانِ التَّامِّ وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ لهؤلاء وغيرهم؟

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 60. (2) سورة الأعراف: 7/ 23. (3) سورة الأنعام: 6/ 121. (4) سورة الحج: 22/ 30. (5) سورة المائدة: 5/ 91.

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ لَمَّا رَدَّ عَلَى النَّصَارَى قَوْلَهُمُ الْأَوَّلَ بِقَوْلِ الْمَسِيحِ: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ «1» وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ «2» أَثْبَتَ لَهُ الرِّسَالَةَ بِصُورَةِ الْحَصْرِ، أَيْ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ شَيْءٌ مِمَّا تَدَّعِيهِ النَّصَارَى مِنْ كَوْنِهِ إِلَهًا وَكَوْنِهِ أَحَدَ آلِهَةٍ ثَلَاثَةٍ، بَلْ هُوَ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا وَتَقَدَّمُوا، جَاءَ بِآيَاتٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا جَاءُوا، فَإِنْ أَحْيَا الْمَوْتَى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ عَلَى يَدِهِ، فَقَدْ أَحْيَا الْعَصَا وَجَعَلَهَا حَيَّةً تَسْعَى، وَفَلَقَ الْبَحْرَ، وَطَمَسَ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَإِنْ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ فَقَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَسُولٌ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ حَيْثُ ادَّعَوْا كَذِبَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَحَيْثُ ادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ لِرِشْدَةٍ. وَقَرَأَ حَطَّانُ: مِنْ قَبْلِهِ رُسُلٌ بِالتَّنْكِيرِ. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ هَذَا الْبِنَاءُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، إِذْ بِنَاءُ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْهُ سِكِّيتٌ وَسِكِّيرٌ، وَشِرِّيبٌ وَطِبِّيخٌ، مِنْ سَكَتَ وَسَكِرَ، وَشَرِبَ وَطَبَخَ. وَلَا يَعْمَلُ مَا كَانَ مَبْنِيًّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّي كَمَا يَعْمَلُ فَعُولٌ وَفَعَّالٌ وَمِفْعَالٌ، فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ شِرِّيبٌ الْمَاءَ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَّابٌ زَيْدًا، وَالْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِكَثْرَةِ الصِّدْقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أن يكون من التَّصْدِيقِ، وَبِهِ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ أَنَّهُ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ هَذَا الْبِنَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه لا كَبَعْضِ النِّسَاءِ الْمُصَدِّقَاتِ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ بِهِمْ، فَمَا مَنْزِلَتُهُمَا إِلَّا مَنْزِلَةُ بَشَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَبِيٌّ، وَالْآخَرُ صَحَابِيٌّ، فَمِنْ أَيْنَ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُمَا حَتَّى وَصَفْتُمُوهُمَا بِمَا لَمْ يُوصَفْ بِهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَصَحَابَتِهِمْ؟ مَعَ أَنَّهُ لَا تَمَيُّزَ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَحْمِيلُ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ فِيهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمُّهُ صِدِّيقَةٌ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِصِفَةِ كَثْرَةِ الصِّدْقِ، وَجَعَلَهُ هُوَ مِنْ بَابِ الْحَصْرِ فَقَالَ: وَمَا أَمُّهُ إِلَّا كَبَعْضِ النِّسَاءِ الْمُصَدِّقَاتِ إِلَى آخِرِهِ، وَهَكَذَا عَادَتُهُ يُحَمِّلُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: صَدَّقَتْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَتَاهَا كَمَا حَكَى تَعَالَى عَنْهَا: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ «3» . وَقِيلَ: صَدَّقَتْ بِآيَاتِ رَبِّهَا، وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَدُهَا. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمُبَالَغَتِهَا فِي صِدْقِ حَالِهَا مَعَ اللَّهِ، وَصِدْقِهَا فِي بَرَاءَتِهَا مِمَّا رَمَتْهَا بِهِ اليهود. وقيل: وصفها

_ (1) سورة المائدة: 5/ 72. (2) سورة المائدة: 5/ 73. (3) سورة الصافات: 37/ 105.

[سورة المائدة (5) : الآيات 76 إلى 81]

بِصِدِّيقَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَبِيَّةٌ، إِذْ هِيَ رُتْبَةٌ لَا تَسْتَلْزِمُ النُّبُوَّةَ. قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «1» وَمِنْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَكْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ بَشَرًا نُبُوَّتُهُ فَقَدْ كَلَّمَتِ الْمَلَائِكَةُ قَوْمًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ لِحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ: الْأَقْرَعِ، وَالْأَعْمَى، وَالْأَبْرَصِ. فَكَذَلِكَ مَرْيَمُ. كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سِمَةِ الْحُدُوثِ، وَتَبْعِيدٌ عَمَّا اعْتَقَدَتْهُ النَّصَارَى فِيهِمَا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى الطَّعَامِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْعَوَارِضِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا جِسْمًا مُرَكَّبًا مَنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ وَعُرُوقٍ وَأَعْصَابٍ وَأَخْلَاطٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَصْنُوعٍ مُؤَلَّفٍ مُدَبَّرٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى قَوْلِهِمْ: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ كِنَايَةً عَنْ خُرُوجِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى سِمَاتِ الْحُدُوثِ. وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّغَذِّي الْمُفْتَقِرِ إِلَيْهِ الْحَيَوَانُ فِي قِيَامِهِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ الْإِلَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «2» وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى أَكْلِ الطَّعَامِ خُرُوجُهُ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنَ اللَّفْظِ مُسْتَعَارًا لَهُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ مُنَبِّهَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَأَنَّهُمَا مُشَارِكَانِ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَلَا مَوْضِعَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أَيِ الْأَعْلَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى بُطْلَانِ مَا اعْتَقَدُوهُ، وَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْأَمْرُ لِأُمَّتِهِ فِي ضَلَالِ هَؤُلَاءِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ قَبُولِ مَا نُبِّهُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ: أَثَرٌ بِالنَّظَرِ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى أَوْضَحَ لَهُمُ الْآيَاتِ وَبَيَّنَهَا بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مَعَهَا لُبْسٌ، وَالْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ بِالنَّظَرِ فِي كَوْنِهِمْ يُصْرَفُونَ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ وَتَأَمُّلِهِ، أَوْ فِي كَوْنِهِمْ يَقْلِبُونَ مَا بُيِّنَ لَهُمْ إِلَى الضِّدِّ مِنْهُ، وَهَذَانِ أَمْرَا تَعْجِيبٍ. وَدَخَلَتْ ثُمَّ لِتَرَاخِي مَا بَيْنَ الْعَجَبَيْنِ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْعَجَبَ مِنْ تَوْضِيحِ الْآيَاتِ وَتَبْيِينِهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِ مَنْ بُيِّنَتْ لَهُ فَيَرَى إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ أَعْجَبَ مِنْ تَوْضِيحِهَا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَبْيِينِهَا تَبَيُّنُهَا لَهُمْ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا، فَكَوْنُهُمْ أُفِكُوا عنها أعجب. [سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

_ (1) سورة النساء: 4/ 69. (2) سورة الأنعام: 6/ 14.

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى بِدَلِيلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ انْتِفَاءَ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ عِيسَى، وَكَانَ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ ثُمَّ اسْتَدْعَاهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْغُفْرَانِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَوَبَّخَهُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ عَجْزُهُ وَعَدَمُ اقْتِدَارِهِ عَلَى دَفْعِ ضَرَرٍ وَجَلْبِ نَفْعٍ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ حَرِيٌّ أَنْ لَا يَدْفَعَ عَنْكُمْ. وَالْخِطَابُ لِلنَّصَارَى، نَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُسَاوِيهِمْ فِي الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ إِيصَالَ خَيْرٍ وَلَا نَفْعٍ. قِيلَ: وَعَبَّرَ بِمَا تَنْبِيهًا عَلَى أَوَّلِ أَحْوَالِهِ، إِذْ مَرَّتْ عَلَيْهِ أَزْمَانُ حَالَةِ الْحَمْلِ لَا يُوصَفُ بِالْعَقْلِ فِيهَا، وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا، أَوْ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَمَا: مُبْهَمَةٌ تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِمَّنْ يَعْقِلُ، وَمَا لَا يَعْقِلُ. وَعَبَّرَ بِمَا تَغْلِيبًا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، إِذْ أَكْثَرُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ مَا لَا يَعْقِلُ كَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، أَوْ أُرِيدَ النَّوْعُ أَيِ: النَّوْعُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا كَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» أَيِ النَّوْعَ الطَّيِّبَ، وَلَمَّا كَانَ إِشْرَاكُهُمْ بِاللَّهِ تَضَمَّنَ الْقَوْلَ وَالِاعْتِقَادَ جَاءَ الْخَتْمُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ، الْعَلِيمُ بِاعْتِقَادِكُمْ وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّاتُكُمْ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ وَيَعْتَقِدُونَهُ، وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْعَجْزِ عَنْ دَفْعِ ضَرَرٍ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 3.

قِيلَ: وَمَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ مُدَدٌ لَا يَسْمَعُ فِيهَا وَلَا يَعْلَمُ، وَتَرَكُوا الْقَادِرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ السَّمِيعَ لِلْأَصْوَاتِ الْعَلِيمَ بِالنِّيَّاتِ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ظَاهِرُهُ نِدَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْحَاضِرِينَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَنَاوَلُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ. وَلَمَّا سَبَقَ الْقَوْلُ فِي أَبَاطِيلِ الْيَهُودِ وَأَبَاطِيلِ النَّصَارَى، جُمِعَ الْفَرِيقَانِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ. وَانْتَصَبَ غَيْرَ الْحَقِّ وَهُوَ الْغُلُوُّ الْبَاطِلُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا مَا هُمْ عَلَيْهِ، بَلِ الْمُرَادُ الدِّينُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى وعيسى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ غُلُوَّانِ: غُلُوٌّ حَقٌّ، وَهُوَ أَنْ يَفْحَصَ عَنْ حَقَائِقِهِ وَيُفَتِّشَ عَنْ أَبَاعِدِ مَعَانِيهِ وَيَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ حُجَجِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، وَغُلُوٌّ بَاطِلٌ وَهُوَ أَنْ يُجَاوِزَ الْحَقَّ وَيَتَعَدَّاهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَدِلَّةِ وَاتِّبَاعِ الشُّبَهِ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ انْتَهَى. وَأَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ هُمْ أَئِمَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ عِنْدَهُ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَمَنْ عَدَا الْمُعْتَزِلَةَ. وَمَنْ غُلُوِّ الْيَهُودِ إِنْكَارُ نُبُوَّةِ عِيسَى، وَادِّعَاؤُهُمْ فِيهِ أَنَّهُ اللَّهُ. وَمِنْ غُلُوِّ النَّصَارَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ اعْتِقَادِ بَعْضِهِمْ فِيهِ أَنَّهُ اللَّهُ، وَبَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَحَدُ آلِهَةٍ ثَلَاثَةٍ. وَانْتِصَابُ غَيْرَ هُنَا عَلَى الصِّفَةِ أَيْ: غُلُوًّا غَيْرَ الْحَقِّ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا اسْتِثْنَاءٌ وَيُقَدِّرُهُ: لَكِنَّ الْحَقَّ فَاتَّبِعُوهُ. وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمْ أَسْلَافُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ضَلُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَضَلُّوا غَيْرَهُمْ كَثِيرًا، ثُمَّ عَيَّنَ مَا ضَلُّوا عَنْهُ وَهُوَ السَّبِيلُ السَّوِيُّ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ فِي الدِّينِ وَهُوَ خَيْرُهَا فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، بَلْ هُوَ سَوَاءٌ مُعْتَدِلٌ خِيَارٌ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّصَارَى، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: قَدْ ضَلُّوا مَنْ قَبْلُ هُمْ أَئِمَّتُهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ كَانُوا عَلَى الضَّلَالِ قَبْلَ مَبْعَثِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِمَّنْ شَايَعَهُمْ عَلَى التَّثْلِيثِ، وَضَلُّوا لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ حِينَ كَذَّبُوهُ وَحَسَدُوهُ وَبَغَوْا عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْمُخَاطَبَةُ هِيَ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِي عِيسَى، وَالْقَوْمِ الَّذِينَ نَهَى النَّصَارَى عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَالَّذِي دَعَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ النَّصَارَى فِي غُلُوِّهِمْ لَيْسُوا عَلَى هَوَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَلْ هُمْ فِي الضِّدِّ بِالْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا اجْتَمَعُوا فِي اتِّبَاعِ مَوْضِعِ الْهَوَى. فَالْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ لِمَنْ تَلُومُهُ عَلَى عِوَجٍ: هَذِهِ الطَّرِيقَةُ طَرِيقَةُ فُلَانٍ تُمَثِّلُهُ بِآخَرَ قَدِ اعْوَجَّ نَوْعًا مِنَ الِاعْوِجَاجِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ نَوَازِلُهُ. وَوَصَفَ تَعَالَى الْيَهُودَ بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا قَدِيمًا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِتَكْرَارِ قَوْلِهِ: وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ النَّصَارَى لَا تَتَّبِعُوا

أَهْوَاءَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: ضَلَّ أَسْلَافُهُمْ، وَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ الْآنَ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ لِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّهُ نِدَاءٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ طَائِفَتَيِ: الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى. وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ، هُمْ أَسْلَافُهُمْ. فَإِنَّ الزَّائِغَ عَنِ الْحَقِّ كَثِيرًا مَا يَعْتَذِرُ أَنَّهُ عَلَى دِينِ أَبِيهِ وَطَرِيقَتِهِ، كَمَا قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1» فَنُهُوا عَنِ اتِّبَاعِ أَسْلَافِهِمْ، وَكَانَ فِي تَنْكِيرِ قَوْمٍ تَحْقِيرٌ لَهُمْ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ تَخْصِيصٌ لِعُمُومٍ مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةٍ إِلَيْهِ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ وَتَأْوِيلٌ بَعِيدٌ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ أَنَّ المراد بهم اليهود، وإن الْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا عَلَى هَوًى كَمَا كَانَ الْيَهُودُ عَلَى هَوًى، لِأَنَّ الظَّاهِرَ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّلَالَ الْأَوَّلَ عَنِ الدِّينِ، وَالثَّانِيَ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لُعِنُوا بِكُلِّ لِسَانٍ. لُعِنُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَعَلَى عَهْدِ دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ، وَعَلَى عَهْدِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ، وَعَلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَّهُ اقْتَرَنَ بِلَعْنَتِهِمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ أَنْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ، وَذَلِكَ أَنَّ دَاوُدَ مرّ على نفروهم فِي بَيْتٍ فَقَالَ: مَنْ فِي الْبَيْتِ؟ قَالُوا: خَنَازِيرُ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِجَابِ، قَالَ: اللَّهُمَّ خَنَازِيرَ، فَكَانُوا خَنَازِيرَ. ثُمَّ دَعَا عِيسَى عَلَى مَنِ افْتَرَى عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ وَلَعَنَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لُعِنَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ أَصْحَابُ السَّبْتِ، وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْمَائِدَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَهْلَ أَيْلَةَ لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ قَالَ دَاوُدُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ وَاجْعَلْهُمْ آيَةً، فَمُسِخُوا قِرَدَةً. وَلَمَّا كَفَرَ أَصْحَابُ عِيسَى بَعْدَ الْمَائِدَةِ قَالَ عِيسَى: اللَّهُمَّ عَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بعد ما أَكَلَ مِنَ الْمَائِدَةِ عَذَابًا لَمْ تُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَالْعَنْهُمْ كَمَا لَعَنْتَ أَصْحَابَ السَّبْتِ، فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ، وَكَانُوا خَمْسَةَ آلَافِ رَجُلٍ مَا فِيهِمُ امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ. وَقَالَ الْأَصَمُّ وَغَيْرُهُ: بشّر داود وعيسى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَنَا مَنْ كَذَّبَهُ. وَقِيلَ: دَعَوْا عَلَى مَنْ عَصَاهُمَا وَلَعَنَاهُ. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لِيَلْبِسُوا اللَّعْنَةَ مِثْلَ الرِّدَاءِ وَمِثْلَ مِنْطَقَةِ الْحِقْوَيْنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ آيَةً وَمِثَالًا لِخَلْقِكَ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَسْلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ ملعونون. وبناء الفعل

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 22. [.....]

لِلْمَفْعُولِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ اللَّاعِنُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وعيسى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا هُمَا اللَّاعِنَانِ لَهُمْ. وَلَمَّا كَانُوا يَتَبَجَّحُونَ بِأَسْلَافِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، أُخْبِرُوا أَنَّ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَاللَّعْنَةُ هِيَ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى اقْتِرَانِ اللَّعْنَةِ بِمَسْخٍ. وَالْأَفْصَحُ أَنَّهُ إِذَا فُرِّقَ مُنْضَمَّا الْجُزْئَيْنِ اخْتِيرَ الْإِفْرَادُ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَعَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، فَكَذَلِكَ جَاءَ عَلَى لِسَانِ مُفْرَدًا وَلَمْ يَأْتِ عَلَى لساني داود وعيسى، وَلَا عَلَى أَلْسِنَةِ دَاوُدَ وعيسى. فَلَوْ كَانَ الْمُنْضَمَّانِ غَيْرَ مُتَفَرِّقَيْنِ اخْتِيرَ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَعَلَى الْإِفْرَادِ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ هُنَا الْجَارِحَةُ لَا اللُّغَةُ، أَيِ النَّاطِقُ بِلَعْنَتِهِمْ هُوَ داود وعيسى. ذلِكَ بِما عَصَوْا أَيْ ذَلِكَ اللَّعْنُ كَانَ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ، وَذُكِرَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَإِلَّا فَقَدْ فُهِمَ سَبَبُ اللَّعْنَةِ بِإِسْنَادِهَا إِلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْوَصْفُ الدَّالُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، وَهُوَ الَّذِينَ كَفَرُوا. كَمَا تَقُولُ: رُجِمَ الزَّانِي، فَيُعْلَمُ أَنَّ سَبَبَهُ الزِّنَا. كَذَلِكَ اللَّعْنُ سَبَبُهُ الْكُفْرُ، وَلَكِنْ أُكِدَّ بِذِكْرِهِ ثَانِيَةً فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا. وَكانُوا يَعْتَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عَصَوْا، فَيَتَقَدَّرُ بِالْمَصْدَرِ أَيْ: وَبِكَوْنِهِمْ يَعْتَدُونَ، يَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرِ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ كَانَ شَأْنَهُمْ وَأَمْرَهُمُ الِاعْتِدَاءُ، وَيُقَوِّي هَذَا مَا جَاءَ بَعْدَهُ كَالشَّرْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ظَاهِرُهُ التَّفَاعُلُ بِمَعْنَى الِاشْتِرَاكِ أَيْ: لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ فِعْلِ الْمُنْكَرِ وَالتَّجَاهُرِ بِهِ، وَعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ. وَالْمَعْصِيَةُ إِذَا فُعِلَتْ وَقُدِّرَتْ عَلَى الْعَبْدِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَتِرَ بِهَا مَنِ ابْتُلِيَ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِذَا فُعِلَتْ جهارا وتواطؤا عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ كَانَ ذَلِكَ تَحْرِيضًا عَلَى فِعْلِهَا وَسَبَبًا مُثِيرًا لِإِفْشَائِهَا وَكَثْرَتِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ وَقَعَ تَرْكُ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ تَفْسِيرًا لِلْمَعْصِيَةِ؟ (قُلْتُ) : مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّنَاهِي، فَكَانَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَعْصِيَةً وَهُوَ اعْتِدَاءٌ، لِأَنَّ فِي التَّنَاهِي حَسْمًا لِلْفَسَادِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فلا

_ (1) سورة التحريم: 66/ 4.

يَمْنَعُهُ ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَرَأَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَنِ الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبُ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَيَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمَعْنَى لَتَأْطُرُنَّهُ لَتَرُدُّنَّهُ. وَقِيلَ: التَّفَاعُلُ هُنَا بِمَعْنَى الِافْتِعَالِ يُقَالُ: انْتَهَى عَنِ الْأَمْرِ وَتَنَاهَى عَنْهُ إِذَا كَفَّ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ: تَجَاوَزُوا وَاجْتَوَزُوا. وَالْمَعْنَى: كَانُوا لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُنْكَرٍ. وَظَاهِرُ الْمُنْكِرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَيَصْلُحُ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَيِّ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. وَقِيلَ: صَيْدُ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ. وَقِيلَ: أَخْذُ الرَّشَا فِي الْحُكْمِ. وَقِيلَ: أَكْلُ الرِّبَا وَأَثْمَانِ الشُّحُومِ. وَلَا يَصِحُّ التَّنَاهِي عَمَّا فُعِلَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَرَادُوا فِعْلَهُ كَمَا تَرَى آلَاتِ أَمَارَاتِ الْفِسْقِ وَآلَاتِهِ تُسَوَّى وَتُهَيَّأُ فَيُنْكَرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مُعَاوَدَةِ مُنْكَرٍ أَوْ مِثْلِ مُنْكَرٍ. لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ ذَمٌّ لِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَرِ وَعَدَمِ تَنَاهِيهِمْ عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَعْجِيبٌ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ، مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ بِالْقَسَمِ، فَيَا حَسْرَتَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ بَابِ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ وَقِلَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ مَعَ مَا يَتْلُونِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ انْتَهَى. وَقَالَ حُذَّاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ النَّاهِي أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ، بَلْ يَنْهَى الْعُصَاةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: فَرْضٌ على الذين يتعاطون الكؤس أَنْ يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَتَنَاهَوْنَ وَفَعَلُوهُ، يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْفِعْلِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّنَاهِي. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَزَالُ الْعَذَابُ مَكْفُوفًا عَنِ الْعِبَادِ مَا اسْتَتَرُوا بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَإِذَا أَعْلَنُوهَا فَلَمْ يُنْكِرُوهَا اسْتَحَقُّوا عِقَابَ اللَّهِ تَعَالَى» . تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي: مِنْهُمْ، عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَثِيرًا مِنْهُمْ هُوَ مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَلَّوْنَ الْكُفَّارَ وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، وَالْمُرَادُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ اسْتَجْلَبُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرَّسُولِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَرَى بَصَرِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَسْلَافُهُمْ أَيْ: تَرَى الْآنَ إِذْ أَخْبَرْنَاكَ. وَقِيلَ: كَثِيرًا مِنْهُمْ مُنَافِقُو أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عُنِيَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ.

لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ، أَنَّهُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَبِئْسَ زَادُهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ سُخْطُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مُوجِبٌ سُخْطَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْإِعْرَابُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ، وَالْفَارِسِيِّ فِي أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَعَلَ فِي بِئْسَ ضَمِيرًا، وَجَعَلَ مَا تَمْيِيزًا بِمَعْنَى شَيْئًا، وَقَدَّمَتْ صِفَةُ التَّمْيِيزِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فَلَا يَسْتَوِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا عِنْدَهُ اسْمٌ تَامٌّ مَعْرِفَةٌ بِمَعْنَى الشَّيْءِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ لِلْمَخْصُوصِ الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: لبئس الشيء شيء قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا أَنْ سَخِطَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ مِنْ مَا انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَوْصُولَةً، أَمْ تَامَّةً، لِأَنَّ الْبَدَلَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَأَنْ سَخِطَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فاعلا لبئس، لِأَنَّ فَاعِلَ نِعْمَ وَبِئْسَ لَا يَكُونُ أَنْ وَالْفِعْلَ. وَقِيلَ: أَنْ سَخِطَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي قَدَّمَتْ، أَيْ: قَدَّمَتْهُ كَمَا تَقُولُ: الَّذِي ضَرَبْتَ زَيْدًا أَخُوكَ تُرِيدُ ضَرَبْتَهُ زَيْدًا. وَقِيلَ: عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ أَيْ: لِأَنْ سَخِطَ. وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ لَمَّا ذَكَرَ مَا قَدَّمُوا إِلَى الْآخِرَةِ زَادًا، وَذَمَّهُ بِأَبْلَغِ الذَّمِّ، ذَكَرَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ وَهُوَ الْعَذَابُ وَأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهِ، وَأَنَّهُ ثَمَرَةُ سُخْطِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ السُّخْطَ ثَمَرَةُ الْعِصْيَانِ. وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ «1» أسلافهم، فالنبي داود وعيسى أَوْ مُعَاصِرِي الرَّسُولِ، فَالنَّبِيُّ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا خَالِصًا غَيْرَ نِفَاقٍ، إِذْ مُوَالَاةُ الْكُفَّارِ دَلِيلٌ عَلَى النِّفَاقِ. وَالظَّاهِرُ فِي ضَمِيرِ كَانُوا وَضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي مَا اتَّخَذُوهُمْ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَفِي ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَوَلُّونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اتَّخَذَهُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ قَوْلِهِ كَثِيرًا مِنْهُمْ، فَعَوْدُ الضَّمَائِرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ أَوْلَى مِنِ اخْتِلَافِهَا. وَجَاءَ جَوَابُ لَوْ مَنْفِيًّا بِمَا بِغَيْرِ لَامٍ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَدُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ قَلِيلٌ نحو قوله:

_ (1) سورة المائدة: 5/ 80.

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 إلى 96]

لَوْ أَنَّ بِالْعِلْمِ تُعْطَى مَا تَعِيشُ بِهِ ... لَمَا ظَفِرْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِنَقْرُونِ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خَصَّ الْكَثِيرَ بِالْفِسْقِ، إِذْ فِيهِمْ قَلِيلٌ قَدْ آمَنَ. وَالْمُخْبَرُ عَنْهُمْ أَوَّلًا هُوَ الْكَثِيرُ، وَالضَّمَائِرُ بَعْدَهُ لَهُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ. وَلَكِنَّهُ لَمَّا طَالَ أُعِيدَ بِلَفْظِهِ، وَكَانَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ بِلَفْظِهِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، إِذْ كَانَ السِّيَاقُ يَكُونُ: مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ فَاسِقُونَ. فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ هَذَا الضمير. [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 96] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

الْقَسُّ بِفَتْحِ الْقَافِ تَتَبُّعُ الشَّيْءِ. قَالَ رُؤْبَةُ: أَصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الْأَذَى غَوَافِلَا ... يَمْشِينَ هَوْنًا حُرَّدًا بَهَالِلَا وَيُقَالُ قَسَّ الْأَثَرَ تَتَبَّعَهُ، وَقَصَّهُ أَيْضًا. وَالْقَسُّ: رَئِيسُ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَجَمْعُهُ قُسُوسٌ، سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ لِتَتَبُّعِهِ الْعِلْمَ وَالدِّينَ، وَكَذَلِكَ الْقِسِّيسُ فِعِّيلٌ كَالشِّرِّيبِ، وَجَمْعُ الْقِسِّيسِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَجُمِعَ أَيْضًا عَلَى قَسَاوِسَةٍ، قَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: لَوْ كَانَ مُنْقَلِبٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ ... يُحْيِيهُمُ اللَّهُ فِي أَيْدِيهِمُ الزُّبُرُ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِثْلُ مَهَالِبَةٍ، كَثُرَتِ السِّينَاتُ فَأَبْدَلُوا إِحْدَاهُنَّ وَاوًا، يعني أن قياسه قساسنة. وَزَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الْقَسَّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَالْقِسِّيسُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عُرِّبَ. الطَّمَعُ قَرِيبٌ مِنَ الرَّجَا، يُقَالُ مِنْهُ: طَمِعَ يَطْمَعُ طَمَعًا وَطَمَاعَةً وَطَمَاعِيَةً قَالَ الشَّاعِرُ: طَمَاعِيَةٌ أَنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرٌ وَاسْمُ الْفَاعِلِ طَمِعٌ.

الرِّجْسُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُسْتَقْذَرُ مِنْ عَمَلٍ، يُقَالُ: رَجَسَ الرَّجُلُ يَرْجُسُ رَجْسًا إِذَا عَمِلَ عَمَلًا قَبِيحًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّجْسِ، وَهُوَ شِدَّةُ الصَّوْتِ بِالرَّعْدِ قَالَ الرَّاجِزُ: مِنْ كُلِّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرِّجْسَا وَقَالَ ابْنُ دريد: الرجز الشر، والرجز الْعَذَابُ، وَالرَّكْسُ الْعَذِرَةُ وَالنَّتَنُ، وَالرِّجْسُ يُقَالُ لِلْأَمْرَيْنِ. الرُّمْحُ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَرْمَاحٌ، وَفِي الْكَثْرَةِ رِمَاحٌ، وَرَمَحَهُ: طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ، وَرَجُلٌ رَامِحٌ: أَيْ ذُو رُمْحٍ وَلَا فِعْلَ لَهُ مِنْ مَعْنَى ذِي رُمْحٍ، بَلْ هُوَ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَثَوْرٌ رَامِحٌ: لَهُ قَرْنَانِ، قَالَ ذو الرّمة: وكائن ذعرناه مِنْ مَهَاةٍ وَرَامِحٍ ... بِلَادُ الْوَرَى لَيْسَتْ لَهَا بِبِلَادِ وَالرَّمَّاحِ: الَّذِي يَتَّخِذُ الرُّمْحَ وَصَنْعَةَ الرِّمَاحَةِ. الْوَبَالُ: سُوءُ الْعَاقِبَةِ، وَمَرْعًى وَبِيلٌ: يُتَأَذَّى بِهِ بَعْدَ أَكْلِهِ. الْبَرُّ: خِلَافُ الْبَحْرِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً، يُقَالُ: جَلَسْتُ بَرًّا وَخَرَجْتُ بَرًّا، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ مِنْ كَلَامِ الْمُوَلَّدِينَ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ «إِنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ جَوَّانِيًّا وَبَرَّانِيًّا» كَنَّى بِذَلِكَ عَنِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ النَّسَبِ. لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا. قَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى، آمَنُوا بِالرَّسُولِ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قِيلَ هُوَ النَّجَاشِيُّ وَأَصْحَابُهُ تَلَا عَلَيْهِمْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ سُورَةَ مَرْيَمَ فَآمَنُوا وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، وَقِيلَ هُمْ وَفْدُ النَّجَاشِيِّ مَعَ جَعْفَرٍ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا سَبْعِينَ بَعَثَهُمْ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، اثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الشَّامِ، وَهُمْ بحير الرَّاهِبُ وَإِدْرِيسُ وَأَشْرَفُ وَثُمَامَةُ وَقُثَمُ وَدُرَيْدٌ وَأَيْمَنُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يس، فَبَكَوْا وَآمَنُوا وَقَالُوا: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنْ نَجْرَانَ، وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةً وَسِتِّينَ مِنَ الشَّامِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَظَاهِرُ الْيَهُودِ الْعُمُومُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مُرِّنُوا عَلَى تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَتْلِهِمْ وَعَلَى الْعُتُوِّ وَالْمَعَاصِي، وَاسْتِشْعَارِهِمُ اللَّعْنَةَ وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَتَحَرَّرَتْ عَدَاوَتُهُمْ وَكَيْدُهُمْ وَحَسَدُهُمْ وَخُبْثُهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا خَلَا يَهُودِيَّانِ بِمُسْلِمٍ إِلَّا هَمَّا بِقَتْلِهِ» وَفِي وَصْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ عَدَاوَةً إِشْعَارٌ بِصُعُوبَةِ إِجَابَتِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ قَلَّ إِسْلَامُ الْيَهُودِ. وَقِيلَ الْيَهُودَ هُنَا هُمْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ مالؤوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَعَطْفُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عَلَى الْيَهُودَ جَعَلَهُمْ تَبَعًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ كَانَ الْيَهُودُ أَشَدَّ فِي الْعَدَاوَةِ، إِذْ تَبَايَنُوا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ فِي الشَّرِيعَةِ لَا فِي الْجِنْسِ، إِذْ بَيْنَهُمْ وَشَائِجُ مُتَّصِلَةٌ مِنَ الْقَرَابَاتِ وَالْأَنْسَابِ الْقَرِيبَةِ فَتَعْطِفُهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ الرَّحِمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُمْ أَسْرَعُ لِلْإِيمَانِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعُطِفُوا هُنَا كَمَا عُطِفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا «1» وَاللَّامُ فِي لَتَجِدَنَّ هِيَ الْمُلْتَقَى بِهَا الْقَسَمُ الْمَحْذُوفُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَلَيْسَ بمرضيّ، والنَّاسِ هُنَا الْكُفَّارُ، أَيْ وَلَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الْكُفَّارِ عَدَاوَةً. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَيْ هُمْ أَلْيَنُ عَرِيكَةً وَأَقْرَبُ وُدًّا. وَلَمْ يَصِفْهُمْ بِالْوُدِّ إِنَّمَا جَعَلَهُمْ أَقْرَبَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ أُمَّةٌ لَهُمُ الْوَفَاءُ وَالْخِلَالُ الْأَرْبَعُ الَّتِي ذَكَرَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَيُعَظِّمُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنِ اسْتَشْعَرُوا مِنْهُ دِينًا وَإِيمَانًا، وَيُبْغِضُونَ أَهْلَ الْفِسْقِ، فَإِذَا سَالَمُوا فَسِلْمُهُمْ صَافٍ، وَإِذَا حَارَبُوا فَحَرْبُهُمْ مُدَافَعَةٌ، لِأَنَّ شَرْعَهُمْ لَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ، وَحِينَ غَلَبَ الرُّومُ فَارِسَ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَهْلِ عِبَادَةِ النَّارِ، وَلِإِهْلَاكِ الْعَدُوِّ الْأَكْبَرِ بِالْعَدُوِّ الْأَصْغَرِ إِذْ كَانَ مَخُوفًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالْيَهُود لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَخْلَاقِ النَّصَارَى، بَلْ شَأْنُهُمُ الْخُبْثُ وَاللَّيُّ بِالْأَلْسِنَةِ، وَفِي خِلَالِ إِحْسَانِكَ إِلَى الْيَهُودِيِّ يَتَرَقَّبُ مَا يَغْتَالُكَ بِهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «2» وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِحَقِيقَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، بَلْ ذَلِكَ قَوْلٌ مِنْهُمْ وَزَعْمٌ، وَتَعَلُّقٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْأَوَّلِ بِعَدَاوَةٍ وَالثَّانِي بِمَوَدَّةٍ. وَقِيلَ هُمَا فِي مَوْضِعِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 96. (2) سورة المائدة: 5/ 14.

النَّعْتِ وَوَصْفُ الْعَدَاوَةِ بِالْأَشَدِّ وَالْمَوَدَّةِ بِالْأَقْرَبِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَاوُتِ الْجِنْسَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَتِلْكَ الْعَدَاوَةُ أَشَدُّ الْعَدَاوَاتِ وَأَظْهَرُهَا، وَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ أَقْرَبُ وَأَسْهَلُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى أَصْلَحُ حَالًا مِنَ الْيَهُودِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً، وَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فَسَّرَ الْآيَةَ عَلَى مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ أَسْبَابِ مَوَدَّةٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ ذَمٌّ لَهُمْ، فَإِنَّ مَنْ كَثُرَتْ أَسْبَابُ مَوَدَّتِهِ كَانَ تَرْكُهُ لِلْمَوَدَّةِ أَفْحَشَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: مِنَ الْجُهَّالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْحًا لِلنَّصَارَى وَإَخْبَارًا بِأَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ صِفَةُ قَوْمٍ قَدْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مِنْ إِخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْنَةٍ صَحِيحَةٍ أَنْعَمَ فِي مَقَالَتَيِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ مَقَالَةَ النَّصَارَى أَقْبَحُ وَأَشَدُّ اسْتِحَالَةً وَأَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ تُقِرُّ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُشَبِّهَةٌ بِبَعْضِ مَا اعْتَقَدَتْهُ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ بِالتَّشْبِيهِ انْتَهَى كَلَامُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ المفسرون وغيره مِنْ أَنَّ النَّصَارَى عَلَى الْجُمْلَةِ أَصْلَحُ حَالًا مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ مَا فُضِّلَ بِهِ النَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ مِنْ كَرَمِ الْأَخْلَاقِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ سَرِيعًا، وَلَيْسَ الْكَلَامُ وَارِدًا بِسَبَبِ الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِسَبَبِ الِانْفِعَالِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ صِفَةُ قَوْمٍ قَدْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، بَلْ صَدْرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَنِ هذه الطائفة علماء وزهاد وَمُتَوَاضِعِينَ وَسَرِيعِي اسْتِجَابَةٍ لِلْإِسْلَامِ وَكَثِيرِي بُكَاءٍ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَالْيَهُودُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَالْوُجُودُ يُصَدِّقُ قُرْبَ النَّصَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبُعْدَ الْيَهُودِ. ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَدَّةِ عَلَيْهِ، أَيْ مِنْهُمْ عُلَمَاءُ وَعُبَّادٌ وَأَنَّهُمْ قَوْمٌ فِيهِمْ تَوَاضُعٌ وَاسْتِكَانَةٌ، وَلَيْسُوا مُسْتَكْبِرِينَ وَالْيَهُودُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ قَطُّ أَهْلُ دِيَارَاتٍ وَلَا صَوَامِعَ وَانْقِطَاعٍ عَنِ الدُّنْيَا، بَلْ هُمْ مُعَظِّمُونَ مُتَطَاوِلُونَ لِتَحْصِيلِهَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِآخِرَةٍ وَلِذَلِكَ لَا يُرَى فِيهِمْ زَاهِدٌ، وَالرُّهْبَانُ جَمْعُ رَاهِبٍ كَفَارِسٍ وَفُرْسَانٍ وَالرَّهْبُ وَالرَّهْبَةُ الْخَشْيَةُ. وَقِيلَ الرُّهْبَانُ مُفْرَدٌ كَسُلْطَانٍ وَأَنْشَدُوا:

لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دِيرٍ فِي الْقَلَلْ ... تَحَدَّرَ الرُّهْبَانُ تَمْشِي وَتَزَلْ وَيُرْوَى وَنَزَلْ، وَالْقِسِّيسُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ رَأْسُ الرُّهْبَانِ. وَقِيلَ: الْعَالِمُ. وَقِيلَ: رَافِعُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ. وَقِيلَ: الصِّدِّيقُ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلٌ عَلَى جَلَالَةِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَعَلَى حُسْنِ عَاقِبَةِ الِانْقِطَاعِ، وَأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ عَلَى التَّوَاضُعِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَعْظِيمِ الْمُوَحِّدِ إِذْ يَشْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ كُلِّ مُحْدَثٍ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ لِلْمُوجِدِ فَيَعْظُمُ عِنْدَ مُخْتَرِعِ الْأَشْيَاءِ الْبَارِئِ وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ هَذَا وَصْفٌ بِرِقَّةِ الْقُلُوبِ وَالتَّأَثُّرِ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا فَيَكُونُ عَامًّا، وَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ كَمَا جَرَى لِلنَّجَاشِيِّ حَيْثُ تَلَا عَلَيْهِ جَعْفَرٌ سُورَةَ مَرْيَمَ إِلَى قَوْلِهِ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ «1» وَسُورَةُ طه إِلَى قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «2» فَبَكَى وَكَذَلِكَ قَوْمُهُ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى الرَّسُولِ حِينَ قَرَأَ عَلَيْهَا يس فَبَكَوْا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: صَدْرُ الْآيَةِ عَامٌّ فِي النصارى وإِذا سَمِعُوا عَامٌّ فِي مَنْ آمَنَ مِنَ الْقَادِمِينَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ النَّصَارَى يَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ لِيَرَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْمَعُوا مَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، انْتَهَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا رَجَعُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ آمَنَ وَهَاجَرَ بِمَنْ مَعَهُ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ ، وتَرى مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَأَسْنَدَ الْفَيْضَ إِلَى الْأَعْيُنِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً لِلدُّمُوعِ كَمَا قَالَ: فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً إِقَامَةً لِلْمُسَبَّبِ مَقَامَ السَّبَبِ، لِأَنَّ الْفَيْضَ مُسَبَّبٌ عَنِ الِامْتِلَاءِ، فَالْأَصْلُ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَمْتَلِئُ مِنَ الدَّمْعِ حَتَّى تَفِيضَ، لِأَنَّ الْفَيْضَ عَلَى جَوَانِبِ الْإِنَاءِ نَاشِئٌ عَنِ امْتِلَائِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: قَوَارِضُ تَأْتِينِي وَيَحْتَقِرُونَهَا ... وَقَدْ يَمْلَأُ الْمَاءُ الْإِنَاءَ فَيَفْعُمُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْفَيْضَ إِلَى الْأَعْيُنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْبُكَاءِ لَمَّا كَانَتْ تفاض

_ (1) سورة مريم: 19/ 34. (2) سورة طه: 2/ 9.

فِيهَا جُعِلَتِ الْفَائِضَةُ بِأَنْفُسِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالْمُبَالَغَةِ، ومِنَ فِي مِنَ الدَّمْعِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ فَيْضُهَا مِنْ كَثْرَةِ الدُّمُوعِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ تَفِيضُ مَمْلُوءَةً مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، وَمَعْنَاهَا مِنْ أَجْلِ الَّذِي عَرَفُوهُ، ومِنَ الْحَقِّ حَالٌ مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي عَرَفُوا. وقيل: مِنَ في مِنَ الدَّمْعِ بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بِالدَّمْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الدَّمْعِ مِنْ أَجْلِ الْبُكَاءِ مِنْ قَوْلِكَ دَمَعَتْ عَيْنُهُ دَمْعًا. (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَرْقٍ بين من ومن فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ (قُلْتُ) : الْأَوَّلُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ عَلَى أَنَّ فَيْضَ الدَّمْعِ ابْتَدَأَ وَنَشَأَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَكَانَ مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ، وَالثَّانِيَةُ لِتَبْيِينِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَا عَرَفُوا، وَيُحْتَمَلُ مَعْنَى التَّبْعِيضِ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا بَعْضَ الْحَقِّ فَأَبْكَاهُمُ، انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا سَمِعُوا تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى خَبَرِ إِنَّهُمْ. وَقُرِئَ: تَرى أَعْيُنَهُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الْمُرَادُ بِآمَنَّا أَنْشَأْنَا الْإِيمَانَ الْخَاصَّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَالشَّاهِدُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا ذَلِكَ هُمْ شُهَدَاءُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «1» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا ذِكْرَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَوْ قِيلَ مَعْنَاهُ مَعَ الشَّاهِدِينَ بِتَوْحِيدِكَ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صَوَابًا. وَقِيلَ: مَعَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِينَ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالْكِتَابَةُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَثْبَتْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ كُتِبَ فُلَانٌ فِي الْجُنْدِ أَيْ ثَبَتَ، ويَقُولُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَلَمْ يُبَيِّنَا ذا الْحَالَ وَلَا الْعَامِلَ فِيهَا، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَعْيُنِهِمْ لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ رَفْعٍ وَلَا نَصْبٍ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُنْزِلُ الْخَبَرَ مَنْزِلَةَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلٌ خَطَأٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143.

مَنْهَجِ السَّالِكِ مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي عَرَفُوا لِأَنَّهَا تَكُونُ قَيْدًا فِي الْعِرْفَانِ وَهُمْ قَدْ عَرَفُوا الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي غَيْرِهَا، فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ الْتَبَسُوا بِهَذَا الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ بِقُلُوبِهِمْ وَنَطَقَتْ بِهِ وَأَقَرَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ. وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ هَذَا إِنْكَارٌ وَاسْتِبْعَادٌ لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِ وَهُوَ عِرْفَانُ الْحَقِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالتَّبْرِيزِيُّ: وَمُوجِبُ الْإِيمَانِ هُوَ الطَّمَعُ فِي دُخُولِهِمْ مَعَ الصَّالِحِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَالَمَةِ مَعَهَا لِدَفْعِ الْوَسَاوِسِ وَالْهَوَاجِسِ، إِذْ فِرَاقُ طَرِيقَةٍ وَسُلُوكُ أُخْرَى لَمْ يَنْشَأْ عَلَيْهَا مِمَّا يَصْعُبُ وَيَشُقُّ، أَوْ قَوْلُ بَعْضِ مَنْ آمَنَ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ التَّثَبُّتِ أَيْضًا، أَوْ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَاجَّةِ لِمَنْ عَارَضَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ولا موهم عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ، وَمَا يَصُدُّنَا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ لَاحَ لَنَا الصَّوَابُ وَظَهَرَ الْحَقُّ النَّيِّرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ولا موهم فأجابوهم بذلك ولا نُؤْمِنُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ وَفِي ذِكْرِهَا فَائِدَةُ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: هَلْ جَاءَ زَيْدٌ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا؟ وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَسْتَقِرُّ لَنَا وَيُجْعَلُ فِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ عَنَّا، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا رَبُّنَا وَنَطْمَعُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ لِمُخَالَفَتِهِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ سَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ الْأَحْسَنُ وَالْأَسْهَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ طَامِعُونَ فِي إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِهِمْ مَعَ الصَّالِحِينَ، فَالْوَاوُ عاطفة جملة على جملة، وَمَا لَنا لَا نُؤْمِنُ لَا عَاطِفَةٌ عَلَى نُؤْمِنُ أَوْ عَلَى لَا نُؤْمِنُ وَلَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاوُ فِي وَنَطْمَعُ وَاوُ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَعْنَى الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي لَا نُؤْمِنُ، وَلَكِنْ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ الْأُولَى لِأَنَّكَ لَوْ أَزَلْتَهَا وَقُلْتَ: وَمَا لَنَا نَطْمَعُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا، انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحَالَيْنِ الْعَامِلُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ مَا فِي اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَنَا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ طَامِعِينَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ

الْعَامِلُ حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ لَا بِحَرْفِ عَطْفٍ إِلَّا أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، وَذُو الْحَالِ هُنَا وَاحِدٌ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِلَامِ لَنَا، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا تَكُونُ الْوَاوُ دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ، وَلَا تَدْخُلُ وَاوُ الْحَالِ عَلَى الْمُضَارِعِ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَنَحْنُ نَطْمَعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَنَطْمَعُ حَالًا مِنْ لَا نُؤْمِنُ عَلَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ، وَيَطْمَعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَصْحَبُوا الصَّالِحِينَ، انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فِيهِ دُخُولَ وَاوِ الْحَالِ عَلَى الْمُضَارِعِ وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَا نُؤْمِنُ عَلَى مَعْنَى وَمَا لَنَا لَا نَجْمَعُ بَيْنَ التَّثْلِيثِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ أَوْ عَلَى مَعْنَى: وَمَا لَنَا لَا نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْمَعَ فِي صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ، انْتَهَى. وَيَظْهَرُ لِي وَجْهٌ غَيْرُ مَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى نُؤْمِنُ عَلَى أَنَّهُ مَنْفِيٌّ كَنَفْيِ نُؤْمِنُ، التَّقْدِيرُ: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ وَلَا نَطْمَعُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ إِنْكَارٌ لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ وَانْتِفَاءِ طَمَعِهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّيْئَيْنِ: الْإِيمَانُ وَالطَّمَعُ فِي الدُّخُولِ مع الصالحين ومَعَ عَلَى بَابِهَا مِنَ الْمَعِيَّةِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي وَالصَّالِحُونَ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَنْ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِثَابَةَ بِمَا ذُكِرَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْقَوْلِ الِاعْتِقَادُ وَيُبَيِّنَ أَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِهِ أَنَّهُ قَالَ: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ فَوَصَفَهُمْ بِالْمَعْرِفَةِ، فَدَلَّ عَلَى اقْتِرَانِ الْقَوْلِ بِالْعِلْمِ، وَقَالَ: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أُثِيبُوا لِقِيَامِ هَذَا الْوَصْفِ بِهِمْ، وَهُوَ رُتْبَةُ الْإِحْسَانِ، وَهِيَ الَّتِي فَسَّرَهَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» وَلَا إِخْلَاصَ وَلَا عِلْمَ أَرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ فَيَكُونُونَ قَدِ انْدَرَجُوا فِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِثَابَةَ لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَوْلِ اللَّفْظِيِّ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ بِمَا قَالُوا بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنِ اعْتِقَادٍ وَإِخْلَاصٍ مِنْ قَوْلِكَ: هَذَا قَوْلُ فُلَانٍ أَيِ اعْتِقَادُهُ وَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ انْتَهَى.

وَفَسَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِمْ: وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَنَى بِهِ قَوْلَهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ لِأَنَّهُ هُوَ الصَّرِيحُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِإِيمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْكَارٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِ، فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِثَابَةُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فَآتاهُمُ مِنَ الْإِيتَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ لَا مِنَ الْإِثَابَةِ، وَالْإِثَابَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْإِعْطَاءِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَنْ عَمَلٍ بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَنْ عَمَلٍ وَلِذَلِكَ جَاءَ أَخِيرًا وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْإِثَابَةَ هِيَ جَزَاءٌ، وَالْجَزَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَمَلٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ انْدَرَجَ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ لَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُؤْمِنِ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِهَا فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُلَخَّصُهَا إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ عَزَمُوا عَلَى التَّقَشُّفِ الْمُفْرِطِ وَالْعِبَادَةِ الْمُفْرِطَةِ الدَّائِمَةِ مِنَ الصِّيَامِ الدَّائِمِ وَتَرْكِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ وَاللَّحْمِ وَالْوَدَكِ وَالطَّيِّبِ وَلُبْسِ الْمُسُوحِ وَالسِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ وَجَبِّ الْمَذَاكِيرِ، فَنَهَاهُمُ الرَّسُولُ عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: حَرَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَشَاهُ لَيْلَةَ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ لِكَوْنِ امْرَأَتِهِ انْتَظَرَتْهُ وَلَمْ تُبَادِرْ إِلَى إِطْعَامِ ضَيْفِهِ، فَحَرَّمَتْهُ هِيَ إِنْ لَمْ يَذُقْهُ، فَحَرَّمَهُ الضَّيْفُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَرِّبِي طَعَامَكِ، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا جَمِيعًا وَأَخْبَرَ الرَّسُولَ بِذَلِكَ، فَقَالَ «أَحْسَنْتَ» . وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَ النَّصَارَى بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَعَادَتُهُمُ الِاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَمُسْتَلَذَّاتِهَا أَوْهَمَ ذَلِكَ تَرْغِيبَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ التَّقَشُّفِ وَالتَّبَتُّلِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِيهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآتِي النِّسَاءَ وَأَنَالُ الطَّيِّبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَاجَ وَالْفَالُوذَجَ وَكَانَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلُ وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْحَلَالِ وَمَعْنَى لَا تُحَرِّمُوهَا لَا تَمْنَعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا لِمَنْعِ التَّحْرِيمِ وَلَا تَقُولُوا حَرَّمْنَاهَا عَلَى أَنْفُسِنَا مُبَالَغَةً مِنْكُمْ فِي الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهَا تَزَهُّدًا مِنْكُمْ وَتَقَشُّفًا، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَبَبِ النُّزُولِ.

وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تُحَرِّمُوا مَا تُرِيدُونَ تَحْصِيلَهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ كَالْغَصْبِ وَالرِّبَا وَالسَّرِقَةِ، بَلْ تَوَصَّلُوا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مِنِ ابْتِيَاعٍ وَاتِّهَابٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقِيلَ: لَا تُحَرِّمُوا على نفسكم بِالْفَتْوَى. وَقِيلَ لَا تَلْتَزِمُوا تَحْرِيمَهَا بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ لِقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ «1» . وَقِيلَ: خَلْطُ الْمَغْصُوبِ بِالْمَمْلُوكِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ فَيَحْرُمُ الْجَمِيعُ وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ مَا كَانَ حَلَالًا وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ هَذَا نَهْيٌ عَنِ الِاعْتِدَاءِ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ وَلَا سِيَّمَا مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَا تُجَاوِزُوا مَا حُدَّ لكم من الحلا إِلَى الْحَرَامِ، وَاتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَلَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَإِبْرَاهِيمُ: لَا تَعْتَدُوا بِالْخَنَا وَتَحْرِيمِ النِّسَاءِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا: لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سِيرَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: هُوَ نَهْيٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ الله، فهو تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لَا تُحَرِّمُوا وَقِيلَ: وَلَا تَعْتَدُوا بِالْإِسْرَافِ فِي تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ كَقَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا «2» وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهَا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً «3» وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ تَأْكِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَزَادَهُ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يَحْمِلُ عَلَى التَّقْوَى فِي امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ. لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَمَعْنَى عَقَّدْتُمُ وَثَّقْتُمْ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عُمَرَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ بِتَخْفِيفِهَا، وَابْنُ ذَكْوَانَ بِأَلِفٍ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْقَافِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِمَا عَقَدَتِ الْأَيْمَانُ جَعَلَ الْفِعْلَ لِلْأَيْمَانِ فَالتَّشْدِيدُ إِمَّا لِلتَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمْعِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ نَحْوَ قَدَّرَ وَقَدَرَ، وَالتَّخْفِيفُ هُوَ الْأَصْلُ، وَبِالْأَلِفِ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ نَحْوَ جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ، وَقَاطَعْتُهُ وَقَطَعْتُهُ، أَيْ هَجَرْتُهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:

_ (1) سورة التحريم: 66/ 1. (2) سورة الأعراف: 7/ 31. (3) سورة البقرة: 2/ 163.

عَاقَدْتُمْ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ كَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، انْتَهَى، وَلَيْسَ مِثْلَهُ لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ طَرَقْتُ النَّعْلَ وَلَا عَقَبْتُ اللِّصَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهَذَا تَقُولُ فِيهِ عَاقَدْتُ الْيَمِينَ وَعَقَدْتُ الْيَمِينَ، وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: قَوْمٌ إِذَا عَاقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمْ فَجَعَلَهُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. قال أبو علي: والأحرى أَنْ يُرَادَ بِهِ فَاعَلْتُ الَّتِي تَقْتَضِي فَاعِلَيْنِ كَأَنَّ الْمَعْنَى بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ عَدَّاهُ بِعَلَى لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى عَاهَدَ، قَالَ: بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ كَمَا عَدَّى نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» بِإِلَى، وَبَابُهَا أَنْ تَقُولَ نَادَيْتُ زَيْدًا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ «2» لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى دَعَوْتُ إِلَى كَذَا قَالَ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ثُمَّ اتَّسَعَ فَحُذِفَ الْجَارُّ وَنُقِلَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَفْعُولِ، ثُمَّ الْمُضْمَرُ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ، إِذْ صَارَ بِمَا عَاقَدْتُمُوهُ الْأَيْمَانَ، كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «3» انْتَهَى، وَجَعْلُ عَاقَدَ لِاقْتِسَامِ الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ لَفْظًا والاشتراك فيهما معنى بَعِيدٌ إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى إِنْ الْيَمِينَ عَاقَدَتْهُ كَمَا عَاقَدَهَا إِذْ نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَقَدَهَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْيَمِينِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْقِدْهُ بَلْ هُوَ الَّذِي عَقَدَهَا. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ، ثُمَّ الضَّمِيرِ عَلَى التَّدْرِيجِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ أَيْضًا بِعِيدٌ، وَلَيْسَ تَنْظِيرُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ أَمَرَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ تَارَةً وَبِنَفْسِهِ تَارَةً إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْحَذْفَ تَقُولُ أَمَرْتُ زَيْدًا الْخَيْرَ، وَأَمَرْتُهُ بِالْخَيْرِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، بَلْ يَظْهُرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةً فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى عَائِدٍ، وَكَذَلِكَ هُنَا الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَيُقَوِّي ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهُ الْمُقَابَلَةُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ، لِأَنَّ اللَّغْوَ مَصْدَرٌ، فَالْأَوْلَى مُقَابَلَتُهُ بِالْمَصْدَرِ لَا بِالْمَوْصُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ إِذَا حَنَثْتُمْ، فَحُذِفَ وَقْتُ الْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَوْ بِنِكْثِ مَا عَقَّدْتُمْ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ انْتَهَى وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ بِاللَّهِ أَوْ بِأَسْمَائِهِ أو صفاته.

_ (1) سورة المائدة: 58/ 5. (2) سورة مريم: 19/ 52. (3) سورة الحجر: 15/ 94.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَمْ يَتِمَّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ، وَفِي بَعْضِ الصِّفَاتِ تَفْصِيلٌ. وَخِلَافٌ ذُكِرَ فِي الْفِقْهِ. فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ الْكَفَّارَةُ الْفِعْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكَفِّرَ الْخَطِيئَةَ أَيْ تَسْتُرُهَا، وَالضَّمِيرُ فِي فَكَفَّارَتُهُ عَائِدٌ عَلَى مَا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً اسْمِيَّةً، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ إِثْمُ الْحِنْثِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ صَرِيحٌ لَكِنْ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَمَسَاكِينُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا أَوْ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، والظاهر تعداد الْأَشْخَاصِ، فَلَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا لِكَفَّارَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وقال أبو حَنِيفَةَ يُجْزِئُ، وَتَعَرَّضَتِ الْآيَةُ لِجِنْسِ مَا يُطْعَمُ مِنْهُ وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِمِقْدَارِ مَا يُطْعَمُ كُلُّ وَاحِدٍ هَذَا الظَّاهِرُ، وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ هَذَا التَّوَسُّطَ هُوَ فِي الْقَدْرِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَرَأَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ فِي الصِّنْفِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْأَسْوَدُ وَعُبَيْدَةُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْوَجْهُ أَنْ يُطْعِمَ بِلَفْظِ الْوَسَطِ الْقَدْرِ وَالصِّنْفِ انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ الرَّسُولِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا الْإِطْعَامُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَقْتًا وَاحِدًا يَسُدُّ بِهِ الْجَوْعَةَ، فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَكَمُ وَالشَّافِعِيُّ: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْكَفَّارَةِ تَمْلِيكُ الطَّعَامِ لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ لَمْ يُجْزِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِدَامُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَوْسَطُ مَا يُطْعَمُ الْخُبْزُ وَالتَّمْرُ وَالْخُبْزُ وَالزَّبِيبُ وَخَيْرُ مَا نُطْعِمُ أَهْلِينَا الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ وَعَنْ غَيْرِهِ الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَأَحْسَنُهُ التَّمْرُ مَعَ الْخُبْزِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُجْزِئُ الْخُبْزُ قِفَارًا وَلَكِنْ بِإِدَامِ زَيْتٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ لَحْمٍ وَنَحْوِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَاعَى مَا يُطْعِمُ أَهْلِيهِ الَّذِينَ يَخْتَصُّونَ بِهِ، أَيْ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ كُلُّ شَخْصٍ شَخْصَ أَهْلِهِ، وَقِيلَ الْمُرَاعَى عَيْشُ الْبَلَدِ، فَالْمَعْنَى مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَيُّهَا النَّاسُ أَهْلِيكُمْ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ مَدِينَةٍ أَوْ صقع، ومِنْ أَوْسَطِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ ثَانٍ لِإِطْعَامِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ عَشَرَةِ مَساكِينَ أَيْ طَعَامًا مِنْ أَوْسَطِ وَالْعَائِدُ عَلَى

مَا مِنْ تُطْعِمُونَ فِي مَوْضِعِ مَحْذُوفٍ أَيْ تُطْعِمُونَهُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَهْلِيكُمْ وَجَمْعُ أَهْلِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ شَاذٌّ في القياس. وقرأ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ أَهَالِيكُمْ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَبِسُكُونِ الْيَاءِ ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: أَهَالٍ بِمَنْزِلَةِ ليال، واحدها أهلاة وليلاة، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَهْلٌ وَأَهْلَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَهْلَةِ وُدٍّ قَدْ سَرَيْتُ بِوُدِّهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْأَهَالِي اسْمُ جَمْعٍ لِأَهْلٍ كَاللَّيَالِي فِي جَمْعِ لَيْلَةٍ وَالْأَرَاضِي فِي جَمْعِ أَرْضٍ، وَأَمَّا تَسْكِينُ الْيَاءِ فِي أَهَالِيكُمْ فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الضَّرُورَةِ، وَقِيلَ فِي السَّعَةِ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: يُطِيعُ الْعَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لهدم شُبِّهَتِ الْيَاءُ بِالْأَلِفِ فَقُدِّرَتْ فِيهَا جَمِيعُ الْحَرَكَاتِ. أَوْ كِسْوَتُهُمْ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ إِطْعامُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُسْوَةً هِيَ مَصْدَرٌ وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ لِلثَّوْبِ الَّذِي يَسْتُرُ، وَلَمَّا لَمْ يُذْكَرْ مقدار ما يطعم له يذكر مقدار الكسوة وظاهره مُطْلَقِ الْكُسْوَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَلَنْسُوَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا تُجْزِئُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكُسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ إِزَارٌ وَقَمِيصٌ وَرِدَاءٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَوْ ثَوْبَانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. قَالَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْحَسَنُ: وَرَاعَى قَوْمٌ الزِّيَّ وَالْكُسْوَةَ الْمُتَعَارَفَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِعًا لِمَا قَدْ يُتَزَيَّنُ بِهِ كَالْكِسَاءِ وَالْمِلْحَفَةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَيْسَ الْقَمِيصُ وَالدِّرْعُ وَالْخِمَارُ ثَوْبًا جَامِعًا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ: تُجْزِئُ عِمَامَةٌ يَلُفُّ بِهَا رَأْسَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُجْزِئُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا التُّبَّانَ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَمَنْصُورٌ: الْكُسْوَةُ ثَوْبٌ قَمِيصٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ إِزَارٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُجْزِئُ الْعَبَاءَةُ أَوِ الشَّمْلَةُ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ: ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ إِزَارٌ وَقَمِيصٌ أَوْ كِسَاءٌ، وَهَلْ يُجْزِئُ إِعْطَاءُ كَسَاوِي عَشَرَةِ أَنْفُسٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِيهِ خِلَافٌ كَالْإِطْعَامِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِسْوَتُهُمْ بِضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ السميفع أَوْ كَأُسْوَتِهِمْ بِكَافِ الْجَرِّ عَلَى أُسْوَةٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَوْ مِثْلُ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ إِسْرَافًا كَانَ أَوْ تَقْتِيرًا لَا تَنْقُصُونَهُمْ عَنْ مِقْدَارِ نَفَقَتِهِمْ وَلَكِنْ تُسَاوُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَحَلُّ الْكَافِ؟ (قُلْتُ) الرَّفْعُ، قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ أَوْ كِسْوَتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ مِنْ أَوْسَطِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُهُ مِنْ أَوْسَطِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ ثَانٍ بِالْمَصْدَرِ

بَلِ انْقَضَى عِنْدَهُ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ثُمَّ أَضْمَرَ مُبْتَدَأً أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ يُبَيِّنُهُ مَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ طَعَامُهُمْ مِنْ أَوْسَطِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مِنْ أَوْسَطِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ تَكُونُ الْكَافُ فِي كِسْوَتُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ مِنْ أَوْسَطِ وَهُوَ عِنْدَنَا مَنْصُوبٌ، وَإِذَا فُسِّرَتْ كَأُسْوَتِهِمْ فِي الطَّعَامِ بَقِيَتِ الْآيَةُ عَارِيَةً مِنْ ذِكْرِ الْكُسْوَةِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَانِثَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَالْعِتْقِ وَهِيَ مُخَالَفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ كَأُسْوَتِهِمْ فِي الْكُسْوَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِخْرَاجُ قيمة الطعام والكسوة وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، ويجزئ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدِ الْمَسَاكِينَ بِوَصْفٍ فَيَجُوزُ صَرْفُ ذَلِكَ إِلَى الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يُجْزِئُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ دَفْعُ ذَلِكَ إِلَى الْمُرْتَدِّ. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تَسْمِيَةُ الْإِنْسَانِ رَقَبَةً تَسْمِيَةُ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ وَخُصُّ بِذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ غَالِبًا مَحَلٌّ لِلتَّوَثُّقِ وَالِاسْتِمْسَاكِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ رَأْسٌ، وَالتَّحْرِيرُ يَكُونُ بِالْإِخْرَاجِ عَنِ الرِّقِّ وَعَنِ الْأَسْرِ وَعَنِ الْمَشَقَّةِ وَعَنِ التَّعَبِ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ أَيْ حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهَجَا، وَالظَّاهِرُ حُصُولُ الْكَفَّارَةِ بِتَحْرِيرِ مَا يَصْدُرُ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَيْءٍ آخَرَ فَيُجْزِئُ عِتْقُ الْكُفَّارِ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَجَمَاعَةُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُ الْكَافِرُ وَمَنْ بِهِ نَقْصٌ يَسِيرٌ مِنْ ذَوِي الْعَاهَاتِ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ إِجْزَاءَ الكافر، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ كَافِرٌ وَلَا أَعْمًى وَلَا أَبْرَصُ وَلَا مَجْنُونٌ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَجَمَاعَةٌ: وَفَرَّقَ النَّخَعِيُّ فَأَجَازَ عِتْقَ مَنْ يَعْمَلُ أَشْغَالَهُ وَيَخْدِمُ وَمَنَعَ عِتْقَ مَنْ لَا يَعْمَلُ كَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَأَشَلِّ الْيَدَيْنِ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَيْ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدٌ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَالْعِتْقِ فَلَوْ كَانَ مَالُهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَوَجَدَ مَنْ يُسْلِفُهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الصَّوْمِ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُسْلِفُهُ فَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ انْتِظَارُ مَالِهِ مِنْ بَلَدِهِ وَيَصُومُ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ الْآنَ، وَقِيلَ يَنْتَظِرُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ وَعَنْ كُسْوَتِهِمْ بِقَدْرِ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُو فَهُوَ وَاجِدٌ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، وَقَالَ مَالِكٌ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْجُوعَ أَوْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَطْعَمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا قَدْرُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ صَامَ، وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا

كَانَ لَهُ دِرْهَمَانِ أَطْعَمَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَقَالَ آخَرُونَ جَائِزٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ به في معاشه أن يَصُومُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَطَاوُسٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَالنَّخَعِيُّ. أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْكُسْوَةَ، ثُمَّ الْإِطْعَامَ وَبَدَأَ اللَّهُ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ عَلَى الْحَالِ، وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا حَنِثَ الْعَبْدُ فَقَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَاءٌ وَلَكِنْ يُكَفِّرُ بِالصَّدَقَةِ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ، وَالصَّوْمُ أَصْوَبُ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَطْعَمَ أَوْ كَسَى بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ وَفِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ بمين، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مِقْدَارُ نِصَابٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِقْدَارُ زَكَاتِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: ثُلْثُ مَالِهِ وَلَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ رَاكِبًا وَلَوْ حَلَفَ بِالْعِتْقِ، فَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لَا الْعِتْقُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ وَمَنْ قَالَ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ فَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ الطَّلَاقَ لَازِمٌ لِمَنْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ. ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ وَاسْتَدَلَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْيَمِينِ. وَقِيلَ الْحِنْثُ وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ فَهُمْ يُقَدِّرُونَ مَحْذُوفًا أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ بَرُّوا فِيهَا وَلَا تَحْنَثُوا، أَرَادَ الْأَيْمَانَ الَّتِي الْحِنْثُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ اسْمُ جِنْسٍ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى بَعْضِ الْجِنْسِ وَعَلَى كُلِّهِ، وَقِيلَ احْفَظُوهَا بِأَنْ تُكَفِّرُوهَا، وَقِيلَ احْفَظُوهَا كَيْفَ حَلَفْتُمْ بِهَا وَلَا تَنْسَوْهَا تَهَاوُنًا بِهَا. كَذلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أَعْلَامَ شَرِيعَتِهِ وَأَحْكَامَهُ. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَتَهُ فِيمَا يُعْلِمُكُمْ وَيُسَهِّلُ عَلَيْكُمُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ شَرِبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فَتَفَاخَرُوا، فَقَالَ سَعْدٌ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ فَرَمَاهُ أَنْصَارِيٌّ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَفَزَرَ أَنْفَهُ، وَقِيلَ بِسَبَبِ قَوْلِ عُمَرَ اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، وَقِيلَ بِسَبَبِ قِصَّةِ حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ حِينَ عَقَرَ شَارِفَ عَلِيٍّ وَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي وَهِيَ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَقِيلَ كَانَ أَمْرُ الْخَمْرِ وَنُزُولُ الْآيَاتِ بِتَدْرِيجٍ، فنزل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «1» . وَقِيلَ بِسَبَبِ قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مُنْتَشِيًا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» عَلَى غَيْرِ مَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ عَرَضَ مَا عَرَضَ بِسَبَبِ شُرْبِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى تَحْرِيمِهَا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَمِلُوا وَعَرْبَدُوا فَلَمَّا صَحَوْا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ يَرَى أَثَرًا بِوَجْهِهِ وَبِجَسَدِهِ فَيَقُولُ: هَذَا فِعْلُ فُلَانٍ، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ ضَغَائِنُ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِأَكْلِ مَا رَزَقَهُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ لَهُمْ مِمَّا لَا إِثْمَ فِيهِ وَكَانَ الْمُسْتَطَابُ الْمُسْتَلَذُّ عِنْدَهُمُ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَكَانُوا يَقُولُونَ الْخَمْرُ تَطْرُدُ الْهُمُومَ وَتُنَشِّطُ النَّفْسَ وَتُشَجِّعُ الْجَبَانَ وَتَبْعَثُ عَلَى الْمَكَارِمِ، وَالْمَيْسِرُ يَحْصُلُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ وَلَذَّةُ الْغَلَبَةِ بَيَّنَ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ يُقَارِنُهَا مفاسد عظيمة في الْخَمْرِ إِذْهَابُ الْعَقْلِ وَإِتْلَافُ الْمَالِ وَلِذَلِكَ ذَمَّ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ إِتْلَافَ الْمَالِ بِهَا وَجَعَلَ تَرْكَ ذَلِكَ مَدْحًا فَقَالَ: أَخِي ثِقَةٍ لَا تُتْلِفُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ وَتَنْشَأُ عَنْهَا مَفَاسِدُ أُخَرُ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَشِدَّةِ الْبَغْضَاءِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ مَلَاكَ هَذِهِ كُلِّهَا الْعَقْلُ فَإِذَا ذَهَبَ الْعَقْلُ أَتَتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ، وَالْمَيْسِرُ فِيهِ أَخْذُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِي مُنِعُوا مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ شَهَوَاتٌ وَعَادَاتٌ، فَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَفِيهِ لَذَّةٌ وَغَلَبَةٌ، وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ الَّتِي يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا وَيَنْحَرُونَ فَحُكِمَ عَلَيْهَا بِالرِّجْسِ دَفْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى فِي قَلْبِ ضَعِيفِ الْإِيمَانِ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْأَنْصَابُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقُرِنَتِ الثَّلَاثَةُ بِهَا مُبَالَغَةً فِي أَنَّهُ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا كَمَا يَجِبُ اجْتِنَابُ الْأَصْنَامِ، وَأَمَّا الْأَزْلَامُ الَّتِي كَانَ الْأَكْثَرُونَ يَتَّخِذُونَهَا فِي أَحَدِهَا لَا وَفِي الْآخَرِ نَعَمْ، والآخر

_ (1) سورة النساء: 4/ 43. [.....] (2) سورة الكافرون: 1/ 109.

غُفْلٌ وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عِنْدَ الْكُهَّانِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عِنْدَ قُرَيْشٍ فِي الْكَعْبَةِ وَكَانَ فِيهَا أَحْكَامٌ لَهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الزَّجْرُ بِالطَّيْرِ وَبِالْوَحْشِ وَبِأَخْذِ الْفَأْلِ فِي الْكُتُبِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا يَصْنَعُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَقَدِ اجْتَمَعَتْ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْآيَةِ مِنْهَا التَّصْدِيرُ بِإِنَّمَا وَقِرَانُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِالْأَصْنَامِ إِذَا فَسَّرْنَا الْأَنْصَابَ بِهَا وَفِي الْحَدِيثِ «مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» وَالْإِخْبَارُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ رِجْسٌ وَقَالَ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الشَّرُّ الْبَحْتُ، وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِنَابِ وَتَرْجِيَةِ الْفَلَاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ بِاجْتِنَابِهِ فَالْخَيْبَةُ فِي ارْتِكَابِهِ، وَبُدِئَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ إِنَّمَا وَقَعَ بِهَا مِنَ الْفَسَادِ وَلِأَنَّهَا جِمَاعُ الْإِثْمِ. وَكَانَتْ خَمْرُ الْمَدِينَةِ حِينَ نُزُولِهَا الْغَالِبُ عَلَيْهَا كَوْنُهَا مِنَ الْعَسَلِ وَمِنَ التَّمْرِ وَمِنَ الزَّبِيبِ وَمِنَ الْحِنْطَةِ وَمِنَ الشَّعِيرِ وَكَانَتْ قَلِيلَةً مِنَ الْعِنَبِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ الَّتِي لَمْ تَمَسَّهَا نَارٌ وَلَا خَالَطَهَا شَيْءٌ وَالْأَكْثَرُ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا يُسْكِرُ قَلِيلُهُ وَيُسْكِرُ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ خَرَّجَ قَوْمٌ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مِنْ وَصْفِهَا بِرِجْسٍ، وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ فَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ رِجْسٍ حَرَامٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَالِاجْتِنَابُ أَنْ تَجْعَلَ الشَّيْءَ جَانِبًا وَنَاحِيَةً انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ الْمَعَاصِي، وَالْمُغْرِي بِهَا جُعِلَتْ مِنْ عَمَلِهِ وَفِعْلِهِ وَنُسِبَتْ إِلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَمَالِ تَقْبِيحِهِ كَمَا جَاءَ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «2» وَالضَّمِيرُ فِي فَاجْتَنِبُوهُ عَائِدٌ عَلَى الرِّجْسِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهِ مُتَنَاوِلًا لَهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) إِلَامَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوهُ (قُلْتُ) إِلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّمَا شَأْنُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَوْ تَعَاطِيهِمَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ انْتَهَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ بَلِ الْحُكْمُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَنْفُسِهَا أَنَّهَا رِجْسٌ أَبْلَغُ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمُضَافِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «3» . إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مَفْسَدَتَيْنِ

_ (1) سورة الحج: 22/ 30. (2) سورة القصص: 15/ 28. (3) سورة التوبة: 28/ 9.

إِحْدَاهُمَا دُنْيَوِيَّةٌ وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَإِنَّهَا تُثِيرُ الشرور والحقود وتؤول بِشَارِبِهَا إِلَى التَّقَاطُعِ وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي جَمَاعَةٍ يَقْصِدُونَ التَّآنُسَ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهَا وَالتَّوَدُّدَ وَالتَّحَبُّبَ فَتَعْكِسُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ وَيَصِيرُونَ إِلَى التَّبَاغُضِ لِأَنَّهَا مُزِيلَةٌ لِلْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَلَاكُ الْأَشْيَاءِ، قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ الَّذِي يَكْتُمُهُ بِالْعَقْلِ فَيَبُوحُ بِهِ عِنْدَ السُّكْرِ فَيُؤَدِّي إِلَى التَّلَفِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَرَى إِلَى سَعْدٍ وَحَمْزَةَ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ بَقِيٍّ، وَكَانَ فَقِيهًا عَالِمًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فِيمَا قَرَأْتُهُ عَلَى الْقَاضِي الْعَالِمِ أَبِي الْحَسَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِكَرَمِهِ: أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَرَاحٍ عَتِيقَةٍ ... أَرَادَ مُدِيرُوهَا بِهَا جَلْبَ الْأُنْسِ فَلَمَّا أَدَارُوهَا أَنَارَتْ حُقُودَهُمْ ... فَعَادَ الَّذِي رَامُوا مِنَ الْأُنْسِ بِالْعَكْسِ وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يُقَامِرُ حَتَّى يَبْقَى سَلِيبًا لَا شَيْءَ لَهُ، وَيَنْتَهِي مِنْ سُوءِ الصَّنِيعِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَامِرَ حَتَّى عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَيُؤَدِّي بِهِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ أَعْدَى عَدُوٍّ لِمَنْ قَمَرَهُ وَغَلَبَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَلَا يُمْكِنُ امْتِنَاعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ بعض الجاهلية: لو يسيرون بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا ... وَكُلُّ مَا يَسَرَ الْأَقْوَامُ مَغْرُومُ وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَالْخَمْرُ لِغَلَبَةِ السُّرُورِ بِهَا وَالطَّرَبِ عَلَى النُّفُوسِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْمَلَاذِ الْجِسْمَانِيَّةِ تُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَالْمَيْسِرُ إِنْ كَانَ غَالِبًا بِهِ انْشَرَحَتْ نَفْسُهُ وَمَنَعَهُ حُبُّ الْغَلَبِ وَالْقَهْرِ وَالْكَسْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا فَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الِانْقِبَاضِ وَالنَّدَمِ وَالِاحْتِيَالِ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ غَالِبًا لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ ذِكْرُ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَذْكُرُهُ إِلَّا قَلْبٌ تَفَرَّغَ لَهُ وَاشْتَغَلَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ وَالشَّطْرَنْجِ يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ اللَّجَاجِ وَالْحَلِفِ الْكَاذِبِ وَإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوْقَاتِهَا مَا يَرْبَأُ الْمُسْلِمُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ، هَذَا وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِغَيْرِ جَعْلِ شَيْءٍ لِمَنْ غَلَبَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا لَعِبُوا عَلَى شَيْءٍ فَأَخَذَهُ الْغَالِبُ وَأَفْرَدَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ هُنَا وَإِنْ كَانَا قَدْ جُمِعَا مَعَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ تَأْكِيدًا لِقُبْحِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَتَبْعِيدًا عَنْ تَعَاطِيهِمَا فَنَزَلَا فِي التَّرْكِ مَنْزِلَةَ مَا قَدْ تَرَكَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ وَالْعَدَاوَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ، وَعُطِفَ عَلَى هَذَا مَا هُوَ أَشَدُّ وَهُوَ الْبَغْضَاءُ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا الْقَلْبُ لِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ مَا هُوَ أَلْزَمُ وَأَوْجَبُ وَآكَدُ وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَفِيمَا يُنْتِجُهُ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى

تَحْرِيمِهَا، وَعَلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْمُسْلِمُ عَنْهُمَا وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَنْهَى عَنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْتِهَاءَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أَمْ بَاقُونَ عَلَى حَالِكُمْ مَعَ عِلْمِكُمْ بِتِلْكَ الْمَفَاسِدِ. وَجَعْلُ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَالْمُوَاجَهَةُ لَهُمْ بِأَنْتُمْ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِهَا فِعْلِيَّةً. وَقِيلَ هُوَ اسْتِفْهَامٌ يَضْمَنُ مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ فَانْتَهُوا وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ جَمَاعَةً كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ انْتَهَيْنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ نَنْتَهِ فَلَمَّا نَزَلَ قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ «1» حُرِّمَتْ لِأَنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ لِلْخَمْرِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا، وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ هَذَا اسْتِفْهَامُ ذَمٍّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيِ انْتَهُوا مَعْنَاهُ اتْرُكُوا وَانْتَقِلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُوَظَّفِ عَلَيْكُمُ انْتَهَى. وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ مِنَ الذَّمِّ أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى مَفَاسِدَ تَتَوَلَّدُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يَقْضِي الْعَقْلُ بِتَرْكِهِمَا مِنْ أَجْلِهَا لَوْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَشْرَبُوا الْخَمْرَ صَوْنًا لِعُقُولِهِمْ عَمَّا يُفْسِدُهَا وَكَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا هَذَا أَمْرٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَمَرَ بِالْحَذَرِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَنَاسَبَ الْعَطْفُ فِي وَأَطِيعُوا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إِذْ تَضَمَّنَ هَذَا مَعْنَى الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَانْتَهُوا. وَقِيلَ الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ هَذَا مَخْصُوصٌ أَيْ أَطِيعُوا فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ مَا أُمِرْتُمْ بِاجْتِنَابِهِ وَاحْذَرُوا مَا عَلَيْكُمْ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَكُرِّرَ وَأَطِيعُوا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ الْأَمْرُ هُنَا بَلْ أُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ دَائِمًا حَذِرِينَ خَاشِينَ لِأَنَّ الْحَذَرَ مَدْعَاةٌ إِلَى عَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَاتِّقَاءِ السَّيِّئَاتِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَ أَحْكَامَ اللَّهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَلْقُ الطَّاعَةِ فِيكُمْ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ تَوَلِّيكُمْ شَيْءٌ بَلْ ذَلِكَ لَاحِقٌ بِكُمْ وَفِي هَذَا مِنَ الْوَعِيدِ الْبَالِغِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ إِذْ تَضَمَّنَ أَنَّ عِقَابَكُمْ إِنَّمَا يَتَوَلَّاهُ الْمُرْسِلُ لَا الرَّسُولُ وَمَا كُلِّفَ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِكُمْ غَيْرَ تَبْلِيغِكُمْ، وَوَصْفُ الْبَلَاغِ بِالْمُبِينِ إِمَّا لِأَنَّهُ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ وَإِمَّا لِأَنَّهُ مُبَيِّنٌ لَكُمْ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفَهُ بِحَيْثُ لَا يعتريها

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 33.

شُبْهَةٌ بَلْ هِيَ وَاضِحَةٌ نَيِّرَةٌ جَلِيَّةٌ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَقَدْ حَلَفَ عُمَرُ فِيهَا وَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا شَرِبُوهَا بِالشَّامِ وَقَالُوا هِيَ حَلَالٌ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ عَلِيٍّ عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا حَلَّهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا نَجِسَةُ الْعَيْنِ لِتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا، وَالرِّجْسُ النَّجِسُ الْمُسْتَقْذَرُ، وَذَهَبَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَالْمُزَنِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ الْمُسْكِرُ مِنْهَا مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَمْ لَا. لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ وَأَنَسٌ لَمَّا نَزَلْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ قَوْمٌ كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبُهَا وَيَأْكُلُ الْمَيْسِرَ فَنَزَلَتْ فَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّ الذَّمَّ وَالْجُنَاحَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَيْسُوا بِعَاصِينَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ. وَقِيلَ هِيَ عَامَّةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِيمَا طَعِمَ مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ إِذَا مَا اتَّقَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْهَا وَقَضِيَّةُ مَنْ شَرِبَهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ مِنْ صُوَرِ الْعُمُومِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِآيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ حِينَ سَأَلُوا عَمَّنْ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى، فَنَزَلَتْ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» وفِيما طَعِمُوا قِيلَ مِنَ الْخَمْرِ وَالطَّعْمُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَأْكُولَاتِ مَجَازٌ فِي الْمَشْرُوبِ وَفِي الْيَوْمِ قِيلَ مِمَّا أَكَلُوهُ مِنَ الْقِمَارِ فَيَكُونُ فِيهِ حَقِيقَةً، وَقِيلَ مِنْهُمَا وَعَنَى بِالطَّعْمِ الذَّوْقَ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَكُرِّرَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا يُنَافِي التَّأْكِيدُ الْعَطْفَ بِثُمَّ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «2» وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَبَايُنِ هَذِهِ الْجُمَلِ بِحَسَبِ مَا قَدَّرُوا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَفْعَالِ فَالْمَعْنَى إِذَا مَا اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَآمَنُوا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ وعملوا الصالحات ثم اتقوا ثَبَتُوا وَدَامُوا عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا انْتَهَوْا فِي التَّقْوَى إِلَى امْتِثَالِ مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ من النوافل في الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِحْسَانُ. وَإِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ إِذا مَا اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَآمَنُوا وَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَازْدَادُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثَبَتُوا عَلَى التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ثَبَتُوا عَلَى اتِّقَاءِ الْمَعَاصِي وَأَحْسَنُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَحْسَنُوا إِلَى النَّاسِ وَاسَوْهُمْ بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ انْتَهَى. وَقِيلَ الرُّتْبَةُ الْأُولَى لِمَاضِي الزَّمَانِ وَالثَّانِيَةُ لِلْحَالِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143. (2) سورة التكاثر: 102/ 3- 4.

وَالثَّالِثَةُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَقِيلَ الِاتِّقَاءُ الْأَوَّلُ هُوَ فِي الشِّرْكِ وَالْتِزَامُ الشَّرْعِ وَالثَّانِي فِي الْكَبَائِرِ وَالثَّالِثُ فِي الصَّغَائِرِ، وَقِيلَ غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا إِشْعَارَ لِلَّفْظِ بِهِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ ثَنَاءٌ عَلَى أُولَئِكَ، الَّذِينَ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَحَمْدٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ إِذْ كَانَتِ الْخَمْرُ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إِذْ ذَاكَ فَالْإِثْمُ مَرْفُوعٌ عَمَّنِ الْتَبَسَ بِالْمُبَاحِ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا مُتَّقِيًا محسنا وإن كان يؤول ذَلِكَ الْمُبَاحُ إِلَى التَّحْرِيمِ فَتَحْرِيمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِي الْمُحْسِنَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْإِحْسَانِ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَسَرَّهُ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُتَعَدَّى تَفْسِيرُهُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ نَزَلَتْ عام الحديبية وأقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّنْعِيمِ فَكَانَ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَقِيلَ كَانَ بَعْضُهُمْ أَحْرَمَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُحْرِمْ فَإِذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاشْتَبَهَتِ الْأَحْكَامُ، وَقِيلَ قَتَلَ أَبُو الْيُسْرِ حِمَارَ وَحْشٍ بِرُمْحِهِ فَقِيلَ قَتَلْتَ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُحَرِّمُوا الطَّيِّبَاتِ وَأَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَهُمَا حَرَامَانِ دَائِمًا، أَخْرَجَ بَعْدَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا حُرِّمَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَهُوَ الصَّيْدُ وَكَانَ الصَّيْدُ مِمَّا تَعِيشُ بِهِ الْعَرَبُ وَتَتَلَذَّذُ بِاقْتِنَاصِهِ وَلَهُمْ فِيهِ الْأَشْعَارُ وَالْأَوْصَافُ الْحَسَنَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَامٌّ لِلْمُحِلِّ وَالْمُحْرِمِ لَكِنْ لَا يَتَحَقَّقُ الِابْتِلَاءُ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ أَوِ الْحُرُمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ لِلْمُحْرِمِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ لِلْمُحِلِّينَ وَالْمَعْنَى لَيَخْتَبِرَنَّكُمُ اللَّهُ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مَعَ الْإِحْرَامِ أَوِ الْحَرَمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ يَقْتَضِي تَقْلِيلًا، وَقِيلَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ كَالِابْتِلَاءِ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بَلْ هُوَ تَشْبِيهٌ بِمَا ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ أَيْلَةَ مِنْ صَيْدِ السَّمَكِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَصْبِرُونَ عِنْدَ هَذَا الِابْتِلَاءِ فَكَيْفَ يَصْبِرُونَ عِنْدَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ وَمِنْ فِي مِنَ الصَّيْدِ لِلتَّبْعِيضِ فِي حَالِ الْحُرْمَةِ إِذْ قَدْ يَزُولُ الْإِحْرَامُ وَيُفَارِقُ الْحَرَمَ فَصَيْدُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَعْضُ الصَّيْدِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ قَالَ لَأَمْتَحِنَنَّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» وَالْمُرَادُ بِالصَّيْدِ الْمَأْكُولُ لِأَنَّ الصَّيْدَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ. قَالَ الشَّاعِرُ: صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبُ وَثَعَالِبُ ... وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الْأَبْطَالُ

_ (1) سورة الحج: 22/ 30.

وَقَالَ زُهَيْرٌ: لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إِذَا مَا ... كَذَّبَ اللَّيْثُ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ لَيْثًا أَوْ ذِئْبًا ضَارِيًا أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ أَيْ بَعْضٌ مِنْهُ يُتَنَاوَلُ بِالْأَيْدِي لِقُرْبِ غِشْيَانِهِ حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنْهُ الْيَدُ وَبَعْضٌ بِالرِّمَاحِ لِبُعْدِهِ وَتَفَرُّقِهِ فَلَا يُوَصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالرُّمْحِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْدِيكُمْ فِرَاخُ الطَّيْرِ وَصِغَارُ الْوَحْشِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْأَيْدِي الْفِرَاخُ وَالْبَيْضُ وَمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفِرَّ وَالرِّمَاحُ تَنَالُ كِبَارَ الصَّيْدِ، قِيلَ وَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْمُتَوَحِّشِ الْمُمْتَنِعِ دُونَ مَا لَا يَمْتَنِعُ انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْبَيْضِ صَيْدٌ وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بما يؤول إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ تَصَرُّفًا فِي الِاصْطِيَادِ وَفِيهَا تَدَخُّلُ الْجَوَارِحِ وَالْحِبَالَاتِ وَمَا عُمِلَ بِالْيَدِ مِنْ فِخَاخٍ وَشِبَاكٍ وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يُجْرَحُ بِهِ الصَّيْدُ وَفِيهَا يَدْخُلُ السَّهْمُ وَنَحْوُهُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُثِيرَ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ وَلَا رُمْحُهُ بَعْدُ شَيْئًا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ يَنَالُهُ بِالْيَاءِ مَنْقُوطَةٍ مِنْ أَسْفَلَ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَنالُهُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ بِشَيْءٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ إِذْ قَدْ وَصَفَ وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الصَّيْدِ. لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ لَيَبْلُوَنَّكُمُ وَمَعْنَى لِيَعْلَمَ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَخَافُ عِقَابَهُ تَعَالَى وَهُوَ غَائِبٌ مُنْتَظَرٌ فِي الْآخِرَةِ فَيَبْقَى الصَّيْدُ مِمَّنْ لَا يَخَافُهُ فَيُقْدِمَ عَلَيْهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عطية لِيَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ إِذْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْأَزَلِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمًا وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ أَيْ فِي السِّرِّ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَالْخَائِفُ لَا يَصِيدُ وَغَيْرُ الْخَائِفِ يَصِيدُ، وَقِيلَ يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَعْلَمَ، وَقِيلَ لِيَظْهَرَ الْمَعْلُومُ وَهُوَ خَوْفُ الْخَائِفِ وَبِالْغَيْبِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَائِفَ غَائِبٌ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِثْلُهُ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ «1» ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ «2» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنه يراك» .

_ (1) سورة ق: 50/ 33. (2) سورة الأنبياء: 21/ 49.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ مَعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَيْثُ لَا يَرَى الْعَبْدُ رَبَّهُ فَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى بِالْغَيْبِ مِنَ النَّاسِ أَيْ فِي الْخَلْوَةِ مَنْ خَافَ اللَّهَ انْتَهَى. عَنِ الصَّيْدِ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ أَعْلَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْ لِيُعْلِمَ عِبَادَهُ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ أَعْلَمَ الْمَنْقُولَةِ مِنْ عَلَّمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى وَاحِدٍ تَعَدِّي عَرَفَ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ عِبَادُهُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَهُوَ مَنْ يَخافُهُ. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ الْمَعْنَى فَمَنِ اعْتَدَى بِالْمُخَالَفَةِ فَصَادَ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّهْيِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَتَقْدِيرُهُ فَلَا يَصِيدُوا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ. فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ قِيلَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُوسَعُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ جَلْدًا وَيُسْلَبُ ثِيَابُهُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الَّذِينَ آمَنُوا عَامٌّ وَصَرَّحَ هُنَا بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ حُرُمًا وَالْحُرُمُ جَمْعُ حَرَامٍ وَالْحَرَامُ الْمُحَرَّمُ وَالْكَائِنُ بِالْحَرَمِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ وَالْكَائِنِ بِالْحَرَمِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَمَنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ الْمَعْنَى يُحْرِمُونَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ فِي الْحَرَمِ وَالظَّاهِرُ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَتَكُونُ الْآيَةُ قَبْلَ هَذِهِ دَلَّتْ بِمَعْنَاهَا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الِاصْطِيَادِ فَيُسْتَفَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ النَّهْيُ عَنِ الِاصْطِيَادِ وَالنَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الصَّيْدِ وَقَدْ خُصَّ هَذَا الْعُمُومُ بِصَيْدِ الْبَرِّ لِقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ وَبِالسُّنَّةِ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» فَاقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَاسَ مَالِكٌ عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ كُلَّ مَا كَلَبَ عَلَى النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ وَرَآهُ دَاخِلًا فِي لَفْظِهِ مِنْ أَسَدٍ وَنَمِرٍ وَفَهِدٍ وَذِئْبٍ وَكُلَّ سَبُعٍ عَادٍ فَقَالَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهَا مُبْتَدِئًا بِهَا لَا هِزَبْرٍ وَثَعْلَبٍ وَضَبُعٍ فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ لَا يَقْتُلُ مِنَ السِّبَاعِ إِلَّا مَا عَدَا عَلَيْهِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِنْ بَدَأَهُ السَّبُعُ قَتَلَهُ وَلَا فِدْيَةَ وَإِنِ ابْتَدَأَهُ الْمُحْرِمُ فَقَتَلَهُ فَدَى. وَقَالَ مَالِكٌ فِي فِرَاخِ السِّبَاعِ قَبْلَ أَنْ تَفْتَرِسَ لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ قتلها، وثبت عن عمر أَمْرُهُ الْمُحْرِمِينَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى إِبَاحَةِ قتلها وثبت عن عمر إِبَاحَةُ قَتْلِ الزُّنْبُورِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْرَبِ وَذَوَاتُ السُّمُومِ فِي حُكْمِ الْحَيَّةِ كَالْأَفْعَى وَالرُّتَيْلَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ

وَجَمَاعَةٍ أَنَّ الصَّيْدَ هُوَ مَا تَوَحَّشَ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ سَبُعًا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ضَمِنَ وَلَا يُجَاوِزُ قِيمَةَ شَاةٍ، وَقَالَ زُفَرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَقَالَ قَوْمٌ الصَّيْدُ هُوَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُبِ الضَّمَانُ فِي قَتْلِ السَّبُعِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا فِي قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ وَلَا الذِّئْبِ وَإِذَا كان الصيد مما يحل أَكْلُهُ فَقَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَلَوْ بِالذَّبْحِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُذَكًّى فَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَسَنِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ذَكَّاهُ، وَقَالَ الْحَكَمُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَسُفْيَانُ يَحِلُّ لِلْحَلَالِ أَكْلُهُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَسَنِ. وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ الظَّاهِرُ تَقْيِيدُ الْقَتْلِ بِالْعَمْدِ فَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ فَقَتَلَ خَطَأً بِأَنْ كَانَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ رَمَاهُ ظَانًّا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ أَوْ عَدَلَ سَهْمَهُ الَّذِي رَمَاهُ لِغَيْرِ صَيْدٍ فَأَصَابَ صَيْدًا فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَسَالِمٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَالطَّبَرِيُّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا أَسْنَدَهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ إِنَّمَا التَّكْفِيرُ فِي الْعَمْدِ وَإِنَّمَا غَلَّظُوا فِي الْخَطَأِ لِئَلَّا يَعُودُوا، وَقِيلَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ، وَقِيلَ ذَكَرَ التَّعَمُّدَ لِأَنَّ مَوْرِدَ الْآيَةِ فِي مَنْ تَعَمَّدَ لِقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ إِذْ قَتَلَ الْحِمَارَ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ أَنَّ الْخَطَأَ بِنِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالْعَمْدِ وَالْعَمْدُ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ قَاصِدًا لِلْقَتْلِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وابن عباس وطاوس والحسن وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ جَزَاءُ الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَنِعِمَّا هِيَ وَأَحْسِنْ بِهَا أُسْوَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَعْنَاهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَهَذَا أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَ وَقَدْ حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ فَبَطَلَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا، قَالَ وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَحَجُّهُ تَامٌّ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ فَجَزاءٌ بِالتَّنْوِينِ مِثْلُ بِالرَّفْعِ فَارْتِفَاعُ جَزَاءٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ الْخَبَرُ تَقْدِيرُهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَمِثْلُ صِفَةٌ أَيْ فَجَزَاءٌ يُمَاثِلُ مَا قَتَلَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ أَوْ عَلَى الصَّيْدِ وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ يَرْتَفِعُ فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ فَجَزاءٌ مِثْلُ بِرَفْعِ جَزَاءٍ وَإِضَافَتِهِ إِلَى مِثْلٍ، فَقِيلَ مِثْلٌ كَأَنَّهَا مُقْحَمَةٌ كَمَا تَقُولُ مِثْلُكَ مَنْ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ أَنْتَ تَفْعَلُ كَذَا فَالتَّقْدِيرُ فَجَزَاءُ مَا قَتَلَ،

وَقِيلَ ذَلِكَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ فَجَزاءٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ مِثْلُ مَا قَتَلَ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ بِنَصْبِ جَزَاءٍ وَمِثْلٍ وَالتَّقْدِيرُ فَلْيُخْرِجْ جَزَاءً مِثْلَ مَا قتل ومثل صفة لجزاء. وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِنَ النَّعَمِ سَكَّنَ الْعَيْنَ تَخْفِيفًا كَمَا قَالُوا الشَّعْرَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هِيَ لغة ومِنَ النَّعَمِ صِفَةٌ لِجَزَاءٍ سَوَاءٌ رفع فَجَزاءٌ ومِثْلُ أو أضيف فجزاء إِلَى مِثْلِ أَيْ كَائِنٌ مِنَ النَّعَمِ وَيَجُوزُ فِي وَجْهِ الْإِضَافَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنَ النَّعَمِ بِجَزَاءٍ إِلَّا فِي وَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ جَزَاءُ مَصْدَرٌ مَوْصُوفٌ فَلَا يَعْمَلُ. وَوَهِمَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي تَجْوِيزِهِ أَنْ يَكُونَ من النعم حالا حل الضَّمِيرِ فِي قَتَلَ يَعْنِي مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمَحْذُوفِ فِي قَتَلَ الْعَائِدِ، عَلَى مَا قَالَ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ يَكُونُ مِنَ النَّعَمِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي هُوَ مِنَ النَّعَمِ هُوَ مَا يَكُونُ جَزَاءً لَا الَّذِي يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ، وَلِأَنَّ النَّعَمَ لَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ الصَّيْدِ وَالظَّاهِرُ فِي الْمِثْلِيَّةِ أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ وَالصِّغَرِ وَالْعِظَمِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَتَفَاصِيلُ مَا يُقَابِلُ كُلَّ مَقْتُولٍ مِنَ الصَّيْدِ قَدْ طَوَّلَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَفْظُ الْقُرْآنِ لَهَا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ هِيَ فِي الْقِيمَةِ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ طَعَامًا مِنَ الْأَنْعَامِ ثُمَّ يَهْدِي وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ مُجَاهِدٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى طَعَامًا فَأَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا. وَقَالَ قَوْمٌ الْمِثْلِيَّةُ فِيمَا وُجِدَ لَهُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مِثْلٌ فَالْمِثْلِيَّةُ فِي الْقِيمَةِ وَقَدْ تَعَصَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَفْظُ الْآيَةِ يَنْبُو عَنْ مَذْهَبِهِ إِذْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ أَنْ يُجْزِئَ هَدْيًا مِنَ النَّعَمِ مِثْلَ مَا قَتَلَ وَأَنْ يُكَفِّرَ بِطَعَامِ مَسَاكِينَ وَأَنْ يَصُومَ عَدْلَ الصِّيَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقَتْلِ لَا فِي أَخْذِ الصَّيْدِ وَلَا فِي جِنْسِهِ وَلَا فِي أَكْلِهِ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ وَخِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ إِذْ قَالَ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ يَعْنِي قِيمَتَهُ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ مِنْهُ، وَلَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَشْهَبَ إِذْ قَالَا يَضْمَنُ الدَّالُّ الْجَزَاءَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ وَلَا فِي جَرْحِهِ وَنَقْصِ قِيمَتِهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ مَثَلًا الْعُشْرُ فَعَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ، وَقَالَ دَاوُدُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ مُحْرِمُونَ فِي صَيْدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ إِلَّا جَزَاءٌ

وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ الْقَتْلُ إِلَى كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَأَمَّا الْمَقْتُولُ فَهُوَ وَاحِدٌ يَجِبُ أَنْ يكون المثل واحد، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا حُمِلَ قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ عَلَى مَعْنَيَيْهِ وَهُمَا مُحْرِمُونَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَمُحْرِمُونَ بِمَعْنَى دَاخِلِينَ الْحَرَمَ وَإِنْ كَانُوا مُحِلِّينَ، أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ سِنٌّ فَيُجْزِئُ الْجَفْرُ وَالْعَنَاقُ عَلَى قَدْرِ الصَّيْدِ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَهْدِيَ إِلَّا مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ الْقِرَانِ وَالظَّاهِرُ مِنْ تَقْيِيدِ الْمَنْهِيِّينَ عَنِ الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَنَّهُ لَوْ صَادَ الْحَلَالُ بِالْحِلِّ ثُمَّ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ فَلَا ضَمَانَ وَهُوَ حَلَالٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَيْ يَحْكُمُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُخَيِّرَ الْحَكَمَانِ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ كَمَا خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي أَنْ يُخْرِجَ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما، فَإِنِ اخْتَارَ الْهَدْيَ حَكَمَا عَلَيْهِ بِمَا يَرَيَانِهِ نَظَرًا لِمَا أَصَابَ وَأَدْنَى الْهَدْيِ شَاةٌ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ شَاةً حَكَمَا فِيهِ بِالطَّعَامِ ثُمَّ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِهِ عَدْلَانِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ اسْتَدْعَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَحَكَمَا فِي ظَبْيٍ بِشَاةٍ وَفَعَلَ ذَلِكَ جَرِيرٌ وَابْنُ عُمَرَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدْلَيْنِ ذَكَرَانِ فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ امْرَأَتَانِ عَدْلَتَانِ، وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ عَلَى التَّوْحِيدِ أَيْ يَحْكُمُ بِهِ مَنْ يَعْدِلُ مِنْكُمْ وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْوَحْدَةَ، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَحْكُمَانِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِاجْتِهَادِهِمَا وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِمَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ وَحَكَمَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ بِحُكْمٍ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِهِمَا فَيَنْظُرَانِ إِلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَقْرَبَ شَبَهًا بِهِ يُوجِبَانِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا قَاتِلَ الصَّيْدِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا أَوْ عَمْدًا فَلَا لِأَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ تَعْيِينَ الْمِثْلِ إِلَى اجْتِهَادِ النَّاسِ وَظُنُونِهِمْ. وَجَوَّزُوا فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ هَدْياً أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ فَجَزاءٌ فِيمَنْ وَصَفَهُ بِمِثْلٍ لِأَنَّ الصِّفَةَ خَصَّصَتْهُ فَقَرُبَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مِثْلَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ

نَصَبَ مِثْلًا أَوْ مِنْ مَحَلِّهِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ خَفَضَهُ وَأَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ بِهِ وَمَعْنَى بالِغَ الْكَعْبَةِ أَنْ يَنْحَرَ بِالْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَرَمِ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ هَدْياً بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ يَحْكُمُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَجَزاءٌ أَيْ حَاكِمٌ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ وَفِي قَوْلِهِ مِنْكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ الْكَعْبَةَ لِأَنَّهَا أم الحرام قَالُوا وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَنْحَرٌ لِهَذَا الْهَدْيِ فَمَا وُقِفَ به يعرفه مِنْ هَدْيِ الْجَزَاءِ يُنْحَرُ بِمِنًى وَمَا لَمْ يُوقَفْ بِهِ فَيُنْحَرُ بِمَكَّةَ وَفِي سَائِرِ بِقَاعِ الْحَرَمِ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ مِنَ الْحِلِّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ حَتَّى يَكُونَ بَالِغًا الْكَعْبَةَ. أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ قَرَأَ الصَّاحِبَانِ بِالْإِضَافَةِ وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ إِذِ الْكَفَّارَةُ تَكُونُ كَفَّارَةَ هَدْيٍ وَكَفَّارَةَ طَعَامٍ وَكَفَّارَةَ صِيَامٍ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ الْفَارِسِيِّ وَلَمْ يُضِفِ الْكَفَّارَةَ إِلَى الطَّعَامِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلطَّعَامِ إِنَّمَا هِيَ لِقَتْلِ الصَّيْدِ، وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ زَعْمِهِ أَنَّ الْإِضَافَةَ مُبَيِّنَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ أَوْ كَفَارَّةٌ مِنْ طَعَامِ مَسَاكِينَ، كَقَوْلِكَ خَاتَمُ فِضَّةٍ، بِمَعْنَى خَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ خَاتَمَ فِضَّةٍ مِنْ بَابِ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى جِنْسِهِ وَالطَّعَامُ لَيْسَ جِنْسًا لِلْكَفَّارَةِ إِلَّا بِتَجَوُّزٍ بَعِيدٍ جِدًّا، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّنْوِينِ وَرَفْعِ طَعامُ وَقَرَأَ كَذَلِكَ الْأَعْرَجُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ إِلَّا أَنَّهُمَا أفردا مسكين عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ طَعامُ عَطْفُ بَيَانٍ لِأَنَّ الطَّعَامَ هُوَ الْكَفَّارَةُ. انْتَهَى وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا فِي الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعَارِفِ لَا فِي النَّكِرَاتِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْرَبَ بَدَلًا وَقَدْ أَجْمَلَ فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ وَفِي عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكْفِي أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ جَمْعُ مَسَاكِينَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَاسِمُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِتَقْوِيمِ الصَّيْدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ يُقَوِّمُ الْهَدْيَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْهَدْيِ طَعَامًا، وَقَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ، أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ فينظركم ثَمَنُهُ مِنَ الطَّعَامِ فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَيَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الطَّعَامُ وَالطَّعَامُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فِي الْآيَةِ لَا كَيْلًا وَلَا وَزْنًا فيلزم مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ أَيْضًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ عَدَدًا وَالصِّيَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الطَّعَامِ أَهُوَ مُدٌّ أَوْ مُدَّانِ. وَبِالْمُدِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ، وَبِالْمُدَّيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى

الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ وَفِي الظَّبْيِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَفِي الْإِبِلِ عِشْرُونَ يَوْمًا وَفِي النَّعَامَةِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَقْيِيدِ الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ بِمَكَانٍ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَحَيْثُ مَا شَاءَ كَفَّرَ بِهِمَا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ الْهَدْيُ وَالْإِطْعَامُ بِمَكَّةَ وَالصَّوْمُ حَيْثُ شَاءَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوْ عَدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْجَحْدَرِيُّ بِكَسْرِهَا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَا إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا إِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُطْعِمُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّخْيِيرَ رَاجِعٌ إِلَى قاتل الصيد وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْخِيَارُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ بِأَنْ يُطْعِمَ عَنْ يَوْمٍ وَيَصُومَ فِي كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَجَازَ ذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَانْتَصَبَ صِياماً عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى الْعَدْلِ كَقَوْلِكَ عَلَى التَّمْرَةِ مِثْلُهَا زُبْدًا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ صِيَامًا. لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ الذَّوْقُ مَعْرُوفٌ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَا يُؤَثِّرُ مِنْ غَرَامَةٍ وَإِتْعَابِ النَّفْسِ بِالصَّوْمِ وَالْوَبَالُ سُوءُ عَاقِبَةِ مَا فَعَلَ وَهُوَ هَتْكُ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِيَذُوقَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَجَزاءٌ أَيْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجَازَى أَوْ يُكَفِّرَ لِيَذُوقَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ أَضَافَ فَجَزاءٌ أَوْ نَوَّنَ وَنَصَبَ مِثْلُ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَ وَرَفَعَ مِثْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِهِ لِأَنَّ مِثْلُ صفة لجزاء وَإِذَا وُصِفَ الْمَصْدَرُ لَمْ يَجُزْ لِمَعْمُولِهِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الصِّفَةِ لَوْ قُلْتَ أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ الشَّدِيدُ عَمْرًا لَمْ يَجُزْ فَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ عَلَى الْوَصْفِ جَازَ ذَلِكَ وَالصَّوَابُ أَنْ تَتَعَلَّقَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ جُوزِيَ بِذَلِكَ لِيَذُوقَ وَوَقَعَ لِبَعْضِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَدْلِ ذَلِكَ وَهُوَ غَلَطٌ. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أَيْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مِنْ قَتْلِكُمُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِشَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَكَانَ الصَّيْدُ فِيهَا مُحَرَّمًا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَمَّا سَلَفَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ قَبْلَ هَذَا النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ. وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أَيْ وَمَنْ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَيَكْفُرُ أَوْ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ كَفَّرَ بِإِحْدَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ أَوْ عَاصِيًا بِأَنْ

يَعُودَ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِإِلْزَامِ الْكَفَّارَةِ فَقَطْ وَكُلَّمَا عَادَ فَهُوَ يُكَفِّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ كَانَ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَدَاوُدُ وظاهر ومَنْ عادَ للعموم أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ فَتَعُمُّ خِلَافًا لِقَوْمٍ إِذْ زَعَمُوا أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَأَسْنَدُوا إِلَى زَيْدِ بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتَجَوَّزَ لَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ إِذْ هَذَا الرَّجُلُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ ظَهَرَ انْتِقَامُ اللَّهِ مِنْهُ وَالْفَاءُ فِي فَيَنْتَقِمُ جَوَابُ الشَّرْطِ أَوِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أَيْ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِمَ لَمْ يُغَالِبْهُ أَحَدٌ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَذْكَارٌ بِنِقَمِ اللَّهِ وَتَخْوِيفٌ. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي بَنِي مُدْلِجٍ وَكَانُوا يَنْزِلُونَ فِي أَسْيَافِ الْبَحْرِ سَأَلُوا عَمَّا نَضَب عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ السَّمَكِ فَنَزَلَتْ، وَالْبَحْرُ هُنَا الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْوَاسِعُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ النَّهْرُ وَالْوَادِي وَالْبِرْكَةُ وَالْعَيْنُ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْبَحْرِ هُنَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ سَبَبُ النُّزُولِ، وَمَا عَدَاهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا طَعَامُهُ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ وَطَفَا عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ صَيْدُهُ طَرِيُّهُ وَطَعَامُهُ الْمَمْلُوحُ مِنْهُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الَّذِي صَارَ مَالِحًا قَدْ كَانَ طَرِيًّا وَصَيْدًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَقَالَ قَوْمٌ: طَعَامُهُ الْمِلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْ مَائِهِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ مِنْ نَبَاتٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: طَعَامُهُ صَوْبَ سَاحِلِهِ، وَقِيلَ: طَعَامُهُ كُلُّ مَا سَقَاهُ الْمَاءُ فَأَنْبَتَ لِأَنَّهُ نَبَتَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، وَقِيلَ: صَيْدُ الْبَحْرِ مَا صِيدَ لِأَكْلٍ وَغَيْرِهِ كَالصَّدَفِ لِأَجْلِ اللُّؤْلُؤِ وَبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ عِظَامِهَا وَأَسْنَانِهَا وَطَعَامُهُ الْمَأْكُولُ مِنْهُ خَاصَّةً عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ وَعَدَمُ تَقْيِيدِ الْحِلِّ يَدُلُّ عَلَى التَّحْلِيلِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ وَالصَّيْدُ الْمَصِيدُ وَأُضِيفَ إِلَى الْمَقَرِّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ كُلِّ مَا صِيدَ مِنْ أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ حَتَّى الَّذِي يُسَمَّى خِنْزِيرَ الْمَاءِ وَكَلْبَ الْمَاءِ وَحَيَّةَ الْمَاءِ وَالسَّرَطَانَ وَالضُّفْدَعَ وَهُوَ قَوْلُ

ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا يُؤْكَلُ خِنْزِيرُ الْمَاءِ وَلَا إِنْسَانُ الْمَاءِ وَتُؤْكَلُ مَيْتَتُهُ وَكَلْبُهُ وَفَرَسُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ لَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إِلَّا السَّمَكُ وَلَا يُؤْكَلُ طَافِيهِ وَلَا الضُّفْدَعُ وَلَا كَلْبُهُ وَلَا خِنْزِيرُهُ وَقَالَ: هَذِهِ مِنَ الْخَبَائِثِ، قَالَ الرَّازِيُّ: مَا صِيدَ مِنَ الْبَحْرِ حِيتَانٌ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهَا حَلَالٌ وَضَفَادِعُ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهَا حَرَامٌ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَيْدُ الْبَحْرِ مَصِيدَاتُ الْبَحْرِ مِمَّا يُؤْكَلُ وَمِمَّا لَا يُؤْكَلُ وَطَعَامُهُ وَمَا يُطْعَمُ مِنْ صَيْدِهِ وَالْمَعْنَى أُحِلَّ لَكُمُ الِانْتِفَاعُ بِجَمِيعِ مَا يُصَادُ فِي الْبَحْرِ وَأُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الْمَأْكُولِ مِنْهُ وَهُوَ السَّمَكُ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى جَمِيعُ مَا يُصَادُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ عِنْدَهُ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ وأن تطعموه انتهى. وَطَعامُهُ بِقَوْلِهِ وَأَنْ تُطْعِمُوهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيَكُونُ عَلَى قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى صَيْدِ الْبَحْرِ وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى الْبَحْرِ وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَطْعُومُ لَا الْإِطْعَامُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ لَفْظِ وَطَعامُهُ وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحارث وَطُعْمُهُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ. وَانْتَصَبَ مَتاعاً قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمَعْنَى مَتَّعَكُمْ بِهِ مَتَاعًا تَنْتَفِعُونَ بِهِ وَتَأْتَدِمُونَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَتاعاً لَكُمْ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ تَمْتِيعًا لَكُمْ وَهُوَ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً «1» فِي بَابِ الْحَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَتاعاً لَكُمْ مَفْعُولٌ لَهُ مُخْتَصٌّ بِالطَّعَامِ كَمَا أَنَّ نافِلَةً حَالٌ مُخْتَصَّةٌ بِيَعْقُوبَ يَعْنِي أُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ تَمْتِيعًا تَأْكُلُونَهُ طَرِيًّا وَلِسَيَّارَتِكُمْ يَتَزَوَّدُونَهُ قَدِيدًا كَمَا تَزَوَّدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَسِيرِهِ إِلَى الْخَضِرِ انْتَهَى. وَتَخْصِيصُهُ المفعول له بقوله: وَطَعاماً جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مِنْهُ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ وَأَنَّ قَوْلَهُ وَطَعَامُهُ هُوَ الْمَأْكُولُ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّمْتِيعُ إِلَّا بِالْمَأْكُولِ مِنْهُ طَرِيًّا وَقَدِيدًا وَعَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ بِاعْتِبَارِ صَيْدِ الْبَحْرِ وَطَعَامِهِ، وَالْخِطَابُ فِي لَكُمْ لِحَاضِرِي الْبَحْرِ وَمُدُنِهِ وَالسَّيَّارَةُ الْمُسَافِرُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْقُرَى وَالسَّيَّارَةُ، أهل الأمصار وكأنه يريد أهل قرى البحر والسيارة من أهل الأمصار غير أهل تلك القرى يجلبونه إلى أَهْلُ الْأَمْصَارِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ وَالْبَادِي وَالْحَاضِرُ وَالطَّرِيُّ وَالْمَمْلُوحُ. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّيْدَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَوْلِهِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «2» وَبِقَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ «3» بِهَذِهِ الْآيَةِ وَكَرَّرَ ذَلِكَ تَغْلِيظًا لِحُكْمِهِ وَالظَّاهِرُ تَحْرِيمُ صَيْدِ الْبَرِّ على المحرم من

_ (1) سورة الأنعام 6/ 84. (2) سورة المائدة: 5/ 2. (3) سورة المائدة 5/ 95.

جَمِيعِ الْجِهَاتِ صِيدَ وَلِكُلِّ مَنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَجْلِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمْ أَجَازُوا لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَلَالٍ مِثْلِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَصِيدَ فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَاهُ مِنْ مَالِكٍ لَهُ فَذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ فَلَا يَحْرُمُ وَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا وَأَحْمَدُ: يَأْكُلُ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ إِنْ لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ فَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ فَلَا يَأْكُلُ فَإِنْ أَكَلَ، فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَكْلُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ جَائِزٌ إِذَا اصْطَادَهُ الْحَلَالُ وَلَمْ يَأْمُرِ الْمُحْرِمُ بِصَيْدِهِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا يَصْنَعُ أَبُو حَنِيفَةَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَيْدُ الْبَرِّ، (قُلْتُ) : قَدْ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ صَيْدُ الْمُحْرِمِينَ دُونَ صَيْدِ غَيْرِهِمْ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ مَا صِدْتُمْ فِي الْبَحْرِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَصِيدُ غَيْرِهِمْ وَمَصِيدُهُمْ حِينَ كَانُوا غَيْرَ مُحْرِمِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. انْتَهَى. وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الظَّاهِرِ بَلِ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ صَيْدُ الْبَرِّ الْعُمُومُ سَوَاءٌ صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَمِ الْحَلَالُ. وقرأ ابن عباس وحرم مبنيّا للفاعل وصيد بِالنَّصْبِ مَا دُمْتُمْ حُرُماً بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ. وَقَرَأَ يَحْيَى مَا دُمْتُمْ بِكَسْرِ الدَّالِ وَهِيَ لُغَةٌ يُقَالُ دِمْتَ تَدَامُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَا لَا زَوَالَ لَهُ مِنَ الْبَحْرِ أَنَّهُ صَيْدُ بَحْرٍ وَمِنَ الْبَرِّ أَنَّهُ صَيْدُ بَرٍّ وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا وَقَدْ يَحْيَا فِي الْآخَرِ، فَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ إِنْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ فَدَاهُ. وَذَكَرَ أَبُو مِجْلِزٍ مِنْ ذَلِكَ الضُّفْدَعُ وَالسُّلَحْفَاةُ وَالسَّرَطَانُ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يُرَاعَى أَكْثَرُ عَيْشِهِ وَسُئِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاءِ أَصَيْدُ بَرٍّ أَمْ بَحْرٍ؟ فَقَالَ حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ مِنْهُ وَحَيْثُ يُفْرِخُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّوَابُ فِي ابْنِ مَاءٍ أَنَّهُ صَيْدُ طَائِرٍ يَرْعَى وَيَأْكُلُ الْحَبَّ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الصَّحِيحُ الْمَنْعُ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلُ تَحْرِيمٍ وَدَلِيلُ تَحْلِيلٍ فَيَغْلِبُ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ هَذَا فِيهِ تنبيه وتهديد وجاء عَقِيبَ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَذَكَرَ الْحَشْرَ إِذْ فِيهِ يَظْهَرُ من أطاع وعصى.

[سورة المائدة (5) : الآيات 97 إلى 100]

[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَعْظِيمَ الْإِحْرَامِ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْوَحْشِ فِيهِ بِحَيْثُ شَرَّعَ بِقَتْلِهِ مَا شَرَّعَ وَذَكَرَ تَعْظِيمَ الْكَعْبَةِ بِقَوْلِهِ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، فَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ أَيْ رَكَّزَ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمَهَا بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِيهَا أَذَى أَحَدٍ، وَصَارَتْ وَازِعَةً لَهُمْ مِنَ الْأَذَى وَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ لَا يَرْجُونَ جَنَّةً وَلَا يَخَافُونَ نَارًا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلِكٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَذَى بَعْضِهِمْ فَقَامَتْ لَهُمْ حُرْمَةُ الْكَعْبَةِ مَقَامَ حُرْمَةِ الْمَلِكِ هَذَا مَعَ تَنَافُسِهِمْ وَتَحَاسُدِهِمْ وَمُعَادَاتِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِالثَّأْرِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ الْكَعْبَةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ فَكَانُوا لَا يُهَيِّجُونَ أَحَدًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ لِحَرْبٍ وَلَا مَنْ خَرَجَ يُرِيدُ الْبَيْتَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَتَقَلَّدَ مِنْ لُحِيِّ الشَّجَرِ وَلَا مَنْ قَضَى نُسُكَهُ فَتَقَلَّدَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَلَمَّا بَعَثَتْ قُرَيْشٌ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْحِلْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا رَجُلٌ يُعَظِّمُ الْحُرْمَةَ فَأَلْقُوهُ بِالْبُدْنِ مُشْعِرَةً» فَلَمَّا رَآهَا الْحِلْسُ عَظُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّ هَؤُلَاءِ وَرَجَعَ عَنْ رِسَالَةِ قُرَيْشٍ ، وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ. وَقِيلَ جَعَلَ بِمَعْنَى بَيَّنَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى إِذْ لَمْ يُنْقَلْ جَعَلَ مُرَادِفَةً لِهَذَا الْمَعْنَى لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ التَّصْيِيرُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّبْيِينُ وَالْحُكْمُ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْكَعْبَةِ قَدْ أَطْلَقَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَالْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْكَعْبَةِ الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْكَعْبَةِ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْبَيْتُ الْحَرَامُ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ لَا عَلَى جِهَةِ التَّوْضِيحِ كَمَا تَجِيءُ الصِّفَةُ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي شَرْطِ عَطْفِ الْبَيَانِ الْجُمُودَ فَإِذَا كَانَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ جَامِدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِمَدْحٍ إِذْ لَيْسَ مُشْتَقًّا وَإِنَّمَا يُشْعِرُ بِالْمَدْحِ الْمُشْتَقِّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ عَطْفَ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ الْحَرَامَ اقْتَضَى الْمَجْمُوعُ الْمَدْحَ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ وَالْقِيَامُ مَصْدَرٌ كَالصِّيَامِ وَيُقَالُ هَذَا قِيَامٌ لَهُ وَقِوَامٌ لَهُ وَكَأَنَّهُمْ ذَهَبُوا فِي قِيَامٍ

إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَصْدَرًا بَلْ هُوَ اسْمٌ كَالسِّوَاكِ فَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْوَاوُ قَالَ: قِوَامُ دُنْيَا وَقِيَامُ دِينٍ. إِذَا لَحِقَتْ تَاءُ التَّأْنِيثِ لَزِمَتِ التَّاءُ قَالُوا الْقِيَامَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قِياماً لِلنَّاسِ فَقِيلَ بِاتِّسَاعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ إِذْ جَعَلَهَا تَعَالَى مَقْصُودَةً مِنْ جَمِيعِ الْآفَاقِ وَكَانَتْ مَكَّةُ لَا زَرْعَ وَلَا ضَرْعَ، وَقِيلَ بِامْتِنَاعِ الْإِغَارَةِ فِي الْحَرَمِ، وَقِيلَ بِسَبَبِ صَيْرُورَتِهِمْ أَهْلَ اللَّهِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ بِمَا يُقَامُ فِيهَا مِنَ الْمَنَاسِكِ وَفِعْلِ الْعِبَادَاتِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: يَأْمَنُ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ، وَقِيلَ بِعَدَمِ أَذَى مَنْ أَخْرَجُوهُ مِنْ جَرِّ جَرِيرَةٍ وَلَجَأَ إِلَيْهَا، وَقِيلَ بِبَقَاءِ الدِّينِ مَا حُجَّتْ وَاسْتُقْبِلَتْ، وَقَالَ عَطَاءٌ لَوْ تَرَكُوهُ عَامًا وَاحِدًا لَمْ يُنْظَرُوا وَلَمْ يُؤَخَّرُوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ لَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ قِوَامَ الْمَعِيشَةِ بِكَثْرَةِ الْمَنَافِعِ وَبِدَفْعِ الْمَضَارِّ وَبِحُصُولِ الْجَاهِ وَالرِّئَاسَةِ وَبِحُصُولِ الدِّينِ وَالْكَعْبَةُ سَبَبٌ لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قِيَمًا بِغَيْرِ أَلِفٍ فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ قِيَامًا بِالْأَلِفِ وَحُذِفَتْ فَقِيلَ حُكْمُ هَذَا أَنْ يَجِيءَ فِي الشِّعْرِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا عَلَى فِعَلٍ فَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَاوُ كَعِوَضٍ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ قَيِّمًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَهُوَ كَسَيِّدٍ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ وَلَفْظُ النَّاسِ عَامٌّ، فَقِيلَ الْمُرَادُ الْعُمُومُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ الْعَرَبُ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بن أبي الْفَضْلِ وَحُسْنُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلْدَةٍ إِذَا قَالُوا النَّاسُ فَعَلُوا كَذَا لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا أَهْلَ بَلْدَتِهِمْ فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا عَلَى وَفْقِ عَادَتِهِمُ انْتَهَى. وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ ظَاهِرُهُ الْإِفْرَادُ، فَقِيلَ هُوَ ذُو الْحِجَّةِ وَحْدَهُ وَبِهِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ لِأَنَّ لِاخْتِصَاصِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ بِرَسْمِ الْحَجِّ شَأْنًا قَدْ عَرَفَهُ اللَّهُ انْتَهَى، وَقِيلَ الْمُرَادُ الْجِنْسُ فَيَشْمَلُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ الثَّلَاثَةَ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ وَشَهْرَ مُضَرَ وَهُوَ رَجَبٌ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَرَاهُ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى شَهْرَ اللَّهِ إِذْ كَانَ تَعَالَى قَدْ أَلْحَقَهُ فِي الْحُرْمَةِ بِالثَّلَاثَةِ فَنَسَبَهُ وَسَدَّدَهُ، وَالْمَعْنَى شَهْرُ آلِ اللَّهِ وَهُوَ شَهْرُ قُرَيْش وَلَهُ يَقُولُ عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ: وَشَهْرِ بَنِي أمية والهدايا ... إذا سيقت مصرحها الدِّمَاءُ وَلَمَّا كَانَتِ الْكَعْبَةُ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ خَائِفٍ جَعَلَ اللَّهُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِيَامًا لِلنَّاسِ كَالْكَعْبَةِ. ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ هِيَ لِلْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَأَمْنًا لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ

تَفَاصِيلَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ فِي السموات وَالْأَرْضِ وَمَصَالِحَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَدِينِكُمْ فَانْظُرُوا لُطْفَهُ بِالْعِبَادِ عَلَى حَالِ كُفْرِهِمْ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حِفْظِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ بِتَرْكِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا نَبَّأَ بِهِ تَعَالَى مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَالْكَشْفِ عَنِ الْأَسْرَارِ مِثْلَ قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ «1» وَمِثْلَ إِخْبَارِهِ بِتَحْرِيفِهِمُ الْكُتُبَ أَيْ ذَلِكَ الْغَيْبُ الَّذِي أَنْبَأَكُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ يَدُلُّكُمْ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ الْإِشَارَةُ إِلَى صَرْفِ قُلُوبِ النَّاسِ إِلَى مَكَّةَ فِي الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَةِ فَيَعِيشُ أَهْلُهَا مَعَهُمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَاتُوا جُوعًا لِعِلْمِهِ بِمَا فِي مَصَالِحِهِمْ وَلِيَسْتَدِلُّوا عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هَذَا عُمُومٌ تَنْدَرِجُ فِيهِ الْكُلِّيَّاتُ وَالْجُزْئِيَّاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها «2» . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ هَذَا تَهْدِيدٌ إِذْ أَخْبَرَ أَنَّ عِقَابَهُ شَدِيدٌ لِمَنِ انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ. وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَهَذَا تَوْجِيهٌ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ لِمَنْ حَافَظَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ تَابَ عَنْ مَعَاصِيهِ. مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ لَمَّا تَقَدَّمَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّفَ رَسُولَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَهُوَ تَوْصِيلُ الْأَحْكَامِ إِلَى أُمَّتِهِ وَهَذَا فِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى إِيجَابِ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ بِهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ فَرَغَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَلَزِمَتْكُمُ الطَّاعَةُ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي التَّفْرِيطِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هِيَ إِخْبَارٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ هِيَ أَنَّهُ مُوَادَعَةٌ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ بَلْ هَذِهِ حَالُ مَنْ آمَنَ بِهَذَا وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَإِنَّهُ عَصَمَ مِنَ الرَّسُولِ مَالَهُ وَدَمَهُ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ فِي جِهَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ التَّبْلِيغِ. انْتَهَى. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْخِلَافَ فِيهَا أَهِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَالرَّسُولُ هَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ وَالْمَعْنَى مَا عَلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَالْبَلَاغُ وَالْبُلُوغُ مَصْدَرَانِ لِبَلَغَ وَإِذَا كان مصدر البلغ فَبَلَاغُ الشَّرَائِعِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَبْلِيغِ مَنْ أُرْسِلَ بِهَا فَعَبَّرَ بِاللَّازِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ وَيُحْتَمَلُ أن يكون مصدر البلغ الْمُشَدَّدِ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ فمعنى البلاغ التبليغ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 41. [.....] (2) سورة الأنعام: 6/ 59.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ جُمْلَةٌ فِيهَا تَهْدِيدٌ إِذْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى حَالِ الْعَبْدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهُوَ مُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَلْزَمَ رَسُولَهُ التَّبْلِيغَ لِلشَّرِيعَةِ وَأَلْزَمَكُمْ أَنْتُمْ تَبْلِيغَهَا فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا تُبْدُونَ مِنْهَا وَمَا تَكْتُمُونَهُ فَيُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ خِطَابًا لِأُمَّتِهِ إِذَا كَانَ الْإِبْدَاءُ وَالْكَتْمُ يُمْكِنُ صُدُورُهُمَا مِنْهُمْ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنْ شَرَائِعِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ تِجَارَتِي، فَهَلْ يَنْفَعُنِي ذَلِكَ الْمَالُ إِذَا عَمِلْتُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَذَّرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَرَغَّبَ فِي التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الْآيَةَ. وَأَتْبَعَهُ فِي التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ثُمَّ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أَتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. فَقَالَ هَلْ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، الْآيَةَ أَوْ يُقَالُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ عِقَابَهُ شَدِيدٌ لِمَنْ عَصَى وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ أَطَاعَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعُصَاةِ وَالْكُفَّارِ كَثْرَةٌ فَلَا يَمْنَعُهُ كَثْرَتُهُمْ مِنْ عِقَابِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ عَامَّانِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُمَا حَلَالُ الْمَالِ وَحَرَامُهُ وَصَالِحُ الْعَمَلِ وَفَاسِدُهُ وَجَيِّدُ النَّاسِ وَرَدِيئُهُمْ وَصَحِيحُ الْعَقَائِدِ وَفَاسِدُهَا وَالْخَبِيثُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ لَا يَصْلُحُ وَلَا يُحَبُّ وَلَا يَحْسُنُ لَهُ عَاقِبَةٌ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ قَلَّ نَافِعٌ جَيِّدُ الْعَاقِبَةِ وَيُنْظَرُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ «1» الْآيَةَ. وَالْخَبِيثُ فَاسِدُ الْبَاطِنِ فِي الْأَشْيَاءِ حَتَّى يُظَنَّ بِهَا الصَّلَاحُ وَالطَّيِّبُ خِلَافُ ذَلِكَ وَقَدْ خَصَّصَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ هُنَا الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ بِبَعْضِ مَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُ اللَّفْظِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ هُوَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلًا أَنَّهُ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَقَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ الْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ، وَقِيلَ: الطَّيِّبُ الْمَعْرِفَةُ وَالطَّاعَةُ وَالْخَبِيثُ الْجَهْلُ وَالْمَعْصِيَةُ وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى أَنَّهَا تَمْثِيلٌ لِلطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ لأقصر اللَّفْظِ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ وَوَجْهُ كَافِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ أَنَّ الْمَعْنَى وَلَوْ أَعْجَبَكَ أَيُّهَا السَّامِعُ أَوْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ وَإِمَّا أَنْ لَا يكون

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 58.

[سورة المائدة (5) : الآيات 101 إلى 114]

مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ بِقَوْلِهِ وَيَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَالْأَوْلَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيِ اتَّقُوهُ فِي إِيثَارِ الطَّيِّبِ وَإِنْ قَلَّ عَلَى الْخَبِيثِ وَإِنْ كَثُرَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمِنْ حَقِّ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُكْفَحَ بِهَا الْمُجْبِرَةُ إِذَا افْتَخَرُوا بِالْكَثْرَةِ. قَالَ شَاعِرُهُمْ: وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إِنَّ سَعْدًا كَثِيرَةٌ ... وَلَا تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاءً وَلَا نَصْرَا وَقَالَ آخَرُ: لَا يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ ... فَإِنَّ جُلَّهُمْ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ مِنَ تَسْمِيَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُجْبَرَةً وَذَمِّهِمْ وَخَصَّ تَعَالَى الْخِطَابَ وَالنِّدَاءَ بِأُولِي الْأَلْبَابِ لِأَنَّهُمُ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي تَمْيِيزِ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ إِهْمَالُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَكَأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى لُبِّ التَّجْرِبَةِ الَّذِي يَزِيدُ عَلَى لُبِّ التَّكْلِيفِ بِالْجِبِلَّةِ وَالْفِطْنَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالنَّظَرِ البعيد انتهى. [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 114] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

أَشْياءَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ أَنَّهَا لَفْعَاءُ مَقْلُوبَةٌ مِنْ فَعْلَاءَ، وَالْأَصْلُ شَيْئًا مِنْ مَادَّةِ شَيْءٍ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَطُرَفَاءَ وَحُلَفَاءَ وَمَذْهَبُ غَيْرِهِمَا أَنَّهَا جَمْعٌ. وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ، هُوَ جَمْعُ شَيْءٍ كَبَيْتٍ وَأَبْيَاتٍ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ لَمْ تَنْصَرِفْ أَشْيَاءُ لِشِبْهِ آخِرِهَا بِآخِرِ حَمْرَاءَ وَلِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا وَالْعَرَبُ تَقُولُ أَشْيَاوَانِ كَمَا تَقُولُ حَمْرَاوَانِ. ذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ

إِلَى أَنَّهَا جَمْعٌ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَاءَ، قَالَ الْفَرَّاءُ شيء مُخَفَّفٌ مِنْ شَيْءٍ كَمَا قَالُوا هُونًا فِي جَمْعِ هَيْنٍ الْمُخَفَّفِ مِنْ هَيِّنٍ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ لَيْسَ مُخَفَّفًا مِنْ شَيْءٍ بَلْ هُوَ فَعْلٌ جُمِعَ عَلَى أَفَعْلَاءَ فَاجْتَمَعَ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ هَمْزَتَانِ لَامُ الْكَلِمَةِ وَهَمْزَةُ التَّأْنِيثِ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ اسْتِخْفَافًا، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ وَزْنَ شيء في الأصل شيء كَصَدِيقٍ وَأَصْدِقَاءَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى وَفُتِحَتْ يَاءُ الْمَدِّ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا أَلِفًا، قَالَ وَوَزْنُهَا فِي هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَفْيَاءَ وَفِي الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ أَفْلَاءُ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ صِحَّةً وَإِبْطَالًا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. الْبَحِيرَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَالنَّطِيحَةِ بِمَعْنَى الْمَنْطُوحَةِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هِيَ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ فِي آخِرِهَا ذَكَرٌ شَقُّوا أُذُنَهَا وَخَلَّوْا سَبِيلَهَا لَا تُرْكَبُ وَلَا تُحْلَبُ وَلَا تُطْرَدُ عَنْ مَاءٍ وَلَا مَرْعًى، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ آخِرُهَا ذَكَرٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَيُنْظَرُ فِي الْخَامِسِ فَإِذَا كَانَ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ وَأَكَلُوهُ وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى شَقُّوا أُذُنَ الْأُنْثَى وَقَالُوا هِيَ بَحِيرَةٌ، فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ تُطْرَدْ عَنْ مَاءٍ وَلَا مَرْعًى وَإِذَا لَقِيَهَا أَلْمَعِيٌّ لَمْ يَرْكَبْهَا تَحَرُّجًا وَتَخَوُّرًا مِنْهُ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَزَادَ، حُرِّمَ عَلَى النِّسَاءِ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلنِّسَاءِ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ الْبَحِيرَةُ هِيَ الَّتِي خُلِّيَتْ بِلَا رَاعٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْبَحِيرَةُ مَا نَتَجَتِ السَّائِبَةُ مِنْ أُنْثَى شَقَّ أُذُنَهَا وَخَلَّى سَبِيلَهَا مع أمها في الفلالم تُرْكَبْ وَلَمْ تُحْلَبْ كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ هِيَ الَّتِي تُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلِبُهَا، وَقِيلَ هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا شَقُّوا أُذُنَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ شَقُّوا أُذُنَهَا نِصْفَيْنِ طُولًا فَهِيَ مَبْحُورَةٌ وَتُرِكَتْ تَرْعَى وَتَرِدُ الْمَاءَ وَلَا يُنْتَفَعُ مِنْهَا بِشَيْءٍ وَيَحْرُمُ لَحْمُهَا إِذَا مَاتَتْ عَلَى النِّسَاءِ وَيَحِلُّ لِلرِّجَالِ، وقيل البحيرة السقب وإذا وُلِدَ يَحُزُّوَا أُذُنَهُ، وَقَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ عَاشَ فَعَفِيٌّ وَإِنْ مَاتَ فَذَكِيٌّ فَإِذَا مَاتَ أُكِلَ، وَيَظْهَرُ مِنِ اخْتِلَافِ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَخْتَلِفُ طَرَائِقُهَا فِي الْبَحِيرَةِ فَصَارَ لِكُلٍّ مِنْهَا فِي ذَلِكَ طَرِيقَةٌ وَهِيَ كُلُّهَا ضَلَالٌ. السَّائِبَةُ فَاعِلَةٌ مِنْ سَابَ إِذَا جَرَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُقَالُ: سَابَ الْمَاءُ وَسَابَتِ الحية، وقيل هي السبيبة اسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ عِيشَةٍ راضِيَةٍ «1» أَيْ مَرْضِيَّةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نَذَرَ نَذْرًا أَوْ شَكَرَ نِعْمَةً سَيَّبَ بَعِيرًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَحِيرَةِ فِي جَمِيعِ مَا حَلُّوا لَهَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِذَا وَلَدَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ إِنَاثٍ سُيِّبَتْ فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ تُحْلَبْ وَلَمْ يُجَزَّ لَهَا وَبَرٌ وَلَمْ يُشْرَبْ لَهَا لَبَنٌ إِلَّا وَلَدٌ أَوْ ضَيْفٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ السَّائِبَةُ هي

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 21.

الَّتِي تُسَيَّبُ لِلْأَصْنَامِ أَيْ تعتق، وكان الرجل يسبب مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَيَجِيءُ بِهِ إِلَى السَّدَنَةِ وَهُمْ خَدَمُ آلِهَتِهِمْ فَيُطْعِمُونَ مِنْ لَبَنِهَا لِلسَّبِيلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كانوا ينذرون تسبيب النَّاقَةِ لِيَحُجَّ حَجَّةً عَلَيْهَا، وَقِيلَ السَّائِبَةُ الْعَبْدُ يُعْتَقُ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا مِيرَاثٌ. الْوَصِيلَةُ هِيَ في الْغَنَمُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الشَّاةُ تُنْتِجُ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ أُنْثَى لَمْ تَنْتَفِعِ النِّسَاءُ مِنْهَا بِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَمُوتَ فَيَأْكُلُهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، وَنَحْوَهُ أَكَلُوهُ جَمِيعًا. فَإِذَا كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا وَصَلَتْ أَخَاهَا فَتُتْرَكُ مَعَ أَخِيهَا فَلَا تُذْبَحُ وَمَنَافِعُهَا لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِذَا مَاتَتِ اشْتَرَكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ إِنْ كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذُبِحَ فَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ وَقَالُوا خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي الْغَنَمِ وَإِنْ كَانَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَكَمَا فِي قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ هِيَ الشَّاةُ تُنْتِجُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ مُتَوَالِيَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ هِيَ الشَّاةُ تُنْتِجُ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ عَنَاقَيْنِ عَنَاقَيْنِ فَإِذَا وَلَدَتْ فِي سَابِعِهَا عَنَاقًا وَجِدْيًا قِيلَ وَصَلَتْ أَخَاهَا فَجَرَتْ مَجْرَى السَّائِبَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تَلِدُ أُنْثَى فَلَهُمْ أَوْ ذَكَرًا فَلِآلِهَتِهِمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ وَزَادَ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى مَعًا قَالُوا وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ يَذْبَحُوهُ لِمَكَانِهَا، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا النَّاقَةُ الْبِكْرُ تَبْتَكِرُ فِي أَوَّلِ النَّتَاجِ بِالْأُنْثَى ثُمَّ تُثَنِّي بِالْأُنْثَى فَيَسْتَقُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ وَيَقُولُونَ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، وَقِيلَ هِيَ الشَّاةُ تَلِدُ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ أَوْ خَمْسَةً فَإِنْ كَانَ آخِرُهَا جِدْيًا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ أَوْ عَنَاقًا اسْتَحْيَوْهَا وَقَالُوا هَذِهِ الْعَنَاقُ وَصَلَتْ أَخَاهَا فَمَنَعَتْهُ مِنَ الذَّبْحِ. الْحَامِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَمَى وَهُوَ الْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ هُوَ الْفَحْلُ يُنْتَجُ مِنْ صُلْبِهِ عَشَرَةُ أَبْطُنٍ فَيَقُولُونَ قَدْ حَمَى ظَهْرَهُ فَيُسَيِّبُونَهُ لِأَصْنَامِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ الْفَحْلُ يُولَدُ لِوَلَدِ وَلَدِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ هُوَ الْفَحْلُ يُنْتَجُ مِنْ صُلْبِهِ عَشَرَةُ أَبْطُنٍ فَيَظْهَرُ مِنْ بَيْنِ أَوْلَادِهِ عَشَرَةُ إِنَاثٍ مِنْ بَنَاتِهِ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الَّذِي يُنْتَجُ لَهُ سَبْعُ إِنَاثٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَضْرِبُ فِي إِبِلِ الرَّجُلِ عَشْرَ سِنِينَ. الْحَبْسُ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ يُقَالُ حَبَسْتُ أَحْبِسُ وَاحْتَبَسْتُ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ مُحْبَسٌ وَحَبِيسٌ وَقَفْتُهُ لِلْغَزْوِ. وَعَثَرَ عَلَى الرَّجُلِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَثْرَةِ الَّتِي هِيَ الْوُقُوعُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَاثِرَ إِنَّمَا

يَعْثُرُ بِشَيْءٍ كَانَ لَا يَرَاهُ فَلَمَّا عَثَرَ بِهِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَنَظَرَ مَا هُوَ فَلِذَلِكَ قِيلَ لِكُلِّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِ قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ وَيُقَالُ قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَعْثَرَ عَلَيْهِ إِذَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ «1» أَيِ أطْلَعْنَا، وَقَالَ اللَّيْثُ عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُورًا هَجَمَ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَثَرَ عَثْرَةً وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ. الْمَائِدَةُ الْخِوَانُ الَّذِي عَلَيْهِ طَعَامٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَعَامٌ فَلَيْسَ بِمَائِدَةٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَهِيَ مِنَ الْعَطَاءِ وَالْمُمْتَادُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَطَاءُ مَادَّهُ أَعْطَاهُ وَامْتَادَّهُ اسْتَعْطَاهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ هِيَ فَاعِلَةٌ مِنْ مَادَ يَمِيدُ تَحَرَّكَ فَكَأَنَّهَا تَمِيدُ بِمَا عَلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْمَائِدَةُ الطَّعَامُ مِنْ مَادَّهُ يُمِيدُهُ أَعْطَاهُ كَأَنَّهَا تُمِيدُ الْآكِلِينَ أَيْ تُطْعِمُهُمْ وَتَكُونُ فَاعِلَةً بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِهَا أَيْ مِيدَ بِهَا الْآكِلُونَ. وَقِيلَ مِنَ الْمِيدِ وَهُوَ الْمَيْلُ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ: «أَبُوكَ فُلَانٌ» وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «النَّارُ» وَإِنَّ السَّائِلَ مَنْ أَبِي هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَفِي غَيْرِ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِي فَقَالَ «أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ» ، وَقِيلَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْحَجِّ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: «لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ» . رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ السَّائِلُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَقِيلَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ، وَقِيلَ مِحْصَنٌ ، وَقِيلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ. وَقِيلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلُوا عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَأَلُوا عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَلِذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهَا بَعْدَهَا وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَسْهِيمِ الْفَرَائِضِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْكَعْبَةِ وَالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ وَأَعْلَمَ أَنَّ حُرْمَتَهَا هُوَ تَعَالَى الَّذِي شَرَعَهَا إِذْ هِيَ أُمُورٌ قَدِيمَةٌ مِنْ لَدُنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَهَبَ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ هَلْ تُلْحَقُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ إِذْ كَانُوا قَدِ اعْتَقَدُوا الْجَمِيعَ سُنَّةً لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ تِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْأَعْرَابَ أَلَحُّوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ السُّؤَالَاتِ فَزُجِرُوا عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ في

_ (1) سورة الكهف: 18/ 21.

حُجَّاجِ الْيَمَامَةِ حِينَ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُوقِعُوا بِهِمْ فَنُهُوا عَنِ الْإِيقَاعِ بِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ «1» صَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهُ وَمَا لَمْ يُبَلِّغْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ وَلَا تَخُوضُوا فِيهِ فَرُبَّمَا جَاءَكُمْ بِسَبَبِ الْخَوْضِ الْفَاسِدِ تَكَالِيفُ تَشُقُّ عَلَيْكُمْ، قَالَه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَقَالَ أَيْضًا هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ «2» فَاتْرُكُوا الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّرْطِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَشْيَاءَ وَالْمَعْنَى لَا تُكْثِرُوا مَسْأَلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَسْأَلُوهُ عَنْ تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ عَلَيْكُمْ إِنْ أَفْتَى لَكُمْ بِهَا وَكَلَّفَكُمْ إِيَّاهَا تَغُمَّكُمْ وَتَشُقَّ عَلَيْكُمْ وَتَنْدَمُوا عَلَى السُّؤَالِ عَنْهَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَنَاهُ عَلَى مَا نُقِلَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحَجِّ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً مِنْ أَسْفَلَ وَضَمِّ الدَّالِ يَسُؤْكُمْ بِالْيَاءِ فِيهِمَا مَضْمُومَةً فِي الْأَوَّلِ وَمَفْتُوحَةً فِي الثَّانِي، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالتَّحْرِيرُ أَنْ يُبْدِهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ فِي ضِمْنِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا مَسَاءَةٌ لَكُمْ إِمَّا لِتَكْلِيفٍ شَرْعِيٍّ يَلْزَمُكُمْ وَإِمَّا لِخَبَرٍ يَسُوءُكُمْ، مِثْلُ الَّذِي قَالَ مَنْ أَبِي؟ وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِشَيْءٍ وَابْتَدَأَكُمْ رَبُّكُمْ بِأَمْرٍ فَحِينَئِذٍ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْ بَيَانِهِ بَيَّنَ لَكُمْ وَأَبْدَى انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عَنْها عَائِدٌ عَلَى نَوْعِهَا لَا عَلَى الْأَوَّلِ الَّتِي نَهَى عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَسْأَلُوا وَإِنْ سَأَلْتُمْ لَقِيتُمْ غِبَّ ذَلِكَ وَصُعُوبَتَهُ لِأَنَّكُمْ تَكَلَّفُونَ وَتَسْتَعْجِلُونَ مَا يَسُوءُكُمْ كَالَّذِي قِيلَ لَهُ إِنَّهُ فِي النَّارِ انْتَهَى. وقال الزمخشري وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أَيْ عَنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الصَّعْبَةِ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وهو مادام الرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يُوحَى إِلَيْهِ تُبْدَ لَكُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفُ الَّتِي تَسُوءُكُمْ وَتُؤْمَرُوا بِتَحَمُّلِهَا فَتُعَرِّضُوا أَنْفُسَكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ بِالتَّفْرِيطِ فِيهَا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَنْها عَائِدًا عَلَى أَشْيَاءَ نَفْسِهَا لَا عَلَى نَوْعِهَا وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ وُصِفَتْ بِوَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا إِنْ سَأَلُوا عَنْهَا أُبْدِيَتْ لَهُمْ وَقْتَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ حِينَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ تُبْدَ لَكُمْ لَا لقوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها وَالْوَصْفُ الثَّانِي أَنَّهَا إن أبديت

_ (1) سورة المائدة: 5/ 99. (2) سورة المائدة: 5/ 99.

لَهُمْ سَاءَتْهُمْ وَهَذَا الْوَصْفُ وَإِنْ تَقَدَّمَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَأَخِّرِ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ أَرْدَعُ لَهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْهَا لِأَنَّهُمْ إِذَا أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ تَسُوءُهُمْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ إِذَا أُبْدِيَتْ كَانَتْ أَنْفَرَ عَنْ أَنْ يسألوا بعد، فما كَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَزْجَرَ عَنِ السُّؤَالِ قُدِّمَ وَتَأَخَّرَ الْوَصْفُ فِي الذِّكْرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ زَجْرٌ وَلَا رَدْعٌ وَاتُّكِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى مَعَ أَنَّ عَطْفَ الْوَصْفِ الثَّانِي بِالْوَاوِ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فَقَطْ دُونَ التَّرْتِيبِ، وَلَا يَدُلُّ قوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها عَلَى جَوَازِ السُّؤَالِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى أَشْيَاءَ فَكَيْفَ يَفْعَلُ أَشْيَاءَ بِأَعْيَانِهَا أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْهَا مَمْنُوعًا وَجَائِزًا مَعًا. وَأَجَابَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مَأْمُورًا بِهِ بَعْدَ نُزُولِهِ الثَّانِي أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا فِي كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مسؤولا عَنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَلِهَذَا الْوَجْهِ حَسُنَ اتِّحَادُ الضَّمِيرِ، انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ ثَانٍ لِأَنَّهُ فَرَضَ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ بِأَعْيَانِهَا، السُّؤَالُ عَنْهَا مَمْنُوعٌ وَجَائِزٌ وَإِذَا كَانَا نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَيْسَتِ الْأَشْيَاءُ بِأَعْيَانِهَا وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ لَا تَزْنِ وَإِنْ زَنَيْتَ حُدِدْتَ فَقَوْلُهُ وَإِنْ زَنَيْتَ حُدِدْتَ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ بَلْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ بَلْ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِمْكَانِ إِذْ قَدْ يَقَعُ التَّعْلِيقُ بَيْنَ الْمُسْتَحِيلَيْنِ كَقَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» . عَفَا اللَّهُ عَنْها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِأَشْيَاءَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا وَيَكُونُ مَعْنَى عَفَا أَيْ تَرَكَ لَكُمُ التَّكْلِيفَ فِيهَا وَالْمَشَقَّةَ عَلَيْكُمْ بِهَا لِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الِاسْتِئْنَافُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هَذَا أَيْ تَرَكَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُعَرِّفْكُمْ بِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنِ ارْتِكَابِكُمْ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ وَلَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ مَا سَلَفَ عَنْ مَسْأَلَتِكُمْ فَلَا تَعُودُوا إِلَى مثلها. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا يَفْرُطُ مِنْكُمْ بِعُقُوبَتِهِ خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» . وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا فَحُرِّمَتْ مِنْ أَجْلِ مسألته» .

_ (1) سورة الزمر: 39/ 65.

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَأَلَها عَائِدٌ عَلَى أَشْيَاءَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَلَا يَتَّجِهُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَكَانَ يُعَدَّى بِعَنْ فَكَانَ قَدْ سَأَلَ عَنْهَا كما قال لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ فَعُدِّيَ بِعَنْ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ مُخْتَلِفٌ قَطْعًا فِيهِمَا لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الَّذِي هُوَ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ سَأَلَ أَيْنَ مَدْخَلِي وَمَنْ أَبِي. وَمَنْ سَأَلَ عَنِ الْحَجِّ وَأَيْنَ نَاقَتِي وَمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِي غَيْرُ سُؤَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الضَّمِيرُ فِي سَأَلَها لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى أَشْيَاءَ حَتَّى يَجِبَ تَعْدِيَتُهُ بِعَنْ، وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا لَا تَسْئَلُوا يَعْنِي قَدْ سَأَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَوْمٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ أَصْبَحُوا أَيْ بِمَرْجُوعِهَا كَافِرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَسْتَفْتُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَإِذَا أُمِرُوا بِهَا تَرَكُوهَا فَهَلَكُوا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ السُّؤَالَاتِ الَّتِي هِيَ تَعَنُّتَاتٌ وَطَلَبٌ شَطَطٌ وَاقْتِرَاحَاتٌ وَمُبَاحَثَاتٌ قَدْ سَأَلَهَا قَبْلَكُمُ الْأُمَمُ ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا. انْتَهَى. وَلَا يَسْتَقِيمُ مَا قَالَاهُ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ قَدْ سَأَلَ أَمْثَالَهَا أَيْ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ أَمْثَالَ هَذِهِ السُّؤَالَاتِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَأَلَها بِفَتْحِ السِّينِ وَالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ يَعْنِي بِالْكَسْرِ وَالْإِمَالَةِ، وَجَعَلَ الْفِعْلَ مِنْ مَادَّةِ سِينٍ وَوَاوٍ وَلَامٍ لَا مِنْ مَادَّةِ سِينٍ وَهَمْزَةٍ وَلَامٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ ذَكَرَهُمَا سِيبَوَيْهِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ هُمَا يَتَسَاوَلَانِ بِالْوَاوِ وَإِمَالَةُ النَّخَعِيِّ سَأَلَ مِثْلُ إِمَالَةِ حَمْزَةَ خَافَ. وَالْقَوْمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُمْ قَوْمٌ عِيسَى سَأَلُوا الْمَائِدَةَ ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ أَنْ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ الَّذِي لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا هم قَوْمُ مُوسَى سَأَلُوا فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَشَأْنِهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا هم الَّذِينَ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» ، وَقِيلَ قَوْمُ مُوسَى سَأَلُوا أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً فَصَارَ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا عَلَى الِاشْتِرَاطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «2» وَبَعْدَ اشْتِرَاطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ إِنْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَإِذَا أَخْبَرُوهُمْ بِهَا تَرَكُوا قَوْلَهُمْ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُمْ فَأَصْبَحُوا بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ كَافِرِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ كَقُرَيْشٍ فِي سُؤَالِهِمْ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِنَّمَا يَتَّجِهُ فِي قُرَيْشٍ مِثَالُ سُؤَالِهِمْ آيَةً فَلَمَّا شُقَّ الْقَمَرُ كَفَرُوا انْتَهَى، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْمُ قُرَيْشٌ سَأَلُوا أُمُورًا مُمْتَنِعَةً كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «3» وهذا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 246. (2) سورة الشعراء: 26/ 155. (3) سورة الإسراء: 17/ 90.

لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ آبَاؤُهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي ابْتِدَاءِ التَّنْزِيلِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ مِنْ قَبْلِكُمْ مُتَعَلِّقُ بسألها، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْمٍ وَلَا حَالًا لِأَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ لَا يكون صفة للجثة وَلَا حَالًا مِنْهَا وَلَا خَبَرًا عَنْهَا انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ صَحِيحٌ فِي ظَرْفِ الزَّمَانِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الْوَصْفِ أَمَّا إِذَا وُصِفَ فَذَكَرُوا أَنَّهُ يَكُونُ خَبَرًا تَقُولُ نَحْنُ فِي يَوْمٍ طَيِّبٍ وَأَمَّا قَبْلُ وَبَعْدُ فَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُمَا وَصْفَانِ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا قُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو فَالْمَعْنَى جَاءَ زَيْدٌ زَمَانًا أَيْ فِي زَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى زَمَانِ مَجِيءِ عَمْرٍو، وَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَقَعَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ وَلَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الوصف وكان ظَرْفَ زَمَانٍ مُجَرَّدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ صِلَةً، قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «1» وَلَا يَجُوزُ وَالَّذِينَ الْيَوْمَ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ وَمَعْنَى ثُمَّ أَصْبَحُوا ثُمَّ صَارُوا وَلَا يُرَادُ أَنَّ كُفْرَهُمْ مُقَيَّدٌ بِالصَّبَاحِ. مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ سُؤَالِ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَلَا كَلَّفَهُمْ إِيَّاهُ مَنَعَ مِنَ الْتِزَامِ أُمُورٍ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا سَأَلَ قَوْمٌ عَنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هَلْ تُلْحَقُ بِأَحْكَامِ الْكَعْبَةِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ شَيْئًا مِنْهَا، أَوْ لَمَّا ذَكَرَ الْمُحَلَّلَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فِي الشَّرْعِ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ فِي الْمُحَلَّلَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ، وَفِي حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أن أول مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيل عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ نَصَبَ الْأَوْثَانَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ» ، وَرَآهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مَلِكَ مَكَّةَ ، وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ عَرَفْتُ أَوَّلَ مَنْ بَحَّرَ الْبَحِيرَةَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ مُدْلِجٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فَجَدَعَ آذَانَهُمَا وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا وَرُكُوبَ ظُهُورِهِمَا قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ قُصْبِهِ» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي مَا جَعَلَ اللَّهُ مَا شَرَعَ ذَلِكَ وَلَا أَمَرَ بِالتَّبْحِيرِ وَالتَّسْيِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وجَعَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَتَّجِهُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَلَا هِيَ بِمَعْنَى صَيَّرَ لِعَدَمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى مَا سَنَّ وَلَا شَرَعَ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّحْوِيُّونَ فِي مَعَانِي جَعَلَ شَرَعَ، بَلْ ذَكَرُوا أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى خَلَقَ وَبِمَعْنَى أَلْقَى وَبِمَعْنَى صَيَّرَ، وَبِمَعْنَى الْأَخْذِ فِي الْفِعْلِ فَتَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى سَمَّى وَقَدْ جَاءَ حَذْفُ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّهُ قَلِيلٌ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا سُمِعَ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِ مَعْنًى لَمْ يثبت في

_ (1) سورة البقرة: 2/ 21.

لِسَانِ الْعَرَبِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا، أَيْ مَا صَيَّرَ اللَّهُ بحيرة ولا سائبة ولا وَصِيلَةً وَلَا حَامِيًا مَشْرُوعَةً بَلْ هِيَ مِنْ شَرْعِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ «1» خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى رِفْقًا لِعِبَادِهِ وَنِعْمَةً عَدَّدَهَا عَلَيْهِمْ وَمَنْفَعَةً بَالِغَةً وَأَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَطَعُوا طَرِيقَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَإِذْهَابَ نِعْمَةِ اللَّهِ بِهَا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَجُوزُ الْأَحْبَاسُ وَالْأَوْقَافُ وَقَاسُوا عَلَى الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْفَرْقُ بَيِّنٌ وَلَوْ عَمَدَ رَجُلٌ إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فَقَالَ هَذِهِ تَكُونُ حَبْسًا لَا تُجْتَنَى ثَمَرَتُهَا وَلَا تُزْرَعُ أَرْضُهَا وَلَا يُنْتَفَعُ مِنْهَا بِنَفْعٍ لَجَازَ أَنْ يُشَبَّهَ هَذَا بِالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، وَأَمَّا الْحَبْسُ الْمُتَعَيِّنُ طَرِيقُهُ وَاسْتِمْرَارُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا، وَحَسْبُكَ بِأَنَّ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مَالٍ لَهُ: «اجْعَلْهُ حَبْسًا لَا يُبَاعُ أَصْلُهُ» وَحَبَسَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا. وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَلَا يَنْسُبُوا التَّحْرِيمَ حَتَّى يَفْتَرُوا وَلَكِنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ فِي تَحْرِيمِهَا كِبَارَهُمُ انْتَهَى. نَصَّ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُفْتَرِينَ هُمُ الْمُبْتَدِعُونَ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ هُمُ الْأَتْبَاعُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِينَ كَفَرُوا يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَأَصْحَابَهُ، وَقِيلَ فِي لَا يَعْقِلُونَ أَيِ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنَ الشَّيْطَانِ لَا مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى: الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنِ انتزع آخِرِ الْآيَةِ عَمَّا تَقَدَّمَهَا وَارْتَبَطَ بِهَا مِنَ الْمَعْنَى وَعَمَّا أَخْبَرَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ مَكِّيٌّ ذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا لَا مَعْنَى لَهُ إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا صُنْعٌ وَلَا شِبْهٌ وَإِنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَهُمُ الَّذِينَ عُنُوا بِذَلِكَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُنَا تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَهُنَاكَ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا «2» وَهُنَا لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَهُنَاكَ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً «3» وَالْمَعْنَى فِي هَذَا التَّغَايُرِ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ وَمَعْنَى إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ التَّحْرِيمُ الصَّحِيحُ وَمَعْنَى حَسْبُنا: كَافِينَا وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: مَعْنَى حَسْبُنا كَفَانَا لَيْسَ شَرْحًا بِالْمُرَادِفِ إِذْ شَرَحَ الِاسْمَ بِالْفِعْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي أَوَلَوْ: أَلِفُ التَّوْقِيفِ دَخَلَتْ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ كَأَنَّهُمْ عطفوا هذه

_ (1) سورة النحل: 16/ 5. (2) سورة البقرة: 2/ 170. (3) سورة المائدة: 5/ 104. [.....]

الْجُمْلَةَ عَلَى الْأُولَى وَالْتَزَمُوا شَنِيعَ الْقَوْلِ وَإِنَّمَا التَّوْقِيفُ تَوْبِيخٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بَعْدَهُ: نَعَمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ فِي الْهَمْزَةِ أَلِفُ التَّوْقِيفِ عِبَارَةٌ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا مِنْ كَلَامِ النُّحَاةِ يَقُولُونَ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ هَمْزَةُ التَّوْبِيخِ وَأَصْلُهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُمْ عَطَفُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْأُولَى يَعْنِي فَكَانَ التَّقْدِيرُ قَالُوا: فَاعْتَنَى بِالْهَمْزَةِ فَقُدِّمَتْ لقوله: وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «1» وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُمْ عَطَفُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْأُولَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ وَاوُ الْحَالِ وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ أَحْسَبُهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالْعَالِمِ الْمُهْتَدِي وَإِنَّمَا يُعْرَفُ اهْتِدَاؤُهُ بِالْحُجَّةِ. انْتَهَى. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَاوَ، فِي أَوَلَوْ، وَاوَ الْحَالِ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ إِنَّهَا وَاوُ الْعَطْفِ لَا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَاوُ الْحَالِ لَكِنْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى تَبْيِينٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا أَنَّ لَوْ الَّتِي تَجِيءُ هَذَا الْمَجِيءَ هِيَ شَرْطِيَّةٌ وَتَأْتِي لِاسْتِقْصَاءِ مَا قَبْلَهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حَالِهِ دَاخِلَةً فِيمَا قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ، فَقَوْلُهُ: «اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ وَرُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ وَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ فَالْمَعْنَى أَعْطُوا السَّائِلَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي تُشْعِرُ بِالْغِنَى وَهِيَ مَجِيئُهُ عَلَى فَرَسٍ، وَكَذَلِكَ يُقَدَّرُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَثَلِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ فَمِنْ حَيْثُ هَذَا الْعَطْفُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ أَحْسَبُهُمْ أَتْبَاعَ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ فِي الْحَالَةِ الَّتِي تَنْفِي عَنْ آبَائِهِمُ الْعِلْمَ وَالْهِدَايَةَ فَإِنَّهَا حَالَةٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَّبَعَ فِيهَا الْآبَاءُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ الْمُفْرِطُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قَالَ أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أمروا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً وَشُحًّا مُطَاعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخُوَيِّصَةِ نَفْسِكَ وَذَرْ عَوَامَّهُمْ فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا أَجْرُ العامل

_ (1) سورة الروم: 30/ 9.

فِيهَا كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» . وَهَذَا أَصَحُّ مَا يُقَالُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ عَنِ الرَّسُولِ وَعَلَيْهِ الصَّحَابَةُ. بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَغْتَرُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَيَقُولُ أحدكم: عليّ نفسي فو الله لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسْتَعْمَلَنَّ عَلَيْكُمْ شراركم وليسو منكم سُوءَ الْعَذَابِ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَعْمَلُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ كُلِّهَا إِلَّا فِي خَصْلَتَيْنِ قَالَ: وَمَا هُمَا قَالَ لَا آمُرُ وَلَا أَنْهَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ طَمَسْتَ سَهْمَيْنِ مِنْ سِهَامِ الْإِسْلَامِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَكَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ هَذَا زَمَانَ هَذِهِ الْآيَةِ قُولُوا الْحَقَّ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الْفِتَنِ: لَوْ تَرَكْتَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ وَلَمْ تَنْهَ، فَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ» وَنَحْنُ شَهِدْنَا فَيَلْزَمُنَا أَنْ نُبَلِّغَكُمْ وَسَيَأْتِي زَمَانٌ إِذَا قِيلَ فِيهِ الْحَقُّ لَمْ يُقْبَلْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَالْزَمُوا شَرْعَكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ جِهَادٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ ولا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ بَحَرُوا الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبُوا السَّوَائِبَ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الدِّينِ لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ الْأَسْلَافِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، قَالَ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ قَالَ لَهُ الْكُفَّارُ: سَفَّهْتَ آبَاءَكَ وَضَلَّلْتَهُمْ وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَافْتِتَانِهِمْ كَابْنِ أَبِي السَّرْحِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ قِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّهَا آيَةُ الْمُوَادَعَةِ لِلْكُفَّارِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَارَضَ بِهَا شَيْءٌ مِمَّا أُمِرَ بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ تَذْهَبُ أَنْفُسُهُمْ حَسْرَةً عَلَى الْعِنَادِ وَالْعُتُوِّ مِنَ الْكَفَرَةِ وَيَتَمَنَّوْنَ دُخُولَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَقِيلَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَمَا كُلِّفْتُمْ مِنْ إِصْلَاحِهَا وَالْمَشْيِ فِي طُرُقِ الْهُدَى وَلَا يَضُرُّكُمُ الضَّلَالُ عَنْ دِينِكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مُهْتَدِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «1» وَكَذَلِكَ مَنْ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فِيهِ الْفَسَقَةُ مِنَ الْفُجُورِ وَالْمَعَاصِي وَلَا يَزَالُ يَذْكُرُ مَعَايِبَهُمْ وَمَنَاكِيرَهُمْ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر فإنّ مع تَرَكَهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا فَلَيْسَ بِمُهْتَدٍ. وَإِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الضَّلَالِ الَّذِينَ فَصَلَتِ الآية بينهم وبينه.

_ (1) سورة فاطر: 35/ 8.

وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُنَافِقِي مَكَّةَ قَالُوا: عَجَبًا لِمُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ لِيُقَاتِلَ النَّاسَ كَافَّةً حَتَّى يُسْلِمُوا وَقَدْ قَبِلَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ فَهَلَّا أَكْرَهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ رَدَّهَا عَلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْعَرَبِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ مَا يُقَارِبُ هَذَا الْقَوْلَ، وَذَكَرُوا فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنْوَاعَ التَّكَالِيفِ ثُمَّ قِيلَ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ- إِلَى قَوْلِهِ: - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا «1» الْآيَةَ. كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى جَهْلِهِمْ فَلَا تُبَالُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِجَهَالَتِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّكُمْ بَلْ كُونُوا مُنْقَادِينَ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ مُطِيعِينَ لِأَوَامِرِهِ، وعَلَيْكُمْ: مِنْ كَلِمِ الْإِغْرَاءِ وَلَهُ بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا كَانَ اسْمُهُ مُتَعَدِّيًا وَإِنْ كَانَ لَازِمًا كَانَ لَازِمًا وعَلَيْكُمْ: اسْمٌ لِقَوْلِكَ الْزَمْ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فَلِذَلِكَ نَصَبَ الْمَفْعُولَ بِهِ وَالتَّقْدِيرُ هُنَا عَلَيْكُمْ إِصْلَاحَ أَنْفُسِكُمْ أَوْ هِدَايَةَ أَنْفُسِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُغْرَى بِهِ مُخَاطَبًا جَازَ أَنْ يُؤْتَى بِالضَّمِيرِ مُنْفَصِلًا فَتَقُولُ عَلَيْكَ إِيَّاكَ أَوْ يُؤْتَى بِالنَّفْسِ بَدَلَ الضَّمِيرِ فَتَقُولُ عَلَيْكَ نَفْسَكَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالرَّفْعِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ تَخْرُجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَرْتَفِعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَعَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي عَلَيْكُمْ وَلَمْ تُؤَكَّدْ بِمُضْمَرٍ مُنْفَصِلٍ إِذْ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَيَكُونُ مَفْعُولُ عَلَيْكُمْ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ هِدَايَتَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الضَّادِ وَالرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ وَجْهَانِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَرْفُوعًا وَيَنْصُرُهُ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ لَا يَضُرُّكُمْ وَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ مَجْزُومًا وَإِنَّمَا ضُمَّتِ الرَّاءُ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهَا مِنَ الرَّاءِ الْمُدْغَمَةِ وَالْأَصْلُ لَا يَضُرُّكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ مِنْ ضَارَ يَضُورُ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ وَهِيَ لُغَاتٌ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ مَرْجِعُ الْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ وَغَلَّبَ الْخِطَابَ عَلَى الْغَيْبَةِ كَمَا تَقُولُ أَنْتَ وَزَيْدٌ تَقُومَانِ وَهَذَا فِيهِ تَذْكِيرٌ بِالْحَشْرِ وَتَهْدِيدٌ بِالْمُجَازَاةِ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 99- 104.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَعْدِيٌّ يَخْتَلِفَانِ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ مَعَهُمَا فَتًى مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَتُوفِّيَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا فَدَفَعَا تَرِكَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَحَبَسَا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مَخُوصًا بِالذَّهَبِ فَاسْتَحْلَفَهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ فَحَلَّفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ «مَا كَتَمْتُمَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا» ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ فَقَالُوا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ عَدِيٍّ وَتَمِيمٍ فَجَاءَ الرَّجُلَانِ مِنْ وَرَثَةِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا أَنَّ هَذَا الْجَامَ لِلسَّهْمِيِّ وَلَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وما اعتدينا قال: فأخذ الْجَامَ وَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ، قِيلَ وَالسَّهْمِيُّ هُوَ مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بديل بن أبي مريم وَأَنَّ جَامَ الْفِضَّةِ كَانَ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ وَهُوَ أَعْظَمُ تِجَارَاتِهِ وَأَنَّ عَدِيًّا وَتَمِيمًا بَاعَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاقْتَسَمَاهَا، وَقِيلَ اسْمُهُ بَدِيلُ بْنُ أَبِي مَارِيَةَ مَوْلَى الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَأَنَّهُ خَرَجَ مُسَافِرًا فِي الْبَحْرِ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ. وَأَنَّ إِنَاءَ الْفِضَّةِ كَانَ وَزْنُهُ ثَلَاثَمِائَةِ مِثْقَالٍ وَكَانَ مُمُوَّهًا بِالذَّهَبِ قَالَ فَقَدِمُوا الشَّامَ، فَمَرِضَ بَدِيلٌ وَكَانَ مُسْلِمًا الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّ وَرَثَةَ بُدَيْلٍ قَالُوا لَهُمَا أَلَسْتُمَا زَعَمْتُمَا أَنَّ صَاحِبَنَا لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ، فَمَا بَالُ هَذَا الْإِنَاءِ مَعَكُمَا وَهُوَ مِمَّا خَرَجَ صَاحِبُنَا بِهِ وَقَدْ حَلَفْتُمَا عَلَيْهِ قَالَا إِنَّا كُنَّا ابْتَعْنَاهُ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا عَلَيْهِ بينة فكر هنا أَنْ نُقِرَّ لَكُمْ فَتَأْخُذُوهُ مِنَّا وَتَسْأَلُوا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهَا فَرَفَعُوهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ انْتَهَى. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ تَمِيمٌ فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ وَأَدَّيْتُ لَهُمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا فَأَتَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ فَحَلَفَا فَنُزِعَتِ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ يَدِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ وَزَادَ الْوَاقِدِيُّ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ تَمِيمًا وَعَدِيًّا كَانَا أَخَوَيْنِ وَيَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمَا أَخَوَانِ لِأُمٍّ وَأَنَّ بُدَيْلًا كَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ وَدَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ، وَأَوْصَى إِلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ أَنْ يُؤَدِّيَا رَحْلَهُ وَأَنَّ الرَّسُولَ اسْتَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَأَنَّهُ حَلَّفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ أَبِي وَدَاعَةَ ، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا السَّبَبَ مُخْتَصَرًا مُجَرَّدًا فَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ بُدَيْلَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا فِيهِ مَا مَعَهُ وَطَرَحَهُ فِي مَتَاعِهِ وَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ صَاحِبَيْهِ فَأَصَابَ أَهْلُ بُدَيْلٍ الصَّحِيفَةَ فَطَالَبُوهُمَا بِالْإِنَاءِ فَجَحَدُوا فَرُفِعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَمْ يَصِحَّ لِعَدِيٍّ صُحْبَةٌ فِيمَا عَلِمْتُ وَلَا ثَبَتَ إِسْلَامُهُ وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:

هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الثَّلَجُ فِي تَفْسِيرِهَا وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ تَخَلَّصَ كَلَامُهُ فِيهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كَانَ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ الضَّلَالِ وَاسْتِبْعَادٌ عَنْ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِمَشْرُوعِيَّةِ شَهَادَتِهِمْ أَوِ الْإِيصَاءِ إِلَيْهِمْ فِي السَّفَرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ لَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَتَرْكِ الْخِيَانَاتِ انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ بِالرَّفْعِ وَإِضَافَةِ شَهادَةُ إِلَى بَيْنِكُمْ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ بِرَفْعِ شَهَادَةٌ وَتَنْوِينِهِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ أَيْضًا شَهادَةُ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الأعرج وأبي حيوة وبَيْنِكُمْ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ مَنْصُوبٌ على الظرف فشهادة عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُبْتَدَأٌ مُضَافٌ إِلَى بَيْنٍ بَعْدَ الِاتِّسَاعِ فِيهِ كَقَوْلِهِ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «1» وَخَبَرُهُ اثْنانِ تَقْدِيرُهُ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ ذَوَا شَهَادَةِ بَيْنِكُمُ اثْنَانِ وَاحْتِيجَ إِلَى الْحَذْفِ لِيُطَابِقَ الْمُبْتَدَأُ الْخَبَرَ وَكَذَا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الشَّعْبِيِّ وَالْأَعْرَجِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَرْتَفِعَ اثْنانِ عَلَى الفاعلية بشهادة وَيَكُونَ شَهادَةُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَقَدَّرَهُ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ، وَقِيلَ شَهادَةُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، وَقِيلَ خَبَرُهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ، وَيَرْتَفِعُ اثْنانِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ الشَّاهِدَانِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، أَوْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، التَّقْدِيرُ يَشْهَدُ اثْنَانِ، وَقِيلَ شَهادَةُ مُبْتَدَأٌ واثْنانِ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَأَغْنَى الْفَاعِلُ عَنِ الْخَبَرِ. وَعَلَى الْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ يَكُونُ إِذا مَعْمُولًا لِلشَّهَادَةِ وَأَمَّا حِينَ فَذَكَرُوا أَنَّهُ يَكُونُ مَعْمُولًا لِحَضَرَ أَوْ ظَرْفًا لِلْمَوْتِ أَوْ بَدَلًا مِنْ إِذَا وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ البدل، قال وحِينَ الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْهُ يَعْنِي مِنْ إِذا وَفِي إِبْدَالِهِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ وَأَنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَهَاوَنَ بِهَا الْمُسْلِمُ وَيَذْهَلَ عَنْهَا، وَحُضُورُ الْمَوْتِ مُشَارَفَتُهُ وَظُهُورُ أَمَارَاتِ بُلُوغِ الْأَجَلِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ وَاتَّبَعَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: التَّقْدِيرُ مَا بَيْنَكُمْ فَحُذِفَ مَا، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَعْنِي شَهَادَةَ مَا بَيْنَكُمْ، وبَيْنِكُمْ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنَازُعِ لِأَنَّ الشُّهُودَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ وَحَذْفُ مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا بَيْنَكُمْ جَائِزٌ لِظُهُورِهِ وَنَظِيرُهُ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أَيْ مَا بَيْنِي وَبَيْنِكَ وَقَوْلُهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ لله «2» فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ انتهى.

_ (1) سورة الكهف: 1/ 78. (2) سورة الأنعام: 6/ 94.

وَحَذْفُ مَا الْمَوْصُولَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَمَعَ الْإِضَافَةِ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ مَا الْبَتَّةَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ نَظِيرُهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَهَذَا بَاقٍ عَلَى طَرِيقَتِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُتَخَيَّلَ فِيهِ تَقْدِيرُ مَا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَيْهِ أَخْرَجَتْهُ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَصَيَّرَتْهُ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى السَّعَةِ. وَأَمَّا تَخْرِيجُ قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ وَالْحَسَنِ شَهادَةُ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ بَيْنِكُمْ فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِيُقِمْ شَهَادَةً اثْنَانِ فَجَعَلَ شَهادَةُ مَفْعُولًا بِإِضْمَارِ هذا الأمر واثْنانِ مرتفع بليقم عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ تَقْدِيرُ ابْنِ جِنِّي بِعَيْنِهِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي التَّقْدِيرُ لِيُقِمْ شَهَادَةً بَيْنَكُمُ اثْنَانِ انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا قَالُوا لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفِعْلِ وَإِبْقَاءُ فَاعِلِهِ إِلَّا إِنْ أَشْعَرَ بِالْفِعْلِ مَا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «1» عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ الْبَاءَ فَقَرَأَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَذَكَرُوا فِي اقْتِيَاسِ هَذَا خِلَافًا أَيْ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ فَدَلَّ يُسَبِّحُ عَلَى يُسَبِّحُهُ أَوْ أُجِيبَ بِهِ نَفْيٌ كَأَنْ يُقَالَ لَكَ مَا قَامَ أَحَدٌ عِنْدَكَ فَتَقُولُ بَلَى زِيدٌ أَيْ قَامَ زَيْدٌ أَوْ أُجِيبَ بِهِ اسْتِفْهَامٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا هَلْ أَتَى أُمَّ الْحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ ... بَلْ خَالِدٌ إِنْ لَمْ تَعُقْهُ الْعَوَائِقُ التَّقْدِيرُ أَتَى خَالِدٌ أَوْ يَأْتِيهَا خَالِدٌ وَلَيْسَ حَذْفُ الْفِعْلِ الَّذِي قَدَّرَهُ ابْنُ جِنِّي وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ تَخْرُجُ عَلَى وجهين: أحدهما أن يكون شَهادَةُ مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي نَابَ مَنَابَ الْفِعْلِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ واثْنانِ مُرْتَفِعٌ بِهِ وَالتَّقْدِيرُ لِيَشْهَدْ بَيْنَكُمُ اثْنَانِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ: ضَرْبًا زَيْدًا إِلَّا أَنَّ الْفَاعِلَ فِي ضَرْبًا مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اضْرِبْ وَهَذَا مُسْنَدٌ إِلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِيَشْهَدْ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَصْدَرًا لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بَلْ يَكُونُ خَبَرًا نَابَ مَنَابَ الْفِعْلِ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلًا كَقَوْلِكَ افْعَلْ وَكَرَامَةً وَمَسَرَّةً أَيْ وَأُكْرِمُكَ وَأَسُرُّكَ فَكَرَامَةٌ وَمَسَرَّةٌ بَدَلَانِ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ فِي الْخَبَرِ وَكَمَا هُوَ الْأَحْسَنُ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ فَارْتِفَاعُ صَحْبِي وَانْتِصَابُ مَطِيَّهُمْ بِقَوْلِهِ وُقُوفًا لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ فِي الْخَبَرِ التَّقْدِيرُ وَقَفَ صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ يَشْهَدُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اثْنَانِ، وَالشَّهَادَةُ هُنَا هَلْ هِيَ الَّتِي تُقَامُ بِهَا الْحُقُوقُ عِنْدَ الْحُكَّامِ أَوِ الْحُضُورُ أَوِ الْيَمِينُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ آخِرُهَا لِلطَّبَرِيِّ وَالْقَفَّالِ كَقَوْلِهِ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ «2» ، وَقِيلَ تَأْتِي الشَّهَادَةُ بمعنى

_ (1) سورة النور: 24/ 36. (2) سورة النور: 24/ 8.

الْإِقْرَارِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ «1» وَبِمَعْنَى الْعِلْمِ نَحْوَ قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «2» وَبِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَخُرِّجَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ذَوا عَدْلٍ صِفَةٌ لقوله اثْنانِ ومِنْكُمْ صفة أخرى ومِنْ غَيْرِكُمْ صِفَةٌ لِآخَرَانِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْكُمْ مِنْ أَقَارِبِكُمْ ومِنْ غَيْرِكُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي إِنْ وَقَعَ الْمَوْتُ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ أَحَدٌ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا أَجْنَبِيَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَجَعَلَ الْأَقَارِبَ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ الْمَيِّتِ وَبِمَا هُوَ أَصْلَحُ وَهُمْ لَهُ أَنْصَحُ، وَقِيلَ مِنْكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا جَازَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَذُّرِ وَجُودِهِمْ فِي حَالِ السَّفَرِ، وَعَنْ مَكْحُولٍ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «3» انْتَهَى. وَمَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَدَأَ بِهِ أَوَّلًا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ قَالُوا أَمَرَ اللَّهُ بِإِشْهَادِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْقَرَابَةِ إِذْ هُمْ أَحَقُّ بِحَالِ الْوَصِيَّةِ وَأَدْرَى بِصُورَةِ الْعَدْلِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي سَفَرٍ وَلَمْ تَحْضُرْ قَرَابَةٌ أَسْنَدَهَا إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَجَانِبِ وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَتَّى ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ وَعَدِيَّ بْنَ زِيَادٍ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ وَسَاقَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا فَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِسَبَبِ النُّزُولِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُوسَى وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَمَالَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَاخْتَارَهُ أَحْمَدُ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى مِنْ غَيْرِكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالَ بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نزلت ولا يؤمن إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا يُسَافِرُونَ بِالتِّجَارَةِ صُحْبَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَنْوَاعِ الْكُفَّارِ وَمَذْهَبُ أَبِي مُوسَى وُشُرَيْحٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَائِزَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ هَذَا الْقَوْلَ قال: قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا قَالَ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَحَالَةَ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْآخَرَانِ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يَكُنْ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ بِهِمَا مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ جَائِزٌ اسْتِشْهَادُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَبِأَنَّهُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَلِفِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ لا يجب

_ (1) سورة النساء: 4/ 166. (2) سورة آل عمران: 3/ 18. (3) سورة الطلاق: 65/ 2.

تَحْلِيفُهُ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِسَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيَّيْنِ عَلَى بُدَيْلٍ وَكَانَ مُسْلِمًا وَبِأَنَّ أَبَا مُوسَى قَضَى بِشَهَادَةِ يَهُودِيَّيْنِ بَعْدَ أَنْ حَلَّفَهُمَا وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا وَبِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ نَاصِرًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْنًى غَامِضٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنًى آخَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَكَرِيمٍ آخَرَ فَقَوْلُهُ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَخَسِيسٍ آخَرَ وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ آخَرَ فَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَيْ عَدْلَانِ وَالْكُفَّارُ لَا يَكُونُونَ عُدُولًا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَثَلِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِلْمَثَلِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّحَّاسُ فِي التَّرْكِيبِ لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِآخَرَ وَجَعَلَهُ صِفَةً لِغَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَمِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ آخَرُ عَلَى الْوَصْفِ وَانْدَرَجَ آخَرُ فِي الْجِنْسِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَا يُعْتَبَرُ جِنْسُ وَصْفِ الْأَوَّلِ تَقُولُ: جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَآخَرُ كَافِرٌ وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَآخَرَ قَاعِدٍ وَاشْتَرَيْتُ فَرَسًا سَابِقًا وَآخَرَ مُبْطِئًا فَلَوْ أَخَّرْتَ آخَرَ فِي هَذِهِ الْمُثُلِ لَمْ تَجُزِ الْمَسْأَلَةُ لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ آخَرُ وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ آخَرَ وَاشْتَرَيْتُ فَرَسًا سَابِقًا وَمُبْطِئًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ وَلَيْسَتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِلَّا أَنَّ التَّرْكِيبَ فِيهَا جَاءَ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَآخَرَانِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ اثْنانِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَدَّرْتَهُ رَجُلَانِ اثْنَانِ فَآخَرَانِ هُمَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِكَ رَجُلَانِ اثْنَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ وَصْفُ قَوْلِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ وَصْفُ الْجِنْسِ فِي قَوْلِكَ عِنْدِي رَجُلَانِ اثْنَانِ مُسْلِمَانِ وَآخَرَانِ كَافِرَانِ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ آخَرَ إِذَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ بَعِيدٌ وَصْفُهُ وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ هُوَ لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ: كَانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْغُونَ الزُّجَاجَ عَلَى ... قُعْسِ الْكَوَاهِلِ فِي أَشْدَاقِهَا ضَخَمُ وَآخِرِينَ عَلَى الْمَاذِيِّ فَوْقَهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ أَوْ مَا أَوْرَثَتْ إِرَمُ التَّقْدِيرُ كَانُوا فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا أَوْ نَاسًا يُصْغُونَ الزُّجَاجَ ثُمَّ قَالَ وَآخَرِينَ تَرَى الْمَأَذِيَ، فَآخَرِينَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِكَ فَرِيقًا، وَلَمْ يَعْبُرْهُ بِوَصْفِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ يُصْغُونَ الزُّجَاجَ لِأَنَّ الشَّاعِرَ قَسَّمَ مَنْ ذَكَرَ إِلَى قِسْمَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ بِالْوَصْفَيْنِ مُتَّحِدِي الْجِنْسِ، وَهَذَا الْفَرْقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ فَضْلًا عَمَّنْ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَحَكَاهُ عَنْ مَكْحُولٍ، فَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَهُمْ فَقَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ،

وَالنَّاسِخُ قَوْلَهُ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ «1» وَقَوْلُهُ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2» وَزَعَمُوا أَنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَقَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ أي من غير عَشِيرَتِكُمْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ أَقَارِبَهُ أَوِ الْأَجَانِبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ فَاخْتَلَفُوا. فَقِيلَ غَيْرِكُمْ يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَقِيلَ أَوْ لِلتَّرْتِيبِ إِذَا كَانَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِكُمْ يَعْنِي بِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ فَالتَّقْدِيرُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ مِلَّتِكُمْ. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ هَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَلَوْ جَرَى عَلَى لَفْظِ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ إِنْ هُوَ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْهُ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا جَاءَ الِالْتِفَاتُ جَمْعًا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدَكُمُ مَعْنَاهُ إِذَا حَضَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمُ الْمَوْتُ، وَالْمَعْنَى إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْأَرْضِ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَعَايِشِكُمْ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ اسْتِشْهَادَ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَشْرُوطٌ بِالسَّفَرِ فِي الْأَرْضِ وَحُضُورِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ. تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ لأن ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ وَأَصَابَهُ الْمَوْتُ لَيْسَ هُوَ الْحَابِسَ، تَحْبِسُونَهُما صِفَةٌ لِآخَرَانِ وَاعْتُرِضَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ بِقَوْلِهِ إِنْ أَنْتُمْ ... إِلَى الْمَوْتُ وَأَفَادَ الِاعْتِرَاضُ أَنَّ الْعُدُولَ إِلَى آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمِلَّةِ أَوِ الْقَرَابَةِ، حَسَبَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ ضَرُورَةِ السَّفَرِ وَحُلُولِ الْمَوْتِ فِيهِ اسْتَغْنَى عَنْ جَوَابِ إِنْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ انْتَهَى. وَإِلَى أَنَّ تَحْبِسُونَهُما صِفَةٌ ذَهَبُ الْحُوفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَوْضِعُ تَحْبِسُونَهُما. (قُلْتُ) : هُوَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ كَأَنَّهُ قِيلَ بَعْدَ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهِمَا فكيف إن ارتبنا فَقِيلَ: تَحْبِسُونَهُما، وَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ أَظْهَرُ مِنَ الْوَصْفِ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مَعْنَاهُ أَوْ عَدْلَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِ الْقَرَابَةِ وَتَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ أبي علي أن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 282 (2) سورة الطلاق: 65/ 2.

الْعُدُولَ إِلَى آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمِلَّةِ أَوِ الْقَرَابَةِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ ضَرُورَةِ السَّفَرِ وَحُلُولِ الْمَوْتِ فِيهِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ تَقْدِيرَ جَوَابِ الشَّرْطِ هُوَ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فَاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَوْ فَالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّرْطَ قَيْدٌ فِي شَهَادَةِ اثْنَيْنِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ الْوَصِيَّةِ لِلضَّارِبِ فِي الْأَرْضِ الْمُشَارِفِ عَلَى الْمَوْتِ أَنْ يُشْهِدَ اثْنَيْنِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فَاسْتَشْهِدُوا اثْنَيْنِ إِمَّا مِنْكُمْ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِكُمْ، وَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ إِذْ ذَاكَ قَيْدًا فِي آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِنَا فَقَطْ، بَلْ هُوَ قَيْدٌ فِيمَنْ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ وَشَارَفَ الْمَوْتَ فَيَشْهَدُ اثْنَانِ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ وَقَدِ اسْتَشْهَدْتُمُوهُمَا عَلَى الْإِيصَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ تَقْدِيرُهُ وَقَدْ أَوْصَيْتُمْ. قِيلَ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَحْلِفُ وَالْمُوصَى يَحْلِفُ. وَمَعْنَى تَحْبِسُونَهُما تَسْتَوْثِقُونَهُمَا لِلْيَمِينِ وَالْخِطَابُ لِمَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ الْإِسْلَامِ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ فِي قَوْلٍ عَلَى آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَظَاهِرُ عَوْدِهِ عَلَى اثْنَيْنِ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا سَوَاءٌ كَانَا وَصِيَّيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْجِنْسِ أَوْ مِنْ بَعْدِ أَيِّ صَلَاةٍ، وَقَدْ قِيلَ بِهَذَا الظَّاهِرِ وَخَصَّ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِصَلَاةِ دِينِهِمَا وَذَلِكَ تَغْلِيظٌ فِي الْيَمِينِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بَعْدَ الْعَصْرِ أَوِ الظُّهْرِ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُمَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْلَفَ عَدِيًّا وَتَمِيمًا بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَرُجِّحَ هذا القول بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . وَبِأَنَّ التَّحْلِيفَ كَانَ مَعْرُوفًا بَعْدَهُمَا فَالتَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ يُغْنِي عَنِ التَّقْيِيدِ بِاللَّفْظِ وَبِأَنَّ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ يُعَظِّمُونَ هَذَا الْوَقْتَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي هَذَا الْقَوْلِ لِلْعَهْدِ وَكَذَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ظَاهِرُهُ تَقْيِيدُ حَلِفِهِمَا بِوُجُودِ الِارْتِيَابِ فَمَتَى لَمْ تُوجَدِ الرِّيبَةُ فَلَا تَحْلِيفَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ تَحْلِيفُ أَبِي مُوسَى لِلْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتَشْهَدَهُمَا مُسْلِمٌ تُوُفِّيَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَتْ رِيبَةٌ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيُقْسِمانِ عَاطِفَةٌ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى قَوْلِهِ تَحْبِسُونَهُما هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُقَدِّرِ الْفَاءَ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ وَلَكِنْ تَجْعَلْهُ جَزَاءً كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: وَإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الْمَاءَ تَارَةً ... فَيَبْدُو وَتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ

تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ إِذَا حَسَرَ بَدَا فَكَذَلِكَ إِذَا حَبَسْتُمُوهُمَا اقْسِمَا انْتَهَى. وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ وَإِبْقَاءِ جَوَابِهِ فَتَكُونُ الْفَاءُ إِذْ ذَاكَ فَاءَ الْجَزَاءِ وَإِلَى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ بَعْدَ الْفَاءِ أَيْ فَهُمَا يُقْسِمَانِ وَفَهُوَ يَبْدُو، وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا بَيْتَ ذِي الرُّمَّةِ عَلَى تَوْجِيهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: يَحْسِرُ الْمَاءَ تَارَةً. جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَقَدْ عُرِّيَتْ عَنِ الرَّابِطِ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ لَكِنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِمَا بِالْفَاءِ جُمْلَةً فِيهَا ضَمِيرُ الْمُبْتَدَأِ فحصل الربط بذلك ولا نَشْتَرِي هُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ وَفَصَلَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ بِالشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَأْنِهِمَا وَاتَّهَمْتُمُوهُمَا فَحَلِّفُوهُمَا، وَقِيلَ إِنْ أُرِيدَ بِهِمَا الشَّاهِدَانِ، فَقَدْ نُسِخَ تَحْلِيفُ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ الْوَصِيَّانِ فَلَيْسَ بِمَنْسُوخٍ تَحْلِيفُهُمَا وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ إذا اتهمها ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَوْ عَلَى الْقَسَمِ أَوْ عَلَى تَحْرِيفِ الشَّهَادَةِ، أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا لِأَبِي عَلِيٍّ، وَقَوْلُهُ: نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِبْدَالِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذَا ثَمَنٍ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَشْتَرِي وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَا نَشْتَرِي لَا نَبِيعُ هُنَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ. قال الزمخشري أن لَا نَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِبِينَ لِأَجْلِ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ مَنْ نُقْسِمُ لِأَجْلِهِ قَرِيبًا مِنَّا وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي صِدْقِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ أَبَدًا فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ «1» وَإِنَّمَا قَالَ فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ وَالْآخَرَيْنِ عِنْدَهُ مُؤْمِنُونَ فَانْدَرَجُوا فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَخَصَّ ذَا الْقُرْبَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى أَقْرِبَائِهِمْ وَاسْتِسْهَالُهُمْ فِي جَنْبِ نَفْعِهِمْ مَا لَا يُسْتَسْهَلُ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَأَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْآمِرُ بِإِقَامَتِهَا النَّاهِي عَنْ كِتْمَانِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلا نَكْتُمُ خَبَرًا مِنْهُمَا أَخْبَرَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَكْتُمَانِ شَهَادَةَ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَلا نَكْتُمُ بِجَزْمِ الْمِيمِ نَهَيَا أَنْفُسَهُمَا عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَدُخُولُ لَا النَّاهِيَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ قَلِيلٌ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِذَا مَا خَرَجْنَا مِنْ دِمَشْقَ فَلَا نَعُدْ ... بِهَا أَبَدًا مَا دَامَ فِيهَا الْجَرَاضِمُ وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَالشَّعْبِيُّ بِخِلَافٍ عَنْهُ شَهادَةَ اللَّهِ بِنَصْبِهِمَا وَتَنْوِينِ شَهادَةُ وانتصبا بنكتم التَّقْدِيرُ وَلَا نَكْتُمُ اللَّهَ شَهَادَةً، قَالَ الزَّهْرَاوِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا

_ (1) سورة النساء: 4/ 135.

نَكْتُمُ شَهَادَةً وَاللَّهِ ثُمَّ حَذَفَ الْوَاوَ وَنَصَبَ الْفِعْلَ إِيجَازًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالسُّلَمِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ شَهَادَةً بالتنوين آلله بِالْمَدِّ فِي هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي هِيَ عِوَضٌ مِنْ حَرْفِ الْقَسَمِ دَخَلَتْ تَقْرِيرًا وَتَوْقِيفًا لِنُفُوسِ الْمُقْسِمِينَ أَوْ لِمَنْ خَاطَبُوهُ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى شَهَادَةَ بِالْهَاءِ الساكنة الله بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ دُونَ مَدِّ الِاسْتِفْهَامِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي الْوَقْفُ عَلَى شَهَادَةَ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَاسْتِئْنَافِ الْقَسَمِ حَسَنٌ لِأَنَّ اسْتِئْنَافَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْقَرُ لَهُ وَأَشَدُّ هَيْبَةً مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَرَضِ الْقَوْلِ. وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ شَهادَةُ بِالتَّنْوِينِ اللَّهِ بِقَطْعِ الْأَلِفِ دُونَ مَدٍّ وَخَفْضِ هَاءِ الْجَلَالَةِ وَرُوِيَتْ هَذِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ لَمِلَّاثِمِينَ بِإِدْغَامِ نُونِ مِنْ فِي لَامِ الْآثِمِينَ بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى اللَّامِ. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أَيْ فَإِنْ عُثِرَ بَعْدَ حَلِفِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا أَيْ ذَنْبًا بِحِنْثِهِمَا فِي الْيَمِينِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ وعُثِرَ اسْتِعَارَةٌ لِمَا يُوقَعُ عَلَى عِلْمِهِ بَعْدَ خَفَائِهِ وَبَعْدَ أَنْ لَمْ يَرْجُ وَلَمْ يَقْصِدْ كَمَا تَقُولُ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ وَوَقَعْتَ عَلَى كَذَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْإِثْمُ هُنَا هُوَ الشَّيْءُ الْمَأْخُوذُ لِأَنَّ أَخْذَهُ إِثْمٌ فَسُمِّي إِثْمًا كَمَا يُسَمَّى مَا أُخِذَ بِغَيْرِ الْحَقِّ مَظْلَمَةً، قَالَ سِيبَوَيْهِ الْمَظْلَمَةُ اسْمُ مَا أُخِذَ مِنْكَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ هَذَا الْمَأْخُوذُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِثْمَ هُنَا لَيْسَ الشَّيْءَ الْمَأْخُوذَ بَلِ الذَّنْبَ الَّذِي اسْتَحَقَّا بِهِ أَنْ يَكُونَا مِنَ الْآثِمِينَ الَّذِي تَبَرَّآ أَنْ يَكُونَا مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِمَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ وَلَوْ كَانَ الْإِثْمُ هُوَ الشَّيْءَ الْمَأْخُوذَ مَا قِيلَ فِيهِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا لِأَنَّهُمَا ظَلَمَا وَتَعَدَّيَا وَذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْإِثْمِ. فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْعَرَبِيَّانِ وَالْكِسَائِيُّ اسْتَحَقَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ والْأَوْلَيانِ مُثَنَّى مَرْفُوعٌ تَثْنِيَةُ الْأَوْلَى وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أُبَيٍّ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ قُرَّةَ عَنْهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ اسْتَحَقَّ مَبْنِيًّا للمفعول والْأَوْلَيانِ جَمْعُ الْأَوَّلِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ اسْتَحَقَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْأَوَّلَانِ مَرْفُوعٌ تَثْنِيَةُ أَوَّلَ، وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ الْأَوْلَيَيْنِ تَثْنِيَةُ الأولى فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَآخَرانِ فَشَاهِدَانِ آخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِثْمُ، وَمَعْنَاهُ وَهُمُ الَّذِينَ جُنِيَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَيِّتِ وِعِتْرَتُهُ، وَفِي قِصَّةِ بُدَيْلٍ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الرَّجُلَيْنِ حَلَّفَ رَجُلَيْنِ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنَّهُ إِنَاءُ صَاحِبِهِمَا وَأَنَّ شَهَادَتَهُمَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، والْأَوْلَيانِ الْأَحَقَّانِ بِالشَّهَادَةِ لِقَرَابَتِهِمَا وَمَعْرِفَتِهِمَا وَارْتِفَاعِهِمَا عَلَى هُمَا الْأَوْلَيَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ هُمَا فَقِيلَ الْأَوْلَيانِ، وَقِيلَ هُمَا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومانِ أَوْ مِنْ آخَرَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَا

بِاسْتَحَقَّ أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ابْتَدَأَتِ الْأَوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ لِلشَّهَادَةِ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى أَنَّ تَخْرِيجَ رَفْعِ الْأَوْلَيانِ على تقديرهما الْأَوْلَيَانِ، وَعَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ يَقُومانِ وَزَادَ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَيانِ مُبْتَدَأً ومؤخرا، وَالْخَبَرُ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا. كَأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ فَالْأَوْلَيَانِ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ فَيَجِيءُ الْكَلَامُ كَقَوْلِهِمْ تَمِيمِيٌّ أَنَا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَيانِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ اسْتَحَقَّ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِيهِ شَيْءٌ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَيانِ صِفَةً لِآخَرَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا وُصِفَ خُصِّصَ فَوُصِفَ مِنْ أَجْلِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي صَارَ لَهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِاسْتِلْزَامِهِ هَدْمَ مَا كَادُوا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ لَا تُوصَفُ بِالْمَعْرِفَةِ وَلَا الْعَكْسُ وَعَلَى مَا جَوَّزَهُ أَبُو الْحَسَنِ يَكُونُ إِعْرَابُ قَوْلِهِ: فَآخَرانِ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ يَقُومانِ وَيَكُونُ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ مِنَ الَّذِينَ أَوْ يَكُونُ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ يَقُومانِ وَالْخَبَرُ مِنَ الَّذِينَ وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْخَبَرِ أَوْ يَكُونَانِ صِفَتَيْنِ لِقَوْلِهِ: فَآخَرانِ وَيَرْتَفِعُ آخَرَانِ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ وَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الْفَاعِلِ، أَيْ فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ وَأَمَّا مَفْعُولُ اسْتَحَقَّ فَتَقَدَّمَ تَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِثْمَ، وَيَعْنِي أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْإِثْمِ لِأَنَّ الْإِثْمَ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فَاعِلُهُ وَقَدْ سَبَقَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْحَوْفِيُّ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَأَجَازُوا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ كون التَّقْدِيرُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِيصَاءَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّةَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ ارْتِفَاعِ قَوْلِهِ الْأَوْلَيانِ باستحق فَقَدْ أَجَازَهُ أَبُو عَلِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ مَنَعَهُ قَالَ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ إِنَّمَا يَكُونُ الْوَصِيَّةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا. وَأَمَّا الْأَوْلَيانِ بِالْمَيِّتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّا فَيُسْنَدَ اسْتَحَقَّ إِلَيْهِمَا إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ إِنَّمَا رَفَعَ قوله الْأَوْلَيانِ باستحق عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ نَابَ عَنْهُ الْأَوْلَيانِ، فَقَدَّرَهُ استحق عليهم انتداب الأولين مِنْهُمْ لِلشَّهَادَةِ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فَيَسُوغُ تَوْجِيهُهُ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا أن يرتفع الْأَوْلَيانِ باستحق وَطَوَّلَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ حَمَلَ اسْتَحَقَّ هُنَا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ اسْتِحْقَاقًا حَقِيقَةً لِقَوْلِهِ اسْتَحَقَّا إِثْماً وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ غَلَبُوا عَلَى الْمَالِ بِحُكْمِ انْفِرَادِ هَذَا الْمَيِّتِ وَعَدْمِهِ لِقَرَابَتِهِ أَوْ لِأَهْلِ دِينِهِ فَجَعَلَ تَسَوُّرَهُمْ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقًا مَجَازًا وَالْمَعْنَى مِنَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي غَابَتْ وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُحْضِرَ وَلِيَّهَا، قَالَ فَلَمَّا غَابَتْ وَانْفَرَدَ هَذَا الْمُوصِي اسْتَحَقَّتْ هَذِهِ الْحَالَ وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الدِّينِ الْوِلَايَةَ وَأَمْرِ

الْأَوْلَيَيْنِ عَلَى هَذِهِ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ يُبْنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِيجَازًا، وَيُقَوِّي هَذَا الْغَرَضَ أَنْ يُعَدَّى الْفِعْلُ بِعَلَى لَمَّا كَانَ بِاقْتِدَارٍ وَحُمِلَ هُنَا عَلَى الْحَالِ، وَلَا يُقَالُ اسْتَحَقَّ مِنْهُ أَوْ فِيهِ إِلَّا فِي الِاسْتِحْقَاقِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى وَجْهِهِ، وَأَمَّا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فَيُقَالُ فِي الْحَمْلِ وَالْغَلَبَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَعَارِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي مَقامَهُما عَائِدٌ على شاهدي الزور ومِنَ الَّذِينَ هُمْ وُلَاةُ الْمَيِّتِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي قَوْلِ مَنْ قَدَّرَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِيصَاءَ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فيه لأنه لم يجعل حرف بَدَلًا مِنْ حَرْفٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَى بِمَعْنَى فِي وَلَا بِمَعْنَى مِنْ، وَقَدْ قِيلَ بِهِمَا أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ مِنْهُمُ الْإِثْمَ لِقَوْلِهِ: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ «1» أَيْ مِنَ النَّاسِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الإثم أي من الناس وَأَجَازَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ تَقْدِيرَ الْإِيصَاءِ وَاخْتَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وابن أبي الْفَضْلِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنْ الذين استحق عليهم الْمَالَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي أنه لم وصف مَوَالِي بِهَذَا الْوَصْفِ، وَذَكَرُوا فِيهِ قَوْلًا وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ مَالَهُمُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَالَهُمْ فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ فَقَدْ حَاوَلَ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِذَلِكَ الْمَالِ تَعَلُّقَ مِلْكِهِ لَهُ فَصَحَّ أَنْ يُوصَفَ الْمَالِكُ بِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْكَ ذَلِكَ الْمَالَ انْتَهَى. والْأَوْلَيانِ بِمَعْنَى الْأَقْرَبَيْنِ إِلَى الْمَيِّتِ أَوِ الْأَوْلَيَانِ بِالْحَلِفِ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ ادَّعَيَا أَنَّ مُورِثَ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ بَاعَهُمَا الْإِنَاءَ وَهُمَا أَنْكَرَا ذَلِكَ فَالْيَمِينُ حَقٌّ لَهُمَا، كَإِنْسَانٍ أَقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ وَادَّعَى أَنَّهُ قَضَاهُ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الَّذِي ادَّعَى أَوَّلًا لِأَنَّهُ صَارَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَتَلَخَّصَ فِي إِعْرَابِ الْأَوْلَيانِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ الِابْتِدَاءُ وَالْخَبَرُ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْبَدَلُ مِنْ ضَمِيرِ يَقُومانِ وَالْبَدَلُ مِنْ آخَرَانِ والوصف لآخران والمفعولية باستحق عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مُخْتَلَفٍ فِي تَقْدِيرِهِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بِنَاءُ اسْتَحَقَّ لِلْفَاعِلِ وَرَفْعُ الْأَوْلَيَيْنِ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَاهُ مِنَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ أَوْلَيَانِ مِنْ سَهْمٍ بِالشَّهَادَةِ أَنْ يُجَرِّدُوهُمَا لِقِيَامِ الشَّهَادَةِ وَيُظْهِرُوا بِهِمَا كَذِبَ الْكَاذِبِينَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا ملخصه الْأَوْلَيانِ رفع باستحق وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ مَالَهُمْ وَتَرَكَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ فَسُمِّيَا أَوْلَيَيْنِ أَيْ صَيَّرَهُمَا عَدَمُ النَّاسِ أَوْلَى بِهَذَا الْمَيِّتِ، وَتَرِكَتِهِ فَجَازَا فِيهَا، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى مِنَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَيَانِ مِنْهُمْ فَاسْتَحَقَّ بِمَعْنَى حَقَّ كَاسْتَعْجَبَ وَعَجِبَ، أَوْ يَكُونُ اسْتَحَقَّ بِمَعْنَى سَعَى وَاسْتَوْجَبَ فَالْمَعْنَى مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ حَضَرَ أَوْلَيَانِ مِنْهُمْ فَاسْتَحَقَّا عَلَيْهِمْ أَيِ اسْتَحَقَّا لَهُمْ وَسَعَيَا فيه واستوجباه بأيمانهما

_ (1) سورة المطففين: 83/ 2. [.....]

وَقُرْبَانِهِمَا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ وَصِيَّتَهُمَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ اسْتَحَقَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْأَوَّلِينَ جَمْعُ الْأَوَّلِ فَخُرِّجَ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلِينَ وَصْفٌ لِلَّذِينَ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَوْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِعَلَى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ وَمَعْنَى الْأَوَّلِيَّةِ التَّقَدُّمُ عَلَى الْأَجَانِبِ فِي الشَّهَادَةِ لِكَوْنِهِمْ أَحَقَّ بِهَا انْتَهَى وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِ أَنَّ قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَنَّهُمُ الْأَجَانِبُ لَا أَنَّهُمُ الْكُفَّارُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَعْنَاهَا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ أَيْ غَلَبُوا عَلَيْهِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُونَ أَيْ فِي الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ انْتَهَى. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ فَالْأَوَّلَانِ مَرْفُوعٌ بِاسْتَحَقَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى رد اليمين على المدعي وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يرون ذلك فوجهه عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَرَثَةَ قَدِ ادَّعَوْا عَلَى النَّصْرَانِيَّيْنِ أَنَّهُمَا أُخْتَانَا فَحَلَفَا فَلَمَّا ظَهَرَ كَذِبُهُمَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ فِيمَا كَتَمَاهُ فَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ فَكَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْوَرَثَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الشِّرَاءَ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ سِيرِينَ فَانْتِصَابُ الْأَوْلَيَيْنِ عَلَى الْمَدْحِ. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا أَيْ فَيُقْسِمُ الْآخَرَانِ الْقَائِمَانِ مَقَامَ شَهَادَةِ التَّحْرِيفِ أَنَّ مَا أَخْبَرَا بِهِ حَقٌّ وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ الْقِصَّةِ أَحَقُّ مِمَّا ذَكَرَاهُ أَوَّلًا وَحَرَّفَا فِيهِ وَمَا زِدْنَا عَلَى الْحَدِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيَمِينُنَا أَحَقُّ مِنْ يَمِينِهِمَا وَمَنْ قَالَ الشَّهَادَةُ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْيَمِينِ قَالَ هُنَا الشَّهَادَةُ يَمِينٌ وَسُمِّيَتْ شَهَادَةً لِأَنَّهَا يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ كَمَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَحَقُّ أَصَحُّ لِكُفْرِهِمَا وَإِيمَانِنَا انْتَهَى. إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ خَتَمَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَبَرِّيًا مِنَ الظُّلْمِ وَاسْتِقْبَاحًا لَهُ وَنَاسَبَ الظُّلْمُ هُنَا لِقَوْلِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنا وَالِاعْتِدَاءُ وَالظُّلْمُ مُتَقَارِبَانِ وَنَاسَبَ خَتْمُ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ شَاهِدَا الزُّورِ بِقَوْلِهِ لَمِنَ الْآثِمِينَ لِأَنَّ عَدَمَ مُطَابَقَةِ يَمِينِهِمَا لِلْوَاقِعِ وَكَتْمِهِمَا الشَّهَادَةَ يَجُرَّانِ إِلَيْهِمَا الْإِثْمَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمُ السَّابِقُ وَلَمَّا كَانَ الشَّاهِدَانِ لَهُمَا حَالَتَانِ: حَالَةٌ يُرْتَابُ فِيهَا إِذَا شَهِدَا، فَإِذْ ذَاكَ يُحْبَسَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيَحْلِفَانِ الْيَمِينَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْآيَةِ قُوبِلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَيْ عَلَى مَا شَهِدَا حَقِيقَةً دُونَ إِنْكَارٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا

كَذِبٍ، وَحَالَةٌ يُطَّلَعُ فِيهَا إِذَا شَهِدَا عَلَى إِثْمِهِمَا بِالشَّهَادَةِ وَكَذِبِهِمَا فِي الْحَلِفِ، فَإِذْ ذَاكَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى أَيْمَانِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى شُهُودٍ آخَرِينَ فَعُمِلَ بِأَيْمَانِهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ حَلِفِهِمْ وَافْتِضَاحِهِمْ فِيهَا بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ قُوبِلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَكَانَ الْعَطْفُ بِأَوْ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا لَمْ يَتَّضِحْ صِدْقُهُمَا لَا يَخْلُوَانِ مِنْ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِمَّا حُصُولُ رِيبَةٍ فِي شَهَادَتِهِمَا وَإِمَّا الِاطِّلَاعُ عَلَى خِيَانَتِهِمَا فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَطْفُ بِأَوِ الْمَوْضُوعَةِ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فَالْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَوْ خَوْفِ رَدِّ الْأَيْمَانِ إِلَى غَيْرِهِمْ فَتَسْقُطُ أَيْمَانُهُمْ وَلَا تُقْبَلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ كُلُّهُ يُقَرِّبُ اعْتِدَالَ هَذَا الصِّنْفِ فِيمَا عَسَى أَنْ يَنْزِلَ مِنَ النَّوَازِلِ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ التَّحْلِيفَ الْمُغَلَّظَ بِعَقِبِ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَخَافُونَ الْفَضِيحَةَ وَرَدَّ الْيَمِينِ انْتَهَى. وَقِيلَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ فِي جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ إِلَى الْحَبْسِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَطْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَظْهَرُ هَذَا مِنْ كلام السدّي وأو عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ تُحِبُّنِي يَا زَيْدُ أَوْ تُسْخِطُنِي كَأَنَّكَ قُلْتَ وَإِلَّا أَسْخَطْتَنِي فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْآيَةِ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَإِلَّا خَافُوا رَدَّ الْأَيْمَانِ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْمَعْنَى ذَلِكَ الْحُكْمُ كُلُّهُ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَأْتُوا أَوْ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَخَافُوا انْتَهَى. فَتَلَخَّصَ أَنَّ أَوْ تَكُونُ عَلَى بَابِهَا أَوْ تَكُونُ بِمَعْنَى الواو، ويَخافُوا مَعْطُوفٌ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى يَأْتُوا أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى إِلَى أَنْ كَقَوْلِكَ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَنِّي حقي وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ عَطِيَّةَ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ السَّابِقَةِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ فِعْلُهُ وَجَزَاؤُهُ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى إِلَى أَنْ فَهِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. إِلَّا أَنَّ الْعَطْفَ بِهَا لَا يَكُونُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يَأْتُوا لَكِنَّهُ يَكُونُ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ وَذَلِكَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي يَأْتُوا وَمَا بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ مُثَنًّى فَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِاعْتِبَارِ الصِّنْفِ وَالنَّوْعِ، وَقِيلَ لَا يَعُودُ إِلَى كِلَيْهِمَا بِخُصُوصِيَّتِهِمَا بَلْ إِلَى النَّاسِ الشُّهُودِ وَالتَّقْدِيرُ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَحْذَرَ النَّاسُ الْخِيَانَةَ فَيَشْهَدُوا بِالْحَقِّ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ فِي رد اليمين على المدعي. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا أَيِ احْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَاتَّخِذُوا وِقَايَةً مِنْهُ بِأَنْ لَا تَخُونُوا وَلَا تَحْلِفُوا بِهِ كَاذِبِينَ وَأَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلَى أَهْلِهَا وَاسْمَعُوا سَمَاعَ إِجَابَةٍ وَقَبُولٍ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ حَرَّفَ الشَّهَادَةَ أَنَّهُ فَاسِقٌ خَارِجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَاللَّهُ لَا يَهْدِيهِ إِلَّا إِذَا تَابَ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ وَالْمَعْنَى اشْتِرَاطُ انْتِفَاءِ التَّوْبَةِ.

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى بِالْحُكْمِ فِي شَاهِدَيِ الْوَصِيَّةِ وَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، ذَكَّرَ بِهَذَا الْيَوْمِ الْمَهُولِ الْمَخُوفِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَجَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ فَضِيحَةِ الدُّنْيَا وَعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ لِمَنْ حَرَّفَ الشَّهَادَةَ وَلِمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَسْمَعْ، وَذَكَرُوا فِي نَصْبِ يَوْمَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرُوا. وَالثَّانِي: بِإِضْمَارِ احْذَرُوا. وَالثَّالِثُ: بِاتَّقُوا. وَالرَّابِعُ: بِاسْمَعُوا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَالْخَامِسُ: بلا يَهْدِي، قَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ قَالَا: لَا يَهْدِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ طَرِيقَ الْجَنَّةِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَوْ لَا يَهْدِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الْحُجَّةِ. وَالسَّادِسُ: أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَهُوَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ وَاتَّقُوا اللَّهَ يَوْمَ جَمْعِهِ وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالْجُمْلَتَيْنِ. وَالسَّابِعُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ مُؤَخَّرٌ تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ كَانَ كَيْتُ وَكَيْتُ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عطية وَصْفِ الْآيَةِ وَبَرَاعَتِهَا إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفًا وَالْعَامِلُ اذْكُرُوا وَاحْذَرُوا مِمَّا حَسُنَ اخْتِصَارُهُ لِعِلْمِ السَّامِعِ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَخَصَّ الرُّسُلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ قَادَةُ الْخَلْقِ وَفِي ضِمْنِ جَمْعِهِمْ جَمْعُ الْخَلَائِقِ وَهُمُ الْمُكَلَّمُونَ أَوَّلًا انْتَهَى. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا أَيْ قَالَ الرُّسُلُ وَقْتَ جَمْعِهِمْ وَقَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ مَاذَا أُجِبْتُمْ وَصَارَ نَظِيرَ مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ «1» وَسُؤَالُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ مَاذَا أُجِبْتُمْ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لِأُمَمِهِمْ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَيُبْتَدَأَ حِسَابُهُمْ كَمَا سئلت الموءودة تَوْبِيخًا لِوَائِدِهَا وَتَوْقِيفًا لَهُ عَلَى سُوءِ فِعْلِهِ وَانْتِصَابُ مَاذَا أُجِبْتُمْ وَلَوْ أُرِيدَ الْجَوَابُ لَقِيلَ بِمَاذَا أُجِبْتُمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقِيَامُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ مَاذَا إِذَا جَعَلْتَهَا كُلَّهَا اسْتِفْهَامًا وَأَنْشَدُوا عَلَى مَجِيءِ مَا ذُكِرَ مَصْدَرًا قَوْلَ الشَّاعِرِ: مَاذَا تُعِيرُ ابْنَتِي رَبْعَ عَوِيلِهِمَا ... لَا تَرْقُدَانِ وَلَا بُؤْسَى لِمَنْ رَقَدَا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَعْنَاهُ مَاذَا أَجَابَتْ بِهِ الْأُمَمُ، وَلَمْ يَجْعَلْ مَا مَصْدَرًا بَلْ جَعَلَهَا كِنَايَةً عَنِ الْجَوَابِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُجَابُ بِهِ لَا لِلْمَصْدَرِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ وَلَوْ أُرِيدَ الْجَوَابُ لَقِيلَ بِمَاذَا أُجِبْتُمْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ مَا لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرُهَا وَأُجِبْتُمْ صِلَتُهُ وَالتَّقْدِيرُ مَاذَا أُجِبْتُمْ بِهِ انْتَهَى، وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ يضعف لو قلت

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30.

جَاءَنِي الَّذِي مَرَرْتُ تُرِيدُ بِهِ كَانَ ضَعِيفًا إِلَّا إِنِ اعْتُقِدَ أَنَّهُ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ أَوَّلًا فَانْتَصَبَ الضَّمِيرُ ثُمَّ حُذِفَ مَنْصُوبًا وَلَا يَبْعُدُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ مَاذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأُجِبْتُمْ وَحَرْفُ الْجَرِّ مَحْذُوفٌ أَيْ بِمَاذَا أُجِبْتُمْ وَمَا وَذَا هُنَا بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ وَيَضْعُفُ أَنْ يُجْعَلَ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي هُنَا لِأَنَّهُ لَا عَائِدَ هُنَا وَحَذْفُ الْعَائِدِ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ ضَعِيفٌ انْتَهَى، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ أَضْعَفُ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ إِنَّمَا سُمِعَ ذَلِكَ فِي أَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ زَيْدًا مَرَرْتُ بِهِ تُرِيدُ بِزَيْدٍ مَرَرْتُ وَلَا سِرْتُ الْبَيْتَ تُرِيدُ إِلَى الْبَيْتِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ ... وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلَا الْأَسَى لَقَضَانِي يُرِيدُ لَقَضَى عَلَيَّ فَحَذَفَ عَلَيَّ وَعَدَّى الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ فَنَصَبَهُ. وَنَفْيُهُمُ الْعِلْمَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ لَا عِلْمَ لَنا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا عِلْمًا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا كَأَنَّ الْمَعْنَى لَا عِلْمَ لَنَا يَكْفِي وَيَنْتَهِي إِلَى الْغَايَةِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ مَعْنَى مَاذَا أُجِبْتُمْ مَاذَا عَمِلُوا بَعْدَكُمْ وَمَاذَا أَحْدَثُوا فَلِذَلِكَ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنا وَيُؤَيِّدُهُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَةَ مَاذَا أُجِبْتُمْ تنبوعن أَنْ تُشْرَحَ بِقَوْلِهِ مَاذَا عَمِلُوا وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَسَهْلٍ التُّسْتَرِيِّ أَقْوَالًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُمْ لَا عِلْمَ لَنا لَا تُنَاسِبُ الرُّسُلَ أَضْرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) كَيْفَ يَقُولُونَ لَا عِلْمَ لَنَا وَقَدْ عَلِمُوا مَا أُجِيبُوا؟ (قُلْتُ) : يَعْلَمُونَ أَنَّ الْغَرَضَ بِالسُّؤَالِ تَوْبِيخُ أَعْدَائِهِمْ فَيَكِلُونَ الْأَمْرَ إِلَى عِلْمِهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِمَا مُنُّوا بِهِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ عَلَى الْكَفَرَةِ وَأَفَتُّ فِي أَعَضَادِهِمْ، وَأَجْلَبُ لِحَسْرَتِهِمْ وَسُقُوطِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ تَوْبِيخُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَشَكِّي أَنْبِيَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَنْكُتَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ عَلَى السُّلْطَانِ خَاصَّةً مِنْ خَوَاصِّهِ نُكْتَةً قَدْ عَرَفَهَا السُّلْطَانُ وَاطَّلَعَ عَلَى كُنْهِهَا، وَعَزَمَ عَلَى الِانْتِصَارِ لَهُ مِنْهُ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ لَهُ مَا فَعَلَ بِكَ هَذَا الْخَارِجِيُّ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا فَعَلَ بِهِ يُرِيدُ تَوْبِيخَهُ وَتَبْكِيتَهُ، فَيَقُولُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا فَعَلَ بِي تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ إِلَى عِلْمِ سُلْطَانِهِ وَاتِّكَالًا عَلَيْهِ وَإِظْهَارًا لِشِكَايَتِهِ وَتَعْظِيمًا لِمَا بِهِ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْآيَةُ كَهَذَا الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ لَا عِلْمَ لَنا وَهَذَا نَفْيٌ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ. وَفِي الْمِثَالِ أَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا فَعَلَ بِي وَهَذَا لَا يَنْفِي الْعِلْمَ عَنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِسُلْطَانِهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْخَارِجِيِّ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ وَكُلُّ الْأُمَّةِ مَا كَانُوا كَافِرِينَ حَتَّى يُرِيدَ الرَّسُولُ تَوْبِيخَهُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ عِلْمُنَا سَاقِطٌ مَعَ عِلْمِكَ

وَمَغْمُورٌ بِهِ لِأَنَّكَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَمَنْ عَلِمَ الْخَفِيَّاتِ لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ الظَّوَاهِرُ الَّتِي مِنْهَا إِجَابَةُ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ فَكَأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا جَنْبَ عِلْمِكَ حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ. قَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْوَبُ لِأَنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَدِّ الْأَمْرِ إِلَيْهِ إِذْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا بِمَا شُوفِهُوا بِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ وَيَنْقُصُهُمْ مَا فِي قُلُوبِ الْمُشَافِهِينَ مِنْ نِفَاقٍ وَنَحْوِهِ وَمَا كَانَ بَعْدَهُمْ مِنْ أُمَمِهِمْ وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ جَمِيعَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْكَمَالِ فَرَأَوُا التَّسْلِيمَ لَهُ وَالْخُشُوعَ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ انْتَهَى. وَقِيلَ لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا كَانَ بَعْدَنَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلْخَاتِمَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَقَدْ رَأَوْهُمْ سُودَ الْوُجُوهِ زُرْقَ الْعُيُونِ مُوَبَّخِينَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْأَصَحُّ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ تَعْلَمُ مَا أَظْهَرُوا وَمَا أَضْمَرُوا وَنَحْنُ مَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا أَظْهَرُوا فَعِلْمُكَ فِيهِمْ أَنْفَذُ مِنْ عِلْمِنَا فَبِهَذَا الْمَعْنَى نَفُوا الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَلَا عِلْمٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِمَّا نُفِيَتْ فِيهِ الْحَقِيقَةُ ظَاهِرًا وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْكَمَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا عِلْمَ لَنَا كَامِلٌ، تَقُولُ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ أَيْ كَامِلُ الرُّجُولِيَّةِ فِي قوته وَنَفَاذِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلْمَ غَيْرٌ وَالظَّنَّ غَيْرٌ وَالْحَاصِلُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْغَيْرِ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّوَاهِرِ وَاللَّهُ مُتَوَلِّي السَّرَائِرَ» . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ الْحَدِيثَ» وَالْأَنْبِيَاءُ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا الْبَتَّةَ بِأَحْوَالِهِمْ إِنَّمَا الْحَاصِلُ عِنْدَنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الظَّنُّ وَالظَّنُّ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الظُّنُونِ أَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا إِلَى الظن لأن الأحكام فيها مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قالوا لا عِلْمَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْبَتَّةَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الظَّنِّ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِسُؤَالِكَ وَلَا جَوَابَ لَنَا عَنْهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو حَيْوَةَ مَاذَا أُجِبْتُمْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ عَلَّامَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى فَيَتِمُّ الْكَلَامُ بِالْمُقَدَّرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّكَ أَنْتَ أَيْ إِنَّكَ الْمَوْصُوفُ بِأَوْصَافِكَ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ثُمَّ نُصِبَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ صِفَةٍ لِاسْمِ إِنَّ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ وَضَمِيرَ الْمُخَاطَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ وَأَمَّا ضَمِيرُ الْغَائِبِ فَفِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ، لِلْكِسَائِيِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الْغُيُوبِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ حَيْثُ وَقَعَ كَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ قَدِ اسْتَثْقَلَ تَوَالِيَ ضَمَّتَيْنِ مَعَ الْيَاءِ فَفَرَّ إِلَى حَرَكَةٍ مُغَايِرَةٍ لِلضَّمَّةِ مُنَاسِبَةٍ لِمُجَاوِرَةِ الْيَاءِ وَهِيَ لِلْكَسْرَةِ. إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِذْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُوَبِّخُ الْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ بِسُؤَالِ الرُّسُلِ

عَنْ إِجَابَتِهِمْ وَبِتَعَدُّدِ مَا أَظْهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ فَكَذَّبُوهُمْ وَسَمُّوهُمْ سحرة وجاوز واحد التَّصْدِيقِ إِلَى أَنِ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً كَمَا قَالَ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا أَظْهَرَ عَلَى يَدِ عِيسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ «1» وَاتَّخَذَهُ بَعْضُهُمْ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إِذْ مُضْمَرًا تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إذ، وَقَالَ هُنَا بِمَعْنَى يَقُولُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ فِي الْقِيَامَةِ تَقْدُمَةً لِقَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِذْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ انْتَهَى. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ إِذْ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ إِذْ قَالَ اللَّهُ. وَإِذَا كَانَ الْمُنَادَى عَلَمًا مُفْرَدًا ظَاهِرَ الضمة موصوفا بابن متصل مضاف إِلَى عَلَمٍ جَازَ فَتْحُهُ إِتْبَاعًا لِفَتْحَةِ ابْنٍ. هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ الضمة تقدير وَالْفَتْحَةِ فَإِنْ لَمْ تَجْعَلْ ابْنَ مَرْيَمَ صِفَةً وَجَعَلْتَهُ بَدَلًا أَوْ مُنَادًى فَلَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الْعَلَمِ إِلَّا الضَّمُّ وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَبَعْضُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى النَّحْوِ هُنَا، فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِيسَى فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ مُنَادًى مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُضَافٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِأَنَّهُ فِي نِيَّةِ الْإِضَافَةِ ثُمَّ جُعِلَ الِابْنُ تَوْكِيدًا وَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ هَذَا جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ نَحْوَ يَا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ: يَا حَكَمُ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ ... أَنْتَ الْجَوَادُ بْنُ الْجَوَادِ بْنِ الْجُودِ قَالَ التَّبْرِيزِيُّ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَوْضِعَ عِيسَى نَصْبٌ لِأَنَّكَ تَجْعَلُ الِاسْمَ مَعَ نَعْتِهِ إِذَا أَضَفْتَهُ إِلَى الْعَلَمِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الْمُضَافِ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ فِي نَحْوِ يَا زَيْدُ بْنَ بَكْرٍ إِذَا فَتَحْتَ آخِرَ الْمُنَادَى أَنَّهَا حَرَكَةُ اتباع الحركة نُونِ ابْنَ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِسُكُونِ بَاءِ ابْنٍ لِأَنَّ السَّاكِنَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا الْإِقْرَارُ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِعْلَامُ وَفَائِدَةُ هَذَا الذِّكْرِ إِسْمَاعُ الْأُمَمِ مَا خَصَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنَ الْكَرَامَةِ وَتَأْكِيدُ حُجَّتِهِ عَلَى جَاحِدِهِ، وَقِيلَ أُمِرَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا لِغَيْرِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ النِّعْمَةِ وَوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، قَالَ الْحَسَنُ ذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا وَالنِّعْمَةُ هُنَا جِنْسٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا عَدَّدَهُ بَعْدَ هَذَا التَّوْحِيدِ اللَّفْظِيِّ مِنَ النعم وأضافها إِلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِهَا وَنِعَمُهُ عَلَيْهِ قَدْ عَدَّدَهَا هُنَا وَفِي الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمَرْيَمَ وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَنِعْمَتُهُ عَلَى أُمِّهِ بَرَاءَتُهَا مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهَا وَتَكْفِيلُهَا لِزَكَرِيَّا وَتَقَبُّلُهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ «2» إِلَى آخِرِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ صَائِرَةٌ إليه.

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 7. (2) سورة التحريم: 66/ 12.

إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ أَيَّدْتُكَ عَلَى أَفْعَلْتُكَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى وَزْنِ فَاعَلْتُكَ، ثُمَّ قَالَ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ أَيَّدْتُكَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلْتُكَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْإِعْلَالُ وَالْمَعْنَى فيهما أيدتك من الأبد، وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَعَزِّ الْأَكْرَمِ ... أَيَّدَنَا يَوْمَ زُحُوفِ الْأَشْرَمِ انْتَهَى وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَيَّدَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَيْسَ وَزْنُهُ أَفْعَلَ لِمَجِيءِ الْمُضَارِعِ عَلَى يُؤَيِّدُ فَالْوَزْنُ فَعَّلَ وَلَوْ كَانَ أَفْعَلَ لَكَانَ الْمُضَارِعُ يُؤَيِّدُ كَمُضَارِعِ آمَنَ يُؤْمِنُ وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ آيَدَ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ مُضَارِعِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنْ كَانَ يُؤَايِدُ فَهُوَ فَاعَلَ وَإِنْ كَانَ يُؤَيِّدُ فَهُوَ أَفْعَلَ. وَأَمَّا قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ يَظْهَرُ أَنَّ وَزْنَهُ أَفْعَلْتُكَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْإِعْلَالُ فَلَا أَفْهَمُ مَا أَرَادَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «1» . تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي فِيهَا وَالْإِعْرَابُ وَمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ نَذْكُرُهُ فَنَقُولُ جَاءَ هُنَاكَ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَنْفُخُهَا فَتَكُونُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَتَكُونُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فِيهَا فَيَكُونُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَالضَّمِيرُ فِي فِيها قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ اضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ قَالَ مَكِّيٌّ هُوَ فِي آلِ عِمْرَانَ عَائِدٌ عَلَى الطَّائِرِ وَفِي الْمَائِدَةِ عَائِدٌ عَلَى الْهَيْئَةِ، قَالَ وَيَصِحُّ عَكْسُ هَذَا وَقَالَ غَيْرُهُ الضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ عَائِدٌ عَلَى الطِّينِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَا يَصِحُّ عَوْدُ هَذَا الضَّمِيرِ لَا عَلَى الطِّينِ وَلَا عَلَى الْهَيْئَةِ لِأَنَّ الطَّيْرَ أَوِ الطَّائِرَ الَّذِي يَجِيءُ الطَّيْرُ عَلَى هَيْئَتِهِ لَا نَفْخَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ لَا نَفْخَ فِي هَيْئَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ وَكَذَلِكَ الطِّينُ إِنَّمَا هُوَ الطِّينُ الْعَامُّ وَلَا نَفْخَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا يَرْجِعُ بَعْضُ الضَّمِيرِ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَفْخِهِ فِي شَيْءٍ وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي يَكُونُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ مَكِّيٍّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ مَا فُهِمَ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ عَائِدًا عَلَى الطَّائِرِ لَا يُرِيدُ بِهِ الطَّائِرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ الْهَيْئَةُ بَلِ الطَّائِرَ الَّذِي صَوَّرَهُ عِيسَى وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَإِذْ يَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ طَائِرًا صُورَةً مِثْلَ صُورَةِ الطَّائِرِ الْحَقِيقِيِّ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا حَقِيقَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ عَائِدًا عَلَى الْهَيْئَةِ لَا يُرِيدُ بِهِ الْهَيْئَةَ الْمُضَافَةَ إِلَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 87، 253.

الطَّائِرِ، بَلِ الْهَيْئَةَ الَّتِي تَكُونُ الْكَافُ صِفَةً لَهَا وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ هَيْئَةً مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَتَنْفُخُ فِيها أَيْ فِي الْهَيْئَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكَافِ الْمَنْسُوبِ خَلْقِهَا إِلَى عِيسَى، وَأَمَّا قَوْلُ مَكِّيٍّ وَيَصِحُّ عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمُذَكَّرُ عَائِدًا عَلَى الْهَيْئَةِ وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ عَائِدًا عَلَى الطَّائِرِ فَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ ذُكِّرَ الضَّمِيرِ وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى مُؤَنَّثٍ لِأَنَّهُ لُحِظَ فِيهَا مَعْنَى الشَّكْلِ كَأَنَّهُ قَدَّرَ هَيْئَةً كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِقَوْلِهِ شَكْلًا كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وَأَنَّهُ أَنَّثَ الضَّمِيرِ وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى مُذَكَّرٍ لِأَنَّهُ لُحِظَ فِيهِ مَعْنَى الْهَيْئَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْوَجْهُ عَوْدُ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ ضَرُورَةً، أَيْ صُوَرًا أَوْ أَشْكَالًا أَوْ أَجْسَامًا، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَخْلُقُ ثُمَّ قَالَ وَلَكَ أَنْ تُعِيدَهُ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَافُ فِي مَعْنَى الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ مِثْلَ هَيْئَةٍ وَلَكَ أَنْ تُعِيدَ الضَّمِيرَ عَلَى الْكَافِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ اسْمًا فِي غَيْرِ الشِّعْرِ، فَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَحْدَهُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، إِنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيها لِلْكَافِ قَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ يَخْلُقُهَا عِيسَى وَيَنْفُخُ فِيهَا وَجَاءَ فِي آلِ عِمْرَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ «1» مَرَّتَيْنِ وَجَاءَ هُنَا بِإِذْنِي أَرْبَعَ مَرَّاتٍ عَقِيبَ أَرْبَعِ جُمَلٍ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالِامْتِنَانِ بِهَا فَنَاسَبَ الْإِسْهَابَ وَهُنَاكَ مَوْضِعُ إِخْبَارٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَاسَبَ الْإِيجَازَ وَالتَّقْدِيرُ فِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى تُحْيِي الْمَوْتَى فَعَبَّرَ بِالْإِخْرَاجِ عَنِ الْإِحْيَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كَذلِكَ الْخُرُوجُ «2» بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً «3» أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً. وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ مَنَعْتُهُمْ مِنْ قَتْلِكَ حِينَ هَمُّوا بِكَ وَأَحَاطُوا بِالْبَيْتِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ لَمَّا قَالَ اللَّهُ لِعِيسَى اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ كَانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ وَلَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا لِغَدْوٍ يَقُولُ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ رِزْقُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ فَيُخَرَّبَ وَلَا وَلَدٌ فَيَمُوتَ، أَيْنَ مَا أَمْسَى بَاتَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ عِيسَى خُوطِبَ بِذَلِكَ قَبْلَ الرَّفْعِ وَالْبَيِّنَاتُ هُنَا هِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَمَّا فَصَّلَ تَعَالَى نِعْمَتَهُ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا لِعِيسَى دُونَ أُمِّهِ لِأَنَّ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ نِعْمَةَ النُّبُوَّةِ وَظُهُورَ هَذِهِ الْخَوَارِقِ فَنِعْمَتُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْهَا عَلَى أُمِّهِ إِذْ وَلَدَتْ مِثْلَ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذَا: شَهِدَ الْعَوَالِمُ أَنَّهَا لَنَفِيسَةٌ ... بِدَلِيلِ مَا وَلَدَتْ مِنَ النجباء

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 49. (2) سورة ق: 50/ 11. (3) سورة ق: 50/ 11.

فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَاحِرٌ بِالْأَلِفِ هُنَا. وَفِي هُودٍ وَالصَّفِّ فَهَذَا هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى عِيسَى. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ سِحْرٌ فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي أَيْ أَوْحَيْتُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَحْيَ إِلْهَامٍ أَوْ وَحْيَ أَمْرٍ وَالرَّسُولُ هُنَا هُوَ عِيسَى وَهَذَا الْإِيحَاءُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ هُوَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِيسَى بِأَنْ جَعَلَ لَهُ أَتْبَاعًا يُصَدِّقُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهَا جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ آمَنَّا بِاللَّهِ «1» لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّهِ فَقَطْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ «2» وَهُنَا جَاءَ قالُوا آمَنَّا فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي وَجَاءَ هُنَاكَ وَاشْهَدْ بِأَنَّا، وَهُنَا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ إِذْ أَنَّ مَحْذُوفٌ مِنْهُ النُّونُ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ. إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ اعْتِرَاضٌ لِمَا وَصَفَ حَالَ قَوْمِ اللَّهِ لِعِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَضَمَّنَ الِاعْتِرَاضُ إِخْبَارَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ بِنَازِلَةِ الْحَوَارِيِّينَ فِي الْمَائِدَةِ إِذْ هِيَ مِثَالٌ نَافِعٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَعَ نَبِيِّهَا انْتَهَى. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ إِلَى آخِرِ قِصَّةِ الْمَائِدَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ذَكَّرَ عِيسَى بِنِعَمِهِ وَبِمَا أَجْرَاهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَبِاخْتِلَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ وَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى قِصَّةِ الْمَائِدَةِ ثُمَّ إِلَى سُؤَالِهِ تَعَالَى لِعِيسَى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَوْنُهُ اعتقد أن إِذْ بدلا مِنْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنَّ فِي آخِرِ الْآيَاتِ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الْمَحْمَلُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ بَلِ الظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الشَّكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنْ يُنْزِلَ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قَالُوا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 8. (2) سورة الصف: 61/ 14.

هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؟ (قُلْتُ) : مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَإِنَّمَا حَكَى ادِّعَاءَهُمْ لَهُمَا ثُمَّ أَتْبَعَهُ قَوْلَهُ: إِذْ قالَ فَآذَنَ أَنَّ دَعْوَاهُمْ كَانَتْ بَاطِلَةً وَأَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ وَقَوْلُهُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ كَلَامٌ لَا يَرِدُ مِثْلُهُ عَنْ مُؤْمِنِينَ مُعَظِّمِينَ لِرَبِّهِمْ وَلِذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى لَهُمْ مَعْنَاهُ اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَشُكُّوا فِي اقْتِدَارِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ وَلَا تَقْتَرِحُوا عَلَيْهِ وَلَا تتحكموا مَا تَشْتَهُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَتَهْلِكُوا إِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعْدَهَا. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ دَعْوَاكُمْ لِلْإِيمَانِ صَحِيحَةً انْتَهَى. وَأَمَّا غَيْرُ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَحْفَظُهُ فِي أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي صَدْرِ الْأَمْرِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْحَوَارِيُّونَ هُمْ خَوَاصُّ عِيسَى وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ شَكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِصَاحِبِهِ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ مَعِي؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ هَلْ يَسْهُلُ عَلَيْكَ انْتَهَى. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: مَعْنَاهُ هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَسْأَلَتِكَ إِيَّاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ لَمْ يَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ سُؤَالَ مُسْتَخْبِرٍ هَلْ يُنَزِّلُ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ يُنَزِّلُ فَاسْأَلْهُ لَنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَلْ يَفْعَلُ تَعَالَى هَذَا وَهَلْ يَقَعُ مِنْهُ إِجَابَةٌ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِيَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ فَالْمَعْنَى هَلْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَهَلْ يَفْعَلُهُ انْتَهَى. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِفْهَامُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَمْ لَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وُجُوهِ الْحِكْمَةِ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ كَانَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا فَإِنَّ الْمُنَافِيَ مِنْ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ كَالْمُنَافِي مِنْ وُجُوهِ الْقُدْرَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ هَذَا الْجَوَابُ يَمْشِي عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ قَضَى بِذَلِكَ وَهَلْ عَلِمَ وُقُوعَهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْضِ بِهِ وَيَعْلَمْ وُقُوعَهُ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا غَيْرَ مَقْدُورٍ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَقَالَ أَيْضًا لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ كَوْنَهُمْ شَاكِّينَ فِيهِ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَمَنْ يَأْخُذُ بِيَدِ ضَعِيفٍ وَيَقُولُ: هَلْ يَقْدِرُ السُّلْطَانُ عَلَى إِشْبَاعِ هَذَا، وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ وَاضِحٌ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ هَلْ يُنَزِّلُ رَبُّكَ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ وَيَسْتَطِيعُ صِلَةٌ وَمَنْ قَالَ: الرَّبُّ هَنَا جِبْرِيلُ لِأَنَّهُ كَانَ يُرَبِّي عِيسَى وَيَخُصُّهُ بِأَنْوَاعِ الْإِعَانَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي نحابهم هَذَا الْمَنْحَى مِنَ الِاقْتِرَاحِ هُوَ أَنَّ عِيسَى قَالَ لَهُمْ مَرَّةً هَلْ لَكُمْ فِي صِيَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِلَّهِ

تَعَالَى، ثُمَّ إِنْ سَأَلْتُمُوهُ حَاجَةً قَضَاهَا فَلَمَّا صَامُوهَا قالوا: يا معلم الخبر، إِنَّ حَقَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يُطْعَمَ فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. فَأَرَادُوا أَنْ تَكُونَ الْمَائِدَةُ عِيدَ ذَلِكَ الصَّوْمِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ رَبَّكَ بِنَصْبِ الْبَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ جُبَيْرٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولُوا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ نَزَّهَتْهُمْ عَنْ بَشَاعَةِ اللَّفْظِ وَعَنْ مُرَادِهِمْ ظَاهِرَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَأْوِيلَاتِ ذَلِكَ وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هَلْ تستطيع سؤال ربك وأَنْ يُنَزِّلَ مَعْمُولٌ لِسُؤَالٍ الْمَحْذُوفِ إِذْ هُوَ حَذْفٌ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ سُؤَالٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَزِّلَ رَبُّكَ بِدُعَائِكَ فيؤول الْمَعْنَى وَلَا بُدَّ إِلَى مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنَ اللَّفْظِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ لِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ الدُّعَاءَ لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لِعِيسَى وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ لَامَ هَلْ فِي يَاءِ يَسْتَطِيعُ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ قَوْلُ عِيسَى اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لم ينكر عليه الِاقْتِرَاحَ لِلْآيَاتِ وَهُوَ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تَقْرِيرًا لِلْإِيمَانِ كَمَا تَقُولُ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا إِنْ كُنْتَ رَجُلًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَجَمَاعَةٌ اتَّقُوهُ أَنْ تَسْأَلُوهُ الْبَلَاءَ لِأَنَّهَا إِنْ نَزَلَتْ وَكَذَّبْتُمْ عُذِّبْتُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ أَنْ تَسْأَلُوهُ مَا لَمْ تَسْأَلْهُ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ. وَقِيلَ أَنْ تَشُكُّوا فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِنْزَالِ الْمَائِدَةِ. وَقِيلَ اتَّقُوا اللَّهَ فِي الشَّكِّ فِيهِ وَفِي رُسُلِهِ وَآيَاتِهِمْ. وَقِيلَ اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ. وَقِيلَ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِيَكُونَ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذَا الْمَطْلُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا عِيسَى فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى اتْبَاعِ حَرَكَتِهِ حَرَكَةَ الِابْنِ كَقَوْلِكَ يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَاشِيَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا كَقَوْلِكَ يَا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو وَالدَّلِيلُ عليه قوله: أجاز ابْنَ عُمَرَ كَأَنِّي خَمْرٌ، لِأَنَّ التَّرْخِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَضْمُومِ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: عِيسَى فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ضَمِّهِ فَهُوَ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِكَوْنِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِتْبَاعِ فَإِصْلَاحُهُ عِيسَى مُقَدَّرٌ فِيهِ الْفَتْحَةُ عَلَى إِتْبَاعِ الْحَرَكَةِ وَقَوْلُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا هَذَا مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَهُوَ تَقْدِيرُ الْفَتْحِ وَالضَّمِّ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا تَظْهَرُ فِيهِ الضَّمَّةُ قِيَاسًا عَلَى الصَّحِيحِ وَلَمْ يَبْدَأْ أَوَّلًا بِالضَّمِّ الَّذِي هُوَ مُجْمَعٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ فليس بشرط، أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ تَرْخِيمِ رَجُلٍ اسْمُهُ مُثَنًّى فَتَقُولُ يَا مُثَنُّ أَقْبِلْ وَإِلَى تَرْخِيمِ بَعْلَبَكَّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِاسْمِ الْمَضْمُومِ وَإِنْ عَنَى ضَمَّةً مُقَدَّرَةً فَإِنْ عَنَى ضَمَّةً ظَاهِرَةً فَلَيْسَ بِشَرْطٍ أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ تَرْخِيمِ رَجُلٍ اسْمُهُ مُثَنًّى فَتَقُولُ يَا مُثَنُّ فَإِنَّ مِثْلَ يَا جَعْفَرَ بْنَ زَيْدٍ مِمَّا فُتِحَ فِيهِ آخِرُ الْمُنَادَى لِأَجْلِ الْإِتْبَاعِ مقدّر فيه الضمة

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 2.

لِشَغْلِ الْحَرْفِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ كَمَا قَدَّرَ الْأَعْرَابِيُّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ الْحَمْدِ لِلَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ لِأَجْلِ اتباع حركة الله فَقَوْلُكَ: يَا حَارُ هُوَ مَضْمُومٌ تَقْدِيرًا وَإِنْ كَانَتِ الثَّاءُ الْمَحْذُوفَةُ مَشْغُولَةً فِي الْأَصْلِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ، وَهِيَ الْفَتْحَةُ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ التَّرْخِيمِ وَبَيْنَ مَا فُتِحَ إِتْبَاعًا وَقُدِّرَتْ فِيهِ الضَّمَّةُ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ حَيْثُ تَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَيْهَا. قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لَمَّا أَمَرَهُمْ عِيسَى بِتَقْوَى اللَّهِ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِمْ صَرَّحُوا بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَائِدَةِ وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْأَكْلَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِلشَّرَفِ لَا لِلشِّبَعِ وَاطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ بِسُكُونِ الْفِكْرِ، إِذَا عَايَنُوا هَذَا الْمُعْجِزَ الْعَظِيمَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ وَعُلِمَ الضَّرُورَةُ وَالْمُشَاهِدَةُ بِصِدْقِهِ فَلَا تَعْتَرِضُ الشُّبَهُ اللَّاحِقَةُ فِي عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ وَكَيْنُونَتِهِمْ مِنَ الْمُشَاهِدِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاقِلِينَ لَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ، الْقَائِمِينَ بِهَذَا الشَّرْعِ أَوْ مِنَ الشَّاهِدِينَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَكَ بِالنُّبُوَّةِ، وَقَدْ طَوَّلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مُتَعَلِّقِ إِرَادَتِهِمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُلَخَّصُهَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْأَكْلَ لِلْحَاجَةِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ إِذَا خَرَجَ اتَّبَعَهُ خَمْسَةُ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ صَاحِبٍ لَهُ وَذِي عِلَّةٍ يَطْلُبُ الْبُرْءَ وَمُسْتَهْزِئٍ فَوَقَعُوا يَوْمًا فِي مَفَازَةٍ وَلَا زَادَ فَجَاعُوا وَسَأَلُوا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يَسْأَلُوا عِيسَى نُزُولَ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَذَكَرَ شَمْعُونُ لِعِيسَى ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْ لَهُمُ اتَّقُوا اللَّهَ، وَأَرَادُوا الْأَكْلَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَوِ التَّشْرِيفَ بِالْمَائِدَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالِاطْمِئْنَانُ إِمَّا بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَكَ إِلَيْنَا أَوِ اخْتَارَنَا أَعْوَانًا لَكَ أَوْ قَدْ أَجَابَكَ أَوِ الْعِلْمُ بِالصِّدْقِ فِي أَنَّا إِذَا صُمْنَا لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا. لَمْ نَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَانَا أَوْ فِي أَنَّكَ رَسُولٌ حَقًّا إِذِ الْمُعْجِزُ دَلِيلُ الصِّدْقِ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرَوُا الْآيَاتِ، أَوْ يُرَادُ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيُّ وَالْمُشَاهِدَةُ انْتَهَى. وَأَتَتْ هَذِهِ الْمَعَاطِيفُ مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا لَطِيفًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ مُعَايَنَةِ نُزُولِهَا فَيَجْتَمِعُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ وَحَاسَّةُ الذَّوْقِ فَبِذَلِكَ يَزُولُ عَنِ الْقَلْبِ قَلَقُ الِاضْطِرَابِ وَيَسْكُنُ إِلَى مَا عَايَنَهُ الْإِنْسَانُ وَذَاقَهُ، وَبِاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِدْقِ مَنْ كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدَيْهِ إِذْ جَاءَتْ طِبْقَ مَا سَأَلَ، وَسَأَلُوا هَذَا الْمُعْجِزَ الْعَظِيمَ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ بِدُعَاءِ مَنْ هُوَ فِي الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ أَقْوَى وَأَغْرَبُ مِنْ تَأْثِيرِ مَنْ هُوَ فِي الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ فِي عَالَمِهِ الْأَرْضِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَانْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَهُمَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَإِذَا حَصَلَ عِنْدَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِدْقِ عِيسَى شَهِدُوا شَهَادَةَ يَقِينٍ لَا يَخْتَلِجُ بِهَا ظَنٌّ وَلَا شَكٌّ وَلَا وَهْمٌ وَبِذِكْرِهِمْ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْحَامِلَةَ عَلَى طَلَبِ

الْمَائِدَةِ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ سُؤَالُهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِآيَاتِ عِيسَى وَمُعْجِزَاتِهِ وَإِنَّ وَحْيَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ كَانَ فِي صَدْرِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ ثُمَّ آمَنُوا وَرَأَوُا الْآيَاتِ وَاسْتَمَرُّوا وَصَبَرُوا. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَنَعْلَمَ بِضَمِّ النُّونِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَهَكَذَا فِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَيُعْلَمَ بِالْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَيُعْلَمَ بِالْيَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَتَعْلَمَ بِالتَّاءِ أَيْ وَتَعْلَمُهُ قُلُوبُنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ونَكُونَ بِالنُّونِ وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ. وَقَرَأَ سِنَانٌ وَعِيسَى وَتَكُونَ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ وَفِي الزَّمَخْشَرِيِّ وَكَانَتْ دَعْوَاهُمْ لِإِرَادَةِ مَا ذَكَرُوا كَدَعْوَاهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَإِنَّمَا سَأَلَ عِيسَى وَأُجِيبَ لِيَلْزَمُوا الْحُجَّةَ بِكَمَالِهَا وَيُرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِذَا خَالَفُوا انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْحَوَارِيُّونَ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا وَلِيَ أَنْ الْمُخَفِّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِعْلٌ مُتَصَرِّفٌ عَنْ دُعَاءٍ فَإِنْ كَانَ مَاضِيًا فُصِلَ بَيْنَهُمَا بقد نَحْوَ قَوْلِهِ وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَإِنْ كَانَ مُضَارِعًا فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ تَنْفِيسٍ كَقَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى «1» وَلَا يَقَعُ بِغَيْرِ فَصْلٍ قِيلَ إِلَّا قَلِيلًا. وَقِيلَ إِلَّا ضَرُورَةً وَفِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَيْهَا الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي نَحْوِ إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «2» ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَاكِفِينَ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا يُحْذَفُ عَامِلُهُ وُجُوبًا إِلَّا إِذَا كَانَ كَوْنًا مُطْلَقًا لَا كَوْنًا مُقَيَّدًا وَالْعُكُوفُ كَوْنٌ مُقَيَّدٌ وَلِأَنَّ الْمَجْرُورَ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا عَاكِفِينَ الْمُقَدَّرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ مُضْطَرِبٌ لِأَنَّ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هُوَ عَاكِفِينَ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى إِلَيْهِ الْعَامِلُ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَإِذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا كَوْنًا مُطْلَقًا وَاجِبَ الْحَذْفِ فَظَهَرَ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا. قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ رُوِيَ أَنَّ عِيسَى لَبِسَ جُبَّةَ شَعْرٍ وَرِدَاءَ شَعْرِ وَقَامَ يُصَلِّي ويبكي ويدعو تقدّم الْكَلَامُ عَلَى لَفْظَةِ اللَّهُمَّ فِي آلِ عِمْرَانَ وَنَادَى رَبَّهُ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ الَّذِي لَا شَرِكَةَ فِيهِ ثُمَّ ثَانِيًا بِلَفْظِ رَبَّنا مُطَابِقًا إِلَى مُصْلِحِنَا وَمُرَبِّينَا وَمَالِكِنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَكُونُ لَنا عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِمَائِدَةٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْأَعْمَشُ يَكُنْ بِالْجَزْمِ عَلَى

_ (1) سورة المزمل: 73/ 20. (2) سورة الأعراف: 7/ 21.

جَوَابِ الْأَمْرِ وَالْمَعْنَى يَكُنْ يَوْمُ نُزُولِهَا عِيدًا وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتَّخَذَهُ النَّصَارَى عِيدًا. وَقِيلَ الْعِيدُ السُّرُورُ وَالْفَرَحُ وَلِذَلِكَ يُقَالُ يَوْمُ عِيدٍ فَالْمَعْنَى يَكُونُ لَنَا سُرُورًا وَفَرَحًا وَالْعِيدُ الْمُجْتَمَعُ لِلْيَوْمِ الْمَشْهُودِ وَعُرْفُهُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا يَسْتَدِيرُ بِالسَّنَةِ أَوْ بِالشَّهْرِ أَوْ بِالْجُمْعَةِ وَنَحْوِهِ. وَقِيلَ الْعِيدُ لُغَةً مَا عَادَ إِلَيْكَ مِنْ شَيْءٍ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ سَوَاءٌ كَانَ فَرَحًا أَوْ تَرَحًا وَغَلَبَتِ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ الْعِيدُ كُلُّ يَوْمٍ يَجْمَعُ النَّاسَ لِأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَوَّلِنا لِأَهْلِ زَمَانِنَا وَآخِرِنا مَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا. وَقِيلَ لِأَوَّلِنا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا وَالرُّؤَسَاءِ وَآخِرِنا يَعْنِي الْأَتْبَاعَ وَالْأَوَّلِيَّةُ وَالْآخِرِيَّةُ فَاحْتَمَلَتَا الْأَكْلَ وَالزَّمَانَ وَالرُّتْبَةَ وَالظَّاهِرُ الزَّمَانُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْجَحْدَرِيُّ لِأُولَانَا وَأُخْرَانَا أَنَّثُوا عَلَى مَعْنَى الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْمَجْرُورُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لَنا وَكُرِّرَ الْعَامِلُ وَهُوَ حَرْفُ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ مِنْها مِنْ غَمٍّ «1» ، وَالْبَدَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ إِذَا كَانَ بَدَلَ بَعْضٍ أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ جَازَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ بَدَلَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ أَفَادَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ جَازَ لِهَذَا الْبَدَلِ إِذِ الْمَعْنَى تَكُونُ لَنَا عِيدًا كُلِّنَا كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بِكُمْ أَكَابِرِكُمْ وَأَصَاغِرِكُمْ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مَرَرْتُ بِكُمْ كُلِّكُمْ وَإِنْ لَمْ تُفْدِ تَوْكِيدًا فَمَسْأَلَةُ خِلَافٍ الأخفش بخير وغيره من البصريين بمنع. وَمَعْنَى وَآيَةً مِنْكَ عَلَامَةٌ شَاهِدَةٌ عَلَى صِدْقِ عَبْدِكَ. وَقِيلَ حُجَّةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِكَ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَأَنَّهُ مِنْكَ وَالضَّمِيرُ فِي وَأَنَّهُ إِمَّا لِلْعِيدِ أَوِ الْإِنْزَالِ. وَارْزُقْنا قِيلَ الْمَائِدَةَ، وَقِيلَ الشُّكْرَ لِنِعْمَتِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لِأَنَّكَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تَبْتَدِئُ بِالرِّزْقِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ تَأَمَّلْ هَذَا التَّرْتِيبَ فَإِنَّ الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا سَأَلُوا الْمَائِدَةَ ذَكَرُوا فِي طَلَبِهَا أَغْرَاضًا فَقَدَّمُوا ذِكْرَ الْأَكْلِ وَأَخَّرُوا الْأَغْرَاضَ الدِّينِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ وَعِيسَى طَلَبَ الْمَائِدَةَ وَذَكَرَ أَغْرَاضَهُ فَقَدَّمَ الدِّينِيَّةَ وَأَخَّرَ أَغْرَاضَ الْأَكْلِ حَيْثُ قَالَ وَارْزُقْنا وَعِنْدَ هَذَا يَلُوحُ لَكَ مَرَاتِبُ دَرَجَاتِ الْأَرْوَاحِ فِي كَوْنِ بَعْضِهَا رُوحَانِيَّةً وَبَعْضِهَا جُسْمَانِيَّةً، ثُمَّ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ صَفَاءِ وَقْتِهِ وَإِشْرَاقِ رُوحِهِ لَمَّا ذَكَرَ الرِّزْقَ بِقَوْلِهِ وَارْزُقْنا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ بَلِ انْتَقَلَ مِنَ الرِّزْقِ إِلَى الرَّازِقِ فَقَالَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَقَوْلُهُ رَبَّنا ابْتِدَاءٌ مِنْهُ بِنِدَاءِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَوْلُهُ أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً انْتِقَالٌ مِنَ الذَّاتِ إِلَى الصِّفَاتِ وَقَوْلُهُ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا إِشَارَةٌ إِلَى ابْتِهَاجِ الرُّوحِ بِالنِّعْمَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَادِرَةٌ عَنِ الْمُنْعِمِ وَقَوْلُهُ وَآيَةً مِنْكَ إِشَارَةٌ إِلَى حِصَّةِ النَّفْسِ وَكُلُّ ذَلِكَ نَزَلَ مِنْ حَضْرَةِ الْجَلَالِ. فَانْظُرْ كَيْفَ ابتدأ بالأشرف نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ فَالْأَدْوَنِ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عُرُوجٌ مَرَّةً أُخْرَى مِنَ الْأَخَسِّ إِلَى الْأَشْرَفِ وَعِنْدَ هذا يلوح

_ (1) سورة الحج: 22/ 22.

[سورة المائدة (5) : الآيات 115 إلى 120]

هَمُّهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ عُرُوجِ الْأَرْوَاحِ الْمُشْرِقَةِ النُّورَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُزُولِهَا اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ دَائِرٌ بَيْنَ لَفْظٍ فَلْسَفِيٍّ وَلَفْظٍ صُوفِيٍّ وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ عَنْ كلام العرب ومناحيها. [سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120] قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ مُنَزِّلُهَا وَبِإِنْزَالِهَا قَالَ الْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ شَرْطَهُ الْمُتَعَارَفَ فِي الْأُمَمِ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ آيَةِ الِاقْتِرَاحِ عُذِّبَ أَشَدَّ عَذَابٍ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ لَمَّا سَمِعُوا الشَّرْطَ أَشْفَقُوا فَلَمْ تَنْزِلْ. قَالَ مُجَاهِدٌ فَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ لِئَلَّا يسألوا هذه الْآيَاتِ وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ هَلْ رُفِعَتْ بِإِحْدَاثٍ أَحْدَثُوهُ أَمْ لَمْ تُرْفَعْ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ أَكَلُوا مِنْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَأْكُلُونَ مِنْهَا متى شاؤوا، وَقِيلَ بَطِرُوا فَكَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. وَقَالَ الْمُؤَرِّخُونَ كَانَتْ تَنْزِلُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا ثُمَّ تَرْتَفِعُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا فِي الْأَرْضِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نُزُولِهَا وَفِيمَا كَانَ عَلَيْهَا وَفِي عَدَدِ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا وَفِيمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُتَعَارِضًا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، ضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا إِذْ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِيهِ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ

التَّفْسِيرِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ وَلَا يَخُونُوا فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» . قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عَاصِمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا وَلَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حديث الحسن بن قرعة حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُرْوَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الحسن بن قرعة وَلَا نَعْلَمُ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا أَصْلًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ مُنَزِّلُها مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مُخَفَّفًا وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ إِنِّي سَأُنْزِلُهَا بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ بَعْدُ أَيْ بَعْدَ إِنْزَالِهَا وَالْعَذَابُ هُنَا بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ فَانْتِصَابُهُ انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى السَّعَةِ وَهُوَ إِعْرَابٌ سَائِغٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَذَابِ مَا يُعَذِّبُ بِهِ إِذْ يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِحَرْفِ الْجَرِّ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بِعَذَابٍ لَا يُقَالُ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ فَنَصَبَهُ لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ فِي مِثْلِ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَا أُعَذِّبُهُ يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ وَالْمَعْنَى لَا أُعَذِّبُ مِثْلَ التَّعْذِيبِ أَحَدًا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا أُعَذِّبُ بِهِ أَحَدًا وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى السَّعَةِ وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِكَ: ظَنَنْتُهُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا فَلَا يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِعَذَابٍ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِكَ هو جنس وعذابا نَكِرَةٌ فَانْتَظَمَهُ الْمَصْدَرُ كَمَا انْتَظَمَ اسْمُ الْجِنْسِ زَيْدًا فِي: زِيدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ مِنْ عَلَى حَذْفٍ أَيْ لَا أُعَذِّبُ مِثْلَ عَذَابِ الْكَافِرِ وَهَذِهِ تَقَادِيرُ مُتَكَلَّفَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا، وَالْعَذَابُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَسَخَهُمْ خَنَازِيرَ. وَقَالَ غَيْرُهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْكُفْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمُوجِبُ تَعْذِيبَهُمْ قِيلَ ارْتِدَادُهُمْ، وَقِيلَ شَكُّهُمْ فِي عِيسَى وَتَشْكِيكُهُمُ النَّاسَ، وَقِيلَ مُخَالَفَتُهُمُ الْأَمْرَ بِأَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يُخَبِّئُوا وَلَا يَدَّخِرُوا قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لَمْ يَتِمَّ يَوْمُهُمْ حَتَّى خَانُوا فَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا وَظَاهِرُ الْعَالَمِينَ الْعُمُومُ وَقِيلَ عَالَمِي زَمَانِهِمْ. وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِذْ زَائِدَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ بِمَعْنَى إِذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي قَدْ وَقَعَ ولا يؤول بيقول. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ رَفَعَ عِيسَى إِلَيْهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى مَا قَالَتْ وَادَّعَتْ أَنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْجُمْهُورُ: هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ على رؤوس الْخَلَائِقِ فَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ بَاطِلٌ، فَيَقَعُ التَّجَوُّزُ فِي اسْتِعْمَالِ إِذْ بِمَعْنَى إِذَا وَالْمَاضِي بَعْدَهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي إِيلَاءِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْمَ، وَمَجِيءِ الْفِعْلِ بَعْدَهُ دَلَالَةٌ عَلَى صُدُورِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ لَكِنْ وَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ النِّسْبَةِ أَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ الْوَاقِعُ صَادِرًا عَنِ الْمُخَاطَبِ أَمْ لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْهُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: أَضْرَبْتَ زَيْدًا، فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ هَلْ صَدَرَ مِنْكَ ضَرْبٌ لِزَيْدٍ أَمْ لَا، وَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِأَنَّ ضَرْبَ زِيدٍ قَدْ وَقَعَ. فَإِذَا قُلْتَ أَنْتَ ضَرَبْتَ زَيْدًا كَانَ الضَّرْبُ قَدْ وَقَعَ بِزَيْدٍ، لَكِنَّكَ اسْتَفْهَمْتَ عَنْ إِسْنَادِهِ لِلْمُخَاطَبِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ بَيَانِيَّةٌ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى بِإِلَهِيَّةِ مَرْيَمَ، فَكَيْفَ قِيلَ إِلهَيْنِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَمْ تَلِدْ بَشَرًا وَإِنَّمَا وَلَدَتْ إِلَهًا، لَزِمَهُمْ أَنْ يقولوا من حيث البغضية بِإِلَهِيَّةِ مَنْ وَلَدَتْهُ، فَصَارُوا بِمَثَابَةِ مَنْ قَالَ: انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ صُدُورُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْوُجُودِ لَا مِنْ عِيسَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صُدُورِ الْقَوْلِ وُجُودُ الِاتِّخَاذِ. قالَ سُبْحانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا وَيُنْطَقَ بِهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ شَرِيكٌ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ قَالَ أَبُو رَوْقٍ: لَمَّا سَمِعَ عِيسَى هَذَا الْمَقَالَ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ وَانْفَجَرَتْ مِنْ أَصْلِ كُلِّ شَعْرَةٍ عَيْنٌ مِنْ دَمٍ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ مُجِيبًا لِلَّهِ تَعَالَى: سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا لَكَ وَبَرَاءَةً لَكَ مِنَ السُّوءِ. مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ هَذَا نَفْيٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلُ الْعَقْلِ فَيَمْتَنِعُ عَقْلًا ادِّعَاءُ بَشَرٍ محدث الإلهية وبِحَقٍّ خَبَرُ لَيْسَ أَيْ لَيْسَ مُسْتَحَقًّا وَأَجَازُوا فِي لِي أَنْ يَكُونَ تَبْيِينًا وَأَنْ يَكُونَ صِلَةً صِفَةً لِقَوْلِهِ بِحَقٍّ لِي تَقَدَّمَ فَصَارَ حَالًا أَيْ بِحَقٍّ لِي، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ لِأَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ، وَحَقٍّ بِمَعْنَى مُسْتَحَقٍّ أَيْ مَا لَيْسَ مُسْتَحَقًّا، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ مَا لَيْسَ لِي وَجَعَلَ بِحَقٍّ متعلقا بعلمته الَّذِي هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِادِّعَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيمَا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا يُصَارُ إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إِلَّا لِمَعْنًى يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَوْ بِتَوْقِيفٍ، أَوْ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ إِلَّا ذَلِكَ انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ وَرَدُّهُ، وَيَمْتَنِعُ أن يتعلق لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الشَّرْطِ شَيْءٌ مِنْ مَعْمُولَاتِ فِعْلِ الشَّرْطِ وَلَا مِنْ مَعْمُولَاتِ جَوَابِهِ، وَوَقَفَ نَافِعٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى قَوْلِهِ بِحَقٍّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا مَقَامُ خُضُوعٍ وَتَوَاضُعٍ، فَقُدِّمَ نَاسِخُ نَفْيِ الْقَوْلِ عَنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ مَا قُلْتُهُ بَلْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِالْكُلِّ وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَدَبِ وَفِي إِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَلَالِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ خَصَّ النَّفْسَ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْكَتْمِ وَالِانْطِوَاءِ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ. قِيلَ: الْمَعْنَى: تَعْلَمُ مَا أُخْفِي وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِي. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عندك. وقيل: تعلم ما كان في الدنيا ولا أعلم ما تقول وتفعل. وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد. وَقِيلَ: تَعْلَمُ سِرِّيَ وَلَا أَعْلَمُ سِرَّكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَعْلَمُ مَعْلُومِي وَلَا أَعْلَمُ مَعْلُومَكَ وَأَتَى بِقَوْلِهِ: مَا فِي نَفْسِكَ عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّشَاكُلِ لِقَوْلِهِ مَا فِي نَفْسِي فَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «1» وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، كَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ تَعْلَمُ كُنْهَ ذَاتِي وَلَا أَعْلَمُ كُنْهَ ذَاتِكَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ قَالُوا: النَّفْسُ هِيَ الشَّخْصُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جِسْمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ مَعًا لِأَنَّ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ جُمْلَةِ الْغُيُوبِ وَلِأَنَّ مَا يَعْلَمُهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِذَا كُنْتَ أَنْتَ الْمُخْتَصَّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فَلَا عِلْمَ لِي بِالْغَيْبِ فَكَيْفَ تَكُونُ لِي الْأُلُوهِيَّةُ وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقَّاهُ اللَّهُ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ «3» الْآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ أَمْرَ اللَّهِ فِي أَنْ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَأَقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: رَبِّي وَرَبَّكُمْ بَرَاءَةٌ مِمَّا ادَّعَوْهُ فِيهِ، وَفِي الْإِنْجِيلِ قَالَ: يَا مَعَاشِرَ بَنِي الْمَعْمُودِيَّةِ قُومُوا بِنَا إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ وَمُخَلِّصِي وَمُخَلِّصِكُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَوْلَ مَوْضِعَ الْأَمْرِ نُزُولًا عَلَى مُوجِبِ الْأَدَبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا عَدَلَ لِئَلَّا يَجْعَلَ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ آمِرِينَ مَعًا وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرَ أَنْ الْمُفَسِّرَةُ انْتَهَى. قَالَ الحوفي وابن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 54. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 15. (3) سورة المائدة: 5/ 116.

عَطِيَّةَ: وَأَنْ فِي أَنِ اعْبُدُوا مُفَسِّرَةٌ، لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَيَصِحُّ أن يكون بدلا من مِنْ مَا وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، زَادَ ابْنُ عطية أن يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ خفض على تقدير ب أَنِ اعْبُدُوا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ الْجَرَّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ وَالرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ وَالنَّصْبَ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ بَدَلًا مِنْ مَوْضِعِ بِهِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَنْ الْمُفَسِّرَةِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ قَدْ صُرِّحَ بِهِ، وأن لَا تَكُونُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ فِي قَوْلِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِنْ جَعَلْتَهَا مُفَسِّرَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ مُفَسَّرٍ، وَالْمُفَسَّرُ إِمَّا فِعْلُ الْقَوْلِ وَإِمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ وَكِلَاهُمَا لَا وَجْهَ لَهُ، أَمَّا فِعْلُ الْقَوْلِ فَيُحْكَى بَعْدَهُ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَسَّطَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ التَّفْسِيرِ لَا تَقُولُ ما قلت لهم إلا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَلَكِنْ مَا قَلْتُ لَهُمْ إِلَّا اعْبُدُوا اللَّهَ وَأَمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ فَمُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ فَسَّرْتَهُ بِاعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَإِنْ جَعَلْتَهَا مَوْصُولَةً بِالْفِعْلِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَوْ مِنَ الْهَاءِ فِي بِهِ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ ما قلت لهم إلا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ بِمَعْنَى ما قلت لهم إلا عِبَادَتَهُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُقَالُ وَكَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَهُ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ لِأَنَّكَ لَوْ أَقَمْتَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ لَمْ يَصِحَّ لِبَقَاءِ الْمَوْصُولِ بِغَيْرِ رَاجِعٍ إِلَيْهِ مِنْ صِلَتِهِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَكَيْفَ تَصْنَعُ؟ (قُلْتُ) : يُحْمَلُ فِعْلُ الْقَوْلِ عَلَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ مَعْنَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا بِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ تَفْسِيرُهُ بِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً عَطْفًا عَلَى بَيَانِ الْهَاءِ لَا بَدَلًا انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ إِلَى آخِرِ الْمَنْعِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ وَمَا بَعْدَهَا مَضْمُومَةً إِلَى فِعْلِ الْأَمْرِ، وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْأَمْرِ مُفَسَّرًا بِقَوْلِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَيَكُونُ رَبِّي وَرَبَّكُمْ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي أَيْ أَعْنِي رَبِّي وَرَبَّكُمْ لَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فَهِمَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ عِنْدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُقَالُ فَصَحِيحٌ لَكِنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا الْقَوْلَ الَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ قَوْلَ عِبَادَةِ اللَّهِ، أَيِ الْقَوْلَ الْمُتَضَمِّنَ عِبَادَةَ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبَقَاءِ الْمَوْصُولِ بِغَيْرِ رَاجِعٍ إِلَيْهِ مِنْ صِلَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ بَدَلٍ أَنْ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى إِلَى تَجْوِيزِ النَّحْوِيِّينَ: زَيْدٌ مَرَرْتُ بِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَلَوْ قُلْتَ زَيْدٌ مَرَرْتُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَطْفًا عَلَى بَيَانِ الْهَاءِ، فَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ أَكْثَرُهُ بِالْجَوَامِدِ الْأَعْلَامِ، وَمَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُ مِنْ

كَوْنِ أَنْ مُفَسِّرَةً لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ إِلَّا، وَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ إِلَّا الْمُسْتَثْنَى بِهَا فلابدّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَأَنْ التَّفْسِيرِيَّةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَانْظُرْ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْ مُحَاوَرَةُ عِيسَى وَجَوَابُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا قَرَعَ سَمْعَهُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى وَبَرَّأَهُ مِنَ السُّوءِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَرِيكٌ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَأَتَى بِنَفْيِ لَفْظٍ عَامٍّ، وَهُوَ لَفْظُ مَا الْمُنْدَرِجُ تَحْتَهُ كُلُّ قَوْلٍ لَيْسَ بِحَقٍّ حَتَّى هَذَا الْقَوْلِ الْمُعَيَّنِ، ثم تبرأ تبرؤا ثَالِثًا وَهُوَ إِحَالَةُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَتَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَعِيسَى يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا قَالَهُ، ثُمَّ لَمَّا أَحَالَ عَلَى الْعِلْمِ أَثْبَتَ عِلْمَ اللَّهِ بِهِ وَنَفَى عِلْمَهُ بِمَا هُوَ لِلَّهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْجِسَ ذَلِكَ فِي خَاطِرِي فَضْلًا عَنْ أَنْ أَفُوهَ بِهِ وَأَقُولَهُ، فَصَارَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ نَفْيَ هَذَا الْقَوْلِ، وَنَفْيَ أَنْ يَهْجِسَ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُسْتَأْثِرٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، ثُمَّ لَمَّا نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى وَانْتَفَى عَنْهُ قَوْلُ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْطُرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ انْتَقَلَ إِلَى مَا قَالَهُ لَهُمْ فأتى به محصورا بإلا مَعْذُوقًا بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ عَنْهُ. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ رَقِيبًا كَالشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَمْنَعُهُمْ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ وَأَنْ يَتَدَيَّنُوا بِهِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ كَثِيرُ الْحِفْظِ عَلَيْهِمْ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُمْ وَمَا ظَرْفِيَّةٌ وَدَامَ تَامَّةٌ أَيْ مَا بَقِيتُ فِيهِمْ، أَيْ شَهِيدًا فِي الدُّنْيَا. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوَفَّاهُ وَفَاةَ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَظَافَرَتْ بِرَفْعِهِ حَيًّا، وَأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَمَعْنَى تَوَفَّيْتَنِي قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ بِالرَّفْعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَفَاةُ وَفَاةُ الْمَوْتِ وَوَفَاةُ النَّوْمِ وَوَفَاةُ الرَّفْعِ. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ بِمَا نَصَبْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَنْزَلْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَرْسَلْتَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ انْتَهَى وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَالَّذِينَ عَذَّبْتَهُمْ جَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، مُكَذِّبِينَ لِأَنْبِيَائِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ. (فَإِنْ قُلْتَ) : الْمَغْفِرَةُ لَا تَكُونُ لِلْكُفَّارِ، فَكَيْفَ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) : مَا قَالَ: إِنَّكَ تَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَذَّبْتَهُمْ عَدَلْتَ لِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ

بِالْعَذَابِ، وَإِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، لَمْ تَعْدَمْ فِي الْمَغْفِرَةِ وَجْهَ حِكْمَةٍ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ حَسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ فِي الْمَعْقُولِ، بَلْ مَتَى كَانَ الْمُجْرِمُ أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ أَحْسَنَ. وَهَذَا مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَيْلٌ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّ غُفْرَانَ الْكُفْرِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ عَقْلًا، قَالُوا: لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى الذَّنْبِ وَفِي إسقاطه مَنْفَعَةٍ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّهِ مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا وَدَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَعَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، انْتَهَى كَلَامُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: مَقْصُودُ عِيسَى تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ: قَادِرٌ عَلَى مَا تُرِيدُ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْكَ. وَقِيلَ لَمَّا قَالَ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ. عُلِمَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى حَكَوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُ وَالْحَاكِي هَذَا الْكُفْرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ مُذْنِبًا حَيْثُ كَذَبَ وَغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ فَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ عِنْدَ عِيسَى أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا الْمَعَاصِيَ وَعَمِلُوا بَعْدَهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى عَمُودِ دِينِهِ، فَقَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَا أَحْدَثُوا بَعْدِي مِنَ الْمَعَاصِي وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ كَانَ وَقْتَ الرَّفْعِ، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَا يَدْرِي مَا يَمُوتُونَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي تُعَذِّبُهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا وَفِي وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ لَهُمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُمْ عَصَوْكَ؟ انْتَهَى وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الِاسْتِعْطَافَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا لِمَنْ يُرْجَى لَهُ الْعَفْوُ وَالتَّخْفِيفُ، وَالْكُفَّارُ لَا يُرْجَى لَهُمْ ذَلِكَ وَالَّذِي أَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ قَوْلٌ قَدْ صَدَرَ، وَمَعْنًى يَعْطِفُهُ عَلَى مَا صَدَرَ وَمَضَى، وَمَجِيئُهُ بإذ الَّتِي هِيَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى وَيُقَالُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَاضِي فَجَمِيعُ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ إِذْ قَالَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ عِيسَى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُرَتَّبٌ عَلَى التَّوْبَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْآخِرَةِ، كَانُوا فِي مَعْرِضِ أَنْ يَرِدَ فِيهِمُ التَّعْذِيبُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ النَّاشِئَةُ عَنِ التَّوْبَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْكَ مَا

تُرِيدُهُ، الْحَكِيمُ فِيمَا تَفْعَلُهُ تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، وَقَرَأَتْ جَمَاعَةٌ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ قَالَ عياض بن موسى: وليست مِنَ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَدْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ. مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَى نُقِلَ إِلَى مَا قَالَ هَذَا الطَّاعِنُ ضَعُفَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِالشَّرْطِ الثَّانِي وَلَا يَكُونُ لَهُ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ تَعَلُّقٌ وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَجْمَعَ عَلَى قِرَاءَتِهِ الْمُسْلِمُونَ مَعْذُوقٌ بِالشَّرْطَيْنِ كلاهما أَوَّلِهِمَا وَآخِرِهِمَا، إِذْ تَلْخِيصُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَأَنْتَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَأَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَاهُمَا مِنَ التَّعْذِيبِ وَالْغُفْرَانِ، فَكَانَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَلْيَقَ بِهَذَا الْمَكَانِ لِعُمُومِهِ، وَأَنَّهُ يَجْمَعُ الشَّرْطَيْنِ وَلَمْ يَصْلُحِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أَنْ يَحْتَمِلَ مَا احْتَمَلَهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هَذَا يَوْمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ هَذَا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية بقال وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ، لقال: أَيْ هَذَا الْوَقْتُ وَقْتُ نَفْعِ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى صِدْقِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ هَذَا يَوْمُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَخَرَّجَهُ الْكُوفِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ خَبَرٌ لِهَذَا وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ كَوْنَ الْفِعْلِ مَبْنِيًّا فِي بِنَاءِ الظَّرْفِ الْمُضَافِ إِلَى الْجُمْلَةِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ تَتَّحِدُ الْقِرَاءَتَانِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: شَرْطُ هَذَا الْبِنَاءِ إِذَا أُضِيفَ الظَّرْفُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّرًا بِفِعْلٍ مَبْنِيٍّ، لِأَنَّهُ لَا يَسْرِي إِلَيْهِ الْبِنَاءُ إِلَّا مِنَ الْمَبْنِيِّ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ: هُوَ مُعْرَبٌ لَا مَبْنِيٌّ وَخُرِّجَ نَصْبُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَحَدُهُمَا: أن يكون ظرفا لقال وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَبَرِ أَوِ الْقَصَصِ، كَقَوْلِكَ: قَالَ زَيْدٌ شِعْرًا أَوْ قَالَ زَيْدٌ: خُطْبَةً فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي نَصْبِهِ أَهْوَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْ يَنْتَصِبُ مَفْعُولًا بِهِ؟ فَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ يَنْتَصِبُ إِذَا كَانَ إشارة إلى الخبر أو الْقَصَصِ نَصْبَ الْمَصْدَرِ أَوْ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ وَتَقْدِيرُهُ قالَ اللَّهُ هَذَا الْقَصَصَ أَوِ الْخَبَرَ يَوْمُ يَنْفَعُ مَعْنًى يُزِيلُ وَصْفَ الْآيَةِ وَبَهَاءَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا خَبَرَ هَذَا وَهَذَا مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالتَّقْدِيرُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ عِيسَى وَاقِعٌ يَوْمَ يَنْفَعُ وَيَكُونُ هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ جملة محكية يقال. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَوْمًا يَنْفَعُ بِالتَّنْوِينِ كَقَوْلِهِ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَيَّاشٍ الشَّامِيُّ هَذَا يَوْمُ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صِدْقُهُمْ بِالرَّفْعِ فَاعِلُ يَنْفَعُ وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ لِصِدْقِهِمْ أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ بِصِدْقِهِمْ أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيِ الَّذِينَ يَصْدُقُونَ صِدْقَهَمْ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ يَصْدُقُونَ الصِّدْقَ كَمَا تَقُولُ: صَدَقْتُهُ الْقِتَالَ وَالْمَعْنَى يُحَقِّقُونَ الصِّدْقَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ أُرِيدَ صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَلَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ، وَإِنْ أُرِيدَ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا وَرَدَ فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالصِّدْقِ فِيمَا يُجِيبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ الصِّدْقُ الْمُسْتَمِرُّ بِالصَّادِقِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمُ انْتَهَى، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى في الآخرة وَقَدِ اتَّبَعَ الزَّمَخْشَرِيَّ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا حَقِيقَتُهُ الْحِكَايَةُ وَمَعْنَى يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ وَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا فِيهَا مَا قَالَ وَإِنْ حَسُنَ، وَلَوْ صَدَقَ الْكَافِرُ وَأَقَرَّ بِمَا عَمِلَ فَقَالَ: كَفَرْتُ وَأَسَأْتُ مَا نَفَعَهُ، وَإِنَّمَا الصَّادِقُ الَّذِي يَنْفَعُهُ صِدْقُهُ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا فَصْلٌ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ: يَقُولُ عِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي فِيهِ تجنى ثَمَرَاتُ الصِّدْقِ الدَّائِمَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِلَّا فَالصِّدْقُ يَنْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَكُلِّ وَقْتٍ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالصَّادِقُونَ هُنَا النَّبِيُّونَ وَصِدْقُهُمْ تَبْلِيغُهُمْ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ وَصِدْقُهُمْ إِخْلَاصُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ أَوْ صِدْقُ عُهُودِهِمْ أَوْ صِدْقُهُمْ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ صِدْقُهُمْ تَرْكُهُمُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ أَوْ صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالْبَلَاغِ أَوْ شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيَكُونُ وَجْهُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 42.

النَّفْعِ فِيهِ أَنْ يُكْفَوُا الْمُؤَاخَذَةَ بِتَرْكِهِمْ كَتْمَ الشَّهَادَةِ فَيُغْفَرَ لَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فَكُلُّ صَادِقٍ يَنْفَعُهُ صِدْقُهُ. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ هَذَا كَأَنَّهُ جَوَابُ سَائِلٍ مَا لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى الصِّدْقِ؟ فَقِيلَ: لَهُمْ جَنَّاتٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِشَارَةٌ إلى تأييد الدَّيْمُومِيَّةِ فِي الْجَنَّةِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ قِيلَ: بِقَبُولِ حَسَنَاتِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقِيلَ: بِطَاعَتِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ بِثَوَابِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: بِصِدْقِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ بِوَفَاءِ حَقِّهِمْ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا وَرَضُوا عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي: في قَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ هَذَا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الْأَرْوَاحِ الْمُشْرِقَةِ بِأَنْوَارِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَحْتَ قَوْلِهِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ لَا تَسْمَحُ الْأَقْلَامُ بِمِثْلِهَا جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهَا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ عَجِيبٌ شَبِيهٌ بِكَلَامِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَيْنُونَةِ الْجَنَّةِ لَهُمْ على التأييد وَإِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ بِمَا فِيهَا كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَكَيْفَ لَا نَرْضَى وَقَدْ بَعَّدْتَنَا عَنْ نَارِكَ وَأَدْخَلْتَنَا جَنَّتَكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا» . لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَمَّا ادَّعَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى وَأُمِّهِ الْأُلُوهِيَّةَ اقْتَضَتِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَا مَالِكَيْنِ قَادِرَيْنِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا مِنْ ذَلِكَ مُخَاطَبًا بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذَا جَوَابُ سَائِلٍ مَنْ يُعْطِيهِمْ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَقِيلَ الَّذِي لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : ما في السموات وَالْأَرْضِ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُهُمْ، فَهَلْ غَلَّبَ الْعُقَلَاءَ فَقِيلَ وَمَنْ فِيهِنَّ، (قُلْتُ) : مَا تَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا تَنَاوُلًا عَامًّا أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ شَبَحًا مِنْ بَعِيدٍ مَا هُوَ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ أَعَاقِلٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ عَاقِلٍ؟ فَكَانَ أَوْلَى بِإِرَادَةِ الْعُمُومِ

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: غُلِّبَ غَيْرُ الْعُقَلَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرِينَ فِي قَبْضَةِ قَهْرِهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّسْخِيرِ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهَا وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا عَقْلَ لَهَا، فعل الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ كَلَا عِلْمٍ وَقُدْرَةُ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَلَا قُدْرَةٍ وَقَالَ أَيْضًا: مُفْتَتَحُ السُّورَةِ، كَانَ بِذِكْرِ الْعَهْدِ الْمُنْعَقِدِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَيُشْرَعُ الْعَبْدُ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَيَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ الْمَحْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الشَّرِيعَةُ وَهُوَ الْبِدَايَةُ، وَالْآخَرُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ النِّهَايَةُ فَمُفْتَتَحُ السُّورَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَمُخْتَتَمُهَا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِبْرِيَائِهِ تَعَالَى وَعِزَّتِهِ وَقَهْرِهِ وَعُلُّوِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى مَقَامِ الْحَقِيقَةِ فَمَا أَحْسَنَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُفْتَتَحِ وَهَذَا الْمُخْتَتَمِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَلَيْسَتِ الْحَقِيقَةُ وَالشَّرِيعَةُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا لَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا مِنْ كَلَامِ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الصُّوفِيَّةِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

سورة الانعام

سورة الانعام [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) الطِّينُ: مَعْرُوفٌ، يُقَالُ: مِنْهُ طَانَ الْكَتَّانَ يَطِينُهُ وَطِنْهُ يَا هَذَا.

الْقَرْنُ الْأُمَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ فِي مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَمِنْهُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي وَأَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ عَنِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ قَرْنُ الْجَبَلِ، فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِ السِّنِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ جَعَلْتُهُ بِجَانِبِهِ أَوْ مُوَاجِهًا لَهُ، فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِكَوْنِ بَعْضِهِمْ يُقْرَنُ بِبَعْضٍ. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَمَعَهُمْ زَمَانٌ لَهُ مِقْدَارٌ هُوَ أَكْثَرُ مَا يُقْرَنُ فِيهِ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَمُدَّةُ الْقَرْنِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً قَالَهُ: زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، أَوْ مِائَةُ سَنَةٍ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَدِ احْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ: «تَعِيشُ قَرْنًا» فَعَاشَ مِائَةً وَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يؤيد أنها انخرام ذَلِكَ الْقَرْنِ أَوْ ثَمَانُونَ سَنَةً رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ سَبْعُونَ سَنَةً حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَوْ سِتُّونَ سَنَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُعْتَرَكُ الْمَنَايَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ أَوْ أَرْبَعُونَ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَكَذَا حَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ثَلَاثُونَ. رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَرَوْنَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ ثَلَاثُونَ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ أَوْ عِشْرُونَ حَكَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا أَوِ الْمِقْدَارُ الْوَسَطُ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعِيشُ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَمَا بَقِيَ عَامٌّ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ وَمَا دُونَهُ، وَهَكَذَا الِاخْتِلَافُ الْإِسْلَامِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الطَّرَفِ الْأَقْصَى وَالطَّرَفِ الْأَدْنَى، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْغَايَةِ قَالَ: مِنَ السِّتِّينَ فَمَا فَوْقَهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْأَدْنَى قَالَ: عِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقَرْنُ أَنْ يَكُونَ وَفَاةُ الْأَشْيَاخِ ثُمَّ وِلَادَةُ الْأَطْفَالِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَهَذِهِ يُشِيرُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَنْ حَدَّدَ بِأَرْبَعِينَ فَمَا دُونَهَا طَبَقَاتٌ وَلَيْسَتْ بِقُرُونٍ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ، قُلْتُ: السُّنُونَ أَوْ كَثُرَتْ لِقَوْلِهِ: خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَقَالَ قُسٌّ: فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِينَ ... مِنَ القرن لَنَا بَصَائِرُ وَقَالَ آخَرُ: إِذَا ذَهَبَ الْقَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمْ ... وَخُلِّفْتَ فِي قَوْمٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ وَقِيلَ: الْقَرْنُ الزَّمَانُ نَفْسُهُ فَيُقَدَّرُ قَوْلُهُ مِنْ قَرْنٍ مِنْ أَهْلِ قَرْنٍ. التَّمَكُّنُ ضِدُّ التَّعَذُّرِ وَالتَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْفِعْلُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْقُوَى وَهُوَ أَتَمُّ مِنَ الْأَقْدَارِ، لِأَنَّ الْأَقْدَارَ إِعْطَاءُ الْقُدْرَةِ خَاصَّةً وَالْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِعَدَمِ الْآلَةِ. وَقِيلَ: التَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ إِزَالَةُ الْحَائِلِ بَيْنَ الْمُتَمَكِّنِ وَالْمُمْكَنِ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ

جَعَلَ لَهُ مَكَانًا وَنَحْوُهُ أَرْضٌ لَهُ، وَتَمْكِينُهُ فِي الْأَرْضِ إِثْبَاتُهُ فِيهَا. الْمِدْرَارُ الْمُتَتَابِعُ يُقَالُ: مَطَرٌ مِدْرَارٌ وَعَطَاءٌ مِدْرَارٌ وَهُوَ فِي الْمَطَرِ أَكْثَرُ، وَمِدْرَارٌ مِفْعَالٌ مِنَ الدَّرِّ لِلْمُبَالَغَةِ كَمِذْكَارٍ وَمِئْنَاثٍ وَمِهْذَارٍ لِلْكَثِيرِ ذَلِكَ مِنْهُ. الْإِنْشَاءُ: الْخَلْقُ وَالْإِحْدَاثُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَكُلُّ مَنِ ابْتَدَأَ شَيْئًا فَقَدْ أَنْشَأَهُ، وَالنَّشَأُ الْأَحْدَاثُ وَاحِدُهُمْ نَاشِئٌ كَقَوْلِكَ: خَادِمٌ وَخَدَمٌ. الْقِرْطَاسُ اسْمٌ لِمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ مِنْ رَقِّ وَوَرَقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ زُهَيْرٌ: لَهَا أَخَادِيدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِهَا ... كَمَا تَرَدَّدَ فِي قِرْطَاسِهِ الْقَلَمُ وَلَا يُسَمَّى قِرْطَاسًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا فَهُوَ طرس وكاغذ وَوَرَقٌ، وَكَسْرُ الْقَافِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَشْهَرُ مِنْ ضَمِّهَا وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ وَجَمْعُهُ قَرَاطِيسُ. حَاقَ يَحِيقُ حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيَقَانًا أَيْ: أَحَاطَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّرِّ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَوْطَأَ جَرْدَ الْخَيْلِ عُقْرَ دِيَارِهِمْ ... وَحَاقَ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ ضَبِّهِ حَائِقُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَاقَ بِهِ عَادَ عَلَيْهِ وَبَالُ مَكْرِهِ. وَقَالَ النَّضْرُ: وَجَبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: دَارَ. وَقِيلَ: حَلَّ وَنَزَلَ وَمَنْ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَوْقِ وَهُوَ مَا اسْتَدَارَ بِالشَّيْءِ فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِصَحِيحٍ، لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: أَصْلُهُ حَقَّ فَأُبْدِلَتِ الْقَافُ الْوَاحِدَةُ يَاءً كَمَا قَالُوا: فِي تَظَنَّنْتُ: تَظَنَّيْتُ لِأَنَّهَا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا. سَخِرَ منه: هزأ به والسخرى وَالِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّهَكُّمُ مَعْنَاهَا مُتَقَارِبٌ. عَاقِبَةُ الشَّيْءِ: مُنْتَهَاهُ وَمَا آلَ إِلَيْهِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهُمَا قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ «1» وَمَا يَرْتَبِطُ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ لَيْلًا بِمَكَّةَ حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ بِالتَّسْبِيحِ، إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ، انْتَهَى. وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إِلَى قَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَجِدُ نَزَلَ بِمَكَّةَ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَمُنَاسَبَةُ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى وأمه

_ (1) سورة الأنعام: 1/ 91.

مِنْ كَوْنِهِمَا إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَجَرَتْ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةُ وَذَكَرَ ثَوَابَ مَا لِلصَّادِقِينَ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ مُلْكَ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ذَكَرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ لَهُ الْمُسْتَغْرِقَ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُ شريك في الإلهية فَيُحْمَدَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ والمقتضية، كون ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ لَهُ بِوَصْفِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الْمُوجِدَ لِلشَّيْءِ الْمُنْفَرِدَ بِاخْتِرَاعِهِ لَهُ الِاسْتِيلَاءُ وَالسَّلْطَنَةُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ فِي عِيسَى وَكُفْرُهُمْ بِذَلِكَ وَذِكْرُ الصَّادِقِينَ وَجَزَاءُهُمْ أَعْقَبَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لِلْكَافِرِ وَالصَّادِقِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَتَفْسِيرُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» فِي الْبَقَرَةِ وَجَعَلَ هُنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَعَلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ، كَقَوْلِهِ: جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ، أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ ... وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها «3» وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ مِنَ الْأَجْرَامِ الْمُتَكَاثِفَةِ وَالنُّورَ مِنَ النَّارِ وجعلناكم أَزْوَاجًا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَيِّرُوهُمْ إِنَاثًا، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى سَمَّى وَقَوْلُ الطَّبَرِيِّ جَعَلَ هُنَا هِيَ الَّتِي تَتَصَرَّفُ فِي طَرَفِ الْكَلَامِ كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعْلُ إِظْلَامِهَا وَإِنَارَتِهَا تَخْلِيطٌ، لِأَنَّ تِلْكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَهَذِهِ الَّتِي فِي الْآيَةِ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ مَعْنًى وَاسْتِعْمَالًا وَنَاسَبَ عَطْفُ الصِّلَةِ الثَّانِيَةِ بِمُتَعَلِّقِهَا مِنْ جَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ عَلَى الصِّلَةِ الأولى المتعلقة بجمع السموات وَإِفْرَادِ الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ الْكَلَامُ عَلَى جَمْعِ السموات وَإِفْرَادِ الْأَرْضِ وَجَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ هُنَا بِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالْجُمْهُورُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ وَالنِّفَاقُ وَالْكُفْرُ وَالنُّورُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْيَقِينُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الكفر

_ (1) سورة البقرة: 2/ 164. (2) سورة الزخرف: 43/ 19. (3) سورة الأعراف: 7/ 189.

وَالْإِيمَانُ، وَهُوَ تَلْخِيصُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: الْجَنَّةُ وَالنَّارُ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَأَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نُورٍ، وَالنَّارَ وَأَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ مِنْ ظُلْمَةٍ، فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحْكَمُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ مِنَ النُّورِ خُلِقُوا، وَلِلْكَافِرِينَ بِالنَّارِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ خُلِقُوا. وَقِيلَ: الْأَجْسَادُ وَالْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ: شَهَوَاتُ النُّفُوسِ وَأَسْرَارُ الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: الْجَهْلُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، لِأَنَّ الزَّنَادِقَةَ كَانَتْ تَقُولُ: اللَّهُ يخلق الضوء وعلى شَيْءٍ حَسَنٍ، وَإِبْلِيسُ يَخْلُقُ الظُّلْمَةَ وَكُلَّ شَيْءٍ قَبِيحٍ فَأُنْزِلَتْ رَدًّا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا الْأَمْرَانِ الْمَحْسُوسَانِ وَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَالثَّانِي مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ قَبْلُ وَهُوَ مَجَازٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَالْمَجَازِ مَعًا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَيْسَتِ الظُّلْمَةُ عِبَارَةً عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ اثْنَانِ بِقُرْبِ السِّرَاجِ وَآخَرُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، فَالْبَعِيدُ يَرَى الْقَرِيبَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ صَافِيًا مُضِيئًا وَالْقَرِيبُ لَا يَرَى الْبَعِيدَ. وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا، فَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً لَكَانَتْ حَاصِلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: عَدَمُ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِهَا فَالظُّلْمَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّحْقِيقِ عَلَى النُّورِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمُ النُّورَ، فَمَنْ أَصَابَهُ يَوْمَئِذٍ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَ ضل» . انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ: قَوْلُهُ فِي الظُّلْمَةِ خَطَأٌ بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وَالْعَدَمُ لَا يُقَالُ فِيهِ جَعَلَ ثُمَّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَصْلُهَا لِلْمُهْلَةِ فِي الزَّمَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ دَالَّةٌ عَلَى قُبْحِ فِعِلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ خَلْقَهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَغَيْرَهَا قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاتِهِ قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامَهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ قَدْ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُولُ: يَا فُلَانُ أَعْطَيْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، ثُمَّ تَشْتُمُنِي أَيْ بَعْدَ وُضُوحِ هَذَا كُلِّهِ وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْفُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ بِالْوَاوِ، لَمْ يَلْزَمِ التَّوْبِيخُ كَلُزُومِهِ بِ ثُمَّ انْتَهَى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى ثُمَّ؟ (قُلْتُ) : اسْتِبْعَادُ أَنْ يَعْدِلُوا بِهِ بَعْدَ وُضُوحِ آيَاتِ قُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ اسْتِبْعَادُ لِأَنْ تَمْتَرُوا فِيهِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُحْيِيهِمْ وَمُمِيتُهُمْ وَبَاعِثُهُمُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّ ثُمَّ لِلتَّوْبِيخِ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ ثُمَّ لِلِاسْتِبْعَادِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ ثُمَّ لَمْ تُوضَعْ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا التَّوْبِيخُ أَوِ الِاسْتِبْعَادُ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ مَدْلُولِ، ثُمَّ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَ ذَلِكَ بَلْ ثُمَّ هُنَا لِلْمُهْلَةِ فِي الزَّمَانِ وَهِيَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً اسْمِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْحَمْدَ لَهُ وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحَمْدِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَهِيَ خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ بِهِ يَعْدِلُونَ فَلَا يَحْمَدُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : عَلَامَ عُطِفَ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. (قُلْتُ) : إِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ عَلَى مَا خَلَقَ، لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهُ إِلَّا نِعْمَةً ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَيَكْفُرُونَ نِعَمَهُ وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ، مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ هُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي جَوَّزَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ، فَلَوْ جَعَلْتَ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا صِلَةً لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّرْكِيبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رَابِطٌ يَرْبُطُ الصِّلَةَ بِالْمَوْصُولِ، إِلَّا إِنْ خُرِّجَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَبُو سَعِيدٍ الَّذِي رَوَيْتُ عَنِ الْخُدْرِيِّ يُرِيدُ رَوَيْتُ عَنْهُ فَيَكُونُ الظَّاهِرُ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ يَعْدِلُونَ وَهَذَا مِنَ النُّدُورِ، بِحَيْثُ لَا يُقَاسُ عليه ولا يُحْمَلُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ تَرْجِيحِ حَمْلِهِ عَلَى التَّرْكِيبِ الصَّحِيحِ الْفَصِيحِ، والَّذِينَ كَفَرُوا الظَّاهِرُ فِيهِ الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ عَبْدَةُ الْأَصْنَامِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، عَبَدَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ وَالْيَهُودُ عُزَيْرًا وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَجُوسُ عَبَدُوا النَّارَ وَالْمَانَوِيَّةُ عَبَدُوا النُّورَ، وَمَنْ خَصَّصَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْمَانَوِيَّةِ كَقَتَادَةَ أَوْ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ بِالْمَجُوسِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَوْتُ مِنْ أَهْرَمَنْ وَالْحَيَاةُ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ كَابْنِ أَبِي أَبْزَى فَلَا يَظْهَرُ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالْبَاءُ فِي بِرَبِّهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِ يَعْدِلُونَ وَتَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ أَيْ: يَعْدِلُونَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَخْلُقُ وَلَا يَقْدِرُ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ أَيْ: يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي اتِّخَاذِهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَفِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَعَدْلُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ التَّسْوِيَةُ بِهِ، وَفِي الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنَ الْإِنْسَانِ فَعَدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ظَاهِرُهُ أَنَّا مَخْلُوقُونَ مِنْ طِينٍ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْمَهْدَوِيُّ وَمَكِّيُّ وَالزَّهْرَاوِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ فَالنُّطْفَةُ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ أَصْلُهَا مِنْ طِينٍ ثُمَّ يَقْلِبُهَا اللَّهُ نُطْفَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَرْجِعُ بَعْدَ التَّوَلُّدِ وَالِاسْتَحَالَاتِ الْكَثِيرَةِ نُطْفَةً وَذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ انْتَهَى. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النُّطْفَةُ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ طِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَلَبَهَا حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ بريد بْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثًا فِي الْخَلْقِ آخِرُهُ: «وَيَأْخُذُ التُّرَابَ الَّذِي يُدْفَنُ فِي بُقْعَتِهِ وَيَعْجِنُ بِهِ نُطْفَتَهُ» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ «1» الْآيَةَ. وَخُرِّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَقَدْ دَرَّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ وَمِنْ دَمِ الطَّمْثِ الْمُتَوَلِّدَيْنِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ حَيَوَانِيَّةٌ وَالْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِهَا، كَالْقَوْلِ فِي الْإِنْسَانِ أَوْ نَبَاتِيَّةٌ فَثَبَتَ تَوَلُّدُ الْإِنْسَانِ مِنَ النَّبَاتِيَّةِ وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الطِّينِ فَكُلُّ إِنْسَانٍ مُتَوَلِّدٌ. مِنَ الطِّينِ وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ عِنْدَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، هُوَ بَسْطُ مَا حَكَاهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ فِرْقَةٍ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يَعْنِي الْقَوْلَ: بِالتَّوَالُدِ وَالِاسْتَحَالَاتِ وَالَّذِي هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ الطِّينِ هُنَا هُوَ آدَمُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: الْمَعْنَى خُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ وَالْبَشَرُ مِنْ آدَمَ فَلِذَلِكَ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ وَلَدُ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» . وَقَالَ بَعْضُ شعراء الجاهلية: إِلَى عِرْقِ الثَّرَى وَشَجَتْ عروقي ... وهذا الموت يسلبني شَبَابِي وَفَسَّرَهُ الشُّرَّاحُ بِأَنَّ عِرْقَ الثَّرَى هُوَ آدَمُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِمَّا فِي خَلَقَكُمْ أَيْ خَلَقَ أَصْلَكُمْ، وَإِمَّا فِي مِنْ طِينٍ أَيْ مِنْ عِرْقِ طِينٍ وَفَرْعِهِ. ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ قَضى إِنْ كَانَتْ هُنَا بِمَعْنَى قَدَّرَ وَكَتَبَ، كَانَتْ ثُمَّ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لَا فِي الزَّمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى خَلْقِنَا، إِذْ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَظْهَرَ، كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ خَلْقِنَا فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ وَالظَّاهِرُ مِنْ تَنْكِيرِ الْأَجَلَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى أبهم أمرهما. وقال

_ (1) سورة طه: 20/ 55.

الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَخَصِيفٌ وَقَتَادَةُ: الْأَوَّلُ أَجَلُ الدُّنْيَا مِنْ وَقْتِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَوْتِ، وَالثَّانِي أَجَلُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ لَا انْقِضَاءَ لَهَا، وَلَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِي هَذَا الْأَجَلِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ وَفَاتُهُ بِالنَّوْمِ وَالثَّانِي بِالْمَوْتِ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَوَّلُ أَجَلُ الدُّنْيَا وَالثَّانِي الْآخِرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْأَوَّلُ الْآخِرَةُ. وَالثَّانِي الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَوَّلُ هُوَ فِي وَقْتِ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَالْمُسَمَّى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْأَوَّلُ أَجَلُ الْمَاضِينَ، وَالثَّانِي أَجَلُ الْبَاقِينَ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاضِينَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا عُلِمَتْ آجَالُهُمْ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، وَالثَّانِي مَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ الْبَرْزَخُ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مِقْدَارُ مَا انْقَضَى مِنْ عُمْرِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَالثَّانِي مِقْدَارُ مَا بَقِيَ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ أَجَلُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالثَّانِي أَجَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا عَلِمْنَاهُ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي مِنَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا عَرَفَ النَّاسُ مِنْ آجَالِ الْأَهِلَّةِ وَالسِّنِينَ وَالْكَوَائِنِ، وَالثَّانِي قِيَامُ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مِنْ أَوْقَاتِ الْأَهِلَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَالثَّانِي مَوْتُ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا قَضى أَجَلًا بِانْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي لِابْتِدَاءِ الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلَانِ، فَإِنْ كَانَ تَقِيًّا وَصُوَلًا لِلرَّحِمِ زِيدَ لَهُ مِنْ أَجَلِ الْبَعْثِ فِي أَجَلِ الْعُمْرِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ نُقِصَ مِنْ أَجَلِ الْعُمْرِ وَزِيدَ فِي أَجَلِ الْبَعْثِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَجَلَانِ الطَّبِيعِيُّ وَالِاخْتَرَامِيُّ. فَالطَّبِيعِيُّ: هُوَ الَّذِي لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ مَصُونًا عَنِ الْعَوَارِضِ الْخَارِجَةِ لَانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الْأَوْقَاتِ الْفَلَكِيَّةِ. وَالِاخْتَرَامِيُّ: هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْأَسْبَابِ الْخَارِجِيَّةِ كَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَلَدْغِ الْحَشَرَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ، انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ نَقَلَهُ عَنْهُمْ وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ، انْتَهَى وَمَعْنَى مُسَمًّى عِنْدَهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ أَوْ مَذْكُورٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَعِنْدَهُ مَجَازٌ عَنْ عِلْمِهِ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْمُبْتَدَأُ النَّكِرَةُ إِذَا كَانَ خَبَرُهُ ظرفا وجب تقديمه فلم جَازَ تَقْدِيمُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِالصِّفَةِ فَقَارَبَ الْمَعْرِفَةَ، كَقَوْلِهِ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ «1» انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ مُسَوِّغِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ لِكَوْنِهَا وُصِفَتْ لَا يَتَعَيَّنُ هُنَا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 221.

أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسَوِّغَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَوِّغُ هُوَ التَّفْصِيلَ لِأَنَّ مِنْ مُسَوِّغَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ تَفْصِيلٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُنَا عَلَى هَذَا الْبَيْتِ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْكَلَامُ السَّائِرُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ جَيِّدٌ وَلِي عَبْدٌ كَيِّسٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (قُلْتُ) : أَوْجَبَهُ أَنَّ الْمَعْنَى وَأَيُّ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ السَّاعَةِ فَلَمَّا جَرَى فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ التَّقْدِيمُ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ وَأَيُّ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ كَانَتْ أَيٌّ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَجَلٌ أَيُّ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الصِّفَةِ إِذَا كَانَتْ أَيًّا وَلَا حَذْفُ مَوْصُوفِهَا وَإِبْقَاؤُهَا، فَلَوْ قُلْتَ مَرَرْتُ بِأَيِّ رَجُلٍ تُرِيدُ بِرَجُلٍ أَيِّ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ، وتَمْتَرُونَ مَعْنَاهُ تَشُكُّونَ أَوْ تُجَادِلُونَ جِدَالَ الشَّاكِّينَ، وَالتَّمَّارِي الْمُجَادَلَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّكِّ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْكَلَامُ فِي ثُمَّ هُنَا كَالْكَلَامِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ عَلَى جِهَةِ الْخِطَابِ، هُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَائِبِ الَّذِي هُوَ قَوْلِهِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ وَقَضَاءُ الْأَجَلِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْكُفَّارِ إِذِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، لَكِنَّهُ قُصِدَ بِهِ الْكَافِرُ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى أَصْلِ خَلْقِهِ وَقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي هَذَا الْخِطَابِ مِنَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ. وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالِاخْتِيَارِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ التَّامِّ فَكَانَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُخْتَارًا عَالِمًا بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَإِبْطَالًا لِشُبَهِ مُنْكِرِ الْمَعَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ قَبْلَهُ، وَهُوَ اللَّهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ واللَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ وَإِنَّمَا فَرَّ إلى هذه لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، كَانَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ التقدير الله واللَّهُ فَيَنْعَقِدُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مِنَ اسْمَيْنِ مُتَّحِدَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا إِسْنَادِيَّةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَأَوَّلَ. أَبُو عَلِيٍّ الْآيَةَ عَلَى

أَنَّ الضَّمِيرَ ضَمِيرُ الْأَمْرِ واللَّهُ خَبَرُهُ يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بيعلم وَالتَّقْدِيرُ اللَّهُ يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ. ذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ اسْمُ اللَّهِ مِنَ الْمَعَانِي، كَمَا يُقَالُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَلِيفَةُ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عِنْدِي أَفْضَلُ الْأَقْوَالِ وَأَكْثَرُهَا إِحْرَازًا لِفَصَاحَةِ اللَّفْظِ وَجَزَالَةِ الْمَعْنَى وَإِيضَاحِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يدل على خلقه وإيثار قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، وَنَحْوَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَجَمَعَ هَذِهِ كُلَّهَا فِي قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّهُ أَيِ الَّذِي لَهُ هَذِهِ كُلُّهَا فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ وَالْمُحْيِي المحيط في السموات وَفِي الْأَرْضِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ السُّلْطَانُ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَلَوْ قَصَدْتَ ذَاتَ زَيْدٍ لَقُلْتَ مُحَالًا وَإِذَا كَانَ مَقْصِدُ قَوْلِكَ زَيْدٌ السُّلْطَانُ الْآمِرُ النَّاهِي النَّاقِضُ الْمُبْرِمُ الَّذِي يَعْزِلُ وَيُوَلِّي فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَأَقَمْتَ السُّلْطَانَ مَقَامَ هَذِهِ كُلِّهَا كَانَ فَصِيحًا صَحِيحًا فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ أَقَامَ لَفْظَةَ اللَّهُ مَقَامَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَأَوْضَحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَكِنَّ صِنَاعَةَ النَّحْوِ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ اللَّهُ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعَانِي وَلَا تَعْمَلُ تِلْكَ الْمَعَانِي جَمِيعُهَا فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِهَا جَمِيعِهَا لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ بَلِ الْعَمَلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقًا بِهَا جَمِيعِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَجْرُورِ مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ اللَّهُ مِنْ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ اللَّهُ عَلَمًا لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْمَجْرُورَ قَدْ يَعْمَلُ فِيهِمَا الْعَلَمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الأحيان. فبعض مَنْصُوبٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ أَبُو الْمِنْهَالِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا الْمَشْهُورُ بَعْضَ الْأَحْيَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوًا مِنْ هَذَا قَالَ: فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى اسْمِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ الْمَعْبُودُ فِيهِمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ «1» أَيْ: وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِيهَا، أَوْ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: اللَّهُ فِيهَا لَا يُشْرَكُ فِي هَذَا الِاسْمِ انْتَهَى، فَانْظُرْ تَقَادِيرَهُ كُلَّهَا كَيْفَ قَدَّرَ الْعَامِلَ وَاحِدًا مِنَ الْمَعَانِي لَا جَمِيعِهَا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ حُذِفَتْ وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ وَهُوَ اللَّهُ الْمُدَبِّرُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَهُوَ اللَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ هُنَا. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ مَا بَعْدَهُ وَتَعَلَّقَ الْمَجْرُورُ ب يَعْلَمُ

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 84.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَهُوَ اللَّهُ تام وفِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِمَفْعُولِ يَعْلَمُ وَهُوَ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجهركم في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَهَذَا يَضْعُفُ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَفْعُولِ الْمَصْدَرِ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ وَالْعَجَبُ مِنَ النَّحَّاسِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَاللَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِي السَّماواتِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الْأَمْرِ وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ أَيْ: وَيَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا إِلَّا أَنَّ هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ قَبْلُ وَلَيْسَ ضَمِيرَ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ فِي السَّماواتِ بِقَوْلِهِ: تَكْسِبُونَ هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِ تَكْسِبُونَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا أَمِ اسْمًا بِمَعْنَى الَّذِي، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَقِيلَ فِي السَّماواتِ حَالٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ تَقَدَّمَ عَلَى ذِي الْحَالِ وَعَلَى الْعَامِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ اللَّهُ وأنه في السموات وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا فِيهِمَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ كَأَنَّ ذَاتَهُ فِيهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بفي لَا يَدُلُّ عَلَى وَصْفٍ خَاصٍّ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنٍ مُطْلَقٍ وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَنْبَنِي إِعْرَابُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَالْخُرُوجِ عَنْ ظَاهِرِ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ لِمَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ مِنِ اسْتِحَالَةِ حُلُولِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَمَاكِنِ وَمُمَاسَّةِ الْإِجْرَامِ وَمُحَاذَاتِهِ لَهَا وَتَحَيُّزِهِ فِي جِهَةٍ، قَالَ مَعْنَاهُ وَبَعْضَ لَفْظِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ إِلَى آخِرِهِ خَبَرٌ فِي ضِمْنِهِ تَحْذِيرٌ وَزَجْرٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ بِالسِّرِّ صِفَاتُ الْقُلُوبِ وَهُوَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ وَبِالْجَهْرِ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَقُدِّمَ السِّرُّ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُؤَثِّرِ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي، فَالدَّاعِيَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ السِّرِّ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الْمُسَمَّاةِ بِالْجَهْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ وَالْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْمَعْلُولِ وَالْمُقَدَّمُ بِالذَّاتِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ بِحَسَبِ اللفظ، انتهى. وقال التَّبْرِيزِيُّ: مَعْنَاهُ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَهُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ وَمَا تُظْهِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَمَا تَكْسِبُونَ، عَامٌّ لِجَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَكَسْبُ كُلِّ إِنْسَانٍ عَمَلُهُ الْمُفْضِي بِهِ إِلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ وَلِهَذَا لَا يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَفِي أَوَّلِ كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: مَا تَكْسِبُونَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُكْتَسَبِ كَمَا يُقَالُ هَذَا

الْمَالُ كَسْبُ فُلَانٍ أَيْ مُكْتَسَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْسِ الْكَسْبِ وَإِلَّا لَزِمَ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ وَالثَّنَوِيَّةِ وَالْحَشَوِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ (قُلْتُ) : إِنْ أَرَادَ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ كَانَ تَقْرِيرًا لَهُ، لِأَنَّ الَّذِي اسْتَوَى فِي عِلْمِهِ السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ، هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَ فِي السَّماواتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ ثَالِثٌ، انْتَهَى، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبْتَدَأِ أَخْبَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ مِنْ الْأُولَى زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَمَعْنَى الزِّيَادَةِ فِيهَا أَنَّ مَا بَعْدَهَا مَعْمُولٌ لِمَا قَبْلَهَا فَاعِلٌ بِقَوْلِهِ تَأْتِيهِمْ فَإِذَا كَانَتِ النَّكِرَةُ بَعْدَهَا مِمَّا لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النَّفْيِ الْعَامِّ، كَانَتْ مِنْ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ نَحْوَ مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ، وَإِذَا كَانَتْ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الِاسْتِغْرَاقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا نَفْيُ الْوَحْدَةِ أَوْ نَفْيُ الْكَمَالِ كَانَتْ مِنْ دَالَّةً عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ نَحْوَ مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، ومِنْ الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ قَطُّ دَلِيلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَالِاعْتِبَارُ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ تَارِكِينَ لِلنَّظَرِ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَرْفَعُونَ بِهِ رَأْسًا لِقِلَّةِ خَوْفِهِمْ وَتَدَبُّرِهِمْ لِلْعَوَاقِبِ انْتَهَى. وَاسْتِعْمَالُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَطُّ مَعَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ قَطُّ دَلِيلٌ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ قَطُّ ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَظْهَرُ وَمَا ظَهَرَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْآيَةُ هُنَا الْعَلَامَةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ. وَقِيلَ: الرِّسَالَةُ. وَقِيلَ: الْمُعْجِزُ الْخَارِقُ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وَمَعْنَى عَنْها أَيْ: عَنْ قَبُولِهَا أَوْ سَمَاعِهَا، وَالْإِعْرَاضُ ضِدُّ الْإِقْبَالِ وَهُوَ مَجَازٌ إِذْ حَقِيقَتُهُ فِي الْأَجْسَامِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كانُوا وَمُتَعَلِّقُهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَكُونُ تَأْتِيهِمْ مَاضِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: كانُوا أَوْ يَكُونُ كانُوا مُضَارِعٌ الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ وَذُو الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ فِي تَأْتِيهِمْ، وَلَا يَأْتِي مَاضِيًا إِلَّا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْبِقَهُ فِعْلٌ كَمَا فِي هَذَا الْآيَةِ، وَالثَّانِي أَنْ تَدَخُلَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاضِي قَدْ نَحْوَ مَا زَيْدٌ إِلَّا قَدْ ضَرَبَ عَمْرًا، وَهَذَا الْتِفَاتٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَذَمَّةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَوَّلًا فِي التَّوْحِيدِ وَثَانِيًا فِي الْمَعَادِ وَثَالِثًا فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ بَاطِلٌ وَأَنَّ التَّأَمُّلَ فِي الدَّلَائِلِ وَاجِبٌ وَلِذَلِكَ ذُمُّوا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّلَائِلِ. فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ الْحَقُّ الْقُرْآنُ أَوِ الْإِسْلَامُ أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أو انشقاق

الْقَمَرِ أَوِ الْوَعْدُ أَوِ الْوَعِيدُ، أَقْوَالٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ الْآيَةُ الَّتِي تَأْتِيهِمْ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْآيَةِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ وَهِيَ الْحَقُّ فَأَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالْحَقِّ وَحَقِيقَتُهُ كَوْنُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فَقَدْ كَذَّبُوا أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْآيَةِ أَعَقَبَهُ التَّكْذِيبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَقَدْ كَذَّبُوا مَرْدُودٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الْآيَاتِ. فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ آيَةٍ وَأَكْبَرُهَا وَهُوَ الْحَقُّ، لَمَّا جَاءَهُمْ يَعْنِي الْقُرْآنَ الَّذِي تُحُدُّوا بِهِ عَلَى تَبَالُغِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ فَعَجَزُوا عَنْهُ انْتَهَى. وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ إِذِ الْكَلَامُ مُنْتَظِمٌ بِدُونِ هَذَا التَّقْدِيرِ. فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ وَقَعَ مِنْهُمُ الِاسْتِهْزَاءُ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ آخِرُ الْآيَةِ وتقديره واستهزؤوا بِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ وَهَذِهِ رُتَبٌ ثَلَاثٌ صَدَرَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، الْإِعْرَاضُ عَنْ تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ ثُمَّ أَعْقَبَ الْإِعْرَاضَ التَّكْذِيبُ، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنَ الْإِعْرَاضِ إِذِ الْمُعْرِضُ قَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنِ الشَّيْءِ ثُمَّ أَعْقَبَ التَّكْذِيبَ الِاسْتِهْزَاءُ، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنَ التَّكْذِيبِ إِذِ الْمُكَذِّبُ قَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ وَهَذِهِ هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ، وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ الَّذِي يَعْظُمُ وَقْعُهُ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُضَافٌ أَيْ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ مُضْمَنُ أَنْباءُ فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مَا عُذِّبُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَالْإِجْلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَخَصَّصَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ التَّهْدِيدَ وَالزَّجْرَ وَالْوَعِيدَ كَمَا تَقُولُ: اصْنَعْ مَا تَشَاءُ فَسَيَأْتِيكَ الْخَبَرُ، وَعَلَّقَ التَّهْدِيدَ بِالِاسْتِهْزَاءِ دُونَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ لِتَضَمُّنِهِ إِيَّاهُمَا، إِذْ هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي إِنْكَارِ الْحَقِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ الْقُرْآنُ أَيْ أَخْبَارُهُ وَأَحْوَالُهُ بِمَعْنَى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وَسَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ اسْتِهْزَاءٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِسْهَابِ وَشَرْحِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِمَّا لَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ، وَجَاءَ هُنَا تَقْيِيدُ الْكَذِبِ بالحق والتنفيس بسوف وَفِي الشُّعَرَاءِ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ «1» لِأَنَّ الْأَنْعَامَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى الشُّعَرَاءِ، فَاسْتَوْفَى فِيهَا اللَّفْظَ وَحُذِفَ من الشعراء وهو مرادا حَالَةً عَلَى الْأَوَّلِ وَنَاسَبَ الْحَذْفَ الِاخْتِصَارُ فِي حَرْفِ التَّنْفِيسِ، فَجَاءَ بِالسِّينِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً التَّقْدِيرُ أَنْباءُ كَوْنِهِمْ مُسْتَهْزِئِينَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدًا

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 6.

عَلَى الْحَقِّ لَا عَلَى مَا لَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ اسْمٌ لَا حَرْفٌ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى كَوْنِهَا مَصْدَرِيَّةً. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ لَمَّا هَدَّدَهُمْ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يُجْرَى مَجْرَى الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَحَضَّ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ ويَرَوْا هُنَا بِمَعْنَى يَعْلَمُوا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبْصِرُوا هَلَاكَ الْقُرُونِ السالفة وكَمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِ أَهْلَكْنا ويَرَوْا مُعَلَّقَةٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مفعولها، ومِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ومِنْ الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُفْرَدُ بَعْدَهَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْجَمْعِ وَوَهِمَ الْحَوْفِيُّ فِي جَعْلِهِ مِنْ الثَّانِيَةَ بَدَلًا مِنَ الْأُولَى وَظَاهِرُ الْإِهْلَاكِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ وعادا وثمود غيرهم وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا بِالْمَسْخِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَالضَّمِيرُ فِي يَرَوْا عَائِدٌ عَلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ المستهزئين ولَكُمْ خِطَابٌ لَهُمْ فَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرُونَ الْمُهْلَكَةَ أُعْطُوا مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّعَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُعْطَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حُضُّوا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَمَا جَرَى لَهُمْ، وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ تَعْرِيضٌ بِقِلَّةِ تَمْكِينِ هَؤُلَاءِ وَنَقَصِهِمْ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ سَبَقَ، وَمَعَ تَمْكِينِ أُولَئِكَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ حَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ، فَكَيْفَ لَا يَحِلُّ بِكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَضِيقِ خُطَّتِكُمْ؟ فَالْهَلَاكُ إِلَيْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ الْهَلَاكِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُخَاطَبَةُ فِي لَكُمْ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِجَمِيعِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ وَسَائِرِ النَّاسِ كَافَّةً، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَمْ نُمَكِّنْ يَا أَهْلَ هَذَا الْعَصْرِ لَكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنَى الْقَوْلِ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ قُلْ لَهُمْ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا «1» الْآيَةَ. وَإِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّكَ قُلْتَ لَوْ قِيلَ لَهُ أَوْ أَمَرْتَ أَنْ يُقَالَ لَهُ فَلَكَ فِي فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ تَحْكِيَ الْأَلْفَاظَ الْمَقُولَةَ بِعَيْنِهَا، فَتَجِيءُ بِلَفْظِ الْمُخَاطَبَةِ، وَلَكَ أَنْ تَأْتِيَ بِالْمَعْنَى فِي الألفاظ ذكر غَائِبٍ دُونَ مُخَاطَبَةٍ، انْتَهَى. فَتَقُولُ: قُلْتُ لِزَيْدٍ مَا أَكْرَمَكَ وَقُلْتُ لِزَيْدٍ مَا أَكْرَمَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي مَكَّنَّاهُمْ عَائِدٌ عَلَى كَمْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، لِأَنَّ مَعْنَاهَا جَمْعٌ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأُمَمُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَرْنٍ وَذَلِكَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مِنْ قَرْنٍ تَمْيِيزٌ لَكُمْ فَكَمْ هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا بِالْإِهْلَاكِ فَتَكُونُ هِيَ الْمُحَدَّثَ عَنْهَا بِالتَّمْكِينِ، فَمَا بَعْدَهُ إِذْ مِنْ قَرْنٍ جَرَى مَجْرَى التَّبْيِينِ ولم يحدث عنه.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 6.

وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ كَمْ هُنَا ظَرْفًا وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ: كَمْ أَزْمِنَةً أَهْلَكْنَا؟ أَوْ كَمْ إِهْلَاكًا أَهْلَكْنَا؟ وَمَفْعُولُ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْنٍ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِذْ ذَاكَ الْمُفْرَدُ مَوْقِعَ الْجَمْعِ بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْمُفْرَدِ، لَوْ قُلْتَ: كَمْ أَزْمَانًا ضَرَبْتُ رَجُلًا أَوْ كَمْ مَرَّةً ضَرَبْتُ رَجُلًا؟ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ مَدْلُولَ رِجَالٍ، لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ عَدَدِ الْأَزْمَانِ أَوِ الْمَرَّاتِ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا رَجُلٌ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ مِنْ لِأَنَّهَا لَا تُزَادُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُرَادِ بِهِ النَّفْيُ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَيْسَ مَحْضًا وَلَا يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَكَّنَّاهُمْ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا كَانَ مِنْ حَالِهِمْ؟ فَقِيلَ: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَكَّنَّاهُمْ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ صِفَةُ قَرْنٍ وَجُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى وَمَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ مُمْكِنٌ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِهَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ التَّمْكِينَ، الَّذِي لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فَحُذِفَ الْمَنْعُوتُ وَأُقِيمَ النَّعْتُ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفًا أَيْ مَا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي لَا يَكُونُ نَعْتًا لِلْمَعَارِفِ وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهَا مَدْلُولَ الَّذِي، بَلْ لَفْظُ الَّذِي هُوَ الَّذِي يَكُونُ نَعْتًا لِلْمَعَارِفِ لَوْ قُلْتَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَ مَا ضَرَبَ زَيْدٌ تُرِيدُ الَّذِي ضَرَبَ زَيْدٌ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ قُلْتَ: الضَّرْبَ الَّذِي ضَرَبَهُ زَيْدٌ جَازَ وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا النكرة الصفة لَا يَجُوزُ حَذْفُ مَوْصُوفِهَا، لَوْ قُلْتَ: قُمْتُ مَا أَوْ ضَرَبْتُ مَا وَأَنْتَ تُرِيدُ قُمْتُ قِيَامًا مَا وَضَرَبْتُ ضَرْبًا مَا لَمْ يَجُزْ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أَجَازَهُمَا الْحَوْفِيُّ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَا مَفْعُولًا به بنمكن عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ، وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ تَضْمِينٌ وَالتَّضْمِينُ لَا يَنْقَاسُ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً وَالزَّمَانُ مَحْذُوفٌ أَيْ مدة مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَيَعْنِي مُدَّةَ انْتِفَاءِ التَّمْكِينِ لَكُمْ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِالْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ بَعْدَهَا أَيْ شَيْئًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ وَتَعَدَّى مَكَّنَ هُنَا لِلذَّوَاتِ بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ، وَالْأَكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ «1» إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ «2» أَوْ لم نُمَكِّنْ لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عبيد مكناهم ومكنا لَهُمْ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، كَنَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ وَالْإِرْسَالُ وَالْإِنْزَالُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ رِسْلِ اللَّبَنِ، وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الضرع متتابعا

_ (1) سورة يوسف: 12/ 21 و 56. (2) سورة الكهف: 18/ 84. [.....]

والسَّماءَ السَّمَاءَ الْمُظِلَّةَ قَالُوا: لِأَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى السَّحَابِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَطَرَ السَّماءَ وَيَكُونُ مِدْراراً حَالًا مِنْ ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ: السَّماءَ الْمَطَرَ وَفِي الْحَدِيثِ: «فِي أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ» ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: مَا زِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ، يُرِيدُونَ الْمَطَرَ وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قوم ... رغيناه وإن كانوا غضبانا ومِدْراراً عَلَى هَذَا حَالٌ مِنْ نَفْسِ السَّماءَ. وَقِيلَ: السَّماءَ هُنَا السَّحَابَ وَيُوصَفُ بالمدرار، فمدرارا حَالٌ مِنْهُ ومِدْراراً يُوصَفُ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَالِ الْمَطَرِ ودوامة وقت الحاجة، لا أَنَّهَا تُرْفَعُ لَيْلًا وَنَهَارًا فَتَفْسُدُ قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ لِتَعْدِيدِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَمُقَابَلَتِهَا بِالْعِصْيَانِ، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ كَيْفِيَّةِ جَرَيَانِ الْأَنْهَارِ مِنِ التَّحْتِ فِي أَوَائِلِ البقرة. وقد أعرب مَنْ فَسَّرَ الْأَنْهارَ هُنَا بِالْخَيْلِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «1» وَإِذَا كَانَ الْفَرَسُ سَرِيعَ الْعَدْوِ وَاسِعَ الْخَطْوِ وُصِفَ بِالْبَحْرِ وَبِالنَّهْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَكَّنَهُمُ التَّمْكِينَ الْبَالِغَ وَوَسَّعَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ فَذَكَرَ سَبَبَهُ وَهُوَ تَتَابُعُ الْأَمْطَارِ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَإِمْسَاكُ الْأَرْضِ ذَلِكَ الْمَاءَ، حَتَّى صَارَتِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَكَثُرَ الْخَصْبُ فَأَذْنَبُوا فَأُهْلِكُوا بِذُنُوبِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذُّنُوبَ هُنَا هِيَ كُفْرُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ بِرُسُلِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَالْإِهْلَاكُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الْإِفْنَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بَلِ الْمُرَادُ الْإِهْلَاكُ النَّاشِئُ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْأَخْذُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا «2» ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ بِمَعْنَى الْإِمَاتَةِ مُشْتَرِكٌ فِيهِ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ إِنْشَاءِ قَرْنٍ آخَرِينَ بَعْدَهُمْ، إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَى إِفْنَاءِ نَاسٍ وَإِنْشَاءِ نَاسٍ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ أَنْ يُهْلِكَ قَرْناً وَيُخَرِّبَ بِلَادَهُ وَيُنْشِئَ مَكَانَهُ آخَرَ يُعَمِّرَ بِلَادَهُ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، بِإِهْلَاكِهِمْ إِذَا عَصَوْا كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَوَصَفَ قَرْنًا ب آخَرِينَ وَهُوَ جَمْعٌ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى قَرْنٍ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى أَفْصَحَ لِأَنَّهَا فَاصِلَةُ رَأْسِ آيَةٍ. وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ سَبَبُ نُزُولِهَا اقْتِرَاحُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَتَعَنُّتُهُ إِذْ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى تَصْعَدَ إلى السماء، ثم نزل بِكِتَابٍ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أمية يأمرني

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 51. (2) سورة العنكبوت: 29/ 40.

بِتَصْدِيقِكَ. وَمَا أَرَانِي مَعَ هَذَا كُنْتُ أُصَدِّقُكَ. ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقُتِلَ شَهِيدًا بِالطَّائِفِ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَكْذِيبَهُمْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بِذُنُوبِهِمْ ذَكَّرَهُمْ مُبَالَغَتَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا كَلَامًا مَكْتُوبًا فِي قِرْطاسٍ وَمَعَ رُؤْيَتِهِمْ جَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَمْ تَزِدْهُمُ الرُّؤْيَةُ وَاللَّمْسُ إِلَّا تَكْذِيبًا وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لَا مِنْ بَابِ الْمُعْجِزِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا وَإِنْ كَانَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ لَا يُنَازِعُ فِيمَا أَدْرَكَهُ بِالْبَصَرِ عَنْ قَرِيبٍ وَلَا بِمَا لَمَسَتْهُ يَدُهُ، وَذَكَرَ اللَّمْسَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى الرُّؤْيَةِ لِئَلَّا يَقُولُوا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُعْجِزَاتُ مَرْئِيَّاتٍ وَمَسْمُوعَاتٍ ذَكَرَ الْمَلْمُوسَاتِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّفُونَ فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا حَتَّى إِنَّ الْمَلْمُوسَ بِالْيَدِ هُوَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ الْمَرْئِيِّ بِالْعَيْنِ وَالْمَسْمُوعِ بِالْأُذُنِ، وَذِكْرُ الْيَدِ هُنَا فَقِيلَ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ وَلِأَنَّ الْيَدَ أَقْوَى فِي اللَّمْسِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَقِيلَ: النَّاسُ مُنْقَسِمُونَ إِلَى بُصَرَاءَ وَأَضِرَّاءَ، فَذَكَرَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَقِيلَ: عَلَّقَهُ بِاللَّمْسِ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ السِّحْرِ. وَقِيلَ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ مُقَدِّمَةُ الْإِبْصَارِ وَلَا يَقَعُ مَعَ التَّزْوِيرِ. وَقِيلَ: اللَّمْسُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفَحْصُ عَنِ الشَّيْءِ وَالْكَشْفُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «1» فَذُكِرَتِ الْيَدُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ اللَّمْسَ، وَجَاءَ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْغَرَضِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَالْمُؤْمِنُ يَرَاهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَافِرُ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَوَصْفُ السِّحْرِ بِ مُبِينٌ إِمَّا لِكَوْنِهِ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ أَظْهَرَ غَيْرَهُ. وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَنَوْفَلُ بْنُ خَالِدٍ: يَا مُحَمَّدُ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّكَ رَسُولُهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَقالُوا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ، حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جَوَابِ لَوْ أَيْ: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ الْمُرَتَّبَانِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ فِي قِرْطاسٍ وَاقِعِينَ، لِأَنَّ التَّنْزِيلَ لَمْ يَقَعْ وَكَانَ يَكُونُ الْقَوْلُ الثَّانِي غَايَةً فِي التَّعَنُّتِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ قَالَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا لَمْ يُؤْمِنُوا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي كُفَّارِ الْعَرَبِ، وَذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ

_ (1) سورة الجن: 72/ 8.

وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى مَلَكٌ نُشَاهِدُهُ وَيُخْبِرُنَا عَنِ اللَّهِ تعالى بنبوته وبصدقه، ولَوْلا بِمَعْنَى هَلَّا لِلتَّحْضِيضِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَعَنَّتَ وَأَنْكَرَ النُّبُوَّاتِ. وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ وَلَوْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِ مَلَكاً يُشَاهِدُونَهُ لَقَامَتِ الْقِيَامَةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً فَكَذَّبُوهُ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِعَذَابِهِمْ وَلَمْ يُؤَخَّرُوا حَسَبَ مَا سَلَفَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى لَقُضِيَ الْأَمْرُ لَمَاتُوا مِنْ هَوْلِ رؤية الملك في صورته، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا إِلَى آخِرِهِ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيُطِيقُوا رُؤْيَةَ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْأَوْلَى فِي لَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ لَمَاتُوا مِنْ هَوْلِ رُؤْيَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَقُضِيَ أَمْرُ إِهْلَاكِهِمْ. ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ بَعْدَ نُزُولِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ إِمَّا لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْمَلَكَ قَدْ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَتِهِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْهَا وَأَيْقَنُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ كَمَا أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْمَائِدَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يَزُولُ الِاخْتِيَارُ الَّذِي هُوَ قَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، فَيَجِبُ إِهْلَاكُهُمْ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا مَلَكًا فِي صُورَتِهِ زَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ هَوْلِ مَا يُشَاهِدُونَ انْتَهَى. وَالتَّرْدِيدُ الْأَوَّلُ بِإِمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّالِثُ قَوْلُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، وَقَوْلُهُ: كَمَا أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْمَائِدَةِ، لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُ كُفَّارٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمْ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْعُقُودِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ بِبَسْطٍ فِيهَا. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ فِي مَعْنَى لَقُضِيَ الْأَمْرُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَقَامَتِ الْقِيَامَةُ لِأَنَّ الْغَيْبَ يَصِيرُ عِنْدَهَا شَهَادَةً عِيَانًا. الثَّانِي: الْفَزَعُ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ جَارِيَةٌ فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْوَحْيِ أَوِ الْإِهْلَاكِ، وَقَدِ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أَيْ بِإِهْلَاكِنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى ثُمَّ بعد ما بَيَّنَ الْأَمْرَيْنِ قَضَاءَ الْأَمْرِ وَعَدَمَ الْإِنْظَارِ جَعَلَ عَدَمَ الْإِنْظَارِ أَشَدَّ مِنْ قَضَاءِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الشِّدَّةِ أَشَدُّ مِنْ نَفْسِ الشِّدَّةِ انْتَهَى. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أَيْ وَلَجَعَلْنَا الرَّسُولَ مَلَكًا، كَمَا اقْتَرَحُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَلَكٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، وَمَعْنَى لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أَيْ لَصَيَّرْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ، وَتَارَةً ظَهَرَ لَهُ وَلِلصَّحَابَةِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ شَدِيدٍ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدِ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا» ، وَكَمَا تَصَوَّرَ جِبْرِيلُ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا وَالْمَلَائِكَةُ أَضْيَافُ إِبْرَاهِيمَ وَأَضْيَافُ لُوطٍ وَمُتَسَوِّرُ وَالْمِحْرَابِ، فَإِنَّهُمْ ظَهَرُوا بِصُورَةِ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ بِصُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّ النَّاسَ لَا طَاقَةَ لَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ هَلَاكُ الَّذِي سَمِعَ صَوْتَ مَلَكٍ فِي السَّحَابِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ فَمَاتَ لِسَمَاعِ صَوْتِهِ فَكَيْفَ لَوْ رَآهُ فِي خِلْقَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِرُؤْيَةِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ فِي صُوَرِهِمْ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ قُوَّةً يَعْنِي غَيْرَ قُوَى الْبَشَرِ وَجَاءَ بِلَفْظِ رَجُلٍ رَدًّا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا، إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ جَعَلَ اللَّهُ الرَّسُولَ إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا لَفَرُّوا مِنْ مُقَارَبَتِهِ وَمَا أَنِسُوا بِهِ، وَلَدَاخَلَهُمْ مِنَ الرُّعْبِ مِنْ كَلَامِهِ مَا يُلْكِنُهُمْ عَنْ كَلَامِهِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنْ سُؤَالِهِ، فَلَا تَعَمُّ الْمَصْلَحَةُ وَلَوْ نَقَلَهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مِثْلِ صُورَتِهِمْ لَقَالُوا: لَسْتَ مَلَكًا وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ فَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَعَادُوا إِلَى مِثْلِ حَالِهِمُ انْتَهَى. وَهُوَ جَمْعُ كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالُوا: هِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي انْحِطَاطَهَا وَنُزُولُهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يُودِعَ أَجْسَامَهَا ثِقَلًا يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِهَا إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يُزِيلُ ذَلِكَ، فَتَعُودُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّطَافَةِ وَالْخِفَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِارْتِفَاعِهَا انْتَهَى. هَذَا الرَّدُّ وَالَّذِي نَقُولُ إِنَّ الْقُدْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ تُنْزِلُ الْخَفِيفَ وَتُصْعِدُ الْكَثِيفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْخَفِيفِ ثِقَلًا وَفِي الْكَثِيفِ خِفَّةً وَلَيْسَ هَذَا بِالْمُسْتَحِيلِ، فَيَتَكَلَّفُ أَنْ يُودِعَ فِي الْخَفِيفِ ثِقَلًا وَفِي الْكَثِيفِ خِفَّةً، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ تَمْثِيلِ الْمَلَائِكَةِ بِصُورَةِ الْبَشَرِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَاقِعٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ أَيْ وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِذَا رَأَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ: هَذَا إِنْسَانٌ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، فَإِنِّي أَسْتَدِلُّ بِأَنِّي جِئْتُ بِالْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ وَفِيهِ أَنِّي مَلَكٌ لَا بَشَرٌ كَذَّبُوهُ كَمَا كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَخُذِلُوا كَمَا هُمْ مَخْذُولُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ مِثْلَ مَا يَلْبِسُونَ عَلَى أَنَفْسِهِمُ السَّاعَةَ فِي كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَعَفَتِهِمْ، أَيْ: لَفَعَلْنَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَلَبُّسًا يَطْرُقُ لَهُمْ إِلَى أَنْ يُلَبَّسُوا بِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ، وَيُحْتَمَلُ الْكَلَامُ مَقْصِدًا آخَرَ أَيْ لَلَبَسْنا

نَحْنُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَلْبِسُونَ هُمْ عَلَى ضَعَفَتِهِمْ، فَكُنَّا نَنْهَاهُمْ عَنِ التَّلْبِيسِ وَنَفْعَلُهُ نَحْنُ انْتَهَى. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ يَحْصُلُ التَّلْبِيسُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ فَلَوْ رَأَوْهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَصَلَ التَّلْبِيسُ عَلَيْهِمْ كَمَا حَصَلَ مِنْهُمُ التَّلْبِيسُ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ حَرَّفُوهَا وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَالْمَعْنَى فِي اللَّبْسِ زِدْنَاهُمْ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا لَبِسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَحْرِيفِ الْكَلَامِ عَنْ مواضعه، وما مَصْدَرِيَّةٌ وَأَضَافَ اللَّبْسَ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ الْخَلْقِ، وَإِلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الِاكْتِسَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَبَسْنَا بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَالزُّهْرِيُّ وَلَلَبَسْنا بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَ يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ وَتَأَسٍّ بِمَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ نَظِيرُ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ لِأَنَّ مَا كَانَ مَشْتَرَكًا مِنْ مَا لَا يَلِيقُ أَهْوَنُ عَلَى النَّفْسِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ الِانْفِرَادُ وَفِي التَّسْلِيَةِ وَالتَّأَسِّي مِنَ التَّخْفِيفِ مَا لَا يَخْفَى. وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ: وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي وَقَالَ بَعْضُ الْمُوَلِّدِينَ: وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي مُرُوءَةٍ ... يُوَاسِيكَ أَوْ يُسَلِّيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَنْفَعُهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَذَابِ وَلَا يَتَسَلَّوْنَ بِذَلِكَ، نَفَى ذَلِكَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ «1» قِيلَ: كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَيَضِيقُ قَلْبُ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ فَسَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لِلرُّسُلِ قَبْلَكَ اسْتِهْزَاءُ قَوْمِهِمْ بِهِمْ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْقَلْبِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ إِلَى آخِرِهِ، إِخْبَارٌ بِمَا جَرَى لِلْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَكَ وَوَعِيدٌ مُتَيَقِّنٌ لِمَنِ اسْتَهْزَأَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَثْبِيتٌ لِلرَّسُولِ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِهِ بِهِمْ، لِأَنَّ مَآلَهُمْ إِلَى التَّلَفِ وَالْعِقَابِ الشَّدِيدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَكْفِيهِ شَرَّهُمْ وَإِذَايَتَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «2» وَمَعْنَى

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 39. (2) سورة الحجر: 15/ 95.

سَخِرُوا استهزؤوا إِلَّا أَنَّ اسْتَهْزَأَ تَعَدَّى بالباء وسخر بمن كَمَا قَالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ «1» وَبِالْبَاءِ تَقُولُ: سَخِرْتُ بِهِ وَتَكَرَّرَ الْفِعْلُ هُنَا لِخِفَّةِ الثُّلَاثِيِّ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِي وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ، فَحاقَ بِالَّذِينَ استهزؤوا بِهِمْ لِثِقَلِ اسْتَفْعَلَ، وَالظَّاهِرُ فِي مَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، أَيْ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنَ الرُّسُلِ وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ الرُّسُلِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: فِي أُمَمِ الرُّسُلِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَيَكُونُ مِنْهُمْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي سَخِرُوا وَمَا قَالَاهُ وَجَوَّزَاهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، أَمَّا قَوْلُ الْحَوْفِيِّ فَإِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْبَقَاءِ فَهُوَ أَبْعَدُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا كَائِنِينَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فَلَا حَاجَةَ لِهَذِهِ الْحَالِ لِأَنَّهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوْلِهِ سَخِرُوا وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ بِكَسْرِ دَالِ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ إِتْبَاعًا وَمُرَاعَاةً لِضَمِّ التَّاءِ إِذِ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا سَاكِنٌ، وَهُوَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ أُمَّةً أُمَيَّةً، لَمْ تَدْرُسِ الْكُتُبَ وَلَمْ تُجَالِسِ الْعُلَمَاءَ فَلَهَا أَنْ تُظَافِرَ فِي الْإِخْبَارِ بِهَلَاكِ مَنْ أُهْلِكَ بِذُنُوبِهِمْ أُمِرُوا بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالنَّظَرِ فِيمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ وَتَتَظَافَرَ مَعَ الْإِخْبَارِ الصَّادِقِ الْحِسِّ فَلِلرُّؤْيَةِ مِنْ مَزِيدِ الِاعْتِبَارِ مَا لَا يَكُونُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَصْرِيِّينَ: لَطَائِفُ مَعْنًى فِي الْعِيَانِ وَلَمْ تَكُنْ ... لِتُدْرَكَ إِلَّا بِالتَّزَاوُرِ وَاللُّقَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّيْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ، هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَأَنَّ النَّظَرَ الْمَأْمُورَ بِهِ، هُوَ نَظَرُ الْعَيْنِ وَأَنَّ الْأَرْضَ هِيَ مَا قَرُبَ مِنْ بِلَادِهِمْ مِنْ دِيَارِ الْهَالِكِينَ بِذُنُوبِهِمْ كَأَرْضِ عَادٍ وَمَدْيَنَ وَمَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَثَمُودَ. وَقَالَ قَوْمٌ: السَّيْرُ وَالنَّظَرُ هُنَا لَيْسَا حِسِّيَّيْنِ بَلْ هُمَا جَوَلَانِ الْفِكْرِ وَالْعَقْلِ فِي أَحْوَالِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ لِقِرَاءَةِ القرآن أي: اقرؤوا الْقُرْآنَ وَانْظُرُوا مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُكَذِّبِينَ، وَاسْتِعَارَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ بُعْدٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْأَرْضِ هُنَا عَامٌّ، لأن في كل

_ (1) سورة هود: 11/ 38.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 إلى 13]

قُطْرٍ مِنْهَا آثَارًا لِهَالِكِينَ وَعِبَرًا لِلنَّاظِرِينَ وَجَاءَ هُنَا خَاصَّةً ثُمَّ انْظُرُوا بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْقِيبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي الْفَرْقِ جَعَلَ النَّظَرَ مُتَسَبِّبًا عَنِ السَّيْرِ فَكَانَ السَّيْرُ سَبَبًا لِلنَّظَرِ، ثُمَّ قَالَ: فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ وَلَا تَسِيرُوا سَيْرَ الْغَافِلِينَ، وَهُنَا مَعْنَاهُ إِبَاحَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَإِيجَابِ النَّظَرِ فِي آثَارِ الْهَالِكِينَ وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِ ثُمَّ لِتُبَاعُدِ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُبَاحِ، انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّظَرَ مُتَسَبِّبًا عَنِ السَّيْرِ، فَكَانَ السَّيْرُ سَبَبًا لِلنَّظَرِ ثُمَّ قَالَ: فَكَأَنَّمَا قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ فَجُعِلَ السَّيْرُ مَعْلُولًا بِالنَّظَرِ فَالنَّظَرُ سَبَبٌ لَهُ فَتَنَاقَضَا، وَدَعْوَى أَنَّ الْفَاءَ تَكُونُ سَبَبِيَّةً لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا التَّعْقِيبُ فَقَطْ وَأَمَّا مِثْلُ ضَرَبْتُ زَيْدًا فَبَكَى، وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ، فَالتَّسْبِيبُ فُهِمَ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَعْقِيبَ الضَّرْبِ بِالْبُكَاءِ وَتَعْقِيبَ الزِّنَا بِالرَّجْمِ فَقَطْ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَاءَ تُفِيدُ التَّسْبِيبَ فَلِمَ كَانَ السَّيْرُ هُنَا سَيْرَ إِبَاحَةٍ وَفِي غَيْرِهِ سَيْرَ وَاجِبٍ؟ فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وبين تلك المواضع. [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13] قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَصْرِيفَهُ فِيمَنْ أَهْلَكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِهِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ الْمُهْلِكُ لَهُمْ، وَهَذَا السُّؤَالُ سُؤَالُ تَبْكِيتٍ وَتَقْرِيرٍ ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِنِسْبَةِ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ أَوَّلَ مَنْ بَادَرَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَإِذَا لَمْ يُجِيبُوا قُلْ لِلَّهِ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّؤَالِ فَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجِيبُوا سَأَلُوا فَقِيلَ لَهُمْ قُلْ لِلَّهِ وَلِلَّهِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ قُلْ ذَلِكَ أَوْ هُوَ لِلَّهِ. كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُوجِدُ الْعَالَمِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِمَا يُرِيدُ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَتِهِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى الْخَلْقِ وَظَاهِرُ كَتَبَ أَنَّهُ بِمَعْنَى سَطَّرَ وَخَطَّ، وَقَالَ بِهِ قوم هنا وله أُرِيدَ حَقِيقَةُ الْكَتْبِ وَالْمَعْنَى أَمَرَ بِالْكَتْبِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: كَتَبَ هُنَا بِمَعْنَى وَعَدَ بِهَا فَضْلًا وَكَرَمًا. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَخْبَرَ. وَقِيلَ: أَوْجَبَ إِيجَابَ فَضْلٍ وَكَرَمٍ

لَا إِيجَابَ لُزُومٍ. وَقِيلَ: قَضَاهَا وَأَنْفَذَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ أَوْجَبَهَا عَلَى ذَاتِهِ فِي هِدَايَتِكُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ لَكُمْ عَلَى تَوْحِيدِ مَا أَنْتُمْ مُقِرُّونَ به من خلق السموات والأرض، انتهى. والرَّحْمَةَ هُنَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا عَامَّةٌ فَتَعُمُّ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّصَالِ إِلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الرَّحْمَةِ لِمَنْ هِيَ فَتَعُمُّ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، فَيُرَادُ بِهَا الرَّحْمَةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمِائَةِ الرَّحْمَةَ الَّتِي خَلَقَهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّحْمَةَ إِمْهَالُ الْكُفَّارِ وَتَعْمِيرُهُمْ لِيَتُوبُوا، فَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةَ لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ الرُّسُلَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى رَحِمَ عِبَادَهُ ذَكَرَ الْحَشْرَ وَأَنَّ فِيهِ الْمُجَازَاةَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقْسَمٌ عَلَيْهَا وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا كَمَا ذكرناه. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: إِنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلرَّحْمَةِ تَقْدِيرُهُ: أَنْ يَجْمَعَكُمْ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ الرَّحْمَةَ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ «1» الْمَعْنَى أَنْ يَسْجُنُوهُ، وَرَدَّ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ النُّونَ الثَّقِيلَةَ تَكُونُ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْإِيجَابِ قَالَ: وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَبِاخْتِصَاصٍ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْقَسَمِ، انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَحْصُرُ مَوَاضِعَ دُخُولِ نُونِ التَّوْكِيدِ، أَلَا تَرَى دُخُولَهَا فِي الشَّرْطِ وَلَيْسَ وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ «2» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَبِاخْتِصَاصٍ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْقَسَمِ بِهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ لَهُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا صُورَةُ الْجُمْلَةِ صُورَةُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَحِقَتِ النُّونُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِ الْقَسَمِ وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ، أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهَا لَا مَوْضِعَ لَهَا وَحْدَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فَإِذَا قُلْتَ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زيدا، فلأضربنّ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ فَإِذَا قُلْتَ زَيْدٌ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّهُ، كَانَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالْجَمْعُ هُنَا قِيلَ حَقِيقَةٌ أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلى لِلْغَايَةِ وَالْمَعْنَى لَيَحْشُرَنَّكُمْ مُنْتَهِينَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الدُّنْيَا يَخْلُقُكُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 35. (2) سورة الأعراف: 7/ 200.

تَكُونُ إِلى هُنَا بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ «1» وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلى بِمَعْنَى فِي أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا صِلَةٌ وَالتَّقْدِيرُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيهِ عَائِدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنِ ارْتَابَ فِي الْحَشْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنْ قولهم لَيَجْمَعَنَّكُمْ. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ فَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي لَيَجْمَعَنَّكُمْ وَرَدَّهُ الْمُبَرِّدُ بِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِكَ زَيْدٌ وَرَدَّ رَدَّ الْمُبَرِّدِ ابْنُ عَطِيَّةَ. فَقَالَ: مَا فِي الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِلْمِثَالِ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي الْبَدَلِ مُتَرَتِّبَةٌ مِنَ الثَّانِي، وَإِذَا قُلْتَ مَرَرْتُ بِكَ زَيْدٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي الثَّانِي، وَقَوْلُهُ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَصْلُحُ لِمُخَاطَبَةِ النَّاسِ كَافَّةً فَيُفِيدُنَا إِبْدَالُ الَّذِينَ مِنَ الضَّمِيرِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالْخِطَابِ وَخُصُّوا عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ، وَيَجِيءُ هَذَا بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الرَّدِّ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلْنَا لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَصْلُحُ لِمُخَاطَبَةِ النَّاسِ كَافَّةً كَانَ الَّذِينَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَيَحْتَاجُ إِذْ ذَاكَ إِلَى ضَمِيرٍ وَيُقَدَّرُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ فَيُفِيدُنَا إِبْدَالُ الَّذِينَ مِنَ الضَّمِيرِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالْخِطَابِ، وَخُصُّوا عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَدَلَ كُلِّ مِنْ كُلٍّ فَتَنَاقَضَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَعَ آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصَّلَاحِيَّةُ، يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَمِنْ حَيْثُ اخْتِصَاصُ الْخِطَابِ بِهِمْ يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ مُتَكَلِّمٌ أَوْ مُخَاطَبٌ فِي جَوَازِهِ خِلَافٌ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ، أَنَّهُ يَجُوزُ وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَدَلُ يُفِيدُ مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَجُوزُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا تَضَمَّنَ الْمُبْتَدَأُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَخْسَرُ نَفْسَهُ فَهُوَ لَا يُؤْمِنُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْبَدَلِ جَعَلَ الْفَاءَ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ أَيْ: أُرِيدَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ انْتَهَى وَتَقْدِيرُهُ بِأُرِيدَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِنَّمَا يُقِدِّرُ النُّحَاةُ الْمَنْصُوبَ عَلَى الذم بأذم وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الَّذِينَ جَرٌّ نَعْتًا لِلْمُكَذِّبِينَ أَوْ بَدَلًا منهم.

_ (1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 9.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جُعِلَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ خُسْرِهِمْ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: لِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ. وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَهُ مُلْكُ مَا حَوَى الْمَكَانُ من السموات وَالْأَرْضِ، ذَكَرَ مَا حَوَاهُ الزَّمَانُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ، لَكِنَّ النَّصَّ عَلَيْهِمَا أَبْلَغُ فِي الْمِلْكِيَّةِ وَقُدِّمَ الْمَكَانُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ مِنَ الزَّمَانِ وَلَهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِلَّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ وَلَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ قوله: قل، وسَكَنَ هُنَا قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: مِنَ السُّكْنَى أَيْ مَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. قَالَ: وَتَعَدِّيهِ بِ فِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «1» وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مِنَ السُّكُونِ الْمُقَابِلِ لِلْحَرَكَةِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ. فَقِيلَ: ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ أَيْ وَمَا تَحَرَّكَ، وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» وَالْبَرْدَ وَقِيلَ: لَا مَحْذُوفَ هُنَا وَاقْتَصَرَ عَلَى السَّاكِنِ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ قَدْ يَسْكُنُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَسْكُنُ يَتَحَرَّكُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ السُّكُونَ أَكْثَرُ وُجُودًا مِنَ الْحَرَكَةِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ لِأَنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْكُنُ بِالنَّهَارِ وَيَنْتَشِرُ بِاللَّيْلِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ. قَالَ: وَالْمَقْصِدُ فِي الْآيَةِ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ سَكَنَ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ، وَإِلَّا فَالْمُتَحَرِّكُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ أَكْثَرُ مِنَ السَّوَاكِنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُلْكَ وَالشَّمْسَ والقمر والنجوم السائحة وَالْمَلَائِكَةَ وَأَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ مُتَحَرِّكَةٌ، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ حَاصِرَانِ لِلزَّمَانِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ قَالَ لَا يَتَرَتَّبُ الْعُمُومُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ سَكَنَ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ الْعُمُومُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ السُّكُونِ وَجَعَلَ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفًا مَحْذُوفًا أَيْ وَمَا تَحَرَّكَ، وَعَلَى قَوْلِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ كُلَّ مَا يَتَحَرَّكُ قَدْ يَسْكُنُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَسْكُنُ يَتَحَرَّكُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَتَرَتَّبُ مَعَهُ الْعُمُومُ فَلَمْ يَنْحَصِرِ الْعُمُومُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُحَاوَرَاتِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَذِكْرُ الْحَشْرِ الَّذِي فِيهِ الْجَزَاءُ، نَاسَبَ ذِكْرُ صِفَةِ السَّمْعِ لِمَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَاوَرَةُ وَصِفَةِ الْعِلْمِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْجَزَاءِ، إِذْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ والتهديد.

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 13. (2) سورة النحل: 16/ 81.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 إلى 32]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 32] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)

فَطَرَ خَلَقَ وَابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ مَعْنَى فَطَرَ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا أَيِ اخْتَرَعْتُهَا وَأَنْشَأْتُهَا، وَفَطَرَ أَيْضًا شَقَّ يُقَالُ فَطَرَ نَابَ الْبَعِيرِ وَمِنْهُ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ؟ وَقَوْلُهُ: ينفطرن مِنْهُ. كَشَفَ الضُّرَّ: أَزَالَهُ، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا أَزَالَتْ مَا يَسْتُرُهُمَا. الْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. الْوَقْرُ: الثِّقَلُ فِي السَّمْعِ يُقَالُ وَقَرَتْ أُذُنُهُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَسُمِعَ أُذُنٌ مَوْقُورَةٌ فَالْفِعْلُ عَلَى هَذَا وَقَرَتْ وَالْوَقْرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا. أَسَاطِيرُ: جَمْعُ إِسْطَارَةٍ وَهِيَ التُّرَّهَاتُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: أسطورة كأضحوكة. وقيل: واحد أُسْطُورٌ. وَقِيلَ: إِسْطِيرٌ وَإِسْطِيرَةٌ. وَقِيلَ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلُ عَبَادِيدَ. وَقِيلَ: جمع الجمع يقال سطر وَسُطُرٌ، فَمَنْ قَالَ: سَطْرٌ جَمَعَهُ فِي الْقَلِيلِ عَلَى أَسْطُرٍ وَفِي الْكَثِيرِ عَلَى سُطُورٍ وَمَنْ قَالَ: سُطُرٌ جَمَعَهُ عَلَى أَسْطَارٍ ثُمَّ جَمَعَ أَسْطَارًا عَلَى أَسَاطِيرَ قَالَهُ يَعْقُوبُ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ جَمْعِ الْجَمْعِ، يُقَالُ: سَطْرٌ وَأَسْطُرٌ ثُمَّ أَسْطَارٌ ثُمَّ أَسَاطِيرٌ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ، وَلَيْسَ أَسْطَارٌ جَمْعَ أَسْطُرٍ بَلْ هُمَا جَمْعَا قِلَّةٍ لِسَطْرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ كَعَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا تُسَمِّيهِ النُّحَاةُ اسْمَ جَمْعٍ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ الْجُمُوعِ بَلْ يُسَمُّونَهُ جَمْعًا وَإِنْ لَمْ يُلْفَظْ لَهُ بِوَاحِدٍ. نَأَى نَأْيًا بَعُدَ وَتَعْدِيَتُهُ لِمَفْعُولٍ مَنْصُوبٍ بِالْهَمْزَةِ لَا بِالتَّضْعِيفِ، وَكَذَا مَا كَانَ مِثْلُهُ مِمَّا عَيْنُهُ هَمْزَةٌ. وَقَفَ عَلَى كَذَا: حَبَسَ وَمَصْدَرُ الْمُتَعَدِّي وَقْفٌ وَمَصْدَرُ اللَّازِمِ وُقُوفٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِالْمَصْدَرِ. الْبَغْتُ وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ يُقَالُ بَغَتَهَ يَبْغَتُهُ أَيْ فَجَأَهُ يَفْجَأُهُ وَهِيَ مَجِيءُ الشَّيْءِ سُرْعَةً مِنْ غَيْرِ جَعْلِ بَالِكَ إِلَيْهِ وَغَيْرِ عِلْمِكَ بِوَقْتِ مَجِيئِهِ. فَرَّطَ قَصَّرَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَرْكِ التَّقْصِيرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَرَّطَ ضَيَّعَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: فَرَطَ سَبَقَ وَالْفَارِطُ السَّابِقُ، وَفَرَطَ خَلَّى السَّبْقَ لِغَيْرِهِ. الْأَوْزَارُ: الْآثَامُ وَالْخَطَايَا وَأَصْلُهُ الثِّقَلُ مِنَ الحمل، وزرته جملته وَأَوْزَارُ الْحَرْبِ أَثْقَالُهَا مِنَ السِّلَاحِ، وَمِنْهُ الْوَزِيرُ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَنِ السُّلْطَانِ أَثْقَالَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ مُلْكِهِ. اللَّهْوُ: صَرْفُ النَّفْسِ عَنِ الْجِدِّ إِلَى الْهَزْلِ يُقَالُ مِنْهُ لَهَا يَلْهُو وَلُهِيَ عَنْ كَذَا صَرَفَ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا نَحْوَ شَقِيٌّ وَرَضِيٌ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ لَامُهُ يَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ لَهَيَانِ وَلَامُ الْأَوَّلِ وَاوٌ، انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي التَّثْنِيَةِ انْقَلَبَتْ يَاءً وَلَيْسَ أَصْلُهَا الْيَاءَ، أَلَا تَرَى إِلَى تَثْنِيَةِ شَجٍ شَجِيَانِ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ مِنَ الشَّجْوِ.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى اخترع السموات وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ أَيْ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ هُوَ الَّذِي يُتَّخَذُ وَلِيًّا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا لَا الْآلِهَةُ الَّتِي لَكُمْ، إِذْ هِيَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ لِأَنَّهَا بَيْنَ جَمَادٍ أَوْ حَيَوَانٍ مَقْهُورٍ، وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ فِي اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا لَا فِي اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ كَقَوْلِكَ لِمَنْ ضَرَبَ زَيْدًا وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْإِكْرَامَ أَزَيْدًا ضَرَبْتَ، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو، أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ «1» وآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ «2» وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أُمِرَ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِلْكَفَرَةِ الَّذِينَ دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ، فَتَجِيءُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا جَوَابًا لِكَلَامِهِمُ، انْتَهَى. وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ فِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ وَانْتِصَابُ غَيْرِ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لا تخذ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فاطِرِ فَوَجَّهَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَنَقَلَهَا الْحَوْفِيُّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ وَكَأَنَّهُ رأى أن الفضل بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ أَسْهَلُ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ، إِذِ الْبَدَلُ عَلَى الْمَشْهُورِ هُوَ عَلَى تَكْرَارُ الْعَامِلِ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ انْتَهَى. وَيُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ خَبَرٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَى حَذْفِهِ وَقُرِئَ شَاذًّا بِنَصْبِ الرَّاءِ وَخَرَّجَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِوَلِيٍّ عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَأَجْعَلُ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ غَيْرَ اللَّهِ، انْتَهَى. وَالْأَحْسَنُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ فَطَرَ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أَيْ يَرْزُقُ وَلَا يُرْزَقُ كَقَوْلِهِ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ «3» وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَنَافِعَ كُلَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَخُصَّ الْإِطْعَامُ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعَاتِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَمَا خُصَّ الرِّبَا بِالْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الِانْتِفَاعَ بِالرِّبَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَلا يُطْعَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَكْلِ وَلَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَرَأَ يَمَانُ الْعَمَّانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَلا يُطْعَمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَالضَّمِيرُ فِي وَهُوَ يُطْعِمُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَفِي وَلا يُطْعَمُ عَائِدٌ عَلَى الْوَلِيِّ. وَرَوَى ابْنُ الْمَأْمُونِ عَنْ يَعْقُوبَ

_ (1) سورة الزمر: 39/ 64. (2) سورة يونس: 10/ 59. (3) سورة الذاريات: 51/ 57. [.....]

وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ عَلَى بِنَاءِ الْأَوَّلِ لِلْمَفْعُولِ وَالثَّانِي لِلْفَاعِلِ وَالضَّمِيرُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ على بِنَائِهِمَا لِلْفَاعِلِ وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يَسْتَطْعِمُ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَطْعَمْتُ بِمَعْنَى اسْتَطْعَمْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَهُوَ يُطْعِمُ تَارَةً وَلَا يُطْعِمُ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ، كَقَوْلِكَ هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَبْسُطُ وَيَقْدِرُ وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ تَجْنِيسُ التَّشْكِيلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّكْلُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ وَسَمَّاهُ أُسَامَةُ بْنُ مُنْقِذٍ فِي بَدِيعَتِهِ تَجْنِيسَ التَّحْرِيفِ، وَهُوَ بِتَجْنِيسِ التَّشْكِيلِ أَوْلَى. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ سَابِقُ أُمَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ «1» وَكَقَوْلِ مُوسَى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «2» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامِ إِلَّا ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُمَّتِي. قِيلَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ امْتِنَاعٌ عَنِ الْحَقِّ وَعَدَمُ انْقِيَادٍ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يَأْمُرُ الْمَلِكُ رَعِيَّتَهُ بِأَمْرٍ ثُمَّ يُتْبِعُهُ بِقَوْلِهِ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْأَوَّلِيَّةَ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةَ كَمَا جَاءَ نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ وَفِي رِوَايَةٍ السَّابِقُونَ. وَقِيلَ: أَسْلَمَ أَخْلَصَ وَلَمْ يَعْدِلْ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَقِيلَ: اسْتَسْلَمَ. وَقِيلَ: أَرَادَ دُخُولَهُ فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ «3» . وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ يَوْمَ الْمِيثَاقِ فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، كَمَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «4» . وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ وَقِيلَ لِي وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِسْلَامِ وَنُهِيَ عَنِ الشِّرْكِ، هَكَذَا خَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى إِضْمَارِ. وَقِيلَ لِي: لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ عَطْفُهُ عَلَى لَفْظِ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ لَفْظِ قُلْ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ وَلَا أَكُونُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ قُلْ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى قُلْ إِنِّي قِيلَ لِي كُنْ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهُمَا جَمِيعًا مَحْمُولَانِ عَلَى الْقَوْلِ لَكِنْ أَتَى الْأَوَّلُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْقَوْلِ، وَفِيهِ مَعْنَاهُ فَحُمِلُ الثَّانِي عَلَى الْمَعْنَى وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ كَذَا وَنُهِيَ عَنْ كَذَا. وَقِيلَ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ مُوَالَاةِ المشركين. وقيل:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 163. (2) سورة الأعراف: 7/ 143. (3) سورة الحج: 22/ 78. (4) سورة الأحزاب: 33/ 7.

الْخِطَابُ لَهُ لَفْظًا وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» وَالْعِصْمَةُ تُنَافِي إِمْكَانَ الشِّرْكِ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَوْفَ هُنَا عَلَى بَابِهِ وَهُوَ تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى أَخافُ أعلم وعَصَيْتُ عَامَّةٌ فِي أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، وَلَكِنَّهَا هُنَا إِنَّمَا تُشِيرُ إِلَى الشِّرْكِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَالْخَوْفُ لَيْسَ بِحَاصِلٍ لِعِصْمَتِهِ بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ وَلِذَلِكَ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي. فَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مُعْتَرِضٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ كَالِاعْتِرَاضِ بِالْقَسَمِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنِّي أَخَافُ عَاصِيًا رَبِّي. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مِثَالُ الْآيَةِ إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً مُتَسَاوِيَتَيْنِ يَعْنِي أَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى مُسْتَحِيلٍ وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْكِسَائِيُّ مَنْ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا للفاعل فمن مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ وَالضَّمِيرُ فِي يُصْرَفْ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ مَنْ يُصْرَفْ اللَّهُ وَفِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي رَحِمَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّبِّ أَيْ أَيَّ شَخْصٍ يَصْرِفِ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ فَقَدْ رَحِمَهُ الرَّحْمَةَ الْعُظْمَى وَهِيَ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا نُجِّيَ مِنَ الْعَذَابِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَنْ مُبْتَدَأً وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ، وَمَفْعُولُ يُصْرَفْ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ التَّقْدِيرِ أي شخص يصرف الله الْعَذَابَ عَنْهُ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ فَيَكُونَ مَنْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَعْنَى يُصْرَفْ وَيَجُوزُ عَلَى إِعْرَابِ مَنْ مُبْتَدَأً أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَذْكُورًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى حَذْفٍ أَيْ هَوْلَ يَوْمِئِذٍ فَيَنْتَصِبُ يَوْمَئِذٍ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مَنْ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّارِفَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ أَوْ لِلْإِيجَازِ إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّبِّ وَيَجُوزُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يُصْرَفْ عَائِدًا عَلَى مَنْ وَفِي عَنْهُ عَائِدًا عَلَى الْعَذَابِ أَيْ أَيُّ شَخْصٍ يُصْرَفْ عَنِ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عائدا على مَنْ والضمير فِي يُصْرَفْ عَائِدًا عَلَى الْعَذَابِ أَيْ أَيُّ شَخْصٍ يصرف العذاب عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضميران عائدين عَلَى مَنْ وَمَفْعُولُ يُصْرَفْ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى إِذْ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بيصرف وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ تَنْوِينُ

_ (1) سورة الزمر: 39/ 65.

عِوَضٍ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ يَتَضَمَّنُهَا الْكَلَامُ السَّابِقُ التَّقْدِيرُ يَوْمَ، إِذْ يَكُونُ الْجَزَاءُ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ مُصَرَّحٌ بِهَا يَكُونُ التَّنْوِينُ عِوَضًا عَنْهَا، وَتَكَلَّمَ الْمُعْرِبُونَ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى عَادَتِهِمْ فَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَشَارَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى تَحْسِينِهِ قِرَاءَةَ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ لِتُنَاسِبَ فَقَدْ رَحِمَهُ وَلَمْ يَأْتِ فَقَدْ رُحِمَ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ مَنْ يُصْرَفْ اللَّهُ وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ قَالَ: لِأَنَّهَا أَقَلُّ إِضْمَارًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَخَبَّطَ فِي كِتَابِ الْهِدَايَةِ فِي تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَمَثَّلَ فِي احْتِجَاجِهِ بِأَمْثِلَةٍ فَاسِدَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَوْجِيهٌ لَفْظِيٌّ يُشِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ تَعَلُّقُهُ خَفِيفٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَالْقِرَاءَتَانِ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا غَيْرَ مُرَّةٍ أَنَّا لَا نُرَجِّحُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى ثَعْلَبًا كَانَ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ. وَقَالَ: قَالَ ثَعْلَبٌ مِنْ كَلَامِ نَفْسِهِ إِذَا اخْتَلَفَ الْإِعْرَابُ فِي الْقُرْآنِ عَنِ السَّبْعَةِ، لَمْ أُفَضِّلْ إِعْرَابًا عَلَى إِعْرَابٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا خَرَجْتُ إِلَى الْكَلَامِ كَلَامِ النَّاسِ فَضَّلْتُ الْأَقْوَى وَنِعْمَ السَّلَفُ لَنَا، أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى كَانَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ مُتَدَيِّنًا ثِقَةً. وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مَنْ يُصْرَفْ أَيْ وَذَلِكَ الصَّرْفُ هُوَ الظَّفَرُ وَالنَّجَاةُ من الهلكة والْمُبِينُ الْبَيِّنُ فِي نَفْسِهِ أَوِ الْمُبَيِّنُ غَيْرَهُ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ إِنْ يُصِبْكَ وَيَنَلْكَ بِضُرٍّ وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ تَلَاقِي جِسْمَيْنِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي بِضُرٍّ وفي بِخَيْرٍ للتعدية وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِيًّا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الضر فَقَدْ مَسَّكَ، وَالتَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي قَلِيلَةٌ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ «1» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: صَكَكْتُ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ بِالْآخَرِ وَالضُّرُّ بِالضَّمِّ سُوءُ الْحَالِ فِي الْجِسْمِ وَغَيْرِهِ، وَبِالْفَتْحِ ضِدُّ النَّفْعِ وَفَسَّرَ السُّدِّيُّ الضُّرَّ هُنَا بِالسَّقَمِ وَالْخَيْرَ بِالْعَافِيَةِ. وَقِيلَ: الضُّرُّ الْفَقْرُ وَالْخَيْرُ الْغِنَى وَالْأَحْسَنُ الْعُمُومُ فِي الضُّرِّ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْخَيْرِ مِنَ الْغِنَى وَالصِّحَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالَّذِي يُقَابِلُ الْخَيْرَ هُوَ الشَّرُّ وَنَابَ عَنْهُ هُنَا الضُّرُّ وعدل عن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 251.

الشَّرِّ، لِأَنَّ الشَّرَّ أَعَمُّ مِنَ الضُّرِّ فَأْتِي بِلَفْظِ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ وَبِلَفْظِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ مُقَابِلٌ لِعَامٍّ تَغْلِيبًا لِجِهَةِ الرَّحْمَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَابَ الضُّرُّ هُنَا مَنَابَ الشَّرِّ وَإِنْ كَانَ الشَّرُّ أَعَمَّ مِنْهُ، فَقَابَلَ الْخَيْرَ وَهَذَا مِنَ الْفَصَاحَةِ عُدُولٌ عَنْ قَانُونِ التَّكَلُّفِ والضعة فَإِنَّ بَابَ التَّكَلُّفِ فِي تَرْصِيعِ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُقْتَرِنًا بِالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَاصِ مُوَافَقَةً أَوْ مُضَاهَاةً، فَمِنْ ذَلِكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى «1» فَجَاءَ بِالْجُوعِ مَعَ الْعُرِيِّ وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الظَّمَأِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كأني لم أركب جواد اللذة ... وَلِمَ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خِلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ انْتَهَى. وَالْجَامِعُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرِيِّ هُوَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْخُلُوِّ فَالْجُوعُ خُلُوُّ الْبَاطِنِ وَالْعُرِيُّ خُلُوُّ الظَّاهِرِ وَبَيْنَ الظَّمَأِ وَالضَّحَاءِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاحْتِرَاقِ، فَالظَّمَأُ احْتِرَاقُ الْبَاطِنِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ بَرَّدَ الْمَاءُ حَرَارَةَ جَوْفِي وَالضَّحَاءُ احْتِرَاقُ الظَّاهِرِ وَالْجَامِعُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الرُّكُوبِ لِلَذَّةِ وَهِيَ الصَّيْدُ وَتَبَطُّنِ الْكَاعِبِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي لَذَّةِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالِاقْتِنَاصِ وَالْقَهْرِ وَالظَّفَرِ بِمِثْلِ هَذَا الرُّكُوبِ، أَلَا تَرَى إِلَى تَسْمِيَتِهِمْ هَنَ الْمَرْأَةِ بِالرَّكْبِ هُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيِ مَرْكُوبٍ قَالَ الرَّاجِزُ: إِنَّ لَهَا لَرَكْبًا إِرْزَبَّا ... كَأَنَّهُ جَبْهَةُ ذُرَى حُبَّا وَفِي الْبَيْتِ الثَّانِي بَيْنَ سَبَأِ الْخَمْرِ وَالرُّجُوعِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْبَذْلِ، فَشِرَاءُ الْخَمْرِ فِيهِ بَدَلُ الْمَالِ وَالرُّجُوعُ بَعْدَ الِانْهِزَامِ فِيهِ بَذْلُ الرُّوحِ وَمَا أَحْسَنَ تَعَقُّلَ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي بَيْتَيْهِ، حَيْثُ انْتَقَلَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى لِأَنَّ الظَّفَرَ بِجِنْسِ الْإِنْسَانِ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنَ الظَّفَرِ بِغَيْرِ الْجِنْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَعَلُّقَ النَّفْسِ بِالْعِشْقِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالصَّيْدِ وَلِأَنَّ بَذْلَ الرُّوحِ أَعْظَمُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، وَمُنَاسَبَةُ تَقْدِيمِ مَسِّ الضُّرِّ عَلَى مَسِّ الْخَيْرِ ظَاهِرَةٌ لِاتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ التَّرْهِيبُ الدَّالُّ عَلَيْهِ قُلْ إِنِّي أَخافُ وَمَا قَبْلَهُ وَجَاءَ جَوَابُ الْأَوَّلِ بِالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِقْلَالِ بِكَشْفِهِ وَجَاءَ جَوَابُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمَسُّ بِخَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا وَتَقْدِيرُهُ فَلَا مُوصِلَ لَهُ إِلَيْكَ إِلَّا هُوَ وَالْأَحْسَنُ تَقْدِيرُهُ، فَلَا رَادَّ لَهُ لِلتَّصْرِيحِ بِمَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا راد لفضله ثم

_ (1) سورة طه: 20/ 118، 119.

أَتَى بَعْدُ بِمَا هُوَ شَامِلٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَفِي قَوْلِهِ: فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَا كَاشِفَ لَهُ عَنْكَ إِلَّا هُوَ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لما ذكره تَعَالَى انْفِرَادَهُ بِتَصَرُّفِهِ بِمَا يُرِيدُهُ مِنْ ضُرٍّ وَخَيْرٍ وَقُدْرَتَهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ قَهْرَهُ وَغَلَبَتَهُ، وَأَنَّ الْعَالَمَ مَقْهُورُونَ مَمْنُوعُونَ مِنْ بُلُوغِ مُرَادِهِمْ بَلْ يَقْسِرُهُمْ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُهُ هُوَ تعالى وفَوْقَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَهَا هُنَا زَائِدَةً، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ وَهُوَ الْقَاهِرُ لِعِبَادِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا هُنَا حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى حَالٌ فِي الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَ الْعَالَمِ إِذْ يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَذَكَرُوا أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ هُنَا مَجَازٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَوْقَهُمْ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْنَاهُ فَوْقَ قَهْرِ عِبَادِهِ بِوُقُوعِ مُرَادِهِ دُونَ مُرَادِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَصْوِيرٌ لِلْقَهْرِ وَالْعُلُوِّ وَالْغَلَبَةِ وَالْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «1» انْتَهَى. وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ فَوْقَ إِشَارَةً لِعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَشُفُوفِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّتَبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «2» وَقَوْلُهُ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «3» وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدًا وَجُودًا وَسُؤْدُدًا ... وَإِنَّا لِنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا يُرِيدُ عُلُوَّ الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: صِفَاتُ الْكَمَالِ مَحْصُورَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ أَمَّا كَوْنُهُ قَاهِرًا فَلِأَنَّ مَا عَدَاهُ تَعَالَى مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ وَلَا عَدَمُهُ عَلَى وُجُودِهِ إِلَّا بِتَرْجِيحِهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي قَهَرَ الْمُمْكِنَاتِ تَارَةً فِي طُرُقِ تَرْجِيحِ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ وَتَارَةً فِي طُرُقِ تَرْجِيحِ الْعَدَمِ عَلَى الْوُجُودِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «4» الْآيَةَ. وَالْحَكِيمُ وَالْمُحْكَمُ أَيْ أَفْعَالُهُ مُتْقَنَةٌ آمِنَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ لَا بِمَعْنَى الْعَالِمِ، لِأَنَّ الْخَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ وَتَلْخِيصٍ. وَقِيلَ: الْحَكِيمُ العالم والْخَبِيرُ أَيْضًا الْعَالِمُ ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا وفَوْقَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ إِمَّا مَعْمُولًا لِلْقَاهِرِ أَيِ الْمُسْتَعْلِي فَوْقَ عِبَادِهِ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خبر ثان لهو أَخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَاهِرُ الثَّانِي أَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِالرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ لَا بِالْجِهَةِ، إِذْ هُوَ الْمُوجِدُ لَهُمْ وَلِلْجِهَةِ غَيْرُ الْمُفْتَقِرِ لِشَيْءٍ مِنْ مخلوقاته

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 127. (2) سورة الفتح: 48/ 10. (3) يوسف: 12/ 76. (4) سورة آل عمران: 3/ 26.

فَالْفَوْقِيَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَعْنَى مِنْ فَوْقِيَّةِ الْمَكَانِ، وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ الْقَاهِرُ غَالِبًا فَوْقَ عِبَادِهِ وَقَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَقَدَّرَهُ مُسْتَعْلِيًا أَوْ غَالِبًا وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ عِبَادِهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ الْقَاهِرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا مَعْنَاهُ وُرُودُ الْعِبَادِ فِي التَّفْخِيمِ وَالْكَرَامَةِ وَالْعَبِيدِ فِي التَّحْقِيرِ وَالِاسْتِضْعَافِ وَالذَّمِّ، وَذَكَرَ مَوَارِدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطًا مُطَوَّلًا وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ. قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ شَاهِدًا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَيُّ دَلِيلٍ يَشْهَدُ بِأَنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَقَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ تَحَدَّيْتُكُمْ بِهِ فَعَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمِثْلِ بَعْضِهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ رُؤَسَاءُ مَكَّةَ: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى أَحَدًا يُصَدِّقُكَ فِيمَا تَقُولُ فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ وَلَقَدْ سَأَلْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَنْكَ فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ لَكَ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ وَلَا صِفَةٌ، فَأَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ لَكَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا نَزَلَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الْآيَةَ فَقَالُوا: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ اللَّهُ وَهَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ وأَيُّ اسْتِفْهَامٌ وَالْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ أَيٍّ وَعِلَّةِ إِعْرَابِهَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وشَيْءٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَذُكِرَ الْخِلَافُ فِي مَدْلُولِهِ الْحَقِيقِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّيْءُ أَعَمُّ الْعَامِّ لِوُقُوعِهِ عَلَى كُلِّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ عَنْهُ فَيَقَعُ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْمُحَالِ وَالْمُسْتَقِيمِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ كَأَنَّكَ قُلْتَ مَعْلُومٌ لَا كَسَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا يَصِحُّ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ وَأَرَادَ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً فَوَضَعَ شَيْئًا مَكَانَ شَهِيدٌ لِيُبَالِغَ فِي التَّعْمِيمِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقَالُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا يُقَالُ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا هُنَا شَيْءٌ يَقَعُ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُقْتَضَاهُ، جَازَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفَ الْجَهْمُ وَقَالَ: لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذَاتًا وَمَوْجُودًا وَإِنَّمَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ «1» فَيَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2» وَالِاسْمُ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِحُسْنِ مُسَمَّاهُ وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِفَةِ كَمَالٍ وَنَعْتِ جَلَالٍ وَلَفْظُ الشَّيْءِ أَعَمُّ الْأَشْيَاءِ فَيَكُونُ حَاصِلًا فِي أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَأَرْذَلِهَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ كَمَالٍ وَلَا نَعْتِ جلال فوجب أن

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 102. (2) سورة الأعراف: 7/ 180.

لَا يَجُوزَ دَعْوَةُ اللَّهِ بِهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَلِتَنَاوُلِهِ الْمَعْدُومِ لِقَوْلِهِ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً «1» فَلَا يُفِيدُ إِطْلَاقُ شَيْءٍ عَلَيْهِ امْتِيَازَ ذَاتِهِ عَلَى سَائِرِ الذَّوَاتِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا بِخَاصَّةٍ مُمَيَّزَةٍ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنُهُ مُطْلَقًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَذَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ نَفْسِهِ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُسَمَّى بَاسِمِ الشَّيْءِ وَلَا يُقَالُ الْكَافُ زَائِدَةٌ لِأَنَّ جَعْلَ كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَبَثًا بَاطِلًا لَا يَلِيقُ وَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَ شَيْءٍ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ وَمَتَى صَدَقَ الْخَاصُّ صَدَقَ الْعَامُّ فَمَتَى صَدَقَ كَوْنُهُ ذَاتًا حَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ كَوْنُهُ شَيْئًا وَاحْتَجَّ الجمهور بهذه الآية وتقريره أَنَّ الْمَعْنَى أَيُّ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، ثُمَّ جَاءَ فِي الْجَوَابِ قُلِ اللَّهُ وَهَذَا يُوجِبُ إِطْلَاقَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَانْدِرَاجُهُ فِي لَفْظِ شَيْءٍ الْمُرَادِ بِهِ الْعُمُومُ وَلَوْ قُلْتَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقِيلَ: جِبْرِيلُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي لَفْظِ النَّاسِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ وَالْمُسْتَثْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلِجَهْمٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ بِالْجَوَابِ الْمُطَابِقِ إِذْ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مُبْتَدَأٌ وخبر ذي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ بَلْ قَوْلُهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْقِيفِ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ خَالِقَ الْأَشْيَاءِ وَالشُّهُودِ هُوَ الشَّهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ جَوَابًا صِنَاعِيًّا وَإِنَّمَا يَتِمُّ مَا قَالُوهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قُلِ اللَّهُ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَأَعْرَبَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً ثُمَّ أَضْمَرَ مُبْتَدَأً يَكُونُ شَهِيدٌ خَبَرًا لَهُ تَقْدِيرُهُ هُوَ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَلَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا، بَلْ هُوَ مَرْجُوحٌ لِكَوْنِهِ أَضْمَرَ فِيهِ آخِرًا وَأَوَّلًا وَالْوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ لَا إِضْمَارَ فِيهِ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَاهُ فَوَجَبَ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّاجِحِ لَا عَلَى الْمَرْجُوحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَقُلْ لَهُمْ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَهُمْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً وَقُلْ لَهُمْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ فِي تَبْلِيغِي وَكَذِبِكُمْ وَكُفْرِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ «3» في أن

_ (1) سورة الكهف: 18/ 23. [.....] (2) سورة القصص: 28/ 88. (3) سورة الأنعام: 6/ 12.

اسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ وَالتَّقْرِيرِ، ثُمَّ بَادَرَ إِلَى الْجَوَابِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مُدَافَعَةٌ كَمَا تَقُولُ لمن تخاصمه وتتظلم مِنْهُ مَنْ أَقْدَرُ فِي الْبَلَدِ؟ ثُمَّ تُبَادِرُ وَتَقُولُ: السُّلْطَانُ فَهُوَ يَحُولُ بَيْنَنَا، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: قُلْ لَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً هو شهيد بيني وبينكم، انْتَهَى. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ «1» لِأَنَّ لِلَّهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَهُنَا لَا يَتَعَيَّنُ إِذْ يَنْعَقِدُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَأَيْضًا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ شَيْءٍ وَقَدْ تَتَوَزَّعُ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ لَفْظُ مَنْ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: مَعْنَى أَكْبَرُ أَعْظَمُ وَأَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْخَطَأُ وَلَا السَّهْوُ وَلَا الْكَذِبُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا أَفْضَلُ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الشَّهَادَاتِ فِي التَّفْضِيلِ تَتَفَاوَتُ بِمَرَاتِبِ الشَّاهِدِينَ وَانْتَصَبَ شَهادَةً عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ عَلَى الْمَفْعُولِ بِأَنْ يُحْمَلَ أَكْبَرُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى المفعول ولأن أفعل من لَا يَتَشَبَّهُ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَلَا يَجُوزُ فِي أَفْعَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ شَرْطَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ تُؤَنَّثَ وَتُثَنَّى وَتُجْمَعَ، وَأَفْعَلُ مَنْ لَا يَكُونُ فِيهَا ذَلِكَ وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنَ النُّحَاةِ فَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمَنْصُوبَ فِي هَذَا مَفْعُولًا وَجَعَلَ أَكْبَرُ مُشَبَّهًا بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَجَعَلَ مَنْصُوبَهُ مَفْعُولًا وَهَذَا تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مِنَ النَّاسِخِ لَا مِنَ الْمُصَنِّفِ، وَمَعْنَى بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بَيْنَنَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِعَادَةِ بَيْنَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فَأَيِّي مَا وَأَيُّكَ كَانَ شَرًّا. وَكِلَايَ وَكِلَاكَ ذَهَبَ أَنَّ مَعْنَاهُ فَأَيُّنَا وَكِلَانَا. وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ والْقُرْآنُ مَرْفُوعٌ بِهِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو نَهِيكٍ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ والْقُرْآنُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى لِأُنْذِرَكُمْ وَلِأُبَشِّرَكُمْ فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ تَخْوِيفٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرِّسَالَةِ الْمُتَّخِذِينَ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهًا، وَالظَّاهِرُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ لِأُنْذِرَكُمْ وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ مَحْذُوفٌ وَفَاعِلُ بَلَغَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنُ وَمَنْ بَلَغَهُ هُوَ أَيِ الْقُرْآنُ وَالْخِطَابُ فِي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَقِيلَ: مِنَ الثَّقَلَيْنِ. وَقِيلَ: مَنْ بَلَغَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ فَأَنَا نَذِيرُهُ» وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْفَاعِلُ بِ بَلَغَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ لَا عَلَى الْقُرْآنُ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 12.

وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّمِيرِ بِضَمِيرِ الْمَفْعُولِ وَبِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَيْ وَلِيُنْذِرَ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قرئ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ بِصُورَةِ الْإِيجَابِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا وَاحْتُمِلَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ أَدَاتِهِ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُرِئَ بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ وَبِإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا وَبِتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ وَبِإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَالْهَمْزَةِ الْمُسَهَّلَةِ، رَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْأَخِيرَةَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ لَهُمْ وَالتَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَالْآلِهَةُ الْأَصْنَامُ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ، وَإِنْ كَانَ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَالْآلِهَةُ كُلُّ مَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَثَنٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ نَارٍ أَوْ آدَمِيٍّ وَأُخْرَى صِفَةٌ لِآلِهَةٍ وَصِفَةُ جَمْعِ مَا لَا يُعْقَلُ كَصِفَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، كَقَوْلِهِ: مَآرِبُ أُخْرى والْأَسْماءُ الْحُسْنى «1» وَلَمَّا كَانَتِ الْآلِهَةُ حِجَارَةً وَخَشَبًا أُجْرِيَتْ هَذَا الْمَجْرَى. قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ شَهَادَتَهُمْ وَأَمَرَهُ ثَانِيًا أَنْ يُفْرِدَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ وَمَا أَبْدَعَ هَذَا التَّرْتِيبَ أُمِرَ أَوَّلًا بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ فَأُمِرَ بِهِ ثَانِيًا لِيَجْتَمِعَ مَعَ انْتِفَاءِ مُوَافَقَتِهِمْ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَالِثًا بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ وَهُوَ كَالتَّوْكِيدِ لِمَا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَهُ فَأُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَأُسْنِدَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَزِّئُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِذَلِكَ أُمِرْتُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي الْبَقَرَةِ وَشَرْحُ الثَّانِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَالُوا هُنَا الضَّمِيرُ فِي يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَوْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ لِقُرْبِ قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَفِيهِ اسْتِشْهَادٌ عَلَى كَفَرَةِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ عَلَى القرآن قاله فرقة

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 180.

لِقَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ، كَأَنَّهُ ذَكَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَهُ أَيْ يَعْرِفُونَ مَا قُلْنَا وَمَا قَصَصْنَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى كِتَابِهِمْ أَيْ: يَعْرِفُونَ كِتَابَهُمْ وَفِيهِ ذِكْرُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الدِّينِ وَالرَّسُولِ فَالْمَعْنَى يَعْرِفُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَأَنَّ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هُنَا لَفْظُهُ عَامٌّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ إِلَّا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ أَوْ مَنْ أَنْصَفَ والْكِتابَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَوُحِّدَ رَدًّا إِلَى الْجِنْسِ. وَقِيلَ: الْكِتابَ هُنَا الْقُرْآنُ وَالضَّمِيرُ فِي يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ خروج نبي في آخر الزَّمَانِ فَقَطْ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مُعَيَّنًا زَمَانُهُ وَمَكَانُهُ وَنَسَبُهُ وَحِلْيَتُهُ وَشَكْلُهُ، فَيَكُونُونَ إِذْ ذَاكَ عَالِمِينَ بِهِ بِالضَّرُورَةِ وَلَا يَجُوزُ الْكَذِبُ عَلَى الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كِتَابَهُمْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ التَّامَّةِ وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَكَانُوا شَاهَدُوا ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ فَعَرَفُوا بِالْمُعْجِزَاتِ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرِفَةِ أَبْنَائِهِمْ بِهَذَا الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ الَّذِي ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَعْرِفُونَهُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِنَّمَا ذَكَرَ يَعْرِفُونَهُ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ مُسْنَدَةً إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ وَنُصُوصِهِمْ، فَالتَّفَاصِيلُ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَيَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهُ مُفَصَّلَةً وَاضِحَةً بِالْأَخْبَارِ لَا بِالنَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَاتِ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ وَأَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ حَصْرَ التَّقْسِيمِ فِيمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ قِسْمًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ يَدُلَّانِ عَلَى خُرُوجِ نَبِيٍّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَعَلَى بَعْضِ أَوْصَافِهِ لَا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ تَعْيِينِ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَنَسَبٍ وَحِلْيَةٍ وَشَكْلٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ حَدِيثُ عُمَرَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَقَوْلُهُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ بِمَكَّةَ إِنَّكُمْ تَعْرِفُونَهُ كَمَا تَعْرِفُونَ أَبْنَاءَكُمْ فَكَيْفَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي التَّوْرَاةِ؟ فَلَا أَشُكُّ فِيهِ وَأَمَّا ابْنِي فَلَا أَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ أُمُّهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ إِيَّاهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فَقَطْ، أَسْئِلَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ اجْتَمَعَ أَوَّلَ اجْتِمَاعِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوَّلُ مَا يأكل أهل الجنة؟ الحديث. فَحِينَ أَخْبَرَهُ بِجَوَابِ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ أَسْلَمَ لِلْوَقْتِ وَعَرَفَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ حِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَفَ جَمِيعَ أوصافه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ حِلْمَهُ يَسْبِقُ غَضَبَهُ فَجَرَّبَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَوَجَدَ هَذِهِ الصِّفَةَ فَأَسْلَمَ. وَأُعْرِبَ الَّذِينَ خَسِرُوا مُبْتَدَأً

وَالْخَبَرُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ والَّذِينَ خَسِرُوا عَلَى هَذَا أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجَاحِدِينَ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْخُسْرَانُ الْغَبْنُ وَرُوِيَ أَنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْجَنَّةِ وَالْكَافِرُونَ يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ، فَالْخَسَارَةُ وَالرِّبْحُ هُنَا وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَسِرُوا نَعْتًا لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وفَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ فَيَكُونُ مَسَاقُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مَسَاقَ الذَّمِّ لَا مَقَامَ الِاسْتِشْهَادِ بِهِمْ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِهِمْ وَيُذَمُّوا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَصِحُّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَا اسْتُشْهِدَ فِيهِ بِهِمْ وَمَا ذُمُّوا فِيهِ وَأَنَّ الذَّمَّ وَالِاسْتِشْهَادَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ انْتَهَى. وَيَكُونُ الَّذِينَ خَسِرُوا إِذْ ذَاكَ لَيْسَ عَامًّا إِذِ التَّقْدِيرُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَمَنْ أَظْلَمُ وَالِافْتِرَاءُ الِاخْتِلَافُ، وَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمَعُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ، وَكَذَّبُوا بِمَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا، وَقَالُوا: وَاللَّهِ أُمِرْنَا بِهَا، وَقَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ وَنَسَبُوا إِلَيْهِ تَحْرِيمَ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وَكَذَّبُوا الْقُرْآنَ وَالْمُعْجِزَاتِ وَسَمُّوهَا سِحْرًا وَلَمْ يؤمنوا بالرسول انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِمَّنِ افْتَرى اخْتَلَقَ وَالْمُكَذِّبُ بِالْآيَاتِ مُفْتَرِي كَذِبٍ وَلَكِنَّهُمَا مِنَ الْكُفْرِ فَلِذَلِكَ نُصَّا مُفَسَّرَيْنِ انْتَهَى. وَمَعْنَى لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لَا يَظْفَرُونَ بِمَطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَلْ يَبْقَوْنَ فِي الْحِرْمَانِ وَالْخِذْلَانِ وَنَفَى الْفَلَاحَ عَنِ الظَّالِمِ فَدَخَلَ فِيهِ الْأَظْلَمُ وَالظَّالِمُ غَيْرُ الْأَظْلَمِ وَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يُفْلِحُ فَكَيْفَ يُفْلِحُ الْأَظْلَمُ؟ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قيل: يَوْمَ معمول لا ذكر مَحْذُوفَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وقيل: لمحذوف مُتَأَخِّرٌ تَقْدِيرُهُ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَانَ كَيْتُ وَكَيْتُ فَتُرِكَ لِيَبْقَى عَلَى الْإِبْهَامِ الَّذِي هُوَ أَدْخَلُ فِي التَّخْوِيفِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ انْظُرْ كَيْفَ كَذَّبُوا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَلْيَحْذَرُوا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ظَرْفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي ذَلِكَ الظَّرْفِ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ لا يلفح الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي

الدُّنْيَا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَحْشُرُهُمْ ثُمَّ نَقُولُ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ فِيهِمَا بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، أَوْ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ وَجَاءَ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بِمَعْنَى ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَوْبِيخُهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي هَذَا الْعُمُومِ ثُمَّ تَفَرَّدَ بِالتَّوْبِيخِ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ «1» مِنْ دُونِ اللَّهِ وَعُطِفَ بِ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْحَاصِلِ بَيْنَ مَقَامَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوَاقِفِ، فَإِنَّ فِيهِ مَوَاقِفَ بَيْنَ كُلِّ مَوْقِفٍ وَمَوْقِفٍ تَرَاخٍ عَلَى حَسَبِ طُولِ ذَلِكَ اليوم، وأَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَظَاهِرُ مَدْلُولِ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ غَيْبَةُ الشُّرَكَاءِ عَنْهُمْ أَيْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ قَدِ اضْمَحَلَّتْ فَلَا وُجُودَ لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُشَاهِدُوهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُونَهُمْ وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَا رَجَوْا مِنَ الشَّفَاعَةِ فَكَأَنَّهُمْ غُيَّبٌ عَنْهُمْ وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فِي وَقْتِ التَّوْبِيخِ لِيَفْقِدُوهُمْ فِي السَّاعَةِ الَّتِي عَلَّقُوا بِهِمُ الرجاء فيها فيروا مكان خِزْيِهِمْ وَحَسْرَتِهِمُ، انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَيْنَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ؟ وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أُوقِعَ عَلَيْهَا اسْمُ الشَّرِيكِ بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَةِ الْكَفَرَةِ فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ وَالزَّعْمُ الْقَوْلُ الْأَمْيَلُ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ زَعْمٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْكَذِبِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى مُجَرَّدِ الذِّكْرِ وَالْقَوْلِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَقُولُ هَلَكْنَا وإن هَلَكْتَ وَإِنَّمَا ... عَلَى اللَّهِ أَرْزَاقُ الْعِبَادِ كَمَا زَعَمَ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ يَقُولُ سِيبَوَيْهِ: زعم الْخَلِيلِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ الْغَرِيبِ الَّذِي تَبْقَى عُهْدَتُهُ عَلَى قَائِلِهِ انْتَهَى. وَحُذِفَ مَفْعُولَا يَزْعُمُونَ اخْتِصَارًا إِذْ دَلَّ مَا قَبْلَهُ عَلَى حَذْفِهِمَا وَالتَّقْدِيرُ تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إِنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ تَقَدَّمَ مَدْلُولُ الْفِتْنَةِ وَشُرِحَتْ هُنَا بِحُبِّ الشَّيْءِ وَالْإِعْجَابِ بِهِ كَمَا تَقُولُ: فُتِنْتُ بِزَيْدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى، ثم

_ (1) سورة الصافات: 37/ 22.

لَمْ يَكُنْ حُبُّهُمْ لِلْأَصْنَامِ وَإِعْجَابُهُمْ بِهَا وَاتِّبَاعُهُمْ لَهَا لَمَّا سُئِلُوا عَنْهَا وَوَقَفُوا عَلَى عَجْزِهَا إِلَّا التَّبَرُّؤَ مِنْهَا وَالْإِنْكَارَ لَهَا، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ كَانَ يَدَّعِي مَوَدَّةَ آخَرَ ثُمَّ انْحَرَفَ عَنْهُ وَعَادَاهُ يَا فُلَانُ لَمْ تَكُنْ مَوَدَّتُكَ لِفُلَانٍ إِلَّا أَنْ عَادَيْتَهُ وَبَايَنْتَهُ وَالْمَعْنَى عَلَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بِمَعْنَى مَوَدَّتِهِمْ وَإِعْجَابِهِمْ بِالْأَصْنَامِ إِلَّا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ بِالْيَمِينِ الْمُؤَكِّدَةِ لِبَرَاءَتِهِمْ، وَتَكُونُ الْفِتْنَةُ وَاقِعَةً فِي الدُّنْيَا وَشُرِحَتْ أَيْضًا بِالِاخْتِبَارِ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ لَمْ يَكُنِ اخْتِبَارُنَا إِيَّاهُمْ إِذِ السُّؤَالُ عَنِ الشركاء وتوقيفهم اختبار لِإِنْكَارِهِمُ الْإِشْرَاكَ وَتَكُونُ الْفِتْنَةُ هُنَا وَاقِعَةً فِي الْقِيَامَةِ، أَيْ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوَابُ اخْتِبَارٍ نَالَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ شُرَكَائِهِمْ إِلَّا إِنْكَارَ التَّشْرِيكِ انْتَهَى، مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَعَ بَعْضِ زِيَادَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِتْنَتُهُمْ كُفْرُهُمْ وَالْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عَاقِبَةُ كُفْرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ أَعْمَارَهُمْ وَقَاتَلُوا عَلَيْهِ وَافْتَخَرُوا بِهِ، وَقَالُوا: دِينُ آبَائِنَا إِلَّا جُحُودَهُ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ وَالْحَلِفَ عَلَى الِانْتِفَاءِ مِنَ التَّدَيُّنِ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: فَسُمِّيَ فِتْنَةً لِأَنَّهُ كَذِبٌ انْتَهَى. وَالشَّرْحُ الْأَوَّلُ مِنْ شَرْحِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَعْنَاهُ لِلزَّجَّاجِ وَالْأَوَّلُ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَفْظُهُ لِلْحَسَنِ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّانِي لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ: التَّقْدِيرُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَسُمِّيَ هَذَا الْقَوْلُ فِتْنَةً لِكَوْنِهِ افْتِرَاءً وَكَذِبًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفِتْنَةُ هُنَا الْإِنْكَارُ أَيْ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُذْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَوْلُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ وأبو عبيدة: بينتهم وَزَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ الَّتِي أَلْزَمَتْهُمُ الْحُجَّةَ وَزَادَتْهُمْ لَائِمَةً. وَقِيلَ: حُجَّتُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى المشركين وَأَنَّهُ عَامٌّ فِيمَنْ أَشَرَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ جَرَوْا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فَيَحْلِفُونَ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ وَأُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَمَا كَانَ فِتْنَتُهُمْ، وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُطَرِّفٍ ثُمَّ مَا كَانَ وَالِابْنَانِ وَحَفْصٌ فِتْنَتُهُمْ بِالرَّفْعِ وَفِرْقَةٌ ثُمَّ لَمْ يكن بالياء، وفِتْنَتُهُمْ بِالرَّفْعِ وَإِعْرَابُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ وَاضِحٌ وَالْجَارِي مِنْهَا عَلَى الْأَشْهَرِ قِرَاءَةُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بِالْيَاءِ بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ أَنْ مَعَ مَا بَعْدَهَا أُجْرِيَتْ فِي التَّعْرِيفِ مَجْرَى الْمُضْمَرِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَعْرَفُ وَمَا دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْأَشْهَرَ جَعْلُ الْأَعْرَفِ هُوَ الِاسْمُ وَمَا دُونَهُ هُوَ الْخَبَرُ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَتِ السَّبْعَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا «1» وما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا «2» وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ وَرَفَعَ الْفِتْنَةَ فَذَكَّرَ الْفِعْلَ لِكَوْنِ تَأْنِيثِ الْفِتْنَةِ مَجَازِيًّا أو

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 24. (2) سورة الجاثية: 45/ 25.

لِوُقُوعِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى مُذَكَّرٍ، وَالْفِتْنَةُ اسْمُ يَكُنْ وَالْخَبَرُ إِلَّا أَنْ قالُوا جَعَلَ غَيْرَ الْأَعْرَفِ الِاسْمَ وَالْأَعْرَفَ الْخَبَرَ وَمَنْ قَرَأَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ وَرَفَعَ الْفِتْنَةَ فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِ الْفِتْنَةِ وَالْإِعْرَابُ كَإِعْرَابِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَمَنْ قَرَأَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ فِتْنَتُهُمْ بِالنَّصْبِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّرَ إِلَّا أَنْ قالُوا مُؤَنَّثًا أَيْ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلا مَقَالَتُهُمْ. وَقِيلَ: سَاغَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْفِتْنَةَ فِي الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» فَأَنَّثَ الْأَمْثَالَ لَمَّا كَانَتِ الْحَسَنَاتِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ تَكُنْ بالتاء وفِتْنَتُهُمْ بالنصب وإنما أنث أَنْ قالُوا لِوُقُوعِ الْخَبَرِ مُؤَنَّثًا كَقَوْلِهِ: مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ أَنْ قالُوا بِمُؤَنَّثٍ أَيْ إِلَّا مَقَالَتُهُمْ. وَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ بِمُؤَنَّثٍ أَيْ مَقَالَتُهُمْ، وَتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ فَإِنَّهُ حَمَلَ اسْمَ كَانَ عَلَى مَعْنَى مَنْ، لِأَنَّ مَنْ لَهَا لَفْظٌ مُفْرَدٌ وَلَهَا مَعْنًى بِحَسَبِ مَا تُرِيدُ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ وَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى لِمُرَاعَاةِ الْخَبَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِيءُ حَيْثُ لَا خَبَرَ نَحْوَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «2» . ونكن مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ. وَمَنْ تَقْنُتْ فِي قِرَاءَةِ التَّاءِ فَلَيْسَتْ تَأْنِيثُ كَانَتْ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْحَمْلِ عَلَى مَعْنَى مَنْ حَيْثُ أَرَدْتَ بِهِ الْمُؤَنَّثَ وَكَأَنَّكَ قُلْتَ أَيَّةُ امْرَأَةٍ كَانَتْ أُمَّكَ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَاللَّهِ رَبِّنا بِنَصْبِ الْبَاءِ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا رَبَّنَا، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيهِ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ فِيهِ إِضْمَارَ أَعْنِي وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِخَفْضِهَا عَلَى النَّعْتِ، وَأَجَازُوا فِيهِ الْبَدَلَ وَعَطْفَ الْبَيَانِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَسَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ وَاللَّهِ رَبِّنا بِرَفْعِ الِاسْمَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَاللَّهِ رَبِّنا وَمَعْنَى مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ جَحَدُوا إِشْرَاكَهُمْ فِي الدُّنْيَا، رُوِيَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا إِخْرَاجَ مَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ضَجُّوا فَيُوقَفُونَ وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ؟ فَيُنْكِرُونَ طَمَاعِيَةً مِنْهُمْ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَهَذَا الَّذِي رُوِيَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَتَرَاخَى الْقَوْلُ عَنِ الْحَشْرِ هَذَا التَّرَاخِيَ الْبَعِيدَ مِنْ دُخُولِ الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ وَإِقَامَتِهِمْ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُقَالُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ؟ وَأَتَى رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَفِي أُخْرَى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «3» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ وَقَالُوا: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمَتْ جَوَارِحُهُمْ فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حديثا.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 160. (2) سورة يونس: 10/ 42. (3) سورة النساء: 4/ 42.

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السلام والنظر قلبي وكَيْفَ مَنْصُوبٌ بِ كَذَبُوا وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالنَّظَرِ لأن انْظُرْ معلقة وكَذَبُوا مَاضٍ وَهُوَ فِي أَمْرٍ لَمْ يَقَعْ لَكِنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِيهَا مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ وَلَا بُدَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكْذِبُوا حِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ وَالْجُحُودَ لَا وَجْهَ لِمَنْفَعَتِهِ. (قُلْتُ) : الْمُمْتَحِنُ يَنْطِقُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَبِمَا لَا يَنْفَعُهُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَهُمَا حَيْرَةً وَدَهْشًا، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ «1» وَقَدْ أَيْقَنُوا بِالْخُلُودِ وَلَمْ يَشُكُّوا فيه وقالوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يقول معناه وما كُنَّا مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَوْ مَا عَلِمْنَا أَنَّا عَلَى خَطَأٍ فِي مُعْتَقَدِنَا، وَحَمْلُ قَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا فَتَحَمُّلٌ وَتَعَسُّفٌ وَتَحْرِيفٌ لِأَفْصَحِ الْكَلَامِ إِلَى مَا هُوَ عَيٌّ وَإِفْحَامٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِمُتَرْجِمٍ عَنْهُ وَلَا بِمُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَابٍ عَنْهُ أَشَدَّ النُّبُوِّ وَمَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ مَنْ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ «2» بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «3» فَشَبَّهَ كَذِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِكَذِبِهِمْ في الدنيا انتهى. وقول الزَّمَخْشَرِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يَجُوزُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ واستدلوا بأشياء تؤول إِلَى مَسْأَلَةِ الْقُبْحِ وَالْحُسْنِ، وَبِنَاءُ مَا قَالُوهُ عَلَيْهَا ذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَتُطَالَعُ هُنَاكَ، إِذْ مَسْأَلَةُ التَّقْبِيحِ وَالتَّحْسِينِ خَالَفُوا فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، يَقُولُونَ: إِنَّ الْكُفَّارَ يَكْذِبُونَ فِي الْآخِرَةِ وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا أَصْحَابَهُ الْمُعْتَزِلَةَ وَوَافَقَ أَهْلَ السُّنَّةِ. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: مَعْنَاهُ ذَهَبَ افْتِرَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَكُفْرُهُمْ بِادِّعَائِهِمْ لِلَّهِ الشُّرَكَاءَ. وَقِيلَ: مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَقِيلَ عَزَبَ عَنْهُمُ افْتِرَاؤُهُمْ لِلْحَيْرَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 107. (2) سورة المجادلة: 58/ 18. (3) سورة آل عمران: 3/ 75.

بِمَعْنَى الَّذِي وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَغَابَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أُلُوهِيَّتَهُ وَشَفَاعَتَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَأَبِي عَلِيٍّ قَالَا: لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» فَذَهَبَ عَنْهُمْ حَيْثُ عَلِمُوا أَنْ لَا تَقْرِيبَ مِنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَضَلَّ عُطِفَ عَلَى كذبوا فيدخل في حيّز انْظُرْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا فَلَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِهِ وَلَا يَتَسَلَّطُ النَّظَرُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً. رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَالْوَلِيدَ وَالنَّضْرَ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمِيَّةَ وَأُبَيًّا اسْتَمَعُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لِلنَّضْرِ: يَا أَبَا قُتَيْلَةَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: مَا يَقُولُ إِلَّا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مِثْلُ مَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ صَاحِبَ أَشْعَارٍ جَمَعَ أَقَاصِيصَ فِي دِيَارِ الْعَجَمِ مِثْلَ قِصَّةِ رُسْتُمٍ وَأَسْفِنْدِيَارَ فَكَانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا فَيَسْتَمِعُونَ لَهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي لَأَرَى بَعْضَ مَا يَقُولُ حَقًّا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: كَلَّا لَا تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَقَالَ الْمَوْتُ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا، فَنَزَلَتْ وَالضَّمِيرُ فِي وَمِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي يَسْتَمِعُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ وَجَمَعَهُ فِي عَلى قُلُوبِهِمْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مَعْطُوفَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا عَطْفَ فِعْلِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ كَذَا. وَقِيلَ: الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ أَيْ وَقَدْ جَعَلْنَا أَيْ نُنْصِتُ إِلَى سَمَاعِكَ وَهُمْ مِنَ الْغَبَاوَةِ، فِي حَدِّ مَنْ قَلْبُهُ فِي كِنَانٍ وَأُذُنُهُ صَمَّاءُ وَجَعَلَ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَلْقَى، فَتَتَعَلَّقَ عَلَى بِهَا وَبِمَعْنَى صَيَّرَ فَتَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لَوْ تَأَخَّرَتْ، فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ صَارَتْ حَالًا وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ كَعِنَانٍ وَأَعِنَّةٍ وَالْكِنَانُ الْغِطَاءُ الْجَامِعُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا انْتَضَوْهَا فِي الْوَغَى مِنْ أَكِنَّةٍ ... حَسِبْتَ بُرُوقَ الْغَيْثِ هاجت غيومها وأَنْ يَفْقَهُوهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْ لَا يَفْقَهُوهُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وِقْرًا بِكَسْرِ الْوَاوِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آذانِهِمْ وُقِرَتْ بِالصَّمَمِ كَمَا تُوقَرُ الدَّابَّةُ مِنَ الْحَمْلِ، وَالظَّاهِرُ أن

_ (1) سورة الزمر: 39/ 3. [.....]

الْغِطَاءَ وَالصَّمَمَ هُنَا لَيْسَا حَقِيقَةً بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي النَّفْسِ، اسْتَعَارَ الْأَكِنَّةَ لِصَرْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ، وَالثِّقَلَ فِي الْأُذُنِ لِتَرْكِهِمُ الْإِصْغَاءَ إِلَى سَمَاعِهِ أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «1» فَلَمَّا لَمْ يَتَدَبَّرُوا وَلَمْ يُصْغُوا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَى قَلْبِهِ غِطَاءٌ وَفِي أُذُنِهِ وَقْرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ كَمُدَاخَلَةِ الشَّيْطَانِ بَاطِنَ الْإِنْسَانِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَنَحَا الْجِبَائِيُّ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْحًى آخَرَ غَيْرَ هَذَا فَقَالَ: كَانُوا يَسْتَمِعُونَ الْقِرَاءَةَ لِيَتَوَصَّلُوا بِسَمَاعِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مكان الرسول بِاللَّيْلِ فَيَقْصِدُوا قَتْلَهُ وَإِيذَاءَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ اللَّهُ يُلْقِي عَلَى قُلُوبِهِمُ النَّوْمَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَكِنَّةِ وَتَثْقُلُ أَسْمَاعُهُمْ عَنِ اسْتِمَاعِ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّوْمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِي آذانِهِمْ وَقْراً. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ يَسِمُ اللَّهُ قَلْبَهُ بِعَلَامَةٍ مَخْصُوصَةٍ تَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِرُؤْيَتِهَا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَبْعُدُ تَسْمِيَةُ تِلْكَ الْعَلَامَةِ بِالْكِنَانِ. وَقِيلَ: لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ صَارَ عُدُولُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ كَالْكِنَانِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَقِيلَ: لَمَّا مَنَعَهُمُ الْأَلْطَافَ الَّتِي إِنَّمَا تَصْلُحُ أَنْ يَفْعَلَ بِمَنْ قَدِ اهْتَدَى فَأَخْلَاهُمْ وَفَوَّضَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَسُوءَ صَنِيعُهُمْ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. وَقِيلَ: يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ وَرَدَ حِكَايَةً لِمَا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تُعْزَى إِلَى الْجِبَائِيِّ وَهِيَ كُلُّهَا فِرَارٌ مِنْ نِسْبَةِ الْجَعْلِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةً فَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْمَجَازَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَقَدْ نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ مَنْحَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَالَ: الْأَكِنَّةُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْوَقْرُ فِي الْآذَانِ تَمْثِيلُ نُبُوِّ قُلُوبِهِمْ وَمَسَامِعِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَوَجْهُ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى ذَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِيهِمْ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ كَأَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَيْهِ، أَوْ هِيَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «2» انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَنِسْبَةُ الْجَعْلِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خَلْقِ الْأَعْمَالِ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي نُفُوسِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنَ الْغِلَظِ وَالْبُعْدِ عَنْ قَبُولِ الْخَيْرِ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا سَامِعِينَ لأقواله. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لَمَّا ذَكَرَ عَدَمَ انْتِفَاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ عَلَى

_ (1) سورة فصلت: 41/ 26. (2) سورة فصلت: 41/ 5.

مَحَالِّهَا أَكِنَّةً وَلَا بِسَمَاعِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ فِي آذانِهِمْ وَقْراً انْتَقَلَ إِلَى الْحَاسَّةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ مِنْ حَاسَّةِ السَّمَاعِ، فَنَفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِدْرَاكِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَالْآيَةُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَانْقِلَابِ الْعَصَا سَيْفًا وَالْمَاءِ الْمِلْحِ عَذْبًا وَتَصْيِيرِ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ كَثِيرًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّ آيَةٍ كُلَّ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا لِأَجْلِ مَا جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً انْتَهَى. وَمَقْصُودُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ وَالْعِنَادِ الْمُفْرِطِ فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ حَتَّى أَنَّ الشَّيْءَ الْمَرْئِيَّ الدَّالَّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ حَقِيقَةً لَا يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، بَلْ يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ. حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يُجادِلُونَكَ أَيْ يُخَاصِمُونَكَ فِي الِاحْتِجَاجِ وَبَلَغَ تَكْذِيبُهُمْ فِي الْآيَاتِ إِلَى الْمُجَادَلَةِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَجَعْلُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدْحٌ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. قِيلَ: كَانَ النَّضْرُ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِأَخْبَارِ إِسْفِنْدِيَارَ وَرُسْتُمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُجَادَلَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَظَاهِرُ المجادلة أنه فِي الْمَسْمُوعِ الَّذِي هُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الرَّسُولِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ انْتَهَى. أَمْرُهُمْ إِلَى الْمُجَادَلَةِ وَالِافْتِرَاءِ دُونَ دَلِيلٍ، وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ ب إِذا بَعْدَ حَتَّى كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَأَوَّلُ مَا وَقَعَتْ فِيهِ قَوْلُهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ «1» وَهِيَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَلَيْسَتْ هُنَا جَارَّةً لإذا ولا جملة الشرط جُمْلَةُ الْجَزَاءِ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ حَتَّى الَّتِي هِيَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ، بَلْ تَكُونُ تَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي نَحْوِ ضَرَبْتُ الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا ضَرَبْتُهُ أَنَّ حَتَّى فِيهِ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا منصوبا وحَتَّى إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا إِذا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَى أَنْ فَيَكُونُ التقدير فإذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أَيْ مَنَعْنَاهُمْ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ؟ إِلَى أَنْ يَقُولُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي وَقْتِ مَجِيئِهِمْ مُجَادِلِيكَ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لَا مِنَ الشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا وَتَرْكِيبُ حَتَّى إِذا لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ كَلَامٌ ظَاهِرٌ نَحْوَ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوَ قَوْلِهِ: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ: أَقَتَلْتَ، أَوْ كَلَامٌ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:

_ (1) سورة النساء: 4/ 6.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا «1» التَّقْدِيرُ فَأَتَوْهُ بِهَا وَوَضَعَهَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَهُمَا قَالَ: انْفُخُوا فَنَفَخَهُ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ وَلِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ حَتَّى إِذا لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا كَلَامٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ أَحْكَامَ حَتَّى مُسْتَوْفَاةً وَدُخُولَهَا عَلَى الشَّرْطِ، وَمَذْهَبَ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ فِي ذَلِكَ وَمَذْهَبَ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا هِيَ حَتَّى الَّتِي تَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمَلُ وَالْجُمْلَةُ قوله: إِذا جاؤُكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ويُجادِلُونَكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجَارَّةَ وَيَكُونَ إِذا جاؤُكَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بِمَعْنَى حتى وقت مجيئهم ويُجادِلُونَكَ حَالٌ وَقَوْلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَفْسِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَلَغَ تَكْذِيبُهُمُ الْآيَاتِ، إِلَى أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَكَ وَيُنَاكِرُونَكَ وَفَسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فَيَجْعَلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَصْدَقَ الْحَدِيثِ خُرَافَاتٍ وَأَكَاذِيبَ وَهِيَ الْغَايَةُ فِي التَّكْذِيبِ انْتَهَى. وَمَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِذا بَعْدَ حَتَّى مِنْ كَوْنِهَا مَجْرُورَةً أَوْجَبَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ، فَزَعَمَ أَنَّ إِذا تُجَرُّ بِ حَتَّى. قَالَ فِي التَّسْهِيلِ: وَقَدْ تُفَارِقُهَا، يَعْنِي إِذا الظَّرْفِيَّةَ مَفْعُولًا بِهَا وَمَجْرُورَةً بِ حَتَّى أَوْ مُبْتَدَأً وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَجْوِيزِهِ أَنْ تَكُونَ إِذا مَجْرُورَةً بِ حَتَّى، وَابْنُ مَالِكٍ فِي إِيجَابِ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلًا غَيْرَهُ خَطَأٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّذْيِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَقَدْ وُفِّقَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُعْرِبِينَ لِلصَّوَابِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ هَنَا أبو البقاء حَتَّى إِذا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِجَوَابِهَا وَهُوَ يَقُولُ وَلَيْسَ لِحَتَّى هَاهُنَا عَمَلٌ وَإِنَّمَا أَفَادَتْ مَعْنَى الْغَايَةِ، كَمَا لَا تَعْمَلُ فِي الجمل ويُجادِلُونَكَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي جاؤُكَ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ، يَقُولُ جَوَابُ إِذا وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا انْتَهَى. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُؤْذُوا الرَّسُولَ وَأَتْبَاعَهُ وَكَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ بِأَبِي طَالِبٍ يُرِيدُونَ سُوءًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التراب دفينا

_ (1) سورة الكهف: 18/ 96.

فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَأَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ منك ع يونا وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحٌ ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أ مينا وَعَرَضْتَ دِينًا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ كَانُوا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عن اتباع الرسول وَيَتَبَاعَدُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَفِي قَوْلِهِ: عَنْهُ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَفْقَهُوهُ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ غَيْرَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ ويَنْأَوْنَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى الرسول إِذْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وحَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْتِفَاتًا وَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ تَبَاعُدِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ بِأَنْفُسِهِمْ وَنَهْيِ غَيْرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ أَحَدُ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى حِمَايَةِ الرَّسُولِ وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَالْمَعْنَى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ مَنْ يُرِيدُ إِذَايَتَهُ وَيَبْعُدُونَ عَنْهُ بِتَرْكِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ لَهُ فَيَفْعَلُونَ الشَّيْءَ وَخِلَافَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وأيضا وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ وَمُقَاتِلٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحَدُ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَنِسْبَةُ هَذَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَتَابِعَيْهِ بِلَفْظِ وَهُمْ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْكُفَّارِ وَجَمَاعَتُهُمْ لَمْ يَنْهَوْا عَنْ إِذَايَةِ الرَّسُولِ هِيَ نِسْبَةٌ لِكُلِّ الْكُفَّارِ بِمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَخَرَجَتِ الْعِبَارَةُ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِمَا يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ أَشْنَعُ وَأَغْلَظُ حَيْثُ يَنْهَوْنَ عَنْ إِذَايَتِهِ وَيَتَبَاعَدُونَ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ سُرَّاقٌ وَمِنْهُمْ زُنَاةٌ وَمِنْهُمْ شَرَبَةُ خَمْرٍ، هَؤُلَاءِ سُرَّاقٌ وَزُنَاةٌ وَشَرَبَةُ خَمْرٍ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ ذَا وَبَعْضَهُمْ ذَا وَكَانَ الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْهَى عَنْ إِذَايَتِهِ وَيَبْعُدُ عَنْ هِدَايَتِهِ وَفِي قوله: يَنْهَوْنَ ويَنْأَوْنَ تَجْنِيسُ التَّصْرِيفِ وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ فَيَنْهَوْنَ انْفَرَدَتْ بَالْهَاءِ وَيَنْأَوْنَ انْفَرَدَتْ بِالْهَمْزَةِ وَمِنْهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ «1» ويفرحون

_ (1) سورة الكهف: 18/ 104.

وَيَمْرَحُونَ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، وَفِي كِتَابِ التَّحْبِيرِ سَمَّاهُ تَجْنِيسَ التَّحْرِيفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ. وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ: إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ غَارَةً ... لِنِهَابِ مَالٍ أَوْ ذَهَابِ نُفُوسِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ تَجْنِيسَ التَّحْرِيفِ، هُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّكْلُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْعَرَبِ: وَقَدْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ اللَّهُمَّ إِنِّي مُسْلِمٌ وَمُسَلِّمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: اللَّهَى تفتح اللهى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَنَوْنَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى النُّونِ وَهُوَ تَسْهِيلٌ قِيَاسِيٌّ. وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قَبْلَ هَذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أَيْ عَنِ الرَّسُولِ أَوِ الْقُرْآنِ قَاصِدِينَ تَخَلِّي النَّاسِ عَنِ الرَّسُولِ فَيُهْلِكُونَهُ وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْهَلَاكِ الْمَوْتَ بَلِ الخلود في النار وَإِنْ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا وَنَفِيُ الشُّعُورِ عَنْهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مَذَمَّةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ في نفي العلم إذ الْبَهَائِمُ تَشْعُرُ وَتَحُسُّ فَوَبَالُ مَا رَامُوا حَلَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَدِيثَ الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِهِمُ الذَّمِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ لَرَأَيْتَ أَمْرًا شَنِيعًا وَهَوْلًا عَظِيمًا وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ جَائِزٌ فَصِيحٌ وَمِنْهُ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» الْآيَةَ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعًا أَيْ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ لَدَفَعْنَاهُ وتَرى مُضَارِعٌ مَعْنَاهُ الْمَاضِي أَيْ: وَلَوْ رَأَيْتَ فَإِذْ بَاقِيَةٌ عَلَى كَوْنِهَا ظَرْفًا مَاضِيًا مَعْمُولًا لِتَرَى وَأَبْرَزَ هَذَا فِي صُورَةِ الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ إِجْرَاءٌ لِلْمُحَقَّقِ الْمُنْتَظَرِ مَجْرَى الْوَاقِعِ الْمَاضِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ وَالْمَعْنَى وَلَوْ صَرَفْتَ فِكْرَكَ الصَّحِيحَ إِلَى تَدَبُّرِ حَالِهِمْ لَازْدَدْتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَسْوَأِ حَالٍ، فَيَجْتَمِعُ لِلْمُخَاطَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخَبَرُ الصِّدْقُ الصَّرِيحُ وَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ وَهُمَا مَدْرَكَانِ مِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ الْيَقِينِ وَالْمُخَاطَبُ بِ تَرى الرَّسُولُ أَوِ السَّامِعُ، وَمَعْمُولُ تَرى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ تَرى حَالَهُمْ إِذْ وُقِفُوا.

_ (1) سورة الرعد: 13/ 31.

وَقِيلَ: تَرى بَاقِيَةٌ عَلَى الاستقبال وإِذْ مَعْنَاهُ إِذَا فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ فَتَكُونُ لَوْ هُنَا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَأَلْجَأَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وُقِفُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ حُبِسُوا عَلَى النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: مَعْنَاهُ أُجْلِسُوا عَلَيْهَا وعَلَى بِمَعْنَى فِي أَوْ تَكُونُ عَلَى بَابِهَا وَمَعْنَى جُلُوسِهِمْ، أَنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٌ فَإِذَا كَانُوا فِي طَبَقَةٍ كَانَتِ النَّارُ تَحْتَهُمْ فِي الطَّبَقَةِ الْأُخْرَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عُرِضُوا عَلَيْهَا وَمَنْ عُرِضَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ وُقِفَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَايَنُوهَا وَمَنْ عَايَنَ شَيْئًا وَقَفَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَرَفُوا مِقْدَارَ عَذَابِهَا كَقَوْلِهِمْ: وَقَفْتُ عَلَى مَا عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ فَهِمْتُهُ وَتَبَيَّنْتُهُ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: جُعِلُوا وُقَّفًا عَلَيْهَا كَالْوُقُوفِ الْمُؤَبَّدَةِ عَلَى سُبُلِهَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: وُقِفُوا بِقُرْبِهَا وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّاسَ يُوقَفُونَ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ» . وَقَالَ الطبري: أدخلوها ووقف فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُتَعَدِّيَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وُقِفُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ وَقَفَ اللَّازِمَةِ وَمَصْدَرُ هَذِهِ الْوُقُوفُ وَمَصْدَرُ تِلْكَ الْوَقْفُ، وَقَدْ سُمِعَ فِي الْمُتَعَدِّيَةِ أَوْقَفَ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَلَمْ يَحْفَظْهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْقَفْتُ فُلَانًا إِلَّا أَنِّي لَوْ لَقِيتُ رَجُلًا وَاقِفًا فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَوْقَفَكَ هَاهُنَا لَكَانَ عِنْدِي حَسَنًا انْتَهَى. وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَبُو عَمْرٍو إِلَى حُسْنِ هَذَا لِأَنَّهُ مَقِيسٌ فِي كُلِّ فِعْلٍ لَازِمٍ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، نَحْوَ ضَحِكَ زِيدٌ وَأَضْحَكْتُهُ. فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا وَهَذَا النَّصْبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ فَهُوَ يَنْسَبِكُ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةِ، وَالْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَالتَّقْدِيرُ يَا لَيْتَنا يَكُونُ لَنَا رَدٌّ وَانْتِفَاءُ تَكْذِيبٍ وَكَوْنٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ الْمَنْصُوبُ بَعْدَهَا هُوَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي وَمَعْنَاهُ إِنْ رُدِدْنَا لَمْ نُكَذِّبْ وَنَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ فَإِنَّ نَصْبَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْوَاوِ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقَعُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ فَلَا يَنْعَقِدُ مِمَّا قَبْلَهَا وَلَا مِمَّا بَعْدَهَا شَرْطٌ وَجَوَابٌ وَإِنَّمَا هِيَ وَاوُ الْجَمْعِ يُعْطَفُ مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُتَوَهَّمِ قَبْلَهَا وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ يَتَعَيَّنُ مَعَ النَّصْبِ أَحَدُ مَحَامِلِهَا الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْمَعِيَّةُ، وَيُمَيِّزُهَا مِنَ الْفَاءِ، تَقْدِيرُ شَرْطٍ قَبْلَهَا أَوْ حَالٌ مَكَانَهَا وَشُبْهَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا جَوَابٌ أَنَّهَا تَنْصِبُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَنْصِبُ فِيهَا الْفَاءُ فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا جَوَابٌ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْوَاوُ تَنْصِبُ مَا بعدها في

غير الواجب مِنْ حَيْثُ انْتَصَبَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ وَالْوَاوِ وَمَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْفَاءِ مُخْتَلِفَانِ أَلَا تَرَى. لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ. لَوْ أُدْخِلَتِ الْفَاءُ هُنَا لَأَفْسَدَتِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ لَا يَجْتَمِعُ النَّهْيُ وَالْإِتْيَانُ وَتَقُولُ: لا تأكل السمك وتشرب اللَّبَنَ لَوْ أَدْخَلْتَ الْفَاءَ فَسَدَ الْمَعْنَى انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ مُلَخَّصًا. وَبِلَفْظِهِ وَيُوَضِّحُ لَكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَوَابٍ انْفِرَادُ الْفَاءِ دُونَهَا بِأَنَّهَا إِذَا حُذِفَتِ انْجَزَمَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، إِلَّا إِذَا نَصَبَتْ بَعْدَ النَّفْيِ وَسَقَطَتِ الْفَاءُ فَلَا يَنْجَزِمُ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَمَنَّاةٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتَمَنًّى وَحْدَهُ إِذِ التَّقْدِيرُ كَمَا قُلْنَا يَا لَيْتَنَا يَكُونُ لَنَا رَدٌّ مَعَ انْتِفَاءِ التَّكْذِيبِ وَكَوْنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَلا نُكَذِّبَ بِالرَّفْعِ وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ رَفْعَ وَلَا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ فِي قِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْعَطْفُ عَلَى نُرَدُّ فَيَكُونَانِ دَاخِلَيْنِ فِي التَّمَنِّي. وَالثَّانِي الِاسْتِئْنَافُ وَالْقَطْعُ، فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَسُوغَانِ فِي رَفْعِ وَلا نُكَذِّبَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَا نُكَذِّبَ بِالْفَاءِ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا أَبَدًا وَنَكُونَ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَنَحْنُ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَّزُوا فِي رَفْعِ وَلا نُكَذِّبَ ونَكُونَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فَتَلَخَّصَ فِي الرَّفْعِ ثلاثة أوجه. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى نُرَدُّ فَيَكُونَ انْتِفَاءُ التَّكْذِيبِ وَالْكَوْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلَيْنِ فِي التَّمَنِّي أَيْ وَلَيْتَنَا لَا نُكَذِّبُ، وَلَيْتَنَا نَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ هَذَا الرَّفْعُ مُسَاوِيًا فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلنَّصْبِ لِأَنَّ فِي كِلَيْهِمَا الْعَطْفَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَاهُ، فَفِي النَّصْبِ عَلَى مَصْدَرٍ مِنَ الرَّدِّ مُتَوَهَّمٍ وَفِي الرَّفْعِ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : التَّمَنِّي إِنْشَاءٌ وَالْإِنْشَاءُ لَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فَكَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وظاهره أن الله أكذبهم في تمنيهم فالجواب مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ أَنَّ سَجِيَّةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ هِيَ الْكَذِبُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حِكَايَةً وَإِخْبَارًا عَنْ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِمُتَعَلِّقِ التَّمَنِّي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا التَّمَنِّيَ قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعِدَّةِ فَإِذَا كَانَتْ سَجِيَّةُ الْإِنْسَانِ شَيْئًا ثُمَّ تَمَنَّى مَا يُخَالِفُ السَّجِيَّةَ وَمَا هُوَ بَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ مِنْهَا، صَحَّ أَنْ يُكَذَّبَ عَلَى تَجَوُّزٍ نَحْوَ لَيْتَ اللَّهَ يَرْزُقُنِي مَالًا فَأُحْسِنَ إِلَيْكَ وَأُكَافِئَكَ عَلَى صَنِيعِكَ، فَهَذَا مُتَمَنٍّ فِي مَعْنَى الْوَاعِدِ وَالْمُخْبِرِ فَإِذَا رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُحْسِنْ إِلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يُكَافِئْهُ كَذَبَ وَكَانَ تَمَنِّيهِ فِي حُكْمِ مَنْ قَالَ: إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا كَافَأْتُكَ عَلَى إِحْسَانِكَ، وَنَحْوَ قَوْلِ رَجُلٍ شِرِّيرٍ بَعِيدٍ مِنْ أَفْعَالِ الطَّاعَاتِ: لَيْتَنِي أَحُجُّ

وَأُجَاهِدُ وَأَقُومُ اللَّيْلَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِهَذَا عَلَى تَجَوُّزٍ كَذَبْتَ أَيْ أَنْتَ لَا تَصْلُحُ لِفِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يَصْلُحُ لَكَ. وَالثَّانِي مِنْ وُجُوهِ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ وَلَا نُكَذِّبَ ونَكُونَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِهَذَا فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْقَوْلِ أَيْ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَقَالُوا: نَحْنُ لَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ يَصْدُرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا تَكْذِيبُهُمْ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ وَرَجَّحَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِ: دَعْنِي وَلَا أَعُودُ، بِمَعْنَى وَأَنَا لَا أَعُودُ تَرَكَتْنِي أَوْ لَمْ تَتْرُكْنِي. وَالثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ الرَّفْعِ: أَنْ يَكُونَ وَلَا نُكَذِّبَ ونَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، التَّقْدِيرُ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ غَيْرَ مُكَذِّبِينَ وَكَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ دَاخِلًا قَيْدًا فِي الرَّدِّ الْمُتَمَنَّى وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي نُرَدُّ وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ بِالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَا فِي إِعْرَابِ وَلا نُكَذِّبَ ونَكُونَ إِذَا كَانَا مَعْطُوفَيْنِ عَلَى نُرَدُّ. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ قَرَأَ وَلا نُكَذِّبَ بِالنَّصْبِ وَنَكُونَ بِالرَّفْعِ فَالنَّصْبُ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ وَالرَّفْعُ فِي وَنَكُونَ عَطْفٌ عَلَى نُرَدُّ أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ وَنَحْنُ نَكُونُ وَتُضُعِّفَ فِيهِ الْحَالُ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ فَلَا يَكُونُ حَالًا بِالْوَاوِ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ نَحْوَ نَجَوْتُ، وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكًا وَأَنَا أَرْهَنُهُمْ مَالِكًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ تَأْوِيلًا فِي الرَّدِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى النَّارِ الَّتِي وُقِفُوا عَلَيْهَا فَالْمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُوقَفُ هَذَا الْوُقُوفَ غَيْرَ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّنَا كَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَيُضَعَّفُ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ويبطله، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا التَّكْذِيبُ فِي هَذَا التَّمَنِّي لِأَنَّهُ تَمَنِّي مَا قَدْ مَضَى، وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّكْذِيبُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا عَلَى تَجَوُّزٍ فِي تَمَنِّي الْمُسْتَقْبَلَاتِ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ هُنَا سُؤَالًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَعَذُّرِ حُصُولِهِ، وَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: قُلْنَا لَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّدَّ لَا يَحْصُلُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الرَّدِّ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ «1» وأَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ «2» . انْتَهَى. وَلَا يَرِدُ هَذَا السؤال لأن التَّمَنِّي هُنَا عَلَى الْمُمْتَنِعِ وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ مَا يَكُونُ التَّمَنِّي لَهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ يَا فِي قَوْلِهِ يَا لَيْتَ حَرْفُ تَنْبِيهِ لَا حَرْفُ نِدَاءٍ وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ لِأَنَّ فِي هَذَا حَذْفَ جُمْلَةِ النِّدَاءِ وَحَذْفَ مُتَعَلِّقِهِ رَأْسًا وَذَلِكَ إِجْحَافٌ كَثِيرٌ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 37. (2) سورة الأعراف: 7/ 50.

بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ بَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِمَا سَبَقَ، وَهَكَذَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْمٍ، تَكُونُ بَلْ فِيهِ لِلْإِضْرَابِ كَقَوْلِهِ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ «1» وَمَعْنَى بَدا ظَهَرَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَلْ هُنَا اسْتِدْرَاكٌ وَإِيجَابُ نَفْيٍ كَقَوْلِهِمْ: مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ قَامَ عَمْرٌو انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا النَّفْيُ الَّذِي سَبَقَ حَتَّى تُوجِبَهُ بَلْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ رَدٌّ لِمَا تَمَنَّوْهُ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْإِيمَانِ بَلْ قَالُوهُ إِشْفَاقًا مِنَ الْعَذَابِ وَطَمَعًا فِي الرَّحْمَةِ انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا الْكَلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي وُقِفُوا. قَالَ أَبُو رَوْقٍ: وَهُمْ جَمِيعُ الْكَافِرِينَ يَجْمَعُهُمُ اللَّهُ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الْآيَةَ فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ رَبِّنا الْآيَةَ، فَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ وَتَشْهَدُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ فِي الدُّنْيَا وَبِمَا كَتَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ بَلْ بَدا لَهُمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ قَبْلُ رَاجِعًا إِلَى الْآخِرَةِ أَيْ مِنْ قَبْلِ بُدُوِّهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَظْهَرُ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ شِرْكِهِمْ. وقال ابن عباس: هم الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ سُئِلُوا فِي الدُّنْيَا هَلْ تُعَاقَبُونَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ قالوا: لاثم ظَهَرَ لَهُمْ عُقُوبَةُ شِرْكِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ بَلْ بَدا لَهُمْ. وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ ظَهَرَ لَهُمْ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ «2» وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يُخْفُونَ الْكُفْرَ فَظَهَرَ لَهُمْ وَبَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا وَعَظَهُمُ الرَّسُولُ خَافُوا وَأَخْفَوْا ذَلِكَ الْخَوْفَ لِئَلَّا يَشْعُرَ بِهِمْ أَتْبَاعُهُمْ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَسَائِرُ الْكُفَّارِ وَيَكُونُ الَّذِي يُخْفُونَهُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالَهُ وَالْمَعْنَى بَدَا لَهُمْ صِدْقُكَ فِي النُّبُوَّةِ وَتَحْذِيرُكَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ ويُخْفُونَ عَائِدٌ عَلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ مُخْتَلِفٌ أَيْ بَدَا لِلْأَتْبَاعِ مَا كَانَ الرُّؤَسَاءُ يُخْفُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْفَسَادِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوُ هَذَا. وَقِيلَ: بَدَا لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُخْفُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَمْرِ النَّارِ لِأَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ «3» يَعْرِفُونَهُ. وَقِيلَ: بَلْ بَدا لَهُمْ أَيْ لِبَعْضِهِمْ مَا كَانَ يُخْفِيهِ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، فَأَطْلَقَ كُلًّا عَلَى بَعْضٍ مَجَازًا. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْإِخْبَارَ عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ظَهَرَتْ لهم مستوراتهم في

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 5. (2) سورة المؤمنون: 23/ 37. (3) سورة القصص: 28/ 52.

الدُّنْيَا مِنْ مَعَاصٍ وَغَيْرِهَا، فَكَيْفَ الظَّنُّ عَلَى هَذَا بِمَا كَانُوا يُعْلِنُونَ بِهِ مِنْ كُفْرٍ وَنَحْوِهِ، وَيُنْظَرُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ فِي صُحُفِهِمْ وَشَهَادَةِ جَوَارِحِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ تَمَنَّوْا مَا تَمَنَّوْا ضجرا لا أَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَآمَنُوا انْتَهَى. وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أَيْ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ وُقُوفِهِمْ عَلَى النَّارِ وَتَمَنِّيهِمُ الرَّدَّ، لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعَاصِي انْتَهَى. فَأَدْرَجَ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا فِي الْمَوْقُوفِينَ عَلَى النَّارِ الْمُتَمَنِّينَ الرَّدَّ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ لَا يَكُونُ كَيْفَ كَانَ يُؤْخَذُ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ أَعْلَمَ بِشَيْءٍ مِنْهُ عُلِمَ وَإِلَّا لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ وَإِرَادَتِهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ عَايَنَ إِبْلِيسُ مَا عَايَنَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ثُمَّ عَانَدَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ جَرَى عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ فِي الْأَزَلِ بِالشِّرْكِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ شَاهَدُوا النَّارَ وَالْعَذَابَ ثُمَّ سَأَلُوا الرَّجْعَةَ وَرُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا إِلَى الشِّرْكِ وَذَلِكَ لِلْقَضَاءِ السَّابِقِ فِيهِمْ، وَإِلَّا فَالْعَاقِلُ لَا يَرْتَابُ فِيمَا شَاهَدَ انتهى. وأورد هنا سؤال وَأَظُنُّهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَإِلَى مَعْصِيَتِهِ وَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ وَشَاهَدُوا أَنْوَاعَ الْعِقَابِ؟ وَأَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى حَالَةِ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرَّدُّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقِيَامَةِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالضَّرُورَةِ وَمُشَاهَدَةُ الْأَهْوَالِ وَعَذَابُ جَهَنَّمَ فَهَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ مُضْمَرًا فِي الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَضُعِّفَ جَوَابُ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ غُلُوُّهُمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ فِي الْقِيَامَةِ وَعَدَمَ مُشَاهَدَةِ الْأَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ فِي إِصْرَارِ الْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمْ مَزِيدُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ يَجْرِي مَجْرَى إِصْرَارِ سَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ الْبَتَّةَ انْتَهَى. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى وَلَوْ رُدُّوا وَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ وَعَايَنُوا الْعَذَابَ وَهُمْ مُسْتَحْضِرُونَ، ذَلِكَ ذَاكِرُونَ لَهُ لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَلَوْ رُدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى نَقْلِ حَرَكَةِ الدَّالِ مِنْ ردد إلى الراء.

_ (1) سورة الطارق: 86/ 9.

وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهَلِ التَّكْذِيبُ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ التَّمَنِّي مِنَ الْوَعْدِ بِالْإِيمَانِ أَوْ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن عادتهم ودينهم وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكَذِبِ فِي مُخَاطَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ. وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقالُوا عَطْفٌ عَلَى لَعادُوا أَيْ لَوْ رُدُّوا لَكَفَرُوا وَلَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ عَلَى مَعْنَى وَإِنَّهُمْ لَقَوْمٌ كَاذِبُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمُ الذين قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِمُ انْتَهَى. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَدَّمَهُ مِنْ كَوْنِهِ دَاخِلًا فِي جَوَابِ لَوْ هُوَ قَوْلُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَوْقِيفُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا عَلَى الْبَعْثِ وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ رَدٌّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ انْتَهَى. وَلَا يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِاخْتِلَافِ الْمَوْطِنَيْنِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِحَقِّيَةِ الْبَعْثِ هُوَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْكَارَهُمْ ذَلِكَ هُوَ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارُ عِنَادٍ فَإِقْرَارُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَا يُنَافِي إِنْكَارَهُمْ لَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْدِيرِ الْعَوْدِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» وَقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا هَذَا وَذَلِكَ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ وَهِيَ الدُّنْيَا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ كَلَامًا مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَالُوا: إِخْبَارٌ عَنْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفَّارَ مَكَّةَ بِالْبَعْثِ قَالُوا هَذَا وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنْكَارُ الْحَشْرِ وَالْمَعَادِ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الذي كانوا يخفونه هُوَ الْحَشْرُ، وَالْمَعَادُ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ وإن هُنَا نَافِيَةٌ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْمَحْصُورِ فَيَقُولُوا هِيَ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا حَتَّى أَتَوْا بِالنَّفْيِ وَالْحَصْرِ، أَيْ لَا حَيَاةَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَقَطْ وَهِيَ ضَمِيرُ الْحَيَاةِ وَفَسَّرَهُ الْخَبَرُ بَعْدَهُ وَالتَّقْدِيرُ وَمَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ الضَّمِيرُ وَلَا يُنْوَى بِهِ التَّأْخِيرُ إِذَا جُعِلَ الظَّاهِرُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ الْمُضْمَرِ وَعَدَّهُ مَعَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ برب نَحْوَ رُبَّهُ رَجُلًا أَكْرَمْتَ والمرفوع بنعم عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ نَحْوَ نعم رجلا زَيْدٌ أَوْ بِأَوَّلِ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ نَحْوَ ضَرَبَانِي وَضَرَبْتُ الزَّيْدَيْنِ، أَوْ أُبْدِلَ مِنْهُ الْمُفَسَّرُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ نَحْوَ مَرَرْتُ بِهِ زِيدٍ قَالَ: أَوْ جُعِلَ خَبَرَهُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التقدير إن

_ (1) سورة النمل: 27/ 14.

الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، فَإِظْهَارُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَيُبَيِّنُهَا وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا الْقِسْمَ أَوْ كَانَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَضَمِيرَ الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ نَحْوَ هَذَا زِيدٌ قَائِمٌ خِلَافًا لِابْنِ الطَّرَاوَةِ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْقِسْمِ وَتَوْضِيحُ هَذِهِ الْمُضْمَرَاتِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ وَالدُّنْيَا صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: حَياتُنَا وَلَمْ يُؤْتَ بِهَا عَلَى أنه صِفَةٌ تُزِيلُ اشْتِرَاكًا عَارِضًا فِي مَعْرِفَةٍ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ ثَمَّ حَيَاةً غَيْرُ دُنْيَا، بَلْ ذَلِكَ وَصْفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ إِذْ لَا حَيَاةَ عِنْدَهُمْ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ. وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ لَمَّا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحَصْرِ صَرَّحُوا بِالنَّفْيِ الْمَحْضِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْبَعْثِ بِالْمَنْطُوقِ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْبَاءِ الدَّاخِلَةِ فِي الْخَبَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ تَرى أَوَّلًا وَذَلِكَ مَجَازٌ عَنِ الْحَبْسِ والتوبيخ والسؤال كما يوقف الْعَبْدُ الْجَانِي بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ لِيُعَاقِبَهُ وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وقال: ظَاهِرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي حَيِّزٍ وَمَكَانٍ لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَقِفُونَ عِنْدَهُ وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي مَكَانٍ تَارَةً وَيَغِيبُ عَنْهُ أُخْرَى. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ وَاقِفِينَ عَلَى اللَّهِ كَمَا يَقِفُ أَحَدُنَا عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التأويل، فيكون المراد وُقِفُوا عَلَى مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَذَابِ الْكَافِرِينَ وَثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ وُقُوفَ الْمَعْرِفَةِ انْتَهَى. وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: عَلَى مَسْأَلَةِ رَبِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ أعمالهم. وقيل: المسألة مَلَائِكَةِ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى حِسَابِ رَبِّهِمْ قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بَقَالَ هُوَ اللَّهُ فَيَكُونُ السُّؤَالُ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ. وَقِيلَ: السُّؤَالُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ وَقَفَهُمْ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْ قَالَ: ومن وَقَفَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: مَرْدُودٌ عَلَى قول قَائِلٌ قَالَ مَاذَا قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِذْ وَقَفُوا عَلَيْهِ؟ فَقِيلَ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ وهذا تعبير مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَقَوْلِهِمْ لَمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ حَدِيثِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَا هُوَ بِحَقٍّ وَمَا هُوَ إِلَّا بَاطِلٌ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً التَّقْدِيرُ إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قَائِلًا لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا

بِالْحَقِ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْبَعْثِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: أَلَيْسَ هَذَا الْعَذَابُ بِالْحَقِّ وَكَأَنَّهُ لَاحَظَ قَوْلَهُ قَالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ قالُوا بَلى وَرَبِّنا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَلى وَأَكَّدُوا جَوَابَهُمْ بِالْيَمِينِ فِي قَوْلِهِمْ وَرَبِّنا وَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ وَنَاسَبَ التَّوْكِيدُ بِقَوْلِهِمْ وَرَبِّنا صَدْرَ الْآيَةِ فِي وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تِذْكَارٌ لَهُمْ فِي أَنَّهُ كَانَ يُرَبِّيهِمْ وَيُصْلِحُ حَالَهُمْ، إِذَا كَانَ سَيِّدُهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ، لَكِنَّهُمْ عَصَوْهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ. قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ بِكَفْرِكُمْ بِالْعَذَابِ وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ فَقِيلَ مُتَعَلِّقُ الْكُفْرِ الْبَعْثُ أَيْ بِكُفْرِكُمْ بِالْبَعْثِ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُهُ الْعَذَابُ أَيْ بِكُفْرِكُمْ بِالْعَذَابِ وَالذَّوْقُ فِي الْعَذَابِ اسْتِعَارَةٌ بَلِيغَةٌ وَالْمَعْنَى بَاشِرُوهُ مُبَاشَرَةَ الذَّائِقِ إِذْ هِيَ أَشَدُّ الْمُبَاشَرَاتِ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها هَذَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَحْوَالِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَخُسْرَانِهِمْ أَنَّهُمُ اسْتَعَاضُوا الْكُفْرَ عَنِ الْإِيمَانِ فَصَارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِحَالَةِ الْبَائِعِ الَّذِي أَخَذَ وَأَعْطَى وَكَانَ مَا أَخَذَ مِنَ الْكُفْرِ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ وَمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ سَبَبًا لِنَجَاتِهِ، فَأَشْبَهَ الْخَاسِرَ فِي صَفْقَتِهِ الْعَادِمَ الرِّبْحَ وَرَأْسَ مَالِهِ، وَمَعْنَى بِلِقاءِ اللَّهِ بُلُوغُ الْآخِرَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ وَرُجُوعُهُمْ إِلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِيهَا وحَتَّى غَايَةٌ لِتَكْذِيبِهِمْ لَا لِخُسْرَانِهِمْ، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ لَا غَايَةَ لَهُ وَالتَّكْذِيبَ مُغَيًّا بِالْحَسْرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ بِهِمُ التَّكْذِيبُ إِلَى قَوْلِهِمْ يَا حَسْرَتَنا وَقْتَ مَجِيءِ السَّاعَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَتَّى إِذا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ وَمَعْنَى بِلِقاءِ اللَّهِ بِلِقَاءِ جَزَائِهِ وَالْإِضَافَةُ تَفْخِيمٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْجَزَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ: «لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ، أَيْ لَقِيَ جَزَاءَهُ وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي جِهَةٍ اسْتَدَلَّ بِهَذَا، وَقَالَ: اللِّقَاءُ حقيقة والسَّاعَةُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سُمِّيَ سَاعَةً لِسُرْعَةِ انْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِيهَا لِلْجَزَاءِ لِقَوْلِهِ: أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ «1» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأُدْخِلَ عَلَيْهَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ دُونَ تَقَدُّمِ ذِكْرٍ لِشُهْرَتِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا فِي النُّفُوسِ وَذَيَاعِ ذِكْرِهَا، وَأَيْضًا فَقَدْ تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ بِلِقاءِ اللَّهِ انْتَهَى. ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ السَّاعَةُ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَصَارَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهَا لِلْغَلَبَةِ كَهِيَ فِي الْبَيْتِ لِلْكَعْبَةِ وَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنَّمَا يَتَحَسَّرُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ الموت

_ (1) سورة طه: 20/ 104. [.....]

وُقُوعًا فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا، جُعِلَ مِنْ جِنْسِ السَّاعَةِ وَسُمِّي بِاسْمِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «من مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» . وَجُعِلَ فِي مَجِيءِ السَّاعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِسُرْعَتِهِ فَالْوَاقِعُ بِغَيْرِ فَتْرَةٍ انْتَهَى. وَإِطْلَاقُ السَّاعَةُ على وقت الموت مَجَازٌ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ السَّاعَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَسُّرِهِمْ وَقْتَ الْمَوْتِ أَنَّهُمْ لَا يَتَحَسَّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلِ الظَّاهِرُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إِذْ هَذَا حَالٌ من قولهم: قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهِيَ حَالُ مُقَارَنَةٍ، وَإِذَا حَمَلْنَا الساعة على وقت الموت كَانَتْ حَالًا مُقَدَّرَةً وَمَجِيءُ الْقُدْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَارَنَةِ قَلِيلٌ، فَيَكُونُ التَّكْذِيبُ مُتَّصِلًا بِهِمْ مُغَيًّا بِالْحَسْرَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ مُكْثُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ عَلَى اعْتِقَادِ أَمْثَلِهِمْ طَرِيقَةً يَوْمٌ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «1» فَلَمَّا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ زَالَ التَّكْذِيبُ وَشَاهَدُوا مَا أَخْبَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ عِيَانًا فَقَالُوا يَا حَسْرَتَنا. وَجَوَّزُوا فِي انْتِصَابِ بَغْتَةً أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من السَّاعَةُ أَيْ بَاغِتَةً أَوْ مِنْ مَفْعُولِ جَاءَتْهُمْ أَيْ مَبْغُوتِينَ أَوْ مَصْدَرًا لَجَاءَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ حَتَّى إِذَا بَغَتَتْهُمُ الساعة بغتة، أو مصدر الفعل مَحْذُوفٍ أَيْ تَبْغَتُهُمْ بَغْتَةً وَنَادَوُا الْحَسْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُجِيبُ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَكَأَنَّ الَّذِي يُنَادِي الْحَسْرَةَ أَوِ الْعَجَبَ أَوِ السُّرُورَ أَوِ الْوَيْلَ يَقُولُ: اقْرُبِي أَوِ احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُكِ وَزَمَنُكَ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ عَلَى نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَعَلَى سامعه إن كَانَ ثَمَّ سَامِعٌ وَهَذَا التَّعْظِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالسَّامِعِ هُوَ الْمَقْصُودُ أَيْضًا فِي نِدَاءِ الْجَمَادَاتِ كَقَوْلِكَ يَا دَارُ يَا رَبْعُ وَفِي نِدَاءِ مَا لَا يَعْقِلُ كقولهم: يا جمل، وفَرَّطْنا قَصَّرْنَا وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَرْكِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيها عَائِدٌ عَلَى السَّاعَةُ أَيْ فِي التَّقْدُمَةِ لَهَا قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ الصَّفْقَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا ذِكْرُ الْخَسَارَةِ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا جِيءَ بِضَمِيرِهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً، أَوِ السَّاعَةِ عَلَى مَعْنَى قَصَّرْنَا فِي شَأْنِهَا وَفِي الْإِيمَانِ بِهَا كَمَا تَقُولُ: فَرَّطْتُ فِي فُلَانٍ وَمِنْهُ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «2» انْتَهَى. وَكَوْنُهُ عَائِدًا عَلَى الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَدَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّقْصِيرِ لَيْسَ إِلَّا الدُّنْيَا فَحَسُنَ عَوْدُهُ عَلَيْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ احْتِمَالًا فَقَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الدُّنْيَا، إِذِ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهَا وَتَجِيءُ الظَّرْفِيَّةُ أَمْكَنَ بِمَنْزِلَةِ زَيْدٌ فِي الدَّارِ انْتَهَى، وَعَوْدُهُ عَلَى السَّاعَةُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْمَعْنَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ وَالْأُهْبَةِ لَهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى ما وهي اسم موصول وعاد على لمعنى أَيْ يَا حَسْرَتَنا عَلَى الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي فَرَّطْنَا فيها، وما في الأوجه التي

_ (1) سورة طه: 20/ 104. (2) سورة الزمر: 39/ 56.

سَبَقَتْ مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ عَلَى تَفْرِيطِنَا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي السَّاعَةِ أَوْ فِي الصَّفْقَةِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى السَّاعَةِ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ إِذَا رَأَوْا مَنَازِلَهُمْ فِيهَا لَوْ كَانُوا آمَنُوا. وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ الْأَوْزَارُ الْخَطَايَا وَالْآثَامُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ وَعَمْرِو بن قيس الملائي وَالسُّدِّيِّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَمَا ذَكَرَهُ مَحْصُولُهُ أَنَّ عَمَلَهُ يُمَثَّلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَبِيحِ الْوَجْهِ وَالصُّورَةِ خَبِيثِ الرِّيحِ فَيَسْأَلُهُ فَيَقُولُ: أَنَا عملك طال ما رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْكَبُكَ فَيَرْكَبُهُ وَيَتَخَطَّى بِهِ رِقَابَ النَّاسِ وَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ عُبِّرَ بحل الْوِزْرِ عَنْ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْآلَامِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقَاسُونَ عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عَلَيْهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ قَالَ كَقَوْلِهِ: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «1» لِأَنَّهُ اعْتِيدَ حَمْلُ الْأَثْقَالِ عَلَى الظُّهُورِ كَمَا أُلِّفَ الْكَسْبُ بِالْأَيْدِي وَالْوَاوُ فِي وَهُمْ وَاوُ الْحَالِ وَأَتَتِ الْجُمْلَةُ مُصَدَّرَةً بِالضَّمِيرِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النِّسْبَةِ إِذْ صَارَ ذُو الْحَالِ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَخُصَّ الظَّهْرُ لِأَنَّهُ غَالِبًا مَوْضِعُ اعْتِيَادِ الْحَمْلِ وَلِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي ثِقَلِ الْمَحْمُولِ إِذْ يُطِيقُ مِنَ الْحَمْلِ الثَّقِيلِ مَا لَا تُطِيقُهُ الرَّأْسُ وَلَا الْكَاهِلُ، كَمَا قَالَ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «2» لِأَنَّ اللَّمْسَ أَغْلَبُ مَا يَكُونُ بِالْيَدِ وَلِأَنَّهَا أَقْوَى فِي الْإِدْرَاكِ. أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ ساءَ هُنَا تَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْمُتَعَدِّيَةَ الْمُتَصَرِّفَةَ وَوَزْنُهَا فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى أَلَا سَاءَهُمْ مَا يَزِرُونَ، وَتَحْتَمِلُ مَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، فَتَكُونَ فَاعِلَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً فَيَنْسَبِكَ مِنْهَا ما بَعْدَهَا مَصْدَرٌ هُوَ الْفَاعِلُ أَيْ أَلَا سَاءَهُمْ وِزْرُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا حُوِّلَتْ إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَأُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالْمَعْنَى أَلَا مَا أَسْوَأَ الَّذِي يَزِرُونَهُ أَوْ مَا أَسْوَأَ وِزْرَهُمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَيْضًا حُوِّلَتْ إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَأُرِيدَ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ فَتَكُونُ مُسَاوِيَةً لبئس فِي الْمَعْنَى وَالْأَحْكَامِ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الَّذِي سَبَقَ فِي مَا فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «3» جَارِيًا فِيهَا هُنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي فَاعِلِ بِئْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَا هُوَ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 30. (2) سورة الأنعام: 6/ 7. (3) سورة البقرة: 2/ 90.

جُمْلَةً مُنْعَقِدَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، إِنَّمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالْأَوَّلِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْفِعْلُ مُتَعَدٍّ وَفِي هَذَيْنِ قَاصِرٌ، وَأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ خَبَرٌ وَهُوَ فِي هَذَيْنِ إِنْشَاءٌ وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ بَابِ بِئْسَ فَقَطْ فَقَالَ: ساءَ مَا يَزِرُونَ بِئْسَ شَيْئًا يَزِرُونَ وِزْرَهُمْ كَقَوْلِهِ: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ «1» ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْوَجْهَ احْتِمَالًا أَخِيرًا وَبَدَأَ بِأَنَّ ساءَ مُتَعَدِّيَةٌ وما فَاعِلٌ كَمَا تَقُولُ سَاءَ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَأَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ. قَالَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: رَضِيتَ خُطَّةَ خَسْفٍ غَيْرَ طَائِلَةٍ ... فَسَاءَ هَذَا رِضًا يَا قَيْسَ عيلانا وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ بَلْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: فَسَاءَ هَذَا رِضًا الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِ أَلا تَنْبِيهًا وَإِشَارَةً لِسُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ فَأَلَا تَدُلُّ عَلَى الْإِشَارَةِ بِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ: أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ «2» أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُمْ وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ذَكَرَ مَصِيرَهَا وَأَنَّ مُنْتَهَى أَمْرِهَا أَنَّهَا فَانِيَةٌ مُنْقَضِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ، فَصَارَتْ شَبِيهَةً بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ إِذْ هُمَا لَا يَدُومَانِ وَلَا طَائِلَ لَهُمَا كَمَا أَنَّهَا لَا طَائِلَ لَهَا، فَاللَّهْوُ وَاللَّعِبُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا غِنَى بِهِ وَلَا مَنْفَعَةَ كَذَلِكَ هِيَ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الِاشْتِغَالِ بِأَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا الَّتِي تُعْقِبُ الْمَنَافِعَ وَالْخَيْرَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْكَلَامِ حَذَفٌ التَّقْدِيرُ وَمَا أَهْلُ الْحَيَاةِ إِلَّا أَهْلُ لَعِبٍ وَلَهْوٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَمَا أَعْمَالُ الْحَيَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ حَيَاةُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ يُزْجِيهَا فِي غُرُورٍ وَبَاطِلٍ، وَأَمَّا حَيَاةُ الْمُؤْمِنِ فَتُطْوَى عَلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ فَلَا تَكُونُ لَعِبًا وَلَهْوًا وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَنَا مِنَ الدَّدِ وَلَا الدَّدُ مِنِّي» ، وَالدَّدُ اللَّعِبُ وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَكُرِّرَ تَأْكِيدًا لِذَمِّ الدُّنْيَا. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: اللَّعِبُ عَمَلٌ يَشْغَلُ عَمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَى مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَاللَّهْوُ صَرْفُ النَّفْسِ عَنِ الْجِدِّ إِلَى الْهَزْلِ يُقَالُ: لُهِيتُ عَنْهُ أَيْ صَرَفْتُ نَفْسِي عَنْهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَهْدَوِيُّ، فَقَالَ: هَذَا فِيهِ ضَعْفٌ وَبُعْدٌ لِأَنَّ الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ لَامُهُ يَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: لَهَيَانِ وَلَامُ الْأَوَّلِ وَاوٌ انْتَهَى. وَهَذَا التَّضْعِيفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فَعِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ تَنْقَلِبُ فِيهِ الْوَاوُ يَاءً كَمَا تَقُولُ: شَقِيَ فُلَانٌ وَهُوَ مِنَ الشِّقْوَةِ فَكَذَلِكَ لَهِيَ، أَصْلُهُ لَهِوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ فَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا فَقَالُوا: لَهِيَ كَمَا قَالُوا: حَلِيَ بِعَيْنِي وَهُوَ مِنَ الْحَلْوِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِمْ فِي التَّثْنِيَةِ لَهَيَانِ فَفَاسِدٌ لِأَنَّ التثنية

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 177. (2) سورة هود: 11/ 5.

هِيَ كَالْفِعْلِ تَنْقَلِبُ فِيهِ الْوَاوُ يَاءً لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُفْرَدِ وَهِيَ تَنْقَلِبُ فِي الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِمْ: لَهٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَهِيَ كَمَا قَالُوا: شَجَّ وَهُوَ مِنَ الشَّجْوِ، وَقَالُوا فِي تَثْنِيَتِهِ: شَجَيَانِ بِالْيَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَالُوا: هُوَ كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ فَقِيلَ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِكَ: بَارِحَةُ الْأُولَى وَيَوْمُ الْخَمِيسِ وَحَقُّ الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ أَيْ وَلَدَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَحَسُنَ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ قَدِ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فَوَلِيَتِ الْعَوَامِلَ كَقَوْلِهِ وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى «1» وَقَوْلِهِ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «2» . وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ بِتَعْرِيفِ الدَّارِ بأل وَرَفْعِ الْآخِرَةُ نَعْتًا لَهَا وخَيْرٌ هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَحَسُنَ حَذْفُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِوُقُوعِهِ خَبَرًا وَالتَّقْدِيرُ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: خَيْرٌ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنَّمَا هِيَ كَقَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «3» إِذْ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي أَصْلِ الْخَيْرِ، فَيَزِيدُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ بَلْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِ. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ ذَلِكَ مَجَازٌ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الْإِقَامَةِ فِي النَّعِيمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لِلَّهِ أَيَّامُ نَجِدٍ وَالنَّعِيمُ بِهَا ... قَدْ كَانَ دَارًا لَنَا أَكْرِمْ بِهِ دَارَا وَمَعْنَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ وَلَوْ قَدَّرْنَا دُخُولَهُ النَّارَ فَإِنَّهُ بَعْدُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَتَصِيرُ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ نَحْوَهُ قَالَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمَعَاصِيَ والكبائر، فأما الكافرون والفاسقون فَلَا لِأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ مِنَ الْآخِرَةِ انْتَهَى، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ، انْتَهَى. وَقَدْ أَبْدَى الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْخَيْرِيَّةَ هُنَا فَقَالَ: خَيْرَاتُ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ وَخَيْرَاتُ الْآخِرَةِ شَرِيفَةٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ خَيْرَاتِ لدنيا لَيْسَتْ إِلَّا قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْخَسَاسَةِ، بِدَلِيلِ مُشَارَكَةِ الْحَيَوَانَاتِ الْخَسِيسَةِ فِي ذَلِكَ وَزِيَادَةِ بَعْضِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي ذَلِكَ كَالْجَمَلِ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ والديك في كثرة

_ (1) سورة الليل: 92/ 13. (2) سورة الضحى: 93/ 4. (3) سورة الفرقان: 25/ 24.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 إلى 35]

الْوِقَاعِ وَالذِّئْبِ فِي الْقُوَّةِ عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّمْزِيقِ، وَالْعَقْرَبِ فِي قُوَّةِ الْإِيلَامِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ شَرَفًا بَلِ الْمُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ مَمْقُوتٌ مُسْتَقْذَرٌ مُسْتَحْقَرٌ يُوصَفُ بِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ، وَبِدَلِيلِ عَدَمِ الِافْتِخَارِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلِ الْعُقَلَاءُ يُخْفُونَهَا وَيَخْتَفُونَ عِنْدَ فِعَالِهَا وَيُكَنُّونَ عَنْهَا وَلَا يُصَرِّحُونَ بِهَا إِلَّا عِنْدَ الشَّتْمِ بِهَا، وَبِأَنَّ حَقِيقَةَ اللَّذَّاتِ دفع آلام وَبِسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ خَسَاسَةُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ، وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَسَعَادَاتٌ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِذَا تَخَيَّلُوا فِي إِنْسَانٍ كَثْرَةَ الْعِلْمِ وَشِدَّةَ الِانْقِبَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بِالطَّبْعِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لَهُ وَأَشْقِيَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا تَشَارُكَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ فِي التَّفْضِيلِ لَكَانَتْ خَيْرَاتُ الْآخِرَةِ أَفْضَلَ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَيْهَا مَعْلُومٌ قَطْعًا وَخَيْرَاتُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَعْلُومَةً بَلْ وَلَا مَظْنُونَةً، فَكَمْ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ بُكْرَةَ يَوْمٍ أَمْسَى تَحْتَ التُّرَابِ آخِرَهُ وَكَمْ مُصْبِحٍ أَمِيرًا عَظِيمًا أَمْسَى أَسِيرًا حَقِيرَا؟ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ سُرُورِ يَوْمٍ يَوْمًا آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَنْتَفِعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا جَمَعَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ؟ بِخِلَافِ مُوجِبِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ خَالِيًا مِنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحْزِنَاتِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ فِي الْغَدِ فَإِنَّهَا تنقضي ويحزم عِنْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انتقالا فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية، وأيضا ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وحفص أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء خطاب مواجهة لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ من منكري البعث. وقرأ الباقون بالياء عودا على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدّنيا. وقيل: أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَإِنَّهُ كَانَ يُكَذِّبُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيُصَدِّقُ فِي السِّرِّ وَيَقُولُ: نَخَافُ أَنْ تَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ وَنَحْنُ أَكَلَةُ رَأَسٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: رُوِيَ أَنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شريف قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ. يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا أَحَدٌ غَيْرَنَا فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ فَنَزَلَتْ. قَدْ حَرْفُ تَوَقُّعٍ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ كَانَ التَّوَقُّعُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِكَ: قَدْ يَنْزِلُ الْمَطَرُ فِي شَهْرِ كَذَا وَإِذَا كَانَ مَاضِيًا أَوْ فِعْلَ حَالٍ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فَالتَّوَقُّعُ كَانَ عِنْدَ السَّامِعِ، وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ فَهُوَ مُوجِبُ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَعَبَّرَ هُنَا بِالْمُضَارِعِ إِذِ الْمُرَادُ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَاسْتِمْرَارُهُ وَلَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الزَّمَانُ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالتَّبْرِيزِيُّ: قَدْ نَعْلَمُ بِمَعْنَى رُبَّمَا الَّذِي تَجِيءُ لِزِيَادَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ قَدْ تَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ وَالزِّيَادَةِ قَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ لِلنُّحَاةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ وَبِقَوْلِهِ: أَخِي ثِقَةٍ لَا يُتْلِفُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ التَّكْثِيرَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ قَدْ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْفَخْرُ وَالْمَدْحُ بِقَتْلِ قَرْنٍ وَاحِدٍ وَلَا بِالْكَرَمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ قَدْ تَكُونُ لِلتَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ وَزِيَادَتِهِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالتَّكْثِيرُ، وَقَوْلُهُ: بِمَعْنَى رُبَّمَا الَّتِي تَجِيءُ لِزِيَادَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَتِهِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ رُبَّ لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلتَّكْثِيرِ وَمَا الدَّاخِلَةُ عَلَيْهَا هِيَ مُهَيِّئَةٌ لِأَنْ يليها الفعل وما الْمُهَيِّئَةُ لَا تُزِيلُ الْكَلِمَةَ عَنْ مَدْلُولِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي كَأَنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ وَلَعَلَّمَا يَخْرُجُ

بَكْرٌ لَمْ تُزِلْ كَأَنَّ عَنِ التَّشْبِيهِ وَلَا لَعَلَّ عَنِ التَّرَجِّي. قَالَ بَعْضُ أصحابنا: فذكر بِمَا فِي التَّقْلِيلِ وَالصَّرْفِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ يَعْنِي إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ قَالَ: هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، فَإِنْ خَلَتْ مِنْ مَعْنَى التَّقْلِيلِ خَلَتْ غَالِبًا مِنَ الصَّرْفِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ وَتَكُونُ حِينَئِذٍ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّوْكِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ وَقَوْلِهِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيًا وَقَدْ تَخْلُو مِنَ التَّقْلِيلِ وَهِيَ صَارِفَةٌ لِمَعْنَى المضي نحو قول: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ «2» انْتَهَى. وَقَالَ مَكِّيٌّ: قَدْ هُنَا وَشِبْهُهُ تَأْتِي لِتَأْكِيدِ الشيء وإيجابه وتصديقه ونَعْلَمُ بِمَعْنَى عَلِمْنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ: كَلِمَةُ قَدْ تَأْتِي لِلتَّوَقُّعِ وَتَأْتِي لِلتَّقْرِيبِ مِنَ الْحَالِ وَتَأْتِي لِلتَّقْلِيلِ انْتَهَى، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْكَذُوبَ قَدْ يُصَدَّقُ وَإِنَّ الْجَبَانَ قَدْ يَشْجُعُ وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ وَلَا يَقَعُ هُنَا اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى تَقْدِيرِ رَفْعِهِ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مَوْقِعَ الْمُضَارِعِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ خَبَرِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مُفْرَدًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَحْزُنْكَ رُبَاعِيًّا وَثُلَاثِيًّا فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا والَّذِي يَقُولُونَ مَعْنَاهُ مِمَّا يُنَافِي مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَقْبَلُونَ دِينَهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِعَالِ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَقُولُ لَهُ: رَئْيٌ مِنَ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ يُكَذِّبُونَكَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّشْدِيدِ. فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ نَحْوَ كَثُرَ وَأَكْثَرَ. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ حَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَذَّبْتُ الرَّجُلَ إِذْ نَسَبْتَ إِلَيْهِ الْكَذِبَ وَأَكْذَبْتُهُ إِذَا نَسَبْتَ الْكَذِبَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ دُونَ أَنْ تَنْسُبَهُ إِلَيْهِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ أَيْضًا: أَكْذَبْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ كَذَّابًا كَمَا تَقُولُ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ مَحْمُودًا فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ يَكُونُ مَعْنَى التَّخْفِيفِ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا أَوْ لَا يَنْسُبُونَ الْكَذِبَ إِلَيْكَ، وَعَلَى مَعْنَى التَّشْدِيدِ يَكُونُ إِمَّا خَبَرًا مَحْضًا عَنْ عَدَمِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَيَكُونُ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى كُلِّهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُكَذِّبُهُ، وَيُكَذِّبُ مَا جَاءَ بِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيُ التَّكْذِيبِ لِانْتِفَاءِ مَا يترتب عليه من

_ (1) سورة الصف: 61/ 5. (2) سورة البقرة: 2/ 144.

الْمَضَارِّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا يُكَذِّبُونَكَ تَكْذِيبًا يَضُرُّكَ لِأَنَّكَ لَسْتَ بِكَاذِبٍ فَتَكْذِيبُهُمْ كَلَا تَكْذِيبٍ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَذِّبُونَكَ خُصُوصِيَّةُ تَكْذِيبِهِ هُوَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا فَالْمَعْنَى لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَا يُكَذِّبُونَكَ بِحُجَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَكْذِيبُ عِنَادٍ وَبُهْتٍ. وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ كَاذِبٌ لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِكَ وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ مَا جِئْتَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي السِّرِّ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ عَدَاوَةً. وَقَالَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَكَ فِيمَا أَنْبَأْتَ بِهِ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ كَذَبْتَ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَرَجَّحَ قِرَاءَةَ عَلِيٍّ بِالتَّخْفِيفِ بَعْضُهُمْ، وَلَا ترجيح بين المتواترتين. قال الزمخشري: والمعنى أن تَكْذِيبَكَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّكَ رَسُولُهُ الْمُصَدَّقُ بِالْمُعْجِزَاتِ فَهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُونَ اللَّهَ بِجَحُودِ آيَاتِهِ فَانْتَهِ عَنْ حُزْنِكَ لِنَفْسِكَ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوكَ وَأَنْتَ صَادِقٌ، وَلَيَشْغَلْكَ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ أَهَمُّ وَهُوَ اسْتِعْظَامُكَ لِجُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِكِتَابِهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ السَّيِّدِ لِغُلَامِهِ إِذَا أَهَانَهُ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّهُمْ لَمْ يُهِينُوكَ وَإِنَّمَا أَهَانُونِي وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى الْأَمِينَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ، فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: مَا نُكَذِّبُكَ وَإِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَإِنَّمَا نُكَذِّبُ مَا جِئْتَنَا بِهِ انْتَهَى. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، وَأُقِيمَ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْجَحُودِ هِيَ الظُّلْمُ وَهِيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ وَلَكِنَّهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَآيَاتُهُ قَالَ السُّدِّيُّ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: مُحَمَّدٌ وَالْقُرْآنُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: آيَاتُ اللَّهِ علاماته وشواهد نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَالْجُحُودُ إِنْكَارُ الشَّيْءِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ مُطْلَقًا فَيَكُونُ فِي الْجُحُودِ تَجَوُّزٌ إِذْ كُلُّهُمْ لَيْسَ كُفْرُهُ بَعْدَ مَعْرِفَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ وَرَامُوا تَكْذِيبَهُ بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ عَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِهِمْ بِأَقْبَحِ وُجُوهِ الْإِنْكَارِ وَهُوَ الْجَحْدُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، إِذْ مُعْجِزَاتُهُ وَآيَاتُهُ نَيِّرَةٌ يَلْزَمُ كُلُّ مَفْطُورٍ أَنْ يقربها وَيَعْلَمَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُعَانِدِينَ تَرَتَّبَ الْجُحُودُ حَقِيقَةً وَكُفْرُ الْعِنَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ وَاقِعٌ أَيْضًا كَقِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ

_ (1) سورة الفتح: 48/ 10.

وَقِصَّةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَقَوْلِهِ: مَا كُنْتُ لِأُومِنَ بِنَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَقِيفٍ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَازَ كُفْرِ الْعِنَادِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَالْجَحْدَ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، فَامْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا، وَتَأَوَّلُوا ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» أَنَّهَا فِي أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بَدَّلُوهَا كَآيَةِ الرَّجْمِ وَنَحْوِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُفْرُ الْعِنَادِ مِنَ الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَبِالنُّبُوَّةِ بِعِيدٌ انْتَهَى. وَالتَّأْوِيلَاتُ فِي نَفْيِ التَّكْذِيبِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ اعْتِقَادَاتِهِمْ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَالِهِمْ فَأَقْوَالُهُمْ مُكَذِّبَةٌ إِمَّا لَهُ وَإِمَّا لِمَا جَاءَ بِهِ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: عَزَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يكون هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كُذِّبَ وَهُوَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَزَوَالُ الْمُنَافَاةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُكَذِّبُونَكَ لَيْسَ هُوَ مِنْ نَفْيِ تَكْذِيبِهِ حَقِيقَةً. قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ لِغُلَامِكَ: مَا أَهَانُوكَ وَلَكِنْ أَهَانُونِي وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «2» تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا سَلَّاهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ بِتَكْذِيبِكَ إِنَّمَا كَذَّبُوا اللَّهَ تَعَالَى سَلَّاهُ ثَانِيًا بِأَنَّ عَادَةَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ قَبْلَكَ تَكْذِيبُ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّ الرُّسُلَ صَبَرُوا فَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كُذِّبُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَالْمَعْنَى فَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى حَتَّى يَأْتِيَكَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ كَمَا أَتَاهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا رَجَاءَ ثَوَابِي وَأُوذُوا حَتَّى نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ وَحُرِّقُوا بِالنَّارِ، حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا بِتَعْذِيبِ مَنْ يُكَذِّبُهُمُ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ وَأُوذُوا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: كُذِّبَتْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قوله فَصَبَرُوا وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبُوا وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَأُذُوا بِغَيْرِ وَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ جَعَلَهُ ثُلَاثِيًّا لَا رُبَاعِيًّا مِنْ أَذَيْتُ فُلَانًا لَا مِنْ آذَيْتُ، وَفِي قَوْلِهِ: نَصْرُنا الْتِفَاتٌ إِذْ قَبْلَهُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبَلَاغَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ أَضَافَ النَّصْرَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُشْعِرِ بِالْعَظَمَةِ الْمُتَنَزِّلِ فِيهِ الْوَاحِدُ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ وَالنَّصْرُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَصْرُنَا إِيَّاهُمْ عَلَى مُكَذِّبِيهِمْ وَمُؤْذِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَايَةَ هُنَا الصَّبْرُ وَالْإِيذَاءُ لِظَاهِرِ عَطْفِ وَأُوذُوا عَلَى فَصَبَرُوا وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبُوا فَتَكُونُ الْغَايَةُ لِلصَّبْرِ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبَتْ فَغَايَةٌ لَهُ وَلِلتَّكْذِيبِ أو للإيذاء فقط.

_ (1) سورة النمل: 27/ 14. [.....] (2) سورة آل عمران: 3/ 184.

وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِمَوَاعِيدِ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ قَالَ: لِمَوَاعِيدِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «1» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَالْإِخْبَارُ وَالْأَوَامِرُ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّهِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى بَعْضِ مَا قَالَ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: وَلَا رَادَّ لِأَوَامِرِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِحُكُومَاتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ، كَقَوْلِهِ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ «2» أَيْ وَجَبَ مَا قَضَاهُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَبْدِيلِ كَلِمَاتِ اللَّهِ وَإِنْ زَخْرَفَ وَاجْتَهَدَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى صَانَهُ بِرَصِينِ اللَّفْظِ وَقَوِيمِ الْمَعْنَى أَنْ يُخْلَطَ بِكَلَامِ أَهْلِ الزَّيْغِ. وَقِيلَ: اللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ أَيْ لَا يُبَدِّلُ أَحَدٌ كَلِمَاتِ اللَّهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ «3» أَيْ لَا يَرْتَابُونَ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ هَذَا فِيهِ تَأْكِيدُ تَثْبِيتٍ لِمَا تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ تَكْذِيبِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ لِلرُّسُلِ وَإِيذَائِهِمْ وَصَبْرِهِمْ إِلَى أَنْ جَاءَ النَّصْرُ لَهُمْ عليهم والفاعل بجاء. قَالَ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ نَبَأِ وَمِنْ زَائِدَةٌ أَيْ وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأُ الْمُرْسَلِينَ، وَيَضْعُفُ هَذَا لِزِيَادَةِ مَنْ فِي الْوَاجِبِ. وَقِيلَ: مَعْرِفَةٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ بَلْ إِنَّمَا جَاءَ بَعْضُ نبأهم لا أنباؤهم، لِقَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «4» . وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: فَاعِلُ جَاءَكَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُقَدَّرَ جَلَاءً أَوْ بيان، وَتَمَامُ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَقَدْ جَاءَ هُوَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ أَيْ نَبَأٌ أَوْ بَيَانٌ، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا يُفَسَّرُ بِنَبَأٍ أَوْ بَيَانٍ لَا مَحْذُوفًا لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُحْذَفُ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الفاعل مضمر تَقْدِيرُهُ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ وَلَقَدْ جَاءَكَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ تَكْذِيبِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ لِلرُّسُلِ وَالصَّبْرِ وَالْإِيذَاءِ إِلَى أَنْ نُصِرُوا، وَأَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ هُوَ بَعْضُ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ يُتَأَسَّى بِهِمْ ومِنْ نَبَإِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ وَالْعَامِلُ فِيهَا وَفِيهِ جاءَكَ فَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ أَوْ بَيَانٌ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّبَأِ وَالْبَيَانِ هَذَا النَّبَأُ السَّابِقُ أَوِ الْبَيَانُ السَّابِقُ، وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِفَاعِلِ جَاءَ بَلْ قال: لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ بَعْضُ أَنْبَائِهِمْ وَقَصَصِهِمْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إِعْرَابٍ لِأَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ فَاعِلَةً. وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 171، 172. (2) سورة الزمر: 39/ 71. (3) سورة البقرة: 2/ 2. (4) سورة غافر: 40/ 78.

كَبُرَ أَيْ عَظُمَ وَشَقَّ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ إِعْرَاضُهُمْ لَكِنْ جَاءَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِيهِ التَّبْيِينُ وَالظُّهُورُ، وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ وَلَيْسَ مَقْصُودًا وَحْدَهُ بِالْجَوَابِ فَمَجْمُوعُ الشَّرْطَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقَعْ بَلِ الْمَجْمُوعُ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ أَحَدِهِمَا بانفراده واقع وَنَظِيرُهُ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «1» وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ «2» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَيَظْهَرَ كَوْنُهُ قُدَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا يَتَأَوَّلُ مَا يَجِيءُ مِنْ دُخُولِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ خِلَافًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ إِنْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى كَانَ بَقِيَتْ عَلَى مُضِيِّهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَالنَّفَقُ السِّرْبُ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ الَّذِي يُتَوَارَى فِيهِ. وَقَرَأَ نبيج الْغَنَوِيُّ أَنْ تَبْتَغِيَ نَافِقًا فِي الْأَرْضِ وَالنَّافِقَاءُ مَمْدُودٌ وَهُوَ أَحَدُ مَخَارِجِ جُحْرِ الْيَرْبُوعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَرْبُوعَ يَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى وَجْهِهَا وَيُرِقُّ مَا واجه الأرض ويجعل للحجر بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا النَّافِقَاءُ وَالْآخَرُ الْقَاصِعَاءُ، فَإِذَا رَابَهُ أَمْرٌ مِنْ أَحَدِهِمَا دَفَعَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الَّذِي أَرَّقَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَخَرَجَ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِجُحْرِهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: السُّلَّمُ الْمِصْعَدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الدَّرَجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّبَبُ وَالْمِرْقَاةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اتَّخِذْنِي سُلَّمًا لِحَاجَتِكَ أَيْ سَبَبًا. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: وَلَا لَكُمَا مَنْجًى مِنَ الْأَرْضِ فَابْغِيَا ... بِهِ نَفَقًا أَوْ في السموات سُلَّمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّلَّمُ مِنَ السَّلَامَةِ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ، وَالسُّلَّمُ الَّذِي يُصْعَدُ عَلَيْهِ وَيُرْتَقَى وَهُوَ مُذَكَّرٌ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِيهِ التَّأْنِيثَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْنِيثُهُ عَلَى مَعْنَى الْمِرْقَاةِ لَا بِالْوَضْعِ كَمَا أُنِّثَ، الصَّوْتُ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ وَالِاسْتِغَاثَةِ فِي قَوْلِهِ: سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ وَتَهَالُكِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ لَأَتَى بِهَا رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ فَكَانَ يَوَدُّ أَنْ يُجَابُوا إِلَيْهَا لِتَمَادِي حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ كَذَا فَافْعَلْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنْ حِرْصِهِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَنَّ الْآيَةَ هِيَ غَيْرُ ابْتِغَاءِ النَّفَقِ فِي الْأَرْضِ أَوِ السُّلَّمِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ فَتَدْخُلَ فِيهِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ عَلَيْهِ إِلَيْهَا فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ غَيْرَ الدُّخُولِ فِي السِّرْبِ وَالصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ مِمَّا يُرْجَى إيمانهم بسببها أو

_ (1) سورة يوسف: 12/ 26. (2) سورة يوسف: 12/ 27.

مِمَّا اقْتَرَحُوهُ رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ، وَتِلْكَ الْآيَةُ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ إِلْزَامُ الْحُجَّةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْسِيمُ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنْ لَا وَجْهَ إِلَّا الصَّبْرُ وَالْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتَ تُعَظِّمُ تَكْذِيبَهُمْ وَكُفْرَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ وَتَلْتَزِمُ الْحُزْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى دُخُولِ سِرْبٍ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى ارْتِقَاءِ سُلَّمٍ فِي السَّمَاءِ، فَدُونَكَ وَشَأْنَكَ بِهِ أَيْ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَلَا بُدَّ مِنَ الْتِزَامِ الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ وَمُعَارَضَتِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ لِلنَّاظِرِينَ الْمُتَأَمِّلِينَ إِذْ هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَهْتَدِي بِالنَّظَرِ فِيهِ قَوْمٌ بِحَقِّ مِلْكِهِ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أَيْ فِي أَنْ تَأْسَفَ وَتَحْزَنَ عَلَى أَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَمْضَاهُ وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ انْتَهَى. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا هِيَ نَفْسُ الْفِعْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون ابتغاء النفق في الأرض أَوِ السُّلَّمِ فِي السَّمَاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَوِ اسْتَطَعْتَ النُّفُوذَ إِلَى مَا تَحْتَ الْأَرْضِ أَوِ التَّرَقِّيَ فِي السَّمَاءِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ آيَةً لَكَ يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ بِعَلَامَةٍ وَيُرِيدُ: إِمَّا فِي فِعْلِكَ ذَلِكَ أَيْ تَكُونُ الْآيَةُ نَفْسَ دُخُولِكَ فِي الْأَرْضِ وَارْتِقَائِكَ فِي السَّمَاءِ وَإِمَّا فِي أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِالْآيَةِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ انتهى. وما جوزاه مِنْ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا جَوَّزَاهُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ فَتَأْتِيَهُمْ بِذَلِكَ آيَةً وَأَيْضًا فَأَيُّ آيَةٍ فِي دُخُولِ سِرْبٍ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الرُّقِيُّ فِي السَّمَاءِ فَيَكُونُ آيَةً. وَقِيلَ قَوْلُهُ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «1» وَقَوْلُهُ: أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ «2» وَكَانَ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ المصدرة بكبر عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا يَكُونُ مَاضِيًا وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ قَدْ، لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَدْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً وَخِلَافًا لمن حصر ذلك بكان دُونَ أَخَوَاتِهَا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا إِعْرَاضُهُمْ فَلَا يكون مرفوعا بكبر كَمَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَكَبُرَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ فَافْعَلْ كَمَا تَقُولُ: إِنْ شِئْتَ تَقُومُ بِنَا إِلَى فُلَانٍ نَزُورُهُ، أَيْ فَافْعَلْ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ المنفيّ بلم لِأَنَّهُ مَاضٍ، وَلَا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِلَّا فِي الشعر.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 90. (2) سورة الإسراء: 17/ 93.

وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أَيْ إِمَّا يَخْلُقُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ أَوَّلًا فَلَا يَضِلُّ أَحَدٌ وَإِمَّا يَخْلُقُهُ فِيهِمْ بَعْدَ ضَلَالِهِمْ، وَدَلَّ هَذَا التَّعْلِيقُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمْ جَمِيعَهُمُ الْهُدَى، بَلْ أَرَادَ إِبْقَاءَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَيُقَرِّرُ هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ، فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِيمَانِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً له كما صالحة لِلْكُفْرِ اسْتَوَتْ نِسْبَةُ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِمَا فَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ إِلَّا الدَّاعِيَةُ مُرَجِّحَةٌ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا وَقَعَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الدَّاعِيَةِ الصَّالِحَةِ تُوجِبُ الْفِعْلَ وَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ مَجْمُوعِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الْكُفْرِ مُرِيدٌ لِذَلِكَ الْكُفْرِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ، فَهَذَا الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَوَّى ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا بَيَانَ أَقْوَى مِنْ تَطَابُقِ الْبُرْهَانِ مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمُفَوِّضَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ الْكَافِرُ وَأَنَّ مَا يَأْتِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ لَا خَلْقَ فِيهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بِآيَةٍ مُلْجِئَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَالْإِلْجَاءُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ حَاوَلُوا غَيْرَ الْإِيمَانِ لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ غَيْرِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَ فِعْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ تَكْلِيفَهُمْ، فَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْوَصْلَةِ بِهِ إِلَى الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا، وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِيمَانِ حَالَ كَوْنِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى الْكُفْرِ بِالسَّوِيَّةِ، أَوْ حَالَ حُصُولِ هَذَا الرُّجْحَانِ، وَالْأَوَّلُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الرُّجْحَانِ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالطَّرَفُ الرَّاجِحُ يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تُنَافِي مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِكْنَةِ وَالِاخْتِيَارَاتِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ.

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي أَنْ تَأْسَفَ وَتَحْزَنَ عَلَى أَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمْضَاهُ، وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فيه. وقال أيضا: ومِنَ الْجاهِلِينَ يُحْتَمَلُ فِي أَنْ لَا تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى وَيُحْتَمَلُ فِي أَنْ تَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ، وَتَذْهَبَ بِكَ نَفْسُكَ إِلَى مَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ، انْتَهَى. وَضُعِّفَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَمَالِ ذَاتِهِ وَتَوَفُّرِ مَعْلُومَاتِهِ وَعَظِيمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِقُدْرَةِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ مَقْدُورَاتِهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدِّينِ وَالْعَقَائِدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهَا، وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بِأَنْ تَأْتِيَهُمْ آيَةٌ ملجئة، ولكنه لا يفعل لِخُرُوجِهِ عَنِ الْحِكْمَةِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ مِنَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَيَرُومُونَ مَا هُوَ خِلَافُهُ. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْآيَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِلْجَاءِ. وَقِيلَ: لَا تَجْهَلْ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِكَ بَعْضُهُمْ وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يَجْهَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا صَبْرَ لَهُ لِأَنَّ قِلَّةَ الصَّبْرِ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِينَ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِالصَّبْرِ وَبَيَانِ أَنَّهُ خَيْرٌ يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بَعْدَ صَبْرِهِ بِقِلَّةِ الصَّبْرِ. وَقِيلَ: لَا يَشْتَدُّ حُزْنُكَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ فَتُقَارِبَ حَالَ الْجَاهِلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «1» وَقَالَ قَوْمٌ: جَازَ هَذَا الْخِطَابُ لِأَنَّهُ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ كَانَ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَيْهِ كَمَا يَحْمِلُ الْعَاقِلُ عَلَى قَرِيبِهِ فَوْقَ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَجَانِبِ، خَشْيَةً عَلَيْهِ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِذْلَالِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَتَمَّمَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ كَانَ يُحْزِنُهُ إِصْرَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَحِرْمَانُهُمْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ انْتَهَى. وَقِيلَ: الرَّسُولُ مَعْصُومٌ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَمْنَعُ

_ (1) سورة فاطر: 35/ 80.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 إلى 52]

الِامْتِحَانَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَوْ لِأَنَّ ضِيقَ صَدْرِهِ وَكَثْرَةَ حُزْنِهِ مِنَ الْجِبِلَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَهِيَ لَا تَرْفَعُهَا الْعِصْمَةُ بِدَلِيلِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي بَشَرٌ وَإِنِّي أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» انْتَهَى. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ لِلرَّسُولِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَهَذَا إِخْبَارٌ وَعَقْدٌ كُلِّيٌّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا شَاءَ وُقُوعَهُ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا الْإِخْبَارُ بِهَذَا الْخِطَابِ بِالرَّسُولِ بَلِ الرَّسُولُ عَالِمٌ بِمَضْمُونِ هَذَا الْإِخْبَارِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلسَّامِعِ فَالْخِطَابُ وَالنَّهْيُ فِي فَلا تَكُونَنَّ لِلسَّامِعِ دُونَ الرَّسُولِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَيُّهَا السَّامِعُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَمْعَهُمْ عَلَى الْهُدَى لَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُونُنَّ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِيقَاعَهُ وَقَعَ، وَأَنَّ الْكَائِنَاتِ معذوقة بإرادته. [سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 52] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

التَّضَرُّعُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذِّلَّةُ، يُقَالُ: ضَرَعَ يَضْرَعُ ضَرَاعَةً، قَالَ الشَّاعِرُ: لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ أَيْ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ. صَدَفَ عَنِ الشَّيْءِ أَعْرَضَ عَنْهُ صَدْفًا وَصُدُوفًا، وَصَادَفْتُهُ لَقِيتُهُ عَنْ إِعْرَاضٍ عَنْ جِهَتِهِ قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ: إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ ... وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ صُدُفٌ جَمْعُ صَدُوفٍ، كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ. وَقِيلَ: صَدَفٌ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّدَفِ فِي الْبَعِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَمِيلَ خُفُّهُ مِنَ الْيَدِ إِلَى الرِّجْلِ مِنَ الْجَانِبِ الْوَحْشِيِّ، وَالصَّدَفَةُ وَاحِدَةُ الصَّدَفِ وَهِيَ الْمَحَارَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الدُّرُّ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَزَادَهَا عَجَبًا أَنْ رُحْتُ فِي سَمَكٍ ... وَمَا دُرْتُ دَوَرَانَ الدُّرِّ فِي الصَّدَفِ الْخَزَانَةُ مَا يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ مَخَافَةَ أَنْ يُنَالَ، وَمِنْهُ «فَإِنَّمَا يَخْزُنُ لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسِرَ خَزَانَتُهُ» وَهِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرِ:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ ... فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ الطَّرْدُ الْإِبْعَادُ بِإِهَانَةٍ وَالطَّرِيدُ الْمَطْرُودُ، وَبَنُو مَطْرُودٍ وَبَنُو طِرَادٍ فَخْذَانِ مِنْ إِيَادٍ. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ وَإِصْغَاءٍ كَمَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ «1» وَيَسْتَجِيبُ بِمَعْنَى يُجِيبُ. وَفَرَّقَ الرُّمَّانِيُّ بَيْنَ أجاب واستجاب بِأَنِ اسْتَجَابَ فِيهِ قَبُولٌ لِمَا دُعِيَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ «2» فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ «3» وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَجَابَ لِأَنَّهُ قَدْ يُجِيبُ بِالْمُخَالَفَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُصَدِّقُوكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ مَنْ يَسْمَعُ كَقَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى «4» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا مِنَ النَّمَطِ الْمُتَقَدِّمِ فِي التَّسْلِيَةِ، أَيْ لَا تَحْفُلُ بِمَنْ أَعْرَضَ فَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدَاعِي الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْآيَاتِ وَيَتَلَقَّوْنَ الْبَرَاهِينَ بِالْقَبُولِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِيَسْمَعُونَ. إِذْ هُوَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ. وَهَذِهِ لَفْظَةٌ تَسْتَعْمِلُهَا الصُّوفِيَّةُ إِذَا بَلَغَتِ الْمَوْعِظَةُ مِنْ أَحَدٍ مَبْلَغًا شَافِيًا قَالُوا اسْتَمَعَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْتَ هُنَا وَالْبَعْثَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْمَوْتَى عَلَى الْعُمُومِ مِنْ مُسْتَجِيبٍ وَغَيْرِ مُسْتَجِيبٍ، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَجَاءَ لَفْظُ الْمَوْتَى عَامًّا لِإِشْعَارِ مَا قَبْلَهُ بِالْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إِذِ الْحَصْرُ يُشْعِرُ بِالْقِسْمِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ، لَا يَسْتَجِيبُ لِلْإِيمَانِ وَهُمُ الْكُفَّارُ. وَصَارَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمِيعِ بِالْبَعْثِ وَالرُّجُوعِ إِلَى جَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ وَتَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمَوْتَى يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ. سُمُّوا بِالْمَوْتَى كَمَا سُمُّوا بِالصُّمِّ وَالْبُكْمِ وَالْعُمْيِ وَتَشْبِيهُ الْكَافِرِ بِالْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَيِّتَ جَسَدُهُ خَالٍ عَنِ الرُّوحِ، فَيَظْهَرُ مِنْهُ النَّتَنُ وَالصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ وَأَنْوَاعُ الْعُفُونَاتِ. وَأَصْلَحُ أَحْوَالِهِ دَفْنُهُ تَحْتَ التُّرَابِ. وَالْكَافِرُ رُوحُهُ خَالِيَةٌ عَنِ الْعَقْلِ فَيَظْهَرُ مِنْهُ جَهْلُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَاتُهُ لِأَمْرِهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ لِمُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ، وَإِذَا كَانَتْ رُوحُهُ خَالِيَةً مِنَ الْعَقْلِ كَانَ مَجْنُونًا فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُقَيَّدَ وَيُحْبَسَ. فَالْعَقْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّوحِ كَالرُّوحِ بِالنِّسْبَةِ إلى الجسد.

_ (1) سورة ق: 50/ 37. (2) سورة آل عمران: 3/ 195. (3) سورة الأنبياء: 21/ 88. (4) سورة الروم: 30/ 52. [.....]

وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى هُنَا الْكُفَّارَ فَقِيلَ الْبَعْثُ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ مِنَ الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالرُّجُوعُ هُوَ رُجُوعُهُمْ إِلَى سَطْوَتِهِ وَعِقَابِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةً الْوَعِيدَ لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ الْمَوْتُ وَالْبَعْثُ حَقِيقَةٌ وَالْجُمْلَةُ مَثَلٌ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِلْجَائِهِمْ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ لِلْجَزَاءِ، فَكَانَ قَادِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَوْتَى بِالْكُفْرِ أَنْ يُحْيِيَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ الْمَوْتُ وَالْبَعْثُ مَجَازَانِ اسْتُعِيرَ الْمَوْتُ لِلْكُفْرِ وَالْبَعْثُ لِلْإِيمَانِ. فَقِيلَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ وَالْمَوْتَى بِالْكُفْرِ يُحْيِيهِمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ. وَقِيلَ لَيْسَ جُمْلَةً بَلِ الْمَوْتى مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ، فَيُؤْمِنُونَ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ وَالْكُفَّارُ حَتَّى يُرْشِدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوَفِّقَهُمْ لِلْإِيمَانِ، فَلَا تَتَأَسَّفْ أَنْتَ وَلَا تَسْتَعْجِلْ مَا لَمْ يُقَدَّرْ. وَقُرِئَ ثُمَّ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ رَجَعَ اللَّازِمِ. وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ سَأَلُوا الرَّسُولَ آيَةً تَعَنُّتًا مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَهُمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِيهَا مُقْنِعٌ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي وَقالُوا عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، ولولا تَحْضِيضٌ بِمَعْنَى هَلَّا. قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً أَيْ مَهْمَا سَأَلْتُمُوهُ مِنْ إِنْزَالِ آيَةٍ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. كَمَا أَنْزَلَ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ فَلَا فَرْقَ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْآيَاتِ الَّتِي لَمْ تُقْتَرَحْ وَقَدِ اقْتَرَحْتُمْ آيَاتٍ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ فَلَمْ تُجْدِ عَلَيْكُمْ وَلَا أَثَّرَتْ فِيكُمْ، وَقُلْتُمْ هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَلَمْ تَعْتَدُّوا بِمَا أُنْزِلَ مَعَ كَثْرَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ الْآيَاتِ، لِأَنَّ دَأْبَكُمُ الْعِنَادُ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ ينزل آية يضطرهم إِلَى الْإِيمَانِ كَنَتْقِ الْجَبَلِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ آيَةً إِنْ يَجْحَدُوهَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ تِلْكَ الآية وإن صارفا من الْحِكْمَةِ صَرْفُهُ عَنْ إِنْزَالِهَا.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَوْ أُنْزِلَتْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا لَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، وَيُحْتَمَلُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ الْمَصْلَحَةَ فِي آيَاتٍ مُعَرَّضَةٍ لِلنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ لِيَهْتَدِيَ قَوْمٌ وَيَضِلَّ آخَرُونَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ وَبَيْنَ تَعَلُّقِهَا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَتُعَلِّقُ الْقُدْرَةِ بِهِمَا سَوَاءٌ لِاجْتِمَاعِ الْمُقْتَرَحِ وَغَيْرِ الْمُقْتَرَحِ فِي الْإِمْكَانِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَلَمْ يَقْنَعْ بِمَا وَرَدَ مِنْهَا فَهُوَ لَا شَكَّ جَاهِلٌ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمَوْضِعُ الِاحْتِجَاجِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ رَكَّبَ فِي الْمُشْرِكِينَ عُقُولًا وَجَعَلَ لَهُمْ أَفْهَامًا أَلْزَمَهُمْ بِهَا أَنْ يَتَدَبَّرُوا أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَعَلَ لِلدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ أَفْهَامًا يَعْرِفُ بِهَا بَعْضُهَا إِشَارَةَ بَعْضٍ، وَهَدَى الذَّكَرَ مِنْهَا لِإِتْيَانِ الْأُنْثَى، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَةِ الْمُرَكِّبِ ذَلِكَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْغَرَضُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ وَلُطْفِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ وَتَدْبِيرِهِ تِلْكَ الْخَلَائِقَ الْمُتَفَاوِتَةَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَكَاثِرَةَ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ لِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مُهَيْمِنٌ عَلَى أَحْوَالِهَا لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِإِنْزَالِ آيَةٍ وَهِيَ الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوهَا وَنُبِّهُوا عَلَى جَهْلِهِمْ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَجَمِيعَ الْحَيَوَانِ غَيْرَهُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْجَمِيعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلْقِ مَنْ كُلِّفَ وَمَا لَمْ يُكَلَّفْ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِمَا وَإِبْرَازِهِمَا مِنْ صَرْفِ الْعَدَمِ إِلَى صَرْفِ الْوُجُودِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْقُدْرَةُ تَعَلَّقَتْ بِالْآيَاتِ كُلِّهَا مُقْتَرَحِهَا وَغَيْرِ مُقْتَرَحِهَا كَمَا تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِكُمْ وَخَلْقِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَالْإِمْكَانُ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ يَعْنِي فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِإِيجَادِهَا كَتَعَلُّقِهَا بِإِيجَادِكُمْ. وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَدْ تَكُونُ بِاخْتِرَاعِ أَعْيَانٍ، كَالْمَاءِ الَّذِي نَبَعَ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ وَالطَّعَامِ الَّذِي تَكَثَّرَ مِنْ قَلِيلٍ، كَمَا أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَعْيَانٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّ النِّسْبَةَ بِمُمَاثَلَةِ الْحَيَوَانِ

لِلْإِنْسَانِ دُونَ ذِكْرِ الْجَمَادِ وَدُونَ ذِكْرِ مَا يَعُمُّهَا من حيث قسوة الْمُمَاثَلَةِ فِي الشُّعُورِ بِالْأَشْيَاءِ وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَالِحِ بِخِلَافِ الْجَمَادِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقُدْرَةُ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَدَابَّةٌ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، وَهِيَ هُنَا فِي سِيَاقِ النفي مصحوبة بمن الَّتِي تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يَدُبُّ فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الطَّائِرُ، فَذِكْرُ الطَّائِرِ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّابَّةِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ وَذِكْرُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَصَارَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدُ كَقَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَإِنَّمَا جُرِّدَ الطَّائِرُ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْوُجُودِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَدَلُّ عَلَى عِظَمِهَا مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي الْأَرْضِ، إِذِ الْأَرْضُ جِسْمٌ كَثِيفٌ يُمْكِنُ تَصَرُّفُ الْأَجْرَامِ عَلَيْهَا، وَالْهَوَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ لَا يُمْكِنُ عَادَةً تَصَرُّفُ الْأَجْرَامِ الْكَثِيفَةِ فِيهَا إِلَّا بِبَاهِرِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ «2» وَجَاءَ قَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ إِشَارَةً إِلَى تَعْمِيمِ جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ لَمَّا كَانَ لَفْظُ مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ أَتَى بِالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ عَامًّا وهو الْأَرْضِ، ويشمل الْأَرْضُ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ، وَيَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ وَلا طائِرٍ لِأَنَّهُ لَا طَائِرَ إِلَّا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ، وَلِيَرْفَعَ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ وَلا طائِرٍ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى اسْتِعَارَةِ الطَّائِرِ لِلْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «3» وَقَوْلِهِمْ: «طَارَ لِفُلَانٍ كَذَا فِي الْقِسْمَةِ» أَيْ سَهْمُهُ، و «طائر السَّعْدِ وَالنَّحْسِ» وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَصَوُّرِ هَيْئَتِهِ عَلَى حَالَةِ الطَّيَرَانِ وَاسْتِحْضَارٌ لِمُشَاهَدَةِ هَذَا الْفِعْلِ الْغَرِيبِ. وَجَاءَ الْوَصْفُ بِلَفْظِ «يَطِيرُ» لِأَنَّهُ مُشْعِرٌ بِالدَّيْمُومَةِ وَالْغَلَبَةِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِ الطَّائِرِ كَوْنُهُ يَطِيرُ، وَقَلَّ مَا يَسْكُنُ، حَتَّى أَنَّ الْمَحْبُوسَ مِنْهَا يَكْثُرُ وُلُوعُهُ بِالطَّيَرَانِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ مِنْ قَفَصٍ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَلا طائِرٍ بِالرَّفْعِ، عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ دَابَّةٍ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ صِفَةٍ عَلَى مَوْضِعِ دَابَّةٍ، وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَطِيرُ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْبَاءُ فِي بِجَناحَيْهِ لِلِاسْتِعَانَةِ كَقَوْلِهِ: «كَتَبْتُ بالقلم» وإِلَّا أُمَمٌ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مِنْ دَابَّةٍ وَلا طائِرٍ وَجُمِعَ الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ مُفْرَدًا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُفْرَدَ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالْمِثْلِيَّةُ هُنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَمْثَالُكُمْ مَكْتُوبَةٌ أَرْزَاقُهَا وَآجَالُهَا وَأَعْمَالُهَا كَمَا كُتِبَتْ أَرْزَاقُكُمْ وَآجَالُكُمْ وأعمالكم انتهى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 98. (2) سورة النحل: 16/ 79. (3) سورة الإسراء: 17/ 13.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مُمَاثِلَةٌ لِلنَّاسِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْحَشْرِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ الْمُمَاثَلَةَ فِي أَنَّهَا تُجَازَى بِأَعْمَالِهَا وَتُحَاسَبُ وَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي أَنَّهَا تَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَتَعْبُدُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَجْنَاسٌ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ. وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ حَصَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيُوَحِّدُونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ وَيُسَبِّحُونَهُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» وَبِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْحَيَوَانِ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ «2» وَبِمَا بِهِ خَاطَبَ النَّمْلَ وَخَاطَبَ الْهُدْهُدَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِ مَكِّيٍّ وَهَذَا قَوْلُ خَلَفٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ فِي كَوْنِهَا أُمَمًا لَا غَيْرَ. كَمَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مِثْلِكَ أَيْ أي أَنَّهُ رَجُلٌ. وَيَصِحُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي هَذِهِ أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَوْصَافٍ غَيْرِ كَوْنِهَا أمما. وقال مُجَاهِدٌ إِلَّا أَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُمَاثَلَةُ وَقَعَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْقَهُ عَنْ بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى أَمْثَالُكُمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهُمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ قُوتٍ يَقُوتُهُمْ وَإِلَى لِبَاسٍ يسترهم، وإلى كنّ يُوَارِيهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أُبْهِمَتْ عُقُولُ الْبُهْمِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَطَلَبِ الرِّزْقِ، وَمَعْرِفَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَهَيُّؤِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. وَقِيلَ الْمُمَاثَلَةُ فِي كَوْنِهَا جَمَاعَاتٍ مَخْلُوقَةً يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَأْنَسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَتَوَالَدُ كَالْإِنْسِ. وَرَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 44. (2) سورة النور: 24/ 41.

الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكِلَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ كَفِعْلِ الطَّاوُوسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَهَ شَرَهَ الْخِنْزِيرِ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ إِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ تَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ مِنْهَا وَاحِدَةً. فَإِنْ أَخْطَأَتْ وَاحِدَةٌ حَفِظَهَا ولم يجلس مجلسا إلا رَوَاهَا عَنْكَ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ مَا تَرَكْنَا وَمَا أَغْفَلْنَا وَالْكِتَابُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَالْمَعْنَى وَمَا أَغْفَلْنَا فِيهِ مِنْ شَيْءٍ لَمْ نَكْتُبْهُ وَلَمْ نُثْبِتْ مَا وَجَبَ أَنْ يُثْبَتَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، أَوِ الْقُرْآنُ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ وَالْمَعْنَى وَبَدَأَ بِهِ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَذَكَرَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فَالْمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فَالْمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ يَدْعُو إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَكَالِيفِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَسْتَدِلُّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ تَضَمَّنَ الْأَحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ كُلَّهَا، وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ فَحَقُّهُ أَنْ يتعدى بفي كَقَوْلِهِ عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «1» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ مَا أَغْفَلْنَا وَمَا تَرَكْنَا وَيَكُونُ مِنْ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ ومِنْ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: مَا تَرَكْنَا وَمَا أَغْفَلْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّكَالِيفِ، وَيَبْعُدُ جَعْلُ مِنْ هُنَا تَبْعِيضِيَّةً وَأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ بَعْضَ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، وَإِنْ قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَجَعَلَ أَبُو الْبَقَاءِ هُنَا مِنْ شَيْءٍ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ، أَيْ تَفْرِيطًا. قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكِتَابَ يَحْتَوِي عَلَى ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ تَصْرِيحًا وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا أَيْ ضَرَرًا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَكَرَ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لِأَنَّهُ إِذَا تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْمَصْدَرِ كَانَ الْمَصْدَرُ مَنْفِيًّا عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا الْعُمُومِ نَفْيُ أَنْوَاعِ الْمَصْدَرِ وَنَوْعِ مُشَخَّصَاتِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَا قِيَامَ فَهَذَا نَفْيٌ عَامٌّ فَيَنْتَفِي مِنْهُ جميع أنواع القيام ومشخصاته كَقِيَامِ زَيْدٍ وَقِيَامِ عَمْرٍو وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِذَا نُفِيَ التَّفْرِيطُ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ نَفْيًا لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّفْرِيطِ وَمُشَخَّصَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ يَحْتَوِي عَلَى ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعَلْقَمَةُ مَا فَرَّطْنا بتخفيف الرَّاءِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: مَعْنَى فَرَّطْنا مُخَفَّفَةً، أَخَّرْنَا كَمَا قَالُوا: فَرَطَ اللَّهُ عَنْكَ الْمَرَضَ أَيْ أزاله.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 56.

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الظَّاهِرُ فِي الضَّمِيرِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْأُمَمُ كُلُّهَا مِنَ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ لَا عَلَى أُمَمٍ وَمَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ وَإِقَامَةٌ وَحُجَجٌ وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُهُ جَاءَ بِهِمْ وَبِالْوَاوِ الَّتِي هِيَ لِلْعُقَلَاءِ، وَلَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى أُمَمِ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ لَكَانَ التَّرْكِيبُ ثُمَّ إِلَيَّ رَبِّهَا تُحْشَرُ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُمْتَثِلَةً ما أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا، أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْعُقَلَاءِ وَأَصْلُ الْحَشْرِ الْجَمْعُ وَمِنْهُ فَحَشَرَ فَنَادَى وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْبَعْثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَتُحْشَرُ الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ أَنْ يأخذ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ثُمَّ يَقُولَ: كُونِي تُرَابًا فذلك قوله تعالى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ فِي آخَرِينَ: حَشْرُ الدَّوَابِّ مَوْتُهَا لِأَنَّ الدَّوَابَّ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا وَلَا تَرْجُو ثَوَابًا وَلَا تَخَافُ عِقَابًا وَلَا تَفْهَمُ خِطَابًا انْتَهَى. وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ تَأَوَّلَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَعْنَى التَّمْثِيلِ فِي الْحِسَابِ وَالْقَصَّاصِ حَتَّى يَفْهَمَ كُلُّ مُكَلَّفٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا مَحِيصَ وَأَنَّهُ الْعَدْلُ الْمَحْضُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَنَّ اللَّهَ يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدْلِ وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةِ قَوْلِ مَرْذُولٍ يَنْحُو إِلَى الْقَوْلِ بِالرُّمُوزِ وَنَحْوِهَا انتهى. وقال ابن فورك: الْقَوْلُ بِحَشْرِهَا مَعَ بَنِي آدَمَ أَظْهَرُ انْتَهَى. وَعَلَى الْقَوْلِ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ مَعَ النَّاسِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي تُحْشَرُ لِأَجْلِهِ، فَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهَا لِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ وَفِي ذَلِكَ تَخْجِيلٌ لِمَنْ أَنْكَرَ ذلك فقال: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «2» وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْبَهَائِمَ وَالطَّيْرَ لِإِيصَالِ الْأَعْوَاضِ إِلَيْهَا وكذلك قال الزمخشري، فيعوضها وَيُنْصِفُ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ يَأْخُذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقُرَنَاءِ انْتَهَى. وَطَوَّلَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي إِيصَالِ التَّعْوِيضِ عَنْ آلَامِ الْبَهَائِمِ وَضَرَرِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفَرَّعُوا فُرُوعًا وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِوَضِ أَهْوَ مُنْقَطِعٌ أَمْ دَائِمٌ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ فَبَعْدَ تَوْفِيَةِ الْعِوَضِ يَجْعَلُهَا تُرَابًا، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ: يَجِبُ كَوْنُ الْعِوَضِ دَائِمًا. وَقِيلَ: تَدْخُلُ الْبَهَائِمُ الْجَنَّةَ وَتُعَوَّضُ عَنْ مَا نَالَهَا مِنَ الْآلَامِ وَكُلُّ مَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْأَعْوَاضِ إِلَى الْبَهَائِمِ عَنِ الْآلَامِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهَا فِي الدُّنْيَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.

_ (1) سورة النبإ: 78/ 40. (2) سورة يس: 36/ 78.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ قَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ثُمَّ انْسَحَبَتْ عَلَى سِوَاهُمُ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ مَنْ يُنَبِّهُهُمْ، فَلَا يَسْتَجِيبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَما مِنْ دَابَّةٍ الْآيَةَ مُنَبِّهًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَطِيفِ صُنْعِهِ وَبَدِيعِ خَلْقِهِ، ذَكَرَ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِآيَاتِهِ هُوَ أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ أَبْكَمُ عَنِ النُّطْقِ بِهِ، وَالْآيَاتُ هُنَا الْقُرْآنُ أَوْ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْ الرسول مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَوِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ الذِّهْنِيِّ بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ لَا أَنَّهُمْ صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ حَقِيقَةً وَجَاءَ قَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ كِنَايَةً عَنْ عَمَى الْبَصِيرَةِ، فَهُوَ يَنْظُرُ كَقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ «1» لَكِنَّ قَوْلَهُ: فِي الظُّلُماتِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: عُمْيٌ إِذْ جُعِلَتْ ظَرْفًا لَهُمْ وَجُمِعَتْ لِاخْتِلَافِ جِهَاتِ الْكُفْرِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «2» عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَفِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ «3» . وَقَالَ الْجِبَائِيُّ: الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْعَلُهُمْ صُمًّا وَبُكْمًا فِي الظُّلُمَاتِ يُضِلُّهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْجَنَّةِ وَيُصَيِّرُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «4» الْآيَةَ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: صُمٌّ وَبُكْمٌ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ انْتَهَى. والظُّلُماتِ ظُلُمَاتُ الْكُفْرِ أَوْ حُجُبٌ تُضْرَبُ عَلَى الْقَلْبِ فَيُظْلِمُ وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمِنْهُ قِيلَ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا أَوِ الشَّدَائِدُ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَبِّرُ عَنِ الشِّدَّةِ بِالظُّلْمَةِ يَقُولُونَ يَوْمٌ مظلمة إِذَا لَقُوا فِيهِ شِدَّةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ: بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ مُظْلِمُ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: رَابِعُهَا قَالَهُ اللَّيْثُ. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَفْعُولُ يَشَأِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إِضْلَالَهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ يَجْعَلْهُ وَلَا يَجُوزُ فِي مَنْ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ مفعولا بيشأ لِلتَّعَانُدِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ، (فَإِنْ قُلْتَ) : يَكُونُ مَفْعُولًا بيشأ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ إِضْلَالُ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ وهداية من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 18، 171. (2) سورة الأنعام: 6/ 1. (3) سورة البقرة: 2/ 257. (4) سورة الإسراء: 17/ 97.

يَشَاءُ اللَّهُ، فَحُذِفَ وَأُقِيمَ مَنْ مَقَامَهُ وَدَلَّ فِعْلُ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْمَفْعُولِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَخْفَشَ حَكَى عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ غَيْرَ الظَّرْفِ وَالْمُضَافَ إِلَى اسْمَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالضَّمِيرُ فِي يُضْلِلْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى إِضْلَالٍ الْمَحْذُوفِ أَوْ عَلَى مَنْ لَا جَائِزٌ أَنْ يَعُودَ عَلَى إِضْلَالٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ «1» إِذِ الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُمَاتٍ إِذِ التَّقْدِيرُ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ إِضْلَالَ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أَيْ يُضْلِلُ الْإِضْلَالَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَنِ الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ تَخْلُو الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَى اسْمِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : يَكُونُ التَّقْدِيرُ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ بِالْإِضْلَالِ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَفْعُولًا مُقَدَّمًا لِأَنَّ شَاءَ بِمَعْنَى أَرَادَ وَيُقَالُ أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَذَا. قَالَ الشَّاعِرُ: أرادت عرار بالهوان ومن يرد ... عرار العمرى بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَعْدِيَةُ شَاءَ بِالْبَاءِ لَا يُحْفَظُ شَاءَ اللَّهُ بِكَذَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ أَنْ يُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ تَعْدِيَةُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: دَخَلْتُ الدَّارَ وَدَخَلْتُ فِي غِمَارِ النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ دَخَلْتُ غِمَارَ النَّاسِ فَإِذَا كَانَ هَذَا وَارِدًا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلَيْنِ أَحْرَى، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِعْرَابُ مَنْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً جُمْلَةُ الشَّرْطِ خَبَرُهُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ يُفَسِّرُهُ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ التَّقْدِيرُ مَنْ يُشْقِ اللَّهُ يَشَأْ إِضْلَالَهُ وَمَنْ يُسْعِدْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي وَهُوَ الْمُضِلُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْذُوقٌ بِمَشِيئَتِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَقَدْ تَأَوَّلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا تَأَوَّلُوا غَيْرَهَا فَقَالُوا: مَعْنَى يُضْلِلْهُ يَخْذُلُهُ وَيَخْبِلُهُ وَضَلَالُهُ لَمْ يَلْطُفْ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ، وَمَعْنَى يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَلْطُفُ بِهِ لِأَنَّ اللُّطْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُضْلِلْهُ عن طريق الجنة ويَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: وَقَدْ

_ (1) سورة النور: 24/ 40.

ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ هَذَا الضَّلَالَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَمَا لَا يَشَاءُ الْهُدَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هَذَا ابْتِدَاءُ احْتِجَاجٍ على الكفار الذين يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَرَأَيْتَكُمْ كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ وَتَعَجُّبٍ وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ خِفْتُمْ عَذَابَ اللَّهِ أَوْ خِفْتُمْ هَلَاكًا أَوْ خِفْتُمُ السَّاعَةَ أَتَدْعُونَ أصنامكم وتلجئون إِلَيْهَا فِي كَشْفِ ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّهَا آلِهَةٌ بَلْ تَدْعُونَ اللَّهَ الْخَالِقَ الرَّازِقَ فَيَكْشِفُ مَا خِفْتُمُوهُ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ أَصْنَامَكُمْ أَيْ تَتْرُكُونَهُمْ؟ فَعَبَّرَ عَنِ التَّرْكِ بِأَعْظَمِ وُجُوهِهِ الَّذِي هُوَ مَعَ التَّرْكِ ذُهُولٌ وَإِغْفَالٌ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ إِلَهًا مَنْ هَذِهِ حَالُهُ فِي الشَّدَائِدِ؟ وأَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَتَاكُمْ خَوْفُهُ وَأَمَارَاتُهُ وَأَوَائِلُهُ مِثْلُ الْجَدْبِ وَالْبَأْسَاءِ وَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يُخَافُ مِنْهَا الْهَلَاكُ كَالْقُولَنْجِ وَيَدْعُو إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا إِتْيَانَ الْعَذَابِ وَحُلُولَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ لِأَنَّ مَا قَدْ صَحَّ حُلُولُهُ وَمَضَى لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّاعَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَاعَةَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ انْتَهَى. وَلَا يُضْطَرُّ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَلْ إِذَا حَلَّ بِالْإِنْسَانِ الْعَذَابُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ لَا يَدْعُو إِلَّا اللَّهَ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا صَحَّ حُلُولُهُ وَمَضَى لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالْإِنْسَانِ هُوَ جِنْسٌ مِنْهُ مَا مَرَّ وَانْقَضَى فَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُلْتَبِسٌ بِالْإِنْسَانِ فِي الْحَالِ فَيَصِحُّ كَشْفُهُ وَإِزَالَتُهُ بِقَطْعِ اللَّهِ ذَلِكَ عَنِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنْظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ «1» فَمَا انْقَضَى مِنَ الضُّرِّ الَّذِي مَسَّهُ لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ، وَمَا هُوَ مُلْتَبِسٌ بِهِ كَشَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالضُّرُّ جِنْسٌ كَمَا أَنَّ الْعَذَابَ هُنَا جِنْسٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَذَابُ اللَّهِ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمَوْتُ وَيَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ مُقَدِّمَاتِهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السَّاعَةُ هِيَ الْقِيَامَةُ وأ رأيت الْهَمْزَةُ فِيهَا لِلِاسْتِفْهَامِ فَإِنْ كَانَتِ الْبَصَرِيَّةَ أَوِ الَّتِي لِإِصَابَةِ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْعِلْمِيَّةَ الْبَاقِيَةَ عَلَى بَابِهَا لَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ أَوْ تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، وَتَخْتَلِفُ التَّاءُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ وَلَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ الْكَافِ بِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْعِلْمِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي جَازَ أَنْ تُحَقَّقَ الْهَمْزَةُ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي أَرَأَيْتَكُمْ وأرأيتم وأ رأيت وَجَازَ أَنْ تُسَهَّلَ بَيْنَ بين وبه

_ (1) سورة يونس: 10/ 12. [.....]

قَرَأَ نَافِعٌ وَرُوِيَ عَنْهُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا مَحْضَةً وَيَطُولُ مَدُّهَا لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ مَا بَعْدَهَا، وَهَذَا الْبَدَلُ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ سُمِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حَكَاهُ قُطْرُبُ وَغَيْرُهُ وَجَازَ حَذْفُهَا وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الرَّاجِزُ: أَرَيْتَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمْلُودَا بَلْ قَدْ زَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهَا لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لِلْعَرَبِ فِي أَرَأَيْتَ لُغَتَانِ وَمَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَسْأَلَ الرَّجُلَ أَرَأَيْتَ زَيْدًا أَيْ بِعَيْنِكَ فَهَذِهِ مَهْمُوزَةٌ، وَثَانِيهِمَا أَنْ تَقُولَ: أَرَأَيْتَ وَأَنْتَ تقول أخبرني فهاهنا تَتْرُكُ الْهَمْزَةَ إِنْ شِئْتَ وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ تُومِئُ إِلَى تَرْكِ الْهَمْزَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ التَّاءُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ وَجَازَ أَنْ تَتَّصِلَ بِهَا الْكَافُ مُشْعِرَةً بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ، وَتَبْقَى التَّاءُ مَفْتُوحَةً كَحَالِهَا لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ التَّاءَ هِيَ الْفَاعِلُ وَمَا لَحِقَهَا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ وَأَغْنَى اخْتِلَافُهُ عَنِ اخْتِلَافِ التَّاءِ وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ التَّاءُ وَأَنَّ أَدَاةَ الْخِطَابِ اللَّاحِقَةَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ أَنَّ التَّاءَ هِيَ حَرْفُ خِطَابٍ كَهِيَ فِي أَنْتَ وَأَنَّ أَدَاةَ الْخِطَابِ بَعْدَهُ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْفَاعِلِ، اسْتُعِيرَتْ ضَمَائِرُ النَّصْبِ لِلرَّفْعِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ إِبْدَالًا وَتَصْحِيحًا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وكون أرأيت وأ رأيتك بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ وَغَيْرُهُمْ. وَذَلِكَ تفسير معنى لا تفسير إِعْرَابٍ قَالُوا: فَتَقُولُ الْعَرَبُ أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مُلْتَزَمٌ فِيهِ النَّصْبُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى اعْتِبَارِ تَعْلِيقِ أَرَأَيْتَ وَهُوَ جَائِزٌ فِي عَلِمْتَ وَرَأَيْتَ الْبَاقِيَةِ عَلَى مَعْنَى عَلِمْتَ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ مَعْنَى أَخْبِرْنِي لِأَنَّ أَخْبِرْنِي لَا تُعَلَّقُ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِمَعْنَاهَا وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ وأ رأيتك عَمْرًا أَعِنْدَكَ هُوَ أَمْ عِنْدَ فُلَانٍ لَا يَحْسُنُ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ فِي زَيْدٍ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ أَرَأَيْتَ أَبُو من أنت وأ رأيت أَزَيْدٌ ثَمَّ أَمْ فُلَانٌ، لَمْ يَحْسُنْ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ. ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَصَارَ الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَقَدِ اعْتَرَضَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ عَلَى سِيبَوَيْهِ وَخَالَفُوهُ، وَقَالُوا: كَثِيرًا مَا تُعَلَّقُ أَرَأَيْتَ وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى «1» أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ «2» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمْلُودًا ... مُرَجَّلًا ويلبس البرودا

_ (1) سورة العلق: 96/ 9. (2) سورة العلق: 96/ 13.

أَقَائِلُنَّ أَحْضَرُوا الشُّهُودَا وَذَهَبَ ابْنُ كَيْسَانَ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ فِي أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ بَدَلٌ مِنْ أَرَأَيْتَ، وَزَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ أَرَأَيْتَكَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فلابد بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامَ، لِأَنَّ أَخْبِرْنِي مُوَافِقٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَزَعَمَ أَيْضًا أَنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ بَابِهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَتُضَمَّنُ مَعْنَى أَمَا أَوْ تَنَبَّهْ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ «1» وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى أَرَأَيْتَ وَمَسَائِلُهَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالتَّذْيِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَجَمَعْنَا فِيهِ مَا لَا يُوجَدُ مَجْمُوعًا فِي كِتَابٍ فَيُوقَفُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ تَقَعُ فِيهِ أَرَأَيْتَ فِي الْقُرْآنِ بِخُصُوصِيَّتِهِ. فَنَقُولُ الَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِهَا مِنَ التَّعَدِّي إِلَى اثْنَيْنِ فَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ وَالَّذِي لَمْ نَجِدْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ إِلَّا جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً أَوْ قَسَمِيَّةً، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ تَنَازَعَ أَرَأَيْتَكُمْ وَالشَّرْطُ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَهُوَ أَتاكُمْ فَارْتَفَعَ عَذَابُ بِهِ، وَلَوْ أُعْمِلَ الْأَوَّلُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ عَذَابَ بِالنَّصْبِ وَنَظِيرُهُ اضْرِبْ إِنْ جَاءَكَ زَيْدٌ عَلَى إِعْمَالِ جَاءَكَ، وَلَوْ نُصِبَ لَجَازَ وَكَانَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْمَفْعُولُ الثَّانِي فَهِيَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مِنْ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وَالرَّابِطُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لِكَشْفِهِ وَالْمَعْنَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ أَتَاكُمْ أَوِ السَّاعَةَ إِنْ أَتَتْكُمْ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لِكَشْفِهِ أَوْ كشف نوازلها، وَزَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ أَرَأَيْتَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى أَمَّا. قَالَ وَتَكُونُ أَبَدًا بَعْدَ الشَّرْطِ وَظُرُوفِ الزَّمَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَمَّا إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ وَالِاسْتِفْهَامُ جَوَابُ أَرَأَيْتَ لَا جَوَابَ الشَّرْطِ وَهَذَا إِخْرَاجٌ لِأَرَأَيْتَ عَنْ مَدْلُولِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَخْرِيجَهَا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، وَعَلَى مَا زَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ لَا يَكُونُ لِأَرَأَيْتَ مَفْعُولَانِ وَلَا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَفْعُولَ أَرَأَيْتَكُمْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ تَقْدِيرُهُ أَرَأَيْتَكُمْ عِبَادَتَكُمُ الْأَصْنَامَ هَلْ تَنْفَعُكُمْ عِنْدَ مَجِيءِ السَّاعَةِ؟ وَدَلَّ عَلَيْهِ قوله: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ لَا تَحْتَاجُ هُنَا إِلَى جَوَابِ مَفْعُولٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ قَدْ حَصَّلَا مَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ فَذَهَبَ الْحَوْفِيُّ إِلَى أَنَّ جَوَابَهُ أَرَأَيْتَكُمْ قُدِّمَ لِدُخُولِ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وإنما يجوز

_ (1) سورة الكهف: 18/ 63.

تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبِي زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدِ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ مَنْ تَدْعُونَ؟ وَإِصْلَاحُهُ بِدُخُولِ الْفَاءِ أَيْ فَمَنْ تَدْعُونَ؟ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِلشَّرْطِ فلابد فِيهَا مِنَ الْفَاءِ؟ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ دَعَوْتُمُ اللَّهَ وَدَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الشَّرْطُ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ كَأَنَّهُ قِيلَ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ انْتَهَى. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الشَّرْطُ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ لَكَانَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ اسْتِفْهَامًا بِالْحَرْفِ لَا يَكُونُ إلا بهل مُقَدَّمًا عَلَيْهَا الْفَاءُ نَحْوَ إِنْ قَامَ زَيْدٌ فَهَلْ تُكْرِمُهُ؟ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْهَمْزَةِ لَا تَتَقَدَّمُ الْفَاءُ عَلَى الْهَمْزَةِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا، فَلَا يَجُوزُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ فَأَتُكْرِمُهُ ولا أفتكرمه ولا أتكرمه، بَلْ إِذَا جَاءَ الِاسْتِفْهَامُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْفَاءِ لَا قَبْلَهَا هَكَذَا نَقَلَهُ الْأَخْفَشُ عَنِ الْعَرَبِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِأَنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ أَرَأَيْتَكَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ وَالْآخَرُ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَوْقِعَهُ فَلَوْ جَعَلْتَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَبَقِيَتْ أَرَأَيْتَكُمْ مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَيْضًا الْتِزَامُ الْعَرَبِ فِي الشَّرْطِ الْجَائِي بَعْدَ أَرَأَيْتَ مُضِيَّ الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُحْذَفُ جَوَابُ الشَّرْطِ إِلَّا عِنْدَ مُضِيِّ فِعْلِهِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً «1» قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ «2» أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ «3» أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ «4» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمْلُودَا وَأَيْضًا فَمَجِيءُ الْجُمَلِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مُصَدَّرَةً بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ جَوَابَ الشَّرْطِ، إِذْ لَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ عُلِّقَتِ الشرطية يعني بقوله: غَيْرَ اللَّهِ فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ: أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وقوارع الساعة

_ (1) سورة يونس: 10/ 50. (2) سورة القصص: 28/ 71. (3) سورة الشعراء: 26/ 205. (4) سورة العلق: 96/ 13.

لَا تُكْشَفُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. (قُلْتُ) : قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْكَشْفِ الْمَشِيئَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ الْحِكْمَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِوَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَرْجَحَ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الشَّرْطُ بِقَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِلْفَاعِلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَتُلُخِّصَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَذْكُورٌ وَهُوَ أَرَأَيْتَكُمْ الْمُتَقَدِّمُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ مَذْكُورٌ وَهُوَ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ تَدْعُونَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ دَعَوْتُمُ اللَّهَ، هَذَا مَا وَجَدْنَاهُ مَنْقُولًا وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ غَيْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ أَرَأَيْتَكُمْ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ فَأَخْبِرُونِي عَنْهُ أَتَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ لِكَشْفِهِ، كَمَا تَقُولُ: أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ إِنْ جَاءَكَ مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ التَّقْدِيرُ إِنْ جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي فَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ أَخْبِرْنِي عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ التَّقْدِيرُ فَأَنْتَ ظَالِمٌ فَحُذِفَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ العربية وغَيْرَ اللَّهِ عَنَى بِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَدُلُّ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ دُعَاءَ الْأَصْنَامِ إِذْ لَا يُنْكَرُ الدُّعَاءُ إِنَّمَا يُنْكَرُ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُدْعَى كَمَا تَقُولُ: أَزَيْدًا تَضْرِبُ لَا تُنْكِرُ الضَّرْبَ وَلَكِنْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ زَيْدًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَكَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بِمَعْنَى أَتَخُصُّونَ آلِهَتَكُمْ بِالدَّعْوَةِ فِيمَا هُوَ عَادَتُكُمْ إِذَا أَصَابَكُمْ ضُرٌّ أَمْ تَدْعُونَ اللَّهَ دُونَهَا؟ انْتَهَى. وَقَدَّرَهُ بِمَعْنَى أَتَخُصُّونَ لِأَنَّ عِنْدَهُ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ مُؤْذِنٌ بِالتَّخْصِيصِ وَالْحَصْرِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ وَالتَّخْصِيصِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ مِنْ بَابِ اسْتِدْرَاجِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ أَنْ يُلِينَ الْخِطَابَ وَيَمْزُجَهُ بِنَوْعٍ مِنَ التَّلَطُّفِ وَالتَّعَطُّفِ حَتَّى يُوقِعَ الْمُخَاطَبَ فِي أَمْرٍ يَعْتَرِفُ بِهِ فَتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِلِينٍ مِنَ الْقَوْلِ وَذَكَرَ لَهُمْ أَمْرًا لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ دَعَوُا اللَّهَ لَا غَيْرَهُ وَجَوَابُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهٌ فَهَلْ تَدْعُونَهُ لِكَشْفِ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ؟. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ إِيَّاهُ ضَمِيرُ

نَصْبٍ مُنْفَصِلٌ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «1» مُسْتَوْفًى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا إِيَّاهُ اسْمٌ مُضْمَرٌ أُجْرِي مَجْرَى الْمُظْهَرَاتِ فِي أَنَّهُ يُضَافُ أَبَدًا انْتَهَى، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِإِيَّا مِنْ دَلِيلِ تَكَلُّمٍ أَوْ خِطَابٍ أَوْ غَيْبَةٍ وَهُوَ حَرْفٌ لَا اسْمٌ أُضِيفَ إِلَيْهِ إِيَّا لِأَنَّ الْمُضْمَرَ عِنْدَهُ لَا يُضَافُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ، فَلَوْ أُضِيفَ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَنَكُّرُهُ حَتَّى يُضَافَ وَيَصِيرَ إِذْ ذَاكَ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ لَا يَكُونُ مُضْمَرًا وَهَذَا فَاسِدٌ، وَمَجِيئُهُ هُنَا مُقَدَّمًا عَلَى فِعْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ وَعِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ تَقْدِيمَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بَلْ تَخُصُّونَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْآلِهَةِ، وَالِاخْتِصَاصُ عِنْدَنَا وَالْحَصْرُ فُهِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ على العامل وبَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ لِأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ النَّفْيُ وَتَقْدِيرُهَا مَا تَدْعُونَ أَصْنَامَكُمْ لِكَشْفِ الْعَذَابِ وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِضْرَابُ يَعْنِي الإبطال، وَمَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ أَيْ فَيَكْشِفُ الَّذِي تَدْعُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ ظَرْفِيَّةً انْتَهَى. وَيَكُونَ مَفْعُولُ يَكْشِفُ مَحْذُوفًا أَيْ فَيَكْشِفُ الْعَذَابَ مُدَّةَ دُعَائِكُمْ أَيْ مَا دُمْتُمْ دَاعِيهِ وَهَذَا فِيهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُضْعِفُهُ وَصْلُ مَا الظَّرْفِيَّةُ بِالْمُضَارِعِ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا إِنَّمَا بَابُهَا أَنْ تُوصَلَ بِالْمَاضِي تَقُولُ أَلَّا أُكَلِّمَكَ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلِذَلِكَ عِلَّةُ، أَمَّا ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وهو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» انْتَهَى. وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ فَيَكْشِفُ مُوجِبَ دُعَائِكُمْ وَهُوَ الْعَذَابُ، وَهَذِهِ دَعْوَى مَحْذُوفٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا الْمَوْصُولَةِ أَيْ إِلَى كَشْفِهِ وَدَعَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلِّقِ الدعاء يتعدى بإلى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ «3» الْآيَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنْ دَعَوْتَ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ ... يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا وَتَتَعَدَّى بِاللَّامِ أَيْضًا قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ من حماتها

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 5. (2) سورة يوسف: 12/ 82. (3) سورة النور: 24/ 51.

وَقَالَ آخَرُ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ بِتَقْدِيرِ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ دَعَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُجِيبِ الدُّعَاءِ إِنَّمَا يَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ بِهِ دُونَ حَرْفِ جَرٍّ قَالَ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «2» وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ دَعَوْتُ اللَّهَ سَمِيعًا وَلَا تَقُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى دَعَوْتُ إِلَى اللَّهِ بمعنى دعوت اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُصَحَّحَ كَلَامُهُ بِدَعْوَى التَّضْمِينِ ضَمَّنَ يَدْعُونَ مَعْنَى يلجؤون، كَأَنَّهُ قِيلَ فَيَكْشِفُ مَا يلجؤون فِيهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ لَكِنَّ التَّضْمِينَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ ولا يضار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعذق تَعَالَى الْكَشْفَ بِمَشِيئَتِهِ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِالْكَشْفِ فَعَلَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ شَاءَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَمْ تَكُنْ مَفْسَدَةً انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تَكُنْ مَفْسَدَةً دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ النِّسْيَانُ حَقِيقَةٌ وَالذُّهُولُ وَالْغَفْلَةُ عَنِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الشَّخْصَ إِذَا دَهَمَهُ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِدَفْعِهِ تَجَرَّدَ خَاطِرُهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الْكَاشِفِ لِذَاكَ الداهم، فيكاد يصير كالملجأ إِلَى التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ وَالذُّهُولِ عَنْ مَنْ سِوَاهُ فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كَشْفِ مَا دَهَمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَتَكْرَهُونَ آلِهَتَكُمْ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَتْرُكُونَهُمْ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ هَذَا وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: تَتْرُكُونَهُمْ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَضُرُّونَ وَلَا يَنْفَعُونَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هو مثل قوله لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ «3» . وَقِيلَ: يُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ النَّاسِي لِلْيَأْسِ مِنَ النجاة من قبله، وما مَوْصُولَةٌ أَيْ وَتَنْسَوْنَ الَّذِي تُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ وَتَنْسَوْنَ إِشْرَاكَكُمْ وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمَلِ بَلْ لَا مَلْجَأَ لَكُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْنَامُكُمْ مُطْرَحَةٌ مَنْسِيَّةٌ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ عَادَةَ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمُ التَّكْذِيبُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي قَسْوَةِ الْقُلُوبِ حَتَّى هُمْ إِذَا أُخِذُوا بِالْبَلَايَا لَا يَتَذَلَّلُونَ لِلَّهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ كَشْفَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْأُمَمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ أَبْلَغُ انْحِرَافًا وَأَشَدُّ شَكِيمَةً وَأَجْلَدُ مِنَ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ

_ (1) سورة غافر: 40/ 60. (2) سورة البقرة: 2/ 186. (3) سورة طه: 20/ 115.

خَاطَبَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْأَزَمَاتِ لَا يَدْعُونَ لِكَشْفِهَا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَكَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالتَّرَجِّي هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَشَرِ أَيْ لَوْ رَأَى أَحَدٌ مَا حَلَّ بِهِمْ لَرَجَا تَضَرُّعَهُمْ وَابْتِهَالَهُمْ إِلَى اللَّهِ فِي كَشْفِهِ، وَالْأَخْذُ الْإِمْسَاكُ بِقُوَّةٍ وَبَطْشٍ وَقَهْرٍ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنْ مُتَابَعَةِ الْعُقُوبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْمَعْنَى لَعَاقَبْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا لَوْلَا هُنَا حَرْفُ تَحْضِيضٍ يَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا ويفصل بَيْنَهُمَا بِمَعْمُولِ الْفِعْلِ مِنْ مَفْعُولٍ بِهِ وَظَرْفٍ كَهَذِهِ الآية، فصل بين فَلَوْلا وتَضَرَّعُوا بِإِذْ وَهِيَ مَعْمُولَةٌ لَتَضَرَّعُوا، وَالتَّحْضِيضُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَضَرُّعُهُمْ حِينَ جَاءَ الْبَأْسُ فَمَعْنَاهُ إِظْهَارُ مُعَاتَبَةِ مُذْنِبٍ غَائِبٍ وَإِظْهَارُ سُوءِ فِعْلِهِ لِيَتَحَسَّرَ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى الْبَأْسِ مَجَازٌ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ وَالْمُرَادُ أَوَائِلُ الْبَأْسِ وَعَلَامَاتُهُ. وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ صَلُبَتْ وَصَبَرَتْ عَلَى مُلَاقَاةِ الْعَذَابِ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَوُقُوعُ لكِنْ هَنَا حَسَنٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ التَّذَلُّلِ عِنْدَ مَجِيءِ الْبَأْسِ وَوُجُودِ الْقَسْوَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُتُوِّ وَالتَّعَزُّزِ فَوَقَعَتْ لكِنْ بَيْنَ ضِدَّيْنِ وَهُمَا اللِّينُ وَالْقَسْوَةُ، وَكَذَا إِنْ كَانَتِ الْقَسْوَةُ عِبَارَةً عَنِ الْكُفْرِ فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ وَالضَّرَاعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ كَانَتْ أَيْضًا وَاقِعَةً بَيْنَ ضِدَّيْنِ تَقُولُ: قَسَا قَلْبُهُ فَكَفَرَ وَآمَنَ فَتَضَرَّعَ. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الِاسْتِدْرَاكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ فَيَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى تَرْكِ التَّضَرُّعِ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ وَإِعْجَابَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانَ الشَّيْطَانُ سَبَبًا فِي تَحْسِينِهَا لَهُمْ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ فَلَمَّا تَرَكُوا الِاتِّعَاظَ وَالِازْدِجَارَ بِمَا ذُكِّرُوا بِهِ مِنَ الْبَأْسِ اسْتَدْرَجْنَاهُمْ بِتَيْسِيرِ مَطَالِبِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ إِذْ يَقْتَضِي شُمُولَ الْخَيْرَاتِ وَبُلُوغَ الطَّلَبَاتِ. حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً مَعْنَى هَذِهِ الْجُمَلِ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى يعطي العباد ما يشاؤون عَلَى مَعَاصِيهِمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ» ثُمَّ تَلَا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ الآية،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 178. [.....]

وَالْأَبْوَابُ اسْتِعَارَةٌ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هَيَّأَهَا اللَّهُ لَهُمْ الْمُقْتَضِيَةِ لِبَسْطِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ وَالْإِبْهَامُ فِي هَذَا الْعُمُومِ لِتَهْوِيلِ مَا فُتِحَ عَلَيْهِمْ وَتَعْظِيمِهِ وَغَيَّا الْفَتْحَ بِفَرَحِهِمْ بِمَا أُوتُوا وَتَرَتَّبَ عَلَى فَرَحِهِمْ أَخْذُهُمْ بَغْتَةً أَيْ إِهْلَاكُهُمْ فَجْأَةً وَهُوَ أَشَدُّ الْإِهْلَاكِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ شُعُورٌ بِهِ فَتَتَوَطَّنَ النَّفْسُ عَلَى لِقَائِهِ، ابْتَلَاهُمْ أَوَّلًا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَلَمْ يَتَّعِظُوا ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى مَا أَوْجَبَ سُرُورَهُمْ مِنْ إِسْبَاغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَجِدْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَلَا قَصَدُوا الشُّكْرَ وَلَا أَصْغَوْا إِلَى إِنَابَةٍ بَلْ لَمْ يَحْصُلُوا إِلَّا عَلَى فَرَحٍ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: أُمْهِلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عِشْرِينَ سَنَةً. فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ باهتون بائسون لا يخبرون جَوَابًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَتَّحْنَا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالتَّشْدِيدُ لِتَكْثِيرِ الْفِعْلِ وَإِذَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ وَهِيَ حَرْفٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَظَرْفُ مَكَانٍ، وَنُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ وَظَرْفُ زَمَانٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الرِّيَاشِيِّ وَالْعَامِلُ فِيهَا إِذَا قُلْنَا بِظَرْفِيَّتِهَا هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ أَيْ، فَفِي ذَلِكَ الْمَكَانِ هُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ مَكَانِ إِقَامَتِهِمْ وَذَلِكَ الزَّمَانِ هُمْ مُبْلِسُونَ وَأَصْلُ الْإِبْلَاسِ الْإِطْرَاقُ لِحُلُولِ نِقْمَةٍ أَوْ زَوَالِ نِعْمَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مُكْتَئِبُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَالِكُونَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَقُطْرُبٌ: خَاشِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَحَيِّرُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُتَحَسِّرُونَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: السَّاكِتُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ بِالْهَلَاكِ وَالْمَعْنَى: فَقُطِعَ دَابِرُهُمْ وَنَبَّهَ عَلَى سَبَبِ الِاسْتِئْصَالِ بِذِكْرِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ، وَهُوَ هُنَا الْكُفْرُ وَالدَّابِرُ التَّابِعُ لِلشَّيْءِ مِنْ خَلْفِهِ يُقَالُ: دَبَرَ الْوَالِدَ الْوَلَدُ يَدْبُرُهُ، وَفُلَانٌ دَبَرَ الْقَوْمَ دُبُورًا وَدَبَرًا إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: فَاسْتُؤْصِلُوا بِعَذَابٍ خَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: دابِرُ الْقَوْمِ آخِرُهُمُ الَّذِي يَدْبُرُهُمْ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الدَّابِرُ الْأَصْلُ يُقَالُ: قَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُ أَيْ أَذْهَبَ أَصْلَهُ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَقُطِعَ دابِرُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ وَالرَّاءِ أَيْ فَقَطَعَ اللَّهُ وَهُوَ الْتِفَاتٌ إِذْ فِيهِ الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِيذَانٌ بِوُجُوبِ الْحَمْدِ لِلَّهِ عِنْدَ هَلَاكِ الظَّلَمَةِ وَأَنَّهُ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَجْزَلِ الْقِسَمِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ كَذَّبُوهُمْ وَآذَوْهُمْ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ تَارَةً بِالْبَلَاءِ، وَتَارَةً بِالرَّخَاءِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا فَأَهْلَكَهُمْ وَاسْتَرَاحَ الرُّسُلُ مِنْ شَرِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ نِعْمَةً فِي حَقِّ الرُّسُلِ إِذْ أَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ عَلَى لِسَانِهِمْ بِهَلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ فَنَاسَبَ هَذَا الْفِعْلَ كُلَّهُ الختم بالحمدلة.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ لَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا تَهْدِيدَهُمْ بِإِتْيَانِ الْعَذَابِ أَوِ السَّاعَةِ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا التَّهْدِيدِ، فَأَكَّدَ خِطَابَ الضَّمِيرِ بِحَرْفِ الْخِطَابِ فَقِيلَ أَرَأَيْتَكُمْ وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّهْدِيدُ أَخَفَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُؤَكَّدْ بِهِ، بَلِ اكْتُفِيَ بِخِطَابِ الضَّمِيرِ فَقِيلَ أَرَأَيْتُمْ وَفِي تِلْكَ وَهَذِهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْعَالَمِ الْكَاشِفُ لِلْعَذَابِ وَالرَّادُّ لِمَا شَاءَ بَعْدَ الذَّهَابِ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أَنَّهُ ذَهَابُ الْحَاسَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْبَصَرِيَّةِ فَيَكُونُ أَخْذًا حَقِيقِيًّا. وَقِيلَ: هُوَ أَخْذٌ مَعْنَوِيٌّ وَالْمُرَادُ إِذْهَابُ نُورِ الْبَصَرِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْعَمَى، وَإِذْهَابُ سَمْعِ الْأُذُنِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الصَّمَمُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِفْرَادِ السَّمْعِ وَجَمْعِ الْأَبْصَارِ وَعَلَى الْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ إِنْ أَخَذَهَا اللَّهُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ كَمَا تَقُولُ: أَرَأَيْتُكَ زَيْدًا مَا يَصْنَعُ وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ أَعْمَلَ الثَّانِيَ وَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَوْضَحْنَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ أَفْرَدَهُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ تَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ بِمَا أَخَذَ وَخَتَمَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السَّمْعِ بِالتَّصْرِيحِ وَتَدْخُلُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْهُدَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى لِأَنَّ أَخْذَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْخَتْمَ عَلَى الْقُلُوبِ سَبَبُ الضَّلَالِ وسد لطرق الهداية، ومَنْ إِلهٌ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ سِوَاهُ فَالتَّعَلُّقُ بِغَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَحَرْفُ الشَّرْطِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ أَرَأَيْتُمْ كَقَوْلِهِ: اضْرِبْهُ إِنْ خَرَجَ أَيْ خَارِجًا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ انْتَهَى، وَهَذَا الْإِعْرَابُ تَخْلِيطٌ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ رَوَى أَبُو قُرَّةَ الْمُسَيِّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ بِهُ انْظُرْ بِضَمِّ الراء وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ، وَانْظُرْ خِطَابٌ لِلسَّامِعِ وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ قَالَ مُقَاتِلٌ: نُخَوِّفُهُمْ بِأَخْذِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ وَبِمَا صُنِعَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: تَصْرِيفُهَا مَرَّةٌ تَأْتِي بِالنِّقْمَةِ وَمَرَّةٌ تَأْتِي بِالنِّعْمَةِ وَمَرَّةٌ بِالتَّرْغِيبِ وَمَرَّةٌ بالترهيب. وقيل: تتابع لهم الحجج وتضرب لَهُمُ الْأَمْثَالَ. وَقِيلَ: نُوَجِّهُهَا إِلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِفْنَاءِ وَالْإِهْلَاكِ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ نَبِيِّهِ وَالصَّدْفُ وَالصُّدُوفُ الْإِعْرَاضُ وَالنُّفُورُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وقتادة وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: يَصْدِفُونَ يُعْرِضُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ كَيْفَ نَصْرِفُ مِنْ صَرَفَ ثُلَاثِيًّا.

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هَذَا تَهْدِيدٌ ثَالِثٌ فَالْأَوَّلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْعَذَابُ وَالسَّاعَةُ، وَالثَّانِي: بِالْأَخْذِ وَالْخَتْمِ، وَالثَّالِثُ: بِالْعَذَابِ فَقَطْ. قِيلَ: بَغْتَةً فَجْأَةً لَا يَتَقَدَّمُ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وجهرة تَبْدُو لَكُمْ مَخَايِلُهُ ثُمَّ يَنْزِلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَغْتَةً ليلا وجَهْرَةً نَهَارًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَغْتَةً فجأة آمنين وجَهْرَةً وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْبَغْتَةُ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الْخِفْيَةِ صَحَّ مُقَابَلَتُهَا لِلْجَهْرَةِ وَبُدِئَ بِهَا لِأَنَّهَا أَرْدَعُ مِنَ الْجَهْرَةِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ هَلْ يُهْلَكُ مَعْنَاهَا النَّفْيُ أَيْ مَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتَكُمْ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ أَيْ هَلْ يُهْلَكُ بِهِ؟ وَالْأَوَّلُ مِنْ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتَكُمْ مَحْذُوفٌ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَمَّا كَانَ التَّهْدِيدُ شَدِيدًا جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ أَدَاتَيِ الْخِطَابِ وَالْخِطَابُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَفِي ذِكْرِ الظُّلْمِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِلَّةِ الْإِهْلَاكِ وَالْمَعْنَى هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا أَنْتُمْ لِظُلْمِكُمْ؟ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: هَلْ يُهْلَكُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرِينَ بِالْعِقَابِ وَانْتَصَبَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِمَا مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ لِلتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ لَا لِأَنْ تُقْتَرَحَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ بعد وضوح ما جاؤوا بِهِ وَتَبْيِينِ صِحَّتِهِ. فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ أَيْ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَأَصْلَحَ فِي عَمَلِهِ. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ جَعَلَ الْعَذابُ مَاسًّا كَأَنَّهُ ذُو حَيَاةٍ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا شَاءَ مِنَ الْآلَامِ. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ: نُمِسُّهُمُ الْعَذَابَ بِالنُّونِ مِنْ أَمَسَّ وَأَدْغَمَ الْأَعْمَشُ الْعَذَابَ بِمَا كَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ يَفْسُقُونَ بِكَسْرِ السِّينِ. قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لَا أَدَّعِي مَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنْ مِلْكِ خَزَائِنِ اللَّهِ وَهِيَ قَسْمُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَأَرْزَاقُهُ وَعِلْمِ الْغَيْبِ، وَأَنِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللَّهُ وَأَفْضَلُهُ وَأَقْرَبُهُ مَنْزِلَةً مِنْهُ، أَيْ لَمْ أَدَّعِ الْأُلُوهِيَّةَ وَلَا الْمَلَكِيَّةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِلَهِيَّةِ مَنْزِلَةٌ أَرْفَعُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى تَسْتَبْعِدُونَ دَعْوَايَ وَتَسْتَنْكِرُونَهَا، وَإِنَّمَا أَدَّعِي مَا كَانَ مِثْلُهُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ، انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ: مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى إِنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي لست بإله فأنصف بِصِفَاتِهِ مِنْ كَيْنُونَةِ خَزَائِنِهِ عِنْدِي وَعِلْمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، وَالْأَظْهَرُ

أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ بَشَرٌ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ وَلَا مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِمَّا غَابَ عَنْهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْمَلَائِكَةِ هُمْ أَشْرَفُ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللَّهُ وَأَفْضَلُهُ وَأَقْرَبُهُ مَنْزِلَةً فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَا أَدَّعِي مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَتِي فَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِمَّا نَفَى طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ نَفْيُ قُدْرَتِهِ عَنْ أَفْعَالٍ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ انْتَهَى. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتُعْطِي قُوَّةُ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَلَكَ أَعْظَمُ مَوْقِعًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ وَالتَّفْضِيلُ يُعْطِيهِ الْمَعْنَى عَطَاءً خَفِيًّا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ آيَاتٍ أُخَرَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وما يُوحى يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ مَا يَأْتِي بِهِ الْمَلَكُ أَيْ فِي ذَلِكَ عِبَرٌ وَآيَاتٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَنَظَرَ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزائِنُ اللَّهِ مَقْدُورَاتُهُ مِنْ إِغْنَاءِ الْفَقِيرِ وَإِفْقَارِ الْغَنِيِّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الرَّحْمَةُ وَالْعَذَابُ. وَقِيلَ: آيَاتُهُ. وَقِيلَ: مَجْمُوعُ هَذَا لِقَوْلِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ «2» . قِيلَ: وَهَذِهِ الثَّلَاثُ جَوَابٌ لِمَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَالْأَوَّلُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ رَسُولًا فَاسْأَلِ اللَّهَ حَتَّى يُوَسِّعَ عَلَيْنَا خَزَائِنَ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي: جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا فَأَخْبِرْنَا بِمَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ فَنَسْتَعِدَّ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ وَدَفْعِ هَذِهِ، وَالثَّالِثُ: جواب قولهم: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ؟ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : أَعْلَمُ الْغَيْبَ مَا مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ قُلْتُ: النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ قَوْلِهِ: خَزائِنُ اللَّهِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا هَذَا الْقَوْلَ انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا أَقُولُ لَا مَعْمُولٌ لَهُ فَهُوَ أُمِرَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فَهِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قُلْ وَغَايَرَ فِي مُتَعَلِّقِ النَّفْيِ فَنَفَى قَوْلَهُ: عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: إِنِّي مَلَكٌ وَنَفَى عِلْمَ الْغَيْبِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ. وَلَا أَقُولُ: إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ لِأَنَّ كَوْنَهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزائِنُ اللَّهِ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَقَسْمِهِمْ مَعْلُومٌ ذَلِكَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ فَنَفَى ادِّعَاءَهُ ذَلِكَ وَكَوْنَهُ بِصُورَةِ الْبَشَرِ معلوم

_ (1) سورة النساء: 4/ 166. (2) سورة الحجر: 15/ 21.

أَيْضًا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِوِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَنَفَى أَيْضًا ادِّعَاءَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفِهِمَا مَنْ أَصِلِهِمَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ، فَنَفَى أَنْ يُكَابِرَهُمْ فِي ادِّعَاءِ شَيْءٍ يَعْلَمُونَ خِلَافَهُ قَطْعًا. وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ الْغَيْبِ أَمْرًا يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى لِسَانِ الْبَشَرِ بَلْ قَدْ يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَالْكُهَّانِ وَضُرَّابِ الرَّمْلِ وَالْمُنَجِّمِينَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ وَطَابَقَتْ مَا أَخْبَرَ بِهِ نَفَى عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ أَصْلِهِ فَقَالَ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ تَنْصِيصًا عَلَى مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ. وَأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ إِخْبَارٍ بِغَيْبٍ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَحْيِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ لَا مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَقَالَ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ كَمَا قَالَ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ «1» وَكَمَا أُثِرَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ هَذَا الْجِدَارِ إِلَّا أَنْ يُعْلِمَنِي رَبِّي» ، وَجَاءَ هَذَا النَّفْيُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي فنفى أولا ما يتعلق بِهِ رَغَبَاتُ النَّاسِ أَجْمَعِينَ مِنَ الْأَرْزَاقِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، ثُمَّ نفى ثانيا ما يتعلق بِهِ وَتَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الْفَاضِلَةُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يَجْهَلُونَ وَتَعَرُّفِ مَا يَقَعُ مِنَ الْكَوَائِنِ ثُمَّ نَفَى ثَالِثًا مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِذَاتِهِ مِنْ صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي هِيَ مُبَايِنَةٌ لِصِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَتَرَقَّى فِي النَّفْيِ مِنْ عَامٍّ إِلَى خَاصٍّ إِلَى أَخَصَّ، ثُمَّ حَصَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا بِقَوْلِهِ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ أَيْ أَنَا مُتَّبِعٌ مَا أَوْحَى اللَّهُ غَيْرُ شَارِعٍ شَيْئًا مِنْ جِهَتِي، وَظَاهِرُهُ حُجَّةٌ لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيْ لَا يَسْتَوِي النَّاظِرُ الْمُفَكِّرُ فِي الْآيَاتِ وَالْمُعْرِضُ الْكَافِرُ الَّذِي يُهْمِلُ النَّظَرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الضَّالُّ وَالْمُهْتَدِي. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثَلٌ لِلضُّلَّالِ وَالْمُهْتَدِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِمَنِ اتَّبَعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَوْ لِمَنِ ادَّعَى الْمُسْتَقِيمَ، وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَالْمُحَالَ وَهُوَ الْأُلُوهِيَّةُ وَالْمَلَكِيَّةُ. أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ هَذَا عَرْضٌ وَتَحْضِيضٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيْ فَفَكِّرُوا وَلَا تَكُونُوا ضَالِّينَ أَشْبَاهَ الْعُمْيِ أَوْ فكروا فتعلمون، أي لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أَوْ فَتَعْلَمُونَ أَنِّي لَا أَدَّعِي مَا لَا يَلِيقُ بِالْبَشَرِ. وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْذِرَ بِهِ فَقَالَ: وَأَنْذِرْ بِهِ أَيْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْكَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ بِعَذَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْحَشْرِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْذَارِ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ وَإِنَّمَا خَصَّ بِالْإِنْذَارِ هُنَا مَنْ خَافَ الْحَشْرَ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِيمَانِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْكَفَرَةُ الْمُعْرِضُونَ دَعْهُمْ ورأيهم وأنذر

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 188.

بِالْقُرْآنِ مَنْ يُرْجَى إِيمَانُهُ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَوَالِي مِنْهُمْ بِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ وَمِهْجَعٌ وَسَلْمَانُ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ عُمُومُ مَنْ خَافَ الْحَشْرَ وَآمَنَ بِالْبَعْثِ مِنْ مُسْلِمٍ وَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الْمُقِرِّينَ بِالْبَعْثِ إِلَّا أَنَّهُمْ مُفَرِّطُونَ فِي الْعَمَلِ فَيُنْذِرُهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، أَيْ يَدْخُلُونَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِ التَّقْوَى وَلَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا بِنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ إِذَا سَمِعُوا بِحَدِيثِ الْبَعْثِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَيَهْلَكُوا، فَهُمْ مِمَّنْ يُرْجَى أَنْ يَنْجَعَ فِيهِمُ الْإِنْذَارُ دُونَ الْمُتَمَرِّدِينَ مِنْهُمْ ويَخافُونَ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْ يَخَافُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَشْرِ مِنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْحَشْرُ فَمُتَحَقِّقٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَخافُونَ هُنَا يَعْلَمُونَ وَمَعْنَى إِلى رَبِّهِمْ أَيْ إِلَى جَزَاءِ رَبِّهِمْ أَيْ مَوْعُودِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُجَسِّمَةُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي حَيِّزٍ وَمَكَانٍ مُخْتَصٍّ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ يُحْشَرُوا بِمَعْنَى يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا غَيْرَ مَنْصُورِينَ وَلَا مَشْفُوعًا لَهُمْ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّ كُلًّا مَحْشُورٌ فَالْخَوْفُ إِنَّمَا هُوَ الْحَشْرُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنْ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْخَوْفِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا فِي حَالِ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَلَا شَفِيعَ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ عَنْ صِفَةِ الْحَالِ يَوْمَئِذٍ فَهِيَ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ تَرْجِئَةٌ لِحُصُولِ تَقْوَاهُمْ إِذَا حَصَلَ الْإِنْذَارُ. وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: نَزَلَتْ فِينَا سِتَّةً فِيَّ وَفِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَالْمِقْدَادِ وَبِلَالٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ لِهَؤُلَاءِ تَبَعًا فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: فِينَا نَزَلَتْ كُنَّا ضُعَفَاءَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ مَا يَنْفَعُنَا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ: إِنَّا مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِنَا وَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ يَرَوْنَا مَعَهُمْ فَاطْرُدْهُمْ إِذَا جَالَسْنَاكَ فَنَزَلَتْ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَدَنَوْنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتِهِ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَافُ لَمْ يُنْذَرُوا إِلَّا بِالْمَدِينَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ خَبَّابٍ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَامَ وَتَرَكَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «1» الْآيَةَ. فَكَانَ يَقْعُدُ مَعَنَا فَإِذَا بَلَغَ الْوَقْتَ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُومَ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَشْرَافِ قَالُوا: نُؤْمِنُ بِكَ وَإِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَكَ فَأَخِّرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَعَكَ فَيُصَلُّوا خَلْفَنَا فَيَكُونُ الطَّرْدُ تَأَخُّرَهُمْ مِنَ الصَّفِّ لَا طَرْدَهُمْ مِنَ الْمَجْلِسِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَمَضْمُونُهَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ سَأَلُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْدَ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ ، وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِإِنْذَارِ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَقْرِيبِ الْمُتَّقِينَ وَإِكْرَامِهِمْ وَنَهَاهُ عَنْ طَرْدِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِهِمْ لِبَاطِنِهِمْ مِنْ دُعَاءِ رَبِّهِمْ وَخُلُوصِ نِيَّاتِهِمْ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَيَلْجَأُونَ إِلَيْهِ وَيَقْصِدُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالرَّغْبَةِ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ كِنَايَةٌ عَنِ الزَّمَانِ الدَّائِمِ وَلَا يُرَادُ بِهِمَا خُصُوصُ زَمَانِهِمَا كَمَا تَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تُرِيدُ فِي كُلِّ حَالٍ فَكَنَّى بِالْغَدَاةِ عَنِ النَّهَارِ وَبِالْعَشِيِّ عَنِ اللَّيْلِ، أَوْ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الشُّغْلَ فِيهِمَا غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمَنْ كَانَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ يَغْلِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ كَانَ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ. فَقَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد فِي رِوَايَةٍ وَإِبْرَاهِيمُ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَقَالَ بَعْضُ الْقُصَّاصِ: إِنَّهُ الِاجْتِمَاعُ إِلَيْهِمْ غَدْوَةً وَعَشِيًّا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ وَغَيْرُهُمَا، وقالوا: إلا الْآيَةُ فِي الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعِبَادَةُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي رِوَايَةٍ: ذِكْرُ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَعِبَادَتُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْغَداةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَالْحَسَنُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ بِالْغُدْوَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا بِالْغُدُوِّ بِغَيْرِ هَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْغُدْوَاتِ وَالْعَشِيَّاتِ بِالْأَلِفِ فِيهِمَا عَلَى الْجَمْعِ، وَالْمَشْهُورُ فِي غُدْوَةَ أَنَّهَا مُعَرَّفَةٌ بِالْعَلَمِيَّةِ مَمْنُوعَةُ الصَّرْفِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ أَبَا الْجَرَّاحِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَغَدْوَةَ قَطُّ يُرِيدُ غَدَاةَ يَوْمِهِ، قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضِيفُهَا فَكَذَا لَا تَدْخُلُهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِنَّمَا يَقُولُونَ: جِئْتُكَ غَدَاةَ الْخَمِيسِ انْتَهَى. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُنَكِّرُهَا فَيَقُولُ: رَأَيْتُهُ غَدْوَةً بِالتَّنْوِينِ وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَتَكُونُ إِذْ ذاك كفينة.

_ (1) سورة الكهف: 18/ 28.

حَكَى أَبُو زَيْدٍ: لَقِيتُهُ فَيْنَةَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ وَلَقِيتُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ أَيِ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ وَلَمَّا خَفِيَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَسَاءَ الظَّنَّ بِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فَقَالَ: إِنَّمَا نَرَى ابْنَ عَامِرٍ وَالسُّلَمِيَّ قَرَآ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ كَتَبُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ بِالْوَاوِ وَلَفْظُهُمَا عَلَى تَرْكِهَا وَكَذَلِكَ الْغَدَاةُ عَلَى هَذَا وَجَدْنَا الْعَرَبَ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ جَهْلٌ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الَّتِي حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ وَقَرَأَ بِهَا هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةُ وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ الْقُرَّاءِ أنهم إنما قرؤوا بِهَا لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ وَالْقِرَاءَةُ إِنَّمَا هِيَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَأَيْضًا فَابْنُ عَامِرٍ عَرَبِيٌّ صَرِيحٌ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ اللَّحْنُ لِأَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ أَحَدُ الْعَرَبِ الْأَئِمَّةِ فِي النَّحْوِ، وَهُوَ مِمَّنْ أَخَذَ عِلْمَ النَّحْوِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ مُسْتَنْبِطِ عِلْمِ النَّحْوِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْفَصَاحَةِ بِحَيْثُ يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِهِ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَحَنُوا؟ انْتَهَى. وَاغْتَرُّوا بِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَلَكِنْ أَبُو عُبَيْدَةَ جَهِلَ هَذِهِ اللُّغَةَ وَجَهِلَ نَقْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَتَجَاسَرَ عَلَى رَدِّهَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَشِيَّ مُرَادِفٌ لِلْعَشِيَّةِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ «1» . وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ عَشِيَّةٍ وَمَعْنَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يُخْلِصُونَ نِيَّاتِهِمْ لَهُ فِي عِبَادَتِهِمْ وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ بِالْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَطْلُبُونَ ثَوَابَ اللَّهِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَجْهَهُ مَنْ أَثْبَتَ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ قَالَ الْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: الْحِسَابُ هُنَا حِسَابُ الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: حِسَابُ الْأَرْزَاقِ أَيْ لَا تَرْزُقُهُمْ وَلَا يَرْزُقُونَكَ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي «2» وَذَلِكَ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي دِينِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فَقَالَ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ شَهَادَتِهِ لَهُمْ بِالْإِخْلَاصِ وَبِإِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ عِنْدَ اللَّهِ، فَمَا يَلْزَمُكَ إِلَّا اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ وَالِاتِّسَامُ بِسِيرَةِ الْمُتَّقِينَ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بَاطِنٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ فَحِسَابُهُمْ عَلَيْهِمْ لَازِمٌ لَهُمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَيْكَ، كَمَا أَنَّ حِسَابَكَ عَلَيْكَ لَا يَتَعَدَّاكَ إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «3» انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَإِخْبَارُ الله

_ (1) سورة ص: 38/ 31. (2) سورة الشعراء: 26/ 113. (3) سورة الأنعام: 6/ 164.

تَعَالَى هُوَ الصِّدْقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَلَا يُقَالُ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ وَإِنْ كان لهم باطن غير مَرَضِيٍّ لِأَنَّهُ فَرْضٌ مُخَالِفٌ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ خُلُوصِ بَوَاطِنِهِمْ ونياتهم له تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا كَفَى قَوْلُهُ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى ضُمَّ إِلَيْهِ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (قُلْتُ) : قَدْ جُعِلَتِ الْجُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَصْدُهُمَا مُؤَدَّى وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْجُمْلَتَانِ جَمِيعًا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ تَرْكِيبٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ، لَا يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ هُنَا غَائِبًا وَلَا مُخَاطَبًا لِأَنَّهُ إِنْ أُعِيدَ غَائِبًا فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ غَائِبٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَتَقَدَّمُ قوله: ولاهم وَلَا يُمْكِنُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ عَلَى اعْتِقَادِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّرْكِيبُ بِحِسَابِ صَاحِبِهِمْ وَإِنْ أُعِيدَ مُخَاطِبًا فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُخَاطَبٌ يَعُودُ عَلَيْهِ إِنَّمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ، وَلَا يُمْكِنُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ غَائِبًا وَلَوْ أَبْرَزْتَهُ مُخَاطَبًا لَمْ يَصِحَّ التَّرْكِيبُ أَيْضًا وَإِصْلَاحُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يُقَالَ: لَا يُؤَاخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ منك وَلَا مِنْهُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ أَوْ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ بِحِسَابِهِمْ وَلَا هُمْ بِحِسَابِكَ، أَوْ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِكُمْ فَتُغَلِّبُ الخطاب على الغيبة كَمَا تَقُولُ أَنْتَ وَزَيْدٌ تَضْرِبَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي مِنْ حِسابِهِمْ وَفِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى لَا يُؤَاخَذُونَ بِحِسَابِكَ وَلَا أَنْتَ بِحِسَابِهِمْ حَتَّى يَهُمَّكَ إِيمَانُهُمْ وَيُحَرِّكَكَ الْحِرْصُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَطْرُدَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي حِسابِهِمْ وعَلَيْهِمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَرَادُوا طَرْدَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ مَا عَلَيْكَ مِنْهُمْ آمَنُوا وَلَا كَفَرُوا فَتَطْرُدَ هَؤُلَاءِ رَعْيًا بِذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي تَطْرُدَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ أَبَدًا سَبَبُ مَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ لَا يَبِينُ إِذَا كَانَتِ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْحِسَابَ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي رِزْقِ الدُّنْيَا أَيْ لَا تَرْزُقُهُمْ وَلَا يَرْزُقُونَكَ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا تَجِيءُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى. ومِنْ فِي مِنْ حِسابِهِمْ وَفِي مِنْ حِسابِكَ مُبَعِّضَةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فِي مِنْ حِسابِهِمْ وَذُو الْحَالِ هُوَ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ مِنْ حِسَابِهِمْ لَكَانَ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِشَيْءٍ فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الحال وعَلَيْكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِمَا إِنْ كَانَتْ حِجَازِيَّةً، وَأَجَزْنَا تَوَسُّطَ خَبَرِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا وَفِي مَوْضِعِ خَبَرِ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 53 إلى 58]

الْمُبْتَدَإِ إِنْ لَمْ نُجِزْ ذَلِكَ أَوِ اعْتَقَدْنَا أَنَّ مَا تَمِيمِيَّةٌ وَأَمَّا فِي مِنْ حِسابِكَ فَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَيَضْعُفُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَالَ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ خُصُوصًا إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْعَامِلِ وَعَلَى ذِي الْحَالِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ حِسابِكَ وعَلَيْهِمْ. صِفَةً لِشَيْءٍ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عَلَيْهِمْ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ فَتَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرَ وَيَكُونُ مِنْ حِسابِكَ عَلَى هَذَا تنبيا لَا حَالًا وَلَا خَبَرًا وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ اعْتِنَائِهِ تعالى بِنَبِيِّهِ وَتَشْرِيفِهِ بِخِطَابِهِ حَيْثُ بَدَأَ بِهِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا فَقَالَ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ قَالَ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَدَّمَ خِطَابُهُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ وَكَانَ مُقْتَضَى التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ لَوْ لُوحِظَ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ الثَّانِي وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ لَكِنَّهُ قَدَّمَ خِطَابَ الرَّسُولِ وَأَمْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِنَاءً بِمُخَاطَبَتِهِ وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَيْسَ الَّذِي حَلَّلْتَهُ بِمُحَلَّلٍ ... وَلَيْسَ الَّذِي حَرَّمْتَهُ بِمُحَرَّمِ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَطْرُدَهُمْ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يكون النَّصْبُ هُنَا عَلَى أَحَدِ معنى النَّصْبِ فِي قَوْلِكَ: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا لِأَنَّ أَحَدَ معنى هَذَا مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ فِي الْآيَةِ وَالْمَعْنَى الثَّانِي مَا تَأْتِينَا فَكَيْفَ تُحَدِّثُنَا؟ أَيْ لَا يَقَعُ هَذَا فَكَيْفَ يَقَعُ هَذَا وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِي الْآيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ حِسَابُهُمْ عَلَيْكَ فَيَكُونَ وَقْعُ الطَّرْدِ، وَأَطْلَقُوا جَوَابَ أَنْ يَكُونَ فَتَطْرُدَهُمْ جَوَابًا لِلنَّفْيِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهِ جَوَابًا وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فَتَطْرُدَهُمْ وَالْمَعْنَى الْإِخْبَارُ بِانْتِفَاءِ حِسَابِهِمْ وَانْتِفَاءِ الطَّرْدِ وَالظُّلْمِ الْمُتَسَبِّبِ عَنِ الطَّرْدِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فَتَكُونَ جَوَابًا لِلنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ كَقَوْلِهِ: لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «1» وَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ وَجَوَابُ الْأَوْلَى اعْتِرَاضًا بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ، وَمَعْنَى مِنَ الظَّالِمِينَ مِنَ الَّذِينَ يَضَعُونَ الشَّيْءَ فِي غير مواضعه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 58] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

_ (1) سورة طه: 20/ 61 .

وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى فُتُونٍ سَابِقٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أُمَمِ رُسُلٍ وَإِرْسَالِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَتَقْسِيمِ أُمَمِهِمْ إِلَى مُؤْمِنٍ وَمُكَذِّبٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ مُخْتَلِفُونَ وَوَاقِعٌ فِيهِمُ الْفُتُونُ لَا مَحَالَةَ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَشَبَّهَ تَعَالَى ابْتِلَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاخْتِبَارَهَا بِابْتِلَاءِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَيْ حَالُ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَالُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي فُتُونِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَالْفُتُونُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ أَوْ بِالشَّرَفِ وَالْوَضَاعَةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْفَتْنِ الْعَظِيمِ فَتْنُ بَعْضِ النَّاسِ بِبَعْضٍ أَيِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَلِمَا يُسْعِدُهُمْ عِنْدَهُ مِنْ دُونِنَا وَنَحْنُ الْمُقَدَّمُونَ وَالرُّؤَسَاءُ وَهُمُ الْعَبِيدُ وَالْفُقَرَاءُ إِنْكَارًا لِأَنْ يَكُونَ أَمْثَالُهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَمَمْنُونًا عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْخَيْرِ نحوا أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا «1» لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ «2» وَمَعْنَى فَتَنَّاهُمْ لِيَقُولُوا ذَلِكَ خِذْلَانُهُمْ فَافْتَتَنُوا حَتَّى كَانَ افْتِتَانُهُمْ سَبَبًا لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ هَذَا إِلَّا مَخْذُولٌ مُتَقَوِّلٌ انْتَهَى. وَآخِرُ كَلَامِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ تَأْوِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي نَسَبَهَا تَعَالَى إِلَيْهِ بالخذلان لأن جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ابْتِلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُشْرِكِينَ هُوَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى، وَابْتِلَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ الشَّرِيفُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَوْمًا لَا شَرَفَ لَهُمْ قَدْ عَظَّمَهُمْ هَذَا الدِّينُ وَجَعَلَ لَهُمْ عِنْدَ نبيهم قدرا

_ (1) سورة القمر: 54/ 52. (2) سورة الأحقاف: 46/ 11.

وَمَنْزِلَةً، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى من ذُكِرَ مِنْ ظُلْمِهِمْ أَنْ تَطْرُدَ الضَّعَفَةَ انْتَهَى. وَلَا يَنْتَظِمُ هَذَا التَّشْبِيهُ إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْ طَلَبِ الطَّرْدِ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ إِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ مِثْلَ ذَلِكَ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ الضَّرْبِ لَا أَنَّهُ تَقَعُ الْمُمَاثَلَةُ فِي غَيْرِهِ وَاللَّامُ فِي لِيَقُولُوا الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ أَيْ هَذَا الِابْتِلَاءُ لِكَيْ يَقُولُوا: هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْمُنَاجَاةِ لَهَا، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى ابْتَلَيْنَا أَشْرَافَ الْكُفَّارِ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَتَعَجَّبُوا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُونَ سَبَبًا لِلنَّظَرِ لِمَنْ هُدِيَ وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّامَ تَكُونُ لِلصَّيْرُورَةِ، جَوَّزَ هُنَا أَنْ تَكُونَ لِلصَّيْرُورَةِ وَيَكُونَ قَوْلُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الاستحقاق وَهَؤُلاءِ إشارة إلى المؤمنين ومَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ دِينَهُمْ مِنْهُ تَعَالَى. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ وَالرَّدُّ عَلَى أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَشْكُرُ فَيَضَعُ فِيهِ هِدَايَتَهُ دُونَ مَنْ يَكْفُرُ فَلَا يَهْدِيهِ، وَجَاءَ لَفْظُ الشُّكْرِ هُنَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ إِذْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فَنَاسَبَ ذِكْرُ الْإِنْعَامِ لَفْظَ الشُّكْرِ؟ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَؤُلَاءِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الشَّاكِرِينَ لِنَعْمَائِهِ وَتَضَمَّنَ الْعِلْمُ مَعْنَى الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى شُكْرِهِمْ فَلَيْسُوا مَوْضِعَ اسْتِخْفَافِكُمْ وَلَا اسْتِعْجَابِكُمْ. وَقِيلَ: بِالشَّاكِرِينَ مَنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ دُونَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ عَلِمَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: مَنْ يَشْكُرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا هَدَيْتُهُ. وَقِيلَ: بِمَنْ يُوَفَّقُ لِلْإِيمَانِ كَبِلَالٍ وَمَنْ دُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَالشُّكْرُ فَيُوَفِّقُهُ لِلْإِيمَانِ وَبِمَنْ يُصَمِّمُ عَلَى كُفْرِهِ فَيَخْذُلُهُ وَيَمْنَعُهُ التَّوْفِيقَ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ فَكَانَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَبْدَأُهُمْ بِالسَّلَامِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ صَوَّبُوا رَأْيَ أَبِي طَالِبٍ فِي طَرْدِ الضَّعَفَةِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: قَالَ قَوْمٌ: قَدْ أَصَبْنَا ذُنُوبًا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ حِينَ أَشَارَ بِإِجَابَةِ الْكَفَرَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ تَفْسِيرُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ فَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِمُ السِّتَّةَ الَّذِينَ نَهَى عَنْ طَرْدِهِمْ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَمْرًا بِإِكْرَامِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى خُصُوصِيَّةِ تَشْرِيفِهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِكْرَامِ وَإِنْ كَانَ عَنَى عُمَرَ حِينَ اعْتَذَرَ وَاسْتَغْفَرَ وَقَالَ: مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ كَانَ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لَا بِالسِّتَّةِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ وَإِنَّهَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ تَقَصِّي خَبَرِ

أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَى عَنْ طَرْدِهِمْ وَلَوْ كَانُوا إِيَّاهُمْ لَكَانَ التَّرْكِيبُ الْأَحْسَنُ، وَإِذَا جاؤوك وَالْآيَاتُ هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ وَعَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: آيَاتُ اللَّهِ آيَاتُ وُجُودِهِ وَآيَاتُ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَإِكْرَامِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَمَا سِوَى اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْعُقُولِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ إِلَّا أَنَّ الْمُمْكِنَ هُوَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ ثُمَّ يُؤْمِنَ بِالْبَقِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ يَكُونُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ كَالسَّابِحِ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ وَكَالسَّائِحِ فِي تِلْكَ الْقِفَارِ، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَكَذَلِكَ، لَا نِهَايَةَ فِي تَرَقِّي الْعَبْدِ فِي مَعَارِجِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَهَذَا مَشْرَعٌ جُمْلِيٌّ لَا نِهَايَةَ لِتَفَاصِيلِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَعِنْدَهَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَيَكُونُ هَذَا التَّسْلِيمُ بِشَارَةً بِحُصُولِ الْكَرَامَةِ عَقِيبَ تِلْكَ السَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ بَحْرِ عَالَمِ الظُّلُمَاتِ وَمَرْكَزِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَمَعْدِنِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ وَمَوْضِعِ التَّغْيِيرَاتِ وَالتَّبْدِيلَاتِ، وَأَمَّا الْكَرَامَةُ بِالْوُصُولِ إِلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ الْمُجَرَّدَاتِ الْمُقَدَّسَاتِ وَالْوُصُولِ إِلَى فُسْحَةِ عَالَمِ الْأَنْوَارِ وَالتَّرَقِّي إِلَى مَعَارِجِ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ تَكْثِيرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ طَافِحٌ بِإِشَارَاتِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ بَعِيدٌ مِنْ مَنَاهِجِ الْمُتَشَرِّعِينَ وَعَنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى فِي غَيْرِ مَظَانِّهِ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ يُغْرِي مَنْصُورَ الْمُوَحِّدِينَ بِأَهْلِ الْفَلْسَفَةِ مِنْ قَصِيدَةٍ: وَحَرِّقْ كُتْبَهُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا ... فَفِيهَا كَامِنٌ شَرُّ الْعُلُومِ يَدُبُّ إِلَى الْعَقَائِدِ مِنْ أَذَاهَا ... سُمُومٌ وَالْعَقَائِدُ كَالْجُسُومِ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: السَّلَامُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَمْعُهُ سَلَامَةٌ وَمَصْدَرٌ وَاسْمُ شَجَرٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَصْدَرٌ لِسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَسَلَامًا كَالسَّرَاحِ مِنْ سَرَّحَ وَالْأَدَاءِ مِنْ أَدَّى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: أُمِرَ بِابْتِدَاءِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَشْرِيفًا لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أُمِرَ بِإِبْلَاغِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى السَّلَامِ هُنَا الدُّعَاءُ مِنَ الْآفَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: السَّلَامُ وَالتَّحِيَّةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَمَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْكُمْ حَيَّاكُمُ اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِتَبْلِيغِ سَلَامِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِأَنْ يَبْدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ إِكْرَامًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ انْتَهَى. وَتَرْدِيدُهُ إِمَّا وَإِمَّا الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَالثَّانِي قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَازَ فِيهَا الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ إِذْ قَدْ تَخَصَّصَتْ انْتَهَى. وَالتَّخْصِيصُ الَّذِي يَعْنِيهِ النُّحَاةُ فِي النَّكِرَةِ الَّتِي يُبْتَدَأُ بِهَا هُوَ أَنْ يتخصص بِالْوَصْفِ أَوِ الْعَمَلِ أَوِ الإضافة، وسلام لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ وَقَدْ رَامَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَجْعَلَ جَوَازَ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ رَاجِعًا إِلَى التَّخْصِيصِ وَالتَّعْمِيمِ وَالَّذِي

يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِذْ قَدْ تَخَصَّصَتْ أَيِ اسْتُعْمِلَتْ، فِي الدُّعَاءِ فَلَمْ تَبْقَ النَّكِرَةُ عَلَى مُطْلَقِ مَدْلُولِهَا الْوَصْفِيِّ إِذْ قَدِ اسْتُعْمِلَتْ يُرَادُ بِهَا أَحَدُ مَا تَحْتَمِلُهُ النَّكِرَةُ. كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَيْ أَوْجَبَهَا وَالْبَارِئُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عَقْلًا إِلَّا إِذَا أَعْلَمَنَا أَنَّهُ حَتَمَ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبٌ. وَقِيلَ: كَتَبَ وَعَدَ وَالْكَتْبُ هُنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: فِي كِتَابٍ غَيْرِهِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَأْمُورٌ بِقَوْلِهَا تَبْشِيرًا لَهُمْ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَتَفْرِيحًا لِقُلُوبِهِمْ. أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ السُّوءُ: قِيلَ: الشِّرْكُ. وَقِيلَ الْمَعَاصِي، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ عَمَلِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ وَأَصْلَحَ شَرَطَ اسْتِدَامَةَ الْإِصْلَاحِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ فَالْأُولَى بَدَلٌ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالثَّانِيَةُ خبر مبتدأ محذوف تقديره فَأَمْرُهُ أَنَّهُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُ، وَوَهِمَ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ فَأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أَنَّهُ وَتَكْرِيرٌ لَهَا لِطُولِ الْكَلَامِ وَهَذَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَهْمٌ، لِأَنَّ مَنْ مُبْتَدَأٌ سَوَاءٌ كَانَ مَوْصُولًا أَوْ شَرْطًا فَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا بَقِيَ بِلَا خَبَرٍ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا بَقِيَ بِلَا جَوَابٍ. وَقِيلَ: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عَمِلَ. وَقِيلَ: فَإِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنَّهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِدُخُولِ الْفَاءِ فِيهِ وَلِخُلُوِّ مَنْ مِنْ خَبَرٍ أَوْ جَوَابٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْأَخَوَانِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا الْأُولَى عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ لِلرَّحْمَةِ وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ أَوِ الْجَوَابِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِفَتْحِ الْأُولَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَيْضًا، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِكَسْرِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ حَكَاهَا الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ الْأَعْرَجِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْهُ مِثْلَ قِرَاءَةِ نَافِعٍ. وَقَالَ الدَّانِي: قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ ضِدُّ قراءة نافع وبِجَهالَةٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ وَهُوَ جَاهِلٌ وَمَا أَحْسَنَ مَسَاقَ هَذَا الْمَقُولِ أَمَرَهُ أَوَّلًا أَنْ يَقُولَ لِلْمُؤْمِنِينَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالسَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ لِمَنْ آمَنَ ثُمَّ خَاطَبَهُمْ ثَانِيًا بِوُجُوبِ الرَّحْمَةِ وَأَسْنَدَ الْكِتَابَةَ إِلَى رَبِّهِمْ أَيْ كَتَبَ النَّاظِرُ لَكُمْ فِي مَصَالِحِكُمْ وَالَّذِي يُرَبِّيكُمْ وَيَمْلِكُكُمُ الرَّحْمَةَ فَهَذَا تَبْشِيرٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهَا شَيْئًا خَاصًّا وَهُوَ غُفْرَانُهُ وَرَحْمَتُهُ لِمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ،

_ (1) سورة النساء: 4/ 17.

وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَأَنَّ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لكتب أَيْ لِأَجْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاكُمْ لَمْ يُبْعِدْ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّحْمَةَ مَفْعُولُ كَتَبَ وَاسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «1» أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تُنَافِي ذَلِكَ وَتُنَافِي تَعْذِيبَهُ أَبَدَ الْآبَادِ. وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْبَيِّنِ نُفَصِّلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَنُلَخِّصُهَا فِي صِفَةِ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ مَنْ هُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى قَلْبِهِ لَا يُرْجَى إِسْلَامُهُ وَمَنْ تَرَى فِيهِ أَمَارَةَ الْقَبُولِ وَهُوَ الَّذِي يَخَافُ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ حُدُودَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا فَصَّلْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ دليل عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ نُفَصِّلُ لَكَ دَلِيلَنَا وَحُجَجَنَا فِي تَقْرِيرِ كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ نُفَصِّلُ لَكُمْ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: مَعْنَاهُ كَمَا بَيَّنَّا لِلشَّاكِرِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَفْصِيلُهَا إِتْيَانُهَا مُتَفَرِّقَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ: الْفَصْلُ بَوْنُ مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُلْتَبِسَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَانِ فَسَادِ مَنْزَعِ الْمُعَارِضِينَ لِذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ تَبْيِينُهَا وَشَرْحُهَا وَإِظْهَارُهَا انْتَهَى. وَاسْتَبَانَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا وَتَمِيمٌ وَأَهْلُ نَجْدٍ يُذَكِّرُونَ السَّبِيلَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَهَا. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَلِتَسْتَبِينَ بِالتَّاءِ سَبِيلُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَلِيَسْتَبِينَ بِالْيَاءِ سَبِيلُ بِالرَّفْعِ فَاسْتَبَانَ هُنَا لَازِمَةٌ أَيْ وَلِتَظْهَرَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَلِتَسْتَبِينَ بِتَاءِ الْخِطَابِ سَبِيلُ بِالنَّصْبِ فَاسْتَبَانَ هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ. فَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ لَهُ ظَاهِرًا وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْتَبَانَهَا وَخُصَّ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنِ اسْتِبَانَتِهَا اسْتِبَانَةُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: خُصَّ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَثَارُوا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَهُمْ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا آيَاتُ رَدٍّ عَلَيْهِمْ، وَظَاهِرُ الْمُجْرِمِينَ الْعُمُومُ وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ زَيْدٍ عَلَى أنه عنى بالمجرمين الآمرون بِطَرْدِ الضَّعَفَةِ وَاللَّامُ فِي وَلِتَسْتَبِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُتَأَخِّرٍ أَيْ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فَصَّلْنَاهَا لكم أو قبلها

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 54.

عِلَّةٌ مَحْذُوفَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ التَّقْدِيرُ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ولتستبين. وقال الزمخشري: لنستوضح سَبِيلَهُمْ فَتُعَامِلَ كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ فَصَّلْنَا ذَلِكَ التَّفْصِيلَ. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُجَاهِرَهُمْ بِالتَّبَرِّي مِنْ عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَفْصِيلَ الْآيَاتِ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُبْطِلِ مِنَ الْمُحِقِّ نَهَاهُ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ وَمَعْنَى نُهِيتُ زُجِرْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَا رَكَّبَ فِيَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَبِمَا أُوتِيتُ مِنْ أَدِلَّةِ السمع والذين يدعون هم الْأَصْنَامُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالَّذِينِ عَلَى زَعْمِ الْكُفَّارِ حِينَ أَنْزَلُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ وتَدْعُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ تَعْبُدُونَ. وَقِيلَ: تُسَمُّونَهُمْ آلِهَةً مِنْ دَعَوْتُ وَلَدِي زَيْدًا سَمَّيْتُهُ. وَقِيلَ: تَدْعُونَ فِي أُمُورِكُمْ وَحَوَائِجِكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِجْهَالٌ لَهُمْ وَوَصْفٌ بِالِاقْتِحَامِ فِيمَا كَانُوا مِنْهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، وَلَفْظَةُ نُهِيتُ أبلغ من النفي بلا أَعْبُدَ إِذْ فِيهِ وُرُودُ تَكْلِيفٍ. قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أَيْ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَلَمَّا كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ مُخْتَلِفَةً كَانَ لِكُلِّ عَابِدِ صَنَمُ هَوًى يَخُصُّهُ فَلِذَلِكَ جُمِعَ، وأَهْواءَكُمْ عَامٌّ وَغَالِبُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْخَيْرِ وَيَعُمُّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِحَقٍّ وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَأَنَصُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ أَهْواءَكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ الضَّلَالُ وَتَنْبِيهٌ لِمَنْ أَرَادَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ وَمُجَانَبَةَ الْبَاطِلِ كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَى فَمَنْ عَلَا ... عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجَا قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ الْمَعْنَى إِنِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ ضَلَلْتُ وَمَا اهْتَدَيْتُ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ قَدْ ضَلَلْتُ وَجَاءَتْ تِلْكَ فِعْلِيَّةً لِتَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَهَذِهِ اسْمِيَّةٌ لِتَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ فَحَصَلَ نَفْيُ تَجَدُّدِ الضَّلَالِ وَثُبُوتِهِ وَجَاءَتْ رَأْسَ آيَةٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ ضَلَلْتُ بِكَسْرِ فَتْحَةِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَفِي التَّحْرِيرِ قَرَأَ يَحْيَى وَابْنُ أبي ليلى هنا في السَّجْدَةِ فِي أَئِذَا صَلَلْنَا بِالصَّادِّ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ وَيُقَالُ صَلَّ اللَّحْمُ أَنْتَنَ وَيُرْوَى ضللنا أي دفنا في الضلة وَهِيَ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ الْفُرَاتِ فِي كِتَابِ الشواذ له. قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ عَلَى شَرِيعَةٍ وَاضِحَةٍ وَمِلَّةٍ صَحِيحَةٍ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَةُ هِيَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي تُبَيِّنُ صِدْقِي وَهِيَ الْقُرْآنُ، قَالُوا:

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّاءُ فِي بَيِّنَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمَعْنَى عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْهَوَى نَبَّهَ عَلَى مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ الْوَاضِحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَّبْتُمْ بِهِ إِخْبَارٌ مِنْهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهِ وَالظَّاهِرُ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّهِ أَيْ وَكَذَّبْتُمْ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى بَيِّنَةٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ. وَقِيلَ: عَلَى الْبَيَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ بَيِّنَةٍ. وَقِيلَ: عَلَى الْقُرْآنِ. مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوا بِهِ قِيلَ الْآيَاتُ الْمُقْتَرَحَةُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: الْعَذَابُ وَرُجِّحَ بِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِلْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْجِلُوا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَبِأَنَّ لَفْظَ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يَتَضَمَّنُ أَنَّكُمْ وَاقَعْتُمْ مَا أَنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الْعَذَابَ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ فِي قَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» . إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَيِ الْحُكْمُ لِلَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِإِيجَابِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقِيلَ: الْقَضَاءُ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ وَفِيهِ التَّفْوِيضُ الْعَامُّ لِلَّهِ تَعَالَى. يَقْضِي الْحَقَّ هِيَ قِرَاءَةُ الْعَرَبِيَّيْنِ وَالْأَخَوَيْنِ أَيْ يَقْضِي الْقَضَاءَ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي فِيهِ مِنْ تَأْخِيرٍ أَوْ تَعْجِيلٍ، وَضَمَّنَ بَعْضُهُمْ يَقْضِي مَعْنَى يُنْفِذُ فَعَدَّاهُ إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ. وَقِيلَ: يَقْضِي بِمَعْنَى يَصْنَعُ أَيْ كُلُّ مَا يَصْنَعُهُ فَهُوَ حَقٌّ قَالَ الْهُذَلِيُّ: وَعَلَيْهِمَا مَسْدُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنِعُ السَّوَابِغَ تُبَّعُ أَيْ صَنَعَهُمَا وَقِيلَ حُذِفَ الْبَاءُ وَالْأَصْلُ بِالْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ وَابْنِ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيِّ وَطَلْحَةَ وَالْأَعْمَشِ يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خَطًّا لِسُقُوطِهَا لَفْظًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ. وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَرَمِيَّانِ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ الْحَقَّ مِنْ قَصَّ الْحَدِيثَ كَقَوْلِهِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ «2» أَوْ مِنْ قَّصَ الْأَثَرَ أَيِ اتَّبَعَهُ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ سُئِلَ أَهْوَ يَقُصُّ الْحَقَّ أَوْ يَقْضِي الْحَقَّ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ يَقُصُّ لَقَالَ وَهُوَ خَيْرُ الْقَاصِّينَ أَقَرَأَ أَحَدٌ بِهَذَا وَحَيْثُ قَالَ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْفَصْلُ فِي الْقَضَاءِ انْتَهَى. وَلَمْ يَبْلُغْ أَبَا عَمْرٍو أَنَّهُ قُرِئَ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَقَرَأَ بِهَا أَحَدٌ وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ، فَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي القول قال

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 32. (2) سورة يوسف: 12/ 3. [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 إلى 73]

تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ «1» وَقَالَ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ «2» ، وَقَالَ: نُفَصِّلُ الْآياتِ «3» فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْفَاصِلِينَ أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا ليقضي وخَيْرُ هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى بَابِهَا. وَقِيلَ: لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا لِأَنَّ قَضَاءَهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُ قَضَاءً وَلَا يَفْصِلُ كَفَصْلِهِ أَحَدٌ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَابِهَا. قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ لَوْ كَانَ فِي قُدْرَتِي الْوُصُولُ إِلَى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ أَوْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ لَبَادَرْتُ إِلَيْهِ وَوَقَعَ الِانْفِصَالُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ لَقَامَتِ الْقِيَامَةُ وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى لَذُبِحَ الْمَوْتُ لَا يَصِحُّ وَلَا لَهُ هُنَا مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لأهلكنكم عَاجِلًا غَضَبًا لِرَبِّي وَامْتِعَاضًا مِنْ تَكْذِيبِكُمْ بِهِ وَلَتَخَلَّصْتُ مِنْكُمْ سَرِيعًا انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ أمهلكم ساعة ولأهلكنكم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ الْمُشْعِرُ بِوَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ وَمَعْنَى أَعْلَمُ بِهِمْ أَيْ بِمُجَازَاتِهِمْ فَفِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ. وَقِيلَ: بِتَوْقِيتِ عِقَابِهِمْ وَقِيلَ: بما آل أَمْرِهِمْ مِنْ هِدَايَةِ بَعْضٍ وَاسْتِمْرَارِ بَعْضٍ. وَقِيلَ: بِمَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ وَبِمَنْ يُمْهَلُ. وَقِيلَ: بِمَا تَقْتَضِيهِ الحكمة من عذابهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 73] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

_ (1) سورة الطارق: 86/ 13. (2) سورة هود: 11/ 1. (3) سورة الأنعام: 6/ 55 وغيرها.

السُّقُوطُ: الْوُقُوعُ مِنْ عُلُوٍّ. الْوَرَقَةُ: وَاحِدَةُ الْوَرَقِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْكَاغِدِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ مَعْرُوفَانِ يُقَالُ رَطْبٌ فَهُوَ رَطِبٌ وَرَطِيبٌ وَيَبِسٌ وَيَبِيسٌ، وَشَذَّ فِيهِ يَبِسٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ. الْكَرْبُ الْغَمُّ يَأْخُذُ بالنفس كربت الرَّجُلُ فَهُوَ مَكْرُوبٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَكْرُوبٌ كَشَفْتُ الْكَرْبَ عَنْهُ ... بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي الشِّيعَةُ: الْفِرْقَةُ تَتْبَعُ الْأُخْرَى وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْيَاعٍ، وَشَيَّعْتُ فُلَانًا اتَّبَعْتُهُ وَتَقُولُ: الْعَرَبُ

شَاعَكُمُ السَّلَامُ أَيِ اتَّبَعَكُمْ وأشاعكم الله السلم أَيْ أَتْبَعَكُمْ. الْإِبْسَالُ: تَسْلِيمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ وَيُقَالُ أَبْسَلْتُ وَلَدِي أَرْهَنْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِبْسَالِي بُنَيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقٍ بَعَوْنَاهُ جَنَيْنَاهُ وَالْبَعْوُ الْجِنَايَةُ. الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ. الْحَيْرَةُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَخْرَجٍ مِنْهُ وَمِنْهُ تَحَيَّرَ الْمَاءُ فِي الْغَيْمِ يُقَالُ حَارَ يَحَارُ حَيْرَةً وَحَيْرًا وَحَيَرَانًا وَحَيْرُورَةً. الصُّورُ: جَمْعُ صُورَةٍ وَالصُّورُ الْقَرْنُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ: نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ ... بِالشَّامِخَاتِ فِي غُبَارَ النَّقْعَيْنِ نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وقال هو أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ انْتَقَلَ مِنْ خَاصٍّ إِلَى عَامٍّ وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ بِجَمِيعِ الأمور الغيبية، واستعارة لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهَا الْمَفَاتِحَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ فَانْدَرَجَ فِي هَذَا الْعَامِّ مَا اسْتَعْجَلُوا وُقُوعَهُ وَغَيْرُهُ. وَالْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ بكسر الميم وهي الآية الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا مَا أُغْلِقَ. قَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: وَمِفْتَحٌ أَفْصَحُ مِنْ مِفْتَاحٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِفْتَاحٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ لَا يُؤْتَى فِيهِ بِالْيَاءِ قَالُوا: مَصَابِحُ ومحارب وقراقر في جميع مِصْبَاحٍ وَقُرْقُورٍ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: مَفَاتِيحُ بِالْيَاءِ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِفْتَاحُ الْغَيْبِ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقِيلَ: جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيَكُونُ لِلْمَكَانِ أَيْ أَمَاكِنُ الْغَيْبِ وَمَوَاضِعُهَا يَفْتَحُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهَا خَزَائِنُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: خَزَائِنُ الْغَيْبِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» ، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: مَفاتِحُ الْغَيْبِ الْأُمُورُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْغَائِبِ فَتُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ مِنْ قَوْلِكَ: فَتَحْتُ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا عَرَّفْتَهُ مَا نَسِيَ. وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهَا خَزَائِنُ غيب السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْأَقْدَارِ وَالْأَرْزَاقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا غَابَ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَصْلَةُ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ إِذَا اسْتُعْلِمَ. وَقِيلَ: عَوَاقِبُ الْأَعْمَارِ وَخَوَاتِيمُ الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ هَلْ يَكُونُ أَمْ لَا يَكُونُ؟ وَمَا يَكُونُ كَيْفَ يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ إِنْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ؟ ولا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ حَصَرَ أنه لا يعلم

_ (1) سورة لقمان: 31/ 34.

تِلْكَ الْمَفَاتِحَ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ تَعَالَى، وَلَقَدْ يَظْهَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبَةِ إِلَى الصُّوفِ أَشْيَاءُ مِنِ ادِّعَاءِ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عِلْمِ عَوَاقِبِ أَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَقْطُوعٌ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ بِهَا يخبرون بذلك على رؤوس الْمَنَابِرِ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ هَذَا مَعَ خُلُوِّهِمْ عَنِ الْعُلُومِ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَنْ زَعَمَ أَنْ مُحَمَّدًا يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «1» وَقَدْ كَثُرَتْ هَذِهِ الدَّعَاوَى وَالْخُرَافَاتُ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَقَامَ بِهَا نَاسٌ صِبْيَانُ الْعُقُولِ يُسَمَّوْنَ بِالشُّيُوخِ عَجَزُوا عَنْ مَدَارِكِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَأَعْيَاهُمْ طِلَابُ الْعُلُومِ: فَارْتَمَوْا يَدَّعُونَ أَمْرًا عَظِيمًا ... لَمْ يَكُنْ لِلْخَلِيلِ لَا وَالْكَلِيمِ بَيْنَمَا الْمَرْءُ مِنْهُمُ فِي انْسِفَالٍ ... أَبْصَرَ اللَّوْحَ مَا بِهِ مِنْ رُقُومِ فَجَنَى الْعِلْمَ مِنْهُ غَضًّا طَرِيًّا ... وَدَرَى مَا يَكُونُ قَبْلَ الْهُجُومِ إِنَّ عَقْلِي لَفِي عِقَالٍ إِذَا مَا ... أَنَا صَدَّقْتُ بِافْتِرَاءٍ عَظِيمِ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَمَّا كَانَ ذِكْرُهُ تَعَالَى مَفاتِحُ الْغَيْبِ أَمْرًا مَعْقُولًا أَخْبَرَ تَعَالَى بِاسْتِئْثَارِهِ بِعِلْمِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِهِ ذَكَرَ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْمَحْسُوسِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ ثُمَّ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِالْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ، فَتَحَصَّلَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مُسْتَأْثِرٌ بِعِلْمِهِ وَمَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ وَقَدَّمَ الْبَرِّ لِكَثْرَةِ مُشَاهَدَتِنَا لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي إِلَى مَا هُوَ أَعْجَبُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانَاتِ أَعْجَبُ وَطُولُهُ وَعَرْضُهُ أَعْظَمُ وَالْبَرُّ مُقَابِلُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْبَرِّ الْقِفَارُ وَالْبَحْرِ الْمَعْرُوفُ فَالْمَعْنَى وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ مِنْ نَبَاتٍ وَدَوَابَّ وَأَحْجَارٍ وَأَمْدَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَوَاهِرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرِّ الْأَرْضُ الْقِفَارُ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ وَالْبَحْرِ كُلُّ قَرْيَةٍ وَمَوْضِعٍ فِيهِ الْمَاءُ. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِنَا وَبِمَا أُعِدَّ لِمَصَالِحِنَا مِنْ مَنَافِعِهِمَا وَخُصَّا بِالذِّكْرِ لأنهما أعظم مخلوق يجاوزنا. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مِنْ زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ جِنْسِ الْوَرَقَةِ ويَعْلَمُها

_ (1) سورة النمل: 27/ 65.

مُطْلَقًا قَبْلَ السُّقُوطِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْلَمُها سَاقِطَةً وَثَابِتَةً كَمَا تَقُولُ: مَا يَجِيئُكَ أَحَدٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُهُ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ فِي حَالِ مَجِيئِهِ فَقَطْ. وَقِيلَ: يَعْلَمُ مَتَى تَسْقُطُ وَأَيْنَ تَسْقُطُ وَكَمْ تَدُورُ فِي الْهَوَاءِ. وَقِيلَ: يَعْلَمُهَا كَيْفَ انْقَلَبَتْ ظَهْرًا لِبَطْنٍ إِلَى أَنْ وَقَعَتْ عَلَى الأرض، ويَعْلَمُها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ وَرَقَةٍ وَهِيَ حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ. كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلَّا رَاكِبًا. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ قِيلَ: تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: تَحْتَ التُّرَابِ. وَقِيلَ: الْحَبُّ الَّذِي يُزْرَعُ يُخْفِيهَا الزُّرَّاعُ تَحْتَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: تَحْتَ الصَّخْرَةِ فِي أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ. وَقِيلَ: وَلَا حَبَّةٍ إِلَّا يَعْلَمُ مَتَى تَنْبُتُ وَمَنْ يَأْكُلُهَا، وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ بَدَأَ أَوَّلًا بِأَمْرٍ مَعْقُولٍ لَا نُدْرِكُهُ نَحْنُ بِالْحِسِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ثُمَّ ثَانِيًا بِأَمْرٍ نُدْرِكُ كَثِيرًا مِنْهُ بالحس وهو يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَفِيهِ عُمُومٌ ثُمَّ ثَالِثًا بجزأين لَطِيفَيْنِ أَحَدُهُمَا عُلْوِيٌّ وَهُوَ سُقُوطُ وَرَقَةٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَالثَّانِي سُفْلِيٌّ وَهُوَ اخْتِفَاءُ حَبَّةٍ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْجُمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا الْجُزْئِيَّاتِ حَتَّى هُوَ لَا يَعْلَمُ ذَاتَهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ وَصْفَانِ مَعْرُوفَانِ وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ فِي الْمُتَّصِفِ بِهِمَا، وَقَدْ مَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِمَثَلٍ. فَقِيلَ: مَا يَنْبُتُ وَمَا لَا يَنْبُتُ. وَقِيلَ: لِسَانُ الْمُؤْمِنِ وَلِسَانُ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: الْعَيْنُ الْبَاكِيَةُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْعَيْنُ الْجَامِدَةُ لِلْقَسْوَةِ، وَأَمَّا مَا حَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّ الْوَرَقَةَ هِيَ السَّقْطُ مِنْ أَوْلَادِ بَنِي آدَمَ وَالْحَبَّةَ يُرَادُ بِهَا الَّذِي لَيْسَ بِسَقْطٍ، وَالرَّطْبَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَيُّ وَالْيَابِسَ يُرَادُ بِهِ الْمَيِّتُ فَلَا يَصِحُّ عَنْ جَعْفَرٍ وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ فِي كِتابٍ مُبِينٍ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الْمُتَيَقَّنِ وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ جَارٍ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا حَبَّةٍ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ وَرَقَةٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهَا كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ وَلَا امْرَأَةٍ، فَالْمَعْنَى إِلَّا أَكْرَمْتُهَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أُعِيدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ السميفع وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَعْطُوفَيْنِ عَلَى مَوْضِعِ مِنْ وَرَقَةٍ وَيُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ إِلَّا فِي كِتابٍ

مُبِينٍ. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ اسْتِئْثَارَهُ بِالْعِلْمِ التَّامِّ لِلْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ ذَكَرَ اسْتِئْثَارَهُ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا تَخْتَصُّ بِهِ الْإِلَهِيَّةُ وَذَكَرَ شَيْئًا مَحْسُوسًا قَاهِرًا لِلْأَنَامِ وَهُوَ التَّوَفِّي بِاللَّيْلِ وَالْبَعْثُ بِالنَّهَارِ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ قُدْرَةٌ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يُوقِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْسَانِ وَالتَّوَفِّي عِبَارَةٌ فِي الْعُرْفِ عَنِ الْمَوْتِ وَهُنَا الْمَعْنَى بِهِ النَّوْمُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِلْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ وَهِيَ زَوَالُ إِحْسَاسِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفِكْرِهِ. وَلَمَّا كَانَ التَّوَفِّي الْمُرَادُ بِهِ النَّوْمُ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ أَسْنَدَهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَمَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَوْتِ مُؤْلِمًا قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «1» وتَوَفَّتْهُ رُسُلُنا تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «2» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْكَفَرَةِ وَخُصَّ اللَّيْلُ بِالنَّوْمِ وَالْبَعْثُ بِالنَّهَارِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُنَامُ بِالنَّهَارِ وَيُبْعَثُ بِاللَّيْلِ حَمْلًا عَلَى الْغَالِبِ، وَمَعْنَى جَرَحْتُمْ كَسَبْتُمْ وَمِنْهُ جَوَارِحُ الطَّيْرِ أَيْ كَوَاسِبُهَا وَاجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ اكْتَسَبُوهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَعْضَاءِ جَوَارِحُ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون مِنَ الْجَرْحِ كَأَنَّ الذَّنْبَ جُرْحٌ فِي الدِّينِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: أَصْلُ الِاجْتِرَاحِ عَمَلُ الرَّجُلِ بِجَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ مُكْتَسِبٍ مُجْتَرِحٌ وَجَارِحٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا جَرَحْتُمْ الْعُمُومُ فِي الْمُكْتَسَبِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْآثَامِ انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقال قَتَادَةُ: مَا عَمِلْتُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا كَسَبْتُمْ وَالْبَعْثُ هُنَا هُوَ التَّنَبُّهُ مِنَ النَّوْمِ وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ على بِالنَّهارِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، عَادَ عَلَيْهِ لَفْظًا وَالْمَعْنَى فِي يَوْمٍ آخَرَ كَمَا تَقُولُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ يَعُودُ عَلَى التَّوَفِّي أَيْ يُوقِظُكُمْ فِي التَّوَفِّي أَيْ فِي خِلَالِهِ وَتَضَاعِيفِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّيْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ مِنَ الْقُبُورِ فِي شَأْنِ ذَلِكَ الَّذِي قَطَعْتُمْ بِهِ أَعْمَارَكُمْ مِنَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَكَسْبِ الْآثَامِ بِالنَّهَارِ، وَمِنْ أَجْلِهِ، كَقَوْلِكَ: فِيمَ دَعَوْتَنِي فَتَقُولُ: فِي أَمْرِ كَذَا انْتَهَى. وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ يَنْبُو عَنْهُ قَوْلُهُ: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحْيِيهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ لِيَسْتَوْفُوا مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ الآجال والأعمار الْمَكْتُوبَةِ، وَقَضَاءُ الْأَجَلِ فَصْلُ مُدَّةِ الْعُمُرِ مِنْ غَيْرِهَا وَمُسَمًّى فِي عِلْمِ اللَّهِ أو في

_ (1) سورة السجدة: 32/ 11. (2) سورة النحل: 16/ 28، 32.

اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ عِنْدَ تَكَامُلِ الْخَلْقِ وَنَفْخِ الرُّوحِ، فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ عِنْدَ كَمَالِ ذَلِكَ. فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ الْأَجَلُ الَّذِي سَمَّاهُ وَضَرَبَهُ لِبَعْثِ الْمَوْتَى وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ هُوَ الْمَرْجِعُ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي لَيْلِكُمْ وَنَهَارِكُمْ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَابْنِ جُبَيْرٍ: مَرْجِعُكُمْ بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَأَنَّ حُكْمَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فَكَمَا أَنَامَ وَأَيْقَظَ يُمِيتُ وَيُحْيِي. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ لِيَقْضِيَ أَجَلًا مُسَمًّى بَنَى الْفِعْلَ لِلْفَاعِلِ وَنَصَبَ أَجَلًا أَيْ لِيُتِمَّ اللَّهُ آجَالَهُمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «1» وفي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ ضَمِيرَهُ أَوْ ضَمِيرَهُمْ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. قَالَ هُنَا ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقاهِرُ إِنْ أَخَذَ صِفَةَ فِعْلٍ أَيْ مُظْهِرُ الْقَهْرِ بِالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ وَالْعَذَابِ، فَيَصِحُّ أَنَّ تُجْعَلَ فَوْقَ ظَرْفِيَّةً لِلْجِهَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَعَاهُدُهَا لِلْعِبَادِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَإِنْ أَخَذَ الْقاهِرُ صِفَةَ ذَاتٍ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَفَوْقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِهَةِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعُلُوِّ الْقَدْرِ وَالشَّأْنِ، كَمَا تَقُولُ: الْيَاقُوتُ فَوْقَ الْحَدِيدِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ وَيُرْسِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَهُوَ الْقاهِرُ عَطْفَ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَهِيَ مِنْ آثَارِ الْقَهْرِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: يَتَوَفَّاكُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْقاهِرُ التَّقْدِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَقْهَرُ وَيُرْسِلُ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ وَهُوَ يُرْسِلُ وَذُو الْحَالِ إِمَّا الضَّمِيرُ فِي الْقاهِرُ وَإِمَّا الضَّمِيرُ فِي الظَّرْفِ وَهَذَا أضعف هذه الأعاريب، وَعَلَيْكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِيُرْسِلُ كَقَوْلِهِ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ «2» وَلَفْظَةُ عَلَى مُشْعِرَةٌ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِعْلَاءِ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَّا جُعِلُوا كَأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بحفظة أَيْ وَيُرْسِلُ حَفَظَةً عَلَيْكُمْ أَيْ يَحْفَظُونَ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ، كَمَا قَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ «3» كَمَا تَقُولُ: حَفِظْتُ عَلَيْكَ مَا تَعْمَلُ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا لِأَنَّهُ لو يتأخر لَكَانَ صِفَةً أَيْ حَفَظَةً كَائِنَةً عَلَيْكُمْ أَيْ مُسْتَوْلِينَ عليكم وحَفَظَةً جَمْعُ حَافِظٍ وَهُوَ جَمْعٌ مُنْقَاسٌ لِفَاعِلٍ وَصْفًا مُذَكَّرًا صَحِيحَ اللَّامِ عَاقِلًا وَقَلَّ فِيمَا لَا يَعْقِلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَلَائِكَةً حَافِظِينَ لِأَعْمَالِكُمْ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المراد بذلك

_ (1) سورة القصص: 28/ 29. (2) سورة الرحمن: 55/ 35. (3) سورة الانفطار: 82/ 10.

الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِكَتْبِ الْأَعْمَالِ انْتَهَى. وَمَا قَالَاهُ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْجَمْعِ أَنَّهُ مُقَابِلُ الْجَمْعِ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِعَدَدِ مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَا لِمَا يَحْفَظُونَ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَلَكَانِ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ لِلْحَسَنَاتِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ لِلسَّيِّئَاتِ وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ: انْتَظِرْهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا فَإِنْ لَمْ يَتُبْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ أَحَدُهُمَا يَكْتُبُ الْخَيْرَ وَالْآخَرُ يَكْتُبُ الشَّرَّ، فَإِذَا مَشَى كَانَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْآخَرُ وَرَاءَهُ وَإِذَا جَلَسَ فَأَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ. وَقِيلَ: خَمْسَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اثْنَانِ بِاللَّيْلِ وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، وَوَاحِدٌ لَا يُفَارِقُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَالْمَكْتُوبُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ. وَقِيلَ: الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتُ. وَقِيلَ: لَا يَطَّلِعُونَ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِقَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «1» وَلِقَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ «2» وَأَمَّا أَعْمَالُ الْقُلُوبِ فَعِلْمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَطَّلِعُونَ عَلَيْهَا عَلَى الْإِجْمَالِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِذَا عَقَدَ سَيِّئَةً خَرَجَتْ مِنْ فِيهِ رِيحٌ خَبِيثَةٌ أَوْ حَسَنَةً خَرَجَتْ رِيحٌ طَيِّبَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : اللَّهُ غَنِيٌّ بِعِلْمِهِ عَنْ كَتْبِ الْكَتَبَةِ فَمَا فَائِدَتُهَا؟ (قُلْتُ) : فِيهَا لُطْفٌ لِلْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ، وَالْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ خَلْقِهِ مُوَكَّلُونَ بِهِمْ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صَحَائِفَ تُعْرَضُ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، كَانَ ذَلِكَ أَزْجَرَ لَهُمْ عَنِ الْقَبِيحِ وَأَبْعَدَ مِنَ السُّوءِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ خَلْقِهِ هُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَلَا تَتَعَيَّنُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ فِيهَا أَنْ تُوزَنَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ وَزْنَ الْأَعْمَالِ بِمُجَرَّدِهَا لَا يُمْكِنُ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ جَارِيَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَتَأَوَّلُوا الْوَزْنَ وَالْمِيزَانَ وَلَا يُشْعِرُ قَوْلُهُ: حَفَظَةً أَنَّ ذَلِكَ الْحِفْظَ بِالْكِتَابَةِ كَمَا فَسَّرُوا بَلْ قَدْ قِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الذي قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَتَعَاقَبُ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ» قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: يَحْفَظُونَ الْإِنْسَانَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَ أَجْلُهُ. حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أَيْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ تَوَفَّتْهُ قَبَضَتْ رُوحَهُ رُسُلُنا جَاءَ جَمْعًا. فَقِيلَ: عَنَى بِهِ مَلَكَ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْجَمْعَ تَعْظِيمًا. وَقِيلَ: مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ رُسُلُنا عَيْنُ الْحَفَظَةِ يَحْفَظُونَهُمْ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، وَعِنْدَ مَجِيءِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ:

_ (1) سورة ق: 50/ 18. (2) سورة الانفطار: 82/ 12.

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «1» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «2» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا لِأَنَّ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ وَلِغَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَلِمَلَكِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ لِأَعْوَانِهِ وَلَهُ وَلَهُمْ بِكَوْنِهِمْ هُمُ الْمُتَوَلُّونَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ جُعِلَتِ الْأَرْضُ لَهُ كَالطَّسْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْهُ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: تَوَفَّاهُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ كَتَوَفَّتْهُ إِلَّا أَنَّهُ ذُكِّرَ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَمَنْ قَرَأَ تَوَفَّتْهُ أَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا وَأَصْلُهُ تَتَوَفَّاهُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَتَوَفَّاهُ بِزِيَادَةِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ عَلَى التَّذْكِيرِ. وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْعَامِلُ فِيهَا تَوَفَّتْهُ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْحِفْظِ وَالتَّوَفِّي وَمَعْنَاهُ: لَا يُقَصِّرُونَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ لَا يُفَرِّطُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ لَا يُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَالتَّفْرِيطُ التَّوَلِّي وَالتَّأَخُّرُ عَنِ الْحَدِّ وَالْإِفْرَاطُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ وَلَا يَزِيدُونَ فِيهِ انْتَهَى، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ جِنِّيٍّ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: يُفَرِّطُونَ لَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَفْرُطُ عَنْهُمْ أَيْ يَسْبِقُهُمْ وَيَفُوتُهُمْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ مَعْنَاهَا لَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا نُقِلَ أَنَّ أَفْرَطَ بِمَعْنَى فَرَّطَ أَيْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا احْتُضِرَ الْمَيِّتُ احْتَضَرَهُ خَمْسُمِائَةِ مَلِكٍ يَقْبِضُونَ رُوحَهُ فَيَعْرُجُونَ بِهَا. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْعِبَادِ، وَجَاءَ عَلَيْكُمْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِمَا فِي الْخِطَابِ مِنَ تَقْرِيبِ الْمَوْعِظَةِ مِنَ السَّامِعِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي رُدُّوا عَلَى أَحَدِكُمْ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِ أَحَدَكُمُ ظَاهِرَهُ مِنَ الْإِفْرَادِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى إِذَا جَاءَكُمُ الْمَوْتُ، وَقُرِئَ رُدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ نُقِلَ حَرَكَةُ الدَّالِ الَّتِي أُدْغِمَتْ إِلَى الرَّاءِ وَالرَّادُّ الْمُحَذَّرُ مِنَ اللَّهِ أَوْ بِالْبَعْثِ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الْمَلَائِكَةُ رَدَّتْهُمْ بِالْمَوْتِ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى رُسُلُنا أَيِ الْمَلَائِكَةُ يَمُوتُونَ كَمَا يَمُوتُ بَنُو آدَمَ وَيُرَدُّونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْدُهُ عَلَى الْعِبَادِ أَظْهَرُ ومَوْلاهُمُ لَفْظٌ عَامٌّ لِأَنْوَاعِ الْوَلَايَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبِيدِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالنُّصْرَةِ وَالرِّزْقِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْإِضَافَةِ إِشْعَارٌ بِرَحْمَتِهِ لَهُمْ وَظَاهِرُ الْإِخْبَارِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْبَعْثُ وَالرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَجَزَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: صَرِيحُ الْآيَةِ يَدُلُّ على

_ (1) سورة الزمر: 39/ 42. (2) سورة السجدة: 32/ 11. [.....]

حُصُولِ الْمَوْتِ لِلْعَبْدِ وَرَدِّهِ إِلَى اللَّهِ وَالْمَيِّتُ مَعَ كَوْنِهِ مَيِّتًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّهِ بَلِ الْمَرْدُودُ هُوَ النَّفْسُ وَالرُّوحُ وَهُنَا مَوْتٌ وَحَيَاةٌ، فَالْمَوْتُ نَصِيبُ الْبَدَنِ وَالْحَيَاةُ نَصِيبُ النَّفْسِ وَالرُّوحِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا النَّفْسُ وَالرُّوحُ وَلَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إِشْعَارٌ بِكَوْنِ الرُّوحِ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَدَنِ لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى حَضْرَةِ الْجَلَالِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّعَلُّقِ بِالْبَدَنِ وَنَظِيرُهُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ «1» إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً «2» وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «خُلِقَتِ الْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ» . وَحُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى كَوْنِ النُّفُوسِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ قَبْلَ وُجُودِ الْبَدَنِ ضَعِيفَةٌ وَبَيَّنَّا ضَعْفَهَا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ أَيْضًا: إِلَى اللَّهِ يُشْعِرُ بِالْجِهَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ رُدُّوا إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ وَلَا حَاكِمَ سِوَاهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ هُوَ بِالْبَعْثِ يوم القيامة إلا مَا أَرَادَهُ الرَّازِيُّ وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالْحَقِّ مَعْنَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَيْسَ بِبَاطِلٍ وَلَا مَجَازٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: كَانُوا فِي الدُّنْيَا تَحْتَ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ وَهِيَ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «3» فَلَمَّا مَاتَ تَخَلَّصَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ وَانْتَقَلَ إِلَى تَصَرُّفِ الْمَوْلَى الْحَقِّ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَفْسِيرُهُ خَارِجٌ عَنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَقَاصِدِهَا وَهُوَ فِي أَكْثَرِهِ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ حُكَمَاءَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صِفَةٌ قُطِعَتْ فَانْتَصَبَتْ عَلَى الْمَدْحِ وَجَوَّزَ نَصْبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ الرَّدَّ الْحَقَّ. أَلا لَهُ الْحُكْمُ تَنْبِيهٌ مِنْهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ يَوْمَئِذٍ لَا حُكْمَ فِيهِ لِغَيْرِهِ. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سُرْعَةِ حِسَابِهِ تَعَالَى فِي قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ «4» . قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلَائِلَ عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ التَّامِّ وَالْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ أَثَرِهِمَا وَهُوَ الْإِنْجَاءُ مِنَ الشَّدَائِدِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيرُ وَالْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى سُوءِ مُعْتَقَدِهِمْ عِنْدَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَرْكِ الَّذِي يُنَجِّي مِنَ الشَّدَائِدِ وَيُلْجَأُ إِلَيْهِ فِي كَشْفِهَا. قِيلَ: وَأُرِيدَ حَقِيقَةُ الظَّلَمَةِ وَجُمِعَتْ بِاعْتِبَارِ مَوَادِّهَا فَفِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ وَظُلْمَةُ الصَّوَاعِقِ، وَفِي الْبَرِّ أَيْضًا ظُلْمَةُ الغبار

_ (1) سورة الفجر: 89/ 28. (2) سورة المائدة: 5/ 48 وغيرها. (3) سورة الفرقان: 25/ 43، والجاثية: 45/ 23. (4) سورة البقرة: 2/ 202، والنور: 24/ 39.

وَظُلْمَةُ الْغَيْمِ وَظُلْمَةُ الرِّيحِ، وَفِي الْبَحْرِ أَيْضًا ظُلْمَةُ الْأَمْوَاجِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ مَهَالِكُ ظُلْمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَخَاوِفُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الظُّلُمَاتِ مَجَازٌ عَنْ شَدَائِدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَخَاوِفِهِمَا وَأَهْوَالِهِمَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَوْمٌ أَسْوَدُ وَيَوْمٌ مُظْلِمٌ وَيَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ كَأَنَّهُ لِإِظْلَامِهِ وَغَيْبُوبَةِ شَمْسِهِ بَدَتْ فِيهِ الْكَوَاكِبُ وَيَعْنُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ شَدِيدٌ عَلَيْهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ: مِنْ كُرَبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: ضَلَالَ الطَّرِيقِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا يُشْفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَسْفِ فِي الْبَرِّ وَالْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ بِذُنُوبِهِمْ فَإِذَا دَعَوْا وَتَضَرَّعُوا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالْغَرَقَ فَنَجَوْا مِنْ ظُلُمَاتِهَا انْتَهَى. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أَيْ تُنَادُونَهُ مُظْهِرِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَمُخْفِيهَا وَالتَّضَرُّعُ وَصْفٌ بَادٍ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْخُفْيَةُ الْإِخْفَاءُ. وقال الحسن: تضرعا وعلانية خُفْيَةً أَيْ نِيَّةً وَانْتَصَبَا على المصدر، وتَدْعُونَهُ حَالٌ وَيُقَالُ: خُفْيَةً بِضَمِّ الْخَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَبِكَسْرِهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ. وقرأ الأعمش وَخُفْيَةً مِنَ الْخَوْفِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَيَعْقُوبُ وَعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا وَالْحَرَمِيَّانِ وَالْعَرَبِيَّانِ بِالتَّشْدِيدِ فِي مَنْ يُنَجِّيكُمْ وَالتَّخْفِيفِ فِي قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ جَمَعُوا بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّضْعِيفِ، كَقَوْلِهِ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ «1» . لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَالْمَعْنَى قَائِلِينَ لئن أنجانا لَمَّا دَعَوْهُ، أَقْسَمُوا أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَهُ عَلَى كَشْفِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الشَّدَائِدِ شَاكِرِينَ لِأَنْعُمِهِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ لَئِنْ أَنْجانا عَلَى الْغَائِبِ وَأَمَالَهُ الْأَخَوَانِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى الْخِطَابِ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ الضَّمِيرَ فِي مِنْها عَائِدٌ عَلَى مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ مِنْ هذِهِ ومن كُلِّ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ أُعِيدَ مَعَهُ الْخَافِضُ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالْمُسَابَقَةِ إِلَى الجواب ليكون هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْبَقَ إِلَى الْخَيْرِ وَإِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَجِّي مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ الَّتِي حَضَرَتْهُمْ وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ فَعَمَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ ثُمَّ ذَكَرَ قَبِيحَ مَا يَأْتُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْدَ إِقْرَارِهِمْ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَوَعْدِهِمْ إِيَّاهُ بِالشُّكْرِ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَطَفَ بِ ثُمَّ لِلْمُهْلَةِ التي تبين قبح

_ (1) سورة الطارق: 86/ 17.

فِعْلِهِمْ أَيْ ثُمَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِكُمْ بِهَذَا كُلِّهِ وَتَحَقُّقِهِ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ انْتَهَى. وَقِيلَ: مَعْنَى تُشْرِكُونَ تَعُودُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ التَّقْبِيحِ عَلَيْهِمْ إِذْ وُوجِهُوا بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ «1» وإذا كَانَ الْخَبَرُ تُشْرِكُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُشْعِرِ بِالِاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى. قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ هَذَا إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ، وَالْأَظْهَرُ مَنْ نَسَقِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ مَذْهَبُ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ أُبَيٌّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ أُبَيٌّ: هُنَّ أَرْبَعٌ: عَذَابٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَضَتِ اثنتان قبل وَفَاةِ الرَّسُولِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً لُبِسُوا شِيَعًا وَأُذِيقَ بَعْضُهُمْ بِأْسَ بَعْضٍ، وَثِنْتَانِ وَاقِعَتَانِ لَا مَحَالَةَ الْخَسْفُ وَالرَّجْمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَعْضُهَا لِلْكُفَّارِ بَعْثُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقُ وَمِنْ تَحْتُ وَسَائِرُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، انْتَهَى. وَحِينَ نَزَلَتِ اسْتَعَاذَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «هَذِهِ أَهْوَنُ أَوْ هَذِهِ أَيْسَرُ» وَاحْتَجَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَوَّذَ لِأُمَّتِهِ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْكُفَّارُ وَهَوَّنَ الثَّالِثَةَ لِأَنَّهَا فِي الْمَعْنَى هِيَ الَّتِي دَعَا فِيهَا فَمُنِعَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الْحَقِيقَةُ كَالصَّوَاعِقِ وَكَمَا أَمْطَرَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْفِيلِ الْحِجَارَةَ وَأَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ الطُّوفَانَ، كَقَوْلِهِ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ «2» وَكَالزَّلَازِلِ وَنَبْعِ الْمَاءِ الْمُهْلِكِ وَكَمَا خُسِفَ بِقَارُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ: الرَّجْمُ وَالْخَسْفُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ فَوْقِكُمْ وُلَاةُ الْجَوْرِ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ سَفَلَةُ السُّوءِ وَخِدْمَتُهُ. وَقِيلَ: حَبْسُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ. وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِكُمْ خِذْلَانُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ والآذان واللسان ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ خِذْلَانُ الْفَرْجِ وَالرِّجْلِ إِلَى الْمَعَاصِي انْتَهَى، وَهَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ مَجَازٌ بَعِيدٌ. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أَيْ يَخْلِطَكُمْ فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ عَلَى أَهْوَاءٍ شَتَّى كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ مُشَايِعَةٌ لِإِمَامٍ وَمَعْنَى خَلْطِهِمْ إِنْشَابُ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ فَيَخْتَلِطُوا وَيَشْتَبِكُوا فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَكَتِيبَةٌ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي فَتَرَكْتُهُمْ تَقِصُّ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُنْعَفِرٍ وآخر مسند

_ (1) سورة البقرة: 2/ 84. (2) سورة القمر: 54/ 11.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: تَثْبُتُ فِيكُمُ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ فَتَصِيرُونَ فِرَقًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَقْوَى عَدُوُّكُمْ حَتَّى يُخَالِطُوكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ يَلْبِسَكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ اللُّبْسِ اسْتِعَارَةً مِنَ اللِّبَاسِ فَعَلَى فَتْحِ الْيَاءِ يَكُونُ شِيَعاً حَالًا. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ يَلْبِسَكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ انْتَهَى. وَيُحْتَاجُ فِي كَوْنِهِ مَصْدَرًا إِلَى نَقْلٍ مِنَ اللُّغَةِ وَعَلَى ضَمِّ الْيَاءِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَوْ يُلْبِسَكُمُ الْفِتْنَةَ شِيَعًا وَيَكُونُ شِيَعاً حَالًا، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي شِيَعًا كَأَنَّ الناس يلبسهم بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَبِسْتُ أُنَاسًا فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَغَادَرْتُ بَعْدَ أُنَاسٍ أُنَاسًا وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُلْطَةِ وَالْمُعَايَشَةِ. وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ الْبَأْسُ الشِّدَّةُ مِنْ قتل وغيره والإذاقة والإنالة والإصابة هي مَنْ أَقْوَى حَوَاسِّ الِاخْتِبَارِ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَذَقْنَاهُمْ كُؤُوسَ الْمَوْتِ صِرْفًا ... وَذَاقُوا مِنْ أَسِنَّتِنَا كُؤُوسًا وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَنُذِيقَ بِالنُّونِ وَهِيَ نُونُ عَظَمَةِ الْوَاحِدِ وَهِيَ الْتِفَاتٌ فأيدته نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ هَذَا اسْتِرْجَاعٌ لَهُمْ وَلَفْظَةُ تَعَجُّبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والمعنى إنا نسألك فِي مَجِيءِ الْآيَاتِ أَنْوَاعًا رَجَاءَ أَنْ يَفْقَهُوا وَيَفْهَمُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِ الْآيَاتِ مَا يقتضي الفهم إن عزبت آية لم تعزب أُخْرَى. وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قَالَ السُّدِّيُّ: بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ جَاءَ تَصْرِيفُ الْآيَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَعُودَ عَلَى الْوَعِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ وَنَحَا إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا لِقُرْبِ مُخَاطَبَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَافِ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَكَذَّبَتْ بِهِ قَوْمُكُ بِالتَّاءِ، كَمَا قَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْحَقُّ جُمْلَةُ اسْتِئْنَافٍ لَا حَالٌ. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أَيْ لَسْتُ بِقَائِمٍ عَلَيْكُمْ لِإِكْرَاهِكُمْ عَلَى التوحيد. وقيل:

_ (1) سورة القمر: 54/ 48. (2) سورة الشعراء: 26/ 105.

بِوَكِيلٍ بِمُسَلَّطٍ وَقِيلَ: لَا أَقْدِرُ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ إِجْبَارًا إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ. وَقِيلَ: لَا نَسْخَ فِي هَذَا إِذْ هُوَ خَبَرٌ وَالنَّسْخُ فِيهِ مُتَوَجِّهٌ لِأَنَّ اللَّازِمَ مِنَ اللَّفْظِ لَسْتُ الْآنَ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أَيْ لِكُلِّ أَجَلٍ شَيْءٌ ينبأ بِهِ يَعْنِي مِنْ إِنْبَائِهِ بأنهم يعذبون وإبعادهم بِهِ وَقْتَ اسْتِقْرَارٍ وَحُصُولٍ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ وَلَيْسَ هَذَا بِالظَّاهِرِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْتَقَرَّ نَبَأُ الْقُرْآنِ بِمَا كَانَ يَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْهُ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمُ. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يكون تهديد بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدًا بِالْحَرْبِ وَأَخْذِهِمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ. وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ وَهُوَ سَمَاعُ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ يَشْمَلُهُ وَإِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: هو خاص بتوحيده لِأَنَّ قِيَامَهُ عَنْهُمْ كَانَ يشق عليهم وَفِرَاقَهُ عَلَى مُغَاضِبِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَهُمْ لَيْسُوا كَهُوَ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلسَّامِعِ والَّذِينَ يَخُوضُونَ الْمُشْرِكُونَ أَوِ الْيَهُودُ أَوْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، ورَأَيْتَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا وَهُمْ خَائِضُونَ فِيهَا أَيْ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ مُلْتَبِسِينَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَقِيلَ: رَأَيْتَ عِلْمِيَّةٌ لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي الْآيَاتِ لَيْسَ مِمَّا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ عَلِمْتُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا خَائِضِينَ فِيهَا وَحَذْفُهُ اقْتِصَارًا لَا يَجُوزُ وَحَذْفُهُ اخْتِصَارًا عَزِيزٌ جِدًّا حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ مَنَعَهُ وَالْخَوْضُ فِي الْآيَاتِ كِنَايَةٌ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِهَا وَالطَّعْنِ فِيهَا. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا تَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ لَا تُجَالِسْهُمْ وَقُمْ عَنْهُمْ وَلَيْسَ إِعْرَاضًا بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ بَيَّنَهُ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ «1» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَدْ نَزَّلَ عليكم في الكتاب: أن الَّذِي نَزَلَ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ الآية وحَتَّى يَخُوضُوا غاية الإعراض عَنْهُمْ أَيْ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُجَالِسَهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي غَيْرِهِ قَالَ الْحَوْفِيُّ عَائِدٌ إِلَى الْخَوْضِ كَمَا قَالَ الشاعر:

_ (1) النساء: 4/ 140.

إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إليه ... وخالف والسفيه إلى خِلَافِ أَيْ جَرَى إِلَى السَّفَهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْهَاءَ لِأَنَّهُ أَعَادَهَا عَلَى مَعْنَى الْآيَاتِ وَلِأَنَّهَا حَدِيثٌ وَقَوْلُ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ إِنْ شَغَلَكَ بِوَسْوَسَتِهِ حَتَّى تَنْسَى النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ فَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ بَعْدَ الذِّكْرَى أَيْ ذِكْرِكَ النَّهْيَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُنْسِيكَ قَبْلَ النَّهْيِ قُبْحَ مُجَالَسَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لِأَنَّهَا مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى أَيْ بَعْدَ أَنْ ذَكَّرْنَاكَ قُبْحَهَا وَنَبَّهْنَاكَ عَلَيْهِ مَعَهُمْ انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ قَبْلُ ثُمَّ عُطِفَ عَلَى الشَّرْطِ السَّابِقِ هَذَا الشَّرْطُ فَكُلُّهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَا أَحْسَنَ مَجِيءَ الشرط الأول بإذا الَّتِي هِيَ لِلْمُحَقَّقِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ مُحَقَّقٌ وَمَجِيءُ الشَّرْطِ الثَّانِي بأن لِأَنَّ إِنْ لِغَيْرِ الْمُحَقَّقِ وَجَاءَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ الْخَوْضِ فِي الْآيَاتِ وَالطَّعْنِ فِيهَا وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ ظُلْمُهُمْ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَوَضْعُ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مَوَاضِعَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا شَرْطٌ وَيَلْزَمُهَا النُّونُ الثَّقِيلَةُ فِي الْأَغْلَبِ وَقَدْ لَا تَلْزَمُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ فِي مُنَاوَأَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ، ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا إِذَا زِيدَتْ بَعْدَ إِنْ مَا لَزِمَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا ضَرُورَةً وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَتَقْيِيدُهُ الثَّقِيلَةَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلِ الصَّوَابُ النُّونُ الْمُؤَكَّدَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ ثَقِيلَةً أَمْ خَفِيفَةً وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى مَوَارِدِهَا فِي الْقُرْآنِ وَكَوْنِهَا لَمْ تَجِئْ فِيهَا بَعْدَ إِمَّا إِلَّا الثَّقِيلَةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ يُنْسِيَنَّكَ مُشَدَّدًا عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ وَعَدَّاهُ الْجُمْهُورُ بِالْهَمْزَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذَكَرَ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَضْعِيفِ التَّعْدِيَةِ وَالْهَمْزَةِ وَمَفْعُولُ يُنْسِيَنَّكَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ نَهْيَنَا إِيَّاكَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ وَالذِّكْرَى مَصْدَرُ ذَكَرَ جَاءَ عَلَى فُعْلَى وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ وَلَمْ يَجِئْ مَصْدَرٌ عَلَى فُعْلَى غَيْرُهُ. وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الَّذِينَ يَتَّقُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالضَّمِيرُ فِي حِسابِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ الْخَائِضِينَ فِي الْآيَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: لَمَّا نَزَلَتْ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «1» لَا يُمْكِنُنَا طَوَافٌ وَلَا عِبَادَةٌ فِي الحرم فنزلت

_ (1) سورة النساء: 4/ 140.

وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَأُبِيحَ لَهُمْ قَدْرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفِ بَيْنَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ وَنَحْوِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ غَيْرِهِ لِانْدِرَاجِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أُمِرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ حَتَّى إِنْ عَرَضَ نِسْيَانٌ وَذَكَرَ فَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ. وَقِيلَ: لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ رَأْسُهُمْ أَيْ مَا عَلَيْكُمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. وَلكِنْ ذِكْرى أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ أَنْ تُذَكِّرُوهُمْ ذِكْرَى إِذَا سَمِعْتُمُوهُمْ يَخُوضُونَ بِأَنْ تَقُومُوا عَنْهُمْ وَتُظْهِرُوا كَرَاهَةَ فِعْلِهِمْ وَتَعِظُوهُمْ. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ لَعَلَّهُمْ يَجْتَنِبُونَ الْخَوْضَ فِي الْآيَاتِ حَيَاءً مِنْكُمْ وَرَغْبَةً فِي مُجَالَسَتِكُمْ قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الْوَعِيدَ بِتَذْكِيرِكُمْ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَلَا تَقْرَبُوهُمْ حَتَّى لَا تَسْمَعُوا اسْتِهْزَاءَهُمْ وَخَوْضَهُمْ، وَلَيْسَ نَهْيُكُمْ عَنِ الْقُعُودِ لِأَنَّ عَلَيْكُمْ شَيْئًا مِنْ حِسَابِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ ذِكْرَى لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ تَثْبُتُونَ عَلَى تَقْوَاكُمْ وَتَزْدَادُونَهَا، فَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وَمَنْ قَالَ الْخِطَابُ فِي وَإِذا رَأَيْتَ خَاصٌّ بِالرَّسُولِ قَالَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَهُ وَمَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ لَهُمْ دُونَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ فَإِنْ قَعَدُوا فَلْيُذَكِّرُوهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اللَّهَ فِي تَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: هَذِهِ الْإِبَاحَةُ الَّتِي اقْتَضَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ النساء وذكرى يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وَلَكِنْ تُذَكِّرُونَهُمْ، وَمَنْ قَالَ الْإِبَاحَةُ كَانَتْ بِسَبَبِ الْعِبَادَاتِ قَالَ نَسَخَ ذَلِكَ آيَةُ النِّسَاءِ أو ذكروهم وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ وَلَكِنْ هُوَ ذِكْرَى أَيِ الْوَاجِبُ ذِكْرَى. وَقِيلَ: هَذَا ذِكْرَى أَيِ النَّهْيُ ذِكْرَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ شَيْءٍ كَقَوْلِكَ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ وَلَكِنْ زَيْدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حِسابِهِمْ يَأْبَى ذَلِكَ انْتَهَى. كَأَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّ فِي الْعَطْفِ يَلْزَمُ الْقَيْدُ الَّذِي فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ حِسَابِهِمْ لِأَنَّهُ قَيْدٌ فِي شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ عَطْفًا عَلَى مِنْ شَيْءٍ عَلَى الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ ولكِنْ ذِكْرى مِنْ حِسَابِهِمْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَهَذَا الَّذِي تَخَيَّلَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لَا يلزم في العطف بو لكن مَا ذَكَرَ تَقُولُ: مَا عِنْدَنَا رَجُلُ سُوءٍ وَلَكِنْ رَجُلُ صِدْقٍ وَمَا عِنْدَنَا رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ وَلَكِنْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ عَالِمٍ وَلَكِنْ رَجُلٍ جَاهِلٍ فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْجُمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْعَطْفُ إِنَّمَا هُوَ لِلْوَاوِ وَدَخَلَتْ لكِنْ لِلِاسْتِدْرَاكِ. قَالَ ابْنُ

عَطِيَّةَ: وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَثِلَ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْمُلْحِدِينَ وَأَهْلِ الْجَدَلِ وَالْخَوْضِ فِيهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْخُصُومَاتِ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً هَذَا أَمْرٌ بِتَرْكِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ حِينَئِذٍ. قَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ بِالْقِتَالِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» وَلَا نَسْخَ فِيهَا لِأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ خَبَرًا وَهُوَ التَّهْدِيدُ وَدِينُهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ والجوامي وَالْوَصَائِلِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ عُرَاةً يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ أَوِ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ لَعِباً وَلَهْواً حَيْثُ سخروا به واستهزؤوا، أَوْ عِبَادَتَهَمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَغْرِقِينَ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْعَزْفِ وَالرَّقْصِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عِبَادَةٌ إِلَّا ذَلِكَ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَانْتَصَبَ لَعِباً وَلَهْواً عَلَى المفعول الثاني لاتخذوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّئَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ فَهُمْ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، فَالْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَظَاهِرُ تَفْسِيرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ اتَّخَذُوا هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ وَأَنَّ انْتِصَابَ لَعِباً وَلَهْواً عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى اكْتَسَبُوا دِينَهُمْ وَعَمِلُوهُ وَأَظْهَرُوا اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ أَيْ لِلدُّنْيَا وَاكْتِسَابِهَا وَيَظْهَرُ مِنْ بَعْضِ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ أَنْ لَعِباً وَلَهْواً هُوَ الْمَفْعُولُ الأول لاتخذوا ودِينَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ دِينَهُمُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ لَعِباً وَلَهْواً وَذَلِكَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اللَّعِبِ وَاتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ وَالْعَمَلِ بِالشَّهْوَةِ، وَمِنْ جِنْسِ الْهَزْلِ دُونَ الْجَدِّ وَاتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا دِينًا لَهُمْ وَاتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إليه هو دِينُ الْإِسْلَامِ لَعِباً وَلَهْواً حيث سخروا به واستهزؤوا انْتَهَى. فَظَاهِرُ تَقْدِيرِهِ الثَّانِي هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الَّذِي كان ينبغي لهم

_ (1) سورة المدثر: 74/ 11.

لَعِباً وَلَهْواً انْتَهَى. فَتَفْسِيرُهُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ وَيُصَلُّونَ فِيهِ وَيُعَمِّرُونَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ عِيدَهُمْ كَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَمَعْنَى ذَرْهُمْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ انْتَهَى. وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الصلة وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ أَيْ خَدَعَتْهُمُ الْغُرُورُ وَهِيَ الْأَطْمَاعُ فِيمَا لَا يُتَحَصَّلُ فَاغْتَرُّوا بِنِعَمِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: غَرَّتْهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا أَعْرَضُوا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى تَزْيِينِ الظَّوَاهِرِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى حُطَامِ الدُّنْيَا انْتَهَى. وَقِيلَ: غَرَّتْهُمُ مِنَ الْغَرِّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ أَيْ مَلَأَتْ أَفْوَاهَهُمْ وَأَشْبَعَتْهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَمَّا الْتَقَيْنَا بِالْحُلَيْبَةِ غَرَّنِي ... بِمَعْرُوفِهِ حَتَّى خَرَجْتُ أَفُوقُ وَمِنْهُ غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ. وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى الَّذِينَ أَوْ عَلَى حِسابِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَوْلَاهَا الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «1» وتُبْسَلَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُفْضَحُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: تُسْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُحْبَسُ وَتُرْتَهَنُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ: تُجْزَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تُحْرَقُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: يؤخذ. وقال مؤرخ: تُعَذَّبُ. وَقِيلَ يُحَرَّمُ عَلَيْهَا النَّجَاةُ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَحْسَنَ بَعْضُ شُيُوخِنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: تُسْلَمُ بِعَمَلِهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَبْسَلَ لِلْمَوْتِ أَيْ رَأَى ما لا يقدر على دَفْعِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تُبْسَلَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدَّرُوا كَرَاهَةَ أَنْ تُبْسَلَ وَمَخَافَةَ أَنْ تُبْسَلَ وَلِئَلَّا تُبْسَلَ وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٌّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ الضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ مُفَسَّرٌ بِالْبَدَلِ وَأُضْمِرَ الْإِبْسَالُ لِمَا فِي الْإِضْمَارِ مِنَ التَّفْخِيمِ كَمَا أُضْمِرَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ وَفُسِّرَ بِالْبَدَلِ وَهُوَ الْإِبْسَالُ فَالتَّقْدِيرُ وَذَكِّرْ بِارْتِهَانِ النُّفُوسِ وَحَبْسِهَا بِمَا كَسَبَتْ كَمَا قَالُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ ضَرَبْتُ وَضَرَبُونِي قَوْمَكَ نَصَبْتَ إِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ

_ (1) سورة ق: 50/ 45.

قَالَ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُضْمَرِ وَقَالَ أَيْضًا: فَإِنْ قُلْتَ ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُهُمْ قَوْمُكَ رَفَعْتَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ هَاهُنَا الْبَدَلَ كَمَا جَعَلْتَهُ فِي الرفع انتهى. وَقَدْ رُوِيَ قَوْلُهُ: تُنُخِّلَ فَاسْتَاكَتْ بِهِ عُودِ إِسْحَلِ بِجَرِّ عُودٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ وَالْمَعْنَى أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ تَارِكَةٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا كَسَبَتْ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ بِكَسْبِهَا السَّيِّئِ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ من دون عَذَابِ اللَّهِ. وَلِيٌّ فَيَنْصُرُهَا. وَلا شَفِيعٌ فَيَدْفَعُ عَنْهَا بِمَسْأَلَتِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ إخبار وهو الأظهر ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً انْتَهَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أَيْ وَإِنْ تُفْدِ كُلَّ فِدَاءٍ وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الْفَادِيَ يَعْدِلُ الْفِدَاءَ بِمِثْلِهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْعَدْلِ هُنَا ضِدُّ الْجَوْرِ وَهُوَ الْقِسْطُ أَيْ وَإِنْ تُقْسِطْ كُلَّ قِسْطٍ بِالتَّوْحِيدِ وَالِانْقِيَادِ بَعْدَ الْعِنَادِ وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ هَذَا لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ حَالُ مُعَايَنَةٍ وَإِلْجَاءٍ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، قَالُوا: وَانْتَصَبَ كُلَّ عَدْلٍ على المصدر ويؤخذ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَعْدُولِ بِهِ الْمَفْهُومِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَلَا يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ لَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَخْذُ وَأَمَّا فِي لَا يُؤْخَذْ مِنْها عدل فَمَعْنَى الْمُفْدَى بِهِ فَيَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ كُلَّ عَدْلٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ وَإِنْ تَعْدِلْ بِذَاتِهَا كُلَّ أَيْ كُلَّ مَا تُفْدِي بِهِ لَا يُؤْخَذْ مِنْها وَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَلَى هَذَا عَائِدًا عَلَى كُلَّ عَدْلٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ لَا عَلَى سَبِيلِ إِمْكَانِ وُقُوعِهَا. أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ. لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةُ اسْتِئْنَافِ

إِخْبَارٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حالا وشراب فَعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَطَعَامٍ بِمَعْنَى مَطْعُومٍ وَلَا يَنْقَاسُ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، لَا يُقَالُ: ضِرَابٌ وَلَا قِتَالٌ بِمَعْنَى مَضْرُوبٍ وَلَا مَقْتُولٍ. قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ النَّافِعِ الضَّارِّ الْمُبْدِعِ لِلْأَشْيَاءِ الْقَادِرِ ما لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْفَعَ وَلَا يَضُرَّ إِذْ هِيَ أَصْنَامٌ خَشَبٌ وَحِجَارَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَنُرَدُّ إِلَى الشِّرْكِ عَلى أَعْقابِنا أَيْ رَدَّ الْقَهْقَرَى إِلَى وَرَاءٍ وَهِيَ الْمِشْيَةُ الدَّنِيَّةُ بَعْدَ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّانَا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَإِلَى الْمِشْيَةِ السُّجُحِ الرَّفِيعَةِ وَنُرَدُّ معطوف على أَنَدْعُوا أَيْ أَيَكُونُ هَذَا وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ أَيْ وَنَحْنُ نُرَدُّ أَيْ أَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ لِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَلِأَنَّهَا تَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً، وَاسْتُعْمِلَ الْمَثَلُ بِهَا فِيمَنْ رَجَعَ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الرَّدُّ عَلَى الْعَقِبِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ أَمَّلَ أَمْرًا فَخَابَ. كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَالْغِيلَانُ فِي الْأَرْضِ فِي الْمَهْمَهِ حَيْرَانَ تَائِهًا ضَالًّا عَنِ الْجَادَّةِ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ لَهُ أَيْ لِهَذَا الْمُسْتَهْوَى أَصْحَابٌ رُفْقَةٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أَيْ إِلَى أَنْ يَهْدُوهُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَوِيَ، أَوْ سُمِّيَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ بِالْهُدَى يَقُولُونَ لَهُ: ائْتِنا وَقَدِ اعْتَسَفَ الْمَهْمَهَ تَابِعًا لِلْجِنِّ لَا يُجِيبُهُمْ وَلَا يَأْتِيهِمْ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ وَتَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْجِنَّ تَسْتَهْوِي الْإِنْسَانَ وَالْغِيلَانَ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ «1» فَشُبِّهَ بِهِ الضَّالُّ عَنْ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ التَّابِعُ لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ انْتَهَى. وَأَصْلُ كَلَامِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهُ طَوَّلَهُ وَجَوَّدَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ عَابِدِ الصَّنَمِ مَثَلُ مَنْ دَعَاهُ الْغُولُ فَيَتْبَعُهُ فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي مَهْمَهٍ وَمَهْلَكَةٍ فَهُوَ حَائِرٌ فِي تِلْكَ الْمَهَامِهِ وَحَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ اسْتَهْوَتْهُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْهَوَى الَّذِي هُوَ الْمَوَدَّةُ وَالْمَيْلُ كَأَنَّهُ قِيلَ كَالَّذِي أَمَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَى الْمَهْمَهِ الْقَفْرِ وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ كَأَبِي عَلِيٍّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْهُوِيِّ أَيْ أَلْقَتْهُ فِي هُوَّةٍ، وَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ نَحْوَ اسْتَزَلَّ وَأَزَلَّ تَقُولُ الْعَرَبُ: هَوَى الرَّجُلُ وَأَهْوَاهُ غَيْرُهُ وَاسْتَهْوَاهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَهْوِيَ هَوَى وَيَهْوِي شَيْئًا وَالْهُوِيُّ السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سفل. قال الشاعر:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 275. [.....]

هَوَى ابْنِي مِنْ ذُرَى شَرَفٍ ... فَزَلَّتْ رِجْلُهُ وَيَدُهْ وَيُسْتَعْمَلُ الْهُوِيُّ أَيْضًا فِي رُكُوبِ الرَّأْسِ فِي النُّزُوعِ إِلَى الشَّيْءِ وَمِنْهُ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ «1» . وَقَالَ: تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا الْمَثَلُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنَ الْمَكَانِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ الْعَمِيقَةِ يَهْوِي إِلَيْهَا مَعَ الِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحَجَرَ كَانَ حَالَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ يَنْزِلُ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ التَّرَدُّدِ وَالتَّحَيُّرِ، فَعِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَسْقُطُ على موضع يَزْدَادُ بَلَاؤُهُ بِسَبَبِ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقِلُّ، وَلَا تَجِدُ لِلْحَائِرِ الْخَائِفِ أَكْمَلَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْمَثَلِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامُ تَكْثِيرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: لَهُ أَصْحابٌ أَيْ لَهُ رُفْقَةٌ وَجَعَلَ مُقَابِلَهُمْ فِي صُورَةِ التَّشْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَجَعَلَهُمْ غَيْرُهُ لَهُ أَصْحابٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ الدُّعَاةِ أَوْ لَا يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بِزَعْمِهِمْ وَبِمَا يُوهِمُونَهُ فَشَبَّهَ بِالْأَصْحَابِ هُنَا الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُثَبِّتُونَ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى الِارْتِدَادِ. وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَحَكَى مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ هُوَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَبِالْأَصْحَابِ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّهُ فِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآية دعا إياه أَبَا بَكْرٍ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ وَشَقِيقَ عَائِشَةَ أُمُّهُمَا أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ غَنْمٍ الْكِنَانِيَّةُ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا مَعَ قَوْمِهِ كَافِرًا وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُبَارِزَهُ فَذَكَرَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «مَتِّعْنِي بِنَفْسِكَ» ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَصَحِبَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ فَسَمَّاهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ سَمِعَتْ قول من قال: إن قَوْلَهُ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما «2» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: كَذَبُوا وَاللَّهِ مَا نَزَلَ فِينَا مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا بَرَاءَتِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا كَانَ هَذَا وَارِدًا فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ فَكَيْفَ قِيلَ لِلرَّسُولِ: قُلْ أَنَدْعُوا. قُلْتُ: لِلِاتِّحَادِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وخصوصا بينه وبن الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا السُّؤَالُ إِنَّمَا يَرِدُ إِذَا صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 37. (2) سورة الأحقاف: 46/ 17.

بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَنْ يَصِحَّ، وَمَوْضِعُ كَالَّذِي نصب قيل: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ رَدًّا مِثْلَ رَدِّ الَّذِي وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ كائنين كالذي والذي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ كَالْفَرِيقِ الَّذِي وَقَرَأَ حَمْزَةُ اسْتَهْوَاهُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطَانُ بِالتَّاءِ وَإِفْرَادِ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ انتهى. والذي نَقَلُوا لَنَا الْقِرَاءَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّمَا نَقَلُوهُ الشَّيَاطِينُ جَمْعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الشَّيَاطُونُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ وَقَدْ لَحَنَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ شَاذٌّ قَبِيحٌ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ متعلقا باستهوته. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ اسْتَهْوَتْهُ أَيْ كَائِنًا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ حَيْرانَ. وَقِيلَ: مِنْ ضَمِيرِ حَيْرانَ وحَيْرانَ لَا يَنْصَرِفُ وَمُؤَنَّثُهُ حَيْرَى وحَيْرانَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ اسْتَهْوَتْهُ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الَّذِي وَالْعَامِلُ فِيهِ الرَّدُّ الْمُقَدَّرُ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ أَصْحابٌ حَالِيَّةٌ أَوْ صِفَةٌ لحيران أو مستأنفة وإِلَى الْهُدَى متعلق بيدعونه وَأْتِنَا مِنَ الْإِتْيَانِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ أَتَيْنَا فِعْلًا مَاضِيًا لَا أَمْرًا فَإِلَى الْهُدَى مُتَعَلِّقٌ بِهِ. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى مَنْ قَالَ: إِنَّ لَهُ أَصْحَابٌ يَعْنِي بِهِ الشَّيَاطِينَ وَإِنَّ قَوْلَهُ إِلَى الْهُدَى بِزَعْمِهِمْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ أَيْ لَيْسَ مَا زَعَمْتُمْ هُدًى بَلْ هُوَ كُفْرٌ وَإِنَّمَا الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ أَصْحابٌ مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الدَّاعِينَ إِلَى الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، كَانَتْ إِخْبَارًا بِأَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ مِنْ شَاءَ لَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى الْهُدَى وُقُوعُ الْهِدَايَةِ بَلْ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ مَنْ هَدَاهُ اهْتَدَى. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ وَمَفْعُولُ أُمِرْنا الثَّانِي مَحْذُوفٌ وَقَدَّرُوهُ وَأُمِرْنا بِالْإِخْلَاصِ لِكَيْ نَنْقَادَ وَنَسْتَسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَالْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ فِي الْمَقُولِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ فَمَعْنَى أُمِرْنا قِيلَ لَنَا: أَسْلِمُوا لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ لِنُسْلِمَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ وَإِنْ قَوْلَكَ: أُمِرْتُ لِأَقُومَ وَأُمِرْتُ أَنْ أَقُومَ يَجْرِيَانِ سَوَاءً وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ: أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ انْتَهَى. فَعَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ تكون اللام زائدة وكون أَنْ نُسْلِمَ هُوَ مُتَعَلَّقُ أُمِرْنا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى

الْبَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأُمِرْنا بِأَنْ نُسْلِمَ وَمَجِيءُ اللَّامِ بِمَعْنَى الْبَاءِ قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ بَلْ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ زَعَمَا أَنَّ لَامَ كَيْ تَقَعُ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي أَرَدْتُ وَأَمَرْتُ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «1» يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «2» أَيْ أَنْ يُطْفِئُوا إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ «3» أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا أَبُو إِسْحَاقَ، وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ اللَّامَ هُنَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَأَنَّ الْفِعْلَ قَبْلَهَا يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَالْمَعْنَى الْإِرَادَةُ لِلْبَيَانِ وَالْأَمْرُ لِلْإِسْلَامِ فَهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فَتَحَصَّلَ فِي هَذِهِ اللَّامِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَالثَّانِي أَنَّهَا بِمَعْنَى كَيْ لِلتَّعْلِيلِ إِمَّا لِنَفْسِ الْفِعْلِ وَإِمَّا لِنَفْسِ الْمَصْدَرِ الْمَسْبُوكِ مِنَ الْفِعْلِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى أَنْ، وَالرَّابِعُ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ وَجَاءَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْعَالَمِ كُلِّهِ مَعْبُودِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أَنْ هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ وَاخْتُلِفَ فِي مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِنُسْلِمَ تَقْدِيرُهُ لِأَنْ نُسْلِمَ وأَنْ أَقِيمُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واللفظ يمانعه لأنّ لِنُسْلِمَ معرب وأَقِيمُوا مَبْنِيٌّ وَعَطْفُ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُعْرَبِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي الْعَامِلِ انْتَهَى، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْطَفُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُعْرَبِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ نَحْوَ قَامَ زَيْدٌ وَهَذَا، وَقَالَ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «4» غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّ الْعَامِلَ إِذَا وَجَدَ الْمُعْرَبَ أَثَّرَ فِيهِ وَإِذَا وَجَدَ الْمَبْنِيَّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَيَجُوزُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ وَيَقْصِدْنِي أُحْسِنْ إليه، بجزم يقصدني فإن لَمْ تُؤَثِّرْ فِي قَامَ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ وَأَثَّرَتْ فِي يَقْصِدُنِي لِأَنَّهُ مُعْرَبٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْعَطْفُ فِي إِنْ وَحْدَهَا وَذَلِكَ قَلِقٌ وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ قَوْلُهُ: أَنْ أَقِيمُوا بِمَعْنَى وَلْيُقِمْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَزَالَةِ اللَّفْظِ فَجَازَ الْعَطْفُ عَلَى أَنْ نُلْغِيَ حُكْمَ اللَّفْظِ وَنُعَوِّلَ عَلَى الْمَعْنَى، وَيُشْبِهُ هَذَا مِنْ جِهَةِ مَا حَكَاهُ يُونُسُ عَنِ الْعَرَبِ: ادْخُلُوا الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَإِلَّا فَلَيْسَ يَجُوزُ إِلَّا ادْخُلُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ بِالنَّصْبِ انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ إِلَى آخِرِهِ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الزَّجَّاجُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَنَّ أَنْ أَقِيمُوا مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ نُسْلِمَ وأنّ كلاهما عِلَّةٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ الْمَحْذُوفِ وَإِنَّمَا قَلِقَ عِنْدَ ابْنِ عطية لأنه

_ (1) سورة النساء: 4/ 26. (2) سورة الصف: 61/ 8. (3) سورة الأحزاب: 33/ 33. (4) سورة هود: 11/ 98.

أَرَادَ بَقَاءَ أَنْ أَقِيمُوا على معتاها مِنْ مَوْضُوعِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ وَكَانَتِ الْمَصْدَرِيَّةَ انْسَبَكَ مِنْهَا وَمِنَ الْأَمْرِ مَصْدَرٌ، وَإِذَا انْسَبَكَ مِنْهُمَا مَصْدَرٌ زَالَ مِنْهَا مَعْنَى الْأَمْرِ، وَقَدْ أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ أَنْ تُوصَلَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةُ النَّاصِبَةُ لِلْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي وَبِالْأَمْرِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ، أَيْ بِالْقِيَامِ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِنُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا فِي تَقْدِيرِ لِلْإِسْلَامِ، وَلِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا تَشْبِيهُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ بِالرَّفْعِ فَلَيْسَ يُشْبِهُهُ لِأَنَّ ادْخُلُوا لَا يُمْكِنُ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ الضَّمِيرُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى مَا بَعْدَهُ، بِخِلَافِ أَنْ فَإِنَّهَا تُوصَلُ بِالْأَمْرِ فَإِذًا لَا شَبَهَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : على عُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا (قُلْتُ) : عَلَى مَوْضِعِ لِنُسْلِمَ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأُمِرْنَا أَنْ نُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا انْتَهَى وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ نُسْلِمَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ: وَأُمِرْنا وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَنْ أَقِيمُوا فَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذَا زَائِدَةً، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ اللَّامَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ فَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ لِأَنَّ مَا يَكُونُ عِلَّةً يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِنُسْلِمَ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَأُمِرْنَا لِأَنْ نُسْلِمَ وَلِأَنْ أَقِيمُوا أَيْ لِلْإِسْلَامِ وَلِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَاتَّحَدَ قَوْلَاهُ وَذَلِكَ خُلْفٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ أَقِيمُوا مَعْطُوفًا عَلَى ائْتِنا. وَقِيلَ: معطوف على قوله: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَالتَّقْدِيرُ قُلْ أَنْ أَقِيمُوا وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ جِدًّا، وَلَا يَقْتَضِيهِمَا نَظْمُ الْكَلَامِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ بِتَأْوِيلِ وَإِقَامَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُقَدَّرِ فِي أُمِرْنَا انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّرَ: وَأُمِرْنَا بِالْإِخْلَاصِ أَوْ بِالْإِيمَانِ لِأَنْ نُسْلِمَ وَهَذَا قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأُمِرْنَا وَيَجُوزُ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقُولُ: أَضَرَبْتَ زَيْدًا فَتُجِيبُ نَعَمْ وَعَمْرًا التَّقْدِيرُ ضَرَبْتُهُ وَعَمْرًا وَقَدْ أَجَازَ الْفَرَّاءُ جَاءَنِي الَّذِي وَزَيْدٌ قَائِمَانِ التَّقْدِيرُ جَاءَنِي الَّذِي هُوَ وَزَيْدٌ قَائِمَانِ فَحَذَفَ هُوَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ والضمير المنصوب في واتقوا عَائِدٌ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ التَّنْبِيهَ وَالتَّخْوِيفَ لِمَنْ تَرَكَ امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَاتُ فِعْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَحَسَرَاتُ تَرْكِهَا يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِلَى جَزَائِهِ يَحْشُرُ

الْعَالَمَ وَهُوَ مُنْتَهَى مَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ ذَكَرَ مُبْتَدَأَ وُجُودِ الْعَالَمِ وَاخْتِرَاعِهِ لَهُ بِالْحَقِّ أَيْ بِمَا هُوَ حَقٌّ لَا عَبَثَ فِيهِ وَلَا هُوَ بَاطِلٌ أَيْ لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَلَا عَبَثًا بَلْ صَدَرَا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ وَلِيُسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ إِذْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الْعَظِيمَةُ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا سِمَاتُ الْحُدُوثِ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ مُحْدِثٍ وَاحِدٍ عَالِمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقِيلَ: مَعْنَى بِالْحَقِّ بِكَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ كُنْ وَفِي قَوْلِهِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «1» وَالْمُرَادُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارُ انْفِعَالِ مَا يُرِيدُ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِبْرَازُهُ لِلْوُجُودِ بِسُرْعَةٍ وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ مَا يُؤْمَرُ فَيَمْتَثِلُ. وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ جَوَّزُوا فِي يَوْمَ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِمَفْعُولِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَقَدَّرُوهُ وَاذْكُرِ الْإِعَادَةَ يَوْمَ يَقُولُ: كُنْ أَيْ يَوْمَ يَقُولُ لِلْأَجْسَادِ كُنْ مُعَادَةً وَيَتِمُّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُنْ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا إِخْبَارًا بِالْإِعَادَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فاعلا بفيكون أَوْ يَتِمُّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ يَوْمَ يَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ وَاتَّقُوهُ أَيْ وَاتَّقُوا عِقَابَهُ وَالشَّدَائِدَ وَيَوْمَ فَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفٌ. وَقِيلَ: وَيَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَالْعَامِلُ فِيهِ خَلَقَ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ اذْكُرْ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَقِّ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَيَكُونُ يَقُولُ بِمَعْنَى الْمَاضِي كَأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ قَالَ لَهَا كُنْ وَيَتِمُّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ فَيَكُونُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا أَوْ يَتِمُّ عِنْدَ كُنْ وَيَبْتَدِئُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أَيْ يَظْهَرُ مَا يَظْهَرُ وفاعل يكون قَوْلُهُ والْحَقُّ صفة وفَيَكُونُ تَامَّةٌ وَهَذِهِ الْأَعَارِيبُ كُلُّهَا بَعِيدَةٌ يَنْبُو عَنْهَا التَّرْكِيبُ وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ مَا قاله الزمخشري وهو أن قَوْلُهُ الْحَقُّ مُبْتَدَأٌ والْحَقُّ صفة له ويَوْمَ يَقُولُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فَيَتَعَلَّقُ بِمُسْتَقِرٍ كَمَا تَقُولُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْقِتَالُ وَالْيَوْمُ بِمَعْنَى الْحِينِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ قَائِمًا بِالْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ وَحِينَ يَقُولُ لِلشَّيْءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُنْ فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَالْحِكْمَةُ أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ من السموات وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الْمُكَوَّنَاتِ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْحَقُّ فَاعِلًا بِقَوْلِهِ فَيَكُونُ فَانْتِصَابُ يَوْمَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِالْحَقِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: كُنْ يَوْمَ بِالْحَقِّ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ. وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قِيلَ يَوْمَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ وَيَوْمَ يَقُولُ، وَقِيلَ:

_ (1) سورة فصلت: 41/ 11.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 إلى 94]

مَنْصُوبٌ بِالْمُلْكِ وَتَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ كَتَخْصِيصِهِ بِقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «1» وَبِقَوْلِهِ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «2» وَفَائِدَتُهُ الْإِخْبَارُ بِانْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ حِينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى فِيهِ مُلْكٌ، وَقِيلَ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَذُو الْحَالِ الْمُلْكُ وَالْعَامِلُ لَهُ، وَقِيلَ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِقَوْلِهِ: قَوْلُهُ الْحَقُّ أَيْ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَقِيلَ ظَرْفٌ لقوله تُحْشَرُونَ أو ليقول أو لعالم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِي الصُّورِ وَحَكَاهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عِيَاضٍ وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ أَنَّ الصُّوَرَ جَمْعُ صُورَةٍ كَثُومَةٍ وَثُوَمٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَّ نَفْخًا حَقِيقَةً، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَنَفَادِ الدُّنْيَا وَاسْتَعَارَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو نَنْفُخُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ عَلَى تَقْدِيرِ مَنِ النَّافِخُ أَوْ فَاعِلٌ بيقول أو بينفخ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يُنْفَخُ نَحْوَ رِجَالٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: يسبح بفتح الباء وشركاؤهم بَعْدَ زُيِّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ قَتْلُ وَنَحْوَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ بَعْدَ لِيُبْكِ يَزِيدٌ التَّقْدِيرُ يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ وَزَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ وَيُبْكِيهِ ضَارِعٌ أَوْ نَعْتٌ لِلَّذِي أَقْوَالٌ أَجْوَدُهَا الْأَوَّلُ والْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يَعُمَّانِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عالِمُ بِالْخَفْضِ وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُ أَوْ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ نَعْتٌ لِلضَّمِيرِ فِي لَهُ، وَالْأَجْوَدُ الْأَوَّلُ لِبُعْدِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي الثَّانِي وَكَوْنِ الضَّمِيرِ الْغَائِبِ يُوصَفُ وَلَيْسَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِنَّمَا أَجَازَهُ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْخَلْقِ وَسُرْعَةَ إِيجَادِهِ لِمَا يَشَاءُ وَتَضَمُّنَ الْبَعْثِ إِفْنَاءَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ نَاسَبَ ذِكْرَ الْوَصْفِ بِالْحَكِيمِ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ نَاسَبَ ذِكْرَ الْوَصْفِ بِالْخَبِيرِ إِذْ هِيَ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ مَا لَطُفَ إدراكه من الأشياء. [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

_ (1) سورة غافر: 40/ 16. (2) سورة الانفطار: 82/ 19.

آزَرَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَمٌ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ. الصَّنَمُ الْوَثَنُ يُقَالُ إِنَّهُ مُعْرَبٌ شَمِرٌ وَالصَّنَمُ: خُبْثُ الرَّائِحَةِ وَالصَّنَمُ: الْعَبْدُ الْقَوِيُّ وَصَنَمَ صَوَّرَ وَصَوَّرَ بنو فلان نوقهم اعزروها. جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَأَجَنَّ أَظْلَمَ هَذَا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى وَهُوَ بِمَعْنَى سَتَرَ مُتَعَدِّيًا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَاءً وَرَدْتُ قُبَيْلَ الْكَرَى ... وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الْأَدْهَمُ وَالِاخْتِيَارُ جَنَّ اللَّيْلُ وَأَجَنَّهُ وَمَصْدَرُ جَنَّ جُنُونٌ وَجَنَانٌ وَجَنَّ الْكَوْكَبُ وَالْكَوْكَبَةُ النَّجْمُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ وَيُقَالُ كَوْكَبٌ تَوَقَّدَ، وَقَالَ الصَّاغَانِيُّ: حَقُّ لَفْظِ كَوْكَبٍ أَنْ يذكر في تركيب وك ب عِنْدَ حُذَّاقِ النَّحْوِيِّينَ فَإِنَّهَا صَدَرَتْ بِكَافٍ زَائِدَةٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنَّ الْجَوْهَرِيَّ أَوْرَدَهَا فِي تَرْكِيبِ ك وك ب وَلَعَلَّهُ تَبِعَ فِيهِ اللَّيْثَ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الرُّبَاعِيِّ ذَاهِبًا إِلَى أَنَّ الْوَاوَ أَصْلِيَّةٌ انْتَهَى. وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ حُذَّاقُ النَّحْوِيِّينَ الَّذِينَ تَكُونُ الْكَافُ عِنْدَهُمْ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ فَضْلًا عَنْ زِيَادَتِهَا فِي أَوَّلِ كَلِمَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ هِنْدِيُّ وَهِنْدُكِيٌّ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْهِنْدِ قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَقْرُونَةٌ دُهْمٌ وَكُمْتٌ كَأَنَّهَا ... طَمَاطِمُ يُوفُونَ الْوِفَازَ هَنَادِكَ فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْكَافَ لَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ زِيَادَتُهَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ سَبَطَ وَسَبْطَرَ، وَالَّذِي أَخْرَجَهُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا مِنَ الْعَرَبِ إِنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِهِ فَإِنَّمَا سَرَى إِلَيْهِ مِنْ لُغَةِ الْحَبَشِ لِقُرْبِ الْعَرَبِ مِنَ الْحَبَشِ

وَدُخُولِ كَثِيرٍ مِنْ لُغَةِ بَعْضِهِمْ فِي لُغَةِ بَعْضٍ، وَالْحَبَشَةُ إِذَا نَسَبَتْ أَلْحَقَتْ آخِرَ مَا تَنْسُبُ إِلَيْهِ كَافًا مَكْسُورَةً مَشُوبَةً بَعْدَهَا يَاءٌ يَقُولُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى قِنْدِيٍّ قِنْدِكِيٌّ وَإِلَى شَوَاءٍ: شَوَكِيٌّ وَإِلَى الْفَرَسِ: الْفَرَسْكِيُّ وَرُبَّمَا أَبْدَلَتْ تَاءً مَكْسُورَةً قَالُوا فِي النَّسَبِ إِلَى جَبْرَى: جَبَرْتِيٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَى كَيْفِيَّةِ نِسْبَةِ الْحَبَشِ فِي كِتَابِنَا الْمُتَرْجَمِ عَنْ هَذِهِ اللُّغَةِ الْمُسَمَّى بِجَلَاءِ الْغَبَشِ عَنْ لِسَانِ الْحَبَشِ، وَكَثِيرًا مَا تَتَوَافَقُ اللُّغَتَانِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلُغَةُ الْحَبَشِ فِي أَلْفَاظٍ وَفِي قواعد من التراكيب نحوية كَحُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ وَهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. أَفَلَ يَأْفُلُ أُفُولًا غَابَ. وَقِيلَ: ذَهَبَ وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي يَقُودُهَا ... نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ الْقَمَرُ مَعْرُوفٌ يُسَمَّى بِذَلِكَ لِبَيَاضِهِ وَالْأَقْمَرُ الْأَبْيَضُ وَلَيْلَةٌ قَمْرَاءُ مُضِيئَةٌ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. الْبُزُوغُ أَوَّلُ الطُّلُوعِ بَزَغَ يَبْزُغُ. اقْتَدَى بِهِ اتَّبَعَهُ وَجَعَلَهُ قُدْوَةً لَهُ أَيْ مُتَّبِعًا. الْغَمْرَةُ الشِّدَّةُ الْمُذْهِلَةُ وَأَصْلُهَا فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ وَهِيَ مَا يُغَطِّي الشَّيْءَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا يُنْجِي مِنَ الْغَمَرَاتِ إِلَّا ... بَرَاكَاءُ الْقِتَالِ أَوِ الْفِرَارُ وَيُجْمَعُ عَلَى فُعَلٍ كَنَوْبَةٍ وَنُوَبٍ قَالَ الشَّاعِرُ: وَحَانَ لِتَالِكَ الْغَمْرِ انْحِسَارُ فُرَادَى: الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ وَمَعْنَاهَا فَرْدًا فَرْدًا، وَيُقَالُ فِيهِ فُرَادٌ مُنَوَّنًا عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَفُرَادٌ غَيْرُ مَصْرُوفٍ كَآحَادٍ وَثُلَاثٍ وَحَكَاهُ أَبُو مُعَاذٍ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ جَمْعًا مِثْلَ تُؤَامٍ وَرُخَالٍ وَهُوَ جَمْعٌ قَلِيلٌ، قِيلَ: وَفُرَادَى جَمْعُ فَرَدٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقِيلَ: بِسُكُونِهَا، قال الشاعر: يرى النعراق الزرق تَحْتَ لِبَانِهِ ... فُرَادَى وَمَثْنَى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ وَقِيلَ: جَمْعُ فَرِيدٍ كَرَدِيفٍ وَرُدَافَى وَيُقَالُ رَجُلٌ أَفْرَدَ وَامْرَأَةٌ فَرْدَى إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخٌ وَفَرَّدَ الرَّجُلُ يُفَرِّدُ فُرُودًا إِذَا انْفَرَدَ فَهُوَ فَارِدٌ. خَوَّلَهُ: أَعْطَاهُ وَمَلَّكَهُ وَأَصْلُهُ تَمْلِيكُ الْخَوْلِ كَمَا تَقُولُ مَوَّلْتُهُ مَلَّكْتُهُ الْمَالَ. الْبَيْنُ: الْفِرَاقُ. قِيلَ: وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْوَصْلِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا. قال الشاعر: فو الله لَوْلَا الْبَيْنُ لَمْ يَكُنِ الْهَوَى ... وَلَوْلَا الْهَوَى مَا حَنَّ لِلْبَيْنِ آلِفُهْ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.

لَمَّا ذُكِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا «1» نَاسِبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا وَكَانَ التَّذْكَارُ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ أَنْسَبَ لِرُجُوعِ الْعَرَبِ إِلَيْهِ إِذْ هُوَ جَدُّهُمُ الْأَعْلَى فَذُكِّرُوا بِأَنَّ إِنْكَارَ هَذَا النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ هُوَ مِثْلُ إِنْكَارِ جَدِّكُمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ عِبَادَتَهَا وَفِي ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى اقْتِفَاءِ مَنْ سَلَفَ مِنْ صَالِحِي الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَهُمْ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ مُعَظِّمُونَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ آزَرَ اسْمُ أَبِيهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ أَنَّ اسْمَهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ تَارِخُ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ وَزْنَهُ فَاعِلَ مِثْلُ تَارِخَ وَعَابِرَ وَلَازِبَ وَشَالِحَ وَفَالِغَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ اسْمَانِ كَيَعْقُوبَ وَإِسْرَائِيلَ وَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ فَيَكُونُ أُطْلِقُ عَلَى أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِمُلَازَمَتِهِ عِبَادَتَهُ كَمَا أُطْلِقَ عَلَى عُبَيْدِ الله بن قيس الرقيات لِحُبِّهِ نِسَاءً اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُقَيَّةُ. فَقِيلَ ابْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: أَدْعَى بِأَسْمَاءَ تَتْرَى فِي قَبَائِلِهَا ... كَأَنَّ أَسْمَاءَ أَضْحَتْ بَعْضَ أَسْمَائِي وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ عَطْفَ بَيَانٍ أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ عَابِدِ آزَرَ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَوْ يَكُونُ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ تَتَّخِذُ آزَرَ، وَقِيلَ: إِنَّ آزَرَ عَمُّ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ اسْمَ أَبِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَلَا سِيَّمَا مُحَاوَرَةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ. فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ لَقَبٌ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ اسْمًا لَهُ وَامْتَنَعَ آزَرُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى الْمُعْوَجِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِمَعْنَى الْمُخْطِئِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الشَّيْخُ الْهَمُّ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ صِفَةً أَشْكَلَ مَنْعُ صَرْفِهِ وَوَصْفُ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ وَوَجَّهَهُ الزَّجَّاجُ بِأَنْ تُزَادَ فِيهِ الْ وَيُنْصَبُ عَلَى الذَّمِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَذُمُّ الْمُخْطِئَ، وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ فِي حَالِ عِوَجٍ أَوْ خَطَأٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آزَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَأُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى النِّدَاءِ وَكَوْنِهِ عَلَمًا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَهُوَ لَا يُحْذَفُ مِنَ الصِّفَةِ إِلَّا شُذُوذًا، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ يَا آزَرُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ اتَّخَذْتَ أَصْنَامًا بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فَيَحْتَمِلُ الْعَلَمِيَّةَ وَالصِّفَةَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أأزرا تَتَّخِذُ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا وَسُكُونِ الزَّايِ وَنَصْبِ الرَّاءِ مُنَوَّنَةً وَحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ أَتَتَّخِذُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَعَضُدًا وَقُوَّةً وَمُظَاهَرَةً عَلَى الله تتخذ وهو قَوْلِهِ: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي «2»

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 71. (2) سورة طه: 20/ 31.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ وَمَعْنَاهُ أَتَعْبُدُ أَزَرًا عَلَى الْإِنْكَارِ ثُمَّ قَالَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تَبْيِينًا لِذَلِكَ وَتَقْرِيرًا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّهُ كَالْبَيَانِ لَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو إِسْمَاعِيلَ الشَّامِيُّ أَإِزْرًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَتَّخِذُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهَا أَنَّهَا مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ كَوِسَادَةٍ وَإِسَادَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: أَوِزْرًا أَوْ مَأْثَمًا تَتَّخِذُ أَصْنَامًا وَنَصْبُهُ عَلَى هَذَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ وَوَجَّهَهُ عَلَى مَا وَجَّهَ عَلَيْهِ أَأَزْرًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ إِزْرًا تَتَّخِذُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَنَصْبِ الرَّاءِ وَتَنْوِينِهَا وَبِغَيْرِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ فِي تَتَّخِذُ وَالْهَمْزَةُ فِي أَتَتَّخِذُ لِلْإِنْكَارِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أُمِرَ الْإِنْسَانُ بِإِكْرَامِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ وَعَلَى الْبُدَاءَةِ بِمَنْ يَقْرُبُ مِنَ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» وَفِي ذِكْرِهِ أَصْنَامًا آلِهَةً بِالْجَمْعِ تَقْبِيحٌ عَظِيمٌ لِفِعْلِهِمْ وَاتِّخَاذِهِمْ جَمْعًا آلِهَةً وَذَكَرُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ نَجَّارًا مُنَجِّمًا مُهَنْدِسًا وَكَانَ نُمْرُودُ يَتَعَلَّقُ بِالْهَنْدَسَةِ وَالنُّجُومِ فَحَظِيَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ مِنْ قَرْيَةٍ تُسَمَّى كَوْثًا مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ قِيلَ وَبِهَا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: كَانَ آزَرُ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَهُوَ تَارِخُ بْنُ نَاجُورَ بْنِ سَارُوعَ بْنِ أَرْغُوَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وأراك يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَتَّخِذُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَتَعْمَلُ وَتَصْنَعُ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْحِتُهَا وَيَعْمَلُهَا وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَى أَبِيهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَقَوْمَهُ فِي ضَلَالٍ وَجَعْلُهُمْ مَظْرُوفَيْنِ لِلضَّلَالِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالضَّلَالِ كَأَنَّ الضَّلَالَ صَارَ ظَرْفًا لَهُمْ ومبين وَاضِحٌ ظَاهِرٌ مِنْ أَبَانَ اللَّازِمَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي الْمَنْقُولِ مَنْ بَانَ يَبِينُ انْتَهَى، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ يُوَضِّحُ كُفْرَكُمْ بِمُوجِدِكُمْ مِنْ حَيْثُ اتَّخَذْتُمْ دُونَهُ آلِهَةً وَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَبِيهِ وَالْإِخْبَارُ أَنَّهُ وَقَوْمَهُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى هِدَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَعِصْمَتِهِ مَنْ سَبْقِ مَا يُوهِمُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ مَعَ الْخَصْمِ وَتَقْرِيرِ مَا يَبْنِي عَلَيْهِ مِنَ اسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْحُدُوثِ مِنَ الْجُسْمَانِيَّةِ وَقَبُولِهِ التَّغَيُّرَاتِ مِنَ الْبُزُوغِ وَالْأُفُولِ وَنَحْوِهَا. وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذِهِ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ مُنْكِرًا عَلَى أَبِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِإِفْرَادِ الْمَعْبُودِ، وَكَوْنِهِ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ونُرِي بمعنى أريناه

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 214.

وَهِيَ حِكَايَةُ حَالٍ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى اثْنَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بَصَرِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَمَّا مِنْ أُرِيَ الَّتِي بِمَعْنَى عَرَفَ انْتَهَى، وَيَحْتَاجُ كَوْنُ رَأَى بِمَعْنَى عَرَفَ ثُمَّ تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ وَالَّذِي نَقَلَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ رَأَى إِذَا كَانَتْ بَصْرِيَّةً تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمَ النَّاصِبَةِ لِمَفْعُولَيْنِ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَعَلَى كَوْنِهَا بَصْرِيَّةً فَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ ومجاهد: فرجت له السموات وَالْأَرْضُ فَرَأَى بِبَصَرِهِ الْمَلَكُوتَ الْأَعْلَى وَالْمَلَكُوتَ الْأَسْفَلَ وَرَأَى مَقَامَهُ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ فَفِيهِ تَخْصِيصٌ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَا لَمْ يُدْرِكْهُ غَيْرُهُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَشَفَ الله له عن السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى الْعَرْشِ وَأَسْفَلِ الْأَرَضِينَ وَإِذَا كَانَتْ إِبْصَارًا فَلَيْسَ الْمَعْنَى مُجَرَّدَ الْإِبْصَارِ وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُ مَعَهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ التَّقْيِيدِ بِأَهْلِ زَمَانِهِ وَكَوْنِهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رأى بها ملكوت السموات وَالْأَرْضِ بِفِكْرَتِهِ وَنَظَرِهِ وَذَلِكَ لَا بُدَّ مُتَرَكِّبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُؤْيَتِهِ بِبَصَرِهِ وَإِدْرَاكِهِ فِي الْجُمْلَةِ بِحَوَاسِّهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّعْرِيفِ وَالتَّبْصِيرِ نُعَرِّفُ ابراهيم ونبصره ملكوت السموات وَالْأَرْضِ يَعْنِي الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ ونوقفه لِمَعْرِفَتِهِمَا وَنُرْشِدُهُ بِمَا شَرَحْنَا صَدْرَهُ وَسَدَّدْنَا نَظَرَهُ لِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ونُرِي حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ انْتَهَى، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْهِدَايَةِ أَوْ وَمِثْلَ هِدَايَتِهِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ أَشْهَدْنَاهُ مَلَكُوتَ السموات وَالْأَرْضِ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى وَكَمَا هَدَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ وَكَذَلِكَ الْإِنْكَارُ وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ زَمَانَ ادِّعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ الرُّبُوبِيَّةَ أشهدناه ملكوت السموات وَالْأَرْضِ فَصَارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَلَائِلَ الْأُمُورِ سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا، فَلَمْ يُخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا فَرَدَّهُ لَا يَرَى أَعْمَالَهُمْ انْتَهَى، قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ وَمِنْ كَلَامِهِمْ: لَهُ مَلَكُوتُ الْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: ويعني به آيات السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَلَكُوتُ السموات: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَمَلَكُوتُ الْأَرْضِ: الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالْبِحَارُ، وَقِيلَ: عِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَعِصْيَانُ آدَمَ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَالِ: مَلْكُوتَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ مَلَكُوثَ بِالثَّاءِ

الْمُثَلَّثَةِ وَقَالَ: مَلَكُوثًا بِالْيُونَانِيَّةِ أَوِ الْقِبْطِيَّةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ مَلَكُوثًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَقُرِئَ وَكَذَلِكَ تَرَى، بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ، بِرَفْعِ التَّاءِ، أَيْ تَبَصِّرُهُ دَلَائِلَ الرُّبُوبِيَّةِ. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَيْ أَرَيْنَاهُ الْمَلَكُوتَ، وَقِيلَ: ثَمَّ عِلَّةٌ مَحْذُوفَةٌ عُطِفَتْ هَذِهِ عَلَيْهَا وَقُدِّرَتْ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَمُتَعَلَّقُ الْمُوقِنِينَ قِيلَ: بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقِيلَ: بِنُبُوَّتِهِ وَبِرِسَالَتِهِ. وَقِيلَ: عِيَانًا كَمَا أَيْقَنَ بَيَانًا انْتَقَلَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ كَمَا سَأَلَ فِي قَوْلِهِ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «1» والإيقان تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْيَقِينُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ يَحْصُلُ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ التَّأَمُّلِ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ عِلْمُ اللَّهِ بِكَوْنِهِ يَقِينًا لِأَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِالشُّبْهَةِ وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَإِذَا كَثُرَتِ الدَّلَائِلُ وَتَوَافَقَتْ وَتَطَابَقَتْ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الْيَقِينِ إِذْ يَحْصُلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَوْعُ تَأْثِيرٍ وَقُوَّةٍ فَتَتَزَايَدُ حَتَّى يَجْزِمَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي. هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ وَكَذلِكَ نُرِي اعْتِرَاضًا وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا رَابِطَةٌ جُمْلَةَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا وَهِيَ تُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَكُوتِ هُوَ هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ فَأَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِي دِينِهِمْ وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ مُؤَدٍّ إِلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لِقِيَامِ دَلِيلِ الْحُدُوثِ فِيهَا وَأَنَّ وَرَاءَهَا مُحْدِثًا أَحْدَثَهَا وَصَانِعًا صَنَعَهَا وَمُدَبِّرًا دَبَّرَ طُلُوعَهَا وَأُفُولَهَا وَانْتِقَالَهَا وَمَسِيرَهَا وَسَائِرَ أَحْوَالِهَا وَالْكَوْكَبُ الزُّهْرَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، أَوِ الْمُشْتَرِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَهُوَ رُبَاعِيٌّ وَالْوَاوُ فِيهِ أَصْلٌ وَتَكَرَّرَتْ فِيهِ الْفَاءُ فَوَزْنُهُ فَعْفَلٌ نَحْوَ قَوْقَلٍ وَهُوَ تَرْكِيبٌ قَلِيلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ لَمَّا رَأى كَوْكَباً وَعَلَى هَذَا جَوَّزُوا فِي قالَ هَذَا رَبِّي أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْكَوْكَبِ وَهُوَ مُشْكِلٌ أَوْ مُسْتَأْنَفًا وَهُوَ الظَّاهِرُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ قالَ هذا رَبِّي ورَأى كَوْكَباً حَالٌ أَيْ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَائِيًا كَوْكَبًا وهذا رَبِّي الظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَقِيلَ هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ حُذِفَ مِنْهَا الْهَمْزَةُ كَقَوْلِهِ: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 260.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا شَاذٌّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفُ إِلَّا إِذَا كَانَ ثَمَّ فَارَقٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَإِذَا كَانَتْ خَبَرِيَّةً فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِخْبَارُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ وَالتَّصْمِيمِ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي، فَضْلًا عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي حَالِ صِبَاهُ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ وَأَنَّهُ عَبَدَهُ حَتَّى غَابَ وَعَبَدَ الْقَمَرَ حَتَّى غَابَ وَعَبَدَ الشَّمْسَ حَتَّى غَابَتْ فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالتَّكْلِيفِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَمَا حَكَوْا مِنْ أَنَّ أُمَّهُ أَخْفَتْهُ فِي غَارٍ وَقْتَ وِلَادَتِهِ خَوْفًا مِنْ نُمْرُوذَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ أَنَّهُ يُولَدُ وَلَدٌ فِي سَنَةِ كَذَا يَخْرَبُ مُلْكُهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَى أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ مِنْ أُنْثَى تُرِكَتْ وَمِنْ ذَكَرٍ ذَبْحَهُ إِلَى أَنْ صَارَ ابْنَ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَنَّهُ نَظَرَ أَوَّلَ مَا عَقَلَ مِنَ الْغَارِ فَرَأَى الْكَوْكَبَ فَحِكَايَةٌ يَدْفَعُهَا مَسَاقُ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وَقَوْلُهُ: تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ وَكَثِيرًا مَا يُضْمَرُ تَقْدِيرُهُ قَالَ: يَقُولُونَ هَذَا رَبِّي عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ وَتَوْضِيحِ فَسَادِهِ مِمَّا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى الْإِضْمَارِ بَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكائِيَ أَيْ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا رَبِّي قَوْلُ مَنْ يُنْصِفُ خَصْمَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فَيَحْكِي قَوْلَهُ كَمَا هُوَ غَيْرَ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْحَقِّ وَأَنْجَى مِنَ الشَّغَبِ ثُمَّ يَكُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ فَيُبْطِلُهُ بِالْحُجَّةِ انْتَهَى، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ اسْتِدْرَاجًا لِإِظْهَارِ الْحُجَّةِ وَتَوَسُّلًا إِلَيْهَا كَمَا تَوَسَّلَ إِلَى كَسْرِ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ «1» فَوَافَقَهُمْ ظَاهِرًا عَلَى النَّظَرِ فِي النُّجُومِ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ إِنِّي سَقِيمٌ نَاشِئٌ عَنْ نَظَرِهِ فِيهَا. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أَيْ لَا أُحِبُّ عِبَادَةَ الْآفِلِينَ الْمُتَغَيِّرِينَ عَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ الْمُنْتَقِلِينَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ الْمُحْتَجِبِينَ بِسَتْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِالْأُفُولِ دُونَ الْبُزُوغِ، وَكِلَاهُمَا انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْأُفُولِ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مَعَ خَفَاءٍ وَاحْتِجَابٍ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْآفِلِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ آفِلِينَ كَثِيرِينَ سَاوَاهُمْ هَذَا الْكَوْكَبُ فِي الْأُفُولِ فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يُعْبَدَ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي لَمْ يَأْتِ فِي الْكَوَاكِبِ رَأَى كَوْكَبًا بَازِغًا لِأَنَّهُ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 89. [.....]

أَوَّلًا مَا ارْتَقَبَ حَتَّى بَزَغَ الْكَوْكَبُ لِأَنَّهُ بِإِظْلَامِ اللَّيْلِ تَظْهَرُ الْكَوَاكِبُ بِخِلَافِ حَالِهِ مَعَ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا النَّيِّرَ وَهُوَ الْكَوْكَبُ الَّذِي رَآهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا ارْتَقَبَ مَا هُوَ أَنْوَرَ مِنْهُ وَأَضْوَأَ عَلَى سَبِيلِ إِلْحَاقِهِ بِالْكَوْكَبِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعِبَادَةِ فَرَآهُ أَوَّلَ طُلُوعِهِ وَهُوَ الْبُزُوغُ، ثُمَّ عَمِلَ كَذَلِكَ فِي الشَّمْسِ ارْتَقَبَهَا إِذْ كَانَتْ أَنْوَرَ مِنَ الْقَمَرِ وَأَضْوَأَ وَأَكْبَرَ جِرْمًا وَأَعَمَّ نَفْعًا وَمِنْهَا يَسْتَمِدُّ الْقَمَرُ عَلَى مَا قِيلَ فَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ فِي صِفَةِ الْحُدُوثِ. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ الْقَوْمُ الضَّالُّونَ هُنَا عَبْدَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا رَبِّي عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ النَّازِلَةَ كَانَتْ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي تَنْبِيهٌ لِقَوْمِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ الْقَمَرَ إِلَهًا وَهُوَ نَظِيرُ الْكَوْكَبِ فِي الْأُفُولِ فَهُوَ ضَالٌّ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ الْمَشْهُورُ فِي الشَّمْسِ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ. وَقِيلَ: تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ فَأُنِّثَتْ أَوَّلًا عَلَى الْمَشْهُورِ وَذُكِّرَتْ فِي الْإِشَارَةِ عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ مُرَاعَاةً وَمُنَاسِبَةً لِلْخَبَرِ، فَرُجِّحَتْ لُغَةُ التَّذْكِيرِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ عَلَى لُغَةِ التَّأْنِيثِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ فِيهَا إِلَّا التَّأْنِيثَ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَّرَ أَيْ هَذَا الْمَرْئِيَّ أَوِ النَّيِّرَ وَقَدَّرَهُ الْأَخْفَشُ، هَذَا الطَّالِعَ، وَقِيلَ: الشَّمْسُ بِمَعْنَى الضِّيَاءِ قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً «1» فَأَشَارَ إِلَى الضِّيَاءِ وَالضِّيَاءُ مُذَكَّرٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ الْمُبْتَدَأَ مِثْلَ الْخَبَرِ لِكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ: مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ وَمَا كانت أمك، ولم تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاجِبًا لِصِيَانَةِ الرَّبِّ عَنْ شُبْهَةِ التَّأْنِيثِ أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا فِي صِفَةِ اللَّهِ: عَلَّامُ وَلَمْ يَقُولُوا عَلَّامَةٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَّامَةٌ أَبْلَغَ احْتِرَازًا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنَّ أَكْثَرَ لُغَةِ الْأَعَاجِمِ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الضَّمَائِرِ وَلَا فِي الْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَلَا عَلَامَةَ عِنْدَهُمْ لِلتَّأْنِيثِ بَلِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَلِذَلِكَ أَشَارَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ عِنْدَنَا حِينَ حَكَى كَلَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَا يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمُذَكَّرِ، بَلْ لَوْ كَانَ الْمُؤَنَّثُ بِفَرْجٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِمْ وَحِينَ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهَا بِقَوْلِهِ بازِغَةً وأَفَلَتْ أُنِّثَ عَلَى مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِحِكَايَةٍ.

_ (1) سورة يونس: 10/ 5.

فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَيْ مِنَ الْأَجْرَامِ الَّتِي تَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لِخَالِقِهَا، وَلَمَّا أَفَلَتِ الشَّمْسُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ يُمَثِّلُ لَهُمْ بِهِ وَظَهَرَتْ حُجَّتُهُ وَقَوِيَ بِذَلِكَ عَلَى مُنَابِذَتِهِمْ تَبَرَّأَ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يُقَالَ: اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا لِلْإِلَهِيَّةِ لِغَلَبَةِ نُورِ الْقَمَرِ نُورَ الزُّهْرَةِ وَنُورِ الشَّمْسِ لِنُورِهِ وَقَهْرِ تِيكَ بِذَاكَ وَهَذَا بِتِلْكَ، وَالرَّبُّ لَا يُقْهَرُ وَالظَّلَامُ غَلَبَ نُورَ الشَّمْسِ وَقَهَرَهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ: مَا جَاءَ الظَّلَامُ إِلَّا بَعْدَ ذَهَابِ الشَّمْسِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا حَتَّى يُقَالَ قَهَرَهَا وَقَهَرَ نُورَهَا انْتَهَى، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنْ شَأْنِ الْحُدُوثِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا بَانَ فِي هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الرَّفِيعَةِ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ فَأَصْنَامُكُمُ الَّتِي مِنْ خَشَبٍ وَحِجَارَةٍ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيهَا وَمَثَّلَ لَهُمْ بِهَذِهِ النَّيِّرَاتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ نَظَرٍ فِي الْأَفْلَاكِ وَتَعَلُّقٍ بِالنُّجُومِ وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ كَانَتْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، رَأَى الْكَوْكَبَ الزُّهْرَةَ أَوِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ جَانِحًا لِلْغُرُوبِ فَلَمَّا أَفَلَ بَزَغَ الْقَمَرُ فَهُوَ أَوَّلُ طُلُوعِهِ فَسَرَى اللَّيْلُ أَجْمَعَ فَلَمَّا بَزَغَتِ الشَّمْسُ زَالَ ضَوْءُ الْقَمَرِ قَبْلَهَا لِانْتِشَارِ الصَّبَاحِ وَخَفِيَ نُورُهُ وَدَنَا أَيْضًا مِنْ مَغْرِبِهِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ أُفُولًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْأُفُولِ التَّامِّ عَلَى تَجَوُّزٍ فِي التَّسْمِيَةِ ثُمَّ بَزَغَتِ الشَّمْسُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَسْتَقِيمُ فِي اللَّيْلَةِ الْخَامِسَةَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ إِلَى لَيْلَةِ عِشْرِينَ، وَلَيْسَ يَتَرَتَّبُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي وَبِذَلِكَ التَّجَوُّزِ فِي أُفُولِ الْقَمَرِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ هُوَ مَا وَضَعَتْهُ لَهُ الْعَرَبُ مِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى هَذِهِ النَّيِّرَاتِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ رُؤْيَةُ قَلْبٍ، وَعُبِّرَ بِالْكَوْكَبِ عَنِ النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي لِكُلِّ كَوْكَبٍ وَبِالْقَمَرِ عَنِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لِكُلِّ فَلَكٍ، وَبِالشَّمْسِ عَنِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لِكُلِّ فَلَكٍ وَكَانَ ابْنُ سِينَا يُفَسِّرُ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ فَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُفُولِهَا إِمْكَانُهَا لِذَاتِهَا، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ مُؤَثِّرٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى الْحِسِّ وَالْقَمَرَ عَلَى الْخَيَالِ وَالْوَهْمِ وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَى الْمُدْرَكَةَ الثَّلَاثَةَ قَاصِرَةٌ مُتَنَاهِيَةُ الْقُوَّةِ، وَمُدَبِّرُ الْعَالَمِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا قَاهِرٌ لَهَا انْتَهَى، وَهَذَانِ التَّفْسِيرَانِ شَبِيهَانِ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إِذْ هُمَا لُغْزٌ وَرَمْزٌ يُنَزَّهُ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُمَا وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ قَدْ نَقَلَهُمَا فِي التَّفْسِيرِ، لَأَضْرَبْتُ عَنْ نَقْلِهِمَا صَفْحًا إِذْ هُمَا مِمَّا نَجْزِمُ بِبُطْلَانِهِ وَمِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ الْإِمَامِيَّةِ وَنَسَبُوهُ إِلَى عَلِيٍّ أَنَّ الْكَوْكَبَ هُوَ الْمَأْذُونُ، وَهُوَ الدَّاعِي وَالْقَمَرَ

اللَّاحِقُ وَهُوَ فَوْقَ الْمَأْذُونِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ مِنَ الْإِمَامِ وَالشَّمْسَ الْإِمَامُ وَإِبْرَاهِيمَ فِي دَرَجَةِ الْمُسْتَجِيبِ، فَقَالَ لِلْمَأْذُونِ: هَذَا رَبِّي عَنَى رَبَّ التَّرْبِيَةِ لِلْعِلْمِ فَإِنَّهُ يُرَبِّي الْمُسْتَجِيبَ بِالْعِلْمِ وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَلَ فَنِيَ مَا عِنْدَ الْمَأْذُونِ مِنَ الْعِلْمِ رَغِبَ عَنْهُ وَلَزِمَ اللَّاحِقَ فَلَمَّا فَنِيَ مَا عِنْدَهُ رَغِبَ عَنْهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى التَّالِي وَهُوَ الصَّامِتُ الَّذِي يَقْبَلُ الْعِلْمَ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي يُسَمَّى النَّاطِقَ لِأَنَّهُ يُنْطِقُ بِجَمِيعِ مَا يَنْطِقُ بِهِ الرَّسُولُ فَلَمَّا فَنِيَ مَا عِنْدَهُ ارْتَقَى إِلَى النَّاطِقِ وَهُوَ الرَّسُولُ وَهُوَ الْمُصَوِّرُ لِلشَّرَائِعِ عِنْدَهُمْ انْتَهَى هَذَا التَّخْلِيطُ، وَاللُّغْزُ الَّذِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ وَالتَّفْسِيرِ أَنَّ قَبْلَ هَذَا شَبِيهَانِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ الْمُسْتَحِيلِ وَلِلْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى الصُّوفِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْوَاعٌ مِنْ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَحَاطَ بِهِ سُجُوفُ الطَّلَبِ وَلَمْ يَتَجَلَّ لَهُ بَعْدُ صَبَاحُ الْوُجُودِ فَطَلَعَ لَهُ نَجْمُ الْعُقُولِ فَشَاهَدَ الْحَقَّ بِسِرِّهِ بِنُورِ الْبُرْهَانِ فَقَالَ: هَذَا رَبِّي ثُمَّ زِيدَ فِي ضِيَائِهِ فَطَلَعَ قَمَرُ الْعِلْمِ وَطَالَعَهُ بِسِرِّ الْبَيَانِ، فَقَالَ: هَذَا رَبِّي ثُمَّ أَسْفَرَ الصُّبْحُ وَمُتِعَ النَّهَارُ وَطَلَعَتْ شَمْسُ الْعِرْفَانِ مِنْ بُرْجِ شَرَفِهَا فَلَمْ يَبْقَ لِلطَّلَبِ مَكَانٌ وَلَا لِلتَّجْوِيزِ حُكْمٌ وَلَا لِلتُّهْمَةِ قَرَارٌ، فَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْبَعْثِ رَيْبٌ وَلَا بَعْدَ الظُّهُورِ سِتْرٌ انْتَهَى، وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْمٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الصُّوفِ هُمْ خَوَاصُّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامُ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً أَيْ أَقْبَلْتُ بِقَصْدِي وَعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَإِيمَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعُمُّهُ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِوَجْهِي لِلَّذِي ابْتَدَعَ الْعَالَمَ مَحِلَّ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الْمُحْدَثَاتِ وَغَيْرِهَا، وَاكْتَفَى بِالظَّرْفِ عَنِ الْمَظْرُوفِ لِعُمُومِهِ إِذْ هَذِهِ النيرات مظروف السموات وَلَمَّا كَانَتِ الْأَصْنَامُ الَّتِي يعبدها قومه النيرات ومن خَشَبٍ وَحِجَارَةٍ وَذَكَرَ ظَرْفَ النَّيِّرَاتِ عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ ظَرْفُ الْخَشَبِ والحجارة، وحَنِيفاً مَائِلًا عَنْ كُلِّ دِينٍ إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُسْلِمًا أَيْ مُنْقَادًا إِلَيْهِ مُسْتَسْلِمًا لَهُ. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَى أَبِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَضَلَّلَهُ وَقَوْمَهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ضَلَالِهِمْ بِقَضَايَا الْعُقُولِ إِذْ لَا يُذْعِنُونَ لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لِتَوَقُّفِهِ فِي الثُّبُوتِ عَلَى مُقَدَّمَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَبْدَى تِلْكَ الْقَضَايَا مَنُوطَةً بِالْحِسِّ الصَّادِقِ تَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ وَأَكَّدَ ذلك بأن ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَجَّهَ عِبَادَتَهُ لِمُبْدِعِ الْعَالَمِ الَّتِي هَذِهِ النَّيِّرَاتُ الْمُسْتَدَلُّ بِهَا، بَعْضُهُ ثُمَّ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُبَالَغَةً فِي التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ.

وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ الْمُحَاجَّةُ مُفَاعَلَةٌ مِنِ اثْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حُكْمَيْنِ يُدْلِي كُلٌّ مِنْهُمَا بِحُجَّتِهِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَالْمَعْنَى وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ وَمُحَاجَّةُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا هِيَ بِالتَّمَسُّكِ بِاقْتِفَاءِ آبَائِهِمْ تَقْلِيدًا وَبِالتَّخْوِيفِ مِنْ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ كَقَوْلِ: قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «1» فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ هَدَاهُ بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَرَفْضِ مَا سِوَاهُ وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِخِلَافٍ عَنْ هِشَامٍ أَتُحاجُّونِّي بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَأَصْلُهُ بِنُونَيْنِ الْأُولَى عَلَامَةُ الرَّفْعِ وَالثَّانِيَةُ نُونُ الْوِقَايَةِ وَالْخِلَافُ فِي الْمَحْذُوفِ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَقَدْ لَحَّنَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: الْحَذْفُ بَعِيدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَبِيحٌ مَكْرُوهٌ وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ لِلْوَزْنِ وَالْقُرْآنُ لَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِيهِ إِذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ وَقَوْلُ مَكِّيٍّ لَيْسَ بِالْمُرْتَضَى، وَقِيلَ: التَّخْفِيفُ لُغَةٌ لِغَطَفَانَ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَصْلُهُ أَتُحَاجُّونَنِي فَأُدْغِمَ هُرُوبًا مِنَ اسْتِثْقَالِ الْمِثْلَيْنِ مُتَحَرِّكَيْنِ فَخُفِّفَ بِالْإِدْغَامِ وَلَمْ يُقْرَأْ هُنَاكَ بِالْفَكِّ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ، وفِي اللَّهِ متعلق بأتحاجوني لَا بِقَوْلِهِ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ إِعْمَالِ الثَّانِي فَلَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْأَوَّلِ لَأُضْمِرَ فِي الثاني ونظير يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «2» وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ حَالِيَّةٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَقَعَ مِنْهُمْ مُحَاجَّةٌ لَهُ وَقَدْ حَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ لَهُ الْهِدَايَةُ لِتَوْحِيدِهِ فَمُحَاجَّتُهُمْ لَا تُجْدِي لِأَنَّهَا دَاحِضَةٌ. وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً حُكِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَا خِفْتَ أَنْ تُصِيبَكَ آلِهَتُنَا بِبَرَصٍ أَوْ دَاءٍ لِإِذَايَتِكَ لَهَا وَتَنْقِيصِكَ فَقَالَ لَهُمْ: لَسْتُ أَخَافُ الَّذِي تُشْرِكُونَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا غِنَى عنده وما بِمَعْنَى الَّذِي وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَيْهِ أَيِ الَّذِي تُشْرِكُونَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ أَيْ الذين تُشْرِكُونَهُ بِاللَّهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وإِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمَّا كَانَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَخَافُ ضَرًّا اسْتَثْنَى مَشِيئَةَ رَبِّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يريد بِضَرٍّ انْتَهَى، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا وَبِهِ قَالَ الْحَوْفِيُّ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَكِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ إِيَّايَ بِضَرٍّ أَخَافُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا يُخَافُ فَحُذِفَ الْوَقْتُ يَعْنِي لَا أَخَافُ مَعْبُودَاتِكُمْ فِي وَقْتٍ قَطُّ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَلَا عَلَى مَضَرَّةٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي أَنْ يُصِيبَنِي بِمَخُوفٍ مِنْ جِهَتِهَا إِنْ أَصَبْتُ ذَنْبًا أَسْتَوْجِبُ بِهِ إِنْزَالَ الْمَكْرُوهِ مِثْلَ أَنْ يَرْجُمَنِي بِكَوْكَبٍ أَوْ بِشِقَّةٍ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ يَجْعَلَهَا قادرة على

_ (1) هود: 11/ 54. (2) النساء: 4/ 176.

مَضَرَّتِي انْتَهَى، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا مِنْ عُمُومِ الْأَزْمَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّفْيُ وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا وَمُنْقَطِعًا إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَّصِلًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْأَحْوَالِ وَقَدَّرَهُ إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ رَبِّي أَيْ لَا أَخَافُهَا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَانْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مَشِيئَةً أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ذَكَرَ عَقِيبَ الِاسْتِثْنَاءِ سَعَةَ عِلْمِ اللَّهِ فِي تَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْكَوَائِنِ فَقَدْ لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِإِنْزَالِ الْمَخُوفِ بِي إِمَّا مِنْ جِهَتِهَا إِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا أَوْ مُطْلَقًا إِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا وَانْتَصَبَ عِلْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَصْلُهُ وَسِعَ عِلْمُ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى غَفْلَتِهِمْ حَيْثُ عَبَدُوا مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَعَلَى مَا حَاجَّهُمْ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ الدَّلَائِلِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فَتُمَيِّزُوا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، وَقِيلَ: أَفَلَا تَتَّعِظُونَ بِمَا أَقُولُ لَكُمْ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ نَفْيَ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ عَنِ اللَّهِ لَا يُوجِبُ حُلُولَ الْعَذَابِ وَنُزُولَ الْعِقَابِ. وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَالْإِنْكَارُ كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ فَسَادِ عُقُولِهِمْ حَيْثُ خَوَّفُوهُ خَشَبًا وَحِجَارَةً لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَهُمْ لَا يَخَافُونَ عُقْبَى شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ وَالْأَمْرُ كُلُّهُ وَلا تَخافُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَخافُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ وَاخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْخَوْفِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَّقَ الْخَوْفَ بِالْأَصْنَامِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ عَلَّقَهُ بِإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى تَرْكًا لِلْمُقَابَلَةِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ اللَّهُ عَدِيلَ أَصْنَامِهِمْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ وَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَتَى بِلَفْظِ مَا الْمَوْضُوعَةِ لِمَا لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَعْقِلُ إِذْ هِيَ حِجَارَةٌ وَخَشَبٌ وَكَوَاكِبُ، وَالسُّلْطَانُ الْحَجَّةُ وَالْإِشْرَاكُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حُجَّةً وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشُّرَكَاءِ وَرُبُوبِيَّتِهِمْ، نَفَى أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَسَمْعًا فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ، وَقُرِئَ سُلْطاناً بِضَمِّ اللَّامِ وَالْخِلَافُ هَلْ ذَلِكَ لُغَةٌ فَيَثْبُتُ بِهِ بِنَاءُ فُعُلَانٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ أَوْ هُوَ اتِّبَاعٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَمَّا خَوَّفُوهُ فِي مَكَانِ الْأَمْنِ وَلَمْ يَخَافُوا

فِي مَكَانِ الْخَوْفِ أُبْرِزَ الِاسْتِفْهَامُ فِي صُورَةِ الِاحْتِمَالِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ هُوَ الْآمِنُ لَا هُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لتعلمن ... أبي وَأَيُّكَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ أَيْ أَيَّنَا وَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ لَا الْمُخَاطَبُ وَأَضَافَ أَيًّا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَيَعْنِي فَرِيقَ الْمُشْرِكِينَ وَفَرِيقَ الْمُوَحِّدِينَ وَعَدَلَ عَنْ أَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أَنَا أَمْ أَنْتُمْ احْتِرَازًا مِنْ تَجْرِيدِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَزْكِيَةً لَهَا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ وَالِاسْتِبْصَارِ فَأَخْبِرُونِي أَيُّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا اسْتَفْهَمَهُمُ اسْتِفْهَامَ عَالِمٍ بِمَنْ هُوَ الْآمِنُ وَأَبْرَزَهُ فِي صُورَةِ السَّائِلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ اسْتَأْنَفَ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ فَقَالَ: الْفَرِيقُ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَجَابُوا بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَقُولَهُ لِقَوْمِهِ أَوْ قَالَهُ عَلَى جِهَةِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ وَبَيْنَ مَنْ حَاجَّهُ قَوْمُهُ، وَاللَّبْسُ الْخَلْطُ والَّذِينَ آمَنُوا: إِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُهُ وَلَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَهُ عَلِيٌّ وَعَنْهُ إِبْرَاهِيمُ خَاصَّةً أَوْ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَوْ عَامَّةٌ قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «1» وَلَمَّا قَرَأَهَا عُمَرُ عَظُمَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَ أُبَيًّا فَقَالَ: إِنَّهُ الشِّرْكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَسُرِّيَ عَنْهُ وَجَرَى لِزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ مَعَ سَلْمَانَ نَحْوٌ مِمَّا جَرَى لِعُمَرَ مَعَ أُبَيٍّ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِشِرْكٍ وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَفْسِيرُ مَعْنًى إِذْ هِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفَ السَّوَادَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ تُفَسِّقُهُمْ وَأَبَى تَفْسِيرَ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ لَفْظُ اللَّبْسِ انْتَهَى، وَهَذِهِ دَفِينَةُ اعْتِزَالٍ أَيْ إِنَّ الْفَاسِقَ، لَيْسَ لَهُ الْأَمْنُ إِذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبِيرَةِ، وَقَوْلُهُ: وَأَبَى تَفْسِيرَ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ لَفْظُ اللَّبْسِ هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ فَسَّرَ الظُّلْمَ بِالْكُفْرِ، وَالشِّرْكِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ وَقَدْ فَسَّرَهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالشِّرْكِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَلَعَلَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ يَأْبَاهُ لَفْظُ اللَّبْسِ لِأَنَّ اللَّبْسَ هُوَ الْخَلْطُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُؤْمِنًا عَاصِيًا مَعْصِيَةً تُفَسِّقُهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مؤمنا مشركا

_ (1) لقمان: 31/ 13.

في وقت واحد وَلَمْ يَلْبِسُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا دَخَلَتْ وَاوُ الْحَالِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ بِلَمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «1» وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُصْفُورٍ مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الْجُمْلَةِ المنفية بلم قَلِيلٌ جِدًّا وَابْنُ خَرُوفٍ مِنْ وُجُوبِ الْوَاوِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ خَطَأٌ بَلْ ذَلِكَ قَلِيلٌ وَبِغَيْرِ الْوَاوِ كَثِيرٌ عَلَى ذَلِكَ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَكَلَامُ اللَّهِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَيَجُوزُ فِي الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْأَمْنُ خَبَرَ الَّذِينَ وَجَعَلَ أُولئِكَ فَاصِلَةً وَهُوَ النَّحَّاسُ وَالْحَوْفِيُّ. وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ الإشارة بتلك إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ الِاحْتِجَاجُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إِلَى قَوْلِهِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَهَذَا الظَّاهِرُ، وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَكَانَ المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم وآتَيْناها أَيْ أَحْضَرْنَاهَا بِبَالِهِ وَخَلَقْنَاهَا فِي نَفْسِهِ إِذْ هِيَ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ، أَوْ آتَيْناها بِوَحْيٍ مِنَّا وَلَقَّنَّاهُ إِيَّاهَا وَإِنْ أُعْرِبَتْ وَتِلْكَ مبتدأ وحُجَّتُنا بدلا وآتَيْناها خبر لِتِلْكَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يتعلق عَلى قَوْمِهِ بحجتنا وَكَذَا إِنْ أُعْرِبَتْ وَتِلْكَ حُجَّتُنا مبتدأ وخبر وآتَيْناها حال الْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا وَإِنَّمَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُؤَلَّفُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَصْدَرًا مَجَازًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُفْصَلُ بِالْخَبَرِ وَلَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَطْلُوبِهِ، وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ آتَيْناها فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِحُجَّتِنَا وَالنِّيَّةُ فِيهَا الِانْفِصَالُ وَالتَّقْدِيرُ: وَتِلْكَ حُجَّةٌ لَنَا آتَيْنَاهَا انْتَهَى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَقَالَ الحوفي: وهاء مفعول أول وإبراهيم مَفْعُولٌ ثَانٍ وَهَذَا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ السُّهَيْلِيِّ: وَأَمَّا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَالْهَاءُ مفعول ثان وابراهيم مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلى قَوْمِهِ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَيْناها. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَظْهَرْنَاهَا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ وَدَلِيلًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آتَيْناها إِبْراهِيمَ أَرْشَدْنَاهُ إِلَيْهَا وَوَفَّقْنَاهُ لَهَا وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَحَذْفِ مُضَافٍ أَيْ آتَيْناها إِبْراهِيمَ مُسْتَعْلِيَةً عَلَى حُجَجِ قَوْمِهِ قَاهِرَةً لَهَا. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ أَيْ مَرَاتِبَ وَمَنْزِلَةَ مَنْ نَشَاءُ وَأَصْلُ الدَّرَجَاتِ فِي الْمَكَانِ وَرَفْعُهَا بِالْمَعْرِفَةِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِحُسْنِ الْخُلُقِ أَوْ بِخُلُوصِ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ بِالْحُجَّةِ والبيان، أقوال أقر بها الأخير

_ (1) آل عمران: 3/ 47.

لِسِيَاقِ الْآيَةِ وَنَوَّنَ دَرَجَاتٍ الْكُوفِيُّونَ وَأَضَافَهَا الْبَاقُونَ وَنَصَبُوا الْمُنَوَّنَ عَلَى الظَّرْفِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَيَحْتَاجُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى تَضْمِينِ نَرْفَعُ مَعْنَى مَا يُعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ أَيْ نُعْطِي مَنْ نَشَاءُ دَرَجَاتٍ. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِهِمْ أَوْ حَكِيمٌ فِي تَقْسِيمِ عِبَادِهِ إِلَى عَابِدِ صَنَمٍ وَعَابِدِ اللَّهِ عَلِيمٌ بِمَا يَصْدُرُ بَيْنَهُمْ مِنَ الِاحْتِجَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ في إِنَّ رَبَّكَ لِلرَّسُولِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ بِالْخِطَابِ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ إِسْحاقَ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ مِنْ سارة يَعْقُوبَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «1» ، وَعَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إِيتَاءَهُ الْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَشَارَ إِلَى رَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ هِبَتِهِ لَهُ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي تَفَرَّعَتْ مِنْهُ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَسْلِ الرَّجُلِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَلَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ مَعَ إِسْحَاقَ. قِيلَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ هُنَا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ بِأَسْرِهِمْ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَلَمْ يَخْرُجْ من صُلْبِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيٌّ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْعَرَبِ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ بِأَنَّ جَدَّهُمْ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا كَانَ مُوَحِّدًا لِلَّهِ مُتَبَرِّئًا مِنَ الشِّرْكِ رَزَقَهُ اللَّهُ أَوَّلًا مُلُوكًا وَأَنْبِيَاءَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا عَطْفَ فِعْلِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَهَبْنا عَطْفٌ عَلَى آتَيْناها انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِأَنَّ آتَيْناها لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ إِمَّا خَبَرٌ. وَإِمَّا حَالٌ وَلَا يَصِحُّ فِي وَوَهَبْنا شَيْءٌ مِنْهُمَا. كُلًّا هَدَيْنا أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هَدَيْنَا. وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ لَمَّا ذَكَرَ شَرَفَ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ ذَكَرَ شَرَفَ آبَائِهِ فَذَكَرَ نُوحًا الَّذِي هُوَ آدَمُ الثَّانِي وقال: مِنْ قَبْلُ تشبيها عَلَى قِدَمِهِ وَفِي ذِكْرِهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ فِي زَمَانِهِ، وَقَوْمُهُ أَوَّلُ قَوْمٍ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَوَحَّدَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى وَدَعَا إِلَى عِبَادَتِهِ وَرَفَضَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُ مُنَاجَاتَهُ لِرَبِّهِ فِي قَوْمِهِ حيث قالوا:

_ (1) هود: 11/ 71.

لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً «1» وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ فِي زَمَانِهِ وَوَحَّدَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى وَدَعَا إِلَى رَفْضِهَا فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا وَأَنَّهُ هَدَاهُ كَمَا هَدَى إِبْرَاهِيمَ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ قِيلَ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِأَنَّ فِي جُمْلَتِهِمْ لُوطًا وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ لَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مُضَافُونَ إِلَى ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ بِوِلَادَةٍ مِنْ قِبَلِ أُمٍّ وَلَا أَبٍ، لِأَنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْعَمَّ أَبًا، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَوَهَبْنَا لَهُ لُوطًا فِي الْمُعَاضَدَةِ وَالنُّصْرَةِ انْتَهَى. قَالُوا: وَالْمَعْنَى وَهَدَيْنَا أَوْ وَوَهَبْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَقَرَنَهُمَا لِأَنَّهُمَا أَبٌ وَابْنٌ وَلِأَنَّهُمَا مَلِكَانِ نَبِيَّانِ وَقَدَّمَ دَاوُدَ لِتُقَدُّمِهِ فِي الزَّمَانِ وَلِكَوْنِهِ صَاحِبَ كِتَابٍ وَلِكَوْنِهِ أَصْلًا لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ فَرْعُهُ. وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ قَرَنَهُمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِامْتِحَانِ أَيُّوبُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَنَبْذِ قَوْمِهِ لَهُ وَيُوسُفُ بِالْبَلَاءِ بِالسِّجْنِ وَلِغُرْبَتِهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَفِي مَآلِهِمَا بِالسَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَقَدَّمَ أَيُّوبَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ فِي الِامْتِحَانِ. وَمُوسى وَهارُونَ قرونهما لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْأُخُوَّةِ وَقَدَّمَ مُوسَى لِأَنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ مِنْ إِيتَاءِ الْحُجَّةِ وَهِبَةِ الْأَوْلَادِ الْخَيِّرِينَ نَجْزِي مَنْ كَانَ مُحْسِنًا فِي عِبَادَتِنَا مُرَاقِبًا فِي أَعْمَالِهِ لَنَا. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ قَرَنَ بَيْنَهُمْ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الزُّهْدِ الشَّدِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَبَدَأَ بِزَكَرِيَّا وَيَحْيَى لِسَبْقِهِمَا عِيسَى فِي الزَّمَانِ وَقَدَّمَ زَكَرِيَّا لِأَنَّهُ وَالِدُ يَحْيَى فَهُوَ أَصْلٌ، وَيَحْيَى فَرْعٌ وَقَرَنَ عِيسَى وَإِلْيَاسَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا لَمْ يَمُوتَا بَعْدُ وَقَدَّمَ عِيسَى لِأَنَّهُ صَاحِبُ كِتَابٍ وَدَائِرَةٍ مُتَّسِعَةٍ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ أَنْسَابِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا إِلْيَاسَ وَهُوَ إِلْيَاسُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ فِنْحَاصِ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ إِدْرِيسَ هُوَ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تَظَافَرَتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَاتُ، وَقِيلَ: إِلْيَاسُ هُوَ الْخَضِرُ وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي زَكَرِيَّا مَدًّا وَقَصْرًا، وَقَرَأَ ابْنُ عباس باختلاف منه وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِتَسْهِيلِ هَمْزَةِ إِلْيَاسَ وَفِي ذِكْرِ عِيسَى هُنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابن

_ (1) سورة نوح: 71/ 32.

الْبِنْتِ دَاخِلٌ فِي الذُّرِّيَّةِ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتُدِلَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الضَّمِيرُ فِي وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَائِدًا عَلَى نُوحٍ أَوْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَنَقُولُ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ طَلَبَ مِنْهُمَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ كَانَ هُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَسَكَتَ فِي قِصَّتَيْنِ جَرَتَا لَهُمَا مَعَهُ. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يَخْتَصُّ كُلٌّ بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً الْمَشْهُورُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ هَاجَرَ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، وَقِيلَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ زَمَانَ طَالُوتَ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» ، وَالْيَسَعُ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخُطُوبَ بن الْعَجُوزِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْيَسَعَ كَأَنَّ أَلْ أُدْخِلَتْ عَلَى مُضَارِعِ وَسِعَ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَاللَّيْسَعِ عَلَى وَزْنِ فَيْعَلٍ نَحْوَ الضَّيْغَمِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَهْوَ عَرَبِيٌّ أَمْ عَجَمِيٌّ، فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ فَقَالَ: هُوَ مُضَارِعٌ سُمِّيَ بِهِ وَلَا ضَمِيرَ فِيهِ فَأُعْرِبَ ثُمَّ نُكِّرَ وَعُرِّفَ بِأَلْ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِالْفِعْلِ كَيَزِيدَ ثُمَّ أُدْخِلَتْ فِيهِ أَلْ زَائِدَةً شُذُوذًا كَالْيَزِيدِ فِي قَوْلِهِ: رَأَيْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْيَزِيدِ مُبَارَكًا وَلَزِمَتْ كَمَا لَزِمَتْ فِي الْآنَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ: زِيدَتْ فِيهِ أَلْ وَلَزِمَتْ شُذُوذًا، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى زِيَادَةِ أَلْ فِي الْيَسَعِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَخَوَيْنِ فَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ أن أل فهي كَهِيَ فِي الْحَارِثِ وَالْعَبَّاسِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَبْنِيَةِ الصِّفَاتِ لَكِنَّ دُخُولَ أَلْ فِيهِ شُذُوذٌ عَنْ مَا عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ الْأَعْجَمِيَّةُ إِذْ لَمْ يَجِئْ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ كَمَا لَمْ يَجِئْ فِيهَا شَيْءٌ فِيهِ أَلْ لِلتَّعْرِيفِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ الْجِيَانِيُّ، مَا قَارَنَتْ أَلْ نَقْلَهُ كَالْمُسَمَّى بِالنَّضْرِ أَوْ بِالنُّعْمَانِ أَوِ ارْتِجَالَهُ كَالْيَسَعِ وَالسَّمَوْأَلِ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ ثُبُوتُ أَلْ فِيهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ أَلْ فِيهِ لَازِمَةً وَاتَّضَحَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْيَسَعَ لَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ فَعَلَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يُونُسُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا وَكَذَلِكَ يُوسُفُ وَبِفَتْحِ النُّونِ وَسِينِ يُوسُفَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ فِي جميع

_ (1) سورة البقرة: 2/ 246.

الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا جُمِعَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْ الْخَلْقِ أَتْبَاعٌ وَلَا أَشْيَاعٌ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ سِتٌّ: مَرْتَبَةُ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ ذَكَرَ فِيهَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَمَرْتَبَةُ الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ، ذَكَرَ فِيهَا أَيُّوبَ، وَمَرْتَبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَلَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْمُلْكِ ذَكَرَ فِيهَا يُوسُفَ، وَمَرْتَبَةُ قُوَّةِ الْبَرَاهِينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالْقِتَالِ وَالصَّوْلَةِ ذَكَرَ فِيهَا مُوسَى وَهَارُونَ، وَمَرْتَبَةُ الزُّهْدِ الشَّدِيدِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ لِلْعِبَادَةِ ذَكَرَ فِيهَا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ، وَمَرْتَبَةُ عَدَمِ الْأَتْبَاعِ ذَكَرَ فِيهَا إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ أَعْجَمِيَّةٌ لَا تُجَرُّ بِالْكَسْرَةِ وَلَا تُنَوَّنُ إِلَّا الْيَسَعَ فَإِنَّهُ يُجَرُّ بِهَا وَلَا يُنَوَّنُ وَإِلَّا لُوطًا فَإِنَّهُ مَصْرُوفٌ لِخِفَّةِ بِنَائِهِ بِسُكُونِ وَسَطِهِ، وَكَوْنِهِ مُذَكَّرًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا فِي إِخْوَتِهِ مِنْ مَانَعِ الصَّرْفِ وَهُوَ الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ الشَّخْصِيَّةُ وَقَدْ تَحَاشَى الْمُسْلِمُونَ هَذَا الِاسْمَ الشَّرِيفَ، فَقَلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ مِنْهُمْ كَأَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَلُوطٌ النَّبِيُّ هُوَ لُوطُ بْنُ هَارُونَ بْنِ آزَرَ وَهُوَ تَارِخُ وَتَقَدَّمَ رَفْعُ نَسَبِهِ. وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ خِلَافًا لِبَعْضِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصُّوفِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ كَمُحَمَّدِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْحَاتِمِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ الْفُتُوحِ الْمَكِّيَّةِ وَعَنْقَاءِ مَغْرِبٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الضَّلَالِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِعُمُومِ الْعَالَمِينَ وَهُمُ الْمَوْجُودُونَ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ عَالَمِي زَمَانِهِمْ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى كُلًّا بِمَعْنَى وَفَضَّلْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَدَيْنَا مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ جَمَاعَاتٍ فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ وَيَدْخُلُ عِيسَى فِي ضَمِيرِ قَوْلِهِ: وَمِنْ آبائِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْخَالُ وَالْخَالَةُ انْتَهَى، وَمِنْ آبائِهِمْ كَآدَمَ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَذُرِّيَّاتِهِمْ كَذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِخْوانِهِمْ كَإِخْوَةِ يُوسُفَ ذَكَرَ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَالْحَوَاشِيَ. وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الظَّاهِرُ عَطْفُ وَاجْتَبَيْناهُمْ عَلَى فَضَّلْنا أَيِ اصْطَفَيْنَاهُمْ وَكَرَّرَ الْهِدَايَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْضِيحِ لِلْهِدَايَةِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّهَا هِدَايَةٌ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ الْقَوِيمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الشِّرْكِ. ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَيْ ذَلِكَ الْهُدَى إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ

هُوَ هُدَى اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ وَاجْتَبَيْناهُمْ انْتَهَى، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهُدَى بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ وَلَوْ أَشْرَكُوا مَعَ فَضْلِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ وَمَا رُفِعَ لَهُمْ مِنَ الدَّرَجَاتِ لَكَانُوا كَغَيْرِهِمْ فِي حُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْهُدَى السَّابِقَ هُوَ التَّوْحِيدُ وَنَفْيُ الشِّرْكِ. أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَهَدَاهُمْ ذَكَرَ مَا فُضِّلُوا بِهِ، وَالْكِتَابُ: جِنْسٌ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْحُكْمَ: الْحِكْمَةُ أَوِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ أَوْ مَا شَرَعُوهُ أَوْ فَهْمُ الْكِتَابَ أَوِ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ أَقْوَالٌ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هِيَ رُتْبَةُ الْعِلْمِ يَحْكُمُونَ بِهَا عَلَى بَوَاطِنِ الناس وأرواحهم والْحُكْمَ مَرْتَبَةُ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الظاهر والنُّبُوَّةَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ الَّتِي يَتَفَرَّعُ عَلَى حُصُولِهَا حُصُولُ الْمَرْتَبَتَيْنِ فَالْحُكَّامُ عَلَى الْخَلْقِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِها عَائِدٌ إِلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِها بِالْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الثَّلَاثَةِ وَهُوَ أَيْضًا لَهُ ظُهُورٌ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَكُلِّ كَافِرٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هؤُلاءِ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ انْتَهَى وقال السُّدِّيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أُمَّةُ الرَّسُولِ وَمَعْنَى وَكَّلْنا أَرْصَدْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَالتَّوْكِيلُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلتَّوْفِيقِ لِلْإِيمَانِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا كَمَا يُوَكَّلُ الرَّجُلُ بِالشَّيْءِ لِيَقُومَ بِهِ وَيَتَعَهَّدَهُ وَيُحَافِظَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْمُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا هُنَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ قَالَهُ أَبُو رَجَاءٍ، أَوْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْماً هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمَذْكُورُونَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَيْضًا قَالَا: الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَابْنُ جَرِيرٍ لِقَوْلِهِ بَعْدُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَقِيلَ: كُلُّ

_ (1) سورة الزمر: 39/ 65.

مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْفُرْسُ وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فُسِّرَ بِهَا مَخْصُوصُونَ فَمَعْنَاهَا عَامٌّ فِي الْكَفَرَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِأُولَئِكَ الْأُولَى وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ السَّابِقُ ذِكْرُهُمْ وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقْتَدِيَ بِهُدَاهُمْ، وَالْهِدَايَةُ السَّابِقَةُ هِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسُهُ عَنِ الشَّرِيكِ، فَالْمَعْنَى فَبِطَرِيقَتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَأُصُولِ الدِّينِ دُونَ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُخْتَلِفَةِ وَهِيَ هُدَى مَا لَمْ تُنْسَخْ فَإِذَا نُسِخَتْ لَمْ تَبْقَ هُدًى بِخِلَافِ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّهَا كُلُّهَا هُدًى أَبَدًا. وَقَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى قَوْماً وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْمُرَادِ بِالْقَوْمِ عَلَى بَعْضِهَا انْتَهَى، وَيَعْنِي أَنَّهُ إِذَا فُسِّرَ الْقَوْمُ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْمٍ وَإِنْ فُسِّرُوا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ، وَقِيلَ: الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ مَنْ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى كُلِّ هُدَاهُمْ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَقِيلَ: فِي الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَالْعَفْوِ، وَقَالَ: فِي رَيِّ الظَّمْآنِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَرَ بِتَوْبَةِ آدَمَ وَشُكْرِ نُوحٍ وَوَفَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَصِدْقِ وَعْدِ إِسْمَاعِيلَ وَحِلْمِ إِسْحَاقَ وَحُسْنِ ظَنِّ يَعْقُوبَ؟ وَاحْتِمَالِ يُوسُفَ وَصَبْرِ أَيُّوبَ وإثابة دَاوُدَ وَتَوَاضُعِ سُلَيْمَانَ وَإِخْلَاصِ مُوسَى وَعِبَادَةِ زَكَرِيَّا وَعِصْمَةِ يَحْيَى وَزُهْدِ عِيسَى، وَهَذِهِ الْمَكَارِمُ الَّتِي فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ اجْتَمَعَتْ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَاخْتَصَّ هُدَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ وَلَا يُقْتَدَى إِلَّا بِهِمْ، وَهَذَا بِمَعْنَى تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى إِيَّاكَ نَعْبُدُ «3» . وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَهْلُ حَرَمَيْهِمَا وَأَبُو عَمْرٍو اقْتَدِهْ بِالْهَاءِ سَاكِنَةً وَصْلًا وَوَقْفًا وَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ أَجْرَوْهَا وَصْلًا مَجْرَاهَا وَقْفًا، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَإِثْبَاتِهَا وَقْفًا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَرَأَ هِشَامٌ اقْتَدِهْ بِاخْتِلَاسِ الْكَسْرَةِ فِي الْهَاءِ وَصْلًا وَسُكُونِهَا وَقْفًا، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ بِكَسْرِهَا وَوَصْلِهَا بِيَاءٍ وَصْلًا وَسُكُونِهَا وَقْفًا وَيُؤَوَّلُ عَلَى أَنَّهَا ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ لَا هَاءُ السكت، وتغليظ ابْنِ مُجَاهِدٍ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ غَلَطٌ مِنْهُ وَتَأْوِيلُهَا عَلَى أَنَّهَا هَاءُ السَّكْتِ ضَعِيفٌ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 48. (2) سورة القلم: 68/ 4. (3) سورة الفاتحة: 1/ 4.

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ أَيْ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ الْهُدَى وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. أَجْراً أَيْ أُجْرَةً أَتَكَثَّرُ بِهَا وَأُخَصُّ بِهَا إِنِ الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرى مَوْعِظَةٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، أَوْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْيَهُودِيِّ إِذْ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ: «أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَتَجِدُ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِينُ» فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ ، أَوْ فِي فِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَا مِنْهُمْ قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ عَنْهُ بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى مِنْ شَيْءٍ فِي مشركي قريش وقوله: أَنْزَلَ الْكِتابَ فِي الْيَهُودِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ وَتَسْفِيهَ رَأْيِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِي بَنِيهِ وَأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَدُّهُ الْأَعْلَى كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ هَدَاهُ وَكَانَ مُرْسَلًا إِلَى قَوْمِهِ وَأَمَرَ تَعَالَى الرَّسُولَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ أَخَذَ فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ فَقَالَ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَأَصْلُ الْقَدْرِ مَعْرِفَةُ الْكَمِّيَّةِ يُقَالُ: قَدَرَ الشَّيْءَ إِذَا حَزَرَهُ وَسَبَرَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَهُ يَقْدُرُهُ بِالضَّمِّ قَدْرًا وَقَدَرًا وَمِنْهُ «فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» أَيْ فَاطْلُبُوا أَنْ تَعْرِفُوهُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى قِيلَ: لِكُلِّ مِنْ عَرَفَ شَيْئًا هُوَ يَقْدُرُ قَدْرَهُ وَلَا يَقْدُرُ قَدْرَهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بِصِفَاتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ وَالزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ مَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَمَنِ الَّذِي يُعَظِّمُ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ أَوْ يَعْرِفُهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ؟ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» وَيَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا عَظَّمُوهُ الْعَظَمَةَ الَّتِي فِي وُسْعِهِمْ وَفِي مَقْدُورِهِمْ وَمَا عَرَفُوهُ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَاخْتَارَهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ مَعْنَاهُ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ فِيمَا وَجَبَ لَهُ وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ وَجَازَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَا آمَنُوا بِاللَّهِ حَقَّ إِيمَانِهِ وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا: مَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَقِيلَ: مَا أَجَلُّوهُ حَقَّ إِجْلَالِهِ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي رِيِّ الظَّمْآنِ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ تَوْفِيَةِ الْقَدْرِ فَهِيَ عَامَّةٌ يَدْخُلُ تَحْتَهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَمَنْ لَمْ يُعَظِّمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِمْ: مَا

أَنْزَلَ اللَّهُ يَقْضِي بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا وَلَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ إِذْ أَحَالُوا عَلَيْهِ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فِي الرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِهِ وَاللُّطْفِ بِهِمْ حِينَ أَنْكَرُوا بِعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْوَحْيَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ رَحْمَتِهِ وَأَجَلِّ نِعْمَتِهِ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» أَوْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فِي سُخْطِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَشِدَّةِ بَطْشِهِ بِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوهُ حِينَ جَسَرُوا عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ، وَالْقَائِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَجْعَلُونَهُ بالتاء وكذلك تُبْدُونَها وتُخْفُونَ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي إِنْكَارِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُلْزِمُوا مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى. انْتَهَى، وَالضَّمِيرُ فِي وَما قَدَرُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُنْزِلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ مَدَنِيَّةً وَلِذَا حَكَى النِّقَاشُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ وَما قَدَرُوا بِالتَّشْدِيدِ حَقَّ قَدْرِهِ بِفَتْحِ الدَّالِّ وَانْتَصَبَ حَقَّ قَدْرِهِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ أَيْ قَدَّرَهُ الْحَقَّ وَوَصَفُ الْمُصَدِّرِ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ انْتَصَبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ قَدَرُوا وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَا يُشْعِرُ أَنَّ إِذْ تعليلا. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ إِنْ كَانَ الْمُنْكِرُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ وَاضِحٌ لِأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ نُزُولَ الْكِتَابِ عَلَى مُوسَى وَإِنْ كَانُوا الْعَرَبَ فَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَى مُوسَى أَمْرٌ مَشْهُورٌ مَنْقُولٌ، نَقْلَ قَوْمٍ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ مُكَذِّبَةً لَهُمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ: لو أنا أنزل علينا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَيْئًا يَنْتِجُ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي أَنَّ مُوسَى مَا كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا خَلْفٌ مُحَالٌ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسْبَ شَكْلِ الْقِيَاسِ وَلَا بِحَسْبِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْ فَرْضِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا كَاذِبَةٌ فَتَمُتُّ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَعِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ قِيَاسِ الْخَلْفِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ نَقَضَ قَوْلَهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّقْضُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْكَلَامِ لَمَا كَانَتْ حُجَّةً مُفِيدَةً لهذا

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 107.

الْمَطْلُوبِ، وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ وَانْتَصَبَ نُوراً وَهُدىً عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ أَنْزَلَ أَوْ جاءَ. تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً التَّاءُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمَعْنَى: تَجْعَلُونَهُ ذَا قَراطِيسَ، أَيْ أَوْرَاقًا وَبَطَائِقَ، وَتُخْفُونَ كَثِيراً كَإِخْفَائِهِمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بِعْثَةِ الرَّسُولِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَخْفَوْهَا، وَأَدْرَجَ تَعَالَى تَحْتَ الْإِلْزَامِ تَوْبِيخَهُمْ وَإِنْ نَعَى عَلَيْهِمْ سُوءَ حَمْلِهِمْ لِكِتَابِهِمْ وَتَحْرِيفَهُمْ وَإِبْدَاءَ بَعْضٍ وَإِخْفَاءَ بَعْضٍ، فَقِيلَ: جَاءَ بِهِ مُوسَى وَهُوَ نُورٌ وَهُدًى لِلنَّاسِ فَغَيَّرْتُمُوهُ وَجَعَلْتُمُوهُ قَرَاطِيسَ وَوَرَقَاتٍ لِتَسْتَمْكِنُوا مِمَّا رُمْتُمْ مِنَ الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ، وَتَتَنَاسَقُ قِرَاءَةُ التَّاءِ مَعَ قَوْلِهِ: عُلِّمْتُمْ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُنْكِرِينَ الْعَرَبُ أَوْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ الْخِطَابِ لَهُمْ، بَلْ يَكُونُ قَدِ اعْتَرَضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: خِلَالَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: تَجْعَلُونَهُ أَنْتُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَرَاطِيسَ وَمِثْلُ هَذَا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ لِأَنَّ فِيهِ تَفْكِيكًا لِنَظْمِ الْآيَةِ وَتَرْكِيبِهَا، حَيْثُ جَعَلَ الْكَلَامَ أَوَّلًا خِطَابًا مَعَ الْكُفَّارِ وَآخِرًا خِطَابًا مَعَ الْيَهُودِ وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ، جَاءَ بَعْضُ الْكَلَامِ خِطَابًا لِلْعَرَبِ وَبَعْضُهُ خَطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَقْصُودٌ بِهِ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ، بِأَنْ عَلِمُوا مِنْ دِينِ اللَّهِ وَهِدَايَاتِهِ مَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا عَلِمُوا أَيْضًا وَعَلَمَ بَعْضُهُمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ آبَاءُ الْعَرَبِ، أَوْ مَقْصُودٌ بِهِ ذَمُّهُمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ لِإِعْرَاضِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ذَكَرَ اللَّهُ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ أَيْ عُلِّمْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ مِنَ الْهِدَايَاتِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ مَا لَمْ تَكُونُوا عَالَمِينَ وَلا آباؤُكُمْ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ الْيَهُودِ، وَقِيلَ: لِمَنْ آمَنَ مِنْ قُرَيْشٍ وَتَفْسِيرُ مَا لَمْ تَعْلَمُوا يَتَخَرَّجُ عَلَى حَسَبِ الْمُخَاطَبِينَ التَّوْرَاةَ أَوْ دِينَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ أَوْ هُمَا أَوِ الْقُرْآنَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ أَيْ عُلِّمْتُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَأَنْتُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ آبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ مِنْكُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قريش لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ «1» انتهى.

_ (1) سورة يس: 36/ 6. [.....]

قُلِ اللَّهُ أَمَرَهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْجَوَابِ أَيْ قُلِ اللَّهُ أَنْزَلَهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنَاكِرُوكَ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِالنُّورِ وَالْهُدَى الْآتِيَ بِهِ مَنْ أُيِّدَ بِالْمُعْجِزَاتِ بَلَغَتْ دَلَالَتُهُ مِنَ الْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّ مُنَزِّلَهُ هُوَ اللَّهُ سَوَاءٌ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِهَا أَمْ لَمْ يُقِرَّ، وَنَظِيرُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «1» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَإِنْ جَهِلُوا أَوْ تَحَيَّرُوا أَوْ سَأَلُوا وَنَحْوَ هَذَا فَقُلِ اللَّهُ انْتَهَى، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هذا التقدير لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أَيْ فِي بَاطِلِهِمُ الَّذِي يَخُوضُونَ فِيهِ وَيُقَالُ لِمَنْ كَانَ فِي عَمَلٍ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إِنَّمَا أنت لاعب ويَلْعَبُونَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ ذَرْهُمْ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ خَوْضِهِمْ وفِي خَوْضِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ ذَرْهُمْ أَوْ بِ يَلْعَبُونَ أَوْ حَالٌ مِنْ يَلْعَبُونَ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُوَادَعَةٌ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِآيَاتِ الْقِتَالِ وَإِنْ جُعِلَ تَهْدِيدًا أَوْ وَعِيدًا خَالِيًا مِنْ مُوَادَعَةٍ فَلَا نَسْخَ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أَيْ وَهَذَا الْقُرْآنُ لَمَّا ذَكَرَ وَقَرَّرَ أَنَّ إِنْكَارَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ شَيْئًا وَحَاجَّهُمْ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِهِ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ مُبَارَكٌ كَثِيرُ النَّفْعِ وَالْفَائِدَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْإِنْزَالِ فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقِيلَ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ كَانَ تَقْدِيمُ وَصْفِهِ بِالْإِنْزَالِ آكَدَ مِنْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مُبَارَكًا وَلِأَنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مُبَارَكٌ قَطْعًا فَصَارَتِ الصِّفَةُ بِكَوْنِهِ مُبَارَكًا، كَأَنَّهَا صِفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ إِذْ تَضَمَّنَهَا مَا قَبْلَهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ «2» فَلَمْ يَرِدْ فِي مَعْرِضِ إِنْكَارٍ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ شَيْئًا بَلْ جَاءَ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ «3» ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي آتَاهُ الرَّسُولَ هُوَ ذِكْرٌ مُبَارَكٌ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْزَالُ يَتَجَدَّدُ عِبَّرَ بِالْوَصْفِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ، وَلَمَّا كَانَ وَصْفُهُ بِالْبَرَكَةِ وَصْفًا لَا يُفَارِقُ عَبَّرَ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقِيلَ التَّوْرَاةُ، وَقِيلَ الْبَعْثُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ بَيْنَ يدي القيامة.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 19. (2) سورة الأنبياء: 21/ 50. (3) سورة الأنبياء: 21/ 48.

وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أُمَّ الْقُرى مَكَّةُ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَنْشَأُ الدين ودحو الْأَرْضِ مِنْهَا وَلِأَنَّهَا وَسَطُ الْأَرْضِ وَلِكَوْنِهَا قِبْلَةَ وَمَوْضِعَ الْحَجِّ وَمَكَانَ أَوَّلِ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ، وَالْمَعْنَى: وَلِتُنْذِرَ أَهْلَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَهُمْ سَائِرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الْعَرَبُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ زَعَمُوا أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ، قَالُوا: وَمَنْ حَوْلَها هِيَ الْقُرَى الْمُحِيطَةُ بِهَا وَهِيَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَمَنْ حَوْلَها عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَلَوْ فَرَضْنَا الْخُصُوصَ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ مَا سِوَاهَا إِلَّا بِالْمَفْهُومِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وحذف أهل الدلالة الْمَعْنَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لا تنذر كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» لِأَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تُسْأَلُ وَلَمْ تُحْذَفْ مَنْ فَيُعْطَفَ حَوْلَها عَلَى أُمَّ الْقُرى وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَانَ يَصِحُّ لِأَنَّ حَوْلَ ظَرْفٌ لَا يَتَصَرَّفُ فَلَوْ عُطِفَ عَلَى أُمِّ الْقُرَى لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِعَطْفِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهِ مَفْعُولًا بِهِ خُرُوجًا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِيهِ لِأَنَّهُ كَمَا قُلْنَا لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ إِلَّا لَازِمَ الظَّرْفِيَّةِ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ فِيهِ بِغَيْرِهَا، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ لِيُنْذِرَ أَيِ الْقُرْآنُ بِمَوَاعِظِهِ وَأَوَامِرِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِتُنْذِرَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ والمعنى وَلِتُنْذِرَ به أَنْزَلْنَاهُ فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِمُتَأَخِّرٍ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِتُنْذِرَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ صِفَةُ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ قيل: أنزلنا لِلْبَرَكَاتِ وَتَصْدِيقِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْإِنْذَارِ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ أَيْ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ لَهُمْ حَشْرًا وَنَشْرًا وَجَزَاءً تؤمنون بِهَذَا الْكِتَابِ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ ذِكْرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّبْشِيرِ وَالتَّهْدِيدِ، إِذْ ليس فيه كِتَابٍ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا مَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَقْدِيرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ، وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِهِ الْإِيمَانَ الْمُعْتَضِدَ بِالْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِلَّا فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ السِّتَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْكُتُبُ وَالرُّسُلُ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ وَالْقَدَرُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِبَاقِيهَا وَلِإِسْمَاعِ كَفَّارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ آمَنَ بِهَذَا الْكِتَابِ وَأَصْلُ الدِّينِ خَوْفُ العاقبة فمن خافها لَمْ يَزَلْ بِهِ الْخَوْفُ حَتَّى يُؤْمِنَ، وَقِيلَ: يُعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 82.

وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ خَصَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ مُحَافِظًا عَلَى أَخَوَاتِهَا وَمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ الْمُوَاظِبَةُ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى أَحْسَنِ مَا تُوقَعُ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُوقَعِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلَّا عَلَيْهَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» أَيْ صَلَاتَكُمْ وَلَمْ يَقَعِ الْكُفْرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا عَلَى تَرْكِهَا. رُوِيَ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى صَلاتِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ وَرَوَى خَلَفٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ صَلَوَاتِهِمْ بِالْجَمْعِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الرَّوْضَةِ مِنْ تَأْلِيفِهِ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ذَكَرَ الزَّهْرَاوِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ قِيلَ: وَفِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مَعَهُ لِأَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ: وَالزَّارِعَاتِ زَرْعًا وَالْخَابِزَاتِ خبزا والطابخات طبخا والطاحنات طَحْنًا وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السَّخَافَاتِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهَا مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ وَذَكَرُوا رُؤْيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسِّوَارَيْنِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ أَوْ كَذَّابُ صَنْعَاءَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيُّ أَخُو عُثْمَانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ كَتَبَ آيَةَ قَدْ أَفْلَحَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَمْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عَجِبَ مِنْ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «2» فَقَالَ الرَّسُولُ: «اكْتُبْهَا فَهَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَتَوَهَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ مُرْتَدًّا وَقَالَ: أَنَا أُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَوَّلَهَا فِي مُسَيْلِمَةَ وَآخِرُهَا فِي ابْنِ أَبِي سَرْحٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُمْلِيَ عَلَيْهِ سَمِيعاً عَلِيماً «3» كَتَبَ هُوَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَإِذَا قَالَ: عَلِيمًا حَكِيمًا كَتَبَ هُوَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي سَرْحٍ وَمَنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ارْتَدَّ وَدَخَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَغَيَّبَهُ عُثْمَانُ وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ حَتَّى اطْمَأَنَّ أَهْلُ مَكَّةَ ثُمَّ أَتَى بِهِ الرَّسُولَ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ الرَّسُولَ فَأَمَّنَهُ. انْتَهَى، وَقَدْ وَلَّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَيَّامِهِ وَفُتِحَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْأَمْصَارُ فَفَتَحَ أَفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَغَزَا الْأَسَاوِدَ مِنْ أَرْضِ النَّوْبَةِ وَهُوَ الَّذِي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143. (2) سورة المؤمنون: 23/ 1، 148. (3) سورة النساء: 4/ 148.

هَادَنَهُمُ الْهُدْنَةَ الْبَاقِيَةَ إِلَى الْيَوْمِ وَغَزَا الصَّوَارِيَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ وَكَانَ قَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُ النُّجَبَاءِ الْعُقَلَاءِ الْكُرَمَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَفَارِسُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَأَقَامَ بِعَسْقَلَانَ، قِيلَ: أَوِ الرَّمَلَةِ فَارًّا مِنَ الْفِتْنَةِ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سِتٍّ، قِيلَ: أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَدَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَاتِمَةَ عَمَلِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَقُبِضَ آخِرَ الصُّبْحِ وَقَدْ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَذَهَبَ يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى مُعَاوِيَةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَنَّهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ مُبَارَكٌ أَعْقَبَهُ بِوَعِيدِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَمَنْ أَظْلَمُ وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْعَامِّ وَهُوَ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِافْتِرَاءُ بِادِّعَاءِ وَحْيٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ ثَانِيًا بِالْخَاصِّ وَهُوَ افْتِرَاءٌ مَنْسُوبٌ إِلَى وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ مُوحًى إِلَيْهِ لِأَنَّ مَنْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَهُوَ مُوحًى إِلَيْهِ هُوَ صَادِقٌ ثُمَّ ثَانِيًا بِأَخَصَّ مِمَّا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْوَحْيَ قَدْ يَكُونُ بِإِنْزَالِ قُرْآنٍ وَبِغَيْرِهِ وَقِصَّةُ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ هِيَ دَعْوَاهُ أَنَّهُ سَيُنْزِلُ قُرْآنًا مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا وَإِنَّمَا الْمَعْنَى مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى زَعْمِكُمْ وَإِعَادَةُ مَنْ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ مَدْلُولِهِ لِمَدْلُولِ مَنْ الْمُتَقَدِّمَةِ فَالَّذِي قَالَ سَأُنْزِلُ غَيْرُ مَنِ افْتَرَى أَوْ قَالَ: أُوحِيَ وَإِنْ كَانَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ انْطِلَاقَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَقَوْلُهُ: سَأُنْزِلُ وَعْدٌ كَاذِبٌ وَتَسْمِيَتُهُ إِنْزَالًا مَجَازٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى سَأَنْظِمُ كَلَامًا يُمَاثِلُ مَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مَا نَزَّلَ بِالتَّشْدِيدِ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي مَخْصُوصِينَ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَنِ ادَّعَى مِثْلَ دَعْوَاهُمْ كَطُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ وَسِجَاحٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ عَالَمٌ كَثِيرُونَ كَانَ مِمَّنْ عَاصَرْنَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْغَازَازِيُّ الْفَقِيرُ ادَّعَى ذَلِكَ بِمَدِينَةِ مَالِقَةَ وَقَتَلَهُ السُّلْطَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ نَصْرٍ الْخَزْرَجَيُّ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ بِغَرْنَاطَةَ وَصَلَبَهُ، وَبَارْقَطَاشُ بْنُ قَسِيمٍ النِّيلِيُّ الشَّاعِرُ تَنَبَّأَ بِمَدِينَةِ النِّيلِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَلَهُ قُرْآنٌ صَنَعَهُ وَلَمْ يُقْتَلْ، لِأَنَّهُ كَانَ يُضْحَكُ مِنْهُ وَيُضَعَّفُ فِي عَقْلِهِ. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ الظَّالِمُونَ عَامٌّ انْدَرَجَ فِيهِ الْيَهُودُ وَالْمُتَنَبِّئَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: الْ لِلْعَهْدِ أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَمَنْ تَنَبَّأَ وَهُمُ الَّذِينَ تقدم ذكرهم. وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالضَّرْبِ أَيْ مَلَائِكَةُ قَبْضِ الرُّوحِ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قَبْضِهِ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ بَسْطِ الْيَدِ لِاشْتِرَاكِ

الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ وهذا أوائل العذاب وأمارته، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هَذَا يَكُونُ فِي النَّارِ. أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَبْسُطُونَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ يَقُولُونَ: هَاتُوا أَرْوَاحَكُمْ أَخْرِجُوهَا إِلَيْنَا مِنْ أَجْسَادِكُمْ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُنْفِ فِي السِّيَاقِ وَالْإِلْحَاحِ الشَّدِيدِ فِي الْإِزْهَاقِ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيسٍ وَإِمْهَالٍ وَأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِمْ فِعْلَ الْغَرِيمِ الْمُسَلَّطِ بِبَسْطِ يَدِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَيُعَنِّفُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ وَيَقُولُ لَهُ أَخْرِجْ إِلَيَّ مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعَةَ وَإِلَّا أُدِيمُ مَكَانِي حَتَّى أَنْزِعَهُ مِنْ أَصْدِقَائِكَ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ بَسْطَ الْأَيْدِي هُوَ فِي النَّارِ فَالْمَعْنَى أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ وَخَلِّصُوهَا إِنْ كَانَ مَا زَعَمْتُمُوهُ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَفِي ذَلِكَ تَوْقِيفٌ وَتَوْبِيخٌ عَلَى سَالِفِ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ، وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ وَالْإِرْعَابِ وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَوَلَّى إِزْهَاقَ نَفْسِهِ. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أَيِ الْهَوَانِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعِكْرِمَةُ عَذَابَ الْهَوَانِ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الهاء والْيَوْمَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا فِي الدُّنْيَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ وَقْتِ الْإِمَاتَةِ وَالْعَذَابُ مَا عُذِّبُوا بِهِ مِنْ شَدَّةِ النَّزْعِ أَوِ الْوَقْتِ الْمُمْتَدِّ الْمُتَطَاوِلِ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِيهِ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا فِي الْقِيَامَةِ كَانَ عِبَارَةً عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ عَنْ وَقْتِ خِطَابِهِمْ فِي النَّارِ، وَأَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى الْهُونِ لِتَمَكُّنِهِ فِيهِ لِأَنَّ التَّنْكِيلَ قَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَا هَوَانَ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْهَوَانِ. بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يَشْمَلُ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرَ وَيَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أَوْلَوِيًّا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَلَرَأَيْتَ عَجَبًا وَحَذْفُهُ أَبْلَغُ مِنْ ذكره وترى بِمَعْنَى رَأَيْتَ لِعَمَلِهِ فِي الظرف الماضي وهو وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا جملة حالية وأَخْرِجُوا مَعْمُولٌ لِحَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ قائلين أخرجوا وما في بما مصدرية. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ: سَوْفَ تَشْفَعُ فِيَّ اللَّاتُ وَالْعُزَّى فَنَزَلَتْ: وَلَمَّا قَالَ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ وَقَّفَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنْفَرِدِينَ لا ناظر لَهُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا ذَوِي خَوَلٍ وَشُفَعَاءَ فِي الدُّنْيَا وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِعِقَابِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ كَلَامُ

اللَّهِ لَهُمْ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَلِّمُ الْكُفَّارَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ من قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ «1» وَمِنْ قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» وجِئْتُمُونا مِنَ الْمَاضِي الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، وَقِيلَ: هُوَ مَاضٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَحْكِيٌّ فَيُقَالُ لَهُمْ حَالَةَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فُرادى مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ بِلَا أَعْوَانٍ وَلَا شُفَعَاءَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا تَفْتَخِرُونَ بِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ وَاحِدٍ مُفْرِدٌ عَنْ شَرِيكِهِ وَشَفِيعِهِ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فُرادى مِنَ الْمَعْبُودِ، وَقِيلَ: أَعَدْنَاكُمْ بِلَا مُعِينٍ وَلَا نَاصِرٍ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ لَمَّا كَانُوا فِي الدُّنْيَا جَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ الْجَاهِ وَالْمَالِ والشفعاء جاؤوا فِي الْآخِرَةِ مُنْفَرِدِينَ عَنْ كُلِّ مَا حَصَّلُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَقُرِئَ فُرَادَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ فُرَادًا بِالتَّنْوِينِ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ فِي حِكَايَةٍ خَارِجَةٍ عَنْهُمَا فَرْدَى مِثْلَ سَكْرَى كَقَوْلِهِ: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى «3» وَأُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَالْكَافُ فِي كَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، قِيلَ: بَدَلٌ مِنْ فُرَادَى، وَقِيلَ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَجِيئًا كَما خَلَقْناكُمْ يُرِيدُ كَمَجِيئِكُمْ يَوْمَ خَلَقْنَاكُمْ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالِانْفِرَادِ الْأَوَّلِ وَقْتَ الْخِلْقَةِ فَهُوَ تَقْيِيدٌ لِحَالَةِ الِانْفِرَادِ تَشْبِيهٌ بِحَالَةِ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْلَقُ أَقْشَرَ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا حَشَمَ، وَقِيلَ: عُرَاةً غُرْلًا وَمَنْ قَالَ: عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي وُلِدْتُمْ عَلَيْهَا فِي الِانْفِرَادِ يَشْمَلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَانْتَصَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ أَوَّلَ زَمَانٍ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَوَّلَ خَلْقِ اللَّهِ لِأَنَّ أَوَّلَ خَلْقٍ يَسْتَدْعِي خَلْقًا ثَانِيًا وَلَا يُخْلَقُ ثَانِيًا إِنَّمَا ذَلِكَ إِعَادَةٌ لَا خَلْقٌ. وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أَيْ مَا تَفَضَّلْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْفَعْكُمْ وَلَمْ تَحْتَمِلُوا مِنْهُ نَقِيرًا وَلَا قَدَّمْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَراءَ ظُهُورِكُمْ إِلَى الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ مَا خُوِّلُوهُ مَوْجُودًا. وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وَقَّفَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَتَعْظِيمِهَا وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا يَعْتَقِدُونَ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَيَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «4» ، وفِيكُمْ متعلق بشركاء وَالْمَعْنَى فِي اسْتِعْبَادِكُمْ لِأَنَّهُمْ حِينَ دَعَوْهُمْ آلِهَةً وَعَبَدُوهَا فَقَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِيهِمْ وَفِي اسْتِعْبَادِهِمْ، وَقِيلَ: جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِيهِمْ عِنْدَهُ فَهُمْ شُرَكَاءُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 6. (2) سورة الحجر: 15/ 92. (3) سورة الحج: 22/ 2. (4) سورة الزمر: 39/ 3.

شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي تَخْلِيصِكُمْ من العذاب أن عِبَادَتَهُمْ تَنْفَعُكُمْ كَمَا تَنْفَعُكُمْ عِبَادَتُهُ، وَقِيلَ: فِيكُمْ بِمَعْنَى عِنْدَكُمْ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ إِنَّهُمْ لِي فِي خَلْقِكُمْ شُرَكَاءُ، وَقِيلَ: مُتَحَمِّلُونَ عَنْكُمْ نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ. لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ بَيْنُكُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ فَصَارَ اسْمًا كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ اسْمًا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «1» وَكَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ هُوَ أَحْمَرُ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ وَرَجَّحَهُ الْفَارِسِيُّ أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْبَيْنِ الْوَصْلُ أَيْ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ وَالزَّهْرَاوِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَقَطَعَ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ الْبَيْنُ بِمَعْنَى الْوَصْلِ وَإِنَّمَا انْتُزِعَ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْبَيْنِ الِافْتِرَاقُ وَذَلِكَ مَجَازٌ عَنِ الْأَمْرِ الْبَعِيدِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ تَقَطَّعَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَكُمْ لِطُولِهَا فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْبَيْنِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بَيْنَكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ وَخَرَّجَهُ الْأَخْفَشُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَلَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ حَمْلًا عَلَى أَكْثَرِ أَحْوَالِ هَذَا الظَّرْفِ وَقَدْ يُقَالُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ كَقَوْلِهِ: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ «2» وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَفَاعِلُ تَقَطَّعَ التَّقَطُّعُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَعَ التَّقَطُّعُ بَيْنَكُمْ كَمَا تَقُولُ: جَمَعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تُرِيدُ أَوْقَعَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَصْدَرِهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ مَصْدَرِهِ فَأَضْمَرَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى صَرِيحِ الْمَصْدَرِ، فَهُوَ مَحْذُوفٌ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفَاعِلِ وَهُوَ مَعَ هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِسْنَادِ مَفْقُودٌ فِيهِ وَهُوَ تَغَايُرُ الْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَامَ وَلَا جَلَسَ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَامَ هُوَ أَيِ الْقِيَامَ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الِاتِّصَالِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: شُرَكاءُ وَلَا يُقَدَّرُ الْفَاعِلُ صَرِيحُ الْمَصَدَرِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ الِاتِّصَالُ وَالِارْتِبَاطُ بَيْنَكُمْ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَهَذَا وَجْهٌ وَاضِحٌ وَعَلَيْهِ فَسَّرَهُ النَّاسُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا انْتَهَى، وَقَوْلُهُ إِلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُحْذَفُ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ صِفَةً لِفَاعِلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ لَقَدْ تَقَطَّعَ شَيْءٌ بَيْنَكُمْ أَوْ وَصْلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُحْذَفُ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ تَسَلَّطَ عَلَى مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَقَطُّعٌ وَضَلَّ فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَهُوَ ضَلَّ وَأُضْمِرَ فِي تَقَطَّعَ ضَمِيرُ مَا وَهُمُ الْأَصْنَامُ فَالْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 5. (2) سورة الجن: 72/ 11.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 110]

مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَضَلُّوا عَنْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ «1» أَيْ لَمْ يَبْقَ اتِّصَالٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فَعَبَدْتُمُوهُمْ وَهَذَا إِعْرَابٌ سَهْلٌ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ أَحَدٌ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ مَا بَيْنَكُمْ وَالْمَعْنَى تَلِفَ وَذَهَبَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ التَّقْدِيرُ تَزْعُمُونَهُمْ شُفَعَاءَ حُذِفَا لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وتحسب أي وَتَحْسِبُهُ عَارًا، وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ يُشْبِهُ آرَاءَ الْفَلَاسِفَةِ قَالَ فِي آخِرِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَصْلَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ قَدِ انْقَطَعَتْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِهَا مَرَّةً أُخْرَى انْتَهَى. وَلَيْسَ هذا مفهوما من الآية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 110] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

_ (1) سورة البقرة: 2/ 166. [.....]

فَلَقَ الشَّيْءَ شَقَّهُ. النَّوَاةُ مَعْرُوفَةٌ وَالنَّوَى اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ. النَّجْمُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِطُلُوعِهِ يُقَالُ نَجَمَ النَّبْتُ إِذَا طَلَعَ. الْإِنْشَاءُ الْإِيجَادُ لَا يُفِيدُ الِابْتِدَاءَ بَلْ عَلَى وَجْهِ النُّمُوِّ كَمَا يُقَالُ فِي النَّبَاتِ أَنْشَأَهُ بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ إِلَى وَقْتِ الِانْتِهَاءِ. مُسْتَوْدَعٌ مُسْتَفْعَلٌ مِنَ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ مَصْدَرًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا، وَالْوَدِيعَةُ مَعْرُوفَةٌ. الْخَضِرُ الْغَضُّ وَهُوَ الرَّطْبُ مِنَ الْبُقُولِ وَغَيْرِهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ الْخَضِرُ بِمَعْنَى الْأَخْضَرِ اخْضَرَّ فَهُوَ أَخْضَرُ وَخَضِرٌ كَاعْوَرَّ فَهُوَ أَعْوَرُ وَعَوِرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ الْخَضِرُ النَّضَارَةُ وَلَا مَدْخَلَ لِلَّوْنِ فِيهِ وَمِنْهُ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَالْأَخْضَرُ يَغْلِبُ فِي اللَّوْنِ وَهُوَ فِي النَّضَارَةِ تَجَوُّزٌ، وَقَالَ اللَّيْثُ الْخَضِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الزَّرْعُ وَفِي الْكَلَامِ كُلُّ نَبَاتٍ مِنَ الْخُضْرَةِ. تَرَاكُبُ الشَّيْءِ رَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا. الطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلَةِ فِي أَكْمَامِهِ أَطْلَعَتِ النَّخْلَةُ أَخْرَجَتْ طَلْعَهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَطَلْعُهَا كَعُرَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنِ الْإِغْرِيضِ وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى طَلْعًا وَيُقَالُ طَلَعَ يَطْلُعُ طُلُوعًا. الْقِنْوُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا الْعِذْقُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْكِبَاسَةُ وَهُوَ عُنْقُودُ النَّخْلَةِ، وَقِيلَ الْجُمَّارُ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَقْنَاءٌ وَفِي الْكَثْرَةِ قِنْوَانٌ بِكَسْرِ الْقَافِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَضَمِّهَا فِي

لُغَةِ قَيْسٍ وَبِالْيَاءِ بَدَلَ الْوَاوِ فِي لُغَةِ رَبِيعَةَ وَتَمِيمٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمُفْرَدِ عَلَى قِنْوٍ، وَقُنْوٍ بِالْوَاوِ وَلَا يَقُولُونَ فِيهِ قِنْيٌ وَلَا قُنْيٌ. الزَّيْتُونُ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ وَوَزْنُهُ فَيْعُولٌ كَقَيْصُومٍ لِقَوْلِهِمْ أَرْضٌ زَتِنَةٌ وَلِعَدَمِ فَعْلُولٍ أَوْ قِلَّتِهِ فَمَادَّتُهُ مُغَايِرَةٌ لِمَادَّةِ الزَّيْتِ. الرُّمَّانُ فُعَّالٌ كَالْحُمَّاضِ وَالْعُنَّابِ وَلَيْسَ بِفُعْلَانَ لِقَوْلِهِمْ أَرْضٌ رَمِنَةٌ. الْيَنْعُ مَصْدَرُ يَنَعَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَبِضَمِّهَا فِي لُغَةِ بَعْضِ نَجْدٍ وكذا الينع بِضَمِّ الْيَاءِ وَالنُّونِ وَالْيُنُوعُ بِوَاوٍ بَعْدَ الضَّمَّتَيْنِ يُقَالُ يَنْعَتِ الثَّمَرَةُ إِذَا أَدْرَكَتْ وَنَضِجَتْ وَأَيْنَعَتْ أَيْضًا وَمِنْهُ قول الحجاج: أرى رؤوسا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ يَنَعَ الثَّمَرُ وأينع احمرّ وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ إِنْ وَلَدْتِهِ أَحْمَرَ مِثْلَ الْيَنْعَةِ وَهِيَ خَرَزَةٌ حَمْرَاءُ يُقَالُ إِنَّهَا الْعَقِيقُ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ، وَقِيلَ الْيَنْعُ جَمْعُ يَانِعٍ كَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ. خَرَقَ وَخَرَّقَ اخْتَلَقَ وَافْتَرَى. اللَّطِيفُ قَالَ ابْنُ أَعْرَابِيٍّ هُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِلَيْكَ أَرَبَكَ فِي رِفْقٍ وَمِنْهُ لَطَفَ اللَّهُ بِكَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ اللَّطِيفُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الرَّفِيقُ بِعِبَادِهِ، وَقِيلَ اللَّطِيفُ ضِدُّ الْكَثِيفِ. السَّبُّ الشَّتْمُ. الْفُؤَادُ الْقَلْبُ. إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى فالِقُ الْحَبِّ شَاقُّهُ فَمُخْرَجٌ مِنْهُ النَّبَاتَ وَالنَّوَى فَمُخْرَجٌ مِنْهُ الشَّجَرَ، وَالْحَبُّ وَالنَّوَى عَامَّانِ أَيْ كُلُّ حَبَّةِ وَكُلُّ نَوَاةٍ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي أَنْ يَشُقَّ جَمِيعَ الْحَبِّ عَنْ جَمِيعِ النَّبَاتِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ وَيَشُقَّ النَّوَى عَنْ جَمِيعِ الْأَشْجَارِ الْكَائِنَةِ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا فالِقُ بِمَعْنَى خَالِقٍ قِيلَ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ: فَطَرَ وَخَلَقَ وَفَلَقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ: إِشَارَةٌ فِي الشِّقِّ الَّذِي فِي حَبَّةِ الْبُرِّ وَنَوَاةِ التَّمْرِ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: الْمَعْنَى فَالِقُ مَا فِيهِ الْحَبُّ مِنَ السُّنْبُلِ وَمَا فِيهِ النَّوَى مِنَ التمر وأما أَشْبَهَهُ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَبْدَالِ مِنْهُمَا فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا أَضَافَ خَلْقَ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُمْ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ «1» فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَالِقُ الْأَبْدَالِ كُلِّهَا انْتَهَى، وَلَمَّا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَعْثِ نَبَّهَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْبَاهِرَةِ فِي شِقِّ النَّوَاةِ مَعَ صَلَابَتِهَا وَإِخْرَاجِهِ مِنْهَا نَبْتًا أَخْضَرَ لَيِّنًا إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْبَعْثِ وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَرَأَ عَبْدُ الله فالِقُ الْحَبِّ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي أَوَائِلِ آلِ عِمْرَانَ وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ اسْمَ فاعل على اسم

_ (1) سورة النساء: 4/ 1.

فَاعِلٍ وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى يَخْرُجُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى مِنْ جِنْسِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ لِأَنَّ النَّامِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَوَانِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «1» فَوَقَعَ قَوْلُهُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ مِنْ قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ فَلِذَلِكَ عَطَفَ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا عَلَى الْفِعْلِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَفْقُودًا فِي آلِ عِمْرَانَ وَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ جُمْلَتَانِ فِعْلِيَّتَانِ وَهُمَا يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ عَلَى الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بَاتَ يُغْشِيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرٍ ... يُقْصَدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرُ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ ذَلِكُمُ الْمُتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَاتِّخَاذَ شَرِيكٍ مَعَهُ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ. فالِقُ الْإِصْباحِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الصُّبْحِ، قَالَ الشَّاعِرِ: أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي ... بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ (فَإِنْ قُلْتَ) : الظُّلْمَةُ هِيَ الَّتِي تَنْفَلِقُ عَنِ الصُّبْحِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَفَرَّى لَيْلُ عَنْ بَيَاضِ نَهَارِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَالِقُ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ وَهِيَ الْغَبَشُ الَّذِي يَلِي الصُّبْحَ أَوْ يَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمَعْنَاهُ فالقه عن بياض النهار. وَقَالُوا: انْصَدَعَ الْفَجْرُ وَانْشَقَّ عَمُودُ الْفَجْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الصُّبْحِ جَافِلَةً ... عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ الْقَانِصَ اللَّحْيَا وَسَمَّوُا الْفَجْرَ فَلَقًا بِمَعْنَى مَفْلُوقٍ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى مُظْهِرُ الْإِصْبَاحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَلَقُ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ الْإِظْهَارِ أَطْلَقَ عَلَى الْإِظْهَارِ فَلَقًا وَالْمُرَادُ الْمُسَبَّبُ وَهُوَ الْإِظْهَارُ، وقيل: فالِقُ الْإِصْباحِ خالق، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِصْبَاحُ إِضَاءَةُ الْفَجْرِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْإِصْباحِ ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ وَضَوْءُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ وَالْإِصْبَاحُ أَوَّلُ النهار قال:

_ (1) سورة الروم: 30/ 50.

أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحْ ... تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحْ يُرِيدُ الْمَسَاءَ وَالصَّبَاحَ وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ مَسَى وَصُبْحٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَعْنَاهُ خَالِقُ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: شَاقُّ عَمُودِ الصُّبْحِ عَنِ الظُّلْمَةِ وَكَاشِفُهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَأَبُو رَجَاءٍ الْأَصْبَاحَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ صُبْحٍ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِنَصْبِ الْإِصْباحِ وَحَذْفِ تَنْوِينِ فالِقُ وَسِيبَوَيْهِ إِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَا ذَاكِرُ اللَّهَ إِلَّا قليلا حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْمُبَرِّدُ يُجَوِّزُهُ فِي الْكَلَامِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو حَيْوَةَ فَلَقَ الْإِصْبَاحَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً لَمَّا اسْتَدَلَّ عَلَى بَاهِرِ حِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِدَلَالَةِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ اسْتَدَلَّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَلَقَ الصُّبْحَ أَعْظَمُ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ وَقْعًا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالسَّكَنُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيِ مَسْكُونٍ إِلَيْهِ وَهُوَ مَنْ تَسْتَأْنِسُ بِهِ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّارِ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَهَا الْمُؤْنِسَةَ، وَمَعْنَى أَنَّ اللَّيْلَ سَكَنٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتْعَبُ نَهَارَهُ وَيَسْكُنُ فِي اللَّيْلِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «1» . وَالْحُسْبَانُ جَمْعُ حِسَابٍ كَشِهَابٍ وَشُهْبَانٍ قَالَهُ الْأَخْفَشُ أَوْ مَصْدَرُ حَسَبَ الشَّيْءَ وَالْحِسَابُ الِاسْمُ قَالَهُ يَعْقُوبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِهَا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حُسْباناً ضِيَاءً انْتَهَى. قِيلَ: وَتُسَمَّى النَّارُ حُسْبَانًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ حُسْبَانٌ كَحُسْبَانِ الرَّحَى وَهُوَ الدُّولَابُ وَالْعُودُ الَّذِي عَلَيْهِ دَوَرَانُهُ، وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ: حُسْباناً أَيْ بِحِسَابٍ قَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «2» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ سَيْرَهُمَا بِحِسَابٍ وَمِقْدَارٍ لِأَنَّ الشَّمْسَ تَقْطَعُ الْبُرُوجَ كُلَّهَا فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبُعِ يَوْمٍ وَتَعُودُ إِلَى مَكَانِهَا وَالْقَمَرُ يَقْطَعُهَا فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَبِدَوَرَانِهِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ حِسَابَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَقِيلَ: يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ وَعَدَدٍ لِبُلُوغِ نِهَايَةِ آجَالِهِمَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَهُمَا عَلَى حِسَابٍ لِأَنَّ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ يُعْلَمُ بِدَوْرِهِمَا وَسَيْرِهِمَا، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَجَعَلَ اللَّيْلَ فِعْلًا مَاضِيًا لَمَا كَانَ فالِقُ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ حَسُنَ عَطْفُ وَجَعَلَ

_ (1) سورة القصص: 28/ 73. (2) سورة الرحمن: 55/ 5.

عَلَيْهِ وَانْتَصَبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً عطفا على اللَّيْلَ سَكَناً، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَجَاعِلُ بَاسِمِ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى اللَّيْلَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مَاضٍ وَلَا يَعْمَلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَانْتِصَابُ سَكَناً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ يَجْعَلُهُ سَكَنًا لَا بَاسِمَ الْفَاعِلِ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ فِيمَا انْتَصَبَ مَفْعُولًا ثَانِيًا بَعْدَ اسْمِ فَاعِلٍ مَاضٍ وَذَهَبَ السِّيرَافِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَنْتَصِبُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ إِضَافَتُهُ إلى الأول لم تكن أَنْ يُضَافَ إِلَى الثَّانِي فَعَمِلَ فِيهِ النَّصْبُ وَإِنْ كان ماضيا وهذه مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ إعمال اسم الفاعل الماضي وَهُوَ الْكِسَائِيُّ وَهُشَامٌ فَسَكَنًا مَنْصُوبٌ بِهِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ سَاكِنًا، قَالَ الدَّانِي: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِجَرِّ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً عطفا على اللَّيْلَ سَكَناً وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَعَلَى قراءة جاعل اللَّيْلِ يَنْتَصِبَانِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يُعْطَفَانِ عَلَى مَحَلِّ اللَّيْلِ، (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَكُونُ لِلَّيْلِ مَحَلٌّ؟ وَالْإِضَافَةُ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ الْمُضَافَ إِلَيْهِ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ وَلَا تَقُولُ زِيدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا أَمْسِ (قُلْتُ) : مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَاضِي وَإِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى جَعْلٍ مُسْتَمِرٍّ فِي الْأَزْمِنَةِ انْتَهَى، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ لَيْسَ اسْمَ فَاعِلٍ مَاضِيًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فَيَكُونُ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ الْمَاضِيَ لَا يَعْمَلَ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى جَعْلٍ مُسْتَمِرٍّ فِي الْأَزْمِنَةِ يَعْنِي فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ عَامِلًا وَيَكُونُ لِلْمَجْرُورِ بَعْدَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ إِذَا كَانَ لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ خَاصٍّ وَإِنَّمَا هُوَ لِلِاسْتِمْرَارِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ وَلَا لِمَجْرُورِهِ مَحَلٌّ وَقَدْ نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ وَأَنْشَدُوا: أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي قَعْرٍ مَظْلَمَةٍ فَلَيْسَ الْكَاسِبُ هُنَا مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ وَإِذَا تَقَيَّدَ بِزَمَانٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا دُونَ أَلْ فَلَا يَعْمَلُ إِذْ ذَاكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ بِأَلْ أَوْ حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَيَجُوزُ إِعْمَالُهُ، وَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ عَلَى مَا أُحْكِمَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَفُصِّلَ وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الْأَزْمِنَةِ وَتَعْمَلُ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ مَجْرُورِهِ بَلْ لَوْ كَانَ حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، فَلَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ عمرو الآن أو غدا أو خالدا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْطِفَ وَخَالِدًا. عَلَى مَوْضِعِ عَمْرٍو على مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ بَلْ تُقَدِّرُهُ وَتَضْرِبُ خَالِدًا لِأَنَّ شَرْطَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ مَفْقُودٌ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مُحْرِزًا لَا يَتَغَيَّرُ، وَهَذَا مُوَضَّحٌ فِي

عِلْمِ النَّحْوِ وَقُرِئَ شَاذًّا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَجْعُولَانِ حُسْبَانًا أَوْ مَحْسُوبَانِ حُسْبَانًا. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ أَوْ ذَلِكَ الْفَلْقُ وَالْجَعْلُ أَوْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَخْبَارِ مِنْ قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ إِلَى آخِرِهَا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْغَالِبِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ فِي تَسْخِيرِهِ وَقَهْرِهِ الْعَلِيمِ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا وَفِي جَعْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِتَقْدِيرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لَا أَنَّ ذَلِكَ فِيهَا بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْخَاصِّيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ نَبَّهَ عَلَى أَعْظَمِ فَوَائِدِ خَلْقِهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ لِلطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ وَالْجِهَاتِ الَّتِي تُقْصَدُ وَالْقُبْلَةِ إِذْ حَرَكَاتُ الْكَوَاكِبِ فِي اللَّيْلِ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْقِبْلَةِ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ فِي النَّهَارِ عَلَيْهَا، وَالْخِطَابُ عَامٌّ لكل الناس ولِتَهْتَدُوا مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ مُضْمِرَةٍ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ لَكُمُ أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ لِاهْتِدَائِكُمْ وجَعَلَ مَعْنَاهَا خَلَقَ فَهِيَ تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرَ وَيُقَدَّرُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مِنْ لِتَهْتَدُوا أَيْ جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ هِدَايَةً انْتَهَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِنَدُورِ حَذْفِ أَحَدِ مَفْعُولَيْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظُّلُمَاتِ هُنَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الظُّلُمَاتُ هُنَا الشَّدَائِدَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَّفِقُ أَنْ يُهْتَدَى فِيهَا بِهَا، وَأَضَافَ الظُّلُمَاتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمَا أَوْ شَبَّهَ مُشْتَبَهَاتِ الطُّرُقِ بِالظُّلُمَاتِ وَذَكَرَ تَعَالَى النُّجُومَ فِي كِتَابِهِ لِلزِّينَةِ وَالرَّحِمِ وَالْهِدَايَةِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ اخْتِلَاقٌ عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءٌ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ بَيَّنَّا وَقَسَّمْنَا وَخَصَّ مَنْ يَعْلَمُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِهَا وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَمُعْرِضُونَ عَنِ الْآيَاتِ وَعَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْقَافِ جَعَلُوهُ مَكَانًا أَيْ مَوْضِعَ اسْتِقْرَارٍ وَمَوْضِعَ اسْتِيدَاعٍ أَوْ مَصْدَرًا أَيْ فَاسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ وَلَا يَكُونُ مُسْتَقَرٌّ اسْمَ مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى فِعْلُهُ فَيُبْنَى مِنْهُ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ الْقَافِ اسْمَ فَاعِلٍ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ مُسْتَوْدَعٌ بِفَتْحِ الدَّالِ اسْمَ مَفْعُولٍ لَمَّا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُمْ ذَكَرَ انْقِسَامَهُمْ إِلَى مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أَيْ فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، وَرَوَى هَارُونُ الْأَعْوَرُ عَنْ أَبِي

عَمْرٍو وَمُسْتَوْدَعٌ بِكَسْرِ الدَّالِّ اسْمُ فَاعِلٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جبير ومجاهد وَعَطَاءٌ وَالنَّخْعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: مُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الصُّلْبِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَكْسَهُ قَالَ وَالْمَعْنَى فَذَكَّرَ وَأَنَّثَ عَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ لِأَنَّ النُّطْفَةَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ رَحِمَهَا مُسْتَوْدَعٌ لِلنُّطْفَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْمُسْتَقَرَّ فِي الرَّحِمِ وَالْمُسْتَوْدَعِ فِي الْقَبْرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُسْتَقَرُّ فِي الْأَرْضِ وَالْمُسْتَوْدَعُ فِي الْأَصْلَابِ وَعَنْهُ كِلَاهُمَا فِي الرَّحِمِ، وَعَنْهُ الْمُسْتَقَرُّ حَيْثُ يَأْوِي وَالْمُسْتَوْدَعُ حَيْثُ يَمُوتُ وَعَنْهُ الْمُسْتَقَرُّ مَنْ خُلِقَ وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الدُّنْيَا وَالْمُسْتَوْدَعُ عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ الْجَنَّةُ وَالْمُسْتَوْدَعُ النَّارُ. وَقِيلَ: مُسْتَقَرٌّ فِي الْآخِرَةِ بِعَمَلِهِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أَصْلِهِ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ إِلَى انْتِهَاءِ أَجَلِهِ انْتَهَى، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ الِاسْتِقْرَارَ وَالِاسْتِيدَاعَ حَالَانِ يَعْتَوِرَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الظَّهْرِ إِلَى الرَّحِمِ إِلَى الدُّنْيَا إِلَى الْقَبْرِ إِلَى الْحَشْرِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَفِي كُلِّ رُتْبَةٍ يَحْصُلُ لَهُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ اسْتِقْرَارٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَاسْتِيدَاعٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا بَعْدَهَا وَلَفْظُ الْوَدِيعَةِ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ لَمَّا كَانَ الِاهْتِدَاءُ بِالنُّجُومِ وَاضِحًا خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ أَيْ مَنْ لَهُ أَدْنَى إِدْرَاكٍ يَنْتَفِعُ بِالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ وَفَائِدَتِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْشَاءُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّصْرِيفُ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَتَدْقِيقِ نَظَرٍ خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: يَفْقَهُونَ إِذِ الْفِقْهُ هُوَ اسْتِعْمَالُ فِطْنَةٍ وَدِقَّةِ نَظَرٍ وَفِكْرٍ فَنَاسِبَ خَتْمُ كُلِّ جُمْلَةٍ بِمَا يُنَاسِبُ مَا صُدِّرَ بِهِ الْكَلَامُ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ لَمَّا ذَكَرَ إِنْعَامَهُ تَعَالَى بِخَلْقِنَا ذَكَرَ إِنْعَامِهِ عَلَيْنَا بِمَا يَقُومُ بِهِ أَوَدُنَا وَمَصَالِحُنَا وَالسَّمَاءُ هُنَا السَّحَابُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِنَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُسَمَّى نَبَاتًا فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مَا يَنْمُو مِنَ الْحُبُوبِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَالْحَشَائِشِ وَالشَّجَرِ وَمَعْنَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْبُتُ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ وَالْمُسَبَّبَاتِ كَثِيرَةٌ كما قال تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «1» . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ جَمِيعُ مَا يَنْمُو مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَتَغَذَّى وَيَنْمُو بِنُزُولِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ رِزْقُ كُلِّ شيء أي ما

_ (1) سورة الرعد: 13/ 4.

يَصْلُحُ غِذَاءً لِكُلِّ شَيْءٍ فَيَكُونُ كُلَّ شَيْءٍ مَخْصُوصًا بِالْمُتَغَذِّي وَيَكُونُ إِضَافَةُ النَّبَاتِ إِلَيْهِ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ تَكُونُ الْإِضَافَةُ رَاجِعَةً فِي الْمَعْنَى إِلَى إِضَافَةِ مَا يُشْبِهُ الصِّفَةَ إِلَى الْمَوْصُوفِ إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ كُلَّ شَيْءٍ مُنْبِتٍ وَفِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا الْتِفَاتٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى تَكَلُّمٍ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً أَيْ مِنَ النَّبَاتِ غَضًّا ناضرا طريا وفَأَخْرَجْنا مَعْطُوفٌ عَلَى فَأَخْرَجْنا وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ فَأَخْرَجْنا. نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً أَيْ مِنَ الْخَضِرِ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْقَطَانِيِّ وَمِنَ الثِّمَارِ كَالرُّمَّانِ وَالصَّنَوْبَرِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَرَاكَبَ حَبُّهُ وَرَكِبَ بَعْضُهُ بعضا ونُخْرِجُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِخَضِرٍ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يَخْرُجُ مِنْهُ حُبٌّ مُتَرَاكِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِيَخْرُجُ وَمُتَرَاكِبٌ صِفَةٌ فِي نَصْبِهِ وَرَفْعِهِ. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ أَيْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُتَنَاوِلِ لِقَصْرِهَا وَلُصُوقِ عُرُوقِهَا بِالْأَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ وَالضَّحَّاكُ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: سَهْلَةُ الْمُجْتَنَى مُعَرَّضَةٌ لِلْقَاطِفِ كَالشَّيْءِ الدَّانِي الْقَرِيبِ الْمُتَنَاوَلِ وَلِأَنَّ النَّخْلَةَ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يَنَالُهَا الْقَاعِدُ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِالثَّمَرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ دانِيَةٌ مَائِلَةٌ، قِيلَ: وَذِكْرُ الدَّانِيَةَ دُونَ ذِكْرِ السَّحُوقِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بِهَا أَظْهَرُ أَوْ حُذِفَ السُّحُوقُ لِدَلَالَةِ الدَّانِيَةِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أَيْ وَالْبَرْدَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قِنْوانٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْخَفَّافُ عَنْ أبي عمر والأعرج فِي رِوَايَةٍ بِضَمِّهَا وَرَوَاهُ السُّلَمِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ فِي رِوَايَةٍ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قِنْوانٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَخَرَّجَهُ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ عَلَى فَعْلَانٍ لِأَنَّ فَعْلَانًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ روي عَنِ الْأَعْرَجِ ضَمُّ الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ قِنْوٍ بِضَمِّ الْقَافِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةٌ قَيْسٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ فِي الْعَرَبِ وَقِنْوٌ عَلَى قِنْوانٌ انْتَهَى، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ مِنْ أَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِ قِنْوانٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ومِنْ طَلْعِها بَدَلٌ مِنْ وَمِنَ النَّخْلِ والتقدير وقِنْوانٌ دانِيَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ وَأُفْرِدَ ذِكْرُ الْقِنْوَانِ وَجُرِّدَ مِنْ قَوْلِهِ: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نُخْرِجُ مِنْهُ خَضِرًا لِمَا فِي تَجْرِيدِهَا من عظيم

_ (1) سورة النحل: 16/ 81.

الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ، إِذْ كَانَتْ أَعْظَمَ أَوْ مِنْ أَعْظَمِ قُوتِ الْعَرَبِ وَأُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَأَنَّ ذَلِكَ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنَ النَّخْلِ تَقْدِيرُهُ نُخْرِجُ مِنَ النَّخْلِ وَمِنْ طَلْعِهَا قِنْوانٌ ابْتِدَاءٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمُ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بتخرج انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لَا تَقَعُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا يُعَلَّقُ وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا الْفِعْلُ مِنَ الْمَوَانِعِ الْمَشْرُوحَةِ في علم النحو ونُخْرِجُ لَيْسَتْ مِمَّا يُعَلِّقُ وَلَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ الْفِعْلِ فِي شَيْءٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا إِذْ لَوْ كَانَ الْفِعْلُ هُنَا مُقَدَّرًا لَتَسَلَّطَ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَلَكَانَ التَّرْكِيبُ وَالتَّقْدِيرُ وَنُخْرِجُ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوَانًا دَانِيَةً بِالنَّصْبِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ فَأَخْرَجْنا عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ وَمُخْرَجَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ قِنْوَانٌ انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِذِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِدُونِهِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِنْوانٌ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مِنْ طَلْعِها وَفِي مِنَ النَّخْلِ ضَمِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَيَنْبُتُ مِنَ النَّخْلِ شَيْءٌ أَوْ ثَمَرٌ فَيَكُونُ مِنْ طَلْعِها بَدَلًا مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ قِنْوانٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ طَلْعِها فَيَكُونُ فِي مِنَ النَّخْلِ ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ قِنْوانٌ وَإِنْ رَفَعْتَ قِنْوانٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ النَّخْلِ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَعْمَلَ أَوَّلَ الْفِعْلَيْنِ جَازَ وَكَانَ فِي مِنْ طَلْعِها ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ انْتَهَى، وَهُوَ إِعْرَابٌ فِيهِ تَخْلِيطٌ لَا يَسُوغُ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَ يَخْرُجُ مِنْهُ حُبٌّ مُتَرَاكِبٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ يَضْرِبُ فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَفِي السُّوقِ عَمْرٌو وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَهُوَ الْأَوْجَهُ. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ التَّاءِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ نَبَاتَ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِشَرَفِهِ وَلَمَّا جُرِّدَ النَّخْلُ جُرِّدَتْ جَنَّاتٍ الْأَعْنَابِ لِشَرَفِهِمَا، كَمَا قَالَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ «1» وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَنْ عَاصِمٍ وَجَنَّاتٌ بِالرَّفْعِ وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ مُحَالُّ لِأَنَّ الْجَنَّاتِ مِنَ الْأَعْنَابِ لَا تَكُونُ مِنَ النَّخْلِ وَلَا يَسُوغُ إِنْكَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَهَا التَّوْجِيهُ الْجَيِّدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وُجِّهَتْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ فَقَدَّرَهُ النَّحَّاسُ وَلَهُمْ جَنَّاتٌ وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَكُمْ جَنَّاتٌ وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَمِنَ الْكَرْمِ جَنَّاتٌ وَقَدَّرَهُ وَمِنَ الْكَرْمِ لِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّخْلِ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَثَمَّ جَنَّاتٌ أَيْ مَعَ النَّخْلِ ونظيره قراءة من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 266.

قَرَأَ وَحُورٌ عِينٌ بِالرَّفْعِ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ «1» الْآيَةَ وَتَقْدِيرُهُ وَلَهُمْ حَوَرٌ وَأَجَازَ مِثْلَ هَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَقُدِّرَ الْخَبَرُ أَيْضًا مُؤَخَّرًا تَقْدِيرُهُ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ أَخْرَجْنَاهَا وَدَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ قَوْلُهُ قَبْلُ: فَأَخْرَجْنا كَمَا تَقُولُ: أَكْرَمْتُ عَبْدَ اللَّهِ وَأَخُوهُ التَّقْدِيرُ وَأَخُوهُ أَكْرَمْتُهُ فَحُذِفَ أَكْرَمْتُهُ لِدَلَالَةِ أَكْرَمْتُ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَهَا الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ وَجَنَّاتٍ عَطْفٌ عَلَى قِنْوانٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قِنْوانٌ لِأَنَّ الْعِنَبَ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ فِي رَفْعِهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ وَثَمَّ جَنَّاتٌ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا التَّقْدِيرِ عَنْهُ، قَالَ: وَالثَّانِي أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قِنْوانٌ عَلَى مَعْنَى وَحَاصِلُهُ أَوْ وَمَخْرَجُهُ مِنَ النَّخْلِ قِنْوَانٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ أَيْ مِنْ نَبَاتِ أَعْنَابٍ انْتَهَى، وَهَذَا الْعَطْفُ هُوَ عَلَى أَنْ لَا يُلَاحَظُ فِيهِ قَيْدُ مِنَ النَّخْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ مِنَ النَّخْلِ قنوان دانية جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ حَاصِلَةٌ كَمَا تَقُولُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ رَجُلٌ عَاقِلٌ وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مُنْطَلِقَانِ. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ قُرِئَ بِالنَّصْبِ إِجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى حَبًّا. وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى نَباتَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ وَجَنَّاتٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ وَأَخْرَجْنَا بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ. انْتَهَى فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى نَبَاتَ كَمَا أَنَّ وَجَنَّاتٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «2» لِفَضْلِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ انْتَهَى، قَالَ قَتَادَةُ: يَتَشَابَهُ فِي الْوَرَقِ وَيَتَبَايَنُ فِي الثَّمَرِ وَتَشَابُهُ الْوَرَقِ فِي الْحَجْمِ وَفِي اشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُصْنِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مُتَشَابِهًا فِي النَّظَرِ وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي الطَّعْمِ مِثْلَ الرُّمَّانَتَيْنِ لَوْنُهُمَا وَاحِدٌ وَطَعْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: جَائِزٌ أَنْ يَتَشَابَهَ فِي الثمر يتباين فِي الطَّعْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ تَشَابُهَ الطَّعْمِ وَتَبَايُنَ النَّظَرِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مَوْجُودَةٌ فِي الِاعْتِبَارِ فِي أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْضُهُ مُتَشَابِهٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي الْقَدْرِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعَمُّدَ دُونَ الْإِهْمَالِ انْتَهَى، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُشْتَبِهاً وَقُرِئَ شَاذًّا مُتَشَابِهًا وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَاخْتَصَمَ وَتَخَاصَمَ وَاشْتَرَكَ وَاسْتَوَى وَتَسَاوَى وَنَحْوِهَا مِمَّا اشْتَرَكَ فِيهِ بَابُ الِافْتِعَالِ وَالتَّفَاعُلِ، وَانْتَصَبَ مُشْتَبِهاً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الرُّمَّانَ لِقُرْبِهِ وَحُذِفَتِ الْحَالُ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ حَالٌ مِنَ الْأَوَّلِ لِسَبْقِهِ فَالتَّقْدِيرُ وَالزَّيْتُونَ مشتبها وغير

_ (1) سورة الصافات: 37/ 45. (2) سورة النساء: 4/ 162.

مُتَشَابِهٍ وَالرُّمَّانَ كَذَلِكَ هَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ كَقَوْلِهِ: كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا. انْتَهَى. فَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْبَيْتِ كُنْتُ مِنْهُ بَرِيئًا وَوَالِدِي كَذَلِكَ أَيْ بَرِيئًا وَالْبَيْتُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ مَا ذَكَرَ لِأَنَّ بَرِيئًا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ كَصَدِيقٍ وَرَفِيقٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَرِيئًا خَبَرَ كَانَ عَلَى اشْتِرَاكِ الضَّمِيرِ، وَالظَّاهِرُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِيهِ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ إِذْ لَوْ كَانَ حَالًا مِنْهُمَا لَكَانَ التَّرْكِيبُ مُتَشَابِهِينَ وغيره مُتَشَابِهِينَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَرَنَ الزَّيْتُونَ بِالرُّمَّانِ لِأَنَّهُمَا شَجَرَتَانِ تَعْرِفُ الْعَرَبُ أَنَّ وَرَقَهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْغُصْنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو ... رِكَ نَضْجُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ النَّظَرُ نَظَرُ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِإِلَى لَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفِكْرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى قُدْرَةٍ بَاهِرَةٍ تَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَنَبَّهَ عَلَى حَالَيْنِ الِابْتِدَاءُ وَهُوَ وَقْتُ ابْتِدَاءِ الْإِثْمَارِ وَالِانْتِهَاءُ وَهُوَ وَقْتُ نُضْجِهِ أَيْ كَيْفَ يُخْرِجُهُ ضَئِيلًا ضَعِيفًا لَا يَكَادُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَكَيْفَ يَعُودُ نَضِيجًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَنَافِعَ؟ وَنَبَّهَ عَلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحْوَالٌ يَقَعُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ لِأَنَّهُمَا أَغْرَبُ فِي الْوُقُوعِ وَأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَمُجَاهِدٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِلى ثَمَرِهِ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ. قَالَ ابْنُ وَثَّابٍ: وَمُجَاهِدٌ وَهِيَ أَصْنَافُ الْأَمْوَالِ يَعْنِي الْأَمْوَالُ الَّتِي تَتَحَصَّلُ مِنْهُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ ثَمَرَةٍ كَخَشَبَةٍ وَخُشُبٍ وَأَكَمَةٍ وَأُكُمٍ وَنَظِيرُهُ فِي الْمُعْتَلِّ لَابَةٌ وَلُوبٌ وَنَاقَةٌ وَنُوقٌ وَسَاحَةٌ وَسُوحٌ وَقَرَأَتْ فَرِقَّةٌ بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ كَمَا تَقُولُ فِي الْكُتُبِ كُتْبٌ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ ثَمَرِهِ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ كَشَجَرَةٍ وشجر والثمر حتى الشَّجَرِ وَمَا يَطْلُعُ وَإِنَّ سُمِّي الشَّجَرُ ثَمَرًا فَمَجَازٌ وَالْعَامِلُ فِي إِذا انْظُرُوا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَنْعِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْيَمَانِيُّ وَيَانِعِهِ اسْمَ فَاعِلِ مِنْ يَنَعَ وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: إِذا أَثْمَرَ عِنْدَ لَا ظِلَّ لَهُ دَائِمٌ فَلَا يَنْضَجُ وَلَا شَمْسَ دَائِمَةٌ فَتُحْرِقُ أَرْسَلَ عَلَى كُلِّ فَاكِهَةٍ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ رِيحٌ تُحَرِّكُ الْوَرَقَ فَيَبْدُو الثَّمَرُ فَتَقْرَعُهُ الشَّمْسُ وَرِيحٌ أُخْرَى تُحَرِّكُ الْوَرَقَ وَتُظِلُّ الثَّمَرَ فَلَا يَحْتَرِقُ.

إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى إِلَى آخِرِ مَا خَلَقَ تَعَالَى وَمَا امْتَنَّ بِهِ، وَالْآيَاتُ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِحْكَامِ صَنْعَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَظُهُورُ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا لِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ فَأَمَّا مَنْ سَبَقَ قَدَرُ اللَّهِ لَهُ بِالْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. فَنَبَّهَ بِتَخْصِيصِ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ مَسَاقِ هَذَا التَّرْتِيبِ لِمَا تَقَدَّمَ إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى جَاءَ التَّرْتِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ تَابِعًا لِهَذَا التَّرْتِيبِ فَحِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ذَكَرَ الزَّرْعَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَابْتَدَأَ بِهِ كَمَا ابْتَدَأَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ ثُمَّ ثَنَّى بِمَا لَهُ نَوَى فَقَالَ: مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ إِلَى آخِرِهِ كَمَا ثَنَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّوى وَقَدَّمَ الزَّرْعَ عَلَى الشَّجَرِ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ وَالثَّمَرُ فَاكِهَةٌ، وَالْغِذَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَقَدَّمَ النَّخْلَ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْغِذَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدَّمَ الْعِنَبَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْفَوَاكِهِ وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَنُوطٌ ثُمَّ حِصْرِمٌ ثُمَّ عِنَبٌ ثُمَّ إِنْ عُصِرَ كَانَ مِنْهُ خَلٌّ وَدِبْسٌ وَإِنْ جُفِّفَ كَانَ مِنْهُ زَبِيبٌ، وَقَدَّمَ الزَّيْتُونَ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْأَكْلِ وَفِيمَا يُعْصَرُ مِنْهُ مِنَ الدُّهْنِ الْعَظِيمِ النَّفْعِ فِي الْأَكْلِ وَالِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَ الرُّمَّانَ لِعَجَبِ حَالِهِ وَغَرَابَتِهِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قِشْرٍ وَشَحْمٍ وَعَجَمٍ وَمَاءٍ، فَالثَّلَاثَةُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَرْضِيَّةٌ كَثِيفَةٌ قَابِضَةٌ عَفْصَةٌ قَوِيَّةٌ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَاؤُهُ بِالضِّدِّ أَلَذُّ الْأَشْرِبَةِ وَأَلْطَفُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى حَيِّزِ الِاعْتِدَالِ وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمِزَاجِ الضَّعِيفِ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، فَجَمَعَ تَعَالَى فِيهِ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَعَانِدَيْنِ فَمَا أَبْهَرَ قُدْرَتَهُ وَأَعْجَبَ مَا خَلَقَ. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ وَمُتْقَنِ صَنْعَتِهِ وَامْتِنَانِهِ عَلَى عَالَمِ الْإِنْسَانِ بِمَا أَوْجَدَ لَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِ، وبين ذلك الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ولِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ مَا عَامَلُوا بِهِ مُنْشِئَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ وَمُوجِدَ أَرْزَاقِهِمْ مِنْ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، وَنِسْبَةِ مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالسِّبَاعِ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمَجُوسِ قَالُوا: لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ إِلَهٌ قَدِيمٌ، وَالثَّانِي: شَيْطَانٌ حَادِثٌ مِنْ فِكْرَةِ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِطِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَائِطٍ زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ الْإِلَهُ الْقَدِيمُ وَالْآخَرُ مُحْدَثٌ خَلَقَهُ اللَّهُ أَوَّلًا ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الْعَالَمِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي الْآخِرَةِ وَالضَّمِيرُ فِي وَجَعَلُوا عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ، وَقِيلَ:

هُوَ عَائِدٌ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالنَّصَارَى قَالَتْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَالْيَهُودُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَطَوَائِفُ مِنَ الْعَرَبِ جَعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى بَنَاتٍ الْمَلَائِكَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَاهَرَ الْجِنَّ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَائِفَةً يُسَمَّوْنَ الْجِنَّ وَإِبْلِيسُ مِنْهُمْ وَهُمْ خَدَمُ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الطَّوَائِفُ كُلُّهَا أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَاعْتَقَدُوا الْإِلَهِيَّةَ فِيمَنْ لَيْسَتْ لَهُ، فَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ أَنْفُسَهُمْ، وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ مُخَالِفٌ لِهَذَا الظَّاهِرِ، إِذْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الشُّرَكَاءَ هِيَ الْأَوْثَانُ وَأَنَّهُ جَعَلَتْ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ تَشْرِيكًا لَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ كَانَ التَّشْرِيكُ نَاشِئًا عَنْ أَمْرِهِ وَإِغْوَائِهِ وَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: أَرَادَ بِالْجِنِّ إِبْلِيسَ أَمَرَهُمْ فَأَطَاعُوهُ، وَظَاهِرُ لَفْظِ الْجِنِّ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَبَادَرُ إِلَيْهِمُ الذِّهْنُ مِنْ أَنَّهُمْ قَسِيمُ الْإِنْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «1» وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا الملائكة لقوله: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ «2» قَالُوا: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى الَّذِينَ جَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَكَانَتْ طَوَائِفُ مِنَ الْعَرَبِ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَتَسْتَجِيرُ بِجِنِّ الْأَوْدِيَةِ فِي أَسْفَارِهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَصْبِ الْجِنَّ وَأَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ مَفْعُولًا أَوَّلًا بِجَعَلُوا وَجَعَلُوا بمعنى صيروا وشُرَكاءَ مَفْعُولٌ ثَانٍ ولِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِشُرَكَاءَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا فَائِدَةُ التَّقْدِيمِ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ اسْتِعْظَامُ أَنْ يُتَّخَذَ لِلَّهِ شَرِيكٌ مَنْ كَانَ مَلَكًا أَوْ جِنِّيًّا أَوْ إِنْسِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ انْتَهَى، وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْجِنَّ بدلا من شُرَكاءَ ولِلَّهِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وشُرَكاءَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَمَا أَجَازَاهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ لِلْبَدَلِ أَنْ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا لَوْ قُلْتَ وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ لَمْ يَصِحَّ وَشَرْطُ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ عَلَى أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى قَوْلٍ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ هُنَا الْبَتَّةَ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَجَازَ الْحَوْفَيُّ أَنْ يَكُونَ شُرَكاءَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ والْجِنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ كَمَا هُوَ تَرْتِيبُ النَّظْمِ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شُرَكاءَ حَالًا وَكَانَ لَوْ تَأَخَّرَ لِلشُّرَكَاءِ وَأَحْسَنَ مِمَّا أَعْرَبُوهُ مَا سَمِعْتُ مِنْ أُسْتَاذِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن الزبير الثَّقَفِيِّ يَقُولُ فِيهِ قَالَ انْتَصَبَ الْجِنَّ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلِ جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قِيلَ: الْجِنَّ أَيْ جَعَلُوا الْجِنَّ وَيُؤَيِّدُ هذا المعنى قراءة أبي حيوة

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 33. (2) سورة سبأ: 34/ 40.

وَيَزِيدَ بْنِ قُطَيْبٍ الْجِنُّ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِهِمُ الْجِنَّ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: مَنِ الَّذِي جَعَلُوهُ شَرِيكًا فَقِيلَ لَهُ: هُمُ الْجِنُّ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْظَامِ لِمَا فَعَلُوهُ وَالِانْتِقَاصِ لِمَنْ جَعَلُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ. وَقَرَأَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ: الْجِنُّ بِخَفْضِ النُّونِ وَرُوِّيتُ هَذِهِ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ وَابْنِ قُطَيْبٍ أَيْضًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ عَلَى الْإِضَافَةِ الَّتِي لِلتَّبْيِينِ وَالْمَعْنَى أَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَتِهِ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ كَمَا يُطَاعُ اللَّهُ انْتَهَى، وَلَا يَتَّضِحُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَجَعَلُوا شُرَكَاءَ الْجِنَّ لِلَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى لَا يَظْهَرُ وَالضَّمِيرُ فِي وَخَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْجَاعِلِينَ إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَهِيَ جُمْلَةً حَالِيَّةً أَيْ وَقَدْ خَلَقَهُمْ وَانْفَرَدَ بِإِيجَادِهِمْ دُونَ مَنِ اتَّخَذَهُ شَرِيكًا لَهُ وَهُمُ الْجِنُّ فَجَعَلُوا مَنْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ شَرِيكًا لِخَالِقِهِمْ وَهَذِهِ غَايَةُ الْجَهَالَةِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْجِنِّ أَيْ وَاللَّهُ خَلَقَ مَنِ اتَّخَذُوهُ شَرِيكًا لَهُ فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي أَنَّ الْجَاعِلَ وَالْمَجْعُولَ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ فَكَيْفَ يُنَاسِبُ أَنْ يُجْعَلَ بَعْضُ الْمَخْلُوقِ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى؟ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَخَلَقَهُمْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْجِنِّ أَيْ وَجَعَلُوا خَلْقَهُمُ الَّذِي يَنْحِتُونَهُ أَصْنَامًا شُرَكَاءَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «1» فَالْخَلْقُ هُنَا وَاقِعٌ عَلَى الْمَعْمُولِ الْمَصْنُوعِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، قَالَ: هُنَا مَعْنَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ وَخَلَقَهُمْ أَيِ اخْتِلَاقَهُمُ الْإِفْكَ يَعْنِي وَجَعَلُوا لِلَّهِ خَلْقَهُمْ حَيْثُ نَسَبُوا قَبَائِحَهُمْ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِمْ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا انْتَهَى، فَالْخَلْقُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِاخْتِلَاقِ. وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيِ اخْتَلَقُوا وَافْتَرَوْا، وَيُقَالُ خَرَقَ الْإِفْكَ وَخَلَقَهُ وَاخْتَلَقَهُ وَاخْتَرَقَهُ واقتلعه وافتراه وخرصه إذ كَذَبَ فِيهِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ أَيِ اشْتَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: خَرَقُوا كَذَبُوا وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: بَنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، وَبَناتٍ إِلَى قُرَيْشٍ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَخَرَقُوا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحَرَفُوا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ وَشَدَّدَ ابْنُ عُمَرَ الرَّاءَ وَخَفَّفَهَا ابن عباس بمعنى وزورا لَهُ أَوْلَادًا لِأَنَّ الْمُزَوِّرَ مُحَرِّفٌ مُغَيِّرٌ لِلْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَمَعْنَى بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا قَالُوهُ مَنْ خطاب وَصَوَابٍ، وَلَكِنْ رَمْيًا بِقَوْلٍ عَنْ عَمَى وَجَهَالَةٍ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ وَفِيهِ نَصٌّ عَلَى قُبْحِ تُقَحُّمِهِمُ المجهلة وافترائهم الباطل.

_ (1) سورة الصافات: 37/ 95.

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ نَزَّهَ ذَاتَهُ عَنْ تَجْوِيزِ الْمُسْتَحِيلَاتِ عَلَيْهِ وَالتَّعَالِي هُنَا هُوَ الِارْتِفَاعُ الْمَجَازِيُّ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَقَدِّسٌ فِي ذَاتِهِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ قِيلَ: وَبَيْنَ سُبْحانَهُ وَتَعالى فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سُبْحَانَ مُضَافٌ إِلَيْهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُنَزَّهٌ وتَعالى فِيهِ إِسْنَادُ التَّعَالِي إِلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى صِفَاتِ الذَّاتِ سَوَاءً سَبَّحَهُ أَحَدٌ أَمْ لَمْ يُسَبِّحْهُ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ وَهَذِهِ حَالُهُ أَيْ إِنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَهُوَ لَا زَوْجَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ بِالْيَاءِ وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أو عَلَى أَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ تَكُنْ أَوْ عَلَى ارْتِفَاعِ صاحِبَةٌ بِتَكُنْ وَذُكِرَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ وَلَدَ الْأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ وَحَضَرَ لِلْقَاضِي امْرَأَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَذْكِيرُهَا وَأَخَوَاتِهَا مَعَ تَأْنِيثِ اسْمِهَا أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ. انْتَهَى، وَلَا أَعْرِفُ هَذَا عَنِ النَّحْوِيِّينَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَانَ وَغَيْرِهَا وَالظَّاهِرُ ارْتِفَاعُ بَدِيعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَيْ هُوَ بَدِيعٌ فَيَكُونُ الْكَلَامُ جُمْلَةً وَاسْتِقْلَالُ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بَدِيعُ مُبْتَدَأً وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرَهُ فَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْوُلْدِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِجِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: انْتِفَاءُ الصَّاحِبَةِ، وَالْأُخْرَى: كَوْنُهُ بَدِيعًا أَيْ عَدِيمَ الْمِثْلِ وَمُبْدِعًا لِمَا خَلَقَ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْوُلْدِيَّةِ وَتَقْدِيرَ الْإِبْدَاعِ يُنَافِي الْوُلْدِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ بِقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَقَرَأَ الْمَنْصُورُ: بَدِيعِ بِالْجَرِّ رَدًّا عَلَى قوله: جَعَلُوا لِلَّهِ أَوْ عَلَى سُبْحانَهُ. وَقَرَأَ صَالِحٌ الشَّامِيُّ: بَدِيعُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ قِيلَ: هَذَا عُمُومٌ مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ أَيْ وَخَلَقَ الْعَالَمَ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ صِفَاتُهُ وَلَا ذَاتُهُ كَقَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «1» وَلَا تَسْعُ إِبْلِيسَ وَلَا مَنْ مَاتَ كَافِرًا وتدمر كُلَّ شَيْءٍ وَلَمْ تُدَمِّرِ السموات وَالْأَرْضَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ هُوَ عُمُومًا مُخَصَّصًا على

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 156.

مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ الْمُخَصَّصَ هُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْعُمُومُ شَيْئًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ بِالتَّخْصِيصِ، وَهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ قَطُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ: قَتَلْتُ كُلَّ فَارِسٍ وَأَفْحَمْتُ كُلَّ خَصْمٍ فَلَمْ يَدْخُلِ الْقَاتِلُ قَطُّ فِي هَذَا الْعُمُومِ الظَّاهِرِ مِنْ لَفْظِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ إِبْطَالُ الْوَلَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أن مبتدع السموات وَالْأَرْضِ وَهِيَ أَجْسَامٌ عَظِيمَةٌ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُوصَفَ بِالْوِلَادَةِ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَمُخْتَرِعُ الْأَجْسَامِ لَا يَكُونُ جِسْمًا حَتَّى يَكُونَ وَالِدًا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ زَوْجَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ مُجَانِسٍ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ الْوِلَادَةُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ خَالِقُهُ وَالْعَالِمُ بِهِ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَطْلُبُهُ الْمُحْتَاجُ. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا عُمُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَالَ التبريري: بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَيْ ذلِكُمُ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهِ بَدِيعًا لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا خَالِقَ الْمَوْجُودَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ بَدَأَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ ثُمَّ قَالَ: رَبُّكُمْ أَيْ مَالِكُكُمْ وَالنَّاظِرُ فِي مَصَالِحِكُمْ، ثُمَّ حَصَرَ الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِ ثُمَّ كَرَّرَ وَصْفَ خَلْقِهِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ مَنِ اسْتَجْمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ كَانَ جَدِيرًا بِالْعِبَادَةِ وَأَنْ يُفْرَدَ بِهَا فَلَا يُتَّخَذَ مَعَهُ شَرِيكٌ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ الَّتِي مِنْهَا خَلْقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ رَقِيبٌ عَلَى الْأَعْمَالِ. لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْإِدْرَاكُ قِيلَ مَعْنَاهُ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ هُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزَّجَّاجُ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ وَالْإِدْرَاكُ يَتَضَمَّنُ الْإِحَاطَةَ بِالشَّيْءِ وَالْوُصُولَ إِلَى أَعْمَاقِهِ وَحَوْزَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ أَوْ كَنَّى بِالْأَبْصَارِ عَنِ الْأَشْخَاصِ لِأَنَّ بِهَا تُدْرِكُ الْأَشْخَاصُ الْأَشْيَاءَ، وَكَانَ الْمَعْنَى لَا تُدْرِكُهُ الْخَلْقُ وَهُوَ يُدْرِكُهُمْ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى إِبْصَارَ الْقَلْبِ أَيْ لَا تُدْرِكُهُ عُلُومُ الْخَلْقِ وَهُوَ يُدْرِكُ عُلُومَهُمْ وَذَوَاتَهُمْ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحَاطٍ بِهِ وَهُوَ عَلَى هَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُنَافِي الرُّؤْيَةُ انْتِفَاءَ الْإِدْرَاكِ، وَقِيلَ: الْإِدْرَاكُ هُنَا الرُّؤْيَةُ وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْمُعْتَزِلَةُ يُحِيلُونَهَا وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُجَوِّزُونَهَا عَقْلًا

وَيَقُولُونَ: هِيَ وَاقِعَةٌ سَمْعًا وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَفِيهِ ذِكْرُ دَلَائِلِ الْفَرِيقَيْنِ مُسْتَوْفَاةٌ وَقَدْ رَأَيْتُ فِيهَا لِأَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ وَهُوَ مِنْ عُقَلَاءِ الْإِمَامِيَّةِ سِفْرًا كَبِيرًا يَنْصُرُ فِيهِ مَقَالَةَ أَصْحَابِهِ نُفَاةِ الرُّؤْيَةِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَذْهَبِهِمْ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْإِدْرَاكَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الرُّؤْيَةُ فَالْأَبْصَارُ مَخْصُوصَةٌ أَيْ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرَهُمْ أَوْ لَا تُدْرِكُهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَالْبَصَرُ هُوَ الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاسَّةِ النَّظَرِ بِهِ تُدْرَكُ الْمُبْصَرَاتُ وَفِي قَوْلِهِ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُرَادُ بِهِ هُنَا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ إِذْ لَوْ كَانَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ وَلَا تَمَدُّحٌ، لِأَنَّا نَحْنُ نَرَى الْأَبْصَارَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ فَهُوَ تَعَالَى لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ الْأَبْصَارُ وَهُوَ مُحِيطٌ بِحَقِيقَتِهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا تُدْرِكُهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ أَنْ يَكُونَ مُبْصِرًا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا كَانَ فِي جِهَةٍ أَصْلًا أَوْ تَابِعًا كَالْأَجْسَامِ وَالْهَيْئَاتِ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ لِلُطْفِ إِدْرَاكِهِ لِلْمُدْرَكَاتِ يُدْرِكُ تِلْكَ الْجَوَاهِرَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا مُدْرِكٌ. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ لَا تَلْطُفُ عَنْ إِدْرَاكِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَتَظَافَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِبَصَرِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُمَا بِذَلِكَ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَوَّلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَشْهَرُ، وَقِيلَ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ مَعْنَاهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَخَصَّ الْأَبْصَارَ لِتَجْنِيسِ الْكَلَامِ يَعْنِي الْمُقَابَلَةَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ لَا يُدْرِكُونَ الْأَبْصَارَ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ حَقِيقَةِ الْبَصَرِ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ مُبْصِرًا مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْأَشْيَاءِ خَبِيرٌ بِأَمَاكِنِهَا. قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ هَذَا وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ لِقَوْلِهِ آخِرَهُ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَالْبَصِيرَةُ نُورُ الْقَلْبِ الَّذِي يُسْتَبْصَرُ بِهِ كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ نُورُ الْعَيْنِ الَّذِي بِهِ تُبْصِرُ أَيْ جَاءَكُمْ مِنَ الْوَحْيِ وَالتَّنْبِيهِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا لَا يَجُوزُ مَا هُوَ لِلْقُلُوبِ

كَالْبَصَائِرِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَصِيرَةُ هِيَ مَا يَنْقُبُ عَنْ تَحْصِيلِ الْعَقْلِ لِلْأَشْيَاءِ الْمَنْظُورِ فِيهَا بِالِاعْتِبَارِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ جَاءَكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ طَرَائِقُ إِبْصَارِ الْحَقِّ وَالْمُعِينَةِ عَلَيْهِ وَالْبَصِيرَةُ لِلْقَلْبِ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ إِبْصَارِ الْعَيْنِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْبَصِيرَةُ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ الظَّاهِرَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ «1» بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ «2» ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْبَصَائِرُ آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي فِيهَا الْإِيضَاحُ وَالْبَيِّنَاتُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يَسْتَحِيلُ وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى الْبَصَائِرِ مَجَازٌ لِتَفْخِيمِ شأنها إذا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ الْمُتَوَقَّعِ حُضُورُهُ كَمَا يُقَالُ جَاءَتِ الْعَافِيَةُ. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَيْ فَالْإِبْصَارُ لِنَفْسِهِ أَيْ نَفْعُهُ وَثَمَرَتُهُ. وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أَيْ فَالْعَمَى عَلَيْهَا أَيْ فَجَدْوَى الْعَمَى عَائِدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِبْصَارُ وَالْعَمَى كِنَايَتَانِ عَنِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ثَمَرَةَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ إِنَّمَا هِيَ لِلْمُهْتَدِي وَالضَّالِّ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ، وَهِيَ مِنَ الْكِنَايَاتِ الْحَسَنَةِ لَمَّا ذَكَرَ الْبَصَائِرَ أَعْقَبَهَا تَعَالَى بِالْإِبْصَارِ وَالْعَمَى وَهَذِهِ مُطَابَقَةٌ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَمَنْ أَبْصَرَ الْحَقَّ وَآمَنَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ وَإِيَّاهَا نَفَعَ وَمَنْ عَمِيَ عَنْهُ فَعَلَى نَفْسِهِ عَمِيَ وَالَّذِي قَدَّرْنَاهُ مِنَ الْمَصْدَرِ أَوْلَى وَهُوَ فَالْإِبْصَارُ وَالْعَمَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَكُونُ مُفْرَدًا لَا جُمْلَةً وَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ عُمْدَةً لَا فَضْلَةً، وَفِي تَقْدِيرِهِ هُوَ الْمَحْذُوفُ جُمْلَةٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فَضْلَةٌ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَى وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْدِيرُ فِعْلًا لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ شَرْطًا أَمْ مَوْصُولَةً مُشَبَّهَةً بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُعَاءً وَلَا جَامِدًا وَوَقَعَ جَوَابَ شَرْطٍ أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُشَبَّهٍ بِاسْمِ الشَّرْطِ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَلَا فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، لَوْ قُلْتُ: مَنْ جَاءَنِي فَأَكْرَمْتُهُ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ تَقْدِيرِنَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَاءِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْبَصِيرَةُ اسْمُ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ وَالْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَيْسَتْ فِي أَنْفُسِهَا بَصَائِرَ إِلَّا أَنَّهَا لِقُوَّتِهَا وَجَلَائِهَا تُوجِبُ الْبَصَائِرَ لِمَنْ عَرَفَهَا، فَلَمَّا كَانَتْ أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْبَصَائِرِ سُمِّيَتْ بَصَائِرَ. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَيْ بِرَقِيبٍ أَحْصُرُ أَعْمَالَكُمْ أَوْ بِوَكِيلٍ آخُذُكُمْ بِالْإِيمَانِ أَوْ بِحَافِظِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أوبرب أُجَازِيكُمْ أَوْ بِشَاهِدٍ أَقْوَالٌ رَابِعُهَا لِلْحَسَنِ وَخَامِسُهَا لِلزَّجَّاجِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِحَفِيظٍ أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ وَأُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَاللَّهُ هُوَ الحفيظ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 108. [.....] (2) سورة القيامة: 75/ 14.

عَلَيْكُمْ. انْتَهَى، وَهُوَ بَسْطُ قَوْلِ الْحَسَنِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ حَفِيظًا عَلَى الْعَالَمِ آخِذًا لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَالسَّيْفِ. وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أَيْ وَمِثْلَ مَا بَيَّنَّا تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ بَصَائِرُ وَصَرَّفْنَاهَا نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَنَرْدُدُهَا عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ يَعْنِي أَهْلُ مَكَّةَ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو دَارَسْتَ أَيْ دَارَسْتَ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَكَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَيْ قَارَأْتَهُ وَنَاظَرْتَهُ إِشَارَةً مِنْهُمْ إِلَى سَلْمَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعَاجِمِ وَالْيَهُودِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبْعَةِ دَرَسْتَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُضْمَرًا فِيهِ أَيْ دَرَسَتِ الْآيَاتُ أَيْ تَرَدَّدَتْ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ حَتَّى بَلِيَتْ وَقَدِمَتْ فِي نفوسهم وأمحيت، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ دَرَسْتَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ مَا تَجِيئُنَا بِهِ كَمَا قَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها «1» ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: دَرَسْتَ قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ مِنْ أَبِي فَكِيهَةَ وَجَبْرٍ وَيَسَارٍ، وَقُرِئَ دَرَسْتَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْخِطَابِ أَيْ دَرَّسْتَ الْكُتُبَ الْقَدِيمَةَ، وَقُرِئَ دَرَسْتَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْمُخَاطَبِ، وَقُرِئَ دُورِسْتَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْوَاوِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْوَاوُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْأَلْفِ فِي دَارَسْتَ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ دَارَسْتَ أَيْ دَارَسَتْكَ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ تَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ وَجَازَ الْإِضْمَارُ، لِأَنَّ الشُّهْرَةَ بِالدِّرَاسَةِ كَانَتْ لِلْيَهُودِ عِنْدَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لِلْآيَاتِ وَهُوَ لِأَهْلِهَا أَيْ دَارَسَ أَهْلَ الْآيَاتِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ دَرَسْتَ بِضَمِّ الرَّاءِ مُسْنَدًا إِلَى غَائِبٍ مُبَالَغَةً فِي دَرَسَتْ أَيِ اشْتَدَّ دُرُوسُهَا وَبِلَاهَا، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ دَرَسْتَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَفِيهِ ضَمِيرُ الْآيَاتِ غَائِبًا وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ عُفِيَتْ أَوْ تُلِيَتْ وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ بِمَعْنَى قُرِئَتْ أَوْ عُفِيَتْ أَمَّا بِمَعْنَى قُرِئَتْ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ دَرَسَ بِمَعْنَى كَرَّرَ القراء مُتَعَدٍّ وَأَمَّا دَرَسَ بِمَعْنَى بَلِيَ وَأُمْحِيَ فَلَا أَحْفَظُهُ مُتَعَدِّيًا، وَمَا وَجَدْنَاهُ فِي أَشْعَارِ مِنْ وَقَفْنَا عَلَى شِعْرِهِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا لَازَمَا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ دَرَسَ أَيْ مُحَمَّدٌ أَوِ الْكِتَابُ وَهِيَ مُصْحَفُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ دَرَسْنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُسْنَدًا إِلَى النُّونِ أَيْ دَرَسَ الْآيَاتُ وَكَذَا هِيَ فِي بَعْضِ مَصَاحِفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ دَرَّسْنَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مُبَالَغَةً فِي دَرَسْنَ، وَقُرِئَ دَارِسَاتٌ أَيْ هِيَ قَدِيمَاتٌ أَوْ ذَاتُ دَرْسٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فَهَذِهِ ثَلَاثَ عَشْرَ قِرَاءَةً فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ وَلْيَقُولُوا بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى جِهَةِ الْأَمْرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ وَالْوَعِيدِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا وَقَالُوا: هَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي تُضْمَرُ أَنْ بَعْدَهَا وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بأن

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 5.

الْمُضْمَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى أَنَّهَا لَامُ كَيْ وَهِيَ عَلَى هَذَا لَامُ الصَّيْرُورَةِ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «1» أَيْ لِمَا صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولِيَقُولُوا جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تقديره وليقولوا دارست نصرفها (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّامَيْنِ فِي لِيَقُولُوا ولِنُبَيِّنَهُ (قُلْتُ) : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأُولَى مَجَازٌ وَالثَّانِيَةَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ صُرِّفَتْ لِلتَّبْيِينِ وَلَمْ تُصَرَّفْ لِيَقُولُوا دَارَسْتَ وَلَكِنَّهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ هَذَا الْقَوْلُ بِتَصْرِيفِ الْآيَاتِ كَمَا حَصَلَ التَّبْيِينُ شُبِّهَ بِهِ فَسِيقَ مَسَاقَهُ، وَقِيلَ لِيَقُولُوا كَمَا قِيلَ: لِنُبَيِّنَهُ انْتَهَى، وَتَسْمِيَتُهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلَهُ لِيَقُولُوا جَوَابًا اصْطِلَاحٌ غَرِيبٌ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى جَوَابًا لَا تَقُولُ: فِي جِئْتُ مِنْ قَوْلِكَ: جِئْتُ لِتَقُومَ أَنَّهُ جَوَابٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَخْرِيجِ لِيَقُولُوا عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ أَنْكَرَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالْمَآلِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى الْتِقَاطِهِ كَوْنُهُ صَارَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا جُعِلَ كَأَنَّهُ عِلَّةٌ لِالْتِقَاطِهِ فَهُوَ عِلَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَاللَّامُ فِي لِيَقُولُوا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ بِمَعْنَى لِئَلَّا يَقُولُوا أَيْ صُرِّفَ الْآيَاتُ وَأُحْكِمَتْ لِئَلَّا يَقُولُوا هَذِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدِيمَةٌ قَدْ تُلِيَتْ وَتَكَرَّرَتْ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَاللَّامُ عَلَى سَائِرِ الْقِرَاءَاتِ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، وَمَا أَجَازَهُ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ إِضْمَارِ لَا بَعْدَ اللَّامِ الْمُضْمَرِ بَعْدَهَا أَنْ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لِئَلَّا يَقُولُوا كَمَا أَضْمَرُوهَا بَعْدَ أَنِ الْمُظْهِرَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلُّوا «2» وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ إِضْمَارَ لَا إِلَّا فِي الْقَسَمِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِيهِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ حَقِيقَةً فَقَالَ: الْمَعْنَى تَصْرِيفُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ لِيَقُولَ بَعْضُهُمْ دَارَسْتَ فَيَزْدَادُوا كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ وَتَنْبِيهٌ لِبَعْضِهِمْ فَيَزْدَادُوا إِيمَانًا على إيمان وننظيره يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «3» وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْرِبُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي وَلِيَقُولُوا لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الصَّيْرُورَةِ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ، وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ بِهَا لَا مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ سَكَّنَ اللَّامَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِثْلَ ذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا هُمْ مَا يَقُولُونَ مِنْ كَوْنِكَ دَرَسْتَهَا وَتَعَلَّمَتْهَا أَوْ دَرَسَتْ هِيَ أَيْ بَلِيَتْ وَقَدُمَتْ فَإِنَّهُ لَا يَحْفَلُ بِهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ بِالتَّهْدِيدِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِمَا يَقُولُونَ فِي الْآيَاتِ أَيْ نُصَرِّفُهَا لِيَدَّعُوا فِيهَا مَا شاؤوا فَلَا اكْتِرَاثَ بِدَعْوَاهُمْ. وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا قالوا على معنى

_ (1) سورة القصص: 28/ 8. (2) سورة النساء: 4/ 44، 176. (3) سورة البقرة: 2/ 26.

الْآيَاتِ لِأَنَّهَا الْقُرْآنُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ أَوْ دَرَسْتَ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ وَلِنُبَيِّنَهُ أَيْ وَلِنُبَيِّنَ التَّبْيِينَ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ زَيْدًا إِذَا أَرَدْتَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَ زَيْدًا أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مَنْ نُصَرِّفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِقَوْمٍ يُرِيدُ أَوْلِيَاءَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ. اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَبِأَنْ يُعْرِضَ عَنْ مِنْ أَشْرَكَ وَالْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ كَانَ قَبْلَ نَسْخِهِ بِالْقِتَالِ وَالسَّوْقِ إِلَى الدِّينِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَالْجُمْلَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اعْتِرَاضٌ أَكَّدَ بِهِ وُجُوبَ اتِّبَاعِ الْمُوحَى أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا أَيْ إِنَّ إِشْرَاكَهُمْ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَشِيئَتِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَيَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى مَشِيئَةِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ رَقِيبًا تَحْفَظُهُمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ بِمُسَلَّطٍ عَلَيْهِمْ وَالْجُمْلَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْأُولَى فِيهَا نَفْيُ جَعْلِ الْحِفْظِ مِنْهُ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِيَةُ فِيهَا نَفْيُ الْوِكَالَةِ عَلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّا لَمْ نُسَلِّطْكَ وَلَا أَنْتَ فِي ذَاتِكَ بِمُسَلَّطٍ فَنَاسَبَ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُمْ إِذْ لَسْتَ مَأْمُورًا مِنَّا بِأَنْ تَكُونَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَا أَنْتَ وَكِيلٌ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْقَائِكَ. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبَبُهَا أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ: إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَالْغَضِّ مِنْهَا وَإِمَّا أَنْ نَسُبَّ إِلَهَهُ وَنَهْجُوَهُ فَنَزَلَتْ ، وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ آلِهَتَهُمْ فَنُهُوا لِئَلَّا يَكُونَ سَبُّهُمْ سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةَ بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِذَا كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ وَخِيفَ أَنْ يُسَبَّ الْإِسْلَامُ أَوِ الرَّسُولُ أَوِ اللَّهُ فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ ذَمُّ دِينِ الْكَافِرِ وَلَا صَنَمِهِ وَلَا صَلِيبِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَبِمُوَادَعَةِ الْمُشْرِكِينَ عَدَلَ عَنْ خِطَابِهِ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، فَنُهُوا عَنْ سَبِّ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُوَاجَهْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي سُبَّتِ الْأَصْنَامُ عَلَى لِسَانِهِ وَأَصْحَابُهُ تابعون له في

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 98.

ذَلِكَ لِمَا فِي مُوَاجَهَتِهِ وَحْدَهُ بِالنَّهْيِ مِنْ خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَّاشًا وَلَا صَخَّابًا وَلَا سَبَّابًا فَلِذَلِكَ جَاءَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقِيلَ: وَلا تَسُبُّوا وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ وَلَا تَسُبَّ كَمَا جَاءَ وَأَعْرِضْ وَإِذَا كَانَتِ الطَّاعَةُ تُؤَدِّي إِلَى مَفْسَدَةٍ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ طَاعَةً فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهَا كَمَا يُنْهَى عَنِ المعصية. والَّذِينَ يَدْعُونَ هُمُ الْأَصْنَامُ أَيْ يَدْعُونَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ لَا تَعْقِلُ بِالَّذِينِ كَمَا يُعَبَّرُ عَنِ الْعَاقِلِ عَلَى مُعَامَلَةِ مَا لَا يَعْقِلُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، إِذْ كَانُوا يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ فِي عِبَادَتِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِيهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْكُفَّارُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَيَسُبُّوا اللَّهَ أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى سب الله إذا سبت آلِهَتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ وَشَدَّةُ غَيْظِهِمْ لِأَجْلِهَا فَيَخْرُجُونَ عَنْ الِاعْتِدَالِ إِلَى مَا يُنَافِي الْعَقْلَ كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ وَانْحَرَفَ فَإِنَّهُ قَدْ يَلْفِظُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِالدَّهْرِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ فَكَانَ يَأْتِي بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّنَاعَةِ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ الْأَصْنَامَ وَهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ الرَّسُولَ فَأُجْرِيَ سَبُّ الرَّسُولِ مُجْرَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1» وَكَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «2» أَوْ كَانَ بَعْضُ الْكَفَرَةِ يَعْتَقِدُ أَنْ شَيْطَانًا يَحْمِلُ الرَّسُولَ عَلَى ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَشْتُمُونَ ذَلِكَ الشَّيْطَانَ بِأَنَّهُ إِلَهُ مُحَمَّدٍ، انْتَهَى. وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِلظَّاهِرِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ لَا يَجْسُرُونَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى سَبِّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُحْمَلُ عَلَى حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: بِمَعْنَى خَاطِبُوهُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ وَإِلْزَامِ الدَّلِيلِ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ عَلَى نَوَازِعِ النَّفْسِ وَالْعَادَةِ وفَيَسُبُّوا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَقِيلَ: هُوَ مَجْزُومٌ عَلَى الْعَطْفِ كَقَوْلِكَ: لَا تَمْدُدْهَا فتشققها، وعَدْواً مَصْدَرُ عَدَا وَكَذَا عَدَوَ وَعُدْوَانٍ بِمَعْنَى اعْتَدَى أَيْ ظَلَمَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ وَسَلَّامٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرٌ لِعَدَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَوَّزُوا فِيهِمَا انْتِصَابَهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ لِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ عُدْوَانٌ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ أَعْدَاءً وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ وَعَدُوٌّ يُخْبَرُ به عن الجمع

_ (1) سورة الفتح: 48/ 10. (2) سورة الأحزاب: 33/ 57.

كَمَا قَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ «1» ، وَمَعْنَى بِغَيْرِ عِلْمٍ عَلَى جَهَالَةٍ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُذْكَرَ بِهِ وَهُوَ بَيَانٌ لِمَعْنَى الِاعْتِدَاءِ. كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أَيْ مِثْلَ تَزْيِينِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِلْمُشْرِكِينَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ وَظَاهِرُ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ لعموم فِي الْأُمَمِ وَفِي الْعَمَلِ فِيهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ وَتَزْيِينُهُ هُوَ مَا يَخْلُقُهُ وَيَخْتَرِعُهُ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْمَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ وَالِاتِّبَاعِ لِطُرُقِهِ، وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ هُوَ مَا يَقْذِفُهُ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَخَطَرَاتِ السُّوءِ، وَخَصَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فَقَالَ: مِنْ أُمَمِ الْكُفَّارِ سُوءُ عَمَلِهِمْ أَيْ خَلَّيْنَاهُمْ وَشَأْنَهُمْ وَلَمْ نَكُفُّهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِنْدَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ، وَأَمْهَلْنَا الشَّيْطَانَ حَتَّى زَيَّنَ لَهُمْ أَوْ زَيَّنَّاهُ فِي زَعْمِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا وَزَيَّنَهُ لَنَا انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ الْعَمَلَ الَّذِي أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ زَيَّنَّا بمعنى شرعنا ولِكُلِّ أُمَّةٍ عَامٌّ وَالْعَمَلُ خَاصٌّ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ هَذَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: هُوَ بِمَعْنَى طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «2» انْتَهَى. وَمَا فَسَّرَ بِهِ الْحَسَنُ قَدْ أَوْضَحَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِتَزْيِينِ الْعَمَلِ تَزْيِينُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى تَنَاقُضِ النُّصُوصِ لِأَنَّهُ نُصَّ عَلَى تَزْيِينِ اللَّهِ لِلْإِيمَانِ وَتَكْرِيهِهِ لِلْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ «3» فَلَوْ دَخَلَ تَزْيِينُ الْكُفْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُرَادِ لَوَجَبَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلِذَلِكَ أَضَافَ التَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ «4» فَلَا يَكُونُ اللَّهُ مُزَيِّنًا مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ فَنَقُولُ: اللَّهُ يُزَيِّنُ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَالشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ مَا يَنْهَى عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عَمَلًا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ انْتَهَى، وَأُجِيبَ بِأَنْ لَا تَنَاقُضَ لِاخْتِلَافِ التَّزْيِينِ تَزْيِينِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ لِلشَّهَوَاتِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْمَعَاصِي فَالْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَفِي عَمَلِهِمْ. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ أَمْرُهُمْ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَمُنْقَلَبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهِ فَيُجَازَى كُلٌّ بِمُقْتَضَى عَمَلِهِ وَفِي ذَلِكَ وَعْدٌ جميل للمحسن ووعيد للمسيء.

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 4. (2) سورة فاطر: 35/ 8. (3) سورة الحجرات: 49/ 7. (4) سورة النمل: 27/ 24.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها أَيْ آيَةٌ مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِمْ حَتَّى تُنَزِّلَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «1» أَنْزِلْهَا عَلَيْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهَا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْزِلْهَا عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ نَحْوَ قَوْلِهِمْ يَجْعَلُ الصَّفَا ذَهَبًا حَتَّى ذَكَرُوا مُعْجِزَةَ مُوسَى فِي الْحَجَرِ وَعِيسَى فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَصَالِحٍ فِي النَّاقَةِ فَقَامَ الرَّسُولُ يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ مُعَاجَلَةً كَمَا فُعِلَ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ فَقَالَ: بَلْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ ، وَإِنَّمَا اقْتَرَحُوا آيَةً مُعَيَّنَةً لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي الْقُرْآنِ وَلِهَذَا قَالُوا: دَارَسْتَ أَيِ الْعُلَمَاءَ وَبَاحَثْتَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكَابَرَ أَكْثَرُهُمْ وَعَانَدَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ حَلَفُوا غَايَةَ حَلِفِهِمْ وَسُمِّيَ الْحَلِفُ قَسَمًا لِأَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِسَامِ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَكَأَنَّهُ يُقَوِّي الْقِسْمَ الَّذِي يَخْتَارُهُ، قَالَ التِّبْرِيزِيُّ: الْإِقْسَامُ إِفْعَالٌ مِنَ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى النَّصِيبِ وَالْقِسْمَةِ، وَكَانَ إِقْسَامُهُمْ بِاللَّهِ غَايَةً فِي الْحَلِفِ وَكَانُوا يُقْسِمُونَ بِآبَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَظِيمًا أَقْسَمُوا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَهْدُ: بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَشَقَّةُ وَبِضَمِّهَا الطَّاقَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَانْتَصَبَ جَهْدَ على المصدر المنصوب بأقسموا أَيْ أَقْسَمُوا جَهْدَ إِقْسَامَاتِهِمْ وَالْأَيْمَانُ بِمَعْنَى الْإِقْسَامَاتِ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ أَشَدَّ الضَّرَبَاتِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَقْسَمُوا أَيْ مُجْتَهِدِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ، وَقَالَ الْمُبَرِّدَ: مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي المائدة، ولئن جَاءَتْهُمْ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ لَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ إِذْ لَوْ حُكِيَ قَوْلُهُمْ لَكَانَ لَئِنْ جاءتنا آية وتعامل الْإِخْبَارَ عَنِ الْقَسَمِ مُعَامَلَةَ حِكَايَةِ الْقَسَمِ بِلَفْظِ مَا نَطَقَ بِهِ الْمُقْسِمُ، وَأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ آيَةٍ إِذْ قَدْ جَاءَتْهُمْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا آيَةً مُقْتَرَحَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ لَيُؤْمِنُنَّ بِها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَبِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هَذَا أَمَرٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ مَجِيءَ الْآيَاتِ لَيْسَ لِي إِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهَا يُنَزِّلُهَا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ كَيْفَ شَاءَ لِحِكْمَتِهِ وَلَيْسَتْ عِنْدِي فَتُقْتَرَحُ عَلَيَّ. وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ما اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَيَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرُ الفاعل في

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 4.

يُشْعِرُكُمْ، وَقَرَأَ قَوْمٌ بِسُكُونِ ضَمَّةِ الرَّاءِ، وَقُرِئَ بِاخْتِلَاسِهَا وَأَمَّا الْخِطَابُ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ لِلْكُفَّارِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْعَلِيمِيُّ وَالْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ الْإِيَادِيِّ أَنَّهَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ لَا تُؤْمِنُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَتَرَتَّبَتْ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ الْأُولَى كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَأَبِي بَكْرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ فِي كَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةٌ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءِ الْآيَةِ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ وَمُتَعَلَّقُ يُشْعِرُكُمْ مَحْذُوفٌ أَيْ وَما يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ كَانَ التَّقْدِيرُ وَما يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَ عَلَى جِهَةِ الِالْتِفَاتِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ حَالِهِمْ لَوْ جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ كَانَ التَّقْدِيرُ وَما يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَلِيمِيِّ وَالْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْجَزْمِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيئِهَا وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ الخطاب في وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي لَا تُؤْمِنُونَ لِلْكُفَّارِ، الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءُ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَقْتَرِحُونَهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا يَعْنِي أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنْتُمْ لَا تَدْرُونَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ إِذَا جَاءَتْ تِلْكَ الْآيَةُ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَجِيئَهَا فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى مَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا سَبَقَ عِلْمِي بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ الخطاب فِي وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ وأن فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَصْدَرِيَّةٌ وَلَا عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ النَّفْيِ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هُنَا بِمَعْنَى لَعَلَّ وَحُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمْ ذَلِكَ قَالُوا: إِيتِ السُّوقَ إِنَّكَ تشتري لحماير بدون لَعَلَّكَ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لِأَنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حَرَامِ وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ ولعل تَأْتِي كَثِيرًا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «1» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «2» وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وما أدراكم

_ (1) سورة عبس: 80/ 3. [.....] (2) سورة الشورى: 42/ 17.

لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَضَعَّفَ أَبُو عَلِيٍّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّوَقُّعَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَعَلَّ لَا يُنَاسِبُ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُكْمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أنها معمولة ل يُشْعِرُكُمْ بَلْ جَعَلَهَا عِلَّةً عَلَى حَذْفِ لَامِهَا وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُوَ لَا يَأْتِي بِهَا لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَكُونُ نَظِيرَ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «1» أَيْ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ انْتَهَى، وَيَكُونُ وَما يُشْعِرُكُمْ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمَعْلُولِ وَعِلَّتِهِ إِذْ صَارَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أَيِ الْمُقْتَرَحَةُ لَا يَأْتِي بِهَا لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ لَا زَائِدَةً فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَمَا يُدْرِيكُمْ بِإِيمَانِهِمْ كَمَا قَالُوا: إِذَا جَاءَتْ وَإِنَّمَا جَعَلَهَا زَائِدَةً لِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ عَلَى النَّفْيِ لَكَانَ الْكَلَامُ عُذْرًا لِلْكَفَّارِ وَفَسَدَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ وَضَعَّفَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ زِيَادَةَ لَا، انْتَهَى قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَالْقَائِلُ بِزِيَادَةِ لَا هُوَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَعْنَاهَا لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالَّذِي ذَكَرَ أَنَّ لَا لَغْوٌ غَالِطٌ لِأَنَّ مَا كَانَ لَغْوًا لَا يَكُونُ غَيْرَ لَغْوٍ وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ لَا غَيْرُ لَغْوٍ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَرَّةً إِيجَابًا وَمَرَّةً غَيْرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ يُخْرِجُ لَا عَنِ الزِّيَادَةِ وَتَقْدِيرُهُ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَوْ يُؤْمِنُونَ أَيْ مَا يُدْرِيكُمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ أَوْ وُقُوعِهِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى زِيَادَةِ لَا وَلَا إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ ولا لا يَكُونُ أَنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ وهذا كله خروج عن الظَّاهِرِ لِفَرْضِهِ بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَوْلَى وَهُوَ وَاضِحٌ سَائِغٌ كَمَا بَحَثْنَاهُ أَوَّلًا أَيْ وَما يُشْعِرُكُمْ وَيُدْرِيكُمْ بِمَعْرِفَةِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى الشُّعُورِ بِهَا، الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: فتح الهمزة والتاء وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ وَيَتَّضِحُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى زِيَادَةِ لَا أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ كَمَا أَقْسَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ وَكَوْنِ لَا نَفْيًا أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ بِحَالِهِمْ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِكُمْ إِذَا جَاءَتْ أَوْ وُقُوعِهِ لِأَنَّ مَآلَ أَمْرِكُمْ مُغَيَّبٌ عَنْكُمْ فَكَيْفَ تُقْسِمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِذَا جَاءَتْكُمُ الْآيَةُ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ مَعْنَاهَا عَلَى تَقْدِيرٍ أَيْ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَنَّهَا عِلَّةٌ أَيْ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَأْتِيكُمْ بِهَا لِأَنَّهَا إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَمَا يُشْعِرُكُمْ بِأَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ وَأَمَّا عَلَى إِقْرَارِ أَنَّ أَنَّها معمولة ل يُشْعِرُكُمْ وبقاء لا على

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 59.

النَّفْيِ فَيُشْكِلُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى وَما يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِكُمْ إِذَا جَاءَتْكُمُ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ صَدْرَ الْآيَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ بِوُقُوعِ الْإِيمَانِ مِنْكُمْ إِذَا جَاءَتْ، وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُشْعِرُكُمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ إِذَا جَاءَتْ، أَيْ لَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي خَوَاطِرِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ مُصَمِّمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِذَا جَاءَتْ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ لِأَنَّكُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ. وَكَمْ آيَةٌ جَاءَتْكُمْ فَلَمْ تُؤْمِنُوا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ مَا يُشْعِرُكُمْ نافية والفاعل بيشعركم ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَيَتَكَلَّفُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى جَعْلِهَا نَافِيَةً، سَوَاءٌ فُتِحَتْ أَنَّ أَمْ كُسِرَتْ. وَمُتَعَلَّقُ لَا يُؤْمِنُونَ مَحْذُوفٌ وَحَسَّنَ حَذْفُهُ كَوْن مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَعَ فَاصِلَةً، وَتَقْدِيرُهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَقَدِ اتَّضَحَ مِنْ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْأَرْبَعِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا لِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلِ الْخِطَابُ يَكُونُ عَلَى مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى التي لِلْقِرَاءَةِ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنُقَلِّبُ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَيْرَةِ وَالتَّرَدُّدِ وَصَرْفِ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُحَوِّلُهُمْ عَنِ الْهُدَى وَيَتْرُكُهُمْ فِي الضَّلَالِ والكفر. وكما لِلتَّعْلِيلِ أَيْ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ وَقْتٍ جَاءَهُمْ هُدَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ «1» وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى آخِرُ الْآيَةِ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي ونتركهم فِي تَغَمُّطِهِمْ فِي الشَّرِّ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ يَتَحَيَّرُونَ، وَهَذَا كُلُّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِهِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا الْإِخْبَارُ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّهُ لَوْ جَاءَتِ الْآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا صَنَعْنَا بِهِمْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَنَذَرُهُمْ عَطْفٌ عَلَى لَا يُؤْمِنُونَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ وَما يُشْعِرُكُمْ بِمَعْنَى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ أَيْ فَنَطْبَعُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ فَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ كَمَا كَانُوا عِنْدَ نُزُولِ آيَاتِنَا أَوَّلًا لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، لِكَوْنِهِمْ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّا نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أَيْ نُخَلِّيهِمْ وَشَأْنَهُمْ لَا نَكُفُّهُمْ وَنَصْرِفُهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ حَتَّى يَعْمَهُوا فيه انتهى.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 125.

وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ قَالُوا: لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِآيَةٍ كَمَا سَأَلُوا لَقَلَبْنَا أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَحُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى فَلَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا رَأَوْا قَبْلَهَا، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا أَنَّ ذَلِكَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِمَا يَفْعَلُ بِهِمْ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءِ الْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ فَذَلِكَ وَاقِعٌ وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ، لِأَنَّ الْآيَةَ الْمُقْتَرَحَةَ لَمْ تَقَعْ فَلَمْ يَقَعْ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نُقَلِّبُ أَفْئِدَةَ هَؤُلَاءِ وَأَبْصَارَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ أَوَائِلُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: تَقْلِيبُهَا بِإِزْعَاجِ نُفُوسِهِمْ هَمًّا وَغَمًّا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّا نُحِيطُ عِلْمًا بِذَاتِ الصُّدُورِ وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ مِنْهُمْ انْتَهَى. وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَا على التعليل ولا عَلَى التَّشْبِيهِ إِلَّا إِنْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَصِحُّ عَلَى بُعْدٍ فِي تَفْسِيرِ التَّقْلِيبِ بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّا لَا نَفْعَلُ بِهِمْ مَا نَفْعَلُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْهِدَايَةِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيِّ وَمَعْنَى تَقْلِيبِ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ مِنَ الدَّوَاعِي إِلَى الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، لِأَنَّ الْقَلْبَ وَالْبَصَرَ يَتَقَلَّبَانِ بِأَنْفُسِهِمَا فَنِسْبَةُ التَّقْلِيبِ إِلَيْهِمَا مَجَازٌ. وَقُدِّمَتِ الْأَفْئِدَةُ لِأَنَّ مَوْضِعَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ هُوَ الْقَلْبُ فَإِذَا حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ إِلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَإِذَا حَصَلَتِ الصَّوَارِفُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ تَحَدُّقُ النَّظَرِ إِلَيْهِ ظَاهِرًا وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى لَوْ رُدُّوا لَحُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا انْتَهَى. وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ تَرْكِيبُ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: تَقْلِيبُهَا فِي النَّارِ فِي جَهَنَّمَ عَلَى لَهِيبِهَا وَجَمْرِهَا لِيُعَذَّبُوا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَقَالَهُ الْجُبَّائِيُّ.

وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ: تَقْلِيبُ أَفْئِدَتِهِمْ بُلُوغُهَا الْحَنَاجِرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ «1» . وَقِيلَ: تَقْلِيبُ أَبْصَارِهِمْ إِلَى الزُّرْقَةِ وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ ضَعِيفٌ قَلِقُ النَّظْمِ، لِأَنَّ التَّقْلِيبَ فِي الْآخِرَةِ وَتَرْكَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ فِي الدُّنْيَا، فَيَخْتَلِفُ الظَّرْفَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلًا، وَالْكَافُ فِي كَما ذَكَرْنَا أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيهَا وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ قَلِيلًا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَما: هِيَ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ أَيْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ نُجَازِيهِمْ بِأَنْ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ جَزَاءً لِمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِلَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ غَرِيبَةٌ، لَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْكَافَ للمجازاة. وقيل للتشبيه قِيلَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ثَانِيَ مَرَّةٍ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَقِيلَ: الْكَافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ تَقْلِيبًا لِكُفْرِهِمْ، أَيْ عُقُوبَةً مُسَاوِيَةً لِمَعْصِيَتِهِمْ، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِيمَانًا ثَانِيًا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوِ الرَّسُولِ، أَقْوَالٌ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى التَّقْلِيبِ، وَانْتَصَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَيُقَلِّبُ وَيَذَرُهُمْ بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَيْضًا فِيمَا رَوَى عَنْهُ مُغِيرَةُ وَتُقَلَّبُ أَفْئِدَتُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَيَذَرُهُمْ بِالْيَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَافَقَهُ عَلَى وَيَذَرُهُمُ الْأَعْمَشُ والهمداني.

_ (1) سورة غافر: 40/ 18.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 إلى 126]

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَتُقَلَّبُ أَفْئِدَتُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ عَلَى البناء للمفعول. [سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 126] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

قُبُلٌ: جَمْعُ قَبِيلٍ كَرَغِيفٍ وَرُغُفٍ، وَمَعْنَاهُ جَمَاعَةٌ أَوْ كَقَبْلَ أَوْ مُفْرَدٌ بِمَعْنَى قِبَلَ، أَيْ مُوَاجَهَةً وَمُقَابَلَةً ويكون قبل ظرف أَيْضًا. الزُّخْرُفُ الزِّينَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مَا حَسَّنْتَهُ وَزَيَّنْتَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهُوَ زُخْرُفٌ انْتَهَى. وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ. صَغَوْتُ وَصَغَيْتُ وَصَغِيتُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ فَمَصْدَرُ الْأَوَّلِ صَغْوًا وَالثَّانِي صَغًا، وَالثَّالِثُ صِغًا، وَمُضَارِعُهَا يَصْغَى بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، وَأَصْغَى مِثْلُهَا لَازِمٌ وَيَأْتِي مُتَعَدِّيًا بِكَوْنِ الْهَمْزَةِ فِيهِ لِلنَّقْلِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي اللَّازِمِ: تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ ... زَيْغٌ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيهِ إِصْغَاءُ وَقَالَ فِي الْمُتَعَدِّي: أَصَاخَ مِنْ نَبْأَةٍ أَصْغَى لها أذنا ... صماخها بدخيس الذَّوْقِ مَسْتُورُ وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ يُقَالُ: صَغَتِ النُّجُومُ: مَالَتْ لِلْغُرُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ» . قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَيُقَالُ: صَغْوُهُ مَعَكَ وَصِغْوُهُ وَصَغَاهُ. وَيُقَالُ: أَكْرِمُوا فَلَانَا فِي صَاغِيَتِهِ أَيْ في قرابته الذين يميتون إِلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ مَا عِنْدَهُ. اقْتَرَفَ اكْتَسَبَ وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ فِي الشَّرِّ وَالذُّنُوبِ. وَيُقَالُ: خَرَجَ يَقْتَرِفُ لِأَهْلِهِ: أَيْ يَكْتَسِبُ لَهُمْ، وَقَارَفَ فُلَانٌ الْأَمْرَ: أَيْ وَاقَعَهُ وَقَرَفَهُ بِكَذَا رَمَاهُ بِرِيبَةٍ، وَاقْتَرَفَ كَذِبًا وَأَصْلُهُ اقْتِطَاعُ قِطْعَةٍ مِنَ الشَّيْءِ.

خَرَصَ حَزَرَ وَقَالَ بِغَيْرِ تَيَقُّنٍ وَلَا عِلْمٍ وَمِنْهُ خرص بمعنى كذب وافتى خَرَصًا وَخُرُوصًا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَأَصْلُهُ التَّظَنِّي فِيمَا لَا يُسْتَيْقَنُ. الشَّرْحُ: الْبَسْطُ وَالتَّوْسِعَةُ. قَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ: شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ فَانْشَرَحَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الشَّرْحُ الْفَتْحُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمِنْهُ شَرَحْتُ لَكَ الْأَمْرَ وَشَرَحْتُ اللَّحْمَ فَتَحْتَهُ. الضَّيِّقُ: فَيْعِلٌ مِنْ ضَاقَ الشَّيْءُ انْضَمَّتْ أَجْزَاؤُهُ إِذَا كَانَ مُجَوَّفًا. الْحَرِجُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَرَجَ إِذَا اشْتَدَّ ضِيقُهُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هما بمنزلة الواحد والواحد وَالْفَرَدِ، وَالْفَرِدِ وَالدَّنَفِ وَالدَّنِفِ يَعْنِي أَنَّهُمَا وَصْفَانِ انْتَهَى. وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَرَجَةِ وَهِيَ شَجَرَةٌ تَحُفُّ بِهَا الْأَشْجَارُ حَتَّى تَمْنَعَ الدَّاعِيَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْحِرَاجُ غِيَاضٌ مِنْ شَجَرِ السِّلْمِ مُلْتَفَّةٌ وَاحِدُهَا حَرَجَةٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا أَوْ يَنْفُذَ. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَيْ لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ «1» وَتَكْلِيمِ الْمَوْتَى إِيَّاهُ فِي قَوْلِهِمْ فَأْتُوا بِآبائِنا «2» وَفِي قَوْلِهِمْ أخي قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ وَجُدْعَانَ بْنَ عَمْرٍو، وَهُمَا أَمِينَا الْعَرَبِ، وَالْوَسَطَانِ فِيهِمْ. وَحَشْرِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ وَشَهَادَتِهِمْ بِصِدْقِ الرَّسُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قَالُوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «3»

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 8. (2) سورة الدخان: 44/ 36. (3) سورة الإسراء: 17/ 92.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ قِبَلَا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَمَعْنَاهُ مُقَابَلَةً أَيْ عِيَانًا وَمُشَاهَدَةً. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَاهُ نَاحِيَةً كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ قِبَلَكَ، وَلِي قِبَلَ فُلَانٍ دَيْنٌ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قُبُلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: جَمْعُ قَبِيلٍ وَهُوَ النَّوْعُ، أَيْ نَوْعًا نَوْعًا وَصِنْفًا صِنْفًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: جَمْعُ قَبِيلٍ بِمَعْنَى كَفِيلٍ أَيْ: كُفُلًا بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ. يُقَالُ قَبِلْتُ الرَّجُلَ أَقْبَلُهُ قُبَالَةً، أَيْ كَفُلْتُ بِهِ وَالْقَبِيلُ وَالْكَفِيلُ وَالزَّعِيمُ وَالْأَدِينُ وَالْحَمِيلُ وَالضَّمِينُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ قُبُلَا بِمَعْنَى قِبَلًا أَيْ مُقَابَلَةً وَمُوَاجَهَةً. وَمِنْهُ أَتَيْتُكَ قُبُلًا لَا دُبُرًا. أَيْ مِنْ قِبَلِ وَجْهِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «1» وَقُرِئَ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ: أَيْ لِاسْتِقْبَالِهَا وَمُوَاجَهَتِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَحْسَنُ لِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو حَيْوَةَ، قُبْلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ عَلَى جِهَةِ التَّخْفِيفِ مِنَ الضَّمِّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ قَبِيلًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَانْتِصَابُهُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَجَوَابُ لَوْ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا وَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ لَمَا كَانُوا قَالَ: وَحُذِفَتِ اللَّامُ وَهِيَ مُرَادُهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ المنفي بما إذا وقع جوابا للو فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، أَنْ لَا تَدْخُلَ اللَّامُ عَلَى مَا وَقَلَّ دُخُولُهَا على ما، فلا تقول إِنَّ اللَّامَ حُذِفَتْ مِنْهُ بَلْ إِنَّمَا أَدْخَلُوهَا عَلَى مَا تَشْبِيهًا لِلْمَنْفِيِّ بِمَا بِالْمُوجَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا كان النفي بلم لَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ عَلَى لَمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أصل للمنفي أن لا تدخل عليه اللام وما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ التَّأَهُّلِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِلْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ لَامُ الْجُحُودِ فِي الْخَبَرِ وإلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مَحْذُوفٍ هُوَ عِلَّةٌ. وَسَبَبٌ التَّقْدِيرُ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فِي كُلِّ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 26.

حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَالْكِرْمَانِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ وَالْحَوْفِيِّ. فَقَوْلُهُ فِيهِ بُعْدٌ إِذْ هُوَ ظَاهِرُ الِاتِّصَالِ أَوْ عذق إِيمَانُهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أهل السنة من أن إِيمَانَ الْعَبْدِ وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَحَمَلَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَشِيئَةُ إِكْرَاهٍ وَاضْطِرَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ قِيلَ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ يَجْهَلُونَ الْحَقَّ، أَوْ يَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِرَاحُ الْآيَاتِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا آيَةً وَاحِدَةً، أَوْ يَجْهَلُونَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَجْهَلُونَ فَيُقْسِمُونَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى مَا لَا يَشْعُرُونَ مِنْ حَالِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ. قَالَ أَوْ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا أَنْ يَضْطَرَّهُمْ فَيَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ إِذَا جَاءَتِ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كُفَّارًا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِذْ لَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهَا الْحَادِثُ لِأَنَّهَا شَرْطٌ وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْمَشْرُوطِ حُصُولُ الشرط والحسن دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْإِيمَانِ فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّرْطِ حَادِثًا وَهُوَ الْمَشِيئَةُ. وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ بِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً تَعَلُّقُهَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ فِي الْحَالَةِ إِضَافَةٌ حَادِثَةٌ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُؤَيِّسَةٌ مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَهُمْ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ فَآمَنَ مِنْهُمْ. وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً الْمَعْنَى مِثْلَ مَا جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الْمُقْتَرِحِينَ الْآيَاتِ وَغَيْرَهُمْ أَعْدَاءً لَكَ جَعَلْنَا لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْدَاءً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَيْ مُتَمَرِّدِي الصِّنْفَيْنِ يُوحِي يُلْقِي فِي خُفْيَةٍ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَيْ بَعْضُ الصِّنْفِ الْجِنِّيِّ إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ الْإِنْسِيِّ، أَوْ يُوحِي شَيَاطِينُ الْجِنِّ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ زُخْرُفَ الْقَوْلِ، أَيْ مُحَسَّنَهُ وَمُزَيَّنَهُ، وَثَمَرَةُ هَذَا الْجَعْلِ الِامْتِحَانُ فَيَظْهَرُ الصَّبْرُ عَلَى مَا مُنُّوا بِهِ مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ فَيَعْظُمُ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَأَسٍّ بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّكَ لَسْتَ مُنْفَرِدًا بِعَدَاوَةِ مَنْ عَاصَرَكَ،

بَلْ هَذِهِ سُنَّةُ مَنْ قبلك من الأنبياء. وعدو كَمَا قُلْنَا قَبْلُ فِي مَعْنَى أَعْدَاءٍ. وَقَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: إذ أَنَا لَمْ أَنْفَعْ صَدِيقِي بِوِدِّهِ ... فَإِنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي وَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ هُنَا كَإِعْرَابِهِمْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَجَوَّزُوا فِي شَيَاطِينَ الْبَدَلِيَّةَ مِنْ عَدُوًّا، كَمَا جَوَّزُوا هُنَاكَ بَدَلَيَّةَ الْجِنَّ مِنْ شُرَكَاءَ وَقَدْ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ الشَّيَاطِينَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ وَمِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُتَمَرِّدُ مِنَ الصِّنْفَيْنِ كَمَا شَرَحْنَاهُ. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وكذا فهم أبوذر مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ لَهُ: «هَلْ تَعَوَّذْتَ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ» . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ شَيْطَانُ الْإِنْسِ عَلَيَّ أَشَدُّ مِنْ شَيْطَانِ الْجِنِّ لِأَنِّي إِذَا تَعَوَّذْتُ بِاللَّهِ ذَهَبَ عَنِّي شَيْطَانُ الْجِنِّ، وشيان الْإِنْسِ يَجِيئُنِي وَيَجُرُّنِي إِلَى الْمَعَاصِي عِيَانًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا أَعْدَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم من شَيَاطِينِ الْإِنْسِ: فَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ وأبو جهل بن هِشَامٍ وَالْعَاصِي بْنُ عَمْرٍو، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ وَأُبِيٌّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمَعَتَّبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ عَافَانِي وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأُسْلِمُ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» . وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ غُلَامِ زَيْدٍ أَيْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَيْ مُتَمَرِّدِينَ مُغْوِينَ لَهُمْ. وَعَلَى هَذَا فَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ قَالُوا: لَيْسَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ وَالْمَعْنَى شَيَاطِينُ الْإِنْسِ الَّتِي مَعَ الْإِنْسِ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ الَّتِي مَعَ الْجِنِّ، قَسَّمَ إِبْلِيسُ جُنْدَهُ فَرِيقًا إِلَى الْإِنْسِ وَفَرِيقًا إِلَى الْجِنِّ، يَتَلَاقَوْنَ فَيَأْمُرُ بَعْضٌ بَعْضًا أَنْ يُضِلَّ صَاحِبَهُ بِمَا أَضَلَّ هُوَ بِهِ صَاحِبَهُ، ورجحت هذه الإضافة بأن أصل الْإِضَافَةَ الْمُغَايِرَةَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَرُجِّحَتِ الْإِضَافَةُ السابقة بأن

_ (1) سورة الكهف: 18/ 50.

المقصود التسلّي والائتساء بِمَنْ سَبَقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِذْ كَانَ فِي أُمَمِهِمْ مَنْ يُعَادِيهِمْ كَمَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مَنْ كَانَ يُعَادِيهِ، وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالظَّاهِرُ فِي جَعَلْنَا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ مُصَيِّرُهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْعَدَاوَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ، فَاقْتَضَى أَنَّهُ خَالِقٌ ذَلِكَ وَتَأَوَّلَ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا الظَّاهِرَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَكَمَا خَلَّيْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَعْدَائِكَ كَذَلِكَ فِعَلْنَا بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْدَائِهِمْ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْكَعْبِيِّ قَالَ: خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْجَعْلُ هُنَا الْحُكْمُ وَالْبَيَانُ يُقَالُ كَفَّرَهُ حَكَمَ بِكُفْرِهِ وَعَدَّلَهُ أَخْبَرَ عَنْ عَدَالَتِهِ. وَلَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ قَالَ جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ لَمَّا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْعَالِمَيْنَ وَخَصَّهُ بِالْمُعْجِزَاتِ حَسَدُوهُ وَصَارَ الجسد مُبَيِّنًا لِلْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ، فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ جَعَلَهُمْ لَهُ أَعْدَاءً كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَنْتَ صَيَّرَتْهُمْ لِي حَسَدًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ، وَانْتَصَبَ غُرُورًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِيُوحِي لِأَنَّهُ بِمَعْنَى يَغُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ غَارِّينَ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ أَيْ مَا فَعَلُوا الْعَدَاوَةَ أَوِ الْوَحْيَ أَوِ الزُّخْرُفَ، أَوِ الْقَوْلَ أَوِ الْغُرُورَ أَوْجُهٌ ذَكَرُوهَا. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أَيِ اتْرُكْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ مِنْ تَكْذِيبِكَ وَيَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ مَا زَيَّنَ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَا غَرَّهُمْ بِهِ انْتَهَى. وَظَاهَرُ الْأَمْرِ الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ. وَقَالَ قَتَادَةُ كُلٌّ ذَرْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالْقِتَالِ وما بِمَعْنَى الَّذِي أَوْ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَيْ وَلِتَمِيلَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي فَعَلُوهُ، وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ مِنَ الْآثَامِ. وَاللَّامُ لَامُ كَيْ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ غُرُورًا لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ لِلْغُرُورِ، فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ

بيوحي ونصب غرور الاجتماع شُرُوطِ النَّصْبِ فِيهِ، وَعُدِّيَ يُوحِي إِلَى هَذَا بِاللَّامِ لِفَوْتِ شَرْطٍ صَرِيحِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ فَاعِلَ يُوحِي هُوَ بَعْضُهُمْ وَفَاعِلُ تَصْغَى هُوَ أَفْئِدَةُ، وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَفَاعِيلِ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّهُ أَوَّلًا يَكُونُ الْخِدَاعُ فَيَكُونُ الْمَيْلُ فَيَكُونُ الرِّضَا فَيَكُونُ الْفِعْلُ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِتَصْغى جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ جَعْلَنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي فَعَلُوهُ أَيْ وَلِتَمِيلَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَاوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ أَفْئِدَةُ الْكُفَّارِ انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ جَوَابًا اصْطِلَاحٌ غَرِيبٌ، وَمَا قَالَهُ هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجُ، قَالَ: تَقْدِيرُهُ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ فَعَلُوا ذَلِكَ فَهِيَ لَامُ صَيْرُورَةٍ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ لَامَ وَلِتَصْغى هِيَ لَامُ كَيْ وَهِيَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ. وَاللَّهِ وَلِتَصْغى مَوْضِعَ وَلَتَصْغَيَنَّ فَصَارَ جَوَابُ الْقِسْمِ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ فَتَقُولُ وَاللَّهِ لَيَقُومُ زَيْدٌ التَّقْدِيرُ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لِقِيَامِ زِيدٍ وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا قَلَتْ قدني قال بالله حَلْفَةً ... لِتُغْنِيَ عَنِّي ذَا أَنَائِكٌ أَجْمَعَا وَبِقَوْلِهِ: وَلِتَصْغى وَالرَّدُّ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَلِتَصْغى مَنْ أَصْغَى رُبَاعِيًّا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِسُكُونِ اللَّامِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ عَنْهُ فِي لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا بِالْكَسْرِ فِي وَلِتَصْغى. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، إِنَّمَا هِيَ وَلِتَصْغى بِكَسْرِ الغين انتهى، وخمرج سُكُونُ اللَّامِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُ شُذُوذٌ فِي لَامِ كَيْ وَهِيَ لَامُ كَيْ فِي الثَّلَاثَةِ. وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى غُرُورٍ أَوْ سُكُونُ لَامِ كَيْ فِي نَحْوِ هَذَا شَاذٌّ فِي السَّمَاعِ قَوِيٌّ فِي الْقِيَاسِ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لَامُ الْأَمْرِ فِي الثَّلَاثَةِ وَيَبْعُدُ ذَلِكَ فِي وَلِتَصْغى بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ. قَرَأَ قُنْبُلٌ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. وَقِيلَ هِيَ فِي وَلِتَصْغى لَامُ كَيْ سَكَنَتْ شُذُوذًا، وَفِي لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا لَامُ

الْأَمْرِ مُضَمَّنًا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «1» وَفِي قَوْلِهِ: مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّعْظِيمَ والتبشيع لِمَا يَعْمَلُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «2» . أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ لِلرَّسُولِ: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حَكَمًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَإِنْ شِئْتَ مِنْ أَسَاقِفَةِ النَّصَارَى، لِيُخْبِرَنَا عَنْكَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِكَ فَنَزَلَتْ. وَوَجْهُ نَظْمِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا حَكَى حَلِفَ الْكُفَّارِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِظْهَارِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَبْقُونَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بَيَّنَ الدَّلِيلُ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَحَكَمَ فِيهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِاشْتِمَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَدَاوَةَ وَتَهَدَّدَهُمْ قَالُوا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ جَعَلُوا بَيْنَهُمْ كَاهِنًا حَكَمًا فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ لَا أَبْتَغِي حَكَمًا غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَالْحَكَمُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْحُكْمُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالْحَاكِمُ اسْمُ فَاعِلٍ يَصْدُقُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَكَمَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْحَاكِمُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ وَبِغَيْرِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ. قَالَ الْحَكَمُ: أَبْلَغُ مِنَ الْحَاكِمِ إِذْ هِيَ صِيغَةٌ لِلْعَدْلِ مِنَ الْحُكَّامِ، وَالْحَاكِمُ جَارٍ عَلَى الْفِعْلِ وَقَدْ يُقَالُ لِلْجَائِرِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ كُلَّ الْآيَاتِ، أَوْ حُكْمِهِ بِأَنْ جَعَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ أَعْدَاءً وَحَكَمًا أَيْ فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ غَيْرَ أَنْ يكون مفعولا بأبتغي وَحَكَمًا حَالٌ وَعَكْسُهُ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ عَنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ لَنَا غَيْرَهَا إِبِلًا وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَحَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ وَمَفَصَّلًا مُوَضَّحًا مُزَالَ الْإِشْكَالِ أَوْ مُفَضَّلًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَوْ مُفَصَّلًا مُفَرَّقًا عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ أَيْ لَمْ يُنْزِلْهُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَصَّلًا فِيهِ الْأَحْكَامُ مِنَ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالضَّلَالِ وَالْهُدَى، أَوْ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالشَّهَادَةُ لِي بِالصِّدْقِ وَعَلَيْكُمْ بِالِافْتِرَاءِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ خَاصَمَتِ الْخَوَارِجُ عَلِيًّا فِي تَكْفِيرِهِ بِالتَّحْكِيمِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ والذين أعطيناهم

_ (1) سورة فصلت: 41/ 40. (2) سورة طه: 20/ 78.

عِلْمَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالصُّحُفِ، وَالْمُرَادُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ عَامٌّ بِمَعْنَى الْخُصُوصِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكُونُ اسْتِئْنَافًا وَتَتَضَمَّنُ الِاسْتِشْهَادَ بِمُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالطَّعْنَ عَلَى مُشْرِكِيهِمْ وَحَسَدَتِهِمْ، وَالْعَضُدُ فِي الدِّلَالَةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ يَعْلَمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ حَقٌّ لِتَصْدِيقِهِ كُتُبَهُمْ وَمُوَافَقَتِهِ لَهَا. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. قِيلَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ. وَقِيلَ: لِكُلِّ سَامِعٍ أَيْ إِذَا ظَهَرَتِ الدِّلَالَةُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْتَرَى فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالْإِلْهَابِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وَلَا يَرِيبُكَ جُحُودُ أَكْثَرَهِمْ وَكَفْرُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَفْصٌ مُنَزَّلٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَالطَّعْنِ عَلَى مُخَالِفِي ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ هُنَا إِلَى آخَرِ السُّورَةِ أَحْكَامٌ وَقَصَصٌ، نَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا أَيْ تَمَّتْ أَقْضِيَتُهُ وَأَقْدَارُهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَلِمَاتُهُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صِدْقًا فِي الْوَعْدِ وَعَدْلًا فِي الْوَعِيدِ. وَقِيلَ: فِي مَا تَضَمَّنَ مِنْ خَبَرٍ وَحُكْمٍ أَوْ فِيمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، أَوْ فِيمَا أَمَرَ وَمَا نَهَى أَوْ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَوْ فِيمَا قَالَ: هَؤُلَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ إِلَى النَّارِ أَوْ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْ فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ وَخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ، أَوْ فِي نُصْرَةِ الرَّسُولِ بِبَدْرٍ وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِ أَوْ فِي الْإِرْشَادِ وَالْإِضْلَالِ أَوْ فِي الْغُفْرَانِ وَالتَّعْذِيبِ، أَوْ فِي الْفَضْلِ وَالْمَنْعِ أَوْ فِي تَوْسِيعِ الرِّزْقِ وَتَقْتِيرِهِ أَوْ فِي إِعْطَائِهِ وَبَلَائِهِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ أَوَّلُ الْقَوْلِ فُسِّرَ بِهِ الصِّدْقُ وَالْمَعْطُوفُ فُسِّرَ بِهِ الْعَدْلُ، وَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ صِدْقاً وَعَدْلًا مَصْدَرَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالطَّبَرِيُّ تَمْيِيزًا وَجَوَّزَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ غَيْرُ صَوَابٍ وَزَادَ أَبُو الْبَقَاءِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي تَمَّتْ أَنَّهَا كَانَ بِهَا نَقْصٌ فَكَمَلَتْ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى اسْتَمَرَّتْ وَصَحَّتْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَتَمَّ حَمْزَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ» . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» أَيِ اسْتَمَرَّتْ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ نُفُوذِ أَقْضِيَتِهِ. وقرأ الكوفيون هنا وفي يونس في الموضعين وفي المؤمن كَلِمَةُ بِالْإِفْرَادِ وَنَافِعٌ جَمِيعَ ذَلِكَ كَلِمَاتُ بِالْجَمْعِ تَابَعَهُ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ هنا.

_ (1) سورة هود: 11/ 119.

لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ لَا مُغَيِّرَ لِأَقْضِيَتِهِ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الْقُرْآنِ فَلَا يَلْحَقُهَا تَغْيِيرٌ، لَا فِي الْمَعْنَى وَلَا فِي اللَّفْظِ وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهُ. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمُ الْعَلِيمُ بِالضَّمَائِرِ. وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ وَإِنْ تُوَافِقْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَشَرْعِ مَا شَرَعُوهُ بِغَيْرِ إِذَنِ اللَّهِ أَكْثَرَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا كُفَّارًا، وَالْأَرْضُ هُنَا الدُّنْيَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ رُؤَسَاءُ مَكَّةَ وَالْأَرْضُ خَاصٌّ بِأَرْضِ مَكَّةَ وَكَثِيرًا مَا ذَمَّ الْأَكْثَرَ فِي كِتَابِهِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ الْأَكْثَرُ إِلَّا لِلَّذِينِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ لَيْسُوا رَاجِعِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ إِلَى عِلْمٍ وَلَا فِيمَا شَرَعُوهُ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَيْ يُقَدِّرُونَ وَيَحْزُرُونَ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ خَصَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ وَاتِّبَاعَهُمُ الظَّنَّ وَتَخَرُّصَهُمْ بِأَمْرِ الذَّبَائِحِ، وَحُكِيَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ الرَّسُولَ فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ وَقَوْلُهُمْ: نَأْكُلُ مَا تقتل وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ فَنَزَلَتْ مُخْبِرَةً أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ بِظُنُونِهِمْ وَبِخَرْصِهِمْ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَعْلَمُ الْعَالَمِينَ بِالضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ وَبِكَ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ وَأَنْتَ الْمُهْتَدِي ومَنْ قِيلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ وَإِبْقَاءِ عَمَلِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ زَيْدٌ أَضْرَبُ السَّيْفِ أَيْ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فِي مَوْضِعِ نصب بأعلم بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُعْمِلُ النَّصْبَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ أَعْلَمُ وَمِثْلُهُ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو زَيْدٍ. وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا أَيْ تَضْرِبُ الْقَوَانِسَ وَهِيَ إِذْ ذَاكَ مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا يُضِلُّ وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِالْفِعْلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَمَكِّيٌّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ يُضِلُّ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَعْلَمَ أَيْ أَعْلَمُ أَيُّ النَّاسِ يَضِلُّ كَقَوْلِهِ لِنَعْلَمَ

أَيُّ الْحِزْبَيْنِ «1» وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ فَرْعٌ عَنْ جَوَازِ الْعَمَلِ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ فَلَا يُعَلَّقُ عَنْهُ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ إِعْمَالَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ يُضِلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَاعِلُ يُضِلُّ ضَمِيرُ مَنْ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَنْ يُضِلُّ النَّاسَ أَوْ ضَمِيرُ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى يَجِدُهُ ضَالًّا أَوْ يَخْلُقُ فِيهِ الضَّلَالَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَالْوَعْدَ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِمَا. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ذُكِرَ أَنَّ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا أَنَّهُمْ قَالُوا لِلرَّسُولِ: مَنْ قَتَلَ الشَّاةَ الَّتِي مَاتَتْ؟ قَالَ اللَّهُ: قَالُوا فَتَزْعُمُ أَنَّ مَا قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَمَا قَتَلَهُ الصَّقْرُ وَالْكَلْبُ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ حَرَامٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا أُنْزِلَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ كَتَبَ مَجُوسُ فَارِسَ إلى مشركي قريش فكانوا أَوْلِيَاءَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يزعمون أنهم يبتغون أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا ذَبَحُوا فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ فَهُوَ حَرَامٌ فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا وَلَمَّا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا الْإِنْكَارَ عَلَى اتِّبَاعِ الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَكَانُوا يُسَمُّونَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يُذَكِّرُونَهُ اسْمَ آلِهَتِهِمْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ مَا سُمِّيَ عَلَى ذَكَاتِهِ اسْمُ اللَّهِ لَا غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَمْرَ إِبَاحَةٍ وَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمُذَكَّى لَا مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكُلُوا مُتَسَبِّبٌ عَنْ إِنْكَارِ اتِّبَاعِ الْمُضِلِّينَ وَعُلِّقَ أَكْلُ مَا سُمِّيَ اللَّهُ عَلَى ذَكَاتِهِ بِالْإِيمَانِ كَمَا تَقُولُ: أَطِعْنِي إِنْ كُنْتَ ابْنِي أَيْ أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ فَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَهُوَ حَثٌّ عَلَى أَكْلِ مَا أَحَلَّ وَتَرْكِ مَا حَرَّمَ. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أَيْ وَأَيُّ غَرَضٍ لَكُمْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا عَلَى مَا نُقِلَ مَكِّيَّةٌ، وَنَزَلَتْ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ وَقَدْ فَصَّلَ رَاجِعًا إِلَى تَفْصِيلِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ لِتَأْخِيرِهِمَا فِي النُّزُولِ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «2» انْتَهَى. وَذَكَرْنَا أَنَّ تَفْصِيلَ التَّحْرِيمِ بِمَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ لَا يناسب ودعوى

_ (1) سورة الكهف: 18/ 12. (2) سورة المائدة: 5/ 3. [.....]

زِيَادَةِ لَا هُنَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا وَالْمَعْنَى عَلَى كَوْنِهَا نَافِيَةً صَحِيحٌ وَاضِحٌ، وأَلَّا تَأْكُلُوا أَصْلُهُ فِي أَنْ لَا تَأْكُلُوا فَحَذَفَ فِي الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَكُمُ الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَنَفْيُ أَلَّا تَأْكُلُوا عَلَى الْخِلَافِ أَهْوَ مَنْصُوبٌ أَوْ مَجْرُورٌ وَمَنْ ذَهَبَ إلى أَلَّا تَأْكُلُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ تَارِكِينَ الْأَكْلَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَنْ وَمَعْمُولَهَا لَا يَقَعُ حَالًا وهذا منصوص عليه من سِيبَوَيْهِ، وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ وَلَهُ عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ فَصَّلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ فصل وحرم مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ فصل وحرم عَلَى بِنَائِهِمَا لِلْفَاعِلِ وَالْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ فَصَّلَ مَبْنِيًّا للفاعل وحرم مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعَطِيَّةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الصَّادَ ومعنى إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَكُمْ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يُرِيدُ بِهَا جَمِيعُ مَا حَرَّمَ كَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ هُوَ وَالْحَوْفِيُّ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ بِتَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا سُمِّيَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ مُطْلَقًا. وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَادِلِينَ فِي الْمَطَاعِمِ وَغَيْرِهَا لَيُضِلُّونَ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَبِأَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَيْ بِغَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَهْوَائِهِمْ كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَأَبِي الْأَحْوَصِ بْنِ مَالِكٍ الْجَشْمِيِّ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ وَحُلَيْسِ بْنِ يَزِيدَ الْقُرَشِيِّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَيُضِلُّونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ هُنَا وَفِي يُونُسَ رَبَّنا لِيُضِلُّوا «1» وَفِي إِبْرَاهِيمَ أَنْداداً لِيُضِلُّوا «2» وَفِي الْحَجِّ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ «3» وَفِي لُقْمَانَ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «4» وَفِي الزُّمَرِ أَنْداداً لِيُضِلَّ «5» وَضَمَّهَا الْكُوفِيُّونَ فِي السِّتَّةِ وَافَقَهُمُ الصَّاحِبَانِ إِلَّا فِي يُونُسَ وَهُنَا فَفَتَحَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ أَيْ بِالْمُجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي الِاعْتِدَاءِ فَيُحَلِّلُونَ وَيُحَرَّمُونَ مِنْ غَيْرِ إِذَنِ اللَّهِ وَهَذَا إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنِ اعْتَدَى أَيْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى اعتدائهم.

_ (1) سورة يونس: 10/ 11. (2) سورة إبراهيم: 14/ 30. (3) سورة الحج: 22/ 9. (4) سورة لقمان: 31/ 6. (5) سورة الزمر: 39/ 8.

وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ الْإِثْمِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي لَمَّا عَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ أَكْلِ مَا سُمِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ أُمِرُوا بِتَرْكِ الْإِثْمِ مَا فُعِلَ ظَاهِرًا وَمَا فُعِلَ فِي خُفْيَةٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكُوا الْمَعَاصِيَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظَاهِرُهُ الزِّنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الزِّنَا الشَّهِيرُ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ وَبَاطِنُهُ اتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُهُ مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ «1» الْآيَةَ وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «2» الْآيَةَ، وَالْبَاطِنُ الزِّنَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ظَاهِرُهُ نَزْعُ أَثْوَابِهِمْ إِذْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَبَاطِنُهُ الزِّنَا. وَقِيلَ: ظَاهِرُهُ عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَبَاطِنُهُ عَمَلُ الْقَلْبِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ. وَقِيلَ: ظَاهِرُهُ الْخَمْرُ وَبَاطِنُهُ النَّبِيذُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: ظَاهِرُهُ الزِّنَا وَبَاطِنُهُ مَا نَوَاهُ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْأَلْيَقُ أَنْ يُحْمَلَ ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا لَمْ يذكر اسم الله عليه، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْإِثْمِ هُنَا الشِّرْكُ وَقَالَ غَيْرُهُ جَمِيعُ الذُّنُوبِ سِوَى الشِّرْكِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَخْصِيصَاتٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي الْمَعَاصِي كُلِّهَا مِنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أَيْ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ فِي الدُّنْيَا سَيُجْزَوْنَ فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِلْعُصَاةِ. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ قَالَ السَّخَاوِيُّ قَالَ مَكْحُولٌ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدرداء وعبادة بن الصامت مِثْلَ ذَلِكَ وَأَجَازَ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ إِلَّا مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ انْتَهَى. وَلَا يُسَمَّى هَذَا نَسْخًا بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَلَمَّا أَمَرَ بِأَكْلِ مَا سُمِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِمَّا لَمْ يذكر اسم الله عليه أَكَّدَ هَذَا الْمَفْهُومَ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ تَحْرِيمُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَمْدًا كَأَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَوْ نِسْيَانًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطِيمِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَنَافِعٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو عِيَاضٍ وَأَبُو رَافِعٍ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَجَابِرٌ وَعِكْرِمَةُ وَطَاوُسُ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَرَبِيعَةُ ومالك في

_ (1) سورة النساء: 4/ 23. (2) سورة النساء: 4/ 22.

رِوَايَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَصَمُّ: يَحِلُّ أَكْلُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا كَانَ التُّرْكُ أَوْ نِسْيَانًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسُ أَيْضًا وَابْنُ شِهَابٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَإِسْحَاقُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ أَبِي الْقَاسِمِ وَعِيسَى وَأَصْبُغُ: يُؤْكَلُ إِنْ كَانَ التَّرْكُ نَاسِيًا وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَقَالَ: لَا يُسَمَّى فَاسِقًا إِذَا كَانَ نَاسِيًا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُ أَكْلِ ذَبِيحَةِ النَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَشْهَبُ وَالطَّبَرِيُّ: تُؤْكَلُ ذبيحة تارك التسمية عمدا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآيِذِيُّ: يُكْرَهُ أَكْلُ ذَبِيحَةِ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَتَحْتَاجُ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ إِلَى دَلَائِلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَهُوَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: إِنَّهُ الْمَيْتَةُ وَعَنْهُ أَنَّهُ الْمَيْتَةُ وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَى وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: ذَبَائِحُ لِلْأَوْثَانِ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: صَيْدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمَ وَلَا هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ. قَالَ الحسن: لَفِسْقٌ لكفر، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُرِيدُ مَعَ الاستحلال وقال غيره لفسق الْمَعْصِيَةُ وَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَأْكُلُوا أَيْ وَإِنَّ الْأَكْلَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَجَوَّزَ مَعَهُ الْحَوْفِيُّ فِي أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ وَجَوَّزَ مَعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ لَمْ يُذْكَرِ، انْتَهَى. وَمَعْنَى أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَنْفِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ تَرْكَ الذِّكْرِ لِفِسْقٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لِفِسْقِهِ. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ أَيْ وَإِنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَرَدَةُ الْإِنْسِ مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ كِتَابَتِهِمْ إِلَى قُرَيْشٍ أَيْ لَيُوَسْوِسُونَ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِإِلْهَامِهِمْ تِلْكَ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُهَّانِ فِي زَمَانِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِمْ: وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ، وَبِهَذَا تَرَجَّحَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ بِالْمَيْتَةِ انْتَهَى. وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِمَا ذَكَرُوهُ بَلْ هَذَا إِخْبَارٌ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ جِدَالِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُنَازَعَتِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَلِذَلِكَ خُتِمَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أَيْ وَإِنْ أَطَعْتُمْ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لِأَنَّ طَاعَتَهُمْ طَاعَةٌ لِلشَّيَاطِينِ وَذَلِكَ إِشْرَاكٌ وَلَا يَكُونُ مُشْرِكًا حَقِيقَةً حَتَّى يُطِيعَهُ فِي الِاعْتِقَادِ،

وَأَمَّا إِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ سَلِيمُ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ فَاسِقٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَأَصْعَبُ مَا عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُشْبِهَ الْمُشْرِكَ فَضْلًا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الَّذِينَ جَادَلُوا بِتِلْكَ الْحُجَّةِ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْيَهُودَ لَا تَأْكُلُ الْمَيْتَةَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَطَةِ وَإِجَابَتِهِمْ عَنِ الْعَرَبِ فَيُمْكِنُ وَجَوَابُ الشَّرْطِ. زَعَمَ الْحَوْفِيُّ أَنَّهُ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ أَيْ فَإِنَّكُمْ وَهَذَا الْحَذْفُ مِنَ الضَّرَائِرِ فَلَا يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ وَاللَّهِ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ «1» وَقَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ «2» وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا التَّرْكِيبُ بِتَقْدِيرِ اللام المؤذنة بالقسم المحذوف عَلَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ «3» وَحُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ رَمَى الرَّسُولَ بِفَرْثٍ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ حَمْزَةَ حِينَ رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ وَبِيَدِهِ قَوْسٌ، وَكَانَ لَمْ يُسْلِمْ فَغَضِبَ فَعَلَا بِهَا أَبَا جَهْلٍ وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتِنَا وَخَالَفَ آبَاءَنَا، فَقَالَ حَمْزَةُ: وَمَنْ أَسْفَهُ مِنْكُمْ تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: فِي عُمَرَ وَأَبِي جَهْلٍ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مَثَّلَ تَعَالَى بِأَنْ شَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَافِرًا بِالْحَيِّ الْمَجْعُولِ لَهُ نُورٌ يَتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ سَلَكَ، وَالْكَافِرَ بِالْمُخْتَلِطِ فِي الظُّلُمَاتِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا دَائِمًا لِيُظْهِرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ مَجَازٌ فَالظُّلْمَةُ مَجَازٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالنُّورُ مَجَازٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْمَوْتُ مَجَازٌ عَنِ الْكُفْرِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْمَوْتُ مَجَازٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي ظُلْمَةِ الْبَطْنِ لَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْقِلُ شَيْئًا ثُمَّ أُخْرِجَ فَأَبْصَرَ وَعَقَلَ، نَقُولُ: لَا يَسْتَوِي مَنْ أُخْرِجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَمَنْ تُرِكَ فِيهَا فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُبْصِرُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَالْكَافِرُ الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ بحر قال: أو من كَانَ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً فَصَوَّرْنَاهُ وَنَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ، انْتَهَى وَأَمَّا النُّورُ فَهُوَ نُورُ الْحِكْمَةِ أَوْ نُورُ الدِّينِ أَوِ الْقُرْآنُ أَقْوَالٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْحَيَاةُ الِاسْتِعْدَادُ لِقَبُولِ الْمَعَارِفِ فَتَحْصُلُ لَهُ عُلُومٌ كُلِّيَّةٌ أَوَّلِيَّةٌ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 73. (2) سورة الأعراف: 7/ 23. (3) سورة الحشر: 59/ 12.

وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّورُ مَا تُوَصِّلُ إِلَيْهِ تَرْكِيبُ تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ مِنَ الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ وَمَشْيُهُ فِي النَّاسِ كَوْنُهُ صَارَ مُحْضِرًا لِلْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْجَلَايَا الرُّوحَانِيَّةِ نَاظِرًا إِلَيْهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْحَيَاةُ الِاسْتِعْدَادُ الْقَائِمُ بِجَوْهَرِ الرُّوحِ وَالنُّورُ اتِّصَالُ نُورِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ بِهِ فَالْبَصِيرَةُ لا بد فيها من أَمْرَيْنِ: سَلَامَةُ حَاسَّةِ الْعَقْلِ، وَطُلُوعُ نُورِ الْوَحْيِ كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: سَلَامَةُ الْحَاسَّةِ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ انْتَهَى، مُلَخَّصًا. وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَفْهُومَاتِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ: فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً وَفِي صِفَةِ الْكَافِرِ لَمْ يَنْسُبْهَا إِلَى نَفْسِهِ بَلْ قَالَ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ وَلَمَّا كَانَتْ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ مُتَعَدِّدَةً قَالَ فِي الظُّلُماتِ وَلَمَّا ذَكَرَ جَعْلَ النُّورِ لِلْمَيِّتِ قَالَ: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ أَيْ يَصْحَبُهُ كَيْفَ تَقَلَّبَ، وَقَالَ: فِي النَّاسِ إِشَارَةً إِلَى تَنْوِيرِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فَذَكَرَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُؤْمِنِ لَيْسَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَقَابَلَ تَصَرُّفَهُ بِالنُّورِ وَمُلَازِمَةُ النُّورِ لَهُ بِاسْتِقْرَارِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُماتِ وَكَوْنِهِ لَا يُفَارِقُهَا، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ لَيْسَ وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ هُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «1» وَإِلَى ظُلْمَةِ جَهَنَّمَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَثَلِ فِي قَوْلِهِ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «2» وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَفَمَنْ الْفَاءُ بَدَلُ الْوَاوِ. كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُؤْمِنِ أَوْ إِلَى كَوْنِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُمَاتِ أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا الْمُؤْمِنَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِ أَوْ كَكَيْنُونَةِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُمَاتِ، زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ غيره: الله تعال وَجَوَّزَ الْوَجْهَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّزْيِينِ وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ الْأَكَابِرُ الْأَصَاغِرُ. وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أَيْ كَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ صَنَادِيدَهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ فَسَادَ حَالِ الْكَفَرَةِ الْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ إِذْ حَالُهُمْ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ يَعْنِي أَنَّ التَّمْثِيلَ لَهُمْ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَذلِكَ زُيِّنَ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى مَا أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ وجَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَمَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ أَكابِرَ مُجْرِمِيها وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني وأَكابِرَ عَلَى هَذَا مُضَافٌ إِلَى مُجْرِمِيها، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُجْرِمِيها بَدَلًا مِنْ أَكابِرَ وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مُجْرِمِيها

_ (1) سورة الحديد: 57/ 12. (2) سورة البقرة: 2/ 17.

المفعول الأول وأَكابِرَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ وَالتَّقْدِيرُ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ، وَمَا أَجَازَاهُ خَطَأٌ وَذُهُولٌ عَنْ قَاعِدَةٍ نَحْوِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ بِمَنْ مَلْفُوظًا بِهَا أَوْ مُقَدَّرَةً أَوْ مُضَافَةً إِلَى نَكِرَةٍ كَانَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا دَائِمًا سَوَاءً كَانَ لِمُذَكَّرٍ أَوْ مُؤَنَّثٍ مُفْرَدٍ أَوْ مُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ، فَإِذَا أُنِّثَ أَوْ ثُنِّيَ أَوْ جُمِعَ طَابَقَ مَا هُوَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوِ الْإِضَافَةُ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْقَوْلُ بِأَنَّ مُجْرِمِيها بَدَلٌ مِنْ أَكابِرَ أَوْ أَنَّ مُجْرِمِيها مَفْعُولٌ أَوَّلُ خَطَأٌ لِالْتِزَامِهِ أَنْ يَبْقَى أَكابِرَ مَجْمُوعًا وَلَيْسَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ وَلَا هُوَ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ تَنَبَّهَ الْكِرْمَانِيُّ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَالَ: أَضَافَ الْأَكَابِرَ إِلَى مُجْرِمِيهَا لِأَنَّ أَفْعَلُ لَا يُجْمَعُ إِلَّا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ مَعَ الْإِضَافَةِ انْتَهَى. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ فَيَقُولَ: أَوْ مَعَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ وَقَدَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفًا أَيْ فُسَّاقًا لِيَمْكُرُوا فِيها وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُقَالُ أَكَابِرَةٌ كَمَا قَالُوا أَحْمَرَ وَأَحَامِرَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْأَحَامِرَةَ الثَّلَاثَةَ أَهْلَكَتْ ... مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قَدَمًا مُولَعًا انْتَهَى، وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا أَجَازَ فِي الْأَفَاضِلِ أَنْ يُقَالَ الْأَفَاضِلَةَ بَلِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يُجْمَعُ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْأَفْضَلِينَ أَوِ الْأَفَاضِلِ، وَخَصَّ الْأَكَابِرَ لِأَنَّهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ لِرِئَاسَتِهِمْ وَسِعَةِ أَرْزَاقِهِمْ وَاسْتِتْبَاعِهِمُ الضُّعَفَاءَ وَالْمَحَاوِيجَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: سُنَّةُ اللَّهِ أَنَّهُ جَعَلَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الضُّعَفَاءَ كَمَا قَالَ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «1» وَجَعَلَ فُسَّاقَهُمْ أَكَابِرَهُمْ، وَكَانَ قَدْ جَلَسَ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ أَرْبَعَةٌ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنِ الْأَيْمَانِ بِالرَّسُولِ يَقُولُونَ لِكُلِّ مَنْ يَقْدَمُ إِيَّاكَ وَهَذَا الرَّجُلَ فَإِنَّهُ سَاحِرٌ كَاهِنٌ كَذَّابٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ إِذْ حَالُهُ فِي أَنْ كَانَ رُؤَسَاءُ قَوْمِهِ يُعَادُونَهُ كَمَا كَانَ في كل قَرْيَةِ مَنْ يُعَانِدُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَرَأَ ابْنُ مُسْلِمٍ أَكْبَرَ مُجْرِمِيهَا وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ وَكَانَ لِمُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ أَوْ مُؤَنَّثٍ جَازَ أَنْ يُطَابِقَ وَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كَقَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ «2» وَتَحْرِيرُ هَذَا وَتَفْصِيلُهُ وَخِلَافُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَلَامُ لِيَمْكُرُوا لَامُ كَيْ. وَقِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ. وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ أَيْ وَبَالُهُ يَحِيقُ بِهِمْ كَمَا قَالَ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ وَما يَشْعُرُونَ يَحِيقُ ذَلِكَ بِهِمْ وَلَا يَعْنِي شُعُورَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ إِذْ نَفَى عَنْهُمُ الشُّعُورَ الَّذِي يَكُونُ للبهائم.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 111. (2) سورة البقرة: 2/ 96. [.....]

وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قَالَ مُقَاتِلٌ: رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ حَقًّا لَكُنْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْكَ لِأَنِّي أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا وَأَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا. رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: زَاحَمْنَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ فِي الشَّرَفِ حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ وَاللَّهِ لَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَتَّبِعُهُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيهِ فَنَزَلَتْ وَنَحْوَهُ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1» وَالْآيَةُ الْعَلَامَةُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَالضَّمِيرُ فِي جاءَتْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَكَابِرِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعُودُ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَتَغْيِيَةُ إِيمَانِهِمْ بِقَوْلِهِ: حَتَّى نُؤْتى دَلِيلٌ عَلَى تَمَحُّلِهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَاسْتِبْعَادٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ إِذْ عَلَّقُوهُ بِمُسْتَحِيلٍ عِنْدَهُمْ، وَقَوْلُهُمْ: رُسُلُ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ إِقْرَارٌ بِالرُّسُلِ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَلَوْ كَانُوا مُوقِنِينَ وَغَيْرَ معاندين لا تبعوا رُسُلَ اللَّهِ وَالْمِثْلِيَّةُ كَوْنُهُمْ يُجْرَى عَلَى أَيْدِيهِمُ الْمُعْجِزَاتُ فَتَحْيَى لَهُمُ الْأَمْوَاتُ وَيُفْلَقُ لَهُمُ الْبَحْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا جَرَتْ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوْ جِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ أَوِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ أَوِ الدُّخَانِ أَوْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ تَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِلْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ تَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَأَوْلَاهَا النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ لِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمِثْلِيَّةُ هِيَ فِي الرِّسَالَةِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَخْبَرَ عَنْ غَايَةِ سَفَهِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَنْكِرُونَ رِسَالَتَهُ عَنْ عِلْمٍ بِهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تَمَنَّوْا أَنْ يُؤْتَوْا مِثْلَ مَا أُوتِيَ انْتَهَى وَلَمْ يَتَمَنَّوْا ذَلِكَ إِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُؤْتَوْا مِثْلَ مَا أُوتِيَ الرُّسُلُ فَعَلَّقُوا ذَلِكَ عَلَى مُمْتَنِعٍ وَقَصَدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ هَذَا اسْتِئْنَافُ إِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَصْطَفِي لِلرِّسَالَةِ إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْجِهَةِ الَّتِي يَضَعُهَا فِيهَا وَقَدْ وَضَعَهَا فِيمَنِ اخْتَارَهُ لَهَا وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دُونَ أَكَابِرِ مَكَّةَ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَقِيلَ: الْأَبْلَغُ فِي تَصْدِيقِ الرُّسُلِ أَنْ لَا يَكُونُوا قَبْلَ الْبَعْثِ مُطَاعِينَ فِي قَوْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مُطَاعِينَ قَبْلُ اتَّبَعُوا لِأَجْلِ الطَّاعَةِ السَّابِقَةِ وَقَالُوا: حَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِقْرَارُهَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ هُنَا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي مَكَانٍ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ ظَرْفًا كَانَتْ مَفْعُولًا عَلَى السِّعَةِ وَالْمَفْعُولُ عَلَى السِّعَةِ لَا يُعْمَلُ فِيهِ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِي الْمَفْعُولَاتِ فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالتَّقْدِيرُ يَعْلَمُ موضع

_ (1) سورة المدّثر: 74/ 52.

رِسَالَاتِهِ وَلَيْسَ ظَرْفًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ يَعْلَمُ فِي هَذَا الْمَكَانِ كَذَا وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَكَذَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: حَيْثُ هُنَا اسْمٌ لَا ظَرْفٌ انْتَصَبَ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّمَّاخِ: وَحَلَّأَهَا عَنْ ذِي الْأَرَاكَةِ عَامِرُ ... أَخُو الْخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاحِرُ فَجَعَلَ مَفْعُولًا بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُ يَرْمِي شَيْئًا حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاحِرُ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّهُ يَرْمِي ذَلِكَ الْمَوْضِعَ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى السِّعَةِ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى غَيْرِ السِّعَةِ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ النَّحْوِ، لِأَنَّ النُّحَاةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ حَيْثُ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ وَشَذَّ إِضَافَةُ لَدَى إِلَيْهَا وَجَرُّهَا بِالْيَاءِ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الظَّرْفَ الَّذِي يُتَوَسَّعُ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَصَرِّفًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ نَصْبُ حَيْثُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لَا عَلَى السِّعَةِ وَلَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي إِقْرَارُ حَيْثُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ عَلَى أَنَّ تَضَمُّنَ أَعْلَمُ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى إِلَى الظَّرْفِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اللَّهُ أَنْفَذُ عِلْمًا حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أَيْ هُوَ نَافِذُ الْعِلْمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْعَلُ فِيهِ رِسَالَتَهُ، وَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ كَمَا قُلْنَا وَرُوِيَ حَيْثُ بِالْفَتْحِ. فَقِيلَ: حَرَكَةُ بِنَاءٍ. وَقِيلَ: حَرَكَةُ إِعْرَابٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ بَنِي فَقْعَسٍ فَإِنَّهُمْ يُعْرِبُونَ حَيْثُ حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ رِسَالَتَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى الْجَمْعِ. سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَعَلَّقَ الْإِصَابَةَ بِمَنْ أَجْرَمَ لِيَعُمَّ الْأَكَابِرَ وَغَيْرَهُمْ، وَالصَّغَارُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ يُقَالُ: مِنْهُ صَغِرَ يَصْغَرُ وَصَغُرَ يَصْغُرُ صَغَرًا وَصِغَارًا وَاسْمُ الْفَاعِلِ صَاغِرٌ وَصَغِيرٌ وَأَرْضٌ مُصْغِرٌ لَمْ يَطُلْ نَبْتُهَا، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ وَقَابَلَ الْأَكْبَرِيَّةَ بِالصَّغَارِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَإِصَابَةُ ذَلِكَ لَهُمْ بِسَبَبِ مَكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: لِيَمْكُرُوا فِيها وَقَوْلِهِ: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَقَدَّمَ الصَّغَارَ عَلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا عَنِ اتِّبَاعِ الرسول وتكبروا طبا لِلْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ فَقُوبِلُوا أَوَّلًا بِالْهَوَانِ وَالذُّلِّ، وَلَمَّا كَانَتِ الطَّاعَةُ يَنْشَأُ عَنْهَا التَّعْظِيمُ ثُمَّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا نَشَأَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ الْإِهَانَةُ ثُمَّ الْعِقَابُ عَلَيْهَا وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي عَرْصَةِ قَضَاءِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي حُكْمِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْ فِي حُكْمِهِ. وَقِيلَ: فِي سَابِقِ عِلْمِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ مُثْبَتٌ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ فِيهِمْ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ صَغَارٌ وَعَذابٌ شَدِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَانْتَصَبَ عِنْدَ سَيُصِيبُ أَوْ بِلَفْظِ صَغارٌ لِأَنَّهُ

مَصْدَرٌ فَيَعْمَلُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لصغار فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَقَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ ثابت عند الله وَمَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِكَوْنِهِمْ يَمْكُرُونَ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَبِي جَهْلٍ ، وَالْهِدَايَةُ هُنَا مُقَابِلَةُ الضَّلَالَةِ وَالشَّرْحُ كِنَايَةٌ عَنْ جَعْلِهِ قَابِلًا لِلْإِسْلَامِ مُتَوَسِّعًا لِقَبُولِ تَكَالِيفِهِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى صَدْرِهِ مَجَازٌ عَنْ ذَاتِ الشَّخْصِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: فُلَانٌ وَاسِعُ الصَّدْرِ إِذَا كَانَ الشَّخْصُ مُحْتَمِلًا مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالتَّكَالِيفِ، وَنِسْبَةُ إِرَادَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ ذَلِكَ وَالْمُوجِدُ لَهُ وَالْمُرِيدُ لَهُ وَشَرْحُ الصَّدْرِ تَسْهِيلُ قَبُولِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ وَتَحْسِينُهُ وَإِعْدَادُهُ لِقَبُولِهِ: وَضَمِيرُ فَاعِلِ الْهُدَى عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْهُدَى الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ يَهْدِيَهُ أَيْ يَشْرَحُ الْهُدَى صَدْرَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ السُّؤَالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْحِ وَأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْشَرَحَ الصَّدْرُ وَأَمَارَتُهُ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْفَوْتِ وَالضِّيقُ وَالْحَرَجُ كِنَايَةٌ عَنْ ضِدِّ الشَّرْحِ وَاسْتِعَارَةٌ لِعَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْحَرِجُ الشَّدِيدُ الضِّيقِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَمَعْنَى يَجْعَلُ يُصَيِّرُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْلَقُ أَوَّلًا عَلَى الْفِطْرَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ مهيأ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَلِمَا يُجْعَلُ فِيهِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِضْلَالَهُ أَضَلَّهُ وَجَعَلَهُ لَا يَقْبَلُ الْإِيمَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَجْعَلْ بِمَعْنَى يَخْلُقُ وَيَنْتَصِبُ ضَيِّقاً حَرَجاً عَلَى الْحَالِ أَيْ يَخْلُقُهُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ فَلَا يَسْمَعُ الْإِيمَانَ وَلَا يَقْبَلُهُ وَلِاعْتِزَالِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ يَجْعَلْ هُنَا بِمَعْنَى يُسَمِّي قَالَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1» قَالَ: أَيْ سَمُّوهُمْ أَوْ بِمَعْنَى يُحْكَمُ لَهُ بِالضِّيقِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا يَجْعَلُ الْبَصْرَةَ مِصْرًا أَيْ يَحْكُمُ لَهَا بِحُكْمِهَا فِرَارًا مِنْ نِسْبَةِ خَلْقِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَصْيِيرُهُ وُجُوبًا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَنَحْوٌ مِنْهُ فِي خُرُوجِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ. قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَهْدِيَهُ أَنْ يَلْطُفَ بِهِ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَلْطُفَ إِلَّا بِمَنْ له لطف بشرح صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ يَلْطُفْ بِهِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَتَسْكُنَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيُحِبَّ الدُّخُولَ فِيهِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أَنْ يَخْذُلَهُ وَيُخَلِّيَهُ وَشَأْنَهُ وَهُوَ الَّذِي لَا لُطْفَ لَهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يَمْنَعُهُ أَلْطَافَهُ حَتَّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ وَيَنْبُوَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَيَنْسَدُّ فَلَا يَدْخُلُهُ الْإِيمَانُ انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ إِخْرَاجُ اللفظ عن ظاهره

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 19.

وَتَأْوِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ كَمَا يُزَاوِلُ أَمْرًا غَيْرَ مُمْكِنٍ لِأَنَّ صُعُودَ السَّمَاءِ مَثَلٌ فِيمَا يَبْعُدُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَيَضِيقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَأْوِيلِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا: أَيْ كَانَ هَذَا الضَّيِّقُ الصَّدْرِ الْحَرِجُ يُحَاوِلُ الصُّعُودَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى حَاوَلَ الْإِيمَانَ أَوْ فَكَّرَ فِيهِ وَيَجِدُ صُعُوبَتَهُ عَلَيْهِ كَصُعُوبَةِ الصُّعُودِ فِي السَّمَاءِ انْتَهَى. وَلِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا قَوْلَهُمْ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَعْنَى لَا تَجِدُ مَسْلَكًا إِلَّا صَعَدًا مِنْ شِدَّةِ التَّضَايُقِ، يُرِيدُ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ فَظَلَّ مُصْعِدًا إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ عَازِبُ الرَّأْيِ طَائِرُ الْقَلْبِ فِي الْهَوَاءِ كَمَا يَطِيرُ الشَّيْءُ الْخَفِيفُ عِنْدَ عَصْفِ الرِّيَاحِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ضَيِّقاً هُنَا وَفِي الْفُرْقَانِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِنْ ضَيِّقٍ كَمَا قَالُوا لِينٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الضَّيِّقُ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَجْرَامِ وَبِالتَّخْفِيفِ فِي الْمَعَانِي، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا قَالُوا فِي مَصْدَرٍ ضَاقَ ضَيْقٌ بِفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَإِمَّا يَنْسُبُ إِلَى الصَّدْرِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ، أَيْ ذَا ضِيقٍ أَوْ عَلَى جَعْلِهِ مَجَازًا عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهَذَا عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الْمَقُولَةِ فِي نَعْتِ الْأَجْرَامِ بِالْمَصَادِرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ حَرَجاً بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أي ذا حرح أَوْ جُعِلَ نَفْسَ الْحَرَجِ، أَوْ بِمَعْنَى حَرِجَ بِكَسْرِ الراء ورويت عن عمرو قرأها لَهُ ثَمَّةَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِالْكَسْرِ. فَقَالَ: ابْغُونِي رَجُلًا مِنْ كِنَانَةَ رَاعِيًا وَلَكِنْ مَنْ بَنِيَ مُدْلِجٍ فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: يَا فَتَى مَا الْحَرِجَةُ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةً وَلَا وَحْشِيَّةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ انْتَهَى. وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى جِهَةِ اشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنْ نَفْسِ الْعَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: اسْتَحْجَرَ وَاسْتَنْوَقَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَصَّعَّدُ مُضَارِعُ صَعِدَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ يَصَّاعَدُ أَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ فَأُدْغِمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ يَصَّعَّدُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ وَأَصْلُهُ يَتَصَعَّدُ، وَبِهَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ وَلَمْ يُرِدِ السَّمَاءَ الْمُظِلَّةَ بِعَيْنِهَا كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ وَالْقَيْدُودُ الطَّوِيلُ فِي غَيْرِ سَمَاءٍ أَيْ فِي غَيْرِ ارْتِفَاعٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِالصَّاعِدِ فِي عَقَبَةٍ كَؤُودٍ كَأَنَّهُ يَصْعَدُ بِهَا فِي الْهَوَاءِ، وَيَصْعَدُ مَعْنَاهُ يَعْلُو وَيَصَّعَّدُ مَعْنَاهُ يَتَكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَا تَصَعَّدَنِي شَيْءٌ كَمَا تَصَعَّدَنِي خِطْبَةُ النِّكَاحِ وَرُوِيَ مَا تَصَعَّدَنِي خِطْبَةٌ. كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ جَعْلُهُ الصَّدْرَ ضَيِّقاً حَرَجاً وَيَبْعُدُ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَيْ مِثْلَ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ يَجْعَلْ وَمَعْنَى يَجْعَلُ اللَّهُ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 إلى 140]

الرِّجْسَ يُلْقِي اللَّهُ أَوْ يُصَيِّرُ اللَّهُ الْعَذَابَ وَالرِّجْسُ بِمَعْنَى الْعَذَابِ قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَتَعْدِيَةُ يَجْعَلْ بِعَلَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نُلْقِي كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى يُصَيِّرُ وعَلَى فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجْعَلُ اللَّهُ يَعْنِي الْخِذْلَانَ وَمَنْعَ التَّوْفِيقِ وَصَفَهُ بِنَقِيضِ مَا يُوصَفُ بِهِ التَّوْفِيقُ مِنَ الطِّيبِ أَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الرِّجْسِ وَهُوَ الْعَذَابُ من الارتجاس وهو الاضطراب انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيِّ وَنَقِيضُ الطَّيِّبِ النَّتِنُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، والرِّجْسَ وَالنَّجَسُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّجْسَ كُلُّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّجْسَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الرِّجْسَ السُّخْطُ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: الرِّجْسَ التَّعْذِيبُ وَأَصْلُهُ النَّتِنُ النَّجِسُ وَهُوَ رَجَاسَةُ الْكُفْرِ. وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهذا إِلَى الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْقُرْآنُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوِ التَّوْحِيدِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، أَوْ مَا قَرَّرَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ سُبُلِ الْهُدَى وَسُبُلِ الضَّلَالَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ طَرِيقُهُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ وَعَادَتُهُ فِي التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ الضَّرِيرِ يَعْنِي هَذَا صُنْعُ رَبِّكَ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأُضِيفَ الصِّرَاطُ إِلَى الرَّبِّ عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ وَبِأَمْرِهِ مُسْتَقِيماً لَا عِوَجَ فِيهِ وَانْتَصَبَ مُسْتَقِيماً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أَيْ بَيَّنَّاهَا وَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا إِجْمَالًا وَلَا الْتِبَاسًا. لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يَتَدَبَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ وَكَأَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ شَيْئًا غَائِبًا عَنْهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فَلَمَّا فصلت تذكروها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 140] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ لَهُمُ الجنة والسَّلامِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قِيلَ فِي الْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا أَوْ دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَالسَّلَامُ وَالسَّلَامَةُ بِمَعْنًى كَاللَّذَادِ وَاللَّذَاذَةِ وَالضَّلَالِ وَالضَّلَالَةِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ دارُ السَّلامِ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِهَا فِيهَا سَلَامٌ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي نُزُلِهِ وَضِيَافَتِهِ كَمَا تَقُولُ: نَحْنُ الْيَوْمَ عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ فِي كَرَامَتِهِ وَضِيَافَتِهِ قَالَهُ قَوْمٌ، أَوْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْحَشْرِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ فِي ضَمَانِهِ كَمَا تَقُولُ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ حَقٌّ لَا يُنْسَى أَوْ ذَخِيرَةٌ لَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَهَا لِقَوْلِهِ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» قَالَهُ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِمْ قَالَهُ قَوْمٌ أَوْ فِي جِوَارِهِ كَمَا جَاءَ فِي جِوَارِ الرَّحْمَنِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرَفِ الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَهُ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «2» ، وَكَمَا قَالَ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3» وَكَمَا قَالَ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «4» وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أَيْ مُوَالِيهِمْ وَمُحِبُّهُمْ أَوْ نَاصِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَوْ مُتَوَلَّيْهِمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي الثِّقَلَيْنِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْجِنُّ وَالْكَفَرَةُ أَوْلِيَاؤُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَهُمْ دارُ السَّلامِ قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ الْعَامُّ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: وَهَذَا النِّدَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَحْشُرُهُمْ دَخَلَ فِيهِ الْجِنُّ حِينَ حَشَرَهُمْ ثُمَّ نَادَاهُمْ، أَمَّا الثِّقْلَانِ فَحَسْبُ أَوْ هُمَا وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْخَلَائِقِ انْتَهَى. وَمَنْ جَعَلَ وَيَوْمَ مَعْطُوفًا عَلَى بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَيَوْمَ نحشرهم فَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ وَلِيُّهُمْ وَكَانَ الضَّمِيرُ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مَعْمُولًا لِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِهِ النِّدَاءُ أَيْ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ نَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا أَجَازَ بَعْضُهُمْ مِنْ نَصْبِهِ بِاذْكُرْ مَفْعُولًا بِهِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَمِمَّا أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ نَصْبِهِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ غَيْرِ فِعْلِ الْقَوْلِ وَاذْكُرْ تَقْدِيرُهُ عنده وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَقُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ كَانَ مَا لَا يُوصَفُ لِفَظَاعَتِهِ لِاسْتِلْزَامِهِ حَذْفُ جُمْلَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ جُمْلَةُ وَقُلْنَا وَجُمْلَةُ الْعَامِلِ، وَقَدَّرَ الزَّجَّاجُ فِعْلَ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ التَّقْدِيرُ فَيُقَالُ لَهُمْ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُكَلِّمَهُمُ اللَّهُ شِفَاهًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ

_ (1) سورة السجدة: 32/ 17. (2) سورة الأنبياء: 21/ 19. (3) سورة القمر: 54/ 55. (4) سورة التحريم: 66/ 11.

وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «1» وَنِدَاؤُهُمْ نِدَاءُ شُهْرَةٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ وَالْمَعْشَرُ الْجَمَاعَةُ وَيُجْمَعُ على معاشر كَمَا جَاءَ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ. وَقَالَ الْأَفْوَهُ: فِينَا مُعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَوْمِهِمُ ... وَإِنْ بَنَى قومهم ما أفسدوا وعادوا وَمَعْنَى الِاسْتِكْثَارِ هُنَا إِضْلَالُهُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا وَجَعْلُهُمْ أَتْبَاعَهُمْ كَمَا تَقُولُ: اسْتَكْثَرَ فُلَانٌ مِنَ الْجُنُودِ وَاسْتَكْثَرَ فُلَانٌ مِنَ الْأَشْيَاعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَفْرَطْتُمْ فِي إِضْلَالِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ. وَقَرَأَ حَفْصٌ يَحْشُرُهُمْ بِالْيَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالنُّونِ. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا وَقَالَ: أَوْلِيَاءُ الْجِنَّ أَيِ الْكُفَّارُ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ انْتَفَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فَانْتِفَاعُ الْإِنْسِ بِالشَّيَاطِينِ حَيْثُ دَلُّوهُمْ عَلَى الشَّهَوَاتِ وَعَلَى التَّوَصُّلَاتِ إِلَيْهَا، وَانْتِفَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ وَسَاعَدُوهُمْ عَلَى مُرَادِهِمْ فِي إِغْوَائِهِمْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُقَاتِلٌ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ أَهْلِهِ إِذَا بَاتَ بِالْوَادِي فِي سَفَرِهِ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ افْتِخَارُهُمْ عَلَى قَوْمِهِمْ وَقَوْلُهُمْ: قَدْ سُدْنَا الْإِنْسَ حَتَّى صَارُوا يَعُوذُونَ بِنَا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَرْضَ مَمْلُوءَةٌ جِنًّا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْخِلْهُ جِنِّيٌّ فِي جِوَارِهِ خَبَلَهُ الْآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا إِذَا قَتَلُوا صيد اسْتَعَاذُوا بِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ الْبَهَائِمَ لِلْجِنِّ مِنْهَا مَرَاكِبُهُمْ. وَقِيلَ: فِي كَوْنِ عِظَامِهِمْ طَعَامًا لِلْجِنِّ وَأَرْوَاثِ دَوَابِّهِمْ عَلَفًا وَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِعَانَتُهُمْ بِهِمْ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ حِينَ يَسْتَخْدِمُونَهُمْ بِالْعَزَائِمِ، أَوْ يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ انْتَهَى. وَوُجُوهُ الِاسْتِمْتَاعِ كَثِيرَةٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحْتَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا تَمْثِيلٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ لَا حَصْرٌ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أَيْ بَعْضُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ وَبَعْضُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اسْتَمْتَعَ بَعْضُ الْإِنْسِ بِبَعْضِهِ وَبَعْضُ الْجِنِّ بِبَعْضِهِ، جَعَلَ الِاسْتِمْتَاعَ لبعض الصنف لبعض وَالْقَوْلُ السَّابِقُ بَعْضُ الصِّنْفَيْنِ بِبَعْضِ الصِّنْفَيْنِ وَالْأَجَلُ الَّذِي بَلَغُوهُ الْمَوْتُ قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: الْبَعْثُ وَالْحَشْرُ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا جَمِيعُهُمْ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمُ اعْتِذَارٌ عَنِ الْجِنِّ فِي كَوْنِهِمُ اسْتَكْثَرُوا مِنْهُمْ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِقَدَرِكَ وَقَضَائِكَ إِذْ لِكُلِّ كِتَابٍ أَجْلٌ وَاعْتِرَافٌ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ طَاعَةِ الشَّيَاطِينِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَاسْتِسْلَامٌ وَتَحَسُّرٌ عَلَى حَالِهِمْ. وَقُرِئَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 174.

آجَالَنَا عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِفْرَادِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ جِنْسٌ أَوْقَعَ الَّذِي مَوْقِعَ الَّتِي انْتَهَى. وَإِعْرَابُهُ عِنْدِي بَدَّلٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْوَقْتَ الَّذِي وَحِينَئِذٍ يَكُونُ جِنْسًا وَلَا يَكُونُ إِعْرَابُهُ نَعْتًا لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ وَفِي قَوْلِهِ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا دَلِيلٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: بِالْأَجَلَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ وَفِيهِمُ الْمَعْقُولُ وَغَيْرُهُ. قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ أي مكان نوائكم أَيْ إِقَامَتِكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ عِنْدِي مَصْدَرٌ لَا مَوْضِعٌ وَذَلِكَ لِعَمَلِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي هِيَ خالِدِينَ وَالْمَوْضِعُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى فِعْلٍ فَيَكُونُ عَامِلًا وَالتَّقْدِيرُ النَّارُ ذَاتُ ثُوَائِكُمْ انْتَهَى. وَيَصِحُّ قَوْلُ الزَّجَّاجِ عَلَى إِضْمَارٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَثْواكُمْ أَيْ يَثْوَوْنَ خالِدِينَ فِيها وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَلِيهَا الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أَيْ إِلَّا مَنْ أَهْلَكْتَهُ وَاخْتَرَمْتَهُ. قِيلَ: الْأَجَلُ الَّذِي سَمَّيْتَهُ لِكُفْرِهِ وَضَلَالِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ إِلَّا مَا شِئْتَ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْأَجَلَيْنِ أَجْلِ الِاخْتِرَامِ وَالْأَجْلِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بَاطِلٌ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها وَفِي ذَلِكَ تَنَافُرُ التَّرْكِيبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُرَادٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِمَجَازٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِ الْمُوتُورِ الَّذِي ظَفِرَ بِوَاتِرِهِ وَلَمْ يَزَلْ يَخْرُقُ عَلَيْهِ أَنْيَابَهُ وَقَدْ طَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُنَفِّسَ عَنْهُ خِنَاقَهُ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ إِنْ نَفَّسْتُ عَنْكَ إِلَّا إِذَا شِئْتَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ إِلَّا التَّشَفِّي مِنْهُ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْنِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ إِلَّا إِذَا شِئْتَ مِنْ أَشَدِّ الْوَعِيدِ مَعَ تَهَكُّمٍ بِالْمَوْعِدِ لِخُرُوجِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِيهِ إِطْمَاعٌ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً فَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي اسْتُثْنِيَ مَا هُوَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ اسْتِثْنَاءُ أَشْخَاصٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ مَنْ آمَنَ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، وَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ صِنْفًا سَاغَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُمْ مَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» حيث وقعت عَلَى نَوْعِ مَنْ يَعْقِلُ وهذا القول بُعْدٌ لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَنْ آمَنُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَشَرْطُ مَنْ أُخْرِجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ اتِّحَادُ زَمَانِهِ وَزَمَانُ الْمُخْرَجِ مِنْهُ. فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا فَمَعْنَاهُ إِلَّا زَيْدًا فَإِنَّهُ مَا قَامَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا زَيْدًا فَإِنَّهُ مَا يَقُومُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ سَأَضْرِبُ الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا مَعْنَاهُ إِلَّا زَيْدًا فَإِنِّي لَا أَضْرِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا زَيْدًا فَإِنِّي ضَرَبْتُهُ أَمْسِ إِلَّا إن

_ (1) سورة النساء: 4/ 3.

كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا فَإِنَّهُ يَسُوغُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» أَيْ لَكِنِ الْمَوْتَةَ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ ذَاقُوهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُسْتَثْنَى هُمُ الْعُصَاةُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَيْ إِلَّا النَّوْعَ الَّذِي دَخَلَهَا مِنَ الْعُصَاةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَزْمَانِ أَيْ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا إِلَّا الزَّمَانَ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يخلدون فيها، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي تَعْيِينِ الزَّمَانِ. فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ حَشْرِهِمْ إِلَى دُخُولِهِمُ النَّارَ وَسَاغَ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةِ بِقَوْلِهِ: النَّارُ مَثْواكُمْ لَا يُخَصُّ بِصِيغَتِهَا مُسْتَقْبَلُ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَيْ يَخْلُدُونَ فِي عَذَابِ الْأَبَدِ كُلِّهِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَيِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُنْقَلُونَ فِيهَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِلَى عَذَابِ الزَّمْهَرِيرِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَادِيًا مِنَ الزَّمْهَرِيرِ مَا يُمَيِّزُ بَعْضَ أَوْصَالِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَيَتَعَاوَوْنَ وَيَطْلُبُونَ الرَّدَّ إِلَى الْجَحِيمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَابٍ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الزَّمَانِ أَيْ إِلَّا الزَّمَانَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَابٍ، وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَّا بِمَعْنَى سَوَاءً وَالْمَعْنَى سَوَاءً مَا يَشَاءُ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الْعَذَابِ وَيَجِيءُ إِلَى هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ النَّكَالِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَذَابِ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، إِذِ الْمَعْنَى تُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شَاءَ مِنَ الْعَذَابِ الزَّائِدِ عَلَى النَّارِ فَإِنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ بِهِ وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا إِذِ الْعَذَابُ الزَّائِدُ عَلَى عَذَابِ النَّارِ لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ عَذَابِ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ اللَّهِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَعَلَيْهِ جَاءَتْ تَفَاسِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ عِنْدِي فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأمته، وَلَيْسَ مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُسْتَثْنَى هُوَ مَنْ كَانَ مِنَ الْكَفَرَةِ يَوْمَئِذٍ يُؤْمِنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ مَثْواكُمْ اسْتَثْنَى لَهُمْ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ مِمَّنْ يُرُونَهُ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا وَيَقَعُ مَا عَلَى صِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ اتِّصَالُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ انْتَهَى، وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الْوَقْفَ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. قِيلَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْوَقْفَ فِيمَنْ لَمْ يَمُتْ إِذْ قَدْ يُسْلِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: جُعِلَ أَمْرُهُمْ فِي مَبْلَغِ عَذَابِهِمْ وَمُدَّتُهُ إِلَى مَشِيئَتِهِ حَتَّى لَا يَحْكُمَ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أنه

_ (1) سورة الدخان: 44/ 56.

لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِهِ لَا يُنْزِلُهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّخْلِيدِ الْأَبَدِيِّ فِي الْكُفَّارِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْتَهَى. وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِظَاهِرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ كُلَّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَأَنَّ النَّارَ تَخْلُو وَتَخَرَبُ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَا يَصِحُّ وَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافُ هَؤُلَاءِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا بِمُوجِبِ الْحِكْمَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ يَسْتَوْجِبُونَ عَذَابَ الْأَبَدِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صِفَتَانِ مُنَاسِبَتَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ تَخْلِيدَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ فِي النَّارِ صَادَرٌ عَنْ حِكْمَةٍ، وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ الْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ عَلِيمٌ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الْعِبَادِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: حَكِيمٌ حَكَمَ عليهم بالخلود عَلِيمٌ بِهِمْ وَبِعُقُوبَتِهِمْ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: عَلِيمٌ بِالَّذِي اسْتَثْنَاهُ وَبِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَكِيمٌ فِي عُقُوبَتِهِمْ عَلِيمٌ بِمِقْدَارِ مُجَازَاتِهِمْ. وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْفَظُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الظُّلْمِ وَالْخِزْيِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ وَلِيَّ بَعْضٍ فِي الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَاسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي دُخُولِ النَّارِ أَيْ يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ يَلِي بَعْضًا فِي الدُّخُولِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ نُسَلِّطُ بَعْضَ الظَّالِمِينَ عَلَى بَعْضٍ وَنَجْعَلُهُمْ أَوْلِيَاءَ النِّقْمَةِ مِنْهُمْ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ وَحِينَ قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ إِنَّ فَمَ الذِّئَابِ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ وَتَلَا وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَفْسِيرُهَا أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا وَلَّى عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ أَوْ خَيْرًا وَلَّى عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَفْنَى أَعْدَائِي بِأَعْدَائِي ثُمَّ أُفْنِيهِمْ بِأَوْلِيَائِي. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: نَتْرُكُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَعْضِهِمْ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحَاجَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُخَلِّيهِمْ حَتَّى يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا فَعَلَ الشَّيَاطِينُ وَغُوَاةُ الْإِنْسِ، أَوْ يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقُرَنَاءَهُمْ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: نُخَلِّيهِمْ هُوَ عَلَى طَرِيقِهِ الاعتزالي. مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا هَذَا النِّدَاءُ أَيْضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، حَيْثُ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ رُسُلًا إِلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ مِنَ الْإِنْسِ

رُسُلًا لَهُمْ. فَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وَاحِدًا مِنَ الْجِنِّ إِلَيْهِمُ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَقِيلَ: رُسُلُ الْجِنِّ هُمْ رُسُلُ الْإِنْسِ فَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ بِوَاسِطَةٍ إِذْ هُمْ رُسُلُ رُسُلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1» قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ. وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ الْجِنِّ اسْتَمَعُوا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ عَادُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَخْبَرُوهُمْ كَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ، فَيُقَالُ لَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلَهُ حَقِيقَةً وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الضَّمِيرُ عائدا علىْ جِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذَا الظَّاهِرِ فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ رُسُلًا مِنْهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُكَلَّفِينَ وَمُكَلَّفِينَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِهِمْ لِأَنَّهُمْ بِهِ آنَسُ وَآلَفُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ: وَالرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النِّدَاءُ لَهُمَا وَالتَّوْبِيخُ مَعًا جَرَى الْخِطَابُ عَلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ الْمَعْهُودُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَغْلِيبًا لِلْإِنْسِ لِشَرَفِهِمْ، وَتَأَوَّلَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ من أَحَدِكُمْ كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ وَكَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «3» أَيْ فِي إِحْدَاهُنَّ وَهِيَ سَمَاءُ الدُّنْيَا وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ «4» أَرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرَ وَبِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرَ أَيْ فِي أَحَدِ أَيَّامٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الرُّسُلُ يُبْعَثُونَ إِلَى الْإِنْسِ وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْنَى قَصَصِ الْآيَاتِ الْإِخْبَارُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَجِّ وَالتَّعْرِيفِ بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالِامْتِثَالِ لِأَوَامِرِهِ وَالِاجْتِنَابِ بِمَنَاهِيهِ، وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ بالمخوف وقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْإِنْذَارُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْمَخَاوِفِ وَصَيْرُورَةُ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ أَلَمْ تَأْتِكُمْ عَلَى تَأْنِيثِ لفظ الرسل بالتاء. لُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ حِكَايَةٌ لِتَصْدِيقِهِمْ وإلجائهم قوله: لَمْ يَأْتِكُمْ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ الدَّاخِلَةَ عَلَى نَفْيِ إِتْيَانِ الرُّسُلِ لِلْإِنْكَارِ فَكَانَ تَقْرِيرًا لَهُمْ وَالْمَعْنَى قَالُوا: شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْنَا وَإِنْذَارِهِمْ إِيَّانَا هَذَا الْيَوْمَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ نَابَتْ مَنَابَ بَلَى هُنَا وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا: بَلَى أَقَرُّوا بِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ لَازِمَةٌ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: هِدْنا إِقْرَارٌ مِنْهُمْ بِالْكُفْرِ وَاعْتِرَافٌ أي هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا بالتقصير

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 29. (2) سورة الرحمن: 55/ 22. (3) سورة نوح: 71/ 16. (4) سورة الحج: 22/ 28.

انتهى. والظاهر في هِدْنا شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ. وَقِيلَ: شَهِدَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ. غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا هَذَا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْبِيهٌ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِكُفْرِهِمْ وَإِفْصَاحٌ لَهُمْ بِأَذَمِّ الْوُجُوهِ الَّذِي هُوَ الْخِدَاعُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ أَيْ أَطْعَمَهُمْ وَأَشْبَعَهُمْ وَالتَّوْسِيعُ فِي الرِّزْقِ وَالْبَسْطُ سَبَبٌ لِلْبَغْيِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ. شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ظَاهِرُهُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ: شَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: شَهِدَتْ جَوَارِحُهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِنْكَارِهِمْ وَالْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَتَنَافَى بين قوله: هِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِنْكَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ طَوَائِفَ طَائِفَةٍ تَشْهَدُ وَطَائِفَةٍ تُنْكِرُ، أَوْ مِنْ طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَمُوَاطِنِ الْقِيَامَةِ فِي ذَلِكَ الْمُتَطَاوِلِ فَيُقِرُّونَ فِي بَعْضٍ وَيَجْحَدُونَ فِي بَعْضٍ. وَقَالَ التبريزي: شَهِدُوا أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا غَيْرَهُ مَا طَاوَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ كَرَّرَ ذِكْرَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؟ (قُلْتُ) : الْأُولَى حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ: كَيْفَ يَقُولُونَ وَيَعْتَرِفُونَ، وَالثَّانِيَةُ ذَمٌّ لَهُمْ وَتَخْطِئَةٌ لِرَأْيِهِمْ وَوَصْفٌ لِقِلَّةِ نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَوْمٌ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَاللَّذَّاتُ الْحَاضِرَةُ، وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِرَبِّهِمْ وَاسْتِنْجَازِ عَذَابِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلسَّامِعِينَ مِثْلَ حَالِهِمْ انْتَهَى. وَنَقُولُ لَمْ تَتَكَرَّرِ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الْمُخْبِرِ وَمُتَعَلَّقِهَا فَالْأُولَى إِخْبَارُهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالثَّانِيَةُ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ غَيْرُ الْأُولَى. ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ قَاصِّينَ الْآيَاتِ وَمُنْذِرِينَ بِالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ إِهْلَاكِ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا لَمْ يَنْتَهُوا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَالتَّقَدُّمِ بِالْإِخْبَارِ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ، إِذَا لَمْ يَتَّبِعُوا الرُّسُلَ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ» . فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ الرُّسُلِ وَأَمَرِ عَذَابِ مَنْ كَذَّبَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَا أَيْ لَا يُهْلِكُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى السُّؤَالِ وَهُوَ لَمْ يَأْتِكُمْ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَيْ لِبَيَانِ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَكَاهُ التِّبْرِيزِيُّ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا وُجِدَ مِنْهُمْ

مَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمَعَاصِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ الَّذِي كَانَ بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ انْتَهَى. وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَانِ الْقَوْلَانِ مَعَ قَوْلِهِ أَنْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ أَوِ الْإِهْلَاكَ لَيْسَ معللا بأن لم يكون وَجَوَّزُوا فِي ذَلِكَ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَخَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ وَالنَّصْبَ عَلَى فعلنا ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ وَالْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ لِأَنَّ الشَّأْنَ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ لَا يَكُونَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلًا فَأَجَازَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ «1» فَإِذَا كَانَ تَعْلِيلًا فَهُوَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْخِلَافِ أَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ أَوْ جَرٌّ وَإِنْ كَانَ بَدَلًا فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ وبظلم يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ أَيْ ظَالِمًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ «2» وَمَعْنَى وَأَهْلُها غافِلُونَ أَيْ دُونَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالنِّذَارَةِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «3» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْقُرَى أَيْ ظَالِمَةٌ دُونَ أَنْ يُنْذِرَهُمْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقُشَيْرِيِّ أَيْ لَا يُهْلِكُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ مَا لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَلْيَقُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُوهِمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ آخَذَهُمْ قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ كَانَ ظَالِمًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَوْ أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ لَمْ يَنْتَهُوا بِكِتَابٍ وَلَا رَسُولٍ لَكَانَ ظَالِمًا وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الظُّلْمِ وَعَنْ كُلِّ قَبِيحٍ. وَقِيلَ: بِظُلْمٍ بِشِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ فَهُوَ مِثْلُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «4» . وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ لَمْ يَكُنْ يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ إِهْلَاكَ اسْتِئْصَالٍ وَتَعْذِيبٍ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ وَعِيدٍ أَوْ سُؤَالِهِمُ الْعَذَابَ، وَلَا يُهْلِكُهُمْ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعِصْيَانِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَلْ سُنَّتُهُ هَكَذَا لِئَلَّا يَقُولُوا: لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا وَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَقِيلَ: بِظُلْمِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: بِجِنْسِ الظُّلْمِ حَتَّى يَرْتَكِبُوا مَعَ الظُّلْمِ غَيْرَهُ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِحِ ذَكَرَهُ التبريري. وَمَعْنَى وَأَهْلُها غافِلُونَ أَيْ لَا يُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ وَلَا يُزِيلُ عَدَدَهُمْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُوعَظُونَ بِهِ. وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَتَفَاوُتِهَا بِنِسْبَةِ بعضهم إلى بعض أو بِنِسْبَةِ عَمَلِ كُلِّ عَامِلٍ فيكون

_ (1) سورة الحجر: 15/ 66. [.....] (2) سورة هود: 11/ 117. (3) سورة فصلت: 41/ 46. (4) سورة فاطر: 35/ 18.

هُوَ فِي دَرَجَةٍ فَيَتَرَقَّى إِلَى أُخْرَى كَامِلَةٍ ثُمَّ إِلَى أَكْمَلَ، وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ الْجِنِّ فِي الْعُمُومِ فِي الْجَزَاءِ كَمَا انْدَرَجُوا فِي التَّكْلِيفِ وَفِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مُؤْمِنُو الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ كَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا تُرَابًا فَيَصِيرُونَ تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاءُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ إِجَارَتُهُمْ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْجِنِّ ثَوَابٌ لِأَنَّ الثَّوَابَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ فَلَا يُقَالُ بِهِ لَهُمْ إِلَّا بِبَيَانٍ مِنَ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ إِلَّا عُقُوبَةَ عَاصِيهِمْ لَا ثَوَابَ طَائِعِهِمْ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا: لَهُمْ ثَوَابٌ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِقَابٌ عَلَى الْمَعَاصِي وَدَلِيلُهُمَا عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقِيلَ: وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَلِكُلٍّ مِنَ الْكُفَّارِ خَاصَّةً دَرَجَاتٌ دِرْكَاتٌ وَمَرَاتِبُ مِنَ الْعِقَابِ مِمَّا عَمِلُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ جَاءَ عَقِيبَ خِطَابِ الْكُفَّارِ فَيَكُونُ رَاجِعًا عَلَيْهِمْ. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ أَيْ لَيْسَ بِسَاهٍ بِخَفِيٍّ عَلَيْهِ مَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأُجُورِ وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ذَكَرَ أَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ، وَمَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ أَيِ التَّفَضُّلِ التَّامِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو الرَّحْمَةِ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ. وَقِيلَ: بِكُلِّ خَلْقِهِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَأْخِيرُ الِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ. وَقِيلَ: ذُو الرَّحْمَةِ جَاعِلُ نَفْعِ الْخَلَائِقِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُو الرَّحْمَةِ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْلِيفِ لِيُعَرِّضَهُمْ لِلْمَنَافِعِ الدَّائِمَةِ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ هَذَا فِيهِ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ، كَمَا قَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ فَالْمَعْنَى إِنْ يَشَأْ إِفْنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ وَاسْتِخْلَافَ مَا يَشَاءُ مِنَ الْخَلْقِ غَيْرَهِمْ فَعَلَ، وَالْإِذْهَابَ هُنَا الْإِهْلَاكُ إِهْلَاكُ الِاسْتِئْصَالٍ لَا الْإِمَاتَةُ نَاسًا بَعْدَ نَاسٍ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فَلَا يُعَلَّقُ الْوَاقِعُ عَلَى إِنْ يَشَأْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي الْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ. وَقِيلَ: يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الْعُصَاةُ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ مِنَ النَّوْعِ الطَّائِعِ وكَما أَنْشَأَكُمْ فِي مَوْضِعِ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَخْلِفْ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَيُنْشِئْ وَالْمَعْنَى إِنْ يَشَأِ الْإِذْهَابَ وَالِاسْتِخْلَافَ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ فَكُلٌّ مِنَ الْإِذْهَابِ وَالِاسْتِخْلَافِ مَعْذُوقٌ بمشيئته ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ

الطَّبَرِيُّ: وَتَبِعَهُ مَكِّيٌّ هِيَ بِمَعْنَى أَخَذْتُ مِنْ ثَوْبِي دِينَارًا بِمَعْنَى عَنْهُ وَعِوَضُهُ انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهَا بِدَلِيَّةٌ وَالْمَعْنَى مِنْ أَوْلَادِ قَوْمٍ مُتَقَدِّمِينَ أَصْلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَوْلَادِ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِثْلِ صِفَتِكُمْ وَهُمْ أَهْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ صَالِحِينَ فَلَوْ شَاءَ أَذَهْبَكُمْ أَيُّهَا الْعُصَاةُ وَيَسْتَخْلِفْ بَعْدَكُمْ طَائِعِينَ، كَمَا أَنَّكُمْ عُصَاةٌ أَنْشَأَكُمْ مِنْ قَوْمٍ طَائِعِينَ وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَشاءُ قِيلَ بمعنى من والأولى أنه إِنْ كَانَ الْمِقْدَارُ اسْتِخْلَافُهُ مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ فَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَيَكُونُ قَدْ أُرِيدَ بِهَا النَّوْعُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ذُرِّيَّةِ بِفَتْحِ الذَّالِ وَكَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ ذُرِّيَّةِ بِفَتْحِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَعِنْدَ ذُرِّيَّةِ عَلَى وَزْنِ ضَرْبَةٍ وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ التَّحْذِيرَ مَنْ بَطْشِ اللَّهِ فِي التَّعْجِيلِ بِذَلِكَ. إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ظَاهِرُ مَا الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يُوعَدُ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهَا. وَقِيلَ: مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّصْرِ لِلرَّسُولِ لَكَائِنٌ. وَقِيلَ: مِنَ الْعَذَابِ لَآتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْوَعْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَرِينَةِ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ خُصُوصًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ مُطْلَقًا فَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إِنْفَاذَ الوعيد والعقائد ترى ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْوَعْدُ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الثَّوَابِ فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، فَتَخْصِيصُ الْوَعْدِ بِهَذَا الْجَزْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ قَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ لَا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنَا وَحِكْمَتِنَا فَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ جَزَمَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِهِ: مَا تُوعَدُونَ الْعُمُومُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا خَرَجَ بِالدَّلِيلِ أَوْ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ مِنَ الْحَشْرِ أَوِ النَّصْرِ أَوِ الْوَعِيدِ أَوِ الْوَعْدِ أَيْ بِلَازِمِهِمَا مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ. وَكُتِبَتْ أَنَّ مَفْصُولَةً مِنْ مَا وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِشْعَارٌ بِقَصْرِ الْأَمَلِ وَقُرْبِ الْأَجَلِ وَالْمُجَازَاةِ عَلَى الْعَمَلِ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ فَائِتِينَ أَعْجَزَنِي الشَّيْءُ: فَاتَنِي أَيْ لَا يَفُوتُنَا عَنْ مَا أَرَدْنَا بِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ بِنَاجِينَ وَهُنَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ. قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَكَانَاتِكُمْ عَلَى الْجَمْعِ حَيْثُ وَقَعَ فَمَنْ جَمَعَ قَابَلَ

جَمْعَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْجَمْعِ وَمَنْ أَفْرَدَ فَعَلَى الْجِنْسِ وَالْمَكَانَةُ، مَصْدَرُ مَكَّنَ فَالْمِيمُ أَصْلِيَّةٌ وَبِمَعْنَى الْمَكَانِ وَيُقَالُ: الْمَكَانُ وَالْمَكَانَةُ مُفْعَلٌ وَمُفْعَلَةٌ مِنَ الْكَوْنِ فَالْمِيمُ زَائِدَةٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، يُقَالُ: عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ إِذَا أَمَرْتَهُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالِهِ أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى نَاحِيَتِكُمْ وَالْمَعْنَى مَا تَنْحُونَ أَيْ مَا تَقْصِدُونَ مِنْ صَالِحٍ وَطَالِحٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَلَى حَالِكُمْ. وَقَالَ يَمَانٌ: عَلَى مَذَاهِبِكُمْ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: عَلَى دِينِكُمْ فِي مَنَازِلِكُمْ لِهَلَاكِي خِطَابًا لِكُفَّارِ مَكَّةَ إِنِّي عامِلٌ لِهَلَاكِكُمْ انْتَهَى. وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ وَهَذَا الْأَمْرُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «1» وَهِيَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّسْجِيلُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الشَّرُّ فَكَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ واجب عليه حتم لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَفَصَّى عَنْهُ وَيَعْمَلَ بِخِلَافِهِ، وَمَعْنَى إِنِّي عامِلٌ أَيْ عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اثْبُتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ فِيَّ فَإِنِّي ثَابِتٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى مُصَابِرَتِكُمْ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَفْعُولٌ تَعْلَمُونَ وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً اسْمَ اسْتِفْهَامٍ وَخَبَرُهُ تَكُونُ وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُونَ مُعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ إِنْ كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى مفعولين، وعاقِبَةُ الدَّارِ مَآلُهَا وَمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ وَالدَّارُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهَا دَارُ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أن يُرَادَ مَآلُ الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظُّهُورِ فَفِي الْآيَةِ إِعْلَامٌ بِغَيْبٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الدَّارَ لَهَا وَهَذَا طَرِيقٌ مِنَ الْإِنْذَارِ لِطَيْفُ الْمَسْلَكِ فِيهِ إِنْصَافٌ فِي الْمَقَالِ وَأَدَبٌ حَسَنٌ مَعَ تَضَمُّنِ شِدَّةِ الْوَعِيدِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّ الْمُنْذِرَ مُحِقٌّ وَأَنَّ الْمُنْذَرَ مُبْطِلٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أَيْ مِنْ لَهُ النُّصْرَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ أَيْ الْجَنَّةُ وَفِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ مَا لَا يَخْفَى كقوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ «2» مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ «3» وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا الْتَقَيْنَا وَالْتَقَى الرُّسْلُ بَيْنَنَا ... فَسَوْفَ تَرَى يَا عَمْرُو مَا اللَّهُ صَانِعُ وَقَالَ آخَرُ: سَتَعْلَمُ لَيْلَى أَيُّ دَيْنٍ تَدَايَنَتْ ... وَأَيُّ غَرِيمٍ لِلتَّقَاضِي غَرِيمُهَا

_ (1) سورة فصلت: 41/ 40. (2) سورة الرحمن: 55/ 31. (3) سورة المائدة: 5/ 54.

إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَيْ لَا يَفُوزُونَ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَبْقَوْنَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَسْعَدُ مَنْ كَفَرَ نِعْمَتِي. وَقِيلَ: لَا يَأْمَنُونَ وَلَا يَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ لَا يُفْلِحُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ تَرْدِيدٌ بَيْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَأَنَّ عَاقِبَةَ الدَّارِ الْحُسْنَى هِيَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَكِنَّهُ أُجْرِيَ مُجْرَى قَوْلِهِ: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ. وَقَوْلُهُ: فَأَيِّي مَا وَأَيُّكَ كَانَ شَرًّا ... فَسِيقَ إِلَى الْمَقَادَةِ فِي هَوَانِ وَقَدْ عُلِمَ مَا هُوَ شَرٌّ وَمَا هُوَ خَيْرٌ وَلَكِنَّهُ أُبْرِزَ فِي صُورَةِ التَّرْدِيدِ إِظْهَارًا لِصُورَةِ الْإِنْصَافِ وَرَمْيًا بِالْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَنْ يَكُونُ بِالْيَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَكَذَا فِي الْقَصَصِ. وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَجْعَلُ مِنْ غَلَّاتِهَا وَزُرُوعِهَا وَأَثْمَارِهَا وَأَنْعَامِهَا جُزْءًا تُسَمِّيهِ لِلَّهِ وَجُزْءًا تُسَمِّيهِ لِأَصْنَامِهَا وَكَانَتْ عَادَتُهَا تُبَالِغُ وَتَجْتَهِدُ فِي إِخْرَاجِ نَصِيبِ الْأَصْنَامِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي نَصِيبِ اللَّهِ، إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ بِهَا فَقْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاللَّهِ فَكَانُوا إِذَا جَمَعُوا الزَّرْعَ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِلَّهِ إِلَى الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ تَرَكُوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ إِلَى نَصِيبِ اللَّهِ وَيَفْعَلُونَ عَكْسَ هَذَا، وَإِذَا تَفَجَّرَ مِنْ سَقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ شُرَكَائِهِمْ تَرَكُوهُ وَبِالْعَكْسِ سَدُّوهُ وَإِذَا لَمْ يَنْجَحُ شَيْءٌ مِنْ نَصِيبِ آلِهَتِهِمْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ لَهَا، وَكَذَا فِي الْأَنْعَامِ. وَإِذَا أَجْدَبُوا أَكَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ وَتَرَكُوا نَصِيبَهَا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُبْحَ طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ جَهَالَاتِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا ذَرَأَ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ لَهُ الْأَحْسَنُ وَالْأَجْوَدُ وَأَنْ يَكُونَ جَانِبُهُ تَعَالَى هُوَ الْأَرْجَحَ، إِذْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُوجِدَ لِمَا جَعَلُوا لَهُ مِنْهُ نَصِيبًا وَالْقَادِرُ عَلَى تَنْمِيَتِهِ دُونَ أَصْنَامِهِمُ الْعَاجِزَةِ عَنْ مَا يَحِلُّ بِهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَخْلُقَ شَيْئًا أَوْ تُنَمِّيَهُ وَفِي قَوْلِهِ مِمَّا بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ وَهُوَ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ النَّصِيبَيْنِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّقْسِيمُ أَيْ وَنَصِيبًا لِشُرَكائِهِمْ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا والْحَرْثِ قِيلَ هُنَا: الزَّرْعُ. وَقِيلَ: الزَّرْعُ وَالْأَشْجَارُ وَمَا يَكُونُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْأَنْعامِ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ يَتَقَرَّبُونَ بِذَبْحِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ

وَالْحَامِي. وَقِيلَ: النَّصِيبُ مِنَ الْأَنْعَامِ هُوَ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا وَفِي قَوْلِهِ: فَقالُوا تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْجَعْلُ بِالْقَوْلِ لِيَتَطَابَقَ وَيَتَظَافَرَ الْفِعْلُ بِالْقَوْلِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَخْلَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَضَ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ قَوْلُهُ: بِزَعْمِهِمْ وَجَاءَ إِثْرَ قَوْلِهِمْ: هَذَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِخْبَارُ كَذِبٍ حَيْثُ أَخْلَفَ مَا جَعَلُوهُ وَأَكَّدُوهُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ إِثْرَ قَوْلِهِمْ: وَهذا لِشُرَكائِنا لِتَحْقِيقِ مَا لِشُرَكَائِهِمْ أَنَّهُ لَهُمْ وَالزَّعْمُ فِي أَكْثَرِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَقْرَبُ إِلَى غَيْرِ الْيَقِينِ وَالْحَقُّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَلَا أَنْ يُشَرِّعَهُ لَهُمْ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي شَرْعِ أَحْكَامٍ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا وَلَمْ يُشَرِّعْهَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِزَعْمِهِمْ فِيهِمَا بِضَمِّ الزَّايِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ وَالْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ وَبِهِ قَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ فِي الْمَصْدَرِ وَالضَّمُّ فِي الِاسْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِ الزاي والعين فيهما والسكر لُغَةٌ لِبَعْضِ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِزَعْمِهِمْ بِقَالُوا. وَقِيلَ: بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّهِ مِنْ الاستقرار وشركاؤهم آلِهَتُهُمْ وَالشُّرَكَاءُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ أَيِ: الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ اللَّهِ فِي الْقُرْبَةِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِضَافَةُ إِلَى فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ. وَقِيلَ: سُمُّوا شُرَكَاءَ لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ الشُّرَكَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ فَتَكُونُ إِضَافَةُ إِمَّا إِلَى الْفَاعِلِ فَالتَّقْدِيرُ وَهَذَا لِأَصْنَامِنَا الَّتِي تُشْرِكُنَا فِي أَمْوَالِنَا، وَإِمَّا إِلَى الْمَفْعُولِ فَالتَّقْدِيرُ الَّتِي شَرَكْنَاهَا فِي أَمْوَالِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَمَّوْهُمْ شُرَكَاءَ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يُسَاهِمُونَهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَعْنَى فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أَيْ لَا يَقَعُ مَوْقِعَ مَا يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَزُوَّارِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا أَوْ لَا يَصِلُ الْبَتَّةَ إِلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَقْصُودِ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا إِذَا هَلَكَ الَّذِي لِأَوْثَانِهِمْ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلَّهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَصْرِفُونَ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ إِلَى سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلْأَوْثَانِ، وَمَعْنَى فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بِإِنْفَاقٍ عَلَيْهَا بِذَبْحِ نِسَائِكَ عِنْدَهَا وَالْآخَرُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى سَدَنَتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلا يَصِلُ وَقَوْلِهِ: يَصِلُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ حِمَايَتِهِمْ نَصِيبَ آلِهَتِهِمْ فِي هُبُوبِ الرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذبحوا لله وذكروا آلِهَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الذَّبْحِ، وَإِذَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ قَالَ: فَلا يَصِلُ إِلَى ذِكْرٍ وَقَالَ: فَهُوَ يَصِلُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا جَعَلُوهُ نَصِيبًا لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يُصْرَفُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ الَّذِي يَقْتَضِيهَا وَجْهُهُ، وَمَا جَعَلُوهُ نَصِيبًا لِلَّهِ أُنْفِقَ فِي مَصَارِيفِ آلِهَتِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ هذا ذَمٌّ بَالِغٌ عَامٌّ لِأَحْكَامِهِمْ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ حُكْمُهُمْ هَذَا السَّابِقُ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي إِيثَارِهِمْ آلِهَتَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَعَمَلِهِمْ مَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُمْ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ بِئْسَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ حَيْثُ قَرَنُوا حَقِّي بِحَقِّ الْأَصْنَامِ وَبَخَسُونِي. وَقِيلَ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ساءَ هُنَا مُجْرَاةٌ مُجْرَى بِئْسَ فِي الذَّمِّ كَقَوْلِهِ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ «1» وَالْخِلَافُ الْجَارِي فِي بِئْسَما وَإِعْرَابِ مَا جَارَ هُنَا وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «2» فِي الْبَقَرَةِ وَعَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حَكَمُ بِئْسَمَا فَسَّرَهَا الْمَاتُرِيدِيُّ فَقَالَ: بِئْسَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ وَأَعْرَبَهَا الْحَوْفِيُّ وَجَعَلَ مَا موصولة بمعنى الذي قال وَالتَّقْدِيرُ سَاءَ الَّذِي يَحْكُمُونَ حُكْمُهُمْ، فَيَكُونُ حُكْمُهُمْ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَمْيِيزًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فِي بِئْسَمَا فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ التَّقْدِيرُ ساءَ حُكْمًا حُكْمُهُمْ وَلَا يَكُونُ يَحْكُمُونَ صِفَةً لِمَا لِأَنَّ الْغَرَضَ الْإِبْهَامُ وَلَكِنْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ مَا عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ ساما مَا يَحْكُمُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَأَنَّهُ قَالَ: سَاءَ الَّذِي يَحْكُمُونَ وَلَا يَتَّجِهُ عِنْدِي أَنْ تُجْرَى هُنَا ساءَ مُجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ هُنَا مُضْمَرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِهِ بِاتِّفَاقٍ مِنَ النُّحَاةِ، وَإِنَّمَا اتَّجَهَ أَنْ يُجْرِيَ مُجْرَى بِئْسَ فِي قَوْلِهِ: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ «3» لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ ظَاهِرٌ فِي الْكَلَامِ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ شَدَا يَسِيرًا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُرَسِّخْ قَدَمَهُ فِيهَا بَلْ إِذَا جَرَى سَاءَ مُجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ كان حكمها حكمها سَوَاءً لَا يَخْتَلِفُ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ مِنْ فَاعِلٍ مُضْمَرٍ أَوْ ظَاهِرٍ وَتَمْيِيزٍ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ حَذْفِ الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالتَّمْيِيزُ فِيهَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ هُنَا مُضْمَرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِهِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ إِلَى آخِرِهِ كَلَامٌ سَاقِطٌ وَدَعْوَاهُ الِاتِّفَاقَ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ عَجَبٌ عُجَابٌ. وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَيْ وَمِثْلُ تَزْيِينِ قِسْمَةِ الْقُرْبَانِ بَيْنَ اللَّهِ وَآلِهَتِهِمْ وَجَعْلِهِمْ آلِهَتَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الْبَلِيغِ الَّذِي عُلِمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكَذلِكَ مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُشَارٌ بِهِ إِلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وهكذا زين انتهى. ولِكَثِيرٍ يُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: شُرَكاؤُهُمْ شَيَاطِينُهُمْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَدْفِنُوا بَنَاتِهِمْ أَحْيَاءً خَشْيَةِ الْعَيْلَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: شُرَكاؤُهُمْ سَدَنَتُهُمْ وَخَزَنَتُهُمُ الَّتِي لِآلِهَتِهِمْ كَانُوا يُزَيِّنُونَ لَهُمْ دَفْنَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً. وَقِيلَ: رُؤَسَاؤُهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْإِنَاثَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 93. (2) سورة البقرة: 2/ 90. (3) سورة الأعراف: 7/ 177.

تَكَبُّرًا وَالذُّكُورَ خَوْفَ الْفَقْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بِالْوَأْدِ أَوْ بِنَحْرِهِمْ لِلْآلِهَةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ فِي الجاهلية لئن ولد لي كَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمَطْلَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبَ قَتْلَ مُضَافًا إِلَى أَوْلادِهِمْ وَرَفْعَ شُرَكاؤُهُمْ فَاعِلًا بِزَيَّنَ وَإِعْرَابُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ قَاضِي الْجُنْدِ صَاحِبُ ابْنِ عَامِرٍ زَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ قَتْلَ مَرْفُوعًا مُضَافًا إِلَى أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ مَرْفُوعًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ هَكَذَا خَرَّجَهُ سِيبَوَيْهِ، أَوْ فَاعِلًا بِالْمَصْدَرِ أَيْ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ كَمَا تَقُولُ: حُبِّبَ لِي رُكُوبُ الْفَرَسِ زِيدٌ هَكَذَا خَرَّجَهُ قُطْرُبٌ، فَعَلَى تَوْجِيهِ سِيبَوَيْهِ الشُّرَكَاءُ مُزَيِّنُونَ لَا قَاتِلُونَ كَمَا ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَعَلَى تَوْجِيهِ قُطْرُبٍ الشُّرَكَاءُ قَاتِلُونَ. وَمَجَازُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُزَيِّنِينَ الْقَتْلَ جُعِلُوا هُمُ الْقَاتِلِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُبَاشَرِي الْقَتْلِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ خَفَضُوا شُرَكَائِهِمْ وَعَلَى هَذَا الشُّرَكَاءُ هم الموءودون لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي النَّسَبِ وَالْمَوَارِيثِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ قَسِيمُو أَنْفُسِهِمْ وَأَبْعَاضٌ مِنْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: كَذلِكَ إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ أَوْلادِهِمْ وَجَرَّ شركائهم فَصَلَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إِلَى الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهَا، فَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَهَا مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخَّرُوهُمْ وَلَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ الشِّعْرِ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَجَازَهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْعَرَبِيِّ الصَّرِيحِ الْمَحْضِ ابْنِ عَامِرٍ الْآخِذِ الْقُرْآنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ اللَّحْنُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلِوُجُودِهَا أَيْضًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ مَنْهَجِ السَّالِكِ مِنْ تَأْلِيفِنَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى الْفَاعِلِ وهو لشركاء ثُمَّ فَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ وَرُؤَسَاءُ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُجِيزُونَ الْفَصْلَ بِالظُّرُوفِ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ: كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا ... يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ فَكَيْفَ بِالْمَفْعُولِ فِي أَفْصَحِ كَلَامٍ وَلَكِنْ وَجْهُهَا عَلَى ضَعْفِهَا أَنَّهَا وَرَدَتْ شَاذَّةً فِي بَيْتٍ أَنْشَدَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ: فَزَجَجْتُهُ بمزجة ... زج القلوس أَبِي مَزَادَةْ وَفِي بَيْتِ الطِّرِمَّاحِ وَهُوَ قَوْلُهُ:

يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ الْمَرَاتِعِ لَمْ يَرْعَ ... بِوَادِيهِ مِنْ قَرْعِ الْقِسِيِّ الْكَنَائِنِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَا الْتِفَاتَ أَيْضًا إِلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ فَشَا لَوْ كَانَ فِي مَكَانِ الضَّرُورَاتِ وَهُوَ الشِّعْرُ أكان سَمِجًا مَرْدُودًا فَكَيْفَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِحُسْنِ نَظْمِهِ وَجَزَالَتِهِ؟ وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ شُرَكَائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ، وَلَوْ قَرَأَ بِجَرِّ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لَوَجَدَ فِي ذَلِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ هَذَا الِارْتِكَابِ انْتَهَى مَا قَالَهُ. وَأَعْجَبُ لِعَجَمِيٍّ ضَعِيفٍ فِي النَّحْوِ يَرُدُّ عَلَى عَرَبِيٍّ صَرِيحٍ مَحْضَ قِرَاءَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ مَوْجُودٍ نَظِيرُهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي غَيْرِ مَا بَيْتٍ وَأَعْجَبُ لِسُوءِ ظَنِّ هَذَا الرَّجُلِ بِالْقُرَّاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ تَخَيَّرَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لِنَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَدِ اعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَقْلِهِمْ لِضَبْطِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ وَلَا الْتِفَاتَ أَيْضًا لِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: هَذَا قَبِيحٌ قَلِيلٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ عَدَلَ عَنْهَا يَعْنِي ابْنَ عَامِرٍ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ فِي الْكَلَامِ مَعَ اتِّسَاعِهِمْ فِي الظَّرْفِ وَإِنَّمَا أَجَازُوهُ فِي الشِّعْرِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانُوا قَدْ فَصَلُوا بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعَرَبِ هُوَ غُلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَخِيكَ فَالْفَصْلُ بِالْمُفْرَدِ أَسْهَلُ، وَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الِاخْتِيَارِ. قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ: مُخْلِفٌ وَعْدَهُ رُسُلِهِ بِنَصْبِ وَعْدَهُ وَخَفْضِ رُسُلِهِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَ أَبُو الطَّيِّبِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إِلَى الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ: بَعَثْتُ إِلَيْهِ مِنْ لِسَانِي حديقة ... سقاها الحيا سَقْيَ الرِّيَاضِ السَّحَائِبِ وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: إِذَا اتَّفَقَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ فِي حَالِ الْعَرَبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ فَإِنْ كَانَ فَصِيحًا وَكَانَ مَا أَوْرَدَهُ يَقْبَلُهُ الْقِيَاسُ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْسَنَ بِهِ الظَّنُّ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ إِلَيْهِ مِنْ لُغَةٍ قَدِيمَةٍ قَدْ طَالَ عَهْدُهَا وَعَفَا رَسْمُهَا. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء: مَا انْتَهَى إِلَيْكُمْ مِمَّا قَالَتِ الْعَرَبُ إِلَّا أَقَلُّهُ وَلَوْ جَاءَكُمْ وَافِرًا لَجَاءَكُمْ عِلْمٌ وَشِعْرٌ كَثِيرٌ وَنَحْوُهُ مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ حُفِظَ أَقَلُّ ذَلِكَ وَذَهَبَ عَنْهُمْ كَثِيرُهُ يَعْنِي الشِّعْرَ فِي حِكَايَةٍ فِيهَا طُولٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ نَقْطَعْ عَلَى الْفَصِيحِ إِذَا سُمِعَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ الْجُمْهُورَ بِالْخَطَأِ انْتَهَى، مُلَخَّصًا مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِ مَا قَالَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ وَرُوِّيتُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ زَيَّنَ بِكَسْرِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْيَاءِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْفَصْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَمَعْنَى لِيُرْدُوهُمْ لِيُهْلِكُوهُمْ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ وَلِيَلْبِسُوا

ليخلطوا ودِينَهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ دِينِ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى زَلُّوا عَنْهُ إِلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ دِينَهُمْ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلِيُوقِعُوهُمْ فِي دِينٍ مُلْتَبِسٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَلِيَلْبِسُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: اسْتِعَارَةٌ مِنَ اللِّبَاسِ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمُخَالَطَةِ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ زَيَّنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَ التَّزْيِينُ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَهِيَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّعْلِيلِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّدَنَةِ فَعَلَى مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْقَتْلِ لِأَنَّهُ الْمَصْرُحُ بِهِ وَالْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَالْوَاوُ فِي فَعَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى الْكَثِيرِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلتَّزْيِينِ وَالْوَاوُ لِلشُّرَكَاءِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلَّبْسِ وَهَذَا بَعِيدٌ. وَقِيلَ: لِجَمِيعِ ذَلِكَ إِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ جَارٍ مُجْرَى الْإِشَارَةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَشِيئَةَ قَسْرٍ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أَيْ مَا يَخْتَلِقُونَ مِنَ الْإِفْكِ عَلَى اللَّهِ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يَشْرَعُونَهَا وَهُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ. وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ أَعْلَمَ تَعَالَى بِأَشْيَاءَ مِمَّا شَرَعُوهَا وَتَقْسِيمَاتٍ ابْتَدَعُوهَا وَالْتَزَمُوهَا عَلَى جِهَةِ الْفِرْيَةِ وَالْكَذِبِ مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ، أَفْرَدُوا مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ شَيْئًا وَقَالُوا: هَذَا حِجْرٌ أَيْ حَرَامٌ مَمْنُوعٌ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: نَعَمٌ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَالْحِجْرُ بِمَعْنَى الْمَحْجُورِ كَالذِّبْحِ وَالطِّحْنِ يَسْتَوِي فِي الْوَصْفِ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَسْمَاءِ غَيْرَ الصِّفَاتِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا حِجْرٌ بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَقَالَ هَارُونُ: كَانَ الْحَسَنُ يَضُمُّ الْحَاءَ مِنْ حِجْرٌ حَيْثُ وَقَعَ إلا وحجرا مَحْجُورًا فَيَكْسِرُهَا وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْأَعْمَشُ حِرْجٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الْجِيمِ وَسُكُونِهَا، وَخَرَجَ عَلَى الْقَلْبِ فَمَعْنَاهُ مَعْنَى حِجْرٌ أَوْ مِنَ الْحَرَجِ وَهُوَ التَّضْيِيقُ لَا يَطْعَمُها لَا يَأْكُلُهَا إِلَّا مَنْ نَشاءُ وَهُمُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، أَوْ سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ بِزَعْمِهِمْ أَيْ بِتَقَوُّلِهِمُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبَاطِلِ مِنْهُ إِلَى الْحَقِّ. وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها هِيَ الْبَحَائِرُ وَالسَّوَائِبُ وَالْحَوَامِي وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْمَائِدَةِ.

وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَيْ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَجَمَاعَةٌ لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يُلَبُّونَ كَانَتْ تُرْكَبُ فِي كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا فِي الْحَجِّ. افْتِراءً عَلَيْهِ اخْتِلَاقًا وَكَذِبًا عَلَى اللَّهِ حَيْثُ قَسَّمُوا هَذِهِ الْأَنْعَامَ هَذَا التَّقْسِيمَ وَنَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَانْتَصَبَ افْتِراءً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَفْتَرُونَ أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى مَعْنَى وَقَالُوا: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى افْتَرَوْا أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا الَّذِي فِي بُطُونِهَا هُوَ الْأَجِنَّةُ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَجِنَّةِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ مَا وُلِدَ مِنْهَا حَيَّا فَهُوَ خَالِصٌ لِذُكُورِنَا وَلَا تَأْكُلُ مِنْهُ الْإِنَاثُ، وَمَا وُلِدَ مَيِّتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: الَّذِي فِي بُطُونِهَا هُوَ اللَّبَنُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اللَّفْظُ يَعُمُّ الْأَجِنَّةَ وَاللَّبَنَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ الْأَجِنَّةُ لِأَنَّهَا الَّتِي فِي الْبَطْنِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا اللَّبَنُ: فَفِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةَ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: خَالِصٌ بِالرَّفْعِ بِغَيْرِ تَاءٍ وَهُوَ خَبَرُ ما ولِذُكُورِنا مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ جِنِّيٍّ خَالِصًا بِالنَّصْبِ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي إِجَازَتِهِ تَقْدِيمَ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا أَيْ مِنْ ضَمِيرِ مَا الَّذِي تَضَمَّنَهُ خَبَرُ مَا وَهُوَ لِذُكُورِنا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: فِي إِجَازَتِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا نَحْوَ زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، وَخَبَرُ مَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ لِذُكُورِنا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا خَالِصَةٌ بِالنَّصْبِ وَإِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِ خَالِصًا بِالنَّصْبِ وَخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ كَالْعَافِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو رَزِينٍ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّهْرِيُّ خَالِصَةٌ عَلَى الْإِضَافَةِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ مَا أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِذُكُورِنا وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خالِصَةٌ بِالرَّفْعِ وَبِالتَّاءِ وَهَلِ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَاوِيَةٍ أَوْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَا لِأَنَّهَا أَجِنَّةٌ وَالْعَامُّ أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ يُبْنَى عَلَى فَاعِلَةٍ كالعافية والعافية أَيْ ذُو خُلُوصٍ؟ أَقْوَالٌ: وَكَانَ قَدْ سَبَقَ لَنَا أَنَّ شَيْخَنَا عَلَمَ الدِّينِ الْعِرَاقِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ حَمْلٌ عَلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا ثُمَّ حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ بَعْدَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَعَدَنَا أَنْ نُحَرِّرَ ذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَمَا ذَكَرَهُ قَالَهُ مَكِّيٌّ، قَالَ: الْآيَةُ فِي

قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ أَتَتْ عَلَى خِلَافِ نَظَائِرِهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُحْمَلُ عَلَى اللَّفْظِ مَرَّةً وَعَلَى الْمَعْنَى مَرَّةً إِنَّمَا يُبْتَدَأُ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، ثم بليه الْحَمْلُ عَلَى مَعْنًى نَحْوَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ «1» ثُمَّ قَالَ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ «2» هَكَذَا يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقَدَّمَ فِيهَا الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: خالِصَةٌ ثُمَّ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فَقَالَ: ومُحَرَّمٌ وَمِثْلُهُ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَأَنَّثَ عَلَى مَعْنَى كُلُّ لِأَنَّهَا اسْمٌ لجمع مَا تَقَدَّمَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْخَطَايَا، ثُمَّ قَالَ: عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «3» فَذَكَّرَ عَلَى لَفْظِ كُلُّ، وَكَذَلِكَ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «4» حَمْلًا عَلَى مَا، وَوَحَّدَ الْهَاءَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَا. وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ هَذَا الْجَرَادُ قَدْ ذَهَبَ فَأَرَاحَنَا مِنْ أَنْفُسِهِ جَمَعَ الْأَنْفُسَ وَوَحَّدَ الْهَاءَ وَذَكَّرَهَا انْتَهَى وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْهَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ أَوِ الَّتِي فِي الْمَصْدَرِ كَالْعَافِيَةِ فَلَا يَكُونُ التَّأْنِيثُ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَا، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بَدَأَ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى ثُمَّ بالجمل عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ صِلَةَ مَا مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ مَا وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ وَقَالُوا: مَا اسْتَقَرَّتْ فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا اسْتَقَرَّ فَيَكُونُ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى التَّذْكِيرِ ثُمَّ ثَانِيًا عَلَى التَّأْنِيثِ، وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَا الْوَجْهَ وَهُوَ الرَّاجِحُ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ بَدَأَ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّأْنِيثِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ وَقَوْلُ مَكِّيٍّ هَكَذَا يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَكَذَلِكَ هُوَ، وَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَجَاءَ فِيهِ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَجَاءَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِثْلُهُ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً فَلَيْسَ مِثْلَهُ، بَلْ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: كَانَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: سَيِّئَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ مَا تَرْكَبُونَ فَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا تَرْكَبُونَهُ فَيَكُونُ قَدْ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: ظُهُورُهُ ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَأَمَّا هَذَا الْجَرَادُ قَدْ ذَهَبَ فَقَدْ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى إِفْرَادِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَمَعْنَى لِأَزْوَاجِنَا: لِنِسَائِنَا أَيْ مُعَدَّةٌ أَنْ تَكُونَ أَزْوَاجًا قَالَهُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِبَنَاتِنَا. وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ كَانُوا إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا اشْتَرَكَ فِي أَكْلِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ مَا مَاتَ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَوْقُوفَةِ نَفْسِهَا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنْ تَكُنْ بِتَاءِ التأنيث

_ (1) سورة المائدة: 5/ 69. (2) سورة البقرة: 2/ 274. (3) سورة الإسراء: 17/ 38. (4) الزخرف: 43/ 12، 13.

مَيْتَةً بِالنَّصْبِ أَيْ وَإِنْ تَكُنِ الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ مَيْتَةً. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً بِالتَّذْكِيرِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى كَانَ التَّامَّةِ وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ النَّاقِصَةَ وَجَعَلَ الْخَبَرَ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ وَإِنْ تَكُنْ فِي بُطُونِهَا مَيْتَةٌ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَإِنْ تَكُنْ مَيْتَةً بِالتَّأْنِيثِ وَالرَّفْعِ انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى ابْنَ كَثِيرٍ فَهُوَ وَهْمٌ وَإِنْ عَنَى غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَقْلًا صَحِيحًا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَزَاهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَهْلِ مَكَّةَ هِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَإِنْ يَكُنْ التذكير مَيْتَةً بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ وَإِنْ يَكُنْ مَا فِي بُطُونِهَا مَيْتَةً. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لِكُلِّ مَيِّتٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتًا فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ: مَيْتَةً بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أَيْ جَزَاءَ وَصْفَهُمْ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ «1» . إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ حَكِيمٌ فِي عَذَابِهِمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ كَانَ جُمْهُورُ الْعَرَبِ لَا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ وَكَانَ بَعْضُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ يَئِدُوهُنَّ وَهُوَ دَفْنُهُنَّ أَحْيَاءً، فَبَعْضُهُمْ يَئِدُ خَوْفَ الْعَيْلَةِ وَالْإِقْتَارِ وَبَعْضُهُمْ خَوْفَ السَّبْيِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فِي ذَلِكَ إِخْبَارًا بِخُسْرَانِ فَاعِلِ ذَلِكَ وَلَمَّا تَقَدَّمَ تَزْيِينُ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمُوهُ فِي قَوْلِهِمْ هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ جَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَتَلَاهُ التَّحْرِيمُ وَفِي قَوْلِهِ: سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ إِشَارَةٌ إِلَى خِفَّةِ عُقُولِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ وَالْمُقَدَّرُ السَّبْيَ وَغَيْرَهُ، ما رزقهم الله إظهار لِإِبَاحَتِهِ لَهُمْ فَقَابَلُوا إِبَاحَةَ اللَّهِ بِتَحْرِيمِهِمْ هُمْ وَمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ يَعُمُّ السَّوَائِبَ وَالْبَحَائِرَ وَالزُّرُوعَ، وَتَرَتَّبَ عَلَى قَتْلِهِمْ أَوْلَادَهُمُ الْخُسْرَانُ مُعَلَّلًا بِالسَّفَهِ وَالْجَهْلِ وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا رَزَقَهُمُ الْخُسْرَانُ مُعَلَّلًا بِالِافْتِرَاءِ ثُمَّ الْإِخْبَارِ بِالضَّلَالِ وَانْتِفَاءِ الْهِدَايَةِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ سَبَبٌ تَامٌّ فِي حُصُولِ الذَّمِّ فَأَمَّا الْخُسْرَانُ فَلِأَنَّ الْوَلَدَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ فَإِذَا سَعَى فِي إِبْطَالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالْهِبَةِ فَقَدْ خَسِرَ وَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِمْ: قَتَلَ وَلَدَهُ خَوْفَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ وَفِي الْآخِرَةِ الْعِقَابَ لِأَنَّ ثمرة الولد المحبة،

_ (1) سورة النحل: 16/ 116. [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 152]

وَمَعَ حُصُولِهَا أَلْحَقَ بِهِ أَعْظَمَ الْمَضَارِّ وَهُوَ الْقَتْلُ كَانَ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ فَيَسْتَحِقُّ أَعْظَمَ الْعِقَابِ، وَأَمَّا السَّفَهُ وَهِيَ الْخِفَّةُ الْمَذْمُومَةُ فَقَتْلُ الْوَلَدِ لِخَوْفِ الْفَقْرِ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا فَالْقَتْلُ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَيْضًا فَالْقَتْلُ نَاجِزٌ وَالْفَقْرُ مَوْهُومٌ، وَأَمَّا الْجَهْلُ فَيَتَوَلَّدُ عَنْهُ السَّفَاهَةُ وَالْجَهْلُ أَعْظَمُ الْقَبَائِحِ، وَأَمَّا تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فهو مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ وَأَمَّا الِافْتِرَاءُ فَجَرَاءَةٌ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَأَمَّا الضَّلَالُ فَهُوَ أَنْ لَا يَرْشُدُوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةِ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْهِدَايَةِ فَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ ذَلِكَ ذَوِي هِدَايَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالشَّامِ وَمِنْهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: قَتَلُوا بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ سُفَهَاءُ عَلَى الْجَمْعِ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 152] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)

الزَّرْعُ: الْحَبُّ الْمُقْتَاتُ: الْحَصَادُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا كَالْجِذَاذِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَهُوَ مَصْدَرُ حَصَدَ وَمَصْدَرُهُ أَيْضًا حَصْدٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: جاؤوا بِالْمَصَادِرِ حِينَ أَرَادُوا انْتِهَاءَ الزَّمَانِ عَلَى فِعَالٍ وَرُبَّمَا قَالُوا فِيهِ فَعَالٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَسْرُ لِلْحِجَازِ وَالْفَتْحُ لِنَجْدٍ وَتَمِيمٍ. الْحَمُولَةُ: الْإِبِلُ الَّتِي تَحْمِلُ الْأَحْمَالَ عَلَى ظُهُورِهَا قَالَهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الْبِغَالُ وَلَا الْحَمِيرُ وَأَدْخَلَ بَعْضُهُمْ فِيهَا الْبَقَرَ إِذْ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ الْحَمْلُ عَلَيْهَا. الْفَرْشُ: الْغَنَمُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْفَرْشَ صِغَارُ الْإِبِلِ وَأَنْشَدَ الشَّاعِرُ:

أَوْرَثَنِي حَمُولَةً وَفَرْشًا ... أَمُشُّهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشًّا وَقَالَ آخَرُ: وَحُوِينَا الْفَرْشَ مِنْ أَنْعَامِكُمْ ... وَالْحُمُولَاتِ وَرَبَّاتِ الْحَجَلْ وَالْفَرْشُ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ صِغَارِ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَيُحْتَمَلُ إِنْ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ وَهِيَ الْمَفْرُوشُ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ وَالزَّرْعُ إِذَا فُرِشَ وَالْفَضَاءُ الْوَاسِعُ وَاتِّسَاعُ خُفِّ الْبَعِيرِ قَلِيلًا وَالْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَفَرْشُ النَّعْلِ وَفِرَاشُ الطَّائِرِ وَنَبْتٌ يَلْتَصِقُ بِالْأَرْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَمَشْفَرِ النَّابِ يَلُوكُ الْفَرْشَا وَيَأْتِيَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَمُولَةِ وَالْفَرْشِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْإِبِلُ الْجِمَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَيُجْمَعُ عَلَى آبَالٍ وَتَأَبَّلَ الرَّجُلُ اتَّخَذَ إِبِلًا وَقَوْلُهُمْ: مَا آبَلَ الرَّجُلَ فِي التَّعَجُّبِ شَاذًّا. الضَّأْنُ: مَعْرُوفٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا وَيُقَالُ: ضَئِينٌ وَكِلَاهُمَا اسْمُ جَمْعٍ لِضَائِنَةٍ وَضَائِنٍ. الْمَعْزُ: مَعْرُوفٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَيُقَالُ: مَعِيزٌ وَمَعْزَى وَأُمْعُوزٌ وَهِيَ أَسْمَاءُ جُمُوعٍ لِمَاعِزَةٍ وَمَاعِزٍ. السَّفْحُ: الصَّبُّ مَصْدَرُ سَفَحَ يَسْفَحُ وَالسَّفْحُ مَوْضِعٌ. الظُّفْرُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ بِضَمِّ الظَّاءِ وَالْفَاءِ وَبِسُكُونِ الْفَاءِ وَبِكَسْرِهِمَا وَبِسُكُونِ الْفَاءِ، وَأُظْفُورٌ وَجَمْعُ الثُّلَاثِيِّ أَظْفَارٌ وَجَمْعُ أُظْفُورٍ أَظَافِيرُ وَأَظَافِرُ وَرَجُلٌ أَظْفَرُ طَوِيلُ الْأَظْفَارِ. الشَّحْمُ: مَعْرُوفٌ. الْحَوَايَا: إِنْ قُدِّرَ وَزْنُهَا فَوَاعِلَ فَجَمْعُ حَاوِيَةٍ كَرَاوِيَةٍ وَرَوَايَا أَوْ جَمْعُ حَاوِيَاءَ كَقَاصِعَاءَ وَقَوَاصِعَ، وَإِنْ قُدِّرَ وَزْنُهَا فَعَائِلَ فَجَمْعَ حَوِيَّةٍ كَمَطِيَّةِ وَمَطَايَا وَتَقْرِيرُ صَيْرُورَةِ ذَلِكَ إِلَى حَوَايَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ وَهِيَ الدَّوَّارَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي بُطُونِ الشِّيَاهِ وَيَأْتِي خِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَلُمَّ: لُغَةُ الْحِجَازِ أَنَّهَا لَا تَلْحَقُهَا الضَّمَائِرُ بَلْ تَكُونُ هَكَذَا لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فَهِيَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ اسْمُ فِعْلٍ وَلُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ لِحَاقُ الضَّمَائِرِ عَلَى حَدِّ لُحُوقِهَا للفعيل، فَهِيَ عِنْدَ مُعْظَمِ النَّحْوِيِّينَ فِعْلٌ لَا تَتَصَرَّفُ وَالْتَزَمَتِ الْعَرَبُ فَتْحَ الْمِيمِ فِي اللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ وَإِذَا كَانَ أَمْرًا لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ فِي اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا مَا جَازَ فِي رُدَّ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ ومن ألمم وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ مِنْ هَلْ وَأُمَّ وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثَاتِ هَلْمُمْنَ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ هَلُمِّينَ وَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً بِمَعْنَى احْضَرْ وَلَازِمَةً بِمَعْنَى أَقْبِلْ. الْإِمْلَاقُ: الْفَقْرُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، يُقَالُ: أَمْلَقَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَأَرْمَلَ أَيْ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا الْمَلْقَ وَهِيَ الْحِجَارَةُ السُّودُ وَهِيَ الْمَلَقَةُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الرَّمْلُ وَالتُّرَابُ. وَقَالَ مُؤَرَّجٌ: هُوَ الْجُوعُ بِلُغَةِ لَخْمٍ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ الْإِنْفَاقُ أَمْلَقَ

مَالَهُ أَيْ أَنْفَقَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ. الْكَيْلُ: مَصْدَرُ كَالَ وَكَالَ مَعْرُوفٌ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الْآلَةِ الَّتِي يُكَالُ بِهَا كَالْمِكْيَالِ. الْمِيزَانُ: مِفْعَالٌّ مِنَ الْوَزْنِ وَهُوَ آلَةُ الْوَزْنِ كَالْمِنْقَاشِ وَالْمِضْرَابِ وَالْمِصْبَاحِ، وَتَخْتَلِفُ أَشْكَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ كَالْمِكْيَالِ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أخبر عنهم أنه حُرِمُوا أَشْيَاءَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، أَخَذَ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي تَصَرَّفُوا فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ تَعَالَى افْتِرَاءً مِنْهُمْ عَلَيْهِ وَاخْتِلَافًا فَذَكَرَ نَوْعَيِ الرِّزْقِ النَّبَاتِيِّ وَالْحَيَوَانِيِّ فَبَدَأَ بِالنَّبَاتِيِّ كَمَا بَدَأَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْمُشْبِهَةِ لِهَذَا، وَاسْتَطْرَدَ مِنْهُ إِلَى الْحَيَوَانِيِّ إِذْ كَانُوا قَدْ حُرِمُوا أَشْيَاءَ مِنَ النوعين ومَعْرُوشاتٍ اسْمُ مَفْعُولٍ يُقَالُ: عَرَشْتُ الْكَرْمَ إِذَا جَعَلْتَ لَهُ دَعَائِمَ وَسُمُكًا يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ الْقُضْبَانُ. وَهَلِ الْمَعْرُوشَاتُ مَا غَرَسَهُ النَّاسُ وَعَرَشُوهُ وَغَيْرُهَا مَا نَبَتَ فِي الصَّحَارِي وَالْبَرَارِي؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ كُلُّ شَجَرٍ ذِي سَاقٍ كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَكُلِّ مَا نَجَمَ غَيْرَ ذِي سَاقٍ كَالزَّرْعِ أَوْ مَا يُثْمِرُ وَمَا لَا يُثْمِرُ أَوِ الْكَرْمُ قُسِّمَتْ إِلَى مَا عُرِشَ فَارْتَفَعَ وَإِلَى مَا كَانَ مِنْهَا مُنْبَسِطًا عَلَى الْأَرْضِ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ مَا حَوْلَهُ حَائِطٌ وَمَا لَا حَائِطَ حَوْلَهُ وَمَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَانْتَشَرَ كَالْكَرْمِ وَالْقَرْعِ وَالْبِطِّيخِ، وَمَا قَامَ عَلَى سَاقٍ كَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْكَرْمُ الَّذِي عُرِّشَ عِنَبُهُ وَسَائِرُ الشَّجَرِ الَّذِي لَا يُعَرَّشُ أَوْ مَا يَرْتَفِعُ بَعْضُ أَغْصَانِهِ عَلَى بَعْضٍ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ مَا عَادَتُهُ أَنْ يُعَرَّشَ كَالْكَرْمِ وَمَا يَجْرِي مُجْرَاهُ وَمَا لَا يُعَرَّشُ كَالنَّخْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ؟ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْرُوشَ مَا جُعِلَ لَهُ عَرْشٌ كَرْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَغَيْرُ الْمَعْرُوشِ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي مَعْنَى ذِكْرِ الْمِنَّةِ وَالْإِحْسَانِ قُدِّمَ مَا حَاجَةُ الْعَرَبِ إِلَيْهِ أَشَدُّ وَمَا هُوَ أَكْثَرُ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ «1» وَهُوَ غَالِبُ قُوتِهِمْ، فَقَالَ: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ جَاءَتْ عَقِبَ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ التَّوْحِيدِ وَجَعْلِهِمْ مَعَهُ آلِهَةً، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَعَادِ الْأُخْرَوِيِّ وَاسْتَدَلِّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَانْدَرَجَ فِيهِ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ كَانَ الِابْتِدَاءُ فِي التَّقْسِيمِ بِذِكْرِ الزَّرْعِ لِصِغَرِ حَبِّهِ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَأَبْلَغُ فِي الِاعْتِبَارِ وأسرع في الانتفاع

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 37.

مِنْ مَا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْجِرْمِ، وَالظَّاهِرُ دُخُولُ وَالنَّخْلَ وَمَا بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فَانْدَرَجَ فِي جَنَّاتٍ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ وَجُرِّدَ تَعْظِيمًا لِمَنْفَعَتِهِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ، وَمَنْ خَصَّ الْجَنَّاتِ بِقَسْمِهَا بِالْكَرْمِ قَالَ: ذِكْرُ النَّخْلِ وَمَا بَعْدَهُ ذِكْرُ أَنْوَاعٍ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا وَاخْتِلَافُ أُكُلِهِ وَهُوَ الْمَأْكُولُ، هُوَ بِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ طَعْمًا وَلَوْنًا وَحَجْمًا وَرَائِحَةً يُخَالِفُ بِهِ النَّوْعَ الْآخَرَ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفًا أُكُلُ ثَمَرِهِ وَانْتَصَبَ مُخْتَلِفًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْإِنْشَاءِ مُخْتَلِفًا. وَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ وَثَمَرُ النَّخْلِ وَحَبُّ الزَّرْعِ وَالضَّمِيرُ فِي أُكُلُهُ عَائِدٌ عَلَى النَّخْلَ وَالزَّرْعَ وَأُفْرِدَ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِهِ بِالْعَطْفِيَّةِ قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُ ضَمِيرِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالْهَاءُ فِي أُكُلُهُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْشَآتِ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ذُو الْحَالِ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ فَقَطْ بَلْ جَمِيعُ مَا أَنْشَأَ لِاشْتِرَاكِهَا كُلِّهَا فِي اخْتِلَافِ الْمَأْكُولِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ مُخْتَلِفًا أُكُلُهَا إِلَّا إِنْ أُخِذَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثَمَرُ جَنَّاتِ وَرُوعِي هَذَا الْمَحْذُوفُ فَقِيلَ: أُكُلُهُ بِالْإِفْرَادِ عَلَى مُرَاعَاتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ «1» أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، وَلِذَلِكَ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي يَغْشاهُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الزَّرْعَ وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَتْ حَالُ النَّخْلَ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْحَالِ عَلَيْهَا، التَّقْدِيرُ وَالنَّخْلَ مُخْتَلِفًا أَكُلُهُ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ أَيْ زَيْدٌ قَائِمٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مُخْتَصَّةً بِالزَّرْعِ لِأَنَّ أَنْوَاعَهُ مُخْتَلِفَةُ الشَّكْلِ جِدًّا كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْقَطِينَةِ وَالسَّلْتِ وَالْعَدَسِ وَالْجُلْبَانِ وَالْأُرْزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ النَّخْلِ فَإِنَّ الثَّمَرَ لَا يَخْتَلِفُ شَكْلُهُ إِلَّا بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ لَمَّا كَانَ مَجِيءُ تِلْكَ الْآيَةِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَالْحَشْرِ وَإِعَادَةِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ وَإِبْرَازِ الْجَسَدِ وَتَكْوِينِهِ مِنَ الْعَظْمِ الرَّمِيمِ وَهُوَ عَجَبُ الذَّنْبِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِشَارَةً إِلَى الْإِيجَادِ أَوَّلًا وَإِلَى غَايَتِهِ وَهُنَا لَمَّا كَانَ مَعْرِضُ الْغَايَةِ الِامْتِنَانَ وَإِظْهَارَ الْإِحْسَانِ بِمَا خَلَقَ لَنَا قَالَ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِهِمَا الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ السَّرْمَدِيَّةُ وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَوِيَّةُ السَّرِيعَةُ

_ (1) سورة النور: 24/ 40.

الِانْقِضَاءِ، وَتَقَدَّمَ النَّظَرُ وَهُوَ الْفِكْرُ عَلَى الْأَكْلِ لِهَذَا السَّبَبِ وَهَذَا أَمْرٌ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَالْإِطْلَاقُ وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: إِذا أَثْمَرَ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُثْمِرْ فَلَا أَكْلَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ مَحَلَّ إِدْرَاكِهِ وَاسْتِوَائِهِ، بَلْ مَتَى أَمْكَنَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَعَلَ. وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَالَّذِي يَظْهَرُ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَرِهِ وَهُوَ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْكَلَ إِذَا أَثْمَرَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّخْلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى حَقُّهُ عِنْدَ جِذَاذِهِ إِلَّا النَّخْلُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَآتُوا أَمْرٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ، لِأَنَّ تقدم مَنْفَعَةِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَمْلِكُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مُتَرَجِّحَةٌ عَلَى مَنْفَعَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا «1» «وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنَى» . وَالْحَقُّ هُنَا مُجْمَلٌ وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَهْوَ الزَّكَاةُ أَمْ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ طَاوُسٍ وَالضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الزَّكَاةُ وَاعْتُرِضَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ غَيْرُ مُسْتَثْنَاةٍ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قِيلَ فِيهَا إِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَهُوَ الْبَاقِرُ وَعَطَاءٌ وَحَمَّادٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ وَالْحَكَمُ: هُوَ حَقٌّ غَيْرُ الزَّكَاةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَضَرَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ عِنْدَ الْجِذَاذِ وَعِنْدَ التَّكْدِيسِ وَعِنْدَ الدَّرْسِ وَعِنْدَ التَّصْفِيَةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا كَانُوا يُعَلِّقُونَ الْعَذْقَ عِنْدَ الصِّرَامِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ مَنْ مَسَّ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الضِّغْثُ يَطْرَحُهُ لِلْمَسَاكِينِ وَلَفْظُ مَا يُسْقِطُ مِنْكَ مِنَ السُّنْبُلِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِلسُّدِّيِّ نَسَخَهَا عَنْ مَنْ قَالَ عَنِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ مَا مُلَخَّصُهُ: هَلْ أُرِيدَ بِهَا الزَّكَاةُ أَوْ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ أَوْ هِيَ مُحْكَمَةٌ يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الزَّكَاةِ أَوْ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ؟ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: وَإِذَا كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ الزَّكَاةُ فَالظَّاهِرُ إِخْرَاجُهُ مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ ما

_ (1) سورة القصص: 28/ 77.

أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا شَيْءَ فِيمَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: الزَّكَاةُ فِي الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ فَمِنَ الثِّمَارِ الْعِنَبُ وَالزَّيْتُونُ وَمِنَ الْحَبِّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسَّلْتُ وَالذُّرَةُ وَالدُّخْنِ وَالْحُمُّصُ والعدس واللوبياء وَالْجُلْبَانُ وَالْأُرْزُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ فِي يَابِسٍ مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ لَا فِي زَيْتُونٍ لِأَنَّهُ إِدَامٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: لَا يَجِبُ إِلَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا: كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ يُوثَقُ فَأَوْجَبَهَا فِي اللَّوْزِ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي الْجَوْزِ لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لَا صَدَقَةَ فِي الْخُضَرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ يَأْخُذُ مِنْ دساتيح الْكُرَّاثِ الْعُشْرَ بِالْبَصْرَةِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي كُلِّ مَا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ حَتَّى فِي كل عشر دساتح مِنْ بَقْلٍ وَاحِدٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ: يُزَكَّى اثْنَانِ الْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ إِذَا أَيْنَعَتْ وَبَلَغَ ثَمَنُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ فِي ثَمَنِ الْفَوَاكِهِ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي قَلِيلِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُخْرِجُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِذَا كَانَ مَكِيلًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: اخْتِلَافٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ وَذَكَرُوا هُنَا فُرُوعًا قَالُوا: لَا زَكَاةَ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْحِلَّوْزِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَإِنْ كَانَ مُدَّخَرًا، كَمَا لَا زَكَاةَ عِنْدَهُمْ فِي الْإِجَّاصِ وَالتُّفَّاحِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْمِشْمِشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَيْبَسُ وَلَا يُدَّخَرُ، وَعَدَّ مَالِكٌ التِّينَ فِي الْفَوَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَتْبَاعِ مَالِكٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ. وَقَالَ هُوَ وَالشَّافِعِيُّ وَلَا فِي الرُّمَّانِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّيْتُونِ. وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَيْتِهِ إِذَا بَلَغَ مَكِيلُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ كُلِّهَا عَلَى أَصْلِهِ وَمَا خَصَّصُوهُ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْأَدِلَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَوْمَ حَصادِهِ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: وَآتُوا وَالْمَعْنَى وَاقْصُدُوا الْإِيتَاءَ وَاهْتَمُّوا بِهِ وَقْتَ الْحَصَادِ فَلَا يُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِ إِمْكَانِ الْإِيتَاءِ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: حَقَّهُ أَيْ وَآتُوا مَا اسْتُحِقَّ يَوْمَ حَصادِهِ فَيَكُونُ الِاسْتِحْقَاقُ بِإِيتَاءِ يَوْمِ الْحَصَادِ وَالْأَدَاءُ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْكَلَامِ محذوف تقدره وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ إِلَى تَصْفِيَتِهِ قَالَ: فَيَكُونُ الْحَصَادُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ

الْمُوَسَّعِ وَالتَّصْفِيَةُ سَبَبٌ لِلْأَدَاءِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ إِخْرَاجِ الْحَقِّ مِنْهُ كُلِّهِ مَا أَكَلَ صَاحِبُهُ وَأَهْلُهُ مِنْهُ وَمَا تَرَكُوهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَدْخُلُ مَا أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُ فِي الْحَقِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِأَنْ يُؤْتَى حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فَلَا يَخْرُصُ عَلَيْهِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: الْخَرْصُ الْيَوْمَ بِدْعَةٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الْخَرْصُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَإِنَّمَا عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ أَنْ يُؤَدِّيَ عُشْرَ مَا يَصِلُ فِي يَدِهِ لِلْمَسَاكِينِ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَعَاصِمٌ: حَصَادِهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا. وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِهِ وَبِإِيتَاءِ حَقِّهِ، نَهَى عَنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فَقَالَ: لَا تُسْرِفُوا وَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ إِفْرَادَ الْإِسْرَافِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَافُ فِي أَكْلِ الثَّمَرَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ لِلزَّكَاةِ، وَالْإِسْرَافُ فِي الصَّدَقَةِ بِهَا حَتَّى لَا يُبْقِيَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِعِيَالِهِ شَيْئًا وَقَيَّدَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ جُرَيْجٍ بِالصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَيَبْقَى هُوَ وَعِيَالُهُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَيْضًا: هُوَ نَهْيٌ فِي الْأَكْلِ فَيَأْكُلُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَا تَجِبُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ نَهْيٌ عَنِ النَّفَقَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: فِي صَرْفِ الصَّدَقَةِ إِلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي افْتُرِضَتْ، كَمَا صَرَفَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى جِهَةِ أَصْنَامِهِمْ. وَقِيلَ: نَهْيٌ لِلْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَةِ عَنْ أَخْذِ الزَّائِدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جَذَّ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ وَقَسَمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ لِأَهْلِهِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ وَلا تُسْرِفُوا أَيْ لَا تُعْطُوا كُلَّهُ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ جَذَّ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمْ يَزَلْ يَتَصَدَّقُ حَتَّى لَمْ يبق منها شيئا فَنَزَلَتْ لَا تُسْرِفُوا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا عِنْدَ الْجِذَاذِ فَتَمَارَوْا فِيهِ فَأَسْرَفُوا فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كَانَ أَبُو قَبِيسٍ لِرَجُلٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا. وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: كُلُّ مَا جَاوَزْتَ فِيهِ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ سَرَفٌ. وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ أَيْ وأنشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً وَهَلِ الْحَمُولَةُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفَرْشِ الْغَنَمِ؟ أَوْ مَا قَالَهُ أَيْضًا مَا انْتُفِعَ بِهِ مِنْ ظُهُورِهَا وَالْفَرْشُ الرَّاعِيَةُ؟ أَوْ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: مَا حَمَلَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْفَرْشُ صِغَارُهَا؟ أَوْ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْإِبِلُ والفرش الغنم؟ أو مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: مَا يُرْكَبُ وَالْفَرْشُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيُجْلَبُ مِنَ الْغَنَمِ وَالْفُصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ؟ أَوْ مَا قَالَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَرَاكِبُ النِّسَاءِ وَالْفَرْشُ مَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ أَوْ مَا قَالَهُ أَيْضًا: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ يُقَالُ لَهُ فَرْشٌ؟ تَقُولُ

الْعَرَبُ: أَفْرَشَهُ اللَّهُ كَذَا أَيْ جَعَلَهُ لَهُ أَوْ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ مُعَدًّا لِلْحَمْلِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْفَرْشُ: مَا خُلِقَ لَهُمْ مِنْ أَصْوَافِهَا وَجُلُودِهَا الَّتِي يَفْتَرِشُونَهَا وَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، أَوْ مَا يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ. وَالْفَرْشُ: مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ أَوْ يُنْسَجُ مِنْ وَبَرِهِ وَصُوفِهِ وَشِعْرِهِ لِلْفَرْشِ. أَوْ مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ: وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ وَرَجَّحَ هَذَا بِإِبْدَالِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْهُ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ، وَقَدَّمَ الْحَمُولَةَ عَلَى الْفَرْشِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِي الِانْتِفَاعِ إِذْ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْأَكْلِ. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أَيْ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تُحَرِّمُوا كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِجَابَةِ وَإِزَالَةٌ لِمَا سَنَّهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أَيْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وَتَعَلَّقَتْ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلا تَتَّبِعُوا «1» إِلَى آخِرِهِ فِي الْبَقَرَةِ. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا أَحَلُّوا وَمَا حَرَّمُوا وَنِسْبَتِهِمْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا قَامَ الْإِسْلَامُ وَثَبَتَتِ الْأَحْكَامُ جَادَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ خَطِيبُهُمْ مَالِكَ بْنَ عَوْفِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيُّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا أَنَّكَ تُحِلُّ أَشْيَاءَ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكُمْ قَدْ حَرَّمْتُمْ أَشْيَاءَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ لِلْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا التَّحْرِيمُ أَمِنْ قِبَلِ الذَّكَرِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الْأُنْثَى» ؟ فَسَكَتَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَتَحَيَّرَ فَلَوْ عَلَّلَ بِالذُّكُورَةِ وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ الذَّكَرُ أَوْ بِالْأُنُوثَةِ فَكَذَلِكَ أَوْ بِاشْتِمَالِ الرَّحِمِ وَجَبَ أَنْ يحرما لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّحْرِيمِ بِالْوَلَدِ الْخَامِسِ أَوِ السَّابِعِ أَوْ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ فَمِنْ أَيْنَ؟ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِمَالِكٍ: «مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ» . فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: بَلْ تَكَلَّمْ وَأَسْمَعُ مِنْكَ. وَالزَّوْجُ مَا كَانَ مَعَ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ وَهُمَا زَوْجَانِ قَالَ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «2» فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَهُوَ فَرْدٌ وَيَعْنِي بِاثْنَيْنِ ذَكْرًا وَأُنْثَى أَيْ كَبْشًا وَنَعْجَةً وَتَيْسًا وَعَنْزًا وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، حَيْثُ نَسَبُوا مَا حَرَّمُوهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا مَرَّةً يُحَرِّمُونَ الذُّكُورَ وَمَرَّةً الْإِنَاثَ وَمَرَّةً أَوْلَادَهَا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا أَوْ مُخْتَلِطَةً، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ هُوَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى وَانْتَصَبَ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ عَلَى الْبَدَلِ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ قَوْلِهِ: حَمُولَةً وَفَرْشاً وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَأَجَازُوا نَصْبَهُ بِ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَهُوَ قول

_ (1) سورة البقرة: 2/ 168. (2) سورة النجم: 53/ 45.

عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ وَقَدَّرَهُ كلوا لحم ثمانية وبأنشأ مُضْمَرَةً قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَعَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا رَزَقَكُمُ وَبِ كُلُوا مُضْمَرَةً وَعَلَى أَنَّهَا حَالٌ أَيْ مُخْتَلِفَةً مُتَعَدِّدَةً. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: مِنَ الضَّأْنِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَأَبُو عَمْرٍو: وَمِنَ الْمَعْزِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَمِنَ الْمَعْزَى. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: اثْنَانِ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ الْمُقَدَّمُ وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُ الْفِعْلِ دَلَّ عَلَى وُقُوعِ تَحْرِيمِهِمُ الذُّكُورَ تَارَةً وَالْإِنَاثَ أُخْرَى، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الرَّحِمُ أُخْرَى، فَأَنْكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَسَبُوهُ إِلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ: حَرَّمَ أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يُحَرِّمْ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا ذُكُورَهَا وَلَا إِنَاثَهَا وَلَا مِمَّا تَحْمِلَهُ أَرْحَامُ إناثهما، وَقَدَّمَ فِي التَّقْسِيمِ الْفَرْشَ عَلَى الْحَمُولَةِ لِقُرْبِ الذِّكْرِ وَهُمَا طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ تَارَةً يُرَاعُونَ الْقُرْبَ وَتَارَةً يُرَاعُونَ التَّقْدِيمَ، وَلِأَنَّهُمَا أَيْسَرُ مَا يَتَمَلَّكُهُ وَيَقْتَنِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى وَقُدِّمَ الضَّأْنُ عَلَى الْمَعْزِ لِغَلَاءِ ثَمَنِهِ وَطِيبِ لَحْمِهِ وَعِظَمِ الِانْتِفَاعِ بِصُوفِهِ. وَقُدِّمَ الضَّأْنُ عَلَى الْمَعْزِ لِغَلَاءِ ثَمَنِهِ وَطِيبِ لَحْمِهِ وَعِظَمِ الِانْتِفَاعِ بِصُوفِهِ. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ إِلَى اللَّهِ، فَأَخْبَرُونِي عَنِ اللَّهِ بِعِلْمٍ لَا بِافْتِرَاءٍ وَلَا بِتَخَرُّصٍ وَأَنْتُمْ لَا عِلْمَ لَكُمْ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ يَأْتِكُمْ بِذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ مِنْكُمْ تَنْبِئَةٌ بِذَلِكَ وَفَصَلَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ لَهُمْ وَالتَّوْبِيخِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَنِدُوا فِي تَحْرِيمِهِمْ إِلَّا إِلَى الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَالِافْتِرَاءِ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ انْتَقَلَ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ فِي نَفْيِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ فِي نَفْيِ شَهَادَتِهِمْ ذَلِكَ وَقْتَ تَوْصِيَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مُدْرِكَ الْأَشْيَاءِ الْمَعْقُولُ وَالْمَحْسُوسُ فَإِذَا انْتَفَيَا فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِتَحْلِيلٍ أَوْ بِتَحْرِيمٍ؟ وَكَيْفِيَّةُ انْتِفَاءِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ وَاضِحَةٌ وَكَيْفِيَّةُ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْوَحْيِ وَكَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ بِالرُّسُلِ، وَمَعَ انْتِفَاءِ هَذَيْنِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ كَذَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَهَكَّمَ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ «1» عَلَى مَعْنَى أَعَرَفْتُمُ التَّوْصِيَةَ بِهِ مُشَاهِدِينَ لِأَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ انْتَهَى. وَقَدَّمَ الْإِبِلَ عَلَى الْبَقَرِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 133.

لِأَنَّهَا أَغْلَى ثَمَنًا وَأَغْنَى نَفْعًا فِي الرِّحْلَةِ، وَحَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَيْهَا وَأَصْبَرُ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَأَطْوَعُ وَأَكْثَرُ انْقِيَادًا فِي الْإِنَاخَةِ وَالْإِثَارَةِ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَنُسِبَ إِلَيْهِ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَضَلَالِهَا حَتَّى قَصَدَ بِذَلِكَ ضَلَالَ غَيْرِهِ فَسَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الشَّنْعَاءَ وَغَايَتُهُ بِهَا إِضْلَالُ النَّاسِ فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ نَفَى هِدَايَةَ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ وَكَانَ مَنْ فِيهِ الْأَظْلَمِيَّةُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَهْدِيَهُ وَهَذَا عُمُومٌ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ تَخْصِيصُهُ مِنْ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ. قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ مُدْرِكَ التَّحْرِيمِ إِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِشَرْعِهِ لَا بِمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَمَا تَخْتَلِقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاءَ التَّرْتِيبُ هُنَا كَالتَّرْتِيبِ الَّذِي فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَجَاءَ هُنَا هَذِهِ الْمُحْرِمَاتُ مُنَكَّرَةً وَالدَّمُ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: مَسْفُوحاً وَالْفِسْقُ مَوْصُوفًا بِقَوْلِهِ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَفِي تِينِكِ السُّورَتَيْنِ مُعَرَّفًا لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَعُلِّقَ بِالتَّنْكِيرِ، وَتَانِكَ السُّورَتَانِ مَدَنِيَّتَانِ فَجَاءَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مَعَارِفَ بِالْعَهْدِ حُوَالَةً عَلَى مَا سَبَقَ تَنْزِيلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي مَا أُوحِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ومُحَرَّماً صِفَةً لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ مَطْعُومًا وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ وَيَطْعَمُهُ صِفَةٌ لِطَاعِمٍ. وَقَرَأَ الْبَاقِرُ يَطْعَمُهُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْأَصْلُ يَطْتَعِمُهُ أُبْدِلَتْ تَاؤُهُ طَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا فَاءُ الْكَلِمَةِ. وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ تَطَعَّمَهُ بِفِعْلٍ مَاضٍ وإلا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ كَوْنٌ وَمَا قَبْلَهُ عَيْنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بَدَلًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَنَصْبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَحَمْزَةُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ وَاسْمُ يَكُونَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ: مُحَرَّماً وَأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ مَيْتَةً بِالرَّفْعِ جَعَلَ كَانَ تَامَّةً. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ مُذَكَّرٌ يَعُودُ عَلَى مُحَرَّماً أَيْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحَرَّمُ مَيْتَةً

وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ فِيمَا ذَكَرَ مَكِّيٌّ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ دَماً مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ أَنْ يَكُونَ وَعَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ، يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَيْتَةً وَمَعْنَى مَسْفُوحاً مَصْبُوبًا سَائِلًا كَالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ لَا كَالطُّحَالِ وَالْكَبِدِ، وَقَدْ رُخِّصَ فِي دَمِ الْعُرُوقِ بَعْدَ الذَّبْحِ. وَقِيلَ لِأَبِي مَجْلَزٍ: الْقِدْرُ تَعْلُوهَا الْحُمْرَةُ مِنَ الدَّمِ. فَقَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْفُوحَ وَقَالَتْ نَحْوَهُ عَائِشَةُ وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: الدَّمُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ إِذَا زَايَلَ فَقَدْ سُفِحَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى لَحْمَ خِنزِيرٍ وَزَعَمَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَإِذَا احْتَمَلَ الضَّمِيرُ الْعَوْدَ عَلَى شَيْئَيْنِ كَانَ عُودُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ أَرْجَحَ وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ، وَجَاءَ ذِكْرُ الْخِنْزِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لَا أَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ الْمَعْطُوفُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذُكِرَ اللَّحْمُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْخِنْزِيرِ وَإِنْ كَانَ سَائِرُهُ مُشَارِكًا لَهُ فِي التَّحْرِيمِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ كَوْنِهِ رِجْسًا أَوْ لِإِطْلَاقِ الْأَكْثَرِ عَلَى كُلِّهِ أَوِ الْأَصْلُ عَلَى التَّابِعِ لِأَنَّ الشَّحْمَ وَغَيْرَهُ تَابِعٌ لِلَّحْمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهِيَ مُحْكَمَةٌ؟ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ مُحَرَّمٌ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَيَنْبَغِي أَنَّ يُفْهَمَ هَذَا النَّسْخُ بِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْحَصْرِ فَقَطْ. وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا حُرِّمَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ سَوَاءٌ كَانَ بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ حَدِيثٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الرِّجْسِيَّةِ وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَجَاءَتْ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالْحَوَّامِي مِنْ هَذِهِ الثَّمَانِيَةِ، فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَأَخْبَرَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ سِوَى مَا ذَكَرَ وَلِذَلِكَ أَتَتْ صِلَةُ مَا جُمْلَةً مُصَدَّرَةً بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فَجَمِيعُ مَا حُرِّمَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ سَبَقَ مِنْهُ وَحْيٌ فِيهِ بِمَكَّةَ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ بِالْمَدِينَةِ وَبَيْنَ مَا أُخْبِرَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَكَّةَ تَحْرِيمُهُ، وَذِكْرُ الْخِنْزِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يَأْكُلُهُ إِذْ ذَاكَ وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِثَمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ فِي كَوْنِهِ لَيْسَ سَبُعًا مُفْتَرِسًا يَأْكُلُ اللُّحُومَ وَيَتَغَذَّى بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ نَمَطِ الثَّمَانِيَةِ فِي كَوْنِهِ يَعِيشُ بِالنَّبَاتِ وَيَرْعَى كَمَا تَرْعَى الثَّمَانِيَةُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا أَشْيَاءَ مِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه وَنُلَخِّصُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَنَقُولُ: أَمَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ فَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أكلها، وأن تحريم الرسول لَهَا إِنَّمَا كَانَ لِعِلَّةٍ، وَأَمَّا لُحُومُ الْخَيْلِ فَاخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَأَبَاحَهَا الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو

يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ. فَقِيلَ: كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. وَقِيلَ: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ مُجَاهِدٌ وَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ وَقَدْ صَنَّفَ فِي حُكْمِ لُحُومِ الْخَيْلِ جُزْءًا قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَرَأْنَاهُ عَلَيْهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَالِ، وَأَمَّا الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ إِذَا تَأَنَّسَ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ أَكْلِهِ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا دَجَنَ وَصَارَ يُعْمَلُ عَلَيْهِ كَمَا يُعْمَلُ عَلَى الْأَهْلِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْكَلُ سِبَاعُ الْوَحْشِ وَلَا الْبَرِّ وَحْشِيًّا كَانَ أَوْ أَهْلِيًّا وَلَا الثَّعْلَبُ وَلَا الضَّبُعُ وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ سِبَاعِ الطَّيْرِ الرَّخَمِ وَالْعِقَابِ وَالنُّسُورِ وَغَيْرِهَا مَا أَكَلَ الْجِيفَةِ وَمَا لَمْ يَأْكُلْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الطَّيْرُ كُلُّهُ حَلَالٌ إِلَّا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الرَّخَمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ مِنْ ذِي النَّابِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَعَلَى الطُّيُورِ مِنْ ذِي الْمِخْلَبِ كَالنَّسْرِ وَالْبَازِي لَا يُؤْكَلُ، وَيُؤْكَلُ الثَّعْلَبُ وَالضَّبُعُ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْغُرَابَ الْأَبْقَعَ لَا الْغُرَابَ الزَّرْعِيَّ وَالْخِلَافُ فِي الْحِدَأَةِ كَالْخِلَافِ فِي الْعُقَابِ وَالنَّسْرِ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الضَّبَّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ الْهِرُّ الْإِنْسِيُّ وَعَنْ مَالِكٍ جَوَازُ أَكْلِهِ إِنْسِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ جَوَازُ أَكْلِ إِنْسِيِّهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحَيَّةِ إِذَا ذُكِّيَتْ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْقُنْفُذِ وَفِرَاخِ النَّحْلِ وَدُودِ الْجُبْنِ وَدُودِ التَّمْرِ وَنَحْوِهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقُنْفُذِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُؤْكَلُ الْفَأْرَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْكَلُ الْيَرْبُوعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْفَأْرِ التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: وَأَمَّا الْمُخَدِّرَاتُ كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ وَاللُّفَّاحِ وَوَرَقِ الْقِنَّبِ الْمُسَمَّى بِالْحَشِيشَةِ فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ وَهِيَ عِنْدِي إِلَى التَّحْرِيمِ أَقْرَبُ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُسْكِرَةً فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . وَبِقَوْلِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْكِرَةٍ فَإِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى الْجِسْمِ حَرَامٌ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَخْتِيَشُوعَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ وَرَقَ الْقِنَّبِ يُحْدِثُ فِي الْجِسْمِ سَبْعِينَ دَاءً وَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّهُ يُصَفِّرُ الْجِلْدَ وَيُسَوِّدُ الْأَسْنَانَ وَيَجْعَلُ فِيهَا الْحُفَرَ وَيَثْقُبُ الْكَبِدَ وَيُحَمِّيهَا وَيُفْسِدُ الْعَقْلَ وَيُضْعِفُ الْبَصَرَ وَيُحْدِثُ

الْغَمَّ وَيُذْهِبُ الشَّجَاعَةَ وَالْبَنْجُ وَالسَّيْكَرَانُ كَالْوَرَقِ فِي الضَّرَرِ وَأَمَّا الْمُرْقِدَاتُ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْمَازِرْيُونَ فَالْقَدْرُ الْمُضِرُّ مِنْهَا حَرَامٌ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَطِبَّاءِ: إِذَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الزَّعْفَرَانِ كَثِيرٌ قَتْلٍ فَرَحًا انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْجِلْدَ الْمَدْبُوغَ وَلَا الْقَرْنَ وَلَا الْعَظْمَ وَلَا الظِّلْفَ وَلَا الرِّيشَ وَنَحْوَهَا، وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ دَمَ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ وَالذُّبَابِ لَيْسَ بِنَجِسٍ انْتَهَى أَوْ فِسْقاً الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْصُوبِ قَبْلَهُ سُمِّيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِسْقًا لِتَوَغُّلِهِ فِي بَابِ الْفِسْقِ وَمِنْهُ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأُهِلَّ صِفَةٌ لَهُ مَنْصُوبَةُ الْمَحَلِّ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ فِسْقاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ وَهُوَ أُهِلَّ لِقَوْلِهِ: طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَفَصَلَ بِهِ بَيْنَ أَوْ وأُهِلَّ بِالْمَفْعُولِ لَهُ وَيَكُونُ أَوْ أُهِلَّ مَعْطُوفًا عَلَى يَكُونَ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي يَكُونَ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا وَتَرْكِيبٌ عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ خَارِجٌ عَنِ الْفَصَاحَةِ وَغَيْرُ جائز فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً بِالرَّفْعِ فَيَبْقَى الضَّمِيرُ فِي بِهِ لَيْسَ لَهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يتكلف محذوف حَتَّى يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَوْ شَيْءٌ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا وَلَمَّا كَانَ صَدْرُ الْآيَةِ مُفْتَتَحًا بِخِطَابِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ اخْتَتَمَ الْآيَةَ بِالْخِطَابِ فَقَالَ: فَإِنَّ رَبَّكَ وَدَلَّ عَلَى اعْتِنَائِهِ بِهِ تَعَالَى بِتَشْرِيفِ خِطَابِهِ افْتِتَاحًا وَاخْتِتَامًا. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ مناسبة هذه لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَسْتَنِدُ لِلْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى بَعْضِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَشْيَاءَ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ أَشْيَاءَ مِمَّا ذَكَرَهَا فِي الْآيَةِ قَبْلُ فَالتَّحْرِيمُ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ جَمِيعِهَا وَفِي قَوْلِهِ: حَرَّمْنا تَكْذِيبُ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ ذَوَاتُ الظِّلْفِ كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَمَا لَيْسَ بِذِي أَصَابِعَ مُنْفَرِجَةٍ كَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِهِمَا، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً وَضُعِّفَ هَذَا التَّخْصِيصُ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ النَّعَامَةُ وَحِمَارُ الْوَحْشِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَخْصِيصِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الظُّفُرُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ سُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفْرًا اسْتِعَارَةً. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: كُلُّ مَا لَا يَصِيدُ فَهُوَ ذُو ظُفْرٍ وَمَا يَصِيدُ فَهُوَ ذُو مِخْلَبٍ. قَالَ النَّقَّاشُ: هَذَا غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِأَنَّ الْأَسَدَ ذُو ظُفْرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا لَهُ أُصْبُعٌ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ طَائِرٍ، وَكَانَ بَعْضُ ذَوَاتِ الظُّفْرِ حَلَالًا لَهُمْ فَلَمَّا ظَلَمُوا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَعَمَّ التَّحْرِيمُ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: حَمْلُ الظُّفْرِ عَلَى الْحَافِرِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْحَافِرَ لَا يَكَادُ يُسَمَّى ظُفْرًا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَهُ حَافِرٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعَ أَنَّهَا لَهَا حَافِرٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ الظُّفْرِ عَلَى الْمَخَالِبِ وَالْبَرَاثِنِ لِأَنَّ الْمَخَالِبَ آلَاتٌ لِجَوَارِحِ الصَّيْدِ فِي الِاصْطِيَادِ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَالطُّيُورِ الَّتِي تَصْطَادُ وَيَكُونُ هَذَا مُخْتَصًّا بِالْيَهُودِ لِدَلَالَةِ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا عَلَى الْحَصْرِ فَيَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْيَهُودِ وَلَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا رُوِيَ مِنْ تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا يُقْبَلُ وَيُقَوِّي مَذْهَبَ مَالِكٍ انْتَهَى، مُلَخَّصًا وَفِيهِ مُنَوَّعٌ. أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ تَخْصِيصَ ذِي الظُّفُرِ بِمَا قَالَهُ. الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ الَّذِي ادَّعَاهُ. الثَّالِثُ: لَا نُسَلِّمُ الِاخْتِصَاصَ. الرَّابِعُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ وَذِي الْمِخْلَبِ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللَّهِ وَكُلُّ مَنْ فَسَّرَ الظُّفْرَ بِمَا فَسَّرَهُ مِنْ ذَوِي الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ بِذَاهِبٍ إِلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ مَا فَسَّرَهُ وَشَحْمِهُ وَكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَلَيْسَ الْمُحَرَّمُ ذَا الظُّفْرِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا صَادَهُ ذُو الظُّفْرِ أَيْ ذُو الْمِخْلَبِ الَّذِي لَمْ يُعَلَّمْ وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ الحسن وَالْأَعْرَجُ ظُفُرٍ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو السَّمَّالِ قعنب بسكونها وكسر الطاء. وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما أَيْ شُحُومَ الْجِنْسَيْنِ وَيَتَعَلَّقْ مِنَ بِحَرَّمْنَا الْمُتَأَخِّرَةِ وَلَا يَجِبُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْعَامِلِ، فَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ البقر والغنم شحومها لَكَانَ تَرْكِيبًا غَرِيبًا، كَمَا تَقُولُ: مِنْ زَيْدٍ أَخَذْتُ مَالَهُ وَيَجُوزُ أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ مَالَهُ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ التَّخْصِيصِ وَالرَّبْطِ إِذْ لَوْ أَتَى فِي الْكَلَامِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ إِلَّا شُحُومُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَيُحْتَمَلُ أن

_ (1) سورة النساء: 4/ 160.

يَكُونَ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعْطُوفًا عَلَى كُلَّ ذِي ظُفُرٍ فَيَتَعَلَّقُ مِنَ بِحَرَّمْنَا الْأُولَى ثُمَّ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُفَسِّرَةً مَا أَبْهَمَ فِي مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَقَالَ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَقَرِ مُتَعَلِّقًا بِحَرَّمْنَا الثَّانِيَةِ بَلْ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى كُلِّ وحَرَّمْنا عَلَيْهِمْ تَبْيِينٌ لِلْمُحَرَّمِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَكَأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ مَانِعٌ مِنَ التَّعَلُّقِ إِذْ رُتْبَةُ الْمَجْرُورِ بِمِنِ التَّأْخِيرُ، لَكِنْ عَنْ مَاذَا أَمَّا عَنِ الْفِعْلِ فَمُسَلَّمٌ وَأَمَّا عَنِ الْمَفْعُولِ فَغَيْرُ مُسَلِّمٍ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ رُتْبَتَهُ التَّأْخِيرُ عَنِ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا جَازَ ضَرَبَ غُلَامَ الْمَرْأَةِ أَبُوهَا وَغُلَامَ الْمَرْأَةِ ضَرَبَ أَبُوهَا وَإِنْ كَانَتْ رُتْبَةُ الْمَفْعُولِ التَّأْخِيرَ، لَكِنَّهُ وَجَبَ هُنَا تَقْدِيمُهُ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْفَاعِلِ الَّذِي رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ وَالْمَجْرُورُ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ أَعْنِي فِي كَوْنِهِمَا فَضْلَةً فَلَا يُبَالَى فِيهِمَا بِتَقْدِيمِ أَيِّهِمَا شِئْتَ عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا فَقَدَّمَ الظَّرْفَ وُجُوبًا لِعَوْدِ الضَّمِيرِ الَّذِي اتَّصَلَ بِالْفَاعِلِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالظَّرْفِ وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ، فَعَنْ مَالِكٍ مَنْعُ أَكْلِ الشَّحْمِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ، وَأَبَاحَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَمِنْ ذَبْحِهِمْ مَا هُوَ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ إِذَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَا كَانَ مَعْلُومًا تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ كِتَابِنَا فَلَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ إِلَّا مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ انْتَهَى. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «1» أَنَّ الشَّحْمَ الَّذِي هُوَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ وَطَعامُ الَّذِينَ وَحَمْلُ قَوْلِهِ: وَطَعامُ الَّذِينَ عَلَى الذَّبَائِحِ فِيهِ بُعْدٌ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَيْ إِلَّا الشَّحْمَ الَّذِي حَمَلَتْهُ ظُهُورُهُمَا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِمَّا عَلَقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ وَبِالْجَنْبِ مِنْ دَاخِلِ بُطُونِهِمَا. وَقِيلَ: سَمِينُ الظَّهْرِ وَهِيَ الشَّرَائِحُ الَّتِي عَلَى الظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ: الْإِلْيَاتُ مِمَّا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا. أَوِ الْحَوايا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ظُهُورُهُما قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ أَيْ وَالشَّحْمُ الَّذِي حَمَلَتْهُ الْحَوايا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ومجاهد

_ (1) سورة المائدة: 5/ 5.

وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَبَاعِرُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ كُلُّ مَا تَحْوِيهِ الْبَطْنُ فَاجْتَمَعَ وَاسْتَدَارَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: هِيَ بَنَاتُ اللَّبَنِ. وَقِيلَ: الْأَمْعَاءُ وَالْمَصَارِينُ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّحْمُ. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما بِعَظْمٍ هُوَ شَحْمُ الْإِلْيَةِ لِأَنَّهُ عَلَى الْعُصْعُصِ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ، أَوْ شَحْمُ الْجَنْبِ أَوْ كُلُّ شَحْمٍ فِي الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا، أَوْ مُخُّ الْعَظْمِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الشَّحْمِ فَهِيَ حَلَالٌ لَهُمْ. قِيلَ: بِالْمُحَرَّمِ أَذَبَّ شَحْمُ الثَّرْبِ وَالْكُلَى. وَقِيلَ: أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ شُحُومَهُما فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي الْمُحَرَّمِ أَيْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا وَتَكُونُ أَوْ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «1» يُرَادُ بِهَا نَفْيُ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ، كَمَا تَقُولُ: هَؤُلَاءِ أَهْلٌ أَنْ يُعْصَوْا فَاعْصِ هَذَا أَوْ هَذَا فَالْمَعْنَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هَذَا وَهَذَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَوْ بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِمْ: جَالِسِ الْحَسَنَ أو ابن سيرين انتهى. وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَوْ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِلْإِبَاحَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَالِسَهُمَا مَعًا وَأَنْ يُجَالِسَ أَحَدَهُمَا، وَالْأَحْسَنُ فِي الْآيَةِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى شُحُومَهُمَا أَنْ تَكُونَ أَوِ فِيهِ لِلتَّفْصِيلِ فَصَلَ بِهَا ما حرم عليهم من الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ أَوِ الْحَوايا مَعْطُوفٌ عَلَى الشُّحُومِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ الْحَوَايَا فِي التَّحْرِيمِ وَهَذَا قَوْلٌ لَا يُعَضِّدُهُ اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى بَلْ يَدْفَعَانِهِ انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ دَفْعَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى لِهَذَا الْقَوْلِ. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: ذلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إضمار مبتدأ تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ بِ جَزَيْناهُمْ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَيْنَاهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: ذلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ جَزَيْناهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ انْتَصَبَ هَلْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِإِذْ؟ وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ وَالتَّقْدِيرُ جَزَيْنَاهُمُوهُ انْتَهَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِضَعْفِ زِيدٌ ضَرَبْتُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْجَزَاءُ جَزَيْناهُمْ وَهُوَ تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ لَا يَنْتَصِبُ مُشَارًا بِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ إِلَّا وَأُتْبِعَ بِالْمَصْدَرِ فَتَقُولُ: قُمْتُ هَذَا القيام وقعدت ذلك القعود، وَلَا يَجُوزُ قُمْتُ هَذَا ولا قعدت ذلك،

_ (1) سورة النساء: 4/ 160.

فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ انْتِصَابُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ، وَالْبَغْيُ هُنَا الظُّلْمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هُوَ قَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَنَظِيرُهُ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا «1» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ كَانَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَاسْتِعْصَائِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ وَالتَّعْرِيضُ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ لِمَنْ يَرَى اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ. وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيضَ بِكَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا اقْتَدَيْنَا بِإِسْرَائِيلَ فِيمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِدْحَاضَ قَوْلِهِمْ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِي إِتْمَامِ جَزَائِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الَّذِي سَبَقَ الْوَعِيدَ فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ مِنَ الْجَزَاءِ الْمُعَجَّلِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِيمَا أَوْعَدْنَا بِهِ الْعُصَاةَ لَا نُخْلِفُهُ كَمَا لَا نُخْلِفُ مَا وَعَدْنَاهُ أَهْلَ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا عَصَوْا وَبَغَوْا أَلْحَقْنَا بِهِمُ الْوَعِيدَ وَأَحْلَلْنَا بِهِمُ الْعِقَابَ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْيَهُودُ وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِيمَا أَخْبَرْتَ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ قَبْلُ مُتَعَجِّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَمُعَظِّمًا لِافْتِرَائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا قُلْتَ: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلْكُمْ بِالْعُقُوبَةِ مَعَ شِدَّةِ هَذَا الْجُرْمِ كَمَا تَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ. مَا أَحْلَمَ اللَّهَ وَأَنْتَ تُرِيدُ لِإِمْهَالِهِ الْعَاصِيَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ في قوله: أَنْبِئُونِي وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ أَحْكَامِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِالْبَغْيِ وَيُخْلِفُ الْوَعِيدَ جُودًا وَكَرَمًا فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ مَعَ سِعَةِ رَحْمَتِهِ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فَلَا تَغْتَرَّ بِرَجَاءِ رَحْمَتِهِ عَنْ خَوْفِ نِقْمَتِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ والْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وُقُوعِ الظَّاهِرُ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ أَيْ

_ (1) سورة النساء: 4/ 160.

وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْكُمْ وَجَاءَ مَعْمُولُ قُلْ الْأَوَّلُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْإِخْبَارِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، فَنَاسَبَتِ الْأَبْلَغِيَّةَ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً وَلَمْ تَأْتِ اسْمِيَّةً فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ وَذُو بَأْسٍ لِئَلَّا يَتَعَادَلَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْوَصْفَيْنِ وَبَابُ الرَّحْمَةِ وَاسِعٌ فَلَا تَعَادُلَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِيمَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالتَّوْحِيدِ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ انْتَهَى. وَقِيلَ: ذُو رَحْمَةٍ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا وَقْتَ الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ إِذَا نَزَلَ. سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ هَذَا إِخْبَارٌ بِمُسْتَقْبَلٍ، وَقَدْ وَقَعَ وَفِيهِ إِخْبَارٌ بِمَغِيبٍ مُعْجِزَةٍ لِلرَّسُولِ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَرَدَ حِينَ بَطَلَ احْتِجَاجُهُمْ وَثَبَتَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فَعَدَلُوا إِلَى أَمْرٍ حَقٍّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَوْرَدُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَالْمَقَادِيرِ مُغَالَطَةً وَحِيدَةً عَنِ الْحَقِّ وَإِلْحَادًا لَا اعْتِقَادًا صَحِيحًا وَقَالُوا: ذَلِكَ اعْتِقَادًا صَحِيحًا حِينَ قَارَفُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ اسْتِمْسَاكًا بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ هُوَ الْكَائِنُ كَمَا يَقُولُ الْوَاقِعُ فِي مَعْصِيَةٍ إِذَا بُيِّنَ لَهُ وَجْهُهَا: هَذَا قَدَرُ اللَّهِ لَا مَهْرَبَ وَلَا مَفَرَّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَوْ قَالُوا ذَلِكَ وَهُوَ حَقٌّ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، أَيْ لَوْ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ وَلِحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنُونَ بِكُفْرِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ أَنَّ شِرْكَهُمْ وَشِرْكَ آبَائِهِمْ وَتَحْرِيمَهُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَلَوْلَا مَشِيئَتُهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الْمُجْبَرَةِ بِعَيْنِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَشِيئَةُ بِمَعْنَى الرِّضَا أَوْ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالدُّعَاءِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً انْتَهَى. وَلَا تَعَلُّقَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعَلَّقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَإِنَّمَا ذَمَّهَا لِأَنَّ كُفْرَهُمْ لَيْسَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَلْ هُوَ خَلَقَ لَهُمْ قَالَ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا، وَإِنَّمَا ذَمَّ اللَّهُ ظَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَأَمَّا أَنَّهُ ذَمَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلَا الْمَشِيئَةُ لَمْ نَكْفُرْ فَلَا انتهى. والَّذِينَ أَشْرَكُوا مُشْرِكُو قُرَيْشٍ أَوْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَوْلَانِ، وَلا آباؤُنا مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ وَأَغْنَى الْفَصْلُ بِلَا بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ يَلِي الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ فَصْلٍ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ فَصِيحٌ فِي الْكَلَامِ. وَجَاءَ فِي

سُورَةِ النَّحْلِ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ «1» فَقَالَ: مِنْ دُونِهِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: نَحْنُ فَأَكَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ لَفْظَ الْعِبَادَةِ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ، بَلِ الْمُسْتَنْكَرُ عِبَادَةُ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ فَنَاسَبَ هُنَا ذِكْرُ مِنْ دُونِهِ مَعَ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا لَفْظُ مَا أَشْرَكْنا فَالْإِشْرَاكُ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ شَرِيكٍ فَلَا يَتَرَكَّبُ مَعَ هَذَا الْفِعْلِ لَفْظُ مِنْ دُونِهِ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَا أَشْرَكْنا مَنْ دُونِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا مِنْ دُونِهِ الثَّانِيَةُ فَالْإِشْرَاكُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ وَتَحْلِيلِ أَشْيَاءَ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظِ مِنْ دُونِهِ وَأَمَّا لَفْظُ الْعِبَادَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَشْرَكَ فَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ وَلَمَّا حُذِفَ مِنْ دُونِهِ هُنَا نَاسِبَ أَنْ يُحْذَفَ نَحْنُ لِيَطَّرِدَ التَّرْكِيبُ فِي التَّخْفِيفِ. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، فَمُتَعَلَّقُ التَّكْذِيبِ هُوَ غَيْرُ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا الْآيَةَ أَيْ بِنَحْوِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ تَرْكَ اللَّهِ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِحَالِهِمْ وَحَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا غَايَةٌ لِامْتِدَادِ التَّكْذِيبِ إِلَى وَقْتِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ الْعَذَابُ لَمْ يَبْقَ تَكْذِيبٌ وَجَعَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ التَّكْذِيبَ راجعا إلى قوله لَوْ شاءَ اللَّهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ وَقَالُوا: كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ الشَّوَاذِّ كَذَبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جاؤوا بِالتَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ فِي الْكُتُبِ مَا دَلَّ عَلَى غِنَاهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَشِيئَةِ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتِهَا وَالرُّسُلُ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ، فَمَنْ عَلَّقَ وُجُوهَ الْقَبَائِحِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ كَذَبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ وَهُوَ تَكْذِيبُ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَنَبَذَ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارٌ، أَيْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ تَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُظْهِرُونَهُ لَنَا مَا تَتَّبِعُونَ فِي دَعَاوَاكُمْ إِلَّا الظَّنَّ الْكَاذِبَ الْفَاسِدَ، وَمَا أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أَوْ تُقَدِّرُونَ وَتَحْزِرُونَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: إِنْ يَتَّبِعُونَ بِالْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ قراءة شاذة يضعفها قوله وَإِنْ أَنْتُمْ لِأَنَّهُ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بَيْنَ قُلْ وَالْفَاءِ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلِلَّهِ الحجة البالغة عليكم

_ (1) سورة النحل: 16/ 35.

وَعَلَى رَدِّ مَذْهَبِكُمْ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ مِنْكُمْ وَمِنْ مُخَالِفِيكُمْ فَإِنَّ تَعْلِيقَكُمْ دِينَكُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنْ تُعَلِّقُوا دِينَ مَنْ يُخَالِفُكُمْ أَيْضًا بِمَشِيئَتِهِ فَتُوَالُوهُمْ ولا تعادهم وَتُوَقِّرُوهُمْ وَلَا تُخَالِفُوهُمْ، لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ تَجْمَعُ بَيْنَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ وَالَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ شرط محذوف وفَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فِي جَوَابِهِ بعد وَالْأَوْلَى تَقْدِيرُهُ أَنْتُمْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ أَيْ عَلَى إِشْرَاكِكُمْ وَلَا عَلَى تَحْرِيمِكُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ غَيْرَ مُسْتَنِدِينَ إِلَى وَحْيٍ وَلَا عَلَى افْتِرَائِكُمْ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ حَرَّمَ مَا حَرَّمْتُمْ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فِي الِاحْتِجَاجِ الْغَالِبَةِ كُلَّ حُجَّةٍ حَيْثُ خَلَقَ عُقُولًا يُفَكَّرُ بِهَا وَأَسْمَاعًا يُسْمَعُ بِهَا وَأَبْصَارًا يُبَصَرُ بِهَا وَكُلُّ هَذِهِ مَدَارِكٌ لِلتَّوْحِيدِ وَلِاتِّبَاعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو نَصْرِ الْقُشَيْرِيُّ: الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ تبيين للتوحيد وإيذاء الرُّسُلِ بِالْمُعْجِزَاتِ فَأَلْزَمَ أَمْرَهُ كُلَّ مُكَلَّفٍ، فَأَمَّا عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ فَغَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَيَكْفِي فِي التَّكْلِيفِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مَكَّنَهُ، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ فَلَا يَلْتَحِقُ بِمَا يَكُونُ مُحَالًا فِي نَفْسِهِ انْتَهَى، وَفِي آخِرِ كَلَامِهِ نَظَرٌ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ هِدَايَةَ إِلْجَاءٍ وَاضْطِرَارٍ انْتَهَى، وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ إِيمَانَ الْكَافِرِ. قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ بَيَّنَ تَعَالَى كَذِبَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءَهُمْ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ وَقَالَ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ وَلَمَّا انْتَفَى هَذَانِ الْوَجْهَانِ انْتَقَلَ إِلَى وَجْهٍ لَيْسَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَدْعِيَ مِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ لَهُمْ بِتَحْرِيمِ اللَّهِ مَا حرموا، وهَلُمَّ هُنَا عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ وَلِذَلِكَ انْتَصَبَ الْمَفْعُولُ بِهِ بَعْدَهَا أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ وَقَرِّبُوهُمْ وَإِضَافَةُ الشُّهَدَاءِ إِلَيْهِمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ وَهَذَا أَمْرٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ، أَيْ لَا يُوجَدُ مَنْ يَشْهَدُ بِذَلِكَ شَهَادَةَ حَقٍّ لِأَنَّهَا دَعْوَى كَاذِبَةٌ وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أَيْ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ فَلَا تَشْهَدُ مَعَهُمْ أَيْ لَا تُوَافِقْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَبَةٌ فِي شَهَادَتِهِمْ كَمَا أَنَّ الشُّهُودَ لَهُمْ كَذَبَةٌ فِي دَعْوَاهُمْ، وَأَضَافَ الشُّهَدَاءَ إِلَيْهِمْ أَيِ الَّذِينَ أَعَدَدْتُمُوهُمْ شُهُودًا لَكُمْ بِمَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلِذَلِكَ وَصَفَ بِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَيْ هُمْ مُؤْمِنُونَ بِالشَّهَادَةِ لَهُمْ وَبِنُصْرَةِ دَعَاوَاهُمُ الْكَاذِبَةِ، وَلَوْ قِيلَ: هَلُمَّ شُهَدَاءَ بِالتَّنْكِيرِ لَفَاتَ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَتْهُ الإضافة والوصف بالموصول إِذَا كَانَ الْمَعْنَى هَلُمَّ أُنَاسًا يَشْهَدُونَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَكَانَ الظَّاهِرُ

طَلَبَ شُهَدَاءَ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ يُنَافِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، قَالَ وَلَا تَجِدُونَ وَلَوْ حَضَرُوا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهَا كَاذِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنِ افْتَرَى أَحَدٌ وَزَوَّرَ شَهَادَةً أَوْ خَبَّرَ عَنْ نُبُوَّةٍ فَتَجَنَّبْ أَنْتَ ذَلِكَ وَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ قُوَّةُ وَصْفِ شَهَادَتِهِمْ بِنِهَايَةِ الزُّورِ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ الْقُشَيْرِيُّ: فَإِنْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَلَا يُصَدَّقُ إِذِ الشَّهَادَةُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَرَهُمْ بِاسْتِحْضَارِهِمْ وَهُمْ شُهَدَاءُ بِالْبَاطِلِ لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ وَيُلْقِمَهُمُ الْحَجَرَ وَيُظْهِرَ لِلْمَشْهُودِ لَهُمْ بِانْقِطَاعِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ لِتَسَاوِي أَقْدَامِ الشَّاهِدِينَ، وَالْمَشْهُودِ لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ وَقَوْلُهُ: فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فَلَا تُسَلِّمْ لَهُمْ مَا شَهِدُوا بِهِ وَلَا تُصَدِّقْهُمْ، لِأَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ لَهُمْ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ مَعَهُمْ مِثْلَ شَهَادَتِهِمْ فَكَانَ وَاحِدًا مِنْهُمُ انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ الظَّاهِرُ فِي الْعَطْفِ أَنَّهُ يَدُلُّ على مغايرة الذوات والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْآخِرَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قِسْمٌ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْجَاعِلُونَ لِرَبِّهِمْ عَدِيلًا وَهُوَ الْمِثْلُ عَدَلُوا بِهِ الْأَصْنَامَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ مِنْ تَغَايُرِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ لأنه قال: لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَعَدَلَ بِهِ غَيْرَهُ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى لَا غَيْرَ، لِأَنَّهُ لَوْ تَبِعَ الدَّلِيلَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مُصَدِّقًا بِالْآيَاتِ مُوَحِّدًا لِلَّهِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ. قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمُوهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَبَاحَهُ تَعَالَى لَهُمْ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْحَيَوَانِ، ذَكَرَ مَا حَرَّمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَشْيَاءَ نَهَاهُمْ عَنْهَا وَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَشْيَاءَ أَمَرَهُمْ بِهَا وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَعالَوْا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى كَلِمَةٍ «1» وَالْخِطَابُ فِي قُلْ لِلرَّسُولِ وَفِي تَعالَوْا قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: لِمَنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكِتَابِيٍّ وَمُشْرِكٍ وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ حُكْمَهُمْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَدْعُوَ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِلَى سَمَاعِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِشَرْعِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 64.

الْإِسْلَامِ الْمَبْعُوثِ بِهِ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، وأَتْلُ أَسْرُدُ وَأَقُصُّ مِنَ التِّلَاوَةِ وَهِيَ إِتْبَاعُ بَعْضِ الْحُرُوفِ بَعْضًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هَذِهِ الْآيَاتُ مُفْتَتَحُ التَّوْرَاةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْمُحْكَمَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا شَرَائِعُ الْخَلْقِ وَلَمْ تُنْسَخْ قَطُّ فِي مِلَّةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا الْعَشْرُ كَلِمَاتٍ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي وَهِيَ مُفَعْوِلَةٌ بِأَتْلُ أَيْ أَقْرَأُ الَّذِي حَرَّمَهُ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ تَحْرِيمَ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِحَرَّمَ أَيْ أَيَّ شَيْءٍ حَرَّمَ رَبُّكُمْ، وَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ أَتْلُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَتْلُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ فَلَا تعلق وعَلَيْكُمْ متعلق بجرم لَا بِأَتْلُ فَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي. وَقَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنْ عَلَّقْتَهُ بِأَتْلُ فَهُوَ جَيِّدٌ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُوفِيِّينَ فَالتَّقْدِيرُ أَتْلُ عَلَيْكُمُ الَّذِي حَرَّمَ ربكم. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الظَّاهِرُ أَنَّ أن تفسيرية ولا نَاهِيَةٌ لِأَنَّ أَتْلُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْقَوْلِ وَمَا بَعْدَ أَنْ جُمْلَةٌ فَاجْتَمَعَ فِي أَنْ شَرْطَا التَّفْسِيرِيَّةِ وَهِيَ أن يتقدمها معنى لقول وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ وَذَلِكَ بِخِلَافِ أَيْ فَإِنَّهَا حَرْفُ تَفْسِيرٍ يَكُونُ قَبْلَهَا مُفْرَدٌ وَجُمْلَةٌ يَكُونُ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ وَغَيْرُهَا، وَبَعْدَهَا مُفْرَدٌ وَجُمْلَةٌ وَجَعْلُهَا تَفْسِيرِيَّةً هُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا جَعَلْتَ أَنْ مُفَسِّرَةً لِفِعْلِ التِّلَاوَةِ وَهُوَ معلق بما حَرَّمَ رَبُّكُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ مُحَرَّمًا كُلُّهُ كَالشِّرْكِ وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّهْيِ فَمَا يُصْنَعُ بِالْأَوَامِرِ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ مَعَ النَّوَاهِي وَتَقَدَّمَهُنَّ جَمِيعًا فِعْلُ التَّحْرِيمِ وَاشْتَرَكْنَ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ، عُلِمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ رَاجِعٌ إِلَى أَضْدَادِهَا وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبِخَسِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَتَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ وَنَكْثِ عَهْدِ اللَّهِ انْتَهَى. وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ اشْتَرَكَتْ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَكَوْنُ التَّحْرِيمِ رَاجِعًا إِلَى أَضْدَادِ الْأَوَامِرِ بِعِيدٌ جِدًّا وَأَلْغَازٌ فِي الْمَعَانِي وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا عَطْفُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَنَاهِي قَبْلَهَا فَيَلْزَمُ انْسِحَابُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهَا حَيْثُ كَانَتْ فِي حَيِّزِ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ بَلْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِأَمْرٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ مُنَاهُ ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِأَوَامِرَ وَهَذَا مَعْنًى وَاضِحٌ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَوَامِرُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَنَاهِي وَدَاخِلَةً تَحْتَ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ تَكُونُ أَنْ مُفَسِّرَةً لَهُ وَلِلْمَنْطُوقِ قَبْلَهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُهُ وَالتَّقْدِيرُ وَمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فَحَذَفَ وَمَا أَمَرَكُمْ بِهِ لِدَلَالَةِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَعْنَى مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ مَا نَهَاكُمْ

رَبُّكُمْ عَنْهُ فَالْمَعْنَى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ هَكَذَا صَحَّ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً لِفِعْلِ النَّهْيِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ وَفِعْلِ الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: أَمَرْتُكَ أَنْ لَا تُكْرِمَ جَاهِلًا وَأَكْرِمْ عَالِمًا إِذْ يَجُوزُ عَطْفُ الْأَمْرِ عَلَى النَّهْيِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْأَمْرِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بِخِلَافِ الْجُمَلِ الْمُتَبَايِنَةِ بِالْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْإِنْشَاءِ فَإِنَّ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ فِيهَا خِلَافًا وَقَدْ جَوَّزُوا فِي أَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً لَا تَفْسِيرِيَّةَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. فَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ دَلَّ عليه المعنى أو التقدير المتلو أَلَّا تُشْرِكُوا. وَأَمَّا النَّصْبُ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاءِ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ أَيِ الْتَزِمُوا انْتِفَاءَ الْإِشْرَاكِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِتَفْكِيكِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ أَمْرٌ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ وَمُنَاهُ هِيَ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ تَبْيِينًا لِمَا حَرَّمَ، أَمَّا الْأَوَامِرُ فَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَأَمَّا الْمَنَاهِي فَمِنْ حَيْثُ الْعَطْفِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أُوصِيكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مَحْمُولٌ عَلَى أوصيكم بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ لَا فِيهَا بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا مِنَ النَّفْيِ وَهُوَ مُرَادٌ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا حَرَّمَ أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ مِنْ مَا حَرَّمَ إِذْ تَقْدِيرُهُ مَا حَرَّمَهُ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَا فِيهِمَا زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «1» وَهَذَا ضَعِيفٌ لِانْحِصَارِ عُمُومِ الْمُحَرَّمِ فِي الْإِشْرَاكِ إِذْ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَمْرِ لَيْسَ دَاخِلًا مِنَ الْمُحَرَّمِ وَلَا بَعْدَ الْأَمْرِ مِمَّا فِيهِ لَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ زِيَادَةٍ لَا فِيهِ لِظُهُورِ أَنْ لَا فِيهَا لِلنَّهْيِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) هَلَّا قُلْتَ هِيَ الَّتِي تَنْصِبُ الْفِعْلَ وَجَعَلْتَ أَلَّا تُشْرِكُوا بَدَلًا مِنْ مَا حَرَّمَ (قُلْتُ) : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَا تُشْرِكُوا وَلَا تَقْرَبُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ نَوَاهِيَ لِانْعِطَافِ الْأَوَامِرِ عَلَيْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَأَوْفُوا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفَوْا انتهى. ولا يتعين

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 12.

أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأَوَامِرِ مَعْطُوفَةً عَلَى جَمِيعِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّا بَيَّنَّا جَوَازَ عَطْفِ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عَلَى تَعالَوْا وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً معطوفا على أَلَّا تُشْرِكُوا وأَلَّا تُشْرِكُوا شَامِلٌ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ الْأَصْنَامَ كَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ الْجِنَّ وَمَنْ أَشْرَكَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ ادِّعَاءَ شَرِيكٍ لِلَّهِ. وَقِيلَ: طَاعَةَ غَيْرِ اللَّهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ مِنْ هُنَا سَبَبِيَّةٌ أَيْ مِنْ فَقْرٍ لِقَوْلِهِ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «1» وَقَتْلُ الْوَلَدِ حَرَامٌ إِلَّا بِحَقِّهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا السَّبَبُ لِأَنَّهُ كَانَ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الْوَلَدِ عِنْدَهُمْ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الرَّازِقُ لَهُمْ وَلِأَوْلَادِهِمْ وَإِذَا كَانَ هُوَ الرَّازِقَ فَكَمَا لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ كَذَلِكَ لَا تَقْتُلْ وَلَدَكَ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ نَهَى عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْأَوْلَادِ وَنَبِّهَ عَلَى أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ لِلْأَوْلَادِ هُوَ إِعْدَامُ حَيَاتِهِمْ بِالْقَتْلِ خَوْفَ الْفَقْرِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فَذَكَرَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» ثُمَّ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» وَقَالَ: «وَأَنَّ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» وَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مُنْتَزَعًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَجَاءَ التَّرْكِيبُ هُنَا نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَفِي الْإِسْرَاءِ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ «2» فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مِنْ إِمْلاقٍ فَظَاهِرُهُ حُصُولُ الْإِمْلَاقِ لِلْوَالِدِ لَا تَوَقُّعُهُ، وَخَشْيَتُهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَالِ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ خِطَابًا لِلْآبَاءِ وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِزَوَالِ الْإِمْلَاقِ وَإِحَالَةِ الرِّزْقِ عَلَى الْخَلَّاقِ الرَّزَّاقِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَادَ. وَأَمَّا فِي الْإِسْرَاءِ فَظَاهِرُ التَّرْكِيبِ أَنَّهُمْ مُوسِرُونَ وَأَنَّ قَتْلَهُمْ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هُوَ لِتَوَقُّعِ حُصُولِ الْإِمْلَاقِ وَالْخَشْيَةِ مِنْهُ فَبُدِئَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ إِخْبَارًا بِتَكَفُّلِهِ تَعَالَى بِرِزْقِهِمْ فَلَسْتُمْ أَنْتُمْ رَازِقِيهِمْ وَعَطَفَ عَلَيْهِمُ الْآبَاءَ وَصَارَتِ الآيتان مفيدتان مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآبَاءَ نُهُوا عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مَعَ وُجُودِ إِمْلَاقِهِمْ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ قَتْلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُوسِرِينَ لِتَوَقُّعِ الْإِمْلَاقِ وَخَشْيَتِهِ وَحَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ الْمَنْقُولُ فيما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ كَالْمَنْقُولِ فِي وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ وَتَقَدَّمَ فَأَغْنَى عن إعادته.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 31. [.....] (2) سورة الإسراء: 17/ 31.

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ هَذَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ الْفَوَاحِشِ إِذِ الْأَجْوَدُ أَنْ لَا يَخُصَّ الْفَوَاحِشَ بِنَوْعٍ مَا، وَإِنَّمَا جَرَّدَ مِنْهَا قَتْلَ النَّفْسِ تَعْظِيمًا لِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَاسْتِهْوَالًا لِوُقُوعِهَا وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ إِلَّا مِنَ الْقَتْلِ لَا مِنْ عُمُومِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلُهُ: الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ حَوَالَةٌ عَلَى سَبْقِ الْعَهْدِ فِي تَحْرِيمِهَا فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِالَّتِي، وَالنَّفْسُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ الْمُؤْمِنَةُ وَالذِّمِّيَّةُ وَالْمُعَاهَدَةُ وبِالْحَقِّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِقَتْلِهَا كَالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَالْمُحَارَبَةِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَشَارَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَفِي لَفْظِ وَصَّاكُمْ مِنَ اللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ وَجَعْلِهِمْ أَوْصِيَاءَ لَهُ تَعَالَى مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْإِحْسَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ فوائد هذا التَّكَالِيفِ وَمَنَافِعَهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْوَصَاةِ الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ الْمُقَرَّرِ. وَقَالَ الْأَعْشَى: أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ ... نَبِيِّ الْإِلَهِ حِينَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ هَذَا نَهْيٌ عَنِ الْقُرْبِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ، وَفِيهِ سَدُ الذَّرِيعَةِ. إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ وَلَمْ يَأْتِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ، بَلْ جَاءَ بِأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مُرَاعَاةً لِمَالِ الْيَتِيمِ وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهِ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ بَلِ الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى وَأَمْوَالُ النَّاسِ مَمْنُوعٌ مِنْ قُرْبَانِهَا، وَنَصَّ عَلَى الْيَتِيمِ لِأَنَّ الطَّمَعَ فِيهِ أَكْثَرُ لِضَعْفِهِ وَقِلَّةِ مُرَاعَاتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زيد بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا مُصْلِحًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَقْتَ الْحَاجَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حِفْظُهُ وَزِيَادَتُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: حِفْظُ رِبْحِهِ بِالتِّجَارَةِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ التِّجَارَةُ فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاظِرِينَ لَهُ مَالٌ يَعِيشُ بِهِ فَالْأَحْسَنُ إذ أَثْمَرَ مَالُ الْيَتِيمِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ نَفَقَةً وَلَا أُجْرَةً وَلَا غَيْرَهَا، وَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاظِرِينَ لَا مَالَ لَهُ وَلَا يَتَّفِقُ لَهُ نَظَرٌ إِلَّا بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْفَقَ مِنْ رِبْحِ نَظَرِهِ. وَقِيلَ: الِانْتِفَاعُ بِدَوَابِّهِ وَاسْتِخْدَامُ جَوَارِيهِ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْأَوْلِيَاءُ بِالْمُخَالَطَةِ ذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ. وَقِيلَ: لَا يَأْكُلُ مِنْهُ إِلَّا قَرْضًا وَهَذَا بِعِيدٌ وَأَيُّ أَحْسَنِيَّةٍ فِي هَذَا. حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ هَذِهِ غَايَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ هَذَا التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ، وَمَعْنَاهُ احْفَظُوا عَلَى الْيَتِيمِ مَالَهُ إِلَى بُلُوغِ أَشُدِّهِ فَادْفَعُوهُ إِلَيْهِ. وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ هُنَا لِلْيَتِيمِ هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ

الشَّعْبِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ الْبُلُوغُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِسْقُهُ وَقَدْ نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ أَقْوَالٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَجِيءَ هُنَا وَكَأَنَّهَا نُقِلَتْ فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ «1» فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا بَيْنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ إِلَى ثَلَاثِينَ وَعَنْهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَعَنِ السُّدِّيِّ ثَلَاثُونَ وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَعَنْ عَائِشَةَ أَرْبَعُونَ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَقْلُهُ وَاجْتِمَاعُ قُوَّتِهِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثَلَاثِينَ وَعَنْ بَعْضِهِمْ سِتُّونَ سَنَةً ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَأَشُدُّ جَمْعُ شِدَّةٍ أَوْ شَدٍّ أَوْ شُدٍّ أَوْ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مُفْرَدٌ لَا جَمْعَ لَهُ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، اخْتَارَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي آخَرِينَ الْأَخِيرَ وَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ لِفِقْدَانِ أَفْعَلَ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَضْعًا وَأَشُدُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّدَّةِ وَهِيَ الْقُوَّةُ وَالْجَلَّادَةُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ مَنْ شَدَّ النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ. قَالَ عَنْتَرَةُ: عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا ... خُضِبَ اللَّبَانُ وَرَأَسُهُ بِالْعِظْلِمِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ. وَقِيلَ: الْقِسْطُ هُنَا أَدْنَى زِيَادَةٍ لِيَخْرُجَ بِهَا عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ لِمَا رُوِيَ «إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا» . لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أَيْ إِلَّا مَا يَسَعُهَا وَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَتْ مُرَاعَاةُ الْحَدِّ مِنَ الْقِسْطِ الَّذِي لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ يَجْرِي فِيهَا الْحَرَجُ ذَكَرَ بُلُوغَ الْوُسْعِ وَأَنَّ مَا وَرَاءَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَالْوَاجِبُ فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُمْكِنُ وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ قَالَ مَعْنَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا نُكَلِّفُ مَا فِيهِ تَلَفُهُ وَإِنْ جَازَ كَقَوْلِهِ: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِرَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ مِنَ التَّحَفُّظِ وَالتَّحَرُّزِ لَا أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِغَايَةِ الْعَدْلِ فِي نَفْسِ الشَّيْءِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ. وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ ذَا قَرَابَةٍ لِلْقَائِلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ، وَيَدْخُلُ فِي ذِي الْقُرْبَى نَفْسُ الْقَائِلِ وَوَالِدَاهُ وَأَقْرَبُوهُ فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «3» أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَعَنَى بِالْقَوْلِ هُنَا مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ مِنْ أَمْرٍ وَحُكْمٍ وَشَهَادَةِ زَجْرٍ وَوَسَاطَةٍ بَيْنَ النَّاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مَنُوطَةً بِالْقَوْلِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْحُكْمِ أَوْ بِالْأَمْرِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ أَقْوَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا على التخصيص.

_ (1) سورة القصص: 28/ 14. (2) سورة النساء: 4/ 66. (3) سورة النساء: 4/ 135.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 إلى 165]

وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ بِمَا عَهِدَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْفُوا وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ بِمَا عَهِدْتُمُ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَهْدُ بَيْنَ الْإِنْسَانَيْنِ وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ أَمَرَ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ بِعَهْدِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَشْمَلُ مَا عَهِدَهُ إِلَى الْخَلْقِ وَأَوْصَاهُمْ بِهِ وَعَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرٍ وَغَيْرِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَلَمَّا كَانَتِ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ وَجَبَ تَعَلُّقُهَا وَتَفَهُّمُهَا فَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالذِّكْرِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِدَالِ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالْأَخَوَانِ تَذَكَّرُونَ حَيْثُ وَقَعَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ حُذِفَتِ التَّاءُ إِذْ أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، وَفِي الْمَحْذُوفِ خِلَافٌ أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ أَوْ تَاءُ تَفَعَّلَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ تَذَكَّرُونَ بِتَشْدِيدِهِ أُدْغِمَ تَاءُ تَفْعَلُ فِي الذال. [سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165] وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ قَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَنَّ هَذَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَاتَّبِعُوهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَخَفَّفَ ابْنُ عَامِرٍ النُّونَ وَشَدَّدَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وإن كقراءة ابن عمر، فَأَمَّا تَخْفِيفُ النُّونِ فَعَلَى أَنَّهُ حُذِفَ اسْمُ إِنَّ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَرَجَتْ قِرَاءَةُ فَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا حُذِفَ مِنْهَا اللَّامُ تَقْدِيرُهُ وَلِأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ كَقَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «1» وَقَدْ صَرَّحَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ لْيَعْبُدُوا «2» . قَالَ الْفَارِسِيَّ: قِيَاسُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي فَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً بِمَنْزِلَتِهَا فِي زَيْدٌ فَقَامَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّوْحِيدَ وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ في أَلَّا تُشْرِكُوا مَصْدَرِيَّةٌ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ هَكَذَا قَرَّرُوا هَذَا الْوَجْهَ فَجَعَلُوهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا حَرَّمَ وَهُوَ أَنْ لَا تُشْرِكُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَيْ أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَ وَأَتْلُ أَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً وَهُوَ تَخْرِيجٌ سَائِغٌ فِي الْكَلَامِ، وَعَلَى هَذَا فَالصِّرَاطُ مُضَافٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِرَاطُهُ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي بِهِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ وبأن

_ (1) سورة الجن: 72/ 18. (2) سورة قريش: 106/ 1- 3.

حُذِفَتِ الْبَاءُ لِطُولِ أَنَّ بِالصِّلَةِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَهِيَ مُرَادَّةٌ وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا عَطْفُ مُظْهَرٍ عَلَى مُضْمَرٍ لِإِرَادَتِهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى وَصَّاكُمْ بِاسْتِقَامَةِ الصِّرَاطِ. وقرأ الأعمش: وهذا صِراطِي وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمَّا فَصَلَ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلُ أَجْمَلَ فِي هَذِهِ إِجْمَالًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ وَجَمِيعُ شَرِيعَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا فِي التَّوْحِيدِ وَأَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتِ الدِّينِ وَإِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْقَبَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّهَا الْمُحْكَمَاتُ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. فَاتَّبِعُوهُ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِهِ كُلِّهِ وَالْمَعْنَى: فَاعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِبَاحَةٍ. وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الضَّلَالَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ وَالشُّبَهَاتُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ. وَقِيلَ: سُبُلُ الْكُفْرِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَمَا يَجْرِي مُجْرَاهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهَا» . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعَنْ جَابِرٍ نَحْوٌ مِنْهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَانْتَصَبَ فَتَفَرَّقَ لِأَجْلِ النَّهْيِ جَوَابًا لَهُ أَيْ فَتَفَرَّقَ فَحَذَفَ التَّاءَ. وَقُرِئَ فَتَفَرَّقَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كَرَّرَ التَّوْصِيَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَلَمَّا كَانَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْجَامِعَ لِلتَّكَالِيفِ وَأَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَى عَنْ بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ خَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّقْوَى الَّتِي هي اتقاد النَّارِ، إِذْ مَنِ اتَّبَعَ صِرَاطَهُ نَجَّاهُ النَّجَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَحَصَلَ عَلَى السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ. قال ابن عطية: ومن حَيْثُ كَانَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الْأُوَلُ لَا يَقَعُ فِيهَا عَاقِلٌ قَدْ نَظَرَ بِعَقْلِهِ جَاءَتِ الْعِبَادَةُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَالْمُحَرَّمَاتُ الْأُخَرُ شَهَوَاتٌ وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَرُكُوبُ الْجَادَّةِ الْكَامِلَةِ تَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْفَضَائِلِ وَتِلْكَ دَرَجَةُ التَّقْوَى. ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ تَقْتَضِي الْمُهْلَةَ فِي الزَّمَانِ هَذَا أَصْلُ وَضْعِهَا ثُمَّ تَأْتِي لِلْمُهْلَةِ فِي الْإِخْبَارِ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَتْلُ تَقْدِيرُهُ أَتْلُ مَا حَرَّمَ ثُمَّ أَتْلُ آتَيْنا. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ عَلَى إِضْمَارِ قل أي ثم قال آتَيْنا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ

ثُمَّ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: رَتَّبَتْ ثُمَّ التِّلَاوَةَ أَيْ تَلَوْنَا عَلَيْكُمْ قِصَّةَ مُحَمَّدٍ ثُمَّ نَتْلُو عَلَيْكُمْ قِصَّةَ مُوسَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَهَّلَتْهَا فِي تَرْتِيبِ الْقَوْلُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ مِمَّا وَصَّيْنَا أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَيَدْعُو إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثُمَّ كُنَّا قَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قَبْلَ إِنْزَالِنَا الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفٌ عَلَى وَصَّاكُمْ بِهِ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ بِثُمَّ وَالْإِيتَاءُ قَبْلَ التَّوْصِيَةِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ؟ (قُلْتُ) : هَذِهِ التَّوْصِيَةُ قَدِيمَةٌ لَمْ تَزَلْ تَوَاصَاهَا كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُحْكَمَاتٌ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ مِنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يَا بَنِي آدَمَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَأَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ الْمُبَارَكَ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ شَطْرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ «1» انْتَهَى. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُذْهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِلْعَطْفِ كَالْوَاوِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُهْلَةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بعض النحاة والْكِتابَ هُنَا التَّوْرَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَانْتَصَبَ تَمَامًا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَتْمَمْنَاهُ تَماماً مَصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ أَوْ عَلَى الْحَالِ إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَكُلٌّ قَدْ قِيلَ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَماماً أَيْ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ نُفَرِّقْ إِنْزَالَهُ كَمَا فَرَّقْنَا إِنْزَالَ الْقُرْآنِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. والَّذِي أَحْسَنَ جِنْسٌ أَيْ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْسِنًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِي أَحْسَنَ مَخْصُوصٌ. فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِبْرَاهِيمُ كَانَتْ نُبُوَّةُ مُوسَى نِعْمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَالْإِحْسَانُ لِلْأَبْنَاءِ إِحْسَانٌ لِلْآبَاءِ. وَقِيلَ: مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَتِمَّةً لِلْكَرَامَةِ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَحْسَنَ الطَّاعَةَ فِي التَّبْلِيغِ وَفِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالَّذِي فِي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَاقِعَةٌ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَكُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ تَماماً عَلَى مَا كَانَ أَحْسَنَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُحْسِنُ كَذَا أَيْ يَعْلَمُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ أَحْسَنَ الشَّيْءَ إِذَا أَجَادَ مَعْرِفَتَهُ أَيْ زِيَادَةً عَلَى عِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ التَّتْمِيمِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى مَا أَحْسَنَ هُوَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالِاضْطِلَاعِ بِأُمُورِ نُبُوَّتِهِ يُرِيدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا تَأْوِيلُ الرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ انْتَهَى. وَالَّذِي فِي هَذَا التَّأْوِيلِ وَاقِعَةُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ. وَقِيلَ: الَّذِي مَصْدَرِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ وَفِي

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 72.

أَحْسَنَ ضَمِيرُ مُوسَى أَيْ تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِ مُوسَى بِطَاعَتِنَا وَقِيَامِهِ بِأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا، وَيَكُونُ فِي عَلَى إِشْعَارٌ بِالْعِلْيَةِ كَمَا تَقُولُ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ عَلَى إِحْسَانِكَ إِلَيَّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَحْسَنَ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَمُتَعَلَّقُ الْإِحْسَانِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ أَوْ إِلَى مُوسَى قَوْلَانِ: وَأَحْسَنُ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فِعْلٌ. وَقَالَ بَعْضُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ اسْمًا وَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَهُوَ مَجْرُورٌ صِفَةٌ لِلَّذِي وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً مِنْ حَيْثُ قَارَبَ الْمَعْرِفَةَ إِذْ لَا يَدْخُلُهُ أَلْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَرْتُ بِالَّذِي خَيْرٌ مِنْكَ، وَلَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِالَّذِي عَالِمٌ انْتَهَى. وَهَذَا سَائِغٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ مَعْمَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَحْسَنَ بِرَفْعِ النُّونِ وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أحسن وأَحْسَنَ خبر صلة كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً «1» أَيْ تَمَامًا عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ دِينٍ وَأَرْضَاهُ أَوْ تَامًّا كَامِلًا عَلَى أَحْسَنِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْكُتُبُ، أَيْ عَلَى الْوَجْهِ وَالطَّرِيقِ الَّذِي هو أحسن وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: أَتَمَّ لَهُ الْكِتَابَ عَلَى أَحْسَنِهِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: الَّذِي هُنَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَأَحْسَنَ صِلَةُ فِعْلٍ مَاضٍ حُذِفَ مِنْهُ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْوَاوُ فَبَقِيَ أَحْسَنَ أَيْ عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا، وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ وَالِاجْتِزَاءُ بِالضَّمَّةِ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ أَنَّ الْأَطِبَّاءَ كَانَ حَوْلِي وقال آخر: إذا شاؤوا أَضَرُّوا مَنْ أَرَادُوا ... وَلَا يَأْلُوهُمُ أَحَدٌ ضِرَارًا وَقَالَ آخَرُ: شَبُّوا عَلَى الْمَجْدِ شابوا وَاكْتَهَلَ يُرِيدُ وَاكْتَهَلُوا فَحَذَفَ الْوَاوَ ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِيرَ لِلْوَقْفِ انْتَهَى. وَهَذَا خَصَّهُ أَصْحَابُنَا بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُحْمَلُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أَيْ لَعَلَّهُمْ بِالْبَعْثِ يُؤْمِنُونَ، فَالْإِيمَانُ بِهِ هُوَ نِهَايَةُ التَّصْدِيقِ إِذْ لَا يَجِبُ بِالْعَقْلِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَبَهُ السَّمْعُ وَانْتِصَابُ تَفْصِيلًا وَمَا بَعْدَهُ كَانْتِصَابِ تَماماً. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وأَنْزَلْناهُ ومُبارَكٌ صفتان لكتاب أَوْ خَبَرَانِ عَنْ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْإِنْزَالِ آكَدَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْبَرَكَةِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 26.

فَقُدِّمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ مَنْ يُنْكِرُ رِسَالَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُنْكِرُ إِنْزَالَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَوْنَهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِمْ هُوَ وَصْفٌ حَاصِلٌ لَهُمْ مِنْهُ مُتَرَاخٍ عَنِ الْإِنْزَالِ فَلِذَلِكَ تَأَخَّرَ الْوَصْفُ بِالْبَرَكَةِ، وَتَقَدَّمَ الْوَصْفُ بِالْإِنْزَالِ وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالِاسْمِ لِمَا يَدُلُّ الْإِسْنَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ مُنَزَّلٌ أَوْ مُنَزَّلٌ مِنَّا وَبِرْكَةُ الْقُرْآنِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفْعِ وَالنَّمَاءِ بِجَمْعِ كَلِمَةِ الْعَرَبِ بِهِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَالْإِعْلَامِ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْأُجُورِ التَّالِيَةِ وَالشِّفَاءِ مِنَ الْأَدْوَاءِ. وَالشَّفَاعَةِ لِقَارِئِهِ وَعَدِّهِ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ وَكَوْنِهِ مَعَ الْمُكْرَمِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَرَكَاتِ الَّتِي لَا تُحْصَى، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَالِانْتِهَاءُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُشْكِلَاتِ، وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى الْعَامَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ وَاتَّقُوا مخالفته لرجاء الله الرَّحْمَةِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: اتَّقُوا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ فِي الْكَلَامِ إِشَارَةٌ وَهُوَ وَصْفُ اللَّهِ التَّوْرَاةَ بِالتَّمَامِ وَالتَّمَامُ يُؤْذِنُ بِالِانْصِرَامِ قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا تَمَّ أَمَرٌ بَدَا نَقْصُهُ ... تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيلَ تَمَّ فَنَسَخَهَا اللَّهُ بِالْقُرْآنِ وَدَيَّنَهَا بِالْإِسْلَامِ وَوَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَالْمُبَارَكُ هُوَ الثَّابِتُ الدَّائِمُ فِي ازْدِيَادٍ وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِبَقَائِهِ وَدَوَامِهِ. أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ فَقَدَّرَهُ الْكُوفِيُّونَ لِئَلَّا تَقُولُوا وَلِأَجْلِ أَنْ لَا تَقُولُوا وَقَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَالْعَامِلُ فِي كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ أَنْزَلْناهُ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ قَبْلُ أَنْزَلْناهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ أَنْزَلْناهُ هَذِهِ الملفوظة بِهَا لِلْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُبارَكٌ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لكتاب أَوْ خَبَرٌ عَنْ هَذَا فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ أَنْزَلْناهُ الْمَلْفُوظُ بِهَا. وَقِيلَ: أَنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ وَاتَّقُوا أَيْ وَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ وَالْكِتَابُ هُنَا جِنْسٌ وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِلَا خِلَافٌ، وَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِإِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ لِئَلَّا يَحْتَجُّوا هُمْ وَكُفَّارُ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أُنْزِلَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا: إِنَّمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا عَلَى غَيْرِنَا وَنَحْنُ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ فَهَذَا كِتَابٌ بِلِسَانِكُمْ مَعَ رَجُلٍ مِنْكُمْ.

وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَنْ يَقُولُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَيَعْنِيَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْمَعْنَى إِنَّمَا ظَهَرَ نُزُولُ الْكِتَابِ عِنْدَ الْخَلْقِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَلَمْ يَكُونُوا وَقْتَ نُزُلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَهُودًا وَلَا نَصَارَى، وَإِنَّمَا حَدَثَ لَهُمَا هَذَانِ الِاسْمَانِ لِمَا حَدَثَ مِنْهُمَا ودِراسَتِهِمْ قِرَاءَتُهُمْ وَدَرْسُهُمْ وَالْمَعْنَى عَنْ مِثْلِ دِراسَتِهِمْ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ جَمْعًا لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَمَا أَعَادَهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» وَإِنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفِّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنْ نَافِيَةً وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا وَالتَّقْدِيرُ وَمَا كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ إِلَّا غَافِلِينَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنْ بِمَعْنَى قَدْ وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ مَقْصُورًا عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هُوَ جَارٍ فِي شَخْصِيَّاتِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَتَقْرِيرُهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كُنَّا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالْأَصْلُ وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ غَافِلِينَ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ ضَمِيرٌ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ وَإِنْ كُنَّا وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَامِلَةٌ فِي مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ حَالَةَ التَّخْفِيفِ كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَامِلَةٌ فِي مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ حَالَةَ التَّخْفِيفِ كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالَّذِي نَصَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ إِذَا لَزِمَتِ اللام في أحد الجزأين بَعْدَهَا أَوْ فِي أَحَدِ مَعْمُولَيِ الْفِعْلِ النَّاسِخِ الَّذِي يَلِيهَا، أَنَّهَا مُهْمِلَةٌ لَا تَعْمَلُ فِي ظَاهِرٍ وَلَا مُضْمَرَ لَا مُثْبَتَ وَلَا مَحْذُوفَ فَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَلَيْسَتْ إِذَا وَلِيَهَا النَّاسِخُ دَاخِلَةٌ فِي الْأَصْلِ عَلَى ضَمِيرِ شأن البتة. وعَنْ دِراسَتِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَغافِلِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ إِلَّا فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ اللَّامُ الَّتِي بِمَعْنَاهَا وَلَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا عَنْهَا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ ابْتِدَاءٍ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُهَا عَلَيْهَا لَمَّا وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي إِنْ زَيْدًا طَعَامَكَ لَآكِلٌ حَيْثُ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهَا إِذَا وَقَعَتْ فِيمَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ وَهُوَ دُخُولُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ انْتِقَالٌ مِنَ الْإِخْبَارِ لِحَصْرِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ بِحُكْمٍ عَلَى تَقْدِيرٍ وَالْكِتَابُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكِتَابُ السَّابِقُ ذِكْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْكِتَابُ الَّذِي تَمَنَّوْا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى أَهْدى مِنْهُمْ أَرْشَدَ وَأَسْرَعَ اهْتِدَاءً لِكَوْنِهِ نَزَلَ عَلَيْنَا بِلِسَانِنَا فَنَحْنُ نَتَفَهَّمُهُ وَنَتَدَبَّرُهُ وندرك ما

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 9.

تَضَمَّنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْدَادِ فِكْرٍ وَلَا تَعَلُّمِ لِسَانٍ بِخِلَافِ الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا فَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَغْفُلُ عَنْ دِرَاسَتِهِ أَوْ أَهْدى مِنْهُمْ لِكَوْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدِ افْتَرَقَتْ فِرَقًا مُتَبَايِنَةً فَلَا نَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ هَذَا قَطْعٌ لِاعْتِذَارِهِمْ بِانْحِصَارِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَبِكَوْنِهِمْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ، وَلَوْ نَزَلَ لَكَانُوا أَهْدَى مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ النَّيِّرَةُ حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِمْ وَأَلْزَمَ الْعَالَمَ أَحْكَامَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَإِنَّ الْهُدَى وَالنُّورَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَةُ الرَّسُولُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ حُجَّةٌ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ. وَقِيلَ: آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي أَظْهَرَهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَقِيلَ: دِينُ اللَّهِ وَالْهُدَى وَالنُّورُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ صِفَاتِ مَا فُسِّرَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ عَلَى مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزمخشري: والمعنى أن صَدَقْتُمْ فِيمَا كُنْتُمْ تَعُدُّونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَحُذِفَ الشَّرْطُ وَهُوَ مِنْ أَحَاسِنِ الْحُذُوفِ انْتَهَى. وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابٌ تَكُونُونَ أَهْدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَدْ جاءَكُمْ وَأَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَطْعُ احْتِجَاجِهِمْ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أَيْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَشَدَّ ظُلْمًا مِنَ الْمُكَذِّبِ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ النَّيِّرِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ والمعرض عنه بعد ما لَاحَتْ لَهُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ وَعَرَفَهُ أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَتَأَخَّرَ الْإِعْرَاضُ لِأَنَّهُ نَاشِئٌ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَظُهُورِهِ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْفَاءِ شَرْطٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ وَآيَاتُ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْقُرْآنُ وَالرَّسُولُ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ، وَصَدَفَ لَازِمٌ بِمَعْنَى أَعْرَضَ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمُتَعَدٍّ أَيْ صَدَفَ عَنْهَا غَيْرَهُ بِمَعْنَى صَدَّهُ وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ حَيْثُ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَجَعَلَ غَيْرَهُ يُعْرِضُ عَنْهَا وَيُكَذِّبُ بِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مِمَّنْ كَذَّبَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ. سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ عَلَّقَ الْجَزَاءَ عَلَى الصُّدُوفِ لِأَنَّهُ هُوَ نَاشِئٌ عن التكذيب، وسُوءَ الْعَذابِ شَدِيدَهُ كَقَوْلِهِ الَّذِينَ

كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ «1» وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ يَصْدِفُونَ بِضَمِّ الدَّالِ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الضَّمِيرُ فِي يَنْظُرُونَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ وَهُمُ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ مَضَى أَكْثَرُ السُّورَةِ فِي جِدَالِهِمْ أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ إِلَى قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَعْذِيبِهَا وَهُوَ وَقْتٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ تَوْبَتُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ يَنْصَرِفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «2» أَيْ رُسُلًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَمَا تَمَنَّوْا، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فِيهِمْ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ بِلَا أَيْنَ وَلَا كَيْفَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَوْ يَأْتِيَ إِهْلَاكُ رَبِّكَ إِيَّاهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ فَإِنَّمَا هُوَ بِحَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرُ رَبِّكَ وَبَطْشُ وَحِسَابُ رَبِّكَ، وَإِلَّا فَالْإِتْيَانُ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «3» فَهَذَا إِتْيَانٌ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ عَلَى الْمَجَازِ وَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَأْتِيَ كُلُّ آيَاتِ رَبِّكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يُرِيدُ آيَاتِ الْقِيَامَةِ وَالْهَلَاكَ الْكُلِّيَّ وبَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَغَيْرِهَا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مَسْرُوقٌ: طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ مَغْرِبِهِمَا. وَقِيلَ: إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ طلوع الشمس من مغربها وَالدَّابَّةُ وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ رَوَاهُ الْقَاسِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: طُلُوعُهَا وَالدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقِيلَ: الْعَشْرُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَخَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنُزُولُ عِيسَى وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تسوق الناس إلى

_ (1) سورة النحل: 16/ 88. (2) سورة الإسراء: 17/ 92. (3) سورة الحشر: 59/ 2.

الْمَحْشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَوَعَّدُوا بِالشَّيْءِ الْعَظِيمِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِيَذْهَبَ الْفِكْرُ فِي ذَلِكَ كُلَّ مَذْهَبٍ لَكِنْ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ عَنْ هَذَا الْبَعْضِ بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِيهِ إِذَا أَتَى، وَتَصْرِيحُ الرَّسُولِ بِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقْتٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ هَذَا الْبَعْضُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَعْضُ غَرْغَرَةَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي وَقْتٍ لَا تَنْفَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «1» وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ تَوْبَةَ الْعَبْدِ تُقْبَلُ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ غَيْرَ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فَيَكُونُ هَذَا عِبَارَةً عَنْ مَا يُقْطَعُ بِوُقُوعِهِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فِيهِ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الَّتِي يَرْتَفِعُ مَعَهَا التَّوْبَةُ. وَثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقْتٌ لَا تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ وَيَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ إِعَادَةُ آيَاتُ رَبِّكَ إِذْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ تِلْكَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُهَا أَيْ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً مَنْطُوقُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا أَتَى هَذَا الْبَعْضُ لَا يَنْفَعُ نَفْساً كَافِرَةً إِيمَانُهَا الَّذِي أَوْقَعَتْهُ إِذْ ذاك ولا يَنْفَعُ نَفْساً سَبَقَ إِيمَانُهَا وَمَا كَسَبَتْ فِيهِ خَيْرًا فَعَلَّقَ نَفْيَ الْإِيمَانِ بِأَحَدِ وَصْفَيْنِ: إِمَّا نَفْيُ سَبْقِ الْإِيمَانِ فَقَطْ وَإِمَّا سَبْقُهُ مَعَ نَفْيِ كَسْبِ الْخَيْرِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْإِيمَانُ السَّابِقُ وَحْدَهُ أَوِ السَّابِقُ وَمَعَهُ الْخَيْرُ وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ قَوِيٌّ فَيُسْتَدَلُّ بِالْآيَةِ لِمَذْهَبِ أهل السنة من أن الْإِيمَانَ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ الْعَمَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: نَفْساً وَقَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عَطْفٌ عَلَى آمَنَتْ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ إِذَا جَاءَتْ وَهِيَ آيَاتٌ مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ ذَهَبَ أَوَانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَهَا فَلَمْ يَنْفَعِ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ نَفْسًا غَيْرَ مُقَدِّمَةٍ إِيمَانَهَا مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْآيَاتِ أَوْ مُقَدِّمَةً إِيمَانَهَا غَيْرَ كَاسِبَةٍ خَيْرًا فِي إِيمَانِهَا، فَلَمْ يُفَرَّقْ كَمَا تَرَى بَيْنَ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ إِذَا آمَنَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي آمَنَتْ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا لِيُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» جَمَعَ بَيْنَ قَرِينَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْفَكَّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى يَفُوزَ صَاحِبُهَا وَيَسْعَدَ وَإِلَّا فَالشَّقَاوَةُ وَالْهَلَاكُ انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الاعتزالي.

_ (1) سورة النساء: 4/ 18. (2) سورة مريم: 19/ 96، وسورة الحج: 22/ 14. [.....]

وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَمْرٍو وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ يَوْمَ تَأْتِي بَعْضُ بِالتَّاءِ مِثْلَ تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ وَابْنُ سِيرِينَ لَا تَنْفَعُ نَفْسًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ذَكَرُوا أَنَّهَا غَلَطٌ مِنْهُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: فِي هَذَا شَيْءٌ دَقِيقٌ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالنَّفْسَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْآخَرِ فَأَنَّثَ الْإِيمَانَ إِذْ هُوَ مَنَّ النَّفْسِ وَبِهَا وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَّهَا مَرَّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ لَا تَنْفَعُ بِالتَّاءِ لِكَوْنِ الْإِيمَانِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ الَّذِي هُوَ بَعْضُهُ لِقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ انْتَهَى. وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بَعْضًا لِلنَّفْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ أَوِ الْعَقِيدَةُ، فَكَانَ مِثْلَ جَاءَتْهُ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ وَنُصِبَ يوم تأتي بِقَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ مَعْمُولِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِلَا عَلَى لَا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ. وَقَرَأَ زُهَيْرٌ الْقَرَوِيُّ يَوْمَ يَأْتِي بِالرَّفْعِ وَالْخَبَرُ لَا يَنْفَعُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ صِفَةً وَجَازَ الْفَصْلُ بِالْفَاعِلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصْفَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ إِذْ قَدِ اشْتَرَكَ الْمَوْصُوفُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْفَاعِلُ فِي الْعَامِلِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ ضَرَبَ هِنْدًا غُلَامُهَا التَّمِيمِيَّةَ وَمَنْ جَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالًا أَبْعَدَ وَمَنْ جَعَلَهَا مُسْتَأْنَفَةً فَهُوَ أَبْعَدُ. قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أَيِ انْتَظَرُوا مَا تَنْتَظِرُونَ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَا يَحُلُّ بِكُمْ وَهُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَمْرٌ بِالْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ عِنْدَهُ بِآيَةِ السَّيْفِ. إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ صِرَاطَهُ مُسْتَقِيمٌ وَنَهَى عَنِ اتِّبَاعِ السُّبُلِ وَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَذَكَرَ مَا يَنْتَظِرُ الْكُفَّارُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِهِمُ، انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ مَنِ اتَّبَعَ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَتْ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِيُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِائْتِلَافِ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَلِئَلَّا يَخْتَلِفُوا كَمَا اخْتَلَفَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي بُعِثَ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِهَا وَالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ أَوْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ أَوِ الْأَهْوَاءِ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَحْوَصِ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَوِ الْيَهُودُ أَوْ هُمْ وَالنَّصَارَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ والضحاك وقتادة، أَيْ فَرَّقُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفَ أَوْ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَوِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَافْتِرَاقُ النَّصَارَى إِلَى مِلْكِيَّةٍ وَيَعْقُوبِيَّةٍ وَنَسْطُورِيَّةٍ

وَتَشَعَّبُوا إِلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتِرَاقُ الْيَهُودِ إِلَى مُوسَوِيَّةٍ وَهَارُونِيَّةٍ وَدَاوُدِيَّةٍ وَسَامِرِيَّةٍ وَتَشَعَّبُوا إِلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَرَّقُوا دِينَهُمْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوهُ إِذْ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَلْزَمَهُ الْعِبَادَ فَهُوَ دِينُ جَمِيعِ النَّاسِ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْأَخَوَانِ فَارَقُوا هُنَا وَفِي الرُّومِ بِأَلِفٍ وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ قِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ تَقُولُ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ. وَقِيلَ: تَرَكُوهُ وَبَايِنُوهُ، وَمَنْ فَرَّقَ دِينَهُ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَقَدْ فَارَقَ دِينَهُ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو صَالِحٍ فَرَّقُوا بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَكانُوا شِيَعاً أَيْ أَحْزَابًا كُلٌّ مِنْهُمْ تَابِعٌ لِشَخْصٍ لَا يَتَعَدَّاهُ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أَيْ لَسْتَ مِنْ تَفْرِيقِ دَيْنِهِمْ أَوْ مِنْ عِقَابِهِمْ أَوْ مِنْ قِتَالِهِمْ، أَوْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُبَايَنَةِ التَّامَّةِ وَالْمُبَاعَدَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: إِذَا حَاوَلَتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ لَا تَشْفَعُ لَهُمْ وَلَا لَهُمْ بِكَ تَعَلُّقٌ وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْكُفَّارِ وَعَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعُصَاةِ وَالْمُتَنَطِّعِينَ فِي الشَّرْعِ إِذْ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَلَمَّا نَفَى كَوْنَهُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ حَصَرَ مَرْجِعَ أَمْرِهِمْ مِنْ هَلَاكٍ أَوِ اسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ وَذَلِكَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ آيَةٌ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهَا بِقِتَالٍ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ فَإِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَكِنَّهَا تَضَمَّنَتْ بِالْمَعْنَى أَمْرًا بِمُوَادَعَةٍ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّسْخُ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي قَدْ تَقَرَّرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ رَوَى الْخُدْرِيُّ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ ضُوعِفَتْ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ وَضُوعِفَ لِلْمُهَاجِرِينَ تِسْعَمِائَةٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: يُحْتَاجُ إِلَى إِسْنَادٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الْمُجَازَاةِ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا مُشْعِرًا بِقِسْمَيْهِ مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ قَسَّمَ الْمُجَازِينَ إِلَى جَاءَ بِحَسَنَةٍ وَجَاءَ بِسَيِّئَةٍ، وَفُسِّرَتِ الْحَسَنَةُ بِالْإِيمَانِ وَعَشْرُ أَمْثَالِهَا تَضْعِيفُ أُجُورِهِ أَيْ ثَوَابُ عَشْرِ أَمْثَالِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَفُسِّرَتِ السَّيِّئَةُ بِالْكُفْرِ وَمِثْلُهَا النَّارُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَغَيْرُهُمْ: الْحَسَنَةُ هُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالسَّيِّئَةُ الْكُفْرُ،

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَدَ مُرَادٌ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لَيْسَ عَلَى التَّحْدِيدِ حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ بَلْ عَلَى التَّعْظِيمِ لِذَلِكَ إِذْ هَذَا الْعَدَدُ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ عَلَى التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ: كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» . وَقَالَ: مَنْ جاءَ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَا خُتِمَ بِهِ وَقُبِضَ عَلَيْهِ دُونَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالْحَسَنَةِ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ انْتَهَى. وَأَنَّثَ عَشْرًا وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى جَمْعٍ مُفْرَدٍ مِثْلٌ وَهُوَ مُذَكَّرٌ رَعْيًا لِلْمَوْصُوفِ الْمَحْذُوفِ، إِذْ مُفْرَدُهُ مُؤَنَّثٌ وَالتَّقْدِيرُ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا وَنَظِيرُهُ فِي التَّذْكِيرِ مَرَرْتُ بِثَلَاثَةِ نَسَّابَاتٍ رَاعَى الْمَوْصُوفَ الْمَحْذُوفَ أَيْ بِثَلَاثَةِ رِجَالٍ نَسَّابَاتٍ. وَقِيلَ: أَنَّثَ عَشْرًا وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى مَا مُفْرَدُهُ مُذَكَّرٌ لِإِضَافَةِ أَمْثَالٍ إِلَى مُؤَنَّثٍ وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَةِ كَقَوْلِهِ: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «2» قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ عَامَّانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَلَيْسَا مَخْصُوصَيْنِ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَيَكُونُ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ مَخْصُوصًا بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَضَى بِمُجَازَاتِهِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَقَضِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَكَوْنُهُ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُزَادُ إِنْ كَانَ مَفْهُومُ الْعَدَدِ قَوِيًّا فِي الدَّلَالَةِ إِذْ تَكُونُ الْعَشْرَ هِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ وَمَا زَادَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبُ وَالْقَزَّازُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَشْرٌ بِالتَّنْوِينِ أَمْثَالُهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِعَشْرٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْمِثْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي النَّوْعِ بَلْ يُكْتَفَى أَنْ يَكُونَ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، إِذِ النَّعِيمُ السَّرْمَدِيُّ وَالْعَذَابُ الْمُؤَبَّدُ لَيْسَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي نَوْعِ مَا كَانَ مَثَلًا لَهُمَا لَكِنَّ النَّعِيمَ مُشْتَرِكٌ مَعَ الْحَسَنَةِ فِي كَوْنِهِمَا حَسَنَتَيْنِ وَالْعَذَابَ مُشْتَرِكٌ مَعَ السَّيِّئَةِ فِي كَوْنِهِمَا يَسُوءَانِ، وَظَاهِرُ مَنْ جَاءَ الْعُمُومُ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقِيلَ: بِمَنْ آمَنَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ. وَقِيلَ: بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ أَدْنَى الْمُضَاعَفَةِ. وَقِيلَ: الْعَشْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَالسَّبْعُونَ عَلَى بَعْضِهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِهِمْ وَلَا يُزَادُ فِي عِقَابِهِمْ. قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْإِعْلَانِ بِالشَّرِيعَةِ وَنَبْذِ مَا سِوَاهَا وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهَا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِرَقِ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ بَلْ هُوَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَسْنَدَ الْهِدَايَةَ إِلَى رَبِّهِ لِيَدُلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ كأنه قيل: هداني

_ (1) سورة الحديد: 57/ 21. (2) سورة يوسف: 12/ 10.

مَعْبُودِي لَا مَعْبُودُكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَمَعْنَى هَدانِي خَلَقَ فِيَّ الْهِدَايَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: دَلَّنِي. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَهَذَا بَاطِلٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَذَلِكَ. دِيناً قِيَماً بِالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ. مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذْكَرَهُمْ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّبِيُّ الَّذِي يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الشَّرَائِعِ وَالدِّيَانَاتِ وَتَزْعُمُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ، فَرَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَانْتَصَبَ دِيناً عَلَى إِضْمَارِ عَرَّفَنِي لِدَلَالَةِ هَدَانِي عَلَيْهِ أَوْ بِإِضْمَارِ هَدَانِي أَوْ بِإِضْمَارِ اتَّبِعُوا وَالْزَمُوا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِهَدَانِي عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: اهْتِدَاءً أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ إِلَى صِرَاطٍ عَلَى الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَدَيْتُ الْقَوْمَ الطَّرِيقَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «1» . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ قِيَمًا وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قَيِّمًا كسيد وملة بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: دِيناً وحَنِيفاً تَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «2» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحَنِيفاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ إِبْرَاهِيمَ. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدِ لِمُنَاسَبَةِ النُّسُكِ. وَقِيلَ: الدُّعَاءُ وَالتَّذَلُّلُ وَالنُّسُكُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْضًا وَعَلَى الْعِبَادَةِ وَعَلَى الذَّبِيحَةِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الذَّبَائِحُ الَّتِي تُذْبَحُ لِلَّهِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «3» وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهَا نَازِلَةٌ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَالْجِدَالُ فِيهَا فِي السُّورَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الدِّينُ وَالْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ وَمَعْنَى وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمَا إِلَّا اللَّهُ أَوْ حَيَاتِي لِطَاعَتِهِ وَمَمَاتِي رُجُوعِي إِلَى جَزَائِهِ أَوْ مَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ لِلَّهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَعْنَى كَوْنِهِمَا لِلَّهِ لِخَلْقِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِنَ أَنَّ مَقْصِدَهُ فِي صَلَاتِهِ وَطَاعَاتِهِ مِنْ ذَبِيحَةٍ وَغَيْرِهَا وَتَصَرُّفِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَحَالِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ عِنْدَ مَمَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ وَطَلَبِهِ رِضَاهُ، وَفِي إِعْلَانِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا يُلْزِمُ الْمُؤْمِنِينَ التَّأَسِّي بِهِ حَتَّى يَلْزَمُوا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ قَصْدَ وَجْهِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ تَصَرُّفُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ. وقرأ الحسن

_ (1) سورة الفتح: 48/ 2. (2) سورة البقرة: 2/ 135. (3) سورة الكوثر: 108/ 2.

وَأَبُو حَيْوَةَ وَنُسُكِي بِإِسْكَانِ السِّينِ وَمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مِنْ سُكُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَحْيايَ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ أُجْرِيَ الْوَصْلُ فِيهِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْفَتْحُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هِيَ شَاذَّةٌ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَشَاذَّةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَوَجْهُهَا أَنَّهُ قَدْ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ الْتَقَتْ حَلَقَتَا الْبِطَانِ وَلِفُلَانٍ بَيْتَا الْمَالِ، وَرَوَى أَبُو خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ وَمَحْيايَ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَالْجَحْدَرِيُّ وَمَحْيَيَّ عَلَى لُغَةِ هُذَيْلٍ كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: سَبَقُوا هَوَيَّ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ سُكُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ نَفْيُ كُلِّ شَرِيكٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ شَرِيكٍ فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا أَتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ أَوْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ أَوْ لَا شَرِيكَ فِيمَا شَاءَ مِنْ أَفْعَالِهِ الْأَوْلَى بِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّخْصِيصِ حَقِيقَةً، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَمْرَيْنِ قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَمَا بَعْدَهَا أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَطْ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُسْلِمِينَ لِلْعَهْدِ وَيَعْنِي بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِأَنَّ إِسْلَامَ كُلِّ نَبِيٍّ سَابِقٌ عَلَى إِسْلَامِ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ مِنْهُ يَأْخُذُونَ شَرِيعَتَهُ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مِنَ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَقِيلَ: أَوَّلُهُمْ فِي الْمَزِيَّةِ وَالرُّتْبَةِ وَالتَّقَدُّمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مُذْ كُنْتُ نَبِيًّا كُنْتُ مُسْلِمًا كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ انْتَهَى. وَفِيهِ إِلْغَاءُ لَفْظِ أَوَّلٍ وَلَا تُلْغَى الْأَسْمَاءُ وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ حَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى دِينِنَا وَاعْبُدْ آلِهَتَنَا وَاتْرُكْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِكُلِّ مَا تُرِيدُ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَوْهُ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَيْفَ يَجْتَمِعُ لِي دَعْوَةُ غَيْرِ اللَّهِ رَبًّا وَغَيْرُهُ مَرْبُوبٌ لَهُ. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أَيْ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ شَيْئًا يَكُونُ عَاقِبَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْهَا. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ لَا تُذْنِبُ نَفْسٌ مُذْنِبَةٌ ذَنْبَ نَفْسٍ أُخْرَى وَالْمَعْنَى لا تؤاخذ بِغَيْرِ وِزْرِهَا فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهُ وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمُ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلِنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ.

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيْ مَرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالتَّنْبِئَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هُوَ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ يُجَازِيكُمْ بِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْجُمَلِ سِيَاقُ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَقِيلَ: بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِي مِنْ قَوْلِ بَعْضِكُمْ هُوَ شَاعِرٌ سَاحِرٌ وَقَوْلِ بَعْضِكُمُ افْتَرَاهُ وَبَعْضِكُمُ اكْتَتَبَهُ وَنَحْوِ هَذَا. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أَذْكَرَهُمْ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبْعَثَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأُمَّتُهُ خَلَفَتْ سَائِرَ الْأُمَمِ وَلَا يَجِيءُ بَعْدَهَا أُمَّةٌ تَخْلُفُهَا إِذْ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» ، وَرُوِيَ «أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ هُوَ بِالشَّرَفِ فِي الْمَرَاتِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ ولِيَبْلُوَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَرَفَعَ فِيمَا آتَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ جَاهًا وَمَالًا وَعِلْمًا وَكَيْفَ تَكُونُونَ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ خُلِّفُوا فِي الْأَرْضِ عَنِ الْجِنِّ أَوْ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: خُلَفَاءُ الْأَرْضِ تَمْلِكُونَهَا وَتَتَصَرَّفُونَ فِيهَا. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُسِيءُ وَالْمُحْسِنُ وَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَخَتَمَ بِهِمَا وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى فَوَاصِلِ الْآيِ قَبْلَهَا هُوَ التَّهْدِيدُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ سَرِيعُ الْعِقَابِ يَعْنِي لِمَنْ كَفَرَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَسُرْعَةُ عِقَابِهِ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَالسُّرْعَةُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَوُصِفَ بِالسُّرْعَةِ لِتَحَقُّقِهِ إِذْ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الرَّحْمَةِ أَرْجَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِدُخُولِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ وَيَكُونُ الْوَصْفَيْنِ بُنِيَا بِنَاءَ مُبَالَغَةٍ وَلَمْ يَأْتِ فِي جِهَةِ الْعِقَابِ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ إِنَّ رَبَّكَ مُعَاقِبٌ وَسَرِيعُ الْعِقَابِ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ.

سورة الأعراف

[الجزء الخامس] سورة الأعراف [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

كَمَ اسْمٌ بَسِيطٌ لَا مُرَكَّبٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ حُذِفَ أَلِفُهَا لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا وَسَكَنَتْ كَمَا قَالُوا لِمَ تَرْكِيبًا لَا يَنْفَكُّ كَمَا رُكِّبَتْ فِي كَأَيِّنٍ مَعَ أَيٍّ وَتَأْتِي اسْتِفْهَامِيَّةً وَخَبَرِيَّةً وَكَثِيرًا مَا جَاءَتِ الْخَبَرِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَأْتِ تَمْيِيزُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَجْرُورًا بِمِنْ وَأَحْكَامُهَا فِي نَوْعَيْهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْقَيْلُولَةُ نَوْمُ نِصْفِ النَّهَارِ وَهِيَ الْقَائِلَةُ قَالَهُ اللَّيْثُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ وَلَمْ يَكُنْ نَوْمٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ: يَقِيلُ قَيْلُولَةً وَقَيْلًا وَقَائِلَةً وَمَقِيلًا اسْتَرَاحَ وَسَطَ النَّهَارِ. الْعَيْشُ الْحَيَاةُ عَاشَ يَعِيشُ عَيْشًا وَمَعَاشًا وَعِيشَةً وَمَعِيشَةً وَمَعِيشًا- قَالَ رُؤْبَةُ: إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ الْمَعِيشِ ... وَجَهْدَ أَيَّامٍ نَتَفْنَ رِيشِي

غَوَى يَغْوِي غَيًّا وَغَوَايَةً فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَفَسَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَمِنْهُ غَوَى الْفَصِيلُ أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ لَبَنِ أُمِّهِ حَتَّى فَسَدَ جَوْفُهُ وَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْهَلَاكُ وَمِنْهُ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. «1» الشَّمَائِلُ جَمْعُ شِمَالٍ وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَشْمُلٍ قَالَ الشَّاعِرُ: يَأْتِي لَهَا مِنْ أَيْمُنٍ وَأَشْمُلِ وَشِمَالٌ يُطْلَقُ عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى وَعَلَى نَاحِيَتِهَا، وَالشَّمَائِلُ أَيْضًا جَمْعُ شَمَالٍ وَهِيَ الرِّيحُ وَالشَّمَائِلُ أَيْضًا الْأَخْلَاقُ يُقَالُ هُوَ حَسَنُ الشَّمَائِلِ. ذَأَمَهُ عَابَهُ يَذْأَمُهُ ذَأْمًا بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا قَالَ الشَّاعِرُ: صَحِبْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَعْتُ نَفْسِي أَذِيمُهَا وَفِي المثل لن يعدم الْحَسْنَاءُ ذَأْمًا. وَقِيلَ: أَرَدْتَ أن تديمه فَمَدَحْتَهُ، وَقَالَ اللَّيْثُ ذَأَمْتَهُ حَقَّرْتَهُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ذَأَمَهُ وَذَمَّهُ، دَحَرَهُ أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ دُحُورًا قَالَ الشَّاعِرُ: دَحَرْتُ بَنِي الْحَصِيبِ إِلَى قُدَيْدٍ ... وَقَدْ كَانُوا ذَوِي أَشَرٍ وَفَخْرِ وَسْوَسَ تَكَلَّمَ كَلَامًا خَفِيًّا يُكَرِّرِهُ وَالْوَسْوَاسُ صَوْتُ الْحُلِيِّ شُبِّهَ الْهَمْسُ بِهِ وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَنْصُوبٍ نَحْوُ وَلْوَلَتْ وَوَعْوَعَ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: رَجُلٌ مُوَسْوِسٌ، بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَلَا يُقَالُ: مُوَسْوَسٌ بِفَتْحِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ مُوَسْوَسٌ لَهُ وَمُوَسْوَسٌ إِلَيْهِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ صَيَّادًا: وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ ... لَمَّا دَنَا الصَّيْدُ دَنَا مِنَ الْوَهَقْ يَقُولُ لَمَّا أَحَسَّ بِالصَّيْدِ وَأَرَادَ رَمْيَهُ وَسَوَسَ في نفسه أيخطىء أَمْ يُصِيبُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَسْوَسَ وَوَرْوَرَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، نَصَحَ بَذَلَ الْمَجْهُودَ فِي تَبْيِينِ الْخَيْرِ وَهُوَ ضِدُّ غَشَّ وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ نَصَحْتُ زَيْدًا وَنَصَحْتُ لِزَيْدٍ وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ وَلِآخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَأَصْلُهُ نَصَحْتُ لِزَيْدٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ نَصَحْتُ لِزَيْدٍ الثَّوْبَ بِمَعْنَى خِطْتُهُ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. ذَاقَ الشَّيْءَ يَذُوقُهُ ذَوْقًا مَسَّهُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِفَمِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَكْلِ. طَفِقَ، بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا، وَيُقَالُ: طَبَّقَ بِالْبَاءِ وَهِيَ بِمَعْنَى أَخَذَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ. خصف العل وَضَعَ جِلْدًا عَلَى جِلْدٍ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِسَيْرٍ وَالْخَصْفُ الْخَرْزُ. الرِّيشُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ لِلطَّائِرِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي تَفْسِيرِ الْمُرَكَّبَاتِ وَاشْتَقُّوا مِنْهُ قَالُوا راشه يريشه، وقيل

_ (1) سورة مريم: 19/ 59.

الرَّيْشُ مَصْدَرُ رَاشَ. النَّزْعُ الْإِزَالَةُ وَالْجَذْبُ بِقُوَّةٍ. المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ إِلَّا قَوْلُهُ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مَدَنِيٌّ وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ نَتَقْنَا وَاعْتِلَاقُ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ «1» وَاسْتَطْرَدَ مِنْهُ لِمَا بَعْدَهُ وَإِلَى قَوْلِهِ آخِرَ السُّورَةِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «2» وَذَكَرَ ابْتِلَاءَهُمْ فِيمَا آتَاهُمْ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ ذَكَرَ مَا يَكُونُ بِهِ التَّكَالِيفُ وَهُوَ الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ وَذِكْرُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ كَمَا أَمَرَ فِي قَوْلِهِ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَوَائِلَ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ وَذَكَرَ مَا حَدَسَهُ النَّاسُ فِيهَا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ تَفْسِيرِهِمْ يُعَيِّنُ مَا قَالُوا وَزَادُوا هُنَا لِأَجْلِ الصَّادِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَفْصِلُ رَوَاهُ أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْمُصَوِّرُ قَالَهُ السُّدِّيُّ: أَوِ اللَّهُ الْمَلِكُ النَّصِيرُ قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَوْ أَنَا اللَّهُ الْمَصِيرُ إِلَيَّ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَوِ الْمَصِيرُ كِتَابٌ فَحَذَفَ الْيَاءَ وَالرَّاءَ تَرْخِيمًا وَعَبَّرَ عَنِ المصير بالمص قَالَهُ التِّبْرِيزِيُّ. وَقِيلَ عَنْهُ: أَنَا اللَّهُ الصَّادِقُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «3» قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ قَالَ: وَاكْتَفَى بِبَعْضِ الْكَلَامِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ لَوْلَا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ شَحَنُوا بِهَا كُتُبَهُمْ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ لَضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا فَإِنَّ ذِكْرَهَا يَدُلُّ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَصْحَابِ الْأَلْغَازِ وَالرُّمُوزِ. وَنَهْيُهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي صَدْرِهِ حَرَجٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ سَبَبِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِهَا لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكِتَابٍ وَلَا اعْتَقَدَ صِحَّةَ رِسَالَةٍ وَتَكْلِيفَ النَّاسِ أَحْكَامَهَا وَهَذِهِ أُمُورٌ صَعْبَةٌ وَمَعَانِيهَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَأَسْنَدَ النَّهْيَ إِلَى الْحَرَجِ وَمَعْنَاهُ نَهْيُ الْمُخَاطَبِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَجِ، وَكَانَ أَبْلَغَ مِنْ نَهْيِ الْمُخَاطَبِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنَّ الْحَرَجَ لَوْ كَانَ مِمَّا يُنْهَى لَنَهَيْنَاهُ عَنْكَ فَانْتَهِ أَنْتَ عَنْهُ بِعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ وَلِأَنَّ فِيهِ تَنْزِيهَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَنْهَاهُ فيأتي التركيب فلا تخرج مِنْهُ لِأَنَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يُنَاسِبُ أَنْ يُسَرَّ بِهِ وَيَنْشَرِحَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ وَتَشْرِيفِهِ حَيْثُ أَهَّلَهُ لِإِنْزَالِ كِتَابِهِ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ سَفِيرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَلِهَذِهِ الْفَوَائِدِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يَنْهَاهُ وَنَهَى الْحَرَجَ وَفُسِّرَ الْحَرَجُ هُنَا بِالشَّكِّ وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَلِقٌ وَسُمِّيَ الشَّكُّ حَرَجًا لِأَنَّ الشَّاكَّ ضَيِّقُ الصَّدْرِ كَمَا أَنَّ الْمُتَيَقِّنَ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 155. (2) سورة الأنعام: 6/ 165. (3) سورة الشرح: 94/ 1.

ابْنِ عَبَّاسٍ فَيَكُونُ مِمَّا تَوَجَّهَ فِيهِ الْخِطَابُ إِلَيْهِ لَفْظًا وَهُوَ لِأُمَّتِهِ مَعْنًى أَيْ فَلَا يَشُكُّوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَرَجُ هُنَا الضِّيقُ أَيْ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ مِنْ تَبْلِيغِ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا تَقُومَ بِحَقِّهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِأَنْ يُكَذِّبُوكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «1» وَقِيلَ: الْحَرَجُ هُنَا الْخَوْفُ أَيْ لَا تَخَفْ منهم وإن كذبوك وتمالؤوا عَلَيْكَ قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَقِيلَ عَلَى التَّبْلِيغِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْمَعْنَى. وَقِيلَ عَلَى التَّكْذِيبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَقِيلَ عَلَى الْإِنْذَارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّخْصِيصُ كُلُّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إِذِ اللَّفْظُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْجِهَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ سَبَبِ الْكِتَابِ وَلِأَجْلِهِ وَذَلِكَ يَسْتَغْرِقُ التَّبْلِيغَ وَالْإِنْذَارَ وَتَعَرُّضَ الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ وَغَيْرَ ذلك وفَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَلِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقٌ بِأُنْزِلَ انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ أُنْزِلَ وَقَالَهُ قَبْلَهُمُ الْفَرَّاءُ وَلَزِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ كَيْ تُنْذِرَ بِهِ فَجَعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ فِي صَدْرِكَ وَكَذَا عَلَّقَهُ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ (قُلْتُ) : بِأُنْزِلَ أَيْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِإِنْذَارِكَ بِهِ أَوْ بِالنَّهْيِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُخِفْهُمْ أَنْذَرَهُمْ وَلِذَلِكَ إِذَا أَيْقَنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ شَجَّعَهُ الْيَقِينُ عَلَى الْإِنْذَارِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَقِينِ جَسُورٌ مُتَوَكِّلٌ عَلَى عِصْمَتِهِ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ أَوْ بِالنَّهْيِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالنَّهْيِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَلَا يكن وكان عِنْدَهُمْ فِي تَعْلِيقِ الْمَجْرُورِ وَالْعَمَلِ فِي الظَّرْفِ فِيهِ خِلَافٌ وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ تَدُلُّ كَانَ النَّاقِصَةُ عَلَى الْحَدَثِ أَمْ لَا فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ جَوَّزَ فِيهَا ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ، وَأَعْرَبَ الْفَرَّاءُ وغيره المص مبتدأ وكِتابٌ خَبَرَهُ وَأَعْرَبَ أَيْضًا كِتابٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هذا كتاب وذِكْرى هُوَ مَصْدَرُ ذَكَرَ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَطْفٌ عَلَى كِتَابٍ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَهُوَ ذِكْرَى، وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مَعْطُوفٍ عَلَى لِتُنْذِرَ أَيْ وَتَذْكُرَ ذِكْرَى أَوْ عَلَى مَوْضِعِ لِتُنْذِرَ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَعْنَى كَمَا عُطِفَتِ الْحَالُ عَلَى مَوْضِعِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا وَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ وَكَمَا تَقُولُ جِئْتُكَ لِلْإِحْسَانِ وَشَوْقًا

_ (1) سورة الكهف: 18/ 6.

إِلَيْكَ، وَالْجَرُّ عَلَى مَوْضِعِ النَّاصِبَةِ لِتُنْذِرَ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا وَمِنَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ التَّقْدِيرُ لِإِنْذَارِكَ بِهِ وَذِكْرَى. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ مِنْ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ وَتَعَاوُرُ النَّصْبِ وَالْجَرِّ هُوَ عَلَى مَعْنًى وَتَذْكِيرٌ مَصْدَرُ ذَكَّرَ الْمُشَدَّدِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: النُّفُوسُ قِسْمَانِ جَاهِلَةٌ غَرِيقَةٌ فِي طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَشَرِيفَةٌ مُشْرِقَةٌ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، مُسْتَشْعِرَةٌ بِالْحَوَادِثِ الرُّوحَانِيَّةِ فَبُعِثَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ فِي حَقِّ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّخْوِيفِ لَمَّا غَرِقُوا فِي بَحْرِ الْغَفْلَةِ وَرَقْدَةِ الْجَاهِلِيَّةِ احْتَاجُوا إِلَى مُوقِظٍ وَمُنَبِّهٍ، وَفِي حَقِّ الْقِسْمِ الثَّانِي لِتَذْكِيرٍ وَتَنْبِيهٍ لِأَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ بِمُقْتَضَى جَوَاهِرِهَا الْأَصْلِيَّةِ مُسْتَشْعِرَةً بِالِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ وَالِاتِّصَالِ بِالْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا غَشِيَهَا مِنْ غَوَاشِي عَالَمِ الْحِسِّ فَيَعْرِضُ نَوْعُ ذُهُولٍ فَإِذَا سَمِعَتْ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَاتَّصَلَ بِهَا أَرْوَاحُ رُسُلِ اللَّهِ تَذَكَّرَتْ مَرْكَزَهَا وَأَبْصَرَتْ مَنْشَأَهَا وَاشْتَاقَتْ إِلَى مَا حَصَلَ هُنَاكَ مِنَ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ وَالرَّيْحَانِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى رَسُولِهِ لِيَكُونَ إِنْذَارًا فِي حَقِّ طَائِفَةٍ، وَذِكْرَى فِي حَقِّ أُخْرَى وَهُوَ كَلَامٌ فَلْسَفِيٌّ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ الْمُتَشَرِّعِينَ وَهَكَذَا كَلَامُ هَذَا الرَّجُلِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ. اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ أَمَرَ الْأُمَّةَ بِاتِّبَاعِهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يَشْمَلُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لِقَوْلِهِ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» وَنَهَاهُمْ عَنِ ابْتِغَاءِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَالْأَصْنَامِ وَالرُّهْبَانِ وَالْكُهَّانِ وَالْأَحْبَارِ وَالنَّارِ وَالْكَوَاكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْ دُونِهِ عَائِدٌ عَلَى رَبِّكُمْ. وَقِيلَ عَلَى مَا وَقِيلَ عَلَى الْكِتَابِ وَالْمَعْنَى لَا تَعْدِلُوا عَنْهُ إِلَى الْكُتُبِ الْمَنْسُوخَةِ. وَقِيلَ أَرَادَ بِالْأَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينَ شَيَاطِينَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَيُضِلُّونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: ابْتَغُوا مِنَ الِابْتِغَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ. وَلَا تَبْتَغُوا مِنَ الِابْتِغَاءِ أَيْضًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ هُوَ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَحَكَاهُ: التَّقْدِيرُ قُلِ اتَّبِعُوا فَحَذَفَ الْقَوْلَ لِدَلَالَةِ الْإِنْذَارِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لمصدر محذوف وما زَائِدَةٌ أَيْ يَتَذَكَّرُونَ تَذَكُّرًا قَلِيلًا أَيْ حَيْثُ يَتْرُكُونَ دِينَ اللَّهِ وَيَتَّبِعُونَ غَيْرَهُ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ محذوف

_ (1) سورة النجم: 53/ 4.

وَالنَّاصِبُ لَهُ وَلَا تَتَّبِعُوا أَيِ اتِّبَاعًا قَلِيلًا. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْفَارِسِيِّ: إِنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِالْفِعْلِ وَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ انْتَهَى. وَتَمَّمَ غَيْرُهُ هَذَا الْإِعْرَابَ بِأَنْ نَصَبَ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا نُذَكِّرُكُمْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ الذِّكْرَ إِنَّمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِي زمان قليل وما يذكرون فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالظَّرْفُ قَبِلَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَا نَافِيَةٌ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالْأَخْوَانِ تَذَكَّرُونَ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ يَتَذَكَّرُونَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ بِتَاءَيْنِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِيَاءٍ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ. وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ كَمْ هُنَا خَبَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا وَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي أَهْلَكْنَاهَا عَلَى مَعْنَى كَمْ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَأَهْلَكْنَاهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَأَجَازُوا أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ أَهْلَكْنَاهَا تَقْدِيرُهُ وَكَمْ مِنْ قرية أهلكنا أَهْلَكْنَاهَا وَلَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مُضَافٍ لِقَوْلِهِ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ عِنْدَ قَوْلِهِ فَجاءَها أَيْ فَجَاءَ أَهْلَهَا لِمَجِيءِ الْحَالِ مِنْ أَهْلِهَا بِدَلِيلِ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إِهْلَاكُ الْقُرَى بِالْخَسْفِ وَالْهَدْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى حَذْفِ الْمُضَافِ قَبْلَ قَوْلِهِ فَجاءَها. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَكَمْ من قرية أهلكناهم فجاءهم فَيُقَدَّرُ الْمُضَافُ وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ صِفَةً لِلْقَرْيَةِ مَحْذُوفَةً أَيْ مِنْ قَرْيَةٍ عَاصِيَةٍ وَيَعْقُبُ مَجِيءَ الْبَأْسِ وُقُوعُ الْإِهْلَاكِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَجَوُّزٍ إِمَّا فِي الْفِعْلِ بِأَنْ يُرَادَ بِهِ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا أَوْ حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا فَجاءَها بَأْسُنا وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الْمَدْلُولَانِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَهْلَكْنَاهَا بِالْخِذْلَانِ وَقِلَّةِ التَّوْفِيقِ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ فِي الْفَاءِ بِأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ تَكُونُ لِتَرْتِيبِ الْقَوْلِ فَقَطْ فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ قُرًى كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَهْلَكَهَا ثُمَّ قَالَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَجِيءُ الْبَأْسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْإِهْلَاكَ هُوَ مَجِيءُ الْبَأْسِ وَمَجِيءُ الْبَأْسِ هُوَ الْإِهْلَاكُ فَلَمَّا تَلَازَمَا لَمْ يُبَالِ أَيَّهُمَا قَدَّمَ فِي الرُّتْبَةِ، كَمَا تَقُولُ شَتَمَنِي فَأَسَاءَ وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي لِأَنَّ الْإِسَاءَةَ وَالشَّتْمَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: الْفَاءُ لَيْسَتْ لِلتَّعْقِيبِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِ: تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَذَا ثُمَّ كَذَا وَانْتَصَبَ بَيَاتًا عَلَى الْحَالِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْ فَجاءَها بَأْسُنا بَائِتِينَ أَوْ قَائِلِينَ وَأَوْ هُنَا لِلتَّنْوِيعِ أَيْ جَاءَ مَرَّةً لَيْلًا كَقَوْمِ لُوطٍ وَمَرَّةً وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ كَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَهَذَا فِيهِ نَشْرٌ لِمَا لَفَّ فِي قَوْلِهِ فَجاءَها وَخَصَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ بِهَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِأَنَّهُمَا وَقْتَانِ لِلسُّكُونِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ فَمَجِيءُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَقْطَعُ

وَأَشَقُّ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَجِيءُ فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنَ الْمُهْلَكِينَ، فَهُوَ كَالْمَجِيءِ بَغْتَةً وَقَوْلُهُ أَوْ هُمْ قائِلُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَنَصَّ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذْ دَخَلَ عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ وَاوُ الْعَطْفِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ وَاوِ الْحَالِ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ جَاءَ زيد ماشيا أو وَهُوَ رَاكِبٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لَا يُقَالُ جَاءَ زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ بِغَيْرِ وَاوٍ فَمَا بَالُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ (قُلْتُ) : قَدَّرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ الْوَاوَ مَحْذُوفَةً وَرَدَّهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ: لَوْ قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ رَاجِلًا أَوْ هُوَ فَارِسٌ أَوْ جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ لَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى وَاوٍ لِأَنَّ الذِّكْرَ قَدْ عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إِذَا عُطِفَتْ عَلَى حَالٍ قَبْلَهَا حُذِفَتِ الْوَاوُ اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِ حَرْفَيْ عَطْفٍ لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ هِيَ وَاوُ الْعَطْفِ اسْتُعِيرَتْ لِلْوَصْلِ فَقَوْلُكَ جَاءَ زَيْدٌ رَاجِلًا أَوْ هُوَ فَارِسٌ كَلَامٌ فَصِيحٌ وَارِدٌ عَلَى حَدِّهِ وَأَمَّا جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ فَخَبِيثٌ انْتَهَى. فَأَمَّا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ الَّذِي اتَّهَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَهُوَ الْفَرَّاءُ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي التَّمْثِيلَيْنِ لَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى الْوَاوِ لِأَنَّ الذِّكْرَ قَدْ عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ فَفِيهِ إِبْهَامٌ وَتَعْيِينُهُ لَمْ يَجُزْ دُخُولُهَا فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي فَانْتِفَاءُ الِاحْتِيَاجِ لَيْسَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ لِامْتِنَاعِ الدُّخُولِ وَفِي الثَّانِي لِكَثْرَةِ الدُّخُولِ لَا لِامْتِنَاعِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالصَّحِيحُ إِلَى آخِرِهَا فَتَعْلِيلُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ لَيْسَتْ حَرْفَ عَطْفٍ فَيَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِهَا اجْتِمَاعُ حَرْفَيْ عَطْفٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْعَطْفِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ حَالًا حَتَّى يَعْطِفَ حَالًا عَلَى حَالٍ فَمَجِيئُهَا فِي مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ وَاوَ عَطْفٍ وَلَا لُحِظَ فِيهَا مَعْنَى وَاوِ عَطْفٍ تَقُولُ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فَجَاءَ زَيْدٌ لَيْسَ بِحَالٍ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْوَاوُ مُغَايِرَةٌ لِوَاوِ الْعَطْفِ بِكُلِّ حَالٍ وَهِيَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْوَاوِ كَمَا تَأْتِي لِلْقَسَمِ وَلَيْسَتْ فِيهِ لِلْعَطْفِ إِذَا قَلْتَ وَاللَّهِ لَيَخْرُجَنَّ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَخَبِيثٌ فَلَيْسَ بِخَبِيثٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ إِذَا كَانَ فِيهَا ضَمِيرُ ذِي الْحَالِ فَإِنَّ حَذْفَ الْوَاوِ مِنْهَا شَاذٌّ وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْفَرَّاءَ وَلَيْسَ بِشَاذٍّ بَلْ هُوَ كَثِيرٌ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ رَمْلِ بِيرِينَ وَمَهَا فِلَسْطِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثْرَةَ مَجِيءِ ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَعْوَاهُمْ تَضَرُّعُهُمْ إِلَّا إِقْرَارَهُمْ بِالشِّرْكِ. وَقِيلَ دَعْوَاهُمْ دُعَاؤُهُمْ. قَالَ الْخَلِيلُ: يَقُولُ اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دَعْوَى الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ. وَقِيلَ: ادِّعَاؤُهُمْ أَيِ ادَّعُوا مَعَاذِيرَ تُحَسِّنُ حَالَهُمْ وَتُقِيمُ حُجَّتَهُمْ فِي زَعْمِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ

الْمَعْنَى فَمَا آلَتْ دَعَاوِيهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ كُفْرِهِمْ إِلَى اعْتِرَافٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا ... قُتَيْبَةَ إِلَّا عَضَّهَا بِالْأَبَاهِمِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فَمَا كَانَ اسْتِغَاثَتَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ هَذَا لِأَنَّهُ لَا مُسْتَغَاثَ مِنَ اللَّهِ بِغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ دَعْواهُمْ بِالْكَعْبِ قَالُوا ودعواهم اسْمُ كَانَ وَإِلَّا أَنْ قَالُوا الْخَبَرُ وَأَجَازُوا الْعَكْسَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي نُصُوصَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِلَّا هُوَ فَيَكُونُ دَعْواهُمْ الاسم وإِلَّا أَنْ قالُوا الْخَبَرُ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَلَا مَعْنَوِيَّةٌ تُبَيِّنُ الْفَاعِلَ مِنَ الْمَفْعُولِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ وَتَأْخِيرُ الْمَفْعُولِ نَحْوُ: ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى وَكَانَ وَأَخَوَاتُهَا مُشَبَّهَةٌ فِي عَمَلِهَا بِالْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَكَمَا وَجَبَ ذَلِكَ فِيهِ وَجَبَ ذَلِكَ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ كَانَ وَدَعْوَاهُمْ وَإِلَّا أَنْ قَالُوا لَا يَظْهَرُ فِيهِمَا لَفْظٌ يُبَيِّنُ الِاسْمَ مِنَ الْخَبَرِ وَلَا مَعْنَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّابِقُ هُوَ الِاسْمَ وَاللَّاحِقُ الْخَبَرَ. فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أَيْ نَسْأَلُ الْأُمَمَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَعَنْ مَا بَلَّغَهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ لِقَوْلِهِ ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ «1» ، وَيُسْأَلُ الرُّسُلُ عَمَّا أَجَابَ به من أرسلوا إليه كَقَوْلِهِ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ «2» وَسُؤَالُ الْأُمَمِ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ يُعْقِبُ الْكُفَّارَ وَالْعُصَاةَ عَذَابًا وَسُؤَالُ الرُّسُلِ تَأْنِيسٌ يُعْقِبُ الْأَنْبِيَاءَ ثَوَابًا وَكَرَامَةً. وَقَدْ جَاءَ السُّؤَالُ مَنْفِيًّا وَمُثْبَتًا بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ أَوْ بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّاتِ كَسُؤَالِ التَّوْبِيخِ وَالتَّأْنِيسِ وسؤال الاستعلام البحث مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَقِيلَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ الْمَلَائِكَةُ وَهَذَا بَعِيدٌ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ أَيْ نَسْرُدُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ قِصَّةً قِصَّةً بِعِلْمٍ مِنَّا لِذَلِكَ وَاطِّلَاعٍ عَلَيْهِ وَما كُنَّا غائِبِينَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ عِلْمُنَا مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ حَيْثُ يُقِرُّونَ بِالظُّلْمِ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَيَقُصُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ وَهْبٌ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ أَتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا أَتَذْكُرُ حِينَ قُلْتَ كَذَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِ مَا فَعَلَهُ وَقَالَهُ فِي دُنْيَاهُ وَفِي قَوْلِهِ بِعِلْمٍ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ لَا عَلِمَ لِلَّهِ. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ اخْتَلَفُوا هَلْ ثَمَّ وزن وميزان حقيقة

_ (1) سورة القصص: 28/ 65. (2) سورة المائدة: 5/ 109.

أَمْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْعَدْلِ التَّامِّ وَالْقَضَاءِ السَّوِيِّ وَالْحِسَابِ الْمُحَرِّرِ فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى إِنْكَارِ الْمِيزَانِ وَتَقَدَّمَهُمْ إِلَى هَذَا مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُمْ، وَعَبَّرَ بِالثِّقَلِ عَنْ كَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَبِالْخِفَّةِ عَنْ قِلَّتِهَا، وَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ بِالْأَوَّلِ وَأَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ عَمُودٌ وَكِفَّتَانِ وَلِسَانٌ وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْخَلَائِقُ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ وَإِظْهَارًا لِلنَّصَفَةِ وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ كَمَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ فَيَعْتَرِفُونَ بِهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِهَا أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَشْهَادُ، وَأَمَّا الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ فَمِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَوْزُونَ هِيَ الصَّحَائِفُ الَّتِي أُثْبِتَتْ فِيهَا الْأَعْمَالُ، فَيُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا ثِقَلًا وَخِفَّةً وَمَا وَرَدَ فِي هَيْئَتِهِ وَطُولِهِ وَأَحْوَالِهِ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ وَجُمِعَتِ الْمَوَازِينُ بِاعْتِبَارِ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمِيزَانُ وَاحِدٌ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِكُلِّ أَحَدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِيزَانٌ عَلَى حِدَةٍ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْحَسَنَاتِ بِالْمَوَازِينِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَنْ ثَقُلَتْ كِفَّةُ مَوَازِينِهِ أَيْ مَوْزُونَاتِهِ فيكون موازين جميع مَوْزُونٍ لَا جَمْعَ مِيزَانٍ، وَكَذَلِكَ وَمَنْ خَفَّتْ كِفَّةُ حَسَنَاتِهِ والْوَزْنُ. مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ ظَرْفُ الزَّمَانِ وَالتَّقْدِيرُ وَالْوَزْنُ كَائِنٌ يَوْمَ أَنْ نَسْأَلَهُمْ وَنَقُصَّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَوْمُ القيامة والْحَقُّ صفة للوزن وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ ظَرْفًا لِلْوَزْنِ مَعْمُولًا لَهُ والْحَقُّ خَبَرٌ وَيَتَعَلَّقُ بِآياتِنا بِقَوْلِهِ يَظْلِمُونَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى يُكَذِّبُونَ أَوْ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى يَجْحَدُونَ وَجَحَدَ تَعَدَّى بِالْبَاءِ قَالَ: وَجَحَدُوا بِها «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى وَلِلْكُفَّارِ فَتُوزَنُ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ وَلَا يُحَاسَبُونَ لِقَوْلِهِ وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «2» وَإِنَّمَا تُوزَنُ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ طَائِعِهِمْ وَعَاصِيهِمْ. وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ تَقَدَّمَ مَعْنَى مَكَّنَّاكُمْ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ «3» وَالْخِطَابُ رَاجِعٌ لِلَّذِينِ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «4» وَمَا بَيْنَهُمَا أُورِدَ مَوْرِدَ الِاعْتِبَارِ وَالْإِيقَاظِ بِذِكْرِ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وما يؤول إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْمَعَائِشُ جَمْعُ مَعِيشَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهَا مَفْعِلَةً وَمَفْعُلَةً بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا قَالَهُمَا سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعِيشَةٌ بِفَتْحِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ وَالْمَعِيشَةُ مَا يُعَاشُ بِهِ مِنَ المطاعم والمشارب وغير هما مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ. وَقِيلَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ أسباب معايش

_ (1) سورة النمل: 27/ 14. [.....] (2) سورة الفرقان: 25/ 23. (3) سورة الأنعام: 6/ 6. (4) سورة الأعراف: 7/ 3.

كَالزَّرْعِ وَالْحَصْدِ وَالتِّجَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَسَمَّاهَا مَعَايِشَ لِأَنَّهَا وَصْلَةٌ إِلَى مَا يُعَاشُ بِهِ، وَقِيلَ الْمَعَائِشُ وُجُوهُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ إِمَّا يُحْدِثُهُ اللَّهُ ابْتِدَاءً كَالثِّمَارِ أَوْ مَا يُحْدِثُهُ بِطَرِيقِ اكْتِسَابٍ مِنَ الْعَدُوِّ وَكِلَاهُمَا يُوجِبُ الشُّكْرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَعايِشَ بِالْيَاءِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْيَاءَ فِي الْمُفْرَدِ هِيَ أَصْلٌ لَا زَائِدَةٌ فَتُهْمَزُ وَإِنَّمَا تُهْمَزُ الزَّائِدَةُ نَحْوُ: صَحَائِفُ فِي صَحِيفَةٍ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: مَعَائِشَ بِالْهَمْزَةِ وَلَيْسَ بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُمْ رَوَوْهُ وَهُمْ ثِقَاتٌ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَشَذَّ هَذَا الْهَمْزُ، كَمَا شذ في منائر جَمْعِ مَنَارَةٍ وَأَصْلُهَا مَنْوَرَةٌ وَفِي مَصَائِبَ جَمْعِ مُصِيبَةٍ وَأَصْلُهَا مُصْوِبَةٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَنَاوِرَ وَمَصَاوِبَ. وَقَدْ قَالُوا مَصَاوِبَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ مَقَامَةٍ مَقَاوِمَ وَمَعُونَةٍ مَعَاوِنَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ تَزْعُمُ أَنَّ هَمْزَهَا خَطَأٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهَا وَجْهًا إِلَّا التَّشْبِيهَ بِصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: أَصْلُ أَخْذِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ وَكَلَامُ العرب التصحيح فِي نَحْوِ هَذَا انْتَهَى. وَلَسْنَا مُتَعَبِّدِينَ بِأَقْوَالِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رُبَّمَا هَمَزَتِ الْعَرَبُ هَذَا وَشَبَهَهُ يتوهّمون أنها فعلية فَيُشَبِّهُونَ مُفْعِلَةً بِفَعِيلَةٍ انْتَهَى. فَهَذَا نَقْلٌ مِنَ الْفَرَّاءِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يَهْمِزُونَ هَذَا وَشَبَهَهُ وَجَاءَ به نقل الْقِرَاءَةِ الثِّقَاتُ ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ عَرَبِيٌّ صُرَاحٌ وَقَدْ أَخَذَ الْقُرْآنَ عَنْ عُثْمَانَ قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ وَالْأَعْرَجُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ قُرَّاءِ التَّابِعِينَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْعِلْمِ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يُدَانِيَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَالْأَعْمَشُ وَهُوَ مِنَ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَالثِّقَةِ بِمَكَانٍ، وَنَافِعٌ وَهُوَ قَدْ قَرَأَ عَلَى سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُمْ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالضَّبْطِ وَالثِّقَةِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، فَوَجَبَ قَبُولُ مَا نَقَلُوهُ إِلَيْنَا وَلَا مُبَالَاةَ بِمُخَالَفَةِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَأَمَّا قَوْلُ المازني أصل أخذ هذه الْقِرَاءَةِ عَنْ نَافِعٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا نُقِلَتْ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَعَنِ الْأَعْرَجِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ نَافِعًا لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ فَشَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ وَهِيَ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ فَهُوَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِذْ هُوَ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ نَاقِلٌ لِلْقِرَاءَةِ عَنِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ وَكَثِيرٌ من هولاء النُّحَاةِ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِالْقُرَّاءِ ولا يجوز لهم وَإِعْرَابُ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ كَإِعْرَابِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْسِيمِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى طَائِعٍ وَعَاصٍ فَالطَّائِعُ مُمْتَثِلٌ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُجْتَنِبٌ مَا نَهَى عَنْهُ وَالْعَاصِي بِضِدِّهِ أَخَذَ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ كَانَ فِي الْبَدْءِ الْأَوَّلِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ بالسجدة فَامْتَثَلَ مَنِ امْتَثَلَ وَامْتَنَعَ مَنِ امْتَنَعَ، وَأَنَّهُ أَمَرَ تَعَالَى آدَمَ وَنَهَى فَحَكَى عَنْهُ مَا

يَأْتِي خَبَرُهُ فَنَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِبَارِ وَإِبْرَازِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ وَالتَّصْوِيرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْغَرِيبَةِ الشَّكْلِ الْمُتَمَكِّنَةِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّانِعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لجميع بني آدم ويكون عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ قُلْنَا إما أَنْ تَكُونَ فِيهِ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَمْ تُرَتِّبْ وَيَكُونُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ أَوْ تَكُونُ ثُمَّ فِي ثُمَّ قُلْنا لِلتَّرْتِيبِ في الأخبار لا في الزَّمَانِ وَهَذَا أَسْهَلُ مَحْمَلٍ فِي الْآيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الزَّمَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ بَنُوهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخِطَابُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ لِآدَمَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُخَاطِبُ الْعَظِيمَ الْوَاحِدَ بِخِطَابِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ الْخِطَابُ فِي الْأُولَى لِآدَمَ وَفِي الثَّانِيَةِ لِذُرِّيَّتِهِ فَتَحْصُلُ الْمُهْلَةُ بَيْنَهُمَا وثُمَّ الثَّالِثَةُ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، وَرَوَى هَذَا الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: خَلَقْنَاكُمْ لِآدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ لِبَنِيهِ يَعْنِي فِي صُلْبِهِ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ ثُمَّ قُلْنَا فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ وَاقِعًا عَلَى بَابِهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ لِبَنِي آدَمَ، فَقِيلَ: الْخِطَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ فَرَوَى الْحَارِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَلَقْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي الْأَرْحَامِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْهُ خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرَّجُلِ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ، وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ، وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ خَلَقْنَاكُمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَتَرَائِبِ النِّسَاءِ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النُّطَفِ فِي الْأَرْحَامِ، وَقَالَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ حَاكِيًا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ خَلَقْنَاكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ وَصَوَّرْنَاكُمْ فِيهَا بَعْدَ الْخَلْقِ شَقَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ قُلْنا للترتيب في الإخبار، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَرْوَاحَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَا أَجْسَامَكُمْ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ وَيَكُونُ ثُمَّ فِي ثُمَّ قُلْنا لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا فَثُمَّ عَلَى هَذَا لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ وَالْمُهْلَةِ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا، وَقِيلَ هُوَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ يُخَاطِبُ الْعَيْنَ وَيُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ وَالْمُرَادُ آدَمُ كَقَوْلِهِ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ «1» فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «2» وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «3» هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ أَسْلَافُهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا افْتَخَرَتْ يَوْمًا تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا ... وَزَادَتْ عَلَى مَا وَطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ فَأَنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ ... عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرْهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 49. (2) سورة البقرة: 2/ 55. (3) سورة البقرة: 2/ 72.

وَهَذِهِ الْوَقْعَةُ كَانَتْ لِآبَائِهِمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ «1» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَقَوْلُهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ جُمْلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ نَفْيِ سُجُودِ إِبْلِيسَ كَقَوْلِهِ أَبى وَاسْتَكْبَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِلَّا إِبْلِيسَ فِي الْبَقَرَةِ. قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ الظَّاهِرُ أَنَّ لَا زَائِدَةٌ تُفِيدُ التَّوْكِيدَ وَالتَّحْقِيقَ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَيْ لِأَنْ يَعْلَمَ وَكَأَنَّهُ قِيلَ لِيَتَحَقَّقَ عِلْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تُحَقِّقَ السُّجُودَ وَتَلْزَمَهُ نَفْسُكَ إِذْ أَمَرْتُكَ وَيَدُلُّ عَلَى زِيَادَتِهَا قَوْلِهِ تَعَالَى مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ وَسُقُوطُهَا فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَتِهَا فِي أَلَّا تَسْجُدَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَبَّخَهُ وَقَرَّعَهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِمَا مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْبِيخِ كَمَا قُلْنَا وَأَنْشَدُوا عَلَى زِيَادَةِ لَا قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ ... غَابٌ يُقَسِّمُهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُودَ قائله وَأَقُولُ لَا حُجَّةَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ فِيهِ لَا زَائِدَةً لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ وَالتَّقْدِيرُ أَفَعَنْكَ لَا عَنْ غَيْرِكَ وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي فَقَالَ الزَّجَّاجُ لَا مَفْعُولَةٌ وَالْبُخْلُ بَدَلٌ مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء: الرِّوَايَةُ فِيهِ لَا الْبُخْلِ بِخَفْضِ اللَّامِ جَعَلَهَا مُضَافَةً إِلَى الْبُخْلِ لِأَنَّ لَا قَدْ يُنْطَقُ بِهَا وَلَا تَكُونُ لِلْبُخْلِ انْتَهَى. وَقَدْ خَرَّجْتُهُ أَنَا تَخْرِيجًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْبُخْلُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أجله ولا مَفْعُولَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا فِي أَنْ لَا تَسْجُدَ لَيْسَتْ زَائِدَةً وَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ يَصِحُّ مَعَهُ الْمَعْنَى وَهُوَ مَا مَنَعَكَ فَأَحْوَجَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ، وَقِيلَ يَحْمِلُ قَوْلُهُ مَا مَنَعَكَ مَعْنًى يَصِحُّ مَعَهُ النَّفْيُ، فَقِيلَ مَعْنَى مَا مَنَعَكَ مَنْ أَمَرَكَ وَمَنْ قَالَ لَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ إِذْ مَعْنَاهُ مَنَعَنِي فَضْلِي عَلَيْهِ لِشَرَفِ عُنْصُرِي عَلَى عُنْصُرِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي عِنْدَهُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وإذا كان كذلك فالناشىء مِنَ الْأَفْضَلِ لَا يَسْجُدُ للمفضول، قالو: وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ جِسْمٌ مُشْرِقٌ عُلْوِيٌّ لَطِيفٌ خَفِيفٌ حَارٌّ يَابِسٌ مُجَاوِرٌ لِجَوَاهِرِ السّموات

_ (1) سورة البقرة: 2/ 34.

مُلَاصِقٌ لَهَا، وَالطِّينُ مُظْلِمٌ كَثِيفٌ ثَقِيلٌ بَارِدٌ يَابِسٌ بعيد عن مجاورة السموات، وَالنَّارُ قَوِيَّةُ التَّأْثِيرِ وَالْفِعْلِ وَالطِّينُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقَبُولُ وَالِانْفِعَالُ، وَالْفِعْلُ أَشْرَفُ مِنَ الِانْفِعَالِ وَالنَّارُ مُنَاسِبَةٌ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهِيَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ وَالطِّينُ بِبَرْدِهِ وَيُبْسِهِ مُنَاسِبٌ لِلْمَوْتِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمَخْلُوقُ مِنَ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ فَلَا يُؤْمَرُ الْأَفْضَلُ بِخِدْمَةِ الْمَفْضُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُمِرَ مَثَلًا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِخِدْمَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُمَا فِي الْعِلْمِ لَكَانَ ذَلِكَ قَبِيحًا فِي الْعَقْلِ ثُمَّ قَالُوا أَخْطَأَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيْثُ فَضَّلَ النَّارَ عَلَى الطِّينِ وَهُمَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَيْثُ هُمَا جَمَادٌ مَخْلُوقٌ وَالطِّينُ أَفْضَلُ مِنَ النار وُجُوهٍ، أَحَدِهَا أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةَ وَالسُّكُونَ وَالْوَقَارَ وَالْأَنَاةَ وَالْحِلْمَ وَالْحَيَاءَ وَالصَّبْرَ وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ فِي التَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ فَأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ وَمِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَالْحِدَّةُ وَالِارْتِفَاعُ وَالِاضْطِرَابُ وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي سَبَقَتْ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْإِصْرَارِ فَأَوْرَثَهُ الْهَلَاكَ وَاللَّعْنَةَ وَالْعَذَابَ قَالَهُ الْقَفَّالُ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا عَشْرَةً يَظْهَرُ بِهَا فَضْلُ التُّرَابِ عَلَى النَّارِ ثُمَّ قَالُوا: لَا يَدُلُّ مَنْ كَانَتْ مَادَّتُهُ أَفْضَلَ عَلَى أَنَّهُ تَكُونُ صُورَتُهُ أَفْضَلَ إذا الْفَضِيلَةُ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا تَرَاهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَأَنَّ الْحَبَشِيَّ الْمُؤْمِنَ خَيْرٌ مِنَ الْقُرَشِيِّ الْكَافِرِ وَإِذَا كَانَتِ الْمُقَدِّمَةُ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ لَمْ يَنْتِجْ وَالْمُقَدِّمَتَانِ أَنْ تَقُولَ إِبْلِيسُ نَارِيُّ الْمَادَّةِ وَكُلُّ نَارِيِّ الْمَادَّةِ أَفْضَلُ مِنْ تُرَابِيِّ الْمَادَّةِ فَإِبْلِيسُ أَفْضَلُ مِنْ تُرَابِيِّ الْمَادَّةِ وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مَمْنُوعَةٌ فَلَا تَنْتِجْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْطَأَ فَمَنْ قَاسَ الدِّينَ بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ اللَّهُ مَعَ إِبْلِيسَ، وَقَالَا: وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَخْطَأَ قِيَاسُهُ وَذَهَبَ عِلْمُهُ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي نُفِخَ فِي آدَمَ لَيْسَ مِنْ طِينٍ وَاسْتَدَلَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ عَلَى إِبْطَالِهِ بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ حَيْثُ لَا نَصَّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ إِذْ أَمَرْتُكَ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَيَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ لِذَمِّ إِبْلِيسَ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ فِي الْحَالِ وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَسْتَوْجِبِ الذَّمَّ فِي الْحَالِ وَلَا مُطْلَقًا. قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ. لَمَّا كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ السجود لسبب ظهور شفوقه عَلَى آدَمَ عِنْدَ نَفْسِهِ قَابَلَهُ اللَّهُ بِالْهُبُوطِ الْمُشْعِرِ بِالنُّزُولِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُفَسِّرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْجَنَّةِ وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ سُكَّانِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لَا فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ وَخُلِقَ آدَمُ

مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُهْبِطَ أَوَّلًا وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَصَارَ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَظَافَرَتْ أَنَّهُ أَغْوَى آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ خَارِجِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أُمِرَ آخِرًا بِالْهُبُوطِ مِنَ السَّمَاءِ، مَعَ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ بِحَسَبِ أَلْفَاظِ الْقِصَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السَّمَاءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاهْبِطْ مِنْها مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مَكَانُ الْمُطِيعِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ الْعَاصِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ كَانَ لَهُ مُلْكُهَا أَمَرَهُ أَنْ يَهْبِطَ مِنْهَا إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ فَسُلْطَانُهُ فِيهَا فَلَا يَدْخُلُ الْأَرْضَ إِلَّا كَهَيْئَةِ السَّارِقِ يَخَافُ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا لِأَنَّهُ افْتَخَرَ أَنَّهُ مِنَ النَّارِ فَشُوِّهَتْ صُورَتُهُ بِالْإِظْلَامِ وَزَوَالِ إِشْرَاقِهِ قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ وَيَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحِ نَقْلٍ، وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الْمَنْزِلَةِ وَالرُّتْبَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا فِي مَحَلِّ الِاصْطِفَاءِ وَالتَّقْرِيبِ إِلَى مَحَلِّ الطَّرْدِ وَالتَّعْذِيبِ وَمَعْنَى فَمَا يَكُونُ لَكَ لَا يَصِحُّ لَكَ أَوْ لَا يَتِمُّ أَوْ لَا يَنْبَغِي بَلِ التَّكَبُّرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى التَّقْدِيرُ فِيهَا وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى مَا لِلْمُتَكَبِّرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا وَكَرَّرَ مَعْنَى الْهُبُوطِ بِقَوْلِهِ فَاخْرُجْ لِأَنَّ الْهُبُوطَ مِنْهَا خُرُوجٌ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِصَغَارِهِ وَذِلَّتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى تَكَبُّرِهِ قُوبِلَ بِالضِّدِّ مِمَّا اتَّصَفَ بِهِ وَهُوَ الصَّغَارُ الذي هُوَ ضِدُّ التَّكَبُّرِ وَالتَّكَبُّرُ تَفَعُّلٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ خُلِقَ كَبِيرًا عَظِيمًا وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي تَعَاطَى الْكِبْرَ وَمِنْ كَلَامِ عُمَرَ وَمَنْ تَكَبَّرَ وَعَدَا طَوْرَهُ رَهَصَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ. قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْبَعْثِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّ آدَمَ سَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ وَنَسْلٌ يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ ثُمَّ يَمُوتُونَ وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْظَرُ فَيَكُونُ طَلَبُهُ الْإِنْظَارَ بِأَنْ يُغْوِيَهُمْ وَيُوَسْوِسَ إِلَيْهِمْ فَالضَّمِيرُ فِي يُبْعَثُونَ عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى إِذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ وَحِكْمَةُ اسْتِنْظَارِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْغَوَايَةِ وَالْفِتْنَةِ إِنَّ فِي ذَلِكَ ابْتِلَاءَ الْعِبَادِ بِمُخَالَفَتِهِ وَطَوَاعِيَتِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِعْظَامِ الثَّوَابِ بالمخالفة وإدامة العقاب الطواعية وَأَجَابَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَيْ مِنَ الْمُؤَخَّرِينَ وَلَمْ يَأْتِ هُنَا بِغَايَةٍ للانتظار وجاء مغيا فِي الْحِجْرِ وَفِي ص بِقَوْلِهِ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «1» وَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْحِجْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَعْنَى مِنَ الْمُنْظَرِينَ مِنَ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَأَخَّرَتْ أَعْمَارُهَا كَثِيرًا حَتَّى جَاءَتْ آجَالُهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَوْقَاتِهَا فَقَدْ شَمِلَ تِلْكَ الطَّائِفَةَ إِنْظَارٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَحْيَاءً مُدَّةَ الدَّهْرِ، وَقِيلَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِثْلُ قوم يونس.

_ (1) سورة ص: 38/ 81.

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلْقَسَمِ وَمَا مصدرية ولذلك تلقيت الالية بِقَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِالْإِغْوَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ تَكْلِيفًا مِنْ أَحْسَنِ أَفْعَالِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ تَعْرِيضًا لِسَعَادَةِ الْأَبَدِ، فَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يُقْسِمَ بِهِ انْتَهَى، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ وَعَبَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْهَا بِأَنْ يُرَادَ بِهَا مَعْنَى الْمُجَازَاةِ قَالَ: كَمَا تَقُولُ فَبِإِكْرَامِكَ لِي يَا زَيْدُ لَأُكْرِمَّنَكَ قَالَ وَهَذَا أَلْيَقٌ بِالْقِصَّةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَتِ الْبَاءُ فَإِنَّ تَعْلِيقَهَا بِلَأَقْعُدَنَّ تَصُدُّ عَنْهُ لَامُ الْقَسَمِ لَا تَقُولُ وَاللَّهِ بِزَيْدٍ لَأَمُرَنَّ (قُلْتُ) : تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أَقْسَمَ بِاللَّهِ لَأَقْعُدَنَّ أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ أُقْسِمُ انْتَهَى، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ اللَّامَ تَصُدُّ عَنْ تَعَلُّقِ الْبَاءِ بِلَأَقْعُدَنَّ لَيْسَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَغْوَاهُ وَقَالَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي ثُمَّ ابْتَدَأَهُ مُقْسِمًا فَقَالَ: لَأَقْعُدُنَّ لَهُمْ وَضَعُفَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَذَلِكَ شَاذٌّ أَوْ ضَرُورَةٌ نَحْوُ قَوْلِهِمْ عَمَّا تَسْأَلُ فَهَذَا شَاذٌّ وَالضَّرُورَةُ كَقَوْلِهِ: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ وَمَعْنَى أَغْوَيْتَنِي أَضْلَلْتَنِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُونَ أَوْ لَعَنْتَنِي قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ أَهْلَكْتَنِي قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ خَيَّبْتَنِي قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: أَلْقَيْتَنِي غَاوِيًا، وَقِيلَ: سَمَّيْتَنِي غَاوِيًا لِتَكَبُّرِي عَنِ السُّجُودِ لِمَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: جَعَلْتَنِي فِي الْغَيِّ وَهُوَ الْعَذَابُ، وَقِيلَ: قَضَيْتَ عَلَيَّ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَقِيلَ: أَدْخَلْتَ عَلَيَّ دَاءَ الْكِبْرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَبِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ وَهُوَ تَكْلِيفُهُ إِيَّاهُ مَا وَقَعَ بِهِ فِي الْغَيِّ كَمَا ثَبَتَتِ الْمَلَائِكَةُ مَعَ كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمِنْ آدَمَ نَفْسًا وَمَنَاصِبَ وَعَنِ الْأَصَمِّ أَمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ فَحَمَلَنِي الْأَنَفُ عَلَى مَعْصِيَتِكَ وَالْمَعْنَى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي فِي الْغَيِّ لِأَجْتَهِدَنَّ فِي إِغْوَائِهِمْ حَتَّى يَفْسَدُوا بِسَبَبِي كَمَا فَسَدْتُ بِسَبَبِهِمْ انْتَهَى، وَهُوَ وَالْأَصَمُّ فَسَّرَا عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي نَفْيِ نِسْبَةِ الْإِغْوَاءِ حَقِيقَةً وَهُوَ الْإِضْلَالُ إِلَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَّرَ أَغْوَيْتَنِي مَعْنَى أَلْفَيْتَنِي غَاوِيًا وَهُوَ فِرَارٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ إِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ نَفْسًا وَمَنَاصِبَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: قَاتَلَ اللَّهُ الْقَدَرِيَّةَ لَإِبْلِيسُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْهُمْ يريد في أنه على أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي وَيُضِلُّ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ يُرْمَى بِالْقَدَرِ فَجَلَسَ إِلَى طَاوُسٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ: تَقُومُ أَوْ تُقَامُ فَقَامَ الرَّجُلُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ فَقِيهٌ، فَقَالَ: إِبْلِيسُ أَفْقَهُ مِنْهُ قَالَ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي، وَهَذَا يَقُولُ أَنَا أُغْوِي نَفْسِي وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مِنْ تَكَاذِيبِ الْمُجْبِرَةِ وَذَكَرَهَا ثُمَّ قَالَ كَلَامًا قَبِيحًا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَعَبَّرَ بِالْقُعُودِ عَنِ الثُّبُوتِ

فِي الْمَكَانِ وَالثَّابِتُ فِيهِ قَالُوا: وَانْتَصَبَ صِراطَكَ عَلَى إِسْقَاطِ عَلَى قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وشبه بِقَوْلِ الْعَرَبِ ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ أَيْ عَلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَإِسْقَاطُ حَرْفِ الْجَرِّ لَا يَنْقَاسُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُقَالُ قَعَدْتُ الْخَشَبَةَ تُرِيدُ قَعَدْتُ على الخشبة قالوا أو عَلَى الظَّرْفِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِيهِ. كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ وَهَذَا أَيْضًا تَخْرِيجٌ فِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّ صِراطَكَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُخْتَصٌّ وَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ فِي، وَمَا جَاءَ خِلَافَ ذَلِكَ شَاذٌّ أَوْ ضَرُورَةٌ وَعَلَى الضَّرُورَةِ أَنْشَدُوا: كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ مِنْ أَنَّ الصِّرَاطَ وَالطَّرِيقَ ظَرْفٌ مُبْهَمٌ لَا مُخْتَصٌّ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُضَمَّنَ لَأَقْعُدَنَّ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيَنْتَصِبُ الصِّرَاطُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ وَالتَّقْدِيرُ لَأَلْزَمَنَّ بِقُعُودِي صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وَهَذَا الصِّرَاطُ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمُوصِلُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَضْعُفُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَرِيقُ مَكَّةَ خُصُوصًا عَلَى الْعَقَبَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِعَقَبَةِ الشَّيْطَانِ يُضِلُّ النَّاسَ عَنِ الْحَجِّ وَمَعْنَى قُعُودِهِ أَنَّهُ يَعْتَرِضُ لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَعْتَرِضُ الْعَدُوُّ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَقْطَعَهُ عَلَى السَّابِلَةِ وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ نَهَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ أَتَتْرُكُ دِينَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ وَأَسْلَمَ فَنَهَاهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ: تَدَعُ أَهْلَكَ وَبَلَدَكَ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ فَنَهَاهُ عَنِ الْجِهَادِ وَقَالَ: تُقْتَلُ وَتَتْرُكُ وَلَدَكَ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ» . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ إِتْيَانَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ كِنَايَةٌ عَنْ وَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ لَهُ وَالْجِدِّ فِي إِضْلَالِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُمْكِنُ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجِهَاتُ يَأْتِي مِنْهَا الْعَدُوُّ غَالِبًا ذَكَرَهَا لَا أَنَّهُ يَأْتِي مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ حَقِيقَةً، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الْآخِرَةُ أُشَكِّكُهُمْ فِيهَا وَأَنَّهُ لَا بَعْثَ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الدُّنْيَا أُرَغِّبُهُمْ فِيهَا وَزَيَّنَهَا لَهُمْ وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنِ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ عَكْسُ هَذَا، وعنه وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الْحَقُّ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الْبَاطِلُ وَعَنْهُ أَيْضًا: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الْحَسَنَاتُ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ السَّيِّئَاتُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَوَّلَانِ حَيْثُ يُنْصَرُونَ وَالْآخَرَانِ حَيْثُ لَا يُنْصَرُونَ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ الْأَوَّلَانِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالْآخَرَانِ الْآخِرَةُ وَالدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْأَوَّلَانِ بِفُسْحَةِ الْأَمَلِ وَبِنِسْيَانِ الْأَجَلِ وَالْآخَرَانِ فِيمَا تَيَسَّرَ وَفِيمَا تَعَسَّرَ، وَقِيلَ الْأَوَّلَانِ فِيمَا

بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ فَلَا يُطِيعُونَ وَفِيمَا مَضَى مِنْهَا فَلَا يَنْدَمُونَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَالْآخَرَانِ فِيمَا مَلَكَتْهُ أَيْمَانُهُمْ فَلَا يُنْفِقُونَهُ فِي مَعْرُوفٍ وَمِنْ قَبْلِ فَقْرِهِمْ فَلَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ مَحْظُورٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ حَاكِيًا عَنْ مَنْ سَمَّاهُ هُوَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمُ الْقُوَّةُ الْخَيَالِيَّةُ وَهِيَ تَجْمَعُ مِثْلَ الْمَحْسُوسَاتِ وَصُوَرِهَا وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنَ الدِّمَاغِ وَمِنْ خَلْفِهِمُ الْقُوَّةُ الْوَهْمِيَّةُ وَهِيَ تَحْكُمُ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ بِالْأَحْكَامِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْمَحْسُوسَاتِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَطْنِ الْمُؤَخَّرِ مِنَ الدِّمَاغِ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ قُوَّةُ الشَّهْوَةِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَطْنِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْقَلْبِ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ قُوَّةُ الْغَضَبِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَطْنِ الْأَيْسَرِ مِنَ الْقَلْبِ فَهَذِهِ الْقُوَى الْأَرْبَعَةُ هِيَ الَّتِي يَتَوَلَّدُ عَنْهَا أَحْوَالٌ تُوجِبُ زَوَالَ السَّعَادَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالشَّيَاطِينُ الْخَارِجَةُ مَا لَمْ تَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى الْأَرْبَعِ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَهُوَ وَجْهُ تَحْقِيقٍ انْتَهَى، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْمُتَشَرِّعِينَ قَالَ: وَعَلَى هَذَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ لَيْسَتَا بِمَقَرِّ شَيْءٍ مِنَ الْقُوَى الْمُفْسِدَةِ لِمَصَالِحِ السَّعَادَةِ الرُّوحَانِيَّةِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِهِمْ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ تَحْتِهِمْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مِنْ تَحْتِهِمْ فِيهِ تَوَحُّشٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قِيلَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بحرف الابتداء وعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ بِحِرَفِ الْمُجَاوَزَةِ، (قَلْتُ) : الْمَفْعُولُ فِيهِ عُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ تَعْدِيَتَهُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَمَا اخْتَلَفَتْ حُرُوفُ التَّعْدِيَةِ فِي ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِي هَذَا وَكَانَتْ لُغَةً تُؤْخَذُ وَلَا تُقَاسُ وَإِنَّمَا يُفَتَّشُ عَنْ صِحَّةِ مَوْقِعِهَا فَقَطْ فَلَمَّا سَمِعْنَاهُمْ يَقُولُونَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَلَى يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَعَلَى شِمَالِهِ قُلْنَا مَعْنَى عَلَى يَمِينِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ تُمَكِّنُ الْمُسْتَعْلِي مِنَ الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ وَمَعْنَى عَنْ يَمِينِهِ أَنَّهُ جَلَسَ مُتَجَافِيًا عَنْ صَاحِبِ الْيَمِينِ مُنْحَرِفًا عَنْهُ غَيْرَ مُلَاصِقٍ لَهُ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي الْمُتَجَافِي وَغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي فِعَالٍ وَنَحْوِهُ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ قَوْلَهُمْ رَمَيْتُ عَنِ الْقَوْسِ وَعَلَى الْقَوْسِ وَمِنَ الْقَوْسِ لِأَنَّ السَّهْمَ يَبْعُدُ عَنْهَا وَيَسْتَعْلِيهَا إِذَا وُضِعَ عَلَى كَبِدِهَا للرمي ويبتدىء الرَّمْيُ مِنْهَا فَكَذَلِكَ قَالُوا: جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ بِمَعْنَى فِي لِأَنَّهُمَا ظَرْفَانِ لِلْفِعْلِ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا تَقُولُ جِئْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ تُرِيدُ بَعْضَ اللَّيْلِ انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَقُولُ إِنَّمَا خَصَّ بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْخَلْفِ بِحَرْفِ الِابْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ أَمْكَنُ فِي الْإِتْيَانِ لِأَنَّهُمَا أَغْلَبُ مَا يَجِيءُ الْعَدُوُّ منهما فَيَنَالُ فُرْصَتَهُ وَقَدَّمَ بَيْنَ الْأَيْدِي عَلَى الْخَلْفِ لِأَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى إِقَدَامِ الْعَدُوِّ وَبَسَالَتِهِ فِي مُوَاجَهَةِ قِرْنِهِ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْهُ

وَالْخَلْفُ مِنْ جِهَةٍ غَدْرٌ وَمُخَاتَلَةٌ وَجَهَالَةُ الْقِرْنِ بِمَنْ يَغْتَالُهُ وَيَتَطَلَّبُ غِرَّتَهُ وَغَفْلَتَهُ وَخَصَّ الْأَيْمَانَ وَالشَّمَائِلَ الْحَرْفَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِأَغْلَبِ مَا يَأْتِي مِنْهُمَا الْعَدُوُّ وَإِنَّمَا يَتَجَاوَزُ إِتْيَانُهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَبُ فِي ذَلِكَ وَقُدِّمَتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الشَّمَائِلِ لِأَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي هِيَ الْقَوِيَّةُ فِي مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ، وَبِالْأَيْمَانِ الْبَطْشُ وَالدَّفْعُ فَالْقِرْنُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جِهَتِهَا أَبْسَلُ وَأَشْجَعُ إِذْ جَاءَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى فِي الدَّفْعِ وَالشَّمَائِلُ جِهَةٌ لَيْسَتْ فِي الْقُوَّةِ وَالدَّفْعِ كَالْأَيْمَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَاكِرِينَ مُوَحِّدِينَ وَعَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ابْنَ آدَمَ لَا يَشْكُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ إِلَّا بِأَنْ يُؤْمِنَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: ثَابِتِينَ عَلَى طَاعَتِكَ وَلَا يَشْكُرُكَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي خَبَرِ الْقَسَمِ مَعْطُوفَةً عَلَى جَوَابِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ لَيْسَ مُقْسَمًا عَلَيْهِ أَخْبَرَ أَنَّ سِعَايَتَهُ وَإِتْيَانَهُ إِيَّاهُمْ مِنْ جَمِيعِ الوجوه يفعل ذلك وهو هَذَا الْإِخْبَارُ مِنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّظَنِّي لِقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «1» أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْعِلْمِ قَوْلَانِ وَسَبِيلُ الْعِلْمِ إِمَّا رُؤْيَتُهُ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ اسْتِفَادَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2» أَوْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِإِخْبَارِ اللَّهِ لَهُمْ أَوْ بِقَوْلِهِمْ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «3» أَوْ بِإِغْوَاءِ آدَمَ وَذُرِّيَّتُهُ أَضْعَفُ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ قُوَى ابْنِ آدَمَ تِسْعَةَ عَشَرَ قُوَّةً وَهِيَ خَمْسُ حَوَاسٍّ ظَاهِرَةٍ وَخَمْسٌ بَاطِنَةٌ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، وَسَبْعٌ سَابِقَةٌ وَهِيَ الْجَاذِبَةُ وَالْمُمْسِكَةُ وَالْهَاضِمَةُ وَالدَّافِعَةُ وَالْقَاذِفَةُ وَالنَّامِيَةُ وَالْمُوَلِّدَةُ وَكُلُّهَا تَدْعُو إِلَى عَالَمِ الْجِسْمِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْعَقْلُ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ تَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ وَالْعَقْلُ إِذْ ذَاكَ ضَعِيفٌ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي فَاهْبِطْ مِنْها وَهَذِهِ ثَلَاثُ أَوَامِرَ أَمْرٌ بِالْهُبُوطِ مُطْلَقًا، وَأَمْرٌ بِالْخُرُوجِ مُخْبِرًا أَنَّهُ ذُو صَغَارٍ، وَأَمْرٌ بِالْخُرُوجِ مُقَيَّدًا بِالذَّمِّ وَالطَّرْدِ، وَقَالَ قتادة: مَذْؤُماً لَعِينًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَلُومًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْفِيًّا، وَقِيلَ: ممقوتا ومَدْحُوراً مُبْعَدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ مِنَ الْخَيْرِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ التَّوْفِيقِ أَوْ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ: مَذُومًا بِضَمِّ الذَّالِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ فَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَأَمَ الْمَهْمُوزُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ وَحَذَفَهَا وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الذَّالِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَامَ غَيْرِ الْمَهْمُوزِ يَذِيمُ كَبَاعَ يَبِيعُ فَأَبْدَلَ الْوَاوَ بِيَاءٍ كَمَا قَالُوا في مكيل مكول،

_ (1) سورة سبأ: 34/ 20. (2) سورة سبأ: 34/ 13. (3) سورة البقرة: 2/ 30.

وَانْتَصَبَ مَدْحُوراً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مَذْؤُماً أو صفة لقوله مَذْؤُماً. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَنْ بِفَتْحِ اللَّامِ الِابْتِدَاءِ وَمَنْ مَوْصُولَةً ولَأَمْلَأَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ مَنْ تَبِعَكَ وَذَلِكَ الْقَسَمُ الْمَحْذُوفُ وَجَوَابُهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ مَنِ الْمَوْصُولَةِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى لِأَجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ انْتَهَى، فَظَاهِرُ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ اللَّامَ تَتَعَلَّقُ بِلَأَمْلَأَنَّ وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا بَعْدَ لَامِ الْقَسَمِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَعْنَى لِمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمُ الْوَعِيدُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ عَلَى أَنَّ لَأَمْلَأَنَّ فِي مَحَلِّ الِابْتِدَاءِ ولَمَنْ تَبِعَكَ خَبَرُهُ انْتَهَى فَإِنْ أَرَادَ ظَاهِرَ كَلَامِهِ فَهُوَ خَطَأٌ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَأَمْلَأَنَّ جُمْلَةٌ هِيَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ فَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا جُمْلَةً فَقَطْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً وَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا جَوَابًا لِلْقَسَمِ يَمْتَنِعُ أَيْضًا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مُبْتَدَأَةً لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا بِحَالٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ دَاخِلًا عَلَيْهَا عَامِلٌ غَيْرُ دَاخِلٍ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ، وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الرَّازِيُّ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ مِنَ الذَّأْمِ وَالدَّحْرِ وَمَعْنَاهُ اخْرُجْ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَجْلِ أَتْبَاعِكَ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ وَمَعْنَى مِنْكُمْ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ فَغَلَبَ الْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ كَمَا تَقُولُ أَنْتَ وَإِخْوَتُكَ أُكْرِمُكُمْ. وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ. أَيْ وَقُلْنَا يَا آدَمُ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ. إِلَّا أَنَّ هُنَا فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَفِي الْبَقَرَةِ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما «1» ، قَالُوا: وَجَاءَتْ عَلَى أَحَدِ مَحَامِلِهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ وَحُذِفَ رَغَدًا هُنَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ وَأُثْبِتَ هُنَاكَ لِأَنَّ تِلْكَ مَدَنِيَّةٌ وَهَذِهِ مَكِّيَّةٌ فَوُفِّيَ الْمَعْنَى هُنَاكَ بِاللَّفْظِ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أَيْ فَعَلَ الْوَسْوَسَةَ لِأَجْلِهِمَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ فَمَعْنَاهُ أَلْقَى الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِ، قَالَ الْحَسَنُ: وَصَلَتْ وسوسته

_ (1) سورة البقرة: 2/ 35.

لَهُمَا فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: كَانَ فِي السَّمَاءِ وَكَانَا يَخْرُجَانِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ وَهُمَا بِهَا، وَقِيلَ: كَانَ يَدْخُلُ إِلَيْهِمَا فِي فَمِ الْحَيَّةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَلْهَمَهُمَا، وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: أَوْرَدَ عَلَيْهِمَا الْخَوَاطِرَ الْمُزَيَّنَةَ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُخَالِفَانِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلٍ وَمُحَاوَرَةٍ وَقَسَمٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ قَصَدَ إبداء سوآتهما وتنحطّ مرتبتهما بذلك ويسوؤهما بِكَشْفِ مَا يَنْبَغِي سَتْرُهُ وَلَا يَجْتَنِبَانِ نَهْيَ اللَّهِ فَيَكُونُ هُوَ وَهُمَا سَوَاءً فِي الْمُخَالَفَةِ هُوَ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَأَبَى، وَهُمَا نُهِيَا فَلَمْ يَنْتَهِيَا، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا لَامُ الصَّيْرُورَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلِمٌ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَيَقْصُدُهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْتَهْجَنًا فِي الطِّبَاعِ مُسْتَقْبَحًا فِي الْعُقُولِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي أَنَّ الْعَقْلَ يُقَبِّحُ وَيُحَسِّنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ مَدْلُولُ سَوْءَاتِهِمَا نَفْسِهِمَا وَهُمَا الْفَرْجُ وَالدُّبُرُ قِيلَ: وَكَانَا لَا يَرَيَانِهِمَا قَبْلَ أَكْلِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا أَكَلَا بَدَتَا لَهُمَا، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ يَرَى سوأة صَاحِبِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ كَنَّى بِسَوْءَاتِهِمَا عَنْ جَمِيعِ بَدَنِهِمَا وذكر السوأة لِأَنَّهَا أَقْبَحُ مَا يَظْهَرُ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وُورِيَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ أُورِيَ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً وَهُوَ بَدَلٌ جَائِزٌ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ مَا وُرِيَ بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ بَعْدَهَا عَلَى وَزْنِ كُسِيَ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ مِنْ سَوَّتِهِمَا بِالْإِفْرَادِ وَتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بِإِبْدَالِهَا وَاوًا وَإِدْغَامِ الْوَاوِ فِيهَا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ مِنْ سَوَّاتِهِمَا بِتَسْهِيلِ الهمزة وتشديد الواو، وقرىء مِنْ سَوَاتِهِمَا بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَذَفَهَا وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْوَاوِ فَمَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ مِثْلَيْنِ وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَمِنْ وَضْعِهِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ عَوْرَةٍ هِيَ الدُّبُرُ وَالْفَرْجُ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ: فَهِيَ جَمْعٌ وَإِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا لِشَيْءٍ إِلَّا كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ وَيُقَدِّرُهُ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا أَنْ تَكُونَا وَإِضْمَارُ الِاسْمِ وَهُوَ كَرَاهَةٌ أَحْسَنُ مِنْ إِضْمَارِ الْحَرْفِ وَهُوَ لَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى وَأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ تَلْمَحُ مَرْتَبَتَهَا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مَلَكَيْنِ فِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا شَهْوَةً فِي طَعَامٍ انْتَهَى، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَالضَّحَّاكُ وَيَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ حَكِيمٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَيَدُلُّ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ

هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى «1» وَمِنَ الْخَالِدِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ وَيَبْقُونَ فِي الْجَنَّةِ سَاكِنِينَ. وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ لَمْ يَكْتَفِ إِبْلِيسُ بِالْوَسْوَسَةِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ فِي خُفْيَةٍ سِرًّا وَلَا بِالْقَوْلِ حَتَّى أَقْسَمَ عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا وَالْمُقَاسَمَةُ مُفَاعَلَةٌ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْفِعْلِ فَتُقْسِمُ لِصَاحِبِكَ وَيُقْسِمُ لَكَ تَقُولَ قَاسَمْتُ فلانا خالفته وَتَقَاسَمَا تَحَالَفَا وَأَمَّا هُنَا فَمَعْنَى وَقَاسَمَهُمَا أَقْسَمَ لَهُمَا لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ يُشَارِكَاهُ فِيهَا. وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَقَاسَمَهُمَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نشورها وفاعل قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى أَفْعَلَ نَحْوُ بَاعَدْتُ الشَّيْءَ وَأَبْعَدْتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَاسَمَهُمَا أَيْ حَلَفَ لَهُمَا وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ إِذْ قَبُولُ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَإِقْبَالِهِ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ كَالْقَسَمِ وَتَقْرِيرِهِ وَإِنْ كَانَ بَادِيَ الرَّأْيِ يَعْنِي أَنَّهَا مِنْ وَاحِدٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمَا أُقْسِمُ لَكُمَا أَنِّي لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَقَالَا لَهُ أَتُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مُقَاسَمَةً بَيْنَهُمْ أَوْ أَقْسَمَ لَهُمَا بِالنَّصِيحَةِ وَأَقْسَمَا لَهُ بِقَبُولِهَا أَوْ أَخْرَجَ قَسَمَ إِبْلِيسَ عَلَى وَزْنِ الْمُفَاعَلَةِ لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ فِيهَا اجْتِهَادَ الْمُقَاسِمِ انْتَهَى، وقرىء وقاسمهما بالله ولَكُما مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نَاصِحٌ لَكُمَا أَوْ أَعْنِي أَوْ بِالنَّاصِحِينَ عَلَى أَنَّ أَلْ مَوْصُولَةٌ وَتُسُومِحَ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَا لَا يُتَسَامَحُ في غير هما أَوْ عَلَى أَنَّ أَلْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ لَا مَوْصُولَةً أَوْجُهٌ مَقُولَةٌ. فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أَيِ اسْتَنْزَلَهُمَا إِلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ بِغُرُورِهِ أَيْ بِخِدَاعِهِ إِيَّاهُمَا وَإِظْهَارِ النُّصْحِ وَإِبِطَانِ الْغِشِّ وَإِطْمَاعِهِمَا أَنْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ وَبِإِقْسَامِهِ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا جَعَلَ مَنْ يَغْتَرُّ بِالْكَلَامِ حَتَّى يُصَدِّقَ فَيَقَعُ فِي مُصِيبَةٍ بِالَّذِي يُدْلِي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ فَيَنْقَطِعُ بِهِ فَيَهْلِكُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أصلان أحد هما أَنَّ الرَّجُلَ يُدْلِي دَلْوَهُ فِي الْبِئْرِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ فَلَا يَجِدُ فِيهَا مَاءً، وُضِعَتِ التَّدْلِيَةُ مَوْضِعَ الطَّمَعِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَيُقَالُ: دَلَّاهُ أَيْ أَطْمَعَهُ الثَّانِي جَرَّأَهُمَا عَلَى أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ دَلَلْهُمَا مِنَ الدَّالِّ وَالدَّلَالَةِ وَهُمَا الْجَرَاءَةُ انْتَهَى، فَأُبْدِلَ مِنَ الْمُضَاعَفِ الْأَخِيرِ حَرْفُ عِلَّةٍ، كَمَا قَالُوا: تَظَنَّيْتُ وَأَصْلُهُ تَظَنَّنْتُ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: خَدَعَ الشَّيْطَانُ آدَمَ فَانْخَدَعَ وَنَحْنُ مَنْ خَدَعَنَا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ انْخَدَعْنَا لَهُ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ. فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أَيْ وَجَدَا طَعْمَهَا آكِلِينَ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فَأَكَلا مِنْها «2» وَتَطَايَرَتْ عَنْهُمَا مَلَابِسُ الْجَنَّةِ فَظَهَرَتْ لَهُمَا عَوْرَاتُهُمَا وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمَا كَانَا قَبْلَ ذَلِكَ

_ (1- 2) سورة طه: 20/ 120.

لَا يَرَيَانِهَا مِنْ أَنْفُسِهِمَا وَلَا أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ عَلَيْهِمَا ظُفُرٌ كَاسٍ فَلَمَّا أَكَلَا تبلس عنهما فبدت سوآتهما وَبَقِيَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَابِعِ قَدْرُ مَا يَتَذَكَّرَانِ بِهِ الْمُخَالَفَةَ فَيُجَدِّدَانِ النَّدَمَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ يَسْتُرُ عَوْرَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَانْقَشَعَ بِالْأَكْلِ ذَلِكَ النُّورُ وَقِيلَ كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ فَنَقَصَ وَتَجَسَّدَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي أَظْفَارِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ تَذْكِرَةً لَهُمَا لِيَسْتَغْفِرُوا فِي كُلِّ وقت وأبناؤهما بعد هما كَمَا جَرَى لِأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ حِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَرَصَ إِلَّا لُمْعَةً أَبْقَاهَا لِيَتَذَكَّرَ نِعَمَهُ فَيَشْكُرَ. وَقَالَ قوم: لم يقصد بالسوأة الْعَوْرَةَ وَالْمَعْنَى انْكَشَفَ لَهُمَا معايشهما وما يسؤوهما وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْبُو عَنْهُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ وَيُخَالِفُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: أَكَلَتْ حَوَّاءُ أوّل فَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ ثُمَّ آدَمُ فَكَانَ الْبُدُوُّ. وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أَيْ جَعَلَا يُلْصِقَانِ وَرَقَةً عَلَى وَرَقَةٍ وَيُلْصِقَانِهِمَا بعد ما كَانَتْ كِسَاهُمَا حُلَلُ الْجَنَّةِ ظَلَّا يَسْتَتِرَانِ بِالْوَرَقِ كَمَا قِيلَ: لِلَّهِ دَرِّهِمْ مِنْ فِتْيَةٍ بَكَّرُوا ... مِثْلَ الْمُلُوكِ وَرَاحُوا كَالْمَسَاكِينِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِما عَلَى عَوْرَتَيْهِمَا كَأَنَّهُ قِيلَ يَخْصِفانِ على سوآتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَادَ بِضَمِيرِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ يُرَادُ بِهِ اثْنَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى فِعْلُ الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ الْمَنْصُوبِ لَفْظًا أَوْ مَحَلًّا فِي غَيْرِ بَابِ ظَنَّ وَفَقَدَ وَعَلِمَ وَوَجَدَ لَا يَجُوزُ زَيْدٌ ضَرَبَهُ وَلَا ضَرَبَهُ زَيْدٌ وَلَا زَيْدٌ مَرَّ بِهِ زَيْدٌ فَلَوْ جَعَلْنَا الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِما عَائِدًا عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَعَدِّي يَخْصِفُ إِلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ مَحَلًّا وَقَدْ رُفِعَ الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ وَهُوَ الْأَلِفُ فِي يَخْصِفَانِ فَإِنْ أُخِذَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مُرَادٍ جَازَ ذَلِكَ وَتَقْدِيرُهُ يَخْصِفَانِ عَلَى بَدَنَيْهِمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَرَقُ الَّذِي خَصَفَا مِنْهُ وَرَقُ الزَّيْتُونِ، وَقِيلَ: وَرَقُ شَجَرِ التِّينِ، وَقِيلَ: وَرَقُ الْمَوْزِ وَلَمْ يَثْبُتْ تَعْيِينُهَا لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَطَفِقا بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ يَخْصِفانِ مِنْ أَخْصَفَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ من خصف أن يخصفات أَنْفُسَهُمَا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ وَثَّابٍ يَخْصِفانِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَالصَّادِ وَشَدِّهَا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مَحْبُوبٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْخَاءَ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ بريدة وعن يعقوب، وقرىء يَخْصِفانِ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ خَصَّفَ عَلَى وَزْنِ فَعَّلَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ يَخْصِفانِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.

وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ لَمَّا كَانَ وَقْتُ الْهَنَاءِ شُرِّفَ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ فِي النِّدَاءِ فَقِيلَ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ وَحِينَ كَانَ وَقْتُ الْعِتَابِ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّمَهُمَا بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ آدَمَ مَا فِي تَارِيخِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُئِلَ عَنْ آدَمَ فَقَالَ: نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ النِّدَاءَ كَانَ بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِ بِالْكَلَامِ وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي خَصَّكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ خَصَّهُ بِكَلَامِهِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ وَأَمَّا آدَمُ فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ إِنَّ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ مُوسَى مُخْتَصًّا بِكَلَامِهِ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: النِّدَاءُ لِآدَمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يُرْوَ قَطُّ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ حَوَّاءَ وَالنِّدَاءُ هُوَ دُعَاءُ الشَّخْصِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ أَوْ بِنَوْعِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَالْجُمْلَةُ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَائِلًا: أَلَمْ أَنْهَكُمَا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْعِتَابُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمَا وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ فِي قَوْلِهِ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَلَا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ حَيْثُ كَانَ مُبَاحًا لَهُ الْأَكْلُ قَارًّا سَاكِنًا أُشِيرَ إِلَى الشَّجَرَةِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْقُرْبِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْأَشْجَارِ فَقِيلَ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وَحَيْثُ كَانَ تَعَاطِي مُخَالَفَةِ النَّهْيِ وَقُرْبُ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَاضْطِرَابُ حَالِهِ فِيهَا وَفَرَّ عَلَى وَجْهِهِ فِيهَا قِيلَ: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا فَأُشِيرَ إِلَى الشَّجَرَةِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْبُعْدِ وَالْإِنْذَارِ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَأَقُلْ لَكُما إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «1» وَهَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي نَسِيَهُ آدَمُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُحْمَلُ النِّسْيَانُ عَلَى بَابِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيَّنَ الْعَدَاوَةَ حَيْثُ أَبَى السُّجُودَ وَقَالَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِآدَمَ: أَلَمْ يَكُنْ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقَالَ بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ يَحْلِفُ كَاذِبًا قال فو عزّتي لَأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ لَا تَنَالُ إِلَّا كَدًّا فَأُهْبِطَ وَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ فَحَرَثَ وَسَقَى وحصد ودرس وذر وَعَجَنَ وَخَبَزَ ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ أَلَمْ تُنْهَيَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَقِيلَ لَكُمَا. قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَسَمَّيَا ذَنْبَهُمَا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا مَغْفُورًا ظُلْمًا وَقَالَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ عَلَى عَادَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي اسْتِعْظَامِهِمُ الصَّغِيرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ اعتراف من

_ (1) سورة طه: 20/ 117. [.....]

آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَطَلَبٌ لِلتَّوْبَةِ وَالسَّتْرِ وَالتَّغَمُّدِ بِالرَّحْمَةِ فَطَلَبَ آدَمُ هَذَا وَطَلَبَ إِبْلِيسُ النَّظِرَةَ وَلَمْ يَطْلُبِ التَّوْبَةَ فَوُكِلَ إِلَى رَأْيِهِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ، وَقِيلَ: سَعِدَ آدَمُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ اعْتَرَفَ بِالْمُخَالَفَةِ وَنَدِمَ عَلَيْهَا، وَلَامَ نَفْسَهُ وَسَارَعَ إِلَى التَّوْبَةِ وَلَمْ يَقْنَطْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَشَقِيَ إِبْلِيسُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ لَمْ يُقِرَّ بِالذَّنْبِ، وَلَمْ يَنْدَمْ، وَلَمْ يسلم نَفْسَهُ بَلْ أَضَافَ إِلَى رَبِّهِ الْغَوَايَةَ، وَقَنَطَ مِنَ الرحمة، ولَنَكُونَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ إِنْ كقوله وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ «1» التَّقْدِيرُ وَاللَّهِ إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لَنَا وَأَكْثَرُ مَا تَأْتِي إِنَّ هَذِهِ وَلَامُ التَّوْطِئَةِ قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ «2» ثُمَّ قَالَ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ. قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ. قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ. هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «3» أَيْ بِالْحَيَاةِ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ وَلِذَلِكَ جَاءَ قَالَ بِغَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ إِذِ الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةً أَوْ كَالتَّفْسِيرِيَّةِ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا فَتَقُولَ قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَقَالَ كَذَا وَتَقُولَ زَيْدٌ قَائِمٌ وَعَمْرٌو قَاعِدٌ وَيَقِلُّ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ فُلَانٌ كَذَا قَالَ كَذَا وَكَذَلِكَ يَقِلُّ زَيْدٌ قَائِمٌ عَمْرٌو قَاعِدٌ وَهُنَا جَاءَ قالَ اهْبِطُوا الْآيَةَ قالَ فِيها تَحْيَوْنَ لَمَّا كَانَتْ كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهَا وَتُمِّمَ هُنَا الْمَقْصُودُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ بِقَوْلِهِ وَمِنْها تُخْرَجُونَ أَيْ إِلَى الْمُجَازَاةِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «4» . وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ ذَكْوَانَ تُخْرَجُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ هنا وفي الجاثية والزخرف وأوّل الروم وَعَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ فِي أَوَّلِ الرُّومِ خِلَافٌ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ وَفِيهَا سَتْرُ السَّوْءَاتِ وَجَعَلَ لَهُ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرًّا وَمَتَاعًا ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى بَنِيهِ وَمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللِّبَاسِ الَّذِي يُوَارِي السَّوْءَاتِ وَالرِّيَاشِ الَّذِي يُمْكِنُ بِهِ اسْتِقْرَارُهُمْ فِي الْأَرْضِ وَاسْتِمْتَاعُهُمْ بِمَا خَوَّلَهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالثَّلَاثُ بَعْدَهَا فِيمَنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ يَتَعَرَّى فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّهَا كَانَتْ عَادَةَ ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وبني عامر بن

_ (1) سورة المائدة: 5/ 73. (2) سورة الأحزاب: 33/ 60. (3) سورة البقرة: 2/ 36. (4) سورة طه: 20/ 55.

صَعْصَعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ وَالْحَارِثِ وَعَامِرٍ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَاةَ نِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمْ وَأَنْزَلَنَا قِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنَ الِانْحِطَاطِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ فَأَنْزَلَ مَعَ آدَمَ وَحَوَّاءَ شَيْئًا مِنَ اللِّبَاسِ مِثَالًا لغيره ثم توسع بنو هما فِي الصَّنْعَةِ اسْتِنْبَاطًا مِنْ ذَلِكَ الْمِثَالِ أَوْ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَ إِهْبَاطِهِمَا أَوْ أَنْزَلَ مَعَهُ الْحَدِيدَ فَاتَّخَذَ مِنْهُ آلَاتِ الصَّنَائِعِ أَوْ أَنْزَلَ الْمَلَكَ فَعَلَّمَ آدَمَ النَّسْجَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَقِيلَ: الْإِنْزَالُ مَجَازٌ مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى مُسَبِّبِهِ فَأَنْزَلَ الْمَطَرَ وَهُوَ سَبَبُ مَا يَتَهَيَّأُ مِنْهُ اللِّبَاسُ أَوْ بِمَعْنَى خَلَقَ كَقَوْلِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1» أَوْ بِمَعْنَى الْهَمِّ، وقال الزمخشري جعل ما فِي الْأَرْضِ مُنَزَّلًا مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ قُضِيَ ثَمَّ وَكُتِبَ وَمِنْهُ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْزَلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّدْرِيجِ أَيْ لَمَّا أَنْزَلَ الْمَطَرَ فَكَانَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا يُلْبَسُ قَالَ عَنِ اللِّبَاسِ أَنْزَلْنا وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ يَصِفُ مَطَرًا: أَقْبَلَ في المسلمين مِنْ سَحَابِهْ ... أَسْنِمَةُ الْآبَالِ فِي رَبَابِهْ أَيْ بِالْمَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ خَلَقْنَا فَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ بِأَنْزَلْنَا كَقَوْلِهِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2» وَقَوْلِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ وَأَيْضًا فَخَلْقُ اللَّهِ وَأَفْعَالُهُ إِنَّمَا هِيَ مِنْ عُلُوٍّ فِي القدرة وَالْمَنْزِلَةِ انْتَهَى وَاللِّبَاسُ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يُلْبَسُ وَيَسْتُرُ وَالرِّيشُ عِبَارَةٌ عَنْ سَعَةِ الرِّزْقِ وَرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ وَوُجُودِ اللَّبْسِ وَالتَّمَتُّعِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الرِّيشَ مَا يَسْتُرُ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ مَعِيشَةٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْإِنَاثُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: الْمَالُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْجَمَالُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِبَاسُ الزِّينَةِ اسْتُعِيرَ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُ وَزِينَتُهُ أَيْ أَنْزَلَنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسَيْنِ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَلِبَاسًا يُزَيِّنُكُمْ لِأَنَّ الزِّينَةَ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ولَكُمْ فِيها جَمالٌ «3» انْتَهَى. وَعَطْفُ الرِّيشِ عَلَى لِباساً يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَأَنَّهُ قَسِيمٌ لِلِّبَاسٍ لَا قِسْمٌ مِنْهُ، وَقَرَأَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَابْنُهُ زَيْدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَرِيَاشًا ، فَقِيلَ: هُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ رَاشَهُ اللَّهُ يَرِيشُهُ رَيْشًا وَرِيَاشًا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمْعُ رِيشٍ كَشُعَبٍ وَشِعَابٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمَا اللِّبَاسُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا مَا يَسْتُرُ مِنْ ثِيَابٍ وَمَالٍ كَمَا يُقَالُ لِبْسٌ وَلِبَاسٌ، وَقَالَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ: الرِّيَاشُ الْمَعَاشُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الرِّيشُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالرِّيَاشُ الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ، وَقِيلَ: الرِّيشُ مَا بَطَنَ وَالرِّيَاشُ مَا ظهر.

_ (1) سورة سورة الزمر: 39/ 6. (2) سورة الحديد: 57/ 25. (3) سورة النحل: 16/ 6.

وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ وَالْكِسَائِيُّ: وَلِباسُ التَّقْوى بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَنْصُوبِ قَبْلَهُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ، فَقِيلَ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى قاله الزّجاج وذلِكَ خَيْرٌ عَلَى هَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ وَلِباسُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَلِبَاسُ التّقوى ساتر عوارتكم، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالظَّاهِرُ أنه مبتدأ ثان وخَيْرٌ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ وَلِباسُ التَّقْوى وَالرَّابِطُ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَهُوَ أَحَدُ الرَّوَابِطِ الْخَمْسِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فِي رَبْطِ الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ، وَقِيلَ: ذَلِكَ بَدَلٌ مِنْ لِبَاسٍ، وَقِيلَ: عَطْفُ بَيَانٍ، وَقِيلَ: صِفَةٌ وَخَبَرُ وَلِباسُ هُوَ خَيْرٌ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَأَنَا أَرَى أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ نَعْتًا لِلِبَاسِ التَّقْوَى لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُبْهَمَةَ أَعْرَفُ مِمَّا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَمَا أُضِيفَ إِلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَسَبِيلُ النَّعْتِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْعُوتِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ تَعْرِيفًا فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ أَحَدٍ بِهِ فَهُوَ سَهْوٌ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَصْلًا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَيَكُونُ خَيْرٌ خَبَرًا لِقَوْلِهِ وَلِباسُ التَّقْوى فَجُعِلَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فَصْلًا كَالْمُضْمَرِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَذَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ أَحَدٍ بِهِ فَهُوَ سَهْوٌ فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ: هُوَ أَنْبَلُ الْأَقْوَالِ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ انْتَهَى وَأَجَازَهُ أَيْضًا أَبُو الْبَقَاءِ وَمَا ذَكَرَهُ الْحَوْفِيُّ هُوَ الصَّوَابُ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَارِفِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأُبَيٌّ وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى اللِّبَاسِ حَقِيقَةً، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَهَذَا فِيهِ تَكْرَارٌ لِأَنَّهُ قَدْ قال لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَالسَّاعِدَانِ لِأَنَّهُ يُتَّقَى بِهَا فِي الْحَرْبِ. وَقِيلَ: الصُّوفُ وَلُبْسُ الْخَشِنِ، وَرُوِيَ اخْشَوْشِنُوا وَكُلُوا الطَّعَامَ الْخَشِنَ، وَقِيلَ مَا يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ: لِبَاسُ الْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ لِبَاسُ التَّقْوَى مَجَازٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ أَيْضًا: الْعِفَّةُ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ، وَقَالَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ: الْحَيَاءُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: خَشْيَةُ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ مَا يَظْهَرُ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْإِخْبَاتِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: الْخُشُوعُ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ عَامًّا فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّقَاءُ الْمَشْرُوعُ فَهُوَ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ إلى ما تقدم من إِنْزَالِ اللِّبَاسِ وَالرِّيَاشِ وَلِبَاسِ التَّقْوَى وَالْمَعْنَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقِيلَ: مِنْ مُوجِبِ آيَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى لِباسُ التَّقْوى أَيْ هُوَ فِي الْعِبَرِ

آيَةٌ أَيْ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَرَحِمَهُ لَعَلَّهُمْ يَذْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ فَيَشْكُرُونَ الله عليها. يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما. أَيْ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ وَيَغْلِبْ عَلَيْكُمْ وَهُوَ نَهْيٌ لِلشَّيْطَانِ وَالْمَعْنَى نَهْيُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ وَالطَّوَاعِيَةِ لِأَمْرِهِ كَمَا قَالُوا لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِقَامَةِ بِحَيْثُ يَرَاهُ، وَكَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ فِتْنَةٍ مِثْلِ فِتْنَةِ إِخْرَاجِ أَبَوَيْكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يُخْرِجَنَّكُمْ عَنِ الدِّينِ بِفِتْنَتِهِ إِخْرَاجًا مِثْلَ إِخْرَاجِهِ أَبَوَيْكُمْ، وَقَرَأَ يَحْيَى وَإِبْرَاهِيمُ: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَفْتَنَ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يَفْتِنْكُمْ بِغَيْرِ نُونِ تَوْكِيدٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِبَاسَهُمَا هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وسَوْآتِهِما هُوَ مَا يَسُوءُهُمَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَيَنْزِعُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَخْرَجَ أَوْ مِنْ أَبَوَيْكُمْ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّيْطَانِ وَضَمِيرُ الْأَبَوَيْنِ فَلَوْ كَانَ بَدَلُ يَنْزِعُ نَازِعًا تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَوْ جَوَّزَ الثَّانِي لَكَانَ وَصْفًا جَرَى عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ فَكَانَ يَجِبُ إِبْرَازُ الضَّمِيرِ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ وَيَنْزِعُ حِكَايَةُ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ لِأَنَّ نَزْعَ اللِّبَاسِ عَنْهُمَا كَانَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَنَسَبَ النَّزْعَ إِلَى الشَّيْطَانِ لَمَّا كَانَ مُتَسَبِّبًا فِيهِ. إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ أَيْ إِنَّ الشَّيْطَانَ وَهُوَ إِبْلِيسُ يُبْصِرُكُمْ هُوَ وَجُنُودُهُ وَنَوْعُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا تُبْصِرُونَهُ مِنْهَا وَهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مَعْلُومٌ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وُجُودُهُمْ، كَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَيْضًا مَعْلُومٌ وُجُودُهُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَلَا يُسْتَنْكَرُ وُجُودُ أَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ جِدًّا لَا نَرَاهَا نَحْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَوَاءَ جِسْمٌ لَطِيفٌ لَا نُدْرِكُهُ نَحْنُ وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ الْقَاطِعُ عَلَى وُجُودِهِ وَقَدْ صَحَّ تَصَوُّرُهُمْ فِي الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ وَرُؤْيَةُ بَنِي آدَمَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ كَالشَّيْطَانِ الَّذِي رَآهُ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ جَعَلَ يَحْفَظُ تَمْرَ الصَّدَقَةِ وَالْعِفْرِيتِ الَّذِي رَآهُ الرَّسُولُ وَقَالَ فِيهِ: «لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَرَبَطْتُهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ» ، وَكَحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ سُيِّرَ لِكَسْرِ ذِي الْخَلَصَةِ، وَكَحَدِيثِ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ مَعَ رَئِيِّهِ مِنَ الْجِنِّ إِلَّا أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ فِي الصُّوَرِ نَادِرَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَبْدُو فِي صُوَرٍ كَحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَحَدِيثِ الْمَلَكِ الَّذِي أَتَى الْأَعْمَى وَالْأَقْرَعَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذَا أَمْرٌ قَدِ اسْتَفَاضَ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ أَعْنِي تَصَوُّرَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فِي الصُّوَرِ الْكَثِيفَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ لَا يُرَوْنَ وَلَا يَظْهَرُونَ لِلْإِنْسِ وَأَنَّ إِظْهَارَهُمْ أَنْفُسَهُمْ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ وَأَنَّ زَعْمَ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُمْ زُورٌ وَمَخْرَفَةٌ انْتَهَى، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَنَا مِنْ جِهَةٍ لَا نَرَاهُمْ نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَكُونُونَ فِيهَا

[سورة الأعراف (7) : آية 28]

عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِمْ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَلَوْ أَرَادَ نَفْيَ رُؤْيَتِنَا عَلَى الْعُمُومِ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ أَنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُمْ وَأَيْضًا فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً لَكَانَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الْمُسْتَفِيضِ فَيَكُونُونَ مَرْئِيِّينَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بعض الأحيان وفي كتب التَّحْرِيرِ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُكَمَاءِ تَكَرُّرَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَتَصَوُّرَهُمْ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ شاؤوا وَقَوْلُهُ إِنَّهُ يَراكُمْ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ فِتْنَتِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدُوِّ الْمُدَاجِي يَكِيدُكُمْ وَيَغْتَالُكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُونَ وَفِي الْحَدِيثِ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ وَأَنَّهُ يَرْصُدُ غَفَلَاتِهِ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْحَدِيثُ انْتَهَى، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى هَذَا وَقَبِيلُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي يَراكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ وَقَبِيلُهُ بِنَصْبِ اللَّامِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الشَّيْطَانِ وَقَبِيلُهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ أَيْ مَعَ قبيله، وقرىء شَاذًّا مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُ بِإِفْرَادِ الضَّمِيرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الشَّيْطَانِ وَقَبِيلُهُ إِجْرَاءٌ لَهُ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ أَيْ كَانَ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الشَّيْطَانِ وَحْدَهُ لِكَوْنِهِ رَأْسَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ وَهُمْ لَهُ تَبَعٌ وَهُوَ الْمُفْرَدُ بِالنَّهْيِ أَوَّلًا. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ صَيَّرْنَا الشَّيَاطِينَ نَاصِرِيهِمْ وَعَاضِدِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سلطناهم عليهم يزيدن فِي غَيِّهِمْ فَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَصَارُوا أَوْلِيَاءَهُمْ، وَقِيلَ: جَعَلْنَاهُمْ قُرَنَاءَ لَهُمْ، وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّ جَعَلَ هُنَا بمعنى وصف وهي نزغة اعْتِزَالِيَّةٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ لَمْ نَكُفَّهُمْ عَنْهُمْ حَتَّى تَوَلَّوْهُمْ وَأَطَاعُوهُمْ فِيمَا سَوَّلُوا لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَهَذَا تَحْذِيرٌ آخَرُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الاعتزال. [سورة الأعراف (7) : آية 28] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها أَيْ إِذَا فَعَلُوا مَا تَفَاحَشَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 إلى 54]

مِنَ الذُّنُوبِ اعْتَذَرُوا وَالتَّقْدِيرُ وَطُلِبُوا بِحُجَّةٍ عَلَى ارْتِكَابِهَا قَالُوا: آبَاؤُنَا كَانُوا يَفْعَلُونَهَا فَنَحْنُ نَقْتَدِي بِهِمْ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ كَرِهَ اللَّهُ مِنَّا مَا نَفْعَلُهُ لَنَقَلَنَا عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّقْلِيدَ لِآبَائِهِمْ وَالتَّقْلِيدُ بَاطِلٌ إِذْ لَيْسَ طَرِيقًا لِلْعِلْمِ، وَالْإِخْبَارُ الثَّانِي افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْفَاحِشَةُ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا هِيَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ انْتَهَى، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالزَّجَّاجُ: الْفَاحِشَةُ هُنَا الشِّرْكُ، وَقِيلَ: الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي، وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَنَّهُ إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا ارْتَكَبُوا الْفَوَاحِشَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا فَعَلُوا وَمَا بَعْدَهُ دَاخِلٌ في صلة لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَقَعَ التَّوْبِيخُ بِصِفَةِ قَوْمٍ قَدْ جُعِلُوا أمثالا للمؤمنين إذا شبّه فِعْلُهُمْ فِعْلَ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ وَهُمْ قَدَرِيَّةٌ مُجْبِرَةٌ يُحَمِّلُونَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقُهُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، انْتَهَتْ حِكَايَتُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَلَعَلَّهَا لَا تَصِحُّ عَنِ الْحَسَنِ وَانْظُرْ إِلَى دَسِيسَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ قَدَرِيَّةٌ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَجْعَلُونَ الْمُعْتَزِلَةَ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ فَعَكَسَ هُوَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ حَتَّى إِنَّ مَا جَاءَ مِنَ الذَّمِّ لِلْقَدَرِيَّةِ يَكُونُ لَهُمْ وَهَذِهِ النِّسْبَةُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ هِيَ أَلْيَقُ بِمَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ لَا بِمَنْ نَفَاهُ، وَقَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَدَرِيَّةٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الْقَدَرَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ آنِفٌ وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ الْقِيَاسِيُّ وَمَعْنَاهُ نَافِي الْقِيَاسِ. قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَيْ بِفِعْلِ الْفَحْشَاءِ وَإِنَّمَا لَمْ يَرِدِ التَّقْلِيدُ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ لِلُزُومِهِ الْأَخْذَ بِالْمُتَنَاقِضَاتِ وَأَبْطَلَ تَعَالَى دَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا إِذْ مَدْرَكٌ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْوَحْيُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ فِعْلَ الْقَبِيحِ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الدَّاعِي وَوُجُودِ الصَّارِفِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِفِعْلِهِ. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إِنْكَارٌ لِإِضَافَتِهِمُ الْقَبِيحَ إِلَيْهِ وَشَهَادَةٌ عَلَى أَنَّ مَبْنَى أَمْرِهِمْ عَلَى الْجَهْلِ الْمُفْرِطِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَّخَهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَوَقْفِهِمْ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَلَا رِوَايَةَ لَهُمْ فِيهِ بَلْ هِيَ دَعْوَى واختلاق. [سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)

بَدَأَ الشَّيْءَ أَنْشَأَهُ وَاخْتَرَعَهُ، الْجَمَلُ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ وَجَمْعُهُ جِمَالٌ وَأَجْمُلٌ وَلَا يُسَمَّى جَمَلًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَالْجَمَلُ حَبْلُ السَّفِينَةِ وَلُغَاتُهُ تَأْتِي فِي الْمُرَكَّبَاتِ. سَمُّ الْخِيَاطِ ثُقْبُهُ وَتُضَمُّ سِينُ سَمُّ وَتُفْتَحُ وَتُكْسَرُ، وَكُلُّ ثُقْبٍ فِي أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ سَمًّا وَالْخِيَاطُ الْمَخِيطُ وَهُمَا آلَتَانِ كَإِزَارٍ وَمِئْزَرٍ وَلِحَافٍ وَمِلْحَفٍ وَقِنَاعٍ وَمِقْنَعٍ. الْغِلُّ الْحِقْدُ وَالْإِحْنَةُ الْخَفِيَّةُ فِي النَّفْسِ وَجَمْعُهَا غِلَالٌ وَمِنْهُ الْغُلُولُ أَخْذٌ فِي خَفَاءٍ. نَعَمْ حَرْفٌ يَكُونُ تَصْدِيقًا لِإِثْبَاتٍ مَحْضٍ أَوْ لِمَا تَضَمَّنَهُ اسْتِفْهَامٌ وَكَسْرُ عَيْنِهَا لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ وَإِبْدَالُ عَيْنِهَا بِالْحَاءِ لُغَةٌ وَوُقُوعُهَا جَوَابًا بَعْدَ نَفْيٍ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيرُ نَادِرٌ. الْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ: كُلُّ كِنَازٍ لحمه يناف ... كَالْجَبَلِ الْمُوفِي عَلَى الْأَعْرَافِ وَقَالَ الشَّمَّاخُ: فَظَلَّتْ بِأَعْرَافٍ تُعَادِي كَأَنَّهَا ... رِمَاحٌ نَحَاهَا وجهة الرمح رَاكِزُ وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ الدِّيكِ لِعُلُوِّهِمَا. السِّتَّةُ رُتْبَةٌ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٌ وَأَصْلُهَا سِدْسَةٌ فَأَبْدَلُوا مِنَ السِّينِ تَاءً وَلَزِمَ الْإِبْدَالُ ثُمَّ أَدْغَمُوا الدَّالَ فِي التَّاءِ بَعْدَ إِبْدَالِ الدَّالِ بِالتَّاءِ وَلَزِمَ الْإِدْغَامُ وَتَصْغِيرُهُ سُدَيْسٌ وَسُدَيْسَةٌ. الْحَثُّ الْإِعْجَالُ حثثت فلانا فأحثثت قَالَهُ اللَّيْثُ وَقَالَ: فَهُوَ حَثِيثٌ وَمَحْثُوثٌ. قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقِسْطُ هُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ كُلَّهَا تَنْشَأُ عَنْهَا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: الْعَدْلُ وَمَا يَظْهَرُ فِي الْقَوْلِ كَوْنُهُ حَسَنًا صَوَابًا، وَقِيلَ الصِّدْقُ وَالْحَقُّ. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَأَقِيمُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا يَنْحَلُّ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْقِسْطُ أَيْ بِأَنْ أَقْسِطُوا وَأَقِيمُوا وَكَمَا يَنْحَلُّ المصدر لأن وَالْفِعْلِ الْمَاضِي نَحْوُ عَجِبْتُ مِنْ قِيَامِ زَيْدٍ وَخَرَجَ أَيْ مِنْ أَنْ قَامَ وَخَرَجَ وَأَنْ وَالْمُضَارِعُ نَحْوُ: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي أَيْ لَأَنْ أَلْبَسَ عَبَاءَةً وَتَقَرَّ عَيْنِي كَذَلِكَ يَنْحَلُّ لَأَنْ وَفِعْلُ الْأَمْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْ تُوصَلُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ نَحْوُ كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ كَمَا تُوصَلُ بِالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ بِخِلَافِ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُوصَلُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ وَبِخِلَافِ كَيْ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَرْفًا وَكَانَتْ مَصْدَرِيَّةً فَإِنَّهَا تُوصَلُ بِالْمُضَارِعِ فَقَطْ وَلَمَّا أَشْكَلَ هَذَا التَّخْرِيجُ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَقِيمُوا عَلَى تَقْدِيرِ وقل فقال: وقل أَقِيمُوا فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ وَقُلْ أَقِيمُوا أَنْ يَكُونَ أَقِيمُوا مَعْمُولًا لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ،

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأَقِيمُوا مَعْطُوفًا عَلَى أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا لِقُلِ الْمَلْفُوظِ بِهَا أَوَّلًا وَقَدَّرَهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا خَرَّجْنَاهُ نَحْنُ يَكُونُ فِي خَبَرِ مَعْمُولِ أَمَرَ، وَقِيلَ: وَأَقِيمُوا مَعْطُوفٌ عَلَى أَمَرَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَقْبِلُوا وَأَقِيمُوا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلُّوا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أُصَلِّي فِي مَسْجِدِي، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ تَوَجَّهُوا حَيْثُ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: اجْعَلُوا سُجُودَكُمْ خَالِصًا لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اقْصِدُوا الْمَسْجِدَ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَمْرًا بِالْجَمَاعَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ فِي جِوَارِكُمْ مَسْجِدٌ فَأَقِيمُوا الْجَمَاعَةَ فِيهِ وَلَا تَتَجَاوَزُوا إِلَى غَيْرِهِ ذَكَرَهُ التِّبْرِيزِيُّ، وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ بِإِحْضَارِ النِّيَّةِ لِلَّهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَالْقَصْدِ نَحْوِهِ كَمَا تَقُولُ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ «1» الْآيَةَ قَالَهُ الرَّبِيعُ أَيْضًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِبَاحَةُ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَهُوَ مَسْجِدٌ لَكُمْ يَلْزَمُكُمْ عِنْدَهُ الصَّلَاةُ وَإِقَامَةُ وُجُوهِكُمْ فِيهِ لِلَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ حَيْثُ كَانَ» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيِ اقْصِدُوا عِبَادَتَهُ مُسْتَقِيمِينَ إِلَيْهِ غَيْرَ عَادِلِينَ إِلَى غَيْرِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي وَقْتِ كُلِّ سُجُودٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ سُجُودٌ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. قِيلَ: الدُّعَاءُ عَلَى بَابِهِ أَمَرَ بِهِ مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ لِأَنَّ دُعَاءَ مَنْ لَا يُخْلِصُ الدِّينَ لِلَّهِ لَا يُجَابُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اعْبُدُوا، وَقِيلَ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ هُوَ إِعْلَامٌ بِالْبَعْثِ أَيْ كَمَا أَوْجَدَكُمْ وَاخْتَرَعَكُمْ كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ: كَمَا أَنْشَأَكُمُ ابْتِدَاءً يُعِيدُكُمُ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْإِعَادَةَ بِابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعِيدُكُمْ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ قَالَ: كَمَا أَحْيَاكُمْ فِي الدُّنْيَا يُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ بَعْثُكُمْ بِأَشَدَّ مِنَ ابْتِدَاءِ إِنْشَائِكُمْ وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الرَّسُولِ أَنَّهُ إِعْلَامٌ بِأَنَّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَالْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ كُتِبَ لَهُ السَّعَادَةُ وَالْإِيمَانُ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَتَبَدَّلُ شَيْءٌ مِمَّا أَحْكَمَهُ وَدَبَّرَهُ تَعَالَى ويؤيد هذا المعنى

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 79.

قِرَاءَةُ أُبَيٍّ تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى تَعُودُونَ غَيْرَ حَسَنٍ لِأَنَّ فَرِيقاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَفَرِيقًا عُطِفَ عَلَيْهِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ هَدى وَمِنْ حَقَّ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَا قَبْلَهُ وَقَدْ حُذِفَ الضَّمِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَةِ أَيْ هَدَاهُمْ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فَرِيقاً مَفْعُولَ هَدى وَفَرِيقاً مَفْعُولَ أَضَلَّ مُضْمَرَةً وَالْجُمْلَتَانِ الْفِعْلِيَّتَانِ حَالٌ، وَهَدَى عَلَى إِضْمَارِ قَدْ أَيْ تَعُودُونَ قَدْ هَدَى فَرِيقًا وَأَضَلَّ فَرِيقًا، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى تَعُودُونَ وَيَكُونُ فَرِيقاً مَفْعُولًا بِهَدَى وَيَكُونُ وَفَرِيقاً مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَرِيقاً هَدى وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أَيْ وَفَّقَهُمْ لِلْإِيمَانِ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أَيْ كَلِمَةُ الضَّلَالَةِ وَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَضِلُّونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِيقاً بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَخَذَلَ فَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ انْتَهَى وَهِيَ تَقَادِيرُ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى تَعُودُونَ لَا نَاصِرَ لَكُمْ وَلَا مُعِينَ لِقَوْلِهِ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «1» ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَمَا بَدَأَكُمْ مِنَ التُّرَابِ يُعِيدُكُمْ إِلَى التُّرَابِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا خَلَقَكُمْ عُرَاةً تُبْعَثُونَ عُرَاةً وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أَيْ حَقُّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَوْ حَقَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةُ الضَّلَالَةِ هَكَذَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَجَاءَ إِسْنَادُ الْهُدَى إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يجىء مُقَابِلُهُ وَفَرِيقًا أَضَلَّ لِأَنَّ الْمَسَاقَ مَسَاقٌ مِنْ نَهْيٍ عَنْ أَنْ يَفْتِنَهُ الشَّيْطَانُ وَإِخْبَارٌ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءٌ لِلَّذِينِ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَأَمَرَ بِالْقِسْطِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَنَاسَبَ هَذَا الْمَسَاقَ أَنْ لَا يُسْنِدَ إِلَيْهِ تَعَالَى الضَّلَالَ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي وَفَاعِلُ الضَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ عَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أَيْ إِنَّ الْفَرِيقَ الضَّالَّ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَنْتَصِرُونَ بِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ اعْلُ هُبَلُ اعْلُ هُبَلُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الشَّيَاطِينِ فَهُمْ يُعِينُونَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَالضَّالُّونَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ بِانْقِيَادِهِمْ إِلَى وَسْوَسَتِهِمْ، وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ أَحْبَارُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى خَطَأِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ رَكِبَهَا أَوْ ضَلَالَةٍ اعْتَقَدَهَا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِمَوْضِعِ الصَّوَابِ انْتَهَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ قَوْلُهُ وَيَحْسَبُونَ وَالْمَحْسَبَةُ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ، وَقَرَأَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لحقّ الضلالة عليهم والكسر

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 94.

يَحْتَمِلُ التَّعْلِيلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ تَوَلَّوْهُمْ بِالطَّاعَةِ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَثَرَ لَهُ فِي ضَلَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ هُمُ الضَّالُّونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَتَوَلِّيهِمُ الشَّيَاطِينَ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الاعتزال. يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ دَسَمًا وَلَا يَنَالُونَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا تَعْظِيمًا لِحَجِّهِمْ فَنَزَلَتْ، وَقِيلَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَطُوفُ عُرْيَانًا وَيَدَعُ ثِيَابَهُ وَرَاءَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ طَافَ وَهِيَ عَلَيْهِ ضُرِبَ وَانْتُزِعَتْ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا نَعْبُدُ اللَّهَ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبْنَا فِيهَا، وَقِيلَ: تَفَاؤُلًا لِيَتَعَرَّوْا مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا تَعَرَّوْا مِنَ الثِّيَابِ. وَالزِّينَةُ فِعْلَةٌ مِنَ التَّزَيُّنِ وَهُوَ اسْمُ مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ ثِيَابٍ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ وَازَّيَّنَتْ «1» أَيْ بِالنَّبَاتِ وَالزِّينَةُ هُنَا الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهَا هُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الصَّلَاةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالزَّجَّاجُ، وَقَالَ طَاوُسٌ الشَّمْلَةُ مِنَ الزِّينَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا وَارَى عَوْرَتَكَ وَلَوْ عَبَاءَةً فَهُوَ زِينَةٌ. وَقِيلَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الطَّوَافِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَطُوفُ عُرَاةً إلا الخمس وَهُمْ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنْ تعطيهم الخمس ثِيَابًا فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ وَفِي غَيْرِ مُسْلِمٍ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا طَافَ عُرْيَانًا أَوْ فِي ثِيَابِهِ وَأَلْقَاهَا بَعْدُ فَلَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ وَيُسَمَّى اللِّقَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُنْشِدُ وَهِيَ تَطُوفُ عُرْيَانَةً: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ الرَّسُولِ أَلَّا لَا يَحُجَّ الْبَيْتَ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَكَانَ النِّدَاءُ بِمَكَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو رَوْقٍ: تَسْرِيحُ اللِّحَى وَتَنْوِيرُهَا بِالْمُشْطِ وَالتَّرْجِيلِ، وَقِيلَ: التَّزَيُّنُ بِأَجْمَلِ اللِّبَاسِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقِيلَ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَقِيلَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ بِالْمَسَاجِدِ وَكَانَ ذَلِكَ زِينَةً لَهُمْ لِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَمُشَابَهَةِ صُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَلِمَا فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ الْأُلْفَةِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وقيل: ليس النِّعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا أَحْسَبُهُ يَصِحُّ، وَقَالَ أَيْضًا: الزِّينَةُ هُنَا الثِّيَابُ السَّاتِرَةُ وَيَدْخُلُ فِيهَا مَا كَانَ مِنَ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ وَالسِّوَاكِ وَبَدَلِ الثِّيَابِ وَكُلِّ مَا أُوجِدَ اسْتِحْسَانُهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْخُيَلَاءُ.

_ (1) سورة يونس: 10/ 24.

وعِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يُرِيدُ عِنْدَ كُلِّ مَوْضِعِ سُجُودٍ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِيهَا هُوَ مُهِمُّ الْأَمْرِ وَيَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ مَوَاطِنُ الْخَيْرِ كُلُّهَا وَمَعَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خُذُوا زِينَتَكُمْ أَيْ رِيشَكُمْ وَلِبَاسَ زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ كُلَّمَا صَلَّيْتُمْ وَكَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً انْتَهَى، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الزِّينَةَ هُوَ مَا يتجمل به ويتزين عِنْدَ الصَّلَاةِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا وَلَا يَخْتَصُّ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَلَفْظَةُ كُلِّ مَسْجِدٍ تَأْتِي أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الطَّوَافِ لِعُمُومِهِ وَالطَّوَافُ إِنَّمَا هُوَ الْخَاصُّ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ حَمْلُ الْعُمُومِ عَلَى كُلِّ بُقْعَةٍ مِنْهُ وَأَيْضًا فَيَا بَنِي آدَمَ عَامٌّ وَتَقْيِيدُ الْأَمْرِ بِمَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الطَّوَافِ مُفْضٍ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وزفر ومحمد والحسن بن زِيَادٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عَلَّقَ الْأَمْرَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ السِّتْرُ لِلصَّلَاةِ، وَقَالَ: مَالِكٌ والليث: كَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ وَيُوجِبَانِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا إِنْ صَلَّى مَكْشُوفَهَا، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هِيَ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ كُلُوا مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّسَمِ وَاشْرَبُوا مِنَ الْأَلْبَانِ وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُلُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ وَأَخَوَاتِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْكَلَ أَوْ يُشْرَبَ مِمَّا يُحْظَرُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِنْ كَانَ النُّزُولُ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ كَمَا ذَكَرُوا مِنَ امْتِنَاعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالدَّسَمَ أَيَّامَ إِحْرَامِهِمْ أَوْ بَنِي عَامِرٍ دُونَ سَائِرِ الْعَرَبِ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِسْرَافُ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِوَاءِ، وَقَالَ أَيْضًا لَا تُسْرِفُوا فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ لَكُمْ، وَقَالَ أَيْضًا: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ خَصْلَتَانِ سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْإِسْرَافُ أَكْلُ الْحَرَامِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْإِسْرَافُ الْأَكْلُ مِنَ الْحَلَالِ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْإِسْرَافُ الْإِشْرَاكُ، وَقِيلَ: الْإِسْرَافُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ فِي طَوَافِهِمْ عُرَاةً يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَيْسَ فِي الْحَلَالِ سَرَفٌ إِنَّمَا السَّرَفُ فِي ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُرِيدُ فِي الْحَلَالِ الْقَصْدَ وَاللَّفْظَةُ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ السَّرَفِ مُطْلَقًا فِيمَنْ تَلَبَّسَ بِفِعْلِ حَرَامٍ فَتَأَوَّلَ تَلَبُّسُهُ بِهِ حَصَلَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَتَوَجَّهَ النَّهْيُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَلَبَّسَ بِفِعْلِ مُبَاحٍ فَإِنْ مَشَى فِيهِ عَلَى الْقَصْدِ وَأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَحَسَنٌ وَإِنْ أَفْرَطَ حَتَّى دَخَلَ الضَّرَرُ حَصَلَ أَيْضًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ

وَتَوَجَّهَ النَّهْيُ عَلَيْهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِطَ فِي شِرَاءِ ثِيَابٍ أَوْ نَحْوِهَا وَيَسْتَنْفِدُ فِي ذَلِكَ حِلَّ مَالِهِ أَوْ يُعْطِي مَالَهُ أَجْمَعَ وَيُكَابِدُ بِعِيَالِهِ الْفَقْرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوِهِ فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ انْتَهَى، وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ هُنَا أَنَّ نَصْرَانِيًّا طَبِيبًا لِلرَّشِيدِ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي حَدِيثِ الرَّسُولِ شَيْءٌ مِنَ الطِّبِّ فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا بقوله «المعدة بيت الداء والحميّة رَأَسُ كُلِّ دَوَاءٍ» وَ «أَعْطِ كُلَّ بَدَنٍ مَا عَوَّدْتَهُ» فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابُكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ زِينَةَ اللَّهِ مَا حَسَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَقَرَّرَتْهُ مِمَّا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا وَأُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَبَاحَهَا وَالطَّيِّبَاتُ هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ بِطَرِيقَةٍ وَهُوَ الْحِلُّ، وَقِيلَ: الطَّيِّبَاتُ الْمُحَلَّلَاتُ وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَوْبِيخُ مُحَرِّمِيهَا وَقَدْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنْ لُحُومِ الطَّيِّبَاتِ وَأَلْبَانِهَا وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا تَضَمَّنَ الْإِنْكَارَ لَا جَوَابَ لَهُ وَتَوَهُّمُ مَكِّيٍّ هُنَا أَنَّ لَهُ جَوَابًا هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْ هِيَ تَوَهُّمٌ فَاسِدٌ وَمَعْنَى أَخْرَجَ أَبْرَزَهَا وَأَظْهَرَهَا، وَقِيلَ فَصَلَ حَلَالَهَا مِنْ حَرَامِهَا. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قَرَأَ قَتَادَةُ قُلْ هِيَ لِمَنْ آمَنَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ خالِصَةً بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالنَّصْبِ فَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ قُلْ هِيَ مُسْتَقِرَّةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي حَالِ خُلُوصِهَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعِ خَبَرًا لِهِيَ وفِي الْحَياةِ مُتَعَلِّقٌ بِآمَنُوا وَيَصِيرُ الْمَعْنَى قُلْ هِيَ خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ آمَنَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَعْنِي بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقْتَ الْحِسَابِ وَخُلُوصُهَا كَوْنُهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ تَفْسِيرُ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وفِي الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّذِينِ وَهُوَ الْكَوْنُ الْمُطْلَقُ أَيْ قُلْ هِيَ كَائِنَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ يُشْرِكُهُمْ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنيا الكفّار وخالصة لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرَادُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتِمْرَارُ الْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا خَالِصَةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ قَوْلُ ابن عباس والضحاك وقتادة وَالْحَسَنِ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ. (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فَكَيْفَ جَاءَ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، (فَالْجَوَابُ) : مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ قُلْ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا خَالِصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِيَامَةِ لَا يُشَارَكُونَ فِيهَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، الثَّانِي: إِنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا لَيْسَ كَوْنًا مُطْلَقًا بَلْ كَوْنًا مُقَيَّدًا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ مُقَابِلُهُ وَهُوَ

خالِصَةً تَقْدِيرُهُ قُلْ هِيَ غَيْرُ خَالِصَةٍ لِلَّذِينِ آمَنُوا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: قُلْ هي للذين آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهَا خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَلِغَيْرِهِمْ، (قُلْتُ) : النِّيَّةُ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ لِلَّذِينِ آمَنُوا عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَأَنَّ الْكَفَرَةَ تَبَعٌ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ «1» انْتَهَى وَجَوَابُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ لِلتِّبْرِيزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ التِّبْرِيزِيُّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ خَالِصَةً فِي الْآخِرَةِ لَا يُشْرِكُهُمِ الْكُفَّارُ فِيهَا هَذَا وَإِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ إِلَّا أَنَّهُ أَضَافَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فِي الدُّنْيَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا لِلَّذِينِ آمَنُوا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَالْكَفَّارُ تَبَعٌ لَهُمْ فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ خَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «2» انْتَهَى، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ وَيَصِحُّ أَنْ يُعَلَّقَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِقَوْلِهِ حَرَّمَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ فُصِلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِقَوْلِهِ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ يَشُدُّ الْقِصَّةَ وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهَا جِدًّا كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «3» فَقَوْلُهُ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى كَسَبُوا داخل في الصلة وَالتَّعَلُّقُ بِأَخْرَجَ هُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ وَالطَّيِّباتِ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ مِنَ الرِّزْقِ انْتَهَى. وَتَقَادِيرُ أَبِي عَلِيٍّ وَالْأَخْفَشِ فِيهَا تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ وَسُلُوكٌ بِهِ غَيْرَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ، وَهِيَ تَقَادِيرُ أَعْجَمِيَّةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَلَاغَةِ لَا تُنَاسِبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بَلْ لَوْ قُدِّرَتْ فِي شِعْرِ الشَّنْفَرَى مَا نَاسَبَ وَالنُّحَاةُ الصِّرْفُ غَيْرُ الْأُدَبَاءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِدْرَاكِ الْفَصَاحَةِ وَأَمَّا تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَسَبُوا فَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِمُتَعَيَّنٍ فِيهِ بَلْ وَلَا ظَاهِرٌ بَلْ قَوْلُهُ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها هُوَ خَبَرٌ عَنِ النَّهْيِ أَيْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِهَا وَحَذْفُ مِنْهُمْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِمُ السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ هَذَا بِأَكْثَرَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ مِثْلُ تَفْصِيلِنَا وَتَقْسِيمِنَا السَّابِقِ نُقَسِّمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِقَوْمٍ لَهُمْ عِلْمٌ وَإِدْرَاكٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَلِمَ لِقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «4» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 126. (2) سورة البقرة: 2/ 29. (3) سورة يونس: 10/ 27. (4) سورة العنكبوت: 29/ 43. [.....]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ الْكَلْبِيُّ لَمَّا لَبِسَ الْمُسْلِمُونَ الثِّيَابَ وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عَيَّرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَقَالُوا اسْتَحَلُّوا الْحُرُمَ فَنَزَلَتْ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ وَزِيدَ هُنَا أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: مَا ظَهَرَ مِنْها طَوَافُ الرَّجُلِ بِالنَّهَارِ عُرْيَانًا وَما بَطَنَ طَوَافُهَا بِاللَّيْلِ عَارِيَةً قَالَهُ التِّبْرِيزِيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا ظَهَرَ طَوَافُ الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً وَما بَطَنَ الزِّنَا، وَقِيلَ: مَا ظَهَرَ الظُّلْمُ وَما بَطَنَ السَّرِقَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ: مَا ظَهَرَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ نِسَاءَ الْآبَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَأَنْ يَنْكِحَ الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَما بَطَنَ الزِّنَا وَالْإِثْمَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِثْمُ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ هُوَ صِغَارُ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: الْخَمْرُ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصِحُّ هُنَا لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ تُحَرَّمِ الْخَمْرُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أُحُدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ اصْطَحَبُوهَا يَوْمَ أُحُدٍ وَمَاتُوا شُهَدَاءَ وَهِيَ فِي أَجْوَافِهِمْ وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْخَمْرِ إِثْمًا فَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى زَلَّ عَقْلِي وَهُوَ بَيْتٌ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ موجب الإثم ولا يذلّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْإِثْمَ الْخَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهَا إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمَ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ وَقَالَ الْفَضْلُ: الْإِثْمَ الْخَمْرُ، وَأَنْشَدَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نَقْرَبَ الْخَنَا ... وَأَنْ نَشْرَبَ الْإِثْمَ الَّذِي يُوجِبُ الْوِزْرَا وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ أَيْضًا: وَرُحْتُ حَزِينًا ذَاهِلَ الْعَقْلِ بَعْدَهُمْ ... كَأَنِّي شَرِبْتُ الْإِثْمَ أَوْ مَسَّنِي خَبَلُ قَالَ: وَقَدْ تُسَمَّى الْخَمْرُ إِثْمًا وَأَنْشَدَ: شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى زَلَّ عَقْلِي وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءُ: الْبَغْيَ الِاسْتِطَالَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: تَكَلُّمُ الرَّجُلِ فِي الرَّجُلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْهُ بِحَقٍّ، وَقِيلَ: الظُّلْمُ وَالْكِبْرُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ وَأَفْرَدُوهُ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ «1» .

_ (1) سورة النحل: 16/ 90.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَغْيَ التَّعَدِّي وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ مُبْتَدِئًا كَانَ أَوْ مُنْتَصِرًا وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَغْيٌ بِحَقٍّ لِأَنَّ مَا كَانَ بِحَقٍّ لَا يُسَمَّى بَغْيًا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فِي الْأَنْعَامِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ تَهَكُّمٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَزِّلَ بُرْهَانًا بِأَنْ يُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَآكِلَ وَمَلَابِسَ وَمَشَارِبَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هَذَا وَعِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْعَذَابِ النَّازِلِ فِي أَجَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ أَيْ أَجَلٌ مُؤَقَّتٌ لِمَجِيءِ الْعَذَابِ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ فَأَنْتُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: الْأَجَلُ هُنَا أَجَلُ الدُّنْيَا التَّقْدِيرُ: لِلْأُمَمِ كُلِّهَا أَجَلٌ أَيْ يُقْدِمُونَ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ، وَقِيلَ: الْأَجَلُ مُدَّةُ الْعُمْرِ وَالتَّقْدِيرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ عُمْرٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ بَقَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا مَاتَ عَلِمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فِرْقَةٍ وَجَمَاعَةٍ وَهِيَ لَفْظَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ فِي قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ» وَأَفْرَدَ الْأَجَلَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ أَوْ لِتَقَارُبِ أَعْمَالِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ أَوْ لِكَوْنِ التَّقْدِيرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّةٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فَإِذَا جَاءَ آجَالُهُمْ بِالْجَمْعِ وَقَالَ سَاعَةً لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْأَوْقَاتِ فِي اسْتِعْمَالِ النَّاسِ يَقُولُ الْمُسْتَعْجِلُ لِصَاحِبِهِ فِي سَاعَةٍ يُرِيدُ فِي أَقْصَرِ وَقْتٍ وَأَقْرَبِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَفْظٌ عُنِيَ بِهِ الْجُزْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمُرَادُ جَمْعُ أَجْزَائِهِ انْتَهَى، وَالْمُضَارِعُ الْمَنْفِيُّ بِلَا إِذَا وَقَعَ فِي الظَّاهِرِ جَوَابًا لِإِذَا يَجُوزُ أَنْ يُتَلَقَّى بِفَاءِ الْجَزَاءِ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يُتَلَقَّى بِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْفِعْلِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِذْ ذَاكَ اسْمِيَّةً وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ إِذَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِإِذَا فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْفَاءِ أَوْ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى إِذَا حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي يُونُسَ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ وَتَعْقِيبٌ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ الْفَاءِ وَمَا فِي يُونُسَ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا يَسْتَأْخِرُونَ انْتَهَى، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ إِذَا شَرْطِيَّةٌ فَالَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَجِيءِ الْأَجَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي انْتِفَاءِ الِاسْتِئْخَارِ لَا فِي انْتِفَاءِ الِاسْتِقْدَامِ لِأَنَّ الِاسْتِقْدَامَ سَابِقٌ عَلَى مَجِيءِ الْأَجَلِ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَيَصِيرُ نَظِيرَ قَوْلِكَ إِذَا قُمْتَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَتَقَدَّمْ قِيَامُكَ فِي الْمَاضِي وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا قَامَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَتَقَدَّمْ قِيَامُهُ هَذَا فِي الْمَاضِي وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ:

بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... وَلَا سَابِقًا شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ جَائِيًا إِلَيْهِ لَا يَسْبِقُهُ وَالَّذِي تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْجَوَابِ عَلَى سَبِيلِ اسْتِئْنَافِ إخبار أي وهم لَا يَسْتَقْدِمُونَ الْأَجَلَ أَيْ لَا يَسْبِقُونَهُ وَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَ الْأَجَلَ وَلَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ. يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. هَذَا الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ. قِيلَ: هُوَ فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: هُوَ مُرَاعًى بِهِ وَقْتَ الْإِنْزَالِ وَجَاءَ بِصُورَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِتَقْوَى الْإِشَارَةُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي إِمَّا تَأْكِيدٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا لَمْ يُجِزْ دُخُولَ النُّونِ الثَّقِيلَةِ انْتَهَى، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُ ذَلِكَ وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَمَنِ اتَّقى فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ شُرْطِيَّةً وَجَوَابُهُ فَلا خَوْفٌ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَقِلَّةً بِجَوَابِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً فَتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا مَجْمُوعُهُمَا هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِالْكَلَامِ التَّقْسِيمَ وَجُعِلَ الْقِسْمَانِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ أَيْ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ فَالْمُتَّقُونَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالْمُكَذِّبُونَ أَصْحَابُ النَّارِ فَثَمَرَةُ إِتْيَانِ الرُّسُلِ وَفَائِدَتِهِ هَذَا وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ سَبْقَ الْإِيمَانِ إِذِ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ إِلَّا الانهماك والإفساد وقابل الْإِصْلَاحُ بِالِاسْتِكْبَارِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْعَمَلِ مِنْ نَتِيجَةِ التَّقْوَى وَالِاسْتِكْبَارُ مِنْ نَتِيجَةِ التَّكْذِيبِ وَهُوَ التَّعَاظُمُ فَلَمْ يَكُونُوا ليتّبعوا الرسل فيما جاؤوا بِهِ وَلَا يَقْتَدُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِالشَّيْءِ نَأَى بِنَفْسِهِ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَاتَانِ حَالَتَانِ تَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ يَصُدُّ عَنْ رِسَالَةِ الرَّسُولِ إِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَذَّبَ وَإِمَّا أَنْ يَسْتَكْبِرَ فَيُكَذِّبَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُصَمِّمٍ فِي اعْتِقَادِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَهَذَا نَحْوُ الْكُفْرُ عِنَادٌ انْتَهَى، وَتَضَمَّنَتِ الْجُمْلَتَانِ حَذْفَ رَابِطٍ وَتَقْدِيرُهُ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْكُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فَلا خَوْفٌ وأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الْجُمْلَتَانِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْرَجُ إِمَّا تَأْتِيَنَّكُمْ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ ويَقُصُّونَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى إِذْ ذَاكَ إِذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ تَقُصُّ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُكَذِّبِينَ ذَكَرَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهُمْ وَهُوَ مَنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَذَكَرَ أَيْضًا مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَلَا

يُنَاسِبُ هَذَا التَّفْسِيرُ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ زَيْدٍ: مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا ومجاهد أَيْضًا وَقَتَادَةُ: مَا كَتَبَ الْحَفَظَةُ فِي صَحَائِفِ النَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيُقَالُ: هَذَا نَصِيبُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي وَقَالَ الْحَكَمُ وَأَبُو صَالِحٍ مَا كتب لهم من الأرزاق وَالْأَعْمَارِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ ما كتب لهم من الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مِنَ الْكِتابِ يُرَادُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَظُّهُمْ فِيهِ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: مَا أَوْجَبَ مِنْ حِفْظِ عُهُودِهِمْ إِذَا أَعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ: مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ حَظَّهُمْ فِيهِ الْعَذَابُ وَالسُّخْطُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي كُتِبَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ رِزْقٍ وَأَجَلٍ وَغَيْرِهِمَا يَنَالُهُمْ فِيهَا وَلِذَلِكَ جَاءَتِ التَّغْيِيَةُ بَعْدَ هَذَا بحتى وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَيْ مَا كتب لهم من الأرزاق وَالْأَعْمَالِ. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَتَّى إِذا فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ، وَوَقَعَ فِي التَّحْرِيرِ حَتَّى هُنَا لَيْسَ بِغَايَةٍ بَلْ هِيَ ابْتِدَاءٌ وَجَرٌّ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَهَذَا وهم بل معناها هنا الْغَايَةُ وَالْخِلَافُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ أَهِيَ حَرْفُ جَرٍّ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَتَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا كَمَا تَتَعَلَّقُ حُرُوفُ الْجَرِّ أَمْ لَيْسَتْ حَرْفَ جَرٍّ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا تَعَلُّقَ حُرُوفِ الْجَرِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ وَالزَّجَّاجِ، وَالثَّانِي لِلْجُمْهُورِ وَإِذَا كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ فَهِيَ لِلْغَايَةِ أَلَا تَرَاهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ ... وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ وَقَوْلِ الْآخَرِ: فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءُهَا ... بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ تُفِيدُ الْغَايَةَ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَدَّ هَمَّهُمْ فِي السَّيْرِ إِلَى كَلَالِ الْمَطِيِّ وَالْجِيَادِ وَمَجَّتِ الدِّمَاءُ إِلَى تَغْيِيرِ مَاءِ دِجْلَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ حَتَّى الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ انْتَهَى، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَحَتَّى غَايَةٌ متعلقة بينا لهم فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ أَنْ يُرِيدَ التَّعَلُّقَ الصِّنَاعِيَّ وَأَنْ يُرِيدَ

التَّعَلُّقَ الْمَعْنَوِيَّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنَالُهُمْ حَظُّهُمْ مِمَّا كُتِبَ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ رُسُلُ الْمَوْتِ يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ فَيَسْأَلُونَهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيرٍ أَيْنَ مَعْبُودَاتُكُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيُجِيبُونَ بِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنَّا وَأَخَذُوا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِنَا أَوْ ضَلُّوا عَنَّا هَلَكُوا وَاضْمَحَلُّوا وَالرُّسُلُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ، ويَتَوَفَّوْنَهُمْ فِي موضع الحال وكتبت أَيْنَ ما مُتَّصِلَةً وَكَانَ قِيَاسُهُ كِتَابَتَهَا بِالِانْفِصَالِ لِأَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ كَهِيَ فِي إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ «1» إذا التَّقْدِيرُ أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَقِيلَ: مَعْنَى تَدْعُونَ أَيْ تَسْتَغِيثُونَهُمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَؤُلَاءِ تَكُونُ وَقْتَ الْمَوْتِ وَأَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ هُوَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ: الرُّسُلُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُحَاوَرَةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَعْنَى يَتَوَفَّوْنَهُمْ يَسْتَوْفُونَهُمْ عَدَدًا فِي السَّوْقِ إِلَى جَهَنَّمَ وَنَيْلِ النَّصِيبِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا لَمَا تَحَقَّقَتِ الْغَايَةُ لِانْقِطَاعِ النَّيْلِ قَبْلَهَا بِمَدَدٍ كَثِيرَةٍ وَيُحْتَمَلُ وَشَهِدُوا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا عَلَى قالُوا فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ جَوَابِ السُّؤَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ لِاحْتِمَالِ ذَلِكَ مِنْ طَوَائِفَ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ وَجَوَابُ سُؤَالِهِمْ لَيْسَ مُطَابِقًا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ مَكَانٍ، وَأُجِيبَ بِفِعْلٍ وَهُوَ مُطَابِقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِذْ تَقْدِيرُ. السُّؤَالِ مَا فعل معبود وكم مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعَكُمْ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا. قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ. أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ أَيْ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمُفْتَرُونَ الْكَذِبَ وَالْمُكَذِّبُونَ بِالْآيَاتِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَقَوْلُهُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ وَيَتَعَلَّقُ فِي أُمَمٍ فِي الظاهر بادخلوا وَالْمَعْنَى فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ تَقَدَّمَتْكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ تَقَدَّمَتْكُمْ أَيْ تَقَدَّمَ دُخُولُهَا فِي النَّارِ وَقَدَّمَ الْجِنَّ لِأَنَّهُمُ الْأَصْلُ فِي الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عُصَاةَ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَفِي النَّارِ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَتْ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى تَقَدَّمَ دُخُولُهَا أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ صِفَةٌ لِأُمَمٍ أَيْ فِي أُمَمٍ سَابِقَةٍ فِي الزَّمَانِ كَائِنَةٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَائِنَةً فِي النار أو بادخلوا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ فِي بِمَعْنَى مَعَ وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَاخْتَلَفَ مَدْلُولُ فِي إِذِ الْأُولَى تُفِيدُ الصُّحْبَةَ وَالثَّانِيَةُ تُفِيدُ الظَّرْفِيَّةَ وَإِذَا اخْتَلَفَ مَدْلُولُ الْحَرْفِ جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ اللَّفْظَانِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ ادْخُلُوا قَدْ تَعَدَّى إِلَى الظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ بِفِي وَهُوَ الْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَدَّى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِنَفْسِهِ لَا بِوَسَاطَةِ فِي كَقَوْلِهِ وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ «2»

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 134. (2) سورة التحريم: 66/ 10.

فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي بَاقِيَةً عَلَى مدلولها من الظرفية وفِي النَّارِ كَذَلِكَ وَيَتَعَلَّقَانِ بِلَفْظِ ادْخُلُوا وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ كَقَوْلِهِ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ «2» وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى حَرْفَيْ جَرٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها كُلَّما لِلتَّكْرَارِ وَلَا يَسْتَوِي ذَلِكَ في الأمة الأولى فالاحقة تَلْعَنُ السَّابِقَةَ أَوْ يَلْعَنُ بَعْضُ الْأُمَّةِ الدَّاخِلَةِ بَعْضَهَا وَمَعْنَى أُخْتَها أَيْ فِي الدِّينِ وَالْمَعْنَى كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُخْتَها الَّتِي ضَلَّتْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهَا انْتَهَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، كَمَا جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ حَتَّى غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فَوْجًا فَفَوْجًا لَاعِنًا بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى انْتِهَاءِ تَدَارُكِهِمْ وَتَلَاحُقِهِمْ فِي النَّارِ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِيهَا وَأَصْلُ ادَّارَكُوا تَدَارَكُوا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ أبو عمرو وادّاركوا بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هَذَا مُشْكِلٌ وَلَا يُسَوَّغُ أَنْ يَقْطَعَهَا ارْتِجَالًا فَذَلِكَ إِنَّمَا يَجِيءُ شَاذًّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ فِي الِاسْمِ أَيْضًا لَكِنَّهُ وَقَفَ مِثْلَ وَقْفَةِ الْمُسْتَنْكِرِ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَطَعَ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بِمَعْنَى أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ أُدْرِكُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ أُدْخِلُوا فِي إِدْرَاكِهَا، وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي قِرَاءَةِ مُجَاهِدٍ: إِنَّهَا ادَّرَكُوا بِشَدِّ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ وَأَصْلُهَا ادْتَرَكُوا وَزْنُهَا افْتَعَلُوا، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ تَدَارَكُوا وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عُمَرَ انْتَهَى، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ، وقرىء إِذَا ادَّارَكُوا بِأَلِفٍ وَاحِدَةٍ سَاكِنَةٍ وَالدَّالُ بَعْدَهَا مُشَدَّدَةٌ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَجَازَ فِي الْمُنْفَصِلِ كَمَا جَازَ فِي الْمُتَّصِلِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: اثْنَا عَشَرَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ انْتَهَى وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ كَمَا جَازَ فِي الْمُتَّصِلِ نَحْوِ الضَّالِّينَ وَجَانٍّ وأُخْراهُمْ الْأُمَّةُ الْأَخِيرَةُ فِي الزَّمَانِ الَّتِي وَجَدَتْ ضَلَالَاتٍ مُقَرَّرَةً مُسْتَعْمَلَةً لِأُولاهُمْ الَّتِي شَرَعَتْ ذَلِكَ وَافْتَرَتْ وَسَلَكَتْ سَبِيلَ الضَّلَالِ ابْتِدَاءً أَوْ أُخْراهُمْ مَنْزِلَةً وَرُتْبَةً وَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَالسَّفِلَةُ لِأُولاهُمْ مَنْزِلَةً وَرُتْبَةً وَهُمُ الْقَادَةُ الْمَتْبُوعُونَ، أَوْ أُخْراهُمْ فِي الدُّخُولِ إِلَى النَّارِ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ لِأُولَاهُمْ دُخُولًا وَهُمُ الْقَادَةُ أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِمُقَاتِلٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ أُمَّةٍ لِأَوَّلِ أُمَّةٍ وَأُخْرَى هُنَا بِمَعْنَى آخِرَةٍ مُؤَنَّثُ آخَرَ فَمُقَابِلُ أَوَّلِ لَا مُؤَنَّثَ لَهُ آخَرُ بِمَعْنَى غَيْرِ لِقَوْلِهِ وِزْرَ أُخْرى «3» وَاللَّامُ فِي

_ (1- 2) سورة النحل: 16/ 29. (3) سورة الأنعام: 6/ 164 وغيرها.

لِأُولاهُمْ لَامُ السَّبَبِ أَيْ لِأَجْلِ أُولَاهُمْ لِأَنَّ خِطَابَهُمْ مَعَ اللَّهِ لَا مَعَهُمْ أَضَلُّونا شَرَعُوا لَنَا الضَّلَالَ أَوْ جَعَلُونَا نَضِلُّ وَحَمَّلُونَا عَلَيْهِ ضِعْفًا زَائِدًا عَلَى عَذَابِنَا إِذْ هُمْ كَافِرُونَ وَمُسَبِّبُو كُفْرِنَا. قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ لِكُلٍّ مِنَ الْأُخْرَى وَالْأُولَى عَذَابٌ وَلِلْأُولَى عَذَابٌ مُتَضَاعِفٌ زَائِدٌ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ مُؤَبَّدٌ فَكُلُّ أَلَمٍ يَعْقُبُهُ آخَرُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِلسَّائِلِينَ أَيْ لَا تَعْلَمُونَ مَا لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ تَعْلَمُونَ الْمَقَادِيرَ وَصُوَرَ الْعَذَابِ قِيلَ أَوْ خِطَابٌ لِأَهْلِ الدُّنْيَا أَيْ وَلَكِنْ يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لَا تَعْلَمُونَ مِقْدَارَ ذَلِكَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ بِالْيَاءِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ الْأُمَّةِ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لَا يَعْلَمُونَ عَائِدًا عَلَى الْأُمَّةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي طَلَبَتْ أَنْ يُضَعَّفَ الْعَذَابُ عَلَى أُولَاهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الطَّائِفَتَيْنِ أَيْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ فَرِيقٍ قَدْرَ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ قَدْرَ مَا أُعِدَّ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنَ الْعَذَابِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الضِّعْفَ هُنَا الْأَفَاعِي وَالْحَيَّاتُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ رَدٌّ عَلَى أُولَئِكَ السَّائِلِينَ وَعَدَمُ إِسْعَافٍ لِمَا طَلَبُوا. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. أَيْ قَالَتِ الطَّائِفَةُ الْمَتْبُوعَةُ لِلطَّائِفَةِ الْمُتَّبِعَةِ وَاللَّامُ فِي لِأُخْراهُمْ لَامُ التَّبْلِيغِ نَحْوُ قُلْتُ لَكَ اصْنَعْ كَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ هُوَ مَعَ أُخْرَاهُمْ بِخِلَافِ اللَّامِ أَيْ فِي لِأُولاهُمْ فَإِنَّهَا كما وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى مِنْ فَضْلٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لِمَا قَالَ اللَّهُ لِكُلٍّ ضِعْفٌ قَالَتِ الْأُولَى لِلْأُخْرَى لَمْ تُبَلَّغُوا أَمَلًا بِأَنَّ عَذَابَكُمْ أَخَفُّ مِنْ عَذَابِنَا وَلَا فُضِّلْتُمْ بِالْإِسْعَافِ انْتَهَى، وَالْفَاءُ فِي فَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطَفُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى قول الله تعالى للسّلفة لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ كَوْنِ فُضِّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّفِلَةِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْكُفْرِ أَيْ اتِّبَاعُكُمْ إِيَّانَا وَعَدَمُ اتِّبَاعِكُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَقَلَّ عِنْدَنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ عَلَيْنَا فَضْلٌ بِاتِّبَاعِكُمْ بَلْ كَفَرْتُمُ اخْتِيَارًا لَا إِنَّا حَمَلْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِجْبَارًا وَأَنَّ قَوْلَهُ فَمَا مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ بَعْدَ الْقَوْلِ دَلَّ عَلَيْهَا مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ مَا دُعَاؤُكُمُ اللَّهَ بِأَنَّا أَضْلَلْنَاكُمْ وَسُؤَالُكُمْ مَا سَأَلْتُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بِضَلَالِكُمْ وَأَنَّ قَوْلَهُ فَذُوقُوا الْعَذابَ مِنْ كَلَامِ الْأُولَى خِطَابًا لِلْأُخْرَى عَلَى سَبِيلِ التَّشَفِّي مِنْهُمْ وَأَنَّ ذَوْقَ الْعَذَابِ هُوَ بِمَا كَسَبَتْ مِنَ الْآثَامِ لَا بِسَبَبِ دَعْوَاكُمْ أَنَّا أَضْلَلْنَاكُمْ، وَقِيلَ: فَذُوقُوا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لِجَمِيعِهِمْ. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُفَتَّحُ لِأَعْمَالِهِمْ وَلَا لِدُعَائِهِمْ وَلَا لِمَا يُرِيدُونَ بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا يَصْعَدُ لَهُمْ

صَالِحٌ فَتُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَهُ وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1» وَمِنْ قَوْلِهِ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «2» ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لَا تُفَتَّحُ لِأَرْوَاحِهِمْ وَذَكَرُوا فِي صُعُودِ الرّوحين إلى السماء الإذن لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرَدِّ رُوحِ الْكَافِرِ أَحَادِيثَ وَذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِمَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فِي الْقِيَامَةِ لِيَدْخُلُوا مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ أَيْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقِيلَ: لَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْبَرَكَةُ وَلَا يُغَاثُونَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو لَا تُفَتَّحُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ بِالْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ مِنْ أَعْلَى وَالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو البر هثيم بِالثَّاءِ مِنْ أَعْلَى مَفْتُوحَةً وَالتَّشْدِيدِ. وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ هَذَا نَفْيٌ مُغَيًّا بِمُسْتَحِيلٍ وَالْوُلُوجُ التَّقَحُّمُ فِي الشَّيْءِ وَذَكَرَ الْجَمَلَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْحَيَوَانِ الْمُزَاوِلِ لِلْإِنْسَانِ جُثَّةً فَلَا يَلِجُ إِلَّا فِي بَابٍ وَاسِعٍ كَمَا قَالَ، لَقَدْ عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ، وَقَالَ: جِسْمُ الْجِمَالِ وَأَحْلَامُ الْعَصَافِيرِ، وَذَكَرَ سَمِّ الْخِياطِ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي ضِيقِ الْمَسْلَكِ يُقَالُ: أَضْيَقُ مِنْ خَرْتِ الْإِبْرَةِ، وَقِيلَ لِلدَّلِيلِ خِرِّيتٌ لِاهْتِدَائِهِ فِي الْمَضَايِقِ تَشْبِيهًا بِإِخْرَاتِ الْإِبْرَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكُ بْنُ الشِّخِّيرِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو رَزِينٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ الْجُمَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً وَفُسِّرَ بِالْقَلْسِ الْغَلِيظِ وَهُوَ حَبْلُ السَّفِينَةِ تُجْمَعُ حِبَالٌ وَتُفْتَلُ وَتَصِيرُ حَبْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ: هُوَ الْحَبْلُ الْغَلِيظُ مِنَ الْقِنَّبِ، وَقِيلَ: الْحَبْلُ الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ فِي النَّخْلِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ أَنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ تَشْبِيهًا مِنْ أَنْ يُشَبِّهَ بِالْجَمَلِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ وَالْحَبْلُ يُنَاسِبُ الْخَيْطَ الَّذِي يَسْلُكُ بِهِ فِي خُرْمِ الْإِبْرَةِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الَّذِي رَوَى الْجَمَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَشَدَّدَ الْجِيمَ لِعُجْمَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِكَثْرَةِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ انْتَهَى، وَلِكَثْرَةِ الْقُرَّاءِ بِهَا غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَسَالِمٍ الْأَفْطَسِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْجَحْدَرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ مُخَفَّفَةً، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْمُتَوَكِّلُ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَمَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الفلس الغليظ وهو حبل السفينة وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الْجَمَلُ بِفَتْحِ الجيم الميم

_ (1) سورة فاطر: 35/ 10. (2) سورة المطففين: 83/ 18.

أَوْقَعُ لِأَنَّ سَمَّ الْإِبْرَةِ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الضِّيقِ وَالْجَمَلُ وَهُوَ هَذَا الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي عِظَمِ الْجُثَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْجَمَلِ فَقَالَ زَوْجُ النَّاقَةِ وَذَلِكَ مِنْهُ اسْتِجْهَالٌ لِلسَّائِلِ وَمَنْعٌ مِنْهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لَهُ مَعْنًى آخَرَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَتَادَةُ وَأَبُو رَزِينٍ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَطَلْحَةُ بِضَمِّ سِينِ سَمِّ، وَقَرَأَ أَبُو عِمْرَانَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو نَهِيكٍ وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو رَزِينٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ الْمِخْيَطُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي أَهْلَ الْجَرَائِمِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِيُؤْذِنَ أَنَّ الْإِجْرَامَ هُوَ السَّبَبُ الْمُوصِلُ إلى العقاب وَأَنَّ كُلَّ مَنْ أَجْرَمَ عُوقِبَ ثُمَّ كَرَّرَهُ تَعَالَى فَقَالَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لِأَنَّ كُلَّ مُجْرِمٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لِمَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ النَّارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا قَالَ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ «1» والغواشي جميع غَاشِيَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ اللُّحُفُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَغْشَاهُمُ الدُّخَانُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: غَاشِيَةٌ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمِهَادُ الْفُرُشُ وَالْغَوَاشِي اللُّحُفُ وَالتَّنْوِينُ فِي غَواشٍ تَنْوِينُ صَرْفٍ أَوْ تَنْوِينُ عِوَضٍ قَوْلَانِ وَتَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الْيَاءِ أَوْ مِنَ الْحَرَكَةِ قَوْلَانِ كُلُّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النحو، وقرىء غَواشٍ بِالرَّفْعِ كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ «2» . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لَمَّا أَخْبَرَ بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ أَخْبَرَ بوعد المؤمنين وخبر والَّذِينَ الْجُمْلَةُ مِنْ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً مِنْهُمْ أَوِ الْجُمْلَةُ مِنْ أُولئِكَ وَمَا بَعْدَهُ وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا نُكَلِّفُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ قَوْلُهُ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَسِعَهُمْ وَغَيْرُ خَارِجٍ عَنْ قُدْرَتِهِمْ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَعَ عِظَمِ محالها يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالْعَمَلِ السَّهْلِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا مَا وَجَدَ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ دُونَ مَا لَا تَنَالُهُ يَدُهُ وَلَمْ يَرِدْ إِثْبَاتُ الِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا «3» انْتَهَى، وَلَيْسَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي مَا ذكره، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِلتَّرْغِيبِ فِي اكْتِسَابِ مَا لَا يكتنهه

_ (1) سورة الزمر: 39/ 16. (2) سورة الرحمن: 55/ 24. (3) سورة الطلاق: 65/ 7.

وَصْفُ الْوَاصِفِ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ مَعَ الْعَظِيمِ بِمَا هُوَ مِنَ الْوَاسِعِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ الْوَاسِعُ غَيْرُ الضَّيِّقِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ. وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أَيْ أَذْهَبْنَا فِي الْجَنَّةِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ مِنَ الْحُقُودِ. وَقِيلَ نَزْعُ الْغِلِّ فِي الْجَنَّةِ أَنْ لَا يَحْسُدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي نفاضل مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: غِلُّ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِينَا وَاللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ نَزَلَتْ وَعَنْهُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ وَنَزَعْنا الْآيَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّزْعَ لِلْغِلِّ كِنَايَةٌ عَنْ خَلْقِهِمْ فِي الْآخِرَةِ سَالِمِي الْقُلُوبِ طَاهِرِيهَا مُتَوَادِّينَ مُتَعَاطِفِينَ، كَمَا قَالَ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «1» وتَجْرِي حَالٌ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ: وَالْعَامِلُ فِيهِ نَزَعْنا، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ تَجْرِي لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ نَزَعْنا وَلَا صِفَاتِ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مَا فِي صُدُورِهِمْ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْإِضَافَةِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا إِذَا كانت إضافة يمكن للمضاعف أَنْ يَعْمَلَ إِذَا جُرِّدَ مِنَ الْإِضَافَةِ رَفْعًا أَوْ نَصْبًا فِيمَا بَعْدَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ عَنْ صِفَةِ حَالِهِمْ. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أَيْ وَفَّقَنَا لِتَحْصِيلِ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي صِرْنَا إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِذْ هُوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهَا حَمْدُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ هُنَا هُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلِهِمْ فِيهَا وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ أَحَدَهُمْ أَهْدَى إِلَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا» ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هَذَا جَزَاؤُهُ، وَقِيلَ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي تَأَهَّلُوا بِهِ لِهَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَفَّقَنَا لِمُوجِبِ هَذَا الْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الإيمان والعمل الصالح انتهى، وَفِي لَفْظَةِ وَاجِبٌ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَعْنَى هَدانا اللَّهُ أَعْطَانَا الْقُدْرَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا الدَّاعِيَةَ الْجَازِمَةَ، وَصَيَّرَ مَجْمُوعَهُمَا لِحُصُولِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ التَّحْمِيدُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَقْلَ وَوَضَعَ الدَّلَائِلَ وَأَزَالَ الْمَوَانِعَ انْتَهَى، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَيْأَسُوا أَبَدًا» فَلِذَلِكَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا.

_ (1) سورة الحجر: 15/ 47.

وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أَيْ وَمَا كَانَتْ تُوجِدُ مِنَّا أنفسنا وجدها الْهِدَايَةَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانَا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُوَضِّحُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْهِدَايَةِ فِيهِمْ وَأَنَّهُمْ لَوْ خُلُّوا وَأَنْفُسَهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ هِدَايَةٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كَانَ يَسْتَقِيمُ أَنْ نَكُونَ مُهْتَدِينَ لَوْلَا هِدَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقُهُ، وَقَالَ أَبُو البقاء: وما كنا الواو لِلْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً انْتَهَى، وَالثَّانِي: أَظْهَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ مَا كُنَّا بِغَيْرِ وَاوٍ وَكَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَهِيَ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِلْأُولَى وَمَنْ أَجَازَ فِيهَا الْحَالَ مَعَ الْوَاوِ يَنْبَغِي أَنْ يُجِيزَهَا دُونَهَا، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ جَوَابَ لَوْلا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أَوْ لَضَلَلْنَا لِأَنَّ لَوْلا لِلتَّعْلِيقِ فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَرَّجَ قَوْلَهُ لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ «1» عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهَمَّ بِها وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ فِي مَنْعِ تَقْدِيمِ جَوَابِ الشَّرْطِ. لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أَيْ بِالْمَوْعُودِ الَّذِي وُعِدْنَا فِي الدُّنْيَا قَضَوْا بِأَنَّ ذَلِكَ حقّ قضاء مشاهدة بِالْحِسِّ وَكَانُوا فِي الدُّنْيَا يَقْضُونَ بِذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَعَ الْمَوْعُودُ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْوَعْدُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَكَانَ لَنَا لُطْفًا وَتَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِدَاءِ فَاهْتَدَيْنَا يَقُولُونَ ذَلِكَ سُرُورًا وَاغْتِبَاطًا بِمَا نَالُوا وَتَلَذُّذًا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ لَا تَقَرُّبًا وَتَعَبُّدًا كَمَا تَرَى مَنْ رُزِقَ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا يَتَكَلَّمُ بِنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يَتَمَالَكُ أَنْ يَقُولَهُ لِلْفَرَحِ لَا لِلْقُرْبَةِ. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ أَسَرُّ لِقُلُوبِهِمْ وَأَرْفَعُ لِقَدْرِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ وَنُودُوا بِأَنَّهُ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُحْذَفُ إِذَا خُفِّفَتْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً لِوُجُودِ شَرْطِهَا وَهُمَا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ وَبَعْدَهَا جُمْلَةٌ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ تِلْكُمُ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبَةٍ فَإِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا فَالْإِشَارَةُ إِلَى تِلْكَ أَيْ تِلْكُمُ هَذِهِ الْجَنَّةُ وَحُذِفَتْ هَذِهِ وَإِمَّا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَإِمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا فَكُلٌّ غَائِبٌ عَنْ مَنْزِلِهِ انْتَهَى، وَفِي كِتَابِ التحرير وتِلْكُمُ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا تِلْكُمُ لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا فَلِأَجْلِ الْوَعْدِ جَرَى الْخِطَابُ بكلمة العهد قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصِّدِّيقِ فِي الِاسْتِخْبَارِ عَنْ عَائِشَةَ «كَيْفَ تِيكُمْ لِلْعَهْدِ السَّابِقِ» انْتَهَى، والْجَنَّةُ جَوَّزُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ خبرا لتلكم وأُورِثْتُمُوها حال كقوله

_ (1) سورة يوسف: 12/ 24.

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» . قَالَ أبو البقاء: حال من الْجَنَّةُ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ تِلْكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْخَبَرِ وَلِكَوْنِ الْمُبْتَدَأِ لَا يَعْمَلُ فِي الْحَالِ انْتَهَى، وَفِي الْعَامِلِ فِي الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذَا زَيْدٌ قَائِمًا خِلَافٌ فِي النَّحْوِ وَأَنْ يَكُونَ نعتا وبدلا وأُورِثْتُمُوها الْخَبَرُ أَدْغَمَ النَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ الثَّاءَ فِي التَّاءِ وَأَظْهَرَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ وَمَعْنَى أُورِثْتُمُوها صُيِّرَتْ لَكُمْ كَالْإِرْثِ وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أُورِثْتُمُوهَا عَنْ آبَائِكُمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَنَازِلَهُمْ لَوْ آمَنُوا فَحُرِمُوهَا بِكُفْرِهِمْ وَبُعْدُهُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ تَكُنْ آبَاؤُهُمْ كُلُّهُمْ كُفَّارًا وَالْبَاءُ فِي بِما لِلسَّبَبِ الْمَجَازِيِّ وَالْأَعْمَالُ أَمَارَةٌ مِنَ اللَّهِ وَدَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الرَّجَاءِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْقَسْمُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ وَلَفْظُ أُورِثْتُمُوها مُشِيرٌ إِلَى الْأَقْسَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ لَا بِالتَّفَضُّلِ كَمَا تَقُولُ الْمُبْطِلَةُ انْتَهَى، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» . وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ. عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَهَذَا النِّدَاءُ فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَوْقِيفٌ عَلَى مَآلِ الْفَرِيقَيْنِ وَزِيَادَةٌ فِي كُرَبِ أَهْلِ النَّارِ بِأَنْ شُرِّفُوا عَلَيْهِمْ وَبِخَلْقِ إِدْرَاكِ أَهْلِ النَّارِ لِذَلِكَ النِّدَاءِ فِي أَسْمَاعِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ اغْتِبَاطًا بِحَالِهِمْ وَشَمَاتَةً بِأَهْلِ النَّارِ وَزِيَادَةً فِي غَمِّهِمْ وَلِيَكُونَ حِكَايَتُهُ لُطْفًا لِمَنْ سَمِعَهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ مَلَكٌ يَأْمُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُنَادِي بَيْنَهُمْ يُسْمِعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ وَأَتَى فِي إِخْبَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَا وَعَدَنا بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ النَّارِ مَا وَعَدَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ وَعَدَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُسْتَبْشِرُونَ بِحُصُولِ مَوْعُودِهِمْ فَذَكَرُوا مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مُضَافًا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا حِينَ سَأَلُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مُتَعَلِّقَ وَعَدَ بَاسِمِ الخطاب فيقولوا: ما وَعَدَ رَبُّكُمْ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَوْعُودٍ مِنْ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ وَنَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَكُونُ إِجَابَتُهُمْ بِنَعَمْ تَصْدِيقًا لِجَمِيعِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ فِي الآخرة للصفين وَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِحُصُولِ مَوْعُودِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَتَحَسَّرُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ نَعِيمِهِمْ إِذْ نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِمَّا يُخْزِيهِمْ وَيَزِيدُ فِي عَذَابِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لِلْخِطَابِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ نَعَمْ

_ (1) سورة النمل: 27/ 52.

بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مُخَفَّفَةً مِنْ أَنَّ الثَّقِيلَةِ وَإِذَا وَلِيَ الْمُخَفَّفَةَ فِعْلٌ مُتَصَرِّفٌ غَيْرُ دُعَاءٍ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقَدْ فِي الْأَجْوَدِ كَقَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أَيْ فَأَعْلَمَ مُعْلِمٌ، قِيلَ: هُوَ إِسْرَافِيلُ صَاحِبُ الصُّورِ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ يُسْمِعُ الْفَرِيقَيْنِ تَفْرِيحًا وَتَبْرِيحًا، وَقِيلَ: مَلَكٌ غَيْرُهُ مُعَيَّنٌ وَدَخَلَ طَاوُسٌ عَلَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: احْذَرْ يَوْمَ الْأَذَانِ فَقَالَ: وَمَا يَوْمُ الْأَذَانِ قَالَ: يَوْمَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ الْآيَةَ فَصَعِقَ هِشَامٌ فَقَالَ طَاوُسٌ هَذَا ذُلُّ الصِّفَةِ فَكَيْفَ ذُلُّ الْمُعَايَنَةِ وَبَيْنَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لأذّن وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمُؤَذِّنٍ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْبَزِّيُّ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بِتَثْقِيلِ أَنَّ وَنَصْبِ لَعْنَةَ وَعِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالتَّثْقِيلِ وَنَصْبِ لَعْنَةَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَوْ إِجْرَاءِ أَذَّنَ مَجْرَى قَالَ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ إِنْ يفتح الْهَمْزَةِ خَفِيفَةَ النُّونِ وَرَفْعِ لَعْنَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَوْ مفسرة ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ وَهَذَا الْوَصْفُ بِالْمَوْصُولِ هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِهِمُ السَّابِقِ وَالْمَعْنَى الَّذِينَ كَانُوا يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الْأَذَانِ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَالْمَعْنِيُّ بِالظُّلْمِ الْكُفَّارُ وَيَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ قَوْلُهُ أَخِيرًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ كَافِرًا بِالْآخِرَةِ بَلْ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِهَا. وَبَيْنَهُما حِجابٌ أَيْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِهَذَا بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَفُسِّرَ الْحِجَابُ بِأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُقَوِّي أَنَّهُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظُ بَيْنَهُمْ إِذْ هُوَ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ وَلَا يَحِيلُ ضَرْبُ السُّورِ بَعْدُ مَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ فِي السَّمَاءِ وَالنَّارُ أَسْفَلُ السَّافِلِينَ. وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أَيْ وَعَلَى أَعْرَافِ الْحِجَابِ وَهُوَ السُّورُ الْمَضْرُوبُ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ فَرِيقَيِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِعَلَامَتِهِمُ الَّتِي مَيَّزَهُمُ اللَّهُ بِهَا مِنِ ابْيِضَاضِ وُجُوهٍ وَاسْوِدَادِ وُجُوهٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَلَامَاتِ أَوْ بِعَلَامَتِهِمُ الَّتِي يُلْهِمُهُمُ اللَّهُ مَعْرِفَتَهَا والْأَعْرافِ تَلٌّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِجَابٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقِيلَ: هُوَ أُحُدٌ مُمَثَّلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ رُوِيَ هَذَا فِي حَدِيثٍ وَفِي آخَرَ «إِنَّ أُحُدًا عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ» ، وَقِيلَ: أَعَالِي السُّورِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالرِّجَالُ قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَقَفُوا هُنَالِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَمْ تَبْلُغْ حَسَنَاتُهُمْ بِهِمْ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَلَا سَيِّئَاتُهُمْ دُخُولَ النَّارِ، وَرُوِيَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ

جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فِيهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ قَالَ: «أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ» ، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أَيْضًا هُمْ قَوْمٌ أَبْطَأَتْ بِهِمْ صَغَائِرُهُمْ إِلَى آخِرِ النَّاسِ، وَقِيلَ غُزَاةٌ جَاهَدُوا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِمْ فَقُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ أَنَّهُمْ حُبِسُوا عَنِ الْجَنَّةِ بِمَعْصِيَةِ آبَائِهِمْ وَأَعْتَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِهِ ، وَقِيلَ: قَوْمٌ رَضِيَ عَنْهُمْ آبَاؤُهُمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَادُ الزِّنَا، وَقِيلَ: أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَسْرِ وَلَمْ يُبَدِّلُوا دِينَهُمْ، وَقِيلَ: عُلَمَاءٌ شَكُّوا فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آخِرِهِمْ دُخُولًا فِي الْجَنَّةِ لِقُصُورِ أَعْمَالِهِمْ كَأَنَّهُمُ الْمُرْجِئُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ يُحْبَسُونَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ عَلَى أَعْرَافِ ذَلِكَ السُّورِ أَوْ عَلَى مَوَاضِعَ مُرْتَفِعَةٍ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَأَخَّرُ دُخُولُهُمْ وَيَقَعُ لَهُمْ مَا وُصِفَ مِنَ الِاعْتِبَارِ فِي الْفَرِيقَيْنِ ويَعْرِفُونَ كُلًّا بِعَلَامَتِهِمْ وَهِيَ بَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا فِي أَهْلِ النَّارِ انْتَهَى، وَالْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ فِي التَّخْصِيصِ وَالْجَيِّدُ مِنْهَا هُوَ الْأَوَّلُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِتَفْسِيرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ أن الْأَعْرافِ هُوَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفِي شَعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ الصَّلْتِ: وَآخَرُونَ عَلَى الْأَعْرَافِ قَدْ طَمِعُوا ... فِي جَنَّةٍ حَفَّهَا الرُّمَّانُ وَالْخَضِرُ وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ الصِّرَاطُ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَبَلٌ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ أَوْ أَعْلَاهَا وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِ رِجَالٌ، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: مَلَائِكَةٌ فِي صُوَرِ رِجَالٍ ذُكُورٍ وَسُمُّوا رِجَالًا لِقَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ هُمْ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ وَقَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ: وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَقَالَ: هُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَقِيلَ: حَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ الطَّيَّارُ ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَنَادَوْا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ عَائِدٌ عَلَى الرِّجَالِ الَّذِينَ عَلَى الْأَعْرَافِ وَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الضَّمَائِرُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِشَيْءٍ مِمَّا فُسِّرَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى جَبَلٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ أَوْ أَعْلَى الْجَنَّةِ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 9. [.....]

وَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ مَا تؤول مِنْ ذَلِكَ لِيَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّهُمْ أُجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيُشَاهِدُوا أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ فَيَلْحَقُهُمُ السُّرُورُ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ ثُمَّ إِذَا اسْتَقَرَّ الْفَرِيقَانِ نُقِلُوا إِلَى أَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَمَعْنَى لَمْ يَدْخُلُوها لَمْ يَدْخُلُوا مَنَازِلَهُمُ الْمُعَدَّةَ لَهُمْ فِيهَا وَمَعْنَى وَهُمْ يَطْمَعُونَ يَتَيَقَّنُونَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الزُّلْفَى وَقَدْ جَاءَ الطَّمَعُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ قَالَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «1» وَطَمَعُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقِينٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَأَطْمَعُ أَنَّ الْإِلَهَ ... قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَعْرَافَ جَبَلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الْقَاضِي وَالْجُبَّائِيُّ وَقَالَا: هُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِهَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِوُجُودِ أَقْوَامٍ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ لَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِأَنَّ كَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ يَدُلُّ عَلَى مَيْزِهِمْ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ إِجْلَاسَهُمْ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ الْعَالِيَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَشْرَافِ وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ دَرَجَتُهُ قَاصِرَةٌ لَا يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَنُودُوا خِطَابٌ مَعَ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ، وَعَنِ الثَّانِي أَجْلَسَهُمْ لَا لِلتَّشْرِيفِ بَلْ لِأَنَّهَا كَالْمَرْتَبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وأَنْ سَلامٌ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تكون تفسرية وَمُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوهَا حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ نَادَاهُمْ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُمْ يَطْمَعُونَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ أَيْ نَادَوْا أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرَ دَاخِلِيهَا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ طَامِعُونَ فِي دُخُولِهَا قَالَ مَعْنَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِالسَّلَامِ وَهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَأَهْلُ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ لَمْ يَدْخُلُوها حَالًا مِنْ ضَمِيرِ وَنَادَوُا الْعَائِدِ عَلَى أَهْلِ الْأَعْرَافِ فَقَطْ وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الطَّمَعَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا لِخَيْرٍ أَرَادَهُ بِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَلْيَقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: إِنَّمَا طَمِعَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ النُّورَ الَّذِي كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُطْفَأْ حِينَ طفىء نُورُ مَا بِأَيْدِي الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: وَهُمْ يَطْمَعُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي يَدْخُلُوها وَالْمَعْنَى لَمْ يَدْخُلُوهَا فِي حَالِ طَمَعٍ لَهَا بَلْ كَانُوا فِي حَالِ يَأْسٍ وَخَوْفٍ لَكِنْ عَمَّهُمْ عفو الله.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 82.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَحَلُّ قَوْلِهِ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ؟ (قُلْتُ) : لَا مَحَلَّ لَهُ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَقِيلَ لَهُ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ يَعْنِي أَنَّ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ اسْتَأْخَرَ عَنْ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَمْ يَدْخُلُوهَا لِكَوْنِهِمْ مَحْبُوسِينَ وَهُمْ يَطْمَعُونَ لَمْ يَيْأَسُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَحَلٌّ بِأَنْ يَقَعَ صِفَةً انْتَهَى، وَهَذَا تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ بِجُمْلَةِ وَنَادَوْا وَلَيْسَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ وَقَرَأَ ابْنُ «1» النَّحْوِيِّ وَهُمْ طَامِعُونَ، وَقَرَأَ إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ وَهُمْ سَاخِطُونَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَإِذَا قُلِّبَتْ أَبْصارُهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي أَبْصَارِهِمْ عَائِدٌ عَلَى رِجَالِ الْأَعْرَافِ يُسَلِّمُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ النَّارِ دَعَوُا اللَّهَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: الضَّمِيرُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ وَفِي قَوْلِهِ صُرِفَتْ دَلِيلٌ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمُ النَّظَرُ إِلَى تِلْقَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ نَظَرَهُمْ إِلَى أَصْحَابِ النَّارِ هُوَ بِكَوْنِهِمْ صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَهُمْ فَلَيْسَ الصَّرْفُ مِنْ قِبَلِهِمْ بَلْ هُمْ مَحْمُولُونَ عَلَيْهِ مَفْعُولٌ بِهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُطَّلَعَ مَخُوفٌ مِنْ سَمَاعِهِ فَضْلًا عَنْ رُؤْيَتِهِ فَضَلًا عَنِ التَّلَبُّسِ بِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا حُمِلُوا عَلَى صَرْفِ أَبْصَارِهِمْ وَرَأَوْا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ اسْتَغَاثُوا بِرَبِّهِمْ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مَعَهُمْ وَلَفْظَةُ رَبَّنا مُشْعِرَةٌ بِوَصْفِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُصْلِحُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ وَهُمْ عَبِيدٌ فَبِالدُّعَاءِ بِهِ طَلَبُ رَحْمَتِهِ وَاسْتِعْطَافُ كَرَمِهِ. وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النِّدَاءُ وَأُولَئِكَ الرِّجَالُ فِي النَّارِ وَمَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَلَامَاتٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ يُحْمَلُونَ إِلَى النَّارِ وَسِيمَاهُمْ تَسْوِيدُ الْوَجْهِ وَتَشْوِيهُ الْخَلْقِ، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: الْمَلَائِكَةُ تُنَادِي رِجَالًا فِي النَّارِ وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْأَعْرَافَ هُمْ مَلَائِكَةٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ آدَمِيُّونَ وَلَفْظُ رِجالًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: يُنَادِي أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ امْتِحَاءِ صُوَرِهِمْ بِالنَّارِ يَا وَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا عَاصِي بْنَ وَائِلٍ يَا عُتْبَةُ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ يَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ يَا أُبَيُّ بْنَ خَلَفٍ يَا سَائِرَ رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ فِي الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْوَلَدُ وَالْأَجْنَادُ وَالْحُجَّابُ وَالْجُيُوشُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ انْتَهَى، وَما أُغْنِي اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، وقيل: نافية وما في وما كُنْتُمْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ وَكَوْنُكُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ تَسْتَكْثِرُونَ بِالثَّاءِ مُثَلَّثَةً مِنَ الْكَثْرَةِ. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ

_ (1) سورة هكذا بياض بجميع الأصول اه..

الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ كَانَ الرُّؤَسَاءُ يَسْتَهِينُونَ بِهِمْ وَيُحَقِّرُونَهُمْ لِفَقْرِهِمْ وَقِلَّةِ حُظُوظِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَكَانُوا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ، قَالَ: الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمُخَاطَبُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَعْرَافِ وَالَّذِينَ خُوطِبُوا أَهْلُ النَّارِ وَالْمَعْنَى أَهؤُلاءِ الضُّعَفَاءُ فِي الدُّنْيَا الَّذِينَ حَلَفْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِهِمْ قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهؤُلاءِ مِنْ كَلَامِ مَلَكٍ بِأَمْرِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَمُخَاطَبَةً لِأَهْلِ النَّارِ، قَالَ النَّقَّاشُ لَمَّا وَبَّخُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أَقْسَمَ أَهْلُ النَّارِ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ دَاخِلُونَ النَّارَ مَعَهُمْ فَنَادَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَهؤُلاءِ ثُمَّ نَادَى أَهْلُ الْأَعْرَافِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى مُخَاطَبَةِ أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَالْقَائِلُ إِمَّا اللَّهُ وَإِمَّا الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: الْمُشَارُ بِهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَالْقَائِلُ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ يأمر الله تعالى، وقال أبو مِجْلَزٍ: أَهْلُ الْأَعْرَافِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمُ الْقَائِلُونَ أَهؤُلاءِ إِشَارَةً إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَذَلِكَ مَجِيءُ قَوْلِ مَنْ قَالَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ أَنْبِيَاءٌ وَشُهَدَاءٌ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ: أَدْخِلُوا مِنْ أَدْخَلَ أَيْ أَدْخِلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ يَكُونُ خِطَابًا لِلْمَلَائِكَةِ ثُمَّ خَاطَبَ بَعْدُ الْبَشَرَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ دَخَلُوا إِخْبَارًا بِفِعْلٍ مَاضٍ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَابْنُ وثاب والنخعي ادْخُلُوا خيرا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ مَقُولًا لَهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُحْبَسُوا عَلَى الْأَعْرَافِ وَيَنْظُرُوا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ وَيَعْرِفُوهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَيَقُولُوا مَا يَقُولُونَ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ وَأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ عَلَى حَسَبِهَا وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْبِقُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِسَبْقِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَلَا يَتَخَلَّفُهُ إِلَّا بِتَخَلُّفِهِ وَلِيَرْغَبَ السَّامِعُونَ فِي حال السابقين ويحصروا عَلَى إِحْرَازِ قَصَبِهِمْ وَأَنَّ كُلًّا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِسِيمَاهُ الَّتِي اسْتَوْجَبَ أَنْ يُوسَمَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيَرْتَدِعَ الْمُسِيءُ عَنْ إِسَاءَتِهِ وَيَزِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّ الْعُصَاةَ يُوَبِّخُهُمْ كُلُّ أَحَدٍ حَتَّى أَقْصَرُ النَّاسِ عَمَلًا انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ مِنْ بَابِ الْخَطَابَةِ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ يَرْغَبُونَ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَدْفَعُهُمْ إِلَى نُوحٍ ثُمَّ يَتَدَافَعُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْفَعَ لَهُمْ فَيُشَفَّعُ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَبْيَضُّونَ وَيُسَمَّوْنَ مَسَاكِينَ الْجَنَّةِ، قَالَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: لَيْتَ أَنِّي مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ.

وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي سَمَاعَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَلَامَ الْآخَرِ وَهَذَا جَائِزٌ عَقْلًا عَلَى بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ رُؤْيَةٍ وَاطِّلَاعٍ مِنَ اللَّهِ وَذَلِكَ أَخْزَى وَأَنْكَى لِلْكُفَّارِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَبَيْنَهُمُ الْحِجَابُ وَالسُّورُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا صَارَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ إِلَى الْجَنَّةِ طَمِعَ أَهْلُ النَّارِ فِي الفرح بَعْدَ الْيَأْسِ فَقَالُوا: يَا رَبِّ لَنَا قَرَابَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَعَرَفُوهُمْ وَنَظَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ فَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ قَدِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَصَارُوا خَلْقًا آخَرَ فَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِقَرَابَاتِهِمْ فينادي الرجل أخوه فَيَقُولُ يَا أَخِي قَدِ احْتَرَقْتُ فَأَغِثْنِي فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَمُفَسِّرَةً، وَكَلَامُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ كَانَ عَنْ رَجَاءٍ وَطَمَعِ حُصُولِ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي هُوَ مَعَ الْيَأْسِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا دَوَامَ عِقَابِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ قَدْ يَطْلُبُهُ كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ الْغَرِيقُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّبَدِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ انْتَهَى، وأَفِيضُوا أَمْكَنُ مِنَ اسْقُونَا لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّوْسِعَةَ كَمَا يُقَالُ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ أَيْ وَسَّعَهَا وَسُؤَالُهُمُ الْمَاءَ لِشِدَّةِ الْتِهَابِهِمْ وَاحْتِرَاقِهِمْ وَلِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ إِطْفَاءَ النَّارِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ إِذْ هُوَ مُقَوِّيهَا أَوْ لِرَجَائِهِمُ الرّحمة بأكل طعام وأَوْ عَلَى بَابِهَا مِنَ كَوْنِهِمْ سَأَلُوا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ وَأَتَى أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عاما والعطف بأو يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ، وَقِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى حَرَّمَ كُلًّا منهما فأوعلى بَابِهَا وَمَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَامٌّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالْفَاكِهَةُ وَالْأَشْرِبَةُ غَيْرَ الْمَاءِ وَتَخْصِيصُهُ بِالثَّمَرَةِ أَوْ بِالطَّعَامِ أَوْ غَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ أَقْوَالٌ ثَانِيهَا لِلسُّدِّيِّ وَثَالِثُهَا لِلزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْإِفَاضَةِ فَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَأَلْقُوا عَلَيْنَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ كَقَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مَعَ يَأْسِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ حَيْرَةً فِي أَمْرِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُضْطَرُّ الْمُمْتَحَنُ انْتَهَى وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ إِلَى آخِرِهِ هُوَ كَلَامُ الْقَاضِي وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَأَلْقُوا عَلَيْنَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَفِيضُوا ضِمْنَ مَعْنَى أَلْقُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فَيَصِحُّ الْعَطْفُ وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ أَضْمَرَ فِعْلًا بَعْدَ أَوْ يَصِلُ إِلَى مِمَّا رَزَقَكُمُ وَهُوَ أَلْقُوا وَهُمَا مَذْهَبَانِ لِلنُّحَاةِ فِيمَا عُطِفَ عَلَى شَيْءٍ

بِحَرْفِ عَطْفٍ وَالْفِعْلُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا التَّضْمِينُ لَا الْإِضْمَارُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا الْمَنْعُ كَمَا قَالَ: حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَا الْكَرَى وَإِخْبَارُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَمَّا يَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ يَتْرُكُهُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا تَرَكُوا النَّظَرَ لِلِقَاءِ هَذَا الْيَوْمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسُوا مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يُنْسَوْا مِنَ الشَّرِّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَفْعَلُ بِهِمْ فِعْلَ النَّاسِينَ الَّذِينَ يَنْسَوْنَ عَبِيدَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ لَا يَذْكُرُونَهُمْ بِهِ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا كَمَا فَعَلُوا بِلِقَائِهِ فِعْلَ النَّاسِينَ فَلَمْ يُخْطِرُوهُ بِبَالِهِمْ وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا وَالْأَكْثَرُونَ تتركهم فِي عَذَابِهِمْ كَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ انْتَهَى، وَإِنْ قُدِّرَ النِّسْيَانُ بِمَعْنَى الذُّهُولِ مِنَ الْكَفَرَةِ فَهُوَ فِي جِهَةِ اللَّهِ بِتَسْمِيَةِ الْعُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَّنْبِ وَما كانُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا نَسُوا وَمَا فِيهِمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْكَافَ فِي كَما لِلتَّعْلِيلِ. وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الضَّمِيرُ فِي وَلَقَدْ جِئْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيَكُونُ الْكِتَابُ عَلَى هَذَا جِنْسًا أَيْ بِكِتابٍ إِلَهِيٍّ إِذِ الضَّمِيرُ عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ الضَّمِيرُ لِمُكَذِّبِي محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ يَجْحَدُونَ وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ وفَصَّلْناهُ عالمين كيفية نفصيله مِنْ أَحْكَامٍ وَمَوَاعِظَ وَقِصَصٍ وَسَائِرِ مَعَانِيهِ، وَقِيلَ: فَصَّلْناهُ بِإِيضَاحِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَقِيلَ: نَزَّلْنَاهُ فِي فُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْجَحْدَرِيُّ فَضَّلْنَاهُ بِالضَّادِ الْمَنْقُوطَةِ وَالْمَعْنَى فَضَّلْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّفْضِيلِ عَلَيْهَا وَفِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ فُضِّلَ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ بِثَلَاثِينَ خَصْلَةً لَمْ تَكُنْ فِي غَيْرِهِ فَصَّلْناهُ صِفَةٌ لِكِتَابٍ وَعَلَى عِلْمٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَصَّلْناهُ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمٍ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ وَانْتَصَبَ هُدىً وَرَحْمَةً عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وقرىء بِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ هُدىً وَرَحْمَةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ هُدًى وَرَحْمَةٍ بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كِتَابٍ أَوِ النَّعْتِ وَعَلَى النَّعْتِ لِكِتَابٍ خَرَّجَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أَيْ مَآلُ أَمْرِهِ وَعَاقِبَتِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَآلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي الدُّنْيَا كَوَقْعَةِ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا

يؤول إِلَيْهِ مِنْ تَبْيِينِ صِدْقِهِ وَظُهُورِ صِحَّتِهِ مَا نَطَقَ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ الْوَعِيدِ وَالتَّأْوِيلُ مَادَّتُهُ هَمْزَةٌ وَوَاوٌ ولام من آل يؤول، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَوَّلْتُ الشَّيْءَ رَدَدْتُهُ إِلَى أَوَّلِهِ فَاللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ انْتَهَى وَهُوَ خَطَأٌ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَيْ يَظْهَرُ عَاقِبَةُ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْأَلُ تَارِكُو أَتْبَاعِ الرَّسُولِ هَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ سُؤَالًا عَنْ وَجْهِ الْخَلَاصِ فِي وَقْتِ أَنْ لَا خَلَاصَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَلَمْ نُصَدِّقْهُمْ أَوْ وَلَمْ نَتَّبِعْهُمْ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ وَالرُّسُلُ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ أَخْبَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ هُوَ الْحَقُّ. وَقِيلَ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا أَنْذَرُوا بِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوْ نُرَدُّ بِرَفْعِ الدَّالِ فَنَعْمَلَ بِنَصْبِ اللَّامِ عَطْفُ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَتَقَدَّمَهُمَا اسْتِفْهَامٌ فَانْتَصَبَ الْجَوَابَانِ أَيْ هَلْ شُفَعَاءُ لَنَا فَيَشْفَعُوا لَنَا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ هَلْ نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا فَنَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فِيمَا نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِنَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ بِرَفْعِهِمَا عَطَفَ فَنَعْمَلَ عَلَى نُرَدُّ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو حَيْوَةَ بِنَصْبِهِمَا فَنَصَبَ أَوْ نُرَدُّ عَطْفًا عَلَى فَيَشْفَعُوا لَنا جَوَابًا عَلَى جَوَابٍ فَيَكُونُ الشُّفَعَاءُ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ وَإِمَّا في الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا لِاسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ قَدِ انْسَحَبَتْ عَلَى الرَّدِّ أو الخلاص وفَنَعْمَلَ عَطْفٌ عَلَى فَنُرَدُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ نُرَدُّ مِنْ بَابِ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي عَلَى تَقْدِيرِ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي حَقِّي أَوْ كَيْ تَقْضِيَنِي حَقِّي فَجَعَلَ اللُّزُومَ مُغَيًّا بِقَضَاءِ حَقِّهِ أَوْ معمولا لَهُ لِقَضَاءِ حَقِّهِ وَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ إِذْ ذَاكَ فِي الرَّدِّ فَقَطْ وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ سِيبَوَيْهِ أَلَا إِنِّي لَأَلْزَمَنَّكَ إِلَّا أَنْ تَقْضِيَنِي فَلَيْسَ يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى أَوْ مَعْنَى إِلَّا هُنَا إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى هَلْ تَشْفَعُ لَنَا شُفَعَاءُ إِلَّا أَنْ نُرَدَّ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَقَوْلُهُمْ هَذَا هَلْ هُوَ مَعَ الرَّجَاءِ أَوْ مَعَ الْيَأْسِ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي نِدَائِهِمْ أَنْ أَفِيضُوا، قَالَ الْقَاضِي وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ وَلِذَلِكَ سَأَلُوا الرَّدَّ الثَّانِي إِنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ خِلَافًا لِلْمُجْبِرَةِ وَالنَّجَّارِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا سَأَلُوا الرَّدَّ بَلْ كَانُوا يَتُوبُونَ وَيُؤْمِنُونَ. قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ خَسِرُوا فِي تِجَارَةِ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ ابْتَاعُوا الْخَسِيسَ الْفَانِي مِنَ الدُّنْيَا بِالنَّفِيسِ الْبَاقِي مِنَ الْآخِرَةِ وَبَطَلَ عَنْهُمُ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَكَذَّبَهُمْ فِي اتِّخَاذِ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَشْيَاءَ مِنْ مَبْدَأِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَمْرِ نَبِيِّهِ وانقسام إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَذِكْرِ مَعَادِهِمْ وَحَشْرِهِمْ إِلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ ذَكَرَ مَبْدَأَ الْعَالَمِ وَاخْتِرَاعَهُ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقَضَاءِ ثُمَّ بَعْدُ إِلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِذْ مَدَارُ الْقُرْآنِ عَلَى تقرير الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَعَادِ وَالنُّبُوَّةِ، وَرَبُّكُمْ خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَرَوَى بَكَّارُ بْنُ «1» إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ بِنَصْبِ الْهَاءِ عَطْفُ بَيَانٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فَسَّرَ مُعْظَمُ النَّاسِ وَبَدَأَ بِالْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ» يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرُ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ يَوْمِ الجمعة فيما بين الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ» ، وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْعَبَّادِيُّ: قَضَى لِسِتَّةِ أَيَّامٍ خَلِيقَتَهُ، وَكَانَ آخِرُ يَوْمٍ صَوَّرَ الرَّجُلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَكَعْبٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ بَدَأَ بِالْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقِيلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ مِقْدَارُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ أَلْفُ سَنَةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلْقِهِ تَعَالَى ذَلِكَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي مُدَدٍ مُتَوَالِيَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِبْدَاءُ مَعَانٍ لِذَلِكَ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلٌ بِلَا بُرْهَانٍ فَلَا نُسَوِّدُ كِتَابَنَا بِذِكْرِهِ وَهُوَ تَعَالَى الْمُنْفَرِدُ بِعِلْمِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلَيْسَتْ سِتَّةُ الْأَيَّامِ أَنْفُسُهَا وَقَعَ فِيهَا الْخَلْقُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «2» وَالْمُرَادُ مِقْدَارُ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا نَهَارَ وَإِنَّمَا ذَهَبَ الذَّاهِبُ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْتَازُ الْيَوْمُ عَنِ اللَّيْلَةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا قَبْلَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ خَلْقُ الْأَيَّامِ والذي أقول: إنه منى أَمْكَنَ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ عَلَى قَرِيبٍ مَنْ ظَاهِرِهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَا يَشْمَلُهُ الْعَقْلُ أَوْ عَلَى مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ جُمْلَةً وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ قوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِخَلْقِ الْأَرْضِ لَا ظرفا لخلق السموات وَالْأَرْضِ فَيَكُونُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مُدَّةً لِخَلْقِ الْأَرْضِ بِتُرْبَتِهَا وَجِبَالِهَا وَشَجَرِهَا وَمَكْرُوهِهَا وَنُورِهَا وَدَوَابِّهَا وَآدَمَ عَلَيْهِ السلام وهذا يطابق

_ (1) هكذا بياض بعموم الأصول المقابل عليها هذا الأصل اه. (2) سورة مريم: 19/ 62.

الْحَدِيثَ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحِ وَتَبْقَى سِتَّةُ أَيَّامٍ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ الْعَدَدِيَّةِ وَمِنْ كَوْنِهَا أَيَّامًا بِاعْتِبَارِ امْتِيَازِ اليوم عن الليلة بطلوع الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَأَمَّا اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ بِذَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ قَوْمٌ وَالْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ السُّفْيَانَانِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمْ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا وَإِمْرَارِهَا عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مُرَادٍ وَقَوْمٌ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى عِدَّةِ تَأْوِيلَاتٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَعَلَ فِعْلًا فِي الْعَرْشِ سَمَّاهُ اسْتِوَاءً وَعَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَرْشِ مَصْدَرُ عَرَشَ يَعْرِشُ عَرْشًا وَالْمُرَادُ بِالْعَرْشِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ هَذَا وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ مَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنَّهُ جِسْمٌ مَخْلُوقٌ مُعَيَّنٌ وَمَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَقَدْ أَمْعَنَ فِي تَقْرِيرِ مَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ فِيهَا القفال وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي التَّحْرِيرِ فَيُطَالَعُ هُنَاكَ وَلَفْظَةُ الْعَرْشِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ فَالْعَرْشُ سَرِيرُ الْمُلْكِ وَمِنْهُ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا والْعَرْشِ السَّقْفُ وَكُلُّ مَا عَلَا وَأَظَلَّ فَهُوَ عَرْشٌ والْعَرْشِ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ وَالْعِزُّ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ... وَذُبْيَانَ إِذْ زَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ وَقَالَ آخَرُ: إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ وَالْعَرْشُ الْخَشَبُ الَّذِي يُطْوَى بِهِ الْبِئْرُ بَعْدَ أَنْ يُطْوَى أَسْفَلُهَا بِالْحِجَارَةِ وَالْعَرْشُ أَرْبَعَةُ كَوَاكِبَ صِغَارٍ أَسْفَلُ مِنَ الْعُوَاءِ يُقَالُ لَهَا: عَجُزُ الْأَسَدِ وَيُسَمَّى عَرْشَ السِّمَاكِ وَالْعَرْشُ مَا يُلَاقِي ظَهْرَ الْقَدَمِ وَفِيهِ الْأَصَابِعُ وَاسْتَوَى أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَبِمَعْنَى عَلَا وَبِمَعْنَى قَصَدَ وَبِمَعْنَى سَاوَى وَبِمَعْنَى تَسَاوَى وَقِيلَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَأَنْشَدُوا: هُمَا اسْتَوَيَا بِفَضْلِهِمَا جَمِيعًا ... عَلَى عَرْشِ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ زُورِ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَا نَعْرِفُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى المصدر الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى خَلْقُهُ عَلَى الْعَرْشِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ اسْتَوَى عَلَى الرَّحْمَنِ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمَنُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالضَّمِيرُ فِي اسْتَوى عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى «2» أَيْ هُوَ الرَّحْمَنُ اسْتَوَى خَلْقُهُ عَلَى الْعَرْشِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ السموات وَالْأَرْضَ ذَكَرَ خَلْقَ مَا هُوَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَوْسَعُ من

_ (1) سورة سورة طه: 20/ 5. (2) سورة طه: 20/ 4.

السموات وَالْأَرْضِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ فِي الْعَرْشِ وَفِي اسْتَوَى وَفِي الضَّمِيرِ الْعَائِدِ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا هَذَا مَعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَقَامُوهَا عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ اسْتَوَى أَمْرُهُ وَسَأَلَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَيْفَ اسْتَوَى فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مَلِيًّا وَعَلَتْهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أَظُنُّكَ إِلَّا ضَالًّا ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً التَّغْشِيَةُ التَّغْطِيَةُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُذْهِبُ اللَّيْلُ نُورَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ قِوَامُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا بِمَجِيءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَاللَّيْلُ لِلسُّكُونِ وَالنَّهَارُ لِلْحَرَكَةِ وَفَحْوَى الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهَارَ يُغْشِيهِ اللَّهُ اللَّيْلَ وَهُمَا مَفْعُولَانِ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ وَالْهَمْزَةَ مُعَدِّيَانِ، وَقَرَأَ بِالتَّضْعِيفِ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِإِسْكَانِ الْغَيْنِ بَاقِي السَّبْعَةِ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّ اللَّامِ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ كَذَا قَالَ عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي عَنْ حُمَيْدٍ بِنَصْبِ اللَّيْلَ وَرَفْعِ النَّهارَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْفَتْحِ أَثْبَتُ انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ أَثْبَتُ كَلَامٌ لَا يَصِحُّ إِذْ رُتْبَةُ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ فِي الْقِرَاءَاتِ وَمَعْرِفَتِهَا وَضَبْطِ رِوَايَاتِهَا وَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ فَضْلًا عَنِ النحاة الذين ليسوا مقرئي وَلَا رَوَوُا الْقُرْآنَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا رُوِيَ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ هَذَا مَعَ الدِّيَانَةِ الزَّائِدَةِ وَالتَّثَبُّتِ فِي النَّقْلِ وعدم التجاسر ووفور الخط مِنَ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا فِي كَلَّا وَكِتَابًا فِي إِدْغَامِ أَبِي عَمْرٍو الْكَبِيرِ دَلَّا عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَا يَكَادُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النحاة ولا المقرءين إِلَى سَائِرِ تَصَانِيفِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالَّذِي نَقَلَهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ أَمْكَنُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ إِذِ اللَّيْلُ فِي قِرَاءَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا هُوَ الْفَاعِلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِذْ هَمْزَةُ النَّقْلِ أَوِ التَّضْعِيفُ صَيَّرَهُ مَفْعُولًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَنْصُوبَيْنِ تَعَدَّى إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ وَأَحَدُهُمَا فَاعِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا كَمَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي مَلَّكْتُ زَيْدًا عَمْرًا إِذْ رُتْبَةُ التَّقْدِيمِ هِيَ الْمُوَضِّحَةُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى وَالْجُمْلَةُ مِنْ يَطْلُبُهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ اللَّيْلُ إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ قَبْلَ التَّعْدِيَةِ وَتَقْدِيرُهُ حَاثًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من النَّهَارِ وَتَقْدِيرُهُ مَحْثُوثًا وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ طَلَبًا حَثِيثًا أي حاثا أَوْ مُحِثًّا وَنِسْبَةُ الطَّلَبِ إِلَى اللَّيْلِ مَجَازِيَّةٌ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَاقُبِهِ اللَّازِمِ فَكَأَنَّهُ طَالِبٌ لَهُ لَا يُدْرِكُهُ بَلْ هُوَ فِي إِثْرِهِ بِحَيْثُ يَكَادُ يُدْرِكُهُ وَقَدَّمَ اللَّيْلَ هُنَا كَمَا قَدَّمَهُ فِي يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ «1» وَفِي وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ «2» وَفِي وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «3» ،

_ (1) سورة الحج: 22/ 61. (2) سورة يس: 36/ 40. (3) سورة الأنعام: 6/ 1.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَصَفَ هَذِهِ الْحَرَكَةَ بِالسُّرْعَةِ وَالشِّدَّةِ لِأَنَّ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَحْصُلُ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَتِلْكَ الْحَرَكَةُ أَشَدُّ الْحَرَكَاتِ سُرْعَةً وَأَكْمَلُهَا شِدَّةً حَتَّى إِنَّ الْبَاحِثِينَ عَنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ قَالُوا: الْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ فِي الْعَدْوِ الشَّدِيدِ الْكَامِلِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رِجْلَهُ وَيَضَعَهَا يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ ثَلَاثَةَ آلَافِ مِيلٍ وَلِهَذَا قَالَ: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَنَظِيرُهُ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها «1» الْآيَةَ شَبَّهَ ذَلِكَ الْمَسِيرَ وَتِلْكَ الْحَرَكَةِ بِالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى السُّرْعَةِ وَالسُّهُولَةِ وَكَمَالِ الِاتِّصَالِ انْتَهَى وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ انْتَصَبَ مُسَخَّراتٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ فِي الْأَرْبَعَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ بِرَفْعِ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ فَقَطْ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ وَمَعْنَى بِأَمْرِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمُسَخَّرَاتٍ أَيْ خَلَقَهُنَّ جَارِيَاتٍ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَكَمَا يُرِيدُ أَنْ يَصْرِفَهَا سُمِّي ذَلِكَ أَمْرًا عَلَى التَّشْبِيهِ كَأَنَّهُنَّ مَأْمُورَاتٌ بِذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الشَّمْسُ لَهَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَرَكَةِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ ذَاتِهَا وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي سَنَةٍ كَامِلَةٍ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ تَحْصُلُ السُّنَّةُ، وَالثَّانِي حَرَكَتُهَا بِحَسَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَيَتِمُّ فِي الْيَوْمِ بِلَيْلَتِهِ فَتَقُولُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَا يَحْصُلَانِ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِحَرَكَةِ السَّمَاءِ الْأَقْصَى الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْعَرْشُ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْعَرْشِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وربط بقوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تنبيها على أنّ حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ الْعَرْشُ يُحَرِّكُ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ قُوَّةً قَاهِرَةً بِاعْتِبَارِهَا قَوِيَتْ عَلَى قَهْرِ جَمِيعِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَتَحْرِيكِهَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى طَبَائِعِهَا فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ مَعْقُولَةٌ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُشْعِرٌ بِهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، انْتَهَى. وَتَكَلَّمَ فِي قَوْلِهِ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ كَلَامًا كَثِيرًا هُوَ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَهُوَ عِلْمٌ لَمْ نَنْظُرْ فِيهِ قَالَ: أَرْبَابُهُ وَهُوَ عِلْمٌ شَرِيفٌ يُطَّلَعُ فِيهِ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ غَرِيبَةٍ مِنْ صَنْعَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَزْدَادُ بِهَا إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ إِذِ الْمَعْرِفَةُ بِجُزْئِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَتَفَاصِيلِهَا ليست كالمعرفة بجمليتها، وَقِيلَ بِأَمْرِهِ أَيْ بِنَفَاذِ إِرَادَتِهِ إِذِ الْمَقْصُودُ تَبْيِينُ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِقَوْلِهِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «2» وَقَوْلِهِ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ «3» الآية. وَقِيلَ الْأَمْرُ هُوَ الْكَلَامُ.

_ (1) سورة يس: 36/ 40. (2) سورة فصلت: 41/ 11. (3) سورة النحل: 16/ 40.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 إلى 56]

أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لما تقدّم ذكر خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمره فيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه في ذلك ولا في شيء منه، وقيل: الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلى هذا قال النقاش وغيره: الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى، وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعيّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه، وقال الشعبي: الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي علا وعظم ولما تقدّم إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ صدر الآية جاء آخرها فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وجاء الْعالَمِينَ أعمّ من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعا لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً الظَّاهِرُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ مُنَاجَاةُ اللَّهِ بِنِدَائِهِ لِطَلَبِ أَشْيَاءَ وَلِدَفْعِ أَشْيَاءَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى اعْبُدُوا وَانْتَصَبَ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً عَلَى الْحَالِ أَيْ مُتَضَرِّعِينَ وَمُخْفِينَ أَوْ ذَوِي تَضَرُّعٍ وَاخْتِفَاءٍ فِي دُعَائِكُمْ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا» وَكَانَ الصَّحَابَةُ حِينَ أَخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ قَدْ جَهَرُوا بِالذِّكْرِ أَمَرَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ مَقْرُونًا بِالتَّذَلُّلِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِاخْتِفَاءِ إِذْ ذَاكَ أَدْعَى لِلْإِجَابَةِ وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالدُّعَاءُ خُفْيَةً أَفْضَلُ مِنَ الْجَهْرِ وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا «1» وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ مُقَرِّرَةٌ أَنَّ السِّرَّ فِيمَا لَمْ يُفْتَرَضْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْجَهْرِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلٌ يُقَدِّرُونَ أَنْ يَكُونَ سِرًّا فَيَكُونُ جَهْرًا أَبَدًا وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ إِنْ هُوَ إِلَّا الْهَمْسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ

_ (1) سورة مريم: 19/ 3.

انْتَهَى وَلَوْ عَاشَ الْحَسَنُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ الْعَجِيبِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ نَاسٌ يَتَسَمَّوْنَ بِالْمَشَايِخِ يَلْبَسُونَ ثِيَابَ شُهْرَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالصَّلَاحِ ويتركون الاكتساب ويتركون لَهُمْ أَذْكَارًا لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ يَجْهَرُونَ بِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَيَجْمَعُونَ لَهُمْ خُدَّامًا يَجْلِبُونَ النَّاسَ إِلَيْهِمْ لِاسْتِخْدَامِهِمْ وَنَتْشِ أَمْوَالِهِمْ وَيُذِيعُونَ عَنْهُمْ كَرَامَاتٍ وَيَرَوْنَ لَهُمْ مَنَامَاتٍ يُدَوِّنُونَهَا فِي أَسْفَارٍ وَيَحُضُّونَ عَلَى تَرْكِ الْعِلْمِ وَالِاشْتِغَالِ بِالسُّنَّةِ وَيَرَوْنَ الْوُصُولَ إِلَى اللَّهِ بِأُمُورٍ يُقَرِّرُونَهَا مِنْ خَلَوَاتٍ وَأَذْكَارٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَيَتَعَاظَمُونَ عَلَى النَّاسِ بِالِانْفِرَادِ عَلَى سَجَّادَةٍ وَنَصْبِ أَيْدِيهِمْ لِلتَّقْبِيلِ وقلّة الكلام وإطراق الرؤوس وَتَعْيِينِ خَادِمٍ يَقُولُ الشَّيْخُ مَشْغُولٌ فِي الْخَلْوَةِ رَسَمَ الشَّيْخُ قَالَ الشَّيْخُ رَأَى الشَّيْخُ الشَّيْخُ نَظَرَ إِلَيْكَ الشَّيْخُ كَانَ الْبَارِحَةَ يَذْكُرُكَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخُشُّونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ وَيَجْلِبُونَ بِهَا عُقُولَ الْجَهَلَةِ هَذَا إِنْ سَلِمَ الشَّيْخُ وَخَادِمُهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي غَلَبَ الْآنَ عَلَى مُتَصَوِّفَةِ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ أَوِ الْقَوْلِ بِالْوَحْدَةِ فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ مُنْسَلِخًا عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّعَجُّبِ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ كَيْفَ تُرَتَّبُ لَهُمُ الرَّوَاتِبُ وَتُبْنَى لَهُمُ الرُبُطُ وَتُوقَفُ عَلَيْهَا الْأَوْقَافُ وَيَخْدِمُهُمُ النَّاسُ فِي عِرْوِهِمْ عَنْ سَائِرِ الْفَضَائِلِ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَقْرَبُ إِلَى أَشْبَاهِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ أَشْبَاهِهِمْ وَقَدْ أَطَلْنَا فِي هَذَا رَجَاءَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فَيَنْتَفِعَ بِهِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ ضَمَّةِ الْخَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا عَلَى ادِّعَاءِ الْقَلْبِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَنَقَلَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ أَنَّ فِرْقَةً قَرَأَتْ وَخِيفَةً مِنَ الْخَوْفِ أَيِ ادْعُوهُ بِاسْتِكَانَةٍ وَخَوْفٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ فِيمَا زَعَمُوا. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أن اللَّهَ جَعَلَ مَكَانَ الْمُضْمَرِ الْمُظْهَرَ وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ أَوَّلًا الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ عَدَمِ التَّضَرُّعِ وَعَدَمِ الْخُفْيَةِ بِأَنْ يَدْعُوَهُ وَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِالْكِبْرِ وَالزَّهْوِ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُ فِي الْمَوَاعِيدِ وَالْمَدَارِسِ فَصَارَ ذَلِكَ لَهُ صَنْعَةً وَعَادَةً فَلَا يَلْحَقُهُ تَضَرُّعٌ وَلَا تَذَلُّلٌ وَبِأَنْ يَدْعُوهُ بِالْجَهْرِ الْبَلِيغِ وَالصِّيَاحِ كَدُعَاءِ النَّاسِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَشَاهِدِ وَالْمَزَارَاتِ، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ وَأَنْ يَدْعُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ وَأَنْ يَدْعُوَ بِمُحَالٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الشَّطَطِ وَأَنْ يَدْعُوَ طَالِبُ مَعْصِيَةٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكَلْبِيُّ الِاعْتِدَاءُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَعَنْهُ الصِّيَاحُ فِي الدُّعَاءِ مَكْرُوهٌ وَبِدْعَةٌ وَقِيلَ هُوَ الْإِسْهَابُ فِي الدُّعَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ وُجُوهًا مِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا مُقَفَّاةً وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً وَقَدْ وَجَدَهَا فِي كَرَارِيسَ لِهَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمَشَايِخَ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا

فَيَجْعَلُهَا شِعَارَهُ يَتْرُكُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِزْيِ وَالشِّرْكِ وَاللَّعْنَةِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ سل الله الجنة وعذبه مِنَ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» زَادَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَحَسْبُ الْمَرْءِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ» ثُمَّ قَرَأَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها. هَذَا نَهْيٌ عَنْ إِيقَاعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِدْخَالِ مَاهِيَّتِهِ فِي الْوُجُودِ فَيَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنْ إِيقَاعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِدْخَالِ مَاهِيَّتِهِ فِي الْوُجُودِ فَيَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنْ إِفْسَادِ النُّفُوسِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ وَمَعْنَى بَعْدَ إِصْلاحِها بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَ اللَّهُ خَلْقَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُلَائِمِ لِمَنَافِعِ الْخَلْقِ وَمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ وَمَا رُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ تَعْيِينِ نَوْعِ الْإِفْسَادِ وَالْإِصْلَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التمثيل إذا ادِّعَاءُ تَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَالظُّلْمِ بَعْدَ الْعَدْلِ أَوِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الطَّاعَةِ أَوْ بِالْمَعْصِيَةِ فَيُمْسِكُ اللَّهُ الْمَطَرَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بِالْمَطَرِ وَالْخِصْبِ أَوْ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ بَقَائِهِ أَوْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بَعْدَ الْوَحْيِ أَوْ بِتَغْوِيرِ الْمَاءِ الْمَعِينِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ ضِرَارًا أَوْ بِقَطْعِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ أَوْ بِتِجَارَةِ الْحُكَّامِ أَوْ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ بَعْدَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَتَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ وَإِيضَاحِ الْمِلَّةِ. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ كَرَّرَهُ فَقَالَ أَوَلًا ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ مِنَ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالِاسْتِكَانَةَ وَإِخْفَاءَ الصَّوْتِ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَيْ وَجِلِينَ مُشْفِقِينَ وَرَاجِينَ مُؤَمِّلِينَ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ثُمَّ ثَانِيًا بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَانْتَصَبَ خَوْفاً وَطَمَعاً عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوِ انْتِصَابُ الْمَفْعُولِ لَهُ وَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ مُتَسَاوِيَيْنِ لِيَكُونَا لِلْإِنْسَانِ كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ يَحْمِلَانِهِ فِي طَرِيقِ اسْتِقَامَةٍ فَإِنِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا هَلَكَ الْإِنْسَانُ وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الخوف الرّجاء طُولِ الْحَيَاةِ فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ غَلَبَ الرَّجَاءُ وَرَأَى كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ أَغْلَبَ وَمِنْهُ تَمَنِّي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ آخِرُ مَنْ يَدْخَلُ الْجَنَّةَ وَتَمَنَّى سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ وَسَالِمٌ هَذَا مِنْ رُتْبَةِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ

بحيث قال فيه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَلَامًا مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ الْخِلَافَةَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى خَوْفًا مِنَ الرَّدِّ وَطَمَعًا في الإجابة. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً «1» ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الرَّحْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحْسِنِ وَهُوَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَهَذَا كُلُّهُ حَمْلُ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا عَلَى مَذْهَبِهِ مِنَ الِاعْتِزَالِ وَالرَّحْمَةُ مُؤَنَّثَةٌ فَقِيَاسُهَا أَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا إِخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ فَيُقَالُ قَرِيبَةٌ، فَقِيلَ: ذُكِرَ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنَى الرَّحِمِ وَالتَّرَحُّمِ، وَقِيلَ: ذُكِرَ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنَى الْغُفْرَانِ وَالْعَفْوِ قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ بِمَعْنَى الْمَطَرِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ أَوِ الثَّوَابِ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ فَالرَّحْمَةُ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَدَلٌ عَنْ مُذَكَّرٍ. وَقِيلَ: التَّذْكِيرُ عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ أَيْ ذَاتُ قُرْبٍ، وَقِيلَ: قَرِيبٌ نَعْتٌ لِمُذَكَّرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ شَيْءٌ قَرِيبٌ، وَقِيلَ: قَرِيبٌ مُشَبَّهٌ بِفَعِيلٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ نحو خضيب وَجَرِيحٍ كَمَا شُبِّهَ فَعِيلٌ بِهِ فَقِيلَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهِ فَقِيلَ فِي جَمْعِهِ فُعَلَاءُ كَأَسِيرٍ وَأُسَرَاءٍ وَقَتِيلٍ وَقُتَلَاءٍ كَمَا قَالُوا: رَحِيمٌ وَرُحَمَاءٌ وَعَلِيمٌ وَعُلَمَاءٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ كَالضَّغِيثِ وَهُوَ صَوْتُ الْأَرْنَبِ وَالنَّقِيقِ وَإِذَا كَانَ مصدر أصح أَنْ يُخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، وَقِيلَ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِلَّا مَعَ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ أَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا التَّأْنِيثُ تَقُولُ الشَّمْسُ طَالِعَةٌ وَلَا يَجُوزُ طَالِعٌ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فَيَجُوزُ أَطَالِعَةٌ الشَّمْسُ وَأَطَالِعٌ الشَّمْسُ كَمَا يَجُوزُ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَطَلَعَ الشَّمْسُ وَلَا يَجُوزُ طَلَعَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَقِيلَ: فَعِيلٌ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مُقَرَّبَةٌ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ كَفٍّ خَضِيبٍ وَعَيْنٍ كَحِيلٍ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ غَيْرِ الْمَزِيدِ وَهَذَا بِمَعْنَى مُقَرَّبَةٍ فَهُوَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمَزِيدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ فَهُوَ مَعَ الْمُؤَنَّثِ بِتَاءٍ وَلَا بُدَّ تَقُولُ هَذِهِ قَرِيبَةُ فُلَانٍ وإذا اسْتُعْمِلَتْ فِي قُرْبِ الْمَسَافَةِ أَوِ الزَّمَنِ فَقَدْ تَجِيءُ مَعَ الْمُؤَنَّثِ بِتَاءٍ وَقَدْ تَجِيءُ بِغَيْرِ تَاءٍ تَقُولُ دَارُكَ مِنِّي قَرِيبٌ وَفُلَانَةٌ مِنَّا قَرِيبٌ، وَمِنْهُ هَذَا وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: عَشِيَّةَ لَا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو وَلَا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ فَجَمَعَ فِي هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي كِتَابِهِ وَقَدْ مَرَّ فِي كُتُبِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مُغَيَّرًا انْتَهَى، وَرَدَّ الزَّجَّاجُ وَقَالَ هَذَا عَلَى الْفَرَّاءِ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ سَبِيلَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ أَنْ يَجْرِيَا عَلَى أَفْعَالِهِمَا وَقَالَ مَنِ احْتَجَّ لَهُ هَذَا كَلَامُ العرب، قال

_ (1) سورة طه: 20/ 82. [.....]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 إلى 85]

تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ اِبْنَةُ يَشْكُرَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَرِيبٌ فِي الْآيَةِ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلرَّحْمَةِ وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ لَهَا وَمَوْضِعٌ فَتَجِيءُ هَكَذَا فِي الْمُؤَنَّثِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَكَذَلِكَ بِعِيدٌ فَإِنْ جَعَلُوهَا صِفَةً بِمَعْنَى مُقْتَرِبَةٍ قَالُوا قَرِيبَةٌ وَقَرِيبَتَانِ وَقَرِيبَاتُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ وَهَذَا خَطَأٌ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ قَرِيبٌ مَنْصُوبًا كَمَا تَقُولُ إِنَّ زَيْدًا قَرِيبًا مِنْكَ انْتَهَى وَلَيْسَ بِخَطَأٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدِ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ فَاسْتَعْمَلَهُ غَيْرَ ظَرْفٍ كَمَا تَقُولُ هِنْدٌ خَلْفَكَ وَفَاطِمَةٌ أَمَامُكَ بِالرَّفْعِ إِذَا اتَّسَعْتَ فِي الْخَلْفِ وَالْأَمَامِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ النَّصْبُ إِذَا بَقِيَتَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَلَمْ يَتَّسِعْ فِيهِمَا وَقَدْ أَجَازُوا أَنَّ قَرِيبًا مِنْكَ زَيْدٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا اسْمَ إنّ وزيد الْخَبَرَ فَاتُّسِعَ فِي قَرِيبٍ وَاسْتُعْمِلَ اسْمًا لَا مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَقْيِيدِ قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنَ الْمُحْسِنِ بِزَمَانٍ بَلْ هِيَ قَرِيبٌ مِنْهُ مُطْلَقًا وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ وَقْتَ مُفَارَقَةِ الْأَرْوَاحِ لِلْأَجْسَادِ تَنَالُهُمُ الرَّحْمَةُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 63.

أَقَلَّ الشَّيْءَ حَمَلَهُ وَرَفَعَهُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَمِنْهُ إِقْلَالُ الْبَطْنِ عَنِ الْفَخِذِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمِنْهُ الْقُلَّةُ لِأَنَّ الْبَعِيرَ يَحْمِلُهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقُلَّةِ فَكَانَ الْمُقِلُّ يَرَى مَا يَرْفَعُهُ قَلِيلًا وَاسْتَقَلَّ بِهِ أَقَلَّهُ، السَّوْقُ حَمْلُ الشَّيْءِ بِعُنْفٍ. النَّكِدُ الْعُسْرُ الْقَلِيلُ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَا تُنْجِزُ الْوَعْدَ إِنْ وَعَدْتَ وَإِنْ ... أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ قافها نَكِدًا وَنَكِدَ الرَّجُلُ سُئِلَ إِلْحَافًا وَأُخْجِلَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا ... لَا خَيْرَ فِي الْمَنْكُودِ وَالنَّاكِدِ الْآلَاءُ النِّعَمُ وَاحِدُهَا إِلًى كَمِعًى. أَنْشَدَ الزَّجَّاجُ: أَبْيَضُ لَا يَرْهَبُ الْهُزَالَ ولا ... يقطع رحمي وَلَا يَخُونُ إِلًى وَإِلَى بِمَعْنَى الْوَقْتِ أَوْ أَلًى كَقَفًا وَأَلْي كَحَسْيٍ أَوْ إِلْوٌ كَجِرْوٍ، وَقَعَ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَرَعَ وَصَدَرَ كَوُقُوعِ الْمِيقَعَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ: نَزَلَ وَالْوَاقِعَةُ النَّازِلَةُ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْوَقَائِعُ الْحُرُوبُ وَالْمِيقَعَةُ الْمِطْرَقَةُ. قَالَ بَعْضُ أُدَبَائِنَا: ذُو الْفَضْلِ كَالتِّبْرِ طَوْرًا تَحْتَ مِيقَعَةٍ ... وَتَارَةً فِي ذُرَى تَاجٍ عَلَى مَلِكٍ

ثَمُودُ اسْمُ قَبِيلَةٍ سُمِّيَتْ بِاسْمِ أَبِيهَا وَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. النَّاقَةُ الْأُنْثَى مِنَ الْجِمَالِ وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ وَجَمْعُهَا فِي الْقِلَّةِ أَنْوُقٌ وَأَنْيُقٌ وَفِيهِ الْقَلْبُ وَالْإِبْدَالُ وَفِي الْكَثْرَةِ نِيَاقٌ وَنُوقٌ وَاسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ إِذَا صَارَ يُشْبِهُ النَّاقَةَ. السَّهْلُ مَا لَانَ مِنَ الْأَرْضِ وَانْخَفَضَ وَهُوَ ضِدُّ الْحَزْنِ. الْقَصْرُ الدَّارُ الَّتِي قُصِرَتْ عَلَى بُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مَخْصُوصَةٍ بِخِلَافِ بُيُوتِ الْعَمُودِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقُصُورِ النَّاسِ عَنِ ارْتِقَائِهِ أَوْ لِقُصُورِ عَامَّتِهِمْ عَنْ بِنَائِهِ. النَّحْتُ النَّجْرُ وَالنَّشْرُ فِي الشَّيْءِ الصُّلْبِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وَسِلْسِلَةٍ ... وَاللَّيْلُ فِي بَطْنٍ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ عَقَرْتَ النَّاقَةَ قَتَلْتَهَا فَهِيَ مَعْقُورَةٌ وَعَقِيرٌ وَمِنْهُ مَنْ عَقَرَ جَوَادَهُ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْعَقْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ كَشْفُ عُرْقُوبِ الْبَعِيرِ، وَلَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلنَّحْرِ أُطْلِقَ الْعَقْرُ عَلَى النَّحْرِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَطْعٌ لِلْعُرْقُوبِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ... فَيَا عَجَبًا مِنْ كَوْرِهَا الْمُتَحَمَّلِ وَقَالَ غَيْرُهُ وَالْعَقْرُ بِمَعْنَى الْجَرْحِ. قَالَ: تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَا مَعًا ... عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا اسْتَكْبَرَ. الرَّجْفَةُ الطَّامَّةُ الَّتِي يَرْجُفُ لَهَا الْإِنْسَانُ أَيْ يَتَزَعْزَعُ وَيَضْطَرِبُ وَيَرْتَعِدُ وَمِنْهُ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ وَأَصْلُ الرَّجْفِ الِاضْطِرَابُ، رَجَفَتِ الْأَرْضُ وَالْبَحْرُ رَجَّافٌ لِاضْطِرَابِهِ، وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِالشَّرِّ خَاضُوا فِيهِ وَاضْطَرَبُوا، وَمِنْهُ الْأَرَاجِيفُ وَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَمَّا رَأَيْتُ الْحَجَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ ... وَظَلَّتْ جِمَالُ الْقَوْمِ بِالْحَيِّ تَرْجُفُ الْجُثُومُ اللُّصُوقُ بِالْأَرْضِ عَلَى الصَّدْرِ مَعَ قَبْضِ السَّاقَيْنِ كَمَا يَرْقُدُ الْأَرْنَبُ وَالطَّيْرُ. غَبَرَ بَقِيَ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاضِبٍ ... وإخال أني لا حق مستبقع هَذَا الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَمِنْهُ غَبَرَ الْحَيْضُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: وَمُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وفساد مرضعة وداء معضل وَغُبْرُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ بَقِيَّتُهُ وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ غَبَرَ بِمَعْنَى مَضَى، قَالَ الأعشى:

غض بِمَا أَلْقَى الْمُوَاسِي لَهُ ... مِنْ أُمِّهِ فِي الزَّمَنِ الْغَابِرِ وَبِمَعْنَى غَابَ وَمِنْهُ عبر عَنَّا زَمَانًا أَيْ غَابَ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ غَبَرَ عُمَرُ دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى هَرِمَ، الْمَطَرُ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يُقَالُ فِي الرَّحْمَةِ مَطَرٌ وَفِي الْعَذَابِ أَمْطَرَ وَهَذَا مَعَارَضٌ بِقَوْلِهِ هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا «1» فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا إِلَّا الرَّحْمَةَ وَكِلَاهُمَا مُتَعَدٍّ يُقَالُ مَطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْهُمْ، شُعَيْبٌ اسْمُ نَبِيٍّ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ نَسَبِهِ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى كَمَالِ إِلَهِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَتْبَعَهُمَا بِالدَّلَائِلِ مِنَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي آثَارِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَمِنْهَا الرِّيحُ وَالسَّحَابُ وَالْمَطَرُ وَفِي الْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى نُزُولِ الْمَطَرِ أَحْوَالُ النَّبَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ والنشر البعث وَالْقِيَامَةِ وَانْتَظَمَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُحَصِّلَتَيْنِ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ وَجُعِلَ الْخَبَرُ مَوْصُولًا فِي أَنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي وَفِي وَهُوَ الَّذِي دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مَعْهُودًا عِنْدَ السَّامِعِ مَفْرُوغًا مِنْ تَحَقُّقِ النِّسْبَةِ فِيهِ وَالْعِلْمِ بِهِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّ رَبَّكُمْ خَلَقَ وَلَا وَهُوَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ، وَقَرَأَ الرِّيَاحَ نُشُرًا جَمْعَيْنِ وَبِضَمِّ الشِّينِ جَمْعُ نَاشِرٍ عَلَى النَّسَبِ أَيْ ذَاتُ نَشْرٍ مِنَ الطَّيِّ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ وَقَالُوا نَازِلٌ وَنُزُلٌ وَشَارِفٌ وَشُرُفٌ وَهُوَ جَمْعٌ نَادِرٌ فِي فَاعِلٍ أَوْ نُشُورٌ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْ جَمْعُ نَشُورٍ كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ وَهُوَ جَمْعٌ مَقِيسٌ لَا جَمْعُ نُشُورٍ بِمَعْنَى مَنْشُورٍ خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ فُعُولًا كَرُكُوبٍ بِمَعْنَى مَرْكُوبٍ لَا يَنْقَاسُ وَمَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْقَاسُ لَا يُجْمَعُ عَلَى فِعْلٍ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَاخْتَلَفَ عَنْهُمْ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو يَحْيَى وَأَبُو نَوْفَلٍ الْأَعْرَابِيَّانِ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَقَرَأَ كَذَلِكَ جَمْعًا إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الشين تخفيفا من الضم كَرُسْلٍ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزِرٌّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ وَمَسْرُوقٌ وَابْنُ عَامِرٍ، وَقَرَأَ نَشَرًا بِفَتْحِ النُّونِ وَالشِّينِ مَسْرُوقٌ فِيمَا حَكَى عَنْهُ أَبُو الْفَتْحِ وَهُوَ اسْمُ جمع كغيب ونشىء فِي غَائِبَةٍ وَنَاشِئَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الرِّيحَ مُفْرَدًا نُشُرًا بِالنُّونِ وَضَمِّهَا وَضَمِّ الشِّينِ فَاحْتَمَلَ نُشُرًا أَنْ يَكُونَ جَمْعًا حَالًا مِنَ الْمُفْرَدِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ كَقَوْلِهِمْ: الْعَرَبُ هُمُ الْبِيضُ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا كَنَاقَةٍ سُرُحٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نَشْرًا بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ مَصْدَرًا كَنَشْرٍ خِلَافَ طَوَى أَوْ كنشر بمعنى حيي مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنَشَرُوا أَيْ حَيَوْا. قال الشاعر:

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 24.

حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ وَقَرَأَ الرِّياحَ جَمْعًا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بُشْراً بِضَمِّ الْبَاءِ وَالشِّينِ وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ وَهُوَ جَمْعُ بَشِيرَةٍ كَنَذِيرَةٍ وَنُذُرٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ الشين تخفيفا من الضم، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَيْضًا بُشْراً بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَهُوَ مَصْدَرُ بَشَرَ الْمُخَفَّفُ وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ ابْنُ السُّمَيْقِعِ وَابْنُ قُطَيْبٍ بُشْرَى بِأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ كَرُجْعَى وَهُوَ مَصْدَرٌ فَهَذِهِ ثَمَانِي قِرَاءَاتٍ أَرْبَعَةٌ فِي النُّونِ وَأَرْبَعٌ فِي الْبَاءِ فَمَنْ قَرَأَ بِالْبَاءِ جَمْعًا أَوْ مَصْدَرًا بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ فَفِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوْ مَصْدَرًا بِغَيْرِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ فَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ وَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ جَمْعًا أَوِ اسْمَ جَمْعٍ فَحَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوْ مَصْدَرًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الفاعل وأن كون حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ أَوْ مَصْدَرًا لِيُرْسِلَ مِنَ الْمَعْنَى لِأَنَّ إِرْسَالَهَا هُوَ إِطْلَاقُهَا وَهُوَ بِمَعْنَى النَّشْرِ فَكَأَنَّهُ قيل ينشر الرِّيَاحِ نَشْرًا وَوَصْفُ الرِّيحِ بِالنَّشْرِ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الطَّيِّ وَبِالْحَيَاةِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي النَّشْرِ إِنَّهَا الْمُتَفَرِّقَةُ فِي الْوُجُوهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي وَصْفِ الرِّيحِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْمَوْتِ: وَهَبَّتْ لَهُ رِيحُ الْجَنُوبِ وَأَحْيَيَتْ ... لَهُ رَيْدَةٌ يُحْيِي الْمِيَاهَ نَسِيمُهَا وَالرَّيْدَةُ وَالْمُرِيدُ أَنَّهُ الرِّيحُ. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ تَمُوتَ الرِّيحُ ... فَأَقْعُدُ الْيَوْمَ وَأَسْتَرِيحُ وَمَعْنَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أمام نِعْمَتُهُ وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَحْسَنِهَا أَثَرًا وَالتَّعْيِينُ عَنْ إِمَامِ الرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ إِذِ الْحَقِيقَةُ هُوَ مَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِحْرَامِ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ هُنَا يُرْسِلُ لِأَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً فَهُمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَنَاسَبَهُ الْمُسْتَقْبَلُ وَفِي الْفُرْقَانِ وَفَاطِرٍ أَرْسَلَ لِأَنَّ قَبْلَهُ أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَبَعْدَهُ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ «1» وَكَذَا فِي الرُّومِ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ «2» لِيُوَافِقَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي فَاطِرٍ قَبْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ «3» وَذَلِكَ مَاضٍ فَنَاسَبَهُ الْمَاضِي انْتَهَى مُلَخَّصًا. حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ. هَذِهِ غَايَةٌ لِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ أَوْ مُبَشِّرَاتٌ إِلَى سَوْقِ السَّحَابِ وَقْتَ إِقْلَالِهِ إِلَى بَلَدٍ ميت

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 45. (2) سورة الروم: 30/ 46. (3) سورة فاطر: 35/ 1.

وَالسَّحَابُ اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ فَيُذَكَّرُ كَقَوْلِهِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ «1» كَقَوْلِهِ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ «2» وَيُؤَنَّثُ وَيُوصَفُ وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ «3» وَكَقَوْلِهِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ «4» وَثَقَّلَهُ بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهِ وَنَسَبَ السَّوْقَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِنُونِ الْعَظَمَةِ التفاتا لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْمِنَّةِ وَذَكَرَ الضَّمِيرَ فِي سُقْناهُ رَعْيًا لِلَّفْظِ كَمَا قُلْنَا إِنَّهُ يُذَكَّرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ يُرْسِلُ تَعَالَى الرِّيَاحَ فَتَأْتِي السَّحَابُ مِنْ بَيْنِ الْخَافِقَيْنِ طَرَفَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَيْثُ يَلْتَقِيَانِ فَيُخْرِجُهُ مِنْ ثَمَّ ثُمَّ يَنْتَشِرُ وَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَسِيلُ الْمَاءُ عَلَى السَّحَابِ ثُمَّ يُمْطِرُ السَّحَابُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَمْ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ انْتَهَى. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ الرِّيَاحَ وَيَصْرِفُهَا حَيْثُ أَرَادَ بِمَشِيئَتِهِ وَتَقْدِيرُهُ لَا مُشَارِكَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلِلْفَلَاسِفَةِ كَيْفِيَّةٌ فِي حُصُولِ الرِّيَاحِ ذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَأَبْطَلَهَا مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كَلَامِهِ وَلِلْمُنَجِّمِينَ أَيْضًا كَلَامٌ فِي ذَلِكَ أَبْطَلَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ مُحَرِّكَ الرِّيَاحِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ صِحَّةُ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ. وَعَنِ ابْنِ عِمْرَانَ الرِّيَاحُ ثَمَانٍ أربع منها عذاب وهي: الْقَاصِفُ وَالْعَاصِفُ وَالصَّرْصَرُ وَالْعَقِيمُ وَأَرْبَعٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ: النَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ وَاللَّامُ فِي لِبَلَدٍ عِنْدِي لَامُ التَّبْلِيغِ كَقَوْلِكَ قُلْتُ لَكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَجْلِ بَلَدٍ فَجَعَلَ اللَّامَ لَامَ الْعِلَّةِ وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ سُقْتُ لَكَ مَالًا وَسُقْتُ لِأَجْلِكَ مَالًا فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَعْنَاهُ أَوْصَلْتُهُ لَكَ وَأَبْلَغْتُكَهُ وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُصُولُهُ إِلَيْهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الَّذِي وَصَلَ له المال غَيْرَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ السَّوْقُ أَلَا تَرَى إِلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ لِأَجْلِ زَيْدٍ سُقْتُ لَكَ مَالَكَ. وَوَصْفُ الْبَلَدِ بِالْمَوْتِ اسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ لِجَدْبِهِ وَعَدَمِ نَبَاتِهِ كَأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ قُرْبِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارَ إِحْسَانِهِ ذَكَرَ أَخَصَّ الْأَرْضِ وَهُوَ الْبَلَدُ حَيْثُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ وَمَكَانُ اسْتِقْرَارِهِمْ وَلَمَّا كَانَ فِي سُورَةِ يس الْمَقْصِدُ إِظْهَارَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ جَاءَ التَّرْكِيبُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «5» وَبَعْدَهُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ وآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ وَسَكَّنَ يَاءَ الْمَيِّتِ عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْأَعْمَشُ. فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ ظَرْفِيَّةٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ أَيْ فَأَنْزَلْنَا فِيهِ الْمَاءَ وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَيَحْسُنُ عَوْدُهُ إِلَيْهِ فَلَا يُجْعَلُ لِأَبْعَدِ مَذْكُورٍ، وَقِيلَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ والضمير

_ (1) سورة البقرة: 2/ 164. (2) سورة النور: 24/ 43. (3) سورة الرعد: 13/ 12. (4) سورة ق: 50/ 10. (5) سورة يس: 36/ 33.

عَائِدٌ عَلَى السَّحَابِ. وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مَنْ سُقْنَاهُ فَالتَّقْدِيرُ بِالسَّحَابِ أَوْ بِالسَّوْقِ وَالثَّالِثُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ مَعَ وُجُودِ الْمَذْكُورِ وَصَلَاحِيَتِهِ لِلْعَوْدِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى السَّحَابِ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ فَأَنْزَلْنَا مِنْهُ الْمَاءَ كَقَوْلِهِ يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «1» أَيْ مِنْهَا وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ تَضْمِينٌ مِنَ الْحُرُوفِ. فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الْخِلَافُ فِي بِهِ كَالْخِلَافِ السَّابِقِ فِي بِهِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عَائِدٌ عَلَى السَّحَابِ وَالثَّانِي عَلَى الْبَلَدِ عَدَلَ عَنْ كِنَايَةٍ إِلَى كِنَايَةٍ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ كَقَوْلِهِ: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ «2» وَفَاعِلُ أَمْلَى لَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ مِثْلُ هَذَا الْإِخْرَاجِ نُخْرِجُ الْمَوْتى مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً إِلَى الْحَشْرِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ بِإِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ وَإِنْشَائِهَا خُرُوجَكُمْ لِلْبَعْثِ إِذِ الْإِخْرَاجَاتُ سَوَاءٌ فَهَذَا الْإِخْرَاجُ الْمُشَاهَدُ نَظِيرُ الْإِخْرَاجِ الْمَوْعُودِ بِهِ خَرَّجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلْقَ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ «أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي قَوْمِكَ جَدْبًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ خَضِرًا» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «فَتِلْكَ آيَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ» انْتَهَى، وَهَلِ التَّشْبِيهُ فِي مُطْلَقِ الْإِخْرَاجِ وَدَلَالَةُ إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ عَلَى الْقُدْرَةِ فِي إِخْرَاجِ الْأَمْوَاتِ أَمْ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِخْرَاجِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ مَطَرٌ عَلَيْهِمْ فَيَحْيَوْنَ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ عَلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ فَيَحْيَا نَبَاتُهُ احْتِمَالَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُمْطِرُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَاءٍ تَحْتَ الْعَرْشِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَوَانِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ فَإِذَا كَمُلَتْ أَجْسَامُهُمْ نَفَخَ فِيهَا الرُّوحَ ثُمَّ يُلْقِي عَلَيْهِمْ نَوْمَةً فَيَنَامُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ الثَّانِيَةِ قَامُوا وَهُمْ يَجِدُونَ طَعْمَ النَّوْمِ فَيَقُولُونَ يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا فَيُنَادِيهِمُ الْمُنَادِي هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً الطَّيِّبُ الْجَيِّدُ التُّرْبِ الْكَرِيمُ الْأَرْضِ، وَالَّذِي خَبُثَ الْمَكَانُ السَّبَخُ الَّذِي لَا يُنْبِتُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَهُوَ الرَّدِيءُ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَمَّا قَالَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ تَمَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بِكَيْفِيَّةِ مَا يَخْرُجُ مِنَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَرْضِ السَّبَخَةِ وَتِلْكَ عَادَةُ اللَّهِ فِي إِنْبَاتِ الْأَرَضِينَ وَفِي الْكَلَامِ حَالٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ وَافِيًا حَسَنًا وَحُذِفَتْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَلِدَلَالَةِ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ عَلَيْهَا وَلِمُقَابَلَتِهَا بِقَوْلِهِ إِلَّا نَكِداً وَلِدَلَالَةِ بِإِذْنِ رَبِّهِ لِأَنَّ مَا أَذِنَ اللَّهُ فِي إِخْرَاجِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى أحسن حال وبِإِذْنِ رَبِّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَخَصَّ خُرُوجَ نَبَاتِ الطَّيِّبِ

_ (1) سورة الإنسان: 676. (2) سورة محمد: 47/ 25.

بِقَوْلِهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ لَهُ وَالتَّشْرِيفِ وَنِسْبَةُ الْإِسْنَادِ الشَّرِيفَةُ الطَّيِّبَةُ إِلَيْهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ كِلَا النَّبَاتَيْنِ يَخْرُجُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى وَمَعْنَى بِإِذْنِ رَبِّهِ بِتَيْسِيرِهِ وَحُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْمَوْصُوفُ أَيْضًا وَالتَّقْدِيرُ وَالْبَلَدُ الَّذِي خَبُثَ لِدَلَالَةِ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ عَلَيْهِ فَكُلٌّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِيهِ حَذْفٌ وَغَايَرَ بَيْنَ الْمَوْصُولَيْنِ فَصَاحَةً وَتَفَنُّنًا فَفِي الْأُولَى قَالَ: الطَّيِّبُ وَفِي الثَّانِيَةِ قَالَ: الَّذِي خَبُثَ وَكَانَ إِبْرَازُ الصِّلَةِ هُنَا فِعْلًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِتَعَادُلِ اللَّفْظِ يَكُونُ ذَلِكَ كَلِمَتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ مُتَقَابِلَانِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ «1» ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «2» أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ ... وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ «3» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْفَاعِلُ فِي لَا يَخْرُجُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي خَبُثَ وَقَدْ قُلْنَا إِنَّهُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَالْبَلَدُ لَا يَخْرُجُ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِمَّا مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ وَنَبَاتُ الَّذِي خَبُثَ أَوْ مِنَ الثَّانِي أَيْ لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهُ فَلَمَّا حُذِفَ اسْتَكَنَّ الضَّمِيرُ الَّذِي كَانَ مَجْرُورًا لِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَقِيلَ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ قُصِدَ بِهِمَا التَّمْثِيلُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ مِثَالٌ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ يَرْجِعُ إِلَى جَسَدِهِ سَهْلًا طَيِّبًا كَمَا خَرَجَ إِذَا مَاتَ وَلِرُوحِ الْكَافِرِ لَا يَرْجِعُ إِلَّا بِالنَّكَدِ كَمَا خَرَجَ إِذْ مَاتَ انْتَهَى، فَيَكُونُ هَذَا رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِهِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أَيْ عَلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ مِثَالٌ لِلْقُلُوبِ لَمَّا نَزَّلَ الْقُرْآنَ كَنُزُولِ الْمَطَرِ عَلَى الْأَرْضِ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ كَالْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ يَقْبَلُ الْمَاءَ وَانْتَفَعَ بِمَا يَخْرُجُ، وَقَلْبُ الْكَافِرِ كَالسَّبَخَةِ لَا يَنْتَفِعُ بِمَا يَقْبَلُ مِنَ الْمَاءِ، وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ مِثَالٌ لِلْفَهِيمِ وَالْبَلِيدِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مَثَلٌ لِمَنْ يَنْجَعُ فِيهِ الْوَعْظُ وَالتَّنْبِيهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَلِمَنْ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَعَنْ مُجَاهِدٍ ذُرِّيَّةُ آدَمَ خَبِيثٌ وَطَيِّبٌ وَهَذَا التَّمْثِيلُ وَاقِعٌ عَلَى أَثَرِ ذِكْرِ الْمَطَرِ وَإِنْزَالِهِ بِالْبَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ انْتَهَى، وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْرِيفُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِخْرَاجِ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَرْضِ الْخَبِيثَةِ دُونَ قَصْدٍ إِلَى التَّمْثِيلِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرُوا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ يَخْرُجُ نَباتُهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ نَكِداً بِفَتْحِ الْكَافِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ بِسُكُونِهَا وَهُمَا مَصْدَرَانِ أَيْ ذَا نَكَدٍ وَكَوْنُ نَبَاتِ الَّذِي خَبُثَ مَحْصُورًا خُرُوجُهُ عَلَى حَالَةِ النَّكَدِ مُبَالَغَةً شَدِيدَةً فِي كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا هَكَذَا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ إِلَّا نَكِداً وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنِ اسْتَقَرَّ فِيهِ وَصْفُ الْخَبِيثِ يَبْعُدُ عَنْهُ النُّزُوعُ إِلَى الخير.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 100. (2) سورة الأعراف: 7/ 157. [.....] (3) سورة البقرة: 2/ 267.

كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّصْرِيفِ وَالتَّرْدِيدِ وَالتَّنْوِيعِ نُنَوِّعُ الْآيَاتِ وَنُرَدِّدُهَا وَهِيَ الْحُجَجُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ التَّامَّةِ وَالْفِعْلِ بِالِاخْتِيَارِ وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ ومنتشرات وَمُبَشِّرَاتٍ سَبَبًا لِإِيجَادِ النَّبَاتِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ وُجُودِ الْحَيَاةِ وَدَيْمُومَتِهَا كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ فَقَالَ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ أي بِإِذْنِ رَبِّهِ. لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَبْدَأَ الْخَلْقِ الْإِنْسَانِيِّ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَصَّ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا قَصَّ وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَعَادِ وَمَصِيرِ أَهْلِ السَّعَادَةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ إِلَى النَّارِ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِتَرْكِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَكَانَ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا غَيْرَ مُسْتَجِيبِينَ لَهُ وَلَا مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ قَصَّ تَعَالَى عَلَيْهِ أَحْوَالَ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ وَأَحْوَالَ مَنْ بُعِثُوا إِلَيْهِ عَلَى سبيل التّسلية لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَالتَّأَسِّي بِهِمْ، فَبَدَأَ بِنُوحٍ إِذْ هُوَ آدَمُ الْأَصْغَرُ وَأَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ وَأُمَّتُهُ أَدْوَمُ تَكْذِيبًا لَهُ وَأَقَلُّ اسْتِجَابَةً وَتَقَدَّمَ رَفْعُ نَسَبِهِ إِلَى آدَمَ وَكَانَ نَجَّارًا بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقِيلَ: ابْنُ خَمْسِينَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ابْنُ مِائَةٍ، وَقِيلَ: ابْنُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: ابْنُ ثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ شَدَّادٍ: ابْنُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَقَالَ وَهْبٌ: ابْنُ أَرْبَعِمِائَةٍ وَهَذَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَعِينَ إِلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَمَا بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ سَنَةَ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ مِنْ عُمُرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ بَعْدَ آدَمَ بِتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ الْآنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْعَرَبَ وفارسا وَالرُّومَ وَأَهْلَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَالْهِنْدَ وَالسِّنْدَ وَالزِّنْجَ وَالْحَبَشَةَ وَالزُّطَّ وَالنُّوبَةَ وَكُلَّ جِلْدٍ أَسْوَدَ مِنْ وَلَدِ حَامِ بْنِ نُوحٍ وَالتُّرْكَ وَالْبَرْبَرَ وَوَرَاءَ الصِّينِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالصَّقَالِبَةَ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نوح، لقد أَرْسَلْنَا اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ دُونَ وَاوٍ وَفِي هُودٍ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ مَرَّاتٍ فِي هُودٍ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ ضِمْنًا فِي قَوْلِهِ وَعَلَى الْفُلْكِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهَا عَطْفٌ فِي السُّورَتَيْنِ انْتَهَى وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ أَكَّدَ تَعَالَى هَذَا الْإِخْبَارَ بِالْقَسَمِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا لَهُمْ لَا يَكَادُونَ يَنْطِقُونَ بِهَذِهِ اللَّامِ إِلَّا مَعَ قَدْ وَقَلَّ عَنْهُمْ قَوْلُهُ: حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ لَنَامُوا (قُلْتُ) : إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْقَسَمِيَّةَ لَا تُسَاقُ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ جَوَابُهَا فَكَانَتْ مَظَنَّةً لِمَعْنَى التَّوَقُّعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى قَدْ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمُخَاطَبِ

كَلِمَةَ الْقَسَمِ انْتَهَى، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ إِذَا أَقْسَمَ عَلَى جُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِمَاضٍ مُثْبَتٍ مُتَصَرِّفٍ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَانِ الْحَالِ أَثْبَتَ مَعَ اللَّامِ بِقَدِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّقْرِيبِ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ وَلَمْ تَأْتِ بِقَدْ بَلْ بِاللَّامِ وَحْدَهَا إِنْ لَمْ يُرِدِ التَّقْرِيبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْسَلْنا بَعَثْنَا وَقَالَ غَيْرُهُ حَمَّلْنَاهُ رِسَالَةً يُؤَدِّيهَا فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الرِّسَالَةُ مُتَضَمِّنَةً لِلْبَعْثِ وَهُنَا فَقَالَ بِفَاءِ الْعَطْفِ وَكَذَا فِي الْمُؤْمِنُونَ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ هُنَا قَالَ بِغَيْرِ فَاءٍ وَالْأَصْلُ الْفَاءُ وَحُذِفَتْ فِي الْقِصَّتَيْنِ تَوَسُّعًا. وَاكْتِفَاءً بِالرَّبْطِ الْمَعْنَوِيِّ وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ فِي هُودٍ إِنِّي لَكُمْ «1» عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ فَقَالَ إِنِّي وَفِي نِدَائِهِ قَوْمَهُ تَنْبِيهٌ لَهُمْ لِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ وَاسْتِعْطَافٌ وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُمْ قَوْمُهُ فَالْمُنَاسِبُ أَنْ لَا يُخَالِفُوهُ وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ جُمْلَةُ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَرَفْضِ آلِهَتِهِمُ الْمُسَمَّاةُ وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَغَيْرَهَا وَالْجُمْلَةُ الْمُنَبِّهَةُ عَلَى الْوَصْفِ الدَّاعِي إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ الْمَرْجُوُّ إِحْسَانُهُ الْمَحْذُورُ انْتِقَامُهُ دُونَ آلِهَتِهِمْ وَلَمْ تَأْتِ بِحَرْفِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِعِلَّةِ اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِأَنْ يُعْبَدَ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ غَيْرِهِ بِالْجَرِّ عَلَى لَفْظِ إِلهٍ بَدَلًا أَوْ نَعْتًا، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ غَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ مِنْ إِلهٍ لِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ بَدَلًا أَوْ نَعْتًا، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ غَيْرَهُ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالْجَرُّ وَالرَّفْعُ أَفْصَحُ ومِنْ إِلهٍ مبتدأ ولَكُمْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِي الوجود ولَكُمْ تبيين وتخصيص، وأَخافُ قِيلَ: بِمَعْنَى أَتَيَقَّنُ وَأَجْزِمُ لِأَنَّهُ عَالِمٌ أَنَّ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَقِيلَ: الْخَوْفُ عَلَى بَابِهِ بِمَعْنَى الْحَذَرِ لِأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَأَنْ يستمروا على كفرهم ويَوْمٍ عَظِيمٍ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الطُّوفَانُ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ الْمَلَوُ بِالْوَاوِ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ انْتَهَى وَلَيْسَ مَشْهُورًا عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بَلْ قِرَاءَتُهُ كَقِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ بِهَمْزَةٍ وَلَمْ يُجِبْهُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا أَشْرَافُهُمْ وَسَادَتُهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَتَعَاصَوْنَ عَلَى الرُّسُلِ لِانْغِمَارِ عُقُولِهِمْ بِالدُّنْيَا وَطَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِيهِمَا. وَنَرَاكَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَمَعْنَى فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي ذَهَابٍ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ وَجَهَالَةٍ بِمَا تَسْلُكُ بَيِّنَةٍ وَاضِحَةٍ وَجَاءَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ مُؤَكَّدَةً بِأَنَّ وَبِاللَّامِ وَفِي لِلْوِعَاءِ فَكَأَنَّ الضَّلَالَ جَاءَ ظَرْفًا لَهُ وَهُوَ فِيهِ وَلَمْ يَأْتِ ضَالًّا وَلَا ذَا ضَلَالٍ. قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ لَمْ يَرِدِ النَّفْيُ مِنْهُ عَلَى لَفْظِ مَا قَالُوهُ فَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ لَسْتُ فِي

_ (1) سورة هود: 11/ 25.

ضَلَالٍ مُبِينٍ بَلْ جَاءَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنْ نَفْيٍ أَنْ يَلْتَبِسَ بِهِ وَيَخْتَلِطَ ضَلَالَةٌ مَا وَاحِدَةٌ فَأَنَّى يَكُونُ فِي ضَلَالٍ فَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الِانْتِفَاءِ مِنَ الضَّلَالِ إِذْ لَمْ يَعْتَلِقْ بِهِ وَلَا ضَلَالَةَ وَاحِدَةً وَفِي نِدَائِهِ لَهُمْ ثَانِيًا وَالْإِعْرَاضُ عَنْ جَفَائِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ صَدْرِهِ وَالتَّلَطُّفِ بِهِمْ. وَلَمَّا نَفَى عَنْهُمُ الْتِبَاسَ ضَلَالَةٍ مَا بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَصَحَّ أَنْ يَسْتَدْرِكَ كَمَا تَقُولُ مَا زَيْدٌ بِضَالٍّ وَلَكِنَّهُ مُهْتَدٍ فَلَكِنَّ وَاقِعَةٌ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ: الضَّلَالِ وَالْهُدَى وَلَا تُجَامِعُ ضَلَالَةَ الرِّسَالَةِ وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ رَبُّهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ أَيْ مِنْ رَبِّكُمُ الْمَالِكِ لِأُمُورِكُمُ النَّاظِرِ لَكُمْ بِالْمَصْلَحَةِ حَيْثُ وَجَّهَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا يَدْعُوكُمْ إِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وأُبَلِّغُكُمْ اسْتِئْنَافٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ بِكَوْنِهِ رَسُولًا أَوْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرَسُولٍ ملحوظا فيه كونه خَبَرًا لِضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ كَمَا تَقُولُ أَنَا رَجُلٌ آمِرٌ مَعْرُوفٌ فَتُرَاعِي لَفْظَ أَنَا وَيَجُوزُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ فَيُرَاعِي لَفْظَ رَجُلٍ وَالْأَكْثَرُ مُرَاعَاةً ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «1» بِالتَّاءِ ولو قرىء بِالْيَاءِ لَكَانَ عَرَبِيًّا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ قَوْمِ لِأَنَّهُ غَائِبٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أُبَلِّغُكُمْ هُنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِي الْأَحْقَافِ بِالتَّخْفِيفِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ وَالْهَمْزَةُ وَالتَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ فِيهِ وَجَمَعَ رِسالاتِ بِاعْتِبَارِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَطَاوِلَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعْظِ وَالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلِهِ، قِيلَ: فِي صُحُفِ إِدْرِيسَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ صَحِيفَةً وَفِي صُحُفِ شِيثٍ وَهِيَ خَمْسُونَ صَحِيفَةً وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَصَحَ وَتَعْدِيَتِهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي زِيَادَةِ اللَّامِ مُبَالَغَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ وَأَنَّهَا وَقَعَتْ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ مَقْصُودًا بِهِ جَانِبُهُ لَا غَيْرَ فَرُبَّ نَصِيحَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاصِحُ بِقَصْدِ النَّفْعَيْنِ جَمِيعًا وَلَا نَصِيحَةَ أَنْفَعُ مِنْ نَصِيحَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ نَصَحْتُكَ إِنَّمَا نَصَحْتُ لَكَ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا وَفِي قَوْلِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إِبْهَامٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ عَامٌّ وَلَكِنْ سَاقَ ذَلِكَ مَسَاقَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي يَخَافُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا قَطُّ بِأُمَّةٍ عُذِّبَتْ فَتَضَمَّنَ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَشِدَّةِ بَطْشِهِ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ إِلَهًا مَعَهُ أَوْ يُرِيدُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيَّ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا بُدَّ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ إِلَى الْخَلْقِ كَانَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ بِخَرْقِ الْعَادَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفْنَا بِمُعْجِزَتِهِ ومنهم من لم يعرف وما

_ (1) سورة النمل: 27/ 47.

أَحْسَنَ سِيَاقُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ قَالَ أَوَّلًا أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَهَذَا مَبْدَأُ أَمْرِهِ مَعَهُمْ وَهُوَ التَّبْلِيغُ، كَمَا قَالَ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ثُمَّ قَالَ وَأَنْصَحُ لَكُمْ أَيْ أُخْلِصُ لَكُمْ فِي تَبْيِينِ الرُّشْدِ وَالسَّلَامَةِ فِي الْعَاقِبَةِ إِذَا عَبَدْتُمُ اللَّهَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَالَ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ بَطْشِهِ بِكُمْ وَهُوَ مَآلُ أَمْرِكُمْ إِذَا لَمْ تُفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ فَنَبَّهَ عَلَى مَبْدَأِ أَمْرِهِ وَمُنْتَهَاهُ مَعَهُمْ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يَتَضَمَّنُ قَوْلُهُمْ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ استبعادهم واستحمالهم مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ خَوْفِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَرَفْضِ آلِهَتِهِمْ وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ سَبَبُ اسْتِبْعَادِهِمْ إِرْسَالُ نُوحٍ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ أَيْ هَذَا مِمَّا لَا يُعْجَبُ مِنْهُ إِذْ لَهُ تَعَالَى، التَّصَرُّفُ التَّامُّ بِإِرْسَالِ مَنْ يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفُ مَحْذُوفٌ كأنه قيل أو كذبتم وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ وَالنُّحَاةِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاوَ لِعَطْفِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ وَلَا حَذْفَ هُنَاكَ وَكَأَنَّ الْأَصْلَ وَأُعْجِبْتُمْ لَكِنَّهُ اعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَقُدِّمَتْ عَلَى حُرُوفِ الْعَطْفِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ رَجَعَ هُوَ عَنْ هَذَا إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ وَالذِّكْرُ الْوَعْظُ أَوِ الْوَحْيُ أَوِ الْمُعْجِزُ أَوْ كِتَابٌ مُعْجِزٌ أَوِ الْبَيَانُ أَقْوَالٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلى رَجُلٍ فِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ كَمَا قَالَ مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «1» ، وَقِيلَ: عَلى بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: لَا حَذْفَ وَلَا تَضْمِينَ فِي الْحَرْفِ بَلْ قَوْلُهُ عَلى رَجُلٍ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ جاءَكُمْ بِمَعْنَى نَزَلَ إِلَيْكُمْ كَانُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْ نُبُوَّةِ نُوحٍ وَيَقُولُونَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ يَعْنُونَ إِرْسَالَ البشر ولَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «2» وَذَكَرَ عَلَيْهِ الْمَجِيءَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَوُجُودُ التَّقْوَى مِنْهُمْ وَرَجَاءُ الرَّحْمَةِ وَكَأَنَّهَا عِلَّةٌ مُتَرَتِّبَةٌ فَجَاءَكُمُ الذِّكْرُ لِلْإِنْذَارِ بِالْمَخُوفِ وَالْإِنْذَارُ بِالْمَخُوفِ لِأَجْلِ وُجُودِ التَّقْوَى مِنْهُمْ وَوُجُودُ التَّقْوَى لِرَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَحُصُولِهَا فَعَلَّلَ الْمَجِيءَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْعِلَلِ الْمُتَرَتِّبَةِ لِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى السَّبَبِ سَبَبٌ. فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ. أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ هَذَا مَعَ حُسْنِ مُلَاطَفَتِهِ لَهُمْ وَمُرَاجَعَتِهِ لَهُمْ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ نَتِيجَةُ هَذَا إِلَّا التَّكْذِيبَ لَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ هُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَقِيلَ ثَمَانِينَ رَجُلًا وَأَرْبَعِينَ امْرَأَةً قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وإليهم

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 194. (2) سورة فصلت: 41/ 14.

تُنْسَبُ الْقَرْيَةُ الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا الثَّمَانُونَ وَهِيَ بِالْمَوْصِلِ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ فِيهِمْ أَوْلَادُهُ الثَّلَاثَةُ، وَقِيلَ: تِسْعَةٌ مِنْهُمْ بَنُوهُ الثَّلَاثَةُ وَفِي قَوْلِهِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا إِعْلَامٌ بِعِلَّةِ الْغَرَقِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ وبِآياتِنا يَقْتَضِي أَنَّ نُوحًا كَانَتْ لَهُ آيَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ تَدُلُّ عَلَى إِرْسَالِهِ وَيَتَعَلَّقُ فِي الْفُلْكِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الظَّرْفُ الْوَاقِعُ صِلَةً أَيْ وَالَّذِينَ اسْتَقَرُّوا مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَنْجَيْنَاهُ أَيْ أَنْجَيْنَاهُمْ فِي السَّفِينَةِ مِنَ الطُّوفَانِ وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي سَبَبِيَّةً أَيْ بِالْفُلْكِ كَقَوْلِهِ «دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» أَيْ بِسَبَبِ هِرَّةٍ وعَمِينَ مِنْ عَمِيَ الْقَلْبُ أَيْ غَيْرُ مُسْتَبْصِرِينَ وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَصْفِ كَوْنُهُ جَاءَ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ وَلَوْ قُصِدَ الْحَذْفُ لَجَاءَ عَلَى فَاعِلٍ كَمَا جَاءَ ضَائِقٌ فِي ضَيِّقٍ وَثَاقِلٌ فِي ثَقِيلٍ إِذَا قُصِدَ بِهِ حُدُوثُ الضِّيقِ وَالثِّقَلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَقَالَ مُعَاذٌ النَّحْوِيُّ: رَجُلٌ عَمٍ فِي أَمْرِهِ لَا يُبْصِرُهُ وَأَعْمَى فِي الْبَصَرِ. قَالَ: مَا فِي غَدٍ عَمٍ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمٍ وَقَدْ يَكُونُ الْعَمَى وَالْأَعْمَى كَالْخَضِرِ وَالْأَخْضَرِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: رَجُلٌ عَمٍ إِذَا كَانَ أَعْمَى الْقَلْبِ. وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ عَادٌ اسْمُ الْحَيِّ وَلِذَلِكَ صَرَفَهُ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ شُهِدَتْ عَادُ في زمان عاد ... لا نتزها مُبَارَكُ الْجَلَّادُ سُمِّيَتِ الْقَبِيلَةُ بِاسْمِ أَبِيهِمْ وَهُوَ عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُودٌ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأُبَّدِيُّ النَّحْوِيُّ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ هُودًا عَرَبِيٌّ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ لَمَّا عَدَّهُ مَعَ نُوحٍ وَلُوطٍ وَهُمَا عَجَمِيَّانِ أَنَّهُ عَجَمِيٌّ عِنْدَهُ انْتَهَى، وَذَكَرَ الشَّرِيفُ النَّسَّابَةُ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْجُوَّانِيُّ أَنَّ يعرب بن قحطان بن هُودٍ هُوَ الَّذِي زَعَمَتْ يَمَنٌ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَنَزَلَ أَرْضَ الْيَمَنِ فَهُوَ أَبُو الْيَمَنِ كُلِّهَا وَأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ عَرَبًا بِهِ انْتَهَى فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ هُودٌ عَرَبِيًّا وَهُودٌ هُوَ ابْنُ عَابِرِ بْنِ شَالِحِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وأَخاهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى نُوحًا وَمَعْنَاهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَيْسَ هُودٌ مِنْ بَنِي عَادٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا كَمَا تَقُولُ أَيَا أَخَا الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَادٍ وَهُوَ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ الْجَلُودِ بْنِ عَادِ بْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ عَادٍ وَاسْمُ أُمِّهِ مُرْجَانَةٌ وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا أَشْبَهُ خَلْقِ اللَّهِ بِآدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، رُوِيَ أَنَّ عَادًا كَانَتْ لَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبِيلَةً يَنْزِلُونَ رِمَالَ عَالِجٍ وَهِيَ عَادٌ الْأُولَى وَكَانُوا أَصْحَابَ بَسَاتِينَ وَزُرُوعٍ وَعِمَارَةٍ وَبِلَادُهُمْ

أَخْصَبُ بِلَادٍ فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَهَا مَفَاوِزَ وَكَانَتْ بِنَوَاحِي عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ إِلَى الْيَمَنِ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَلَمَّا هَلَكُوا لَحِقَ هُودٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا وَلَمْ يَأْتِ فَقَالَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَيْ فَمَا قال لهم يا قَوْمِ وَكَذَا قالَ الْمَلَأُ وَفِي قَوْلِهِ أَفَلا تَتَّقُونَ اسْتِعْطَافٌ وَتَحْضِيضٌ عَلَى تَحْصِيلِ التَّقْوَى وَلَمَّا كَانَ مَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ مِنْ أَمْرِ الطُّوفَانِ وَاقِعَةً لَمْ يَظْهَرْ فِي الْعَالَمِ مِثْلُهَا قَالَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَوَاقِعَةُ هُودٍ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِوَاقِعَةِ نُوحٍ وَعَهْدُ النَّاسِ قَرِيبٌ بِهَا اكْتَفَى هُودٌ بِقَوْلِهِ أَفَلا تَتَّقُونَ وَالْمَعْنَى تَعْرِفُونَ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ حَلَّ بِهِمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي اشْتَهَرَ خَبَرُهُ فِي الدُّنْيَا فَقَوْلُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْوِيفِ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْمَشْهُورَةِ. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَتَى بِوَصْفِ الْمَلَأُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَأْتِ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي قَوْمِ نُوحٍ لِأَنَّ قَوْمَ هُودٍ كَانَ فِي أَشْرَافِهِمْ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي أَشْرَافِ قَوْمِ نُوحٍ مُؤْمِنٌ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1» وَقَوْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «2» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا جَاءَ لِلذَّمِّ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْفَرْقُ وَلِنَرَاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَمِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وفِي سَفاهَةٍ أَيْ فِي خِفَّةِ حِلْمٍ وَسَخَافَةِ عَقْلٍ حَيْثُ تَتْرُكُ دِينَ قَوْمِكَ إِلَى دِينٍ غَيْرِهِ وَفِي سَفَاهَةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِيهَا قَدِ احْتَوَتْ عَلَيْهِ كَالظَّرْفِ الْمُحْتَوِي عَلَى الشَّيْءِ وَلَمَّا كَانَ كَلَامُ نُوحٍ لِقَوْمِهِ أَشَدَّ مِنْ كَلَامِ هُودٍ تَقْوِيَةً لِقَوْلِهِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ كَانَ جَوَابُهُمْ أَغْلَظَ وَهُوَ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَانَ كَلَامُ هُودٍ أَلْطَفَ لِقَوْلِهِ أَفَلا تَتَّقُونَ فَكَانَ جَوَابُهُمْ لَهُ أَلْطَفَ مِنْ جَوَابِ قَوْمِ نُوحٍ لِنُوحٍ بِقَوْلِهِمْ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ ثُمَّ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ أَوْ عَلَّقُوا الظَّنَّ بِقَوْلِهِ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَيْ إِنَّ لَنَا آلِهَةً فَحَصْرُهَا فِي وَاحِدٍ كَذِبٌ. وَقِيلَ: الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ أَوْ بِمَعْنَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ وَالثَّانِي لِلْحَسَنِ وَالزَّجَّاجِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: خَوَّفَ نُوحٌ الْكُفَّارَ بِالطُّوفَانِ الْعَامِّ وَاشْتَغَلَ بِعَمَلِ السَّفِينَةِ فَقَالُوا إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حَيْثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ فِي إِصْلَاحِ سَفِينَةٍ كَبِيرَةٍ فِي مَفَازَةٍ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ رَدِيفُ عِبَادَةِ الأوثان ونسب قومه إلى السَّفَاهَةِ فَقَابَلُوهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

_ (1) سورة هود: 11/ 27. (2) سورة الشعراء: 26/ 111.

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ هَذَا النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَهُنَاكَ جَاءَ وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَهُنَا جَاءَ وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ لَمَّا كَانَ آخِرُ جَوَابِهِمْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً جَاءَ قَوْلُهُ كَذَلِكَ فَقَالُوا هُمْ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قَالَ هُوَ وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ وَجَاءَ بِوَصْفِ الْأَمَانَةِ وَهِيَ الْوَصْفُ الْعَظِيمُ الَّذِي حَمَلَهُ الْإِنْسَانُ وَلَا أَمَانَةَ أَعْظَمُ مِنْ أَمَانَةِ الرِّسَالَةِ وَإِيصَالِ أَعْبَائِهَا إِلَى الْمُكَلَّفِينَ وَالْمَعْنَى أَنِّي عُرِفْتُ فِيكُمْ بِالنُّصْحِ فَلَا يَحِقُّ لَكُمْ أَنْ تَتَّهِمُونِي وَبِالْأَمَانَةِ فِيمَا أَقُولُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ أُكَذَّبَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ أَمِينٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ عَلَى الْوَحْيِ وَالذِّكْرِ النَّازِلِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمِينٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْبِهِمْ وَعَلَى إِرَادَةِ الْخَيْرِ بِهِمْ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فُلَانٌ لِفُلَانٍ نَاصِحُ الْجَيْبِ أَمِينُ الْغَيْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنَ الْأَمْنِ أَيْ جِهَتِي ذَاتُ أَمْنٍ لَكُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْغِشِّ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: شَتَّانَ مَا بَيْنَ مَنْ دَفَعَ عَنْهُ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى «1» وَمَا صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «2» وَمَنْ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي إِجَابَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَنْ نَسَبَهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ بِمَا أَجَابُوهُمْ مِنَ الْكَلَامِ الصَّادِرِ عَنِ الْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ الْمُقَابَلَةِ بِمَا قَالُوا لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ خُصُومَهُمْ أَصْلُ السَّفَّاهِينَ وَأَسْفَلُهُمْ أَدَبٌ حَسَنٌ وَخُلُقٌ عَظِيمٌ وَحِكَايَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِعِبَادِهِ كَيْفَ يُخَاطِبُونَ السُّفَهَاءَ وَكَيْفَ يَغُضُّونَ عَنْهُمْ وَيُسْبِلُونَ أَذْيَالَهُمْ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ أَتَى هُنَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْإِنْذَارُ وَهُوَ التَّخْوِيفُ بِالْعَذَابِ وَاخْتَصَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِنْذَارِ مِنَ التَّقْوَى وَرَجَاءِ الرَّحْمَةِ. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أَيْ سُكَّانَ الْأَرْضِ بَعْدَهُمْ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ، أَوْ جَعَلَكُمْ مُلُوكًا فِي الْأَرْضِ اسْتَخْلَفَكُمْ فِيهَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَذْكِيرُ هُودٍ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ زَمَانِهِمْ مِنْ زَمَانِ نُوحٍ لِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وإِذْ ظَرْفٌ فِي قَوْلِ الْحَوْفِيِّ فَيَكُونُ مَفْعُولُ اذْكُرُوا مَحْذُوفًا أَيْ وَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَقْتَ كَذَا وَالْعَامِلُ فِي إِذْ مَا تَضَمَّنَهُ النِّعَمُ مِنَ الْفِعْلِ وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إِذْ مَفْعُولٌ بِهِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِاذْكُرُوا أَيِ اذْكُرُوا وَقْتَ جَعْلِكُمْ. وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ظَاهِرُ التَّوَارِيخِ أَنَّ الْبَسْطَةَ الِامْتِدَادُ وَالطُّولُ وَالْجَمَالُ فِي الصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ فَيُحْتَمَلُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا

_ (1) سورة النجم: 53/ 2. (2) سورة التكوير: 81/ 22.

أَيْ وَزَادَكُمْ فِي خَلْقِكُمْ بَسْطَةً أَيْ مَدَّ وَطَوَّلَ وَحَسَّنَ خَلْقَكُمْ قِيلَ: كَانَ أَقْصَرُهُمْ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَأَطْوَلُهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْيَمَانِيُّ: سَبْعُونَ ذِرَاعًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ رَأْسُ أَحَدِهِمْ مِثْلَ الْقُبَّةِ الْعَظِيمَةِ وَعَيْنُهُ تُفْرِخُ فِيهَا الضِّبَاعُ وَكَذَلِكَ مِنْخَرُهُ وَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِينَ فَالْخَلْقُ قَوْمُ نُوحٍ أَوْ أَهْلُ زَمَانِهِمْ أَوِ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَقْوَالٌ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ فِي الْإِجْرَامِ وَهِيَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُ الْإِنْسَانِ إِذَا رَفَعَهَا، وَقِيلَ الزِّيَادَةُ هِيَ فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَادَةِ لَا فِي الْإِجْرَامِ. وَقِيلَ: زِيَادَةُ الْبَسْطَةِ كَوْنُهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مُشَارِكِينَ فِي الْقُوَّةِ مُتَنَاصِرِينَ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أَيِ اقْتِدَارًا فِي الْمَخْلُوقِينَ وَاسْتِيلَاءً. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ذَكَّرَهُمْ أَوَّلًا بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ وَزَادَهُمْ بَسْطَةً وَذَكَّرَهُمْ ثَانِيًا بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا لَا بِتَقْيِيدِ زَمَانِ الْجَعْلِ واذكروا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الذِّكْرِ وَهُوَ أَنْ لَا يَتَنَاسَوْا نِعَمَهُ بَلْ تَكُونُ نِعَمُهُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْكُمْ رَجَاءَ أَنْ تَفْلَحُوا وَتَعْلِيقُ رَجَاءِ الْفَلَاحِ عَلَى مُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَظْهَرُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَجَاءُ الْفَلَاحِ وَتَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَإِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَفِي ذِكْرِهِمْ آلاءَ اللَّهِ ذِكْرُ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَحِقِّ لِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذِهِ مَا سِوَاهُ، وَقِيلَ: اذْكُرُوا هُنَا بِمَعْنَى اشْكُرُوا. قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَتْرُكُوا أَصْنَامَهُمْ وَيُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بالله حبّا لما نشؤوا عَلَيْهِ وَتَآلُفًا لِمَا وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لِلَّهِ وَيَكُونَ قَوْلُهُمْ لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أَيْ عَلَى قَوْلِكَ يَا هُودُ وَدَعْوَاكَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِيهِمْ وَفِي عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَلَا يَجْحَدُ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ مِنَ الْكَفَرَةِ إِلَّا مَنِ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ كَفِرْعَوْنَ وَنُمْرُودَ انْتَهَى، وَكَانَ فِي قَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا الْمُنْعِمُ وَأَصْنَامُهُمْ جَمَادَاتٌ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ وَالْعِبَادَةُ هِيَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ فَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ وَلَمَّا نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهَا عَدَلُوا إِلَى التَّقْلِيدِ البحث فَقَالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَالْمَجِيءُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِكَوْنِهِ مُتَغَيِّبًا عَنْ قَوْمِهِ مُنْفَرِدًا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَجَاءَهُمْ مِنْ مَكَانِ مُتَغَيَّبِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَجِئْتَنَا مِنَ السَّمَاءِ كَمَا يَجِيءُ الْمَلَكُ وَلَا يُرِيدُونَ حَقِيقَةَ الْمَجِيءِ وَلَكِنِ التَّعَرُّضَ وَالْقَصْدَ كَمَا يُقَالُ ذَهَبَ يَشْتُمُنِي لَا يُرِيدُونَ حَقِيقَةَ الذَّهَابِ

كَأَنَّهُمْ قَالُوا أَقَصَدْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَتَعَرَّضْتَ لَنَا بِتَكَالِيفِ ذَلِكَ وَفِي قَوْلِهِمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعِدُهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ دَامُوا عَلَى الْكُفْرِ وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَصْمِيمِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَاحْتِقَارِهِمْ لِأَمْرِ النُّبُوَّةِ وَاسْتِعْجَالِ الْعُقُوبَةِ إِذْ هِيَ عِنْدَهُمْ لَا تَقَعُ أَصْلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فَلَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ كَاذِبًا قَالُوا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أَيْ فِي نُبُوَّتِكَ وَإِرْسَالِكَ أَوْ فِي أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِنَا. قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَيْ حَلَّ بِكُمْ وَتَحَتَّمَ عَلَيْكُمْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْأَكْثَرُونَ: الرِّجْسُ هُنَا الْعَذَابُ مِنَ الِارْتِجَاسِ وَهُوَ الِاضْطِرَابُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السُّخْطُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا يَكُونُ الْعَذَابُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِازْدِيَادُ فِي الْكُفْرِ بِالرَّيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ لِتَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ رَيْنٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ كَقَوْلِهِ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» فَإِنَّ الرِّجْسَ السُّخْطُ أَوِ الرَّيْنُ فَقَوْلُهُ قَدْ وَقَعَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنَ الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ فَيَكُونُ مِنْ جَعْلِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ هَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُ لِمُخَاصَمَتِهِمْ لَهُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْخِصَامُ وَهُوَ ذِكْرُ أَلْفَاظٍ لَيْسَ تَحْتَهَا مَدْلُولٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَصَارَتِ الْمُنَازَعَةُ بَاطِلَةً بِذَلِكَ وَمَعْنَى سَمَّيْتُمُوها سَمَّيْتُمْ بِهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ أَيْ أَحْدَثْتُمُوهَا قَرِيبًا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ وَهِيَ صَمُودُ وَصُدَاءُ وَالْهَبَاءُ وَقَدْ ذَكَرَهَا مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ: عَصَتْ عَادٌ رَسُولَهُمُ فَأَضْحَوْا ... عِطَاشًا مَا تَبُلُّهُمُ السَّمَاءُ لَهُمْ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ صَمُودٌ ... يُقَابِلُهُ صُدَاءٌ وَالْهَبَاءُ فَبَصَّرَنَا الرَّسُولُ سَبِيلَ رُشْدٍ ... فَأَبْصَرَنَا الهدى وجلى الْعَمَاءُ وَإِنَّ إِلَهَ هُودٍ هُو إِلَهِي ... عَلَى اللَّهِ التَّوَكُّلُ وَالرَّجَاءُ فَالْجِدَالُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ لَا مَدْلُولَاتِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجِدَالُ وَقَعَ فِي الْمُسَمَّيَاتِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ فَيَكُونُ أَطْلَقَ الْأَسْمَاءَ وَأَرَادَ بِهَا الْمُسَمَّيَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أَتُجادِلُونَنِي فِي ذَوَاتِ أَسْمَاءٍ وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَمَّيْتُمُوها آلِهَةً وَعَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، قِيلَ: سَمَّوْا كُلَّ صَنَمٍ بِاسْمٍ عَلَى مَا اشْتَهَوْا وَزَعَمُوا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْقِيهِمُ الْمَطَرَ وَبَعْضَهُمْ يَشْفِيهِمْ مِنَ الْمَرَضِ وَبَعْضَهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي السَّفَرِ وبعضهم يأتيهم بالرزق..

_ (1) سورة التوبة: 9/ 125.

مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ مَا نَزَّلَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ بِذَلِكَ حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَجَاءَ هُنَا نَزَّلَ وَفِي مَكَانٍ غَيْرِهِ أَنْزَلَ وَكِلَاهُمَا فَصِيحٌ وَالتَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ وَالْهَمْزَةِ سَوَاءٌ. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ أَيْ فَانْتَظِرُوا عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَفِي تَكْذِيبِ رَسُولِهِ وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْوُثُوقِ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا يَعْنِي مَنْ آمَنَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ سَابِقَةٍ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ عَلَيْهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ آمَنُوا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمْ مِمَّا أَصَابَ قَوْمَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ بِالْهَلَاكِ بِالْعَذَابِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي دابِرَ فِي قَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» وَفِي قَوْلِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا تَنْبِيهٌ عَلَى عِلَّةِ قَطْعِ دَابِرِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ بِآياتِنا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ لِهُودٍ مُعْجِزَاتٌ وَلَكِنْ لَمْ تُذْكَرْ لَنَا بِتَعْيِينِهَا. وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ بَقُوا لَمْ يُؤْمِنُوا أَيْ مَا كَانُوا مِمَّنْ يَقْبَلُ إِيمَانًا أَلْبَتَّةَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ لَأَبْقَاهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِالْآيَاتِ قَدْ يُؤْمِنُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيَحْسُنُ حاله فأما من حتم اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ فَلَا يُؤْمِنُ أَبَدًا وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَرْثَدِ بْنِ سَعْدٍ وَمَنْ نَجَا مَعَ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَ مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ لِيُؤْذِنَ أَنَّ الْهَلَاكَ خَصَّ الْمُكَذِّبِينَ وَنَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا قِصَّةَ هَلَاكِ عَادٍ وَذَكَرُوا فِيهَا أَشْيَاءَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَلَا صَحَّتْ عَنِ الرَّسُولِ فَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا وَأَمَّا مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ فَيَأْتِي فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ثَمُودُ اسْمُ الْقَبِيلَةِ سُمِّيَتْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ الْأَكْبَرِ وَهُوَ ثَمُودُ أَخُو جَدِيسٍ وَهُمَا ابْنَا جَاثِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الْحِجْرَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَإِلَى وَادِي الْقُرَى. وَقِيلَ سُمِّيَتْ ثَمُودَ لِقِلَّةِ مَا بِهَا مِنَ الثَّمَدِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ. قَالَ الشَّاعِرُ: احْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ ... إِلَى حَمَامِ شِرَاعٍ وَارِدِ الثمد

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 45.

وَكَانَتْ ثَمُودُ عَرَبًا فِي سَعَةٍ مِنَ الْعَيْشِ فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ صَالِحًا نَبِيًّا مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ حَسَبًا فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى شَمِطَ وَلَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، قَالَهُ وَهْبٌ: بَعَثَهُ اللَّهُ حِينَ رَاهَقَ الْحُلُمَ فَلَمَّا هَلَكَ قَوْمُهُ ارْتَحَلَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامُوا مَعَهُ حَتَّى مَاتُوا فَقُبُورُهُمْ بَيْنَ دَارِ النَّدْوَةِ وَالْحِجْرِ، وَصَالِحٌ هُوَ صَالِحُ بْنُ آسِفِ بْنِ كَاشِحِ بْنِ أَرُومَ بْنِ ثَمُودَ بْنِ جَاثِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ هَكَذَا نَسَبَهُ الشَّرِيفُ النَّسَّابَةُ الْجَوَّانِيُّ وَهُوَ الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ فِي عِلْمِ النَّسَبِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ بَيْنَ صَالِحٍ وَآسِفٍ زِيَادَةُ أَبٍ وَهُوَ عُبَيْدٌ فَقَالُوا صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسِفٍ وَنَقْصٌ فِي الْأَجْدَادِ وَتَصْحِيفُ جَاثِرٍ بِقَوْلِهِمْ عَابِرٍ، قَالَ الشَّرِيفُ الْجَوَّانِيُّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْفَاضِلِيَّةِ وَالْعَقِبُ مِنْ جَاثِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ وَجَدِيسٍ وَالْعَقِبُ مِنْ ثَمُودَ بْنِ جَاثِرٍ فَالَخُ وَهَيْلَعُ وَتَنُوقُ وَأَرُومُ مِنْ وَلَدِهِ صَالِحٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بْنُ آسِفِ بْنِ كَاشِحِ بْنِ أَرُومَ بْنِ ثَمُودَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: وَإِلى ثَمُودَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَالتَّنْوِينِ مَصْرُوفًا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ جَعَلَهُ اسْمَ الْحَيِّ وَالْجُمْهُورُ مَنَعُوهُ الصَّرْفَ جَعَلُوهُ اسْمَ الْقَبِيلَةِ وَالْأُخُوَّةُ هُنَا فِي الْقَرَابَةِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ وَنَسَبَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى ثَمُودَ بْنِ جَاثِرٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ تَوَارَدُوا عَلَى الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِذْ كَانَ قَوْمُهُمْ عَابِدِي أَصْنَامٍ وَمُتَّخِذِي آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ فَفِي هَذِهِ الْقِصَصِ تَوْبِيخُهُمْ وَتَهْدِيدُهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ مِنَ الْهَلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ مِنَ الْعَذَابِ وَكَانَتْ قِصَّةُ نُوحٍ مَشْهُورَةً طَبَّقَتِ الْآفَاقَ وَقِصَّةُ هُودٍ وَصَالِحٍ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ بِحَيْثُ ذَكَرَهَا قُدَمَاءُ الشُّعَرَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَبَّهُوا مُفْسِدِي قَوْمِهِمْ بِمُفْسِدِي قَوْمِ هُودٍ وَصَالِحٍ قَالَ بَعْضُ قُدَمَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: فِينَا مَعَاشِرُ لَنْ يبغوا لِقَوْمِهِمُ ... وَإِنْ بَنَى قَوْمُهُمْ مَا أَفْسَدُوا عَادُوا أَضْحَوْا كَقِيلِ بْنِ عَنْزٍ فِي عَشِيرَتِهِ ... إِذْ أُهْلِكَتْ بِالَّذِي سَدَّى لَهَا عَادُ أَوْ بَعْدَهُ كَقُدَارٍ حِينَ تَابَعَهُ ... عَلَى الْغِوَايَةِ أَقْوَامٌ فَقَدْ بَادُوا وَقَيْلُ ابْنُ عَنْزٍ هُوَ مِنْ قَوْمِ هُودٍ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ خَبَرِهِ عِنْدَ ذِكْرِ إِرْسَالِ الرِّيحِ عَلَى قَوْمِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقُدَارٌ هُوَ ابْنُ سَالِفٍ عَاقِرُ نَاقَةِ صَالِحٍ وَيَأْتِي خَبَرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ آيَةٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَشَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الصِّفَةِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فِي الْقُرْآنِ فَوَلِيَتِ الْعَوَامِلَ كَقَوْلِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَقَوْلِهِ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «1» وَالْمَعْنَى الْآيَةُ الْبَيِّنَةُ وَبِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَقَارَبَ أَنْ تكون كالأبطح

_ (1) سورة النحل: 16/ 44.

وَالْأَبْرَقِ إِذْ لَا يَكَادُ يُصَرَّحُ بِالْمَوْصُولِ مَعَهَا وَقَوْلُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ ائتنا ببينة تَدُلُّ عَلَى صِدْقِكَ وَأَنَّكَ مرسل إلينا ومِنْ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَتْكُمْ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِآيَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ مِنْ آيَاتِ رَبِّكُمْ. هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ بَيَّنَ مَا الْآيَةُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ مَا الْبَيِّنَةُ قَالَ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ وَأَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا نَحْوُ بَيْتُ اللَّهِ وَرُوحُ اللَّهِ وَلِكَوْنِهِ خَلَقَهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَلِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهَا غَيْرُهُ وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الْقَوْمِ وَلَمَّا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ ذَكَرَهَا فِي قِصَّةِ قَوْمِ صَالِحٍ ولَكُمْ بَيَانٌ لِمَنْ هِيَ لَهُ آيَةٌ مُوجِبَةٌ عَلَيْهِ الْإِيمَانَ وَهُمْ ثَمُودُ لِأَنَّهُمْ عَايَنُوهَا وَسَائِرُ النَّاسِ أُخْبِرُوا عَنْهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَكُمْ خُصُوصًا وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا هَا بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّنْبِيهِ أَوِ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهُ قِيلَ انْظُرْ إِلَيْهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا آيَةً أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَقَالَ الْحَسَنُ هِيَ نَاقَةٌ اعْتَرَضَهَا مِنْ إِبِلِهِمْ وَلَمْ تَكُنْ تُحْلَبُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ إِنَّهُ أَخَذَ نَاقَةً مِنْ سَائِرِ النُّوقِ وَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا شِرْبًا يَوْمًا وَلَهُمْ شِرْبُ يَوْمٍ وَكَانَتِ الْآيَةُ فِي شِرْبِهَا وَحَلْبِهَا ، قِيلَ: وَجَاءَ بِهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ آيَةٌ مُقْتَرَحَةٌ لَمَّا حَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ سَأَلُوهُ آيَةً فَقَالَ أَيَّةُ آيَةٍ تُرِيدُونَ قَالُوا تَخْرُجُ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا فِي يَوْمٍ مَعْلُومٍ لَهُمْ مِنَ السَّنَةِ فَتَدْعُو إِلَهَكَ وَنَدْعُو آلِهَتَنَا فَإِنِ اسْتُجِيبَ لَكَ اتَّبَعْنَاكَ وَإِنِ استجيب لنا اتبعتنا قل صَالِحٌ نَعَمْ فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَدَعَوْا أَوْثَانَهُمْ وَسَأَلُوهَا الْإِجَابَةَ فَلَمْ تُجِبْهُمْ ثُمَّ قَالَ سَيِّدُهُمْ جُنْدَعُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَوَّاسٍ وَأَشَارَ إِلَى صَخْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ يُقَالُ لَهَا الْكَاثِبَةُ أَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً مُخْتَرِجَةً جَوْفَاءَ وَبْرَاءَ وَعَشْرَاءَ، وَالْمُخْتَرِجَةُ مَا شاكلت البحت مِنَ الْإِبِلِ فَأَخَذَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوَاثِيقَهُمْ لَئِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَتُؤْمِنُنَّ وَلَتُصَدِّقُنَّ قَالُوا: نَعَمْ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا رَبَّهُ فَتَمَخَّضَتِ الصَّخْرَةُ تَمَخُّضَ النَّتُوجِ بِوَلَدِهَا ثُمَّ تَحَرَّكَتْ فَانْصَدَعَتْ عَنْ نَاقَةٍ كَمَا وَصَفُوا لَا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ جَنْبَيْهَا إِلَّا اللَّهُ عِظَمًا وَهُمْ يَنْظُرُونَ ثُمَّ نَتَجَتْ سَقْبًا مِثْلَهَا فِي الْعِظَمِ فَآمَنَ بِهِ جُنْدَعٌ وَرَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ وَأَرَادَ أَشْرَافُ ثَمُودَ أَنْ يُؤْمِنُوا فَنَهَاهُمْ ذُؤَابُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لَبِيدٍ وَالْحُبَابُ صَاحِبَا أَوْثَانِهِمْ وَرَيَّانٌ ابْنُ كَاهِنِهِمْ وَكَانُوا مِنْ أَشْرَافِ ثَمُودَ وَهَذِهِ النَّاقَةُ وَسَقْبُهَا مَشْهُورٌ قِصَّتُهُمَا عِنْدَ جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ وَقَدْ ذَكَرُوا السَّقْبَ فِي أَشْعَارِهِمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ يَصِفُ نَاسًا قُتِلُوا بِمَعْرَكَةِ حَرْبٍ بِأَجْمَعِهِمْ: كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صواعقها كالطير هن دبيب رغى فوقهم سقب السماء فداحض ... بِشَكَّتِهِ لَمْ يُسْتَلَبْ وَسَلِيبُ

قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: أَتَيْتُ أَرْضَ ثَمُودَ فَذَرَعْتُ صَدْرَ النَّاقَةِ فَوَجَدْتُهُ سِتِّينَ ذِرَاعًا. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ لَمَّا أَضَافَ النَّاقَةَ إِلَى اللَّهِ أَضَافَ مَحَلَّ رَعْيِهَا إِلَى اللَّهِ إِذِ الْأَرْضُ وَمَا أَنْبَتَ فِيهَا مِلْكُهُ تَعَالَى لَا مِلْكُكُمْ وَلَا إِنْبَاتُكُمْ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ يُنَالُ خَيْرُهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةِ تَكَلُّفِ عَلَفٍ وَلَا طُعْمَةٍ وَهُوَ شَأْنُ الْإِبِلِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ فَضَالَّةُ الإبل، قال مالك: وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يلقاها ربّها وتَأْكُلْ جُزِمَ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةٍ تَأْكُلْ بِالرَّفْعِ وَمَوْضِعُهُ حَالٌ كَانَتِ النَّاقَةُ مَعَ وَلَدِهَا تَرْعَى الشَّجَرَ وَتَشْرَبُ الْمَاءَ تَرِدُ غِبًّا فَإِذَا كَانَ يَوْمُهَا وَضَعَتْ رَأْسَهَا فِي الْبِئْرِ فَمَا تَرْفَعُهُ حَتَّى تَشْرَبَ كُلَّ مَا فِيهَا ثُمَّ تَفْجُجُ فَيَحْلِبُونَ ما شاؤوا حتى تمتلىء أَوَانِيهِمْ فَيَشْرَبُونَ وَيَدَّخِرُونَ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ نَهَاهُمْ عَنْ مَسِّهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى وَهَذَا تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى إِذَا كَانَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ مَسِّهَا بِسُوءٍ إِكْرَامًا لِآيَةِ اللَّهِ فَنَهْيُهُ عَنْ نَحْرِهَا وَعَقْرِهَا وَمَنْعِهَا عَنِ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَالْمَسُّ وَالْأَخْذُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ مَسَّهَا بِسُوءٍ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ مَا حَلَّ بِهِمْ إِذْ عَقَرُوهَا وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ذَكَّرَ صَالِحٌ قَوْمَهُ بِمَا ذَكَّرَ بِهِ هُودٌ قَوْمَهُ فَذَكَرَ أَوَّلًا نِعَمًا خَاصَّةً وَهِيَ جَعْلُهُمْ خُلَفَاءَ بَعْدَ الْأُمَّةِ الَّتِي سَبَقَتْهُمْ وَذَكَرَ هُودٌ لِقَوْمِهِ مَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَسْطَةِ فِي الْخَلْقِ وَذَكَرَ صَالِحٌ لِقَوْمِهِ مَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ اتِّخَاذِ الْقُصُورِ مِنَ السُّهُولِ وَنَحْتِ الْجِبَالِ بُيُوتًا ثم ذكرا نعما عَامَّةً بِقَوْلِهِمَا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَمَعْنَى وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَكُمْ بِهَا وَأَسْكَنَكُمْ إِيَّاهَا وَالْمَبَاءَةُ الْمَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ بَاءَ أَيْ رَجَعَ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ والْأَرْضِ هُنَا الْحِجْرُ مَا بين الحجاز والشام وتَتَّخِذُونَ حَالٌ أَوْ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ السُّهُولِ اتَّخَذُوهُ قُصُورًا أَيْ بَنَوْا فِيهِ قُصُورًا وَأَنْشَئُوهَا فِيهِ وَلَمْ يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ سُهُولِهَا بِالْقُصُورِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أَيْ يَبْنُونَهَا مِنْ سُهُولَةِ الْأَرْضِ بِمَا يعملون منها الرهض وَاللَّبِنَ وَالْآجُرَّ يَعْنِي أَنَّ الْقُصُورَ الَّتِي بَنَوْهَا أَجْزَاؤُهَا مُتَّخَذَةٌ مِنْ لِينِ الْأَرْضِ كَالْجَيَّارِ وَالْآجُرِّ وَالْجَصِّ كَقَوْلِهِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا «1» يَعْنِي أَنَّ الصُّورَةَ كَانَتْ مَادَّتُهَا مِنَ الْحُلِيِّ كَمَا أَنَّ الْقُصُورَ مَادَّتُهَا مِنْ سهول الأرض والأجزاء

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 148.

الَّتِي صُنِعَتْ مِنْهَا وَظَاهِرُ الِاتِّخَاذِ هُنَا الْعَمَلُ فَيَتَعَدَّى تَتَّخِذُونَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الثَّانِي، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَتَنْحِتُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَزَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّهُ قَرَأَ وَتَنْحَاتُونَ بِإِشْبَاعِ الْفَتْحَةِ قَالَ كقوله: ينباع من دفري أسيل حرّه انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَكَسَرَ الْحَاءِ وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ بِالْبَاءِ مِنْ أَسْفَلَ وَفَتْحِ الْحَاءِ ومن نقرأ بِالْيَاءِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ وَانْتَصَبَ بُيُوتاً عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ إِذْ لَمْ تَكُنِ الْجِبَالُ وَقْتَ النَّحْتِ بُيُوتًا كَقَوْلِكَ إِبْرِ لِي هَذِهِ الْيَرَاعَةَ قَلَمًا وَخُطَّ لِي هَذَا قِبَاءً، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى تَضْمِينِ وَتَنْحِتُونَ مَعْنَى وتَتَّخِذُونَ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بتنحتون والْجِبالَ نُصِبَ عَلَى إِسْقَاطِ مِنْ أَيْ مِنَ الْجِبَالِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ تَعْثَوْا بِكَسْرِ التَّاءِ لِقَوْلِهِمْ أَنْتَ تِعْلَمُ وَهِيَ لغة ومُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُصُورُ لِمَصِيفِهِمْ وَالْبُيُوتُ فِي الْجِبَالِ لِمَشْتَاهُمْ، وَقِيلَ: نَحَتُوا الْجِبَالَ لِطُولِ أَعْمَارِهِمْ كَانَتِ الْقُصُورُ تُخَرَّبُ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، قَالَ وَهْبٌ: كَانَ الرَّجُلُ يَبْنِي الْبُنْيَانَ فَتَمُرُّ عَلَيْهِ مِائَةُ سَنَةٍ فَيَخْرَبُ ثُمَّ يُجَدِّدُهُ فَتَمُرُّ عَلَيْهِ مِائَةُ سَنَةٍ فَيَخْرَبُ ثُمَّ يُجَدِّدُهُ فَتَمُرُّ عَلَيْهِ مِائَةُ سَنَةٍ فَيَخْرَبُ فَأَضْجَرَهُمْ ذَلِكَ فَاتَّخَذُوا الْجِبَالَ بُيُوتًا. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَقَالَ الْمَلَأُ بِوَاوِ عَطْفٍ وَالْجُمْهُورُ قال بغير واو والَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَصْفٌ لِلْمَلَأِ إِمَّا لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّ مِنْ أَشْرَافِهِمْ مَنْ آمَنَ مِثْلَ جُنْدَعِ بْنِ عَمْرٍو وَإِمَّا لِلذَّمِّ واسْتَكْبَرُوا وَطَلَبُوا الْهَيْبَةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُوَ مِنَ الْكِبْرِ فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ لِلطَّلَبِ وَهُوَ بَابُهَا أَوْ تَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى فَعُلَ أَيْ كَبُرُوا لِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ فَيَكُونُ مِثْلَ عَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ وَالَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَيِ اسْتَضْعَفَهُمْ رُؤَسَاءُ الْكُفَّارِ وَاسْتَذَلُّوهُمْ وَهُمُ الْعَامَّةُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ولِمَنْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ إِنْ عَادَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ كَانَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَيَكُونُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا قِسْمَيْنِ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ وَإِنْ عَادَ عَلَى قَوْمِهِ كَانَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ وَكَانَ الِاسْتِضْعَافُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا قِسْمًا وَاحِدًا وَمَنْ آمَنَ مُفَسِّرًا لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ لِلتَّبْلِيغِ وَالْجُمْلَةُ الْمَقُولَةُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ وَفِي قَوْلِهِمْ مِنْ رَبِّهِ اخْتِصَاصٌ بِصَالِحٍ وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ رَبِّنَا وَلَا مِنْ رَبِّكُمْ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ جَوَابٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ وَعُدُولُهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ هُوَ مُرْسَلٌ إِلَى قَوْلِهِمْ إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ إِذْ أَمْرُ رِسَالَتِهِ مَعْلُومٌ وَاضِحٌ مُسَلَّمٌ

لَا يَدْخُلُهُ رَيْبٌ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمُعْجِزِ الْخَارِقِ الْعَظِيمِ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رِسَالَتِهِ وَلَا أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنِ الْعِلْمِ بِإِرْسَالِهِ فَأَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بَعْدَ وُضُوحِ رِسَالَتِهِ إِلَّا التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُمُ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِمَا أَرْسَلَ بِهِ لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَعَمُّ قَصَدُوا الرَّدَّ لَمَّا جَعَلَهُ الْمُؤْمِنُونَ مَعْلُومًا وَأَخَذُوهُ مُسَلَّمًا. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نَسَبَ الْعَقْرَ إِلَى الْجَمِيعِ وَإِنْ كَانَ صَادِرًا عَنْ بَعْضِهِمْ لَمَّا كَانَ عَقْرُهَا عَنْ تَمَالُئٍ وَاتِّفَاقٍ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ قُدَارًا لَمْ يَعْقِرْهَا إِلَّا عَنْ مُشَاوَرَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَسَبَبُ عَقْرِهَا أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا وَقَعَ الْحَرُّ نَصَبَتْ بِظَهْرِ الْوَادِي فَتَهْرُبُ مِنْهَا أَنْعَامُهُمْ فَتَهْبِطُ إِلَى بَطْنِهِ وَإِذَا وَقَعَ الْبَرْدُ تَلْبَثُ بِبَطْنِ الْوَادِي فَتَهْرُبُ مَوَاشِيهِمْ إِلَى ظَهْرِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ تَسْتَوْفِي مَاءَهُمْ شُرْبًا وَيَحْلِبُونَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ حَتَّى مَلُّوهَا وَقَالُوا مَا نَصْنَعُ بِاللَّبَنِ الْمَاءُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ وَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ يَوْمًا إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُولَدُ فِيهِ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلَاكُكُمْ عَلَى يَدَيْهِ فَوُلِدَ لِعَشَرَةِ نَفَرٍ فَذَبَحَ التِّسْعَةُ أَوْلَادَهُمْ وَبَقِيَ الْعَاشِرُ وَهُوَ سَالِفُ بْنُ قُدَارٍ وَكَانَ قُدَارٌ أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ: فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانُ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ ... كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ قَالَ الشُّرَّاحُ غَلَطٌ وَإِنَّمَا هُوَ أَحْمَرُ ثَمُودَ وَهُوَ قُدَارٌ وَكَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي السَّنَةِ وَكَانَ التِّسْعَةُ إِذَا رَأَوْهُ قَالُوا: لَوْ عَاشَ بَنُونَا كَانُوا مِثْلَ هَذَا فَأَحْفَظَهُمْ أَنْ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ بِكَلَامِ صَالِحٍ فَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ فَكَمَّنُوا لَهُ فِي غَارٍ لِيُبَيِّتُوهُ، وَيَأْتِي خَبَرُ التَّبْيِيتِ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَرُوِيَ أَنَّ السَّبَبَ فِي عَقْرِهَا أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ ثَمُودَ مِنْ أَعْدَاءِ صَالِحٍ وَهُمَا عُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنْمٍ أُمُّ مِجْلَزٍ زوجة ذؤاب بْنِ عَمْرٍو وَتُكْنَى أُمَّ غَنْمٍ عَجُوزٌ ذَاتُ بَنَاتٍ حِسَانٍ وَمَالٍ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ وَصَدُوفُ بِنْتُ الْمُحَيَّا جَمِيلَةٌ غَنِيَّةٌ ذَاتُ مَوَاشٍ كَثِيرَةٍ فَدَعَتْ عُنَيْزَةُ عَلَى عَقْرِهَا قُدَارًا عَلَى أَنْ تُعْطِيَهُ أَيَّ بَنَاتِهَا شَاءَ وَكَانَ عَزِيزًا مَنِيعًا فِي قَوْمِهِ وَدَعَتْ صَدُوفُ رَجُلًا مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهُ الْحُبَابُ إِلَى ذَلِكَ وَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ إِنْ فَعَلَ فَأَبَى فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ مُصَدَّعُ بْنُ مُهَرِّجِ بْنِ الْمُحَيَّا لِذَلِكَ وَجَعَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا فَأَجَابَ قُدَارٌ وَمُصَدَّعٌ وَاسْتَغْوَيَا سَبْعَةَ نَفَرٍ فَكَانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ فَرَصَدُوا النَّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ وَكَمَنَ قُدَارٌ فِي أَصْلِ صَخْرَةٍ وَمُصَدَّعٌ فِي أَصْلِ أُخْرَى فَمَرَّتْ عَلَى مُصَدَّعٍ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةَ سَاقِهَا وَخَرَجَتْ أُمُّ غَنْمٍ عُنَيْزَةُ بِابْنَتِهَا وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ فَسَفَرَتْ لِقُدَارٍ ثُمَّ مَرَّتِ النَّاقَةُ بِهِ

فَشَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَشَفَ عُرْقُوبَهَا فَخَرَّتْ وَرَغَتْ رُغَاةً وَاحِدَةً فَطَعَنَ فِي لَبَّتِهَا وَنَحَرَهَا وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ فَاقْتَسَمُوا لَحْمَهَا وَطَبَخُوهُ وَذَكَرُوا لسبقها حِكَايَةً اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَقِيلَ سَبَبُ عَقْرِهَا أَنَّ قُدَارًا شَرِبَ الْخَمْرَ وَطَلَبُوا مَاءً لِمَزْجِهَا فَلَمْ يَجِدُوهُ لِشُرْبِ النَّاقَةِ فَعَزَمُوا عَلَى عَقْرِهَا وَكَمَنَ لَهَا فَرَمَاهَا بِالْحَرْبَةِ ثُمَّ سَقَطَتْ فَعَقَرَهَا ، وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْعَرَبَ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّاقَةِ: فأتاها أحيمر كأخي السه ... م بِعَضْبٍ فَقَالَ كُونِي عَقِيرًا وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أَيِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ صَالِحٍ مِنْ قَوْلِهِ فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ وَمِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ دِينُهُ وَشَرْعُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى صَدَرَ عُتُوُّهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ كَأَنَّ أَمْرَ رَبِّهِمْ بِتَرْكِهَا كَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي عُتُوِّهِمْ وَنَحْوٌ عَنْ هَذِهِ مَا فِي قَوْلِهِ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي «1» . وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَقَ مِنْهُ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَاسْتَعْجَلُوا مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ ذَلِكَ إِذْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لَهُ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ وَبِغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ عَلَّقُوهُ بِمَا هُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَقَرَأَ وَرْشٌ وَالْأَعْمَشُ يَا صالِحُ ائْتِنا وَأَبُو عَمْرٍو إِذَا أَدْرَجَ بِإِبْدَالِ همزة فاء ائْتِنا واو الضمة جاء صَالِحُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْكَانِهَا وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَرَأَ عِيسَى وَعَاصِمٌ أُوتِنَا بِهَمْزٍ وَإِشْبَاعِ ضَمٍّ انْتَهَى، فَلَعَلَّهُ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ لَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ أَحَدُ قُرَّاءِ السَّبْعَةِ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ رُوِيَ أَنَّ السَّقْبَ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ رَغَا ثَلَاثًا فَقَالَ صَالِحٌ لِكُلِّ رَغْوَةٍ أَجَلُ يَوْمٍ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالُوا هَازِئِينَ بِهِ مَتَى ذَلِكَ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فَقَالَ تُصْبِحُونَ غَدَاةَ مُؤْنِسٍ مُصْفَرَّةً وُجُوهُكُمْ وَغَدَاةَ الْعَرُوبَةِ مُحْمَرِّيهَا وَيَوْمَ شِيَارٍ مُسْوَدِّيهَا ثُمَّ يُصَبِّحُكُمُ الْعَذَابُ يَوْمَ أَوَّلِ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الأحد فرام التسعة عاقر والناقة قَتْلَهُ وَبَيَّتُوهُ فَدَمَغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ فَقَالُوا لَهُ أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ فَحَمَتْهُ عَشِيرَتُهُ وَقَالُوا: وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَإِنْ صَدَقَ لَمْ تَزِيدُوا رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَّا غَضَبًا وَإِنْ كَذِبَ فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ فَأَصْبَحُوا يَوْمَ الْخَمِيسِ مُصْفَرِّي الْوُجُوهِ كَأَنَّهَا طُلِيَتْ بِالْخَلُوقِ فَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ إِلَى بَطْنٍ مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهُ بَنُو غَنَمٍ فَنَزَلَ عَلَى سَيِّدِهِمْ أَبِي هُدْبٍ لِقَيْلٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَغَيَّبَهُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَعَذَّبُوا أَصْحَابَ صَالِحٍ فَقَالَ: مِنْهُمْ مبدع بن هدم

_ (1) سورة الكهف: 18/ 82. [.....]

يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَذَّبُونَا لِنَدُلَّهُمْ عَلَيْكَ أَفَنَدُلُّهُمْ قَالَ: نَعَمْ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فَأَتَوْا أَبَا هُدْبٍ فَقَالَ لَهُمْ: عِنْدِي صَالِحٌ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَشَغَلَهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي الثَّانِي مُحْمَرِّي الْوُجُوهِ كَأَنَّهَا خُضِّبَتْ بِالدَّمِ وَفِي الثَّالِثِ مُسْوَدِّيهَا كَأَنَّهَا طُلِيَتْ بِالْقَارِ وَلَيْلَةَ الْأَحَدِ خَرَجَ صَالِحٌ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ إِلَى أَنْ نَزَلَ رَمْلَةَ فِلَسْطِينَ مِنَ الشَّامِ فَأَصْبَحُوا مُتَكَفِّنِينَ مُتَحَنِّطِينَ مُلْقِينَ أَنْفُسَهُمْ بِالْأَرْضِ يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَلَمَّا اشْتَدَّ الضُّحَى أَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا صَوْتُ كُلِّ صَاعِقَةٍ وَصَوْتُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فِي الْأَرْضِ فَقَطَعَتْ قُلُوبَهُمْ وَهَلَكُوا كُلُّهُمْ إِلَّا امْرَأَةً مُقْعَدَةً كَافِرَةً اسْمُهَا دَرِيعَةُ بِنْتُ سَلَفٍ عند ما عَايَنَتِ الْعَذَابَ خَرَجَتْ أَسْرَعَ مَا يُرَى حَتَّى أَتَتْ وَادِيَ الْقُرَى فَأَخْبَرَتْ بِمَا أَصَابَ ثَمُودَ وَاسْتَسْقَتْ فَشَرِبَتْ وَمَاتَتْ، وَقِيلَ: خَرَجَ صَالِحٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ إِلَى حَضْرَمَوْتَ فَلَمَّا دَخَلُوهَا مَاتَ صالح فسمي المكان حضر موت، وَقِيلَ مَاتَ بِمَكَّةَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَأَقَامَ فِي قَوْمِهِ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الرَّجْفَةُ الصَّيْحَةُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جاثِمِينَ هَامِدِينَ لَا يَتَحَرَّكُونَ مَوْتَى يُقَالُ: النَّاسُ جُثُومٌ أَيْ قُعُودٌ لَا حَرَاكَ بِهِمْ وَلَا يَنْسُبُونَ بِنِسْبَةٍ وَمِنْهُ الْمُجَثَّمَةُ الَّتِي جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا وَهِيَ الْبَهِيمَةُ تُرْبَطُ وَتُجْمَعُ قَوَائِمُهَا لِتُرْمَى انْتَهَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حِمَمًا مُحْتَرِقِينَ كَالرَّمَادِ الْجَاثِمِ ذَهَبَ هَذَا الْقَائِلُ إِلَى أَنَّ الصَّيْحَةَ اقْتَرَنَ بِهَا صَوَاعِقُ مُحْرِقَةٌ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: حَيْثُ ذَكَرَ الرَّجْفَةَ وَهِيَ الزَّلْزَلَةُ وَحَدُّ الدَّارِ وَحَيْثُ ذَكَرَ الصَّيْحَةَ جَمَعَ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ كَانَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَبُلُوغُهَا أَكْثَرُ وَأَبْلَغُ مِنَ الزَّلْزَلَةِ فَاتَّصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ لَائِقٌ بِهِ، وَقِيلَ فِي دَارِهِمْ أَيْ فِي بَلَدِهِمْ كَنَّى بِالدَّارِ عَنِ الْبَلَدِ، وَقِيلَ: وَحَّدَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ وَالْفَاءُ فِي فَأَخَذَتْهُمُ لِلتَّعْقِيبِ فَيُمْكِنُ الْعَطْفُ بِهَا عَلَى قَوْلِهِمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا عَلَى تَقْدِيرِ قُرْبِ زَمَانِ الْهَلَاكِ مِنْ زَمَانِ طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِالْوَعْدِ وَلِقُرْبِ ذَلِكَ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا يَصِحُّ الْعَطْفُ بالفاء عليه أي فواعدهم الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَانْقَضَتْ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَبَيْنَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وَبَيْنَ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ كَمَا ظَنَّ قَوْمٌ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ لِأَنَّ الرَّجْفَةَ نَاشِئَةٌ عَنِ الصَّيْحَةِ صِيحَ بِهِمْ فَرَجَفُوا فَنَاسَبَ أَنْ يُسْنِدَ الْأَخْذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَمَّا فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ فَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ أُهْلِكُوا بِالْفِعْلَةِ الطَّاغِيَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ أَوْ عَقْرُ النَّاقَةِ وَالطَّاغِيَةُ مِنْ طَغَى إِذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ وَغَلَبَ وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمَلِكِ وَالْعَاتِي بِالطَّاغِيَةِ وَقَوْلُهُ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ «1» وقال

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 11.

تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها «1» أَيْ بِسَبَبِ طُغْيَانِهَا حَصَلَ تَكْذِيبُهُمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالطَّاغِيَةِ الرَّجْفَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ لِتَجَاوُزِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْحَدَّ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ كَانَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ وَمُشَاهَدَةِ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ وَالتَّحَسُّرِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَهَلَكُوا وَالِاغْتِمَامُ لَهُمْ وَلِيَسْمَعَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَزْدَادُوا إِيمَانًا وَانْتِفَاءً عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَاقْتِضَاءً لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُ عَنِ اللَّهِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وَلَكِنْ كُنْتُمْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فَتَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَقَدْ خَاطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ قَلِيبِ بَدْرٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَبْكِي فَالْتَفَتَ فَرَأَى الدُّخَانَ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا وَكَانُوا أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةِ دَارٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ بِمَنْ مَعَهُ فَسَكَنُوا دِيَارَهُمْ ، وَقِيلَ: كَانَ تَوَلِّيهِ عَنْهُمْ وَقْتَ عَقْرِ النَّاقَةِ وَقَوْلُهُمْ ائْتِنا بِما تَعِدُنا وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مُخَاطَبَتِهِ لَهُمْ وَقَوْلِهِ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وَهُوَ الَّذِي فِي قِصَصِهِمْ مِنْ أَنَّهُ رَحَلَ عَنْهُمْ لَيْلَةَ أَنْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ صُبْحَتَهَا، وَبَعْدَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْهَلَاكِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقِيلَ لَمْ تَهْلِكْ أُمَّةٌ وَنَبِيُّهَا فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ ارْتَحَلَ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ وَلَفْظَةُ التَّوَلِّي تَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ خَيْرِهِمْ وَالْيَقِينَ فِي هَلَاكِهِمْ وَخِطَابُهُ هَذَا كَخِطَابِهِمْ نُوحٍ وَهُودٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِمَا أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَذَكَرَ النُّصْحَ بَعْدَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ أَبْلَغْتُكُمْ مَاضِيًا عَطَفَ عَلَيْهِ مَاضِيًا فَقَالَ: وَنَصَحْتُ، وَقَوْلُهُ: لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أَيْ مَنْ نَصَحَ لك مِنْ رَسُولٍ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ دَيْدَنُكُمْ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ شَهَوَاتِكُمْ عَلَى عُقُولِكُمْ. وَجَاءَ لَفْظُ النَّاصِحِينَ عَامًّا أَيْ أَيُّ شَخْصٍ نَصَحَ لَكُمْ لَمْ تَقْبَلُوا فِي أَيِّ شَيْءٍ نَصَحَ لَكُمْ وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي ذَمِّهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ طَبَخْنَا وَعَجَنَّا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الطبيخ والعجين ويهرقوا ذَلِكَ الْمَاءَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ الَّذِي كَانَتْ تَرِدُهُ نَاقَةُ صَالِحٍ وَإِلَى الْأَخْذِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَخَذَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي ذَهَابِهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِمَاءِ أَرْضِ ثَمُودَ إِلَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْعَيْنِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ منكم القرية ولا

_ (1) سورة الشمس: 91/ 11.

تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرٍ فَقَالَ أَتَعْرِفُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا لَا قَالَ «هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ الَّذِي هُوَ أَبُو ثَقِيفٍ كَانَ مِنْ ثَمُودَ فَأَصَابَ قَوْمَهُ الْبَلَاءُ وَهُوَ بِالْحَرَمِ فَسَلِمَ فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الحرم أصابه فَدُفِنَ هُنَا وَجُعِلَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ» قَالَ فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ بِأَسْيَافِهِمْ فَحَفَرُوا حَتَّى أَخْرَجُوا الْغُصْنَ. وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ هُوَ لُوطُ بْنُ هَارُونَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَاحُورَ وَهُمْ بَنُو تَارِحِ بْنِ نَاحُورَ وَتَقَدَّمَ رَفْعُ نَسَبِهِ وَقَوْلُهُ هُمْ أَهْلُ سَدُومَ وَسَائِرِ الْقُرَى الْمُؤْتَفِكَةِ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أُمَّةٍ تُسَمَّى سَدُومُ وَانْتَصَبَ لُوطاً بِإِضْمَارِ وَأَرْسَلْنَا عَطْفًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قبله وإِذْ مَعْمُولَةٌ لِأَرْسَلْنَا وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: نصبه بواذكر مُضْمَرَةً زَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ إِذْ بَدَلٌ مِنْ لُوطٍ أَيْ وَاذْكُرْ وَقْتَ قَالَ لِقَوْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَوْنِ إِذْ تَكُونُ مَفْعُولًا بِهَا صَرِيحًا لِاذْكُرْ وَأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِيهَا وَالِاسْتِفْهَامُ هُوَ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّشْنِيعِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ والْفاحِشَةَ هُنَا إِتْيَانُ ذُكْرَانِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْأَدْبَارِ وَلَمَّا كان هذا بالفعل مَعْهُودًا قُبْحُهُ وَمَرْكُوزًا فِي الْعُقُولِ فُحْشُهُ أَتَى مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ تَكُونَ أَلْ فِيهِ لِلْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّهُ لِشِدَّةِ قُبْحِهِ جُعِلَ جَمِيعَ الْفَوَاحِشِ وَلِبُعْدِ الْعَرَبِ عَنْ ذَلِكَ الْبُعْدَ التَّامَّ وَذَلِكَ بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «1» فَأَتَى بِهِ مُنَكَّرًا أَيْ فَاحِشَةٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبُ يَفْعَلُهُ وَلَا يَسْتَنْكِرُونَ مِنْ فِعْلِهِ وَلَا ذِكْرِهِ فِي أَشْعَارِهِمْ وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الْقَبِيحَةَ وَأَنَّهُمْ مُبْتَكِرُوهَا وَالْمُبَالَغَةُ فِي مِنْ أَحَدٍ حَيْثُ زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْجِنْسِ وَفِي الْإِتْيَانِ بِعُمُومِ الْعَالَمِينَ جَمْعًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ دِينَارٍ: مَا رُئِيَ ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَأْتُونَ الْغُرَبَاءَ كَانَتْ بِلَادُهُمُ الْأُرْدُنَّ تُؤْتَى مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِخِصْبِهَا فَقَالَ لَهُمْ إبليس هو فِي صُورَةِ غُلَامٍ إِنْ أَرَدْتُمْ دَفْعَ الْغُرَبَاءِ فَافْعَلُوا بِهِمْ هَكَذَا فَمَكَّنَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ تَعْلِيمًا ثُمَّ فَشَا وَاسْتَحَلُّوا مَا اسْتَحَلُّوا وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا سَبَقَكُمْ إِلَى لُزُومِهَا وَيَشْهَدُهَا وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْفِعْلِ بِالْفَاحِشَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الزِّنَا يُرْجَمُ مَنْ أُحْصِنَ وَيُجْلَدُ مَنْ لَمْ يُحْصَنْ وفعله

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 32.

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أُتِيَ بِسَبْعَةٍ مِنْهُمْ فَرَجَمَ ربعة أُحْصِنُوا وَجَلَدَ ثَلَاثَةً وَعِنْدَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُنْكِرُوا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُرْجَمُ أُحْصِنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ وَكَذَا الْمَفْعُولُ بِهِ إِنْ كَانَ مُحْتَلِمًا وَعِنْدَهُ يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَيُؤَدَّبُ وَيُحْبَسُ غَيْرُ المحصن وهو مذهب عَطِيَّةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا يُعَزَّرُ أُحْصِنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَرَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْفُجَاءُ عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَذَلِكَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَحْرَقَهُمْ فِي زَمَانِهِ وخالد القشيري بالعراق وهشام. وما سَبَقَكُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْفاحِشَةَ لِأَنَّ فِي سَبَقَكُمْ بِها ضَمِيرُهُمْ وَضَمِيرُهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ثُمَّ وَبَّخَهُمْ عَلَيْهَا فَقَالَ: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُمْ قَالُوا لِمَ لَا نَأْتِيهَا فَقَالَ: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ فَلَا تَفْعَلُوا مَا لَمْ تُسْبَقُوا بِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ مِنْ قَوْلِكَ سَبَقْتُهُ بِالْكُرَةِ إِذَا ضَرَبْتُهَا قَبْلَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» انْتَهَى، وَمَعْنَى التَّعْدِيَةِ هُنَا قَلِقٌ جِدًّا لِأَنَّ الْبَاءَ الْمُعَدِّيَةُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ هِيَ بِجَعْلِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ فَهِيَ كَالْهَمْزَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ صَكَكْتُ الْحَجَرَ بِالْحَجَرِ فَمَعْنَاهُ أَصْكَكْتُ الْحَجَرَ الْحَجَرَ أَيْ جَعَلْتَ الْحَجَرَ يَصُكُّ الْحَجَرَ وَكَذَلِكَ دَفَعْتُ زَيْدًا بِعَمْرٍو عَنْ خَالِدٍ مَعْنَاهُ أَدْفَعْتُ زَيْدًا عَمْرًا عَنْ خَالِدٍ أَيْ جَعَلْتَ زَيْدًا يَدْفَعُ عَمْرًا عَنْ خَالِدٍ فَلِلْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ تَأْثِيرٌ فِي الثَّانِي وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْمَعْنَى هُنَا إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ أَسْبَقْتُ زَيْدًا الْكُرَةَ أَيْ جَعَلْتُ زَيْدًا يَسْبِقُ الْكُرَةَ إِلَّا بِمَجَازٍ مُتَكَلَّفٍ وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ضَرْبَكَ لِلْكُرَةِ أَوَّلَ جَعْلِ ضَرْبَةٍ قَدْ سَبَقَهَا أَيْ تَقَدَّمَهَا فِي الزَّمَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَتَى هُنَا مِنْ قَوْلِهِ أَتَى الْمَرْأَةَ غَشِيَهَا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ إِنَّكُمْ عَلَى الخبر المستأنف وشَهْوَةً مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَيْ مُشْتَهِينَ تَابِعِينَ لِلشَّهْوَةِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ لِقُبْحِهَا أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْ لِلِاشْتِهَاءِ لَا حَامِلَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ وَلَا ذَمَّ أَعْظَمُ مِنْهُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهُمْ بِالْبَهِيمَةِ وَأَنَّهُمْ لَا دَاعِيَ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ كَطَلَبِ النَّسْلِ ونحوه ومِنْ دُونِ النِّساءِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُنْفَرِدِينَ

عَنِ النِّسَاءِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ دُونِ النِّساءِ مُتَعَلِّقٌ بشهوة وبَلْ هُنَا لِلْخُرُوجِ مِنْ قِصَّةٍ إلى قصة تنبىء بِأَنَّهُمْ مُتَجَاوِزُو الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، وَقِيلَ إِضْرَابٌ عَنْ تَقْرِيرِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ وَالْإِنْكَارُ أَوْ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الشَّنِيعَةِ إِلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْحَالِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْقَبَائِحُ وَتَدْعُو إِلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَهِيَ الْإِسْرَافُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ الْمُفْسِدَةُ لَمَّا كَانَتْ عَادَتُهُمُ الْإِسْرَافَ أَسْرَفُوا حَتَّى فِي بَابِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَتَجَاوَزُوا الْمُعْتَادَ إِلَى غَيْرِهِ وَنَحْوِهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ «1» ، وَقِيلَ إِضْرَابٌ عَنْ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ مَا عَدَلْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ بَلْ رَدٌّ لِجَوَابِ زَعَمُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ أَيْ لَا عُذْرَ لَكُمْ وَلَا حُجَّةَ بَلْ أَنْتُمْ وَجَاءَ هُنَا مُسْرِفُونَ بَاسِمِ الْفَاعِلِ لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ وَلِمُوَافَقَةِ مَا سَبَقَ من رؤوس الْآيِ فِي خَتْمِهَا بِالْأَسْمَاءِ وَجَاءَ فِي النَّمْلِ تَجْهَلُونَ «2» بِالْمُضَارِعِ لِتَجَدُّدِ الْجَهْلِ فِيهِمْ وَلِمُوَافَقَةِ مَا سَبَقَ مِنْ رؤوس الْآيِ فِي خَتْمِهَا بِالْأَفْعَالِ. وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الضَّمِيرُ فِي أَخْرِجُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَلَمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ عَنْ سُورَةِ النَّمْلِ أُضْمِرَ مَا فَسَّرَهُ الظَّاهِرُ فِي النَّمْلِ مِنْ قَوْلِهِ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ «3» وَآلُ لُوطٍ ابْنَتَاهُ وَهُمَا رغواء وَرَيْفَاءُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا ابْنَتَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «4» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى آلِ لُوطٍ وَأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ فَإِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِمْ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ جَوابَ بِالرَّفْعِ انْتَهَى وَهُنَا جَاءَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَالْمُرَادُ بِهَا أَحَدُ مَحَامِلِهَا الثَّلَاثِ مِنَ التَّعْقِيبِ الْمَعْنِيِّ فِي النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ تَجْهَلُونَ فَمَا وَفِي الْعَنْكَبُوتِ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ «5» فَمَا وَكَانَ التَّعْقِيبُ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ حَيْثُ لَمْ يُمْهِلُوا فِي الْجَوَابِ زَمَانًا بَلْ أَعْجَلُوهُ بِالْجَوَابِ سُرْعَةً وَعَدَمَ الْبَرَاءَةِ بِمَا يُجَاوِبُونَ بِهِ وَلَمْ يُطَابِقِ الْجَوَابُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْفَاحِشَةَ وَعَظَّمَ أَمْرَهَا وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْإِسْرَافِ بَادَرُوا بِشَيْءٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَلَامِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْإِخْرَاجِ وَنَظِيرُهُ جَوَابُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ «6» حَتَّى قَبَّحَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ «7» فَأَتَوْا بِجَوَابٍ لَا يُطَابِقُ كَلَامَهُ وَالْقَرْيَةُ هِيَ سَدُومُ سُمِّيَتْ بَاسِمِ

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 166. (2) سورة النمل: 27/ 55. (3) سورة النمل: 27/ 56. (4) سورة الذاريات: 51/ 36. (5) سورة العنكبوت: 29/ 29. (6) سورة الأنبياء: 21/ 68. (7) سورة الأنبياء: 21/ 67.

سَدُومَ بْنِ بَاقِيمَ الَّذِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الْحُكُومَاتِ هَاجَرَ لُوطٌ مَعَ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ فَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ أَرْضَ فِلَسْطِينَ وَأَنْزَلَ لُوطًا الْأُرْدُنَّ. إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ يَتَقَذَّرُونَ عَنْ إِتْيَانِ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقِيلَ يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي الْأَطْهَارِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: يَرْتَقِبُونَ أَطْهَارَ النِّسَاءِ فَيُجَامِعُونَهُنَّ فِيهَا، وَقِيلَ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ فِعْلِنَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَيَتَطَهَّرُونَ بِالْمَاءِ عَيَّرُوهُمْ بِذَلِكَ وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ التَّعْرِيضَ بِمَا يُوهِمُ الذَّمَّ وَهُوَ مَدْحٌ كَقَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَابُوهُمْ بِمَا يُمْدَحُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِخْرَاجِ أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُوَافِقُونَنَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يُوَافِقُنَا وَجَبَ أَنْ نُخْرِجَهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ سُخْرِيَةٌ بِهِمْ وَبِتَطَهُّرِهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَافْتِخَارٌ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْقَذَارَةِ كَمَا يَقُولُ الشَّيْطَانُ مِنَ الفسقة لبعض الصلحاء إذ وَعَظَهُمُ أَبْعِدُوا عَنَّا هَذَا الْمُتَقَشِّفَ وَأَرِيحُونَا مِنْ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ. فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِقَوْمِهِ وَأَهْلَهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ أَوِ ابْنَتَاهُ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ وَاسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِهِ امْرَأَتَهُ فَلَمْ تَنْجُ وَاسْمُهَا وَاهِلَةُ كَانَتْ مُنَافِقَةً تُسِرُّ الْكُفْرَ مُوَالِيَةً لِأَهْلِ سَدُومَ وَمَعْنَى مِنَ الْغابِرِينَ مِنَ الَّذِينَ بَقُوا فِي دِيَارِهِمْ فَهَلَكُوا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ تَفْسِيرًا وَتَوْكِيدًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ يُنْجِهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَّا امْرَأَتَهُ اكْتَفَى بِهِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَنْجُ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَصْفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا النَّجَاةُ وَلَا الْهَلَكَةُ وَهِيَ أَنَّهَا كَانَتْ مِمَّنْ أَسَنَّ وَبَقِيَ مِنْ عَصْرِهِ إِلَى عَصْرِ غَيْرِهِ فَكَانَتْ غَابِرَةً أَيْ مُتَقَدِّمَةً فِي السِّنِّ كَمَا قَالَ: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ إِلَى أَنْ هَلَكَتْ مَعَ قَوْمِهَا انْتَهَى، وَجَاءَ مِنَ الْغابِرِينَ تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْغَائِبِينَ عَنِ النَّجَاةِ فَيَكُونُ تَوْكِيدًا لِمَا تضمنه الاستثناء انتهى، وكانَتْ بِمَعْنَى صَارَتْ أَوْ كَانَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَوْ بَاقِيَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ تَقْيِيدِ غُبُورِهَا بِالزَّمَانِ الْمَاضِي أَقْوَالٌ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ضَمَّنَ أَمْطَرْنا مَعْنَى أَرْسَلْنَا فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى كَقَوْلِهِ فَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ وَالْمَطَرُ هُنَا هِيَ حِجَارَةٌ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ آيَةٍ خَسَفَ بِهِمْ

وَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ، وَقِيلَ: كَانَتِ الْمُؤْتَفِكَةُ خَمْسَ مَدَائِنَ، وَقِيلَ: سِتٌّ، وَقِيلَ: أَرْبَعٌ اقْتَلَعَهَا جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ فَرَفَعَهَا حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ تهيق الْحَمِيرِ وَصِيَاحَ الدِّيَكَةِ ثُمَّ عَكَسَهَا فَرَدَّ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا وَأَرْسَلَهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَتَبِعَتْهُمُ الْحِجَارَةُ مَعَ هَذَا فَأَهْلَكَتْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي سَفَرٍ أَوْ خَارِجًا عَنِ الْبِقَاعِ وَقَالَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ حين سمعت الرجّة وا قوماه وَالْتَفَتَتْ فَأَصَابَتْهَا صَخْرَةٌ فَقَتَلَتْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمْطَارَ شَمِلَهُمْ كُلَّهُمْ، وَقِيلَ: خُسِفَ بِأَهْلِ الْمُدُنِ وَأَمْطَرَتِ الْحِجَارَةُ عَلَى الْمُسَافِرِينَ مِنْهُمْ، وَسُئِلَ مُجَاهِدٌ هَلْ سَلِمَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَالَ لَا إِلَّا رَجُلًا كَانَ بِمَكَّةَ تَاجِرًا وَقَفَ الْحَجَرُ لَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى قَضَى تِجَارَتَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَأَصَابَهُ فَمَاتَ وَكَانَ عَدَدُهُمْ مِائَةَ أَلْفٍ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ أَوْ لِلسَّامِعِ قِصَّتَهُمْ كَيْفَ كَانَ مَآلُ مَنْ أَجْرَمَ وَفِيهِ إِيقَاظٌ وَازْدِجَارٌ أَنْ تَسْلُكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ هَذَا الْمَسْلَكَ والْمُجْرِمِينَ عَامٌّ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مِنْ نَظَرِ التَّفَكُّرِ أَوْ مِنْ نَظَرِ الْبَصَرِ فِيمَنْ بَقِيَتْ لَهُ آثَارُ مَنَازِلَ وَمَسَاكِنَ كَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ «1» . وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ مَدْيَنَ اسْمُ بَلَدٍ وَقُطْرٍ وَأَنْشَدَ: رهبان مدين لو زأوك تَنَزَّلُوا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَإِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَقِيلَ: اسْمُ قَبِيلَةٍ سُمِّيَتْ بِاسْمِ أَبِيهَا مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَشُعَيْبٌ قِيلَ: هُوَ ابْنُ بِنْتِ لُوطٍ، وَقِيلَ زَوْجُ بِنْتِهِ وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ قِصَّتِهِ وَقِصَّةِ لُوطٍ وَشُعَيْبٌ اسْمٌ عَرَبِيٌّ تَصْغِيرُ شَعْبٍ أَوْ شِعْبٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَدْيَنَ أَعْجَمِيٌّ فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فَعْيَلًا مِنْ مَدْيَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ وَهُوَ بِنَاءٌ نَادِرٌ، وَقِيلَ: مُهْمَلٌ أَوْ مَفْعَلًا مِنْ دَانَ فَتَصْحِيحُهُ شَاذٌّ كَمَرْيَمَ وَمِكْوَرَةٍ وَمِطْيَبَةٍ وَهُوَ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ اسْمَ أَرْضٍ أَوِ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَعْجَمِيًّا أَمْ عَرَبِيًّا وَاخْتَلَفُوا فِي نَسَبِ شُعَيْبٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ مِيكِيلَ بْنِ سجن بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَاسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ بَيْرُوتُ، وَقَالَ الشَّرْقِيُّ بْنُ الْقُطَامِيِّ: شُعَيْبُ بن عنقاء بن ثويب بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَلِيِّ الطَّلْحِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيضَاحِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ تَأْلِيفِهِ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ ثُوَيْبِ بْنِ

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 38.

مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: شُعَيْبُ بْنُ جَذْيِ بْنِ سِجْنِ بْنِ اللَّامِ بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ سَمْعَانَ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ اللَّامِ لَاوَى وَلَا يُعْرَفُ فِي أَوْلَادِ يَعْقُوبَ اللَّامُ فَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ مِنْ لَاوِي، وَقِيلَ: شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ عَنْقَاءَ بْنِ ثُوَيْبِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ الشَّرِيفُ النَّسَّابَةُ الْجَوَّانِيُّ: وَهُوَ الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ هُوَ شُعَيْبُ بْنُ حُبَيْشِ بْنِ وَائِلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُذَامِ وَاسْمُهُ عَامِرٌ أَخُو نَجْمٍ وَهُمَا وَلَدَا الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عُرَيْبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بن سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بن عابر هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ هُودٍ فِي هَذَا النَّسَبِ الْأَخِيرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَبًا وَبَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ النَّسَبِ الْمَذْكُورِ سَبْعَةُ آبَاءٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ شُعَيْبُ بْنُ ثُوَيْبِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ سَارُوغَ بْنِ أَرْغُوَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابَرَ وَهُوَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ يُقَالُ لِشُعَيْبٍ: خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: أُرْسِلَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً إِلَى مَدْيَنَ وَمَرَّةً إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَتَعَلَّقَ إِلَى مَدْيَنَ وَانْتَصَبَ أَخاهُمْ بِأَرْسَلْنَا وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ نَصَبَ لُوطًا بِأَرْسَلْنَا وَجَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ. قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قَرَأَ الْحَسَنُ آيَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِالْمُعْجِزَةِ إِذْ كُلُّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنَ هُنَا مَا الْمُعْجِزَةُ وَلَا مِنْ أَيِّ نَوْعٍ هِيَ كَمَا أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَمْ تُعَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ شُعَيْبٌ نَبِيًّا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَالْبَيِّنَةُ هُنَا الْمَوْعِظَةُ وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ نُبُوَّةٌ بِغَيْرِ مُعْجِزَةٍ وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَى مُوسَى عَصَاهُ وَتِلْكَ الْعَصَا صَارَتْ تِنِّينًا ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ مُعْجِزَاتِ شُعَيْبٍ مَا رُوِيَ مِنْ مُحَارَبَةِ عَصَا مُوسَى التِّنِّينَ حِينَ دَفَعَ إِلَيْهِ غَنَمَهُ وَوِلَادَةُ الْغَنَمِ الدُّرْعِ خَاصَّةً حِينَ وَعَدَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الدُّرْعُ مِنْ أَوْلَادِهَا وَوُقُوعُ عَصَا آدَمَ عَلَى يَدِهِ فِي الْمَرَّاتِ السَّبْعِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا كَانَتْ قبل أن ينبأ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَتْ مُعْجِزَاتٍ لِشُعَيْبٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَيْضًا قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْأَغْنَامُ تَلِدُ أَوْلَادًا فِيهَا سَوَادٌ وَبَيَاضٌ وَقَدْ وَهَبْتُهَا لَكَ فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا ادَّعَى الرِّسَالَةَ انْتَهَى، وَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُتَّبِعًا فِيهِ الزَّجَّاجَ هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِرْهَاصَ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ مَنْ سَيَصِيرُ نَبِيًّا وَرَسُولًا بَعْدَ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ فَالْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلِذَلِكَ جَعَلُوا هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ لِشُعَيْبٍ وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِجَوَازِهِ فَهِيَ إِرْهَاصٌ لِمُوسَى بِالنُّبُوَّةِ قَبْلَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ وَالْحُجَجُ لِلْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ.

فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِشَيْءٍ خَاصٍّ وَهُوَ إِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ عَامٍّ وهو قوله أَشْياءَهُمْ والْكَيْلَ مَصْدَرٌ كُنِيَ بِهِ عَنِ الْآلَةِ الَّتِي يُكَالُ بِهَا كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ «1» فَطَابَقَ قَوْلَهُ وَالْمِيزانَ أَوْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَأُرِيدَ بِالْمِيزَانِ الْمَصْدَرُ كَالْمِيعَادِ لَا الْآلَةُ فَتَطَابَقَا أَوْ أَخَذَ الْمِيزَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَوَزْنُ الْمِيزَانِ وَالْكَيْلُ عَلَى إِرَادَةِ الْمِكْيَالِ فَتَطَابَقَا وَالْبَخْسُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قَوْلِهِ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً وأَشْياءَهُمْ «2» عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُمْ، وَقِيلَ: أَمْوَالَهُمْ، وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: حُقُوقَهُمْ وَفِي إِضَافَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى النَّاسِ دَلِيلٌ عَلَى مِلْكِهِمْ إِيَّاهَا خِلَافًا لِلْإِبَاحِيَّةِ الزَّنَادِقَةِ كَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ فِي مُبَايَعَاتِهِمْ وَكَانُوا مكاسين لَا يَدَعُونَ شَيْئًا إِلَّا مَكَسُوهُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَكْسِ الْبَخْسِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ الْغَرِيبُ بَلَدَهُمْ أَخَذُوا دَرَاهِمَهُ الْجِيَادَ وَقَالُوا هِيَ زُيُوفٌ فَقَطَّعُوهَا قِطَعًا ثُمَّ أَخَذُوهَا بِنُقْصَانٍ ظَاهِرٍ وَأَعْطَوْهُ بَدَلَهَا زُيُوفًا وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قَدْ فَشَتْ فِيهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ كُفْرِهِمُ الَّذِي نَالَتْهُمُ الرَّجْفَةُ بِسَبَبِهِ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَرِيبًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الْإِشَارَةُ إِلَى إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَتَرْكِ البخس والإفساد وخير أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ أَيْ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالْإِفْسَادِ لِأَنَّ خَيْرِيَّةَ هَذِهِ لَكُمْ عَاجِلَةٌ جِدًّا مُنْقَضِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ مِنْكُمْ إِذْ يَقْطَعُ النَّاسُ مُعَامَلَتَكُمْ وَيَحْذَرُونَكُمْ فَإِذَا أَوْفَيْتُمْ وَتَرَكْتُمُ الْبَخْسَ وَالْإِفْسَادَ جَمُلَتْ سِيرَتُكُمْ وَحَسُنَتِ الْأُحْدُوثَةُ عَنْكُمْ وَقَصَدَكُمُ النَّاسُ بِالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَخْيَرُ مِمَّا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ لِدَيْمُومَةِ التِّجَارَةِ وَالْأَرْبَاحِ بِالْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّحَلِّي بِالْأَمَانَاتِ، وَقِيلَ: ذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَإِلَى تَرْكِ الْبَخْسِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَقِيلَ: خَيْرٌ هُنَا لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ أَيْ ذَاكَ نَافِعٌ عِنْدَ اللَّهِ مُكْسِبٌ فَوْزَهُ وَرِضْوَانَهُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ صَدْرُ الْآيَةِ وَآخِرُ الْقِصَّةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ لَكُمْ خَيْرًا وَنَافِعًا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِشَرْطِ الإيمان

_ (1) سورة هود: 11/ 84. (2) سورة البقرة: 2/ 282.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 إلى 87]

وَالتَّوْحِيدِ وَإِلَّا فَلَا يَنْفَعُ عَمَلٌ دُونَ إِيمَانٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ لِي فِي قَوْلِي ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87] وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً الظَّاهِرُ النَّهْيُ عَنِ الْقُعُودِ بِكُلِّ طَرِيقٍ لَهُمْ عَنْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ إِيعَادِ النَّاسِ وَصَدِّهِمْ عَنْ طَرِيقِ الدِّينِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانُوا يَقْعُدُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى شُعَيْبٍ فَيَتَوَعَّدُونَ مَنْ أَرَادَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ وَيَصُدُّونَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلَا تَذْهَبْ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ قُرَيْشٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا نَهْيُ الْعَشَّارِينَ وَالْمُتَقَبِّلِينَ وَنَحْوِهِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُوَ نَهْيٌ عَنِ السَّلْبِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي خَشَبَةً عَلَى الطَّرِيقِ لَا يَمُرُّ بِهَا ثَوْبٌ إِلَّا شَقَّتْهُ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا خَرَقَتْهُ فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ هَذَا مَثَلٌ لِقَوْمٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهُ ثُمَّ تَلَا وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ وَالْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِهِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لَكِنْ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ لَهُمَا بِقَوْلِهِ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ بَلْ ذَلِكَ يُنَاسِبُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَمِثْلُهُمُ الْيَوْمَ هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسُونَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنَ النَّاسِ مَا لَا يَلْزَمُهُمْ شَرْعًا مِنَ الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ وَضَمِنُوا مَا لَا يَجُوزُ ضَمَانُ أَصْلِهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْمَلَاهِي وَالْمُتَرَتِّبُونَ فِي الطُّرُقِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ كَثُرَ فِي الْوُجُودِ وَعُمِلَ بِهِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِهَا وَأَفْحَشِهَا فَإِنَّهُ غَضَبٌ وَظُلْمٌ وَعَسْفٌ عَلَى النَّاسِ وَإِذَاعَةٌ لِلْمُنْكَرِ وَعَمَلٌ بِهِ وَدَوَامٌ عَلَيْهِ وَإِقْرَارٌ لَهُ وَأَعْظَمُهُ تَضْمِينُ الشَّرْعِ وَالْحُكْمِ لِلْقَضَاءِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا رَسْمُهُ وَلَا مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَرَنَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَالْأَعْرَاضَ بِالدِّمَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حراما» وَمَا أَكْثَرَ مَا تَسَاهَلَ النَّاسُ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَفِي

الْغَيْبَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَالْعَجَبُ إِطْبَاقُ مَنْ يَتَظَاهَرُ بِالصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَالْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِ هَذِهِ الْمُكُوسِ وَالضَّمَانَاتِ وَادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي الْوُجُودِ وَدَلَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ إِنَّهُ يَدْعُو فَيُسْتَجَابُ لَهُ فِيمَا أَرَادَ وَيَضْمَنُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ الْجَنَّةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُ لِأَصْحَابِ الْمُكُوسِ وَيَتَذَلَّلُ إِلَيْهِمْ فِي نَزْعِ شَيْءٍ حَقِيرٍ وَأَخْذِهِ مِنَ الْمَكْسِ الَّذِي حَصَّلُوهُ وَهَذِهِ وَقَاحَةٌ لَا تَصْدُرُ مِمَّنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْإِيمَانِ وَلَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: تَسَاوَى الْكُلُّ مِنَّا فِي الْمَسَاوِي ... فَأَفْضَلُنَا فَتِيلًا مَا يُسَاوِي وَعَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ يَكُونُ الْقُعُودُ بِكُلِّ صِرَاطٍ حَقِيقَةً وَحَمَلَ الْقُعُودَ وَالصِّرَاطَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْمَجَازِ، فَقَالَ وَلَا تَقْتَدُوا بِالشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «1» فَتَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ أَيْ بِكُلِّ مِنْهَاجٍ مِنْ مَنَاهِجِ الدِّينِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ سَبِيلُ الْحَقِّ قَوْلُهُ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، (فَإِنْ قلت) : صراط الحق واحد وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «2» فَكَيْفَ قِيلَ بِكُلِّ صِرَاطٍ، (قلت) : صراط الحق واحد وَلَكِنَّهُ يَتَشَعَّبُ إِلَى مَعَارِفَ وَحُدُودٍ وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا وَاحِدًا يَشْرَعُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ مَنَعُوهُ وَصَدُّوهُ انْتَهَى. وَلَا تَظْهَرُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ سَبِيلُ الْحَقِّ مِنْ قَوْلِهِ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا ذَكَرَ بَلِ الظَّاهِرُ التَّغَايُرُ لِعُمُومِ كُلِّ صِرَاطٍ وَخُصُوصِ سَبِيلِ اللَّهِ فَيَكُونُ بِكُلِّ صِراطٍ حقيقة في الطرق، وسَبِيلِ اللَّهِ مَجَازٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَالْبَاءُ فِي بِكُلِّ صِراطٍ ظَرْفِيَّةٌ نَحْوُ زَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ أَيْ فِي كُلِّ صِرَاطٍ وَفِي الْبَصْرَةِ وَالْجُمَلُ مِنْ قَوْلِهِ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ وَتَبْغُونَها أَحْوَالٌ أَيْ مُوعِدِينَ وَصَادِّينَ وَبَاغِينَ وَالْإِيعَادُ ذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَضَارِّ بِالْمُوعَدِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُوعَدَ بِهِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ الشَّرِّ لِأَنَّ أَوْعَدَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشَّرِّ وَإِذَا ذُكِرَ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ. قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ: إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَذْكُرُوا مَا يُهَدِّدُوا به مع أوعدت جاؤوا بِالْبَاءِ فَقَالُوا: أَوْعَدْتُهُ بِالضَّرْبِ ولا يقولون أعدته الضَّرْبَ وَالصَّدُّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي عَدَمِ التَّمْكِينِ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الرَّسُولِ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْإِيعَادِ مِنَ الصَّادِّ بِوَجْهٍ مَا أَوْ عَنْ وَعْدِ الْمَصْدُودِ بِالْمَنَافِعِ عَلَى تَرْكِهِ ومَنْ آمَنَ مَفْعُولٌ بِتَصُدُّونَ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي وَمَفْعُولُ تُوعِدُونَ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 16. [.....] (2) سورة الأنعام: 6/ 153.

سَبِيلِ اللَّهِ وَذَكَّرَهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِلَامَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي آمَنَ بِهِ، (قُلْتُ) : إِلَى كُلِّ صِرَاطٍ تَقْدِيرُهُ تُوعِدُونَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَصُدُّونَ عَنْهُ فَوَضَعَ الظَّاهِرَ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ أَمْرِهِمْ دَلَالَةً عَلَى عِظَمِ مَا يَصُدُّونَ عَنْهُ انْتَهَى وَهَذَا تَعَسُّفٌ فِي الْإِعْرَابِ لَا يَلِيقُ بِأَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ مَعَ إِمْكَانِ عَوْدِهِ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ الْإِمْكَانَ السَّائِغَ الْحَسَنَ الرَّاجِحَ وَجَعَلَ مَنْ آمَنَ مَنْصُوبًا بِتُوعِدُونَ فَيَصِيرُ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَدْ قَالَ النُّحَاةُ إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لِقِلَّتِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ لَلَزِمَ ذِكْرُ الضَّمِيرِ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ وَتَصُدُّونَهُ أَوْ وَتَصُدُّونَهُمْ إِذْ هَذَا الضَّمِيرَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ إِلَّا ضَرُورَةً عَلَى قَوْلِ بَعْضِ النُّحَاةِ يُحْذَفُ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ وَيَدُلُّ عَلَى مَنْ آمَنَ مَنْصُوبٌ بِتَصُدُّونَ الْآيَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ «1» وَلَا يُحْذَفُ مِثْلُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَّا فِي شِعْرٍ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ حَذْفَهُ عَلَى قِلَّةٍ مَعَ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ الْمُضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ فَكَانَ جَدِيرًا بِالْمَنْعِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْقِيدِ الْبَعِيدِ عَنِ الفصحاحة وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ عَلَى شُعَيْبٍ فِي قَوْلِ مَنْ رَأَى الْقُعُودَ عَلَى الطَّرِيقِ لِلرَّدِّ عَنْ شُعَيْبٍ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ القائل وَلا تَقْعُدُوا وهو شُعَيْبٌ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ مَنْ آمَنَ بِي وَلَا يُسَوَّغُ هُنَا أَنْ يَكُونَ التفافا لَوْ قُلْتَ: يَا هِنْدُ أَنَا أَقُولُ لَكِ لَا تُهِينِي مَنْ أُكْرِمُهُ تُرِيدُ مَنْ أَكْرَمَنِي لَمْ يَصِحَّ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ قَوْلِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً «2» فِي آلِ عِمْرَانَ. وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِذْ مَفْعُولٌ بِهِ غَيْرُ ظَرْفٍ أَيْ وَاذْكُرُوا عَلَى جِهَةِ الشُّكْرِ وَقْتَ كَوْنِكُمْ قَلِيلًا عَدَدُكُمْ فَكَثَّرَكُمْ اللَّهُ وَوَفَّرَ عَدَدَكُمُ انْتَهَى وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَاذْكُرُوا لِاسْتِقْبَالِ اذْكُرُوا وَكَوْنِ إِذْ ظَرْفًا لِمَا مَضَى وَالْقِلَّةُ وَالتَّكْثِيرُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ أَوْ إِلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى أَوْ إِلَى قِصَرِ الْأَعْمَارِ وَطُولِهَا أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. قِيلَ: إِنَّ مَدْيَنَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ تَزَوَّجَ بِنْتَ لُوطٍ فَوَلَدَتْ فَرَمَى اللَّهُ فِي نَسْلِهَا بِالْبَرَكَةِ وَالنَّمَاءِ فَكَثُرُوا وَفَشَوْا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذْ كُنْتُمْ أَقِلَّةً أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمْ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ انْتَهَى وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى حَذْفِ صِفَةٍ وَهِيَ أَذِلَّةٌ وَلَا إِلَى تَحْمِيلِ قَوْلِهِ فَكَثَّرَكُمْ مَعْنَى بِالْعَدَدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِلَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الذِّلَّةَ وَلَا الْكَثْرَةَ تَسْتَلْزِمُ الْعِزَّ، وَقَالَ الشاعر:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 99. (2) سورة آل عمران: 3/ 99.

تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا ... فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَجْمُوعُ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى كَثَّرَ عَدَدَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ وَطَوَّلَ أَعْمَارَهُمْ وَأَعَزَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى مُقَابَلَاتِهَا. وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَذْكِيرٌ بِعَاقِبَةِ مَنْ أَفْسَدَ قَبْلَهُمْ وَتَمْثِيلٌ لَهُمْ بِمَنْ حَلَّ بِهِ الْعَذَابُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَكَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِمَا أَجَابَ الْمُؤْتَفِكَةَ. وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَحْسَنِ مَا تَلَطَّفَ بِهِ فِي الْمُحَاوَرَةِ إِذْ بَرَزَ الْمُتَحَقِّقُ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ آمَنَ بِهِ طَائِفَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الإيمان لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ «1» وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَارِعِ التَّقْسِيمِ إِذْ لَا يَخْلُو قَوْمُهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ وَالَّذِي أُرْسِلَ بِهِ هُنَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ الْبَخْسِ وَالْإِفْسَادِ وَالْقُعُودِ الْمَذْكُورِ وَمُتَعَلِّقُ لَمْ يُؤْمِنُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَتَقْدِيرُهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ مِنْكُمْ لِقَوْمِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَاصْبِرُوا خِطَابًا لِفَرِيقَيْ قَوْمِهِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وبَيْنَنا أَيْ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الصَّبْرِ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وعيدا لِلْكَافِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ وَالْخَسَارِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى وَإِنْ كُنْتُمْ يَا قَوْمِ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ عَلَيَّ وَشَعَّبْتُمْ بِكُفْرِكُمْ أَمْرِي فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَاصْبِرُوا أَيُّهَا الْكَفَرَةُ حَتَّى يَأْتِيَ حُكْمُ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَفِي قَوْلِهِ فَاصْبِرُوا قُوَّةُ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ هَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَإِنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِجَمِيعِ الْآيَةِ لِلْكُفَّارِ، قَالَ النَّقَّاشُ وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: الْمَعْنَى فَاصْبِرُوا يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ انْتَهَى، وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ فَاصْبِرُوا فَتَرَبَّصُوا وَانْتَظَرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أَيْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِأَنْ يَنْصُرَ الْمُحِقِّينَ عَلَى الْمُبْطِلِينَ وَيُظْهِرَهُمْ عَلَيْهِمْ وَهَذَا وَعِيدٌ لِلْكَافِرِينَ بِانْتِقَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «2» انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَكَى مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ فَاصْبِرُوا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى الْوَعْدِ لَهُمْ وَقَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ انْتَهَى وَثَنَى بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فقال أو هو

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 88. (2) سورة التوبة: 9/ 52.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 إلى 116]

مَوْعِظَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحَثٌّ عَلَى الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ مَا كَانَ يَلْحَقُهُمْ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَيَنْتَقِمَ لَهُمْ مِنْهُمُ انْتَهَى، وَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْفَرِيقَيْنِ هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَتَى بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ ثَالِثًا فَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ لِيَصْبِرَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ وَلِيَصْبِرَ الكفار على ما يسوءوهم مِنْ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فَيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ انْتَهَى، وَهُوَ جَارٍ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ ذِكْرِ تَجْوِيزَاتٍ فِي الْكَلَامِ تُوهِمُ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِهِ وَهِيَ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لِأَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ لَا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ به حيف وجور. [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

عَادَ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَتَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ. قَالَ: تَعُدُّ فِيكُمُ جَزْرَ الْجَزُورِ رِمَاحُنَا ... وَيَرْجِعْنَ بِالْأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ ضُحًى ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ إِنْ كَانَ نَكِرَةً وَغَيْرُ مُتَصَرِّفٍ إِذَا كَانَ مِنْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ وَقْتُ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِذَا طَلَعَتْ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ وَشَذُّوا فِي تَصْغِيرِهِ فَقَالُوا: ضُحَيٌّ بِغَيْرِ تَاءِ التَّأْنِيثِ وَتَقُولُ أَتَيْتُهُ ضُحًى وَضَحَاءً إِذَا فَتَحْتَ الضَّادَ مَدَدْتَ، الثُّعْبَانُ ذَكَرُ الْحَيَّاتِ الْعَظِيمُ أُخِذَ مَنْ ثَعَبْتَ بِالْمَكَانِ فَجَّرْتَهُ بِالْمَاءِ وَالْمَثْعَبُ مَوْضِعُ انْفِجَارِ الْمَاءِ لِأَنَّ الثُّعْبَانَ يَجْرِي كَالْمَاءِ عِنْدَ الِانْفِجَارِ. الْإِرْجَاءُ التَّأْخِيرُ، الْمَدِينَةُ مَعْرُوفَةٌ مُشْتَقَّةٌ مَنْ مَدَنَ فَهِيَ فَعِيلَةٌ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَفْعَلَةٌ مِنْ دَانَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِإِجْمَاعِ الْعَرَبِ عَلَى الْهَمْزِ فِي جَمْعِهَا قَالُوا مدائن بالهمزة وَلَا يُحْفَظُ فِيهِ مَدَايِنُ بِالْيَاءِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّهَا مَفْعَلَةٌ وَيَقْطَعُ بِأَنَّهَا فَعِيلَةٌ جَمْعُهُمْ لَهَا عَلَى فُعُلٍ قَالُوا مُدُنٌ كَمَا قَالُوا صُحُفٌ فِي صَحِيفَةٍ. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ أَقْسَمُوا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِخْرَاجِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ أَوْ عَوْدَتِهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَالْقَسَمُ يَكُونُ عَلَى فِعْلِ الْمُقْسِمِ وَفِعْلِ غَيْرِهِ سَوَّوْا بَيْنَ نَفْيِهِ وَنَفْيِ أَتْبَاعِهِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ فِي الْمِلَّةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صُعُوبَةِ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ إِذْ قَرَنُوا ذَلِكَ بِالْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ وَفِي الْإِخْرَاجِ وَالْعَوْدِ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ وَعَادَ كَمَا تَقَدَّمَ لَهَا اسْتِعْمَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى صَارَ وَالثَّانِي بِمَعْنَى رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ أَوْ لَتَعُودُنَّ إِذْ صَارَ فِعْلًا مُسْنَدًا إِلَى شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ فِي مِلَّتِهِمْ وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي يُشْكَلُ لِأَنَّ شُعَيْبًا لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ قَطُّ لَكِنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَانُوا فِيهَا، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِوُجُوهٍ. أَحَدِهَا: أَنْ يُرَادَ بِعَوْدِ شُعَيْبٍ فِي الْمِلَّةِ حَالُ سُكُوتِهِ عَنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يبعث لإحالة الضَّلَالِ فَإِنَّهُ كَانَ يُخْفِي دِينَهُ إِلَى أَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ حُكْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ لَمَّا عَطَفُوا أَتْبَاعَهُ عَلَى ضَمِيرِهِ فِي الْإِخْرَاجِ سَحَبُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ فِي الْعَوْدِ وَإِنْ كَانَ شُعَيْبٌ بَرِيئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَتْبَاعُهُ قَبْلَ الْإِيمَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّلْبِيسِ عَلَى الْعَامَّةِ وَالْإِيهَامِ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ. قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أَيْ أَيَقَعُ مِنْكُمْ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي حَالِ كَرَاهِيَّتِنَا لِذَلِكَ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْقِيفِ عَلَى شُنْعَةِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْرَاجِ

عَنْ مَوَاطِنِهِمْ ظُلْمًا أَوِ الْإِقْرَارِ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ أَتُعِيدُونَنَا فِي مِلَّتِكُمْ فِي حَالِ كَرَاهَتِنَا أَوْ مَعَ كَوْنِنَا كَارِهِينَ انْتَهَى، فَجَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ خَاصًّا بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الِاسْتِفْهَامُ هُوَ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْإِخْرَاجِ أَوِ الْعَوْدِ وَجَعَلَ الْوَاوَ وَاوَ الْحَالِ وقدره أَتُعِيدُونَنَا فِي حَالِ كَرَاهَتِنَا وَلَيْسَتْ وَاوَ الْحَالِ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا النَّحْوِيُّونَ بِوَاوِ الْحَالِ بَلْ هِيَ وَاوُ الْعَطْفِ عُطِفَتْ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ كَقَوْلِهِ «رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفِ مُحْرَقٍ» لَيْسَ الْمَعْنَى رُدُّوهُ فِي حَالِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ بَلِ الْمَعْنَى رُدُّوهُ مَصْحُوبًا بِالصَّدَقَةِ وَلَوْ مَصْحُوبًا بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ تَقَدَّمَ لَنَا إِشْبَاعُ الْقَوْلِ فِي نَحْوِ هَذَا. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها هذا إخباره مُقَيَّدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالشَّرْطِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ وَتَقْدِيرُهُ إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ فَقَدِ افْتَرَيْنَا وَلَيْسَ قَوْلُهُ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ فَيُمْكِنُ أَنْ يخرج هذا عيه وَجَوَّزُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا مَا أَكْذَبَنَا عَلَى اللَّهِ إِنْ عُدْنَا فِي الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ أَبْلَغُ فِي الِافْتِرَاءِ مِنَ الْكَافِرِ يَعْنِي الْأَصْلِيَّ لِأَنَّ الْكَافِرَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ حَيْثُ يَزْعُمُ أَنَّ لِلَّهِ نِدًّا وَلَا نِدَّ لَهُ وَالْمُرْتَدُّ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ وَزَائِدٌ عَلَيْهِ حَيْثُ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بُيِّنَ لَهُ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْيِيزِ مَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ أَيْ قَدْ كُنَّا نُوَاقِعُ أَمْرًا عَظِيمًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَسَمًا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ اللَّامِ أَيْ وَاللَّهِ لَقَدِ افْتَرَيْنَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ احْتِمَالًا قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ فِي صِيغَةِ الدُّعَاءِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ... وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ وَكَمَا تَقُولُ افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ أَنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا وَلَمْ يُنْشِدِ ابْنُ عَطِيَّةَ الْبَيْتَ الَّذِي يُقَيِّدُ قَوْلَهُ بَقَّيْتُ وَمَا بَعْدَهُ بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الدِّينِ هُوَ الْأَعْظَمُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْثَرُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْإِخْرَاجِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ هُوَ الْأَعْظَمُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْثَرُ عَلَى الْكَذِبِ أَقْسَمَ عَلَى وُقُوعِهِ الْكُفَّارُ فَقَالُوا قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَوْدِ بِالصَّيْرُورَةِ وَتَأْوِيلُهُ إِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ.

وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أَيْ وَمَا يَنْبَغِي وَلَا يَتَهَيَّأُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِي مِلَّتِكُمْ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا فَنَعُودُ فِيهَا وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى سَبِيلِ عَذْقِ جَمِيعِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَتَجْوِيزُ الْعَوْدِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مِلَّتِهِمْ دُونَ شُعَيْبٍ لِعِصْمَتِهِ بِالنُّبُوَّةِ فَجَرَى الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى سَبِيلِ تَغْلِيبِ حُكْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَاحِدُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْجَمْعِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ اسْتِثْنَاءَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا تَفْعَلُهُ الْكَفَرَةُ مِنَ الْقُرُبَاتِ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ إِنَّا لَا نَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يتعبّد اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْكَفَرَةِ فَيُعَارِضَ مُلْحِدٌ بِذَلِكَ وَيَقُولُ هَذِهِ عَوْدَةٌ إِلَى مِلَّتِنَا اسْتَثْنَى مَشِيئَةَ اللَّهِ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِهِ انْتَهَى، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها إِنَّمَا يَعْنِي النَّجَاةَ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْمَعَاصِيَ لَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يُرِيدَ بِذَلِكَ مَعْنَى الِاسْتِبْعَادِ كَمَا تَقُولُ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَقَدْ عُلِمَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فَهِيَ إِحَالَةٌ عَلَى مُسْتَحِيلٍ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَكَاهُ الْمُفَسِّرُونَ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَا فِيهِ انْتَهَى، وَهَذَا تَأْوِيلٌ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مذهبهم أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ لَيْسَ بِمَشِيئَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فإن قلت) : وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ أَنْ يَشَاءَ رِدَّةَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَوْدَهُمْ فِي الْكُفْرِ، (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ خِذْلَانَنَا وَمَنْعَنَا الْإِلْطَافَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِينَا وَيَكُونُ عَبَثًا وَالْعَبَثُ قَبِيحٌ لَا يَفْعَلُهُ الْحَكِيمُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «1» أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَحْوَالَ عِبَادِهِ كَيْفَ تَتَحَوَّلُ قُلُوبُهُمْ وَكَيْفَ تَنْقَلِبُ وَكَيْفَ تَقْسُو بَعْدَ الرِّقَّةِ وَتَمْرَضُ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَتَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حَسْمًا لِطَمَعِهِمْ فِي الْعَوْدِ لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَوْدِهِمْ فِي الْكُفْرِ مُحَالٌ خَارِجٌ عَنِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا هُوَ تَسْلِيمٌ وَتَأَدُّبٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعَلَّقَ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ جِهَةِ اسْتِقْبَالِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ إِنْ شَاءَ قَوِيَ هَذَا التَّأْوِيلِ انْتَهَى وَلَيْسَ يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ وَبَيْنَ إِلَّا إِنْ شَاءَ لِأَنَّ إِنْ تُخْلِصُ الْمَاضِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ كَمَا تُخْلِصُ أَنِ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مُسْتَقْبَلٌ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيها يَعُودُ عَلَى الْقَرْيَةِ لَا عَلَى الْمِلَّةِ. وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي الأنعام في فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 89.

عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أَيْ فِي دَفْعِ مَا تَوَعَّدْتُمُونَا بِهِ وَفِي حِمَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ وَفِي ذَلِكَ اسْتِسْلَامٌ الله وَتَمَسُّكٌ بِلُطْفِهِ وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ فِي إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُثَبِّتُنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَيُوَفِّقُنَا لِازْدِيَادِ الْإِيقَانِ. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أَيِ احْكُمْ وَالْفَاتِحُ وَالْفَتَّاحُ الْقَاضِي بِلُغَةِ حِمْيَرَ وَقِيلَ بِلُغَةِ مُرَادٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عُصَمٍ رَسُولًا ... فَإِنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَعْرِفُ مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ لِزَوْجِهَا تَعَالَ أُفَاتِحْكَ أَيْ أُحَاكِمْكَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَهْلُ عُمَانَ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ الْفَاتِحَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ بَحْرٍ: احْكُمْ بَيْنَنَا، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَظْهِرْ أَمْرَنَا حَتَّى يَنْفَتِحَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَيَنْكَشِفَ ذَلِكَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْزِلَ بِعَدُوِّهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَلَمَّا طَالَ تَمَادَى قَوْمُهُ فِي كُفْرِهِمْ وَيَئِسَ مِنْ صَلَاحِهِمْ دَعَا عَلَيْهِمْ فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ وَأَهْلَكَهُمْ بِالرَّجْفَةِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَرَادَ هَلَاكَ قَوْمِهِ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اسْتَجَابَ لَهُ فَأَهْلَكَهُمْ. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيْ كُبَرَاؤُهُمْ لِأَتْبَاعِهِمْ تَثْبِيطًا عَنِ الْإِيمَانِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا جَوَابُ الْقَسَمِ الَّذِي وَطَّأَتْهُ اللَّامُ فِي لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ وَجَوَابُ الشَّرْطِ؟ (قُلْتُ) : قَوْلُهُ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ سَادٌّ مَسَدَّ الْجَوَابَيْنِ انْتَهَى، وَالَّذِي تَقُولُ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ مُضِيُّ فِعْلِ الشَّرْطِ فَإِنْ عَنَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ سَادٌّ مَسَدَّ الْجَوَابَيْنِ إِنَّهُ اجْتُزِئَ بِهِ عَنْ ذِكْرِ جَوَابِ الشَّرْطِ فَهُوَ قَرِيبٌ وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ فَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَأَنْ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وإِذاً هُنَا مَعْنَاهَا التَّوْكِيدُ وَهِيَ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ وَيَكُونُ مَعَهُ الْجَزَاءُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ لَخاسِرُونَ وَالنُّونُ عِوَضٌ مِنَ الْمَحْذُوفِ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّكُمْ إِذَا اتَّبَعْتُمُوهُ لَخَاسِرُونَ فَلَمَّا حَذَفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ عَوَّضَ مِنْ ذَلِكَ النُّونَ فَصَادَفَتِ الْأَلِفَ فَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَ الْأَلِفُ لِالْتِقَائِهِمَا وَالتَّعْوِيضُ فِيهِ مِثْلُ التَّعْوِيضِ فِي يَوْمِئِذٍ وَحِينَئِذٍ وَنَحْوِهِ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الزَّاعِمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ التَّعْوِيضُ وَالْحَذْفُ فِي إِذاً الَّتِي لِلِاسْتِقْبَالِ فِي مَوْضِعٍ فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَيْهِ، لَخاسِرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَغْبُونُونَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: جَاهِلُونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَجَزَةٌ، وَقَالَ

الزَّمَخْشَرِيُّ: لَخاسِرُونَ لِاسْتِبْدَالِكُمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى لِقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «1» . وَقِيلَ تَخْسَرُونَ بِاتِّبَاعِهِ فَوَائِدَ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ لِأَنَّهُ يَنْهَاكُمْ عَنْهُ وَيَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيفَاءِ وَالتَّسْوِيَةِ انْتَهَى. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا دعى عَلَيْهِمْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ بَابٌ مِنْ جَهَنَّمَ بِحَرٍّ شَدِيدٍ أَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ فَإِذَا دَخَلُوا الْأَسْرَابَ لِيَتَبَرَّدُوا وَجَدُوهَا أَشَدَّ حَرًّا مِنَ الظَّاهِرِ فَخَرَجُوا هَرَبًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ فِيهَا رِيحٌ طَيِّبَةٌ فَتَنَادَوْا عَلَيْكُمُ الظُّلَّةُ فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهَا كُلُّهُمْ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ وَأَلْهَبَهَا اللَّهُ نَارًا وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ الْمَقْلُوُّ فَصَارُوا رَمَادًا. وَرُوِيَ أَنَّ الرِّيحَ حُبِسَتْ عَنْهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ ، وَقَالَ يَزِيدُ الْجَرِيرِيُّ: سُلِّطَ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رُفِعَ لَهُمْ جَبَلٌ مِنْ بَعِيدٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَإِذَا تَحْتَهُ أَنْهَارٌ وَعُيُونٌ فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهُ كُلُّهُمْ فَوَقَعَ ذَلِكَ الْجَبَلُ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَأُهْلِكُوا بِالظُّلَّةِ وَإِلَى أَصْحَابِ مَدْيَنَ فَصَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ صَيْحَةً فَهَلَكُوا جَمِيعًا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فِرْقَةً مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ هَلَكَتْ بِالرَّجْفَةِ وَفِرْقَةً هَلَكَتْ بِالظُّلَّةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ بَلَغَنِي أَنَّ رجلا منهم يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ جَلْهَا لَمَّا رَأَى الظُّلَّةَ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَا قَوْمِ إِنَّ شُعَيْبًا مُرْسَلٌ فَذَرُوا ... عَنْكُمْ سُمَيْرًا وَعِمْرَانَ بْنَ شَدَّادِ إِنِّي أَرَى غَيْمَةً يَا قَوْمِ قَدْ طَلَعَتْ ... تَدْعُو بِصَوْتٍ عَلَى صَمَّانَةِ الْوَادِ وَإِنَّهُ لَنْ تَرَوْا فِيهَا صُحَاءَ غَدٍ ... إِلَّا الرَّقِيمَ تَمَشَّى بَيْنَ أَنْجَادِ سُمَيْرٌ وَعِمْرَانُ كَاهِنَاهُمْ وَالرَّقِيمُ كَلْبُهُمْ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الله البجلي: أبو جاد وَهَوَّزْ وَحُطِّي وَكَلَمُنْ وَسَعْفَصْ وقرشت أسماء ملوك مَدْيَنَ وَكَانَ كَلَمُنْ مَلِكَهُمْ يَوْمَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ زَمَانَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا هَلَكَ قَالَتِ ابْنَتُهُ تَبْكِيهِ: كَلَمُنْ قَدْ هَدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ وَسْطَ الْمَحَلَّهْ سيّد القوم أتاه ... حتف نار وسط ظله جعلت نار عَلَيْهِمْ ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّهْ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَيْ كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا نَاعِمِي الْبَالِ رَخِيِّي الْعَيْشِ فِي دَارِهِمْ وَفِيهَا قُوَّةُ الْإِخْبَارِ عَنْ هَلَاكِهِمْ وَحُلُولُ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ «2» وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بمكة سامر

_ (1) سورة البقرة: 2/ 16. (2) سورة يُونُسَ: 10/ 24.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَغَنَيْتُ بِالْمَكَانِ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْإِقَامَةِ الَّتِي هِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِتَنَعُّمٍ وَعَيْشٍ رَخِيٍّ هَذَا الَّذِي اسْتَقْرَيْتُ مِنَ الْأَشْعَارِ الَّتِي ذَكَرَتِ الْعَرَبُ فِيهَا هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةَ أَبْيَاتٍ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: غَنِينَا زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى ... فَكُلًّا سَقَانَا بِكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ فَمَعْنَاهُ اسْتَغْنَيْنَا وَرَضِينَا مَعَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ مُقْتَرِنَةً بِمَكَانٍ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لَمْ يُعَمَّرُوا، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَأَنْ لَمْ يَنْعَمُوا، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا، وَقَالَ أَيْضًا قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَأَنْ لَمْ يَنْزِلُوا، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كأن لم يقيموا والَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ خَبَرُهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا الِابْتِدَاءِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ كَأَنَّهُ قِيلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً الْمَخْصُوصُونَ بِأَنْ أُهْلِكُوا وَاسْتُؤْصِلُوا كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دَارِهِمْ لِأَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا شُعَيْبًا قَدْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هم الخاسرين وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي كَذَّبُوا وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا صِفَةً لِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا مَنْ قَوْمِهِ وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ كَأَنْ حَالًا انْتَهَى، وَهَذِهِ أَوْجُهٌ مُتَكَلَّفَةٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمَلٌ مستقلة لا تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ هَذَا أَيْضًا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ أَيْ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْخُسْرَانِ الْعَظِيمِ دُونَ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّهُمْ هُمُ الرَّابِحُونَ وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ لِهَذَا الِابْتِدَاءِ وَهَذَا التَّكْرِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي رَدِّ مَقَالَةِ الْمَلَأِ لِأَشْيَاعِهِمْ وَتَسْفِيهٌ لِرَأْيِهِمْ وَاسْتِهْزَاءٌ بِنُصْحِهِمْ لِقَوْمِهِمْ وَاسْتِعْظَامٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ انْتَهَى، وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُنْبِئَتَانِ عَنْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ فِي مَقَالَتِهِمْ قَالُوا لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ فَجَاءَ الْإِخْبَارُ بِإِخْرَاجِهِمْ بِالْهَلَاكِ وَأَيُّ إِخْرَاجٍ أَعْظَمُ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ وَقَالُوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فَحَكَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ هُمْ بِالْخُسْرَانِ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ هُنَا أن يكون بدلا من الضَّمِيرِ فِي يَغْنَوْا أَوْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي وَالِابْتِدَاءُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَقْوَى وَأَجْزَلُ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أَيْ فَكَيْفَ أَحْزَنُ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْزَنَ عَلَيْهِ وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي لَا تَبْعَثُ عَلَى الْحُزْنِ وَهِيَ الْكُفْرُ إِذْ هُوَ أَعْظَمُ مَا يُعَادِي بِهِ الْمُؤْمِنُ إِذْ هُمَا

نَقِيضَانِ كَمَا جَاءَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا وَكَأَنَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ رِقَّةً عَلَيْهِمْ حَيْثُ كَانَ أَمَلُهُ فِيهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا فَلَمْ يَقْدِرْ فَسَرَّى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِاسْتِحْضَارِ سَبَبِ التَّسَلِّي عَنْهُمْ وَالْقَسْوَةِ فَذَكَرَ أَشْنَعَ مَا ارْتَكَبُوهُ مَعَهُ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ الْبَاعِثُ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَعَلَى الْمُنَاوَأَةِ الشَّدِيدَةِ حَتَّى لَا يُسَاكِنُوهُ وَتَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ وَبِأَشَدَّ مِنْهُ وَهُوَ عَوْدُهُمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، قَالَ مَكِّيٌّ: وَسَارَ شُعَيْبٌ بِمَنْ تَبِعَهُ إِلَى مَكَّةَ فَسَكَنُوهَا وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ إِيسِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ لُغَةٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْفَاتِحَةِ. وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ بَأْسِهِ وَسَطْوَتِهِ عَلَيْهِمْ آخِرَ أَمْرِهِمْ حِينَ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ عَادَتَهُ فِي أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَجَاءَ بَعْدَ إِلَّا فِعْلٌ مَاضٍ وَهُوَ أَخَذْنا وَلَا يَلِيهَا فِعْلٌ مَاضٍ إِلَّا إِنْ تَقَدَّمَ فِعْلٌ أَوْ أُصْحِبَ بِقَدْ فَمِثَالُ مَا تَقَدَّمَهُ فِعْلٌ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِثَالُ مَا أُصْحِبَ قَدْ قَوْلِكَ مَا زَيْدٌ إِلَّا قَدْ قَامَ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ أَخَذْنا حَالِيَّةٌ أَيْ إِلَّا آخِذِينَ أَهْلَهَا وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَحْوَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ قَوْلِهِ إِلَّا أَخَذْنا إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أَيْ مَكَانَ الْحَالِ السَّيِّئَةِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الْحَالُ الْحَسَنَةُ مِنَ السَّرَّاءِ وَالنِّعْمَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ مَكَانُ الشِّدَّةِ الرَّخَاءُ، وَقِيلَ مَكَانُ الشَّرِّ الْخَيْرُ وَمَكَانُ والْحَسَنَةَ مفعولا بدل ومَكانَ هُوَ مَحَلُّ الْبَاءِ أَيْ بِمَكَانِ السَّيِّئَةِ وَفِي لَفْظِ مَكانَ إِشْعَارٌ بِتَمَكُّنِ الْبَأْسَاءِ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ صَارَ لِلشِّدَّةِ عِنْدَهُمْ مَكَانٌ وَأَعْرَبَ بَعْضُهُمْ مَكانَ ظَرْفًا أَيْ فِي مَكَانِ. حَتَّى عَفَوْا أَيْ كَثُرُوا وَتَنَاسَلُوا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ حَتَّى أَعْرَضُوا مِنْ عَفَا عَنْ ذَنْبِهِ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: سَمِنُوا، وَقَالَ قَتَادَةُ سُرُّوا بِكَثْرَتِهِمْ وَذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ لِأَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالشِّدَّةِ لِيَتَّعِظُوا وَيَزْدَجِرُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا ثُمَّ أَخَذَهُمْ بِالرَّخَاءِ لِيَشْكُرُوا. وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ وَأَشِرُوا فَقَالُوا هَذِهِ عَادَةُ الدَّهْرِ ضَرَّاءُ وَسَرَّاءُ وَقَدْ أَصَابَ آبَاءَنَا مِثْلُ ذَلِكَ لَا بِابْتِلَاءٍ وَقَصْدٍ بَلْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لَا عَلَى مَا تُخْبِرُ الْأَنْبِيَاءُ جَعَلُوا أَسْلَافَهُمْ وَمَا أَصَابَهُمْ مَثَلًا لَهُمْ وَلِمَا يُصِيبُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نُنْكِرَ هَذِهِ الْعَادَةَ مِنْ أَفْعَالِ الدَّهْرِ.

فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا أَفْسَدُوا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أُخِذُوا هَذَا الْأَخْذِ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ لَوْ كَانُوا مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَتَلَبَّسُونَ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَبِالطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ لِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَلَكِنْ كَانُوا مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الْأَنْبِيَاءَ فَيُؤْخَذُونَ بِاجْتِرَامِهِمْ وَكُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّكْذِيبِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ وَأُضِيفَ الْإِيمَانُ وَالتَّكْذِيبُ إِلَى الْعَبْدِ كَسْبًا وَالْمُوجِدُ لَهُمَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اللَّامُ فِي الْقُرى إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرَى الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ «1» ، كَأَنَّهُ قَالَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى الَّذِينَ كَذَّبُوا وَأُهْلِكُوا آمَنُوا بُدِّلَ كُفْرُهُمْ وَاتَّقَوُا الْمَعَاصِيَ مَكَانَ ارْتِكَابِهَا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآتَيْنَاهُمْ بِالْخَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِسُوءِ كَسْبِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي الْقُرى لِلْجِنْسِ انْتَهَى، وَفِي قَوْلِهِ وَاتَّقَوُا الْمَعَاصِيَ نزغة الِاعْتِزَالِ رَتَّبَ تَعَالَى عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَتْحَ الْبَرَكَاتِ وَرَتَّبَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَحْدَهُ وَهُوَ الْمُقَابِلُ لِلْإِيمَانِ الْهَلَاكَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُقَابِلَ التَّقْوَى لِأَنَّ التَّكْذِيبَ لَمْ يَنْفَعْ مَعَهُ الْخَيْرُ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَنْفَعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا يُرَادُ بِهَا مُعَيَّنٌ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ نَكِرَةً، وَقِيلَ: بَرَكَاتُ السَّمَاءِ الْمَطَرُ وَبَرَكَاتُ الْأَرْضِ الثِّمَارُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِالرِّزْقِ، وَقِيلَ بَرَكَاتُ السَّمَاءِ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَبَرَكَاتُ الْأَرْضِ تَيْسِيرُ الْحَاجَاتِ، وَقِيلَ: بَرَكَاتُ السَّمَاءِ الْمَطَرُ وَبَرَكَاتُ الْأَرْضِ الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامُ وَحُصُولُ السَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ، وَقِيلَ: الْبَرَكَاتُ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَاتُ فَمِنَ السَّمَاءِ بِجِهَةِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَالشَّمْسِ وَمِنَ الْأَرْضِ بِجِهَةِ النَّبَاتِ وَالْحِفْظِ لِمَا نَبَتَ هَذَا الَّذِي تُدْرِكُهُ فِطَرُ الْبَشَرِ وَلِلَّهِ خُدَّامٌ غَيْرُ ذَلِكَ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ وَمَا عَلِمَ اللَّهُ أَكْثَرَ وَذَلِكَ أَنَّ السَّمَاءَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَبِ وَالْأَرْضَ مَجْرَى الْأُمِّ وَمِنْهُمَا تَحْصُلُ جَمِيعُ الْخَيْرَاتِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ وَالْأَخْذُ أَخْذُ إِهْلَاكٍ بِالذُّنُوبِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَفَتَحْنا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَمَعْنَى الْفَتْحِ هُنَا التَّيْسِيرُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَبْوَابِ الْمُسْتَغْلَقَةِ بِفَتْحِهَا وَمِنْهُ فَتَحْتَ عَلَى الْقَارِئِ إِذَا يَسَّرْتَ عَلَيْهِ بِتَلْقِينِكَ إِيَّاهُ مَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ مِنَ الْقُرْآنِ إذا أراد القراءة.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 94.

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ الْهَمْزَةُ دَخَلَتْ عَلَى أَمِنَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَالْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ الْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن يَنْزِلَ بِهِمْ مِثْلُ مَا نَزَلْ بِأُولَئِكَ وَالْفَاءُ لِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَلِمَ عُطِفَتِ الْأُولَى بِالْفَاءِ وَالثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ (قُلْتُ) : الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى - إِلَى- يَكْسِبُونَ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عُطِفَتْ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَعَلُوا وَصَنَعُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً أَبَعْدَ ذَلِكَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَأَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ الَّذِي بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ عَاطِفٌ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ مِنَ الْجُمَلِ رُجُوعٌ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ وَتَخْرِيجٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خِلَافِ مَا قَرَّرَ هُوَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي غَيْرِ آيَةٍ أَنَّهُ يُقَدِّرُ مَحْذُوفٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ يَصِحُّ بِتَقْدِيرِهِ عَطْفُ مَا بَعْدَ الْحَرْفِ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ وَحَرْفَ الْعَطْفِ وَاقِعَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَقْدِيمَ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى الْهَمْزَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَأَنَّهُ قَدَّمَ الِاسْتِفْهَامَ اعْتِنَاءً لِأَنَّهُ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُنَا مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وبَأْسُنا عَذَابُنَا وبَياتاً لَيْلًا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ أَوَّلَ السُّورَةِ، وَنَصَبَهُ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ وَقْتَ مَبِيتِهِمْ أَوِ الْحَالِ وَذَلِكَ وَقْتُ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ فَمَجِيءُ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ الرَّاحَةِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ إِذْ أَتَى وَقْتَ الْمَأْمَنِ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَيْ فِي حَالِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يجدي كأنهم يلعبون وضُحًى مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ ضحوة وَيُقَيَّدُ كُلُّ ظَرْفٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْحَالِ فَيُقَيَّدُ الْبَيَاتُ بِالنَّوْمِ وَالضُّحَى بِاللَّعِبِ وَجَاءَ نائِمُونَ بَاسِمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهَا حَالَةُ ثُبُوتٍ وَاسْتِقْرَارٍ للبائنين وَجَاءَ يَلْعَبُونَ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّهُمْ مُشْتَغِلُونَ بِأَفْعَالٍ مُتَجَدِّدَةٍ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَرَأَ نافع والابنان أوأمن بسكون الواو جعل أَوَعاطفة وَمَعْنَاهَا التَّنْوِيعُ لَا أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ أَوِ التَّخْيِيرُ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ وَحَذَفَ وَرْشٌ هَمْزَةَ أَمِنَ وَنَقَلَ حَرَكَتِهَا إِلَى الْوَاوِ السَّاكِنَةِ وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا وَاوُ الْعَطْفِ وَتَكَرَّرَ لَفْظُ أَهْلُ الْقُرى لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّسْمِيعِ وَالْإِبْلَاغِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالسَّامِعِ مَا لَا يَكُونُ فِي الضَّمِيرِ لَوْ جَاءَ أَوْ أَمِنُوا فَإِنَّهُ مَتَى قَصَدَ التَّفْخِيمَ وَالتَّعْظِيمَ وَالتَّهْوِيلَ جِيءَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَإِسْنَادُ

الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَوَأَمِنَ وَتَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ ذَلِكَ فَنَاسَبَ إِعَادَةَ الْجُمْلَةِ مَصْحُوبَةً بِالْفَاءِ ومَكْرَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِأَخْذِهِ الْعَبْدَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَكْرَ اللَّهِ هِيَ إِضَافَةُ مَخْلُوقٍ إِلَى الْخَالِقِ كَمَا تَقُولُ نَاقَةُ اللَّهِ وَبَيْتُ اللَّهِ وَالْمُرَادُ فِعْلٌ مُعَاقِبٌ بِهِ مَكْرَ الْكَفَرَةِ وَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ لَمَّا كَانَ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْعُقُوبَةَ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ بِاسْمِ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ وَهَذَا نص في قوله وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «1» انْتَهَى، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: مَكْرَ اللَّهِ عَذَابُهُ وَجَزَاؤُهُ عَلَى مَكْرِهِمْ، وَقِيلَ مَكْرُهُ اسْتِدْرَاجُهُ بِالنِّعْمَةِ وَالصِّحَّةِ وَأَخْذُهُ عَلَى غِرَّةٍ وَكَرَّرَ الْمَكْرَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِ جَزَاءِ الْمَكْرِ بِهِمْ. أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ يَهْدِ يُبَيِّنُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «2» أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ طَرِيقَ الْهُدَى وَالْفَاعِلُ بِيَهْدِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، أَحَدُهَا أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ ويؤيد قراءة من قرأ يَهْدِ بِالنُّونِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَيْ أَوَلَمْ يَهْدِ مَا جَرَى لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَهْلِ الْقُرَى وَغَيْرِهِمْ وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ أَنْ لَوْ نَشَاءُ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ المفعول بيهد أي أو لم يُبَيِّنِ اللَّهُ أَوْ مَا سَبَقَ مِنْ قِصَصِ الْقُرَى وَمَآلِ أَمْرِهِمْ لِلْوَارِثِينَ إِصَابَتَنَا إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ لَوْ شِئْنَا ذلك أي علمهم بإصابتنا أَوْ قُدْرَتِنَا عَلَى إِصَابَتِنَا إِيَّاهُمْ، وَالْمَعْنَى إِنَّكُمْ مُذْنِبُونَ لَهُمْ وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ أَفَمَا تَحْذَرُونَ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ فَذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَلَيْنَا لَوْ شِئْنَا، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الفاعل بيهد قوله أَنْ لَوْ نَشاءُ فَيَنْسَبِكُ الْمَصْدَرُ مِنْ جَوَابِ لَوْ والتقدير أو لم نُبَيِّنْ وَنُوَضِّحْ لِلْوَارِثِينَ مَآلَهُمْ وعاقبتهم إِصَابَتَنَا إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ لَوْ شئنا ذلك أي علمهم بِإِصَابَتِنَا أَوْ قُدْرَتِنَا عَلَى إِصَابَتِنَا إِيَّاهُمْ وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِذَا كَانَتْ أَنْ مفعولة وأَنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفِّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِلْمِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ وَالْخَبَرُ الجملة المصدرية بلو ونَشاءُ فِي مَعْنَى شِئْنَا لَا أَنْ لَوِ الَّتِي هِيَ ما كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ إِذَا جَاءَ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ صَرَفَتْ مَعْنَاهُ إِلَى الْمُضِيِّ وَمَفْعُولُ نَشاءُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ لَوْ وَالْجَوَابُ أَصَبْناهُمْ وَلَمْ يَأْتِ بِاللَّامِ وإن كان الفعل مثتبا إِذْ حَذْفُهَا جَائِزٌ فَيَصِحُّ كَقَوْلِهِ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «3» وَالْأَكْثَرُ الْإِتْيَانُ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً «4»

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 54. (2) سورة فصلت: 41/ 17. (3) سورة الواقعة: 56/ 70. (4) سورة الواقعة: 56/ 65.

وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها «1» والذين يرثون الأرض يحلفون فِيهَا مِنْ بَعْدِ هَلَاكِ أَهْلِهَا وَظَاهِرُهُ التَّسْمِيعُ لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ. وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْ وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَوْضَحَ اللَّهُ لَهُ سُبُلَ الْهُدَى وَذَكَرَ لَهُ أَمْثَالًا مِمَّنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ دَائِمٌ عَلَى غَيِّهِ لَا يَرْعَوِي يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ فَيَنْبُوَ سَمْعُهُ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَصَبْنَا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى نُصِيبُ فَوَضَعَ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ وُضُوحِ مَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ «2» أَيْ إِنْ يَشَأْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً «3» انْتَهَى فَجَعَلَ لَوْ شَرْطِيَّةً بِمَعْنَى أَنْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا الَّتِي هِيَ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ أَصَبْنَا بِمَعْنَى نُصِيبُ وَمِثَالُ وُقُوعِ لَوْ مَوْقِعَ أَنْ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا يلفك الراجيك إِلَّا مُظْهِرًا ... خُلُقَ الْكِرَامِ وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمًا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ رَدَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَكِنْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَنَطْبَعُ بِمَعْنَى طَبَعْنَا فَيَكُونُ قَدْ عَطَفَ الْمُضَارِعَ عَلَى الْمَاضِي الَّذِي هُوَ جَوَابُ لَوْ نَشاءُ فَجَعَلَهُ بِمَعْنَى نُصِيبُ فَتَأَوَّلَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْجَوَابُ وَرَدَّهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ تَأَوَّلَ الْمَعْطُوفَ وَرَدَّهُ إِلَى الْمُضِيِّ وَأَنْتَجَ رَدُّ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَصِحُّ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَنَطْبَعُ بِمَعْنَى طَبَعْنَا كَمَا كَانَ لَوْ نَشَاءُ بِمَعْنَى لَوْ شِئْنَا وَيُعْطَفُ عَلَى أَصَبْناهُمْ، (قُلْتُ) : لَا يُسَاعِدُ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانَ مَطْبُوعًا عَلَى قُلُوبِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ وَالْإِصَابَةِ بِهَا وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُؤَدِّي إِلَى خُلُوِّهِمْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لو شاء لا تصفوا بها انتهى وهذا الرَّدُّ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ سَوَاءٌ تَأَوَّلْنَا الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ أَمِ الْمَعْطُوفَ وَجَوَابُ لَوْ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ سَوَاءٌ كَانَتْ حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ أَمْ بِمَعْنَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وَالْإِصَابَةُ لَمْ تَقَعْ وَالطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ وَاقِعٌ فَلَا تصحّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْجَوَابِ فَإِنْ تَأَوَّلَ وَنَطْبَعُ عَلَى مَعْنَى وَنَسْتَمِرُّ عَلَى الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَمْكَنَ التَّعَاطُفُ لأنّ الاستمرار لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ الطَّبْعُ قَدْ وَقَعَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ عَلَى أَقْوَى الْوُجُوهِ هُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ فِي الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِصِحَّةِ الْعَطْفِ وَكَانَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْمَعْنَى أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 176. [.....] (2) سورة الفرقان: 25/ 10. (3) سورة الفرقان: 25/ 10.

لِلَّذِينِ نُبْقِيهِمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِهْلَاكِنَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فِيهَا أَنْ نُهْلِكَهُمْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْنَاهُمْ أَيْ بِعِقَابِ ذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أَيْ لَمْ نُهْلِكْهُمْ بِالْعَذَابِ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَقْبَلُونَ وَلَا يَتَّعِظُونَ وَلَا يَنْزَجِرُونَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ إِمَّا الْإِهْلَاكُ وَإِمَّا الطَّبْعُ عَلَى الْقَلْبِ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنَّهُ إِذَا أَهْلَكَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ انْتَهَى. وَالْعَطْفُ فِي وَنَطْبَعُ بالواو يمنع مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ جَعْلَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ إِمَّا الْإِهْلَاكُ وَإِمَّا الطَّبْعُ وَظَاهِرُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَيَنْبُو عَنِ الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ جَعَلْتَ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يَنْبُو عَنْ قَوْلِهِ إِنْ لَمْ نُهْلِكْهُمْ بِالْعَذَابِ وَنَطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَأَوْرَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ فِي الْكُفْرِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الْعَطْفِ فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَيَعْنِي بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجبائي الطّبع سمته فِي الْقَلْبِ مِنْ نُكْتَةٍ سَوْدَاءَ إِنَّ صَاحِبَهَا لَا يُفْلِحُ وَقَالَ الْأَصَمُّ: أَيْ يَلْزَمُهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَلَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الطَّبْعُ الْخِذْلَانُ إِنَّهُ يُخْذَلُ الْكَافِرُ فَيَرَى الْآيَةَ فَلَا يُؤْمِنُ بِهَا وَيَخْتَارُ مَا اعْتَادَ وَأَلِفَ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا الْعَطْفُ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي عَطْفِ وَنَطْبَعُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا ضَعِيفٌ وَالْآخَرُ خَطَأٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ أَوْجُهٌ أَوْ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى أو لم يَهْدِ لَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ يَغْفُلُونَ عَنِ الْهِدَايَةِ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أَوْ عَلَى يَرِثُونَ الْأَرْضَ انْتَهَى فَقَوْلُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ وَهُوَ يَغْفُلُونَ عَنِ الْهِدَايَةِ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذْ قَدْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ فِي الْجُمَلِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ وَقَدْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يَرِثُونَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى يَرِثُونَ كَانَ صِلَةً لِلَّذِينِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنَ الصِّلَةِ وَهُوَ قوله أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ سَوَاءٌ قَدَّرْنَا أَنْ لَوْ نَشاءُ فِي موضع الفاعل ليهد أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ فهو معمول ليهد لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ صِلَةِ الَّذِينَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بِعِقَابِ ذُنُوبِهِمْ أَوْ يُضَمَّنُ أَصَبْناهُمْ مَعْنَى أَهْلَكْنَاهُمْ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْإِضْمَارِ أَوِ التَّضْمِينِ وَنَفْيِ السَّمَاعِ وَالْمَعْنَى نَفْيُ الْقَبُولِ وَالِاتِّعَاظِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى وُجُودِ السَّمَاعِ جَعَلَ انْتِفَاءَ فَائِدَتِهِ انْتِفَاءً لَهُ. تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والْقُرى هِيَ بِلَادُ قَوْمِ

نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ وَجَاءَتِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ هَلَاكِهَا وَتَقَادُمِهِ وَحَصَلَ الرَّبْطُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ونَقُصُّ يُحْتَمَلُ إِبْقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ وَالْمَعْنَى قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَنَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَيْضًا مِنْهَا مُفَرَّقًا فِي السُّوَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ عَنِ الْمَاضِي أَيْ تِلْكَ الْقُرى قَصَصْنَا وَالْإِنْبَاءُ هُنَا إِخْبَارُهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ ومآل عصيانهم، وتِلْكَ مبتدأ والْقُرى خَبَرٌ ونَقُصُّ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ نَحْوُ قَوْلِهِ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» وَفِي الْإِخْبَارِ بِالْقُرَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِمَهْلِكِهَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذلِكَ الْكِتابُ «2» وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أُولَئِكَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ» وَكَقَوْلِ أُمَيَّةَ. تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قِعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ وَلَمَّا كَانَ الْخَبَرُ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ أَفَادَ كَالتَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِكَ هُوَ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ نَقُصُّ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَأَنْ يَكُونَ خبرا والْقُرى صِفَةٌ وَمَعْنَى مِنْ التَّبْعِيضُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْبَاءً أُخَرَ لَمْ تُقَصَّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَصَّ مَا فِيهِ عِظَةٌ وَازْدِجَارٌ وَادِّكَارٌ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ لِيَتَّعِظَ بِذَلِكَ السَّامِعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لِيُؤْمِنُوا الْيَوْمَ بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِ يَوْمِ الْمِيثَاقِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا كَانُوا لِيُخَالِفُوا عِلْمَ اللَّهِ فِيهِمْ، وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رِئَابٍ بِمَا كَذَّبُوا أَسْلَافَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ لِقَوْلِهِ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ «3» فَالْفِعْلُ فِي لِيُؤْمِنُوا لِقَوْمٍ وَفِي بِما كَذَّبُوا لِقَوْمٍ آخَرِينَ وَقِيلَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ الْمُعْجِزَاتِ بِما كَذَّبُوا بِهِ قَبْلَهَا كَمَا قَالَ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ «4» ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مِنْ قَبْلُ يَعُودُ عَلَى الرُّسُلِ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الرُّسُلِ لَمْ يُسْلَبْ عَنْهُمُ اسْمَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بَلْ بَقُوا كَافِرِينَ مُكَذِّبِينَ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الرُّسُلِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ بِمَا كَذَّبُوهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ أَوْ مِمَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَى آخِرِ أَعْمَارِهِمْ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ أَوَّلًا حَتَّى جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ أَيِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ مِنْ لَدُنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ إلى أن مالوا مُصِرِّينَ لَا يَرْعَوُونَ وَلَا تَلِينُ شَكِيمَتُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ مَعَ تَكْرَارِ الْمَوَاعِظِ عَلَيْهِمْ وَتَتَابُعِ الْآيَاتِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَرْبَعَةَ وجوه من التأويل.

_ (1) سورة النمل: 27/ 52. (2) سورة البقرة: 2/ 2. (3) سورة الذاريات: 51/ 52. (4) سورة المائدة: 5/ 102.

أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ لِأَوَّلِ أَمْرِهِ ثُمَّ اسْتَبَانَتْ حُجَّتُهُ وَظَهَرَتِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ مَعَ اسْتِمْرَارِ دَعَوْتِهِ فَلَجُّوا هُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا سَبَقَ بِهِ تَكْذِيبُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَكَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِاللَّجَاجِ فِي الْكُفْرِ وَالصَّرَامَةِ عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ «1» وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَمَا كَانُوا لِيُوَفِّقَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يُمْنَعُوا الْإِيمَانَ بَعْدُ. وَالثَّانِي مِنَ الْوُجُوهِ أَنْ يُرِيدَ فَمَا كَانَ آخِرُهُمْ فِي الزَّمَنِ وَالْعَصْرِ لِيَهْتَدِيَ وَيُؤْمِنَ بِمَا كَذَّبَ بِهِ أَوَّلُهُمْ فِي الزَّمَنِ وَالْعَصْرِ بَلْ كَفَرَ كُلُّهُمْ وَمَشَى بَعْضُهُمْ عَلَى سُنَنِ بَعْضٍ فِي الْكُفْرِ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ النَّقَّاشُ، فَكَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ كانُوا يَخْتَصُّ بِالْآخِرِينَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ كَذَّبُوا يَخْتَصُّ بِالْقُدَمَاءِ مِنْهُمْ. وَالثَّالِثُ مِنَ الْوُجُوهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ بِأَجْمَعِهِمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا وَمُكِّنُوا مِنَ الْعَوْدَةِ لِيُؤْمِنُوا بِمَا قَدْ كَذَّبُوا بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَدَعَا الرَّسُولُ لَهُمْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَرَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «2» وَهَذِهِ أَيْضًا صِفَةٌ بَلِيغَةٌ فِي اللَّجَاجِ وَالثُّبُوتِ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ هِيَ غَايَةٌ فِي ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ مِنَ الْوُجُوهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ فَحَمْلُ سَابِقِ الْقَدَرِ عَلَيْهِمْ بِمَثَابَةِ تَكْذِيبِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَرَجَ تَكْذِيبُهُمْ إِلَى الْوُجُودِ فِي وَقْتِ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْمُفَسِّرُونَ وَقَرَّبُوهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّمَ عَلَيْهِمُ التَّكْذِيبَ وَقْتَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي كانُوا وَفِي لِيُؤْمِنُوا عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَأَنَّ الْبَاءَ فِي بِما لَيْسَتْ سَبَبِيَّةً فَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ انْتَفَتْ عَنْهُمْ قَابِلِيَّةُ الْإِيمَانِ وَقْتَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْمُعْجِزَاتِ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْمُعْجِزَاتِ بَلْ حَالُهُمْ وَاحِدٌ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ وَبَعْدَ ظُهُورِهَا لَمْ تُجْدِ عَنْهُمْ شَيْئًا وَفِي الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي لِيُؤْمِنُوا مُبَالِغَةٌ فِي نَفْيِ الْقَابِلِيَّةِ وَالْوُقُوعِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَسَلُّطِ النَّفْيِ عَلَى الْفِعْلِ بِغَيْرِ لَامٍ وَمَا فِي بِما كَذَّبُوا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَنْصُوبٌ مَحْذُوفٌ أَيْ بِمَا كَذَّبُوهُ وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَجَاءَ هُنَا بِما كَذَّبُوا فَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ التَّكْذِيبِ لَمَّا حَذَفَ الْمُتَعَلِّقَ فِي وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَقَوْلِهِ وَلكِنْ كَذَّبُوا وَفِي يُونُسَ أَبْرَزَهُ فَقَالَ بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ لَمَّا كَانَ قد

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 101. (2) سورة الأنعام: 6/ 28.

أُبْرِزَ فِي فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ ثُمَّ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا «1» فَوَافَقَ الْخَتْمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ انْتَهَى، مُلَخَّصًا. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الْقُرَى حِينَ انْتَفَتْ عَنْهُمْ قَابِلِيَّةُ الْإِيمَانِ وَتَسَاوَى أَمْرُهُمْ فِي الْكُفْرِ قَبْلَ الْمُعْجِزَاتِ وَبَعْدَهَا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّهِ بِالصَّرِيحِ وَبِالْكِنَايَةِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ بِالصَّرِيحِ فَقَالَ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ، وَفِي يُونُسَ بَنَى عَلَى مَا قَبْلَهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي قَوْلِهِ فَنَجَّيْناهُ وجَعَلْناهُمْ ثُمَّ بَعَثْنا فناسب الطبع بِالنُّونِ. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أَيْ لِأَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ أَهْلِ الْقُرَى أَوِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ قَالَهُ التِّبْرِيزِيُّ وَالْعَهْدُ هُنَا هُوَ الَّذِي عُوهِدُوا عَلَيْهِ فِي صُلْبِ آدَمَ قَالَهُ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ الْإِيمَانُ قَالَهُ ابْنُ مسعود ويدلّ عليه إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا وَهُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَالْمَعْنَى مِنْ إِيفَاءٍ بعهد أَوِ الْتِزَامِ عَهْدٍ، وَقِيلَ الْعَهْدُ هُوَ وَضْعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ إِذْ ذَلِكَ عَهْدٌ فِي رِقَابِ الْعُقَلَاءِ كَالْعُقُودِ فَعَبَّرَ عَنْ صَرْفِ عُقُولِهِمْ إِلَى النَّظَرِ فِي ذَلِكَ بِانْتِفَاءِ وجدان العهد ومِنْ فِي مِنْ عَهْدٍ زَائِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِجِنْسِ الْعَهْدِ. وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ إِنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفِّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَوَجَدَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَمَفْعُولُ وَجَدْنا الأولى لِأَكْثَرِهِمْ وَمَفْعُولُ الثَّانِيَةِ لَفاسِقِينَ وَاللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَإِنِ النَّافِيَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «2» وَدَعْوَى بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ إِنَّ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ هِيَ النَّافِيَةُ وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ وَجَدْنَا انْتَهَى، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ إِنَّ إِذَا خُفِّفَتْ كَانَ مَحْذُوفًا مِنْهَا الِاسْمُ وَهُوَ الشَّأْنُ وَالْحَدِيثُ إِبْقَاءً لَهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا تَقْدِيرُ نَظِيرِ ذَلِكَ وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ لَمَّا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ أَخْبَارَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ قَوْمِهِمْ وَكَانَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَتْبَعَ بِقِصَصِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ كَانَتْ مُعْجِزَاتُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَأُمَّتُهُ مِنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ تَكْذِيبًا وَتَعَنُّتًا وَاقْتِرَاحًا وَجَهْلًا وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَالَمٌ وَهُمُ الْيَهُودُ فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قِصَصَهُمْ لِنَعْتَبِرَ وَنَتَّعِظَ وننزجر عن أن

_ (1) سورة يونس: 10/ 73، 74. (2) سورة البقرة: 2/ 143.

نَتَشَبَّهَ بِهِمْ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ بين موسى وشعيب عليها السَّلَامُ مُصَاهَرَةً كَمَا حَكَى الله في كتابه ونسب لِكَوْنِهِمَا مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمَّا اسْتَفْتَحَ قِصَّةَ نُوحٍ بِ أَرْسَلْنا بِنُونِ الْعَظَمَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ قِصَّةَ مُوسَى فَقَالَ: ثُمَّ بَعَثْنا وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَوْ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَالْآيَاتُ الْحُجَجُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ أَوِ الْآيَاتُ التِّسْعُ أَوِ التَّوْرَاةُ أَقْوَالٌ وَتَعْدِيَةُ فَظَلَمُوا بِالْبَاءِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ بِمَعْنَى كَفَرُوا بِهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً أَيْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِهَا أَوِ النَّاسَ حَيْثُ صَدُّوهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ أَوِ الرَّسُولَ فَقَالُوا سِحْرٌ وَتَمْوِيهٌ أَقْوَالٌ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: ظَلَمُوا تِلْكَ النِّعَمَ الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ بِأَنِ اسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّامِعُ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ جَعَلَهُمْ مِثَالًا تَوَعَّدَ بِهِ كَفَرَةَ عَصْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ هَذِهِ مُحَاوَرَةٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ وَخِطَابٌ لَهُ بِأَحْسَنِ مَا يُدْعَى بِهِ وَأَحَبِّهَا إِلَيْهِ إِذْ كَانَ مَنْ مَلَكَ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ فِرْعَوْنٌ كَنُمْرُودَ فِي يُونَانَ، وَقَيْصَرَ فِي الرُّومِ، وَكِسْرَى فِي فَارِسَ، وَالنَّجَاشِيِّ فِي الْحَبَشَةِ وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِرْعَوْنُ وَأَمْثَالُهُ عَلَمًا شَخْصِيًّا بَلْ يَكُونُ عَلَمَ جِنْسٍ كَأُسَامَةَ وَثُعَالَةَ وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ فَاتَحَهُ مُوسَى بِقَوْلِهِ: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لِيُنَبِّهَهُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَأَنَّهُ فِيهِ مُبْطِلٌ لَا مُحِقٌّ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أَرْدَفَهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ جِئْتُكُمْ وَلَمَّا قَرَّرَ رِسَالَتَهُ فَرَّعَ عَلَيْهَا تَبْلِيغَ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَأَرْسِلْ وَلَمْ يُنَازِعْهُ فِرْعَوْنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ طَلَبَ الْمُعْجِزَةَ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لِمُوسَى وَأَنَّ الرِّسَالَةَ مُمْكِنَةٌ لِإِمْكَانِ الْمُعْجِزَةِ إِذْ لَمْ يَدْفَعْ إِمْكَانَهَا بَلْ قَالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الطَّلَبِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِلْمُعْجِزَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَعَلَ عَلى دَاخِلَةً عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعْنَى حَقِيقٌ جَدِيرٌ وَخَلِيقٌ وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وأَنْ لَا أَقُولَ الْأَحْسَنُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِحَقِيقٍ كَأَنَّهُ قِيلَ يَحِقُّ عَلَيَّ كَذَا وَيَجِبُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ لَا أَقُولَ مبتدأ وحَقِيقٌ خَبَرُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ حَقِيقٌ وعَلى أَنْ لَا أَقُولَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ عَلَيَّ بِجَرِّهَا أَنْ لَا أَقُولَ أي

_ (1) سورة لقمان: 31/ 13.

حَقِيقٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ، فَقَالَ قَوْمٌ: ضَمَّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَالْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ: عَلَيَّ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا أَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى عَلَى فِي قَوْلِهِ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ «1» أَيْ عَلَى كُلِّ صِرَاطٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ حَقِيقٌ بِهَذَا الْأَمْرِ وَخَلِيقٌ بِهِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّوْجِيهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَضَعَ مَكَانَ عَلَى الْبَاءَ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمُطَّرِدِ لَوْ قُلْتَ ذَهَبْتُ عَلَى زَيْدٍ تُرِيدُ بِزَيْدٍ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي الْمَشْهُورَةِ إِشْكَالٌ وَلَا يَخْلُو مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ يَكُونَ مِمَّا يُقْلَبُ مِنَ الْكَلَامِ لَا مِنَ الْإِلْبَاسِ كَقَوْلِهِ: وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ وَمَعْنَاهُ وَتَشْقَى الضَّيَاطِرَةُ بِالرِّمَاحِ انْتَهَى هَذَا الْوَجْهُ وَأَصْحَابُنَا يَخُصُّونَ الْقَلْبَ بِالشِّعْرِ وَلَا يُجِيزُونَهُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقِرَاءَةُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْنَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي أَنَّ مَا لَزِمَكَ لَزِمْتَهُ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْحَقِّ حَقِيقًا عَلَيْهِ كَانَ هُوَ حَقِيقًا عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ أَيْ لَازِمًا لَهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّالِثُ أَنْ يُضَمَّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ تَضْمِينَ هَيَّجَنِي مَعْنَى ذَكَّرَنِي فِي بَيْتٍ الْكِتَابَ انْتَهَى يَعْنِي بِالْكِتَابِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَالْبَيْتُ: إِذَا تَغَنَّى الْحَمَامُ الْوُرْقُ هَيَّجَنِي ... وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أُمَّ عَمَّارِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْأَوْجَهُ وَإِلَّا دَخَلَ فِي نُكَتِ الْقُرْآنِ أَنْ يَغْرَقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالصِّدْقِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ قَالَ لَمَّا قَالَ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ كَذَبْتَ فَيَقُولُ أَنَا حَقِيقٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ أَيْ وَاجِبٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ أَنْ أَكُونَ أَنَا قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِمِثْلِي نَاطِقًا بِهِ انْتَهَى وَلَا يَتَّضِحُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا إِنْ عَنَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ صِفَةً كَمَا تَقُولُ أَنَا على قول الحق أي طَرِيقِي وَعَادَتِي قَوْلُ الْحَقِّ، وَقَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ حَقِيقٌ مِنْ نَعْتِ الرَّسُولِ أَيْ رَسُولٌ حَقِيقٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُرْسِلْتُ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَاضِحٌ وَقَدْ غَفَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَرْبَابِ اللُّغَةِ عَنْ تَعْلِيقِ عَلى بِرَسُولٍ وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ تَعْلِيقُهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ حَقِيقٌ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِيهِ تَنَاقُضٌ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَوَّلًا الْعَامِلَ فِي عَلى أُرْسِلْتُ، وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُمْ غَفَلُوا عَنْ تَعْلِيقِ عَلى بِرَسُولٍ فَأَمَّا هَذَا الْآخَرُ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ رَسُولًا قَدْ وُصِفَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مَعْمُولَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وأما التقدير

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 86.

الْأَوَّلُ وَهُوَ إِضْمَارُ أُرْسِلْتُ وَيُفَسِّرُهُ لَفْظُ رَسُولٍ فَهُوَ تَقْدِيرٌ سَائِغٌ وَتَنَاوَلَ كَلَامُ ابْنِ مِقْسَمٍ أَخِيرًا فِي قَوْلِهِ عَنْ تَعْلِيقِ عَلَى بِرَسُولٍ أَيْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ رَسُولٌ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْأَعْمَشُ حَقِيقٌ أَنْ لَا أَقُولَ بِإِسْقَاطِ عَلَى فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ عَلَى كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِهَا وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ كَقِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ يَكُونُ التَّعَلُّقُ بِحَقِيقٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أَخَذَ يَذْكَرُ الْمُعْجِزَةَ وَالْخَارِقَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ وَالْخِطَابُ فِي جِئْتُكُمْ لفرعون وملائه الْحَاضِرِينَ مَعَهُ وَمَعْنَى بِبَيِّنَةٍ بِآيَةٍ بَيِّنَةٍ وَاضِحَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا أَذْكُرُهُ وَالْبَيِّنَةُ قِيلَ: التِّسْعُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَلْقى عَصاهُ الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُونَ هِيَ الْعَصَا وَفِي قَوْلِهِ مِنْ رَبِّكُمْ تَعْرِيضٌ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَيْسَ رَبًّا لَهُمْ بَلْ رَبُّهُمْ هُوَ الَّذِي جَاءَ مُوسَى بِالْبَيِّنَةِ مِنْ عِنْدِهِ فَأَرْسِلْ أَيْ فَخَلِّ وَالْإِرْسَالُ ضِدُّ الْإِمْسَاكِ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ حَتَّى يَذْهَبُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ وَمَوْلِدِ آبَائِهِمُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تُوُفِّيَ وَانْقَرَضَ الْأَسْبَاطُ غَلَبَ فِرْعَوْنُ عَلَى نَسْلِهِمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَكَانُوا يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ الْجَزَاءَ فَاسْتَنْقَذَهُمُ اللَّهُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ بَيْنَ اليوم الذي دخل فيه يُوسُفُ مِصْرَ وَالْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ مُوسَى أَرْبَعُمِائَةٍ عَامٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَطْلُبْ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا إِرْسَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ قَالَ تَعَالَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى «1» وَكُلُّ نَبِيٍّ دَاعٍ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ «2» فَهَذَا وَنَظَائِرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْإِيمَانَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّ مُوسَى لَمْ يَدْعُهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَا إِلَى الْتِزَامِ شَرْعِهِ وَلَيْسَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْقِبْطِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ مُوسَى. قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ لَمَّا عَرَضَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رِسَالَتَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ وَهُوَ مَجِيئُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْخَارِقِ الْمُعْجِزِ اسْتَدْعَى فِرْعَوْنُ مِنْهُ خَرْقَ الْعَادَةِ الدَّالَّ عَلَى الصِّدْقِ وَهَذَا الِاسْتِدْعَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِبَارِ وَتَجْوِيزِهِ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي ذِهْنِ فِرْعَوْنَ أَنَّ مُوسَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَيِّنَةٍ وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَأَحْضِرْهَا عِنْدِي لِتَصِحَّ دَعْوَاكَ ويثبت صدقك.

_ (1) سورة النازعات: 79/ 18. (2) سورة المؤمنون: 23/ 47. [.....]

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ بَدَأَ بِالْعَصَا دُونَ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّهَا مُعْجِزَةٌ تَحْتَوِي عَلَى مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ قَالُوا مِنْهَا أَنَّهُ ضَرَبَ بِهَا بَابَ فِرْعَوْنَ فَفَزِعَ مِنْ قَرْعِهَا فَشَابَ رَأْسُهُ فَخُضِّبَ بِالسَّوَادِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ وَانْقِلَابُهَا ثُعْبَانًا وَانْقِلَابُ خَشَبَةٍ لَحْمًا وَدَمًا قَائِمًا بِهِ الْحَيَاةُ مِنْ أَعْظَمِ الْإِعْجَازِ وَيَحْصُلُ مِنِ انْقِلَابِهَا ثُعْبَانًا مِنَ التَّهْوِيلِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ وَضَرْبُهُ بِهَا الْحَجَرَ فَيَنْفَجِرُ عُيُونًا وَضَرْبُهُ بِهَا فَتُنْبِتُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَارَبَتُهُ بِهَا اللُّصُوصَ وَالسِّبَاعَ الْقَاصِدَةَ غَنَمَهُ وَاشْتِعَالُهَا فِي اللَّيْلِ كَاشْتِعَالِ الشَّمْعَةِ وَصَيْرُورَتِهَا كَالرِّشَا لِيَنْزَحَ بِهَا الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ الْعَمِيقَةِ وَتَلَقُّفُهَا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ الَّتِي لِلسَّحَرَةِ وَإِبْطَالُهَا لِمَا صَنَعُوهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَسِحْرِهِمْ وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَةٌ هُوَ فِي الْأَجْرَامِ وَمَجَازٌ فِي الْمَعَانِي نَحْوُ أَلْقَى الْمَسْأَلَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: صَارَتِ الْعَصَا حَيَّةً عَظِيمَةً شَعْرَاءَ فَاغِرَةً فَاهَا مَا بَيْنَ لِحْيَيْهَا ثَمَانُونَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ عَنْ فَرْقَدٍ وَاضِعَةً أَحَدَ لِحْيَيْهَا بِالْأَرْضِ وَالْآخَرَ عَلَى سُورِ الْقَصْرِ وَذَكَرُوا مِنِ اضْطِرَابِ فِرْعَوْنَ وَفَزَعِهِ وَهَرَبِهِ وَوَعْدِهِ مُوسَى بِالْإِيمَانِ إِنْ عَادَتْ إِلَى حَالِهَا وَكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَزَعًا أَشْيَاءَ لَمْ تَتَعَرَّضْ إِلَيْهَا الْآيَةُ وَلَا تَثْبُتْ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَمَعْنَى مُبِينٌ ظَاهِرٌ لَا تَخْيِيلَ فِيهِ بَلْ هُوَ ثُعْبَانٌ حَقِيقَةً، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَإِذا ظَرْفُ مَكَانٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ خَبَرًا عَنْ جُثَّةٍ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ شُيُوخُنَا أَنَّهَا ظَرْفُ مَكَانٍ كَمَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى سِيبَوَيْهِ وَقَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ خَبَرًا عَنْ جُثَّةٍ لَيْسَتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ خَبَرًا عَنْ جُثَّةٍ بَلْ خَبَرُ هِيَ قَوْلُهُ ثُعْبانٌ وَلَوْ قُلْتَ فَإِذا هِيَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ خَبَرًا عَنْ جُثَّةٍ عَلَى مِثْلِ خَرَجْتُ فَإِذَا السَّبْعُ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ جَعَلَهَا ظَرْفَ مَكَانٍ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ أَنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ هُوَ مَذْهَبُ الرِّيَاشِيِّ وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى سِيبَوَيْهِ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةَ حَرْفٌ لَا اسْمٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ جَذَبَ يَدَهُ قِيلَ مِنْ جَيْبِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ «1» ، وقيل من كمّه ولِلنَّاظِرِينَ أَيْ لِلنُّظَّارِ وَفِي ذِكْرِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ بَيَاضِهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهَا لِلنُّظَّارِ إِلَّا إِذَا كَانَ بَيَاضُهَا عَجِيبًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ كَمَا يَجْتَمِعُ النُّظَّارُ لِلْعَجَائِبِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: بَيْضاءُ كَاللَّبَنِ أَوْ أَشُدُّ بَيَاضًا، وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَظْهَرُ منيرة شفاعة كَالشَّمْسِ ثُمَّ يَرُدُّهَا فَتَرْجِعُ إِلَى لَوْنِ مُوسَى وَكَانَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَارَتْ نُورًا سَاطِعًا يُضِيءُ لَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَهُ لَمَعَانٌ مِثْلُ لَمَعَانِ الْبَرْقِ فَخَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَلَغَنَا أن

_ (1) سورة النمل: 27/ 12.

مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ يَا فِرْعَوْنُ مَا هَذِهِ بِيَدِي قَالَ: هِيَ عَصَا فَأَلْقَاهَا مُوسَى فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ، وَرُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى يَدَ مُوسَى فَقَالَ لِفِرْعَوْنَ مَا هَذِهِ فَقَالَ: يَدُكَ ثُمَّ أَدْخَلَهَا جَيْبَهُ وَعَلَيْهِ مِدْرَعَةُ صُوفٍ وَنَزَعَهَا فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ بَيَاضًا نُورَانِيًّا غَلَبَ شُعَاعُهَا شُعَاعَ الشَّمْسِ وَمَا أَعْجَبَ أَمْرَ هَذَيْنِ الْخَارِقَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ ، وَالْآخَرُ فِي غَيْرِ نَفْسِهِ وَهِيَ الْعَصَا وَجَمَعَ بِذَيْنِكَ تَبَدُّلَ الذَّرَّاتِ وَتَبَدُّلَ الْأَعْرَاضِ فَكَانَا دَالَّيْنِ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّهُمَا كِلَاهُمَا مُمْكِنُ الْوُقُوعِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَرَضَهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُعَارَضَةِ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ بِهِمَا وَخَرَقَ الْعَادَةَ بِهِمَا وَتَحَدَّى النَّاسَ إِلَى الدِّينِ بِهِمَا فَإِذَا جَعَلْنَا التَّحَدِّيَ الدُّعَاءَ إِلَى الدِّينِ مُطْلَقًا فَبِهِمَا تَحَدَّى وَإِذَا جَعَلْنَا التَّحَدِّيَ الدُّعَاءَ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَةِ الْمُعْجِزَةِ وَظُهُورِ ذَلِكَ فَتَنْفَرِدُ حِينَئِذٍ الْعَصَا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْمُعْجِزَ فِيهَا وَقَعَا وَيُقَالُ: التَّحَدِّي هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْمُعْجِزَةِ فَهَذِهِ نَحْوٌ ثَالِثٌ وَعَلَيْهِ يَكُونُ تَحَدِّي مُوسَى بِالْآيَتَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ عَرَضَهُمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِمَا انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ تَثْبِيجٌ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ وَفِي الشُّعَرَاءِ قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «1» وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَهُمْ قَالُوا هَذَا الْكَلَامَ فَحَكَى هُنَا قَوْلَهُمْ وَهُنَاكَ قَوْلَهُ أَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً فَتَلَقَّفَهُ مِنْهُ الْمَلَأُ فَقَالُوهُ لِأَعْقَابِهِمْ أَوْ قَالُوهُ عَنْهُ لِلنَّاسِ عَلَى طَرِيقِ التَّبْلِيغِ كَمَا تَفْعَلُ الْمُلُوكُ يَرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الرَّأْيَ فَيُكَلِّمُ بِهِ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْخَاصَّةِ ثُمَّ تُبْلِغُهُ الْخَاصَّةُ الْعَامَّةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ أَجَابُوهُ فِي قولهم أَرْجِهْ وَكَانَ السِّحْرُ إِذْ ذَاكَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فَلَمَّا رَأَوُا انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَالْأَدْمَاءَ بَيْضَاءَ وَأَنْكَرُوا النُّبُوَّةَ وَدَافَعُوهُ عَنْهَا قَصَدُوا ذَمَّهُ بِوَصْفِهِ بِالسِّحْرِ وَحَطِّ قَدْرِهِ إِذْ لَمْ يُمْكِنُهُمْ فِي ظُهُورِ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِهِ نِسْبَةُ شَيْءٍ إِلَيْهِ غَيْرَ السِّحْرِ وَبَالَغُوا فِي وَصْفِهِ بِأَنْ قَالُوا: عَلِيمٍ أَيْ بَالِغُ الْغَايَةِ فِي عِلْمِ السِّحْرِ وَخُدَعِهِ وَخَيَالَاتِهِ وَفُنُونِهِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ هَذَا إِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ فِي التَّنَقُّصِ وَالِاسْتِغْرَابِ كَمَا قَالَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ «2» ، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا «3» ، إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ «4» مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «5» إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «6» إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «7» يَعْدِلُونَ عَنْ لَفْظِ اسْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَى لَفْظِ الْإِشَارَةِ وَأَكَدُّوا نِسْبَةَ السِّحْرِ إِلَيْهِ بِدُخُولِ إِنَّ واللام.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 34. (2) سورة الأنبياء: 21/ 36. (3) سورة الفرقان: 25/ 41. (4) سورة الأنعام: 6/ 25. (5) سورة المؤمنون: 23/ 24. (6) سورة طه: 20/ 63. (7) سورة الأنفال: 8/ 32.

مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى قَرْيَةٍ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: هِيَ الْفَرَمَا يُعَلِّمُونَهُمُ السِّحْرَ كَمَا يُعَلِّمُونَ الصِّبْيَانَ فِي الْمَكْتَبِ فَعَلَّمُوهُمْ سِحْرًا كَثِيرًا وَوَاعَدَ فِرْعَوْنُ مُوسَى مَوْعِدًا ثُمَّ دَعَاهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتُمْ قَالُوا عَلَّمْنَاهُمْ مِنَ السِّحْرِ مَا لَا يُقَاوِمُهُمْ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ بِكُلِّ سَحَّارٍ هُنَا وَفِي يُونُسَ وَالْبَاقُونَ لَساحِرٌ وَفِي الشُّعَرَاءِ أَجْمَعُوا عَلَى سَحَّارٍ وَتُنَاسِبُ سَحَّارٌ عَلِيمٌ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَلْفَاظِ الْمُبَالَغَةِ وَلَمَّا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «1» نَاسَبَ هُنَا أَنْ يُقَابِلَ بِقَوْلِهِ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى وَتَقْدِيرُهُ فَأَرْسِلْ حَاشِرِينَ وَجَمَعُوا السحرة وأمرهم بالمجيء واضطراب النَّاقِلُونَ لِلْأَخْبَارِ فِي عَدَدِهِمْ اضْطِرَابًا مُتَنَاقِضًا يَعْجَبُ الْعَاقِلُ مِنْ تَسْطِيرِهِ فِي الْكُتُبِ فَمِنْ قَائِلٍ تِسْعُمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ وَقَائِلٍ سَبْعِينَ سَاحِرًا فَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَعْدَادِ الْمُعَيَّنَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ وَجاءَ قَالُوا: بِغَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِ سَائِلٍ سَأَلَ مَا قَالُوهُ إِذْ جَاءَ قَالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أَيْ جُعْلًا، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وقالُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْعَامِلُ جاءَ، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَحَفْصٌ إِنَّ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ وَاشْتِرَاطُ الْأَجْرِ وَإِيجَابُهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْغَلَبَةِ وَلَا يُرِيدُونَ مُطْلَقَ الْأَجْرِ بَلِ الْمَعْنَى لَأَجْرًا عَظِيمًا وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ إِنَّ لَهُ لَإِبِلًا وَإِنَّ لَهُ لَغَنَمًا يَقْصِدُونَ الْكَثْرَةَ وَجَوَّزَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ تَكُونَ إِنَّ اسْتِفْهَامًا حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَةُ كَقِرَاءَةِ الْبَاقِينَ الَّذِينَ أَثْبَتُوهَا وَهُمُ الْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَهُمَا وَمِنْهُمْ مَنْ سَهَّلَ الثَّانِيَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا أَلِفًا وَالْخِلَافُ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ وَفِي خِطَابِ السَّحَرَةِ بِذَلِكَ لِفِرْعَوْنَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِطَالَتِهِمْ عَلَيْهِ بِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِمْ وَبِمَا يَحْصُلُ لِلْعَالِمِ بِالشَّيْءِ مِنَ التَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَعَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُ مثل علمه ونَحْنُ إِمَّا تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ وَإِمَّا فَصْلٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ فِي جَوَابِهِ مَا تَقَدَّمَ. قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ نَعَمْ إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا وَإِنَّكُمْ فَعَطَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ بَعْدَ نَعَمْ الَّتِي هِيَ نَائِبَةٌ عَنْهَا وَالْمَعْنَى لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ مِنِّي أَيْ لَا أَقْتَصِرُ لَكُمْ عَلَى الْجُعْلِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَلَبَةِ مُوسَى بَلْ أَزِيدُكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَتَحُوزُونَ إِلَى الْأَجْرِ الْكَرَامَةَ وَالرِّفْعَةَ وَالْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ وَالْمَثَابَ إِنَّمَا يَتَهَنَّى وَيَغْتَبِطُ به إذا حاز

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 109.

إِلَى ذَلِكَ الْإِكْرَامَ، وَفِي مُبَادَرَةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ بِالْوَعْدِ وَالتَّقْرِيبِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ اضْطِرَارِهِ لَهُمْ وَإِنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ وَلِذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى السَّحَرَةِ فِي دَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَخْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ أَدَبٌ حَسَنٌ رَاعَوْهُ مَعَهُ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ إِذَا الْتَقَوْا كَالْمُتَنَاظِرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَخَاوَضُوا فِي الْجِدَالِ وَالْمُتَصَارِعَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا فِي الصِّرَاعِ انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَأَدَّبُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِمْ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَخْيِيرَهُمْ إِيَّاهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِدْلَالِ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنَ السِّحْرِ وَإِيهَامِ الْغَلَبَةِ وَالثِّقَةِ بِأَنْفُسِهِمْ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ وَالِابْتِهَالِ بِأَمْرِ مُوسَى كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ لِسِيبَوَيْهِ حِينَ جَمَعَ الرَّشِيدُ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ أَتَسْأَلُ فَأُجِيبُ أم أبتدىء وَتُجِيبُ فَهَذَا جَاءَ التَّخْيِيرُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْلَالِ بِنَفْسِهِ وَالْمَلَاءَةِ بِمَا عِنْدَهُ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمُنَاظَرَتِهِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي أَنْ يُلْقُوا قَبْلَهُ مِنْ تَأْكِيدِ ضَمِيرِهِمُ الْمُتَّصِلِ بِالْمُنْفَصِلِ وَتَعْرِيفِ الْخَبَرِ وَإِقْحَامِ الْفَصْلِ انْتَهَى، وَأَجَازُوا فِي أَنْ تُلْقِيَ وَفِي أَنْ نَكُونَ النَّصْبَ أَيِ اخْتِرْ وَافْعَلْ إِمَّا إِلْقَاءَكَ وَإِمَّا إِلْقَاءَنَا وَالْمَعْنَى فِيهِ الْبُدَاءَةُ والدّفع أي إما إِلْقَاؤُكَ مَبْدُوءٌ بِهِ وَإِمَّا إِلْقَاؤُنَا فَيَكُونُ مُبْتَدَأً أَوْ إِمَّا أَمْرُكَ الْإِلْقَاءُ أَيِ الْبُدَاءَةُ بِهِ أَوْ إِمَّا أَمْرُنَا الْإِلْقَاءُ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَدَخَلَتْ أَنْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ وَحْدَهُ مَفْعُولًا وَلَا مُبْتَدَأً بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ «1» فَالْفِعْلُ بَعْدَ إِمَّا هُنَا خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ وَآخَرُونَ أَوْ صِفَةٌ فَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ أَنْ وَمَفْعُولِ تُلْقِيَ مَحْذُوفٌ أَيْ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عَصَاكَ وَكَذَلِكَ مَفْعُولُ الْمُلْقِينَ أي الملقين العصى وَالْحِبَالَ. قالَ أَلْقُوا أَعْطَاهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّقَدُّمَ وُثُوقًا بِالْحَقِّ وَعِلْمًا أَنَّهُ تَعَالَى يُبْطِلُهُ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ. «2» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ سَوَّغَ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا تَرَاغَبُوا فِيهِ ازْدِرَاءً لِشَأْنِهِمْ وَثِقَةً بِمَا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ السَّمَاوِيِّ وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَمْ يَغْلِبْهَا سِحْرٌ أَبَدًا انْتَهَى وَالْمَعْنَى أَلْقُوا حِبَالَكُمْ وَعِصِيَّكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِلْقَاءِ. وَقِيلَ هُوَ تَهْدِيدٌ أَيْ فَسَتَرَوْنَ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنَ الِافْتِضَاحِ. فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أَيْ أَرَوُا الْعُيُونَ بِالْحِيَلِ وَالتَّخَيُّلَاتِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «3»

_ (1) سورة التوبة: 9/ 106. (2) سورة يونس: 10/ 81. (3) سورة طه: 20/ 66.

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ اسْتَشْعَرَتْ نُفُوسُهُمْ مَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَخُلُوِّ مَوَاطِنِهِمْ مِنْهُمْ وَخَرَابِ بُيُوتِهِمْ فَبَادَرُوا إِلَى الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا اسْتَشْعَرُوا إِذْ غَرَّقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَآلَهُ وَأَخْلَى مَنَازِلَهُمْ مِنْهُمْ وَنَبَّهُوا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ الصَّعْبِ الَّذِي هُوَ مُعَادِلٌ لِقَتْلِ الْأَنْفُسِ كَمَا قَالَ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ «1» وَأَرَادَ بِهِ إِحْرَاجَهُمْ إِمَّا بِكَوْنِهِ يَحْكُمُ فِيكُمْ بِإِرْسَالِ خَدَمِكُمْ وَعَمَارِ أَرْضِكُمْ مَعَهُ حَيْثُ يَسِيرُ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى خَرَابِ دِيَارِكُمْ وَإِمَّا بِكَوْنِهِمْ خَافُوا مِنْهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ بِمَنْ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَغْلِبَ عَلَى مُلْكِهِمْ قَالَ النَّقَّاشُ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَرْجًا كَالْجِزْيَةِ فَرَأَوْا أَنَّ مُلْكَهُمْ يَذْهَبُ بِزَوَالِ ذَلِكَ وَجَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِسِحْرِهِ «2» وَهُنَا حُذِفَتْ لِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى هُنَا بُنِيَتْ عَلَى الِاخْتِصَارِ فَنَاسَبَتِ الْحَذْفَ وَلِأَنَّ لَفْظَ سَاحِرٍ يَدُلُّ عَلَى السحر وفَماذا تَأْمُرُونَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ أَوْ مِنْ قَوْلِ الْمَلَأِ إِمَّا لِفِرْعَوْنَ وَأَصْحَابِهِ وَإِمَّا لَهُ وَحْدَهُ كَمَا يُخَاطَبُ أَفْرَادُ الْعُظَمَاءِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ مِنَ الْأَمْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ تُشِيرُونَ بِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَمَرْتُهُ فَأَمَرَنِي بِكَذَا أَيْ شَاوَرْتُهُ فَأَشَارَ عَلَيْكَ بِرَأْيٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَأْمُرُونَ بِفَتْحِ النُّونِ هُنَا وَفِي الشُّعَرَاءِ وَرَوَى كَرْدَمٌ عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ النُّونِ فِيهِمَا وَمَاذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا اسْتِفَهَامًا وَتَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَأْمُرُونِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ فِيهِ بِأَنْ حَذَفَ مِنْهُ حَرْفَ الْجَرِّ كَمَا قَالَ أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى أَيْ أَيُّ شَيْءٍ تَأْمُرُونَنِي وَأَصْلُهُ بِأَيِّ شَيْءٍ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا مبتدأ وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرٌ عَنْهُ وتَأْمُرُونَ صِلَةَ ذَا وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ مَفْعُولَيْ تَأْمُرُونَ الْأَوَّلُ وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالثَّانِي وَهُوَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَالتَّقْدِيرُ فَأَيُّ شَيْءِ الَّذِي تَأْمُرُونَنِيهِ أَيْ تَأْمُرُنَنِي بِهِ وَكِلَا الْإِعْرَابَيْنِ فِي مَاذَا جَائِزٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ النُّونَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ وَأَبْقَى الْكَسْرَةَ دَلَالَةً عَلَيْهَا وَقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى ذَا إِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً مَقْرُونَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ فَقَالَ وَفِي تَأْمُرُونَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي تَقْدِيرُهُ تَأْمُرُونَ بِهِ انْتَهَى، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِفَوَاتِ شَرْطِ جَوَازِ حَذْفِ الضَّمِيرِ إِذَا كَانَ مَجْرُورًا بِحَرْفِ الْجَرِّ وَذَلِكَ الشَّرْطُ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَأَنْ يَجُرَّ ذَلِكَ الْحَرْفُ الْمَوْصُولُ أَوِ الْمَوْصُوفُ بِهِ أَوِ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَيَتَّحِدَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ الْحَرْفَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَيَتَّحِدَ مَعْنَى الْحَرْفِ أَيْضًا لِابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَى الْأَصْلِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْحُرُوفِ ثُمَّ حُذِفَ بَعْدَ الِاتِّسَاعِ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 66. (2) سورة الشعراء: 26/ 35. [.....]

قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أَيْ قَالَ مَنْ حَضَرَ مُنَاظَرَةَ مُوسَى مِنْ عُقَلَاءِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِهِ قِيلَ: وَلَمْ يَكُنْ يُجَالِسُ فِرْعَوْنَ وَلَدُ غَيَّةٍ وَإِنَّمَا كَانُوا أَشْرَافًا وَلِذَلِكَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْإِرْجَاءِ وَلَمْ يُشِيرُوا بِالْقَتْلِ وَقَالُوا: إِنْ قَتَلْتَهُ دَخَلَتْ عَلَى النَّاسِ شُبْهَةٌ وَلَكِنِ اغْلِبْهُ بالحجة وقرىء بِالْهَمْزِ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى احْبِسْهُ، وَقِيلَ أَرْجِهْ بِغَيْرِ هَمْزٍ أَطْمِعْهُ جَعَلَهُ مِنْ رَجَوْتَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ هَمْزَةَ الْفِعْلِ أَيْ أَطْمِعْهُ وَأَخاهُ وَلَا تَقْتُلْهُمَا حَتَّى يَظْهَرَ كَذِبَهُمَا فَإِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَهُمَا ظُنَّ أَنَّهُمَا صَدَقَا وَلَمْ يَجْرِ لِهَارُونَ ذِكْرٌ فِي صَدْرِ الْقِصَّةِ وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ غَيْرِ آيَةٍ أَنَّهُمَا ذَهَبَا مَعًا وَأُرْسِلَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَلَمَّا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي دَعْوَاهُ وَمُؤَازِرًا أَشَارُوا بِإِرْجَائِهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ أَرْجِئْهُو بِالْهَمْزِ وَضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِوَاوٍ، وَأَبُو عَمْرٍو كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ هِشَامٍ وَعَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَرَأَ وَرْشٌ وَالْكِسَائِيُّ أَرْجِهِي بِغَيْرِ هَمْزٍ وَبِكَسْرِ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِيَاءٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَسَكَّنَا الْهَاءَ وَقَرَأَ قَالُونُ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَمُخْتَلِسٌ كَسْرَةَ الْهَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ فِي رِوَايَةٍ كَقِرَاءَةِ وَرْشٍ وَالْكِسَائِيِّ وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَرْجِئْهِ بِالْهَمْزِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَصِلُهَا بِيَاءٍ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ أَرْجِئْهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ بِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَهَذَا غَلَطٌ انْتَهَى، وَنِسْبَةُ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِابْنِ عَامِرٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الَّذِي رَوَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ لَا هِشَامٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ فَيَقُولَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ ضَمُّ الْهَاءِ مَعَ الْهَمْزِ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ قَالَ: وَرِوَايَةُ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ غَلَطٌ وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ بَعْدَهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْهَاءَ لَا تُكْسَرُ إِلَّا إِذَا وَقَعَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ أَوْ يَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ يَكْسِرُ مَعَ الْهَمْزِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْهَاءِ مَعَ الْهَمْزِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْهَمْزَ حَرْفٌ صَحِيحٌ سَاكِنٌ فَلَيْسَ قَبْلَ الْهَاءِ مَا يَقْتَضِي الْكَسْرَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ الْهَاءَ كَسْرَةَ الْجِيمِ وَالْحَاجِزُ غَيْرُ حَصِينٍ وَيَخْرُجُ أَيْضًا عَلَى تَوَهُّمِ إِبْدَالِ الْهَمْزِ يَاءً أَوْ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَ لَمَّا كَانَ كَثِيرًا مَا يُبَدَّلُ بِحَرْفِ الْعِلَّةِ أُجْرِي مَجْرَى حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي كَسْرِ مَا بَعْدَهُ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ غَلَطِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ ثَابِتَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ رَوَتْهَا الْأَكَابِرُ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَتَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَلَهَا تَوْجِيهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ كَغَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّغْيِيرِ بِالْإِبْدَالِ وَالْحَرْفِ بِالنَّقْلِ وَغَيْرِهِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ الْمَدائِنِ مَدَائِنُ مِصْرَ وَقُرَاهَا وَالْحَاشِرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُمْ أَصْحَابُ الشُّرَطِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ لَمَّا رَأَى فِرْعَوْنَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا رَأَى قَالَ: لَنْ نُغَالِبَ مُوسَى إِلَّا بِمَنْ هُوَ منه فاتخذ غلمانا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 إلى 139]

وَفِي قَوْلِهِ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا يَقْلِبُ عَيْنًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّخَيُّلِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أَيْ أَرْهَبُوهُمْ وَاسْتَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَأَبَلَّ وَاسْتَبَلَّ وَالرَّهْبَةُ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَأَرْهَبُوهُمْ إِرْهَابًا شَدِيدًا كَأَنَّهُمُ اسْتَدْعَوْا رَهْبَتَهُمُ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ بِمَعْنَى وَأَرْهَبُوهُمْ فَكَانَ فِعْلُهُمُ اقْتَضَى وَاسْتَدَعَى الرَّهْبَةَ مِنَ النَّاسِ انْتَهَى وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَا لِأَنَّ الِاسْتِدْعَاءَ وَالطَّلَبَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الْمُسْتَدْعَى وَالْمَطْلُوبِ وَالظَّاهِرُ هُنَا حُصُولُ الرَّهْبَةِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ اسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافِقُ أَفْعَلَ وَصَرَّحَ أَبُو الْبَقَاءِ بِأَنَّ مَعْنَى اسْتَرْهَبُوهُمْ طَلَبُوا مِنْهُمُ الرَّهْبَةَ وَوَصَفَ السِّحْرَ بِعَظِيمٍ لِقُوَّةِ مَا خُيِّلَ أَوْ لِكَثْرَةِ آلَاتِهِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ رُوِيَ أَنَّهُمْ جاؤوا بِحِبَالٍ مَنْ أَدَمٍ وَأَخْشَابٍ مجوفة مملوءة زيبقا وَأَوْقَدُوا فِي الْوَادِي نَارًا فَحَمِيَتْ بِالنَّارِ مِنْ تَحْتٍ وَبِالشَّمْسِ مِنْ فَوْقٍ فَتَحَرَّكَتْ وَرَكِبَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَهَذَا مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ وَالدَّكِّ وَرُوِيَ غَيْرُ هَذَا مِنْ حِيَلِهِمْ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ قَالَ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا فَلَمَّا أَلْقَوْا وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ الْفَاءُ جَوَابُ الْأَمْرِ انْتَهَى، وَهُوَ لَا يُعْقَلُ مَا قَالَ وَنَقُولُ وُصِفَ بِعَظِيمٍ لِمَا ظَهَرَ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي هِيَ الْأَعْيُنُ بِمَا لَحِقَهَا مِنْ تَخْيِيلِ الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ حَيَّاتٌ وَفِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي هِيَ الْقُلُوبُ بِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّهْبَةُ نَاشِئَةً عَنْ رُؤْيَةِ الْأَعْيُنِ تَأَخَّرَتِ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (139)

لَقِفَ الشَّيْءَ لَقْفًا وَلَقَفَانًا أَخَذَهُ بِسُرْعَةٍ فَأَكَلَهُ أَوِ ابْتَلَعَهُ وَرَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ سَرِيعُ الْأَخْذِ وَلَقِيفٌ ثَقِيفٌ بَيِّنُ الثَّقَافَةِ وَاللَّقَافَةِ وَلَقِمَ وَلَهِمَ وَلَقِفَ بِمَعْنًى وَمِنْهُ التقفته وتلقفته تلقيفا. مَهْمَا اسْمٌ خِلَافًا لِلسُّهَيْلِيِّ إِذْ زَعَمَ أَنَّهَا قَدْ تَأْتِي حَرْفًا وَهِيَ أَدَاةُ شَرْطٍ وَنَدَرَ الِاسْتِفْهَامُ بِهَا فِي قَوْلِهِ: مَهْمَا لِيَ الليلة مهماليه ... أَوْدَى بِنَعْلَيَّ وَسِرْبَالِيَهْ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا إِذَا كَانَتِ اسْمَ شَرْطٍ قَدْ تَأْتِي ظَرْفَ زَمَانٍ وَفِي بَسَاطَتِهَا وتركيبها من ماما أَوْ مِنْ مَهْ مَا خِلَافٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَمَاوِيُّ مَهْ مَنْ يَسْتَمِعْ فِي صَدِيقِهِ ... أَقَاوِيلَ هَذَا النَّاسِ مَاوِيُّ يَنْدَمِ

عَلَى أَنَّهُ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا بَلْ مَهْ بِمَعْنَى اكْفُفْ وَمَنْ هِيَ اسْمُ الشَّرْطِ، الْجَرَادُ مَعْرُوفٌ وَاحِدُهُ جَرَادَةٌ بِالتَّاءِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَيُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا الْوَصْفُ وَذَكَرَ التَّصْرِيفِيُّونَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَرَادِ قَالُوا وَالِاشْتِقَاقُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ قَلِيلٌ جِدًّا. الْقُمَّلُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْحَمْنَانُ وَاحِدُهُ حَمْنَانَةٌ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ وَسَتَأْتِي أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ. الضِّفْدَعُ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ وَتُكْسَرُ دَالَهُ وَتُفْتَحُ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ وَشَذَّ جَمْعُهُمْ لَهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ قَالُوا: ضِفْدَعَاتٌ. النَّكْثُ النَّقْضُ. الْيَمُّ الْبَحْرُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: داوية وَدُجَى لَيْلٍ كَأَنَّهُمَا ... يَمٌّ تَرَاطَنَ فِي حَافَاتِهِ الرُّومُ وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي فَتَيَمَّمُوا إِلَّا أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ قَالَ: الْيَمُّ الْبَحْرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقِيلَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ. التَّدْمِيرُ الْإِهْلَاكُ وَإِخْرَابُ الْبِنَاءِ. التَّتْبِيرُ الْإِهْلَاكُ وَمِنْهُ التِّبْرُ لِتَهَالُكِ النَّاسِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْكِرْمَانِيُّ: التَّتْبِيرُ الْإِهْلَاكُ وَسُوءُ الْعُقْبَى وَأَصْلُهُ الْكَسْرُ وَمِنْهُ تِبْرُ الذَّهَبِ لِأَنَّهُ كِسَارُهُ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَحْيُ إِعْلَامٍ كَمَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَاهُ وَقَالَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تُلْقِيَ عَصَاكَ وَكَوْنُهُ وَحْيَ إِعْلَامٍ فِيهِ تَثْبِيتٌ لِلْجَأْشِ وَتَبْشِيرٌ بِالنَّصْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ وَحْيُ إِلْهَامٍ أُلْقِيَ ذَلِكَ فِي رُوعِهِ وَأَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُفَسِّرَةَ وَأَنْ تَكُونَ النَّاصِبَةَ أَيْ بِأَنْ أَلْقِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ قَبْلَ الْجُمْلَةِ الْفُجَائِيَّةِ أَيْ فَأَلْقَاهَا فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْفُجَائِيَّةُ إِخْبَارًا بِمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْإِلْقَاءِ وَلَا يَكُونُ مُوحًى بِهَا فِي الذِّكْرِ وَمَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي نَحْوِ خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ زَائِدَةٌ يُحْتَمَلُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُوحًى بِهَا فِي الذِّكْرِ إِلَّا أَنَّهُ يُقَدَّرُ الْمَحْذُوفُ بَعْدَهَا أَيْ فَأَلْقَاهَا فَلَقِفَتْهُ، وَقَرَأَ حَفْصٌ تَلْقَفُ بِسُكُونِ اللَّامِ مِنْ لَقِفَ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ تَلْقَفُ مُضَارِعُ لَقَّفَ حُذِفَتْ إِحْدَى تَاءَيْهِ إِذِ الْأَصْلُ تَتَلَقَّفُ، وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ بِإِدْغَامِ تَاءِ الْمُضَارِعَةِ فِي التَّاءِ فِي الْأَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ تَلْقَمُ بِالْمِيمِ أَيْ تَبْلَعُ كَاللُّقْمَةِ وَمَا مَوْصُولَةٌ أَيْ مَا يَأْفِكُونَهُ أَيْ يَقْلِبُونَهُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيُزَوِّرُونَهُ قَالُوا أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ تَلْقَفُ إِفْكَهُمْ تَسْمِيَةٌ لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ. رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كان يوم الجمع خَرَجَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَاهُ وَيَدُهُ فِي يَدِ أَخِيهِ وَقَدْ صُفَّ لَهُ السَّحَرَةُ فِي عَدَدٍ عَظِيمٍ فَلَمَّا أَلْقَوْا وَاسْتَرْهَبُوا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَلْقَى فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَانَ كَالْجَبَلِ ، وَقِيلَ: طَالَ حَتَّى جَازَ النِّيلَ، وَقِيلَ: طَالَ حَتَّى جَازَ بِذَنَبِهِ بَحْرَ الْقُلْزُمِ، وَقِيلَ كَانَ الْجَمْعُ بِإِسْكِنْدِرِيَّةَ وَطَالَ حَتَّى جَازَ مَدِينَةَ

الْبُحَيْرَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا يَرْقَوْنَ وَحِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ تَعْظُمُ وَعَصَا مُوسَى تَعْظُمُ حَتَّى سَدَّتِ الْأُفُقَ وَابْتَلَعَتِ الْكُلَّ وَرَجَعَتْ بَعْدُ عَصًا وَأَعْدَمَ اللَّهُ الْعِصِيَّ وَالْحِبَالَ وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ فِي الثُّعْبَانِ فَعَادَ عَصًا كَمَا كَانَ فَعَلِمَ السَّحَرَةُ حِينَئِذٍ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ عِنْدِ الْبَشَرِ فَخَرُّوا سُجَّدًا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَعْدَمَ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ تِلْكَ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ أَوْ فَرَّقَهَا أَجْزَاءً لَطِيفَةً وَقَالَتِ السَّحَرَةُ لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا لَبَقِيَتْ حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ ظَهَرَ وَاسْتَبَانَ، وَقَالَ أَرْبَابُ الْمَعَانِي الْوُقُوعُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بِوُجُودِهِ نَازِلًا إِلَى مُسْتَقَرِّهِ، قَالَ الْقَاضِي: فَوَقَعَ الْحَقُّ يُفِيدُ قُوَّةَ الظُّهُورِ وَالثُّبُوتِ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْبُطْلَانُ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْوَاقِعِ أَنْ يَصِيرَ إِلَّا وَاقِعًا وَمَعَ ثبوت الحقّ بطلت وَزَالَتْ تِلْكَ الْأَعْيَانُ الَّتِي أَتَوْا بِهَا وَهِيَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ فَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ فَأَثَّرَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِمْ فَأْسٌ وَقِيعٌ أي مجرد انتهى، وما كانُوا يَعْمَلُونَ يَعُمُّ سِحْرَ السَّحَرَةِ وَسَعْيَ فِرْعَوْنَ وَشِيعَتِهِ. فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أَيْ غُلِبَ جَمِيعُهُمْ فِي مَكَانِ اجْتِمَاعِهِمْ أَوْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَانْقَلَبُوا أَذِلَّاءَ وَذَلِكَ أَنَّ الِانْقِلَابَ إِنْ كَانَ قَبْلَ إِيمَانِ السَّحَرَةِ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي ضَمِيرِ انْقَلَبُوا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَلَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي الضَّمِيرِ وَلَا لِحَقَهُمْ صَغَارٌ يَصِفُهُمُ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَاسْتَشْهَدُوا وَهَذَا إِذَا كَانَ الِانْقِلَابُ حَقِيقَةً أَمَّا إِذَا لُوحِظَ فِيهِ مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ فَالضَّمِيرُ فِي وَانْقَلَبُوا شَامِلٌ لِلسَّحَرَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ وَصَارُوا أَذِلَّاءَ مَبْهُوتِينَ. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ قَبْلُ مُشْتَرِكًا جُرِّدَ الْمُؤْمِنُونَ وَأُفْرِدُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَعْنَى خَرُّوا سُجَّدًا كَأَنَّمَا أَلْقَاهُمْ مُلْقٍ لِشِدَّةِ خَرُورِهِمْ، وَقِيلَ: لَمْ يَتَمَالَكُوا مِمَّا رَأَوْا فَكَأَنَّهُمْ أَلْقَوْا وَسُجُودُهُمْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى لَمَّا رَأَوْا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَيَقَّنُوا نُبُوَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَعْظَمُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: أَلْقَاهُمُ اللَّهُ سُجَّدًا سَبَّبَ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى مَا وَقَعُوا بِهِ سَاجِدِينَ، وَقِيلَ سَجَدُوا مُوَافَقَةً لِمُوسَى وَهَارُونَ فَإِنَّهُمَا سَجَدَا لِلَّهِ شُكْرًا عَلَى وُقُوعِ الْحَقِّ فَوَافَقُوهُمَا إِذْ عَرَفُوا الْحَقَّ فَكَأَنَّمَا أَلْقَيَاهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَوَّلَ النَّهَارِ كُفَّارًا سَحَرَةً وَفِي آخِرِهِ شُهَدَاءَ بَرَرَةً، وَقَالَ الْحَسَنُ: تَرَاهُ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ وَنَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُ دِينَهُ بِكَذَا وَكَذَا وهؤلاء كفار نشؤوا فِي الْكُفْرِ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أَيْ سَاجِدِينَ قَائِلِينَ فَقَالُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ساجِدِينَ أَوْ مِنَ السَّحَرَةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالسُّجُودِ لِلَّهِ شُكْرًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْقَوْلِ الْمُنْبِئِ عَنِ التَّصْدِيقِ الَّذِي مَحَلُّهُ الْقُلُوبُ وَلَمَّا كَانَ السجود أعظم القرب إِذْ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ بَادَرُوا بِهِ مُتَلَبِّسِينَ بِالْقَوْلِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الْقَادِرِ عَلَيْهِ إِذِ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَقَالُوا رَبَّ الْعَالَمِينَ وِفَاقًا لِقَوْلِ مُوسَى إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَمَّا كَانَ قَدْ يُوهِمُ هَذَا اللَّفْظُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى نَصُّوا بِالْبَدَلِ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وَأَنَّهُمْ فَارَقُوا فِرْعَوْنَ وَكَفَرُوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَمِيعُ السَّحَرَةِ، وَقِيلَ: بَلْ قَالَهُ رؤساؤهم وسمى بن إِسْحَاقَ مِنْهُمُ الرُّؤَسَاءَ فَقَالَ هُمْ سَابُورُ وَعَازُورُ وَخَطْخَطُ وَمُصَفَّى وَحَكَاهُ ابْنُ مَاكُولَا أَيْضًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَكْبُرُهُمْ شمعون وبدأوا بِمُوسَى قَبْلَ هَارُونَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ مُوسَى قِيلَ بِثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي نَاظَرَ فِرْعَوْنَ وَظَهَرَتِ الْمُعْجِزَتَانِ فِي يَدِهِ وَعَصَاهُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَهارُونَ فَاصِلَةٌ وَجَاءَ فِي طه بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى «1» لِأَنَّ مُوسَى فِيهَا فَاصِلَةٌ وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُرَتَّبًا مِنْ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ فَنَسَبَ فِعْلَ بَعْضٍ إِلَى الْمَجْمُوعِ فِي سُورَةٍ وَبَعْضٍ إِلَى الْمَجْمُوعِ فِي شورة أُخْرَى، قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا كَامِلِينَ فِي عِلْمِ السِّحْرِ عَلِمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى حَقٌّ خَارِجٌ عَنْ جِنْسِ السِّحْرِ وَلَوْلَا الْعِلْمُ لَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ سِحْرٌ وَأَنَّهُ أَسْحَرُ مِنْهُمْ. قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قَرَأَ حَفْصٌ آمَنْتُمْ عَلَى الْخَبَرِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ أَيْ فَعَلْتُمْ هَذَا الْفِعْلَ الشَّنِيعَ وَبَّخَهُمْ بِذَلِكَ وَقَرَّعَهُمْ، وَقَرَأَ العربين وَنَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَمَدَّةٍ بَعْدَهَا مُطَوَّلَةٍ فِي تَقْدِيرِ أَلِفَيْنِ إِلَّا وَرْشًا فَإِنَّهُ يُسَهِّلُ الثَّانِيَةَ وَلَمْ يُدْخِلْ أَحَدٌ أَلِفًا بَيْنَ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُلَيَّنَةِ وَكَذَلِكَ فِي طه وَالشُّعَرَاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ فِيهِنَّ بِالِاسْتِفْهَامِ وَحَقَّقَا الْهَمْزَةَ وَبَعْدَهَا أَلِفٌ وَقَرَأَ قُنْبُلٌ هُنَا بِإِبْدَالِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَاوًا الضمة نُونِ فِرْعَوْنَ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا أَوْ تَسْهِيلِهَا أَوْ إِبْدَالِهَا أَوْ إِسْكَانِهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ وَقَرَأَ فِي طه مِثْلَ حَفْصٍ وَفِي الشُّعَرَاءِ مِثْلَ الْبَزِّيِّ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالِاسْتِبْعَادُ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِمْ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى وَفِي طه وَالشُّعَرَاءِ يَعُودُ فِي قَوْلِهِ لَهُ عَلَى مُوسَى لِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ «2» ، وَقِيلَ آمَنْتُ بِهِ

_ (1) سورة طه: 20/ 70. (2) سورة طه: 20/ 71 والشعراء: 26/ 49.

وَآمَنْتُ لَهُ وَاحِدٌ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى وَهَنِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ ذَنْبَهُمْ بِمُفَارَقَةِ الْإِذْنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَفْسَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِشَرْطٍ. إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أَيْ صَنِيعُكُمْ هَذَا لِحِيلَةٌ احْتَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَمُوسَى فِي مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى هَذِهِ الصَّحْرَاءِ وَتَوَاطَأْتُمْ عَلَى ذَلِكَ لِغَرَضٍ لَكُمْ وَهُوَ أَنْ تُخْرِجُوا مِنْهَا الْقِبْطَ وَتُسْكِنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ هَذَا تَمْوِيهًا عَلَى النَّاسِ لِئَلَّا يَتَّبِعُوا السَّحَرَةَ فِي الْإِيمَانِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اجْتَمَعَ مَعَ رَئِيسِ السَّحَرَةِ شَمْعُونَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَرَأَيْتَ إِنْ غَلَبْتُكُمْ أَتُؤْمِنُونَ بِي فَقَالَ لَهُ نَعَمْ فَعَلِمَ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ فَقَالَ مَا قَالَ انْتَهَى، وَلَمَّا خَافَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ إِيمَانُ السَّحَرَةِ حُجَّةَ قَوْمِهِ أَلْقَى فِي الْحَالِ نَوْعَيْنِ مِنَ الشُّبَهِ أَحَدَهُمَا إِنَّ هَذَا تَوَاطُؤٌ مِنْهُمْ لَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ وَالثَّانِي إِنَّ ذَلِكَ طَلَبٌ منهم للمك. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا يَحِلُّ بِكُمْ أُبْهِمَ فِي مُتَعَلِّقِ تَعْلَمُونَ ثُمَّ عَيَّنَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ فَقَالَ مُقْسِمًا: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ لَمَّا ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَادَ إِلَى عَادَةِ مُلُوكِ السُّوءِ إِذَا غُلِبُوا مِنْ تَعْذِيبِ مَنْ نَاوَأَهُمْ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَمَعْنَى مِنْ خِلافٍ أَيْ يَدٌ يُمْنَى وَرِجْلٌ يُسْرَى وَالْعَكْسُ، قِيلَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ الْخِلَافِ الَّذِي ظَهَرَ مِنْكُمْ وَالصَّلْبُ التَّعْلِيقُ عَلَى الْخَشَبِ وَهَذَا التَّوَعُّدُ الَّذِي تَوَعَّدَهُ فِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَذَهُ وَأَوْقَعَهُ بِهِمْ وَلَكِنْ رُوِيَ فِي الْقِصَصِ أَنَّهُ قَطَعَ بَعْضًا وَصَلَبَ بَعْضًا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا سَحَرَةً وَأَمْسَوْا شُهَدَاءَ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ الْمَكِّيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ لَأُقَطِّعَنَّ مُضَارِعُ قَطَعَ الثُّلَاثِيِّ ولَأُصَلِّبَنَّكُمْ مُضَارِعُ صَلَبَ الثُّلَاثِيِّ بِضَمِّ لَامِ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَرُوِيَ بِكَسْرِهَا وَجَاءَ هُنَا ثُمَّ وَفِي السُّورَتَيْنِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ «1» بِالْوَاوِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ أُرِيدَ بِهَا مَعْنًى ثُمَّ مِنْ كَوْنِ الصَّلْبِ بَعْدَ الْقَطْعِ وَالتَّعْدِيَةُ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا مُهْلَةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ. قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ هَذَا تَسْلِيمٌ وَاتِّكَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَثِقَةٌ بِمَا عِنْدَهُ وَالْمَعْنَى إِنَّا نَرْجِعُ إِلَى ثَوَابِ رَبِّنَا يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى مَا نَلْقَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ أَوْ إِنَّا نَنْقَلِبُ إِلَى لِقَاءِ رَبِّنَا وَرَحْمَتِهِ وَخَلَاصِنَا مِنْكَ وَمِنْ لِقَائِكَ أَوْ إِنَّا مَيِّتُونَ مُنْقَلِبُونَ إِلَى اللَّهِ فَلَا نُبَالِي بِالْمَوْتِ إِذْ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَفْعَلَ بِنَا إِلَّا مَا لَا بُدَّ لَنَا مِنْهُ فَالِانْقِلَابُ الْأَوَّلُ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ يوم الجزاء وهذان

_ (1) سورة طه: 20/ 71 والشعراء: 26/ 49.

الِانْقِلَابَانِ الْمُرَادُ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ وإِنَّا ضَمِيرُ أَنْفُسِهِمْ وَفِرْعَوْنَ أَيْ نَنْقَلِبُ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا فَيَحْكُمَ بَيْنَنَا لِقَوْلِهِ وَما تَنْقِمُ مِنَّا فَإِنَّ هَذَا الضَّمِيرَ يَخُصُّ مُؤْمِنِي السَّحَرَةِ وَالْأَوْلَى اتِّحَادُ الضَّمَائِرِ وَالَّذِي أَجَازَ هَذَا الْوَجْهَ هُوَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قَوْلِهِمْ إِلى رَبِّنا تَبَرُّؤٌ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمِنْ رُبُوبِيَّتِهِ وَفِي الشُّعَرَاءِ لَا ضَيْرَ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اخْتُصِرَتْ فِيهَا الْقِصَّةُ وَاتَّسَعَتْ فِي الشُّعَرَاءِ ذُكِرَ فِيهَا أَحْوَالُ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَبَدَأَ بِقَوْلِهِ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «1» وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ «2» فَوَقَعَ فِيهَا زَوَائِدُ لَمْ تَقَعْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا فِي طه قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا قَالَ الضَّحَّاكُ: وَمَا تَطْعَنُ عَلَيْنَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَمَا تَكْرَهُ مِنَّا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا تَعِيبُ مِنَّا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا تَعُدُّ عَلَيْنَا ذَنْبًا وَتُؤَاخِذُنَا بِهِ وَعَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ يَكُونُ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ آمَنَّا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ وَيَكُونَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ مِنَ الْمَفْعُولِ وَجَاءَ هَذَا التَّرْكِيبُ فِي القرآن كقوله قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا «3» وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا «4» وَهَذَا الْفِعْلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَتَعَدَّى بِعَلَى تَقُولُ نَقَمْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْقِمُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِمِنْ أَنَّ الْمَعْنَى وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا أَيْ مَا تَنَالُ مِنَّا كَقَوْلِهِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أَيْ يَنَالُهُ بِمَكْرُوهٍ وَيَكُونُ فَعَلَ وَافْتَعَلَ فِيهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَقَدَرَ وَاقْتَدَرَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ آمَنَّا «5» مُفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ وَاسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا أَيْ مَا تَنَالُ مِنَّا وَتُعَذِّبُنَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِأَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ تَفْسِيرُ عَطَاءٍ، قَالَ عَطَاءٌ: أَيْ مَا لَنَا عِنْدَكَ ذَنْبٌ تُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّا آمَنَّا، وَالْآيَاتُ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَتَى بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ جَعَلَ لَمَّا ظَرْفًا جَعَلَ الْعَامِلَ فِيهَا أَنْ آمَنَّا وَمَنْ جَعَلَهَا حَرْفًا جَعَلَ جَوَابَهَا مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ لَمَّا جَاءَتْنَا آمَنَّا وَفِي كَلَامِهِمْ هَذَا تَكْذِيبٌ لِفِرْعَوْنَ فِي ادِّعَائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ وَانْسِلَاخٌ مِنْهُمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ فِيهِ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ أَصْلُ الْمَفَاخِرِ وَالْمَنَاقِبِ وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو الْيُسْرِ هَاشِمٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَما تَنْقِمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مُضَارِعُ نَقِمَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ وَالْأَفْصَحُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ لَمَّا أَوْعَدَهُمْ بِالْقَطْعِ وَالصَّلْبِ سَأَلُوا اللَّهَ

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 18. (2) سورة الشعراء: 26/ 66. (3) سورة المائدة: 5/ 59. (4) سورة البروج: 85/ 8. (5) سورة المائدة: 5/ 59.

تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُمُ الصَّبْرَ عَلَى مَا يَحُلُّ بِهِمْ إِنْ حَلَّ وَلَيْسَ فِي هَذَا السُّؤَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الْمُوعَدِ بِهِمْ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا فِي قَوْلِهِ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحُلَّ بِهِمُ الْمَوْعُودُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَكُونَ تَوَفِّيهِمْ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِهَذَا الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جُمْلَةِ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً سَأَلُوا الْمَوْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ. وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا آمَنَتِ السَّحَرَةُ اتَّبَعَ مُوسَى سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَكَثَ مُوسَى بِمِصْرَ بَعْدَ إِيمَانِ السَّحَرَةِ عَامًا أَوْ نَحْوَهُ يُرِيهِمُ الْآيَاتِ وَتَضَمَّنُ قَوْلُ الْمَلَأُ إِغْرَاءَ فِرْعَوْنَ بِمُوسَى وَقَوْمِهِ وَتَحْرِيضَهُ عَلَى قَتْلِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُمْ خُرُوجٌ عَنْ دِينِ فِرْعَوْنَ وَيَعْنِي بِقَوْمِهِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى هَذَا اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ وَتَعَجُّبٍ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِخْبَارٌ وَالْغَرَضُ بِهِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ مِنْ مُوسَى وَمَنْ آمَنَ بِهِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَالْإِفْسَادُ هُوَ خَوْفُ أَنْ يَقْتُلُوا أَبْنَاءَ الْقِبْطِ وَيَسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَاصَّةِ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلُوا هُمْ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ الْإِفْسَادُ دُعَاؤُهُمُ النَّاسَ إِلَى مُخَالَفَةِ فِرْعَوْنَ وَتَرْكِ عِبَادَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَذَرَكَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَطْفًا عَلَى لِيُفْسِدُوا أَيْ لِلْإِفْسَادِ وَلِتَرْكِكَ وَتَرْكِ آلِهَتِكَ وَكَانَ التَّرْكُ هُوَ لِذَلِكَ وبدؤوا أَوَّلًا بِالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ الْإِفْسَادُ ثُمَّ اتَّبَعُوهُ بِالْخَاصَّةِ لِيَدُلُّوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّرْكَ مِنْ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وقومه هو أيضا يؤول إِلَى شَيْءٍ يَخْتَصُّ بِفِرْعَوْنَ قَدَحُوا بِذَلِكَ زَنْدَ تَغَيُّظِهِ عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْقَى عَلَيْهِمْ إِذْ هُمُ الْأَشْرَافُ وَبِتَرْكِ مُوسَى وَقَوْمِهِ بِمِصْرَ يَذْهَبُ مُلْكُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّصْبُ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَعْنَى أَنَّى يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ تَرْكِكَ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِلْإِفْسَادِ وَبَيْنَ تَرْكِهِمْ إِيَّاكَ وَعِبَادَةِ آلِهَتِكَ أَيْ إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَيَذَرَكَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى أَتَذَرُ بِمَعْنَى أَتَذَرُهُ وَيَذَرُكَ أَيْ أَتُطْلِقُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ عَلَى الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ وَهُوَ يَذَرُكَ، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَيَذَرَكَ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ كَأَنَّهُ تَوَهَّمَ النُّطْقَ يُفْسِدُوا جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا قَالَ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ «1» أَوْ عَلَى التَّخْفِيفِ مِنْ وَيَذَرَكَ، وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَنَذَرُكَ بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ تَوَعَّدُوهُ بِتَرْكِهِ وَتَرْكِ آلِهَتِهِ أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ أي إنّ الأمر يؤول إِلَى هَذَا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ وَآلِهَتَكَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَقَدْ تركك وآلهتك.

_ (1) سورة المنافقين: 63/ 10.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَآلِهَتَكَ عَلَى الْجَمْعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ لَهُ آلِهَةٌ يَعْبُدُهَا، وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ الْبَقَرَ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْبُدُ حَجَرًا يُعَلِّقُهُ فِي صَدْرِهِ كَيَاقُوتَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ هِيَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ شَرَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ آلِهَةٍ مِنْ بَقَرٍ وَأَصْنَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَعَلَ نَفْسَهُ الْإِلَهَ الْأَعْلَى فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» إِنَّمَا هُوَ بِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِوَاهُ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ، قِيلَ: كَانُوا قِبْطًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَسْتَجِيبُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهَا وَفِرْعَوْنُ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ الشَّمْسَ اسْتَجَابَتْ لَهُ وَمَلَّكَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ وَإِلَهَتَكَ وَفَسَّرُوا ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى وَعِبَادَتَكَ فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى وَمَعْبُودَكَ وَهِيَ الشَّمْسُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا وَالشَّمْسُ تُسَمَّى إِلَهَةً عَلَمًا عَلَيْهَا مَمْنُوعَةَ الصَّرْفِ. قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاجِلْ مُوسَى وَقَوْمَهُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مَلِيءٌ مِنْ مُوسَى رُعْبًا وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ سَنُعِيدُ عَلَيْهِمْ مَا كُنَّا فَعَلْنَا بِهِمْ قَبْلُ مِنْ قَتْلِ أَبْنَائِهِمْ لِيَقِلَّ رَهْطُهُ الَّذِينَ يَقَعُ الْإِفْسَادُ بِوَاسِطَتِهِمْ وَالْفَوْقِيَّةُ هُنَا بِالْمَنْزِلَةِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الدنيا وقاهِرُونَ يَقْتَضِي تَحْقِيرَهُمْ أَيْ قَاهِرُونَ لهم قهرا قلّ مِنْ أَنْ نَهْتَمَّ بِهِ فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْغَلَبَةِ أَوْ أَنَّ غَلَبَةَ مُوسَى لَا أَثَرَ لَهَا فِي مُلْكِنَا وَاسْتِيلَائِنَا وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمُ الْعَامَّةُ أَنَّهُ الْمَوْلُودُ الَّذِي تَحَدَّثَ الْمُنَجِّمُونَ عَنْهُ وَالْكَهَنَةُ بِذَهَابِ مُلْكِنَا عَلَى يَدِهِ فَيُثَبِّطُهُمْ ذَلِكَ عَنْ طَاعَتِنَا وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ وَإِنَّهُ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ وَشَدَّدَ سَنُقَتِّلُ وَيُقَتِّلُونَ الْكُوفِيُّونَ وَالْعَرَبِيَّانِ وَخَفَّفَهُمَا نَافِعٌ وَخَفَّفَ ابْنُ كَثِيرٍ سَنُقَتِّلُ وَشَدَّدَ وَيُقَتِّلُونَ. قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا لَمَّا تَوَعَّدَهُمْ فِرْعَوْنُ جَزِعُوا وَتَضَجَّرُوا فَسَكَّنَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَبِالصَّبْرِ وَسَلَّاهُمْ وَوَعَدَهُمُ النَّصْرَ وَذَكَّرَهُمْ مَا وَعَدَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ إِهْلَاكِ الْقِبْطِ وَتَوْرِيثِهِمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. أَيْ أَرْضُ مِصْرَ وَأَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ وَهِيَ الْأَرْضَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَقِيلَ: الْأَرْضَ أَرْضُ الدُّنْيَا فَهِيَ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَرْضُ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ «2» وَتَعَدَّى اسْتَعِينُوا هُنَا بِالْبَاءِ وَفِي وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «3» بِنَفْسِهِ وَجَاءَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قِيلَ: النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَقِيلَ: الدَّارُ الْآخِرَةُ، وَقِيلَ: السَّعَادَةُ وَالشَّهَادَةُ، وَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخَاتِمَةُ الْمَحْمُودَةُ لِلْمُتَّقِينَ منهم ومن القبط

_ (1) سورة النازعات: 79/ 24. (2) سورة الزمر: 39/ 74. (3) سورة الفاتحة: 1/ 5.

وَإِنَّ الْمَشِيئَةَ مُتَنَاوِلَةٌ لَهُمْ انْتَهَى، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ يُورِثُها بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ يُورِثُها بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَرُوِيَتْ عَنْ حَفْصٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ وَالْعاقِبَةُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى إِنَّ الْأَرْضَ وَفِي وَعْدِ مُوسَى تَبْشِيرٌ لِقَوْمِهِ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَنَتِيجَةُ طَلَبِ الْإِعَانَةِ تَوْرِيثُ الْأَرْضِ لَهُمْ وَنَتِيجَةُ الصَّبْرِ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَالنَّصْرُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ بِشَيْئَيْنِ يَنْتِجُ عَنْهُمَا شَيْئَانِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لم أُخْلِيتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْوَاوِ وَأُدْخِلَتْ عَلَى الَّذِي قَبْلَهَا؟ (قُلْتُ) : هِيَ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَأَمَّا وَقالَ الْمَلَأُ فَمَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا سَبَقَهَا مِنْ قَوْلِهِ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ انْتَهَى. قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا أَيْ بِابْتِلَائِنَا بِذَبْحِ أَبْنَائِنَا مَخَافَةَ مَا كَانَ يَتَوَقَّعُ فِرْعَوْنُ مِنْ هَلَاكِ مُلْكِهِ عَلَى يَدِ الْمَوْلُودِ الَّذِي يُولَدُ مِنَّا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَبْلِ مَوْلِدِ مُوسَى إِلَى أَنِ اسْتَنْبَأَ وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا إِعَادَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كَانُوا يُسْتَعْبَدُونَ وَيُمْتَهَنُونَ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَدَمِ وَالْمِهَنِ وَيُمَسُّونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي مِنْ بَعْدِ مَجِيئِهِ يَعْنُونَ بِهِ وَعِيدَ فِرْعَوْنَ وَسَائِرَ مَا كَانَ خِلَالَ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنَ الْإِخَافَةِ لَهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ قَبْلَ بَعْثِ مُوسَى إِلَيْهِمْ وَبَعْدَ بَعْثِهِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا يَضْرِبُونَ لَهُ اللَّبِنَ وَيُعْطِيهِمُ التِّبْنَ فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى غَرَّمَهُمُ التِّبْنَ وَكَانَ النِّسَاءُ يَغْزِلْنَ لَهُ الْكَتَّانَ وَيَنْسِجْنَهُ، وَقَالَ جَرِيرٌ: اسْتَسْخَرَهُمْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ مُوسَى فِي أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى اسْتَسْخَرَهُمُ النَّهَارَ كُلَّهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى مِنْ قَبْلِ بِالِاسْتِعْبَادِ وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَمِنْ بَعْدِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْإِبْعَادِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَقِيلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بِعَهْدِ اللَّهِ بِالْخَلَاصِ وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا بِهِ قَالُوهُ فِي مَعْرِضِ الشَّكْوَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَاسْتِعَانَةً عَلَيْهِ بِمُوسَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: قَالُوا ذَلِكَ حِينَ اتَّبَعَهُمْ وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى الْبَحْرِ فَضَاقَتْ صُدُورُهُمْ وَرَأَوْا بَحْرًا أَمَامَهُمْ وَعَدُوًّا كَثِيفًا وَرَاءَهُمْ لَمَّا أَسْرَى بِهِمْ مُوسَى حَتَّى هَجَمُوا عَلَى الْبَحْرِ الْتَفَتُوا فَإِذَا هُمْ بِرَهْجِ دَوَابِّ فِرْعَوْنَ فَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَالُوا هَذَا الْبَحْرُ أَمَامَنَا وَهَذَا فِرْعَوْنُ وَرَاءَنَا قَدْ رَهِقَنَا بِمَنْ مَعَهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ هَذِهِ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ كَلَامٌ يَجْرِي عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ اضْطِرَابِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَقِلَّةِ يَقِينِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى الدِّينِ انْتَهَى، قِيلَ وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ مَجِيءِ مُوسَى لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَإِنَّمَا قَالُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَهُمْ بِزَوَالِ الْمَضَارِّ فَظَنُّوا أَنَّهَا نُزُولٌ عَلَى الْفَوْرِ فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ اسْتِعْطَافٌ لَا نَفْرَةٌ.

قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ هَذَا رَجَاءٌ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِثْلُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُقَوِّي قُلُوبَ أَتْبَاعِهِمْ فَيَصْبِرُونَ إِلَى وُقُوعِ مُتَعَلِّقِ الرَّجَاءِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الرَّجَاءِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الرَّجَاءَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِحُصُولِ مُتَعَلِّقِهِ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ إِنْ كَانَتْ فِي الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ جِدًّا عَدَمُ التَّنَافِي وَإِنْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِعَاقِبَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَخْصُوصِينَ فَسَلَكَ مُوسَى طَرِيقَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَسَاقَ الْكَلَامَ مَسَاقَ الرَّجَاءِ، وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْحَى بِذَلِكَ إِلَى مُوسَى فَعَسَى لِلتَّحْقِيقِ أَوْ لَمْ يُوحِ فَيَكُونُ عَلَى التَّرَجِّي مِنْهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَصْرِيحٌ بِمَا رَمَزَ إِلَيْهِ مِنَ الْبِشَارَةِ قَبْلُ وَكَشْفٌ عَنْهُ وَهُوَ إِهْلَاكُ فِرْعَوْنَ وَاسْتِخْلَافُهُمْ بَعْدَهُ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَاسْتِعْطَافُ مُوسَى لَهُمْ بِقَوْلِهِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَوَعْدُهُ لَهُمْ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَدْعِي نُفُوسًا نَافِرَةً وَيُقَوِّي هَذَا الظَّنَّ فِي جِهَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسُلُوكُهُمْ هَذَا السَّبِيلَ فِي غَيْرِ قِصَّةٍ وَالْأَرْضِ هُنَا أَرْضُ مِصْرَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ هَذَا الرَّجَاءِ بِوُقُوعِ مُتَعَلِّقِهِ فَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَّكَهُمْ مِصْرَ وَمَاتَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، وَقِيلَ: أَرْضُ الشَّامِ فَقَدْ فَتَحُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَعَ يُوشَعَ وَمَلَكُوا الشَّامَ وَمَاتَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانَ وَمَعْنَى فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَيْ فِي اسْتِخْلَافِكُمْ مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ وَهِيَ جُمْلَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الْبَعْثِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَيَرَى الْكَائِنَ مِنْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ حَسَنِهِ وَقَبِيحِهِ وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَكُفْرَانِهَا لِيُجَازِيَكُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يُوجَدُ مِنْكُمْ انْتَهَى، وَفِيهِ تَلْوِيحُ الِاعْتِزَالِ وَدَخَلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ أَحَدُ كِبَارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَزُهَّادِهِمْ عَلَى الْمَنْصُورِ ثَانِي خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ وَعَلَى مَائِدَتِهِ رَغِيفٌ أَوْ رَغِيفَانِ وطلب زيادة لعمر وفلم توجد فقرأ عمر وهذه الْآيَةَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ قَدْ بَقِيَ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ الْأَخْذُ التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ وَمَعْنَاهُ هُنَا الِابْتِلَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ أَقَامَ بَيْنَهُمْ مُوسَى يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَمَعْنَى بِالسِّنِينَ بِالْقُحُوطِ وَالْجُدُوبِ وَالسَّنَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْحَوْلِ وَتُطْلَقُ عَلَى الْجَدْبِ ضِدُّ الْخِصْبِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالنَّجْمِ وَالدَّبَرَانِ وَقَدِ اشْتَقُّوا مِنْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا أَسْنَتَ الْقَوْمُ إِذَا أَجْدَبُوا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَرِجَالُ مكة مسنتوون عِجَافُ

وَقَالَ حَاتِمٌ: فَإِنَّا نُهِينُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ ... ولا يستكينا فِي السِّنِينَ ضَرِيرُهَا وَفِي سِنِينَ لُغَتَانِ أَشْهُرُهُمَا إِعْرَابُهَا بِالْوَاوِ رَفْعًا وَالْيَاءِ جَرًّا وَنَصْبًا وَقَدْ تَكَلَّفَ النُّحَاةُ عِلَّةً لِكَوْنِهَا جُمِعَتْ هَذَا الْجَمْعَ وَالْأُخْرَى جَعْلُ الْإِعْرَابِ فِي النُّونِ وَالْتِزَامُ الْيَاءِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ نَقَلَهَا أَبُو زَيْدٍ وَالْفَرَّاءُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مَصْرُوفَةٌ عِنْدَ بَنِي وَغَيْرُ مَصْرُوفَةٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ أَمْعَنُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ وَكَانَ هَذَا الْجَدَبُ سَبْعَ سِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: أَمَّا السُّنُونَ فَكَانَتْ لِبَادِيَتِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَمَّا نَقْصُ الثَّمَرَاتِ فَكَانَ فِي أَمْصَارِهِمْ وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ يَبْتَلِيهَا بِالنِّقَمِ لِيَزْدَجِرُوا وَيَتَذَكَّرُوا بِذَلِكَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ فَإِنَّ الشِّدَّةَ تَجْلِبُ الْإِنَابَةَ وَالْخَشْيَةَ وَرِقَّةَ الْقَلْبِ وَالرُّجُوعَ إِلَى طَلَبِ لُطْفِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَكَذَا فَعَلَ بِقُرَيْشٍ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَرُوِيَ أَنَّهُ يَبِسَ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى نِيلُ مِصْرَ وَنُقِصُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ حَتَّى كَانَتِ النَّخْلَةُ تَحْمِلُ الثَّمَرَةَ الْوَاحِدَةَ وَمَعْنَى لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ رَجَاءٌ لِتَذَكُّرِهُمْ وَتَنَبُّهِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِابْتِلَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَيَزْدَجِرُوا. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ابْتُلُوا بِالْجَدْبِ وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ رَجَاءَ التَّذْكِيرِ فَلَمْ يَقَعِ الْمَرْجُوُّ وَصَارُوا إِذَا أَخْصَبُوا وَصَحُّوا قَالُوا: نَحْنُ أَحِقَّاءُ بِذَلِكَ وَإِذَا أَصَابَهُمْ مَا يَسُوءُهُمْ تَشَاءَمُوا بِمُوسَى وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِهِ وَاللَّامُ فِي لَنا قِيلَ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَمَا تَقُولُ السَّرْجُ لِلْفَرَسِ وَتَشَاؤُمُهُمْ بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْلَا كَوْنُهُمْ فِينَا لَمْ يُصِبْنَا كَمَا قَالَ الْكُفَّارُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «1» وَأَتَى الشَّرْطُ بِإِذَا فِي مَجِيءِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ لِمَا تَيَقَّنَ وُجُودُهُ لِأَنَّ إِحْسَانَ اللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْوَاسِعُ الْعَامُّ لِخَلْقِهِ بِحَيْثُ إِنَّ إِحْسَانَهُ لِخَلْقِهِ عَامٌّ حَتَّى فِي حَالِ الِابْتِلَاءِ وَأَتَى الشَّرْطُ بِإِنْ فِي إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ وَهِيَ لِلْمُمْكِنِ إِبْرَازًا أَنَّ إِصَابَةَ السَّيِّئَةِ مِمَّا قَدْ يَقَعُ وَقَدْ لَا يَقَعُ وَجْهُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قِيلَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ بِإِذَا وَتَعْرِيفِ الْحَسَنَةِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِإِنْ وَتَنْكِيرِ السَّيِّئَةِ (قُلْتُ) : لِأَنَّ جِنْسَ الْحَسَنَةِ وُقُوعُهُ كَالْوَاجِبِ لِكَثْرَتِهِ وَاتِّسَاعِهِ وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَلَا تَقَعُ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ وَلَا يَقَعُ إِلَّا يَسِيرٌ مِنْهَا وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ وَقَدْ عَدَدْتَ أَيَّامَ الْبَلَاءِ فَهَلَّا عَدَدْتَ أيام الرجاء انْتَهَى، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ تَطَيَّرُوا بِالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ فِعْلًا ماضيا وهو جواب

_ (1) سورة النساء: 4/ 78.

وَإِنْ تُصِبْهُمْ وَهَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مُضَارِعًا وَفِعْلُ الْجَزَاءِ مَاضِيَ اللَّفْظِ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: من يكدني بسيىء كُنْتُ مِنْهُ ... كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجَوِّزُهُ فِي الْكَلَامِ وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنْ مُجَاهِدًا قرأ تشاءموا مكان يَطَّيَّرُوا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طائِرُهُمْ مَا يُصِيبُهُمْ أَيْ مَا طَارَ لَهُمْ فِي الْقَدَرِ مِمَّا هُمْ لا قوه وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ سُمِّيَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَدَرِ لِلْإِنْسَانِ طَائِرًا لَمَّا كَانَ يُعْتَقَدُ أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فِي الطَّائِرِ فَهِيَ لَفْظَةٌ مُسْتَعَارَةٌ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ سَبَبُ خَيْرِهِمْ وَشَرِّهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حُكْمُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَشَاءُ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَلَيْسَ شُؤْمُ أَحَدِهِمْ وَلَا يُمْنُهُ بِسَبَبٍ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَلَا إِنَّمَا سَبَبُ شُؤْمِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ عَمَلُهُمُ الْمَكْتُوبُ عِنْدَهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا يَسُوءُهُمْ لِأَجْلِهِ وَيُعَاقَبُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها «2» الْآيَةَ وَلَا طَائِرَ أَشْأَمُ مِنْ هَذَا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَلَا إِنَّمَا طَيْرُهُمْ وَحَكَمَ بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ عَلِمَ كَمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي طائِرُهُمْ لِضَمِيرِ الْعَالَمِ وَيَجِيءُ تَخْصِيصُ الْأَكْثَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُحْتَمَلُ أن يريد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَيْسَ قَرِيبًا أَنْ يُعْلَمَ لِانْغِمَارِهِمْ فِي الْجَهْلِ وَعَلَى هَذَا فِيهِمْ قَلِيلٌ مُعَدٌّ لِأَنْ يَعْلَمَ لَوْ وَفَّقَهُ اللَّهُ انْتَهَى، وَهُمَا احْتِمَالَانِ بَعِيدَانِ وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُهُ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ وَتَجُوزُ فِي الْعِبَارَةِ. وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ الضَّمِيرُ فِي وَقالُوا عَائِدٌ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ لم يزدهم الأخذ بالجذوب وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ إِلَّا طُغْيَانًا وَتَشَدُّدًا فِي كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِنِسْبَةِ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى وَاجَهُوهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِمَا أَتَى مِنَ الْآيَاتِ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَأَتَوْا بِمَهْمَا الَّتِي تَقْتَضِي الْعُمُومَ ثُمَّ فَسَّرُوا بِآيَةٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فِي تَسْمِيَتِهِمْ ذَلِكَ آيَةً كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ «3» وتسميه لَهَا بِآيَةٍ أَيْ عَلَى زَعْمِكَ وَلِذَلِكَ عَلَّلُوا الْإِتْيَانَ بِقَوْلِهِمْ لِتَسْحَرَنا بِها وَبَالَغُوا فِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ بِأَنْ

_ (1) سورة النساء: 4/ 78. [.....] (2) سورة غافر: 40/ 46. (3) سورة النساء: 4/ 157.

صَدَّرُوا الْجُمْلَةَ بِنَحْنُ وَأَدْخَلُوا الْبَاءَ فِي بِمُؤْمِنِينَ أَيْ إِنَّ إِيمَانَنَا لَكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا ومَهْما مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ مُنْتَصِبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ فِعْلُ الشَّرْطِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ يَحْضُرُ تَأْتِنَا بِهِ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَهْما وَفِي بِها عَائِدٌ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى مَهْمَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَيَّةُ آيَةٍ كَمَا عَادَ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها «1» ، وَكَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ فَأَنَّثَ عَلَى الْمَعْنَى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي عِدَادِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يُحَرِّفُهَا مَنْ لَا يَدَ لَهُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَضَعُهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا وَيَحْسَبُ مَهْمَا بِمَعْنَى مَتَى مَا وَيَقُولُ مَهْمَا جِئْتَنِي أَعْطَيْتُكَ وَهَذَا مِنْ وَضْعِهِ وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ وَاضِعِ الْعَرَبِيَّةِ فِي شَيْءٍ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُفَسِّرُ مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ بِمَعْنَى الْوَقْتِ فَيُلْحِدُ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَشْعُرُ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُوجِبُ الْجُثُوَّ بَيْنَ يَدَيِ النَّاظِرِ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ مَهْمَا لَا تَأْتِي ظَرْفَ زَمَانٍ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ ذَكَرَهُ فِي التَّسْهِيلِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَانِيفِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْصُرْ مَدْلُولُهَا عَلَى أَنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ بَلْ قَالَ وَقَدْ تَرِدُ مَا وَمَهْمَا ظَرْفَيْ زَمَانٍ وَقَالَ فِي أُرْجُوزَتِهِ الطَّوِيلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالشَّافِيَةِ الْكَافِيَةِ: وَقَدْ أَتَتْ مَهْمَا وَمَا ظَرْفَيْنِ فِي ... شَوَاهِدَ مَنْ يَعْتَضِدْ بِهَا كُفِي وَقَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ يَجْعَلُونَ مَا وَمَهْمَا مِثْلَ مِنْ فِي لُزُومِ التَّجَرُّدِ عَنِ الظَّرْفِ مع أنّ استعمالها ظَرْفَيْنِ ثَابِتٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُصَحَاءِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا عَنِ الْعَرَبِ زَعَمَ مِنْهَا أَنَّ مَا وَمَهْمَا ظَرْفَا زَمَانٍ وَكَفَانَا الرَّدَّ عَلَيْهِ فِيهَا ابْنُهُ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ وَقَدْ تَأَوَّلْنَا نَحْنُ بَعْضَهَا وَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ مِنْ تَأْلِيفِنَا وَكَفَاهُ رَدًّا نَقْلُهُ عَنْ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ خِلَافَ مَا قَالَهُ لَكِنَّ مَنْ يُعَانِي عِلْمًا يَحْتَاجُ إِلَى مُثُولِهِ بَيْنَ يَدَيِ الشُّيُوخِ وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ مَهْما فِي الْآيَةِ بِأَنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُلْحِدٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَثَا بَيْنَ يَدَيِ النَّاظِرِ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ رَحَلَ مِنْ خُوَارَزْمَ فِي شَيْبَتِهِ إِلَى مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِقِرَاءَةِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ كَانَ مُجَاوِرًا بِمَكَّةَ وَهُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُشَاوِرُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْدَلُسِيُّ مِنْ أَهْلِ بَابَرَةَ مِنْ بِلَادِ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ جَمِيعَ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَأَخْبَرَهُ به قراءة عن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 106.

الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْغَسَّانِيِّ الْجَيَّانِيِّ قَالَ قَرَأْتُهُ عَلَى أَبِي مَرْوَانَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سِرَاجِ بن عبد الله بن سِرَاجٍ الْقُرْطُبِيِّ قَالَ قَرَأْتُهُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْإِفْلِيلِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ الْعَاصِمِيِّ عَنِ الرَّبَاحِيِّ بِسَنَدِهِ، وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ قَصِيدٌ يَمْدَحُ بِهِ سِيبَوَيْهِ وَكِتَابَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَاظِرٌ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ بِخِلَافِ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا نَظَرَ فِي نُتَفٍ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ جِنِّي وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ مَعْزُوزٍ كِتَابًا فِي الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي كِتَابِ الْمُفَصَّلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَغْلَاطِهِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا إِمَامَ الصِّنَاعَةِ أَبَا بِشْرٍ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ قَالَ الْأَخْفَشُ الطُّوفانَ جَمْعُ طُوفَانَةٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ عِنْدُ الْكُوفِيِّينَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْحَانِ، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ فِي مَصْدَرِ طَافَ طَوْفًا وَطَوَافًا وَلَمْ يَحْكِ طَوَفَانًا وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا فَلَا يُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَصْدَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمَاءُ الْمُغْرِقُ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَمُقَاتِلٌ هُوَ الْمَطَرُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ دَائِمًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقِيلَ ذَلِكَ مَعَ ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ لَا يَرَوْنَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِ. وَقِيلَ أُمْطِرُوا حَتَّى كَادُوا يَهْلِكُونَ وَبُيُوتُ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مُشْتَبِكَةٌ فَامْتَلَأَتْ بُيُوتُ الْقِبْطِ مَاءً حَتَّى قَامُوا فِيهِ إِلَى تَرَاقِيهِمْ فَمَنْ جَلَسَ غَرِقَ وَلَمْ يَدْخُلْ بُيُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَطْرَةٌ وَفَاضَ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ أَرْضِهِمْ وَرَكَدَ فَمَنَعَهُمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْبِنَاءِ وَالتَّصَرُّفِ وَدَامَ عَلَيْهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ طَمَّ فَيْضُ النِّيلِ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَلَأَ الْأَرْضَ سَهْلًا وَجَبَلًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَطُوفُ إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ لَهُ أَكْثَرُ فِي الْمَاءِ وَالْمَطَرِ الشَّدِيدِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: غَيَّرَ الْجِدَّةَ مِنْ عِرْفَانِهِ ... خُرُقُ الرِّيحِ وطوفان المطر وَمَدَّ طُوفَانٌ مُبِيدٌ مَدَدًا ... شَهْرًا شَآبِيبَ وَشَهْرًا بَرَدَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَوَهْبٌ وَابْنُ كَثِيرٍ هُوَ هُنَا الْمَوْتُ الْجَارِفُ وَرَوَتْهُ عَائِشَةٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَنُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَوَهْبٍ إِنَّهُ الطَّاعُونُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَقَالَ أَبُو قَلَابَةَ هُوَ الْجُدَرِيُّ وَهُوَ أَوَّلُ عَذَابٍ وَقَعَ فِيهِمْ فَبَقِيَ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ هُوَ عَذَابٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَطَافَ بِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مُعَمًّى عُنِيَ بِهِ شَيْءٌ أَطَافَهُ اللَّهُ بِهِمْ فَقَالُوا لِمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ فَدَعَا فَرَفَعَ عَنْهُمْ فَمَا آمَنُوا فَنَبَتَ لَهُمْ فِي

تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْكَلَأِ وَالزَّرْعِ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فَأَقَامُوا شَهْرًا فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَتْ عَامَّةَ زَرْعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ ثُمَّ أَكَلَتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَبْوَابَ وَسُقُوفَ الْبُيُوتِ وَالثِّيَابَ وَلَمْ يَدْخُلْ بُيُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهَا شَيْءٌ فَفَزِعُوا إِلَى مُوسَى وَوَعَدُوهُ التَّوْبَةَ فَكَشَفَ عَنْهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَخَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْفَضَاءِ فَأَشَارَ بِعَصَاهُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَرَجَعَ الْجَرَادُ إِلَى النَّوَاحِي الَّتِي جِئْنَ مِنْهَا وَقَالُوا مَا نَحْنُ بِتَارِكِي دِينِنَا فأقاموا شهرا وسلّط الله عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: هُوَ الدَّبَا وَهُوَ صِغَارُ الْجَرَادِ قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ لَهُ أَجْنِحَةٌ وَلَا يَطِيرُ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَقَعُ فِي الْحِنْطَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ، وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ هُوَ الْجِعْلَانُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْحَمْنَانُ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الْقُمَّلُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ لُغَةٌ فِيهِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَقِيلَ هُوَ الْبَرَاغِيثُ حَكَاهُ ابْنُ زَيْدٍ وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى مَشَى إِلَى كَثِيبٍ أَهْيَلٍ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْتَشَرَ كُلُّهُ قُمَّلًا بِمِصْرَ فَأَكَلَ مَا أَبْقَاهُ الْجَرَادُ وَلَحِسَ الْأَرْضَ وَكَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ جِلْدِ الْقِبْطِيِّ وقميصه ويمتلىء الطعام لَيْلَا وَيَطْحَنُ أَحَدُهُمْ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ فَلَا يَرُدَّ مِنْهَا إِلَّا يَسِيرًا وَسَعَى فِي أَبْشَارِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَأَهْدَابِ عُيُونِهِمْ وَلَزِمَتْ جُلُودَهُمْ فَضَجُّوا وَفَزِعُوا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَفَعَ عَنْهُمْ فَقَالُوا قَدْ تَحَقَّقْنَا الْآنَ أَنَّكَ سَاحِرٌ وَعِزَّةُ فِرْعَوْنَ لَا نُصَدِّقُكَ أَبَدًا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ شَهْرٍ الضَّفَادِعَ فَمَلَأَتْ آنيتهم وأطعمتهم وَمَضَاجِعَهُمْ وَرَمَتْ بِأَنْفُسِهَا فِي الْقُدُورِ وَهِيَ تَغْلِي وَفِي التَّنَانِيرِ وَهِيَ تَفُورُ وَإِذَا تَكَلَّمَ أَحَدُهُمْ وَثَبَتْ إِلَى فِيهِ ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجْلِسُ فِي الضَّفَادِعِ إِلَى ذَقَنِهِ فَقَالُوا لِمُوسَى ارْحَمْنَا هَذِهِ الْمَرَّةَ وَنَحْنُ نَتُوبُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ وَلَا نَعُودُ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعُهُودَ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ ، قَالَ الْجُمْهُورُ: صَارَ مَاؤُهُمْ دَمًا حَتَّى إِنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ لِيَضَعَ الْمَاءَ فِي فِيِّ الْقِبْطِيِّ فَيَصِيرُ فِي فِيهِ دَمًا وَعَطِشَ فِرْعَوْنُ حَتَّى أَشَفَى عَلَى الْهَلَاكِ فَكَانَ يَمُصُّ الْأَشْجَارَ الرَّطْبَةَ فَإِذَا مَضَغَهَا صَارَ مَاؤُهَا الطَّيِّبُ مِلْحًا أُجَاجًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: سَالَ عَلَيْهِمُ النِّيلُ دَمًا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الدَّمُ هُوَ الرُّعَافُ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى تَفْصِيلِ الْآيَاتِ تَبْيِينِهَا وَإِزَالَةِ أَشْكَالِهَا وَالتَّفْصِيلُ فِي الْإِجْرَامِ هُوَ التَّفْرِيقُ وَفِي الْمَعَانِي يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهَا فَاسْتَبَانَتْ وَامْتَازَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَلَا يُشْكِلُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَأَنَّهَا عِبْرَةٌ لَهُمْ وَنِقْمَةٌ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ سَمَّاهَا مُفَصَّلاتٍ لِأَنَّ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْآيَةِ فَصْلًا مِنَ الزَّمَانِ، قِيلَ كَانَتِ الْآيَةُ تَمْكُثُ مِنَ

السَّبْتِ إِلَى السَّبْتِ ثُمَّ يَبْقَوْنَ عُقَيْبَ رَفْعِهَا شَهْرًا فِي عَافِيَةٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَأْتِي الْآيَةُ الْأُخْرَى، وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ بَيْنَ كُلِّ آيَتَيْنِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَقَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ مَكَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آلِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ إِيمَانِ السَّحَرَةِ عِشْرِينَ سَنَةً يُرِيهِمُ الْآيَاتِ وَحِكْمَةُ التَّفْصِيلِ بِالزَّمَانِ أَنَّهُ يَمْتَحِنُ فِيهِ أَحْوَالَهُمْ أَيَفُونَ بِمَا عَاهَدُوا أَمْ يَنْكُثُونَ فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَانْتَصَبَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ عَلَى الْحَالِ وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرَ فِيهَا وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْإِرْسَالِ وَمَكْثُ مَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَزْمَانِ وَالْهَيْئَاتِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى النَّقْلِ عَنِ الْأَخْبَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ شَيْءٌ وَمَعَ إِرْسَالِ جِنْسِ الْآيَاتِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ إخبار منه تعالى عنهم بِاجْتِرَامِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ الرِّجْزُ هُنَا هُوَ مَا كَانَ أُرْسِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ فَإِنْ كَانَ أُرِيدَ الظَّاهِرُ كَانَ سُؤَالُهُمْ مُوسَى بَعْدَ وُقُوعِ جَمِيعِهَا لَا بَعْدَ وُقُوعِ نَوْعٍ مِنْهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ نَوْعٌ مِنْ الرِّجْزُ فَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ قَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ وَمَعْنَى وَقَعَ عَلَيْهِمُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَثَبَتَ وَقَالَ قَوْمٌ: الرِّجْزُ الطَّاعُونُ نَزَلَ بِهِمْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي لَيْلَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ قِبْطِيٍّ وَفِي قَوْلِهِمْ ادْعُ لَنا رَبَّكَ وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى مُوسَى عَدَمُ إِقْرَارٍ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ حَيْثُ لَمْ يَقُولُوا ادْعُ لَنَا رَبَّنَا وَمَعْنَى بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بِمَا اخْتَصَّكَ بِهِ فَنَبَّأَكَ أَوْ بِمَا وَصَّاكَ أَنْ تَدْعُوَ بِهِ لِيُجِيبَكَ كَمَا أَجَابَكَ فِي الْآيَاتِ أَوْ بِمَا اسْتَوْدَعَكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ بِما عَهِدَ بِادْعُ لَنَا رَبَّكَ وَمُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فِي كَشْفِ هذا الرّجز ولَئِنْ كَشَفْتَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ قَالُوا أَيْ قَالُوا ذَلِكَ مُقْسِمِينَ لَئِنْ كَشَفْتَ أَوْ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ أَيْ وَأَقْسَمُوا لَئِنْ كَشَفْتَ وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بَاءُ الْقَسَمِ أَيْ قَالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فِي كَشْفِ الرِّجْزِ مُقْسِمِينَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ أَوْ وَأَقْسَمُوا بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ وَالْمَعْنَى لَئِنْ كَشَفْتَ بِدُعَائِكَ وَفِي قَوْلِهِمْ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ كَمَا أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ إِرْسَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدَّمُوا الْإِيمَانَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ النَّاشِئُ مِنْهُ الطَّوَاعِيَةُ وَفِي إِسْنَادِ الْكَشْفِ إِلَى مُوسَى حَيْدَةٌ عَنْ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِعَدَمِ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ.

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى وَهُوَ فَدَعَا مُوسَى فَكَشَفَ عَنْهُمُ الرِّجْزَ وَأَسْنَدَ تَعَالَى الْكَشْفَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْكَاشِفُ حَقِيقَةً فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَسْنَدُوهُ إِلَى مُوسَى وَهُوَ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ وَلَمَّا كَانَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ أَسْنَدَهُ تَعَالَى إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ وَلَمَّا كَانَ الرِّجْزُ مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَقُولَةٍ لَهُمْ حَسُنَ إِظْهَارُهُ دُونَ ضَمِيرِهِ وَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ وَمَعْنَى إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِلَى حَدٍّ مِنَ الزَّمَانِ هُمْ بَالِغُوهُ لَا مَحَالَةَ فَيُعَذَّبُونَ فِيهِ لَا يَنْفَعُهُمْ مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الْإِمْهَالِ وَكَشْفِ الْعَذَابِ إِلَى حُلُولِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُرِيدُ بِهِ غَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْمَوْتِ هَذَا اللَّازِمُ مِنَ اللَّفْظِ كَمَا تَقُولُ أَخَّرْتُ كَذَا إِلَى وَقْتِ كَذَا وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ وَقْتًا بِعَيْنِهِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: الْأَجَلُ هَاهُنَا الْغَرَقُ قَالَ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّهُ رَأَى جُمْهُورَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ قَدِ اتَّفَقَ أَنْ هَلَكَتْ غَرَقًا فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْإِشَارَةَ هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْغَرَقِ وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْغَرَقِ عَالِمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أُخِّرَ وَكَشَفَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ بَلَغَهُ انْتَهَى. وَفِي التَّحْرِيرِ إِلى أَجَلٍ إِلَى انْقِضَاءِ مدة إهمالهم وَهِيَ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِإِيمَانِهِمْ، وَقِيلَ: الْغَرَقُ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ وَإِذَا فُسِّرَ الْأَجَلُ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْغَرَقِ فَلَا يَصِحُّ كَشْفُ الْعَذَابِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْ وَقْتِ حُصُولِ الْمَوْتِ أَوِ الْغَرَقِ لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْكَشْفِ وَالْغَرَقِ أَوِ الْمَوْتُ زَمَانٌ وَهُوَ زَمَانُ النَّكْثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا إِلَى أَقْرَبِ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ أَمَّا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ هُوَ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِإِيمَانِهِمْ وَإِرْسَالِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حذف مضاف وإِلى أَجَلٍ قَالُوا مُتَعَلِّقٌ بِ كَشَفْنا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِهِ لِأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمَّا تَرَتَّبَ جَوَابُهُ عَلَى ابْتِدَاءِ وُقُوعِهِ وَالْغَايَةُ تُنَافِي التَّعْلِيقَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُقُوعِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَقُّلِ الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ الْغَايَةُ وَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْغَايَةُ فِي الْفِعْلِ عَنِ الْمُتَطَاوَلِ لَا تَقُولُ لَمَّا قَتَلْتُ زَيْدًا إِلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ جَرَى كَذَا وَلَا لَمَّا وَثَبْتُ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ اتَّفَقَ كَذَا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ إِلى أَجَلٍ مِنْ تَمَامِ الرِّجْزِ أَيِ الرِّجْزُ كَائِنًا إِلَى أَجَلٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ كَانَ مُؤَجَّلًا وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ كَوْنُ جَوَابِ لَمَّا جَاءَ بِإِذَا الْفُجَائِيَّةِ أَيْ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ الْمُقَرَّرَ عَلَيْهِمْ إِلَى أجل فاجأوا بِالنَّكْثِ وَعَلَى مَعْنَى تَغْيِيَتِهِ الْكَشْفَ بِالْأَجَلِ الْمَبْلُوغِ لَا تَتَأَتَّى الْمُفَاجَأَةُ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ الْكَشْفِ بِالِاسْتِمْرَارِ الْمُغَيَّا، فَتَكُونُ الْمُفَاجَأَةُ بِالنَّكْثِ إِذْ ذَاكَ مُمْكِنَةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جَوَابٌ لِمَا يُغَيَّا فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم فاجأوا النَّكْثَ وَبَادَرُوهُ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ وَلَكِنْ لَمَّا كَشَفَ عَنْهُمْ نَكَثُوا انْتَهَى، وَلَا يُمْكِنُ التَّغْيِيَةُ مَعَ ظَاهِرِ

هذا التقدير وهم بَالِغُوهُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَجَلٍ وَهِيَ أَفْخَمُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ لِتَكَرُّرِ الضَّمِيرِ فَلَيْسَ فِي حُسْنِ التَّرْكِيبِ كَالْمُفْرَدِ لَوْ قِيلَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ إِلَى أَجَلٍ بَالِغِيهِ وَمَجِيءُ إِذَا الفجائية جوابا لما مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمَّا حَرْفٌ وجوب لوجوب كَمَا يَقُولُ سِيبَوَيْهِ لَا ظَرْفٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لِافْتِقَارِهِ إِلَى عَامِلٍ فِيهِ وَالْكَلَامُ تَامٌّ لَا يَحْتَمِلُ إِضْمَارًا وَلَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَقَرَأَ أَبُو هَاشِمٍ وَأَبُو حَيْوَةَ يَنْكُثُونَ بِكَسْرِ الْكَافِ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أَيْ أَحْلَلْنَا بِهِمُ النِّقْمَةَ وَهِيَ ضِدُّ النِّعْمَةِ فَإِنْ كَانَ الِانْتِقَامُ هُوَ الْإِغْرَاقُ فَتَكُونُ الْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةً وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَثْبَتَ هَذَا الْمَعْنَى لِلْفَاءِ وَإِلَّا كَانَ الْمَعْنَى فَأَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ سَبَبِيَّةٌ وَالْآيَاتُ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي عَنْها إِلَى الْآيَاتِ أَيْ غَفَلُوا عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ مِنَ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ وَمَا فَكَّرُوا فِيهَا وَتِلْكَ الْغَفْلَةُ هِيَ سَبَبُ التَّكْذِيبِ، وَقِيلَ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى النِّقْمَةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا فَانْتَقَمْنا أَيْ كَانُوا عَنِ النِّقْمَةِ وَحُلُولِهَا بِهِمْ غَافِلِينَ وَالْغَفْلَةُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عُنِيَ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْهُ وَالتَّكْذِيبَ لَا يَجْتَمِعَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْغَفْلَةَ تَسْتَدْعِي عَدَمَ الشُّعُورِ بِالشَّيْءِ وَالتَّكْذِيبُ بِهِ يَسْتَدْعِي مَعْرِفَتَهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ صِفَةُ الْغَفْلَةِ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ. وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها لَمَّا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ كَانَ كَمَا تَرَجَّى مُوسَى فَأَغْرَقَ أَعْدَاءَهُمْ فِي الْيَمِّ وَاسْتَخْلَفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الأرض والَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانَ فِرْعَوْنُ يَسْتَعْبِدُهُمْ وَيَسْتَخْدِمُهُمْ وَالِاسْتِضْعَافُ طَلَبُ الضَّعِيفِ بِالْقَهْرِ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى قِيلَ اسْتَضْعَفَهُ أَيْ وَجَدَهُ ضعيفا ومَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا قَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَلَّكَهُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً وَأَمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ مَلَّكَ ذَرِّيَّتَهُمْ وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: مَشارِقَ الْأَرْضِ الشَّامُ وَمَغارِبَهَا دِيَارُ مِصْرَ مَلَّكَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا بِإِهْلَاكِ الْفَرَاعِنَةِ وَالْعَمَالِقَةِ وَقَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَتَصَرَّفُوا فيها كيف شاؤوا فِي أَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَفِي كِتَابِ النَّقَّاشِ عَنِ الْحَسَنِ: أَرْضُ مِصْرَ وَالْبَرَكَةُ فِيهَا بِالْمَاءِ وَالشَّجَرِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَيَّلَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ بِالْخِصْبِ وَالْأَنْهَارِ وَكَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ، وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ بِإِقْدَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَثْرَةِ مَقَامِهِمْ بِهَا وَدَفْنِهِمْ

فِيهَا وَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى مَنْ قَالَ أَرْضُ الشَّامِ، وَقِيلَ: بارَكْنا جَعَلْنَا الْخَيْرَ فِيهَا دَائِمًا ثَابِتًا وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مِصْرُ. وَقَالَ اللَّيْثُ هِيَ مِصْرُ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا بِمَا يَحْدُثُ عَنْ نِيلِهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَكَثْرَةِ الْحُبُوبِ وَالثَّمَرَاتِ وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نِيلَ مِصْرَ سَيِّدُ الْأَنْهَارِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَتِ الْجَنَّاتُ بِحَافَّتَيْ هَذَا النِّيلِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فِي الْبَرَّيْنِ جَمِيعًا مَا بَيْنَ أَسْوَانَ إِلَى رَشِيدٍ وَكَانَتِ الْأَشْجَارُ مُتَّصِلَةً لَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَقَالَ أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ: مِصْرُ خَزَائِنُ الْأَرْضِ كُلِّهَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ «1» وَيُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامَ بِهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مَرْيَمَ أَنِ الْحَقِي بِمِصْرَ وَأَرْضِهَا وَذَكَرَ أَنَّهَا الرَّبْوَةُ الَّتِي قَالَ تَعَالَى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ «2» . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْبَرَكَاتُ عَشْرٌ فَفِي مِصْرَ تِسْعٌ وَفِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَاحِدَةٌ، وَانْتِصَابُ مَشَارِقَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لأورثنا والَّتِي بارَكْنا نَعْتٌ لِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ إِنَّ انْتِصَابَ مَشارِقَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَالْعَامِلَ فِيهِمَا هو يُسْتَضْعَفُونَ والَّتِي بارَكْنا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَيِ الْأَرْضُ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا تَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرٍ دَلِيلٍ وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي نَعْتًا لِلْأَرْضِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِلْفَصْلِ بِالْعَطْفِ بَيْنَ الْمَنْعُوتِ ونعته. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا. أَيْ مَضَتْ وَاسْتَمَرَّتْ مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَّ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا مَضَى عَلَيْهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ فِي الْأَزَلِ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَالظُّهُورِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَلِمَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ- إِلَى قَوْلِهِ- مَا كانُوا يَحْذَرُونَ «3» . وَقِيلَ: هِيَ قَوْلُهُ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ «4» الْآيَةَ، وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ النِّعْمَةُ وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ وَهِيَ صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ وَكَانَتِ الْحُسْنَى لِأَنَّهَا وَعْدٌ بِمَحْبُوبٍ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ وَالْمَعْنَى عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِما صَبَرُوا أَيْ بِصَبْرِهِمْ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ كَلِمَاتٍ عَلَى الْجَمْعِ وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَظِيرُهُ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «5» انْتَهَى، يَعْنِي نَظِيرَ وَصْفِ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الكبرى نعتا لِآيَاتِ رَبِّهِ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِقَوْلِهِ رَأَى أَيِ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَيَكُونُ فِي الْأَصْلِ نَعْتًا لِمُفْرَدٍ مُؤَنَّثٍ لَا يُجْمَعُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ.

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 50. (2) سورة يوسف: 12/ 55. (3) سورة القصص: 28/ 5. (4) سورة الأعراف: 7/ 129. (5) سورة النجم: 53/ 18.

وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أَيْ خَرَّبْنَا قُصُورَهُمْ وَأَبْنِيَتَهُمْ بِالْهَلَاكِ وَالتَّدْمِيرُ الْإِهْلَاكُ وَإِخْرَابُ الْأَبْنِيَةِ، وَقِيلَ: مَا كَانَ يَصْنَعُ مِنَ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِخْمَادِ كَلِمَتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِهْلَاكُ أَهْلِ الْقُصُورِ وَالْمَوَاضِعِ الْمَنِيعَةِ وَإِذَا هَلَكَ السَّاكِنُ هَلَكَ الْمَسْكُونُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أَيْ يَرْفَعُونَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُشَيَّدَةِ كَصَرْحِ هَامَانَ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ عُرُشُ الْكُرُومِ وَمِنْهُ وجَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ «1» ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ هُنَا وَفِي النَّحْلِ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: هِيَ أَفْصَحُ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ يَعْرِشُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتَحَ الْعَيْنَ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَانْتَزَعَ الْحَسَنُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْرَجَ عَلَى مُلُوكِ السَّمَاءِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَصْبِرَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُدَمِّرُهُمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ إِذَا قَابَلَ النَّاسُ الْبَلَاءَ بِمِثْلِهِ وَكَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَإِذَا قَابَلُوهُ بِالصَّبْرِ وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ أَتَى الْفَرَجُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَرَأَ بَعْضُ النَّاسِ يَغْرِسُونَ مِنْ غَرَسَ الْأَشْجَارَ وَمَا أَحْسَبُهُ إِلَّا تَصْحِيفًا وَهَذَا آخِرُ مَا اقْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نَبَأِ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَظُلْمِهِمْ وَمُعَارَضَتِهِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ اقْتِصَاصَ نَبَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ إِنْقَاذِهِمْ مِنْ مَمْلَكَةِ فِرْعَوْنَ، وَاسْتِعْبَادِهِ، وَمُعَايَنَتِهِمُ الْآيَاتِ الْعِظَامَ وَمُجَاوَزَتِهِمُ الْبَحْرَ مِنْ عِبَادَةِ الْبَقَرِ، وَطَلَبِ رُؤْيَةِ الله جهرة، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي لِيُعْلَمَ حَالُ الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ كَمَا وَصَفَ ظَلُومٌ كَفَّارٌ جَهُولٌ كَفُورٌ إِلَّا مَنْ عصمه الله تَعَالَى وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2» وَلِيُسَلِّيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا رَأَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْمَدِينَةِ. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ لَمَّا بَيَّنَ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ أَتْبَعَ بِالنِّعْمَةِ الْعُظْمَى مِنْ إِرَاءَتِهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ وَقَطْعِهِمُ الْبَحْرَ مَعَ السَّلَامَةِ وَالْبَحْرُ بَحْرُ الْقُلْزُمِ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ نِيلُ مِصْرَ وَمَعْنَى جاوَزْنا قَطَعْنَا بِهِمُ الْبَحْرَ يُقَالُ جَاوَزَ الْوَادِيَ إِذَا قَطَعَهُ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ بقال جَاوَزَ الْوَادِيَ إِذَا قَطَعَهُ، وَجَاوَزَ بِغَيْرِهِ الْبَحْرَ عَبَرَ بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَجُزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ أَجَزْنَاهُمُ الْبَحْرَ وَفَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ الْمُجَرَّدِ يُقَالُ جَاوَزَ وَجَازَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَيَعْقُوبُ وَجَوَّزْنَا وَهُوَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ فَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ المجرد نحو قدر وقدر وَلَيْسَ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ رُوِيَ أَنَّهُ عَبَرَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بعد ما أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامُوا شُكْرًا لِلَّهِ وَأُعْطِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ يَوْمَ النَّحْرِ فَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ شهرا.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 141. (2) سورة سبأ: 34/ 13.

فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو عَمْرٍو الْجَوْنِيُّ: هُمْ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ كَانُوا يَسْكُنُونَ الرِّيفَ، وَقِيلَ: كَانُوا نُزُولًا بِالرِّقَّةِ رِقَّةِ مِصْرَ وَهِيَ قَرْيَةٌ بِرِيفِ مِصْرَ تُعْرَفُ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ يُتَوَصَّلُ مِنْهَا إِلَى الْفَيُّومِ، وَقِيلَ: هُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ الَّذِينَ أُمِرَ مُوسَى بِقِتَالِهِمْ وَمَعْنَى فَأَتَوْا فَمَرُّوا يُقَالُ أَتَتْ عَلَيْهِ سُنُونَ، وَمَعْنَى يَعْكُفُونَ يُقِيمُونَ وَيُوَاظِبُونَ عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامٍ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو عَمْرٍو في رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا وَهُمَا فَصِيحَتَانِ وَالْأَصْنَامُ قِيلَ: بَقَرٌ حَقِيقَةً. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ كَانَتْ تَمَاثِيلَ بَقَرٍ مِنْ حِجَارَةٍ وَعِيدَانٍ وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ فِتْنَةِ الْعِجْلِ. قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ الظَّاهِرُ أَنَّ طَلَبَ مِثْلِ هَذَا كُفْرٌ وَارْتِدَادٌ وَعِنَادٌ جَرَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي تَعَنُّتِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَطَلَبِهِمْ مَا لَا يَنْبَغِي وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمُ اسْتَحْسَنُوا مَا رَأَوْا مِنْ آلِهَةِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ فَأَرَادُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي شَرْعِ مُوسَى وَفِي جُمْلَةِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَبَعِيدٌ أَنْ يَقُولُوا لِمُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً نُفْرِدُهُ بِالْعِبَادَةِ انْتَهَى وَفِي الْحَدِيثِ مَرُّوا فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ عَلَى رَوْحِ سِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ وَكَانَتْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ سَرْحَةً لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ يُعَلِّقُونَ بِهَا أسحلتهم وَلَهَا يَوْمٌ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهَا فَأَرَادَ قَائِلُ ذَلِكَ أَنْ يَشْرَعَ الرَّسُولُ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَرَأَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى عِبَادَةِ تِلْكَ السَّرْحَةِ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ» اجْعَلْ لَنا إِلهاً خَالِقًا مُدَبِّرًا لِأَنَّ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُوسَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَمُدَبِّرًا فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ تَمَاثِيلَ وَصُوَرًا يَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ قَوْلُهُمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» وَأَجْمَعَ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ سَوَاءٌ اعْتُقِدَ كَوْنُهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِ أَوْ أَنَّ عِبَادَتَهُ تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ انْتَهَى، وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ وَمَنْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ هَذَا السُّؤَالُ الْبَاطِلُ لَكِنَّهُ نُسِبَ ذَلِكَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وما فِي كَما قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَافَّةٌ لِلْكَافِ وَلِذَلِكَ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا وَقَالَ غَيْرُهُ مَوْصُولَةٌ حَرْفِيَّةٌ أَيْ كَمَا ثَبَتَ لَهُمْ آلِهَةٌ فَتَكُونُ قَدْ حُذِفَ صِلَتُهَا عَلَى حَدِّ مَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي أَنَّهُ إِذَا حُذِفَتْ صِلَةُ مَا فَلَا بُدَّ مِنْ إِبْقَاءِ مَعْمُولِهَا كَقَوْلِهِمْ لَا أُكَلِّمُكَ مَا إن في السماء نجما أَيْ مَا ثَبَتَ أَنَّ فِي السَّمَاءِ نَجْمًا وَيَكُونُ آلِهَةٌ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 55. (2) سورة الزمر: 39/ 3.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 إلى 143]

فاعلا بثبت الْمَحْذُوفَةَ، وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ ولَهُمْ صِلَتُهَا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهَا مُسْتَكِنٌّ فِي الْمَجْرُورِ وَالتَّقْدِيرُ كَالَّذِي لَهُمْ وَآلِهَةٌ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تَعَجَّبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ قَوْلِهِمْ عَلَى أَثَرِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَوَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ الْمُطْلَقِ وَأَكَّدَهُ بِإِنَّ لِأَنَّهُ لَا جَهْلَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَلَا أَشْنَعُ وَأَتَى بِلَفْظِ تَجْهَلُونَ وَلَمْ يَقُلْ جَهِلْتُمْ إِشْعَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَالطَّبْعِ وَالْغَرِيزَةِ لَا يَنْتَقِلُونَ عَنْهُ فِي مَاضٍ وَلَا مُسْتَقْبَلٍ. إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى الْعَاكِفِينَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَعْنَى مُتَبَّرٌ مُهْلَكٌ مُدَمَّرٌ مُكَسَّرٌ وَأَصْلُهُ الْكَسْرُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُبْطَلٌ، وَقَالَ أَبُو الْيَسَعِ: مُضَلَّلٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: مدمر رديء سيىء الْعَاقِبَةِ وَمَا هُمْ فِيهِ يَعُمُّ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ وَبَطَلُ عَمَلِهِمْ هُوَ اضْمِحْلَالُهُ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي إِيقَاعِ هؤُلاءِ اسما لأن وَتَقْدِيمِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لَهَا وَاسْمٌ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَرَّضُونَ لِلتَّبَارِ وَأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُمُ الْبَتَّةَ وَأَنَّهُ لَهُمْ ضَرْبَةُ لَازِمٍ لِيُحَذِّرَهُمْ عَاقِبَةَ مَا طَلَبُوا وَيُبَغِّضَ لَهُمْ فِيمَا أَحَبُّوا انْتَهَى وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ جَزَمَ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأَنَّ لِأَنَّ الْأَحْسَنَ فِي إِعْرَابِ مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ مُتَبَّرٌ وَمَا بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَكَذَلِكَ مَا كانُوا هُوَ فَاعِلٌ بِقَوْلِهِ وَباطِلٌ فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ اسْمِ إِنَّ بِمُفْرَدٍ لَا جُمْلَةٍ وَهُوَ نَظِيرُ إِنَّ زَيْدًا مَضْرُوبٌ غُلَامُهُ فَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ غُلَامُهُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَمَضْرُوبٌ خَبَرُ إِنَّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ كون مُبْتَدَأً وَمَضْرُوبٌ خَبَرُهُ جَائِزٌ مرجوح. [سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143] قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 23.

قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ مَا أَحْسَنَ مَا خَاطَبَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدَأَهُمْ أَوَّلًا بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْجَهْلِ ثُمَّ ثَانِيًا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ بَلْ مَآلُ أَمْرِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ وَبُطْلَانِ الْعَمَلِ وَثَالِثًا أَنْكَرَ وَتَعَجَّبَ أَنْ يَقَعَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنْ يَبْغِيَ لَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهًا أَيْ أَغَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ أَطْلُبُ لَكُمْ مَعْبُودًا وَهُوَ الَّذِي شَرَّفَكُمْ وَاخْتَصَّكُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا مَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ لَا غَيْرُهُ فَكَيْفَ أَبْغِي لَكُمْ إِلَهًا غَيْرَهُ وَمَعْنَى عَلَى الْعالَمِينَ عَلَى عَالَمَيْ زَمَانِهِمْ أَوْ بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَبِمَا خَصَّهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَانْتَصَبَ غَيْرَ مَفْعُولًا بِأَبْغِيكُمْ أَيْ أَبْغِي لَكُمْ غَيْرَ اللَّهِ، وإِلهاً تَمْيِيزٌ عَنْ غَيْرَ أَوْ حَالٌ أَوْ عَلَى الْحَالِ وإِلهاً الْمَفْعُولُ وَالتَّقْدِيرُ أَبْغِي لَكُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ فَكَانَ غَيْرَ صِفَةً فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ حَالًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وغَيْرَ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرَ نَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لِأَنَّ أَبْغِي مُفَرِّغٌ لَهُ أَوْ لِقَوْلِهِ إِلهاً فَإِنَّ تخيّل أنه منصوب بأبغي مُضْمَرَةً يُفَسِّرُهَا هَذَا الظَّاهِرُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُفَسِّرَةَ لَا رَابِطَ فِيهَا لَا مِنْ ضَمِيرٍ وَلَا مِنْ مُلَابِسٍ يَرْبُطُهَا بِغَيْرٍ فَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمُوهُ لَصَحَّ وَيَحْتَمِلُ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ أَنْ يَكُونَ حالا وإن كون مُسْتَأْنَفًا. وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَقَرَأَ الجمهور أَنْجَيْناكُمْ وفرقة ونجّيناكم مُشَدَّدًا وَابْنُ عَامِرٍ أَنْجَاكُمْ فَعَلَى أَنْجَاكُمْ يَكُونُ جَارِيًا عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ خَاطَبَ بِهَا مُوسَى قَوْمَهُ وَفِي قِرَاءَةِ النُّونِ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيعًا لَهُمْ بِمَا فَعَلَ أَوَائِلُهُمْ وبما جاؤوا بِهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ يُقَتِّلُونَ مِنْ قَتَلَ وَالْجُمْهُورُ مِنْ قَتَّلَ مُشَدَّدًا. وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ بِمِصْرَ إِنْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُمْ أَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ فَلَمَّا هَلَكَ فِرْعَوْنُ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ تَعَالَى الْكِتَابَ فَأَمَرَهُ بِصَوْمِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمَّا أَتَمَّ الثَّلَاثِينَ أَنْكَرَ خُلُوفَ فِيهِ فَتَسَوَّكَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ كُنَّا نَشُمُّ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَأَفْسَدْتَهُ بِالسِّوَاكِ، وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِذَلِكَ، وَقِيلَ أَمَرَهَ اللَّهُ بِأَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَأَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ فِي الْعَشْرِ وَكُلِّمَ فِيهَا وَأُجْمِلَ ذِكْرُ الْأَرْبَعِينَ فِي الْبَقَرَةِ وَفُصِّلَ هُنَا.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا قَطَعَ مُوسَى الْبَحْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنْ رَبِّنَا كَمَا وَعَدْتَنَا وَزَعَمْتَ أَنَّكَ تَأْتِينَا بِهِ إِلَى شَهْرٍ فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَنْطَلِقُوا مَعَهُ فَلَمَّا تَجَهَّزُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى أَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّكَ لَنْ تَأْتِيَهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَلِكَ حِينَ أُتِمَّتْ بِعَشْرٍ فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِالسَّبْعِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ أَسْفَلَ الْجَبَلِ وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ وَكَلَّمَهُ اللَّهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَكَتَبَ لَهُ الْأَلْوَاحَ ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدُّوا عِشْرِينَ لَيْلَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَقَالُوا قَدْ أَخْلَفَنَا مُوسَى الْوَعْدَ وَجَعَلَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ الْعِجْلَ فَعَبَدُوهُ، وَقِيلَ زِيدَتِ الْعَشْرُ بَعْدَ الشَّهْرِ لِلْمُنَاجَاةِ، وَقِيلَ: الْتَفَتَ فِي طَرِيقِهِ فَزِيدَهَا، وَقِيلَ: زِيدَتْ عُقُوبَةً لِقَوْمِهِ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقِيلَ: أُعْلِمَ مُوسَى بِمَغِيبِهِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً فَلَمَّا زَادَهُ الْعَشْرَ فِي مَغِيبِهِ لَمْ يُعْلَمُوا بِذَلِكَ وَوَجَسَتْ نُفُوسُهُمْ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ فَقَالَ السَّامِرِيُّ هَلَكَ مُوسَى وَلَيْسَ بِرَاجِعٍ وَأَضَلَّهُمْ بِالْعِجْلِ فَاتَّبَعُوهُ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَفَائِدَةُ التَّفْصِيلِ قَالُوا: إِنَّ الثَّلَاثِينَ لِلتَّهَيُّؤِ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْعَشْرَ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَتَكْلِيمِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَادَرَ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ قَبْلَ قَوْمِهِ لِقَوْلِهِ وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى «1» الْآيَةَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَتَى الطُّورَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ فَلَمَّا أُعْلِمَ بِخَبَرِ قَوْمِهِ مَعَ السَّامِرِيِّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْوَعْدِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ فِي عَشْرٍ أُخَرَ، قِيلَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَعْدَانِ أَوَّلٌ حَضَرَهُ مُوسَى وَثَانٍ حَضَرَهُ الْمُخْتَارُونَ لِيَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ الْوَعْدُ لِاخْتِلَافِ الْحَاضِرِينَ وَالثَّلَاثُونَ هِيَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ وَالْعَشْرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ وَوَعَدْنَا وَقَالُوا انْتَصَبَ ثَلاثِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ إِتْيَانَ ثَلَاثِينَ أَوْ تَمَامَ ثَلَاثِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وثَلاثِينَ نُصِبَ عَلَى تَقْدِيرِ أَجَّلْنَاهُ أَوْ مُنَاجَاةِ ثَلَاثِينَ وَلَيْسَتْ مُنْتَصِبَةً عَلَى الظَّرْفِ وَالْهَاءُ فِي وَأَتْمَمْناها عَائِدَةٌ عَلَى الْمُوَاعَدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ واعَدْنا، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ الْهَاءُ والألف نصب بِأَتْمَمْنَاهَا وَهُمَا رَاجِعَتَانِ إِلَى ثَلاثِينَ وَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّ الثَّلَاثِينَ لَمْ تَكُنْ نَاقِصَةً فَتُمِّمَتْ بِعَشْرٍ وَحُذِفَ مُمَيِّزُ عَشْرٍ أَيْ عَشْرِ لَيَالٍ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَتَمَّمْنَاهَا مُشَدَّدًا وَالْمِيقَاتُ مَا وُقِّتَ لَهُ مِنَ الْوَقْتِ وَضَرْبِهِ لَهُ وَجَاءَ بِلَفْظِ رَبِّهِ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى واعَدْنا فكان يكون للتركيب فَتَمَّ مِيقَاتُنَا لِأَنَّ لَفْظَ رَبِّهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مُصْلِحُهُ وَنَاظِرٌ فِي أَمْرِهِ وَمَالِكُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَالْوَقْتِ أَنَّ الْمِيقَاتَ مَا قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْوَقْتُ وَقْتُ الشَّيْءِ وَانْتَصَبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْحَالِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، الْحَالُ فِيهِ فَقَالَ أتى بتم بالغا هذا

_ (1) سورة طه: 20/ 83. [.....]

الْعَدَدَ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْحَالُ أَرْبَعِينَ بَلِ الحال هذا المحذوف فينا في قَوْلَهُ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعِينَ ظرفا من حيث هي عدد أزمنة، وقيل أَرْبَعِينَ مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَأْكِيدٌ وإيضاح، وقيل: فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين، وقيل: إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وقرىء شَاذًّا هارُونَ بِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا هَارُونُ أَمَرَهُ حِينَ أَرَادَ الْمُضِيَّ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْمَغِيبِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ خَلِيفَتَهُ فِي قَوْمِهِ وَأَنْ يُصْلِحَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْلِحَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ وَنَهَاهُ أَنْ يَتَّبِعَ سَبِيلَ مَنْ أَفْسَدَ وَفِي النَّهْيِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْمُفْسِدِينَ وَلِذَلِكَ نَهَاهُ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِهِمْ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالصَّلَاحِ وَنَهْيُهُ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لَا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ خِلَافُ الْإِصْلَاحِ وَاتِّبَاعُ تِلْكَ السَّبِيلِ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَمَعْنَى اخْلُفْنِي اسْتَبِدَّ بِالْأَمْرِ وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ إِذْ رَاحَ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّكَ تَكُونُ خَلِيفَتِي بَعْدَ مَوْتِي أَلَا تَرَى أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ «أَنْتَ مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ مُوسَى» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ هَارُونُ خَلِيفَةً بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى وَإِنَّمَا اسْتَخْلَفَ الرَّسُولُ عَلِيًّا عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ إِذْ سَافَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ كَمَا اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ خَلِيفَةً بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أَيْ لِلْوَقْتِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُ أَيْ لِتَمَامِ الْأَرْبَعِينَ كَمَا تَقُولُ أَتَيْتُهُ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ وَمَعْنَى اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ خُصَّ بِالتَّكْلِيمِ إِذْ جَاءَ لِلْمِيقَاتِ، وَقَالَ الْقَاضِي: سَمِعَ هُوَ وَالسَّبْعُونَ كَلَامَ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خُلِقَ لَهُ إِدْرَاكًا سَمِعَ بِهِ الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَدْنَى اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا يُكَلِّمُ الْمَلَكَ وَتَكْلِيمُهُ أَنْ يَخْلُقَ الْكَلَامَ مَنْطُوقًا بِهِ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ كَمَا خَلَقَهُ مَحْفُوظًا فِي اللَّوْحِ وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَسْمَعُ الْكَلَامَ فِي كُلِّ جِهَةٍ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلِمَةُ أربعين لَيْلَةً وَكَتَبَ لَهُ الْأَلْوَاحَ ، وَقِيلَ: إِنَّمَا

كَلَّمَهُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ انْتَهَى، وَقَالَ وَهْبٌ كَلَّمَهُ فِي أَلْفِ مَقَامٍ وَعَلَى أَثَرِ كُلِّ مَقَامٍ يُرَى نُورٌ عَلَى وَجْهِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يَقْرَبِ النِّسَاءَ مُذْ كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَدْ أَوْرَدُوا هُنَا الْخِلَافَ الَّذِي فِي كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ وَدَلَائِلُ الْمُخْتَلِفِينَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَكَلَّمَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جاءَ، وَقِيلَ حَالَ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ وَكَلَّمْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي عَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ وفَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ. قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: لَمَّا كَلَّمَهُ وَخَصَّهُ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ طَمَحَتْ هِمَّتُهُ إِلَى رُتْبَةِ الرُّؤْيَةِ وَتَشَوَّفَ إِلَى ذَلِكَ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: شَوَّقَهُ الْكَلَامُ فَعِيلَ صَبْرُهُ فَحَمَلَهُ عَلَى سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: لَمْ يَعْهَدْ إِلَيْهِ فِي الرُّؤْيَةِ فَظَنَّ أَنَّ السُّؤَالَ فِي هَذَا الْوَقْتِ جَائِزٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَارَ الشَّيْطَانُ فِي الْأَرْضِ فَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ إِنَّمَا يُكَلِّمُكَ شَيْطَانٌ فَسَأَلَ الرُّؤْيَةَ وَلَوْ لَمْ تَجُزِ الرُّؤْيَةُ مَا سَأَلَهَا؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُؤْيَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ جَائِزَةٌ عَقْلًا لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَقَرَّرَتِ الشَّرِيعَةُ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِظَوَاهِرِ الشَّرْعِ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَسْأَلْ مُحَالًا وَإِنَّمَا سَأَلَ جَائِزًا وَقَوْلُهُ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ «1» الْآيَةَ لَيْسَ بِجَوَابِ مَنْ سَأَلَ مُحَالًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ «2» فَلَوْ سَأَلَ مُوسَى مُحَالًا لَكَانَ فِي الْجَوَابِ زَجْرٌ مَا وَتَيْئِيسٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ لَنْ تَقْدِرَ أَنْ تَرَانِي، وَقِيلَ لَنْ تَرَانِي بِسُؤَالِكَ، وَقِيلَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ سَتَرَانِي حِينَ أَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ طَلَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَبِتَعَالِيهِ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ إِدْرَاكٌ بِبَعْضِ الْحَوَاسِّ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا كَانَ فِي جِهَةٍ وَمَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ ومنع المجيرة إِحَالَتُهُ فِي الْعُقُولِ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ مُكَابَرَتِهِمْ وَارْتِكَابِهِمْ وَكَيْفَ يَكُونُ طَالِبَهُ وَقَدْ قَالَ حِينَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الَّذِينَ قَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «3» أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِلَى قَوْلِهِ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ «4» فَتَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَدَعَاهُمْ سُفَهَاءَ وَضُلَّالًا، (قُلْتُ) : مَا كَانَ طَلَبُهُ الرُّؤْيَةَ إِلَّا لِيُسْكِتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ سُفَهَاءَ وَضُلَّالًا وَتَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلِيُلْقِمَهُمُ الْحُجَّةَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ طَلَبُوا الرُّؤْيَةَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وأعلمهم الخطأ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 143. (2) سورة هود: 11/ 46. (3) سورة النساء: 4/ 153. (4) سورة الأعراف: 7/ 173.

وَنَبَّهَهُمْ عَلَى الْحَقِّ فَلَجُّوا وَتَمَادَوْا فِي لَجَاجِهِمْ وَقَالُوا لَا بُدَّ وَلَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَاهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوا النَّصَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ لَنْ تَرَانِي لِيَتَيَقَّنُوا وَيَنْزَاحَ عَنْهُمْ مَا كَانَ دَاخِلَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا قَالَ أَرِهِمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ (قُلْتُ) : لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى وَهُمْ يَسْمَعُونَ فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ رَبِّ الْعِزَّةِ أَرَادُوا أَنْ يَرَى مُوسَى ذَاتَهُ فَيُبْصِرُوهُ مَعَهُ كَمَا أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ فَسَمِعُوهُ مَعَهُ إِرَادَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسٍ فَاسِدٍ فَلِذَلِكَ قَالَ مُوسَى أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَلِأَنَّهُ إِذَا زُجِرَ عَمَّا طَلَبَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ وَزُلْفَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالْإِنْكَارِ وَلِأَنَّ الرَّسُولَ إِمَامُ أُمَّتِهِ فَكَانَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ أَوْ يُخَاطِبُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَرْجَمَةٌ عَلَى مُقْتَرَحِهِمْ وَحِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ وَجَلَّ صَاحِبُ الْجُمَلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ مُقَابَلًا بِحَاسَّةِ النَّظَرِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ أَعْرَقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِنْ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَالنَّظَّامِ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالشَّيْخَيْنِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَانِي مَفْعُولَيْ أَرِنِي مَحْذُوفٌ أَيْ أَرِنِي نَفْسَكَ اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنْ رُؤْيَتِكَ بِأَنْ تَتَجَلَّى لِي فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ انْتَهَى. قالَ لَنْ تَرانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَصَّ عَلَى مَنْعِهِ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا وَلَنْ تَنْفِيَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَوْ بَقِينَا عَلَى هَذَا النَّفْيِ بِمُجَرَّدِهِ لَتَضَمَّنَ أَنَّ مُوسَى لَا يَرَاهُ أَبَدًا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ وَرَدَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى الْحَدِيثُ الْمُتَوَاتِرُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْرَى بِرُؤْيَتِهِ ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى لَنْ، (قُلْتُ) : تَأْكِيدُ النَّفْيِ الَّذِي تُعْطِيهِ لَا وَذَلِكَ أَنَّ لَا تَنْفِي الْمُسْتَقْبَلَ تَقُولُ لَا أَفْعَلُ غَدًا فَإِذَا أَكَّدْتَ نَفْيَهَا قُلْتَ لَنْ أَفْعَلَ غَدًا وَالْمَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ يُنَافِي حَالِي كَقَوْلِهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «1» وَقَوْلُهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» نَفْيٌ لِلرُّؤْيَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَلَنْ تَرَانِي تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ لِقَوْلِهِ أَنْظُرْ إِلَيْكَ، (قُلْتُ) : لَمَّا قَالَ أَرِنِي بِمَعْنَى اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنَ الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ الْإِدْرَاكُ عَلِمَ أَنَّ الطَّلِبَةَ هِيَ الرُّؤْيَةُ لَا النَّظَرُ الَّذِي لَا إِدْرَاكَ مَعَهُ فَقِيلَ لَنْ تَرَانِي وَلَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ. وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَلَكِنْ سَأَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْكَ وَأَشَدُّ فَإِنِ اسْتَقَرَّ وَأَطَاقَ الصَّبْرَ لِهَيْبَتِي فَسَيُمْكِنُكَ أَنْتَ رُؤْيَتِي، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْجَبَلَ مِثَالًا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا الْمَعْنَى

_ (1) سورة الحج: 22/ 73. (2) سورة الأنعام: 6/ 103.

سأبتدىء لَكَ عَلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ لِعَظَمَتِي فَسَوْفَ تَرَانِي انْتَهَى، وَتَعْلِيقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِقْرَارِ مُؤْذِنٌ بِعَدَمِهَا إِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَبَلَ مَعَ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ فَالْآدَمِيُّ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَسْتَقِرَّ وَهَذَا تَسْكِينٌ لِقَلْبِ مُوسَى وَتَخْفِيفٌ عَنْهُ مِنْ ثِقَلِ أَعْبَاءِ الْمَنْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ اتَّصَلَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بِمَا قَبْلَهُ، (قُلْتُ) : تَصِلُ بِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَيَّ مُحَالٌ فَلَا تَطْلُبْهُ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِنَظَرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَرْجُفُ بِكَ وَبِمَنْ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ لِأَجْلِهِمْ كَيْفَ أَفْعَلُ بِهِ وَكَيْفَ أَجْعَلُهُ دَكًّا بِسَبَبِ طَلَبِكَ لِلرُّؤْيَةِ لتستعظم ما أقدمت عيه بِمَا أُرِيكَ مِنْ عَظِيمِ أَثَرِهِ كَأَنَّهُ عَزَّ وَعَلَا حَقَّقَ عِنْدَ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ مَا مَثَّلَهُ عِنْدَ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «1» فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ كَمَا كَانَ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا ذَاهِبًا في جهانه فَسَوْفَ تَرانِي تَعْرِيضٌ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ مَا لَا يَكُونُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ مَكَانَهُ حَتَّى يَدُكَّهُ دَكًّا وَيُسَوِّيَهُ بِالْأَرْضِ وَهَذَا كَلَامٌ مُدْمَجٌ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَأُورِدَ عَلَى أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ وَنَظْمٍ بَدِيعٍ أَلَا تَرَى كَيْفَ تَخَلَّصَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى النَّظَرِ بِكَلِمَةِ الِاسْتِدْرَاكِ ثُمَّ كَيْفَ ثَنَّى بِالْوَعِيدِ بِالرَّجْفَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ طَلَبِ النَّظَرِ عَلَى الشَّرِيطَةِ فِي وُجُودِ الرُّؤْيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي انْتَهَى وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقَاوِيلُ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَوْا عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مُوسَى مَا عَرَفَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَهُوَ عَارِفٌ بِعَدْلِهِ وَبِرَبِّهِ وَبِتَوْحِيدِهِ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ وَجَوَازِهَا مَوْقُوفًا عَلَى السَّمَاعِ وَرُدَّ ذَلِكَ وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ بِاللَّهِ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ مَعْرِفَةِ أَرْذَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: سَأَلَ الرُّؤْيَةَ عَلَى لِسَانِ قَوْمِهِ فَقَدْ كَانُوا مُكْثِرِينَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهَا لَا لِنَفْسِهِ فَلَمَّا مُنِعَ ظَهَرَ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ أَرِهِمْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ وَلَقِيلَ لَنْ تَرَوْنِي وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مُحَالًا لَمَنَعَهُمْ عَنْهُ كَمَا مَنَعَهُمْ عَنْ جَعْلِ الْآلِهَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «2» ، وَقَالَ الْكَعْبِيُّ سَأَلَهُ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ الَّتِي عِنْدَهَا تَزُولُ الْخَوَاطِرُ وَالْوَسَاوِسُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَمَا تَقُولُ فِي مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَذْفُ مُضَافٍ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَأْبَى ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا غَايَةَ بَعْدَهَا كَالْعَصَا وَغَيْرِهَا، وَقَالَ الْأَصَمُّ الْمَقْصُودُ أَنْ يَذْكُرَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَتَأَكَّدَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ بِالدَّلِيلِ السمعي وأل فِي الْجَبَلِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ أعظم

_ (1) سورة مريم: 19/ 90. (2) سورة الأعراف: 7/ 138.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 إلى 154]

جَبَلٍ بِمَدْيَنَ يُقَالُ لَهُ أَرَرْيَيْنُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَطَاوَلَتِ الْجِبَالُ لِلتَّجَلِّي وَتَوَاضَعَ ارريين فتجلّى له. [سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154] قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

التَّجَلِّي الظُّهُورُ. الدَّكُّ مَصْدَرُ دَكَكْتُ الشَّيْءَ فَتَّتُهُ وَسَحَقْتُهُ مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ وَالدَّكُّ وَالدَّقُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَزِيزٍ دَكًّا مُسْتَوِيًا مَعَ الْأَرْضِ. الْخُرُورُ السُّقُوطُ. أَفَاقَ ثَابَ إِلَيْهِ حِسُّهُ وَعَقْلُهُ. اللَّوْحُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ يُعَدُّ لِلْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا وَأَصْلُهُ اللَّمْعُ تَلْمَعُ وَتَلُوحُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ الْمَكْتُوبَةُ. الْحُلِيُّ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ النِّسَاءُ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ وَجَوْهَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَرِ النَّفِيسِ. الْخُوَارُ صوت البقر. الْأَسَفُ الْحُزْنُ يُقَالُ أَسِفَ يَأْسَفُ. الْجَرُّ الْجَذْبُ. الْإِشْمَاتُ السُّرُورُ بِمَا يَنَالُ الشَّخْصَ مِنَ الْمَكْرُوهِ. السُّكُوتُ وَالسُّكَاتُ الصَّمْتُ. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً تَرَتَّبَ عَلَى التَّجَلِّي أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا تَفَتُّتُ الْجَبَلِ وَتَفَرُّقُ أَجْزَائِهِ، وَالثَّانِي خُرُورُ مُوسَى مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ مَيِّتًا وَيُبْعِدُهُ لَفْظَةُ أَفَاقَ وَالتَّجَلِّي بِمَعْنَى الظُّهُورِ الْجُسْمَانِيِّ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْمٌ لَمَّا وَقَعَ نُورُهُ عَلَيْهِ تَدَكْدَكَ ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى ظَهَرَ لِلْجَبَلِ مِنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ ما تدكدك بِهِ، وَقِيلَ ظَهَرَ جُزْءٌ مِنَ الْعَرْشِ لِلْجَبَلِ فَتَصَرَّعَ مِنْ هَيْبَتِهِ، وَقِيلَ: ظَهَرَ أَمْرُهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: تَجَلَّى لِأَهْلِ الْجَبَلِ يُرِيدُ مُوسَى وَالسَّبْعِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْحُجُبِ مِثْلَ مَنْخَرِ الثَّوْرِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ مَا تَجَلَّى مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إِلَّا مِثْلَ سَمِّ الْخِيَاطِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ اقْتِدَارُهُ وَتَصَدَّى لَهُ أَمْرُهُ وَإِرَادَتُهُ انْتَهَى، وَقَالَ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَبَلِ حَيَاةً وَحِسًّا وَإِدْرَاكًا يَرَى بِهِ ثُمَّ تَجَلَّى لَهُ أَيْ ظَهَرَ وَبَدَا فَانْدَكَّ الْجَبَلُ لِشِدَّةِ الْمَطْلَعِ فَلَمَّا رَأَى مُوسَى مَا بِالْجَبَلِ صُعِقَ وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالظَّاهِرُ نِسْبَةُ التَّجَلِّي إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ غَيْرِ انْتِقَالٍ وَلَا وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَارَ تُرَابًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً، وَقِيلَ صَارَ سِتَّةَ أَجْبُلٍ ثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ أُحُدٌ وَوَرِقَانُ وَرَضْوَى، وَثَلَاثَةٌ بِمَكَّةَ ثَوْرٌ وَثَبِيرٌ وَحِرَاءٌ، رَوَاهُ أَنَسٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقِيلَ ذَهَبَ أَعْلَاهُ وَبَقِيَ أَسْفَلُهُ، وَقِيلَ صَارَ غُبَارًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَقَالَ

سُفْيَانُ: رُوِيَ أَنَّهُ انْسَاحَ فِي الْأَرْضِ وَأَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ الَّذِي تَحْتَ الْأَرَضِينَ ، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: فَهُوَ يَهْوِي فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ دَكًّا أَيْ مَدْكُوكًا أَوْ ذَا دَكٍّ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ دَكَّاءَ عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ وَالدَّكَّاءُ النَّاقَةُ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا وَالْمَعْنَى جَعَلَهُ أَرْضًا دَكَّاءَ تَشْبِيهًا بِالنَّاقَةِ الدَّكَّاءِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: ابْسُطْ يَدَكَ دَكَّاءَ أَيْ مُدَّهَا مُسْتَوِيَةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالدَّكَّاءُ اسْمٌ لِلرَّابِيَةِ الناشزة مِنَ الْأَرْضِ كَالدَّكَّةِ انْتَهَى، وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجُمْلَتِهِ وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَعْلَاهُ وَبَقِيَ أَكْثَرُهُ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ دَكًّا أَيْ قِطَعًا جُمَعُ دَكَّاءَ نَحْوُ غُزٍّ جَمْعُ غَزَّاءَ، وَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَهُ وَيَضْعُفُ قَوْلُ الْأَخْفَشِ إِنَّ نَصْبَهُ مِنْ بَابِ قَعَدْتُ جُلُوسًا وصَعِقاً حَالٌ مُقَارِنَةٌ، وَيُقَالُ صَعَقَهُ فَصُعِقَ وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَعَدَّتْ بِالْحَرَكَةِ نَحْوُ شَتَرَ اللَّهُ عَيْنَهُ فَشُتِرَتْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُوسَى وَالْجَبَلَ لَمْ يُطِيقَا رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ تَجَلَّى فَلِذَلِكَ انْدَكَّ الْجَبَلُ وَصَعِقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحَكَى عِيَاضُ بْنُ مُوسَى عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ: أَنَّ موسى اليه السَّلَامُ رَأَى اللَّهَ فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى رَبَّهُ فَلِذَلِكَ صَارَ دَكًّا بِإِدْرَاكِ كُلْفَةِ اللَّهِ له وذكر وأبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ كَعْبٍ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ وَرَآهُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ من رؤيته ملائكة السموات السَّبْعِ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ وَهَيْئَاتِهِمْ وَأَعْدَادَهُمْ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ. أَيْ مِنْ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ من سُؤَالِهَا قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ أَوْ عَنْ صَغَائِرِي حَكَاهُ الْكِرْمَانِيُّ، أَوْ قَالَ ذَاكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَظَائِمِ وَلَيْسَتْ تَوْبَةً عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قالَ سُبْحانَكَ أُنَزِّهُكَ عَنْ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْكَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَغَيْرِهَا تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، (فَإِنْ قُلْتَ) : فَإِنْ كَانَ طَلَبُ الرُّؤْيَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ فَمِمَّ تَابَ، (قُلْتُ) : عَنْ إِجْرَائِهِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَانْظُرْ إِلَى إِعْظَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَ الرُّؤْيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَيْفَ أَرْجَفَ الْجَبَلَ بِطَالِبِيهَا وَجَعَلَهُ دَكًّا وَكَيْفَ أَصْعَقَهُمْ وَلَمْ يُخَلِّ كَلِيمَهُ مِنْ نَفْيَانِ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي إِعْظَامِ الْأَمْرِ وَكَيْفَ سَبَّحَ رَبَّهُ مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ وَتَابَ مِنْ إِجْرَاءِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلَى لِسَانِهِ وَقَالَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَعَجَّبَ مِنَ الْمُتَسَمِّينَ بِالْإِسْلَامِ. بِالْمُتَسَمِّينَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَيْفَ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْعَظِيمَةَ مَذْهَبًا وَلَا يَغُرَّنَّكَ تَسَتُّرُهُمْ بِالْبَلْكَفَةِ فَإِنَّهُ مِنْ مَنْصُوبَاتِ أَشْيَاخِهِمْ وَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعَدْلِيَّةِ فِيهِمْ:

لِجَمَاعَةٍ سَمُّوا هَوَاهُمْ سُنَّةً ... وَجَمَاعَةٍ حُمْرٍ لَعَمْرِي مُؤْكَفَهْ قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا ... شَنَعَ الْوَرَى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَهْ وَهُوَ تَفْسِيرٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَسَبٌّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى عَادَتِهِ وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى وَزْنِ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَبَحْرِهِمَا أَنْشَدَنَا الْأُسْتَاذُ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِغَرْنَاطَةَ إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا وَنَقَلْتُهُ مِنْ خَطِّهِ، قَالَ أَنْشَدَنَا الْقَاضِي الْأَدِيبُ الْعَالِمُ أَبُو الْخَطَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلِيلٍ السَّكُونِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ عَنْ أَخِيهِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مِنْ نَظْمِهِ: شَبَّهْتَ جَهْلًا صَدْرَ أُمَّةِ أَحْمَدَ ... وَذَوِي الْبَصَائِرِ بِالْحَمِيرِ الْمُؤْكَفَهْ وَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ شَبَّهُوا مَعْبُودَهُمْ ... وَتَخَوَّفُوا فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَهْ وَرَمَيْتَهُمْ عَنْ نَبْعَةٍ سَوَّيْتَهَا ... رَمْيَ الْوَلِيدِ غَدًا يُمَزِّقُ مُصْحَفَهْ وَجَبَ الْخَسَارُ عَلَيْكَ فَانْظُرْ مُنْصِفًا ... فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ فَهِيَ الْمُنْصِفَهْ أَتَرَى الْكَلِيمَ أَتَى بِجَهْلٍ مَا أَتَى ... وَأَتَى شُيُوخُكَ مَا أَتَوْا عَنْ مَعْرِفَهْ وَبِآيَةِ الْأَعْرَافِ وَيْكَ خُذِلْتُمُ ... فَوَقَفْتُمُ دُونَ الْمَرَاقِي الْمُزْلَفَهْ لَوْ صَحَّ فِي الْإِسْلَامِ عَقْدُكَ لَمْ تَقُلْ ... بِالْمَذْهَبِ الْمَهْجُورِ مِنْ نَفْيِ الصِّفَهْ إِنَّ الْوُجُوهَ إِلَيْهِ نَاظِرَةٌ بِذَا ... جَاءَ الْكِتَابُ فَقُلْتُمُ هَذَا السَّفَهْ فالنقي مُخْتَصٌّ بِدَارٍ بَعْدَهَا ... لَكَ لَا أَبَا لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهْ وَأَنْشَدْنَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ خَلَفٍ الْعُلَامِيُّ بِالْقَاهِرَةِ لِنَفْسِهِ: قَالُوا يُرِيدُ وَلَا يَكُونُ مُرَادُهُ ... عَدَلُوا وَلَكِنْ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْرِفَهْ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مِنْ مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ إِنْ كَانَ الْكُفْرُ قَدْ طَبَّقَ الْآفَاقَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنَّكَ لَسْتَ بِمَرْئِيٍّ وَلَا مُدْرَكٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَاسِّ، وَقَالَ أَيْضًا بِعَظَمَتِكَ وَجَلَالِكَ وَأَنَّ شَيْئًا لَا يَقُومُ لِبَطْشِكَ وَبَأْسِكَ انْتَهَى، وَتَفْسِيرُهُ الْأَوَّلُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ ذَكَرَ مُتَكَلِّمُو أَهْلِ السُّنَّةِ دَلَائِلَ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى سَمْعِيَّةً وَعَقْلِيَّةً يُوقَفُ عَلَيْهَا وَعَلَى حُجَجِ الْخُصُومِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ

الشَّاكِرِينَ لَمَّا طَلَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الرُّؤْيَةَ وَمُنِعَهَا عَدَّدَ عَلَيْهِ تَعَالَى وُجُوهَ نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِشُكْرِهَا وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُ وَالِاصْطِفَاءُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَعَلَى النَّاسِ لَفْظٌ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ أَيْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِكَ أَوْ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ وَيَعْنِي فِي مَجْمُوعِ الدَّرَجَتَيْنِ الرِّسَالَةَ وَالْكَلَامَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ الْكَلَامِ فِي الْأَرْضِ إِذْ ثَبَتَ أَنَّ آدَمَ نَبِيٌّ مكلم وتؤوّل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلم يظهر مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَبِكَلامِي عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ الْكَلَامَ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ بِكَلَامِ اللَّهِ وَقَدَّمَ بِرِسالاتِي وعلي وَبِكَلامِي لِأَنَّ الرِّسَالَةَ أَسْبَقُ فِي الزَّمَانِ أَوْ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ شَرِيفٍ إِلَى أَشْرَفَ، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ بِرِسَالَتِي عَلَى الْإِفْرَادِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ الْمَصْدَرُ أَيْ بِإِرْسَالِي أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِي لِأَنَّ مَدْلُولَ الرِّسَالَةِ غَيْرُ مَدْلُولِ الْمَصْدَرِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ ضُرُوبٌ وَأَنْوَاعٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبِكَلامِي فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ وَبِتَكْلِيمِي أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَبِسَمَاعِ كَلَامِي، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِرِسَالَتِي وَبِكَلِمِي جَمْعُ كَلِمَةٍ أَيْ وَبِسَمَاعِ كَلِمِي، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِرِسَالَاتِي وَتَكَلُّمِي، وَحَكَى عَنْهُ الْمَهْدَوِيُّ وَتَكْلِيمِي عَلَى وَزْنِ تَفْعِيلِي وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَ مَا آتَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ وَحُصُولَ أَجْرٍ بِالِامْتِثَالِ وَالْمَعْنَى خُذْ مَا آتَيْتُكَ بِاجْتِهَادٍ فِي تَبْلِيغِهِ وَجِدٍّ فِي النَّفْعِ بِهِ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى مَا آتَيْنَاكَ وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَنَعِ وَالرِّضَا بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَالشُّكْرِ عَلَيْهِ. وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قِيلَ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَعِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَفَاقَ فِيهِ وَأُعْطِيَ التَّوْرَاةَ يَوْمَ النَّحْرِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَكَتَبْنا نِسْبَةُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ. فَقِيلَ كَتَبَ بِيَدِهِ وَأَهْلُ السَّمَاءِ يَسْمَعُونَ صَرِيرَ الْقَلَمِ فِي اللَّوْحِ ، وَقِيلَ: أَظْهَرَهَا وَخَلَقَهَا فِي الْأَلْوَاحِ، وَقِيلَ: أَمَرَ الْقَلَمَ أَنْ يَخُطَّ لِمُوسَى فِي الْأَلْوَاحِ، وَقِيلَ: كَتَبَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بالقلم الذي كتبه بِهِ الذِّكْرُ وَاسْتَمَدَّ مِنْ نَهْرِ النُّورِ فَفِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ إِسْنَادَ تَشْرِيفٍ إِذْ ذَاكَ صَادِرٌ عَنْ أَمْرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى كَتَبْنا فَرَضْنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «1» وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى والْأَلْواحِ جَمْعُ قِلَّةٍ وَأَلْ فِيهَا لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَطَعَهَا وَشَقَّقَهَا فَتَكُونُ أَلْ فِيهَا لِلْعَهْدِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَوَّضَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي يُقَدَّرُ وَصْلُهُ بَيْنَ الْأَلْوَاحِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقْدِيرُهُ فِي أَلْوَاحِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «2» أَيْ مَأْوَاهُ انْتَهَى وَكَوْنُ أَلْ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ ليس

_ (1) سورة البقرة: 2/ 183. (2) سورة النازعات: 79/ 41.

مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى لِأَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرٌ عَنْ مِنْ فَاحْتَاجَتِ الْجُمْلَةُ إِلَى رَابِطٍ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَلْ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَأْوَاهُ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الرَّابِطُ مَحْذُوفٌ أَيْ هِيَ الْمَأْوَى لَهُ وَظَاهِرُ الْأَلْوَاحِ الْجَمْعُ، فَقِيلَ كَانَتْ سَبْعَةً وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةٌ ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَقِيلَ: تِسْعَةٌ قَالَهُ مُقَاتِلٌ: وَقِيلَ: عَشْرَةٌ قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَقِيلَ اثْنَانِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ بِالْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ قِيَاسًا لَهُ شَرْطٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ هُوَ مَفْقُودٌ هُنَا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ وَهِيَ وَقْرُ سَبْعِينَ بَعِيرًا يُقْرَأُ الْجُزْءُ مِنْهَا فِي سَنَةٍ وَلَمْ يَقْرَأْهَا سِوَى أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مُوسَى وَيُوشَعُ وَعُزَيْرٌ وَعِيسَى، وَقَدِ اخْتَلَفُوا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هِيَ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ زَبَرْجَدٌ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَيْضًا مِنْ بَرَدٍ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ مِنْ زُمُرُّدٍ وَيَاقُوتٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ مِنْ خَشَبٍ طُولُهَا عَشْرَةُ أَذْرُعٍ، وَعَنْ وَهْبٍ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ أُمِرَ بِقَطْعِهَا وَلَانَتْ لَهُ فَقَطَعَهَا بِيَدِهِ وَشَقَّقَهَا بِأَصَابِعِهِ، وَقِيلَ: مِنْ نُورٍ حَكَاهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَالْمَعْنَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ في شرعيتهم. مَوْعِظَةً لِلِازْدِجَارِ وَالِاعْتِبَارِ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ التَّكَالِيفِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَخْبَارِ وَالْمُغَيَّبَاتِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ كَانَ مَكْتُوبًا فِي الْأَلْوَاحِ إِنِّي أَنَا اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ لَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا وَلَا تَقْطَعُوا السُّبُلَ وَلَا تَحْلِفُوا بِاسْمِي كَاذِبِينَ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِاسْمِي كَاذِبًا فَلَا أُزَكِّيهِ وَلَا تَقْتُلُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَعُقُّوا الْوَالِدَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ كَتَبْنا أَيْ كَتَبْنَا فِيهَا مَوْعِظَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ نَصَبَ مَوْعِظَةً بِكَتَبْنَا وَتَفْصِيلًا عَطْفٌ عَلَى مَوْعِظَةً لِكُلِّ شَيْءٍ متعلق بتفصيلا انْتَهَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُ وَكَتَبْنا ومَوْعِظَةً، وَتَفْصِيلًا بَدَلٌ مِنْهُ وَالْمَعْنَى كَتَبْنَا لَهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ انْتَهَى، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ كَتَبْنا مَوْضِعَ الْمَجْرُورِ كَمَا تَقُولُ أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ كَتَبْنَا لَهُ أَشْيَاءَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَانْتَصَبَ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ كَتَبْنَا لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ لِلِاتِّعَاظِ وَالتَّفْصِيلِ لِأَحْكَامِهِمْ. فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أَيْ فَقُلْنَا خُذْهَا

عَطْفًا عَلَى كَتَبْنا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَخُذْها بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ، وَالضَّمِيرُ فِي فَخُذْها عَائِدٌ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَى مَا لَا عَلَى لَفْظِهَا وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى إِضْمَارِ فَقُلْنَا فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْأَلْواحِ أَيِ الْأَلْوَاحِ أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَشْيَاءِ أَوْ عَلَى التَّوْرَاةِ أَوْ عَلَى الرِّسَالَاتِ وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مَقُولَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَمَعْنَى بِقُوَّةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ فِعْلُ أُولِي الْعَزْمِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِطَاعَةٍ، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ: بِشُكْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: بِعَزِيمَةٍ وَقُوَّةِ قَلْبٍ لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَهَا بِضَعْفِ النِّيَّةِ أَدَّاهُ إِلَى الْفُتُورِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُمِرَ مُوسَى أَنْ يَأْخُذَ بِأَشَدَّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ قَوْمُهُ وَقَوْلُهُ بِأَحْسَنِها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَفِيهَا الْحَسَنُ وَالْأَحْسَنُ كَالْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ وَالِانْتِصَارِ وَالصَّبْرِ، وَقِيلَ: أَحْسَنُهَا الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ وَحُسْنُهَا الْمُبَاحُ، وَقِيلَ: أَحْسَنُهَا النَّاسِخُ وَحُسْنُهَا الْمَنْسُوخُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ حَسَنًا إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّسْخِ أَمَّا بَعْدَ النَّسْخِ فَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا، وَقِيلَ الْأَحْسَنُ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى قَوْلِهِ الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ انْتَهَى، وَذَلِكَ عَلَى تَخَيُّلِ أَنَّ فِي الشِّتَاءِ حَرًّا وَيُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِمَا فِي الْحُسْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَاذِّ وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ أَحْسَنَ مِنْ حَيْثُ الِامْتِثَالِ وَتَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ حَسَنًا بِاعْتِبَارِ الْمَلَاذِّ وَالشَّهْوَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْحُسْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُهُ، وَقِيلَ أَحْسَنُهَا هُوَ أَشْبَهُ مَا تَحْتَمِلُهُ الْكَلِمَةُ مِنَ الْمَعَانِي إِذَا كَانَ لَهَا احْتِمَالَاتٌ فَتُحْمَلُ عَلَى أَوْلَاهَا بِالْحَقِّ وَأَقْرَبِهَا إِلَيْهِ، وَقِيلَ أَحْسُنُ هُنَا لَيْسَتْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَلِ الْمَعْنَى بِحُسْنِهَا كَمَا قَالَ: بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ أَيْ عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَعَلَى هَذَا أُمِرُوا بِأَنْ يَأْخُذُوا بِحُسْنِهَا وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ دُونَ الْمَنَاهِي الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهَا الْعِقَابُ، وَقِيلَ أَحْسَنُ هُنَا صِلَةٌ وَالْمَعْنَى يَأْخُذُوا بِهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ وَانْجَزَمَ يَأْخُذُوا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ وَيَنْبَغِي تَأْوِيلُ وَأْمُرْ قَوْمَكَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ أَمْرِ قَوْمِهِ بِأَخْذِ أَحْسَنِهَا أَنْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها فَلَا يَنْتَظِمُ مِنْهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وبِأَحْسَنِها مُتَعَلِّقٌ بِيَأْخُذُوا وَذَلِكَ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي لِأَنَّ بِأَحْسَنِها مُقْتَضًى لِقَوْلِهِ وَأْمُرْ وَلِقَوْلِهِ يَأْخُذُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِ يَأْخُذُوا مَجْزُومًا عَلَى إِضْمَارِ لَامِ الْأَمْرِ أَيْ لِيَأْخُذُوا لِأَنَّ مَعْنَى وَأْمُرْ قَوْمَكَ قُلْ لِقَوْمِكَ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَمَفْعُولُ يَأْخُذُوا مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى أَيْ يَأْخُذُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَحْسَنِها وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً أَيْ يَأْخُذُوا أَحْسَنَهَا كَقَوْلِهِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ، وَالْوَجْهُ

الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَانْظُرْ إِلَى اخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرَيْنِ أُمِرَ مُوسَى بِأَخْذِ جَمِيعِهَا، فَقِيلَ: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأَكَّدَ الْأَخْذَ بِقَوْلِهِ بِقُوَّةٍ وَأُمِرُوا هُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها وَلَمْ يُؤَكِّدْ لِيُعْلِمَ أَنَّ رُتْبَةَ النُّبُوَّةِ أَشُقُّ فِي التَّكْلِيفِ مِنَ رُتْبَةِ التَّابِعِ وَلِذَلِكَ فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّكَالِيفِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَالْإِرَاءَةُ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ ودارَ الْفاسِقِينَ مِصْرُ قَالَهُ عَلِيٌّ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالْفَاسِقُونَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَيْفَ أَقْفَرَتْ مِنْهُمْ وَدُمِّرُوا لِفِسْقِهِمْ لِتَعْتَبِرُوا فَلَا تَفْسُقُوا مِثْلَ فِسْقِهِمْ فَيُنَكَّلُ بِكُمْ مِثْلُ نَكَالِهِمْ انْتَهَى، وَقِيلَ الْمَعْنَى: سَأُرِيكُمْ مَصَارِعَ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ أَوْحَى إِلَى الْبَحْرِ أَنِ اقْذِفْ أَجْسَادَهُمْ إِلَى السَّاحِلِ فَفَعَلَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَرَاهُمْ مَصَارِعَ الْفَاسِقِينَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا مَرُّوا عَلَيْهِ إِذَا سَافَرُوا مِنْ مَصَارِعِ عَادٍ وَثَمُودَ وَالْقُرُونِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا، وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا الشَّامُ وَالْمُرَادُ الْعَمَالِقَةُ الَّذِينَ أُمِرَ مُوسَى بِقِتَالِهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: دارَ الْفاسِقِينَ جَهَنَّمُ وَالْمُرَادُ الْكَفَرَةُ بِمُوسَى وَغَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سَأُرِيكُمْ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ أَيْ سَأُعْلِمُكُمْ سِيَرَ الْأَوَّلِينَ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ، وَقِيلَ دارَ الْفاسِقِينَ أَيْ مَا دَارَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَهَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي يُحَدِّثُ عَنْهَا الْعِلْمُ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ لَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ الْمَفْعُولُ الثَّالِثُ يَتَضَمَّنُهُ الْمَعْنَى فَهُوَ مُقَدَّرٌ أَيْ مُدَمَّرَةً أَوْ خَرِبَةً أَوْ مُسَعَّرَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنها جَهَنَّمُ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذَا الْمَفْعُولِ ولا الاقتصار دُونَهُ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ وَلَوْ جُوِّزَ لَكَانَ عَلَى قُبْحٍ فِي اللِّسَانِ لَا يَلِيقُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّالِثِ فِي بَابِ أَعْلَمَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ جَائِزٌ فَيَجُوزُ فِي جَوَابِ هَلْ أَعْلَمْتَ زَيْدًا عَمْرًا مُنْطَلِقًا أَعْلَمْتَ زَيْدًا عَمْرًا وَيُحْذَفُ مُنْطَلِقًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهِ وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَجُوزُ حَذْفُهُ اخْتِصَارًا وَالثَّانِي والثالث في بام أَعْلَمَ يَجُوزُ حَذْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اخْتِصَارًا وَفِي قَوْلِهِ لِأَنَّهَا أَيْ سَأُرِيكُمْ داخلة على المبتدأ والخبر فِيهِ تَجَوٌّزٌ وَيَعْنِي أَنَّهَا قَبْلَ النَّقْلِ بِالْهَمْزَةِ فَكَانَتْ داخلة على المبتدأ والخبر، وقرأ الحسن: سَأُرِيكُمْ بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ رَسْمُ الْمُصْحَفِ وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِوَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَتْحِ وَهُوَ أَنَّهُ أشبع الضمة ومطّلها فَنَشَأَ عَنْهَا الْوَاوُ قَالَ: وَيَحْسُنُ احْتِمَالُ الْوَاوِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ مَوْضِعُ وَعِيدٍ وَإِغْلَاظٍ فَمَكَّنَ الصَّوْتَ فِيهِ انْتَهَى، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ أدنو فانظر رَأَى فَأَنْظُرُ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْإِشْبَاعَ بَابُهُ ضَرُورَةُ الشِّعْرِ، وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ وَقَرَأَ الحسن

سَأُرِيكُمْ وَهِيَ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ بِالْحِجَازِ يُقَالُ: أَوْرِنِي كَذَا وَأَوْرَيْتُهُ فَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْرَيْتُ الزَّنْدَ كَأَنَّ الْمَعْنَى بينه لي وأثره لِأَسْتَبِينَهُ انْتَهَى، وَهِيَ أَيْضًا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ كَأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوهَا مِنْ لُغَةِ الْحِجَازِ وَبَقِيَتْ فِي لِسَانِهِمْ إِلَى الْآنِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي تَحَقُّقِ هَذِهِ اللُّغَةِ أَهِيَ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ أَمْ لَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَسَامَةُ بْنُ زُهَيْرٍ سَأُورِثُكُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ يُصَحِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ «1» . سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لَمَّا ذَكَرَ سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ذَكَرَ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ تَعَالَى مِنْ صَرْفِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ آيَاتِهِ لِفِسْقِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ عَنْ طَوْرِهِمْ إِلَى وَصْفٍ لَيْسَ لَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ اسْمَ الْفِسْقِ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ سَأَصْرِفُهُمْ عَنِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ عَلَى هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَبَدَائِعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَأَصُدُّهُمْ عَنِ الْإِعْرَاضِ وَالطَّعْنِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فَالْآيَاتُ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِصَوْنِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ سَأَمْنَعُهُمْ مِنْ تَدَبُّرِهَا وَنَظَرِهَا النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَقِّ، وَقَالَ الزَّجَّاجَ: أَجْعَلُ جَزَاءَهُمْ الإضلال عن الاهتداء باياتي والآيات على هذا التوراة والإنجيل أو الكتب المنزلة، وقيل سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ دَفْعِ الِانْتِقَامِ أَيْ إِذَا أَصَابَتْهُمْ عُقُوبَةٌ لَمْ يَدْفَعْهَا عَنْهُمْ فَالْآيَاتُ عَلَى هَذَا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ الَّتِي صَارُوا بِهَا مُثْلَةً وَعِبْرَةً وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَامٌّ أَيْ كُلُّ مَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْوَصْفُ، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ خِطَابِ مُوسَى، وَالْآيَاتُ هِيَ التِّسْعُ الَّتِي أُعْطِيهَا وَالْمُتَكَبِّرُونَ هُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِهَا بِمَا انْهَمَكُوا فِيهِ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْضَ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ بِالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَخِذْلَانِهِمْ فَلَا يُفَكِّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا غَفْلَةً وَانْهِمَاكًا فِيمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا مِنْ شَهَوَاتِهِمْ وَفِيهِ إِنْذَارُ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ عَاقِبَةِ وَالَّذِينَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْآيَاتِ لِتَكَبُّرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهَا لِئَلَّا يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَيَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَهُمْ انْتَهَى، والَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمُ الْكَفَرَةُ وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَأَجْعَلُ الصَّرْفَ عَنِ الْآيَاتِ عُقُوبَةَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى تَكَبُّرِهِمْ انْتَهَى، وَقِيلَ هُمُ الَّذِينَ يَحْتَقِرُونَ النَّاسَ وَيَرَوْنَ لَهُمُ الْفَضْلَ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِنَّمَا الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ ويتعلق بغير الحق بيتكبرون أَيْ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ بالحقّ كتكبّر المحقّ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 137.

عَلَى الْمُبْطِلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ مُلْتَبِسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْمَعْنَى غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ بِالْحَقِّ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْفَضْلُ الَّذِي لَيْسَ لِأَحَدٍ. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَصَفَهُمْ هَذَا الْوَصْفَ الذَّمِيمَ وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كُلُّ آيَةٍ لَمْ يَرَوْهَا آيَةً فَيُؤْمِنُوا بِهَا وَهَذَا خَتْمٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي قَدَّرَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: وَإِنْ يَرَوْا بِضَمِّ الْيَاءِ. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا. أَرَاهُمُ اللَّهُ السَّبِيلَيْنِ فَرَأَوْهُمَا فَآثَرُوا الْغَيَّ عَلَى الرُّشْدِ كَقَوْلِهِ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2» . وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ الرَّشَدِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ الرُّشْدِ، وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ إِتْبَاعُ الشِّينِ ضَمَّةَ الرَّاءِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّشَادِ وَهِيَ مَصَادِرُ كَالسَّقَمِ وَالسُّقْمِ وَالسَّقَامِ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء: الرُّشْدِ الصَّلَاحُ فِي النَّظَرِ وَبِفَتْحِهِمَا الدِّينُ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ لَا يَتَّخِذُوهَا وَيَتَّخِذُوهَا عَلَى تَأْنِيثِ السَّبِيلِ وَالسَّبِيلُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي «3» وَلَمَّا نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ اسْتَعَارَ لِلرُّشْدِ وَالْغَيِّ سَبِيلَيْنِ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ تَارِكُو سَبِيلَ الرُّشْدِ سَالِكُو سَبِيلَ الْغَيِّ وَنَاسَبَ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمُتَضَمِّنَةِ سَبِيلَ الرُّشْدِ عَلَى مُقَابَلَتِهَا لِأَنَّهَا قَبْلَهَا. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فَذَكَرَ مُوجِبَ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْآيَاتُ وَتَرَتَّبَ نَقِيضُهُ عَلَيْهِ وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ الرُّشْدِ وَتَرَتَّبَ نَقِيضُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا مُصَرِّحَةً بِسُلُوكِهِمْ سَبِيلَ الْغَيِّ وَمُؤَكَّدَةً لِمَفْهُومِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ قَبْلَهَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ سَبِيلِ الرُّشْدِ سُلُوكُ سَبِيلِ الْغَيِّ لِأَنَّهُمَا إِمَّا هُدًى أَوْ ضَلَالٌ فَهُمَا نَقِيضَانِ إِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. أَيْ ذَلِكَ الصَّرْفُ عَنِ الْآيَاتِ هُوَ سَبَبُ تَكْذِيبِهِمْ بِهَا وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا وَالتَّفَكُّرِ فِي دَلَالَتِهَا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اسْتَمَرَّ كَذِبُهُمْ وَصَارَ لَهُمْ ذَلِكَ دَيْدَنًا حَتَّى صَارَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ لَا تَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ فَحَصَلَتِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا وَالنِّسْيَانُ لَهَا حَتَّى كَانُوا لَا يَذْكُرُونَهَا وَلَا شَيْئًا مِنْهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّرْفَ سَبَبُهُ التَّكْذِيبُ وَالْغَفْلَةُ من جميعهم ويحتمل أن الصَّرْفَ سَبَبُهُ التَّكْذِيبُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ مِنْهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَيْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الآيات وتدبرها

_ (1) سورة المائدة: 5/ 54. (2) سورة فصلت: 41/ 17. (3) سورة يوسف: 12/ 108. [.....]

فَأَوْرَثَتْهُمُ الْغَفْلَةُ التَّكْذِيبَ بِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بِأَنَّهُمْ أَيْ ذَلِكَ الصَّرْفُ كَائِنٌ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ صَرَفَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الصَّرْفَ بِعَيْنِهِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّرْفَ سَبَبُهُ هَذَا التَّكَبُّرُ وَفِي قَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا إِعْلَامٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الصَّرْفَ سَبَبُهُ التَّكْذِيبُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّكَبُّرَ سَبَبٌ أَوَّلُ نَشَأَ عَنْهُ التَّكْذِيبُ فَنِسْبَةُ الصَّرْفِ إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ وَإِلَى مَا تَسَبَّبَ عَنْهُ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ أَمْرُ الْمُكَذِّبِينَ فَذَكَرَ أَنَّهُ يُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ أَيْ لَا يَعْبَأُ بِهَا وَأَصْلُ الْحَبْطِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ صَلَاحُهُ فَاسْتُعْمِلَ الْحُبُوطُ هُنَا إِذَا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ جَارِيَةً عَلَى طَرِيقٍ صَالِحٍ فَكَانَ الْحَبْطُ فِيهَا بِحَسَبَ مُعْتَقَدَاتِهِمْ إِذِ الْمُكَذِّبُ بِالْآيَاتِ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَمَلٌ فِيهِ إِحْسَانٌ لِلنَّاسِ وَصَفْحٌ وَعَفْوٌ عَمَّنْ جَنَى عَلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُجَازَى عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَشَمَلَ حَبْطُ الْأَعْمَالِ مَنْ لَهُ عَمَلٌ بَرٌّ وَمَنْ عَمَلُهُ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ فَاسِدٌ وَنَبَّهَ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ عَلَى مَحَلِّ افْتِضَاحِهِمْ وَجَزَائِهِمْ وَتَهْدِيدًا لَهُمْ وَوَعِيدًا بِهَا وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَإِضَافَةُ لِقاءِ إِلَى الْآخِرَةِ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ وَلِقَائِهِمُ الْآخِرَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون من إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ وَلِقَائِهِمُ الْآخِرَةَ وَمُشَاهَدَتِهِمْ أَحْوَالَهَا وَمِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الظَّرْفِ بِمَعْنَى وَلِقَاءِ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى. ولا يجيز جِلَّةُ النَّحْوِيِّينَ الْإِضَافَةَ إِلَى الظَّرْفِ لِأَنَّ الظَّرْفَ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ فِي وَالْإِضَافَةُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هِيَ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ أَوْ تَقْدِيرِ مِنْ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَإِنِ اتُّسِعَ فِي الْعَامِلِ جَازَ أَنْ يَنْصِبَ الظَّرْفَ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ وَجَازَ إِذْ ذَاكَ أَنْ يُضَافَ مُصْدَرُهُ إِلَى ذَلِكَ الظَّرْفِ الْمُتَّسَعِ فِي عَامِلِهِ وَأَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى تَقْدِيرِ فِي كَمَا يُفْهِمُهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْدُودٌ فِي علم النحو. وهَلْ يُجْزَوْنَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ أَيْ يَسْتَوْجِبُونَ بِسُوءِ فِعْلِهِمُ الْعُقُوبَةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ هُوَ مُوجِبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَبْعُدُ دُخُولُ إِلَّا وَلَعَلَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ. إِنْ كَانَ الِاتِّخَاذُ بِمَعْنَى اتِّخَاذِهِ إِلَهًا مَعْبُودًا فَصَحَّ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَوْمِ وَذُكِرَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عَبَدُوهُ غَيْرَ هَارُونَ وَلِذَلِكَ

قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي «1» ، وَقِيلَ إِنَّمَا عَبَدَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ لِقَوْلِهِ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ «2» وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعَمَلِ كَقَوْلِهِ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً «3» أَيْ عَمِلَتْ وَصَنَعَتْ فَالْمُتَّخِذُ إِنَّمَا هُوَ السَّامِرِيُّ وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظُفَرَ مِنْ قَرْيَةٍ تُسَمَّى سَامِرَةَ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى قَوْمِ مُوسَى مَجَازًا كَمَا قَالُوا بَنُو تَمِيمٍ قَتَلُوا فُلَانًا وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلِكَوْنِهِمْ رَاضِينَ بِذَلِكَ وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ بَعْدِ مُضِيِّهِ للمناجاة ومِنْ حُلِيِّهِمْ متعلق باتخذ وَبِهَا يَتَعَلَّقُ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنْ كَانَا حَرْفَيْ جَرٍّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا لِأَنَّ مِنَ الْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّبْعِيضِ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُلِيِّهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً أَيْ عِجْلًا كَائِنًا مِنْ حُلِيِّهِمْ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِكَسْرِ الْحَاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ اللَّامِ كَمَا قَالُوا: عَصَى، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَطَلْحَةَ وَالْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَهُوَ جَمْعُ حَلْيٍ نَحْوُ ثَدْيٍ وَثُدِيٍّ وَوَزْنُهُ فُعُولٌ اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِتَصِحَّ الْيَاءُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ مُفْرَدٌ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَوِ اسْمُ جِنْسٍ مُفْرَدُهُ حَلْيَةٌ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ، وَإِضَافَةُ الْحُلِيِّ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مَلَكُوهُ مِنْ مَا كَانَ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ حِينَ غَرِقُوا وَلَفَظَهُمُ الْبَحْرُ فَكَانَ كَالْغَنِيمَةِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ هَارُونُ بِجَمْعِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُوسَى إِذَا رَجَعَ فِي أَمْرِهِ أَوْ مَلَكُوهُ إِذْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي اغْتَصَبَهَا الْقِبْطُ بِالْجِزْيَةِ الَّتِي كَانُوا وَضَعُوهَا عَلَيْهِمْ فَتَحَيَّلَ بَنُو إسرائيل عل اسْتِرْجَاعِهَا إِلَيْهِمْ بِالْعَارِيَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ لَكِنْ تَصَرَّفَتْ أَيْدِيهِمْ فِيهِ بِالْعَارِيَةِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُمُ اسْتَعَارُوا الْحُلِيَّ مِنَ الْقِبْطِ لِعُرْسٍ، وَقِيلَ: لِيَوْمِ زِينَةٍ وَلَمَّا هَلَكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بَقِيَ الْحُلِيُّ مَعَهُمْ وَكَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي بَيْعِهِ وَتَمْحِيقِهِ، فَقَالَ السَّامِرِيُّ لِهَارُونَ: إِنَّهُ عَارِيَةٌ وَلَيْسَ لَنَا فَأَمَرَ هَارُونُ مُنَادِيًا بِرَدِّ الْعَارِيَةِ لِيَرَى فِيهَا مُوسَى رَأْيَهُ إِذَا جَاءَ فَجَمَعَهُ وَأَوْدَعَهُ هَارُونُ عِنْدَ السَّامِرِيِّ وَكَانَ صَائِغًا فَصَاغَ لَهُمْ صُورَةَ عِجْلٍ مِنَ الْحُلِيِّ، وَقِيلَ: مَنَعَهُمْ مِنْ رَدِّ الْعَارِيَةِ خَوْفُهُمْ أَنْ يَطَّلِعَ الْقِبْطُ عَلَى سُرَاهُمْ إِذْ كَانَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُسْرِيَ بِهِمْ ، وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ الْقَرِيبُ الْوِلَادَةِ وَمَعْنَى جَسَداً جُثَّةً جَمَادًا، وَقِيلَ: بَدَنًا بِلَا رَأْسٍ ذَهَبًا مُصْمَتًا، وَقِيلَ: صَنَعَهُ مُجَوَّفًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

_ (1) سورة الأعراف: 1517. (2) سورة الأعراف: 7/ 159. (3) سورة العنكبوت: 29/ 41.

جَسَداً بَدَنًا ذَا لَحْمٍ وَدَمٍ كَسَائِرِ الْأَجْسَادِ، قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ السَّامِرِيَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ قُطِعَ الْبَحْرُ فَقَذَفَهُ فِي فِيِّ الْعِجْلِ فَكَانَ عِجْلًا لَهُ خُوَارٌ انْتَهَى. وَهَذَا ضَعِيفٌ أَعْنِي كَوْنَهُ لَحْمًا وَدَمًا لِأَنَّ الْآثَارَ وَرَدَتْ بِأَنَّ مُوسَى بَرَدَهُ بِالْمَبَارِدِ وَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ وَلَا يُبْرَدُ اللَّحْمُ بَلْ كَانَ يُقْتَلُ وَيُقَطَّعُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ذِكْرُ الْجَسَدِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ الرُّوحِ فِيهِ انْتَهَى، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ لَهُ خُوارٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ رُوحٌ لِأَنَّهُ لَا يَخُورُ إِلَّا مَا فِيهِ رُوحٌ، وَقِيلَ: لَمَّا صَنَعَهُ أَجْوَفَ تَحَيَّلَ لِتَصْوِيتِهِ بِأَنْ جَعَلَ فِي جَوْفِهِ أَنَابِيبَ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ وَجَعَلَهُ فِي مَهَبِّ الرِّيَاحِ فَتَدْخُلُ فِي تِلْكَ الْأَنَابِيبِ فَيَظْهَرُ صَوْتٌ يُشْبِهُ الْخُوَارَ، وَقِيلَ: جَعَلَ تَحْتَهُ مَنْ يَنْفُخُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يُشْعَرُ بِهِ فَيُسْمَعُ صَوْتٌ مِنْ جَوْفِهِ كَالْخُوَارِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جَعَلَ فِي بَطْنِ الْعِجْلِ بَيْتًا يُفْتَحُ وَيُغْلَقُ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخُورَ أَدْخَلَهُ غُلَامًا يَخُورُ بِعَلَامَةٍ بَيْنَهُمَا إِذَا أَرَادَ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَخَارَهُ لِيَفْتِنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخُوَارُهُ، قِيلَ: مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَثْنِ رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: مِرَارًا فَإِذَا خَارَ سَجَدُوا وَإِذَا سكت رفعوا رؤوسهم، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو السَّمْأَلِ وَفِرْقَةٌ جُؤَارٌ: بِالْجِيمِ وَالْهَمْزِ مِنْ جَأَرَ إِذَا صَاحَ بِشِدَّةِ صَوْتٍ وَانْتَصَبَ جَسَداً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ عَلَى النَّعْتِ وَأَجَازَهُمَا أَبُو الْبَقَاءِ وَأَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ وَإِنَّمَا قَالَ: جَسَداً لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ مَخْطُوطًا أَوْ مَرْقُومًا فِي حَائِطٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَالتَّمَاثِيلِ الْمُصَوَّرَةِ بِالرَّقْمِ وَالْخَطِّ وَالدِّهَانِ وَالنَّقْشِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ ذُو جَسَدٍ. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، إِنْ كَانَ اتَّخَذَ مَعْنَاهُ عَمِلَ وَصَنَعَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَارُ وَهُوَ فَعَبَدُوهُ وَجَعَلُوهُ إِلَهًا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ إِلَهًا أَيِ اتَّخَذُوا عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ إِلَهًا فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ جُمْلَةٍ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ حَيْثُ عَبَدُوا جَمَادًا أَوْ حَيَوَانًا عَاجِزًا عَلَيْهِ آثَارُ الصَّنْعَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلَا يَهْدِيَ وَقَدْ رَكَزَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ يُسَمَّى الِاحْتِجَاجَ النَّظَرِيَّ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَرَوْا بِمَعْنَى يَعْلَمُوا وَسَلَبَ تَعَالَى عَنْهُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ دُونَ بَاقِي أَوْصَافِ الإلهية لأنّ انتفاء التكليم يستلزم انتفاء العلم وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء لقدرة وَانْتِفَاءَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَهُمَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ يَسْتَلْزِمَانِ بَاقِيَ الأوصاف فلذلك حضّ هَذَانِ الْوَصْفَانِ بِانْتِفَائِهِمَا. اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ أَيْ أَقْدَمُوا عَلَى مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الشَّنِيعِ وَكَانُوا وَاضِعِينَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَيْ مِنْ شَأْنِهِمُ الظُّلْمُ فَلَيْسُوا مُبْتَكِرِينَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ

مَوْضِعِهِ وَلَيْسَ عِبَادَةُ الْعِجْلِ بِأَوَّلِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنَ الْمَنَاكِرِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ويحتمل أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ انْتَهَى يَعْنِي فِي وَكانُوا وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ وَأَنَّ شَأْنَهُمْ ذَلِكَ فَلَا يَتَقَيَّدُ ظُلْمُهُمْ بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ الْفَاضِحَةِ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. ذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِ سُقِطَ فِي يَدِهِ فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ فَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مُضَارِعٌ وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ وَكَانَ أَصْلُهُ مُتَصَرِّفًا تَقُولُ سَقَطَ الشَّيْءُ إِذَا وَقَعَ مِنْ عُلْوٍ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُتَصَرِّفٌ لَازِمٌ، وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: سُقِطَ فِي يَدِهِ مما دثر استعماله مثل ما دُثِرَ اسْتِعْمَالُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ «1» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ ضَعْفٌ وَالسِّقَاطُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثْرَةُ الْخَطَأِ وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي كَاهِلٍ: كَيْفَ يرجون سقاطي بعد ما ... بَقَّعَ الرَّأْسَ مَشِيبٌ وَصَلَعْ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سِرَاجٍ أَحَدِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ بِالْأَنْدَلُسِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَوْلُ الْعَرَبِ سُقِطَ فِي يَدِهِ مِمَّا أَعْيَانِي مَعْنَاهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِمَنْ نَدِمَ عَلَى أَمْرٍ وَعَجَزَ عَنْهُ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سُقِطَ النَّدَمُ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يُقَالُ حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمْ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ فِي الْيَدِ تَشْبِيهًا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْيَدِ وَيُرَى بِالْعَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ كَانَ سَاعِيًا لِوَجْهٍ أَوْ طَالِبًا غَايَةً فَعَرَضَ لَهُ مَا صَدَّهُ عَنْ وَجْهِهِ وَوَقَفَهُ مَوْقِفَ الْعَجْزِ وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ عَاجِزٌ سُقِطَ فِي يَدِ فُلَانٍ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ النَّدَمُ وَقَدْ لَا يَعْرِضُ، قَالَ: وَالْوَجْهُ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَنَّ السَّعْيَ أَوِ الصَّرْفَ أَوِ الدِّفَاعَ سُقِطَ فِي يَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فَصَارَ فِي يَدِهِ لَا يُجَاوِزُهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْخَارِجِ أَثَرٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا اشْتَدَّ نَدَمُهُمْ وَحَسْرَتُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنِ اشْتَدَّ نَدَمُهُ وَحَسْرَتُهُ أَنْ يَعَضَّ يَدَهُ غَمًّا فَتَصِيرَ يَدُهُ مَسْقُوطًا فِيهَا لِأَنَّ فَاهُ قَدْ وَقَعَ فِيهَا وَسُقِطَ مُسْنَدٌ إِلَى فِي أَيْدِيهِمْ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ انْتَهَى، وَالصَّوَابُ وَسُقِطَ مُسْنَدٌ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّقِيطِ وَهُوَ مَا يَغْشَى الْأَرْضَ بِالْغُذَوَاتِ شِبْهُ الثَّلْجِ يُقَالُ: مِنْهُ سُقِطَتِ الْأَرْضُ كَمَا يُقَالُ: مِنَ الثَّلْجِ ثُلِّجَتِ الْأَرْضُ وَثُلِّجْنَا أَيْ أَصَابَنَا الثَّلْجُ وَمَعْنَى سُقِطَ فِي يَدِهِ وَالسَّقِيطِ وَالسُّقْطِ يَذُوبُ بِأَدْنَى حَرَارَةٍ وَلَا يَبْقَى وَمَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ السَّقِيطُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ فَصَارَ مَثَلًا لِكُلِّ مَنْ خَسِرَ فِي عَاقِبَتِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ بُغْيَتِهِ عَلَى طَائِلٍ وَكَانَتِ النَّدَامَةُ آخِرَ أَمْرِهِ، وَقِيلَ: مِنْ عَادَةِ النَّادِمِ أن

_ (1) سورة الكهف: 18/ 11.

يطأطىء رَأْسَهُ وَيَضَعَ ذَقْنَهُ عَلَى يده معتمدا عليها ويصبر عَلَى هَيْئَةٍ لَوْ نُزِعَتْ يَدُهُ لَسُقِطَ عَلَى وَجْهِهِ كأن اليد مسقوط فِيهَا وَمَعْنَى فِي عَلَى أَيْ سُقِطَ عَلَى يَدِهِ وَمَعْنَى فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ عَلَى أَيْدِيهِمْ كَقَوْلِهِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «1» انْتَهَى. وَكَانَ مُتَعَلِّقُ سُقِطَ قَوْلَهُ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْآلَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ بِهَا وَيُضْبَطُ وسُقِطَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَالَّذِي أُوقِعَ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ كَمَا تَقُولُ: جُلِسَ فِي الدَّارِ وَضُحِكَ مِنْ زَيْدٍ، وَقِيلَ: سُقِطَ تَتَضَمَّنُ مَفْعُولًا وَهُوَ هَاهُنَا الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْإِسْقَاطُ كَمَا يُقَالُ: ذهب يزيد انْتَهَى، وَصَوَابُهُ وَهُوَ هُنَا ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ السُّقُوطُ لِأَنَّ سُقِطَ لَيْسَ مصدر الْإِسْقَاطَ وَلَيْسَ نَفْسُ الْمَصْدَرِ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بَلْ هُوَ ضَمِيرُهُ وَقَرَأَتْ فَرِقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ السَّمَيْقَعِ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ وَقَعَ الْغَضُّ فِيهَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُقِطَ النَّدَمُ فِي أَيْدِيهِمْ، قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن الْخُسْرَانَ وَالْخَيْبَةَ سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أُسْقِطُ فِي أَيْدِيهِمْ رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَأَوْا أَيْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا. قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَخَّرُ مُقَدَّمًا لِأَنَّ النَّدَمَ وَالتَّحَسُّرَ إِنَّمَا يَقَعَانِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ عَظِيمِ الْحَسْرَةِ انْتَهَى، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هذا التَّقْدِيرِ بَلْ يُمْكِنُ تَقَدُّمُ النَّدَمِ عَلَى تَبَيُّنِ الضَّلَالِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا شَكَّ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ أَهْوَ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ حَصَلَ لَهُ النَّدَمُ ثُمَّ بَعْدُ يَتَكَامَلُ النَّظَرُ وَالْفِكْرُ فَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ، قالُوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا انْقِطَاعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتِرَافٌ بِعَظِيمِ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا «2» وَلَمَّا كَانَ هَذَا الذَّنْبُ وَهُوَ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللَّهِ إِلَهًا أَعْظَمَ الذُّنُوبِ بدؤوا بِالرَّحْمَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَمِنْ نِتَاجِهَا غُفْرَانُ الذَّنْبِ وَأَمَّا فِي قِصَّةِ آدَمَ فَإِنَّهُ جَرَتْ مُحَاوَرَةٌ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَهُمَا وَعِتَابٌ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمَا مِنْ أَكْلِ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ بَعْدَ نَهْيِهِ إِيَّاهُمَا عَنْ قُرْبَانِهَا فَضْلًا عَنِ أَكْلِ ثَمَرِهَا فَبَادَرَا إِلَى الْغُفْرَانِ وَأَتْبَعَاهُ بِالرَّحْمَةِ إِذْ غُفْرَانُ مَا وَقَعَ الْعِتَابُ عَلَيْهِ أَكَّدَ مَا يُطْلَبُ أَوَّلًا. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَيُّوبُ بِالْخِطَابِ فِي تَرْحَمْنَا وَتَغْفِرْ وَنِدَاءِ رَبَّنَا، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ وَغَيْرُهُمْ: يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَرَفْعِ رَبُّنا وفي

_ (1) سورة طه: 20/ 71. (2) سورة الأعراف: 7/ 23.

مُصْحَفِ أُبَيٍّ قَالُوا: رَبَّنَا لَئِنْ تَرْحَمْنَا وَتَغْفِرْ لَنَا، بِتَقْدِيمِ الْمُنَادَى وَهُوَ رَبِّنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ صَدَرَا مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ عَلَى التَّعَاقُبِ أَوْ هَذَا مِنْ طَائِفَةٍ وَهَذَا مِنْ طَائِفَةٍ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَقَوِيَ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ خَاطَبَ مُسْتَقِيلًا مِنْ ذَنْبِهِ الْعَظِيمِ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَيَاءُ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الْمُسْتَحْيِي مِنَ الْخِطَابِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْغَائِبِ وَفِي قَوْلِهِمْ: رَبُّنا اسْتِعْطَافٌ حَسَنٌ إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ النَّاظِرُ فِي أَمْرِ عَبِيدِهِ وَالْمُصْلِحُ مِنْهُمْ مَا فَسَدَ. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أَيْ رَجَعَ مِنَ الْمُنَاجَاةِ يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مِنْ مَحَلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَمِعَ أَصْوَاتَهُمْ فَقَالَ هَذِهِ أَصْوَاتُ قَوْمٍ لَاهِينَ فَلَمَّا تَحَقَّقَ عُكُوفَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ دَاخَلَهُ الْغَضَبُ وَالْأَسَفُ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ أَخْبَرَهُ تَعَالَى قَبْلَ رُجُوعِهِ أَنَّهُمْ قَدْ فُتِنُوا بِالْعِجْلِ فَلِذَلِكَ رَجَعَ وَهُوَ غَاضِبٌ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «1» الْآيَةَ وغَضْبانَ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ وَالْغَضَبِ غَلَيَانُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ حُصُولِ مَا يُؤْلِمُ وَذَكَرُوا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ أَسْرَعِ النَّاسِ غَضَبًا وَكَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ كَانَ إِذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ وَرَفَعَ شعر بدنه جبته وأَسِفاً مِنْ أَسِفَ فَهُوَ أَسِفٌ كَمَا تَقُولُ فَرِقَ فَهُوَ فَرِقٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَلَوْ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الزَّمَانِ لَكَانَ عَلَى فَاعِلٍ فَيُقَالُ: آسِفٌ وَالْآسِفُ الْحَزِينُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ أَوِ الْجَزِعُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوِ الْمُتَلَهِّفُ أَوِ الشَّدِيدُ الْغَضَبِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَزِينِ أَوِ الْمُغْضَبِ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَوِ النَّادِمُ قَالَهُ الْقُتَبِيُّ أَيْضًا، أَوْ مُتَقَارِبَانِ قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ قَالَ: فَإِذَا أَتَاكَ مَا تَكْرَهُ مِمَّنْ دُونَكَ غَضِبْتَ أَوْ مِمَّنْ فَوْقَكَ حَزِنْتَ فَأَغْضَبَهُ عِبَادَتُهُمُ الْعِجْلَ وَأَحْزَنَهُ فِتْنَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بِئْسَما فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ وَالْخِطَابُ إِمَّا لِلسَّامِرِيِّ وَعُبَّادِ الْعِجْلِ أَيْ بِئْسَما قُمْتُمْ مَقَامِي حَيْثُ عَبَدْتُمُ الْعِجْلَ مَكَانَ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا لِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَارُونَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ لَمْ يَكُفُّوا مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وخَلَفْتُمُونِي يَدُلُّ عَلَى الْبَعْدِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَعْنَى هُنَا مِنْ بَعْدِ مَا رَأَيْتُمْ مِنِّي تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيَ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا كُنْتُ أَحْمِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَأَكُفُّهُمْ عَنْ مَا طَمَحَتْ إِلَيْهِ أَبْصَارُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْبَقَرِ وَمِنْ حَقِّ الْخَلَفِ أَنْ يَسِيرَ سِيرَةَ الْمُسْتَخْلَفِ وَلَا يُخَالِفَهُ وَيُقَالُ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِذَا فَعَلَهُ عَنْ تَرْكِ مَنْ بَعْدَهُ.

_ (1) سورة طه: 20/ 85.

أَعَجِلْتُمْ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يُقَالُ: عَجِلَ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا تَرَكَهُ غَيْرَ تَامٍّ وَنَقِيضُهُ تَمَّ عَلَيْهِ وَأَعْجَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ وَيَضْمَنُ مَعْنًى سَبَقَ فَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، فَيُقَالُ: عَجِلْتُ الْأَمْرَ وَالْمَعْنَى أَعَجِلْتُمْ عَنْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَهُوَ انْتِظَارُ مُوسَى حَافِظِينَ لِعَهْدِهِ وَمَا وَصَّاكُمْ بِهِ فَبَنَيْتُمُ الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الميعاد قد بلع آخِرَهُ، وَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ فَحَدَّثْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِمَوْتِي فَغَيَّرْتُمْ كَمَا غَيَّرَتِ الْأُمَمُ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ السَّامِرِيَّ قال لهم أحين أَخْرَجَ إِلَيْهِمُ الْعِجْلَ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى إِنَّ مُوسَى لَنْ يَرْجِعَ وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ أَسَابَقْتُمْ قَضَاءَ رَبِّكُمْ وَاسْتَعْجَلْتُمْ إِتْيَانِيَ مِنْ قَبْلِ الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرْتُهُ انْتَهَى، وَقَالَ يَعْقُوبُ: يُقَالُ عَجِلْتُ الشَّيْءَ سَبَقْتُهُ وَأَعْجَلْتُ الرَّجُلَ اسْتَعْجَلْتُهُ أَيْ حَمَلْتُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ انْتَهَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَعَجِلْتُمْ مِيعَادَ رَبِّكُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ: أَعَجِلْتُمْ سَخَطَ رَبِّكُمْ، وَقِيلَ: أَعَجِلْتُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقِيلَ: الْعَجَلَةُ التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، قِيلَ: وَهِيَ مَذْمُومَةٌ وَيُضَعِّفُهُ قَوْلُهُ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى وَالسُّرْعَةُ الْمُبَادَرَةُ بِالشَّيْءِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَهِيَ مَحْمُودَةٌ. وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أَيِ الْأَلْواحَ التَّوْرَاةَ وَكَانَ حَامِلًا لَهَا فَوَضَعَهَا بِالْأَرْضِ غَضَبًا عَلَى مَا فَعَلَهُ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَحَمِيَّةً لِدِينِ اللَّهِ وَكَانَ كَمَا تَقَدَّمَ شَدِيدَ الْغَضَبِ وَقَالُوا كَانَ هَارُونُ أَلْيَنَ مِنْهُ خُلُقًا وَلِذَلِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ. وَقِيلَ: أَلْقَاهَا دَهَشًا لِمَا دَهَمَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَلْقَاهَا تَكَسَّرَتْ فَرُفِعَ أَكْثَرُهَا الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ وَبَقِيَ الَّذِي فِي نُسْخَتِهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ بعد ذلك ، وروي أنها رُفِعَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا وَبَقِيَ سُبُعٌ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ لَا يَصِحُّ أَنَّهُ رَمَاهَا رَمْيَ كَاسِرٍ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَلْقَاهَا مِنْ يَدَيْهِ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مَشْغُولَتَيْنِ بِهَا وَأَرَادَ إِمْسَاكَ أَخِيهِ وَجَرَّهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِفَرَاغِ يَدَيْهِ لِجَرِّهِ وَفِي قَوْلِهِ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَتَكَسَّرْ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرْفَعْ مِنْهَا شَيْءٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ أَيْ أَمْسَكَ رَأْسَهُ جَارَّهُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: بِشَعْرِ رَأْسِهِ، وَقِيلَ: بِذَوَائِبِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَقِيلَ: بِلِحْيَتِهِ، وَقِيلَ: بِأُذُنِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَأْخُذْ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً فَخَشِيَ هَارُونُ أَنْ يَتَوَهَّمَ النَّاظِرُ إِلَيْهِمَا أَنَّهُ لِغَضَبٍ فَلِذَلِكَ نَهَاهُ وَرَغِبَ إليه والظهر أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْأَخْذِ هُوَ غَضَبُهُ عَلَى أَخِيهِ وَكَيْفَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَهُوَ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ فِيهِمْ وَأَمَرَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَأَنْ لَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ مَنْ أَفْسَدَ وَكَيْفَ لَمْ يَزْجُرْهُمْ وَيَكُفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وَقَوْلُهُ:

تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي «1» ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ بِشَعْرِ رَأْسِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ بِذَوَائِبِهِ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَفَزَّهُ وَذَهَبَ بِفِطْنَتِهِ وَظَنًّا بِأَخِيهِ أنه فَرَّطَ فِي الْكَفِّ، وَقِيلَ: ذَلِكَ الْأَخْذُ وَالْجَرُّ كَانَ لِيُسِرَّ إِلَيْهِ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ الْأَلْوَاحُ فِي مُنَاجَاتِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْفِيَهَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَهَاهُ هَارُونُ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ سِرَارُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِذْلَالِهِ وَقِيلَ: ضَمَّهُ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ هَارُونُ لِئَلَّا يَظُنُّوا إِهَانَتَهُ وَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمُ اسْتَضْعَفُوهُ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ كَمَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ مِنْ قَبْضِ الرَّجُلِ عَلَى لِحْيَةِ أَخِيهِ. قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ نَادَاهُ نِدَاءَ اسْتِضْعَافٍ وَتَرَفُّقٍ وَكَانَ شَقِيقَهُ وَهِيَ عَادَةُ الْعَرَبِ تَتَلَطَّفُ وَتَتَحَنَّنُ بِذِكْرِ الْأُمِّ كَمَا قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شَقِيقَ نَفْسِي وَقَالَ آخَرُ: يَا ابْنَ أُمِّي فَدَتْكَ نَفْسِي وَمَالِي. وَأَيْضًا فَكَانَتْ أُمُّهُمَا مُؤْمِنَةً قَالُوا: وَكَانَ أَبُوهُ مَقْطُوعًا عَنِ الْقَرَابَةِ بِالْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «2» وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ حَقُّهَا أَعْظَمَ لِمُقَاسَاتِهَا الشَّدَائِدَ فِي حَمْلِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ ذَكَّرَهُ بِحَقِّهَا، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ: ابْنَ أُمَّ بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهُ يَا ابْنَ أُمَّاهَ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا كَمَا حُذِفَتْ فِي يَا غُلَامُ وَأَصْلُهُ يَا غُلَامًا وَسَقَطَتْ هَاءُ السَّكْتِ لِأَنَّهُ دَرَجٌ فَعَلَى هَذَا الِاسْمُ مُعْرَبٌ إِذِ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ ابْنَ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُمَا اسْمَانِ بُنِيَا عَلَى الْفَتْحِ كَاسْمٍ وَاحِدٍ كَخَمْسَةَ عَشَرَ وَنَحْوِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ لَيْسَ مُضَافًا إِلَيْهِ ابْنَ وَالْحَرَكَةُ حَرَكَةُ بِنَاءٍ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَقِيَاسُ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ مُعْرَبٌ وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَاجْتُزِئَ بِالْكَسْرَةِ عنها كما اجتزءوا بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ هُوَ مَبْنِيٌّ أُضِيفَ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا قَالُوا يَا أَحَدَ عَشَرَ أقبلوا وحذفت الياء واجتزءوا بالكسرة عنها كما اجتزءوا فِي يَا قَوْمِ «3» وَلَوْ كَانَا بَاقِيَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْيَاءِ لِأَنَّ الِاسْمَ لَيْسَ بِمُنَادَى وَلَكِنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ الْمُنَادَى فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْيَاءِ منه، وقرىء بإثبات ياء الإضافة

_ (1) سورة طه: 20/ 94. (2) سورة هود: 11/ 46. (3) سورة هود: 11/ 89.

وَأَجْوَدُ اللُّغَاتِ الِاجْتِزَاءُ بِالْكَسْرَةِ عَنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ ثُمَّ قَلْبُ الْيَاءِ أَلِفًا وَالْكَسْرَةِ قَبْلَهَا فَتْحَةً ثُمَّ حَذْفُ التَّاءِ وَفَتْحُ الْمِيمِ ثُمَّ إِثْبَاتُ التَّاءِ مَفْتُوحَةً أَوْ سَاكِنَةً وَهَذِهِ اللُّغَاتُ جَائِزَةٌ فِي ابْنَةِ أُمِّي وَفِي ابْنِ عَمِّي وَابْنَةِ عَمِّي وقرىء يَا ابْنَ أُمِّي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَابْنَ إِمِّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ الْمُنَادَى وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْمَقْصُودُ بِهَا تَخْفِيفُ مَا أَدْرَكَ مُوسَى مِنَ الْغَضَبِ وَالِاسْتِعْذَارِ لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي كَفِّهِمْ مِنَ الْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ وَمَا بَلَّغَتْهُ طَاقَتُهُ وَلَكِنَّهُمُ اسْتَضْعَفُوهُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى وَعْظِهِ بَلْ قَارَبُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ بَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ حَتَّى هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَمَعْنَى اسْتَضْعَفُونِي وَجَدُونِي فَهِيَ بِمَعْنَى إِلْفَاءِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ أَيِ اعْتَقَدُونِي ضَعِيفًا، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا «1» وَلَمَّا أَبْدَى لَهُ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الِاسْتِضْعَافِ لَهُ وَمُقَارَبَةِ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُ سَأَلَهُ تَرْكَ مَا يَسُرُّهُمْ بِفِعْلِهِ فَقَالَ فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أَيْ لَا تَسُرَّهُمْ بِمَا تَفْعَلُ بِي فَأَكُونَ مَلُومًا مِنْهُمْ وَمِنْكَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَالْمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ تُشْمِتْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَنَصْبِ الْأَعْداءَ وَمُجَاهِدٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْمِيمَ وَشَمَّتَ مُتَعَدِّيَةٌ كَأَشْمَتَ وَخَرَّجَ أَبُو الْفَتْحِ قِرَاءَةَ مُجَاهِدٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ لَازِمَةً وَالْمَعْنَى فَلَا تُشْمِتْ أَنْتَ يَا رَبِّ وَجَازَ هَذَا، كَمَا قال الله يستهزىء بِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمُرَادِ فَأَضْمَرَ فِعْلًا نَصَبَ بِهِ الْأَعْدَاءَ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ انْتَهَى، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَتَكَلُّفٌ فِي الْإِعْرَابِ وَقَدْ رُوِيَ تَعَدِّي شَمَّتَ لُغَةً فَلَا يُتَكَلَّفُ أَنَّهَا لَازِمَةٌ مَعَ نَصْبِ الْأَعْدَاءِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لقولهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «3» فَقَالَ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَكَقَوْلِهِ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ «4» وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ فَلا تُشْمِتْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ وَرَفْعِ الْأَعْداءَ، وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْمِيمَ جَعَلَاهُ فِعْلًا لَازِمًا فَارْتَفَعَ بِهِ الْأَعْدَاءُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَهَى الْأَعْدَاءَ عَنِ الشَّمَاتَةِ بِهِ وَهُوَ مِنْ بَابِ لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا وَالْمُرَادُ نَهْيُهُ أَخَاهُ أَيْ لَا تُحِلَّ بِي مَكْرُوهًا فَيَشْمَتُوا بِي وَبَدَأَ أَوَّلًا بِسُؤَالِ أَخِيهِ أَنْ لَا يُشْمِتَ بِهِ الْأَعْدَاءَ لِأَنَّ مَا يُوجِبُ الشَّمَاتَةَ هُوَ فِعْلٌ مَكْرُوهٌ ظَاهِرٌ لَهُمْ فَيَشْمَتُوا بِهِ فَبَدَأَ بِالْأَوْكَدِ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ لَا يجعله ولا يعتقده وَاحِدًا مِنَ الظَّالِمِينَ إِذْ جَعْلُهُ مَعَهُمْ وَاعْتِقَادُهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ هُوَ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ وَلَيْسَ ظَاهِرًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى وَلا تَجْعَلْنِي فِي مَوْجِدَتِكَ عَلَيَّ قَرِينًا لَهُمْ مُصَاحِبًا لَهُمْ..

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 75 وغيرها. (2) سورة البقرة: 2/ 15. (3) سورة البقرة: 2/ 14. (4) سورة الأنفال: 8/ 30. [.....]

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. لَمَّا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ أَخُوهُ اسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ وَلَهُ قَالُوا وَاسْتِغْفَارُهُ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِ فِعْلَتِهِ مَعَ أَخِيهِ وَعَجَلَتِهِ فِي إِلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ وَاسْتِغْفَارُهُ لِأَخِيهِ مِنْ فِعْلَتِهِ فِي الصَّبْرِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ أَخُوهُ وَذَكَرَ شَمَاتَةَ الْأَعْدَاءِ، قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي لِيُرْضِيَ أَخَاهُ وَيُظْهِرَ لِأَهْلِ الشَّمَاتَةِ رِضَاهُ عَنْهُ فلا يتمّ لَهُمْ شَمَاتَتُهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ إِلَى أَخِيهِ وَلِأَخِيهِ أَنْ عَسَى فَرَّطَ فِي حِينِ الْخِلَافَةِ وَطَلَبَ أَنْ لَا يَتَفَرَّقَا عَنْ رَحْمَتِهِ وَلَا تَزَالَ مُتَضَمِّنَةً لَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى، وَقَوْلُهُ وَلِأَخِيهِ أَنْ عَسَى فَرَّطَ إِنْ كَانَتْ أَنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَتَكُونُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَيُقَرِّبُ مَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَتَكُونُ لِلشَّرْطِ وَلَا يَصِحُّ إِذْ ذَاكَ دُخُولُهَا عَلَى عَسَى لِأَنَّ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ الْجَامِدِ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَمَّا يَنَالُ عُبَّادَ الْعِجْلِ وَمُخَاطَبَةً لِمُوسَى بِمَا يَنَالُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ مُوسَى إِلَى قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَأَصْدَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالْأَوَّلُ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَلَامِ قَبْلَهُ وَالْمَعْنَى اتخذوه إلها لِقَوْلِهِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا: هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، قِيلَ: وَالْغَضَبُ فِي الْآخِرَةِ وَالذِّلَّةُ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أُشْرِبُوا حُبَّ الْعِجْلِ فَلَمْ يَتُوبُوا، وَقِيلَ: هُمْ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ رُجُوعِ مُوسَى مِنَ الْمِيقَاتِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ ما أمروا به من قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالذِّلَّةُ خُرُوجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَنَّ ذُلَّ الْغُرْبَةِ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ انْتَهَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ اسْتِمْرَارُ انْقِطَاعِهِمْ عَنْ دِيَارِهِمْ لِأَنَّ خُرُوجَهُمْ كَانَ سَبَقَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هُوَ فِي قَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ لِأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا مُتَّخِذِي الْعِجْلِ، وَقِيلَ: مَا نَالَ أَوْلَادُهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السَّبْيِ وَالْجَلَاءِ وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَجَمَعَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: هُوَ مَا نَالَ أبناءهم وهم بنو قريضة وَالنَّضِيرِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ وَمِنَ الذِّلَّةِ بِضَرْبِ الْجِزْيَةِ انْتَهَى، وَالْغَضَبُ إِنْ أُخِذَ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ فَهُوَ صِفَةُ ذَاتٍ أَوْ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَهُوَ صِفَةُ فِعْلٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ سَيَنالُهُمْ، وَكَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ النَّيْلِ مِنَ الْغَضَبِ وَالذِّلَّةِ نَجْزِي مَنِ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَأَيُّ افْتِرَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى والْمُفْتَرِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُفْتَرٍ،

وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ فِرْيَةٍ ذَلِيلٌ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ السَّيِّئاتِ هِيَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي غَيْرَهُ ثُمَّ تابُوا أَيْ رَجَعُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ بَعْدِها أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ وَآمَنُوا دَامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَخْلَصُوا فِيهِ أَوْ تَكُونُ الْوَاوُ حَالِيَّةً أَيْ وَقَدْ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ هَذَا هو الظاهر، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِها عَائِدًا عَلَى التَّوْبَةِ أَيْ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِ تَوْبَتِهِمْ فَيَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قوله ثُمَّ تابُوا وَهَذَا عِنْدِي أَوْلَى لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى السَّيِّئاتِ، احْتَجْتَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَحَذْفِ مَعْطُوفٍ إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَخَبَرُ الَّذِينَ قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكَ وَمَا بَعْدَهُ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَغَفُورٌ لَسَتُورٌ عَلَيْهِمْ مَحَّاءٌ لِمَا كَانَ مِنْهُمْ رَحِيمٌ مُنْعِمٌ عَلَيْهِمْ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مُتَّخِذُو الْعِجْلِ وَمَنْ عَدَاهُمْ عَظَّمَ جِنَايَتَهُمْ أوّلا ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِعِظَمِ رَحْمَتِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الذُّنُوبَ وَإِنْ جَلَّتْ وَإِنْ عَظُمَتْ فَإِنَّ عَفْوَهُ تَعَالَى وَكَرَمَهُ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ حِفْظِ الشَّرِيطَةِ وَهِيَ وُجُوبُ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَمَا وَرَاءَهُ طَمَعٌ فَارِغٌ وَأَشْعَبِيَّةٌ بَارِدَةٌ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا حَازِمٌ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ. سُكُوتُ غَضَبِهِ كَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِسَبَبِ اعْتِذَارِ أَخِيهِ وَكَوْنِهِ لَمْ يُقَصِّرْ فِي نَهْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَسُكُوتُ الْغَضَبِ اسْتِعَارَةٌ شَبَّهَ خُمُودَ الْغَضَبِ بِانْقِطَاعِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ سُكُوتُهُ. قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ سَالَ الْوَادِي ثُمَّ سَكَتَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَصْدَرُ سَكَتَ الغضب سكت وَمَصْدَرُ سَكَتَ الرَّجُلُ سُكُوتٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فِعْلٌ عَلَى حَدِّهِ وَلَيْسَ مِنْ سُكُوتِ النَّاسِ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ أَيْ وَلَمَّا سَكَتَ مُوسَى عَنِ الْغَضَبِ نَحْوَ أَدْخَلْتُ فِيَّ فِي الْحَجَرِ، وَأَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي انْتَهَى، وَلَا يَنْبَغِي هَذَا لِأَنَّهُ مِنَ الْقَلْبِ وَهُوَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهَذَا مَثَلٌ كَأَنَّ الْغَضَبَ كَانَ يُغْرِيهِ عَلَى مَا فَعَلَ وَيَقُولُ لَهُ قُلْ لِقَوْمِكَ كَذَا وَأَلْقِ الْأَلْوَاحَ وَخُذْ بِرَأْسِ أَخِيكَ إِلَيْكَ فَتَرَكَ النُّطْقَ بِذَلِكَ وَتَرَكَ الْإِغْرَاءَ وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَلَمْ يَسْتَفْصِحْهَا كُلُّ ذِي طَبْعٍ سَلِيمٍ وَذَوْقٍ صَحِيحٍ إِلَّا لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ شُعَبِ الْبَلَاغَةِ، وَإِلَّا فَمَا لِقِرَاءَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ لَا تَجِدُ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 إلى 156]

النَّفْسُ عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْهَزَّةِ وَطَرَفًا مِنْ تلك الروعة، وقرىء أُسْكِتَ رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ وَالْمَنْوِيُّ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ أَخُوهُ بِاعْتِذَارِهِ إِلَيْهِ أَوْ تَنَصُّلِهِ أَيْ أَسْكَتَ اللَّهُ أَوْ هَارُونُ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمَّا صَبَرَ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَلَمَّا انْشَقَّ وَالْمَعْنَى وَلَمَّا طُفِيَ غَضَبُهُ أَخَذَ أَلْوَاحَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَانَ أَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَلْقَاهَا فَتَكَسَّرَتْ فَصَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَرُدَّتْ إِلَيْهِ فِي لَوْحَيْنِ وَلَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا وَفِي نُسْخَتِهَا أَيْ فِيمَا نُسِخَ مِنَ الْأَلْوَاحِ الْمُكَسَّرَةِ أَوْ فِيمَا نُسِخَ فِيهَا أَوْ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ الْمَرْفُوعِ وَهُوَ سُبُعُهَا وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى وَفِيمَا نُقِلَ وَحُوِّلَ مِنْهَا وَاللَّامُ فِي لِرَبِّهِمْ تَقْوِيَةٌ لِوُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ لَامُ الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ لِأَجْلِ رَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرِ الْمَعْنَى الَّذِينَ هُمْ رَهْبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَتَمَشَّى لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَصْدَرِ وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَأَيْضًا فَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْفَصَاحَةِ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا. اخْتارَ افْتَعَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ التَّخَيُّرُ وَالِانْتِقَاءُ وَاخْتارَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ أَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرِ بِوَسَاطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى السَّمَاعِ وَهِيَ اخْتَارَ وَاسْتَغْفَرَ وَأَمَرَ وَكَنَّى وَدَعَا وَزَوَّجَ وَصَدَقَ، ثُمَّ يُحْذَفُ حَرْفُ الْجَرِّ وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ فَيَقُولُ اخْتَرْتُ زَيْدًا مِنَ الرِّجَالِ وَاخْتَرْتُ زَيْدًا الرِّجَالَ. قَالَ الشَّاعِرُ: اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ رَثَّتْ خَلَائِقُهُمْ ... وَاعْتَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ أَيِ اخْتَرْتُكَ من الناس وسَبْعِينَ هو المفعول الأوّل، وقَوْمَهُ هو المفعول الثاني

وتقدير مِنْ قَوْمِهِ وَمَنْ أَعْرَبَ قَوْمَهُ مفعولا أوّل وسَبْعِينَ بِدَلًا مِنْهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَحَذَفَ الضَّمِيرَ أَيْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمُ احْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ ثَانٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ مِنْهُ فَإِعْرَابُهُ فِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفُ حَذْفٍ فِي رَابِطِ الْبَدَلِ وَفِي الْمُخْتَارِ مِنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمِيقَاتِ أَهُوَ ميقات المناجاة ونزول التوراة أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْأَوَّلُ بَيَّنَ فِيهِ بَعْضَ مَا جَرَى مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَنَّهُ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ سِتَّةَ رِجَالٍ فَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، فَقَالَ لِيَتَخَلَّفِ اثْنَانِ فَإِنَّمَا أُمِرْتُ بِسَبْعِينَ فَتَشَاحُّوا، فَقَالَ: مَنْ قَعَدَ فَلَهُ أَجْرُ مَنْ حَضَرَ فَقَعَدَ كَالِبُ بْنُ يُوقِنَا وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَاسْتَصْحَبَ السَبْعِينَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَصُومُوا وَيَتَطَهَّرُوا وَيُطَهِّرُوا ثِيَابَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ وَكَانَ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ وَدَنَا مُوسَى وَدَخَلَ فِيهِ وقام لِلْقَوْمِ: ادْنُوا فَدَنَوْا حَتَّى إذا دخلا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجَّدًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، ثُمَّ انْكَشَفَ الْغَمَامُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَطَلَبُوا الرُّؤْيَةَ فَوَعَظَهُمْ وَزَجَرَهُمْ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فقالوا: يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَقَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «2» يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعُوا الرَّدَّ وَالْإِنْكَارَ مِنْ جِهَتِهِ، فَأُجِيبَ: بِلَنْ تَرَانِي وَرَجَفَ الْجَبَلُ بِهِمْ وَصُعِقُوا انْتَهَى، وَقِيلَ: هُوَ مِيقَاتٌ آخَرُ غَيْرُ مِيقَاتِ الْمُنَاجَاةِ وَنُزُولِ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى إِنَّ طَائِفَةً تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّمُكَ فَخُذْ مِنَّا مَنْ يَذْهَبُ مَعَكَ لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ فَيُؤْمِنُوا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ مِنْ خِيَارِهِمْ ثُمَّ ارْتَقِ بِهِمُ الْجَبَلَ أَنْتَ وَهَارُونُ وَاسْتَخْلِفْ يُوشَعَ، فَفَعَلَ فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَهُ سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مِيقَاتٌ وَقَّتَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى يَلْقَاهُ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ هُوَ مِيقَاتٌ وَقَّتَهُ اللَّهُ لِمُوسَى وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَدْعُوا رَبَّهُمْ فَدَعَوْا فَقَالُوا يَا اللَّهُ أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا قَبْلَنَا وَلَا أَحَدًا بَعْدَنَا فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ وَابْنَاهُ شِبْرٌ وَشُبَيْرٌ انْطَلَقُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى جَبَلٍ فِيهِ سَرِيرٌ فَقَامَ عَلَيْهِ هَارُونُ فَقُبِضَ رُوحُهُ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَقَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ وَحَسَدْتَنَا عَلَى خُلُقِهِ وَلِينِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ أَقْتُلُهُ وَمَعِيَ ابْنَاهُ، قَالَ: فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ فَاخْتِيرَ سَبْعُونَ فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ فَقَالُوا مَنْ قَتَلَكَ يَا هارون قال

_ (1) سورة البقرة: 2/ 55. (2) سورة الأعراف: 7/ 143.

مَا قَتَلَنِي أَحَدٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَوَفَّانِي، قَالُوا: يَا مُوسَى مَا نَعْصِي بَعْدُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَجَعَلُوا يَتَرَدَّوْنَ يَمِينًا وَشِمَالًا انْتَهَى، وَلَفْظُ لِمِيقاتِنا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ عَنْ تَوْقِيتٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: كَانَ مُوسَى لَا يَأْتِي رَبَّهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمِيقَاتَ غَيْرُ مِيقَاتِ مُوسَى الَّذِي قِيلَ فِيهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ لِظَاهِرِ تَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ وَمَا جَرَى فِيهِمَا إِذْ فِي تِلْكَ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ وَسَأَلَهُ الرُّؤْيَةَ وَأَحَالَهُ فِي الرُّؤْيَةِ عَلَى تَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ وَثُبُوتِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَصَارَ دَكًّا وَصَعِقَ مُوسَى وَفِي هَذِهِ اخْتِيرَ السَبْعُونَ لِمِيقَاتِ اللَّهِ وَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَلَمْ تَأْخُذْ مُوسَى، وَلِلْفَصْلِ الْكَثِيرِ الَّذِي بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ لَوْ كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً. فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ. سَبَبُ الرَّجْفَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمِيقَاتِ فَهَلِ الرَّجْفَةُ عُقُوبَةٌ عَلَى سُكُوتِهِمْ وَإِغْضَائِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ عُقُوبَةٌ عَلَى سُؤَالِهِمُ الرُّؤْيَةَ أَوْ عُقُوبَةٌ لِتَشَطُّطِهِمْ فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ أَوْ سَبَبُهُ سَمَاعُ كَلَامِ هَارُونَ وَهُوَ مَيِّتٌ أَقْوَالٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عُقُوبَةٌ عَلَى عِبَادَةٍ هَؤُلَاءِ السَبْعِينَ بِاخْتِيَارِهِمُ الْعِجْلَ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى أَعْلَمَهُ اللَّهُ وَأَخْذُ الرَّجْفَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ نَشَأَ عَنْهُ الْمَوْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ نَشَأَ عَنْهُ الْغَشْيُ وَهُمَا قَوْلَانِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ قَالَ مُوسَى: كَيْفَ أَرْجِعُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ أُهْلِكَتْ خِيَارُهُمْ فَمَاذَا أَقُولُ وَكَيْفَ يَأْمَنُونَنِي عَلَى أَحَدٍ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ ، وَقِيلَ أَخَذَتْهُمُ الرِّعْدَةُ حَتَّى كَادَتْ تُبَيِّنُ مَفَاصِلَهُمْ وَتَنْتَقِضُ ظُهُورَهُمْ وَخَافَ مُوسَى الْمَوْتَ فَعِنْدَ ذَلِكَ بَكَى وَدَعَا فَكُشِفَ عَنْهُمْ ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَمَنٍّ مِنْهُ لِلْإِهْلَاكِ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَا رَأَى مِنْ تَبِعَةِ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ كما يقال النَّادِمُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا رَأَى سُوءَ الْمَغَبَّةِ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَهْلَكَنِي قَبْلَ هَذَا انْتَهَى. فَمَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا بِنَاءٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِيقَاتَ هُوَ مِيقَاتُ الْمُنَاجَاةِ وَطَلَبُ الرُّؤْيَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ خِلَافُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمَّا رَأَى مُوسَى ذَلِكَ أَسِفَ عَلَيْهِمْ وَعَلِمَ أَنَّ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَشَعَّبُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْقَوْمِ فَجَعَلَ يَسْتَعْطِفُ رَبَّهُ أَنْ يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَالِ وَإِيَّايَ لَكَانَ أَخَفَّ عَلَيَّ وَهَذَا وَقْتُ هَلَاكِهِمْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ عَلَيَّ مُؤْذٍ لِي انْتَهَى، وَمَفْعُولُ شِئْتَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَوْ شِئْتَ إهلاكنا وجواب لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ وَأَتَى دُونَ لَامٍ وَهُوَ فَصِيحٌ لَكِنَّهُ بِاللَّامِ أَكْثَرُ كَمَا قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ «1» وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ «2» ، وَلَا يُحْفَظُ جاء بغير

_ (1) سورة الكهف: 18/ 77. (2) سورة يونس: 10/ 83.

لَامٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا هَذَا وَقَوْلِهِ أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ «1» ولَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «2» وَالْمَحْذُوفُ فِي مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ الِاخْتِيَارِ وَأَخْذِ الرَّجْفَةِ وَذَلِكَ زَمَانَ إِغْضَائِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ عِبَادَتِهِمْ هُمْ إِيَّاهُ وَقَوْلُهُ وَإِيَّايَ أَيْ وَقْتَ قَتْلِيَ الْقِبْطِيَّ فَأَنْتَ قَدْ سَتَرْتَ وَغَفَرْتَ حِينَئِذٍ فَكَيْفَ الْآنَ إِذْ رُجُوعِي دُونَهُمْ فَسَادٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَكْثَرُهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَعَطَفَ وَإِيَّايَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَهْلَكْتَهُمْ وَعَطْفُ الضَّمِيرَ مِمَّا يُوجِبُ فَصْلَهُ وَبَدَأَ بِضَمِيرِهِمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَمَاتُوا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمُتْ هُوَ وَلَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ حَتَّى أَشْرَكَ نَفْسَهُ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي مُقْتَضَى الْإِهْلَاكِ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ إِهْلَاكَ الْعَاصِي وَالطَّائِعِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ. أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قِيلَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَّةِ فِي صِيغَةِ اسْتِعْطَافٍ وَتَذَلُّلٍ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَتُهْلِكُنا لَهُ وَلِلسَبْعِينَ وبِما فَعَلَ السُّفَهاءُ فِيهِ الْخِلَافُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبِ أَخْذِ الرَّجْفَةِ مِنْ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ أَوْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ قَوْلِهِمْ قَتَلْتَ هَارُونَ أَوْ تَشَطُّطِهِمْ فِي الدُّعَاءِ أَوْ عِبَادَتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمُ الْعِجْلَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَتُهْلِكُنا لَهُ وَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ وبِما فَعَلَ السُّفَهاءُ أَيْ بِالتَّفَرُّقِ وَالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ يَكُونُ هَلَاكُهُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي نَفْسَهُ وَإِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ الرُّؤْيَةَ زَجْرًا لِلسُّفَهَاءِ وَهُمْ طَلَبُوهَا سَفَهًا وَجَهْلًا وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ اسْتِعْلَامٍ أَتْبَعَ إِهْلَاكَ الْمُخْتَارِينَ وَهُمْ خَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ غَيْرُهُمْ إِذْ مِنَ الْجَائِزِ فِي الْعَقْلِ ذَلِكَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «3» وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَكَمَا وَرَدَ أَنَّ قَوْمًا يُخْسَفُ بِهِمْ قِيلَ: وَفِيهِمُ الصَّالِحُونَ فَقِيلَ: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُمْ أُحْيُوا وَجُعِلُوا أَنْبِيَاءَ كُلُّهُمْ. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَيْ إِنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا فِتْنَتُكَ وَالضَّمِيرُ فِي هِيَ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَيْ أَنْتَ هُوَ الَّذِي فَتَنْتَهُمْ قَالَتْ فِرْقَةٌ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ السَبْعِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ تَعَجَّبَ وَقَالَ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ، وَقِيلَ لَمَّا أُعْلِمَ مُوسَى بِعِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ وَبِصِفَتِهِ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ أَخَارَهُ قَالَ: أَنَا قَالَ: مُوسَى فَأَنْتَ أَضْلَلْتَهُمْ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِمْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً إِذْ كَانَتْ فِتْنَةً

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 100. (2) سورة الواقعة: 56/ 70. (3) سورة الأنفال: 8/ 25.

مِنَ اللَّهِ أَوْجَبَتِ الرَّجْفَةَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ مِحْنَتُكَ وَبَلَاؤُكَ حِينَ كَلَّمَتْنِي وَسَمَّعْتَ كَلَامَكَ فَاسْتَدَلُّوا بِالْكَلَامِ عَلَى الرُّؤْيَةِ اسْتِدْلَالًا فَاسِدًا حَتَّى افْتُتِنُوا وَضَلُّوا تُضِلُّ بِهَا الْجَاهِلِينَ غَيْرَ الثَّابِتِينَ فِي مَعْرِفَتِكَ وَتَهْدِي الْعَالِمِينَ الثَّابِتِينَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِضْلَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُدًى مِنْهُ لِأَنَّ مِحْنَتَهُ إِنَّمَا كَانَتْ سَبَبًا لِأَنْ ضَلُّوا وَاهْتَدَوْا فَكَأَنَّهُ أَضَلَّهُمْ بِهَا وَهُدَاهُمْ عَلَى الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ انْتَهَى وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِهِمُ الْإِضْلَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. أَنْتَ وَلِيُّنا الْقَائِمُ بِأَمْرِنَا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. سَأَلَ الْغُفْرَانَ لَهُ وَلَهُمْ وَالرَّحْمَةَ لَمَّا كَانَ قَدِ انْدَرَجَ قَوْمُهُ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ وَلِيُّنا وَفِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُ وَلَهُمْ وَكَانَ قَوْمُهُ أَصْحَابَ ذُنُوبٍ أَكَّدَ اسْتِعْطَافَ رَبِّهِ تَعَالَى فِي غُفْرَانِ تِلْكَ الذُّنُوبِ فَأَكَّدَ ذَلِكَ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَلَمَّا كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَعْصُومِينَ مِنَ الذُّنُوبِ فَحِينَ سَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ وَلِأَخِيهِ وَسَأَلَ الرَّحْمَةَ لَمْ يُؤَكِّدِ الرَّحْمَةَ بَلْ قَالَ: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَكَانَ تَعَالَى خَيْرَ الْغَافِرِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَتَجَاوَزُ عَنِ الذَّنْبِ طَلَبًا لِلثَّنَاءِ أَوِ الثَّوَابِ أَوْ دَفْعًا لِلصِّفَةِ الْخَسِيسَةِ عَنِ الْقَلْبِ وَهِيَ صِفَةُ الْحِقْدِ وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ غُفْرَانُهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. أَيْ وَأَثْبِتْ لَنَا عَاقِبَةً وَحَيَاةً طَيِّبَةً أَوْ عَمَلًا صَالِحًا يَسْتَعْقِبُ ثَنَاءً حَسَنًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةَ وَالرُّؤْيَةَ وَالثَّوَابَ عَلَى حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَالْأَجْوَدُ حَمْلُ الْحَسَنَةِ عَلَى مَا يَحْسُنُ مِنْ نِعْمَةٍ وَطَاعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ لَا حَسَنَةَ دُونَهَا وإِنَّا هُدْنا تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ الْغُفْرَانِ وَالْحَسَنَةِ وَكَتْبُ الْحَسَنَةِ أَيْ تُبْنَا إِلَيْكَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وابن جبير وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: مِنْ هَادَ يَهُودُ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: تَقَرَّبْنَا بِالتَّوْبَةِ، وَقِيلَ: مِلْنَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا ... أَنِّي مِنَ الله لها هد أَيْ مَائِلٌ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو وَجْزَةَ هُدْنا بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ هَادَ يَهِيدُ إِذَا حَرَّكَ أَيْ حَرَّكْنَا أَنْفُسَنَا وَجَذَبْنَاهَا لِطَاعَتِكَ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فَاعِلًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَيْ حَرَّكْنَا إِلَيْكَ وَأَمَلْنَا وَالضَّمُّ فِي هُدْنا يَحْتَمِلُهُمَا وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ كَوْنَهُ تَعَالَى هُوَ رَبَّهُمْ وَوَلِيَّهُمْ وَأَنَّهُمْ تَائِبُونَ عَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ فَنَاسَبَ عِزَّ الرُّبُوبِيَّةِ أَنْ يَسْتَعْطِفَ لِلْعَبِيدِ التَّائِبِينَ الْخَاضِعِينَ بِسُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَتْبِ.

قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ عَذَابِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيَنْدَرِجُ فِي قَوْلِهِ: أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أَصْحَابُ الرَّجْفَةِ، وَقِيلَ الْعَذَابُ هُنَا هُوَ الرَّجْفَةُ ومَنْ أَشاءُ أَصْحَابُهَا وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ أَيْ مَنْ أَشَاءُ عَذَابَهُ، وَقِيلَ: مَنْ أَشاءُ أَنْ لَا أَعْفُوَ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَنْ أَشاءُ مِنْ خَلْقِي كَمَا أَصَبْتُ بِهِ قَوْمَكَ، وَقِيلَ: مَنْ أَشَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ الْمَشِيئَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّعْجِيلِ وَالْإِمْهَالِ لَا إِلَى التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّنْ أَشَاءُ مَنْ وَجَبَ عَلَيَّ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ مَسَاغٌ لِكَوْنِهِ مَفْسَدَةً انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُصِيبُ مَنْ أَشَاءُ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ، وَقَالَ أَيْضًا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ هِيَ التَّعَاطُفُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ التَّوْبَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ عَامَّةً وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا رَحْمَتِي فَمِنْ حَالِهَا وَصِفَتِهَا أَنَّهَا وَاسِعَةٌ كُلَّ شَيْءٍ مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا مُطِيعٍ وَلَا عَاصٍ إِلَّا وَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِي نِعْمَتِي انْتَهَى، وَهُوَ بَسْطُ قَوْلِ الحسن: هي في الدنيا بِالرِّزْقِ عَامَّةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ مَنْ أَسَاءَ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ رَجُلُ سُوءٍ، وَقَرَأَ بِهَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً وَاسْتَحْسَنَهَا فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي وَصَاحَ بِهِ وَأَسْمَعَهُ فَقَالَ سُفْيَانُ: لَمْ أَدْرِ وَلَمْ أَفْطِنْ لِمَا يَقُولُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَلِلْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ جِهَةِ إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَمِنْ جِهَةِ خَلْقِ الْمَرْءِ أَفْعَالَهُ وَإِنْ أَسَاءَ لَا فِعْلَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْفِصَالُ عَنْ هَذَا كَالِانْفِصَالِ عَنْ سَائِرِ الظَّوَاهِرِ. فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ أَقْضِيهَا وَأُقَدِّرُهَا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَعُودَ عَلَى حَسَنَةٍ فِي قَوْلِهِ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ فَسَأَكْتُبُ الْحَسَنَةَ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَوْفٌ الَبِكَالِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جريح وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ لَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ تَطَاوَلَ لَهَا إِبْلِيسُ فَلَمَّا سَمِعَ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يبس، وَبَقِيَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَلَمَّا تَمَادَّتِ الصِّفَةُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَئِسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: عَرَضَ اللَّهُ هَذِهِ الْخِلَالَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى فَلَمْ يَتَحَمَّلُوهَا وَلَمَّا انْطَلَقَ وَفْدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْمِيقَاتِ قِيلَ لَهُمْ خُطَّتْ لَكُمُ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا إِلَّا عِنْدَ مِرْحَاضٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ حَمَّامٍ وَجَعَلْتُ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِهِمْ فَقَالُوا: لَا نَسْتَطِيعُ فَاجْعَلِ السَّكِينَةَ فِي التَّابُوتِ وَالصَّلَاةَ فِي

الْكَنِيسَةِ وَلَا نَقْرَأُ التَّوْرَاةَ إِلَّا عَنْ نَظَرٍ وَلَا نُصَلِّي إِلَّا فِي الْكَنِيسَةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ جَعَلْتَ وِفَادَتِي لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، قَالَ نَوْفٌ فَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي جَعَلَ وِفَادَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكُمْ وَمَعْنَى يَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِرْقَةٌ: الشِّرْكَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعَاصِيَ فَمَنْ قَالَ الشِّرْكَ لَا غَيْرُ خَرَجَ إِلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَةِ شَرْطُ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَمَنْ قَالَ: الْمَعَاصِيَ وَلَا بُدَّ خَرَجَ إِلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ أَنْ تَكُونَ اللَّفْظَةُ عَامَّةً وَلَكِنْ لَا نَقُولُ لَا بدّ اتِّقَاءِ الْمَعَاصِي بَلْ نَقُولُ مَوَاقِعُ الْمَعَاصِي فِي الْمَشِيئَةِ وَمَعْنَى يَتَّقُونَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُتَّقَى حِجَابًا وَوِقَايَةً، فَذَكَرَ تَعَالَى الرُّتْبَةَ الْعَالِيَةَ لِيَتَسَابَقَ السَّامِعُونَ إِلَيْهَا انْتَهَى. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا زَكَاةُ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْهُ: وَيُؤْتُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي يُزَكُّونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: تَزْكِيَةُ الْأَعْمَالِ بِالْإِخْلَاصِ انْتَهَى، وَلَمَّا كَانَتِ التَّكَالِيفُ تَرْجِعُ إِلَى قِسْمَيْنِ تُرُوكٌ وَأَفْعَالٌ وَالْأَفْعَالُ قِسْمَانِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَالِ وَرَاجِعَةٌ إِلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَهَذَانِ قِسْمَانِ عِلْمٌ وَعَمَلٌ فَالْعِلْمُ الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ فَأَشَارَ بِالِاتِّقَاءِ إِلَى التُّرُوكِ وَبِالْفِعْلِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَالِ بِالزَّكَاةِ وَأَشَارَ إِلَى مَا بَقِيَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «1» الْآيَةَ وَفَهِمَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ إِنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَكُونَ قَوْلُهُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّسُولِ وَيَكُونَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَفَسَّرَ الْآيَاتِ هُنَا بِأَنَّهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الكتاب المعجز.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 3.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 إلى 163]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) التَّعْزِيرُ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ التَّعْزِيرُ هُوَ الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ. الِانْبِجَاسُ الْعَرَقُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: انْبَجَسَتْ عَرِقَتْ وَانْفَجَرَتْ سَالَتْ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ الِانْبِجَاسُ الِانْفِجَارُ يُقَالُ: بَجَسَ وَانْبَجَسَ، الْحُوتُ مَعْرُوفٌ يُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَحْوَاتٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى حِيتَانٍ وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي فُعْلٍ وَاوِيِّ الْعَيْنِ نَحْوُ عُودٍ وَأَعْوَادٍ وَعِيدَانٍ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ خِطَابِهِ تَعَالَى لِمُوسَى

عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ تَبْشِيرٌ له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وَذِكْرٌ لِصِفَاتِهِ وَإِعْلَامٌ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُنَزِّلُ كِتَابًا يُسَمَّى الْإِنْجِيلَ وَمَعْنَى الِاتِّبَاعِ الِاقْتِدَاءُ فِيمَا جَاءَ بِهِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا وَجَمَعَ هُنَا بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ شَرَفًا مِنَ النُّبُوَّةِ أَوْ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآدَمِيِّ وَالْمُلْكُ أَعَمُّ فبدىء بِهِ وَالْأُمِّيُّ الَّذِي هُوَ عَلَى صِفَةِ أُمَّةِ الْعَرَبِ إِنَّا أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ فَأَكْثَرُ الْعَرَبِ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَكَوْنُهُ أُمِّيًّا مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزِ، وَقِيلَ: نِسْبَةً إِلَى أُمِّ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ، وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَرَأَ الْأُمِّيَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وخرج على أنه من تَغْيِيرِ النَّسَبِ وَالْأَصْلُ الضَّمُّ كَمَا قِيلَ فِي النَّسَبِ إِلَى أُمَيَّةَ أَمَوِيٌّ بِالْفَتْحِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الْمَصْدَرِ مِنْ أَمَّ وَمَعْنَاهُ الْمَقْصُودُ أَيْ لِأَنَّ هَذَا النَّبِيَّ مَقْصِدٌ لِلنَّاسِ وَمَوْضِعٌ أَمٍّ، وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَذَلِكَ مَكَّةُ فهو منسوب إليه لَكِنَّهَا ذُكِرَتْ إِرَادَةً لِلْحَرَمِ أَوِ الْمَوْضِعِ وَمَعْنَى يَجِدُونَهُ أَيْ يَجِدُونَ وَصْفَهُ وَنَعْتَهُ، قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: فِي التَّوْراةِ أَيْ سَأُقِيمُ لَهُ نَبِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِيَ فِي فِيهِ وَيَقُولُ لَهُمْ كُلَّمَا أَوْصَيْتُهُ وَفِيهَا وَأَمَّا النَّبِيُّ فَقَدْ بَارَكْتُ عَلَيْهِ جِدًّا جِدًّا وَسَأَدَّخِرُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ وَفِي الْإِنْجِيلِ يُعْطِيكُمُ الْفَارِقْلِيطَ آخَرُ يُعْطِيكُمْ مُعَلِّمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَقَالَ الْمَسِيحُ: أَنَا أَذْهَبُ وَسَيَأْتِيكُمُ الْفَارِقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَيَمْدَحُنِي وَيَشْهَدُ لِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ إِلَى آخِرِهِ مُتَعَلِّقًا بيجدونه فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ فَيَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ وَكَذَا وَكَذَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ يَأْمُرُهُمْ: تَفْسِيرٌ لِمَا كَتَبَ مِنْ ذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «1» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَجِدُونَهُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلذَّكَرِ وَالِاسْمِ وَالِاسْمُ وَالذَّكَرُ لَا يَأْمُرَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ: الْحَقُّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا عُرِفَ بِالشَّرْعِ وَالْمُنْكَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الشِّرْكُ، وَقِيلَ: الْبَاطِلُ، وَقِيلَ: الْفَسَادُ وَمَبَادِئُ الْأَخْلَاقِ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْكُفْرُ بِمَا أَنْزَلَ وَقَطْعُ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقُ. وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الطَّيِّباتِ فِي قَوْلِهِ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ «2» أَهِيَ الْحَلَالُ أَوِ الْمُسْتَلَذُّ وَكِلَاهُمَا قِيلَ هُنَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا حرّم عليهم من

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 59. (2) سورة المؤمنون: 23/ 51.

الْأَشْيَاءِ الطَّيِّبَةِ كَالشُّحُومِ وَغَيْرِهَا أَوْ مَا طَابَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاللَّحْمُ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَمَا خَلَا كَسْبُهُ مِنَ السُّحْتِ انْتَهَى، وَقِيلَ: مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَاسْتَبْعَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا الْمُحَلَّلَاتُ لِتَقْدِيرِهِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَلَّلَاتِ قَالَ وَهَذَا مَحْضُ التَّكْذِيبِ، وَلِخُرُوجِ الْكَلَامِ عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا أُحِلَّ لَنَا وَكَمْ هُوَ قَالَ: بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُرَادَ الْمُسْتَطَابَةُ بِحَسَبَ الطَّبْعِ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُفِيدُ اللَّذَّةَ وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا تستطيعه النَّفْسُ وَيَسْتَلِذُّهُ الطَّبْعُ حَلَالٌ إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قِيلَ: الْمُحَرَّمَاتُ، وَقِيلَ: مَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ كَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَالْحَشَرَاتِ، وَقِيلَ: الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلَى قَوْلِهِ ذلِكُمْ فِسْقٌ «1» . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. قَرَأَ طَلْحَةُ وَيُذْهِبُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِصْرِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفَسَّرَهُ هُنَا قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ بِالثِّقْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: آصَارَهُمْ جَمْعُ إِصْرٍ، وقرىء أُصْرَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِضَمِّهَا فَمَنْ جَمَعَ فَبِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِصْرِ إِذْ هِيَ كَثِيرَةٌ وَمَنْ وَحَّدَ فَلِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْأَغْلالَ مِثْلَ لَمَّا كُلِّفُوا مِنَ الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ كَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَالْقِصَاصِ حَتْمًا مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ يَوْمَ السَّبْتِ وَتَحْرِيمِ الْعُرُوقِ فِي اللَّحْمِ وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ لَبِسُوا الْمُسُوحَ وَغَلَّوْا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ وَرُبَّمَا ثَقَبَ الرَّجُلُ تَرْقُوَتَهُ وَجَعَلَ فِيهَا طَرْفَ السِّلْسِلَةِ وَأَوْثَقَهَا إِلَى السَّارِيَةِ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى يَوْمَ السَّبْتِ رَجُلًا يَحْمِلُ قَصَبًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَهَذَا الْمَثَلُ كَمَا قَالُوا جَعَلْتُ هَذَا طَوْقًا فِي عُنُقِكَ وَقَالُوا طَوَّقَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، وَقَالَ الْهُذَلِيُّ: وَلَيْسَ كَهَذَا الدَّارُ يَا أُمَّ مالك ... ولكن أحاطب بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ فَصَارَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَابِلٍ ... سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ وَلَيْسَ ثَمَّ سَلَاسِلُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَلْزَمَهُ أُمُورًا لَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 3.

قَالَ الْإِيمَانُ قَيْدُ الْفَتْكِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَغْلَالُ يُرِيدُ فِي قَوْلِهِ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ «1» فَمَنْ آمَنَ زَالَتْ عَنْهُ الدَّعْوَةُ وَتَغْلِيلُهَا. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَعَزَّرُوهُ أَثْنَوْا عَلَيْهِ وَمَدَحُوهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنَعُوهُ حَتَّى لَا يَقْوَى عَلَيْهِ عَدُوٌّ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَعِيسَى بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَزَّزُوهُ بِزَايَيْنِ والنُّورَ الْقُرْآنُ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ. وَقِيلَ مَعَ بِمَعْنَى عَلَيْهِ أَيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أُنْزِلَ مَعَ نُبُوَّتِهِ لِأَنَّ اسْتِنْبَاءَهُ كَانَ مَصْحُوبًا بِالْقُرْآنِ مَشْفُوعًا بِهِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ أُنْزِلَ وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ كون مَعَهُ ظَرْفًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أُنْزِلَ كَائِنًا مَعَهُ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ كَقَوْلِهِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا فَحَالَةُ الْإِنْزَالِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَكِنَّهُ صَارَ مَعَهُ بَعْدُ كَمَا أَنَّ الصَّيْدَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْمُرُورِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ باتبعوا أَيْ وَاتَّبَعُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وَالْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ وَبِمَا أَمَرَ بِهِ أَيْ وَاتَّبِعُوا الْقُرْآنَ كَمَا اتَّبَعَهُ مُصَاحِبِينَ لَهُ فِي اتِّبَاعِهِ وَفِي قَوْلِهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِلَى آخِرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ آمَنَ مِنْ أَعْيَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالرَّسُولِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وغيره من أهل الكتابين. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ وَآمَنَ بِهِ أَفْلَحَ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِشْهَارِ دَعْوَتِهِ وَرِسَالَتِهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَدَعْوَةُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَتَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ والَّذِي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ رَفْعٍ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا صِفَةً لِلَّهِ قَالَ وَإِنْ حِيلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ إِلَيْكُمْ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بإليكم وبالحال وإليكم متعلّق برسول وجميعا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْكُمْ وَهَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي الْإِذْعَانَ وَالِانْقِيَادَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ إِذْ لَهُ الْمُلْكُ فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا يُرِيدُ وَفِي حَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ نَفْيُ الشِّرْكَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مُلْكُ هَذَا الْعَالَمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرِكَهُ أَحَدٌ فَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَكَرَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ إِذْ هُمَا وَصْفَانِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا إِلَّا اللَّهُ وَهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيجَادِ لِكُلِّ شَيْءٍ يريده الإعدام والأحسن

_ (1) سورة المائدة: 5/ 64.

أَنْ تَكُونَ هَذِهِ جُمَلًا مُسْتَقِلَّةً مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَدَلٌ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي هِيَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَفِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ الْإِلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَفِي يُحيِي وَيُمِيتُ بَيَانٌ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ غَيْرُهُ انْتَهَى، وَإِبْدَالُ الْجُمَلِ مِنَ الْجُمَلِ غَيْرِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي عَامِلٍ لَا نَعْرِفُهُ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يُحيِي وَيُمِيتُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِأَنَّ لَا إِلهَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وإِلَّا هُوَ بَدَلٌ عَلَى الْمَوْضِعِ قَالَ: وَالْجُمْلَةُ أَيْضًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، يَعْنِي مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بالله وبه وعدل عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الِالْتِفَاتُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ السَّابِقُ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِاتِّبَاعِهِ الْمَوْجُودُ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَلِمَاتِهِ هِيَ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ وَعَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ يَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ بَدَأَ بِهِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ أُمِّيًّا وَظَهَرَ عَنْهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فِي ذَاتِهِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْقُرْآنِ الْجَامِعِ لِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَعَ نَشْأَتِهِ فِي بَلَدٍ عَارٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا وَلَمْ يَخُطَّ وَلَمْ يَصْحَبْ عَالِمًا وَلَا غَابَ عَنْ مَكَّةَ غَيْبَةً تَقْتَضِي تَعَلُّمًا. وَقِيلَ: وكَلِماتِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ خَارِجِ ذَاتِهِ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ ونبع الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَهِيَ تُسَمَّى بِكَلِمَاتِ اللَّهِ لَمَّا كَانَتْ أُمُورًا خَارِقَةً غَرِيبَةً كَمَا سُمِّيَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ أَمْرًا غَرِيبًا خَارِقًا كَلِمَةً، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَعِيسَى: وَكَلِمَةٍ وَحَّدَ وَأَرَادَ بِهِ الْجَمْعَ نَحْوُ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَتْهَا الْعَرَبُ قَوْلُ لَبِيدٍ وَقَدْ يَقُولُونَ لِلْقَصِيدَةِ كَلِمَةٌ وَكَلِمَةُ فُلَانٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِكَلِمَاتِهِ وَكَلِمَتِهِ أَيْ بِعِيسَى لِقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ «1» ، وَقِيلَ: كَلِمَةُ كُنِ الَّتِي تَكَوَّنَ بِهَا عِيسَى وَسَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ بَدَلَ كَلِمَاتِهِ وَلَمَّا أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذَلِكَ هُوَ الِاعْتِقَادُ أُمِرُوا بِالِاتِّبَاعِ لَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ لَفْظٌ يُدْخَلُ تَحْتَهُ جَمِيعُ الْتِزَامَاتِ الشَّرِيعَةِ وَعَلَّقَ رَجَاءَ الهداية باتباعه.

_ (1) سورة النساء: 4/ 90.

وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ قَوْمِ مُوسى مَنْ وُفِّقَ لِلْهِدَايَةِ وَعَدَلَ وَلَمْ يَجُرْ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ هِدَايَةٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ مُوسَى قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا ضُلَّالًا بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مهتدون، قال السائب: هو قوم من أهل الكتاب آمَنُوا بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُوسَى قَبْلَ نَسْخِهِ وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ التَّائِبُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لما ذكر الذين تزلزلوا مِنْهُمْ ذَكَرَ أُمَّةً مُؤْمِنِينَ تَائِبِينَ يَهْدُونَ النَّاسَ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَيُرْشِدُونَهُمْ وَبِالْحَقِّ يَعْدِلُونَ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ وَلَا يَجُورُونَ أَوْ أَرَادَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ مِنْ أَعْقَابِهِمُ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجَمَاعَةَ الَّتِي آمَنَتْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِجْلَابِ لِإِيمَانِ جَمِيعِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنِ اهْتَدَى وَاتَّقَى وَعَدَلَ انْتَهَى، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَوْمٌ اغْتَرَبُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَدَخَلُوا سِرْبًا مَشَوْا فِيهِ سَنَةً وَنِصْفًا تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى خَرَجُوا وَرَاءَ الصِّينِ فَهُمْ هُنَاكَ يُقِيمُونَ الشَّرْعَ فِي حِكَايَاتٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ يُوقِفُ عَلَيْهَا هُنَاكَ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ وَفِي قَوْلِهِ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى إِشَارَةٌ إِلَى التَّقْلِيلِ وَأَنَّ مُعْظَمَهُمْ لَا يَهْدِي بِالْحَقِّ وَلَا يَعْدِلُ بِهِ وَهُمْ إِلَى الْآنَ، كَذَلِكَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ النَّصَارَى عَالَمٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَلِيلٌ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً أَيْ وَقَطَّعْنَا قَوْمَ مُوسَى وَمَعْنَاهُ فَرَّقْنَاهُمْ وَمَيَّزْنَاهُمْ وَفِي ذَلِكَ رُجُوعُ أَمْرِ كُلِّ سِبْطٍ إِلَى رَئِيسِهِ لِيَخِفَّ أَمْرُهُمْ عَلَى مُوسَى وَلِئَلَّا يَتَحَاسَدُوا فَيَقَعَ الْهَرْجُ وَلِهَذَا فَجَّرَ لَهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا لِئَلَّا يَتَنَازَعُوا وَيَقْتَتِلُوا عَلَى الْمَاءِ وَلِهَذَا جَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا لِيُرْجَعَ بِأَمْرِهِمْ إِلَيْهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَسْبَاطِ، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَشْرَةَ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَعَنْهُمُ الْفَتْحُ أَيْضًا وَأَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالْكَسْرِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَالْجُمْهُورُ بِالْإِسْكَانِ وَهِيَ لُغَةُ الحجاز واثْنَتَيْ عَشْرَةَ حَالٌ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ قَطَّعْنَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَأَنْ يَنْتَصِبَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَطَّعْنَاهُمْ وَلَمْ يَعُدَّ النَّحْوِيُّونَ قَطَّعْنَا فِي بَابِ ظَنَنْتُ وَجَزَمَ بِهِ الْحَوْفِيُّ فَقَالَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مفعول لقطعناهم أَيْ جَعَلْنَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَتَمْيِيزُ

اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً وأَسْباطاً بَدَلٌ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأُمَمًا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ نَعْتٌ لِأَسْبَاطًا أَوْ بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْباطاً تَمْيِيزًا لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَتَمْيِيزُ هَذَا النَّوْعِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفْرَدًا وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ أَسْباطاً تَمْيِيزٌ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مُمَيَّزُ مَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ مُفْرَدٌ فَمَا وَجْهُ مَجِيئِهِ مَجْمُوعًا وَهَلَّا قِيلَ: اثْنَتَيْ عَشَرَ سِبْطًا، (قُلْتُ) : لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَحْقِيقًا لِأَنَّ الْمُرَادَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قَبِيلَةً وَكُلُّ قَبِيلَةٍ أَسْبَاطٌ لَا سِبْطٌ فَوَضَعَ أَسْباطاً مَوْضِعَ قَبِيلَةٍ وَنَظِيرُهُ. بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ، وأُمَماً بَدَلٌ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بِمَعْنَى وَقَطَّعْناهُمُ أُمَماً لِأَنَّ كُلَّ أَسْبَاطٍ كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً وَجَمَاعَةً كَثِيفَةَ الْعَدَدِ وَكُلَّ وَاحِدَةٍ تَؤُمُّ خِلَافَ مَا تَؤُمُّهُ الْأُخْرَى لَا تَكَادُ تَأْتَلِفُ انْتَهَى، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ أَسْبَاطٌ خِلَافُ مَا ذَكَرَ النَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْأَسْبَاطَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي الْعَرَبِ وَقَالُوا: الْأَسْبَاطُ جَمْعُ سِبْطٍ وَهُمْ الْفِرَقُ وَالْأَسْبَاطُ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِلِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَيَكُونُ عَلَى زَعْمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ «1» مَعْنَاهُ الْقَبِيلَةُ وَقَوْلُهُ وَنَظِيرُهُ: بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ لَيْسَ نَظِيرَهُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَثْنِيَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْحَظْ فِي الْجَمْعِ كَوْنَهُ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الرِّمَاحِ لَمْ يَصِحَّ تَثْنِيَتُهُ كَذَلِكَ هُنَا لَحَظَ هُنَا الْأَسْبَاطَ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا مَعْنَى الْقَبِيلَةِ فَمَيَّزَ بِهِ كَمَا يُمَيِّزُ بِالْمُفْرَدِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً وَيَكُونَ أَسْباطاً نَعْتًا لِفِرْقَةٍ ثُمَّ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ وأُمَماً نَعْتٌ لِأَسْبَاطٍ وَأَنَّثَ الْعَدَدَ وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى الْأَسْبَاطِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِرْقَةِ أَوِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ يَعْنِي رِجَالًا وَعَشَرَ أَبْطُنٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقَبِيلَةِ انْتَهَى وَنَظِيرُ وَصْفِ التَّمْيِيزِ الْمُفْرَدِ بِالْجَمْعِ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى. قَوْلُ الشَّاعِرِ: فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُودًا كَحَافَّتِهِ الْغُرَابِ الْأَسْحَمِ وَلَمْ يَقُلْ سَوْدَاءَ. وَقِيلَ: جَعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كَمَا تَقُولُ لِزَيْدٍ دَرَاهِمُ وَلِفُلَانٍ دَرَاهِمُ وَلِعُمَرَ دَرَاهِمُ فَهَذِهِ عِشْرُونَ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَقَطَّعْناهُمُ فِرَقًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: فِي الْكَلَامِ تَأْخِيرٌ وَتَقْدِيمٌ تقديره

_ (1) سورة النساء: 4/ 163. [.....]

وَقَطَّعْنَاهُمْ أَسْبَاطًا أُمَمًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَهَذِهِ كُلُّهَا تَقَادِيرُ مُتَكَلِّفَةٌ وَالْأَجْرَى عَلَى قَوَاعِدِ الْعَرَبِ الْقَوْلُ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. تَقَدَّمَ تفسير ننظير هَذِهِ الْجُمَلِ فِي الْبَقَرَةِ وَانْبَجَسَتْ: إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فَقِيلَ: كَانَ نظير عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْحَجَرِ فَضَرَبَهُ مُوسَى مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ فَيَعْرَقُ أَوَّلًا ثُمَّ يَسِيلُ وَإِنْ كَانَ مرادفا لا نفجرت فَلَا فَرْقَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا الْأُنَاسُ اسْمُ جَمْعٍ غَيْرِ تَكْسِيرٍ نَحْوَ رُخَاءٍ وَثُنَاءٍ وَثُؤَامٍ وَأَخَوَاتٍ لَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ الْكَسْرُ وَالتَّكْسِيرُ وَالضَّمَّةُ بَدَلٌ مِنَ الْكَسْرِ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي نَحْوِ سُكَارَى وَغُيَارَى مِنَ الْفَتْحَةِ انْتَهَى وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ ينطلق بِإِنَاسٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَيَكُونَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ حَتَّى تَكُونَ الضَّمَّةُ بَدَلًا مِنَ الْكَسْرَةِ بِخِلَافِ سُكَارَى وَغُيَارَى فَإِنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ فَعَالَى بِفَتْحِ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ فِيهِمَا، (وَالثَّانِي) : أَنَّ سُكَارَى وَغُيَارَى وَعُجَالَى وَمَا وَرَدَ مِنْ نَحْوِهَا لَيْسَتِ الضَّمَّةُ فِيهِ بَدَلًا مِنَ الْفَتْحَةِ بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرِ أَصْلٍ كَمَا أَنَّ فُعَالَى جَمْعُ تَكْسِيرِ أَصْلٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَاسُ الضَّمُّ كَمَا يَنْقَاسُ الْفَتْحُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي حَدِّ تكسير الصفات: وقد يكسرون بَعْضَ هَذَا عَلَى فُعَالَى، وَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ سُكَارَى وَعُجَالَى، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي الْأَبْنِيَةِ أَيْضًا: وَيَكُونُ فُعَالَى فِي الِاسْمِ نَحْوَ حُبَارَى وَسُمَانَى وَلُبَادَى وَلَا يَكُونُ وَصْفًا إِلَّا أَنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ الواحد للجمع نحو عُجَالَى وَكُسَالَى وَسُمَانَى فَهَذَانِ نَصَّانِ مِنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَإِذَا كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ أَصْلًا لم يسغ أن يدعى أَنَّ أَصْلَهُ فُعَالَى وَأَنَّهُ أُبْدِلَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ أَعْنِي فُعَالَى بِضَمِّ الْفَاءِ وَلَيْسَ بِجَمْعِ تَكْسِيرٍ فَالزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَلَا إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ اسْمُ جَمْعٍ فَالضَّمَّةُ فِي فَائِهِ أَصْلٌ لَيْسَتْ بَدَلًا مِنَ الْفَتْحَةِ بَلْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا. وَقَرَأَ عِيسَى الْهَمْدَانِيُّ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْتُكُمْ مُوَحِّدًا لِلضَّمِيرِ. وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَتَفْسِيرُهَا فِي

الْبَقَرَةِ وَكَأَنَّ هَذِهِ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ تِلْكَ إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا «1» وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا وَهُنَاكَ رَغَداً «2» وَسَقَطَ هُنَا وَهُنَاكَ وَسَنَزِيدُ «3» وَهُنَا سَنَزِيدُ وَهُنَاكَ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «4» وَهُنَا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ وَبَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ فَقَوْلُهُ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ وَهُنَاكَ وَإِذْ قُلْنَا فَهُنَا حُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُنَاكَ ادْخُلُوا «5» وَهُنَا اسْكُنُوا السُّكْنَى ضَرُورَةٌ تَتَعَقَّبُ الدُّخُولَ فَأُمِرُوا هُنَاكَ بِمَبْدَأِ الشَّيْءِ وَهُنَا بِمَا تَسَبَّبَ عَنِ الدُّخُولِ وَهُنَاكَ فَكُلُوا «6» بِالْفَاءِ وَهُنَا بِالْوَاوِ فَجَاءَتِ الْوَاوُ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهَا مِنْ كَوْنِ مَا بَعْدَهَا وَقَعَ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا، وَقِيلَ الدُّخُولُ حَالَةٌ مُقْتَضِيَةٌ فَحَسُنَ ذِكْرُ فَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَهُ وَالسُّكْنَى حَالَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فَحَسُنَ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مَعَهُ لَا عَقِيبَهُ فَحَسُنَتِ الْوَاوُ الْجَامِعَةُ لِلْأَمْرَيْنِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ وَهُوَ أَحَدُ مَحَامِلِهَا وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ أَوْلَى بِحَامِلِهَا وَأَكْثَرُ. وَقِيلَ ثَبَّتَ رَغَداً بَعْدَ الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ لِأَنَّهَا حَالَةُ قُدُومٍ فَالْأَكْلُ فِيهَا أَلَذُّ وَأَتَمُّ وَهُمْ إِلَيْهِ أَحْوَجُ بِخِلَافِ السُّكْنَى فَإِنَّهَا حَالَةُ اسْتِقْرَارٍ وَاطْمِئْنَانٍ فَلَيْسَ الْأَكْلُ فِيهَا أَلَذَّ وَلَا هُمْ أَحْوَجَ. وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي وَقُولُوا وَادْخُلُوا، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَاءٌ قَدَّمُوا الْحِطَّةَ عَلَى دُخُولِ الْبَابِ وَأَخَّرُوهَا فَهُمْ جَامِعُونَ فِي الْإِيجَادِ بَيْنَهُمَا انْتَهَى، وَقَوْلُهُ سواء قدّموا وأخّروه تَرْكِيبٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ وَإِصْلَاحُهُ سَوَاءٌ أَقَدَّمُوا أَمْ أَخَّرُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «7» وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَاسَبَ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّداً مَعَ تَرْكِيبِ ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ دَالٌّ عَلَى الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ وحِطَّةٌ قَوْلٌ وَالْفِعْلُ أَقْوَى فِي إِظْهَارِ الْخُضُوعِ مِنَ الْقَوْلِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ مَبْدَأِ الشَّيْءِ وَهُوَ الدُّخُولُ وَلِأَنَّ قَبْلَهُ ادْخُلُوا فَنَاسَبَ الْأَمْرَ بِالدُّخُولِ لِلْقَرْيَةِ الْأَمْرُ بِدُخُولِ بَابِهَا عَلَى هَيْئَةِ الْخُضُوعِ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْقَرْيَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِدُخُولِ بَابِهَا فَصَارَ بَابُ الْقَرْيَةِ كَأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْقَرْيَةِ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى. وَأَمَّا سَنَزِيدُ هُنَا فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَوْعِدٌ بِشَيْئَيْنِ بِالْغُفْرَانِ وَالزِّيَادَةِ وَطَرْحُ الْوَاوِ لَا يُخِلُّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِ الْقَائِلِ وَمَاذَا بَعْدَ الْغُفْرَانِ فَقِيلَ لَهُ: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وَزِيَادَةُ مِنْهُمْ بَيَانٌ وَأَرْسَلْنَا وَأَنْزَلْنَا ويَظْلِمُونَ وَيَفْسُقُونَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حِطَّةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ حِطَّةُ ذُنُوبِنَا حِطَّةً وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِقُولُوا عَلَى حَذْفٍ التَّقْدِيرُ وَقُولُوا قَوْلًا حِطَّةً أَيْ ذَا حِطَّةٍ فَحَذَفَ ذَا وَصَارَ حِطَّةً وَصْفًا لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقُولُ: قُلْتُ حَسَنًا وَقُلْتُ حَقًّا أَيْ قَوْلًا حَسَنًا وقولا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 58. (2) سورة البقرة: 2/ 58. (3) سورة البقرة: 2/ 58. (4) سورة البقرة: 2/ 58. (5) سورة البقرة: 2/ 58. (6) سورة البقرة: 2/ 58. (7) سورة إبراهيم: 14/ 21.

حَقًّا، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ نَغْفِرْ بِالنُّونِ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جَمْعُ سَلَامَةٍ إِلَّا أَنَّ الْحَسَنَ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ وَأَدْغَمَ الْيَاءَ فِيهَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو نَغْفِرْ بِالنُّونِ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ عَلَى وَزْنِ قَضَايَاكُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو تُغْفَرْ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جَمْعُ سَلَامَةٍ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تُغْفَرْ بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لَكُمْ خَطِيئَتُكُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ مَهْمُوزًا. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ تَغْفِرْ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحِطَّةَ تَغْفِرُ إِذْ هِيَ سَبَبُ الْغُفْرَانِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفَبَدَّلَ غَيَّرَ اللَّفْظَ دُونَ أَنْ يَذْهَبَ بِجَمِيعِهِ وَأَبْدَلَ إِذَا ذَهَبَ بِهِ وَجَاءَ بِلَفْظٍ آخَرَ انْتَهَى، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَقَدْ جَاءَ فِي الْقِرَاءَاتِ بَدَّلَ وَأَبْدَلَ بمعنى واحد قرىء: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً «1» وعَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً «2» عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها «3» بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ إِذْهَابُ الشَّيْءِ وَالْإِتْيَانُ بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ ثُمَّ التَّشْدِيدُ قَدْ جَاءَ حَيْثُ يَذْهَبُ الشَّيْءُ كُلُّهُ قَالَ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «4» وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «5» ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ «6» وَعَلَى هَذَا كلام العرب نثرها ونظمها. وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. الضَّمِيرُ فِي وَسْئَلْهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ الْمُعَارِضِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالُوا لَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِصْيَانٌ وَلَا مُعَانَدَةٌ لِمَا أُمِرُوا بِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوَبِّخَةً لَهُمْ وَمُقَرِّرَةً كَذِبَهُمْ وَمُعَلِّمَةً مَا جَرَى عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ وَالْمَسْخِ وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَكْتُمُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَهِيَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِكِتَابٍ أَوْ وَحْيٍ فَإِذَا أَعْلَمَهُمْ بِهَا مَنْ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابَهُمْ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، وَقَوْلُهُ عَنِ الْقَرْيَةِ فِيهِ حَذْفٌ أَيْ عَنْ أهل لقرية والْقَرْيَةِ إِيلَةُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَالثَّوْرِيُّ، أَوْ مَدْيَنُ وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ سَاحِلُ مَدْيَنَ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَقَالَ هِيَ مَقْنَى بِالْقَافِ سَاكِنَةً، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَقْنَاةُ سَاحِلِ مَدْيَنَ، وَيُقَالُ: لَهَا مَعَنَّى بِالْعَيْنِ مَفْتُوحَةً وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ أَوْ طَبَرِيَّةُ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ أَوْ أَرِيحَا أَوْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أَوْ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ لَمْ تُسَمَّ بِعَيْنِهَا وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: ومعنى حَاضِرَةَ الْبَحْرِ بِقُرْبِ الْبَحْرِ مَبْنِيَّةً بِشَاطِئِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يريد معنى الحاضرة

_ (1) سورة الكهف: 18/ 81. (2) سورة التحريم: 6/ 5. (3) سورة القلم: 68/ 32. (4) سورة الفرقان: 25/ 70. (5) سورة سبأ: 34/ 16. (6) سورة الأعراف: 7/ 95.

عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لَهَا أَيْ هِيَ الْحَاضِرَةُ فِي قُرَى الْبَحْرِ فَالتَّقْدِيرُ حاضِرَةَ قُرَى الْبَحْرِ أَيْ يَحْضُرُ أَهْلُ قُرَى الْبَحْرِ إِلَيْهَا لِبَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أَيْ يُجَاوِزُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِي الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى النَّهْيُ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ وَالِاشْتِغَالِ بِصَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ كان عصيانهم، وقرىء يَعْدُونَ مِنَ الْإِعْدَادِ وَكَانُوا يُعِدُّونَ آلَاتِ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ لَا يَشْتَغِلُوا فِيهِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَأَبُو نَهِيكٍ يَعْدُونَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَأَصْلُهُ يَعْتَدُونَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الدَّالِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ «1» إِذْ ظَرْفٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: إِذْ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَلْهُمْ انْتَهَى، وَلَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى وَسَلْهُمْ مُسْتَقْبَلٌ وَلَوْ كَانَ ظَرْفًا مُسْتَقْبَلًا لَمْ يَصِحِّ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْعَادِينَ وَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مَفْقُودُونَ فَلَا يُمْكِنُ سُؤَالُهُمْ وَالْمَسْئُولُ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْعَادِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذْ يَعْدُونَ بدل عَنِ الْقَرْيَةِ وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا كَأَنَّهُ قِيلَ وَسَلْهُمْ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَقْتَ عُدْوَانِهِمْ فِي السَّبْتِ وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ إِذْ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا حَرْفُ جَرٍّ وَجَعْلُهَا بَدَلًا يَجُوزُ دُخُولُ عَنْ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ وَلَوْ أُدْخِلَتْ عَنْ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا تُصُرِّفَ فِيهَا بِأَنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا بَعْضُ الظُّرُوفِ الزَّمَانِيَّةِ نَحْوُ يَوْمَ إِذْ كَانَ كَذَا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَةً بِاذْكُرْ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ عَجَزَ عَنْ تَأْوِيلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ إِبْقَائِهَا ظَرْفًا، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ عَنِ الْقَرْيَةِ: أَيْ عَنْ خَبَرِ الْقَرْيَةِ وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ النَّاصِبُ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ إِذْ يَعْدُونَ وَقِيلَ هُوَ ظَرْفٌ لِلْحَاضِرَةِ وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ خُرِّبَتِ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي السَّبْتِ ويَوْمَ سَبْتِهِمْ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمُ وَمَعْنَى اعْتَدَوْا فِيهِ أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ وَخِلَافِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّبْتُ مَصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ سَبْتَهَا بِتَرْكِ الصَّيْدِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتَّعَبُّدِ فَمَعْنَاهُ يَعْدُونَ فِي تَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ سَبْتِهُمْ يَوْمَ تَعْظِيمِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ وإِذْ تَأْتِيهِمْ الْعَامِلُ فِي إِذْ يَعْدُونَ أَيْ إِذْ عَدَوْا فِي السَّبْتِ إِذْ أَتَتْهُمْ لِأَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى يَصْرِفُ الْمُضَارِعَ لِلْمُضِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا بَعْدَ بَدَلٍ انْتَهَى، يَعْنِي بَدَلًا مِنَ الْقَرْيَةِ بَعْدَ بَدَلِ إِذْ يَعْدُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَضَافَ السَّبْتِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بأحكام فيه.

_ (1) سورة النساء: 4/ 154. [.....]

وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: حِيتانُهُمْ يَوْمَ أَسْبَاتِهِمْ، قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز: وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَسْبَتَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي السَّبْتِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَعَاصِمٌ بِخِلَافٍ لَا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ كَسْرَةِ الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ بِخِلَافٍ لا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَسْبَتَ دَخَلَ فِي السَّبْتِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَنِ الْحَسَنِ لَا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ لَا يُدَارُ عَلَيْهِمُ السَّبْتُ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يُسْبِتُوا وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ قَوْلُهُ لَا تَأْتِيهِمْ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ لَا لِلنَّفْيِ يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا وَالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَا جَوَابَ قَسَمٍ فَيَمْتَنِعُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَلِكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْبَلَاءِ بِأَمْرِ الْحُوتِ نَبْلُوهُمْ أَيْ بَلَوْنَاهُمْ وَامْتَحَنَّاهُمْ، وَقِيلَ كَذلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ أَيْ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ أَيْ لَا تَأْتِيهِمْ إِتْيَانًا مِثْلَ ذَلِكَ الْإِتْيَانِ وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ شُرَّعًا ظَاهِرَةً كَثِيرَةً بَلْ يَأْتِي مَا أَتَى مِنْهَا وَهُوَ قَلِيلٌ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي كَذَلِكَ يَنْتَفِي إِتْيَانُ الْحُوتِ مُطْلَقًا، كَمَا روي في القصص أنه كَانَ يَغِيبُ بِجُمْلَتِهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَانَ يَغِيبُ أَكْثَرُهُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ الَّذِي يُتْعِبُ بِصَيْدِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ: وَهَذَا الْإِتْيَانُ مِنَ الْحُوتِ قَدْ يَكُونُ بِإِرْسَالٍ مِنَ اللَّهِ كَإِرْسَالِ السَّحَابِ أَوْ بِوَحْيِ إِلْهَامٍ كَمَا أَوْحَى إِلَى النَّحْلِ أَوْ بِإِشْعَارٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى نَحْوِ مَا يُشْعِرُ اللَّهُ الدَّوَابَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِأَمْرِ السَّاعَةِ حَسْبَمَا جَاءَ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَرَقًا مِنَ السَّاعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحُوتِ شُعُورًا بِالسَّلَامَةِ وَمَعْنَى شُرَّعاً مُقْبِلَةً إِلَيْهِمْ مُصْطَفَّةً، كَمَا تَقُولُ أَشْرَعْتُ الرُّمْحَ نَحْوَهُ أَيْ أَقْبَلْتُ بِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شُرَّعاً ظَاهِرَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: تُشْرَعُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ كَأَنَّهَا الْكِبَاشُ السِّمَنُ يُقَالُ: شَرَعَ عَلَيْنَا فلان إذا دنا منه وَأَشْرَفَ عَلَيْنَا وَشَرَعْتُ عَلَى فُلَانٍ فِي بَيْتِهِ فَرَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا، وَقَالَ رُوَاةُ الْقَصَصِ: يَقْرَبُ حَتَّى يُمْكِنَ أَخْذُهُ بِالْيَدِ فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَتَطَرَّقُوا إِلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ حَفَرُوا حُفَرًا يَخْرُجُ إِلَيْهَا مَاءُ الْبَحْرِ عَلَى أُخْدُودٍ فَإِذَا جَاءَ الْحُوتُ يَوْمَ السَّبْتِ وَحَصَلَ فِي الْحُفْرَةِ أَلْقَوْا فِي الْأُخْدُودِ حَجَرًا فَمَنَعُوهُ الْخُرُوجَ إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا كَانَ الْأَحَدُ أَخَذُوهُ فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ التَّطْرِيقِ، وَقَالَ ابْنُ رُومَانَ: كَانُوا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ خَيْطًا وَيَضَعُ فِيهِ وَهْقَةً وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَبِ الْحُوتِ وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنَ الْخَيْطِ وَتَدٌ مَضْرُوبٌ وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَهُ فِي الْأَحَدِ ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْا مَنْ يَصْنَعُ هَذَا لَا يُبْتَلَى حَتَّى كَثُرَ صَيْدُ الْحُوتِ وَمُشِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَعْلَنَ الْفَسَقَةُ بِصَيْدِهِ وَقَالُوا ذَهَبَتْ حرمة السبت.

عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَرَأَ جُرَيَّةُ بْنُ عَائِدٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ بَأَسَ عَلَى وَزْنِ ضَرَبَ فِعْلًا مَاضِيًا وَعَنِ الْأَعْمَشِ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ بَأْسَ أَصْلُهُ بَأَسَ فَسَكَّنَ الْهَمْزَةَ جَعَلَهُ فِعْلًا لَا يَتَصَرَّفُ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بَيَسَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ وَالسِّينِ وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ بِئِسَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالْهَمْزِ هَمْزًا خَفِيفًا وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلِ الْهَمْزَةُ مَكْسُورَةٌ أَوْ سَاكِنَةٌ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بَاسَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْأَلِفِ. وَقَرَأَ خَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَطَلْحَةَ بَيْسٍ عَلَى وَزْنِ كَيْلٍ لَفْظًا وَكَانَ أَصْلُهُ فَيْعَلَ مَهْمُوزًا إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً وَأَدْغَمَ ثُمَّ حَذَفَ كَمَيِّتٍ، وَقَرَأَ نَصْرٌ فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ بَأَسٍ عَلَى وَزْنِ جَبَلٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مُصَرِّفٍ بَئَّسَ عَلَى وَزْنِ كَبَّدَ وَحَذَّرَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الرُّقَيَاتُ: لَيْتَنِي أَلْقَى رُقَيَّةَ فِي ... خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئَّسْ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشُ بَيْأَسٍ عَلَى وَزْنٍ ضَيْغَمٍ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ: كِلَاهُمَا كَانَ رَئِيسًا بَيْأَسَا ... يَضْرِبُ فِي يَوْمِ الْهِيَاجِ الْقَوْنَسَا وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ بَيْئِسٍ عَلَى وَزْنِ صَيْقِلٍ اسْمُ امْرَأَةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِكَسْرِ الْقَافِ وَهُمَا شَاذَّانِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُخْتَصٌّ بِالْمُعْتَلِّ كَسَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ بَيْسٍ عَلَى وَزْنِ مَيْتٍ وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْبُؤْسِ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الْهَمْزِ وَخُرِّجَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ وَعَنْهُ أَيْضًا بِئْسَ بِقَلْبِ الْيَاءِ هَمْزَةً وَإِدْغَامِهَا فِي الْهَمْزَةِ وَرُوِيَتْ هَذِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بَأَّسَ بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ وَالْهَمْزَةِ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَنَافِعٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قُرَّةَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ وَأَهْلُ الْحِجَازِ بَئِيسٍ عَلَى وَزْنِ رَئِيسٍ وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ بَائِسٍ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عَلِيٍّ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ كَالنَّكِيرِ وَالْقَدِيرِ، وَقَالَ أَبُو الْإِصْبَعِ الْعُدْوَانِيُّ: حَنَقَا عَلَيَّ وَلَا أَرَى ... لِي مِنْهُمَا شَرًّا بَئِيسَا وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْبَاءَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ فِي فَعِيلٍ حَلْقِيِّ الْعَيْنِ يَكْسِرُونَ أَوَّلَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ اسْمًا أَمْ صِفَةً، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ فِيمَا زَعَمَ عِصْمَةُ بَئِيسٍ عَلَى وَزْنِ طَرِيمٍ وَحَزِيمٍ فَهَذِهِ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ قِرَاءَةً وَضَبْطُهَا بِالتَّلْخِيصِ أَنَّهَا قُرِئَتْ ثُلَاثِيَّةَ اللَّفْظِ وَرُبَاعِيَّتَهُ فَالثُّلَاثِيُّ اسْمًا بِئْسٍ وَبَيْسٍ وَبِيسٍ وَبَأْسٍ وَبَأَسٍ وَبَيَسٍ وَفِعْلًا بِيسَ وَبِئْسَ وَبَئِسَ وَبَأَسَ.

وَبَأْسَ وَبُئِسَ وَالرُّبَاعِيَّةُ اسْمًا بَيْأَسٍ وَبِيئِسٍ وَبَيْئِسٍ وَبَيْسٍ وبييس وَبَيِيسٍ وَبَئِيسٍ وَبَائِسٍ وَفِعْلًا باءس. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. أَيِ اسْتَعْصَوْا وَالْعُتُوُّ الِاسْتِعْصَاءُ وَالتَّأَبِّي فِي الشَّيْءِ وَبَاقِي الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَذَابَ وَالْمَسْخَ وَالْهَلَاكَ إِنَّمَا وَقَعَ بِالْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ وَالْأُمَّةُ الْقَائِلَةُ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً هُمْ مِنْ فَرِيقِ النَّاهِينَ النَّاجِينَ وَإِنَّمَا سَأَلُوا إِخْوَانَهُمْ عَنْ عِلَّةِ وَعْظِهِمْ وَهُوَ لَا يُجْدِي فِيهِمْ شَيْئًا الْبَتَّةَ إذ الله ملهكهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ فَيَصِيرُ الْوَعْظُ إذ ذاك كالعبث كَوَعْظِ الْمِكَاسَيْنِ فَإِنَّهُمْ يَسْخَرُونَ بِمَنْ يَعِظُهُمْ وَكَثِيرٌ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَنْكِيلِ الْوَاعِظِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأُمَّةَ الْقَائِلَةَ لِمَ تَعِظُونَ هُمُ الْعُصَاةُ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ أَيْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ تَكُونُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْمَمْسُوخِينَ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا عَتَوْا أَنَّهُمْ أَوَّلًا أُخِذُوا بِالْعَذَابِ حِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ثُمَّ لَمَّا عَتَوْا مُسِخُوا، وَقِيلَ: فَلَمَّا عَتَوْا تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا وَالْعَذَابُ الْبَئِيسُ هُوَ الْمَسْخُ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُبْحَ فِعَالِهِمْ وَاسْتِعْصَاءَهُمْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَأَذَّنَ أَعْلَمَ مِنَ الْأَذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ عَطَاءٌ: تَأَذَّنَ حَتَمَ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: وَعَدَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَخْبَرَ وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى أَعْلَمَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَ وَعَنْهُ قَالَ: وَقِيلَ أَقْسَمَ وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَأَذَّنَ عَزَمَ رَبُّكَ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الْإِيذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ لِأَنَّ الْعَازِمَ عَلَى الْأَمْرِ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ وَيُؤْذِنُهَا بِفِعْلِهِ وَأُجْرِيَ مَجْرَى فِعْلِ الْقَسَمِ كَعَلِمَ اللَّهُ وَشَهِدَ اللَّهُ وَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ وَهُوَ قوله لَيَبْعَثَنَّ والمعنى وإذا حَتَّمَ رَبُّكَ وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِنْيَةُ تَأَذَّنَ هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي التَّكَسُّبَ مِنْ أَذِنَ أَيْ عَلِمَ وَمَكَنَ فَإِذَا كَانَ مُسْنَدًا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لَحِقَهُ مَعْنَى التَّكَسُّبِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُحْدَثِينَ وَإِلَى اللَّهِ كَانَ بِمَعْنَى عَلِمِ صِفَةً لَا مُكْتَسَبَةً بَلْ قائمة بالذات فالمعنى وإذا عَلِمَ اللَّهُ لَيَبْعَثَنَّ وَيَقْتَضِي قُوَّةَ الْكَلَامِ أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مِنْهُ مُقْتَرِنٌ بِإِنْفَاذٍ وَإِمْضَاءٍ كَمَا تَقُولُ فِي أَمْرٍ قَدْ عَزَمْتَ عَلَيْهِ غاية العزم على اللَّهُ لَأَبْعَثَنَّ كَذَا نَحَا إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ تَأَذَّنَ مَعْنَاهُ أَعْلَمَ وَهُوَ قَلَقٌ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ إِذْ نِسْبَةُ تَأَذَّنَ إِلَى الْفَاعِلِ غَيْرُ نِسْبَةِ أَعْلَمَ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَرْقٌ مِنَ التَّعَدِّي وَغَيْرِهِ انْتَهَى وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 إلى 170]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170] وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْ صُلَحَائِهِمُ الَّذِينَ جَرَّبُوا الْوَعْظَ فِيهِمْ فَلَمْ يَرَوْهُ يُجْدِي وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً فَيَكُونُ ثَلَاثَ فِرَقٍ اعْتَدَوْا وَفِرْقَةٌ وَعَظَتْ وَنَهَتْ وَفِرْقَةٌ اعْتَزَلَتْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْتَدِ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ غَيْرُ الْقَائِلَةِ لِلْوَاعِظَةِ لِمَ تَعِظُونَ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ عَصَتْ وَفِرْقَةٌ نَهَتْ وَوَعَظَتْ وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعَاصِيَةِ قَالَتْ لِلْوَاعِظَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً قَدْ عَلِمْتُمْ أَنْتُمْ أَنَّ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَيُؤَيِّدُهُ الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَهَذِهِ الْمُخَاطَبَةُ تَقْتَضِي مُخَاطَبًا انْتَهَى وَيَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعَاصِيَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ لَقَالَتِ الْوَاعِظَةُ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ. أَوْ بِالْخِطَابِ مَعْذِرَةً إِلَى ربكم ولعلكم يتقون وَمَعْنَى مُهْلِكُهُمْ مُخْتَرِمُهُمْ وَمُطَهِّرُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا لِتَمَادِيهِمْ فِي الْعِصْيَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْتَمَلُ

أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ فَالْقَائِلَةُ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّ الْوَعْظَ لَا يَنْفَعُ فِيهِمْ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِهِمْ لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا فِرْقَتَيْنِ عَاصِيَةً وَطَائِعَةً وَأَنَّ الطَّائِعَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْعَاصِيَةَ لَا يُجْدِي فِيهَا الْوَعْظُ وَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا: لِمَ تَعِظُونَ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَعْذِرَةً بِالرَّفْعِ أَيْ مَوْعِظَتُنَا إِقَامَةُ عُذْرٍ إِلَى اللَّهِ وَلِئَلَّا نُنْسَبَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَى بَعْضِ التَّفْرِيطِ وَلِطَمَعِنَا فِي أَنْ يَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَاصِمٌ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ مَعْذِرَةً بِالنَّصْبِ أَيْ وَعَظْنَاهُمْ مَعْذِرَةً، قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ كَذَا لَنَصَبَ انْتَهَى، وَيَخْتَارُ هَنَا سِيبَوَيْهِ الرَّفْعَ قَالَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَعْتَذِرُوا اعْتِذَارًا مُسْتَأْنَفًا وَلَكِنَّهُمْ قِيلَ: لَهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَالُوا: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةٌ، وقال أبو البقاء: من نَصَبَ فَعَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ وَعْظُنَا لِلْمَعْذِرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ أَيْ نَعْتَذِرُ مَعْذِرَةً وَقَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ الضَّمِيرُ فِي نَسُوا لِلْمَنْهِيِّينَ أَيْ تَرَكُوا مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ الصَّالِحُونَ وَجَعَلَ التَّرْكَ نِسْيَانًا مُبَالَغَةً إِذْ أَقْوَى أَحْوَالِ التَّرْكِ أَنْ يُنْسَى الْمَتْرُوكُ وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يراد بِهِ الذِّكْرُ نَفْسُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا كَانَ فِي الذِّكْرِ انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرُ لِي هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ وَالسُّوءُ عَامٌّ فِي الْمَعَاصِي وَبِحَسَبَ الْقَصَصِ يَخْتَصُّ هُنَا بِصَيْدِ الْحُوتِ والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْعَاصُونَ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِي أَخْذِهِمْ وَهِيَ الظُّلْمُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: بَئِيسٍ شَدِيدٌ مُوجِعٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُهْلِكٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَغَيْرُهُمَا بِيسٍ عَلَى وَزْنِ جَيِّدٍ، وَابْنُ عَامِرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ هَمَزَ كَبِئْرٍ وَوُجِّهَتَا عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ سُمِّيَ بِهِ كَمَا جَاءَ «أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وُضِعَ وَصْفًا عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ كَحِلْفٍ فَلَا يَكُونُ أَصْلُهُ فِعْلًا، وَخَرَّجَهُ الْكِسَائِيُّ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ بَيْئِسٌ فَخُفِّفَ الهمزة فالتفت يَاءَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَكُسِرَ أَوَّلُهُ كَمَا يُقَالُ رَغِيفٌ وَشَهِيدٌ، وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ فَكُسِرَ أَوَّلُهُ إِتْبَاعًا ثُمَّ حُذِفَتِ الْكَسْرَةُ كَمَا قَالُوا فَخِذٌ ثُمَّ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ وَقَرَأَ الْحَسَنُ بَئِيسٍ بِهَمْزٍ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ عَنْ نَافِعٍ كَمَا تَقُولُ بِيسَ الرَّجُلُ، وَضَعَّفَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: لَا وَجْهَ لَهَا قَالَ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ بِيسَ حَتَّى يُقَالَ بِيسَ الرَّجُلُ أَوْ بِيسَ رَجُلًا، قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا مَرْدُودٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَاتِمٍ حَكَى النَّحْوِيُّونَ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ يُرِيدُونَ وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ وَالتَّقْدِيرُ بِيسَ العذاب، وقرىء بَئِسَ عَلَى وَزْنِ شَهِدَ حَكَاهَا يَعْقُوبُ الْقَارِئُ وَعَزَاهَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ إِلَى عيسى بن

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَعْلَمَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَبْعَثَنَّ لَيُرْسِلَنَّ وَلَيُسَلِّطَنَّ لِقَوْلِهِ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا «1» وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ قَالَهُ الْجُمْهُورُ أَوْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّصَارَى قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: نَسْلُ الْمَمْسُوخِينَ وَالَّذِينَ بَقُوا مِنْهُمْ وَقِيلَ: يَهُودُ خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَعَلَى هَذَا تَرَتَّبَ الْخِلَافُ فِي مَنْ يَسُومُهُمْ، فَقِيلَ: بُخْتُنَصَّرَ وَمَنْ أَذَلَّهُمْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ الْمَجُوسُ كَانَتِ الْيَهُودُ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَهَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَزَالُ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَقِيلَ: الْعَرَبُ كَانُوا يَجْبُونَ الْخَرَاجَ مِنَ الْيَهُودِ قاله ابن جبير، و. قال السُّدِّيُّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَبْعُوثُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأمته وَلَمْ يَجْبِ الْخَرَاجَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا مُوسَى جَبَاهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أَمْسَكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وسُوءَ الْعَذابِ الْجِزْيَةُ أَوِ الْجِزْيَةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَكِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَقِيلَ: الْإِخْرَاجُ وَالْإِبْعَادُ عَنِ الْوَطَنِ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا دَوْلَةَ لِلْيَهُودِ وَلَا عِزَّ وَأَنَّ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ فِيهِمْ لَا يُفَارِقُهُمْ وَلَمَّا كَانَ خَبَرًا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَاهَدْنَا الْأَمْرَ كَذَلِكَ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَغِيبٍ صِدْقًا فَكَانَ مُعْجِزًا وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ أَنَّهُمْ هُمُ الْيَهُودُ فَتَسْمِيَةً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ إِذْ هُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَانُوا بِإِلَهِيَّةِ الدَّجَّالِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ إِنْ صَحَّ وَالْآيَةِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَلَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الرُّومِ أَمْلَقَتْ فِي صُقْعِهَا فَبَاعَتِ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرَةَ لَهُمْ وَتَمَلَّكُوهُمْ. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ. إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ سُرْعَةَ إِيقَاعِ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. تَرْجِيَةٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَوَعْدٌ لِمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ. وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ. أَيْ فِرَقًا مُتَبَايِنِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَقَلَّ أَرْضٌ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِيهَا شِرْذِمَةٌ وَهَذَا حَالُهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَحْتَ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْأَرْضِ مُسْلِمِينَ أَمْ كُفَّارًا وأُمَماً حَالٌ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ هَذَا فِي قَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ والصَّالِحُونَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوْ مَنْ آمَنَ بِالْمَدِينَةِ وَمِنْهُمْ مُنْحَطُّونَ عَنِ الصَّالِحِينَ وَهُمُ الْكَفَرَةُ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الصلاح أي ومنهم قوم دُونَ أَهْلِ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَدِلُ التَّقْسِيمُ إِلَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِهِ أُولَئِكَ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَمِنْهُمْ قَوْمٌ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 5.

دُونَ أُولَئِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ الْمُفْرَدَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ فَيَكُونُ ذلِكَ بِمَعْنَى أُولَئِكَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ وَيَعْتَدِلُ التَّقْسِيمُ وَالصَّالِحُونَ ودُونَ ذلِكَ أَلْفَاظٌ مُحْتَمِلَةٌ فَإِنْ أُرِيدَ بِالصَّلَاحِ الْإِيمَانُ فَدُونَ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ وَإِنْ أُرِيدَ بِالصَّلَاحِ الْعِبَادَةُ وَالْخَيْرُ وَتَوَابِعُ الْإِيمَانِ كَانَ دُونَ ذلِكَ فِي مُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْلُغُوا رُتْبَةَ الصَّلَاحِ الَّذِي لِأُولَئِكَ، وَالظَّاهِرُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِذْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَبَلَوْناهُمْ أَنَّهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ هُمْ دُونَ أُولَئِكَ وَهُوَ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَخَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ وَدُونَ ذَلِكَ ظرف أصله للمكان قم يُسْتَعْمَلُ لِلِانْحِطَاطِ فِي الْمَرْتَبَةِ، وقال ابن عطية: فإن أُرِيدَ بِالصَّلَاحِ الْإِيمَانُ فَدُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى غَيْرٍ يُرَادُ بِهَا الْكَفَرَةُ انْتَهَى، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ دُونَ تُرَادِفُ غَيْرًا فَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِمَّنْ كَانَ دُونَ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرًا فَصَحِيحٌ ودُونَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ نَعْتٍ لِمَنْعُوتٍ مَحْذُوفٍ وَيَجُوزُ فِي التَّفْصِيلِ بِمِنْ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ صِفَتِهِ مَقَامَهُ نَحْوَ هَذَا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ. وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ. أَيْ بِالصِّحَّةِ وَالرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ والسَّيِّئاتِ مُقَابِلَاتُهَا. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الطَّاعَةِ وَيَتُوبُونَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا. أَيْ حَدَثَ من بعد المذكورين فَخَلَفَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلْقَرْنِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ الْقَرْنِ خَلْفٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَلْفُ الْقَرْنُ وَالْخَلْفُ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: النَّاسُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ خَلْفُ صِدْقٍ لِلصَّالِحِ وَخَلْفُ سُوءٍ لِلطَّالِحِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ وَالْمَثَلُ: سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا أَيْ سَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ فَاسِدٍ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ: الْخَلْفُ يُذْهَبُ بِهِ إِلَى الذَّمِّ وَالْخَلَفُ خَلَفٌ صَالِحٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: خَلَّفْتَ خَلْفًا وَلَمْ تَدَعْ خَلَفًا ... كُنْتَ بِهِمْ كَانَ لَا بِكَ التَّلَفَا وَقَدْ يَكُونُ فِي الرَّدَى خَلَفٌ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَا ذَلِكَ الْخَلَفُ الْأَعْوَرُ وَفِي الصَّالِحِ خَلْفٌ وَعَلَى هَذَا بَيْتُ حَسَّانَ: لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى عَلَيْهِمْ وَخَلْفُنَا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ الله تابع

وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أَيْ مَا فِي الْكِتَابِ مِنِ اشْتِرَاطِ التَّوْبَةِ فِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَالَّذِي عَلَيْهِ هَوَى الْمُجْبِرِ هُوَ مَذْهَبُ الْيَهُودِ بِعَيْنِهِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ إِنْ قَصَّرُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ قَالُوا: سَيُغْفَرُ لَنَا لَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا كُلُّ أَمْرِهِمْ عَلَى الطَّمَعِ خِيَارُهُمْ فِيهِ الْمُدَاهَنَةُ فَهَؤُلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَشْبَاهُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَلَا الْآيَةَ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلُهُ: إِلَّا الْحَقَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْبَاطِلَ عَلَى تَنَاوُلِهِمْ عَرَضَ الدُّنْيَا وَدَرَسُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَلَمْ يُؤْخَذْ وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَرَّرُوا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَعَرَفُوا مَا فِيهِ الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى قَوْلِ الْبَاطِلِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا الْعَطْفُ عَلَى التَّقْرِيرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ الْكِتَابِ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ كَقَوْلِهِ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «1» وليثبت مَعْنَاهُ قَدْ رَبَّيْنَاكَ وَلَبِثْتَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَرِثُوا الْكِتابَ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ قَدْ أَيْ وَقَدْ دَرَسُوا مَا فِيهِ وَكَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلَى التَّقْرِيرِ هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِ مِيثَاقِ الْكِتَابِ بِكَوْنِهِمْ حَفِظُوا لَفْظَهُ وَكَرَّرُوهُ وَمَا نَسُوهُ وَفَهِمُوا مَعْنَاهُ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقُولُونَ إِلَّا الْبَاطِلَ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ أَنْ لَا تَقُولُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ: وَادَّارَسُوا وَأَصْلُهُ وَتَدَارَسُوا كَقَوْلِهِ فَادَّارَأْتُمْ «2» أَيْ تَدَارَأْتُمْ وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُوَضِّحُ أَنَّ مَعْنَى وَدَرَسُوا مَا فِيهِ هُوَ التَّكْرَارُ لِقِرَاءَتِهِ وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَحَوْهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ وَالْفَهْمِ لَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسَتِ بالريح الْآثَارَ إِذَا مَحَتْهَا فِيهِ بُعْدٌ وَلَوْ كَانَ كَمَا قِيلَ لَقِيلَ رَبْعٌ مَدْرُوسٌ وَخَطٌّ مَدْرُوسٌ، وَإِنَّمَا قَالُوا: رَبْعٌ دَارِسٌ وَخَطٌّ دَارِسٌ بِمَعْنَى دَاثِرٍ. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ. أَيْ وَلَثَوَابُ دَارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ الرِّشْوَةِ الْخَبِيثَةِ الْخَسِيسَةِ الْمُعَقِّبَةِ خِزْيَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَعْنَى يَتَّقُونَ مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ مَكَّةَ يَعْقِلُونَ بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى الْغَيْبَةِ فِي الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ أَوْ عَلَى طَرِيقِ خِطَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَفَلا تَعْقِلُونَ حَالَ هَؤُلَاءِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْعَمَلِ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ تجارتهم عَلَى ذَلِكَ. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ. الظاهر

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 18. (2) سورة البقرة: 2/ 72.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 إلى 187]

أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ السَّابِقُ ذِكْرُهُ فِي وَرِثُوا الْكِتابَ فَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ خَلْفٌ وَرِثُوا، وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا لِلْجِنْسِ أَيِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَالتَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ يَسْتَلْزِمُ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَكِنَّهَا أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَقَرَأَ عُمَرُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُمَسِّكُونَ مِنْ أَمْسَكَ وَالْجُمْهُورُ يُمَسِّكُونَ مُشَدَّدًا مِنْ مَسَّكَ وهما لغتان جمع لُغَتَانِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فَقَالَ: فَمَا تَمَسَّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ ... إِلَّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ وَأَمْسَكَ مُتَعَدٍّ قَالَ: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ «1» فَالْمَفْعُولُ هُنَا مَحْذُوفٌ أَيْ يُمْسِكُونَ أَعْمَالَهُمْ أَيْ يَضْبُطُونَهَا وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا تَحْتَمِلُ الْحَالِيَّةَ وَالْآلَةَ وَمَسَّكَ مُشَدَّدٌ بِمَعْنَى تَمَسَّكَ وَالْبَاءُ مَعَهَا لِلْآلَةِ وَفَعَّلَ تَأْتِي بِمَعْنَى تَفَعَّلَ نَصَّ عَلَيْهِ التَّصْرِيفِيُّونَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْأَعْمَشُ: اسْتَمْسَكُوا وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ تَمَسَّكُوا بِالْكِتَابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْكِتَابِ ذَكَرَ حَالَ مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ فَيَكُونُ وَالَّذِينَ عَلَى هَذَا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا «2» إِذَا جَعَلْنَا الرَّابِطَ هُوَ فِي مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وَهُوَ الْعُمُومُ كَذَلِكَ هَذَا يَكُونُ الرَّابِطُ هُوَ الْعُمُومُ فِي الْمُصْلِحِينَ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: الرَّابِطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَجْرُ الْمُصْلِحِينَ اعْتِرَاضٌ وَالتَّقْدِيرُ مَأْجُورُونَ أَوْ نَأْجُرُهُمْ انْتَهَى، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْحَذْفِ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الرَّابِطُ هُوَ الْمُصْلِحِينَ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَيْ لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمُ انْتَهَى، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ حَيْثُ أَجَازَ الرَّابِطَ بِالظَّاهِرِ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدَأُ فَأَجَازَ زَيْدٌ قَامَ أَبُو عَمْرٍو إِذَا كان أبو عمرو وكنية زَيْدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: زَيْدٌ قام أَيْ هُوَ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ وَالِاسْتِئْنَافُ هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قُلْنَا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

_ (1) سورة الحجّ: 22/ 65. (2) سورة الكهف: 18/ 30.

النَّتْقُ الْجَذْبُ بِشِدَّةٍ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِغَايَتِهِ وَهُوَ الْقَلْعُ وَتَقُولُ الْعَرَبُ نَتَقْتُ الزُّبْدَةَ من قم

الْقِرْبَةِ وَالنَّاتِقُ الرَّحِمُ الَّتِي تُقْلِعُ الْوَلَدَ مِنَ الرَّجُلِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: لَمْ يُحْرَمُوا حُسْنَ الْفِدَاءِ وَأُمُّهُمْ ... طَفَحَتْ عَلَيْكَ بِنَاتِقٍ مِذْكَارِ وَفِي الْحَدِيثِ «عَلَيْكُمْ بِزَوَاجِ الْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَطْيَبُ أَفْوَاهًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» . الِانْسِلَاخُ: التَّعَرِّي مِنَ الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِنْهُ انْسَلَخَتِ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا. الْكَلْبُ حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَكْلُبٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى كِلَابٍ وَشَذُّوا فِي هَذَا الْجَمْعِ فَجَمَعُوهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فَقَالُوا كِلَابَاتٌ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي مُكَلِّبِينَ «1» وَكَرَّرْنَاهَا لِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ، لَهَثَ الْكَلْبُ يَلْهَثُ بِفَتْحِ الْهَاءَيْنِ مَاضِيًا وَمُضَارِعًا وَالْمَصْدَرُ لَهْثًا وَلُهْثًا بِالضَّمِّ أَخْرَجَ لِسَانَهُ وَهِيَ حَالَةٌ لَهُ فِي التَّعَبِ وَالرَّاحَةِ وَالْعَطَشِ وَالرِّيِّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَلْهَثُ إِلَّا مِنْ إِعْيَاءٍ وَعَطَشٍ، لَحَدَ وَأَلْحَدَ لُغَتَانِ قِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ وَالْإِدْخَالُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعُدُولُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالرُّبَاعِيُّ أَشْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ الْأَمِيرُ بِالشَّحِيحِ الْمُلْحِدِ وَمِنْهُ لَحَدَ الْقَبْرَ وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ وَمِنْ كَلَامِهِمْ مَا فَعَلَ الْوَاحِدُ قَالُوا: لَحَدَهُ اللَّاحِدُ، وَقِيلَ أَلْحَدَ بِمَعْنَى مَالَ وَانْحَرَفَ وَلَحَدَ بِمَعْنَى رَكَنَ وَانْضَوَى قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، مَتُنَ مَتَانَةً اشْتَدَّ وَقَوِيَ، أَيَّانَ ظَرْفُ زَمَانٍ مَبْنِيٌّ لَا يَتَصَرَّفُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَيَلِيهِ الِاسْمُ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لَا الْمَاضِي بِخِلَافِ مَتَى فَإِنَّهُمَا يَلِيَانِهِ قَالَ تعالى: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ «2» وأَيَّانَ مُرْساها «3» قَالَ الشَّاعِرُ: أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي أَيَّانَا ... أَمَا تَرَى لِفِعْلِهَا إِبَّانَا وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْجَزَاءِ فَتَجْزِمُ الْمُضَارِعَيْنِ وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِيهَا وَلَمْ يَحْفَظْ سِيبَوَيْهِ لَكِنْ حَفِظَهُ غَيْرُهُ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ: إِذَا النَّعْجَةُ الْعَجْفَاءُ بَاتَتْ بِقَفْرَةٍ ... فَأَيَّانَ مَا تَعْدِلْ بِهَا الرِّيحُ تَنْزِلِ وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيَّانَ نُؤْمِنْكَ تَأْمَنْ غَيْرَنَا وَإِذَا ... لَمْ تُدْرِكِ الْأَمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حذرا

_ (1) سورة المائدة: 5/ 4. (2) سورة النمل: 27/ 65، وسورة النحل: 16/ 21. (3) سورة الأعراف: 7/ 187.

وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ هَذَا خَلْفُ صِدْقٍ وَهَذَا خَلْفُ سُوءٍ وَيَجُوزُ هَؤُلَاءِ خَلْفُ صِدْقٍ وَهَؤُلَاءِ خَلْفُ سُوءٍ وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ، وقال الشاعر: إنا وحدنا خَلْفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحَمْلِ وَقَفْ انْتَهَى. وَقَدْ جَمَعَ فِي الرَّدَى بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ مَعًا فِي الْقُرْآنِ الرَّدَى وَأَمَّا الصَّالِحُ فَبِالتَّحْرِيكِ لَا غَيْرُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى هَذَا إِلَّا الْفَرَّاءَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُمَا أَجَازَا الْإِسْكَانَ فِي الصَّالِحِ وَالْخَلَفُ إِمَّا مَصْدَرُ خَلَفَ وَلِذَلِكَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ وَإِنْ ثُنِّيَ وَجُمِعَ وَأُنِّثَ مَا قَبْلَهُ وَأَمَّا جَمْعُ خَالِفٍ كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ وَشَارِبٍ وَشَرْبٍ قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِجَرَيَانِهِ عَلَى الْمُفْرَدِ وَاسْمِ الْجَمْعِ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُفْرَدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ: هُنَا هُمُ الْيَهُودُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرِثُوا الْكِتابَ التَّوْرَاةَ بَقِيَتْ فِي أَيْدِيهِمْ بَعْدَ سَلَفِهِمْ يَقْرَأُونَهَا وَيَقِفُونَ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ هُمْ أَبْنَاءُ الْيَهُودِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمُ النَّصَارَى وَعَنْهُ أَنَّهُمْ هَؤُلَاءِ الْأُمَّةُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَرِثُوا بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَعَلَى الْأَقْوَالِ يَتَخَرَّجُ الْكِتابَ أَهُوَ التَّوْرَاةُ أَوِ الْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ وعَرَضَ هذَا الْأَدْنى هُوَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَا وَالْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ وَالْعَرَضُ مَا يَعْرِضُ وَلَا يَثْبُتُ وَفِي قَوْلِهِ: عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى تَخْسِيسٌ لِمَا يَأْخُذُونَهُ وَتَحْقِيرٌ لَهُ وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى الْمَعَاصِي يُقَدِّمُونَ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ عَلَى تَبْدِيلِ الْكِتَابِ وَتَحْرِيفِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «1» والْأَدْنى مِنَ الدُّنُوِّ وَهُوَ الْقُرْبُ لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مُنْقَضٌ زَائِلٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِمَّا مِنْ دُنُوِّ الْحَالِ وَسُقُوطِهَا وَقِلَّتِهَا، وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا قَطْعٌ عَلَى اللَّهِ بِغُفْرَانِ مَعَاصِيهِمْ أَيْ لَا يُؤَاخِذُنَا اللَّهُ بِذَلِكَ وَالْمُنَاسِبُ إِذْ وَرِثُوا الْكِتَابَ أَنْ يعلموا بِمَا فِيهِ وَأَنَّهُ إِنْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ أَنْ لَا يَجْزِمُوا بِالْمَغْفِرَةِ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ارْتِكَابِهَا، ولَنا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقِيلَ ضَمِيرُ مَصْدَرِ يَأْخُذُونَ أَيْ سَيُغْفَرُ هُوَ أَيِ الْأَخْذُ لَنا. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ. الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ بِانْهِمَاكِهِمْ فِي الْمَعَاصِي وَإِنْ أَمْكَنَهُمُ الرِّشَا وَالْمَكَاسِبُ الْخَبِيثَةُ لَمْ يَتَوَقَّفُوا عَنْ أَخْذِهَا ثَانِيَةً، وَدَائِمًا فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْمَعَاصِي غَيْرَ مُكْتَرِثِينَ بِالْوَعِيدِ كَمَا جَاءَ وَالْفَاجِرُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ وَالْعَرَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، يُقَالُ: إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يأخذ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 79.

مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ التي هي رؤوس الْأَمْوَالِ وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا يُعَيِّرُونَ الْقَاضِيَ فَإِذَا وَلَّى الْمُعَيِّرُ ارْتَشَى، وَقِيلَ كَانُوا لَوْ أَتَاهُمْ مِنَ الْخَصْمِ الْأَجْرُ رِشْوَةً أَخَذُوهَا وَنَقَضُوا بِالرِّشْوَةِ الثَّانِيَةِ مَا قَضَوْا بِالرِّشْوَةِ الْأُولَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا صُبَّ فِي الْقِنْدِيلِ زَيْتٌ ... تَحَوَّلَتِ الْقَضِيَّةُ لِلْمُقَنْدِلْ وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يَفْتَحِ النَّاسُ أَبْوَابًا وَلَا عَرَفُوا ... أَجْدَى وَأَنْجَحَ فِي الْحَاجَاتِ مِنْ طَبَقِ إِذَا تَعَمَّمَ بِالْمَنْدِيلِ فِي طَبَقٍ ... لَمْ يَخْشَ نُبْوَةَ بَوَّابٍ وَلَا غَلَقِ وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَصِيبٌ وَافِرٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ» وَمَنِ اخْتَبَرَ حال علمائها وقضاتها ومفتييها شَاهَدَ بِالْعِيَانِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ لِلْحَالِ يَعْنِي فِي وَإِنْ يَأْتِهِمْ أَيْ يَرْجُونَ الْمَغْفِرَةَ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَائِدُونَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ غَيْرَ نَاسِينَ وَغُفْرَانُ الذُّنُوبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَالْمُصِرُّ لَا غُفْرَانَ لَهُ انْتَهَى، وجمله عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ لِلْحَالِ لَا لِلْعَطْفِ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ وَالظَّاهِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ لَا تَقَعُ حَالًا لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ. هَذَا تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ مِنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أَنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ يَأْتِيهِمُ الْمُحِقُّ بِرِشْوَةٍ فَيُخْرِجُونَ لَهُ كِتَابَ اللَّهِ وَيَحْكُمُونَ لَهُ بِهِ فَإِذَا جَاءَ الْمُبْطِلُ أَخَذُوا مِنْهُ الرِّشْوَةَ وَأَخْرَجُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وَحَكَمُوا لَهُ وَأُضِيفَ الْمِيثَاقُ إِلَى الْكِتَابِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِيهِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْلُهُمْ سَيُغْفَرُ لَنا وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَغَيْرِهِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْجَزْمُ بِالْغُفْرَانِ وَغَيْرُهُ وأَنْ لَا يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِمِيثَاقِ الْكِتَابِ وَمَعْنَاهُ الْمِيثَاقُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَفِيهِ أَنَّ إِثْبَاتَ الْمَغْفِرَةِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ خُرُوجٌ عَنْ مِيثَاقِ الْكِتَابِ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَوُّلُ مَا لَيْسَ بِحَقِّ عَلَيْهِ وَإِنْ فُسِّرَ مِيثاقُ الْكِتابِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَانَ أَنْ لَا يَقُولُوا مَفْعُولًا لَهُ وَمَعْنَاهُ لِئَلَّا يَقُولُوا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً وَلَا يَقُولُوا نَهْيًا، كَأَنَّهُ قِيلَ أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ لَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَقَالَ أَيْضًا: قَبْلَ ذَلِكَ مِيثاقُ الْكِتابِ يَعْنِي قَوْلَهُ فِي التَّوْرَاةِ مَنِ ارْتَكَبَ ذَنْبًا عَظِيمًا فَإِنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ إِلَّا بالتوبة

وَكَسْرُ فَتْحَةِ هَمْزَتِهَا لُغَةُ سُلَيْمٍ وَهِيَ عِنْدِي حَرْفٌ بَسِيطٌ لَا مُرَكَّبٌ وَجَامِدٌ لَا مُشْتَقٌّ وَذَكَرَ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ أَنَّ أَيَّانَ فِي الْأَصْلِ كَانَ أَيَّ أَوَانٍ فَلَمَّا كَثُرَ دَوْرُهُ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَلَا عِوَضٍ وَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً فَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ يَاءَاتٍ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهَا فَصَارَتْ عَلَى مَا رَأَيْتَ انْتَهَى، وَزَعَمَ أَبُو الْفَتْحِ أَنَّهُ فَعْلَانٌ وَفَعْلَالٌ مُشْتَقٌّ مِنْ أَيٍّ وَمَعْنَاهُ أَيُّ وَقْتٍ وَأَيُّ فِعْلٍ مِنْ أَوَيْتُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْبَعْضَ آوٍ إِلَى الْكُلِّ مُتَسَانِدٌ إِلَيْهِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فَعَالًا وَفَعَّالًا مِنْ أَيْنَ لِأَنَّ أَيَّانَ ظَرْفُ زَمَانٍ وَأَيْنَ ظَرْفُ مَكَانٍ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ لَفْظِ أَيٍّ لِزِيَادَةِ النُّونِ وَلِأَنَّ أَيَّانَ اسْتِفْهَامٌ كَمَا أَنَّ أَيًّا كَذَلِكَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ وَفِي أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ الْجُمُودُ كَمَتَى وَحَيْثُمَا وَأَنَّى وَإِذَا، رَسَا يَرْسُو ثَبَتَ. الْحَفِيُّ الْمُسْتَقْصِي لِلشَّيْءِ الْمُحْتَفِلُ بِهِ الْمُعْتَنِي، وَفُلَانٌ حَفِيٌّ بِي بَارٌّ مُعْتَنٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا وَقَالَ آخَرُ: سُؤَالُ حَفِيٍّ عَنْ أَخِيهِ كَأَنَّهُ ... بِذِكْرَتِهِ وَسْنَانُ أَوْ مُتَوَاسِنُ وَالْإِحْفَاءُ الِاسْتِقْصَاءُ وَمِنْهُ إِحْفَاءُ الشَّارِبِ وَالْحَافِي أَيْ حَفِيَتْ قَدَمَيْهِ لِلِاسْتِقْصَاءِ فِي السَّيْرِ وَالْحَفَاوَةُ الْبِرُّ وَاللُّطْفُ. وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أَيْ جَذَبْنَا الْجَبَلَ بِشِدَّةٍ وفَوْقَهُمْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَائِنًا فَوْقَهُمْ إِذْ كَانَتْ حَالَةُ النَّتْقِ لَمْ تُقَارِنِ الْفَوْقِيَّةَ لَكِنَّهُ صَارَ فَوْقَهُمْ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: فَوْقَهُمْ ظَرْفٌ لِنَتَقْنَا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا إِنْ ضُمِّنَ نَتَقْنَا مَعْنَى فِعْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِي فَوْقَهُمْ أَيْ رَفَعْنَا بِالنَّتْقِ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ «1» وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ عَلَيْهِمْ ظلّة والظلّة ما أضلل مِنْ سَقِيفَةٍ أَوْ سَحَابٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ التَّشْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ بِظُلَّةٍ مَخْصُوصَةٍ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلُّ مَا أَظَلُّ يُسَمَّى ظُلَّةً فَالْجَبَلُ فَوْقَهُمْ صَارَ ظُلَّةً وَإِذَا صَارَ ظُلَّةً فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِظُلَّةٍ فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَأَنَّهُ حَالَةَ ارْتِفَاعِهِ عَلَيْهِمْ ظُلَّةٌ مِنَ الْغَمَامِ وَهِيَ الظُّلَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ تَحْتَهَا عَمَدٌ بَلْ إِمْسَاكُهَا بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ أَجْرَامًا بِخِلَافِ الظُّلَّةِ الْأَرْضِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى عَمَدٍ فَلَمَّا دَانَتْ هَذِهِ الظُّلْمَةُ الْأَرْضِيَّةُ فَوْقَهُمْ بِلَا عَمَدٍ شُبِّهَتْ بِظُلَّةِ الْغَمَامِ الَّتِي لَيْسَتْ بِلَا عَمَدٍ، وَقِيلَ: اعْتَادَ الْبَشَرُ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْأَرْضِيَّةَ ظُلَلًا إذ

_ (1) سورة النساء: 4/ 154.

كَانَتْ عَلَى عَمَدٍ فَلَمَّا كَانَ الْجَبَلُ مُرْتَفِعًا عَلَى غَيْرِ عَمَدٍ قِيلَ: كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أَيْ كَأَنَّهُ عَلَى عمد وقرىء طُلَّةٌ بِالطَّاءِ مِنْ أَطَلَّ عَلَيْهِ إِذَا أَشْرَفَ وَظَنُّوا هُنَا بَاقِيَةٌ عَلَى بَابِهَا مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ أَيْقَنُوا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلِمُوا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ غَلَبَةُ ظَنٍّ مَعَ بَقَاءِ الرَّجَاءِ إِلَّا إِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَيْدِ أَنْ لَا يَعْقِلُوا التَّوْرَاةَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ رَفْعِ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ «1» فِي الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَقَدْ كَرَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ هَنَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ أَنَّهُ لَمَّا نَشَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَلْوَاحَ وَفِيهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ فَلِذَلِكَ لَا تَرَى يَهُودِيًّا يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ إِلَّا اهْتَزَّ وَأَنْغَضَ لَهَا رَأْسَهُ انْتَهَى. وَقَدْ سَرَتْ هَذِهِ النَّزْعَةُ إِلَى أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا رَأَيْتُ بِدِيَارِ مِصْرَ تَرَاهُمْ في المكتب إذا قرؤوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وَأَمَّا فِي بِلَادِنَا بِالْأَنْدَلُسِ وَالْغَرْبِ فَلَوْ تَحَرَّكَ صَغِيرٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَدَّبَهُ مُؤَدِّبُ الْمَكْتَبِ وَقَالَ لَهُ لَا تَتَحَرَّكْ فَتُشْبِهِ الْيَهُودَ فِي الدِّرَاسَةِ. خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَاذْكُرُوا بِالتَّشْدِيدِ مِنَ الِاذِّكَارِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وتذكروا وقرىء وَتَذَكَّرُوا بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَتَذَّكَّرُوا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي الْبَقَرَةِ. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ ذَرِّيَّتَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَأَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ وَالْتَزَمُوهُ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِخْرَاجِ وَهَيْئَةِ الْمَخْرَجِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَحَلُّهَا ذَلِكَ الْحَدِيثُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يُنَافِي ظَاهِرَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَلَا تَلْتَئِمُ أَلْفَاظُهُ مَعَ لَفْظِ الْآيَةِ وَقَدْ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ بِمَا هُوَ مُتَكَلَّفٌ فِي التَّأْوِيلِ وَأَحْسَنُ مَا تُكُلِّمَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مَا فَسَّرَهُ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَشَهِدَتْ بِهَا عُقُولُهُمْ وَبَصَائِرُهُمُ الَّتِي رَكَّبَهَا فِيهِمْ وَجَعَلَهَا مُمَيِّزَةً بَيْنَ الضَّلَالَةِ وَالْهُدَى فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَقَرَّرَهُمْ وَقَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وَكَأَنَّهُمْ قالُوا بَلى أَنْتَ رَبُّنَا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَقْرَرْنَا لِوَحْدَانِيَّتِكَ وَبَابُ التَّمْثِيلِ واسع في كلام

_ (1) البقرة: 2/ 63.

الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» . فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا قَالَتِ الْأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِي ... تَقُولُ لَهُ رِيحُ الصِّبَا قِرْقَارُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا قَوْلَ ثَمَّ وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِلْمَعْنَى وَأَنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ الشَّاهِدَةِ عَلَى صِحَّتِهَا الْعُقُولُ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ لَمْ نُنَبَّهْ عَلَيْهِ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ لِأَنَّ نَصْبَ الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمَا نُبِّهُوا عَلَيْهِ قَائِمٌ مَعَهُمْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالْإِقْبَالِ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْآبَاءِ كَمَا لَا عُذْرَ لِآبَائِهِمْ فِي الشِّرْكِ وَأَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ مَنْصُوبَةٌ لَهُمْ، (فَإِنْ قُلْتَ) : بَنُو آدَمَ وَذُرِّيَّاتُهُمْ مَنْ هُمْ، قُلْتُ: عَنِيَ بِبَنِي آدَمَ أَسْلَافَ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «3» وَبِذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَخْلَافِهِمُ الْمُقْتَدِينَ بِآبَائِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلَادِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ الْآيَاتُ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا هِيَ وَالَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ عَلَى نَمَطِهَا وَأُسْلُوبِهَا وذلك على قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ «4» وإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَهُوَ بَسْطُ كَلَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ قَوْمٌ الآية مشيرة إلى هذا التَّأْوِيلِ الَّذِي فِي الدُّنْيَا وَأَخَذَ بِمَعْنَى أَوْجَدَ وَأَنَّ الْإِشْهَادَيْنِ عِنْدَ بُلُوغِ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ قَدْ أُعْطِيَ الْفَهْمَ وَنُصِبَتْ لَهُ الصِّفَةُ الدَّالَّةُ على الصانع ونحالها الزَّجَّاجُ وَهُوَ مَعْنًى تَحْتَمِلُهُ الْأَلْفَاظُ انْتَهَى، وَالْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يُطْرِقُ إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخِ فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَمَفْعُولُ أَخَذَ ذُرِّيَّتَهُمْ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَيُحْتَمَلُ فِي قِرَاءَةِ الْجَمِيعِ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ أَخَذَ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ المعنى وذُرِّيَّتَهُمْ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ ظُهُورِهِمْ كَمَا أَنَّ مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ بَنِي آدَمَ وَالْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْمِيثَاقُ كَمَا قَالَ: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «5» وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «6»

_ (1) سورة النحل: 16/ 40. (2) سورة فصلت: 41/ 11. (3) سورة التوبة: 9/ 30. [.....] (4) سورة الأعراف: 7/ 163. (5) سورة الأحزاب: 33/ 7. (6) سورة البقرة: 2/ 83.

وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ ذُرِّيَّاتِ بَنِي آدَمَ مِيثَاقَ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَاسْتَعَارَ أَنْ يَكُونَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ مِنَ الظَّهْرِ كَأَنَّ الْمِيثَاقَ لِصُعُوبَتِهِ وَلِلِارْتِبَاطِ بِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَهُ شَيْءٌ ثَقِيلٌ يُحْمَلُ عَلَى الظَّهْرِ وَهَذَا مِنْ تَمْثِيلِ الْمَعْنَى بِالْجَزْمِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِمَا نَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ قَائِلًا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى، وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَنَافِعٌ: ذُرِّيَّاتِهِمْ بِالْجَمْعِ وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ ذَرِّيَّتَهُمْ مُفْرَدًا بِفَتْحِ التَّاءِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِأَخَذَ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مِيثَاقَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَنِي آدَمَ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لِصُلْبِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُشْرِكٌ وَإِنَّمَا حَدَثَ الْإِشْرَاكُ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ. شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ. أَيْ قَالَ اللَّهُ شَهِدْنَا عَلَيْكُمْ أَوْ قَالَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ أَوْ شهد بعضهم على بعض أَقْوَالٍ وَمَعْنَى عَنْ هَذَا عَنْ هَذَا الْمِيثَاقِ وَالْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. الْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَرَةَ لَوْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ عَهْدٌ وَلَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُذَكِّرٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَهْدُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَكَانَتْ لَهُمْ حُجَّتَانِ إِحْدَاهُمَا: كُنَّا غَافِلِينَ وَالْأُخْرَى: كُنَّا أَتْبَاعًا لِأَسْلَافِنَا فَكَيْفَ نَهْلِكُ وَالذَّنْبُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ طَرَقَ لَنَا وَأَضَلَّنَا فَوَقَعَتِ الشَّهَادَةُ لِتَنْقَطِعَ عَنْهُمُ الْحُجَجُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَنْ يَقُولُوا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. هَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الثَّانِي أَيْ كَانُوا السَّبَبَ فِي شِرْكِنَا لِتَأْسِيسِهِمُ الشِّرْكَ وَتَقَدُّمِهِمْ فِيهِ وَتَرْكِهِ سُنَّةً لَنَا وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عَنْهُمُ الِاحْتِجَاجَ بِتَرْكِيبِ الْعُقُولِ فِيهِمْ وَتَذْكِيرِهِمْ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَقَطَعَ بِذَلِكَ أَعْذَارَهُمْ. وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي فَصَّلْنَا فِيهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ نُفَصِّلُ الْآياتِ اللَّاحِقَةَ فَالْكُلُّ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فِي التَّفْصِيلِ وَالتَّوْضِيحِ لِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَبَرَاهِينِهِ. وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ شِرْكِهِمْ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ وَالتَّوْضِيحِ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ يُفَصِّلُ بِالْيَاءِ أَيْ يُفَصِّلُ هُوَ أَيِ اللَّهُ تَعَالَى. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أَيْ وَاتْلُ عَلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ كُفَّارِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى وَتَقْرِيرِ رُبُوبِيَّتِهِ وَذَكَرَ إِقْرَارَهُمْ بِذَلِكَ وَإِشْهَادَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ذَكَرَ حَالَ مَنْ آمَنَ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَرَ كَحَالِ الْيَهُودِ كَانُوا مُقِرِّينَ مُنْتَظِرِينَ بعثة رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اطَّلَعُوا

عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَتَبْشِيرِهَا بِهِ، وَذِكْرِ صِفَاتِهِ فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ فَذَكَرُوا أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ هُوَ طَرِيقَةٌ لِأَسْلَافِهِمُ اتَّبَعُوهَا وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْها فَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ كُلُّ مَنِ انْسَلَخَ مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ أُعْطِيَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْحُنَفَاءِ، وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: هُمْ قُرَيْشٌ أَتَتْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ وَالْمُعْجِزَاتُ فَانْسَلَخُوا مِنَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَقْبَلُوهَا فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الَّذِي مُفْرَدًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، فَقِيلَ: هُوَ بُلْعُمٌ، وَقِيلَ: هُوَ بِلْعَامٌ وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ أُوتِيَ بَعْضَ كُتُبِ اللَّهِ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ أَبْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَاعُورَاءُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: بَاعْرُوَيْهِ رُوِيَ أَنَّ قَوْمَهُ طَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فَأَبَى وَقَالَ: كَيْفَ أَدْعُو عَلَى مَنْ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ حَتَّى فَعَلَ وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قِصَّتِهِ وَذَكَرُوا مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَعَثَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْوَ مَدْيَنَ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى شَرِيعَتِهِ وَعَلِمَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَا يَدَّعُونَهُ فَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فَلَمَّا فَارَقَ دِينَ مُوسَى سَلَخَ اللَّهُ مِنْهُ الْآيَاتِ ، وَقِيلَ: اسْمُهُ نَاعِمٌ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى وَكَانَ بِحَبْتَ اسْمُ بَلَدٍ كَانَ إِذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْشَ وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَحْبَرَةٍ لِلْمُتَعَلِّمِينَ يَكْتُبُونَ عَنْهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ، وَقِيلَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُعْطِيَ ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَةٍ يَدْعُو بِهَا فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهَا كُلَّهَا لِامْرَأَتِهِ وَكَانَتْ قَبِيحَةً فَسَأَلَتْهُ فَدَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهَا جَمِيلَةً فَمَالَتْ إِلَى غَيْرِهِ فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَلْبَةً نَبَّاحَةً وَكَانَ لَهُ مِنْهَا بَنُونَ فَتَضَّرَّعُوا إِلَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ فَصَارَتْ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بن الْعَاصِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو رَوْقٍ: وهو أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ قَرَأَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيُبْعَثُ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ وَرَجَا أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ وَكَانَ يَنْظِمُ الشِّعْرَ فِي الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ فَلَمَّا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدَهُ وَوَفَدَ عَلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَوَصَلَ إِلَى بَدْرٍ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِيَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ فَقَالَ مَنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ فَقِيلَ: مُحَمَّدٌ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِدِينِ مَنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ فَارْتَدَّ وَرَجَعَ وَقَالَ: الْآنَ حَلَّتْ لِيَ الْخَمْرُ وَكَانَ قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَحِقَ بِقَوْمٍ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ فَنَادَمَهُمْ حَتَّى مَاتَ وَقَدِمَتْ أُخْتُهُ فَارِعَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَاسْتَنْشَدَهَا مِنْ شِعْرِهِ فَأَنْشَدَتْهُ عدّة قصائد فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَيْضًا: هُوَ أَبُو عَامِرِ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ صَيْفِيٍّ الرَّاهِبُ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفَاسِقَ وَكَانَ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَهُوَ الَّذِي بَنَى لَهُ الْمُنَافِقُونَ مَسْجِدَ الضِّرَارِ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاوَرَةٌ فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: أَمَاتَ اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيدًا وَحِيدًا وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَنِ اسْتَعِدُّوا بِالْقُوَّةِ وَالسِّلَاحِ ثُمَّ أَتَى قَيْصَرَ وَاسْتَجَاشَهُ لِيُخْرِجَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَمَاتَ بِالشَّامِ طَرِيدًا شَرِيدًا وَحِيدًا ، وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا وَالْأَوْلَى فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا وَرَدَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تُحْمَلَ أَقَاوِيلُهُمْ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ فِي مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخِلَافِ فِي آتَيْناهُ آياتِنا مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَنْ عَنَى الَّذِي آتَيْنَاهُ أَذَلِكَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ أَوِ الْآيَاتُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ أَوْ حُجَجُ التَّوْحِيدِ أَوْ مِنْ آيَاتِ مُوسَى أَوِ الْعِلْمُ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ وَالِانْسِلَاخُ مِنَ الْآيَاتِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّبَرِّي مِنْهَا وَالْبُعْدِ أَيْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا اقْتَضَتْهُ نِعْمَتُنَا عَلَيْهِ مِنْ إِتْيَانِهِ آيَاتِنَا جُعِلَ كَأَنَّهُ كَانَ مُلْتَبِسًا بِهَا كَالثَّوْبِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَهَذَا مِنْ إِجْرَاءِ الْمَعْنَى مَجْرَى الْجَزْمِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ إِلَّا انْسَلَخَتِ الْآيَاتُ عَنْهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَنْسَى بَابًا مِنَ الْعِلْمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ مِنْ أَتْبَعَ رُبَاعِيًّا أَيْ لَحِقَهُ وَصَارَ مَعَهُ وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي حَقِّهِ إِذْ جُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ إِمَامٌ لِلشَّيْطَانِ يَتْبَعُهُ وَكَذَلِكَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «1» أَيْ عَدَا وَرَاءَهُ، قَالَ الْقَتْبِيُّ تَبِعَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَأَتْبَعَهُ أَدْرَكَهُ وَلَحِقَهُ كَقَوْلِهِ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ «2» أَيْ أَدْرَكُوهُمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ وَقَدْ يَكُونُ أَتْبَعَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ كما قال تعالى: وأتبعناهم ذرّياتهم بِإِيمَانٍ فَيُقَدَّرُ هَذَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ خُطُوَاتِهِ أَيْ جَعَلَهُ الشَّيْطَانُ يَتْبَعُ خُطُوَاتِهِ فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعَدِّي إِذْ أَصْلُهُ تَبِعَ هُوَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِخِلَافٍ وَالْحَسَنُ فِيمَا رَوَى عَنْهُ هَارُونُ فَأَتْبَعَهُ مُشَدَّدًا بِمَعْنَى تَبِعَهُ، قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ تَبِعَهُ إِذَا مَشَى فِي أَثَرِهِ وَاتَّبَعَهُ إِذَا وَارَاهُ مَشْيًا فَأَمَّا فَأَتْبَعَهُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ فَمِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ تَبِعَهُ وَقَدْ حُذِفَ فِي الْعَامَّةِ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ فَأَتْبَعَهُ بِمَعْنَى اسْتَتْبَعَهُ أَيْ جَعَلَهُ لَهُ تَابِعًا فَصَارَ لَهُ مُطِيعًا سَامِعًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَبِعَهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ يُحْتَمَلُ أن تكون فَكانَ بَاقِيَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَاقِعًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَانَ بِمَعْنَى صَارَ أَيْ صَارَ مِنَ الضَّالِّينَ الْكَافِرِينَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ الضَّالِّينَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْهَالِكِينَ الفاسدين.

_ (1) سورة الصافات: 37/ 10. (2) سورة الشعراء: 26/ 60.

وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ أَيْ وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نُشَرِّفَهُ وَنَرْفَعَ قَدْرَهُ بِمَا آتَيْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ لَفَعَلْنَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أَيْ تَرَامَى إِلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَرَغِبَ فِيهَا وَاتَّبَعْ مَا هُوَ ناشىء عَنِ الْهَوَى وَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يُرْفَعْ وَلَمْ يُشَرَّفْ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ أُوتِيَ الْهُدَى فَآثَرَهُ وَأَتْبَعَهُ وأَخْلَدَ مَعْنَاهُ رَمَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ أَيْ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَلَاذِّ وَالشَّهَوَاتِ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أَيْ مَالَ إِلَى السَّفَاهَةِ وَالرَّذَالَةِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي الْحَضِيضِ عِبَارَةً عَنِ انْحِطَاطِ قَدْرِهِ بِانْسِلَاخِهِ مِنَ الْآيَاتِ قَالَ مَعْنَاهُ الْكِرْمَانِيُّ. قَالَ أَبُو رَوْقٍ: غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ هَوَاهُ فَاخْتَارَ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَرَفَعْناهُ بِها لَأَخَذْنَاهُ كَمَا تَقُولُ رُفِعَ الظَّالِمُ إِذَا هَلَكَ وَالضَّمِيرُ فِي بِها عَائِدٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي الِانْسِلَاخِ وَابْتُدِئَ وَصْفُ حَالِهِ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ لَرَفَعْناهُ لَتَوَفَّيْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَرَفَعْنَاهُ عَنْهَا وَالضَّمِيرُ لِلْآيَاتِ ثُمَّ ابْتُدِئَ وَصْفُ حَالِهِ وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاسْتِدْرَاكُ لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْإِهْلَاكِ بِالْمَعْصِيَةِ أَوِ التَّوَفِّي قَبْلَ الْوُقُوعِ فِيهَا لَا يَصِحُّ مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ وَالضَّمِيرُ فِي لَرَفَعْناهُ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي أؤتي الْآيَاتِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي بِها عَلَى مَا يَعُودُ وَقَالَ قَوْمٌ الضَّمِيرُ فِي لَرَفَعْناهُ عَلَى الْكُفْرِ الْمَفْهُومِ مِمَّا سَبَقَ وَفِي بِها عَائِدٌ عَلَى الْآيَاتِ أَيْ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَا الْكُفْرَ بِالْآيَاتِ وَهَذَا الْمَعْنَى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَفِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ عُلِّقَ رَفْعُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُعَلَّقْ بِفِعْلِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّفْعَ؟ (قُلْتُ) : الْمَعْنَى وَلَوْ لَزِمَ الْعَمَلَ بِالْآيَاتِ وَلَمْ يَنْسَلِخْ مِنْهَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى رَفْعَهُ تَابِعَةٌ لِلُزُومِهِ الْآيَاتِ فَذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَالْمُرَادُ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ وَمُسَبَّبَةٌ عَنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَلَوْ لَزِمَهَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَاسْتَدْرَكَ الْمَشِيئَةَ بِإِخْلَادِهِ الَّذِي هُوَ فَعَلَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَلَوْ شِئْنا فِي مَعْنَى مَا هُوَ فَعَلَهُ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أَيْ فَصِفَتُهُ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَحْمِلْهَا كَصِفَةِ الْكَلْبِ إِنْ كَانَ مَطْرُودًا لَهَثَ وَإِنْ كَانَ

رَابِضًا لَهَثَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: شَبَّهَ الْمُتَهَالِكَ عَلَى الدُّنْيَا فِي قَلَقِهِ وَاضْطِرَابِهِ عَلَى تَحْصِيلِهَا وَلُزُومِهِ ذَلِكَ بِالْكَلْبِ فِي حَالَتِهِ هَذِهِ الَّتِي هِيَ مُلَازِمَةٌ لَهُ حَالَةَ تَهْيِيجِهِ وَتَرْكِهِ وَهِيَ كَوْنُهُ لَا يَزَالُ لا هثا وَهِيَ أَخَسُّ أَحْوَالِهِ وَأَرْذَلُهَا كَمَا أَنَّ الْمُتَهَالِكَ عَلَى الدُّنْيَا لَا يَزَالُ تَعِبًا قَلِقًا فِي تَحْصِيلِهَا قَالَ الْحَسَنُ هُوَ مِثْلَ الْمُنَافِقِ لَا يُنِيبُ إِلَى الْحَقِّ دُعِيَ أَوْ لَمْ يُدْعَ أُعْطِيَ أَوْ لَمْ يُعْطَ كَالْكَلْبِ يَلْهَثُ طَرْدًا وَتَرْكًا انْتَهَى، وَفِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ أَخَسُّ الْحَيَوَانِ وَأَذَلُّهُ لِضَرْبِ الْخِسَّةِ فِي الْمَثَلِ بِهِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ وَلَوْ كَانَ فِي جِنْسِ الْحَيَوَانِ مَا هُوَ أَخَسُّ مِنَ الْكَلْبِ مَا ضُرِبَ الْمَثَلُ إِلَّا بِهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ الْجُمْهُورُ إِنَّمَا شُبِّهَ فِي أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى الْآيَاتِ ثُمَّ أُوتِيَهَا أَيْضًا ضَالًّا لَمْ تَنْفَعْهُ فَهُوَ كَالْكَلْبِ فِي أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ اللَّهْثَ فِي حَالِ حَمْلِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ دُونَ حَمْلٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الرَّجُلُ خَرَجَ لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ وَجَعَلَ يَلْهَثُ كَمَا يَلْهَثُ الْكَلْبُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَحَطَطْنَاهُ وَوَضَعْنَا مَنْزِلَتَهُ فَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ مُوقِعَ فَحَطَطْنَاهُ أَبْلَغَ حَطٍّ لِأَنَّ تَمْثِيلَهُ بِالْكَلْبِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ وَأَرْذَلِهَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ انْتَهَى وَفِي قَوْلِهِ وَكَانَ حَقُّ الْكَلَامِ إِلَى آخِرِهِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ فَوَقَعَ قَوْلُهُ فَمَثَلُهُ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ وَاقِعًا مَوْقِعَ مَا ذُكِرَ لَكِنْ قَوْلُهُ وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَقَعَ مَوْقِعَ فَحَطَطْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ فَقَالَ آتَيْناهُ آياتِنا ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلَمَّا ذَكَرَ مَا هو في الشَّخْصِ إِسَاءَةً أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ فَانْسَلَخَ مِنْها وَقَالَ: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي سَلَخَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَأَخْلَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَجَاءَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها «1» وَقَوْلِهِ: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا «2» فِي نِسْبَةِ مَا كَانَ حَسَنًا إِلَى اللَّهِ وَنِسْبَةِ مَا كَانَ بِخِلَافِهِ إِلَى الشَّخْصِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ لَاهِثًا فِي الْحَالَتَيْنِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ كِتَابِ الْمِصْبَاحِ: وَأَمَّا الشُّرْطِيَّةُ فَلَا تَكَادُ تَقَعُ بِتَمَامِهَا مَوْضِعَ الْحَالِ فَلَا يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ إِنْ يَسْأَلْ يُعْطَ عَلَى الْحَالِ بَلْ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَجُعِلَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ مَا أُرِيدَ الْحَالُ عَنْهُ نَحْوُ جَاءَ زَيْدٌ هُوَ وَإِنْ يَسْأَلْ يُعْطَ فَيَكُونُ الْوَاقِعُ مَوْقِعَ الْحَالِ هُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ لَا الشُّرْطِيَّةُ، نَعَمْ قَدْ أَوْقَعُوا الْجُمَلَ الْمُصَدَّرَةَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ مَوْقِعَ الْحَالِ وَلَكِنْ بَعْدَ مَا أَخْرَجُوهَا عَنْ حَقِيقَةِ الشَّرْطِ وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ لَمْ تَخْلُ مِنْ أن يعطف عليها

_ (1) سورة الكهف: 18/ 79. (2) سورة الكهف: 18/ 82.

مَا يُنَاقِضُهَا أَوْ لَمْ يُعْطَفْ وَالْأَوَّلُ تَرْكُ الْوَاوِ مُسْتَمِرٌّ فِيهِ نَحْوُ أَتَيْتُكَ إِنْ أَتَيْتَنِي وَإِنْ لَمْ تَأْتِنِي إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ النَّقِيضَيْنِ مِنَ الشَّرْطَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَبْقَيَانِ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ بَلْ يَتَحَوَّلَانِ إِلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ كَالِاسْتِفْهَامَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ فِي قَوْلِهِ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «1» وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْوَاوِ نَحْوَ أَتَيْتُكَ وَإِنْ لَمْ تَأْتِنِي وَلَوْ تَرَكَ الْوَاوَ لَالْتَبَسَ بِالشَّرْطِ حَقِيقَةً انْتَهَى فَقَوْلُهُ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهِ وَالتَّرْكَ نَقِيضَانِ. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفُ وَصْفُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صفتهم كصفة الكلب لا هثا فِي الْحَالَتَيْنِ فَكَمَا شَبَّهَ وَصْفَ الْمُؤْتَى الْآيَاتِ الْمُنْسَلِخِ مِنْهَا بِالْكَلْبِ فِي أَخَسِّ حَالَاتِهِ كَذَلِكَ شَبَّهَ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ بِالْآيَاتِ حَيْثُ أُوتُوهَا وَجَاءَتْهُمْ وَاضِحَاتٍ تَقْتَضِي التَّصْدِيقَ بِهَا فَقَابَلُوهَا بِالتَّكْذِيبِ وَانْسَلَخُوا مِنْهَا وَاحْتَمَلَ ذلِكَ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً لِمَثَلِ الْمُنْسَلِخِ وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً لِوَصْفِ الْكَلْبِ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ مَحْذُوفَةً مِنْ ذَلِكَ أَيْ صِفَةُ ذَلِكَ صِفَةُ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مَحْذُوفَةً مِنْ مَثَلُ الْقَوْمِ أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفُ وَصْفُ الْمُنْسَلِخِ أَوْ وَصْفُ الْكَلْبِ كَمَثَلِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي ذَمِّ الْمُكَذِّبِينَ حَيْثُ جُعِلُوا أَصْلًا وَشُبِّهَ بِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ هَذَا الْمَثَلُ يَا مُحَمَّدُ مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا ضَالِّينَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِالْهُدَى وَالرِّسَالَةِ ثُمَّ جِئْتَهُمْ بِذَلِكَ فَبَقُوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذَّبُوا بِآياتِنا مِنَ اليهود بعد ما قرؤوا بعثة رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ وَذِكْرَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ وَمَا فِيهِ وَبَشَّرُوا النَّاسَ بِاقْتِرَابِ مَبْعَثِهِ وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كُفَّارَ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ هَادِيًا يَهْدِيهِمْ وَدَاعِيًا يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ الله ثم جاء هم مَنْ لَا يُشَكُّ فِي صِدْقِهِ وَدِيَانَتِهِ وَنُبُّوتِهِ فَكَذَّبُوهُ فَحَصَلَ التَّمْثِيلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَلْبِ الَّذِي إِنْ تَحْمِلْ عليه يهلث أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا لِمَا تَرَكُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ فَبَقُوا عَلَى الضَّلَالِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ مِثْلَ الْكَلْبِ الَّذِي يَلْهَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى، وَتَلَخَّصَ أَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْآيَاتِ عَامٌّ أَمْ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ أَمْ بِكُفَّارِ مَكَّةَ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ وَالْأَظْهَرُ الْعُمُومُ. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. أَيْ فَاسْرُدْ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ كَخَبَرِ بِلْعَامٍ أَوْ مَنْ فُسِّرَ بِهِ الْمُنْسَلِخُ إِذْ هُوَ مِنَ الْقَصَصِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ دَرَسَ الْكُتُبَ إِذْ هُوَ من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 6.

خَفِيِّ أَخْبَارِهِمْ فَفِي إِخْبَارِكَ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مُعْجِزٍ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا جَرَى عَلَى الْمُكَذِّبِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لَهُمْ وَرَادِعًا عَنِ التَّكْذِيبِ وَأَنْ يَكُونُوا أَخْبَارًا شَنِيعَةً تُقَصُّ كَمَا قُصَّ خَبَرُ ذَلِكَ الْمُنْسَلِخِ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ساءَ بِمَعْنَى بِئْسَ وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ أَصْلَهَا التَّعَدِّي تَقُولُ: سَاءَنِي الشَّيْءُ يَسُوءُنِي ثُمَّ لَمَّا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ بِئْسَ بُنِيَتْ عَلَى فِعْلَ وَجَرَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامُ بِئْسَ ومَثَلًا تَمْيِيزٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي سَاءَ فَاعِلًا وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِهَذَا التَّمْيِيزِ وَهُوَ مِنَ الضَّمَائِرِ الَّتِي يُفَسِّرُهَا مَا بَعْدَهَا وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ وَعَنِ الْكُوفِيِّينَ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَنْ جِنْسِ التَّمْيِيزِ فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ إِمَّا فِي التَّمْيِيزِ أَيْ سَاءَ أَصْحَابُ مَثَلِ الْقَوْمِ وَإِمَّا فِي الْمَخْصُوصِ أَيْ سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَثَلُ مَوْصُوفًا بِالسُّوءِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالسُّوءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِالسُّوءِ مَا أَفَادَهُ الْمَثَلُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا حَتَّى صَارُوا فِي التَّمْثِيلِ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ اللَّاهِثِ انْتَهَى وَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ لَيْسَ هُنَا ضَرْبُ مَثَلٍ وَالْمَثَلُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَصْفِ وَبَيْنَ مَا يُضْرَبُ مَثَلًا وَالْمُرَادُ هُنَا الوصف فمعنى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَيْ وَصْفُهُ وَصْفُ الْكَلْبِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بَلْ كَمَا قَالَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «1» أَيْ صِفَتُهُمْ كَصِفَةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ وَكَقَوْلِهِ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ «2» أَيْ صِفَتُهَا وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَوْلُهُ ساءَ مَثَلًا مَعْنَاهُ بِئْسَ وَصْفًا فَلَيْسَ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ فِي شَيْءٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ: سَاءَ مَثَلُ بِالرَّفْعِ الْقَوْمُ بِالْخَفْضِ وَاخْتُلِفَ عَلَى الْجَحْدَرِيِّ فَقِيلَ: كَقِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ، وَقِيلَ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ مُضَافًا إِلَى الْقَوْمُ وَالْأَحْسَنُ فِي قِرَاءَةِ الْمَثَلِ بِالرَّفْعِ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ وَيُجْعَلَ مِنْ بَابِ التَّعَجُّبِ نَحْوُ لَقَضُوَ الرَّجُلُ أَيْ مَا أَسْوَأَ مَثَلَ الْقَوْمِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَبِئْسَ عَلَى حَذْفِ التَّمْيِيزِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُهُ التَّقْدِيرُ سَاءَ مَثَلُ الْقَوْمِ أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ الَّذِينَ كَذَّبُوا على حذف مضاعف أَيْ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا لِتَكُونَ الَّذِينَ مَرْفُوعًا إِذْ قَامَ مَقَامَ مَثَلٍ الْمَحْذُوفِ لَا مَجْرُورًا صِفَةً لِلْقَوْمِ عَلَى تقدير حذف التمييز.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 17. (2) سورة الرعد: 13/ 35.

وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فَقَدَّرَهُ وَمَا ظَلَمُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، قَالَ: وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ بِهِ لِاخْتِصَاصٍ كَأَنَّهُ قِيلَ وَخَصُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالظُّلْمِ وَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهَا. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ مِنْ هِدَايَةٍ وَضَلَالٍ وَتَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ فِي الْعَبْدِ وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا وَنَظَائِرِهِ تَأْوِيلَاتٌ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي فِي الدُّنْيَا السَّالِكُ طَرِيقَ الرُّشْدِ فِيمَا كُلِّفَ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَهْدِي إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَنْ هَذَا وَصْفُهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَيَقْبَلُ وَيَهْتَدِي بِهُدَاهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ بِأَنْ لَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ الْخَاسِرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ مَنْ وَصَفَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ مُهْتَدٍ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لِأَنَّ ذَلِكَ مَدْحٌ وَمَدْحُ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ وَمَنْ يُضْلِلْ أَيْ وَمَنْ يَصِفُهُ بِكَوْنِهِ ضَالًّا فَهُوَ الْخَاسِرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ آتَيْنَاهُ الْأَلْطَافَ وَزِيَادَةَ الْهُدَى فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ عَنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ فَأَخْرَجَ لِهَذَا السَّبَبِ تِلْكَ الْأَلْطَافَ مِنْ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِ فَهُوَ الْخَاسِرُ وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ بَعِيدَةٌ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ والمعتزلة وفَهُوَ الْمُهْتَدِي حُمِلَ عَلَى لَفْظِ من وفَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى مِنْ وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ. وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَلَقَ لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الصِّنْفَيْنِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ هُوَ الْهَادِي وَهُوَ الْمُضِلُّ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ مَنْ خُلِقَ لِلْخُسْرَانِ وَالنَّارِ وَذَكَرَ أَوْصَافَهَمْ فِيمَا ذَكَرَ وَفِي ضِمْنِهِ وَعِيدُ الْكُفَّارِ وَالْمَعْنَى لِعَذَابِ جَهَنَّمَ وَاللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى أَوْ لَمَّا كَانَ مَآلُهُمْ إِلَيْهَا جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ فَقَدْ رَدَّ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لِلصَّيْرُورَةِ، فَقَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ وَلَامُ الْعَاقِبَةِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إِذَا كَانَ فِعْلُ الْفَاعِلِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ مَا يَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هُنَا فَالْفِعْلُ قُصِدَ بِهِ مَا يَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ مِنْ سُكْنَاهُمْ لِجَهَنَّمَ انْتَهَى، وَإِنَّمَا ذُهِبَ إِلَى أَنَّهَا لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» فَإِثْبَاتُ كَوْنِهَا

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 56.

لِلْعِلَّةِ يُنَافِي قَوْلَهُ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وَأَنْشَدُوا دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِ مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ لِلَّامِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَلَا كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْمَوْتِ يُولَدُ ... وَلَسْتُ أَرَى حَيًّا لِحَيٍّ يُخَلَّدُ وَقَوْلَ الْآخَرِ: فَلِلْمَوْتِ تَغْدُو الْوَالِدَاتُ سِخَالُهَا ... كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تُبْنَى الْمَسَاكِنُ وَدَعْوَى الْقَلْبِ فِيهِ وَإِنَّ تَقْدِيرَهُ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا جَهَنَّمَ لِكَثِيرٍ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَفْظَةُ كَثِيرٍ لَا تُشْعِرُ بِالْأَكْثَرِ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ بَعْثَ النَّارِ أَكْثَرُ لِقَوْلِ اللَّهِ لِآدَمَ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَأَخْرَجَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَتِسْعَمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ الْمَخْلُوقُونَ لِجَهَنَّمَ هُمُ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ إِيمَانٌ الْبَتَّةَ وَتَفْسِيرُ ابْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُمْ أَوْلَادُ الزِّنَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها. لَمَّا كَانُوا لَا يَتَدَبَّرُونَ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَلَا يَسْمَعُونَهَا سَمَاعَ تَفَكُّرٍ جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ فَقَدُوا الْفِقْهَ بِالْقُلُوبِ وَالْإِبْصَارَ بِالْعُيُونِ وَالسَّمَاعَ بِالْآذَانِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ عَنْ هَذِهِ الْحَوَاسِّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا طُلِبَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ مِسْكِينٌ الدَّارِمِيُّ: أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي السِّتْرُ وَأَصَمُّ عَنْ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا ... عَمْدًا وَمَا بِالسَّمْعِ لِي وَقْرُ وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ هَذَا فَقَالَ: لَا يَفْقَهُونَ بِها شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ ولا يُبْصِرُونَ بِها الهدى ولا يَسْمَعُونَ بِها الْحَقَّ انْتَهَى، وَفِي قَوْلِهِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ آلَةٌ لِلْفِقْهِ وَالْعِلْمِ كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ آلَةٌ لِلْإِبْصَارِ وَالْأُذُنَ آلَةٌ لِلسَّمَاعِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلَهُمْ لِإِغْرَاقِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَشِدَّةِ شَكَائِمِهِمْ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ إِلَّا أَفْعَالُ أَهْلِ النَّارِ مَخْلُوقِينَ لِلنَّارِ دَلَالَةً عَلَى تَوَغُّلِهِمْ فِي الْمُوجِبَاتِ وَتَمَكُّنِهِمْ فِيمَا يُؤَهِّلُهُمْ لِدُخُولِ النَّارِ، وَمِنْهُ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ اتَّخَذُوا لَكَ دَلُوكًا عُجِنَ بِخَمْرٍ وَإِنِّي لَأَظُنُّكُمْ يَا آلَ الْمُغِيرَةِ ذَرْءَ النَّارِ. وَيُقَالُ لِمَنْ كَانَ غَرِيقًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَا خُلِقَ فُلَانٌ إِلَّا لِلنَّارِ وَالْمُرَادُ وَصْفُ أَحْوَالِهِمْ فِي عِظَمِ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ فِي تَكْذِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِمْ

أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ وَأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ لَا يَكَادُ الْإِيمَانُ يَتَأَتَّى مِنْهُمْ كَأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِلنَّارِ انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ فِي الشَّرْحِ. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ أَيْ فِي عَدَمِ الْفِقْهِ فِي الْعَوَاقِبِ وَالنَّظَرِ لِلِاعْتِبَارِ وَالسَّمَاعِ لِلتَّفَكُّرِ وَلَا يَهْتَمُّونَ بِغَيْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. بَلْ هُمْ أَضَلُّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ عَنِ الْفِقْهِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ، وَقِيلَ الْأَنْعَامُ تُبْصِرُ مَنَافِعَهَا مِنْ مَضَارِّهَا فَتَلْزَمُ بَعْضَ مَا تُبْصِرُهُ وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُهُمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُعَانِدٌ فَيُقْدِمُ عَلَى النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ رُكِّبَ فِي بِنْيَتِهَا وَخِلْقَتِهَا أَنْ لَا تُفَكِّرَ فِي شَيْءٍ وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُعَدُّونَ لِلْفَهْمِ وَقَدْ خُلِقَتْ لَهُمْ قُوًى يَصْرِفُونَهَا وَأُعْطُوا طَرَفًا مِنَ النَّظَرِ فَهُمْ بِغَفْلَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ يُلْحِقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْأَنْعَامِ فَهُمْ أَضَلُّ عَلَى هَذَا انْتَهَى، وَقِيلَ هُمْ أَضَلُّ لِأَنَّهُمْ يَعْصُونَ وَالْأَنْعَامُ لَا تَعْصِي، وَقِيلَ الْأَنْعَامُ تَعْرِفُ رَبَّهَا وَتُسَبِّحُ لَهُ وَالْكُفَّارُ لَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يَدْعُونَهُ وَرُوِيَ: كُلُّ شَيْءٍ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنِ ابْنِ آدَمَ ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْإِنْسَانُ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ يُشَارِكُهُ فِي قُوَى الطَّبِيعَةِ الغاذية وَالنَّامِيَةِ وَالْمُوَلَّدَةِ وَفِي مَنَافِعِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَفِي أَحْوَالِ التَّخَيُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ فلما أعرض الكفار عن أَغْرَاضِ أَحْوَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرِ كَانُوا كَالْأَنْعَامِ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ وَالْإِنْسَانُ أُعْطِيَ الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْصِيلِهَا وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهَا كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَكْتَسِبْهَا مَعَ الْعَجْزِ فَلِهَذَا قَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْأَنْعَامُ تَفِرُّ إِلَى أَرْبَابِهَا وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهَا وَالْكَافِرُ يَهْرُبُ عَنْ رَبِّهِ الَّذِي أَنْعُمُهُ عَلَيْهِ لَا تُحْصَى، وَقِيلَ: الْأَنْعَامُ تَضِلُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُرْشِدٌ وَقَلَّمَا تَضِلُّ إِذَا كَانَ مَعَهَا وَهَؤُلَاءِ قَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ وَهُمْ يَزْدَادُونَ فِي الضَّلَالِ انْتَهَى، وَأَقُولُ هَذَا الْإِضْرَابُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الْإِبْطَالِ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ مِنْ تَشْبِيهِهِمْ بِالْأَنْعَامِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جِهَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي الضَّلَالِ هِيَ جِهَةُ التَّشْبِيهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى كَذِبِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهُمْ بِالْأَنْعَامِ فِيمَا ذَكَرَ وَأَنَّهُمْ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ فِيمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ أَنَّ

جِهَةَ التَّشْبِيهِ مُخَالِفَةٌ لِجِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الضَّلَالِ وَأَنَّ هذا الإضراب ليس على سَبِيلِ الْإِبْطَالِ بِمَدْلُولِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ إِضْرَابٌ دَالٌّ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ إِخْبَارٍ إِلَى إِخْبَارٍ فَالْجُمْلَةُ الْأَوْلَى شَبَّهَهُمْ بِالْأَنْعَامِ فِي انْتِفَاءِ مَنَافِعِ الْإِدْرَاكَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى امْتِثَالِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ أَثْبَتَتْ لَهُمُ الْمُبَالَغَةَ فِي ضَلَالِ طَرِيقِهِمُ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فَالْمَوْصُوفُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الضَّلَالِ طَرِيقُهُمْ وَحُذِفَ التَّمْيِيزُ وَتَقْدِيرُهُ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ طَرِيقًا مِنْهُمْ وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ «1» أَيْ فِي انْتِفَاءِ السمع للتدبير وَالْعَقْلِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ بَلْ سَبِيلُهُمْ أَضَلُّ فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَوَّلًا غَيْرُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ آخِرًا وَالْمَحْكُومُ بِهِ أَيْضًا مُخْتَلِفٌ. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَّنَ تَعَالَى بِهَا سَبَبَ كَوْنِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهُوَ الْغَفْلَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَنْ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَلِأَعْدَائِهِ مِنَ الْعِقَابِ. وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ مُقَاتِلٌ: دَعَا رَجُلٌ اللَّهَ تَعَالَى فِي صَلَاتِهِ وَمَرَّةً دَعَا الرَّحْمَنَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رَبًّا وَاحِدًا فَمَا بَالُ هَذَا يَدْعُو اثْنَيْنِ فَنَزَلَتْ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ ذَرَأَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلنَّارِ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ وَهُمْ أشدّ الكفار عتبا أَبُو جَهْلٍ وَأَضْرَابُهُ وَأَيْضًا لَمَّا نَبَّهَ عَلَى أَنَّ دُخُولَهُمْ جَهَنَّمَ هُوَ لِلْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْمَخْلَصُ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ أَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا وَالْقَلْبُ إِذَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَقَعَ فِي الْحِرْصِ، وَانْتَقَلَ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَى رَغْبَةٍ وَمِنْ طَلَبٍ إِلَى طَلَبٍ وَمِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى ظُلْمَةٍ، وَقَدْ وَجَدْنَا ذَلِكَ بِالذَّوْقِ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا قَضَاءً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَإِذَا انْفَتَحَ عَلَى قَلْبِهِ بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَخَلَّصَ مِنْ آفَاتِ الْغَفْلَةِ وَامْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وبه وَاجْتَنَبَ مَا نَهَى عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ حَسَنَةٍ مِنْ تَحْمِيدٍ وَتَقْدِيسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى، فَالْحُسْنَى هِيَ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ وَوَصْفُ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدَةُ كَقَوْلِهِ وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «2» وَهُوَ فَصِيحٌ وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْمُطَابَقَةِ لِلْجَمْعِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ الْحَسَنُ عَلَى وَزْنِ الْأُخَرِ كَقَوْلِهِ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ «3» لِأَنَّ جَمْعَ مَا لَا يَعْقِلُ يُخْبَرُ

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 44. (2) سورة طه: 20/ 18. (3) سورة البقرة: 2/ 185. [.....]

عَنْهُ وَيُوصَفُ بِجَمْعِ الْمُؤَنَّثَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُفْرَدُ مُذَكَّرًا، وَقِيلَ: الْحُسْنى مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والْأَسْماءُ هَاهُنَا: بِمَعْنَى التَّسْمِيَاتِ إِجْمَاعًا مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ انْتَهَى. وَلَا تَحْرِيرَ فِيمَا قَالَ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَصْدَرٌ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَلْفَاظُ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ الْأَوْصَافُ الدَّالَّةُ عَلَى تَغَايُرِ الصِّفَاتِ لَا تَغَايُرِ الْمَوْصُوفِ كَمَا تَقُولُ جَاءَ زَيْدٌ الْفَقِيهُ الشُّجَاعُ الْكَرِيمُ وَكَوْنُ الِاسْمِ الَّذِي أَمَرَ تَعَالَى أَنْ يُدْعَى بِهِ حَسَنًا هُوَ مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ وَمَعْنَى فَادْعُوهُ بِها أَيْ نَادُوهُ بِهَا كَقَوْلِكَ: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ يَا مَالِكُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَسَمُّوهُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ دَعَوْتُ ابْنِيَ عَبْدَ اللَّهِ أَيْ سَمَّيْتُهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْمِ الَّذِي يَقْتَضِي مَدْحًا خَالِصًا وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ شُبْهَةٌ وَلَا اشْتِرَاكٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَنْصُوصًا هَلْ يُطْلَقُ وَيُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَنَصَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَلَى الْجَوَازِ وَنَصَّ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى الْمَنْعِ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ وَهُوَ الصَّوَابُ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «1» ويَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ «2» هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ تَعَالَى اسْمُ فَاعِلٍ مُقَيَّدٌ بِمُتَعَلِّقِهِ فيقال الله مستهزىء بِالْكَافِرِينَ وَمَاكِرٌ بِالَّذِينَ يَمْكُرُونَ فَجَوَّزَ ذَلِكَ فِرْقَةٌ وَمَنَعَتْ مِنْهُ فِرْقَةٌ وَهُوَ الصَّوَابُ وَأَمَّا إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِغَيْرِ قَيْدِهِ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِهِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ النَّصَّ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ اسْمًا مَسْرُودَةٍ اسْمًا اسْمًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي بَعْضِهَا شُذُوذٌ وَذَلِكَ الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْمُتَوَاتِرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسما مائة إلا واحد مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَمَعْنَى أَحْصَاهَا عَدَّهَا وَحَفِظَهَا وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ بِهَا وَالتَّعْظِيمَ لَهَا وَالْعِبْرَةَ فِي مَعَانِيهَا وَهَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ انْتَهَى، وَتَسْمِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مُتَوَاتِرًا لَيْسَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْمُتَوَاتِرِ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرُ آحَادٍ. وَفِي بَعْضِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ» ولم يراد فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْحَكَمِ بْنِ بُرْجَانَ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلِلَّهِ الْأَوْصَافُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْوَصْفُ بِالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَانْتِفَاءِ شِبْهِ الْخَلْقِ وَصِفُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 15. (2) سورة الأنفال: 8/ 30.

في صفاته فيصفونه بمشئية الْقَبَائِحِ وَخَلْقِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَبِمَا يَدْخُلُ فِي التَّشْبِيهِ كَالرُّؤْيَةِ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ اتْرُكُوهُمْ وَلَا تُحَاجُّوهُمْ وَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا مَنْسُوخَةً بِالْقِتَالِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» وَقَوْلِهِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا «2» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاتْرُكُوا تَسْمِيَةَ الَّذِينَ يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيهَا فَيُسَمُّونَهُ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَذَلِكَ أَنْ يُسَمُّوهُ بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ كَمَا سَمِعْنَا الْبَدْوَ بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ: يَا أَبَا الْمَكَارِمِ يَا أَبْيَضَ الْوَجْهِ يَا سَخِيُّ، أَوْ أَنْ يَأْبَوْا تَسْمِيَتَهُ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى نَحْوَ أَنْ يَقُولُوا: يَا اللَّهُ وَلَا يَقُولُوا: يَا رَحْمَنُ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ تَسْمِيَتُهُمْ أَوْثَانَهُمُ اللَّاتَ نَظَرًا إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعُزَّى نَظَرًا إِلَى الْعَزِيزِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَيُسَمُّونَ اللَّهَ أَبًا وَأَوْثَانَهُمْ أَرْبَابًا وَنَحْوَ هَذَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى يُلْحِدُونَ يُكَذِّبُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يُشْرِكُونَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْغَلَطُ فِي أَسْمَائِهِ وَالزَّيْغُ عَنْهَا إِلْحَادٌ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ وَكَذَا فِي النَّحْلِ وَالسَّجْدَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ وَعِيسَى، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ الْيَاءِ وكسر الحاء فيهنّ وسَيُجْزَوْنَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَانْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ وَسَائِرُ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ. وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ لَمَّا ذَكَرَ مَنْ ذَرَأَ لِلنَّارِ ذَكَرَ مُقَابِلَهُمْ وَفِي لَفْظَةِ وَمِمَّنْ دَلَالَةٌ عَلَى التَّبْعِيضِ وَأَنَّ الْمُعْظَمَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَيْسُوا هُدَاةً إِلَى الْحَقِّ وَلَا عَادِلِينَ بِهِ، قِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ وَالدُّعَاةُ إِلَى الدِّينِ، وَقِيلَ: هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أُمَّةُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: «هَذِهِ لَكُمْ، وَقَدْ أُعْطِيَ الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا» وَمِنْ قَوْمِ مُوسى الآية وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَخْبَرَ فِيهَا أَنَّ مِمَّنْ خَلَقَ أُمَّةً مَوْصُوفُونَ بِكَذَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينٍ لَا فِي أَشْخَاصٍ وَلَا فِي أَزْمَانٍ وَصَلَحَتْ لِكُلِّ هَادٍ بِالْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَفِي زَمَانِ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ مُقَابِلَهَا فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَشْخَاصٍ وَلَا زَمَانٍ وَإِنَّمَا هَذَا تَقْسِيمٌ لِلْمَخْلُوقِ لِلنَّارِ وَالْمَخْلُوقِ لِلْجَنَّةِ وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَمِمَّنْ خَلَقْنا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِثْبَاتُ مُقَابِلِهِ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ.

_ (1) سورة المدثر: 74/ 11. (2) سورة الحجر: 15/ 3.

وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَخْلُوَ زَمَانٌ أَلْبَتَّةَ مِمَّنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِهِ ويهذي إِلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْبَاطِلِ انْتَهَى، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمَ الْجُبَّائِيُّ وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُسَرَّى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَلَا يُبْقَى مِنْهُ حَرْفٌ أَوْ كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: سَنَطْوِي أَعْمَارَهُمْ فِي اغْتِرَارٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الِاسْتِدْرَاجُ أَنْ تَدْرُجَ إِلَى الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ قَلِيلًا قَلِيلًا وَلَا تَهْجُمَ عَلَيْهِ وَأَصْلُهُ مِنَ الدَّرَجَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّاقِيَ وَالنَّازِلَ يَرْقَى وَيَنْزِلُ مِرْقَاةً مِرْقَاةً وَمِنْهُ دَرَجَ الْكِتَابَ طَوَاهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَدَرَجَ الْقَوْمُ مَاتُوا بَعْضُهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ أَنْ يُذِيقَهُمْ مِنْ بَأْسِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يُتَابِعُهُمْ بِهِ وَلَا يُجَاهِرُهُمْ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ سَنَأْخُذُهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتَحُ بَابًا مِنَ النِّعْمَةِ يَغْتَبِطُونَ بِهِ وَيَرْكَنُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ عَلَى غِرَّتِهِمْ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ انْتَهَى وَمِنْهُ دَرَجَ الصَّبِيُّ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ خُطَاهُ وَالْمَعْنَى سَنَسْتَرِقُهُمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَدَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ بِالنِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَالْإِمْهَالِ لَهُمْ حَتَّى يَغْتَرُّوا وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُهُمْ عِقَابٌ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى الْعُقُوبَاتِ حَتَّى يَقَعُوا فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا كَالْقَتْلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سَنَسْتَدِينُهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى مَا يُهْلِكُهُمْ وَيُضَاعِفُ عِقَابَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ وَذَلِكَ أَنْ يُوَاتِرَ اللَّهُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مَعَ انْهِمَاكِهِمْ فِي الْغَيِّ فَكُلَّمَا جَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً ازْدَادُوا بَطَرًا وَجَدَّدُوا مَعْصِيَةً فَيَتَدَرَّجُونَ فِي الْمَعَاصِي بِسَبَبِ تَرَادُفِ النِّعَمِ ظَانِّينَ أَنَّ مُوَاتَرَةَ النِّعَمِ أَثَرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَتَقْرِيبٌ، وَإِنَّمَا هِيَ خِذْلَانٌ مِنْهُ وَتَبْعِيدٌ فَهَذَا اسْتِدْرَاجُ اللَّهِ نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ قِيلَ: بِالِاسْتِدْرَاجِ، وَقِيلَ: بِالْهَلَاكِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: سَيَسْتَدْرِجُهُمْ بِالْيَاءِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الالتفات وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ التَّكْذِيبِ الْمَفْهُومِ مِنْ كَذَّبُوا أَيْ سَيَسْتَدْرِجُهُمْ هُوَ أَيِ التَّكْذِيبُ قَالَ الْأَعْشَى فِي الِاسْتِدْرَاجِ: فَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَرُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ لَيَسْتَدْرِجَنْكَ الْقَوْلُ حَتَّى تَهُزَّهُ ... وَتَعْلَمَ أَنِّي عَنْكُمُ غَيْرُ مُفْحِمِ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ إِلَى ضَمِيرِ تَكَلُّمِ الْمُفْرَدِ وَالْمَعْنَى

أُؤَخِّرُهُمْ مِلَاوَةً مِنَ الدَّهْرِ أَيْ مُدَّةً فِيهَا طُولٌ وَالْمُلَاوَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَمِنْهُ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «1» أَيْ طَوِيلًا وَسَمَّى فِعْلَهُ ذَلِكَ بِهِمْ كَيْدًا لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْكَيْدِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ إِحْسَانٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ خِذْلَانٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِنَّ مَكْرِي شَدِيدٌ، وَقِيلَ: إِنَّ عَذَابِي وَسَمَّاهُ كَيْدًا لِنُزُولِهِ بِالْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَالْمَتِينُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْقَوِيُّ يُقَالُ: مَتُنَ مَتَانَةً وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ عُمُومًا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قُرَيْشٍ قَتَلَهُمُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً، وَقَرَأَ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّ كَيَدِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى لِأَجْلِ إِنَّ كَيْدِي، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ لَيْلًا عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يَدْعُو قَبَائِلَ قُرَيْشٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يُحَذِّرُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ حِينَ أَصْبَحُوا: هَذَا مَجْنُونٌ بَاتَ يُصَوِّتُ حَتَّى الصَّبَاحِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: شَاعِرٌ مَجْنُونٌ فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ مَا قَالُوهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُحَذِّرٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْآيَةُ بَاعِثَةٌ لَهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِفَاءِ الْجِنَّةِ عَنْهُ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ قِيلَ: مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، وَقِيلَ: التَّحْرِيضُ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالْجِنَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ «2» وَالْمَعْنَى مِنْ مَسِّ جِنَّةٍ أَوْ تَخْبِيطِ جِنَّةٍ، وَقِيلَ: هِيَ هَيْئَةٌ كَالْجِلْسَةِ وَالرِّكْبَةِ أُرِيدَ بِهَا الْمَصْدَرُ أَيْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جُنُونٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَتَفَكَّرُوا مُعَلَّقٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَتفَكَّرُوا بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فيجوز تعليقه والمعنى أو لم يَتَأَمَّلُوا وَيَتَدَبَّرُوا فِي انْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَنِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ مُنْتَفٍ لَا مَحَالَةَ وَلَا يُمْكِنُ لِمَنْ أَنْعَمَ الْفِكْرَ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ ثَمَّ مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ أَيْ فَيَعْلَمُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ قالوا الْحَوْفِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّ تَفَكَّرُوا لَا تُعَلَّقُ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْجُمَلِ قَالَ: وَدَلَّ التَّفَكُّرُ عَلَى الْعِلْمِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا كَانَ فِعْلُ الْقَلْبِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ قُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ ومنهم مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُضَمَّنُ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى وَاحِدٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ إِلَى وَاحِدٍ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْمُضْمَرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ، وَقِيلَ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ يَتَفَكَّرُوا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ إِخْبَارًا بِانْتِفَاءِ الْجَنَّةِ وَإِثْبَاتِ النِّذَارَةِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فِي مَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أو لم يَتَفَكَّرُوا فِي قَوْلِهِمْ بِهِ جِنَّةٌ، وَالثَّانِي أَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ أي أو لم يَتَفَكَّرُوا أَيَّ شَيْءٍ بِصَاحِبِهِمْ مِنَ الْجُنُونِ مَعَ انْتِظَامِ أقواله وأفعاله،

_ (1) سورة مريم: 19/ 46. (2) سورة الناس: 114/ 6.

وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي تقديره أو لم يَتَفَكَّرُوا فِي مَا بِصَاحِبِهِمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى زَعْمِهِمُ انْتَهَى وَهِيَ تَخْرِيجَاتٌ ضَعِيفَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا وَتَفَكَّرَ مِمَّا ثَبَتَ فِي اللِّسَانِ تَعْلِيقُهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا حَضَّهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي حَالِ الرسول وَكَانَ مُفَرِّعًا عَلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ أَعْقَبَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَوُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَالْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» ولم يتقصر عَلَى ذِكْرِ النَّظَرِ فِي الْمَلَكُوتِ بَلْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مَحَلٌّ لِلنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ وأَنْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ وَما خَلَقَ وُبِّخُوا عَلَى انْتِفَاءِ نظرهم في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَصْنُوعَاتِ وَأَدِلَّتِهَا عَلَى عَظَمَةِ الصَّانِعِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا عَامًّا وَهُوَ قَوْلُهُ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فاندرج السموات وَالْأَرْضُ فِي مَا خَلَقَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَخُصُّ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ انْتِفَاءُ نَظَرِهِمْ وَتَفَكُّرِهِمْ فِي أَنَّ أَجَلَهُمْ قَدِ اقْتَرَبَ فَيُبَادِرُهُمُ الْمَوْتُ عَلَى حَالَةِ الْغَفْلَةِ عَنِ النَّظَرِ فِي مَا ذكر فيؤول أَمْرُهُمْ إِلَى الْخَسَارِ وَعَذَابِ النَّارِ نَبَّهَهُمْ عَلَى الْفِكْرِ فِي اقْتِرَابِ الْأَجَلِ لَعَلَّهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَيْهِ وَإِلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَبْلَ مُقَانَصَةِ الْأَجَلِ وَأَجَلُهُمْ وَقْتُ مَوْتِهِمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاقْتِرَابِ الْأَجَلِ اقْتِرَابُ السَّاعَةِ وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَبَرُهَا عَسى وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ وَقَدْ وَقَعَ خَبَرُ الْجُمْلَةِ غَيْرِ الْخَبَرِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي مِثْلِ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها «2» فغضب اللَّهِ عَلَيْهَا جُمْلَةُ دُعَاءٍ وَهِيَ غَيْرُ خَبَرِيَّةٍ فَلَوْ كَانَتْ أَنْ مُشَدَّدَةً لَمْ تَقَعْ عَسى وَلَا جُمْلَةُ الدُّعَاءِ لَهَا لَا يَجُوزُ عَلِمْتُ أَنَّ زَيْدًا عَسَى أَنْ يَخْرُجَ وَلَا عَلِمْتُ أَنَّ زَيْدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَنْتَ تُرِيدُ الدُّعَاءَ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً يَعْنِي أَنْ تَكُونَ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى حَرْفَيْنِ وَهِيَ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا تُوصَلُ بِفِعْلٍ مُتَصَرِّفٍ مُطْلَقًا يَعْنُونَ مَاضِيًا وَمُضَارِعًا وَأَمْرًا فَشَرَطُوا فِيهِ التَّصَرُّفَ، وعَسى

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 75. (2) سورة النور: 24/ 9.

فِعْلٌ جَامِدٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً لِأَنْ وعَسى هُنَا تَامَّةٌ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلٌ بِهَا نَحْوَ قَوْلِكَ عَسَى أَنْ تَقُومَ وَاسْمُ يَكُونَ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: أَجَلُهُمْ وقَدِ اقْتَرَبَ الْخَبَرُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: اسْمُ يَكُونَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ فَيَكُونُ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ يَكُونَ وأَجَلُهُمْ فَاعِلٌ بِاقْتَرَبَ وَمَا أَجَازَهُ الْحَوْفِيُّ فِيهِ خِلَافٌ فَإِذَا قُلْتَ كَانَ يَقُومُ زَيْدٌ فَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ زَيْدًا هُوَ الِاسْمُ وَيَقُومُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ فِي ذَلِكَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْجَوَازُ اخْتِيَارُ ابْنِ مَالِكٍ وَالْمَنْعُ اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةَ التَّقْسِيمِ وَالدَّلَائِلِ فِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا قَبْلَهَا تَوْقِيفُهُمْ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ نَظَرٌ وَلَا تَدَبُّرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَلَكُوتِ السموات وَالْأَرْضِ وَلَا فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي اقْتِرَابِ آجَالِهِمْ ثُمَّ قَالَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ أَوْ أَمْرٍ يَقَعُ إِيمَانُهُمْ وَتَصْدِيقُهُمْ إِذْ لَمْ يَقَعْ بِأَمْرٍ فِيهِ نَجَاتُهُمْ وَدُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَعَنْ أَيِّ نَفْسٍ بَعْدَ نَفْسِي أُقَاتِلُ وَالْمَعْنَى إِذَا لَمْ أُقَاتِلْ عَنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُقَاتِلُ عَنْ غَيْرِهَا وَلِذَلِكَ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ وَفِيهِ نَجَاتُهُمْ وَخَلَاصُهُمْ فَكَيْفَ يُصَدِّقُونَ بِحَدِيثٍ غَيْرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طِبَاعِهِمُ التَّصْدِيقُ بِمَا فِيهِ خَلَاصُهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدَهُ لِلْقُرْآنِ أَوِ الرَّسُولِ وَقِصَّتِهِ وَأَمْرِهِ أَوِ الْأَجَلِ إِذْ لَا عَمَلَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، (قُلْتُ) : بِقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَعَلَّ أَجْلَهُمْ قَدِ اقْتَرَبَ فَمَا لَهُمْ لَا يُبَادِرُونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ قَبْلَ الْفَوْتِ مَا يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَبِأَيِّ حَدِيثٍ أَحَقَّ مِنْهُ يُرِيدُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا. مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ. نَفَى نَفْيًا عَامًّا أَنْ يَكُونَ هَادٍ لِمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَتَضَمَّنَ الْيَأْسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَالْمَقْتَ بِهِمْ. وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَالْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَنَذَرُهُمْ بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارِ قَطْعِ الْفِعْلِ أَوْ أَضْمَرَ قَبْلَهُ وَنَحْنُ فَيَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَقَرَأَ ابْنٌ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَخَوَانِ وَأَبُو عَمْرٍو فِيمَا ذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ وَرَوَى خَارِجَةُ

عَنْ نَافِعٍ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ وَخُرِّجَ سُكُونُ الرَّاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَكَنَ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ كَقِرَاءَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ «1» وَيَنْصُرْكُمْ فَهُوَ مَرْفُوعٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ فَلا هادِيَ لَهُ فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ فَصَارَ مِثْلَ قَوْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «2» ونكفر فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْجَزْمِ فِي رَاءِ وَنُكَفِّرْ. وَمِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَنَّى سَلَكْتُ فَإِنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ ... وَعَلَى انْتِقَاصِكَ فِي الْحَيَاةِ وازدد يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها الضمير في يَسْئَلُونَكَ لِقُرَيْشٍ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّا قَرَابَتُكَ فَأَخْبِرْنَا بِوَقْتِ السَّاعَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ، قَالَ حَسَلُ بْنُ أَبِي بَشِيرٍ وَشَمْوِيلُ بن زيد إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَأَخْبِرْنَا بِوَقْتِ السَّاعَةِ فَإِنَّا نَعْرِفُهَا فَإِنْ صَدَقْتَ آمَنَّا بِكَ فَنَزَلَتْ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ وَأَيْضًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ أَتَى بِالسُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ وَقْتَهَا مَكْتُومٌ عَنِ الْخَلْقِ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ والسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ مَوْتُ مَنْ كَانَ حِينَئِذٍ حَيًّا وَبَعْثُ الْجَمِيعِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّاعَةِ وَاسْمُ الْقِيَامَةِ والسَّاعَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيَّانَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالسُّلَمِيُّ بِكَسْرِهَا حَيْثُ وَقَعَتْ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةُ قَوْمِهِ سُلَيْمٍ ومُرْساها مَصْدَرٌ أَيْ مَتَى إِرْسَاؤُهَا وَإِثْبَاتُهَا إِقْرَارُهَا وَالرُّسُوُّ ثَبَاتُ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ وَمِنْهُ رَسَا الْجَبَلُ وَأَرْسَيْتُ السَّفِينَةَ والمرسى الْمَكَانُ الَّذِي تَرْسُو فِيهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُرْساها إِرْسَاؤُهَا أَوْ وَقْتُ إِرْسَائِهَا أَيْ إِثْبَاتُهَا وَإِقْرَارُهَا انْتَهَى، وَتَقْدِيرُهُ أَوْ وَقْتُ إِرْسَائِهَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ أَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْوَقْتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْوَقْتِ إِلَّا بِمَجَازٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي أَيِّ وَقْتٍ وَقْتُ إِرْسَائِهَا وأَيَّانَ مُرْساها مُبْتَدَأٌ وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّ مُرْساها مُرْتَفِعٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ وأَيَّانَ مُرْساها جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنَ السَّاعَةِ وَالْبَدَلُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ وَذَلِكَ الْعَامِلُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِيهَا اسْتِفْهَامٌ وَلَمَّا عَلَّقَ الْفِعْلَ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِعْنَ صَارَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ فَهُوَ بَدَلٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَوْضِعِ عَنِ السَّاعَةِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمَجْرُورِ نَصْبٌ وَنَظِيرُهُ فِي الْبَدَلِ قَوْلُهُمْ عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ عَلَى أَحْسَنِ الْمَذَاهِبِ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أعني في كون الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ تَكُونُ فِي موضع البدل.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 109. (2) سورة التوبة: 9/ 3.

قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ. أَيِ اللَّهُ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ السَّاعَةِ عُمُومًا ثُمَّ خُصِّصَ بِالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِهَا جَاءَ الْجَوَابُ عُمُومًا عَنْهَا بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ثُمَّ خُصِّصَتْ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ فَقِيلَ لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ وَعِلْمُ السَّاعَةِ مِنَ الْخَمْسِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا مِنَ الْغَيْبِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَالْمَعْنَى لَا يُظْهِرُهَا وَيَكْشِفُهَا لِوَقْتِهَا الَّذِي قُدِّرَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ إِلَّا هُوَ قَالُوا: وَحِكْمَةُ إِخْفَائِهَا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ فَإِخْفَاؤُهَا أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ وَأَزْجَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا أَخْفَى الْأَجَلَ الْخَاصَّ وَهُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ لِذَلِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هو أي لَا تَزَالُ خَفِيَّةً وَلَا يظهر أمرها ولا يكشف خَفَاءَ عِلْمِهَا إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ إِذَا جَاءَ بِهَا فِي وَقْتِهَا بَغْتَةً لَا يُجَلِّيها بالخبر عنها، قل: مَجِيئِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ لِاسْتِمْرَارِ الْخَفَاءِ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ إِلَى وَقْتِ وُقُوعِهَا انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ تَكْثِيرٌ وَعُجْمَةٌ. ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ مَعْنَاهُ ثَقُلَتْ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْفُسِهَا لِتَفَطُّرِ السموات وَتَبَدُّلِ الْأَرْضِ وَنَسْفِ الْجِبَالِ، وَقَالَ الْحَسَنُ ثَقُلَتْ لِهَيْبَتِهَا وَالْفَزَعِ مِنْهَا عَلَى أَهْلِ السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَى ثَقُلَتْ خَفِيَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ مَتَى تَكُونُ وَمَا خَفِيَ أَمْرُهُ ثَقُلَ عَلَى النُّفُوسِ انْتَهَى، وَيُعَبَّرُ بِالثِّقَلِ عَنِ الشِّدَّةِ وَالصُّعُوبَةِ كَمَا قَالَ: ويَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا «1» أَيْ شَدِيدًا صَعْبًا وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِعَلَى تَقُولُ ثَقُلَ عَلَيَّ هَذَا الْأَمْرُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: ثَقِيلٌ عَلَى الْأَعْدَاءِ فَإِمَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّ فِي بِمَعْنَى عَلَى كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «2» أَيْ وَيُضَمَّنُ ثَقُلَتْ مَعْنَى يَتَعَدَّى بِفِي، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ كُلٌّ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ أَهَمَّهُ شَأْنُ السَّاعَةِ وَوَدَّ أَنْ يَتَجَلَّى لَهُ عِلْمُهَا وَشَقَّ عَلَيْهِ خَفَاؤُهَا وَثَقُلَ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَتْ فِيهِمَا لِأَنَّ أَهْلَهُمَا يَتَوَقَّعُونَهَا وَيَخَافُونَ شَدَائِدَهَا وَأَهْوَالَهَا وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُطِيقُهَا ولا يقوم لَهَا فَهِيَ ثَقِيلَةٌ فِيهِمَا. لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً عَلَى غَفْلَةٍ مِنْكُمْ وَعَدَمِ شُعُورٍ بِمَجِيئِهَا وهذا خطاب

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 27. (2) سورة طه: 20/ 71.

عَامٌّ لِكُلِّ النَّاسِ وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ السَّاعَةَ لَتَهْجُمُ وَالرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ وَالرَّجُلُ يَسُومُ سَائِمَتَهُ وَالرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ» . يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِسُؤَالِهِمْ أَيْ مُحِبٌّ لَهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَأَنَّكَ يُعْجِبُكَ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا وَعَنْهُ أَيْضًا كَأَنَّكَ مُجْتَهِدٌ فِي السُّؤَالِ مُبَالِغٌ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مَا تُسْأَلُ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَأَنَّكَ طَالِبٌ عِلْمَهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِالسُّؤَالِ عَنْها وَالِاشْتِغَالِ بِهَا حَتَّى حَصَلْتَ عَلَيْهَا أَيْ تُحِبُّهُ وَتُؤْثِرُهُ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّكَ تَكْرَهُ السُّؤَالَ لِأَنَّهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ مُحْتَفٍ وَمُحْتَفِلٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا وَحَقِيقَتُهُ كَأَنَّكَ بَلِيغٌ فِي السُّؤَالِ عَنْهَا لِأَنَّ مَنْ بَالَغَ فِي السُّؤَالِ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّنْقِيرِ عَنْهُ اسْتَحْكَمَ عِلْمُهُ فِيهِ وَهَذَا التَّرْكِيبُ مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ وَمِنْهُ إِحْفَاءُ الشَّارِبِ وَاحْتِفَاءُ النَّعْلِ اسْتِئْصَالُهُ وَأَحْفَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَلْحَفَ وَحَفِيَ بِفُلَانٍ وَتَحَفَّى بِهِ بَالَغَ فِي الْبِرِّ بِهِ انْتَهَى، وعَنْها إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيَسْأَلُونَكَ أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا وَتَكُونُ صِلَةُ حَفِيٌّ مَحْذُوفَةً وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهَا أَيْ مُعْتَنٍ بِشَأْنِهَا حَتَّى عَلِمْتَ حَقِيقَتَهَا وَوَقْتَ مَجِيئِهَا أَوْ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ أو معتن بِأَمْرِهِمْ فَتُجِيبُهُمْ عَنْهَا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ عِلْمَهَا عِنْدَكَ وَحَفِيٌّ لَا يَتَعَدَّى بِعْنَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «1» فَعَدَّاهُ بِالْبَاءِ وَإِمَّا أن يتعلق بحفي عَلَى جِهَةِ التَّضْمِينِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَفِيًّا بِشَيْءٍ أَدْرَكَهُ وَكَشَفَ عَنْهُ فَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّكَ كَاشِفٌ بِحَفَاوَتِكَ عَنْهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا تَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ فِي قَوْلِهِ، فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي، أَيْ عَنِ النِّسَاءِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهَا بِالْبَاءِ مَكَانَ عَنْ أَيْ عَالِمٌ بِهَا بَلِيغٌ فِي الْعِلْمِ بِهَا. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أَيْ عِلْمُ مَجِيئِهَا في علم الله وظريفية عِنْدَ مَجَازِيَّةٌ كَمَا تَقُولُ النَّحْوُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَيْ فِي عِلْمِهِ وَتَكْرِيرُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَلِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِهِ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ بَلْ يَظُنُّ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ، وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ وَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «2» الْآيَةَ. وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُونَ أي أَخْبَرْتُكَ أَنَّ وَقْتَهَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ لَا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَخْفَيْتُ مَعْرِفَةَ وَقْتِهَا والأظهر قول الطبري.

_ (1) سورة يس: 36/ 48. (2) سورة الأنعام: 6/ 29. [.....]

[سورة الأعراف (7) : آية 188]

[سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ أَلَا يُخْبِرُكَ رَبُّكَ بِالسِّعْرِ الرَّخِيصِ قَبْلَ أَنْ يَغْلُوَ فَتَشْتَرِيَ وَتَرْبَحَ وَبِالْأَرْضِ الَّتِي تَجْدُبُ فَتَرْحَلَ عَنْهَا إِلَى مَا أَخْصَبَ فَنَزَلَتْ ، وَقِيلَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ الْمُصْطَلِقِ جَاءَتْ رِيحٌ فِي الطَّرِيقِ فَأَخْبَرَتْ بِمَوْتِ رِفَاعَةَ وَكَانَ فِيهِ غَيْظُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ قَالَ انْظُرُوا أَيْنَ نَاقَتِي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ يُخْبِرُ عَنْ مَوْتِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يَعْرِفُ أَيْنَ نَاقَتُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا كَيْتَ وَكَيْتَ وَنَاقَتِي فِي الشِّعْبِ وَقَدْ تَعَلَّقَ زمامها بشجرة فوجدوها عَلَيَّ فَنَزَلَتْ ، وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ جِدًّا وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِظْهَارٌ لِلْعُبُودِيَّةِ وَانْتِفَاءٌ عَنْ مَا يَخْتَصُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الْقُدْرَةِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ وَمُبَالَغَةٌ فِي الِاسْتِسْلَامِ فَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي اجْتِلَابَ نَفْعٍ وَلَا دَفْعَ ضَرٍّ فَكَيْفَ أَمْلِكُ عِلْمَ الْغَيْبِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ «1» وَقَدَّمَ هُنَا النَّفْعَ عَلَى الضَّرِّ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَقَدَّمَ الْهِدَايَةَ على الضلال وبعده لا ستكثرت مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ فَنَاسِبَ تَقْدِيمُ النَّفْعِ وَقَدَّمَ الضَّرَّ فِي يُونُسَ عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ تَكُونُ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ أَوَّلًا ثُمَّ طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً «2» فَإِذَا تَقَدَّمَ النَّفْعُ فَلِسَابِقَةِ لَفْظٍ تَضَمَّنَهُ وَأَيْضًا فَفِي يُونُسَ مُوَافَقَةُ مَا قَبْلَهَا فَفِيهَا مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ «3» مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا «4» لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ «5» وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا وَفِي يُونُسَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ «6» وَتَقَدَّمَهُ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ «7» وَفِي الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ «8» وَتَقَدَّمَهُ قَوْلُ الْكُفَّارِ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْمُحَاجَّةِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ «9» وَفِي الْفُرْقَانِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ «10» وَتَقَدَّمَهُ أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَنِعَمٌ كَثِيرَةٌ «11» وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ لطائف

_ (1) سورة يونس: 10/ 48. (2) سورة السجدة: 32/ 16. (3) سورة يونس: 10/ 8. (4) سورة الأنعام: 6/ 71. (5) سورة الأنعام: 6/ 70. (6) سورة يونس: 10/ 106. (7) سورة يونس: 10/ 103. (8) سورة الأنبياء: 21/ 66. (9) سورة الأنبياء: 21/ 65. (10) سورة الفرقان: 25/ 55. (11) سورة الفرقان: 25/ 45.

الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَسَاطِعِ بَرَاهِينِهِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ من تَمْكِينِي مِنْهُ فَإِنِّي أَمْلِكُهُ وَذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ انْتَهَى، وَلَا حَاجَةَ لِدَعْوَى الِانْقِطَاعِ مَعَ إِمْكَانِ الِاتِّصَالِ. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أَيْ لَكَانَتْ حَالِي عَلَى خِلَافُ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ اسْتِكْثَارِ الْخَيْرِ وَاسْتِغْزَارِ الْمَنَافِعِ وَاجْتِنَابِ السُّوءِ وَالْمَضَارِّ حَتَّى لَا يَمَسَّنِي شَيْءٌ مِنْهَا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ عَنِ الْغَيْبِ عَلَى جِهَةِ عُمُومِ الْغَيْبِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ هَذَا الْجِدَارِ إِلَّا أَنْ يُعْلِمَنِيهِ رَبِّي بِخِلَافِ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْكَشْفَ وَأَنَّهُمْ بِتَصْفِيَةِ نُفُوسِهِمْ يَحْصُلُ لَهَا اطِّلَاعٌ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ وَإِخْبَارٌ بِالْكَوَائِنِ الَّتِي تَحْدُثُ، وَمَا أَكْثَرَ ادِّعَاءَ النَّاسِ لِهَذَا الْأَمْرِ وَخُصُوصًا فِي دِيَارِ مِصْرَ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى رَجُلٍ مُتَضَمِّخٍ بِالنَّجَاسَةِ يَظَلُّ دَهْرَهُ لَا يُصَلِّي وَلَا يَسْتَنْجِي مِنْ نجسته وَيَكْشِفُ عَوْرَتَهُ لِلنَّاسِ حِينَ يَبُولُ وَهُوَ عَارٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقَدْ خَصَّصَ قَوْمٌ هَذَا الْعُمُومَ فَحَكَى مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ السَّنَةَ الْمُجْدِبَةَ لَأَعْدَدْتُ لَهَا مِنَ الْمُخْصِبَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَوْقَاتَ النَّصْرِ لَتَوَخَّيْتُهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَجَلِي لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقِيلَ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ وَقْتَ السَّاعَةِ لَأَخْبَرْتُكُمْ حَتَّى تُوقِنُوا، وَقِيلَ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْوَحْيِ، وَقِيلَ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنِّي قَبْلَ أَنْ يُعَرِّفَنِيهِ لَفَعَلْتُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا مُثُلًا لَا تَخْصِيصَاتٍ لِعُمُومِ الْغَيْبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ مِنْ جَوَابِ لَوْ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا فَقَابَلَ النَّفْعَ بِقَوْلِهِ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَقَابَلَ الضَّرَّ بِقَوْلِهِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ وَلِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِ الْغَيْبِ كِلَاهُمَا وَهُمَا اجْتِلَابُ النَّفْعِ وَاجْتِنَابُ الضَّرِّ وَلَمْ نُصْحِبْ مَا النَّافِيَةَ جَوَابَ لَوْ لِأَنَّ الْفَصِيحَ أَنْ لَا يَصْحَبَهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ «1» وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْخَبَرِ وَعَدَمُ تَعْيِينِ السُّوءُ، وَقِيلَ: السُّوءُ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُدْعَى الْأَمِينَ، وَقِيلَ: الْجَدْبُ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ، وَقِيلَ: الْغَلَبَةُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَقِيلَ: الْخَسَارَةُ فِي التِّجَارَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَقْرُ وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ خَرَجَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْغَيْبِ الْخَيْرِ وَالسُّوءِ عَدَمُ التَّعْيِينِ، وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا مَسَّهُ السّوء وهو الجنون

_ (1) سورة فاطر: 35/ 14.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 206]

الَّذِي رَمَوْهُ بِهِ، وَقَالَ مُؤَرَّجٌ السُّدُوسِيُّ: السُّوءُ الْجُنُونُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ تَفْكِيكٌ لِنَظْمِ الْكَلَامِ وَاقْتِصَارٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوَابُ لَوْ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ فَقَطْ وَتَقْدِيرُ حُصُولِ عِلْمِ الْغَيْبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأمر أن لَا أَحَدُهُمَا فَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ جَوَابًا قَاصِرًا. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَمَّا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ أَخْبَرَ بِمَا بُعِثَ بِهِ مِنَ النِّذَارَةِ وَمُتَعَلِّقُهَا الْمُخَوَّفَاتُ والبشارة ومتعلقها بالمحبوبات وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُمَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ منفعتهما معا وجدوا هما لَا يَحْصُلُ إِلَّا لَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ «1» . وَقِيلَ مَعْنَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَيُدْعَوْنَ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ أَجْمَعُ، وَقِيلَ: أَخْبَرَ أَنَّهُ نَذِيرٌ وَتَمَّ الْكَلَامُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ نَذِيرٌ لِلْعَالَمِ كُلِّهِمْ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ بَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَهُوَ وَعْدٌ لِمَنْ حَصُلَ لَهُ الْإِيمَانُ، وَقِيلَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ النِّذَارَةِ وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ إِثْبَاتُ مُقَابِلِهِ وَالتَّقْدِيرُ نَذِيرٌ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ كَمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ فِي قَوْلِهِ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» أَيْ وَالْبَرْدَ وَبَدَأَ بِالنِّذَارَةِ لِأَنَّ السَّائِلِينَ عَنِ السَّاعَةِ كَانُوا كُفَّارًا إِمَّا مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَإِمَّا الْيَهُودُ فَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ الْوَصْفِ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ آكَدُ وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

_ (1) سورة يونس: 10/ 101. (2) سورة النحل: 16/ 81. [.....]

صَمَتَ يَصْمُتُ بِضَمِّ الْمِيمِ صَمْتًا وَصُمَاتًا سَكَتَ وَإِصْمِتْ فَلَاةَ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مُسَمَّاةٌ بِفِعْلِ الْأَمْرِ قُطِعَتْ هَمْزَتُهُ إِذْ ذَاكَ قَاعِدَةٌ فِي تسمية بِفِعْلٍ فِيهِ هَمْزَةُ وَصْلٍ وَكُسِرَتِ الْمِيمُ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ يَأْنَسُ بِالتَّغْيِيرِ وَلِئَلَّا يَدْخُلَ فِي وَزْنٍ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ. الْبَطْشُ الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ بَطَشَ يَبْطِشُ بِضَمِّ الطَّاءِ وكسرها، النزغ أَدْنَى حَرَكَةٍ وَمِنَ الشَّيْطَانِ أَدْنَى وَسْوَسَةٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَرَكَةٌ فِيهَا فَسَادٌ وَقَلَّمَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي فِعْلِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ حَرَكَاتِهِ مُسْرِعَةٌ مُفْسِدَةٌ، وَقِيلَ هُوَ لُغَةُ الْإِصَابَةِ تَعْرِضُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِغْرَاءُ وَالْإِغْضَابُ الْإِنْصَاتُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ يُقَالُ: نَصَتَ وَأَنْصَتَ وَانْتَصَتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ وَرَدَ الْإِنْصَاتُ مُتَعَدِّيًا فِي شِعْرِ الْكُمَيْتِ قَالَ: أَبُوكَ الَّذِي أَجْدَى عَلَيْهِ بِنَصْرِهِ ... فَأَنْصَتَ عَنِّي بَعْدَهُ كُلَّ قَائِلِ قَالَ: يُرِيدُ فَأَسْكَتَ عَنِّي. الْآصَالُ جَمْعُ أَصْلٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ أَوْ جَمْعُ أَصِيلٍ كَيَمِينٍ وَأَيْمَانٍ وَلَا حَاجَةَ لِدَعْوَى أَنَّهُ جَمْعُ جَمْعٍ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ إِذْ ثَبَتَ أَنَّ

أَصْلًا مُفْرَدٌ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ جَمْعُ أَصِيلٍ عَلَى أُصُلٍ فَيَكُونُ جَمْعًا كَكَثِيبٍ وكثب، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آصَالًا جَمْعُ أَصْلٍ وَمُفْرَدُ أَصْلٍ أَصِيلٌ الْفَرَّاءُ وَيُقَالُ: جِئْنَاهُمْ مُوصِلِينَ أَيْ عِنْدَ الْأَصِيلِ. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أنه تَقَدَّمَ سُؤَالُ الْكُفَّارِ عَنِ السَّاعَةِ وَوَقْتِهَا وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ ذَكَرَ ابْتِدَاءَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَإِنْشَائِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ مُمْكِنَةٌ، كَمَا أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَانَ مُمْكِنًا وَإِذَا كَانَ إِبْرَازُهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ وَاقِعًا بِالْفِعْلِ وَإِعَادَتُهُ أَحْرَى أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً بِالْفِعْلِ، وَقِيلَ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَيَشْتَقُّونَ مِنْهَا أَسْمَاءً لِآلِهَتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ بَيَّنَ هُنَا أَنَّ أَصْلَ الشِّرْكَ مِنْ إِبْلِيسَ لِآدَمَ وَزَوْجَتِهِ حِينَ تَمَنَّيَا الْوَلَدَ الصَّالِحَ وَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُمَا فَأَدْخَلَ إِبْلِيسُ عَلَيْهِمَا الشِّرْكَ بِقَوْلِهِ سَمِّيَاهُ عبد الحرث فَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ فَفَعَلَا ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي الْمَلَكُوتِ الدَّالِّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَقَسَّمَ خَلْقَهُ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَنَفَى قُدْرَةَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ أَوْ ضَرِّهَا رَجَعَ إِلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ انْتَهَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْخِطَابُ بِخَلَقَكُمْ عَامٌّ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَفَرَّعْتُمْ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ مَعْنَى وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا هِيَ حَوَّاءُ ومِنْها إِمَّا مِنْ جِسْمِ آدَمَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «1» وَقَدْ مَرَّ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ مَشْرُوحَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَأَفْسَدَهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ وَلَمْ يَجْرِ لِإِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ، الثَّالِثُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ أَيُشْرِكُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَالْمَعْنَى فِي هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ مِنْ هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها أَيْ مِنْ جِنْسِهَا ثُمَّ ذَكَرَ

_ (1) سورة النحل: 16/ 72.

حَالَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْخَلْقِ وَمَعْنَى جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أَيْ حَرَّفَاهُ عَنِ الْفِطْرَةِ إِلَى الشِّرْكِ كَمَا جَاءَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» . وَقَالَ الْقَفَّالُ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا وَذَكَرَ حَالَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وجَعَلا أَيِ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، لِلَّهِ تَعَالَى شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا لِأَنَّهُمَا تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ انْتَهَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ الْخِطَابُ بِخَلَقَكُمْ خَاصٌّ وَهُوَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَمَا يُقَرِّبُونَ الْمَوْلُودَ لِلَّاتَ وَالْعُزَّى وَالْأَصْنَامِ تَبَرُّكًا بِهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَنْقَطِعُونَ بِأَمَلِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْوَلَدِ إِلَى انْفِصَالِهِ ثُمَّ يُشْرِكُونَ فَحَصَلَ التَّعَجُّبُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ خَاصٌّ أَيْضًا وَهُوَ لِقُرَيْشٍ الْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَفْسٍ واحِدَةٍ هُوَ قَضَى مِنْهَا أَيْ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَةٌ عَرَبِيَّةٌ قُرَشِيَّةٌ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَالصَّالِحُ الْوَلَدُ السَّوِيُّ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ قُصَيٍّ وَعَبْدَ الدَّارِ وَالضَّمِيرُ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمَا فِي الشِّرْكِ انْتَهَى. لِيَسْكُنَ إِلَيْها لِيَطْمَئِنَّ وَيَمِيلَ وَلَا يَنْفِرَ لِأَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ وَبِهِ آنَسُ وَإِذَا كَانَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَالسُّكُونُ وَالْمَحَبَّةُ أَبْلَغُ كَمَا يَسْكُنُ الْإِنْسَانُ إِلَى وَلَدِهِ وَيُحِبُّهُ مَحَبَّةَ نَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ لِكَوْنِهِ بَعْضًا مِنْهُ وَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ مِنْها ذَهَابًا إِلَى لَفْظِ النَّفْسِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ لِيَسْكُنَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى النَّفْسِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الذَّكَرُ آدَمُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَاتِ وَكَانَ الذَّكَرُ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ إِلَى الْأُنْثَى وَيَتَغَشَّاهَا فَكَانَ التَّذْكِيرُ أَحْسَنَ طِبَاقًا لِلْمَعْنَى. فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ إِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ آدَمَ فَخَلْقُ حَوَّاءَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا التَّغَشِّي وَالْحَمْلُ فَكَانَا فِي الْأَرْضِ وَالتَّغَشِّي وَالْغَشَيَانُ وَالْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَمَعْنَى الْخِفَّةِ أَنَّهَا لَمْ تَلْقَ بِهِ مِنَ الْكَرْبِ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْحَبَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَمْلًا مَصْدَرًا وَأَنْ يَكُونَ مَا فِي الْبَطْنِ وَالْحَمْلُ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرَةِ وَبِالْكَسْرِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ غَيْرِ شَجَرَةٍ، وَحَكَى يَعْقُوبُ فِي حَمْلِ النَّخْلِ، وَحَكَى أَبُو سَعِيدٍ في حمل المرأة حمل وَحَمَلَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحَمْلُ الْخَفِيفُ هُوَ الْمَنِيُّ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي فَرْجِهَا، وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ حَمْلًا بِكَسْرِ

الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَمَرَّتْ بِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: أَيِ اسْتَمَرَّتْ بِهِ، وَقِيلَ: هَذَا عَلَى الْقَلْبِ أَيْ فَمَرَّ بِهَا أَيِ اسْتَمَرَّ بِهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَضَتْ بِهِ إِلَى وَقْتِ مِيلَادِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ وَلَا إِزْلَاقٍ، وَقِيلَ: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً يَعْنِي النُّطْفَةَ فَمَرَّتْ بِهِ فَقَامَتْ بِهِ وَقَعَدَتْ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ انْتَهَى، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرَ النَّقَّاشُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَأَيُّوبُ فَمَرَّتْ بِهِ خَفِيفَةَ الرَّاءِ مِنَ الْمِرْيَةِ أَيْ فَشَكَّتْ فِيمَا أَصَابَهَا أَهُوَ حَمْلٌ أَوْ مَرَضٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْتَمَرَّتْ بِهِ لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا التَّضْعِيفَ فَخَفَّفُوهُ نَحْوَ وَقَرَنَ فِيمَنْ فَتَحَ مِنَ الْقَرَارِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بن العاصي وَالْجَحْدَرِيُّ: فَمَارَتْ بِهِ بِأَلِفٍ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ جَاءَتْ وَذَهَبَتْ وَتَصَرَّفَتْ بِهِ كَمَا تَقُولُ مَارَتِ الرِّيحُ مَوْرًا وَوَزْنُهُ فَعَلَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْمِرْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَتُمارُونَهُ «1» وَمَعْنَاهُ وَمَعْنَى الْمُخَفَّفَةِ فَمَرَتْ وَقَعَ فِي نَفْسِهَا ظَنُّ الْحَمْلِ وَارْتَابَتْ بِهِ وَوَزْنُهُ فَاعَلَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَاسْتَمَرَّتْ بِحَمْلِهَا، وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْجِرْمِيُّ فَاسْتَمَارَتْ بِهِ وَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى الْمِرْيَةِ بَنَى مِنْهَا اسْتَفْعَلَ كَمَا بَنَى مِنْهَا فَاعَلَ فِي قَوْلِكَ مَارَيْتُ. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. أَيْ دَخَلَتْ فِي الثِّقَلِ كَمَا تَقُولُ أَصْبَحَ وَأَمْسَى أَوْ صَارَتْ ذَاتَ ثِقْلٍ كَمَا تَقُولُ أَتْمَرَ الرَّجُلُ وَأَلْبَنَ إِذَا صَارَ ذَا تَمْرٍ وَلَبَنٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ حَانَ وَقْتُ ثِقَلِهَا كَقَوْلِهِ أَقْرَبَتْ، وقرىء أَثْقَلَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ رَبَّهُما أَيْ مَالِكَ أَمْرِهِمَا الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ أَنْ يُدْعَى وَمُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ جَوَابِ الْقَسَمِ أَيْ دَعَوَا اللَّهَ وَرَغِبَا إِلَيْهِ فِي أَنْ يُؤْتِيَهُمَا صالِحاً ثُمَّ أَقْسَمَا عَلَى أَنَّهُمَا يَكُونَانِ مِنَ الشَّاكِرِينَ إِنْ آتَاهُمَا صَالِحًا لِأَنَّ إِيتَاءَ الصَّالِحِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى وَالِدَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» فَذَكَرَ الْوَلَدَ الصَّالِحَ يَدْعُو لِوَالِدِهِ فَيَنْبَغِي الشُّكْرُ عَلَيْهَا إِذْ هِيَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَمَعْنَى صالِحاً مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى أَيْ وَلَدًا طَائِعًا أَوْ وَلَدًا ذَكَرًا لِأَنَّ الذُّكُورَةَ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْجَوْدَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: سَمَّيَاهُ غُلَامًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَشَرًا سَوِيًّا سَلِيمًا، ولَنَكُونَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَقْسَمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا أَوْ مُقْسِمِينَ لَئِنْ آتَيْتَنا وَانْتِصَابُ صالِحاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِآتَيْتَنَا وَفِي الْمُشْكِلِ لِمَكِّيٍّ أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ أَيِ ابْنًا صَالِحًا. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما مَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ جَعَلَ الضَّمَائِرَ وَالْأَخْبَارَ لَهُمَا وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مُحَاوَرَاتٍ جَرَتْ بَيْنَ إِبْلِيسَ وآدم وحواء لم

_ (1) سورة النجم: 53/ 12.

تَثْبُتْ فِي قُرْآنٍ وَلَا حَدِيثٍ صَحِيحٍ فَأَطْرَحْتُ ذِكْرَهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي آتَيْتَنا ولَنَكُونَنَّ لَهُمَا وَلِكُلِّ مَنْ تَنَاسَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا فَلَمَّا آتاهُما مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أَيْ جَعَلَ أَوْلَادَهُمَا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ فِيمَا آتَاهُمَا أَيْ آتَى أَوْلَادَهُمَا وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حَيْثُ جَمَعَ الضَّمِيرَ، وَآدَمُ وَحَوَّاءُ بَرِيئَانِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَعْنَى إِشْرَاكِهِمْ فِيمَا آتَاهُمُ اللَّهُ بِتَسْمِيَةِ أَوْلَادِهِمْ بِعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّحِيمِ انْتَهَى، وَفِي كَلَامِهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ عَنْ سِيَاقِهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ جَعَلَ الْكَلَامَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ جَعَلَ الشِّرْكَ تَسْمِيَتَهُمَا الْوَلَدَ الثَّالِثَ عبد الحرث إِذْ كَانَ قَدْ مَاتَ لَهُمَا وَلَدَانِ قَبْلَهُ كَانَا سَمَّيَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدَ اللَّهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِمَا إِبْلِيسُ فِي أَنْ يُسَمِّيَا هذا الثالث عبد الحرث فَسَمَّيَاهُ بِهِ حِرْصًا عَلَى حَيَاتِهِ فَالشِّرْكُ الَّذِي جَعَلَا لِلَّهِ هُوَ فِي التَّسْمِيَةِ فَقَطْ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي يُشْرِكُونَ عَائِدًا عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ لِأَنَّهُ مُدَبِّرٌ مَعَهُمَا تَسْمِيَةَ الْوَلَدِ عَبْدَ الحرث، وَقِيلَ جَعَلا أَيْ جَعَلَ أَحَدُهُمَا يَعْنِي حَوَّاءَ وَإِمَّا مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلنَّاسِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ بِالنَّفْسِ وَزَوْجِهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ أَوْ جَعَلَ الْخِطَابَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْ لِقُرَيْشٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَّسِقُ الْكَلَامُ اتِّسَاقًا حَسَنًا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَفْكِيكٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالطَّبَرِيُّ: ثُمَّ أَخْبَرَ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي قَوْلِهِ فِيمَا آتَاهُمَا وَقَوْلُهُ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ يُرَادُ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ انْتَهَى، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى إِبْلِيسَ فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ وَكَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى الْوَلَدِ الصَّالِحِ وَفُسِّرَ الشِّرْكُ بِالنَّصِيبِ مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَا قَبْلَهُ يَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ وَحْدَهُمَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يَعْنِي الْكُفَّارَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبَّانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ شِرْكًا عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذَا شِرْكٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقُ الشِّرْكُ عَلَى الشَّرِيكِ كَقَوْلِهِ: زَيْدٌ عَدْلٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَحْدَثَا لِلَّهِ إِشْرَاكًا فِي الْوَلَدِ انْتَهَى، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ وأبو عمر وشركاء عَلَى الْجَمْعِ وَيَبْعُدُ تَوْجِيهُ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَتَظْهَرُ بَاقِي الْأَقْوَالِ عَلَيْهَا، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أَشْرَكَا فِيهِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ عَمَّا تُشْرِكُونَ بِالتَّاءِ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ لِلْخِطَابِ وَكَانَ الضَّمِيرُ بِالْوَاوِ وَانْتِقَالًا مِنَ التَّثْنِيَةِ لِلْجَمْعِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى مَنْ يَعُودُ.

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَيْ أَتُشْرِكُونَ الْأَصْنَامَ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ يَخْلُقُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوجِدُهُمْ كَمَا يُوجِدُكُمْ أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ وَهُمْ يُنْحَتُونَ وَيُصْنَعُونَ فَعَبَدَتُهُمْ يَخْلُقُونَهُمْ وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ فَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ عَبَدَتِهِمْ وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَا وَقَدْ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى لَفْظِ مَا فِي يَخْلُقُ وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ وَهُمْ كَأَنَّهَا تَعْقِلُ عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ فِيهَا وَبِحَسَبِ أَسْمَائِهِمْ. وَقِيلَ أَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَنْ عَبَدَ الشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ وَبَعْضَ بَنِي آدَمَ فَغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ عَائِدًا عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي أَيُشْرِكُونَ أَيْ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَخْلُقُونَ أَيْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ فَيَجْعَلُوا إِلَهَهُمْ خَالِقَهُمْ لَا مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَتُشْرِكُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ فَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ عَائِدًا عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ جَاءَ إِلَى آدَمَ وَقَدْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ أَنْ يَعِيشَ لَكَ الْوَلَدُ فَسَمِّهِ عَبْدَ شَمْسٍ فَسَمَّاهُ كَذَلِكَ فَإِيَّاهُ عنى بقوله أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ عَائِدٌ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَالِابْنِ الْمُسَمَّى عَبْدَ شَمْسٍ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ وَلَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ لِمَنْ يَعْبُدُهُمْ عَلَى نَصْرٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِنْ حَدَثَ بِهِمْ حَادِثٌ بَلْ عَبَدَتُهُمُ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ عَنْهَا وَيَحْمُونَهَا وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِ نَفْسِهِ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِ غَيْرِهِ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ انْتَقَلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ قَوْلُهُ بَعْدُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الضَّمَائِرُ قَبْلُ وَهُوَ الْأَصْنَامُ وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَدْعُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ إِلَى مَا هُوَ هُدًى وَرَشَادٌ أَوْ إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ كَمَا تَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ الْهُدَى وَالْخَيْرَ لَا يَتَّبِعُوكُمْ عَلَى مرادكم ولا يجبوكم أَيْ لَيْسَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْقَابِلِيَّةُ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَيْ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ وَصَمْتُكُمْ عَنْهُمْ سِيَّانِ فَكَيْفَ يُعْبَدُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ؟ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَضَمِيرُ النَّصْبِ لِلْكُفَّارِ أَيْ وَإِنْ تَدْعُوا الْكُفَّارَ إِلَى الْهُدَى لَا يَقْبَلُوا مِنْكُمْ فَدُعَاؤُكُمْ وَصَمْتُكُمْ سِيَّانِ أَيْ لَيْسَتْ فِيهِمْ قَابِلِيَّةُ قَبُولٍ وَلَا هُدًى، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يَتَّبِعُوكُمْ مُشَدَّدًا هُنَا وَفِي الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ «1» مِنِ اتَّبَعَ ومعناها

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 224.

لَا يَقْتَدُوا بِكُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِيهِمَا لَا يَتْبَعُوكُمْ مُخَفَّفًا مِنْ تَبِعَ وَمَعْنَاهُ لَا يَتْبَعُوا آثَارَكُمْ وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْفِعْلِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ أَمْ صَمَتُّمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ عَطَفَ الِاسْمَ عَلَى الْفِعْلِ إِذْ التَّقْدِيرُ أَمْ صَمَتُّمْ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَوَاءٌ عَلَيْكَ النَّفْرُ أَمْ بِتَّ لَيْلَةً ... بِأَهْلِ الْقِبَابِ مِنْ نُمَيْرِ بْنِ عَامِرِ انْتَهَى. وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَأَمَّا الْبَيْتُ فَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ بَلْ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الِاسْمِ الْمُقَدَّرِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِذْ أَصْلُ التَّرْكِيبِ سَوَاءٌ عَلَيْكَ أَنَفَرْتَ أَمْ بِتَّ لَيْلَةً فَأَوْقَعَ النَّفْرَ مَوْقِعَ أَنَفَرْتَ وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الثانية اسمية لمراعاة رؤوس الْآيِ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ يُشْعِرُ بِالْحُدُوثِ وَاسْمُ الْفَاعِلِ يُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَكَانُوا إِذَا دَهَمَهُمْ أَمْرٌ مُعْضِلٌ فَزِعُوا إِلَى أَصْنَامِهِمْ وَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ بَقُوا سَاكِتِينَ فَقِيلَ لا فرق بين أن تُحْدِثُوا لَهُمْ دُعَاءً وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى صَمْتِكُمْ فَتَبْقُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَادَةِ صَمْتِكُمْ وَهِيَ الْحَالَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِمَا قَبْلَهَا فِي انْتِفَاءِ كَوْنِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ قَادِرَةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ أَيِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ وَتُسَمُّونَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَدَهَا وَأَوْجَدَكُمْ هُمْ عِبَادٌ وَسَمَّى الْأَصْنَامَ عِبَادًا وَإِنْ كَانَتْ جَمَادَاتٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عَاقِلَةً وأَمْثالُكُمْ. قَالَ الْحَسَنُ فِي كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لِلَّهِ، وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ فِي كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ خُزَاعَةَ كَانَتْ تَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ فَأَعْلَمَهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُهُمْ لَا آلِهَةٌ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا جَاءَ الْإِخْبَارُ إِخْبَارًا عَنِ الْعُقَلَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ أَيْ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءَ عُقَلَاءَ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَمِنْهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ لَا تَفَاضُلَ بَيْنَكُمْ ثُمَّ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ فَقَالَ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها انْتَهَى؟ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَدْعُوِّينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُ الدَّاعِينَ فَلَا يُقَالُ فِي الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ثُمَّ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ فَقَالَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ لَيْسَ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ إِمَّا فِي أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ أَوْ

فِي أَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ مَقْهُورُونَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّهُمْ دُونَكُمْ فِي انْتِفَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ أَمْثَالَكُمْ فِيمَا ذُكِرَ وَلَا يَدُلُّ إِنْكَارُ هَذِهِ الْآلَاتِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمِثْلِيَّةِ فِيمَا ذُكِرَ وَأَيْضًا فَالْأَبْطَالُ لَا يُتَصَوَّرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ «1» . وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ إِنْ خَفِيفَةً وَعِبَادًا أَمْثَالَكُمْ بِنَصْبِ الدَّالِ وَاللَّامِ وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى أَنَّ إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ أَعُمِلَتْ عَمَلَ مَا الْحِجَازِيَّةِ فَرَفَعَتِ الِاسْمَ وَنَصَبَتِ الْخَبَرَ فَعِبَادًا أَمْثَالَكُمْ خَبَرٌ مَنْصُوبٌ قَالُوا: وَالْمَعْنَى بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَحْقِيرُ شَأْنِ الْأَصْنَامِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهِمْ لِلْبَشَرِ بَلْ هُمْ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ إِذْ هِيَ جَمَادَاتٌ لَا تَفْهَمُ وَلَا تَعْقِلُ وَإِعْمَالُ إِنَّ إِعْمَالَ مَا الْحِجَازِيَّةِ فِيهِ خِلَافٌ أَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَأَكْثَرُ الْكُوفِيِّينَ وَمِنَ الْبَصْرِيِّينَ ابْنُ السِّرَاجِ وَالْفَارِسِيِّ وَابْنُ جِنِّيٍّ وَمَنَعَ مِنْ إِعْمَالِهِ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ إِعْمَالَهَا لُغَةٌ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِهَا لثلاث جِهَاتٍ إِحْدَاهَا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسَّوَادِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ يَخْتَارُ الرَّفْعَ فِي خَبَرِ إِنَّ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى مَا فَيَقُولُ: إِنْ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ لِأَنَّ عَمَلَ مَا ضَعِيفٌ وَإِنْ بِمَعْنَاهَا فَهِيَ أَضْعَفُ مِنْهَا وَالثَّالِثَةُ أَنَّ الْكِسَائِيَّ رَأَى أَنَّهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى مَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ انْتَهَى وَكَلَامُ النَّحَّاسِ هَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ تَابِعِيٍّ جَلِيلٍ وَلَهَا وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَمَّا الثَّلَاثُ جِهَاتٍ الَّتِي ذَكَرَهَا فَلَا يَقْدَحُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَمَّا كَوْنُهَا مُخَالِفَةً لِلسَّوَادِ فَهُوَ خِلَافٌ يَسِيرٌ جِدًّا لَا يَضُرُّ وَلَعَلَّهُ كُتِبَ الْمَنْصُوبُ عَلَى لُغَةِ رَبِيعَةَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُنَوَّنِ الْمَنْصُوبِ بِغَيْرِ أَلْفٍ فَلَا تَكُونُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلسَّوَادِ وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفَهْمُ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فِي إِنْ وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنِ الْكِسَائِيِّ فَالنَّقْلُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ حَكَى إِعْمَالَهَا وَلَيْسَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ الَّذِي خَرَّجُوهُ مِنْ أَنَّ إِنْ لِلنَّفْيِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ الْأَصْنَامِ عِبَادًا أَمْثَالَ عَابِدِيهَا وَهَذَا التَّخْرِيجُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ مُطَابَقَةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْآخَرَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ خُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ عَلَى وَجْهٌ غَيْرُ مَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَعْمَلَهَا عَمَلَ الْمُشَدَّدَةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ يَجُوزُ إِعْمَالُهَا عَمَلَ الْمُشَدَّدَةِ في غير

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 179.

الْمُضْمَرِ بِالْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا وَبِنَقْلِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ نَصَبَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَبَرَهَا نَصْبَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأْتِ وَلْتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافًا إِنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ إِلَى جَوَازِ نَصْبِ أَخْبَارِ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدَ ظَاهِرَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ وَتَأَوَّلَهَا الْمُخَالِفُونَ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ أَوْ تَتَأَوَّلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُخَالِفِينَ لِأَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الْمَنْصُوبَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا إِنَّ تَقْدِيرَهُ أَقْبَلَتْ رَوَاجِعًا فَكَذَلِكَ تُؤَوَّلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَدْعُونَ عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ، وَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ قَدْ تَوَافَقَتَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِخْبَارُ أَنَّهُمْ عِبَادٌ، وَلَا يَكُونُ تَفَاوُتٌ بَيْنَهُمَا وَتَخَالُفٌ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وقرىء أَيْضًا إِنْ مُخَفَّفَةً وَنَصْبُ عِبَادًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ مِنَ الصِّلَةِ عَلَى الَّذِينَ وَأَمْثَالُكُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ فِي الْخَلْقِ أَوْ فِي الْمِلْكِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا آلِهَةً فَادْعُوهُمْ أَيْ فَاخْتَبِرُوهُمْ بِدُعَائِكُمْ هَلْ يَقَعُ مِنْهُمْ إِجَابَةٌ أَوْ لَا يَقَعُ وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِجَابَةِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبُوا كَمَا قَالَ: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ «1» وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي دَعْوَى إِلَهِيَّتِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِ عِبَادَتِهِمْ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً «2» . أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها. هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَعْجِيبٍ وَتَبْيِينُ أَنَّهُمْ جَمَادٌ لَا حَرَاكَ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ فَاقِدُونَ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِهَا الَّتِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهَا فَأَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَذَلَّكُمْ هَذَا التَّصَرُّفُ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ قَدْ يَتَوَجَّهُ الْإِنْكَارُ فِيهِ إِلَى انْتِفَاءِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَانْتِفَاءِ مَنَافِعِهَا فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا فَسَّرْنَاهُ لِأَنَّ تَصْوِيرَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لِلْأَصْنَامِ لَيْسَتْ أَعْضَاءً حَقِيقَةً وَقَدْ يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَى الْوَصْفِ أَيْ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مُصَوَّرَةً فَقَدِ انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ الَّتِي لِلْأَعْضَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ أَفْضَلُ مِنَ الأصنام بهذه

_ (1) سورة فاطر: 35/ 14. (2) سورة مريم: 19/ 42.

الْأَعْضَاءِ النَّافِعَةِ وأَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةً فَتُقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ وَهُوَ إِضْرَابٌ عَلَى مَعْنَى الِانْتِقَالِ لَا عَلَى مَعْنَى الْإِبْطَالِ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ عَلَى نَفْيِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ وَكَانَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ هَكَذَا لأنه بدىء بِالْأَهَمِّ ثُمَّ أُتْبِعَ بِمَا هُوَ دُونَهُ إِلَى آخِرِهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَنَافِعٌ بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ بِضَمِّهَا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: تَعَلَّقَ بَعْضُ الْأَغْمَارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: جَعَلَ عَدَمَهَا لِلْأَصْنَامِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً لَهُ تَعَالَى لَكَانَ عَدَمُهَا دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهَا لَهُ تَعَالَى وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ حَالًا مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّهُ لَهُ رِجْلٌ مَاشِيَةٌ وَيَدٌ بَاطِشَةٌ وَعَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَأُذُنٌ سَامِعَةٌ وَالصَّنَمُ وَإِنْ صُوِّرَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَالْإِنْسَانُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ الْأَدْوَنِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْرِيرُ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلُ وهي لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يَعْنِي كَيْفَ يَحْسُنُ عِبَادَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ ثُمَّ قَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ انْتَفَتْ عَنْهَا هَذِهِ الْأَعْضَاءُ وَمَنَافِعُهَا فَلَيْسَتْ قَادِرَةً عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ فَامْتَنَعَ كَوْنُهَا آلِهَةً أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَالِيًا عَنْ هَذِهِ الأعضاء فهو موصوف وبكمال الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ وَبِكَمَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ لَمَّا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَحَقَّرَ شَأْنَهَا وَأَظْهَرَ كَوْنَهَا جَمَادًا عَارِيَةً عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُدْرَةِ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ أَيْ لَا مُبَالَاةَ بِكُمْ وَلَا بِشُرَكَائِكُمْ فَاصْنَعُوا ما تشاؤون وَهُوَ أَمْرُ تَعْجِيزٍ أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ دُعَاءٌ لِأَصْنَامِكُمْ وَلَا كَيْدٌ لِي وَكَانُوا قَدْ خَوَّفُوهُ آلِهَتَهُمْ، وَمَعْنَى ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ اسْتَعِينُوا بِهِمْ عَلَى إِيصَالِ الضَّرِّ إِلَيَّ ثُمَّ كِيدُونِ أَيِ امْكُرُوا بِي وَلَا تُؤَخِّرُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ بِي مِنَ الضُّرِّ وَهَذَا كَمَا قَالَ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ «1» وَسَمَّى الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَهُمْ نِسْبَةً إِلَيْهِمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ آلِهَةً وَشُرَكَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ بِخِلَافٍ عنه فَكِيدُونِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِ الْيَاءِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا.

_ (1) سورة هود: 11/ 54، 55.

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ لَمَّا أَحَالَهُمْ عَلَى الِاسْتِنْجَادِ بِآلِهَتِهِمْ فِي ضَرِّهِ وَأَرَاهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالِاسْتِنَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِعْلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ نَاصِرُهُ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ جِهَةَ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ كِتَابَهُ وَأَعَزَّهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ وَلَا يَخْذُلُهُمْ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ وَهِيَ يَاءُ فَعِيلٍ أُدْغِمَتْ فِي لَامِ الْكَلِمَةِ وَبِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَهَا مَفْتُوحَةً، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَفْعِ الْجَلَالَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُدْغِمَ الْيَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ فِي ياء الإضافة وهولا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ الْإِدْغَامُ الْأَوَّلُ أَوْ تُدْغَمُ يَاءُ فَعِيلٍ فِي يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَيُحْذَفُ لَامُ الْفِعْلِ فَلَيْسَ إِلَّا هَذَا انْتَهَى وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ وَلِيٌّ مُضَافًا إِلَى يَاءِ مُتَكَلِّمٍ بَلْ هُوَ اسْمٌ نَكِرَةٌ اسْمُ إِنَّ والخبر ل اللَّهُ وَحُذِفَ مِنْ وَلِيٍّ التَّنْوِينُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ «1» وقوله وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ وَلِيًّا حَقَّ وَلِيٍّ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَجَعْلُ اسْمِ إِنَّ نَكِرَةً وَالْخَبَرُ مَعْرِفَةٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّ حَرَامًا أَنْ أَسُبَّ مُجَاشِعًا ... بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الْخَضَارِمِ وَهَذَا تَوْجِيهٌ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ سَهْلٌ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ فَنَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ إِنَّ وَلِيِّ بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لَمَّا سَكَنَتِ الْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَتْ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ صَاحِبِي الرَّجُلُ الَّذِي تَعَلَّمَ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنَّ وَلِيَّ اللَّهِ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مَنْصُوبَةٍ مُضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ وَذَكَرَهَا الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ وَضَعَّفَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَخَرَّجَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ جِبْرِيلَ، قَالَ الْأَخْفَشُ: فَيَصِيرُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ مِنْ صِفَةِ جِبْرِيلَ بِدَلَالَةِ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ «2» ، وَفِي قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ مِنْ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ هُوَ قَوْلَهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، قَالَ الْأَخْفَشُ: فَأَمَّا وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جِبْرِيلُ وَإِنِ احْتَمَلَهَا لَفْظُ الْآيَةِ لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا مَا بَعْدَهَا وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى جِبْرِيلَ أحدهما أن يكون وليّ اللَّهُ اسْمَ إِنَّ وَالَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ هُوَ الْخَبَرُ على تقدير

_ (1) سورة الإخلاص: 112/ 1، 2. (2) سورة النحل: 16/ 102.

حَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَالْمَوْصُولُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ الشَّخْصُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ عَلَيْهِ فَحَذَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لم لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْطُ جَوَازِ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ لَكِنَّهُ قَدْ جَاءَ نَظِيرُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّ لِسَانِي شَهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ التَّقْدِيرُ وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَلْقَمُ. وَقَالَ الْآخَرُ: فَأَصْبَحَ مِنْ أَسْمَاءَ قَيْسٌ كَقَابِضٍ ... عَلَى الْمَاءِ لَا يَدْرِي بِمَا هُوَ قَابِضُ التَّقْدِيرُ بِمَا هُوَ قَابِضٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَعَلَّ الَّذِي أَصْعَدَتْنِي أَنْ يَرُدَّنِي ... إِلَى الْأَرْضِ إِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْخَيْرَ قَادِرُهْ يُرِيدُ أَصْعَدْتَنِي بِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: فَأَبْلِغَنَّ خَالِدَ بْنَ نَضْلَةَ ... وَالْمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلَوْمِ مَنْ يَثِقُ يُرِيدُ يَثِقُ بِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: وَمِنْ حسد يجوز عَلَيَّ قَوْمِي ... وَأَيُّ الدَّهْرِ ذَرْ لَمْ يَحْسُدُونِي يُرِيدُ لَمْ يَحْسُدُونِي فِيهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: فَقُلْتُ لَهَا لَا وَالَّذِي حَجَّ حَاتِمٌ ... أَخُونُكِ عَهْدًا إِنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ قَالُوا يُرِيدُ حَجَّ حَاتِمٌ إِلَيْهِ فَهَذِهِ نَظَائِرُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ عَلَيْهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ إِنَّ وَلِيَّ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ مَنْ هُوَ صَالِحٌ أَوِ الصَّالِحُ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ وَحَذْفُ خَبَرِ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ «1» الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2» الْآيَةَ وَسَيَأْتِي تَقْدِيرُ حَذْفِ الْخَبَرِ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَتَعَيَّنُ عَوْدُ الضَّمِيرَ فِي مِنْ دُونِهِ عَلَى اللَّهِ وَبِذَلِكَ يَضْعُفُ مَنْ فَسَّرَ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ بجبريل، هذه الْآيَةُ بَيَانٌ لِحَالِ الْأَصْنَامِ وَعَجْزِهَا عَنْ نُصْرَةِ أَنْفُسِهَا فَضْلًا عَنْ نُصْرَةِ غَيْرِهَا

_ (1) سورة فصلت: 41/ 41. (2) سورة الحج: 22/ 25.

وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أُعِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَذْكُورٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ وَهَذَا مَذْكُورٌ عَلَى جِهَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ تَجُوزُ لَهُ الْعِبَادَةُ وَبَيْنَ مَنْ لَا تَجُوزُ كَأَنَّهُ قِيلَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا تَكُونُ صَالِحَةً لِلْإِلَهِيَّةِ انْتَهَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى جِهَةِ التقريع أن قوله: ولا يَسْتَطِيعُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا لَا يَخْلُقُ وَهُوَ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ مَنْ لا يمكن أن يوجد شَيْئًا وَلَا يُنْشِئَهُ وَلَا يَنْصُرَ نَفْسَهُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَمَا ذُكِرَ جَاءَتْ عَلَى جِهَةِ الْفَرْقِ وَمُنْدَرِجَةً تَحْتَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا فَهَذِهِ الْجُمَلُ مَأْمُورٌ بِقَوْلِهَا وَخِطَابُ الْمُشْرِكِينَ بِهَا إِذْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِآلِهَتِهِمْ فَأَمَرَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِهَذِهِ الْجُمَلِ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ وَإِخْبَارًا لَهُمْ بِأَنَّ وَلَيَّهُ هُوَ اللَّهُ فَلَا مُبَالَاةَ بِهِمْ وَلَا بِأَصْنَامِهِمْ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ يَقْتَضِي أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي وَإِنْ تَدْعُوهُمْ هُوَ لِلْأَصْنَامِ وَنَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعَ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تُحِسُّ وَأَثْبَتَ لَهُمُ النَّظَرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ صَوَّرُوهُمْ ذَوِي أَعْيُنٍ فَهُمْ يُشْبِهُونَ مَنْ يَنْظُرُ وَمَنْ قَلَبَ حَدَقَتَهُ لِلنَّظَرِ ثُمَّ نَفَى عَنْهُمُ الإبصار كقوله يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً «1» وَمَعْنَى إِلَيْكَ أَيُّهَا الدَّاعِي وَأَفْرَدَ لِأَنَّهُ اقْتَطَعَ قَوْلَهُ: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَاسْتَأْنَفَ الإخبار عنهم بحالهم السيّء فِي انْتِفَاءِ الْإِبْصَارِ كَانْتِفَاءِ السَّمَاعِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أَيْ يُحَاذُونَكَ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمَنَازِلُ تَتَنَاظَرُ إِذَا كَانَتْ مُتَحَاذِيَةً يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ وَلَا يَرَوْنَهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْأَصْنَامِ مَجَازٌ مَحْضٌ وَجَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْأَصْنَامِ اخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ تَبْيِينُ جُمُودِهَا وَصِغَرِ شَأْنِهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ الْقَوْلُ فِي هَذَا وَتَرَدَّدَتِ الْآيَاتُ فِيهِ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَصْنَامِ وَتَعْظِيمَهَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ نُفُوسِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ وَمُسْتَوْلِيًا عَلَى عُقُولِهَا لُطْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَدْعُوهُمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ إِذْ لَمْ يَتَحَصَّلْ لَهُمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ فَائِدَةٌ وَلَا حَصَلُوا مِنْهُ بِطَائِلٍ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَيَكُونُ إِثْبَاتُ النَّظَرِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَيُحَسِّنُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْآيَةُ بَعْدَ هَذِهِ إِذْ فِي آخِرِهَا وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي

_ (1) سورة مريم: 19/ 42.

الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا وَيَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ فَتَكُونُ مُرَتَّبَةً عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ وَهِيَ الْجَهْلُ. خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. هَذَا خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعُمُّ جَمِيعَ أُمَّتِهِ وَهِيَ أَمْرٌ بِجَمِيعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير وَمُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ وَالْجُمْهُورُ: أَيِ اقْبَلْ مِنَ النَّاسِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ بِمَا أَتَى عَفْوًا دُونَ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَرُّجٍ وَالْعَفْوُ ضِدُّ الْجَهْدِ أَيْ لَا تَطْلُبْ مِنْهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَنْفِرُوا وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» . وَقَالَ حَاتِمٌ: خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ وَقَالَ الْآخَرُ: إِذَا مَا بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا ... فَخُذْهَا فَالْغِنَى مَرْعَى وَشُرْبُ إِذَا اتَّفَقَ الْقَلِيلُ وَفِيهِ سِلْمٌ ... فَلَا تَرِدِ الْكَثِيرَ وَفِيهِ حَرْبُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سأل الرسول صلى الله عليه وآله جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ، فَأَخْبَرَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ فِي الْأَمْوَالِ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ أَمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مَا سَهُلَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ أَيْ مَا فَضَلَ وَزَادَ ثُمَّ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ فَنُسِخَتْ هَذِهِ، وَتُؤْخَذُ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَقَالَ مَكِّيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ إِنَّ الْعَفْوَ هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْآيَةُ جَمِيعُهَا فِي مُدَارَاةِ الْكُفَّارِ وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ انْتَهَى، وَالَّذِي يَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّهُ أَمَرَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ فِي النَّاسِ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ حِينَ أَدْخَلَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ عَلَى عُمَرَ فَكَلَّمَ عُمَرَ كَلَامًا فِيهِ غِلْظَةٌ فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَهُمَّ بِهِ فَتَلَا الْحُرُّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمَرَ فَقَرَّرَهَا وَوَقَفَ عِنْدَهَا. وَالْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ وَالْجَمِيلُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالْعُرْفِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ حَضٌّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالْحِلْمِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ مُنَازَعَةِ السُّفَهَاءِ وَعَلَى الْإِغْضَاءِ عَمَّا يَسُوءُ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَقَوْلِ الْآخَرَانِ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ وَكَالَّذِي جَذَبَ رِدَاءَهُ حتى حزّ فِي عُنُقِهِ وَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ، وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ مَا وَصَّاهُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُحَقِّرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ فَضْلِ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ

الْمُسْتَسْقِي وَإِنِ امْرُؤٌ سَبَّكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْكَ فَلَا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ» . وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ يَنْخَسَنَّكَ بِأَنْ يَحْمِلَكَ بِوَسْوَسَتِهِ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ فَاطْلُبِ الْعِيَاذَةَ بِاللَّهِ مِنْهُ وَهِيَ اللِّوَاذُ وَالِاسْتِجَارَةُ، قِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ خُذِ الْعَفْوَ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ وَالْغَضَبُ فَنَزَلَتْ وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَفَاعِلُ يَنْزَغَنَّكَ هُوَ نَزْغٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ جِدُّ جَدُّهُ أَوْ عَلَى إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَازَغَ وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ تكون بالنسيان ولا تجدي إِلَّا بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَاهَا فَالْمَعْنَى سَمِيعٌ لِلْأَقْوَالِ عَلِيمٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْآيَةُ وَصِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعُمُّ أُمَّتَهُ رَجُلًا رَجُلًا وَنَزْغُ الشَّيْطَانِ عَامٌّ فِي الْغَضَبِ وَتَحْسِينِ الْمَعَاصِي وَاكْتِسَابِ الْغَوَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً» وَبِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الِاسْتِعَاذَةَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ انْتَهَى. وَاسْتِنْبَاطُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِطَلَبِ الِاسْتِجَارَةِ بِاللَّهِ أَيْ لَا تَسْتَعِذْ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُ أَوِ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُهُ الْكُفَّارُ فِيكَ حِينَ يَرُومُونَ إِغْضَابَكَ الْعَلِيمُ بِقَصْدِكَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ أَوِ الْعَلِيمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ مِنَ الْكَيْدِ لَكَ فَهُوَ يَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُجِيرُكَ مِنْهُمْ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ النَّزْغُ مِنَ الشَّيْطَانِ أحفّ مِنْ مَسِّ الطَّائِفِ مِنَ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ النَّزْغَ أَدْنَى حَرَكَةٍ وَالْمَسَّ الْإِصَابَةُ وَالطَّائِفُ مَا يَطُوفُ بِهِ وَيَدُورُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَبْلَغُ لَا مَحَالَةَ فَحَالُ الْمُتَّقِينَ تَزِيدُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَالِ الرَّسُولِ، وَانْظُرْ لِحُسْنِ هَذَا الْبَيَانِ حَيْثُ جَاءَ الْكَلَامُ لِلرَّسُولِ كَانَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ إِنْ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوُقُوعِ وَلِعَدَمِهِ، وَحَيْثُ كَانَ الْكَلَامُ لِلْمُتَّقِينَ كَانَ الْمَجِيءُ بِإِذَا الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّحْقِيقِ أَوْ لِلتَّرْجِيحِ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّزْغُ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَقَعَ وَالْمَسُّ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ أَوْ يُرَجَّحُ وُقُوعُهُ وَهُوَ إِلْصَاقُ الْبَشَرَةِ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ وَفِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ أُمِرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَهُنَا جَاءَتِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً فِي ضِمْنِهَا الشَّرْطُ وَجَاءَ الْخَبَرُ تَذَكَّرُوا فَدَلَّ عَلَى تَمَكُّنِ مَسِّ الطَّائِفِ حَتَّى حَصَلَ نِسْيَانٌ فَتَذَكَّرُوا مَا نَسُوهُ وَالْمَعْنَى تَذَكَّرُوا مَا أَمَرَ بِهِ تَعَالَى وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَبِنَفْسِ التَّذَكُّرِ حَصَلَ إِبْصَارُهُمْ فَاجَأَهُمْ إِبْصَارُ الحقّ والسداد فاتبعوه وطردوا عَنْهُمْ مَسَّ الشَّيْطَانِ الطَّائِفِ،

واتَّقَوْا قِيلَ: عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يُتَّقَى، وَقِيلَ: الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَقِيلَ: عِقَابَ اللَّهِ، وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: طَيْفٌ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ طَافَ يَطِيفُ طَيْفًا أَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّى أَلَمَّ بِكَ الخيال يطيف ... ومطابه لك ذكره وشغوف وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِنْ طَيِّفٍ كَمَيِّتٍ وَمَيْتٍ أَوْ كَلَيْنٍ مِنْ لَيِّنٍ لِأَنَّ طَافَ الْمُشَدَّدَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَافَ يَطِيفُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَافَ يَطُوفُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ طائِفٌ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ طَافَ، وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ فَيْعِلٌ وَإِلَى أَنَّ الطَّيْفَ مَصْدَرٌ مَالَ الْفَارِسِيُّ جَعَلَ الطَّيْفَ كَالْخَطِرَةِ وَالطَّائِفَ كَالْخَاطِرِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الطَّيْفُ اللَّمَمُ وَالطَّائِفُ مَا طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَيْفَ هَذَا؟ وَقَدْ قَالَ الْأَعْشَى: وَتُصْبِحُ عَنْ غَبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ انْتَهَى. وَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِسَائِيِّ الطَّائِفَ بِأَنَّهُ مَا طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الْبَيْتِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ مَعْنَى مَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَعَجُّبُهُ وَإِنْكَارُهُ مِنْ حَيْثُ خُصِّصَ الْإِنْسَانُ وَالَّذِي قَالَهُ الْأَعْشَى تَشْبِيهٌ لِأَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا وَإِنْ كَانَ تَعَجُّبُهُ مِنْ حَيْثُ فَسَّرَ بِأَنَّهُ مَا طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ، فَطَائِفُ الْجِنِّ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ وَشَبَّهَ هُوَ النَّاقَةَ فِي سُرْعَتِهَا وَنَشَاطِهَا وَقَطْعِهَا الْفَيَافِيَ عَجِلَةً بِحَالَتِهَا إِذَا أَلَمَّ بِهَا أَوْلَقَ مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: طَافَ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَافًا وَأَطَافَ اسْتَدَارَ الْقَوْمَ وَأَتَاهُمْ مِنْ نَوَاحِيهِمْ، وَطَافَ الْخَيَالُ أَلَمَّ يَطِيفُ طَيْفًا وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلِ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ طَافَ الْخَيَالُ قَالَ: لِأَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةٌ وَأَمَّا فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ فَلَا يُقَالُ فِيهِ طَيْفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً انْتَهَى، وَقَالَ حَسَّانُ: جِنِّيَّةٌ أَرَّقَنِي طَيْفُهَا ... تَذْهَبُ صُبْحًا وَتُرَى فِي الْمَنَامِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَمَّا بِمَعْنَى النَّزْعِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الطَّيْفُ الْجُنُونُ، وَالطَّائِفُ الْغَضَبُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُمَا بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى اللَّمَمِ وَالْخَيَالِ، وَقِيلَ: الطَّيْفُ النَّخِيلُ، وَالطَّائِفُ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّيْفُ الْغَضَبُ وَيُسَمَّى الْجُنُونُ وَالْغَضَبُ وَالْوَسْوَسَةُ طَيْفًا لِأَنَّهُ لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير وَالسُّدِّيُّ: إِذَا زَلُّوا تَابُوا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا هَمُّوا بِذَنْبٍ ذَكَرُوا اللَّهَ فَتَرَكُوهُ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا غَضِبَ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا أَصَابَهُ نَزْغٌ تَذَكَّرَ وَعَرَفَ أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ نَزَعَ عَنْهَا مَخَافَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: ابْتَهَلُوا، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَاذُوا بِذِكْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: تَفَكَّرُوا فَأَبْصَرُوا وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ وَسَبَّ عِصَامُ بْنُ الْمُصْطَلِقِ الشَّامِيِّ الْحُسَيْنَ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبًّا مُبَالِغًا

وَأَبَاهُ إِذْ كَانَ مُبْغِضًا لِأَبِيهِ فَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ، ثُمَّ قَالَ: خَفِّضْ عَلَيْكَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكَ وَدَعَا لَهُ فِي حِكَايَةٍ فِيهَا طُولٌ ظَهَرَ فِيهَا مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ وَسَعَةِ صَدْرِهِ وَحَوَالَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْقَدْرِ مَا صَيَّرَ عِصَامًا أَشَدَّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ وَلِأَبِيهِ وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَأَخْذٌ بِهَا، ومُبْصِرُونَ هُنَا مِنَ الْبَصِيرَةِ لَا مِنَ الْبَصَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الشَّيْطَانِ تَأَمَّلُوا وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ إِذَا طَافَ مِنَ الشَّيْطَانِ طَائِفٌ تَأَمَّلُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا، وَقِرَاءَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ. الضَّمِيرُ فِي وَإِخْوانُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْجَاهِلِينَ أَوْ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَهُمْ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَدُلُّ عَلَى مُقَابِلِهِ فَيُضْمَرُ ذَلِكَ الْمُقَابِلُ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ وَعَنَى بِالْإِخْوَانِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الشَّيَاطِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ إِخْوَانُ الْجَاهِلِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ يَمُدُّونَ الجاهلين أو غير المتقين في الغيّ قالوا وفي يَمُدُّونَهُمْ ضَمِيرُ الْإِخْوَانِ فَيَكُونُ الْخَبَرُ جَارِيًا عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ وَالْمَنْصُوبُ لِلْكُفَّارِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَا جَمِيعًا عَلَى الشَّيَاطِينِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ فِي الْغَيِّ بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ فِي اللَّهِ يَمُدُّونَ الشَّيَاطِينَ أَيْ بِطَاعَتِهِمْ لَهُمْ وَقَبُولِهِمْ مِنْهُمْ وَلَا يَتَرَتَّبُ هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الغَيِّ بِالْإِمْدَادِ لِأَنَّ الْإِنْسَ لَا يعوذون الشَّيَاطِينَ انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الغَيِّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِقَوْلِهِ يَمُدُّونَهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ يَمُدُّونَهُمْ بِسَبَبِ غَوَايَتِهِمْ نَحْوَ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» أَيْ بِسَبَبِ هِرَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الغَيِّ حَالًا فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ كَائِنِينَ وَمُسْتَقِرِّينَ فِي الْغَيِّ فَيَبْقَى فِي الغَيِّ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَإِخْوانُهُمْ وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَعِنْدِي فِي ذَلِكَ نَظَرٌ فَلَوْ قُلْتَ: مُطْعِمُكَ زَيْدٌ لَحْمًا تُرِيدُ مُطْعِمُكَ لَحْمًا زَيْدٌ فَتَفْصِلُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَمَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ لَكَانَ فِي جَوَازِهِ نَظَرٌ لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ لَهُمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا لِأَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَلِفَ الضَّمِيرُ فَيَكُونُ فِي وَإِخْوانُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ الدَّالِّ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ أَوْ عَلَى الشَّيْطَانِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ «1» الْمَعْنَى الطَّوَاغِيتُ وَيَكُونُ فِي يَمُدُّونَهُمْ عَائِدٌ على الكفار

_ (1) سورة البقرة: 2/ 257.

وَالْوَاوُ فِي يَمُدُّونَهُمْ عَائِدَةٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّونَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَيَكُونُ الْخَبَرُ جَرَى عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ، لِأَنَّ الْإِمْدَادَ مُسْنَدٌ إِلَى الشَّيَاطِينِ لَا لِإِخْوَانِهِمْ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: قَوْمٌ إِذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِي كَوَاثِيهَا وَهَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَعَلَيْهِ فَسَّرَ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ أَوْجُهٌ لِأَنَّ إِخْوانُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَقَرَأَ نَافِعٌ يَمُدُّونَهُمْ مُضَارِعُ أَمَدَّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ يَمُدُّونَهُمْ مِنْ مَدَّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ يُمَادُّونَهُمْ مِنْ مَادَّ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يُقْصِرُونَ مِنْ أَقْصَرَ أَيْ كَفَّ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرُكَ مَا قَلْبِي إِلَى أَهْلِهِ بِحُرْ ... وَلَا مُقْصِرٌ يَوْمًا فَيَأْتِيَنِي بقر أي ولا نَازِعٌ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ مِنْ قَصَرَ أَيْ ثُمَّ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ إِمْدَادِهِمْ وَغَوَايَتِهِمْ وَقَدْ أَبْعَدَ الزَّجَّاجُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِخْوانُهُمْ الْآيَةَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُتَنَاسِقٌ أَخَذَ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُتَّقِينَ مَعَ الشَّيَاطِينِ بَيَّنَ حَالَ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ مَعَهُمْ وَأَنَّ أُولَئِكَ يَنْفُسُ مَا يَمَسُّهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ مَاسٌ أَقْلَعُوا عَلَى الْفَوْرِ وَهَؤُلَاءِ فِي إِمْدَادٍ مِنَ الْغَيِّ وَعَدَمِ نُزُوعٍ عَنْهُ. وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها. رُوِيَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَتَأَخَّرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَحْيَانًا فَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: هَلَّا اجْتَبَيْتَهَا وَمَعْنَى اللَّفْظَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَخَيَّرْتَهَا وَاصْطَفَيْتَهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمُ: الْمُرَادُ هَلَّا اخْتَرَعْتَهَا وَاخْتَلَقْتَهَا مَنْ قِبَلِكَ وَمِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَكَ كُلَّهُ كَذَلِكَ عَلَى مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَدَّعِيهِ كما قَالُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ «2» ، قَالَ الْفَرَّاءُ تَقُولُ الْعَرَبُ اجْتَبَيْتُ الْكَلَامَ وَاخْتَلَقْتُهُ وَارْتَجَلْتُهُ إِذَا افْتَعَلْتَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اجْتَبَى الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَبَاهُ لِنَفْسِهِ أي جمعه كقوله اجتمعه أَوْ جَبَى إِلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ أَيْ أَخَذَهُ كَقَوْلِكَ: جَلَيْتُ الْعَرُوسَ إِلَيْهِ فَاجْتَلَاهَا وَالْمَعْنَى هَلَّا اجْتَمَعْتَهَا افْتِعَالًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ: هَلَّا تَلَقَّيْتَهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَلَّا أَخَذْتَهَا مُنَزَّلَةً عَلَيْكَ مُقْتَرَحَةً انْتَهَى، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ مِنْ نَتَائِجِ الْإِمْدَادِ فِي الغيّ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 15. [.....] (2) سورة سبأ: 34/ 43.

كَانُوا يَطْلُبُونَ آيَاتٍ مُعَيَّنَةً عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَقَلْبِ الصَّفَا ذَهَبًا وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَتَفْجِيرِ الْأَنْهَارِ وَكَمْ جَاءَتْهُمْ مِنْ آيَةٍ فَكَذَّبُوا بِهَا وَاقْتَرَحُوا غَيْرَهَا. قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَجِيءُ الْآيَاتِ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مُتَّبِعٌ مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَلَسْتُ بِمُفْتَعِلِهَا وَلَا مُقْتَرِحِهَا. هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ هَذَا الْمُوحَى إِلَيَّ الَّذِي أَنَا أَتَّبِعُهُ لَا أَبْتَدِعُهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ بَصائِرُ أَيْ حُجَجٌ وَبَيِّنَاتٌ يُبْصَرُ بِهَا وَتَتَّضِحُ الْأَشْيَاءُ الْخَفِيَّاتُ وَهِيَ جَمْعُ بَصِيرَةٍ كَقَوْلِهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «1» أَيْ عَلَى أَمْرٍ جَلِيٍّ مُنْكَشِفٍ وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُفْرَدِ بِالْجَمْعِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى سُوَرٍ وَآيَاتٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مضاف أي ذُو بَصَائِرَ. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ دَلَالَةٌ إِلَى الرُّشْدِ وَرَحْمَةٌ فِي الدَّارَيْنِ وَفِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْتَبْصِرُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْوَحْيِ يَتَّبِعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ وَيَجْتَنِبُونَ مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ فِيهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمَا تَضَمَّنَهُ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَصْلُ الْبَصِيرَةِ الْإِبْصَارُ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ سَبَبًا لِبَصَائِرِ الْعُقُولِ فِي دَلَالَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَصِيرَةِ تَسْمِيَةً لِلسَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ وَالنَّاسُ فِي مَعَارِفِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا: الَّذِينَ بَالَغُوا فِي هَذِهِ الْمَعَارِفِ إِلَى حَيْثُ صَارُوا كَالْمُشَاهِدِينَ لَهَا وَهُمْ أَصْحَابُ عَيْنِ الْيَقِينِ فَالْقُرْآنُ فِي حَقِّهِمْ بَصَائِرُ، وَالثَّانِي: الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَاتِ الْمُسْتَدِلِّينَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِلْمِ الْيَقِينِ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ هُدًى، وَالثَّالِثُ: مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ الْجَزْمَ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الْمُسْتَدِلِّينَ وَهُمْ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ رَحْمَةٌ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ انْتَهَى، وَفِيهِ تَكْمِيلٌ وَبَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَائِرُ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ أَمَرَ بِاسْتِمَاعِهِ إِذَا شُرِعَ فِي قِرَاءَتِهِ وَبِالْإِنْصَاتِ وَهُوَ السُّكُوتُ مَعَ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْبَصَائِرِ وَالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ حَرِيٌّ بِأَنْ يُصْغَى إِلَيْهِ حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ لِلْمُنْصِتِ هَذِهِ النَّتَائِجُ الْعَظِيمَةُ وَيَنْتَفِعَ بِهَا فَيَسْتَبْصِرَ مِنَ الْعَمَى وَيَهْتَدِي مِنَ الضَّلَالِ وَيُرْحَمُ بِهَا وَالظَّاهِرُ اسْتِدْعَاءُ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ إِذَا أَخَذَ فِي قراءة القرآن ومتى قرىء، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا صَلَّى الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 108.

فَنَزَلَتْ جَوَابًا لَهُمْ ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هِيَ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا يُقْرَأُ فِي الْخُطْبَةِ مِنَ الْقُرْآنِ قَلِيلٌ وَبِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْخُطْبَةُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ إِنَّهَا فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَفِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: كَانَ يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ وَيُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهِ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ عباس: قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَقَرَأَ الصَّحَابَةُ رَافِعِي أَصْوَاتِهِمْ فَخَلَطُوا عَلَيْهِ فَالْآيَةُ فِيهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِالِاسْتِمَاعِ والإنصات إذا أَدَّى الْوَحْيَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ الْمُرَادُ الصَّلَاةَ وَلَا غَيْرَهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ وَلَا تُجَاوِزُوهُ، كَقَوْلِكَ: سَمِعَ اللَّهُ دُعَاءَكَ أَيْ أَجَابَكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ عَلَى عُمُومِهَا فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ قرىء الْقُرْآنُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ اسْتِمَاعُهُ وَالسُّكُوتُ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ فَاسْتَمِعُوا إِنْ كَانَ لِلْكُفَّارِ فَتُرْجَى لَهُمُ الرَّحْمَةُ بِاسْتِمَاعِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ وَإِنْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَرَحْمَتُهُمْ هُوَ ثَوَابُهُمْ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْجَمِيعِ فَرَحْمَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَلَعَلَّ بَاقِيَةٌ عَلَى بَابِهَا مِنْ تَوَقُّعِ التَّرَجِّي، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّعْلِيلِ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. لَمَّا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ إِذَا شُرِعَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ارْتَقَى مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَى أمر الرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ بِحَيْثُ يُرَاقِبُهُ وَيَذْكُرُهُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يَشْعُرُ بِهَا أَحَدٌ وَهِيَ الْحَالَةُ الشَّرِيفَةُ الْعُلْيَا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ يَذْكُرَهُ بِالْقَوْلِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يُشْعِرُ بِالتَّذَلُّلِ وَالْخُشُوعِ مِنْ غَيْرِ صِيَاحٍ وَلَا تَصْوِيتٍ شَدِيدٍ كَمَا تُنَاجَى الْمُلُوكُ وَتَسْتَجْلَبُ مِنْهُمُ الرَّغَائِبُ، وَكَمَا قَالَ لِلصَّحَابَةِ وَقَدْ جَهَرُوا بِالدُّعَاءِ «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا اربؤوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» وَكَانَ كَلَامِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرَارًا وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ «1» وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ «2» لِأَنَّ فِي الْجَهْرِ عَدَمَ مُبَالَاةٍ بِالْمُخَاطَبِ وَظُهُورَ اسْتِعْلَاءٍ وَعَدَمَ تَذَلُّلٍ والذكر شامل

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 4. (2) سورة الحجرات: 49/ 2.

لِكُلٍّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَانْتَصَبَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَانِ مِنْ أَجْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُمَا الذِّكْرُ وَهُوَ التَّضَرُّعُ فِي اتِّصَالِ الثَّوَابِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَضَرِّعًا وَخَائِفًا أَوْ ذَا تضرّع وخيفة، وقرىء وَخِفْيَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَاذْكُرْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: خِطَابٌ لِكُلِّ ذَاكِرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خِطَابٌ لَهُ وَيَعُمُّ جَمِيعَ أُمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الذِّكْرِ بِالرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ اسْتِحْضَارٌ لِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَاذْكُرْ نِعَمَ رَبِّكَ فِي نَفْسِكَ بِاسْتِدَامَةِ الْفِكْرِ حَتَّى لَا تَنْسَى نِعَمَهُ الْمُوجِبَةَ لِدَوَامِ الشُّكْرِ، وَفِي لَفْظَةِ رَبَّكَ مِنَ التَّشْرِيفِ بِالْخِطَابِ وَالْإِشْعَارِ بِالْإِحْسَانِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَالِكِ لِلْمُلُوكِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَاذْكُرِ اللَّهَ وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَنَاسَبَ أَيْضًا لَفْظَ الرَّبِّ قَوْلُهُ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً لِأَنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» حَالَةٌ مُغَايِرَةٌ لِقَوْلِهِ فِي نَفْسِكَ لِعَطْفِهَا عَلَيْهَا وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ لَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ وَلَا يُرَاعَى إِلَّا بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ فَهَذِهِ مَرْتَبَةُ السِّرِّ وَالْمُخَافَتَةِ بِاللَّفْظِ انْتَهَى، وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا زَعَمَ بَلِ الظَّاهِرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَأَنَّهُمَا ذِكْرَانِ نَفْسَانِيٌّ وَلِسَانِيٌّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَكَلِّمًا كَلَامًا دُونَ الْجَهْرِ لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ أَدْخَلُ فِي الْإِخْلَاصِ وَأَقْرَبُ إِلَى جِنْسِ التَّفَكُّرِ انْتَهَى، وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَتَيِ الذِّكْرِ وَسَبَبَهُمَا وَهُمَا التَّضَرُّعُ وَالْخُفْيَةُ ذَكَرَ أَوْقَاتَ الذِّكْرِ فَقِيلَ: أَرَادَ خُصُوصِيَّةَ الْوَقْتَيْنِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي وَقْتَيْنِ قَبْلَ فَرْضِ الْخَمْسِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغُدُوُّ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْآصالِ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِفَضْلِهِمَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ وَعَبَّرَ بِالطَّرَفَيْنِ الْمُشْعِرَيْنِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْغُدُوُّ، قِيلَ: جَمْعُ غَدْوَةٍ فَعَلَى هَذَا تَظْهَرُ الْمُقَابَلَةُ لِاسْمِ جِنْسٍ بِجَمْعٍ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْغَدَوَاتِ وَالْعَشَايَا وَإِنْ كَانَ مَصْدَرَ الْغَدَاءِ فَالْمُرَادُ بِأَوْقَاتِ الْغُدُوِّ حَتَّى يُقَابَلَ زَمَانٌ مَجْمُوعٌ بِزَمَانٍ مَجْمُوعٍ. وَقَرَأَ أبو مجلز لا حق بْنُ حُمَيْدٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ وَالْإِيصَالُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا لِقَوْلِهِمْ آصَلْتُ أَيْ دَخَلْتُ فِي وَقْتِ الْأَصِيلِ فَيَكُونُ قَدْ قَابَلَ مَصْدَرًا بِمَصْدَرٍ وَيَكُونُ كَأَعْصَرَ أَيْ دَخَلَ فِي الْعَصْرِ وَهُوَ الْعَشِيُّ وَأَعْتَمَ أَيْ دَخَلَ فِي الْعَتَمَةِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَافِلِينَ أَيِ اسْتَلْزِمِ الذِّكْرَ وَلَا تَغْفُلْ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ لِعِصْمَتِهِ فَهُوَ نَهْيٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ.

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ الزُّلْفَى وَالْقُرْبُ مِنْهُ تَعَالَى بِالْمَكَانَةِ لَا بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ لِتَوَفُّرِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالذِّكْرِ وَرَغَّبَ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَخْبَارٍ ثَلَاثَةٍ، الْأَوَّلُ: نَفْيُ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَذَلِكَ هُوَ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَنَفْيُ الِاسْتِكْبَارِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلطَّاعَاتِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِصْيَانِ لِأَنَّ الْمُسْتَكْبِرَ يَرَى لِنَفْسِهِ شُفُوفًا وَمَزِيَّةً فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَةِ، الثَّانِي: إِثْبَاتُ التَّسْبِيحِ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى وَهُوَ التَّنْزِيهُ وَالتَّطْهِيرُ عَنْ جَمِيعِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالثَّالِثُ: السُّجُودُ لَهُ قِيلَ: وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ أَيْ لَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لَهُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَجْرُورَ لِيَقَعَ الْفِعْلُ فَاصِلَةً فَأَخَّرَهُ لِذَلِكَ لِيُنَاسِبَ مَا قَبْلَهُ مِنْ رؤوس الْآيِ وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ نَاشِئَةً عَنِ انْتِفَاءِ الِاسْتِكْبَارِ وَكَانَتْ عَلَى قِسْمَيْنِ عِبَادَةٍ قَلْبِيَّةٍ وَعِبَادَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ ذَكَرَهُمَا، فَالْقَلْبِيَّةُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَالْجُسْمَانِيَّةُ السُّجُودُ وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْحَدِيثِ «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ» وَلَهُ يَسْجُدُونَ هُوَ مَكَانُ سَجْدَةٍ وَقِيلَ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ ألم تَنْزِيلُ «1» وحم تَنْزِيلُ «2» وَالنَّجْمِ وَالْعَلَقِ وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا عُشْرٌ أَسْقَطَ آخِرَ الْحَجِّ وَص وَثَلَاثًا فِي الْمُفَصَّلِ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إِحْدَى عَشْرَةَ أَسْقَطَ آخِرَةَ الْحَجِّ وَثَلَاثَ الْمُفَصَّلِ، وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَسْقَطَ ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ أَسْقَطَ ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَأَثْبَتَ ص وَعَكَسَ الشَّافِعِيُّ وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا وَابْنِ حَبِيبٍ خَمْسَ عَشْرَةَ آخِرُهَا خَاتِمَةُ الْعَلَقِ وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ سِتَّ عَشْرَةَ وَزَادَ سَجْدَةَ الْحِجْرِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ وَاجِبٌ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ شَرْطَهُ شَرْطُ الصَّلَاةِ مِنْ طَهَارَةِ خَبَثٍ وَحَدَثٍ وَنِيَّةٍ وَاسْتِقْبَالٍ وَوَقْتٍ إِلَّا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عمر وَابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ الْيَدَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ يُكَبِّرُ لَهَا فِي الْخَفْضِ، وَالرَّفْعِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَاخْتُلِفَ عَنْهُ وَيُسَلِّمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَإِسْحَاقُ: لَا يُسَلِّمُ وَوَقْتُهَا سَائِرُ الْأَوْقَاتِ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ بِسَبَبٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُسْفِرْ وَلَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَقِيلَ: لَا يَسْجُدُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَقِيلَ بَعْدَ الصُّبْحِ لَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَثَلَاثَةُ الأقوال هذه في

_ (1) سورة السجدة: 32/ 1. (2) سورة غافر: 40/ 1 وغيرها

مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ «اللَّهُمَّ احْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا» ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ فِي الْفَرِيضَةِ سِرًّا كَانَتْ أَوْ جَهْرًا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى السامع قصد الاستماع أوّلا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

سورة الأنفال

سورة الأنفال [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)

النَّفْلُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ وَسُمِّيَتِ الْغَنِيمَةُ بِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِحِمَايَةِ الْحَوْزَةِ قَالَ لَبِيَدٌ: إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ أَيْ خَيْرُ غَنِيمَةٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الوغاء ذوي الغنى ... وَنَعِفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ الْأَنْفَالِ الْوَجَلُ: الْفَزَعُ. الشَّوْكَةُ قَالَ الْمُبَرِّدُ السِّلَاحُ وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّوْكِ النَّبْتُ الَّذِي لَهُ خَرْبَشَةٌ السِّلَاحُ بِهِ يُقَالُ رَجُلٌ شَاكِي السِّلَاحِ إِذَا كَانَ حَدِيدَ السِّنَانِ وَالنَّصْلِ وَأَصْلُهُ شَائِكُ وَهُوَ اسْمُ فعل مِنَ الشَّوْكَةِ قَالَ: لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّاكِي وَالشَّائِكُ جَمِيعًا ذُو الشَّوْكَةِ وَانْجَرَّ فِي سِلَاحِهِ وَيُوصَفُ بِهِ السِّلَاحُ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الرَّجُلُ قَالَ: وَأَلْبَسُ مِنْ رِضَاهُ فِي طَرِيقِي ... سِلَاحًا يَذْعَرُ الْأَبْطَالَ شَاكَا وَيُقَالُ: رَجُلٌ شَاكٍ وَسِلَاحٌ شَاكٍ وَشَاكٍ فَشَاكٍ أَصْلُهُ شَوْكٌ نَحْوَ كَبْشٌ صَافٍ أَيْ صُوفٌ وَشَاكٍ إِمَّا مَحْذُوفَةٌ أَوْ مَقْلُوبٌ وَإِيضَاحُ هَذَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ وَالنَّصْرِ غَوَثَ الرَّجُلُ قَالَ وواغوثاه وَالِاسْمُ الْغَوْثُ وَالْغِوَاثُ وَالْغَوَاثُ. وَقِيلَ الِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ سُرِّ الْخَلَّةِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَقِيلَ الِاسْتِجَارَةُ. رَدَفَ وَأَرْدَفَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ تَبِعَ وَيُقَالُ أَرْدَفْتُهُ إِيَّاهُ أَيِ اتَّبَعْتَهُ. الْعُنُقُ معروف وجعه فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَعْنَاقٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى عُنُوقٍ. الْبَنَانُ الْأَصَابِعُ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ بَنَانَةُ وَقَالُوا فِيهِ الْبَنَامُ بِالْمِيمِ بَدَلَ النُّونِ قَالَ رُؤْبَةُ: يَا سَالَ ذَاتَ الْمَنْطِقِ التِّمْتَامِ ... وكفك المخضّب البنام يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا سَبْعَ

آيَاتٍ أَوَّلُهَا وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ غَيْرَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ وَقَعَتْ بِمَكَّةَ وَيُمْكِنُ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَأَمْرِ غَنَائِمِهِ وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا فِي تَعْيِينِ مَا كَانَ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمُلَخَّصُهَا: أَنَّ نُفُوسَ أَهْلِ بَدْرٍ تَنَافَرَتْ وَوَقَعَ فِيهَا مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ مِنْ إِرَادَةِ الْأَثَرَةِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَنَحْنُ لَا نُسَمِّي مَنْ أَبْلَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فَنَزَلَتْ وَرَضِيَ الْمُسْلِمُونَ وَسَلَّمُوا وَأَصْلَحَ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْفَالِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي الْغَنَائِمَ مُجْمَلَةً قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مِنَ اللَّهِ لِدَفْعِ الشَّغَبِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ «2» الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ لَا نَسْخَ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ الْغَنَائِمَ لِلَّهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِلْكُهُ وَرِزْقُهُ وَلِلرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَيِّنٌ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالْمُضَارِعُ فِيهَا لِيَقَعَ التَّسْلِيمُ فِيهَا مِنَ النَّاسِ وَحُكْمُ الْقِسْمَةِ قَاتِلٌ خِلَالَ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْأَنْفالِ فِي الْآيَةِ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ سَيْفٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ جِنِّيٍّ وَالْحَسَنُ: الْأَنْفالِ فِي الْآيَةِ الْخُمُسُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ أَيْضًا: الْأَنْفالِ فِي الْآيَةِ مَا شَذَّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَالْفَرَسِ الْغَائِرِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَهُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْأَنْفَالُ فِي الْآيَةِ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ مُخَالَفَةٌ لِمَا تَظَافَرَتْ عَلَيْهِ أَسْبَابُ النُّزُولِ الْمَرْوِيَّةُ وَالْجَيِّدُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِهِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْأَنْفالِ الْأَسْرَى وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ وَقَدْ طَوَّلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ فِي أَحْكَامٍ مَا يَنْقُلُهُ الْإِمَامُ وَحُكْمِ السَّلْبِ وَمَوْضُوعُ ذَلِكَ كُتُبِ الْفِقْهِ وضمير الفاعل في يَسْئَلُونَكَ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى مَذْكُورٍ قَبْلَهُ إِنَّمَا يُفَسِّرُهُ وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَأَنَّ السَّائِلَ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسُّؤَالُ قَدْ يَكُونُ لِاقْتِضَاءِ مَعْنًى في نفس المسئول فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ بِعْنَ كَمَا قَالَ: سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ وقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ «3» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «4» وَكَذَا

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 30. (2) سورة الأنفال: 8/ 41. (3) سورة الأعراف: 7/ 187. (4) سورة البقرة: 2/ 217.

هنا يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ حُكْمِهَا وَلِمَنْ تَكُونُ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَوَابُ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ لِاقْتِضَاءِ مَالٍ وَنَحْوِهِ فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ لِمَفْعُولَيْنِ تَقُولُ سَأَلْتُ زِيَادًا مَالًا وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السُّؤَالَ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى وَادَّعَى زِيَادَةَ عَنِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ، وَهَذَا لَا ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِإِسْقَاطِ عَنْ عَلَى إِرَادَتِهَا لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ، وَهُوَ مُرَادٌ مَعْنًى، أَسْهَلُ مِنْ زِيَادَتِهِ لِغَيْرِ مَعْنًى غَيْرَ التَّوْكِيدِ وَهِيَ قِرَاءَةُ سعد بن أبي وقاص وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَوَلَدَيْهِ زَيْدٍ وَمُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ وَوَلَدِهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ. وَقِيلَ عَنِ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ يَسْأَلُونَكَ مِنَ الْأَنْفَالِ وَلَا ضَرُورَةَ تدعوا إِلَى تَضْمِينِ الْحَرْفِ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ عَلَنْفَالِ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ وَاعْتَدَّ بِالْحَرَكَةِ الْمُعَارِضَةِ فَأَدْغَمَ نَحْوَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ. وَمَعْنَى قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لَيْسَ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَا فُوِّضَ إِلَى أَحَدٍ بَلْ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ لِلَّهِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ وَلِلرَّسُولِ حَيْثُ هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ الْأَحْكَامَ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِيَزُولَ عَنْهُمُ التَّخَاصُمُ وَيَصِيرُوا مُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مُبَايَنَةٌ وَمُبَاعَدَةٌ رُبَّمَا خِيفَ أَنْ تُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى فَسَادِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالْمُعَافَاةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذاتَ فِي قَوْلِهِ بِذاتِ الصُّدُورِ «1» ، وَالْبَيْنُ هُنَا الْفِرَاقُ والتباعد وذاتَ هُنَا نَعْتٌ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَأَصْلِحُوا أَحْوَالًا ذاتَ افْتِرَاقِكُمْ لَمَّا كَانَتِ الْأَحْوَالُ مُلَابِسَةً لِلْبَيْنِ أُضِيفَتْ صِفَتُهَا إِلَيْهِ كَمَا تَقُولُ اسْقِنِي ذَا إِنَائِكَ أَيْ مَاءُ صاحب إنائك لما لا بس الْمَاءُ الْإِنَاءَ وُصِفَ بِذَا وَأُضِيفَ إِلَى الْإِنَاءِ وَالْمَعْنَى اسْقِنِي مَا فِي الْإِنَاءِ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذاتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ بَيْنِكُمْ هُوَ مَعْنَى يَعُمُّ جَمِيعَ الْوَصْلِ وَالِالْتِحَامَاتِ وَالْمَوَدَّاتِ وَذَاتَ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِإِصْلَاحِهَا أَيْ نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ فَحَضَّ اللَّهُ عَلَى إِصْلَاحِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ حَصَلَ إِصْلَاحُ مَا يَعُمُّهَا وَهُوَ الْبَيْنُ الَّذِي لَهُمْ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ الذَّاتِ عَلَى أَنَّهَا لَزِيمَةُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «2» وذاتِ الشَّوْكَةِ وَيُحْتَمَلُ ذَاتُ الْبَيْنِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ وَقَدْ يُقَالُ الذَّاتُ أَيْضًا بِمَعْنًى آخَرَ وَإِنْ كَانَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُمْ فَعَلْتُ كَذَا ذَاتَ يَوْمٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ ... ذَاتَ الْعِشَاءِ وَلَا تسري أفاعيها

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 119 وغيرها. (2) سورة المائدة: 5/ 7 وغيرها.

وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ ذاتَ بَيْنِكُمْ الْحَالَ الَّتِي بَيْنَكُمْ كَمَا ذَاتَ الْعِشَاءِ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا الْعِشَاءُ وَوَجَّهَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ بَيِّنُ الِانْتِقَاضِ انْتَهَى وَتَلَخَّصَ أَنَّ الْبَيْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِرَاقِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ هُنَا قَالَ وَمِثْلُهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» وَيَكُونُ ظَرْفًا بِمَعْنَى وَسَطَ، وَيُحْتَمَلُ ذاتَ أَنْ تُضَافَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا فِي أَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِرَاقِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِ أَشْهَرُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْوَصْلِ وَلِأَنَّ إِضَافَةَ ذَاتٍ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ إِضَافَةِ ذَاتٍ إِلَى بَيْنٍ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَثِيرَةَ التَّصَرُّفِ بَلْ تَصَرُّفُهَا كَتَصَرُّفِ أَمَامٍ وَخَلْفٍ وَهُوَ تَصَرُّفٌ مُتَوَسِّطٌ لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَأَمَرَ تَعَالَى أَوَّلًا بِالتَّقْوَى لِأَنَّهَا أَصْلٌ لِلطَّاعَاتِ ثُمَّ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهَمُّ نَتَائِجِ التَّقْوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تَشَاجَرُوا فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ التَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ كُنْتُمْ كَامِلِي الْإِيمَانِ، وَتَسَنَّنَ هَنَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَاضْطَرَبَ فَقَالَ: وَقَدْ جَعَلَ التَّقْوَى وَإِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ وَطَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّوَفُّرِ عَلَيْهَا وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتُمْ كَامِلِي الْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا أَيْ إِنْ كَنْتَ كَامِلَ الرُّجُولِيَّةِ، قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَطِيعُوا هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ مُتَأَخِّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ تَقْدِيرُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَطِيعُوا وَمَذْهَبُهُ فِي هَذَا أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَلَى الشَّرْطِ انْتَهَى. والذي مُخَالِفٌ لِكَلَامِ النُّحَاةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ جَوَازُ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ وَهَذَا النَّقْلُ هُوَ الصَّحِيحُ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ قرىء وَجِلَتْ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ لُغَةٌ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَرِقَتْ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ فَزِعَتْ وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى التَّفْسِيرِ وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أَيِ الْكَامِلُو الْإِيمَانِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَوْصُولٍ وُصِلَ بِثَلَاثِ مَقَامَاتٍ عَظِيمَةٍ مَقَامِ الْخَوْفِ، وَمَقَامِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إِنْ يُذْكَرِ اسْمُهُ وَيُلْفَظْ بِهِ تَفْزَعْ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِهِ اسْتِعْظَامًا لَهُ وَتَهَيُّبًا وَإِجْلَالًا وَيَكُونُ هَذَا الذِّكْرُ مُخَالِفًا لِلذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «2» لأنّ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 94. (2) سورة الزمر: 39/ 23. [.....]

ذِكْرَ اللَّهِ هُنَاكَ رَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ وَثَوَابُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذُكِرَ اللَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذُكِرَتْ عَظَمَةُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَمَا خَوَّفَ بِهِ مَنْ عَصَاهُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَفْزَعُ عَنْهَا وَفِي الْحَدِيثِ فِي السَّبْعِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةُ ذَاتُ جِمَالٍ وَمَنْصِبٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ» ، وَمَعْنَى زادَتْهُمْ إِيماناً أَيْ يَقِينًا وَتَثْبِيتًا لِأَنَّ تَظَاهُرَ الْأَدِلَّةِ وَتَظَافُرَهَا أَقْوَى عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَأَرْسَخُ لِقَدَمِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَسْمَعْ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ زَادَ إِيمَانًا إِلَى سَائِرِ مَا قَدْ آمَنَ بِهِ إِذْ لِكُلِّ حُكْمٍ تَصْدِيقٌ خَاصٌّ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَبَّرَ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ عَنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَأَحْكَامِهِ. وَقِيلَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ كِنَايَةٌ عَنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ لِلْإِيمَانِ سُنَّةً وَفَرَائِضَ وَشَرَائِعَ فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَقِيلَ هَذَا فِي الظَّالِمِ يُوعَظُ فَيُقَالُ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فَيُقْلِعُ فَيَزِيدُهُ ذَلِكَ إيمانا والظهر أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ دَاخِلٌ فِي صِلَةِ الَّذِينَ كَمَا قُلْنَا قَبْلُ، وَقِيلَ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ أَحْسَنُ تَرْتِيبٍ فَبَدَأَ بِمَقَامِ الْخَوْفِ إِمَّا خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ وَإِمَّا خَوْفُ الْعِقَابِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِالْإِيمَانِ بِالتَّكَالِيفِ الْوَارِدَةِ، ثُمَّ ثَالِثًا بِالتَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَرُخْصِ مَا سِوَاهُ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صِفَةً لِلَّذِينَ السَّابِقَةِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي حَيِّزِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِثَلَاثٍ الصِّفَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَعَنْهُمْ بِالصِّفَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالصِّفَةِ الْمَالِيَّةِ وَجَمَعَ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ وَجَمَعَ فِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ لأنهما عمود أَفْعَالٍ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَالتَّبْرِيزِيُّ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هُمُ الَّذِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلِهِ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عَامٌّ فِي الزَّكَاةِ وَنَوَافِلِ الصَّدَقَاتِ وَصِلَاتِ الرَّحِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَبَارِّ الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ خَصَّ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِالزَّكَاةِ لِاقْتِرَانِهَا بِالصَّلَاةِ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ غَيْرُ الْمُنْتَقِلِ وَالْعَامِلُ فِيهِ أَحَقَّ ذَلِكَ حَقًّا انْتَهَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنَ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ وَأَنَّهُ لَا مَجَازَ فِي ذَلِكَ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَقًّا صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ أَيْ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا حَقًّا وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ قَالَ: الْإِيمَانُ إيمانان فإن كانت تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ

وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فو الله لَا أَدْرِي أَمِنْهُمْ أَنَا أَمْ لَا وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلَامَ ثَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَّ حَقًّا مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ أَيْ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ وَهَذَا لِأَنَّ انْتِصَابَ حَقًّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَنْ تَمَامِ جُمْلَةِ الِابْتِدَاءِ بِمَكَانِ التَّأْخِيرِ عَنْهَا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ. لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لَمَّا تَقَدَّمَتْ ثَلَاثُ صِفَاتٍ قَلْبِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ فَقُوبِلَتِ الْأَعْمَالُ الْقَلْبِيَّةُ بِالدَّرَجَاتِ، وَالْبَدَنِيَّةُ بِالْغُفْرَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مَا يَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ غَيْرَ الْوَطْءِ، فَسَأَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ أَصَلَّيْتَ مَعَنَا فَقَالَ نعم فقال له: «1» وَقُوبِلَتِ الْمَالِيَّةُ بِالرِّزْقِ بِالْكَرِيمِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ بَدِيعِ عِلْمِ الْبَيَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْجُمْهُورُ: إِنَّ الْمُرَادَ مَرَاتِبُ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلُهَا وَدَرَجَاتُهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا دَرَجَاتُ أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يُرِيدُ بِهِ مَآكِلَ الْجَنَّةِ وَمَشَارِبَهَا وكَرِيمٌ صِفَةٌ تَقْتَضِي رَفْعَ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ ثَوْبٌ كِرِيمٌ وَحَسَبٌ كَرِيمٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ دَرَجَاتُ شَرَفٍ وَكَرَامَةٌ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ وَمَغْفِرَةٌ وَتَجَاوُزٌ لِسَيِّئَاتِهِمْ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ يَعْنِي مَنَافِعَ حَسَنَةً دَائِمَةً عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَهَذَا مَعْنَى الثَّوَابِ انْتَهَى. وَقَالَ عَطَاءٌ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ يَرْتَقُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ سَبْعُونَ دَرَجَةً مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حِصْنُ الْفَرَسِ الْمُضْمَرِ سَبْعِينَ سَنَةً وَقِيلَ مَرَاتِبُ وَمَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ أهل الجنة ليتراؤون أَهْلَ الْغُرَفِ كَمَا يَتَرَاءَى الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ» وَثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ الدَّرَجَاتُ حَقِيقَةً وَعَنْ مُجَاهِدٍ دَرَجَاتُ أَعْمَالٍ رَفِيعَةٌ. كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ اضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَاخْتَلَفُوا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا. أَحَدُهَا أَنَّ الْكَافَ بِمَعْنَى وَاوِ الْقَسَمِ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي وَاقِعَةٌ عَلَى ذِي الْعِلْمِ وَهُوَ اللَّهُ كَمَا وَقَعَتْ فِي قَوْلِهِ وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «2» وَجَوَابُ الْقَسَمِ يُجادِلُونَكَ، وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهِ الَّذِي أَخْرَجَكَ من

_ (1) هكذا بياض بعموم الأصول التي وقفنا عليها وليحرر اه مصحح. (2) سورة الليل: 92/ 3.

بَيْتِكَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَانَ ضَعِيفًا فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ هَذَا سَهْوٌ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْكَافُ لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ بِالْمُضَارِعِ الْمُثْبَتِ جَاءَ بِغَيْرِ لَامٍ وَلَا نُونِ تَوْكِيدٍ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ مِنْ مُعَاقَبَةِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ. الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْكَافَ بِمَعْنَى إِذْ وَمَا زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ إِذْ أَخْرَجَكَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَافَ تَكُونُ بِمَعْنَى إِذْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَا تُزَادُ بَعْدَ هَذَا غَيْرَ الشَّرْطِيَّةِ وَكَذَلِكَ لَا تُزَادُ مَا ادُّعِيَ أَنَّهُ بِمَعْنَاهَا، الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْكَافُ بِمَعْنَى عَلَى وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي تَقْدِيرُهُ امْضِ عَلَى الَّذِي أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَافَ تَكُونُ بِمَعْنَى عَلَى وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمَوْصُولُ إِلَى عَائِدٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ قَالَ عِكْرِمَةُ: التَّقْدِيرُ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا أَخْرَجَكَ فِي الطَّاعَةِ خَيْرٌ لَكُمْ كَمَا كَانَ إِخْرَاجُكَ خَيْرًا لَهُمُ، الْقَوْلُ الْخَامِسُ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَذَلِكَ يُجَادِلُونَكَ فِي قِتَالِ كُفَّارِ مَكَّةَ وَيَوَدُّونَ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَفْعَلُ مَا أُمِرْتَ بِهِ لَا مَا يُرِيدُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ مُجَادَلَةً لِكَرَاهَتِهِمْ إِخْرَاجَ رَبِّكَ إِيَّاكَ مِنْ بَيْتِكَ فَالْمُجَادَلَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَثَابَةِ الْكَرَاهَةِ وَكَذَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ في المعنى وقائل هذا الْمَقَالَةِ يَقُولُ إِنَّ الْمُجَادِلِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. الْقَوْلُ السَّادِسُ قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ امْضِ لِأَمْرِكَ فِي الْغَنَائِمِ وَنَفِّلْ مَنْ شِئْتَ إِنْ كَرِهُوا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْعِبَارَةُ بِقَوْلِهِ امْضِ لِأَمْرِكَ وَنَفِّلْ مَنْ شِئْتَ غَيْرُ مُحَرَّرَةٍ وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدِي أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْكَافُ شَبَّهَتْ هَذِهِ الْقِصَّةَ الَّتِي هِيَ إِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْتِهِ بِالْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْأَنْفَالِ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ النَّفْلِ وَتَشَاجَرُوا فَأَخْرَجَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْخِيَرَةُ كَمَا كَرِهُوا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ انْبِعَاثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِ اللَّهُ مِنْ بَيْتِهِ فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْخِيَرَةُ وَتَشَاجُرُهُمْ فِي النَّفْلِ بِمَثَابَةِ كَرَاهِيَتِهِمْ هَاهُنَا الْخُرُوجَ، وَحُكْمَ اللَّهِ فِي النَّفْلِ بِأَنَّهُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَهُوَ بِمَثَابَةِ إِخْرَاجِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ ثُمَّ كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي الْقِصَّتَيْنِ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يُجادِلُونَكَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ أَيْ يُجَادِلُونَكَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا

كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ يُجَادِلُونَكَ فِي الْكُفَّارِ مَنْصُوصٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَانَ قَوْلَانِ مُطَّرِدَانِ يَتِمُّ بِهِمَا الْمَعْنَى وَيَحْسُنُ وَصْفُ اللَّفْظِ انْتَهَى. وَنَعْنِي بِالْقَوْلَيْنِ قَوْلَ الْفَرَّاءِ وَقَوْلَ الْكِسَائِيِّ وَقَدْ كَثُرَ الْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ وَلَا يَظْهَرَانِ وَلَا يَلْتَئِمَانِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةِ الْعَاطِفِ. الْقَوْلُ السَّابِعُ قَالَ الْأَخْفَشُ: الْكَافُ نَعْتٌ لِحَقًّا وَالتَّقْدِيرُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا أَخْرَجَكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَمَا زَادَ لَا يَتَنَاسَقُ. الْقَوْلُ الثَّامِنُ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالتَّقْدِيرُ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فَاتَّقُوا اللَّهَ كَأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْمَعْنَى وَضَعَهُ هَذَا الْمُفَسِّرُ وَلَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْآيَةِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ. الْقَوْلُ التَّاسِعُ قَالَ الزَّجَّاجُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالتَّقْدِيرُ الْأَنْفَالُ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ ثَبَاتًا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وَهَذَا الْفِعْلُ أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَحَسَّنَهُ. فَقَالَ يَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ فِي قَوْلِهِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيِ الْأَنْفَالُ اسْتَقَرَّتْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَثَبَتَتْ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ ثَبَاتًا مِثْلَ ثَبَاتِ إِخْرَاجِ ربك إياك من بيتك وَهُمْ كَارِهُونَ انْتَهَى، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ وَلَا يَظْهَرُ كَبِيرُ مَعْنًى لِتَشْبِيهِ هَذَا بِهَذَا بَلْ لَوْ كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّشْبِيهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ. الْقَوْلُ الْعَاشِرُ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالتَّقْدِيرُ لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هَذَا وَعْدُ حَقٍّ كَما أَخْرَجَكَ وَهَذَا فِي حَذْفِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَلْتَئِمِ التَّشْبِيهُ وَلَمْ يَحْسُنِ. الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْضًا وَالْمَعْنَى وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ كَما أَخْرَجَكَ فَالْكَافُ نَعْتٌ لِخَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ حَذْفٌ وَطُولٌ فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَأَصْلِحُوا وَبَيْنَ كَما أَخْرَجَكَ. الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ أَنَّهُ شَبَّهَ كَرَاهِيَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ تَحَقَّقُوا خُرُوجَ قُرَيْشٍ لِلدَّفْعِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَحِفْظِ غَيْرِهِ بِكَرَاهِيَتِهِمْ نَزْعَ الْغَنَائِمِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَجَعْلَهَا لِلرَّسُولِ أَوِ التَّنْفِيلَ مِنْهَا وَهَذَا الْقَوْلُ أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَحَسَّنَهُ فَقَالَ: يَرْتَفِعُ مَحَلُّ الْكَافِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا الْحَالُ كَحَالِ إِخْرَاجِكَ يَعْنِي أَنَّ حَالَهُمْ فِي كَرَاهَةِ مَا رَأَيْتَ مِنْ تَنْفِيلِ الْقِرَاءَةِ مِثْلَ حَالِهِمْ فِي كَرَاهَةِ خُرُوجِهِمْ لِلْحَرْبِ وَهَذَا النَّهْيُ قَالَهُ

هَذَا الْقَائِلُ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ الْفَرَّاءِ بِقَوْلِهِ هَذِهِ الْكَافُ شَبَّهَتْ هَذِهِ الْقِصَّةَ الَّتِي هِيَ إِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْتِهِ بِالْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْأَنْفَالِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّ الْمَعْنَى قِسْمَتُكَ لِلْغَنَائِمِ حَقٌّ كَمَا كَانَ خُرُوجُكَ حَقًّا. الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ بَيْنَ إِخْرَاجَيْنِ أَيْ إِخْرَاجُكَ رَبُّكَ إِيَّاكَ مِنْ بَيْتِكَ وَهُوَ مَكَّةُ وَأَنْتَ كَارِهٌ لِخُرُوجِكَ وَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالنَّصْرَ وَالظَّفَرَ كَإِخْرَاجِ رَبِّكَ إِيَّاكَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ كَارِهٌ يَكُونُ عَقِيبُ ذَلِكَ الظَّفَرَ وَالنَّصْرَ. الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ كَمَا وَجَّهْتُكَ إِلَى أَعْدَائِي فَاسْتَضْعَفُوكَ وَسَأَلْتَ مَدَدًا فَأَمْدَدْتُكَ وَقَوَّيْتُكَ وَأَزَحْتُ عِلَلَكَ فَخُذْهُمُ الْآنَ فَعَاقِبْهُمْ بكذا وكم كَسَوْتُكَ وَأَجْرَيْتُ عَلَيْكَ الرِّزْقَ فَاعْمَلْ كَذَا وَكَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ مَا شَكَرْتَنِي عَلَيْهِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَغَشَّاكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ يَعْنِي بِهِ إِيَّاهُ وَمَنْ مَعَهُ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةً مُرْدِفِينَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَزَحْتُ عِلَلَكُمْ وَأَمْدَدْتُكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ فَاضْرِبُوا مِنْهُمْ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ وَهُوَ الْقَتْلُ لِتَبْلُغُوا مُرَادَ اللَّهِ فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَمُلَخَّصُ هَذَا الْقَوْلِ الطَّوِيلِ أَنَّ كَما أَخْرَجَكَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَاضْرِبُوا وَفِيهِ مِنَ الْفَصْلِ وَالْبُعْدِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ وَقَدِ انْتَهَى ذِكْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا. وَمَنْ دَفَعَ إِلَى حَوْكِ الْكَلَامِ وَتَقَلَّبَ فِي إِنْشَاءِ أَفَانِينِهِ وَزَاوَلِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ لَمْ يَسْتَحْسِنْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ قَائِلِهَا لَهُ إِمَامَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَرُسُوخُ قَدَمٍ لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَطْ بِلَفْظِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ فِي طَبْعِهِ صَوْغُهُ أَحْسَنَ صَوْغٍ وَلَا التَّصَرُّفُ فِي النَّظَرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْفَصَاحَةِ وَمَا بِهِ يَظْهَرُ الْإِعْجَازُ. وَقَبْلَ تَسْطِيرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُنَا وَقَعْتُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فَلَمْ يَلْقَ لِخَاطِرِي مِنْهَا شَيْءٌ فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ أَنَّنِي أَمْشِي فِي رَصِيفٍ وَمَعِي رَجُلٌ أُبَاحِثُهُ فِي قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فَقُلْتُ لَهُ مَا مَرَّ بِي شَيْءٌ مُشْكِلٌ مِثْلُ هَذَا وَلَعَلَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى وَمَا وَقَفْتُ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى شَيْءٍ طَائِلٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ظَهَرَ لِيَ السَّاعَةَ تَخْرِيجُهُ وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ هُوَ نَصَرَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ أَنَا وَذَلِكَ الرَّجُلُ هَذَا التَّخْرِيجَ ثُمَّ انْتَبَهْتُ مِنَ النَّوْمِ وَأَنَا أَذْكُرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أَيْ بِسَبَبِ إِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ شَرِيعَتِهِ وَقَدْ كَرِهُوا خُرُوجَكَ تَهَيُّبًا لِلْقِتَالِ وَخَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ إِذْ كَانَ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُرُوجِهِمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْخُرُوجِ

وَجَادَلُوكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ نَصَرَكَ اللَّهُ وَأَمَدَّكَ بِمَلَائِكَتِهِ وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ الْكَلَامُ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ الْآيَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْكَافَ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ الْمَنَامِيِّ لَيْسَتْ لِمَحْضِ التَّشْبِيهِ بَلْ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُحْدِثُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَخَرَّجُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «1» وَأَنْشَدُوا: لَا تَشْتُمُ النَّاسَ كَمَا لَا تُشْتَمِ أَيْ لِانْتِفَاءِ أَنْ يَشْتُمَكَ النَّاسُ لَا تَشْتُمْهُمْ وَمِنَ الْكَلَامِ الشَّائِعِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تُطِيعُ اللَّهَ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَيْ لِأَجْلِ طَاعَتِكَ اللَّهَ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ فَكَانَ الْمَعْنَى إِنْ خَرَجْتَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَقَتْلِ أَعْدَائِهِ نَصَرَكَ اللَّهُ وَأَمَدَّكَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْوَاوُ فِي وَإِنَّ فَرِيقاً وَاوُ الْحَالِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ بَيْتِكَ هُوَ مَقَامُ سُكْنَاهُ وَقِيلَ الْمَدِينَةُ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُهُ وَمُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَقِيلَ مَكَّةُ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ فَصَرْفُهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَمَفْعُولُ لَكارِهُونَ هُوَ الْخُرُوجُ أَيْ لَكَارِهُونَ الْخُرُوجَ مَعَكَ وَكَرَاهَتُهُمْ ذَلِكَ إِمَّا لِنَفْرَةِ الطَّبْعِ أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا أَوِ الْعُدُولُ مِنَ الْعِيرِ إِلَى النَّفِيرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَلِمَا فِي هَذَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، أَوْ لِتَرْكِ مَكَّةَ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الرَّفْعِ فِي يُجادِلُونَكَ عَائِدٌ عَلَى فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ وَجِدَالُهُمْ قَوْلُهُمْ مَا كَانَ خُرُوجُنَا إِلَّا لِلْعِيرِ وَلَوْ عَرَفْنَا لَاسْتَعْدَدْنَا لِلْقِتَالِ وَالْحَقُّ هُنَا نُصْرَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَجِدَالُهُمْ فِي الْحَقِّ هُوَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بُعْدَ مَا بَيَّنَ بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ تَاءٍ وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ إِنْكَارٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مَنْ جَادَلَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَتَّضِحْ كَانَ أَخَفَّ عَتْبًا أَمَّا مَنْ نَازَعَ فِي أَمْرٍ وَاضِحٍ فَهُوَ جَدِيرٌ بِاللَّوْمِ وَالْإِنْكَارِ ثُمَّ شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي فَرْطِ فَزَعِهِمْ وَهُمْ يُسَارُ بِهِمْ إِلَى الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ بِحَالِ مَنْ يُسَاقُ عَلَى الصَّفَا إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ مُشَاهِدٌ لِأَسْبَابِهِ نَاظِرٌ إِلَيْهَا لَا يَشُكُّ فِيهَا، وَقِيلَ كَانَ خَوْفُهُمْ لِقِلَّةِ الْعَدَدِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً، وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ إِلَّا فَارِسَانِ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي نَحْوِ أَلْفِ رَجُلٍ وَقِصَّةُ بَدْرٍ هَذِهِ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَقَدْ لَخَّصَ مِنْهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كتابيهما.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 198.

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا كطائفة غير قُرَيْشٍ وَكَانَتْ فِيهِمَا تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ وَمَعَهَا أَرْبَعُونَ رَاكِبًا فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَمْرُو بْنُ هِشَامٍ وَطَائِفَةُ الَّذِينَ اسْتَنْفَرَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَكَانُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وغَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ هِيَ الْعِيرُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ قِتَالٍ وَإِنَّمَا هِيَ غَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ وَمَعْنَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ تَثْبِيتُهُ وَإِعْلَاؤُهُ وبِكَلِماتِهِ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ فِي مُحَارَبَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَبِمَا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُزُولِهِمْ لِلنُّصْرَةِ وَبِمَا قَضَى مِنْ أَسْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَطَرْحِهِمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ وَبِمَا ظَهَرَ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَطْعُ الدَّابِرِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِئْصَالِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَرْغَبُونَ فِي إِبْقَاءِ الْعَاجِلَةِ وَسَلَامَةِ الْأَحْوَالِ وَسَفْسَافِ الْأُمُورِ وَإِعْلَاءِ الْحَقِّ وَالْفَوْزِ فِي الدَّارَيْنِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمُرَادَيْنِ، وَلِذَلِكَ اخْتَارَ لَكُمْ ذَاتَ الشَّوْكَةِ وَأَرَاكَهُمْ عِيَانًا خَذَلَهُمْ وَنَصَرَكُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَأَعَزَّكُمْ وَحَصَّلَ لَكُمْ مَا أَرْبَى عَلَى دَائِرَةِ الْعِيرِ وَمَا أَدْنَاهُ خَيْرٌ مِنْهُمَا، وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ يَعِدُكُمُ بِسُكُونِ الدَّالِ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ اللَّهُ إِحْدَى بِإِسْقَاطِ هَمْزَةِ إِحْدَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَحَدَ عَلَى التَّذْكِيرِ إِذْ تَأْنِيثُ الطَّائِفَةِ مَجَازٌ، وَأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو الشَّوْكَةِ تَكُونُ، وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ مُحَارِبٍ بِكَلِمَتِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ شَيْبَةَ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَنَافِعٍ بِخِلَافٍ عَنْهُمْ وَأَطْلَقَ الْمُفْرَدَ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ لِلْعِلْمِ بِهِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ كَلِمَةُ تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ كُنْ قِيلَ وَكَلِمَاتُهُ هِيَ مَا وَعَدَ نَبِيَّهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ فَقَالَ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ «1» أَيْ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقِيلَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ، وَقِيلَ مَوَاعِيدُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقِيلَ كَلِمَاتُهُ الَّتِي سَبَقَتْ فِي الْأَزَلِ. وَمَعْنَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ لِيُظْهِرَ مَا يَجِبُ إِظْهَارُهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَعَلَ ذَلِكَ وَقِيلَ الْحَقَّ الْقُرْآنُ والْباطِلَ إِبْلِيسُ وَتَتَعَلَّقُ هَذِهِ اللَّامُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ مَا فَعَلَهُ إِلَّا لَهُمَا وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارُهُ وَإِبْطَالُ الْكُفْرِ وَمَحْوُهُ وَلَيْسَ هَذَا بِتَكْرِيرٍ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ تَبْيِينٌ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ وَالثَّانِي بَيَانٌ لِمَا فُعِلَ مِنِ اخْتِيَارِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ عَلَى غَيْرِهَا لَهُمْ وَنُصْرَتِهِمْ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ مَا نَصَرَهُمْ وَلَا خَذَلَ أُولَئِكَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ إِلَّا لِهَذَا الْمَقْصِدِ الَّذِي هُوَ أَسْنَى الْمَقَاصِدِ وَتَقْدِيرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مُتَأَخِّرًا أَحْسَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَحْذُوفُ مُتَأَخِّرًا حَتَّى يُفِيدَ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وينطبق عليه

_ (1) سورة الدخان: 44/ 16.

الْمَعْنَى انْتَهَى، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَالْمَجْرُورِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ وَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ بِمَا قُدِّمَ لَا عَلَى تَخْصِيصٍ وَلَا حَصْرٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَقِيلَ يَتَعَلَّقُ لِيُحِقَّ بِقَوْلِهِ وَيَقْطَعَ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَوْ كَرِهَ أَيْ وَكَرَاهَتُكُمْ وَاقِعَةٌ فَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهِ أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ وَمَثَّلْنَا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فرس عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تُنَافِي الصَّدَقَةَ عَلَى السَّائِلِ» ، وَأَنْ وَلَوْ هَذِهِ تَأْتِي لِاسْتِقْصَاءِ مَا بَطَنَ لِأَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي عُمُومِ مَا قَبْلَهُ لِمُلَاقَاةِ الَّتِي بَيْنَ هَذِهِ الْحَالِ وَبَيْنَ الْمُسْنَدِ الَّذِي قَبْلَهُمَا، وَقَالَ الْحَسَنُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَقَدِّمَتَانِ فِي النُّزُولِ عَلَى قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وَفِي الْقِرَاءَةِ بَعْدَهُمَا لِتَقَابُلِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ وَالْكَرَاهَةِ بِالْكَرَاهَةِ انْتَهَى، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا حَاجَةَ تَضْطَرُّنَا إِلَى تَصْحِيحِهَا. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. اسْتَغَاثَ طَلَبَ الْغَوْثَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقِتَالِ شَرَعُوا فِي طَلَبِ الْغَوْثِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءِ بِالنُّصْرَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ وَإِذْ يَعِدُكُمُ وَتَوَدُّونَ وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ ويُجادِلُونَكَ هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ فَالْخِطَابَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَقِيلَ الْمُسْتَغِيثُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ وَإِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْنِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العصابة لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ فَرَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنَاشَدَتَكَ اللَّهَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، قَالُوا فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ خِطَابُ الْجَمِيعِ، وَرُوِيَ أن أبا جهل عند ما اصْطَفَّ الْقَوْمُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ وَإِذْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ يَعِدُكُمُ اذْكُرْ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُحِقَّ ويُبْطِلَ وَأَجَازَ هُوَ وَالْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِيَعِدُكُمْ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً عَلَى إِضْمَارِ وَاذْكُرُوا وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِتَوَدُّونَ وَاسْتَغَاثَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ فِي الْآيَةِ وَيَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الِاسْتِغَاثَةِ، وَفِي بَابِ ابْنِ مَالِكٍ فِي النَّحْوِ الْمُسْتَغَاثُ وَلَا يَقُولُ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَآهُ فِي الْقُرْآنِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ قَالَ الْمُسْتَغَاثُ

وَلَمْ يُعَدِّهِ بِالْبَاءِ كَمَا عَدَّاهُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيُّونَ وَزَعَمَ أَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَكَلَامُهُ مَسْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَمَا جَاءَ مُعَدًّى بِالْبَاءِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: حَتَّى اسْتَغَاثَ بِمَاءٍ لَا رِشَاءَ لَهُ ... مِنَ الْأَبَاطِحِ فِي حَاجَاتِهِ الْبُرَكُ مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّبْتِ تَنْسُجُهُ ... رِيحٌ حَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ كَمَا اسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ قَبْرُ عَنْطَلَةٍ ... خَافَ الْعُيُونَ وَلَمْ يُنْظَرْ بِهِ الْحَشَكُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنِّي بِفَتْحٍ أَيْ بأني وعيسى بن عمرو رَوَاهَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَإِنِّي بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ عَلَى الْحِكَايَةِ بِاسْتَجَابَ لِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْفِعْلِ إِذْ سَوَّى فِي مَعْنَاهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ اسْتَجَابَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِأَلْفٍ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْجَحْدَرِيُّ بِآلُفٍ عَلَى وَزْنِ أَفْلُسٍ وَعَنْهُ وَعَنِ السدّي بالألف وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ أَنْ يُحْمَلَ الْإِفْرَادُ عَلَى مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ أَوْ عَلَى الْوُجُوهِ الَّذِينَ مَنْ سِوَاهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ مُرْدَفِينَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ بِكَسْرِهَا أَيْ مُتَابِعًا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَلْفَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ وَرَاءَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ مُرْدِفِينَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً أَصْلُهُ مُرْتَدِفِينَ فَأُدْغِمَ وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَقَدْ يَجُوزُ فَتْحُ الرَّاءِ فِرَارًا إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ أَوْ لِثِقَلِ حَرَكَةِ التَّاءِ إِلَى الرَّاءِ عِنْدَ الْإِدْغَامِ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ أَثَرًا انْتَهَى وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ يُضَمُّ الرَّاءُ اتباعا لحركة الميم كقولهم مخضم وقرىء كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الدَّالِ أَوْ حُرِّكَتْ بِالْكَسْرِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ مَعَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَسْرُ الْمِيمِ وَلَا أَحْفَظُهُ قِرَاءَةً كَقَوْلِهِمْ مُخَضَّمٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ وَهَلْ قَاتَلَتْ أَمْ لَمْ تُقَاتِلْ فِي آلِ عِمْرَانَ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِقِتَالِهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ مُرْدِفِينَ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ بِأَلْفٍ أَيْ أَرْدَفَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ يُرَادَ بِالْمُرْدَفِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ أُرْدِفُوا بِالْمَلَائِكَةِ فَمُرْدَفِينَ عَلَى هَذَا حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَرْدَفْتُهُ إِيَّاهُ إِذَا أَتْبَعْتَهُ وَيُقَالُ أَرْدَفْتُهُ كَقَوْلِكَ أَتْبَعْتُهُ إِذَا جِئْتَ بَعْدَهُ فَلَا يَخْلُو الْمَكْسُورُ الدَّالِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ أَوْ مُتَّبَعِينَ فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ مُتْبِعِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ إِيَّاهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ يَتَقَدَّمُونَهُمْ فَيَتْبَعُونَهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَوْ مُتْبِعِينَ لَهُمْ يُشَيِّعُوهُمْ وَيُقَدِّمُونَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ عَلَى سَاقَتِهِمْ لِيَكُونُوا عَلَى أَعْيُنِهِمْ وَحِفْظِهِمْ أَوْ

بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ أَنْفُسَهُمْ مَلَائِكَةً آخَرِينَ أَوْ مُتْبِعِينَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيُعَضِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ «1» بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «2» انْتَهَى. وَهَذَا تَكْثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ اتَّبَعَ مُشَدَّدًا يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَأَتْبَعَ مُخَفَّفًا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَأَرْدَفَ أَتَى بمعناهما والمفعول لا تبع محذوف والمفعولان لا تَبِعَ مَحْذُوفَانِ فَيُقَدَّرُ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى وَقَوْلُهُ أَوْ مُتْبِعِينَ إِيَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ فَصْلِ الضَّمِيرِ بَلْ مِمَّا يُتَّصَلُ وَتُحْذَفُ لَهُ النُّونُ لَا يُقَالُ هَؤُلَاءِ كَاسُّونَ إِيَّاكَ ثَوْبًا بَلْ يُقَالُ كَاسُوكَ فَتَصْحِيحُهُ أَنْ يَقُولَ أَوْ بِمَعْنَى مُتْبِعِيهِمُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَقُولَ أَوْ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ أَنْفُسَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْمَعْنَى إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَأُثْبِتَ فِي آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِيهَا مُسْهِبَةٌ وَهُنَا مُوجَزَةٌ فَنَاسَبَ هُنَا الْحَذْفُ وَهُنَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ هُنَاكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَنُّنِ وَالِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ وَهُنَا جَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مُرَاعَاةً لِأَوَاخِرِ الْآيِ وَهُنَاكَ لَيْسَتْ آخِرَ آيَةٍ لِتَعَلُّقِ يَقْطَعَ بِمَا قَبْلَهُ فَنَاسَبَ أَنْ يَأْتِيَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» عَلَى سَبِيلِ الصِّفَةِ وَكِلَاهُمَا مُشْعِرٌ بِالْعَلِيَّةِ كَمَا تَقُولُ أَكْرِمْ زَيْدًا الْعَالِمَ وَأَكْرِمْ زَيْدًا إِنَّهُ عَالِمٌ وَالضَّمِيرُ فِي وَما جَعَلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِمْدَادِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ أَوْ عَلَى الْمَدَدِ أَوْ عَلَى الْوَعْدِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يَعِدُكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ عَلَى الْأَلْفِ أَوْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ أَوْ عَلَى الْإِرْدَافِ أَوْ عَلَى الْخَبَرِ بِالْإِمْدَادِ أَوْ عَلَى جِبْرِيلَ أَقْوَالٌ مُحْتَمَلَةٌ مَقُولَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَدَلٌ ثَانٍ مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ أَوْ مَنْصُوبٌ بِالنَّصْرِ أَوْ بِمَا فِي عِنْدِ اللَّهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ أَوْ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرِ انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُهُ بَدَلًا ثَانِيًا مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ فَوَافَقَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ فَإِنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ هُوَ الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ يَعِدُكُمُ بِتَقْدِيرِ تَكْرَارِهِ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْعَامِلِ الْأَوَّلِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفِ عَطْفٍ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنْ يُعَدِّدَ نِعَمَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ فَقَالَ وَاذْكُرُوا إِذْ فَعَلْنَا بِكُمْ كَذَا اذْكُرُوا إِذْ فَعَلْنَا كَذَا وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْصُوبًا بِالنَّصْرِ فَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِيهِ أَلْ وَفِي إِعْمَالِهِ خِلَافٌ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إعماله،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 124. (2) سورة آل عمران: 3/ 125. (3) سورة آل عمران: 3/ 126.

الثَّانِي أَنَّهُ مَوْصُولٌ وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَذَلِكَ إِعْمَالٌ لَا يَجُوزُ لَا يُقَالُ ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدٌ عَمْرًا، الثَّالِثُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِعْمَالُ مَا قَبْلَ إِلَّا فِي مَا بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ مُسْتَثْنًى أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ أَوْ صِفَةً لَهُ وَإِذْ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَجُوزُ مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْصُوبًا بِمَا فِي عِنْدِ اللَّهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ فَيُضَعِّفُهُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْتِقْرَارُ النَّصْرِ مُقَيَّدًا بِالظَّرْفِ وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُطْلَقًا فِي وَقْتِ غَشْيِ النُّعَاسِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْصُوبًا بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْحَوْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا لِطُولِ الْفَصْلِ وَلِكَوْنِهِ مَعْمُولَ مَا قَبْلَ إِلَّا وَلَيْسَ أَحَدَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ الْعَامِلَ فِي إِذْ قَوْلُهُ وَلِتَطْمَئِنَّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَعَ احْتِمَالِهِ فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ: وَلَوْ جُعِلَ الْعَامِلُ فِي إِذْ شَيْئًا قَرَنَهَا بِمَا قَبْلَهَا لَكَانَ الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْمَلَ فِي إِذْ حَكِيمٌ لِأَنَّ إِلْقَاءَ النُّعَاسِ عَلَيْهِمْ وَجَعْلَهُ أَمَنَةً حِكْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ انْتَهَى، وَالْأَجْوَدُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ يَكُونَ بَدَلًا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ مُضَارِعُ غَشِيَ والنُّعاسَ رُفِعَ بِهِ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ نِصَاحٍ وَأَبُو حَفْصٍ وَنَافِعٌ يُغَشِّيكُمُ مُضَارِعُ أَغْشَى، وَقَرَأَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ يُغَشِّيكُمُ مُضَارِعُ غَشَّى والنُّعاسَ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ مَنْصُوبٌ وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ وَنَاسَبَتْ قِرَاءَةُ نَافِعٍ قَوْلَهُ يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ «1» وَقِرَاءَةَ الْبَاقِينَ وَيُنَزِّلُ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفِ الْفَاعِلُ وَمَعْنَى يُغَشِّيكُمْ يُعْطِيكُمْ بِهِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ جَعَلَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ النُّعَاسِ غَشَيَانًا لَهُمْ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ النُّعاسَ وأَمَنَةً فِي آلِ عِمْرَانَ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَانْتَصَبَ أَمَنَةً، قِيلَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ فَأَمِنْتُمْ أَمَنَةً وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ فِي قِرَاءَةِ يُغَشِّيكُمُ لِاتِّحَادِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُغَشِّيَ وَالْمُؤَمِّنَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا عَلَى قراءة يُغَشِّيكُمُ فَالْفَاعِلُ مُخْتَلِفٌ إِذْ فَاعِلُ يُغَشِّيكُمُ هُوَ النُّعاسَ وَالْمُؤَمِّنُ هُوَ اللَّهُ وَفِي جَوَازِ مَجِيءِ الْمَفْعُولِ لَهُ مَعَ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِ خِلَافٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : أَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ وَاحِدًا، قُلْتُ بَلَى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ معنى يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ تُتَغَشَّوْنَ انْتَصَبَ أَمَنَةً عَلَى أَنَّ النُّعَاسَ وَالْأَمَنَةَ لَهُمْ وَالْمَعْنَى إِذْ تُتَغَشَّوْنَ أَمَنَةً بِمَعْنَى أَمْنًا أَيْ لأمنكم

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 154.

ومِنْهُ صِفَةٌ لَهَا أَيْ أَمَنَةً حَاصِلَةً لَكُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّ الْأَمَنَةَ لِلنُّعَاسِ الذي هو يُغَشِّيكُمُ أَيْ يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ لِأَمْنِهِ عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ الْأَمْنِ إِلَى النُّعَاسِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ وَهُوَ لِأَصْحَابِ النُّعَاسِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ إمامكم فِي وَقْتِهِ كَانَ مِنْ حَقِّ النُّعَاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمَخُوفِ أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى غِشْيَانِكُمْ وَإِنَّمَا غَشَّاكُمْ أَمَنَةً حَاصِلَةً مِنَ الله تعالى لولا ها لم يغشاكم عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، (قُلْتُ) : لَا تَتَعَدَّى فَصَاحَةُ الْقُرْآنِ عَنِ احْتِمَالِهِ وَلَهُ فِيهِ نَظَائِرُ وَلَقَدْ أَلَمَّ بِهِ مَنْ قَالَ: يَهَابُ النَّوْمُ أَنْ يَغْشَى عُيُونًا ... تَهَابُكَ فَهْوَ نَفَّارٌ شُرُودُ وقرىء أَمَنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ وَنَظِيرُ أَمِنَ أَمَنَةً حَيِيَ حَيَاةً وَنَحْوُ أَمِنَ أَمْنَةً رَحِمَ رَحْمَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا كَانَ بِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّوْمِ فَلَمَّا طَامَنَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَهُمْ أَمَّنَهُمْ وَأَقَرُّوا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الصَّلَاةِ وَسْوَسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ انْتَهَى، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَبِيهُ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ النُّعَاسُ عِنْدَ حُضُورِ الْقِتَالِ عَلَامَةُ أَمْنٍ مِنَ الْعَدُوِّ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِنَّمَا طَرِيقَةُ الْوَحْيِ فَهُوَ لَا محالة يسنده انْتَهَى، وَالَّذِي قَرَأَ أَمَنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ هُوَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَرُوِيَتْ عَنِ النَّخَعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَغِشْيَانُ النَّوْمِ إِيَّاهُمْ قِيلَ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَمَضَى مِثْلُ هَذَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَقِيلَ: اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ الْقِتَالُ فِي غَدِهَا امْتُنَّ عَلَيْهِمْ بِالنَّوْمِ مَعَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي غَدٍ لِيَسْتَرِيحُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَنْشَطُوا فِي غَدِهَا لِلْقِتَالِ وَيَزُولَ رُعْبُهُمْ، وَيُقَالُ: الْأَمْنُ مُنِيمٌ وَالْخَوْفُ مُسْهِرٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي الزَّمَانِ كَتَرْتِيبِهَا فِي التِّلَاوَةِ فَيَكُونَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ تَأَخَّرَ عَنْ غِشْيَانِ النُّعَاسِ، وَعَنِ ابْنِ نَجِيحٍ أَنَّ الْمَطَرَ كَانَ قَبْلَ النُّعَاسِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ وَنُزُولُ الْمَاءِ كَانَ قَبْلَ تَغْشِيَةِ النُّعَاسِ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ كَذَلِكَ فِي الْآيَةِ إِذِ الْقَصْدُ مِنْهَا تَعْدِيدُ النِّعَمِ فَقَطْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَيُنَزِّلُ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَاءً بِالْمَدِّ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ مَا بِغَيْرِ هَمْزٍ، حَكَاهُ ابْنُ جِنِّيٍّ، صَاحِبُ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ، وَخَرَّجَاهُ عَلَى أَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَصِلَتُهُ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ لِيُطَهِّرَكُمْ وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ انْتَهَى، وَظَاهِرُ هَذَا التَّخْرِيجِ فَاسِدٌ لِأَنَّ لَامَ كَيْ لَا تَكُونُ صِلَةً وَمِنْ حَيْثُ جَعْلِ الضَّمَائِرِ هُوَ وَقَالَ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلَا تَكُونُ لَامُ كَيْ هِيَ الصِّلَةُ بَلِ الصِّلَةُ هُوَ وَلَامُ الْجَرِّ وَالْمَجْرُورِ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ مَا مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا حَرْفُ الْجَرِّ بِمَا جَرَّهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا لِلطَّهُورِ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ مَا قُلْنَا مِنْ مَجِيءِ لَامِ كَيْ صِلَةً وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى

وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ مَا لَيْسَ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي وَأَنَّهُ بِمَعْنَى مَاءً الْمَحْدُودِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَكَوْا أَنَّ الْعَرَبَ حَذَفَتْ هَذِهِ الْهَمْزَةَ فَقَالُوا مًا يَا هَذَا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَتَنْوِينِ الْمِيمِ فَيُمْكِنُ أَنْ تُخَرَّجَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْرَوُا الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ فَحَذَفُوا التَّنْوِينَ لِأَنَّكَ إِذَا وَقَفْتَ عَلَى شَرِبْتُ مًا قُلْتَ شَرِبْتُ مَا بِحَذْفِ التَّنْوِينِ وَإِبْقَاءِ الْأَلِفِ إِمَّا أَلِفُ الْوَصْلِ الَّذِي هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ وَهِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَإِمَّا الْأَلِفُ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ من التَّنْوِينِ حَالَةَ النَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لِيُطَهِّرَكُمْ بِسُكُونِ الطَّاءِ وَمَعْنَى لِيُطْهِرَكُمْ مِنَ الْجَنَابَاتِ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَحِقَ أَكْثَرَهُمْ فِي سَفَرِهِمُ الْجَنَابَاتُ وَعَدِمُوا الْمَاءَ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ طَوِيلَةٌ مِنْ رَمْلٍ دَهْسٍ لَيِّنٍ تَسُوخُ فِيهِ الْأَرْجُلُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ سَبَقُوهُمْ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَقِيلَ بَلِ الْمُؤْمِنُونَ سَبَقُوا إِلَى الْمَاءِ بِبَدْرٍ وَكَانَ نُزُولُ الْمَطَرِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبَقُوا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ لَا مَاءَ لَهُمْ فَوَجَسَتْ نُفُوسُهُمْ وَعَطِشُوا وَأَجْنَبُوا وَصَلَّوْا كَذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمْ نَزْعُمُ أَنَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ، وَحَالُنَا هَذِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ لَيْلَةَ بَدْرٍ السَّابِعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى سَالَتِ الْأَوْدِيَةُ فَشَرِبَ النَّاسُ وَتَطَهَّرُوا وَسَقَوُا الظَّهْرَ وَتَلَبَّدَتِ السَّبْخَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى ثَبَتَتْ فِيهَا أَقْدَامُ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ الْقِتَالِ وَكَانَتْ قَبْلَ الْمَطَرِ تَسُوخُ فِيهَا الْأَرْجُلُ فَلَمَّا نَزَلَ تَلَبَّدَتْ قَالُوا فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أَيْ مِنَ الْجَنَابَاتِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أَيْ عَذَابَهُ لَكُمْ بِوَسْوَاسِهِ وَالرِّجْزُ الْعَذَابُ، وَقِيلَ رِجْزُهُ كَيْدُهُ وَوَسْوَسَتُهُ، وَقِيلَ الْجَنَابَةُ مِنَ الِاحْتِلَامِ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَوَرَدَ مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ إِنَّمَا الِاحْتِلَامُ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو يُذْهِبَ بِجَزْمِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ رِجْزَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ رِجْسَ بِالسِّينِ وَمَعْنَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ هُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيِ وَالتَّشْجِيعُ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَالصَّبْرُ عَلَى مُكَافَحَةِ العدو والربط الشد وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ فَاسْتُعِيرَ مِنْهَا لِمَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ التَّزَلْزُلِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الرَّبْطِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الصَّبْرُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ الْإِيمَانُ، وَقِيلَ نُزُولُ الْمَطَرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَمَا بَعْدَهُ تَعْلِيلٌ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَثْبِيتَ الْأَقْدَامِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ اللِّقَاءُ كَانَ رَمْلًا تَغُوصُ فِيهِ الْأَرْجُلُ فَلَبَّدَهُ الْمَطَرُ حَتَّى ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَطَرِ، وَقِيلَ التَّثْبِيتُ لِلْأَقْدَامِ مَعْنَوِيٌّ وَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ لَا يَفِرُّ وَقْتَ الْقِتَالِ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَلِيَرْبِطَ وَانْظُرْ إِلَى فَصَاحَةِ مَجِيءِ هَذِهِ

التَّعْلِيلَاتِ بَدَأَ أَوَّلًا مِنْهَا بِالتَّعْلِيلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ تَطْهِيرُهُمْ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ جُسْمَانِيٌّ أَعْنِي اغْتِسَالَهُمْ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ لَامِ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مِنْ لَازِمِ التَّطْهِيرِ وَهُوَ إِذْهَابُ رِجْزِ الشَّيْطَانِ حَيْثُ وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ وَلَمْ يَغْتَسِلُوا مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ عَطَفَ بِلَامِ الْعِلَّةِ مَا لَيْسَ بِفِعْلٍ جُسْمَانِيٍّ، وَهُوَ فِعْلٌ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَهُوَ التَّشْجِيعُ وَالِاطْمِئْنَانُ وَالصَّبْرُ عَلَى اللِّقَاءِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ لَامِ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مِنْ لَازِمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ لَا يَفِرُّونَ وَقْتَ الْحَرْبِ فَحِينَ ذَكَرَ التَّعْلِيلَ الظَّاهِرَ الْجُسْمَانِيَّ وَالتَّعْلِيلَ الْبَاطِنَ الْقَلْبِيَّ ظَهَرَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ وَحِينَ ذَكَرَ لَازِمَهَا لَمْ يُؤَكِّدْ بِلَامِ التَّعْلِيلِ وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالتَّطْهِيرِ لِأَنَّهُ الْآكَدُ وَالْأَسْبَقُ فِي الْفِعْلِ وَلِأَنَّهُ الَّذِي تُؤَدَّى بِهِ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ وَتَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ هَذَا أَيْضًا مِنْ تَعَدُّدِ النِّعَمِ إِذِ الْإِيحَاءُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَعَهُمْ أَيْ يَنْصُرُهُمْ وَيُعِينُهُمْ وَأَمْرُهُمْ بِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْإِخْبَارُ بِمَا يَأْتِي بَعْدُ مِنْ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ وَالْأَمْرُ بِالضَّرْبِ فَوْقَ أَعْنَاقِهِمْ وَكُلَّ بَنَانٍ مِنْهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَفِي ذَلِكَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْغَلَبَةَ وَالظَّفَرَ وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذْ يُوحِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا ثَالِثًا مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ وَأَنْ يَنْتَصِبَ بِثَبِّتْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْعَامِلُ فِي إِذِ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهَا وَلَوْ قَدَّرْنَاهُ قَرِيبًا لَكَانَ قَوْلُهُ وَيُثَبِّتَ عَلَى تَأْوِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الرَّبْطِ وَأَمَّا عَوْدُهُ عَلَى الْمَاءِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ وَيُثَبِّتَ فِي إِذْ انْتَهَى وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَهُ لِاخْتِلَافِ زَمَانِ التَّثْبِيتِ عِنْدَهُ وَزَمَانِ هَذَا الْوَحْيِ لِأَنَّ زَمَانَ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ تَعَالِيلِهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَغْشِيَةِ النُّعَاسِ وَالْإِيحَاءِ كَانَا وَقْتَ الْقِتَالِ وَهَذَا الْوَحْيُ إِمَّا بِإِلْهَامٍ وَإِمَّا بِإِعْلَامٍ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِخِلَافٍ عَنْهُ إِذْ مَعَكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ يُوحِي مَجْرَى تَقُولُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الَّذِينَ أُمِدَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ الْخِطَابُ لَهُمْ بِيَغْشَاكُمْ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ وَيُطَهِّرَكُمْ وَيُذْهِبَ رِجْزَ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ إِذْ كَانَ فِي هَذِهِ أَشْيَاءُ لَا تُنَاسِبُ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَحْيَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَتَى بِخِطَابِ الرَّسُولِ وَحْدَهُ فَقَالَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ فَفِي ذَلِكَ تَشْرِيفٌ بِمُوَاجَهَتِهِ بِالْخِطَابِ وَحْدَهُ أَيْ مُرَبِّيكَ وَالنَّاظِرُ فِي مَصْلَحَتِكَ. وَيُثَبِّتُ الَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ الْحَسَنُ بِالْقِتَالِ أَيْ فَقَاتِلُوا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ بَشِّرُوهُمْ بِالنَّصْرِ فَكَانَ الْمَلَكُ يَسِيرُ أَمَامَ الصَّفِّ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ

أَنَّهُمْ يُثَبِّتُونَهُمْ بِأَشْيَاءَ يُلْقُونَهَا فِي قُلُوبِهِمْ تَقْوَى بِهَا، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَنَحْوُهُ قَالَ: صَحِّحُوا عَزَائِمَهُمْ وَنِيَّاتِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّثْبِيتُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مَا يُلْقِيهِ الْمَلَكُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ مِنْ تَوَهُّمِ الظَّفَرِ وَاحْتِقَارِ الْكُفَّارِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ خَوَاطِرِ تَشْجِيعِهِ وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ مُطَابَقَةُ قَوْلِهِ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وَإِنْ كَانَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ يُطَابِقُ التَّثْبِيتَ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ كَانَ التَّثْبِيتُ وَلَكِنَّهُ أَشْبَهُ بِهَذَا إِذْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِيءُ قوله سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مُخَاطَبَةً لِلْمَلَائِكَةِ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْلِهِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ صُورَةِ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ إِذَا وَصَفْتَ لِمَنْ تُخَاطِبُهُ لَقِينَا الْقَوْمَ وَهَزَمْنَاهُمْ فَاضْرِبْ بِسَيْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ وَاقْتُلْ وَخُذْ أَسِيرَكَ، أَيْ هَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ الْحَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَأُلْقِي إِلَى آخِرِ الْآيَةِ خَبَرًا يُخَاطِبُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَفْعَلُهُ بِالْكَفَّارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا فَعَلَهُ فِي الْمَاضِي ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِضَرْبِ الرِّقَابِ وَالْبَنَانِ تَشْجِيعًا لَهُمْ وَحَضًّا عَلَى نُصْرَةِ الدِّينِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمَعْنَى أَنِّي مُعِينُكُمْ عَلَى التَّثَبُّتِ فَثَبِّتُوهُمْ فَقَوْلُهُ سَأُلْقِي فَاضْرِبُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا وَلَا مَعُونَةَ أَعْظَمُ مِنْ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكَفَرَةِ وَلَا تَثْبِيتَ أَبْلَغُ مِنْ ضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ وَاجْتِمَاعُهُمَا غَايَةُ النُّصْرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ تَفْسِيرٍ وَأَنْ يُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ أَنْ يُخْطِرُوا بِبَالِهِمْ مَا تَقْوَى بِهِ قُلُوبُهُمْ وَتَصِحُّ عَزَائِمُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ وَأَنْ يُظْهِرُوا مَا يَتَيَقَّنُونَ بِهِ أَنَّهُمْ مُمَدُّونَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ كَانَ الْمَلَكُ يَتَشَبَّهُ بِالرَّجُلِ الَّذِي يَعْرِفُونَ وَجْهَهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَئِنْ حَمَلُوا عَلَيْنَا لَنَنْكَشِفَنَّ وَيَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَيَقُولُ أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ لِأَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْبُدُونَهُ انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَأُلْقِي- إِلَى قَوْلِهِ- كُلَّ بَنانٍ عَقِيبَ قَوْلِهِ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا تَلْقِينًا لِلْمَلَائِكَةِ وَمَا يُثَبِّتُونَهُمْ بِهِ كَأَنَّهُ قَالَ قُولُوا لَهُمْ سَأُلْقِي وَالضَّارِبُونَ عَلَى هَذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا بَعْدَ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَكُلَّ بَنَانٍ، وَقَالَ السَّائِبُ بْنُ يَسَارٍ: كُنَّا إِذَا سَأَلْنَا يَزِيدَ بن عامر السّواي عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ كَانَ يَأْخُذُ الْحَصَا ويرمي به الطست فيظن فَيَقُولُ: كُنَّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْرَجُ الرُّعْبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَوْقَ قَالَ الْأَخْفَشُ: زَائِدَةٌ أَيْ فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ وَهُوَ قَوْلُ عَطِيَّةَ وَالضَّحَّاكِ فَيَكُونُ الْأَعْنَاقُ هِيَ الْمَفْعُولُ بِاضْرِبُوا هَذَا

لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فَوْقَ اسْمُ ظَرْفٍ وَالْأَسْمَاءُ لَا تُزَادُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَوْقَ بِمَعْنَى عَلَى تَقُولُ ضَرَبْتُهُ فَوْقَ الرَّأْسِ وَعَلَى الرَّأْسِ وَيَكُونُ مَفْعُولُ فَاضْرِبُوا عَلَى هَذَا مَحْذُوفًا أَيْ فَاضْرِبُوهُمْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِإِبْقَاءِ فَوْقَ عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ الظَّرْفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَوْقَ بِمَعْنَى دُونَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ بَيِّنٌ وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّبْسُ مِنْ قَوْلِهِ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها «1» فِي الْقِلَّةِ وَالصِّغَرِ فَأَشْبَهَ الْمَعْنَى دُونَ انْتَهَى. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ يَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا أَيْ فَاضْرِبُوهُمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَوْقَ عَلَى بَابِهَا وَأَرَادَ الرُّؤُوسَ إِذْ هِيَ فَوْقَ الْأَعْناقِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي ضَرْبَ الْهَامِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَضْرِبُ هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ وَقَالَ آخَرُ: غَشِيتُهُ وَهْوَ فِي جَأْوَاءَ بَاسِلَةٍ ... عَضْبًا أَصَابَ سوء الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَنْبَلُهَا وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَوْقَ الْأَعْناقِ وَصْفَ أَبْلَغِ ضَرَبَاتِ الْعُنُقِ وَأَحْكَمِهَا وَهِيَ الضَّرْبَةُ الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ عَظْمِ الْعُنُقِ وَدُونَ عَظْمِ الرَّأْسِ فِي الْمَفْصِلِ، وَيُنْظَرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ الْجَشَمِيِّ لِابْنِ الدَّغِنَةِ السُّلَمِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ خُذْ سَيْفِي وَارْفَعْ عَنِ الْعَظْمِ وَاخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ فَهَكَذَا كُنْتُ أَضْرِبُ أَعْنَاقَ الْأَبْطَالِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: جعل السَّيْفَ بَيْنَ الْجِيدِ مِنْهُ ... وَبَيْنَ أَسِيلِ خَدَّيْهِ عِذَارًا فَيَجِيءُ عَلَى هَذَا فَوْقَ الْأَعْناقِ مُتَمَكِّنًا انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَحَسَنٌ وَيَكُونُ مَفْعُولُ فَاضْرِبُوا مَحْذُوفًا وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ فَوْقَ هُوَ الْمَضْرُوبُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فَوْقَ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا لَا تَكُونُ مُبْتَدَأَةً وَلَا مَفْعُولًا بِهَا وَلَا مُضَافًا إِلَيْهَا إِنَّمَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِحَرْفِ جَرٍّ كَقَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ «2» هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي فَوْقَ وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ فِي الْآيَةِ مَفْعُولًا بِهِ وَأَجَازَ فِيهَا التَّصَرُّفَ قَالَ: تَقُولُ فَوْقُكَ رَأَسُكَ بِالرَّفْعِ وَفَوْقَكَ قَلَنْسُوَتُكَ بِالنَّصْبِ وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: فَوْقَ الْأَعْناقِ أَرَادَ أَعَالِيَ الْأَعْنَاقِ الَّتِي هِيَ الْمَذَابِحُ لِأَنَّهَا مَفَاصِلُ فَكَانَ إِيقَاعُ الضَّرْبِ فِيهَا جَزًّا وَتَطْيِيرًا لِلرَّأْسِ انْتَهَى، وَالْبَنَانُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ الْبَنَانُ هِيَ الْمَفَاصِلُ حَيْثُ كَانَتْ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ الْبَنَانُ الْأَصَابِعُ من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 26. (2) سورة الزمر: 39/ 16.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 إلى 14]

الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَقِيلَ الْأَصَابِعُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا الْأَصَابِعُ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ الْعَبْسِيُّ: وَكَانَ فَتَى الْهَيْجَاءِ يَحْمِي ذِمَارَهَا ... وَيَضْرِبُ عِنْدَ الْكَرْبِ كُلَّ بَنَانِ وَقَالَ أَيْضًا: وَأَنَّ الْمَوْتَ طَرْحُ يَدِي إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهِنْدُوَانِي وَضَرْبُ الْكُفَّارِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَبْلَغَ الْمَوَاضِعِ وَأَثْبَتَ مَا يَكُونُ الْمَقَاتِلُ لِأَنَّهُ إِذَا عُمِدَ إِلَى الرَّأْسِ أَوِ الْأَطْرَافِ كَانَ ثَابِتَ الْجَأْشِ مُتَبَصِّرًا فِيمَا يَضَعُ فِيهِ آلَةَ قِتَالِهِ مِنْ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ اللِّقَاءُ إِذْ ضَرْبُ الرَّأْسِ فِيهِ أَشْغَلُ شَاغِلٍ عَنِ الْقِتَالِ وَكَثِيرًا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَوْتِ وَضَرْبُ الْبَنَانِ فِيهِ تَعْطِيلُ الْقِتَالِ مِنَ الْمَضْرُوبِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَّمَهُمْ مَوَاضِعَ الضرب فقال: اضربوا الرؤوس وَالْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاضْرِبُوا الْأَعَالِيَ إِنْ تَمَكَّنْتُمْ مِنَ الضَّرْبِ فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا فَاضْرِبُوهُمْ فِي أَوْسَاطِهِمْ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا فَاضْرِبُوهُمْ فِي أَسَافِلِهِمْ فَإِنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَعَالِي يُسْرِعُ بِهِمْ إِلَى الْمَوْتِ وَالضَّرْبَ فِي الْأَوْسَاطِ يُسْرِعُ بِهِمْ إِلَى عَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَالضَّرْبَ في الأسافل يمنعم مِنَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا إِهْلَاكُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِمَّا الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمُ انْتَهَى، وَفِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ هَذَا تَحْمِيلُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمَعْنَى فَاضْرِبُوا الْمَقَاتِلَ وَالشَّوَى لِأَنَّ الضَّرْبَ إِمَّا وَاقِعٌ عَلَى مَقْتَلٍ أَوْ غَيْرِ مَقْتَلٍ فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَجْمَعُوا عَلَيْهِمُ النَّوْعَيْنِ مَعًا انتهى. [سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَالْكَافُ لِخِطَابِ الرَّسُولِ أَوْ لِخِطَابِ كُلِّ سَامِعٍ أَوْ لِخِطَابِ الْكُفَّارِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ ولِكَ مبتدأ وأَنَّهُمْ هُوَ الْخَبَرُ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمُشَاقَّةِ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ «1» وَالْمُشَاقَّةُ هُنَا مُفَاعَلَةٌ فَكَأَنَّهُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 137.

تَعَالَى لَمَّا شَرَعَ شَرْعًا وَأَمَرَ بِأَوَامِرَ وَكَذَّبُوا بِهَا وَصَدُّوا تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمْ وَانْفَصَلَ وَانْشَقَّ وَعَبَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ شَاقُّوا اللَّهَ أَيْ صَارُوا فِي شَقٍّ غير شقّه. مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أَجْمَعُوا على الفكّ في شاقِقِ اتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالْإِدْغَامُ لُغَةِ تَمِيمٍ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ «1» ، وَقِيلَ فِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ شَاقُّوا أَوْلِيَاءَ الله ونْ شرطية والجواب إِنَ وَمَا بَعْدَهَا وَالْعَائِدُ عَلَى نْ محذوف أي دِيدُ الْعِقابِ لَهُ وَتَضَمَّنَ وَعِيدًا وَتَهْدِيدًا وَبَدَأَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ. ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ جَمَعَ بَيْنَ الْعَذَابَيْنِ عَذَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْمُعَجَّلُ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُؤَجَّلُ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكُمْ إِلَى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْخِطَابُ لِلْمُشَاقِّينَ وَلَمَّا كَانَ عَذَابُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ يَسِيرًا سَمَّى مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ ذَوْقًا لِأَنَّ الذَّوْقَ يُعْرَفُ بِهِ الطَّعْمُ وَهُوَ يَسِيرٌ لِيُعْرَفَ بِهِ حَالُ الطَّعْمِ الْكَثِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ «2» فَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا كَالذَّوْقِ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ وذلِكُمْ مَرْفُوعٌ إِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ ذَلِكُمُ الْعِقَابُ أَوْ عَلَى الْخَبَرِ وَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْعِقَابُ ذَلِكُمْ وَهُمَا تَقْدِيرَانِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ ذَلِكُمُ الضَّرْبُ وَالْقَتْلُ وَمَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ الْأَمْرُ ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ انتهى. وهذا تقرير الزَّجَّاجِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى عَلَيْكُمْ ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ انْتَهَى، وَلَا يَجُوزُ هَذَا التَّقْدِيرُ لِأَنَّ عَلَيْكُمْ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَأَسْمَاءُ الْأَفْعَالِ لَا تُضْمَرُ وَتَشْبِيهُهُ لَهُ بِقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ بِعَلَيْكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ وَإِنَّمَا هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً أَوْ فَذُوقُوهُ خَبَرًا لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَكُونُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ اسْمًا مَوْصُولًا أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً نَحْوُ الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وَكُلُّ رَجُلٍ فِي الدَّارِ فَمُكْرَمٌ انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ وَمَسْأَلَةُ الِاشْتِغَالِ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ جواز أن يكون لِكَ يَصِحُّ فِيهِ الِابْتِدَاءُ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ وَزَيْدٌ فَاضْرِبْهُ لَيْسَتِ الْفَاءُ هنا

_ (1) سورة الحشر: 59/ 4. (2) سورة الواقعة: 56/ 53.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 38]

كَالْفَاءِ فِي الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ دَخَلَتْ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ وَالْفَاءُ فِي زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ هِيَ جَوَابٌ لِأَمْرٍ مُقَدَّرٍ وَمُؤَخَّرَةٌ مِنْ تَقْدِيمٍ وَالتَّقْدِيرُ تنبه فزيدا ضربه وَقَالَتِ الْعَرَبُ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ وَقَدَّرَهُ النُّحَاةُ تَنَبَّهَ فَاضْرِبْ زَيْدًا وَابْتَنَى الِاشْتِغَالُ فِي زَيْدًا فَاضْرِبْهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ بَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَاءَيْنِ وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَجُزْ زَيْدًا فَاضْرِبْ بَلْ كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ زَيْدًا اضْرِبْ كَمَا هُوَ إِذَا لَمْ يُقَدَّرْ هُنَاكَ أَمْرٌ بِالتَّنْبِيهِ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطَفَ عَلَى ذلِكُمْ فِي وَجْهَيْهِ أَوْ نُصِبَ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى مَعَ ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ الْعَاجِلَ مَعَ الْآجِلِ الَّذِي لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ أَيْ مَكَانَ وَإِنَّ لَكُمْ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ وَحَتْمٌ أَنَّ فَتَقْدِيرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ يَكُونُ خَبَرَهُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ التَّقْدِيرُ الْأَمْرُ ذلِكُمْ وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ وَاعْلَمُوا أَنَّ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَإِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْأَخْبَارِ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)

قَالَ اللَّيْثُ: الْجَمَاعَةُ يَمْشُونَ إِلَى عَدُوِّهِمْ هُوَ الزَّحْفُ. قَالَ الْأَعْشَى: لِمَنِ الظَّعَائِنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... مِنْكَ السَّفِينُ إِذَا تَقَاعَسَ تَجْرُفُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الزَّحْفُ الدُّنُوُّ قَلِيلًا يُقَالُ زَحَفَ إِلَيْهِ يَزْحَفُ زَحْفًا إِذَا مَشَى، وَأَزْحَفْتُ الْقَوْمَ دَنَوْتَ لِقِتَالِهِمْ وَكَذَلِكَ تَزَحَّفَ وَتَزَاحَفَ وَأَزْحِفْ لَنَا عَدُوَّنَا إِزْحَافًا صَارُوا يَزْحَفُونَ لِقِتَالِنَا فَازْدَحَفَ الْقَوْمُ ازْدِحَافًا مَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ وَمِنْهُ الزِّحَافُ فِي الشِّعْرِ وَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ مِنَ الْحَرْفَيْنِ حَرْفٌ وَيَزْحَفَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَسُمِّيَ الْجَيْشُ الْعَرَمْرَمُ بِالزَّحْفِ لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ إِلَيَّ يَدِبُّ دَبِيبًا مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا دَبَّ عَلَى أَلْيَتِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ زَحَفَ وَقَدْ جَمَعَ أَزْحَفُ عَلَى زُحُوفٍ. وَقَالَ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ مَنْهَلًا: كَأَنَّ مَزَاحِفَ الْحَيَّاتِ فِيهِ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ الْمُتَحَيِّزُ الْمُنْضَمُّ إِلَى جَانِبٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: التَّحَيُّزُ وَالتَّحَوُّزُ التَّنَحِّي، وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا لك متحوز إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَوْزِ وهو الجمع يقال خرته فِي الطَّرْسِ فَانْحَازَ وَتَحَيَّزَ انْضَمَّ وَاجْتَمَعَ وَتَحَوَّزَتِ الْحَيَّةُ انْطَوَتْ وَاجْتَمَعَتْ وَسَمَّى التَّنَحِّيَ تَحَيُّزًا لِأَنَّ الْمُتَنَحِّيَ عَنْ جَانِبٍ يَنْضَمُّ عَنْهُ وَيَجْتَمِعُ إِلَى غَيْرِهِ وَتَحَيَّزَ تَفَيْعَلَ أَصْلُهُ تَحَيْوَزَ اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الْيَاءُ وَتَحَوَّزَ تَفَعَّلَ ضُعِّفَتْ عَيْنُهُ. الرَّمْيُ مَعْرُوفٌ وَيَكُونُ بِالسَّهْمِ وَالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ. الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ: وَخَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَنْدَلًا ... تمسكوا فَرِيصَتُهُ كَشَدْقِ الْأَعْلَمِ أَيْ تُصَوِّتُ وَمِنْهُ مَكَّتِ اسْتُ الدَّابَّةِ إِذَا نَفَخَتْ بِالرِّيحِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ عَلَى لَحْنِ طَائِرٍ أَبْيَضَ بِالْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ الْمَكَّاءُ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا غَرَّدَ الْمَكَّاءُ فِي غَيْرِ رَوْضَةٍ ... فَوَيْلٌ لِأَهْلِ السِّقَاءِ وَالْحَمِرَاتِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: مَكَا يَمْكُو مُكَاءً إِذَا صَفَّرَ وَالْكَثِيرُ فِي الْأَصْوَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى فِعَالٍ كَالصُّرَاخِ وَالْخُوَارِ وَالدُّعَاءِ وَالنُّبَاحِ. التَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ صَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَةً صَفَّقَ وَهُوَ فِعْلٌ مِنَ الصَّدَى وَهُوَ الصَّوْتُ الرَّكْمُ. قَالَ اللَّيْثُ: جَمَعَكَ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ حَتَّى تَجْعَلَهُ رُكَامًا مَرْكُومًا كَرُكَامِ الرَّمْلِ وَالسَّحَابِ. مَضَى تَقَدَّمَ وَالْمَصْدَرُ الْمُضِيُّ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُلْقِي الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَأَمَرَ مَنْ آمَنَ بِضَرْبٍ فَوْقَ أَعْنَاقِهِمْ وَبَنَانَهُمْ حَرَّضَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ وَنَهَاهُمْ عَنِ الِانْهِزَامِ وَانْتَصَبَ زَحْفاً عَلَى الْحَالِ، فَقِيلَ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ لَقِيتُمُوهُمْ وَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ فَلَا تَفِرُّوا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُدَانُوهُمْ فِي الْعَدَدِ أَوْ تُسَاوُوهُمْ، وَقِيلَ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ وَأَنْتُمْ زَحْفٌ مِنَ الزُّحُوفِ وَكَانَ ذَلِكَ إِشْعَارًا بِمَا سَيَكُونُ مِنْهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ انْهَزَمُوا وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الْفِرَارِ يَوْمَئِذٍ، وَقِيلَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَيْ مُتَزَاحِفِينَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْهُمَا قَالَ زَحْفاً يُرَادُ بِهِ مُتَقَابِلِي الصُّفُوفِ وَالْأَشْخَاصِ أَيْ يَزْحَفُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ انْتَصَبَ زَحْفاً عَلَى الْمَصْدَرِ بِحَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ زَاحِفِينَ زَحْفًا وَهَذَا الَّذِي قِيلَ مُحْكَمٌ فَحَرُمَ الفرار عند اللقاء بِكُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ كَانَ هذا في الابتداء الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُصَابَرَةِ أَنْ يُوَاقِفَ مُسْلِمٌ عَشَرَةَ كُفَّارٍ ثُمَّ خُفِّفَ فَجُعِلَ وَاحِدٌ فِي مُقَابَلَةِ اثْنَيْنِ وَيَأْتِي حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ الْفَارَّةِ مِنْ ضَعْفِهَا فِي آيَةِ التَّخْفِيفِ وَعَدَلَ عَنِ الظُّهُورِ إِلَى لَفْظِ الْأَدْبارَ تَقْبِيحًا لِفِعْلِ الْفَارِّ وَتَبْشِيعًا لِانْهِزَامِهِ وَتَضَمَّنَ هَذَا النَّهْيُ الْأَمْرَ بِالثَّبَاتِ وَالْمُصَابَرَةِ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ لَمَّا نَهَى تَعَالَى عَنْ تَوَلِّي الْأَدْبَارِ تَوَعَّدَ مَنْ وَلَّى دُبُرَهُ وَقْتَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَنَاسَبَ قَوْلَهُ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ كَأَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ وَلَّى مَصْحُوبًا بِغَضَبِ اللَّهِ وَعَدَلَ أَيْضًا عَنْ ذِكْرِ الظَّهْرِ إِلَى الدُّبُرِ مُبَالَغَةً فِي التَّقْبِيحِ وَالذَّمِّ إِذْ تِلْكَ الْحَالَةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ جِدًّا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَجْرِي كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدِّمَا قَالَ فِي التَّحْرِيرِ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ يُسَمَّى بِالتَّعْرِيضِ عَرَّضَ بِسُوءِ حَالِهِمْ وَقُبْحِ فِعَالِهِمْ وَخَسَاسَةِ مَنْزِلَتِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْإِيمَاءَ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْكِنَايَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تُصَرِّحَ بِاللَّفْظِ الْجَمِيلِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَبِيحِ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَحْذُوفَةَ بَعْدَ إِذْ وَعُوِّضَ مِنْهَا التَّنْوِينُ هِيَ قَوْلُهُ إِذْ لَقِيتُمُ الْكُفَّارَ تَعْقِيلُ الْمُرَادِ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا وَلِيَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَعَ الْوَعِيدُ بِالْغَضَبِ عَلَى مَنْ فَرَّ وَنُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُ الْآيَةِ بِآيَةِ الضَّعْفِ وَبَقِيَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ لَيْسَ كَبِيرَةً وَقَدْ فَرَّ النَّاسُ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ «1» وَلَمْ يَقَعْ عَلَى ذَلِكَ تَعْنِيفٌ انْتَهَى، وَهَذَا الْقَوْلُ بأن

_ (1) سورة التوبة: 9/ 25. [.....]

الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ لَا يَظْهَرُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ فَيَوْمُ بَدْرٍ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ لِقَاءِ الْكُفَّارِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ خَاصًّا بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَهُ فَلَا يَدْخُلُ يَوْمُ بَدْرٍ فِيهِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ اللِّقَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ إِذا لَقِيتُمُ وَحُكْمُ الْآيَةِ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ الضَّعْفِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَإِنَّمَا فَرَّ النَّاسُ مِنْ مَرَاكِزِهِمْ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ عُنِّفُوا لِكَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ وَفِرَارُهُمْ عَنْهُ، وَأَمَّا يَوْمُ حُنَيْنَ فَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ إِنَّمَا انْكَشَفَ أَمَامَ الْكَرَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ عَنْ مَنْ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ عَفْوًا عَنْ كَثْرَةٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ دُبُرَهُ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَانْتَصَبَ مُتَحَرِّفاً ومُتَحَيِّزاً عَنِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي قَوْلِهِمُ الْعَائِدِ عَلَى مَنْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِلَّا لَغْوٌ أَوْ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُوَلِّينَ أَيْ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ إِلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ مُتَحَرِّفاً أَوْ مُتَحَيِّزاً انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مِنَ الْمُوَلِّينَ الَّذِينَ يَتَضَمَّنُهُمْ مَنْ انْتَهَى وَلَا يُرِيدُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا لَغْوٌ أَنَّهَا زَائِدَةٌ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي هُوَ يُوَلِّهِمْ وَصَلَ إِلَى الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا كَمَا قَالُوا فِي لَا مِنْ قَوْلِهِمْ جِئْتُ بِلَا زَادٍ إِنَّهَا لَغْوٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حَالَةٍ مَحْذُوفَةٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ مُلْتَبِسًا بِأَيَّةِ حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالِ كَذَا وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ حَالُ غَايَةٍ مَحْذُوفَةٍ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ إِلَّا لِأَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ وَحُكْمُ الْوَاجِبِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا فِيهِ لَا فِي الْمَفْعُولِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الفصلات لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ لَا يَكُونُ فِي الْوَاجِبِ لَوْ قُلْتَ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا وَقُمْتُ إِلَّا ضَاحِكًا لَمْ يَصِحَّ وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ الْمُؤَوَّلِ بِهِمَا فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ قُدِّرَ عُمُومٌ قَبْلَ إِلَّا حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً غَيْرَ مُفَرَّغٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوَلِّي وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا تَحَرُّفًا أَوْ تَحَيُّزًا وَالتَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ هُوَ الْكَرُّ بَعْدَ الْفَرِّ يُخَيِّلُ عَدُوَّهُ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ ثُمَّ يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَيْنُ بَابِ خِدَعِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِهَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ يُرَادُ بِهِ الَّذِي يَرَى أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ أَنَكَى لِلْعَدُوِّ وَأَعْوَدُ عَلَيْهِ بِالشَّرِّ، وَالْفِئَةُ هُنَا قَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْحَاضِرَةُ لِلْحَرْبِ فَاقْتَضَى هَذَا الْإِطْرَاقُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ لِكَوْنِهِ يَرَى أَنَّهُ يُنْكِي فِيهَا الْعَدُوَّ وَيُبْلِي أَكْثَرَ مِنْ إِبْلَائِهِ فِيمَا قَابَلَهُ مِنَ الْكُفَّارِ إِمَّا لِعَدَمِ مُقَاوَمَتِهِ أَوْ لِكَوْنِ غَيْرِهِ يُعْنَى فِيمَنْ قاتله منهم فيتحيّز إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى مِنَ الْكُفَّارِ لِيُبْلِيَ فِيهَا وَاقْتَضَى أَيْضًا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ تَحَيَّزَ إِلَيْهَا لِيَنْصُرَهَا وَيُقَوِّيَهَا

إِذَا رَأَى فِيهَا ضَعْفًا وَأَغْنَى غَيْرَهُ فِي قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ مِنَ الْكُفَّارِ وَبِهَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ إِلى فِئَةٍ جَمَاعَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى الْفِئَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقِيلَ الْفِئَةُ هُنَا الْمَدِينَةُ وَالْإِمَامُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ: انْهَزَمَ رَجُلٌ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَتَى الْمَدِينَةَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكْتُ فَرَرْتُ مِنَ الزَّحْفِ، فَقَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا فِئَتُكَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ وَأَنَا فِيهِمْ فَفَرُّوا فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ اسْتَحْيَوْا فَدَخَلُوا الْبُيُوتَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ. قَالَ ثَعْلَبٌ الْعَكَّارُونَ الْعَطَّافُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يُوَلِّي عَنِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا عَكَّرَ وَاعْتَكَرَ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَعَدَّ فِيهَا الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَفِي التَّحْرِيرِ التَّوَلِّي الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ هُوَ الْفِرَارُ مَعَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الثَّبَاتِ فَأَمَّا إِذَا جَاءَهُ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الثَّبَاتَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْفِرَارِ انْتَهَى. وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَعْذَرَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إِذْ فَرَّ فَقِيلَ فِيهِ: تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ ... وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ وَقَالَ الْحَارِثُ مِنْ أَبْيَاتٍ: وَعَلِمْتُ أَنِّيَ إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا ... أُقْتَلْ وَلَمْ يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدِي وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ انْهَزَمَ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اسْتَوْجَبَ غَضَبَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ. قَالَ: وَلَيْسَ لِلْمُرْجِئَةِ أَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا فَعَلُوا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفْتَتَحٌ بِأَهْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْتَهَى، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَيُّزُ سَوَاءٌ عَظُمَ الْعَسْكَرُ أَمْ لَا، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إِذَا عَظُمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ بِغَيْرِ شُرُوطِهِ كَبِيرَةٌ لِلتَّوَعُّدِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَةَ مَنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ فَرَّ أَمَامَهُمْ وَمَنْ فَرَّ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ فَفِي التِّرْمِذِيِّ: مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمَّا رَجَعَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَدْرٍ ذَكَرُوا مَفَاخِرَهُمْ فَيَقُولُ الْقَائِلُ

قَتَلْتُ وَأَسَرْتُ فَنَزَلَتْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إِنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَأَنْتُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ وَأَلْقَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ وَشَاءَ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ وَقَوَّى قُلُوبَكُمْ وَأَذْهَبَ عَنْهَا الْفَزَعَ وَالْجَزَعَ انْتَهَى، وَلَيْسَتِ الْفَاءُ جَوَابَ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ كَمَا زَعَمَ وَإِنَّمَا هِيَ لِلرَّبْطِ بَيْنَ الْجُمَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ كَانَ امْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ بابا لِلْقَتْلِ فَقِيلَ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَيْ لَسْتُمْ مُسْتَبِدِّينَ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ الْأَقْدَارَ عَلَيْهِ وَالْخَالِقَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ فِيهَا شَيْءٌ لَكِنَّهُ أَجْرَى عَلَى يَدِهِ فَنُفِيَ عَنْهُمْ إِيجَادُ الْقَتْلِ وَأُثْبِتَ لِلَّهِ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَلْقٌ لَهُمْ، وَمَجِيءُ لكِنَّ هُنَا أَحْسَنُ مَجِيءٍ لِكَوْنِهَا بَيْنَ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ فَالْمُثْبَتُ لِلَّهِ هُوَ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْقَتْلِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ أَوَّلَ الْكَلَامَ عَلَى مَعْنَى فَلَمْ يَتَسَبَّبُوا لِقَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَعَطَفَ الْجُمْلَةَ الْمَنْفِيَّةَ بِمَا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ بِلَمْ لِأَنَّ لَمْ نَفْيٌ لِلْمَاضِي وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ لِنَفْيِ الْمَاضِي طَرِيقَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدَخُلَ مَا عَلَى لَفْظِهِ وَالْأُخْرَى أَنْ تَنْفِيَهُ بِلَمْ فَتَأْتِيَ بِالْمُضَارِعِ وَالْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ النَّفْيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حَسَبِ الْإِيجَابِ وَفِي الْجُمْلَةِ مُبَالَغَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ النَّفْيَ جَاءَ عَلَى حَسَبِ الْإِيجَابِ لَفْظًا. الثَّانِي أَنْ نَفَى مَا صَرَّحَ بِإِثْبَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بِقَوْلِهِ إِذْ قَتَلْتُمُوهُمْ وَإِنَّمَا بُولِغَ فِي هَذَا لِأَنَّ الرَّمْيَ كَانَ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ مُعْجِزًا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُسِّرَ الرَّمْيُ لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبَضَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» أَيْ قُبِّحَتْ فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَفِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَصَاةٍ وَقَعَتْ فِي طَسْتٍ فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الرَّمْيَةَ فَانْهَزَمُوا ، وَقَالَ أَنَسٌ: رَمَى ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَاحِدَةً فِي مَيْمَنَةِ الْقَوْمِ وَوَاحِدَةً فِي مَيْسَرَتِهِمْ وَثَالِثَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَانْهَزَمُوا. وَقِيلَ الرَّمْيُ هُنَا رَمْيُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَرْبَةٍ عَلَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ أحد، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ بَدْرٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً مِمَّا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا وَذَلِكَ بِعِيدٌ، وَقِيلَ الْمُرَادُ السَّهْمُ الَّذِي رَمَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِصْنِ خَيْبَرَ فسار في الهوى حَتَّى أَصَابَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ وَهَذَا فَاسِدٌ وَالصَّحِيحُ فِي صُورَةِ قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ غَيْرُ هَذَا وَقَوْلُهُ وَما رَمَيْتَ نَفْيٌ وإِذْ رَمَيْتَ إِثْبَاتٌ فَاحْتِيجَ إِلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنْ

يُغَايِرَ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ فَالْمَنْفِيُّ الْإِصَابَةُ وَالظَّفَرُ وَالْمُثْبَتُ الْإِرْسَالُ، وَقِيلَ الْمَنْفِيُّ إِزْهَاقُ الرُّوحِ وَالْمُثْبَتُ أَثَرُ الرَّمْيِ وَهُوَ الْجَرْحُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ مَا اسْتَبْدَدْتَ بِالرَّمْيِ إِذْ أَرْسَلْتَ التُّرَابَ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَادَ بِهِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَإِرْسَالُ التُّرَابِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ كَسْبًا كَانَ الْمَعْنَى، وَما رَمَيْتَ الرَّمْيَ الْكَافِيَ إِذْ رَمَيْتَ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأُ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أَمْنَعِ أَيْ لَمْ أُعْطَ شَيْئًا مَرْضِيًّا. وَقِيلَ مُتَعَلِّقُ الْمَنْفِيِّ الرُّعْبُ ومتعلق المنبت الْحَصَيَاتُ أَيْ وَمَا رَمَيْتَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ الْحَصَيَاتِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّ الرَّمْيَةَ الَّتِي رَمَيْتَهَا لَمْ تَرْمِهَا أَنْتَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّكَ لَوْ رَمَيْتَهَا لَمَا بَلَغَ أَثَرُهَا إِلَّا مَا يَبْلُغُهُ رَمْيُ الْبَشَرِ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ رَمْيَةَ اللَّهِ حَيْثُ أَثَّرَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الْعَظِيمَ فَأَثْبَتَ الرَّمْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ صُورَةَ الرَّمْيِ وُجِدَتْ مِنْهُ وَنَفَاهَا عَنْهُ لِأَنَّ أَثَرَهَا الَّذِي لَا يُطِيقُهُ الْبَشَرُ فِعْلُ اللَّهِ فَكَانَ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ فَاعِلُ الرَّمْيِ حَقِيقَةً وَكَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ مِنَ الرَّسُولِ أَصْلًا انْتَهَى، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلَيْنِ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْفَرَّاءِ فِي لكِنَّ وَمَا بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً. قَالَ السُّدِّيُّ يَنْصُرُهُمْ وَيُنْعِمُ عَلَيْهِمْ يُقَالُ أَبْلَاهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَبَلَاهُ إِذَا امْتَحَنَهُ وَالْبَلَاءُ يُسْتَعْمَلُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَوَصْفُهُ بِحَسَنٍ يَدُلُّ عَلَى النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِيُعْطِيَهُمْ عَطَاءً جَمِيلًا كَمَا قَالَ، فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو. انْتَهَى، وَالْبَلَاءُ الْحَسَنُ قِيلَ بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَقِيلَ بِالشَّهَادَةِ لِمَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمِهْجَعٌ مولى عمر ومعاذ وعمر وابنا عَفْرَاءَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ الْبَلَاءِ هُنَا عَلَى النِّعْمَةِ لَكَانَ يَحْتَمِلُ الْمِحْنَةَ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجِهَادِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ السَّبَبَ فِي حُصُولِ تَكْلِيفٍ شَاقٍّ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْغَزَوَاتِ انْتَهَى. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَنْفِي أَنْ يُرَادَ بِالْبَلَاءِ الْمِحْنَةُ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ قَتْلَ الْكُفَّارِ وَرَمْيِهِمْ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَزِيمَتِهِمْ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَجَعْلِهِمْ نُهْبَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا لَيْسَ مِحْنَةً بَلْ مِنْحَةٌ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمَّا كَانُوا قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى الْمَفَاخِرِ بِقَتْلِ مَنْ قَتَلُوا وَأَسْرِ مَنْ أَسَرُوا وكان رُبَّمَا قَدْ لَا يَخْلُصُ الْعَمَلُ مِنْ بَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ إِمَّا لِقِتَالِ حَمِيَّةٍ وَإِمَّا لِدَفْعٍ عَنْ نَفْسٍ أَوْ ما خُتِمَتُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فَقِيلَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لِكَلَامِكُمْ وَمَا تَفْخَرُونَ بِهِ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ وَمَنْ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ قَالَ: ذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ

وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ مَعْطُوفٌ عَلَى وَلِيُبْلِيَ يَعْنِي أَنَّ الْغَرَضَ إِبْلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَوْهِينُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَتْلِ اللَّهِ وَرَمْيِهِ إِيَّاهُمْ وَمَوْضِعُ ذَلِكَ مِنَ الْإِعْرَابِ رَفْعٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ: التَّقْدِيرُ الْأَمْرُ ذلِكُمْ، وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَنَّ مَعْطُوفٌ عَلَى ذلِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ وَحَتْمٌ وَسَابِقٌ وَثَابِتٌ وَنَحْوُ هَذَا انْتَهَى، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ ذلِكُمْ رفع بالابتداء والخبر محذوف وَالتَّقْدِيرُ ذَلِكُمُ الْأَمْرُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمُ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ الِابْتِدَاءُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نصب تَقْدِيرُهُ فَعَلْنَا ذَلِكُمْ وَالْإِشَارَةُ إلى القتل أو إلى إِبْلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا وَفِي فَتْحِ أَنَّ وَجْهَانِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى ذلِكُمْ عَلَى حَسَبِ التَّقْدِيرَيْنِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ انْتَهَى، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو مُوهِنُ مِنْ وَهَّنَ وَالتَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ فِيمَا عَيْنُهُ حَرْفُ حَلْقٍ غَيْرُ الْهَمْزَةِ قَلِيلٌ نَحْوُ ضَعَّفْتُ وَوَهَّنْتُ وَبَابُهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ نَحْوَ أَذْهَلْتُهُ وَأَوْهَنْتُهُ وَأَلْحَمْتُهُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مِنْ أَوْهَنَ وَأَضَافَهُ حَفْصٌ. إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَسَبَقَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَبِقَوْلِهِ ذلِكُمْ فَحَمَلَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إِذْ لَا يَلِيقُ هَذَا الْخِطَابُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِرَادَةِ النَّصْرِ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْبَيَانِ وَالْحُكْمِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلْتُمُوهُ فِي الْغَنَائِمِ وَالْأَسْرَى قَبْلَ الْإِذْنِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ نَعُدْ إِلَى تَوْبِيخِكُمْ كَمَا قَالَ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ «1» الْآيَةَ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْفِئَةَ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ لَا تُغْنِي وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا بِنَصْرِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ ثُمَّ آنَسَهُمْ بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ هِيَ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَقْرَانَا لِلضَّيْفِ وَأَوْصَلَنَا لِلرَّحِمِ وَأَفَكَّنَا لِلْعَانِي إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى حَقٍّ فَانْصُرْهُ وَإِنْ كُنَّا عَلَى حَقٍّ فَانْصُرْنَا، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأَهْدَى الْفِئَتَيْنِ وَأَكْرَمَ الْحِزْبَيْنِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ صَبِيحَةَ يَوْمِ بدر:

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 68.

اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَهْجَرَ وَأَقْطَعَ لِلرَّحِمِ فَاحْنِهِ الْيَوْمَ أَيْ فَأَهْلِكْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ دعاء شِبْهَ هَذَا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ قُرَيْشٍ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ لِنُصْرَةِ الْعِيرِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» الْآيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَقَدْ جاءَكُمُ مَا بَانَ لَكُمْ بِهِ الْأَمْرُ وَاسْتَقَرَّ بِهِ الْحُكْمُ وَانْكَشَفَ لَكُمُ الْحَقُّ بِهِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْتَاحُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقِتَالِ مُحَمَّدٍ بَعْدُ نَعُدْ إِلَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَخِذْلَانِكُمْ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ تَنْتَهُوا خِطَابٌ لِلْكَافِرِينَ أَيْ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا لِمُحَارَبَتِهِ نَعُدْ لِنُصْرَتِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ أَمْرِ الْأَنْفَالِ وَفِدَاءِ الْأَسْرَى بِبَدْرٍ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ نَعُدْ إلى الإنكار وقرىء: وَلَنْ يُغْنِيَ بِالْيَاءِ لِأَنَّ التأنيث مجاز وحسنه الفصل، وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ وَحَفْصٌ: وَأَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَاللَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَنْتَهُوا وَكَانَ الضَّمِيرُ ظَاهِرُهُ الْعَوْدُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نَادَاهُمْ وَحَرَّكَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نِدَاءٌ وَخِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ حَثَّهُمْ بِالْأَمْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ قَبْلَهَا مَسُوقَةً فِي أَمْرِ الْجِهَادِ. قِيلَ مَعْنَى أَطِيعُوهُ فِيمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَقِيلَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَفْرَدَهُمْ بِالْأَمْرِ رَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مَأْمُورًا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ تَنْتَهُوا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فَيَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّفْلِ وَمُجَادَلَتِهِمْ فِي الْحَقِّ وَتَفَاخُرِهِمْ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَالنِّكَايَةِ فِيهِمْ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ وَخِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ لِأَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَلَيْسَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ التَّصْدِيقِ فِي شَيْءٍ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ وَخِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ أَيْضًا يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْآيَاتِ وَأَصْلُ وَلا تَوَلَّوْا وَلَا تَتَوَلَّوْا، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي حَرْفِ التَّاءِ فِي نَحْوِ هَذَا أَهِيَ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ أَمْ تَاءُ تَفْعَلُ وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمَعْنَى وأطيعوا

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 32.

رَسُولَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» وَلِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَطَاعَةَ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ فَكَانَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى أَحَدِهِمَا كَرُجُوعِهِ إِلَيْهِمَا كَقَوْلِكَ الْإِحْسَانُ وَالْإِجْمَالُ لَا يَنْفَعُ فِي فُلَانٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَلا تَوَلَّوْا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَامْتِثَالِهِ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَهُ أَوْ وَلَا تَتَوَلَّوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا تُخَالِفُوهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أَيْ تُصَدِّقُونَ لِأَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ لَسْتُمْ كَالصُّمِّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْكَفَرَةِ انْتَهَى، وَإِنَّمَا عَادَ عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الرَّسُولِ بِأَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّوَلِّي حَقِيقَةً وَإِذَا عَادَ عَلَى الْأَمْرِ كَانَ مَجَازًا، وَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَا مَعْنَاهُ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُطْلَقْ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي ضَمِيرِهَا بِخِلَافِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى لَفْظِهِ تَعْظِيمًا فَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي ضَمِيرِهِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا إِذا دَعاكُمْ وَمِنْهَا أَنْ يُرْضُوهُ فَفِي الْحَدِيثِ ذَمُّ مَنْ جَمَعَ فِي التَّثْنِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الضَّمِيرِ وَتَعْلِيمُهُ أَنْ يَقُولَ: وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ لَا يُنَاسِبُ سَمَاعُكُمُ التَّوَلِّيَ وَلَا يُجَامِعُهُ وَفِي مُتَعَلِّقِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا وَعْظُ اللَّهِ لَكُمْ، الثَّانِي: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، الثَّالِثُ: التَّعْبِيرُ بِالسَّمَاعِ عَنِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، الرَّابِعُ: التَّعْبِيرُ عَنِ التَّصْدِيقِ وَهُوَ الْإِيمَانُ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ نَهَى عَنْ أَنْ يَكُونُوا كَالَّذِينَ ادَّعَوُا السَّمَاعَ وَالْمُشَبَّهُ بِهِمُ الْيَهُودُ أَوِ الْمُنَافِقُونَ أَوِ الْمُشْرِكُونَ أَوِ الَّذِينَ قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا، أَوْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسُوَيْدُ بْنُ حَرْمَلَةَ أَوِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَمَنْ تَابَعَهُ سِتَّةُ أَقْوَالٍ، وَلَمَّا لَمْ يُجْدِ سَمَاعُهُمْ وَلَا أَثَّرَ فِيهِمْ نَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعَ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ إِذْ ثَمَرَةُ سَمَاعِ الْوَحْيِ تَصْدِيقُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ فَإِذَا صَدَرَ مِنْكُمْ تَوَلٍّ عَنِ الطَّاعَةِ كَانَ تَصْدِيقُكُمْ كَلَا تَصْدِيقٍ فَأَشْبَهَ سَمَاعُكُمْ سَمَاعَ مَنْ لَا يُصَدِّقُ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ النَّافِيَةُ عَلَى غَيْرِ لَفْظِ الْمُثْبَتَةِ إِذْ لَمْ تَأْتِ وَهُمْ مَا سَمِعُوا لِأَنَّ لَفْظَ الْمُضِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْحَالِ وَلَا دَيْمُومَتِهِ بِخِلَافِ نَفْيِ الْمُضَارِعِ فَكَمَا يَدُلُّ إِثْبَاتُهُ عَلَى الدَّيْمُومَةِ فِي قَوْلِهِمْ هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ كَذَلِكَ يَجِيءُ نَفْيُهُ وَجَاءَ حَرْفُ النَّفْيِ لَا لِأَنَّهَا أوسع في نفي الْمُضَارِعِ مِنْ مَا وَأَدَلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السَّمَاعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ هُمْ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَسْمَعَ.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 62.

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشَبَّهَ بِهِمْ لَا يَسْمَعُونَ أَخْبَرَ أَنَّ شَرَّ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَدِبُّ الصُّمُّ أَوْ أَنَّ شَرَّ الْبَهَائِمِ فَجَمَعَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ جَمْعِ الدَّوَابِّ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَرُّ الْحَيَوَانِ مُطْلَقًا وَمَعْنَى الصُّمُّ عَنْ مَا يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ الْبُكْمِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ وَمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ ثُمَّ جَاءَ بِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْمُنْتِجِ لَهُمُ الصَّمَمَ وَالْبَكَمَ النَّاشِئَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ الْعَقْلُ وَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِالصَّمَمِ لِأَنَّهُ ناشىء عَنْهُ الْبَكَمُ إِذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصَمَّ خَلَقَهُ أَبْكَمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتَلَقَّنُهُ وَيَتَعَلَّمُهُ مَنْ كَانَ سَالِمَ حَاسَّةِ السَّمْعِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ «1» إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي هَذَا وَصْفَ الْعَمَى وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ قَبُولِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ لَا نَسْمَعُهُ وَلَا نُجِيبُهُ فَقُتِلُوا جَمِيعًا بِبَدْرٍ وَكَانُوا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِهِمْ وَهُدَاهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَسَبَقَ مِنْ قَضَائِهِ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ ذَلِكَ فِي عِبَارَةٍ بَلِيغَةٍ فِي ذَمِّهِمْ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَالْمُرَادُ لَأَسْمَعَهُمْ إِسْمَاعَ تَفَهُّمٍ وَهُدًى ثُمَّ ابْتَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ الْخَبَرَ عَنْهُمْ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ خَتْمِهِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فَقَالَ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أَيْ وَلَوْ فَهَّمَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ فِيهِمْ وَلَأَعْرَضُوا عَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ الصُّمِّ الْبُكْمِ خَيْرًا أَيِ انْتِفَاعًا بِاللُّطْفِ لَأَسْمَعَهُمُ اللُّطْفَ بِهِمْ حَتَّى سَمِعُوا سَمَاعَ الْمُصَدِّقِينَ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا يَعْنِي وَلَوْ لَطَفَ بِهِمْ لَمَا نَفَعَهُمُ اللُّطْفُ فَلِذَلِكَ مَنَعَهُمْ أَلْطَافَهُ أَيْ وَلَوْ لَطَفَ بِهِمْ فَصَدَّقُوا لَارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَّبُوا وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَأَسْمَعَهُمْ جواب كلما سَأَلُوا، وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَأَسْمَعَهُمْ كَلَامَ الْمَوْتَى الَّذِينَ طَلَبُوا إِحْيَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إِحْيَاءَ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ وَغَيْرِهِ لِيَشْهَدُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: التَّعْبِيرُ عَنْ عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ بِعَدَمِ عِلْمِ اللَّهِ بِوُجُودِهِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ حَصَلَ فِيهِمْ خَيْرٌ لَأَسْمَعَهُمْ اللَّهُ الْحُجَجَ وَالْمَوَاعِظَ سَمَاعَ تَعْلِيمٍ مُفْهِمٍ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَتَوَلَّوْا وَهُمْ معرضون، وقال أيضا:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 171.

مَعْلُومَاتُ اللَّهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: جُمْلَةُ الْمَوْجُودَاتِ، الثَّانِي: جُمْلَةُ الْمَعْدُومَاتِ، الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لَوْ كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ حَالُهُ، الرَّابِعُ: إِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْدُومَاتِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَكَيْفَ حَالُهُ فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ عِلْمٌ بِالْوَاقِعِ وَالْقِسْمَانِ الثَّانِيَانِ عِلْمٌ بِالْمَقْدُورِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فَقَوْلُهُ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَقْدُورَاتِ وَلَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمُنَافِقِينَ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ... وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «1» فَقَالَ تَعَالَى لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ «2» فَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «3» أَخْبَرَ عَنِ الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ انْتَهَى. وَأَقُولُ: ظَاهِرُ هَاتَيْنِ الْمُلَازَمَتَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ إِسْمَاعٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ خَيْرًا فِيهِمْ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ تَوَلِّيهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِسْمَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ فَأَنْتَجَ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ تَوَلِّيهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ تَعَالَى خَيْرًا فِيهِمْ وَذَلِكَ بِحَرْفِ الْوَاسِطَةِ لِأَنَّ الْمُرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَهَذَا لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّوَلِّي عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ فِيهِمْ خَيْرًا وَيَصِيرُ الْكَلَامُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ فِي تَقْدِيرِ كَلَامٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا فَأَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا مَا تَوَلَّوْا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اسْتَجَابَ فِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي دَعاكُمْ كَمَا أَفْرَدَهُ فِي وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالِاسْتِجَابَةُ هُنَا الِامْتِثَالُ وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى التَّحْرِيضِ وَالْبَعْثِ عَلَى مَا فِيهِ حَيَاتُهُمْ وَظَاهِرُ اسْتَجِيبُوا الْوُجُوبُ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأُبَيٍّ حِينَ دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مُتَلَبِّثٌ: «مَا مَنَعَكَ عَنِ الِاسْتِجَابَةِ أَلَمْ تُخْبَرْ فِيمَا أوحي إليّ استجيبوا الله وَلِلرَّسُولِ» ؟ وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ لِما بِقَوْلِهِ دَعاكُمْ وَدَعَا يَتَعَدَّى بِاللَّامِ. قَالَ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا وَقَالَ آخَرُ: وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ من حماتها

_ (1) سورة الحشر: 59/ 11. (2) سورة الحشر: 59/ 12. (3) سورة الأنعام: 6/ 28.

وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى وَيَتَعَلَّقُ بِاسْتَجِيبُوا فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بِإِلَى حَتَّى يَتَغَايَرَ مَدْلُولُ اللَّامِ فَيَتَعَلَّقُ الْحَرْفَانِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَوَامِرَ ونواهي فَفِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالنِّعْمَةُ السرمديّة، وقيل: لِما يُحْيِيكُمْ هُوَ مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهَا لَغَلَبُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ «1» ، وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ لِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «2» قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: لِمَا يُحْيِيكُمْ مِنْ عُلُومِ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةٌ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مَوْتٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حِلْيَتُهُ ... فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ وَهَذَا نَحْوٌ مَنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَمُجَاهِدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: لِما يُحْيِيكُمْ هُوَ الْحَقُّ، وَقِيلَ: هُوَ إِحْيَاءُ أُمُورِهِمْ وَطِيبُ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتُهُمْ، يُقَالُ: حَيِيَتْ حَالُهُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، وَقِيلَ: مَا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ فِي الْجِهَادِ وَيَعِيشُونَ مِنْهَا، وَقِيلَ: الْجُثَّةُ وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ فَالَّذِي يَحْيَا بِهِ مِنَ الْجَهْلِ هُوَ سَمَاعُ مَا يَنْفَعُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَيَمْتَثِلُ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيَجْتَنِبُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فيؤول إِلَى الْحَيَاتَيْنِ الطَّيِّبَتَيْنِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَالْقَادِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِيهِ قَلْبُهُ فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ إِذَا دَعَاهُ إِذْ بِيَدِهِ تَعَالَى مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَزِمَامُهُ وَفِي ذَلِكَ حَضٌّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبِدَارِ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكُفْرِ وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ فَلَا يَدْرِي مَا يَعْمَلُ عُقُوبَةً عَلَى عِنَادِهِ فَفِي التَّنْزِيلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «3» أَيْ عَقْلٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَحُولُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ وَقَلْبِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَتَمَنَّاهُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَوَاهُ وَهَذَانِ رَاجِعَانِ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ أَنْ يَتَوَفَّاهُ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمَلِ قَلْبِهِ وَهَذَا حَثٌّ عَلَى انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ قَبْلَ الْوَفَاةِ الَّتِي هُوَ وَاجِدُهَا وَهِيَ التمكن من إخلاص سلب وَمُخَالَجَةِ أَدْوَائِهِ وَعِلَلِهِ وَرَدِّهِ سَلِيمًا كَمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ فاغتنموا هذه

_ (1) سورة البقرة: 2/ 179. (2) سورة آل عمران: 3/ 169. (3) سورة ق: 5/ 37.

الْفُرْصَةَ وَأَخْلِصُوا قُلُوبَكُمْ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى هُوَ الرُّمَّانِيُّ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَمْلِكُ عَلَى العبد قلبه فيفسخ وَقِيلَ: يُبَدِّلُ الْجُبْنَ جَرَاءَةً وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ بِقَوْلِهِ اسْتَجِيبُوا وَيَكْشِفُ حَقِيقَتَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ وَتَأْوِيلُهُ بَيْنَ أَثَرَيْنِ مِنْ آثَارِ رُبُوبِيَّتِهِ» . وَقِيلَ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَهُمُّ بِهَا قَلْبُهُ بِالْعِصْمَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى كُلِّ مَا يَخْطُرُ الْمَرْءَ بِبَالِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ضَمَائِرِهِ فَكَأَنَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمْلَكُ لِقُلُوبِ الْعِبَادِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا إِذَا شَاءَ حَتَّى لَا يُدْرِكَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بَيْنَ الْمَرْءِ بِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ إِذْ فِي الْمَرْءِ لُغَتَانِ: فَتْحُ الْمِيمِ مُطْلَقًا وَإِتْبَاعُهَا حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: بَيْنَ الْمَرِّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ غير همز وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ شَدَّدَهَا كَمَا تُشَدَّدُ فِي الْوَقْفِ وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ وَكَثِيرًا مَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ تُجْرِي الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْلَمُوا قُدْرَةَ اللَّهِ وَحَيْلُولَتَهُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَمَقَاصِدِ قَلْبِهِ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَحْشُرُهُمْ فَيُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ تِذْكَارٌ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً هَذَا الْخِطَابُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ بِاتِّقَاءِ الْفِتْنَةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِالظَّالِمِ بَلْ تَعُمُّ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ فَفِي الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» ، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ، وَقِيلَ لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَقِيلَ لِعَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ، وَقِيلَ لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُسَمِّهِمَا وَالْفِتْنَةُ هُنَا الْقِتَالُ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ أَوِ الضَّلَالَةُ أَوْ عَدَمُ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ أَوْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ أَوْ بِظُهُورِ الْبِدَعِ أَوِ الْعُقُوبَةُ أَقْوَالٌ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ يَوْمَ الْجَمَلِ: مَا عَلِمْتُ أَنَّا أُرِدْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْيَوْمَ وَمَا

كُنْتُ أَظُنُّهَا إِلَّا فِيمَنْ خُوطِبَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُصِيبَنَّ خَبَرِيَّةٌ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ فِتْنَةً أَيْ غَيْرَ مُصِيبَةٍ الظَّالِمَ خَاصَّةً إِلَّا أَنَّ دُخُولَ نُونِ التَّوْكِيدِ عَلَى الْمَنْفِيِّ بِلَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَالْجُمْهُورُ لَا يُجِيزُونَهُ وَيَحْمِلُونَ مَا جَاءَ مِنْهُ عَلَى الضَّرُورَةِ أَوِ النُّدُورِ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الْجَوَازُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ وَإِذَا كَانَ قَدْ جَاءَ لَحَاقُهَا الْفِعْلَ مَبْنِيًّا بِلَا مَعَ الْفَصْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَلَا ذَا نَعِيمٌ يُتْرَكَنْ لِنَعِيمِهِ ... وَإِنْ قَالَ قَرِّظْنِي وَخُذْ رِشْوَةً أَبَى وَلَا ذَا بَئِيسٌ يُتْرَكَنَّ لِبُؤْسِهِ ... فَيَنْفَعُهُ شَكْوَى إِلَيْهِ إِنِ اشْتَكَى فَلَأَنْ يَلْحَقُهُ مَعَ غَيْرِ الْفَصْلِ أَوْلَى نَحْوُ لَا تُصِيبَنَّ وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ وَهِيَ نَهْيٌ قَالَ وَكَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَهُ صِفَةً عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً مَقُولًا فِيهَا لَا تُصِيبَنَّ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا جنّ الظلام واختلط ... جاؤوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ أَيْ بِمَذْقٍ مَقُولٌ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ فِيهِ لَوْنُ الزُّرْقَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الذِّئْبِ انْتَهَى. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْمُولَةٌ لِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ نَحْوُ قَوْلِكَ: انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ أَيْ إِنْ تَنْزِلْ عَنْهَا لَا تطرحك، قَالَ: وَمِنْهُ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ «1» أَيْ إِنْ تَدْخُلُوا لَا يَحْطِمَنَّكُمْ فَدَخَلَتِ النُّونُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ انْتَهَى، وَهَذَا الْمِثَالُ بِقَوْلِهِ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ لَيْسَ نَظِيرَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لِأَنَّهُ يَنْتَظِمُ مِنَ الْمِثَالِ وَالْآيَةُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ كَمَا قُدِّرَ وَلَا يَنْتَظِمُ ذَلِكَ هُنَاكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ إِنْ تَتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ إِذْ ذَاكَ عَلَى الشَّرْطِ مُقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَ الْفَرَّاءِ وَزَادَهُ فَسَادًا وَخَبَّطَ فِيهِ فَقَالَ وَقَوْلُهُ لَا تُصِيبَنَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ أَوْ نَهْيًا بَعْدَ أَمْرٍ أَوْ صِفَةً لفتنة فَإِذَا كَانَ جَوَابًا فَالْمَعْنَى إِنْ أَصَابَتْكُمْ لَا تُصِبِ الظَّالِمِينَ مِنْكُمْ خَاصَّةً وَلَكِنَّهَا تَعُمُّكُمُ انْتَهَى تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ فَانْظُرْ كَيْفَ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ اتَّقُوا ثُمَّ قَدَّرَ أَدَاةَ الشَّرْطِ دَاخِلَةً عَلَى غَيْرِ مُضَارِعِ اتَّقُوا فَقَالَ فَالْمَعْنَى إِنْ أَصَابَتْكُمْ يَعْنِي الْفِتْنَةَ وَانْظُرْ كَيْفَ قَدَّرَ الْفَرَّاءُ فِي انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ وَفِي قَوْلِهِ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ فَأَدْخَلَ أَدَاةَ الشَّرْطِ عَلَى مُضَارِعِ فِعْلِ الْأَمْرِ وَهَكَذَا يُقَدَّرُ مَا كَانَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُصِيبَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وقيل لا

_ (1) سورة النمل: 27/ 18.

نَافِيَةٌ وَشُبِّهَ النَّفْيُ بِالْمُوجَبِ فَدَخَلَتِ النُّونُ كَمَا دَخَلَتْ فِي لَتَضْرِبَنَّ التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ لَا تُصِيبَنَّ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا صِفَةٌ أَوْ جَوَابُ أَمْرٍ أَوْ جَوَابُ قَسَمٍ تَكُونُ النُّونُ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْمَنْفِيِّ بِلَا وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ مُوجَبَةٌ فَدَخَلَتِ النُّونُ فِي مَحَلِّهَا وَمُطِلَتِ اللَّامُ فَصَارَتْ لَا وَالْمَعْنَى لَتُصِيبَنَّ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْبَاقِرِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةَ لَتُصِيبَنَّ وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلظَّالِمِينَ فَقَطْ وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ خَرَّجَ ابْنُ جِنِّي أَيْضًا قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ لَا تُصِيبَنَ وَكَوْنُ اللَّامِ مُطِلَتْ فَحَدَثَتْ عَنْهَا الْأَلِفُ إِشْبَاعًا لِأَنَّ الْإِشْبَاعَ بَابُهُ الشِّعْرُ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ مَعَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا تُصِيبَنَّ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا وَاكْتِفَاءً بِالْحَرَكَةِ كَمَا قَالُوا أَمْ وَاللَّهِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ مَا وَهِيَ أُخْتُ لَا فِي قَوْلِهِ أَمْ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَشِبْهِهِ انْتَهَى وَلَيْسَتْ لِلنَّفْيِ، وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِتْنَةً أَنْ تُصِيبَ، وَعَنِ الزُّبَيْرِ: لَتُصِيبَنَّ وَخَرَّجَ الْمُبَرِّدُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ قِرَاءَةَ لَا تُصِيبَنَّ عَلَى أَنْ تَكُونَ نَاهِيَةً. وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَاتَّقُوا فِتْنَةً وَهُوَ خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَهُ ثُمَّ ابْتُدِئَ نَهْيُ الظَّلَمَةِ خَاصَّةً عَنِ التَّعَرُّضِ لِلظُّلْمِ فَتُصِيبُهُمُ الْفِتْنَةُ خَاصَّةً وَأُخْرِجَ النَّهْيُ عَلَى جِهَةِ إِسْنَادِهِ لِلْفِتْنَةِ فَهُوَ نَهْيٌ مُحَوَّلٌ كَمَا قَالُوا لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا أَيْ لَا تَكُنْ هُنَا فَيَقَعَ مِنِّي رُؤْيَتُكَ وَالْمُرَادُ هُنَا لَا يَتَعَرَّضُ الظَّالِمُ لِلْفِتْنَةِ فَتَقَعَ إِصَابَتُهَا لَهُ خَاصَّةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْوَجْهِ وَإِذَا كَانَتْ نَهْيًا بَعْدَ أَمْرٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَاحْذَرُوا ذَنْبًا أَوْ عِقَابًا ثُمَّ قِيلَ لَا تَتَعَرَّضُوا لِلظُّلْمِ فَيُصِيبَ الْعِقَابُ أَوْ أَثَرُ الذَّنْبِ مَنْ ظَلَمَ مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَقَالَ الْأَخْفَشُ لَا تُصِيبَنَّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ انْتَهَى وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ اسْتِبْعَادُ دُخُولِ نُونِ التَّوْكِيدِ فِي الْمَنْفِيِّ بِلَا وَاعْتِيَاضُ تَقْرِيرِهِ نَهْيًا فَعَدَلَ إِلَى جَعْلِهِ دُعَاءً فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَا أَصَابَتِ الْفِتْنَةُ الظَّالِمِينَ خَاصَّةً وَاسْتَلْزَمَتِ الدُّعَاءَ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِينَ فَصَارَ التَّقْدِيرُ لَا أَصَابَتْ ظَالِمًا وَلَا غَيْرَ ظَالِمٍ فَكَأَنَّهُ وَاتَّقُوا فِتْنَةً، لَا أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِأَحَدٍ، فَتُلَخَّصَ فِي تَخْرِيجِ قَوْلِهِ لَا تُصِيبَنَّ أَقْوَالُ الدُّعَاءِ وَالنَّهْيِ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ وَجَوَابُ أَمْرٍ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ وَصِفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ تَدْخُلَ النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، (قُلْتُ) : لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمَنِّي إِذَا قُلْتَ انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحْكَ فَلِذَلِكَ جَازَ لَا تَطْرَحَنَّكَ وَلَا تُصِيبَنَّ وَلَا يَحْطِمَنَّكُمُ انْتَهَى، وَإِذَا قُلْتَ لَا تَطْرَحْكَ وَجَعَلْتَهُ جَوَابًا لِقَوْلِكَ انْزِلْ وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ بَلْ نَفْيٌ مَحْضٌ جَوَابُ الْأَمْرِ نُفِيَ بِلَا وَجَزَمَهُ عَلَى الْجَوَابِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي

جَوَابِ الْأَمْرِ وَالسِّتَّةُ مَعَهُ هَلْ ثَمَّ شَرْطٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْفِيُّ بِلَا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ النُّونُ لِلتَّوْكِيدِ لَمْ يَجُزِ انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى مَنْ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، (قُلْتُ) : التَّبْعِيضُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالتَّبْيِينُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا تُصِيبُكُمْ خَاصَّةً عَلَى ظُلْمِكُمْ لِأَنَّ الظُّلْمَ مِنْكُمْ أَقْبَحُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ انْتَهَى، وَيَعْنِي بِالْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا بَعْدَ أَمْرٍ وَبِالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَهْيًا بَعْدَ أَمْرٍ وَخَاصَّةً أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ محذوف أي إصابة خَاصَّةٌ وَهِيَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي لَا تُصِيبَنَّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيْ مَخْصُوصِينَ بِهَا بَلْ تَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُحْتَمَلُ أن تكون خَاصَّةً حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظَلَمُوا وَلَا أَتَعَقَّلُ هَذَا الْوَجْهَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً إِذْ فِيهِ حَثٌّ عَلَى لُزُومِ الِاسْتِقَامَةِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ لَا يُقَالُ كَيْفَ يُوصِلُ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ الْفِتْنَةَ وَالْعَذَابَ لِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ، (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمَلِكِ كَمَا قَدْ يُنْزِلُ الْفَقْرَ وَالْمَرَضَ بِعَبْدِهِ ابْتِدَاءً فَيَحْسُنُ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ لِأَنَّهُ عَلِمَ اشْتِمَالَ ذَلِكَ عَلَى مَزِيدِ ثَوَابٍ لِمَنْ أُوقِعَ بِهِ ذَلِكَ. وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ بَدْرٍ، فَقِيلَ خِطَابٌ لِلْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً كَانُوا بِمَكَّةَ قَلِيلِي الْعَدَدِ مَقْهُورِينَ فِيهَا يَخَافُونَ أَنْ يَسْلُبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَآوَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَأَيَّدَهُمْ بِالنَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ والطَّيِّباتِ الْغَنَائِمُ وَمَا فُتِحَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَهِيَ حَالُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ والطَّيِّباتِ الْغَنَائِمُ وَالنَّاسُ عَسْكَرُ مَكَّةَ وَسَائِرُ الْقَبَائِلِ الْمُجَاوِرَةِ وَالتَّأْيِيدُ هُوَ الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالتَّغَلُّبُ عَلَى الْعَدَدِ، وَقَالَ وَهْبٌ وَقَتَادَةُ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ قَاطِبَةً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَعْرَى النَّاسِ أَجْسَامًا وَأَجْوَعَهُمْ بُطُونًا وَأَقَلَّهُمْ حَالًا حَسَنَةً وَالنَّاسُ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالْمَأْوَى النُّبُوَّةُ وَالشَّرِيعَةُ وَالتَّأْيِيدُ بِالنَّصْرِ فَتْحُ الْبِلَادِ وَغَلَبَةُ الْمُلُوكِ والطَّيِّباتِ تَعُمُّ الْمَآكِلَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا التَّأْوِيلُ يَرُدُّهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَافِرَةً إِلَّا الْقَلِيلَ وَلَمْ تَتَرَتَّبِ الْأَحْوَالُ الَّتِي ذَكَرَ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُخَاطِبَ الْعَرَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ تَمَثَّلَ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِحَالِ الْعَرَبِ فَتَمْثِيلُهُ صَحِيحٌ وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَةُ الْعَرَبِ هِيَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ فَبَعِيدٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْدِيلٌ لِنِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذْ

أَنْتُمْ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لا ذكروا ظَرْفٌ أَيِ اذْكُرُوا وَقْتَ كَوْنِكُمْ أَقِلَّةً أَذِلَّةً انْتَهَى، وَفِيهِ التَّصَرُّفُ فِي إِذْ بِنَصْبِهَا مُفْعُولَةً وَهِيَ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ إِلَّا بِأَنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا الْأَزْمَانُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإِذْ ظَرْفٌ لِمَعْمُولِ واذْكُرُوا تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرُوا حَالَكُمُ الْكَائِنَةَ أَوِ الثَّابِتَةَ إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذْ ظرفا لا ذكر وَإِنَّمَا تُعْمَلُ اذْكُرْ فِي إِذْ لَوْ قَدَّرْنَاهَا مَفْعُولَةً انْتَهَى، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ إِذْ أَنْتُمْ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ اذْكُرُوا انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى أَصْلًا لِأَنَّ اذْكُرْ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَكُونُ ظَرْفُهُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا وَإِذْ ظَرْفٌ مَاضٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَآواكُمْ وَمَا بَعْدَهُ أَيْ فَعَلَ هَذَا الْإِحْسَانَ لِإِرَادَةِ الشُّكْرِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُونَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَنْصَحَتْهُ قُرَيْظَةُ لَمَّا أَتَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتٍ وَأَرِيحَا كَفِعْلِهِ بِبَنِي النَّضِيرِ فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ إِلَى حَلْقِهِ أَيْ لَيْسَ عِنْدَ الرَّسُولِ إِلَّا الذَّبْحُ فَكَانَتْ هَذِهِ خِيَانَتَهُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ ، وَقَالَ جَابِرٌ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَتَبَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم، وقال الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُشْبِهُ أَنْ يُتَمَثَّلَ بِالْآيَةِ فِي قَتْلِهِ فَقَدْ كَانَ قَتْلُهُ خِيَانَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْأَمَانَاتِ انْتَهَى، وَقِيلَ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُعْلِمُهُمْ بِخُرُوجِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، وَقِيلَ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ فَيُفْشُونَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُشْرِكِينَ وَخِيَانَتُهُمُ اللَّهَ فِي عَدَمِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي سِرٍّ وَخِيَانَةُ الرَّسُولِ فِيمَا اسْتَحْفَظَ وَخِيَانَةُ الْأَمَانَاتِ إِسْقَاطُهَا وَعَدَمُ الِاعْتِبَارِ بِهَا، وَقِيلَ وتَخُونُوا ذَوِي أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَبِعَةَ ذَلِكَ وَوَبَالَهُ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْعَدَ لَكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخِيَانَةِ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الذَّنْبِ يَكُونُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ، وَقِيلَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْخِيَانَةَ تُوجَدُ مِنْكُمْ عَنْ تَعَمُّدٍ لَا عَنْ سَهْوٍ، وَقِيلَ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ تَعْلَمُونَ قُبْحَ الْقَبِيحِ وَحُسْنَ الْحَسَنِ وَجَوَّزُوا فِي وَتَخُونُوا أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى لَا تَخُونُوا وَمَنْصُوبًا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ وَكَوْنُهُ مَجْزُومًا هُوَ الرَّاجِحُ لِأَنَّ النَّصْبَ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ وَالْجَزْمُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ أَمَانَتَكُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ وَهِيَ الْإِثْمُ أَوِ الْعَذَابُ أَوْ مِحْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ لَكُمْ وَكَيْفَ تُحَافِظُونَ عَلَى حُدُودِهِ فِيهَا فَفِي

كَوْنِ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ عِنْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لَا يُفْتَنَ الْمَرْءُ بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ فَيُؤْثِرَ مَحَبَّتَهُ لَهُمَا عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ فَيَجْمَعَ الْمَالَ وَيُحِبَّ الْوَلَدَ حَتَّى يُؤْثِرَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ لِأَجْلِ كَوْنِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ كَانُوا عِنْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فُرْقَانًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. مَخْرَجًا، وَقَرَأَ مَالِكٌ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «1» وَالْمَعْنَى مَخْرَجًا فِي الدِّينِ مِنَ الضَّلَالِ، وَقَالَ مِزْرَدُ بْنُ ضِرَارٍ: بَادَرَ الْأُفْقَ أَنْ يَغِيبَ فَلَمَّا ... أَظْلَمَ اللَّيْلُ لَمْ يَجِدْ فرقانا وقال الآخر: مالك مِنْ طُولِ الْأَسَى فُرْقَانُ ... بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وَبَانُوا وَقَالَ الْآخَرُ: وَكَيْفَ أُرَجِّي الْخُلْدَ وَالْمَوْتُ طَالِبِي ... وَمَا لِيَ مِنْ كَأْسِ الْمَنِيَّةِ فُرْقَانُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: نَجَاةً، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فَتْحًا وَنَصْرًا وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ يُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ وَالْكُفَّارَ النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَرْقًا بَيْنَ حَقِّكُمْ وَبَاطِلِ مَنْ يُنَازِعُكُمْ أَيْ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ عَلَيْهِمْ وَالْفُرْقَانُ مَصْدَرٌ مِنْ فَرَقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ حَالَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْرًا لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ بِإِذْلَالِ حِزْبِهِ وَالْإِسْلَامِ بِإِعْزَازِ أَهْلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ الْفُرْقانِ «2» أَوْ بَيَانًا وَظُهُورًا يَشْهَدُ أَمْرَكُمْ وَيُثَبِّتُ صِيتَكُمْ وَآثَارَكُمْ فِي أَقْطَارِ الأرض بِتُّ أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى سَطَعَ الْفُرْقَانُ أَيْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ مَخْرَجًا مِنَ الشُّبُهَاتِ وَتَوْفِيقًا وَشَرْحًا لِلصُّدُورِ أَوْ تَفْرِقَةً بَيْنِكُمْ وَبَيْنَ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَفَضْلًا وَمَزِيَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى، وَلَفْظُ فُرْقاناً مُطْلَقٌ فَيَصْلُحُ لِمَا يَقَعُ بِهِ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالتَّقْوَى هُنَا إِنْ كَانَتْ مِنِ اتِّقَاءِ الْكَبَائِرِ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ الصَّغَائِرُ لِيَتَغَايَرَ الشَّرْطُ وَالْجَوَازُ وَتَكْفِيرُهَا فِي الدُّنْيَا وَمَغْفِرَتُهَا إِزَالَتُهَا فِي الْقِيَامَةِ وَتَغَايَرَ الظَّرْفَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فِي الْبَقَرَةِ. وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 2. (2) سورة الأنفال: 8/ 41.

وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ لَمَّا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ ذَكَّرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ تَشَاوَرُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ بِمَا تَفْعَلُ بِهِ فَمِنْ قَائِلٍ: يُحْبَسُ وَيُقَيَّدُ وَيُتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبُ الْمَنُونِ وَمِنْ قَائِلٍ: يُخْرَجُ مِنْ مَكَّةَ تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ وَتَصَوَّرَ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ وَقِيلَ هَذَيْنِ الرَّأْيَيْنِ وَمِنْ قَائِلٍ: يَجْتَمِعُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ وَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بِأَسْيَافِهِمْ فَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَلَا تَقْدِرُ بَنُو هَاشِمٍ لِمُحَارَبَةِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا فَيَرْضَوْنَ بِأَخْذِ الدِّيَةِ فَصَوَّبَ إِبْلِيسُ هَذَا الرَّأْيَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ وَأَذِنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ وَيَتَّشِحَ بِبُرْدَتِهِ وَبَاتُوا رَاصِدِينَ فَبَادَرُوا إِلَى الْمَضْجَعِ فَأَبْصَرُوا عَلِيًّا فَبُهِتُوا وَخَلَّفَ عَلِيًّا لِيَرُدَّ وَدَائِعَ كَانَتْ عِنْدَهُ وَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لِيُثْبِتُوكَ أَيْ يُقَيِّدُوكَ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: لِيُثْخِنُوكَ بِالْجَرْحِ وَالضَّرْبِ مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَبُوهُ حَتَّى أَثْبَتُوهُ لَا حَرَاكَ بِهِ وَلَا بَرَاحَ وَرَمَى الطَّائِرَ فَأَثْبَتَهُ أَيْ أَثْخَنَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَقُلْتُ وَيْحَكَ مَاذَا فِي صَحِيفَتِكُمْ ... قَالَ الْخَلِيفَةُ أَمْسَى مُثْبَتًا وَجِعَا أَيْ مُثْخَنًا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ لِيُبَيِّتُوكَ مِنَ الْبَيَاتِ وَهَذَا الْمَكْرُ هُنَا هُوَ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ كَسَائِرِ السُّورَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ عَقِيبَ كِفَايَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَيُتَأَوَّلُ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُمَا أَشَارَا إِلَى قِصَّةِ الْآيَةِ إِلَى وَقْتِ نُزُولِهَا وَتَكَرَّرَ وَيَمْكُرُونَ إِخْبَارًا بِاسْتِمْرَارِ مَكْرِهِمْ وَكَثْرَتِهِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِ بَاقِي الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا. قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَاتَّبَعَهُ قَائِلُونَ كَثِيرُونَ وَكَانَ مِنْ مَرَدَةِ قُرَيْشٍ سَافَرَ إِلَى فَارِسَ وَالْحِيرَةِ وَسَمِعَ مِنْ قَصَصِ الرُّهْبَانِ وَالْأَنَاجِيلِ وَأَخْبَارِ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ وَيَرَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ، قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبْرًا بِالصَّفْرَاءِ بِالْأَثِيلِ مِنْهَا مُنْصَرَفَهُ مِنْ بَدْرٍ، وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ جَوَازُ وُقُوعِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ إِذَا وَجَوَابُهُ الْمَاضِي جَوَازًا فَصِيحًا بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ: مَنْ يَكِدْنِي بِشَيْءٍ كُنْتُ مِنْهُ وَمَعْنَى قَدْ سَمِعْنا قَدْ سَمِعْنَا وَلَا نُطِيعُ أَوْ قَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ هَذَا وَقَوْلُهُمْ لَوْ نَشاءُ أَيْ لَوْ نَشَاءُ الْقَوْلَ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ وَذُكِرَ عَلَى مَعْنَى الْمَتْلُوِّ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَهْتِ

وَالْمُصَادَمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ فَقَدْ طُولِبُوا بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعَجَزُوا وَكَانَ أَصْعَبَ شَيْءٍ إِلَيْهِمُ الْغَلَبَةُ وَخُصُوصًا فِي بَابِ الْبَيَانِ فَقَدْ كَانُوا يَتَمَالَطُونَ وَيَتَعَارَضُونَ وَيُحْكَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَكَانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى قَهْرِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يُحِيلُونَ الْمُعَارَضَةَ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا لَقَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ. إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْأَنْعَامِ. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قَائِلُ ذَلِكَ النَّضْرُ، وَقِيلَ أَبُو جَهْلٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: قَائِلُ ذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ إِنْ كانَ هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ أَوْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ قُرَيْشٍ أَقْوَالٌ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اللَّهُمَّ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هُوَ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ جَعَلُوا هُوَ فَصْلًا، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالرَّفْعِ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كانَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ يَرْفَعُونَ بَعْدَ هُوَ الَّتِي هِيَ فَصْلٌ فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ: وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالْمَلَا أَنْتَ أَقْدَرُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَصْلِ وَفَائِدَتِهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ رَفْعُ الْحَقَّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كانَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهَذَا الْجَائِزِ، وَقِرَاءَةُ النَّاسِ إِنَّمَا هِيَ بِنَصْبِ الْحَقَّ انْتَهَى، وَقَدْ ذُكِرَ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي إِنْكَارِ الْحَقِّ عَظِيمَةٌ أَيْ إِنْ كَانَ حَقًّا فَعَاقِبْنَا عَلَى إِنْكَارِهِ بِإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْنَا أَمْ بِعَذَابٍ آخَرَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُرَادُهُ نَفْيُ كَوْنِهِ حَقًّا فَإِذَا انْتَفَى كَوْنُهُ حَقًّا لَمْ يَسْتَوْجِبْ مُنْكِرُهُ عَذَابًا فَكَانَ تَعْلِيقُ الْعَذَابِ بِكَوْنِهِ حَقًّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ كَتَعْلِيقِهِ بِالْمُحَالِ فِي قَوْلِهِ إِنْ كَانَ الْبَاطِلُ حَقًّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِّ وَقَوْلُهُ هُوَ الْحَقَّ تَهَكُّمٌ بِمَنْ يَقُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْيِينِ هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَيُقَالُ أَمْطَرَتْ كَأَنْجَمَتْ وَأَسْبَلَتْ وَمَطَرَتْ كَهَتَفَتْ وَكَثُرَ الْأَمْطَارُ فِي مَعْنَى الْعَذَابِ، (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ مِنَ السَّماءِ وَالْأَمْطَارُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْهَا، (قُلْتُ) : كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقَالَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا السِّجِّيلَ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُسَوَّمَةُ لِلْعَذَابِ مَوْضِعُ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ مَوْضِعُ السِّجِّيلِ، كَمَا يُقَالُ صَبَّ عَلَيْهِ مَسْرُودَةً مِنْ حَدِيدٍ يُرِيدُ دِرْعًا انْتَهَى، وَمَعْنَى جَوَابِهِ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ السَّماءِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ حَدِيدٍ مَعْنَاهُ التَّأْكِيدُ لِأَنَّ الْمَسْرُودَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ حَدِيدٍ كَمَا أَنَّ الْأَمْطَارَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُمْ مِنَ السَّماءِ مُبَالَغَةٌ وَإِغْرَاقٌ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ

حِكْمَةَ قَوْلِهِمْ مِنَ السَّماءِ هِيَ مُقَابَلَتُهُمْ مَجِيءَ الْأَمْطَارِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ جِهَتِهَا أَيْ إِنَّكَ تَذْكُرُ أَنَّهُ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ فَأْتِنَا بِعَذَابٍ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يَأْتِيكَ مِنْهَا الْوَحْيُ إِذْ كَانَ يَحْسُنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ إِرْسَالِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ السَّمَاءِ بِقَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً، وَقَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ وَالِاعْتِقَادِ أن ما أتي به لَيْسَ بِحَقٍّ، وَقِيلَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ وَاسْتَبْعَدَ هَذَا الثَّانِيَ ابْنُ فُورَكٍ قَالَ: وَلَا يَقُولُ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ عَاقِلٌ انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» وَقِصَّةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» ، وَقَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: «وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» أَوْ كَلَامٌ يُقَارِبُهُ وَاقْتِرَاحُهُمْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ هُوَ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ اقْتِرَاحُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَسَأَلَ يَهُودِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَنْتَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ، فَهَلَّا قَالُوا فَاهْدِنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنْتَ يَا إِسْرَائِيلِيٌّ مِنَ الَّذِينَ لَمْ تَجِفَّ أَرْجُلُهُمْ مِنْ بَلَلِ الْبَحْرِ الَّذِي أُغْرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَنَجَا مُوسَى وَقَوْمُهُ حَتَّى قَالُوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «3» فَأَطْرَقَ الْيَهُودِيُّ مُفْحَمًا، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ سَبَأٍ مَا أَجْهَلَ قَوْمَكَ حِينَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ امْرَأَةً فَقَالَ أَجْهَلُ مِنْ قَوْمِي قَوْمُكَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُولُوا: فَاهْدِنَا لَهُ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ إِلَى يَعْلَمُونَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ حِكَايَةً عَمَّا حَصَلَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى: الْجُمْلَةُ الْأُولَى بِمَكَّةَ إِثْرَ قَوْلِهِ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، وَالثَّالِثَةُ بَعْدَ بَدْرٍ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَلَمَّا عَلَّقُوا إِمْطَارَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْإِتْيَانَ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ عَلَى تَقْدِيرِ كَيْنُونَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّو الْعَذَابِ لَكِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إِكْرَامًا لَهُ وَجَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى مَعَ مُكَذِّبِي أَنْبِيَائِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْبِيَاؤُهُمْ مُقِيمُونَ فِيهِمْ عَذَابًا يَسْتَأْصِلُهُمْ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ تُعَذَّبْ أُمَّةٌ قَطُّ وَنَبِيُّهَا فِيهَا وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُتَأَوِّلِينَ فَالْمَعْنَى فَمَا كَانَتْ لِتُعَذَّبَ أُمَّتُكَ وَأَنْتَ فِيهِمْ بَلْ كَرَامَتُكَ عِنْدَ رَبِّكَ أَعْظَمُ وَقَالَ تَعَالَى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ لَا يعذّبهم والرسول فيهما

_ (1) سورة النمل: 27/ 14. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 89. (3) سورة الأعراف: 7/ 138. (4) سورة الأنبياء: 21/ 107.

وَلَمَّا كَانَ الْإِمْطَارُ لِلْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْعَذَابِ كَانَ النَّفْيُ مُتَسَلِّطًا عَلَى الْعَذَابِ الَّذِي إِمْطَارُ الْحِجَارَةِ نَوْعٌ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ولم يجىء التَّرْكِيبُ، وَمَا كَانَ اللَّهُ ليمطر أوليائي بِعَذَابٍ وَتَقْيِيدُ نَفْيِ الْعَذَابِ بِكَيْنُونَةِ الرَّسُولِ فِيهِمْ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَفَارَقَهُمْ عَذَّبَهُمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ إِكْرَامًا لَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ بِصَدَدِ مَنْ يُعَذَّبُ لِتَكْذِيبِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ انْتَهَى، وَبِفَتْحِ اللَّامِ فِي لِيُعَذِّبَهُمْ قَرَأَ أَبُو السَّمَالِ، وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالْفَتْحِ فِي لَامِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ «1» ، وَرَوَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُ كُلَّ لَامٍ إِلَّا فِي نَحْوِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ انْتَهَى، يَعْنِي لَامَ الْجَرِّ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الظَّاهِرِ أَوْ عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالظَّرْفِيَّةُ فِي فِيهِمْ مَجَازٌ وَالْمَعْنَى: وَأَنْتَ مُقِيمٌ بينهم غير راجل عَنْهُمْ. وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. انْظُرْ إِلَى حُسْنِ مَسَاقِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ لَمَّا كَانَتْ كَيْنُونَتُهُ فِيهِمْ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ تَعْذِيبِهِمْ أَكَّدَ خَبَرَ كَانَ بِاللَّامِ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ أَوْ جَعَلَ خَبَرَ كَانَ الْإِرَادَةَ الْمَنْفِيَّةَ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ وَانْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ لِلْعَذَابِ أَبْلَغُ مِنِ انْتِفَاءِ الْعَذَابِ وَلَمَّا كَانَ اسْتِغْفَارُهُمْ دُونَ تِلْكَ الْكَيْنُونَةِ الشَّرِيفَةِ لَمْ يُؤَكِّدْ بِاللَّامِ بَلْ جَاءَ خَبَرُ كانَ قَوْلُهُ مُعَذِّبَهُمْ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ اسْتِغْفَارِهِمْ وَكَيْنُونَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي الْجُمَلِ عَائِدَةٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبْزَى وَأَبُو مَالِكٍ وَالضَّحَّاكُ مَا مُقْتَضَاهُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ مُعَذِّبَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَقُوا بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ أَيْ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ وَالْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَدْفَعُ فِي صَدْرِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رُدَّ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَا مُقْتَضَاهُ إِنَّ الضَّمِيرَيْنِ عَائِدَانِ عَلَى الْكُفَّارِ وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي دُعَائِهِمْ غُفْرَانَكَ وَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا هُوَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ فَجَعَلَهُ اللَّهُ أَمَنَةً مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا عَلَى هَذَا تَرَكَّبَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا أَمَنَتَيْنِ كَوْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ وَالِاسْتِغْفَارَ فَارْتَفَعَتِ الْوَاحِدَةُ وَبَقِيَ الِاسْتِغْفَارُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُسْلِمَ وَيَسْتَغْفِرَ فَالْمَعْنَى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ الكفار ومنهم من

_ (1) سورة عبس: 80/ 24.

يَسْتَغْفِرُ وَيُؤْمِنُ فِي ثَانِي حَالٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ وَذَرِّيَّتُهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَيُؤْمِنُونَ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِمْ إِذْ ذُرِّيَّتُهُمْ مِنْهُمْ وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْغُفْرَانِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى يَسْتَغْفِرُونَ يُصَلُّونَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: يُسْلِمُونَ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَنَّهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ أَيْ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَلَا يُعَذَّبُونَ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ فِيهِمْ فَلَا يُعَذَّبُونَ فَكِلَا الْحَالَيْنِ مَوْجُودٌ كَوْنُ الرَّسُولِ فِيهِمْ وَاسْتِغْفَارُهُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الِاسْتِغْفَارِ عَنْهُمْ أَيْ وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ يُؤْمِنُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنَ الْكُفْرِ لَمَا عَذَّبَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ «1» وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ وَلَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يُتَوَقَّعُ ذَلِكَ منهم انتهى، وما قال تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، فَقَالَ: الْمَعْنَى وَهُمْ بِحَالِ تَوْبَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ مِنْ كُفْرِهِمْ أَنْ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ لَهُمْ فِي انْتِفَاءِ الْعَذَابِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ أَيْ كَيْفَ لَا يُعَذَّبُونَ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَذَابِ وَهِيَ صَدُّهُمُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَيْسُوا بِوُلَاةِ الْبَيْتِ وَلَا مُتَأَهِّلِينَ لِوِلَايَتِهِ وَمِنْ صَدِّهِمْ مَا فَعَلُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِخْرَاجُهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلٌ فِي الصَّدِّ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ نَصُدُّ مَنْ نَشَاءُ وَنُدْخِلُ مَنْ نَشَاءُ وَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ زَائِدَةٌ، قَالَ النَّحَّاسُ: لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَرَفَعَ تَعْذِيبَهُمُ انْتَهَى، فَكَانَ يَكُونُ الْفِعْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ «2» وَمَوْضِعُ أَنْ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ عَلَى الخلاف إذ حذف منه وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ لَهُمْ فِي أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَالْمَعْنَى لَا حَظَّ لَهُمْ فِي انْتِفَاءِ الْعَذَابِ وَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ فَهُمْ مُعَذَّبُونَ وَلَا بُدَّ وَتَقْدِيرُ الطَّبَرِيِّ وَمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يُعَذَّبُوا هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إِعْرَابٍ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَمَا قُدْرَتُهُمْ وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ مُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي أَوْلِياءَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ لِقُرْبِهِ وَصِحَّةِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ مَا لِلنَّفْيِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا أَيْ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أَيْ ليس ينتفي العذاب عنم مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي أَوْلِياءَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ أَيْ وَمَا اسْتَحَقُّوا أَنْ يَكُونُوا ولاة أمره

_ (1) سورة هود: 11/ 17. (2) سورة المائدة: 5/ 84.

إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أَيِ الْمُتَّقُونَ لِلشِّرْكِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا الْمُتَّقُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَلِيَ أَمْرَهُ إِنَّمَا يَسْتَأْهِلُ وِلَايَتَهُ مَنْ كَانَ بَرًّا تَقِيًّا فَكَيْفَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ انْتَهَى؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ مَعْطُوفًا عَلَى وَهُمْ يَصُدُّونَ فَيَكُونُ حَالًا وَالْمَعْنَى كَيْفَ لَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ صَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَانْتِفَاءِ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ أَيْ أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ أَيْ لَيْسُوا وُلَاتَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصُدُّوا عَنْهُ أَوْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَهُمْ كُفَّارٌ فَيَكُونُ قَدِ ارْتَقَى مِنْ حَالٍ إِلَى أَعْظَمَ مِنْهَا وَهُوَ كَوْنُهُمْ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ فَمَنْ كَانَ صَادًّا عَنِ الْمَسْجِدِ كَافِرًا بِاللَّهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّعْذِيبِ وَالضَّمِيرُ فِي إِنْ أَوْلِياؤُهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّعْذِيبِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ امْتَنَعَ بِشَيْئَيْنِ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ وَاسْتِغْفَارِ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا وَقَعَ التَّمْيِيزُ بِالْهِجْرَةِ وَقَعَ بِالْبَاقِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: بَلْ وَقَعَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا التَّعْذِيبُ غَيْرُ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: اسْتِئْصَالُ كُلِّهِمْ فَلَمْ يَقَعْ لِمَا عَلِمَ مِنْ إِسْلَامِ بَعْضِهِمْ وَإِسْلَامِ بَعْضِ ذَرَارِيهِمْ، وَالثَّانِي: قَتْلُ بَعْضِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَوَّلُ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي: عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَالْمَعْنَى وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ لِاسْتِغْفَارِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ وَمُتَعَلِّقُ لَا يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ بَلْ يظنون أنهم أولياؤه الظاهر اسْتِدْرَاكُ الْأَكْثَرِ فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ إِذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَفِي خِلَالِهِمْ مَنْ جَنَحَ إِلَى الْإِيمَانِ فَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الصَّادِّينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ الْبَيْتِ أَوْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَيْ أَكْثَرَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَا يَعْلَمُونَ لِتُخْرِجَ مِنْهُمُ الْعَبَّاسَ وَأُمَّ الْفَضْلِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ عِلْمٌ أَوْ إِذْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُهُ وَهُوَ يُعَانِدُ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ أَوْ أُرِيدَ بِالْأَكْثَرِ الْجَمِيعُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَمَا قِيلَ: قَلَّمَا رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ الْمَحْضِ وَإِبْقَاءُ الْأَكْثَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْلَى وَكَوْنُهُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمِيعُ هُوَ تَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ. وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. لَمَّا نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا وُلَاةَ الْبَيْتِ ذَكَرَ مِنْ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ مَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَا ذَكَرَ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَهُ فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ صَلَاتِهِمْ هُوَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ وَضَعُوا مَكَانَ الصَّلَاةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ التَّصْفِيرَ وَالتَّصْفِيقَ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً، رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ مُشَبِّكِينَ بَيْنَ أَصَابِعِهِمْ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا قَرَأَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلِطُونَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ كَانَتْ عُقُوبَتُكَ عُزْلَتَكَ أَيِ الْقَائِمُ مَقَامَ الْعُقُوبَةِ هُوَ الْعَزْلُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُدَحْرَجَةً سُمْرَا أَقَامَ مَقَامَ الْعَطَاءِ الْقُيُودَ وَالسِّيَاطَ كَمَا أَقَامُوا مَقَامَ الصَّلَاةِ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمَا نَفَى تَعَالَى وَلَايَتَهُمْ لِلْبَيْتِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْتَرِضَ مُعْتَرِضٌ بِأَنْ يَقُولَ كَيْفَ لَا نَكُونُ أَوْلِيَاءَهُ وَنَحْنُ نَسْكُنُهُ وَنُصَلِّي عِنْدَهُ فَقَطَعَ اللَّهُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ، وَما كانَ صَلاتُهُمْ إِلَّا المكاء والتصدية كما يقال الرَّجُلُ: أَنَا أَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا فِعْلُكَ الْخَيْرَ إِلَّا أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ وَتَقْتُلَ أَيْ هَذِهِ عَادَتُكَ وَغَايَتُكَ قَالَ: وَالَّذِي مَرَّ بِي مِنْ أَمْرِ الْعَرَبِ فِي غَيْرِ مَا دِيوَانٍ أَنَّ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ كَانَا مِنْ فِعْلِ الْعَرَبِ قَدِيمًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى جِهَةِ التَّقَرُّبِ وَالتَّشَرُّعِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَقْوِيَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُ كَانَ يَمْكُو عَلَى الصَّفَا فَيُسْمَعُ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيمُ تَعْيِيرُهُمْ وَتَنْقِيصُهُمْ بِأَنَّ شَرْعَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ رَهْبَةً وَلَا رَغْبَةً إِنَّمَا كَانَتْ مُكاءً وَتَصْدِيَةً مِنْ نَوْعِ اللَّعِبِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَيَّدُونَ فِيهَا وَقْتَ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْغَلُوهُ وَأَمَتَّهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا الْمُكَاءُ إِدْخَالُهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَالتَّصْدِيَةُ الصَّفِيرُ وَالصَّفِيرُ بِالْفَمِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ فِي الْفَمِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ يُشَارِكُ الْأَنْفُ يُرِيدُونَ أَنْ يَشْغَلُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: التَّصْدِيَةُ صَدُّهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: إِنَّ صَلَاتَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ غَيْرُ رَادِّينَ عَلَيْهِمْ ثَوَابًا إلا كما يجيب الصدا الصَّائِحَ فَتَلَخَّصَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ وَتَعَبُّدٌ وَذَلِكَ هُوَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ وَلَا جَدْوَى لَهَا وَلَا ثَوَابَ فَجُعِلَتْ كَأَنَّهَا أَصْوَاتُ الصَّدَا حَيْثُ لَهَا حَقِيقَةٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ لَكِنَّهُمْ أَقَامُوا مَقَامَهَا الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ، وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا هِيَ الطَّوَافُ وَقَدْ سَمَّاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً ، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا صَلاتُهُمْ بِالنَّصْبِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً بِالرَّفْعِ وَخَطَّأَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِجَعْلِ الْمَعْرِفَةِ خَبَرًا وَالنَّكِرَةِ اسْمًا قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ كَقَوْلِهِ: يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ وَخَرَّجَهَا أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ اسْمُ جِنْسٍ وَاسْمُ الْجِنْسِ تَعْرِيفُهُ وَتَنْكِيرُهُ وَاحِدٌ انْتَهَى، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ نَسْلَخُ صِفَةً لِلَّيْلِ فِي قَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» وَيَسُبُّنِي صِفَةً لِلَّئِيمِ في قوله:

_ (1) سورة يس: 36/ 37.

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يسبني وقرأ أبو عمر وفيما رُوِيَ عَنْهُ إِلَّا مُكًا بِالْقَصْرِ مُنَوَّنًا فَمَنْ مَدَّ فَكَالثُّغَاءِ وَالرُّغَاءِ وَمَنْ قَصَرَ فَكَالْبُكَا فِي لُغَةِ مَنْ قَصَرَ وَالْعَذَابُ فِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا الْعَذابَ «1» ، قِيلَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ هُوَ قَتْلُهُمْ وَأَخْذُ غَنَائِمِهِمْ بِبَدْرٍ وَأَسْرُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ وَلَا بُدَّ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْكُلَّ بَعْدَ بَدْرٍ حِكَايَةٌ عَنْ مَاضٍ وَكَوْنُ عَذَابِهِمْ بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَنُبَيْهٌ وَمُنَبَّهٌ ابنا حجّاج وأبو البختري بْنُ هِشَامٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ يُطْعِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَ جَزَائِرَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبْزَى: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ يُقَاتِلُ بِهِمُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ سِوَى مَنِ اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ، وَفِيهِمْ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطُهُ ... أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ بَقِيَّةُ ... ثَلَاثِ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَنْفَقَ عَلَى الْأَحَابِيشِ وَغَيْرِهِمْ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي نَفَقَةِ الْمُشْرِكِينَ الْخَارِجِينَ إِلَى بَدْرٍ كَانُوا يَنْحَرُونَ يَوْمًا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ وَيَوْمًا تِسْعًا وَهَذَا نَحْوٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ رِجَالِهِ لَمَّا رَجَعَ فُلُّ قُرَيْشٍ إِلَى مَكَّةَ مِنْ بَدْرٍ وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِهِ كَلَّمَ أَبْنَاءُ مَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ وَغَيْرُهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَتُجَّارُ الْعِيرِ فِي الْإِعَانَةِ بِالْمَالِ الَّذِي سُلِّمَ لَعَلَّنَا نُدْرِكُ ثَأْرًا لِمَنْ أُصِيبَ فَفَعَلُوا فَنَزَلَتْ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حبان وَعَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ وَالْحَصِينِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر مَنْ شَرَحَ أَحْوَالَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ صَلَاتُهُمْ شَرَحَ حَالَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ وَهِيَ إِنْفَاقُهُمْ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْكُفَّارِ بِأَنَّ إِنْفَاقَهُمْ لَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ سَبَبُهُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذَا الْعُمُومِ وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالسَّبَبُ خَاصًّا وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْصِدُونَ بِنَفَقَتِهِمُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وغلبة

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 106 وغيرها.

الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَكْسُ مَا قَصَدُوا وَهُوَ تَنَدُّمُهُمْ وَتَحَسُّرُهُمْ عَلَى ذَهَابِ أموالهم ثم غلبتهم الْآخِرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ فَسَيُنْفِقُونَها إِلَى آخِرِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَكُونُ قَبْلَ كَوْنِهِ ثُمَّ كَانَ كَمَا أَخْبَرَ وَالْإِخْبَارُ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ يَدُلُّ عَلَى إِنْفَاقٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَبَدْرٍ وَأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنْ عُلُوِّ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَةِ أَهْلِهِ، وَكَذَا وَقَعَ فَتَحُوا الْبِلَادَ وَدَوَّخُوا الْعِبَادَ وَمَلَأَ الْإِسْلَامُ مُعْظَمَ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَاتَّسَعَتْ هَذِهِ الْمِلَّةُ اتِّسَاعًا لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنَ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ هَذَا إِخْبَارٌ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ حَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ إِذْ أَخْبَرَ بِمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَسْرَتِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مَغْلُوبِينَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْرِ وَأَعَادَ الظَّاهِرَ لِأَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ مِنَ الْكُفَّارِ أَسْلَمَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَامُ لِيَمِيزَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يُحْشَرُونَ، والْخَبِيثَ والطَّيِّبِ وَصْفَانِ يَصْلُحَانِ لِلْآدَمِيِّينَ وَلِلْمَالِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ عَلَى الْآدَمِيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَمِيزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَنَحْوُهُ، قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ قَالَا: أَرَادَ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَحْرِيرَهُ لِيَمِيزَ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَرِيقَ الْخَبِيثَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْفَرِيقِ الطَّيِّبِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَى جَعْلِ الْخَبِيثِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَرَكْمِهِ ضَمُّهُ وَجَمْعُهُ حَتَّى لَا يُفْلِتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَاحْتَمَلَ الْجَعْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّصْيِيرِ وَمِنْ بَابِ الْإِلْقَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بِتَأْخِيرِ عَذَابِ كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَسْتَخْرِجَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْلَابِ الْكُفَّارِ انْتَهَى، فَعَلَى مَا سَبَقَ يَكُونُ التَّمْيِيزُ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ وَالزَّجَّاجُ: الْمَعْنِيُّ بِالْخَبِيثِ الْمَالُ الَّذِي أَنْفَقَهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَالِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا الْمُنْفَقِ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ فِي الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والطَّيِّبِ هُوَ مَا أَنْفَقَهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَالِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَلَامُ لِيَمِيزَ عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يُغْلَبُونَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَالْمَعْنَى لِيَمِيزَ اللَّهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ فيخذل أهل الخبث وَيَنْصُرَ أَهْلَ الطَّيِّبِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ مِنْ

جُمْلَةِ مَا يُعَذَّبُونَ بِهِ كَقَوْلِهِ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «1» قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ الْخَبِيثُ مَا أُنْفِقَ فِي الْمَعَاصِي وَالطَّيِّبُ مَا أُنْفِقَ فِي الطَّاعَاتِ، وَقِيلَ الْمَالُ الْحَرَامُ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ، وَقِيلَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ مِنَ الَّذِي أدّيت زكاته، وقل هُوَ عَامٌّ فِي الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَرَكْمُهَا خَتْمُهَا وَجَعْلُهَا قَلَائِدَ فِي أَعْنَاقِ عُمَّالِهَا فِي النَّارِ وَلِكَثْرَتِهَا جَعَلَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِالْخَبِيثِ الْأَمْوَالَ الَّتِي أَنْفَقُوهَا فِي حَرْبِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: الْفَائِدَةُ فِي إِلْقَائِهَا فِي النَّارِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَزِيزَةً فِي أَنْفُسِهَا عَظِيمَةً بَيْنَهُمْ أَلْقَاهَا اللَّهُ فِي النَّارِ ليريهم هو أنها كَمَا تُلْقَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي النَّارِ لِيَرَى مَنْ عَبَدَهُمَا ذُلَّهُمَا وَصَغَارَهُمَا وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِالْخَبِيثِ الْكُفَّارُ وَبِالطَّيِّبِ الْمُؤْمِنُونَ إِذِ الْكُفَّارُ أُولَاهُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ، وَقَوْلِهِ فَسَيُنْفِقُونَها وبقوله ثم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ وَأُخْرَاهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَلَمَّا كَانَ تَغَلُّبُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ يَرْجُو بِذَلِكَ حُصُولَ الرِّبْحِ لَهُ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا فِي إِنْفَاقِهِمْ وَأَخْفَقَتْ صَفْقَتُهُمْ حَيْثُ بَذَلَ أَعَزَّ مَا عِنْدَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا خُسْرَانَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي قِرَاءَةِ لِيَمِيزَ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «2» وَيُقَالَ مَيَّزْتُهُ فَتَمَيَّزَ وَمَيَّزْتُهُ فَانْمَازَ حَكَاهُ يَعْقُوبُ، وَفِي الشَّاذِّ وَانْمَازُوا الْيَوْمَ وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ قَوْلَ الشَّاعِرِ: لَمَّا ثَنَى اللَّهُ عَنِّي شَرَّ عُذْرَتِهِ ... وَانْمَزْتُ لا منسأ ذعرا وَلَا رَجُلَا قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ وَجَعْلِهِمْ فِيهَا وَخُسْرِهِمْ تَلَطَّفَ بِهِمْ وَأَنَّهُمْ إِذَا انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَآمَنُوا غُفِرَتْ لَهُمْ ذُنُوبُهُمُ السَّالِفَةُ وَلَيْسَ ثَمَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِانْتِهَاءِ عَنْهُ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ سِوَى الْكُفْرِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَعْنَى إِنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّبْلِيغِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ أَلْفَاظُ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ وَسَوَاءٌ قَالَهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَمْ غَيْرِهَا، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ اللَّامَ لَامَ الْعِلَّةِ، فَقَالَ: أَيْ قُلْ لِأَجْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ إِنْ يَنْتَهُوا ولو كان بمعنى خاطبتهم بِهِ لَقِيلَ إِنْ تَنْتَهُوا نَغْفِرْ لَكُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوُهُ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ «3» خَاطَبُوا بِهِ غيرهم ليسمعوه انتهى، وقرىء يُغْفَرْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالضَّمِيرُ لله تعالى.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 35. (2) سورة آل عمران: 3/ 179. (3) سورة الأحقاف: 46/ 11.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 إلى 40]

وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. الْعَوْدُ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى شَيْءٍ سَابِقٍ وَلَا يَكُونُ الْكُفْرَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهُ فَالْمَعْنَى عَوْدُهُمْ إِلَى مَا أَمْكَنَ انْفِصَالُهُمْ مِنْهُ وَهُوَ قِتَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ وَإِنْ يَعُودُوا إِلَى الِارْتِدَادِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ يَعُودُوا وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أَسْلَمَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ الْمَتْرُوكَةِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَقَبْلَهَا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَا حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالظَّاهِرُ دُخُولُ الزِّنْدِيقِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: التَّوْحِيدُ لَا يَعْجِزُ عَنْ هَدْمِ مَا قَبْلَهُ مِنْ كُفْرٍ فَلَا يَعْجِزُ عَنْ هَدْمِ مَا بَعْدَهُ مِنْ ذَنْبٍ وَجَوَابُ الشَّرْطِ قالوا: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ يَعُودُوا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فِي أَنَّا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ بِتَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ وكفرهم ويحتمل سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أَنْ يُرَادَ بِهَا سُنَّةُ الَّذِينَ حَاقَ بِهِمْ مَكْرُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَسُنَّةُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَدُمِّرُوا فَلْيَتَوَقَّعُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَتَخْوِيفُهُمْ بِقِصَّةِ بَدْرٍ أَشَدُّ إِذْ هِيَ قَرِيبَةٌ مُعَايِنَةٌ لَهُمْ وَعَلَيْهَا نَصَّ السُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْمَعْنَى فَقَدْ عَايَنْتُمْ قِصَّةَ بَدْرٍ وَسَمِعْتُمْ مَا حَلَّ بهم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُنَا زِيَادَةُ كُلُّهُ تَوْكِيدًا لِلدِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيَكُونُ بِرَفْعِ النُّونِ وَالْجُمْهُورُ بِنَصْبِهَا. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَمَعْنَى بَصِيرٌ بِإِيمَانِهِمْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُثِيبُهُمْ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَسَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِمَنْ أُمِرُوا بِالْمُقَاتَلَةِ أَيْ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالدُّعَاءِ إِلَى دينه يصير يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. أَيْ مُوَالِيكُمْ وَمُعِينُكُمْ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 إلى 67]

وَهَذَا وَعْدٌ صَرِيحٌ بِالظَّفَرِ وَالنَّصْرِ وَالْأَعْرَقُ فِي الْفَصَاحَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْلاكُمْ خَبَرَ إِنْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرَ إِنَّ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيِ اللَّهُ أَوْ هُوَ وَالْمَعْنَى فَثِقُوا بِمُوَالَاتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ وَقاتِلُوهُمْ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْكُفْرِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ وَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ سَائِرُ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِهِمْ بِالذِّمَّةِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ إقرارها بالجزية. [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

الْقُصُوُّ الْبُعْدُ وَالْقُصْوَى تَأْنِيثُ الْأَقْصَى وَمُعْظَمُ أَهْلِ التَّصْرِيفِ فَصَّلُوا فِي الْفُعْلَى مِمَّا لَامُهُ وَاوٌ فَقَالُوا إِنْ كَانَ اسْمًا أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ يُمَثِّلُونَ بِمَا هُوَ صِفَةٌ نَحْوُ الدُّنْيَا وَالْعُلْيَا وَالْقُصْيَا وَإِنْ كَانَ صِفَةً أُقِرَّتْ نَحْوُ الْحُلْوَى تَأْنِيثُ الْأَحْلَى، وَلِهَذَا قَالُوا شَذَّ الْقُصْوَى بِالْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالْقُصْيَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ اسْمًا أُقِرَّتِ الْوَاوُ نَحْوُ حُزْوَى وَإِنْ كَانَ صِفَةً أُبْدِلَتْ نَحْوُ الدُّنْيَا وَالْعُلْيَا وَشَذَّ إِقْرَارُهَا نَحْوُ الْحُلْوَى وَنَصَّ عَلَى نُدُورِ الْقُصْوَى ابْنُ السِّكِّيتِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَأَمَّا الْقُصْوَى فَكَالْقَوَدِ فِي مَجِيئِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَقَدْ جَاءَ الْقُصْيَا إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُصْوَى أَكْثَرُ مِمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ اسْتَصْوَبَ مَعَ مَجِيءِ اسْتَصَابَ وَأُغِيلَتْ مَعَ أَغَالَتْ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، الْبَطَرُ قَالَ الْهَرَوِيُّ: الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سُوءُ احْتِمَالِ الْغَيِّ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْحَيْرَةُ عِنْدَ الْحَقِّ فَلَا يَرَاهُ حَقًّا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَتَكَبَّرُ عِنْدَ الْحَقِّ فَلَا يَقْبَلُهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ ذَهَبَ دَمُهُ بَطَرًا أَيْ بَاطِلًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَطَرُ الْأَشَرُ وَغَمْطُ النِّعْمَةِ وَالشُّغُلُ بِالْمَرَحِ فِيهَا عَنْ شُكْرِهَا، نَكَصَ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى هَارِبًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ الْبِيضِ إِذْ لَحِقُوا ... لَا يَنْكُصُونَ إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا وَيُقَالُ أَرَادَ أَمْرًا ثُمَّ نَكَصَ عَنْهُ. وَقَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا: لَيْسَ النُّكُوصُ عَلَى الْأَدْبَارِ مَكْرُمَةً ... إِنَّ الْمَكَارِمَ إِقْدَامٌ عَلَى الْأَسَلِ لَيْسَ هُنَا قَهْقَرَى بَلْ هُوَ فِرَارٌ، وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: نَكَصَ رَجَعَ بِلُغَةِ سُلَيْمٍ. شَرَّدَ فَرَّقَ وَطَرَّدَ وَالْمُشَرَّدُ الْمُفَرَّقُ الْمُبْعَدُ وَأَمَّا شَرَّذَ بِالذَّالِ فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ

بِالذَّالِ، التَّحْرِيضُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ وَحَرَّكَهُ وَحَرَّسَهُ وَحَرَّضَهُ بِمَعْنًى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْحَرَضِ وَهُوَ أَنْ يُنْهِكَهُ الْمَرَضُ وَيَتَبَالَغَ فِيهِ حَتَّى يُشْفِيَ عَلَى الْمَوْتِ أَوْ أَنْ يُسَمِّيَهُ حَرَضًا وَيَقُولَ لَهُ مَا أَزَالُ إِلَّا حَرِضًا فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمُمَرَّضًا فِيهِ لِيُهَيِّجَهُ وَيُحَرِّكَهُ مِنْهُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى حَرِّضْ عَلَى الْقِتَالِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ فِيمَنْ تَرَكَهُ إِنَّهُ حَارِضٌ، قَالَ النَّقَّاشُ: وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُلْتَئِمٍ وَلَا لَازِمٍ مِنَ اللَّفْظِ وَنَحَا إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَالْحَارِضُ الَّذِي هُوَ الْقَرِيبُ مِنَ الْهَلَاكِ لَفْظَةٌ مُبَايِنَةٌ لِهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحَاتُ أَثْبَتَتْهُ حَتَّى تَثْقُلَ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَأَثْخَنَهُ الْمَرَضُ أَثْقَلَهُ مِنَ الثَّخَانَةِ الَّتِي هِيَ الْغِلَظُ وَالْكَثَافَةُ وَالْإِثْخَانُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ. وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نزلت بدر، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الْخُمُسُ فِي غَزْوَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ اقْتَضَى ذَلِكَ وَقَائِعَ وَحُرُوبًا فَذَكَرَ بَعْضَ أَحْكَامِ الْغَنَائِمِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِغَلَبَتِهِمْ لِلْكُفَّارِ وَقَسْمُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُمْ مَنَ الْغَنَائِمِ، وَالْخِطَابُ فِي وَاعْلَمُوا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْغَنِيمَةُ عُرْفًا مَا يَنَالُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَدُوِّ بِسَعْيٍ وَأَصْلُهُ الْفَوْزُ بِالشَّيْءِ يُقَالُ غَنِمَ غَنْمًا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ من الغنم بالإياب وقال الآخر: ويوم الْغُنْمِ يَوْمَ الْغُنْمِ مُطْعَمُهُ ... أَنَّى تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ وَالْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَبَايِنَانِ قَوْلَانِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الْفَيْءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا غُنِمَ يُخَمَّسُ كَائِنًا مَا كَانَ فَيَكُونُ خُمُسُهُ لِمَنْ ذَكَرَ اللَّهُ فَأَمَّا قَوْلُهُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُسِبَ إِلَى اللَّهِ يُصْرَفُ فِي الطَّاعَاتِ كَالصَّدَقَةِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَارَةِ الْكَعْبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَالَ بِذَلِكَ فِرْقَةٌ وَأَنَّهُ كَانَ الْخُمُسُ يُقَسَّمُ عَلَى سِتَّةٍ فَمَا نُسِبَ إِلَى اللَّهِ قُسِّمَ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ سَهْمُ اللَّهِ يُصْرَفُ إِلَى رِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَعَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ قَبْضَةً فَيَجْعَلُهَا لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، وَقِيلَ سَهْمُ اللَّهِ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ قَوْلُهُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقَكَ اللَّهُ وَأَعْتَقْتُكَ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ وَتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَالدُّنْيَا، كُلُّهَا لِلَّهِ وَقِسْمُ اللَّهِ وَقِسْمُ

الرَّسُولِ وَاحِدٌ وَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ احْتِمَالًا ، فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» وَأَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أَيْ مِنْ حَقِّ الْخُمُسِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَرَّبًا بِهِ إِلَيْهِ لَا غَيْرُ ثُمَّ خَصَّ مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ هَذِهِ الْخَمْسَةَ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَهْمًا مِنَ الْخُمُسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ لِلَّهِ وَلَا لِلرَّسُولِ شَيْءٌ وَسَهْمُهُ لِقَرَابَتِهِ يُقْسَمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَقَالَ عَلِيٌّ يَلِي الْإِمَامُ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ مَخْصُوصًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، كَانَ لَهُ خُمُسُ الْخُمُسِ، وَكَانَ لَهُ سَهْمُ رَجُلٍ فِي سَائِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَكَانَ لَهُ صَفِيٌّ يَأْخُذُهُ قَبْلَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ دَابَّةً أَوْ سَيْفًا أَوْ جَارِيَةً وَلَا صَفِيَّ بَعْدَهُ لا حد بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا مَا قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ مِنْ أَنَّ الصَّفِيَّ إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَعْدُودٌ فِي شَوَاذِّ الْأَقْوَالِ انْتَهَى، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يُورَثِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقَطَ سَهْمُهُ، وَقِيلَ سَهْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى قَرَابَتِهِ وَقَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ لِقَرَابَةِ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ جُعِلَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ انْتَهَى. وَذَوُو الْقُرْبَى مَعْنَاهُ قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قُرْبَاهُ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: قُرَيْشٌ كُلُّهَا بِأَسْرِهَا ذَوُو قُرْبَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ اسْتَحَقُّوهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ فجعل له خُمُسُ الْخُمُسِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا وَقَالُوا قُرَيْشٌ كُلُّهَا قُرْبَى وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ هَذَا السَّهْمِ لِذَوِي الْقُرْبَى وَأَنَّهُ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ عَلَى سِتَّةٍ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سَهْمَانِ وَسَهْمٌ لِأَقَارِبِهِ حَتَّى قُبِضَ فَأَجْرَى أَبُو بَكْرٍ الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عن عمرو من بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَنَعَ بَنِي هَاشِمٍ الْخُمُسَ وَقَالَ إِنَّمَا لَكُمْ أَنْ يُعْطَى فَقِيرُكُمْ وَيُزَوَّجَ أَيِّمُكُمْ وَيُخْدَمَ مَنْ لَا خَادِمَ لَهُ مِنْكُمْ وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مِنْكُمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ الْغَنِيُّ لَا يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا وَلَا يَتِيمٌ مُوسِرٌ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: ليس

_ (1) سورة التوبة: 9/ 62. (2) سورة البقرة: 2/ 98.

لَنَا أَنْ نَبْنِيَ مِنْهُ قُصُورًا وَلَا أَنْ نَرْكَبَ مِنْهُ الْبَرَاذِينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ عَامٌّ فِي يَتَامَى الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينِهِمْ وَابْنُ السَّبِيلِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: الْخُمُسُ كُلُّهُ لِلْقَرَابَةِ، وَقِيلَ لِعَلِيٍّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فَقَالَ: أَيْتَامُنَا وَمَسَاكِينُنَا ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وعبد اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْآيَةُ كُلُّهَا فِي قُرَيْشٍ وَمَسَاكِينِهَا وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فَلَا يُحْرَمُ أَحَدٌ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ أَهْلَ الْحَاجَةِ لَكِنْ لَا يَحْرِمُ صِنْفًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مَالِكٌ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَحْوَجَ وَيَحْرِمَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَنْ يَصْرِفُ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقَسَّمُ لِمَنْ لَمْ يَغْنَمْ فَلَوْ لَحِقَ مَدَدٌ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ حَوْزِ الْغَنِيمَةِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ والشافعي، لا يشاركونهم والظهر أَنَّ مَنْ غَنِمَ شَيْئًا خَمَّسَ مَا غَنِمَ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَلَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ لَهُ خَاصَّةً وَلَا يُخَمِّسُ وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِنْ شَاءَ الْإِمَامُ عَاقَبَهُ وَحَرَمَهُ وَإِنْ شَاءَ خَمَّسَ وَالْبَاقِي لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ غَنِمْتُمْ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُسْهَمُ لِكَافِرٍ حَضَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاتَلَ وَيَنْدَرِجُ فِي الْخِطَابِ الْعَبِيدُ الْمُسْلِمُونَ فَمَا يَخُصُّهُمْ لِسَادَاتِهِمْ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِذَا اسْتُعِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ يُسْهَمُ لَهُمْ، وَقَالَ أَشْهَبُ إِذَا خَرَجَ الْمُقَيَّدُ وَالذِّمِّيُّ مِنَ الْجَيْشِ وَغَنِمَا فَالْغَنِيمَةُ لِلْجَيْشِ دُونَهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُغْنَمُ مِنْ حَيَوَانٍ وَمَتَاعٍ وَمَعْدِنٍ وَأَرْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُخَمَّسُ جَمِيعُ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَّا الرِّجَالَ الْبَالِغِينَ، فَقَالَ الْإِمَامُ فِيهِمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَمُنَّ أَوْ يَقْتُلَ أَوْ يَسْبِيَ وَمَنْ سُبِيَ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ قِسْمَةَ الْأَرْضِ كَانَ صَوَابًا أَوْ إِنْ أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إِلَى أَنْ لَا يَقْسِمَهَا لَمْ يَقْسِمْهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْغَنِيمَةِ غَيْرَ الْخُمُسِ فَسَلَبُ الْمَقْتُولِ غَنِيمَةٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْقَاتِلُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْأَمِيرُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَسِيرًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ شَيْخًا أَوْ ذفف على جريج أَوْ قَتَلَ مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلُهُ أَوْ مُنْهَزِمًا لَا يَمْنَعُ فِي انْهِزَامِهِ كَالْمَكْتُوفِ لَيْسَ لَهُ سَلَبُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالْخِلَافُ هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُقْبِلًا عَلَى الْمَقْتُولِ وَفِي مَعْرَكَةٍ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي كُتُبِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِي كُتُبِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَهِيَ اسْمُ أَنَّ وَكُتِبَتْ أَنَّ مُتَّصِلَةً بِمَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً كَمَا كَتَبُوا إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ «1» مَفْصُولَةً وَخَبَرُ أَنَّ هُوَ قَوْلُهُ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَأَنَّ لِلَّهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَالْحُكْمُ أَنَّ لِلَّهِ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأَنَّ، كَمَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ أَنْ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ «2» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأَنَّ لِلَّهِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ حَقٌّ أَوْ فَوَاجِبٌ أَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ انْتَهَى، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَوْ فَوَاجِبٌ أَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ تَكُونُ أَنْ وَمَعْمُولَاهَا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فَوَاجِبٌ وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِغَنِمْتُمْ وَاسْمُ أَنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ مَعَ أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ مَخْصُوصٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِالشِّعْرِ. وَرَوَى الْجُعْفِيُّ عَنْ هَارُونُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو فَأَنَّ لِلَّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قِرَاءَةُ النَّخَعِيِّ فَلِلَّهِ خُمُسَهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: خُمُسَهُ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ خُمُسَهُ بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ يَعْنِي إِتْبَاعَ حَرَكَةِ الْخَاءِ لِحَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ «3» بِكَسْرِ الْحَاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ التَّاءِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّاكِنِ لِأَنَّهُ سَاكِنٌ غَيْرُ حَصِينٍ، وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا التَّرْكِيبِ كَيْفَ أَفْرَدَ كَيْنُونَةَ الْخُمُسِ لِلَّهِ وَفَصَلَ بَيْنَ اسْمِهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْمَعَاطِيفِ بِقَوْلِهِ خُمُسَهُ لِيَظْهَرَ اسْتِبْدَادُهُ تَعَالَى بِكَيْنُونَةِ الْخُمُسِ لَهُ ثُمَّ أَشْرَكَ الْمَعَاطِيفَ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ خُمُسَهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْخُمُسَ مِنَ الْغَنِيمَةِ يَجِبُ التَّقَرُّبُ بِهِ وَلَا يُرَادُ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بَلِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بمقتضاه ولذلك قدّره بَعْضُهُمْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاقْبَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي الْغَنَائِمِ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ مُتَعَلِّقٌ مَعْنَاهُ بِقَوْلِهِ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وَالتَّقْدِيرُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ وَما أَنْزَلْنا مَعْطُوفٌ عَلَى بِاللَّهِ. ويَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمُ بَدْرٍ بِلَا خِلَافٍ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ والْجَمْعانِ جَمْعُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمْعُ الْكَافِرِينَ قُتِلَ فِيهَا صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمِقْسَمٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَكَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ هذا قول

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 134. [.....] (2) سورة البروج: 85/ 10. (3) سورة الذاريات: 51/ 7.

الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ لِتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْمُنْزَلُ: الْآيَاتُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّصْرُ وَخَتَمَ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَدَالَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ عَلَى الْكَافِرِينَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عُبُدِنَا بِضَمَّتَيْنِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «1» بِضَمَّتَيْنِ فَعَلَى عَبْدِنا هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلى عَبْدِنا هُوَ الرَّسُولُ وَمَنْ مَعَهُ مَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَانْتِصَابُ يَوْمَ الْفُرْقانِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ وَما أَنْزَلْنا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ ينتصب ب غَنِمْتُمْ أَيْ أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَأَنَّ خُمُسَهُ لِكَذَا وَكَذَا، أَيْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أَيْ فَانْقَادُوا لِذَلِكَ وَسَلِّمُوا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ فِي الْمَعْنَى وَيَعْتَرِضُ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الظَّرْفِ وَبَيْنَ مَا تعلقه بِهِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْكَلَامِ انْتَهَى، وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ مَا شَرْطِيَّةً عَلَى تَخْرِيجِ الْفَرَّاءِ لَزِمَ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ وَمَعْمُولِهِ بِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ فِعْلِ الصِّلَةِ وَمَعْمُولِهِ بِخَبَرِ أَنَّ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الْعُدْوَةُ شَطُّ الْوَادِي وَتُسَمِّي شَفِيرًا وَضَفَّةً سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا عَدَتْ مَا فِي الْوَادِي مِنْ مَاءٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ أَيْ مَنَعَتْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: عَدَتْنِي عَنْ زِيَارَتِهَا الْعَوَادِي ... وَقَالَتْ دُونَهَا حَرْبٌ زَبُونُ وَتَسَمَّى الْفَضَاءُ الْمُسَايِرُ لِلْوَادِي عُدْوَةً لِلْمُجَاوَرَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْعُدْوَةِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بِالْفَتْحِ وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرٍو الضَّمَّ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا الْكَسْرُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الضَّمُّ أَكْثَرُهُمَا، وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ الْكَسْرُ لُغَةُ الْحِجَازِ انْتَهَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثُ لُغًى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ بَيْتُ أَوْسٍ: وَفَارِسُ لَمْ يَحِلَّ الْيَوْمَ عدوته ... ولو إسراعا وما هموا بإقبال وقرىء بالعدية بقلب الواو لِكَسْرَةِ الْعَيْنِ وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالسَّاكِنِ لِأَنَّهُ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي صِبْيَةٍ وَقِنْيَةٍ وَدِنْيَا مِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ ابْنُ عَمِّي دِنْيَا وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّصْحِيحُ كَالصِّفْوَةِ وَالذِّرْوَةِ وَالرِّبْوَةِ وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالْعُدْوَةِ الْعُلْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ السُّفْلَى وَوَادِي بَدْرٍ آخِذِينَ الشَّرْقَ وَالْقِبْلَةَ مُنْحَرِفٌ إِلَى الْبَحْرِ الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ الصُّقْعِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 60.

وَالْمَدِينَةُ مِنَ الْوَادِي مِنْ مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ مِنْهُ فِي الشَّرْقِ وَبَيْنَهُمَا مَرْحَلَتَانِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُصْيَا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْقِيَاسُ وَذَلِكَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ وَالرَّكْبُ مَعْطُوفَانِ عَلَى أَنْتُمْ فَهِيَ مُبْتَدَآتُ تَقْسِيمٍ لِحَالِهِمْ وَحَالِ أَعْدَائِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوَانِ فِيهِمَا وَاوَيِ الْحَالِ وَأَسْفَلَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أَسْفَلُ بِالرَّفْعِ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ فَجَعَلَهُ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ مَجَازًا وَالرَّكْبُ هُمُ الْأَرْبَعُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُودُونَ الْعِيرَ عِيرَ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ الْإِبِلُ الَّتِي كَانَتْ تَحْمِلُ أَزْوَادَ الْكُفَّارِ وَأَمْتِعَتَهُمْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةُ هَذَا التَّوْقِيتِ وَذِكْرِ مَرَاكِزِ الْفَرِيقَيْنِ وَأَنَّ الْعِيرَ كَانَتْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ (قُلْتُ) : الْفَائِدَةُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُوَّةِ شَأْنِ الْعَدُوِّ وَشَوْكَتِهِ وَتَكَامُلِ عِدَّتِهِ وَتَمَهُّدِ أَسْبَابِ الْغَلَبَةِ لَهُ وَضَعْفِ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَشَتَاتِ أَمْرِهِمْ وَأَنَّ غَلَبَتَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَتْ إِلَّا صُنْعًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ يَتَيَسَّرْ إِلَّا بِحَوْلِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَبَاهِرِ قُدْرَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُدْوَةَ الْقُصْوَى الَّتِي أَنَاخَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ كَانَ فِيهَا الْمَاءُ وَكَانَتْ أَرْضًا لَا بَأْسَ بِهَا وَلَا مَاءَ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهِيَ خَبَارٌ تَسُوخُ فِيهَا الْأَرْجُلُ وَلَا يُمْشَى فِيهَا إِلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ وَكَانَتِ الْعِيرُ وَرَاءَ ظُهُورِ الْعَدُوِّ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَكَانَتِ الْحِمَايَةُ دُونَهَا تُضَاعِفُ حَمِيَّتَهُمْ وَتَشْحَذُ فِي الْمُقَاتَلَةِ عَنْهَا نِيَّاتِهِمْ وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَخْرُجُ إِلَى الْحَرْبِ بِظَعْنِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِيَبْعَثَهُمُ الذَّبُّ عَنِ الْحُرُمِ وَالْغَيْرَةُ عَلَى الْحُرُمِ عَلَى بَذْلِ تَجْهِيدَاتِهِمْ فِي الْقِتَالِ أَنْ لَا يَتْرُكُوا وَرَاءَهُمْ مَا يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالِانْحِيَازِ إِلَيْهِ فَيَجْمَعُ ذَلِكَ قُلُوبَهُمْ وَيَضْبِطُ هِمَمَهُمْ وَيُوَطِّنُ نُفُوسَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَوَاطِئَهُمْ وَلَا يخلو مَرَاكِزَهُمْ وَيَبْذُلُوا مُنْتَهَى نَجْدَتِهِمْ وَقُصَارَى شِدَّتِهِمْ وَفِيهِ تَصْوِيرُ مَا دَبَّرَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَمْرِ وَقْعَةِ بَدْرٍ انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ الرَّكْبُ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ نَكَبَ عَنْ بَدْرٍ حِينَ نَدَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْذَ سَيْفَ الْبَحْرِ فَهُوَ أَسْفَلُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَعْلَى الْوَادِي مِنْ حَيْثُ يَأْتِي. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. كَانَ الِالْتِقَاءُ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الشَّامِ تُجَّارًا لَمْ يَشْعُرُوا بِأَصْحَابِ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْعُرْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَلَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى الْتَقَوْا عَلَى مَاءِ بَدْرٍ لِلسَّقْيِ كُلُّهُمْ فَاقْتَتَلُوا فَغَلَبَهُمْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسَرُوهُمْ، قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى لَوْ تَواعَدْتُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ عَلِمْتُمْ كَثْرَتَهُمْ وَقِلَّتَكُمْ لَخَالَفْتُمْ وَلَمْ

تَجْتَمِعُوا مَعَهُمْ وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أَنْتُمْ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَتَوَاضَعْتُمْ بَيْنَكُمْ عَلَى مَوْعِدٍ تَلْتَقُونَ فِيهِ لِلْقِتَالِ لَخَافَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَثَبَّطَكُمْ قِلَّتُكُمْ وَكَثْرَتُهُمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْمَوْعِدِ وَثَبَّطَهُمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ تَهَيُّبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَكُمْ مِنَ التَّلَاقِي مَا وَفَّقَهُ اللَّهُ وَسَبَّبَهُ لَهُ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الْمَعْنَى لَاخْتَلَفْتُمْ بِالْقَوَاطِعِ وَالْعَوَارِضِ الْقَاطِعَةِ بِالنَّاسِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَنْبَلُ يَعْنِي مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ وَأَصَحُّ وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الآية تبين نِعْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ وَتَيْسِيرِهِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْمَعْنَى إِذْ هَيَّأَ اللَّهُ لَكُمْ هَذِهِ الْحَالَ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَهَا لَاخْتَلَفْتُمْ إِلَّا مَعَ تَيْسِيرِ اللَّهِ الَّذِي تَمَّمَ ذَلِكَ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ فِي أَمْرٍ شَاءَهُ اللَّهُ دُونَ تَعَبٍ كَثِيرٍ لو ثبنا عَلَى هَذَا وَسَعَيْنَا فِيهِ لَمْ يَتِمَّ هَكَذَا انْتَهَى، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ لِلْقِتَالِ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أَيْ كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ مُوَاعَدَتَكُمْ طَلَبًا لغرتكم والجيلة عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى وَلَوْ تَواعَدْتُمْ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ اللَّهِ أَمْرَ الْحَرْبِ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً مِنْ نَصْرِ دِينِهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ وَكَسْرِ الْكُفَّارِ وَإِذْلَالِهِمْ كَانَ مَفْعُولًا أَيْ مَوْجُودًا مُتَحَقِّقًا وَاقِعًا وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ مَفْعُولًا لِتَحَقُّقِ كَوْنِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَقْضِيَ أَمْرًا قَدْ قَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ مَفْعُولًا لَكُمْ بِشَرْطِ وُجُودِكُمْ فِي وَقْتِ وُجُودِكُمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ وَاجِبًا أَنْ يُفْعَلَ وَهُوَ نَصْرُ أَوْلِيَائِهِ وَقَهْرُ أَعْدَائِهِ دَبَّرَ ذَلِكَ، وَقِيلَ كَانَ بِمَعْنَى صَارَ لِيَهْلِكَ بَدَلٌ مِنْ لِيَقْضِيَ فَيَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ لِيَقْضِيَ، وَقِيلَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ مَفْعُولًا، وَقِيلَ الْأَصْلُ ولِيَهْلِكَ فَحَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى لِيُقْتَلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ بَيَانٍ مِنَ اللَّهِ وَإِعْذَارٍ بِالرِّسَالَةِ وَيَعِيشَ مَنْ عَاشَ عَنْ بَيَانٍ مِنْهُ وَإِعْذَارٍ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: لِيَكْفُرَ وَيُؤْمِنَ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قِصَّةَ بَدْرٍ عِبْرَةً وَآيَةً لِيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ عَنْ وُضُوحٍ وَبَيَانٍ وَيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: لِيَهْلِكَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ مَنْ حَيِيَ بِالْفَكِّ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْإِدْغَامِ وَقَالَ الْمُتَلَمِّسُ: فَهَذَا أَوَانُ الْعَرْضِ حَيٌّ ذُبَابُهُ وَالْفَكُّ وَالْإِدْغَامِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمَانِ النُّطْقَ اللِّسَانِيَّ وَالِاعْتِقَادَ الْجِنَانِيَّ فَهُوَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِكُمْ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ

اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهَا رُؤْيَا مَنَامٍ رَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْكُفَّارَ قَلِيلًا فَأَخْبَرَ بِهَا أَصْحَابَهُ فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ وَشَجُعَتْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ انْتَبَهَ: «أَبْشِرُوا لَقَدْ نَظَرْتُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ» وَالْمُرَادُ بِالْقِلَّةِ هُنَا قِلَّةُ الْقَدْرِ وَالْيَأْسُ وَالنَّجْدَةُ وَأَنَّهُمْ مَهْزُومُونَ مَصْرُوعُونَ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى قِلَّةِ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رُؤْيَاهُ حَقٌّ وَقَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُمْ مَا بَيْنَ تِسْعِمِائَةٍ إِلَى أَلْفٍ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ الْعَدَدِ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَى فِي مَنامِكَ فِي عَيْنِكَ لِأَنَّهَا مَكَانُ النَّوْمِ كَمَا قِيلَ لِلْقَطِيفَةِ الْمَنَامَةُ لِأَنَّهُ يُنَامُ فِيهَا فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَى هَذَا فَسَّرَ النَّقَّاشُ وَذَكَرَهُ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ضَعِيفٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهَذَا تَفْسِيرٌ فِيهِ تَعَسُّفٌ وَمَا أَحْسَبُ الرِّوَايَةَ فِيهِ صَحِيحَةً عَنِ الْحَسَنِ وَمَا يُلَائَمُ عِلْمُهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَفَصَاحَتِهِ وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَراكَهُمْ فِي مَنَامِكَ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أَيْ لَخِرْتُمْ وَجَبُنْتُمْ عَنِ اللِّقَاءِ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أَيْ تَفَرَّقَتْ آرَاؤُكُمْ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ فَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْهِزَامِكُمْ وَعَدَمِ إِقْدَامِكُمْ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِكُمْ لِأَنَّهُ لَوْ رَآهُمْ كَثِيرًا أَخْبَرَكُمْ بِرُؤْيَاهُ فَفَشِلْتُمْ وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَحْمِيًّا مِنَ الْفَشَلِ مَعْصُومًا مِنَ النَّقَائِصِ أَسْنَدَ الْفَشَلَ إِلَى مَنْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ تَعَالَى لَفَشِلْتُمْ وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ بِإِرَايَتِهِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْكُفَّارَ قَلِيلًا فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ فِيهَا مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْجُبْنِ وَالصَّبْرِ وَالْجَزَعِ وَإِذْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ وَانْتَصَبَ قَلِيلًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْحَالِ وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ أَرَى مَنْقُولَةٌ بِالْهَمْزَةِ مِنْ رَأَى الْبَصَرِيَّةِ فَتَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ الْأَوَّلُ كَافُ خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي ضَمِيرُ الْكُفَّارِ فَقَلِيلًا وَكَثِيرًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ أَرَى الْحُلْمِيَّةَ تَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ كَأَعْلَمَ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا فَانْتِصَابُ قَلِيلًا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَالِثٌ وَجَوَازُ حَذْفِ هَذَا الْمَنْصُوبِ اقْتِصَارًا يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ. تَقُولُ رَأَيْتُ زَيْدًا فِي النَّوْمِ وَأَرَانِي اللَّهُ زَيْدًا فِي النوم. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. هَذِهِ الرُّؤْيَةُ هِيَ يَقَظَةٌ لَا مَنَامٌ وَقَلَّلَ الْكُفَّارَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَلِئَلَّا يَجْبُنُوا عَنْ لِقَائِهِمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ، قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً وَهَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ مَا أُعْلِمَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَقُلِّلَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ حَتَّى قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ:

إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُورٍ وَذَلِكَ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ وَذَلِكَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَتَقَعَ الْحَرْبُ وَيَلْتَحِمَ الْقِتَالُ، إِذْ لَوْ كَثُرُوا قَبْلَ اللِّقَاءِ لَأَحْجَمُوا وَتَحَيَّلُوا فِي الْخَلَاصِ أَوِ اسْتَعَدُّوا وَاسْتَنْصَرُوا وَلَمَّا الْتَحَمَ الْقِتَالُ كَثَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ فَبُهِتُوا وَهَابُوا وَفَلَّتْ شَوْكَتُهُمْ وَرَأَوْا مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ كَمَا قَالَ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ «1» وَعِظَمُ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمُ اسْتِيضَاحُ الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ قِلَّتِهِمْ أَوَّلًا وَكَثْرَتِهِمْ آخِرًا وَرُؤْيَةُ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ يَكُونُ بِأَنْ سَتَرَ اللَّهُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ أَوْ بِأَنْ أَحْدَثَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا يَسْتَقِلُّونَ بِهِ الْكَثِيرَ هَذَا إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ حَقِيقَةً وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى التَّخْمِينِ وَالْحَذَرِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ النَّاسُ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَنْدَرِجُ الرَّسُولُ فِي خِطَابٍ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى أَنْ يَرَى الْكَثِيرَ قَلِيلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا تَخْمِينًا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَقْلِيلِ الْقَدْرِ وَالْمَهَابَةِ وَالنَّجْدَةِ لَا مِنْ بَابِ تَقْلِيلِ الْعَدَدِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُمُ الْمَرْءُ كثيرا بِأَخِيهِ وَإِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَرُوحُ وَأَغْتَدِي سَفَهًا ... أُكَثِّرُ مَنْ أَقِلُّ بِهِ فَهَذَا مِنْ بَابِ التَّقْلِيلِ وَالتَّكْثِيرِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْقَدْرِ، لَا مِنْ بَابِ تَقْلِيلِ الْعَدَدِ لِيَقْضِيَ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَقْضِيَ وَالْمَفْعُولُ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْقِصَّةُ بِأَسْرِهَا، وَقِيلَ هما المعنيين مِنْ مَعَانِي الْقِصَّةِ أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ الْوَعْدُ بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَبِالثَّانِي الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي تُرْجَعُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ فِئَةً كَافِرَةً حَذَفَ الْوَصْفَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانُوا يَلْقَوْنَ إِلَّا الْكُفَّارَ وَاللِّقَاءُ اسْمٌ لِلْقِتَالِ غَالِبٌ وَأَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالثَّبَاتِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِآيَةِ الضَّعْفِ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا» . وَأَمَرَهُمْ بِذِكْرِهِ تَعَالَى كَثِيرًا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الْعَظِيمِ مِنْ مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ وَالتَّلَاحُمِ بِالرِّمَاحِ وَبِالسُّيُوفِ وَهِيَ حَالَةٌ يَقَعُ فِيهَا الذُّهُولُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَأُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ إِذْ هُوَ تَعَالَى الَّذِي يُفْزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيُسْتَأْنَسُ بِذِكْرِهِ وَيُسْتَنْصَرُ بِدُعَائِهِ وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ ذَكَرَهُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ حَتَّى فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُذْهَلُ فِيهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَغِيبُ فِيهَا الْحِسُّ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «2» . وَحَكَى لِي بَعْضُ الشُّجْعَانِ أَنَّهُ حَالَةَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ تَأْخُذُ الشُّجَاعَ هِزَّةٌ وَتَعْتَرِيهِ مِثْلَ السُّكْرِ لِهَوْلِ الْمُلْتَقَى فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَظِيمَةِ وَقَدْ نَظَمَ الشُّعَرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ فِي أشقّ الأوقات عليهم

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 13. (2) سورة الرعد: 13/ 28.

وَأَشَدِّهَا لَمْ يَنْسَوْا مَحْبُوبَهُمْ وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرْتُ سُلَيْمَى وَحَرُّ الْوَغَى ... كَقَلْبِيَ سَاعَةَ فَارَقْتُهَا وَأَبْصَرْتُ بَيْنَ الْقَنَا قَدَّهَا ... وَقَدْ مِلْنَ نَحْوِي فَعَانَقْتُهَا قَالَ قَتَادَةُ: افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ أَشْغَلَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ عِنْدَ الضِّرَابِ وَالسُّيُوفِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَشْغَلَ مَا يَكُونُ قَلْبًا وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ هَمًّا وَأَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ مُجْتَمِعَةً لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَزِّعَةً عَنْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ الثَّبَاتَ وَذِكْرَ اللَّهِ سَبَبَا الْفَلَاحِ وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْعَدُوِّ فِي الدُّنْيَا وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ بِاللِّسَانِ فَأَمَرَ بِالثَّبَاتِ بِالْجَنَانِ وَبِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يُعَيَّنَ ذِكْرٌ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْمُجَاهِدِينَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ لِقَاءِ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمُ: اللَّهُمَّ اخْذُلْهُمُ اللَّهُمَّ دَمِّرْهُمْ وَشَبَهُهُ، وَقِيلَ دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالتَّثْبِيتِ كَمَا فَعَلَ قَوْمُ طَالُوتَ فَقَالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «1» وقيل: حم لَا يُنْصَرُونَ وَكَانَ هَذَا شِعَارَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَوْ رُخِّصَ تَرْكُ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ فِي الْحَرْبِ وَلَذَكَرْنَا حَيْثُ أُمِرَ بِالصَّمْتِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا، وَحُكْمُ هَذَا الذِّكْرِ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا إِلَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْجَمِيعِ وَقْتَ الْحَمْلَةِ فَحَسَنٌ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ لِأَنَّهُ يَفُتُّ فِي أَعْضَادِ الْكُفَّارِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ كَانَ أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَهُ التَّلَثُّمُ عِنْدَ الْقِتَالِ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ وَهُوَ تَجَاذُبُ الْآرَاءِ وَافْتِرَاقُهَا وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ فَتَفْشَلُوا جَوَابًا لِلنَّهْيِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنِ التَّنَازُعِ الْفَشَلُ وَهُوَ الْخَوَرُ وَالْجُبْنُ عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَذَهَابُ الدَّوْلَةِ بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَتَفْشَلُوا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى وَلا تَنازَعُوا وَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عِيسَى بْنِ عُمَرَ وَيَذْهَبْ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبَانٌ وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَذْهَبَ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فَتَفْشَلُوا بِكَسْرِ الشِّينِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لُغَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّيحُ والنصرة وَالْقُوَّةُ وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَاغَوْهُ بِأُحُدٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرِّيحُ الدّولة شبهت لنفوذ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 250.

أَمْرِهَا وَتَشْبِيهٌ بِالرِّيحِ وَهُبُوبِهَا، فَقِيلَ: هَبَّتْ رِيَاحُ فُلَانٍ إِذَا دَالَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ وَنَفَذَ أَمْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَتَنْظُرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أَمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي انْتَهَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ الرِّيحَ هِيَ الدَّوْلَةُ وَمِنِ اسْتِعَارَةِ الرِّيحِ قَوْلُ الْآخَرِ: إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُونَا وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ رُكُودًا. وَقَالَ شَاعِرُ الْأَنْصَارِ: قَدْ عَوَّدَتْهُمْ صِبَاهُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ... رِيحُ الْقِتَالِ وَأَسْلَابُ الَّذِينَ لَقُوا وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَذْهَبَ رِيحُكُمْ مَعْنَاهُ الرُّعْبُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخَائِفِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حَسَنٌ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَدُوُّ بِالتَّنَازُعِ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَالذَّاهِبُ قُوَّةُ الْمُتَنَازِعِينَ فَيَنْهَزِمُونَ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ الرِّيحُ عَلَى بَابِهَا وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّصْرَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ تَهُبُّ فَتَضْرِبُ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ وَاسْتَنَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِرْتُ بِالصَّبَا ، وَقَالَ الْحَكَمُ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ يَعْنِي الصَّبَا إِذْ بِهَا نُصِرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ رِيحُكُمْ حِدَّتُكُمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ جَلَدُكُمْ، وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ هَيْبَتُكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَطِ ... وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ خَرَجُوا لِنُصْرَةِ الْعِيرِ بِالْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ وَوَرَدُوا الْجَحْفَةَ فَبَعَثَ خِفَافٌ الْكِنَانِيُّ وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ بِهَدَايَا مَعَ ابْنِهِ وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَمْدَدْنَاكَ بِالرِّجَالِ وَإِنْ شِئْتَ بِنَفْسِي مَعَ مَنْ خَفَّ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّهَ كما يزعم محمد فو الله مَا لَنَا بِاللَّهِ طَاقَةٌ وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ النَّاسَ فو الله إِنَّ بِنَا عَلَى النَّاسِ لَقُوَّةً وَاللَّهِ، لَا نَرْجِعُ عَنْ قِتَالِ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا فَنَشْرَبَ فِيهَا الْخُمُورَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقَيْنَاتُ فَإِنَّ بَدْرًا مَرْكَزٌ مِنْ مَرَاكِزِ الْعَرَبِ وَسُوقٌ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ مَخْرَجَنَا فَتَهَابَنَا آخِرَ الْأَبَدِ فَوَرَدُوا بَدْرًا فَسُقُوا كُؤُوسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخَمْرِ وَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقَيْنَاتِ، فنبه اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ بَطِرِينَ طَرِبِينَ مُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمْ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا تُجَادِلُ وتكذب رسولك اللهم فاحثها الْغَدَاةَ» وَفِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ.

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. أَعْمالَهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَسِيرُهُمْ إِلَى بَدْرٍ وَعَزْمُهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا التَّزْيِينُ وَالْقَوْلُ وَالنُّكُوصُ هَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَوِ الْحَقِيقَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْأَوَّلِ فَقَالَ: وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُغْلَبُونَ وَلَا يُطَاقُونَ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَطَاعَتَهُ مِمَّا تُحَيِّرُهُمْ فَلَمَّا تَلَاقَى الْفَرِيقَانِ نَكَصَ الشَّيْطَانُ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، أَيْ بَطَلَ كَيْدُهُ حِينَ نَزَلَتْ جُنُودُ اللَّهِ وَكَذَا عَنِ الْحَسَنِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ وَلَمْ يَتَمَثَّلْ لَهُمُ انْتَهَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مُجَازِ التَّمْثِيلِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ يُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ لَيْسَ مِمَّا يُلْقَى بِالْوَسْوَسَةِ انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صُدُورُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْغُوَاةِ مِنَ النَّاسِ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ بِإِغْوَاءِ إِبْلِيسَ لَهُ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ وَالنُّكُوصُ صَادِرَيْنِ مِنْ إِنْسَانٍ حَقِيقَةً وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ تَصَوَّرَ لَهُمْ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَايَةٌ، وَقِيلَ جَاءَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى بَدْرٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَقَدْ خَافُوا مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَكِنَانَةَ لِدَخُولٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ كِنَانَةَ فَقَالَ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَعْنَى جارٌ لَكُمْ مُجِيرُكُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ فَلَمَّا رَأَى الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ نَكَصَ، وَقِيلَ كَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَلَمَّا نَكَصَ قَالَ لَهُ الْحَارِثُ: إِلَى أَيْنَ أَتَخْذُلُنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَقَالَ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ وَدَفَعَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ وَانْطَلَقَ وانهزموا فلما بغلوا مَكَّةَ قَالُوا هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ سُرَاقَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا شَعُرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَتْنِي هَزِيمَتُكُمْ فَلَمَّا أَسْلَمُوا عَلِمُوا أَنَّهُ الشَّيْطَانُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ فِي يَوْمٍ أَقَلَّ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَصْغَرَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ لِمَا يَرَى مِنْ نُزُولِ الرَّحْمَةِ إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ قِيلَ: وَمَا رَأَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: رَأَى الْمَلَائِكَةَ يُرِيحُهَا جِبْرِيلُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ: رَأَى إِبْلِيسُ جِبْرِيلَ يَقُودُ فَرَسَهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِبُرْدَةٍ وَفِي يَدِهِ اللِّجَامُ ولَكُمُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَا غالِبَ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ تَنْوِينُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْمُ لَا مُطَوَّلًا وَالْمُطَوَّلُ يُعْرَبُ وَلَا يُبْنَى بَلْ لَكُمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ كَائِنٌ لَكُمْ وَبِمَا تَعَلَّقَ الْمَجْرُورُ تَعَلَّقَ الظَّرْفُ والْيَوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ لَا أَحَدَ يَغْلِبُكُمْ وَأَنَا جَارٌ لَكُمْ أُعِينُكُمْ وَأَنْصُرُكُمْ بِنَفْسِي وَبِقَوْمِي والْفِئَتانِ جَمْعَا الْمُؤْمِنِينَ

وَالْكَافِرِينَ، وَقِيلَ فِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَفِئَةُ الْمَلَائِكَةِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رَجَعَ فِي ضِدِّ إِقْبَالِهِ وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ مُبَالَغَةٌ فِي الْخِذْلَانِ وَالِانْفِصَالِ عَنْهُمْ لَمْ يَكْتَفِ بِالْفِعْلِ حَتَّى أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ مَا لَا تَرَوْنَ رَأَى خَرْقَ الْعَادَةِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ مَعْذِرَةٌ كَاذِبَةٌ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ قَطُّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: بَلْ خَافَ مِمَّا رَأَى مِنَ الْهَوْلِ أَنَّهُ يَكُونُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ انْتَهَى وَيُنْظَرُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ مَعْطُوفًا عَلَى مَعْمُولِ الْقَوْلِ قَالَ ذَلِكَ بَسْطًا لِعُذْرِهِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الله استأنف تَهْدِيدًا لِإِبْلِيسَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، الْعَامِلُ فِي إِذْ زَيَّنَ أَوْ نَكَصَ أَوْ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أَوِ اذْكُرُوا أَقْوَالٌ وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ. فَقِيلَ الْمُنافِقُونَ هُمْ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَخْرُجُ مَعَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَخْرُجُ غَرَّ هؤُلاءِ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ دِينُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَأَنَّهُمْ لَا يُغْلَبُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَوْمٌ أَسْلَمُوا وَمِنْهُمْ أَقْرِبَاؤُهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ فَأَخْرَجَتْهُمْ قُرَيْشٌ مَعَهَا كَرْهًا فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ ارْتَابُوا وَقَالُوا غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ فَقُتِلُوا جَمِيعًا، مِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ وَالْعَاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ مُنَافِقًا شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَعْتِبَ بْنَ قُشَيْرٍ فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا «2» ، وَقِيلَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ وَهِيَ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وُصِفُوا بِالنِّفَاقِ وَهُوَ إِظْهَارُ مَا يُخْفِيهِ مِنَ الْمَرَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُمْ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَبْعُدُ هَذَا إِذْ لَا يَتَّصِفُ الْمُشْرِكُونَ بِالنِّفَاقِ لِأَنَّهُمْ مُجَاهِرُونَ بِالْعَدَاوَةِ لَا مُنَافِقُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ إِنَّمَا هُمْ مِنْ أَهْلِ عَسْكَرِ الْكُفَّارِ لَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرَأَوْا قِلَّةَ عَدَدِهِمْ قَالُوا مُشِيرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أَيِ اغْتَرُّوا فَأَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ وَكَنَّى بِالْقُلُوبِ عَنِ الْعَقَائِدِ وَالْمَرَضُ أَعَمُّ مِنَ النِّفَاقِ إِذْ يُطْلَقُ مَرَضُ القلب على الكفر.

_ (1) سورة الحشر: 59/ 16. (2) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 154.

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَذَا يَتَضَمَّنُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ فَكَأَنَّهُ قِيلَ هَؤُلَاءِ فِي لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ هُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ فَهُمُ الْغَالِبُونَ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يَنْصُرْهُ وَيُعِزَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ بِقُوَّةٍ وَلَا بِكَثْرَةٍ حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا أَوْ حَاكِمٌ بِنَصْرِهِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فَيُدِيلُ الْقَلِيلَ عَلَى الْكَثِيرِ. وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. لَوْ الَّتِي لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ لِلْمُضِيِّ فَالْمَعْنَى لَوْ رَأَيْتَ وَشَاهَدْتَ وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ جَائِزٌ بَلِيغٌ حَذْفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجِيبًا وَشَأْنًا هَائِلًا كَقَوْلِهِ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «1» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلائِكَةُ فَاعِلُ يَتَوَفَّى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَالْأَعْرَجُ تَتَوَفَّى بِالتَّاءِ وَذُكِرَ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْمَلَائِكَةِ مَجَازٌ وَحَسَّنَهُ الفصل، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْفَاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ والْمَلائِكَةُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، كَهِيَ فِي يَضْرِبُونَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُضَعِّفُهُ سُقُوطُ وَاوِ الْحَالِ فَإِنَّهَا فِي الْأَغْلَبِ تَلْزَمُ مِثْلَ هَذَا انْتَهَى، وَلَا يُضَعِّفُهُ إِذْ جَاءَ بِغَيْرِ وَاوٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ والْمَلائِكَةُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا أَوْ هُوَ وَأَعْوَانُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ التَّوَفِّي قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ أَوِ الْمَلَائِكَةُ الْمُمَدُّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالتَّوَفِّي قَتْلُهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَالتَّوَفِّي سَوْقُهُمْ إِلَى النَّارِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَالظَّاهِرُ حَقِيقَةُ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَسْتَاهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَخُصَّا بِالضَّرْبِ لِأَنَّ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ فِيهِمَا أَشَدُّ، وَقِيلَ: مَا أَقْبَلَ مِنْهُمْ وَمَا أَدْبَرَ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّارِبِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ يَضْرِبُ الْمُؤْمِنُونَ فَمَنْ كَانَ أَمَامَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ضَرَبُوا وُجُوهَهُمْ وَمَنْ كَانَ وَرَاءَهُمْ ضَرَبُوا أَدْبَارَهُمْ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ ضَرْبَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِسِيَاطٍ مِنْ نار، وقوله وذُوقُوا هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وَيَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أَسْوَاطٌ مِنْ نَارٍ يَضْرِبُونَهُمْ بِهَا فَتَشْتَعِلُ جِرَاحَاتُهُمْ نَارًا أَوْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ لِلْكَافِرِينَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا حَالَةَ الْمَوْتِ أَيْ مُقَدِّمَةَ عَذَابِ النَّارِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، ذلِكَ أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَطْفٌ عَلَى ما أي ذلك

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 27، 30.

الْعَذَابُ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ وَبِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُكُمْ إِذْ أَنْتُمْ مُسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ فَتَعْذِيبُكُمْ عَدْلٌ مِنْهُ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ أَوِ الِانْتِقَامُ بِسَبَبِ كَذَا وَظَاهِرُ النِّعْمَةِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُونَ فِيهِ مِنْ سَعَةِ الْحَالِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْخِصْبِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ وَالتَّغْيِيرُ قَدْ يَكُونُ بِإِزَالَةِ الذَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ بِإِزَالَةِ الصِّفَاتِ فَقَدْ تَكُونُ النِّعْمَةُ أُذْهِبَتْ رَأْسًا وَقَدْ تَكُونُ قُلِّلَتْ وَأُضْعِفَتْ، وَقَالَ الْقَاضِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَتَسْهِيلِ السَّبِيلِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَيَعْدِلُوا عَنِ الْكُفْرِ فَإِذَا صَرَفُوا هَذِهِ الْأُمُورَ إِلَى الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَقَدْ غَيَّرُوا أَنْعُمَ اللَّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا تَبْدِيلَ النِّعَمِ بِالنِّقَمِ وَالْمِنَحِ بِالْمِحَنِ وَهَذَا مِنْ أَوْكَدِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تعالى لا يبتدىء أَحَدًا بِالْعَذَابِ وَالْمَضَرَّةِ وَأَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا جَزَاءً عَلَى مَعَاصٍ سَلَفَتْ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ حَيَاتَهُمْ وَعُقُولَهُمُ ابْتِدَاءً لِلنَّارِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَوْمُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ انْتَهَى. قِيلَ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صِفَةُ اللَّهِ مُعَلَّلَةً بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ وَمُتَأَثِّرَةً لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ سَابِقٌ أَوَّلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِعْلٌ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَقِيلَ أَشَارَ بالنعمة إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بَعَثَهُ رَحْمَةً فَكَذَّبُوهُ فَبَدَّلَ اللَّهُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ بِالنِّقْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ عَلى قَوْمٍ الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى مَتَى أَنْعَمَ عَلَى أَحَدٍ فَلَمْ يَشْكُرْ بَدَّلَهُ عَنْهَا بِالنِّقْمَةِ، وَقِيلَ الْقَوْمُ هُنَا قُرَيْشٌ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِيَشْكُرُوا وَيُفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ فَجَحَدُوا وَأَشْرَكُوا فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَّبُوهُ فَلَمَّا غَيَّرُوا مَا اقْتَضَتْهُ نِعْمَةٌ وَحَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ مِنْ قِبَلِ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ غَيَّرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِنِقْمَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَعَدَّ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الْعُقْبَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِثَالُ هَذَا نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا وَغَيَّرُوا مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ فَغَيَّرَ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ بِأَنْ نَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَحَلَّ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ انْتَهَى. وَتَغْيِيرُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمُشْرِكِي مَكَّةَ وَمَنْ يَجْرِي

مَجْرَاهُمْ بِأَنْ كَانُوا كُفَّارًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَالَةٌ مَرْضِيَّةٌ فَغَيَّرُوا تِلْكَ الْحَالَةَ الْمَسْخُوطَةَ إِلَى أَسْخَطَ مِنْهَا مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّعْيِ فِي إِبْطَالِ آيَاتِ اللَّهِ فَغَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ وَعَاجَلَهُمْ وَلَمْ يُمْهِلْهُمْ وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ ذَلِكَ الْعَذَابُ أَوِ الِانْتِقَامُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْبَغِ لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُغَيِّرَ نِعَمَهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِهِمْ مِنَ الْحَالِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ مُكَذِّبِي الرَّسُولِ، عَلِيمٌ بِأَفْعَالِهِمْ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا التَّكْرِيرُ لِمَعْنًى لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَوِ الْأَوَّلُ دَأْبٌ فِي أَنْ هَلَكُوا لَمَّا كَفَرُوا وَهَذَا الثَّانِي دَأْبٌ فِي أَنْ لَمْ يُغَيِّرْ نِعْمَتَهُمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ انْتَهَى، وَقَالَ قَوْمٌ: كَرَّرَ لِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ الثَّانِيَ جَرَى مَجْرَى التَّفْصِيلِ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ إِجْرَامِهِمْ وَفِي هَذَا ذِكْرُ إِغْرَاقِهِمْ وَأُرِيدَ بِالْأَوَّلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ حَالَ الْمَوْتِ وَبِالثَّانِي مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْأَوَّلِ بِآياتِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَفِي الثَّانِي بِآياتِ رَبِّهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِ نِعَمِ مَنْ رَبَّاهُمْ وَدَلَائِلِ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَتَوَالِيهَا وَفِي الْأَوَّلِ اللَّازِمُ مِنْهُ الْأَخْذُ، وَفِي الثَّانِي اللَّازِمُ مِنْهُ الْهَلَاكُ وَالْإِغْرَاقُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِآياتِ رَبِّهِمْ زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ وَجُحُودِ الْحَقِّ وَفِي ذِكْرِ الْإِغْرَاقِ بَيَانٌ لِلْأَخْذِ بِالذُّنُوبِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي كَفَرُوا عَائِدًا عَلَى قُرَيْشٍ وَفِي الْأَخِيرَةِ فِي كَذَّبُوا عائدا عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ انْتَهَى. وَقِيلَ فَأَهْلَكْناهُمْ هُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ كَذَّبُوا عَائِدًا عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ فَأَهْلَكْناهُمْ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ وَعَادًا بِالرِّيحِ وَثَمُودًا بِالصَّيْحَةِ وَقَوْمَ لُوطِ بِالْخَسْفِ، وَفِرْعَوْنَ وَآلَهُ بِالْغَرَقِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِالظُّلَّةِ، وَقَوْمَ دَاوُدَ بِالْمَسْخِ وَأَهْلَكَ قُرَيْشًا وَغَيْرَهَا بَعْضَهُمْ بِالْفَزَعِ وَبَعْضَهُمْ بِالسَّيْفِ وَبَعْضَهُمْ بِالْعَدَسَةِ كَأَبِي لَهَبٍ، وَبَعْضَهُمْ بِالْغُدَّةِ كَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَبَعْضَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ كَأَوِيدِ بْنِ قَيْسٍ انتهى، فيظهر من هذه الْكَلَامِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي كَذَّبُوا وفَأَهْلَكْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي كَدَأْبِ إِذْ عَمَّ الضَّمِيرُ الْقَبِيلَتَيْنِ وَإِنَّمَا خَصَّ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ وَذَكَرَ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ وَهُوَ إِغْرَاقُهُمْ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى كُفْرِهِمْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ أَشْنَعَ الْكُفْرِ وَأَفْظَعَهُ وَمُرَاعَاةُ لَفْظِ كُلٌّ إِذَا حَذَفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ جَائِزَةٌ وَاخْتِيرَ هُنَا مُرَاعَاةُ

الْمَعْنَى لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ إِذْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ وَكُلٌّ كَانَ ظَالِمًا لَمْ يَقَعْ فَاصِلَةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَكُلُّهُمْ مِنْ غَرْقَى الْقِبْطِ وَقَتْلَى قُرَيْشٍ كانُوا ظالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرُ تَخْصِيصُ الزَّمَخْشَرِيِّ كُلًّا بِغَرْقَى الْقِبْطِ وَقَتْلَى قُرَيْشٍ إِذِ الضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوا وَفِي فَأَهْلَكْناهُمْ لَا يَخْتَصُّ بِهِمَا فَالَّذِي يَظْهَرُ عُمُومُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُمْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قبلهم أَوْ عُمُومُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِمْ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ. نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ عَاهَدَهُمُ الرَّسُولُ أَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِ فَنَكَثُوا بِأَنْ أَعَانُوا مُشْرِكِي مَكَّةَ بِالسِّلَاحِ وَقَالُوا نَسِينَا وَأَخْطَأْنَا ثُمَّ عاهدهم فنكثوا مالؤوا مَعَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَانْطَلَقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى مَكَّةَ فَحَالَفَهُمْ قَالَ الْبَغَوِيُّ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ أَخْطَأَ وَوَهِمَ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ فَإِنَّهُ كَانَ سَيِّدَ قُرَيْظَةَ، وَقِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَقِيلَ: نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ عَبْدِ الدَّارِ حَكَاهُ التَّبْرِيزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِيمَانٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَرُّ النَّاسِ الْكُفَّارُ وَشَرُّ الْكُفَّارِ الْمُصِرُّونَ مِنْهُمْ وَشَرُّ الْمُصِرِّينَ النَّاكِثُونَ لِلْعُهُودِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ جَامِعُونَ لِأَنْوَاعِ الشَّرِّ الَّذِينَ عَاهَدْتَ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ وَضَمِيرُ الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ أَيْ عَاهَدْتَهُمْ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَرَّ الدَّوَابِّ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: الْكُفْرُ وَالْمُوَافَاةُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاهَدَةُ مَعَ النَّقْضِ، والَّذِينَ عَلَى هَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ فِرْقَةً أَوْ طَائِفَةً ثُمَّ أَخَذَ يَصِفُ حَالَ الْمُعَاهَدِينَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يَكُونُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ الْخَبَرُ قَوْلَهُ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُعَاهَدُ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنْ تَظْفَرْ بِهِمْ فَاصْنَعْ كَذَا أَوْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمُعَاهَدِينَ بَعْضُ الْكُفَّارِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ كَائِنِينَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ أَخَذْتَ مِنْهُمُ الْعَهْدَ فَتَكُونُ مِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ أَيْ عَاهَدْتَهُمْ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ ضَعِيفَةٌ وَأَتَى ثُمَّ يَنْقُضُونَ بِالْمُضَارِعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ شَأْنُهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَقْدِيرُهُ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ لَا يَخَافُونَ عَاقِبَةَ الْعَدُوِّ وَلَا يُبَالُونَ بِمَا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ مِنَ الْعَارِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّارِ.

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أَيْ فَإِنْ تَظْفَرْ بِهِمْ فِي الْحَرْبِ وَتَتَمَكَّنْ مِنْهُمْ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَنْذِرْ مَنْ خَلْفَهُمْ عَنْ قَتْلِ مَنْ ظَفِرَ بِهِ وَتَنْكِيلِهِ فَكَانَ الْمَعْنَى فَإِنْ تَظْفَرْ بِهِمْ فَاقْتُلْهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا حَتَّى يَفِرَّ عَنْكَ مَنْ خَلْفَهُمْ وَيَتَفَرَّقَ وَلَمَّا كَانَ التَّشْرِيدُ وَهُوَ التَّطْرِيدُ وَالْإِبْعَادُ نَاشِئًا عَنْ قَتْلِ مَنْ ظَفِرَ بِهِ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ النَّاقِضِينَ جُعِلَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِذْ هُوَ يَتَسَبَّبُ عَنِ الْجَوَابِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ فَسَمِّعْ بِهِمْ وَحَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ حَتَّى لَا يَجْسُرَ عَلَيْكَ بَعْدَهُمْ أَحَدٌ اعْتِبَارًا بِهِمْ وَاتِّعَاظًا بِحَالِهِمْ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ التَّشْرِيدُ التَّخْوِيفُ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ الْقَرَارُ أَيْ لَا تَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِيمَانَ أَوِ السَّيْفَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ فَشَرِّذْ بِالذَّالِ وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا وَلَمْ تُحْفَظْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَقِيلَ: الذَّالُ بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ كَمَا قالوا لحم خراديل وخزاذيل، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَشَرِّذْ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بِمَعْنَى فَفَرِّقْ وَكَأَنَّهُ مَقْلُوبُ شَذَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ ذهبوا شذر وَمِنْهُ الشَّذَرُ الْمُلْتَقَطُ مِنَ الْمَعْدِنِ لِتَفَرُّقِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الشاعر: غرائر في كن وَصَوْنٍ وَنِعْمَةٍ ... تَحَلَّيْنَ يَاقُوتًا وَشَذْرًا مُفَقَّرَا وَقَالَ قُطْرُبٌ: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ التَّنْكِيلُ وَبِالْمُهْمَلَةِ التَّفْرِيقُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ مَنْ خَلْفَهُمْ جَارًّا وَمَجْرُورًا وَمَفْعُولُ فَشَرِّدْ مَحْذُوفٌ أَيْ نَاسًا مَنْ خَلْفَهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُمْ يَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ خَلْفَهُمْ وَهُمُ الْمُشَرَّدُونَ أَيْ لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِمَا جَرَى لَنَا قُضِيَ الْعَهْدُ أَوْ يَتَذَكَّرُونَ بِوَعْدِكَ إِيَّاهُمْ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَثْقُوفِينَ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ لَا يَتَذَكَّرُ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يَصْنَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ خِيَانَةً إِلَى سَالِفِ الدَّهْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هِيَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ لِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُونُوا فِي حَدِّ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ خِيَانَةً لِأَنَّ خِيَانَتَهُمْ كَانَتْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً، وَلِقَوْلِهِ مِنْ قَوْمٍ فَلَوْ كَانَتْ فِي بَنِي قريظة وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْهُمْ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: تَخافَنَّ بِمَعْنَى تَعْلَمُ وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ الْخَوْفُ عَلَى بَابِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُمْ مَبَادِئُ الشَّرِّ وَيُنْقَلُ عَنْهُمْ أَقْوَالٌ تَدُلُّ عَلَى الْغَدْرِ فَالْمَبَادِئُ مَعْلُومَةٌ وَالْخِيَانَةُ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْمَبَادِئِ مَخُوفَةٌ لَا مُتَيَقَّنَةٌ وَلَفْظُ الْخِيَانَةِ دَالٌّ عَلَى تَقَدُّمِ عَهْدٍ لِأَنَّهُ مَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَا تَكُونُ مُحَارَبَتُهُ خِيَانَةً فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ إِذَا أَحَسَّ مِنْ أَهْلِ عَهْدٍ مَا ذَكَرْنَا وَخَافَ خِيَانَتَهُمْ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ

وَهُوَ النَّبْذُ وَمَفْعُولُ فَانْبِذْ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أَيِ ارْمِهِ وَاطْرَحْهُ، وَفِي قَوْلِهِ فَانْبِذْ عَدَمُ اكْتِرَاثٍ بِهِ كَقَوْلِهِ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «1» فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «2» كَمَا قَالَ، نَبْذَ الْحَذَّاءِ الْمُرَقَّعِ، وَكَأَنَّهُ لَا يَنْبِذُ وَلَا يَرْمِي إِلَّا الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يُبَالِي بِهِ وَقُوَّةُ هَذَا اللَّفْظِ تَقْتَضِي حَرْبَهُمْ وَمُنَاجَزَتَهُمْ أَنْ يَسْتَقْصُوا وَمعْنَى عَلى سَواءٍ أَيْ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَوٍ قَصْدٍ وَذَلِكَ أَنْ تُظْهِرَ لَهُمْ نَبْذَ الْعَهْدِ وَتُخْبِرَهُمْ إِخْبَارًا مَكْشُوفًا بَيِّنًا أَنَّكَ قَطَعْتَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ وَلَا تُنَاجِزْهُمُ الْحَرْبَ وَهُمْ عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ الْعَهْدِ فَيَكُونَ ذَلِكَ خِيَانَةً مِنْكَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فَلَا يَكُنْ مِنْكَ إِخْفَاءٌ لِلْعَهْدِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِلَفْظِهِ وَغَيْرُهُ كَابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: عَلى سَواءٍ عَلَى مَهَلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «3» الْآيَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْمَعْنَى فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى اعْتِدَالٍ وَسَوَاءٍ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ بَيِّنْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ لَا تُفَرِّطْ وَلَا تَفْجَأْ بِحَرْبٍ بَلِ افْعَلْ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا بِكَ يَعْنِي مُوَازَنَةً وَمُقَايَسَةً. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ سِوَاءٍ بِكَسْرِ السِّينِ وَظَاهِرُ إِنَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: فَانْبِذْ أَيْ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ عَلَى تَبَعُّدٍ مِنَ الْخِيَانَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَعْنًا عَلَى الْخَائِنِينَ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الرَّسُولُ وَيَحْتَمِلُ عَلَى سَوَاءٍ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي فَانْبِذْ أَيْ كَائِنًا عَلَى طَرِيقِ قَصْدٍ أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَجْرُورِ أَيْ كَائِنِينَ عَلَى اسْتِوَاءٍ فِي الْعِلْمِ أَوْ فِي الْعَدَاوَةِ. وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَفْلَتَ مِنَ الْكُفَّارِ فِي بَدْرٍ فَالْمَعْنَى لَا تَظُنَّهُمْ نَاجِينَ مُفْلِتِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ طَالِبَهُمْ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَخْذِهِمْ، قِيلَ: وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَفُوتُونَ بَلْ يُظْفِرُكَ اللَّهُ بِهِمْ، وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ الْحَسَنُ وَقِيلَ: الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَعْجَزَ غَلَبَ وَفَاتَ، قَالَ سُوَيْدٌ: وَأَعْجَزَنَا أَبُو لَيْلَى طُفَيْلٌ ... صَحِيحُ الْجِلْدِ مِنْ أَثَرِ السِّلَاحِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَلَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ أَيْ وَلا يَحْسَبَنَّ الرَّسُولُ أَوْ حَاسِبٌ أَوِ الْمُؤْمِنُ أَوْ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ خَلْفَهُمْ فَيَكُونُ مَفْعُولًا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا لقراءة بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ أَوْ لِلسَّامِعِ وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي قِرَاءَةِ الْيَاءِ فَاعِلُ لَا يَحْسَبَنَّ ولا يَحْسَبَنَّ هُوَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا وَعَلَى إِضْمَارِ أَنْ قَبْلَ سَبَقُوا فَحُذِفَتْ وَهِيَ مُرَادَةٌ فسدّت

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 187. (2) سورة القصص: 28/ 40، وسورة الذاريات: 51/ 40. (3) سورة التوبة: 9/ 1.

مَسَدَّ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمْ سَبَقُوا، وَقِيلَ التَّقْدِيرَ وَلَا تَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَحَذَفَ الضَّمِيرَ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا وَقَدْ رَدَدْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ، وَعَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةَ الْيَاءِ وَذَكَرَ نَقْلَ تَوْجِيهِهَا عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِمَّا الضَّمِيرِ وَإِمَّا أَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا حَذْفِ أَنْ وَإِمَّا أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ عَلَى أَنْ لَا صِلَةَ وَسَبَقُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يَعْنِي سَابِقِينَ أَوْ مُفْلِتِينَ هَارِبِينَ وَعَلَى وَلا يَحْسَبَنَّ قَتِيلَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا مُتَمَحِّلَةٌ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا حَمْزَةُ بِنَيِّرَةٍ انْتَهَى، وَلَمْ يَتَفَرَّدْ بِهَا حَمْزَةُ كَمَا ذَكَرَ بَلْ قَرَأَ بِهَا ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ سَبَقُوا اللَّحْنَ وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ تَوْجِيهِهَا عَلَى غَيْرِ مَا نَقَلَ مِمَّا هُوَ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِهِ وَلَيْسَتْ بِنَيِّرَةٍ وَتَقَدَّمَ ذِكْرٌ فِي فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا فِي قَوْلِهِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ «1» وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقِيلَ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ عَلَى أَنْ لَا صِلَةَ فَهَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَيْهِ لَفَتَحَ أَنَّ وَإِنَّمَا فَتَحَهَا مِنَ السَّبْعَةِ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ وَاسْتَبْعَدَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِيهَا لِأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ أَيْ لَا تَحْسَبَنَّهُمْ فَائِتِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ لَا يَقَعُ مِنْكَ حُسْبَانٌ لَفَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ لَا يَفُوتُونَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَلَا يَحْسَبُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَحَذْفِ النُّونِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى حَذْفِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ لِمُلَاقَاةِ السَّاكِنِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ لَا تُعْجِزُونِي بِكَسْرِ النُّونِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الِاخْتِيَارُ فَتْحُ النُّونِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَنِي وَتُحْذَفُ النُّونُ الْأُولَى لِاجْتِمَاعِ النُّونَيْنِ كَمَا قَالَ الشاعر: تراه كالثّغام يعمل مِسْكًا ... يَسُوءُ الْغَالِبَاتِ إِذَا فَلَيْنِي الْبَيْتُ لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَلَا مَحَالَةَ أَنَّنِي ... لِلْحَادِثَاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أَجْزَعُ فَهَذَا يَجُوزُ عَلَى الِاضْطِرَارِ فَقَالَ قَوْمٌ: حَذَفَ النُّونَ الْأُولَى وَحَذْفُهَا لَا يَجُوزُ لأنها في

_ (1) سورة البقرة: 2/ 273.

مَوْضِعِ الْإِعْرَابِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَرَى فِيمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا حَذْفَ الثَّانِيَةِ وَكَذَا كَانَ يَقُولُ فِي بَيْتِ عَمْرٍو، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ غَيْرِ تَشْدِيدٍ وَلَا يَاءٍ، وَعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ تَشْدِيدُ النُّونِ وَكَسْرُهَا أَدْغَمَ نُونَ الْإِعْرَابِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَعَنْهُ أَيْضًا بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ، قَالَ النَّحَّاسَ: وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى عَجْزِهِ ضَعْفُهُ وَضَعْفُ أَمْرِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِنُونَيْنِ انْتَهَى، أَمَّا كَوْنُهُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ وَقَدْ قرىء بِهِ فِي السَّبْعَةِ وَأَمَّا عَجَّزَنِي مُشَدَّدًا فَذَكَرَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنَّ مَعْنَاهُ بَطَّأَ وَثَبَّطَ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى نَسَبَنِي إِلَى الْعَجْزِ وَالتَّشْدِيدُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ خَطَأً كَمَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. لَمَّا اتُّفِقَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ أَنْ قَصَدُوا الْكُفَّارَ بِلَا تَكْمِيلِ آلَةٍ وَلَا عِدَّةٍ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّشْرِيدِ وَبِنَبْذِ الْعَهْدِ لِلنَّاقِضِينَ كَانَ ذَلِكَ سَبِيلًا لِلْأَخْذِ فِي قِتَالِهِ وَالتَّمَالُؤِ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِعْدَادِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ لِلْجِهَادِ وَالْإِعْدَادُ الْإِرْصَادُ وَعَلَّقَ ذَلِكَ بِالِاسْتِطَاعَةِ لُطْفًا مِنْهُ تَعَالَى وَالْمُخَاطَبُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِي الذِّكْرِ وَهُمُ الْمَأْمُورُ بِحَرْبِهِمْ فِي ذَلِكَ الوقت ويعمّ من بعده. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ يُنْبَذُ إِلَيْهِمُ الْعَهْدُ وَالظَّاهِرُ الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يتقوى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ مِمَّا أَوْرَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمْثِيلُ كَالرَّمْيِ وَذُكُورِ الْخَيْلِ وَقُوَّةِ الْقُلُوبِ وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ وَالْحُصُونِ الْمُشَيَّدَةِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ وعددها والأزواد وَالْمَلَابِسِ الْبَاهِيَةِ حَتَّى إِنَّ مجاهدا رئي يَتَجَهَّزُ لِلْجِهَادِ وَعِنْدَهُ جَوَالِقُ فَقَالَ هَذَا مِنَ الْقُوَّةِ وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ألا إنّ القوة الرّمي ألا إن الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» فَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُعْظَمَ الْقُوَّةِ وَأَنْكَاهَا لِلْعَدُوِّ الرَّمْيُ كَمَا جَاءَ «الْحَجُّ عَرَفَةُ» وَجَاءَ فِي فَضْلِ الرَّمْيِ أَحَادِيثُ وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْقُوَّةِ يَكُونُ قَوْلُهُ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تَنْصِيصٌ عَلَى فَضْلِ رِبَاطِ الْخَيْلِ إِذَا كَانَتِ الْخَيْلُ هِيَ أَصْلُ الْحُرُوبِ وَالْخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا وَهِيَ مَرَاكِبُ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الرِّبَاطُ مِنَ الْخَيْلِ الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا وَجَمَاعَةٌ رُبْطٌ وَهِيَ الَّتِي تَرْتَبِطُ يُقَالُ: مِنْهُ رَبَطَ رَبْطًا وَارْتَبَطَ انْتَهَى، قَالَ: تَلُومُ عَلَى رَبْطِ الْجِيَادِ وَحَبْسِهَا ... وَأَوْصَى بِهَا اللَّهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدَا

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ورِباطِ الْخَيْلِ جَمْعُ رَبْطٍ كَكَلْبٍ وَكِلَابٍ وَلَا يُكَثَّرُ رَبْطُهَا إِلَّا وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّبَاطُ مَصْدَرًا مِنْ رَبَطَ كَصَاحَ صِيَاحًا لِأَنَّ مَصَادِرَ الثُّلَاثِيِّ غَيْرِ الْمَزِيدِ لَا تَنْقَاسُ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَصْدَرًا مِنْ رَابَطَ وَكَانَ ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ وَاتِّخَاذُهَا يَفْعَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِفِعْلِ آخَرَ فَيُرَابِطُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا رَبَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَسًا لِأَجْلِ صَاحِبِهِ فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمْ رِبَاطٌ وَذَلِكَ الَّذِي حُضَّ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَالْبَاسِطِ يَدِهِ بِالصَّدَقَةِ لَا يَقْبِضُهَا» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ انْتَهَى، فَجَوَّزَ فِي رِبَاطِ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِرَبْطٍ وَأَنْ يَكُونَ مصدرا لربط وَالرَّابِطِ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ مَصَادِرَ الثُّلَاثِيِّ غَيْرِ الْمَزِيدِ لَا تَنْقَاسُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَهَا مَصَادِرُ مُنْقَاسَةٌ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالرِّبَاطُ اسْمٌ لِلْخَيْلِ الَّتِي تُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى بِالرِّبَاطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمُرَابَطَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ رَبِيطٍ كَفَصِيلٍ وَفِصَالٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمِنْ رُبُطِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاءِ وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ وَالْحَسَنِ أَيْضًا رُبْطٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَذَلِكَ نَحْوُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ وَكُتْبٍ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي جَمْعِهِ وَهُوَ مَصْدَرٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ نَظَرٌ انْتَهَى، وَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مَصْدَرًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ إِنَّهُ مِنَ الْخَيْلِ الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا وَإِنَّ جِمَاعَهَا رُبُطٌ وَهِيَ الَّتِي تُرْتَبَطُ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْخَيْلِ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رِباطِ الْخَيْلِ إِنَاثُهَا وَفَسَّرَ الْقُوَّةَ بِذُكُورِهَا وَاسْتَحَبَّ رِبَاطَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ النِّتَاجِ كَمَا قَالَ: بُطُونُهَا كَنْزٌ، وَقِيلَ: رِباطِ الْخَيْلِ الذُّكُورَ مِنْهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ عَلَى الْقِتَالِ وَالْكِفَاحِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْعَدْوِ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَقِيلَ: عَلَى الْإِعْدَادِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقُوَّةِ، وَقِيلَ: عَلَى رِباطِ وتُرْهِبُونَ، قَالُوا: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَأَعِدُّوا أَوْ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ وَيَحْصُلُ بِهَذَا الِارْتِبَاطِ وَالْإِرْهَابِ فَوَائِدُ مِنْهَا: أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ دُخُولَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَبِاشْتِدَادِ الْخَوْفِ قَدْ يَلْتَزِمُونَ الْجِزْيَةَ أَوْ يُسَلِّمُونَ أَوْ لَا يُعِينُونَ سَائِرَ الْكُفَّارِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ عقيل لأبي عمرو وتُرْهِبُونَ مُشَدَّدًا عُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ كَمَا عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَزَعَمَ عَمْرٌو أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ يُرْهِبُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَخَفَّفَهَا انْتَهَى، وَالضَّمِيرُ فِي يُرْهِبُونَ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ لَهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَلِمُوا بِمَا أَعْدَدْتُمْ لِلْحَرْبِ مِنَ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ خَوَّفُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَرْهَبُوهُمْ إِذْ يُعْلِمُونَهُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْدَادِ لِلْحَرْبِ فَيَخَافُونَ مِنْكُمْ وَإِذَا كَانُوا قَدْ أَخَافُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنْكُمْ فَهُوَ أَشَدُّ خَوْفًا لَكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: تُخْزُونَ بِهِ مَكَانَ تُرْهِبُونَ بِهِ وَذَكَرَهَا الطَّبَرِيُّ عَلَى

جِهَةِ التَّفْسِيرِ لَا عَلَى جِهَةِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ عَدُوًّا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ وَلَامِ الْجَرِّ، قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَقِيلَ أَرَادَ بِهِ اسْمَ الْجِنْسِ وَمَعْنَاهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ نَكِرَةً بِمَعْنَى الْعَامَّةِ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ أَيْضًا لَمْ تَتَعَرَّفْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَمَعْنَاهُ الْحَالُ وَالِاسْتِقْبَالُ وَلَا يَتَعَرَّفُ ذَلِكَ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَعَارِفِ وَأَمَّا عَدُوَّكُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ نَكِرَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَرَّفَ لِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ وَمِثْلُهُ رَأَيْتُ صَاحِبًا لَكُمْ فَقَالَ لِي صَاحِبُكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. وَذَكَرَ أَوَّلًا عَدُوَّ اللَّهِ تَعْظِيمًا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَقْوِيَةً لِذَمِّهِمْ وَأَنَّهُ يَجِبُ لِأَجْلِ عَدَاوَتِهِمْ لِلَّهِ أَنْ يُقَاتَلُوا وَيُبْغَضُوا ثُمَّ قَالَ وَعَدُوَّكُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيضِ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذْ فِي الطَّبْعِ أَنْ يُعَادِيَ الْإِنْسَانُ مَنْ عَادَاهُ وَأَنْ يَبْغِيَ لَهُ الْغَوَائِلَ وَالْمُرَادُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، قِيلَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ الْكُفَّارِ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أَصْلُ دُونَ أَنْ تَكُونَ ظَرْفَ مَكَانٍ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ دُونِهِمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ دُونَ أَنْ تَكُونَ هَؤُلَاءِ فَدُونَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْ دُونِ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا مِنَ النَّازِلَةِ الَّتِي فِيهَا الْقَوْلُ وَمِنْهُ الْمَثَلُ: وَأْمُرْ دُونَ عبيدة الوزم، قال مجاهد وَآخَرِينَ: بَنُو قُرَيْظَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْيَهُودُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَهْلُ فَارِسَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كُفَّارُ الْجِنِّ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ صَهِيلَ الْخَيْلِ تَنْفِرُ الْجِنُّ مِنْهُ وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَدْخُلُ دَارًا فِيهَا فَرَسُ الْجِهَادِ وَنَحْوُ هَذَا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمْ كُلُّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْفِرْقَةِ الَّتِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَرَّدَ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهَذَا أَظْهَرَ لِأَنَّهُ قَالَ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أَيْ لَا تَعْلَمُونَ أَعْيَانَهُمْ وَأَشْخَاصَهُمْ إِذْ هُمْ مُتَسَتِّرُونَ عَنْ أَنْ تَعْلَمُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَالْعِلْمُ هُنَا كَالْمَعْرِفَةِ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالذَّوَاتِ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالنِّسْبَةِ وَمَنْ جَعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِالنِّسْبَةِ فَقَدَّرَ مَفْعُولًا ثَانِيًا مَحْذُوفًا وَقَدَّرَهُ مُحَارَبِينَ فَقَدْ أَبْعَدَ لِأَنَّ حَذْفَ مِثْلِ هَذَا دُونَ تَقَدُّمِ ذِكْرٍ مَمْنُوعٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ وَعَزِيزٌ جِدًّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمَعْنَى وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ فارغين رَاهِبِينَ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمُنَافِقِينَ كَمَا قُلْنَا عَلَى جِهَةِ الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى سُوءِ حَالِهِمْ وَلِيَسْتَرِيبَ بِنَفْسِهِ كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ مِنْهَا نِفَاقًا إِذَا سَمِعَ الْآيَةَ وَبِفَزَعِهِمْ وَرَهْبَتِهِمْ غِنًى كَبِيرٌ فِي ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَا مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَيَّنَ قَوْلُهُ وَآخَرِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ فَكَيْفَ يَدَّعِي أَحَدٌ عِلْمًا بِهِمْ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِيهِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى، ثُمَّ

حَضَّ تَعَالَى عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَحْمِلُ وَاحِدٌ الْجَمَاعَةَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَجَهَّزَ عُثْمَانُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ وَثَوَابُهُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَقِيلَ هَذِهِ التَّوْفِيَةُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا أَنْفَقُوا مَعَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى الْآخَرِ مَالَ إِلَيْهِ وَجَنَحَتِ الْإِبِلُ مَالَتْ أَعْنَاقُهَا فِي السَّيْرِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ ... بِذِكْرَاكَ وَالْعِيسُ الْمَرَاسِيلُ جُنَّحُ وَجَنَحَ اللَّيْلُ أَقْبَلَ وَأَمَالَ أَطْنَابَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ طُيُورًا تَتْبَعُ الْجَيْشَ: جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذَا مَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ أَوَّلُ غَالِبِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَضْلَاعِ جَوَانِحُ لِأَنَّهَا مَالَتْ عَلَى الْحَشْوَةِ وَمِنْهُ الْجَنَاحُ لِمَيْلِهِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى فُلَانٍ وَجَنَحَ لَهُ إِذَا تَابَعَهُ وَخَضَعَ لَهُ وَالضَّمِيرُ فِي جَنَحُوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَقِيلَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، وَقِيلَ عَلَى قَوْمٍ سَأَلُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَجَنَحَ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ وَالسَّلْمُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. فَقِيلَ: التَّأْنِيثُ لُغَةٌ، وَقِيلَ عَلَى مَعْنَى الْمُسَالَمَةِ، وَقِيلَ حَمْلًا عَلَى النَّقِيضِ وَهُوَ الْحَرْبُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَأَفْنَيْتُ فِي الْحَرْبِ آلَاتِهَا ... وَعَدَّدْتُ لِلسَّلْمِ أَوْزَارَهَا وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ فتح السِّينِ وَكَسْرِهَا وَالسَّلْمُ الصُّلْحُ لُغَةً، فَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ مُوَادَعَةُ الْمُشْرِكِينَ وَمُهَادَنَتُهُمْ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَإِنْ رَآهُ مَصْلَحَةً فَعَلَ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مَعْتِبٍ سَأَلُوا الْمُوَادَعَةَ فَأَمْرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: أَدَاءُ الْجِزْيَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّلْمُ الْإِسْلَامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَرَى فِيهِ الْإِمَامُ صَلَاحَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْ حَرْبٍ أَوْ سَلْمٍ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ أَنْ يُقَاتِلُوا أَبَدًا أَوْ يُجَابُوا إِلَى الْهُدْنَةِ أَبَدًا، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعَقِيلِيُّ فَاجْنَحْ بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْقِيَاسُ فِي فِعْلِ اللَّازِمِ ضَمُّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي الْمُضَارِعِ وَهِيَ أَقْيَسُ مِنْ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَلَا يُبَالِي بِهِمْ وَإِنْ أَبَطَنُوا الْخَدِيعَةَ فِي

جُنُوحِهِمْ إِلَى السَّلْمِ فَإِنَّ الله كافي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِهِمُ الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِهِمْ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. أَيْ وَإِنْ يُرِدِ الْجَانِحُونَ لِلسَّلْمِ بِأَنْ يُظْهِرُوا السَّلْمَ وَيُبْطِنُوا الْخِيَانَةَ وَالْغَدْرَ مُخَادَعَةً فَاجْنَحْ لَهَا فَمَا عَلَيْكَ مِنْ نِيَّاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فَإِنَّ حَسْبَكَ وَكَافِيكَ هُوَ اللَّهُ وَمَنْ كَانَ اللَّهُ حَسْبُهُ لَا يُبَالِي بِمَنْ يَنْوِي سُوءًا ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِمَا فَعَلَ مَعَهُ أَوَّلًا مِنْ تَأْيِيدِهِ بِالنَّصْرِ وَبِائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِعَانَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ فَكَمَا لَطَفَ بِكَ أَوَّلًا يَلْطُفُ بِكَ آخِرًا وَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَكَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَدَاوَةِ لِلْحُرُوبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ مَا كَانَ لَوْلَا الْإِسْلَامُ لَيَنْقَضِي أَبَدًا وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ فَأَبْدَلَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مَحَبَّةً وَبِالتَّبَاعُدِ قُرْبًا. وَمَعْنَى لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عَلَى تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهَا عَلَى مَحَبَّةِ بَعْضِهَا بَعْضًا وَكَوْنُهَا فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، تَظَاهَرَ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَعَلَ التَّأْلِيفَ مَا كَانَ بَيْنَ جَمْعِهِمْ فَكُلٌّ يَأْلَفُ فِي اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّأْلِيفُ بَيْنَ قُلُوبِ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَالِانْطِوَاءِ عَلَى الضَّغِينَةِ فِي أَدْنَى شَيْءٍ وَإِلْقَائِهِ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ إِلَى أَنْ يَنْتَقِمُوا لَا يَكَادُ يَأْتَلِفُ مِنْهُمْ قَلْبَانِ ثُمَّ ائْتَلَفَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّحَدُوا وَذَلِكَ لِمَا نَظَّمَ اللَّهُ مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَعَ مِنْ كَلِمَتِهِمْ وَأَحْدَثَ بَيْنَهُمْ من التحابّ والتوادّ وأما عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ وَكَلَّفَهُمْ مِنَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ يَمْلِكُ الْقُلُوبَ فَهُوَ يُقَلِّبُهَا كَمَا يَشَاءُ وَيَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَادَ انْتَهَى، وَكَلَامُهُ آخِرًا قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقَائِدَ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا حَصَلَ مِنَ الْأُلْفِ هُوَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَكَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ خِلَافُ صَرِيحِ الْآيَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَوْلَا أَلْطَافُ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةً سَاعَةً مَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فَأُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُضَافُ عِلْمُ الْوَلَدِ وَأَدَبُهُ إِلَى أَبِيهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحَصِّلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْأَبِ وَتَرْبِيَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا انْتَهَى، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَتْ بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ: فِي إِسْلَامِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَسْلَمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَسِتُّ نِسْوَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ فَنَزَلَتْ، وَالظَّاهِرُ رَفْعُ وَمَنِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَعَلَى هَذَا فَسَّرَهُ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ أَيْ حَسْبُكَ اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ مَعْنَى الْآيَةِ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ، قَالَ ابْنَ عَطِيَّةَ: فَمَنْ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا نَصْبٌ عَلَى الْمَعْنَى بِيَكْفِيكَ الَّذِي سَدَّتْ حَسْبُكَ مَسَدَّهَا انْتَهَى، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ حَسْبُكَ لَيْسَ مِمَّا تَكُونُ الْكَافُ فِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَلْ هَذِهِ إِضَافَةٌ صَحِيحَةٌ لَيْسَتْ مِنْ نَصْبٍ وحَسْبُكَ مُبْتَدَأٌ مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ وَلَيْسَ مَصْدَرًا وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ إِلَّا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ كَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قِيلَ يَكْفِيكَ اللَّهُ أَوْ كَفَاكَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ عَلَى التَّوَهُّمِ لَا يَنْقَاسُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مَا وُجِدَتْ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ هُوَ أَنْ يَكُونَ وَمَنِ مَجْرُورَةً عَلَى حَذْفِ وَحَسْبِ لِدَلَالَةِ حَسْبُكَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: أَكُلُّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ... وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا أَيْ وَكُلَّ نَارٍ فَلَا يَكُونُ مِنَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ مَكْرُوهٌ بِأَنَّهُ ضَرُورَةُ الشِّعْرِ انْتَهَى، وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا ضَرُورَةً وَقَدْ أجاز سِيبَوَيْهِ فِي الْكَلَامِ وَخُرِّجَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَكَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبٌ تَقُولُ وَحَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ وَلَا يُجَرُّ لِأَنَّ عَطْفَ الظَّاهِرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُكَنَّى مُمْتَنِعٌ. قَالَ: فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ وَالْمَعْنَى كَفَاكَ وَكَفَى أَتْبَاعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ نَاصِرًا انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَالُوا حَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى كَفَاكَ وَقَبَّحَ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الْمُضْمَرِ نَوَوُا الْفِعْلَ كَأَنَّهُ قَالَ حَسْبُكَ وَيَحْسَبُ أَخَاكَ دِرْهَمٌ وَلِذَلِكَ كَفِيكَ انْتَهَى، كَفِيكَ هُوَ مِنْ كَفَاهُ يَكْفِيهِ وَكَذَلِكَ قَطُّكَ تَقُولُ كَفِيكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ وَقَطُّكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ وَإِنَّمَا جَاءَ سِيبَوَيْهِ بِهِ حُجَّةً لِلْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ لِلدَّلَالَةِ فَحَسْبُكَ يَدُلُّ عَلَى كَفَاكَ وَيَحْسَبُنِي مُضَارِعُ أَحْسَبَنِي فُلَانٌ إِذَا أَعْطَانِي حَتَّى أَقُولَ حَسْبِي فَالنَّاصِبُ فِي هَذَا فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى وَهُوَ فِي كَفِيكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ أَوْضَحُ لِأَنَّهُ

مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ الْمُضْمَرِ أَيْ وَيَكْفِي زَيْدًا وَفِي قَطُّكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ التَّقْدِيرُ فِيهِ أَبْعَدُ لِأَنَّ قَطَّكَ لَيْسَ فِي الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ شَيْءٌ مِنْ لَفْظِهِ إِنَّمَا هُوَ مُفَسِّرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَقَطْ وَفِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ فَاعِلٌ يَعُودُ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالنِّيَّةُ بِالدِّرْهَمِ التَّقْدِيمُ فَيَصِيرَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من باب الأعمال لأن طَلَبَ الْمُبْتَدَأِ لِلْخَبَرِ وَعَمَلَهُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ طَلَبِ الْفِعْلِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ وَلَا عَمَلِهِ فَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَسْبُ اسْمُ فِعْلٍ وَالْكَافُ نَصْبٌ وَالْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللَّهُ فاعلا لحسبك وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ فِي وَمَنِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَافِ لِأَنَّهَا مَفْعُولٌ بِاسْمِ الْفِعْلِ لَا مَجْرُورٌ لِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ لَا يُضَافُ إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الزَّجَّاجِ خَطَأٌ لِدُخُولِ الْعَوَامِلِ عَلَى حَسْبُكَ تَقُولُ بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ «1» ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ اسْمَ فِعْلٍ فِي مَكَانٍ فَيُعْتَقَدُ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ اسْمَ فِعْلٍ وَاسْمًا غَيْرَ اسْمِ فِعْلٍ كَرُوَيْدَ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ رَفْعَ وَمَنِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره وَحَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ وَعَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ أَيْ حَسْبُهُمُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَكَ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَأَتْبَعَ عَلَى وَزْنِ أَكْرَمَ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ شَرْطِيَّتَانِ فِي ضِمْنِهِمَا الْأَمْرُ بِصَبْرِ عِشْرِينَ لِمِائَتَيْنِ وَبِصَبْرِ مِائَةٍ لِأَلْفٍ وَلِذَلِكَ دَخَلَهَا النَّسْخُ إِذْ لَوْ كَانَ خَبَرًا مَحْضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ النَّسْخُ لَكِنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّكْلِيفِ جَازَ فِيهِ النَّسْخُ وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ نُسِخَ بِقَوْلِهِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَالتَّقْيِيدُ بِالصَّبْرِ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَرْطٍ لَفْظًا هُوَ مَحْذُوفٌ مِنَ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي الْأُولَى وَتَقْيِيدُ الشَّرْطِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَفْظًا هُوَ مَحْذُوفٌ مِنَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَانْظُرْ إِلَى فَصَاحَةِ هَذَا الْكَلَامِ حَيْثُ أُثْبِتَ قَيْدٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَحُذِفَ نَظِيرُهُ مِنَ الثَّانِيَةِ وَأُثْبِتُ قَيْدٌ فِي الثَّانِيَةِ وَحُذِفَ مِنَ الْأُولَى وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ شَدِيدَ الْمَطْلُوبِيَّةِ أُثْبِتَ فِي أُولَى جُمْلَتَيِ التَّخْفِيفِ وَحُذِفَ مِنَ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ ثُمَّ خُتِمَتِ الآية بقوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ الْمَطْلُوبِيَّةِ وَلَمْ يَأْتِ فِي جُمْلَتَيِ التَّخْفِيفِ قَيْدُ الْكُفْرِ اكْتِفَاءً بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ من

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 62. [.....]

الصَّحَابَةِ أَنَّ ثَبَاتَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ كَانَ فَرْضًا لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمُ انْتَقَلَ إِلَى ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ أَيْضًا، وَسَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَمْ نَدْبًا هُوَ نَسْخٌ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَخْفِيفٌ لَا نسخ كمكي بن طَالِبٍ ضَعِيفٌ. قَالَ مَكِّيٌ: إِنَّمَا هُوَ كَتَخْفِيفِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَلَوْ صَامَ لم يأتم وَأَجْزَأَهُ وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الثَّبَاتِ أَوْ نديبته كَانَ أَوَّلًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ الْعِشْرُونَ تَمْثِيلًا لِلسَّرِيَّةِ وَالْمِائَةُ تَمْثِيلًا لِلْجَيْشِ فَلَمَّا اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ بَعْدَ زَمَانٍ كَانَ الْمِائَةُ تَمْثِيلًا لِلسَّرَايَا وَالْأَلْفُ تَمْثِيلًا لِلْجَيْشِ وَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِتَحْرِيضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ دَلِيلٌ عَلَى ابْتِدَاءِ فَرْضِيَّةِ الْقِتَالِ بَلْ كَانَ الْقِتَالُ مُفْتَرَضًا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ حَثًّا عَلَى أَمْرٍ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَنَصَّ تَعَالَى عَلَى سَبَبِ الْغَلَبَةِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ احْتِسَابٍ وَطَلَبِ ثَوَابٍ كَالْبَهَائِمِ فَتُفَلُّ نِيَّاتُهُمْ وَيَعْدَمُونَ لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ نُصْرَتَهُ فَهُوَ تَعَالَى يَخْذُلُهُمْ وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَهُوَ مَوْعُودٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرُّوا وَيَثْبُتَ الْوَاحِدُ لِلْعَشَرَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَ حَمْزَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فَلَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ، قِيلَ ثُمَّ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَضَجُّوا مِنْهُ وَذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَنُسِخَ وَخُفِّفَ عَنْهُمْ بِمُقَاوَمَةِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الَّذِي اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ وَقَفَ بِإِزَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا فَالْهَزِيمَةُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ مَا دَامَ مَعَهُ سِلَاحُهُ يُقَاتِلُ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ فَلَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ وَإِنْ قَابَلَهُ ثَلَاثَةٌ حَلَّتْ لَهُ الْهَزِيمَةُ وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ جَيْشَ مُؤْتَةَ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَفُوا لِمِائَتَيْ أَلْفٍ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا لِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَفِي تَارِيخِ فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ أَنَّ طَارِقًا مَوْلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ سَارَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ وَسَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فَالْتَقَى هُوَ وَمَلِكُ الْأَنْدَلُسِ لُذْرِيقُ وَكَانَ فِي سَبْعِينَ أَلْفٍ عِنَانٍ فَزَحَفَ إِلَيْهِ طَارِقٌ وَصَبَرَ لَهُ فَهَزَمَ اللَّهُ الطَّاغِيَةَ لُذْرِيقَ وَكَانَ الْفَتْحُ انْتَهَى وَمَا زَالَتْ جَزِيرَةُ الْأَنْدَلُسِ تَلْتَقِي الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْهُمْ بِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّصَارَى فَيَغْلِبُونَهُمْ، وَأَخْبَرَنَا مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي الدَّيْمُوسِ الصَّغِيرِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا مِنْ مَدِينَةِ غَرْنَاطَةَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِيِّينَ وَالْبَرْبَرِ وَكَانَ النَّصَارَى مِائَةَ أَلْفِ رَاجِلٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ رَامٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ بَيْنَ رَامٍ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 إلى 69]

وَمُدَرَّعٍ فَصَبَرُوا لَهُمْ وَأَسَرُوا أَكَابِرَهُمْ وَقَتَلُوا مَلِكَ قَشْتَالَةَ دُونْ جُوَانَ وَنَجَا أَخُوهُ دُونْ بَطَرَ مَجْرُوحًا وَكَانَ مُلُوكُ النَّصَارَى مَلِكُ قَشْتَالَةَ الْمَذْكُورُ وَمَلِكُ إِفْرَنْسَةَ وَمَلِكُ يُوطَقَالَ وَمَلِكُ غَلْسِيَّةَ وَمَلِكُ قَلْعَةِ رَبَاحٍ قَدْ خَرَجُوا عَازِمِينَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجَزِيرَةِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ كَرَّرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ وَهُوَ مُقَاوَمَةُ الْجَمَاعَةِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا مَرَّتَيْنِ قَبْلَ التَّخْفِيفِ وَبَعْدَهُ، (قُلْتُ) : لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحَالَ مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَاحِدَةٌ وَلَا تَتَفَاوَتُ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ تَتَفَاوَتُ بَيْنَ مُقَاوَمَةِ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ وَالْمِائَةِ لِلْأَلْفِ فَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمِائَةِ لِلْمِائَتَيْنِ وَالْأَلْفِ لِلْأَلْفَيْنِ انْتَهَى، وَمَعْنَى بِإِذْنِ اللَّهِ بِإِرَادَتِهِ وَتَمْكِينِهِ وَفِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ تَرْغِيبٌ فِي الثَّبَاتِ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَتَبْشِيرٌ بِالنَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ لِأَنَّهُ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ هُوَ الْغَالِبُ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ حَرِّصِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مِنَ الْحِرْصِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالضَّادِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ فِيهِمَا وَرَوَاهَا خَارِجَةٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى التَّذْكِيرِ فِي الْأَوَّلِ وَلَحَظَ يَغْلِبُوا وَالتَّأْنِيثِ فِي الثَّانِيَةِ وَلَحَظَ صابِرَةٌ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ عَلَى التَّأْنِيثِ كُلَّهَا إِلَّا قَوْلَهُ: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ فَإِنَّهُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ وعلم مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْعَرَبِيَّانِ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ ضَعْفاً وَفِي الرُّومِ بِضَمِّ الضَّادِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّهِمَا وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَهِيَ كُلُّهَا مَصَادِرُ، وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ ضَمُّ الضَّادِ لُغَةُ الْحِجَازِ وَفَتْحُهَا لُغَةِ تَمِيمٍ، وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ ضَعْفاً جَمْعُ ضَعِيفٍ كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ وَحَكَاهَا النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقِيلَ الضَّعْفُ فِي الْأَبْدَانِ، وَقِيلَ فِي الْبَصِيرَةِ والاستقامة في الذين وَكَانُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الثَّعَالِبِيُّ الضَّعْفُ بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ وَالضُّعْفِ فِي الْجِسْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا قول تَرُدُّهُ الْقِرَاءَةُ انْتَهَى. مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69] لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. نَزَلَتْ فِي أَسْرَى بَدْرٍ وَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قد اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالِاسْتِحْيَاءِ وَعُمَرُ بِالْقَتْلِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ مُعَرَّفًا وَالْمُرَادُ بِهِ فِي التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ فِي التَّنْكِيرِ إِبْهَامٌ فِي كَوْنِ النَّفْيِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ وَكَيْفِيَّةُ هَذَا النَّفْيِ وَهُوَ هُنَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَا كَانَ لِأَصْحَابِ نَبِيٍّ أَوْ لِأَتْبَاعِ نَبِيٍّ فَحُذِفَ اخْتِصَارًا وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَلَمْ يجىء التَّرْكِيبُ تُرِيدُ أَوْ يُرِيدُ عرض الدنيا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِاسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ وَقْتَ الْحَرْبِ وَلَا أَرَادَ عَرَضَ الدُّنْيَا قَطُّ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ جُمْهُورُ مُبَاشِرِي الْحَرْبِ وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قِصَّةِ هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي السِّيَرِ وَحَذَفْنَاهُ نَحْنُ لِأَنَّ فِي بَعْضِهِ مَا لَا يُنَاسِبُ ذِكْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنَاصِبِ الرُّسُلِ. وقرأ أبو عمر وأن تَكُونَ عَلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ الْجَمْعِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّذْكِيرِ عَلَى الْمَعْنَى، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالسَّبْعَةُ أَسْرى عَلَى وَزْنِ فَعْلَى وَهُوَ قِيَاسُ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ إذا كان آفة كجريج وَجَرْحَى، وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ أُسَارَى وَشُبِّهَ فَعِيلٌ بِفَعْلَانَ نَحْوَ كَسْلَانُ وَكُسَالَى كَمَا شَبَّهُوا كَسْلَانَ بِأَسِيرٍ فَقَالُوا فِيهِ جَمْعًا كَسْلَى قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَهُمَا شَاذَّانِ، وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ أُسَارَى جَمْعُ أَسْرَى فَهُوَ جَمْعُ جَمْعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ الخلاف في فعلى أَهُوَ جَمْعٌ أَوِ اسْمُ جَمْعٍ وَأَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْجُمُوعِ وَمَدْلُولُ أَسْرَى وَأُسَارَى وَاحِدٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الْأَسْرَى هُمْ غَيْرُ الموثوقين عند ما يُؤْخَذُونَ وَالْأُسَارَى هُمُ الْمُوثَقُونَ رَبْطًا، وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ، وَقَالَ الْعَرَبُ: لَا تَعْرِفُ هَذَا كِلَاهُمَا عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ حَتَّى يُثْخِنَ مُشَدَّدًا عَدَّوْهُ بِالتَّضْعِيفِ وَالْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ وَعَدَّوْهُ بِالْهَمْزَةِ إِذْ كَانَ قَبْلَ التَّعْدِيَةِ ثَخَنَ وَمَعْنَى عَرَضَ الدُّنْيا مَا أَخَذْتُمْ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى وَكَانَ فِدَاءُ كُلِّ رَجُلٍ عِشْرِينَ أُوقِيَّةً، وَفِدَاءُ الْعَبَّاسِ أَرْبَعُونَ أُوقِيَّةً وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ مِائَةُ أُوقِيَّةٍ، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ دَنَانِيرَ، وَكَانُوا مَالُوا إِلَى الْفِدَاءِ لِيَقْوَوْا مَا يُصِيبُونَهُ عَلَى الْجِهَادِ وَإِيثَارًا لِلْقَرَابَةِ وَرَجَاءَ الْإِسْلَامِ وَكَانَ الْإِثْخَانُ وَالْقَتْلُ أَهْيَبُ لِلْكُفَّارِ وَأَرْفَعُ لِمَنَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ ذَلِكَ إِذِ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ فَلَمَّا اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ وَعَزَّ أَهْلُهُ نَزَلَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً، وقرىء يُرِيدُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ وَسُمِّيَ عَرَضًا لِأَنَّهُ

حَدَثٌ قَلِيلُ اللُّبْثِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْآخِرَةَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَمَّازٍ الْمَدَنِيُّ بِالْجَرِّ وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ عَرَضَ الْآخِرَةِ، قَالَ: وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ عَرَضِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ حُذِفَ الْعَرَضُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فِي الْإِعْرَابِ فَنُصِبَ وَمِمَّنْ قَدَّرَهُ عَرَضَ الْآخِرَةِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ عَلَى التَّقَابُلِ يَعْنِي ثَوَابَهَا انْتَهَى. وَنَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ عَلَى الْفِدَاءِ عَرَضَ الدُّنْيَا أَطْلَقَ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ عَرَضًا عَلَى سَبِيلِ التَّقَابُلِ لَا أَنَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ زَائِلٌ فَانٍ كَعَرَضِ الدُّنْيَا فَسُمِّيَ عَرَضًا عَلَى سَبِيلِ التَّقَابُلِ وَإِنْ كَانَ لَوْلَا التَّقَابُلُ لَمْ يُسَمَّ عَرَضًا وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ أَيِ الْمُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَكُلُّهُمْ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا. وَيَعْنُونَ فِي حَذْفِ الْمُضَافِ فَقَطْ وَإِبْقَاءِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ على جرّه لأن جرّه مِثْلِ وَنَارٍ جَائِزٌ فَصِيحٌ وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ الْمَجْرُورِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ فُصِلَ بِلَا نَحْوَ مَا مِثْلُ زَيْدٍ وَلَا أَخِيهِ يَقُولَانِ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ الْمَحْذُوفُ مِثْلَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَأَمَّا إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ لَا كَهَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ شَاذٌّ قَلِيلٌ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَجْعَلُ الْغَلَبَةَ لَهُمْ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ قَتْلًا وَأَسْرًا حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ لَوْلا أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهُ سَيُحِلُّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا تَعَجَّلْتُمْ مِنْهَا وَمِنَ الْفِدَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ تُؤْمَرُوا بِذَلِكَ عَذابٌ عَظِيمٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ: لَوْ سَبَقَ أَنَّهُ يُعَذَّبُ مَنْ أَتَى ذَنْبًا عَلَى جَهَالَةٍ لَعُوقِبْتُمْ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنُ إِسْحَاقَ: سَبَقَ أَنْ لَا يُعَذَّبَ إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ وَلَمْ يَكُنْ نَهَاهُمْ ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ لَوْلَا مَا سَبَقَ لِأَهْلِ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُمْ لَعَذَّبَهُمْ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ لَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ اقْتَضَى غُفْرَانَ الصَّغَائِرِ لَعَذَّبَهُمْ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْكِتَابُ السَّابِقُ عَفْوُهُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الذَّنْبِ مغينا، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَالرَّسُولُ فِيهِمْ، وَقِيلَ: مَا كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ، وَقِيلَ: سَبَقَ أَنَّهُ سَيُحِلُّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ وَالْفِدَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ، وَقِيلَ: سَبَقَ أَنْ يَغْفِرَ الصَّغَائِرَ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ لَعَذَّبَكُمْ بِأَخْذِ الْغَنَائِمِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْكِتَابُ السَّابِقُ هُوَ الْقُرْآنُ وَالْمَعْنَى لَوْلَا الْكِتَابُ الَّذِي سَبَقَ فَآمَنْتُمْ بِهِ

وَصَدَّقْتُمْ لَمَسَّكُمُ الْعَذَابُ لِأَخْذِكُمْ هَذِهِ الْمُفَادَاةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْلَا حُكْمٌ مِنْهُ تَعَالَى سَبَقَ إِثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ وَهُوَ أَنْ لَا يُعَاقِبَ أَحَدًا بِخَطَأٍ وَكَانَ هَذَا خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا فِي إِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَأَنَّ فِدَاءَهُمْ يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخَفِيَ عَنْهُمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ وَأَفَلُّ لِشَوْكَتِهِمُ انْتَهَى. وَرُوِيَ لَوْ نَزَلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَذَابٌ لَنَجَا مِنْهُ عُمَرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَذَلِكَ أَنَّ رَأْيَهُمَا كَانَ أَنْ تُقْتَلَ الْأُسَارَى. وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ أَوَّلًا بِقَتْلِ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَقَوْلِهِ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ «2» فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ وَفِي قَتْلِهِمْ فَعُوتِبَ مَنْ رَأَى الْفِدَاءَ إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَصْحِبُوا امْتِثَالَ الْأَمْرِ وَمَالُوا إِلَى الْفِدَاءِ وَحَرَصُوا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْمِقْدَادِ حِينَ أمر الرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ: أَسِيرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَقَوْلِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِمَنْ أَسَرَ أَخَاهُ: شُدَّ يَدَكَ عَلَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أما مؤسرة، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمُعَاتَبَةِ أَمَرَ الرَّسُولُ بِقَتْلِ بَعْضٍ وَالْمَنِّ بِالْإِطْلَاقِ فِي بَعْضٍ وَالْفِدَاءِ فِي بَعْضٍ فَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِتَحَتُّمِ الْقَتْلِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي تَأْيِيدِكُمْ وَنَصْرِكُمْ وَقَهْرِكُمْ أَعْدَاءَكُمْ حَتَّى اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ قَتْلًا وَأَسْرًا وَنَهْبًا عَلَى قِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعُدَدِكُمْ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ مِنْ غَنَائِمِهِمْ وَفِدَائِهِمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْكُمْ وَعُدَدًا وَلَكِنَّهُ سَهَّلَ تَعَالَى عَلَيْكُمْ وَلَمْ يَمَسَّكُمْ منهم عذاب لا يقتل وَلَا أَسْرٍ وَلَا نَهْبٍ وَذَلِكَ بِالْحُكْمِ السَّابِقِ فِي قَضَائِهِ أَنَّهُ يُسَلِّطُكُمْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُسَلِّطُهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَيْسَ الْمَعْنَى لَمَسَّكُمْ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لَمَسَّكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ كَمَا قَالَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ «3» . قال: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ «4» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً أَيْ مِمَّا غَنِمْتُمْ وَمِنْهُ مَا حَصَلَ بِالْفِدَاءِ الَّذِي أَقَرَّهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَالَ لَا يُفْلِتَنَّ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا بِفِدْيَةٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ وَلَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ مَنْشَأً لِإِبَاحَةِ الْغَنَائِمِ إِذْ قَدْ سَبَقَ تَحْلِيلُهَا قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ وَانْدِرَاجُ مَالِ الْفِدَاءِ فِي عُمُومِ مَا غَنِمْتُمْ إِذْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْعِتَابُ فِي الْمَيْلِ لِلْفِدَاءِ ثُمَّ أَقَرَّهُ الرَّسُولُ وَانْتَصَبَ حَلالًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً أَوْ مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَحْذُوفِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أَكْلًا حَلَالًا وَجَوَّزُوا فِي مَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أمسكوا عن

_ (1) سورة النساء: 4/ 89. (2) سورة البقرة: 2/ 191. (3) سورة آل عمران: 3/ 140. (4) سورة النساء: 4/ 104.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 إلى 71]

الْغَنَائِمِ وَلَمْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهَا فَنَزَلَتْ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ فَكُلُوا مُتَسَبِّبًا عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ هِيَ سَبَبٌ وَأَفَادَتْ ذَلِكَ الْفَاءُ وَقَدَّرَهَا قَدْ أَبَحْتُ لَكُمُ الْغَنَائِمَ فَكُلُوا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ وَالْمَعْنَى قَدْ أَحْلَلْتُ لكم الفداء فلكوا وَأَمَرَ تَعَالَى بِتَقْوَاهُ لِأَنَّ التَّقْوَى حَامِلَةٌ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَعَدَمِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ إِذْنٌ فَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى مَنْ مَالَ إِلَى الْفِدَاءِ ثُمَّ جَاءَتِ الصِّفَتَانِ مُشْعِرَتَيْنِ بِغُفْرَانِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ عَنِ الَّذِينَ مَالُوا إِلَى الْفِدَاءِ قَبْلَ الْإِذْنِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ إِذَا اتقيتموه بعد ما فَرَطَ مِنْكُمْ مِنِ اسْتِبَاحَةِ الْفِدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ فِيهِ غَفَرَ لَكُمْ وَرَحِمَكُمْ وَتَابَ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ قَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ اعْتِرَاضًا فَصِيحًا فِي أَثْنَاءِ الْقَوْلِ لِأَنَّ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً، وَقِيلَ غَفُورٌ لِمَا أتيتم بإحلال ما غنمتم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِيبَ بَدْرٍ فِي أَسْرَى بَدْرٍ أُعْلِمُوا أَنَّ لَهُمْ مَيْلًا إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُمْ يُؤَمِّلُونَهُ إِنْ فُدُوا وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَقِيلَ فِي عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ قَالُوا لِلرَّسُولِ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا وَمَعْنَى فِي أَيْدِيكُمْ أَيْ مَلَّكْتُكُمْ كَأَنَّ الْأَيْدِيَ قَابِضَةٌ عَلَيْهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأُسَارَى كَانُوا سَبْعِينَ وَالْقَتْلَى سَبْعِينَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حِينَ جِيءَ بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ شُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ مَالِكٌ: كَانُوا مُشْرِكِينَ وَمِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَكَانَ قَصِيرًا وَالْعَبَّاسُ ضَخْمٌ طَوِيلٌ فَلَمَّا جَاءَ بِهِ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» وَعَنِ الْعَبَّاسِ كَنْتُ مُسْلِمًا وَلَكِنَّهُمُ اسْتَكْرَهُونِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أن يَكُنْ مَا تَقُولُ حَقًّا فالله يجريك فَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كُنْتَ عَلَيْنَا» وَكَانَ أَحَدَ الَّذِينَ ضَمِنُوا إِطْعَامَ أَهْلِ بَدْرٍ وَخَرَجَ بِالذَّهَبِ لِذَلِكَ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ افْدِ ابْنَيْ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ تَرَكْتَنِي أَتَكَفَّفُ قُرَيْشًا مَا بَقِيتُ، فَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَعْتَهُ إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ وَقْتَ خُرُوجِكَ مِنْ مَكَّةَ وَقُلْتَ لَهَا: لَا أَدْرِي مَا يُصِيبُنِي فِي وَجْهِي هَذَا فَإِنْ

حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَهُوَ لَكِ وَلِعَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَالْفَضْلِ» ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَمَا يُدْرِيكَ قَالَ: «أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي» ، قَالَ الْعَبَّاسُ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَلَقَدْ دَفَعْتُهُ إِلَيْهَا فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَلَقَدْ كُنْتُ مُرْتَابًا فِي أَمْرِكَ فَأَمَّا إِذَا أَخْبَرْتَنِي بِذَلِكَ فَلَا رَيْبَ، قَالَ الْعَبَّاسُ فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ لِيَ الْآنَ عِشْرُونَ عَبْدًا إِنَّ أَدْنَاهُمْ لَيَضْرِبُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَأَعْطَانِي زَمْزَمَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا جَمِيعَ أَمْوَالِ مَكَّةَ وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ رَبِّي. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانُونَ أَلْفًا فَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَمَا صَلَّى حَتَّى فَرَّقَهُ وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَأَخَذَ مَا قَدَرَ عَلَى حَمْلِهِ وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنِّي وَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ وَمَعْنَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ إِنْ يَتَبَيَّنْ لِلنَّاسِ عِلْمُ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أَيْ إِسْلَامًا كَمَا زَعَمْتُمْ بِأَنْ تُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ فَإِنَّهُ سَيُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ بِالْفِدَاءِ وَسَيَغْفِرُ لَكُمْ مَا اجْتَرَحْتُمُوهُ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَسْرى وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مِنْ أَسْرَى مُنَكَّرًا وَقَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ مِنَ الْأُسَارَى وَاخْتُلِفَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يُثِبْكُمْ خَيْرًا مِنَ الثَّوَابِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ مِمَّا أَخَذَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَإِيتَاءُ هَذَا الْخَيْرِ، قِيلَ فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ فِيهِمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَإِنْ يُرِيدُوا عَلَى الْأَسْرَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَالْخِيَانَةُ هِيَ كَوْنُهُمْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى دِينِهِمْ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَإِنْ يُرِيدُوا يَعْنِي الْأَسْرَى خِيَانَتَكَ يَعْنِي نَقْضَ مَا عَهِدُوا مَعَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ بِالْكُفْرِ وَالشُّكْرِ قَبْلَ الْعَهْدِ، وَقِيلَ: قَبْلَ بَدْرٍ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أَوْ فَأَمْكَنَكَ مِنْهُمْ وَهَزَمْتَهُمْ وَأَسَرْتَهُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خِيانَتَكَ أَيْ يَنْكُثُ مَا بَايَعُوكَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَاسْتِحْبَابِ دِينِ آبَائِهِمْ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فِي كُفْرِهِمْ وَنَقْضِ مَا أُخِذَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ مِنْ مَشَاقِّهِ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ كَمَا رَأَيْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَيُمْكِنُ مِنْهُمْ إِنْ أَعَادُوا الْخِيَانَةَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْخِيَانَةِ مَنْعُ مَا ضَمِنُوا مِنَ الْفِدَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنْ أَخْلَصُوا فُعِلَ بِهِمْ كَذَا وَإِنْ أَبْطَنُوا خِيَانَةً مَا رَغِبُوا أَنْ يُؤْتَمَنُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَهْدِ فَلَا يَسُرُّهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَسْكُنُونَ إِلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ فَهُمُ الَّذِينَ خَانُوهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ النَّظَرَ فِي آيَاتِهِ وَهُوَ قَدْ بَيَّنَهَا لَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ إِدْرَاكًا يُحَصِّلُونَهَا بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كَعَهْدٍ مُتَقَرَّرٍ فَجُعِلَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى خِيَانَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ مَكَّنَ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُمْ أَسْرَى فِي أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يُبْطِنُونَهُ مِنْ إِخْلَاصٍ أَوْ خِيَانَةٍ حَكِيمٌ فِيمَا يُجَازِيهِمُ

[سورة الأنفال (8) : آية 72]

انْتَهَى، وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي وَإِنْ يُرِيدُوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ «1» أَيْ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فِي إِظْهَارِ الصُّلْحِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَإِنْ يُرِيدُوا عَائِدٌ عَلَى الْأَسْرَى، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي سَرْحٍ فَإِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ فَيُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ فَلَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا بَيَّنَ أَمْرَهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَهَذِهِ نَزَلَتْ عَقِيبَ بدر. [سورة الأنفال (8) : آية 72] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) قَسَّمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَبَدَأَ بِالْمُهَاجِرِينَ لِأَنَّهُمْ أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَأَوَّلُ من استجاب الله فَهَاجَرَ قَوْمٌ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَوْمٌ إِلَى الْحَبَشَةِ وَقَوْمٌ إِلَى ابْنِ ذِي يَزَنَ ثُمَّ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانُوا قُدْوَةً لِغَيْرِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَسَبَبَ تَقْوِيَةِ الدِّينِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَثَنَّى بِالْأَنْصَارِ لِأَنَّهُمْ سَاوَوْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَفِي الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لَكِنَّهُ عَادَلَ الْهِجْرَةَ الْإِيوَاءَ وَالنَّصْرَ وَانْفَرَدَ الْمُهَاجِرُونَ بِالسَّبْقِ وَذَكَرَ ثَالِثًا مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يَنْصُرْ فَفَاتَهُمْ هَاتَانِ الْفَضِيلَتَانِ وَحُرِمُوا الْوَلَايَةَ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَمَعْنَى أَوْلِياءُ بَعْضٍ فِي النُّصْرَةِ وَالتَّعَاوُنِ والموازرة، كَمَا جَاءَ فِي غَيْرِ آيَةٍ نَحْوُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقتادة: ذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ آخَى الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَكَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُهُ أَخُوهُ الْأَنْصَارِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِالْمَدِينَةِ وَلِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ غَيْرِ الْمُهَاجِرِيِّ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَاسْتَمَرَّ أَمْرُهُمْ كَذَلِكَ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ ثُمَّ تَوَارَثُوا بَعْدُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ هِجْرَةٌ فَمَعْنَى مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ نَفْيُ الْمُوَالَاةِ فِي التَّوَارُثِ وَكَانَ قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى نَسْخًا لِذَلِكَ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي نَفْيِ الْوَلَايَةِ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلْحَالِ إِذْ لَا يُمْكِنُ وَلَايَتُهُ وَنَصْرُهُ لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَبَيْنَهُمْ وَفِي

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 61. (2) سورة التوبة: 9/ 71.

[سورة الأنفال (8) : آية 73]

ذَلِكَ حَضٌّ لِلْأَعْرَابِ عَلَى الْهِجْرَةِ، قِيلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَلَايَةُ الْمَنْفِيَّةُ غَيْرَ النُّصْرَةِ انْتَهَى. وَلَمَّا نَزَلَ مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا قَالَ الزُّبَيْرُ هَلْ نُعِينُهُمْ عَلَى أَمْرٍ إِنِ اسْتَعَانُوا بِنَا فَنَزَلَ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ وَمَعْنَى مِيثَاقٌ عَهْدٌ لِأَنَّ نَصْرَكُمْ إِيَّاهُمْ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ فَلَا تُقَاتِلُونَ لِأَنَّ الْمِيثَاقَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ وَخَصَّ الِاسْتِنْصَارَ بِالدِّينِ لِأَنَّهُ بِالْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ فِي غَيْرِ الدِّينِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَعَلَى تَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْصُرُوهُمْ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ ... وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ المساحة وَالْبَذْلُ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَلايَتِهِمْ بِالْكَسْرِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَلَحَّنَ الْأَصْمَعِيُّ الْأَخْفَشَ فِي قِرَاءَتِهِ بِالْكَسْرِ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالْكَسْرِ مِنْ وِلَايَةِ السُّلْطَانِ وَبِالْفَتْحِ مِنَ الْمَوْلَى يُقَالُ مَوْلَى بَيْنَ الْوَلَايَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ بِالْفَتْحِ مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّسَبِ وَبِالْكَسْرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَارَةِ قَالَ: وَيَجُوزُ الْكَسْرُ لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جَنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ وَالْعَمَلِ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الصِّنَاعَةِ مَكْسُورٌ مِثْلُ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَتَبِعَ الزَّمَخْشَرِيَّ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: وقرىء مِنْ وَلايَتِهِمْ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ أَيْ مِنْ تَوَلِّيهِمْ فِي الْمِيرَاثِ وُوُجِّهَ الْكَسْرُ أَنَّ تَوَلِّيَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا شُبِّهَ بِالْعَمَلِ وَالصِّنَاعَةِ كَأَنَّهُ بِتَوَلِّيهِ صَاحِبَهُ يُزَاوِلُ أَمْرًا وَيُبَاشِرُ عَمَلًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالَّذِي عِنْدَنَا الْأَخْذُ بِالْفَتْحِ فِي هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ نَعْنِي هُنَا، وَفِي الْكَهْفِ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مِنَ الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهَا فِي الدِّينِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ مِنْ مَوَارِيثِهِمْ فَكَسْرُ الواو أجب إِلَيَّ مِنْ فَتْحِهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُفْتَحُ إِذَا كَانَتْ نُصْرَةً وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَذْهَبُ بِفَتْحِهَا إِلَى النُّصْرَةِ وَقَدْ ذُكِرَ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْأَعْرَجُ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الغيبة. [سورة الأنفال (8) : آية 73] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَوْلَى بِبَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا لجمع الْمُوَارَثَةُ وَالْمُعَاوَنَةُ وَالنُّصْرَةُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ظَاهِرُهُ إِثْبَاتُ الْمُوَالَاةِ بينهم كقوله في المسلمين وَمَعْنَاهُ نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الموالاة الذين كفروا وموارثيهم وإيجاب مساعدتهم

[سورة الأنفال (8) : آية 74]

ومصادقتهم وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ وَأَنْ يَتْرُكُوا يَتَوَارَثُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا ذَكَرَ أَقْسَامَ الْمُؤْمِنِينَ الثَّلَاثَةَ وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَيَّنَ أَنَّ فَرِيقَ الْكُفَّارِ كَذَلِكَ إِذْ كَانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ يُنَادِي أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ قُرَيْشًا وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ فَصَارُوا بَعْدَ بَعْثِهِ يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِلْبًا وَاحِدًا عَلَى الرَّسُولِ صَوْنًا عَلَى رِئَاسَاتِهِمْ وَتَحَزُّبًا عَلَى المؤمنين. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَفْعَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى الْمِيثَاقِ أَيْ عَلَى حِفْظِهِ أَوْ عَلَى النَّصْرِ أَوْ عَلَى الْإِرْثِ أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ إِنْ لَا تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ تَوَاصُلِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى فِي التَّوَارُثِ تَفْضِيلًا لِنِسْبَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى نِسْبَةِ الْقَرَابَةِ وَلَمْ تَقْطَعُوا الْعَلَائِقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ تَجْعَلُوا قَرَابَتَهُمْ كَلَا قَرَابَةَ تَحْصُلُ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَمَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَصِيرُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى الشِّرْكِ كَانَ الشِّرْكُ ظَاهِرًا وَالْفَسَادُ زَائِدًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْفِتْنَةُ الْمِحْنَةُ بِالْحَرْبِ وَمَا انْجَرَّ مَعَهَا مِنَ الْغَارَاتِ وَالْجَلَاءِ وَالْأَسْرِ وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ ظُهُورُ الشِّرْكِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْفِتْنَةُ فِي الْأَرْضِ قُوَّةُ الْكُفْرِ وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ ضَعْفُ الْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ أَبُو مُوسَى الْحِجَازِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: كَثِيرٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَرُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَرَأَ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ. [سورة الأنفال (8) : آية 74] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْظِيمُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهِيَ مُخْتَصَرَةٌ إِذْ حُذِفَ مِنْهَا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَتْ تَكْرَارًا لِأَنَّ السَّابِقَةَ تَضَمَّنَتْ وَلَايَةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَتَقْسِيمَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَبَيَانَ حُكْمِهِمْ فِي وَلَايَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ وَهَذِهِ تَضَمَّنَتِ الثَّنَاءَ وَالتَّشْرِيفَ وَالِاخْتِصَاصَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُمْ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ أَوَاخِرِ نَظِيرَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ. [سورة الأنفال (8) : آية 75] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ. يَعْنِي الَّذِينَ لَحِقُوا بِالْهِجْرَةِ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ وَإِنْ كَانَ لِلسَّابِقِينَ شُفُوفُ السَّبْقِ وَتَقَدُّمُ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَمَعْنَى مِنْ بَعْدُ مِنْ بَعْدِ الْهِجْرَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَادَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ كَانَتْ أَقَلَّ رُتْبَةً مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَ يُقَالُ لَهَا الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الْحَرْبَ وَضَعَتْ أَوْزَارَهَا نَحْوَ عَامَيْنِ ثُمَّ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ. وَبِهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِنْ بَعْدُ مَا بَيَّنْتُ حُكْمَ الْوَلَايَةِ فَكَانَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ نُزُولَ الْآيَةِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مِنَ الْأَوَّلِينَ فِي الْمُوَازَرَةِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ يَوْمِ بَدْرٍ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَفِي قَوْلِهِ مَعَكُمْ إِشْعَارٌ أَنَّهُمْ تَبَعٌ لَا صَدْرٌ كَمَا قَالَ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ كَمَا جَاءَ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَابْنُ أُخْتِ القوم منهم» . وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أَيْ وَأَصْحَابُ الْقَرَابَاتِ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فِي الْمَوَارِيثِ بِالْأُخُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، قَالَ: هَذِهِ فِي الْمَوَارِيثِ وَهِيَ نَسْخٌ لِلْمِيرَاثِ بِتِلْكَ الْأُخُوَّةِ وَإِيجَابُ أَنْ يَرِثَ الْإِنْسَانُ قَرِيبَهُ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهَاجِرًا وَاسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ: لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ وَهَذَا فِرَارٌ عَنْ تَوْرِيثِ الْخَالِ وَالْعَمَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ فِي الْمَوَارِيثِ إِلَّا أَنَّهَا نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ الْمُبَيِّنَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كِتابِ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ وَذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقِيلَ: فِي كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ، اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي حُكْمِهِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ فِي حُكْمِهِ وَقِسْمَتِهِ وَخَتْمُ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فِي غَايَةِ الْبَرَاعَةِ إِذْ قَدْ تَضَمَّنَتْ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِي مُهِمَّاتِ الدين وقوامه وتفصيلا لأحوال، فَصِفَةُ الْعِلْمِ تَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَتُحِيطُ بِمَبَادِئِهِ وَغَايَاتِهِ.

سورة التوبة

سورة التّوبة [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

الْمَرْصَدُ: مَفْعَلٌ مِنْ رَصَدَ يَرْصُدُ رَقَبَ، يَكُونُ مَصْدَرًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: وَلَقَدْ عَلِمْتَ وَمَا إِخَالُكَ نَاسِيًا ... أَنَّ الْمَنِيَّةَ لِلْفَتَى بِالْمَرْصَدِ الْإِلُّ الْحَلِفُ وَالْجُؤَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ.

لِإِلٍّ عَلَيْنَا وَاجِبٌ لَا نُضَيِّعُهُ ... مَتِينٌ قُوَاهُ غَيْرُ مُنْتَكِثِ الْحَبْلِ كَانُوا إِذَا تَسَامَحُوا وَتَحَالَفُوا رَفَعُوا بِهِ أَصْوَاتَهُمْ وَشَهَرُوهُ مِنَ الْآلِ وَهُوَ الْجُؤَارُ، وَلَهُ أَلِيلٌ أَيْ أَنِينٌ يَرْفَعُ بِهِ صَوْتَهُ. وَقِيلَ: الْقَرَابَةُ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْقَرَابَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَفْسَدُ النَّاسِ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الْإِلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ وَظَاهِرُ الْبَيْتِ أَنَّهُ فِي الْعَهْدِ. وَمِنَ الْقَرَابَةِ قَوْلُ حَسَّانَ: لَعَمْرُكَ أن لك من قريش ... كل السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعَامِ وَسُمِّيَتْ إِلًّا لِأَنَّهَا عَقَدَتْ مَا لَا يَعْقِدُ الْمِيثَاقُ. وَقِيلَ: مِنْ أَلَّ الْبَرْقُ لَمَعَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَلِيلُ الْبَرِيقُ، يُقَالُ: أَلَّ يَؤُلُّ صَفَا وَلَمَعَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِدَّةِ، وَمِنْهُ الْإِلَّةُ الْحَرْبَةُ. وَأُذُنٌ مُؤَلَّلَةٌ مُحَدَّدَةٌ، فَإِذَا قِيلَ لِلْعَهْدِ وَالْجُؤَارِ وَالْقَرَابَةِ إِلٌّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأُذُنَ مُنْصَرِفٌ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَتَحَدَّدُ لَهَا، وَالْعَهْدُ يُسَمَّى إِلًّا لِصَفَائِهِ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ الْآلُّ، وَفِي الْكَثْرَةِ الْأُلُّ وَأَصْلُ جَمْعِ الْقِلَّةِ أُأْلُلٌ، فَسُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ السَّاكِنَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فَأَبْدَلَهَا أَلِفًا، وَأُدْغِمَتِ اللَّامُ فِي اللَّامِ، الذِّمَّةُ الْعَهْدُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَمَانُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يُحْفَظَ وَيُحْمَى. أَبَى يَأْبَى مَنَعَ، قَالَ: أَبَى الضيم والنعمان يخرق نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ وَقَالَ: أَبَى اللَّهُ إِلَّا عَدْلَهُ وَوَفَاءَهُ ... فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعُرْفُ ضائع ومجيء مُضَارِعِهِ عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ شَاذٌّ، وَمِنْهُ آبِي اللَّحْمَ لِرَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. شَفَاهُ: أَزَالَ سَقَمَهُ. الْعَشِيرَةُ جماعة مجتمعة بِسَبَبٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ وِدَادٍ كَعَقْدِ الْعَشِيرَةِ. اقْتَرَفَ اكْتَسَبَ. كَسَدَ الشَّيْءُ كَسَادًا وَكُسُودًا بَارَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَاقٌ. الْمَوْطِنُ: الْمَوْقِفُ وَالْمُقَامُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوَى وَمِثْلُهُ الْوَطَنُ. حُنَيْنٌ: وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَقِيلَ: وَادٍ إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ. الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ، عَالَ يَعِيلُ افْتَقَرَ. قَالَ:

وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ الْجِزْيَةُ: مَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مُقَامِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَجْزُونَهَا أَيْ يَقْضُونَهَا. أَوْ لِأَنَّهَا تُجْزَى بِهَا مَنْ مُنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْفَاءِ عَنِ الْقَتْلِ. الْمُضَاهَاةُ: الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُحَاكَاةُ، وَثَقِيفُ تَقُولُ: الْمُضَاهَأَةُ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ ضَاهَأْتُ فَمَادَّتُهَا مُخَالِفَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَ ضَاهَتْ يُدْعَى أَنَّ أَصْلَهَا الْهَمْزُ كَقَوْلِهِمْ فِي تَوَضَّأْتُ وَقَرَأْتُ وَأَخْطَأْتُ: تَوَضَّيْتُ، وَقَرَيْتُ، وَأَخْطَيْتُ فَيُمْكِنُ. وَأَمَّا ضَهْيَأَ بِالْهَمْزِ مَقْصُورًا فَهَمْزَتُهُ زائدة كهمزة عرفىء، أَوْ مَمْدُودًا فَهَمْزَتُهُ لِلتَّأْنِيثِ زَائِدَةٌ، أَوْ مَمْدُودًا بَعْدَهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ. حَكَاهُ الْبُحْتُرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ فِي النَّوَادِرِ قَالَ: جَمَعَ بَيْنَ عَلَامَتَيْ تَأْنِيثٍ. وَمَدْلُولُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي ثَلَاثِ لُغَاتِهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَحِيضُ، أَوِ الَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا شَابَهَتْ بِذَلِكَ الرِّجَالَ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُضَاهَاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ضَهْيَاءَ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ، لِأَصَالَةِ هَمْزَةِ الْمُضَاهَأَةِ، وَزِيَادَةِ هَمْزَةِ ضَهْيَاءَ فِي لُغَاتِهَا الثَّلَاثِ. بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا، وَقِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا فَإِنَّهُمَا نَزَلَتَا بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لَهَا اسْمًا وَاخْتِلَافًا فِي سَبَبِ ابْتِدَائِهَا بِغَيْرِ بَسْمَلَةٍ، وَخِلَافًا عَنِ الصَّحَابَةِ: أَهِيَ وَالْأَنْفَالُ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ سُورَتَانِ؟ وَلَا تَعَلُّقَ لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ بِذَلِكَ، فَأَخْلَيْنَا كِتَابَنَا مِنْهُ، وَيُطَالَعُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُقَالُ: بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، أَيِ انْقَطَعَتْ بَيْنَنَا الْعِصْمَةُ، وَمِنْهُ بَرِئْتُ مِنَ الدَّيْنِ. وَارْتَفَعَ بَرَاءَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ. وَمِنَ اللَّهِ صِفَةٌ مُسَوِّغَةٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بَرَاءَةً بِالنَّصْبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ الْزَمُوا، وَفِيهِ مَعْنَى الْإِغْرَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْمَعُوا بَرَاءَةً. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَتِ الْبَرَاءَةُ، بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُعَاهَدَةِ بِالْمُسْلِمِينَ؟ (قُلْتُ) : قَدْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُعَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا، فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاهَدُوهُمْ، فَلَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى النَّبْذَ إِلَيْهِمْ، فَخُوطِبَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا تَجَدَّدَ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُمْ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ قَدْ بَرِئَا مِمَّا عَاهَدْتُمْ بِهِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا كَانَ عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَازِمًا لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ حَسُنَ أَنْ يَقُولَ: عَاهَدْتُمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ

أَوْثَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدًا عَامًّا عَلَى أَنْ لَا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْمُوَادَعَاتِ، فَنُقِضَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأُحِلَّ لِجَمِيعِهِمْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعَ الرَّسُولِ عَهْدٌ خَاصٌّ وَبَقِيَ مِنْهُ أَقَلُّ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أُبْلِغَ بِهِ تَمَامَهَا، وَمَنْ كَانَ أَمَدُهُ أَكْثَرَ أُتِمَّ لَهُ عَهْدُهُ، وَإِذَا كان ممن يحتبس مِنْهُ نَقْضُ الْعَهْدِ قُصِرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ خَاصٌّ فُرِضَتْ لَهُ الْأَرْبَعَةُ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: يَذْهَبُ فِيهَا مُسَرَّحًا آمِنًا. وَظَاهِرُ لَفْظَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْعُمُومُ، فَكُلُّ مَنْ عَاهَدَهُ الْمُسْلِمُونَ دَاخِلٌ فِيهِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ نَكَثُوا إِلَّا بَنِي ضَمْرَةَ وَكِنَانَةَ فَنُبِذَ الْعَهْدُ إِلَى النَّاكِثِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ بِالْمُشْرِكِينَ هُنَا ثَلَاثُ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ: خُزَاعَةُ، وَبَنُو مُدْلِجٍ، وَبَنُو خُزَيْمَةَ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ، وَبَنُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ لَبَنِي الدَّيْلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ دَمٌ عِنْدَ خُزَاعَةَ فَاغْتَنَمُوا الْفُرْصَةَ وَغَفْلَةَ خُزَاعَةَ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلِيُّ فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَبَيَّتُوا خُزَاعَةَ فَاقْتَتَلُوا، وَأَعَانَتْ قُرَيْشُ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ، وَقَوْمٌ أَعَانُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَهُزِمَتْ خُزَاعَةُ إِلَى الْحَرَمِ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَخَرَجَ مِنْ خُزَاعَةَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَعَمْرُو بْنُ سَالِمٍ فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُسْتَغِيثِينَ، وَأَنْشَدَهُ عَمْرٌو فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا ... كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدَا ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا ... فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا عبدا وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا ... فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَنْمُو صُعَدَا ... إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا ... إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤْكَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عددا ... هم بيتونا الحطيم هُجَّدًا وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ» فَتَجَهَّزَ إِلَى مَكَّةَ وَفَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ وَتَخَلَّفَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَرْجَفُوا الْأَرَاجِيفَ، فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودَهُمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَاءِ عَهِدَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَأَذِنَ فِي الْحَرْبِ.

فَسِيحُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَفِي ضِمْنِهِ تَهْدِيدٌ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ أَيْ: قُلْ لَهُمْ سِيحُوا. يُقَالُ: سَاحَ سِيَاحَةً وَسَوْحًا وَسَيَحَانًا، وَمِنْهُ سَيْحُ الْمَاءِ وَهُوَ الْجَارِي الْمُنْبَسِطُ. وَقَالَ طَرَفَةُ: لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَنِي ... حَتَّى تَرَى خَيْلًا أَمَامِي تَسِيحُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ: أَوَّلُ الْأَشْهُرِ شَوَّالٌ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَانْقِضَاؤُهَا انْقِضَاءُ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ يَوْمِ الْأَذَانِ بِخَمْسِينَ، فَكَانَ أَجَلُ مَنْ لَهُ عَهْدٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النُّزُولِ، وَأَجَلُ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ يَوْمِ الْأَذَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُهَا يَوْمُ الْأَذَانِ، وَآخِرُهَا الْعَشْرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ. وَقِيلَ: الْعَشْرُ من ذي العقدة إِلَى عِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلنَّسِيءِ الَّذِي كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ صَارَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لَا تَفُوتُونَهُ وَإِنْ أَمْهَلَكُمْ وَهُوَ مُخْزِيكُمْ أَيْ: مُذِلُّكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو عَنْ أَهْلِ نَجْرَانَ: أنهم يقرأون مِنَ اللَّهِ بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَاتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ النُّونِ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ قَرَأَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ: وَإِذْنٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: إِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَالْفَتْحُ عَلَى تَقْدِيرِ بِأَنَّ، وَالْكَسْرُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، أَوْ لِأَنَّ الْأَذَانَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ فَكُسِرَتْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَرَسُولَهُ بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى لَفْظِ اسْمِ أَنَّ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ. وقرىء بِالْجَرِّ شَاذًّا، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ. وَخَرَجَتْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْجِوَارِ كَمَا أَنَّهُمْ نَعَتُوا وَأَكَّدُوا عَلَى الْجِوَارِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الْقَسَمِ. وروي أن أعرابيا سمع مَنْ يَقْرَأُ بِالْجَرِّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ بَرِيئًا مِنْ رَسُولِهِ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، فَلَبَّبَهُ الْقَارِئُ إِلَى عُمَرَ، فَحَكَى الْأَعْرَابِيُّ قِرَاءَتَهُ فَعِنْدَهَا أَمَرَ عُمَرُ بِتَعْلِيمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي بَرِيءٌ، وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَصَلَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَيْنَ مُتَحَمِّلِهِ، وَالْمَعْطُوفِ. وَمَنْ أَجَازَ الْعَطْفَ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ أَجَازَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مَعَ الْمَكْسُورَةِ، وَمَنَعَ مَعَ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ بْنِ الْبَاذِشِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ

سِيبَوَيْهِ: أَنْ لَا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَنَّ، إِذْ هُوَ مُعْرَبٌ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ عَمَلُ الْعَامِلِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنَّ وَبَيْنَ لَيْتَ، وَالْإِجْمَاعُ أن لا موضع لما دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ تَعَقُّبٌ، لِأَنَّ عِلَّةَ كَوْنِ أَنَّ لَا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، لَيْسَ ظُهُورَ عَمَلِ الْعَامِلِ، بِدَلِيلِ لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ، وَمَا فِي الدَّارِ مِنْ رَجُلٍ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ عَمَلُ الْعَامِلِ، وَلَهُمَا مَوْضِعٌ. وَقَوْلُهُ: وَالْإِجْمَاعُ إِلَى آخِرِهِ يُرِيدُ: أَنَّ لَيْتَ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَرَّاءُ خَالَفَ وَجَعَلَ حُكْمَ لَيْتَ وَلَعَلَّ وَكَأَنَّ وَلَكِنَّ، وَأَنَّ حُكْمَ إِنَّ فِي كَوْنِ اسْمِهِنَّ لَهُ مَوْضِعٌ. وَإِعْرَابُ وَأَذَانٌ كَإِعْرَابِ بَرَاءَةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مِثْلِهَا وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَرَاءَةٌ، كَمَا لَا يُقَالُ عَمْرٌو مَعْطُوفٌ عَلَى زَيْدٍ فِي زَيْدٌ قَامَ وَعَمْرٌو قَاعِدٌ. وَالْأَذَانُ بِمَعْنَى الْإِيذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ كَمَا أَنَّ الْأَمَانَ وَالْعَطَاءَ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ وَالْإِعْطَاءِ، وَيَضْعُفُ جَعْلُهُ خَيْرًا عَنْ. وَأَذَانٌ إِذَا أَعْرَبْنَاهُ مُبْتَدَأً، بَلِ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: إِلَى النَّاسِ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: من الله ورسوله. ويوم مَنْصُوبٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ نَصْبَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَذَانٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِهِ مَعْمُولَهُ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُهُ فِيمَا بَعْدَ الصِّفَةِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ أَخْذِهِ مَعْمُولَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِلَى النَّاسِ. لَمَّا كَانَ سَنَةُ تِسْعٍ أَرَادَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحُجَّ، فَكَرِهَ أَنْ يَرَى الْمُشْرِكِينَ يَطُوفُونَ عُرَاةً، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا لِيَقْرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ رَاكِبًا نَاقَتَهُ الْعَضْبَاءَ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ بَعَثْتَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: «لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي» فَلَمَّا اجْتَمَعَا قَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ، قَالَ: مَأْمُورٌ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَقَامَ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» ، فَقَالُوا: بِمَاذَا؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ ثُمَّ قَالَ: «أُمِرْتُ بِأَرْبَعٍ أَنْ لَا يَقْرَبَ الْبَيْتَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَأَنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وَأَنْ يَتِمَّ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ» فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: يَا عَلِيُّ أَبْلِغِ ابْنَ عَمِّكَ أَنَّا قَدْ نَبَذْنَا الْعَهْدَ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ إِلَّا طَعْنٌ بِالرِّمَاحِ وَضَرْبٌ بِالسُّيُوفِ. وَقِيلَ: عَادَةُ الْعَرَبِ فِي نَقْضِ عُهُودِهَا أَنْ يَتَوَلَّى رَجُلٌ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَلَوْ تَوَلَّاهُ أَبُو بَكْرٍ لَقَالُوا هَذَا خِلَافُ مَا يُعْرَفُ مِنَّا فِي نَقْضِ الْعُهُودِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ عَلِيًّا يَتَوَلَّاهُ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَعَ عَلِيٍّ، فَإِذَا صَحِلَ صَوْتُ عَلِيٍّ نَادَى أَبُو هُرَيْرَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم

أحد. فقال عُمَرُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو جحيفة، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالسُّدِّيُّ: هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ الْحَجِّ كُلُّهَا، قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ عَلِيًّا أَذَّنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِثْرَ خُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَعُمَّ النَّاسَ بِالْإِسْمَاعِ فَتَتَبَّعَهُمْ بِالْأَذَانِ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ يُعِينُهُ بِهَا كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَيَتَّبِعُوا بِهَا أَيْضًا أَسْوَاقَ الْعَرَبِ كَذِي الْمَجَازِ وَغَيْرِهِ ، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ قَوْلُ سُفْيَانُ. وَيَقُولُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ صِفِّينَ، وَيَوْمَ الْجَمَلِ، يُرِيدُ جَمِيعَ أَيَّامِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا، وَمَجَامِعُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ كَانُوا بِذِي الْمَجَازِ وَعُكَاظٍ وَمَجَنَّةٍ حَتَّى نُودِيَ فِيهِمْ: أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَوَصَفَهُ بِالْأَكْبَرِ. قَالَ الْحَسَنُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ نَوْفَلٍ: لِأَنَّهُ حَجَّ ذَلِكَ الْعَامَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَصَادَفَ عِيدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَعَظُمَ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَصِفُهُ بِالْأَكْبَرِ لِهَذَا. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لِأَنَّهُ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، وَنُبِذَتْ فِيهِ الْعُهُودُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يُشْبِهُ نَظَرَ الْحَسَنِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ الْمُفْتَتَحَ بِالْحَقِّ وَأَمَارَةَ الْإِسْلَامِ بِتَقْدِيمِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُبِذَتْ فِيهِ الْعُهُودُ، وَعَزَّ فِيهِ الدِّينُ، وَذَلَّ فِيهِ الشِّرْكُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَامِ ثَمَانٍ حِينَ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسَدٍ كَانَ أَمِيرَ الْعَرَبِ عَلَى أَوَّلِهِ، فَكُلُّ حَجٍّ بَعْدَ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ فَمُتَرَكِّبٌ عَلَيْهِ، فَحَقُّهُ لِهَذَا أَنْ يُسَمَّى أَكْبَرَ انْتَهَى. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَسُمِّيَ الْأَكْبَرَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ وَاجِبَاتِهِ، فَإِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ مِنًى فَلِأَنَّ فِيهِ مُعْظَمَ الْحَجِّ، وَتَمَامَ أَفْعَالِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ. وَقِيلَ: وُصِفَ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ تُسَمَّى بِالْحَجِّ الْأَصْغَرِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْتَرِقِينَ إِذَا كَانَتِ الْحُمْسُ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ الْجَمْعُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيِ الْأَكْبَرِ مِنَ الْأَصْغَرِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُفْتَرِقُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ: أَنَّ الْحُمْسَ وَمَنِ اتَّبَعَهَا وَقَفُوا بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَرَادَ بِهِ الْعَامَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَحَجَّ مَعَهُ الْأُمَمُ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْأَذَانُ حُكْمُهُ مُتَحَقِّقٌ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ عَامُ حَجِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. وَسُمِّيَ أَكْبَرَ لِأَنَّهُ فِيهِ ثَبَتَتْ مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَقَالَ فِيهِ: «خُذُوا

عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَجُمْلَةُ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِخْبَارٌ بِثُبُوتِ الْبَرَاءَةِ، وَجُمْلَةُ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِخْبَارٌ بِوُجُوبِ الْإِعْلَامِ بِمَا ثَبَتَ، فَافْتَرَقَتَا وَعُلِّقَتِ الْبَرَاءَةُ بِالْمُعَاهَدِينَ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ نَاكِثِيهِمْ وَغَيْرِ نَاكِثِيهِمْ، وَعُلِّقَ الْأَذَانُ بِالنَّاسِ لِشُمُولِهِ مُعَاهَدًا وَغَيْرَهُ نَاكِثًا، وَغَيْرَهُ مُسْلِمًا وَكَافِرًا، هَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْكَفَّارِ بِدَلِيلِ آخِرِ الْآيَةِ، وَبِدَلِيلِ مُنَادَاةِ عَلِيٍّ بِالْجُمَلِ الْأَرْبَعِ. فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِتِلْكَ الْجُمَلِ الْكُفَّارُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَجْرُورُ خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ وَأَذَانٌ، كَانَ بِإِلَى أَيْ مُفْتَدٍ إِلَى النَّاسِ وَوَاصِلٌ إِلَيْهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لَكَانَ بِاللَّامِ، وَمِنْ فِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ بَرِيءٌ تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ. تَقُولُ: بَرِئْتُ مِنْكَ، وَبَرِئْتُ مِنَ الدِّينِ بِخِلَافِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ: من الشرك الموجب لتبرىء اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْكُمْ. فَهُوَ أَيْ التَّوْبُ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا لِعِصْمَةِ أَنْفُسِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ لِدُخُولِكُمُ الْجَنَّةَ وَخَلَاصِكُمْ مِنَ النَّارِ. وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أَيْ لا تفوتوته عَمَّا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ نَقِمَاتِهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ جَعَلَ الْإِنْذَارَ بِشَارَةً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَغَيْرَهُمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ فَثَبَتُوا عَلَى الْعَهْدِ أَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ «1» لِأَنَّ الْكَلَامَ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَعْنَاهُ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُولُوا لَهُمْ: سِيحُوا، إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، كَأَنَّهُ قِيلَ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا فِي النَّاكِثِينَ: وَلَكِنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَا تُجْرُوهُمْ مَجْرَاهُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا الْوَفِيَّ كَالْغَادِرِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَقَبْلُهُ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَقْدِيرُهَا: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا لِطُولِ الْفَصْلِ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَبَيْنَهُ. قَالَ

_ (1) سورة براءة: 9/ 2.

مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: هُمْ قَوْمٌ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ لِمُدَّةٍ، فَأُمِرَ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قَرَأَ عَلِيٌّ بَرَاءَةٌ قَالَ لَبَنِي ضَمْرَةَ وَحَيٍّ مِنْ كِنَانَةَ وَحَيٍّ مِنْ سُلَيْمٍ: إِنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَثْنَاكُمْ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. والظاهر أن قَوْلَهُ: إِلَى مُدَّتِهِمْ، يَكُونُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ أُمِرُوا بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ بَقِيَ لِحَيٍّ مِنْ كِنَانَةَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَأُتِمَّ إِلَيْهِمْ عَهْدُهُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: إِلَى مُدَّتِهِمْ، إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي فِي الْآيَةِ. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ لَا يُفِيدُ تَجْدِيدَ حُكْمٍ، إِذْ يَكُونُ حُكْمُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَثْنَيْنَ حُكْمَ بَاقِي الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّصِفُوا بِمَا اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ من عدم النقض وَعَدَمِ الْمُظَاهَرَةِ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ الْكُوفِيُّ وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: يَنْقُضُوكُمْ بِالضَّادِ مُعْجَمَةً وَتُنَاسِبُ الْعَهْدَ، وَهِيَ بِمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنَ الْعَهْدِ فَقَدْ نَقَصَ مِنَ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ. وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَكُمْ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هِيَ بِالضَّادِ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَى الْعَهْدِ، إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالصَّادِ أَحْسَنُ لِيَقَعَ فِي مُقَابَلَتِهِ التَّمَامُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ. وَالتَّمَامُ ضِدُّ النَّقْصِ. وَانْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: لَا قَلِيلًا مِنَ النَّقْصِ وَلَا كَثِيرًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا كَمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ بِبَنِي بَكْرٍ حِينَ أَعَانُوهُمْ بِالسِّلَاحِ عَلَى خزاعة. وتعدى أتموا بِإِلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى فَأَدُّوا، أَيْ: فَأَدُّوهُ تَامًّا كَامِلًا. وَقَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَيْنَ هُمْ قُرَيْشٌ عُوهِدُوا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مَرْدُودٌ بِإِسْلَامِ قُرَيْشٍ فِي الْفَتْحِ قَبْلَ الْإِذْنِ بِهَذَا كُلِّهِ. وَقَوْلُهُ: يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الوفاء العهد مِنَ التَّقْوَى، وَأَنَّ مِنَ التَّقْوَى أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى انْسَلَخَ فِي قَوْلِهِ: فَانْسَلَخَ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: يُقَالُ أَهْلَلْنَا هِلَالَ شَهْرِ كَذَا أَيْ دَخَلْنَا فِيهِ وَلَبِسْنَاهُ، فَنَحْنُ نَزْدَادُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى مُضِيِّ نِصْفِهِ لِبَاسًا مِنْهُ، ثُمَّ نَسْلَخُهُ عَنْ أَنْفُسِنَا بَعْدَ تَكَامُلِ النِّصْفِ مِنْهُ جزءا فجزءا حَتَّى نَسْلَخَهُ عَنْ أَنْفُسِنَا كُلَّهُ، فَيَنْسَلِخُ. وَأَنْشَدَ: إِذَا مَا سَلَخْتَ الشَّهْرَ أَهْلَلْتَ مِثْلَهُ ... كَفَى قَاتِلًا سَلْخُ الشُّهُورِ وَإِهْلَالُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ هِيَ الَّتِي أُبِيحَ لِلنَّاكِثِينَ أَنْ يَسِيحُوا فِيهَا، وَوُصِفَتْ بِالْحُرُمِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمٌ فِيهَا الْقِتَالُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا.

وَإِذَا تَقَدَّمَتِ النَّكِرَةُ وَذُكِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ تُذْكَرَ بِالضَّمِيرِ نَحْوُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يعاد اللفظ معرّفا بل نحو: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِوَصْفٍ يُشْعِرُ بِالْمُغَايَرَةِ لَوْ قُلْتُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ الْأَزْرَقَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ الرَّجُلَ الَّذِي لَقِيتَهُ، لَمْ يَجُزْ بَلْ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَكُونُ الْمَضْرُوبُ غَيْرَ الْمُلْقَى. فَإِنْ وَصَفْتَهُ بِوَصْفٍ لَا يُشْعِرُ بِالْمُغَايَرَةِ جَازَ نَحْوُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ. وَهُنَا جَاءَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حُرُمٌ لَا يُتَعَرَّضُ إِلَيْكُمْ فِيهَا، فَلَيْسَ الْحُرُمُ وَصْفًا مُشْعِرًا بِالْمُغَايَرَةِ. وَقِيلَ: الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هِيَ غَيْرُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ الْأَشْهُرُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِيهَا الْقِتَالَ مُنْذُ خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِيهَا «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ» فَتَكُونُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ، فَتَكُونُ مِنْ سَنَةٍ. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ وَتَقْوِيَةِ النَّفْسِ، وَأَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُقْتَلُوا. وَفِي إِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَقَدْ قَتَلَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ الرِّدَّةِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَبِالْحِجَارَةِ، وَبِالرَّمْيِ مِنْ رؤوس الْجِبَالِ، وَالتَّنْكِيسِ فِي الْآبَارِ. وَتَعَلَّقَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحْرَقَ عَلِيٌّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ الْأَطْفَالِ وَالرُّهْبَانِ وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَيْسُوا ذَوِي رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ، وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ قُتِلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الَّذِينَ نَقَصُوكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَيْكُمْ. وَلَفْظُ: «حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» عَامٌّ فِي الْأَمَاكِنِ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ. «وَخُذُوهُمْ» عِبَارَةٌ عَنِ الْأَسْرِ، وَالْأَخِيذُ الْأَسِيرُ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَسْرِهِمْ: وَاحْصُرُوهُمْ، قَيِّدُوهُمْ وَامْنَعُوهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْبِلَادِ وَقِيلَ: اسْتَرِقُّوهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَاصِرُوهُمْ إِنْ تَحَصَّنُوا. وقرىء: فَحَاصِرُوهُمْ شَاذًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: حُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقِيلَ: امْنَعُوهُمْ عَنْ دُخُولِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ: «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اغْتِيَالِهِمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى اقْعُدُوا لَهُمْ مَوَاضِعَ الْغِرَّةِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَالُ الْأَذَى إِلَيْهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ، إِمَّا بِطْرِيقِ الْقِتَالِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاغْتِيَالِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ السَّرِقَةِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِسْلَالِ خَيْلِهِمْ، وَإِتْلَافِ مَوَاشِيهِمْ إِذَا عُجِزَ عَنِ الْخُرُوجِ بِهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «كُلَّ مَرْصَدٍ» كُلَّ مَمَرٍّ وَمُجْتَازٍ تَرْصُدُونَهُمْ فِيهِ، وَانْتِصَابُهَ عَلَى الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «1» انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّجَّاجُ قَالَ: كُلَّ مَرْصَدٍ ظَرْفٌ، كَقَوْلِكَ: ذَهَبْتُ مَذْهَبًا وَرَدَّهُ أَبُو عَلِيٍّ، لِأَنَّ الْمَرْصَدَ الْمَكَانُ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ الْعَدُوُّ، فَهُوَ مَكَانٌ مَخْصُوصٌ لَا يُحْذَفُ الْحَرْفُ مِنْهُ إِلَّا سَمَاعًا كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ: دَخَلْتُ البيت، وكما غسل الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ انْتَهَى. وَأَقُولُ: يَصِحُّ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: «وَاقْعُدُوا لَهُمْ» لَيْسَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةَ الْقُعُودِ، بَلِ الْمَعْنَى ارْصُدُوهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُرْصَدُ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ قِيَاسًا أَنْ يُحْذَفَ مِنْهُ فِي كَمَا قَالَ: وقد قعدوا منها كُلَّ مَقْعَدٍ. فَمَتَى كَانَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ عَامِلًا مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مِنْ مَعْنَاهُ، جَازَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ فِي، فَيَجُوزُ جَلَسْتُ مَجْلِسَ زِيدٍ، وَقَعَدْتُ مَجْلِسَ زِيدٍ، تُرِيدُ فِي مَجْلِسِ زِيدٍ. فَكَمَا يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَاهُ، فَكَذَلِكَ إِلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ مَرْصَدٍ، فَحُذِفَ وَأُعْمِلَ الْفِعْلُ، وَحُذِفَ عَلَى، وَوُصُولُ الْفِعْلِ إِلَى مَجْرُورِهَا فَتَنْصِبُهُ، يَخُصُّهُ أَصْحَابُنَا بِالشِّعْرِ. وَأَنْشَدُوا: تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ ... وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلَا الْأَسَى لَقَضَانِي أَيْ لَقَضَى عَلَيَّ. فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ. وَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَتَرْكَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَذَلِكَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَهِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ، وَبِهِمَا تَظْهَرُ الْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، كَمَا بِالتَّوْبَةِ تَظْهَرُ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ عَنِ الْجَهْلِ. فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، كِنَايَةٌ عَنِ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَإِجْرَائِهِمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ حَيْثُ مَا شاؤوا، وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يُبْنَى الْمَنَارُ بِهِ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَطْلِقُوهُمْ مِنَ الْأَسْرِ وَالْحَصْرِ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لِشُمُولِ الْحُكْمِ لِمَنْ كَانَ مَأْسُورًا وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: افْتُرِضَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ جَمِيعًا، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ لَا تُقْبَلَ الصَّلَاةُ إِلَّا

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 116.

بِالزَّكَاةِ، وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهَهُ فِي قَوْلِهِ: «لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ» وَنَاسَبَ ذِكْرُ وَصْفِ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ تَابَ عَنِ الْكُفْرِ وَالْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَسَائِرَ الْفَرَائِضِ مُسْتَحِلًّا كَفَرَ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا. وَمَنْ تَرَكَ السُّنَنَ فَسَقَ، وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِلَ لَمْ يُحْرَجْ إِلَّا أَنْ يَجْحَدَ فَضْلَهَا فَيَكْفُرُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ رَادًّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَا يَنْتَهِضُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تَعْيِينِ قَتْلِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ وَمَعَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ تَخْلِيَةِ السَّبِيلِ تَكُونُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْقَتْلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُقْتَلُ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ: يُسْجَنُ وَيُضْرَبُ، وَلَا يُقْتَلُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: يُقْتَلُ كُفْرًا، وَمَالُهُ مَالُ مُرْتَدٍّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ لَدُنِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى زَمَانِنَا. وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الرَّجُلُ مِنَّا أَنْ يَأْتِيَ مُحَمَّدًا بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْأَجَلِ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، أَوْ يَأْتِيَهُ لِحَاجَةِ قُتِلَ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ الْآيَةَ انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا كَانَ حُكْمُهَا مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ أَجَلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وُجِدُوا، وَأَخْذِهِمْ وَحَصْرِهُمْ وَطَلَبِ غِرَّتَهُمْ، ذَكَرَ لَهُمْ حَالَةً لَا يُقْتَلُونَ فِيهَا وَلَا يُؤْخَذُونَ وَيُؤْسَرُونَ، وَتِلْكَ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مُسْتَرْشِدًا طَالِبًا لِلْحُجَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ، أَيْ طَلَبَ مِنْكَ أَنْ تَكُونَ مُجِيرًا لَهُ وَذَلِكَ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَيَقِفَ عَلَى مَا بُعِثْتَ بِهِ، فَكُنْ مُجِيرًا لَهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ وَيَتَدَبَّرَهُ، وَيَطَّلِعَ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ دَارَهُ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْهُ إِنْ شِئْتَ مِنْ غَيْرِ غَدْرٍ ولا خيانة. وحتى يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ لِلْغَايَةِ أَيْ: إِلَى أَنْ يَسْمَعَ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْحَالَيْنِ بِأَجِرْهُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِاسْتَجَارَكَ أَوْ بِفَأْجِرْهُ، وَذَلِكَ لِمَانِعٍ لَفْظِيٍّ

وَهُوَ: أَنَّهُ لَوْ أَعْمَلَ الْأَوَّلِ لَأُضْمِرَ فِي الثَّانِي، وحتى لَا تَجُرُّ الْمُضْمَرَ، فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. لَكِنْ مَنْ ذَهَبَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ حَتَّى تَجُرُّ الْمُضْمَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ، وَكَوْنُ حَتَّى لَا تَجُرُّ الْمُضْمَرَ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ، عُلِّقُ السَّمَاعُ بِهِ، وَذُكِرَ السَّمَاعُ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ إِلَى الْفَهْمِ. وَقَدْ يُرَادُ بِالسَّمَاعِ الْفَهْمُ تَقُولُ لِمَنْ خَاطَبْتَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ: أَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، تريد لم تفهم. وكلام اللَّهِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، لَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ وَمَأْمَنَهُ مَكَانُ أَمْنِهِ. وَقِيلَ: مَأْمَنُهُ مَصْدَرٌ، أَيْ ثُمَّ أَبْلِغْهُ أَمْنَهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: «حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ» عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ إِلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ. وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ حُدُوثُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي التَّوْحِيدِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، إِذْ عُصِمَ دَمُ الْكَافِرِ الْمُهْدَرِ الدَّمِ بِطَلَبِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ، وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ، إِذْ كَانَ لَا يُمْهَلُ بَلْ يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُسْلِمَ، وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ لَا يُقَرُّ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يُبْلَغُ مَأْمَنَهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ حِفْظُهُ وَحَوْطَتُهُ مُدَّةً يَسْمَعُ فِيهَا كَلَامَ اللَّهِ. وَالْخِطَابُ بقوله: استجارك وفأجره، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمَانَ السُّلْطَانِ جَائِزٌ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَالْحُرُّ يَمْضِي أَمَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ وَالْعَبْدُ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدَ: لَهُ الْأَمَانُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَمَانَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالْحُرَّةُ لَهَا الْأَمَانُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا، إِلَّا أَنْ يُجِيرَهُ الْإِمَامُ، وَقَوْلُهُ شَاذٌّ. وَالصَّبِيُّ إِذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ جَازَ أَمَانُهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِجَارَةِ وَإِبْلَاغِ الْمَأْمَنِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ لَا يَعْلَمُونَ مَا الْإِسْلَامُ وَمَا حَقِيقَةُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْأَمَانَ حَتَّى يَسْمَعُوا وَيَفْهَمُوا الْحَقَّ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا اللُّطْفِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِسْمَاعِ وَتَبْلِيغِ الْمَأْمَنِ، لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عِلْمَهُمْ بِمَرَاشِدِهِمْ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِنْكَارُ وَالِاسْتِبْعَادُ. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ وَالْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَهُمْ لَكُمْ ضِدٌّ. وَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ انْتِفَاءِ الْعَهْدِ بِالْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:

وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ مَعَ إِضْمَارِ الْغَدْرِ وَالنَّكْثِ؟ انْتَهَى. وَالِاسْتِفْهَامُ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ كَثِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَهَا ذِي سُيُوفٌ يَا هُدَى بْنَ مَالِكٍ ... كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ بِالسَّيْفِ ضَارِبٌ أَيْ لَيْسَ بِالسَّيْفِ ضَارِبٌ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، صَلَحَ مَجِيءُ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ. وَقِيلَ: مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فِي موضع خبر عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ النَّفْيُ، أَيْ: لَيْسَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بَنُو جَذِيمَةَ بْنِ الدِّيلِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَبَائِلُ بَنِي بَكْرٍ كَانُوا دَخَلُوا وَقْتَ الْحُدَيْبِيَةَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَبَنِي كِنَانَةَ وَبَنِي ضَمْرَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ: هُمْ خُزَاعَةُ وَرُدَّ بِإِسْلَامِهِمْ عَامَ الْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ قُرَيْشٌ نَزَلَتْ فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا، فَنَزَلَ تَأْجِيلُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ. وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ قُرَيْشًا بَعْدَ الْأَذَانِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِلَّا مُسْلِمٌ، وَذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ، وَكَذَلِكَ خُزَاعَةُ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ عَلَى الْعَهْدِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ يَكُونُ كَيْفَ، لِقَوْلِهِ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ للمشركين. وعند عَلَى هَذَيْنِ ظَرْفٌ لِلْعَهْدِ، أَوْ لِيَكُونَ، أَوْ لِلْحَالِ، أَوْ هِيَ وَصْفٌ لِلْعَهْدِ. وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عِنْدَ الله، وللمشركين تَبْيِينٌ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِيَكُونَ، وَكَيْفَ حَالٌ مِنَ الْعَهْدِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: اسْتَقِيمُوا لَهُمْ مُدَّةَ اسْتِقَامَتِهِمْ، وَلَيْسَتْ شَرْطِيَّةً. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هِيَ شَرْطِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «1» انْتَهَى. فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ مِنْ زَمَانٍ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَا شَرْطٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ استقاموا، ولكم مُتَعَلِّقٌ بِاسْتَقَامُوا، فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ انْتَهَى. فَكَانَ التَّقْدِيرُ فَأَيُّ: وَقْتٍ اسْتَقَامُوا فِيهِ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. وَإِنَّمَا جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً لِوُجُودِ الْفَاءِ فِي فَاسْتَقِيمُوا، لِأَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ الزَّمَانِيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْفَاءِ. وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْمَصْدَرِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَتَجْزِمَ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ، وَتَأَوَّلْنَا مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ. فَعَلَى قَوْلِهِ تَكُونُ زَمَانِيَّةً شَرْطِيَّةً: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، يَعْنِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ من أخلاق المتقين،

_ (1) سورة فاطر: 35/ 2.

وَالتَّرَبُّصَ بِهَؤُلَاءِ إِنِ اسْتَقَامُوا مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّقْوَى تَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَالْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ. كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ كَيْفَ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ بَعْدَهَا هُوَ مِنْ جِنْسِ أَقْرَبِ مَذْكُورٍ لَهَا، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ فِي كَيْفَ السَّابِقَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: كيف لَهُمْ عَهْدٌ وَحَالُهُمْ هَذِهِ؟ وَقَدْ جَاءَ حَذْفُ الْفِعْلِ بَعْدَ كَيْفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «1» . وَقَالَ الشاعر: وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ وَكَثِيبُ أَيْ: فَكَيْفَ مَاتَ وَلَيْسَ فِي قَرْيَةٍ؟ وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: فَكَيْفَ وَلَمْ أَعْلَمْهُمْ خَذَلُوكُمْ ... عَلَى مُعْظَمٍ وَأَنَّ أَدِيمَكُمْ قَدُّوا أَيْ فَكَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَى مَدْحِهِمْ؟ وَاسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَرَى فِي الْقَصِيدَةِ مَا دَلَّ عَلَى مَا أُضْمِرَ. وَقَدَّرَ أَبُو الْبَقَاءِ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ بَعْدَ كَيْفَ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تَطْمَئِنُّونَ إِلَيْهِمْ؟ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ: كَيْفَ لَا يَقْتُلُونَهُمْ؟ وَالْوَاوُ فِي «وَإِنْ يَظْهَرُوا» وَاوُ الْحَالِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وُقُوعِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ حَالًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ «2» وَمَعْنَى الظُّهُورِ الْعُلُوُّ وَالظَّفَرُ، تَقُولُ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ عَلَوْتُهُ. وَالْمَعْنَى: وَإِنْ يَقْدِرُوا عَلَيْكُمْ وَيَظْفَرُوا بِكُمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَإِنْ يَظْهَرُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. لَا يَرْقُبُوا: لَا يَحْفَظُوا وَلَا يَرْعَوْا إِلًّا عَهْدًا أَوْ قَرَابَةً أَوْ حِلْفًا أَوْ سِيَاسَةً أَوِ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ جُؤَارًا أَيْ: رَفْعَ صَوْتٍ بِالتَّضَرُّعِ، أَقْوَالٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مِجْلَزٍ: إِلٌّ اسْمُ اللَّهِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَعُرِّبَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ. أَبِي بَكْرٍ حِينَ سَمِعَ كَلَامَ مُسَيْلِمَةَ، فَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: أَلًّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ فِعْلِ الْأَلِّ الَّذِي هُوَ الْعَهْدُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: إِيلًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَاءٌ بَعْدَهَا، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّهَ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إل أُبْدِلَ مِنْ أَحَدِ الْمُضَاعَفَيْنِ يَاءً، كَمَا قَالُوا فِي: إِمَّا إِيمَا. قَالَ الشَّاعِرُ: يا ليتما أمنا سالت نعامتها ... أيما إلى جنة إِيمَا إِلَى نَارِ قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ آلَ يؤول إِذَا سَاسَ، أُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَا يَرْقُبُونَ فِيكُمْ سِيَاسَةً وَلَا مُدَارَاةً وَلَا ذِمَّةً، مَنْ رأى أنّ الإل

_ (1) سورة النساء: 4/ 4. (2) سورة الأعراف: 7/ 169.

هُوَ الْعَهْدُ جَعَلَهُ وَالذِّمَّةَ لَفْظَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِلَّ غَيْرُ الْعَهْدِ فَهُمَا لَفْظَانِ مُتَبَايِنَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ ذَكَرَ حَالَهُمْ مَعَهُمْ إِذَا كَانُوا غَيْرَ ظَاهِرِينَ، فَقَالَ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَاسْتَأْنَفَ هَذَا الْكَلَامَ أَيْ: حالهم في الظاهر يخالف لِبَاطِنِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيرٌ وَاسْتِبْعَادٌ لِثَبَاتِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ، وَإِبَاءُ الْقَلْبِ مُخَالَفَتُهُ لِمَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ فِي الْعِدَةِ بِالْإِيمَانِ، وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ إِلَّا الْكُفْرَ. وَقِيلَ: يُرْضُونَكُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ إِلَّا الْمَعْصِيَةَ. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ الْأَكْثَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَقِيلَ: وَأَكْثَرُهُمْ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَضَى اللَّهُ لَهُ بِالْإِيمَانِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ حِفْظٌ لِمُرَاعَاةِ الْحَالِ الْحَسَنَةِ مِنَ التَّعَفُّفِ عَمَّا يَثْلِمُ الْعِرْضَ، وَيَجُرُّ أُحْدُوثَةَ السُّوءِ، وأكثرهم خبثا الْأَنْفُسِ خِرِيجُونَ فِي الشَّرِّ لَا مُرُوءَةَ تَرْدَعُهُمْ، وَلَا طِبَاعَ مَرْضِيَّةً تَزَعُهُمْ، لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ كَذِبٍ وَلَا مَكْرٍ وَلَا خَدِيعَةٍ، وَمَنْ كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ كَانَ مذموما عند الناس في جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمْ كُفَّارٌ كَيْفَ يَمْدَحُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَفَافِ وَبِالصِّدْقِ وَبِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَبِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَأَكْثَرُهُمْ وَكُلُّهُمْ فَاسِقُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْكَرْمَانِيُّ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: اشْتَرَوْا بِالْقُرْآنِ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ لَمَّا تَرَكَتْ دِينَ اللَّهِ وَآثَرَتِ الْكُفْرَ، كَانَ ذَلِكَ كَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ جَمَعَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى طَعَامِهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَآيَاتُ اللَّهِ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ الطَّائِفِ كَانُوا يَمُدُّونَ النَّاسَ بِالْأَمْوَالِ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ صَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَعَدَلُوا عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَاءَ هُنَا مُحَوَّلَةٌ إِلَى فِعْلٍ. ومذ هو بَابِهَا مَذْهَبُ بِئْسَ، وَيَجُوزُ إِقْرَارُهَا عَلَى وَصْفِهَا الْأَوَّلِ، فَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْ: أَنَّهُمْ سَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَحُذِفَ الْمَفْهُومُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى. لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ «1» يُتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، نَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ سَبَبَ الْمُنَافَاةِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَأُولَئِكَ أَيِ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 8.

الْجَامِعُونَ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ هُمُ الْمُعْتَدُونَ الْمُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ وَالشَّرِّ وَنَقْضِ الْعَهْدِ. فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أَيْ فَإِنْ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَإِخْوَانُكُمْ، أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَالْإِخْوَانُ، وَالْإِخْوَةُ جَمْعُ أَخٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ دِينٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِخْوَةَ تَكُونُ فِي النَّسَبِ، وَالْإِخْوَانَ فِي الصَّدَاقَةِ، فَقَدْ غَلَطَ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» وَقَالَ: أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ، وَعَلَّقَ حُصُولَ الْأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ عَلَى الِالْتِبَاسِ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ غَيْرُ مُرَادٍ. وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، بَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنْ تَابُوا، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا، بَعْثًا وَتَحْرِيضًا عَلَى تَأَمُّلِ مَا فَصَّلَ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَمَّلُ تَفْصِيلَهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ: وَإِنْ نَقَضُوا أَقْسَامَهُمْ من بعد ما تَعَاهَدُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى أَنْ لَا يَنْكُثُوا. وَطَعَنُوا: أَيْ عَابُوهُ وَثَلَبُوهُ وَاسْتَنْقَصُوهُ. وَالطَّعْنُ هُنَا مَجَازٌ، وَأَصْلُهُ الْإِصَابَةُ بِالرُّمْحِ أَوِ الْعُودِ وَشَبَهِهِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَيْبِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ إِمَارَةِ أُسَامَةَ: «إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ» أَيْ عِبْتُمُوهَا وَاسْتَنْقَصْتُمُوهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْدِيدَ فِي الشَّرْطَيْنِ هُوَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَصْلًا، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أَيْ رُؤَسَاءَ الْكُفْرِ وَزُعَمَاءَهُ. وَالْمَعْنَى: فَقَاتِلُوا الْكُفَّارَ، وَخَصَّ الْأَئِمَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَ الْأَتْبَاعَ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كُلُّ كَافِرٍ إِمَّامُ نَفْسِهِ، فَالْمَعْنَى فَقَاتِلُوا كُلَّ كَافِرٍ. وَقِيلَ: مَنْ أَقْدَمَ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ صَارَ رَأْسًا فِي الْكُفْرِ، فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَئِمَّةُ الْكُفْرِ زُعَمَاءُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَحِينَ نَزَلَتْ كَانَ اللَّهُ قَدِ اسْتَأْصَلَ شَأْفَةَ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِكَثِيرٍ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لم يجىء هَؤُلَاءِ بَعْدُ، يُرِيدُ لَمْ يَنْقَرِضُوا فَهُمْ يَجِيئُونَ أَبَدًا وَيُقَاتِلُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَصْوَبُ مَا فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُعْنَى بِهَا مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا دَفَعَ الْأَمْرَ بِقِتَالِ أَئِمَّةِ الناكثين

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 10.

الْعُهُودَ مِنَ الْكَفَرَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، وَاقْتَضَتْ حَالُ كُفَّارِ الْعَرَبِ وَمُحَارِبِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، وَهُمْ حَصَلُوا حِينَئِذٍ تَحْتَ اللَّفْظَةِ، إِذِ الَّذِي يَتَوَلَّى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالدَّفْعَ فِي صَدْرِ شَرِيعَتِهِ هُوَ إِمَامُ كُلِّ مَنْ يَكْفُرُ بِذَلِكَ الشَّرْعِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْتِي فِي كُلِّ جِيلٍ مِنَ الْكُفَّارِ أَئِمَّةٌ خَاصَّةٌ بِجِيلٍ جِيلٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ الْإِسْلَامُ، فَمَعْنَاهُ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ. وَلِذَلِكَ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَإِنْ نَكَثُوا إِيمَانَهُمْ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَقَاتِلُوهُمْ، فَوَضَعَ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ إِذَا نَكَثُوا فِي حَالَةِ الشِّرْكِ تَمَرُّدًا وَطُغْيَانًا وَطَرْحًا لِعَادَاتِ الْكِرَامِ الْأَوْفِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ آمَنُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَصَارُوا إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَنَكَثُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَقَعَدُوا يَطْعَنُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ لَيْسَ دِينُ مُحَمَّدٍ بِشَيْءٍ، فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَذَوُو الرِّئَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهِ، لَا يَشُقُّ كَافِرٌ غُبَارَهُمْ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَب مَالِكٍ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّينِ فَفَعَلَ شَيْئًا مِثْلَ تَكْذِيبِ الشَّرِيعَةِ وَالسَّبِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوَهُ قُتِلَ. وَقِيلَ: إِنْ أَعْلَنَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ مُعْتَقَدِهِ وَكُفْرِهِ أُدِّبَ عَلَى الْإِعْلَانِ وَتُرِكَ، وَإِنْ كَفَرَ بِمَا هُوَ لَيْسَ مِنْ مُعْتَقَدِهِ كَالسَّبِّ وَنَحْوِهِ قُتِلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَتَابُ، وَاخْتُلِفَ إِذَا سَبَّ الذِّمِّيُّ ثُمَّ أَسْلَمَ تَقِيَّةَ الْقَتْلِ. فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُتْرَكُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَلَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُسْلِمِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ يَاءً. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَدُّ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ نَافِعٍ: بِهَمْزَتَيْنِ، وَأَدْخَلَ هِشَامٌ بَيْنَهُمَا أَلِفًا وَأَصْلُهُ أَأْمِمَةٌ عَلَى وَزْنِ أَفْعِلَةٌ جَمْعُ إِمَامٍ، أَدْغَمُوا الْمِيمَ فِي الْمِيمِ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْهَمْزَةِ قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ لَفْظُ أَئِمَّةٍ؟ (قُلْتُ) : هَمْزَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، أَيْ بَيْنَ مَخْرَجِ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ. وَتَحْقِيقُ الْهَمْزِ هِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا التَّصْرِيحُ بِالْيَاءِ فَلَيْسَ بِقِرَاءَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ. وَمَنْ صَرَّحَ بِهَا فَهُوَ لَاحِنٌ مُحَرِّفٌ انْتَهَى. وَذَلِكَ دأبه في تلحين المقرءين. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ لَحْنًا وَقَدْ قَرَأَ بِهِ رَأْسُ الْبَصْرِيِّينَ النُّحَاةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَقَارِئُ مَكَّةَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَارِئُ مَدِينَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم نَافِعٌ، وَنَفَى إِيمَانَهُمْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتُوا عَلَيْهَا وَلَا وَفَّوْا بِهَا جُعِلُوا لَا أَيْمَانَ لَهُمْ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ الْوَصْفِ أَيْ: لَا أَيْمَانَ لَهُمْ يُوَفُّونَ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ عَامِرٍ: لَا إِيمَانَ لَهُمْ أَيْ لَا إِسْلَامَ وَلَا تَصْدِيقَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا غَيْرُ قَوِيٍّ،

لأنه تكرار وذلك أنه وَصَفَ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ بِأَنَّهُمْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ، فَالْوَجْهُ فِي كَسْرِ الْأَلِفِ أَنَّهُ مَصْدَرُ أَمَنَهُ إِيمَانًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّنُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، إِذِ الْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَسَّرَ الْحَسَنُ قِرَاءَتَهُ لَا إِسْلَامَ لَهُمُ انْتَهَى. وَكَذَا تَبِعَهُ الزمخشري، فقال: وقرىء لَا إِيمَانَ لَهُمْ، أَيْ لَا إِسْلَامَ لَهُمْ، وَلَا يُعْطَوْنَ الْأَمَانَ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَالنَّكْثِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. وَبِقِرَاءَةِ الْفَتْحِ اسْتَشْهَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينُهُمْ يَمِينٌ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بِالنَّكْثِ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أَيْ لِيَكُنْ غَرَضُكُمْ فِي مقاتلتهم بعد مَا وُجِدَ مِنْهُمْ مَنِ الْعَظَائِمِ مَا وُجِدَ انْتِهَاءَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ وَفَضْلِهِ وَعَوْدِهِ عَلَى الْمُسِيءِ بِالرَّحْمَةِ. أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَلَا حَرْفُ عَرْضٍ، وَمَعْنَاهُ هُنَا الْحَضُّ عَلَى قِتَالِهِمْ. وَزَعَمُوا أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا النَّافِيَةِ، فَصَارَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى تَقْرِيرٍ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُقَاتَلَةِ، وَمَعْنَاهَا: الْحَضُّ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِ أَهْلِ الْكُفْرِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ جَمَعُوهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ كَافٍ فِي الْحَضِّ عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ. وَمَعْنَى نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ: نَقَضَ الْعَهْدَ. قَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ، نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ بَعْدَ عَهْدِ الْحُدَيْبِيَةَ، وَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ انْتَهَى. وَهَمُّهُمْ هُوَ هَمُّ قُرَيْشٍ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ حِينَ تَشَاوَرُوا بِدَارِ النَّدْوَةِ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي الْهِجْرَةِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بَنُو بَكْرٍ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، أَوِ الْيَهُودُ، هَمُّوا بِغَدْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَأَعَانُوا الْمُنَافِقِينَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثلاثة أقوال أو لها لِلسُّدِّيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ لِغَزْوَةِ أُحُدٍ وَالْأَحْزَابِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَتْ مِنْهُمُ الْبُدَاءَةُ بِالْمُقَاتَلَةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ أَوَّلًا بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَتَحَدَّاهُمْ بِهِ، فَعَدَلُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِعَجْزِهِمْ عَنْهَا إِلَى الْقِتَالِ، فَهُمُ الْبَادِئُونَ، وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ، فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ بِمِثْلِهِ تَصْدِمُونَهُمْ بِالشَّرِّ كَمَا صَدَمُوكُمْ؟ وَبَّخَهُمْ بِتَرْكِ مُقَاتَلَتِهِمْ، وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِمَا يُوجِبُ الْحَضَّ عَلَيْهَا. وَتَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ صِفَاتِهِمْ مِنْ نَكْثِ الْعُهُودِ وَإِخْرَاجِ الرسول

_ (1) سورة قريش: 106/ 4. [.....]

وَالْبَدْءِ بِالْقِتَالِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا تُتْرَكَ مُصَادَمَتُهُ، وَأَنْ يُوَبَّخَ مَنْ فَرَّطَ فِيهَا، قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوَّلَ مَرَّةٍ. قِيلَ: يُرِيدُ أَفْعَالَهُمْ بِمَكَّةَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَدَأَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنْ مَعُونَةِ بَنِي بَكْرٍ حُلَفَائَهُمْ عَلَى خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ هَذَا بَدْءَ النَّقْضِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَعْنِي فِعْلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بَدَوْكُمْ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ مِنْ بَدَأْتُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، كَمَا قَالُوا فِي قَرَأْتُ: قَرَيْتُ، فَصَارَ كَرَمَيْتُ. فَلَمَّا أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى وَاوِ الضَّمِيرِ سَقَطَتْ، فَصَارَ بَدَوْكُمْ كَمَا تَقُولُ: رَمَوْكُمْ. أَتَخْشَوْنَهُمْ تَقْرِيرٌ لِلْخَشْيَةِ مِنْهُمْ، وَتَوْبِيخٌ عَلَيْهَا. فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فَتَقْتُلُوا أَعْدَاءَهُ. وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأٌ وخبره أحق، وأن تَخْشَوْهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ: وَخَشْيَةُ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ خَشْيَتِهِمْ وَأَنْ تَخْشَوْهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ على الْخِلَافِ إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، وَتَقْدِيرُهُ: بِأَنْ تَخْشَوْهُ أَيْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ تَخْشَوْهُ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أَنْ تَخْشَوْهُ مُبْتَدَأً، وَأَحَقُّ خَبَرُهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ أَحَقُّ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ أَنْ تَخْشَوْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الْأَوَّلِ. وَحَسُنَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَقَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ خَبَرًا لِلنَّكِرَةِ فِي نَحْوِ: اقْصِدْ رَجُلًا خَيْرٌ مِنْهُ أَبُوهُ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ كَامِلِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّ قَضِيَّةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَخْشَى الْمُؤْمِنُ إِلَّا رَبَّهُ وَلَا يُبَالِي بِمَنْ سِوَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ «1» . قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَرَّرَتِ الْآيَاتُ قَبْلَ هَذَا أَفْعَالَ الْكَفَرَةِ الْمُقْتَضِيَةَ لِقِتَالِهِمْ، وَالْحَضَّ عَلَى الْقِتَالِ، وَحَرُمَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ فِي هَذِهِ، وَتَعْذِيبُهُمْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ هُوَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ، وَهَذِهِ وُعُودٌ ثَبَّتَتْ قُلُوبَهُمْ وَصَحَّحَتْ نِيَّاتِهِمْ، وَخِزْيُهُمْ هُوَ إِهَانَتُهُمْ وَذُلُّهُمْ، وَيَنْصُرْكُمْ يُظْفِرُكُمْ بِهِمْ، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ بِإِعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ وَتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ وَخِزْيِهِمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَشْفِ بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ لِيَشْمَلَ الْمُخَاطَبِينَ وَكُلَّ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّ مَا يُصِيبُ أَهْلُ الْكُفْرِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ هُوَ شِفَاءٌ لِصَدْرِ كُلِّ مُؤْمِنٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ بُطُونٌ مِنَ الْيَمَنِ وَسَبَأٍ قَدِمُوا مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا، فَلَقُوا مِنْ أَهْلِهَا أَذًى شَدِيدًا، فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون إليه

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 39.

فَقَالَ: «أَبْشِرُوا فَإِنَّ الْفَرَجَ قَرِيبٌ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ خُزَاعَةُ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نُقِضَ فِيهِمُ الْعَهْدُ وَنَالَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ فِي خُزَاعَةَ مُؤْمِنُونَ كَثِيرٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْخُزَاعِيِّ الْمُسْتَنْصِرِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا وَفِي آخِرِ الرَّجَزِ: وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا وَإِذْهَابُ الْغَيْظِ بِمَا نَالَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّأْكِيدِ لِلَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ شِفَاءَ الصَّدْرِ مِنْ آلَةِ الْغَيْظِ هُوَ إِذْهَابُ الْغَيْظِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَيَذْهَبُ فِعْلًا لَازِمًا غَيْظُ فَاعِلٌ بِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ الْبَاءَ. وَهَذِهِ الْمَوَاعِيدُ كُلُّهَا وُجِدَتْ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة نبوته وبدىء أَوَّلًا فِيهَا بِمَا تَسَبَّبَ عَنِ النَّصْرِ وَهُوَ تَعْذِيبُ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَإِخْزَاؤُهُمْ، إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ بِمَا يَنَالُ الْكُفَّارَ مِنَ الشَّرِّ هِيَ الَّتِي يُسَرُّ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبُ وَهُوَ نَصْرُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَسَبَّبَ أَيْضًا عَنِ النَّصْرِ مِنْ شِفَاءِ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْهَابِ غَيْظِهِمْ تَتْمِيمًا لِلنِّعَمِ، فَذَكَرَ مَا تَسَبَّبَ عَنِ النَّصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفَّارِ، وَذَكَرَ مَا تَسَبَّبَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِإِدْرَاكِ الثَّأْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ وَالْمَطَاعِمِ، إِذِ الْعَرَبُ قَوْمٌ جُبِلُوا عَلَى الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ، فَرَغْبَتُهُمْ فِي إِدْرَاكِ الثَّأْرِ وَقَتْلِ الْأَعْدَاءِ هِيَ اللَّائِقَةُ بِطِبَاعِهِمْ. إِنَّ الْأُسُودَ أُسُودَ الْغَابِ هِمَّتُهَا ... يَوْمَ الْكَرِيهَةِ فِي الْمَسْلُوبِ لَا السَّلَبِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَتُوبُ اللَّهُ رَفْعًا، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ يَتُوبُ عَنْ كُفْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَالَمٌ كَثِيرُونَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو الْفَتْحِ: وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ سَوَاءٌ قُوتِلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتَلُوا، فَلَا وَجْهَ لِإِدْخَالِ الْيَوْمَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي فِي قَاتِلُوهُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ قَائِدٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُمَا: وَيَتُوبَ اللَّهُ بِنَصْبِ الْبَاءِ، جَعَلَهُ دَاخِلًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى. قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ دَاخِلَةً فِي الْجَزَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ عِنْدِي إِذَا ذُهِبَ إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ يُرَادُ بِهَا أَنَّ قَتْلَ الْكَافِرِينَ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ تَوْبَةٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَكَمَالٌ لِإِيمَانِكُمْ، فَتَدْخُلُ التَّوْبَةُ عَلَى هَذَا فِي شَرْطِ الْقِتَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْمُقَاتَلَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَإِذَا

أَقْدَمُوا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ صَارَ ذَلِكَ الْعَمَلُ جَارِيًا مَجْرَى التَّوْبَةِ مِنْ تِلْكَ الْكَرَاهَةِ. وَقِيلَ: حُصُولُ الْكُفْرِ وَكَثْرَةُ الْأَمْوَالِ لَذَّةٌ تُطْلَبُ بِطَرِيقٍ حَرَامٍ، فَلَمَّا حَصَلَتْ لَهُمْ طَرِيقٌ حَلَالٌ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَصَارَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَرَّرُوهُ مِنْ كَوْنِ التَّوْبَةِ تَدْخُلُ تَحْتَ جَوَابِ الْأَمْرِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ، فَالْمَعْنَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ وَغَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ قَدْ يَنْشَأُ عَنْهَا إِسْلَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا دَاعِيَةٌ قَبْلَ الْقِتَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ كَيْفَ كَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى كُرْهٍ وَاضْطِرَارٍ، ثُمَّ قَدْ تَحْسُنُ حَالُهُ فِي الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَيْفَ كَانَ حَالُهُ أَوَّلًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُ إِلَى أَحْسَنِ حَالٍ وَمَاتَ أَحْسَنَ مَيْتَةٍ فِي السُّجُودِ فِي صِلَاتِهِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ؟ وَاللَّهُ عَلِيمٌ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِثْلَ مَا يَعْلَمُ مَا قَدْ كَانَ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمَا رَتَّبَ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ، وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ حَكِيمٌ فِي تَصْرِيفِ عِبَادِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعَالَى. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تُتْرَكُونَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخُلَّصُ مِنْكُمْ وَهُمُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَلَمْ يَتَّخِذُوا مَعْطُوفٌ عَلَى جَاهَدُوا. غَيْرَ مُتَّخِذِينَ وَلِيجَةً، وَالْوَلِيجَةُ فَعَيْلَةٌ مِنْ وَلَجَ كَالدَّخِيلَةِ مِنْ دَخَلَ، وَهِيَ الْبِطَانَةُ. وَالْمُدْخَلُ يُدْخَلُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِسْرَارِ، شُبِّهَ النِّفَاقُ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَلِيجَةُ الْخِيَانَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْخَدِيعَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَوْدَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ وَلَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ، وَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَلِيجَةٌ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَلِيجَةُ الرَّجُلِ مَنْ يَخْتَصُّ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَجَمْعُهَا وَلَائِجُ وَوُلُجٌ، كَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ وَصُحُفٍ. وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ صَفْوَانَ الْغَنَوِيُّ: وَلَائِجُهُمْ فِي كُلِّ مَبْدًى وَمَحْضَرٍ ... إِلَى كُلِّ مَنْ يُرْجَى وَمَنْ يَتَخَوَّفُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طَعْنٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْوَلَائِجَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ فَرْضِ الْقِتَالِ،

وَالْمَعْنَى: لَا بُدَّ مِنِ اخْتِبَارِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ «1» وَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ يُجَاهِدُ وَهُوَ مُنَافِقٌ نَفَى هَذَا الْوَصْفَ عَنْهُ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْجِهَادِ مِنَ الْإِخْلَاصِ خَالِيًا عَنِ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مُنَاسَبَةً لِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ رُوَيْسٍ وَسَلَّامٌ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا. مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَرَأَ ابْنُ السميفع: أَنْ يُعْمِرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَنْ يُعِينُوا عَلَى عِمَارَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْجَحْدَرِيُّ: مَسْجِدٌ بِالْإِفْرَادِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ بِالْجَمْعِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْوَاعًا مِنْ قَبَائِحِهِمْ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ، ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ تُوجِبُ انْتِفَاءَ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا كَوْنُهُمْ عَامِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. رُوِيَ أَنَّهُ أَقْبَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى أُسَارَى بَدْرٍ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالشِّرْكِ، وَطَفِقَ عَلِيٌّ يُوَبِّخُ الْعَبَّاسَ، فَقَالَ الرَّسُولُ: وا قطيعة الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تُظْهِرُونَ مَسَاوِينَا، وَتَكْتُمُونَ مَحَاسِنَنَا؟ فَقَالَ: أو لكم مَحَاسِنُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَنَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ أَجْرًا، إِنَّا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ: أَيْ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَإِلَّا فَقَدَ عَمَرُوهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَا صَحَّ وَمَا استقام انتهى. وعمارته وحوله وَالْقُعُودُ فِيهِ وَالْمُكْثُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَعْمُرُ الْمَسْجِدَ أَيْ يُكْثِرُ غَشَيَانَهُ، أَوْ رَفْعَ بِنَائِهِ، وَإِصْلَاحَ مَا تَهَدَّمَ مِنْهُ، أَوِ التَّعَبُّدَ فِيهِ، وَالطَّوَافَ بِهِ. وَالصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لِقَوْلِهِ: وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَوِ الْجِنْسُ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، إِذْ هُوَ صَدْرُ ذَلِكَ الْجِنْسِ مُقَدِّمَتُهُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَكَانٍ مِنْهُ مَسْجِدٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا وَإِمَامُهَا، فَكَانَ عَامِرُهُ عَامِرَ الْمَسَاجِدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَهُوَ آكَدُ، لِأَنَّ طَرِيقَتَهُ طَرِيقَةُ الْكِنَايَةِ كَمَا لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يَقْرَأُ كُتُبَ اللَّهِ، كُنْتَ أَنْفَى لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَصْرِيحِكَ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 17.

بِذَلِكَ. وَانْتَصَبَ شَاهِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: مَا اسْتَقَامَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ عِمَارَةُ مُتَعَبَّدَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْكُفْرِ بِهِ وَبِعِبَادَتِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: شَاهِدُونَ عَلَى إضمارهم شَاهِدُونَ، وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَوْلُهُمْ فِي الطَّوَافِ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. أَوْ قَوْلُهُمْ إِذَا سُئِلُوا عَنْ دِينِهِمْ: نَعْبُدُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، أَوْ تَكْذِيبُهُمُ الرَّسُولَ، أَوْ قَوْلُ الْمُشْرِكِ: أَنَا مُشْرِكٌ كَمَا يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: هُوَ يَهُودِيٌّ، وَالنَّصْرَانِيُّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَالْمَجُوسِيُّ هُوَ مَجُوسِيٌّ، والصابىء هو صابىء، أَوْ ظُهُورُ أَفْعَالِ الْكَفَرَةِ مِنْ نَصْبِ أَصْنَامِهِمْ وَطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، هَذَا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ شَاهِدِينَ عَلَى رَسُولِهِمْ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّهُ مَا مِنْ بَطْنٍ مِنْ بُطُونِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُ فِيهِمْ وِلَادَةٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى أَنْفَسِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ أَشْرَفِهُمْ وَأَجَلِّهُمْ قَدْرًا. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الَّتِي هِيَ الْعِمَارَةُ وَالْحِجَابَةُ وَالسِّقَايَةُ وَفَكُّ الْعُنَاةُ وَغَيْرُهَا مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَمِيدَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا هَدَمَ الْكُفْرُ أَوِ الْكَبِيرَةُ الْأَعْمَالَ الثَّابِتَةَ الصَّحِيحَةَ إِذَا تَعَقَّبَهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِالْمُقَارِنِ؟ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: شاهِدِينَ «1» حَيْثُ جَعَلَهُ حَالًا عَنْهُمْ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَارِنُونِ بَيْنَ الْعِمَارَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالْكُفْرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: أَوِ الْكَبِيرَةُ، دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ. وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ذَكَرَ مَآلَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ النَّارُ خَالِدِينَ فِيهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالْيَاءِ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَفِي النَّارِ هُوَ الْخَبَرُ. كَمَا تقول: في الدار زيد قَاعِدًا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَمْنُوعُونَ مِنْ عِمَارَةِ مَسْجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ أَوْصَى لَمْ تُقْبَلْ وَصِيَّتُهُ، وَيُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ مُسْلِمٍ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ، وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنٍ لم يعزر، والأولى تعظم الْمَسَاجِدِ وَمَنْعُهَا مِنْهُمْ. وَقَدْ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ ثَقِيفَ وَهُمْ كُفَّارٌ الْمَسْجِدَ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ فِي سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ كَافِرٌ. إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 17.

إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: مَسْجِدًا لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ السَّبْعَةُ وَجَمَاعَةٌ: بِالْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَعْمُرُهَا بِالْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، وَيَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْخَبَرِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، وَيَتَنَاوَلُ عِمَارَتُهَا رَمَّ مَا تَهَدَّمَ مِنْهَا، وَتَنْظِيفَهَا، وَتَنْوِيرَهَا، وَتَعْظِيمَهَا، وَاعْتِيَادَهَا لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ. وَمِنَ الذِّكْرِ دَرْسُ الْعِلْمِ بَلْ هُوَ أَجَلُّهُ، وَصَوْنَهَا عَمَّا لَمْ تُبْنَ لَهُ مِنَ الْخَوْضِ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» وَلَمْ يُذْكَرِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِنَّمَا هُوَ مُتَلَقَّفٌ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ، فَيَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ. أَوْ لَمْ يُذْكَرْ لِمَا عُلِمَ وَشُهِرَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى قَرِينَتُهُ الْإِيمَانُ بالرسول، لِاشْتِمَالِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهِمَا مُقْتَرِنَيْنِ مُزْدَوِجَيْنِ، كَأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَنْفِكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، فَانْطَوَى تَحْتَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: دَلَّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَا يُتَلَقَّى ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَعِمَارَتِهَا هُوَ كَوْنُهَا مُجْتَمَعًا لِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا وَالتَّعَبُّدَاتِ مِنَ الذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَاسَبَ ذِكْرُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَجْمَعًا لِلنَّاسِ بَانَ فِيهَا أَمْرُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَعُرِفَتْ أَحْوَالُ مَنْ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُرِيدُ خَشْيَةَ التَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْشَى غَيْرَهُ، وَيَخْشَى الْمَحَاذِيرَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْشَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَضَاءَ اللَّهَ وَتَصْرِيفَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى فِي أَبْوَابِ الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَخْتَارَ عَلَى رِضَا اللَّهِ رِضَا غيره، وإذا اعترضه أمر أن أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْآخَرُ حَقُّ نَفْسِهِ، خَافَ اللَّهَ وَآثَرَ حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَخْشَوْنَ الْأَصْنَامَ وَيَرْجُونَهَا، فَأُرِيدَ نَفْيُ تِلْكَ الْخَشْيَةِ عَنْهُمُ انْتَهَى. وَعَسَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي ذَلِكَ قَطْعُ أَطْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ إِذْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ الْأَرْبَعَةَ جُعِلَ حَالُهُ حَالَ مَنْ تُرْجَى لَهُ الْهِدَايَةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ عَارٍ مِنْهَا: وَفِي ذَلِكَ تَرْجِيحُ الْخَشْيَةِ عَلَى الرَّجَاءِ، وَرَفْضُ الِاغْتِرَارِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَرُبَّمَا دَخَلَهَا بَعْضُ الْمُفْسِدَاتِ وَصَاحِبُهَا لَا يَشْعُرُ بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَيْ: مِنَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، بَلْ جُعِلُوا بَعْضًا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَكَوْنُهُمْ مِنْهُمْ أَقَلَّ فِي التَّعْظِيمِ مِنْ أَنْ يُجَرَّدَ لَهُمُ الْحُكْمُ بِالْهِدَايَةِ. أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ

فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ. وَقَالَ الْآخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنِّي إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ أَقْوَالًا أُخَرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الِافْتِخَارِ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِقَايَةَ وَعِمَارَةَ وَهُمَا مَصْدَرَانِ نَحْوُ الصِّيَانَةِ وَالْوِقَايَةِ وَقُوبِلَا بِالذَّوَاتِ، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ: أَهْلَ سِقَايَةِ، أَوْ حَذْفٍ مِنَ الثَّانِي أَيْ: كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْبَاقِرُ وَأَبُو حَيْوَةَ: سَقَاةَ الْحَاجِّ، وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ ، جَمْعُ سَاقٍ وَجَمْعُ عَامِرٍ كَرَامٍ وَرُمَاةٍ وَصَانِعٍ وَصَنَعَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ الْمَسْجِدَ عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ فِي عَمَرَةً. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سُقَايَةَ بِضَمِّ السِّينِ، وَعِمْرَةَ بُنِيَ الْجَمْعُ عَلَى فِعَالٍ كَرِخْلٍ وَرُخَالٍ، وَظِئْرٍ وَظُؤَارٍ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ هَاءٍ، لَكِنَّهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ كَمَا دَخَلَتْ فِي حِجَارَةٍ. وَكَانَتِ السِّقَايَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَتَوَلَّاهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْعَبَّاسُ: مَا أَرَانِي إِلَّا أَتْرُكُ السِّقَايَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أَقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ لَكُمْ خَيْرٌ» وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ هِيَ السدانة، وكانت فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَشَيْبَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ هُمَا اللَّذَانِ دَفَعَ إِلَيْهِمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فِي ثَامِنِ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ وَشَيْبَةَ: «خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يُنَازِعُكُمَا عَلَيْهَا إِلَّا ظَالِمٌ» يَعْنِي السِّدَانَةَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْكَارُ أَنْ يُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالُهُمُ الْمُحْبَطَةُ بِأَعْمَالِهِمُ الْمُثَبِّتَةِ. وَلَمَّا نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا أَوْضَحَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، مِنَ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ هُمُ الظَّالِمُونَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَظَلَمُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِذْ جَعَلَهُ الله متعبدا له فَجَعَلُوهُ مُتَعَبَّدًا لِأَوْثَانِهِمْ. وَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ إِثْبَاتَ الْهِدَايَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ «1» وَفِي الْمُشْرِكِينَ هُنَا نَفَى الْهِدَايَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 18.

الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ زَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُضُوحًا فِي التَّرْجِيحِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُفْتَخِرِينَ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ، فَطَهَّرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ بِالْإِيمَانِ، وَطَهَّرُوا أَبْدَانَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَوْطِنِ الرَّسُولِ وَتَرْكِ ديارهم التي نشأوا عَلَيْهَا، ثُمَّ بَالَغُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، الْمُعَرَّضَيْنِ بِالْجِهَادِ لِلتَّلَفِ. فَهَذِهِ الْخِصَالُ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ البشرية، وأعظم هُنَا يَسُوغُ أَنْ تَبْقَى عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ فِي سِقَايَتِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ فَضِيلَةً، فَخُوطِبُوا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا وَلَمْ يُجَاهِدُوا. وَقِيلَ: أَعْظَمُ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، بَلْ هِيَ كَقَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» . وَقَوْلُ حسان: فشركما لخير كما الْفِدَاءُ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَظِيمُونَ درجة. وعند اللَّهِ بِالْمَكَانَةِ لَا بِالْمَكَانِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «2» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَرْوَاحُ الْمُقَدَّسَةُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا تَطَهَّرَتْ عَنْ دَنَسِ الْأَوْصَافِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَاذُورَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ أَشْرَقَتْ بأنوار الجلال وغلا فِيهَا أَضْوَاءُ عَالَمِ الْجَمَالِ، وَتَرَقَّتْ مِنَ الْعَبْدِيَّةِ إِلَى الْعِنْدِيَّةِ، بَلْ كَأَنَّهُ لَا كَمَالَ فِي الْعَبْدِيَّةِ إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ الْعِنْدِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «3» انْتَهَى، وَهُوَ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُوَ الْفَائِزُ الظَّافِرُ بِأُمْنِيَتِهِ، النَّاجِي مِنَ النَّارِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ فِي الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً انْتَهَى، وَأُسْنِدَ التَّبْشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبُّهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَالِكَ أَمْرِهِمْ وَالنَّاظِرَ فِي مَصَالِحِهِمْ هُوَ الَّذِي يُبَشِّرُهُمْ، فَذَلِكَ عَلَى تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِمْ لِرَبِّهِمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَوْصَافُ الَّتِي تَحَلَّوْا بِهَا وَصَارُوا بِهَا عَبِيدَهَ حَقِيقَةً هِيَ ثَلَاثَةٌ: الْإِيمَانُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، قُوبِلُوا فِي التَّبْشِيرِ بِثَلَاثَةٍ: الرَّحْمَةِ، وَالرِّضْوَانِ، وَالْجَنَّاتِ. فَبَدَأَ بِالرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا الْوَصْفُ الْأَعَمُّ النَّاشِئُ عَنْهَا تَيْسِيرُ الْإِيمَانِ لَهُمْ، وَثَنَّى بِالرِّضْوَانِ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ مِنْ إِحْسَانِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْجِهَادِ، إِذْ هو

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 24. (2) سورة الأنبياء: 21/ 19. (3) سورة الإسراء: 17/ 1.

بَذْلُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَقُدِّمَ عَلَى الْجَنَّاتِ لِأَنَّ رِضَا اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَفْضَلُ مِنْ إِسْكَانِهِمُ الْجَنَّةَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا كَيْفَ لَا نَرْضَى وَقَدْ بَاعَدْتَنَا عَنْ نَارِكَ وَأَدْخَلْتَنَا جَنَّتَكَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضَائِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهَا» وَأَتَى ثَالِثًا بِقَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ، أَيْ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ. وَهَذَا مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ «وَهَاجَرُوا» «1» لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا أوطانهم التي نشأوا فِيهَا وَكَانُوا فِيهَا مُنَعَّمِينَ، فَآثَرُوا الْهِجْرَةَ عَلَى دَارِ الْكُفْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْإِيمَانِ وَالرِّسَالَةِ، فَقُوبِلُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْجَنَّاتِ ذَوَاتِ النَّعِيمِ الدَّائِمِ، فَجَاءَ التَّرْتِيبُ فِي أَوْصَافِهِمْ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ: الْإِيمَانُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ. وَجَاءَ التَّرْتِيبُ فِي الْمُقَابِلِ عَلَى حَسَبِ الْأَعَمِّ، ثُمَّ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ التَّكْمِيلِ. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: وَنَكَّرَ الرَّحْمَةَ وَالرِّضْوَانَ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ. بِرَحْمَةٍ أَيْ: رَحْمَةٍ لَا يَبْلُغُهَا وَصْفُ وَاصِفٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ: يَبْشُرُهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ خَفِيفَةً. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: وَرُضْوَانٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَالضَّادِ مَعًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ هَذَا انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، فَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: سُلُطَانٌ بِضَمِّ اللَّامِ، وَأَوْرَدَهُ التَّصْرِيفِيُّونَ فِي أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مَنْ آمَنَ لَمْ يَتِمَّ إِيمَانُهُ إِلَّا بِأَنْ يُهَاجِرَ وَيُصَادِمَ أَقَارِبَهُ الْكَفَرَةَ وَيَقْطَعُ مُوَالَاتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نَحْنُ اعْتَزَلْنَا مَنْ يُخَالِفُنَا فِي الدِّينِ قَطَعْنَا آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَعَشَائِرَنَا، وَذَهَبَتْ كَادَتُنَا وَهَلَكَتْ أَمْوَالُنَا، وَخَرِبَتْ دِيَارُنَا، وَبَقِينَا ضَائِعِينَ، فَنَزَلَتْ. فَهَاجَرُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيهِ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يُنْزِلُهُ وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رُخِّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا بمكة وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ خُوطِبُوا أَنْ لَا يُوَالُوا الْآبَاءَ وَالْإِخْوَةَ، فَيَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا فِي سُكْنَى بِلَادِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي التِّسْعَةِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ. وَذَكَرَ الْآبَاءَ وَالْإِخْوَانَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَبْنَاءَ لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ تَبَعٌ لآبائهم.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 20.

وقرأ عيسى بن عمران: اسْتَحَبُّوا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَعَلَهُ تَعْلِيلًا، وَغَيْرُهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ جَعَلَهُ شَرْطًا. وَمَعْنَى اسْتَحَبُّوا: آثَرُوا وَفَضَّلُوا، اسْتَفْعَلَ مِنَ الْمَحَبَّةِ أَيْ طَلَبُوا مَحَبَّةَ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَحَبَّ. وَضُمِّنَ مَعْنَى اخْتَارَ وَآثَرَ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِعَلَى. وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ أُخْبِرَ أَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ فَهُوَ ظَالِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مُشْرِكٌ مِثْلُهُمْ، لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالشِّرْكِ فَهُوَ مُشْرِكٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ظُلْمُ الْمَعْصِيَةِ لَا ظُلْمُ الْكُفْرِ. قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي الْحَضَّ عَلَى الْهِجْرَةِ وَذَكَرَ الْأَبْنَاءُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَحَبَّةَ، وَهُمْ أَعْلَقُ بِالنَّفْسِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ قَبْلَهَا فَلَمْ يُذْكَرُوا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ. وَقَدَّمَ الْآبَاءَ لِأَنَّهُمُ الَّذِي يَجِبُ بِرُّهُمْ وَإِكْرَامُهُمْ وَحُبُّهُمْ، وَثَنَّى بِالْأَبْنَاءِ لِكَوْنِهِمْ أَعْلَقَ بِالْقُلُوبِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ ذَكَرَ الْحَاشِيَةَ وَهِيَ الْإِخْوَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَهُنَّ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْإِيثَارِ كَالْأَبْنَاءِ، ثُمَّ الْأَبْعَدَ بَعْدَ الْأَقْرَبِ فِي الْقَرَابَةِ فَقَالَ: وَعَشِيرَتُكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: بِأَلْفٍ عَلَى الْجَمْعِ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ الْعَرَبَ تَجْمَعُ عَشِيرَةً عَلَى عَشَائِرَ، وَلَا تَكَادُ تَقُولُ عَشِيرَاتٌ بِالْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا أَيِ اكْتَسَبْتُمُوهَا، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ يُعَادِلُ حُبُّهَا حُبَّ الْقَرَابَةِ، بَلْ حُبُّهَا أَشَدُّ، كَانَتِ الْأَمْوَالُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَزِيزَةً، وَأَكْثَرُ النَّاسِ كَانُوا فُقَرَاءَ. ثُمَّ ذَكَرَ: وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا، وَالتِّجَارَةُ لَا تَتَهَيَّأُ إِلَّا بِالْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ تَعَالَى التِّجَارَةَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْأَمْوَالِ وَنَمَائِهَا. وَتَفْسِيرُ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِأَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَنَاتِ اللَّوَاتِي لَا يَتَزَوَّجْنَ لِقِلَّةِ خُطَّابِهِنَّ، تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَسَدْنَ مِنَ الْفَقْرِ فِي قَوْمِهِنَّ ... وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كُسُودَا ثُمَّ ذَكَرَ: وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا، وَهِيَ الْقُصُورُ وَالدُّورُ. وَمَعْنَى: تَرْضَوْنَهَا، تَخْتَارُونَ الْإِقَامَةَ بِهَا. وَهَذِهِ الدَّوَاعِي الْأَرْبَعَةُ سَبَبٌ لِمُخَالَطَةِ الْكُفَّارِ حُبُّ الْأَقَارِبِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالتِّجَارَةِ، وَالْمَسَاكِنِ. فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مُرَاعَاةَ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ: أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ

الْإِسْلَامِ. وَالْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ أَحَبَّ لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ يَقْرَأُ: أَحَبُّ بِالرَّفْعِ، وَلَحَّنَهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَتَلْحِينُهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمُخَالَفَةِ إِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ النَّقَلَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ جَائِزٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنْ يُضْمَرَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَيُلْزَمَ مَا بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ كَانَ. وَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِالتَّرَبُّصِ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْإِشَارَةُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابٍ أَوْ عُقُوبَةٍ مِنَ اللَّهِ، والفاسقين عُمُومٌ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِيمَنْ تَوَافَى عَلَى فِسْقِهِ، أَوْ عُمُومٌ مُطْلَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَا هِدَايَةَ مِنْ حَيْثُ الْفِسْقُ، وَفِي التَّحْرِيرِ الْفِسْقُ هُنَا الْكُفْرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَابَلَهُ مِنَ الْهِدَايَةِ. وَالْكُفْرُ ضَلَالٌ، وَالضَّلَالُ ضِدُّ الْهِدَايَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، فَيَكُونُ الْفِسْقُ الْخُرُوجَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَا أَمْرَ رَسُولِهِ فِي الْهِجْرَةِ. لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ «1» وَاسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا اسْتَطْرَدَ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى نَصْرَهُ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَالْمَوَاطِنُ مَقَامَاتُ الْحَرْبِ وَمَوَاقِفُهَا. وَقِيلَ: مَشَاهِدُ الْحَرْبِ تُوَطِّنُونَ أَنْفُسَكُمْ فِيهَا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَهِيَ جَمْعُ مَوْطِنٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ قَالَ: وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوَى وَهَذِهِ الْمَوَاطِنُ: وَقَعَاتُ بَدْرٍ، وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَالْحُدَيْبِيَةِ، وَخَيْبَرَ، وَفَتْحِ مَكَّةَ. وَوُصِفَتْ بِالْكَثْرَةِ لِأَنَّ أَئِمَّةَ التَّارِيخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَغَازِي نَقَلُوا أَنَّهَا كَانَتْ ثَمَانِينَ مَوْطِنًا. وَحُنَيْنٌ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَرِيبٌ مِنْ ذِي الْمَجَازِ. وَصُرِفَ مذ هو بابه مَذْهَبَ الْمَكَانِ، وَلَوْ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الْبُقْعَةِ لَمْ يُصْرَفْ كَمَا قَالَ: نَصَرُوا نَبِيَّهُمُ وَشَدُّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكَلَ الْأَبْطَالُ وَعَطَفَ الزَّمَانَ عَلَى الْمَكَانِ. قَالَ الزمخشري: وموطن يوم حنين أوفى أَيَّامِ مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويوم عُطِفَ عَلَى مَوْضِعِ قَوْلِهِ: فِي مَوَاطِنَ، أَوْ عَلَى لَفْظِهِ بِتَقْدِيرِ: وَفِي يَوْمِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْخَفْضِ انْتَهَى. وإذ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ وَأَضَافَ الْإِعْجَابَ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ كَانَ صَادِرًا مِنْ وَاحِدٍ لَمَّا رَأَى الْجَمْعَ الْكَثِيرَ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: لَنْ نغلب

_ (1) سورة التوبة: 9/ 14.

الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. وَالْقَائِلُ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ، أَوْ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ قُرَيْشٍ، أَوِ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ. وَنُقِلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاءَهُ كَلَامُ هَذَا الْقَائِلِ، وَوُكِلُوا إِلَى كَلَامِ الرَّجُلِ. وَالْكَثْرَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَيُجْمَعُ عَلَى كَثْرَاتٍ. وَتَمِيمٌ تَكْسِرُ الْكَافَ، وَتُجْمَعُ عَلَى كُثُرٍ كَشَذْرَةٍ وَشُذُرٍ، وَكَسْرَةٍ وَكُسُرٍ، وَهَذِهِ الْكَثْرَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَنِ النَّحَّاسِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيِّ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَعَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسُمِائَةٍ. وَالْبَاءُ فِي بِمَا رَحُبَتْ لِلْحَالِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: ضَاقَتْ بِكُمُ الْأَرْضُ مَعَ كَوْنِهَا رَحْبًا وَاسِعَةً لِشِدَّةِ الْحَالِ عَلَيْهِمْ وَصُعُوبَتِهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَكَانًا يَسْتَصْلِحُونَهُ لِلْهَرَبِ وَالنَّجَاةِ لِفَرْطِ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الرُّعْبِ، فَكَأَنَّهَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ. وَالرَّحْبُ: السَّعَةُ، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ الْوَاسِعُ. يُقَالُ: فُلَانٌ رَحْبُ الصَّدْرِ، وَبَلَدٌ رَحْبٌ، وَأَرْضٌ رَحْبَةٌ، وَقَدْ رَحُبَتْ رَحْبًا وَرَحَابَةً. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِمَا رَحْبَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِسُكُونِ الْحَاءِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، يُسَكِّنُونَ ضَمَّةَ فَعُلَ فَيَقُولُونَ فِي ظَرُفَ ظَرْفَ. ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيْ: وَلَّيْتُمْ فَارِّينَ عَلَى أَدْبَارِكُمْ مُنْهَزِمِينَ تَارِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَسْنَدَ التَّوَلِّي إِلَى جَمِيعِهِمْ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، إِذْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ مِنَ الْأَبْطَالِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ كَانَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ أَلْفَانِ مِنَ الطُّلَقَاءِ فَصَارُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى مَا انْضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ سُلَيْمٍ، وَبَنِي كِلَابٍ، وَعَبْسٍ، وَذُبْيَانَ، وَسَمِعَ بِذَلِكَ كُفَّارُ الْعَرَبِ فَشَقَّ عليهم، فجمعت له هوزان وَأَلْفَافُهَا وَعَلَيْهِمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَثَقِيفُ وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرٍو، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ أَخْلَاطٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى كَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، حَتَّى اجْتَمَعُوا بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا تَصَافَّ النَّاسُ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ من مجاني الْوَادِي وَكَانَ قَدْ كَمَنُوا بِهَا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَيُقَالُ إِنَّ الطُّلَقَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرُّوا وَقَصَدُوا إِلْقَاءَ الْهَزِيمَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَبَلَغَ فَلُّهُمْ مَكَّةَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرْكَزِهِ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تُسَمَّى دُلْدُلَ لَا يَتَخَلْخَلُ، وَالْعَبَّاسُ قَدِ اكْتَنَفَهُ آخِذًا بِلِجَامِهَا، وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَرْثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ جَعْفَرٌ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَرْثِ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ أَيْمَنُ ابْنِ أُمِّ أيمن، وقتل بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَثَبَتَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَكَانُوا عَشَرَةَ رِجَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ:

نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةٌ ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ مِنْهُمْ وأقشعوا وعاشرنا لا قى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ وَثَبَتَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي جُمْلَةِ مَنْ ثَبَتَ مُمْسِكَةً بَعِيرًا لِأَبِي طَلْحَةَ وَفِي يَدِهَا خِنْجَرٌ، وَنَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بَغْلَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ، وَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ وَحَصًا فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنِي أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ عَيْنَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ وَكَانَ صَيِّتًا: نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، فَنَادَى الْأَنْصَارَ فَخِذًا فَخِذًا، ثُمَّ نَادَى يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَكَّرُوا عُنُقًا وَاحِدًا وَهُمْ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» وَرَكَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: أَنَّ هَوَازِنَ كَانُوا رُمَاةً فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُودُ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ» قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنّ الشجاع منا الذي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ: «أكنتم وليتم يوم حنين يا أَبَا عُمَارَةَ؟» فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَلَّى. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّكِينَةُ: النَّصْرُ الَّذِي سَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزمخشري: رَحْمَتُهُ الَّتِي سَكَنُوا بِهَا. وقيل: الوقار وَالثَّبَاتُ بَعْدَ الِاضْطِرَابِ وَالْقَلَقِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ ثابت الجأش ساكنه، وعلى الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُهُ شُمُولُ مَنْ فَرَّ وَمَنْ ثَبَتَ. وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْصَارُ إِذْ هُمُ الَّذِينَ كَرُّوا وَرَدُّوا الْهَزِيمَةَ. وَقِيلَ: مَنْ ثَبَتَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَالَةَ فَرَّ النَّاسَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سِكِّينَتَهُ بِكَسْرِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ مُبَالَغَةً فِي السَّكِينَةِ. نَحْوُ شِرِّيبٍ وَطِبِّيخٍ. وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِعَدَدِهِمْ. فَقَالَ الْحَسَنُ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ثَمَانِيَةُ آلَافٍ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: خَمْسَةُ آلَافٍ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُقَاتِلْ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ يوم حنين قال: لَمَّا كَشَفْنَا الْمُسْلِمِينَ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ، فَلَمَّا

انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ تَلَقَّانَا رِجَالٌ بِيضُ الْوُجُوهِ حِسَانُهَا فَقَالُوا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا فَرَجَعْنَا، فَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا. وَالظَّاهِرُ انْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْخِطَابَ هُوَ لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي النَّضِيرِ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْقِتَالِ: أَيْنَ الْخَيْلُ الْبُلْقُ وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا بِيضٌ مَا كُنَّا فِيهِمْ إِلَّا كَهَيْئَةِ الشَّامَةِ، وَمَا كَانَ قَتْلُنَا إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ؟ فَأَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ» . وَقِيلَ: لَمْ تَرَوْهَا، نَفَى عَنِ الْجَمِيعِ، وَمَنْ رَأَى بَعْضَهُمْ لَمْ يَرَ كُلَّهُمْ. وَقِيلَ: لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا أَنْزَلَهُمْ يُلْقُونَ التَّثْبِيتَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالرُّعْبَ وَالْجُبْنَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَامِرٍ: كَانَ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلُ ضَرْبَةِ الْحَجَرِ فِي الطَّسْتِ مِنَ الرُّعْبِ. وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أَيْ بِالْقَتْلِ الَّذِي اسْتَحَرَّ فِيهِمْ، وَالْأَسْرِ لِذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَالنَّهْبِ لِأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ السَّبْيُ أَرْبَعَةَ آلَافِ رَأْسٍ. وَقِيلَ: سَتَّةَ آلَافٍ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا سِوَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنَ الْغَنَمِ، وَقَسَّمَهَا الرَّسُولُ بِالْجِعْرَانَةِ، وَفِيهَا قِصَّةُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَشِعْرُهُ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ قَدْ أَخْرَجَ النَّاسَ لِلْقِتَالِ وَالذَّرَارِيَّ لِيُقَاتِلُوا عَلَيْهَا، فَخَطَّأَهُ فِي ذَلِكَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ قَالَ: هَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قُتِلَ دُرَيْدٌ الْقِتْلَةَ الْمَشْهُورَةَ، قَتَلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ السَّلَمِيُّ وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ الدِّغِنَةِ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ لِلْإِسْلَامِ، وَوَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ كَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّضْرِيِّ رَئِيسِ هَوَازِنَ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ جاؤوا فَبَايَعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ خَيْرُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ، وَقَدْ سُبِيَ أَهْلُونَا وَأَوْلَادُنَا وَأُخِذَتْ أَمْوَالُنَا، وَكَانَ سَبْيُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ آلَافِ نَفْسٍ، وَأُخِذَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مَا لَا يُحْصَى، فَقَالَ: «إِنْ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ، اخْتَارُوا إِمَّا ذَرَارِيَّكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَإِمَّا أَمْوَالَكُمْ» فَقَالُوا: مَا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا. وَتَمَامُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ إِلَّا امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَلَمْ يَرُدَّهَا. أَخْبَرَنَا الْقَاضِي الْعَالِمُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْقُرَشِيُّ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ بِمَدِينَةِ مَالِقَةَ. قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِيقَى بْنِ حَبْلَةَ الْخَزْرَجَيُّ بَاوُو بولَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْكَنْدَرِيَّةَ (ح) وَأَخْبَرَنَا أُسْتَاذُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ

بِغَرْنَاطَةَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الْخَطَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلِيلٍ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ بِالْغَرْبِ، (ح) وَأَخْبَرَنَا عَالِيًا الْقَاضِي السَّعِيدُ صَفِيُّ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ حَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَالِحِ بْنِ يَاسِينَ الْجَبَلِيِّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ قَالَا: أَعْنِي السَّلَفِيَّ وَالْجَبَلِيَّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ بَقَاءِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ بِمِصْرَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ الْيَمَنِيُّ التَّنُوخِيُّ بِانْتِفَاءِ خَلَفٍ الْوَاسِطِيِّ الْحَافِظِ (ح) وَأَخْبَرَنَا الْمُحَدِّثُ الْعَدْلُ نَجِيبُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَيَّدِ الْهَمْدَانِيُّ عُرِفَ بِابْنِ الْعَجَمِيِّ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ (قُلْتُ) لَهُ: أَخْبَرَكَ أَبُو الْفَخْرِ أَسْعَدُ بْنُ أَبِي الْفُتُوحِ بْنِ رَوْحٍ وَعَفِيفَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي كِتَابَيْهِمَا قَالَا: أَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَقِيلٍ الْجَوْزَدَانِيَّةُ. قَالَتْ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَيْذَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ الْحَافِظُ قَالَا: - أَعْنِي التَّنُوخِيَّ وَالطَّبَرَانِيَّ- أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ رَمَاحِسَ زَادَ التَّنُوخِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ رَمَادَةَ مِنَ الرَّمْلَةِ عَلَى بَرِيدَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ ابْنُ رَمَاحِسَ الْجُشَمِيُّ الْقَيْسِيُّ بِرَمَادَةِ الرَّمْلَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو زِيَادُ بْنُ طَارِقٍ زَادَ التَّنُوخِيُّ الْجُشَمِيَّ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ قَالَ التَّنُوخِيُّ عَنْ زِيَادٍ أَنْبَأَنَا زُهَيْرُ أَبُو جَنْدَلٍ وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا صُرَدٍ. قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حنين أسرنا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا هُوَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَثَبْتُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُذَكِّرُهُ حَيْثُ شَبَّ وَنَشَأَ فِي هَوَازِنَ، وَحَيْثُ أَرْضَعُوهُ فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ: وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَرْوَلٍ زُهَيْرَ بْنَ صُرَدٍ الْجُشَمِيَّ يَقُولُ: لَمَّا أَسَرَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين قوم هَوَازِنَ، وَذَهَبَ يُفَرِّقُ السَّبْيَ وَالشَّاءِ، فَأَتَيْتُهُ فَأَنْشَأْتُ أَقْولُ هَذَا الشِّعْرَ: امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُفَرِّقٌ شَمْلَهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ أَبْقَتْ لَنَا الْحَرْبُ هُتَافًا عَلَى حرن ... عَلَى قُلُوبِهِمُ الْغِمَاءُ وَالْغَمْرُ إِنْ لَمْ تُدَارِكْهُمْ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ ترضعها ... إذ فوك يملأوها مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ

يَا خَيْرَ مَنْ مَرَحَتْ كُمْتُ الْجِيَادِ بِهِ ... عِنْدَ الْهِيَاجِ إِذَا مَا اسْتَوْقَدَ ا لشرر لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ إِنَّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا مِنْكَ نَلْبَسُهُ ... هَذِي البرية أن تعفو وت نتصر إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَقَدْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدُ هَذَا اليوم م دّخر فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ ... مِنْ أُمَّهَاتِكَ أن العفو م شتهر وَاعْفُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا أَنْتَ رَاهِبُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظَّفَرُ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فِي بَعْضِ الْأَبْيَاتِ، وَتَغْيِيرٌ لِبَعْضِ أَلْفَاظٍ. فَتَرْتِيبُ الْأَبْيَاتِ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ قَوْلُهُ: لَا تَجْعَلَنَّا، ثُمَّ إِنَّا لَنَشْكُرُ، ثُمَّ فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ، ثُمَّ تَأْخِيرُ مَنْ مَرَحَتْ، ثُمَّ إِنَّا نُؤَمِّلُ، ثُمَّ فَاعْفُ. وَتَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ قَوْلُهُ: وَإِذْ يربيك بِالرَّاءِ وَالْبَاءِ مَكَانَ الزَّايِ وَالنُّونِ. وَقَوْلُهُ لِلنَّعْمَاءِ: إِذْ كُفِرَتْ. وَقَوْلُهُ: إِذْ تَعْفُو. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الشِّعْرَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ» وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَفِي رِوَايَةِ التَّنُوخِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلِلَّهِ وَلَكُمْ» وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، رَدَّتِ الْأَنْصَارُ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهَا مِنَ الذَّرَارِيِّ وَالْأَمْوَالِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَمَّا أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَقْرَأَ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ أَوَّلَ بَرَاءَةٌ، وَيَنْبِذُ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ قَالَ أُنَاسٌ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ سَتَعْلَمُونَ مَا تَلْقَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ وَانْقِطَاعِ السُّبُلِ وَفَقْدِ الْحُمُولَاتِ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، شَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَنْ يَأْتِينَا بِطَعَامِنَا، وَكَانُوا يَقْدُمُونَ عَلَيْهِمْ بِالتِّجَارَةِ، فَنَزَلَتْ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الْآيَةَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ مَنِ اتَّخَذَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِشْرَاكِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» أَيْ يُكْفَرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَجَسٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْجِيمِ، وَهُوَ مَصْدَرُ نَجِسَ نَجَسًا أَيْ قَذِرَ قَذَرًا، وَالظَّاهِرُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَجَسٌ أَيْ ذَوُو نَجَسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرُهُ: الشِّرْكُ هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُمْ، فَأَعْيَانُهُمْ نَجِسَةٌ كالخمر والكلاب

_ (1) سورة النساء: 4/ 116.

وَالْخَنَازِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ. وَفِي التَّحْرِيرِ وَبَالَغَ الْحَسَنُ حَتَّى قَالَ: إِنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ مِنْ مَسِّ الْمُشْرِكِ، وَلَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ بِقَوْلِ الْحَسَنِ إِلَّا الْهَادِيَ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَغَيْرُهُمَا: وُصِفَ الْمُشْرِكُ بِالنَّجَاسَةِ لِأَنَّهُ جُنُبٌ، إِذْ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ لَيْسَ بِغُسْلٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَجِبُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَا يَتَطَهَّرُونَ وَلَا يَغْتَسِلُونَ وَلَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ، فَجُعِلُوا نَجَسًا مُبَالَغَةً فِي وَصْفِهِمْ بِالنَّجَاسَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: نِجْسٌ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ، أَيْ: جِنْسٌ نِجْسٌ، أَوْ ضَرْبٌ نِجْسٌ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ نَجِسَ، فَخَفَّفُوهُ بَعْدَ الْإِتْبَاعِ كَمَا قَالُوا فِي كَبِدٍ كِبْدٌ وَكَرِشٍ كِرْشٌ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: أَنْجَاسٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَجَسٍ الْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا أَصْنَافٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نِجْسٍ اسْمِ فَاعِلٍ. وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْقُرْبَانِ مَنْعُهُمْ عَنْ دُخُولِهِ وَالطَّوَافِ بِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا النَّهْيُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَتْرُكُونَهُمْ يَقْرَبُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَبَاحَ دُخُولَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ، وَدُخُولَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» فَلَا يَحُجُّوا وَلَا يَعْتَمِرُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ حين نادى ببراءة: لَا يَحُجُّ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ ، قَالَ: وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ عَامَّةٌ فِي الْكُفَّارِ، خَاصَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَبَاحَ دُخُولَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْوَثَنِيِّينَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَقَاسَ مَالِكٌ جَمِيعَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَاسَ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَنَعَ مِنْ دُخُولِ الْجَمِيعِ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ، وَأَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يمنكوهم مِنْ دُخُولِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْقُرْبَانِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ تَوَلِّي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، وَيُعْزَلُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةُ: لَا يَقْرُبُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حرية، أو عبد المسلم، وَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا: هُوَ عَامُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ وَأُتْبِعَ بِعَلِيٍّ وَنُودِيَ فِيهَا ببراءة. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْعَامُ الْعَاشِرُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، والعيلة الْفَقْرُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ: عَائِلَةٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ، أَوْ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: حَالًا عائلة، وإنّ

هُنَا عَلَى بَابِهَا مِنْ الشَّرْطِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَائِدٍ: الْمَعْنَى وَإِذْ خِفْتُمْ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي، أَيْ: إِذْ كُنْتَ. وَكَوْنُ إِنْ بِمَعْنَى إِذْ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَفَضْلُهُ تَعَالَى. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا فَتَحَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَغْنَاهُمْ بِإِدْرَارِ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ، وَأَسْلَمَتِ الْعَرَبُ فَتَمَادَى حَجُّهُمْ وَنَحْرُهُمْ، وَأَغْنَى اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالْجِهَادِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأُمَمِ، وَعَلَّقَ الْإِغْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وَقِيلَ: لِإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَإِنِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ إِغْنَاءَكُمْ أَغْنَاكُمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِعْلَامًا بِأَنَّ الرِّزْقَ لَا يَأْتِي بِحِيلَةٍ وَلَا اجْتِهَادٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ. وَيُرْوَى لِلشَّافِعِيِّ: لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِي ... بِنُجُومِ أَقْطَارِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي لَكِنْ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ حَكِيمٌ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ، حَكِيمٌ فِيمَا حَكَمَ فِي الْمُشْرِكِينَ. قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ نَزَلَتْ حِينَ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغز والروم، وَغَزَا بَعْدَ نُزُولِهَا تَبُوكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فَصَالَحَهُمْ، وَكَانَتْ أَوَّلَ جِزْيَةٍ أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَصَابَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ نَفْيُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، إِذْ يَصِفُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ وَلَدًا وَبَدَّلُوا كِتَابَهُمْ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرَّمْ، وَحَلَّلُوا مَا لَمْ يُحَلَّلْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ فِيهِ، فَصَارَ جَمِيعُ مَا لَهُمْ فِي الْبَعْثِ وَفِي اللَّهِ مِنْ تَخَيُّلَاتٍ وَاعْتِقَادَاتٍ لَا مَعْنَى لَهَا، إِذْ يُلْقُونَهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا. وَأَيْضًا فَلَمْ تَكُنِ اعْتِقَادَاتُهُمْ مُسْتَقِيمَةً، لِأَنَّهُمْ شَبَّهُوا وَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَهُمْ أَيْضًا فِي الْبَعْثِ آرَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي مَنَازِلِ الْجَنَّةِ مِنَ الرُّهْبَانِ. وَقَوْلُ الْيَهُودِ فِي النَّارِ يَكُونُ فِيهَا أَيَّامًا انْتَهَى. وفي الغيبان نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُمْ مُجَسِّمَةٌ، وَالْمُؤْمِنُ لَا يُجَسِّمُ انْتَهَى. وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِنْكَارُ الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، فَكَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْبَعْثَ الرُّوحَانِيَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَرَسُولُهُ فِي

السُّنَّةِ. وَقِيلَ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّهُمْ أَبَاحُوا أَشْيَاءَ حَرَّمَتْهَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَالرَّسُولُ عَلَى هَذَا مُوسَى وَعِيسَى، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: وَلَا يُحَرِّمُونَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَقِيلَ: وَلَا يُحَرِّمُونَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، قَالُوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» ، وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» وَقِيلَ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الرِّبَا وَأَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أَيْ: لَا يَعْتَقِدُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْحَقِّ، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: دِينُ الْحَقِّ دِينُ اللَّهِ، وَالْحَقُّ هُوَ اللَّهُ قَالَهُ: قَتَادَةُ. يُقَالُ: فُلَانٌ يَدِينُ بِكَذَا أَيْ يَتَّخِذُهُ دِينًا وَيَعْتَقِدُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ وَلَا يُطِيعُونَ طَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي سُلْطَانِ مَلِكٍ فَهُوَ عَلَى دِينِهِ وَقَدْ دَانَ لَهُ وَخَضَعَ. قَالَ زُهَيْرٌ: لَئِنْ حَلَلْتَ بجوفي بَنِي أَسَدٍ ... فِي دِينِ عمرو وحلت بَيْنَنَا فَدَكُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ. وَالظَّاهِرُ اخْتِصَاصُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَالرُّومُ نَصًّا. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بُعِثَ فِي الْمَجُوسِ نَبِيٌّ اسْمُهُ زَرَادِشْتُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي مَجُوسِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا السَّامِرَةُ وَالصَّابِئَةُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا تُؤْخَذُ منهم جزية، ولا توكل ذَبَائِحُهُمْ. وَقِيلَ: تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ عَابِدِ وَثَنٍ أَوْ نار أو جاحد مُكَذِّبٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، وَتُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ سَائِرِ كُفَّارِ الْعَجَمِ الْجِزْيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُؤْخَذُ مِنْ عَابِدِ النَّارِ وَالْوَثَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ عَرَبِيٍّ تَغْلِبِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ أَوْ عَجَمِيٍّ إِلَّا الْمُرْتَدَّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَقَطْ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ الْأَحْرَارِ الْعُقَلَاءِ، وَلَا تُضْرَبُ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ الْمُنْقَطِعِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: إِنْ كَانَتْ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ انْقَطَعُوا لَمْ تَسْقُطْ، وَتُضْرَبُ عَلَى رُهْبَانِ الْكَنَائِسِ. وَاخْتُلِفَ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمِقْدَارِ مَا عَلَى كُلِّ رَأْسٍ وَلَا لِوَقْتِ إِعْطَائِهَا. فَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَذَهَبَ مَالِكٌ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 18. (2) سورة البقرة: 2/ 111.

وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى مَا فَرَضَهُ عُمَرُ: أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ، وَفَرَضَ عُمَرُ ضِيَافَةً وَأَرْزَاقًا وَكُسْوَةً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ ضَرَائِبُ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَظُنُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ فِي عُسْرِهِمْ وَيُسْرِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: عَلَى كُلِّ رَأْسٍ دِينَارٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ فِي الْمَعْنَى ضِعْفُهَا، وَعَلَى الْمُكْثِرِ ضِعْفُ الضِّعْفِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَا يُؤْخَذُ عِنْدَهُ مِنْ فَقِيرٍ لَا كَسْبَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْفَتْرَةِ. وَأَمَّا الصُّلْحُ فَهُوَ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَأَمَّا وَقْتُهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلُ كُلِّ سَنَةٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ آخِرُ السَّنَةِ. وَسُمِّيَتْ جِزْيَةً من جزى يجزي إذا كَافَأَ عَمَّا أُسْدِيَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَعْطَوْهَا جَزَاءَ مَا مُنِحُوا مِنَ الْأَمْنِ، وَهِيَ كَالْعِقْدَةِ وَالْجِلْسَةِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَجْزِيكَ أَوْ نُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ مَنْ ... أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ فَقَدْ جَزَى وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَائِفَةٌ مِمَّا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَجْزُوهُ أَيْ يَقْضُوهُ عَنْ يَدٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُعْطُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا يُرْسِلُونَ بِهَا. وَقَالَ عُثْمَانُ: يُعْطُونَهَا نَقْدًا لَا نَسِيئَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُعْطُونَهَا وَأَيْدِيهِمْ تَحْتَ يَدِ الْآخِذِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُسْتَعْلًى عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَنِ اعْتِرَافٍ. وَقِيلَ: عَنْ قُوَّةٍ مِنْكُمْ وَقَهْرٍ وَذُلٍّ وَنَفَاذِ أَمْرٍ فِيهِمْ، كَمَا تَقُولُ: الْيَدُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ أَيِ الْأَمْرُ لَهُ. وَقِيلَ: عَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْهُمْ عِوَضًا عَنْ أَرْوَاحِهِمْ إِنْعَامٌ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُ: عَلَيَّ يَدٌ أَيْ: نِعْمَةٌ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: يُقَالُ أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ وَعَنْ ظَهْرِ يَدٍ، إِذَا أعطاه مبتدئا غير مكافىء. وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ عَنْ جَمَاعَةٍ أَيْ: لَا يُعْفَى عَنْ ذِي فَضْلٍ مِنْهُمْ لِفَضْلِهِ. وَالْيَدُ جَمَاعَةُ الْقَوْمِ، يُقَالُ الْقَوْمُ عَلَى يَدٍ وَاحِدَةٍ أَيْ: هُمْ مُجْتَمِعُونَ. وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ أَيْ عَنْ غِنًى، وَقُدْرَةٍ فَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْفَقِيرِ. وَلَخَّصَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ يَدَ الْآخِذِ فَمَعْنَاهُ حَتَّى يَعْلُوهَا عَنْ يَدٍ قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ وَعَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَتَرْكَ أَرْوَاحِهِمْ لَهُمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ الْمُعْطِي فَالْمَعْنَى عَنْ يَدٍ مُوَاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ، لِأَنَّ مَنْ أَبَى وَامْتَنَعَ لَمْ يُعْطِ يَدَهُ بِخِلَافِ الْمُطِيعِ الْمُنْقَادِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: أَعْطَى بِيَدِهِ إِذَا انْقَادَ وَاحْتَجَبَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: نَزَعَ يَدَهُ عَنِ الطَّاعَةِ، أَوْ عَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ أَيْ نَقْدًا غَيْرَ نسيئة، أولا مَبْعُوثًا عَلَى يَدِ آخَرَ وَلَكِنْ عَنْ يَدِ الْمُعْطِي الْبَرِيدِ الْآخِذِ. وَهُمْ صَاغِرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ. وَذَكَرُوا كَيْفِيَّاتٍ فِي أَخْذِهَا مِنْهُمْ وَفِي صَغَارِهِمْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِتَعْيِينِ شَيْءٍ مِنْهَا الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْشُونَ بِهَا مُلَبَّبِينَ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ الْفَارِسِيُّ: لَا يُحْمَدُونَ عَلَى إِعْطَائِهِمْ. وَقَالَ

عِكْرِمَةُ: يَكُونُ قَائِمًا وَالْآخِذُ جَالِسًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُقَالُ لَهُ عِنْدَ دَفْعِهَا أَدِّ الْجِزْيَةَ وَيُصَكُّ فِي قَفَاهُ. وَحَكَى الْبَغَوِيُّ: يُؤْخَذُ بِلِحْيَتِهِ وَيُضْرَبُ فِي لِهْزِمَتِهِ. وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ بَيَّنَ تَعَالَى لَحَاقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الشِّرْكِ فلا فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ الصَّنَمَ وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ الْمَسِيحَ وَغَيْرَهُ، لِأَنَّ الشِّرْكَ هُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مَعَ اللَّهِ مَعْبُودًا، بَلْ عَابِدُ الْوَثَنِ أَخَفُّ كُفْرًا مِنَ النَّصْرَانِيِّ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَثَنَ خَالِقُ الْعَالَمِ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ أَحْبَارِهِمْ: سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ. وَقِيلَ: قَالَهُ فِنْحَاصُ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ يَقُولُهَا بَلِ انْقَرَضُوا، وَتُذَمُّ الطَّائِفَةُ أَوْ تُمْدَحُ بِصُدُورِ مَا يُنَاسِبُ ذلك من بعضهم. قِيلَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ فِيهِمْ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ فَمَا أَنْكَرُوا وَلَا كَذَّبُوا مَعَ تَهَالُكِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَسَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ مُوسَى، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ التَّوْرَاةَ وَمَحَاهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَخَرَجَ عُزَيْرٌ وَهُوَ غُلَامٌ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ: أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَحَفَّظَهُ التَّوْرَاةَ، فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِمْ عَنْ ظَهْرِ لِسَانِهِ لَا يَخْرِمُ حَرْفًا فَقَالُوا: مَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ فِي صَدْرِهِ وَهُوَ غُلَامٌ إِلَّا أَنَّهُ ابْنُهُ، وَنَقَلُوا حِكَايَاتٍ فِي ذَلِكَ. وَظَاهِرُ قَوْلِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ نبوّة النَّسْلِ كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَكَذَا يَقْتَضِي قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُمْ: أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ، وَأَنَّهُ ابْنُ الْإِلَهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَهُمْ يَعْتَقِدُهَا بُنُوَّةَ حُنُوٍّ وَرَحْمَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَظُهُورِ دَلَائِلِ صِدْقِهَا، وَبَعْدَ أَنْ خَالَطُوا الْمُسْلِمِينَ وَنَاظَرُوهُمْ، فَرَجَعُوا عَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي عِيسَى. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ عُزَيْرٌ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، كعاذر وغيذار وَعِزْرَائِيلَ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَابْنٌ خَبَرٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ خَفِيفٌ فَانْصَرَفَ كَنُوحٍ وَلُوطٍ وَهُودٍ. قِيلَ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِمُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ وَلَيْسَ بِمُصَغَّرٍ، إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ جَاءَ عَلَى هَيْئَةِ الْمُصَغَّرِ، كَسُلَيْمَانَ جَاءَ عَلَى هَيْئَةِ عُثْمَانَ وَلَيْسَ بِمُصَغَّرٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّنْوِينَ حُذِفَ مِنْ عُزَيْرٍ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَقِرَاءَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ «1» وقول الشاعر:

_ (1) سورة الإخلاص: 112/ 1- 2.

إِذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا أَوْ لِأَنَّ ابْنًا صِفَةٌ لِعُزَيْرٍ وَقَعَ بَيْنَ عَلَمَيْنِ فَحُذِفَ تَنْوِينُهُ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أي: إلا هنا وَمَعْبُودُنَا. فَقَوْلُهُ مُتَمَحِّلٌ، لِأَنَّ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُوَ نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى بِأَفْوَاهِهِمْ: أَنَّهُ قَوْلٌ لَا يُعَضِّدُهُ بُرْهَانٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا لَفْظٌ فَارِغٌ يَفُوهُونَ بِهِ كَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ أَجْرَاسٌ وَنَغَمٌ لَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى مَعْنَى لَفْظَةٍ مَقُولٌ بِالْفَمِ وَمَعْنَاهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَا لَا مَعْنَى لَهُ يُقَالُ بِالْفَمِ لَا غَيْرُ. وَقِيلَ: معنى بأفواهم إِلْزَامُهُمُ الْمَقَالَةَ وَالتَّأْكِيدَ، كَمَا قَالَ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «1» وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ مُضَافٍ فِي قَوْلِهِ: يُضَاهُونَ أَيْ يُضَاهِي قَوْلُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا قُدَمَاؤُهُمْ فَهُوَ كُفْرٌ قَدِيمٌ فِيهِمْ أَوِ الْمُشْرِكُونَ الْقَائِلُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. أَوِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النَّصَارَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا الْيَهُودُ أَيْ: يُضَاهِي قَوْلُ النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ بُنُوَّةَ عِيسَى قَوْلَ الْيَهُودِ فِي دَعْوَاهُمْ بُنُوَّةَ عُزَيْرٍ، وَالْيَهُودُ أَقْدَمُ مِنَ النَّصَارَى، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ مُصَرِّفٍ: يُضَاهِئُونَ بِالْهَمْزِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ. قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ: دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ عَامٌّ لِأَنْوَاعِ الشَّرِّ، وَمَنْ قَاتَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ الْمَقْتُولُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلَبٍ: قَاتَلَهَا اللَّهُ تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنِّي لِنَفْسِيَ إِفْسَادِي وَإِصْلَاحِي وَقَالَ قَتَادَةُ: قَتَلَهُمْ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَادَاهُمْ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: أَصْلُ قَاتَلَ الدُّعَاءُ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ حَتَّى قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ: يَا قَاتَلَ اللَّهُ لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبُنِي ... وَأُخْبِرُ النَّاسَ أَنِّي لَا أُبَالِيهَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ بَلْ مِنْ بَابِ طَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ. أَنَّى يُؤْفَكُونَ: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ عَلَى سبيل التعجب!.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 79. [.....] (2) سورة الأنعام: 6/ 38.

[سورة التوبة (9) : الآيات 31 إلى 33]

[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ تَعَدَّتِ اتَّخَذَ هنا المفعولين، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَالَ حُذَيْفَةُ: لَمْ يَعْبُدُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَأَحَلُّوهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَحَرَّمُوهُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي التِّرْمِذِيِّ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْجُدُونَ لَهُمْ كَمَا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، وَالسُّجُودُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَجَازًا. وَقِيلَ: عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْحُلُولَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَجَلَّى فِي بَوَاطِنِهِمْ فَيَسْجُدُونَ لَهُ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ لِلَّهِ الَّذِي حَلَّ فِيهِمْ وَتَجَلَّى فِي سَرَائِرِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا حَقِيقَةً. وَمَذْهَبُ الْحُلُولِ فَشَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرًا، وَقَالُوا بِالِاتِّحَادِ. وَأَكْثَرُ مَا فَشَا فِي مَشَائِخِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ فِي وَقْتِنَا هَذَا، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَكَابِرُ. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ أَنَّهُ كَانَ فَاشِيًا فِي زَمَانِهِ، حَكَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ الْمَرْوَزِيِّينَ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ عَبِيدِي، وإذا خلا ببعض الحمقا مِنْ أَتْبَاعِهِ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ انْتَهَى! وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ، وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُنَا الْمُحَدِّثُ الْمُتَصَوِّفُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَسْطَلَانِيُّ كِتَابًا فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ، فَذَكَرَ فِيهِمُ الْحُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجَ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّوْذِيَّ كَانَ بِتِلْمِسَانَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَهَّانٍ عُرِفَ بِابْنِ الْمَرْأَةِ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحلى المتأمر بلورقة، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الطَّائِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْفَارِضِ، وَعَبْدَ الْحَقِّ بْنَ سَبْعِينَ، وَأَبَا الْحَسَنِ الشَّشْتُرِيَّ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَابْنَ مُطَرِّفٍ الْأَعْمَى مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ أَحْلَى، وَالصُّفَيْفِيرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَالْعَفِيفَ التِّلْمِسَانِيَّ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا المذهب. وقال السُّلْطَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْأَحْمَرِ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ الصُّفَيْفِيرَ بِغَرْنَاطَةَ وَأَنَابَهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ الْعَفِيفَ الْكُوفِيَّ وَأَنْشَدَنِي مِنْ شِعْرِهِ، وَكَانَ يَتَكَتَّمُ هذا المذهب. وكان بو عَبْدِ اللَّهِ الْأَيْكِيُّ شَيْخُ خَانْكَاهْ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ مُخَالِطًا لَهُ خُلْطَةً كَثِيرَةً، وَكَانَ مُتَهَمًا بِهَذَا الْمَذْهَبِ، وَخَرَجَ التِّلْمِسَانِيُّ مِنَ الْقَاهِرَةِ هَارِبًا إِلَى الشَّامِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ. وَأَمَّا مُلُوكُ العبيدتين بِالْمَغْرِبِ وَمِصْرَ فَإِنَّ أَتْبَاعَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، وَأَوَّلُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ

الْمُتَلَقِّبُ بِالْمَهْدِيِّ، وَآخِرُهُمْ سُلَيْمَانُ الْمُتَلَقِّبُ بِالْعَاضِدِ. وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ عُبَّادُ النَّصَارَى الَّذِينَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا وَانْقَطَعُوا عَنِ الْخَلْقِ فِي الصَّوَامِعِ. أَخْبَرَ عَنِ الْمَجْمُوعِ، وعاد كل مَا يُنَاسِبُهُ. أَيْ: اتَّخَذَ الْيَهُودُ أَحْبَارَهُمْ، وَالنَّصَارَى رُهْبَانَهُمْ. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَطْفٌ عَلَى رُهْبَانَهُمْ. وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي اتَّخَذُوا، أَيْ: أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ: فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَعَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ وَالنُّصُوصِ فِي الْإِنْجِيلِ وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الْمُتَّخِذِينَ أَرْبَابًا أَيْ: وَمَا أُمِرَ هَؤُلَاءِ إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَيُوَحِّدُوهُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَابًا وَهُمْ مَأْمُورُونَ مُسْتَعْبَدُونَ؟ وَفِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ، دَلَالَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الشِّرْكِ عَلَى الْيَهُودِ والنصارى. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ حَالِهِمْ فِي طَلَبِهِمْ أَنْ يُبْطِلُوا نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْفُخَ فِي نُورٍ عَظِيمٍ مُنْبَثٍّ فِي الْآفَاقِ، وَنُورُ اللَّهِ هُدَاهُ الصَّادِرُ عَنِ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ الْمُنْبَثِّ، فَمِنْ حَيْثُ سَمَّاهُ نُورًا سَمَّى مُحَاوَلَةَ إِفْسَادِهِ إِطْفَاءً. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: النُّورُ الْقُرْآنُ وَكَنَّى بِالْأَفْوَاهِ عَنْ قِلَّةِ حِيلَتِهِمْ وَضِعْفِهَا. أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَمْرًا جَسِيمًا بِسَعْيٍ ضَعِيفٍ، فَكَانَ الْإِطْفَاءُ بِنَفْخِ الْأَفْوَاهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَقْوَالٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، فَهِيَ لَا تَتَجَاوَزُ الْأَفْوَاهَ إِلَى فَهْمِ سَامِعٍ، وَنَاسَبَ ذِكْرُ الْإِطْفَاءِ الْأَفْوَاهَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلًا مَقْرُونًا بِالْأَفْوَاهِ وَالْأَلْسُنِ إِلَّا وَهُوَ زُورٌ، وَمَجِيءُ إِلَّا بَعْدَ وَيَأْبَى يَدُلُّ عَلَى مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُوجَبٌ، وَالْمُوجَبُ لَا تَدَخُلَ مَعَهُ إِلَّا، لَا تَقُولُ كَرِهْتُ إِلَّا زَيْدًا. وَتَقْدِيرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: جَازَ هَذَا فِي أَبَى، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَامْتِنَاعٌ، فَضَارَعَتِ النَّفْيَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَى أَبَى هُنَا لَا يَرْضَى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بِدَوَامِ دِينِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: دَخَلَتْ إِلَّا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ طَرَفًا مِنَ الْجَحْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَجْرَى أَبَى مَجْرًى لَمْ يَرِدْ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قُوبِلَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا بِقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللَّهُ، وَكَيْفَ أُوقِعَ مَوْقِعَ وَلَا يُرِيدُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ؟

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والهدى التَّوْحِيدُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ بَيَانُ الْفَرَائِضِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. ودين الْحَقِّ: الْإِسْلَامِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لِيُظْهِرَهُ عائد على الرسول لِأَنَّهُ الْمُحَدِّثُ عَنْهُ، وَالدِّينُ هُنَا جِنْسٌ أَيْ: لِيُعْلِيَهُ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهِمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَتْ أُمَّتُهُ الْيَهُودَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَغَلَبُوا النَّصَارَى عَلَى بِلَادِ الشَّامِ إِلَى نَاحِيَةِ الرُّومِ وَالْمَغْرِبِ، وَغَلَبُوا الْمَجُوسَ عَلَى مُلْكِهِمْ، وَغَلَبُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مِمَّا يَلِي التُّرْكَ وَالْهِنْدَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدْيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُطْلِعُهُ عَلَى شَرَائِعَ الدِّينِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَالدِّينُ هُنَا شَرْعُهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم على الْأَدْيَانِ بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الدِّينِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْبَاقِرُ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِظْهَارُ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَرُجُوعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ دِينٌ آخَرُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لِيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا وَأَظْهَرُهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَانَ دُونَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى نُزُولِ عِيسَى، بَلْ كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ بَاقٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَدَّى الْخَرَاجَ. وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مَا أَبْقَى فِيهَا أَحَدًا مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِقُرْبِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ. وَقِيلَ: لِيُظْهِرَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا أَوَّلَ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ لِقُرَيْشٍ رِحْلَتَانِ: رِحْلَةُ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقَيْنِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا انْقَطَعَتِ الرِّحْلَتَانِ لِمُبَايَنَةِ الدِّينِ وَالدَّارِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَالْمَعْنَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فِي بِلَادِ الرِّحْلَتَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَالْعِرَاقَيْنِ. وَفِي الحديث: «رويت لِيَ الْأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلِذَلِكَ اتَّسَعَ مَجَالُ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَمْ يَتَّسِعْ فِي الْجَنُوبِ انْتَهَى. وَلَا سِيَّمَا اتِّسَاعُ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ فِي زَمَانِنَا، فَقَلَّ مَا بَقِيَ فِيهِ كَافِرٌ، بَلْ أَسْلَمَ مُعْظَمُ التُّرْكِ التَّتَارِ وَالْخَطَا،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 19.

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 إلى 60]

وكل من كان يناوىء الْإِسْلَامَ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَخُصَّ الْمُشْرِكُونَ هُنَا بِالذِّكْرِ لَمَّا كَانَتْ كَرَاهَةً مُخْتَصَّةً بِظُهُورِ دِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُصَّ الْكَافِرُونَ قَبْلُ لِأَنَّهَا كَرَاهَةُ إِتْمَامِ نُورِ اللَّهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَبَاقِيهِ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ مِنْ لَدُنْ خَلْقِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِرَاضِهَا، وَوَقَعَتِ الْكَرَاهَةُ وَالْإِتْمَامُ مِرَارًا كَثِيرَةً. [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

أَصْلُ الْكَنْزِ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ: لَا دَرَّ دَرِّيَ إِنْ أَطْعَمْتُ ضائعهم ... قرف الجثى وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ وَقَالُوا: رَجُلٌ مُكْتَنِزُ الْخُلُقِ أَيْ مُجْتَمِعُهُ. وَقَالَ الرَّاجِزُ: عَلَى شَدِيدٍ لَحْمُهُ كِنَازٌ ... بَاتَ يُنَزِّينِي عَلَى أَوْفَازِ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْمَدْفُونِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. الْكَيُّ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ إِلْزَاقُ الْحَارِّ بِعُضْوٍ مِنَ الْبَدَنِ حَتَّى يَتَمَزَّقَ الْجِلْدُ. وَالْجَبْهَةُ: مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ صَفْحَةٌ أَعْلَى الْوَجْهِ. وَالْغَارُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ نَقْرٌ فِي الْجَبَلِ يُمْكِنُ الِاسْتِخْفَاءُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْغَارُ الْكَهْفُ، وَالْغَارُ نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَالْغَارُ الْجَمَاعَةُ، وَالْغَارَانِ الْبَطْنُ وَالْفَرْجُ. ثَبَّطَهُ عَنِ الْأَمْرِ أَبْطَأَ بِهِ عَنْهُ، وَنَاقَةٌ ثَبْطَةٌ أَيْ بَطِيئَةُ السَّيْرِ. وَأَصْلُ التَّثْبِيطِ التَّعْوِيقُ، وَهُوَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ

وَبَيْنَ أَمْرٍ يُرِيدُهُ بِالتَّزْهِيدِ فِيهِ. الزَّهَقُ: الْخُرُوجُ بِصُعُوبَةٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: بِالْكَسْرِ خُرُوجُ الرُّوحِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْمُبَرِّدُ: زَهَقَتْ نَفْسُهُ وَزَهِقَتْ لُغَتَانِ، وَالزَّهَقُ الْهَلَاكُ، وَزَهَقَ الْحَجَرُ مِنْ تَحْتِ حَافِرِ الدَّابَّةِ إِذَا نَدَرَ، وَالزَّهُوقُ الْبُعْدُ، وَالزَّهُوقُ الْبِئْرُ الْبَعِيدَةُ الْمَهْوَاةُ. الْمَلْجَأُ: مَفْعَلٌ مِنْ لَجَأَ إِلَى كَذَا انْحَازَ وَالْتَجَأَ وَأَلْجَأْتُهُ إِلَى كَذَا اضْطَرَرْتُهُ. جَمَحَ نَفَرَ بِإِسْرَاعٍ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ جَمُوحٌ أَيْ لَا يَرُدُّهُ اللِّجَامُ إِذَا حَمَلَ. قَالَ: سَبُوحًا جَمُوحًا وَإِحْضَارُهَا ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ الْمُوقَدِ وَقَالَ مُهَلْهَلٌ: وَقَدْ جَمَحْتُ جِمَاحًا فِي دِمَائِهِمْ ... حَتَّى رَأَيْتُ ذَوِي أَجْسَامِهِمْ جَمَدُوا وَقَالَ آخَرُ: إِذَا جَمَحَتْ نِسَاؤُكُمُ إِلَيْهِ ... أَشَظَّ كَأَنَّهُ مَسَدٌّ مُغَارُ جَمَزَ قَفَرَ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى جَمَحَ. قَالَ رُؤْبَةُ: قَارَبْتُ بَيْنَ عُنُقِي وَجَمْزِي اللَّمْزُ قَالَ اللَّيْثُ: هُوَ كَالْغَمْزِ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَيْبُ، وَأَصْلُهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ اللَّمْزِ الدَّفْعُ، لَمَزْتُهُ دَفَعْتُهُ. الْغُرْمُ: أَصْلُهُ لُزُومُ مَا يَشُقُّ، وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ الشَّاقُّ، وَسُمِّيَ الْعِشْقُ غَرَامًا لِكَوْنِهِ شَاقًّا وَلَازِمًا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، ذَكَرَ مَا هُوَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَنْقِيصًا مِنْ شَأْنِهِمْ وَتَحْقِيرًا لَهُمْ، وَأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يَنْبَغِي تَعْظِيمُهُمْ، فَضْلًا عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا لِمَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَانْدَرَجُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْخَصْلَتَيْنِ الْمَذْمُومَتَيْنِ: أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَكَنْزِ الْمَالِ إِنْ ضَنُّوا أَنْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكْلُهُمُ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ هُوَ أَخْذُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ ضَرَائِبَ بِاسْمِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُونَهُمْ بِهِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَهُمْ يَحْجُبُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ كَالرَّاهِبِ الَّذِي اسْتَخْرَجَ سَلْمَانُ

كَنْزَهُ. وَكَمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَا فِي الْأَحْكَامِ، كَإِيهَامِ حِمَايَةِ دِينِهِمْ، وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَصُدُّونَ مُتَعَدِّيًا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالَّذِينَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ يَكْنِزُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ. وَقِيلَ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ مِنْ أَوْصَافِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ. وَقِيلَ: كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ أَرَادَ بِهِ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ السُّدِّيِّ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ كَمَا قُلْنَاهُ، فَيَقْرِنُ بَيْنَ الْكَانِزِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ الْمُرْتَشِينَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ تَغْلِيظًا وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي التَّبْشِيرِ بِالْعَذَابِ. وَرُوِيَ الْعُمُومُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ أَوْصَافِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ وَالْعُمُومَ. وَالظَّاهِرُ ذَمُّ مَنْ يَكْنِزُ وَلَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَا جَاءَ فِي ذَمِّ مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ، وَأَنَّهُ يُكْوَى بِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ أَحَادِيثَ هُوَ قَبْلُ أَنْ تُفْرَضَ الزَّكَاةُ، وَالتَّوَعُّدُ فِي الْكَنْزِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْمَالُ الْمَدْفُونُ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ بَاعَ أَرْضًا أَحْرِزْ مَالَكَ الَّذِي أَخَذْتَ احْفِرْ لَهُ تَحْتَ فِرَاشِ امْرَأَتِكَ فَقَالَ: أَلَيْسَ بِكَنْزٍ، فَقَالَ: «مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دَوَّنَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ. وقال أبوذر وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ: مَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ عَلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَنْزٌ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَقْتَضِيَانِ أَنَّ الذَّمَّ فِي جِنْسِ الْمَالِ، لَا فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ فَقَطْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» «1» فَأَتَى فَرْضُ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ، كَأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ: لَا تَجْمَعُوا مَالًا فَتُعَذَّبُوا، فَنَسَخَهُ التَّقْرِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا مِنْ جِهَةٍ أَذِنَ لَهُ فِيهَا وَيُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فِيهِ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وطلحة بن عبيد الله، يَقْتَنُونَ الْأَمْوَالَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَمَا عَابَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ أعرض

_ (1) سورة التوبة: 9/ 103.

عَنِ الْفِتْنَةِ، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ اخْتِيَارٌ لِلْأَفْضَلِ وَالْأَدْخَلِ فِي الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالِاقْتِنَاءُ مُبَاحٌ مُوَسَّعٌ لَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَلَامٌ فِي الْأَفْضَلِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: يُكْنِزُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُمَا قِيَمُ الْأَمْوَالِ وَأَثْمَانُهَا، وَهُمَا لَا يُكْنَزَانِ إِلَّا عَنْ فَضْلَةٍ وَعَنْ كَثْرَةٍ، وَمَنْ كَنَزَهُمَا لَمْ يُعْدَمْ سَائِرَ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، وَكَنْزُهُمَا يَدُلُّ عَلَى مَا سِوَاهُمَا. وَالضَّمِيرُ فِي: وَلَا يُنْفِقُونَهَا، عَائِدٌ عَلَى الذَّهَبِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَهُ أَشْهَرُ، أَوْ عَلَى الْفِضَّةِ. وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَحْتَهُمَا أَنْوَاعًا، فَرُوعِيَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» أَوْ لِأَنَّهُمَا مُحْتَوِيَانِ عَلَى جَمْعِ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ، أَوْ عَلَى الْمَكْنُوزَاتِ، لِدَلَالَةِ يَكْنِزُونَ. أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ، أَوْ عَلَى النَّفَقَةِ وَهِيَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ. وَلَا يُنْفِقُونَهَا، أَوْ عَلَى الزَّكَاةِ أَيْ: وَلَا يُنْفِقُونَ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ أَقْوَالٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: عَادَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً «2» وَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ هَذَا عَطْفٌ بَأَوْ، فَحُكْمُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِخِلَافِ الْوَاوِ، إِلَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ الْوَاوَ فِي وَالْفِضَّةَ بِمَعْنَى أَوْ لِيَمْكُنَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يُقَالُ: حَمَيْتُ الْحَدِيدَةَ فِي النَّارِ أَيْ أَوْقَدْتُ عَلَيْهَا لِتُحْمَى، وَتَقُولَ: أَحَمَيْتُهَا أَدْخَلْتُهَا لِكَيْ تُحْمَى أَيْضًا فَحَمِيَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا بِالْيَاءِ، أَصْلُهُ يَحْمِي النَّارَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا حَذْفُ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْمَجْرُورِ، لَمْ تَلْحَقِ التَّاءُ كَمَا تَقُولُ: رَفَعْتُ الْقِصَّةَ إِلَى الْأَمِيرِ. وَإِذَا حُذِفَتِ الْقِصَّةُ وَقَامَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَهَا قُلْتَ: رُفِعَ إِلَى الْأَمِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ مُسْنَدٌ إِلَى النَّارِ، قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ تُحْمَى بِالتَّاءِ. وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَالْمَعْنَى: يُحْمَى الْوَقُودُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فالمعنى: تحمى النار. والناصب لِيَوْمٍ أَلِيمٍ أَوْ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ عَذَابٌ أَيْ: يُعَذَّبُونَ يَوْمَ يُحْمَى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَيُكْوَى بِالْيَاءِ، لَمَّا كَانَ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ ليس تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا، وَوَقَعَ الْفَصْلُ أَيْضًا ذُكِرَ، وَأَدْغَمَ قَوْمٌ جِبَاهُهُمْ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ وَذَلِكَ فِي الْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ، كَمَا أُدْغِمَ مناسككم وما سَلَكَكُمْ، وَخُصَّتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ بِالْكَيِّ. قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الجهة أَشْنَعُ، وَفِي الْجَنْبِ وَالظَّهْرِ أوجع. وقيل: لأنها

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 9. (2) سورة الجمعة: 62/ 11.

مُجَوَّفَةٌ فَيَصِلُ إِلَى أَجْوَافِهَا الْحَرُّ، بِخِلَافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُكْوَوْنَ عَلَى الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ مَقَادِيمِهِمْ وَمَآخِرِهِمْ وَجَنُوبِهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا طَلَبُوا الْمَالَ وَالْجَاهَ شَانَ اللَّهُ وُجُوهَهَمْ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا عَنِ الْفَقِيرِ إِذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ ظُهُورُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا بِأَمْوَالِهِمْ حَيْثُ لَمْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا الْأَغْرَاضَ الدُّنْيَوِيَّةَ مِنْ وَجَاهَةٍ عِنْدَ النَّاسِ وَتَقَدُّمٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَاءُ وُجُوهِهِمْ مَصُونًا عِنْدَهُمْ يُتَلَقَّوْنَ بِالْجَمِيلِ، وَيُحَيَّوْنَ بِالْإِكْرَامِ، وَيَحْتَشِمُونَ، وَمِنْ أَكْلِ طَيِّبَاتٍ يَتَضَلَّعُونَ مِنْهَا، وَيَنْفُخُونَ جُنُوبَهُمْ، وَمِنْ لُبْسِ نَاعِمَةٍ مِنَ الثِّيَابِ يَطْرَحُونَهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ كَمَا تَرَى أَغْنِيَاءَ زَمَانِكَ هَذِهِ أَغْرَاضُهُمْ وَطَلَبَاتُهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. لَا يُخْطِرُونَ بِبَالِهِمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ» وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَبْصَرُوا الْفَقِيرَ عَبَسُوا، وَإِذَا ضَمَّهُمْ وَإِيَّاهُ مَجْلِسٌ ازْوَرُّوا عَنْهُ، وَتَوَلَّوْا بِأَرْكَانِهِمْ، وَوَلَّوْا ظُهُورَهُمْ. وَأُضْمِرَ الْقَوْلُ فِي هَذَا مَا كَنَزْتُمْ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ وَقْتَ الْكَيِّ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْمَالِ الْمَكْنُوزِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَيِّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ مَا كَنَزْتُمْ، أَيْ: هَذَا الْكَيُّ نَتِيجَةُ مَا كَنَزْتُمْ، أَوْ ثَمَرَةُ مَا كَنَزْتُمْ. وَمَعْنَى لِأَنْفُسِكُمْ: لِتَنْتَفِعَ بِهِ أَنْفُسُكُمْ وَتَلْتَذَّ، فَصَارَ عَذَابًا لَكُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ تَوْبِيخٌ لَهُمْ. فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ أَيْ: وَبَالَ الْمَالِ الَّذِي كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ: وَبَالَ كَوْنِكُمْ كَانِزِينَ. وقرىء يَكْنُزُونَ بِضَمِّ النُّونِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «بَشِّرِ الكانزين برصد يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ وَتُزَلْزِلُهُ وَتُكْوَى الْجِبَاهُ وَالْجُنُوبُ وَالظُّهُورُ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ» وَفِي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ» . إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا عَيْشَ لِأَكْثَرِهَا إِلَّا مِنَ الْغَارَاتِ وَأَعْمَالِ سِلَاحِهَا، فَكَانَتْ إِذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ صَعُبَ عَلَيْهَا وَأَمْلَقُوا، وَكَانَ بَنُو فُقَيْمٍ مِنْ كِنَانَةَ أَهْلَ دِينٍ وَتَمَسُّكٍ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَانْتُدِبَ مِنْهُمُ الْقَلَمَّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ فُقَيْمٍ فَنَسَأَ الشُّهُورَ لِلْعَرَبِ، ثُمَّ خَلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبَّادٌ، ثُمَّ ابْنُهُ قَلَعٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفٌ، ثُمَّ ابْنُهُ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مَنْ حَجَّهَا جَاءَ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ مُجْتَمِعِينَ فَقَالُوا: أَنْسِئْنَا شَهْرًا أَيْ: أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ فَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ، فَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ، فَيُغِيرُونَ فِيهِ وَيَعِيشُونَ. ثُمَّ يَلْزَمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ لِيُوَافِقُوا عِدَّةَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الصَّفَرَ الْمُحَرَّمَ، وَيُسَمُّونَ رَبِيعًا الْأَوَّلَ

صَفَرًا، وَرَبِيعًا الْآخَرَ رَبِيعًا الْأَوَّلَ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ يَسْتَقْبِلُونَ نَسِيئَهُمْ فِي الْمُحَرَّمِ الْمَوْضُوعِ لَهُمْ، فَيَسْقُطُ عَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُحَرَّمِ الَّذِي حُلِّلَ لَهُمْ، وَتَجِيءُ السَّنَةُ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ الْمُحَلَّلُ، ثُمَّ الْمُحَرَّمُ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ صَفَرٌ، ثُمَّ اسْتِقْبَالُ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: ثُمَّ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرَيْنِ وَلَاءً، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُبَدِّلُونَ فَيَحُجُّونَ عَامَيْنِ وَلَاءً، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَقِيقَةً، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ ذَا الْحِجَّةِ ثُمَّ حج رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عَشْرٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ حَقِيقَةً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ والمحرم وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» . وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ قَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، ذَكَرَ أَيْضًا نَوْعًا مِنْهُ وَهُوَ تَغْيِيرُ الْعَرَبِ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ حَكَمَ فِي وَقْتٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِذَا غَيَّرُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ فَقَدْ غَيَّرُوا حُكْمَ اللَّهِ. وَالشُّهُورُ: جَمْعُ كَثْرَةٍ لَمَّا كَانَتْ أَزْيَدَ مِنْ عَشَرَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ» «1» فَجَاءَ بِلَفْظِ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَالْمَعْنَى: شُهُورُ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِالسَّنَةِ القمرية لا شمسية، تَوَارَثُوهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَإِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ: أَيْ، فِي حُكْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ عِدَّةُ الشُّهُورِ الَّتِي تُسَمَّى سَنَةً واثنا عَشَرَ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَشْهُرَ الْعَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ: بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ مَعَ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ، كَمَا رُوِيَ: الْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ حَلْقَتَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: بِإِسْكَانِ الشِّينِ، وَانْتَصَبَ شَهْرًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُؤَكِّدِ كَقَوْلِكَ: عِنْدِي مِنَ الرِّجَالِ عِشْرُونَ رَجُلًا. وَمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: فِي إِيجَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي حُكْمِهِ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ السَّنَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «2» وَقَالَ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ «3» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فِيمَا كَتَبَهُ وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَغَيْرِهِ، فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ مِثْلُ خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى قَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ هِيَ قَبْلَ خلق السموات وَالْأَرْضِ انْتَهَى. وَعِنْدَ اللَّهِ متعلق بعدة. وقال الحوفي: في

_ (1) سورة البقرة: 2/ 197. (2) سورة يونس: 10/ 5. (3) سورة البقرة: 2/ 189.

كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضا بعدّة. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ في كتاب الله بعدة، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عِدَّةَ مَصْدَرٌ مثل العدد، وفي كِتَابِ اللَّهِ صِفَةٌ لَاثْنَا عشر، ويوم معمول لكتاب عَلَى أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لَا جُثَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُثَّةً، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ انْتَهَى. وَقِيلَ: انْتَصَبَ يَوْمَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: كُتِبَ ذلك يوم خلق السموات، وَلَمَّا كَانَتْ أَشْيَاءُ تُوصَفُ بِكَوْنِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ فِيهَا أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1» جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا تَعَارُضَ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى اثْنَا عَشَرَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، لَا عَلَى الشُّهُورِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِاثْنَا عشر، وفي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ في مستقر. وأربعة حُرُمٌ سُمِّيَتْ حُرُمًا لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، أَوْ لِتَعْظِيمِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ فِيهَا. وَتَسْكِينُ الرَّاءِ لُغَةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْأَشْهُرُ الَّتِي أُجِّلَ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا أَنْ يَسِيحُوا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ. وَأَوَّلُهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَجَبٌ، فَيَكُونُ مِنْ سَنَتَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ، فَيَكُونُ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ: الْقَضَاءُ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْعَدَدُ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، إِذْ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ عَائِدٌ عَلَى الِاثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا حَلَالًا حَرَامًا، وَلَا حَرَامًا حَلَالًا كَفِعْلِ النَّسِيءِ. وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الظُّلْمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْبَعِ الْحُرُمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، نَهَى عَنِ الْمَظَالِمِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَتَعْظِيمًا بِالتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَظَالِمُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَيْ: فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَيْ: تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا. وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: أَحَلَّتِ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَأْثَمُوا فِيهِنَّ بَيَانًا لِعِظَمِ حُرْمَتِهِنَّ، كَمَا عُظِّمَ أَشْهُرُ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2» وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ عَوْدَهُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ كَوْنُهَا أَقْرَبَ مَذْكُورٍ، وَكَوْنُ الضَّمِيرِ جَاءَ بِلَفْظِ فيهن، ولم يجىء بلفظ فيها كما

_ (1) سورة لقمان: 31/ 34. (2) سورة البقرة: 2/ 197.

جَاءَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْهَاءَ تَكُونُ لِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ تُعَامَلُ فِي الضَّمِيرِ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فَتَقُولُ: الْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ، وَأَنَّ النُّونَ وَالْهَاءَ وَالنُّونَ لِلْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا إِلَى الثَّلَاثَةِ تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرْنَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ يُعْكَسُ قَلِيلًا فَتَقُولُ: الْجُذُوعُ انْكَسَرْنَ، وَالْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتْ، وَالظُّلْمُ بِالْمَعَاصِي أَوْ بِالنَّسِيءِ فِي تَحْلِيلِ شَهْرٍ مُحَرَّمٍ وَتَحْرِيمِ شَهْرٍ حَلَّالٍ، أَوْ بِالْبُدَاءَةِ بِالْقِتَالِ، أَوْ بِتَرْكِ الْمَحَارِمِ لِعَدَدِكُمْ أَقْوَالٌ. وَانْتَصَبَ كَافَّةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا. وَلَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا تَدْخُلُهُ أَلْ، وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَالِ. وَتَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْمَعِيَّةُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَفِي ضِمْنِهِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَالْحَثُّ عَلَيْهَا. إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ: يُقَالُ: نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ: النَّسِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ نَسَأْتُ الشَّيْءَ فَهُوَ مَنْسُوءٌ إِذَا أَخَّرْتُهُ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى نَسِيءٍ كَمَا حُوِّلَ مَقْتُولٌ إِلَى قَتِيلٍ. ورجل ناسىء، وَقَوْمٌ نَسَأَةٌ، مِثْلُ فَاسِقٍ وَفَسَقَةٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: النَّسِيءُ مَصْدَرٌ مِنْ أَنْسَأَ، كَالنَّذِيرِ مِنْ أَنْذَرَ، وَالنَّكِيرُ مِنْ أَنْكَرَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّهُ قَالَ: النَّسِيءُ تَأْخِيرُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: النَّسِيءُ بِالْهَمْزِ مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ انْتَهَى. فَإِذَا قُلْتَ: أَنْسَأَ الله اللَّهُ أَجَلَهُ بِمَعْنَى أَخَّرَ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ، فَلَيْسَ النَّسِيءُ مُرَادِفًا لِلزِّيَادَةِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُنْفَرِدًا عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَإِذَا كَانَ النَّسِيءُ مَصْدَرًا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَصْدَرٍ وَاضِحًا، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ إِمَّا فِي النَّسِيءِ أَيْ: إِنْ نَسَأَ النَّسِيءُ، أَوْ فِي زِيَادَةٍ أَيْ: ذُو زِيَادَةٍ. وَبِتَقْدِيرِ هَذَا الْإِضْمَارِ يَرِدُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَى قَوْلُهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤَخَّرُ زِيَادَةٌ، وَالْمُؤَخَّرُ الشَّهْرُ، وَلَا يَكُونُ الشَّهْرُ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النسيء مهموز عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو جَعْفَرَ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَالْحَلْوَانِيُّ: النَّسِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، وَأَدْغَمَ الْيَاءَ فِيهَا، كَمَا فَعَلُوا فِي نَبِيءٍ وَخَطِيئَةٍ فَقَالُوا: نَبِيٌّ وَخَطِّيَّةٌ بِالْإِبْدَالِ وَالْإِدْغَامِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 208.

وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَشْهَبُ وشبل: النسء بإسكان السين. وَالْأَشْهَبُ: النَّسِيُّ بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مِثْلُ النَّدِيُّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: النَّسُوءُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ عَنْ طَلْحَةَ وَالسُّلَمِيِّ. وَقَوْلُ أَبِي وَائِلٍ: إِنَّ النَّسِيءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أنسنا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا وَقَالَ آخر: نسؤ الشُّهُورَ بِهَا وَكَانُوا أَهْلَهَا ... مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْعِزُّ لَمْ يَتَحَوَّلِ وَأَخْبَرَ أَنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ أَيْ: جَاءَتْ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَحْدَثَ مَعْصِيَةً ازْدَادَ كُفْرًا. قَالَ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَحْدَثَ طَاعَةً ازْدَادَ إِيمَانًا. قَالَ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «2» وَأَعَادَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ عَلَى النَّسِيءُ، لَا عَلَى لَفْظِ زِيَادَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ والأخوان وحفص: يضل مبنيا للمفعول، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: زُيِّنَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ، وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ وَيَعْقُوبُ: يُضِلُّ أَيِ اللَّهُ، أَيْ: يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَتْبَاعَهُمْ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ: الْحَسَنِ، وَالْأَعْمَشِ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَبِي رَجَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يَضَلُّ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ ضَلِلْتُ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَضَلَّ بِفَتْحِ الضَّادِ مَنْقُولًا، فَتْحُهَا مِنْ فَتْحَةِ اللَّامِ إِذِ الْأَصْلُ أَضْلَلَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَمَحْبُوبٌ عَنِ الْحَسَنِ: نُضِلُّ بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ، أَيْ: نُضِلُّ نَحْنُ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِهِمْ عَامًا وَتَحْلِيلِهِمْ عَامًا: لا يرادان ذَلِكَ، كَانَ مُدَاوَلَةً فِي الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ عَامٌ حَلَالٌ وَعَامٌ حَرَامٌ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ الْقِصَّةَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تَوَالِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَحَلَّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ وَحَرَّمَ صَفَرًا بَدَلًا مِنَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ مَشَتِ الشُّهُورُ مُسْتَقِيمَةً عَلَى أَسْمَائِهَا الْمَعْهُودَةِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حُرِّمَ الْمُحَرَّمُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأُحِلَّ صَفَرٌ وَمَشَتِ الشُّهُورُ مُسْتَقِيمَةً، وَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ حَالَ الْقَوْمِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الَّذِي انْتَدَبَ أَوَّلًا لِلنَّسِيءِ الْقَلَمَّسُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: الَّذِينَ شَرَعُوا النَّسِيءَ هُمْ بَنُو مَالِكٍ مِنْ كِنَانَةَ وَكَانُوا ثَلَاثَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أول من فعل ذلك عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ. وَالْمُوَاطَأَةُ: الْمُوَافَقَةُ، أي ليوافقوا

_ (1) سورة التوبة: 9/ 125. (2) سورة التوبة: 9/ 124.

الْعُدَّةَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ وَلَا يُخَالِفُونَهَا، وَقَدْ خَالَفُوا التَّخْصِيصَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْوَاجِبَيْنِ. وَالْوَاجِبَانِ هُمَا الْعَدَدُ الَّذِي هُوَ أَرْبَعَةٌ فِي أَشْخَاصِ أَشْهُرٍ مَعْلُومَةٍ وَهِيَ: رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ كما تقدم. ويقال: تواطؤوا عَلَى كَذَا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطَأُ حَيْثُ يَطَأُ صَاحِبُهُ. وَمِنْهُ الْإِيطَاءُ فِي الشِّعْرِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ فِي الشِّعْرِ بِقَافِيَتَيْنِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ عَيْبٌ إِنْ تَقَارَبَ. وَاللَّامُ فِي لِيُوَاطِئُوا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَيُحَرِّمُونَهُ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَهُ مَعًا، فَإِنَّهُ يُرِيدُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَحْفَظُوا فِي كُلِّ عَامٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فِي الْعَدَدِ، فَأَزَالُوا الْفَضِيلَةَ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَحْدَهَا، بِمَثَابَةِ أَنْ يُفْطِرَ رَمَضَانَ، وَيَصُومَ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ بِغَيْرِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ: لِيُوَاطِيُوا بِالْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ لَمَّا أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ يَاءً عَامَلَ الْبَدَلَ مُعَامَلَةَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالْأَصَحُّ ضَمُّ الطَّاءِ وَحَذْفُ الْيَاءِ لِأَنَّهُ أَخْلَصَ الْهَمْزَةَ يَاءً خَالِصَةً عِنْدَ التَّخْفِيفِ. فَسُكِّنَتْ لِاسْتِثْقَالِ الضَّمَّةِ عَلَيْهَا، وَذَهَبَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبُدِّلَتْ كَسْرَةُ الطَّاءِ ضَمَّةً لِأَجْلِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ كَمَا قِيلَ فِي رَضِيُوا رَضُوا. وَجَاءَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: لِيُوَاطِيُّوا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، هَكَذَا التَّرْجَمَةُ عَنْهُ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ شِدَّةَ بَيَانِ الْيَاءِ وَتَخْلِيصِهَا مِنَ الْهَمْزِ دُونَ التَّضْعِيفِ، فَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ انْتَهَى. فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ بِمُوَاطَأَةِ الْعِدَّةِ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقِتَالِ، أَوْ مِنْ تَرْكِ الِاخْتِصَاصِ لِلْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ التَّزْيِينُ الشَّيْطَانَ، لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ سِيقَ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: زَيَّنَ لَهُمْ سُوءُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْيَاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَحَسِبُوا أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ حَسَنَةً. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي أَيْ: لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، بَلْ يَخْذُلُهُمُ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَحْكُمُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ. وَقِيلَ: لَا يَفْعَلُ بِهِمْ خَيْرًا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ خَيْرٍ هُدًى، وَكُلَّ شَرٍّ ضَلَالَةً انْتَهَى. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِغَزَاةِ تَبُوكَ، وَكَانَ زَمَانَ جَدْبٍ وَحَرٍّ شَدِيدٍ وَقَدْ طَابَتِ الثِّمَارُ، عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ

وَأَحَبُّوا الْمُقَامَ، نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ بِعَامٍ، غَزَا فِيهَا الرُّومَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ رَاكِبٍ وَرَاجِلٍ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ قَبَائِلُ مِنَ النَّاسِ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَثِيرٌ وَمُنَافِقُونَ. وَخَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالْعِتَابِ الشَّدِيدِ بِحَسَبِ مَكَانِهِمْ مِنَ الصُّحْبَةِ، إِذْ هُمْ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَكَانَ تَخَلُّفُهُمْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا شَرَحَ مَعَاتِبَ الْكُفَّارِ رَغِبَ في مقابلتهم. وما لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّقْرِيعُ، وَبُنِيَ قِيلَ لِلْمَفْعُولِ، وَالْقَائِلُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُذْكَرْ إِغْلَاظًا وَمُخَاشَنَةً لَهُمْ وَصَوْنًا لِذِكْرِهِ. إِذْ أَخْلَدَ إِلَى الْهُوَيْنَا وَالدَّعَةِ: مَنْ أَخْلَدَ وَخَالَفَ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَثَاقَلْتُمْ وَهُوَ أَصْلُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اثَّاقَلْتُمْ، وَهُوَ مَاضٍ بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ عَامِلٌ فِي إِذَا أَيْ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْمَاضِي هُنَا بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ أَيْ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ، وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ. أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي التَّثَاقُلِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ أَنْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْسَبِكُ مَصْدَرٌ إِلَّا مِنْ حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَحَذْفُ إِنَّ فِي نَحْوِ هَذَا قَلِيلٌ جِدًّا أَوْ ضَرُورَةٌ. وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي التَّثَاقُلِ فَلَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ فِي إِذَا، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ الْمَوْصُولِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ النَّاصِبُ لِإِذَا، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ فِي التَّثَاقُلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَكُمُ الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا. وقرىء: اثَّاقَلْتُمْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِي إِذَا مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْمَلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا فِي مَا لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمْ، كَمَا تَعْمَلُهُ فِي الْحَالِ إِذَا قُلْتَ: مَا لَكَ قَائِمًا. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ اثَّاقَلْتُمْ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ: مِلْتُمْ إِلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا حِينَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ ثِمَارَهَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَكَرِهْتُمْ مَشَاقَّ السَّفَرِ. وَقِيلَ مِلْتُمْ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَرْضِكُمْ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالْإِخْلَادِ عُدِّيَ بِإِلَى. وَفِي قَوْلِهِ: أَرَضِيتُمْ، نَوْعٌ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ أَيْ: أَرَضِيتُمْ بِالنَّعِيمِ الْعَاجِلِ فِي الدُّنْيَا الزَّائِلِ بدل النعيم الباقي. ومن تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى بَدَلَ أَيْ: بَدَلَ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً «1» أَيْ بَدَلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طهيان

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 60. [.....]

أَيْ بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَالطَّهَيَانِ عُودٌ يُنْصَبُ فِي نَاحِيَةِ الدَّارِ لِلْهَوَاءِ تُعَلَّقُ فِيهِ أَوْعِيَةُ الْمَاءِ حَتَّى تَبْرُدَ. وَأَصْحَابُنَا لَا يُثْبِتُونَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَدَلِ. وَيَتَعَلَّقُ فِي الْآخِرَةِ بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَحْسُوبًا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فِي الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَلِيلٍ، وَقَلِيلٌ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ. وَصَلُحَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ مُقَدَّمًا، لِأَنَّ رَائِحَةَ الْفِعْلِ تَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ. وَلَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ عَمْرًا إِلَّا يَضْرِبُ، لَمْ يَجُزْ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: هَذَا سُخْطٌ عَلَى الْمُتَثَاقِلِينَ عَظِيمٌ، حَيْثُ أَوْعَدَهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُطْلَقٍ يَتَنَاوَلُ عَذَابَ الدَّارَيْنِ، وَأَنَّهُ يُهْلِكُهُمْ وَيَسْتَبْدِلُ قَوْمًا آخَرِينَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَطْوَعَ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، لَا يَقْدَحُ تَثَاقُلُهُمْ فِيهَا شَيْئًا. وَقِيلَ: يُعَذِّبُكُمْ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَنْفَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِيلَةً فَقَعَدَتْ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهَا الْمَطَرَ وَعَذَّبَهَا بِهِ. وَالْمُسْتَبْدَلُ الْمَوْعُودُ بِهِمْ، قَالَ: جَمَاعَةٌ أَهْلُ الْيَمَنِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَبْنَاءُ فَارِسَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ التَّابِعُونَ، وَالظَّاهِرُ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ رَسُولَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَدِينَةِ أَقْوَامًا يُعِينُونَهُ عَلَى الْغَزْوِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَقْوَامٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا حَالَ كَوْنِهِ هُنَاكَ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: وَلَا تَضُرُّوا دِينَهُ شَيْئًا. وَقِيلَ: عَلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَصَمَهُ وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَلَمَّا رَتَّبَ عَلَى انْتِفَاءِ نَفْرِهِمُ التَّعْذِيبَ وَالِاسْتِبْدَالَ وَانْتِفَاءَ الضَّرَرِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِهِ قَدِيرٌ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّغْيِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فِيهِ انْتِفَاءُ النَّصْرِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ مِنْ نَفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ محذوف تفسيره: فَسَيَنْصُرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أَيْ: يَنْصُرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا نَصَرَهُ فِي الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَسَيَنْصُرُهُ، وَذَكَرَ مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ لَهُ النُّصْرَةَ وَجَعَلَهُ مَنْصُورًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يُخْذَلْ مِنْ بَعْدِهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَظْهَرُ مِنْهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ إِيجَابَ النُّصْرَةِ لَهُ أَمْرٌ سَبَقَ، وَالْمَاضِي

لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَمَعْنَى إِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَّاهُ: فِعْلُهُمْ بِهِ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَنُسِبَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِمْ مَجَازًا، كَمَا نُسِبَ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «1» وَقِصَّةُ خُرُوجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ مَذْكُورَةٌ فِي السِّيَرِ. وَانْتَصَبَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ عَلَى الْحَالِ أَيْ: أَحَدَ اثْنَيْنِ وَهُمَا: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالْخُرُوجِ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ يَخْرُجُ مَعِي؟» قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا صَحِبَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَلْ خَرَجَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ شَاهَدَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، وَإِنَّمَا الْمُعَاتَبَةُ لِمَنْ تَخَلَّفَ فَقَطْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنَوِّهَةٌ بِقَدْرِ أَبِي بَكْرٍ وَتَقَدُّمِهِ وَسَابِقَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبُهُمْ فِي الْجِهَادِ وَنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، إِذْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَهُ، إِذْ كَانَ فِي الْغَارِ وَلَيْسَ مَعَهُ فِيهِ أَحَدٌ سِوَى أَبِي بَكْرٍ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: ثَانِي اثْنَيْنِ بِسُكُونِ يَاءِ ثَانِي. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: حَكَاهَا أَبُو عَمْرٍو، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاءَ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَلِفِ. وَالْغَارُ: نَقْبٌ فِي أَعْلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ فِي يُمْنَى مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ، مَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا. إِذْ هُمَا: بَدَلٌ. وإذ يَقُولُ: بَدَلٌ ثَانٍ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ فَقَدْ كَفَرَ لِإِنْكَارِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ. وَكَانَ سَبَبُ حَزْنِ أَبِي بَكْرٍ خَوْفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُ الرَّسُولُ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، يَعْنِي: بِالْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ فَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ وَذَهَبَ دِينُ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ظَنَّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي ... وَنَحْنُ فِي سَدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا ... وَقَدْ تَكَفَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ وَإِنَّمَا كَيْدُ مَنْ تخشى بوارده ... كَيْدُ الشَّيَاطِينِ قَدْ كَادَتْ لِكُفَّارِ وَاللَّهُ مُهْلِكُهُمْ طُرًّا بِمَا صَنَعُوا ... وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّكِينَةُ الرَّحْمَةُ. وقال قتادة في

_ (1) سورة محمد: 47/ 13.

آخَرِينَ: الْوَقَارُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الطُّمَأْنِينَةُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، أَوْ عَلَى الرَّسُولِ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ عَلَيْهِمَا. وَأَفْرَدَهُ لِتَلَازُمِهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمَا وَأَيَّدَهُمَا. وَالْجُنُودُ: الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْأَحْزَابِ، وَحُنَيْنٍ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الْوَقْتُ يُلْقُونَ الْبِشَارَةَ فِي قَلْبِهِ، وَيَصْرِفُونَ وُجُوهَ الْكُفَّارِ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَانَ ثَابِتَ الْجَأْشِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَأَيَّدَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ «1» يَعْنِي الرَّسُولَ، وَتُسَبِّحُوهُ: يَعْنِي اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالسَّكِينَةُ عِنْدِي إِنَّمَا هِيَ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنَ الْحِيَاطَةِ لَهُمْ، وَالْخَصَائِصِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ مَا صَنَعَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ إِلَى وَقْتِ تَبُوكَ مِنَ الظُّهُورِ وَالْفُتُوحِ، لَا أَنْ يَكُونَ هَذَا يَخْتَصُّ بِقِصَّةِ الْغَارِ. وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ الشِّرْكُ، وَهِيَ مَقْهُورَةٌ. وَكَلِمَةُ اللَّهِ: هِيَ التَّوْحِيدُ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ. هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَلَّمَهُ الْكَافِرِينَ مَا قَرَّرُوا بَيْنَهُمْ مِنَ الْكَيْدِ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: أَنَّهُ نَاصِرُهُ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَلِمَةُ الْكُفَّارِ قَوْلُهُمْ فِي الْحَرْبِ: يَا لِبَنِي فُلَانٍ، وَيَا لِفُلَانٍ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «3» وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَوْلُهُمْ فِي الْحَرْبِ: اعْلُ هُبَلَ، يَعْنُونَ صَنَمَهُمُ الْأَكْبَرَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَيَدَهُ وَالْجُمْهُورُ وَأَيَّدَهُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وقرىء: وَكَلِمَةُ اللَّهِ بِالنَّصْبِ أَيْ: وَجَعَلَ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ أَثْبَتُ فِي الْإِخْبَارِ. وَعَنْ أَنَسٍ رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: وَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعَلْيَاءَ، وَنَاسَبَ الْوَصْفُ بِالْعِزَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يَصْنَعُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ عَادَاهُمْ مِنْ إِعْزَازِ دِينِهِ وَإِخْمَادِ الْكُفْرِ. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: لَمَّا تَوَعَّدَ تَعَالَى مَنْ لَا يَنْفِرُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرَبَ لَهُ مِنَ الْأَمْثَالِ مَا ضَرَبَ، أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَزْمَ. وَالْمَعْنَى: انْفِرُوا عَلَى الْوَصْفِ الذي يحف عَلَيْكُمْ فِيهِ الْجِهَادُ، أَوْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَثْقُلُ. وَالْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَنْ يُمْكِنُهُ السَّفَرُ بِسُهُولَةٍ،

_ (1) سورة الفتح: 48/ 9. (2) سورة البقرة: 2/ 248. (3) سورة المجادلة: 58/ 21.

وَمَنْ يُمْكِنُهُ بِصُعُوبَةٍ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ كَالْأَعْمَى وَنَحْوِهِ فَخَارِجٌ عَنْ هَذَا. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَعَلَيَّ أَنْ أَنْفِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى نَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ «1» وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ مَعَانِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ أَشْيَاءَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ. قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: شَبَابًا وَشُيُوخًا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: عُزْبَانًا وَمُتَزَوِّجِينَ. وَقَالَ جُوَيْبِرٌ: أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: خِفَافًا مِنَ السِّلَاحِ أَيْ مُقِلِّينَ فِيهِ، وَثِقَالًا أَيْ مُسْتَكْثِرِينَ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خِفَافًا مِنَ الْأَشْغَالِ وَثِقَالًا بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خِفَافًا مِنَ الْعِيَالِ، وَثِقَالًا بِهِمْ. وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ: خِفَافًا من الأتباع والحاشية، ثقالا بِهِمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ مِنْ خِفَّةِ الْيَقِينِ وَثِقَلِهِ عِنْدَ الْكَرَاهَةِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: خِفَافًا إِلَى الطَّاعَةِ، وَثِقَالًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْفِتْيَانِ: خِفَافًا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، وَثِقَالًا فِي الْمُصَابَرَةِ. وَحَكَى أَيْضًا: خِفَافًا بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ، وَثِقَالًا بَعْدَ التَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَوِي صَنْعَةٍ وَهُوَ الثَّقِيلُ، وَغَيْرُ ذَوِي صَنْعَةٍ وَهُوَ الْخَفِيفُ. وحكى النقاش: شجعانا وجبنا. ويقل: مَهَازِيلَ وَسِمَانًا. وَقِيلَ: سِبَاقًا إِلَى الْحَرْبِ كَالطَّلِيعَةِ وَهُوَ مُقَدَّمُ الْجَيْشِ، وَالثِّقَالُ الْجَيْشُ بِأَسْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: النَّشِيطُ وَالْكَسْلَانُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ فَرْضُ الْأَعْيَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عُنِيَ بِهِ فَرْضُ الْأَعْيَانِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «2» وَانْتَصَبَ خِفَافًا وَثِقَالًا عَلَى الْحَالِ. وَذُكِرَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إِذْ ذَلِكَ وَصْفٌ لِأَكْمَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِهَادِ وَأَنْفَعِهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَحَضَّ عَلَى كَمَالِ الْأَوْصَافِ وَقُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ إِذْ هِيَ أَوَّلُ مَصْرِفٍ وَقْتَ التَّجْهِيزِ، وَذُكِرَ مَا الْمُجَاهِدُ فِيهِ وَهُوَ سَبِيلُ اللَّهِ. وَالْخَيْرِيَّةُ هِيَ فِي الدُّنْيَا بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَرِضْوَانِ اللَّهِ. وَقَدْ غَزَا أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى غَزَا فِي الْبَحْرِ وَمَاتَ فِيهِ، وَغَزَا الْمِقْدَادُ عَلَى ضَخَامَتِهِ وَسِمَنِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ مَعَ كَوْنِهِ أَعْمَى. لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ: أَيْ لَوْ كَانَ مَا

_ (1) سورة النور: 24/ 61. (2) سورة التوبة: 9/ 122.

دُعُوا إِلَيْهِ غُنْمًا قَرِيبًا سَهْلَ الْمَنَالِ، وَسَفَرًا قَاصِدًا وَسَطًا مُقَارِبًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ حِينَ اسْتَنْفَرَ الْمُؤْمِنِينَ فَنَفَرُوا، وَاعْتَذَرَ مِنْهُمْ فَرِيقٌ لِأَصْحَابِهِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الْقَبَائِلِ الْمُجَاوِرَةِ للمدينة. وليس قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ «1» خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، بَلْ هُوَ عَامٌّ. وَاعْتَذَرَ الْمُنَافِقُونَ بِأَعْذَارٍ كَاذِبَةٍ، فَابْتَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وكشف ضمائرهم. لا تبعوك: لَبَادَرُوا إِلَيْهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا لِظُهُورِ كَلِمَتِهِ، وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أَيْ: الْمَسَافَةُ الطَّوِيلَةُ فِي غَزْوِ الرُّومِ. وَالشُّقَّةُ بِالضَّمِّ مِنَ الثِّيَابِ، وَالشُّقَّةُ أَيْضًا السَّفَرُ الْبَعِيدُ، وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْكَسْرِ قَالَهُ: الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الشُّقَّةُ الْغَايَةُ الَّتِي تُقْصَدُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الشُّقَّةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ يَشُقُّ رُكُوبُهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشُّقَّةُ الْمَسِيرُ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الشَّقِّ، أَوْ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: بَعِدَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقَّةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ، وَافَقَهُ الْأَعْرَجُ فِي بَعِدَتْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّهَا لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ فِي اللَّفْظَيْنِ انْتَهَى. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: شُقَّةً وَشِقَّةً. وَسَيَحْلِفُونَ: أَيِ الْمُنَافِقُونَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِغَيْبٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، مَا نَصُّهُ بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِسَيَحْلِفُونَ، أَوْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَالْقَوْلُ مُرَادٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَيْ: سَيَحْلِفُونَ مُتَخَلِّصِينَ عِنْدَ رُجُوعِكَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مُعْتَذِرِينَ، يَقُولُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، أَوْ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يَقُولُونَ لَوِ اسْتَطَعْنَا. وَقَوْلُهُ: لَخَرَجْنَا سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَلَوْ جَمِيعًا وَالْإِخْبَارُ بِمَا سَوْفَ يَكُونُ بَعْدَ الْقَوْلِ مِنْ حَلِفِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ. وَمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ اسْتِطَاعَةُ الْعُدَّةِ، وَاسْتِطَاعَةُ الْأَبْدَانِ، كَأَنَّهُمْ تَمَارَضُوا انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَخَرَجْنَا، سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَلَوْ جَمِيعًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ لِلنَّحْوِيِّينَ فِي هَذَا مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَخَرَجْنَا هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ عَلَى قَاعِدَةِ اجْتِمَاعِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بن عصفور. والآخران لَخَرَجْنَا هُوَ جَوَابُ لَوْ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ لَوْ وَجَوَابُهَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنُ مَالِكٍ. أَنَّ لَخَرَجْنَا يَسُدُّ مسدهما، فلا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ جَوَابُ لَوْ، وَدَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ جُعِلَ، كَأَنَّهُ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَوَابِ لَوْ جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَوِ اسْتَطَعْنَا بِضَمِّ الْوَاوِ، فرّ مِنْ ثِقَلِ الْكَسْرَةِ عَلَى الْوَاوِ وَشَبَّهَهَا بِوَاوِ الْجَمْعِ عِنْدَ تَحْرِيكِهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا كَمَا جاء:

_ (1) سورة التوبة: 9/ 38.

اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ «1» بِالْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، أَيْ: يُوقِعُونَهَا فِي الْهَلَاكِ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةُ اسْتِئْنَافِ إِخْبَارٍ مِنْهُ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ سَيَحْلِفُونَ، أَوْ حَالًا بِمَعْنَى مُهْلِكِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُوقِعُونَهَا فِي الْهَلَاكِ بِحَلِفِهِمُ الكاذب، وما يحلفون عَلَيْهِ مِنَ التَّخَلُّفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ قَوْلِهِ: لَخَرَجْنَا أَيْ، لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ وَإِنْ أَهْلَكْنَا أَنْفُسَنَا وَأَلْقَيْنَاهَا فِي التَّهْلُكَةِ بِمَا يَحْمِلُهَا مِنَ الْمَسِيرِ فِي تِلْكَ الشُّقَّةِ، وَجَاءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ مُخْبَرٌ عَنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قيل: سيلحفون بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَاعُوا لَخَرَجُوا لَكَانَ سَدِيدًا؟ يُقَالُ: حَلَفَ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، فَالْغَيْبَةُ عَلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ، وَالتَّكَلُّمُ على الحكام انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُ يُهْلِكُونَ بَدَلًا مِنْ سَيَحْلِفُونَ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلْحَلِفِ، وَلَا هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَلِفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ فِعْلٌ مِنْ فِعْلٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادِفًا لَهُ أَوْ نَوْعًا مِنْهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: لَخَرَجْنَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَخَرَجْنَا فِيهِ ضَمِيرُ التَّكَلُّمِ، فَالَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. فَلَوْ كَانَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَخَرَجْنَا لَكَانَ التَّرْكِيبُ: نُهْلِكُ أَنْفُسَنَا أَيْ: مُهْلِكِي أَنْفُسِنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ ذَلِكَ عَلَى حَلِفٍ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجْرَاهُ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لَوْ قُلْتُ: حَلَفَ زَيْدٌ لَيَفْعَلَنَّ وَأَنَا قَائِمٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ وَأَنَا قَائِمٌ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَيَفْعَلَنَّ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا عَكْسُهُ نَحْوُ: حَلَفَ زَيْدٌ لَأَفْعَلَنَّ يَقُومُ، تُرِيدُ قَائِمًا لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَاءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ مُخْبَرٌ عَنْهُمْ فَهِيَ مُغَالَطَةٌ لَيْسَ مُخْبَرًا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، بَلْ هُوَ حَاكٍ لَفْظَ قَوْلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَرَى لَوْ قِيلَ: لَوِ اسْتَطَاعُوا لَخَرَجُوا لَكَانَ سَدِيدًا إِلَى آخِرِهِ كَلَامٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ، بَلْ حِكَايَةً. وَالْحَالُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ ذِي الْحَالِ وَحَالِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَامِلِ. لَوْ قُلْتَ: قَالَ زَيْدٌ: خَرَجْتُ يَضْرِبُ خَالِدًا، تُرِيدُ أَضْرِبُ خَالِدًا، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قُلْتَ: قَالَتْ هِنْدُ: خَرَجَ زَيْدٌ أَضْرِبُ خَالِدًا، تُرِيدُ خَرَجَ زَيْدٌ ضَارِبًا خَالِدًا، لَمْ يَجُزْ. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي صِنْفٍ مُبَالِغٍ فِي النِّفَاقِ. وَاسْتَأْذَنُوا دُونَ اعْتِذَارٍ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي، والجد بن قيس، وَرِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 16.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ائْذَنَّ لَنَا فِي الْإِقَامَةِ، فَأَذِنَ لَهُمُ اسْتِبْقَاءً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذًا بِالْأَسْهَلِ مِنَ الْأُمُورِ، وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: نَسْتَأْذِنُهُ، فَإِنْ أَذِنَ فِي الْقُعُودِ قَعَدْنَا، وإن لم يأذن قعدتا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ النجوي الدَّاوُدِيُّ الْمَنْبُوذُ بِنَفْطَوَيْهِ: ذَهَبَ نَاسٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاتَبٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَمَا قَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ «1» لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ. وَاسْتَأْذَنَهُ الْمُخَلَّفُونَ فِي التَّخَلُّفِ وَاعْتَذَرُوا، اخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَأَقَامُوا لِلنِّفَاقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي إِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ، فَعَفَا اللَّهُ عَنْكَ عِنْدَهُ افْتِتَاحُ كَلَامٍ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنَ الْإِذْنِ، وَلَيْسَ هُوَ عَفْوًا عَنْ ذَنْبٍ، إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الْإِذْنِ لَهُمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» وَمَا وَجَبَتَا قَطُّ وَمَعْنَاهُ: تَرَكَ أَنْ يُلْزِمَكُمْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَقَالُوا: ذِكْرُ الْعَفْوِ هُنَا لَمْ يَكُنْ عَنْ تَقَدُّمِ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ جَرَتْ عَادَةُ العربان تُخَاطِبَ بِمِثْلِهِ لِمَنْ تُعَظِّمُهُ وَتَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الدُّعَاءَ لَهُ فَيَقُولُونَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَعَلَى هَذَا صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ انْتَهَى. وَلِمَ وَلَهُمْ مُتَعَلِّقَانِ بِأَذِنْتَ، لَكِنَّهُ اخْتَلَفَ مَدْلُولُ اللَّامَيْنِ، إِذْ لَامُ لِمَ لِلتَّعْلِيلِ، وَلَامُ لَهُمْ لِلتَّبْلِيغِ، فَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَمُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَمَا قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْقُعُودُ أَيْ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزْوِ حَتَّى تَعْرِفَ ذَوِي الْعُذْرِ فِي التَّخَلُّفِ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ هُوَ الْخُرُوجُ مَعَهُ لِلْغَزْوِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى خُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَيْنًا لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «2» وَكَانُوا يَخْذُلُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ خُرُوجَهُمْ مَعَهُ لَيْسَ مَصْلَحَةً بِقَوْلِهِ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «3» . وَحَتَّى غَايَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ أَيْ: مَا كَانَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنْ لَهُ الْعُذْرُ، هَكَذَا قَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 51. (2) سورة التوبة: 9/ 47. (3) سورة التوبة: 9/ 47.

مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ تَقْدِيرُهُ: هَلَّا أَخَّرْتَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ أَوْ لِيَتَبَيَّنَ. وَقَوْلُهُ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ حَتَّى بِأَذِنْتَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، أَوْ لِأَجْلِ التَّبْيِينِ، وَهَذَا لَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، مِمَّا يَجِبُ اطِّرَاحُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُذْكَرَ فَيُرَدَّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ صَدَقُوا أَيْ: فِي اسْتِئْذَانِكَ. وَأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ خَرَجُوا مَعَكَ. وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ: تُرِيدُ فِي أَنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوكَ يُظْهِرُونَ لَكَ أَنَّهُمْ يَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّكَ وَهُمْ كَذَبَةٌ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى الْعِصْيَانِ أَذِنْتَ لَهُمْ أَوْ لَمْ تَأْذَنْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: حَتَّى تَعْلَمَ الصَّادِقِينَ فِي أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا، وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فِي أن الأعذار لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ النُّورِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ النُّورَ نَزَلَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فِي اسْتِئْذَانِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّسُولَ فِي بَعْضِ شَأْنِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ يَأْذَنَ، فَتَبَايَنَتِ الْآيَتَانِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَعْنَى. لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الِاسْتِئْذَانِ هُوَ أَنْ يُجَاهِدُوا أَيْ: لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي أَنْ يُجَاهِدُوا، وَكَانَ الْخُلَّصُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا، وَيَقُولُونَ: لَنُجَاهِدَنَّ مَعَهُ بِأَمْوَالِنَا وَأَنْفُسِنَا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْخُرُوجِ وَلَا الْقُعُودِ كَرَاهَةَ أَنْ يُجَاهِدُوا، بَلْ إِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ ابْتَدَرُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَامَةً عَلَى النِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ، شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالِانْتِظَامِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ، وَعِدَةٌ لَهُمْ بِأَجْزَلِ الثَّوَابِ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَكَانُوا تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا. وَمَعْنَى ارْتَابَتْ: شَكَّتْ. وَيَتَرَدَّدُونَ: يَتَحَيَّرُونَ، لَا يَتَّجِهُ لَهُمْ هُدًى فَتَارَةً يَخْطُرُ لَهُمْ صِحَّةُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَتَارَةً يَخْطُرُ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدَّةً مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ وَالرَّاحِلَةِ، لِأَنَّ سَفَرَهُمْ بَعِيدٌ فِي زَمَانِ حَرٍّ شَدِيدٍ. وَفِي تَرْكِهِمُ الْعُدَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّخَلُّفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى

تَحْصِيلِ الْعُدَّةِ وَالْأُهْبَةِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعُدَّةُ النِّيَّةُ الْخَالِصَةُ فِي الْجِهَادِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: كُلُّ مَا يُعَدُّ لِلْقِتَالِ مِنَ الزَّادِ وَالسِّلَاحِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ: عُدَّ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَاءٍ، وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: تَسْقُطُ التَّاءُ لِلْإِضَافَةِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ أَيْ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ لَا يَقِيسُ ذَلِكَ، إِنَّمَا نَقِفُ فِيهِ مَعَ مَوْرِدِ السَّمَاعِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: لَمَّا أضاف جعل الكناية تائبة عَنِ التَّاءِ فَأَسْقَطَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَّ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَلَا تَقْدِيرُهَا هُوَ الْبَثْرُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ جَمْعُ عُدَّةٍ كَبُرَّةٍ وَبُرٍّ وَدُرَّةٍ وَدُرٍّ، وَالْوَجْهُ فِيهِ عُدَدٌ، وَلَكِنْ لَا يُوَافِقُ خط المصحف. وقرأ ذر بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: عِدَّهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهَاءِ إِضْمَارٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ عِنْدِي اسْمٌ لِمَا يُعَدُّ كَالذَّبْحِ وَالْقَتْلِ لِلْعَدِّ، وَسُمِّيَ قَتْلًا إِذْ حقه أن يقتل. وقرىء أَيْضًا: عِدَّةً بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَبِالتَّاءِ دُونَ إِضَافَةٍ أَيْ: عِدَّةً مِنَ الزَّادِ وَالسِّلَاحِ، أَوْ مِمَّا لَهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَدَدِ. وَلَمَّا تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ انْتِفَاءَ الْخُرُوجِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَجَاءَ بَعْدَهَا وَلَكِنْ، وَكَانَتْ لَا تَقَعُ إِلَّا بَيْنَ نَقِيضَيْنِ أَوْ ضِدَّيْنِ أَوْ خِلَافَيْنِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، لَا بَيْنَ مُتَّفِقَيْنِ، وَكَانَ ظَاهِرُ مَا بَعْدَ لَكِنْ مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كيف مَوْقِعُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مُعْطِيًا مَعْنَى نَفْيِ خُرُوجِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْغَزْوِ. قِيلَ: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا خَرَجُوا وَلَكِنْ تَثَبَّطُوا عَنِ الْخُرُوجِ لِكَرَاهَةِ انْبِعَاثِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: مَا أَحْسَنَ إِلَيَّ زِيدٌ وَلَكِنْ أَسَاءَ إِلَيَّ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَظِيرَ هَذَا الْمِثَالِ، لِأَنَّ الْمِثَالَ وَاقِعٌ فِيهِ لَكِنْ بَيْنَ ضِدَّيْنِ، وَالْآيَةُ وَاقِعٌ فِيهَا لَكِنْ بَيْنَ مُتَّفِقَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَالِانْبِعَاثُ الِانْطِلَاقُ وَالنُّهُوضُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَثَبَّطَهُمْ كَسَلُهُمْ وَفَتْرُ نِيَّاتِهِمْ. وَبُنِيَ وَقِيلَ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ: إِذْنَ الرَّسُولِ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ، أَوْ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى، أَوْ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي سَابِقِ قَضَائِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ إِلْقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ أَمْرًا بِالْقُعُودِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ وَهِيَ قَبِيحَةٌ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْهَامِ الْقَبِيحِ. (قُلْتُ) : خُرُوجُهُمْ كَانَ مَفْسَدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «1» فَكَانَ إِيقَاعُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ فِي نُفُوسِهِمْ حَسَنًا وَمَصْلَحَةً انْتَهَى. وَهَذَا

_ (1) سورة التوبة: 9/ 47.

السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ذَمٌّ لَهُمْ وَتَعْجِيزٌ، وَإِلْحَاقٌ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الْقُعُودُ وَالْجُثُومُ فِي الْبُيُوتِ، وَهُمُ الْقَاعِدُونَ وَالْخَالِفُونَ وَالْخَوَالِفُ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ «1» وَالْقُعُودُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّخَلُّفِ وَالتَّرَاخِي كَمَا قَالَ: دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَسْكَرَهُ أَسْفَلَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَنْ تَخَلَّفَ فَنَزَلَتْ بِعُرَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ كَارِهُونَ. وَفِيكُمْ أَيْ: فِي جَيْشِكُمْ أَوْ فِي جُمْلَتِكُمْ. وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَبَالُ الْفَسَادُ وَمُرَاعَاةُ إِخْمَادِ الْكَلِمَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَكْرُ وَالْغَدْرُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الِاضْطِرَابُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الشَّرُّ، وَقَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ: إِيقَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالْأَرَاجِيفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْخَبَالِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَهُوَ مُفَرَّغٌ، إِذِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِزَادَ لَمْ يُذْكَرْ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُنَافِقُونَ كَثِيرٌ، وَلَهُمْ لَا شَكَّ خَبَالٌ، فَلَوْ خَرَجَ هَؤُلَاءِ لَتَأَلَّبُوا فَزَادَ الْخَبَالُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ، فَكَانَ هُوَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لأنّ بَعْضُ أَعَمِّ الْعَامِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا زَادُوكُمْ شَيْئًا إِلَّا خَبَالًا. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَسْكَرِ الرَّسُولِ خَبَالٌ. فَالْمَعْنَى: مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَلَا شِدَّةً لَكِنْ خَبَالًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَا زَادُوكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، يَعْنِي: مَا زَادَكُمْ خُرُوجُهُمْ إِلَّا خَبَالًا. وَالْإِيضَاعُ الْإِسْرَاعُ قَالَ: أُرَانَا مُوضِعِينَ لأمر غريب ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ وَيُقَالُ: وَضَعَتِ النَّاقَةُ تَضَعُ وَضْعًا وَوُضُوعًا قَالَ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَأَسْرَعُوا بِالنَّمِيمَةِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ: لَأَسْرَعُوا بِالْفِرَارِ. وَمَفْعُولُ أَوْضَعُوا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَأَوْضَعُوا رَكَائِبَكُمْ بَيْنَكُمْ، لِأَنَّ الراكب أسرع من

_ (1) سورة التوبة: 9/ 87.

الْمَاشِي. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ: وَلَأَوْفَضُوا أَيْ أَسْرَعُوا كَقَوْلِهِ: إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ «1» وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: ولأوفضوا بِالرَّاءِ مِنْ رَفَضَ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ رَفْضًا وَرَفَضَانًا قَالَ حَسَّانُ: بِزُجَاجَةٍ رَفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا ... رَفْضَ الْقَلُوصِ بِرَاكِبٍ مُسْتَعْجِلِ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالرَّافِضَاتُ إِلَى مِنًى فالقبقب والخلاف جَمْعُ الْخَلَلِ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: تَخَلَّلْتُ الْقَوْمَ دَخَلْتُ بَيْنَ خَلَلِهِمْ وَخِلَالِهِمْ، وَجَلَسْنَا خِلَالَ الْبُيُوتِ وَخِلَالَ الدُّورِ أَيْ: بَيْنَهَا، وَيَبْغُونَ حَالٌ أَيْ: بَاغِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَبْغُونَهَا لَكُمْ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا الْكُفْرُ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالضَّحَّاكُ. أَوِ الْعَيْبُ وَالشَّرُّ قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ. أَوْ تَفْرِيقُ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْمِحْنَةُ بِاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ أَوِ النَّمِيمَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحَاوِلُونَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ بِأَنْ يُوقِعُوا الْخِلَافَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَيُفْسِدُوا نِيَّاتِكُمْ فِي مَغْزَاكُمْ. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ: نَمَّامُونَ يَسْمَعُونَ حَدِيثَكُمْ فَيَنْقُلُونَهُ إِلَيْهِمْ، أَوْ فِيكُمْ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ انْتَهَى. فَاللَّامُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَفِي الثَّانِي لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ كَقَوْلِهِ: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «2» وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَهُ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، قَالُوا: مَعْنَاهُ جَوَاسِيسُ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالُوا: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مُطِيعُونَ سَمَّاعُونَ لَهُمْ. وَمَعْنَى وَفِيكُمْ فِي خِلَالِكُمْ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يَعُمُّ كُلَّ ظَالِمٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجَازِيهِ عَلَى ظُلْمِهِ. وَانْدَرَجَ فِيهِ مَنْ يَقْبَلُ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ يُؤَدِّي إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قِصَّةِ رُجُوعِ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ، حَقَّرَ شَأْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدِيمًا سَعَوْا عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَبْطَلَ اللَّهُ سَعْيَهُمْ، وَفِي الْأُمُورِ الْمُقَلَّبَةِ أَقْوَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغَوْا لَكَ الْغَوَائِلَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَفَ اثْنَا عَشَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الثَّنِيَّةِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ كَيْ يَفْتِكُوا بِهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: احْتَالُوا فِي تَشْتِيتِ أَمْرِكَ وَإِبْطَالِ دِينِكَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانْصِرَافِ ابْنِ أُبَيٍّ يَوْمَ

_ (1) سورة المعارج: 70/ 43. [.....] (2) سورة هود: 11/ 107.

أُحُدٍ بِأَصْحَابِهِ. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْغَزَاةِ، وَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُجُوعِهِمْ عَنْهُ فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا. وَتَقْلِيبُ الْأُمُورِ: هُوَ تَدْبِيرُهَا ظهر البطن، وَالنَّظَرُ فِي نَوَاحِيهَا وَأَقْسَامِهَا، وَالسَّعْيُ بِكُلِّ حِيلَةٍ. وَقِيلَ: طَلَبُ الْمَكِيدَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ حُوَّلٌ قُلَّبٌ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: وَقَلَبُوا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ. حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ أَيْ: الْقُرْآنُ وَشَرِيعَةُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَلَفْظَةُ جَاءَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ. وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَصَفَهُ بِالظُّهُورِ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْمَسْتُورِ أَيْ: غَلَبَ وَعَلَا دِينُ اللَّهِ. وَهُمْ كَارِهُونَ لِمَجِيءِ الْحَقِّ وَظُهُورِ دِينِ اللَّهِ. وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِثَارَةِ الشَّرِّ فَإِنَّهُمْ مُذْ رَامُوا ذَلِكَ رَدَّهُ اللَّهُ فِي نَحْرِهِمْ، وَقَلَبَ مُرَادَهُمْ، وَأَتَى بِضِدِّ مَقْصُودِهِمْ، فَكَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي كَذَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ: نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِالْغَزْوِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ حَرَّضَ النَّاسَ فَقَالَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: «هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ» وَقَالَ لَهُ وَلِلنَّاسِ: «اغْزُوا تَغْنَمُوا بَنَاتِ الْأَصْفَرِ» . فَقَالَ الْجَدُّ: ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ وَلَا تفتني بكر بَنَاتِ الْأَصْفَرِ، فَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي لَا أَتَمَالَكُ عَنِ النِّسَاءِ إِذَا رَأَيْتُهُنَّ وتفتني، وَلَا تَفْتِنِّي بِالنِّسَاءِ. هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: وَلَا تَفْتِنِّي أَيْ وَلَا تُصَعِّبْ عَلَيَّ حَتَّى أَحْتَاجَ إِلَى مواقعة معصيتك فسهّل أنت عَلَيَّ، وَدَعْنِي غَيْرَ مُخْتَلِجٍ. وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ قَالُوا: لَا تُكْسِبُنِي الْإِثْمَ بِأَمْرِكَ إِيَّايَ بِالْخُرُوجِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَسِّرٍ لِي، فَآثَمُ بِمُخَالَفَتِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُكَفِّرْنِي بِإِلْزَامِكَ الْخُرُوجَ مَعَكَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَا تَصْرِفْنِي عَنْ شُغْلِي فَتُفَوِّتْ عَلَيَّ مَصَالِحِي وَيَذْهَبْ أَكْثَرُ ثِمَارِي. وَقِيلَ: ولا تفتني فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنِّي إِذَا خَرَجْتُ مَعَكَ هَلَكَ مَالِي وَعِيَالِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ أُعِينُكَ بِمَالِي. وَمُتَعَلَّقُ الْإِذْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فِي الْقُعُودِ وَفِي مُجَاوَرَتِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِفَاقِهِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ: بِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ ائْذَنْ لِي بِإِبْدَالِهَا وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ مَا مَعْنَاهُ: إِذَا دَخَلَتِ الْوَاوُ أو الفاء على أأئذن، فَهِجَاؤُهَا فِي الْخَطِّ أَلِفٌ وَذَالٌ وَنُونٌ بِغَيْرِ يَاءٍ، أَوْ ثُمَّ فَالْهِجَاءُ أَلِفٌ وَيَاءٌ وَذَالٌ وَنُونٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ ثُمَّ يُوقَفُ عَلَيْهَا وَتَنْفَصِلُ بِخِلَافِهِمَا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو: لَا تُفْتِنِّي بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى مِنْ أَفْتَنَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهِيَ أيضا قراءة ابن السميفع، وَنَسَبَهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ إِلَى إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ. وَجَمَعَ الشَّاعِرُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فَقَالَ: لَئِنْ فَتَنَتْنِي فَهِيَ بِالْأَمْسِ أَفْتَنَتْ ... سَعِيدًا فَأَمْسَى قَدْ قَلَا كُلَّ مُسْلِمِ

وَالْفِتْنَةُ الَّتِي سَقَطُوا فِيهَا هِيَ فِتْنَةُ التَّخَلُّفِ، وَظُهُورُ كُفْرِهِمْ، وَنِفَاقِهِمْ. وَلَفْظَةُ سَقَطُوا تنبيء عَنْ تَمَكُّنِ وُقُوعِهِمْ فِيهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِثْمُ بِخِلَافِهِمُ الرَّسُولَ فِي أَمْرِهِ، وَإِحَاطَةُ جَهَنَّمَ بِهِمْ إِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوِ الْآنَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. لِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِحَاطَةِ مَعَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ فِي وَسَطِهَا، أَوْ لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَيْهَا. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَسَنَةُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَالْمُصِيبَةُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَحْبُوبٍ وَمَكْرُوهٍ، وَسِيَاقُ الْحَمْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْغَزْوِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الْحَسَنَةُ الظَّفَرُ وَالْغَنِيمَةُ، وَالْمُصِيبَةُ الْخَيْبَةُ وَالْهَزِيمَةُ، مِثْلُ مَا جَرَى فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَمَعْنَى أَمْرَنَا الَّذِي نَحْنُ مُتَّسِمُونَ بِهِ مِنَ الْحَذَرِ وَالتَّيَقُّظِ وَالْعَمَلِ بِالْحَزْمِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، مِنْ قَبْلِ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُصِيبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّوَلِّي حَقِيقَةً أَيْ: وَيَتَوَلَّوْا عَنْ مَقَامِ التَّحْدِيثَ بِذَلِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَهُمْ مَسْرُورُونَ. وَقِيلَ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: عَنِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ التَّوَلِّي مَجَازًا. قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ مُصَرِّفٍ: هَلْ يُصِيبُنَا مَكَانَ لَنْ يُصِيبَنَا. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ أَيْضًا وَأَعْيَنُ قَاضِي الرَّيِّ: هَلْ يُصَيِّبُنَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مُضَارِعُ فَيْعَلَ نَحْوُ: بَيْطَرَ، لَا مُضَارِعَ فَعَلَ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ صَوَّبَ مُضَاعَفَ الْعَيْنِ. قَالُوا: صَوَّبَ رَأْيَهُ لَمَّا بَنَاهُ عَلَى فَعَّلَ، لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. وَقَالُوا: صَابَ يَصُوبُ وَمَصَاوِبُ جَمْعُ مُصِيبَةٍ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: صَابَ السَّهْمُ يُصِيبُ، جَعَلَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُصِيبُنَا مُضَارِعَ صَيَبَ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، وَالصَّيِّبُ يحتمل أن يكون كسيدوكلين. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شَقِيقٍ: سَمِعْتُ أَعْيَنَ قَاضِي الرَّيِّ يَقُولُ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَّا بِتَشْدِيدِ النُّونِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النُّونَ لَا تَدْخُلُ مَعَ لَنْ، وَلَوْ كَانَتْ لِطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ لَحَارَتْ، لِأَنَّهَا مَعَ هَلْ. قَالَ تَعَالَى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ «1» انْتَهَى. وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَشْبِيهُ لَنْ بِلَا وَبِلَمْ، وَقَدْ سُمِعَ لَحَاقُ هَذِهِ النُّونِ بِلَا وَبِلَمْ، فَلَمَّا شَارَكَتْهُمَا لَنْ فِي النَّفْيِ لَحِقَتْ مَعَهَا نُونُ التَّوْكِيدِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. أَيْ: مَا أَصَابَنَا فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَا بِكُمْ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَصَابَنَا وَكَتَبَ أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ، وَمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ، أو ما قضى

_ (1) سورة الحج: 22/ 15.

وَحَكَمَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: هُوَ مَوْلَانَا، أَيْ نَاصِرُنَا وَحَافِظُنَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. وَقِيلَ: مَالِكُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلِهَذَا يَتَصَرَّفُ كَيْفَ شَاءَ. فَيَجِبُ الرِّضَا بِمَا يَصْدُرُ مِنْ جِهَتِهِ. وَقَالَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ، فَهُوَ مَوْلَانَا الَّذِي يَتَوَلَّانَا وَنَتَوَلَّاهُ. قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ: أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْعَاقِبَتَيْنِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هِيَ الْحُسْنَى مِنَ الْعَوَاقِبِ: إِمَّا النُّصْرَةُ، وَإِمَّا الشَّهَادَةُ. فَالنُّصْرَةُ مَآلُهَا إِلَى الْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَالشَّهَادَةُ مَآلُهَا إِلَى الْجَنَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْحُسْنَيَيْنِ الْغَنِيمَةُ وَالشَّهَادَةُ. وَقِيلَ: الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ وَالْمَغْفِرَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَالْعَذَابُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ هُنَا الصَّوَاعِقُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَوْتُ. وَقِيلَ: قَارِعَةٌ مِنَ السَّمَاءِ تُهْلِكُهُمْ كَمَا نَزَلَتْ عَلَى عَادٍ وَثَمُودَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوَعُّدًا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، أَوْ بِأَيْدِينَا بِالْقَتْلِ عَلَى الْكُفْرِ. فَتَرَبَّصُوا مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ إِظْهَارَ دِينِهِ وَاسْتِئْصَالَ مَنْ خَالَفَهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَرَبَّصُوا بِنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَوَاقِبِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ مَا هُوَ عَاقِبَتُكُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ نَلْقَى كُلُّنَا مَا نَتَرَبَّصَهُ لَا نَتَجَاوَزُهُ انْتَهَى. وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ الإحدى: بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَوَصَلَ أَلِفَ إِحْدَى وَهَذِهِ لُغَةٌ وَلَيْسَتْ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا بَا الْمُغِيرَةِ رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ وَنَحْوُ قَوْلِ الْآخَرِ: إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسْنِي بُرْقُعًا انْتَهَى. قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ: كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَيَعْنِي: فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ. قِيلَ: وَهُوَ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّوْبِيخُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ أَمْرٌ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ فِي

الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا «1» وَمَعْنَاهُ لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «2» وَقَوْلُهُ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا ملومة. أي لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمُ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أو لا تستغفر لهم، وَلَا نَلُومَكِ أَسَأْتِ إِلَيْنَا أَمْ أَحْسَنْتِ انْتَهَى. وَعَنْ بَعْضِهِمْ غَيْرُ هَذَا بِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ أَيْ: إِنْ تُنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْكُمْ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَبَيَّتَ كَثِيرٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْفِقُوا أَمْرٌ فِي ضِمْنِهِ جَزَاءٌ، وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مَعَهُ جَزَاءٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُنْفِقُوا لَنْ نَتَقَبَّلَ مِنْكُمْ. وَأَمَّا إِذَا عُرِّيَ الْأَمْرُ مِنَ الْجَوَابِ فَلَيْسَ يَصْحَبُهُ تَضَمُّنُ الشَّرْطِ انْتَهَى. وَيَقْدَحُ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَانَ الْجَوَابُ كَجَوَابِ الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ فَلَنْ يُتَقَبَّلَ بِالْفَاءِ، لِأَنَّ لَنْ لَا تَقَعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِلَّا بِالْفَاءِ، فَكَذَلِكَ مَا ضُمِّنَ مَعْنَاهُ. أَلَا تَرَى جَزْمَهُ الْجَوَابَ فِي مِثْلِ اقْصِدْ زَيْدًا يُحْسِنْ إِلَيْكَ، وَانْتَصَبَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا عَلَى الْحَالِ، وَالطَّوْعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكَرْهُ إِلْزَامُ ذَلِكَ. وَسُمِّيَ الْإِلْزَامُ كراها لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَصَارَ الْإِلْزَامُ شَاقًّا عَلَيْهِمْ كَالْإِكْرَاهِ. أَوْ يكون من غير إلزام مِنْ رُؤَسَائِكُمْ، أَوْ إِلْزَامٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِمَا يَرَوْنَ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ وَقَالَ: هَذَا مَالِي أُعِينُكَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ أَوَّلُهُ وَلِمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُ. فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، اسْتَثْنَى مِنْهُمُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَأَهْلَكَ الْبَاقُونَ، وَنَفَى التَّقَبُّلَ إِمَّا كَوْنُ الرَّسُولِ لَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُمْ وَرَدَّهُ، وَإِمَّا كَوْنُ اللَّهِ لَا يُثِيبُ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ انْتِفَاءَ التَّقَبُّلِ بِالْفِسْقِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ التَّمَرُّدُ وَالْعُتُوُّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ يُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَكَّدَ الْجُبَّائِيُّ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ الْمَشْهُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْفِسْقَ يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالطَّاعَةَ تُوجِبُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِهِمَا مُحَالًا، وَقَدْ أَزَالَ اللَّهُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَهُمْ «3» الْآيَةَ وَأَنَّ تَصْرِيحَ هَذَا اللَّفْظِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَبُولِ إِلَّا الْكُفْرُ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْفِسْقِ لَا يُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، فَنَفَى تَعَالَى أَنَّ عَدَمَ القبول

_ (1) سورة مريم: 19/ 75. (2) سورة التوبة: 9/ 80. (3) سورة التوبة: 9/ 54.

لَيْسَ مُعَلَّلًا بِعُمُومِ كَوْنِهِ فِسْقًا، بَلْ بِخُصُوصِ وَصْفِهِ وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِسْقُ كُفْرًا، فَثَبَتَ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْجُبَّائِيِّ بَاطِلٌ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ. ذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي هُوَ بِمُفْرَدِهِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَأَتْبَعَهُ بما هو ناشىء عَنِ الْكُفْرِ وَمُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ هُوَ إِتْيَانُ الصَّلَاةِ وَهُمْ كُسَالَى، وَإِيتَاءُ النَّفَقَةِ وَهُمْ كَارِهُونَ. فَالْكَسَلُ فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكُ النَّشَاطَ إِلَيْهَا وَأَخْذُهَا بِالْإِقْبَالِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْكُفْرِ، فَإِيقَاعُهَا عِنْدَهُمْ لَا يَرْجُونَ بِهِ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ بِالتَّفْرِيطِ فِيهَا عِقَابًا. وَكَذَلِكَ الْإِنْفَاقُ لِلْأَمْوَالِ لَا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ إِلَّا وَهُمْ لَا يَرْجُونَ بِهِ ثَوَابًا. وَذَكَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنَّفَقَةُ، وَاكْتَفَى بِهِمَا وَإِنْ كَانُوا أَفْسَدَ حَالًا فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ، وَهُمَا وَصْفَانِ الْمَطْلُوبُ إِظْهَارُهُمَا فِي الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَعْدَادُ الْقَبَائِحِ يَزِيدُ الْمَوْصُوفَ بِهَا ذَمًّا وَتَقْبِيحًا. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أَنْ يُقْبَلَ بِالْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ، وَنَفَقَاتُهُمْ بِالْجَمِيعِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِخِلَافٍ عَنْهُ: أَنْ تُقْبَلَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقِ نَفَقَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتَهُمْ بِالنُّونِ وَنَصْبِ النَّفَقَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ مَنَعَ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنَّهُمْ أَيْ كُفْرُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظَ الْجَلَالَةِ أَيْ: وَمَا مَنَعَهُمُ اللَّهُ، وَيَكُونُ إِلَّا أَنَّهُمْ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. وَأَنْ تُقْبَلَ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِمَّا لِوُصُولِ مَنَعَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ: لَمَّا قَطَعَ رَجَاءَ الْمُنَافِقِينَ عَنْ جَمِيعِ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَظُنُّونَهَا مِنْ بَابِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَسْبَابًا لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَيْ: وَلَا يُعْجِبُكَ أَيُّهَا السَّامِعُ بِمَعْنًى لَا يُسْتَحْسَنُ وَلَا يُفْتَتَنُ بِمَا أُوتُوا مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَفِي هَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأْنِ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: فلا تعجبك أموالهم ولا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ

الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَيَكُونُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا جُمْلَةَ اعْتِرَاضِ فِيهَا تَشْدِيدٌ لِلْكَلَامِ وَتَقْوِيَةٌ لِانْتِفَاءِ الْإِعْجَابِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَآلُ إِتْيَانِهِ الْمَالَ وَالْوَلَدَ لِلتَّعْذِيبِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَحْسَنَ حَالُهُ وَلَا يُفْتَتَنَ بِهَا، إِلَّا أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِيجَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي يَكُونُ نَاشِئًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَنَفْيُ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ بِخِلَافِ التَّعْذِيبِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَعَ أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ لَخَّصَهُ أَصْحَابُنَا بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَجْهُ فِي التَّعْذِيبِ أَنَّهُ بِمَا أَلْزَمَهُمْ فِيهَا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهَا، عَائِدٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْأَمْوَالِ فَقَطْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: التَّعْذِيبُ هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَرَزَايَاهَا هِيَ لَهُمْ عَذَابٌ، إِذْ لَا يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا انْتَهَى. وَيَتَقَوَّى هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ تَعْذِيبَهُمْ بِإِلْزَامِ الشَّرِيعَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ بِسَائِرِ الرَّزَايَا، وَذَلِكَ لِاقْتِرَانِ الذِّلَّةِ وَالْغَلَبَةِ وَأَمْرِ الشَّرِيعَةِ لَهُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ جَمَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا كُلَّهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ لِلْعَذَابِ بِأَنْ عَرَّضَهُمْ لِلْمَغْنَمِ وَالسَّبْيِ، وَبَلَاهُمْ فِيهِ بِالْآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ، وَكَلَّفَهُمُ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَهُمْ كَارِهُونَ لَهُ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ، وَأَذَاقَهُمْ أَنْوَاعَ الْكُلَفِ وَالْمَجَاشِمِ فِي جَمْعِهِ وَاكْتِسَابِهِ وَفِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ. وَقِيلَ: أَمْوَالُهُمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، مِثْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ آبَاءَهُمُ الْمُنَافِقِينَ حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقِيلَ: يَتَمَكَّنُ حُبُّ الْمَالِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّعَبُ فِي جَمْعِهِ، وَالْوَصْلُ فِي حِفْظِهِ، وَالْحَسْرَةُ عَلَى تَخْلِفَتِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ، ثُمَّ يَقْدُمُ عَلَى مَلِكٍ لَا يَعْذُرُهُ. وَقَدَّمَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَوْلَادِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْلَقَ بِقُلُوبِهِمْ، وَنُفُوسُهُمْ أَمْيَلُ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ ذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ صَحَّ تَعْلِيقُ الْعَذَابِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا بَالُ زُهُوقِ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ كَافِرُونَ؟ (قُلْتُ) : الْمُرَادُ الِاسْتِدْرَاجُ بِالنِّعَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «2» كَأَنَّهُ قِيلَ: وَيُرِيدُ أَنْ يُدِيمَ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ مُلْتَهُونَ بِالتَّمَتُّعِ عَنِ النَّظَرِ لِلْعَاقِبَةِ انْتَهَى. وَهُوَ بَسْطُ كَلَامِ ابْنِ عِيسَى وَهُوَ الرُّمَّانِيُّ، وَهُمَا كِلَاهُمَا مُعْتَزِلِيَّانِ. قَالَ ابْنُ عِيسَى: الْمَعْنَى أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُمْلِيَ لَهُمْ وَيَسْتَدْرِجَهُمْ لِيُعَذِّبَهُمُ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ عَطَفَ وَتَزْهَقَ عَلَى ليعذب أن المعنى

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 31. (2) سورة آل عمران: 7/ 178.

لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ بِعِلَّتِهِ وَهُوَ زُهُوقُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ كَافِرًا عُذِّبَ فِي الْآخِرَةِ لَا مَحَالَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ زُهُوقَ النَّفْسِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ مِنْ شِدَّةِ التَّعْذِيبِ الَّذِي يَنَالُهُمْ. وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ: أَيْ لَمِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ. وَمَعْنَى يَفْرَقُونَ: يَخَافُونَ الْقَتْلَ. وَمَا يُفْعَلُ بِالْمُشْرِكِينَ فَيَتَظَاهَرُونَ بِالْإِسْلَامِ تَقِيَّةً، وَهُمْ يُبْطِنُونَ النِّفَاقَ، أَوْ يَخَافُونَ إِطْلَاعَ اللَّهِ المؤمنين على باطنهم فَيَحِلُّ بِهِمْ مَا يَحِلُّ بِالْكُفَّارِ. وَلَمَّا حَقَّرَ تَعَالَى شَأْنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَصَالِحِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خُبْثِ السَّرِيرَةِ فَقَالَ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ فِي سَتْرِ أَشْخَاصِ الْعُصَاةِ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ: لَمَّا ذَكَرَ فَرْقَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مَعَهُمْ مِمَّا يُوجِبُهُ الْفَرْقُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَوْ أَمْكَنَهُمُ الْهُرُوبُ مِنْهُمْ لَهَرَبُوا، وَلَكِنْ صُحْبَتُهُمْ لَهُمْ صُحْبَةُ اضْطِرَارٍ لَا اخْتِيَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلْجَأُ الْحِرْزُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحِصْنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَهْرَبُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْمَكَانُ الَّذِي يَتَحَصَّنُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْقَوْمُ يَأْمَنُونَ مِنْهُمْ. وَالْمَغَارَاتُ جَمْعُ مَغَارَةٍ وَهِيَ الْغَارُ، وَيُجْمَعُ عَلَى غِيرَانٍ بُنِيَ مِنْ غَارَ يَغُورُ إِذَا دَخَلَ مَفْعَلَةٌ لِلْمَكَانِ كَقَوْلِهِمْ: مَزْرَعَةٌ. وَقِيلَ: الْمَغَارَةُ السِّرْبُ تَحْتَ الْأَرْضِ كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ. وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مُغَارَاتٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، فَيَكُونُ مِنْ أَغَارَ. قِيلَ: وَتَقُولُ الْعَرَبُ: غَارَ الرَّجُلُ وَأَغَارَ بِمَعْنَى دَخَلَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَغَارَاتٍ مِنْ أَغَارَ اللَّازِمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَغَارَ الْمَنْقُولِ بِالْهَمْزَةِ مِنْ غَارَ، أَيْ أَمَاكِنَ فِي الْجِبَالِ يُغِيرُونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَلٌ مَغَارٌ أَيْ مَفْتُولٌ. ثُمَّ يُسْتَعَارُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْمُحْكَمِ الْمُبْرَمِ، فَيَجِيءُ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا لَوْ يَجِدُونَ نُصْرَةً أَوْ أُمُورًا مُرْتَبِطَةً مُشَدَّدَةً تَعْصِمُهُمْ مِنْكُمْ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَغَارَ الثَّعْلَبُ إِذَا أَسْرَعَ، بِمَعْنَى مَهَارِبٍ وَمَغَارٍ انْتَهَى. وَالْمُدَّخَلُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْقِلُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السِّرْبُ يَسِيرُونَ فِيهِ عَلَى خَفَاءٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَفَقًا كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَجْهًا يَدْخُلُونَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: قَبِيلَةٌ يَدْخُلُونَ فِيهَا تَحْمِيهِمْ مِنَ

الرَّسُولِ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مُدَّخَلًا وَأَصْلُهُ مُدْتَخَلٌ، مُفْتَعَلٌ مِنِ ادَّخَلَ، وَهُوَ بِنَاءُ تَأْكِيدٍ وَمُبَالَغَةٍ، وَمَعْنَاهُ السِّرْبُ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. بدىء أَوَّلًا بِالْأَعَمِّ وَهُوَ الْمَلْجَأُ، إِذْ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَغَارَاتِ وَهِيَ الْغِيرَانُ فِي الْجِبَالِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْمُدَّخَلِ وَهُوَ النَّفَقُ بَاطِنُ الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُدَّخَلُ قَوْمٌ يُدْخِلُونَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مَدْخَلًا بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ دَخَلَ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنِ الْحَسَنِ: مُدْخَلًا بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَدْخَلَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَالْأَعْمَشُ: مُدَّخَّلًا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْخَاءِ مَعًا أَصْلُهُ مُتَدَخِّلٌ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الدَّالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ مُنْدَخَلًا بِالنُّونِ مَنِ الدخل. قَالَ: وَلَا يَدِي فِي حميت السمن تَنْدَخِلُ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قِرَاءَةُ أُبِيٍّ مُتْدَخَلًا بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: لَوَالَوْا إِلَيْهِ أَيْ لَتَابَعُوا إِلَيْهِ وَسَارَعُوا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّهُ قَرَأَ لَوَالَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَأَنْكَرَهَا سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَقَالَ: أَظُنُّهَا لو ألوا بمعنى للجأوا. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا مِمَّا جَاءَ فِيهِ فَاعَلَ وَفَعُلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ ضَاعَفَ وَضَعُفَ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مُتْدَخَلًا لَوَالَوْا إليه لا لتجأوا إِلَيْهِ انْتَهَى. وَعَنْ أُبَيٍّ لَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَطْفُ بَأَوْ عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا عَلَى قَاعِدَةِ النَّحْوِ فِي أَوْ، فَاحْتَمَلَ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَلْجَأِ، أَوْ عَلَى الْمُدَّخَلِ، فَلَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنْ يَعُودَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْمَغَارَاتِ لِتَذْكِيرِهِ، وَأَمَّا بِالتَّأْوِيلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهَا. وَهُمْ يَجْمَحُونَ يُسْرِعُونَ إِسْرَاعًا لَا يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْأَعْمَشُ: وَهُمْ يَجْمَزُونَ. قِيلَ: يَجْمَحُونَ، وَيَجْمَزُونَ، وَيَشْتَدُّونَ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَجْمَزُونَ يُهَرْوِلُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ: اللَّامِزُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ رَأْسِ الْخَوَارِجِ، كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ الْجَوَّاظِ الْمُنَافِقُ قَالَ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى صَاحِبِكُمْ إِنَّمَا يُقَسِّمُ صَدَقَاتِكُمْ فِي رُعَاةِ الْغَنَمِ. وَقِيلَ:

ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُعْطِي مُحَمَّدٌ قُرَيْشًا. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى الرَّسُولَ بِصَدَقَةٍ يُقَسِّمُهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ؟ وَهَذِهِ نَزْغَةُ مُنَافِقٍ. وَالْمَعْنَى: مَنْ يَعِيبُكَ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ. وَضَمِيرُ وَمِنْهُمْ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْكَافُ لِلرَّسُولِ. وَهَذَا الترديدين الشَّرْطَيْنِ يَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ طِبَاعِهِمْ وَنَجَاسَةِ أَخْلَاقِهِمْ، وَأَنَّ لَمْزَهُمُ الرَّسُولَ إِنَّمَا هُوَ لِشَرَهِهِمْ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَمَحَبَّةِ الْمَالِ، وَأَنَّ رِضَاهُمْ وَسُخْطَهُمْ إِنَّمَا مُتَعَلَّقُهُ الْعَطَاءُ. وَالظَّاهِرُ حُصُولُ مُطْلَقِ الْإِعْطَاءِ أَوْ نَفْيِهِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا كَثِيرًا يَرْضَوْا، وَإِنْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا كَثِيرًا بَلْ قَلِيلًا، وَمَا أَحْسَنَ مَجِيءَ جَوَابِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ! لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَارِنَهُ وَلَا أَنْ يَعْتَقِبَهُ، بَلْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ نَحْوُ: إِنْ أَسْلَمْتَ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ، فَإِنَّمَا يَقْتَضِي مُطْلَقُ التَّرَتُّبِ. وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ الثَّانِي فَجَاءَ بِإِذَا الْفُجَائِيَّةِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْطَوْا فَاجَأَ سُخْطُهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَأَخُّرُهُ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَالشَّرَهِ فِي تَحْصِيلِهَا. وَمَفْعُولُ رَضُوا مَحْذُوفٌ أَيْ: رَضُوا مَا أُعْطُوهُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى رَضُوا عَنِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، وَلِأَنَّ رِضَاهُمْ وَسُخْطَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الدِّينِ، بَلْ لِلدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَلْمِزُكَ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَغَيْرُهُمْ: بِضَمِّهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْمَكِّيِّينَ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَلْمَزُكَ. وَرَوَى أَيْضًا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: يُلَامِزُكَ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ من واحد. وقيل: وفرق الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَسْمَ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْغَنَائِمِ اسْتِعْطَافًا لِقُلُوبِهِمْ، فَضَجَّ الْمُنَافِقُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ: هَذَا وَصْفٌ لِحَالِ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي دِينِهِمْ، أَيْ رَضُوا قِسْمَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقالوا: كفانا فضل الله، وَعَلَّقُوا آمَالَهُمْ بِمَا سَيُؤْتِيهِ اللَّهُ إِيَّاهُمْ، وَكَانَتْ رَغْبَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ دَلِيلًا عَلَى انْتِقَالِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ إِلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَضَمَّنَ الرِّضَا بِقَسْمِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارَ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ. وَقِيلَ: جَوَابُ لَوْ هُوَ قَوْلُهُ: وَقَالُوا عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا أَصَابَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَطَابَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُهُمْ، وَقَالُوا: كَفَانَا فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَصُنْعُهُ، وَحَسْبُنَا مَا قَسَمَ لَنَا سَيَرْزُقُنَا غَنِيمَةً أُخْرَى، فَسَيُؤْتِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا آتَانَا الْيَوْمَ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُغَنِّمَنَا وَيُخَوِّلَنَا فَضْلَهُ رَاغِبُونَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَاغِبُونَ فِيمَا يَمْنَحُنَا مِنَ الثَّوَابِ وَيَصْرِفُ عَنَّا مِنَ الْعِقَابِ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: رَاغِبُونَ فِي أَنْ

يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِهِ، فَيُغْنِينَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَقِيلَ: مَا آتَاهُمُ اللَّهُ بِالتَّقْدِيرِ، وَرَسُولُهُ بِالْقَسْمِ انْتَهَى. وَأَتَى أَوَّلًا بِمَقَامِ الرِّضَا وَهُوَ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ يَصْدُرُ عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَتَبِ وَالْخَطَأِ عَلِيمٌ بِالْعَوَاقِبِ، فَكُلُّ قَضَائِهِ صَوَابٌ وَحَقٌّ، لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِإِظْهَارِ آثَارِ الْوَصْفِ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، فَحَسْبُنَا مَا رَضِيَ بِهِ. ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا دَامُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَادٌّ لَهُمْ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَهُوَ إِخْبَارٌ حَسَنٌ إِذْ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَنِعَمُ اللَّهِ مُتَرَادِفَةٌ عَلَيْهِ حَالًا وَمَآلًا، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ أَتَى رَابِعًا بِالْجُمْلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالرَّغْبَةَ إِلَيْهِ، فَلَا يُطْلَبُ بِالْإِيمَانِ أَخْذُ الْأَمْوَالِ وَالرِّئَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ مُتَغَايِرَتَيْنِ وَهُمَا مَا تَضَمَّنَ الرِّضَا بِالْقَلْبِ، وَمَا تَضَمَّنَ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ، تَعَاطَفَتَا. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ مِنْ آثَارِ قَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ لَمْ تَتَعَاطَفَا، إِذْ هُمَا كَالشَّرْحِ لِقَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ، فَلَا تَغَايُرَ بَيْنَهُمَا. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يَعِيبُ الرَّسُولَ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ بِأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ، أَوْ يَخُصُّ أَقَارِبَهُ، أَوْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ مَا بَقِيَ. وَكَانُوا يَسْأَلُونَ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَ، بَيَّنَ تَعَالَى مصرف الصدقات، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَسَمَ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَفْظَةُ إِنَّمَا إِنْ كَانَتْ وُضِعَتْ للحصر فالحصر مستفاد من لَفْظِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُوضَعْ لِلْحَصْرِ فَالْحَصْرُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَوْصَافِ، إِذْ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَطْفَ مُشْعِرٌ بالتغاير، فتكون الفقراء عين الْمَسَاكِينِ. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دَائِمًا، إِذْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي نَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَالْخِلَافُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ. فَأَمَّا أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ، وَيَجُوزَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى جَمِيعِهَا. فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَمُعَاذٌ، وَحُذَيْفَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ النَّخَعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، قَالُوا: فِي أَيِّ صِنْفٍ مِنْهَا وَضَعْتَهَا أَجْزَأَتْكَ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ مُتَعَفِّفِينَ فَخَيَّرْتَهُمْ بِهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ غَيْرُهُ: وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ

الْأَصْنَافِ مِنْهُمْ: زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، بَلْ يُصْرَفُ إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. وَقَدْ كَتَبَ الزُّهْرِيُّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يُفَرِّقُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ: إِلَّا الْمُؤَلِّفَةَ، فَإِنَّهُمُ انْقَطَعُوا. وَأَمَّا أَنَّ الْفُقَرَاءَ غَيْرُ الْمَسَاكِينِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، وَإِنِ افْتَرَقَا فِي الِاسْمِ، وَهُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ سُمِّيَ بِاسْمَيْنِ لِيُعْطَى سَهْمَيْنِ نَظَرًا لَهُمْ وَرَحْمَةً. قَالَ فِي التَّحْرِيرِ: وَهَذَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمَا صِنْفَانِ يَجْمَعُهُمَا الْإِقْلَالُ وَالْفَاقَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ الْفَرْقُ. فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْفَقِيرُ: أَبْلَغُ فَاقَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ السِّكِّيتِ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمِسْكِينُ أَبْلَغَ فَاقَةً، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ. وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ بُلْغَةٌ مِنَ الشَّيْءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفُقَرَاءُ هُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْمَسَاكِينُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ نَحْوَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسَاكِينُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. لَا نَقُولُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَسَاكِينُ. وَرُوِيَ عَنْهُ بِالْعَكْسِ حَكَاهُ مَكِّيٌّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا حِرْفَةَ، سَائِلًا كَانَ أَوْ مُتَعَفِّفًا. وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَهُ حِرْفَةٌ أَوْ مَالٌ وَلَكِنْ لَا يُغْنِيهِ ذَلِكَ سَائِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَائِلٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ الزَّمِنُ الْمُحْتَاجُ، وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ الْمُحْتَاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَكَمُ، وَمُقَاتِلٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: الْمَسَاكِينُ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ وَيَسْأَلُونَ، وَالْفُقَرَاءُ هُمُ الَّذِينَ يَتَعَاوَنُونَ. وَأَمَّا بَقَاءُ الْحُكْمِ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّهُ انْقَطَعَ صِنْفُ الْمُؤَلَّفَةِ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ: أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى سُقُوطِ سَهْمِهِمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَقَطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أُعْطُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مَوْجُودُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الثُّغُورَ وَجَدْتَ فِيهَا الْحَاجَةَ إِلَى الِائْتِلَافِ انْتَهَى. وَقَالَ يُونُسُ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْهُمْ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ نَسْخًا فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: فعل هَذَا الْحُكْمُ فِيهِمْ ثَابِتٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يُحْتَاجُ إِلَى تَأَلُّفِهِ وَيُخَافُ أَنْ تَلْحَقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ آفَةٌ أَوْ يُرْجَى حُسْنُ إِسْلَامِهِ بَعْدَ دَفْعٍ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا، وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمَهُمْ، كَمَا كَانَ

رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ. فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ» وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَامِلُ وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مَفْقُودَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، بَقِيَتِ الْأَصْنَافُ السِّتَّةُ، فَالْأَوْلَى صَرْفُهَا إِلَى السِّتَّةِ. وَأَمَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِنْ دَفَعَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ إِلَى فَقِيرَيْنِ ضَمِنَ نَصِيبَ الثَّالِثِ وَهُوَ ثُلْثُ سَهْمٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ زَكَاتِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَاحِدًا، وَاللَّامُ فِي لِلْفُقَرَاءِ. قِيلَ: لِلْمِلْكِ. وَقِيلَ: لِلِاخْتِصَاصِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَقَارِبُ وَالْأَجَانِبُ وَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فَأَمَّا ذَوُو قُرْبَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ مِنْهُمْ: آلُ الْعَبَّاسِ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ الْحَرْثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ أَنَّ فُقَرَاءَ بَنِي هَاشِمٍ يَدْخُلُونَ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَدْخُلُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ آلِ الْعَبَّاسِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ، وَيَخُصُّ التَّحْرِيمُ الْفَرْضَ لَا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ، وَيَحِلُّ التَّطَوُّعُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا تَحِلُّ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْرُمُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُعْطَى بَنُو هَاشِمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَا مِنَ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: لَا يُعْطَى آلُ مُحَمَّدٍ مِنَ التَّطَوُّعِ. وَأَمَّا أَقَارِبُ الْمُزَكِّي فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى مِنْهَا وَالِدٌ وَإِنْ عَلَا، وَلَا ابْنٌ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا زَوْجَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ: لَا يُعْطِي مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا يُعْطِي قَرَابَتَهُ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ، وَإِنَّمَا يُعْطِي مَنْ لَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَتَخَطَّى بِزَكَاةِ مَالِهِ فُقَرَاءَ أَقَارِبِهِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ عِيَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى مَوَالِيهِ مِنْ غَيْرِ زَكَاةِ مَالِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى الْفَرْضُ مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا لَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا أَعْطَى الذِّمِّيَّ، فَكَأَنَّهُ يَعْنِي الذِّمِّيَّ الَّذِي هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُعْطِي الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ: تُعْطِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي

الْمِقْدَارِ الَّذِي إِذَا مَلَكَهُ الْإِنْسَانُ دَخَلَ بِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ. فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ ذَلِكَ حَلَّتْ لَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: حَتَّى يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الذَّهَبِ. وَقَالَ قَوْمٌ: حَتَّى تَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الذَّهَبِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَالشَّعْبِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: حَتَّى تَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِدْلَهَا مِنْ عرض أو غره فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَأَثَاثٍ وَفَرْشٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. فَلَوْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَوْ ذِمِّيٌّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَقْتَ الدَّفْعِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُجْزِئُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْزِئُهُ. وَالْعَامِلُ هُوَ الَّذِي يَسْتَنِيبُهُ الْإِمَامُ في السعي في جمع الصَّدَقَاتِ، وَكُلُّ مَنْ يَصْرِفُ مِمَّنْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِيهَا فَهُوَ مِنَ الْعَامِلِينَ، وَيُسَمَّى جَابِيَ الصَّدَقَةَ وَالسَّاعِيَ قَالَ: إِنَّ السُّعَاةَ عَصَوْكَ حِينَ بَعَثْتَهُمْ ... لَمْ يَفْعَلُوا مِمَّا أَمَرْتَ فَتِيلًا وَقَالَ: سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَيِّدًا ... فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ أَرَادَ بِالْعِقَالِ هُنَا زَكَاةَ السَّنَةِ، وَتَعَدَّى بِعَلَى وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا، لِأَنَّ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ. الْمُشْعِرِ بِالْوِلَايَةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ قَدْرَ سَعْيِهِ، وَمُؤْنَتَهُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَوْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: يَتِمُّ لَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْصِبَاءِ. وَقِيلَ: مِنْ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ الثَّمَنُ عَلَى قَسْمِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَدَاوُدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْهُ: يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْإِمَامِ، هَلْ لَهُ حق في الصدقات؟ فهمنهم مَنْ قَالَ: هُوَ الْعَامِلَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ وَمَنِ اسْتَنَابَهُ، فَلَوْ فَرَّقَهَا الْمُزَكِّي بِنَفْسِهِ دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ أَخَذَهَا مِنْهُ ثَانِيًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَيَأْخُذَ عَمَالَتَهُ مِنْهَا، فَإِنْ تَبَرَّعَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَأْسَ لَهُمْ بِالْعَمَالَةِ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقِيلَ: إِنْ عَمِلَ أُعْطِيهَا مِنَ الْخُمُسِ. وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَشْرَافُ الْعَرَبِ مُسْلِمُونَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، أَعْطَاهُمْ

لِيَتَمَكَّنَ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، أَوْ كُفَّارٌ لَهُمْ أَتْبَاعٌ أَعْطَاهُمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْمُؤَلِّفَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَمِنَ الْمُؤَلِّفَةِ: أَبُو سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَرْثُ بْنُ هِشَامٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَالْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ، فَهَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَعِيرٍ مِائَةَ بَعِيرٍ. وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهَبٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بن عمرو لعايدي، أَعْطَاهُمْ دُونَ الْمِائَةِ. وَمِنَ الْمُؤَلَّفَةِ: سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْحَرْثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ. وَحَسُنَ إِسْلَامُ الْمُؤَلَّفَةِ حَاشَا عُيَيْنَةَ فَلَمْ يَزَلْ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَفِي الرِّقَابِ فَالتَّقْدِيرُ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ فَيُعْطِي مَا حَصَلَ بِهِ فَكُّ الرِّقَابِ مِنِ ابْتِدَاءِ عِتْقٍ يَشْتَرِي مِنْهُ الْعَبْدَ فَيُعْتَقُ، أَوْ تَخْلِيصِ مُكَاتَبٍ أَوْ أَسِيرٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سيرين: لا يجزيء أَنْ يُعْتِقَ مِنَ الزَّكَاةِ رَقَبَةً كَامِلَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ: أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُعْتِقُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَوَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِلْمُعَتَقِ. وَعَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: لَا يُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا، وَلَا عَبْدٌ كَانَ مَوْلَاهُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمَالِكٍ: هُوَ ابْتِدَاءُ الْعِتْقِ وَعَوْنِ الْمُكَاتَبِ بِمَا يَأْتِي عَلَى حُرِّيَّتِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّ فَكَّ رِقَابِ الْأُسَارَى يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الرِّقَابِ، فَيُصْرَفُ فِي فِكَاكِهَا مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَهْمُ الرِّقَابِ نِصْفَانِ: نِصْفٌ لِلْمُكَاتَبِينَ، وَنِصْفٌ يُعْتَقُ مِنْهُ رِقَابٌ مُسْلِمُونَ مِمَّنْ صَلَّى. وَالْغَارِمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَلَا إِسْرَافٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ إِذْ هُوَ غَارِمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُقْضَى مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يُقْضَى مِنْهَا كَفَّارَةٌ وَنَحْوُهَا مِنْ صُنُوفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْغَارِمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحْبَسُ فِيهِ. وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِي الْغَارِمِينَ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَاتٍ فِي إِصْلَاحٍ وَبِرٍّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ يُجْحِفُ بِمَالِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ.

وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الْمُجَاهِدُ يُعْطَى مِنْهَا إِذَا كَانَ فَقِيرًا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مَا يُنْفِقُ فِي غَزْوَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ، وَجَمَاعَةٌ: لَا يُعْطَى الْغَنِيُّ إِلَّا إِنِ احْتَاجَ فِي غَزْوَتِهِ، وَغَابَ عَنْهُ وَفْرُهُ. وقال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحَبَاهُ: لَا يُعْطَى إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَوْ مُنْقَطِعًا بِهِ، وَإِذَا أُعْطِيَ مَلَكَ، وَإِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي غَزْوَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُجْعَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنِ الْحَوْزَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْهَا إِلَى الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ، وَالْحَجِيجِ الْمُنْقَطَعِ بِهِمُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ تَعْدَادُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ، وَاشْتِرَاطُ الْفَقْرِ فِي بَعْضِهَا يَقْضِي بِالتَّدَاخُلِ. فَإِنْ كَانَ الْغَازِي أَوِ الْحَاجُّ شَرْطُ إِعْطَائِهِ الْفَقْرَ، فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهِ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ الْفُقَرَاءِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ بِوَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ جَازَ الصَّرْفُ إِلَيْهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى، لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ الْوَصْفُ الَّذِي اقْتَضَى الصَّرْفَ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُعْطَى مِنْهَا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، وَلَا قَنْطَرَةٍ، وَلَا شِرَاءِ مُصْحَفٍ انْتَهَى. وَابْنُ السَّبِيلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَابِرُ السَّبِيلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي آخَرِينَ: هُوَ الضَّيْفُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي بَلَدِهِ. وَقَالَتْ جماعة: هو إلحاح الْمُنْقَطِعُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الَّذِي قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ. وَفِي كِتَابِ سَحْنُونَ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وُجِدَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ مَنْ يُسْلِفُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالظَّاهِرُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَا يُغْنِيهِ فِي طَرِيقِهِ لِأَنَّهُ ابْنُ سَبِيلٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ لَا يُعْطَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ عَدَلَ عَنِ اللَّامِ إِلَى فِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ؟ (قُلْتُ) : لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لِأَنَّ فِي لِلْوِعَاءِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوضَعَ فِيهِمُ الصَّدَقَاتُ وَيُجْعَلُوا مَظِنَّةً لَهَا وَمَصَبًّا، وَذَلِكَ لِمَا فِي فَكِّ الرِّقَابِ من الكتابة أو الرق أَوِ الْأَسْرِ، وَفِي فَكِّ الْغَارِمِينَ مِنَ الْغُرْمِ مِنَ التَّخْلِيصِ وَالْإِنْقَاذِ، وَلِجَمْعِ الْغَازِي الْفَقِيرِ أَوِ الْمُنْقَطِعِ فِي الْحَجِّ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ جَامِعٌ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَتَكْرِيرُ فِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي سبيل الله وابن السبيل، فِيهِ فَضْلُ تَرْجِيحٍ لِهَذَيْنِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَكَيْفَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَضَاعِيفِ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَمَكَائِدِهِمْ؟ (قُلْتُ) : دَلَّ بِكَوْنِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ

[سورة التوبة (9) : الآيات 61 إلى 72]

مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا منهم حسما لا طعامهم وَإِشْعَارًا بِاسْتِيجَابِهِمُ الْحِرْمَانَ، وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهَا وَعَنْ مَصَارِفِهَا، فَمَا لَهُمْ وَلَهَا، وَمَا سَلَّطَهُمْ عَلَى الْكَلَامِ لَهَا وَلِمَنْ قَاسَمَهَا. وَانْتَصَبَ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، مَعْنَاهُ فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ الصَّدَقَاتُ لهم. وقرىء فَرِيضَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تِلْكَ فَرِيضَةٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: فَرِيضَةً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الفقر، أَيْ مَفْرُوضَةً. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَمَا تَقُولُ هِيَ لَكَ طَلَقًا انْتَهَى. وَذُكِرَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّدَقَاتِ فَرِيضَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْقَطْعِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ هُوَ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِخَلْقِهِ وَحِكْمَةٍ مِنْهُ فِي الْقِسْمَةِ، أَوْ عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ، حَكِيمٌ لَا يَشْرَعُ إِلَّا مَا هُوَ الأصلح. [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

الِاعْتِذَارُ التَّنَصُّلُ مِنَ الذَّنْبِ، فَقِيلَ: أَصْلُهُ الْمَحْوُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: اعْتَذَرَتِ الْمَنَازِلُ وَدَرَسَتْ، فَالْمُعْتَذِرُ يُحَاوِلُ إِزَالَةَ ذَنْبِهِ. قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ: قَدْ كُنْتَ تَعْرِفُ آيَاتٍ فَقَدْ جَعَلَتْ ... إِطْلَالَ إِلْفِكَ بِالْوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الِاعْتِذَارَ هُوَ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ عُذْرَةُ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهَا تُعْذَرُ أَيْ تُقْطَعُ، وَاعْتَذَرَتِ الْمِيَاهُ انْقَطَعَتْ، وَالْعُذْرُ سَبَبٌ لِقَطْعِ الذَّمِّ. عَدَنَ بِالْمَكَانِ يَعْدِنُ عُدُونًا أَقَامَ، قَالَهُ: أَبُو زَيْدٍ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الْأَعْشَى: وَإِنْ يَسْتَضِيفُوا إِلَى حِلْمِهِ ... يُضَافُوا إِلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنَ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: تُرِكَتِ إِبِلُ فُلَانٍ عَوَادِنَ بِمَكَانِ كَذَا، وَهُوَ أَنْ تَلْزَمَ الْإِبِلُ الْمَكَانَ فَتَأْلَفَهُ وَلَا تَبْرَحَهُ. وَسُمِّيَ الْمَعْدِنُ مَعْدِنًا لِإِنْبَاتِ اللَّهِ الْجَوْهَرَ فِيهِ وَإِثْبَاتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى عَدَنَ فِيهَا أَيْ ثَبَتَ. وَعَدَنٌ مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَدَائِنِ الْيَمَنِ قُطَّانًا وَدُورًا. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: كَانَ

قُدَّامُ بْنُ خَالِدٍ وَعُبَيْدُ بْنُ هِلَالٍ وَالْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي آخَرِينَ يُؤْذُونَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَهُ فَيُوقِعَ بِنَا. فَقَالَ الْجُلَاسُ: بَلْ نَقُولُ بِمَا شِئْنَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أُذُنٌ سَامِعَةٌ، ثُمَّ نَأْتِيهِ فَيُصَدِّقُنَا فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَبْتَلَ بن الحرث كَانَ يَنُمُّ حَدِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ وَزَمْعَةَ بْنِ ثَابِتٍ فِي آخَرِينَ أَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي الرَّسُولِ وَعِنْدَهُمْ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فَحَقَرُوهُ، فَقَالُوا: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَغَضِبَ الْغُلَامُ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَأَنْتُمْ لَشَرُّ مِنَ الْحَمِيرِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَدَعَاهُمْ، فَسَأَلَهُمْ، فَحَلَفُوا إِنَّ عَامِرًا كَاذِبٌ، وَحَلَفَ عَامِرٌ إِنَّهُمْ كَذَبَةٌ وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَنَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُ الصَّادِقِ وَكَذِبُ الْكَاذِبِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: أُذُنٌ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ مَقَالَ كُلِّ أَحَدٍ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأُذُنُ الرَّجُلُ الَّذِي يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يَسْمَعُ، وَيَقْبَلُ قَوْلَ كُلِّ أَحَدٍ، سُمِّيَ بِالْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ آلَةُ السَّمَاعِ، كَأَنَّ جُمْلَتَهُ أُذُنٌ سَامِعَةٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ لِلرِّئْيَةِ: عَيْنٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ صِرْتُ أُذُنًا لِلْوُشَاةِ سَمِيعَةً ... يَنَالُونَ مِنْ عِرْضِي وَلَوْ شِئْتُ مَا نَالُوا وَهَذَا مِنْهُمْ تَنْقِيصٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، إِذْ وَصَفُوهُ بِقِلَّةِ الْحَزَامَةِ وَالِانْخِدَاعِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ذُو أُذُنٍ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أُذُنٌ حَدِيدُ السَّمْعِ، رُبَّمَا سَمِعَ مَقَالَتَنَا. وَقِيلَ: أُذُنٌ وَصْفٌ بُنِيَ عَلَى فَعَلَ مِنْ أَذَنَ يَأْذَنُ أُذُنًا إِذَا اسْتَمَعَ، نَحْوَ أَنَفَ وَشَلَلَ وَارْتَفَعَ. أُذُنٌ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: قُلْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ نَظِيرُهَا قَوْلُهُمْ: رَجُلُ صِدْقٍ، تُرِيدُ الْجَوْدَةَ وَالصَّلَاحَ. كَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ هُوَ أُذُنٌ، وَلَكِنْ نِعْمَ الْأُذُنُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هُوَ أُذُنٌ فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ وَمَا يَجِبُ سَمَاعُهُ وَقَبُولُهُ، وَلَيْسَ بِأُذُنٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عليه خير ورحمة فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَرَّهَا عَطْفًا عَلَى خَيْرٍ أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُمَا وَلَا يَقْبَلُهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ قُلْ: أُذُنٌ بِالتَّنْوِينِ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ. وَجَوَّزُوا فِي أُذُنٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وخير خَبَرٌ ثَانٍ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ أَيْ: هُوَ أُذُنٌ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ وَلَا يُكَافِئُكُمْ عَلَى سُوءِ خَلَّتِكُمْ. وَأَنْ يَكُونَ خير صفة لأذن أَيْ: أُذُنٌ ذُو خَيْرٍ لَكُمْ. أَوْ عَلَى أَنَّ خَيْرًا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ: أَكْثَرُ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ أُذُنٌ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ خبر. وَجَازَ أَنْ يُخْبَرَ بِالنَّكِرَةِ عَنِ النَّكِرَةِ مَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ فِيهِ قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ وَصْفٍ أَيْ:

أُذُنٌ لَا يُؤَاخِذُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، ثُمَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَانَ خَائِفًا مِنْهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ بِالْبَاطِلِ. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: يَسْمَعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُسَلِّمُ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ وَيُصَدِّقُهُمْ لِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ، فَهُمْ صادقون. وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ الرَّسُولِ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِمْ، وَخُصُّوا هُنَا بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْعَالَمِينَ لِحُصُولِ مَزِيَّتِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ مُبَيِّنَةٌ جِهَةَ الخيرية، ومظهرة كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُذُنَ خَيْرٍ. وَتَعَدِّيَةُ يُؤْمِنُ أَوَّلًا بِالْبَاءِ، وَثَانِيًا بِاللَّامِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُمَا زَائِدَانِ، وَالْمَعْنَى: يُصَدِّقُ اللَّهَ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَصَدَ التَّصْدِيقَ بِاللَّهِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْكُفْرِ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَقَصَدَ الِاسْتِمَاعَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ فَعُدِّيَ بِاللَّامِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «1» مَا أنباه عَنِ الْبَاءِ وَنَحْوُهُ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ «2» أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «3» آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ «4» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يُصَدِّقُ بِاللَّهِ، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ كَمَا هِيَ فِي رَدِفَ لَكُمْ «5» وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِيمَانُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: وَتَصْدِيقُهُ. وَقِيلَ: يُقَالُ آمَنْتُ لَكَ بِمَعْنَى صَدَّقْتُكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «6» وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الَّتِي مَعَهَا اللَّامُ فِي ضِمْنِهَا بَاءٌ فَالْمَعْنَى: وَيُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا بِمَا نَقُولُهُ لَكَ انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، والأعمش، وَحَمْزَةُ: وَرَحْمَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا على خبر، فَالْجُمْلَةُ مِنْ يُؤْمِنُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يُؤْمِنُ، ويؤمن صفة لأذن خَيْرٍ. وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُ التَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةً يَأْذَنُ لَكُمْ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ عَلَيْهِ. وَأَبْرَزَ اسْمَ الرَّسُولِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ ضَمِيرًا عَلَى نَسَقِ يُؤْمِنُ بِلَفْظِ الرَّسُولِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَجَمْعًا لَهُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي تَشْرِيفِهِ، وَحَتَمَ عَلَى مَنْ أَذَاهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَحُقَّ لَهُمْ ذَلِكَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَذَوْا هَذَا الْإِيذَاءَ الخاص وغيرهم.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 17. (2) سورة يونس: 10/ 83. (3) سورة الشعراء: 26/ 111. (4) سورة الأعراف: 7/ 123. (5) سورة النمل: 27/ 72. (6) سورة يوسف: 12/ 17.

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَحْلِفُونَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يقولون: هو أذن أنكره وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا قَالُوهُ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ اعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا وَاعْتَلُّوا، قَالَهُ: ابْنُ السَّائِبِ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ حَلَفَ مِنْهُمْ ثَمَانُونَ، فَقَبِلَ الرَّسُولُ أَعْذَارَهُمْ وَاعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِالْحَقِّ ثَلَاثَةٌ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى كَذِبِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَهَلَكُوا جَمِيعًا بِآفَاتٍ، وَنَجَا الَّذِينَ صَدَقُوا. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ حَلَفُوا أن لا يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلِيَكُونُوا مَعَهُ عَلَى عَدُوِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الدِّينِ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ وَحَرْبٍ، وَهُمْ يُبْطِنُونَ النِّفَاقَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَاللَّامُ فِي لِيُرْضُوكُمْ لَامُ كَيْ، وَأَخْطَأَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي أَنْ يُرْضُوهُ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ مَرْضِيٍّ وَاحِدٍ، إِذْ رِضَا اللَّهِ هُوَ رِضَا الرَّسُولِ، أَوْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ، حُذِفَتِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ حُذِفَتِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمَا عَائِدًا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَكَيْفَ تَقُولُ حُذِفَتِ الْأُولَى وَلَمْ تُحْذَفِ الْأُولَى؟ إِنَّمَا حُذِفَ خَبَرُهَا، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، فَلَا يَكُونُ جُمْلَةً إِلَّا بِاعْتِقَادِ كَوْنِ أن يرضوه مبتدأ وأحق الْمُتَقَدِّمُ خَبَرَهُ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الْقَوْلُ: إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُفْرَدًا بِأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَحَقُّ بِأَنْ يُرْضُوهُ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ إِرْضَاؤُهُ أَحَقُّ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ

وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ. إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا يَزْعُمُونَ، فَأَحَقُّ مَنْ يُرْضُونَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّاعَةِ وَالْوِفَاقِ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أَيْ أَلَمْ يَعْلَمِ الْمُنَافِقُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرَ. وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ فَهُوَ خِطَابُ تَعْظِيمٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلتَّعَجُّبِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا تَعْجَبَ مِنْ جَهْلِهِمْ فِي مُحَادَّةِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ أَلَمْ يَعْلَمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلسَّامِعِ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَلَمْ تَعْلَمْ، الْخِطَابُ لِمَنْ حَاوَلَ تَعْلِيمَ إِنْسَانٍ شَيْئًا مُدَّةً وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّعْلِيمِ فَلَمْ يَعْلَمْ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ بَعْدَ الْمَبَاحِثِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَالَ مُكْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، وَكَثُرَ مِنْهُ التَّحْذِيرُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالتَّرْغِيبُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُحَادَّةُ الْمُخَالَفَةُ، حَادَدْتُهُ خَالَفْتُهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَدِّ أَيْ كَانَ عَلَى حَدٍّ غَيْرِ حَادَّةٍ كَقَوْلِكَ: شَاقَّهُ، كَانَ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُحَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيدِ، حَدِيدِ السِّلَاحِ. وَالْمُحَادَّةُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُخَالَفَةُ. وَقِيلَ: الْمُحَارَبَةُ. وَقِيلَ: الْمُعَانَدَةُ. وَقِيلَ: الْمُعَادَاةُ. وَقِيلَ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمُخَالَفَةِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَنَّ لَهُ بِالْفَتْحِ، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ. فَتَقْتَضِي جُمْلَةً وإنّ لَهُ مُفْرَدٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُقَدَّمًا نَكِرَةً أَيْ: فَحُقَّ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ: مُتَأَخِّرًا أَيْ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ وَاجِبٌ، قَالَهُ: الْأَخْفَشُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ أَنَّ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْخَبَرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو حَاتِمٍ الِابْتِدَاءَ بِهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْخَبَرِ، فَالْأَخْفَشُ خَرَجَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ. أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ أَنَّ لَهُ النَّارَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: وَقَالَ الْجَرْمِيُّ وَالْمُبَرَّدُ: أَنَّ الثَّانِيَةُ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَلَهُ نَارُ جَهَنَّمَ، وَكَرَّرَ أَنَّ تَوْكِيدًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَأَنَّ لَهُ مَعْطُوفًا عَلَى أَنَّهُ، عَلَى أَنَّ جَوَابَ مَنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَهْلَكْ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ انْتَهَى، فَيَكُونُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ، أو مضارعا مجزوما بلم، فَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ تَفْعَلْ، وَهُنَا حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ،

وَفِعْلُ الشَّرْطِ لَيْسَ مَاضِيَ اللَّفْظِ وَلَا مُضَارِعًا مَقْرُونًا بلم، وَذَلِكَ إِنْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ فَمَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ. وَأَيْضًا فَتَجِدُ الْكَلَامَ تَامًّا دُونَ تَقْدِيرِ هَذَا الْجَوَابِ. وَنَقَلُوا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ أَنَّ بَدَلٌ مِنْ أَنَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُبْدَلُ مِنْهُ حَتَّى يُسْتَوْفَى. وَالْأَوْلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَأْتِ خَبَرُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَتِمَّ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ هِيَ الْخَبَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاءَ مَانِعُ الْبَدَلِ وَأَيْضًا، فَهِيَ مَعْنًى آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَيَقْلَقُ الْبَدَلُ. وَإِذَا تُلُطِّفَ لِلْبَدَلِ فَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهَذَا يَعْنِي الْبَدَلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ الَّتِي مَعَهَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ بِزِيَادَتِهَا ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ جَعْلَهَا بَدَلًا يُوجِبُ سُقُوطَ جَوَابِ الْكَلَامِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ أَيْ: فَلِأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، فَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مَا يَتِمُّ بِهِ جَوَابُ الشَّرْطِ جُمْلَةً أَيْ: فَمُحَادَّتُهُ لِأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَإِنَّ لَهُ بِالْكَسْرِ فِي الْهَمْزَةِ حَكَاهَا عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَحْبُوبٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَوَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوِيٌّ لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي الِاسْتِئْنَافَ، وَالْكَسْرُ مُخْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، بِخِلَافِ الْفَتْحِ. وَقَالَ الشَّاعِرِ: فَمَنْ يَكُ سَائِلًا عَنِّي فَإِنِّي ... وَجِرْوَةَ لَا تَرُودُ وَلَا تُعَارُ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي أَنَّ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ وَجْهَانِ: الْفَتْحُ، وَالْكَسْرُ. ذَلِكَ لِأَنَّ كَيْنُونَةَ النَّارِ لَهُ خَالِدًا فِيهَا هُوَ الْهَوَانُ الْعَظِيمُ كَمَا قَالَ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «1» . يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَعِيبُونَ الرَّسُولَ وَيَقُولُونَ: عَسَى اللَّهُ أن لا يُفْشِيَ سِرَّنَا فَنَزَلَتْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَدِدْتُ أَنِّي جُلِدْتُ مِائَةً وَلَا يَنْزِلُ فِينَا شَيْءٌ يَفْضَحُنَا، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَقَفَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ لِيَفْتِكُوا بِهِ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ قَالُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَحُصُونُهَا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فأنزل الله قل استهزؤوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَحْذَرُ خَبَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ. فَقِيلَ: هُوَ وَاقِعٌ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لَمَّا شَاهَدُوا الرَّسُولَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَكْتُمُونَهُ، وَقَعَ الْحَذَرُ وَالْخَوْفُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: كَانُوا يَعْرِفُونَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَكَفَرُوا حَسَدًا، وَاسْتَبْعَدَ الْقَاضِي فِي العالم بالله

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 192. [.....]

وَرَسُولِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ أَنْ يَكُونَ مُحَادًّا لَهُمَا وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَحْكَمَ الْحَسَدُ نَازَعَ الْحَاسِدُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ. وَقِيلَ: هُوَ حَذَرٌ أَظْهَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ حِينَ رَأَوُا الرَّسُولَ يَذْكُرُ أَشْيَاءَ وَأَنَّهَا عَنِ الْوَحْيِ وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ مُظْهِرٌ سِرَّهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُلْ استهزؤوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى التَّحَرُّزِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُمْ عِنَادًا: هُوَ مُضَارِعٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: لِيَحْذَرَ الْمُنَافِقُونَ، وَيُبْعِدُهُ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ، وأن تُنَزَّلَ مَفْعُولُ يَحْذَرُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَذَرَ أُمُورًا لَا تَضُرُّ وَآمَنَ ... مَا لَيْسَ يُنْجِيهِ مِنَ الْأَقْدَارِ وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «1» لَمَّا كَانَ قَبْلَ التَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ، عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: حَذَرَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَنْفُسِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى مِثْلُ فَزَعَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ مِنْ أَنْ تُنَزَّلَ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ: أَلَا تَرَى أَنَّ خَافَ مِنْ هَيْئَاتِ النَّفْسِ وَتَتَعَدَّى؟ وَالظَّاهِرُ أن قوله عليهم: وتنبئهم، الضمير أنّ فِيهِمَا عَائِدَانِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَجَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ السُّورَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي مَعْنَاهُمْ فَهِيَ نَازِلَةٌ عَلَيْهِمْ قَالَهُ: الْكَرْمَانِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِكَ: هَذَا عَلَيْكَ لَا لَكَ. وَمَعْنَى تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ: تُذِيعُ أَسْرَارَهُمْ حَتَّى يَسْمَعُوهَا مُذَاعَةً مُنْتَشِرَةً، فَكَأَنَّهَا تُخْبِرُهُمْ بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قُلُوبِهِمْ لِلْمُنَافِقِينَ، وَصَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَعُودُ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِهْزَاءِ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «2» وَمَعْنَى مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ مُبْرِزٌ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ، مَا تَحْذَرُونَهُ مِنْ إِنْزَالِ السُّورَةِ، أَوْ مُظْهِرٌ مَا كُنْتُمْ تَحْذَرُونَهُ مِنْ إِظْهَارِ نِفَاقِكُمْ. وَفَعَلَ ذَلِكَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهِيَ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ، لِأَنَّهَا فَضَحَتِ الْمُنَافِقِينَ. قِيلَ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا أَنْزَلَ اللَّهُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ وَنُسِخَ رَحْمَةً وَرَأْفَةً مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّ أَبْنَاءَهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ: أَيْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْقَبِيحِ فِي حَقِّكَ وَحَقِّ أَصْحَابِكَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ قُصُورَ الشَّامِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: كَأَنَّكُمْ غَدًا فِي الْجِبَالِ أَسْرَى لِبَنِي الْأَصْفَرِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: مَا رَأَيْتُ كَهَؤُلَاءِ لَا أَرْغَبَ بُطُونًا ولا أكثر

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 28. (2) سورة فصلت: 41/ 40.

كَذِبًا وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَعَنَّفَهُمْ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا كُنَّا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ وَلَا أَمْرِ أَصْحَابِكَ، إِنَّمَا كُنَّا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ الرَّكْبُ، كُنَّا فِي غَيْرِ جِدٍّ. قل: أبا لله تَقْرِيرٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، وَضَمَّنَهُ الْوَعِيدَ، وَلَمْ يَعْبَأْ بِاعْتِذَارِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، فَجُعِلُوا كَأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِاسْتِهْزَائِهِمْ وَبِأَنَّهُ مَوْجُودٌ مِنْهُمْ، حَتَّى وُبِّخُوا بِأَخْطَائِهِمْ مَوْضِعَ الِاسْتِهْزَاءِ، حَيْثُ جُعِلَ الْمُسْتَهْزَأُ بِهِ عَلَى حَرْفِ التَّقْرِيرِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ بَعْدَ وُقُوعِ الِاسْتِهْزَاءِ وَثُبُوتِهِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَتَقْدِيمُ بِاللَّهِ وَهُوَ مَعْمُولُ خَبَرِ كَانَ عَلَيْهَا، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَعْنِي: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَدِيعَةَ بْنَ ثَابِتٍ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَاشِيهَا وَالْحِجَارَةُ تَنْكُتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ يقول: «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون؟» وَذُكِرَ أَنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ عبد الله بن أبي بْنِ سَلُولَ، وَذَلِكَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ تَبُوكَ. لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ: نُهُوا عَنِ الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّهَا اعْتِذَارَاتٌ كَاذِبَةٌ فَهِيَ لَا تَنْفَعُ. قَدْ كَفَرْتُمْ أَظْهَرْتُمُ الْكُفْرَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أَيْ: بَعْدَ إِظْهَارِ إِيمَانِكُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ فَأَظْهَرُوهُ بِاسْتِهْزَائِهِمْ، وَجَاءَ التَّقْسِيمُ بِالْعَفْوِ عَنْ طَائِفَةٍ، وَالتَّعْذِيبِ لِطَائِفَةٍ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ أُمِرَ بِجِهَادِهِمْ: «جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» «1» وَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمُعْلِنُونَ بِالْأَرَاجِيفِ، فَعُذِّبُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَانْكِشَافِ مُعْظَمِ أَحْوَالِهِمْ. وَصِنْفٌ ضَعَفَةٌ مُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَإِنْ أَبْطَنُوا الْكُفْرَ، لَمْ يؤذوا الرسول فعفى عَنْهُمْ، وَهَذَا الْعَذَابُ وَالْعَفْوُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهَا مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ سَيُخْلِصُونَ مِنَ النِّفَاقِ وَيُخْلِصُونَ الْإِيمَانَ، وَالْمُعَذَّبُونَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى نِفَاقِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ مَخْشِيُّ بْنُ حمير بضم الخاء وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، كَانَ مَعَ الَّذِينَ قَالُوا: «إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» «2» وَقِيلَ: كَانَ مُنَافِقًا ثُمَّ تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مُخْلِصًا، إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ فَضَحِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ وَقَدْ كَانَ تَابَ، وَيُسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَدَعَا اللَّهُ أَنْ يستشهدوا وَيُجْهَلَ أَمْرُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْيَمَامَةِ وَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَاصِمُ مِنَ السَّبْعَةِ: إِنْ نَعْفُ بِالنُّونِ، نُعَذِّبْ بِالنُّونِ طَائِفَةً. وَلَقِيَنِي شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْحَامِلُ أَبُو الْحَكَمِ مَالِكُ بْنُ الْمُرَحِّلِ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 73. (2) سورة التوبة: 9/ 65.

الْمَالِقِيُّ بِغَرْنَاطَةَ فَسَأَلَنِي قِرَاءَةُ مَنْ تَقْرَأُ الْيَوْمَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الطباغ؟ فَقُلْتُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ، فَأَنْشَدَنِي: لِعَاصِمٍ قِرَاءَةْ ... لِغَيْرِهَا مُخَالِفَةْ إن نعف عن طائفة ... مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةْ وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: أَنْ تَعْفُ تُعَذَّبْ طَائِفَةٌ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: إِنْ يَعْفُ يُعَذِّبُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فِيهِمَا، أَيْ: إِنْ يَعْفُ اللَّهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: إِنْ تُعْفَ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، تُعَذَّبْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِالتَّاءِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ تُعْفَ هَذِهِ الذُّنُوبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَجْهُ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الظَّرْفُ كَمَا تَقُولُ: سِيَرَ بِالدَّابَّةِ، وَلَا تَقُولُ سِيرَتْ بِالدَّابَّةِ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ تُرْحَمْ طَائِفَةٌ فَأَنَّثَ لِذَلِكَ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالْجَيِّدُ قِرَاءَةُ العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طَائِفَةٌ بِالتَّأْنِيثِ انْتَهَى. مُجْرِمِينَ: مُصِرِّينَ عَلَى النِّفَاقِ غَيْرَ تَائِبِينَ. الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ «1» بَلْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالنِّفَاقِ، فَهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى التَّبْعِيضِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَوَصَفَهُمْ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكِرِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْمَعَاصِي، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ قُدْرَةٍ وَلَا أَفْعَالٍ ظَاهِرَةٍ، وَذَلِكَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ. وَقَبْضُ الْأَيْدِي عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَنِ الْجِهَادِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ الدِّينِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: عَنِ الرَّفْعِ فِي الدُّعَاءِ. وَقِيلَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ فِي النَّفَقَاتِ فِي الْمَبَارِّ وَالْوَاجِبَاتِ، وَالنِّسْيَانُ هُنَا التَّرْكُ. قَالَ قَتَادَةُ: تَرَكُوا طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَنَسِيَهُمْ، أَيْ: تَرَكَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، أَمَّا مِنَ الشَّرِّ فَلَمْ يَنْسَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَغْفَلُوا ذِكْرَهُ فَنَسِيَهُمْ تَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَيُعَبَّرُ بِالنِّسْيَانِ عَنِ التَّرْكِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّهُ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالٍ. هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيْ: هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْفِسْقِ الَّذِي هُوَ التَّمَرُّدُ في

_ (1) سورة التوبة: 9/ 56.

الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَكَفَى الْمُسْلِمَ زَاجِرًا أَنْ يُلِمَّ بِمَا يُكْسِبُ هَذَا الِاسْمَ الْفَاحِشَ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ: الْكُفَّارُ هُنَا الْمُعْلِنُونَ بِالْكُفْرِ، وخالدين فِيهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْخُلُودَ لَمْ يُقَارِنِ الْوَعْدَ. وحسبهم كَافِيهُمْ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي عظم عَذَابِهِمْ، إِذْ عَذَابُهُمْ شَيْءٌ لا يزاد عليه، ولعنهم أَهَانَهُمْ مَعَ التَّعْذِيبِ وَجَعَلَهُمْ مَذْمُومِينَ مُلْحَقِينَ بِالشَّيَاطِينِ الْمَلَاعِينِ كَمَا عَظَّمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَلْحَقَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. مُقِيمٌ: مُؤَبَّدٌ لَا نَقْلَةَ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ مَعَهُمْ فِي الْعَاجِلِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَهُوَ مَا يُقَاسُونَهُ مِنْ تَعَبِ النِّفَاقِ. وَالظَّاهِرُ الْمُخَالِفُ لِلْبَاطِنِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَحْذَرُونَهُ أَبَدًا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ إِنِ اطُّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ. كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: هَذَا الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ أَيْ: فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَعَدَ كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِوَعَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا قَلَقٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ التَّقْدِيرُ أَنْتُمْ كَالَّذِينَ. وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالْخَوْضِ. وَقَوْلُهُ: كَانُوا أَشَدَّ، تَفْسِيرٌ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ، وَتَمْثِيلٌ لِفِعْلِهِمْ بِفِعْلِهِمْ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ أَيْ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ، وَقَوْلُهُ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ مُغْنٍ عَنْهُ، كَمَا أَغْنَى كَالَّذِي خَاضُوا؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ أَنْ قَدَّمَ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مَا أُوتُوا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَرِضَاهُمْ بِهَا، وَالْتِهَائِهِمْ، فَشَبَّهُوا بِهِمُ الْفَانِيَةَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَطَلَبِ الْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يُخَسَّسَ أَمْرُ الِاسْتِمْتَاعِ وَيُهَجَّنَ أَمْرَ الرَّاضِي بِهِ، ثُمَّ شَبَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِهِمْ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يُنَبِّهَ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى سَمَاجَةِ فِعْلِهِ فَيَقُولُ: أَنْتَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقْتُلُ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَيُعَذِّبُ وَيَعْسِفُ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَأَمَّا وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فَمَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِ مُسْتَغْنٍ

بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ عَنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ انْتَهَى. يَعْنِي: اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ، وَخَاضُوا فَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ وَأَعْظَمَ فَعَصَوْا فَهَلَكُوا، فَأَنْتُمْ أَحْرَى بِالْإِهْلَاكِ لِمَعْصِيَتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ وَالْمَعْنَى: عَجَّلُوا حَظَّهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَتَرَكُوا بَابَ الْآخِرَةِ، فَاتَّبَعْتُمُوهُمْ أَنْتُمْ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَشْبِيهَهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ وَذَكَرَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ شِدَّةِ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، وَاسْتِمْتَاعِهِمْ بِمَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْصِبَاءِ، شَبَّهَ اسْتِمْتَاعَ الْمُنَافِقِينَ بِاسْتِمْتَاعِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَبْرَزَهُمْ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فَقَالَ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ كَمَا اسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّحْقِيرِ، لِأَنَّهُ كَمَا يَدُلُّ بِإِعَادَةِ الظَّاهِرِ مَكَانَ الْمُضْمَرِ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، كَذَلِكَ يَدُلُّ بِإِعَادَتِهِ عَلَى التَّحْقِيرِ وَالتَّصْغِيرِ لِشَأْنِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا «1» وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّهُ كَانَ، ولا أنهم هم. وخضتم: أَيْ دَخَلْتُمْ فِي اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْمَاءِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْبَاطِلِ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَرْتِيبٍ وَنِظَامٍ، وَأُمُورُ الْبَاطِلِ إِنَّمَا هِيَ خَوْضٌ. وَمِنْهُ: رُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللَّهِ لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَالَّذِي خَاضُوا: أَيْ كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: كَالْخَوْضِ الَّذِينَ خَاضُوا. وَقِيلَ: النُّونُ مَحْذُوفَةٌ أَيْ: كَالَّذِينَ خَاضُوا، أَيْ كَخَوْضِ الَّذِينَ. وَقِيلَ: الَّذِي مَعَ مَا بَعْدَهَا يُسْبَكُ مِنْهُمَا مَصْدَرٌ أَيْ: كَخَوْضِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالشِّدَّةِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ كَذَلِكَ يُحْبِطُ أَعْمَالَكُمْ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يُرِيدَ بِأُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الْمُعَاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى خِطَابٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: فِي الدُّنْيَا مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّعَبِ وَفَسَادِ أَعْمَالِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ نَارٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا جزاء. ويقوي الإشارة بأولئك إِلَى الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَلَمْ يَأْتِهِمْ «3» فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، نَقِيضُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «4» . أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: لَمَّا شَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَتَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ لَفْظُ الذين

_ (1) سورة مريم: 19/ 44. (2) سورة التوبة: 9/ 67. (3) سورة التوبة: 9/ 70. (4) سورة العنكبوت: 29/ 27.

مِنْ قَبْلِكُمْ فِيهِ إِبْهَامٌ، نَصَّ عَلَى طَوَائِفَ بِأَعْيَانِهَا سِتَّةٍ، لِأَنَّهُمْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَنْبَائِهِمْ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ قَرِيبَةً مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَكَانُوا أَكْثَرَ الْأُمَمِ عَدَدًا، وَأَنْبِيَاؤُهُمْ أَعْظَمَ الْأَنْبِيَاءِ: نُوحٌ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَإِبْرَاهِيمُ الْأَبُ الْأَقْرَبُ لِلْعَرَبِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأُمَمِ مُقَارِبُونَ لَهُمْ فِي الشِّدَّةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ. فَقَوْمُ نُوحٍ أُهْلِكُوا بِالْغَرَقِ، وَعَادٌ بِالرِّيحِ، وَثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ، حَتَّى سُلِّطَتِ الْبَعُوضَةُ عَلَى نَمْرُودَ مَلِكِهِمْ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِجَعْلِ أَعَالِي أَرْضِهَا أَسَافِلَ، وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الِائْتِفَاكِ الِانْقِلَابُ، أَفَكْتُهُ فَائْتَفَكَ أَيْ قَلَبْتُهُ فَانْقَلَبَ. وَالْمُؤْتَفِكَاتُ صِفَةٌ لِلْقُرَى الَّتِي ائْتَفَكَتْ بِأَهْلِهَا، فَجُعِلَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا. وَالْمُؤْتَفِكَاتُ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ. وَقِيلَ: قَرْيَاتُ قَوْمِ لُوطٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ. وَائْتِفَاكُهُنَّ: انْقِلَابُ أَحْوَالِهِنَّ عَنِ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُؤْتَفِكَاتُ أَهْلُ الْقُرَى الْأَرْبَعَةِ. وَقِيلَ: التِّسْعَةُ الَّتِي بُعِثَ إِلَيْهِمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدَةً تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، وَمِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ قَوْلُ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ: لِمَنْطِقٍ مُسْتَبِينٍ غَيْرِ مُلْتَبِسٍ ... بِهِ اللِّسَانُ وَرَأْيٍ غَيْرِ مُؤْتَفِكِ أَيْ غَيْرِ مُنْقَلِبٍ مُتَصَرِّفٍ مُضْطَرِبٍ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلرِّيحِ: مُؤْتَفِكَةٌ لِتَصَرُّفِهَا، وَمِنْهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «1» وَالْإِفْكُ صَرْفُ الْقَوْلِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْكَذِبِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ، تَذْكِيرٌ بِأَنْبَاءِ الْمَاضِينَ وَتَخْوِيفٌ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ عَالِمِينَ بِأَحْوَالِ هَذِهِ الْأُمَمِ، وَقَدْ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي أَشْعَارِ جَاهِلِيَّتِهِمْ كَالْأَفْوَهِ الْأَزْدِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ، وَغَيْرُهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ تَذْكِيرًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ وَتَفَاصِيلِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ عَائِدٌ عَلَى الْأُمَمِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْجُمْلَةُ شَرْحٌ لِلنَّبَأِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْتَفِكَاتِ خَاصَّةً، وَأَتَى بِلَفْظِ رُسُلٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدًا، لِأَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ رَسُولًا دَاعِيًا، فَهُمْ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْتَفِكَاتِ أَيْ: أَتَاهُمْ رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ. وَالْبَيِّنَاتُ الْمُعْجِزَاتُ، وَهِيَ وَأَصْحَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِّ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَظْلِمَهُمْ لِيُهْلِكَهُمْ حَتَّى يبعث فيهم

_ (1) سورة المائدة: 5/ 75.

نَبِيًّا يُنْذِرُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: فَمَا كَانَ اللَّهَ لِيَضَعَ عُقُوبَتَهُ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا، إِذِ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ إِذْ عَصَوُا اللَّهَ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ حَتَّى أَسْخَطُوا رَبَّهُمْ وَاسْتَوْجَبُوا الْعُقُوبَةَ، فَظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لِيَظْلِمَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ، يَظْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَظْلِمَهُمْ وَهُوَ حَكِيمٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقَبِيحُ، وَأَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ كَفَرُوا بِهِ فَاسْتَحَقُّوا عِقَابَهُ انْتَهَى. وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقَوْلِهِ: فَمَا كَانَ كَلَامًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فَكَذَّبُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ. وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَقَالَ فِي أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَفِي هَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذْ لَا وِلَايَةَ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا شَفَاعَةَ لَهُمْ، وَلَا يَدْعُو بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَكَانَ الْمُرَادُ هُنَا الْوِلَايَةَ فِي اللَّهِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَ الْأَتْبَاعِ وَكُفْرَهُمْ حَصَلَ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ لِأُولَئِكَ الْأَكَابِرِ، وَسَبَبِ مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ وَالْعَادَةِ. أَمَّا الْمُوَافَقَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ لَا بِسَبَبِ الْمَيْلِ وَالْعَادَةِ، بَلْ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَالْوِلَايَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ. وَلَمَّا وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ بَعْضِهِمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجْرِي كَالتَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لَهُ، وَهِيَ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُمَيَّزُ بِهَا الْمُؤْمِنُ عَلَى الْمُنَافِقِ. فَالْمُنَافِقُ يَأْمُرُ بِالْمُنْكِرِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ وَلَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا وَهُوَ كَسْلَانُ، وَيَبْخَلُ بِالزَّكَاةِ، وَيَتَخَلَّفُ بِنَفْسِهِ عَنِ الْجِهَادِ، وَإِذَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَثَبَّطَ وَثَبَّطَ غَيْرَهُ. وَالْمُؤْمِنُ بِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْجِهَادِ. وَهُوَ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَهُوَ دُعَاءٌ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالشَّيَاطِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِحَسَبِ هَذَا تَكُونُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَدْحُ عِنْدِي بِالنَّوَافِلِ أَبْلَغُ، إِذْ مَنْ يُقِيمُ النَّوَافِلَ أَجْدَى بِإِقَامَةِ الْفُرُوضِ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ جَامِعٌ لِلْمَنْدُوبَاتِ انْتَهَى، سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

السِّينُ مُدْخِلَةٌ فِي الْوَعْدِ مُهْلَةً، لِتَكُونَ النُّفُوسُ تَتَنَعَّمُ بِرَجَائِهِ وَفَضْلِهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، فَهِيَ تؤكد الوعيد كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتُنِي وَإِنْ تَبَطَّأَ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «1» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ «2» سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ «3» انْتَهَى. وَفِيهِ دَفِينَةٌ خَفِيَّةٌ مِنَ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثَابَةُ الطَّائِعِ، كَمَا تَجِبُ عُقُوبَةُ الْعَاصِي. وَلَيْسَ مَدْلُولُ السِّينِ تَوْكِيدُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَخْلِيصِ الْمُضَارِعِ لِلِاسْتِقْبَالِ فَقَطْ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا عِبَارَةً عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَتَى بِالسِّينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْفِعْلِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، قَادِرٌ عَلَيْهِ، حَكِيمٌ وَاضِعٌ كُلًّا مَوْضِعَهُ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: لَمَّا أَعْقَبَ الْمُنَافِقِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَارِ جَهَنَّمَ، أَعْقَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَعِيمِ الْجِنَانِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ «4» وَعْدًا إِجْمَالِيًّا فَصَّلَهُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ هِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ دُورُ الْمُقَرَّبِينَ. وَقِيلَ: دُورٌ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَالَيْنِ بِهَا. وَقِيلَ: قُصُورُ زَبَرْجَدٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ يَفُوحُ طِيبُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي أَمَاكِنِ إِقَامَتِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَفِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا» وَذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَشْيَاءُ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنِ الرَّسُولِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أَيْ: إِقَامَةٍ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ الْكُرُومِ وَالْأَعْنَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَظُنُّ هَذَا مَا اخْتَلَطَ بِالْفِرْدَوْسِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَدْنٌ بُطْنَانُ الْجَنَّةِ وَشَرْقُهَا، وَعَنْهُ: وَسَطُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، جِنَانُهُ عَلَى حَافِيَتِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَدِينَةُ الْجَنَّةِ، وَعِظَمُهَا فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ بَعْدُ، وَالْجَنَّاتُ حَوْلَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَصْرٌ في الجن لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أو حكم عدل، ومدتها صَوْتَهُ. وَعَنْهُ: قُصُورٌ مِنَ اللؤلؤ والياقوت الأحمر

_ (1) سورة مريم: 19/ 96. (2) سورة الضحى: 93/ 5. (3) سورة النساء: 4/ 152. (4) سورة التوبة: 9/ 71. [.....]

وَالزَّبَرْجَدِ. وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَدْنٌ دَارُ اللَّهِ الَّتِي لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَا يَسْكُنْهَا غَيْرُ ثَلَاثَةٍ: النَّبِيُّونَ، وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ» وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الرَّسُولِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو: قَصْرٌ حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ، لَهُ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خِيرَةٌ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. وَقِيلَ: قَصَّتُهُ الْجَنَّةُ فِيهَا نَهْرٌ عَلَى حَافَّتَيْهِ بَسَاتِينُ. وَقِيلَ: التَّسْنِيمُ، وَفِيهِ قُصُورُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ، وَالْأَرَائِكُ عَلَيْهَا الْخَيِّرَاتُ الْحِسَانُ، سَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ لَا يَنْزِلُهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، يَفُوحُ رِيحُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ عَنِ السَّلَفِ كَثِيرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، إِذْ وَعَدَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَدْنٌ عَلَمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ الذِّكْرِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ عَدْنًا عَلَمٌ، لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهَا وُصِفَ بالتي وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ جَنَّاتُ مُضَافَةً لِمَعْرِفَةٍ لَمْ تُوصَفْ بِالْمَعْرِفَةِ وَلَا يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي: أَوْ أَمْدَحُ، أَوْ بَدَلًا مِنْ جَنَّاتُ. وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: الْجَنَّةَ لِلْفَصْلِ بِالْبَدَلِ الَّذِي هُوَ جَنَّاتٍ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ النَّعْتُ وَالْبَدَلُ قُدِّمَ النَّعْتُ، وَجِيءَ بَعْدَهُ بِالْبَدَلِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَرِضْوَانٌ: بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهِيَ لُغَةٌ، وَرِضْوَانٌ مُبْتَدَأٌ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، وَأَتَى بِهِ نَكِرَةً لِيَدُلَّ عَلَى مُطْلَقٍ أَيْ: وَشَيْءٌ مِنْ رِضْوَانِهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ. وَالْعَبْدُ إِذَا عَلِمَ بِرِضَا مَوْلَاهُ عَنْهُ كَانَ أَكْبَرَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا وَرَاءَهُ مِنَ النَّعِيمِ، وَإِنَّمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ النَّعِيمُ بِعِلْمِهِ بِرِضَاهُ عَنْهُ. كَمَا أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِسُخْطِهِ تَنَغَّصَتْ حَالُهُ، وَلَمْ يَجِدْ لَهَا لَذَّةً. وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِعِبَادِهِ إِذَا اسْتَقَرُّوا فِي الْجَنَّةِ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لَا نَرْضَى يَا رَبَّنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ رِضْوَانِي، أَرْضَى عَنْكُمْ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا» وَقَالَ الْحَسَنُ: وَصَلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ مَا هُوَ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ وَأَقَرُّ لِأَعْيُنِهِمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَصَابُوهُ مِنْ لَذَّةِ الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ورضوان

_ (1) سورة مريم: 19/ 61.

[سورة التوبة (9) : الآيات 73 إلى 92]

مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، إِشَارَةٌ إِلَى مَنَازِلِ الْمُقَرَّبِينَ الشَّارِبِينَ مِنْ تَسْنِيمٍ، وَالَّذِينَ يُرَوْنَ كَمَا يُرَى النَّجْمُ الْغَائِرُ فِي الْأُفُقِ، وَجَمِيعُ مَنْ فِي الْجَنَّةِ رَاضٍ، وَالْمَنَازِلُ مُخْتَلِفَةٌ، وَفَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَّسِعٌ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رِضَاهُ تَعَالَى هُوَ سَبَبُ كُلِّ فَوْزٍ وَسَعَادَةٍ انْتَهَى. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ، أَوْ إِلَى الرِّضْوَانِ قَوْلَانِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتِ السُّورَةُ قَدْ نزلت في المنافقين بدأبهم فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ «1» وَلَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ الْجِهَادِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ غَيْرُ الْمُنَافِقِينَ أَشَدَّ شَكِيمَةً وَأَقْوَى أَسْبَابًا فِي الْقِتَالِ وَإِنْكَاءً بِتَصَدِّيهِمْ لِلْقِتَالِ، قَالَ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَبَدَأَ بِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 68.

وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَالْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ إِذَا تَعَاطَوْا أَسْبَابَهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: جَاهِدْهُمْ بِالْيَدِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِاللِّسَانِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِالْقَلْبِ، وَالِاكْفِرَارِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَأَغْلِظْ عَلَيْهِمْ فِي الْجِهَادَيْنِ. وَالْغِلَظُ ضِدُّ الرِّقَّةِ، وَالْمُرَادُ خُشُونَةُ الْكَلَامِ وَتَعْجِيلُ الِانْتِقَامِ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ مَنْ وَقَفَ مِنْهُ عَلَى فَسَادٍ فِي الْعَقَائِدِ، فَهَذَا حُكْمُهُ يُجَاهَدُ بِالْحُجَّةِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَعَهُ الْغِلَظُ مَا أَمْكَنَ. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. فَقِيلَ: هُوَ حَلِفُ الْجُلَاسِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ. وَقِيلَ: حَلَّفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ أَنَّهُ مَا قَالَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: حَلِفُهُمْ حِينَ نَقَلَ حُذَيْفَةُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُمْ أَصْحَابَهُ وَإِيَّاهُ فِي خَلْوَتِهِمْ، وَأَمَّا وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا فَنَزَلَتْ قِيلَ: فِي ابْنِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: لَيُخْرِجَنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: بِقَتْلِ الرَّسُولِ، وَالَّذِي هَمَّ بِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْأَسْوَدُ مِنْ قُرَيْشٍ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَتَوَافَقُوا عَلَى أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ راحلته إلى الوادي إذ تَسَنَّمَ الْعَقَبَةَ، فَأَخَذَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِخِطَامِ رَاحِلَتَهُ يَقُودُهَا، وَحُذَيْفَةُ خَلْفَهَا يَسُوقُهَا، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ سَمِعَ حُذَيْفَةُ بِوَقْعِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ وَقَعْقَعَةِ السِّلَاحِ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا قَوْمٌ مُتَلَثِّمُونَ فَقَالَ: إِلَيْكُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ فَهَرَبُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ، وَالْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَأَبُو عَامِرِ بْنُ نُعْمَانَ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَقِيلَ: هَمُّهُمْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا، هُوَ أَنْ يُتَوِّجُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ إِذَا رَجَعُوا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ يُبَاهُونَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنَالُوا مَا هَمُّوا بِهِ، فَنَزَلَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ شَيْطَانٌ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ فَدَعَاهُ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ قَوْلُ ابْنِ أُبَيٍّ لَمَّا شَاوَرَ الْجَهْجَاهَ الْغِفَارِيَّ وَسِنَانَ بْنَ وَبَرَةَ الجهني، وقد

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 63.

كَسَعَ أَحَدُهُمَا رِجْلَ الْآخَرِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، فَصَاحَ الْجَهْجَاهُ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَصَاحَ سِنَانٌ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَثَارَ النَّاسُ، وَهَدَّأَهُمُ الرَّسُولُ فَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: مَا أَرَى هَؤُلَاءِ إِلَّا قَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ ، أَوِ الِاسْتِهْزَاءُ، أَوْ قَوْلُ الْجُلَاسِ الْمُتَقَدِّمُ، أَوْ قَوْلُهُمْ: نَعْقِدُ التَّاجَ، أَوْ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ بِنَبِيٍّ، أَوِ الْقَوْلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ أَقْوَالٌ. وَكَفَرُوا: أَيْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، أَيْ إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ. وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْ أَلْسِنَتَهُمْ. وَالْهَمُّ دُونَ الْعَزْمِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْهَامِّ وَالْمَهْمُومِ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ هَمُّ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْجُلَاسِ بِقَتْلِ نَاقِلِ حَدِيثِ الْجُلَاسِ إِلَى الرَّسُولِ، وَفِي تَعْيِينِ اسْمِ النَّاقِلِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ. وَقِيلَ: حُذَيْفَةُ. وَقِيلَ: ابْنُ امْرَأَةِ الْجُلَاسِ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ مُصْعَبٌ. وَقِيلَ: هَمُّوا بِالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَشْيَاءَ لَمْ يَنَالُوهَا «وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا «1» وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا «2» وَكَانَ حَقُّ الْغَنِيِّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَشْكُرَ لا أين يَنْقِمَ، جَعَلُوا الْغِنَى سَبَبًا يَنْتَقِمُ بِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَكَانَ الرَّسُولُ قَدْ أَعْطَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ دِيَةً كَانَتْ قَدْ تَغَلَّظَتْ لَهُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ لِلْجُلَاسِ. وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي ضَنْكٍ مِنَ الْعَيْشِ، لَا يركبون الخيل. ولا يجوزون الْغَنِيمَةَ، فَأُثِرُوا وَقَالَ الرَّسُولُ لِلْأَنْصَارِ: «وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي» وَقِيلَ: كَانَ عَلَى الْجُلَاسِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَقَضَاهُ الرَّسُولُ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ مَالٌ كَثِيرٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَا نَقَمُوا الْجُمْلَةُ كَلَامٌ أُجْرِيَ مَجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: مَا لِي عِنْدَكَ ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، فَإِنَّ فِعْلَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لِئَامًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُم يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا وَأَنَّهُمْ سَادَةُ الْمُلُوكِ وَلَا ... يَصْلُحُ إِلَّا عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْتِ السَّابِقِ: وَلَا عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرَامٍ وَأَنَّا لَا نَحُطُّ عَلَى النَّمْلِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 59. (2) سورة البروج: 85/ 8.

فَإِنْ يَتُوبُوا هَذَا إِحْسَانٌ مِنْهُ تَعَالَى وَرِفْقٌ وَلُطْفٌ بِهِمْ، حَيْثُ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ بَعْدَ ارْتِكَابِ تِلْكَ الْجَرَائِمِ الْعَظِيمَةِ. وَكَانَ الْجُلَاسُ بَعْدَ حَلِفِهِ وَإِنْكَارِهِ أَنْ قَالَ مَا نُقِلَ عَنْهُ قَدِ اعْتَرَفَ، وَصَدَّقَ النَّاقِلَ عَنْهُ وَتَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهُمْ غَيْرَ الْجُلَاسِ. قِيلَ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ توبة الزنديق المس الْكُفْرَ الْمُظْهِرِ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ فَإِنْ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْثَرَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أَيْ: عَنِ التَّوْبَةِ، أَوِ الْإِيمَانِ، أَوِ الْإِخْلَاصِ، أَوِ الرَّسُولِ. وَالْمَعْنَى: وَإِنْ يُدِيمُوا التَّوَلِّي إِذْ هُمْ مُتَوَلُّونَ فِي الدُّنْيَا بِإِلْحَاقِهِمْ بِالْحَرْبِيِّينَ إِذْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ، فَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ، وَسَبْيُ أَوْلَادِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ، وَغَنْمُ أَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: مَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقِيلَ: التَّعَبُ وَالْخَوْفُ وَالْهُجْنَةُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ: قَالَ الضَّحَّاكُ: هم نبتل بن الحرث، وَجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: فِي مُعَتِّبٍ وَثَعْلَبَةَ خَرَجَا عَلَى ملأ قالا ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ فَأَبْطَأَ عَنْهُ، فَجَهِدَ لِذَلِكَ جَهْدًا شَدِيدًا، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ لَأَصَّدَّقَنَّ مِنْهُ وَلَأَصِلَنَّ، فَآتَاهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ، وَذَكَرُوا لَهُ حَدِيثًا طَوِيلًا وَقَدْ لَخَّصْتُ مِنْهُ: أَنَّهُ سَأَلَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مَالًا فَقِيلَ لَهُ: قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ، فَاتَّخَذَ غَنَمًا كَثُرَتْ حَتَّى ضَاقَتْ عَنْهَا الْمَدِينَةُ، فَنَزَلَ وَادِيًا وَمَا زَالَتْ تَنْمُو، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمُصَدِّقَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَأَخْبَرَهُ قَرِيبٌ لَهُ بِهَا، فَجَاءَ بِصَدَقَتِهِ إِلَى الرَّسُولِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَلَمَّا قُبِضَ الرَّسُولُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَهَلَكَ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَنَصَّدَّقَنْ وَلَنَكُونَنْ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ فِيهِمَا، وَالظَّاهِرُ وَالْمُسْتَفِيضُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِذَلِكَ وَلَفَظُوا بِهِ. وَقَالَ مَعْبَدُ بْنُ ثَابِتٍ وَفِرْقَةٌ: لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِهِ، وَإِنَّمَا

هُوَ شَيْءٌ نَوَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ «1» «مِنَ الصَّالِحِينَ» : أَيْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْخَيْرِ وَالْحَجِّ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ. بَخِلُوا بِهِ أَيْ: بِإِخْرَاجِ حَقِّهِ مِنْهُ، وَكُلُّ بُخْلٍ أُعْقِبَ بِوَعِيدٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَأَعْقَبَهُمْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، عَاقَبَهُمْ عَلَى الذَّنْبِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَذَلَهُمْ حِينَ نَافَقُوا، وَتَمَكَّنَ مِنْ قُلُوبِهِمْ نِفَاقُهُمْ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْهَا إِلَى أَنْ يَمُوتُوا بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمْ مَا وَعَدُوا اللَّهَ مِنَ التَّصَدُّقِ وَالصَّلَاحِ وَكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ، وَمِنْهُ خُلْفُ الْمَوْعِدِ ثُلُثُ النِّفَاقِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: خَذَلَهُمْ هُوَ لَفْظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الضَّمِيرُ فِي فَأَعْقَبَهُمْ لِلْبُخْلِ، أَيْ فَأَوْرَثَهُمُ الْبُخْلَ نِفَاقًا مُتَمَكِّنًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فَأَعْقَبَهُمْ أَيِ الْبُخْلُ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِفَاقَ كُفْرٍ، وَيَكُونَ تَقْرِيرُ ثَعْلَبَةَ بَعْدَ هَذَا النَّصِّ وَالْإِبْقَاءِ عَلَيْهِ لِمَكَانِ إِظْهَارِهِ الْإِسْلَامَ، وَتَعَلُّقِهِ بِمَا فِيهِ احْتِمَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِفَاقَ مَعْصِيَةٍ وَقِلَّةِ اسْتِقَامَةٍ، فَيَكُونَ تَقْرِيرُهُ صَحِيحًا، وَيَكُونُ تَرْكُ قَبُولِ الزَّكَاةِ مِنْهُ عِقَابًا لَهُ وَنَكَالًا. وَهَذَا نَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلًا كَتَبَ إِلَى عمر بن عبد العزيز أَنَّ فُلَانًا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ دَعْهُ، وَاجْعَلْ عُقُوبَتَهُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَقْتِ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي: يَلْقَوْنَهُ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَلْقَوْنَ الْجَزَاءَ. فَقِيلَ: جَزَاءَ بُخْلِهِمْ. وَقِيلَ: جَزَاءَ أَفْعَالِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يُكَذِّبُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَلَفْظَةُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا، لَا تَدُلُّ وَلَا تُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ لما بخل بالمال وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ صَارَ مُنَافِقًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، لِأَنَّ الْمُعَقَّبَ نِفَاقٌ مُتَّصِلٌ إِلَى وَقْتِ الْمُوَافَاةِ، فَهُوَ نِفَاقٌ مُقَيَّدٌ بِغَايَةٍ، وَلَا يَدُلُّ الْمُقَيَّدُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُطْلَقِ قَبْلَهُ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ فَلَا يَكُونُ اللِّقَاءُ مُتَضَمِّنًا رُؤْيَةَ اللَّهِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِاللِّقَاءِ عَلَى الرُّؤْيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «2» لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَلِقَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ ليقطع حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا لَقِيَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ. أَلَمْ يَعْلَمُوا هَذَا اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّوْبِيخَ وَالتَّقْرِيعَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ: تَعْلَمُوا بِالتَّاءِ، وَهُوَ خِطَابٌ للمؤمنين على سبيل

_ (1) سورة التوبة: 9/ 78. (2) سورة الأحزاب: 33/ 44.

التَّقْرِيرِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى فَاضِحُ الْمُنَافِقِينَ، وَمُعْلِمُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْوَالَهُمُ الَّتِي يَكْتُمُونَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ. هَذَا التَّقْسِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَاهَدَ وَأَخْلَفَ وَغَيْرِهِمْ، وَخَصَّتْهَا فِرْقَةٌ بِمَنْ عَاهَدَ وَأَخْلَفَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا أَسَرُّوهُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْعَزْمِ عَلَى إِخْلَافِ مَا وَعَدُوهُ، وَمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِي الدِّينِ، وَتَسْمِيَةِ الصَّدَقَةِ جِزْيَةً، وَتَدْبِيرِ مَنْعِهَا. وَقِيلَ: أَشَارَ بِسِرِّهِمْ إِلَى مَا يُخْفُونَهُ مِنَ النِّفَاقِ، وَبِنَجْوَاهُمْ إِلَى مَا يُفِيضُونَ بِهِ بَيْنَهُمْ من تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم، وَتَعْيِيبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: سِرُّهُمْ مَا يُسَارُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَنَجْوَاهُمْ مَا تَحَدَّثُوا بِهِ جَهْرًا بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى. الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ عَابَ الْمُتَصَدِّقِينَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَمْسَكَ مِثْلَهَا، فَبَارَكَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمْسَكَ وَفِيمَا أَعْطَى. وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ بِمِائَةِ وَسْقٍ، وَعُثْمَانُ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَبُو عَقِيلٍ الْأَرْلَشِيُّ بِصَاعِ تَمْرٍ، وَتَرَكَ لِعِيَالِهِ صَاعًا، وَكَانَ آجَرَ نَفْسَهُ لِسَقْيِ نَخِيلٍ بِهِمَا، وَرَجُلٌ بِنَاقَةٍ عَظِيمَةٍ قَالَ: هِيَ وَذُو بَطْنِهَا صَدَقَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَلْقَى إِلَى الرَّسُولِ خِطَامُهَا فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا تَصَدَّقَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَمَا تَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ إِلَّا لِيُذْكَرَ مَعَ الْأَكَابِرِ، أَوْ لِيُذَكِّرَ بِنَفْسِهِ فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَاعِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَصَدَّقَ بِالنَّاقَةِ وَهِيَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَكَانَ الرَّجُلُ أَقْصَرَ النَّاسِ قَامَةً وَأَشَدَّهُمْ سَوَادًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم وقال: قُلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمِنْهَا يَقُولُهَا ثَلَاثًا. وَأَصْلُ الْمُطَّوِّعِينَ الْمُتَطَوِّعِينَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَهُمُ الْمُتَبَرِّكُونَ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهِ. وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ هُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي الْمُطَّوِّعِينَ، ذُكِرُوا تَشْرِيفًا لَهُمْ، حَيْثُ مَا فَاتَتْهُمُ الصَّدَقَةُ بَلْ تَصَدَّقُوا بِالشَّيْءِ، وَإِنْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَأَتْعَبَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا تَصَدَّقُوا بِهِ كَأَبِي عَقِيلٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَكَانَ قَدْ لُمِزَ فِي التَّصَدُّقِ بِالْقَلِيلِ وَنُظِرَ أَيُّهُمَا. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي هَذَا وَشَبَهِهِ لَمْ يَنْدَرِجْ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ، وَفِي قَوْلِهِ: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «1» وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ تلميذه

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 68.

ابْنُ جِنِّيٍّ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِمَا. وَتَسْمِيَةُ بَعْضِهِمُ التَّجْرِيدَ، جُرِّدُوا بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» . وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَجَمَاعَةٌ: جَهْدَهُمْ بِالْفَتْحِ. فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بِالضَّمِّ الْقُوتُ، وَبِالْفَتْحِ فِي الْعَمَلِ. وَقِيلَ: بِالضَّمِّ شَيْءٌ قَلِيلٌ يُعَاشُ بِهِ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يلمزون الأغنياء وغيرهم. وفيسخرون معطوف على يلمزون، وسخر اللَّهُ مِنْهُمْ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا يمكن مشاركة الذين لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ مَعَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ إِلَّا إن كانوا مثلهم نافقين. قال: وقيل: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. قَالَ: وَخَبَرُ الْأَوَّلِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا فَيَسْخَرُونَ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الَّذِينَ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ انْتَهَى هَذَا الْوَجْهُ. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ الْخَبَرُ كَأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ مَنْ عَابَ وَغَمَزَ أَحَدًا هُوَ سَاخِرٌ مِنْهُ، فَقَرُبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ سَيِّدُ الْجَارِيَةِ مَالِكُهَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ سَخِرَ، تَقْدِيرُهُ عَابَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْهُمُ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْضًا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْمُطَّوِّعِينَ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ لِأَنَّهُ حَالٌ كَمَا قُرِّرَ، وَإِذَا كَانَ حَالًا جَازَ الْفَصْلُ بِهَا بَيْنَ الْعَامِلِ فِيهَا، وَبَيْنَ الْمَعْمُولِ أُخِّرَ، لِذَلِكَ الْعَامِلُ نَحْوُ: جَاءَنِي الَّذِي يَمُرُّ رَاكِبًا بِزَيْدٍ. وَالسُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ خَبَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيُرَجِّحُهُ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: صِيغَتُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ. وَلَمَّا قَالَ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ قَالَ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَمْهَلَهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ أَهْمَلَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَذَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جَازَاهُمْ عَلَى سُخْرِيَتِهِمْ، وَجَزَاءُ الشَّيْءِ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَسْمِيَةٌ لِلْعُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَّنْبِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَقْتِ وَالذُّلِّ فِي نُفُوسِهِمْ انْتَهَى. وَهُوَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 98. (2) سورة الشورى: 42/ 40.

قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَ مَعَاذِيرَهُمُ الْكَاذِبَةَ فِي الظَّاهِرِ، وَوَبَالُ فِعْلِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ، فَكَأَنَّهُ سَخِرَ مِنْهُمْ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ الْمُقِيمُ انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَمْزَ الْمُؤْمِنِ وَالسُّخْرِيَةَ مِنْهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِمَا يَعْقُبُهُمَا مِنَ الْوَعِيدِ. اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ: سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِيهِ فِي مَرَضِهِ فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ رُخِّصَ لِي فَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» فَنَزَلَتْ سَوَاءٌ عليهم أستغفرت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، سَأَلُوا الرَّسُولَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَنَزَلَتْ. وَعَلَى هَذَا فَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرَهُمْ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَانِ. وَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ لِلرَّسُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كيف تستغفروا لِعَدُوِّ اللَّهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَانِي وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي» فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ شِئْتَ فَاسْتَغْفِرْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَسْتَغْفِرْ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرَ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَقِيلَ: لَفْظُهُ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ الشَّرْطُ، بِمَعْنَى إِنِ اسْتَغْفَرْتَ أَوْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ «1» وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ وَمَرَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «2» وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمُ اسْتَغْفَرْتَ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ، وَأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَكَرْنَا النُّكْتَةَ فِي الْمَجِيءِ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ انْتَهَى. يَعْنِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْفِقُوا «3» وَكَانَ قَالَ هُنَاكَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ ثُمَّ قَالَ: لَنْ يُتَقَبَّلَ؟ (قُلْتُ) : هُوَ أَمْرٌ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا «4» وَمَعْنَاهُ: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: اسْتَغْفِرْ لهم أو لا تستغفر لهم، وقوله:

_ (1) سورة التوبة: 9/ 53. (2) سورة التوبة: 9/ 53. (3) سورة التوبة: 9/ 53. (4) سورة مريم: 19/ 75. [.....]

أسيئي بنا أو أحسبني لا ملومة أي: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمُ اسْتَغْفَرْتَ لهم أو لا تستغفر لَهُمْ، وَلَا نَلُومُكَ أَحْسَنْتِ إِلَيْنَا أَوْ أَسَأْتِ. فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَجُوزُ نَحْوُ هَذَا؟ قُلْتُ: إِذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِكَ: غَفَرَ اللَّهُ لِزَيْدٍ وَرَحِمَهُ (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : لِنُكْتَةٍ وَهِيَ أَنَّ كَثِيرًا كَأَنَّهُ يَقُولُ لِعَزَّةَ: امْتَحِنِي لُطْفَ مَحَلِّكِ عِنْدِي، وَقُوَّةَ مَحَبَّتِي لَكِ، وَعَامِلِينِي بِالْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَانْظُرِي هَلْ تَتَفَاوَتُ حَالِي مَعَكِ مُسِيئَةً كُنْتِ أَوْ مُحْسِنَةً. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أُحَوِّلُ الَّذِي إِنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدًا ... لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَغْشِكَ فِي الْوُدِّ وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْفِقُوا وَانْظُرُوا هَلْ يُتَقَبَّلُ مِنْكُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَانْظُرْ هَلْ تَرَى خِلَافًا بَيْنَ حَالَيِ الِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكِهِ؟ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ مُبَالَغَةٍ فِي الْإِيَاسِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّكَ لَوْ طَلَبْتَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ طَلَبَ الْمَأْمُورِ، أَوْ تَرَكْتَهُ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَمْ يُغْفَرْ لَهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الِاسْتِوَاءُ أَيْ: اسْتِغْفَارُكَ لَهُمْ وَتَرْكُ الِاسْتِغْفَارِ سَوَاءٌ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا؟ فَالْجَوَابُ قَالُوا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْلِيفِ لِيَخْلُصَ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِابْنِ سَلُولَ وَكَسَاهُ ثَوْبَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنَ الْخَزْرَجِ لَمَّا رَأَوْهُ يَطْلُبُ الِاسْتِشْفَاءَ بِثَوْبِ الرَّسُولِ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ وَسَيِّدَهُمْ. وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ وَلَدِهِ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وسلم أن يَسْتَغْفِرَ لِقَوْمِهِمُ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيَاتِهِمْ رَجَاءَ أَنْ يُخْلِصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ رَجَاءَ الْغُفْرَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَيْأَسَهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّسُولَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِيهِ رَجَاءَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَقِّقَ خُرُوجَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُفْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَلْمِزُونَ هُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ فَنَهَاهُ عَنْهُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي شَرْعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَشْهُورًا فِي الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ؟ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ لَا يَنْفَعُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُصِرًّا عَلَى الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ

إقدامه على الاستغفار للمنافقين يَجْرِي مَجْرَى إِغْرَائِهِمْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذَّنْبِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُجِيبُهُ بَقِيَ دُعَاءُ الرَّسُولِ مَرْدُودًا عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ مَنْصِبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنَ الرَّسُولِ لَكَانَ قَلِيلُهُ مِثْلَ كَثِيرِهِ فِي حُصُولِ الْإِجَابَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا منه أن يستغفر لهم مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ تَحْدِيدَ الْمَنْعِ، بَلْ هُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَوْ سَأَلْتَنِي سَبْعِينَ مَرَّةً لَمْ أَقْضِهَا لَكَ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا زَادَ قَضَاهَا، فَكَذَا هَاهُنَا. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَا يَنْفَعُهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ، وَإِنْ بَلَغَ سَبْعِينَ مَرَّةً، هِيَ كُفْرُهُمْ وَفِسْقُهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ، فَصَارَ هَذَا الْقَلِيلُ شَاهِدًا بِأَنَّ الْمُرَادَ إِزَالَةُ الطَّمَعِ أَنْ يَنْفَعَهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيُؤَكِّدُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِسْقَهُمْ مَانِعٌ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: السَّبْعُونَ هُنَا جَمْعُ السَّبْعَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلْكَثْرَةِ، لَا السَّبْعَةِ الَّتِي فَوْقَ السِّتَّةِ انْتَهَى. وَالْعَرَبُ تَسْتَكْثِرُ فِي الْآحَادِ بِالسَّبْعَةِ، وَفِي الْعَشَرَاتِ بِالسَّبْعِينَ، وَفِي الْمِئِينَ بِسَبْعِمِائَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالسَّبْعُونَ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي كَلَامِهِمْ لِلتَّكْثِيرِ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَأُصَبِّحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي ... سَبْعِينَ أَلْفًا عَاقِدِي النَّوَاصِي قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِالسَّبْعِينَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْدَادِ فَلِأَنَّهُ عَدَدٌ كَثِيرًا مَا يَجِيءُ غَايَةً وَمُقْنِعًا فِي الْكَثْرَةِ. أَلَا تَرَى إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى، وَإِلَى أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ؟ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: إِنَّ التَّصْرِيفَ الَّذِي يَكُونُ مِنَ السِّينِ وَالْبَاءِ وَالْعَيْنِ شَدِيدُ الْأَمْرِ مِنْ ذَلِكَ السَّبْعَةِ، فَإِنَّهَا عَدَدٌ مُقْنِعٌ هي في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَفِي بَدَنِهِ، وَفِي أَعْضَائِهِ الَّتِي بِهَا يُطِيعُ اللَّهَ، وَبِهَا يَعْصِيهِ، وَبِهَا تَرْتِيبُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَهِيَ: عَيْنَاهُ، وَأُذُنَاهُ، وَأَسْنَانُهُ، وَبَطْنُهُ، وَفَرْجُهُ، وَيَدَاهُ، وَرِجْلَاهُ. وَفِي سِهَامِ الْمَيْسِرِ، وَفِي الْأَقَالِيمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ السَّبْعِ الْعُبُوسُ، وَالْعَنْبَسُ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ انْتَهَى وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ بِمَا رَوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى نَزَلَ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «1» فَكَفَّ عَنْهُ. قِيلَ:

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 6.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْعَكْسِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمُ أَلْبَتَّةَ ثَبَتَ أَنَّ الْحَالَ فِيمَا وَرَاءَ الْعَدَدِ مُسَاوٍ لِلْحَالِ فِي الْعَدَدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْعَدَدِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَكَمُ فِيمَا رَآهُ بِخِلَافِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ خَفِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَأَخْبَرُهُمْ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلَاتِهِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ كَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ كَيْفَ؟ وَقَدْ تَلَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا الْآيَةَ، فَبَيَّنَ الصَّارِفَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ حَتَّى قَالَ: «رَخَّصَ لِي رَبِّي فَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» ؟ (قُلْتُ) : لَمْ يخف عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ خُيِّلَ بِمَا قَالَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» وَفِي إِظْهَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لُطْفٌ لِأُمَّتِهِ، وَدُعَاءٌ لَهُمْ إِلَى تَرَحُّمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ انْتَهَى. وَفِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَسُوءُ أَدَبٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِمْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ. وَإِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» أَوْ كَمَا قَالَ: وَهِيَ الْإِشَارَةُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ النُّطْقُ بِشَيْءٍ عَلَى سَبِيلِ التَّحْيِيلِ؟ حَاشَا مَنْصِبَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مُسَرِّحُ الْأَلْفَاظِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ، وَلَقَدْ تَكَلَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» بِكَلَامٍ فِي حَقِّ الرَّسُولِ نَزَّهْتُ كِتَابِي هَذَا أَنْ أَنْقُلَهُ فِيهِ، وَاللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُنَا مِنَ الزَّلَلِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى انْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ وَتَبْيِينُ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، وَانْتِفَاءُ هِدَايَةِ اللَّهِ الْفَاسِقِينَ هُوَ لِلَّذِينَ حَتَمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا ظَهَرَ مِنَ النِّفَاقِ وَالْهُزْءِ مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَهُ وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَاعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ وَعِلَلٍ كَاذِبَةٍ، حَتَّى أَذِنَ لَهُمْ، فَكَشَفَ اللَّهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَعْلَمَهُ بِسُوءِ فِعَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ الْآيَةَ: أَيْ: عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَكَانَ الرَّسُولُ قَدْ خَلَّفَهُمْ بِالْمَدِينَةِ لَمَّا اعْتَذَرُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي التَّوْبِيخَ وَالْوَعِيدَ. وَلَفْظَةُ الْمُخَلَّفُونَ تَقْتَضِي الذم والتحقير، ولذلك

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 36. (2) سورة التوبة: 9/ 43.

جَاءَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ، وَهِيَ أَمْكَنُ مِنْ لَفْظَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ، إِذْ هُمْ مَفْعُولٌ بِهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْرَحْ إِلَّا مُنَافِقٌ فَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الثَّلَاثَةُ وَأَصْحَابُ الْعُذْرِ. وَلَفْظُ الْمُقْعَدِ يَكُونُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْمَصْدَرِ وَهُوَ هُنَا لِلْمَصْدَرِ أَيْ: بِقُعُودِهِمْ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَانْتَصَبَ خِلَافَ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ: فُلَانٌ أَقَامَ خِلَافَ الْحَيِّ، أَيْ بَعْدَهُمْ. إِذَا ظَعَنُوا وَلَمْ يَظْعَنْ مَعَهُمْ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْأَخْفَشُ، وَعِيسَى بْنُ عَمْرٍو. قَالَ الشَّاعِرُ: عَقَبَ الربيع خلافهم فكأنما ... بسط السواطب بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى ... تَأَهَّبْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا وَكَأَنْ قَدِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ: قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ، وَمُؤَرِّجٌ، وَالزَّجَّاجُ، وَالطَّبَرِيُّ: انْتَصَبَ خِلَافَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَيْ: لِمُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوهُ حَيْثُ نَهَضَ لِلْجِهَادِ وَقَعَدُوا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ خُلْفَ بِضَمِّ الْخَاءِ، وَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالنَّفْرِ فَغَضِبُوا وَخَالَفُوا وَقَعَدُوا مُسْتَأْذِنِينَ وَغَيْرَ مُسْتَأْذِنِينَ، وَكَرَاهَتُهُمْ لِلْجِهَادِ هِيَ لِكَوْنِهِمْ لَا يَرْجُونَ بِهِ ثَوَابًا، وَلَا يَدْفَعُونَ بِزَعْمِهِمْ عَنْهُمْ عِقَابًا. وَفِي قَوْلِهِ: فَرِحَ وَكَرِهُوا مُقَابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، لِأَنَّ الْفَرَحَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ تعريض بالمؤمنين ويتحملهم الْمَشَاقَّ الْعَظِيمَةَ أَيْ: كَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَآثَرُوا ذَلِكَ عَلَى الدَّعَةِ وَالْخَفْضِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ، وَكَيْفَ لَا يَكْرَهُونَهُ وَمَا فِيهِمْ مَا فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَاعِثِ الْإِيمَانِ. وَالْفَرَحُ بِالْقُعُودِ يَتَضَمَّنُ الْكَرَاهَةَ لِلْخُرُوجِ، وَكَأَنَّ الْفَرَحَ بِالْقُعُودِ هُوَ لِمِثْلِ الْإِقَامَةِ بِبَلَدِهِ لِأَجْلِ الْأُلْفَةِ وَالْإِينَاسِ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَكَرَاهَةُ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لِلْقَتْلِ وَالتَّلَفِ. وَاسْتَعْذَرُوا بِشِدَّةِ الْحَرِّ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُ سَبَبٌ لِتَرْكِ النَّفْرِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا. وَقِيلَ: قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكْفِهِمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ وَالْكَسَلِ حَتَّى أرادوا أن يكسلوا غَيْرَهُمْ وَيُنَبِّهُوهُمْ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِتَرْكِ النَّفْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو رَزِينٍ وَالرَّبِيعُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَرُّ شَدِيدٌ، فلا ننفر فِي الْحَرِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ انْتَهَى. أَيْ: قَالَ ذَلِكَ عَنْ لِسَانِهِمْ، فَلِذَلِكَ جَاءَ وَقَالُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ.

وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَطِيبِ الثِّمَارِ وَالظِّلَالِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا، أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: إِذَا كُنْتُمْ تَجْزَعُونَ مِنْ حَرِّ الْقَيْظِ، فَنَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَحْرَى أَنْ تَجْزَعُوا مِنْهَا لَوْ فَقِهْتُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا اسْتِجْهَالٌ لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ تَصَوَّنَ مِنْ مَشَقَّةِ سَاعَةٍ فَوَقَعَ بِذَلِكَ التَّصَوُّنِ فِي مَشَقَّةِ الْأَبَدِ كَانَ أَجْهَلَ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ. وَلِبَعْضِهِمْ: مَسَرَّةُ أَحْقَادٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ... مَسَاءَةَ يوم إربها شِبْهَ الصَّابِ فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَةٍ ... وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةَ أَحْقَابِ انْتَهَى. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ: يَعْلَمُونَ مَكَانَ يَفْقَهُونَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَوَادِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَلِمَا رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّةُ. وَالْأَمْرُ بِالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى: فَسَيَضْحَكُونَ قَلِيلًا وَيَبْكُونَ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّهُ أُخْرِجَ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حَتْمٌ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ. رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ النِّفَاقِ يَكُونُونَ فِي النَّارِ عُمْرَ الدُّنْيَا، لَا يَرْقَأُ لَهُمْ دَمْعٌ، وَلَا يَكْتَحِلُونَ بِنَوْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مُدَّةِ الْعُمُرِ فِي الدُّنْيَا، وَلْيَبْكُوا كثيرا إشارة إلى تأييد الْخُلُودِ، فَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ حَالِهِمْ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ صِفَةَ حَالِهِمْ أَيْ: هُمْ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحظر مَعَ اللَّهِ وَسُوءِ الْحَالِ، بِحَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ضَحِكُهُمْ قَلِيلًا وَبُكَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ فِي الدُّنْيَا نَحْوُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لأمته: «لو يعلمون مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا» وَانْتَصَبَ قَلِيلًا وكثيرا عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُمَا نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ أَيْ: ضَحِكًا قَلِيلًا وَبُكَاءً كَثِيرًا. وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ فِيهَا الْمَنْعُوتُ، وَيَقُومُ نَعْتُهُ مَقَامَهُ، وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا نَعْتًا لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، وَزَمَانًا كَثِيرًا انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ بِحُرُوفِهِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الزَّمَانِ بِهَيْئَتِهِ، فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَقْوَى. وَانْتَصَبَ جَزَاءً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا. فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالْمَعْنَى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ مِنْ سَفَرِكَ هَذَا وَهُوَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. قِيلَ: وَدُخُولُ إِنْ هُنَا وَهِيَ لِلْمُمْكِنِ وُقُوعُهُ غَالِبًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُ بِمُسْتَقْبَلَاتِ أَمْرِهِ مِنْ أَجَلٍ وَغَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ،

وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ولَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ «1» قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَابَ وَنَدِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّفَ لِعُذْرٍ صَحِيحٍ. فَالطَّائِفَةُ هُنَا الَّذِينَ خَلَصُوا فِي النِّفَاقِ وَثَبَتُوا عَلَيْهِ هَكَذَا قِيلَ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدًا عَلَى الْمُخَلَّفِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذِكْرَ الطَّائِفَةِ هُوَ لِأَجْلِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ قَدْ حُتِّمَ عَلَيْهَا بِالْمُوَافَاةِ عَلَى النِّفَاقِ، وَعُيِّنُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أن يُصَلِّيَ عَلَى مَوْتَاهُمْ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، نَصٌّ فِي مُوَافَاتِهِمْ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيَّنَهُمْ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ إِذَا رَأَوْا حُذَيْفَةَ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ تَأَخَّرُوا هُمْ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: بَقِيَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ له عمرو بْنُ الْخَطَّابِ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَمَّنْتُ مِنْهَا أَحَدًا بَعْدَكَ. وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ هُوَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ وَإِظْهَارٌ لِدَنَاءَةِ مَنْزِلَتِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي قِصَّةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَخْذِ صَدَقَتِهِ، وَلَا خِزْيَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانٌ قَدْ رَفَضَهُ الشَّرْعُ وَرَدَّهُ كَالْجَمَلِ الْأَجْرَبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يَعْنِي إِلَى غَزْوَةٍ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِسْقَاطُهُمْ مِنْ دِيوَانِ الْغُزَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَخَلُّفِهِمُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا النِّفَاقُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ انْتَهَى. وَانْتَقَلَ بِالنَّفْيِ مِنَ الشَّاقِّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْخُرُوجُ إِلَى الْغَزَاةِ، إِلَى الْأَشَقِّ وَهُوَ قِتَالُ الْعَدُوِّ، لِأَنَّهُ عِظَمُ الْجِهَادِ وَثَمَرَةُ الْخُرُوجِ وَمَوْضِعُ بَارِقَةِ السُّيُوفِ الَّتِي تَحْتَهَا الْجَنَّةُ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ بِكَوْنِهِمْ رَضُوا بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ورضاهم ناشىء عَنْ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «2» وَقَالُوا هُمْ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَعَلَّلَ بِالْمُسَبَّبِ وَهُوَ الرِّضَا النَّاشِئُ عَنِ السبب وهو النفاق. وأول مَرَّةٍ هِيَ الْخَرْجَةُ إِلَى غزوة تبوك، ومرة مصدر كأنه قيل: أو خَرْجَةٍ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا الرَّسُولُ لِلْغَزَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهَا، إِذِ الْأَوَّلِيَّةُ تَقْتَضِي السَّبْقَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا الرَّسُولُ لِغَزْوَةِ الرُّومِ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوَّلَ مَرَّةٍ ظَرْفٌ، وَنَعْنِي ظَرْفَ زَمَانٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 188. (2) سُورَةِ التَّوْبَةِ: 9/ 41.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَرَّةٍ نَكِرَةٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْمَرَّاتِ لِلتَّفْضِيلِ، فَلِمَ ذُكِرَ اسْمُ التَّفْضِيلِ الْمُضَافُ إِلَيْهَا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ؟ (قُلْتُ) : أَكْثَرُ اللُّغَتَيْنِ هِنْدُ. أَكْبَرُ النِّسَاءِ، وَهِيَ أَكْبَرُهُنَّ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَكَ هِيَ كُبْرَى امْرَأَةٍ لَا تَكَادُ تَعْثُرُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ هِيَ أَكْبَرُ امْرَأَةٍ، وَأَوَّلُ مَرَّةٍ، وَآخِرُ مَرَّةٍ انْتَهَى. فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ أَيْ: أَقِيمُوا، وَلَيْسَ أَمْرًا بِالْقُعُودِ الَّذِي هُوَ نَظِيرَ الْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَ بَعْدَ خَارِجٍ فَقَعَدَ فِي رَحْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَخَلَّفُ عَنِ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: الْخَالِفِينَ الْمُخَالِفِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَبْدٌ خَالِفٌ أَيْ: مُخَالِفٌ لِمَوْلَاهُ. وَقِيلَ: الْأَخِسَّاءُ الْأَدْنِيَاءُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ خَالِفَةُ قَوْمِهِ لِأَخَسِّهِمْ وَأَرْذَلِهِمْ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَوَقِّي صُحْبَةِ مَنْ يَظْهَرُ مِنْهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَكَيْدٌ، وَقَطْعِ الْعَلَقَةِ بَيْنَهُمَا، وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْخَالِفُونَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ نِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ وَأَهْلِ عُذْرٍ. غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، فَجُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ نِسَاءٌ وَهُوَ جَمْعُ خَالِفٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَالِفُونَ النِّسَاءُ، وَهَذَا مَرْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الرِّجَالُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ أَنْ يُرِيدَ الْفَاسِدِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ خَلَفَ الشَّيْءُ إِذَا فَسَدَ، وَمِنْهُ خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وعكرمة: مع الخلفين، وَهُوَ مَقْصُورٌ مِنْ الْخَالِفِينَ كَمَا قَالَ: عِدَدًا وَبِدَدًا يُرِيدُ عَادِدًا وَبَادِدًا، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: مِثْلُ النَّقَى لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظُّلَلْ يُرِيدُ الظِّلَالَ. وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ: النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَاتُوا عُقُوبَةٌ ثَانِيَةٌ وَخِزْيٌ مُتَأَبَّدٌ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ يُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَاتُوا، وَيَقُومُ عَلَى قُبُورِهِمْ بِسَبَبِ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَفَّظُونَ بِكَلِمَتِيِ الشَّهَادَةِ، وَيُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَتْ وَاقِعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. وَطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّتِهِ، فَتَظَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَجَذَبَهُ بِثَوْبِهِ وَتَلَا عَلَيْهِ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُصَلِّ. وَذَكَرُوا مُحَاوَرَةَ عُمَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ ليصلي عليه. ومات صفة لا حد،

فَقُدِّمَ الْوَصْفُ بِالْمَجْرُورِ ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ، وَهُوَ مَاضٍ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لَا مَحَالَةَ. نَهَاهُ اللَّهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ قَبْرِهِ حَتَّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَتَوَلَّوْا دَفْنَهُ وَقَبْرَهُ، فَالْقَبْرُ مَصْدَرٌ. كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا لَهُ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمْ يُصَلِّ بَعْدُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ. إِنَّهُمْ كَفَرُوا تَعْلِيلٌ لِلْمَنْعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمُوَافَاةُ عَلَيْهِ. وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ: تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَأُعِيدَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَجَدُّدَ النُّزُولِ لَهُ شَأْنٌ فِي تَقْرِيرِ مَا نَزَلَ لَهُ وَتَأْكِيدِهِ، وَإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ لَا يَنْسَاهُ وَلَا يَسْهُو عَنْهُ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُهِمٌّ يَفْتَقِرُ إِلَى فَضْلِ عِنَايَةٍ بِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا تَرَاخَى مَا بَيْنَ النُّزُولَيْنِ. فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الَّذِي أَهَمَّ صَاحِبَهُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ، وَيَتَخَلَّصُ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لِقُوَّتِهِ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَ مِنْهُ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَجْهُ تَكْرِيرِهَا تَوْكِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَكْرِيرٌ وَلَيْسَ بِتَكْرِيرٍ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي فَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ كَانَ تَكْرِيرًا لَكَانَ مَعَ تَبَاعُدِ الْآيَتَيْنِ لِفَائِدَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّذْكِيرِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأُولَى لَا تُعَظِّمُهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَبِالثَّانِيَةِ لَا تُعَظِّمُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ لِمَانِعِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَقَدْ تَغَايَرَتِ الْآيَتَانِ فِي أَلْفَاظٍ هُنَا، وَلَا، وَهُنَاكَ، فَلَا وَمُنَاسَبَةُ الْفَاءِ أَنَّهُ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ أَيْ: لِلْإِنْفَاقِ، فَهُمْ مُعْجَبُونَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَنَهَاهُ عَنِ الْإِعْجَابِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. وَمُنَاسَبَةُ الْوَاوِ أَنَّهُ نَهْيٌ عُطِفَ عَلَى نَهْيٍ قَبْلَهُ. وَلَا تُصَلِّ، وَلَا تَقُمْ، وَلَا تُعْجِبْكَ، فَنَاسَبَتِ الْوَاوُ وَهُنَا وَأَوْلَادُهُمْ وَهُنَاكَ، وَلَا أَوْلَادُهُمْ، فَذِكْرُ لَا مُشْعِرٌ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ على انفراد. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْمَجْمُوعِ، وَهُنَا سَقَطَتْ، فَكَانَ نَهْيًا عَنْ إِعْجَابِ الْمَجْمُوعِ. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ بِمَنْطُوقِهِمَا وَمَفْهُومِهِمَا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ. وَهُنَا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ، وَهُنَاكَ لِيُعَذِّبَهُمْ، فَأَتَى بِاللَّامِ مُشْعِرَةً بِالتَّعْلِيلِ. وَمَفْعُولُ يُرِيدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ابْتِلَاءَهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِتَعْذِيبِهِمْ. وأتى بأن لِأَنَّ مَصَبَّ الْإِرَادَةِ هُوَ التَّعْذِيبُ أَيْ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعْذِيبَهُمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلَّقُ الْفِعْلِ فِي الْآيَتَيْنِ هَذَا الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ زِيَادَةُ اللَّامِ. وَالتَّعْلِيلُ بأنّ وَهُنَاكَ الدُّنْيَا، وَهُنَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَأُثْبِتَ فِي الْحَيَاةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحُذِفَتْ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى خِسَّةِ الدُّنْيَا،

وَأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى حَيَاةً، وَلَا سِيَّمَا حِينَ تَقَدَّمَهَا ذِكْرُ مَوْتِ الْمُنَافِقِينَ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا تُسَمَّى حَيَاةً. وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ هُنَا كُلُّ سُورَةٍ كَانَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. وَقِيلَ: بَرَاءَةٌ لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِهِمَا. وَقِيلَ: بَعْضُ سُورَةٍ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ سُورَةٌ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ وَكِتَابٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ فِي الْقُعُودِ، فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَتَى تَنْزِلُ سُورَةً فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ اسْتَأْذَنُوا، وَلَيْسَتْ هُنَا إِذَا تُفِيدُ التَّعْلِيقَ فَقَطْ، بَلِ انْجَرَّ مَعَهَا مَعْنَى التَّكْرَارِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا بِحُكْمِ الْوَضْعِ أَنَّهُ بِحُكْمٍ غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ، لَا الْوَضْعِ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فِي النَّحْوِ، وَمِمَّا وُجِدَ مَعَهَا التَّكْرَارُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ النَّارِ فِي كَبِدِي ... أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى متى وجدت وإن آمِنُوا يُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تَكُونُ تَفْسِيرِيَّةً، لِأَنَّ قَبْلَهَا شَرْطُ ذَلِكَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: بِأَنْ آمِنُوا أَيْ: بِالْإِيمَانِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُنَافِقِينَ أَيْ: آمِنُوا بِقُلُوبِكُمْ كَمَا آمَنْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَاهُ: الِاسْتِدَامَةُ وَالطَّوْلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: الْغِنَى. وَقِيلَ: الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: أولوا الطول الكبراء والرؤساء. وأولوا الْأَمْرِ مِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، والجد بن قيس، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَأَضْرَابِهِمْ. وأخص أولوا الطَّوْلِ لِأَنَّهُمُ الْقَادِرُونَ عَلَى التَّنْفِيرِ وَالْجِهَادِ، وَمَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا قُدْرَةَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَالِاسْتِئْذَانُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَرَكَةِ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ. وَالْمَعْنَى: استأذنك أولوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ فِي الْقُعُودِ، وَفِي اسْتَأْذَنَكَ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ لَفْظِ الغيبة وهو قوله: ورسوله، إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَقَالُوا: ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ الزَّمْنَى وَأَهْلِ الْعُذْرِ، وَمَنْ تُرِكَ لِحِرَاسَةِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ. وَفِي قَوْلِهِ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ، تَهْجِينٌ لَهُمْ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ. وَالْخَوَالِفُ: النِّسَاءُ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَشَمِرِ بْنِ عَطِيَّةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالْفَرَّاءِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ كَمَا قَالَ: وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ

فَإِنْ تَكُنِ النِّسَاءُ مُخَبَّآتٍ ... فَحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ وَقَالَ آخَرُ: كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ فَكَوْنُهُمْ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا قَاعِدِينَ مَعَ النِّسَاءِ فِي الْمَدِينَةِ أَبْلَغَ ذَمٍّ لَهُمْ وَتَهْجِينٍ، لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْزِلَةَ النِّسَاءِ الْعَجَزَةِ اللَّوَاتِي لَا مُدَافَعَةَ عند هنّ وَلَا غِنًى. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْخَوَالِفُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ خَالِفَةً، وَهَذَا جَمْعُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَالْمُرَادُ أَخِسَّاءُ النَّاسِ وَأَخْلَافُهُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْخَوَالِفُ جَمْعُ خَالِفٍ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى فَوَارِسَ وَنَوَاكِسَ وَهَوَالِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَطُبِعَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ أَيْ: أَوَ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَلِأَجْلِ الطَّبْعِ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَتَدَبَّرُونَ وَلَا يَتَفَهَّمُونَ مَا فِي الْجِهَادِ مِنَ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ، وَمَا فِي التَّخَلُّفِ مِنَ الشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ. لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ اخْتَارُوا الدَّعَةَ وَكَرِهُوا الْجِهَادَ، وَفَرُّوا مِنَ الْقِتَالِ، وَذَكَرَ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ذَكَرَ حَالَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُثَابَرَةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَلِكَ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَلَكِنَّ وَضْعَهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ ذَرْنَا، وَاسْتِئْذَانُهُمْ فِي الْقُعُودِ، كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِانْتِفَاءِ الْجِهَادِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: رَضُوا بِكَذَا وَلَمْ يُجَاهِدُوا، وَلَكِنَّ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَخَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجِهَادِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَخْلَصُ نِيَّةً. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «1» فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ «2» وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرَةٍ وَهُوَ الْمُسْتَحْسَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَيَتَنَاوَلُ مَحَاسِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي النِّسَاءِ وَمِنْهُ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامِعَ الرَّبَلَاتِ ... رَبَلَاتِ هِنْدٍ خيرة الملكات

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 89. (2) سورة فصلت: 41/ 38.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرَاتِ هُنَا الْحُورُ الْعِينُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْغَنَائِمُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِيِّ. وَقِيلَ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ، تَفْسِيرٌ لِلْخَيْرَاتِ إِذْ هُوَ لَفْظٌ مُبْهَمٌ. وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُعَذِّرُونَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، فَاحْتَمَلَ وَزْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَعَّلَ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ وَمَعْنَاهُ: تَكَلَّفَ الْعُذْرَ وَلَا عُذْرَ لَهُ، وَيُقَالُ عَذَّرَ فِي الْأَمْرِ قَصَّرَ فِيهِ وَتَوَانَى، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُوهِمَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فِيمَا يَفْعَلُ وَلَا عُذْرَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ افْتَعَلَ، وَأَصْلُهُ اعْتَذَرَ كَاخْتَصَمَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ، فَذَهَبَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْمُعْتَذِرُونَ بِالتَّاءِ مِنِ اعْتَذَرَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهُ افْتَعَلَ. الْأَخْفَشُ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِيسَى بْنُ هِلَالٍ، وَيَعْقُوبُ، وَالْكِسَائِيُّ، فِي رِوَايَةٍ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ أَعْذَرَ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ: الْمُعَّذِّرُونَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالذَّالِ، مِنْ تَعَذَّرَ بِمَعْنَى اعْتَذَرَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَرَادَ الْمُتَعَذِّرِينَ، وَالتَّاءُ لَا تُدْغَمُ فِي الْعَيْنِ لِبُعْدِ الْمَخَارِجِ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُعَذِّرِينَ أَهُمُ مُؤْمِنُونَ أَمْ كَافِرُونَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وجماعة: هو مُؤْمِنُونَ، وَأَعْذَارُهُمْ صَادِقَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَفِرْقَةٌ: هُمْ كَافِرُونَ وَأَعْذَارُهُمْ كَذِبٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُعْذِرِينَ وَلَعَنَ الْمُعَذِّرِينَ. قِيلَ: هُمْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ قَالُوا. إِنَّ لَنَا عِيَالًا وَإِنَّ بِنَا جَهْدًا، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ. وَقِيلَ: هُمْ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ قَالُوا: إِنْ غَزَوْنَا مَعَكَ غَارَتْ أَعْرَابُ طَيٍّ عَلَى أَهَالِينَا وَمَوَاشِينَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ: نَفَرٌ مِنْ غِفَارٍ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَفَرٌ مِنْ غِفَارٍ مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَائِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ التَّقْسِيمَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» فَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ كُفَّارًا لَمْ يَكُنْ لِوَصْفِ الَّذِينَ قَعَدُوا بِالْكَذِبِ اخْتِصَاصٌ، وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ سَيُصِيبُهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، فَانْقَسَمُوا إِلَى جَاءَ مُعْتَذِرٌ وَإِلَى قَاعِدٍ، وَاسْتُؤْنِفَ إِخْبَارٌ بِمَا يصيب

_ (1) سورة التوبة: 9/ 90.

الْكَافِرِينَ. وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدًا عَلَى الْأَعْرَابِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ يُوَافُونَ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَذَبُوا بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: فِي إِيمَانِهِمْ فَأَظْهَرُوا ضِدَّ مَا أَخْفَوْهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: وَنُوحٌ وَإِسْمَاعِيلُ كَذَّبُوا بِالتَّشْدِيدِ أَيْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولَهُ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَالتَّشْدِيدُ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِهِ. وَالضُّعَفَاءُ جَمْعُ ضَعِيفٍ وَهُوَ الْهَرِمُ، وَمَنْ خُلِقَ فِي أَصْلِ البنية شديد المخافة والضؤولة، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْجِهَادُ. وَالْمَرِيضُ مَنْ عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ، أَوْ كَانَ زَمِنًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَمَى وَالْعَرَجُ. والذين لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ هُمُ الْفُقَرَاءُ. قِيلَ: هُمْ مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَبَنُو عُذْرَةَ، وَنَفَى الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَنَفْيُ الْحَرَجِ لَا يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ، فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ لِيُعِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ مَتَاعِهِمْ أَوْ تَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ وَلَا يَكُونُ كَلًّا عَلَيْهِمْ، كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ جَزِيلٌ. فَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ وَهُوَ مِنْ أَتْقِيَاءِ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ فِي أَوَّلِ الْجَيْشِ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ» فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَحْفِرَنَّ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ. وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ أَعْمَى، فَخَرَجَ إِلَى أُحُدٍ وَطَلَبَ أَنْ يُعْطَى اللِّوَاءَ فَأَخَذَهُ، فَأُصِيبَتْ يَدُهُ الَّتِي فِيهَا اللِّوَاءُ فَأَمْسَكَهُ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، فَضُرِبَتْ فَأَمْسَكَهُ بِصَدْرِهِ. وَقَرَأَ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «1» وَشَرَطَ فِي انْتِفَاءِ الْحَرَجِ النُّصْحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِيَّاتُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ سِرًّا وَجَهْرًا خَالِصَةً لِلَّهِ مِنَ الْغِشِّ، سَاعِيَةً فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، دَاعِيَةً لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ. فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «لَقَدْ تَرَكْتُمْ بَعْدَكُمْ قَوْمًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا هُمْ مَعَكُمْ فِيهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: إِذَا نَصَحُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْطُوفِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: مِنْ لَائِمَةٍ تُنَاطُ بِهِمْ أَوْ عُقُوبَةٍ. وَلَفْظُ الْمُحْسِنِينَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 144.

هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورُونَ النَّاصِحُونَ غَيْرَهُمْ، وَقِيلَ: الْمُحْسِنِينَ هُنَا الْمَعْذُورُونَ النَّاصِحُونَ، وَيَبْعُدُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ. وَأَنَّ الْمُحْسِنَ هُوَ الْمُسْلِمُ، لِانْتِفَاءِ جَمِيعِ السَّبِيلِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَيَكُونُ يَخُصُّ هَذَا الْعَامَّ الدَّالَّ عَلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمُحْسِنِينَ هُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أقوالهم وأفعالهم، ثُمَّ أَكَّدَ الرَّجَاءُ فَقَالَ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهُ لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ. قِيلَ: وَقَوْلُهُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فِيهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى: التَّمْلِيحَ، وَهُوَ أَنْ يُشَارَ فِي فَحْوَى الْكَلَامِ إِلَى مَثَلٍ سَائِرٍ، أَوْ شِعْرٍ نَادِرٍ، أَوْ قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُ يَسَارِ بْنِ عَدِيٍّ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ أَخِيهِ، وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ: الْيَوْمَ خَمْرٌ وَيَبْدُو فِي غَدٍ خَبَرُ ... وَالدَّهْرُ مِنْ بَيْنِ إِنْعَامٍ وَإِيئَاسِ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، وَذُكِرُوا عَلَى سَبِيلِ نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي تَحْصِيلِ مَا يَخْرُجُونَ بِهِ إِلَى الْجِهَادِ حَتَّى أَفْضَى بِهِمُ الْحَالُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ، وَالْحَاجَةِ لِبَذْلِ مَاءِ وُجُوهِهِمْ فِي طَلَبِ مَا يَحْمِلُهُمْ إِلَى الْجِهَادِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ حَتَّى يُجَاهِدُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَلَا يَفُوتُهُمْ أَجْرُ الْجِهَادِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَنْدَرِجُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، بِأَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَجَدُوا مَا يُنْفِقُونَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا الْمَرْكُوبَ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عِبَارَةً عَنِ الزَّادِ لَا عِبَارَةً عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجَاهِدُ مِنْ زَادٍ وَمَرْكُوبٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ. وَقِيلَ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ. وَقِيلَ: فِي عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو. وَقِيلَ: فِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَرَهْطِهِ. وَقِيلَ: فِي تِسْعَةِ نَفَرٍ مِنْ بُطُونٍ شَتَّى فَهُمُ الْبَكَّاءُونَ وَهُمْ: سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ بني عمرو مِنْ بَنِي عَوْفٍ، وَحَرَمِيُّ بْنُ عَمْرٍو مِنْ بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَسَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ مِنْ بَنِي الْمُعَلَّى وَأَبُو رُعَيْلَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ بْنِ بَنِي حَارِثَةَ، وَعَمْرُو بْنُ غَنَمَةَ مَنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَعَائِذُ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ. وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَكَّاءُونَ هُمْ بَنُو بَكْرٍ مِنْ مُزَيْنَةَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقْرِنٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ إِخْوَةٍ صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ سِتَّةُ إِخْوَةٍ غَيْرَهُمْ. وَمَعْنَى لِتَحْمِلَهُمْ أَيْ: عَلَى ظَهْرِ مَرْكَبٍ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ أَثَاثُ الْمُجَاهِدِ. قَالَ مَعْنَاهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:

لِتَحْمِلَهُمْ بِالزَّادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: بِالْبِغَالِ. وَرَوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ نَدَبْتَنَا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَكَ، فَاحْمِلْنَا عَلَى الْخِفَافِ الْمَرْقُوعَةِ وَالنِّعَالِ الْمَخْصُوفَةِ نَغْزُ مَعَكَ فَقَالَ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ. وَقَرَأَ مَعْقِلُ بْنُ هَارُونَ: لِنَحْمِلَهُمْ بنون الجماعة، وإذا تَقْتَضِي جَوَابًا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا وهو قلب، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَوَلَّوْا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا كَانَ حَالُهُمْ إِذْ أَجَابَهُمُ الرَّسُولُ؟ قِيلَ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ. وَقِيلَ: جَوَابُ إذا تولوا، وقلب جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، أَيْ: إِذَا مَا أَتَوْكَ قَائِلًا لَا أَجِدُ، وَقَدْ قَبْلَهُ مُقَدَّرٌ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ العطف أَيْ: وَقُلْتَ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةِ وَقَدَّرَهُ: فَقُلْتَ بِالْفَاءِ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قُلْتَ لَا أَجِدُ اسْتِئْنَافًا مِثْلَهُ يَعْنِي: مِثْلَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ؟ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ تَوَلَّوْا، فَقِيلَ: مَا لَهُمْ تَوَلَّوْا بَاكِينَ؟ قُلْتُ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَالِاعْتِرَاضِ (قُلْتُ) : نَعَمْ، وَيَحْسُنُ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ وَلَا يَحْسُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ فَهْمٌ أَعْجَمِيٌّ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فِي أَوَائِلِ حِزْبِ لَتَجِدَنَّ «1» مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كَقَوْلِكَ: تَفِيضُ دَمْعًا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ يَفِيضُ دَمْعُهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ جُعِلَتْ كَأَنَّ كلها دمع فائض. ومن لِلْبَيَانِ كَقَوْلِكَ: أَفْدِيكَ مِنْ رَجُلٍ، وَمَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّصْبُ عَلَى التَّمْيِيزِ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ الَّذِي أَصْلُهُ فَاعِلٌ لا يجوز جره بمن، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَانْتَصَبَ حَزَنًا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ تَفِيضُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وأن لا يَجِدُوا مَفْعُولٌ لَهُ أَيْضًا، وَالنَّاصِبُ لَهُ حَزَنًا، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بتفيض انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى إِعْرَابِهِ حَزَنًا مَفْعُولًا لَهُ وَالْعَامِلُ فِيهِ تَفِيضُ، لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَقْضِ اثْنَيْنِ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ إِلَّا بِالْعَطْفِ أَوِ الْبَدَلِ. وقوله: أن لا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا ينفقون حرج.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 82.

[سورة التوبة (9) : الآيات 93 إلى 121]

[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

الْأَعْرَابُ صِيغَةُ جَمْعٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ. فَالْعَرَبِيُّ مَنْ لَهُ نَسَبٌ فِي الْعَرَبِ، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ مُنْتَجَعُ الغيث والكلأ، ما كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ من مواليهم. فَالْعَرَبِيُّ مَنْ لَهُ نَسَبٌ فِي الْعَرَبِ، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ مُنْتَجَعُ الْغَيْثِ وَالْكَلَأِ، كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ مَوَالِيهِمْ. وَلِلْفَرْقِ نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ فَقِيلَ: الْأَعْرَابِيُّ، وَجُمِعَ الْأَعْرَابُ عَلَى الْأَعَارِبِ جَمْعِ الْجَمْعِ. أَجْدَرُ أَحَقُّ وَأَحْرَى، قَالَ اللَّيْثُ: جَدَرَ جَدَارَةً فَهُوَ جَدِيرٌ وَأَجْدَرُ، بِهِ يُؤَنَّثُ وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ. قَالَ الشَّاعِرُ: نَخِيلٌ عَلَيْهَا جَنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا

أَسَّسَ عَلَى وَزْنِ فَعَّلَ مُضَعَّفُ الْعَيْنِ، وَآسَسَ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ وَضَعَ الْأَسَاسَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ فِيهِ: أُسٌّ. وَالْجُرُفُ: الْبِئْرُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهُوَّةُ وَمَا يَجْرُفُهُ السَّيْلُ مِنَ الْأَوْدِيَةِ. هَارٍ: مُنْهَالٌ سَاقِطٌ يَتَدَاعَى بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَفِعْلُهُ هَارَ يَهُورُ وَيَهَارُ وَيَهِيرُ، فَعَيْنُ هَارٍ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وَاوًا أَوْ يَاءً، فَأَصْلُهُ هَايِرٍ أَوْ هَاوِرٍ فَقُلِبَتْ، وَصُنِعَ بِهِ مَا صُنِعَ بِقَاضٍ وَغَازٍ، وَصَارَ مَنْقُوصًا مِثْلَ شَاكِي السِّلَاحِ وَلَاثٍ قَالَ: لَاثٍ بِهِ الْآشَاءُ وَالْعُبْرِيُّ. وَقِيلَ: هَارٍ محذوف العين لفرعله، فَتَجْرِي الرَّاءُ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: تَهَوَّرَ وَتَهَيَّرَ. أَوَّاهٌ كَثِيرُ قَوْلِ أَوَّهْ، وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَتَوَجَّعُ وَوَزْنُهُ فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ. فَقِيَاسُ الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ ثُلَاثِيًّا، وَقَدْ حَكَاهُ قُطْرُبٌ: حكى آه يؤوه أَوْهًا كَقَالَ يَقُولُ قَوْلًا وَنُقِلَ عَنِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: لَيْسَ مِنْ لَفْظِ أَوَّهْ فِعْلٌ ثُلَاثِيٌّ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَوَّهَ تَأْوِيهَا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا. قَالَ الرَّاجِزُ: فَأَوَّهَ الدَّاعِي وَضَوْضَأَ أكلبه. وَقَالَ الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ: إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ وَفِي أَوَّهْ اسْمِ الْفِعْلِ لُغَاتٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ لنحو. الظَّمَأُ: الْعَطَشُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ مصدر ظمىء يَظْمَأُ فَهُوَ ظَمْآنُ وَهِيَ ظَمْآنُ، وَيُمَدُّ فَيُقَالُ ظِمَاءٌ. الْوَادِي: مَا انْخَفَضَ مِنَ الأصل مستطيلا كمحاري السُّيُولِ وَنَحْوِهَا، وَجَمَعَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى أَوْدِيَةٍ وَلَيْسَ بِقِيَاسِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «1» وَقِيَاسُهُ فَوَاعِلُ، لَكِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوهُ لِجَمْعِ الْوَاوَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا أَعْرِفُ فَاعِلًا أفعلة سِوَاهُ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ نَادٍ وَأَنْدِيَةً قَالَ الشَّاعِرُ: وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمُ ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ وَالنَّادِي: الْمَجْلِسُ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِي جَمْعِهِ أَوْدَاءٌ، كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ قَالَ جَرِيرٌ: عَرَفْتُ بِبُرْقَةِ الأوداء رسما ... مجيلا طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَادِي كُلُّ مُنْعَرِجٍ مِنْ جِبَالٍ وَآكَامٍ يَكُونُ مَنْفَذًا لِلسَّيْلِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ فَاعِلٌ مِنْ وَدِيَ إِذَا سَالَ، وَمِنْهُ الْوَدْيُ. وَقَدْ شَاعَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْأَرْضِ تَقُولُ: لَا تُصَلِّ فِي وَادِي غَيْرِكَ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 17.

اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: أَثْبَتَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ مَا نَفَاهُ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِينَ، فَدَلَّ لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُسِيئُونَ، وَأَيُّ إِسَاءَةٍ أَعْظَمُ مِنَ النِّفَاقِ وَالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ وَالرَّغْبَةِ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ إِنَّمَا لِلْحُصْرِ، إِنَّمَا هِيَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ فِي اللَّائِمَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَالْإِثْمِ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهِ لِغِنَاهُمْ، وَكَانَ خَبَرُ السَّبِيلُ عَلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ فُصِلَ بإلى كَمَا قَالَتْ: هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ لِأَنَّ عَلَى تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَقِلَّةِ مَنَعَةِ مَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ لَا سَبِيلَ لِي عَلَى زَيْدٍ، وَلَا سَبِيلَ لِي إِلَى زَيْدٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ: عَبْدِ الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وغيرهم. ورضوا: اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ اسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ بِالْمَدِينَةِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ، فَقِيلَ: رَضُوا بِالدَّنَاءَةِ وَانْتِظَامِهِمْ فِي سِلْكِ الْخَوَالِفِ. وَعُطِفَ وَطَبَعَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخَلُّفِهِمْ رضاهم بالدناءة، وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ مَنَافِعَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّ عرض الْمُعْتَذِرِ أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا يَعْتَذِرُ بِهِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُكَذِّبٌ فِي اعْتِذَارِهِ كُفَّ عَنْهُ. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ عِلَّةٌ لِانْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَخْبَرَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ سَرَائِرُهُمْ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، لَمْ يُمْكِنْ تَصْدِيقُهُمْ فِي مَعَاذِيرِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: قد نبأ اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ، وَنَحْوُ هذا. ونبأ هُنَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَعَرَّفَ، نَحْوُ قَوْلِهِ: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا؟ وَالثَّانِي هُوَ مِنْ أَخْبَارِكُمْ أَيْ: جُمْلَةٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَعَلَى رَأْيِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ تَكُونُ مِنْ زَائِدَةً أَيْ أَخْبَارَكُمْ. وَقِيلَ: نَبَّأَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَالثَّالِثُ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَيْ: مِنْ أَخْبَارِكُمْ كَذِبًا أَوْ نَحْوَهُ. وَسَيَرَى اللَّهُ تَوَعُّدٌ أَيْ: سَيَرَاهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ، فَيَقَعُ الْجَزَاءُ مِنْهُ عَلَيْهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَتُنِيبُونَ أَمْ تَثْبُتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ وَالتَّنَبُّؤِ بِأَعْمَالِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عِيسَى: وَسَيَرَى لِجَعْلِهِ مِنَ الظُّهُورِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُرَى، ثُمَّ يُجَازِي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يُظْهِرُونَ

لِلرَّسُولِ عِنْدَ تَقْرِيرِهِمْ مَعَاذِيرَهُمْ حُبًّا وَشَفَقَةً فَقِيلَ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ هَلْ يَبْقَوْنَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا يَبْقَوْنَ؟ وَالْغَيْبُ وَالشَّهَادَةُ هُمَا جَامِعَانِ لِأَعْمَالِ الْعَبْدِ لَا يَخْلُو مِنْهُمَا. وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ كَاطِّلَاعِهِ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، لَا تَفَاوُتَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَصْدُرُ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ سَيُؤَكِّدُونَ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ الْكَاذِبَ بِالْحَلِفِ، وَأَنَّ سَبَبَ الْحَلِفِ هُوَ طِلْبَتُهُمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَلَا يَلُومُوهُمْ وَلَا يُوَبِّخُوهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أَيْ: فأجيبوهم إِلَى طِلْبَتِهِمْ. وَعَلَّلَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ، أَيْ مُسْتَقْذَرُونَ بِمَا انْطَوَوْا عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ، فَتَجِبُ مُبَاعَدَتُهُمْ وَاجْتِنَابُهُمْ كَمَا قَالَ: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ «1» فَمَنْ كَانَ رِجْسًا لَا تَنْفَعُ فِيهِ الْمُعَاتَبَةُ، وَلَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الرِّجْسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْحَلِفِ مَخَافَتَهُمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَلَا يُقْبِلُوا عَلَيْهِمْ وَلَا يُوَادُّوهُمْ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ تَوَلِّيهِمْ، وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ بِرِجْسِيَّتِهِمْ، وَبِأَنَّ مَآلَ أَمْرِهِمْ إِلَى النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ لَا تُكَلِّمُوهُمْ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ قَالَ: «لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ» . قِيلَ: إِنَّ هذه الآية من أول مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ قَدِ اعْتَذَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقُعُودِ قَبْلَ مَسِيرِهِ، فَأَذِنَ فَخَرَجُوا وَقَالَ أَحَدُهُمْ: مَا هُوَ إِلَّا شَحْمَةٌ لِأَوَّلِ آكِلٍ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ لِلْمُنَافِقِينَ فِي مَجْلِسٍ مِنْهُمْ: نَزَلَ فِيكُمْ قُرْآنٌ فَقَالُوا لَهُ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا أَحْفَظُ، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ وَصْفَكُمْ فِيهِ بِالرِّجْسِ، فَقَالَ لَهُمْ مَخْشِيٌّ: لَوَدِدْتُ أَنْ أُجْلَدَ مِائَةً وَلَا أَكُونُ مَعَكُمْ، فَخَرَجَ حَتَّى لَحِقَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «مَا جَاءَ بِكَ» ؟ فَقَالَ لَهُ: وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْفَعُهُ الرِّيحُ، وَأَنَا فِي الْكِنِّ. فَرُوِيَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَابَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أَمْرٌ بِانْتِهَارِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ بِالْإِعْرَاضِ وَالْوَصْمِ بِالنِّفَاقِ، وَهَذَا مَعَ إِجْمَالٍ لَا مَعَ تَعْيِينٍ مُصَرِّحٍ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْ رَسُولِهِ، بَلْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَيْدَانُ الْمَقَالَةِ مَبْسُوطًا. وَقَوْلُهُ: رِجْسٌ أَيْ نَتَنٌ وَقَذَرٌ. وَنَاهِيكَ بِهَذَا الْوَصْفِ مَحَطَّةً دُنْيَوِيَّةً، ثُمَّ عَطَفَ لِمَحَطَّةِ الْآخِرَةِ. وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُمْ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلى الله.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 90.

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ حَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بَعْدَهَا، وَحَلَفَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ لَنَكُونُنَّ مَعَهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَطَلَبَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، فَنَزَلَتْ ، وَهُنَا حُذِفَ الْمَحْلُوفُ بِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ «1» أُثْبِتَ كَقَوْلِهِ: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها «2» وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ «3» فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَذْفِهِ وَإِثْبَاتِهِ فِي انْعِقَادِ ذَلِكَ يَمِينًا. وَغَرَضُهُمْ فِي الْحَلِفِ رضا الرسول والمؤمنين عنهم لِنَفْعِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، لَا أَنَّ مَقْصِدَهُمْ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ: هِيَ أَيْمَانٌ كاذبة، وأعذار مختلفة لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا لَمَّا ذَكَرَ حَلِفَهُمْ لِأَجْلِ الْإِعْرَاضِ، جَاءَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ نَصًّا، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَهُنَا ذَكَرَ الْحَلِفَ لِأَجْلِ الرِّضَا فَأَبْرَزَ النَّهْيَ عَنِ الرِّضَا فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، لِأَنَّ الرِّضَا مِنَ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى، وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ، وَجَعَلَ جَوَابَهُ انْتِفَاءَ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، فَصَارَ رِضَا الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ أَبْعَدَ شَيْءٍ فِي الْوُقُوعِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ لَا يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُمْ. وَنَصَّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِانْتِفَاءِ الرِّضَا وَهُوَ الْفِسْقُ، وَجَاءَ اللَّفْظُ عَامًّا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَنْدَرِجُونَ فِيهِ وَيَكُونُونَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ، إِذِ الْعَامُّ إِذَا نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ مَخْصُوصٍ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنَ الْعُمُومِ بِتَخْصِيصٍ وَلَا غَيْرِهِ. الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابٍ مِنْ أَسَدٍ، وَتَمِيمٍ، وَغَطَفَانَ. وَمِنْ أَعْرَابِ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ أَيْ: أَشَدُّ كُفْرًا مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ. وَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَالتَّقْدِيرُ أَشَدُّ أَسْبَابِ كُفْرٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِيهِ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ. وَكَانُوا أَشَدَّ كُفْرًا وَنِفَاقًا لِتَوَحُّشِهِمْ وَاسْتِيلَاءِ الْهَوَاءِ الْحَارِّ عَلَيْهِمْ، فَيَزِيدُ فِي تِيهِهِمْ وَنَخْوَتِهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَطَيْشِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ بِلَا سَائِسٍ وَلَا مُؤَدِّبٍ وَلَا ضَابِطٍ، فنشأوا كَمَا شَاءُوا لِبُعْدِهِمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْعُلَمَاءِ وَمَعْرِفَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلِبُعْدِهِمْ عَنْ مَهْبِطِ الْوَحْيِ. كَانُوا أَطْلَقَ لِسَانًا بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ كُفْرُهُمْ سِرًّا وَلَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ إِلَّا تَعْرِيضًا. وأجدر أي: أحق أن لا يَعْلَمُوا أَيْ بِأَنْ لَا يَعْلَمُوا. وَالْحُدُودُ: هُنَا الْفَرَائِضُ. وقيل: الوعيد عل مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ، وَالتَّأَخُّرِ عَنِ الْجِهَادِ. وَقِيلَ: مَقَادِيرُ التَّكَالِيفِ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 95. (2) سورة القلم: 68/ 17. [.....] (3) سورة الأنعام: 6/ 109.

وَالْأَحْكَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَقَلُّ عِلْمًا بِالسُّنَنِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْجَفَاءَ وَالْقَسْوَةَ فِي الْفَدَّادِينَ» وَاللَّهُ عَلِيمٌ يَعْلَمُ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أهل الوبر والمدبر، حَكِيمٌ فِيمَا يُصِيبُ بِهِ مُسِيئَهُمْ وَمُحْسِنَهُمْ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ، وَتَمِيمٍ، كَانُوا يَتَّخِذُونَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَنِ الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: مِنَ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا هِيَ إِلَّا جِزْيَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: كُلُّ نَفَقَةٍ لَا تَهْوَاهَا أَنْفُسُهُمْ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا، وَهُوَ مَا يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ إِلَّا تَقِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرِيَاءً، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ الْمَثُوبَةِ عِنْدَهُ. فَعَلَ هَذَا الْمَغْرَمُ إِلْزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ. وَقِيلَ: الْمَغْرَمُ الْغُرْمُ وَالْخُسْرُ، وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَقَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمَغْرَمُ مَا لَزَمَ أَصْحَابَهُ وَالْغَرَامُ اللَّازِمُ، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِلُزُومِهِ وَإِلْحَاحِهِ. وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. وَالدَّوَائِرُ: هِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي لَا مُخَلِّصَ مِنْهَا، تُحِيطُ بِهِ كَمَا تُحِيطُ الدَّائِرَةُ. وَقِيلَ: تَرَبُّصُ الدَّوَائِرِ هُنَا مَوْتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظُهُورِ الشِّرْكِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا وَتَرَبُّصُ الدَّوَائِرِ لِيَخْلُصُوا مِنْ إِعْيَاءِ النَّفَقَةِ، وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ دائرة السوء، دعا مُعْتَرِضٌ، دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ ما أخبر به عنهم كَقَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ «1» وَالدُّعَاءُ مِنَ اللَّهِ هُوَ بِمَعْنَى إِنْجَابِ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَدْعُو عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَهِيَ فِي قَبْضَتِهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: عَلَيْهِمْ تَدُورُ الْمَصَائِبُ وَالْحُرُوبُ الَّتِي يَتَوَقَّعُونَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُنَا وَعْدٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِخْبَارٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ أَيْ: قُولُوا عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ أَيْ الْمَكْرُوهِ، وَحَقِيقَةُ الدَّائِرَةِ مَا تَدُورُ بِهِ الْأَيَّامَ. وَقِيلَ: يَدُورُ بِهِ الْفَلَكُ فِي سَيْرِهِ، وَالدَّوَائِرُ انْقِلَابُ النِّعْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا. وَفِي الْحُجَّةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ مَصْدَرًا كَالْعَاقِبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر: والسوء هُنَا. وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ ثَانِيَةٌ بِالضَّمِّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ، فَالْفَتْحُ مَصْدَرٌ. قَالَ الفراء: سوأته سوأ وَمَسَاءَةً وَسَوَائِيَةً، وَالضَّمُّ الِاسْمُ وَهُوَ الشَّرُّ وَالْعَذَابُ، وَالْفَتْحُ ذَمُّ الدَّائِرَةِ وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وُصِفَتِ الدَّائِرَةُ بِالْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا: رَجُلُ سَوْءٍ فِي نَقِيضِ رَجُلِ صِدْقٍ، يَعْنُونَ فِي هَذَا الصَّلَاحَ لَا صِدْقَ اللِّسَانِ، وَفِي

_ (1) سورة المائدة: 5/ 64.

ذَلِكَ الْفَسَادَ. وَمِنْهُ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ «1» أَيْ امْرَأً فَاسِدًا. وَقَالَ المبرد: لسوء بِالْفَتْحِ الرَّدَاءَةُ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّ السِّينِ فِي رَجُلِ سَوْءٍ، قَالَهُ أَكْثَرُهُمْ. وَقَدْ حُكِيَ بِالضَّمِّ وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنْتَ كَذِيبِ السُّوءِ لَمَّا رَأَى دَمًا ... بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أَحَالَ عَلَى الدَّمِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيَنَةَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُغَفَّلِ بْنِ مُقَرِّنٍ: كُنَّا عَشَرَةً وَلَدَ مُقَرِّنٍ فَنَزَلَتْ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ الْآيَةَ يُرِيدُ: السِّتَّةَ وَالسَّبْعَةَ الْإِخْوَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدَدِهِمْ وبينهم. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي عَبْدِ اللَّهِ ذِي النِّجَادَيْنِ وَرَهْطِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَجُهَيْنَةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا ذَكَرَ مُقَابِلَهُ وَهُوَ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْنَمًا، وَذَكَرَ هُنَا الْأَصْلَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْقُرُبَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ جَزَاءُ مَا يُنْفَقُ إِنَّمَا يَظْهَرُ ثَوَابُهُ الدَّائِمُ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي قِصَّةِ أُولَئِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ نَتِيجَةِ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ اتِّخَاذُهُ مَا يُنْفِقُ مغرما وتربصه بالمؤمنين بالدوائر. وَالْأَجْوَدُ تَعْمِيمُ الْقُرُبَاتِ مِنْ جِهَادٍ وَصَدَقَةٍ، وَالْمَعْنَى: يَتَّخِذُهُ سَبَبَ وَصْلٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَدْعِيَةِ الرَّسُولِ، وَكَانَ يَدْعُو لِلْمُصَدِّقِينَ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَيَسْتَغْفِرُ لهم كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَقَالَ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ «2» وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَصَلَوَاتِ عَلَى قُرُبَاتٍ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ عَطْفًا عَلَى مَا يُنْفِقُ، أَيْ: وَيَتَّخِذُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ قُرْبَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَوَاتُ الرَّسُولِ هِيَ اسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَدْعِيَتُهُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ سَمَّاهَا صَلَوَاتٍ جَرْيًا عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا، وَحِينَ جَاءَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ قَالَ: «آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا» وَالضَّمِيرُ فِي أَنْهَا قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى النَّفَقَاتِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: قُرْبَةٌ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُتَصَدِّقِ بِصِحَّةِ مَا اعْتَقَدَ مِنْ كَوْنِ نَفَقَتِهِ قُرُبَاتٍ وَصَلَوَاتٍ وَتَصْدِيقُ رَجَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ مَعَ حَرْفِ التَّنْبِيهِ، وَهُوَ أَلَا وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَهُوَ إِنَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا فِي السِّينِ مِنْ تَحْقِيقِ الْوَعْدِ، وَمَا أَدَلُّ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تعالى بمكان إذا

_ (1) سورة مريم: 19/ 28. (2) سورة التوبة: 9/ 103.

خَلَصَتِ النِّيَّةُ مِنْ صَاحِبِهَا انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ السِّينَ تُفِيدُ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ: قُرُبَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالسُّكُونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قُرُبَاتٍ أَنَّهُ بِالضَّمِّ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ قُرُبَةٍ فَجَاءَ الضَّمُّ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ قُرْبَةٍ بِالسُّكُونِ فَجَاءَ الضَّمُّ اتِّبَاعًا لِمَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالُوا: ظُلُمَاتٌ فِي جَمْعِ ظُلْمَةٍ. وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ: وَحُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، بَيْعَةَ الْحُدَيْبِيَةِ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ. وَمَنْ فَسَّرَ السَّابِقِينَ بِوَاحِدٍ كَأَبِي بَكْرٍ أَوْ عَلِيٍّ، أَوْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، أَوْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَوْلُهُ بِعِيدٌ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّبْقَ هُوَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُمُ السَّابِقُونَ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، سَبَقُوا إِلَى ثَوَابِ الله وحسن جزائه، ومن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَيْ: وَمِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَوَّلًا وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، وَأَهْلُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ وَكَانُوا سَبْعِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو زُرَارَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَعَلَّمَهُمُ الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ هُمْ جَمِيعُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى أَنِ انْقَضَتِ الْهِجْرَةُ، لَكَانَ قَوْلًا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَتَكُونُ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ هُمْ سَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ التَّابِعُونَ، وَسَائِرُ الْأُمَّةِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِحْسَانِ. وَقَدْ لَزِمَ هَذَا الِاسْمُ الَّذِي هُوَ التَّابِعُونَ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمُ السَّابِقُونَ في الهجرة والنصرة، لِأَنَّ فِي لَفْظِ السَّابِقَيْنِ إِجْمَالًا، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ إِلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ وَهِيَ الْهِجْرَةُ وَالنُّصْرَةُ، وَالسَّبْقُ إِلَى الْهِجْرَةِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا شَاقَّةً عَلَى النَّفْسِ وَمُخَالِفَةً لِلطَّبْعِ، فَمَنْ أَقْدَمَ أَوَّلًا صَارَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ السَّبْقُ فِي النُّصْرَةِ فَازُوا بِمَنْصِبٍ عَظِيمٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَمَّا بين تعالى الصائل الْأَعْرَابِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ، بَيَّنَ حَالَ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْإِعْدَادَيْنِ وَالثَّنَاءَيْنِ، هُنَاكَ قَالَ: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ «1» وَهُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُنَاكَ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ «2» وَهُنَا وَأَعَدَّ لَهُمْ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 99. (2) سورة التوبة: 9/ 99.

جَنَّاتٍ تَجْرِي، وَهُنَاكَ خَتَمَ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» وَهُنَا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى الْكُوفِيُّ، وَسَلَامٌ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَالْأَنْصَارُ: بِرَفْعِ الرَّاءِ عَطْفًا عَلَى وَالسَّابِقُونَ، فَيَكُونُ الْأَنْصَارُ جَمِيعُهُمْ مُنْدَرِجِينَ فِي هَذَا اللَّفْظِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَهِيَ الْجَرُّ، يَكُونُونَ قِسْمَيْنِ: سَابِقٌ أَوَّلُ، وَغَيْرُ أَوَّلَ. وَيَكُونُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِالرِّضَا سَابَقُوهُمْ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ الضَّمِيرُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ عَائِدٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّابِقُونَ مبتدأ ورضي اللَّهُ الْخَبَرُ، وَجَوَّزُوا فِي الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُونَ أَيْ: هُمُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ، أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ يُؤْمِنُ أَيْ: وَمِنْهُمُ السَّابِقُونَ. وَجَوَّزُوا فِي وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَفِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ خَبَرُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالسَّابِقُونَ وَجْهُ الْعَطْفِ، وَوَجْهٌ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ رَضِيَ اللَّهُ، وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مُتَكَلَّفَةٌ لَا تُنَاسِبُ إِعْرَابَ الْقُرْآنَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مِنْ تَحْتِهَا بِإِثْبَاتِ مِنْ الْجَارَّةِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مَصَاحِفِ مكة. وباقي السباعة بِإِسْقَاطِهَا عَلَى مَا رُسِمَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، بِغَيْرِ وَاوٍ صِفَةً لِلْأَنْصَارِ، حَتَّى قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّهَا بِالْوَاوِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِأُبَيٍّ فَقَالَ: تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ الْجُمُعَةِ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «2» وَأَوْسَطِ الحشر: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ «3» وَآخِرِ الْأَنْفَالِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ «4» . وَرُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَؤُهُ بِالْوَاوِ فَقَالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟ فَقَالَ: أُبَيٍّ فَدَعَاهُ فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَانَا وَقَعْنَا وَقْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ: لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ، مَنْ هُوَ مُخْلِصٌ صَالِحٌ، ثُمَّ بَيَّنَ رُؤَسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ هُمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مُنَافِقِينَ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَفِي الْمَدِينَةِ لَا تَعْلَمُونَهُمْ أَيْ: لَا تَعْلَمُونَ أَعْيَانَهُمْ، أَوْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ مُنَافِقِينَ. وَمَعْنَى حَوْلَكُمْ: حَوْلَ بَلْدَتِكُمْ وَهِيَ الْمَدِينَةُ. وَالَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ جُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارٌ، وَمُزَيْنَةُ، وَعُصَيَّةُ، ولحيان، وغيرهم ممن جاوز الْمَدِينَةَ. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وممن، فيكون المجرور أن

_ (1) سورة البقرة: 182/ 192. (2) سورة الجمعة: 62/ 3. (3) سورة الحشر: 59/ 10. (4) سورة الأنفال: 8/ 75.

يَشْتَرِكَانِ فِي الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مُنَافِقُونَ، وَيَكُونُ مَرَدُوا اسْتِئْنَافًا، أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ خِرِّيجُونَ فِي النِّفَاقِ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَرَدُوا صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مُنَافِقُونَ، لِأَجْلِ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَى وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ، فَيَصِيرُ نَظِيرَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَفِي الْقَصْرِ الْعَاقِلُ، وَقَدْ أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَابِعًا لِلزَّجَّاجِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَيُقَدَّرُ مَوْصُوفٌ مَحْذُوفٌ هُوَ الْمُبْتَدَأُ أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ مَرَدُوا، أَوْ مُنَافِقُونَ مَرَدُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: أَنَا ابْنُ جَلَا. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ شِبْهَهُ فِي مُطْلَقٍ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَإِنْ كَانَ شِبْهَهُ فِي خُصُوصِيَّتِهِ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ مَعَ مِنْ وَإِقَامَةَ صِفَتِهِ مَقَامَهُ، وَهِيَ فِي تَقْدِيرِ الِاسْمِ، وَلَا سِيَّمَا فِي التَّفْصِيلِ مُنْقَاسٌ كَقَوْلِهِمْ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ. وأما أن ابْنُ جَلَا فَضَرُورَةُ شِعْرٍ كَقَوْلِهِ: يَرْمِي بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرَمَى الْبَشَرْ أَيْ بِكَفَّيْ رَجُلٍ. وَكَذَلِكَ أَنَا ابْنُ جَلَا تَقْدِيرُهُ: أَنَا ابْنُ رَجُلٍ جَلَا أَيْ كَشَفَ الْأُمُورَ. وَبَيَّنَهَا وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَرَدُوا شَامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَرَدُوا فِي قَوْلِهِ: شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ «1» وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَدُوا، مَرَنُوا وَثَبَتُوا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَتَوْا مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَرَّدَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقَامُوا عَلَيْهِ لَمْ يَتُوبُوا لَا تَعْلَمُهُمْ أَيْ: حَتَّى نُعْلِمَكَ بِهِمْ، أَوْ لَا تَعْلَمُ عَوَاقِبَ أَمْرِهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. أَوْ لَا تَعْلَمُهُمْ مُنَافِقِينَ، لِأَنَّ النِّفَاقَ مُخْتَصٌّ بِالْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ لَفْظُ مُنَافِقِينَ فَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، فَتَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ قَالَهُ: الْكَرْمَانِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُخْفُونَ عَلَيْكَ مَعَ فِطْنَتِكَ وَشَهَامَتِكَ وَصِدْقِ فِرَاسَتِكَ لِفَرْطِ تَوَقِّيهِمْ مَا يُشَكِّكُ فِي أَمْرِهِمْ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قَالَ: فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَكَلَّفُونَ عِلْمَ النَّاسِ؟ فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ، فُلَانٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا سَأَلْتَ أَحَدَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: لَا أَدْرِي أَنْتَ لَعَمْرِي بِنَفْسِكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِأَعْمَالِ النَّاسِ، وَلَقَدْ تَكَلَّفْتَ شَيْئًا مَا تَكَلَّفَهُ الرُّسُلُ. قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٍ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «2» وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «3» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ انْتَهَى. فَلَوْ عَاشَ قَتَادَةُ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي هُوَ قَرْنُ ثَمَانِمِائَةٍ وَسَمِعَ مَا أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبُونَ إِلَى الصُّوفِ من الدعاوى

_ (1) سورة النساء: 4/ 117- 118. (2) سورة الشعراء: 26/ 112. (3) سورة هود: 11/ 86.

وَالْكَلَامِ الْمُبَهْرَجِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّجَرِي عَلَى الْإِخْبَارِ الْكَاذِبِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، لَقَضَى مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ. وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ مِثْلَ مَا حَكَى قَتَادَةُ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِقُرْبِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَثْرَةِ الْخَيْرِ، لَكِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُمْ زَمَانٌ. نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فِي سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ إِبْطَانًا، وَيُبْرِزُونَ لَكَ ظَاهِرًا كَظَاهِرِ الْمُخْلِصِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَشُكُّ مَعَهُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَضُرُوبِهِ، وَلَهُمْ فِيهِ الْيَدُ الطُّولَى انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ تَهْدِيدٌ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ التَّثْنِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «1» أَيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ. كَذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى هَذَا سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَإِذَا كَانَتِ التَّثْنِيَةُ مُرَادَّةً فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الثَّانِيَ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ: هُوَ فَضِيحَتُهُمْ وَوَصْمُهُمْ بِالنِّفَاقِ. وَرُوِيَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةِ بَدْرٍ فَنَدَرَ بِالْمُنَافِقِينَ وَصَرَّحَ وَقَالَ: «اخْرُجْ يَا فُلَانُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ» حَتَّى أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، فَرَآهُمْ عُمَرُ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى الْجُمُعَةِ فَظَنَّ أَنَّ النَّاسَ انْتَشَرُوا، وَأَنَّ الْجُمُعَةِ فَاتَتْهُ، فَاخْتَفَى مِنْهُمْ حَيَاءً، ثُمَّ وَصَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تُقْضَ وَفَهِمَ الْأَمْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جهة التأديب اجتهاد مِنْهُ فِيهِمْ، وَلَمْ يَسْلُخْهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا يَخْرُجُ الْعُصَاةُ وَالْمُتَّهَمُونَ، وَلَا عَذَابَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِمْ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ تَعْيِينٍ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْعَذَابِ انْتَهَى. وَيَبْعُدُ مَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى نِفَاقِ مَنْ أُخْرِجَ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ إِخْرَاجِ الْعُصَاةِ، بَلْ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ عِنْدَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عِلَلٌ وَأَدْوَاءٌ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُ سَيُصِيبُهُمْ بِهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ وَقَالَ: «سِتَّةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ تَأْخُذُ فِي كَتِفِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى صَدْرِهِ، وَسِتَّةٌ يَمُوتُونَ مَوْتًا» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْجُوعِ. قِيلَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هو هو أنهم بِإِقَامَةِ حُدُودِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَرَاهِيَتِهِمْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ هَمُّهُمْ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ. وَقِيلَ: ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا، والثاني

_ (1) سورة الملك: 67/ 40. [.....]

الْجِهَادُ الَّذِي يُؤْمَرُونَ بِهِ قَسْرًا لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ عَذَابًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَرَّتَيْنِ هُمَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كُلُّ صِنْفٍ عَذَابٌ فَهُوَ مَرَّتَانِ، وَقَرَأَ فَلا تُعْجِبْكَ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: إِحْرَاقُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالْآخَرُ إِحْرَاقُهُمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ سَيُعَذِّبُهُمْ بِالْيَاءِ، وَسَكَّنَ عَيَّاشُ عن أبي عمر والياء. وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: نَزَلَتْ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْثَقَ سَبْعَةً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ: كَرْدَمُ، وَمِرْدَاسُ، وَأَبُو قَيْسٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ. وَقِيلَ: سِتَّةٌ أَوْثَقَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ. وَقِيلَ: كَانُوا خَمْسَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثَةً أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَأَوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ خِذَامٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَحْدَهُ. وَيَبْعُدُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ وَآخَرُونَ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ حِينَ قَدِمَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَتْ عَادَتَهُ كُلَّمَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَرَآهُمْ مُوَثَّقِينَ فَسَأَلَ عَنْهُمْ: فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا لَا يَحُلُّونَ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَحُلُّهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فِيهِمْ، رَغِبُوا عَنِّي، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ» فَنَزَلَتْ ، فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ فِي شَأْنِهِ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ اسْتَشَارُوهُ فِي النُّزُولِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَشَارَ هُوَ لَهُمْ إِلَى حَلْقِهِ يُرِيدُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْبَحُهُمْ إِنْ نَزَلُوا، فَلَمَّا افْتَضَحَ تَابَ وَنَدِمَ، وَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَقْسَمَ أن لا يَطْعَمَ وَلَا يَشْرَبَ حَتَّى يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ يَمُوتَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ حَتَّى عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَالِاعْتِرَافُ: الْإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ عَمَلًا صَالِحًا تَوْبَةً وَنَدَمًا، وَآخَرَ سَيِّئًا. أَيْ تَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ قَالَهُ: الطَّبَرِيُّ، أَوْ خُرُوجًا إِلَى الْجِهَادِ قَبْلُ. وَتَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ قَالَهُ: الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. أَوِ تَوْبَةً وَإِثْمًا قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ. وَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْلُوطٌ وَمَخْلُوطٌ بِهِ، كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ، وَهُوَ بِخِلَافِ خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ الْمَاءَ خُلِطَ بِاللَّبَنِ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَتَى خلطت شيئا شيء صَدَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَخْلُوطٌ وَمَخْلُوطٌ بِهِ، مِنْ حَيْثُ مَدْلُولِيَّةُ الْخَلْطِ، لِأَنَّهَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِعْتُ الشَّاءَ شَاةً وَدِرْهَمًا، بِمَعْنَى شاة بدرهم.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 55.

وَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْبَةِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ انْتَهَى. وَجَاءَ بِلَفْظِ عَسَى لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ عَلَى وَجَلٍ، إِذْ لَفْظَةُ عَسَى طَمَعٌ وَإِشْفَاقٌ، فَأُبْرِزَتِ التَّوْبَةُ فِي صُورَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ وَذَلِكَ، صِفَةُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ. مَخْصُوصِينَ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مِنْ تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَتَابُوا رَآهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، وَأَنَّهُمْ خُلِطَتْ أَلْوَانُهُمْ بَعْدَ اغْتِسَالِهِمْ فِي أَنْهُرَ ثَلَاثَةٍ، وَجَلَسُوا إِلَى أَصْحَابِهِمُ الْبِيضِ الْوُجُوهِ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ خَلَطُوا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا وَطَهِّرْنَا، فَقَالَ: «مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا» فَنَزَلَتْ. فَيُرْوَى أَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ مُرَاعَاةً لِقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. فَقَوْلُهُ: عَلَى هَذَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ هُوَ لِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ، وَالنَّاسُ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْأَمْوَالِ، إِذْ يَخْرُجُ عَنْهُ الْأَمْوَالُ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِيهَا كَالرَّبَاعِ وَالثِّيَابِ. وَفِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ كالعبيد، وصدقة مُطْلَقٌ، فَتَصْدُقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ. وَإِطْلَاقُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَفِي قَوْلِهِ: خُذْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَخْذَ الصَّدَقَاتِ وَيَنْظُرُ فيها. ومن أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهم حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خُذْ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ خُذْ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، فَلَمَّا تَقَدَّمَ كَانَ حَالًا، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ تُطَهِّرُهُمْ صِفَةً، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ تُطَهِّرُهُمْ عَائِدًا عَلَى صَدَقَةٍ، وَيَبْعُدُ هذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضمير أن، فَأَمَّا مَا حَكَى مَكِّيٌّ مِنْ أَنَّ تُطَهِّرُهُمْ صِفَةٌ للصدقة وتزكيهم حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خُذْ، فَقَدْ رُدَّ بِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: صَدَقَةً مُطَهِّرَةً وَمُزَكِّيًا بِهَا، وَهَذَا فَاسِدُ الْمَعْنَى، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ وَاوٍ جَازَ انْتَهَى. وَيَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: وَأَنْتَ تُزَكِّيهِمْ، لَكِنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ نَظِيرِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالتَّزْكِيَةُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّطَهُّرِ وَزِيَادَةٌ فِيهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْإِنْمَاءِ وَالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُطَهِّرُهُمْ مِنْ أَطْهَرَ وَاطَّهَّرَ وَطَهَّرَ لِلتَّعْدِيَةِ مَنْ طَهُرَ. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أَيْ ادْعُ لَهُمْ، أَوِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِذَا

مَاتُوا، أَقْوَالٌ. وَمَعْنَى سَكَنٌ: طُمَأْنِينَةٌ لَهُمْ، أَنَّ اللَّهَ قَبِلَ صَدَقَتَهُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ رَحْمَةٌ لَهُمْ قَالَهُ أَيْضًا، أَوْ قُرْبَةٌ قَالَهُ أَيْضًا، أَوْ زِيَادَةُ وَقَارٍ لَهُمْ قَالَهُ: قَتَادَةُ، أَوْ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ، أَوْ أَمْنٌ لَهُمْ. قَالَ: يَا جَارَةَ الْحَيِّ إِنْ لَا كُنْتِ لِي سَكَنًا ... إِذْ لَيْسَ بَعْضٌ مِنَ الْجِيرَانِ أَسْكَنَنِي وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: إنما كانت صلاته سَكَنًا لَهُمْ لِأَنَّ رُوحَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ رُوحًا قَوِيَّةً مُشْرِقَةً صَافِيَةً، فَإِذَا دَعَا لَهُمْ وَذَكَرَهُمْ بِالْخَيْرِ ثَارَتْ آثَارٌ مِنْ قُوَّتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ فَأَشْرَقَتْ بِهَذَا السَّبَبِ أَرْوَاحُهُمْ، وَصَفَتْ سَرَائِرُهُمْ، وَانْقَلَبُوا مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ الْجُسْمَانِيَّةِ إِلَى الرُّوحَانِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بْنُ سُلَيْمَانَ عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ فِي كِتَابِهِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: كَلَامُ الرَّازِيُّ كَلَامٌ فَلْسَفِيٌّ يُشِيرُ فِيهِ إِلَى أَنَّ قُوَى الْأَنْفُسِ مُؤَثِّرَةٌ فَعَّالَةٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: فِي هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِفِينَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ هُمْ سِوَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: إِنَّ صَلَاتَكَ هُنَا، وَفِي هُودٍ صَلَاتَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَمْعِ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ بِاعْتِرَافِهِمْ، عَلِيمٌ بِنَدَامَتِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا بِالْأَمْسِ مَعَنَا لَا يُكَلَّمُونَ وَلَا يُجَالَسُونَ، فَنَزَلَتْ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ بِخِلَافٍ عَنْهُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُتَخَلِّفِينَ الَّذِينَ قَالُوا: مَا هَذِهِ الْخَاصَّةُ الَّتِي يُخَصُّ بِهَا هَؤُلَاءِ؟ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ لِلْقَوْلِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ التَّائِبِينَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْيَاءِ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ وَتَأْكِيدٌ أَنَّ اللَّهَ مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَمَا عَلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُتَابَ عَلَيْهِمْ وَتُقْبَلَ صَدَقَاتُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ، وَيَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ الْخَالِصَةَ النِّيَّةِ لِلَّهِ؟ وقيل: وجه التخصيص بهو، هُوَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ وَأَخْذَ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، فَاقْصِدُوهُ وَوَجِّهُوهَا إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ مَعْنَاهُ قَبُولُهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَنَّى فِيهَا عَنِ الْقَبُولِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ قَدْرَ اللُّقْمَةِ، فَيَأْخُذُهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى يَأْمُرُ بِهَا وَيَشْرَعُهَا كَمَا تَقُولُ: أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنَ النَّاسِ كَذَا إِذَا حملهم على

أدائه. وعن بِمَعْنَى مِنْ، وَكَثِيرًا مَا يُتَوَصَّلُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِهَذِهِ، وَهَذِهِ تَقُولُ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ غِنًى وَمِنْ غِنًى، وَفَعَلَ ذَلِكَ فُلَانٌ مِنْ أَسْرِهِ وَنَظَرِهِ، وَعَنْ أَسْرِهِ وَنَظَرِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: كَلِمَةُ مِنْ وَكَلِمَةُ عَنْ مُتَقَارِبَتَانِ، إِلَّا أَنَّ عَنْ تُفِيدُ الْبُعْدَ. فَإِذَا قِيلَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَمِيرِ أَفَادَ أَنَّهُ جَلَسَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَلَكِنْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْبُعْدِ فَيُفِيدُهَا أَنَّ التَّائِبَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ قَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَيَحْصُلُ لَهُ انْكِسَارُ الْعَبْدِ الَّذِي طَرَدَهُ مَوْلَاهُ وَبُعْدُهُ عَنْ حَضْرَتِهِ. فَلَفَظَةُ عَنْ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّائِبِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَوْضُوعِ عَنْ أَنَّهَا لِلْمُجَاوَزَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَخَذْتُ الْعِلْمَ عَنْ زَيْدٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ جَاوَزَ إِلَيْكَ، وَإِذَا قُلْتَ: مِنْ زَيْدٍ دَلَّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَأَنَّهُ ابْتِدَاءُ أَخْذِكَ إياه من زيد. وعن أَبْلَغُ لِظُهُورِ الِانْتِقَالِ مَعَهُ، وَلَا يَظْهَرُ مَعَ مِنْ. وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا جَاوَزَتْ تَوْبَتُهُمْ عَنْهُمْ إِلَى اللَّهِ، اتَّصَفَ هُوَ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَّصِفٌ بِالتَّوْبَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا النِّسْبَةِ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ: «وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» ؟. وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: صِيغَةُ أَمْرٍ ضَمَّنَهَا الْوَعِيدَ، وَالْمُعْتَذِرُونَ التَّائِبُونَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ، هُمُ الْمُخَاطَبُونَ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُعْتَذِرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ. فَسَيَرَى اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِهِ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ لِلْمُعْتَذِرِينَ الْخَالِطِينَ التَّائِبِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ أُبْرِزُوا بِقَوْلِهِ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ، إِبْرَازَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «1» وَسَيَرَى الْآيَةَ تَنْقِيصًا مِنْ حَالِهِمْ وَتَنْفِيرًا عَمَّا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ تَابُوا لَيْسُوا كَالَّذِينَ جَاهَدُوا مَعَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لَا يَرْغَبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ: هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُعْرِضِينَ لِلتَّوْبَةِ مَعَ بِنَائِهِمْ مسجد الضرار. وقرأ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 94.

الْحَسَنُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ نَصَّاحٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: مُرْجَوْنَ وترجي بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، لأمر الله أي الحكمة، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إِنْ أَصَرُّوا وَلَمْ يَتُوبُوا، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ تَابُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَرْجَأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَضْرَتِهِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ أَرْجَأَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُمْ بِمَا عَلِمَ مِنْهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا. وإما مَعْنَاهَا الْمَوْضُوعَةُ لَهُ هُوَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، فَيَنْجَرُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَهِيَ هُنَا عَلَى أَصْلِ مَوْضُوعِهَا وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ مَا زَعَمُوا أَنَّهَا وُضِعَتْ لَهُ وَضْعَ الِاشْتِرَاكِ. والله عليم بما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِهِمْ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ لَمَّا ذَكَرَ طَرَائِقَ ذَمِيمَةً لِأَصْنَافِ الْمُنَافِقِينَ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا ذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي الشَّرِّ حَتَّى ابْتَنَى مَجْمَعًا لِلْمُنَافِقِينَ يُدَبِّرُونَ فِيهِ مَا شَاءُوا مِنَ الشَّرِّ، وَسَمَّوْهُ مَسْجِدًا. وَلَمَّا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَبَعَثُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَصَلَّى فِيهِ وَدَعَا لَهُمْ، حَسَدَهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ بَنُو غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ، وَبَنُو سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَحَرَّضَهُمْ أَبُو عَمْرٍو الْفَاسِقُ عَلَى بِنَائِهِ حِينَ نَزَلَ الشَّامَ هَارِبًا من وقعة حنين فراسلهم فِي بِنَائِهِ وَقَالَ: ابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ آتِي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَبَنَوْهُ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ. وَمِنْ دَارِهِ أَخْرَجَ الْمَسْجِدَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ، وَنَبْتَلُ بْنُ الحرث، وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَنِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَزْهَرُ، وبخرج بْنُ عَمْرٍو، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَالشَّاتِيَةِ، وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تصلي لنا فيه، وتدعوا لَنَا بِالْبَرَكَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ وشغل، وَإِذَا قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَلَّيْنَا فِيهِ» وَكَانَ إِمَامُهُمْ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَكَانَ غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ حَسَنَ الصَّوْتِ، وَهُوَ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ إِمَامَةَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى الْكُوفَةِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ بَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَدَعَا مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَمَعْنًا وَعَاصِمًا ابْنَيْ عَدِيٍّ. وَقِيلَ: بَعَثَ عَمَّارَ بْنَ

يَاسِرٍ وَوَحْشِيًّا قَاتِلَ حَمْزَةَ بِهَدْمِهِ وَتَحْرِيقِهِ، فَهُدِمَ وَحُرِّقَ بِنَارٍ فِي سَعَفٍ، وَاتُّخِذَ كُنَاسَةً تُرْمَى فِيهَا الْجِيَفُ وَالْقُمَامَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: صَلَّوْا فِيهِ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَانْهَارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَلَمْ يُحَرَّقْ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَابْنُ عَامِرٍ: الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ، كَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ تَقْدِيرُهُ: هُمُ الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْخَبَرُ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ بِإِضْمَارِ إِمَّا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَإِمَّا فِي آخِرِهَا بِتَقْدِيرِ لَا تَقُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ. وَقَالَ النَّحَّاسُ وَالْحَوْفِيُّ: الْخَبَرُ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مُعَذَّبُونَ أَوْ نَحْوُهُ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: وَالَّذِينَ بِالْوَاوِ عَطْفًا عَلَى وَآخَرُونَ أَيْ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خبره كخبر بِغَيْرِ الْوَاوِ إِذَا أُعْرِبَ مُبْتَدَأً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَا مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ (قُلْتُ) : مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «1» وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ فِيمَنْ وَصَفْنَا الَّذِينَ اتَّخَذُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «2» وَانْتَصَبَ ضِرَارًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: مُضَارَّةً لِإِخْوَانِهِمْ أصحاب مسجد قباء، ومعازّة وَكُفْرًا وَتَقْوِيَةً لِلنِّفَاقِ، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ مُجْتَمِعِينَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَيَغْتَصُّ بِهِمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَفْتَرِقُوا عَنْهُ وَتَخْتَلِفَ كَلِمَتُهُمْ، إِذْ كَانَ مَنْ يُجَاوِزُ مَسْجِدَهُمْ يَصْرِفُونَهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ دَاعِيَةٌ إِلَى صَرْفِهِ عَنِ الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لا تخذوا، وَإِرْصَادًا أَيْ: إِعْدَادًا لِأَجْلِ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ أَعَدُّوهُ لَهُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَيَظْهَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ تَعَبَّدَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسُمِّيَ الرَّاهِبَ، وَسَمَّاهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْفَاسِقَ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ نَظِيرًا وَقَرِيبًا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي بن سَلُولَ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ نَافَقَ وَلَمْ يَزَلْ مُجَاهِرًا بِذَلِكَ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مُحَاوَرَةٍ: «لَا أَجِدُ قَوْمًا يُقَاتِلُونَكَ إِلَّا قَاتَلْتُكَ مَعَهُمْ» فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُ وَحَزَّبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحْزَابَ، فَلَمَّا رَدَّهُمُ الله بغيظهم أقام بمكة مُظْهِرًا لِلْعَدَاوَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ هَرَبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ هَرَبَ إِلَى الشَّامِ يُرِيدُ قيصر

_ (1) سورة النساء: 4/ 162. (2) سورة المائدة: 5/ 38.

مُسْتَنْصِرًا عَلَى الرَّسُولِ، فَمَاتَ وَحِيدًا طَرِيدًا غَرِيبًا بِقِنِّسَرِينَ، وَكَانَ قَدْ دَعَا بِذَلِكَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَمَّنَ الرَّسُولُ، فَكَانَ كَمَا دَعَا ، وَفِيهِ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ فِعْلٍ خَبِيثٍ ... كَسَعْيِكَ فِي الْعَشِيرَةِ عَبْدَ عَمْرٍو وَقُلْتَ بِأَنَّ لِي شَرَفًا وَذِكْرًا ... فَقَدْ تَابَعْتَ إِيمَانًا بِكُفْرِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَإِرْصَادًا لِلَّذِينَ حَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ من قبل متعلقا بحارب، يُرِيدُ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَغَيْرِهَا، أَيْ: مِنْ قَبْلِ اتِّخَاذِ هَذَا الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قبل؟ (قلت) : باتخذوا أَيْ: اتَّخَذُوا مَسْجِدًا مِنْ قَبْلُ أَنْ يُنَافِقَ هَؤُلَاءِ بِالتَّخَلُّفِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، والخالف هو بخرج أي: مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ إِلَّا الْحُسْنَى وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ ضَعُفَ أَوْ عَجَزَ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ إِلَّا الْخَصْلَةَ الْحُسْنَى، أَوْ لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَسُّعُ عَلَى الْمُصَلِّينَ انْتَهَى. كَأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الْخَصْلَةَ الْحُسْنَى جَعَلَهُ مَفْعُولًا، وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى جَعَلَهُ عِلَّةً، وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَ أَرَادَ مَعْنَى قَصَدَ أَيْ: مَا قَصَدْنَا بِبِنَائِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَهَذَا وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ، وَنَهَاهُ أَنْ يَقُومَ فِيهِ فَقَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا نَهَاهُ لِأَنَّ بُنَاتَهُ كانوا خادعوا الرسول، فَهَمَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَشْيِ مَعَهُمْ، وَاسْتَدْعَى قَمِيصَهُ لِيَنْهَضَ فَنَزَلَتْ: «لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا» ، وَعَبَّرَ بِالْقِيَامِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِرْقَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: الْمُؤَسَّسُ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدُ قُبَاءٍ، أَسَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى فِيهِ أَيَّامَ مَقَامِهِ بقباء، وَهِيَ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَمِيسِ، وَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُوَازَنَةَ بَيْنَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ أَوْقَعُ مِنْهَا بَيْنَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَذَلِكَ لَائِقٌ بِالْقِصَّةِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى. وَإِذَا صَحَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يُمْكِنْ خِلَافُهُ، وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ عَلَى الزَّمَانِ، وَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ عَلَى أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ، وَتَأَوَّلَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهَا لَا تَجُرُّ الْأَزْمَانَ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ عِنْدِي أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ تَجُرُّ لَفْظَةَ أَوَّلِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبُدَاءَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ مُبْتَدَأِ

الْأَيَّامِ، وَقَدْ حُكِيَ لِي هَذَا الَّذِي اخْتَرْتُهُ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ انْتَهَى. وأحق بِمَعْنَى حَقِيقٌ، وَلَيْسَتْ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، إِذْ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ فِي الْحَقِّ، وَالتَّاءُ فِي أَنْ تَقُومَ تَاءُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدٍ: فِيهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِيهُ الثَّانِيَةَ بِضَمِّ الْهَاءِ جَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَالْأَصْلُ الضَّمُّ، وَفِيهِ رَفْعُ تَوَهُّمِ التَّوْكِيدِ، وَرَفَعَ رِجَالٌ فَيَقُومُ إِذْ فِيهِ الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَجَوَّزُوا فِي فِيهِ رِجَالٌ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَسْجِدٍ، وَالْحَالَ، وَالِاسْتِئْنَافَ. وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ رَأَيْتُ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْكُمْ بِالطَّهُورِ فَمَاذَا تَفْعَلُونَ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا رَأَيْنَا جِيرَانَنَا مِنَ الْيَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالْمَاءِ يُرِيدُونَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ فَفَعَلْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ نَدَعْهُ فَقَالَ: «فَلَا تَدَعُوهُ إِذًا» وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ وَاخْتِلَافٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ أَوْ بِالْمَاءِ أَيُّهِمَا أَفْضَلُ؟ وَرَأَتْ فِرْقَةٌ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَشَذَّ ابْنُ حَبِيبٍ فَقَالَ: لَا يُسْتَنْجَى بِالْحِجَارَةِ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ، فَعَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَكُونُ التَّطْهِيرُ عِبَارَةً عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي النَّجَاسَاتِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ التَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ. وَقِيلَ: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِالْحُمَّى الْمُكَفِّرَةِ لِلذُّنُوبِ، فَحُمُّوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَفِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ شَكَوَا الْحُمَّى فَقَالَ «إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَزَالَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُهَا لَكُمْ طُهْرَةً» فَقَالُوا: بَلِ اجْعَلْهَا لَنَا طُهْرَةً. وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِمُ التَّطْهِيرُ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ حِرْصَ الْمُحِبِّ الشَّيْءَ الْمُشْتَهَى لَهُ عَلَى أَشْيَاءَ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُحِبُّ بِمَحْبُوبِهِ. وَقَرَأَ ابْنٌ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ: يَطَّهَرُوا بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمُتَطَهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: أَسَّسَ بُنْيَانَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ ذَلِكَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِنَصْبِ بُنْيَانَ. وَقَرَأَ عُمَارَةُ بْنُ عَائِذٍ الْأُولَى عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَرُوِيَتْ عَنْ نصر بن عاصم أسس بُنْيَانَهُ، وَعَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي حَيْوَةَ وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَيْضًا، أَسَاسُ جَمْعُ أُسٍّ. وَعَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَسُسَ بِهَمْزَةٍ

مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء إِسَاسُ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ جُمُوعٌ أضيفت إلى البنيان. وقرىء أساس بفتح الهمزة، وأس بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُمَا مُفْرَدَانِ أُضِيفَا إِلَى الْبُنْيَانِ، فَهَذِهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ: أَفَمَنْ أَسَسُ بِالتَّخْفِيفِ وَالرَّفْعِ، بُنْيَانِهِ بِالْجَرِّ على الإضافة، فأسس مَصْدَرُ أَسَّ: الْحَائِطَ يَؤُسُّهُ أَسًّا وَأَسَسًا. وَعَنْ نَصْرٍ أَيْضًا أَسَاسُ بُنْيَانِهِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِالْأَلِفِ، وَأَسٌّ وَأَسَسٌ وَأَسَاسٌ كُلٌّ مَصَادِرُ انْتَهَى. وَالْبُنْيَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ، أُطْلِقَ عَلَى الْمَبْنَى كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ بُنْيَانَةٌ قَالَ الشَّاعِرَ: كَبُنْيَانَةِ الْقَارِيِّ مَوْضِعُ رَحْلِهَا ... وَآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنَ الدَّفِّ أَبْلَقُ وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى تَقْوًى بِالتَّنْوِينِ، وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ سِيبَوَيْهِ، وَرَدَّهَا النَّاسُ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قِيَاسُهَا أَنْ تَكُونَ أَلِفُهَا لِلْإِلْحَاقِ كَأَرْطَى. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: حَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، جُرْفٍ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ الضَّمُّ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَانْهَارَتْ بِهِ قَوَاعِدُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ تَبْيِينُ حَالَيِ الْمَسْجِدَيْنِ: مَسْجِدِ قُبَاءٍ، أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَانْتِفَاءُ تَسَاوِيهِمَا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَانْهَارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ إِذْ أَرْسَلَ الرسول بهدمه رؤي مِنْهُ الدُّخَانُ يَخْرُجُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يُدْخِلُ فِيهِ سَعَفَةً مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ فَيُخْرِجُهَا سَوْدَاءَ مُحْتَرِقَةً، وَكَانَ يَحْفِرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي انْهَارَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ دُخَانٌ. وَقِيلَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ أَيْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَبَيَّنَ أَنَّ بِنَاءَ الْكَافِرِ كَبِنَاءٍ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ يَتَهَوَّرُ أَهْلُهُ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ بِعَيْنِهِ انْهَارَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ قَالَهُ: قتادة، وابن جريج. وخير لَا شَرِكَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي خَيْرٌ إِلَّا عَلَى مُعْتَقَدٍ بَانِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَبِحَسَبِ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدِ صَحَّ التَّفْضِيلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ عَلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الْقَوَاعِدِ وَأَوْهَاهَا وَأَقَلُّهَا بَقَاءً وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مَثَلُهُ مَثَلُ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فِي قِلَّةِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْسَاكِ؟ وُضِعَ شَفَا الْجُرُفِ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْوَى، لَا جُعِلَ مَجَازًا عَنْ مَا يُنَافِي التَّقْوَى.

(فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا جُعِلَ الْجُرُفُ الْهَائِرُ مَجَازًا عَنِ الْبَاطِلِ قِيلَ: فَانْهَارَ بِهِ عَلَى مَعْنَى فَطَاحَ بِهِ الْبَاطِلُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ رَشَّحَ الْمَجَازَ فَجِيءَ بِلَفْظِ الِانْهِيَارِ الَّذِي هُوَ لِلْجُرُفِ، وَلِتَصَوُّرِ أَنَّ الْبَاطِلَ كَأَنَّهُ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ فَانْهَارَ بِهِ ذَلِكَ الْجُرُفُ فَهَوَى فِي قَعْرِهَا، وَلَا نَرَى أَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَلَا أَدَلَّ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَاطِلِ. وَكُنْهِ أَمْرِهِ وَالْفَاعِلُ فَانْهَارَ أَيْ: الْبُنْيَانُ أَوِ الشَّفَا أَوِ الْجُرُفُ بِهِ، أَيْ: الْمُؤَسِّسِ الْبَانِي، أَوِ انْهَارَ الشَّفَا أَوِ الْجُرُفُ بِهِ أَيْ: بِالْبُنْيَانِ. وَيَسْتَلْزِمُ انْهِيَارَ الشَّفَا وَالْبُنْيَانِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ انْهِيَارُ أَحَدِهِمَا انْهِيَارَهُ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، إِشَارَةٌ إِلَى تَعَدِّيهِمْ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ حَيْثُ بَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ، إِذِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ يُخْلَصَ فِيهَا الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، فَبَنَوْهُ ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُنْيَانُ هُنَا مَصْدَرًا أَيْ: لَا يَزَالُ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَهُوَ الْبُنْيَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَبْنَى، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لَا يَزَالُ بِنَاءَ الْمَبْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَزَالُونَ شَاكِّينَ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: غَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ سَبَبَ غَيْظٍ. وَقِيلَ: كُفْرًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَسَفًا وَنَدَامَةً. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: حَسْرَةً وَنَدَامَةً، لِأَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى بُنْيَانِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لَا يَزَالُ هَدْمُ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً أَيْ: حَزَازَةً وَغَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي بَنَوْا تَأْكِيدٌ وَتَصْرِيحٌ بِأَمْرِ الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ الْإِشْكَالِ، وَالرِّيبَةُ الشَّكُّ، وَقَدْ يُسَمَّى رِيبَةً فَسَادُ الْمُعْتَقَدِ وَاضْطِرَابُهُ، وَالْإِعْرَاضُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّخْبِيطُ فِيهِ. وَالْحَزَازَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَكًّا فَقَدْ يَرْتَابُ مَنْ لَا يَشُكُّ، وَلَكِنَّهَا فِي مُعْتَادِ اللُّغَةِ تَجْرِي مَعَ الشَّكِّ. وَمَعْنَى الرِّيبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ الْحَيْقَ، وَاعْتِقَادَ صَوَابِ فِعْلِهِمْ، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُؤَدِّي كُلُّهُ إِلَى الرِّيبَةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَمَقْصِدُ الْكَلَامِ: لَا يَزَالُ هَذَا الْبُنْيَانُ الَّذِي هُدِمَ لَهُمْ يُبْقِي فِي قُلُوبِهِمْ حَزَازَةً وَأَثَرَ سُوءٍ. وَبِالشَّكِّ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الرِّيبَةَ هُنَا، وَفَسَّرَهَا السُّدِّيُّ بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ لَهُ: أَفَكَفَرَ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهَا حَزَازَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمُجَمِّعٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ أَقْسَمَ لِعُمَرَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بَاطِنَ القوم، ولا قصد سوء. وَالْآيَةُ إِنَّمَا عَنَتْ مَنْ أَبْطَنَ سُوءًا. وَلَيْسَ مُجَمِّعٌ مِنْهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَزَالُونَ مُرِيبِينَ بِسَبَبِ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي اتَّضَحَ فِيهِ نِفَاقُهُمْ. وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّ الرِّيبَةَ فِي الْآيَةِ نعم مَعَانِيَ كَثِيرَةً يَأْخُذُ كُلُّ مُنَافِقٍ مِنْهَا بِحَسَبِ قَدْرِهِ مِنَ

النِّفَاقِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: جَعَلَ نَفْسَ الْبُنْيَانِ رِيبَةً لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِتَخْرِيبِ مَا فَرِحُوا بِبِنَائِهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَازْدَادَ بعضهم لَهُ، وَارْتِيَابُهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ، أَوِ اعْتَقَدُوا هَدْمَهُ مِنْ أَجْلِ الْحَسَدِ، فَارْتَفَعَ إِيمَانُهُمْ وَخَافُوا الْإِيقَاعَ بِهِمْ قَتْلًا وَنَهْبًا، أَوْ بَقَوْا شَاكِّينَ: أَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ؟ انْتَهَى، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: يَتَقَطَّعَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ، مُضَارِعُ قَطَّعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقرىء يَقْطَعَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَيَعْقُوبُ: إِلَى أَنْ نَقْطَعَ، وَأَبُو حَيْوَةَ إِلَى أَنْ تُقَطِّعَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَنَصْبِ قُلُوبَهَمْ خِطَابًا لِلرَّسُولِ أَيْ: تَقْتُلَهُمْ، أَوْ فِيهِ ضَمِيرُ الرِّيبَةِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا أَصْحَابُهُ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: إِنْ قَطَعْتَ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَلَوْ قَطَّعْتَ قُلُوبَهُمْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كُلِّ مُخَاطَبٍ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: حَتَّى الْمَمَاتِ، وَفِيهِ حَتَّى تُقْطَعَ. فَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَنَصْبِ الْقُلُوبِ فَالْمَعْنَى: بِالْقَتْلِ. وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَرَأَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنِ زيد وغيرهم: بِالْمَوْتِ أَيْ: إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِلَى أَنْ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إِلَى أَنْ يَتُوبُوا عَمَّا فَعَلُوا، فَيَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قُطِعَ قَلْبُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ هَذَا بِظَاهِرٍ، إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً نَصُوحًا يَكُونُ مَعَهَا مِنَ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ مَا يَقْطَعُ الْقُلُوبَ هَمًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَزَالُ يُبْدِيهِ سَبَبُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ زَائِدٌ عَلَى شَكِّهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، لَا يَزَالُ وَسْمُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا يَضْمَحِلُّ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قِطَعًا وَتُفَرَّقَ أَجْزَاءً، فَحِينَئِذٍ يَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا دَامَتْ سَلِيمَةً مُجْتَمِعَةً فَالرِّيبَةُ قَائِمَةٌ فِيهَا مُتَمَكِّنَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةَ تَقْطِيعِهَا وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ بِقَتْلِهِمْ، أَوْ فِي الْقُبُورِ، أَوْ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَتَقَطَّعُ بِهَا قُلُوبُهُمْ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ، حَكِيمٌ فِي عُقُوبَاتِهِمْ. إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: نَزَلَتْ فِي الْبَيْعَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الَّتِي أَنَافَ فِيهَا رِجَالٌ الْأَنْصَارِ عَلَى السَّبْعِينَ، وَكَانَ أَصْغَرُهُمْ سِنًّا عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو. وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَقَالُوا: اشْتَرِطْ لَكَ وَلِرَبِّكَ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَاشْتَرَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَايَتَهُ مِمَّا يَحْمُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ، وَاشْتَرَطَ لِرَبِّهِ الْتِزَامَ الشَّرِيعَةِ وَقِتَالَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فِي الدَّفْعِ عَنِ الْحَوْزَةِ فَقَالُوا: مَا لَنَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، فَقَالُوا: نَعَمْ رَبِحَ الْبَيْعُ، لَا تُقِيلُ وَلَا نُقَائِلُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ. وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَكَبَّرَ النَّاسُ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَ رِكَابِهِ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَقَالَ: بَيْعٌ رَبِحٌ لَا تُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَخَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا وَاللَّهِ إِنْ فِي الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَقَدْ أَحْدَثَ بَيْعَتَهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْأَعْمَشُ: وَأَمْوَالَهُمْ بِالْجَنَّةِ، مَثَّلَ تَعَالَى إِثَابَتَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَذْلِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِهِ بِالشِّرَاءِ، وَقَدَّمَ الْأَنْفُسَ عَلَى الْأَمْوَالِ ابْتِدَاءً بِالْأَشْرَفِ وَبِمَا لَا عِوَضَ لَهُ إِذَا فُقِدَ. وَفِي لَفْظَةِ اشْتَرَى لَطِيفَةٌ وَهِيَ: رَغْبَةُ الْمُشْتَرِي فِيمَا اشتراه واعتباطه بِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَاعُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ هُوَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَنْ لَا يَعْمَلُوهَا إِلَّا فِي طَاعَةٍ، وَأَمْوَالَهُمْ أَنْ لَا يُنْفِقُوهَا إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا أَعَمُّ مِنْ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يُقَاتِلُونَ مُسْتَأْنَفًا، ذَكَرَ أَعْظَمَ أَحْوَالِهِمْ، وَنَبَّهَ عَلَى أَشْرَفَ مَقَامِهِمْ. وَعَلَى الظَّاهِرِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ يُقَاتِلُونَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ: أَوَّلًا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَثَانِيًا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَخَوَانِ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِذِ الْغَرَضُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتَلُونَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَنْ يُقْتَلُ، وَفِيهِمْ مَنْ يَقْتُلُ، وَفِيهِمْ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقَعُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ تَحْصُلُ مِنْهُمُ الْمُقَاتَلَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَاتِلُونَ فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ «1» انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ لَا يَقَعُ حَالًا. وَانْتَصَبَ وَعْدًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى اشْتَرَى بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي التوراة

_ (1) سورة الصف: 61/ 11.

وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُمِرَتْ بِالْجِهَادِ وَوُعِدَتْ عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ، فَيَكُونُ فِي التَّوْرَاةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: اشْتَرَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِتَقْدِيرِ قَوْلِهِ مَذْكُورًا، وَهُوَ صِفَةٌ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ إِنَّمَا هَدْيُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ وَالْقِتَالِ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَمَنْ أَوْفَى اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ أَيْ: لَا أَحَدَ، وَلَمَّا أَكَّدَ الْوَعْدَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ حَقًّا أَبْرَزَهُ هُنَا فِي صُورَةِ الْعَهْدِ الَّذِي هُوَ آكَدُ وَأَوْثَقُ مِنَ الْوَعْدِ، إِذِ الْوَعْدُ فِي غَيْرِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزٌ إِخْلَافُهُ، وَالْعَهْدُ لَا يَجُوزُ إِلَّا الْوَفَاءُ بِهِ، إِذْ هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَعْدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ إِخْلَافَ الْمِيعَادِ قَبِيحٌ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْكِرَامُ مِنَ الْخَلْقِ مَعَ جَوَازِهِ عَلَيْهِمْ لِحَاجَتِهِمْ، فَكَيْفَ بِالْغَنِيِّ الَّذِي لَا يجوز عليه قبيح قطه؟ ولا ترى ترى غيبا فِي الْجِهَادِ أَحْسَنَ مِنْهُ وَأَبْلَغَ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَاسْتِعْمَالُ قَطُّ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَعَ قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ قَبِيحٌ قَطُّ. وَقَطُّ ظَرْفٌ مَاضٍ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الْمَاضِي. ثُمَّ قَالَ: فَاسْتَبْشِرُوا، خَاطَبَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ فِي مُوَاجَهَتِهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْخِطَابِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ، وَهِيَ حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ هُنَا. وَلَيْسَتِ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَاسْتَوْقَدَ وأوقد. والذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَصْفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَمُحِيلٌ عَلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ. ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ: الظَّفَرُ لِلْحُصُولِ عَلَى الرِّبْحِ التَّامِّ، وَالْغِبْطَةُ فِي الْبَيْعِ لِحَطِّ الذَّنْبَ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ. التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَا، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ؟ فَنَزَلَتْ التَّائِبُونَ الْآيَةَ. وَهَذِهِ أَوْصَافُ الْكَمَلَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِيَسْتَبِقَ إِلَى التَّحَلِّي بِهَا عِبَادُهُ، وَلِيَكُونُوا عَلَى أَوْفَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ. وَآيَةُ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا شَيْءٌ سِوَى الْإِيمَانُ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ. وَالشَّهَادَةُ مَاحِيَةٌ لِكُلِّ ذَنْبٍ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُ عَنِ الشَّهِيدِ مَظَالِمَ الْعِبَادِ وَيُجَازِيهِمْ عَنْهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الصِّفَاتُ شَرْطٌ فِي الْمُجَاهِدِ. وَالْآيَتَانِ مُرْتَبِطَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُبَايَعَةِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَأَلَ الضَّحَّاكَ رَجُلٌ عَنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ

اللَّهَ اشْتَرى «1» الْآيَةَ وَقَالَ: لِأَحْمِلَنَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأُقَاتِلُ حَتَّى أُقْتَلَ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَيْلَكَ أَيْنَ الشَّرْطُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْآيَةَ؟ وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ حَرَجٌ وَتَضْيِيقٌ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَرَتَّبَ إِعْرَابُ التَّائِبُونَ، فَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَذْكُورٌ وَهُوَ الْعَابِدُونَ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ: التَّائِبُونَ فِي الْحَقِيقَةِ الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ الْآمِرُونَ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ بَعْدَ تَمَامِ الْأَوْصَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَالَهُ الزَّجَّاجُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «2» وَلِذَلِكَ جَاءَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «3» وَعَلَى هَذِهِ الْأَعَارِيبِ تَكُونُ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مُنْفَصِلٌ مِنْ مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: التَّائِبُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُمُ التَّائِبُونَ، أَيْ الَّذِينَ بَايَعُوا اللَّهَ هُمْ التَّائِبُونَ، فَيَكُونُ صِفَةً مَقْطُوعَةً لِلْمَدْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ قراءة أبي وعبد الله وَالْأَعْمَشِ: التَّايِبِينَ بِالْيَاءِ إِلَى وَالْحَافِظِينَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَهُ أَيْضًا: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّائِبُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُقَاتِلُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّائِبُونَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَقِيلَ: عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَابِدُونَ بِالصَّلَاةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا الْمُطِيعُونَ بِالْعِبَادَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْمُوَحِّدُونَ السَّائِحُونَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وَغَيْرُهُمَا: الصَّائِمُونَ شُبِّهُوا بِالسَّائِحِينَ في الأرض، لا متناعهم مِنْ شَهَوَاتِهِمْ. وَعَنْ عَائِشَةَ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قِيلَ: لِلصَّائِمِ سَائِحٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ مُتَعَبِّدٌ لَا زَادَ مَعَهُ، كَانَ مُمْسِكًا عَنِ الْأَكْلِ، وَالصَّائِمُ مُمْسِكٌ عَنِ الْأَكْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: السَّائِحُونَ الْمُجَاهِدُونَ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السِّيَاحَةِ فَقَالَ: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ. فَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: الْمُسَافِرُونَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْمُسَافِرُونَ فِي الْأَرْضِ لِيَنْظُرُوا مَا فِيهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَغَرَائِبِ مُلْكِهِ نَظَرَ اعْتِبَارٍ. وَقِيلَ: الْجَائِلُونَ بِأَفْكَارِهِمْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ. وَالصِّفَاتُ إِذَا تَكَرَّرَتْ وَكَانَتْ لِلْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ التَّرَحُّمِ جَازَ فِيهَا الْإِتْبَاعُ لِلْمَنْعُوتِ وَالْقَطْعُ فِي كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِذَا تَبَايَنَ مَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ جَازَ الْعَطْفُ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مُبَايِنًا لِلنَّهْيِ، إِذِ الْأَمْرُ طَلَبُ فِعْلٍ وَالنَّهْيُ تَرْكُ فِعْلٍ، حَسُنَ الْعَطْفُ فِي قوله: والناهون ودعوى

_ (1) سورة التوبة: 9/ 111. (2) سورة النساء: 4/ 95. (3) سورة التوبة: 9/ 112.

الزِّيَادَةِ، أَوْ وَاوِ الثَّمَانِيَةِ ضَعِيفٌ. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، إذا بَدَأَ أَوَّلًا بِمَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ مُرَتَّبَةً عَلَى مَا سَعَى، ثُمَّ بِمَا يَتَعَدَّى مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر، ثُمَّ بِمَا شَمِلَ مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ وَمَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ لِحُدُودِ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا فَاسْتَبْشِرُوا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْشَارِ، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ التَّامَّةُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْشَارِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ. مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ: قَالَ الْجُمْهُورُ: وَمَدَارُهُ عَلَى ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ احْتُضِرَ فَوَعَظَهُ وَقَالَ: «أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا لِلَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» وَكَانَ بِالْحَضْرَةِ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَا لَهُ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا مُحَمَّدُ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَيَّرَ بِهَا وَلَدِي مِنْ بَعْدِي لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَاتَ فَنَزَلَتْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لِأَبِي طَالِبٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَوْهُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ جَعَلُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتَاهُمْ، فَلِذَلِكَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا» . وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ وَوَقَفَ عَلَيْهِ حَتَّى سَخُنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَجَعَلَ يَرْغَبُ فِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهَا وَمُنِعَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ بسبب قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: نَسْتَغْفِرُ لِمَوْتَانَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ. وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا، وَلَوْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ أُولِي قُرْبَى. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ كَانُوا جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ وَلَوْ تَأْتِي لِاسْتِقْصَاءِ مَا لَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِيَدْخُلَ فِيمَا قَبْلَهَا مَا بَعْدَهَا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمَنْعِ مِنْ مواصلتهم ولو

_ (1) سورة القصص: 28/ 56.

كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ أَيْ: وَضُحَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لِمُوَافَاتِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَالتَّبَيُّنُ هُوَ بِإِخْبَارِ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا هُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَبِهِ تَظَافَرَتْ أَسْبَابُ النُّزُولِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِغْفَارُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ. قَالُوا: وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِ الْحَيِّ جَائِزٌ إِذْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا اسْتَغْفَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَلِأُمِّهِ، قِيلَ لَهُ: وَلِأَبِيهِ؟ قَالَ: لَا لِأَنَّ أَبِي مَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ وَرَدَ نَصٌّ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ حَيٌّ كَأَبِي لَهَبٍ امْتَنَعَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، فَتَبَيُّنُ كَيْنُونَةِ الْمُشْرِكِ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ تَمْوِيهٌ عَلَى الشِّرْكِ وَبِنَصِّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَيٌّ، أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَيَدْخُلُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ إِذَا كَانُوا أَحْيَاءً، لِأَنَّهُ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ مَا حَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَلَمَّا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِصَدَدِ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: نَسْتَغْفِرُ لِمَوْتَانَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ حِينَ اتَّضَحَتْ لَهُ عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ. وَالْمَوْعِدَةُ الَّتِي وَعَدَهَا إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ هِيَ قَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي «2» وَقَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «3» . وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي وَعَدَهَا عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ أَبُوهُ بِقَيْدِ الحياة، فكان يرجوا إِيمَانَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِنْهُ، تَبَرَّأَ مِنْهُ وَقَطَعَ اسْتِغْفَارَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فِي وَعَدَ ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ، وابن السميفع، وَأَبِي نَهِيكٍ، وَمُعَاذٍ الْقَارِئِ، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم، وعده أبو أَنَّهُ سَيُؤْمِنُ فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِيمَانِهِ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ حَتَّى نُهِيَ عَنْهُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ، وَعَنْهُ وَمَا يَسْتَغْفِرُ إِبْرَاهِيمُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ كَانَ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي

_ (1) سورة النساء: 4/ 48. (2) سورة مريم: 19/ 47. (3) سورة الممتحنة: 60/ 4.

إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «1» وَقَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ «2» وَيَضْعُفُ مَا قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَلْقَى أَبَاهُ فَيَعْرِفُهُ وَيَتَذَكَّرُ قَوْلَهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، فَيَقُولُ لَهُ: الْزَمْ حِقْوِي فَلَنْ أَدَعَكَ الْيَوْمَ لِشَيْءٍ، فَيَدَعُهُ حَتَّى يَأْتِيَ الصِّرَاطَ، فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ مُسِخَ ضِبْعَانًا، فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ حِينَئِذٍ انْتَهَى مَا قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَلَا يَظْهَرُ رَبْطُهُ بِالْآخِرَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : خَفِيَ عَلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ غَيْرُ جَائِزٍ حَتَّى وَعَدَهُ. (قُلْتُ) : يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مَا دَامَ يُرْجَى لَهُ الْإِيمَانُ جَازَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ إِنَّمَا عُلِمَ بِالْوَحْيِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِلْكَافِرِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» وَعَنِ الْحَسَنِ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فُلَانًا يَسْتَغْفِرُ لِآبَائِهِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَقُلْتُ لَهُ: فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ انْتَهَى؟ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِلْكَافِرِ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالْأَوَّاهُ: الدَّعَّاءُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْفَقِيهُ، أَوِ الرَّحِيمُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ التَّوَّابُ، أَوِ الْمُسَبِّحُ، أَوِ الْكَثِيرُ الذِّكْرِ لَهُ، أَوِ التَّلَّاءُ لِكِتَابِ اللَّهِ، أَوِ الْقَائِلُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، أَوَّاهٌ الْمُكْثِرُ ذَلِكَ، أَوِ الْجَامِعُ الْمُتَضَرِّعُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ بِالْحَبَشِيَّةِ، أَوِ الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ، أَوِ الْمُوَفِّي، أَوِ الْمُسْتَغْفِرُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَطَايَا، أَوِ الشَّفِيقُ، أَوِ الرَّاجِعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أَقْوَالٌ لِلسَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَدْلُولَهُ فِي اللُّغَةِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّاهٌ فَقَالَ: مِنْ أَوَّهَ كَلَآلٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وَهُوَ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لِفَرْطِ تَرَحُّمِهِ وَرِقَّتِهِ وَحِلْمِهِ كَانَ يَتَعَطَّفُ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَعَ شَكَاسَتِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: لَأَرْجُمَنَّكَ انْتَهَى. وَتَشْبِيهُ أَوَّاهٍ مِنْ أَوَّهَ بِلَآلٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ مَادَّةَ أَوَّهَ مَوْجُودَةٌ فِي صورة أوّاه، ومادة لؤلؤة مَفْقُودَةٌ فِي لَآلٍ لِاخْتِلَافِ التَّرْكِيبِ، إِذْ لَآلٌ ثُلَاثِيٌّ، وَلُؤْلُؤٌ رُبَاعِيٌّ، وَشَرْطُ الِاشْتِقَاقِ التَّوَافُقُ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفَسَّرُوا الْحَلِيمَ هُنَا بِالصَّافِحِ عَنِ الذَّنْبِ الصَّابِرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِالصَّبُورِ، وَبِالْعَاقِلِ، وَبِالسَّيِّدِ، وَبِالرَّقِيقِ الْقَلْبِ الشَّدِيدِ الْعَطْفِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: مَاتَ قَوْمٌ كَانَ عَمَلُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ: كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ المقدس، وشرب الخمر،

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 86. (2) سورة إبراهيم: 14/ 41. [.....]

فَسَأَلَ قَوْمٌ الرَّسُولَ بَعْدَ مَجِيءِ النَّسْخِ وَنُزُولِ الْفَرَائِضِ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَعَمِلُوا بِمَا شَاهَدُوا الرَّسُولَ يَفْعَلُهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصِيَامِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ، ثُمَّ قَدِمُوا عليه فوجوده يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَصُومُ رَمَضَانَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ دِنَّا بَعْدَكَ بِالضَّلَالِ، إِنَّكَ عَلَى أَمْرٍ وَإِنَّا عَلَى غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: خَافَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُؤْنِسَةً أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ هَدَى لِلْإِسْلَامِ وَأَنْقَذَ مِنَ النَّارِ لِيُحْبِطَ ذَلِكَ وَيُضِلَّ أَهْلَهُ لِمُقَارَفَتِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ نَهْيٌ عَنْهُ. فَأَمَّا إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَجَنَّبُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَحِينَئِذٍ مَنْ وَاقَعَ بَعْدَ النَّهْيِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي مَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّقَائِهِ وَاجْتِنَابِهِ كَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِ مِمَّا نَهَى عَنْهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَلَا يُؤَاخِذُ بِهِ عِبَادَهُ الَّذِينَ هَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ، وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا وَلَا يَخْذُلُهُمْ إِلَّا إِذَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ بَيَانِ حَظْرِهِ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاتِّقَاءِ وَالِاجْتِنَابِ، وَأَمَّا قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَا يُؤَاخَذُونَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا بِبَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَهَذَا بَيَانٌ لِعُذْرِ مَنْ خَافَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَدِيدَةٌ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْفَلَ عَنْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ لِلْإِسْلَامِ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى بَعْضِ مَحْظُورَاتِ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الضَّلَالِ، وَالْمُرَادُ بما يَتَّقُونَ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لِلنَّهْيِ. فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَالصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ فَغَيْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّوْقِيفِ انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنْ كَلَامِهِ وَفِي قَوْلِهِ: قَبْلُ فِي تَفْسِيرِ لَيُضِلَّ وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا وَلَا يَخْذُلُهُمْ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَفِي كَلَامِهِ إِسْهَابٌ، وَهُوَ بَسْطُ مَا قَالَ مُجَاهِدٌ، قَالَ: مَا كَانَ لِيُضِلَّكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنَهُ لَكُمْ فَتَتَّقُوهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا يَشْرَحُ بِهِ الْآيَةَ مِنْ سُؤَالِهِمْ عَمَّنْ مَاتَ، وَقَدْ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَشَرِبَ الْخَمْرَ، وَمِنْ قِصَّةِ الْأَعْرَابِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَفِي شَرْحِهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، كَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا تَبَايُنٌ مَا بَيْنَ الْقَرَابَةِ حَتَّى مُنِعُوا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَمُنِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من الِاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ وَنَصْرَهُ وَحِفْظَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَمُنِعَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ وَهُوَ أَصْلُ نَشْأَتِهِ وَمُرَبِّيهِ، وَكَذَلِكَ مُنِعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ أَقْرِبَاءَ وَغَيْرَ أَقْرِبَاءَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَعْجَبْ لِتَبَايُنِ هَؤُلَاءِ، هَذَا خَلِيلُ اللَّهِ، وَهَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَالْأَقْرِبَاءُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، فَإِضْلَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ

بِمَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنْ حُجَجِ الْعُقُولِ الَّتِي أَغْفَلُوهَا، وَتَبْيِينِ مَا يَتَّقُونَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، فَتَظَافَرَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يَتَّبِعُوا مَا جَاءَتِ الرُّسُلُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْتَصُّ بِالْهِدَايَةِ مَنْ يَشَاءُ. فَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُدِيمَ إِضْلَالَ قَوْمٍ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْهُدَى حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَهُ أَيْ: يَجْتَنِبُونَهُ فَلَا يُجْدِي ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَدُومُ إِضْلَالُهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ لكل أحد، وما هيىء لَهُ فِي سَابِقِ الْأَزَلِ، ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ مِنْ أَنَّهُ له ملك السموات وَالْأَرْضِ، فَيَتَصَرَّفُ فِي عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَعْظَمِ تَصَرُّفَاتِهِ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ أَيْ: الْإِيجَادُ وَالْإِعْدَامُ. وَتَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ هُنَا قَوْلَهُ: يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ لِلْمُؤْمِنِينَ أن لا يَجْزَعُوا مِنْ عَدُوٍّ وَإِنْ كَثُرَ، وَلَا يَهَابُوا أَحَدًا فَإِنَّ الْمَوْتَ الْمَخُوفَ، وَالْحَيَاةَ الْمَحْتُومَةَ إِنَّمَا هِيَ بِيَدِ اللَّهِ، غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ قَوْلًا صَحِيحًا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «1» فِي الْبَقَرَةِ. لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: لَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَاسْتَطْرَدَ إِلَى تَقْسِيمِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَعْرَابٍ وَغَيْرِهِمْ، وَذَكَرَ مَا فَعَلُوا مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَذَكَرَ مُبَايَعَةَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَايِنُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى الَّذِينَ مَاتُوا مِنْهُمْ بِتَرْكِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَا بَقِيَ مِنْ أَحْوَالِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ كَلَامِ الْعَرَبِ يَشْرَعُونَ فِي شَيْءٍ ثُمَّ يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ أَشْيَاءَ مُنَاسِبَةً وَيُطِيلُونَ فِيهَا، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانُوا شَرَعُوا فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ رُجُوعُهُ لِعَبْدِهِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أَرْفَعَ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ رُجُوعًا عَنْ حَالَةِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ رُجُوعًا مِنْ حَالَةِ طَاعَةٍ إِلَى أَكْمَلَ مِنْهَا. وَهَذِهِ تَوْبَتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ رَجَعَ بِهِ مِنْ حَالَةٍ قَبْلَ تَحْصِيلِ الْغَزْوَةِ وَتَحَمُّلِ مَشَاقِّهَا، إِلَى حَالَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَ مِنْهَا. وَأَمَّا تَوْبَتُهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَحَالُهَا مُعَرَّضَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مِنْ نُقْصَانٍ إِلَى طَاعَةٍ وَجِدٍّ فِي الْغَزْوِ وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَأَمَّا توبته على

_ (1) سورة البقرة: 2/ 107.

الْفَرِيقِ فَرُجُوعٌ مِنْ حَالَةٍ مَحْطُوطَةٍ إِلَى حَالَةِ غُفْرَانٍ وَرِضًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «2» وَهُوَ بَعْثٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، حَتَّى النَّبِيُّ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَإِبَانَةٌ لِفَضْلِ التَّوْبَةِ وَمِقْدَارِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ صِفَةَ الْأَوَّابِينَ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالصَّالِحِينَ لِتَظْهَرَ فَضِيلَةُ الصَّلَاحِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إِذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «3» انْتَهَى. وَقِيلَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ صَدَرَ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا مَشَاقَّ ذَلِكَ السَّفَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمَّ ذِكْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِكْرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ مَرَاتِبِهِمْ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ. اتَّبَعُوهُ: أَيْ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْتَدَأَ بِالْخُرُوجِ، وَخَرَجُوا بَعْدَهُ فَيَكُونُ الِاتِّبَاعُ حَقِيقَةً سَاعَةِ الْعُسْرَةِ أَيْ: فِي وَقْتِ العسرة، والتباعة مُسْتَعَارَةٌ لِلزَّمَانِ الْمُطْلَقِ، كَمَا اسْتَعَارُوا الْغَدَاةَ وَالْعَشِيَّةَ وَالْيَوْمَ. قَالَ: غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ ... عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا وَآخَرُ: إِذَا جَاءَ يَوْمًا وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ كَانَتْ تُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ السَّاعَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا عَزْمُهُمْ وَانْقِيَادُهُمْ لِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، إِذِ السَّفْرَةُ كُلُّهَا تَبَعٌ لِتِلْكَ السَّاعَةِ، وَبِهَا وَفِيهَا يَقَعُ الْأَجْرُ عَلَى اللَّهِ وَتَرْتَبِطُ النِّيَّةُ، فَمَنِ اعْتَزَمَ عَلَى الْغَزْوِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَقَدْ أَنْفَعَ فِي سَاعَةِ عُسْرَةٍ، وَلَوِ اتَّفَقَ أَنْ يَطْرَأَ لَهُمْ غِنًى فِي سَائِرِ سَفَرِهِمْ لَمَا اخْتَلَّ كَوْنُهُمْ مُتَّبِعِينَ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ. وَالْعُسْرَةُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالْعَدَمُ، وَهَذَا هُوَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِأَلْفِ جَمَلٍ وَأَلْفِ دِينَارٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّبَ الدَّنَانِيرَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «وَمَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا» وَجَاءَ أَنْصَارِيٌّ بِسَبْعِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ بُرٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: بَلَغَتِ الْعُسْرَةُ بِهِمْ إِلَى أَنْ كَانَ الْعَشَرَةُ مِنْهُمْ يَعْتَقِبُونَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مِنْ قِلَّةِ الظَّهْرِ، وَإِلَى أَنْ قَسَّمُوا التَّمْرَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ،

_ (1) سورة الفتح: 48/ 2. (2) سورة غافر: 40/ 40. ومحمد: 47/ 47. (3) سورة التوبة: 9/ 43.

وَكَانَ النَّفَرُ يَأْخُذُونَ التَّمْرَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَمُصُّهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِهَا كُلُّهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَصَابَهُمْ فِي بَعْضِهَا عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى جَعَلُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ وَيَشْرَبُونَ مَا فِي كُرُوشِهَا مِنَ الْمَاءِ، وَيَعْصِرُونَ الْفَرْثَ حَتَّى اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ يديه يدعو، فما رجعهما حتى انكسبت سَحَابَةٌ، فَشَرِبُوا وَادَّخَرُوا ثُمَّ ارْتَحَلُوا، فَإِذَا السَّحَابَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْعَسْكَرِ. وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ هَمُّوا مِنَ الْمَجَاعَةِ بِنَحْرِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَ بِجَمْعِ فَضْلِ أَزْوَادِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُ عَلَى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا في أوعيتكم فملأوها حَتَّى لَمْ يَبْقَ وِعَاءٌ» وَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ. وَكَانَ الْجَيْشُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَزِيَادَةً، وهي آخر مغازيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا خَلَّفَ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ خَلَّفَهُ بُغْضًا لَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمْ فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» ؟ وَوَصَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَوَائِلِ بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَبَثَّ السَّرَايَا، فَصَالَحَهُ أَهْلُ أَذْرَحَ وَأَيْلَةَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى الْجِزْيَةِ وَانْصَرَفَ. يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ قَالَ الْحَسَنُ: هَمَّتْ فِرْقَةٌ بِالِانْصِرَافِ لِمَا لَقَوْا مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقِيلَ: زَيْغُهَا كَانَ بِظُنُونٍ لَهَا سَاءَتْ فِي مَعْنَى عَزْمِ الرَّسُولِ عَلَى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، لِمَا رَأَتْهُ مِنْ شِدَّةِ الْعُسْرَةِ وَقِلَّةِ الْوَفْرِ، وَبُعْدِ الشُّقَّةِ، وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ الْمَقْصُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَزِيغُ، تَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُبَايَعَةِ. وَكَادَ تَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، لَا عَلَى التَّلَبُّسِ بِالزَّيْغِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ: يَزِيغُ بِالْيَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي كَادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَارْتِفَاعُ قُلُوبُ بتزيغ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد وتزيغ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. وَلَا يَجُوزُ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ قُلُوبٌ يَزِيغُ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد، وتزيغ الْخَبَرُ وَسَطٌ بَيْنِهِمَا، كَمَا فعل ذلك بكان. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي عَسَى، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ كاد ضمير يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ هُوَ أَيْ: الْجَمْعُ. وَقَدْ قَدَّرَ الْمَرْفُوعَ بِكَادَ بَاسِمٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الْقَوْمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ الْقَوْمُ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ الثَّلَاثَةِ إِشْكَالٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مِنْ أَنَّ خَبَرَ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُضَارِعًا رَافِعًا ضَمِيرَ اسْمِهَا. فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ، وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَ بِغَيْرِ عَسَى مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا، وَذَلِكَ بِخِلَافِ كَانَ. فَإِنَّ خَبَرَهَا يَرْفَعُ الضَّمِيرَ، والسبي لِاسْمِ كَادَ، فَإِذَا قَدَّرْنَا فِيهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمَرْفُوعُ لَيْسَ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ كَادَ بَلْ وَلَا سَبَبًا لَهُ، وَهَذَا يَلْزَمُ فِي قِرَاءَةِ الْيَاءِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَوْسِيطُ الْخَبَرِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ هَذَا

التَّرْكِيبِ فِي مِثْلِ كَانَ: يَقُومُ زَيْدٌ، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ الْآخَرِ فَضَعِيفٌ جِدًّا مِنْ حَيْثُ أُضْمِرَ فِي كَادَ ضَمِيرٌ لَيْسَ لَهُ عَلَى مَنْ يَعُودُ إِلَّا بِتَوَهُّمٍ، وَمِنْ حَيْثُ يَكُونُ خَبَرُ كَادَ وَاقِعًا سَبَبِيًّا، وَيُخَلِّصُ مِنْ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ اعْتِقَادُ كَوْنِ كَادَ زَائِدَةً، وَمَعْنَاهَا مراد، لا عَمَلَ لَهَا إِذْ ذَاكَ فِي اسْمٍ وَلَا خَبَرٍ، فَتَكُونُ مِثْلَ كَانَ إِذَا زِيدَتْ، يُرَادُ مَعْنَاهَا وَلَا عَمَلَ لَهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ، بِإِسْقَاطِ كَادَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى زِيَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها «1» مَعَ تَأْثِيرِهَا لِلْعَامِلِ، وَعَمَلِهَا هِيَ. فَأَحْرَى أَنْ يُدَّعَى زِيَادَتُهَا، وَهِيَ لَيْسَتْ عَامِلَةً وَلَا مَعْمُولَةً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْجَحْدَرِيُّ: تُزِيغُ بِرَفْعِ التَّاءِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَتْ تَزِيغُ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ، أَوْ عَلَى الْفَرِيقِ فَالْجُمْلَةُ كُرِّرَتْ تَأْكِيدًا. أَوْ يُرَادُ بِالْأَوَّلِ إِنْشَاءُ التَّوْبَةِ، وَبِالثَّانِي اسْتَدَامَتُهَا. أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ كَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَزِيغُ نَصَّ عَلَى التَّوْبَةِ ثَانِيًا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُمْ مَسْكُوتٌ عَنْهُمْ فِي التَّوْبَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ التَّوْبَةِ وَهُوَ رَأْفَتُهُ بِهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَهُمْ. وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا تَقَدَّمَتْ أَسْمَاؤُهُمْ، وَمَعْنَى خُلِّفُوا عَنِ الْغَزْوِ غَزْوِ تَبُوكَ قَالَهُ: قَتَادَةُ. أَوْ خُلِّفُوا عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، حَيْثُ تِيبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ إرجاء أَمْرِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ. وَقَدْ رَدَّ تَأْوِيلَ قَتَادَةَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: مَعْنَى خُلِّفُوا تُرِكُوا عَنْ قَبُولِ الْعُذْرِ، وَلَيْسَ بِتَخَلُّفِنَا عَنِ الْغَزْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خُلِّفُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ كَذَلِكَ وَخَفَّفَ اللَّامَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بْنُ هَارُونَ الْمَخْزُومِيُّ، وَذِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَعَمْرُو بْنُ عبيد، ومعاذ القاري، وَحُمَيْدٌ: بِتَخْفِيفِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْ: خَلَفُوا الْغَازِينَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ فَسَدُوا مِنَ الْخَالِفَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ كَذَلِكَ مُشَدَّدَ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنَاهُ زَيْدٌ، وَمُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: خَالَفُوا بِأَلِفٍ أَيْ: لَمْ يُوَافِقُوا عَلَى الْغَزْوِ. وَقَالَ الْبَاقِرُ: وَلَوْ خُلِّفُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُخَلَّفِينَ، وَلَعَلَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ. وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ اسْتِعَارَةٌ، لِأَنَّ الْهَمَّ وَالْغَمَّ مَلَأَهَا بِحَيْثُ لَا يَسَعُهَا أُنْسٌ وَلَا سُرُورٌ، وَخَرَجَتْ عَنْ فَرْطِ الْوَحْشَةِ وَالْغَمِّ، وَظَنُّوا أَيْ: عَلِمُوا. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: أَيْقَنُوا، كَمَا قَالُوا فِي قول الشاعر:

_ (1) سورة النور: 24/ 40.

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مدحج ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ وَقَالَ قَوْمٌ: الظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، لِأَنَّهُ وَقَفَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْوَحْيِ وَلَمْ يَكُونُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي شَأْنِهِمْ قُرْآنٌ، أَوْ كَانُوا قَاطِعِينَ لَكِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ تَطْوِيلَ الْمُدَّةِ فِي بَقَائِهِمْ فِي الشِّدَّةِ، فَالظَّنُّ عَادَ إِلَى تَجْوِيزِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قَصِيرَةً. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ فِي كَنَفِ إِذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالتَّرْتِيبِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا ضِيقَ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيحَاشِهِمْ، وَنَبْوَةِ النَّاسِ عَنْ كَلَامِهِمْ. وَثَانِيًا وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَوَاتُرِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَلَى قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الِانْشِرَاحِ وَالِاتِّسَاعِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا ضِيقَ الْمَحَلِّ، ثُمَّ ثَانِيًا ضِيقَ الْحَالِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَضِيقُ الْمَحَلُّ وَتَكُونُ النَّفْسُ مُنْشَرِحَةً سَمُّ الْخِيَاطِ مَعَ الْمَحْبُوبِ مَيْدَانُ. ثُمَّ ثَالِثًا لَمَّا يئسوا من الخلق عذقوا أُمُورَهُمْ بِاللَّهِ وَانْقَطَعُوا إِلَيْهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَلِّصُ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَا يُفَرِّجُهَا إِلَّا هُوَ تَعَالَى ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «1» وإذا إِنْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً فَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تَابَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، نَظِيرَ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ قَوْلِهِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ «2» الْآيَةَ. وَدَعْوَى أَنَّ ثُمَّ زَائِدَةٌ وَجَوَابَ إِذَا مَا بَعْدَ ثُمَّ بَعِيدٌ جِدًّا، وَغَيْرُ ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ زِيَادَةُ ثُمَّ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِذَا بَعْدَ حَتَّى قَدْ تُجَرِّدُ مِنَ الشَّرْطِ وَتَبْقَى لِمُجَرَّدِ الْوَقْتِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ بَلْ تَكُونُ غَايَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: خُلِّفُوا أَيْ: خُلِّفُوا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ كَرَّةً أُخْرَى لِيَسْتَقِيمُوا عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَيُنِيبُوا، أَوْ لِيَتُوبُوا أَيْضًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ، وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى لِيَتُوبُوا لِيَدُومُوا عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا يُرَاجِعُوا مَا يُبْطِلُهَا. وَقِيلَ: لِيَتُوبُوا، لِيَرْجِعُوا إِلَى حَالِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَكِنُّ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ بَدَأَ فِي تَرْتِيبِهِ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ ذَلِكَ مُنَبِّهًا عَلَى تَلَقِّي النِّعْمَةِ مِنْ عِنْدِهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ ذَنْبٍ لَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ الْمُذْنِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «3» لِيَكُونَ هَذَا أَشَدَّ تَقْرِيرًا لِلذَّنْبِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَدِيعِ نَظْمِهِ وَمُعْجِزِ اتِّسَاقِهِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَوَاقِعِ أَلْفَاظِهَا أَنَّهَا تكمل مع

_ (1) سورة النحل: 16/ 53. (2) سورة الصف: 61/ 5. (3) سورة الصف: 61/ 5.

مُطَالَعَةِ حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيثَهُمْ بِكَمَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهُوَ فِي السِّيَرِ، فَلِذَلِكَ اخْتَصَرْتُ سَوْقَهُ. وَإِنَّمَا عَظُمَ ذَنْبُهُمْ وَاسْتَحَقُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ يُطَالِبُهُمْ مِنَ الْحَدِّ فِيهِ بِحَسَبِ مَنَازِلِهِمْ مِنْهُ وَتَقَدُّمِهِمْ فِيهِ، إِذْ هُوَ أُسْوَةٌ وَحُجَّةٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَالطَّاعِنِينَ، إِذْ كَانَ كَعْبٌ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، وَصَاحِبَاهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَفِي هَذَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ وَالْمُقْتَدَى بِهِ أَقَلُّ عُذْرًا فِي السُّقُوطِ مِنْ سِوَاهُ. وَكَتَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ فِي آخِرِ رِسَالَةٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَرَابَتَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَزِيدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكَ إِلَّا عِظَمًا، وَلَا طَاعَتَهُ إِلَّا وُجُوبًا، وَلَا النَّاسَ فِيمَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْكَ إِلَّا إِنْكَارًا وَالسَّلَامُ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَاضِي التَّنُوخِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَالْعَيْبُ يَعْلَقُ بالكبير كبير انتهى. وَرُوِيَ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ بَدَا لَهُ فَيَلْحَقُ بِهِمْ كَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ مِنْهُمُ الثَّلَاثَةُ. وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: أَنْ تَضِيقَ عَلَى التَّائِبِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَتَضِيقُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ كَتَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أُمِرُوا بِكَوْنِهِمْ مَعَ أَهْلِ الصِّدْقِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ نَفَعَهُمْ صِدْقُهُمْ وَأَزَاحَهُمْ عَنْ رِبْقَةِ النِّفَاقِ. واعترضت هذه الحملة تَنْبِيهًا عَلَى رُتْبَةِ الصِّدْقِ، وَكَفَى بِهَا أَنَّهَا ثَانِيَةٌ لِرُتْبَةِ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «1» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: الصِّدْقُ هُنَا صِدْقُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَنَافِعٌ: مَا مَعْنَاهُ اللَّفْظُ أَعَمُّ مِنْ صِدْقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الصِّحَّةِ فِي الدِّينِ، وَالتَّمَكُّنِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلُ صِدْقٍ. وَقَالَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ: كُونُوا مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَخِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: هُمُ الثَّلَاثَةُ أَيْ: كُونُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِي صِدْقِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَمُعَاهَدَتُهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَوْلِهِ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «2» وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي دِينِ اللَّهِ نِيَّةً وَقَوْلًا وَعَمَلًا انْتَهَى. وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِالَّذِينَ آمَنُوا لِمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الطُّلَقَاءِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: كُونُوا مع المهاجرين والأنصار، ومع تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ فِي الْحَالِ والمشاركة في

_ (1) سورة النساء: 4/ 69. (2) سورة الأحزاب: 33/ 23.

الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلْمَدْحِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس: مِنَ الصَّادِقِينَ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَأَوَّلَهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا أَنْ يَعِدَ مِنْكُمْ أحد صببه ثم لا ينجزه، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: ومن أَعَمُّ مِنْ مَعَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابن السميفع، أو أبو المتوكل، ومعاذ القاري: مَعَ الصَّادِقِينَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ النُّونِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ لقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ «1» وَلَمَّا تَقَدَّمَ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: كُنْ مَعَ اللَّهِ يَكُنْ مَعَكَ. مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِيمَنْ تَخَلَّفَ مِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَمَرَ بِكَيْنُونَتِهِمْ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّادِقِينَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، اقْتَضَى ذَلِكَ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَصُحْبَتَهُ أَنَّى تَوَجَّهَ مِنَ الْغَزَوَاتِ وَالْمَشَاهِدِ، فَعُوتِبَ الْعِتَابَ الشَّدِيدَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الرَّسُولِ فِي غَزْوَةٍ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ الْأَمْرُ لِصُحْبَتِهِ وَبَذْلِ النُّفُوسِ دُونَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنْ يَصْحَبُوهُ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأُمِرُوا أَنْ يُكَابِدُوا مَعَهُ الْأَهْوَالَ بِرَغْبَةٍ وَنَشَاطٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَأَنْ يُلْقُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ مَا يَلْقَاهُ نَفْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِلْمًا بِأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا تَعَرَّضَتْ مَعَ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا لِلْخَوْضِ فِي شِدَّةٍ وَهَوْنٍ وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ، وَلَا يَكْتَرِثُ لَهَا أَصْحَابُهَا، وَلَا يُقِيمُوا لَهَا وَزْنًا، وَتَكُونُ أَخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَأَهْوَنَهُ، فضلا أن يربأوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُتَابَعَتِهَا وَمُصَاحَبَتِهَا، وَيَضِنُّوا بِهَا عَلَى مَا سَمَحَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ مَعَ تَقْبِيحٍ لِأَمْرِهِمْ وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَهْيِيجٍ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ. قال الكرماني:

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 22.

هَذَا نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَخُصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ وَكُلُّ النَّاسِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ خُرُوجُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا الْإِلْزَامُ خَاصًّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَوَابُ النَّفْرِ إِلَى الْغَزْوِ إِذَا خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَبْقَ هَذَا الْحُكْمُ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَالْإِلْزَامُ فِي قِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتِيَاجٍ إِلَى اتِّصَالِ الْأَيْدِي، ثُمَّ نُسِخَ عِنْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الِانْبِعَاثِ إِلَى غَزْوِ الْعَدُوِّ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إِذَا أَلَمَّ الْعَدُوُّ بِجِهَةٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كل أحد القيام بذنبه وَمُكَافَحَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ انْتِفَاءُ التَّخَلُّفِ مِنْ وُجُوبِ الْخُرُوجِ مَعَهُ وَبَذْلِ النَّفْسِ دُونَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذَلِكَ الْوُجُوبُ لِلْخُرُوجِ وَبَذْلِ النَّفْسِ هُوَ بِسَبَبِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَسِيمِ عَلَى الْمَشَاقِّ الَّتِي تَنَالُهُمْ، وَمَا يَتَسَنَّى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِيذَاءِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ. وَالظَّمَأُ الْعَطَشُ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ظِمَاءٌ بِالْمَدِّ مِثْلُ: سَفِهَ سِفَاهًا، وَلَمَّا كَانَ العطش أشق الأشياء المؤدية لِلْمُسَافِرِ بِكَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَإِزْعَاجِ النَّفْسِ وَخُصُوصًا فِي شِدَّةِ الحر كغزوة تبوك بدىء بِهِ أَوَّلًا، وَثَنَّى بِالنَّصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ لِأَنَّهُ الْكَلَالُ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُسَافِرَ وَالْإِعْيَاءُ النَّاشِئُ عَنِ الْعَطَشِ وَالسَّيْرِ، وَأَتَى ثَالِثًا بِالْجُوعِ لِأَنَّهُ حَالَةٌ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا الْأَوْقَاتِ الْعَدِيدَةَ، بِخِلَافِ الْعَطَشِ وَالنَّصَبِ الْمُفْضِيَيْنِ إِلَى الْخُلُودِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ السَّفَرِ. فَكَانَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَعْرِضُ لِلْمُسَافِرِ أولا فثانيا فثالثا. وموطئا مَفْعِلٌ مِنْ وَطِئَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا، وَاحْتَمَلَ مَصْدَرًا. وَالْفَاعِلُ فِي يَغِيظُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، إِمَّا عَلَى موطىء إِنْ كَانَ مَصْدَرًا، وَإِمَّا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ موطىء إِنْ كَانَ مَكَانًا، أَيْ يغيظ ووطؤهم إِيَّاهُ الْكُفَّارَ. وَأَطْلَقَ مَوْطِئًا إِذَا كَانَ مَكَانًا لِيَعُمَّ كل موطىء يَغِيظُ وَطْؤُهُ الْكُفَّارَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَمْكِنَةِ الْكُفَّارِ، أَمْ مِنْ أَمْكِنَةِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ فِي سُلُوكِهِ غَيْظُهُمْ. وَالْوَطْءُ يَدْخُلُ فِيهِ بِالْحَوَافِرِ وَالْأَخْفَافِ وَالْأَرْجُلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُغِيظُ بِضَمِّ الْيَاءِ. وَالنَّيْلُ مَصْدَرٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْقَى عَلَى مَوْضُوعِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنِيلُ. وَأَطْلَقَ نَيْلًا لِيَعُمَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِمَّا يَسُوءُهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا وَغَنِيمَةً وَهَزِيمَةً، وَلَيْسَتِ الْيَاءُ فِي نَيْلٍ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ، بَلْ نَالَ مَادَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ نِلْتُهُ أَنُولُهُ نَوْلًا وَنَوَالًا مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَمِنْهُ التَّنَاوُلُ. وَالْأُخْرَى: هَذِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، نِلْتُهُ أناله نَيْلًا إِذَا أَصَابَهُ وَأَدْرَكَهُ. وبدىء فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأَسْبَقِ أَيْضًا وَهُوَ الْوَطْءُ، ثُمَّ ثنى بالنيل من

_ (1) سورة التوبة: 9/ 122.

الْعَدْوِ. جَاءَ الْعُمُومُ فِي الْكُفَّارِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي مِنْ عَدُوٍّ لِكَوْنِهِ فِي سياق النفي، وبدىء أَوَّلًا بِمَا يَحُضُّ الْمُسَافِرَ فِي الْجِهَادِ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَحَمُّلِ تِلْكَ الْمَشَاقِّ مِنْ غَيْظِ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَطْءِ الْإِيقَاعُ وَالْإِبَادَةُ، لَا الْوَطْءُ بِالْأَقْدَامِ وَالْحَوَافِرِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «آخِرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ» . وَالْكَتْبُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْ: كُتِبَ فِي الصَّحَائِفِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لِيُجَازَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً، عَبَّرَ عَنِ الثُّبُوتِ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا كَتَبَهُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ كُتِبَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَبِهِ أُفْرِدَ الضَّمِيرُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ أَيْ: بِإِصَابَةِ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْمَخْمَصَةِ وَالْوَطْءِ وَالنَّيْلِ. وفي الحديث: «من أغرث قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِكُلِّ رَوْعَةٍ تَنَالُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ. وَالنَّفَقَةُ الصَّغِيرَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالتَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْكَبِيرَةُ مَا فَوْقَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَغِيرَةً وَلَوْ تَمْرَةً، وَلَوْ عَلَاقَةَ سَوْطٍ،. وَلَا كَبِيرَةً مِثْلُ مَا أَنْفَقَ عُثْمَانُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ انْتَهَى. وَقَدَّمَ صَغِيرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاهْتِمَامِ كَقَوْلِهِ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً «1» وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ «2» وَإِذَا كُتِبَ أَجْرُ الصَّغِيرَةِ فَأَحْرَى أَجْرُ الْكَبِيرَةِ. وَمَفْعُولُ كُتِبَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ ينفقون ويقطعون، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُتِبَ لَهُمْ هُوَ أَيِ الْإِنْفَاقُ وَالْقَطْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِهِ: عَمَلٌ صَالِحٌ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ. وَتَأَخَّرَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ وَقُدِّمَتْ تِلْكَ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ لِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ وَأَنْكَى فِي الْعَدُوِّ، وَهَاتَانِ أَهْوَنُ لِأَنَّهُمَا فِي الْأَمْوَالِ وَقَطْعِ الْأَرْضِ إِلَى الْعَدُوِّ، سَوَاءٌ حَصَلَ غَيْظُ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلُ مِنَ الْعَدُوِّ أَمْ لَمْ يَحْصُلَا، فَهَذَا أَعَمُّ وَتِلْكَ أَخَصُّ. وَكَانَ تَعْلِيلُ تِلْكَ آكَدُ، إِذْ جَاءَ بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ، وَذَكَرَ فِيهِ الْأَجْرَ. وَلَفْظُ الْمُحْسِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ حَازُوا رُتَبَ الْإِحْسَانِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى رُتَبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ أَتَى بِلَامِ الْعِلَّةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بكتب وَالتَّقْدِيرُ: أَحْسَنَ جَزَاءَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَهُ جَزَاءٌ حَسَنٌ، وَلَهُ جَزَاءٌ أَحْسَنُ، وَهُنَا الْجَزَاءُ أَحْسَنُ جَزَاءٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحْسَنَ مِنْ صِفَةِ فِعْلِهِمْ، وَفِيهَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ دُونَ الْمُبَاحِ انْتَهَى. هَذَا الْوَجْهُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لِيَجْزِيَهُمُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَجْزِيَ الله أحسن أفعالهم

_ (1) سورة الكهف: 18/ 49. (2) سورة يونس: 10/ 61. [.....]

[سورة التوبة (9) : الآيات 122 إلى 129]

بِالْأَحْسَنِ مِنَ الْجَزَاءِ، أَوْ بِمَا شَاءَ مِنَ الْجَزَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِيَجْزِيَهُمْ جَزَاءَ أَحْسَنِ أَفْعَالِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْسَنَ صِفَةٌ لِلْجَزَاءِ أَيْ: يَجْزِيَهُمْ جَزَاءً هُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَجَلُّ وَأَفْضَلُ، وَهُوَ الثَّوَابُ انْتَهَى، هَذَا الْوَجْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَحْسَنُ مِنْ صِفَةِ الْجَزَاءِ فَكَيْفَ أُضِيفَ إِلَى الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ بَعْضُهَا مِنْهَا؟ وَكَيْفَ يَقَعُ التَّفْضِيلُ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الْأَعْمَالِ، وَلَمْ يُصَرَّحْ فيه بمن؟. [سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ: لَمَّا سَمِعُوا مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ أَهَمَّهُمْ ذَلِكَ، فَنَفَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى الرَّسُولِ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ حِينَ نَزَلَتْ: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ هَكَذَا أَهْلُ الْبَوَادِي فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: لَمَّا دَعَا الرَّسُولُ عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ

أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ، فَنَفَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْمَعَاشِ وَكَادُوا يُفْسِدُونَهَا، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ غَيْرَ صَحِيحِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا أَقْدَمَهُ الْجُوعُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَقَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ ضَعَفَةِ الْإِيمَانِ لِيَنْفِرُوا مِثْلَ هَذَا النَّفِيرِ أَيْ: لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يكون النفير إلى الغزو، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي لِيَتَفَقَّهُوا عائد على الطائفة الناقرة، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْآيَةُ فِي الْبُعُوثِ وَالسَّرَايَا. وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مَعَ خُرُوجِ الرَّسُولِ فِي الْغَزْوِ، وَهَذِهِ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ أَيْ: يَجِبُ إِذَا لم يخرج أن لا يَنْفِرَ النَّاسُ كَافَّةً، فَيَبْقَى هُوَ مُفْرَدًا. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْفِرَ طَائِفَةٌ وَتَبْقَى طَائِفَةٌ لِتَتَفَقَّهَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِي الدِّينِ، وَتُنْذِرَ النَّافِرِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِكُلِّ مَا وَرَدَ مِنْ إِلْزَامِ النَّاسِ كَافَّةً النَّفِيرَ وَالْقِتَالَ، فَعَلَى هَذَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لِيَتَفَقَّهُوا عَائِدًا عَلَى الطَّائِفَةِ الْمُقِيمَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ مَعْنَى وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أَيْ: الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ إِلَى الْغَزْوِ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَجَدَّدَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَتَكَالِيفِهَا، وَكَانَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا تَقْسِيمُهَا أَيْ: فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَقَعَدَتْ أُخْرَى لِيَتَفَقَّهُوا. وَقِيلَ: عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ إِلَى الْغَزْوِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي ليتفقهوا عَائِدًا عَلَى النَّافِرِينَ، وَيَكُونَ تَفَقُّهُهُمْ فِي الْغَزْوِ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ نُصْرَةِ اللَّهِ لِدِينِهِ، وَإِظْهَارِهِ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَثِيرَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْبَارِ الرَّسُولِ بِظُهُورِ هَذَا الدِّينِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْحَضِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْحَلَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ فَتَعْرَى بِلَادُهُمْ مِنْهُمْ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا وَعَلَى ذَرَارِيِّهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ، فَهَلَّا رَحَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَلِإِنْذَارِ قَوْمِهِمْ؟ فَذَكَرَ الْعِلَّةَ لِلنَّفِيرِ وَهِيَ التَّفَقُّهُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِعْلَامُ لِقَوْمِهِمْ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ أَيْ: فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ جَمَاعَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْهُمْ فَكَفَوْهُمُ النَّفِيرَ؟ وَقَامَ كُلٌّ بِمَصْلَحَةٍ هَذِهِ بِحِفْظِ بِلَادِهِمْ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَهَذِهِ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَإِفَادَتِهَا الْمُقِيمِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ كِلِا النَّفِيرَيْنِ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِحْيَاءِ دِينِهِ هَذَا بِالْعِلْمِ، وَهَذَا بِالْقِتَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، لِيَتَكَلَّفُوا الْفَقَاهَةَ فِيهِ، وَيَتَجَشَّمُوا الْمَشَاقَّ فِي أَخْذِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ فِي التَّفَقُّهِ إِنْذَارَ قَوْمِهِمْ وَإِرْشَادَهُمْ وَالنَّصِيحَةَ لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إِرَادَةَ أَنْ يَحْذَرُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَعَثَ بَعْثًا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَعْدَ مَا نَزَلَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْآيَاتِ الشَّدَائِدِ اسْتَبَقَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ آخِرِهِمْ إِلَى النَّفِيرِ،

وَانْقَطَعُوا جَمِيعًا عَنِ الْوَحْيِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، فَأُمِرُوا بِأَنْ يَنْفِرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِلَى الْجِهَادِ، وَتَبْقَى أَعْقَابُهُمْ يَتَفَقَّهُونَ حَتَّى لَا يَنْقَطِعُوا عَنِ التَّفَقُّهِ الَّذِي هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْحُجَّةِ أَعْظَمُ أَمْرًا مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَتَفَقَّهُوا، الضَّمِيرُ فِيهِ لِلْفِرَقِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ الطَّوَائِفِ النَّافِرَةِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، وَلِيُنْذِرَ الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ قَوْمَهُمُ النَّافِرِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مَا حَصَّلُوا فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ لِلطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلتَّفَقُّهِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: لَمَّا حَضَّ تَعَالَى عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَحَرَّضَ عَلَى رِحْلَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِقِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَجَمَعَ مِنَ الْجِهَادِ جِهَادَ الْحُجَّةِ وَجِهَادَ السَّيْفِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ: مَنْ لَا يُعَدِّلُهُ الْقُرْآنُ كَانَ لَهُ ... مِنَ الصَّغَارِ وَبِيضِ الْهِنْدِ تَعْدِيلُ قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ كَافَّةً، فَهِيَ مِنَ التَّدْرِيجِ الَّذِي كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا تَجَاوَزَ قَوْمًا مِنَ الْكُفَّارِ غَازِيًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ أَبْعَدَ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِغَزْوِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْآيَةُ مُبِيِّنَةٌ صُورَةَ الْقِتَالِ كَافَّةً، فَهِيَ مُتَرَتِّبَةٌ مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ كَافَّةً، وَمَعْنَاهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْجَيْشَ الَّذِي يُضَايِقُهُ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِتَالُ لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَرَدُّ الْبَأْسِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا إِذَا مَالَ الْعَدُوُّ إِلَى صُقْعٍ مِنْ أَصْقَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَفَرْضٌ عَلَى مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كِفَايَةُ عَدُوِّ ذَلِكَ الصُّقْعِ وَإِنْ بَعُدَتِ الدَّارُ وَنَأَتِ الْبِلَادُ. وقال: قاتلوا هَذِهِ الْمَقَالَةِ نَزَلَتِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى قِتَالِ الرُّومِ بِالشَّامِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ الْعَدُوَّ الَّذِي يَلِي وَيَقْرُبُ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ عَمَّهَا الْإِسْلَامُ، وَكَانَتِ الْعِرَاقُ بَعِيدَةً، ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ وَالدَّيْلَمِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَمِ، وَسَأَلَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلٌ عَنْ قِتَالِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالرُّومِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَالْحَسَنُ: هُمُ الرُّومُ وَالدَّيْلَمُ ، يَعْنِي فِي زَمَنِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقْتَ نُزُولِهَا الْعَرَبُ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْهُمْ نَزَلَتْ فِي الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» إِلَى آخِرِهَا. وَقِيلَ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَفَدَكٌ وَخَيْبَرُ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَحَرَّجُوا أَنْ يُقَاتِلُوا أَقْرِبَاءَهُمْ وَجِيرَانَهُمْ، فَأُمِرُوا بقتالهم. ويلونكم: ظاهره القرب في

_ (1) سورة التوبة: 9/ 29.

الْمَكَانِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي الْقُرْبِ فِي الْمَكَانِ، وَالنَّسَبِ وَالْبُدَاءَةِ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ قِتَالُ كُلِّهِمُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا بِقِتَالِ كُلِّهِمْ، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْقُرْبِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ كَالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَاتِ فِيهِ، وَالْحَاجَةَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالْأَدَوَاتِ أَقَلُّ، وَلِأَنَّ قِتَالَ الْأَبْعَدِ تَعْرِيضٌ لِتَدَارُكِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْفِتْنَةِ، وَلِأَنَّ الدِّينَ يَكُونُ إِنْ كَانُوا ضُعَفَاءَ كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ أَسْهَلَ، وَحُصُولُ غَيْرِ الْإِسْلَامِ أَيْسَرَ. وَإِنْ كَانُوا أَقْوِيَاءَ كَانَ تَعَرُّضُهُمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِمَنْ يَلِي آكَدُ مِنْهَا بِمَنْ بَعُدَ لِلْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، فَتَرَجَّحَتِ الْبُدَاءَةُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي عَلَى قِتَالِ مَنْ بَعُدَ. وَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالشِّدَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1» وَذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَهْيَبَ وَأَوْقَعَ لِلْفَزَعِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «2» وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقَوُا الْكُفَّارَ بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ» وَقَالَ تَعَالَى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا «3» وَقَالَ: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا «4» وَالْغِلْظَةُ: تَجْمَعُ الْجُرْأَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَالْغِلْظَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلشِّدَّةِ فِي الْحَرْبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غِلْظَةً بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَهِيَ لُغَةُ أَسَدٍ، وَالْأَعْمَشُ وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَالْمُفَضَّلُ كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَأَبُو حَيْوَةَ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ أَيْضًا بِضَمِّهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وعن أبي عمر وثلاث اللُّغَاتِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَوُجُودِ الْغِلْظَةِ إِنَّمَا هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَلَا يَقْصِدُ بِقِتَالِهِ الْغَنِيمَةَ، وَلَا الْفَخْرَ، وَلَا إِظْهَارَ الْبَسَالَةِ. وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا إِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ فِيهَا عَيْبُ الْمُنَافِقِينَ خَطَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَّضَ بِهِمْ فِي خُطْبَتِهِ، فَيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يُرِيدُونَ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 73. (2) سورة المائدة: 5/ 54. (3) سورة آل عمران: 3/ 139. (4) سورة آل عمران: 3/ 146.

الْهَرَبَ وَيَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِنْ قُمْتُمْ؟ فَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ. وَلَمَّا اسْتَطْرَدَ مِنْ سَفَرِ الْغَزْوِ وَتَأْنِيبِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الرَّسُولِ إِلَى سَفَرِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي مِنَ الْكُفَّارِ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ إِذْ هُمُ الَّذِينَ نَزَلَ مُعْظَمُ السُّورَةِ فِيهِمْ. وَكَانَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُمْ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُمْ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولُوا: ذَلِكَ لِقَرَابَاتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَقِيمُونَ إِلَيْهِمْ وَيَطْمَعُونَ فِي رَدِّهِمْ إِلَى النِّفَاقِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيرِ لِلسُّورَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ غَرِيبٍ فِي هَذَا وَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا، وَفِي الفتيان قِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْبَحْثِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رأيكم بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَيَّكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَالنَّصْبُ فِيهِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ أفصح كهو بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ. وَالتَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ عَامٌّ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عِبَارَةٌ عَنْ حُدُوثِ تَصْدِيقٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنْ قَصَصٍ وَتَجْدِيدِ حُكْمٍ مِنْ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْبِيهٍ عَلَى دَلِيلٍ تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ وَيَكُونُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِأَدِلَّةٍ، فَنَبَّهَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى دَلِيلٍ راد فِي أَدِلَّتِهِ، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ شَكٍّ يَسِيرٍ، أَوْ شُبْهَةٍ عَارِضَةٍ غَيْرِ مُسْتَحْكِمَةٍ، فَيَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ وَتَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ بِتِلْكَ السُّورَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَمِّي الطَّاعَةَ إِيمَانًا، وَذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَتَرَتَّبُ الزِّيَادَةُ بِالسُّورَةِ إِذْ يَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: فَزَادَتْهُمْ: إِيمَانًا أَيْ خَشْيَةً أَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ ثَمَرَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا لِأَنَّهَا أَزْيَدُ لِلْمُتَّقِينَ عَلَى الثَّبَاتِ، وَأَثْلَجُ لِلصُّدُورِ. أَوْ فَزَادَتْهُمْ عَمَلًا، فَإِنَّ زِيَادَةَ الْعَمَلِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقَعُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ فِي الْأَجْسَامِ، فَنُقِلَ إِلَى الِاعْتِقَادِ مَجَازًا وَالرِّجْسُ القذر، وَالرِّجْسُ الْقَذَرُ، وَالرِّجْسُ الْعَذَابُ، وَزِيَادَتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَمُّقِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَخَبْطِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَإِذَا كَفَرُوا بِسُورَةٍ. فَقَدْ زَادَ كُفْرُهُمْ وَاسْتَحْكَمَ وَتَزَايَدَ عِقَابُهُمْ. قَالَ قُطْرُبٌ وَالزَّجَّاجُ: أَرَادَ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ الْمُتَجَدِّدِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْتَجَ نُزُولُ السُّورَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ شَيْئَيْنِ: زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَالِاسْتِبْشَارُ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ زِيَادَةُ رِجْسٍ، والموافاة على الكفر أذاهم كُفْرُهُمُ الْأَصْلِيُّ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ.

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ بِمَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ رَائِحُونَ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا لَا يَخْلُصُونَ مِنْ عَذَابِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي يَرَوْنَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةٌ: بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالرُّؤْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَمِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، والأعمش: أو لا تَرَى أَيْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا: أو لم تَرَوْا؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ عنه: أو لم يَرَوْا؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: يُفْتَنُونَ، يُخْتَبَرُونَ بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ عَنْهُ: مَرْضَةً أَوْ مَرْضَتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يُخْتَبَرُونَ بِالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَ الْآيَةِ وَمِمَّا بَعْدَهَا أَنَّ الْفِتْنَةَ وَالِاخْتِبَارَ إِنَّمَا هِيَ بِكَشْفِ اللَّهِ أَسْرَارَهُمْ وَإِفْشَائِهِ عَقَائِدَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الِاخْتِبَارُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرُؤْيَتِهِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا الْجِهَادُ أَوِ الْجُوعُ فَلَا يَتَرَتَّبُ مَعَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَفَلَا يَزْدَجِرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُفْضَحُ سَرَائِرُهُمْ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بِحَسَبِ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَتُوبُونَ، وَيَذْكُرُونَ وَعْدَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ انْتَهَى. وَقَالَهُ مُخْتَصَرًا مُقَاتِلٌ قَالَ: يُفْضَحُونَ بِإِظْهَارِ نِفَاقِهِمْ، وَأَمَّا الِاخْتِبَارُ بِالْمَرَضِ فَهُوَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ: أَفِي كُلِّ عَامٍ مَرْضَةٌ ثُمَّ نَقْهَةٌ ... فَحَتَّى مَتَى حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى يُفْتَنُونَ بِمَا يُشِيعُهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْأَكَاذِيبِ وَالْأَرَاجِيفِ، وَأَنَّ مُلُوكَ الرُّومِ قَاصِدُونَ بِجُيُوشِهِمْ وَجُمُوعِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» فَكَانَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُفْتَنُونَ فِي ذَلِكَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُفْتَنُونَ يُبْتَلَوْنَ بِالْمَرَضِ وَالْقَحْطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَلَا يَذَكَّرُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، أَوْ يُبْتَلَوْنَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعَايِنُونَ أَمْرَهُ وَمَا يُنَزِّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النَّصْرِ وَتَأْيِيدِهِ، أَوْ يَفْتِنُهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَكْذِبُونَ وَيَنْقُضُونَ الْعُهُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُمْ وَيُنَكِّلُ بِهِمْ، ثُمَّ لَا يَنْزَجِرُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَا هُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 60.

اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَحْدُثُ عَنْهُمْ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَهُوَ الْإِيمَاءُ وَالتَّغَامُزُ بِالْعُيُونِ إِنْكَارًا لِلْوَحْيِ، وَسُخْرِيَةً قَائِلِينَ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِنَنْصَرِفَ، فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى اسْتِمَاعِهِ وَيَغْلِبُنَا الضَّحِكُ، فَنَخَافُ الِافْتِضَاحَ بَيْنَهُمْ، أَوْ تَرَامَقُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي تدبير الخروج والانسلال لو إذا يَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ السُّورَةِ أَيَّةُ سُورَةٍ كَانَتْ. وَقِيلَ: ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أي: سُورَةٌ تَفْضَحُهُمْ وَيُذْكَرُ فِيهَا مَخَازِيهِمْ، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ، يُفْهَمُ مِنْ تِلْكَ النَّظْرَةِ التَّقْرِيرُ: هَلْ يَرَاكُمْ مَنْ يَنْقُلُ عَنْكُمْ؟ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ حِينَ تُدَبِّرُونَ أُمُورَكُمْ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا أَيْ: عَنْ طَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ أنهم حين ما بُيِّنَ لَهُمْ كَشْفُ أَسْرَارِهِمْ وَالْإِعْلَامُ بِمُغَيَّبَاتِ أُمُورِهِمْ يَقَعُ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ تَعَجُّبٌ وَتَوَقُّفٌ وَنَظَرٌ، فَلَوِ اهْتَدَوْا لَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَظِنَّةَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالِاهْتِدَاءِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هَلِ اطَّلَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى سَرَائِرِكُمْ مَخَافَةَ الْقَتْلِ ثُمَّ انْصَرَفُوا إِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَالْمَعْنَى: قَامُوا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي تُتْلَى فِيهِ السُّورَةُ أَوْ مَجَازًا، فَالْمَعْنَى: انْصَرَفُوا عَنِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ وَقْتَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، أَوْ رَجَعُوا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ أَوْ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّكْذِيبِ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ، أَوْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ، أَوْ عَنْ طَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ وَمَهَّدَ وَأُقِيمَ دَلِيلُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِقَوْلِ الْكَلْبِيِّ. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صِيغَتُهُ خَبَرٌ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِصَرْفِ قُلُوبِهِمْ عَمَّا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، قَالَهُ الفراء. والظاهر أنه خير لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ، بَدَأَ بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ ذَكَرَ فِعْلَهُ تَعَالَى بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَاةِ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» . قَالَ الزَّجَّاجُ: أَضَلَّهُمْ. وَقِيلَ: عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ كُلِّ رُشْدٍ وَخَيْرٍ وَهُدًى. وَقَالَ الْحَسَنُ: طُبِعَ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دُعَاءٌ عليهم بالخذلان، وبصرف قلوبهم عما في قلوب أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الِانْشِرَاحِ. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بانصرفوا، أو بصرف، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ أَيْ: بِسَبَبِ انْصِرَافِهِمْ، أَوْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن فيفقون مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ إِيمَانَهُمْ وَالْوُقُوفَ عِنْدَهُ. لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ

_ (1) سورة الصف: 61/ 5.

: لَمَّا بَدَأَ السُّورَةَ بِبَرَاءَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَصَّ فِيهَا أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا، خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى سَبِيلِ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوْ مِنْ نَسَبِهِمْ عَرَبِيًّا قُرَشِيًّا يُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللَّهِ مُتَّصِفٌ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ مِنْ كَوْنِهِ يَعِزُّ عَلَيْهِ مَشَقَّتُهُمْ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ، وَيَحْرِصُ عَلَى هُدَاهُمْ، وَيَرْأَفُ بِهِمْ، وَيَرْحَمُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ بَنِي آدَمَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1» وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ عَامًّا، إِمَّا عَامَّةَ الْعَرَبِ، وَإِمَّا عَامَّةَ بَنِي آدَمَ، جَاءَ الْخِطَابُ عَامًّا بِقَوْلِهِ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى هِدَايَتِكُمْ حَتَّى لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَيَهْلَكَ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ خَاصَّةً جَاءَ مُتَعَلَّقُهَا خَاصًّا وَهُوَ قَوْلُهُ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «2» وَقَالَ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «3» وَقَالَ فِي زُنَاةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «4» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ وَأَشْرَفِهَا، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْتُ مِنْ سِفَاحٍ» مَعْنَاهُ أَنَّ نَسَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنِ النَّسْلُ فِيهِ إِلَّا مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِنًا انْتَهَى. وَصَفَ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسِتَّةِ: أَوْصَافٍ الرِّسَالَةُ وَهِيَ صِفَةُ كَمَالِ الْإِنْسَانِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ كَمَالِ ذَاتِ الرَّسُولِ وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ، وَكَوْنِهِ مِنَ الْخِيَارِ بِحَيْثُ أُهِّلَ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هذه الصفة أشرف الأشياء بدىء بِذِكْرِهَا. وَكَوْنُهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ صِفَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي البليغ وَالْفَهْمِ عَنْهُ وَالتَّآنُسِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْعَرَبِ فَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى شَرَفِهِمْ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ فَفِيهِ التَّنْوِيهُ بِهِمْ وَاللُّطْفُ فِي إِيصَالِ الْخَبَرِ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّيَانَةِ. وَكَوْنُهُ يَعِزُّ عَلَيْهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، فَهَذَا الْوَصْفُ مِنْ نَتَائِجِ الرِّسَالَةِ. ومن كونه من

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 9. (2) سورة التوبة: 9/ 73. (3) سورة المائدة: 5/ 54. (4) سورة النور: 24/ 2.

أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ منك وأدلّك الْخَيْرَ وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِيصَالُ مَا يُؤْذِي إِلَيْكَ وَكَوْنُهُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ نَتَائِجِ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّهُ بُعِثَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ وَيُفْرَدَ بِالْأُلُوهِيَّةِ. وَكَوْنُهُ رَءُوفًا رَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا وَصْفَانِ مِنْ نَتَائِجِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ، وَالدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى تُحِبَّ لِأَخِيكَ الْمُؤْمِنِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» . وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمَحْبُوبٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُسَيْطٍ الْمَكِّيُّ، وَيَعْقُوبُ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ: مِنْ أَنْفَسِكُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ فَاطِمَةَ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَعَزِّكُمْ، وَذَلِكَ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى النَّفَسِ، فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الفاعل بعزيز أَيْ: يَعِزُّ عَلَيْهِ مَشَقَّتُكُمْ كَمَا قَالَ: يُسِرُّ الْمَرْءَ مَا ذَهَبَ اللَّيَالِي ... وَكَانَ ذَهَابُهُنَّ لَهُ ذَهَابًا أَيْ يُسِرُّ الْمَرْءَ ذَهَابُ اللَّيَالِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا عَنِتُّمْ مُبْتَدَأً أَيْ: عَنَتُكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ، وَقُدِّمَ خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَعْرَبُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ عَزِيزٌ مُبْتَدَأً، وما عَنِتُّمْ الْخَبَرَ، وَأَنْ تَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَهُوَ إِعْرَابٌ دُونَ الْإِعْرَابَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: عَزِيزٌ صِفَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالْعِزَّةِ لِتَوَسُّطِهِ فِي قَوْمِهِ وَعَرَاقَةِ نَسَبِهِ وَطِيبِ جُرْثُومَتِهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أَيْ: يُهِمُّهُ أَمْرُكُمْ انْتَهَى. وَالْعَنَتُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ لَأَعْنَتَكُمْ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُنَا مَشَقَّتُكُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِثْمُكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: ضَلَالُكُمْ. وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: مَا ضَرَّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَا أَهْلَكَكُمْ. وَقِيلَ: مَا غَمَّكُمْ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُضْمَرَ فِي عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى هُدَاكُمْ وَإِيمَانِكُمْ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ «3» وَقَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «4» . وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَرِيصُ هُوَ الشَّحِيحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَحِيحٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا النَّارَ. وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى دُخُولِكُمُ الْجَنَّةَ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ. وَيُحْتَمَلُ بالمؤمنين أن يتعلق برءوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. وفي جواز

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 10. (2) سورة البقرة: 2/ 220. (3) سورة النحل: 16/ 37. [.....] (4) سورة يوسف: 10/ 103.

تَقَدُّمِ مَعْمُولِ الْمُتَنَازِعِينَ نَظَرٌ، فَالْأَكْثَرُونَ لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ تَقْدِمَةً عَلَيْهِمَا، وَأَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ التَّقْدِيمَ فَتَقُولُ: زَيْدًا ضَرَبْتُ وَشَتَمْتُ عَلَى التَّنَازُعِ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الصِّفَتَيْنِ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِالتَّوْزِيعِ، رؤوف بِالْمُطِيعِينَ، رَحِيمٌ بِالْمُذْنِبِينَ. وَقِيلَ: رؤوف بِمَنْ رَآهُ، رَحِيمٌ بِمَنْ لم يره. وقيل: رؤوف بِأَقْرِبَائِهِ، رَحِيمٌ بِغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَمْ يَجْمَعِ اللَّهُ لِنَبِيٍّ بَيْنَ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ إِلَّا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ قَالَ: بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيمٌ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنْ إِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ وَاتِّصَافِكَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أَيْ: فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ كَفَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. وَهِيَ آيَةٌ مُبَارَكَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَخَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَرْشُ لَا يَقْدُرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ انْتَهَى. وَذُكِرَ فِي مَعْرِضِ شَرْحِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَسْمَعُونَ حَدِيثَ وُجُودِ الْعَرْشِ وَعَظَمَتِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُمْ كَانُوا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: الْعَظِيمُ بِرَفْعِ الْمِيمِ صِفَةٌ لِلرَّبِّ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِأَنَّ جَعْلَ الْعَظِيمُ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وَعِظَمُ الْعَرْشِ بِكِبَرِ جُثَّتِهِ وَاتِّسَاعِ جَوَانِبِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ، وَعِظَمُ الرَّبِّ بِتَقْدِيسِهِ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَبِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي الْأَوْهَامِ، أَوْ تَصِلَ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: آخِرُ مَا نَزَلْ لَقَدْ جَاءَكُمْ إِلَى آخِرِهَا. وَعَنْ أُبَيٍّ أَقْرَبُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ الْآيَتَانِ، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ لَمْ تُوجَدَا حِينَ جُمِعَ الْمُصْحَفِ إِلَّا فِي حِفْظِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ذِي الشَّهَادَتَيْنِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا تَذَكَّرَهَا كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانَ زَيْدٌ يَعْرِفُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَقَدْتُ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ نَدْرِ هَلْ فقد شيئا أولا، فَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الْآيَةُ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ. وَقَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَا فُرِغَ مِنْ تَنَزُّلِ بَرَاءَةٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَنْ يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا سَيَنْزِلُ فِيهِ شَيْءٌ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَهَمَّهُ» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143.

سورة يونس

[الجزء السادس] سورة يونس ترتيبها 10 سورة يونس آياتها 109 [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

الْقَدَمُ: قَالَ اللَّيْثَ وَأَبُو الْهَيْثَمِ: الْقَدَمُ السَّابِقَةُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَأَنْتَ امْرُؤٌ من أهل بيت دؤابة ... لَهُمْ قَدَمٌ مَعْرُوفَةٌ وَمَفَاخِرُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: كُلُّ سَابِقٍ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ قَدَمٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: سَابِقَةُ إِخْلَاصٍ كَمَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ: لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إِلَيْكَ وخلفنا ... لا ولنا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: كُلُّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ خَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَمَلُ الَّذِي يُتَقَدَّمُ فِيهِ وَلَا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ وَلَا إِبْطَاءٌ. الْمُرُورُ: مُجَاوَزَةُ الشَّيْءِ وَالْعُبُورُ عَلَيْهِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ جَاوَزْتُهُ. وَالْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ، وَمِنْهُ ذُو مِرَّةٍ. وَمَرَرَ الْحَبْلَ قَوَّاهُ، وَمِنْهُ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» العاصف الشديدة يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا عَصَفَتْ رِيحٌ مُزَعْزِعَةٌ ... فِيهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجَلُ وَأَعْصَفَ الرِّيحُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَهَتْ عَلَيْهِ كُلُّ مُعْصِفَةٍ ... هَوْجَاءَ لَيْسَ للبهارير وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ... عِيدَانَ نَجْدٍ وَلَا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ الْمَوْجُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ هُبُوبِ الْهَوَاءِ، سُمِّيَ مَوْجًا لِاضْطِرَابِهِ. الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ

النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ : هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إِلَى آخِرِهِنَّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا قَوْلَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَ مِنْ أَوَّلِهَا نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ آيَةً بِمَكَّةَ، وَنَزَلَ بَاقِيهَا بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَجَابِرٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ وَسَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا: لَمْ يَجِدِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَجِبَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يُبْعَثَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: لَمَّا حَدَّثَهُمْ عَنِ الْبَعْثِ وَالْمَعَادِ وَالنُّشُورِ تَعَجَّبُوا. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «1» وَذَكَرَ تَكْذِيبَ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ «2» وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ، وَالنَّبِيِّ الَّذِي أَرْسَلَ، وَأَنَّ ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم فِي التَّكْذِيبِ بِالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَبِمَنْ جَاءَ بِهَا، وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ مُقَدَّمًا عَلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ فِي آخِرِ السُّورَةِ، جَاءَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَذَلِكَ فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكِتَابِ عَلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ، وَتَقَدَّمَ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَذَكَرُوا هُنَا أَقْوَالًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهَا: أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَمِنْهَا أَنَا اللَّهُ الرَّحْمَنُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَتَرَكَّبُ مِنْهَا وَمِنْ حم وَمِنْ نُونِ الرَّحْمَنِ. فَالرَّاءُ بَعْضُ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ مُفَرَّقَةً، وَمِنْهَا أَنَا الرَّبُّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تِلْكَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَوْضُوعِهَا مِنِ اسْتِعْمَالِهَا لِبُعْدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَشَارَ بتلك إِلَى الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، فَيَكُونُ الْآيَاتُ الْقَصَصَ الَّتِي وُصِفَتْ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابِ المحكم الذي هو محزون مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْهُ نُسِخَ كُلُّ كِتَابٍ كَمَا قَالَ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «3» وَقَالَ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ «4» وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الرَّاءِ وَأَخَوَاتِهَا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، أَيْ تِلْكَ الْحُرُوفُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا السُّوَرُ وَإِنْ قَرُبَتْ أَلْفَاظُهَا فَمَعَانِيهَا بَعِيدَةُ الْمَنَالِ. وَهِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ أَيْ الْكِتَابُ بِهَا يُتْلَى، وَأَلْفَاظُهُ إِلَيْهَا تَرْجِعُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: اسْتَعْمَلَ تِلْكَ بِمَعْنَى هَذِهِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ حَاضِرٌ قَرِيبٌ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. فَقِيلَ: آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: آيَاتُ السُّوَرِ الَّتِي تقدّم ذكرها في

_ (1) سورة التوبة: 9/ 124. (2) سورة التوبة: 9/ 128. (3) سورة البروج: 85/ 22. (4) سورة الزخرف: 43/ 4.

قَوْلِهِ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «1» وَقِيلَ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الرَّاءُ، فَإِنَّهَا كُنُوزُ الْقُرْآنِ، وَبِهَا الْعُلُومُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهَا. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكِتَابُ السُّورَةُ. وَالْحَكِيمُ: الْحَاكِمُ، أَوْ ذُو الْحِكْمَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهَا وَتَعَلُّقِهِ بِهَا، أَوِ الْمُحْكَمُ، أَوِ الْمَحْكُومُ بِهِ، أَوِ الْمُحَكَّمُ أَقْوَالٌ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَكَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ لِوُقُوعِ الْعَجَبِ مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَى بَشَرٍ مِنْهُمْ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، أَيْ: لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَهِيَ عادة الله في الأمم السَّالِفَةِ، أَوْحَى إِلَى رُسُلِهِمُ الْكُتُبَ بِالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى أَيْدِي مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْهُمْ. وَاسْمُ كَانَ أَنْ أَوْحَيْنَا، وعجبا الخبر، وللناس فَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ عَجَبًا لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، فَلَمَّا تَقَدَّمَ كَانَ حَالًا. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: عَجَبًا وَلَيْسَ مَصْدَرًا، بَلْ هُوَ بِمَعْنَى مُعْجِبٍ. وَالْمَصْدَرُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ جَازَ تَقَدُّمُ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ كَاسْمِ الْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: هُوَ تَبْيِينٌ أَيْ أَعْنِي لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: يتعلق بكان وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا قُدِّرَتْ دَالَّةً عَلَى الْحَدَثِ فَإِنَّهَا إِنْ تَمَحَّضَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ لَمْ يَصِحُّ تَعَلُّقٌ بِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: عَجَبٌ، فَقِيلَ: عَجَبٌ اسم كان، وأن أَوْحَيْنَا هُوَ الْخَبَرُ، فَيَكُونُ نَظِيرَ: يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشُّذُوذِ، وَهَذَا تَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: كَانَ تامة، وعجب فَاعِلٌ بِهَا، وَالْمَعْنَى: أَحَدَثَ لِلنَّاسِ عَجَبٌ لِأَنْ أَوْحَيْنَا، وَهَذَا التَّوْجِيهُ حَسَنٌ. وَمَعْنَى لِلنَّاسِ عَجَبًا: أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ لَهُمْ أُعْجُوبَةً يَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، وَنَصَبُوهُ عَلَمًا لَهُمْ يُوَجِّهُونَ نَحْوَهُ اسْتِهْزَاءَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ. وَقَرَأَ رُؤْبَةُ: إِلَى رَجُلٍ بِسُكُونِ الْجِيمِ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ يُسَكِّنُونَ فَعْلًا نَحْوُ سَبْعٌ وَعَضْدٌ فِي سَبُعٍ وَعَضُدٍ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ عَامًّا كَانَ مُتَعَلَّقُهُ وَهُوَ النَّاسُ عَامًّا، وَالْبِشَارَةُ خَاصَّةً، فَكَانَ مُتَعَلَّقُهَا خَاصًّا وَهُوَ الَّذِينَ آمنوا. وأن أَنْذِرِ: أَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ أَنْذَرَ النَّاسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الشَّأْنَ قَوْلُنَا أَنْذِرِ النَّاسَ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ الثُّنَائِيَّةَ الْوَضْعِ، لَا الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّهَا تُوصَلُ بِالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْأَمْرِ، فَوُصِلَتْ هُنَا بِالْأَمْرِ، وَيَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَهُ مَصْدَرٌ تَقْدِيرُهُ: بِإِنْذَارِ النَّاسِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى مِنَ التَّفْسِيرِيَّةِ، لِأَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يُثْبِتُونَ لأنّ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً. وَمِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِتَقْدِيرِ حَذْفِ اسْمِهَا وَإِضْمَارِ خَبَرِهَا، وَهُوَ الْقَوْلُ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا حَذْفُ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّ التَّأْصِيلَ خَيْرٌ مِنْ دَعْوَى الْحَذْفِ بِالتَّخْفِيفِ. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ، وَحُذِفَتِ الباء. وقدم صِدْقٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، مجاهد، والضحاك،

_ (1) سورة التوبة: 9/ 124.

وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ: هِيَ الْمُصِيبَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ السَّعَادَةُ السَّابِقَةُ لَهُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَابِقَةُ خَيْرٍ عِنْدَ اللَّهِ قَدَّمُوهَا. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ وَضَّاحُ الْيَمَنِ في قوله: مالك وَضَّاحُ دَائِمَ الْغَزَلْ ... أَلَسْتَ تَخْشَى تَقَارُبَ الْأَجَلْ صَلِّ لِذِي الْعَرْشِ وَاتَّخِذْ قَدَمَا ... يُنْجِيكَ يَوْمَ الْعِثَارِ وَالزَّلَلْ وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: سَلَفُ صِدْقٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَقَامُ صِدْقٍ. وَقَالَ يَمَانٌ: إِيمَانُ صِدْقٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: وَلَدٌ صَالِحٌ قَدَّمُوهُ. وَقِيلَ: تَقْدِيمُ اللَّهِ فِي الْبَعْثِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِي إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقِيلَ: تَقَدُّمُ شَرَفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: ذَلَّ بَنِي الْعَوَّامِ مِنْ آلِ الْحَكَمْ ... وَتَرَكُوا الْمُلْكَ لِمَلِكٍ ذِي قَدَمْ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ وَعَنْهُ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا ... مَعَ الْحَسَبِ الْعَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى الْبَحْرِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ سَابِقَةً وَفَضْلًا وَمَنْزِلَةً رَفِيعَةً، وَلَمَّا كَانَ السَّعْيُ وَالسَّبْقُ بِالْقَدَمِ سُمِّيَتِ الْمَسْعَاةُ الْجَمِيلَةُ وَالسَّابِقَةُ قَدَمًا، كَمَا سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ يَدًا، لِأَنَّهَا تُعْطَى بِالْيَدِ وَبَاعًا لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَبُوعُ بِهَا فَقِيلَ لِفُلَانٍ: قَدَمٌ فِي الْخَيْرِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى صِدْقٍ دَلَالَةٌ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلٍ وَأَنَّهُ مِنَ السَّوَابِقِ الْعَظِيمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصِّدْقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ، كَمَا تَقُولُ: رَجُلُ صِدْقٍ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: قِدَمَ بِكَسْرِ الْقَافِ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ قَالَ: الْكَافِرُونَ. ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا يَدُلُّ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا أَنْذَرَ وَبَشَّرَ قَالَ الْكَافِرُونَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْكَافِرُونَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ وحينا إلى بشر عجبا قَالَ الْكَافِرُونَ عَنْهُ كَذَا وَكَذَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْعَرَبِيَّانِ وَنَافِعٌ: لَسِحْرٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْيِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعِيسَى بْنُ عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُمَا لَسَاحِرٌ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا: مَا هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَقَوْلُهُمْ فِي الْإِنْذَارِ وَالْبِشَارَةِ سِحْرٌ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُ فَرَّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَحَالَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَقَرِيبِهِ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ السَّاحِرُ، وَظَنُّوهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَجْزِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي تَسْمِيَتِهِ سِحْرًا. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ فِيمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سِحْرًا ظَاهِرَ الْفَسَادِ، لَمْ يَحْتَجْ قَوْلُهُمْ إِلَى جَوَابٍ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ نَشْأَتَهُ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ وَخِلْطَتَهُمْ لَهُ وَمَا كَانَتْ قِلَّةَ عِلْمٍ، ثم أَتَى بِهِ مِنَ الْوَحْيِ الْمُتَضَمِّنِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ كِتَابٌ إِلَهِيٌّ مِنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ وَالِاشْتِمَالِ عَلَى مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَرَاعَةِ الَّتِي أَعْجَزَتْهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَهَا يَقْضِي بِفَسَادِ مَقَالَتِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ دَيْدَنُ الْكَفَرَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ إِذْ أَتَوْهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ كَمَا قَالَ: فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «1» قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا «2» وَقَوْمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «3» وَدَعْوَى السِّحْرِ إِنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالْجَحْدِ. إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ «4» وَجَاءَتَا عَقِبَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمَعَادِ. فَفِي الْأَعْرَافِ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ «5» وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ «6» وَهُنَا تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ. وَذِكْرُ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ وَثَمَرَتِهُمَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا فِي الْمَعَادِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ هَذَا الْخَلْقِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ الْعَظِيمَيْنِ وَهُوَ رَبُّكُمُ النَّاظِرُ فِي مَصَالِحِكُمْ، فَلَا يُتَعَجَّبُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى خَلْقِهِ مَنْ يُحَذِّرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَيُبَشِّرُ عَلَى طَاعَتِهِ، إِذْ لَيْسَ خَلْقُهُمْ عَبَثًا بَلْ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَسَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ، إِذِ الْقَادِرُ الْعَظِيمُ قَادِرٌ عَلَى مَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ: قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَقْضِيهِ وَحْدَهُ. وَالتَّدْبِيرُ تَنْزِيلُ الْأُمُورِ فِي مَرَاتِبِهَا وَالنَّظَرُ فِي أَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، وَالْأَمْرُ قِيلَ: الْخَلْقُ كُلُّهُ عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ. وَقِيلَ: يَبْعَثُ بِالْأَمْرِ مَلَائِكَةً، فَجِبْرِيلُ لِلْوَحْيِ، وَمِيكَائِيلُ لِلْقَطْرِ، وَعِزْرَائِيلُ لِلْقَبْضِ، وَإِسْرَافِيلُ لِلصُّورِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِعَظِيمِ شَأْنِهِ وَمُلْكِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيجَادَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِهِ إِيجَادًا وَتَدْبِيرًا لا يشركه أحد فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يجترىء أحد على

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 109. (2) سورة القصص: 28/ 48. (3) سورة المائدة: 5/ 110. (4) سورة الأعراف: 7/ 116. (5) سورة الأعراف: 7/ 52. (6) سورة الأعراف: 7/ 53.

الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، إِذْ هُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَوْضِعِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ. وَفِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ كَمَا قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «1» الْآيَةَ. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا وَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ عَنْ أَصْنَامِهِمْ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، رَدَّ ذَلِكَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَبْدَأِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: الشَّفِيعُ هُنَا مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي يُخَالِفُ الْوَتْرَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ أَوْجَدَ الْعَالَمَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ يُعِينُهُ، وَلَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ قَالَ لَهُ: كُنْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا وَخَبَرًا ثَانِيًا وَحَالًا. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ: أَيِ الْمُتَّصِفُ بِالْإِيجَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِبْرِيَاءِ هُوَ رَبُّكُمُ النَّاظِرُ فِي مَصَالِحِكُمْ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، إِذْ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُعْبَدَ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ بَعْضَ خَلْقِهِ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ: حَضٌّ عَلَى التَّدْبِيرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَإِمْحَاضِ الْعِبَادَةِ لَهُ. إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ: ذَكَرَ مَا يَقْتَضِي التَّذْكِيرَ وَهُوَ كَوْنُ مَرْجِعِ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ وَعْدُ اللَّهِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي صِدْقِهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِخْبَارَ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ بِابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ وَأَنَّ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ بِذَلِكَ هُوَ جَزَاءُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ الله وَحَقًّا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ مُؤَكِّدَانِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَعَدَ اللَّهُ وَعْدًا، فَلَمَّا حَذَفَ النَّاصِبَ أَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْفَاعِلِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ «2» وصُنْعَ اللَّهِ «3» وَالتَّقْدِيرُ: فِي حَقًّا حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وَقِيلَ: انتصب حقا بوعد عَلَى تَقْدِيرِ فِي أَيِّ وَعْدِ اللَّهِ فِي حَقٍّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّقْدِيرُ: وَقْتَ حَقٍّ وَأَنْشَدَ: أَحَقًّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ خَارِجًا ... وَلَا وَالِجًا إِلَّا عَلَيَّ رَقِيبُ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بَدْءَ الْخَلْقِ ثُمَّ إعادته، والمعنى:

_ (1) سورة النبأ: 78/ 38. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 138. (3) سورة النمل: 27/ 88.

إِعَادَةُ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ. وَعَدَ اللَّهُ عَلَى لَفْظِ الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِمَا نَصَبَ حَقًّا أَيْ: حَقَّ حَقًّا بَدْءُ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: أَحَقًّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ جَائِيًا ... وَلَا ذَاهِبًا إِلَّا عَلَيَّ رَقِيبُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَوْضِعُهَا النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أَحَقٌّ أَنَّهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَوْضِعُهَا رَفْعٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَحَقٌّ أَنَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: إِنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ، فَمَنْ فِي قُدْرَتِهِ هَذَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ إِخْلَافِ الْوَعْدِ، وَإِنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ وعد الله حقا إنه يَبْدَأُ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ وَعْدَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ ذَلِكَ بِتَمَامِهِ وَقَطَعَ عَمَلَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: حَقٌّ بِالرَّفْعِ، فَهَذَا ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ أَنَّهُ انْتَهَى. وَكَوْنُ حق خبر مبتدأ، وأنه هُوَ الْمُبْتَدَأُ هُوَ الْوَجْهُ فِي الْإِعْرَابِ كَمَا تَقُولُ: صَحِيحٌ أَنَّكَ تَخْرُجُ، لِأَنَّ اسْمَ أَنَّ مَعْرِفَةٌ، وَالَّذِي تَقَدَّمَهَا فِي نَحْوِ هَذَا الْمِثَالِ نَكِرَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَدْءَ الْخَلْقِ هُوَ النَّشْأَةُ الْأُولَى، وَإِعَادَتُهُ هُوَ الْبَعْثُ من القبور، وليجزي متعلق بيعيده أَيْ: لِيَقَعَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: الْبَدْءُ مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى التُّرَابِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى الْبَعْثِ. وَقِيلَ: الْبَدْءُ نَشْأَتُهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقِيلَ: يَبْدَؤُهُ مِنَ الْعَدَمِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُوجِدُهُ. وَقِيلَ: يَبْدَؤُهُ فِي زُمْرَةِ الْأَشْقِيَاءِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَى زُمْرَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ طلحة: يبدىء مِنْ أَبْدَأَ رُبَاعِيًّا، وَبَدَأَ وَأَبْدَأَ بِمَعْنًى، وَبِالْقِسْطِ مَعْنَاهُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ أَيْ: لِيُثِيبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي جَزَائِهِمْ، فَيُوصِّلُ كُلًّا إِلَى جَزَائِهِ وَثَوَابِهِ عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ، فَيُنْصِفُ بَيْنَهُمْ وَيَعْدِلُ، إِذْ لَيْسُوا كُلُّهُمْ متساوين فِي مَقَادِيرِ الثَّوَابِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْقِسْطِ مِنْهُ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا وَلَمْ يَظْلِمُوا حِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» وَالْعُصَاةُ ظُلَّامٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا أَوْجَهُ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْقِسْطَ مِنْ فِعْلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُبْتَدَأً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ بِالْعَدْلِ قَدْ شَمِلَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ الْحَدِيثُ مَعَ الكفار مُفْتَتَحَ السُّورَةِ مَعَهُمْ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهِمْ فَقَالَ: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ «2» وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

_ (1) سورة لقمان: 31/ 13. (2) سُورَةِ الْأَنْعَامِ: 6/ 70.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ مِنْ إِيجَادِ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، ذَكَرَ مَا أَوْدَعَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوْهَرَيْنِ النَّيِّرَيْنِ الْمُشْرِقَيْنِ، فَجَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً أَيْ: ذَاتَ ضِيَاءٍ أَوْ مُضِيئَةً، أَوْ نَفْسَ الضياء مبالغة. وجعل يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَيَكُونُ ضِيَاءً مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ فَيَكُونُ حَالًا، وَالْقَمَرَ نُورًا أَيْ: ذَا نور، أو منور، أَوْ نَفْسَ النُّورِ مُبَالَغَةً، أَوْ هُمَا مَصْدَرَانِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضِيَاءً جمع ضوء كَحَوْضٍ وَحِيَاضٍ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّمْسُ أَعْظَمَ جِرْمًا خُصَّتْ بِالضِّيَاءِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ سُطُوعٌ وَلَمَعَانٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ النُّورِ. قَالَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ: الشَّمْسَ قَدْرُ الْأَرْضِ مِائَةٍ مَرَّةٍ وَأَرْبَعًا وَسِتِّينَ مَرَّةً، وَالْقَمَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَخُصَّ الْأَعْظَمُ بِالْأَعْظَمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «1» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» يَقْتَضِي أَنَّ النُّورَ أَعْظَمُ وَأَبْلَغُ فِي الشُّرُوقِ، وَإِلَّا فَلِمَ عَدَلَ إِلَى الْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ النُّورُ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظَةُ النور أحكم أبلغ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبَّهَ هُدَاهُ وَلُطْفَهُ الَّذِي يُصِيبُهُ لِقَوْمٍ يَهْتَدُونَ، وَآخَرِينَ يَضِلُّونَ مَعَهُ بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ أَبَدًا مَوْجُودٌ فِي اللَّيْلِ وَأَثْنَاءِ الظَّلَامِ. وَلَوْ شَبَّهَهُ بِالضِّيَاءِ لوجب أن لا يضل أَحَدًا، إِذْ كَانَ الْهُدَى يَكُونُ كَالشَّمْسِ الَّتِي لَا تَبْقَى مَعَهَا ظُلْمَةٌ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هُدَاهُ فِي الْكُفْرِ كَالنُّورِ فِي الظَّلَامِ، فَيَهْتَدِي قَوْمٌ وَيَضِلُّ قَوْمٌ آخَرُونَ. وَلَوْ جَعَلَهُ كَالضِّيَاءِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَضِلَّ أَحَدٌ، وَبَقِيَ الضِّيَاءُ عَلَى هَذَا أَبْلَغَ فِي الشُّرُوقِ كَمَا اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَرَأَ قَنْبُلٌ: ضِيَاءً هُنَا، وَفِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْقَصَصِ بِهَمْزَةٍ قَبْلَ الْأَلِفِ بَدَلَ الْيَاءِ. وَوُجِّهَتْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ جُعِلَتْ لَامُهُ عَيْنًا، فَكَانَتْ هَمْزَةً. وَتَطَرَّفَتِ الْوَاوُ الَّتِي كَانَتْ عَيْنًا بَعْدَ أَلِفٍ زَائِدَةٍ فَانْقَلَبَتْ هَمْزَةً، وَضُعِّفَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْفِرَارُ مِنِ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ إِلَى تَخْفِيفِ إِحْدَاهُمَا، فَكَيْفَ يُتَخَيَّلُ إِلَى تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ يُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِهِمَا وَلَمْ يَكُونَا فِي الْأَصْلِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْقَمَرِ أَيْ: مَسِيرُهُ مَنَازِلَ، أَوْ قَدَّرَهُ ذَا مَنَازِلَ، أَوْ قَدَّرَ لَهُ مَنَازِلَ، فَحَذَفَ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ، فَانْتَصَبَ بِحَسَبِ هَذِهِ التَّقَادِيرِ عَلَى الظَّرْفِ أَوِ الْحَالِ أَوِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ «3» وَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَاعَى فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 17. (2) سورة النور: 24/ 35. (3) سورة يس: 36/ 39.

السِّنِينَ وَالْحِسَابِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَهُمَا مَعًا بِحَسَبِ أَنَّهُمَا مُصَرَّفَانِ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، لَكِنَّهُ اجْتُزِئَ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي وَالْمَنَازِلُ هِيَ الْبُرُوجُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَنْسِبُ إِلَيْهَا الْأَنْوَاءَ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً: الشُّرَطَيْنُ، وَالْبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالدَّبْرَةُ، وَالصِّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسِّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالزِّبَانَانِ، وَالْإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وسعد الذابح، وسعد بلغ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ، وَالرِّشَاءُ وَهُوَ الْحُوتُ. وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَمْرٍو عَنِ الْحِسَابِ، أَفَبِنَصْبِهِ أَوْ بِجَرِّهِ؟ فَقَالَ. وَمَنْ يَدْرِي مَا عَدَدُ الْحِسَابِ؟ انْتَهَى. يُرِيدُ أَنَّ الْجَرَّ إِنَّمَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا أَنَّ الْحِسَابَ يَكُونُ يُعْلَمُ عَدَدُهُ، وَالْحِسَابُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ مُنْتَهَى عَدَدِهِ وَالْحِسَابُ حِسَابُ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَعَاشِ وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّوَارِيخِ. وَقِيلَ: اكْتَفَى بذكر عدد السنين عن عَدَدِ الشُّهُورِ، وَكَنَّى بِالْحِسَابِ عَنِ الْمُعَامَلَاتِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَخْلُوقِهِ. وَذَلِكَ يُشَارُ بِهَا إِلَى الْوَاحِدِ، وَقَدْ يُشَارُ بِهَا إِلَى الْجَمْعِ. وَمَعْنَى بِالْحَقِّ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَلَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا كَمَا جَاءَ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا «2» وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ «3» وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْحَقُّ هُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ مَعَهُ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ تَرْكِيبٌ قَلِقٌ، إِذْ يَصِيرُ مَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا إِلَّا بِزَيْدٍ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ لِلْحَقِّ، وَهُوَ إِظْهَارُ صَنْعَتِهِ وَبَيَانُ قُدْرَتِهِ وَدَلَالَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: وَالْحَسَابِ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَرَوَاهُ أَبُو تَوْبَةٍ عَنِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: يُفَصِّلُ بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى لَفْظَةِ اللَّهِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالنُّونِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِخْبَارِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَخُصَّ مَنْ يَعْلَمُ بِتَفْصِيلِ الْآيَاتِ لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِ الْآيَاتِ، وَيَتَدَبَّرُونَ بِهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ. وَالْآيَاتُ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ أَوْ آيات القرآن.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 62. (2) سورة آل عمران: 3/ 191. (3) سورة الدخان: 44/ 38- 39.

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ وَالِاخْتِلَافُ تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ. وَمَا خَلَقَ الله في السموات مِنَ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ الَّتِي فِيهَا، وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقِيمِينَ بِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْأَرْضِ مِنَ الْجَوَامِدِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَوَاقِبَ فَيَحْمِلُهُمُ الْخَوْفُ عَلَى تَدَبُّرِهِمْ وَنَظَرِهِمْ. إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّجَاءَ هُوَ التَّأْمِيلُ وَالطَّمَعُ أَيْ: لَا يُؤَمِّلُونَ لِقَاءَ ثَوَابِنَا وَعِقَابِنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ لَيْسَ يَرْجُو رَحْمَةً فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُحْسِنُ ظَنًّا بِأَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «1» وَالْمَعْنَى أَنَّ مُنْتَهَى غَرَضِهِمْ وَقُصَارَى آمَالِهِمْ إِنَّمَا هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَاطْمَأَنُّوا أَيْ سَكَنُوا إِلَيْهَا، وَقَنِعُوا بِهَا، وَرَفَضُوا مَا سِوَاهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ هُمْ، هُوَ قِسْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ التَّكْرِيرُ الْمَوْصُولُ، فَيَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ وَيَكُونُ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى صِنْفَيِ الْكُفَّارِ ذِي الدُّنْيَا الْمُتَوَسِّعِ فِيهَا النَّاظِرِ فِي الْآيَاتِ، فَلَمْ يُؤْثِرْ عِنْدَهُ رَجَاءَ لِقَاءِ اللَّهِ، بَلْ رَضِيَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِتَكْذِيبِهِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالْعَادِمِ التَّوَسُّعَ الْغَافِلِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْهِدَايَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الصفات، فيكون الذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَاوُ الْحَالِ أَيْ: وَقَدْ اطْمَأَنُّوا بِهَا. وَالْآيَاتُ قِيلَ: آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا أَنْزَلْنَاهُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَفَرْضٍ مِنْ حُدُودٍ وَشَرَائِعِ أحكام، وبما كَانُوا يَكْسِبُونَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ السَّابِقَةَ يَكُونُ عَنْهَا الْعَذَابُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَنَصٌّ عَلَى تَعَلُّقِ الْعِقَابِ بِالْكَسْبِ. وَمَجِيئُهُ بِالْمُضَارِعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ مَاضِيَ زَمَانِهِمْ وَمُسْتَقْبَلَهُ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 38.

لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ: أَيْ يزيد في هداهم بِسَبَبِ إِيمَانِهِمُ السَّابِقِ وَتَثَبُّتِهِمْ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ أَوْ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ بِنُورِ إِيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «1» قَالَ مُجَاهِدٌ: يَكُونُ لَهُمْ إِيمَانُهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ يَمْثُلُ لَهُ رَجُلٌ جَمِيلُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُودُهُ إِلَى الْجَنَّةِ» وَبِعَكْسِ هَذَا فِي الْكَافِرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِيمَانُهُمْ يَهْدِيهِمْ إِلَى خَصَائِصِ الْمَعْرِفَةِ، وَمَزَايَا فِي الْأَلْطَافِ تُسَرُّ بِهَا قُلُوبُهُمْ وَتَزُولُ بِهَا الشُّكُوكُ وَالشُّبَهَاتُ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «2» وَهَذِهِ الزَّوَائِدُ وَالْفَوَائِدُ يَجُوزُ حُصُولُهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ حُصُولُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا كَانَ الْمَعْنَى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ، وَتَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْوَاوَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَقَدُّمُهُمْ إِلَى الثَّوَابِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: الْقَدَمُ تَهْدِي السَّاقَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَرْحَمُهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَدْعُوهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَجْرِي مُسْتَأْنَفًا فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِخِبْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا هِدَايَةُ اللَّهِ لَهُمْ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخَرُ بِجَرَيَانِ الْأَنْهَارِ، وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. كَمَا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اتِّصَافُهُمْ بِانْتِفَاءِ رَجَاءِ لِقَاءِ اللَّهِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: مَقَرُّهُمْ وَمَأْوَاهُمْ وَذَلِكَ النَّارُ، فَصَارَ تَقْسِيمًا لِلْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْقَفَّالِ: أَنْ يَكُونَ تَجْرِي مَعْطُوفًا حُذِفَ مِنْهُ الْحَرْفُ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا وَمَعْنَى مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ: مِنْ تَحْتِ مَنَازِلِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَلَيْسَ التَّحْتُ الَّذِي هُوَ بِالْمَسَافَةِ، بَلْ يَكُونُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَمِنْهُ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا «3» وَقَالَ: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَبْدُ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ وَالنُّورَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ الْإِيمَانُ الْمُقَيَّدُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْإِيمَانُ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَصَاحِبُهُ لَا تَوْفِيقَ لَهُ وَلَا نُورَ. (قُلْتُ) : الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى كَيْفَ أَوْقَعَ الصِّلَةَ مَجْمُوعًا فِيهَا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ثُمَّ قَالَ: بِإِيمَانِهِمْ، أَيْ بِإِيمَانِهِمُ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ هَذَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهُوَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وجوزوا

_ (1) سورة الحديد: 57/ 12. (2) سورة محمد: 47/ 17. (3) سورة مريم: 19/ 24. [.....]

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَنْ يتعلق بتجري، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْأَنْهَارِ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، لِإِنَّ وَمَعْنَى دَعْوَاهُمْ: دُعَاؤُهُمْ وَنِدَاؤُهُمْ، لِأَنَّ اللَّهُمَّ نِدَاءُ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: اللَّهُمَّ إِنَّا نُسَبِّحُكَ كَقَوْلِ الْقَانِتِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ. وَقِيلَ: عِبَادَتُهُمْ كَقَوْلِهِ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» وَلَا تَكْلِيفَ فِي الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِهَاجِ وَالِالْتِذَاذِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْعِبَادَةَ مَجَازًا. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِعْلُهُمْ وَإِقْرَارُهُمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: طَرِيقُهُمْ فِي تَقْدِيسِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ. وَتَحِيَّتُهُمْ أَيْ مَا يُحَيِّي بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَكُونُ مَصْدَرًا مُضَافًا لِلْمَجْمُوعِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعَمَلِ، بَلْ يَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «2» وَقِيلَ: يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ اللَّهُ تَعَالَى أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَيْ: تَحِيَّةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، أَوْ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ. وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَيْ: خَاتِمَةُ دُعَائِهِمْ وَذِكْرِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَبْتَدِئُونَ بِتَنْزِيهِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَيَخْتِمُونَ بِشُكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَفْتَتِحُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَيَخْتِمُونَ بِالتَّحْمِيدِ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: يَعْزُوهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّحْمِيدَ والتسبيح. وَإِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ لَازِمُ الْحَذْفِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرُ إن، وأن وَصِلَتُهَا خَبَرُ قَوْلِهِ: وَآخِرُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، ويعقوب: إن الحمد بالتشديد وَنَصْبِ الْحَمْدَ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِالتَّخْفِيفِ، وَرَفْعِ الْحَمْدُ هِيَ عَلَى أَنَّ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ يُرِيدُ أَنَّهُ هَالِكٌ إِذَا خُفِّفَتْ لَمْ تَعْمَلْ فِي غَيْرِ ضَمِيرِ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ. وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ إِعْمَالَهَا كَحَالِهَا مُشَدَّدَةً، وَزَعَمَ صَاحِبُ النَّظْمِ أَنَّ أَنْ هُنَا زَائِدَةٌ، والحمد لِلَّهِ خَبَرُ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنَصِّ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَحَالِّ زِيَادَتِهَا. وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ وَنَحْوِ هَذَا. فَأَخْبَرَ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ مَعَ النَّاسِ فِي إِجَابَتِهِ إِلَى الْمَكْرُوهِ مِثْلَ مَا يُرِيدُونَ فِعْلَهُ مِنْهُمْ فِي إِجَابَتِهِ إِلَى الْخَيْرِ لَأَهْلَكَهُمْ، ثُمَّ حَذَفَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ جُمْلَةً يَتَضَمَّنُهَا الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهَا: فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ نَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ فَاقْتَضَبَ القول،

_ (1) سورة مريم: 19/ 48. (2) سورة الأنبياء: 21/ 78.

وَوَصَلَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ، فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّقْدِيرَ تَجِدْهُ صَحِيحًا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَوْلُهُمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «1» يَعْنِي: وَلَوْ عَجَّلْنَا لَهُمُ الشَّرَّ الَّذِي دَعَوْا بِهِ كَمَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الْخَيْرَ لَأُمِيتُوا وَأُهْلِكُوا. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ اتَّصَلَ بِهِ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا، وَمَا مَعْنَاهُ؟ (قُلْتُ) : قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى نَفْيِ التَّعْجِيلِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الشَّرَّ وَلَا نَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ، فَنَذَرُهُمْ فِي طغيانهم، أو فنمهلهم، ونفيض عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ مَعَ طُغْيَانِهِمْ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر عَجَبَ النَّاسِ مِنْ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ الإنذار والتبشير، وكانوا يستهزؤون بِذَلِكَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ حُلُولَ مَا أَنْذَرُوهُ بِهِمْ فَقَالُوا: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً» «2» وَقَالَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «3» وَقَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «4» ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ إِيجَادَهُ الْعَالَمَ، ثُمَّ إِلَى تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَذَكَرَ مَنَازِلَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُنْذَرَ بِهِ الَّذِي طَلَبُوا وُقُوعَهُ عَجَلًا لَوْ وَقَعَ لَهَلَكُوا، فَلَمْ يَكُنْ فِي إِهْلَاكِهِمْ رَجَاءُ إِيمَانِ بَعْضِهِمْ، وَإِخْرَاجُ مُؤْمِنٍ مِنْ صُلْبِهِمْ بَلِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ لَهُمْ مَا طَلَبُوهُ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ اسْتِعْجَالَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُشَبَّهٌ بِهِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ تَعْجِيلَهُ لَهُمُ الْخَيْرَ، فَوَضَعَ اسْتِعْجَالَهُ لَهُمْ بِالْخَيْرِ مَوْضِعَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الْخَيْرَ إِشْعَارًا بِسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ لَهُمْ وَإِسْعَافِهِ بِطِلْبَتِهِمْ، كَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ تَعْجِيلٌ لَهُمْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: التَّقْدِيرُ مِثْلُ اسْتِعْجَالِهِمْ، وَكَذَا قَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَمَدْلُولُ عَجَّلَ غَيْرُ مَدْلُولِ اسْتَعْجَلَ، لِأَنَّ عَجَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، وَاسْتَعْجَلَ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ التَّعْجِيلِ، وَذَاكَ وَاقِعٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا مُضَافٌ إِلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ تَعْجِيلًا مِثْلَ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ، فَشَبَّهَ التَّعْجِيلَ بِالِاسْتِعْجَالِ، لِأَنَّ طَلَبَهُمْ لِلْخَيْرِ وَوُقُوعُ تَعْجِيلِهِ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُمْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ إِذَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالشَّرِّ وَوُقُوعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَمَا كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالْخَيْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: لَقَضَى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَجَلَهُمْ بِالنَّصْبِ، وَالْأَعْمَشُ لَقَضَيْنَا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ،

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 32. (2) سورة الأنفال: 8/ 32. (3) سورة الحج: 22/ 47. (4) سورة الأعراف: 7/ 70.

وأجلهم بِالرَّفْعِ. وَقَضَى أَكْمَلُ، وَالْفَاءُ فِي فَنَذَرُ جَوَابُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ تَقْدِيرُهُ: فَنَحْنُ نَذَرُ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَنَذَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ نُمْهِلُهُمْ فَنَذَرُ. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ: وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَدْعَوْا حُلُولَ الشَّرِّ بِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِطَلَبِهِمْ بَلْ يَتْرُكُ مَنْ يَرْجُو لِقَاءَهُ يعمه فِي طُغْيَانِهِ، بَيَّنَ شِدَّةَ افْتِقَارِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى اسْتِمْطَارِ إِحْسَانِهِ مُسِيئَهُمْ وَمُحْسِنَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ لَا يَرْجُو لِقَاءَهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ حَالَةَ مَسِّ الضُّرِّ لَهُ، فَكَلٌّ يَلْجَأُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ وَيُفْرِدُهُ بِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُ أَبُو حُذَيْفَةَ هَاشِمُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: عُقْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: هُمَا قَالَهُ عَطَاءٌ. وَقِيلَ: النَّضْرُ بن الحرث، وَأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ، بَلِ، الْمُرَادُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ، سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَمْ عَاصِيًا بِغَيْرِ الْكُفْرِ. وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَاحْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ لِأَشْخَاصٍ، إِذِ الْإِنْسَانُ جِنْسٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ الضُّرُّ لَا يَزَالُ دَاعِيًا مُلْتَجِئًا رَاغِبًا إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ كُلِّهَا. وَابْتَدَأَ بِالْحَالَةِ الشَّاقَّةِ وَهِيَ اضْطِجَاعُهُ وَعَجْزُهُ عَنِ النُّهُوضِ، وَهِيَ أَعْظَمُ فِي الدُّعَاءِ وَآكَدُ ثُمَّ بِمَا يَلِيهَا، وَهِيَ حَالَةُ الْقُعُودِ، وَهِيَ حَالَةُ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ، ثُمَّ بِمَا يَلِيهَا وَهِيَ حَالَةُ الْقِيَامِ وَهِيَ حَالَةُ الْعَجْزِ عَنِ الْمَشْيِ، فَتَرَاهُ يَضْطَرِبُ وَلَا يَنْهَضُ لِلْمَشْيِ كَحَالَةِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ. ولجنبه حَالٌ أَيْ: مُضْطَجِعًا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ الْحَالَانِ، وَاللَّامُ عَلَى بَابِهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَالتَّقْدِيرُ: مَلْقِيًّا لِجَنْبِهِ، لَا بِمَعْنَى عَلَى خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي دَعَانَا، وَالْعَامِلُ فِيهِ دَعَانَا أَيْ: دَعَانَا مُلْتَبِسًا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَسَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي دَعَانَا، وَالْعَامِلُ فِيهِ دَعَا وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَبَايِنَانِ. وَالضُّرُّ: لَفْظٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ. وَالرَّزَايَا فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْأَحِبَّةِ، هَذَا قَوْلُ اللُّغَوِيِّينَ. وَقِيلَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِرَزَايَا الْبَدَنِ الْهُزَالِ وَالْمَرَضِ انْتَهَى. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَضَعَّفَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ لِجَنْبِهِ فَمَا بَعْدَهُ أَحْوَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَسَّ، قَالَ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَالَ عَلَى هَذَا وَاقِعٌ بَعْدِ جَوَابِ إِذَا وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى كَثْرَةُ دُعَائِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، لَا عَلَى الضُّرِّ يُصِيبُهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَعَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ انتهى. وهذه

الثَّانِي يَلْزَمُ فِيهِ مَنْ مَسَّهُ الضُّرُّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ دُعَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ جَوَابُ مَا ذُكِرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَالْقَيْدُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ قَيْدٌ فِي الْجَوَابِ كَمَا تَقُولُ: إِذَا جَاءَنَا زَيْدٌ فَقِيرًا أَحْسَنَّا إِلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: أَحْسَنَّا إِلَيْهِ فِي حَالِ فَقْرِهِ، فَالْقَيْدُ فِي الشَّرْطِ قَيْدٌ فِي الْجَزَاءِ. وَمَعْنَى كَشْفِ الضُّرِّ: رَفْعُهُ وَإِزَالَتُهُ، كَأَنَّهُ كَانَ غِطَاءً عَلَى الْإِنْسَانِ سَاتِرًا لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: وَإِذَا مَسَّ الإنسان وصفه للمستقبل، وفلما كَشَفْنَا لِلْمَاضِي فَهَذَا النَّظْمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ هَكَذَا كَانَ فِيمَا مَضَى وَهَكَذَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَدَلَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَاضِي انْتَهَى. وَالْمُرُورُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُضِيِّ على طريقته الأول مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالضُّرِّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَعْرَضَ عَنِ الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: مَرَّ عَنْ مَوْقِفِ الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ إِلَى كَشْفِ ضُرٍّ مَسَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مَرَّ، يَقْتَضِي أَنَّ نُزُولَهَا فِي الْكُفَّارِ، ثُمَّ هِيَ بَعْدَ تَتَنَاوَلُ كُلِّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ مَعْنَاهَا مِنْ كَافِرٍ وَعَاصٍ يَعْنِي الْآيَةَ مَرَّ فِي إِشْرَاكِهِ بِاللَّهِ وَقِلَّةِ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَالْكَافُ مِنْ كَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْيِينِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ كَشْفِ الضُّرِّ وَعَدَمِ شُكْرِهِ وَذِكْرِهِ عَلَى ذلك، وزين مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ اللَّهَ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ خَلْقِ ذَلِكَ وَاخْتِرَاعِهِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا يَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَإِمَّا بِتَخْلِيَتِهِ وَخِذْلَانِهِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوِ الشَّيْطَانَ بِوَسْوَسَتِهِ وَمُخَادَعَتِهِ. قِيلَ: أَوِ النَّفْسَ. وَفَسَّرَ الْمُسْرِفُونَ بِالْكَافِرِينَ وَالْكَافِرُ مُسْرِفٌ لِتَضْيِيعِهِ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ بِالشَّهْوَةِ الْخَسِيسَةِ الْمُنْقَضِيَةِ، كَمَا يُضَيِّعُ الْمُنْفِقُ مَالَهُ مُتَجَاوِزًا فِيهِ الْحَدَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ جَنَابِ اللَّهِ وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ: هَذَا إِخْبَارٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِطَابٌ لَهُمْ بِإِهْلَاكِ مَنْ سَلَفَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَهُوَ الْكُفْرُ، عَلَى سَبِيلِ الرَّدْعِ لَهُمْ وَالتَّذْكِيرِ بِحَالِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْوَعِيدِ لَهُمْ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ. فَكَمَا فَعَلَ بِهَؤُلَاءِ، يَفْعَلُ بِكُمْ. وَلَفْظَةُ لَمَّا مُشْعِرَةٌ بِالْعِلِّيَّةِ، وَهِيَ حَرْفُ تَعْلِيقٍ فِي الْمَاضِي. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا ظرف معمول لأهلكنا كَالزَّمَخْشَرِيِّ مُتَّبِعًا لِغَيْرِهِ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ فِي حِينِ الظُّلْمِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا

إِشْعَارٌ إِذْ ذَاكَ بِالْعِلِّيَّةِ. لَوْ قُلْتَ: جِئْتُ حِينَ قَامَ زَيْدٌ، لَمْ يَكُنْ مجيئك مستببا عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ، وَأَنْتَ تَرَى حَيْثُمَا جَاءَتْ لَمَّا كَانَ جَوَابُهَا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مُتَسَبِّبًا عَمَّا بَعْدَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّهَا حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ. وَجَاءَتْهُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ظَلَمُوا أَيْ: لَمَّا حَصَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ: مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، وَظُلْمُهُمْ أُهْلِكُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاوُ فِي وَجَاءَتْهُمْ لِلْحَالِ أَيْ: ظَلَمُوا بِالتَّكْذِيبِ، وَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْحُجَجِ وَالشَّوَاهِدِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَيِّنَاتُ مُخَوِّفَاتُ الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَمَا كَانُوا عَائِدًا عَلَى الْقُرُونَ، وَأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ظَلَمُوا. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا لَا مَعْطُوفًا قَالَ: وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِمَعْنَى: وَمَا كانوا يؤمنون حقا تأكيدا لِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ مُسْتَبْعَدٌ مِنْهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّبَبَ فِي إِهْلَاكِهِمْ تَعْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ، وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِمْهَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ أُلْزِمُوا الْحُجَّةَ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ الْتِفَاتًا، لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، وَيَكُونُ مُتَّسِقًا مَعَ قَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ. وَالْكَافُ فِي كَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْإِهْلَاكُ. نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ فَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ أَجْرَمَ، يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يَجْزِي بِالْيَاءِ، أَيْ يَجْزِي اللَّهُ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ. وَالْخِطَابُ فِي جَعَلْنَاكُمْ لِمَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، وَالْمَعْنَى: اسْتَخْلَفْنَاكُمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْقُرُونِ الْمُهْلَكَةِ لننظر أَتَعْمَلُونَ خَيْرًا أَمْ شَرًّا فَنُعَامِلُكُمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِكُمْ. وَمَعْنَى لِنَنْظُرَ: لِنَتَبَيَّنَ فِي الْوُجُودِ مَا عَمِلْنَاهُ أَوَّلًا، فَالنَّظَرُ مَجَازٌ عَنْ هَذَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ النَّظَرُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْعِلْمِ الْمُحَقَّقِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ بِالشَّيْءِ مَوْجُودٌ، أَشْبَهَ بِنَظَرِ النَّاظِرِ وَعِيَانِ الْمُعَايِنِ فِي حَقِيقَتِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ الْمُقَابَلَةُ، وَفِيهِ إِنْكَارُ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْبَصِيرِ وَرَدُّهُ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ. وَقِيلَ: لِنَنْظُرَ، هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لِيَنْظُرَ رُسُلُنَا وَأَوْلِيَاؤُنَا. وَأُسْنِدَ النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ مَجَازًا، وَهُوَ لِغَيْرِهِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ الحرث الزَّمَّارِيُّ: لِنَظَّرَ، بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ الله عَنْهُ، وَيَعْنِي: أَنَّهُ رَآهَا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ النَّقْطَ وَالشَّكْلَ بِالْحَرَكَاتِ وَالتَّشْدِيدَاتِ

إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ عُثْمَانَ، وَلَا يَدُلُّ كَتْبُهُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَا عَلَى إِدْغَامِهَا فِي الظَّاءِ، لِأَنَّ إِدْغَامَ النُّونِ فِي الظَّاءِ لَا يَجُوزُ، وَمُسَوِّغُ حَذْفِهَا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْأَنْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ قِرَاءَةُ يَحْيَى عَلَى أَنَّهُ بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ الْغُنَّةِ، فَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ إِدْغَامٌ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ. وكيف معموله لتعملون، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِنَنْظُرَ، لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ. وَجَازَ التَّعْلِيقُ فِي نَظَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّهَا وَصْلَةُ فِعْلِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا فِيهِ مَا نَسْأَلُكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي خَمْسَةِ نَفَرٍ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَمِكْرَزِ بْنِ حَفْصٍ، وَعَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ الْعَامِرِيِّ، وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ. وقيل: الخمسة الوليد، والعاص، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْأَسْوَدُ بن عبد يغوث، والحرث بْنُ حَنْظَلَةَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَاظَهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَغِيظُنَا مِنْ ذَلِكَ نَتَّبِعْكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لِأَنَّ بَعْضَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَلَى مَعْنَى: سَاهِلْنَا يَا مُحَمَّدُ، وَاجْعَلْ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي مِنْ قِبَلِكَ هُوَ بِاخْتِيَارِنَا، وَأَحِلَّ مَا حَرَّمَتْهُ، وَحَرِّمْ مَا أَحْلَلْتَهُ، لِيَكُونَ أَمْرُنَا حِينَئِذٍ وَاحِدًا وَكَلِمَتُنَا مُتَّصِلَةً انْتَهَى. وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى الْوَصْفِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا تَسْرِدُ عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَاضِحَاتٍ نَيِّرَاتٍ لَا لَبْسَ فِيهَا قَالُوا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأُضِيفَتِ الْآيَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا كَلَامُهُ جَلَّ وَعَزَّ، وَالتَّبْدِيلُ يَكُونُ فِي الذَّاتِ بِأَنْ يُجْعَلَ بَدَلُ ذات ذات أُخْرَى، وَيَكُونُ فِي الصِّفَةِ. وَالتَّبْدِيلُ هُنَا هُوَ فِي الصِّفَةِ، وَهُوَ أَنْ يُزَالَ بَعْضُ نَظْمِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ مَكَانَ آيَةِ الْعَذَابِ آيَةَ الرَّحْمَةِ، وَلَا يُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ هُنَا أَنْ يَكُونَ فِي الذَّاتِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ جَعْلُ الشَّيْءِ الْمُقْتَضِي لِلتَّغَايُرِ هُوَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِي الذَّاتِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْإِنْسَانِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَفْيِهِ وَنَفْيِ مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ

مُسْتَحِيلًا ذَلِكَ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي. وَانْتِفَاءُ الْكَوْنِ هُنَا هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «1» أَيْ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّبْدِيلُ فِي الذَّاتِ عَلَى أَنْ يُلْحَظَ فِي قَوْلِهِ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا، إبقاء هَذَا الْقُرْآنِ وَيُؤْتَى بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ أَوْ بَدِّلْهُ بِمَعْنَى أَزِلْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَائْتِ بِبَدَلِهِ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا إِزَالَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ التَّبْدِيلُ فِي الذَّاتِ، أَوِ الْإِتْيَانُ بِغَيْرِهِ مَعَ بَقَائِهِ فَيَحْصُلُ التَّغَايُرُ بَيْنَ المطلوبين. وتلقاء مصدر كالبنيان، ولم يجيء مَصْدَرٌ عَلَى تِفْعَالٍ غَيْرُهُمَا، وَيُسْتَعْمَلُ ظَرْفًا لِلْمُقَابَلَةِ تَقُولُ: زيد تلقاءك. وقرىء بِفَتْحِ التَّاءِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَصَادِرِ الَّتِي لِلْمُبَالَغَةِ كَالتَّطْوَافِ وَالتَّجْوَالِ وَالتَّرْدَادِ وَالْمَعْنَى: مِنْ قِبَلِ نَفْسِي أَنْ أَتَّبِعَ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَمَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نقصان، ولا تَبْدِيلٍ إِلَّا مَا يَجِيئُنِي خَبَرُهُ مِنَ السَّمَاءِ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ، وَعَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، أَوْ أَنْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا وَقَوْلِهِمْ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «2» وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدُوا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخَافُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا كَانَ غَرَضُهُمْ وَهُمْ أَدْهَى النَّاسِ وأمكرهم فِي هَذَا الِاقْتِرَاحِ؟ (قُلْتُ) : الْمَكْرُ وَالْكَيْدُ. أَمَّا اقْتِرَاحُ إِبْدَالِ قُرْآنٍ بِقُرْآنٍ فَفِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ، وَأَنَّكَ لَقَادِرٌ عَلَى مِثْلِهِ، فَأَبْدِلْ مَكَانَهُ آخَرَ. وَأَمَّا اقْتِرَاحُ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فَلِلطَّمَعِ وَلِاخْتِبَارِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ إِنْ وُجِدَ مِنْهُ تَبْدِيلٌ فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُ اللَّهُ فَنَنْجُوَ مِنْهُ، أَوْ لَا يُهْلِكَهُ فَيَسْخَرُوا مِنْهُ، وَيَجْعَلُوا التَّبْدِيلَ حُجَّةً عَلَيْهِ وَتَصْحِيحًا لِافْتِرَائِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. وَإِنْ عَصَيْتُ بِالتَّبْدِيلِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَتَقَدَّمَ اتِّبَاعُ الْوَحْيِ، وَتَرْكِي الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ. وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَوُصِفَ بِالْعِظَمِ لِطُولِهِ، أَوْ لِكَثْرَةِ شَدَائِدِهِ، أَوْ لِلْمَجْمُوعِ. وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْجَوَابِ لَمَّا كَانَ أَحَدُ الْمَطْلُوبَيْنِ التَّبْدِيلَ بَدَأَ بِهِ فِي الْجَوَابِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِأَمْرٍ عَامٍّ يَشْمَلُ انْتِفَاءَ التَّبْدِيلِ وَغَيْرَهُ، ثُمَّ أَتَى بِالسَّبَبِ الْحَامِلِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْخَوْفُ، وَعَلَّقَهُ بِمُطْلَقِ الْعِصْيَانِ، فَبِأَدْنَى عِصْيَانٍ تَرَتَّبَ الْخَوْفُ. قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ

_ (1) سورة النمل: 27/ 60. (2) سورة الأنعام: 6/ 21- 93- 144. والأعراف: 7/ 7.

: هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّبْرِئَةِ مِمَّا طَلَبُوا مِنْهُ أَيْ: إِنَّ تِلَاوَتَهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْدَاثِهِ أَمْرًا عَجِيبًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يَسْتَمِعْ وَلَمْ يُشَاهِدِ الْعُلَمَاءَ سَاعَةً مِنْ عُمُرِهِ، وَلَا نَشَأَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا عُلَمَاءُ فَيَقْرَأُ عَلَيْكُمْ كِتَابًا فصيحا يبهر كلام كُلَّ فَصِيحٍ، وَيَعْلُو عَلَى كُلِّ مَنْثُورٍ وَمَنْظُومٍ، مَشْحُونًا بِعُلُومٍ مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَأَخْبَارِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، نَاطِقًا بِالْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَلَغَ بَيْنَ ظَهْرَانِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً تَطَّلِعُونَ عَلَى أَحْوَالِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَسْرَارِهِ، وَمَا سَمِعْتُمْ مِنْهُ حَرْفًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عَرَّفَهُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أقرب الناس إليه وألصقتم بِهِ. وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ أَيْ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا أَتْلُوَهُ. وَجَاءَ جَوَابُ لَوْ عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ عَدَمِ إِتْيَانِ اللام، لكونه منفيا بما، وَيُقَالُ: دَرَيْتُ بِهِ، وَأَدْرَيْتُ زَيْدًا بِهِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا أُعْلِمُكُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِي. وَقَرَأَ قُنْبُلُ وَالْبَزِّيُّ مِنْ طَرِيقِ النَّقَّاشِ عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْهُ: وَلَأَدْرَاكُمْ بِلَامٍ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُثْبَتٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَنْفِيٍّ، وَالْمَعْنَى: وَلَأَعْلَمَكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِي وَعَلَى لِسَانِ غَيْرِي، وَلَكِنَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَخَصَّنِي بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ وَرَآنِي لَهَا أَهْلًا دُونَ النَّاسِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فلا مُؤَكِّدَةٌ، وَمُوَضِّحَةً أَنَّ الْفِعْلَ مَنْفِيٌّ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْفِيٍّ، وَلَيْسَتْ لَا هِيَ الَّتِي نُفِيَ الْفِعْلُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَفْيُ الفعل بِلَا إِذَا وَقَعَ جَوَابًا، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ. وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَا لَا كَانَ كَذَا، إِنَّمَا يَكُونُ مَا كَانَ كَذَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ: وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَخَرَجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ أَدْرَيْتُكُمْ بِالْيَاءِ فَقَلَبَهَا هَمْزَةً عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: لَبَّأْتُ بِالْحَجِّ، وَرَثَأْتُ زَوْجِي بِأَبْيَاتٍ، يُرِيدُ: لَبَّيْتُ وَرَثَيْتُ. وَجَازَ هَذَا الْبَدَلُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَالْهَمْزَةَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ إِذَا حُرِّكَتِ الْأَلِفُ انْقَلَبَتْ هَمْزَةً كَمَا قَالُوا فِي الْعَالِمِ الْعَأْلِمُ، وَفِي الْمُشْتَاقِ الْمُشْتَأْقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْهَمْزَةُ أَصْلٌ وَهُوَ مِنَ الدَّرْءِ، وَهُوَ الدَّفْعُ يُقَالُ: دَرَأْتُهُ دَفَعْتُهُ، كَمَا قال: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ «1» وَدَرَأْتُهُ جَعَلْتُهُ دَارِئًا، وَالْمَعْنَى: وَلَأَجْعَلَنَّكُمْ بِتِلَاوَتِهِ خصماء تدرؤونني بِالْجِدَالِ وَتُكَذِّبُونَنِي. وَزَعَمَ أَبُو الْفَتْحِ إِنَّمَا هِيَ أَدْرَيْتُكُمْ، فقلب الياء ألفا لا نفتاح مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِعَقِيلٍ حَكَاهَا قُطْرُبٌ يَقُولُونَ فِي أَعْطَيْتُكَ: أَعْطَأْتُكَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَلَبَ الْحَسَنُ الْيَاءَ أَلِفًا كَمَا فِي لغة بني الحرث بن

_ (1) سورة النور: 24/ 8.

كَعْبٍ السَّلَامُ عَلَاكَ، قِيلَ: ثم همز عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ فِي الْعَالِمِ الْعَأْلِمُ. وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ خوشب وَالْأَعْمَشُ: وَلَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ بِالنُّونِ وَالذَّالِ مِنَ الْإِنْذَارِ، وَكَذَا هِيَ فِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ فِيهِمْ عُمُرًا وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِي يَافِعًا وَكَهْلًا، لَمْ تُجَرِّبُونِي فِي كَذِبٍ، وَلَا تَعَاطَيْتُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَلَا عَانَيْتُ اشْتِغَالًا، فَكَيْفَ أُتَّهَمُ بِاخْتِلَاقِهِ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ مُكْثِهِ الْأَزْمَانَ الطَّوِيلَةَ مِنْ غَيْرِ تعلم، ولا تتلمذ، وَلَا مُطَالَعَةِ كِتَابٍ، وَلَا مِرَاسِ جِدَالٍ، ثُمَّ أَتَى بِمَا لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُحِقًّا فِيمَا أَتَى بِهِ مُبَلِّغًا عَنْ رَبِّهِ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ وَمَا اخْتَصَّهُ بِهِ؟ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ هر قل: «هَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ كَذِبًا؟ قَالَ: لَا فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى الْخَلْقِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» . وَأَدْغَمَ ثَاءَ لَبِثْتُ أَبُو عَمْرٍو، وَأَظْهَرَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عُمُرًا بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْ قَبْلِهِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَأَجَازَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَعُودَ عَلَى التِّلَاوَةِ، وَعَلَى النُّزُولِ، وَعَلَى الْوَقْتِ يَعْنِي: وَقْتَ نُزُولِهِ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، وَمَسَاقُهُ هُنَا بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، كَانَ فِي ضِمْنِهِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَهُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاقٌ، فَبُولِغَ فِي ظُلْمِ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا كما قال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، أَوْ قَالَ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِآيَاتِهِ، فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ. وَالِاعْتِبَارُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ تَوْطِئَةٌ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ فِي افْتِرَائِكُمْ عَلَى اللَّهِ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، وَأَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَفِيمَا نَسَبْتُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ: الضَّمِيرُ فِي وَيَعْبُدُونَ عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ تَقَدَّمَتْ مُحَاوَرَتُهُمْ. وما لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ هُوَ الْأَصْنَامُ، جَمَادٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ. قِيلَ: إِنْ عَبَدُوهَا لَمْ تَنْفَعْهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوا عِبَادَتَهَا لَمْ تَضُرَّهُمْ. وَمِنْ حَقِّ الْمَعْبُودِ أَنْ يَكُونَ مُثِيبًا عَلَى الطَّاعَةِ، مُعَاقِبًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَكَانَ أَهْلُ الطَّائِفِ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ الْعُزَّى وَمَنَاةَ وَأَسَافَا وَنَائِلَةَ وَهُبْلَ، وَالْإِخْبَارُ بِهَذَا عَنِ الْكُفَّارِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّجْهِيلِ وَالتَّحْقِيرِ لَهُمْ وَلِمَعْبُودَاتِهِمْ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى

أَنَّهُمْ عَبَدُوا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَلَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنُونَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ النضر بن الحرث: إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعْتُ فِي اللَّاتِ وَالْعُزَّى. وَقَالَ الْحَسَنُ: شُفَعَاؤُنَا فِي إِصْلَاحِ مَعَايِشِنَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ. وأ تنبئون اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِمَا ادَّعُوهُ مِنَ الْمُحَالِ الَّذِي هُوَ شَفَاعَةُ الْأَصْنَامِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الَّذِي أَنْبَئُوا بِهِ بَاطِلٌ غَيْرُ مُنْطَوٍ تَحْتَ الصِّحَّةِ، فَكَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَهُ بِشَيْءٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ علمه، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: بِكَوْنِهِمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ، وَهُوَ إِنْبَاءُ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ الذَّاتَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا لِأَنَّ الشَّيْءَ مَا يُعْلَمُ وَيُخْبَرُ عَنْهُ فَكَانَ خَبَرًا لَيْسَ لَهُ مُخْبِرٌ عَنْهُ انْتَهَى. فَتَكُونُ مَا وَاقِعَةً عَلَى الشَّفَاعَةِ، وَالْفَاعِلُ بيعلم هُوَ اللَّهُ، وَالْمَفْعُولُ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى ما. وقوله: في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِهِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا فَهُوَ مُنْتَفٍ مَعْدُومٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِي التَّحْرِيرِ: أَتُنَبِّئُونَ، مَعْنَاهُ التَّهَكُّمُ وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَتُخْبِرُونَ اللَّهَ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا يَجْرِي فِيهَا النَّفْيُ. وَقِيلَ: أَتُخْبِرُونَ اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ مَوْجُودًا فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ وُجُودُ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: قَدْ قُلْتَ كَذَا، فَيَقُولُ: مَا عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنِّي، أَيْ مَا كَانَ هَذَا قَطُّ، إِذْ لَوْ كَانَ لَعَلِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا مَوْصُولٌ يُرَادُ بِهِ الْأَصْنَامُ لَا الشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّعُوهَا، والفاعل بيعلم ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا لَا عَلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ وَالْمَعْنَى: قُلْ أَتُعْلِمُونَ اللَّهَ بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي انْتَفَى عِلْمُهَا في السموات وَالْأَرْضِ أَيْ: لَيْسَتْ مُتَّصِفَةً بِعِلْمٍ أَلْبَتَّةَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُنْتَفِيًا عَنْهُ الْعِلْمُ فَكَيْفَ يَشْفَعُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَنْ يَشْفَعُ فِيهِ، وَلَا مَا يَشْفَعُ فِيهِ، وَلَا مَنْ تَشْفَعُ عِنْدَهُ؟ كَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْعِبَادَةِ بِقَوْلِهِ: مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَانْتِفَاءُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ قَادِحٌ فِي الْعِبَادَةِ، وَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ قَادِحٌ فِي الشَّفَاعَةِ، فَتَبْطُلُ الْعِبَادَةُ وَدَعْوَى الشَّفَاعَةِ، ويكون قوله: في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى مَحَالِّ الْمَعْبُودَاتِ الْمُدَّعَى شَفَاعَتُهُمْ، إِذْ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوَاكِبُ كَالشَّمْسِ وَالشِّعْرَى. وقرىء: أَتُنَبِّئُونَ بِالتَّخْفِيفِ مَنْ أَنْبَأَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عِبَادَتَهُمْ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَكَانَ ذَلِكَ إِشْرَاكًا، اسْتَأْنَفَ تَنْزِيهًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى. وَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ

تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَمَصْدَرِيَّةً أَيْ: شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ يُشْرِكُونَهُمْ بِهِ، أَوْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَالْحَرَمِيَّانِ وَعَاصِمٌ: يُشْرِكُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ هُنَا، وَفِي حَرْفَيِ النَّحْلِ، وَحَرْفٍ فِي الرُّومِ. وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَطِلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، فِي النَّمْلِ فَقَطْ بِالْيَاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ حمزة والكسائي الخمسة بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ وَلَمْ يَأْتِ عَنْ مَا أَشْرَكُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى استمرار حالهم، كما جاؤوا يَعْبُدُونَ وَإِنَّهُمْ عَلَى الشِّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي. وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَالَةَ عَلَى فَسَادِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ذَكَرَ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْحَادِثُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ النَّاسِ. ويتصور في آدم وبينه إِلَى أَنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ قَتْلِ أَحَدِ ابْنَيْهِ الْآخَرَ، وَقَالَهُ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ أَصْحَابُ سَفِينَةِ نُوحٍ، اتَّفَقُوا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَى زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ عُبِدَ فِي زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَصْنَامُ كَوَدٍّ، وَسُوَاعٍ. وَحَكَى ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّ النَّاسَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ غَيَّرَ الدِّينَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الَّذِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ يَوْمَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: هُمُ الْأَطْفَالُ الْمَوْلُودُونَ كَانُوا عَلَى الْفِطْرَةِ فَاخْتَلَفُوا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هَنَا آدَمُ وَحْدَهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ: مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْأُمَّةِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ الْخَيْرِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ عَلَى أَنَّ المراد بأمة وَاحِدَةً فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقِيلَ: فِي الشِّرْكِ. وَأُرِيدَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْكُفْرِ، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ، وَاسْتَمَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. أَوْ مَنْ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بَعْضُهُمْ، أَوِ الْعَرَبُ خَاصَّةً، أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا لِلزَّجَّاجِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَاءَ عَقِيبَ إِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَوِّيَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ. فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، إِنَّمَا الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَحْصُلَ النُّفْرَةُ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ مَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ، هُوَ وَعِيدٌ، فَصَرْفُهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 172.

الِاخْتِلَافُ، هُوَ الْوَجْهُ وَالِاخْتِلَافُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، هُوَ الْمُقْتَضِي لِلْوَعِيدِ، لَا الِاخْتِلَافُ الَّذِي هُوَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ، إِذْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْوَعِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً «1» وَلَكِنْ أَعَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ لِبُعْدِهِ. وَالْكَلِمَةُ هُنَا هُوَ الْقَضَاءُ، وَالتَّقْدِيرُ: لِبَنِي آدَمَ بِالْآجَالِ الْمُؤَقَّتَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْكَلِمَةَ فِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْعِقَابَ وَالثَّوَابَ إِنَّمَا يَكُونُ حِينَئِذٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقْضِي بَيْنَهُمْ عَاجِلًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَتَمْيِيزُ الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ. وَسَبَقَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِالتَّأْخِيرِ لِحِكْمَةٍ أَوْجَبَتْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّارُ دَارَ تَكْلِيفٍ، وَتِلْكَ دَارَ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْكَلِمَةُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا يُهْلِكُهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَوْلَا هَذَا التَّأْخِيرُ لَقَضَى بَيْنَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ، أَوْ بِإِقَامَةِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ أَنْ لَا يَأْخُذَ أَحَدًا إِلَّا بِحُجَّةٍ وَهُوَ إِرْسَالُ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ قَوْلُهُ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي «2» وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَخَّرَ الْعُصَاةَ إِلَى التَّوْبَةِ. وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ: هَذَا مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانُوا لَا يَعْتَدُّونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الْمُتَكَاثِرَةِ الَّتِي لم ينزل عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهَا، وَكَفَى بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ آيَةً بَاقِيَةً عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ بَدِيعَةً غَرِيبَةً فِي الْآيَاتِ، دَقِيقَةَ الْمَسْلَكِ مِنْ بَيْنِ الْمُعْجِزَاتِ. وَجَعَلُوا نُزُولَهَا كَلَا نُزُولٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قَطُّ حَتَّى قَالُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ رَبِّهِ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ عِنَادِهِمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي التَّمَرُّدِ وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الْغَيِّ فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أَيْ: هُوَ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ الْمُسْتَأْثِرُ بِهِ، لَا عِلْمَ لِي وَلَا لِأَحَدٍ بِهِ. يَعْنِي: أَنَّ الصَّارِفَ عَنْ إِنْزَالِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ، فَانْتَظِرُوا نُزُولَ مَا اقْتَرَحْتُمُوهُ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ بِمَا يَفْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ لِعِنَادِكُمْ وَجَحْدِكُمُ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: آيَةً مِنْ رَبِّهِ، آيَةً تَضْطَرُّ النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْآيَاتِ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَبِيٌّ قَطُّ، وَلَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ اضْطِرَارِيَّةٌ، وإنما هي معرضة النظر لِيَهْتَدِيَ قَوْمٌ وَيَضِلَّ آخَرُونَ، فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، لَا يَطَّلِعُ عَلَى غَيْبِهِ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقَوْلُهُ: فَانْتَظِرُوا، وعيد وَقَدْ صَدَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنُصْرَتِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْآيَةُ التي اقترحوا أن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 213. (2) سورة الإسراء: 17/ 90.

يُنَزِّلَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا «1» الْآيَةَ وَقِيلَ: آيَةٌ كَآيَةِ مُوسَى وَعِيسَى كَالْعَصَا وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، طَلَبُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ «2» . الْآيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ «3» وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يصيرون لهذه المقالات عند ما يَكُونُونَ فِي رَخَاءٍ مِنَ الْعَيْشِ وَخُلُوِّ بَالٍ، وَأَنَّ إِحْسَانَ اللَّهِ تَعَالَى قَابَلُوهُ بِمَا لَا يَجُوزُ مِنِ ابْتِغَاءِ الْمَكْرِ لِآيَاتِهِ، وَكَانَ خَلِيقًا بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ بِآيَاتِهِ. وَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْآيَاتِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ «4» . وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا دَعَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الرَّسُولُ بِالْجَدْبِ قَحَطُوا سَبْعَ سِنِينَ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: ادْعُ لَنَا بِالْخِصْبِ، فَإِنْ أَخْصَبْنَا صَدَّقْنَا، فَسَأَلَ اللَّهَ لَهُمْ فَسَقُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ مِنَ الْعَاصِينَ مَنْ لَا يُؤَدِّي شُكْرَ اللَّهِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ، وَلَا يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَذَلِكَ فِي النَّاسِ كَثِيرٌ. تَجِدُ الْإِنْسَانَ يَعْقِدُ عِنْدَ مَسِّ الضُّرِّ التَّوْبَةَ وَالتَّنَصُّلَ مِنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى أَقْبَحِ عَادَاتِهِ. وَالرَّحْمَةُ هُنَا الْغَيْثُ بَعْدَ الْقَحْطِ، وَالْأَمْنُ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالصِّحَّةُ بَعْدَ الْمَرَضِ، وَالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمَعْنَى مَسَّتْهُمُ خَالَطَتْهُمْ حَتَّى أَحَسُّوا بِسُوءِ أَثَرِهَا فِيهِمْ، وَمَعْنَى مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا التَّكْذِيبُ بِالْقُرْآنِ، وَالشَّكُّ فِيهِ قَالَهُ جماعة. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: الِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّكْذِيبُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّدُّ وَالْجُحُودُ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ النِّفَاقَ لِأَنَّهُ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبِطَانُ الْكُفْرِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْمَكْرَ أَخْفَى الْكَيْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَكْرُ الِاسْتِهْزَاءُ وَالطَّعْنُ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَاطِّرَاحُ الشُّكْرِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْعُصَاةِ انْتَهَى. وَالْإِذَاقَةُ وَالْمَسُّ هُنَا مَجَازَانِ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلَى سُرْعَةِ تَقَلُّبِ ابْنِ آدَمَ مِنْ حَالَةِ الْخَيْرِ إِلَى حَالَةِ الشَّرِّ، وَذَلِكَ بِلَفْظِ أَذَقْنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَّلُ ذَوْقِهِ الرَّحْمَةُ قَبْلَ أَنْ يُدَاوِمَ اسْتِطْعَامَهَا مَكْرُوهٌ بِلَفْظِ مِنِ الْمُشْعِرَةِ بِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ: ينشىء الْمَكْرَ إِثْرَ كَشْفِ الضَّرَّاءِ لَا يُمْهِلُ ذَلِكَ. وَبِلَفْظِ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا لإذا الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ فِي وَقْتِ إذاقة الرحمة

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 90. (2) سورة يونس: 10/ 15. [.....] (3) سورة يونس: 10/ 20. ويقولون. وفي الأنعام: 6/ 37. وَقَالُوا: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آية. وفي الرعد: 13/ 7. ويقول: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ. (4) سورة يونس: 10/ 12.

فاجأوا بِالْمَكْرِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَمَا قُلْنَا تَتَضَمَّنُ سُرْعَةَ الْمَكْرِ مِنْهُمْ قِيلَ: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا فَجَاءَتْ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَمَعْنَى وَصْفِ الْمَكْرِ بِالْأَسْرَعِيَّةِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يُدَبِّرُوا مَكَائِدَهُمْ قَضَى بِعِقَابِكُمْ، وَهُوَ مُوقِعُهُ بِكُمْ، وَاسْتَدْرَجَكُمْ بِإِمْهَالِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَسْرَعَ مِنْ سَرَعَ، وَلَا يَكُونُ مِنْ أَسْرَعَ يُسْرِعُ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ. وَلَوْ كَانَ مِنْ أَسْرَعَ لَكَانَ شَاذًّا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي نَارِ جَهَنَّمَ لَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ» وَمَا حُفِظَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بِشَاذٍّ انْتَهَى. وَقِيلَ: أَسْرَعَ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، وَحِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ هُوَ مَذْهَبٌ. وَفِي بِنَاءِ التَّعَجُّبِ وَأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مِنْ أَفْعَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ، وَالْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ فَيُمْنَعُ، أَوْ لِغَيْرِ النَّقْلِ فَيَجُوزُ، نَحْوُ: أَشْكَلَ الْأَمْرُ وَأَظْلَمَ اللَّيْلُ، وَتَقْرِيرُ الصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَمَّا تَنْظِيرُ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ بِأَسْرَعَ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ أَسْوَدُ لَيْسَ فِعْلُهُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعُلَ نَحْوُ سَوُدَ فَهُوَ أَسْوَدُ، وَلَمْ يَمْتَنِعِ التَّعَجُّبُ وَلَا بِنَاءُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ نَحْوِ: سَوُدَ وَحَمُرَ وَأَدُمَ إِلَّا لِكَوْنِهِ لَوْنًا، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ فِي الْأَلْوَانِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَقَطْ. وَالرُّسُلُ هُنَا الْحَفَظَةُ بِلَا خِلَافٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَظُنُّونَهُ خَافِيًا مَطْوِيًّا عَنِ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْتَقِمٌ مِنْكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَمْرٍو: رُسْلَنَا بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ: يَمْكُرُونَ عَلَى الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى مَا سَبَقَ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَيُّوبُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَشِبْلٌ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَالسَّبْعَةُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مُبَالَغَةً لَهُمْ فِي الْإِعْلَامِ بِحَالِ مَكْرِهِمْ، وَالْتِفَاتًا لِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ أَيْ: قُلْ لَهُمْ، فَنَاسَبَ الْخِطَابَ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ رُسُلَنَا الْتِفَاتٌ أَيْضًا، إِذْ لَمْ يَأْتِ إِنَّ رُسُلَهُ. وَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ أَسْرَعُ مَكْرًا، وَإِنَّ رُسُلَهُ لَدَيْكُمْ يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ سَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أُبَيٍّ الْقِرَاءَةُ وَالْإِقْرَاءُ بِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا

قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ إِذَا أصابهم الضر لجأوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَذَاقَهُمُ الرَّحْمَةَ، عَادُوا إِلَى عَادَتِهِمْ مِنْ إِهْمَالِ جَانِبِ اللَّهِ وَالْمَكْرِ فِي آيَاتِهِ. وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ ذَكَرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ «1» الْآيَةَ. وَكَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَتَيْنِ أَمْرًا كُلِّيًّا، أَوْضَحَ تَعَالَى ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكُلِّيَّ بِمِثَالٍ جَلِيٍّ كَاشِفٍ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ يَنْقَطِعُ فِيهِ رَجَاءُ الْإِنْسَانِ عَنْ كُلِّ مُتَعَلَّقٍ بِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَيُخْلِصُ لَهُ الدُّعَاءَ وَحْدَهُ فِي كَشْفِ هَذِهِ النَّازِلَةِ الَّتِي لَا يَكْشِفُهَا إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَيَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ عِبَادَتِهِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ شَفِيعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ بَعْدَ كَشْفِ هَذِهِ النَّازِلَةِ عَادَ إِلَى عَادَتِهِ مِنْ بَغْيِهِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْجَاؤُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ هُوَ مِثَالُ مَنْ أَذَاقَهُ الرَّحْمَةَ وَمَا كَانُوا فِيهِ قَبْلُ مِنْ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْهَلَاكِ هُوَ مِثَالٌ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي مَسَّهُمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ: يَنْشُرُكُمْ مِنَ النَّشْرِ وَالْبَثِّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: يَنْشُرُكُمْ مِنَ الْإِنْشَارِ وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ بَعْضُ الشَّامِيِّينَ يُنَشِّرُكُمْ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ مِنَ النَّشْرِ الَّذِي هُوَ مُطَاوَعَةُ الِانْتِشَارِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ: يسيركم من التسيير. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ تَضْعِيفُ مُبَالَغَةٍ، لَا تَضْعِيفُ تَعْدِيَةٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: سِرْتُ الرَّجُلَ وَسَيَّرْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ: فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا الْبَيْتِ اعْتِرَاضٌ حَتَّى لَا يَكُونَ شَاهِدًا فِي هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ كَالظَّرْفِ كَمَا تَقُولُ: سِرْتُ الطَّرِيقَ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ لَا يَتَعَيَّنُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ سَارَ الرَّجُلُ لَازِمًا أَكْثَرُ مِنْ سِرْتُ الرَّجُلَ مُتَعَدِّيًا فَجَعْلُهُ نَاشِئًا عَنِ الْأَكْثَرِ أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِهِ نَاشِئًا عَنِ الْأَقَلِّ. وَأَمَّا جَعْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ الضَّمِيرَ كَالظَّرْفِ قَالَ كَمَا تَقُولُ: سِرْتُ الطَّرِيقَ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ عِنْدَهُمْ ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ كَالدَّارِ وَالْمَسْجِدِ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ غَيْرُهُ. دَخَلْتُ عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عِنْدَ الْفَرَّاءِ إِلَّا بِوَسَاطَةِ فِي إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَضَمِيرُهُ أَحْرَى أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ. وَإِذَا كَانَ ضَمِيرُ الظَّرْفِ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَسَاطَةٍ فِي إِلَّا إِنِ اتَّسَعَ فِيهِ فَلَأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الَّذِي يَصِلُ الفعل إلى ظاهره بفي أَوْلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ

_ (1) سورة يونس: 10/ 12.

الْفِعْلُ بِوَسَاطَةِ فِي. وَزَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّ الطَّرِيقَ ظَرْفٌ غَيْرُ مُخْتَصٍّ، فَيَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ فِي، وَهُوَ زَعْمٌ مَرْدُودٌ فِي النَّحْوِ. وَمَعْنَى يُسَيِّرُكُمْ: يَجْعَلُكُمْ تَسِيرُونَ، وَالسَّيْرُ مَعْرُوفٌ، وَفِي قَوْلِهِ: وَالْبَحْرِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ. وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ فِي الْبَحْرِ أَغْلَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْهُ فِي الْبَرِّ وَقَعَ الْمِثَالُ بِهِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ بِهِ مِنَ الْتِجَاءِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ تَعَالَى حَالَةَ الشِّدَّةِ وَالْإِهْمَالِ لِجَانِبِهِ حَالَةَ الرَّخَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَعَلَ الْكَوْنَ فِي الْفُلْكِ غَايَةَ التَّسْيِيرِ فِي الْبَحْرِ، وَالتَّسْيِيرُ فِي الْبَحْرِ إِنَّمَا هُوَ بِالْكَوْنِ فِي الْفُلْكِ؟ (قُلْتُ) : لَمْ يَجْعَلِ الْكَوْنَ فِي الْفُلْكِ غَايَةَ التَّسْيِيرِ، وَلَكِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ حَتَّى بِمَا فِي خَبَرِهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يُسَيِّرُكُمْ حَتَّى إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فَكَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ مِنْ مَجِيءِ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، وَتَرَاكُمِ الْأَمْوَاجِ، وَالظَّنِّ لِلْهَلَاكِ، وَالدُّعَاءِ لِلْإِنْجَاءِ انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ: فِي الْفُلْكِيِّ بِزِيَادَةِ يَاءِ النَّسَبِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَتِهَا، كَمَا زَادُوهَا فِي الصِّفَةِ فِي نَحْوِ: أَحْمَرِيٍّ وَزَوَارِيٍّ، وَفِي الْعَلَمِ كَقَوْلِ الصَّلْتَانِ: أَنَا الصَّلْتَانِيُّ الَّذِي قَدْ عَلِمْتُمْ. وَعَلَى إِرَادَةِ النَّسَبِ مُرَادًا بِهِ اللُّجُّ كَأَنَّهُ قِيلَ فِي اللُّجِّ الْفُلْكِيِّ وَهُوَ الْمَاءُ الْغَمْرُ الَّذِي لَا تَجْرِي الْفُلْكُ إِلَّا فِيهِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَجَرَيْنَ عَائِدٌ عَلَى الْفُلْكِ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، إِذِ الْفُلْكُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَكُونُ مُفْرَدًا وَجَمْعًا، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْكَائِنِينَ فِي الْفُلْكِ. وَهُوَ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ. وَفَائِدَةُ صَرْفِ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُبَالَغَةُ، كَأَنَّهُ يَذْكُرُ لِغَيْرِهِمْ حَالَهُمْ لِيُعَجِّبَهُمْ مِنْهَا، وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ حِكْمَةَ الِالْتِفَاتِ هُنَا هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، خِطَابٌ فِيهِ امْتِنَانٌ وَإِظْهَارُ نِعْمَةٍ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَالْمُسَيَّرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مُؤْمِنُونَ وَكُفَّارٌ، وَالْخِطَابُ شَامِلٌ، فَحَسُنَ خِطَابُهُمْ بِذَلِكَ لِيَسْتَدِيمَ الصَّالِحُ عَلَى الشُّكْرِ. وَلَعَلَّ الطَّالِحَ يَتَذَكَّرُ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَيَرْجِعُ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ حَالَةٌ آلَ الْأَمْرُ فِي آخِرِهَا إِلَى أَنَّ الْمُلْتَبِسَ بِهَا هُوَ بَاغٍ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ يُخَاطَبُونَ بِصُدُورِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي آخِرُهَا الْبَغْيُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِهِمْ خُرُوجٌ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَحَسُنَ ذلك لأنه قَوْلَهُ: كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، هُوَ بِالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ، حَتَّى إِذَا حَصَلَ بَعْضُكُمْ فِي السُّفُنِ انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ قَدَّرَ مُفْرَدًا غَائِبًا يُعَادُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ «1» أَيْ، أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، فَعَادَ الضَّمِيرُ

_ (1) سورة النور: 24/ 40.

غَائِبًا عَلَى اسْمٍ غَائِبٍ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. وَالْبَاءُ فِي بهم وبريح قَالَ الْعُكْبُرِيُّ: تَتَعَلَّقُ الْبَاءَانِ بجرين انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي بِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ بجرين تَعَلُّقَهَا بِالْمَفْعُولِ نَحْوُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ. وَأَنَّ الْبَاءَ فِي بِرِيحٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُسَبِّبِ، فَاخْتَلَفَ الْمَدْلُولُ فِي الْبَاءَيْنِ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ مُلْتَبِسَةً بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ أي ملتبسا بها. وفرحوا بِهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: وَقَدْ فَرِحُوا بِهَا. كَمَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ: وَجَرَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كُنْتُمْ، وَأَنْ يَكُونَ حالا أي: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ، هُوَ جَوَابُ إِذَا. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي جَاءَتْهَا عَلَى الْفُلْكِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ، وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَعُودَ عَلَى الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَبَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمَعْنَى طِيبِ الرِّيحِ لِينُ هُبُوبِهَا وَكَوْنِهَا مُوَافِقَةً. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: جَاءَتْهُمْ، وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ مَكَانٍ مِنْ أَمْكِنَةِ الْمَوْجِ. وَالظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ الْأَصْلِيِّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا التَّيَقُّنُ، وَمَعْنَى أُحِيطَ بِهِمْ أَيْ لِلْهَلَاكِ، كَمَا يُحِيطُ الْعَدُوُّ بِمَنْ يُرِيدُ إِهْلَاكَهُ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيلَاءِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: حِيطَ بِهِمْ ثُلَاثِيًّا وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هِيَ جَوَابُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: جَوَابُ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ، وَجَوَابُ قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ انْتَهَى. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَظَنُّوا ظَاهِرُهُ الْعَطْفُ على جواب إذا، لا أنه مَعْطُوفٌ عَلَى كُنْتُمْ، لَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ. كَمَا تَقُولُ: إِذَا زَارَكَ فُلَانٌ فَأَكْرِمْهُ، وَجَاءَكَ خَالِدٌ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ مَذْكُورَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ بَدَلٌ مِنْ ظَنُّوا لِادِّعَائِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ ظَنِّهِمُ الْهَلَاكَ، فَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِهِ انْتَهَى. وَكَانَ أُسْتَاذُنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ يُخَرِّجُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرُوا وَيَقُولُ: هُوَ جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا كَانَ حَالُهُمْ إِذْ ذَاكَ؟ فَقِيلَ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ انْتَهَى. وَمَعْنَى الْإِخْلَاصِ إِفْرَادُهُ بِالدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكِ أَصْنَامٍ وَلَا غَيْرِهَا، قَالَ مَعْنَاهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُخْلِصِينَ لَا إِخْلَاصَ إِيمَانٍ، لَكِنْ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْإِيمَانِ الِاضْطِرَارِيِّ انْتَهَى. وَالِاعْتِرَافُ بِاللَّهِ مَرْكُوزٌ فِي طَبَائِعِ الْعَالَمِ، وَهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ رَجَعُوا إِلَيْهِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا ثَمَّ قَسَمٌ مَحْذُوفٌ، وَذَلِكَ الْقَسَمُ وَمَا بَعْدَهُ مَحْكِيٌّ بِقَوْلٍ

أَيْ: قَائِلِينَ. أَوْ أُجْرِيَ دَعَوْا مَجْرَى قَالُوا، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذِهِ إِلَى الشَّدَائِدِ الَّتِي هُمْ فِيهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَى الرِّيحِ الْعَاصِفِ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَبْغُونَ بِالدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِالْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى قَوْلِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْبَغْيُ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ؟ (قُلْتُ) : بَلَى وَهُوَ اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَرْضِ الْكَفَرَةِ، وَهَدْمُ دُورِهِمْ، وَإِحْرَاقُ زُرُوعِهِمْ، وَقَطْعُ أَشْجَارِهِمْ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ قَدْ شَرَحَ قَوْلَهُ: يَبْغُونَ بِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ، وَيُبْعَثُونَ مُتَرَقِّينَ فِي ذَلِكَ مُمْعِنِينَ فِيهِ مِنْ بَغَى الْجُرْحُ إِذَا تَرَقَّى لِلْفَسَادِ انْتَهَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَغْيُ التَّرَقِّي فِي الْفَسَادِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: بَغَى الْجُرْحُ تَرَقَّى إِلَى الْفَسَادِ، وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ فَجَرَتْ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ إِنَّهُمْ بَاغُونَ عَلَى الْكَفَرَةِ، إِلَّا إِنْ ذُكِرَ أَنَّ أَصْلَ الْبَغْيِ هُوَ الطَّلَبُ مُطْلَقًا وَلَا يَتَضَمَّنُ الْفَسَادَ، فَحِينَئِذٍ يَنْقَسِمُ إِلَى طَلَبٍ بِحَقٍّ، وَطَلَبٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَلَمَّا حَمَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْبَغْيَ هُنَا عَلَى الْفَسَادِ قَالَ: أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَجَوَابُ لَمَّا إِذَا الْفُجَائِيَّةُ وَمَا بَعْدَهَا، وَمَجِيءُ إِذَا وَمَا بَعْدَهَا جَوَابًا لَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا حَرْفٌ يَتَرَتَّبُ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْجَوَابِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ لَمَّا، وَأَنَّهَا تُفِيدُ التَّرَتُّبَ وَالتَّعْلِيقَ فِي الْمُضِيِّ، وَأَنَّهَا كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: حَرْفٌ. وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ أَنَّهَا ظَرْفٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. والجواب بإذا الْفُجَائِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَأَخَّرْ بَغْيُهُمْ عَنْ إِنْجَائِهِمْ، بَلْ بِنَفْسِ مَا وَقَعَ الْإِنْجَاءُ وَقَعَ الْبَغْيُ، والخطاب بيا أيها النَّاسُ، قَالَ الْجُمْهُورُ: لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ وَبَغَوْا، وَيَحْتَمِلُ كَمَا قَالُوا: الْعُمُومَ، فَيَنْدَرِجُ أُولَئِكَ فِيهِمْ، وَهَذَا ذَمٌّ لِلْبَغْيِ فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ. وَمَعْنَى عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَبَالُ الْبَغْيِ عَلَيْكُمْ، وَلَا يَجْنِي ثَمَرَتَهُ إِلَّا أَنْتُمْ. فَقَوْلُهُ: عَلَى أَنْفُسِكُمْ، خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ بَغْيُكُمْ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ انْتَصَبَ مَتَاعَ فِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَحَفْصٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهَارُونَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي موضع الحال أَيْ: مُتَمَتِّعِينَ، أَوْ بَاقِيًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَيْ: يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مَتَاعَ، أَوْ نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِ نَحْوُ: مَقْدِمَ الْحَاجِّ أَيْ وَقْتَ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَكُلُّ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ مَنْقُولَةٌ. وَالْعَامِلُ فِي مَتَاعَ إِذَا كَانَ حَالًا أَوْ ظَرْفًا مَا تَعَلَّقَ بِهِ خَبَرُ بَغْيُكُمْ أَيْ: كَائِنٌ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا ينتصبان ببغيكم، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَارْتَفَعَ مَتَاعُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَأَجَازَ

[سورة يونس (10) : الآيات 24 إلى 25]

النَّحَّاسُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَنْ يَكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: بَغْيُكُمْ، كَمَا تَعَلَّقَ فِي قَوْلِهِ: فَبَغَى عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَتَاعُ إِذَا رَفَعْتُهُ. وَمَعْنَى عَلَى أَنْفُسِكُمْ: عَلَى أَمْثَالِكُمْ. وَالَّذِينَ جِنْسُكُمْ جِنْسُهُمْ يَعْنِي بَغْيُ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ مَنْفَعَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا: مَتَاعًا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِنَصْبِ مَتَاعٍ وَتَنْوِينِهِ، وَنَصْبِ الْحَيَاةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تُعَجَّلُ لَكُمْ عُقُوبَتُهُ في الحياة الدنيا. وقرأ فِرْقَةٌ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِالْيَاءِ عَلَى الغيبة، والمراد الله تعالى. [سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» ضَرَبَ مَثَلًا عَجِيبًا غَرِيبًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَذْكُرُ مَنْ يَبْغِي فِيهَا عَلَى سُرْعَةِ زَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا، وَأَنَّهَا بِحَالِ مَا تُعِزُّ وتسر، تضمحل ويؤول أَمْرُهَا إِلَى الْفَنَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، شُبِّهْتُ حَالُ الدُّنْيَا فِي سُرْعَةِ تَقَضِّيهَا وَانْقِرَاضِ نَعِيمِهَا بَعْدَ الْإِقْبَالِ بِحَالِ نَبَاتِ الْأَرْضِ فِي جَفَافِهِ وذهابه حطاما بعد ما الْتَفَّ وَتَكَاثَفَ وَزَيَّنَ الْأَرْضَ بِخُضْرَتِهِ وَرَفِيفِهِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا هُنَا لَيْسَتْ لِلْحَصْرِ لَا وَضْعًا وَلَا اسْتِعْمَالًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَمْثَالًا غَيْرَ هَذَا، وَالْمَثَلُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الصِّفَةُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ السَّائِرُ الْمُشَبَّهُ بِهِ حَالُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ. وَالظَّاهِرُ تَشْبِيهُ صِفَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَاءٍ فِيمَا يَكُونُ به،

_ (1) سورة يونس: 10/ 23.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ ثُمَّ الِانْقِطَاعِ. وَقِيلَ: شُبِّهَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِالنَّبَاتِ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: كَنَبَاتِ مَاءٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقِيلَ: شُبِّهَتِ الْحَيَاةُ بِحَيَاةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: كَحَيَاةِ قَوْمٍ بِمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ. قِيلَ: وَيُقَوِّي هَذَا قَوْلُهُ: وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا. وَالسَّمَاءُ إِمَّا أَنْ يُرَادَ مِنَ السَّحَابِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبَاتَ اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ. وَمَعْنَى الِاخْتِلَاطِ: تَشَبُّثُهُ بِهِ، وَتَلَقُّفُهُ إِيَّاهُ، وَقَبُولُهُ لَهُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي لَهُ مَجْرَى الْغِذَاءِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَكُلُّ مُخْتَلِطَيْنِ يَصِحُّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُقَالَ: اخْتَلَطَ بِصَاحِبِهِ، فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: خَالَطَهُ الْمَاءُ وَدَاخَلَهُ، فَغَذَّى كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَاخْتَلَطَ بِهِ اخْتِلَاطَ مُجَاوَرَةٍ، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ تَدَاخُلُ الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ انْتَهَى. وَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَاطُ النَّبَاتِ بِالْمَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاخُلِ، فَلَا تَقُولُ: إِنَّهُ اخْتِلَاطُ مُجَاوَرَةٍ. وَقِيلَ: اخْتَلَطَ اخْتَلَفَ وَتَنَوَّعَ بِالْمَاءِ، وَيَنْبُو لَفْظُ اخْتَلَطَ عَنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَى اخْتَلَطَ تَرَكَّبَ. وَقِيلَ: امْتَدَّ وَطَالَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاشْتَبَكَ بِسَبَبِهِ حَتَّى خَالَطَ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَصَلَتْ فرقة النبات بقوله فاختلظ أَيِ: اخْتَلَطَ النَّبَاتُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بِسَبَبِ الْمَاءِ انْتَهَى. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْبَاءُ فِي بِمَاءٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَطَ، هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَاءِ أَيْ: فَاخْتَلَطَ الْمَاءُ بِالْأَرْضِ. وَيَقِفُ هَذَا الذَّاهِبُ عَلَى قَوْلِهِ: فَاخْتَلَطَ، وَيَسْتَأْنِفُ بِهِ نَبَاتُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ الْمُقَدَّمُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى الِاخْتِلَاطِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْفِعْلُ انْتَهَى. وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَاخْتَلَطَ، لَا يَجُوزُ وَخَاصَّةً فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ الصَّحِيحِ الْمَعْنَى، الْفَصِيحِ اللَّفْظِ، وَذَهَابٌ إِلَى اللُّغْزِ وَالتَّعْقِيدِ، وَالْمَعْنَى الضَّعِيفِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِإِظْهَارِ الِاسْمِ الَّذِي الضَّمِيرُ فِي كِنَايَةٍ عَنْهُ فَقِيلَ بِالِاخْتِلَاطِ نَبَاتُ الْأَرْضِ، أَوْ بِالْمَاءِ نَبَاتُ الْأَرْضِ، لَمْ يَكَدْ يَنْعَقِدُ كَلَامًا مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ لِضَعْفِ هَذَا الْإِسْنَادِ وَقُرْبِهِ مِنْ عَدَمِ الْإِفَادَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ ذَكَرَهُ وَخَرَّجَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ لَمْ نَذْكُرْهُ فِي كِتَابِنَا. وَلَمَّا كَانَ النَّبَاتُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ بِمِنْ فَقَالَ: مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْبُقُولِ وَالْأَنْعَامُ، كَالْحَشِيشِ وَسَائِرِ مَا يُرْعَى. قَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِاخْتَلَطَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِمَّا يَأْكُلُ حَالٌ مِنَ النَّبَاتِ، فَاقْتَضَى قَوْلُ أَبِي الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَحْذُوفًا لِأَنَّ الْمَجْرُورَ وَالظَّرْفَ إِذَا وَقَعَا حَالَيْنِ كَانَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا. وَقَوْلُ أَبِي الْبَقَاءِ: هُوَ الظَّاهِرُ، وَتَقْدِيرُهُ: كَائِنًا مِمَّا يَأْكُلُ، وَحَتَّى غَايَةٌ، فيحتاج أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي قَبْلَهَا مُتَطَاوِلًا حَتَّى تَصِحَّ الْغَايَةُ. فَإِمَّا أَنْ

يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ أَيْ: فَمَا زَالَ يَنْمُو حَتَّى إِذَا، أَوْ يَتَجَوَّزَ فِي فَاخْتَلَطَ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ فَدَامَ اخْتِلَاطُ النَّبَاتِ بِالْمَاءِ حَتَّى إِذَا. وَقَوْلُهُ: أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ، جُمْلَةٌ بَدِيعَةُ اللَّفْظِ جُعِلَتِ الْأَرْضُ آخِذَةً زُخْرُفَهَا مُتَزَيِّنَةً، وَذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ بِالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتِ الثِّيَابَ الْفَاخِرَةَ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، فَاكْتَسَتْ وَتَزَيَّنَتْ بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ، فَاسْتُعِيرَ الْأَخْذُ وَهُوَ التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ لِاشْتِمَالِ نَبَاتِ الْأَرْضِ عَلَى بَهْجَةٍ وَنَضَارَةٍ وَأَثْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَاسْتُعِيرَ لِتِلْكَ الْبَهْجَةِ وَالنَّضَارَةِ وَالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ لَفْظَةُ الزُّخْرُفِ وَهُوَ الذَّهَبُ، لَمَّا كَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْبَهِجَةِ الْمَنْظَرَ السَّارَّةِ لِلنُّفُوسِ. وَازَّيَّنَتْ أَيْ: بِنَبَاتِهَا وما أودع فيه من الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَازَّيَّنَتْ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا. وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ تَأْكِيدًا، إِذْ قَدْ يَكُونُ أَخْذُ الزُّخْرُفِ لَا لِقَصْدِ التَّزْيِينِ، فَقِيلَ: وَازَّيَّنَتْ لِيُفِيدَ أَنَّهَا قَصَدَتِ التَّزْيِينَ. وَنِسْبَةُ الْأَخْذِ إِلَى الْأَرْضِ وَالتَّزْيِينِ مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَازَّيَّنَتْ وَأَصْلُهُ وَتَزَيَّنَتْ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِضَرُورَةِ تَسْكِينِ الزَّايِ عِنْدَ الْإِدْغَامِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْأَعْمَشُ: وَتَزَيَّنَتْ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَتْ. وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَابْنُ هرمز، وعيسى الثَّقَفِيُّ: وَأَزْيَنَتْ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَتْ، كَأَحْصَدَ الزَّرْعُ أَيْ حَضَرَتْ زِينَتُهَا وَحَانَتْ. وَصَحَّتِ الْيَاءُ فِيهِ عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ، كَأَعْبَلَتِ الْمَرْأَةُ. وَالْقِيَاسُ: وَأَزَانَتْ، كَقَوْلِكَ وَأَبَانَتْ. وَقَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بِوَزْنِ افْعَأَلَّتْ، قَالَهُ عَنْهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ قَالَ: كَأَنَّهُ كَانَتْ فِي الْوَزْنِ بِوَزْنِ احْمَارَّتْ، لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا الْجَمْعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، فَحُرِّكَتِ الْأَلِفُ فَانْقَلَبَتْ هَمْزَةً مَفْتُوحَةً. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِفِرْقَةٍ فَقَالَ: وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَازْيَأَنَّتْ وَهِيَ لُغَةٌ مِنْهَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا الْهَوَادِي بِالْعَبِيطِ احْمَأَرَّتِ وقرأ أشياخ عوف ابن أَبِي جَمِيلَةَ: وَازْيَانَّتْ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَأَلِفٍ سَاكِنَةٍ قَبْلَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَازَّايَنَتْ، وَالْأَصْلُ وَتَزَايَنَتْ فَأُدْغِمَ، وَالظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَيْقَنُوا وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا التَّمَكُّنُ مِنْ تَحْصِيلِهَا وَمَنْفَعَتِهَا وَرَفْعِ غَلَّتِهَا، وَذَلِكَ لِحُسْنِ نُمُوِّهَا وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْعَاهَاتِ. وَالضَّمِيرُ فِي أَهْلِهَا عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَهْلُ نَبَاتِهَا. وَقِيلَ:

الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْغَلَّةِ. وَقِيلَ: عَلَى الزِّينَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَجَوَابُ إِذَا قَوْلُهُ: أَتَاهَا أَمْرُنَا كَالرِّيحِ وَالصِّرُّ وَالسَّمُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآفَاتِ كَالْفَأْرِ وَالْجَرَادِ. وَقِيلَ: أَتَاهَا أَمْرُنَا بِإِهْلَاكِهَا، وَأُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى مَتَى يَأْتِيهَا أَمْرُهُ، أَوْ تَكُونُ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْأَرْضِ يَأْتِيهَا أَمْرُهُ تَعَالَى لَيْلًا وَبَعْضَهَا نَهَارًا، وَلَا يَخْرُجُ كَائِنٌ عَنْ وُقُوعِهِ فِيهِمَا. وَالْحَصِيدُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيِ: الْمَحْصُودُ، وَلَمْ يُؤَنَّثْ كَمَا لَمْ تؤنث امرأة جريج. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَصِيدُ الْمُسْتَأْصَلُ انْتَهَى. وَعَبَّرَ بِحَصِيدٍ عَنِ التَّأَلُّفِ اسْتِعَارَةً، جَعَلَ مَا هَلَكَ مِنَ الزَّرْعِ بِالْآفَةِ قَبْلَ أَوَانِهِ حَصِيدًا علاقة مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّرْحِ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَشْبِيهًا بِغَيْرِ الْأَدَاةِ وَالتَّقْدِيرُ: فَجَعَلْنَاهَا كَالْحَصِيدِ. وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، مُبَالَغَةٌ فِي التَّلَفِ وَالْهَلَاكِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ قَبْلُ، وَلَمْ يَقُمْ بِالْأَرْضِ بَهْجَةٌ خَضِرَةٌ نَضِرَةٌ تَسُرُّ أَهْلَهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَ بِالْيَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ. فَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ الزَّرْعُ، حُذِفَ وَقَامَتْ هَاءُ التَّأْنِيثِ مَقَامَهُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهَا، وَفِي قَوْلِهِ: أَتَاهَا فَجَعَلْنَاهَا. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الزُّخْرُفِ، وَالْأَوْلَى عَوْدُهُ عَلَى الْحَصِيدِ أَيْ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَ الْحَصِيدُ. وَكَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: كَأَنْ لم تتغن بتاءين مِثْلَ تَتَفَعَّلِ. وَقَالَ الْأَعْشَى: طَوِيلُ الثَّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّي، وَهُوَ مِنْ غَنِيَ بِكَذَا أَقَامَ بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَمْسُ مَثَلٌ فِي الْوَقْتِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: كَأَنَّ لَمْ تَغْنَ آنِفًا انْتَهَى. وَلَيْسَ الْأَمْسُ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَلَا هُوَ مُرَادِفٌ كَقَوْلِهِ: آنِفًا، لِأَنَّ آنِفًا مَعْنَاهُ السَّاعَةُ، وَالْمَعْنَى: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وُجُودٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ. ولولا أَنَّ قَائِلًا قَالَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وُجُودٌ السَّاعَةَ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهَا السَّاعَةَ، فَكَيْفَ تُشَبَّهُ وَهِيَ لَا وُجُودَ لَهَا حَقِيقَةً بِمَا لَا وُجُودَ لَهَا حَقِيقَةً؟ إِنَّمَا يُشَبَّهُ مَا انْتَفَى وَجُودُهُ الْآنَ بِمَا قُدِّرَ انْتِفَاءُ وَجُودِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، لِسُرْعَةِ انْتِقَالِهِ مِنْ حَالَةِ الْوُجُودِ إِلَى حَالَةِ الْعَدَمِ، فَكَأَنَّ حَالَةَ الْوُجُودِ مَا سَبَقَتْ لَهُ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، وَمَا كُنَّا لِنُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. وَفِي التَّحْرِيرِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ فِي مُصْحَفِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. وَفِي التَّحْرِيرِ: وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقْرَأُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ انْتَهَى. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

[سورة يونس (10) : الآيات 26 إلى 61]

أَيْ: مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ فِي الْمَاضِي، نُفَصِّلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لِقَوْمٍ يَتَذَكَّرُونَ بِالذَّالِ بَدَلَ الْفَاءِ. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: لَمَّا ذَكَرَ مَثَلَ الحياة الدنيا وما يؤول إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ دَاعٍ إِلَى دَارِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، إِذْ أَهْلُهَا سَالِمُونَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ الشَّرِيفِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَهَا وَالتَّشْرِيفِ كَمَا قيل: بَيْتُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إِلَى السَّلَامَةِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ لِفُشُوِّ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَلِتَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «1» . قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ السَّلَامَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ تَحِيَّتُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «2» وَقَدْ وَرَدَتْ فِي دَعْوَةِ اللَّهِ عِبَادَهُ أَحَادِيثُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ انْتَهِ. وَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ عَامًّا لَمْ تَتَقَيَّدْ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْهِدَايَةُ خَاصَّةً تَقَيَّدَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَهْدِي يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمَ أَنَّ اللُّطْفَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ. [سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 25- 26. (2) سورة يونس: 10/ 10.

رَهَقَهَ غَشِيَهُ، وَقِيلَ: لَحِقَهُ وَمِنْهُ. وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، وَرَجُلٌ مُرْهَقٌ يَغْشَاهُ الْأَضْيَافُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّهَقُ اسْمٌ مِنَ الْإِرْهَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَا يُطِيقُ. يُقَالُ: أَرْهَقْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا أَعْجَلْتَهُ عَنِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الرَّهَقِ الْمُقَارَبَةُ، يُقَالُ: غُلَامٌ مُرَاهِقٌ أَيْ قَارَبَ الْحُلُمَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَرْهِقُوا الْقِبْلَةَ» أَيِ ادْنُوا مِنْهَا. وَيُقَالُ: رَهِقَتِ الْكِلَابُ الصَّيْدَ إِذَا لَحِقَتْهُ، وَأَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ أَخَّرْنَاهَا حَتَّى تَدْنُوَ مِنَ الْأُخْرَى.

الْقَتَرُ وَالْقَتَرَةُ الْغُبَارُ الَّذِي مَعَهُ سَوَادٌ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُبَارُ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا أَيْ غُبَارُ الْعَسْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَصْلُ الْقَتَرِ دُخَانُ النَّارِ، وَمِنْهُ قُتَارُ الْقِدْرِ انْتَهَى. وَيُقَالُ: الْقَتْرُ بِسُكُونِ التَّاءِ الشَّأْنُ والأمر، وجمعه شؤون. وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ مِنْ شَأَنْتُ شَأْنَهُ إِذَا قَصَدْتَ قَصْدَهُ. عَزَبَ يَعْزُبُ وَيَعْزِبُ بِكَسْرِ الزَّايِ وَضَمِّهَا غَابَ حَتَّى خَفِيَ، وَمِنْهُ الرَّوْضُ الْعَازِبُ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: وَقَلْقَلُ نَأْيٌ مِنْ خُرَاسَانَ جَأْشَهَا ... فَقُلْتُ اطْمَئِنِّي أَنْضَرُ الرَّوْضِ عَازِبُهُ وَقِيلَ لِلْغَائِبِ عَنْ أَهْلِهِ عَازِبٌ، حَتَّى قَالُوهُ لِمَنْ لَا زَوْجَةَ لَهُ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: أَحْسَنُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرُوا كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: أَحْسَنُوا فِي كُلِّ مَا تَعَبَّدُوا بِهِ أَيْ: أَتَوْا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَاجْتَنَبُوا الْمَنْهِيَّ. وَقِيلَ: أَحْسَنُوا مُعَامَلَةَ النَّاسِ. وَرَوَى أَنَسٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا» وَفِي الصَّحِيحِ: «مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ ذَلِكَ مُكَافَأَةٌ، وَلَكِنَّ الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ» . وَالْحُسْنَى قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْحُسْنَى عَامٌّ فِي كُلِّ حَسَنٍ، فَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا قِيلَ وَوَعَدَ اللَّهُ فِي جَمِيعِهَا بِالزِّيَادَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْحُسْنَى الْجَنَّةَ لَكَانَ فِي الْقَوْلِ تَكْرِيرٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: هِيَ النَّضْرَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْأُمْنِيَّةُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وَمَا يَزِيدُ عَلَى الْمَثُوبَةِ وَهُوَ التَّفَضُّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «1» وَعَنْ عَلِيٍّ: الزِّيَادَةُ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحُسْنَى الْحَسَنَةُ وَالزِّيَادَةُ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ: عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الزِّيَادَةُ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ. وَعَنْ زِيَادِ بْنِ شَجَرَةَ: الزِّيَادَةُ أَنْ تَمُرَّ السحابة بأهل الجنة

_ (1) سورة النساء: 4/ 173.

فَتَقُولُ: مَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ؟ فَلَا يُرِيدُونَ شَيْئًا إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ. وَزَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجْبِرَةُ أَنَّ الزِّيَادَةَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاءَتْ بِحَدِيثٍ مَوْضُوعٍ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نُودُوا يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَكْشِفُونَ الْحِجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فو الله مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ» انْتَهَى. أَمَّا تَفْسِيرُهُ أَوَّلًا وَنَقْلُهُ عَمَّنْ ذَكَرَ تَفْسِيرَ الزِّيَادَةِ فَهُوَ نَصُّ الْجُبَّائِيِّ وَنَقْلُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَاءَتْ بِحَدِيثٍ مَوْضُوعٍ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، بَلْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صُهَيْبٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي دَقَائِقِهِ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي مُوسَى وَقَالَ: بِأَنَّ الزِّيَادَةَ هِيَ النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي رِوَايَةٍ وَحُذَيْفَةُ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَأَبُو مُوسَى، وَصُهَيْبٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَمَسْأَلَةُ الرُّؤْيَةِ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ وَلَا يَلْحَقُهَا خِزْيٌ، وَالْخِزْيُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْوَجْهُ وَيَسْوَدُّ. قَالَ ابن ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالذِّلَّةُ الْكَآبَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْهَوَانُ. وَقِيلَ: الْخَيْبَةُ نَفَىَ عَنِ الْمُحْسِنِينَ مَا أَثْبَتَ لِلْكُفَّارِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «1» وَقَوْلِهِ: عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ «2» وَكَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَهَا، وَلِظُهُورِ أَثَرِ السرر وَالْحُزْنِ فِيهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَالْأَعْمَشُ: قَتْرٌ بِسُكُونِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ كَالْقَدَرِ، وَالْقَدْرِ وَجُعِلُوا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ لِتَصَرُّفِهِمْ فِيهَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلَّاكُ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا وَحَالُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَآلُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِأَضْدَادِهِمْ وَحَالَهُمْ وَمَآلَهُمْ، وَجَاءَتْ صِلَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْسَنُوا، وَصِلَةُ الْكَافِرِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا خُلِقَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَصَّلَهَا بِالْإِحْسَانِ، وَعَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا خُلِقَ عَلَى الْفِطْرَةِ انْتَقَلَ عَنْهَا وَكَسَبَ السَّيِّئَاتِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ مُحْسِنًا، وَهَذَا كَاسِبًا لِلسَّيِّئَاتِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ سَلَكَ مَا يَنْبَغِي، وَهَذَا سَلَكَ مَا لَا يَنْبَغِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، وَجَوَّزُوا فِي الْخَبَرِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ وَهِيَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، وَجَزَاءُ مُبْتَدَأٌ فَقِيلَ: خَبَرُهُ مُثْبَتٌ وَهُوَ بِمِثْلِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَاءِ فَقِيلَ: زَائِدَةٌ قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ أَيْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا، كَمَا قَالَ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، كَمَا زِيدَتْ فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: فمنعكها بشيء يستطاع،

_ (1) سورة يونس: 10/ 27. (2) سورة عبس: 80/ 41.

أَيْ شَيْءٌ يُسْتَطَاعُ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مُقَدَّرٌ بِمِثْلِهَا أَوْ مُسْتَقِرٌّ بِمِثْلِهَا. وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، فَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ: لَهُمْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ قَالَ: وَدَلَّ عَلَى تَقْدِيرِ لَهُمْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى «1» حَتَّى تُشَاكَلَ هَذِهِ بِهَذِهِ. وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَاقِعٌ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: جَزَاءُ، وَالْعَائِدُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْ الَّذِينَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِمُ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ الْحَوْفِيِّ: لَهُمْ جَزَاءُ يَكُونُ الرَّابِطُ لَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِجُمْلَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أُولَئِكَ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فُصِلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِأَرْبَعِ جُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ بِثَلَاثِ جُمَلٍ، وَالصَّحِيحُ مَنْعُ الِاعْتِرَاضِ بِثَلَاثِ جمل وبأربع جمل، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا، وَيَكُونُ جَزَاءُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ: وَلِلَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، فَيَتَعَادَلُ التَّقْسِيمُ، كَمَا تَقُولُ: فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَالْقَصْرِ عَمْرٌو، أَيْ: وَفِي الْقَصْرِ عَمْرٌو. وَهَذَا التَّرْكِيبُ مَسْمُوعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، فَخَرَّجَهُ الْأَخْفَشُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ. وَخَرَّجَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْجَرِّ، وَجَرُّهُ بِذَلِكَ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ لَا بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُتَكَلَّمُ فِيهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ هُنَا هِيَ سَيِّئَاتُ الْكُفْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ أَوْصَافِهِمْ بَعْدُ. وَقِيلَ: السَّيِّئَاتُ الْمَعَاصِي، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الْكُفْرُ وَغَيْرُهُ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعُمُّ السَّيِّئَاتُ هَاهُنَا الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي، فَمِثْلُ سَيِّئَةِ الْكُفْرِ التَّخْلِيدُ فِي النَّارِ، وَمِثْلُ سَيِّئَاتِ الْمَعَاصِي مَصْرُوفٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى بِمِثْلِهَا أَيْ: لَا يُزَادُ عَلَيْهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ الْفَضْلُ، لِأَنَّهُ دَلَّ بِتَرْكِ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ عَلَى عَدْلِهِ، وَدَلَّ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَثُوبَةِ عَلَى فَضْلِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: مَعْنَى بِمِثْلِهَا أَيْ: بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ، فَالْعُقُوبَاتُ تَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ السَّيِّئَاتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ جَهَنَّمُ دَرَكَاتٍ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ

_ (1) سورة يونس: 10/ 26.

الأسفل لقبح معصيتهم. وقرىء: وَيَرْهَقُهُمْ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الذِّلَّةِ مَجَازٌ، وَفِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ نَفْيِ الْقَتَرِ وَالذِّلَّةِ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَهُنَا غَشِيَتْهُمُ الذِّلَّةُ، وَبُولِغَ فِيمَا يُقَابِلُ الْقَتَرَ فَقِيلَ: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي سَوَادِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي قَوْلِهِ: وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ، أَوْ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، وَمِنْ عِنْدِهِ مَنْ يَعْصِمُهُمْ كَمَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأُغْشِيَتْ: كَسَبَتْ، وَمِنْهُ الْغِشَاءُ. وَكَوْنُ وُجُوهِهِمْ مُسْوَدَّةً هِيَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، فَتَكُونُ أَلْوَانُهُمْ مُسْوَدَّةً. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّوَادِ هَاهُنَا سَوَادُ الْجَهْلِ وَظُلْمَةُ الضَّلَالِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ طَبْعُهُ طَبْعُ الظُّلْمَةِ. فَقَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، الْمُرَادُ نُورُ الْعِلْمِ وَرُوحُهُ وَبِشْرُهُ وَبِشَارَتُهُ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، الْمُرَادُ مِنْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ وَكُدُورَةُ الضَّلَالَةِ انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ هَذَا الرَّجُلُ عَنْ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي التَّفْسِيرِ، وَيَنْقُلُ كَلَامَهُمْ تَارَةً مَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ، وَتَارَةً مُسْتَنِدًا بِهِ وَيُعْنَى: بِحُكَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ خُلِقُوا فِي مُدَّةِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُسَمَّوْا سُفَهَاءَ جُهَلَاءَ مِنْ أَنْ يُسَمَّوْا حُكَمَاءَ، إِذْ هُمْ أَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُحَرِّفُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُمْ أَضَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَإِذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ كَوْنِهَا كِتَابًا إِلَهِيًّا، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ قِرَاءَةِ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ أَحَقُّ. وَقَدْ غَلَبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ بِقَلِيلٍ الِاشْتِغَالُ بِجَهَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، وَيُسَمُّونَهَا الْحِكْمَةَ، وَيَسْتَجْهِلُونَ مَنْ عُرِّيَ عَنْهَا، ويعتقدون أنهم الكلمة مِنَ النَّاسِ، وَيَعْكُفُونَ عَلَى دِرَاسَتِهَا، وَلَا تَكَادُ تَلْقَى أحدا منهم يحفظ قُرْآنًا وَلَا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ غَضَضْتُ مَرَّةً مِنَ ابْنِ سِينَا وَنَسَبْتُهُ لِلْجَهْلِ فَقَالَ لِي بَعْضُهُمْ وَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْ كَوْنِ أَحَدٍ يَغُضُّ مِنَ ابْنِ سِينَا: كَيْفَ يَكُونُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ يُنْسَبُ لِلْجَهْلِ؟ وَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبِي الْوَلِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ الِاعْتِنَاءَ بِمَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُمْ، أَغْرَى بِهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِالْأَنْدَلُسِ الْمَنْصُورَ مَنْصُورَ الْمُوَحِّدِينَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مَلِكَ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ حَتَّى أَوْقَعَ بِهِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ ضَرْبِهِ وَلَعْنِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِهَانَةِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ، وَكَانَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الْمَنْصُورُ فِي حَقِّهِمْ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الشُّعَرَاءِ:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 106.

خَلِيفَتَنَا جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ... عَنِ الْإِسْلَامِ وَالسَّعْيِ الْكَرِيمِ فَحَقُّ جِهَادِهِ جَاهَدْتَ فِيهِ ... إِلَى أَنْ فُزْتَ بِالْفَتْحِ الْعَظِيمِ وَصَيَّرْتَ الْأَنَامَ بِحُسْنِ هَدْيٍ ... عَلَى نَهْجِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَجَاهِدْ فِي أُنَاسٍ قَدْ أَضَلُّوا ... طَرِيقَ الشَّرْعِ بِالْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَحَرِّقْ كُتْبَهُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا ... فَفِيهَا كَامِنًا شَرُّ الْعُلُومِ يَدُبُّ إِلَى الْعَقَائِدِ مِنْ أَذَاهَا ... سُمُومٌ وَالْعَقَائِدُ كَالْجُسُومِ وَفِي أَمْثَالِهَا إِذْ لَا دَوَاءَ ... يَكُونُ السَّيْفُ تِرْيَاقَ السُّمُومِ وَقَالَ: يَا وَحْشَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ فِرْقَةٍ ... شَاغِلَةً أَنْفُسَهَا بِالسَّفَهْ قَدْ نَبَذَتْ دِينَ الْهُدَى خَلْفَهَا ... وَادَّعَتِ الْحِكْمَةَ وَالْفَلْسَفَهْ وَقَالَ: قَدْ ظَهَرَتْ فِي عَصْرِنَا فِرْقَةٌ ... ظُهُورُهَا شُؤْمٌ عَلَى الْعَصْرِ لَا تَقْتَدِي فِي الدِّينِ إِلَّا بِمَا ... سَنَّ ابْنُ سِينَا أَوْ أَبُو نَصْرِ وَلَمَّا حَلَلْتُ بِدِيَارِ مِصْرَ وَرَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا يَشْتَغِلُونَ بِجَهَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ أَحَدٌ تَعَجَّبْتُ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كُنَّا نَشَأْنَا فِي جَزِيرَةِ الأندلس على التبرؤ مِنْ ذَلِكَ وَالْإِنْكَارِ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا بِيعَ كِتَابٌ فِي الْمَنْطِقِ إِنَّمَا يُبَاعُ خُفْيَةً، وَأَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَنْطِقَ بِلَفْظِ الْمَنْطِقِ، إِنَّمَا يُسَمُّونَهُ الْمَفْعِلَ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَنَا وَزِيرَ الْمَلِكِ ابْنِ الْأَحْمَرِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْحَكِيمِ كَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا مِنَ الْأَنْدَلُسِ يَسْأَلُنِي أَنْ أَشْتَرِيَ أَوْ أَسْتَنْسِخَ كِتَابًا لِبَعْضِ شُيُوخِنَا فِي الْمَنْطِقِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ أَنْ يَنْطِقَ بِالْمَنْطِقِ وَهُوَ وَزِيرٌ، فَسَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ لِي بِالْمَفْعِلِ. وَلَمَّا أُلْبِسَتْ وُجُوهُهُمُ السَّوَادَ قَالَ: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ، وَلَمَّا كَانَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ نِهَايَةً فِي السَّوَادِ شُبِّهَ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ بِقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ حَالَ اشْتِدَادِ ظُلْمَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ قِطْعًا بِسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَقْطُوعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، بِسَوَادٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْقِطْعُ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مُظْلِمًا صِفَةً لِقَوْلِهِ: قِطَعًا، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: كَأَنَّمَا تَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ. وَقَرَأَ ابْنُ

أَبِي عَبْلَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الطَّاءَ. وَقِيلَ: قِطْعٌ جَمْعُ قِطْعَةٍ، نَحْوَ سِدْرٍ وَسِدْرَةٍ، فَيَجُوزُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يُوصَفَ بِالْمُذَكَّرِ نَحْوَ: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، وَبِالْمُؤَنَّثِ نَحْوَ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مُظْلِمًا حَالًا مِنَ اللَّيْلِ كَمَا أَعْرَبُوهُ فِي قِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا بِتَحْرِيكِ الطَّاءِ بِالْفَتْحِ مِنَ اللَّيْلِ: مُظْلِمًا بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا جَعَلْتَ مُظْلِمًا حَالًا مِنَ اللَّيْلِ، فَمَا الْعَامِلُ فِيهِ؟ (قُلْتُ) : لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ أُغْشِيَتْ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ مِنَ اللَّيْلِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: قِطَعًا، فَكَانَ إِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَوْصُوفِ كَإِفْضَائِهِ إِلَى الصِّفَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي مِنَ اللَّيْلِ انْتَهَى. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الْعَامِلَ فِي ذِي الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِي اللَّيْلِ هُوَ مُسْتَقَرُّ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ بِمِنْ، وَأُغْشِيَتْ عَامِلٌ فِي قَوْلِهِ: قِطَعًا الْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ، فَاخْتَلَفَا فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ أَوْلَى أَيْ: قِطَعًا مُسْتَقِرَّةً مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ كَائِنَةً مِنَ اللَّيْلِ فِي حَالِ إِظْلَامِهِ. وَقِيلَ: مُظْلِمًا حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: قِطَعًا، أَوْ صِفَةٌ. وَذُكِرَ فِي هَذَيْنِ التَّوْجِيهَيْنِ لِأَنَّ قِطَعًا فِي مَعْنَى كَثِيرٍ، فَلُوحِظَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ الطَّاءَ أَنْ يَكُونَ مُظْلِمًا حَالًا مِنْ قِطْعٍ، وَحَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِذَا كَانَ نَعْتًا يَعْنِي: مُظْلِمًا نَعْتًا لِقِطْعٍ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا، وَتَقْدِيرُ الْجُمْلَةِ، قِطْعًا اسْتَقَرَّ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «1» انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ الْعَامِلِ فِي الْمَجْرُورِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ جُمْلَةً، بَلِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَدَّرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ وَالتَّقْدِيرُ: قِطْعًا كَائِنًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا. وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ: الضَّمِيرَ فِي نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا «2» وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ «3» وقرأ الحسن وشيبة وَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ: نَحْشُرُهُمْ بِالنُّونِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْيَاءِ. وَقِيلَ: يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، وَمِنْهُمْ عَابِدُ غَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا. وَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: ذَكِّرْهُمْ أَوْ خَوِّفْهُمْ وَنَحْوَهُ. وجميعا

_ (1) سورة الأنعام: 3/ 92. (2) سورة يونس: 10/ 26. [.....] (3) سورة يونس: 10/ 27.

حَالٌ، وَالشُّرَكَاءُ الشَّيَاطِينُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الْأَصْنَامُ أَوْ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. وَمَنْ قَالَ: الْأَصْنَامُ، قَالَ: يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ فَيُنْطِقُهَا اللَّهُ بِذَلِكَ مَكَانَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي عَلَّقُوا بِهَا أَطْمَاعَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ لَإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُدُ، فَتَقُولُ الْآلِهَةُ: فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا» الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مُحَاوَرَتَهُمْ إِنَّمَا هِيَ مَعَ الْأَصْنَامِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ وعيسى ابْنِ مَرْيَمَ، بِدَلِيلِ الْقَوْلِ لَهُمْ: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، وَدُونَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْجِنِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَغْفُلُوا قَطُّ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُمْ. وَمَكَانَكُمْ عَدَّهُ النَّحْوِيُّونَ فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقُدِّرَ بِاثْبُتُوا كَمَا قَالَ: وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأْتُ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي أَيِ اثْبُتِي. وَلِكَوْنِهَا بِمَعْنَى اثْبُتِي جُزِمَ تُحْمَدِي، وَتَحَمَّلَتْ ضَمِيرًا فَأُكِّدَ وَعُطِفَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ. وَالْحَرَكَةُ الَّتِي فِي مَكَانَكَ وَدُونَكَ، أَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، أَوْ حَرَكَةُ بِنَاءٍ تُبْتَنَى عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ النحويين فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ؟ أَلَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ جَعَلَ الْحَرَكَةَ إِعْرَابًا، وَمَنْ قَالَ: لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ جَعَلَهَا حَرَكَةَ بِنَاءٍ. وَعَلَى الْأَوَّلِ عَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: مَكَانَكُمُ الْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوا حَتَّى تَنْظُرُوا مَا يُفْعَلُ بِكُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنْتُمْ، فَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي مَكَانَكُمْ، وَشُرَكَاؤُكُمْ عَطْفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: وَأَنْتُمْ أَكَّدَ بِهِ الضَّمِيرَ فِي مَكَانَكُمْ لِسَدِّهِ مَسَدَّ قَوْلِهِ: الْزَمُوا وَشُرَكَاؤُكُمْ عَطْفٌ عَلَيْهِ انْتَهَى. يَعْنِي عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ، وَتَقْدِيرُهُ: الْزَمُوا، وَأَنَّ مَكَانَكُمْ قَامَ مَقَامَهُ، فَيُحْمَلُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي الْزَمُوا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَكَانَكَ الَّذِي هُوَ اسْمُ فِعْلٍ يَتَعَدَّى كَمَا يَتَعَدَّى الْزَمُوا. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ لَازِمًا كَانَ اسْمُ الْفِعْلِ لَازِمًا، وَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ مُتَعَدِّيًا مِثَالُ ذَلِكَ: عَلَيْكَ زَيْدًا لَمَّا نَابَ مَنَابَ، الْزَمْ تَعَدَّى. وَإِلَيْكَ لَمَّا نَابَ مَنَابَ تَنَحَّ، لَمْ يَتَعَدَّ. وَلِكَوْنِ مَكَانَكَ لَا يَتَعَدَّى، قَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ اثْبُتْ، وَاثْبُتْ لَا يَتَعَدَّى. قَالَ الْحَوْفِيُّ: مَكَانَكُمْ نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ أَوِ اثْبُتُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَكَانَكُمْ ظَرْفٌ مَبْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْأَمْرِ، أَيِ الْزَمُوا انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَقْدِيرَ الْزَمُوا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَمْ تَقُلِ الْعَرَبُ مَكَانَكَ زَيْدًا فَتُعَدِّيهِ، كَمَا تَعَدَّى الْزَمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

أَنْتُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَخْزِيُّونَ أَوْ مُهَانُونَ وَنَحْوُهُ انْتَهَى. فَيَكُونُ مَكَانَكُمْ قَدْ تَمَّ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَذَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِفَكِّ الكلام الظاهر اتصال بَعْضِ أَجْزَائِهِ بِبَعْضٍ، وَلِتَقْدِيرِ إِضْمَارٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ: فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ثَبَتُوا هُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ حَتَّى وَقَعَ التَّزْيِيلُ بَيْنَهُمْ وَهُوَ التَّفْرِيقُ. وَلِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَنْتُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْفِعْلِ. وَلَوْ كَانَ أَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَقَدْ حُذِفَ خَبَرُهُ، لَمَا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْتُمْ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي هُوَ قِفُوا أَوْ نَحْوُهُ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِالْفِعْلِ لَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الظَّرْفِ، إِذِ الظَّرْفُ لَمْ يَتَحَمَّلْ ضَمِيرًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لَا تَقُولُ: أَنْتَ مَكَانَكَ، وَلَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَالْأَصَحُّ أَنْ لا يجوز حذف المؤكد فِي التَّأْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ، فَكَذَلِكَ هَذَا، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُنَافِي الْحَذْفَ. وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ: أَنْتَ زَيْدًا لِمَنْ رَأَيْتَهُ قَدْ شَهَرَ سَيْفًا، وَأَنْتَ تريد اضرب أنت زيد، إِنَّمَا كَلَامُ الْعَرَبِ زَيْدًا تُرِيدُ اضْرِبْ زَيْدًا. يُقَالُ زِلْتُ الشَّيْءَ عَنْ مَكَانِهِ أُزِيلُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: زِلْتُ الضَّأْنَ مِنَ الْمَعْزِ فَلَمْ تَزُلْ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: التَّزْيِيلُ وَالتَّزَيُّلُ وَالْمُزَايَلَةُ التَّمْيِيزُ وَالتَّفَرُّقُ انْتَهَى. وَزَيَّلَ مُضَاعَفٌ لِلتَّكْثِيرِ، وَهُوَ لِمُفَارَقَةِ الحبث مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، بِخِلَافِ زَالَ يَزُولُ فَمَادَّتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَزَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ زَيَّلْنَا مِنْ مَادَّةِ زَالَ يَزُولُ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَزَيَّلْنَا عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَاوٌ لِأَنَّهُ مِنْ زَالَ يَزُولُ، وَإِنَّمَا قلبت لِأَنَّ وَزْنَ الْكَلِمَةِ فَيْعَلَ أَيْ: زَيْوَلْنَا مِثْلَ بَيْطَرَ وَبَيْقَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَعْرُوفِ قُلِبَتْ يَاءً انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فَعَّلَ أَكْثَرُ مِنْ فَيْعَلَ، وَلِأَنَّ مَصْدَرَهُ تَزْيِيلٌ. وَلَوْ كَانَ فَيْعَلَ لَكَانَ مَصْدَرُهُ فَيْعَلَةً، فَكَانَ يَكُونُ زَيَّلَةً كَبَيْطَرَةٍ، لِأَنَّ فَيْعَلَ مُلْحَقٌ بِفَعْلَلَ، وَلِقَوْلِهِمْ فِي قَرِيبٍ مِنْ مَعْنَاهُ: زَايَلَ، وَلَمْ يَقُولُوا زَاوَلَ بِمَعْنَى فَارَقَ، إِنَّمَا قَالُوهُ بِمَعْنَى حَاوَلَ وَخَالَطَ وَشَرَحَ، فَزَيَّلْنَا فَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ وَقَطَعْنَا أَقْرَانَهُمْ، وَالْوُصَلَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فَبَاعَدْنَا بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا «1» وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فَزَايَلْنَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ صَاعَرَ خَدَّهُ، وَصَعَّرَ، وَكَالَمْتُهُ وَكَلَّمْتُهُ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَزَايَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى فَارَقَ. قال:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 22.

وَقَالَ الْعَذَارَى إِنَّمَا أَنْتَ عَمُّنَا ... وَكَانَ الشَّبَابُ كَالْخَلِيطِ يُزَايِلُهْ وَقَالَ آخَرُ: لَعَمْرِي لِمَوْتٍ لَا عُقُوبَةَ بَعْدَهُ ... لِذِي الْبَثِّ أَشَفَى مَنْ هَوَى لَا يُزَايِلُهْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّزْيِيلَ أَوِ الْمُزَايَلَةَ هُوَ بِمُفَارَقَةِ الْأَجْسَامِ وَتَبَاعُدِهِ. وَقِيلَ: فَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ فِي الْحُجَّةِ وَالْمَذْهَبِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفَزَيَّلْنَا. وَقَالَ: هُنَا مَاضِيَانِ لَفْظًا، وَالْمَعْنَى: فَنُزَيِّلُ بَيْنَهُمْ وَنَقُولُ: لِأَنَّهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، وَنَفْيُ الشُّرَكَاءِ عِبَادَةَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُدُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مَنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا لِلَّهِ تَعَالَى أَنْدَادًا فَأَطَعْتُمُوهُمْ، وَلَمَّا تَنَازَعُوا اسْتَشْهَدَ الشُّرَكَاءُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَانْتَصَبَ شَهِيدًا، قِيلَ: عَلَى الْحَالِ، وَالْأَصَحُّ عَلَى التَّمْيِيزِ لِقَبُولِهِ مِنْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَفَى وَفِي الْيَاءِ، وَإِنْ هِيَ الْخَفِيفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَعِنْدَ الْقُرَّاءِ هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. وَاكْتِفَاؤُهُمْ بِشَهَادَةِ اللَّهِ هُوَ عَلَى انْتِفَاءِ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ. ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً أَنَّهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ عِبَادَتِهِمْ أَيْ: لَا شُعُورَ لَنَا بِذَلِكَ. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الشُّرَكَاءَ هِيَ الْأَصْنَامُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ مِمَّنْ يَعْقِلُ مِنْ إِنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ مَلَكٍ لَكَانَ لَهُ شُعُورٌ بِعِبَادَتِهِمْ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ سَبَبًا لِلْغَفْلَةِ مِنَ الْجَمَادِيَّةِ، إِذْ لَا تُحِسُّ وَلَا تَشْعُرُ بِشَيْءٍ البتة. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ: هُنَالِكَ ظَرْفُ مَكَانٍ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ وَالْمَقَامِ الْمُقْتَضِي لِلْحَيْرَةِ وَالدَّهْشِ. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَقْتِ، اسْتُعِيرَ ظَرْفُ الْمَكَانِ لِلزَّمَانِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وزيد بن علي: تتلوا بِتَاءَيْنِ أَيْ: تَتْبَعُ وَتَطْلُبُ مَا أَسْلَفَتْ مِنْ أَعْمَالِهَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْمُرِيبَ يَتَّبِعُ الْمُرِيبَا ... كَمَا رَأَيْتَ الذِّيبَ يَتْلُو الذِّيبَا قِيلَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنَ التِّلَاوَةِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ أَيْ: تَقْرَأُ كُتُبَهَا الَّتِي تُدْفَعُ إِلَيْهَا. وقرأ باقي السبعة: تبلوا بِالتَّاءِ وَالْبَاءِ أَيْ: تَخْتَبِرُ مَا أَسْلَفَتْ مِنَ الْعَمَلِ فَتَعْرِفُ كَيْفَ هُوَ أَقَبِيحٌ أَمْ حَسَنٌ، أَنَافِعٌ أَمْ ضَارٌّ، أَمَقْبُولٌ أَمْ مَرْدُودٌ؟ كَمَا يَتَعَرَّفُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِاخْتِبَارِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: نبلوا بِنُونٍ وَبَاءٍ أَيْ: نَخْتَبِرُ. وَكُلُّ نَفْسٍ بِالنَّصْبِ، وَمَا أَسْلَفَتْ بَدَلٌ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ أَيْ: مَا أسلفت. أو يكون نبلوا مِنَ الْبَلَاءِ وَهُوَ الْعَذَابُ أَيْ: نُصِيبُ كُلَّ نَفْسٍ عَاصِيَةٍ بِالْبَلَاءِ بِسَبَبِ مَا أَسْلَفَتْ مِنَ الْعَمَلِ الْمُسِيءِ. وعن الحسن تبلوا

تَتَسَلَّمُ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: تَعْلَمُ. وقيل: تذوق. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: وَرِدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ، لَمَّا سَكَّنَ لِلْإِدْغَامِ نَقَلَ حَرَكَةَ الدَّالِّ إِلَى حَرَكَةِ الرَّاءِ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَتِهَا. وَمَعْنَى إِلَى اللَّهِ: إِلَى عِقَابِهِ. وَقِيلَ: إِلَى مَوْضِعِ جَزَائِهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، لَا مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، إِذْ هُوَ الْمُتَوَلِّي حِسَابَهُمْ. فَهُوَ مَوْلَاهُمْ فِي الْمِلْكِ وَالْإِحَاطَةِ، لَا فِي النَّصْرِ وَالرَّحْمَةِ. وقرىء الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ نَحْوَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَهْلَ الْحَمْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ هذا عبد الله الحق لَا الْبَاطِلَ، عَلَى تَأْكِيدِ قَوْلِهِ: رُدُّوا إِلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَرُدُّوا إِلَى الله، جعلوا ملجأين إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِلَهِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ. وَضَلَّ عَنْهُمْ أَيْ: بَطَلَ وَذَهَبَ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ شَافِعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ. قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ: لَمَّا بَيَّنَ فَضَائِحَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ بِمَا يُوَبِّخُهُمْ، وَيَحُجَّهُمْ بِمَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنْ حَالِ رِزْقِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ، وَإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. فَبَدَأَ بِمَا فِيهِ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ وَهُوَ الرِّزْقُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمِنَ السَّمَاءِ بِالْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ. فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وهيىء الرِّزْقَ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السفلي معالم يَقْتَصِرْ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، تَعَالَى تَوْسِعَةً مِنْهُ وَإِحْسَانًا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلْبَيَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ مِلْكَهُ لِهَاتَيْنِ الْحَاسَّتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ: السَّمْعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مَدَارِكِ الْأَشْيَاءِ، وَالْبَصَرِ الَّذِي يرى ملكوت السموات وَالْأَرْضِ. وَمَعْنَى مِلْكِهِمَا أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِمَا بِمَا يَشَاءُ تَعَالَى مِنْ إِبْقَاءٍ وَحِفْظٍ وَإِذْهَابٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ مَنْ يَسْتَطِيعُ خَلْقَهُمَا وَتَسْوِيَتَهُمَا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي سُوِّيَا عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ الْعَجِيبَةِ، أَوْ مَنْ يَحْمِيهِمَا وَيَعْصِمُهُمَا مِنَ الْآفَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا فِي الْمَدَدِ الطِّوَالُ، وَهُمَا لَطِيفَانِ يُؤْذِيهِمَا أَدْنَى شَيْءٍ بِكِلَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ هَذَانِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا من لفظ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ. وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: سُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ. وَأَمْ هُنَا تَقْتَضِي تَقْدِيرَ بَلْ دُونَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» فَلَا تَتَقَدَّرُ ببل، فالهمزة لأنها دخلت

_ (1) سورة النمل 27/ 84.

عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَيْسَ إضراب إبطال به هُوَ لِانْتِقَالٍ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ. وَنَبَّهَ تَعَالَى بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى الْحَوَاسِّ لِأَنَّهُمَا أَشْرَفُهَا، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ إِدَامَةِ الْحَيَاةِ وَسَبَبَ انْتِفَاعِ الْحَيِّ بِالْحَوَاسِّ، ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ تَعَالَى وَاخْتِرَاعَهُ لِلْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، وَذَلِكَ مِنْ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الضِّدِّ مِنْ ضِدِّهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ شَامِلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِغَيْرِهَا، وَالْأُمُورُ الَّتِي يُدَبِّرُهَا تَعَالَى لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلِذَلِكَ جَاءَ بِالْأَمْرِ الْكُلِّيِّ بَعْدَ تَفْصِيلِ بَعْضِ الْأُمُورِ. وَاعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّ الرَّازِقَ وَالْمَالِكَ وَالْمُخْرِجَ وَالْمُدَبِّرَ هُوَ اللَّهُ أَيْ: لَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهُ وَلَا الْمُنَافَسَةُ فِيهِ. وَمَعْنَى أَفَلَا تَتَّقُونَ: أَفَلَا تَخَافُونَ عُقُوبَةَ اللَّهِ فِي افْتِرَائِكُمْ وَجَعْلِكُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً؟ وَقِيلَ: أَفَلَا تَتَّعِظُونَ فَتَنْتَهُونَ عَنْ مَا حَذَّرَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَوْعِظَةُ. فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ: فَذَلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَنِ اخْتَصَّ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، الْحَقُّ الثَّابِتُ الرُّبُوبِيَّةِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَاعْتِقَادِ اخْتِصَاصِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَا أَصْنَامِكُمُ الْمَرْبُوبَةُ الْبَاطِلَةُ. وَمَاذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا، وَصَحِبَهُ التَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، فَالْحَقُّ وَالضَّلَالُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، إِذْ هما نقيضان، فمن يخطىء الْحَقَّ وَقَعَ فِي الضَّلَالِ. وَمَاذَا مُبْتَدَأٌ تَرَكَّبَتْ ذَا مَعَ مَا فَصَارَ مَجْمُوعُهُمَا اسْتِفْهَامًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ. وَالْخَبَرُ بَعْدَ الْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَا مَوْصُولَةً وَيَكُونَ خَبَرَ مَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الَّذِي بَعْدَ الْحَقِّ؟ وَبَعْدَ صِلَةِ كَذَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّهُ مَالِكُهُمْ وَأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أَيْ كَيْفَ يَقَعُ صَرْفُكُمْ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَقِيَامِ حُجَجِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَكَيْفَ تُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ لَا يُشَارِكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَاسْتِنْبَاطُ كَوْنِ الشَّطْرَنْجِ ضَلَالًا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، لَا يَكَادُ يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا مَسَاقُهَا فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مَسَاقُهَا فِي الْأُمُورِ الْفَرْعِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، وَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَقْوَالُ عُلَمَاءِ مَلَّتِنَا. وَقَدْ تَعَلَّقَ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُجْبِرَةِ إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُ الْكُفَّارَ عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا قَالَ: أَنَّى تُصْرَفُونَ. كَمَا لَوْ أَعْمَى بَصَرَ أَحَدِهِمْ لَا يَقُولُ: إِنِّي عميت. كَذَلِكَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ قِيلَ: إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ تُصْرَفُونَ، مِثْلَ صَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ حَقَّ

الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ أَيْ: جَازَاهُمْ مِثْلَ أَفْعَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْحَقِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذَلِكَ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَقِّ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، أَيْ كَمَا حَقَّ وَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ بَعْدَ الضَّلَالِ، أَوْ كَمَا حَقَّ أَنَّهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنِ الْحَقِّ، فَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَذَلِكَ أَيْ كَمَا كَانَتْ صِفَاتُ اللَّهِ كَمَا وَصَفَ، وَعِبَادَتُهُ وَاجِبَةً كَمَا تَقَرَّرَ، وَانْصِرَافُ هَؤُلَاءِ كَمَا قَدَّرَ عَلَيْهِمْ، وَاكْتَسَبُوا كَذَلِكَ حَقَّتْ. وَمَعْنَى فَسَقُوا: تَمَرَّدُوا فِي كُفْرِهِمْ وَخَرَجُوا إِلَى الْحَدِّ الْأَقْصَى فِيهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةِ رَبِّكَ أَيْ: حَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلِمَةِ عِدَةُ الْعَذَابِ، وَيَكُونُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ تَعْلِيلًا أَيْ: لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ: إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْكَسْرِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْكُفَّارِ مَنْ حَتَّمَ اللَّهُ بِكُفْرِهِ وَقَضَى بِتَخْلِيدِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالصَّاحِبَانِ: كَلِمَاتُ عَلَى الْجَمْعِ هُنَا وَفِي آخِرِ السُّورَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى الْإِفْرَادِ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: لَمَّا اسْتَفْهَمَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتَرَفُوا بِهَا، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ صَرْفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ سَبَبُ الْعِبَادَةِ: وَهُوَ إِبْدَاءُ الْخَلْقِ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» ثُمَّ أَعَادَ الْخَلْقَ وَهُمْ مُنْكِرُونَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى يسلمونه ليعلم أيهما سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لِوُضُوحِهِ وَقِيَامِ بُرْهَانِهِ، قُرِنَ بِمَا يُسَلِّمُونَهُ إِذْ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، إِذْ هُوَ مِنَ الْوَاضِحَاتِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ فِي إِمْكَانِهَا الْعُقَلَاءُ. وَجَاءَ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُهُ. وَلَمَّا كَانُوا لِمُكَابَرَتِهِمْ لَا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَأَبْرَزَ الْجَوَابَ فِي جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مُصَرَّحٍ بِخَبَرِهَا، فَعَادَ الْخَبَرُ فِيهَا مُطَابِقًا لِخَبَرِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَتَثْبِيتٌ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ قَبْلَ هَذَا لَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ عَنْ الِاعْتِرَافِ بِهِ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ مَحْذُوفًا مِنْهَا أَحَدُ جزءيها فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّأْكِيدِ بِتَصْرِيحِ خَبَرِهَا. وَمَعْنَى تُؤْفَكُونَ تُصْرَفُونَ وَتُقْلَبُونَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى عَجْزَ أَصْنَامِهِمْ عَنِ الْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْقُدْرَةِ وأعظم دلائل

_ (1) سورة لقمان: 31/ 25.

الْأُلُوهِيَّةِ، بَيَّنَ عَجْزَهُمْ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى مَنَاهِجِ الصَّوَابِ، وَقَدْ أَعْقَبَ الْخَلْقَ بِالْهِدَايَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكَلِيمِ: قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «1» وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «2» فَاسْتَدَلَّ بِالْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَهُمَا حَالَانِ لِلْجَسَدِ وَالرُّوحِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْعُقُولُ يَلْحَقُهَا الِاضْطِرَابُ وَالْغَلَطُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لا يهديهما إِلَّا هُوَ بِخِلَافِ أَصْنَامِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْهَا لَا رُوحَ فِيهِ جَمَادٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَمَا فِيهِ رُوحٌ فَلَيْسَ قَادِرًا عَلَى الْهِدَايَةِ، بَلِ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَهْدِيهِ. وَهَدَى تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى اثْنَيْنِ، وَإِلَى الثَّانِي بِإِلَى وَبِاللَّامِ. وَيَهْدِي إِلَى الْحَقِّ حُذِفُ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا بِمَعْنَى يَهْتَدِي، لِأَنَّ مُقَابِلَهُ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَيْ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ مَا قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَدَى بِمَعْنَى اهْتَدَى، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُ هَذَا. وَأَحَقُّ لَيْسَتْ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّبَعَ. وَلَمَّا كَانُوا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ تَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَلَا يُسَلِّمُونَ حَصْرَ الْهِدَايَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَادِرَ بِالْجَوَابِ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ، ثُمَّ عَادَلَ فِي السُّؤَالِ بِالْهَمْزَةِ وَأَمْ بَيْنَ مَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِالِاتِّبَاعِ، وَمَنْ هُوَ غَيْرُ حَقِيقٍ، وَجَاءَ عَلَى الْأَفْصَحِ الْأَكْثَرِ مِنْ فَصْلِ أَمْ مِمَّا عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِالْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ «3» بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ «4» وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي تَرْجِيحِ الْوَصْلِ هُنَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَّا وَرْشًا: أَمَّنْ لَا يَهْدِّي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ، فَجَمَعُوا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَنْ رَامَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُحَرِّكَ حَرَكَةً خَفِيفَةً، وَسِيبَوَيْهِ يُسَمِّي هَذَا اخْتِلَاسَ الْحَرَكَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ فِي رِوَايَةٍ كَذَلِكَ: إِلَّا أَنَّهُ اخْتَلَسَ الْحَرَكَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَوَرْشٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْهَاءَ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي، فَقُلِبَ حَرَكَةُ التَّاءِ إِلَى الْهَاءِ، وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَقَرَأَ حفص، ويعقوب، وَالْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْهَاءَ لَمَّا اضْطُرَّ إِلَى الْحَرَكَةِ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْيَاءَ. وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يجيز يهدي،

_ (1) سورة طه: 20/ 50. (2) سورة الأعلى: 87/ 2- 3. (3) سورة الفرقان: 25/ 15. (4) سورة الأنبياء: 21/ 109.

وَيُجِيزُ تَهِدِّي وَنَهِدِّي وَأَهِدِّي قَالَ: لِأَنَّ الْكَسْرَةَ فِي الْيَاءِ تَثْقُلُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: يَهْدِي مُضَارِعُ هَدَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْهِدَايَةُ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الَّذِي لَا يَهِدِّي، أَيْ لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ أَوْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ، إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: معناه أَمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي مِنَ الْأَوْثَانِ إِلَى مَكَانٍ فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُهْدَى، إِلَّا أَنْ يُنْقَلَ أَوْ لَا يَهْتَدِي، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاهْتِدَاءُ إِلَّا بِنَقْلَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهُ حَيَوَانًا مُطْلَقًا فَيَهْدِيَهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ إِنْكَارُ الْمُبَرِّدِ مَا قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَنَّ هَدَى بِمَعْنَى اهْتَدَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَصَفَ الْأَصْنَامَ بِأَنَّهَا لَا تَهْتَدِي إِلَّا أَنْ تُهْدَى، وَنَحْنُ نَجِدُهَا لَا تَهْتَدِي وَإِنْ هُدِيَتْ. فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَامِلٌ فِي الْعِبَادَةِ عَنْهَا مُعَامَلَتَهُمْ فِي وَصْفِهَا بِأَوْصَافِ مَنْ يَعْقِلُ، وَذَلِكَ مَجَازٌ وَمَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي أَحَدًا إِلَّا أَنْ يُهْدَى ذَلِكَ الْأَحَدُ بِهِدَايَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي مُقْتَضَاهَا أَمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَيَتَّجِهُ الْمَعْنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَفِيهِ تَجَوُّزٌ كَثِيرٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ تَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ هُوَ اهْتِدَاؤُهَا. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أم من لا يهدي أَيْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يُهْدَى اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُهْدَى كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ. وَقِيلَ: أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي فِي الرُّؤَسَاءِ الْمُضِلِّينَ انْتَهَى. وَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ فِيهِمْ قَابِلِيَّةُ الْهِدَايَةِ، بِخِلَافِ الْأَصْنَامِ. فَمَا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَالْإِنْكَارُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي اتِّخَاذِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ إِذْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ هِدَايَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْدُوا غَيْرَهُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ آخَرُ أَيْ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ بِالْبَاطِلِ وَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا وَشُرَكَاءَ؟ وَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ أَنْكَرَ فِي الْأُولَى، وَتَعَجَّبَ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ مَنْ لَا يَهْدِي وَلَا يَهْتَدِي، وَأَنْكَرَ فِي الثَّانِي حُكْمَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَتَسْوِيَةَ الْأَصْنَامِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَبَصَّرَ فِي الْأَصَنَامِ وَرَفَضَهَا كَمَا قَالَ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَكْثَرِهِمْ جَمِيعُهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي اللَّهِ وَفِي صِفَاتِهِ إِلَّا ظَنًّا، لَيْسُوا مُتَبَصِّرِينَ وَلَا مُسْتَنِدِينَ إِلَى بُرْهَانٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ تَلَقَّفُوهُ مِنْ آبَائِهِمْ.

وَالظَّنُّ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا أَيْ: مِنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَجْوِيزٌ لَا قَطْعٌ. وَقِيلَ: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فِي جَعْلِهِمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: تَفْعَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ الْتِفَاتًا وَالْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتِ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ في رؤساء اليهود وقريش. وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ «1» وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ افْتَرَاهُ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى أَيْ: مَا صَحَّ، وَلَا اسْتَقَامَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ مُفْتَرًى. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا فِيهَا تَفْخِيمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَتَعْظِيمُهُ، وَكَوْنُهُ جَامِعًا لِلْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَنْ يُفْتَرَى هُوَ خَبَرُ كَانَ أَيِ: افْتِرَاءً، أَيْ: ذَا افْتِرَاءٍ، أَوْ مُفْتَرًى. وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ أَنْ هَذِهِ هِيَ الْمُضْمَرَةُ بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِكَ: مَا كَانَ زَيْدٌ لِيَفْعَلَ، وَأَنَّهُ لَمَّا حُذِفَتِ اللَّامُ أُظْهِرَتْ أَنْ وَأَنَّ اللَّامَ وَأَنْ يَتَعَاقَبَانِ، فَحَيْثُ جِيءَ بِاللَّامِ لَمْ تَأْتِ بِأَنْ بَلْ تُقَدِّرُهَا، وَحَيْثُ حُذِفَتِ اللَّامُ ظَهَرَتْ أَنْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَا يَتَعَاقَبَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ وَإِظْهَارُ أَنْ إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. وَعَلَى زَعْمِ هَذَا الزَّاعِمِ لَا يَكُونُ أَنْ يُفْتَرَى خَبَرًا لِكَانَ، بَلِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَأَنْ يُفْتَرَى مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ بَعْدَ إِسْقَاطِ اللَّامِ، وَوَقَعَتْ لَكِنْ هُنَا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ إِذْ كَانَتْ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ وَهُمَا: الْكَذِبُ وَالتَّصْدِيقُ الْمُتَضَمِّنُ الصِّدْقَ، وَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَلَا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَى قُرَيْشٍ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ أَنَّ الْآتِيَ بِهِ يَقْطَعُونَ أَنَّهُ لَمْ يُطَالِعْ تِلْكَ الْكُتُبَ وَلَا غَيْرَهَا، وَلَا هِيَ فِي بَلَدِهِ وَلَا قَوْمِهِ، لَا بِتَصْدِيقِ الْأَشْرَاطِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْهَا. وَتَفْصِيلُ الْكِتَابِ تَبْيِينُ مَا فُرِضَ وَكُتِبَ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَصْدِيقَ وَتَفْصِيلَ بِالنَّصْبِ، فَخَرَّجَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ وَالزَّجَّاجُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ مُضْمَرَةً أَيْ: وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ أَيْ مُصَدِّقًا وَمُفَصِّلًا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ أُنْزِلَ لِلتَّصْدِيقِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: تَفْصِيلُ وَتَصْدِيقُ بِالرَّفْعِ، وَفِي يُوسُفَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَلَكِنْ هُوَ تَصْدِيقٌ. كَمَا قَالَ الشاعر:

_ (1) سورة يونس: 10/ 15.

وَلَسْتُ الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ ... وَلَكِنْ مَدَّهُ الْحَرْبُ الْعَوَالِي أَيْ وَلَكِنْ أَنَا. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَالَتْ وَلَكِنْ بِالْوَاوِ آثَرَتْ تَشْدِيدَ النُّونِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ آثَرَتِ التَّخْفِيفَ. وَقَدْ جَاءَ فِي السَّبْعَةِ مَعَ الْوَاوِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ، وَلَا رَيْبَ فِيهِ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْرَاكِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنْ تَصْدِيقًا وَتَفْصِيلًا مُنْتَفِيًا عَنْهُ الرَّيْبُ، كَائِنًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَفْصِيلًا مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل، وَيَكُونُ لَا رَيْبَ فِيهِ اعْتِرَاضًا كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ لَا شَكَّ فِيهِ كَرِيمٌ انتهى. فقوله: فَيَكُونُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل، إِنَّمَا يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ وَانْتِفَاءِ الرَّيْبِ عَنْهُ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ «1» وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا «2» . أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: لَمَّا نَفَى تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُفْتَرًى، بَلْ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهَا، ذَكَرَ أَعْظَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِعْجَازُ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، فَأَبْطَلَ بِذَلِكَ دَعْوَاهُمُ افْتِرَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ «3» الْآيَةَ. وَأَمْ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ اخْتَلَقَهُ. وَالْهَمْزَةُ تَقْرِيرٌ لِالْتِزَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِنْكَارٌ لِقَوْلِهِمْ وَاسْتِبْعَادٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَمْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَمَجَازُهُ، وَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَقِيلَ: الْمِيمُ صِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَيَقُولُونَ. وَقِيلَ: أَمْ هِيَ الْمُعَادِلَةُ لِلْهَمْزَةِ، وَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا وَالتَّقْدِيرُ: أَيُقِرُّونَ بِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قُلْ فَأْتُوا جُمْلَةَ شَرْطٍ مَحْذُوفَةً فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ فَأْتُوا أَنْتُمْ عَلَى وَجْهِ الِافْتِرَاءِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْأَلْمَعِيَّةِ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ شَبِيهَةٍ بِهِ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: بِسُورَةٍ مُمَاثِلَةٍ لِلْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ لَنَا فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْإِعْجَازُ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ قَائِدٍ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ عَلَى الْإِضَافَةِ أَيْ: بِسُورَةِ كِتَابٍ أَوْ كَلَامٍ مِثْلِهِ أَيْ: مِثْلِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 2. (2) سورة البقرة: 2/ 23. (3) سورة البقرة: 2/ 23.

الْقُرْآنِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هَذَا مِمَّا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ مِنْهُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ أَيْ: بِصُورَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِ، فَالْهَاءُ فِي ذَلِكَ وَاقِعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْعَامَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَدْعُوهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا تَسْتَعِينُوهُ وَحْدَهُ، وَاسْتَعِينُوا بِكُلِّ مَنْ دُونَهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّهُ افْتَرَاهُ. وَقَدْ تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَحَدَّى بِهِ وَطَلَبَ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ وَعَجَزُوا، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا إِلَّا إِذَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ صَحِيحَ الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقَدِيمِ مُحَالًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّحَدِّي بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَرَاتِبُ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ سِتٌّ تَحَدٍّ بِكُلِّ الْقُرْآنِ فِي: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ «1» الْآيَةَ، وَتَحَدٍّ بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَتَحَدٍّ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَحَدٍّ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ «2» وَفِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ طَلَبَ أَنْ يُعَارِضَ رَجُلٌ يُسَاوِي الرَّسُولَ فِي عَدَمِ التَّتَلْمُذِ وَالتَّعْلِيمِ، وَتَحِدٍّ طَلَبَ مِنْهُمْ مُعَارَضَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ كَانَ تَعَلَّمَ الْعُلُومَ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّمْهَا، وَفِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْخَمْسِ تَحَدَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَتَحِدٍّ طَلَبَ من المجموع واستعانة بَعْضٍ بِبَعْضٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ كَذَّبُوا، بَلْ سَارَعُوا إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ، وفاجأوه فِي بَدِيهَةِ السَّمَاعِ قَبْلَ أَنْ يَفْهَمُوهُ وَيَعْلَمُوا كُنْهَ أَمْرِهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَتَدَبَّرُوهُ وَيَفْقَهُوا تَأْوِيلَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ نُفُورِهِمْ عَمَّا يُخَالِفُ دِينَهَمْ، وَشِرَادِهِمْ عَنْ مُفَارَقَةِ دِينِ آبَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِمَا الْوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا يُرِيدُ بِهِ ما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ «3» وَالْآيَةُ مَحْمِلُهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بَلْ كَذَّبُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُنْبِئِ بِالْغُيُوبِ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ بِهِ مَعْرِفَةٌ، وَلَا أَحَاطُوا بِمَعْرِفَةِ غُيُوبِهِ وَحُسْنِ نَظْمِهِ، وَلَا جَاءَهُمْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجُوهًا، الْأَوَّلُ: كُلَّمَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنَ الْقَصَصِ قَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «4» وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لَيْسَ نَفْسَ الْحِكَايَةِ، بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا العالم، ونقله

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 88. (2) سورة الطور: 52/ 34. [.....] (3) سورة الأعراف: 7/ 53. (4) سورة الأنفال: 8/ 31- النحل: 16/ 24، الفرقان: 25/ 5- القلم: 68/ 15- المطففين: 83/ 13.

أَهْلَهُ مِنْ عِزٍّ إِلَى ذُلٍّ، وَمِنْ ذُلٍّ إِلَى عِزٍّ، وَبِفَنَاءِ الدُّنْيَا، فَيَعْتَبِرُ بِذَلِكَ. وَأَنَّ ذَلِكَ الْقَصَصَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، إِذْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يَتَتَلْمَذْ. الثَّانِي: كلما سمعوا خروف التَّهَجِّي وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا سَاءَ ظَنُّهُمْ، وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ «1» الْآيَةَ. الثَّالِثُ: ظُهُورُ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَسَاءَ ظَنُّهُمْ وَقَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2» وَقَدْ أَجَابَ تَعَالَى وَشَرَحَ فِي مَكَانِهِ. الرَّابِعُ: الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ الْحَشْرِ، وَكَانُوا أَلِفُوا الْمَحْسُوسَاتِ، فَاسْتَبْعَدُوا حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ صِحَّةَ الْمَعَادِ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَاتِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِلَهُ الْعَالَمِ غَنِيٌّ عَنْ طَاعَتِنَا، وَهُوَ أَجَلُّ أَنْ يَأْمُرَنَا بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ. وَأَجَابَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ «3» الْآيَةَ وَبِالْجُمْلَةِ فَشُبَهُ الْكُفَّارِ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا رَأَوُا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلًا عَلَى أُمُورٍ مَا عَرَفُوا حَقِيقَتَهَا وَلَا اطَّلَعُوا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ: بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ جُهْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ أَسْرَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى التَّوَقُّعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهِ عَلَى الْبَدِيهَةِ قَبْلَ التَّدَبُّرِ، وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ تَقْلِيدًا لِلْآبَاءِ، وَكَذَّبُوهُ بَعْدَ التَّدَبُّرِ تَمَرُّدًا وَعِنَادًا فَذَمَّهُمْ بِالتَّسَرُّعِ إِلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، وَجَاءَ بِكَلِمَةِ التَّوَقُّعِ لِيُؤْذِنَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بَعْدَ عُلُوِّ شَأْنِهِ وَإِعْجَازِهِ لَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ التَّحَدِّيَ وَرَازُوا قُوَاهُمْ فِي الْمُعَارَضَةِ، وَاسْتَيْقَنُوا عَجْزَهُمْ عَنْ مَثَلِهِ، فَكَذَّبُوا بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ كَلَامُهُ هَذَا إِلَى نَظَرٍ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ولما يأتهم تأويله، ولم يَأْتِهِمْ بَعْدُ تَأْوِيلُ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ أَيْ عَاقِبَتُهُ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَكَذِبٌ هُوَ أَمْ صِدْقٌ؟ يَعْنِي: أَنَّهُ كِتَابٌ مُعْجِزٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ إِعْجَازِ نَظْمِهِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ. فَتَسَرَّعُوا إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرُوا فِي نَظْمِهِ وَبُلُوغِهِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَقَبْلَ أَنْ يُخْبَرُوا إِخْبَارَهُ بِالْمَغِيبَاتِ وَصِدْقَهُ وَكَذِبَهُ انْتَهَى. وَبَقِيَتْ جُمْلَةُ الْإِحَاطَةِ بِلَمْ، وَجُمْلَةُ إِتْيَانِ التَّأْوِيلِ بِلَمَّا، وَيُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى فَرْقٍ دَقِيقٍ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي: قَبْلَ النَّظَرِ فِي مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَبْلَ تَدَبُّرِهَا مِنْ غَيْرِ إِنْصَافٍ مِنْ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 97. (2) سورة الفرقان: 25/ 32. (3) سورة الإسراء: 17/ 7.

أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ قَلَّدُوا الْآبَاءَ عاندوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى خَبَرِ كَانَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ، هَذَا قَانُونُ النَّحْوِيِّينَ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوا كَيْفَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مُعَامَلَةَ الِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ. فِي قَوْلِكَ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ وَلِكَيْفَ تَصَرُّفَاتٌ غَيْرُ هَذَا تَحُلُّ مَحَلَّ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ كَيْفِيَّةٌ، وَيَنْخَلِعُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْمَوْضِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا وَمِنْ تَصَرُّفَاتِهَا قَوْلُهُمْ: كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، وَانْظُرْ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَقِمْ انْتَهَى. وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ، وَتَعْلِيلُهُ: يُرِيدُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ لَفْظًا، لَكِنَّ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَا نظر مُعَلَّقَةً، وَهِيَ مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: هَذَا قَانُونُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى آخِرِ تَعْلِيلِهِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ لِكَيْفَ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِفْهَامُ الْمَحْضُ، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْهَيْئَةِ، إِلَّا أَنْ تُعَلِّقَ عَنْهَا الْعَامِلَ فَمَعْنَاهَا مَعْنَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِهَا إِذَا عُلِّقَ عَنْهَا الْعَامِلُ. وَالثَّانِي: الشَّرْطُ. لِقَوْلِ الْعَرَبِ: كَيْفَ تَكُونُ أَكُونُ وَقَوْلُهُ: وَلِكَيْفَ تَصَرُّفَاتٌ إِلَى آخِرِهِ، لَيْسَ كَيْفَ تَحُلُّ مَحَلَّ الْمَصْدَرِ، وَلَا لَفْظُ كَيْفِيَّةٍ هُوَ مَصْدَرٌ، إِنَّمَا ذَلِكَ نِسْبَةٌ إِلَى كَيْفَ. وَقَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْهَا وَمِنْ تَصَرُّفَاتِهَا قَوْلُهُمْ: كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لَهَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ كَيْفَ بِمَعْنَى كَيْفِيَّةٍ وَادِّعَاءِ مَصْدَرِ كَيْفِيَّةٍ. وَأَمَّا كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، فَكَيْفَ لَيْسَتْ بِمَعْنَى كَيْفِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطِيَّةٌ وَهُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي لَهَا. وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ: كَيْفَ شِئْتَ فَكُنْ، كَمَا تَقُولُ: قُمْ مَتَى شِئْتَ، فَمَتَى اسْمُ شَرْطٍ ظَرْفٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ قُمْ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَتَى شِئْتَ فَقُمْ، وَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمُ: اضْرِبْ زَيْدًا إِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، التَّقْدِيرُ: إِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَاضْرِبْهُ، وَحُذِفَ فَاضْرِبْهُ لِدِلَالَةِ اضْرِبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؟ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْضٌ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ كَأَنَّ قَائِلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؟ فَأَجَابَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ. وَالظَّالِمِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ بَلْ كَذَّبُوا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِأَنَّ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مَنْ سَيُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فَيُوَافَى عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: هُوَ تَقْسِيمٌ فِي الْكُفَّارِ الْبَاقِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَاطِنًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ كَذَّبَ عِنَادًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، إِمَّا لِسُرْعَةِ تَكْذِيبِهِ وَكَوْنِهِ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ نَظَرَ فِيهِ فَعَارَضَتْهُ الشُّبُهَاتُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْفَهْمِ مَا

يَدْفَعُهَا. وَفِيهِ تَفْرِيقُ كَلِمَةِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ مُضْطَرِبُونَ وَإِنْ شَمِلَهُمُ التَّكْذِيبُ وَالْكُفْرُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ أَمْ يَقُولُونَ، وَتَعَلُّقُ الْعِلْمَ بِالْمُفْسِدِينَ وَحْدَهُمْ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لَهُمْ. وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ: أَيْ وَإِنْ تَمَادَوْا عَلَى تَكْذِيبِكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ قَدْ أَعْذَرْتَ وَبَلَّغْتَ كَقَوْلِهِ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ «1» وَمَعْنَى لِي عَمَلِي أَيْ: جَزَاءُ عَمَلِي وَلَكُمْ جَزَاءُ عَمَلِكُمْ. وَمَعْنَى عَمَلِي الصَّالِحُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْعِصْيَانِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا آيَةُ مُنَابَذَةٍ لَهُمْ وَمُوَادَعَةٍ، وَضَمَّنَهَا الْوَعِيدَ كقوله: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» السُّورَةَ. وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ اسْتِمَالَتُهُمْ وَتَأْلِيفُ قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ: مُجَاهِدٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَمَدْلُولُهَا اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِأَفْعَالِهِ، وَثَمَرَاتِهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلَمْ تَرْفَعْ آيَةُ السَّيْفِ شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَبَدَأَ فِي الْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ: لِي عَمَلِي لِأَنَّهُ آكَدُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُمْ وَفِي الْبَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَاءَتْ كَالتَّوْكِيدِ وَالتَّتْمِيمِ لِمَا قَبْلَهَا، فَنَاسَبَ أَنْ تَلِيَ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ. وَلِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، إِذْ لَوْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَرَاءَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ لِي عَمَلِي لَمْ تَقَعِ الْجُمْلَةُ فَاصِلَةً، إِذْ كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ وَأَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ الْآيَتَانِ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَرْثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَقْسِيمُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى مَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ، وَالضَّمِيرُ فِي يَسْتَمِعُونَ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وَالْعَوْدِ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ الْعَوْدِ عَلَى اللَّفْظِ فِي الْكَثْرَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ «3» وَالْمَعْنَى: مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إِذَا

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 216. (2) سورة الكافرون: 109/ 1. (3) سورة الأنبياء: 21/ 82.

قَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَعَلِمْتَ الشَّرَائِعَ، ثُمَّ نَفَى جَدْوَى ذَلِكَ الِاسْتِمَاعِ بِقَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَيْ هُمْ، وَإِنِ اسْتَمَعُوا إِلَيْكَ صُمٌّ عَنْ إِدْرَاكِ مَا تُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ لَيْسَ لَهُمْ وَعْيٌ وَلَا قَبُولٌ، وَلَا سِيَّمَا قَدِ انْضَافَ إِلَى الصَّمَمِ انْتِفَاءُ العقل، فحري بِمِنْ عَدَمُ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِدْرَاكٌ لِشَيْءٍ الْبَتَّةَ، بِخِلَافٍ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَصَمُّ عَاقِلًا فَإِنَّهُ بِعَقْلِهِ يَهْتَدِي إِلَى أَشْيَاءَ. وَأَعَادَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ عُمْيٌ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ إلى رؤية الدلائل قد فَقَدُوهُ، هَذَا وَهُمْ مَعَ فَقْدِ الْبَصَرِ قَدْ فَقَدُوا الْبَصِيرَةَ، إِذْ مَنْ كَانَ أَعْمَى فَإِنَّهُ مُهْدِيهِ نُورُ بَصِيرَتِهِ إِلَى أَشْيَاءَ بِالْحَدْسِ، وَهَذَا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ فقدان البصر والبصيرة، وهذه مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي انْتِفَاءِ قَبُولِ مَا يُلْقَى إِلَى هَؤُلَاءِ، إِذْ جَمَعُوا بَيْنَ الصَّمَمِ وَانْتِفَاءِ الْعَقْلِ، وَبَيْنَ الْعَمَى وَفَقْدِ الْبَصِيرَةِ. وَقَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ؟ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وإن لَا يَكْتَرِثَ بِعَدَمِ قَبُولِهِمْ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَاءَ يَنْظُرُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَإِذَا جَاءَ الْفِعْلُ عَلَى لَفْظِهَا فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ آخَرُ عَلَى الْمَعْنَى، وَإِذَا جَاءَ أَوَّلًا عَلَى مَعْنَاهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ بِآخَرَ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يُلْبَسُ حِينَئِذٍ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرَاعِي الْمَعْنَى أَوَّلًا فَتُعِيدَ الضَّمِيرَ عَلَى حَسَبِ مَا تُرِيدُ مِنَ الْمَعْنَى مِنْ تَأْنِيثٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، ثُمَّ تُرَاعِي اللَّفْظَ فَتُعِيدُ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَتَيْنِ: إِعْلَامُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ قَدِ انْتَهَوْا فِي النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ الشَّدِيدِ فِي رُتْبَةِ مَنْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ عِلَاجٌ الْبَتَّةَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَصَمَّ أَحْمَقَ وَأَعْمَى فَاقِدَ الْبَصِيرَةِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا أَنْ يَرَى مَا أَجْرَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ، فَقَدْ أَيِسَ مِنْ هِدَايَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا خفيت على المعني فعاذر ... أن لا تراءى مُقْلَةٌ عَمْيَاءُ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءَ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ شَيْئًا، إِذْ قَدْ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَتَحْذِيرِهِمْ من عقابه، ولكن هم ظَالِمُوا أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَاحْتَمَلَ هَذَا النَّفْيُ لِلظُّلْمِ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَيْ: لَا يَظْلِمُهُمْ شَيْئًا مِنْ مَصَالِحِهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ عَدْلٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِيهِ بِاكْتِسَابِ ذُنُوبِهِمْ كَمَا قَدَّرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي، وَلَكِنَّ النَّاسَ مِنْ تَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ النَّاسِ وَتَخْفِيفِهَا وَالرَّفْعِ.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَفْصٌ: يَحْشُرُهُمْ بِالْيَاءِ رَاجِعًا الضَّمِيرَ غَائِبًا عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، إِذْ تَقَدَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «1» وَلَمَّا ذَكَرَ أُولَئِكَ الْأَشْقِيَاءَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ، وَوَصْفِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَعْنَى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقُبُورِ يَعْنِي: فَقَلِيلٌ لُبْثُهُمْ، وَذَلِكَ لِهَوْلِ مَا يُعَايِنُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ، أَوْ لِطُولِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوُقُوفِهِمْ لِلْحِسَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَوْا أَنَّ طُولَ أَعْمَارِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ الْخُلُودِ كَسَاعَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَوْمَ ظَرْفٌ، وَنَصْبُهُ يَصِحُّ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ. وَيَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَيَصِحُّ نَصْبُهُ بِيَتَعَارَفُونَ، وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ: كَأَنْ، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْيَوْمِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِلْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ حَشْرًا كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَحْشُرُهُمْ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَمْ يُبَيِّنِ الْفِعْلَ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ: مِنْ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ وَهُوَ السُّرْعَةُ انْتَهَى. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ يُسْرِعُونَ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ كَأَنْ، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْيَوْمِ، فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ مَعْرِفَةٌ، وَالْجُمَلُ نَكِرَاتٌ، وَلَا تُنْعَتُ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْجُمَلَ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَسْمَاءُ الزَّمَانِ نَكِرَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي التَّقْدِيرِ تُنْحَلُ إِلَى مَعْرِفَةٍ، فَإِنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا يَتَعَرَّفُ وَإِنْ كَانَتْ تُنْحَلُ إِلَى نَكِرَةٍ كَانَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا نَكِرَةً، تَقُولُ: مَرَرْتُ فِي يَوْمِ قَدِمَ زَيْدٌ الْمَاضِي، فَتَصِفُ يَوْمَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَجِئْتُ لَيْلَةَ قَدِمَ زَيْدٌ الْمُبَارَكَةُ عَلَيْنَا. وَأَيْضًا فكأن لم يلبثوا إلا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْيَوْمِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِ الْمَحْشُورِينَ لَا مِنْ وَصْفِ يَوْمِ حَشْرِهِمْ. وَقَدْ تَكَلَّفَ بعضهم تقدير محذوف يربط فَقَدَّرَهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قَبْلَهُ، فَحُذِفَ قَبْلَهُ أَيْ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَحَذْفُ مِثْلِ هَذَا الرَّابِطِ لَا يَجُوزُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ مَفْعُولِ نَحْشُرُهُمْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ آخِرًا، وَكَذَا أَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا وَيَتَعَارَفُونَ كَيْفَ مَوْقِعُهُمَا؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْأُولَى فَحَالٌ مِنْهُمْ أَيْ: نَحْشُرُهُمْ مُشَبَّهِينَ بِمَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا سَاعَةً. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِمَّا أَنْ تتعلق

_ (1) سورة يونس: 10/ 44.

بِالظَّرْفِ يَعْنِي: فَتَكُونُ حَالًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِقَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً، لِأَنَّ التَّعَارُفَ يَبْقَى مَعَ طُولِ الْعَهْدِ وَيَنْقَلِبُ تَنَاكُرًا انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَتَعَارَفُونَ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَلْبَثُوا وَهُوَ الْعَامِلُ، كَأَنَّهُ قَالَ: مُتَعَارِفِينَ، الْمَعْنَى: اجْتَمَعُوا مُتَعَارِفِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي نَحْشُرُهُمْ وَهُوَ الْعَامِلُ انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِلْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ حَشْرًا كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، فَقَدْ حَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: وَقِيلَ هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ حَشْرًا كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قَبْلَهُ انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَذْفَ مِثْلِ هَذَا الرَّابِطِ لَا يَجُوزُ. وَجَوَّزُوا فِي يَتَعَارَفُونَ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْخِلَافِ في ذي الحال والعامل فِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَقَعُ التَّعَارُفُ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَعْرِفَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، وَهُوَ تَعَارُفُ تَوْبِيخٍ وَافْتِضَاحٍ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْتَ أَضْلَلْتَنِي وَأَغْوَيْتَنِي، وَلَيْسَ تَعَارُفَ شَفَقَةٍ وَعَطْفٍ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ الْمَعْرِفَةُ إِذَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ «1» . وَقِيلَ: يُعَرِّفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَأِ وَالْكُفْرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَارَفُ تَعَاطُفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرُونَ لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: الْقِيَامَةُ مُوَاطِنُ، فَفِي مَوْطِنٍ يَتَعَارَفُونَ وَفِي مَوْطِنٍ لَا يَتَعَارَفُونَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهِ جملة مستأنفة، أخبر تعالى بِخُسْرَانِ الْمُكَذِّبِينَ بِلِقَائِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَخْسَرَهُمْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَابْتَدَأَ بِهِ قَدْ خَسِرَ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ أَيْ: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ إِنَّهُ إِخْبَارُ الْمَحْشُورِينَ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لِأَنْفُسِهِمْ انْتَهَى. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ كَقَوْلِ غَيْرِهِ: نَحْشُرُهُمْ قَائِلِينَ قَدْ خَسِرَ، فَاحْتَمَلَ هَذَا الْمُقَدَّرُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَيَتَعَارَفُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِنَحْشُرُهُمْ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْخُسْرَانِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِلِقَاءِ اللَّهِ. وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمَحْشُورِينَ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ قَدْ خَسِرَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِخُسْرَانِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَبِانْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ أَيْ: كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَانْتَفَتْ هِدَايَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ كالتوكيل بِجُمْلَةِ الصِّلَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِلِقَاءِ اللَّهِ هُوَ غَيْرُ مُهْتَدٍ. وَقِيلَ: وَمَا

_ (1) سورة المعارج: 70/ 10.

كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى غَايَةِ مَصَالِحِ التِّجَارَةِ. وَقِيلَ: لِلْإِيمَانِ. وَقِيلَ: فِي عِلْمِ اللَّهِ، بَلْ هُمْ مِمَّنْ حَتَّمَ ضَلَالَهُمْ وَقَضَى بِهِ. وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ: إِمَّا هِيَ إِنِ الشَّرْطِيَّةُ زِيدَ عَلَيْهَا مَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلِأَجْلِهَا جَازَ دُخُولُ النُّونِ الثَّقِيلَةِ. وَلَوْ كَانَتْ إِنْ وَحْدَهَا لَمْ يَجُزِ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ دُخُولَ النُّونِ لِلتَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ زِيَادَةِ مَا بَعْدَ إِنْ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: أَجَازَ سِيبَوَيْهِ الْإِتْيَانَ بِمَا، وَأَنْ لَا يُؤْتَى بِهَا، وَالْإِتْيَانَ بِالنُّونِ مَعَ مَا وَأَنْ لَا يُؤْتَى بِهَا، وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ يَعْنِي: مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعًا مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا قَتْلًا وَأَسْرًا وَنَهْبًا لِلْأَمْوَالِ وَسَبْيًا لِلذَّرَارِي، وَضَرْبَ جِزْيَةٍ، وَتَشْتِيتَ شَمْلٍ بِالْجَلَاءِ إِلَى غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ الْعَذَابُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ، وَكَذَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْوَعِيدُ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيْ: إِنْ أَرَيْنَاكَ عُقُوبَتَهُمْ أَوْ لَمْ نُرِكَهَا فَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ رَاجِعُونَ إِلَيْنَا إِلَى الْحِسَابِ وَالْعَذَابِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ اللَّهُ شَهِيدٌ مِنْ أَوَّلِ تَكْلِيفِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ. فَثُمَّ هَاهُنَا لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، لَا لِتَرْتِيبِ الْقَصَصِ فِي أَنْفُسِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ جَوَابُ نَتَوَفَّيَنَّكَ، وَجَوَابُ نُرِيَنَّكَ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَذَاكَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ أَنْ نُرِيَكَهُ، فَنَحْنُ نُرِيكَ فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْكَلَامَ شَرْطَيْنِ لَهُمَا جَوَابَانِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ جَوَابٍ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ صَالِحٌ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَذَاكَ هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ جَوَابُ شَرْطٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِجُمْلَةٍ يَتَّضِحُ مِنْهَا جَوَابَ الشَّرْطِ، إِذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ فَذَاكَ الْجُزْءُ الَّذِي حُذِفَ الْمُتَحَصِّلُ بِهِ فَائِدَةُ الْإِسْنَادِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: ثَمَّ اللَّهُ بِفَتْحِ الثَّاءِ أَيْ: هُنَالِكَ. وَمَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ مُقْتَضَاهَا وَنَتِيجَتُهَا وَهُوَ الْعِقَابُ، كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ اللَّهُ مُعَاقِبُهُمْ، وَإِلَّا فَهُوَ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مُؤَدٍّ شَهَادَتَهُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَنْطِقَ جُلُودُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: لَمَّا بَيَّنَ

حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِهِ بَيَّنَ حَالَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، تَسْلِيَةً لَهُ وَتَطْمِينًا لِقَلْبِهِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَهْمَلَ أُمَّةً، بَلْ بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» وَقَوْلُهُ: فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ حَالَةٍ مَاضِيَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَيُنَبِّئُهُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ كَذَّبُوهُ، فَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ: بَيْنَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ، فَأَنْجَى الرَّسُولَ وَعُذِّبَ الْمُكَذِّبُونَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ أَيْ: فَإِذَا جَاءَهُمْ رَسُولُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: بَيْنَ الْأُمَّةِ بِالْعَدْلِ، فَصَارَ قَوْمٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَوْمٌ إِلَى النَّارِ، فَهَذَا هُوَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «2» . وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: الضَّمِيرُ فِي وَيَقُولُونَ، عَائِدٌ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ مُنْكِرِي الْحَشْرِ، اسْتَعْجَلُوا بِمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَيْ: لَسْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا وَعَدْتُمْ بِهِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ هَذَا يَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا حكاية حال ماضية. وأن مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ وَكَذَّبُوهُ قُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ وَعَدَ أُمَّتَهُ بِالْعَذَابِ في الدنيا وإن هِيَ كَذَّبَتْ. قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ: لَمَّا الْتَمَسُوا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ أَوْ تَعْجِيلَ السَّاعَةِ، أَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا كُنْتُ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فَكَيْفَ أَمْلِكُهُ لِغَيْرِي؟ أَوْ كَيْفَ أَطَّلِعُ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ اللَّهُ؟ وَلَكِنْ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فِي الْأَعْرَافِ «3» . وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ: آجَالُهُمْ عَلَى الْجَمْعِ. وَإِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْلِكَهُ وَأَقْدِرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ كَائِنٌ، فَكَيْفَ أَمْلِكُ لَكُمُ الضَّرَرَ وَجَلْبَ الْعَذَابِ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أَيْ: إِنَّ عَذَابَكُمْ لَهُ أَجَلٌ مَضْرُوبٌ عِنْدَ الله.

_ (1) سورة فاطر: 35/ 24. (2) سورة الزمر: 39/ 69. (3) سورة الأعراف: 7/ 34.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ «1» وَقَرَّرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْعَرَبَ تُضَمِّنُ أَرَأَيْتَ مَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَأَنَّهَا تَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِي أَكْثَرُ مَا يَكُونُ جُمْلَةَ اسْتِفْهَامٍ ينعقد منها مع قَبْلَهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ كَقَوْلِ الْعَرَبُ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ: الْمَعْنَى: أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ مَا صَنَعَ. وَقَبْلَ دُخُولِ أَرَأَيْتَ كَانَ الْكَلَامُ: زَيْدٌ مَا صَنَعَ؟ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَرَأَيْتُمْ هُنَا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لَهَا مَحْذُوفٌ، وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ تَنَازَعَ. أَرَأَيْتَ وَإِنْ أَتَاكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: عَذَابُهُ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي إِذْ هُوَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ السَّمَاعُ أَكْثَرَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ. فَلَمَّا أُعْمِلِ الثَّانِي حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُضْمَرْ، لِأَنَّ إِضْمَارَهُ مُخْتَصٌّ بِالشِّعْرِ، أَوْ قَلِيلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى اخْتِلَافِ النَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرُونِي عَنْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ أَتَاكُمْ أَيُّ شَيْءٍ تَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ يستعجله عاقل، إذا الْعَذَابُ كُلُّهُ مُرُّ الْمَذَاقِ مُوجِبٌ لِنِفَارِ الطَّبْعِ مِنْهُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ بِهِمْ، وَالتَّنْبِيهِ لَهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْجِلَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ وَالتَّهْوِيلِ لِلْعَذَابِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شَدِيدٍ تَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ، أَيْ: مَا أَشَدَّ وَأَهْوَلَ مَا تَسْتَعْجِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الرُّؤْيَةُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ الَّتِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهَا التَّقْرِيرُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرَأَيْتُمْ مَا يستعجل مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَوْفِيِّ: أَنَّ أَرَأَيْتُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَوْضُوعِهَا الْأَوَّلِ لَمْ تُضَمَّنْ مَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَأَنَّهَا بِمَعْنَى أَعَلِمْتُمْ، وَأَنَّ جملة الاستفهام سدت مسد الْمَفْعُولَيْنِ، وَأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحَوْفِيُّ مَا يُفِيدُ جَوَابَ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ يَتَعَلَّقُ الِاسْتِفْهَامُ؟ وَأَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ (قُلْتُ) : تَعَلَّقَ بِأَرَأَيْتُمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَخْبِرُونِي مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ: وَهُوَ تَنْدَمُوا عَلَى الِاسْتِعْجَالِ وَتَعْرِفُوا الْخَطَأَ فِيهِ انْتَهَى. وَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ سَائِغٍ، لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّرُ الْجَوَابَ إِلَّا مِمَّا تَقَدَّمَهُ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا تَقُولُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 46. [.....]

فَالتَّقْدِيرُ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ. وَكَذَلِكَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ التَّقْدِيرُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَهْتَدِ. فَالَّذِي يُسَوِّغُ أَنْ يُقَدَّرَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ فَأَخْبِرُونِي مَاذَا يَسْتَعْجِلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعْتِرَاضًا وَالْمَعْنَى: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ آمنتم بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ؟ انْتَهَى. أَمَّا تَجْوِيزُهُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ اسْتِفْهَامًا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَاءِ، تَقُولُ: إِنْ زَارَنَا فُلَانٌ فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ، وَإِنْ زَارَنَا فُلَانٌ فَأَيُّ يَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا إِنْ كَانَ فِي ضَرُورَةٍ، وَالْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ: إِنْ أَتَيْتُكَ مَاذَا تُطْعِمُنِي؟ هُوَ مِنْ تَمْثِيلِهِ، لَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ تَتَعَلَّقُ الْجُمْلَةُ بِأَرَأَيْتُمْ، إِنْ عُنِيَ بِالْجُمْلَةِ مَاذَا يَسْتَعْجِلُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ، وَإِنْ عُنِيَ بِالْجُمْلَةِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ فَقَدْ فَسَّرَ هُوَ أَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَأَخْبِرْنِي تَطْلُبُ مُتَعَلِّقًا مَفْعُولًا، وَلَا تَقَعُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مَوْقِعَ مَفْعُولِ أَخْبِرْنِي. وَأَمَّا تَجْوِيزُهُ أَنْ يَكُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ، وَمَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعْتِرَاضًا فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ لَا تَقَعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِلَّا وَمَعَهَا فَاءُ الْجَوَابِ. وَأَيْضًا فَثُمَّ هُنَا وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ، تَعْطِفُ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَقَعَ جَوَابَ شَرْطٍ. وَأَيْضًا فَأَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي تَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولٍ، وَلَا تَقَعُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مَوْقِعَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: بَياتاً «1» فِي الْأَعْرَافِ مَدْلُولًا وَإِعْرَابًا. وَالْمَعْنَى إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ وَأَنْتُمْ سَاهُونَ غَافِلُونَ، إِمَّا بِنَوْمٍ وَإِمَّا بِاشْتِغَالٍ بِالْمَعَاشِ وَالْكَسْبِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: بَغْتَةً «2» لِأَنَّ الْعَذَابَ إِذَا فَاجَأَ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ كَانَ أَشَدَّ وَأَصْعَبَ، بِخِلَافِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ وتهيىء لِحُلُولِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. وَيَجُوزُ فِي مَاذَا أَنْ يَكُونَ مَا مُبْتَدَأً وَذَا خَبَرَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَسْتَعْجِلُ صِلَتُهُ، وَحَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ التَّقْدِيرُ أَيُّ: شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ. وَيَجُوزُ فِي مَاذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ مَفْعُولًا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ. وَضَعَّفَهُ أَبُو عَلِيٍّ لِخُلُوِّ الْجُمْلَةِ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُ عَلَى الْعَذَابِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الرَّبْطُ لِجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَفْعُولِ أَرَأَيْتُمُ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأٌ فِي الْأَصْلِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 4. (2) سورة الأنعام: 6/ 31- 44- 47.

تَعَالَى. وَالْمُجْرِمُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ. وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِتَرْكِ الِاسْتِعْجَالِ وَهُوَ الْإِجْرَامُ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُجْرِمِ أَنْ يَخَافَ التَّعْذِيبَ عَلَى إِجْرَامِهِ، وَيَهْلَكَ فَزَعًا مِنْ مَجِيئِهِ وَإِنْ أَبْطَأَ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُهُ؟ وَثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ وَتَقَدَّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي: أَفَلَمْ يَسِيرُوا «1» وَفِي أَوَلَمْ يَسِيرُوا «2» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَخِلَافُ الزَّمَخْشَرِيِّ لِلْجَمَاعَةِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً عُطِفَتْ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: أَثُمَّ بِضَمِّ الثَّاءِ، أَنَّ مَعْنَاهُ أَهُنَالِكَ قَالَ: وَلَيْسَتْ ثُمَّ هَذِهِ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْعَطْفِ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّ ثُمَّ هُنَا لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ دَعْوَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَهُنَالِكَ، فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لَا أَنَّ ثُمَّ الْمَضْمُومَةَ الثَّاءِ مَعْنَاهَا مَعْنَى هُنَالِكَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: أَثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ، وَهَذَا يُنَاسِبُهُ تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ أَهُنَالِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آلْآنَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بِالْمَدِّ، وَكَذَا آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالْأَعْرَجُ: بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِغَيْرِ مَدٍّ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ: قِيلَ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا بَعْدَ وُقُوعِ الْعَذَابِ آلْآنَ آمَنْتُمْ بِهِ، فَالنَّاصِبُ لِقَوْلِهِ: آلْآنَ هُوَ آمَنْتُمْ بِهِ، وَهُوَ مَحْذُوفٌ. قِيلَ: تَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: اللَّهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عِيسَى الْبَصْرِيُّ وَطَلْحَةُ: آمَنْتُمْ بِهِ الْآنَ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، بَلْ عَلَى الْخَبَرِ، فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِ مِنْ آمَنْتُمْ بِهِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا فِي الْعَامَّةِ فَنَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ آمَنْتُمْ بِهِ الْمَذْكُورُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَدْ أَخَذَ صَدْرَ الْكَلَامِ، فَيَمْنَعُ مَا قَبْلُهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا بَعْدَهُ انْتَهَى. وَقَدْ كُنْتُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يَعْنِي تُكَذِّبُونَ، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَكُمْ كَانَ عَلَى جِهَةِ التَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَسْتَعْجِلُونَ مُكَذِّبِينَ بِهِ. ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ: أَيْ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ هَذَا الْكَلَامَ. وَالظُّلْمُ ظُلْمُ الْكُفْرِ لَا ظُلْمُ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْلُدُ فِيهَا. وَثُمَّ قِيلَ عَطْفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ قَبْلَ آلْآنَ. وَمَنْ قَرَأَ بِوَصْلِ أَلَّفِ الْآنَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَمَّا يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تُجْزَوْنَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَوْضِيحٌ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ عَلَى كَسْبِ العبد.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 109. وسورة الحج: 22/ 46. (2) سورة الروم: 30/ 9.

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ: أَيْ يَسْتَخْبِرُونَكَ. وَأَحَقٌّ هُوَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ: عَلَى الشَّرْعِ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَلَى الْوَعِيدِ. وَقِيلَ: عَلَى أَمْرِ السَّاعَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِيَقُولُونَ أَحَقٌّ هُوَ فَجَعَلَ يَسْتَنْبِئُونَكَ تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ يَسْتَخْبِرُونَكَ، وَهِيَ عَلَى هَذَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْكَافُ، وَالْآخَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرِ فَعَلَى مَا قَالَ: يَكُونُ يَسْتَنْبِئُونَكَ مُعَلَّقَةً. وَأَصْلُ اسْتَنْبَأَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِعَنْ، تَقُولُ: اسْتَنْبَأْتُ زَيْدًا عَنْ عَمْرٍو أَيْ طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يُنْبِئَنِي عَنْ عَمْرٍو، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى يَسْتَعْلِمُونَكَ. قَالَ: فَهِيَ عَلَى هَذَا تَحْتَاجُ إِلَى مَفَاعِيلَ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا الْكَافُ، وَالِابْتِدَاءُ، وَالْخَبَرُ سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ اسْتَعْلَمَ لَا يُحْفَظُ كَوْنُهَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى مَفَاعِيلَ ثَلَاثَةٍ، لَا يُحْفَظُ اسْتَعْلَمْتُ زَيْدًا عَمْرًا قَائِمًا فَتَكُونُ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا بِمَعْنَى يَسْتَعْلِمُونَكَ أَنْ تَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ اسْتَعْلَمَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَارْتَفَعَ هُوَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَحَقٌّ خَبَرُهُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَقٌّ مُبْتَدَأً وَهُوَ فَاعِلٌ بِهِ سُدَّ مَسَدُّ الْخَبَرِ، وَحَقٌّ لَيْسَ اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ لِأَنَّهُ بِمَعْنًى ثَابِتٍ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْإِنْكَارِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الْحَقُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ، أَوْ أَهْوَ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ الْحَقَّ؟ انْتَهَى. وَأَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ مُجِيبًا لَهُمْ: قُلْ إِي وَرَبِّي، أَيْ نَعَمْ وَرَبِّي. وَإِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ خَاصَّةً، كَمَا تُسْتَعْمَلُ هَلْ بِمَعْنَى قَدْ فِيهِ خَاصَّةً. قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ فِي التَّصْدِيقِ إِي و، فَيَصِلُونَهُ بِوَاوِ الْقَسَمِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ وَحْدَهُ انْتَهَى. وَلَا حُجَّةَ فِيمَا سَمِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحُجِّيَّةِ فِي كَلَامِهِ لِفَسَادِ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذْ ذَاكَ وَقَبْلَهُ بِأَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لَفْظَةٌ تَتَقَدَّمُ الْقَسَمَ، وَهِيَ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَيَجِيءُ بَعْدَهَا حَرْفُ الْقَسَمِ وَقَدْ لَا يَجِيءُ، تَقُولُ: إِي رَبِّي إِي وَرَبِّي انْتَهَى. وَقَدْ كَانَ يُكْتَفَى فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: إِي وَرَبِّي، إِلَّا أَنَّهُ أوكد بِإِظْهَارِ الْجُمْلَةِ الَّتِي كَانَتْ تُضْمَرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِي وَرَبِّي، مَسُوقَةً مُؤَكَّدَةً بِإِنَّ. وَاللَّامِ مُبَالَغَةً فِي التَّوْكِيدِ فِي الْجَوَابِ، وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ أَحَقٌّ هُوَ السُّؤَالَ عَنِ الْعَذَابِ، وَكَانَ سُؤَالًا عَنِ الْعَذَابِ اللَّاحِقِ بِهِمْ لَا عَنْ مُطْلَقِ عَذَابٍ يَقَعُ بِمَنْ يَقَعُ. قِيلَ: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ فَائِتِينَ الْعَذَابَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ، بَلْ هُوَ لَاحِقٌ بِكُمْ. وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ

أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجَوَابِ قَبْلَهَا. وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا، مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ لَا عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ. وَأَعْجَزَ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا قَالَ: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا، لَكِنَّهُ كَثُرَ فِيهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ حَتَّى قَالَتِ الْعَرَبُ: أَعْجَزَ فُلَانٌ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَا أَنْتُمْ مِمَّنْ يُعْجِزُ مَنْ يُعَذِّبُكُمْ. وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ وَأَقْسَمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ، ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ فِي الْآخِرَةِ. وَظَلَمَتْ صِفَةٌ لِنَفْسٍ، وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، وَافْتَدَى يَأْتِي مُطَاوِعًا لَفَدَى، فَلَا يَتَعَدَّى تَقُولُ: فَدَيْتُهُ فَافْتَدَى، وَبِمَعْنَى فَدَى فَيَتَعَدَّى، وَهُنَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ: مَا كَانَ لَهَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَزَائِنِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ، وَأَسَرُّوا مِنَ الْأَضْدَادِ تَأْتِي بِمَعْنَى أَظْهَرَ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ ... أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَظْهَرَا وَقَالَ آخَرُ: فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى ... بِرَدِّ جِمَالِ غَاضِرَةَ الْمُنَادِي وَتَأْتِي بِمَعْنَى أَخْفَى وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِيهَا كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ «1» وَيَحْتَمِلُ هُنَا الْوَجْهَيْنِ. أَمَّا الْإِظْهَارُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَوْمِ تَصَبُّرٍ وَلَا تَجَلُّدٍ وَلَا يَقْدِرُ فِيهِ الْكَافِرُ عَلَى كِتْمَانِ مَا نَالَهُ، وَلِأَنَّ حَالَةَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ يَتَحَسَّرُ الْإِنْسَانُ عَلَى اقْتِرَافِهِ مَا أَوْجَبَهُ، وَيُظْهِرُ النَّدَامَةَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْفَوْزِ وَمِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ قَالُوا: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا. وَأَمَّا إِخْفَاءُ النَّدَامَةِ فَقِيلَ: أَخْفَى رُؤَسَاؤُهُمُ النَّدَامَةَ مِنْ سَفَلَتِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ وَخَوْفًا مِنْ تَوْبِيخِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ مَنْ عَايَنَ الْعَذَابَ هُوَ مَشْغُولٌ بِمَا يُقَاسِيهِ مِنْهُ فَكَيْفَ لَهُ فِكْرٌ فِي الْحَيَاءِ وَفِي التَّوْبِيخِ الْوَارِدِ مِنَ السَّفَلَةِ. وَأَيْضًا وَأَسَرُّوا عَائِدٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ عَامٌّ فِي الرُّؤَسَاءِ وَالسَّفَلَةِ. وَقِيلَ: إِخْفَاءُ النَّدَامَةِ هُوَ مِنْ كَوْنِهِمْ بُهِتُوا لِرُؤْيَتِهِمْ مَا لَمْ يَحْسَبُوهُ وَلَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ، وَمُعَايَنَتُهُمْ مَا أَوْهَى قُوَاهُمْ فَلَمْ يُطِيقُوا عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً وَلَا صُرَاخًا. وَلَا مَا يَفْعَلُهُ الْجَازِعُ سِوَى إِسْرَارِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا يَعْرِضُ لِمَنْ يُقَدَّمُ لِلصَّلْبِ لَا يَكَادُ يَنْبِسُ بِكَلِمَةٍ، وَيَبْقَى مَبْهُوتًا جَامِدًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ، أَخْلَصُوا لِلَّهِ فِي تِلْكَ النَّدَامَةِ، أَوْ بَدَتْ بِالنَّدَامَةِ أَسِرَّةُ وُجُوهِهِمْ أَيْ: تَكَاسِيرُ جِبَاهِهِمْ فَفِيهِ بُعْدٌ عن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 77.

سِيَاقِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، جُمْلَةُ أَخْبَارٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا فِي حَيِّزِ لَمَّا، وَأَنَّ الضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمْ عَائِدٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيْنَ الظَّالِمِينَ وَالْمَظْلُومِينَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الظُّلْمِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقِيلَ: عَلَى الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: قِيلَ: تَعَلُّقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فَرَضَ أَنَّ النَّفْسَ الظَّالِمَةَ لَوْ كَانَ لَهَا مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَهِيَ لَا شَيْءَ لَهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ بِأَسْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، إِذْ لَهُ الْمُلْكُ وَالْمِلْكُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا سَأَلُوا عَمَّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَحَقٌّ هُوَ؟ وَأَجِيبُوا بِأَنَّهُ حَقٌّ لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا كَافِيًا لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِيمَانِ، كَمَا كَانَ جَوَابًا لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ سأل الرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قوله عليه السلام له: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» فَقَنِعَ مِنْهُ بِإِخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ وَالصِّدْقَ ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ: لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. انْتَقَلَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ إِلَى ذِكْرِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى حُجَّتِهِ. وَتَقْرِيرِهِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ يَتَفَرَّعَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ ملكه وملكه، وعبر عن هَذَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقْصَى الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً «2» فَاكْتَفَى هُنَا عَنْ ذِكْرِهَا. وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا فِي الْعَالَمِ مُلْكَهُ، وَمِلْكَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ، مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَبِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْمُمْكِنَاتِ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَادِرًا عَلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ بِالدَّلَائِلِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ، فَبَطَلَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّعْجِيزُ. وَبِتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ ما في السموات وَالْأَرْضِ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ الْجَزْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ. أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَأَلَا كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ تَنْبِيهًا لِلْغَافِلِ، إِذْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ مِنْ نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ بَعْضُ تَصَرُّفٍ فِيهَا وَاسْتِخْلَافٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي: لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ. فَيَجِبُ أن يكون

_ (1) سورة يونس: 10/ 6. (2) سورة يونس: 10/ 5.

قَادِرًا عَلَى إِحْيَائِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَتَرَوْنَ مَا وَعَدَ بِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: يَرْجِعُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ: قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقٌّ هُوَ؟ فَالنَّاسُ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر الْأَدِلَّةَ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ، ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالطَّرِيقَ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمُتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ هُوَ الْقُرْآنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْفَوَائِدِ مِنْ مَوْعِظَةٍ وَتَنْبِيهٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، هُوَ شِفَاءٌ أَيْ: دَوَاءٌ لِمَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَدُعَاءٌ إِلَى الْحَقِّ وَرَحْمَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْكُمُ انْتَهَى. وَمِنْ رَبِّكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِجَاءَتْكُمْ، فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْ: مِنْ مَوَاعِظِ رَبِّكُمْ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَعَلَهُ مَوْعِظَةً بِحَسَبِ النَّاسِ أَجْمَعَ، وَجَعَلَهُ هُدًى وَرَحْمَةً بِحَسَبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا تَقْسِيمٌ صَحِيحُ المعنى إذا تؤوّل بِأَنْ وَجَّهَهُ انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ هُنَا كَلَامًا كَثِيرًا مَمْزُوجًا بِمَا يُسَمُّونَهُ حِكْمَةً، نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْهَمُ ذَلِكَ الَّذِي قَرَّرَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَطَوَّلَ فِي ذَلِكَ، وَضَرَبَ أَمْثِلَةً حِسِّيَّةً يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ تَفْسِيرِهِ، ثُمَّ قَالَ آخِرَ كَلَامِهِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَالشِّفَاءُ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَهُوَ الطَّرِيقَةُ، وَالْهُدَى إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِ نُورِ الْحَقِّ فِي قُلُوبِ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ، وَالرَّحْمَةُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا بَالِغَةً فِي الْكَمَالِ، وَالْإِشْرَاقِ إِلَى حَيْثُ تَصِيرُ تُكْمِلُ النَّاقِصِينَ وَهِيَ النُّبُوَّةُ. فَهَذِهِ دَرَجَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَمَرَاتِبُ بُرْهَانِيَّةٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ تَأَخُّرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَلَا تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَقَالَ: «بِكِتَابِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ» فَضْلُهُ الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ مَا وَعَدَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُمْكِنْ خِلَافُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وقتادة، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ: فَضْلُ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ

الْقُرْآنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَكْسَ هَذَا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: الْفَضْلُ الْقُرْآنُ، وَالرَّحْمَةُ أَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ: الْفَضْلُ الْعِلْمُ وَالرَّحْمَةُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْفَضْلُ الْإِسْلَامُ، وَالرَّحْمَةُ تَزْيِينُهُ فِي الْقُلُوبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَضْلُ وَالرَّحْمَةُ الْقُرْآنُ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: الْفَضْلُ الْقُرْآنُ، وَالرَّحْمَةُ السُّنَّةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْفَضْلَ الْإِسْلَامُ، وَالرَّحْمَةَ السَّتْرُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: فَضْلُ اللَّهِ كَشْفُ الْغِطَاءِ، وَرَحْمَتُهُ الرُّؤْيَةُ وَاللِّقَاءُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ فَضْلٍ: الْفَضْلُ الْإِيمَانُ، وَالرَّحْمَةُ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ التَّوْفِيقُ، وَالرَّحْمَةُ الْعِصْمَةُ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ نِعَمُهُ الظَّاهِرَةُ، وَالرَّحْمَةُ نِعَمُهُ الْبَاطِنَةُ. وَقَالَ الصَّادِقُ: الْفَضْلُ الْمَغْفِرَةُ، وَالرَّحْمَةُ التَّوْفِيقُ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْفَضْلُ الْجِنَانُ، وَرَحْمَتُهُ النَّجَاةُ مِنَ النِّيرَانِ. وَهَذِهِ تَخْصِيصَاتٌ تَحْتَاجُ إِلَى دَلَائِلَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهَا تَمْثِيلَاتٌ، لِأَنَّ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ أُرِيدَ بِهِمَا تَعْيِينُ مَا ذُكِرَ وَحَصْرُهُمَا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْفَضْلَ هُوَ هِدَايَةُ اللَّهِ إِلَى دِينِهِ وَالتَّوْفِيقُ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَالرَّحْمَةَ هِيَ عَفْوُهُ وَسُكْنَى جَنَّتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا جَزَاءً عَلَى اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَقَعِ الْفَرَحُ مِنْكُمْ، لَا بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمَا يُجْمَعُ مِنْ حُطَامِهَا، فَالْمُؤْمِنُونَ يُقَالُ لَهُمْ: فَلْيَفْرَحُوا وَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِعِلَّةِ الْفَرَحِ وَسَبَبِهِ، وَمُخْلِصُونَ لِفَضْلِ اللَّهِ مُنْتَظِرُونَ لِرَحْمَتِهِ، وَالْكَافِرُونَ يُقَالُ لَهُمْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا عَلَى مَعْنَى أَنْ لَوِ اتَّفَقَ لَكُمْ أَوْ لَوْ سَعِدْتُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا جُمْلَتَانِ، وَحُذِفَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ لِيَفْرَحُوا، ثُمَّ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ، وَإِيجَابُ اخْتِصَاصِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ بِالْفَرَحِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنْ فَوَائِدِ الدُّنْيَا، فَحُذِفَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ لِدِلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَالْفَاءُ دَاخِلَةٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَلْيَخُصُّوهُمَا بِالْفَرَحِ، فَإِنَّهُ لَا مَفْرُوحَ بِهِ أَحَقُّ مِنْهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَعْتَنُوا بِذَلِكَ، فَلْيَفْرَحُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ أَيْ: فَبِمَجِيئِهِمَا فَلْيَفْرَحُوا انْتَهَى. أَمَّا إِضْمَارُ فَلْيَعْنَتُوا فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِقَوْلِهِ: قَدْ جَاءَتْكُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ ذَلِكَ مَحْذُوفًا بَعْدَ قُلْ، ولا يكون متعلقا بجاءتكم الْأُولَى لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِقُلْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ: قَدْ جَاءَتْكُمُ الْمَوْعِظَةُ بِفَضْلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْفَاءُ الْأُولَى

زَائِدَةٌ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ بَدَلًا مما قَبْلَهُ، وَأُشِيرَ بِهِ إِلَى الِاثْنَيْنِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: كُرِّرَتِ الْفَاءُ الثَّانِيَةُ لِلتَّوْكِيدِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْأُولَى زَائِدَةً، وَيَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ فَبِذَلِكَ لِيَفْرَحُوا، وَفِي الْقَوْلِ قَبْلَهُ يَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ بِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْفَرَحِ هُنَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا الْفَرَحُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، وَالْمَنْهِيُّ هُنَاكَ الْفَرَحُ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ لِرِئَاسَةِ الدُّنْيَا وَإِرَادَةِ الْعُلُوِّ بِهَا والفساد والأشر، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا «2» وَقَبْلَهُ: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ «3» وَقَوْلُهُ: لَفَرِحٌ فَخُورٌ «4» جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ لِفَرَحِهِ بِإِذَاقَةِ النَّعْمَاءِ بَعْدَ الضَّرَّاءِ، وَيَأْسِهِ وَكُفْرَانِهِ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ، وَهَذِهِ صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ الْفَرَحُ كَانَ مَذْمُومًا، وَإِذَا قُيِّدَ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا كَمَا قَالَ: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «5» لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، إِذْ جَاءَ مُقَيَّدًا فِي الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «6» وَإِنَّمَا يُمْدَحُ الْفَرَحَ وَيُذَمُّ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ، فَإِذَا كَانَ بِنَيْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ كَانَ مَحْمُودًا، وَإِذَا كَانَ بِنَيْلِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا كَانَ مَذْمُومًا. وَقَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأُبَيٌّ، وَأَنَسٌ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَعَمْرُو بْنُ قَائِدٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ: فَلْتَفْرَحُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَقَالَ وَقَدْ جَاءَ عَنْ يَعْقُوبَ كَذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْحَسَنُ: عَلَى مَا زَعَمَ هَارُونُ. وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَفْرَحُوا وَتَجْمَعُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْمُخَاطَبَةِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَثِيرَةٍ، وَعَنْ أَكْثَرِهِمْ خِلَافٌ انْتَهَى. وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ عَلَى أَمْرِ الْغَائِبِ. وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ قَرَأَ فَلْتَفْرَحُوا بِالتَّاءِ لَيْسَ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، إِنَّمَا قِرَاءَتُهُ فِي مَشْهُورِ السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ أَمْرًا لِلْغَائِبِ، لَكِنَّهُ قَرَأَ تَجْمَعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: فَبِذَلِكَ فَافْرَحُوا، وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْكَثِيرَةُ الشَّهِيرَةُ فِي أَمْرِ الْمُخَاطَبِ. وَأَمَّا فَلْيَفْرَحُوا بِالْيَاءِ فَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ. وَفِي الحديث: «لتأخذوا

_ (1) سورة القصص: 28/ 76. (2) سورة القصص: 28/ 77. (3) سورة القصص: 28/ 76. (4) سورة هود: 11/ 10. (5) سورة آل عمران: 3/ 170. (6) سورة الأنعام: 6/ 44.

مَصَافَّكُمْ» وَقَرَأَ أَبُو التَّيَّاحِ وَالْحَسَنُ: فَلْيَفْرَحُوا بِكَسْرِ اللَّامِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أُشِيرَ بِهِ إِلَى وَاحِدٍ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ مُوَحَّدًا فِي قَوْلِهِ: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، عَلَى أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ عُبِّرَ عَنْهُ بِاسْمَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَلِذَلِكَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَجْمَعُونَ يَعْنِي مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا. قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذكر تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «1» وَكَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كِتَابَ اللَّهِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، بَيَّنَ فَسَادَ شَرَائِعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ فِي ذَلِكَ إِلَى وَحْيٍ. وَأَرَأَيْتُمْ هُنَا بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي. وَجَوَّزُوا فِي مَا أَنْزَلَ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَفْعُولًا أَوَّلَ لِأَرَأَيْتُمْ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي قَوْلُهُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ، وَالْعَائِدُ عَلَى المبتدأ من الخير مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِيهِ، وَكُرِّرَ قُلْ قَبْلَ الْخَبَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَإِنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً مَنْصُوبَةً بِأَنْزَلَ قَالَهُ: الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَالضَّمِيرُ مِنَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِيهِ أَوْ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِحَذْفِ هَذَا الْعَائِدِ. وَجَعْلُ مَا مَوْصُولَةً هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِبْقَاءَ. أَرَأَيْتَ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَتَعَدَّى إِلَى الْأَوَّلِ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ، بِخِلَافِ جَعْلِهَا اسْتِفْهَامِيَّةً، فَإِنَّ أَرَأَيْتَ إِذْ ذَاكَ تَكُونُ مُعَلَّقَةً، وَيَكُونُ مَا قَدْ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَمْ مُتَّصِلَةٌ وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَأَنْتُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأِذْنِهِ أَمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ؟ فَنَبَّهَ بِتَوْقِيفِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ ادِّعَاءُ إِذْنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ افْتِرَاؤُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَأَمْ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى بَلْ، أَتَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ تَقْرِيرًا لِلِافْتِرَاءِ انْتَهَى، وَأَنْزَلَ هُنَا قِيلَ مَعْنَاهُ: خَلَقَ كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2» وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «3» . وَقِيلَ: أَنْزَلَ عَلَى بَابِهَا وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ سَبَبِ رِزْقٍ وَهُوَ الْمَطَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْزَلَ لَفْظَةٌ فِيهَا تَجَوُّزٌ، وَإِنْزَالُ الرِّزْقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ضمن إنزال المطر بالمئال، وَنُزُولِ الْأَمْرِ بِهِ الَّذِي هُوَ ظُهُورُ الْأَثَرِ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْهُ الْمُخْتَرَعِ وَالْمَجْعُولِ حَرَامًا وَحَلَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا حَكَمُوا بِهِ من تحريم البحيرة

_ (1) سورة يونس: 7/ 57. [.....] (2) سورة الحديد: 57/ 25. (3) سورة الزمر: 39/ 6.

وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالِحَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «1» . وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ خَبَرُهَا ظَنُّ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيٍّ ظَنَّ الْمُفْتَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أُبْهِمَ الْأَمْرُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَالْإِبْعَادِ يَوْمَ يَكُونُ الْجَزَاءُ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ. وَيَوْمَ مَنْصُوبٌ بِظَنُّ، وَمَعْمُولُ الظَّنِّ قِيلَ: تَقْدِيرُهُ مَا ظَنُّهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَاعِلٌ بِهِمْ، أَيُنَجِّيهِمْ أَمْ يُعَذِّبُهُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: وما ظَنَّ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا أَيْ أي ظَنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ، فَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ قَدْ تَنُوبُ عَنِ الْمَصْدَرِ تَقُولُ: مَا تَضْرِبْ زَيْدًا تُرِيدُ أَيَّ: ضَرْبٍ تَضْرَبُ زَيْدًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَاذَا يَغِيرُ ابنتي ريع عويلهما ... لا يرقدان وَلَا بُؤْسَى لِمَنْ رَقَدَا وَجِيءَ بِلَفْظِ ظَنَّ مَاضِيًا لِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَكَأَنْ قَدْ كَانَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظَنَّ فِي مَعْنَى يَظُنُّ، لِكَوْنِهِ عَامِلًا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وَفَصَّلَ لَهُمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْكُرُ هَذِهِ النِّعْمَةَ. وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَمَذَاهِبِهِمْ وَالرَّدَّ عَلَيْهِمْ، وَمُحَاوَرَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، وَذَكَرَ فَضْلَهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ، ذَكَرَ تَعَالَى اطِّلَاعَهُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَحَالِ الرَّسُولِ مَعَهُمْ فِي مُجَاهَدَتِهِ لَهُمْ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، لِيُظْهِرَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقِ الشَّيْطَانِ وَفَرِيقِ الرَّحْمَنِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وما تتلوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَامٌّ بِجَمِيعٍ شؤونه عليه السلام. وما تتلوا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ شَأْنٍ، وَانْدَرَجَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فِي الْخِطَابِ كُلُّ ذِي شَأْنٍ. وَمَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ نَافِيَةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 136.

شَأْنٍ، وَمِنْ قُرْآنٍ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ، وَخُصَّ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَعْظَمُ شؤونه عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى التَّنْزِيلِ، وَفُسِّرَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ قُرْآنٌ، وَأُضْمِرَ قَبْلَ الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لَهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أي: وما تتلوا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ قُرْآنٍ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْمَلُونَ عَامٌّ، وَكَذَا إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا. وَوَلِيَ إِلَّا هُنَا الْفِعْلُ غَيْرَ مَصْحُوبٍ بِقَدْ، لِأَنَّهُ قد تقدم الأفعل. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِلَّا حَالٌ وَشُهُودًا رُقَبَاءَ نُحْصِي عَلَيْكُمْ، وَإِذْ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِ: شُهُودًا. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ السَّابِقَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْحَالَةُ الدَّائِمَةُ وَتَنْسَحِبُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ كَانَ الظَّرْفُ مَاضِيًا، وَكَانَ الْمَعْنَى: وَمَا كُنْتَ فِي شَأْنٍ وَمَا تَلَوْتَ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا عَمِلْتُمْ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ أَفَضْتُمْ فِيهِ. وَإِذْ تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِمَعْنَى الْمَاضِي، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا فِيهِ تَحْذِيرٌ وَتَنْبِيهٌ عَدَلَ عَنْ خِطَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خِطَابِ أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ شَهِيدًا عَلَى أَعْمَالِ الخلق كلهم. وتفيضون: تَخُوضُونَ، أَوْ تَنْشُرُونَ، أَوْ تَدْفَعُونَ، أَوْ تَنْهَضُونَ، أَوْ تَأْخُذُونَ، أَوْ تَنْقُلُونَ، أَوْ تَتَكَلَّمُونَ، أَوْ تَسْعَوْنَ، أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ ثُمَّ وَاجَهَهُ تَعَالَى بِالْخِطَابِ وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ، تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا. وَلَمَّا ذَكَرَ شَهَادَتَهُ تَعَالَى عَلَى أَعْمَالِ الْخَلْقِ نَاسَبَ تَقْدِيمُ الْأَرْضِ الَّذِي هِيَ مَحَلُّ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى السَّمَاءِ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْأَرْضِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْكِسَائِيُّ، يَعْزِبُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَكَذَا فِي سَبَأٍ «1» . وَالْمِثْقَالُ اسْمٌ لَا صِفَةٌ، وَمَعْنَاهُ هُنَا وَزْنُ ذَرَّةٍ. وَالذَّرُّ صِغَارُ النَّمْلِ، وَلَمَّا كَانَتِ الذَّرَّةُ أَصْغَرَ الْحَيَوَانِ الْمُتَنَاسِلِ الْمَشْهُورِ النَّوْعِ عِنْدَنَا جَعَلَهَا اللَّهُ مِثَالًا لِأَقَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَحْقَرِهَا، إِذْ هِيَ أَحْقَرُ مَا نُشَاهِدُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: مِنَ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ أَدَقُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا، نَاسَبَ تَقْدِيمُ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِقَوْلِهِ: وَلَا أَكْبَرَ، عَلَى سَبِيلِ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَدَقَّ الْأَشْيَاءِ وَأَخْفَاهَا كَانَ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقًا بِأَكْبَرِ الْأَشْيَاءِ وَأَظْهَرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى ذَرَّةٍ أَوْ عَلَى مِثْقَالِ عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ: بِرَفْعِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَوْضِعِ مِثْقَالِ لِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ فهو مرفوع بيعزب، هَكَذَا وَجَّهَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَابِعًا لِاخْتِيَارِ الزَّجَّاجِ: وَالْوَجْهُ النَّصْبُ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً. وَفِي

_ (1) سورة سبأ: 34/ 3.

[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 70]

الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ أَوْ لَفْظِهِ فَتْحًا فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُشْكِلٌ انْتَهَى. وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عِنْدَهُ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ فَيَعْزُبُ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَصِحُّ. وَخَرَّجَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ هُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَيَزُولُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ الْإِشْكَالُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَجَابَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْآخَرُ أَنَّ الْعُزُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الْبُعْدِ، وَالْمَخْلُوقَاتُ قِسْمٌ أَوْجَدَهُ اللَّهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَالْمَلَائِكَةِ والسموات وَالْأَرْضِ، وَقِسْمٌ أَوْجَدَهُ بِوَاسِطَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِثْلَ الْحَوَادِثِ الْحَادِثَةِ فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَهَذَا قَدْ يَتَبَاعَدُ فِي سِلْسِلَةِ الْعِلِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَبْعُدُ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، كَتَبَهُ اللَّهُ، وَأَثْبَتَ صُوَرَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِيهَا انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ النَّظْمِ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ: وَهُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَالْعَرَبُ تَضَعُ إِلَّا مَوْضِعَ وَاوِ النَّسَقِ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «1» إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ «2» انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَثْبُتَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ وُضِعَ إِلَّا مَوْضِعَ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ «3» وَسَيَأْتِي عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

_ (1) سورة النمل: 27/ 11. (2) سورة البقرة: 2/ 150. (3) سورة البقرة: 2/ 150.

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ بِالطَّاعَةِ وَيَتَوَلَّاهُمْ بِالْكَرَامَةِ. وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ «1» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يُذَكِّرُونَ اللَّهَ بِرُؤْيَتِهِمْ» يَعْنِي السَّمْتَ وَالْهَيْئَةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْإِخْبَاتُ وَالسَّكِينَةُ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ يُعْطِي ظَاهِرُهَا أَنَّ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ فِي الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا هَذَا التَّنْبِيهَ حَذَرًا مِنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ فِي الْوَلِيِّ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ: حَذَرًا مِنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، وَهَذَا لَا يَكَادُ يَخْطُرُ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ. وَلِابْنِ الْعَرَبِيِّ الطَّائِيِّ كَلَامٌ فِي الْوَلِيِّ وَفِي غَيْرِهِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ. وَعَنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَادًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: «قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ عَلَى غير أرحام ولا

_ (1) سورة يونس: 10/ 63.

أموال يتعاطونها، فو الله إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَتَنُّورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، ثُمَّ قَرَأَ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ» الْآيَةَ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الصِّفَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَمْدَحُ، وَمَرْفُوعًا عَلَى إِضْمَارِهِمْ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرِ لَهُمُ الْبُشْرَى. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ رَفْعَهُ عَلَى مَوْضِعِ أَوْلِيَاءَ نَعْتًا، أَوْ بَدَلًا، وَأُجِيزَ فِيهِ الْخَبَرُ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَكَانُوا يَتَّقُونَ، إِشْعَارٌ بِمُصَاحَبَتِهِمْ لِلتَّقْوَى مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ، فَحَالُهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَحَالِهِمْ فِي الْمَاضِي. وَبُشْرَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّهَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ» أَوْ «تُرَى لَهُ» فَسَّرَهَا بِذَلِكَ وَقَدْ سُئِلَ. وَعَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ مَا يُبَشَّرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ حَيٌّ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ. وَقِيلَ: هِيَ مَحَبَّةُ النَّاسِ لَهُ، وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟ فَقَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» وَعَنْ عَطَاءٍ: لَهُمُ الْبُشْرَى عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّحْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ «1» الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بُشْرَى الدُّنْيَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَشِّرَاتِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُعَارِضُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الرُّؤْيَا» إِلَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَعْطَى مِثَالًا مِنَ الْبُشْرَى وَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ. وَبُشْرَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ تَلَقِّى الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ مُسَلِّمِينَ مُبَشِّرِينَ بِالنُّورِ وَالْكَرَامَةِ، وَمَا يَرَوْنَ مِنْ بَيَاضِ وُجُوهِهِمْ، وَإِعْطَاءِ الصُّحُفِ بِأَيْمَانِهِمْ، وَمَا يقرأون مِنْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِشَارَاتِ. لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، لَا تَغْيِيرَ لِأَقْوَالِهِ، وَلَا خُلْفَ فِي مَوَاعِيدِهِ كَقَوْلِهِ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّبْشِيرِ وَالْبُشْرَى فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ مُبَشَّرِينَ فِي الدَّارَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى النَّعِيمِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْبُشْرَى. وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالتَّهْدِيدُ وَمَا يَتَشَاوَرُونَ بِهِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَأُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ. وإما أن

_ (1) سورة فصلت: 41/ 30. (2) سورة ق: 50/ 29.

يَكُونَ مِمَّا حُذِفَتْ مِنْهُ الصِّفَةُ الْمُخَصِّصَةُ أَيْ: قَوْلُهُمُ الدَّالُّ عَلَى تَكْذِيبِكَ وَمُعَانَدَتِكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا أَيْ: لَا عِزَّةَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَكَ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يُؤْذُونَكَ، إِنَّ الْغَلَبَةَ وَالْقَهْرَ لِلَّهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَلَا يُعَازُّهُ شَيْءٌ وَلَا يُغَالِبُهُ. وَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ لَا يُحْزِنْهُ قَوْلُهُمْ وَهُوَ مِمَّا يُحْزِنُ؟ فَقِيلَ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَيْسَ لَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: أَنَّ الْعِزَّةَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَيْسَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُحْزِنُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ قَوْلٌ حَقٌّ. وَخُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّعْلِيلِ أَيْ: لَا يَقَعُ مِنْكَ حُزْنٌ لِمَا يَقُولُونَ، لِأَجْلِ أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَوُجِّهَتْ أَيْضًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَنْ الْعِزَّةَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِمْ وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّوْجِيهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثُمَّ أَنْكَرَهُ، فَالْمُنْكَرُ هُوَ تَخْرِيجُهُ لَا مَا أَنْكَرَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فَتْحُهَا شَاذٌّ يُقَارِبُ الْكُفْرَ، وَإِذَا كُسِرَتْ كَانَ اسْتِئْنَافًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ عِلْمِ الْإِعْرَابِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا يَجُوزُ فَتْحُ إِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ كُفْرٌ وَغُلُوٌّ، وَإِنَّمَا قَالَ القاضي وابن قتيبة ذلك بِنَاءً مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ عَلَى التَّعْلِيلِ وَهُوَ تَوْجِيهٌ صَحِيحٌ. هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُونَ، الْعَلِيمُ لِمَا يُرِيدُونَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْمِينٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من إِضْرَارِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدِيلُهُ عَلَيْهِمْ وَيَنْصُرُهُ. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «2» وَقَالَ الْأَصَمُّ: كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ خَدَمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْلُبَ مِنْهُمْ مِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ يَنْصُرَكَ وَيَنْقُلَ إِلَيْكَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمُ انْتَهَى. وَلَا تَضَادَّ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» لِأَنَّ عِزَّتَهُمْ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّهِ، فَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْعِزَّةَ لَهُ تَعَالَى وَهِيَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، ذَكَرَ مَا يُنَاسِبُ الْقَهْرَ وَهُوَ كَوْنُ الْمَخْلُوقَاتِ مِلْكًا لَهُ تَعَالَى، وَمِنَ الْأَصْلِ فِيهَا أَنْ تَكُونَ لِلْعُقَلَاءِ، وَهُنَا هِيَ شَامِلَةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ عَلَى حُكْمِ التَّغْلِيبِ، وَحَيْثُ جِيءَ بِمَا كَانَ تَغْلِيبًا لِلْكَثْرَةِ إِذْ أَكْثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ لَا تَعْقِلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الْعُقَلَاءَ الْمُمَيِّزِينَ وَهُمُ الملائكة والثقلان،

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 21. (2) سورة غافر: 40/ 51. (3) سورة المنافقون: 63/ 8.

وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ لِيُؤْذِنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا كَانُوا لَهُ فِي مِلْكِهِ فَهُمْ عَبِيدٌ كُلُّهُمْ، لَا يَصْلُحُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا أَنْ يكون شريكا له فِيهَا، فَمَا دُونَهُمْ مِمَّا لَا يَعْقِلُ أَحَقُّ أَنْ لَا يَكُونَ نِدًّا وَشَرِيكًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَهُ رَبًّا مِنْ مَلَكٍ أَوْ إِنْسِيٍّ فَضْلًا عَنْ صَنَمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ مُبْطِلٌ تَابِعٌ لِمَا أَدَّى إِلَيْهِ التَّقْلِيدُ وَتَرْكُ النَّظَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وشركاء مَفْعُولُ يَتَّبِعُ، وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: آلِهَةً أَوْ شُرَكَاءَ أَيْ: أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ آلِهَةً وَأَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ لَيْسُوا شُرَكَاءَ حَقِيقَةً، إِذِ الشَّرِكَةُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِمُ اسْمَ الشُّرَكَاءِ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيتبع، وَشُرَكَاءَ مَنْصُوبٌ بِيَدْعُونَ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ عَلَى تَحْقِيرِ الْمُتَّبَعِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَدْعُو شَرِيكًا لِلَّهِ لَا يَتَّبِعُ شَيْئًا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً عَطْفًا عَلَى مِنْ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَالَّذِي يَتَّبِعُهُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ أَيْ: وَلَهُ شُرَكَاؤُهُمْ. وَأَجَازَ غَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِي يَتَّبِعُهُ الْمُشْرِكُونَ بَاطِلٌ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَدْعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ وَمَا يَتَّبِعُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ شُرَكَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُطِيعُونَهُ، فَمَا لَكَمَ لَا تَفْعَلُونَ فِعْلِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «1» انْتَهَى. وَإِنْ نَافِيَةٌ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ. ويخرصون: يَقْدِرُونَ. وَمَنْ قَرَأَ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ الْتِفَاتًا، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ: هَذَا تَنْبِيهٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَشُمُولِ نِعْمَتِهِ لِعِبَادِهِ، فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ لِتَسْكُنُوا فِيهِ مِمَّا تُقَاسُونَ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ وَغَيْرِهِ بِالنَّهَارِ، وَأَضَافَ الْأَبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ مَجَازًا، لِأَنَّ الْأَبْصَارَ تَقَعُ فِيهِ كَمَا قَالَ: وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ أَيْ: يُبْصِرُونَ فِيهِ مَطَالِبَ مَعَايِشِهِمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: يُقَالُ أَظْلَمَ اللَّيْلُ صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ، وَأَضَاءَ النَّهَارُ وَأَبْصَرَ أَيْ صَارَ ذَا ضِيَاءٍ وَبَصَرٍ انْتَهَى. وَذَكَرَ عِلَّةَ خَلْقِ اللَّيْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لِتَسْكُنُوا فيه،

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 57. [.....]

[سورة يونس (10) : الآيات 71 إلى 87]

وَحَذَفَهَا مِنَ النَّهَارِ، وَذَكَرَ وَصْفَ النَّهَارِ وَحَذَفَهُ مِنَ اللَّيْلِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَحْذُوفِ يَدُلُّ عَلَى مُقَابِلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا لِتَتَحَرَّكُوا فِيهِ فِي مَكَاسِبِكُمْ وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِالْحَرَكَةِ، وَمَعْنَى تسمعون: سَمَاعٌ مُعْتَبَرٌ. قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ: الضَّمِيرُ فِي قَالُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ الْوَلَدَ، مِمَّنْ قَالَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، أَوْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وسبحانه: تَنْزِيهٌ مِنَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَتَعَجُّبٌ مِمَّنْ يَقُولُ ذَلِكَ، هُوَ الْغَنِيُّ عِلَّةٌ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شَيْءٍ، فَالْوَلَدُ مُنْتَفٍ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ مِلْكُهُ فَهُوَ غَنِيٌّ عن اتخاذ الولد. وأن نَافِيَةٌ، وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ أَيْ: مَا عِنْدَكُمْ مِنْ حُجَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَبِهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ يَعْنِي: الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: الْبَاءُ حَقُّهَا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: إِنْ عِنْدَكُمْ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ مَكَانًا لِلسُّلْطَانِ كَقَوْلِكَ: مَا عِنْدَكُمْ بِأَرْضِكُمْ نُورٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عِنْدَكُمْ فِيمَا تَقُولُونَ سُلْطَانٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَبِهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِسُلْطَانٍ أَوْ نعت له، وأ تقولون اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ لِمَنِ اتَّبَعَ مَا لَا يَعْلَمُ، وَيُحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَلَمَّا نَفَى الْبُرْهَانَ عَنْهُمْ جَعَلَهُمْ غَيْرَ عَالِمِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ لِقَائِلِهِ فَذَلِكَ جَهْلٌ وليس بعلم. والذين يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ عَامٌّ يَشْمَلُ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ الْوَلَدَ، وَمَنْ قَالَ فِي اللَّهِ وَفِي صِفَاتِهِ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْوَعِيدِ بِانْتِفَاءِ الْإِفْلَاحِ، وَلَمَّا نَفَى عَنْهُمُ الْفَلَاحَ وَكَانَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ إِفْلَاحِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِحُظُوظٍ فِيهَا مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ قِيلَ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ جَوَابٌ على تقدير سؤال، أن قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ لَا يُفْلِحُونَ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُفْلِحُونَ بِأَنْوَاعٍ مِمَّا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا زَائِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ، ثُمَّ يَلْقَوْنَ الشَّقَاءَ الْمُؤَبَّدَ فِي الآخرة. [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

لَفَتَ عُنُقَهُ لَوَاهَا وَصَرَفَهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَفَتَ الشَّيْءَ وَفَتَلَهُ لَوَاهُ، وَهَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ انْتَهَى. وَمُطَاوِعُ لَفَتَ الْتَفَتَ، وَقِيلَ: انْفَتَلَ. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَذَكَرَ مَا جَرَى بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ قَصَصًا مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ مِنَ الْخِلَافِ وَذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَتَأَسَّى بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَخِفَّ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ وَقِلَّةِ الِاتِّبَاعِ، وَلِيَعْلَمَ الْمَتْلُوُّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَصَصُ عَاقِبَةَ مَنْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءَ، وَمَا مَنَحَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ الْعِلْمِ بِهَذَا الْقَصَصِ وَهُوَ لَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا وَلَا صَحِبَ عَالِمًا، وَأَنَّهَا طِبْقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَكَبُرَ مَعْنَاهُ عَظُمَ مَقَامِي أَيْ: طُولُ مَقَامِي فِيكُمْ، أَوْ قِيَامِي لِلْوَعْظِ. كَمَا يُحْكَى عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَعِظُ الْحَوَارِيِّينَ قَائِمًا لِيَرَوْهُ وَهُمْ قُعُودٌ، وَكَقِيَامِ الْخَطِيبِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ وَلِيَرَوْهُ، أَوْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى مَقَامِهِ وَالْمُرَادُ نَفْسُهُ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا

لِمَكَانِ فُلَانٍ، وَفُلَانٌ ثَقِيلُ الظِّلِّ تُرِيدُ لِأَجْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ ثَقِيلٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يُقْرَأْ هُنَا بِضَمِّ الْمِيمِ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ قَرَأَ مُقَامِي بِضَمِّ الْمِيمِ أَبُو مِجْلَزٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ. وَالْمُقَامُ الْإِقَامَةُ بِالْمَكَانِ، وَالْمَقَامُ مَكَانُ الْقِيَامِ. وَالتَّذْكِيرُ وَعْظُهُ إِيَّاهُمْ وَزَجْرُهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ فَعَلَى اللَّهِ توكلت. وفأجمعوا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَوَابِ، وَهُوَ لَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ دَائِمًا. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْجَوَابُ فَأَجْمِعُوا، وَفَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ كَقَوْلِهِ: أَمَا تَرَيْنِي قَدْ نَحَلْتُ وَمَنْ يَكُنْ ... غَرَضًا لِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ يَنْحَلِ فَلَرُبَّ أَبْلَجَ مِثْلِ ثِقَلِكِ بَادِنٍ ... ضَخْمٍ عَلَى ظَهْرِ الْجَوَادِ مُهَبَّلِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَجْمِعُوا مِنْ أَجْمَعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ عَزَمَ عَلَيْهِ وَنَوَاهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا ... أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ وَقَالَ آخَرُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا تَنْفَعُ ... هَلْ أَعْذَرْتَ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ وَقَالَ أَبُو قَيْدٍ السَّدُوسِيُّ: أَجْمَعْتُ الْأَمْرَ أَفْصَحُ مِنْ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَجْمَعَ أَمْرَهُ جعله مجموعا بعد ما كَانَ مُتَفَرِّقًا، قَالَ: وَتَفْرِقَتُهُ أَنَّهُ يَقُولُ مَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا، وَمَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا، فَإِذَا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ قَدْ جَعَلَهُ أَيْ: جَعَلَهُ جَمِيعًا، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى الْعَزْمِ حَتَّى وُصِلَ بِعَلَى، فَقِيلَ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْأَمْرِ أَيْ عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ أَجْمَعْتُ الْأَمْرَ انْتَهَى. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ وَشُرَكَاءَكُمْ عَطْفًا عَلَى أَمْرَكُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: ك وَأَمْرُ شُرَكَائِكُمْ، أَوْ عَلَى أَمْرِكُمْ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ يُقَالُ أَيْضًا: أَجْمَعْتُ شُرَكَائِي، أَوْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ أَجْمَعْتُ شُرَكَائِي يَعْنِي فِي الْأَكْثَرِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: فَعَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا فِي أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ أَيْ: وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقَدْ تُنْصَبُ الشُّرَكَاءُ بِوَاوِ مَعَ كَمَا قَالُوا: جَاءَ الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نَصْبِ، وَشُرَكَاءَكُمْ غَيْرَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِوَاوِ مَعَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ الضَّمِيرُ في أجمعوا لَا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي

هُوَ أَمْرُكُمْ، وَذَلِكَ عَلَى أَشْهَرِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ. لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَجْمَعَ الشُّرَكَاءُ، وَلَا يُقَالُ جَمَعَ الشُّرَكَاءُ أَمْرَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَا أَجْمَعَتِ الشُّرَكَاءُ إِلَّا قَلِيلًا. وَفِي اشْتِرَاطِ صِحَّةِ جَوَازِ الْعَطْفِ فِيمَا يَكُونُ مَفْعُولًا مَعَهُ خِلَافٌ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ مِنَ الْفَاعِلِ كَانَ أَوْلَى. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ، وَيَعْقُوبَ: بِخِلَافٍ عَنْهُ فَاجْمَعُوا بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ جَمَعَ، وَشُرَكَاءَكُمْ عَطْفٌ عَلَى أَمْرَكُمْ لِأَنَّهُ يُقَالُ: جمعت شُرَكَائِي، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: ذَوِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَجَرَى عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَا جَرَى عَلَى الْمُضَافِ، لَوْ ثَبَتَ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ: أَجْمَعْتُ الْأَمْرَ أَيْ جَعَلْتُهُ جَمِيعًا، وَجَمَعْتُ الْأَمْوَالَ جَمِيعًا، فَكَانَ الْإِجْمَاعُ فِي الْأَحْدَاثِ وَالْجَمْعُ فِي الْأَعْيَانِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَكَانَ الْآخَرِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: فَجَمَعَ كَيْدَهُ «1» انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى بْنُ عمر، وسلام، ويعقوب فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ: وَشُرَكَاؤُكُمْ بِالرَّفْعِ، وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي فَأَجْمِعُوا، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بِالْمَفْعُولِ فَحَسُنَ، وَعَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ: وَشُرَكَاؤُكُمْ فَلْيُجْمِعُوا أَمْرَهُمْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَشُرَكَائِكُمْ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَمْرَكُمْ أَيْ: وَأَمْرَ شُرَكَائِكُمْ فَحُذِفَ كَقَوْلِ الْآخَرِ: أَكُلُّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ... وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا أي وكل نار، فَحَذَفَ كُلَّ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَضَافَهُمْ إِلَيْهِمْ إِذْ هُمْ يَجْعَلُونَهُمْ شُرَكَاءَ بِزَعْمِهِمْ، وَأَسْنَدَ الْإِجْمَاعَ إِلَى الشُّرَكَاءِ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ «2» أَوْ يُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ هُنَا وُجُودُ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتْرُكُوا مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْئًا إِلَّا أَحْضَرْتُمُوهُ انْتَهَى. وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِإِجْمَاعِ أَمْرِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِمْ ثِقَةً بِمَا وَعَدَهُ رَبُّهُ مِنْ كِلَاءَتِهِ وَعِصْمَتِهِ، ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أَيْ حَالُكُمْ مَعِي وَصُحْبَتُكُمْ لِي غَمًّا وَهَمًّا أَيْ: ثُمَّ أَهْلِكُونِي لِئَلَّا يَكُونَ عَيْشُكُمْ بِسَبَبِي غُصَّةً، وَحَالُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً. وَالْغَمُّ وَالْغُمَّةُ كَالْكَرْبِ وَالْكُرْبَةِ، قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ غَمَّ عَلَيْنَا الْهِلَالُ فَهُوَ مَغْمُومٌ إِذَا الْتُمِسَ فَلَمْ يُرَ. وَقَالَ طرفة:

_ (1) سورة طه: 20/ 60. (2) سورة الأعراف: 7/ 195.

لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلَا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: إِنَّهُ لَفِي غُمَّةٍ مِنْ أَمْرِهِ إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أمركم ظاهرا مكشوفا، وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي يُرَادُ بِالْأَمْرِ فَقَالَ: وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ. وَالْغُمَّةُ السُّتْرَةُ، مِنْ غَمَّهُ إِذَا سَتَرَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا غُمَّةَ فِي فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ لَا تُسْتَرُ وَلَكِنْ يُجَاهَرُ بِهَا، يَعْنِي: وَلَا يَكُنْ قَصْدُكُمْ إِلَى إِهْلَاكِي مَسْتُورًا عَلَيْكُمْ، بَلْ مَكْشُوفًا مَشْهُورًا تُجَاهِرُونَ بِهِ انْتَهَى. وَمَعْنَى اقْضُوا إِلَيَّ: أَنْفِذُوا قَضَاءَكُمْ نَحْوِي، وَمَفْعُولُ اقْضُوا مَحْذُوفٌ أَيِ: اقْضُوا إِلَيَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَامْضُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ، وَاقْطَعُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَقَرَأَ السَّرِيُّ بْنُ يَنْعُمَ: ثُمَّ أَفْضُوا بِالْفَاءِ وَقَطْعِ الْأَلْفِ، أَيِ: انْتَهُوا إِلَيَّ بِشَرِّكُمْ مِنْ أَفْضَى بِكَذَا انْتَهَى إِلَيْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَسْرِعُوا. وَقِيلَ: مِنْ أَفْضَى إِذَا خَرَجَ إِلَى الْفَضَاءِ أَيْ: فَأَصْحِرُوا بِهِ إِلَيَّ وَأَبْرِزُوهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ: أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ تحرق نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ وَلَا تُنْظِرُونِ: أَيْ لَا تُؤَخِّرُونِ، وَالنَّظِرَةُ التَّأْخِيرُ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ: أَيْ: فَإِنْ دَامَ تَوَلِّيكُمْ عَمَّا جِئْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَرَفْضِ آلِهَتِكُمْ فَلَسْتُ أُبَالِي بِكُمْ، لِأَنَّ تَوَلِّيَكُمْ لَا يَضُرُّنِي فِي خَاصَّتِي، وَلَا قَطَعَ عَنِّي صِلَةً مِنْكُمْ، إِذْ مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ وَذَكَّرْتُكُمْ بِهِ وَوَعَظْتُكُمْ، لَمْ أَسْأَلْكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، إِنَّمَا يُثِيبُنِي عَلَيْهِ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: مَا نَصَحْتُكُمْ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ الطَّائِعِينَ لَهُ، فَكَذَّبُوهُ، فَتَمُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مُشَارَفَةِ الْهَلَاكِ بِالطُّوفَانِ. وَفِي الْفُلْكِ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مَعَهُ، أَوْ بفنجيناه. وجعلناهم جُمِعُ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَلَى معنى من، وخلائف يَخْلُفُونَ الْفَارِقِينَ الْمُهْلَكِينَ. ثُمَّ أَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ الْمُنْذَرِينَ بِالْعَذَابِ، وَإِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ حَالُهُمْ. وَفِي هَذَا الْإِخْبَارِ تَوَعُّدٌ لِلْكُفَّارِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَرْبُ مِثَالٍ لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ بِحَالِ هَؤُلَاءِ مِنَ التَّكْذِيبِ فَسَيَكُونُ حَالُهُمْ كَحَالِهِمْ فِي التَّعْذِيبِ. وَالْخِطَابُ فِي فَانْظُرْ لِلسَّامِعِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ، وَتَحْذِيرٌ لِمَنْ أَنْذَرَهُمُ الرَّسُولُ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ

مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ: مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، يَعْنِي هُودًا وَصَالِحًا وَلُوطًا وَإِبْرَاهِيمَ وَشُعَيْبًا. وَالْبَيِّنَاتُ: الْمُعْجِزَاتُ، وَالْبَرَاهِينُ الْوَاضِحَةُ الْمُثْبِتَةُ لِمَا جَاءُوا بِهِ. وَجَاءَ النَّفْيُ مَصْحُوبًا بِلَامِ الْجُحُودِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ فِي حَيِّزِ الِاسْتِحَالَةِ وَالِامْتِنَاعِ، وَالضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ كَانُوا وَهُمْ قَوْمُ الرُّسُلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَتَكْذِيبٍ لِلْحَقِّ، فَتَسَاوَتْ حَالَتُهُمْ قَبْلَ الْبِعْثَةِ وَبَعْدُهَا، كَأَنْ لَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ. وَمِنْ قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ بِكَذَّبُوا أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثِهِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَادَرُوا رُسُلَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ كُلَّمَا جاء رسول، ثم لجوا فِي الْكُفْرِ وَتَمَادَوْا، فَلَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا سَبَقَ بِهِ تَكْذِيبُهُمْ مِنْ قَبْلِ لجهم فِي الْكُفْرِ وَتَمَادِيهِمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: مِنْ قَبْلُ مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِ الْعَذَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوا عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ أَيْ: فَمَا كَانَ قَوْمُ الرُّسُلِ لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ، يَعْنِي: أَنَّ شِنْشِنَتَهُمْ وَاحِدَةٌ فِي التَّكْذِيبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ عِنْدِي مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالْمَعْنَى فَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَكَانَ عِقَابُهُمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِتَكْذِيبِهِمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ سَبَبِهِ وَمِنْ جَرَّائِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ كَذَلِكَ نَطْبَعُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا كَذَّبُوا بِهِ. وَلَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً بَقِيَ الضَّمِيرُ غَيْرَ عَائِدٍ عَلَى مَذْكُورٍ، فَتَحْتَاجُ أَنْ يُتَكَلَّفَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَطْبَعُ بِالنُّونِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ بِالْيَاءِ، وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَمْتَنِعُ زَوَالُهُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ الْمُجَاوِزِينَ طَوْرَهُمْ وَالْمُبَالِغِينَ فِي الْكُفْرِ. ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ بِآيَاتِنَا وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يُخَصُّ قوله: وملائه بِالْأَشْرَافِ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ شَرِيفِهِمْ وَمَشْرُوفِهِمْ. فَاسْتَكْبَرُوا تَعَاظَمُوا عَنْ قَبُولِهَا، وَأَعْظَمُ الْكِبْرِ أَنْ يَتَعَاظَمَ الْعَبِيدُ عَنْ قَبُولِ رِسَالَةِ رَبِّهِمْ بَعْدَ تَبَيُّنِهَا وَاسْتِيضَاحِهَا، وَبِاجْتِرَامِهِمُ الْآثَامَ الْعَظِيمَةَ اسْتَكْبَرُوا وَاجْتَرَءُوا عَلَى رَدِّهَا. وَالْحَقُّ هُوَ الْعَصَا وَالْيَدُ قَالُوا لِحُبِّهِمُ الشَّهَوَاتِ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَقَّ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ السِّحْرِ الَّذِي لَيْسَ إِلَّا تَمْوِيهًا وَبَاطِلًا، وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ إِلَّا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَصَا وَانْقِلَابِهَا، وَالْيَدِ وَخُرُوجِهَا بَيْضَاءَ، وَلَمْ يَتَعَاطَوْا إِلَّا مُقَاوَمَةَ الْعَصَا وَهِيَ مُعْجِزَةُ مُوسَى الَّذِي وَقَعَ فِيهَا عَجْزُ الْمُعَارِضِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ،

وَالْأَعْمَشُ: لَسَاحِرٌ مُبِينٌ، جَعَلَ خَبَرَ إِنَّ اسْمَ فَاعِلٍ لَا مَصْدَرًا كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ. وَلَمَّا كَابَرُوا مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ أَخْبَرُوا عَلَى جِهَةِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ سِحْرٌ مُبِينٌ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَتَقُولُونَ؟ مُسْتَفْهِمًا عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، حَيْثُ جَعَلُوا الْحَقَّ سِحْرًا، أَسِحْرٌ هَذَا أَيْ: مِثْلَ هَذَا الْحَقِّ لَا يُدَّعَى أَنَّهُ سِحْرٌ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ مَنْ كَانَ سَاحِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْمُولَ أَتَقُولُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ مَعْمُولُ الْقَوْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرُ: لَنَحْنُ الْأُلَى قُلْتُمْ فإني ملتئم ... بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبَا وَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ مَتَى رَأَيْتُ، أَوْ قُلْتُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا. وَقِيلَ: مَعْمُولُ أَتَقُولُونَ هُوَ أَسِحْرٌ هَذَا إِلَى آخِرِهِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَجِئْتُمَا بِالسِّحْرِ تَطْلُبَانِ بِهِ الْفَلَاحَ، وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ. كَمَا قَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ. وَالَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْجُمْلَةَ وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ هِيَ مَحْكِيَّةٌ لِقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِلسِّحْرِ الَّذِي رَأَوْهُ بِزَعْمِهِمْ، كَمَا تَقُولُ لِفَرَسٍ تَرَاهُ يُجِيدُ الْجَرْيَ: أَفَرَسٌ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيبِ وَالِاسْتِغْرَابِ، وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ فَرَسٌ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعْجِيبُ وَالتَّعْظِيمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كُلُّ جَاهِلٍ بِالْأَمْرِ، فَهُوَ يَسْأَلُ أَهْوَ سِحْرٌ؟ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ، أَتَعِيبُونَهُ وَتَطْعَنُونَ فِيهِ، فَكَانَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُذْعِنُوا لَهُ وَتُعَظِّمُوهُ، قَالَ: مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَخَافُ الْقَالَةَ، وَبَيْنَ النَّاسِ تَقَاوُلٌ إِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا يَسُوءُ، وَنَحْوُ الْقَوْلِ الذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ثُمَّ قَالَ أَسِحْرٌ هَذَا فَأَنْكَرَ مَا قَالُوهُ فِي عَيْبِهِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ. قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ: أجئتنا خطاب لموسى وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ مُعْجِزَةُ الْعَصَا وَالْيَدِ. لِتَصْرِفَنَا وَتَلْوِيَنَا عن مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَاتِّخَاذِ إِلَهٍ دُونَهُ. وَالْكِبْرِيَاءُ مَصْدَرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُلْكُ، إِذِ الملوك موصوفون بالكبر،

_ (1) سورة طه: 20/ 69.

وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَلِكِ الْجَبَّارُ، وَوُصِفَ بِالصَّدِّ وَالشَّرَسِ. وَقَالَ ابْنُ الرُّقَيَّاتِ فِي مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ: مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيهِ ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ يَعْنِي مَا عَلَيْهِ الْمُلُوكُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ: سُؤْدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لَا يُدَانِي ... هِـ تَجِبَّارَةٌ وَلَا كِبْرِيَاءُ وَقَالَ الْأَعْمَشُ: الْكِبْرِيَاءُ الْعَظَمَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعُلُوُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: الطَّاعَةُ، وَالْأَرْضِ هُنَا أَرْضُ مِصْرَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَالْحَسَنُ فِيمَا زَعَمَ خَارِجَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَتَكُونُ بِالتَّاءِ لِمَجَازِ تَأْنِيثِ الْكِبْرِيَاءِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَالُوا مَقْصُودُكَ فِي ذكره إِلَيْنَا بِمَا جِئْتَ، هُوَ أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ دِينِ آبَائِنَا إِلَى مَا تَأْمُرُ بِهِ وَنُطِيعَكَ، وَيَكُونَ لَكُمَا الْعُلُوُّ وَالْمُلْكُ عَلَيْنَا بِطَاعَتِنَا لَكَ، فَنَصِيرَ أَتْبَاعًا لَكَ تَارِكِينَ دِينَ آبَائِنَا، وَهَذَا مَقْصُودٌ لَا نَرَاهُ، فَلَا نُصَدِّقَكَ فِيمَا جِئْتَ بِهِ إِذْ غَرَضُكُ إِنَّمَا هُوَ مُوَافَقَتُكَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَاسْتِعْلَاؤُكَ عَلَيْنَا. فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ هُوَ التَّقْلِيدُ، وَالثَّانِي الْجِدُّ فِي الرِّئَاسَةِ حَتَّى لَا تَكُونُوا تَبَعًا. وَاقْتَضَى هَذَانِ السَّبَبَانِ اللَّذَانِ تَوَهَّمُوهُمَا مَقْصُودَا التَّصْرِيحِ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ السَّبَبَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدُوا الذَّمَّ بِأَنَّهُمَا إِنْ مَلَكَا أرض مصر تكبر وَتَجَبَّرَا كَمَا قَالَ الْقِبْطِيُّ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ. وَلَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى هُوَ سِحْرٌ، أَخَذُوا فِي مُعَارَضَتِهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ السِّحْرِ، لِيَظْهَرَ لِسَائِرِ النَّاسِ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى مِنْ بَابِ السِّحْرِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: ائْتُونِي، خَدَمَةُ فِرْعَوْنَ وَالْمُتَصَرِّفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعِيسَى، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، اسْتِطَالَةٌ عَلَيْهِمْ وَعَدَمُ مُبَالَاةٍ بِهِمْ. وَفِي إِبْهَامِ مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، تَخْسِيسٌ لَهُ وَتَقْلِيلٌ، وَإِعْلَامٌ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: كَيْفَ أَمَرَهُمْ، فَالْكُفْرُ وَالسِّحْرُ وَالْأَمْرُ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ؟ قُلْنَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِإِلْقَاءِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ لِيُظْهِرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ مَا أَلْقَوْا عَمَلٌ فَاسِدٌ وَسَعْىٌ بَاطِلٌ، لَا عَلَى طَرِيقِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِالسِّحْرِ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَمُجَاهِدٌ وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ الْقَعْقَاعِ: بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: آلسِّحْرُ مَمْدُودَةً، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ، فَعَلَى الِاسْتِفْهَامِ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً مُبْتَدَأً، وَالسِّحْرُ بَدَلٌ مِنْهَا. وَأَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِمُضْمَرٍ تَفْسِيرُهُ جِئْتُمْ بِهِ، وَالسِّحْرُ خبر مبتدأ

مَحْذُوفٍ. وَيَجُوزُ عِنْدِي فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً مُبْتَدَأَةً، وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ خَبَرٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَهْوَ السِّحْرُ، أَوْ آلسِّحْرُ هُوَ، فَهُوَ الرَّابِطُ كَمَا تَقُولُ: الَّذِي جَاءَكَ أَزْيَدٌ هُوَ؟ وَعَلَى هَمْزَةِ الْوَصْلِ جَازَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً مُبْتَدَأَةً، وَالْخَبَرُ السِّحْرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ: سِحْرٌ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِي هَذَا الْوَجْهِ اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيرِ وَالتَّعْلِيلِ لِمَا جَاءُوا بِهِ، وَالسِّحْرُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ السِّحْرُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّعْرِيفُ هُنَا فِي السِّحْرِ أَرْتَبُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مُنَكَّرًا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ، فَجَاءَ هُنَا بِلَامِ الْعَهْدِ كَمَا يُقَالُ: أَوَّلَ الرِّسَالَةِ سَلَامٌ عَلَيْكَ، وَفِي آخِرِهَا وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ انْتَهَى. وَهَذَا أَخَذَهُ مِنَ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا قَالَ السِّحْرُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ أُعِيدَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ مَنْ رَجُلٌ لَمْ يَقَعْ فِي وَهْمِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُ عن الرجل الذي ذكره له انتهى. وما ذكره هُنَا فِي السِّحْرِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ تَقَدُّمِ النَّكِرَةِ، ثُمَّ أُخْبِرَ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ شَرْطَ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ هُوَ النَّكِرَةُ الْمُتَقَدِّمُ، وَلَا يَكُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» وَتَقُولُ: زَارَنِي رَجُلٌ فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ، وَلَمَّا كَانَ إِيَّاهُ جَازَ أَنْ يُأْتَى بِالضَّمِيرِ بَدَلَهُ فَتَقُولُ: فَأَكْرَمْتُهُ. وَالسِّحْرُ هُنَا لَيْسَ هُوَ السِّحْرُ الَّذِي هُوَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ، لِأَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ سِحْرٌ هُوَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ مُعْجِزَةِ الْعَصَا، وَالسِّحْرُ الَّذِي فِي قَوْلِ مُوسَى إِنَّمَا هُوَ سِحْرُهُمُ الَّذِي جاؤوا بِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَدْلُولَانِ وَقَالُوا هُمْ عَنْ مُعْجِزَةِ مُوسَى وَقَالَ مُوسَى عَمَّا جاؤوا بِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُأْتَى هُنَا بِالضَّمِيرِ بَدَلَ السِّحْرِ، فَيَكُونُ عَائِدًا على قولهم سحر. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمَلَ بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَسَيُبْطِلُهُ يَمْحَقُهُ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ أَوْ يُظْهِرُ بُطْلَانَهُ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الشَّعْوَذَةِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمَلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى بِكَلِمَاتِهِ، بِقَضَايَاهُ السَّابِقَةِ فِي وَعْدِهِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: بِكَلِمَاتِهِ بِقَوْلِهِ: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى «2» وَقِيلَ بكلماته بحججه وبراهينه وقرىء بِكَلِمَتِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ أَيْ بِأَمْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَجِّنا

_ (1) سورة المزمل: 73/ 15- 16. (2) سورة طه: 20/ 68.

بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ: الظَّاهِرُ فِي الْفَاءِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَدْلُولَهَا التَّعْقِيبُ أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الصَّادِرَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ قِصَّةِ الْإِلْقَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ مُوسَى هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى فِرْعَوْنَ لَمْ يَظْهَرْ لَفْظُ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ التَّرْكِيبُ عَلَى خوف منه. ومن ملإهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وَهَذَا الْإِيمَانُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ كَانَ أَوَّلَ مَبْعَثِهِ إِذْ قَدْ آمَنَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَوْمُهُ كُلُّهُمْ، كَانَ أَوَّلًا دَعَا الْآبَاءَ فَلَمْ يُجِيبُوهُ خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَجَابَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِمْ مَعَ الْخَوْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ قَوْمًا أَدْرَكَهُمْ مُوسَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَإِنَّمَا آمَنَ ذَرَارِيهِمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ لِطُولِ الزَّمَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذَا آمَنَ قَوْمٌ بَعْدَ مَوْتِ آبَائِهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِمْ بَاسِمِ الذُّرِّيَّةِ. وَأَيْضًا فَمَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُعْطِي هَذَا، وَيَنْفِيهِ قَوْلُهُ: فَمَا آمَنَ، لِأَنَّهُ يُعْطِي تَقْلِيلَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِأَنَّهُ نَفَى الْإِيمَانَ ثُمَّ أَوْجَبَهُ لِبَعْضِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْأَكْثَرُ مُؤْمِنًا لَأَوْجَبَ الْإِيمَانَ أَوَّلًا ثُمَّ نَفَاهُ عَنِ الْأَقَلِّ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَخَرَّجُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الذرية: إنه القليل، إلا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ لَفْظَ الذُّرِّيَّةِ بِمَعْنَى الْقَلِيلِ كَمَا ظَنَّ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ ذُرِّيَّةً لِأَنَّ أُمَّهَاتِهِمْ كَانَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِمَاؤُهُمْ مِنَ الْقِبْطِ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَكَانَ يُقَالُ لَهُمُ الذُّرِّيَّةُ كَمَا قِيلَ لِفُرْسِ الْيَمَنِ الْأَبْنَاءُ، وَهُمُ الْفُرْسُ الْمُنْتَقِلُونَ مَعَ وَهُوزَ بِسِعَايَةِ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْمِهِ عَلَى مُوسَى: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ مِصْرَ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نُفْسًا، فَتَوَالَدُوا بمصر حَتَّى صَارُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، رُوِيَ أَنَّهُ آمَنَتْ زَوْجَةُ فِرْعَوْنَ وَخَازِنُهُ وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ وَشَبَابٌ مِنْ قَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَالسَّحَرَةُ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ مَعْدُودُونَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا سَبْعِينَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِمَّا يُضَعِّفُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا قَدْ فَشَتْ فِيهِمُ السَّوْآتُ، وَكَانُوا فِي مُدَّةِ فِرْعَوْنَ قَدْ نَالَهُمْ ذُلٌّ مُفْرِطٌ، وَقَدْ رَجَوْا كَشْفَهُ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ يَخْرُجُ فِيهِمْ يَكُونُ نَبِيًّا، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْفَقُوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ، وَلَمْ يُحْفَظْ قَطُّ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَفَرَتْ بِهِ، فَكَيْفَ تُعْطِي هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْأَقَلَّ مِنْهُمْ كَانَ الَّذِي آمَنَ، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ بِحَسَبِ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُحَاوَرَةِ مُوسَى وَرَدِّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا سِحْرٌ، فَذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِي هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ. وَتَكُونُ الْقِصَّةُ

عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ وَالتَّعْجِيزِ بِالْعَصَا، وَتَكُونُ الْفَاءُ مُرَتِّبَةً لِلْمَعَانِي الَّتِي عُطِفَتْ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَمَا آمَنَ أَيْ: مَا أَظْهَرَ إِيمَانَهُ وَأَعْلَنَ بِهِ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَفَرَتْ بِهِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وملاهم، عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْ: أَخْوَفُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذَّرِّيَّةُ وَهُمْ أَشْرَافُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ عَائِدًا عَلَى مُوسَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ أَعْقَابَهُمْ خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَفْتِنَهُمْ أَيْ يُعَذِّبَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ يَقْتُلَهُمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى قَوْمِهِ أَيْ: وَمَلَإِ قَوْمِ مُوسَى، أَوْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. كَمَا حُذِفَ فِي، وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْخَوْفَ يُمْكِنُ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَلَا يُمْكِنُ سُؤَالُ الْقَرْيَةِ، فَلَا يُحْذَفُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَقَدْ يُقَالُ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ جَمْعُ الضَّمِيرِ فِي وملاهم. وَقِيلَ: ثُمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَوْنُ الْمَلِكِ لَا يَكُونُ وَحْدَهُ، بَلْ لَهُ حَاشِيَةٌ وَأَجْنَادٌ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فرعون وقومه وملاهم أَيْ: مَلَإِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ مَلِكًا جَبَّارًا أُخْبِرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الْجَمِيعِ. وقيل: سميت الجماعة بفرعون مِثْلُ هُودٍ. وَأَنْ يَفْتِنَهُمْ بَدَلٌ مِنْ فِرْعَوْنَ بَدَلَ اشتمال أي: فتنته، فكون فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِخَوْفٍ إِمَّا عَلَى التَّعْلِيلِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: عَلَى خَوْفٍ لِأَجْلِ فِتْنَتِهِ، أَوْ عَلَى خَوْفِ فِتْنَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَجَرَّاحٌ وَنُبَيْحٌ: يَفْتِنَهُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَفْتَنَ، ولعال متجر أَوْ بَاغٍ ظَالِمٍ، أَوْ مُتَعَالٍ أَوْ قَاهِرٍ كَمَا قَالَ: فَاعْمَدْ لِمَا تَعْلُو فَمَا لَكَ بِالَّذِي ... لَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الْأُمُورِ يَدَانِ أَيْ لِمَا تَقْهَرُ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَإِسْرَافُهُ كَوْنُهُ كَثِيرَ الْقَتْلِ وَالتَّعْذِيبِ. وَقِيلَ: كَوْنُهُ مِنْ أَخَسِّ الْعَبِيدِ فَادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ، وَهَذَا الْإِخْبَارُ مُبَيِّنٌ سَبَبَ خَوْفِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ. وَفِي الْآيَةِ مَسْلَاةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلَّةِ مَنْ آمَنَ لموسى وَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ مَعَ ظُهُورِ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ الْبَاهِرِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ لَهُ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَخِطَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ آمَنَ بِقَوْلِهِ: يَا قَوْمِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الذُّرِّيَّةُ كَانُوا مِنْ قَوْمِهِ، وَخَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ حِينَ اشْتَدَّ خَوْفُهُمْ مِمَّا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ مِنْ قَتْلِ الْآبَاءِ وَذَبْحِ الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ حِينَ قَالُوا إنا

_ (1) سورة يوسف: 12/ 82.

لَمُدْرَكُونَ. وَقِيلَ: حِينَ قَالُوا: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، قِيلَ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ جَوَابَ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَذْكُورٌ بَعْدَهُ وَهُوَ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «1» وَقَوْلُهُ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ «2» الْآيَةَ وَعُلِّقَ تَوَكُّلُهُمْ عَلَى شَرْطَيْنِ: مُتَقَدِّمٍ، وَمُتَأَخِّرٍ. وَمَتَى كَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ فِي الْوُجُودِ فَالشَّرْطُ الثَّانِي شَرْطٌ فِي الْأَوَّلِ، فَمِنْ حَيْثُ هُوَ شَرْطٌ فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ. فَالْإِسْلَامُ هُوَ الِانْقِيَادُ لِلتَّكَالِيفِ الصَّادِرَةِ مِنَ اللَّهِ، وَإِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَتَرْكُ التَّمَرُّدِ، وَالْإِيمَانُ عِرْفَانُ الْقَلْبِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِهِ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَإِذَا حَصَلَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فَوَّضَ الْعَبْدُ جَمِيعَ أُمُورِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. وَأُدْخِلَ أن على فِعْلَيِّ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَغْلَبِ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى غَيْرِ الْمُحَقَّقِ مَعَ عِلْمِهِ بِإِيمَانِهِمْ عَلَى وَجْهِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَتَنْبِيهِ الْأَنْفُسِ وَإِثَارَةِ الْأَنَفَةِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَقَاتِلْ، تُخَاطِبُ بِذَلِكَ رَجُلًا تُرِيدُ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ. وَطَوَّلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّوَكُّلِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَأَجَابُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُخْلِصِينَ فِي إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ، ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَوْضِعَ فِتْنَةٍ لَهُمْ، أَيْ عَذَابٍ تُعَذِّبُونَنَا أَوْ تَفْتِنُونَنَا عَنْ دِينِنَا، أَوْ فِتْنَةً لَهُمْ يُفْتَنُونَ بِهَا وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أُصِيبُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَأَبُو الضُّحَى وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَى الْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ: الْمَعْنَى لَا يَنْزِلُ بِنَا مَلَأُنَا بِأَيْدِيهِمْ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مُدَّةَ مُحَارَبَتِنَا لَهُمْ فَيُفْتَنُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَلَاكَنَا إِنَّمَا هُوَ بِقَصْدٍ مِنْكَ لِسُوءِ دِينِنَا وَصَلَاحِ دِينِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى لَا نَفْتِنُهُمْ ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فتعذبهم عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ قَلَقٌ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً بِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ عَلَيْنَا وَبَسْطِهِ لَهُمْ. وَالْآخَرُ: يُنْجِيهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ: مِنْ تَسْخِيرِهِمْ وَاسْتِعْبَادِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَأَنْ يَخْلُصُوا مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَدَّمُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ أَهَمُّ وَهُوَ سَلَامَةُ دِينِهِمْ لَهُمْ، وَأَخَّرُوا سَلَامَةَ أَنْفُسِهِمْ، إِذْ الِاهْتِمَامُ بِمَصَالِحِ الدِّينِ آكَدُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِمَصَالِحِ الْأَبْدَانِ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِ أَخِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ «3» وَتَبَوَّآ اتِّخِذَا مَبَاءَةً أَيْ مَرْجِعًا لِلْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ كَمَا تَقُولُ: تَوَطَّنَ

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 62. (2) سورة الأعراف: 7/ 129. (3) سورة يونس: 10/ 75.

[سورة يونس (10) : الآيات 88 إلى 109]

اتَّخَذَ مَوْطِنًا، وَالظَّاهِرُ اتِّخَاذُ البيوت بمصر. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَهِيَ مِصْرُ المحروسة، ومصر مِنَ الْبَحْرِ إِلَى أَسْوَانَ، وَالْأَسْكَنْدَرِيَّةُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْأَسْكَنْدَرِيَّةُ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَرَّبَ مَسَاجِدَهُمْ وَمَوَاضِعَ عِبَادَاتِهِمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَكَلَّفَهُمُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ. وَكَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ مَأْمُورِينَ بِأَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ فِي خُفْيَةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ لِئَلَّا يَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ، فَيَرُدُّوهُمْ وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ فِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ: تَبَوَّيَا بِالْيَاءِ، وَهَذَا تَسْهِيلٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، وَلَوْ جَرَى عَلَى الْقِيَاسِ لَكَانَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَجْعَلَ قِبْلَةً هِيَ الْمَأْمُورُ بِتَبَوُّئِهَا. وَمَعْنَى قِبْلَةً مَسَاجِدَ: أُمِرُوا بِأَنْ يَتَّخِذُوا بُيُوتَهُمْ مَسَاجِدَ قَالَهُ: النَّخَعِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: قِبَلَ مَكَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: أُمِرُوا بِأَنْ يَجْعَلُوهَا مُسْتَقْبِلَةَ الْكَعْبَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وابن جبير: قِبْلَةً يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَهَذَا قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَّا بَعْدَ إِجَارَةِ الْبَحْرِ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي: بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَتَبَوَّآ لِقَوْمِهِمَا وَيَخْتَارَاهَا لِلْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُفَوَّضُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ نَسَّقَ الْخِطَابَ عَامًّا لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْجُمْهُورِ، ثُمَّ خُصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّبْشِيرِ الَّذِي هُوَ الْغَرَضُ تَعْظِيمًا لَهُ وَلِلْمُبَشَّرِ بِهِ. [سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: لَمَّا بَالَغَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْعِنَادِ وَاشْتَدَّ أَذَاهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَهُمْ لَا يَزِيدُونَ عَلَى عَرْضِ الْآيَاتِ إِلَّا كُفْرًا، وَعَلَى الإنذار إلا استكبارا. أو علم بِالتَّجْرِبَةِ وَطُولِ الصُّحْبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُمْ إِلَّا الْغَيُّ وَالضَّلَالُ، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، دَعَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ كَمَا تَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَأَخْزَى الْكَفَرَةَ. كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الدُّعَاءِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ بِهِ وَلِشُكْرِ نِعَمِهِ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا لِجُحُودِهِ وَلِكُفْرِ نِعَمِهِ. وَالزِّينَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَيُتَحَسَّنُ مِنَ الْمَلْبُوسِ وَالْمَرْكُوبِ وَالْأَثَاثِ وَالْمَالُ، مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّامِتِ وَالنَّاطِقِ. قَالَ الْمُؤَرِّخُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ: كَانَ لَهُمْ فُسْطَاطُ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ جِبَالٌ فِيهَا مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ. وَفِي تَكْرَارِ رَبَّنَا تَوْكِيدٌ لِلدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَاللَّامُ فِي لِيُضِلُّوا الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ عَلَى مَعْنَى: آتَيْتَهُمْ مَا آتَيْتَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْرَاجِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ لِكَيْ يُضِلُّوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «2» وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَلِلْخَرَابِ يَجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ لِيَثْبُتُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَلِيَكُونُوا ضُلَّالًا، وَلِيَطْبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا. وَيَبْعُدُ أَنْ يكون دعاء قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لِيُضِلُّوا بِضَمِّ الْيَاءِ، إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يَدْعُوَ بِأَنْ يَكُونُوا مُضِلِّينَ غَيْرَهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ، وَقَتَادَةَ وَالْأَعْمَشِ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنِ، وَالْأَعْرَجِ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ: بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ بِكَسْرِهَا، وَالَى بَيْنَ الْكَسَرَاتِ الثَّلَاثِ. وَقِيلَ: لَا مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ قَالَهُ: أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ. وَقَرَأَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّقَاشِيُّ: أَإِنَّكَ آتَيْتَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْوَالِ وَهِيَ أَعَزُّ مَا ادُّخِرَ دَعَا بِالطُّمُوسِ عَلَيْهَا وَهِيَ التعفية

_ (1) سورة هود: 11/ 36. (2) سورة القصص: 28/ 8.

وَالتَّغْيِيرُ أَوِ الْإِهْلَاكُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: صَارَتْ دَرَاهِمُهُمْ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً صِحَاحًا وَأَثْلَاثًا وَأَنْصَافًا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعْدِنٌ إِلَّا طَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَحَدٌ بَعْدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ: أَهْلَكَهَا حَتَّى لَا تُرَى. وقال ابن زيد: أرض دَنَانِيرُهُمْ وَدَرَاهِمُهُمْ وَفُرُشُهُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُمْ حِجَارَةً. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: سَأَلَنِي عمر بن عبد العزيز فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَا بخريطة أصيبت بمصر فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْفَوَاكِهَ وَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَأَنَّهَا الْحِجَارَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَسَخَ اللَّهُ الثِّمَارَ وَالنَّخْلَ وَالْأَطْعِمَةَ حِجَارَةً. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَقْدِسِيِّ عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ وَهُوَ جَامِعُ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ: أَخْبَرَنِي جَمَاعِةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ كَانَ شُغْلُهُمُ السِّيَاحَةَ أَنَّهُمْ عَايَنُوا بِجِبَالِ مِصْرَ وَبَرَارِيهَا حِجَارَةً عَلَى هَيْئَةِ الدَّنَانِيرِ والدراهم، وفيها آثار النقش، وَعَلَى هَيْئَةِ الْفُلُوسِ، وَعَلَى هيئة البطيخ العبد لاويّ، وَهَيْئَةِ الْبِطِّيخِ الْأَخْضَرِ، وَعَلَى هَيْئَةِ الْخِيَارِ، وَعَلَى هَيْئَةِ الْقِثَّاءِ، وَحِجَارَةً مُطَوَّلَةً رَقِيقَةً مُعْوَجَّةً عَلَى هَيْئَةِ النُّقُوشِ، وَرُبَّمَا رَأَوْا عَلَى صُورَةِ الشَّجَرِ. وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ اطْبَعْ عَلَيْهَا وَامْنَعْهَا مِنَ الْأَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ: أَهْلِكْهُمْ كُفَّارًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اشْدُدْ عَلَيْهَا بِالضَّلَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسِّ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: اشْدُدْ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أي لا يجدوا سَلْوًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا صَبْرًا عَلَى ذَهَابِهَا. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ وَفِرْقَةٌ: اطْمُسْ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ. فَلَا يُؤْمِنُوا مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: فلا ينبسط مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انزوى ... ولا تلفينّ إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ وَمَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ اشْدُدْ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمَعْطُوفٌ عَلَى لِيُضِلُّوا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ قَالَهُ: الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن لَامَ لِيُضِلُّوا لَامُ الدُّعَاءِ، وَكَأَنَّ رُؤْيَةَ الْعَذَابِ غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِذْ ذَاكَ لَا يَنْفَعُ وَلَا تخرج مِنَ الْكُفْرَ، وَكَانَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ غَرَقَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَ مُوسَى يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤْمِنُ، فَنُسِبَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا دَعَوَا، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَنَّى عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ بُعْدَ مُخَاطَبَتِهِمَا فِي غَيْرِ شَيْءٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمْ تَظْهَرْ إِجَابَتُهَا إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَعْلَمَا أَنَّ دُعَاءَهُمَا صَادَفَ مَقْدُورًا، وَهَذَا مَعْنَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ. وقيل لهما: لا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ

الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فِي أَنْ تَسْتَعْجِلَا قَضَائِيَ، فَإِنَّ وَعْدِيَ لَا خُلْفَ لَهُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ: دَعَوَاتُكُمَا عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ: قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَكُمَا خَبَرًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَصَبَ دَعْوَةٍ وَالرَّبِيعُ دَعْوَتَيْكُمَا، وَهَذَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَارُونَ دَعَا مَعَ مُوسَى. وَقِرَاءَةُ دَعْوَتَيْكُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ قَدْ أَجَبْتُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، ثُمَّ أُمِرَا بِالِاسْتِقَامَةِ، وَالْمَعْنَى: الدَّيْمُومَةُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا أُمِرْتُمَا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلْزَامِ حُجَّةِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَتَّبِعَانِّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالنُّونِ، وَابْنُ عباس وابن زكوان بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَشَدِّ النُّونِ، وَابْنُ ذَكْوَانَ أَيْضًا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَفِرْقَةٌ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَرَوَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، فَأَمَّا شَدُّ النُّونِ فَعَلَى أَنَّهَا نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةُ لَحِقَتْ فِعْلَ النَّهْيِ الْمُتَّصِلَ بِهِ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ، وَأَمَّا تَخْفِيفُهَا مَكْسُورَةً فَقِيلَ: هِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةُ، وَكُسِرَتْ كَمَا كُسِرَتِ الشَّدِيدَةُ. وَقَدْ حَكَى النَّحْوِيُّونَ كَسْرَ النُّونِ الْخَفِيفَةِ فِي مِثْلِ هَذَا عَنِ الْعَرَبِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ هُنَا الْخَفِيفَةُ، وَيُونُسُ وَالْفَرَّاءُ يَرَيَانِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: النُّونُ الْمَكْسُورَةُ الْخَفِيفَةُ هِيَ عَلَامَةُ الرَّفْعِ، وَالْفِعْلُ مَنْفِيٌّ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: غَيْرُ مُتَّبِعِينَ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ. وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ الْقَضَاءَ قَبْلَ مَجِيئِهِ، ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَجَوَّزْنَا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ في الباء في ببني إِسْرَائِيلَ، وَكَمْ كَانَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فَاتَّبَعَهُمْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وجاوزنا فاتبعهم رُبَاعِيًّا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ مَنْ جَوَّزَ الَّذِي فِي بَيْتِ الْأَعْشَى: وَإِذَا تُجَوُّزُهَا جبال قَبِيلَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْهُ لَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يقال: وجوزنا ببني إِسْرَائِيلَ فِي الْبَحْرِ كَمَا قَالَ: كَمَّا جَوَّزَ السُّبْكِيُّ فِي الْبَابِ فَيْنَقُ انْتَهَى.

وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَبِعَ وَاتَّبَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأَتْبَعَهُمْ لَحِقَهُمْ، يُقَالُ: تَبِعَهُ حَتَّى اتَّبَعَهُ. وَفِي اللَّوَامِحِ: تَبِعَهُ إِذَا مَشَى خَلْفَهُ، وَاتَّبَعَهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حَاذَاهُ فِي الْمَشْيِ وَاتَّبَعَهُ لَحِقَهُ، وَمِنْهُ الْعَامَّةُ يَعْنِي: وَمِنْهُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَأَتْبَعَهُمْ وَجُنُودُ فِرْعَوْنَ قِيلَ: أَلْفُ أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَعُدُوًّا عَلَى وَزْنِ عُلُوٍّ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْأَنْعَامِ. وَعَدْوًا وَعُدُوًّا مِنَ الْعُدْوَانِ، وَاتِّبَاعُ فِرْعَوْنَ هُوَ فِي مُجَاوَزَةِ الْبَحْرِ. رُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ فَوَجَدَهُ قَدِ انْفَرَقَ وَمَضَى فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّمَا انْفَلَقَ بِأَمْرِي، وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ ذَكَرٍ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، وَدَنَوْا فَدَخَلَ بِهَا الْبَحْرَ وَلَجَّ فَرَسُ فِرْعَوْنَ ورآه وَجَنْبُ الْجُيُوشِ خَلْفَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ الِانْفِرَاقَ ثَبَتَ لَهُ اسْتَمَرَّ، وَبَعَثَ اللَّهُ مِيكَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسُوقُ النَّاسَ حَتَّى حَصَلَ جَمِيعُهُمْ فِي الْبَحْرِ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى حَذْفِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ: بِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، أَوْ بَدَلًا مِنْ آمَنَتْ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ: قَائِلًا أَنَّهُ. وَلَمَّا لَحِقَهُ مِنَ الدَّهَشِ مَا لَحِقَهُ كَرَّرَ الْمَعْنَى بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّلَعْثُمِ إِذْ ذَلِكَ مَقَامٌ تَحَارُ فِيهِ الْقُلُوبُ، أَوْ حِرْصًا عَلَى الْقَبُولِ وَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ إِذْ فَاتَهُ وَقْتُ الْقَبُولِ وَهُوَ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ وَبَقَاءُ التَّكْلِيفِ، وَالتَّوْبَةُ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ لَا تَنْفَعُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ «1» وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الْآنَ فِي قَوْلِهِ: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ «2» وَالْمَعْنَى: أَتُؤْمِنُ السَّاعَةَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ حِينَ أَدْرَكَكَ الْغَرَقُ وَأَيِسْتَ مِنْ نَفْسِكَ؟ قِيلَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ أَلْجَمَهُ الْغَرَقُ. وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ غَرِقَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي يُحْكَى أَنَّهُ حِينَ قَالَ: آمَنْتُ، أخذ جبريل من حال الْبَحْرِ فَدَسَّهُ فِي فِيهِ، فَلِلْغَضَبِ فِي اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَالِ الْكَافِرِ فِي وَقْتٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّ إِيمَانَهُ لَا يَنْفَعُهُ. وَأَمَّا مَا يُضَمُّ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ خَشِيتُ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ زِيَادَاتِ الْبَاهِتِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ، وَفِيهِ جَهَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَصِحُّ بِالْقَلْبِ كإيمان الأخرس، فحال الْبَحْرِ لَا يَمْنَعُهُ. وَالْآخَرُ: أَنَّ مَنْ كَرِهَ الْإِيمَانِ لِلْكَافِرِ وَأَحَبَّ بَقَاءَهُ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: آلْآنَ إِلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَهُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ. فَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ. وَقِيلَ: مِيكَائِيلُ. وَقِيلَ: غَيْرُهُمَا، لِخِطَابِهِ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ فِي نَفْسِهِ وَإِفْسَادِهِ وَإِضْلَالِهِ النَّاسَ، وَدَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ «3» فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ. وَقِيلَ: هو استفهام

_ (1) سورة غافر: 40/ 85. (2) سورة يونس: 10/ 51. (3) سورة النحل: 16/ 88. [.....]

فِيهِ تَهْدِيدٌ أَيْ: أَفَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ؟ فَهَلَّا كَانَ الْإِيمَانُ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلِقَوْلِهِ: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لا يناسب هنا الِاسْتِفْهَامَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُنَجِّيكَ نُلْقِيكَ بِنَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَبِبَدَنِكَ بِدِرْعِكَ، وَكَانَ مِنْ لُؤْلُؤٍ مَنْظُومٍ لَا مِثَالَ لَهُ. وَقِيلَ: مِنْ ذَهَبٍ. وَقِيلَ: مِنْ حَدِيدٍ وَفِيهَا سَلَاسِلُ مِنْ ذَهَبٍ. وَالْبَدَنُ بَدَنُ الْإِنْسَانِ، وَالْبَدَنُ الدِّرْعُ الْقَصِيرَةُ. قَالَ: تَرَى الْأَبْدَانَ فِيهَا مُسْبَغَاتٍ ... عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْكَلْبِ الْحَصِينَا يَعْنِي: الدُّرُوعَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كرب: أَعَاذِلَ شَكَّتِي بَدَنِي وَسَيْفِي ... وَكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسِ الْقِيَادِ وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ مِنْ ذَهَبٍ يُعْرَفُ بِهَا. وَقِيلَ: نُلْقِيكَ بِبَدَنِكَ عُرْيَانًا لَيْسَ عَلَيْكَ ثِيَابٌ وَلَا سِلَاحٌ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إِهَانَتِهِ. وَقِيلَ: نُخْرِجُكَ صَحِيحًا لَمْ يَأْكُلْكَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ. وَقِيلَ: بِدْنًا بِلَا رُوحٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: نُخْرِجُكَ مِنْ مُلْكِكَ وَحِيدًا فَرِيدًا. وَقِيلَ: نُلْقِيكَ فِي الْبَحْرِ مِنَ النَّجَاءِ، وَهُوَ مَا سَلَخْتَهُ عَنِ الشَّاةِ أَوْ أَلْقَيْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ سِلَاحٍ. وَقِيلَ: نَتْرُكُكَ حَتَّى تَغْرَقَ، وَالنَّجَاءُ التَّرْكُ. وَقِيلَ: نَجْعَلُكَ عَلَامَةً، وَالنَّجَاءُ الْعَلَامَةُ. وَقِيلَ: نُغْرِقُكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَجَّى الْبَحْرُ أَقْوَامًا إِذَا أَغْرَقَهُمْ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجَاةِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ أَيْ: نُسْرِعُ بِهَلَاكِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى بِبَدَنِكَ بِصُورَتِكَ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا، وَكَانَ قَصِيرًا أَشْقَرَ أَزْرَقَ قَرِيبَ اللِّحْيَةِ مِنَ الْقَامَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ شَبِيهٌ لَهُ يَعْرِفُونَهُ بِصُورَتِهِ، وَبِبَدَنِكَ إِذَا عُنِيَ بِهِ الْجُثَّةُ تَأْكِيدٌ كَمَا تَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ بِلِسَانِهِ وَجَاءَ بِنَفْسِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: نُنْجِيكَ مُخَفَّفًا مُضَارِعُ أَنْجَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ السَّمَيْقَعِ، وَيَزِيدُ الْبَرْبَرِيُّ: نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ التَّنْحِيَةِ. وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ: نُلْقِيكَ بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ. قَالَ كَعْبٌ: رَمَاهُ الْبَحْرُ إِلَى الساحل كأنه ثور. وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِأَبْدَانِكَ أَيْ بِدُرُوعِكَ، أَوْ جُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ بَدَنًا كَقَوْلِهِمْ: شَابَتْ مَفَارِقُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ السَّمَيْقَعِ: بِنِدَائِكَ مَكَانَ بِبَدَنِكَ، أَيْ: بِدُعَائِكَ، أَيْ بِقَوْلِكَ آمَنْتُ إِلَى آخِرِهِ. لِنَجْعَلَكَ آيَةً مَعَ نِدَائِكَ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، أَوْ بِمَا نَادَيْتَ بِهِ فِي قَوْمِكَ. وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، ويا أيها الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. وَلَمَّا كَذَّبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِغَرَقِ فِرْعَوْنَ رَمَى بِهِ الْبَحْرُ عَلَى سَاحِلِهِ حَتَّى رَأَوْهُ قَصِيرًا أَحْمَرَ كَأَنَّهُ ثَوْرٌ. لِمَنْ خَلْفَكَ لِمَنْ وَرَاءَكَ عَلَامَةً وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنْ أَنْ

يَغْرَقَ، وَكَانَ مَطْرَحُهُ عَلَى مَمَرِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قِيلَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. وَقِيلَ: لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنَ الْقُرُونِ، وَقِيلَ: لِمَنْ بَقِيَ مِنْ قِبْطِ مِصْرَ وغيرهم. وقرىء: لِمَنْ خَلَفَكَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْفَرَاعِنَةِ لِيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَكَ إِذَا فَعَلُوا فِعْلَكَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ آيَةً: أَنْ يَظْهَرَ لِلنَّاسِ عُبُودِيَّتُهُ وَمَهَانَتُهُ، أَوْ لِيَكُونَ عِبْرَةً يَعْتَبِرُ بِهَا الْأُمَمُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: لِمَنْ خَلَقَكَ مِنَ الْخَلْقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: لِيَجْعَلَكَ اللَّهُ آيَةً لَهُ فِي عِبَادِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيَكُونَ طَرْحُكَ عَلَى السَّاحِلِ وَحْدَكَ، وَتَمْيِيزُكَ مِنْ بَيْنِ الْمُغْرَقِينَ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُكَ، وَلِئَلَّا يَقُولُوا لِادِّعَائِكَ الْعَظَمَةَ: إِنَّ مِثْلَهُ لَا يَغْرَقُ وَلَا يَمُوتُ، آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ظَاهِرُهُ النَّاسُ كَافَّةً، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنْ آيَاتِنَا أَيِ: العلامات الدالة على الوحدانية وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَلِيِّ، لَغَافِلُونَ لَا يَتَدَبَّرُونَ، وَهَذَا خَبَرٌ فِي ضِمْنِهِ تَوَعَّدٌ. وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا جرى لفرعون وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، ذَكَرَ ما أحسن به لبني إِسْرَائِيلَ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ أُخْرِجُوا مِنْ مَسَاكِنِهِمْ خَائِفِينَ مِنْ فِرْعَوْنَ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الْأَمَاكِنِ أَحْسَنَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا آمَنُوا بموسى وَنَجَوْا مِنَ الْغَرَقِ، وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَشْهَدُ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، وَانْتَصَبَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَبَوَّأْنَا كَقَوْلِهِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «1» وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. وَمَعْنَى صِدْقٍ أَيْ: فَضْلٍ وَكَرَامَةٍ وَمِنْهُ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «2» . وَقِيلَ: مَكَانَ صِدْقِ الْوَعْدِ، وَكَانَ وَعَدَهُمْ فَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ. وَقِيلَ: صِدْقٍ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبِرَّ مِنَ الصِّدْقِ. وَقِيلَ: صَدَقَ فِيهِ ظَنُّ قَاصِدِهِ وَسَاكِنِهِ. وَقِيلَ: مَنْزِلًا صَالِحًا مُرْضِيًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ: الشَّامُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: مِصْرُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: مِصْرُ وَالشَّامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ الشَّامُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ بِحَسَبِ مَا حُفِظَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا إِلَى مِصْرَ، عَلَى أَنَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَذَلِكَ. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «3» يَعْنِي مَا تَرَكَ الْقِبْطُ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ يحتمل أن يكون

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 58. (2) سورة القمر: 54/ 55. (3) سورة الشعراء: 26/ 59.

وَأَوْرَثْنَاهَا مَعْنَاهَا الْحَالَّةُ مِنَ النِّعْمَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي قُطْرٍ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ مِنْ أَرْضِ يَثْرِبَ ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمُ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ بَوَّأَهُمْ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ذَكَرَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَهِيَ: الْمَآكِلُ الْمُسْتَلَذَّاتُ، أَوِ الْحَلَّالُ، فَمَا اخْتَلَفُوا أَيْ: كَانُوا عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَطَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ حَالِهِ، حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ: عِلْمُ التَّوْرَاةِ فَاخْتَلَفُوا، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ. أَيْ أَنَّ سَبَبَ الْإِيقَافِ هُوَ الْعِلْمُ، فَصَارَ عِنْدَهُمْ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ، فَتَشَعَّبُوا شعبا بعد ما قرؤوا التَّوْرَاةَ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ بِمَعْنَى المعلوم، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، لِأَنَّ رِسَالَتَهُ كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ مَكْتُوبَةً فِي التَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ أَيْ: يَسْتَنْصِرُونَ، وَكَانُوا قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُجْمِعِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ فِي الْحُرُوبِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ بِحُرْمَةِ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ انْصُرْنَا فَيُنْصَرُونَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالُوا: النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، وَهَذَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَلَيْسَ هُوَ ذَاكَ، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ الْقُرْآنُ، وَاخْتِلَافُهُمْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَ لَنَا إِنَّمَا هُوَ لِلْعَرَبِ. وَصَدَّقَ بِهِ قَوْمٌ فَآمَنُوا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَقْضِي فِيهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُمَيِّزُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ. فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ إِنْ شَرْطِيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مِمَّا كُنْتَ في شك فسئل، يَعْنِي: لَا نَأْمُرُكَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّكَ شَاكٌّ، وَلَكِنْ لِتَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا ازْدَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُعَايَنَةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ إِنْ شَرْطِيَّةً فَذَكَرُوا أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُمْكِنِ وَجُودُهُ، أو المحقق وجوده، الْمُبْهَمِ زَمَانُ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» وَالَّذِي أَقُولُهُ: أَنَّ إِنِ الشَّرْطِيَّةَ تَقْتَضِي تَعْلِيقَ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا تَسْتَلْزِمُ تَحَتُّمَ وُقُوعِهِ وَلَا إِمْكَانِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «2» وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ فِي شَكٍّ، وَفِي الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ «3» أَيْ فافعل. لكنّ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 34. (2) سورة الزخرف: 43/ 81. (3) سورة الأنعام: 6/ 35.

وُقُوعَ إِنْ لِلتَّعْلِيقِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ قَلِيلٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّوَابُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وَالْمُرَادُ بِهَا سِوَاهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ أَوْ يُعَارِضَ انْتَهَى. ولذلك جاء: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «1» وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَامُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَبِرَّنِي، وَلَيْسَ هَذَا الْمِثَالُ بِجَيِّدٍ، وَإِنَّمَا مِثَالُ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ «2» انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ، وَضَعُفَ بِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةَ: أَأَنْتَ فِي شَكٍّ؟ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّكِّ. وَقِيلَ: كَنَّى هُنَا بِالشَّكِّ عَنِ الضِّيقِ أَيْ: فَإِنْ كُنْتَ فِي ضَيْقٍ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَتَعَنُّتِهِمْ عَلَيْكَ. وَقِيلَ: كَنَّى بِالشَّكِّ عَنِ الْعَجَبِ أَيْ: فَإِنْ كُنْتَ فِي تَعَجُّبٍ مِنْ عِنَادِ فِرْعَوْنَ. وَمُنَاسَبَةُ الْمَجَازِ أَنَّ التَّعَجُّبَ فِيهِ تَرَدُّدٌ، كَمَا إِنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ أَنَّ هَذَا عَادَتُهُمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَسَلْهُمْ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بِمَعْنَى الْعَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ وَقَعَ لَكَ شَكٌّ مَثَلًا وَخَيَّلَ لَكَ الشَّيْطَانُ خَيَالًا مِنْهُ تَقْدِيرًا فسئل الذين يقرؤون الْكِتَابَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ قَرَأَةُ الْكِتَابِ، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ جَاءَهُمْ، لِأَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ عَلَيْهِمْ بِصِحَّةِ الْقُرْآنِ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُبَالِغَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ وَقَعَ لَكَ شَكٌّ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا وَسَبِيلُ مَنْ خَالَجَتْهُ شُبْهَةٌ فِي الدِّينِ أَنْ يُسَارِعَ إِلَى حَلِّهَا وَإِمَاطَتِهَا، إِمَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوَانِينِ الدِّينِ وَأَدِلَّتِهِ، وَإِمَّا بِمُقَادَحَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُنَبِّهِينَ عَلَى الْحَقِّ انْتَهَى. وَقِيلَ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَقَرَأَ يحيى وابراهيم: يقرؤون الْكُتُبَ عَلَى الْجَمْعِ. وَالْحَقُّ هُنَا: الْإِسْلَامِ، أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ النُّبُوَّةُ، أَوِ الْآيَاتُ، وَالْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ، أَقْوَالٌ. فَاثْبُتْ وَدُمْ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ انْتِفَاءِ الْمِرْيَةِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْخِطَابُ لِلسَّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ. وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْخِطَابُ فِي ظَاهِرِهِ لِشَخْصٍ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ بَلْ أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا شَكَّ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا سَأَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ. وَالِامْتِرَاءُ التَّوَقُّفُ فِي الشَّيْءِ وَالشَّكُّ فِيهِ، وَأَمْرُهُ أَسْهَلُ مِنْ أمر المكذب فبدىء بِهِ أَوَّلًا فَنُهِيَ عَنْهُ، وَأُتْبِعَ بِذِكْرِ الْمُكَذِّبِ وَنَهَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ.

_ (1) سورة يونس: 10/ 104. (2) سورة المائدة: 5/ 116.

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ: ذَكَرَ تَعَالَى عِبَادًا قَضَى عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي حَقَّتْ عَلَيْهِمْ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ اللَّعْنَةُ وَالْغَضَبُ. وَقِيلَ: وَعِيدُهُ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي كَتَبَ فِي اللَّوْحِ وَأَخْبَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ كُفَّارًا فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ، وَتِلْكَ كِتَابَةُ مَعْلُومٍ لَا كتابة مقدر ومراد لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ أَخِيرًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ كَلِمُ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَإِخْبَارُهُ عَنْهُ، وَخَلْقُهُ فِي الْعَبْدِ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ، وَالدَّاعِيَةَ وَهُوَ مُوجِبٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ لَهُمْ سَخَطَهُ مِنَ الْأَزَلِ وَخَلَقَهُمْ لِعَذَابِهِ، فَلَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمْ كُلُّ بَيَانٍ وَكُلُّ وُضُوحٍ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُمْ فِيهِ الْإِيمَانُ، كَمَا صَنَعَ فِرْعَوْنُ وَأَشْبَاهُهُ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْمُعَايَنَةِ. وَفِي ضِمْنِ الْأَلْفَاظِ التَّحْذِيرُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَبَعْثُ كُلٍّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْفِرَارِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ عِنْدَ تَقَطُّعِ أَسْبَابِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ كَلِمَةٌ بِالْإِفْرَادِ وَبِالْجَمْعِ. فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ: لَوْلَا هُنَا هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ الَّتِي صَحِبَهَا التَّوْبِيخُ، وَكَثِيرًا مَا جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّحْضِيضِ، فَهِيَ بِمَعْنَى هَلَّا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ فَهَلَّا، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفَيْهِمَا. وَالتَّحْضِيضُ أَنْ يُرِيدَ الْإِنْسَانُ فِعْلَ الشَّيْءِ الَّذِي يَحُضُّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ لِلتَّوْبِيخِ فَلَا يُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ الْحَضَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَيْ لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا لَمْ يَقْصِدْ حَضَّهُمْ عَلَى عَقْرِ الْكَمِيِّ الْمُقَنَّعِ، وَهُنَا وَبَّخَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ النَّافِعِ. وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا آمَنَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهُمْ عَلَى مَهَلٍ لَمْ يَلْتَبِسِ الْعَذَابُ بِهِمْ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ نَافِعًا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وقوم مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ، إِذْ لَيْسُوا مُنْدَرِجِينَ تَحْتَ لَفْظِ قَرْيَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى الْهَالِكَةِ إِلَّا قَوْمُ يُونُسَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَكَذَلِكَ رَسَمَهُ النَّحْوِيُّونَ وَهُوَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ مَا آمَنَ أَهْلُ قَرْيَةٍ إِلَّا قَوْمُ يُونُسَ، وَالنَّصْبُ هُوَ الْوَجْهُ، وَلِذَلِكَ

أَدْخَلَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ، وَذَلِكَ مَعَ انْقِطَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ، وَهَذَا مَعَ اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَرْيَةٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ عَنِ الْحَرَمِيِّ وَالْكِسَائِيِّ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ يُونُسَ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا، وَذُكِرَ جَوَازُ فَتْحِهَا. وَقَوْمُ يُونُسَ: هُمْ أَهْلُ نِينَوَى مِنْ بِلَادِ الْمَوْصِلِ، كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يُونُسَ فَأَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ سَبْعَ سِنِينَ، وَتَوَعَّدَهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ قِصَّةَ قَوْمِ يُونُسَ وَتَفَاصِيلَ فِيهَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَيُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَذَكَرَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ خُصُّوا مِنْ بَيْنِ الأمم بأن ينب عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ دَنَا مِنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَمْ يُبَاشِرْهُمْ كَمَا بَاشَرَ فِرْعَوْنَ، فَكَانُوا كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ الْمَوْتَ وَيَرْجُو الْعَافِيَةَ، فَأَمَّا الَّذِي يُبَاشِرُهُ الْعَذَابُ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عَلِمَ مِنْهُمْ صِدْقَ النِّيَّاتِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْهَالِكِينَ. قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَى حِينٍ، إِلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ بَاقِينَ أَحْيَاءً، وَسَتَرَهُمُ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ: قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسِفَ بِمَوْتِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِهِ. وَلَمَّا كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَأَسْعَى فِي وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ وَالْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ اجْتِهَادًا فِي نَجَاةِ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَذَابِ، أَخْبَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ أَهْلًا لِلسَّعَادَةِ وَأَهْلًا لِلشَّقَاوَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ كُلِّهِمْ لَفَعَلَ، وَأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدٍ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَاهِرَةَ وَالْمَشِيئَةَ النَّافِذَةَ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ تَعَالَى. وَتَقْدِيمُ الِاسْمِ فِي الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ حُصُولِ الْفِعْلِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى الْإِيمَانِ لَوْ شَاءَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَشِيئَةَ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ جَمِيعًا، مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ، مُطْبِقِينَ عَلَيْهِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ يَعْنِي إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى إِكْرَاهِهِمْ وَاضْطِرَارِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ هَؤُلَاءِ أَنْتَ. وَإِتْلَاءُ الِاسْمِ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ

مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْمُكْرِهِ مَنْ هُوَ، وَمَا هُوَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَلَا يُشَارَكُ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا يَضْطَرُّونَ عِنْدَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ لِلْبَشَرِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مَشِيئَةُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِنَّمَا كَانَ جَمِيعُهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ الْجَمِيعُ مُؤْمِنًا، فَلَا تَتَأَسَّفْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ، وَادْعُ وَلَا عَلَيْكَ، فَالْأَمْرُ مَحْتُومٌ. أَتُرِيدُ أَنْتَ أَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ بِإِدْخَالِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَضْطَرَّهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَاءَ غَيْرَهُ؟ فَهَذَا التَّأْوِيلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ مَحْكَمَةٌ أَيِ: ادْعُ وَقَاتِلْ مَنْ خَالَفَكَ، وَإِيمَانُ مَنْ آمَنَ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمَشِيئَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ؟ وَزَعَمَتْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَالْآيَةُ عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ رَادَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ انْتَهَى. وَلِذَلِكَ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى تَفْسِيرِ الْمَشِيئَةِ بِمَشِيئَةِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي. وَمَعْنَى إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِذَلِكَ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَسْهِيلِهِ وَهُوَ مَنْحُ الْإِلْطَافِ. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ: وَهُوَ الْخِذْلَانُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَسُمِّيَ الْخِذْلَانُ رِجْسًا وَهُوَ الْعَذَابُ، لِأَنَّهُ سَبَبُهُ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّجْسُ السَّخَطُ، وَعَنْهُ الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالزَّجَّاجُ: الْعَذَابُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَذَابُ وَالْغَضَبُ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْكُفْرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّيْطَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَلَكِنْ نَقَلْنَا مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ هُنَا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْزَ بِالزَّايِ. قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ. فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ: أَمَرَ تَعَالَى بِالْفِكْرِ فِيمَا أَوْدَعَهُ تَعَالَى في السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى هُوَ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، فَفِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَمَقَادِيرِهَا وَأَوْضَاعِهَا وَالْكَوَاكِبِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَفِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فِي أَحْوَالِ الْعَنَاصِرِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَخُصُوصًا حَالُ الْإِنْسَانِ. وَكَثِيرًا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْحَضَّ عَلَى الْفِكْرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ تَعَالَى وَقَالَ: مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ تَنْبِيهًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَالْعَاقِلُ يَتَنَبَّهُ لِتَفَاصِيلِهَا وَأَقْسَامِهَا. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّظَرِ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ لَا تُغْنِيهِ الْآيَاتُ.

وَالنُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ، إِمَّا مَصْدَرٌ فَمَعْنَاهُ الْإِنْذَارَاتُ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مُنْذِرٌ فَمَعْنَاهُ الْمُنْذِرُونَ وَالرُّسُلُ. وَمَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلنَّفْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ تُغْنِي الْآيَاتُ وَهِيَ الدَّلَائِلُ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ. وَفِي الْآيَةِ تَوْبِيخٌ لِحَاضِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْكِسَائِيُّ: قُلِ انْظُرُوا بِضَمِّ اللام، وقرىء: وَمَا تُغْنِي بِالتَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَبِالْيَاءِ. وَمَاذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، والخبر في السموات. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَصِلَتُهُ في السموات. وَانْظُرُوا مُعَلَّقَةٌ، فَالْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهُ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ مَفْعُولًا لِقَوْلِهِ: انْظُرُوا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ بِإِلَى، وَإِنْ كَانَتْ قَلْبِيَّةً تَعَدَّتْ بِفِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي، مَفْعُولَةً لِقَوْلِهِ: انْظُرُوا، مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: مَاذَا أَيْ: تَأَمَّلُوا نُذُرَ غِنَى الْآيَاتِ. وَالنُّذُرِ عَنِ الْكُفَّارِ إِذَا قَبِلُوا ذَلِكَ، كَفِعْلِ قَوْمِ يُونُسَ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُنْجِي مِنَ الْهَلَكَاتِ. وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَجَوُّزُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إِنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَهَذَا احْتِمَالٌ فِيهِ ضَعْفٌ. وَفِي قَوْلِهِ: مَفْعُولَةً مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ مَاذَا، تَجَوُّزٌ يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ الَّتِي هِيَ مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ مَاذَا مَنْصُوبٌ وَحْدَهُ بِانْظُرُوا، فَيَكُونُ مَاذَا مَوْصُولَةً. وَانْظُرُوا بَصَرِيَّةً لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَيَّامُ هُنَا وَقَائِعُ اللَّهِ فيم، كَمَا يُقَالُ أَيَّامُ الْعَرَبِ لِوَقَائِعِهَا. وَفِي الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٌ وَتَوَعَّدٌ، وَحَضٌّ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا لَجُّوا فِي الْكُفْرِ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَإِذَا آمَنُوا نَجَوْا، هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. قُلْ فَانْتَظِرُوا أَمْرُ تَهْدِيدٍ أَيِ: انْتَظِرُوا مَا يَحِلُّ بِكُمْ كَمَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ المكذبة ومضرحا بِهَلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حِكَايَةِ حَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ فَقَالَ: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا، وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ خَلَوْا أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، ثُمَّ نَجَّيْنَا الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ نُنَجِّي مَعْطُوفٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: نُهْلِكُ الْأُمَمَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا عَلَى مِثْلِ الْحِكَايَاتِ الْمَاضِيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ الَّذِي نَجَّيْنَا الرُّسُلَ وَمُؤْمِنِيهِمْ، نُنَجِّي مَنْ آمَنَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَيَكُونُ حَقًّا عَلَى تَقْدِيرِ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وَقَالَ أَبُو

الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا بَدَلًا مِنَ الْمَحْذُوفِ النَّائِبِ عَنْهُ الْكَافُ تَقْدِيرُهُ: إِنْجَاءُ مِثْلِ ذَلِكَ حَقًّا. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَحَقًّا مَنْصُوبَيْنِ بِنُنْجِي الَّتِي بَعْدَهُمَا، وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ منصوبا بننجي الأولى، وحقا بننجي الثَّانِيَةِ، وَأَجَازَ هُوَ تَابِعًا لابن عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَقَدَّرَهُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: وَحَقًّا مَنْصُوبٌ بِمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ نُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ وَنُهْلِكُ الْمُشْرِكِينَ، وَحَقًّا عَلَيْنَا اعْتِرَاضٌ يَعْنِي حَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا. قَالَ الْقَاضِي: حَقًّا عَلَيْنَا الْمُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ، لِأَنَّ تَخْلِيصَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ إِلَى الثَّوَابِ وَاجِبٌ، ولو لاه مَا حَسُنَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُلْزِمَهُمُ: الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ. وَإِذَا ثَبَتَ لِهَذَا السَّبَبِ جَرَى مَجْرَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِلسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ حَقٌّ. بِحَسَبِ الْوَعْدِ وَالْحُكْمِ لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى خَالِقِهِ شَيْئًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّخْفِيفِ مُضَارِعُ أَنْجَى، وَخَطُ الْمُصْحَفِ نُنْجِ بِغَيْرِ يَاءٍ. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَ مَا أَنَا عَلَيْهِ فَأَنَا أُبَيِّنُهُ لَكُمْ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالِانْتِفَاءِ مِنْ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ تَسْفِيهًا لِآرَائِهِمْ، وَأَثْبَتَ ثَانِيًا مَنِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ. وَفِي ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ الْوَسَطِ الدَّالِّ عَلَى التَّوَفِّي. دِلَالَةٌ عَلَى الْبَدْءِ وَهُوَ الْخَلْقُ، وَعَلَى الْإِعَادَةِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَيَتَوَفَّاكُمْ وَيُعِيدُكُمْ، وَكَثِيرًا مَا صُرِّحَ فِي الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْأَطْوَارِ الثَّلَاثَةِ، وَكَانَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْمَوْتِ وَإِرْهَابِ النُّفُوسِ بِهِ، وَصَيْرُورَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ بَعْدَهُ، فَهُوَ الْجَدِيرُ بِأَنْ يُخَافَ وَيُتَّقَى وَيُعْبَدَ لَا الْحِجَارَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ، وَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَغْلَبَ مَا عَلَيْهَا عَمَلُ الْجَوَارِحِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ له، المفرد لَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَانْتَقَلَ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ إِلَى نُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَطَابَقَ الْبَاطِنُ الظَّاهِرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِمَا رَكَّبَ فِيَّ مِنْ الْعَقْلِ، وَبِمَا أَوْحَى إِلَيَّ فِي كِتَابِهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي وَمِمَّا أَنَا عَلَيْهِ، أَأَثْبُتُ أَمْ أَتْرُكُهُ وَأُوَافِقُكُمْ، فَلَا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْمُحَالِ، وَلَا تَشُكُّوا فِي

أَمْرِي، وَاقْطَعُوا عَنِّي أَطْمَاعَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي لَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَا أَخْتَارُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى كَقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ «1» وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَصْلُهُ: بِأَنْ أَكُونَ، فَحُذِفَ الْجَارُ وَهَذَا الْحَذْفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَذْفِ الْمُطَّرِدِ الَّذِي هُوَ حَذْفُ الْحُرُوفِ الْجَارَّةِ، مَعَ أَنْ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَذْفِ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» انْتَهَى يَعْنِي بِالْحَذْفِ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، إِنَّهُ لَا يُحْذَفُ حَرْفُ الْجَرِّ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي إِلَّا فِي أَفْعَالٍ مَحْصُورَةٍ سَمَاعًا لَا قِيَاسًا وَهِيَ: اخْتَارَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَأَمَرَ، وَسَمَّى، وَلَبَّى، وَدَعَا بِمَعْنَى سَمَّى، وَزَوَّجَ، وَصَدَّقَ، خِلَافًا لِمَنْ قَاسَ الْحَذْفَ بِحَرْفِ الْجَرِّ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، حَيْثُ يَعْنِي الْحَرْفَ وَمَوْضِعُ الْحَذْفِ نَحْوُ: بَرَيْتُ الْقَلَمَ بِالسِّكِّينِ، فَيُجِيزُ السِّكِّينَ بِالنَّصْبِ. وَجَوَابُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ قَوْلُهُ: فَلَا أَعْبُدُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنَا لَا أَعْبُدُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْفِيُّ بِلَا إِذَا وَقَعَ جَوَابًا انْجَزَمَ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ عُلِمَ أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ. وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَفَعَ دُونَ لَا لِقَوْلِهِ. وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أَيْ: فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ: فَلَا أَعْبُدُ، مَعْنَى فَأَنَا مُخَالِفُكُمْ. وَأَنْ أَقِمْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِقَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ، مُرَاعًى فِيهَا الْمَعْنَى. لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ أَكُونَ كُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ أَنْ مَصْدَرِيَّةً صِلَتُهَا الْأَمْرُ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ، فَلَمْ يَلْتَزِمُوا فِي صِلَتِهَا مَا الْتُزِمَ فِي صِلَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا خَبَرِيَّةً بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي النَّحْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَقِمْ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ تَفْسِيرٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُقَدَّرَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ وَإِضْمَارُ الْفِعْلِ أَوْلَى، لِيَزُولَ قَلَقُ الْعَطْفِ لِوُجُودِ الْكَافِ، إِذْ لَوْ كَانَ وَأَنْ أَقِمْ عَطْفًا عَلَى أَنْ أَكُونَ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ وَجْهِي بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمَ وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِيهِ ضَعْفٌ، وَإِضْمَارُ الْفِعْلِ أَكْثَرُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ هُنَا الْمَنْحَى، وَالْمَقْصِدُ أَيِ: اسْتَقِمْ لِلدِّينِ وَلَا تَحِدْ عَنْهُ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ صَرْفِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى طَلَبِ الدِّينِ. وحنيفا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَقِمْ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الدِّينِ، وَلَا تَدْعُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ نَهْيٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَقِمْ، فَيَكُونُ فِي حَيِّزِ أَنْ عَلَى قِسْمَيْهَا مِنْ كَوْنِهَا مَصْدَرِيَّةً، وَكَوْنِهَا حَرْفَ تَفْسِيرٍ. وَإِذَا كَانَ دُعَاءُ الْأَصْنَامِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَأَحْرَى أَنْ يُنْهَى عَنْ عِبَادَتِهَا، فَإِنْ فَعَلْتَ كَنَّى بِالْفِعْلِ عَنِ الدُّعَاءِ إِيجَازًا أَيْ: فَإِنْ دَعَوْتَ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَإِنَّكَ وَخَبَرُهَا، وَتَوَسَّطَتْ إِذَا بين

_ (1) سورة الكافرون: 109/ 1- 2. (2) سورة الحجر: 15/ 94.

اسْمِ إِنَّ وَالْخَبَرِ، وَرُتْبَتُهَا بَعْدَ الْخَبَرِ، لَكِنْ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ الْفَاصِلَةُ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَإِذَا مُتَوَسِّطَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا يُرَادُ بِهَا فِي هَذَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ هَذَا تَفْسِيرُ، الْمَعْنَى لَا يَجِيءُ عَلَى مَعْنَى الْجَوَابِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَجَوَابٌ لِجَوَابٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْ تَبِعَةِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَجُعِلَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّهُ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي إِذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِيهَا مُشْبَعًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلَمَّا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ دُعَاءِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ذَكَرَ أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ، وَأَتَى فِي الضُّرِّ بِلَفْظِ الْمَسِّ، وَفِي الْخَيْرِ بِلَفْظِ الْإِرَادَةِ، وَطَابَقَ بَيْنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ مُطَابَقَةً مَعْنَوِيَّةً لَا لَفْظِيَّةً، لِأَنَّ مُقَابِلَ الضُّرِّ النَّفْعُ وَمُقَابِلَ الْخَيْرِ الشَّرُّ، فَجَاءَتْ لَفْظَةُ الضُّرِّ أَلْطَفَ وَأَخَصَّ مِنْ لَفْظَةِ الشَّرِّ، وَجَاءَتْ لَفْظَةُ الْخَيْرِ أَتَمَّ مِنْ لَفْظَةِ النَّفْعِ، وَلَفْظَةُ الْمَسِّ أَوْجَزَ مِنْ لَفْظِ الْإِرَادَةِ وَأَنَصَّ عَلَى الْإِصَابَةِ وَأَنْسَبَ لقوله: فلا كاشف إلا هو، ولفظه الْإِرَادَةِ أَدَلُّ عَلَى الْحُصُولِ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ وَفِي غَيْرِهِ وَأَنْسَبُ لِلَفْظِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسُّ وَالْإِرَادَةُ مَعْنَاهُمَا الْإِصَابَةُ. وَجَاءَ جَوَابُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِنَفْيٍ عَامٍّ وَإِيجَابٍ، وَجَاءَ جَوَابُ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِنَفْيٍ عَامٍّ، لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ قَدِيمَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِيءِ التَّرْكِيبُ فَلَا رَادَّ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَالْمَسُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ صِفَةُ فِعْلٍ يُوقِعُهُ وَيَرْفَعُهُ بِخِلَافِ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّهَا صِفَةُ ذَاتٍ، وَجَاءَ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ سَمَّى الْخَيْرَ فَضْلًا إِشْعَارًا بِأَنَّ الْخُيُورَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، هِيَ صَادِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ. ثُمَّ اتَّسَعَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ فَقَالَ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِالصِّفَتَيْنِ الدَّالَّتَيْنِ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ وَهُمَا: الْغَفُورُ الَّذِي يَسْتُرُ وَيَصْفَحُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالرَّحِيمُ الَّذِي رَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ، فَأَخَرَّ الضُّرَّ، نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْبُدَاءَةُ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالضُّرِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمُ الضُّرُّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنَّفْعُ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ، كَانَ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ الضُّرِّ آكَدُ فِي الإخبار فبدىء بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ ذَكَرَ الْمَسَّ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْإِرَادَةَ فِي الثَّانِي؟ (قُلْتُ) : كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: الْإِرَادَةَ، وَالْإِصَابَةَ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ، وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لِمَا يُرِيدُ مِنْهُمَا، وَلَا مُزِيلَ لِمَا يُصِيبُ بِهِ مِنْهُمَا، فَأَوْجَزَ الْكَلَامَ بِأَنْ ذَكَرَ الْمَسَّ وَهُوَ الْإِصَابَةُ فِي أحدهما، والإرادة في

_ (1) سورة لقمان: 31/ 13.

الْإِنْجَازِ، لِيَدُلَّ بِمَا ذَكَرَ عَلَى مَا تَرَكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ الْإِصَابَةَ فِي الْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ المصلحة. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ الْحَقُّ: الْقُرْآنُ، أَوِ الرَّسُولُ، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْمَعْنَى: فَإِنَّمَا ثَوَابُ هِدَايَتِهِ حَاصِلٌ لَهُ، وَوَبَالُ ضَلَالِهِ عَلَيْهِ، وَالْهِدَايَةُ وَالضَّلَالُ وَاقِعَانِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَنَّ مَنْ حُكِمَ لَهُ فِي الْأَزَلِ بِالِاهْتِدَاءِ فَسَيَقَعُ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالضَّلَالِ فَكَذَلِكَ وَلَا حِيلَةَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَكْمَلَ الشَّرِيعَةَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيَّ مِنَ السَّعْيِ فِي إِيصَالِكُمْ إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَفِي تَخْلِيصِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، أَزْيَدُ مِمَّا فَعَلْتُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَبْقَ لَكُمْ عُذْرٌ وَلَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حُجَّةٌ، فَمَنِ اخْتَارَ الْهُدَى وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ فَمَا نَفَعَ بِاخْتِيَارِهِ إِلَّا نَفْسَهُ، وَمَنْ آثَرَ الضَّلَالَ فَمَا ضَرَّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَاللَّامُ وَعَلَى عَلَى مَعْنَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَكَّلَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ بَعْدَ إِزَاحَةِ الْعِلَلِ وَإِبَانَةِ الْحَقِّ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إِتْيَانِ الْهُدَى وَاطِّرَاحِ الضَّلَالِ مَعَ ذَلِكَ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بِحَفِيظٍ مَوْكُولٍ إِلَيَّ أَمْرُكُمْ وَحَمْلُكُمْ عَلَى مَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ تَذْيِيلُ كَلَامِ الْقَاضِي، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمْرُهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِاتِّبَاعٍ مَا يُوحَى إِلَيْهِ أَمْرٌ بِالدَّيْمُومَةِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُكَ فِي اللَّهِ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَغَيَّا الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ كَمَا وَقَعَ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ واصبر، مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ، وَحَمَلُوا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَفِيظٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ عَلَى، الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَحَمْلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَبَيْنَ آيَةِ السَّيْفِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْمُحَقِّقُونَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: وَاصْبِرْ، جَمَعَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بِعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنِّي أُمِرْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا سَامَنِي الْكَفَرَةُ، فَصَبَرْتُ وَاصْبِرُوا أَنْتُمْ عَلَى مَا يَسُومُكُمُ الْأُمَرَاءُ الْجَوَرَةُ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً جَرَتْ بَيْنَ أَبِي قَتَادَةَ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِهِ.

سورة هود

سورة هود ترتيبها 11 سورة هود آياتها 122 [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)

ثَنَى الشَّيْءَ ثَنْيًا طَوَاهُ، يُقَالُ: ثَنَى عِطْفَهُ، وَثَنَى صَدْرَهُ، وَطَوَى كَشْحَهُ. الْحِزْبُ:

جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ يَجْتَمِعُونَ عَلَى أَمْرٍ يَتَعَصَّبُونَ فِيهِ. رَذُلَ الرَّجُلُ رَذَالَةً فَهُوَ رَذْلٌ إِذَا كَانَ سِفْلَةً لَا خَلَاقَ لَهُ، وَلَا يُبَالِي بِمَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ. الْإِخْبَاتُ: التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمُطَمْئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الْبَرَاحُ الْقَفْرُ الْمُسْتَوِي، وَيُقَالُ: أَخْبَتَ دَخَلَ فِي الْخَبْتِ، كَأَنْجَدَ دَخَلَ نَجْدًا وَأَتْهَمَ دَخَلَ تِهَامَةَ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَقِيلَ: خَبَتَ ذِكْرُهُ خَمَدَ. وَيَتَعَدَّى أَخْبَتَ بِإِلَى وَبِاللَّامِ، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الدَّنِيءِ: الْخَبِيتُ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْخَبِيتَ مِنَ الرِّزْ ... قِ وَلَا يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الخبيث لَزِمَ الشَّيْءَ وَاظَبَ عَلَيْهِ لَا يُفَارِقُهُ، وَمِنْهُ اللِّزَامُ. زَرَى يَزْرِي حَقُرَ، وَأَزْرَى عَلَيْهِ عَابَهُ، وَازْدَرَى افْتَعَلَ مِنْ زَرَى أَيِ: احْتَقَرَ. التَّنُّورُ مُسْتَوْقَدُ النَّارِ، وَوَزْنُهُ فَعُّولٌ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ وَلَيْسَ بِمُشْتَقٍّ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: وَزْنُهُ تَفْعُولٌ مِنَ النُّورِ، وَأَصْلُهُ تَنُوُورٌ فَهُمِزَتِ الْوَاوُ ثُمَّ خُفِّفَتْ، وَشُدِّدَ الْحَرْفُ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا قَالَ: رَأَيْتُ عَرَابَةَ اللَّوْسِيَّ يَسْمُو ... إِلَى الْغَايَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ يُرِيدُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ فِي التَّنُّورِ سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا قَوْلَهُ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ «2» نَزَلَتْ فِي ابْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «3» نَزَلَتْ فِي نَبْهَانَ التَّمَّارِ. وَكِتَابٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظُهُورُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ كَقَوْلِهِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَأُحْكِمَتْ صِفَةٌ لَهُ. وَمَعْنَى الْإِحْكَامِ: نَظَمَهُ نَظْمًا رَضِيًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا خَلَلَ، كَالْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ. وَهُوَ الْمُوَثَّقُ فِي التَّرْصِيفِ، وَعَلَى هَذَا فَالْهَمْزَةُ فِي أَحُكِمَتْ لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلنَّقْلِ مِنْ حَكُمَ بِضَمِّ الْكَافِ إِذَا صَارَ حَكِيمًا، فالمعنى: جعلت

_ (1) سورة هود: 11/ 12. (2) سورة هود: 11/ 17. (3) سورة هود: 11/ 114. [.....]

حَكِيمَةً كَقَوْلِكَ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: الْكِتابِ الْحَكِيمِ «1» وَقِيلَ: مِنْ أَحْكَمْتُ الدَّابَّةَ إِذَا مَنَعَهَا مِنَ الْجِمَاحِ بِوَضْعِ الْحَكَمَةِ عَلَيْهَا، فَالْمَعْنَى: مُنِعَتْ مِنَ النِّسَاءِ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا وَعَنْ قَتَادَةَ: أُحْكِمَتْ مِنَ الْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أُحْكِمَتْ أُتْقِنَتْ شِبْهُ مَا يُحْكَمُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتْقَنَةِ الْكَامِلَةِ، وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ الْقُرْآنُ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ فُصِّلَ بِتَقْطِيعِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثُمَّ عَلَى بَابِهَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ. إِذِ الْإِحْكَامُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، وَالتَّفْصِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَنْ يُفَصَّلُ لَهُ، وَالْكِتَابُ أَجْمَعُهُ مُحْكَمٌ مُفَصَّلٌ، وَالْإِحْكَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّسْخِ، وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَالِ، إِنَّمَا يُقَالَانِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ بِاشْتِرَاكٍ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ: أُحْكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَفُصِّلَتْ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أُحْكِمَتْ مِنَ الْبَاطِلِ، وَفُصِّلَتْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَنَحْوِ هَذَا مِنَ التَّخْصِيصِ الَّذِي هُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى، وَلَكِنْ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ. وَقِيلَ: فُصِّلَتْ مَعْنَاهُ فُسِّرَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ فُصِّلَتْ كَمَا تُفَصَّلُ الْقَلَائِدُ بِالدَّلَائِلِ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْقَصَصِ، أَوْ جُعِلَتْ فُصُولًا سُورَةً سُورَةً وَآيَةً آيَةً، أَوْ فُرِّقَتْ فِي التَّنْزِيلِ وَلَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، أَوْ فُصِّلَ بِهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ أَيْ بُيِّنَ وَلُخِّصَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: ثُمَّ فَصَلَتْ بفتحتين، خفيفة عَلَى لُزُومِ الْفِعْلِ لِلْآيَاتِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: يَعْنِي انْفَصَلَتْ وَصَدَرَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَصَلَتْ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ نَزَلَتْ إِلَى النَّاسِ كَمَا تَقُولُ: فَصَلَ فُلَانٌ بِسَفَرِهِ. قال الزمخشري: وقرىء أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ أَيْ: أَحْكَمْتُهَا أَنَا، ثُمَّ فَصَّلْتُهَا. (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى ثُمَّ؟ (قُلْتُ) : لَيْسَ مَعْنَاهَا التَّرَاخِي فِي الْوَقْتِ وَلَكِنْ فِي الْحَالِ، كَمَا تَقُولُ: هِيَ مَحْكَمَةٌ أَحْسَنَ الْإِحْكَامِ، ثُمَّ مُفَصَّلَةٌ أَحْسَنَ التَّفْصِيلِ، وَفُلَانٌ كَرِيمُ الْأَصْلِ، ثُمَّ كَرِيمُ الْفِعْلِ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ ثُمَّ جَاءَتْ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْوُقُوعِ فِي الزَّمَانِ، وَاحْتَمَلَ مِنْ لَدُنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَمَنْ أَجَازَ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ يَكُونَ صِلَةَ أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ أَحْكَامُهَا وَتَفْصِيلُهَا. وَفِيهِ طِبَاقٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَحْكَمَهَا حَكِيمٌ وَفَصَّلَهَا

_ (1) سورة يونس: 10/ 1.

أَيْ: بَيَّنَهَا وَشَرَحَهَا خَبِيرٌ بِكَيْفِيَّاتِ الْأُمُورِ انْتَهَى. وَلَا يُرِيدُ أَنَّ مِنْ لَدُنْ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ مَعًا مِنْ حَيْثُ صِنَاعَةُ الْإِعْرَابِ، بَلْ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَإِنْ لَا تَعْبُدُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنْ حَرْفَ تَفْسِيرٍ، لِأَنَّ فِي تَفْصِيلِ الْآيَاتِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَهَذَا أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِأَنْ لَا تَعْبُدُوا أَوْ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا، فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَوُصِلَتْ أَنْ بِالنَّهْيِ. وَقِيلَ: أَنْ نَصَبَتْ لَا تَعْبُدُوا، فَالْفِعْلُ خَبَرٌ مَنْفِيٌّ. وَقِيلَ: أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَجُمْلَةُ النَّهْيِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْعَامِلُ فُصِّلَتْ. وَأَمَّا مَنْ أَعْرَبَهُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ لَفْظِ آيَاتُ أَوْ مِنْ مَوْضِعِهَا، أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنَ النَّظَرِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، أَوْ فِي الْكِتَابِ أَلَّا تَعْبُدُوا، أَوْ هِيَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا، أَوْ ضَمِنَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا، أو تفصله أَنْ لَا تَعْبُدُوا، فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ عِلْمِ الْإِعْرَابِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُ إِلَى اللَّهِ أَيْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مِنْ جِهَتِهِ وَبَشِيرٌ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَتُعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنٌ مِنْ جِهَتِهِ. أَوْ تُعَلَّقُ بِنَذِيرٍ أَيْ: أُنْذِرُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ إِنْ كَفَرْتُمْ، وَأُبَشِّرُكُمْ بِثَوَابِهِ إِنْ آمَنْتُمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكِتَابَةِ أَيْ: نَذِيرٌ لَكُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَبَشِيرٌ مِنْهُ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ بِهِ. وَقُدِّمَ النَّذِيرُ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ هُوَ الْأَهَمُّ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ لَا تَعْبُدُوا، نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ أَيْ: لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ. وَأَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ بِالتَّوْبَةِ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَبَايِنَانِ، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةَ وَهِيَ السَّتْرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهَا تَبِعَةٌ. وَالتَّوْبَةُ الِانْسِلَاخُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهَا، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا. وَمَنْ قَالَ: الِاسْتِغْفَارُ تَوْبَةٌ، جَعَلَ قَوْلَهُ: ثُمَّ تُوبُوا، بِمَعْنَى أَخْلِصُوا التَّوْبَةَ وَاسْتَقِيمُوا عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَثُمَّ مُرَتِّبَةٌ، لِأَنَّ الْكَافِرَ أَوَّلُ مَا يُنِيبُ، فَإِنَّهُ فِي طَلَبِ مَغْفِرَةِ رَبِّهِ، فَإِذَا تَابَ وَتَجَرَّدَ مِنَ الْكُفْرِ تَمَّ إِيمَانُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ اسْتَغْفِرُوا مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يُمْتِعْكُمْ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَمْتَعَ، وَانْتَصَبَ مَتَاعًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ جَازَ عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. لِأَنَّكَ تَقُولُ: مَتَّعْتُ زَيْدًا ثَوْبًا، وَالْمَتَاعُ الْحَسَنُ الرِّضَا بِالْمَيْسُورِ وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَقْدُورِ، أَوْ حُسْنُ الْعَمَلِ وَقَطْعُ الْأَمَلِ، أَوِ النِّعْمَةُ الْكَافِيَةُ مَعَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، أَوِ الْحَلَالُ الَّذِي لَا طَلَبَ فِيهِ وَلَا تَعَبَ، أَوْ لُزُومُ الْقَنَاعَةِ وَتَوْفِيقُ الطَّاعَةِ أَقْوَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَطُولُ نَفْعُكُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَنَافِعَ حَسَنَةٍ مُرْضِيَةٍ، وَعِيشَةٍ وَاسِعَةٍ، وَنِعْمَةٍ مُتَتَابِعَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ فَوَائِدُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ. لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُشَارِكُونَ فِي ذَلِكَ

أَعْظَمَ مُشَارَكَةٍ، وَرُبَّمَا زَادُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَوَصْفُ الْمَتَاعِ بِالْحُسْنِ إِنَّمَا هُوَ لِطِيبِ عَيْشِ الْمُؤْمِنِ بِرَجَائِهِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي ثَوَابِهِ وَفَرَحِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَفْرُوضَاتِهِ، وَالسُّرُورِ بِمَوَاعِيدِهِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ أَجَلُ الْمَوْتِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي فَضْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: يُعْطِي فِي الْآخِرَةِ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ، وَزِيَادَةً مَا تَفَضَّلَ بِهِ تَعَالَى وَزَادَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى كُلَّ أَيْ: جَزَاءُ ذَلِكَ الْفَضْلِ الَّذِي عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا لَا يُبْخَسُ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها «1» أَيْ جَزَاءَهَا. وَالدَّرَجَاتُ تَتَفَاضَلُ فِي الْجَنَّةِ بِتَفَاضُلِ الطَّاعَاتِ، وَتَقَدَّمَ أَمْرَانِ بَيْنَهُمَا تَرَاخٍ، وَرُتِّبَ عَلَيْهِمَا جَوَابَانِ بَيْنَهُمَا تَرَاخٍ، تَرَتَّبَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ التَّمْتِيعُ الْمَتَاعُ الْحَسَنُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «2» الْآيَةَ وَتَرَتَّبَ عَلَى التَّوْبَةِ إِيتَاءُ الْفَضْلِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَاسَبَ كُلَّ جَوَابٍ لِمَا وَقَعَ جَوَابًا لَهُ، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ الذَّنْبِ أَوَّلُ حَالِ الرَّاجِعِ إِلَى اللَّهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَيْهِ حَالُ الدُّنْيَا. وَالتَّوْبَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ مِنَ النَّارِ، وَالَّتِي تُدْخِلُ الْجَنَّةَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَيْهَا حَالُ الْآخِرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَوَلَّوْا مُضَارِعٌ حُذِفَ مِنْهُ التَّاءُ أَيْ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا. وَقِيلَ: هُوَ مَاضٍ لِلْغَائِبِينَ، وَالتَّقْدِيرُ قِيلَ لَهُمْ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ، وَفَتْحِ الْوَاوِ، مُضَارِعُ وَلَّى، وَالْأُولَى مضارع أولى. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ الْيَمَانِيُّ وَعِيسَى الْبَصْرَةِ: وَإِنْ تَوَلَّوْا بِثَلَاثِ ضَمَّاتٍ مُرَتَّبًا لِلْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ ضِدُّ التَّبَرِّي. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: تُولُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ، مُضَارِعُ أَوْلَى، وَوُصِفَ يَوْمٌ بِكَبِيرٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ التي رموا فِيهَا بِالْخِذْلَانِ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ كَبِيرٍ صِفَةٌ لعذاب، وخفض على الجواز. وَبَاقِي الْآيَةِ تَضَمَّنَتْ تَهْدِيدًا عَظِيمًا وَصَرَّحَتْ بِالْبَعْثِ، وَذَكَرَ أَنَّ قُدْرَتَهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ مَا يَشَاءُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْبَعْثُ، فَهُوَ لَا يُعْجِزُهُ مَا شَاءَ مِنْ عَذَابِهِمْ. أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ، كَانَ يُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَيُحِبُّهُ وَيُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أيضا: فِي نَاسٍ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فِي الْخَلَاءِ وَمُجَامَعَةِ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ إِذَا مَرَّ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنَى صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَغَطَّى وَجْهَهُ كَيْ لا يرى

_ (1) سورة هود: 11/ 15. (2) سورة نوح: 71/ 10- 11.

الرَّسُولَ قَالَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ. وَقِيلَ: فِي طَائِفَةٍ قَالُوا إِذَا أَغْلَقْنَا أَبْوَابَنَا، وَأَرْخَيْنَا سُتُورَنَا، وَاسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا، وَثَنَيْنَا صُدُورَنَا، عَلَى عَدَاوَتِهِ كَيْفَ يَعْلَمُ بِنَا؟ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَبْعُدَ عَلَيْهِمْ صَوْتُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَا يَدْخُلُ أَسْمَاعَهُمُ الْقُرْآنُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. ويثنون مُضَارِعُ ثَنَى قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُثْنُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ مُضَارِعُ أَثْنَى صُدُورَهُمْ بِالنَّصْبِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَلَا يُعْرَفُ الْإِثْنَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ وَجَدْتُهَا مَثْنِيَّةً مِثْلَ أَحْمَدْتُهُ وَأَمْجَدْتُهُ، وَلَعَلَّهُ فَتَحَ النُّونَ وَهَذَا مِمَّا فُعِلَ بِهِمْ، فَيَكُونُ نَصْبُ صُدُورَهُمْ بِنَزْعِ الْجَارِ، وَيَجُوزُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صُدُورُهُمْ رَفْعًا عَلَى الْبَدَلِ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَاضِيهِ أَثْنَى، وَلَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ: عَرَّضُوهَا لِلْإِثْنَاءِ، كَمَا يُقَالُ: أَبِعْتَ الْفَرَسَ إِذَا عَرَضْتَهُ لِلْبَيْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنَاهُ زَيْدٌ وَمُحَمَّدٌ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالضَّحَّاكُ: تَثْنُونِي بِالتَّاءِ مُضَارِعُ أَثْنَوْنِي عَلَى وَزْنِ افْعَوْعَلَ نَحْوَ اعْشَوْشَبَ الْمَكَانُ صُدُورُهُمْ بِالرَّفْعِ، بِمَعْنَى تَنْطَوِي صُدُورُهُمْ. وَقَرَأَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: يَثْنُونِي بِالْيَاءِ صُدُورُهُمْ بِالرَّفْعِ، ذُكِّرَ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ دُونَ الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَيَثْنُونَ بِلَامِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرِ إِنَّ، وَحَذْفِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا وَصُدُورُهُمْ رُفِعَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ أَبِي أَبْزَى، وَالْأَعْشَى: يَثَّنُّونَ وَوَزْنُهُ يَفْعَوْعَلَ مِنَ الثَّنِّ، بُنِيَ مِنْهُ افْعَوْعَلَ وَهُوَ مَا هَشَّ وَضَعُفَ مِنَ الْكَلَأِ، وَأَصْلُهُ يَثْنَوْنَنَ يُرِيدُ مُطَاوَعَةَ نُفُوسِهِمْ لِلشَّيْءِ، كَمَا يَنْثَنِي الْهَشُّ مِنَ النَّبَاتِ. أَوْ أَرَادَ ضَعْفَ إِيمَانِهِمْ وَمَرَضَ قُلُوبِهِمْ وَصُدُورُهُمْ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ عُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ هَمَزَ فَقَرَأَ يَثْنَئِنُّ مِثْلَ يَطْمَئِنُّ، وَصُدُورُهُمْ رُفِعَ، وَهَذِهِ مِمَّا اسْتُثْقِلَ فِيهِ الْكَسْرُ عَلَى الْوَاوِ كَمَا قِيلَ: أَشَاحَ. وَقَدْ قِيلَ أَنَّ يَثْنَئِنُّ يَفْعَئِلُّ مِنَ الثَّنِّ. الْمُتَقَدِّمِ، مِثْلَ تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ، فَحُرِّكَتِ الْأَلِفَ لِالْتِقَائِهِمَا بِالْكَسْرِ، فَانْقَلَبَتْ هَمْزَةً. وَقَرَأَ الْأَعْشَى: يَثْنَؤُونَ مِثْلَ يَفْعَلُونَ مَهْمُوزُ اللَّامِ، صُدُورَهُمْ بِالنَّصْبِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: ثَنَيْتُ، وَلَمْ أَسْمَعْ ثَنَأْتُ. وَيَجُوزُ أَنَّهُ قَلَبَ الْيَاءَ أَلِفًا عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: أَعْطَأْتُ فِي أَعْطَيْتُ، ثُمَّ هَمَزَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: وَلَا الضَّالِّينَ «1» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَثْنَوِي بِتَقْدِيمِ الثَّاءِ عَلَى النُّونِ، وَبِغَيْرِ نُونٍ بَعْدَ الْوَاوِ عَلَى وَزْنِ تَرْعَوِي. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ غَلَطٌ لَا تَتَّجِهُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لا حظ الْوَاوَ فِي هَذَا الْفِعْلِ لَا يُقَالُ: ثَنَوْتُهُ فَانْثَوَى كما

_ (1) سورة فاتحة الكتاب: 1/ 7.

يُقَالُ: رَعَوْتُهُ أَيْ كَفَفْتُهُ فَارْعَوَى فَانْكَفَّ، وَوَزْنُهُ افْعَلَّ. وقرأ نضير بْنُ عَاصِمٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: يَنْثُونَ بِتَقْدِيمِ النُّونِ عَلَى الثَّاءِ، فَهَذِهِ عَشْرُ قِرَاءَاتٍ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَعْضِ مَنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم من الْكُفَّارِ أَيْ: يَطْوُونَ صُدُورَهُمْ على عداوته. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يَزْوَرُّونَ عَنِ الْحَقِّ وَيَنْحَرِفُونَ عَنْهُ، لِأَنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ اسْتَقْبَلَهُ بِصَدْرِهِ، وَمَنِ ازْوَرَّ عَنْهُ وَانْحَرَفَ ثَنَى عَنْهُ صَدْرَهُ وَطَوَى عَنْهُ كَشْحَهُ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، يَعْنِي: وَيُرِيدُونَ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّهِ، فَلَا يُطْلِعُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى ازْوِرَارِهِمْ. وَنَظِيرُ إِضْمَارِ يُرِيدُونَ، لِعَوْدِ الْمَعْنَى إِلَى إِضْمَارِهِ الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «1» مَعْنَاهُ: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَمَعْنَى أَلَا حِينَ: يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ وَيُرِيدُونَ الِاسْتِخْفَاءَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ أَيْضًا كَرَاهَةً لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ «2» انْتَهَى. فَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الْأَفْصَحُ الْأَجْزَلُ فِي الْمَعْنَى انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ بَعْضِ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا لَقِيَهُمْ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَامَنُوا وَثَنَوْا صُدُورَهُمْ كَالْمُتَسَتِّرِ، وَرَدُّوا إِلَيْهِ ظُهُورَهُمْ، وَغَشُوا وُجُوهَهُمْ بِثِيَابِهِمْ تَبَاعُدًا مِنْهُمْ وَكَرَاهِيَةً لِلِقَائِهِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَيْهِ أَوْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَزَلَتِ الْآيَةِ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِيَسْتَخْفُوا مُتَعَلِقًا بُقُولِهِ: يَثْنُونَ، وَكَذَا قَالَ الْحَوْفِيُّ. وَقِيلَ: هِيَ اسْتِعَارَةٌ لِلْغِلِّ، وَالْحِقْدِ الَّذِي كَانُوا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَطْوِي كَشْحَهِ عَلَى عَدَاوَتِهِ، وَيَثْنِي صَدْرَهُ عَلَيْهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَلَا إِنَّهُمْ يُسِرُّونَ الْعَدَاوَةَ وَيَتَكَتَّمُونَ لَهَا، لِيَخْفَى فِي ظَنِّهِمْ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ تَعَالَى حِينَ تَغَشِّيهِمْ بِثِيَابِهِمْ وَإِبْلَاغِهِمْ فِي التَّسَتُّرِ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حِينَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ، وَكَذَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ لَا لِلْمُضْمَرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُرِيدُونَ الِاسْتِخْفَاءَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَلَا حِينَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ أَيْ: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَسْتَخْفُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَعْلَمُ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْحَنِي عَلَى بَعْضٍ لِيَسَارِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَلَغَ مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ قَتَادَةُ: أَخْفَى مَا يَكُونُ إذا حتى ظَهْرَهُ وَاسْتَغْشَى ثَوْبَهُ، وَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ هِمَّتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَطْوُونَهَا عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْفُونَ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الشَّحْنَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُخْفُونَ لِيَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَكْتُمُونَهَا إِذَا

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 63. (2) سورة نوح: 71/ 7.

نَاجَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: يَثْنُونَهَا حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى يَسْتَغْشُونَ: يَجْعَلُونَهَا أَغْشِيَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: أَرْعَى النُّجُومَ وَمَا كُلِّفْتُ رِعْيَتَهَا ... وَتَارَةً أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمَارِي وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ اللَّيْلُ، وَاسْتُعِيرَتْ لَهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَلَاقَةِ بِالسَّتْرِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ يَسْتُرُ كَمَا تَسْتُرُ الثِّيَابُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى حِينِ يَسْتَغْشُونَ. قال ابن عطية: ومن هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُ النَّابِغَةِ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصِحُّ وَالشَّيْبُ وَازِعُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يُسِرُّونَ بِقُلُوبِهِمْ، وَمَا يُعْلِنُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَقِيلَ: مَا يُسِرُّونَ بِاللَّيْلِ وَمَا يُعْلِنُونَ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ مَظْهَرَانِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي عِلْمِهِ بَيْنَ إِسْرَارِهِمْ وَإِعْلَانِهِمْ، فَلَا وَجْهَ لِتَوَصُّلِهِمْ إِلَى مَا يُرِيدُونَ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ثَنْيِهِمْ صُدُورَهُمْ، وَاسْتِغْشَائِهِمْ بِثِيَابِهِمْ، وَنِفَاقُهُمْ غَيْرُ نَافِقٍ عِنْدَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا يُسِرُّونَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْبُغْضِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَعْمَالُ الْقُلُوبِ خَفِيَّهٌ جِدًّا، وَأَرَادَ بِمَا يُعْلِنُونَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ اسْتِدْبَارِهِمُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَتَغْشِيَةِ ثِيَابِهِمْ، وَسَدِّ آذَانِهِمْ وَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ: الدَّابَّةُ هُنَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ يَحْتَاجُ إِلَى رِزْقٍ، وعلى اللَّهِ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا هُوَ تُفَضُّلٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ تَعَالَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ أَبْرَزَهُ فِي حَيِّزِ الْوُجُوبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمُسْتَوْدَعَهَا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ فَتُدْفَنُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مُسْتَقَرَّهَا فِي الرَّحِمِ، وَمُسْتَوْدَعَهَا فِي الصُّلْبِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مُسْتَقَرَّهَا فِي أَيَّامِ حَيَاتِهَا، وَمُسْتَوْدَعَهَا حِينَ تَمُوتُ وَحِينَ تُبْعَثُ. وَقِيلَ: مُسْتَقَرَّهَا فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي النَّارِ، وَمُسْتَوْدَعَهَا فِي الْقَبْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا «1» وساءَتْ مُسْتَقَرًّا «2» وَقِيلَ: مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ عَمَلُهَا، وَمُسْتَوْدَعَهَا مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ مَا حَصَلَ مَوْجُودًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا سَيُوجَدُ بَعْدَ الْمُسْتَقَرِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُسْتَقَرُّ مَكَانُهُ مِنَ الْأَرْضِ

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 76. (2) سورة الفرقان: 25/ 66.

وَمَسْكَنُهُ، وَالْمُسْتَوْدَعُ حَيْثُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ مِنْ صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ أَوْ بَيْضَةٍ انْتَهَى. وَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا اسْمَيْ مَكَانٍ، وَيَحْتَمِلُ مُسْتَوْدَعٌ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ لِتَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ مُسْتَقَرٌّ لِلُزُومِ فِعْلِهِ كُلٌّ أَيْ: كُلٌّ مِنَ الرِّزْقِ وَالْمُسْتَقَرُّ وَالْمُسْتَوْدَعُ فِي اللَّوْحِ يَعْنِي: وَذِكْرُهَا مَكْتُوبٌ فِيهِ مُبَيَّنٌ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا مَجَازٌ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَوْلَى. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، تَقْدِيرُهُ قَبْلَ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وَالْعَرْشَ كَانَا مَخْلُوقَيْنِ قَبْلُ. قَالَ كَعْبٌ: خَلَقَ اللَّهُ يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا بِالْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً، ثُمَّ خَلَقَ الرِّيحَ فَجَعَلَ الْمَاءَ عَلَى مَتْنِهَا، ثُمَّ وَضَعَ الْعَرْشَ عَلَى الْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: كَانَ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، والظاهر تعلق لِيَبْلُوَكُمْ بِخَلَقَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ خَلَقَهُنَّ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَهَا مَسَاكِنَ لِعِبَادِهِ، وَيُنْعِمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِفُنُونِ النِّعَمِ، وَيُكَلِّفَهُمْ فِعْلَ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابَ الْمَعَاصِي، فَمَنْ شَكَرَ وَأَطَاعَ أَثَابَهُ، وَمَنْ كَفَرَ وَعَصَى عَاقَبَهُ. وَلَمَّا أَشْبَهَ ذَلِكَ اخْتِبَارَ الْمُخْتَبِرِ قَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ، يُرِيدُ لِيَفْعَلَ بِكُمْ مَا يَفْعَلُ الْمُبْتَلِي لِأَحْوَالِكُمْ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ تَعْلِيقُ فِعْلِ الْبَلْوَى؟ (قُلْتُ) : لِمَا فِي الِاخْتِبَارِ مِنْ مَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ طَرِيقُ اللَّهِ، فَهُوَ مَلَابِسٌ لَهُ كَمَا تَقُولُ: انْظُرْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ وَجْهًا، وَاسْتَمِعْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ صَوْتًا، لِأَنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِمَاعَ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ وَعَصَى عَاقَبَهُ، دَسِيسَةَ الِاعْتِزَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَمِعْ أَيُّهُمْ أَحْسَنَ صَوْتًا، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ أَنَّ اسْتَمِعْ تُعَلَّقُ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا مِنْ غَيْرِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ سَلْ وَانْظُرْ، وَفِي جَوَازِ تَعْلِيقِ رَأْيِ الْبَصَرِيَّةِ خِلَافٌ. وَقِيلَ: لِيَبْلُوَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ لِيَبْلُوَكُمْ، وَمَقْصِدُ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَكُنْ بِسَبَبِ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْفِعْلِ، وَخَلَقَكُمْ لِيَبْلُوكُمْ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: وَكَانَ خَلْقُهُ لَهُمَا لِمَنَافِعَ يَعُودُ عَلَيْكُمْ نَفْعُهَا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْأُخْرَى، وَفَعَلَ ذَلِكَ لِيَبْلُوَكُمْ. وَمَعْنَى أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: أَهَذَا أَحْسَنُ أَمْ هَذَا. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ «أَيُّكُمْ

أَحْسَنُ عَقْلًا، وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَأَسْرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» وَلَوْ صَحَّ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَزْهَدُ فِي اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَتْقَى لِلَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَكْثَرُكُمْ شُكْرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَكَيْفَ قِيلَ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَأَعْمَالُ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الَّتِي تَتَفَاوَتُ إِلَى حَسَنٍ وَأَحْسَنَ، فَأَمَّا أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَتَفَاوُتُهُمَا إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ؟ (قُلْتُ) : الَّذِينَ هُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَبَقُوا إِلَى تَحْصِيلِ مَا هُوَ غَرَضُ الله منن عِبَادِهِ، فَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ، وَاطَّرَحَ ذِكْرَ مَنْ وَرَاءَهُمْ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَكَانِهِمْ منه، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَيَقُّظًا لِلسَّامِعِينَ وَتَرْغِيبًا فِي حِيَازَةِ فَضْلِهِمُ انْتَهَى. وَلَئِنْ قُلْتَ، خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ: وَلَئِنْ قُلْتُ بِضَمِّ التَّاءِ إِخْبَارًا عَنْهُ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: وَلَئِنْ قُلْتَ مُسْتَدِلًا عَلَى الْبَعْثِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، إِذْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ، دِلَالَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَمَتَى أَخْبَرَ بِوُقُوعِ مُمْكِنٍ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِالْبَعْثِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَتَيَقَّنَ وقوعه. وقرىء: أَيُّكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمُ: ائْتِ السُّوقَ إِنَّكَ تَشْتَرِي لَحْمًا، بِمَعْنَى عَلَّكَ أَيْ: وَلَئِنْ قُلْتَ لَهُمْ لَعَلَّكُمْ مَبْعُوثُونَ بِمَعْنَى تَوَقَّعُوا بَعْثَكُمْ وَظُنُّوهُ، لَأَثْبَتُوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِهِ لَقَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ. قُلْتَ مَعْنَى ذَكَرْتَ انْتَهَى يَعْنِي: فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ ذَكَرْتَ، وَالظَّاهِرُ الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْقَوْلِ أَيْ: إِنَّ قَوْلَكَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ إِلَّا سِحْرٌ أَيْ بُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ كَبُطْلَانِ السِّحْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْبَعْثِ. أَيْ: إِنَّ الْبَعْثَ. وَقِيلَ: أَشَارُوا بِهَذَا إِلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ النَّاطِقُ بِالْبَعْثِ، فَإِذَا جَعَلُوهُ سِحْرًا فَقَدِ انْدَرَجَ تَحْتَهُ إِنْكَارُ مَا فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَذَّبُوا وَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، فَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ إِنْ كَانَ مَفْطُورًا بِقُرُبَاتِ الله فاطر السموات وَالْأَرْضِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَرَّبِ بِهَذَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُنْكِرُونَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْهُ بِكَثِيرٍ وَهُوَ البعث من القبور، إذا الْبَدَاءَةُ أَعْسَرُ مِنَ الْإِعَادَةِ، وإذ خلق السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَفِرْقَةٌ مِنَ السَّبْعَةِ: سِحْرٌ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: سَاحِرٌ، يُرِيدُونَ وَالسَّاحِرُ كَاذِبٌ مُبْطِلٌ، وَلَئِنْ أَخَّرْنَا حَكَى تَعَالَى نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَالْعَذَابُ هُنَا عَذَابُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَتْلُ جِبْرِيلَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَالظَّاهِرُ الْعَذَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَالْأُمَّةُ هُنَا الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْجُمْهُورُ، وَمَعْنَاهُ: إِلَى حِينٍ. وَوَقْتٍ مَعْلُومٍ مَا يَحْبِسُهُ اسْتِفْهَامٌ، قَالُوهُ وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: سُمِّيَتِ

الْمُدَّةُ أُمَّةً، لِأَنَّهَا يُقْضَى فِيهَا أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ وَتَحْدُثُ أُخْرَى، فَهِيَ عَلَى هَذَا الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ الْأَخْبَارَ بِأَنَّهُ يَوْمٌ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْرِفُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: مَصْرُوفًا، فَهُوَ مَعْمُولٌ لِخَبَرِ لَيْسَ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ خَبَرِ لَيْسَ عَلَيْهَا قَالُوا: لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْمَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِتَقَدُّمِ الْعَامِلِ، وَنُسِبَ هذا المذهب لسيبويه، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَالْمُبَرِّدُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا يَدُلُّ جَوَازُ تَقَدُّمِ الْمَعْمُولِ عَلَى جَوَازِ تَقَدُّمِ الْعَامِلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الظَّرْفَ الْمَجْرُورَ يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا، وَيَقَعَانِ حَيْثُ لَا يَقَعُ الْعَامِلُ فِيهِمَا نَحْوَ: إِنَّ الْيَوْمَ زَيْدًا مُسَافِرٌ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ جُمْلَةً مِنْ دَوَاوِينِ الْعَرَبِ فَلَمْ أَظْفَرْ بِتَقَدُّمِ خَبَرِ لَيْسَ عَلَيْهَا، وَلَا بِمَعْمُولِهِ، إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَيَأْبَى فَمَا يَزْدَادُ إِلَّا لَجَاجَةً ... وَكُنْتُ أَبِيًّا فِي الْخَفَا لَسْتُ أَقْدُمُ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جُمْلَةِ وَحَاقَ بِهِمْ. وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَذَابَ الْكُفَّارِ وَإِنْ تَأَخَّرَ لَا بُدَّ أَنْ يَحِيقَ بِهِمْ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ الْعَذَابَ لما جبلوا عليه من كُفْرِ نَعْمَاءِ اللَّهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِحْسَانِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ فَخْرِهِمْ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُنَا هُوَ جِنْسٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الْخُلُقَ فِي سَجَايَا النَّاسِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمُ الَّذِينَ رَدَّتْهُمُ الشَّرَائِعُ وَالْإِيمَانُ إِلَى الصَّبْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مُتَّصِلًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الوليد بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ. وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا وَمَعْنَى رَحْمَةً: نِعْمَةً مِنْ صِحَّةٍ، وَأَمْنِ وَجْدَةٍ، ثُمَّ نَزَعْنَاهَا أَيْ سلبناها منه. ويؤوس كَفُورٌ، صِفَتَا مُبَالَغَةٍ وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ شَدِيدُ الْيَأْسِ كَثِيرُهُ، يَيْأَسُ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مِثْلُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْمَسْلُوبَةِ، وَيَقْطَعُ رَجَاءَهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ صَبْرٍ وَلَا تَسْلِيمٍ لِقَضَائِهِ. كَفُورٌ كَثِيرُ الْكُفْرَانِ، لِمَا سَلَفَ لِلَّهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ ذَكَرَ حَالَةَ الْإِنْسَانِ إِذْ بدىء بِالنِّعْمَةِ وَلَمْ يَسْبِقْهُ الضُّرُّ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُ إِذَا جَاءَتْهُ النِّعْمَةُ بَعْدَ الضُّرِّ. وَمَعْنَى ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ أَيِ: الْمَصَائِبُ الَّتِي تَسُوءُنِي. وَقَوْلُهُ هَذَا يَقْتَضِي نَظَرًا وَجَهْلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ

بِإِنْعَامٍ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ اتِّفَاقٌ أو بعد، وَهُوَ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ. إِنَّهُ لَفَرِحٌ أَشِرٌ بَطِرٌ، وَهَذَا الْفَرَحُ مُطْلَقٌ، فَلِذَلِكَ ذُمَّ الْمُتَّصِفُ بِهِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ لِلْمَدْحِ إِلَّا مُقَيَّدًا بِمَا فِيهِ خَيْرٌ كَقَوْلِهِ: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَفَرِحٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ قِيَاسُ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ فَعِلَ اللَّازِمِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: لَفَرُحٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهِيَ كَمَا تَقُولُ: نَدُسٌ، وَنَطُسٌ. وَفَخْرُهُ هُوَ تَعَاظُمُهُ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَصَابَهُ مِنَ النَّعْمَاءِ، وَاسْتَثْنَى تَعَالَى الصَّابِرِينَ يَعْنِي عَلَى الضَّرَّاءِ وَعَامِلِي الصَّالِحَاتِ. وَمِنْهَا الشُّكْرُ عَلَى النَّعْمَاءِ. أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي زَوَالَ العقاب والخلاص منه، وأجر كَبِيرٌ هُوَ الْجَنَّةُ، فَيَقْتَضِي الْفَوْزَ بِالثَّوَابِ. وَوَصَفَ الْأَجْرَ بِقَوْلِهِ: كَبِيرٌ، لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ ورفع التكاليف، والأمن الْعَذَابِ، وَرِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ. فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ آيَاتٍ تَعَنُّتًا لَا اسْتِرْشَادًا، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُسْتَرْشِدِينَ لَكَانَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ كَافِيَةً فِي رَشَادِهِمْ. وَمِنَ اقْتِرَاحَاتِهِمْ: لَوْلَا أَنْزِلُ عَلَيْهِ كَنْزٌ، أو جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، وَكَانُوا لَا يَعْتَدُّونَ بِالْقُرْآنِ، وَيَتَهَاوَنُونَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، فَكَانَ يَضِيقُ صَدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مَا لَا يَقْبَلُونَهُ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، فَحَرَّكَ اللَّهُ مِنْهُ وَهَيَّجَهُ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَطَرَحَ الْمُبَالَاةَ بِرَدِّهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَاقْتِرَاحِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ أَيْ: لَعَلَّكَ تَتْرُكُ أَنْ تُلْقِيَهُ إِلَيْهِمْ، وَتُبْلِغَهُ إِيَّاهُمْ مَخَافَةَ رَدِّهِمْ وَتَهَاوُنِهِمْ بِهِ، وَضَائِقٌ بِهِ صدرك بأن تتلوه عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا مَخَافَةَ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ، هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَا اقْتَرَحْنَا نَحْنُ مِنَ الْكَنْزِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مَا لَا نُرِيدُهُ وَلَا نَقْتَرِحُهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُنْذِرَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَتُبْلِغَهُمْ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ، وَلَا عَلَيْكَ رَدُّوا أَوْ تَهَاوَنُوا أَوِ اقْتَرَحُوا، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يَحْفَظُ مَا يَقُولُونَ، وَهُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ مَا يجب أَنْ يَفْعَلَ، فَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَكِلْ أَمْرَكَ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَوْ تَرَكْتَ سَبَّ آلِهَتِنَا وَتَسْفِيهَ آبَائِنَا لَجَالَسْنَاكَ وَاتَّبَعْنَاكَ، وَقَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ، فَخَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ، وَقَّفَهُ بِهَا تَوْقِيفًا رَادًّا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 170.

عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَمُبْطِلًا لَهَا. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَطُّ تَرْكَ شَيْءٍ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلَا ضَاقَ صَدْرُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَلَعَلَّكَ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّوْقِيفِ وَالتَّقْرِيرِ، وَمَا يُوحَى إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ والشريعة وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ كَانَ فِي ذَلِكَ سَبُّ آلِهَتِهِمْ، وَتَسْفِيهُ آبَائِهِمْ أَوْ غَيْرَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَظُمَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنَ الشِّدَّةِ، فَمَالَ إِلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ إِذْنٌ فِي مُسَاهَلَةِ الْكُفَّارِ بَعْضَ الْمُسَاهَلَةِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَتْ آيات الموادعة. وعبر بضائق دُونَ ضَيِّقٍ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي اللَّفْظِ مَعَ تَارِكٌ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقٌ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا، لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَازِمٌ، وَضَائِقٌ وَصْفٌ عَارِضٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ عَدَلَ عَنْ ضِيقٍ إِلَى ضَائِقٍ؟ (قُلْتُ) : لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ضَيِّقٌ عَارِضٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْسَحَ النَّاسِ صَدْرًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ: سَيِّدٌ وَجَوَادٌ، تُرِيدُ السِّيَادَةَ وَالْجُودَ الثَّابِتَيْنِ الْمُسْتَقِرَّيْنِ، فَإِذَا أَرَدْتَ الْحُدُوثَ قُلْتَ: سَائِدٌ وَجَائِدٌ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، بَلْ كُلُّ مَا يُبْنَى مِنَ الثُّلَاثِيِّ لِلثُّبُوتِ وَالِاسْتِقْرَارِ عَلَى غَيْرِ وَزْنِ فَاعِلٍ رُدَّ إِلَيْهِ إِذَا أُرِيدَ مَعْنَى الْحُدُوثِ، فَنَقُولُ: حَاسِنٌ مِنْ حَسُنَ، وَثَاقِلٌ مِنْ ثَقُلَ، وَفَارِحٌ مِنْ فَرِحَ، وَسَامِنٌ مِنْ سَمِنَ، وَقَالَ بَعْضُ اللُّصُوصِ يَصِفُ السِّجْنَ وَمَنْ سُجِنَ فِيهِ: بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِنٌ بِهَا ... وَكِرَامُ النَّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي بِهِ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: عَلَى مَا، وَقِيلَ: عَلَى التَّبْلِيغِ، وَقِيلَ: عَلَى التَّكْذِيبِ، قِيلَ وَلَعَلَّ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى هَلْ، وَالْمَعْنَى: هَلْ أَنْتَ تَارِكٌ مَا فِيهِ تَسْفِيهُ أَحْلَامِهِمْ وَسَبُّ آلِهَتِهِمْ كَمَا سَأَلُوكَ؟ وَقَدَّرُوا كَرَاهَتَهُ أَنْ يَقُولُوا، وَلِئَلَّا يَقُولُوا، وَبِأَنْ يَقُولُوا، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. وَالْكَنْزُ الْمَالُ الْكَثِيرُ. وَقَالُوا: أُنْزِلَ، وَلَمْ يَقُولُوا أُعْطِيَ، لِأَنَّ مُرَادَهُمُ التَّعْجِيزُ، وَأَنَّهُمُ الْتَمَسُوا أَنْ يُنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ كَنْزٌ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الْكُنُوزَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَرْضِ. وَطَلَبُهُمْ آيَةً تَضْطَرُّ إِلَى الْإِيمَانِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثِ الْأَنْبِيَاءَ بِآيَاتِ اضْطِرَارٍ، إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِآيَاتِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَمْ يَجْعَلْ آيَةَ الِاضْطِرَارِ إِلَّا لِلْأُمَّةِ الَّتِي أَرَادَ تَعْذِيبَهَا لِكُفْرِهَا بَعْدَ آيَةِ الِاسْتِدْلَالِ، كَالنَّاقَةِ لِثَمُودَ. وَآنَسَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ، أَيِ: الَّذِي فُوِّضَ إِلَيْكَ هُوَ النِّذَارَةُ لَا تَحْصِيلُ هِدَايَتِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَقِيلَ: كَافِلٌ بِالْمَصَالِحِ قَادِرٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُحْصِي لِإِيمَانِ مَنْ شَاءَ، وَكُفْرِ مَنْ شَاءَ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: مَحْكَمَةٌ.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ تَتَقَدَّرُ بِبَلْ، وَالْهَمْزَةِ أَيْ: أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: أَمِ اسْتِفْهَامٌ تَوَسَّطَ الْكَلَامَ عَلَى مَعْنَى: أَيَكْتَفُونَ بِمَا أَوْحَيْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، أَمْ يَقُولُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنْ قَالُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِهِ انْتَهَى. فَجَعَلَ أَمْ مُتَّصِلَةً، وَالظَّاهِرُ الِانْقِطَاعُ كَمَا قُلْنَا، وَالضَّمِيرُ فِي افْتَرَاهُ عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا يُوحَى إِلَيْكَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ أَطْمَاعُهُمْ بِأَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ إِلَّا لِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ، وَإِنَّمَا تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ قَبْلَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً، وَالْبَقَرَةُ مَدَنِيَّةً، وَسُورَةُ يُونُسَ أَيْضًا مَكِّيَّةً، وَمُقْتَضَى التَّحَدِّي بِعَشْرٍ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طَلَبِ الْمُعَارَضَةِ بِسُورَةٍ، فَلَمَّا نَسَبُوهُ إِلَى الِافْتِرَاءِ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إِرْخَاءً لِعِنَانِهِمْ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَبُوا إِنِّي اخْتَلَقْتُهُ وَلَمْ يُوحَ إِلَيَّ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِكَلَامٍ مِثْلِهِ مُخْتَلَقٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، فَأَنْتُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ مِثْلِي لَا تَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا عُيِّنَ بِقَوْلِهِ: مِثْلِهِ، فِي حُسْنِ النَّظْمِ وَالْبَيَانِ وَإِنْ كَانَ مُفْتَرًى. وَشَأْنُ مَنْ يُرِيدُ تَعْجِيزَ شَخْصٍ أَنْ يُطَالِبَهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَفْعَلَ أَمْثَالًا مِمَّا فَعَلَ هُوَ، ثُمَّ إِذَا تَبَيَّنَ عَجْزُهُ قَالَ لَهُ: افْعَلْ مِثْلًا وَاحِدًا وَمِثْلُ يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا «1» وَتَجُوزُ الْمُطَابَقَةُ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2» وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ «3» وَإِذَا أُفْرِدَ وَهُوَ تَابِعٌ لِمُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعٍ فَهُوَ بِتَقْدِيرِ الْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعِ أَيْ: مِثْلَيْنِ وَأَمْثَالٍ. وَالْمَعْنَى هُنَا بِعَشْرِ سُوَرٍ أَمْثَالِهِ ذَهَابًا إِلَى مُمَاثَلَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَعَ التَّحَدِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِعَشْرٍ لِأَنَّهُ قَيَّدَهَا بِالِافْتِرَاءِ، فَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الْقَدْرِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ غَايَةَ الْقِيَامِ، إِذْ قَدْ عَجَّزَهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ دُونَ تَقْيِيدٍ، فَهِيَ مُمَاثَلَةٌ تَامَّةٌ فِي غُيُوبِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَعُجِّزُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ قِيلَ لَهُمْ: عَارِضُوا الْقَدْرَ مِنْهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ، وَاجْعَلُوهُ مُفْتَرًى لَا يَبْقَى لَكُمْ إِلَّا نَظْمُهُ، فَهَذِهِ غَايَةُ التَّوْسِعَةِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَارِضُوا عَشْرَ سُوَرٍ بِعَشْرٍ، لِأَنَّ هَذِهِ إِنَّمَا كَانَتْ تَجِيءُ مُعَارَضَةَ سُورَةٍ بِسُورَةٍ مُفْتَرَاةٍ، وَلَا يُبَالِي عَنْ تَقْدِيمِ نُزُولِ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 47. (2) سورة محمد: 47/ 18. (3) سورة الواقعة: 56/ 23.

الرَّيْبِ، وَلَا يُزِيلُ الرَّيْبَ إِلَّا الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ التَّامَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا التَّكْلِيفُ بِسَبَبِ قَوْلِهِمُ: افْتَرَاهُ وَكُلِّفُوا نَحْوَ مَا قَالُوا: وَلَا يَطَّرِدُ هَذَا فِي آيَةِ يُونُسَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى تِلْكَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ إِلَّا مُفْتَرَاةً، وَآيَةُ سُورَةِ يُونُسَ فِي تَكْلِيفِ سُورَةٍ مُرَتَّبَةٍ عَلَى قَوْلِهِمُ افْتَرَاهُ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْبَقَرَةِ إِنَّمَا رَمَتْهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُفْتَرًى. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَلْحَظِ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّكْلِيفَيْنِ فِي كَمَالِ الْمُمَاثَلَةِ مَرَّةً، وَوُقُوفِهَا عَلَى النَّظْمِ مَرَّةً انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِثْلِهِ، لَا يُرَادُ بِهِ الْمِثْلِيَّةُ فِي كَوْنِ الْمُعَارِضِ عَشْرَ سُورٍ، بَلْ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى مُمَاثَلَةٍ فِي مِقْدَارٍ مَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السُّوَرَ الَّتِي وَقَعَ بِهَا طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ لَهَا هِيَ مُعَيَّنَةٌ الْبَقَرَةُ، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَالْأَنْفَالُ، وَالتَّوْبَةُ، وَيُونُسُ، وَهُودٌ. فَقَوْلُهُ: مِثْلِهِ، أَيْ مِثْلُ هَذِهِ عَشْرُ السُّوَرِ، وَهَذِهِ السُّوَرُ أَكْثَرُهَا مَدَنِيٌّ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بمكة عَلَى مَا لَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ؟ وَلَعَلَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ، عَائِدٌ عَلَى مَنْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُعَارَضَةَ، وَلَكُمْ الضَّمِيرُ جَمْعٌ يَشْمَلُ الرسول والمؤمنين. وجوز أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، كَمَا جَاءَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ «1» قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ يَسْتَجِيبُوا عَائِدٌ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ، وَلَكُمْ خِطَابٌ لِلْمَأْمُورِينَ بِدُعَاءِ مَنِ اسْتَطَاعُوا قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَيْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ مَنْ تَدْعُونَهُ إِلَى المعارضة فأذعنوا حينئذ، واعلموا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ أُنْزِلَ مُلْتَبِسًا بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ نَظْمٍ مُعْجِزٍ لِلْخَلْقِ، وَإِخْبَارٍ بِغُيُوبٍ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ. وَأَعْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ تَوْحِيدَهُ وَاجِبٌ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ أَيْ تَابِعُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ؟ وَعَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى فَاعْلَمُوا أَيْ: دُومُوا عَلَى الْعِلْمِ وَازْدَادُوا يَقِينًا وَثَبَاتَ قَدَمٍ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَمَعْنَى فَهَلْ أنتم مسلمون: أي مخلصو الْإِسْلَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِعِلْمِ اللَّهِ، بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِأَمْرِهِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا عَائِدٌ عَلَى مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَفِي لَكُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَلِكَوْنِ الْخِطَابِ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلِتَرَتُّبِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ تَرَتُّبًا حَقِيقِيًا مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ، وَلَا يَتَحَرَّرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ فَدُومُوا عَلَى الْعِلْمِ، وَدُومُوا عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تَحْرِيضًا عَلَى تَحْصِيلِ الْإِسْلَامِ، لَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْإِخْلَاصُ، وَلَمَّا طُولِبُوا بِالْمُعَارَضَةِ وَأُمِرُوا بِأَنْ يَدْعُوا مَنْ يُسَاعِدُهُمْ عَلَى تَمَكُّنِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا اسْتَجَابَ أَصْنَامُهُمْ وَلَا آلهتهم لهم، أمروا

_ (1) سورة القصص: 28/ 50.

بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ مُفْتَرًى فَتُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَا يَشْرَكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا آلِهَتُهُمْ وَأَصْنَامُهُمْ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبُوا لِظُهُورِ عَجْزِهِمْ، وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّمَا نَزَّلَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ: إِنَّ التَّنْزِيلَ. وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: إِنَّ الَّذِي نَزَّلَهُ، وَحُذِفَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِوُجُودِ جَوَازِ الْحَذْفِ. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ الْمُنَاقِضِينَ فِي الْقُرْآنِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الدنيوية وما يؤولون إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَظَاهِرٌ مِنَ الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَنْ يُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْجَزَاءُ مَقْرُونٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ «1» الآية. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِي أَهْلِ الرِّيَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَعُونَةُ حِينَ حُدِّثَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُرَائِينَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ أَنَسٌ: هِيَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ جَاهَدُوا مَعَ الرَّسُولِ فَأَسْهَمَ لَهُمْ، وَمَعْنَى يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أَيْ يَقْصِدُ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّهَا صَالِحَةٌ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَلَا يَعْتَقِدُ آخِرَةً. فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِ عَلَى حُسْنِ أَعْمَالِهِ كَمَا جَاءَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعِمُهُ فِي الدُّنْيَا بِحَسَنَاتِهِ. وَإِنِ انْدَرَجَ فِي الْعُمُومِ الْمُرَاءُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمَا تَرَى أَحَدَهُمْ إِذَا صَلَّى إِمَامًا يَتَنَغَّمُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَيُرَتِّلُهُ أَحْسَنَ تَرْتِيلٍ، وَيُطِيلُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، وَيَتَبَاكَى فِي قِرَاءَتِهِ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ اخْتَلَسَهَا اخْتِلَاسًا، وَإِذَا تَصَدَّقَ أَظْهَرَ صَدَقَتَهُ أَمَامَ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَدَفَعَهَا لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يُثْنِيَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَهْلُ الرِّبَاطِ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ رَجُلٍ يَتَصَدَّقُ خُفْيَةً وَعَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، كما جاء في: «السبعة الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظله، ورجل تصدق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ» وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ جِدًّا، وَإِذَا تَعَلَّمَ عِلْمًا رَاءَى بِهِ وَتَبَجَّحَ، وَطَلَبَ بِمُعْظَمِهِ يَسِيرَ حُطَامٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. وَقَدْ فَشَا الرِّيَاءُ فِي هذه الأمة فُشُوًّا كَثِيرًا حَتَّى لَا تَكَادَ تَرَى مُخْلِصًا لِلَّهِ لَا فِي قَوْلٍ، وَلَا فِي فِعْلٍ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النار يوم القيامة.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 18. [.....]

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُوَفِّ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَطَلْحَةُ بْنُ مَيْمُونٍ: يُوَفِّ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُوفِ بِالْيَاءِ مُخَفَّفًا مُضَارِعُ أوفى. وقرىء تُوَفَّ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وأعمالهم بِالرَّفْعِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ القراآت مَجْزُومٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، كَمَا انْجَزَمَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ «1» وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ كَانَ زَائِدَةٌ، وَلِهَذَا جُزِمَ الْجَوَابُ. وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، إِذْ لَوْ كَانَتْ زَائِدَةً لَكَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ يُرِيدُ، وَكَانَ يَكُونُ مَجْزُومًا، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ مَجِيءِ فِعْلِ الشَّرْطِ مَاضِيًا وَالْجَوَابِ مُضَارِعًا لَيْسَ مَخْصُوصًا بِكَانَ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي غَيْرِهَا. كَمَا رُوِيَ فِي بَيْتِ زُهَيْرٌ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رَامَ أَنْ يَرْقَى السَّمَاءَ بِسُلَّمِ وقرأ الحسن: نوفي بِالتَّخْفِيفِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا كَمَا ارْتَفَعَ فِي قَوْلِ الشاعر: وَإِنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيعِ مَخَافَةً ... يَقُولُ جِهَارًا وَيْلَكُمْ لَا تَنْفِرُوا وَالْحَصْرُ فِي كَيْنُونَةِ النَّارِ لَهُمْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ، فَإِنِ انْدَرَجَ أَهْلُ الرِّيَاءِ فِيهَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي حَقِّهِمْ: ليس يجب لهم ولا يَحِقُّ لَهُمْ إِلَّا النَّارُ كَقَوْلِهِ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «2» وَجَائِزٌ أَنْ يَتَغَمَّدَهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَا صَنَعُوا فِيهَا، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الآخرة، والمجرور مُتَعَلِّقٌ بِحَبِطَ، وَالْمَعْنَى: وَظَهَرَ حُبُوطُ مَا صَنَعُوا فِي الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: صَنَعُوا، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا عَادَ عَلَيْهَا فِي فِيهَا قبل. وما في فيما اصنعوا بمعنى الذي، أو مصدرية، وباطل وما بعده توكيد لِقَوْلِهِ: وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا، وَبَاطِلٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ إِنْ كَانَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَمَا كَانُوا هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ ارْتَفَعَ مَا بِبَاطِلٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَبَطَلَ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَبَاطِلًا بِالنَّصْبِ، وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَيَعْمَلُونَ، فَهُوَ مَعْمُولُ خَبَرِ كَانَ مُتَقَدِّمًا. وَمَا زَائِدَةٌ أَيْ: وَكَانُوا يَعْمَلُونَ بَاطِلًا، وَفِي جَوَازِ هَذَا التَّرْكِيبِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُ الْخَبَرِ عَلَى الْجُمْلَةِ بأسرها من كان اسمها وَخَبَرِهَا، وَيَشْهَدُ لِلْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ «3» ومن منع

_ (1) سورة الشورى: 42/ 20. (2) سورة النساء: 4/ 93. (3) سورة سبأ: 34/ 40.

تَأَوَّلَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ بَاطِلًا عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ عَلَى بَطَلَ بُطْلَانًا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَتَكُونُ مَا فَاعِلَةً، وَتَكُونُ مِنْ إِعْمَالِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْأَمْرِ، وَحَقَّ أَنْ يُبْطِلَ أَعْمَالَهُمْ لِأَنَّهَا لَمْ تُعْمَلْ لِوَجْهٍ صَحِيحٍ، وَالْعَمَلُ الْبَاطِلُ لَا ثَوَابَ لَهُ. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَكَرَ حَالَ مَنْ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَحُذِفَ الْمُعَادِلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَمْزَةُ وَالتَّقْدِيرُ: كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَكَثِيرًا مَا حُذِفَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً «1» وقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ «2» وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ، لَا تَعْقِبُونَهُمْ فِي الْمَنْزِلَةِ وَلَا تُفَارِقُونَهُمْ، يُرِيدُ أَنَّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا وَتَبَايُنًا بَيِّنًا، وَأَرَادَ بِهِمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: عَلَى بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانٍ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَهُوَ دَلِيلُ الْعَقْلِ، وَيَتْلُوهُ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْبُرْهَانَ شَاهِدٌ مِنْهُ أَيْ: شَاهِدٌ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ مِنْهُ مِنَ اللَّهِ، أَوْ شَاهِدٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْ قَبْلِهِ. وَمِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ كِتَابُ مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ أَيْ: وَيَتْلُو ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ كِتَابُ مُوسَى. وقرىء كِتَابَ مُوسَى بِالنَّصْبِ، وَمَعْنَاهُ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَيَتْلُوهُ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ شَاهِدٌ مِنْهُ، شَاهِدٌ مِمَّنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ كَقَوْلِهِ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ «3» قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى وَيَتْلُوهُ وَمِنْ قَبْلِ التَّوْرَاةِ إِمَامًا كِتَابًا مُؤْتَمًّا فِي الدِّينِ قُدْوَةً فِيهِ انْتَهَى. وَقِيلَ فِي أَفَمَنْ كَانَ: الْمُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ، وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: مُحَمَّدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا، وَالْبَيِّنَةُ الْقُرْآنُ أَوِ الرَّسُولُ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالشَّاهِدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةُ: هُوَ جِبْرِيلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: هُوَ الرَّسُولُ. وَقَالَ أَيْضًا مُجَاهِدٌ: هُوَ مَلَكٌ وَكَّلَهُ اللَّهُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عطية:

_ (1) سورة فاطر: 35/ 8. (2) سورة الزمر: 39/ 9. (3) سورة الأحقاف: 46/ 10. (4) سورة الرعد: 13/ 43.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذِهِ الألفاظ جبريل، وقيل: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَرَوَى الْمِنْهَالُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَا فِي قُرَيْشٍ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ قِيلَ: فَمَا نَزَلَ فِيكَ؟ قَالَ: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَقِيلَ: هُوَ الْإِنْجِيلُ قَالَهُ: الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هُوَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، وَقِيلَ: صُورَةُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَوَجْهُهُ وَمَخَايِلُهُ، لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ نَظَرَ إِلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هو أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ يَعُودُ إِلَى الدِّينِ أَوْ إِلَى الرَّسُولِ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ. وَيَتْلُوهُ بِمَعْنَى يَتْبَعُهُ، أَوْ يَقْرَؤُهُ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يَتْلُوهُ وَالْمَنْصُوبُ وَالْمَجْرُورُ فِي مِنْهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ هَذِهِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: كِتَابُ مُوسَى بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ يَتْلُوهُ، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. وَإِذَا لَمْ يُعْنَ بِالشَّاهِدِ الْإِنْجِيلُ فَإِنَّمَا خَصَّ التَّوْرَاةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْمِلَّتَيْنِ مُجْتَمِعَتَانِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْإِنْجِيلُ يُخَالِفُ فِيهِ الْيَهُودُ، فَكَانَ الِاسْتِشْهَادُ بِمَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ أَوْلَى. وَهَذَا يَجْرِي مَعَ قَوْلِ الْجِنِّ: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «1» وَمَعَ قَوْلِ النَّجَاشِيِّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَانْتَصَبَ إِمَامًا عَلَى الْحَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا النَّارُ، أَعْقَبَ بِضِدِّهِمْ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَالشَّاهِدُ الْقُرْآنُ، وَمِنْهُ عَائِدٌ عَلَى رَبِّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ الْقُرْآنُ ذِكْرُ قَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلِهِ، أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ كِتَابُ موسى، فمعناه: أنه تضافر عَلَى هِدَايَتِهِ شَيْئَانِ: كَوْنُهُ عَلَى أَمْرٍ وَاضِحٍ مِنْ بُرْهَانِ الْعَقْلِ، وَكَوْنُهُ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ الْإِلَهِيَّيْنِ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ. وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ رَاعَى مَعْنَى مَعَ، فَجَمَعَ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ إِلَى التَّوْرَاةِ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ، أَوْ إِلَى الرَّسُولِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَالْأَحْزَابُ جَمِيعُ الْمِلَلِ قَالَهُ: ابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ قُرَيْشٌ قَالَهُ: السُّدِّيُّ، أَوْ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ بن عبد الله المخزومي، وَآلُ أَبِي طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ ضَامَّهُمْ مِنَ الْمُتَحَزِّبِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أَيْ: مَكَانُ وَعْدِهِ الَّذِي يَصِيرُونَ إِلَيْهِ. وَقَالَ حَسَّانُ: أَوْرَدْتُمُونَا حِيَاضَ الْمَوْتِ ضَاحِيَةً ... فَالنَّارُ موعدها والموت لاقيها

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 30.

وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: عَلَى الْخَبَرِ، بِأَنَّ الْكُفَّارَ مَوْعِدُهُمُ النَّارُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي مِرْيَةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ السُّدُوسِيُّ، وَالْحَسَنُ: بِضَمِّهَا وَهِيَ لُغَةُ أَسَدٍ وَتَمِيمٍ وَالنَّاسُ أَهْلُ مَكَّةَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مِنْ شَاكٍّ وَجَاهِلٍ وَمُعَانِدٍ قاله: صاحب العتيان. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ. لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ: لَمَّا سَبَقَ قَوْلُهُمْ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَهُمُ الْمُفْتَرُونَ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْوَلَدَ، وَاتَّخَذُوا مَعَهُ آلِهَةً، وَحَرَّمُوا وَحَلَّلُوا مِنْ غَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ، وَعَرْضُهُمْ عَلَى اللَّهِ بِمَعْنَى التَّشْهِيرِ لِخِزْيِهِمْ وَالْإِشَارَةِ بِكَذِبِهِمْ، وَإِلَّا فَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي يُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا «1» وَالْأَشْهَادُ: جَمْعُ شَاهِدٍ، كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ، أَوْ جَمْعُ شَهِيدٍ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، وَالْأَشْهَادُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ هما والمؤمنون، أَوْ مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْضَائِهِمْ أَقْوَالٌ. وَفِي قَوْلِهِ: هَؤُلَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْقِيرِهِمْ وَإِصْغَارِهِمْ بِسُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: عَلَى رَبِّهِمْ أَيْ: عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيَمْلِكُ نَوَاصِيَهُمْ، وَكَانُوا جَدِيرِينَ أَنْ لَا يَكْذِبُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ إِذَا رَأَيْتَ مُجْرِمًا: هَذَا الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ هَذَا. وَهُمْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ، وَقَوْلُهُ: مُعْجِزِينَ، أَيْ كَانُوا لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُعَاقِبَهُمْ لَوْ أَرَادَ عِقَابَهُمْ، وَمَا كَانَ لَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِنْظَارَهُمْ وَتَأْخِيرَ عِقَابِهِمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ كَلَامُ الْأَشْهَادِ يَعْنِي: أَنَّ كَلَامَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ هَؤُلَاءِ إِلَى آخِرِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ وما كان لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ. وَقَدْ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، وَيَدُلُّ لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَوْلُهُ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «2» الْآيَةَ فَكَمَا أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ يُشَدَّدُ وَيَكْثُرُ، وَهَذَا اسْتِئْنَافُ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 48. (2) سورة الأعراف: 7/ 44.

إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا إِلَى الْكُفْرِ بِالْبَعْثِ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَصَدَّ عِبَادِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَبَغْيَ الْعِوَجِ لَهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ. مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ يَعْنِي: السَّمْعَ لِلْقُرْآنِ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ أَيْ: يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لِبُغْضِهِمْ فِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى حَشْوِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو أُذُنَيْهِ مِنَ الْكُرْسُفِ، وَإِبَايَةِ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْمَعُوا مَا نُقِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ حَتَّى تَرُدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَشْيَخَتُهُمْ؟ أَوْ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ إِذَا ضُعِّفَ لَهُمُ الْعَذَابُ أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى حَتَمَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِذَلِكَ سَمَاعًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلَا يُبْصِرُونَ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي كَانُوا عَائِدٌ عَلَى أَوْلِيَاؤُهُمْ آلِهَتُهُمْ أَيْ: فَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ. وَيَعْنِي أَنَّهُ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْمَعَ وَلَا يُبْصِرَ فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلْوِلَايَةِ؟ وَيَكُونُ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ اعْتِرَاضًا، وَمَا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ نَفْيٌ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِهِمُ السَّمْعَ وَإِبْصَارِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَذَابَ وَتَضْعِيفَهُ دَائِمٌ لَهُمْ مُتَمَادٍ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مِنْهَا كَمَا يُحْذَفُ مَعَ أَنْ وَإِنْ أُخْتَيْهَا، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ فِي اللَّفْظِ وَفِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُمْ لِفَرْطِ تَصَامِّهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُجْبِرَةِ يَتَوَثَّبُ إِذَا عَثَرَ عَلَيْهِ فَيُوَعْوِعُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي كُلِّ لِسَانٍ هَذَا الْكَلَامُ لَا أَسْتَطِيعُ أَسْمَعُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَمُجُّهُ سَمْعِي انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا قُدْرَةَ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَفَى عَنْهُ اسْتِطَاعَةَ السَّمْعِ، وَإِذَا انْتَفَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْهُ انْتَفَتْ قُدْرَتُهُ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي السَّفَهِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَخُسْرَانِهِمْ أنفسهم، كونهم اشْتَرَوْا عِبَادَةَ الْآلِهَةِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَخَسِرُوا فِي تِجَارَتِهِمْ خُسْرَانًا لَا خُسْرَانَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: رَاحَةُ أَوْ سَعَادَةُ أَنْفُسِهِمْ، وَإِلَّا فَأَنْفُسُهُمْ بَاقِيَةٌ مُعَذَّبَةٌ. وَبَطَلَ عَنْهُمْ مَا افْتَرَوْهُ مِنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَكَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ شَفَاعَتَهَا إِذَا رَأَوْا أَنَّهَا لَا تَشْفَعُ وَلَا تَنْفَعُ. لَا جَرَمَ مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا رُكِّبَا مِنْ لَا وَجَرَمَ، وَبُنِيَا، وَالْمَعْنَى: حَقَّ، وَمَا بَعْدَهُ رُفِعَ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: جَرَمَ مَنْفِيٌّ بِلَا بِمَعْنَى حَقَّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ مَعَ لَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ جَرَمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ جَرَمَ مَبْنِيَّةٌ مَعَ لَا عَلَى الْفَتْحِ نَحْوَ قَوْلِكَ: لَا رَجُلَ، وَمَعْنَاهَا لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهَا لَا ضِدَّ وَلَا مَنْعَ، فَتَكُونُ اسْمَ لَا وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْفَتْحِ كَالْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَكُونُ جَرَمَ هُنَا مِنْ مَعْنَى الْقَطْعِ، نَقُولُ: جَرَمْتُ أَيْ قَطَعْتُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَرْكِيبَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَدَّ عَلَيْهِمْ. وَلِمَا

تَقَدَّمَ مِنْ كُلِّ مَا قَبْلَهَا مِمَّا قَالُوا: إِنَّ الْأَصْنَامَ تَنْفَعُهُمْ. وَجَرَمَ فِعْلٌ مَاضٍ مَعْنَاهُ كَسَبَ، وَالْفَاعِلُ مضمر أي كسب هُوَ، أَيْ: فِعْلُهُمْ، وَأَنَّ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَجَرَمَ الْقَوْمَ كَاسَبَهُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: نَصَبْنَا رَأَسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ وَمَا اعْتَدَيْنَا وَقَالَ آخَرُ: جَرِيمَةَ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا وَيُقَالُ: لَا جِرَمَ بِالْكَسْرِ، وَلَا جَرَ بِحَذْفِ الْمِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَ لُغَاتٍ: لَا جرم، ولا عن ذا جَرَمٍ، وَلَا أَنْ ذَا جَرَمٍ، قَالَ: وَنَاسٌ مِنْ فَزَارَةَ يَقُولُونَ: لَا جَرَمَ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِيهِ لُغَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، قَالَ: بَنُو عَامِرٍ يَقُولُونَ: لَا ذَا جَرَمٍ، وَنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَا جُرَمَ بِضَمِّ الْجِيمِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي نَوَادِرِهِ: حُكِيَ عَنْ فَزَارَةَ لَا جَرَ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ ذَاكَ، قَالَ: وَيُقَالُ لَا ذَا جَرَمٍ، وَلَا ذُو جرم، ولا عن ذا جَرَمٍ، وَلَا أَنْ ذَا جَرَمٍ، وَلَا أَنْ جَرَمَ، وَلَا عَنْ جَرَمٍ، وَلَا ذَا جَرَ، وَاللَّهِ بِغَيْرِ مِيمٍ لَا أَفْعَلُ ذَاكَ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ لَا جَرَمَ: أَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ ذَاكَ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: لَأَجْرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ على وزن لا كرم، وَلَا جَرَ حَذَفُوهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا قَالُوا: سَوْ تَرَى يُرِيدُونَ سَوْفَ تَرَى. وَلَمَّا كَانَ خُسْرَانُ النَّفْسِ أَعْظَمَ الْخُسْرَانِ، حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ هُمُ الزَّائِدُونَ فِي الْخُسْرَانِ عَلَى كُلِّ خَاسِرٍ مِنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعُصَاةِ مَآلُهُ إِلَى الرَّاحَةِ، وَإِلَى انْقِطَاعِ خُسْرَانِهِ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ خُسْرَانَهُمْ لَا انْقِطَاعَ لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ ما يؤول إِلَيْهِ الْكُفَّارُ مِنَ النَّارِ، ذكر ما يؤول إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْفَرِيقَانِ هُنَا الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ. وَلَمَّا كَانَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَأُعْقِبَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ، جَاءَ التَّمْثِيلُ هُنَا مُبْتَدَأً بِالْكَافِرِ فَقَالَ: كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ، فَقُوبِلَ الْأَعْمَى بِالْبَصِيرِ وَهُوَ طِبَاقٌ، وَقُوبِلَ الْأَصَمُّ بِالسَّمِيعِ وَهُوَ طِبَاقٌ أَيْضًا، وَالْعَمَى وَالصَّمَمُ آفَتَانِ تَمْنَعَانِ مِنَ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ، وَلَيْسَتَا بِضِدَّيْنِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَاقُبَ بَيْنَهُمَا. ويحتمل أن يكون من تَشْبِيهٍ وَاحِدٍ بِوَصْفَيْهِ بِوَاحِدٍ بِوَصْفَيْهِ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْنِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَرِيهَةِ فِي المزدحم ولم يجيء التَّرْكِيبُ كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ فَيَكُونُ مُقَابَلَةً فِي لَفْظِ الْأَعْمَى وَضِدِّهِ، وَفِي لَفْظَةِ الْأَصَمِّ وَضِدِّهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ انْسِدَادَ الْعَيْنِ أَتْبَعَهُ بِانْسِدَادِ السَّمْعِ، وَلَمَّا ذَكَرَ انْفِتَاحَ الْبَصَرِ أَتْبَعَهُ بِانْفِتَاحِ السَّمْعِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأُسْلُوبُ فِي الْمُقَابَلَةِ، وَالْأَتَمُّ فِي الْإِعْجَازِ. وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى نَظِيرُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ فِي قَوْلِهِ فِي طَهَ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى «1» وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ نَفْسُهَا هِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْمَثَلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ مَثَلُ الْأَعْمَى. وَاحْتُمِلَ أَنْ يُرَادَ بِالْمَثَلِ الصِّفَةُ، وَبِالْكَافِ مِثْلُ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: كَمَثَلِ الْأَعْمَى، وَهَذَا التَّشْبِيهُ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، فَأَعْمَى الْبَصِيرَةِ أَصَمُّهَا، شُبِّهَ بِأَعْمَى الْبَصَرِ أَصَمُّ السَّمْعِ، ذَلِكَ فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ مُتَرَدِّدٌ تَائِهٌ، وَهَذَا فِي الطُّرُقَاتِ مُحَيَّرٌ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا. وَجَاءَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ زَوَالُ هَذَا الْعَمَى وَهَذَا الصَّمَمُ الْمَعْقُولُ، فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَسْعَى فِي هِدَايَةِ نَفْسِهِ. وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالظَّاهِرُ التَّمْيِيزُ وَأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَصْلُهُ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلَاهُمَا. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ: هَذِهِ السُّورَةُ فِي قَصَصِهَا شَبِيهَةٌ بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح، ثُمَّ بِهُودٍ، ثُمَّ بِصَالِحٍ، ثُمَّ بِلُوطٍ، مُقَدَّمًا عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بِسَبَبِ قَوْمِ لُوطٍ، ثم بشعيب، ثم بموسى وَهَارُونَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَذَكَرُوا وُجُوهَ حِكَمٍ وَفَوَائِدَ لِتَكْرَارِ هَذِهِ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: بأبي، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي قِرَاءَةِ الْفَتْحِ: خُرُوجٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ مُخَاطَبَةٍ لِقَوْمِهِ وَلَيْسَ هَذَا حَقِيقَةَ الْخُرُوجِ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى مُخَاطَبَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ إِنْ أَنْذِرْهُمْ أَوْ نَحْوَهُ لَصَحَّ ذلك انتهى. وأن لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَنْ بَدَلٌ مِنْ أي

_ (1) سورة طه: 20/ 118- 119.

لَكُمْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنِ الْمُفَسِّرَةَ. وَأَمَّا فِي قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُفَسِّرَةَ، وَالْمُرَاعَى قَبْلَهَا: إِمَّا أَرْسَلْنَا وَإِمَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لَأَرْسَلْنَا أَيْ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَإِسْنَادُ الْأَلَمِ إِلَى الْيَوْمِ مَجَازٌ لِوُقُوعِ الْأَلَمِ فينه لَا بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ؟ (قُلْتُ) : مَجَازِيٌّ مِثْلُهُ، لِأَنَّ الْأَلِيمَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُعَذِّبُ، وَنَظِيرُهُمَا قَوْلُكُ: نَهَارُهُ صَائِمٌ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَلِيمٍ صِفَةَ مُبَالَغَةٍ مِنْ أَلِمَ، وَهُوَ مَنْ كَثُرَ أَلَمُهُ. فَإِنْ كَانَ أَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، فَنِسْبَتُهُ لِلْيَوْمِ مَجَازٌ، وَلِلْعَذَابِ حَقِيقَةٌ. لَمَّا أَنْذَرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَمَرَهُمْ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ذَكَرُوا أَنَّهُ مُمَاثِلُهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يبعث الله رسولا من الْبَشَرِ، وَكَأَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى مَذْهَبِ الْبَرَاهِمَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ عَيَّرُوهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ إِلَّا الْأَرَاذِلُ أَيْ: فَنَحْنُ لَا نُسَاوِيهِمْ، ثُمَّ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلٌ. أَيْ: أَنْتَ مُسَاوِينَا فِي الْبَشَرِيَّةِ وَلَا فَضْلَ لَكَ عَلَيْنَا، فَكَيْفَ امْتَزْتَ بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا، مُبَالَغَةٌ فِي الْإِخْبَارِ، وَكَأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِتَأْكِيدِ حَصْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْأَرَاذِلُ لَمْ يَشْرَكْهُمْ شَرِيفٌ فِي ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّهُمْ كَانُوا حَاكَةً وَحَجَّامِينَ» وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُمُ الْفُقَرَاءُ وَالَّذِينَ لَا حَسَبَ لهم، والخسيسو الصِّنَاعَاتِ. وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ: «أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ قَبْلُ» وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ الرِّئَاسَةِ عَلَى الْأَشْرَافِ وَصُعُوبَةِ الِانْفِكَاكِ عَنْهَا، وَالْأَنَفَةِ مِنَ الِانْقِيَادِ لِغَيْرِهِمْ، وَالْفَقِيرُ خَلِيٌّ عَنْ تِلْكَ الْمَوَانِعِ فَهُوَ سَرِيعٌ إِلَى الْإِجَابَةِ وَالِانْقِيَادِ. وَنَرَاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً. قَالُوا: وَأَرَاذِلُ جَمْعُ الْجَمْعِ، فَقِيلَ: جَمْعُ أَرْذُلٍ كَكَلْبٍ وَأَكْلُبٍ وَأَكَالِبٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ أَرْذَالٍ، وَقِيَاسُهُ أَرَاذِيلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمْعُ أَرْذَلَ الَّتِي هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَجَاءَ جَمْعًا، كَمَا جَاءَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا وَأَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَحَقُّ مِنْهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ لَجَعَلَهَا فِيهِمْ، فَقَالُوا: هَبْ أَنَّكَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَأِ وَمُوَازِيهِمْ فِي الْمَنْزِلَةِ، فَمَا جَعَلَكَ أَحَقَّ مِنْهُمْ؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ، أَوْ أَرَادُوا أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَلَكًا لَا بَشَرًا، وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْآيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعِيسَى الثقفي: بادىء الرَّأْيِ مِنْ بَدَأَ يَبْدَأُ وَمَعْنَاهُ: أَوَّلُ الرَّأْيِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بَادِي بِالْيَاءِ مِنْ بَدَا يَبْدُو، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرُ الرَّأْيِ. وَقِيلَ: بَادِي بالياء معناه بادىء بِالْهَمْزِ، فَسُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ،

وَالْعَامِلُ فِيهِ نَرَاكَ أَوِ اتَّبَعَكَ أَوْ أَرَاذِلُنَا أَيْ: وَمَا نَرَاكَ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنَ الرَّأْيِ، أَوْ فِي أَوَّلِ رَأْيِنَا، أَوْ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ أَوَّلَ رَأْيِهِمْ، أَوْ ظَاهِرُ رَأْيِهِمْ. وَاحْتَمَلَ هَذَا الْوَجْهُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ اتَّبَعَكَ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ، وَعَسَى أَنْ تَكُونَ بَوَاطِنُهُمْ لَيْسَتْ مَعَكَ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ اتَّبَعُوكَ بِأَوَّلِ نَظَرٍ وَبِالرَّأْيِ الْبَادِئِ دُونَ تَعَقُّبٍ، وَلَوْ تَثَبَّتُوا لَمْ يَتَّبِعُوكَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ ذَمُّ الرَّأْيِ غَيْرِ الْمَرْوِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اتَّبَعُوكَ أَوَّلَ الرَّأْيِ، أَوْ ظَاهِرَ الرَّأْيِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ أَصْلُهُ وَقْتَ حُدُوثِ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ، أَوْ وَقْتَ حُدُوثِ ظَاهِرِ رَأْيِهِمْ، فَحُذِفَ ذَلِكَ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَرَادُوا أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ لَكَ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ عَنَّ لَهُمْ بَدِيهَةً مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَنَظَرٍ انْتَهَى. وَكَوْنُهُ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ هُوَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الظَّرْفِ وَلَيْسَ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، لِأَنَّ فِي مُقَدَّرَةٌ فِيهِ أَيْ: فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، أَوْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ نَرَاكَ، أَوِ اتَّبَعَكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِلَّا لَا يَكُونُ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَهَا إِلَّا إِنْ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ نَحْوَ: قَامَ إِلَّا زَيْدًا الْقَوْمُ، أَوْ مُسْتَثْنًى نَحْوَ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، أَوْ تَابِعًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ أَخْبَرَنِي عمرو، وبادىء الرَّأْيِ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ظَرْفٌ، أَوْ كَالظَّرْفِ مِثْلَ جُهْدَ رَأْيٍ إِنَّكَ ذَاهِبٌ، أَيْ إِنَّكَ ذَاهِبٌ فِي جُهْدِ رَأْيٍ، وَالظُّرُوفِ يُتَّسَعُ فِيهَا. وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ أَرَاذِلُنَا فَمَعْنَاهُ الَّذِينَ هُمْ أراذلنا بأدل نَظَرٍ فِيهِمْ، وَبِبَادِئِ الرَّأْيِ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: بَادِيَ الرَّأْيِ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: بَشَرًا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ نُوحٍ فِي اتَّبَعَكَ، أَيْ: وَأَنْتَ مَكْشُوفُ الرَّأْيِ لَا حَصَافَةَ لَكَ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى النِّدَاءِ لنوح أَيْ: يَا بَادِيَ الرَّأْيِ، أَيْ مَا فِي نَفْسِكَ مِنَ الرَّأْيِ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، قَالُوا: ذَلِكَ تَعْجِيزًا لَهُ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَجَاءَ الظَّرْفُ وَالْمَصْدَرُ عَلَى فَاعِلٍ، وَلَيْسَ بِالْقِيَاسِ. فَالرَّأْيُ هُنَا إِمَّا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، وَإِمَّا مِنَ الْفِكْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَرْذَلُوا الْمُؤْمِنِينَ لِفَقْرِهِمْ وَتَأَخُّرِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا جُهَّالًا مَا كَانُوا يَعْلَمُونَ إِلَّا ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ الْأَشْرَفُ عِنْدَهُمْ مَنْ لَهُ جَاهٌ وَمَالٌ انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْخِطَابِ في لكم شامل لنوح وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا زِيَادَةٌ فِي مال، ولا نسب، وَلَا دِينٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ، وَقِيلَ: بِمُتَابَعَتِكُمْ نُوحًا وَمُخَالَفَتِكُمْ لَنَا، وَقِيلَ: مِنْ شَرَفٍ يُؤَهِّلُكُمْ لِلنُّبُوَّةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَظُنُّكُمْ نَتَيَقَّنُكُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَحْسَبُكُمْ أَيْ فِي دَعْوَى نُوحٍ وَتَصْدِيقِكُمْ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِتِيَّانِ: بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ تَوَسُّلًا إِلَى الرِّئَاسَةِ وَالشُّهْرَةِ. قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ

أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ: لَمَّا حَكَى شُبَهَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا «1» ذَكَرَ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُفَارَقَةِ فِي صِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَ الدَّالَّ عَلَى إِمْكَانِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيقِ وَالْإِمْكَانِ، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَمْتَنِعُ، وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ لَهُمْ وَالِاسْتِدْرَاجِ لِلْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنِّي عَلَى حَقٍّ مِنْ رَبِّي لَقَالُوا لَهُ كَذَبْتَ، كَقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ «2» الْآيَةَ فَقَالَ فِيهَا: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ. وَالْبَيِّنَةُ الْبُرْهَانُ، وَالشَّاهِدُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ الرَّحْمَةُ وَالنُّبُوَّةُ مُقَاتِلٌ الْهِدَايَةُ غَيْرُهُمَا التَّوْفِيقُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْحِكْمَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ غَيْرُ الرَّحْمَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ الْمُعْجِزَةُ، وَبِالرَّحْمَةِ النُّبُوَّةُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ هِيَ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ عِنْدِهِ تَأْكِيدٌ وَفَائِدَتُهُ رَفْعُ الِاشْتِرَاكِ وَلَوْ بِالِاسْتِعَارَةِ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الذَّمُّ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ أَتَى بِالْمُعْجِزَةِ الْجَلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَأَنَّهَا عَلَى وُضُوحِهَا وَاسْتِنَارَتِهَا خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَلَبَهُمْ عِلْمَهَا وَمَنْعَهُمْ مَعْرِفَتَهَا. فَإِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ فَعَوْدُ الضَّمِيرِ مُفْرَدًا ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا كَمَا اخْتَرْنَاهُ. فَقَوْلُهُ: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: فَعُمِّيَتَا. (قُلْتُ) : الْوَجْهُ أَنْ يُقَدَّرَ فَعُمِّيَتْ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَأَنْ يَكُونَ حَذْفُهُ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِمَّا عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَإِمَّا عَلَى الرَّحْمَةِ، وَإِمَّا عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ. وَيَقُولُ لِلسَّحَابِ الْعَمَاءُ لِأَنَّهُ يُخْفِي مَا فِيهِ، كَمَا يُقَالُ لَهُ الْغَمَامُ لِأَنَّهُ يَغُمُّهُ. وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، فَعَمِيتُمْ أَنْتُمْ عَنْهَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرَى الثَّوْرَ فِيهَا مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا مما يقلب، إذ لَيْسَ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَفِي الْقُرْآنِ: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ «3» انْتَهَى. وَالْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ بَلْ مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ فِي الظَّرْفِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَأَخْلَفَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَكَانَ يُضِيفُ إِلَى أَيِّهِمَا شِئْتَ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، وَلَوْ كَانَ فَعُمِّيَتْ

_ (1) سورة هود: 11/ 27. (2) سورة غافر: 40/ 28. (3) سورة ابراهيم: 14/ 47. [.....]

عَلَيْكُمْ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ لَكَانَ التَّعَدِّي بِعْنَ دُونَ عَلَى. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: عَمِيتُ عَنْ كَذَا، وَلَا تَقُولُ عَمِيتُ عَلَى كَذَا؟ وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: فَعُمِّيَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أُبْهِمَتْ عَلَيْكُمْ وَأُخْفِيَتَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ فَعَمِيَتْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ: فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَثَّابٍ: وَعَمِيَتْ بِالْوَاوِ خَفِيفَةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فما حقيقته؟ (قلت) : حفيقته أَنَّ الْحُجَّةَ كَمَا جُعِلَتْ بَصِيرَةً وَمُبْصِرَةً جُعِلَتْ عَمْيَاءَ، لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَهْتَدِي، وَلَا يَهْدِي غَيْرَهُ، فَمَعْنَى فَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ الْبَيِّنَةُ فَلَمْ تَهْدِكُمْ، كَمَا لَوْ عَمِيَ عَلَى الْقَوْمِ دَلِيلُهُمْ فِي الْمَفَازَةِ بَقَوْا بِغَيْرٍ هَادٍ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى قِرَاءَةِ أُبَيٍّ؟ (قُلْتُ) : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا فَخَلَّاهُمُ اللَّهُ وَتَصْمِيمَهُمْ، فَجُعِلَتْ تِلْكَ التَّخْلِيَةُ تَعْمِيَةً مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ؟ يَعْنِي: أَنُكْرِهُكُمْ عَلَى قَبُولِهَا وَنَقْسِرُكُمْ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَا وَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَهَا وَلَا تَخْتَارُونَهَا، وَلَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ انْتَهَى. وَتَوْجِيهُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الْكَلَامُ عَلَى أَرَأَيْتُمْ «1» مُشْبَعًا، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَرَبَ تُعَدِيهَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ، وَالثَّانِي أَغْلَبُ مَا يَكُونُ جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً. تَقُولُ: أَرَأَيْتُكَ زَيْدًا مَا صَنَعَ، وَلَيْسَ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا عَنِ الْجُمْلَةِ. وَإِنَّ الْعَرَبَ ضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَقَرَّرَنَا هُنَاكَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ «2» أَنَّهُ من باب الإعمال تنازع عَلَى عَذَابِ اللَّهِ. أَرَأَيْتَكُمْ يَطْلُبُهُ مَنْصُوبًا، وَفِعْلُ الشَّرْطِ يَطْلُبُهُ مَرْفُوعًا، فَأُعْمِلَ الثَّانِي. وَهَذَا الْبَحْثُ يَتَقَرَّرُ هُنَا أَيْضًا، فَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَكُمْ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَكُمُ الْبَيِّنَةَ مِنْ رَبِّي إِنْ كُنْتُ عَلَيْهَا أَنُلْزِمُكُمُوهَا؟ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَرَأَيْتُمْ، وَجِيءَ بِالضَّمِيرَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ فِي أَنُلْزِمُكُمُوهَا، لِتَقَدُّمِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، وَلَوِ انْعَكَسَ لَانْفَصَلَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَ الِاتِّصَالَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مُنْفَصِلًا كَقَوْلِكَ: أَنُلْزِمُكُمْ إِيَّاهَا وَنَحْوَهُ. فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ فَسَيَكْفِيكَ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ جَوَازِ انْفِصَالِ الضَّمِيرِ فِي نَحْوِ أَنُلْزِمُكُمُوهَا، هُوَ نَحْوُ قَوْلِ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ. قَالَ: وَتَخْتَارُ اتصال نحوهاء أَعْطَيْتُكَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: إِذَا قَدَّمْتَ مَا لَهُ الرُّتْبَةُ اتَّصَلَ لَا غَيْرَ، تَقُولُ: أَعْطَيْتُكَهُ. قَالَ تَعَالَى: أَنُلْزِمُكُمُوهَا؟ وَفِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ مَا يَشْهَدُ لَهُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِذَا كَانَ الْمَفْعُولَانِ اللَّذَانِ تَعَدَّى إِلَيْهِمَا فِعْلُ الْفَاعِلِ مُخَاطَبًا وَغَائِبًا،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 46. (2) سورة الأنعام: 6/ 40.

فَبَدَأَتْ بِالْمُخَاطَبِ قَبْلَ الْغَائِبِ، فَإِنَّ عَلَامَةَ الْغَائِبِ الْعَلَامَةُ الَّتِي لَا يَقَعُ مَوْقِعَهَا إِيَّاهُ وَذَلِكَ قَوْلُكَ: أَعْطَيْتُكَهُ وَقَدْ أَعْطَاكَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، فَهَذَا كَهَذَا، إِذَا بَدَأْتَ بِالْمُخَاطَبِ قَبْلَ الْغَائِبِ انْتَهَى. فَهَذَا نَصٌّ مِنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ وَمَنْ سَبَقَهُمَا إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَكَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِسْكَانَ الْمِيمِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَرَكَةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا خِلْسَةً خَفِيفَةً، فَظَنَّهَا الرَّاوِي سُكُونًا. وَالْإِسْكَانُ الصَّرِيحُ لَحْنٌ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَحُذَّاقِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ الْإِعْرَابِيَّةَ لَا يَسُوغُ طَرْحُهَا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ انْتَهَى. وَأَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الزَّجَّاجِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْكَانُ حَرَكَةِ الْإِعْرَابِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عمرو فَلَمْ يَضْبُطْهُ عَنْهُ الْقُرَّاءُ، وَرَوَى عَنْهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَخِفُّ الْحَرَكَةَ وَيَخْتَلِسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْإِسْكَانُ فِي الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَجْهِيلِ الْقُرَّاءِ وَهُمْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمْ الِاخْتِلَاسُ بِالسُّكُونِ، وَقَدْ حَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنُلْزِمُكُمُوهَا بِإِسْكَانِ الْمِيمِ الْأُولَى تَخْفِيفًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ أَنُلْزِمْكُمُهَا، كَمَا تَقُولُ: أَنُلْزِمُكُمْ ذَلِكَ وَيُرِيدُ إِلْزَامَ جَبْرٍ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا إِلْزَامُ الْإِيجَابِ فَهُوَ حَاصِلٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: أَنُوحِيهَا عَلَيْكُمْ، وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قراءة أبي بن كعب أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا، وَمَعْنَاهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا انْتَهَى. وَمَعْنَى شَطْرِ نَحْوُ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . تَلَطَّفَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنِدَائِهِ بِقَوْلِهِ: وَيَا قَوْمِ،

وَيَا قَوْمِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ فِي قَبُولِ كَلَامِهِ، كَمَا تَلَطَّفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: «يَا أَبَتِ يَا أَبَتِ» «1» وَكَمَا تَلَطَّفَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: «يا قوم يَا قَوْمِ» وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْذَارِ. وَإِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ «2» ، وَقِيلَ: عَلَى الدِّينِ، وَقِيلَ: عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُونَا سَوَاءٌ فِي أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَى اللَّهِ، وَإِنِّي لَا أَبْتَغِي عَمَّا أُلْقِيهِ إِلَيْكُمْ مِنْ شَرَائِعِ اللَّهِ مَالًا، فَلَا يَتَفَاوَتُ حَالُكُمْ وَحَالُهُمْ. وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِرْفَادَ مِنْهُمْ، فَنَفَاهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، فَلَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمُ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ بِتَوَهُّمٍ فَاسِدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ قَامَ بِهَؤُلَاءِ وَصْفٌ يَجِبُ الْعُكُوفُ عَلَيْهِمْ بِهِ وَالِانْضِوَاءُ مَعَهُمْ، وَهُوَ الْإِيمَانُ فَلَا يُمْكِنُ طَرْدُهُمْ، وَكَانُوا سَأَلُوا مِنْهُ طَرْدَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ رَفْعًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مُسَاوَاةِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ. وَنَظِيرَ هَذَا مَا اقْتَرَحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرْدِ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قريش. وقرىء: بِطَارِدٍ بِالتَّنْوِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْأَصْلِ يَعْنِي: أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ أَصْلُهُ أَنْ يَعْمَلَ وَلَا يُضَافَ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ الْإِضَافَةُ لَا الْعَمَلُ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَوَرَهُ شَبَهَانِ: أَحَدُهُمَا: شِبْهٌ بِالْمُضَارِعِ وَهُوَ شَبَهُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. وَالْآخَرُ: شِبْهٌ بِالْأَسْمَاءِ إِذَا كَانَتْ فِيهَا الْإِضَافَةُ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِجِنْسِهِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. أَنَّهُمْ ملاقوا رَبِّهِمْ: ظَاهِرُهُ التَّعْلِيلُ لِانْتِفَاءِ طَرْدِهِمْ، أَيْ: إِنَّهُمْ يُلَاقُونَ اللَّهَ، أَيْ: جَزَاءَهُ، فَيُوصِلُهُمْ إِلَى حَقِّهِمْ عِنْدِي إِنْ ظَلَمْتُهُمْ بِالطَّرْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُلَاقُونَ اللَّهَ فَيُعَاقِبُ مَنْ طَرَدَهُمْ، أَوْ يُلَاقُونَهُ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ إِيمَانٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ كَمَا ظَهَرَ لِي مِنْهُمْ، وَمَا أَعْرِفُ غَيْرَهُ مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا تَعْرِفُونَهُمْ بِهِ مِنْ بِنَاءِ إِيمَانِهِمْ على بادي الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ، وَمَا عَلَيَّ أَنْ أَشُقَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَتَعَرَّفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ حَتَّى أَطْرُدَهُمْ وَنَحْوُهُ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ «3» الْآيَةَ أَوْ هُمْ مُصَدِّقُونَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، مُوقِنُونَ بِهِ عَالِمُونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوهُ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. وَوَصْفُهُمْ بِالْجَهْلِ لِكَوْنِهِمْ بَنَوْا أَمْرَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ بِالْعَوَاقِبِ، وَالِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ. أَوْ لِأَنَّهُمْ يَتَسَافَلُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُونَهُمْ أَرَاذِلَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ علينا. أَوْ تَجْهَلُونَ لِقَاءَ رَبِّكُمْ، أَوْ تَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ، أَوْ وَصْفُهُمْ بِالْجَهْلِ فِي هَذَا الِاقْتِرَاحِ، وَهُوَ طَرْدُ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِهِ. مَنْ

_ (1) سورة مريم: 19/ 42، 43، 44، 45. (2) سورة هود: 11/ 2، 26. (3) سورة الأنعام: 6/ 52.

يَنْصُرُنِي، اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ لَا نَاصِرَ لِي مِنْ عِقَابِ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي قَدْ قَبِلُوهُ، أَوْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَطْرُدَهُمْ لِيُؤْمِنُوا بِهِ أَنَفَةً مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، ثُمَّ وَقَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فِي الْأَنْعَامِ. وَتَزْدَرِي تَفْتَعِلُ، وَالدَّالُ بَدَلٌ مِنَ التَّاءِ قَالَ: تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ ... وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: يُبَاعِدُهُ الصَّدِيقُ وَتَزْدَرِيهِ ... حَلِيلَتُهُ وَيَنْهَرُهُ الصَّغِيرُ وَالْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ أَيْ: تَزْدَرُونَهُمْ، أَيْ: تَسْتَحْقِرُهُمْ أَعْيُنُكُمْ. وَلَنْ يُؤْتِيَهُمْ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: ولا أقول، وللذين مَعْنَاهُ لِأَجْلِ الَّذِينَ. وَلَوْ كَانَتِ اللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ لَكَانَ الْقِيَاسُ لَنْ يُؤْتِيَكُمْ بِكَافِ الْخِطَابِ، أَيْ: لَيْسَ احْتِقَارُكُمْ إِيَّاهُمْ يُنْقِصُ ثَوَابَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يُبْطِلُ أُجُورَهُمْ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ، تَسْلِيمٌ لِلَّهِ أَيْ: لَسْتُ أَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ بِذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِمُ: اتَّبَعَكَ أَرَاذِلُنَا، أَيْ لَسْتُ أَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ خَيْرٌ لِظَنِّكُمْ بِهِمْ، إِنَّ بَوَاطِنَهُمْ لَيْسَتْ كَظَوَاهِرِهِمُ، اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ، إِنِّي لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَضَعُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، قَدْ جَادَلْتَنَا الظَّاهِرُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: دَعَوْتَنَا، وَقِيلَ: وَعَظْتَنَا، وَقِيلَ: أَتَيْتَ بِأَنْوَاعِ الْجِدَالِ وَفُنُونِهِ فَمَا صَحَّ دَعْوَاكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَكْثَرْتَ جَدَلَنَا كَقَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا «1» فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ بِمَا تَعِدْنَاهُ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَإِنَّمَا كَثُرَتْ مُجَادَلَتُهُ لَهُمْ لِأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِمْ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَهُوَ كُلُّ وَقْتٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَهُمْ يُجِيبُونَهُ بِعِبَادَتِهِمْ أَصْنَامَهُمْ. قَالَ: إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ إِنَّمَا هُوَ لِلْإِلَهِ الَّذِي يُعَاقِبُكُمْ عَلَى عِصْيَانِكُمْ إِنْ شَاءَ أَيْ: إِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يُعَجِّلَ عَذَابَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي قَبْضَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُفْلِتُوا مِنْهُ، وَلَا أَنْ تَمْتَنِعُوا. وَلَمَّا قَالُوا: قَدْ جَادَلْتَنَا، وَطَلَبُوا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ، وَكَانَ مُجَادَلَتُهُ لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْإِنْقَاذِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي.

_ (1) سورة الكهف: 18/ 54.

وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ: نَصْحِي بِفَتْحِ النُّونِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِضَمِّهَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالشُّكْرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا. وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ اعْتَقَبَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَوْلَهُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَالشَّرْطُ الثَّانِي: اعْتَقَبَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَجَوَابُهُ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي. وَصَارَ الشَّرْطُ الثَّانِي شَرْطًا فِي الْأَوَّلِ، وَصَارَ الْمُتَقَدِّمُ مُتَأَخِّرًا، وَالْمُتَأَخِّرُ مُتَقَدِّمًا، وَكَأَنَّ التَّرْكِيبَ إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَالشَّرْطِ إِذَا كَانَ بِالْفَاءِ نَحْوَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ. فَإِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي. وَنَظِيرُهُ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ جَزَاؤُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَهَذَا الدَّلِيلُ فِي حُكْمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَوُصِلَ بِشَرْطٍ كَمَا وُصِلَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ إِنْ أَمْكَنَنِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ نُصْحِي لَكُمْ بِنَافِعٍ، وَلَا إِرَادَتِي الْخَيْرَ لَكُمْ مُغْنِيَةً إِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ بِكُمُ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ وَالْإِهْلَاكَ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامِ، وَفِيهِ بَلَاغَةٌ مِنَ اقْتِرَانِ الْإِرَادَتَيْنِ، وَأَنَّ إِرَادَةَ الْبَشَرِ غَيْرُ مُغْنِيَةٍ، وَتَعَلُّقُ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ بِنُصْحِي، وَتَعَلُّقُ الْآخَرِ هُوَ بِلَا يَنْفَعُ انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: جَوَابُ الْأَوَّلِ النُّصْحُ، وَجَوَابُ الثَّانِي النَّفْعُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ يُضِلَّكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي وَهُوَ الضَّلَالُ. وَفِيهِ إِسْنَادُ الْإِغْوَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الضَّلَالَ هُوَ مِنَ الْعَبْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا عَرَفَ اللَّهُ مِنَ الْكَافِرِ الْإِصْرَارَ فَخَلَّاهُ وَشَأْنَهُ وَلَمْ يُلْجِئْهُ سُمِّيَ ذَلِكَ إِغْوَاءً وَإِمْلَاءً، كَمَا إِنَّهُ إِذَا عَرَفَ مِنْهُ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْعَوِي فَلَطَفَ بِهِ سُمِّيَ إِرْشَادًا وَهِدَايَةً انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِذَا عَرَفَ اللَّهُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنْ يَقُولَ: لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ إِنْ شَرْطِيَّةً، بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْإِضْلَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ، إخبار مِنْهُ لَهُمْ وَتَعْزِيَةً لِنَفْسِهِ

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 50.

عَنْهُمْ، لِمَا رَأَى مِنْ إِصْرَارِهِمْ وَتَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ يُهْلِكَكُمْ، وَالْغَوَى الْمَرَضُ وَالْهَلَاكُ. وَفِي لُغَةِ طَيِّءٍ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا أَيْ مَرِيضًا، وَالْغَوَى بضم الْفَصِيلِ وَقَالَهُ: يَعْقُوبُ فِي الْإِصْلَاحِ. وَقِيلَ: فَقْدُهُ اللَّبَنَ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَحَكَاهُ الطَّبَرِيُّ يُقَالُ مِنْهُ: غَوَى يَغْوِي. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّهُ الَّذِي قُطِعَ عَنْهُ اللَّبَنُ حَتَّى كَادَ يَهْلِكُ، أَوْ لَمَّا يَهْلِكُ بَعْدُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَكَوْنُ مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ يُهْلِكَكُمْ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، وَأَنْكَرَ مَكِّيٌّ أَنْ يَكُونَ الْغَوَى بِمَعْنَى الْهَلَاكِ مَوْجُودًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مججوج بِنَقْلِ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ يُهْلِكَكُمْ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَا لِمُعْتَزِلِيٍّ وَلَا لِسُنِّيٍّ، بَلِ الْحُجَّةُ مِنْ غَيْرِ هَذَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ فَالْمَنْزِلَةُ الَّتِي لَا تَنْفَعُكُمْ نَصَائِحُ اللَّهِ وَمَوَاعِظُهُ وَسَائِرُ أَلْطَافِهِ، كَيْفَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي؟ وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ رَبُّكُمْ، تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالْخَالِقِ، وَأَنَّهُ النَّاظِرُ فِي مَصَالِحِكُمْ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَهْدِيَكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَعِيدٌ وَتَخْوِيفٌ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ: قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ اعْتُرِضَتْ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَالْأَخْبَارُ فِيهَا عَنْ قُرَيْشٍ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: افْتَرَى الْقُرْآنَ، وَافْتَرَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لَوُقِفَ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ افْتَرَى مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَعِقَابِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِثْمُ إِجْرَامِي، وَالْإِجْرَامُ مَصْدَرُ أجرم، ويقال: أجر وَهُوَ الْكَثِيرُ، وَجَرَمَ بِمَعْنًى. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ ذَنْبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وَجَنَى لِسَانِي وقرىء أَجْرَامِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ جُرْمٍ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ، وَفُسِّرَ بِآثَامِي. وَمَعْنَى مِمَّا تُجْرِمُونَ مِنْ إِجْرَامِكُمْ فِي إِسْنَادِ الِافْتِرَاءِ إِلَيَّ، وَقِيلَ: مِمَّا تُجْرِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْبَرَهْسَمِ: وَأَوْحَى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، إِنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَعَلَى إِجْرَاءِ أَوْحَى مَجْرَى قَالَ: عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، أَيْأَسَهُ اللَّهُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَأَنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا بِإِخْبَارِهِ تَعَالَى

عَنْهُمْ. وَمَعْنَى إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ أَيْ: مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا كَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْ إِيمَانِهِ، وَنَهَاهُ تَعَالَى عَنِ ابْتِآسِهِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَهُوَ حُزْنُهُ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِكَانَةٍ. وَابْتَأَسَ افْتَعَلَ مِنَ الْبُؤْسِ، وَيُقَالُ: ابْتَأَسَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكَمْ مِنْ خَلِيلٍ أَوْ حَمِيمٍ رُزِئْتُهُ ... فَلَمْ نَبْتَئِسْ وَالرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلُ وَقَالَ آخَرُ: مَا يَقْسِمُ اللَّهُ اقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... مِنْهُ وَأَقْعُدْ كَرِيمًا نَاعِمَ الْبَالِ وَقَالَ آخَرُ: فَارِسُ الْخَيْلِ إِذَا مَا وَلْوَلَتْ ... رَبَّةُ الْخِدْرِ بِصَوْتٍ مُبْتَئِسٍ وَقَالَ آخَرُ: فِي مَأْتَمٍ كَنِعَاجِ صَا ... رَةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقِينَا صَارَةُ مَوْضِعٌ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ تَكْذِيبِكَ وَإِيذَائِكَ وَمُعَادَاتِكَ، فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَاصْنَعِ عَطْفٌ عَلَى فَلَا تَبْتَئِسْ، بِأَعْيُنِنَا بِمَرْأًى مِنَّا، وَكِلَاءَةٍ وَحِفْظٍ فَلَا تَزِيغُ صَنْعَتُهُ عَنِ الصَّوَابِ فِيهَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَ الْعَمَلِ وَبَيْنَهُ أَحَدٌ. وَالْجَمْعُ هُنَا كَالْمُفْرَدِ في قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، وَجُمِعَتْ هُنَا لِتَكْثِيرِ الْكِلَاءَةِ وَالْحِفْظِ وَدَيْمُومَتِهَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: بِأَعْيُنَّا مُدْغَمَةً. وَوَحْيِنَا نُوحِي إِلَيْكَ وَنُلْهِمُكَ كَيْفَ تَصْنَعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ صَنْعَةُ الْفُلْكِ، فَأَوْحَى اللَّهُ أَنْ يَصْنَعَهَا مِثْلَ جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ بِأَعْيُنِنَا أَيْ بِمَلَائِكَتِنَا الَّذِينَ جَعَلْنَاهُمْ عُيُونًا عَلَى مَوَاضِعِ حِفْظِكَ وَمَعُونَتِكِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ هُنَا لِلْجَمْعِ حَقِيقَةً. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى وَوَحْيِنَا بِأَمْرِنَا لَكَ أَوْ بِعِلْمِنَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ، مُغْنٍ عَنْ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ زَانَ سَفِينَةِ نُوحٍ جِبْرِيلُ» وَالزَّانُ الْقَيِّمُ بِعَمَلِ السَّفِينَةِ. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْمُ نُوحٍ، تَقَدَّمَ إِلَى نُوحٍ أَنْ لَا يَشْفَعَ فِيهِمْ فَيَطْلُبَ إِمْهَالَهُمْ، وَعَلَّلَ مَنْعَ مُخَاطَبَتِهِ بِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْغَرَقِ، وَنَهَاهُ عَنْ سُؤَالِ الْإِيجَابِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ «1» وَقِيلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَاعِلَةُ زَوْجَتُهُ وَكَنْعَانُ ابْنُهُ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا

_ (1) سورة هود: 11/ 76.

نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَالْفُلْكُ السَّفِينَةُ. وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ قَالَ: يَا رَبِّ مَا أَنَا بِنَجَّارٍ، قَالَ: بَلَى، ذَلِكَ بِعَيْنِي. فَأَخَذَ الْقَدُومَ، وَجَعَلَتْ يَدُهُ لَا تخطىء، فَكَانُوا يَمُرُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَارَ نَجَّارًا؟ وَقِيلَ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُعَلِّمُهُ، وَاسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مَعَهُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ عَجِّلْ عَمَلَ السَّفِينَةِ فَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ عَصَانِي، وَكَانَ سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ يَنْحِتُونَ مَعَهُ ، وَالْخَشَبُ مِنَ السَّاجِ قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْكَلْبِيُّ. قِيلَ: وَغَرَسَهُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ يَغْرِسُ وَيَقْطَعُ وَيَيْبِسُ. وقال عمرو بن الحرث: لَمْ يَغْرِسْهَا بَلْ قَطَعَهَا مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ خَشَبِ الشِّمْشَارِ، وَهُوَ الْبَقْصُ قِطْعَةٌ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَيْئَتِهَا مِنَ التَّرْبِيعِ وَالطُّولِ، وَفِي مِقْدَارِ مُدَّةِ عَمَلِهَا، وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي عَمِلَتْ فِيهِ، وَمِقْدَارِ طُولِهَا وَعَرْضِهَا، عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَارِضَةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ. وَسُخْرِيَتُهُمْ مِنْهُ لِكَوْنِهِمْ رَأَوْهُ يَبْنِي السَّفِينَةَ وَلَمْ يُشَاهِدُوا قَبْلَهَا سَفِينَةً بُنِيَتْ، قَالُوا: يَا نُوحُ مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: ابْنِي بَيْتًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَعَجِبُوا مِنْ قَوْلِهِ وَسَخِرُوا مِنْهُ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ يَبْنِي فِي قَرْيَةٍ لَا قُرْبَ لَهَا مِنَ الْبَحْرِ، فَكَانُوا يَتَضَاحَكُونَ وَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ صرت نجارا بعد ما كُنْتَ نَبِيًّا. وَكُلَّمَا ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ سَخِرُوا مِنْهُ، وَقَالَ: مُسْتَأْنَفٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ قَالَ: وَسَخِرُوا صِفَةٌ لِمَلَأٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَرَّ، وَيَبْعُدُ الْبَدَلُ لِأَنَّ سَخِرَ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَرَّ لَا يُرَادُ ذَا وَلَا نَوْعًا مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَخِرُوا مِنْهُ اسْتَجْهَلُوهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا رَأَوْا سَفِينَةً قَطُّ، وَلَا كَانَتْ، فَوَجْهُ الِاسْتِجْهَالِ وَاضِحٌ، وَبِذَلِكَ تَظَاهَرَتِ التَّفَاسِيرُ، وَإِنْ كَانَتِ السَّفَائِنُ جينئذ مَعْرُوفَةً فَاسْتَجْهَلُوهُ فِي أَنَّ صُنْعَهَا فِي قَرْيَةٍ لَا قُرْبَ لَهَا مِنَ الْبَحْرِ انْتَهَى. فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا تَسْخَرُونَ مِنَّا الْآنَ أَيْ: مِثْلَ سُخْرِيَتِكُمْ إِذَا أُغْرِقْتُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأُحْرِقْتُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فِيمَا نَصْنَعُ فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ والتعريض لِسَخَطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالِاسْتِجْهَالِ مِنَّا قَالَ: قَرِيبًا مِنْ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ فِي اسْتِجْهَالِكُمْ، لِأَنَّكُمْ لَا تَسْتَجْهِلُونَ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَبِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْجَهَلَةِ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْحَقَائِقِ. وَقَالَ ابن جريج: إن يسخروا مِنَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالسُّخْرِيَةُ اسْتِجْهَالٌ مَعَ اسْتِهْزَاءٍ. وَفِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، تَهْدِيدٌ بَالِغٌ، وَالْعَذَابُ

الْمُخْزِي الْغَرَقُ، وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ عَذَابُ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ دَائِمٌ عَلَيْهِمْ سَرْمَدٌ. وَمَنْ يَأْتِيهِ مَفْعُولٌ بِتَعْلَمُونَ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَتَعَدِّي تَعْلَمُونَ إِلَى وَاحِدٍ اسْتِعْمَالًا لَهَا اسْتِعْمَالَ عُرْفٍ فِي التَّعْدِيَةِ إِلَى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ التَّعْدِيَةُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى الْوَاحِدِ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الثَّانِي اقْتِصَارًا، لِأَنَّ أَصْلَهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، وَلَا اخْتِصَارًا هُنَا، لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى حَذْفِهِ وَتَعَنُّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: من يأتيه. وقيل: من اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَأْتِيهِ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَتَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ سَدَّتِ الْجُمْلَةُ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَيَحُلُّ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَيَحِلُّ بِكَسْرِهَا بِمَعْنَى وَيَجِبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُلُولُ الدِّينِ وَالْحَقِّ اللَّازِمِ الَّذِي لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهُ، وَمَعْنَى يُخْزِيهِ: يَفْضَحُهُ، أَوْ يُهْلِكُهُ، أَوْ يُذِلُّهُ، وَهُوَ الْغَرَقُ. أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دُخُولِ حَتَّى عَلَى إِذَا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ هُنَا غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ. وَيَصْنَعُ كَمَا قُلْنَا حِكَايَةُ حَالٍ أَيْ: وَكَانَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ إِلَى أَنْ جَاءَ وَقْتُ الْوَعْدِ الْمَوْعُودِ. والجملة من قوله: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ حَالٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَيَصْنَعُهَا، وَالْحَالُ أَنَّهُ كُلَّمَا مَرَّ، وَأَمْرُنَا وَاحِدُ الْأُمُورِ، أَوْ مَصْدَرٌ أَيْ: أَمْرُنَا بِالْفَوَرَانِ أَوْ لِلسَّحَابِ بِالْإِرْسَالِ، وَلِلْمَلَائِكَةِ بِالتَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْوِ هَذَا مِمَّا يُقَدَّرُ فِي النَّازِلَةِ. وَفَارَ: مَعْنَاهُ انْبَعَثَ بِقُوَّةٍ، وَالتَّنُّورُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ تَنُّورًا قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، أَوِ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ حِجَارَةٍ، وَكَانَ لِحَوَّاءَ حَتَّى صار لنوح قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: كَانَ لِآدَمَ، وَقِيلَ: كَانَ تَنُّورَ نُوحٍ، أَوْ أَعْلَى الْأَرْضِ وَالْمَوَاضِعُ الْمُرْتَفِعَةِ قَالَهُ: قَتَادَةُ، أَوِ الْعَيْنُ الَّتِي بِالْجَزِيرَةِ عَيْنُ الْوَرْدَةِ رَوَاهُ عِكْرِمَةُ، أَوْ مِنْ أَقْصَى دَارِ نُوحٍ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، أَوْ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِي السَّفِينَةِ، رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، أَوْ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، أَوْ نُورُ الصُّبْحِ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَوَّرَ الْفَجْرُ تَنْوِيرًا قَالَهُ: عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ وَالْمُرَادُ غَلَبَةُ الْمَاءِ وَظُهُورُ الْعَذَابِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ الْحَرْبِ: «حَمِيَ الْوَطِيسُ» وَالْوَطِيسُ أَيْضًا مُسْتَوْقَدُ النَّارِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَمِيَ وَفَارَ، إِذْ يُسْتَعْمَلَانِ فِي النَّارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ «1» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطِيسِ وَالتَّنُّورِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ حَمْلُهُ عَلَى التَّنُّورِ الَّذِي هُوَ مُسْتَوْقَدُ النَّارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ لِتَنُّورٍ مَخْصُوصٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ. فَفَارَ النَّارُ مِنَ التَّنَانِيرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَفُورَ الْمَاءُ مِنْ مُسْتَوْقَدِ النِّيرَانِ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ

_ (1) سورة الملك: 67/ 7.

عُيُوناً «1» إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَرْضِ أَمَاكِنُ التَّنَانِيرِ، وَالتَّفْجِيرُ غَيْرُ الْفَوَرَانِ، فَحَصَلَ الْفَوَرَانُ لِلتَّنُّورِ، وَالتَّفْجِيرُ لِلْأَرْضِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهَا عَائِدٌ عَلَى الْفُلْكِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى السَّفِينَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا. وَقَرَأَ حَفْصٌ: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِتَنْوِينِ، كُلٍّ أَيْ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ وَزَوْجَيْنِ مَفْعُولٌ، وَاثْنَيْنِ نَعْتُ تَوْكِيدٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْإِضَافَةِ، وَاثْنَيْنِ مَفْعُولُ احْمِلْ، وَزَوْجَيْنِ بِمَعْنَى الْعُمُومِ أَيْ: مِنْ كُلِّ مَا لَهُ ازْدِوَاجٌ، هَذَا مَعْنَى مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ حاصلين اثْنَيْنِ، لَوَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ مَنْ كُلِّ نَوْعِ أَرْبَعَةً، وَالزَّوْجُ فِي مَشْهُورِ كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ مِمَّا لَهُ ازْدِوَاجٌ، فَيُقَالُ: هَذَا زَوْجُ، هَذَا وَهُمَا زَوْجَانِ، وَهَذَا هُوَ الْمَهْيَعُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «2» ثُمَّ فَسَّرَهَا وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «3» وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَقَدْ يُقَالُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلِاثْنَيْنِ زَوْجٌ، هَكَذَا تَأْخُذُهُ الْعَدَدِيُّونَ. وَالزَّوْجُ أَيْضًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النَّوْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «4» وَقَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها «5» انْتَهَى. وَلَمَّا جَعَلَ الْمَطَرُ يَنْزِلُ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ جَعَلَتِ الْوُحُوشُ تَطْلُبُ وَسَطَ الْأَرْضِ هَرَبًا مِنَ الْمَاءِ، حَتَّى اجْتَمَعْنَ عِنْدَ السَّفِينَةِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، يَعْنِي: ذَكَرًا وَأُنْثَى لَيَبْقَى أَصْلُ النَّسْلِ بَعْدَ الطُّوفَانِ. فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ أَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ فَيَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى الذَّكَرِ وَيَسَارَهُ عَلَى الْأُنْثَى، وَكَانَتِ السَّفِينَةُ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ: السُّفْلَى لِلْوُحُوشِ، وَالْوُسْطَى لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْعُلْيَا لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ. وَأَهْلَكَ مَعْطُوفٌ عَلَى زَوْجَيْنِ إِنْ نُوِّنَ كُلٍّ، وَعَلَى اثْنَيْنِ إِنْ أُضِيفَ، وَاسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِهِ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْهَلَاكِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ لَا لِتَقْدِيرِهِ عَلَيْهِ وَإِرَادَتِهِ تَعَالَى غَيْرَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ، وَالَّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ امْرَأَتُهُ وَاعِلَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَابْنُهُ كَنْعَانُ. وَمَنْ آمَنَ عَطْفٌ عَلَى وَأَهْلَكَ، قِيلَ: كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا وَثَمَانِينَ امْرَأَةً، وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آمَنَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا، وَعَنْهُ ثَمَانُونَ إِنْسَانًا، ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِيهِ سَامَ وَحَامَ وَيَافِثَ، وَثَلَاثُ كَنَائِنَ لَهُ، وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْا قَرْيَةً تدعى اليوم قرية

_ (1) سورة القمر: 54/ 12. (2) سورة الأنعام: 6/ 143. (3) سورة النجم: 53/ 45. (4) سورة الحج: 22/ 5. (5) سورة يس: 36/ 36. [.....]

[سورة هود (11) : الآيات 41 إلى 60]

الثَّمَانِينَ بِنَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ. وَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ، نِصْفُهُمْ رِجَالٌ، وَنِصْفُهُمْ نِسَاءٌ. وَقَالَ ابن إسحاق: كانوا عشرة سِوَى نِسَائِهِمْ: نُوحٌ، وَبَنُوهُ سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ، وَسِتَّةُ ناس من كَانَ آمَنَ بِهِ وَأَزْوَاجُهُمْ جَمِيعًا. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانُوا عَشَرَةً: خَمْسَةُ رِجَالٍ، وَخَمْسُ نِسْوَةٍ. وَقِيلَ: كَانُوا تسعة ونوح، وَثَمَانِيَةُ أَبْنَاءٍ لَهُ وَزَوْجَتُهُ. وقيل: كانوا ثمانية ونوح وَزَوْجَتُهُ غَيْرُ الَّتِي عُوقِبَتْ، وَبَنُوهُ الثَّلَاثَةُ وَزَوْجَاتُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ: قَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانُوا سَبْعَةً: نُوحٌ، وَثَلَاثُ كَنَائِنَ، وَثَلَاثُ بَنِينَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَالَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَلَا يُمْكِنُ التَّنْصِيصُ عَلَى عَدَدِ هَذَا النَّفَرِ الْقَلِيلِ الَّذِي أَبْهَمَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ إِلَّا بِنَصٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم. [سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو، ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ. قَالَ: فَصَبَرْتُ نَفْسًا عِنْدَ ذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ الْبَلْعُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بَلَعَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، يَبْلَعُ بَلْعًا، وَالْبَالُوعَةُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَشْرَبُ الْمَاءَ. الْإِقْلَاعُ: الْإِمْسَاكُ، يُقَالُ: أَقْلَعَ الْمَطَرُ، وَأَقْلَعَتِ الْحُمَّى، أَيْ أَمْسَكَتْ عَنِ الْمَحْمُومِ. وَقِيلَ: أَقْلَعَ عَنِ الشَّيْءِ تَرَكَهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْإِمْسَاكِ. غَاضَ الْمَاءُ نَقَصَ فِي نَفْسِهِ، وَغِضْتُهُ نَقَصْتُهُ، جَاءَ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. الْجُودِيُّ: عَلَمٌ لِجَبَلٍ بِالْمَوْصِلِ، وَمَنْ قَالَ بِالْجَزِيرَةِ أَوْ بِآمِدَ، فَلِأَنَّهُمَا قَرِيبَانِ مِنَ الْمَوْصِلِ. وَقِيلَ الْجُودِيُّ: اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: سُبْحَانَهُ ثُمَّ سَبْحَانًا نَعُوذُ لَهُ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ

اعْتَرَاهُ بِكَذَا: أَصَابَهُ بِهِ، وَقِيلَ افْتَعَلَ مِنْ عَرَاهُ يَعْرُوهُ. النَّاصِيَةُ: مَنْبَتُ الشَّعْرِ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَيُسَمَّى الشَّعْرُ النَّابِتُ هُنَاكَ نَاصِيَةً بَاسِمِ مَنْبَتِهِ. وَنَصَوْتُ الرَّجُلَ انْصُوهُ نَصْوًا، مَدَدْتُ نَاصِيَتَهُ. الْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ. الْعَنِيدُ: الطَّاغِي الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا يُصْغِي إِلَيْهِ، مِنْ عَنَدَ يَعْنُدُ حَادَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى جَانِبٍ، قِيلَ: وَمِنْهُ عِنْدِي كَذَا أَيْ: فِي جَانِبِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَنِيدُ وَالْعَنُودُ وَالْمُعَانِدُ وَالْعَانِدُ الْمَعَارِضُ بِالْخِلَافِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعِرْقِ الَّذِي يَنْفَجِرُ بِالدَّمِ: عَانِدٌ. وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ: الضَّمِيرُ فِي: وَقَالَ، عَائِدٌ عَلَى نُوحٍ أَيْ: وَقَالَ نُوحٌ حِينَ أُمِرَ بِالْحَمْلِ فِي السَّفِينَةِ لِمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَمَنْ أُمِرَ بِحَمْلِهِ: ارْكَبُوا فِيهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وقال الله لنوح وَمَنْ مَعَهُ، وَيُبْعِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. قِيلَ: وَغَلَبَ مَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ: ارْكَبُوا، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَا يَعْقِلُ مِمَّنْ حُمِلَ فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ يَعْقِلُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَا لَا يَعْقِلُ. وَعُدِّيَ ارْكَبُوا بِفِي لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى صَيِّرُوا فِيهَا، أَوْ مَعْنَى ادْخُلُوا فِيهَا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ ارْكَبُوا الْمَاءَ فِيهَا. وَقِيلَ: فِي زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ أَيِ: ارْكَبُوهَا. والباء في بسم اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ متبركين بسم الله. ومجراها وَمُرْسَاهَا مَنْصُوبَانِ إِمَّا عَلَى أَنَّهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، لِأَنَّهُمَا يَجِيئَانِ لِذَلِكَ. أَوْ ظَرْفَا زَمَانٍ عَلَى جِهَةِ الْحَذْفِ، كَمَا حُذِفَ مِنْ جِئْتُكَ مَقْدَمَ الْحَاجِّ، أَيْ: وَقْتَ قُدُومِ الْحَاجِّ، فَيَكُونُ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا مَصْدَرَانِ فِي الْأَصْلِ حُذِفَ مِنْهُمَا الْمُضَافُ، وَانْتَصَبَا بِمَا فِي بسم اللَّهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاسْمِ اللَّهِ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ فيها، ومجراها وَمُرْسَاهَا مَصْدَرَانِ مَرْفُوعَانِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيِ: ارْكَبُوا فِيهَا مُلْتَبِسًا بَاسِمِ اللَّهِ إِجْرَاؤُهَا وَإِرْسَاؤُهَا أَيْ: بِبَرَكَةِ اسْمِ اللَّهِ. أَوْ يَكُونُ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَبِاسْمِ اللَّهِ الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فِيهَا. وَعَلَى هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ الثَّلَاثَةِ فَالْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْحَالُ مُقَدَّرَةٌ. وَلَا يَجُوزُ مَعَ رَفْعِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ أَوْ الِابْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ ضَمِيرِ ارْكَبُوا، لِأَنَّهُ لَا عَائِدَ عَلَيْهِ فِيمَا وَقَعَ حَالًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا جُمْلَةً ثَانِيَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْجُمْلَةِ الْأَوْلَى مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالرُّكُوبِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَالْجُمْلَتَانِ كَلَامَانِ

مَحْكِيَّانِ يُقَالُ، كَمَا أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مَحْكِيَّةٌ أَيْضًا يقال. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا أَرَادَ جري السَّفِينَةِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا فَتَجْرِي، وَإِذَا أراد وقوفها قال بسم اللَّهِ مُرْسَاهَا فَتَقِفُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَأَبُو بَكْرٍ: مَجْرَاهَا بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ، وَحَفْصٌ: بِفَتْحِهَا، وَكُلُّهُمْ ضَمَّ مِيمَ مُرْسَاهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْأَعْمَشُ، مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ، ظَرْفَيْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، أَوْ مَصْدَرَيْنِ عَلَى التَّقَارِيرِ السَّابِقَةِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُنْدَبٍ، وَالْكَلْبِيُّ، وَالْجَحْدَرِيُّ، مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا اسْمَيْ فَاعِلٍ مِنْ أَجْرَى وَأَرْسَى عَلَى الْبَدَلِ مِنَ اسْمِ اللَّهِ، فَهُمَا فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ، وَلَا يَكُونَانِ صِفَتَيْنِ لِكَوْنِهِمَا نَكِرَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ صِفَتَانِ عَائِدَتَانِ عَلَى ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِمْ بسم اللَّهِ انْتَهَى. وَلَا يَكُونَانِ صِفَتَيْنِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْخَلِيلُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَتْ إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ يَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَحْضَةً، فَتُعَرَّفَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَلَا تَتَمَحَّضُ إِضَافَتُهَا فَلَا تُعَرَّفُ. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ سَتُورٌ عَلَيْكُمْ ذُنُوبَكُمْ بِتَوْبَتِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ، رَحِيمٌ لَكُمْ إِذَا نَجَّاكُمْ مِنَ الْغَرَقِ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ نُوحًا رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، وَصَامَ الشَّهْرَ أَجْمَعَ» وَعَنْ عِكْرِمَةَ: لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ. وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا جَرَى لِلسَّفِينَةِ، وَبِهِمْ حَالٌ أَيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ، وَالْمَعْنَى: تَجْرِي وَهُمْ فِيهَا فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، أَيْ فِي مَوْجِ الطُّوفَانِ شَبَّهَ كُلَّ مَوْجَةٍ مِنْهُ بِجَبَلٍ فِي تَرَاكُمِهَا وَارْتِفَاعِهَا. رُوِيَ أَنَّ السَّمَاءَ أَمْطَرَتْ جَمِيعَهَا حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِي الْهَوَاءِ جَانِبٌ إِلَّا أَمْطَرَ، وَتَفَجَّرَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا بِالنَّبْعِ ، وَهَذَا مَعْنَى الْتِقَاءِ الْمَاءِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَاءَ عَلَا عَلَى الْجِبَالِ وَأَعَالِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ. وَكَوْنُ السَّفِينَةِ تَجْرِي فِي مَوْجٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَاءِ مَوْجٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُطْبِقِ الْمَاءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ السَّفِينَةَ لَمْ تَكُنْ تَجْرِي فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَالْمَاءُ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، فَكَانَتْ تَسْبَحُ فِي الْمَاءِ كَمَا تَسْبَحُ السَّمَكَةُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدِ اسْتَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا قَالَ: وَأَيْنَ كَانَ الْمَوْجُ كَالْجِبَالِ عَلَى هَذَا؟ ثُمَّ كَيْفَ اسْتَقَامَتْ حَيَاةُ مَنْ فِي السَّفِينَةِ؟ وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنَّ الْجَرَيَانَ فِي الْمَوْجِ كَانَ قَبْلَ التَّطْبِيقِ، وَقَبْلَ أَنْ يَعُمَّ الْمَاءُ الْجِبَالَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ ابْنِهِ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ. وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ، الْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ. وَهَذَا النِّدَاءُ كَانَ قَبْلَ جَرْيِ السَّفِينَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ، وَفِي إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَنِدَائِهِ دَلِيلٌ عَلَى

أَنَّهُ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ مَسْعُودٍ، وابن عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالْجُمْهُورِ، وَاسْمُهُ كَنْعَانُ. وَقِيلَ: يَامُ، وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ قريب له ودعاه بالنبوّة حَنَانًا مِنْهُ وَتَلَطُّفًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ تَنْوِينِ نُوحٍ، وَقَرَأَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: بِضَمِّهِ، أَتْبَعَ حَرَكَتَهُ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ فِي الْحَاءِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لُغَةُ سُوءٍ لَا تُعْرَفُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِوَصْلِ هَاءِ الْكِنَايَةِ بِوَاوٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ بِسُكُونِ الْهَاءِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا عَلَى لُغَةِ الْأَزْدِ الشُّرَاةِ، يُسَكِّنُونَ هَاءَ الْكِنَايَةِ مِنَ الْمُذَكَّرِ، وَمِنْهُ قول الشاعر: ونضواي مُشْتَاقَانِ لَهُ أَرِقَانِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةٌ لِبَنِي كِلَابٍ وَعَقِيلٍ، وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يَخُصُّ هَذَا السُّكُونَ بِالضَّرُورَةِ وَيُنْشِدُونَ: وَأَشْرَبِ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إِلَّا لِأَنَّ عُيُونَهُ سَيْلُ وَادِيهَا وَقَرَأَ السُّدِّيُّ ابْنَاهُ بِأَلِفٍ وَهَاءِ السَّكْتِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: ذَلِكَ عَلَى النِّدَاءِ. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَى النُّدْبَةِ وَالرِّثَاءِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَعُرْوَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ: ابْنَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ أَيِ: ابْنَهَا مُضَافًا لِضَمِيرِ امْرَأَتِهِ ، فَاكْتَفَى بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ لُغَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِمَّا تَقُودُ بِهَا شَاةً فَتَأْكُلُهَا ... أَوْ أَنْ تَبِيعَهُ فِي بَعْضِ الْأَرَاكِيبِ وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى هَذَا: فَلَسْتَ بِمُدْرِكٍ مَا فَاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ وَلَا بِلَيْتَ وَلَا لَوَانِّي انتهى. يريد تبيعها وتلهفا، وَخَطَّأَ النَّحَّاسُ أَبَا حَاتِمٍ فِي حَذْفِ هَذِهِ الْأَلِفِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ انْتَهَى. وَهَذَا أَعْنِي مِثْلَ تَلَهَّفَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ضَرُورَةً، وَلِذَلِكَ لَا يُجِيزُونَ يَا غُلَامُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَالِاجْتِزَاءَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا كَمَا اجْتَزَءُوا بِالْكَسْرَةِ فِي يَا غُلَامِ عَنِ الْيَاءِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ. وَقَرَأَ أَيْضًا عَلِيٌّ وَعُرْوَةُ ابْنَهَا بِفَتْحِ الْهَاءِ وَأَلِفٍ أَيِ: ابْنَ امْرَأَتِهِ. وَكَوْنُهُ لَيْسَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ قَوْلَ: عَلِيٍّ ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيْسَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَأَنْتَ تَقُولُ: لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ

كَانَ ابْنَهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَأْخُذُ دِينِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِي وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَبِيبًا. وَكَانَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، يَحْلِفَانِ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَضَاضَةٌ عُصِمَتْ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ، ولعله لا يصح عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ابْنَهُ أَوِ ابْنَهَا فَشَاذَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ نُسِبَ إِلَى أُمِّهِ وَأُضِيفَ إِلَيْهَا، وَلَمْ يُضَفْ إِلَى أَبِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مِثْلَهَا، يُلْحَظُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يُضَفْ إِلَيْهِ اسْتِبْعَادًا لَهُ، وَرَعْيًا أَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ كَافِرٌ، وَإِنَّمَا نَادَاهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَحَبَّ نَجَاتَهُ. أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ إِنْ كَانَ كَافِرًا لِمَا شَاهَدَ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ارْكَبْ مَعَنَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَتَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، أَيِ ارْكَبْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَا يَرْكَبُ مَعَهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ لِقَوْلِهِ: ومن آمن. وفي مَعْزِلٍ أَيْ: فِي مَكَانٍ عَزَلَ فِيهِ نَفْسَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ مَرْكَبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: فِي مَعْزِلٍ عَنْ دِينِ أَبِيهِ، وَنِدَاؤُهُ بِالتَّصْغِيرِ خِطَابُ تَحَنُّنٍ وَرَأْفَةٍ، وَالْمَعْنَى: ارْكَبْ مَعَنَا فِي السَّفِينَةِ فَتَنْجُوَ وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ فَتَهْلَكَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ اجْتَزَأَ بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلْفِ، وَأَصْلُهُ يَا بُنَيًّا كَقَوْلِكَ: يَا غُلَامًا، كَمَا اجْتَزَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ فِي قِرَاءَتِهِمْ يَا بَنِي بِكَسْرِ الْيَاءِ، أَوْ أَنَّ الْأَلِفَ انْحَذَفَتْ لِالْتِقَائِهَا مَعَ رَاءِ ارْكَبْ. وَظَنَّ ابْنُ نُوحٍ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطَرَ وَالتَّفْجِيرَ عَلَى الْعَادَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ أَيْ: مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى فَلَا أَغْرَقُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْكُفْرِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ بِأَبِيهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ. قِيلَ: وَالْجَبَلُ الَّذِي عَنَاهُ طُورُ زَيْتَا فَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَالظَّاهِرُ إِبْقَاءُ عَاصِمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّهُ نَفَى كُلَّ عَاصِمٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّ مَنْ رَحِمَ يَقَعُ فِيهِ مَنْ عَلَى الْمَعْصُومِ. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَضَمِيرُ الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا أَيْ: لَكِنْ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْصُومٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا عَاصِمَ إِلَّا الرَّاحِمُ، وَأَنْ يَكُونَ عَاصِمَ بِمَعْنَى ذِي عِصْمَةٍ، كَمَا قَالُوا لَابِنٌ أَيْ: ذُو لَبَنٍ، وَذُو عِصْمَةٍ، مُطْلَقٌ عَلَى عَاصِمٍ وَعَلَى مَعْصُومٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَعْصُومُ. أَوْ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَيَكُونُ عَاصِمٌ بِمَعْنَى مَعْصُومٍ، كَمَاءٍ دَافِقٍ بِمَعْنَى مَدْفُوقٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: بَطِيءُ القيام رخيم الكلام ... أمي فُؤَادِي بِهِ فَاتِنًا

أي مفتونا. ومن لِلْمَعْصُومِ أَيْ: لَا ذَا عِصْمَةٍ، أَوْ لَا مَعْصُومَ إِلَّا الْمَرْحُومُ. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّجْوِيزَيْنِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُتَّصِلًا بِطَرِيقٍ أُخْرَى: وَهُوَ حَذْفُ مُضَافٍ وَقَدَّرَهُ: لَا يَعْصِمُكَ الْيَوْمَ مُعْتَصَمٌ قَطُّ مِنْ جَبَلٍ وَنَحْوِهِ سِوَى مُعْتَصَمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَكَانُ مَنْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَنَجَّاهُمْ، يَعْنِي فِي السَّفِينَةِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ لَا عَاصِمَ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ إِذَا عُلِمَ كَهَذَا الْمَوْضِعِ الْتَزَمَ حَذْفَهُ بَنُو تَمِيمٍ، وَكَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَهُ نُوحٌ: لَا عَاصِمَ، أَيْ لَا عَاصِمَ مَوْجُودٌ. وَيَكُونُ الْيَوْمَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ عَاصِمَ، أَيْ: لَا عَاصِمَ يَعْصِمُ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَمِنْ أَمْرِ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: لَا عَاصِمَ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَنْ أَمَرَ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، لِأَنَّ اسْمَ لَا إِذْ ذَاكَ كَانَ يَكُونُ مُطَوَّلًا، وَإِذَا كَانَ مُطَوَّلًا لَزِمَ تَنْوِينُهُ وَإِعْرَابُهُ، وَلَا يُبْنَى وَهُوَ مَبْنِيٌّ، فَبَطَلَ ذَلِكَ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ: لَا عَاصِمَ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ خَبَرًا وَيَتَعَلَّقَ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَتَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْيَوْمَ. وقال ابن عطية: واليوم ظَرْفٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ بِالْخَبَرِ الَّذِي تَقْدِيرُهُ: كَائِنٌ الْيَوْمَ انْتَهَى. وَرَدَّ ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: فَأَمَّا خَبَرُ لَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ، لِأَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ، بَلِ الْخَبَرُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْيَوْمُ مَعْمُولٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ نَعْتًا لِعَاصِمَ وَمِنْ الْخَبَرَ انْتَهَى. وَيُرَدُّ بِمَا رَدَّ بِهِ أَبُو الْبَقَاءِ مِنْ أَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ نَعْتًا لِلْجُثَثِ، كَمَا لا يكون خبرا. وقرىء إِلَّا مَنْ رُحِمَ بِضَمِّ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ فَتَحُوا الرَّاءَ هُوَ الْمَرْحُومُ لَا الرَّاحِمُ، وَحَالَ بَيْنَهُمَا أَيْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ. قِيلَ: كَانَا يَتَرَاجَعَانِ الْكَلَامَ، فَمَا اسْتَتَمَّتِ الْمُرَاجَعَةُ حَتَّى جَاءَتْ مَوْجَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ رَاكِبًا عَلَى فَرَسٍ قَدْ بَطِرَ وَأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ فَالْتَقَمَتْهُ وَفَرَسَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ فَغَرِقَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بَيْنَهُمَا أَيْ بَيْنَ ابْنِ نُوحٍ وَالْجَبَلِ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ. وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَادَى الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ بِمَا يُنَادَى بِهِ الْإِنْسَانُ الْمُمَيِّزُ عَلَى لَفْظِ التَّخْصِيصِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا

بِالْخِطَابِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ المخلوقات وهو قوله: يا أرض ويا سَمَاءُ، ثُمَّ أَمَرَهُمَا بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ أَهْلُ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ مِنْ قَوْلِهِ: ابْلَعِي ماءك وأقلعي، مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاقْتِدَارِ العظيم، وأنّ السموات وَالْأَرْضَ وَهَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعِظَامَ مُنْقَادَةٌ لِتَكْوِينِهِ فِيهَا مَا يَشَاءُ، غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ عَلَيْهِ كأنها عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ، قَدْ عَرَفُوا عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ، وَتَبَيَّنُوا تَحَتُّمَ طَاعَتِهِ عَلَيْهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ لَهُ، وَهُمْ يَهَابُونَهُ وَيَفْزَعُونَ مِنَ التَّوَقُّفِ دُونَ الِامْتِثَالِ لَهُ وَالنُّزُولِ عَنْ مَشِيئَتِهِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ رَيْبٍ. فَكَمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَفْعُولًا لَا حَبْسَ وَلَا بُطْءَ. وَبَسَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَذَيَّلَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْحَسَنِ، قَالَ الْحَسَنُ: يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ، وَالْحَقُّ تَعَالَى مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا مُتَصَرِّفٌ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَأَرَادَ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوفِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَمَالِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُلُوِّ قُدْرَتِهِ وَهَيْبَتِهِ انْتَهَى. وَبِنَاءُ الْفِعْلِ فِي وَقِيلَ وَمَا بَعْدَهَا لِلْمَفْعُولِ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْجَبَرُوتِ وَأَخْصَرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَجِيءُ إِخْبَارِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ لا يكون إِلَّا بِفِعْلِ فَاعِلٍ قَادِرٍ، وَتَكْوِينِ مُكَوِّنٍ قَاهِرٍ، وَأَنَّ فَاعِلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَاعِلٌ وَاحِدٌ لَا يُشَارَكُ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَا يَذْهَبِ الْوَهْمُ إِلَى أَنْ يَقُولَ غَيْرُهُ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي، وَلَا أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْهَائِلَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْ تَسْتَوِيَ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ وَتَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ إِلَّا بِتَسْوِيَتِهِ وإقراره. ولما ذكرنا مِنَ الْمَعَانِي وَالنُّكَتِ وَاسْتَفْصَحَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ هَذِهِ الْآيَةَ ورقصوا لها رؤوسهم، لَا لِتَجَانُسِ الْكَلِمَتَيْنِ وَهُمَا قوله: ابلعي واقلعي، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ لَا يَخْلُو مِنْ حُسْنٍ، فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُلْتَفَتِ إِلَيْهِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي هِيَ اللُّبُّ، وَمَا عَدَاهَا قُشُورٌ انْتَهَى. وَأَكْثَرُهُ خَطَابَةً، وَهَذَا النِّدَاءُ وَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ هُوَ اسْتِعَارَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْحُذَّاقِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْدَثَ فِيهِمَا إِدْرَاكًا وَفَهْمًا لِمَعَانِي الْخِطَابِ. وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: هَذَا كَلَامُ الْقَادِرِينَ، وَعَارَضَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ الْقُرْآنَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَمْسَكَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ وَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، غَرِقَ مَنْ غَرِقَ، وَنَجَا مَنْ نَجَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُضِيَ الْأَمْرُ بِهَلَاكِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قُضِيَ الْأَمْرُ فُرِغَ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أُحْكِمَتْ هَلَكَةُ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْجَزَ مَا وَعَدَ اللَّهُ نُوحًا مِنْ هَلَاكِ قَوْمِهِ. وَاسْتَوَتْ أَيِ اسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ، وَاسْتِقْرَارُهَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ. وقيل: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَأَقَامَتْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا، وَهَبَطَ بِهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَذَكَرُوا أَنَّ الْجِبَالَ تَطَاوَلَتْ وَتَخَاشَعَ الْجُودِيُّ.

وَحَدِيثُ بَعْثِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغُرَابَ وَالْحَمَامَةَ لِيَأْتِيَاهُ بِخَبَرِ كَمَالِ الْغَرَقِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ عَلَى الْجُودِيِّ بِسُكُونِ الْيَاءِ مُخَفَّفَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هُوَ تخفيف ياءي النَّسَبِ، وَهَذَا التَّخْفِيفُ بَابُهُ الشِّعْرُ لِشُذُوذِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقِيلَ بُعْدًا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ، وَبُنِيَ الْجَمِيعُ لِلْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ نُوحٍ وَالْمُؤْمِنِينَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ بُلُوغِ الْأَمْرِ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، ثَمَّ قَوْلٌ مَحْسُوسٌ. وَمَعْنَى بُعْدًا هَلَاكًا يُقَالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا وَبَعَدًا إِذَا هَلَكَ، وَاللَّامُ فِي لِلْقَوْمِ مِنْ صِلَةِ الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ، وَالتَّقْدِيرُ وَقِيلَ لِأَجْلِ الظَّالِمِينَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَاطَبَ الْهَالِكُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَمَعْنَى وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ أَيْ: أَرَادَ أَنْ يُنَادِيَهُ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ الْفَاءَ، إِذْ لَوْ كَانَ أَرَادَ حَقِيقَةَ النِّدَاءِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ وُقُوعِهِ مِنْهُ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي فَقَالَ، وَلَسَقَطَتْ كَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ «1» وَالْوَاوُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا تُرَتِّبُ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ أَوَّلَ مَا رَكِبَ نُوحٌ السَّفِينَةَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ غَرَقِ الِابْنِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، ظُهُورُ أَنَّهُ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ. وَمَعْنَى مِنْ أَهْلِي أَيِ: الَّذِي أُمِرْتُ أَنْ أَحْمِلَهُمْ فِي السَّفِينَةِ لِقَوْلِهِ: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ «2» وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَنِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ لِظَنِّهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَعُمُومُ قَوْلِهِ: وَمَنْ آمَنَ يَشْمَلُ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَحَسُنَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، أَيِ الْوَعْدُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا شَكَّ فِي إِنْجَازِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، وَقَدْ وَعَدْتَنِي أَنْ تُنَجِّيَ أَهْلِي، وَأَنْتَ أَعْلَمُ الْحُكَّامِ وَأَعْدَلُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ حَاكِمٌ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ، كَمَا يُقَالُ: دَارِعٌ مِنَ الدِّرْعِ، وَحَائِضٌ وَطَالِقٌ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ انْتَهَى. وَمَعْنَى لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ أَيِ النَّاجِينَ، أَوِ الَّذِينَ عَمَّهُمُ الْوَعْدُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ رَبِيبُهُ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ حَقِيقَةً، إِذْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِوِلَادَةٍ، فَعَلَى هَذَا نَفَى مَا قُدِّرَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَهْلَكَ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ بِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أنه عَائِدٌ عَلَى ابْنِ نُوحٍ لَا عَلَى النِّدَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَادَى الْمُتَضَمِّنِ سؤال ربه، وجعله

_ (1) سورة مريم: 19/ 3. (2) سورة هود: 11/ 40.

نَفْسَ الْعَمَلِ مُبَالَغَةً فِي ذَمِّهِ كَمَا قَالَ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ جُمْهُورِ السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ جَعَلَهُ فِعْلًا نَاصِبًا غَيْرَ صَالِحٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: عَلِيٍّ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَرَوَتْهَا عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى ابْنِ نُوحٍ. قِيلَ: وَيُرَجِّحُ كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى نِدَاءِ نُوحٍ الْمُتَضَمِّنِ السُّؤَالَ أَنَّ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ أَنْ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علم. وقيل: يعود على الضَّمِيرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى رُكُوبِ وَلَدِ نُوحٍ مَعَهُمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ سُؤَالُ نُوحٍ الْمَعْنَى: أَنَّ كَوْنَهُ مَعَ الْكَافِرِينَ وَتَرْكَهُ الرُّكُوبَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، وَكَوْنُ الضَّمِيرِ فِي إِنَّهُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ ابْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلُّفٌ وَتَعَسُّفٌ لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا قِيلَ إِنَّهُ عَمَلٌ فَاسِدٌ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا نَفَاهُ مِنْ أَهْلِهِ نَفَى عَنْهُ صِفَتَهُمْ بِكَلِمَةِ النَّفْيِ الَّتِي يُسْتَنْفَى مَعَهَا لَفْظُ الْمَنْفِيِّ وَأَذِنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْجَى مَنْ أَنْجَى مِنْ أَهْلِهِ بِصَلَاحِهِمْ، لَا لِأَنَّهُمْ أَهْلُكَ وَأَقَارِبُكَ، وَإِنَّ هَذَا لَمَّا انْتَفَى عَنْهُ الصَّلَاحُ لَمْ تَنْفَعْهُ أُبُوَّتُكَ. وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ: تَسْأَلَنِّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ أثبتوا الياء بَعْدَ النُّونِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَفْتُوحَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تَسَالْنِي مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، مِنْ سَالَ يَسَالُ، وَهُمَا يَتَسَاوَلَانِ، وَهِيَ لُغَةٌ سَائِرَةٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا، وَأَثْبَتَ الْيَاءَ فِي الْوَصْلِ وَرْشٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَلْتَمِسْ مُلْتَمَسًا، أَوِ الْتِمَاسًا لَا تَعْلَمُ أَصَوَابٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ صَوَابٍ حَتَّى تَقِفَ عَلَى كُنْهِهِ، وَذِكْرُ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَغْرَقَ حِينَ خَافَ عَلَيْهِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ سَمَّى نِدَاءَهُ سُؤَالًا وَلَا سُؤَالَ فِيهِ؟ (قُلْتُ) : قَدْ تَضَمَّنَ دُعَاؤُهُ مَعْنَى السُّؤَالِ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْعِدَ بِنَجَاةِ أَهْلِهِ فِي وَقْتِ مُشَارَفَةِ الْغَرَقِ فَقَدِ اسْتَنْجَزَ، وَجَعَلَ سُؤَالَ مَا لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ جَهْلًا وَغَبَاوَةً وَوَعْظَهُ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَمْثَالِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِينَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : قَدْ وَعَدَ اللَّهُ أَنْ يُنْجِيَ أَهْلَهُ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ ابْنَهُ لَيْسَ مِنْهُمْ دِينًا، فَلَمَّا أَشْفَى عَلَى الْغَرَقِ تَشَابَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، لِأَنَّ الْعِدَةَ قَدْ سَبَقَتْ لَهُ، وَقَدْ عَرَفَ اللَّهَ حَكِيمًا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْقَبِيحِ وَخَلْفُ الْمِيعَادِ، فَطَلَبَ إِمَاطَةَ الشُّبْهَةِ وَطَلَبُ إِمَاطَةِ الشُّبْهَةِ وَاجِبٌ، فَلِمَ زُجِرَ وَجُعِلَ سُؤَالُهُ جَهْلًا؟ (قُلْتُ) : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدَّمَ لَهُ الْوَعْدَ بِإِنْجَاءِ أَهْلِهِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِي جُمْلَةِ أَهْلِهِ مَنْ هُوَ مُسْتَوْجِبُ الْعَذَابِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، وَأَنَّ كُلَّهُمْ لَيْسُوا بِنَاجِينَ، وَأَنْ لَا تُخَالِجَهُ شُبْهَةٌ حين شارف ولده الْغَرَقِ فِي أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَثْنِينَ لَا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ، فَعُوتِبَ

عَلَى أَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ بِمَا يَجِبُ أَنْ لَا يَشْتِبَهَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فلا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ إِذْ وَعَدْتُكَ فَاعْلَمْ يَقِينًا أَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي الْوَعْدِ، فَإِذَا رَأَيْتَ وَلَدَكَ لَمْ يُحْمَلْ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقِفَ وَتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِحَقٍّ وَاجِبٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَتْهُ شَفَقَةُ الْبُنُوَّةِ وَسَجِيَّةُ الْبَشَرِ عَلَى التَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَقَعَ عِقَابُهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِتَلَطُّفٍ وَتَرَجٍّ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَيَحْتَمِلُ قوله: فلا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ: لَا تَطْلُبْ مِنِّي أَمْرًا لَا تَعْلَمُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ عِلْمَ يَقِينٍ، وَنَحَا إِلَى هَذَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَقَالَ: إِنَّ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَفْظٍ عَامٍّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ جَزَائِي بِالْعَصَا أَنْ أُجْلَدَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ فِيهِ، فَتَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بِالْمُسْتَقَرِّ. وَاخْتِلَافُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لَفْظِيٌّ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ واحد. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ تَأْوِيلًا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ لَا يُنَاسِبُ النُّبُوَّةَ تَرْكَنَاهُ، وَيُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ حِينَ صَارَ عَنْهُ ابْنُهُ بِمَعْزِلٍ، وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ عَرَفَ هَلَاكَهُ، وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ عَرَفَ هَلَاكَهُ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ. أَنْ أَسْأَلَكَ مِنْ أَنْ أَطْلُبَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَا عِلْمَ لِي بِصِحَّتِهِ تَأْدِيبًا بِأَدَبِكَ، وَاتِّعَاظًا بِمَوْعِظَتِكَ، وَهَذِهِ إِنَابَةٌ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَسْلِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالسُّؤَالُ الَّذِي وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ وَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ هُوَ سُؤَالُ الْعَزْمِ الَّذِي مَعَهُ مُحَاجَّةٌ، وَطَلِبَةٌ مُلِحَّةٌ فِيمَا قَدْ حُجِبَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ فِي الْأُمُورِ عَلَى جِهَةِ التَّعَلُّمِ وَالِاسْتِرْشَادِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، يَعُمُّ النَّحْوَيْنِ مِنَ السُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ نَبَّهْتُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآخر، والخاسرون هُمُ الْمَغْبُونُونَ حُظُوظَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ انْتَهَى. وَنَسَبَ نُوحٌ النَّقْصَ وَالذَّنْبَ إِلَى نَفْسِهِ تَأَدُّبًا مَعَ رَبِّهِ فَقَالَ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي، أَيْ مَا فَرَطَ مِنْ سُؤَالِي وَتَرْحَمْنِي بِفَضْلِكَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ: بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، فَقِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: مِنَّا، وسنمتعهم. أُمِرَ عِنْدَ نُزُولِهِ بِالْهُبُوطِ مِنَ السَّفِينَةِ وَمِنَ الْجَبَلِ مَعَ أَصْحَابِهِ لِلِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ، وَالْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ:

مَصْحُوبًا بِسَلَامَةٍ وَأَمْنٍ وَبَرَكَاتٍ، وَهِيَ الْخَيْرَاتُ النَّامِيَةُ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ أَيِ: اهْبِطْ مُسَلَّمًا عَلَيْكَ مكرما. وقرىء اهْبِطْ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَحَكَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى وَبَرَكَةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَبُشِّرَ بِالسَّلَامَةِ إِيذَانًا لَهُ بِمَغْفِرَةِ رَبِّهِ لَهُ وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُ، وَبِإِقَامَتِهِ فِي الْأَرْضِ آمِنًا مِنَ الْآفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إِذْ كَانَتِ الْأَرْضُ قَدْ خَلَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَبْشِيرًا لَهُ بِعَوْدِ الْأَرْضِ إِلَى أَحْسَنِ حَالِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ أَيْ دَائِمَةٍ بَاقِيَةٍ عَلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ: نَاشِئَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ، وَهُمُ الْأُمَمُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَيَانِ فَتُرَادُ الْأُمَمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَاتٍ. وَقِيلَ لَهُمْ: أُمَمٌ، لِأَنَّ الْأُمَمَ تَشَعَّبَتْ مِنْهُمُ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ تكلف، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَعَلَى أُمَمٍ هُمْ مَنْ مَعَكَ، وَلَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَا غِنَى عَنْهُ، وَعَلَى أُمَمٍ مَعَكَ أَوْ عَلَى مَنْ مَعَكَ، فَكَانَ يَكُونُ أخضر وَأَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ، وَأَبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ. وَارْتَفَعَ أُمَمٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وسنمتعهم صِفَةً، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَمِمَّنْ مَعَكَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ممن معك، يدل عليه، وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّلَامَ مِنَّا وَالْبَرَكَاتِ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمِ مُؤْمِنِينَ يَنْشَئُونَ مِمَّنْ مَعَكَ، وَأُمَمٌ مُمَتَّعُونَ بِالدُّنْيَا مُنْقَلِبُونَ إِلَى النَّارِ انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُمَمٌ مُبْتَدَأً، وَمَحْذُوفُ الصِّفَةِ وَهِيَ الْمُسَوِّغَةُ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُمَمٌ مِنْهُمْ أَيْ مِمَّنْ مَعَكَ، أَيْ نَاشِئَةٌ مِمَّنْ معك، وسنمتعهم هُوَ الْخَبَرُ كَمَا قَالُوا: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ، فَحُذِفُ مِنْهُ وَهُوَ صِفَةٌ لَمَنَوَانِ، وَلِذَلِكَ جَازَ الِابْتِدَاءُ بِمَنَوَانِ وَهُوَ نَكِرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُبْتَدَأٌ وَلَا يُقَدَّرَ صِفَةُ الْخَبَرِ سَنُمَتِّعُهُمْ، وَمُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ كَوْنُ الْمَكَانِ مَكَانَ تَفْصِيلٍ، فَكَانَ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ارْتَفَعَتْ وَأُمَمٌ عَلَى مَعْنَى: وَيَكُونُ أُمَمٌ انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ أَرَادَ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْرَابَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ إِضْمَارِ يَكُونُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَذَا كَمَا تَقُولُ: كَلَّمْتُ زَيْدًا وَعَمْرٌو جَالِسٌ انتهى. فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَتَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً لِأَنَّهُ وَقْتَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأُمَمُ مَوْجُودَةً. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَأُمَمٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي اهْبِطْ تَقْدِيرُهُ: اهْبِطْ أَنْتَ وَأُمَمٌ، وَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا مُغْنِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ، وسنمتعهم نعت لأمم انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْدِيرُ وَالْمَعْنَى لَا يَصْلُحَانِ، لِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ إِنَّمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ آمَنَ، وَلَمْ يَكُونُوا قِسْمَيْنِ كُفَّارًا وَمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ الْكُفَّارُ مَأْمُورِينَ بِالْهُبُوطِ مَعَ نُوحٍ، إِلَّا

إِنْ قَدَّرَ أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَكْفُرُ بَعْدَ الْهُبُوطِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بالحالة التي يؤولون إِلَيْهَا فَيُمْكِنُ عَلَى بُعْدٍ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَعَهُ يَنْشَأُ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَنَبَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ سَلَامٌ وَبَرَكَةٌ، وَعَلَى الْكُفْرِ بِأَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ يُمَتَّعُونَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ طَوِيلُ النَّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَعَكَ يَدُلُّ عَلَى أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا مِمَّنْ مَعَهُ، وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ إِنْ كَانُوا أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ فَقَطْ، أَوْ مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمُ، انْتَظَمَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَبُو الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَسُمِّيَ آدَمَ الْأَصْغَرَ لِذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا أَوْلَادَهُ وَغَيْرَهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْعَدَدِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ أَوْلَادِهِ مَاتَ وَلَمْ يَنْسُلْ صَحَّ أَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ بَعْدَ آدَمَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ نَشَأَ مِمَّنْ مَعَهُ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِالَّذِينَ مَعَهُ أَوْلَادُهُ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ. وَإِنْ كَانُوا نَسَلُوا كَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فَلَا يَنْتَظِمُ أَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ بَعْدَ آدَمَ بَلِ الْخَلْقُ بَعْدَ الطُّوفَانِ مِنْهُ، وَمِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ وَالْأُمَمُ الْمُمَتَّعَةُ لَيْسُوا مُعَيَّنِينَ، بَلْ هُمْ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ، وَتَقَدَّمَتْ أَعَارِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ «1» فِي آلِ عِمْرَانَ، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ لِلْبَعِيدِ، لِأَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَالرَّسُولِ مُدَدًا لَا تُحْصَى. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى آيات القرآن، ومن أَنْبَاءِ الْغَيْبِ وَهُوَ الَّذِي تَقَادَمَ عَهْدُهُ وَلَمْ يَبْقَ عِلْمُهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ، ونوحيها إِلَيْكَ لِيَكُونَ لَكَ هِدَايَةً وَأُسْوَةً فِيمَا لَقِيَهُ غَيْرُكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهَا عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَ قَوْمِكَ، وَأَعْلَمْنَاهُمْ بِهَا لِيَكُونَ مِثَالًا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا أَنْ يُصِيبَهُمْ إِذَا كَذَّبُوكَ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ، وَلِلَحْظِ هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَتْ فَصَاحَةُ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ مُجْتَهِدًا فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ، فَالْعَاقِبَةُ لَكَ كَمَا كَانَتْ لنوح فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَمَعْنَى مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا: أَيْ مُفَصَّلَةً كَمَا سَرَدْنَاهَا عَلَيْكَ، وَعِلْمُ الطُّوفَانِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَالَمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَالْمَجُوسُ الْآنَ يُنْكِرُونَهُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ نُوحِيهَا، أَوْ مِنْ مَجْرُورِ إِلَيْكَ، وَقَدَّرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ تَقْدِيرَ مَعْنًى فَقَالَ: أَيْ مَجْهُولَةً عِنْدَكَ وَعِنْدَ قَوْمِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِلَى الْوَقْتِ أَوْ إِلَى الْإِيحَاءِ أَوْ إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ بِالْوَحْيِ احْتِمَالَاتٌ، وفي مصحف ابن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 44.

مَسْعُودٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا قَوْمُكَ مَعْنَاهُ: أَنَّ قَوْمَكَ الَّذِينَ أَنْتَ مِنْهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَوُفُورِ عَدَدِهِمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَأْنَهُمْ، وَلَا سَمِعُوهُ وَلَا عَرَفُوهُ، فَكَيْفَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقُولُ: لَمْ يَعْرِفُ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَلَا أَهْلُ بَلَدِهِ؟. وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، عطف الْوَاوُ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَجْرُورِ، وَالْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَنْصُوبِ، كَمَا يُعْطَفُ الْمَرْفُوعُ وَالْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْصُوبِ نَحْوَ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَبَكْرٌ خَالِدًا، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْفَصْلِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَفِي الْبَيْتِ عَمْرًا، فَيَجِيءُ مِنْهُ الْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ: هَلْ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ؟ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي هُودٍ وَعَادٍ وَإِخْوَتِهِ مِنْهُمْ فِي الْأَعْرَافِ، وَقِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ غَيْرِهِ بِالْخَفْضِ، وَقِيلَ: ثَمَّ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَهُودًا بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَرَأَ مُحَيْصِنٍ: يَا قَوْمُ بِضَمِّ الْمِيمِ كقراءة حفص: قُلْ رَبُّ احْكُمْ بِالْحَقِّ بِالضَّمِّ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَافْتِرَاؤُهُمْ قَالَ الْحَسَنُ: فِي جَعْلِهِمُ الْأُلُوهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِاتِّخَاذِكُمُ الْأَوْثَانَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي فَطَرَنِي، عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَفْعَلُ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الْفَاطِرُ لِلْمَوْجُودَاتِ يَسْتَحِقُّ إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. وأفلا تَعْقِلُونَ تَوْقِيفٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِ الْفَاطِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ رَاجِعًا إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ أَطْلُبْ عَرَضًا مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدُ نَفْعَكُمْ فَيَجِبُ انْقِيَادُكُمْ لِمَا فِيهِ نَجَاتُكُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ نَصِيحَةَ مَنْ لَا يَطْلُبُ عَلَيْهَا أَجْرًا إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَلَا شَيْءَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ «1» أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ قَصَدَ هُودٌ اسْتِمَالَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَرْغِيبَهُمْ فِيهِ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ زُورِعٍ وَبَسَاتِينَ وَعِمَارَاتٍ حِرَاصًا عَلَيْهَا أَشَدَّ الْحِرْصِ، فَكَانُوا أَحْوَجَ شَيْءٍ إِلَى الْمَاءِ، وَكَانُوا مُدْلِينَ بِمَا أُوتُوا مِنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَالْبَأْسِ مُهَيَّئِينَ فِي كُلِّ ناحية.

_ (1) سورة هود: 11/ 3، 52.

وَقِيلَ: أَرَادَ الْقُوَّةَ فِي الْمَالِ، وَقِيلَ: فِي النِّكَاحِ. قِيلَ: وَحُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَعَقِمَتْ أَرْحَامُ نِسَائِهِمْ. وَقَدِ انْتَزَعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ قَوْلِهِ: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، أَنَّ كَثْرَةَ الِاسْتِغْفَارِ قَدْ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْوَلَدِ. وَأَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ ذُو مَالٍ وَلَا يُولَدُ لَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَوُلِدَ لَهُ عَشْرُ بَنِينَ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ، أَنَّهُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: فِي الْجِسْمِ وَالْبَأْسِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَصْبًا إِلَى خَصْبِكُمْ، وَقِيلَ: نِعْمَةً إِلَى نِعْمَتِهِ الْأُولَى عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ: قُوَّةً فِي إِيمَانِكُمْ إِلَى قُوَّةٍ فِي أَبْدَانِكُمْ. قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ: بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِكَ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَبَهَتُوهُ كَمَا كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1» وَقَدْ جَاءَهُمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَوْ لِعَمَائِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِي الْآيَاتِ اعْتَقَدُوا مَا هُوَ آيَةٌ لَيْسَ بِآيَةٍ فَقَالُوا: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ تُلْجِئُنَا إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِلَّا فَهُودٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ مُعْجِزَاتٌ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَنَا بَعْضَهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عليه البشر» وعن فِي عَنْ قَوْلِكَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تاركي آلِهَتِنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَادِرِينَ عَنْ قَوْلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: عَنْ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «2» فَتَتَعَلَّقُ بِتَارِكِي، كَأَنَّهُ قِيلَ لِقَوْلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى التَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِ فِيهَا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: أَيْ لَا يَكُونُ قَوْلُكُ سَبَبًا لَتَرْكِنَا، إِذْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ آيَةٍ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا تَأْكِيدٌ وَتَقْنِيطٌ لَهُ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي دِينِهِ، ثُمَّ نَسَبُوا مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِلَى الْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اعْتَرَاهُ بِهِ بَعْضُ آلِهَتِهِمْ لِكَوْنِهِ سَبَّهَا وَحَرَّضَ عَلَى تَرْكِهَا وَدَعَا إِلَى تَرْكِ عِبَادَتِهَا، فَجَعَلَتْهُ يَتَكَلَّمُ مُكَافَأَةً بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْمَجَانِينُ، كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ «3» واعتراك جملة محكية

_ (1) سورة يونس: 10/ 20. (2) سورة التوبة: 9/ 114. (3) سورة المؤمنون: 23/ 70.

بنقول، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَدَلَّتْ عَلَى بَلَهٍ شَدِيدٍ وَجَهْلٍ مُفْرِطٍ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا فِي حِجَارَةٍ أَنَّهَا تَنْتَصِرُ وَتَنْتَقِمُ. وَقَوْلُ هُودٍ لَهُمْ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ إِلَى آخِرِهِ، حَيْثُ تَبَرَّأَ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَحَرَّضَهُمْ كُلَّهُمْ مَعَ انْفِرَادِهِ وَحْدَهُ عَلَى كَيْدِهِ بِمَا يشاؤون، وَعَدَمُ تَأَخُّرِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَثِقَتِهِ بِمَوْعُودِ رَبِّهِ مِنَ النَّصْرِ لَهُ، وَالتَّأْيِيدِ وَالْعِصْمَةِ مِنْ أَنْ يَنَالُوهُ بِمَكْرُوهٍ، هَذَا وَهْمُ حَرِيصُونَ عَلَى قَتْلِهِ يَرْمُونَهُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ نُوحٍ لِقَوْمِهِ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ «1» وَأَكَّدَ بَرَاءَتَهُ مِنْ آلهتهم وشركهم، ووقفها بِمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ تَوْثِيقِهِمُ الْأَمْرَ بِشَهَادَةِ اللَّهِ وَشَهَادَةِ الْعِبَادِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكُمْ (قُلْتُ) : لِأَنَّ إِشْهَادَ اللَّهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ إِشْهَادٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي مَعْنَى تَثْبِيتِ التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا إِشْهَادُهُمْ فَمَا هُوَ إِلَّا تَهَاوُنٌ بِدِينِهِمْ وَدِلَالَةٌ عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ فَحَسْبُ، فَعُدِلَ بِهِ عَنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا، وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ انتهى. وإني بَرِيءٌ تَنَازَعَ فِيهِ أُشْهِدُ واشهدوا، وَقَدْ يَتَنَازَعُ الْمُخْتَلِفَانِ فِي التَّعَدِّي الِاسْمَ الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا لِأَنْ يَعْمَلَا فِيهِ تَقُولُ: أَعْطَيْتُ زَيْدًا وَوَهَبْتُ لعمر ودينارا، كَمَا يَتَنَازَعُ اللَّازِمُ وَالْمُتَعَدِّي نَحْوَ: قَامَ وَضَرَبْتُ زَيْدًا. وما فِي مَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ، إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: بَرِيءٌ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، أَوْ مِنَ الَّذِينَ تُشْرِكُونَ، وجميعا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كِيدُونِي الْفَاعِلِ، وَالْخِطَابُ إِنَّمَا هُوَ لِقَوْمِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْتُمْ وَآلِهَتُكُمْ انْتَهَى. قِيلَ: وَمُجَاهَرَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ أَدْيَانِهِمْ، وَحَضُّهُ إِيَّاهُمْ عَلَى كَيْدِهِ هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ مُعْجِزَةٌ لِهُودٍ، أَوْ حَرَّضَ جَمَاعَتَهُمْ عَلَيْهِ مَعَ انْفِرَادِهِ وَقُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى نَيْلِهِ بِسُوءٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ مُعْلِمًا أَنَّهُ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، وَمُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَبُّكُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَمُفَوِّضًا أَمْرَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى ثِقَةً بِحِفْظِهِ وَانِجَازِ مَوْعُودِهِ، ثُمَّ وَصَفَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمَ مُلْكِهِ مِنْ كَوْنِ كُلِّ دَابَّةٍ فِي قَبْضَتِهِ وَمِلْكِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَأَنْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ أُولَئِكَ الْمَقْهُورِينَ. وَقَوْلُهُ: آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا تَمْثِيلٌ، إِذْ كَانَ الْقَادِرُ الْمَالِكُ يَقُودُ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ بِنَاصِيَتِهِ، كَمَا يُقَادُ الْأَسِيرُ وَالْفَرَسُ بِنَاصِيَتِهِ، حَتَّى صَارَ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ عُرْفًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَجُزُّ نَاصِيَةَ الْأَسِيرِ الْمَمْنُونِ عَلَيْهِ عَلَامَةَ أَنَّهُ قَدْ قُدِرَ عَلَيْهِ وَقُبِضَ عَلَى نَاصِيَتِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَخَصَّ النَّاصِيَةَ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا وَصَفَتْ إِنْسَانًا بِالذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ قَالَتْ: مَا نَاصِيَةُ فُلَانٍ إِلَّا بِيَدِ

_ (1) سورة يونس: 10/ 71.

فُلَانٍ، أَيْ أَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَعَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي مُلْكِهِ، لَا يَفُوتُهُ ظَالِمٌ وَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ الصِّدْقُ، وَوَعْدُهُ الْحَقُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ تَتَوَلَّوْا مُضَارِعُ تَوَلَّى. وَقَرَأَ الأعرج وعيسى الثَّقَفِيُّ: تُوَلُّوا بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ مُضَارِعُ وَلَّى، وَقِيلَ: تَوَلَّوْا مَاضٍ وَيَحْتَاجُ فِي الْجَوَابِ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ، أي: فَقُلْ لَهُمْ قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى جَعْلِهِ مَاضِيًا وَإِضْمَارِ الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوَلَّوْا فِعْلًا مَاضِيًا، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ رُجُوعٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ أَيْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ انْتَهَى. فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَوَلَّوْا عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ هُودٍ، وَخِطَابٌ لَهُمْ مِنْ تَمَامِ الْجَمَلِ الْمَقُولَةِ قَبْلُ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِ قَوْمِ هُودٍ إِلَى الْإِخْبَارِ عَمَّنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَخْبِرْهُمْ عَنْ قِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ، وَادْعُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ كَمَا أَصَابَ قَوْمَ هُودٍ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ لَهُمْ: قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا، لِأَنَّ فِي إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ رِسَالَتَهُ تَضَمُّنُ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ تَتَوَلَّوُا اسْتُؤْصِلْتُمْ بِالْعَذَابِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْإِبْلَاغُ كَانَ قَبْلَ التَّوَلِّي، فَكَيْفَ وَقَعَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ فَإِنْ تَوَلَّوْا لَمْ أُعَاقِبْ عَلَى تَفْرِيطٍ فِي الْإِبْلَاغِ، فَإِنَّ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ قَدْ بَلَغَكُمْ فَأَبَيْتُمْ إِلَّا تَكْذِيبَ الرِّسَالَةِ وَعَدَاوَةَ الرَّسُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ ما عليّ كبيرهم مِنْكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَقَدْ بَرِئَتْ سَاحَتِي بِالتَّبْلِيغِ، وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ الذَّنْبِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَسْتَخْلِفُ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ الْمُسْتَأْنَفِ أَيْ: يُهْلِكُكُمْ وَيَجِيءُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ يَخْلُفُونَكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ. وَقَرَأَ حَفْصٌ فِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ: بِجَزْمِهَا عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ الْجَزَاءِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَذَلِكَ، وَبِجَزْمِ وَلَا تَضُرُّوهُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَضُرُّونَهُ أَيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ بِتَوْلِيَتِكُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَضَارُّ وَالْمَنَافِعُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ مِنَ الْمَعْنَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَلَا تَضُرُّونَهُ بِذَهَابِكُمْ وَهَلَاكِكُمْ شَيْئًا أَيْ: لَا يَنْقُصْ مُلْكُهُ، وَلَا يَخْتَلُّ أَمْرُهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا تَنْقُصُونَهُ شَيْئًا. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: وَلَا تَضُرُّونَهُ أَيْ: وَلَا تَقْدِرُونَ إِذَا أَهْلَكَكُمْ عَلَى إِضْرَارِهِ بِشَيْءٍ، وَلَا

عَلَى انْتِصَارٍ مِنْهُ، وَلَا تُقَابِلُونَ فِعْلَهُ بِشَيْءٍ يَضُرُّهُ انْتَهَى. وَهَذَا فِعْلٌ مَنْفِيٌّ وَمَدْلُولُهُ نَكِرَةٌ، فَيَنْتَفِي جَمِيعُ وُجُوهِ الضَّرَرِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا. وَمَعْنَى حَفِيظٌ رَقِيبٌ مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ عِلْمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمْ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ مُؤَاخَذَتِكُمْ، وَهُوَ يَحْفَظُنِي مِمَّا تَكِيدُونَنِي بِهِ. وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ: الْأَمْرُ وَاحِدُ الْأُمُورِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْعَذَابِ، أَوْ عَنِ الْقَضَاءِ بِهَلَاكِهِمْ. أَوْ مَصْدَرُ أَمَرَ أَيْ أَمْرُنَا لِلرِّيحِ أَوْ لِخَزَنَتِهَا. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قِيلَ: كَانُوا أربعة آلاف، وقيل: ثَلَاثَةُ آلَافٍ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقٌ بِرَحْمَةٍ مِنَّا بِقَوْلِهِ: نَجَّيْنَا أَيْ، نَجَّيْنَاهُمْ بِمُجَرَّدِ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لَحِقَتْهُمْ، لَا بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ. أَوْ كَنَّى بِالرَّحْمَةِ عَنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، إِذْ تَوْفِيقُهُمْ لَهَا إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِآمَنُوا أَيْ: إِنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ وَبِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ إِنَّمَا هُوَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ، إِذْ وَفَّقَهُمْ لِذَلِكَ. وَتَكَرَّرَتِ التَّنْجِيَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَلِقَلَقِ مَنْ لولا صقت مِنَّا فَأُعِيدَتِ التَّنْجِيَةُ وَهِيَ الْأُولَى، أَوْ تَكُونُ هَذِهِ التنجية هِيَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَا عَذَابَ أَغْلَظُ مِنْهُ، فَأُعِيدَتْ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى تَكْرِيرِ التَّنْجِيَةِ؟ (قُلْتُ) : ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُ حِينَ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ نَجَّاهُمْ ثُمَّ قَالَ: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ عَلَى مَعْنَى، وَكَانَتِ التَّنْجِيَةُ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا بَعَثَ عَلَيْهِمُ السَّمُومَ، فَكَانَتْ تَدْخُلُ فِي أُنُوفِهِمْ وَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ وَتُقَطِّعُهُمْ عُضْوًا عُضْوًا انْتَهَى، وَهَذَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ، وَكَانَتِ النَّجَاةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ يُرِيدُ الرِّيحَ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ عَلَى هَذَا تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي عَذَابِهِمْ بِالرِّيحِ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُهُمْ وَتَهْدِمُ مَسَاكِنَهُمْ وَتَنْسِفُهَا، وَتَحْمِلُ الظَّعِينَةَ «1» كَمَا هِيَ، وَنَحْوَ هَذَا. وتلك عَادٌ إِشَارَةٌ إِلَى قُبُورِهِمْ وَآثَارِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا إِلَيْهَا وَاعْتَبِرُوا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْأَخْبَارَ عَنْهُمْ فَقَالَ: جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ أَيْ: أَنْكَرُوهَا. وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى رَبِّهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ مَالِكُهُمْ وَمُرَبِّيهِمْ، فَأَنْكَرُوا آيَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ إِقْرَارُهُمْ بِهَا. وَأَصْلُ جَحَدَ أَنْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى كَفَرَ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، كَمَا عُدِّيَ كَفَرَ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ، إِجْرَاءً له مجرى

_ (1) سورة التوبة: 9/ 2.

[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 83]

جَحَدَ. وَقِيلَ: كَفَرَ كَشَكَرَ يَتَعَدَّى تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ. وَعَصَوْا رُسُلَهُ، قِيلَ: عَصَوْا هُودًا وَالرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِ، وَقِيلَ: يُنَزَّلُ تَكْذِيبُ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ مَنْزِلَةَ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ كَقَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» وَاتَّبَعُوا أَيِ: اتَّبَعَ سُقَّاطُهُمْ أَمْرَ رُؤَسَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ، وَيُعَاقِبُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الَّذِي يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَنَّهُ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ، الْمُتَكَبِّرُ عَلَى الْعِبَادِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّبَعُوا عَامٌّ فِي جَمِيعِ عَادٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانُوا تَابِعِينَ لَهُ دُونَ الرُّسُلِ جُعِلَتِ اللَّعْنَةُ تَابِعَةً لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ تَكُبُّهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي عَذَابِ اللَّهِ انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالتَّابِعِينَ لِلرُّؤَسَاءِ، وَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ اتِّبَاعِ اللَّعْنَةِ لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، فَالْكُفْرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ. ثُمَّ كَرَّرَ التَّنْبِيهَ بِقَوْلِهِ: أَلَا فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِمْ، وَتَفْظِيعًا لَهُ، وَبَعْثًا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهِمْ وَالْحَذَرِ مِنْ مِثْلِ حَالِهِمْ. وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: قَوْمِ هُودٍ مَزِيدُ التَّأْكِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْصِيصِ، أَوْ تَعْيِينُ عَادٍ هَذِهِ مِنْ عَادِ إِرَمَ، لِأَنَّ عَادًا اثْنَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، فَتَحَقَّقَ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى عَادٍ هَذِهِ، وَلَمْ تلتبس بغيرها. [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

_ (1) سورة البقرة: 2/ 285.

الصَّيْحَةُ: فَعْلَةٌ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الصِّيَاحِ، يُقَالُ: صَاحَ يَصِيحُ إِذَا صَوَّتَ بِقُوَّةٍ.

حَنَذْتُ الشَّاةَ أَحْنِذُهَا حَنْذًا شَوَيْتُهَا، وَجَعَلْتُ فَوْقَهَا حِجَارَةً لِتُنْضِجَهَا فَهِيَ حَنِيذٌ، وَحَنَذْتُ الْفَرَسَ أَحْضَرْتُهُ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ ثُمَّ ظَاهَرْتُ عَلَيْهِ الْجِلَالَ فِي الشَّمْسِ لِيَعْرَقَ. أو جس الرَّجُلُ قَالَ الْأَخْفَشُ: خَامَرَ قَلْبُهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اسْتَشْعَرَ، وَقِيلَ: أَحَسَّ. وَالْوَجِيسُ مَا يَعْتَرِي النَّفْسَ عِنْدَ أَوَائِلِ الْفَزَعِ، وَوَجَسَ فِي نَفْسِهِ كَذَا خَطَرَ بِهَا يَجِسُ وَجْسًا وَوُجُوسًا وَتَوَجَّسَ تَسَمَّعَ وَتَحَسَّسَ. قَالَ: وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسَ لِلسُّرَى ... لِهَجْسٍ خَفِيٍ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ الضَّحِكُ مَعْرُوفٌ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا «1» وَيُقَالُ: ضَحَكَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالضُّحَكَةُ الْكَثِيرُ الضَّحِكُ، وَالضُّحْكَةُ الْمَضْحُوكُ مِنْهُ، وَيُقَالُ: ضَحِكَتِ الْأَرْنَبُ أَيْ حَاضَتْ، وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: ضَحِكَ بِمَعْنَى حَاضَ، وَعَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَقَالَ الشَّاعِرُ أَنْشَدَهُ اللُّغَوِيُّونَ: وَضِحْكُ الْأَرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الْجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا وقال آخر: وَعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكًا فِي لُبَانَةٍ ... وَلَمْ يَعُدْ حُقَّا ثَدْيِهَا أَنْ يَحْلُمَا أَيْ حَائِضًا فِي لُبَانَةِ، وَاللُّبَانَةُ وَالْعَلَاقَةُ وَالشَّوْذَرُ وَاحِدٌ. وَمِنْهُ ضَحِكَتِ الْكَافُورَةُ إِذَا انْشَقَّتْ، وَضَحِكَتِ الشَّجَرَةُ سَالَ مِنْهَا صَمْغُهَا وَهُوَ شِبْهُ الدَّمِ، وَضَحِكَ الْحَوْضُ امْتَلَأَ وَفَاضَ. الشَّيْخُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ شَاخَ يَشِيخُ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْأُنْثَى: شَيْخَةٌ. قَالَ: وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْيَاخٍ وَشُيُوخٍ وَشَيْخَانِ، وَمِنْ أسماء الجموع مشيخه ومشيوخاء. الْمَجِيدُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الرَّفِيعُ. يُقَالُ: مَجَدَ يَمْجُدُ مَجْدًا وَمَجَادَةً وَمَجُدَ، لُغَتَانِ أَيْ كَرُمَ وَشَرُفُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَجَدَتِ الْإِبِلُ تَمْجُدُ مَجْدًا شَبِعَتْ. وَقَالَ: أَمْجَدْتُ الدَّابَّةَ أَكْثَرْتُ عَلَفَهَا، وَقَالَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ: تزبد عَلَى صَوَاحِبِهَا وَلَيْسَتْ ... بِمَاجِدَةِ الطَّعَامِ وَلَا الشَّرَابِ أَيْ: لَيْسَتْ بِكَثِيرَةِ الطَّعَامِ وَلَا الشَّرَابِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: أَمْجَدَ فُلَانٌ عَطَاءَهُ وَمَجَّدَهُ إِذَا كثره،

_ (1) سورة التوبة: 9/ 82.

وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ» وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ أَيِ اسْتَكْثَرَ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَجَدَ الشَّيْءُ إِذَا حَسُنَتْ أَوْصَافُهُ. الرَّوْعُ: الْفَزَعُ قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا أَخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أَمْسَكَتْ ... بِمَنْكِبِ مِقْدَامٍ عَلَى الْهَوْلِ أَرْوَعَا وَالْفِعْلُ رَاعَ يَرُوعُ قَالَ: مَا رَاعَنِي إِلَّا حَمُولَةُ أَهْلِهَا ... وسط الديار نسف حَبَّ الْخِمْخِمِ وَقَالَ النَّابِغَةُ: فَارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كِلَابٍ فَبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشَّوَامِتِ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ صَرَدِ وَالرُّوعُ بِضَمِّ الرَّاءِ النَّفْسُ، لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الرَّوْعِ. الذَّرْعُ مَصْدَرُ ذَرَعَ الْبَعِيرُ بِيَدَيْهِ فِي سَيْرِهِ إِذَا سَارَ عَلَى قَدْرِ خَطْوِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الذِّرَاعِ، ثُمَّ وُضِعَ مَوْضِعَ الطَّاقَةِ فَقِيلَ: ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا. وَقَدْ يَجْعَلُونَ الذِّرَاعَ مَوْضِعَ الذَّرْعِ قَالَ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ ضَاقَ بِهَا ذَرْعًا وَقِيلَ: كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ ضِيقِ الصَّدْرِ. الْعَصِيبُ وَالْعَصَبْصَبُ وَالْعَصَوْصَبُ الشَّدِيدُ اللَّازِمُ، الشَّرِّ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ قَالَ: وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَدِّدْ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سُمِّيَ عَصِيبًا لِأَنَّهُ يَعْصِبُ النَّاسَ بِالشَّرِّ، وَالْعُصْبَةُ وَالْعِصَابَةُ الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ كَلَّمْتُهُمْ، أَوِ الْمُجْتَمِعُونَ فِي النَّسَبِ. وَتَعَصَّبْتُ لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ مَعْصُوبٌ أَيْ: مُجْتَمِعُ الْخَلْقِ. الْإِهْرَاعُ: قَالَ شِمْرٌ مَشْيٌ بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ وَالْجَمْزِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: هَرَعَ الرَّجُلُ وَأَهْرَعَ اسْتَحَثَّ. الضَّيْفُ: مَصْدَرٌ، وَإِذَا أُخْبِرَ بِهِ أَوْ وُصِفَ لَمْ يُطَابِقْ فِي تَثْنِيَةٍ وَلَا جَمْعٍ، هَذَا الْمَشْهُورُ. وَسُمِعَ فِيهِ ضُيُوفٌ وَأَضْيَافٌ وَضِيفَانٌ. الرُّكْنُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ النَّاحِيَةُ مِنَ الْبَيْتِ، أَوِ الْجَبَلِ. وَيُقَالُ: رَكُنٌ بِضَمِّ الْكَافِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْكَانٍ وَأَرْكُنٍ. وَرَكَنْتُ إِلَى فُلَانٍ انْضَوَيْتُ إِلَيْهِ. سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ، وَعَنِ اللَّيْثِ سرى سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَسَرَى سَارَ آخِرَهُ، وَلَا يُقَالُ فِي النَّهَارِ إِلَّا سَارَ. السِّجِّيلُ وَالسِّجِّينُ الشَّدِيدُ مِنَ الْحَجَرِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: طِينٌ طُبِخَ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآجُرِّ. وَقِيلَ: هُوَ فَارِسِيٌّ، وَسَنْكٌ الْحَجَرُ، وَكُلُّ الطِّينِ يُعَرَّبُ فَقِيلَ: سِجَّينٌ. الْمَنْضُودُ: الْمَجْعُولُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ.

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ: قَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: وَإِلَى ثَمُودَ بِالصَّرْفِ عَلَى إِرَادَةِ الْحَيِّ، وَالْجُمْهُورِ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ ذَهَابًا إِلَى الْقَبِيلَةِ. أَنْشَأَكُمْ: اخْتَرَعَكُمْ وَأَوْجَدَكُمْ، وَذَلِكَ بِاخْتِرَاعِ آدَمَ أَصْلِهِمْ، فَكَانَ إِنْشَاءُ الْأَصْلِ إِنْشَاءً لِلْفَرْعِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ النَّبَاتُ، الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ الْغِذَاءُ، الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ الْمَنِيُّ وَدَمُ الطَّمْثِ، الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْإِنْسَانُ. وَقِيلَ: مِنْ بمعنى في واستعمركم جَعَلَكُمْ عُمَّارًا، وَقِيلَ: اسْتَعْمَرَكُمْ مِنَ الْعُمُرِ أَيِ: اسْتَبَقَاكُمْ فِيهَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَيْ، أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ. وَقِيلَ: مِنَ الْعُمْرَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. فَيَكُونُ اسْتَعْمَرَ فِي مَعْنَى أَعْمَرَ، كَاسْتَهْلَكَهُ فِي مَعْنَى أَهْلَكَهُ. وَالْمَعْنَى: أَعْمَرَكُمْ فِيهَا دِيَارَكُمْ، ثُمَّ هُوَ وَارِثُهَا مِنْكُمْ. أَوْ بِمَعْنَى: جَعَلَكُمْ مُعَمِّرِينَ دِيَارَكُمْ فِيهَا، لِأَنَّ مَنْ وَرِثَ دَارَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّهُ أَعْمَرَهُ إِيَّاهَا، لِأَنَّهُ يَسْكُنُهَا عُمُرَهُ ثُمَّ يَتْرُكُهَا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: اسْتَعْمَرَكُمْ أَمَرَكُمْ بِعِمَارَةِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ بِنَاءِ مَسَاكِنَ وَغَرْسِ أَشْجَارٍ. وَقِيلَ: أَلْهَمَكُمْ عِمَارَتَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ أَيْ: دَانِي الرَّحْمَةِ، مُجِيبٌ لِمَنْ دَعَاهُ. قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا. قَالَ كَعْبٌ: كانوا يرجونه لِلْمَمْلِكَةِ بَعْدَ مُلْكِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ ذَا حَسَبٍ وَثَرْوَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَاضِلًا خَيِّرًا نُقَدِّمُكَ عَلَى جَمِيعِنَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا يَرْجُونَ رُجُوعَهُ إِلَى دِينِهِمْ، إِذْ كَانَ يُبْغِضُ أَصْنَامَهُمْ، وَيَعْدِلُ عَنْ دِينِهِمْ، فَلَمَّا أَظْهَرَ إِنْذَارَهُمُ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْهُ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ يَرْجُونَ خَيْرَهُ، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خَيْرَهُ. وَبَسَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: فِينَا فِيمَا بَيْنَنَا مَرْجُوًّا كَانَتْ تَلُوحُ فيك مخايل الخير وجمارات الرُّشْدِ، فَكُنَّا نَرْجُوكَ لِنَنْتَفِعَ بِكَ، وَتَكُونَ مُشَاوَرًا فِي الْأُمُورِ مُسْتَرْشَدًا فِي التَّدَابِيرِ، فَلَمَّا نَطَقْتَ بِهَذَا الْقَوْلِ انْقَطَعَ رَجَاؤُنَا عَنْكَ، وَعَلِمْنَا أَنْ لَا خَيْرَ فِيكَ انْتَهَى. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوِيَّ الْخَاطِرِ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ، قَوِيَ رَجَاؤُهُمْ فِي أَنْ يَنْصُرَ دِينَهُمْ وَيُقَوِّيَ مَذْهَبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ الَّذِي حَكَاهُ الْجُمْهُورُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَرْجُوًّا مَشُورًا، نُؤَمِّلُ فِيكَ أَنْ تَكُونَ سَيِّدًا سَادًّا مَسَدَّ الْأَكَابِرِ، ثُمَّ قَرَّرُوهُ عَلَى التَّوْبِيخِ فِي زَعْمِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: أَتَنْهَانَا. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ حَقِيرًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ مرجو بِمَعْنَى حَقِيرٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ لِلْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ بِقَوْلِهِمْ: مَرْجُوًّا بِقَوْلِ: لَقَدْ كُنْتَ فِينَا سَهْلًا مَرَامُكَ، قَرِيبًا رَدُّ أَمْرِكَ مِمَّنْ لَا يُظَنُّ أَنْ يُسْتَعْجَلَ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلُ هَذَا. فَمَعْنَى مَرْجُوًّا

أَيْ: مُؤَخَرًّا اطِّرَاحُهُ وَغَلَبَتُهُ. وَنَحْوَ هَذَا فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِقَارِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِحَقِيرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْلُهُمْ: أَتَنْهَانَا، عَلَى جِهَةِ التَّوَعُّدِ وَالِاسْتِبْشَاعِ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ منه انتهى. وما يَعْبُدُ آبَاؤُنَا حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَإِنَّا وَإِنَّنَا لُغَتَانِ لقريش. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ قَالَ إِنَّنَا أَخْرَجَ الْحَرْفَ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ كِنَايَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ نَا، فَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ نُونَاتٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّا اسْتَثْقَلَ اجْتِمَاعَهَا، فَأَسْقَطَ الثَّالِثَةَ وَأَبْقَى الْأُولَتَيْنِ انْتَهَى. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ نَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا تَكُونُ الْمَحْذُوفَةَ، لِأَنَّ فِي حَذْفِهَا حَذْفَ بَعْضِ اسْمٍ وَبَقِيَ مِنْهُ حَرْفٌ سَاكِنٌ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُوفَةُ النُّونُ الثَّانِيَةُ مِنْ إِنَّ فَحُذِفَتْ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، وَبَقِيَ مِنَ الْحَرْفِ الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ السَّاكِنَةُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَذْفِ مَا بَقِيَ مِنْهُ حَرْفٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ عُهِدَ حَذْفُ هَذِهِ النُّونِ مَعَ غَيْرِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَمْ يُعْهَدْ حَذْفُ نُونِ نَا، فَكَانَ حَذْفُهَا مِنْ إِنَّ أَوْلَى. وَمُرِيبٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مُتَعَدِّ، أَرَابَهُ أَوْقَعَهُ فِي الرِّيبَةِ، وَهِيَ قَلَقُ النَّفْسِ وَانْتِفَاءُ الطُّمَأْنِينَةِ. أَوْ مِنْ لَازِمِ أَرَابَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ ذَا رِيبَةٍ، وَأُسْنِدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّكِّ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا، وَوُجُودُ مِثْلِ هَذَا الشَّكِّ كَوُجُودِ التَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ. قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُنَا لِأَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْصِيهِ فِي تَرْكِ مَا أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَأَيْتُمْ هُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي بَعْدَهُ وَجَوَابُهُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمْتُ وَأَخَوَاتِهَا، وَإِدْخَالُ أَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي هِيَ إِنْ عَلَى جُمْلَةٍ مُحَقَّقَةٍ، وَهِيَ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، لَكِنَّهُ خَاطَبَ الْجَاحِدِينَ لِلْبَيِّنَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدِّرُوا إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَانْظُرُوا إِنْ تَابَعْتُكُمْ وَعَصَيْتُ رَبِّي فِي أَوَامِرِهِ، فَمَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِهِ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَيَضُرُّنِي شَكُّكُمْ، أَوْ أَيُمْكِنُنِي طَاعَتُكُمْ، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَلِيقُ بِمَعْنَى الْآيَةِ انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اسْتِشْعَارٌ مِنْهُ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَرَأَيْتُمْ، وَأَنَّ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ لَا يَقَعَانِ وَلَا يَسُدَّانِ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتُمْ، وَالَّذِي قَدَّرْنَاهُ نَحْنُ هُوَ الظَّاهِرُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ، فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَيْرَ أَنْ أُخَسِّرَكُمْ أَيْ أَنْسُبَكُمْ إِلَى الْخُسْرَانِ، وَأَقُولُ أَنَّكُمْ خَاسِرُونَ انْتَهَى. يُفْعَلُ هَذَا لِلنِّسْبَةِ كَفَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ أي: نسبته إلى الْفِسْقُ وَالْفُجُورُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ مَا

تَزِيدُونَنِي بِعِبَادَتِكُمْ إِلَّا بَصَارَةً فِي خُسْرَانِكُمْ انْتَهَى. فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: غَيْرَ بَصَارَةِ تَخْسِيرِكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تَزْدَادُونَ أَنْتُمْ بِاحْتِجَاجِكُمْ بِعِبَادَةِ آبَائِكُمْ إِلَّا خَسَارًا، وَأَضَافَ الزِّيَادَةَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ ذَلِكَ وَكَانَ سَأَلَهُمُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَمَا تُعْطُونِي فِيمَا اقْتَضَيْتُهُ مِنْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ غَيْرَ تَخْسِيرٍ لِأَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ مِنَ الْخَسَارَةِ وَلَيْسَ التَّخْسِيرُ إِلَّا لَهُمْ، وَفِي حَيِّزِهِمْ، وَأَضَافَ الزِّيَادَةَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقْتَضٍ لِأَقْوَالِهِمْ مُوَكَّلٌ بِإِيمَانِهِمْ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُوصِيهِ: أَنَا أُرِيدُكَ خَيْرًا وَأَنْتَ تُرِيدُنِي سُوءًا، وَكَانَ الْوَجْهُ الْبَيِّنُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْتَ تُرِيدُ شَرًّا، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ كَنْتَ مُرِيدَ خَيْرٍ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ حَسُنَ أَنْ يُضِيفَ الزِّيَادَةَ إِلَى نَفْسِكَ انْتَهَى. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَمَا تَحْمِلُونَنِي عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنِّي أُخْسِرُكُمْ أَيْ: أَرَى مِنْكُمُ الْخُسْرَانَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ تُخْسِرُونِي أَعْمَالَكُمْ وَتُبْطِلُونَهَا. قِيلَ وَهَذَا أَقْرَبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ اتَّبَعْتُكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَدَعَوْتُمُونِي إِلَيْهِ لَمْ أَزْدَدْ إِلَّا خُسْرَانًا فِي الدِّينِ، فَأَصِيرُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَاسِرِينَ. وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ، وَالْخِلَافُ فِي النَّاصِبِ فِي نَحْوِ هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، أَهْوَ حَرْفُ التَّنْبِيهِ؟ أَوِ اسْمُ الْإِشَارَةِ؟ أَوْ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ؟ جَازَ فِي نصب آية ولكم فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ نَعْتًا لآية، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى النَّكِرَةِ كَانَ حَالًا، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَبِمَ يَتَعَلَّقُ لَكُمْ؟ (قلت) : بآية حَالًا مِنْهَا مُتَقَدِّمَةً، لِأَنَّهَا لَوْ تَأَخَّرَتْ لَكَانَ صِفَةً لَهَا، فَلَمَّا تَقَدَّمَتِ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ تعلق لكم بآية كان لكم معمولا لآية، وَإِذَا كَانَ مَعْمُولًا لَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهَا، لِأَنَّ الْحَالَ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، فَتَنَاقَضَ هَذَا الْكَلَامُ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَعْمُولًا لَهَا كَانَتْ هِيَ الْعَامِلَةَ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حَالًا مِنْهَا كَانَ الْعَامِلُ غَيْرَهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَ آيَةً. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: تَأْكُلُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَلَى الحال. وقريب عَاجِلٌ لَا يَسْتَأْخِرُ عَنْ مَسِّكُمُوهَا بِسُوءٍ إِلَّا يَسِيرًا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَقَعُ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْإِخْبَارُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَقَرُوهَا نُسِبَ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْعَاقِرُ وَاحِدًا لأنه كان برضا منهم، وتمالؤ. وَمَعْنَى تَمَتَّعُوا اسْتَمْتِعُوا بِالْعَيْشِ فِي دَارِكُمْ فِي بَلَدِكُمْ، وَتُسَمَّى الْبِلَادُ الدِّيَارُ لِأَنَّهَا يُدَارُ فِيهَا أَيْ: يُتَصَرَّفُ، يُقَالُ: دِيَارُ بَكْرٍ لِبِلَادِهِمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي دَارِكُمْ جَمْعُ دَارَةٍ، كَسَاحَةٍ وَسَاحٍ وَسُوحٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: لَهُ دَاعٍ بمكة مُشْمَعِلٌّ ... وَآخَرُ فَوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي

وَيُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّىَ جَمِيعُ مَسْكَنِ الْحَيِّ دَارًا انْتَهَى. ذَلِكَ أَيِ: الْوَعْدُ بِالْعَذَابِ غَيْرُ مَكْذُوبٍ، أَيْ صِدْقٌ حق. والأصل غير مَكْذُوبٌ فِيهِ، فَاتَّسَعَ فَحُذِفَ الْحَرْفُ وَأُجْرِيَ الضَّمِيرُ مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَوْ جُعِلَ غَيْرُ مَكْذُوبٍ لِأَنَّهُ وَفَّى بِهِ فَقَدْ صَدَقَ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَكْذُوبَ هُنَا مَصْدَرٌ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ أَنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ عَلَى زِنَةِ مَفْعُولٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ: وَالْكَلَامُ فِي جَاءَ أَمْرُنَا كَالْكَلَامِ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ. قِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ فِي وَمِنْ أَيْ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ فَيَتَعَلَّقُ من بنجينا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُزَادُ عِنْدَهُمْ بَلْ تَتَعَلَّقُ مِنْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ، أَيْ وَكَانَتِ التَّنْجِيَةُ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: وَمِنْ خِزْيِ بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ يَوْمَئِذٍ عَلَى الظَّرْفِ مَعْمُولًا لِخِزْيٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِضَافَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ، وَهِيَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى إِذْ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، وَالتَّنْوِينُ فِي إِذْ تَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ أَيْ: وَمِنْ فَضِيحَةِ يَوْمِ إِذْ جَاءَ الْأَمْرُ وَحَلَّ بِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يريد بيومئذ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا فَسَّرَ الْعَذَابَ الْغَلِيظَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ فِي إِذْ تَنْوِينُ الْعِوَضِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَّا قَوْلُهُ، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ فِيهَا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا مَا يَكُونُ فِيهَا، فَيَكُونُ هَذَا التَّنْوِينُ عِوَضًا مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَنَاسَبَ مَجِيءُ الْأَمْرِ وَصْفَهُ تَعَالَى بِالْقَوِيِّ الْعَزِيزِ، فَإِنِّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ وَالِانْتِقَامِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْأَعْرَافِ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ، مَنَعَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ صَرْفَهُ، وَصَرَفَهُ الْبَاقُونَ، لِثَمُودَ صَرَفَهُ الْكِسَائِيُّ، وَمَنَعَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ. وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ: تَقَدَّمَ أَنَّ تَرْتِيبَ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ كَتَرْتِيبِ قَصَصِ الْأَعْرَافِ، وَإِنَّمَا أَدْرَجَ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ قِصَّةِ صَالِحٍ وَلُوطٍ، لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي قِصَّةِ لُوطٍ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَ خَالَةِ لُوطٍ. وَالرُّسُلُ هُنَا الْمَلَائِكَةُ، بَشَّرَتْ

إِبْرَاهِيمَ بِثَلَاثِ بَشَائِرَ: بِالْوَلَدِ، وَبِالْخِلَّةِ، وَبِإِنْجَاءِ لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَحَدَ عَشَرَ، وَحَكَى صَاحِبُ الْغُنْيَانِ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تِسْعَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ثَمَانِيَةٌ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: أَرْبَعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: ثَلَاثَةٌ جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُخْتَصًّا بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمِيكَائِيلَ بِبُشْرَى إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَإِسْرَافِيلَ بِإِنْجَاءِ لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. قِيلَ: وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ جُرْدًا مُرْدًا عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْبَهْجَةِ، وَلِهَذَا يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ فِي الْحُسْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّا قِيلَ فِي يُوسُفَ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «1» وَقَالَ الْغَزِّيُّ: قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً ... حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيتَا وَانْتَصَبَ سَلَامًا عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ أَيْ: سَلَّمْنَا عَلَيْكَ سَلَامًا، فسلاما قَطَعَهُ مَعْمُولًا لِلْفِعْلِ الْمُضْمَرِ المحكي بقالوا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَلَامًا حِكَايَةً لِمَعْنَى مَا قَالُوا، لَا حِكَايَةً لِلَفْظِهِمْ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ. وَلِذَلِكَ عَمِلَ فِيهِ الْقَوْلُ، كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قُلْتَ: حَقًّا وَإِخْلَاصًا، وَلَوْ حَكَيْتَ لَفْظَهُمْ لَمْ يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الْقَوْلُ انْتَهَى. وَيَعْنِي لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَعْمَلَ فِي لَفْظِهِمُ الْقَوْلُ، يَعْنِي فِي اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ مَا لَفَظُوا بِهِ فِي مَوْضِعِ المفعول للقول. وسلام خبر مبتدأ محذوف أي: أَمْرِي أَوْ أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، وَالْجُمْلَةُ محكية وَإِنْ كَانَ حُذِفَ مِنْهَا أَحَدُ جُزْءَيْهَا كَمَا قَالَ: إِذَا ذُقْتُ فَاهًا قُلْتُ طَعْمَ مُدَامَةٍ أَيْ طَعْمُهُ طَعْمُ مُدَامَةٍ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانَ قَالَ: سِلْمٌ، وَالسِّلْمُ السَّلَامُ كَحِرْمٍ وَحَرَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بِالْبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ اكْتَلَّ اتَّخَذَ إِكْلِيلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسِّلْمِ ضِدَّ الْحَرْبِ تَقُولُ: نَحْنُ سِلْمٌ لَكُمْ انْتَهَى. وَنَصْبُ سَلَامًا يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَرَفْعُ سَلَامٌ يَدُلُّ على الثبوت

_ (1) سورة يوسف: 12/ 31.

وَالِاسْتِقْرَارِ، وَالْأَقْرَبُ فِي إِعْرَابِ فَمَا لَبِثَ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، وَلَبِثَ مَعْنَاهُ تأخر وأبطأ، وأن جَاءَ فَاعِلٌ بِلَبِثَ التَّقْدِيرُ فَمَا تَأَخَّرَ مَجِيئُهُ قَالَهُ: الْفَرَّاءُ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي لَبِثَ ضَمِيرُ إِبْرَاهِيمَ فهو فاعل، وأن جَاءَ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ فَقُدِّرَ بِأَنْ وَبِعْنَ، وَبِفِي، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ بِمَعْنَى حَتَّى حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَأَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: فَلَبْثُهُ، أَوِ الَّذِي لَبِثَهُ، وَالْخَبَرُ أَنْ جَاءَ عَلَى حَذْفِ أَيْ: قَدْرُ مَجِيئِهِ، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الضِّيَافَةِ، وَهُوَ تَعْجِيلُ الْقِرَى. وَكَانَ مَالُ إِبْرَاهِيمَ الْبَقَرَ، فَقَدَّمَ أَحْسَنَ مَا فِيهِ وَهُوَ الْعِجْلُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: حَنِيذٍ مَطْبُوخٍ، وقال الحسن: نضيج مَشْوِيٍّ سَمِينٍ يَقْطُرُ وَدَكًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: سَمِينٍ، وَقِيلَ: سَمِيطٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى الْعِجْلِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَكْلِهِ، فَلَمْ يَنْفِ الْوُصُولَ النَّاشِئَ عَنِ الْمَدِّ بَلْ جَعَلَ عَدَمَ الْوُصُولِ اسْتِعَارَةً عَنِ امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ. نَكِرَهُمْ أَيْ أَنْكَرَهُمْ قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا وَقِيلَ: نَكِرَ فِيمَا يُرَى، وَأَنْكَرَ فِيمَا لَا يُرَى مِنَ الْمَعَانِي، فَكَأَنَّ الشَّاعِرَ قَالَ: وَأَنْكَرَتْ مَوَدَّتِي ثُمَّ جَاءَتْ بِنُكْرِ الشَّيْبِ وَالصَّلَعِ مِمَّا يُرَى بِالْبَصَرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: فَنَكِرْنَهُ فَنَفَرْنَ وَامْتَرَسَتْ بِهِ ... هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكُثُونَ بِقِدَاحٍ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ فِي اللَّحْمِ وَلَا تَصِلُ أَيْدِيهِمْ إِلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ مِنَ الضَّيْفِ هَلْ يَأْكُلُ أَوْ لَا وَيَكُونُ بِتَلَفُّتٍ وَمُسَارَعَةٍ، لَا بِتَحْدِيدِ النَّظَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَجْعَلُ الضَّيْفَ مُقَصِّرًا فِي الْأَكْلِ. قِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ فِي طَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ مَخَافَةَ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ مَكْرُوهًا. وَقِيلَ: كَانَتْ عَادَتُهُمْ إِذَا مَسَّ مِنْ يَطْرُقُهُمْ طَعَامَهُمْ أَمِنُوا وَإِلَّا خَافُوهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَحَسَّ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَنَكِرَهُمْ، لِأَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِأَمْرٍ أَنْكَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ لِتَعْذِيبِ قَوْمِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ لُوطٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا لِمَنْ عَرَفَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْ فِيمَا أُرْسِلُوا. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَأَوْجَسَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ، قِيلَ: وَأَصْلُ الْوُجُوسِ الدُّخُولُ، فَكَأَنَّ الْخَوْفَ دَخَلَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لِمَجِيئِهِمْ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، وَكَانَ مَشْغُوفًا بِإِكْرَامِ الأضياف، فلذلك جاؤوا فِي صُوَرِهِمْ، وَلِمُسَارَعَتِهِ إِلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْأَكْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ بِقَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ لُوطٍ، فَنَهَوْهُ عَنْ شَيْءٍ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ، وَعَرَفُوا خِيفَتَهُ بِكَوْنِ اللَّهِ

جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الِاطِّلَاعِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ «1» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَبِّي عَبْدُكَ هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً» الْحَدِيثَ، أَوْ بِمَا يَلُوحُ فِي صَفَحَاتِ وَجْهِ الْخَائِفِ. وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ جُمْلَةٌ مِنِ ابْتِدَاءٍ وَخَبَرٍ قَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي أَرْسَلْنَا، يَعْنِي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ يُسَمِّيهِ فَاعِلًا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالتَّقْدِيرُ أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فِي حَالِ قِيَامِ امْرَأَتِهِ، يَعْنِي امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ قَالُوا أَيْ: قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ لَا تَخَفْ فِي حَالِ قِيَامِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ سَارَةُ بِنْتُ هَارَانَ بْنِ نَاخُورَ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ، قَائِمَةٌ أَيْ: لِخِدْمَةِ الْأَضْيَافِ، وَكَانَتْ نِسَاؤُهُمْ لَا تَحْتَجِبُ كَعَادَةِ الْأَعْرَابِ، وَنَازِلَةِ الْبَوَادِي وَالصَّحْرَاءِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّبَرُّجُ مَكْرُوهًا، وَكَانَتْ عَجُوزًا، وَخِدْمَةُ الضِّيفَانِ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَجَاءَ فِي شَرِيعَتِنَا مِثْلُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ: وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَرُوسًا، فَكَانَتْ خَادِمَةَ الرَّسُولِ وَمَنْ حَضَرَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَتْ قَائِمَةً وَرَاءَ السَّتْرِ تَسْمَعُ مُحَاوَرَتَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَائِمَةٌ تُصَلِّي. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: قَائِمَةٌ عَنِ الْوَلَدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ قَاعِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَهِيَ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ فَيُضْمَرُ، لَكِنَّهُ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: فَضَحِكَتْ حَاضَتْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ. فَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ مُعَبَّرٌ بِهِ عَنْ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَسُرُورِهِ بِنَجَاةِ أَخِيهَا وَهَلَاكِ قَوْمِهِ، يُقَالُ: أَتَيْتُ عَلَى رَوْضَةٍ تَضْحَكُ أَيْ مُشْرِقَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ. فَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَحِكَتْ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ فِي أهله وغلمانه. والذين جاؤوه ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ تَعْهَدُهُ يَغْلِبُ الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: الْمِائَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ضَحِكَتْ مِنْ غَفْلَةِ قَوْمِ لُوطٍ وَقُرْبِ الْعَذَابِ مِنْهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ضَحِكَتْ مِنْ إِمْسَاكِ الْأَضْيَافِ عَنِ الْأَكْلِ وَقَالَتْ: عَجَبًا لِأَضْيَافِنَا نَخْدُمُهُمْ بِأَنْفُسِنَا، وَهُمْ لَا يَأْكُلُونَ طَعَامَنَا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ضحكت من الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ، وَقَالَ: هَذَا مُقَدَّمٌ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ ضَحِكَهَا كَانَ سُرُورًا بِصِدْقِ ظَنِّهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِإِبْرَاهِيمَ: اضْمُمْ إِلَيْكَ ابْنَ أَخِيكَ لُوطًا وَكَانَ أَخَاهَا، فَإِنَّهُ سَيَنْزِلُ الْعَذَابُ بِقَوْمِهِ. وَقِيلَ: ضَحِكَتْ لِمَا رَأَتْ مِنَ الْمُعْجِزِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَسَحَتِ الْعِجْلَ الْحَنِيذَ فَقَامَ حَيًّا يَطْفِرُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمَّا لم يأكلوا،

_ (1) سورة الانفطار: 82/ 12.

وَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً بعد ما نَكِرَ حَالَهُمْ، لَحِقَ الْمَرْأَةَ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ مَا لَحِقَ الرَّجُلَ. فَلَمَّا قَالُوا: لَا تَخَفْ، وَذَكَرُوا سَبَبَ مَجِيئِهِمْ زَالَ عَنْهُ الْخَوْفُ وَسُرَّ، فَلَحِقَهَا هِيَ مِنَ السُّرُورِ أَنْ ضَحِكَتْ، إِذِ النِّسَاءُ فِي بَابِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ أَطْرَبُ مِنَ الرِّجَالِ وَغَالَبٌ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى طَرَفٍ من هذا فقال: فضحكت سُرُورًا بِزَوَالِ الْخِيفَةِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ سَبَبًا لِضَحِكِهَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ لِفَظَاعَتِهِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَعْرَابِيُّ رَجُلٌ مِنْ قُرَّاءِ مَكَّةَ: فَضَحِكَتْ بِفَتْحِ الْحَاءِ. قَالَ الْمَهَدَوِيُّ: وَفَتْحُ الْحَاءِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، فَبَشَّرْنَاهَا هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، وَالْمَعْنَى: فَبَشَّرْنَاهَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِنَا بَشَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِإِسْحَاقَ، وَبِأَنَّ إِسْحَاقَ سَيَلِدُ يَعْقُوبَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَضَافَ فِعْلَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَوَحْيِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا وُلِدَ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ هَاجَرَ تَمَنَّتْ سَارَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْنٌ، وَأَيِسَتْ لِكِبَرِ سِنِّهَا، فَبُشِّرَتْ بِوَلَدٍ يَكُونُ نَبِيًّا وَيَلِدُ نَبِيًّا، فَكَانَ هَذَا بِشَارَةً لَهَا بِأَنْ تَرَى وَلَدَ وَلَدِهَا. وَإِنَّمَا بَشَّرُوهَا دُونَهُ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَعْجَلُ فَرَحًا بِالْوَلَدِ، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدْ بَشَّرُوهُ وَأَمَّنُوهُ مِنْ خَوْفِهِ، فَأَتْبَعُوا بِشَارَتَهُ بِبِشَارَتِهَا. وَقِيلَ: خُصِّتْ بِالْبِشَارَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَكَانَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَرَاءِ هُنَا ظَرْفٌ اسْتُعْمِلَ اسْمًا غَيْرَ ظَرْفٍ بِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ بَعْدِ إِسْحَاقَ، أَوْ مِنْ خَلْفِ إِسْحَاقَ، وَبِمَعْنَى بَعْدُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ مُقَاتِلٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْوَرَاءَ وَلَدُ الْوَلَدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَتَسْمِيَتُهُ وَرَاءَ هِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ مَعْنَى وَرَاءَ الظَّرْفِ، إِذْ هُوَ مَا يَكُونُ خَلْفَ الشَّيْءِ وَبَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ يَعْقُوبُ وَرَاءً لِإِسْحَاقَ وَهُوَ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْوَرَاءُ وَلَدُ الْوَلَدِ؟ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَقَالَ: الْمَعْنَى وَمِنَ الْوَرَاءِ الْمَنْسُوبِ إِلَى إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الْوَرَاءُ لِإِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ إِسْحَاقَ، فَلَوْ قَالَ: وَمِنَ الْوَرَاءِ يَعْقُوبُ، لَمْ يُعْلَمْ أَهَذَا الْوَرَاءُ مَنْسُوبٌ إِلَى إِسْحَاقَ أَمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ، فَأُضِيفَ إِلَى إِسْحَاقَ لِيَنْكَشِفَ الْمَعْنَى وَيَزُولَ اللَّبْسُ انْتَهَى. وَبُشِّرَتْ مِنْ بَيْنِ أولاد إسحاق بيعقوب، لِأَنَّهَا رَأَتْهُ وَلَمْ تَرَ غَيْرَهُ، وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ لِسَارَةَ كَانْتَ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْمَاعِيلَ هُوَ الذَّبِيحُ، لِأَنَّ سَارَةَ حِينَ أَخْدَمَهَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ شَابَّةً جَمِيلَةً، فَاتَّخَذَ إِبْرَاهِيمُ هَاجَرَ سُرِّيَّةً، فَغَارَتْ مِنْهَا سَارَةُ،

فَخَرَجَ بِهَا وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ، وَجَاءَ مِنْ يَوْمِهِ مَكَّةَ، وَانْصَرَفَ إِلَى الشَّامِ مِنْ يَوْمِهِ، ثُمَّ كَانَتِ الْبِشَارَةُ بإسحاق وَسَارَةُ عَجُوزٌ مُحَالَةً. وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَمَّاهَا حَالَةَ الْبِشَارَةِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمَانِ حَدَثَا لَهَا وَقْتَ الْوِلَادَةِ، وَتَكُونُ الْبِشَارَةُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ بَعْدَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَحَالَةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْبِشَارَةِ ذَكَرًا باسمهما كَمَا يَقُولُ الْمُخْبِرُ: إِذَا بُشِّرَ فِي النَّوْمِ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ فَسَمَّاهُ مَثَلًا عَبْدَ اللَّهِ: بُشِّرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالنَّحْوِيَّانِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَنْ وَرَاءِ الْخَبَرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ كَائِنٌ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَوْلُودٌ أَوْ مَوْجُودٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجُمْلَةُ حَالٌ دَاخِلَةٌ فِي البشارة أي: فبشرناها بإسحاق مُتَّصِلًا بِهِ يَعْقُوبُ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، كَمَا أَجَازَهُ الْأَخْفَشُ أَيْ: وَاسْتَقَرَّ لَهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: رَفْعُهُ عَلَى الْقَطْعِ بِمَعْنَى وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَحْدُثُ يَعْقُوبُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَيَحْدُثُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يعقوب. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُ الْبِشَارَةُ انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْقَطْعِ وَالْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ الْمُقْتَضِي لِلدُّخُولِ فِي الْبِشَارَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَعْقُوبَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً، وَلَا نَاعِبٍ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ، وَالْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ لَا يَنْقَاسُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَنْتَصِبَ يَعْقُوبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ وَهَبْنَا يَعْقُوبَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَبَشَّرْنَاهَا، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْوَجْهَ أَبُو عَلِيٍّ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى لَفْظِ بِإِسْحَاقَ، أَوْ عَلَى مَوْضِعِهِ. فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بِالظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَمَعْطُوفِهِ الْمَجْرُورِ، لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْيَوْمَ وَأَمْسَ عَمْرٍو، فَإِنْ جَاءَ فَفِي شِعْرٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ مَنْصُوبًا أَوْ مَرْفُوعًا، فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافٌ نَحْوَ: قَامَ زَيْدٌ وَالْيَوْمَ عَمْرٌو، وَضَرَبْتُ زَيْدًا وَالْيَوْمَ عَمْرًا والظهر أن الألف في يا ويلتا بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ نَحْوَ: يَا لَهْفَا وَيَا عَجَبَا، وَأَمَالَ الْأَلِفَ مِنْ يا ويلتا عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْأَعْشَى، إِذْ هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يَا وَيْلَتِي بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ أَلِفُ النُّدْبَةِ، ويوقف عليها بالهاء. وأصل الدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَنَحْوِهِ فِي التَّفَجُّعِ لِشِدَّةِ مَكْرُوهٍ يَدْهَمُ النَّفْسَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدُ فِي عَجَبٍ يَدْهَمُ النَّفْسَ. وَيَا وَيْلَتَا كَلِمَةٌ تَخِفُّ عَلَى أَفْوَاهِ النِّسَاءِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِنَّ مَا يَعْجَبْنَ مِنْهُ، وَاسْتَفْهَمَتْ بِقَوْلِهَا أَأَلِدُ استفهام إنكار وتعجب،

وأنا عَجُوزٌ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَتَا حَالٍ، وَانْتَصَبَ شَيْخًا عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَبَرِ التَّقْرِيبِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ إِنَّمَا تَقَعُ بِهَذِهِ الْحَالِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ فَأَرَدْتَ أَنْ تُفِيدَ الْمُخَاطَبَ مَا كَانَ يَجْهَلُهُ، فَتَجِيءُ الْحَالُ عَلَى بَابِهَا مُسْتَغْنًى عَنْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ فِي مُصْحَفِهِ وَالْأَعْمَشُ، شَيْخٌ بِالرَّفْعِ. وَجَوَّزُوا فِيهِ. وَفِي بَعْلِي أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، وأن يكونن بعلى الخبر، وشيخ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ بَعْلِي، وَأَنْ يَكُونَ بَعْلِي بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وشيخ الْخَبَرَ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْوِلَادَةِ أَوِ الْبِشَارَةِ بِهَا تَعَجَّبَتْ مِنْ حُدُوثِ وَلَدٍ بَيْنَ شَيْخَيْنِ هَرِمَيْنِ، وَاسْتَغْرَبَتْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ، لَا إِنْكَارًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: أَيِ الْمَلَائِكَةُ أَتَعْجَبِينَ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ لِعَجَبِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي بَيْتِ الْآيَاتِ وَمَهْبِطِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، فَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَفَّرَ وَلَا يَزْدَهِيَهَا مَا يَزْدَهِي سَائِرَ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَأَنْ تُسَبِّحَ اللَّهَ وَتُمَجِّدَهُ مَكَانَ التَّعَجُّبِ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْلِهِمْ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، أَرَادُوا أَنَّ هَذِهِ وَأَمْثَالَهَا مِمَّا يُكْرِمُكُمْ رَبُّ الْعِزَّةِ وَيَخُصُّكُمْ بِالْإِنْعَامِ بِهِ يَا أَهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ؟ فَلَيْسَتْ بمكان عجيب، وأمر اللَّهُ قُدْرَتُهُ وَحِكْمَتُهُ. وَقَوْلُهُ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ عُلِّلَ بِهِ إِنْكَارُ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِيَّاكَ وَالتَّعَجُّبَ، فَإِنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ مُتَكَاثِرَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ النُّبُوَّةُ، وَالْبَرَكَاتُ الْأَسْبَاطُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْهُمْ، وَكُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ انْتَهَى. وَقِيلَ: رَحْمَتُهُ تَحِيَّتُهُ، وَبَرَكَاتُهُ فَوَاضِلُ خَيْرِهِ بِالْخِلَّةِ وَالْإِمَامَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَارَةَ قَالَتْ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا آيَةُ ذَلِكَ؟ فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَلَوَاهُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَاهْتَزَّ أَخْضَرَ، فَسَكَنَ رَوْعُهَا وَزَالَ عَجَبُهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَأْنَفَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حُصُولَ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَهُوَ مَرْجُوحٌ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمْرٌ يُتَرَجَّى وَلَمْ يَتَحَصَّلْ بَعْدُ. وأهل مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَبَيْنَ النَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ وَالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَرْقٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمَا سِيبَوَيْهِ فِي بَابَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ لَفْظٌ يَتَضَمَّنُ بِوَضْعِهِ الْمَدْحَ، كَمَا أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الذَّمِّ يَتَضَمَّنُ بِوَضْعِهِ الذَّمَّ، وَالْمَنْصُوبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَتَضَمَّنُ بِوَضْعِهِ الْمَدْحَ وَلَا الذَّمَّ كَقَوْلِهِ: بِنَا تَمِيمًا يُكْشَفُ الضَّبَابُ. وَقَوْلِهِ: وَلَا الْحَجَّاجَ عَيْنِي بِنْتُ مَاءٍ. وَخِطَابُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِمْ: أَهْلَ الْبَيْتِ، دَلِيلٌ عَلَى انْدِرَاجِ الزَّوْجَةِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي

سُورَةِ الْأَحْزَابِ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ إِذْ لَا يَعُدُّونَ الزَّوْجَةَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْبَيْتُ يُرَادُ بِهِ بَيْتُ السُّكْنَى. إِنَّهُ حَمِيدٌ: وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ تُحْمَدُ أَفْعَالُهُ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاعِلٌ مَا يُسْتَوْجَبُ مِنْ عِبَادِهِ، مَجِيدٌ كَرِيمٌ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ: الرَّوْعُ الْخِيفَةُ الَّتِي كَانَ أَوْجَسَهَا فِي نَفْسِهِ حِينَ نَكِرَ أَضْيَافَهُ، وَالْمَعْنَى: اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَالْبُشْرَى تَبْشِيرُهُ بِالْوَلَدِ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَجِيئِهِمْ غَيْرُهُ. وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ «1» وَتَقْدِيرُهُ: اجْتَرَأَ عَلَى الْخِطَابِ إِذْ فَطِنَ لِلْمُجَادَلَةِ، أَوْ قَالَ: كَيْتَ وَكَيْتَ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَأْنِفَةُ وَهِيَ يُجَادِلُنَا، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ يُجَادِلُنَا وُضِعَ الْمُضَارِعُ مَوْضِعَ الْمَاضِي، أَيْ جَادَلَنَا. وَجَازَ ذَلِكَ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى، وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ: يُجَادِلُنَا حَالٌ من إبراهيم، وجاءته حَالٌ أَيْضًا، أَوْ مِنْ ضَمِيرٍ فِي جَاءَتْهُ. وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: قُلْنَا يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، وَاخْتَارَ هَذَا التَّوْجِيهَ أَبُو عَلِيٍّ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ظَلَّ أَوْ أَخَذَ يُجَادِلُنَا، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا لِدِلَالَةِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْمُجَادَلَةُ قِيلَ: هِيَ سُؤَالُهُ الْعَذَابُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، أَمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِخَافَةِ لِيَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: تَكَلَّمَا عَلَى سَبِيلِ الشَّفَاعَةِ، وَالْمَعْنَى: تَجَادَلَ رُسُلُنَا. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُمْ لَمَّا قالوا له: إنا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين، أتهكلونها؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأَرْبَعُونَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَثَلَاثُونَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَعِشْرُونَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ عَشَرَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ شَكَّ الرَّاوِي؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ حِرْصًا عَلَى إِيمَانِ قَوْمِ لُوطٍ وَنَجَاتِهِمْ، وَكَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ إِنْسَانٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ حَلِيمٍ وَأَوَاهٍ وَمُنِيبٍ. يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْجِدَالِ وَالْمُحَاوَرَةِ فِي شَيْءٍ مَفْرُوغٍ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ مَا قَضَاهُ وَحَكَمَ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ الْوَاقِعِ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَلَا مَرَدَّ لَهُ بِجِدَالٍ، وَلَا دُعَاءٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ هَرِمٍ: وَإِنَّهُمْ أَتَاهُمْ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَعَذَابٌ فَاعِلُ بِهِ عَبِّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُضَارِعِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ «2» .

_ (1) سورة يوسف: 12/ 15. [.....] (2) سورة النحل: 16/ 1.

وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ. قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ قَرْيَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى قَرْيَةِ لُوطٍ وَبَيْنَهُمَا قِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، فَأَتَوْهَا عِشَاءً. وَقِيلَ: نِصْفَ النَّهَارِ، وَوَجَدُوا لُوطًا فِي حَرْثٍ لَهُ. وَقِيلَ: وَجَدُوا ابْنَتَهُ تَسْتَقِي مَاءً فِي نَهْرِ سَدُومَ، وَهِيَ أَكْبَرُ حَوَاضِرَ قَوْمِ لُوطٍ، فَسَأَلُوهَا الدِّلَالَةَ عَلَى مَنْ يُضَيِّفُهُمْ، وَرَأَتْ هَيْئَتَهُمْ فَخَافَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ وَقَالَتْ لَهُمْ: مَكَانَكُمْ، وَذَهَبَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تُضَيِّفَنَا اللَّيْلَةَ فَقَالَ لَهُمْ: أَوَ مَا سَمِعْتُمْ بِعَمَلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَقَالُوا: وَمَا عَمَلُهُمْ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ شَرُّ قَوْمٍ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ كَانَ اللَّهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: لَا تُعَذِّبُوهُمْ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ لُوطٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَلَمَّا قَالَ هَذِهِ قَالَ جِبْرِيلُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَتَرَدَّدَ الْقَوْلُ مِنْهُمْ حَتَّى كَرَّرَ لُوطٌ الشَّهَادَةَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ لُوطٌ الْمَدِينَةَ فَحِينَئِذٍ سِيءَ بِهِمْ أَيْ: لَحِقَهُ سُوءٌ بِسَبَبِهِمْ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ بِهِمْ، وَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أَيْ شَدِيدٌ، لِمَا كَانَ يَتَخَوَّفُهُ مِنْ تَعَدِّي قَوْمِهِ عَلَى أَضْيَافِهِ. وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، لَمَّا جَاءَ لُوطٌ بِضَيْفِهِ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَتَتْ مَجَالِسَ قَوْمِهَا فَقَالَتْ: إِنَّ لُوطًا قَدْ أَضَافَ اللَّيْلَةَ فَتْيَةً مَا رؤي مِثْلُهُمْ جَمَالًا وَكَذَا وَكَذَا، فحينئذ جاؤوا يُهْرَعُونَ أَيْ: يُسْرِعُونَ، كَمَا يَدْفَعُونَ دَفْعًا فِعْلَ الطَّامِعِ الْخَائِفِ فَوْتَ مَا يَطْلُبُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُهْرَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَهْرَعَ أَيْ يُهْرِعُهُمُ الطَّمَعُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يَهْرَعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ هرع. وقال مهلهل: فجاؤوا يَهْرَعُونَ وَهُمْ أُسَارَى ... يَقُودُهُمْ عَلَى رَغْمِ الْأُنُوفِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَيْ: كَانَ ذَلِكَ دَيْدَنَهُمْ وَعَادَتَهُمْ، أَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَمَرَنُوا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَوَّلِ إِنْشَاءِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، جاؤا يَهْرَعُونَ لَا يَكُفُّهُمْ حَيَاءٌ لِضَرَاوَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ فِي وَمِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِمْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَضْيَافِ وَطَلَبِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: وَمِنْ قَبْلِ بَعْثِ لُوطٍ رَسُولًا إِلَيْهِمْ. وَجُمِعَتِ السَّيِّئَاتُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَعْصِيَةَ إِتْيَانِ الذُّكُورِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ فَاعِلِيهَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ تكررها. وقيل: كانت سيآت كَثِيرَةً بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، مِنْهَا إِتْيَانُ الذُّكُورِ، وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَأْتِيِّ، وَحَذْفُ الْحَصَا، وَالْحَيْقُ فِي الْمَجَالِسِ وَالْأَسْوَاقِ، وَالْمُكَاءُ، وَالصَّفِيرُ، وَاللَّعِبُ بِالْحَمَامِ، وَالْقِمَارُ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالنَّاسِ فِي

الطُّرُقَاتِ، وَوَضْعُ دِرْهَمٍ عَلَى الْأَرْضِ وَهُمْ بَعِيدُونَ مِنْهُ فَمَنْ أَخَذَهُ صَاحُوا عَلَيْهِ وَخَجِلُوهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ صَبِيٌّ تَابَعُوهُ وَرَاوَدُوهُ. هَؤُلَاءِ بَنَاتِي: الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ مَجَازِيَّةً، أَيْ: بَنَاتُ قَوْمِي، أَيِ الْبَنَاتُ أَطْهَرُ لَكُمْ، إِذِ النَّبِيُّ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأَبِ لِقَوْمِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «1» وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِيمَا قِيلَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ الابنتان، وَهَذَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَأَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَيْهِ مِنْ جَمِيعِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: أَشَارَ إِلَى بَنَاتِ نَفْسِهِ وَنَدَبَهُمْ إِلَى النِّكَاحِ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَّتِهِمُ تَزْوِيجُ الْمُؤْمِنَةِ بِالْكَافِرِ. أَوْ عَلَى أَنَّ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ أَنْ يُؤْمِنُوا. وَقِيلَ: كَانَ لَهُمْ سَيِّدَانِ مُطَاعَانِ فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهُمَا ابْنَتَيْهِ زَغُورَا وَزَيْتَا. وَقِيلَ: كُنَّ ثَلَاثًا. وَمَعْنَى أَطْهَرُ: أَنْظَفُ فِعْلًا. وَقِيلَ: أَحَلُّ وَأَطْهَرُ بَيْتًا لَيْسَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، إِذْ لَا طَهَارَةَ فِي إِتْيَانِ الذُّكُورِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَطْهَرُ بِالرَّفْعِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ جُمْلَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَجُوِّزَ فِي بَنَاتِي أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وهن فصل وأطهر الْخَبَرُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السُّدِّيُّ: أَطْهَرَ بِالنَّصْبِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ لَحْنٌ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: احْتَبَى فِيهِ ابْنُ مَرْوَانَ فِي لَحْنِهِ يَعْنِي: تَرَبَّعَ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَخُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ نَصْبَ أَطْهَرَ عَلَى الْحَالِ. فَقِيلَ: هؤلاء مبتدا، وبناتي هُنَّ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ هَؤُلَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْمُبَرِّدِ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وهن مبتدأ ولكم خَبَرُهُ، وَالْعَامِلُ قِيلَ: الْمُضْمَرُ. وَقِيلَ: لَكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وهن فصل، وأطهر حَالٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَصْلَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَيْنَ جزءي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَقَعُ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَادَّعَى السَّمَاعَ فِيهِ عَنِ الْعَرَبِ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَنْ يُؤْثِرُوا الْبَنَاتِ عَلَى الْأَضْيَافِ. ولا تخزون: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخِزْيِ وَهُوَ الْفَضِيحَةُ، أَوْ مِنَ الْخَزَايَةِ وَهُوَ الِاسْتِحْيَاءُ، لِأَنَّهُ إِذَا خُزِيَ ضَيْفُ الرَّجُلِ أَوْ جَارُهُ فَقَدْ خُزِيَ هُوَ، وَذَلِكَ مِنْ عَرَاقَةِ الْكَرَمِ وَأَصْلِ الْمُرُوءَةَ. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ يَهْتَدِي إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَفِعْلِ الْجَمِيلِ، وَالْكَفِّ عَنِ السُّوءِ؟ وَفِي ذَلِكَ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ رَشِيدٌ الْبَتَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَشِيدٌ مُؤْمِنٌ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَرَشِيدٌ ذُو رُشْدٍ، أَوْ مُرْشِدٌ كَالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى مِنْ حَقٍّ مِنْ نصيب، ولا من

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 6.

غَرَضٍ وَلَا مِنْ شَهْوَةٍ، قَالُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخَلَاعَةِ. وَقِيلَ: مِنْ حَقٍّ، لِأَنَّكَ لَا تَرَى مِنَّا كُحَّتَنَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَطَبُوا بَنَاتَهُ فَرَدَّهُمْ، وَكَانَتْ سُنَّتُهُمْ أَنَّ مَنْ رُدَّ فِي خِطْبَةِ امْرَأَةٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أَبَدًا. وَقِيلَ: لَمَّا اتَّخَذُوا إِتْيَانَ الذُّكْرَانِ مَذْهَبًا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَإِنَّ نِكَاحَ الْإِنَاثِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَانُوا كُلُّهُمْ مُتَزَوِّجِينَ. وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ يَعْنِي: مِنْ إِتْيَانِ الذكور، وما لهم فِيهِ مِنَ الشَّهْوَةِ. قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً، قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَجُّعِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ كَمَا حُذِفَ فِي: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» وَتَقْدِيرُهُ: لَفَعَلْتُ بِكُمْ وَصَنَعْتُ. وَالْمَعْنَى فِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ: مَنْ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ وَيَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، شَبَّهَ الَّذِي يَمْتَنِعُ بِهِ بِالرُّكْنِ مِنَ الْجَبَلِ فِي شِدَّتِهِ وَمَنَعَتِهِ، وَكَأَنَّهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَصِرَ وَيَمْتَنِعَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ آوِي عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: أَوْ أَنِّي آوِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ إِنْ قَدَّرْتَ أَنِّي فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ أَيْ: لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً، أَوْ آوِي. وَيَكُونُ الْمُضَارِعُ الْمُقَدَّرُ وَآوِي هَذَا وَقَعَا مَوْقِعَ الْمَاضِي، وَلَوِ الَّتِي هِيَ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ نَقَلَتِ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي، وَإِنْ قَدَّرْتَ أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةً اسْمِيَّةً عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَوْ تَأْتِي بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ اسْمِيَّةً إِذَا كَانَ الَّذِي يَنْسَبِكُ إِلَيْهَا أَنَّ وَمَعْمُولَاهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْ آوِي مُسْتَأْنَفًا انْتَهَى. وَيَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، وَيَكُونُ قَدْ أَضْرَبَ عَنِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَقَالَ: بَلْ آوِي فِي حَالِي مَعَكُمْ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ جَنَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ شَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: أَوْ آوِي بِنَصْبِ الْيَاءِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ، أَوْ فَتَتَقَدَّرُ بِالْمَصْدَرِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: قُوَّةً. وَنَظِيرُهُ مِنَ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ أَوْ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْلَا رِجَالٌ مِنْ رِزَامَ أَعِزَّةٌ ... وآل سُبَيْعٍ أَوْ يَسُوؤُكَ عَلْقَمَا أَيْ أَوْ وَمُسَاءَتُكَ عَلْقَمًا. قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما

_ (1) سورة الرعد: 13/ 31.

هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ: رُوِيَ أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ غَلَبُوهُ، وَهَمُّوا بِكَسْرِ الْبَابِ وَهُوَ يُمْسِكُهُ قَالَ لَهُ الرُّسُلُ: تَنَحَّ عَنِ الْبَابِ فَتَنَحَّى، وَانْفَتَحَ الْبَابُ فَضَرَبَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ، فَطَمَسَ أَعْيُنَهُمْ وَعُمُوا، وَانْصَرَفُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَقُولُونَ: النَّجَاةَ النَّجَاةَ، فَعِنْدَ لُوطٍ قَوْمٌ سَحَرَةٌ وَتَوَعَّدُوا لُوطًا، فَحِينَئِذٍ قَالُوا لَهُ: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ. وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَقَبَ مِنْ خَصَاصِ الْبَابِ، وَرَمَى فِي أَعْيُنِهِمْ فَعُمُوا. وَقِيلَ: أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ وَأَذْرَاهَا فِي وجوههم، فأوصل إِلَى عَيْنِ مَنْ بَعُدُ وَمَنْ قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، فَطُمِسَتْ أَعْيُنُهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقًا وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ. وَقِيلَ: كَسَرُوا بَابَهُ وَتَهَجَّمُوا عَلَيْهِ، فَفَعَلَ بِهِمْ جِبْرِيلُ مَا فَعَلَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، مُوَضِّحَةٌ لِلَّذِي قَبْلَهَا لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ لَنْ يَصْلُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ضَرَرِهِ، ثُمَّ أَمَرُوهُ بِأَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ: فَأَسْرِ، وَأَنِ أَسْرِ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مِنْ سَرَى، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِقَطْعِهَا، وَأَهْلُهُ ابْنَتَاهُ، وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِبَقِيَّةٍ مِنْ آخِرِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرٍ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَيْ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: بِظُلْمَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نِصْفٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نِصْفُ اللَّيْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَطْعِهِ نِصْفَيْنِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَنَائِحَةٌ تَنُوحُ بِقِطْعِ لَيْلٍ ... عَلَى رَجُلٍ بِقَارِعَةِ الصَّعِيدِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ: السَّحَرُ، لِقَوْلِهِ: نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَسْرَى بِأَهْلِهِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ حَتَّى جَاوَزَ الْبَلَدَ الْمُقْتَلَعَ، وَوَقَعَتْ نَجَاتُهُ بِسَحَرٍ. فَتَجْتَمِعُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ قَوْلِهِ إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ «1» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْقِطْعُ بِمَعْنَى الْقِطْعَةُ، مُخْتَصٌّ بِاللَّيْلِ، وَلَا يُقَالُ عِنْدِي قِطْعٌ مِنَ الثَّوْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: إِلَّا امْرَأَتَكَ بِالرَّفْعِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالنَّصْبِ. فَوَجْهُ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ بِأَهْلِكَ، إِذْ قَبْلَهُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْوَاجِبِ. وَيَتَعَيَّنُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَهْلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، إِذْ سَقَطَ فِي قِرَاءَتِهِ وَفِي مُصْحَفِهِ: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ نَهْيٌ، وَالنَّهْيُ كَالنَّفْيِ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ بِالنَّصْبِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ نَفْيٌ. وَوَجْهُ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ أَحَدٍ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَوْ كَانَ الْكَلَامُ وَلَا يَلْتَفِتْ بِرَفْعِ الْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ نَهْيٌ. فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ الْمَرْأَةَ مِنْ أَحَدٌ وَجَبَ أَنْ تكون المرأة أبيح

_ (1) سورة القمر: 54/ 34.

لَهَا الِالْتِفَاتُ، فَيُفِيدُ مَعْنَى الْآيَةِ يَعْنِي أَنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ إِلَّا امْرَأَتُكَ، فَإِنَّهَا لَمْ تُنْهَ عَنْ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ حَسَنٌ يَلْزَمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَحَدٌ رَفَعْتَ التَّاءَ أَوْ نَصَبْتَ، وَالِانْفِصَالُ عَنْهُ يَتَرَتَّبُ بِكَلَامٍ مَحْكِيٍّ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ لُوطٌ وَحْدَهُ، وَالِالْتِفَاتَ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ، فَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَلْتَفِتُ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ: لَا يَقُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ، وَأُولَئِكَ لَمْ يَسْمَعُوكَ، فالمعنى: لا تدع مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُومُ، وَالْقِيَامُ فِي الْمَعْنَى مَنْفِيٌ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي إِخْرَاجِهَا مَعَ أَهْلِهِ رِوَايَتَانِ: رُوِيَ أَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَعَهُمْ وَأُمِرَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا هِيَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ هَدَّةَ العذاب التفتت وقالت: وا قوماه، فَأَدْرَكَهَا حَجَرٌ فَقَتَلَهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يُخَلِّفَهَا مَعَ قَوْمِهَا، وَأَنَّ هَوَاهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَسِرْ بِهَا. وَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ فَاحِشٌ إِذْ بَنَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ أَنَّهُ سَرَى بِهَا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْرِ بِهَا، وَهَذَا تَكَاذُبٌ فِي الْأَخْبَارِ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَتَانِ وَهْمًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَتَرَتَّبَانِ عَلَى التَّكَاذُبِ. وَقِيلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْأَهْلِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، إِذْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ سَرَى بِهَا، وَلَمَّا الْتَفَتَتْ كَانَتْ قَدْ سَرَتْ مَعَهُمْ قَطْعًا، وَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَسْرِ بِهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا تَبِعَتْهُمُ الْتَفَتَتْ. وَقِيلَ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُنْقَطِعٌ، لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَأْمُورِ بِالْإِسْرَاءِ بِهِمْ، وَلَا مِنَ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الِالْتِفَاتِ، وَلَكِنِ اسْتُؤْنِفَ الْإِخْبَارُ عَنْهَا، فَالْمَعْنَى: لَكِنَّ امْرَأَتَكَ يَجْرِي لَهَا كَذَا وَكَذَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَتْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَلَيْسَ فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ الْبَتَّةَ قَالَ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ، فَلَمْ تَقَعِ الْعِنَايَةُ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِذِكْرِ مِنْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. فَجَاءَ شَرْحُ حَالِ امْرَأَتِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا بِالْإِخْرَاجِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَإِذَا اتَّضَحَ هَذَا الْمَعْنَى عُلِمَ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ وَرَدَتَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، فَفِيهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ. فَالنَّصْبُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَالرَّفْعُ لِبَنِي تَمِيمٍ وَعَلَيْهِ اثْنَانِ مِنَ الْقُرَّاءِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي طُوِّلَ بِهِ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُقْصَدْ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَأْمُورِ بِالْإِسْرَاءِ بِهِمْ وَلَا مِنَ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الِالْتِفَاتِ، وَجُعِلَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ الَّذِي لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْعَامِلُ بِحَالٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَجِبُ فِيهِ النَّصْبُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ فِيهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ بِاعْتِبَارِ اللُّغَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ. وَفِي كِلَا النَّوْعَيْنِ يَكُونَ مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ،

فَكَوْنُهُ جَازَ فِيهِ اللُّغَتَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ، وَهُوَ قَدْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُهَا عَنِ الْمَأْمُورِ بِالْإِسْرَاءِ بِهِمْ، وَلَا مِنَ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الِالْتِفَاتِ، فَكَانَ يَجِبُ فِيهِ إِذْ ذَاكَ النَّصْبُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَلْتَفِتْ، مِنَ الْتِفَاتِ الْبَصَرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مِنْ لَفَتَ الشَّيْءَ يَلْفِتُهُ إِذَا ثَنَاهُ وَلَوَاهُ، فَمَعْنَاهُ: وَلَا يَتَثَبَّطْ. وَفِي كِتَابِ الزَّهْرَاوِيِّ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إِلَى مَا خَلَّفَ بَلْ يَخْرُجْ مُسْرِعًا. وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، ومصيبها مبتدأ، وما أَصَابَهُمْ الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مصيبها خبر إن، وما أَصَابَهُمْ فَاعِلَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ إِنَّهُ قَائِمٌ أَخَوَاكَ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لَا يَكُونُ خَبَرُهُ إلا جملة مصرحا بجزأيها، فَلَا يَجُوزُ هَذَا الْإِعْرَابُ عِنْدَهُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: الصُّبُحُ بِضَمِّ الْبَاءِ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةٌ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِتْبَاعًا وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: إِنَّ مَوْعِدَ هَلَاكِهِمُ الصُّبْحُ. وَيُرْوَى أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ وَجُعِلَ الصُّبْحُ مِيقَاتًا لِهَلَاكِهِمْ، لِأَنَّ النُّفُوسَ فِيهِ أَوْدَعُ، وَالرَّاحَةَ فِيهِ أَجْمَعُ. وَيُرْوَى أَنَّ لُوطًا خَرَجَ بِابْنَتَيْهِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُمَا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَطَوَى اللَّهُ لَهُ الْأَرْضَ فِي وَقْتِهِ حَتَّى نَجَا، وَوَصَلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالضَّمِيرُ فِي عَالِيَهَا عَائِدٌ عَلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ، جَعَلَ جِبْرِيلُ جَنَاحَهُ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نُبَاحَ الْكِلَابِ وَصِيَاحَ الدِّيَكَةِ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَأُتْبِعُوا الْحِجَارَةَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَهِيَ الْمُؤْتَفِكَاتُ سَبْعُ مَدَائِنَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ عَدَّهَا الْمُفَسِّرُونَ، وَفِي ضَبْطِهَا إِشْكَالٌ، فَأَهْمَلْتُ ذِكْرَهَا. وسدوم هي الْقَرْيَةِ الْعُظْمَى، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا أَيْ عَلَى أَهْلِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ الْحِجَارَةَ أَصَابَتْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ خَارِجَ مُدُنِهِمْ حَتَّى قَتَلَتْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي الْحَرَمِ فَبَقِيَ الْحَجَرُ مُعَلَّقًا فِي الْهَوَاءِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ الْحَجَرُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ زَيْدٍ: السِّجِّيلُ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوَصْفِهِ بِمَنْضُودٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ: مِنْ أَسْجَلَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ، وَقِيلَ: مِمَّا كَتَبَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَ بِهِ مِنَ السِّجِلِّ، وَسَجَّلَ لِفُلَانٍ. وَمَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ: مَاءٌ وَطِينٌ، هَذَا قَوْلِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وعكرمة، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْحِجَارَةَ الَّتِي رُمُوا بِهَا كَانَتْ كَالْآجُرِّ الْمَطْبُوخِ. وَقِيلَ: حَجَرٌ مَخْلُوطٌ بِطِينٍ أَيْ حَجَرٌ وَطِينٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ هَذَا إِلَى الْآجُرِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّدِيدُ مِنَ الْحِجَارَةِ الصُّلْبُ، مُسَوَّمَةً عَلَيْهَا سِيمَا يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةِ الْأَرْضِ قَالَهُ: ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ كَانَ فِيهَا بَيَاضٌ. وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ رُمِيَ بِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ: بَيَاضٌ فِي

[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 108]

حُمْرَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْحَجَرُ أَبْيَضُ فِيهِ نُقْطَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَسْوَدُ فِيهِ نُقْطَةٌ بَيْضَاءُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَيْضًا: فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْجِزْعِ. وقيل: وكانت مثل رؤوس الْإِبِلِ، وَمِثْلَ مَبَارِكِ الْإِبِلِ. وَقِيلَ: قَبْضَةُ الرَّجُلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَى مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، جَاءَتْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: مُعَدَّةٌ عِنْدَ رَبِّكَ قَالَهُ: أبو بكر الهذلي. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى لَزِمَ هَذَا التَّسْوِيمُ الْحِجَارَةَ عِنْدَ اللَّهِ إِيذَانًا بِنَفَاذِ قُدْرَتِهِ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ هِيَ عَائِدٌ عَلَى الْقُرَى الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ أَعَالِيَهَا أَسَافِلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَوَاتِ هَذِهِ الْمُدُنِ كَانَتْ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، يَمُرُّ عَلَيْهَا قُرَيْشٌ فِي مَسِيرِهِمْ، فَالنَّظَرُ إِلَيْهَا وَفِيهَا فِيهِ اعْتِبَارٌ وَاتِّعَاظٌ. وَقِيلَ: هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى الْحِجَارَةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا عُقُوبَتُهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ بِبَعِيدٍ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الظَّالِمِينَ. وَقِيلَ: عُنِيَ بِهِ قُرَيْشٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقِيلَ: قَوْمُ لُوطٍ أَيْ: لَمْ تَكُنِ الْحِجَارَةُ تُخْطِئُهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «سَيَكُونُ فِي أَوَاخِرِ أُمَّتِي قَوْمٌ يَكْتَفِي رِجَالُهُمْ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَارْتَقِبُوا عَذَابَ قَوْمِ لُوطٍ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ثُمَّ تَلَا وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا هِيَ، عائد عَلَى الْحِجَارَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ وَهِيَ مَكَانٌ بَعِيدٌ، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا هَوِيَتْ مِنْهَا فَهِيَ أَسْرَعُ شَيْءٍ لُحُوقًا بِالْمَرْمِيِّ، فَكَأَنَّهَا بِمَكَانٍ قريب منه. [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

الرَّهْطُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ جَمَاعَةُ الرَّجُلِ، وَقِيلَ: الرَّهْطُ وَالرَّاهِطُ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا يَقَعُ الرَّهْطُ وَالْعُصْبَةُ وَالنَّفَرُ إِلَّا عَلَى الرِّجَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَقِيلَ: إِلَى التِّسْعَةِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْهُطٍ، وَيَجْمَعُ أَرْهُطٌ عَلَى أَرَاهِطَ، فَهُوَ جَمْعُ جَمْعٍ. قَالَ الرُّمَّانِيُّ: وَأَصْلُ الرَّهْطِ الشَّدُّ، وَمِنْهُ الرَّهِيطُ شِدَّةُ الْأَكْلِ، وَالرَّاهِطُ اسْمٌ لِجُحْرِ الْيَرْبُوعِ لِأَنَّهُ يَتَوَثَّقُ بِهِ وَيُخَبِّأُ فِيهِ وَلَدَهُ. الْوِرْدُ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ وُرُودُ الْقَوْمِ الْمَاءَ، وَالْوِرْدُ الْإِبِلُ الْوَارِدَةُ انْتَهَى. فَيَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْوُرُودُ، وَاسْمَ مَفْعُولٍ فِي الْمَعْنَى كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ. رَفَدَ الرَّجُلُ يَرْفِدُهُ رَفْدًا وَرِفْدَا أَعْطَاهُ وَأَعَانَهُ، مِنْ رَفَدَ الْحَائِطَ دَعَمَهُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الرَّفْدُ بِالْفَتْحِ الْقَدْحُ، وَالرِّفْدُ بِالْكَسْرِ مَا فِي الْقَدَحِ مِنَ الشَّرَابِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: أَصْلُ الرَّفْدِ الْعَطَاءُ وَالْمَعُونَةُ، وَمِنْهُ رِفَادَةُ قُرَيْشٍ يُقَالُ رَفَدَهُ يَرْفِدُهُ رِفْدًا وَرَفْدًا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. التَّتْبِيبُ التَّخْسِيرُ، تَبَّ خَسِرَ، وَتَبَّهُ خَسِرَهُ. وَقَالَ لَبِيدٌ: وَلَقَدْ بُلِيتُ وَكُلُّ صَاحِبِ جِدَّةٍ ... يَبْلَى بِعُودٍ وَذَاكُمُ التَّتْبِيبُ الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ: زَعَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الزَّفِيرَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقَ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ نَهِيقِهِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ: حَشْرَجَ فِي الصَّدْرِ صَهِيلًا وَشَهِقَ ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقَ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشَّهِيقُ ضِدُّ الزَّفِيرِ، لِأَنَّ الشَّهِيقَ رَدُّ النَّفَسِ، وَالزَّفِيرَ إِخْرَاجُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْجَرْيِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّفْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الظَّهْرِ لِشِدَّتِهِ. وَقَالَ الشَّمَّاخُ: بَعِيدٌ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ ... زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ وَالشَّهِيقُ النَّفَسُ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ أَيْ طَوِيلٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الزَّفِيرُ أَنْ يَمْلَأَ الرَّجُلُ صَدْرَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْغَمِّ الشَّدِيدِ مِنَ النَّفَسِ وَيُخْرِجَهُ، وَالشَّهِيقُ أَنْ يُخْرِجَ ذَلِكَ النَّفَسَ بِشِدَّةٍ يُقَالُ: إِنَّهُ عَظِيمُ الزَّفْرَةِ. الشَّقَاءُ نكد العيش. وسوؤه. يُقَالُ مِنْهُ: شَقَى يَشْقَى شَقَاءً وَشِقْوَةً وَشَقَاوَةً وَالسَّعَادَةُ

ضِدُّهُ، يُقَالُ مِنْهُ: سَعِدَ يَسْعَدُ. وَيُعَدَّيَانِ بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَشْقَاهُ اللَّهُ، وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ. وقد قرىء شقوا وسعدوا بِضَمِّ الشِّينِ وَالسِّينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَدَّيَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَسْعُودٌ، وَذُكِرَ أَنَّ الْفَرَّاءَ حَكَى أَنْ هُذَيْلًا تَقُولُ: سَعِدَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَسْعَدَهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: سَعِدَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ سَعِيدٌ، مِثْلَ سَلِمَ فَهُوَ سَلِيمٌ، وَسَعِدَ فَهُوَ مَسْعُودٌ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ: وَرَدَ سَعِدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَسْعُودٌ، وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مُسْعَدٌ. الْجَذُّ الْقَطْعُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: جَذَذْتُ وَجَدَدْتُ، وَهُوَ بِالذَّالِ أَكْثَرُ. قَالَ النَّابِغَةُ: تجذ السلوقي المضاعف يسجه ... وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ: كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَبْدَةَ أَوْثَانٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَبِالْكُفْرِ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ، وَلَمْ يُعَذِّبِ اللَّهُ أُمَّةً عَذَابَ اسْتِئْصَالٍ إِلَّا بِالْكُفْرِ، وَإِنِ انْضَافَتْ إِلَى ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ كَانَتْ تَابِعَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِخَيْرٍ أَيْ: فِي رُخْصِ الْأَسْعَارِ وَعَذَابُ الْيَوْمِ الْمُحِيطِ، هُوَ حُلُولُ الْغَلَاءِ الْمُهْلِكِ. وَيَنْظُرُ هَذَا التَّأْوِيلُ إِلَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا ارْتَفَعَ عَنْهُمُ الرِّزْقُ» وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ بِخَيْرٍ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْوَفَاءِ لَا لِلنَّقْصِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بِثَرْوَةٍ وسعة تُغْنِيكُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ، أَوْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ حَقُّهَا أَنْ تَقَابَلَ بِغَيْرِ مَا تَفْعَلُونَ، أَوْ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ فَلَا تُزِيلُوهُ عَنْكُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. يَوْمٍ مُحِيطٍ أَيْ: مُهْلِكٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ «1» وَأَصْلُهُ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ فِي آخِرِهِ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْإِحَاطَةِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ بِهِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ زَمَانٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَوَادِثِ، فَإِذَا أَحَاطَ بِعَذَابِهِ فَقَدِ اجْتَمَعَ لِلْمُعَذَّبِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا أَحَاطَ بِنَعِيمِهِ. وَنُهُوا أَوَّلًا: عَنِ الْقَبِيحِ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ وَهُوَ نَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَفِي التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ نَعْيٌ عَلَى الْمَنْهِيِّ وَتَعْيِيرٌ لَهُ. وَأُمِرُوا ثَانِيًا: بِإِيفَائِهِمَا مُصَرَّحًا بِلَفْظِهِمَا تَرْغِيبًا فِي الْإِيفَاءِ، وَبَعْثًا عَلَيْهِ. وَجِيءَ بِالْقِسْطِ لِيَكُونَ الْإِيفَاءُ عَلَى جِهَةِ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ وَهُوَ الْوَاجِبُ، لِأَنَّ مَا جَاوَزَ الْعَدْلَ فضل وأمر منذوب إِلَيْهِ. وَنُهُوا ثَالِثًا: عَنْ نقص

_ (1) سورة الكهف: 18/ 42.

النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَهُوَ عَامٌّ فِي النَّاسِ، وَفِيمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ مِمَّا تُكَالُ وَتُوزَنُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَنُهُوا رَابِعًا: عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا أَوْ غَيْرَهُ، فَبَدَأَهُمْ أَوَّلًا بِالْمَعْصِيَةِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى عَامٍّ، ثُمَّ إِلَى أَعَمَّ مِنْهُ وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي النُّصْحِ لَهُمْ وَلُطْفٌ فِي اسْتِدْرَاجِهِمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَتَفْسِيرُ مَعَانِي هَذِهِ الْجُمَلِ سَبَقَ فِي الْأَعْرَافِ. بَقِيَّةُ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَبْقَى اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بَعْدَ الْإِيفَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْبَخْسِ، وَعَنْهُ رِزْقُ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ: طَاعَةُ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَحْمَةُ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَخِيرَةُ اللَّهِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَصِيَّةُ اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ثَوَابُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ: مُرَاقَبَةُ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَرَائِضُ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا أَبْقَاهُ اللَّهُ حَلَالًا لَكُمْ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُعْطِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عِنْدِي إِبْقَاءُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِنْ أَطَعْتُمْ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، شَرْطٌ فِي أَنْ يَكُونَ الْبَقِيَّةُ خَيْرًا لَهُمْ، وَأَمَّا مَعَ الْكُفْرِ فَلَا خَيْرَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَجَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مُتَقَدِّمٌ. وَالْحَفِيظُ الْمُرَاقِبُ الَّذِي يَحْفَظُ أَحْوَالَ مَنْ يَرْقُبُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ، وَالْحَفِيظُ الْمُحَاسِبُ هُوَ الَّذِي يُجَازِيكُمْ بِالْأَعْمَالِ انْتَهَى. وَلَيْسَ جَوَابُ الشَّرْطِ مُتَقَدِّمًا كَمَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِتَرْكِ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ كَفَرَةٌ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَا يَبْقَى لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً «1» وَإِضَافَةُ الْبَقِيَّةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا رِزْقُهُ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُسَمَّى رِزْقًا انْتَهَى، عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الرِّزْقِ، وَقَرَأَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: بَقِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لُغَةٌ انْتَهَى. وَذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَ فَعِلَ اللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ نَحْوَ: سَجِيَتْ الْمَرْأَةُ فَهِيَ سَجِيَةٌ، فَإِذَا شَدَّدْتَ الْيَاءَ كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَقِيَّةُ بِالتَّاءِ، وَهِيَ تَقْوَاهُ وَمُرَاقَبَتُهُ الصَّارِفَةُ عَنِ الْمَعَاصِي. قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي

_ (1) سورة الكهف: 18/ 46.

إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ. وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ: لَمَّا أَمَرَهُمْ شُعَيْبٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ، وَبِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، رَدُّوا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْهُزْءِ بِقَوْلِهِمْ: أَصَلَاتُكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى تَغَامَزُوا وَتَضَاحَكُوا أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ «1» أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ «2» وَكَوْنُ الصَّلَاةِ آمِرَةً هُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، كَمَا كَانَتْ نَاهِيَةً فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «3» أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا تَأْمُرُ بِالْجَمِيلِ وَالْمَعْرُوفِ أَيْ: تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَبْعَثُ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّهُمْ سَاقُوا الْكَلَامَ مَسَاقَ الطَّنْزِ، وَجَعَلُوا الصَّلَاةَ آمِرَةً عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِصَلَاتِهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَمْرُكَ بِتَكْلِيفِنَا أَنْ نَتْرُكَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالصَّلَاةِ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ. وَقِيلَ: أُرِيدُ قِرَاءَتُكَ. وَقِيلَ: مَسَاجِدَكَ. وَقِيلَ: دَعَوَاتَكَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: أَصَلَاتُكَ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ: نَفْعَلُ بِالنُّونِ، مَا نَشَاءُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ فِيهِمَا فَقَوْلُهُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ أَيْ: أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَفِعْلَنَا فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا أَوْ بِالنُّونِ فِيهِمَا فَمَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ نَتْرُكَ أَيْ: تَأْمُرُكَ بِتَرْكِ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَفِعْلِكِ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ، أَوْ وَفِعْلِنَا فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ. وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ: تَأْمُرُكَ مَرَّةً بِهَذَا، وَمَرَّةً بِهَذَا. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي أَمْوَالِهِمْ هُوَ بَخْسُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَرْضُهُمُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ، وَإِجْرَاءُ ذَلِكَ مَعَ الصَّحِيحِ عَلَى جِهَةِ التَّدْلِيسِ، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: تَبْدِيلُ السِّكَكِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا أَوْ فِي نَشَاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِيفَاءُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالزَّكَاةِ. وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عنه

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 59. (2) سورة هود: 11/ 84. (3) سورة العنكبوت: 29/ 45.

بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْجَمِيلَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الْحَقِيقَةَ أَيْ: إِنَّكَ لَلْمُتَّصِفُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَكَيْفَ وَقَعْتَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ مُخَالَفَتِكَ دِينَ آبَائِنَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَمِثْلُكَ مَنْ يَمْنَعُهُ حِلْمُهُ وَرُشْدُهُ عَنْ ذَلِكَ. أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ بِزَعْمِكَ إِذْ تَأْمُرُنَا بِمَا تَأْمُرُ بِهِ. أَوْ يَحْتَمِلُ أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّهَكُّمِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالْمُرَادُ: نِسْبَتُهُ إِلَى الطَّيْشِ وَالْعِيِّ كَمَا تَقُولُ لِلشَّحِيحِ: لَوْ رَآكَ حَاتِمٌ لَسَجَدَ لَكَ، وَقَالُوا لِلْحَبَشِيِّ: أَبُو الْبَيْضَاءِ. قَالَ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ هَذِهِ مُرَاجَعَةٌ لَطِيفَةٌ وَاسْتِنْزَالٌ حَسَنٌ، وَاسْتِدْعَاءٌ رَقِيقٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ» وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ عِنْدَ أَرْبَابِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ نَوْعٌ لَطِيفٌ غَرِيبُ الْمَغْزَى يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى بُلُوغِ الْغَرَضِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَبِيهِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ، وَفِي قِصَّةِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ قَوْمِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيْنَ جَوَابُ أَرَأَيْتُمْ، وما له لَمْ يَثْبُتْ كَمَا ثَبَتَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَصَالِحٍ؟ (قُلْتُ) : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ فِي الصِّفَتَيْنِ دَلَّ عَلَى مَكَانِهِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ يُنَاوِي عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ وَيَقِينٍ مِنْ رَبِّي، وَكُنْتُ نَبِيًّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَيَصِحُّ لِي أَنْ لَا آمُرَكُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالْأَنْبِيَاءُ لَا يُبْعَثُونَ إِلَّا لِذَلِكَ انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ هَذَا جَوَابًا لِأَرَأَيْتُمْ لَيْسَ بِالْمُصْطَلَحِ، بَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَدَّرَهَا هِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتُمْ، لِأَنَّ أَرَأَيْتُمْ إِذَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى أَخْبِرْنِي تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْغَالِبُ فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً تَنْعَقِدُ مِنْهَا وَمِنَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي الْأَصْلِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: أرأيتك زيدا ما صنع. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الكلام عليه، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَعْدِلْ عَنْ مَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَضِلُّ كَمَا ضَلَلْتُمْ، أَوْ أَتْرُكُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَلِيقُ بِهَذِهِ الْمُحَاجَّةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: أَضِلُّ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُثْبَتًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ اسْتِفْهَامًا حُذِفَ مِنْهُ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ مَعَ مُتَعَلِّقِهَا. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: رِزْقًا حَسَنًا أَنَّهُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا تَطْفِيفٍ أَدْخَلْتُمُوهُ أَمْوَالَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَلَالُ، وَكَانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرَ الْمَالِ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ. وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الْمَعْنَى: لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الشَّيْءَ

الَّذِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنْ نَقْصِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَأَسْتَأْثِرَ بِالْمَالِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ ثُمَّ أَرْتَكِبُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ فِي السِّرِّ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ. وَيُقَالُ: خَالَفَنِي فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ، وَخَالَفَنِي عَنْهُ إِذَا وَلَّى عَنْهُ وَأَنْتَ قَاصِدُهُ، وَيَلْقَاكَ الرَّجُلُ صَادِرًا عَنِ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَتَقُولُ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ، تُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَارِدًا، وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا. وَالْمَعْنَى أَنْ أَسْبِقَكُمْ إِلَى شَهَوَاتِكُمُ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا لَأَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَكُمْ، فَعَلَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ أُخَالِفَكُمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِأُرِيدُ، أَيْ وَمَا أُرِيدُ مُخَالَفَتَكُمْ، وَيَكُونُ خَالَفَ بِمَعْنَى خَلَفَ نَحْوَ: جَاوَزَ وَجَازَ أَيْ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَخْلُفَكُمْ أَيْ: أَكُونُ خَلَفًا مِنْكُمْ. وَتَتَعَلَّقُ إِلَى بِأُخَالِفَكُمْ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: مَائِلًا إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ إِلَى تَقْدِيرِهِ: وَأَمِيلُ إِلَى، أَوْ يَبْقَى أَنْ أُخَالِفَكُمْ عَلَى ظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ بِأُرِيدُ، وَتُقَدَّرُ: مَائِلًا إِلَى، أَوْ يَكُونُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَتَتَعَلَّقُ إِلَى بِقَوْلِهِ وَمَا أُرِيدُ بِمَعْنَى، وَمَا أَقْصِدُ أَيْ: وَمَا أَقْصِدُ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا أَقْصِدُ بِخِلَافِكُمْ إِلَى ارْتِكَابِ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ مُدَّةُ اسْتِطَاعَتِي لِلْإِصْلَاحِ، وَمَا دُمْتُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ لَا آلُوا فِيهِ جُهْدًا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْإِصْلَاحِ أَيِ: الْمُقَدَّرُ الَّذِي اسْتَطَعْتُهُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا الْإِصْلَاحَ إِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ فِي الْبَدَلِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا كَقَوْلِهِ: ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ. أَيْ مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَ مَا اسْتَطَعْتُ إِصْلَاحَهُ مِنْ فَاسِدِكُمْ، وَهَذَا الثَّالِثُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُعَرَّفَ بِأَلْ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُهُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَإِعْمَالُهُ عِنْدَهُمْ فِيهِ قَلِيلٌ. وَمَا تَوْفِيقِي أَيْ لِدُعَائِكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ. أَوْ وَمَا تَوْفِيقِي لِأَنْ تَكُونَ أَفْعَالِي مُسَدَّدَةً مُوَافِقَةً لِرِضَا اللَّهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أَرْجِعُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِي وَأَفْعَالِي. وَفِي هَذَا طَلَبُ التَّأْيِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ وَحَسْمٌ لِأَطْمَاعِهِمْ أَنْ يَنَالُوهُ بِشَرٍّ. وَمَعْنَى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ: لَا يُكْسِبَنَّكُمْ شِقَاقِي، أَيْ خِلَافِي وَعَدَاوَتِي. قَالَ السُّدِّيُّ: كَأَنَّهُ فِي شِقٍّ وَهُمْ فِي شِقٍّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ضِرَارِي جَعَلَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقِيلَ: فِرَاقِي. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَجْرَمَ، وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى ابْنِ كَثِيرٍ، وَجَرَمَ فِي التَّعْدِيَةِ مِثْلُ كَسَبَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ. جَرَمَ فُلَانٌ

الذَّنْبَ، وَكَسَبَ زَيْدٌ الْمَالَ، وَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ جَرَّمْتُ زَيْدًا الذَّنْبَ، وَكَسَّبْتُ زَيْدًا الْمَالَ. وَبِالْأَلِفِ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ أَيْضًا، أَجْرَمَ زَيْدٌ عَمْرًا الذَّنْبَ، وَأَكْسَبْتُ زَيْدًا الْمَالَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَرَمَ فِي الْعُقُودِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ: مِثْلَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَخُرِّجَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن تَكُونَ الْفُتْحَةُ فُتْحَةَ بِنَاءٍ، وَهُوَ فَاعِلٌ كَحَالِهِ حِينَ كَانَ مَرْفُوعًا، وَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ جَازَ فِيهِ الْبِنَاءُ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. وَالثَّانِي: أن تكون الفتحة فتحة إِعْرَابٍ، وَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِصَابَةً مِثْلَ إِصَابَةِ قَوْمِ نُوحٍ. وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَيْ: أَنْ يُصِيبَكُمْ هُوَ أَيِ الْعَذَابُ. وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، إِمَّا فِي الزَّمَانِ لِقُرْبِ عَهْدِ هَلَاكِهِمْ مِنْ عَهْدِكُمْ، إِذْ هُمْ أَقْرَبُ الْهَالِكِينَ، وَإِمَّا فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْهَلَاكُ. وَأَجْرَى بَعِيدًا عَلَى قَوْمٍ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، أَيْ: بِزَمَانٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ. أَوْ بِاعْتِبَارِ مَوْصُوفٍ غَيْرِهِمَا أَيْ: بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ إِلَى قَوْمٍ أَيْ: وَمَا إِهْلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى فِي قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ وَكَثِيرٍ وَقَلِيلٍ بَيْنَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَبَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالُوا: هُوَ صَدِيقٌ، وَهُمْ صَدِيقٌ، وَهِيَ صَدِيقٌ، وَهُنَّ صديق. وودود بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنْ وَدَّ الشَّيْءَ أَحَبَّهُ وَآثَرَهُ، وَهُوَ عَلَى فَعَلَ. وَسَمِعَ الْكِسَائِيُّ: وَدَدَتُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَالْمَصْدَرُ ود ووداد وَوِدَادَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَدُودٌ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَدُودٌ مُتَحَبِّبٌ إِلَى عِبَادِهِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: مَحْبُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَتُهُ لِعِبَادِهِ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ سَبَبٌ فِي اسْتِغْفَارِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَفَّقَهُمْ إِلَى اسْتِغْفَارِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَفْعَلُ بِهِمْ فِعْلَ الْوَادِّ بِمَنْ يَوَدُّهُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ: كَانُوا لَا يُلْقُونَ إِلَيْهِ أَذْهَانَهُمْ، وَلَا يُصْغُونَ لِكَلَامِهِ رَغْبَةً عَنْهُ وَكَرَاهَةً لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ «1»

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 25.

أَوْ كَانُوا يَفْهَمُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهَانَةِ بِهِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يَعْبَأْ بِحَدِيثِهِ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ. أَوْ جَعَلُوا كَلَامَهُ هَذَيَانًا وَتَخْلِيطًا لَا يُتَفَهَّمُ كَثِيرٌ مِنْهُ، وَكَيْفَ لَا يُتَفَهَّمُ كَلَامُهُ وَهُوَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ الذي جاورهم بِهِ مِنَ الْكَلَامِ وَخَاطَبَهُمْ بِهِ هُوَ مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ وَأَجَلِّهِ وَأَدَلِّهِ عَلَى مَعَانِيهِ بِحَيْثُ يَفْقَهُهُ مَنْ كَانَ بَعِيدَ الْفَهْمِ، فَضْلًا عَنِ الْأَذْكِيَاءِ الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ خِذْلَانَهُمْ. وَمَعْنَى ضَعِيفًا: لَا قُوَّةَ لَكَ وَلَا عِزَّ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الامتناع منا إِنْ أَرَدْنَاكَ بِمَكْرُوهٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ: ضَعِيفًا مَهِينًا. وَقِيلَ: كَانَ نَاحِلَ الْبَدَنِ زَمِنَهُ لَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ هَيْبَةٌ وَلَا فِي الْعَيْنِ مِنْهُ امْتِلَاءٌ ، وَالْعَرَبُ تُعَظِّمُ بِكِبَرِ الْأَجْسَامِ، وَتَذُمُّ بِدَمَامَتِهَا. وَقَالَ الْبَاقِرُ: مَهْجُورًا لَا تُجَالَسُ وَلَا تُعَاشَرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَعِيفًا أَيْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ رَهْطُكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَحِيدًا فِي مَذْهَبِكَ وَاعْتِقَادِكَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَشَرِيكٌ الْقَاضِي: ضَعِيفًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَعْمَى. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ حِمْيَرَ تُسَمِّي الْأَعْمَى ضَعِيفًا، وَيُبْعِدُهُ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِأَعْمَى أَوْ بِنَاحِلِ الْبَدَنِ أَوْ بِضَعِيفِ الْبَصَرِ كَمَا قَالَهُ الثَّوْرِيُّ. وَزَعَمَ أَبُو رَوْقٍ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا أَعْمَى، وَلَا نَبِيًّا بِهِ زَمَانَةٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ ضَعِيفُ الِانْتِصَارِ وَالْقُدْرَةِ. وَلَوْلَا رَهْطُكَ احْتَرَمُوهُ لِرَهْطِهِ إِذْ كَانُوا كُفَّارًا مِثْلَهُمْ، أَوْ كَانَ فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ مِنْهُمْ لَرَجَمْنَاكَ. ظَاهِرُهُ الْقَتْلُ بِالْحِجَارَةِ، وَهِيَ مِنْ شَرِّ الْقِتْلَاتِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: رَجَمْنَاكَ بِالسَّبِّ، وَهَذَا أَيْضًا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ وَمِنْهُ: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «1» وَقِيلَ: لَأَبْعَدْنَاكَ وَأَخْرَجْنَاكَ مِنْ أَرْضِنَا. وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ أَيْ: لَا تُعَزُّ وَلَا تُكْرَمُ حَتَّى نُكْرِمَكَ مِنَ الْقَتْلِ، وَنَرْفَعَكَ عَنِ الرَّجْمِ. وَإِنَّمَا يَعِزُّ عَلَيْنَا رَهْطُكُ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِنَا لَمْ يَحْتَاجُّوكَ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: بِعَزِيزٍ بِذِي مَنَعَةٍ، وَعِزَّةِ مَنْزِلَةِ فِي نُفُوسِنَا. وَقِيلَ: بِذِي غَلَبَةٍ. وَقِيلَ: بِمُلْكٍ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمَلِكَ عَزِيزًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ دَلَّ إِيلَاءُ ضَمِيرِهِ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَاقِعٌ فِي الْفَاعِلِ، لَا فِي الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ بَلْ رَهْطُكَ هُمُ الْأَعِزَّةُ عَلَيْنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي جَوَابِهِمْ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟ وَلَوْ قِيلَ: وَمَا عَزَزْتَ عَلَيْنَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَالْكَلَامُ وَاقِعٌ فِيهِ وَفِي رَهْطِهِ وَأَنَّهُمُ الْأَعِزَّةُ عَلَيْهِمْ دُونَهُ، فَكَيْفَ صَحَّ قَوْلُهُ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟ (قُلْتُ) : تَهَاوُنُهُمْ بِهِ وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ تَهَاوُنٌ بِاللَّهِ فَحِينَ عَزَّ عَلَيْهِمْ رَهْطُهُ دُونَهُ، كَانَ رَهْطُهُ أَعَزَّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «2» انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ، أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الله

_ (1) سورة مريم: 19/ 46. (2) سورة النساء: 4/ 80.

تَعَالَى أَيْ: وَنَسِيتُمُوهُ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ الْمَنْبُوذِ وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَالظِّهْرِيُّ بِكَسْرِ الظَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الظَّهْرِ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي النَّسَبِ إِلَى الْأَمْسِ إِمْسِيٌّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَلَمَّا خَاطَبُوهُ خِطَابَ الْإِهَانَةِ وَالْجَفَاءِ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْكُفَّارِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، خَاطَبَهُمْ خِطَابَ الِاسْتِعْطَافِ وَالتَّلَطُّفِ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِي إِلَانَةِ الْقَوْلِ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ حَتَّى جَعَلْتُمْ مُرَاعَاتِي مِنْ أَجْلِهِمْ وَلَمْ تُسْنِدُوهَا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَا أَوْلَى وَأَحَقُّ أَنْ أُرَاعَى مِنْ أَجْلِهِ. فَالْمُرَاعَاةُ لِأَجْلِ الْخَالِقِ أَعْظَمُ مِنَ الْمُرَاعَاةِ لِأَجْلِ الْمَخْلُوقِ، وَالظِّهْرِيُّ الْمَنْسِيُّ الْمَتْرُوكُ الَّذِي جُعِلَ كَأَنَّهُ خَلْفُ الظَّهْرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذْتُمُوهُ به عَائِدٌ عَلَى الشَّرْعِ الَّذِي جَاءَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: الظِّهْرِيُّ الْعَوْنُ وَمَا يُتَقَوَّى بِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَالْمَعْنَى وَاتَّخَذْتُمُ الْعِصْيَانَ عِنْدَهُ لِدَفْعِي انْتَهَى. فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ أَيْ عِصْيَانَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ أَيْ وَأَنْتُمْ مُتَّخِذُونَ اللَّهَ سَنَدَ ظُهُورِكُمْ وَعِمَادَ آمَالِكُمْ. فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: عَلَى أَنَّ كُفْرَ قَوْمِ شُعَيْبٍ كَانَ جَحْدًا بِاللَّهِ وَجَهْلًا بِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالْخَالِقِ الرَّازِقِ وَيَعْتَقِدُونَ الْأَصْنَامَ وَسَائِطَ وَوَسَائِلَ، وَمِنَ اللَّفْظَةِ الِاسْتِظْهَارُ بِالْبَيِّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الظِّهْرِيُّ الْفَضْلُ، مِثْلَ الْحَمَّالِ يَخْرُجُ مَعَهُ بِإِبِلٍ ظِهَارِيَّةٍ يَعُدُّهَا إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَهِيَ فَضْلَةٌ. مُحِيطٌ أَحَاطَ بِأَعْمَالِكُمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَفِي ضِمْنِهِ تَوَعُّدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ قَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ «1» وَخِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي مَكَانَتِكُمْ. وَجَوَّزَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَنْ يَأْتِيهِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَفْعُولَةً بِقَوْلِهِ: تَعْلَمُونَ أَيْ: تَعْلَمُونَ الشَّقِيَّ الَّذِي يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَالَّذِي هُوَ كَاذِبٌ، وَاسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وتعلمون مُعَلَّقٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّنَا يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، وَأَيُّنَا هُوَ كَاذِبٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، يَعْنِي كَوْنَهَا مَفْعُولَةً قَالَ: لِأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَلَا يُوصَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَيَقْضِي بِصِلَتِهَا أَنَّ الْمَعْطُوفَةَ عَلَيْهَا مَوْصُولَةٌ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَيَقْضِي بِصِلَتِهَا إِلَخْ لَا يَقْضِي بِصِلَتِهَا، إِذْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ، بَلْ تَكُونُ اسْتِفْهَامِيَّةً إِذَا قَدَّرْتَهَا مَعْطُوفَةً عَلَى مَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، كَمَا قَدَّرْنَاهُ وَأَيُّنَا هُوَ كَاذِبٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إِدْخَالِ الْفَاءِ وَنَزْعِهَا فِي سَوْفَ تَعْلَمُونَ؟ (قُلْتُ) : إِدْخَالُ الْفَاءِ وَصْلٌ ظَاهِرٌ بِحَرْفٍ مَوْضُوعٍ لِلْوَصْلِ، وَنَزْعُهَا وَصْلٌ خفي تقديري

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 135.

بِالِاسْتِئْنَافِ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: فَمَاذَا يَكُونُ إِذَا عَمِلْنَا نَحْنُ عَلَى مَكَانَتِنَا، وَعَمِلْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، يُوصَلُ تَارَةً بِالْفَاءِ، وَتَارَةً بِالِاسْتِئْنَافِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ مِنَ الْعَرَبِ. وَأَقْوَى الْوَصْلَيْنِ وَأَبْلَغُهُمَا الِاسْتِئْنَافُ، وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ عِلْمِ الْبَيَانِ تَتَكَاثَرُ مَحَاسِنُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : قد ذَكَرَ عَمَلَهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَعَمَلَهُ عَلَى مَكَانَتِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ ذِكْرَ عَاقِبَةِ الْعَامِلِينَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، وَمَنْ هُوَ صَادِقٌ حَتَّى يَنْصَرِفَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ إِلَى الْجَاحِدِينَ، وَمَنْ هُوَ صَادِقٌ إِلَى النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ. (قُلْتُ) : الْقِيَاسُ مَا ذَكَرْتُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَعُدُّونَهُ كَاذِبًا قَالَ: وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ يَعْنِي فِي زَعْمِكُمْ وَدَعْوَاكُمْ تَجْهِيلًا لَهُمُ انْتَهَى. وَفِي أَلْفَاظِ هَذَا الرَّجُلِ سُوءُ أَدَبٍ، وَالَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، لِأَنَّ التَّهْدِيدَ الَّذِي وَقَعَ لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَا هُوَ دَاخِلٌ فِي التَّهْدِيدِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، إِذْ لَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ، وَأَعْمَلُ عَلَى مَكَانَتِي، وَلَا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُ أَنَّ التَّهْدِيدَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ. وَاسْتَسْلَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: قَدْ ذَكَرَ عَمَلَهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَعَمَلَهُ عَلَى مَكَانَتِهِ، فَبَنَى عَلَى ذَلِكَ سُؤَالًا فَاسِدًا، لِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى مَا لَيْسَ مَذْكُورًا لَا يَصِحُّ الْبَتَّةَ، وَجَمِيعُ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَنَظِيرُهُ فِي سُورَةِ تَنْزِيلُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ «1» فَهَذَا جَاءَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ كَمَا جَاءَ هُنَا، وَارْتَقِبُوا: انْتَظِرُوا الْعَاقِبَةَ، وَمَا أَقُولُ لَكُمْ. وَالرَّقِيبُ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرَاقِبِ كَالْعَشِيرِ وَالْجَلِيسِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرْتَقِبِ كَالْفَقِيرِ وَالرَّفِيعِ بِمَعْنَى الْمُفْتَقِرِ وَالْمُرْتَفِعِ، وَيُحَسِّنُ هَذَا مُقَابَلَةُ فَارْتَقِبُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا بَالُ سَاقَتَيْ قِصَّةِ عَادٍ وَقِصَّةِ مَدْيَنَ جَاءَتَا بِالْوَاوِ وَالسَّاقَتَانِ الْوَسَطِيَّانِ بِالْفَاءِ؟ (قُلْتُ) : قَدْ وَقَعَتِ الْوَسَطِيَّانِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ «2» ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ «3» فَجِيءَ بِالْفَاءِ الَّتِي لِلتَّسَبُّبِ كَمَا تَقُولُ: وَعَدْتُهُ فَلَمَّا جَاءَ الْمِيعَادُ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ فَلَمْ يَقَعَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتَا مُبْتَدَأَتَيْنِ، فَكَانَ حَقُّهُمَا أَنْ يُعْطَفَا بِحَرْفِ الْجَمْعِ عَلَى مَا قَبْلَهُمَا، كَمَا تُعْطَفُ قِصَّةٌ عَلَى قِصَّةٍ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا إِلَى قَوْلِهِ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. وقرأ السلمي وأبو

_ (1) سورة هود: 11/ 39. [.....] (2) سورة هود: 11/ 81. (3) سورة هود: 11/ 65.

حَيْوَةَ: كَمَا بَعِدَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْبُعْدِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُرْبِ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا، أَرَادَتِ الْعَرَبُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْبُعْدِ مِنْ جِهَةِ الْهَلَاكِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَغَيَّرُوا الْبِنَاءَ وَقِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ جَاءَتْ على الأصل اعتبار المعنى الْبُعْدِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَمَا يُقَالُ: ذَهَبَ فُلَانٌ، وَمَضَى فِي مَعْنَى الْقُرْبِ. وقيل: معناه بعد الهم مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: بَعُدَ يَبْعُدُ إِذَا كَانَ بُعْدُهُ هَلَكَةً، وبعد يبعد إذا أتاني. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا وَبَعَدًا إِذَا هَلَكَ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: بَعُدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبَعِدَ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُرْبِ، فَيَقُولُ فِيهِمَا بَعُدَ يَبْعُدُ، وَبَعِدَ يَبْعُدُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ: فِي بَعُدَ بِمَعْنَى هَلَكَ: يَقُولُونَ لَا تبعدوهم يَدْفِنُونَنِي ... وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إلا مكانيا وبعد الفلان دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُدْعَى بِهِ إِلَّا عَلَى مُبْغَضٍ كَقَوْلِكَ: سُحْقًا لِلْكَافِرِينَ. وَقَالَ أَهْلُ عِلْمِ الْبَيَانِ: لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ اسْتِطْرَادٌ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَالِاسْتِطْرَادُ قَالُوا: هُوَ أَنْ تَمْدَحَ شَيْئًا أَوْ تَذُمَّهُ، ثُمَّ تَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ بِشَيْءٍ هُوَ غَرَضُكَ فِي أَوَّلِهِ. قَالَ حَسَّانُ: إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي ... فنجوت منجى الحرث بْنِ هِشَامِ تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ ... وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ: الْآيَاتُ الْمُعْجِزَاتُ التِّسْعُ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَلَ النَّقْصَ بِإِظْلَالِ الْجَبَلِ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ التَّوْرَاةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّهُ قَالَ إِلَى فِرْعَوْنَ وملائه، وَالتَّوْرَاةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ هلاك فرعون وملائه. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ هُوَ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ فِيهَا أَيْ فِي الْآيَاتِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْعَصَا لِأَنَّهَا أَبْهَرُ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَنَصَّ عَلَيْهَا كَمَا نَصَّ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ بِالذِّكْرِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَمْرَ فِرْعَوْنَ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ وَجَحْدِ مُعْجِزَاتِ مُوسَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الطَّرِيقَ وَالشَّأْنَ. وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ: نَفَى عَنْهُ الرُّشْدَ، وَذَلِكَ تَجْهِيلٌ لِمُتَّبِعِيهِ حَيْثُ شَايَعُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ ضَلَالٌ مُبِينٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ فِيهِ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنَ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ

ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. عَايَنُوا الْآيَاتِ وَالسُّلْطَانَ الْمُبِينَ فِي أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلِمُوا أَنَّ مَعَهُ الرُّشْدَ وَالْحَقَّ، ثُمَّ عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِهِ إِلَى اتِّبَاعِ مَنْ لَيْسَ فِي اتِّبَاعِهِ رُشْدٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَشِيدٌ بِمَعْنَى رَاشِدٍ، وَيَكُونَ رَشِيدٍ بِمَعْنَى مُرْشِدٍ أَيْ بِمُرْشِدٍ إِلَى خَيْرٍ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ سُلْطَانِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَمْرُهُ خَالِيًا عَنِ الرُّشْدِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالرُّشْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحْمَدُ وَيُرْتَضَى، وَالْغَيُّ ضِدُّهُ. وَيُقَالُ: قَدَمَ زَيْدٌ الْقَوْمَ يَقْدُمُ قَدْمًا، وَقُدُومًا تَقَدَّمَهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ الْمُغْرِقِينَ إِلَى النَّارِ، وَكَمَا كَانَ قُدْوَةً فِي الضَّلَالِ مُتَّبَعًا كَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ إِلَى النَّارِ وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِرَشِيدٍ بِحَمِيدِ، الْعَاقِبَةِ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ، تَفْسِيرًا لِذَلِكَ وَإِيضَاحًا أَيْ: كَيْفَ يَرْشُدُ أَمْرُ مَنْ هَذِهِ عَاقِبَتُهُ؟ وَعَدَلَ عَنْ فَيُورِدُهُمْ إِلَى فَأَوْرَدَهُمُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِرْهَابِ وَالتَّخْوِيفِ. أَوْ هُوَ مَاضٍ حَقِيقَةً أَيْ: فَأَوْرَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا النَّارَ أَيْ: مُوجِبَهُ وَهُوَ الْكُفْرُ. وَيُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْفَاءُ وَالْوُرُودُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وُرُودُ الْخُلُودِ وَلَيْسَ بِوُرُودِ الْإِشْرَافِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِشْفَاءِ كَقَوْلِهِ: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ تُصِيبُهُ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي لِأَنَّهُ تُنَازِعُهُ يَقْدُمُ أَيْ: إِلَى النَّارِ وَفَأَوْرَدَهُمْ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَحُذِفَ مَعْمُولُ الْأَوَّلِ. وَالْهَمْزَةُ فِي فَأَوْرَدَهُمُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَرَدَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَلَمَّا أُدْخِلَتِ الْهَمْزَةُ تَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَتَضَمَّنَ وَارِدًا وَمَوْرُودًا. وَيُطْلَقُ الْوِرْدُ عَلَى الْوَارِدِ، فَالْوِرْدُ لَا يَكُونُ الْمَوْرُودَ، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفٍ لِيُطَابِقَ فَاعِلَ بِئْسَ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ، فَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ مَكَانُ الْوِرْدِ الْمَوْرُودُ وَيَعْنِي بِهِ النَّارَ. فَالْوِرْدُ فَاعِلٌ بِبِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ الْمَوْرُودُ وَهِيَ النَّارُ. وَيَجُوزُ فِي إِعْرَابِ الْمَوْرُودُ مَا يَجُوزُ فِي زَيْدٍ مِنْ قَوْلِكَ: بِئْسَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْرُودُ صِفَةً لِلْوِرْدِ أَيْ: بِئْسَ مَكَانُ الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ النَّارُ، وَيَكُونُ الْمَخْصُوصُ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: فَبِئْسَ الْمِهادُ «2» وَهَذَا التَّخْرِيجُ يُبْتَنَى عَلَى جَوَازِ وَصْفِ فَاعِلِ نِعْمَ وَبِئْسَ، وَفِيهِ خِلَافٌ. ذَهَبَ ابْنُ السَّرَّاجِ وَالْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوِرْدُ الْمَوْرُودُ الَّذِي وَرَدُوهُ شَبَّهَهُ بِالْفَارِطِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ إِلَى الْمَاءِ، وَشَبَّهَ اتِّبَاعَهُ بِالْوَارِدَةِ، ثُمَّ قِيلَ: بِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يَرِدُونَهُ النَّارُ، لِأَنَّ الْوِرْدَ إِنَّمَا يُورَدُ لِتَسْكِينِ الْعَطَشِ وَتَبْرِيدِ الْأَكْبَادِ، وَالنَّارُ ضِدُّهُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَالْوِرْدُ الْمَوْرُودُ إِطْلَاقُ

_ (1) سورة القصص: 28/ 23. (2) سورة ص: 38/ 56.

الْوِرْدِ عَلَى الْمَوْرُودِ مَجَازٌ، إِذْ نَقَلُوا أَنَّهُ يَكُونُ صَدْرًا بِمَعْنَى الْوُرُودِ، أَوْ بِمَعْنَى الْوَارِدَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَتَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يَرِدُونَهُ النَّارُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْرُودَ صِفَةٌ لِلْوِرْدِ، وَأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ النَّارَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يُبْتَنَى عَلَى جَوَازِ وَصْفِ فَاعِلِ بِئْسَ وَنِعْمَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بِئْسَ الْقَوْمُ الْمَوْرُودُ بِهِمْ هُمْ، فَيَكُونُ الْوِرْدُ عُنِيَ بِهِ الْجَمْعُ الْوَارِدُ، وَالْمَوْرُودُ صِفَةٌ لَهُمْ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ هُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَمًّا لِلْوَارِدِينَ، لَا ذَمًّا لِمَوْضِعِ الْوُرُودِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي هَذِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهَا فِي قِصَّةِ هُودٍ، وَدَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الْآخِرَةُ. فَيَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ فِي هَذِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُلْحِقُوا لَعْنَةً فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي هَذِهِ لَعْنَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِالْغَرَقِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِالنَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَهُمْ لَعْنَتَانِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّقْسِيمَ هُوَ أَنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْفِدُونَ بِهِ فَهِيَ لَعْنَةٌ وَاحِدَةٌ أَوَّلًا، وقبح ارفادا آخِرًا انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْمُولٌ لَبِئْسَ، وَبِئْسَ لَا يَتَصَرَّفُ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ تَأَخَّرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَحَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أَنْتَ إِذَا ... دُعِيَتْ نِزَالِ وَلُجَّ فِي الذُّعْرِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ رِفْدُهُمْ، أَيْ: بِئْسَ الْعَوْنُ الْمُعَانُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا رِفْدٌ لِلْعَذَابِ وَمَدَدٌ لَهُ، وَقَدْ رُفِدَتْ بِاللَّعْنَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: بِئْسَ الْعَطَاءُ الْمُعْطَى انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَرْفُودَ صِفَةٌ لِلرِّفْدِ، وَأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رِفْدُهُمْ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ تَفْسِيرِهِ أَيْ بِئْسَ الْعَوْنُ الْمُعَانُ هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَسُمِّيَ الْعَذَابُ رِفْدًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضرب وجيع. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الرِّفْدُ الرِّفَادَةُ أَيْ بِئْسَ مَا يَرْفِدُونَ بِهِ بَعْدَ الْغَرَقِ النَّارُ. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوْمِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ أَيْ ذَلِكَ النَّبَأُ بَعْضُ أَنْبَاءِ الْقُرَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْنَى بِالْقُرَى قُرَى أُولَئِكَ الْمُهْلَكِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، وَأَنْ يَعْنِيَ الْقُرَى عُمُومًا أَيْ: هَذَا النَّبَأُ الْمَقْصُوصُ عَلَيْكَ هُوَ دَيْدَنُ الْمُدُنِ إِذْ كَفَرَتْ، فَدَخَلَ الْمُدُنُ الْمُعَاصِرَةُ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى الْقُرَى. قَالَ

ابْنُ عَبَّاسٍ: قَائِمٌ وَحَصِيدٌ عامر كزغر وَدَاثِرٍ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ عُمُومِ الْقُرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قَائِمُ الْجُدْرَانِ وَمُنْهَدِمٌ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ خُصُوصِ الْقُرَى، وَأَنَّهَا قُرَى أُولَئِكَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْضُهَا بَاقٍ وَبَعْضُهَا عَافِي الْأَثَرِ كَالزَّرْعِ الْقَائِمِ عَلَى سَاقِهِ، وَالَّذِي حُصِدَ انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ، قَالَ قَتَادَةُ: قَائِمُ الْأَثَرِ وَدَارِسُهُ، جَعَلَ حَصْدَ الزَّرْعِ كِنَايَةً عَنِ الْفَنَاءِ قَالَ الشَّاعِرُ: وَالنَّاسُ فِي قَسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ ... كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَائِمٌ لَمْ يُخْسَفْ، وحصيد قَدْ خُسِفَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَائِمٌ لَمْ يَهْلَكْ بعد، وحصيد قَدْ أُهْلِكَ. وَقِيلَ: قَائِمٌ أَيْ بَاقٍ نَسْلُهُ، وَحَصِيدٌ أَيْ مُنْقَطِعٌ نَسْلُهُ. وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْقُرَى. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْقُرَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حَصِيدٌ أَيْ مَحْصُودٌ، وَجَمْعُهُ حَصْدَى وَحِصَادٌ، مِثْلَ: مَرْضَى وَمِرَاضٌ، وَبَابُ فَعْلَى جَمْعًا لِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ يَعْقِلُ نَحْوَ: قَتِيلٍ وَقَتْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ؟ قُلْتُ: هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْهَا قَائِمٌ ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الهاء في نقصه، وحصيد مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَمِنْهَا حَصِيدٌ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ تَجَوُّزٌ أَيْ: نَقُصُّهُ عَلَيْكَ وَحَالُ الْقُرَى ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَبْلَغُ فِي التَّخْوِيفِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْحَاضِرِينَ أَيْ: نَقُصُّ عَلَيْكَ بَعْضَ أَنْبَاءِ الْقُرَى وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ يُشَاهِدُونَ فِعْلَ اللَّهِ بِهَا. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ أَيْ: بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ، بَلْ وَضَعْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِوَضْعِ الْكُفْرِ مَوْضِعَ الْإِيمَانِ، وَارْتِكَابِ مَا بِهِ أُهْلِكُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا أَغْنَتْ، نَفْيٌ أَيْ، لَمْ تَرُدَّ عَنْهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا أَجْدَتْ. يَدْعُونَ حِكَايَةُ حَالٍ أَيِ: الَّتِي كَانُوا يَدْعُونَ، أَيْ يَعْبُدُونَ، أَوْ يَدْعُونَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَهُبَلَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمَّا مَنْصُوبٌ بِمَا أَغْنَتْ انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَمَّا ظَرْفٌ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهَا حَرْفُ وُجُوبٍ لوجوب. وأمر رَبِّكَ هُوَ عَذَابُهُ وَنِقْمَتُهُ. وَمَا زَادُوهُمْ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى وَاوِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ لِمَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَنْفَعُ، وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَالتَّتْبِيبُ التَّخْسِيرُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرُّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخُسْرَانُ وَالْهَلَاكُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّخْسِيرُ، وَقِيلَ: التَّدْمِيرُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَصُورَةُ زِيَادَةِ الْأَصْنَامِ التَّتْبِيبُ، إِنَّمَا هُوَ يُتَصَوَّرُ بِأَنَّ تَأْمِيلَهَا وَالثِّقَةَ بِهَا وَالتَّعَبَ فِي عِبَادَتِهَا شَغَلَتْ نُفُوسَهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِ

وَعَاقِبَتِهِ، فَلَحِقَ مِنْ ذَلِكَ عِقَابٌ وَخُسْرَانٌ. وَأَمَّا بِأَنَّ عَذَابَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ يُزَادُ بِهِ عَذَابٌ عَلَى مُجَرَّدِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ: أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ أَخْذِ اللَّهِ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ أَخْذُ رَبِّكَ. وَالْقُرَى عَامٌّ فِي الْقُرَى الظَّالِمَةِ، وَالظُّلْمُ يَشْمَلُ ظُلْمَ الْكُفْرِ وَغَيْرَهُ. وَقَدْ يُمْهِلُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الْكَفَرَةِ. وَأَمَّا الظَّلَمَةُ فِي الْغَالِبِ فَمُعَاجَلُونَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ، إذ أَخَذَ عَلَى أَنَّ أَخْذُ رَبِّكَ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، وَإِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ اللَّهِ فِي إِهْلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: وكذلك أحذ رَبُّكَ إِذَا أَخَذَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قراءة مُتَمَكِّنَةُ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ تُعْطِي الْوَعِيدَ وَاسْتِمْرَارَهُ فِي الزَّمَانِ، وَهُوَ الْبَابُ فِي وَضَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْضِعَ الْمَاضِي، والقرى مفعول بأخذ عَلَى الْإِعْمَالِ إِذْ تَنَازَعَهُ الْمَصْدَرُ وَهُوَ: أَخْذُ رَبِّكَ، وأخذ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَهِيَ ظَالِمَةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ مُوجِعٌ صَعْبٌ عَلَى الْمَأْخُوذِ. وَالْأَخْذُ هُنَا أَخْذُ الْإِهْلَاكِ. إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَإِهْلَاكِهِمْ لَآيَةً لَعَلَامَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، أَيْ: إِنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ، وَهِيَ دَارُ الْعَمَلِ فَلَأَنْ يُعَذَّبُوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ أَوْلَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا بِاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ. وَوَقَعَ مَا أَخْبَرُوا بِهِ وَفْقَ إِخْبَارِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ صِدْقٌ لَا شَكَّ فِيهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَآيَةً لِمَنْ خَافَ لَعِبْرَةً لَهُ، لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِالْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا هُوَ إِلَّا أُنْمُوذَجٌ مِمَّا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا رَأَى عَظَمَتَهُ وَشِدَّتَهُ اعْتَبَرَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ فَيَكُونُ لَهُ عِظَةً وَعِبْرَةً وَلُطْفًا فِي زِيَادَةِ التَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ وَنَحْوُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى «1» ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَالنَّاسُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ رَافِعُهُ مَجْمُوعٌ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مبتدأ، ومجموع خبر مقدم، وهو بعيد

_ (1) سورة النازعات: 79/ 26.

الضَّمِيرِ فِي مَجْمُوعٌ، وَقِيَاسُهُ على إعرابه مجموعون، ومجموع لَهُ النَّاسُ عِبَارَةٌ عَنِ الحشر، ومشهود عَامٌّ يَشْهَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْحَيَوَانِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي أَنْ أُوثِرَ اسْمُ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِهِ؟ (قُلْتُ) : لِمَا فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ دِلَالَتِهِ عَلَى ثَبَاتِ مَعْنَى الْجَمْعِ لِلْيَوْمِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِيعَادًا مَضْرُوبًا لِجَمْعِ النَّاسِ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ صِفَةً لَازِمَةً، وَهُوَ أَثْبَتُ أَيْضًا لِإِسْنَادِ الْجَمْعِ إِلَى النَّاسِ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْهُ، وَفِيهِ مِنْ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ وَثَبَاتِهِ مَا لَيْسَ فِي الْفِعْلِ. وَمَعْنَى مَشْهُودٌ، مَشْهُودٌ فِيهِ، فَاتُّسِعَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ إجراء له مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى السَّعَةِ لِقَوْلِهِ: وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا وَالْمَعْنَى: يَشْهَدُ فِيهِ الْخَلَائِقُ الْمَوْقِفَ لَا يَغِيبُ عَنْهُ أَحَدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِفُلَانٍ: مَجْلِسٌ مَشْهُودٌ، وَطَعَامٌ مَحْضُورٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلِ الْيَوْمُ مَشْهُودًا فِي نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ «1» لِأَنَّ الْغَرَضَ وَصْفُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْهَوْلِ وَالْعِظَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، وَكَوْنُهُ مَشْهُودًا فِي نَفْسِهِ لَا يُمَيِّزُهُ، إِذْ هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَيَّامِ فِي كَوْنِهَا مَشْهُودَةً. وَمَا نُؤَخِّرُهُ أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْجَزَاءِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أَيْ لِقَضَاءٍ سَابِقٍ قَدْ نَفَذَ فِيهِ بِأَجَلٍ مَحْدُودٍ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَا يُؤَخِّرُهُ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَنَافِعٌ: يَأْتِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَصْلًا، وَحَذْفِهَا وَقْفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَسَقَطَتْ فِي مُصْحَفِ الْإِمَامِ عُثْمَانَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَأْتُونَ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتُهَا وَصْلًا وَوَقْفًا هُوَ الْوَجْهُ، وَوَجْهُ حَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ التَّشْبِيهُ بِالْفَوَاصِلِ، وَقْفًا وَوَصْلًا التَّخْفِيفُ كَمَا قَالُوا: لَا أَدْرِ وَلَا أُبَالِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ كَثِيرٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ: كَفَّاكَ كف ما يليق دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بِيَأْتِي ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي نُؤَخِّرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: ذَلِكَ يَوْمٌ، وَالنَّاصِبُ لَهُ لَا تَكَلَّمُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ يَوْمَ يَأْتِي ذَلِكَ الْيَوْمُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مِنْ عِظَمِ الْمَهَابَةِ وَالْهَوْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَهُوَ نَظِيرُ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 185.

الرَّحْمنُ «1» هُوَ نَاصِبٌ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «2» وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِ الْيَوْمِ إِتْيَانُ أَهْوَالِهِ وَشَدَائِدِهِ، إِذِ الْيَوْمُ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِإِتْيَانِ الْيَوْمِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ يَأْتِي ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى اللَّهِ قَالَ: كَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ «3» وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ «4» وَجَاءَ رَبُّكَ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ وَمَا يُؤَخِّرُهُ بِالْيَاءِ، وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ «5» وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَنْتَصِبَ يَوْمَ يَأْتِي بِاذْكُرْ أَوْ بِالِانْتِهَاءِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، أَيْ يَنْتَهِي الْأَجَلُ يَوْمَ يَأْتِي. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ لَا تَكَلَّمُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْيَوْمِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَشْهُودٍ، أَوْ نَعْتًا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ يَوْمَ يَأْتِي إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي يَأْتِي، وَهُوَ الْعَائِدُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ يَوْمٌ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا عَائِدُ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، صِفَةً لِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِي، أَوْ يَوْمَ يَأْتِي يُرَادُ بِهِ الْحِينُ وَالْوَقْتُ لَا النَّهَارُ بِعَيْنِهِ. وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ كَلَامِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي التَّلَازُمِ وَالتَّسَاؤُلِ وَالتَّجَادُلِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذِهِ مُخْتَصَّةً هُنَا فِي تَكَلُّمِ شَفَاعَةٍ أَوْ إِقَامَةِ حُجَّةٍ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي إِعْرَابِ لَا تَكَلَّمُ كَأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ كَلَامِ الْحَوْفِيِّ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ لَهُ مَوَاقِفُ، فَفِي بَعْضِهَا يُجَادِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا يَكُفُّونَ عَنِ الْكَلَامِ فَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ، وَفِي بَعْضِهَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ، وَفِي بَعْضِهَا يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَلَمْ يُذْكَرُوا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَمِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: نَفْسٌ، إِذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ الْجَمِيعُ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّقِيُّ مَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ، وَالسَّعِيدُ الَّذِي كُتِبَتْ لَهُ السَّعَادَةُ. وَقِيلَ: مُعَذَّبٌ وَمُنَعَّمٌ، وَقِيلَ: مَحْرُومٌ وَمَرْزُوقٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ

_ (1) سورة النبأ: 78/ 38. (2) سورة النبأ: 78/ 38. (3) سورة البقرة: 2/ 210. (4) سورة النحل: 16/ 33. (5) سورة البقرة: 2/ 255.

وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: الزَّفِيرُ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ آخِرُهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ، وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: الزَّفِيرُ زَفِيرُ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ شَهِيقُ الْبِغَالِ. وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: مُدَّةُ دَوَامِ السموات وَالْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّوْقِيتِ التأييد كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا أَقَامَ ثَبِيرٌ وَمَا لَاحَ كَوْكَبٌ، وَضَعَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ لِلتَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِفَنَاءِ ثَبِيرٍ أَوِ الْكَوْكَبِ، أَوْ عدم فنائهما. وقيل: سموات الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا وَهِيَ دَائِمَةٌ لَا بُدَّ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ «1» وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ «2» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِأَهْلِ الْآخِرَةِ مما يقلهم ويظلمهم، إِمَّا سَمَاءٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ، أو يظلهم العرش وكلما أَظَلَّكَ فَهُوَ سَمَاءٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إِلَى النُّورِ الَّذِي أُخِذَتَا مِنْهُ، فَهُمَا دَائِمَتَانِ أَبَدًا فِي نُورِ الْعَرْشِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الزَّمَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا الزَّمَانَ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ فِي النَّارِ، وَلَا فِي الْجَنَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الزَّمَانُ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَفْصِلُ اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكَوْنِ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ يَخْلُو فِيهِ الشَّقِيُّ وَالسَّعِيدُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ أَوِ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْخُلُودِ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ النَّارِ، وَيَكُونُ الزَّمَانُ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي فَاتَ أَهْلَ النَّارِ الْعُصَاةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَلَيْسُوا خَالِدِينَ فِي النَّارِ إِذْ قَدْ أُخْرِجُوا مِنْهَا وَصَارُوا فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ الَّذِينَ شَقُوا شَامِلًا لِلْكُفَّارِ وَعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ مَا تَأَتَّى فِي أَهْلِ النَّارِ، إِذْ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لَا يَخْلُدُ فِيهَا، لَكِنْ يُمْكِنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ الزَّمَانُ الَّذِي فَاتَ أَهْلَ النَّارِ الْعُصَاةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الَّذِي فَاتَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ، فَإِنَّهُمْ بِفَوَاتِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا الْجَنَّةَ وَخُلِّدُوا فِيهَا صَدَقَ عَلَى الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ مَا خُلِّدُوا فِي الْجَنَّةِ تَخْلِيدَ مَنْ دَخَلَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَوْ فِي خَالِدِينَ، وَتَكُونُ مَا وَاقِعَةً عَلَى نَوْعِ مَنْ يَعْقِلُ، كما

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 48. (2) سورة الزمر: 39/ 74

وَقَعَتْ فِي قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» أَوْ تَكُونُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى وُقُوعَهَا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ مُطْلَقًا، وَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى فِي قِصَّةِ النَّارِ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قِصَّةِ الْجَنَّةِ هُمْ، أَوْ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَا خُلِّدُوا فِيهَا خُلُودَ مَنْ دَخَلَهَا أَوَّلَ وَهْلَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاء رَبُّكَ، وَقَدْ ثَبَتَ خُلُودُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ؟ (قُلْتُ) : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْخُلُودِ فِي عَذَابِ النَّارِ، وَمِنَ الْخُلُودِ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَخْلُدُونَ فِي عَذَابِ النَّارِ وَحْدَهُ، بَلْ يُعَذَّبُونَ بِالزَّمْهَرِيرِ وَبِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ يُسَاوِي عَذَابَ النَّارِ، وَبِمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا كُلِّهَا وَهُوَ سَخَطُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَخَسْؤُهُ لَهُمْ وَإِهَانَتُهُ إِيَّاهُمْ. وَهَكَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ لَهُمْ مَعَ تَبَوُّءِ الْجَنَّةِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا وَأَجَلُّ مَوْقِعًا مِنْهُمْ، وَهُوَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «2» وَلَهُمْ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ سِوَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ مَا لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ إِلَّا هُوَ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، أَنَّهُ يَفْعَلُ بِأَهْلِ النَّارِ، مَا يُرِيدُ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا يُعْطِي أَهْلَ الْجَنَّةِ عَطَاءَهُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا يَخْدَعَنَّكَ عَنْهُ قَوْلُ الْمُجْبِرَةِ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ خُرُوجُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ يُنَادِي عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَيُسَجِّلُ بِافْتِرَائِهِمْ. وَمَا ظَنُّكَ بِقَوْمٍ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ لِمَا رَوَى لَهُمْ بَعْضُ الثَّوَابِتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أحد، وذلك عند ما يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مِنَ الضُّلَّالِ مَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ الْمُبِينِ زَادَنَا اللَّهُ هِدَايَةً إِلَى الْحَقِّ وَمَعْرِفَةً بِكِتَابِهِ، وَتَنْبِيهًا عَنْ أَنْ نَغْفُلَ عَنْهُ. وَلَئِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ أَبِي الْعَاصِ فَمَعْنَاهُ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ إِلَى بَرْدِ الزَّمْهَرِيرِ، فَذَلِكَ خُلُوُّ جَهَنَّمَ وَصَفْقُ أَبْوَابِهَا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ غَيْرِ التَّائِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَخْلُدُونَ فِي عَذَابِ النَّارِ، إِذْ يَنْتَقِلُونَ إلى الزمهرير فلا يصدق عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي عَذَابِ النَّارِ، فَقَدْ يَتَمَشَّى. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: خَالِدِينَ، فَلَا يَتَمَشَّى لِأَنَّهُمْ مَعَ مَا أعطاهم

_ (1) سورة النساء: 4/ 3. [.....] (2) سورة التوبة: 9/ 72.

اللَّهُ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَمَا نفضل عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ سِوَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، لَا يُخْرِجُهُمْ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا، بِخِلَافِ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا إِلَى الزَّمْهَرِيرِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، فَقِيلَ فِيهِ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ كَلَامٍ، فَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1» اسْتِثْنَاءٌ فِي وَاجِبٍ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يُوصَفَ بِمُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ طُولِ الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ جَهَنَّمَ تُخَرَّبُ وَيُعْدَمُ أَهْلُهَا، وَتَخْفُقُ أَبْوَابُهَا، فَهُمْ على هذا يخدلون حَتَّى يَصِيرَ أَمْرُهُمْ إِلَى هذا وهذا قول محيل. وَالَّذِي رُوِيَ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا تَخْلُو مِنَ النَّارِ إِنَّمَا هُوَ الدَّرْكُ الْأَعْلَى الْمُخْتَصُّ بِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى جَهَنَّمُ، وَسُمِّيَ الْكُلُّ بِهِ تَجَوُّزًا. وَقِيلَ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وما شَاءَ اللَّهُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى سِوَى، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ كَمَا تَقُولُ: لِي عِنْدَكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ إِلَّا الْأَلْفَ الَّتِي كُنْتُ أَسْلَفْتُكَ، بِمَعْنَى سِوَى تِلْكَ الْأَلْفِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَالِدِينَ فيها ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، سِوَى مَا شَاءَ اللَّهُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: سِوَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ كَالزَّمْهَرِيرِ. وَقِيلَ: اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مدة السموات وَالْأَرْضِ الَّتِي فَرَطَتْ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: فِي الْمَسَافَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ فِي دُخُولِ النَّارِ إِذْ دُخُولُهُمْ إِنَّمَا هُوَ زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَفِي النَّارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْمٍ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ رَوَاهُ أبو نصرة عَنْ جَابِرٍ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، ثُمَّ أَخْبَرَ مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُ بِعَذَابٍ يَكُونُ جَزَاؤُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَلَا يُدْخِلُهُ النَّارَ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ كَمَا شَاءَ رَبُّكَ، قِيلَ: كَقَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «2» أَيْ كَمَا قَدْ سَلَفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: شُقُوا بِضَمِّ الشِّينِ، وَالْجُمْهُورِ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ سُعِدُوا بِضَمِّ السِّينِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ والجمهور

_ (1) سورة الفتح: 48/ 27. (2) سورة النساء: 4/ 22.

[سورة هود (11) : الآيات 109 إلى 116]

بِفَتْحِهَا. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ سَعِدُوا مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ إِذْ هِيَ قِرَاءَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ. وَقَدِ احْتَجَّ الْكِسَائِيُّ بِقَوْلِهِمْ: مَسْعُودٌ، قِيلَ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَكَانٌ مَسْعُودٌ فِيهِ، ثُمَّ حُذِفَ فِيهِ وَسُمِّيَ بِهِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأَ سَعِدُوا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَسْعُودٍ، وَهُوَ شَاذٌّ قَلِيلٌ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ سَعَدَهُ اللَّهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَسْعَدَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَعِدَ وَأَسْعَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَانْتَصَبَ عَطَاءً عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أُعْطُوا عَطَاءً بِمَعْنَى إِعْطَاءٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» أَيْ إِنْبَاتًا. وَمَعْنَى غَيْرَ مَجْذُوذٍ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، بَلْ هُوَ مُمْتَدٌّ إِلَى غَيْرِ نهاية. [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) الزُّلْفَةُ قَالَ اللَّيْثُ: طَائِفَةٌ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَالْجَمْعُ الزُّلَفُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الزُّلَفُ أَوَّلُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَاحِدُهَا زُلْفَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْأَخْفَشُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، الزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ وَآنَاؤُهُ، وَكُلُّ سَاعَةٍ زلفة. وقال العجاج:

_ (1) سورة نوح: 71/ 17.

ناح طَوَاهُ الْأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا ... طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا سَمَاؤُهُ الْهِلَالُ حَتَّى احقوفا وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الزُّلْفَى وَهِيَ الْقُرْبَةُ، وَيُقَالُ: أَزْلَفَهُ فَازْدَلَفَ أَيْ قَرَّبَهُ فَاقْتَرَبَ، وَأَزْلَفَنِي أَدْنَانِي. التَّرَفُ: النِّعْمَةُ، صَبِيٌّ مُتْرَفٌ مُنَعَّمُ الْبَدَنِ، وَمُتْرَفٌ أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَتْرَفَ عُوِّدَ التُّرْفَةَ وَهِيَ النِّعْمَةُ. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَصَصَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ، شَرَحَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُو آبَائِهِمْ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ فِي اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَهَؤُلَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِاتِّفَاقٍ، وَأَنَّ دَيْدَنَهُمْ كَدَيْدَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِي التَّقْلِيدِ وَالْعَمَى عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ. وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِدَةٌ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، إِذْ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ حَالُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ مَا جَرَى لَهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَا يَعْبُدُ، مَعْنَاهُ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الشِّرْكِ مِثْلُ حَالِ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَقَدْ بَلَغَكَ مَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ، فَسَيَنْزِلُ بِهِمْ مِثْلُهُ. وَمَا يَعْبُدُ اسْتِئْنَافٌ جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمِرْيَةِ، وَمَا فِي مِمَّا وَفِي كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَبِمَعْنَى الَّذِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمُوَفُّوهُمْ مُشَدَّدًا مِنْ وَفَّى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مُخَفَّفًا مِنْ أَوْفَى، وَالنَّصِيبُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مِنَ الرِّزْقِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ الْعَذَابِ، وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: كَمَا وَفَّيْنَا آباءهم أنصباءهم، وغير مَنْقُوصٍ حَالٌ مِنْ نَصِيبِهِمْ، وَهُوَ عِنْدِي حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِأَنَّ التَّوْفِيَةَ تَقْتَضِي التَّكْمِيلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ نُصِبَ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حَالًا مِنَ النَّصِيبِ الْمُوَفَّى؟ (قُلْتُ) : يَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى وَهُوَ نَاقِصٌ، وَيُوَفَّى وَهُوَ كَامِلٌ. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: وَفَّيْتُهُ شَطْرَ حَقِّهِ، وَثُلُثَ حَقِّهِ، وَحَقَّهُ كَامِلًا وَنَاقِصًا؟ انْتَهَى وَهَذِهِ مَغْلَطَةٌ إِذَا قَالَ: وَفَّيْتُهُ شَطْرَ حَقِّهِ، فَالتَّوْفِيَةُ وَقَعَتْ فِي الشَّطْرِ، وَكَذَا ثُلُثَ حَقِّهِ، وَالْمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ الشَّطْرَ أَوِ الثُّلُثَ كَامِلًا لَمْ أَنْقُصْهُ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَقَّهُ كَامِلًا وَنَاقِصًا، أَمَّا كَامِلًا فَصَحِيحٌ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ التَّوْفِيَةَ تَقْتَضِي الْإِكْمَالَ، وَأَمَّا وَنَاقِصًا فَلَا يُقَالُ لِمُنَافَاتِهِ التَّوْفِيَةَ. وَالْخِطَابُ فِي فَلَا تَكُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ دَاخَلَهُ الشَّكُّ، لَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِكُلِّ مَنْ شَكَّ لَا تَكُ

فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ آبَاءَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ وَإِعْرَاضًا عَنْ حُجَجِ الْعُقُولِ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى إِصْرَارَ كُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ وَنُبُوَّةِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي أَتَى بِهِ، بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ كَانُوا عَلَى هَذِهِ السِّيرَةِ الْفَاجِرَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَلَيْسَ ذلك ببدع من من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلّم، وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَهُوَ: إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى فَاخْتَلَفُوا فِيهَا. وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ، فَقَبِلَهُ بَعْضٌ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضٌ، كَمَا اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ عَلَى الْكِتَابِ لِقُرْبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيَلْزَمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي أَحَدِهِمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْآخَرِ. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ فِي بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ تَعَنُّتًا عَلَى مُوسَى وَأَكْثَرَ اخْتِلَافًا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «1» وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ هُمُ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ، أَوْ فِي الْكِتَابِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الرَّسُولِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّفْظُ أَحْسَنُ عِنْدِي، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ جُمْلَةِ تَسْلِيَتِهِ أَيْضًا. وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: الظَّاهِرُ عُمُومُ كُلٍّ وَشُمُولُهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَالَ الزمخشري: التنوين عوض من الْمُضَافِ إِلَيْهِ يَعْنِي: وَإِنَّ كُلَّهُمْ، وَإِنَّ جَمِيعَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِهِ كُفَّارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو بَكْرٍ: وَإِنْ كُلًّا بِتَخْفِيفِ النُّونِ سَاكِنَةً. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ هُنَا وَفِي يس والطَّارِقِ وَأَجْمَعَتِ السَّبْعَةُ عَلَى نَصْبِ كُلًّا، فَتُصُوِّرَ فِي قِرَاءَتِهِمْ أربع قراءات: إِحْدَاهَا: تَخْفِيفُ إِنْ وَلَمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَرَمِيَّيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: تَشْدِيدُهُمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَحَفْصٍ. وَالثَّالِثَةُ: تَخْفِيفُ إِنْ وَتَشْدِيدُ لَمَّا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ. وَالرَّابِعَةُ: تَشْدِيدُ إِنَّ وَتَخْفِيفُ لَمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ كُلٌّ بِالرَّفْعِ لَمَّا مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَخْفِيفِ إِنَّ وَلَا تَشْدِيدِهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الَّذِي فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَإِنَّ مِنْ كُلٍّ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَإِنَّ كُلٌّ إِلَّا، وَهُوَ حَرْفُ

_ (1) سورة يونس: 10/ 19.

ابْنِ مَسْعُودٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ فِي الشَّاذِّ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَإِعْمَالُ إِنْ مُخَفَّفَةً كَإِعْمَالِهَا مُشَدَّدَةً، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ: ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ تَخْفِيفَ إِنْ يُبْطِلُ عَمَلَهَا، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَعْمَلَ. وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ إِعْمَالَهَا جَائِزٌ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ إِلَّا مَعَ الْمُضْمَرِ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي شَعْرٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الثِّقَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الْعَرَبِ أَنْ عُمَرَ الْمُنْطَلِقُ، وَلِثُبُوتِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَقَدْ تَأَوَّلَهَا الْكُوفِيُّونَ. وَأَمَّا لَمَّا فَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَاللَّامُ فِيهَا هِيَ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي كَمَا جَاءَ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ «1» وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ وَجَوَابِهِ الَّذِي هُوَ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ صِلَةُ، لَمَّا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ «2» وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، وَمِنْ إِيقَاعِ مَا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ قَوْلُهُمْ: لَا سِيَّمَا زَيْدٌ بِالرَّفْعِ، أي لاسي الَّذِي هُوَ زَيْدٌ. وَقِيلَ: مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَهِيَ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَالْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ وَجَوَابُهَا قَامَتْ مَقَامَ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّ كُلًّا لَخُلِقَ مُوَفًّى عَمَلُهُ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْعُرْفُ أَنْ تَدْخُلَ لَامُ الِابْتِدَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُنَا هُوَ الْقَسَمُ وَفِيهِ لَامٌ تَدْخُلُ عَلَى جَوَابِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ اللَّامَانِ وَالْقَسَمُ مَحْذُوفٌ، وَاتَّفَقَا فِي اللَّفْظِ، وَفِي تَلَقِّي الْقَسَمِ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِمَا كَمَا فَصَلُوا بَيْنَ إِنَّ وَاللَّامِ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ اللَّامَ فِي لَمَّا هِيَ اللَّامُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ، وَنَصَّ الْحَوْفِيُّ عَلَى أَنَّهَا لَامُ إِنَّ، إِلَّا أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَتَحْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لَمَّا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَمَا مَزِيدَةٌ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ وَجَوَابُهَا، وَإِلَى هَذَا القول في التحقيق يؤول قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَتَشْدِيدُ إِنَّ وَإِعْمَالُهَا فِي كُلٍّ وَاضِحٌ. وَأَمَّا تَشْدِيدُ لَمَّا فَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا لَحْنٌ، لَا تَقُولُ الْعَرَبُ إِنَّ زَيْدًا لَمَّا خَارِجٌ، وَهَذِهِ جَسَارَةٌ مِنَ الْمُبَرِّدِ عَلَى عَادَتِهِ. وَكَيْفَ تَكُونُ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لَحْنًا وَلَيْسَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ كَتَرْكِيبِ الْمِثَالِ الَّذِي قَالَ: وَهُوَ إِنَّ زَيْدًا لَمَّا خَارِجٌ هَذَا الْمِثَالُ لَحْنٌ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَلَيْسَ لَحْنًا، وَلَوْ سَكَتَ وَقَالَ كَمَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ قَدْ وُفِّقَ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِهَا. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُهُ لما منونا وقد قرىء كَذَلِكَ، ثُمَّ بُنِيَ مِنْهُ فَعْلَى، فَصَارَ كَتَتْرَى نُوِّنَ إِذْ جُعِلَتْ أَلِفُهُ لِلْإِلْحَاقِ كَأَرْطَى، وَمُنِعَ الصَّرْفَ إِذْ جُعِلَتْ أَلِفَ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ لَمَمْتُهُ أَيْ جَمَعْتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلًّا جَمِيعًا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَيَكُونُ جَمِيعًا فِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ كَكُلٍّ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا هَذِهِ هِيَ لَمَّا الْمُنَوَّنَةُ وُقِفَ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ التَّنْوِينِ، وَأَجْرَى الْأَصْلَ مجرى الوقف،

_ (1) سورة النساء: 4/ 3. (2) سورة النساء: 4/ 72

لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشِّعْرِ. وَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بَعِيدٌ، إِذْ لَا يُعْرَفُ بِنَاءُ فَعْلَى مِنَ اللَّمِّ، وَلِمَا يَلْزَمُ لِمَنْ أَمَالَ فَعْلَى أَنْ يُمِيلَهَا وَلَمْ يُمِلْهَا أَحَدٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْ كِتَابَتِهَا بِالْيَاءِ وَلَمْ تُكْتَبْ بِهَا، وَقِيلَ: لَمَّا الْمُشَدَّدَةُ هِيَ لَمَا الْمُخَفَّفَةُ، وَشَدَّدَهَا فِي الْوَقْفِ كَقَوْلِكِ: رَأَيْتُ فَرَّحًا يُرِيدُ فَرَحًا، وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَرُوِيَ عَنِ الْمَازِنِيِّ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ وَغَيْرُهُ: تَقَعُ إِلَّا زَائِدَةً، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَقَعَ لَمَّا بِمَعْنَاهَا زَائِدَةً انْتَهَى. وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ فِي إِلَّا. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ ثُقِّلَتْ، وَهِيَ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا، كَمَا خُفِّفَتْ إِنْ وَمَعْنَاهَا الْمُثَقَّلَةُ، وَلَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ تَثْقِيلُ إِنِ النَّافِيَةِ، وَلِنَصْبِ كُلٍّ وَإِنِ النَّافِيَةُ لَا تَنْصِبُ. وَقِيلَ: لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا كَقَوْلِكَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، تُرِيدُ إِلَّا فَعَلْتَ، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَضَعَّفَهُ أَبُو عَلِيٍّ قَالَ: لِأَنَّ لَمَّا هَذِهِ لَا تُفَارِقُ الْقَسَمَ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، قَدْ تُفَارِقُ الْقَسَمَ. وَإِنَّمَا يَبْطُلُ هَذَا الْوَجْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ دُخُولِ إِلَّا، لَوْ قُلْتَ: إِنْ زَيْدًا إِلَّا ضَرَبْتُهُ لَمْ يَكُنْ تَرْكِيبًا عَرَبِيًّا. وَقِيلَ: لَمَّا أَصْلُهَا لَمَنْ مَا، وَمَنْ هِيَ الْمَوْصُولَةُ، وَمَا بَعْدَهَا زَائِدَةٌ، وَاللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي خَبَرِ إِنَّ، وَالصِّلَةُ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ، فَلَمَّا أدغمت ميم مَنْ فِي مَا الزَّائِدَةِ اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ، فَحُذِفَتِ الْوُسْطَى مِنْهُنَّ وَهِيَ الْمُبْدَلَةُ مِنَ النُّونِ، فَاجْتَمَعَ الْمِثْلَانِ، فَأُدْغِمَتْ مِيمُ مَنْ فِي مِيمِ مَا، فَصَارَ لَمَّا وَقَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ نَصْرٌ الشِّيرَازِيُّ: أَصْلُ لَمَّا لَمِنْ مَا دَخَلَتْ مِنَ الْجَارَّةُ عَلَى مَا، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّا لَمِنْ مَا يَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ فَعَمِلَ بِهَا مَا عَمِلَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ جِدًّا لَمْ يُعْهَدْ حَذْفُ نُونِ مَنْ، وَلَا حَذْفُ نُونِ مِنْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، إِذَا لَقِيَتْ لَامَ التَّعْرِيفِ أَوْ شِبْهَهَا غَيْرَ الْمُدْغَمَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: مِلْمَالِ يُرِيدُونَ مِنَ الْمَالِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا تَخْرِيجَاتٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهَا. وَكُنْتُ قَدْ ظَهَرَ لِي فِيهَا وَجْهٌ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ لَمَّا هَذِهِ هِيَ لَمَّا الْجَازِمَةُ حُذِفَ فِعْلُهَا الْمَجْزُومُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، كَمَا حَذَفُوهُ فِي قَوْلِهِمْ قَارَبْتُ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا يُرِيدُونَ وَلَمَّا أَدْخُلْهَا. وَكَذَلِكَ هُنَا التَّقْدِيرُ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا يَنْقُصُ مِنْ جَزَاءِ عَمَلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، لَمَّا أَخْبَرَ بِانْتِفَاءِ نَقْصِ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ فَقَالَ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، وَكُنْتُ اعْتَقَدْتُ أَنِّي سَبَقْتُ إِلَى هَذَا التَّخْرِيجِ السَّائِغِ الْعَارِي مِنَ التَّكَلُّفِ وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِ مَنْ

يَقْرَأُ عَلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَلِتَرْكِي النَّظَرَ فِي كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ نَقْلَ هَذَا التَّخْرِيجِ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ قَالَ: لَمَّا هَذِهِ هِيَ الْجَازِمَةُ حُذِفَ فِعْلُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ جَوَازِ حَذْفِ فِعْلِهَا فِي قَوْلِهِمْ: خَرَجْتُ وَلَمَّا سَافَرْتُ، وَلَمَّا وَنَحْوُهُ، وَهُوَ سَائِغٌ فَصِيحٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمَّا يُتْرَكُوا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْمَجْمُوعَيْنِ فِي قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «1» ثُمَّ ذَكَرَ الْأَشْقِيَاءَ وَالسُّعَدَاءَ وَمُجَازَاتَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، قَالَ: وَمَا أَعْرِفُ وَجْهًا أَشْبَهَ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ النُّفُوسُ تَسْتَبْعِدُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فَتَخْرِيجُهُمَا مَفْهُومٌ مِنْ تَخْرِيجِ الْقِرَاءَتَيْنِ قَبْلَهُمَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَإِنَّ نَافِيَةٌ، وَلَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، وَالتَّقْدِيرُ: مَا كُلٌّ إِلَّا وَاللَّهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَكُلٌّ مُبْتَدَأٌ الخبر الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ وَجَوَابُهَا الَّتِي بَعْدَ لَمَّا كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ «2» إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «3» وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ مِنْ إِنْكَارِهِمَا أَنَّ لَمَّا تَكُونُ بِمَعْنَى إِلَّا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَمَّا أَخَاكَ يُرِيدُ إِلَّا أَخَاكَ، وَهَذَا غيره مَوْجُودٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَمَّا مَنْ جَعَلَ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ مَعَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ: لَمَّا قُمْتَ عَنَّا، وَإِلَّا قُمْتَ عَنَّا، فَأَمَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ نَنْقُلْهُ فِي شِعْرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ لَسُمِعَ فِي الْكَلَامِ: ذَهَبَ النَّاسُ لَمَّا زَيْدًا؟ وَالْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا، وإن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا، حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَكَوْنُ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا نَقَلَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ، وَكَوْنُ الْعَرَبِ خَصَّصَتْ مَجِيئَهَا بِبَعْضِ التَّرَاكِيبِ لَا يَقْدَحُ وَلَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهَا فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَكَمْ مِنْ شَيْءٍ خُصَّ بِتَرْكِيبٍ دُونَ مَا أَشْبَهَهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ، وَابْنِ أَرْقَمَ: لَمًّا بِالتَّنْوِينِ وَالتَّشْدِيدِ، فَلَمَّا مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَمَمْتُ الشَّيْءَ جَمَعْتُهُ، وَخُرِّجَ نَصْبُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن يَكُونَ صِفَةً لِكُلًّا وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ وَقُدِّرَ كُلٌّ مُضَافًا إِلَى نَكِرَةٍ حَتَّى يَصِحَّ الْوَصْفُ بِالنَّكِرَةِ، كَمَا وُصِفَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَكْلًا لَمًّا «4» وَهَذَا تَخْرِيجُ أَبِي عَلِيٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: قِيَامًا لأقومن، وقعودا لا قعدن، فَالتَّقْدِيرُ تَوْفِيَةٌ جَامِعَةٌ لِأَعْمَالِهِمْ لَيَوَفِّيَنَّهُمْ. وَهَذَا تَخْرِيجُ ابْنِ جِنِّيٍّ وَخَبَرُ إِنَّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ جُمْلَةُ القسم وجوابه.

_ (1) سورة هود: 11/ 105. (2) سورة يس: 36/ 32. (3) سورة الطارق: 86/ 4. (4) سورة الفجر: 89/ 19.

وَأَمَّا مَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَإِنْ نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ فَوَاضِحَةٌ، وَالْمَعْنَى: جَمِيعُ مَا لَهُمْ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتْ تَوْكِيدَاتٍ بِإِنْ وَبِكُلٍّ وَبِاللَّامِ فِي الْخَبَرِ وَبِالْقَسَمِ، وَبِمَا إِذَا كَانَتْ زَائِدَةً، وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ وَبِاللَّامِ قَبْلَهَا وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي وَعْدِ الطَّائِعِ وَوَعِيدِ الْعَاصِي، وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَهِيَ: إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي عِلْمَ مَا خَفِيَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: بِمَا تَعْمَلُونَ عَلَى الْخِطَابِ. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَقِمْ بِالْجِهَادِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: امْضِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: اسْتَقِمْ عَلَى أَمْرِ رَبِّكَ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: اسْتَقِمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ بِصِحَّةِ الْعَزْمِ ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاسْتَقِمِ اسْتِقَامَةً مِثْلَ الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي أُمِرْتَ بِهَا عَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ غَيْرَ عَادِلٍ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُمِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَمْرٌ بِالدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ. وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْكُفْرِ وَلِسَائِرِ الْأُمَّةِ، فَالْمَعْنَى: وَأُمِرْتَ مُخَاطَبَةُ تَعْظِيمٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ أَيِ: اطْلُبِ الْإِقَامَةَ عَلَى الدِّينِ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَغْفِرْ أَيِ اطْلُبِ الْغُفْرَانَ. وَمَنْ تَابَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي فَاسْتَقِمْ، وَأَغْنَى الْفَاصِلُ عَنِ التَّوْكِيدِ: وَلَا تَطْغَوْا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْقُرْآنِ فَتُحِلُّوا وَتُحَرِّمُوا مَا لَمْ آمُرْكُمْ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا تَعْصُوا رَبَّكُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تَخْلِطُوا التَّوْحِيدَ بِالشَّكِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَخْرُجُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيِّ بَصِيرٌ مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ يَرَاهَا وَيُجَازِي عَلَيْهَا. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى الرُّكُونِ الْمَيْلُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: لَا تُدَاهِنُوا الظَّلَمَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْحَقُوا بِهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا تَدْنُوَا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ، وَقِيلَ: لَا تُجَالِسُوهُمْ، وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّهَا ظَالِمَةٌ ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَقِيلَ: لَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْكَنُوا بِفَتْحِ الْكَافِ، وَالْمَاضِي رَكِنَ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ فِي مُضَارِعِ عَلِمَ غَيْرَ الْيَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَشْهَبُ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عُمَرَ: وَتَرْكُنُوا بِضَمِّ الْكَافِ مَاضِي رَكَنَ

بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَأَهْلُ نَجْدٍ. وَشَذَّ يَرْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ، مُضَارِعُ رَكَنَ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَا تَرْكَنُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَرْكَنَهُ إِذَا أَمَالَهُ، والنهي متناول لانحطاط فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتَهُمْ، وَمُجَالَسَتَهُمْ، وَزِيَارَتَهُمْ، وَمُدَاهَنَتَهُمْ، وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِمْ، وَالتَّزَيِّيَ بِزِيِّهِمْ، وَمَدَّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرَهُمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: وَلَا تَرْكَنُوا، فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ. وَقَوْلَهُ: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَيِ الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلِ الظَّالِمِينَ، قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهُ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالرِّضَا بِهِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الرُّكُونُ الرِّضَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرُّكُونُ الْإِدْهَانُ، وَالرُّكُونُ يَقَعُ فِي قَلِيلِ هَذَا وَكَثِيرِهِ. وَالنَّهْيُ هُنَا يَتَرَتَّبُ مِنْ مَعْنَى الرُّكُونِ عَنِ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ مَعَهُمْ إِلَى أَقَلِّ الرُّتَبِ، مِنْ تَرْكِ التَّعْيِيرِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُنَا هُمُ الْكَفَرَةُ، وَهُوَ النَّصُّ لِلْمُتَأَوِّلِينَ، وَيَدْخُلُ بِالْمَعْنَى أَهْلُ الْمَعَاصِي انْتَهَى. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ الْمُلُوكَ. وَسُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ ظَالِمٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فِي بَرِّيَّةٍ هَلْ يُسْقَى شَرْبَةَ مَاءٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقِيلَ لَهُ: يَمُوتُ، فَقَالَ: دَعْهُ يَمُوتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ فِي أَرْضِهِ» وَكَتَبَ إِلَى الزُّهْرِيِّ حِينَ خَالَطَ السَّلَاطِينَ أَخٌ لَهُ فِي الدِّينِ كِتَابًا طَوِيلًا قَرَّعَهُ فِيهِ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَحَمْزَةُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ: فَتَمَسَّكُمُ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَالْمَسُّ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِصَابَةِ. وَانْتَصَبَ الْفِعْلُ فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا حَالٌ. وَمَعْنَى مِنْ أَوْلِيَاءَ، مِنْ أَنْصَارٍ يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْ عَذَابِهِ. ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ لَا يَنْصُرُكُمْ هُوَ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي حِكْمَتِهِ تَعْذِيبُكُمْ، وَتَرْكُ الْإِبْقَاءِ عَلَيْكُمْ. (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى؟ ثُمَّ قُلْتُ: مَعْنَاهَا الِاسْتِبْعَادُ، لِأَنَّ النُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ مُسْتَبْعَدَةٌ مَعَ اسْتِيجَابِهُمُ الْعَذَابَ وَقَضَاءِ حِكْمَتِهِ لَهُ انْتَهَى، وَهِيَ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ثُمَّ لَا تُنْصَرُوا بِحَذْفِ النُّونِ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَتَمَسَّكُمُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَوِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ: سَبَبُ نُزُولِهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي عَالَجَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ، فَأَصَابَ مِنْهَا مَا سِوَى إِتْيَانِهَا فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ:

«لَا، بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً» وَانْظُرْ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، حَيْثُ جَاءَ الْخِطَابُ فِي الْأَمْرِ، فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «1» ، وأقم الصَّلَاةَ، مُوَحَّدًا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَامًّا، وَجَاءَ الْخِطَابُ فِي النَّهْيِ: وَلا تَرْكَنُوا «2» مُوَجَّهًا إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُخَاطَبًا بِهِ أُمَّتُهُ. فَحَيْثُ كَانَ بِأَفْعَالِ الْخَيْرِ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ، وحيث كان النهي عَنِ الْمَحْظُورَاتِ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ أُمَّتِهِ، وَهَذَا مِنْ جليل الفصاحة. ولا خلاف أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِقَامَتِهَا هِيَ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ، وَإِقَامَتُهَا دَوَامُهَا، وَقِيلَ: أَدَاؤُهَا عَلَى تَمَامِهَا، وَقِيلَ: فِعْلُهَا فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ. وَانْتَصَبَ طَرَفَيِ النَّهَارِ عَلَى الظَّرْفِ. وَطَرَفُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْءِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، لِأَنَّهُمَا طَرَفَا النَّهَارِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ، إِلَّا مَنْ شَذَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَعَمِّدًا أَنَّ يَوْمَهُ يَوْمُ فِطْرٍ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ. وَقَدِ ادَّعَى الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَمِمَّنْ قَالَ: هُمَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ: الزُّلَفُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَلَيْسَتِ الظهر فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ هِيَ فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الطَّرَفُ الْأَوَّلُ الصُّبْحُ، وَالثَّانِي الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالزُّلَفُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَلَيْسَتِ الصُّبْحَ فِي هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا: هُمَا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، وَالزُّلَفُ الْعِشَاءُ، وَلَيْسَتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: هُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالزُّلَفُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ رَاعَى الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِخْفَاءَ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، وَجَعْلُ الظُّهْرِ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي لَيْسَ بِوَاضِحٍ، إِنَّمَا الظُّهْرُ نِصْفُ النَّهَارِ، وَالنِّصْفُ لَا يُسَمَّى طَرَفًا إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَنَّ الطَّرَفَيْنِ هُمَا الصُّبْحُ والمغرب، ولا نجعل الْمَغْرِبُ طَرَفًا لِلنَّهَارِ إِلَّا بِمَجَازٍ، إِنَّمَا هُوَ طَرَفُ اللَّيْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً قَالَ: وَصَلَاةُ الْغُدْوَةِ الصُّبْحُ، وَصَلَاةُ الْعَشِيَّةِ الظَّهْرُ وَالْعَصْرُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عَشِيٌّ، وَصَلَاةُ الزُّلَفِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَشِيِّ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَنْ يَكُونَ الظُّهْرُ طَرَفًا لِلنَّهَارِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا جَاءَ بِالْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، لَا فِي الغداة والعشي.

_ (1) سورة هود: 11/ 112. (2) سورة هود: 11/ 113.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَزُلَفًا بِفَتْحِ اللَّامِ، وَطَلْحَةُ وَعِيسَى الْبَصْرَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّهَا كَأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ: بِإِسْكَانِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُمَا: وَزُلْفَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى عَلَى صِفَةِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى المنزلة. وأما القراآت الْأُخَرُ مِنَ الْجُمُوعِ فَمَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ، فَزُلَفٌ جَمْعٌ كَظُلَمٍ، وَزُلْفٌ كَبُسْرٍ فِي بُسُرٍ، وَزُلُفٌ كَبُسُرٍ فِي بُسْرَةٍ، فَهُمَا اسْمَا جِنْسٍ، وَزُلْفَى بِمَنْزِلَةِ الزُّلْفَةِ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ عَلَى طَرَفَيِ النَّهَارِ، عَطَفَ طَرَفًا عَلَى طَرَفٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ ذُكِرَ هَذِهِ القراآت وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، وَقُرَبًا مِنَ اللَّيْلِ، وَحَقُّهَا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْ: أَقِمِ الصَّلَاةَ فِي النَّهَارِ، وَأَقِمْ زُلْفَى مِنَ اللَّيْلِ عَلَى مَعْنَى صَلَوَاتٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْحَسَنَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ. وَخُصُوصُ السَّيِّئَاتِ وَهِيَ الصَّغَائِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إِلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُثْمَانُ عند وضوئه عَلَى الْمَقَاعِدِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَالِكٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَسَنَاتُ قَوْلُ الرَّجُلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ فِي الْحِسَابِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ هِيَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ. وَالصَّغَائِرُ الَّتِي تَذْهَبُ هِيَ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَهَذَا نَصُّ حُذَّاقِ الْأُصُولِيِّينَ. وَمَعْنَى إِذْهَابِهَا: تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ، وَالصَّغَائِرُ قَدْ وُجِدَتْ وَأَذْهَبَتِ الْحَسَنَاتُ مَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، لَا أَنَّهَا تَذْهَبُ حَقَائِقُهَا، إِذْ هِيَ قَدْ وُجِدَتْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ يَكُونُ لُطْفًا فِي تَرْكِ السَّيِّئَاتِ، لَا أنها واقعة كقوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «1» والظاهر أنّ الإشارة قوله ذَلِكَ، إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ أَيْ إِقَامَتَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. ذِكْرَى أَيْ: سَبَبُ عِظَةٍ وَتَذْكِرَةٍ لِلذَّاكِرِينَ أَيِ الْمُتَّعِظِينَ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، فَيَكُونُ فِي هَذِهِ الذِّكْرَى حَضًّا عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ، وَالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى القرآن، وقيل:

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 45. [.....]

ذِكْرَى مَعْنَاهَا تَوْبَةٌ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالْمَكَارِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمُنَبِّهًا عَلَى مَحَلِّ الصَّبْرِ، إِذْ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ إِلَّا بِهِ، وَأَتَى بِعَامٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، لِيَنْدَرِجَ فِيهِ كُلُّ مَنْ أَحْسَنَ بِسَائِرِ خِصَالِ الْإِحْسَانِ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ فِيهِ، وَمَا قَدْ لَا يُحْتَاجُ كَطَبْعِ مَنْ خُلِقَ كَرِيمًا، فَلَا يَتَكَلَّفُ الْإِحْسَانَ إِذْ هُوَ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحْسِنُونَ هُمُ الْمُصَلُّونَ، كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُخْلِصُونَ، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الْمُحْسِنُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ. فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ: لَوْلَا هُنَا لِلتَّحْضِيضِ، صَحِبَهَا مَعْنَى التَّفَجُّعِ وَالتَّأَسُّفِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي لَمْ تَهْتَدِ، وَهَذَا نحو قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ «1» وَالْقُرُونُ: قَوْمُ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالْبَقِيَّةُ هُنَا يُرَادُ بِهَا الْخَيْرُ وَالنَّظَرُ وَالْجَزْمُ فِي الدِّينِ، وَسُمِّيَ الْفَضْلُ وَالْجُودُ بَقِيَّةً، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمَّا يُخْرِجُهُ أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ مَثَلًا في الجودة والفضل. ويقال فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْمِ أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ، وَبِهِ فُسِرَّ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ: إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا. وَإِنَّمَا قِيلَ: بَقِيَّةٌ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ وَالدُّوَلَ وَنَحْوَهَا قُوَّتُهَا فِي أَوَّلِهَا، ثُمَّ لَا تَزَالُ تَضْعُفُ، فَمَنْ ثَبَتَ فِي وَقْتِ الضَّعْفِ فَهُوَ بَقِيَّةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. وَبَقِيَّةٌ فَعِيلَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَقِيَّةُ بِمَعْنَى الْبَقْوَى، كَالتَّقِيَّةِ بِمَعْنَى التَّقْوَى أَيْ: فلا كان منهم ذو وبقاء عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَةٍ لَهَا مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بَقِيَةٍ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَقِيَ، نَحْوُ: شَجِيَتْ فَهِيَ شَجِيَّةٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: بُقْيَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وسكون القاف، وَزْنِ فُعْلَةٍ. وَقُرِيءَ: بَقْيَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ لِلْمَرَّةِ من بقاه يبقيه إِذَا رَقَبَهُ وَانْتَظَرَهُ، وَالْمَعْنَى: فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ أُولُو مُرَاقَبَةٍ وَخَشْيَةٍ مِنِ انْتِقَامِ اللَّهِ، كَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ إِيقَاعَهُ بِهِمْ لِإِشْفَاقِهِمْ. وَالْفَسَادُ هُنَا الْكُفْرُ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَحَضٌّ لَهَا عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكِرِ. إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى جَمَاعَاتِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا مَعَ بَقَاءِ التَّحْضِيضِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى أَنَّ النَّاجِينَ لَمْ يُحَرِّضُوا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ. وَالْكَلَامُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بالتحضيض واجب، وغيره

_ (1) سورة يس: 36/ 30.

[سورة هود (11) : الآيات 117 إلى 123]

يَرَاهُ مَنْفِيًّا مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ أَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا: (فَإِنْ قُلْتَ) : فِي تَحْضِيضِهِمْ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ مَعْنَى نَفْيِهِ عَنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ أُولُوا بَقِيَّةٍ إِلَّا قَلِيلًا، كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَمَعْنًى صَحِيحًا، وَكَانَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْصَحُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَدَلِ انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِلَّا قَلِيلٌ بِالرَّفْعِ، لَحِظَ أَنَّ التَّحْضِيضَ تَضَمَّنَ النَّفْيَ، فَأَبْدَلَ كَمَا يُبْدَلُ فِي صَرِيحِ النَّفْيِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى فَلَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ ضَرْبًا مِنَ الْجَحْدِ، وَأَبَى الْأَخْفَشُ كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمْ تَارِكُو النَّهْيِ عن الفساد. وما أُتْرِفُوا فِيهِ أَيْ: مَا نَعِمُوا فِيهِ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالثَّرْوَةِ وَطَلَبِ أَسْبَابِ الْعَيْشِ الْهَنِيِّ، وَرَفَضُوا مَا فيه صلاح دينهم. واتبع اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ تَارِكِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ كَانُوا مُجْرِمِينَ أَيْ: ذَوِي جَرَائِمَ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مُضْمَرٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا شَهَوَاتِهِمْ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى نَهَوْا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ: وَاتَّبَعُوا جَزَاءَ الْإِتْرَافِ. فالواو للحال، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْجَيْنَا الْقَلِيلَ وَقَدِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا جَزَاءَهُمْ. وَقَالَ: وَكَانُوا مُجْرِمِينَ، عُطِفَ عَلَى أُتْرِفُوا، أَيِ اتَّبَعُوا الْإِتْرَافَ وَكَوْنُهُمْ مُجْرِمِينَ، لِأَنَّ تَابِعَ الشَّهَوَاتِ مَغْمُورٌ بِالْآثَامِ انْتَهَى. فَجَعَلَ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا أُتْرِفُوا فِيهِ، مَصْدَرِيَّةً، وَلِهَذَا قَدَّرَهُ: اتَّبَعُوا الْإِتْرَافَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي فِيهِ عَلَيْهَا. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اتَّبَعُوا أَيِ: اتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمْ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ بِذَلِكَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا وَحُكْمًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ انْتَهَى. وَلَا يُسَمَّى هَذَا اعْتِرَاضًا فِي اصْطِلَاحِ النَّحْوِ، لِأَنَّهُ آخِرُ آيَةٍ، فَلَيْسَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَحْتَاجُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْعَلَاءُ بْنُ سِيَابَةَ كَذَا فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ، وَأَبُو عُمَرَ فِي رِوَايَةِ الْجُعْفِيِّ: وَأُتْبِعُوا سَاكِنَةَ التَّاءِ مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَيْ جَزَاءَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا جَزَاءَ إِتْرَافِهِمْ، وَهَذَا مَعْنًى قَوِيٌّ لِتَقَدُّمِ الْإِنْجَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَهَلَكَ السائر. [سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123] وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ شَبِيهِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا لِيُهْلِكَ وَهِيَ آكَدُ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ زِيدَتِ اللَّامُ فِي خَبَرِ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَعَلَى مذهب البصريين توجه النَّفْيَ إِلَى الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ اللَّامُ، وَهُنَا وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: بِشِرْكٍ مِنْهُمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ أَيْ: مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، وَعَدْلِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ أَيْ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْصِيَةٍ تَقْتَرِنُ بِكُفْرِهِمْ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ نَاقِلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ قَائِلُهُ إِلَى نَحْوِ مَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الدُّوَلَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُمْهِلُهَا عَلَى الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، وَلَوْ عَكَسَ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَّجِهًا أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ أُمَّةً بِظُلْمِهِمْ فِي مَعَاصِيهِمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي الْإِيمَانِ. وَالَّذِي رَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ بِظُلْمٍ مِنْهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ تَنْزِيهًا لِذَاتِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وَإِيذَانًا بِأَنَّ إِهْلَاكَ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الظُّلْمِ انْتَهَى. وَهُوَ مُصَادِمٌ لِلْحَدِيثِ: «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» وَلِلْآيَةِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» . وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي لِاضْطِرَارِهِمْ إِلَى أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةً وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ كقوله: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً «2» وَهَذَا كَلَامٌ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الِاضْطِرَارِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْهَرْهُمْ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى دِينِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ مَكَّنَهُمْ مِنَ الِاخْتِيَارِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ التَّكْلِيفِ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْحَقَّ، وَبَعْضُهُمُ الْبَاطِلَ، فَاخْتَلَفُوا وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إِلَّا نَاسًا

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 25. (2) سورة الأنبياء: 21/ 92.

هَدَاهُمُ اللَّهُ وَلَطَفَ بِهِمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى دِينِ الْحَقِّ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: أُمَّةً وَاحِدَةً مُؤْمِنَةً حَتَّى لَا يَقَعَ مِنْهُمْ كُفْرٌ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُمْ عَلَى هُدًى أَوْ ضَلَالَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قوله: ولا يزالون مختلفين، هُوَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاتِّفَاقِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الْأَدْيَانِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَحْوَالِ مِنْ تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فِي الْأَهْوَاءِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَخْلُفُ بَعْضًا، فَيَكُونُ الْآتِي خَلَفًا لِلْمَاضِي. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا اخْتَلَفَ الْجَدِيدَانِ، أَيْ خَلَفَ أحدهما صاحبه. وإلّا مَنْ رَحِمَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى لَكِنْ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَوْفِيُّ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: مُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ: إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ. فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لِثَمَرَةِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ خَلَقَهُمْ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقًا لِلسَّعَادَةِ، وَخَلْقًا لِلشَّقَاوَةِ، ثُمَّ يَسَّرَ كُلًّا لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَهَذِهِ اللَّامُ فِي التَّحْقِيقِ هِيَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ فِي ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، أَوْ تَكُونُ لَامُ الصَّيْرُورَةِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: خَلَقَهُمْ لِيَصِيرَ أَمْرُهُمْ إِلَى الِاخْتِلَافِ. وَلَا يَتَعَارَضُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّحْمَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَرْحُومِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الِاخْتِلَافِ وَالرَّحْمَةِ مَعًا، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا أُشِيرَ بِالْمُفْرَدِ إِلَى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «2» أَيْ بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ. وَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ: الْمُسْتَثْنَى، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ إِلَّا الِاخْتِلَافَ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، أَوِ الرَّحْمَةَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، أَوْ كِلَاهُمَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَبْعَدَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي تَقْدِيرِ غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أجمعين، ولذلك

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 56. (2) سورة البقرة: 2/ 68.

خَلَقَهُمْ أَيْ لِمِلْءِ جَهَنَّمَ مِنْهُمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ تَرَاكِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى شُهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَشْهُودِ، وَقِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «1» وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ يَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ «2» وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقِيلَ: لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَوَّلًا مِنَ التَّمْكِينِ وَالِاخْتِيَارِ الَّذِي عَنْهُ الِاخْتِلَافُ، خَلَقَهُمْ لِيُثِيبَ مُخْتَارَ الْحَقِّ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ، وَيُعَاقِبَ مُخْتَارَ الْبَاطِلِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ سُطِّرَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيْ: نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَحَقَّ أَمْرُهُ. وَاللَّامُ فِي لِأَمْلَأَنَ، هِيَ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، أَوِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ «3» ثُمَّ قَالَ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ «4» وَالْجِنَّةُ وَالْجِنُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِنْ كَانَ الْجِنُّ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، فَالْجِنَّةُ جَمْعُهُ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ الْوَاحِدُ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَجَمْعُهُ بِالْهَاءِ لِقَوْلِ بَعْضِ الْعَرَبِ: كَمْءٌ لِلْوَاحِدِ، وَكَمْأَةٌ لِلْجَمْعِ. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ نَقُصُّ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ نَبَأٍ نَقُصُّ عليك. ومن أَنْبَاءِ الرُّسُلِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: وَكُلًّا إِذْ هِيَ مُضَافَةٌ فِي التَّقْدِيرِ إِلَى نَكِرَةٍ، وَمَا صِلَةٌ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ «5» قِيلَ: أَوْ بَدَلٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف أي: هو مَا نُثَبِّتُ، فَتَكُونُ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ مصدرية. وَأَجَازُوا أَنْ يَنْتَصِبَ كُلًّا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَمَا نُثَبِّتُ مَفْعُولٌ بِهِ بِقَوْلِكَ نَقُصُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَنَقُصُّ عَلَيْكَ الشَّيْءَ الَّذِي نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكُ كُلَّ قَصٍّ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ كُلًّا نَكِرَةً بِمَعْنَى جَمِيعًا، وَيَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مَا، أَوْ مِنَ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَقْدِيمَ حَالِ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَنَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نُثَبِّتُ بِهَا فُؤَادَكَ جَمِيعًا أَيِ: الْمُثَبِّتَةَ فُؤَادَكُ جَمِيعًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُثَبِّتُ نُسَكِّنُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَشَدُّ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نُقَوِّي. وَتَثْبِيتُ الْفُؤَادِ هُوَ بِمَا جَرَى

_ (1) سورة هود: 11/ 105. (2) سورة هود: 11/ 116. (3) سورة آل عمران: 3/ 81. (4) سورة آل عمران: 3/ 81. (5) سورة الأعراف: 7/ 3.

لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَتْبَاعِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا لَقُوا مِنْ مُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْأَذَى، فَفِي هَذَا كُلِّهِ أُسْوَةٌ بِهِمْ، إِذِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ تُهَوِّنُ مَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَذَى، ثُمَّ الْإِعْلَامُ بِمَا جَرَى عَلَى مُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُسْتَأْصِلَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ مِنْ غَرَقٍ وَرِيحٍ وَرَجْفَةٍ وَخَسْفٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ لِلنَّفْسِ، وَتَأْنِيسٌ بِأَنْ يُصِيبَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِالْعَذَابِ، كَمَا جَرَى لِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ. وَإِنْبَاءٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، كَمَا اتُّفِقَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي هَذِهِ، إِلَى أَنْبَاءِ الرُّسُلِ الَّتِي قَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، أَيِ النَّبَأِ الصِّدْقِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُطَابِقٌ بِمَا جَرَى لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ وَلَا تَحْرِيفٌ، كَمَا يَنْقُلُ شَيْئًا من ذلك المؤرخون. وموعظة أَيِ: اتِّعَاظٌ وَازْدِجَارٌ لِسَامِعِهِ، وَذِكْرَى لِمَنْ آمَنَ، إِذِ الْمَوْعِظَةُ وَالذِّكْرَى لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُ كَقَوْلِهِ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «1» وَقَوْلِهِ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى «2» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى السُّورَةِ وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا تَذَكُّرُ قَصَصِ الْأُمَمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ السُّورَةِ بِوَصْفِهَا بِالْحَقِّ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَقٌّ، أَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَعِيدِ لِلْكَفَرَةِ وَالتَّنْبِيهِ لِلنَّاظِرِ، أَيْ: جَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْحَقُّ الَّذِي أَصَابَ الْأُمَمَ الظَّالِمَةَ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ: جَاءَ الْحَقُّ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَأْتِي فِي غَيْرِ شَدِيدَةٍ وَغَيْرِ مَا وَجْهٍ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ جَاءَ الْحَقُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْإِشَارَةُ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا. قَالَ قَتَادَةُ: وَالْحَقُّ النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى السُّورَةِ مَعَ نَظَائِرِهَا. وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ: اعْمَلُوا صِيغَةُ أَمْرٍ وَمَعْنَاهُ: التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا. عَلَى مَكَانَتِكُمْ أَيْ: جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: اعْمَلُوا فِي هَلَاكِي عَلَى إِمْكَانِكُمْ، وَانْتَظِرُوا بِنَا الدَّوَائِرَ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ نَحْوُ مَا اقْتَصَّ اللَّهُ مِنَ النِّقَمِ النَّازِلَةِ بِأَشْبَاهِكُمْ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِيتَاءَ مُوَادَعَةٍ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُمَا مَنْسُوخَتَانِ، وَقِيلَ: مُحْكَمَتَانِ، وَهُمَا لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، وَلَا حَظَّ لِمَخْلُوقٍ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ: يُرْجَعُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. الْأَمْرُ كُلُّهُ أَمْرُهُمْ وَأَمْرُكَ، فَيَنْتَقِمُ لك

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 55. (2) سورة الأعلى: 87/ 10- 11.

مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: عَلِمَ مَا غَابَ في السموات وَالْأَرْضِ، أَضَافَ الْغَيْبَ إِلَيْهِمَا تَوَسُّعًا انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ كُلِّيِّهَا وَجُزْئِيِّهَا حَاضِرِهَا وَغَائِبِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا غَابَ فَهُوَ بِمَا حَضَرَ مُحِيطٌ، إِذْ عِلْمُهُ تَعَالَى لَا يَتَفَاوَتُ. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ عَلَى الْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ وَالْمَشِيئَةِ. وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ عَلَى الْأَمْرِ بِإِفْرَادِ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ بِالْعِبَادَةِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ، وَالْعِبَادَةُ أَوْلَى الرُّتَبِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا الْعَبْدُ. وَالْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتْ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ، وَهِيَ آخِرَةُ الرُّتَبِ، لِأَنَّهُ بِنُورِ الْعِبَادَةِ أَبْصَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مَعْذُوقَةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ وَحْدَهُ فِي جَمِيعِهَا، لَا يَشْرَكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَوَكَلَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَرَفَضَ سَائِرَ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَالْجُمْلَةُ الْخَامِسَةُ: تَضَمَّنَتِ التَّنْبِيهَ عَلَى الْمُجَازَاةِ، فَلَا يُضِيعُ طَاعَةَ مُطِيعٍ وَلَا يُهْمِلُ حَالَ مُتَمَرِّدٍ. وقرأ الصاحبان، وحفص، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ: تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَاخْتُلِفَ عَنِ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ.

سورة يوسف

سورة يوسف ترتيبها 12 سورة يوسف آياتها 111 [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)

الطَّرْحُ لِلشَّيْءِ رَمْيُهُ وَإِلْقَاؤُهُ، وَطَرَحَ عَلَيْهِ الثَّوْبَ أَلْقَاهُ، وَطَرَحْتُ الشَّيْءَ أَبْعَدْتُهُ وَمِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ: وَمَنْ يَكُ مِثْلِي ذَا عِيَالٍ وَمُقْتِرًا ... مِنَ الْمَالِ يَطْرَحْ نَفْسَهُ كُلَّ مَطْرَحِ وَالنَّوَى: الطَّرُوحُ الْبَعِيدَةُ. الْجُبُّ: الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ، فَإِذَا طُوِيَتْ فَهِيَ بِئْرٌ. قَالَ الْأَعْشَى: لَئِنْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَرُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَيُجْمَعُ عَلَى جُبَبٍ وَجِبَابٍ وَأَجْبَابٍ، وَسُمِّيَ جُبًّا لِأَنَّهُ قُطِعَ فِي الْأَرْضِ، مِنْ جَبَبْتُ أَيْ قَطَعْتُ. الِالْتِقَاطُ: تَنَاوَلُ الشَّيْءِ مِنَ الطَّرِيقِ، يُقَالُ: لَقَطَهُ وَالْتَقَطَهُ. وَقَالَ: وَمَنْهَلٌ لَقَطْتُهُ الْتِقَاطًا. وَمِنْهُ: اللُّقَطَةُ وَاللَّقِيطُ. ارْتَعَى افْتَعَلَ مِنَ الرَّعْيِ بِمَعْنَى الْمُرَاعَاةِ وَهِيَ الْحِفْظُ لِلشَّيْءِ، أَوْ مِنَ الرَّعْيِ وَهُوَ أَكْلُ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ، يُقَالُ: رَعَتِ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ تَرْعَاهُ رَعْيًا أَكْلَتْهُ، وَالرِّعْيُ بِالْكَسْرِ الْكَلَأُ، وَمِثْلُهُ ارْتَعَى. قَالَ الْأَعْشَى: ترتعي السفح فالكثيب فذاقا ... رٍ فَرَوْضَ الْقَطَا فَذَاتَ الرِّمَالِ رَتَعَ أَقَامَ فِي خِصْبٍ وَتَنَعُّمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْغَضْبَانِ بْنِ الْقَبَعْثَرَى: الْقَيْدُ، وَالْمُتْعَةُ، وَقِلَّةُ الرَّتْعَةِ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا الذِّئْبُ: سَبُعٌ مَعْرُوفٌ، وَلَيْسَ فِي صَقْعِنَا الْأَنْدَلُسِيِّ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَذْؤُبٍ وَذِئَابٍ وَذُؤْبَانٍ قَالَ: وَأَزْوَرَ يَمْطُو فِي بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... تَعَاوَى بِهِ ذُؤْبَانُهُ وَثَعَالِبُهُ وَأَرْضٌ مَذْأَبَةٌ كَثِيرَةُ الذِّئَابِ، وَتَذَاءَبَتِ الرِّيحُ جَاءَتْ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، فِعْلُ الذِّئْبِ وَمِنْهُ الذُّؤَابَةُ مِنَ الشَّعْرِ لِكَوْنِهَا تَنُوسُ إِلَى هنا وإلى هنا. الكذب بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْكَدَرِ، وَقِيلَ: الطَّرِيُّ. سَوَّلَ مِنَ السَّوَلِ، وَمَعْنَاهُ سَهَّلَ، وَقِيلَ: زَيَّنَ. أَدْلَى الدَّلْوَ أَرْسَلَهَا لِيَمْلَأَهَا، وَدَلَّاهَا يَدْلُوهَا جَذَبَهَا وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْبِئْرِ. قَالَ: لَا تعقلوها وادلوها دلوا. والدلو مَعْرُوفٌ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فَتُصَغَّرُ على دليتة، وَتُجْمَعُ عَلَى أَدْلٍ وَدِلَاءٍ وَدُلِيٍّ. الْبِضَاعَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَالِ تُجْعَلُ

لِلتِّجَارَةِ، مِنْ بَضَعْتُهُ إِذَا قَطَعْتَهُ، وَمِنْهُ الْمِبْضَعُ. الْمُرَاوَدَةُ الطَّلَبُ بِرِفْقٍ وَلِينُ الْقَوْلِ، وَالرَّوْدُ التَّأَنِّي يُقَالُ: أَرْوِدْنِي أمهلني، والزيادة طَلَبُ النِّكَاحِ. وَمَشَى رُوَيْدًا أَيْ بِرِفْقٍ. أَغْلَقَ الْبَابَ وَأَصْفَدَهُ وَأَقْفَلَهُ بِمَعْنًى. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: مَا زِلْتُ أُغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا ... حَتَّى أَتَيْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ عَمَّارٍ هَيْتَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَسْرِعْ. قَدَّ الثَّوْبَ: شَقَّهُ. السَّيِّدُ فَيْعِلٌ مِنْ سَادَ يَسُودُ، يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِكِ، وَعَلَى رَئِيسِ الْقَوْمِ. وَفَيْعِلٌ بِنَاءٌ مُخْتَصٌّ بِالْمُعْتَلِّ، وَشَذَّ بَيْئِسُ وَصَيْقِلُ اسْمُ امْرَأَةٍ. السِّجْنُ: الْحَبْسُ. الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ أَمَرَتْهُمُ الْيَهُودُ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَحَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِصْرَ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: سَبَبُهُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُ بِهِ قَوْمُهُ بِمَا فَعَلَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِهِ. وَقِيلَ: سَأَلَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَدِّثَهُمْ أَمْرَ يَعْقُوبَ وَوَلَدِهِ، وَشَأْنَ يُوسُفَ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَنَزَلَتْ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا وَارْتِبَاطِهَا أَنَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «1» وَكَانَ فِي تِلْكَ الْأَنْبَاءِ الْمَقْصُوصَةِ فِيهَا ما لا قى الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ، وَمَا لَاقَاهُ مِنْ إِخْوَتِهِ، وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ حَالُهُ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ، لِيَحْصُلَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّسْلِيَةُ الْجَامِعَةُ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ أَذَى الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُطَوَّلَةً مُسْتَوْفَاةً، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ. والإشارة بتلك آيَاتُ إِلَى الر وَسَائِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي تَرَكَّبَتْ مِنْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ، أَوْ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَوِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ هُودٍ، أَوْ إِلَى آيات السورة. والكتاب الْمُبِينِ السُّورَةِ أَيْ: تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَقْوَالٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. وَالْمُبِينُ إِمَّا الْبَيِّنُ فِي نَفْسِهِ الظَّاهِرُ أَمْرُهُ فِي إِعْجَازِ الْعَرَبِ وَتَبْكِيتِهِمْ، وَإِمَّا الْمُبِينُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْحُدُودَ وَالْأَحْكَامَ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، أَوِ الْمُبِينُ الْهُدَى وَالرُّشْدَ وَالْبَرَكَةَ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوِ الْمُبِينُ مَا سَأَلَتْ عَنْهُ الْيَهُودُ، أَوْ مَا أَمَرَتْ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ حَالِ انْتِقَالِ يَعْقُوبَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ وَعَنْ قِصَّةِ

_ (1) سورة هود: 11/ 120.

يُوسُفَ، أَوِ الْمُبِينُ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَجَوْدَتِهِ، إِذْ فِيهِ سِتَّةُ أَحْرُفٍ لَمْ تُجْمَعْ فِي لِسَانٍ، رُوِيَ هَذَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَهِيَ الطَّاءُ، وَالظَّاءُ، وَالضَّادُ، وَالصَّادُ، وَالْعَيْنُ، وَالْخَاءُ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ قِصَّةُ يُوسُفَ، وَقِيلَ: عَلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: عَلَى نَبَأِ يُوسُفَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: هو ضمير الإنزال. وقرآنا هُوَ الْمَعْطُوفُ بِهِ، وَهَذَانِ ضَعِيفَانِ. وَانْتَصَبَ قُرْآنًا، قِيلَ: عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ، وَقِيلَ عَلَى الْحَالِ الْمُوطِّئَةِ. وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وعربيا مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَرَبِ. وَالْعَرَبُ جَمْعُ عَرَبِيٍّ، كَرُومٍ وَرُومِيٍّ، وَعَرِبَةُ نَاحِيَةُ دَارِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَرْبَةُ أَرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرَامَهَا ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا اللَّوْذَعِيُّ الْحُلَاحِلُ وَيَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحِلَّتْ لَهُ مَكَّةُ. وَسَكَّنَ رَاءَ عَرْبَةُ الشَّاعِرُ ضَرُورَةً. قِيلَ: وَإِنْ شِئْتَ نَسَبْتَ الْقُرْآنَ إِلَيْهَا ابْتِدَاءً أَيْ: عَلَى لُغَةِ أَهْلِ هَذِهِ النَّاحِيَةِ. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مَا تَضَمَّنَ مِنَ الْمَعَانِي، وَاحْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ فَتُؤْمِنُونَ، إِذْ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَقِيلَ: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «1» . نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: الْقَصَصِ: مَصْدَرُ قَصَّ، وَاسْمُ مَفْعُولٍ إِمَّا لِتَسْمِيَتِهِ بِالْمَصْدَرِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْفِعْلِ يَكُونُ لِلْمَفْعُولِ، كَالْقَبْضِ وَالنَّقْصِ. وَالْقَصَصُ هُنَا يَحْتَمِلُ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ. فَإِنْ كَانَ الْمَصْدَرَ فَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَحْسَنَ أَنَّهُ اقْتُصَّ عَلَى أَبْدَعِ طَرِيقَةٍ، وَأَحْسَنِ أُسْلُوبٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُقْتَصٌّ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَفِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ، وَلَا تَرَى اقْتِصَاصَهُ فِي كِتَابٍ مِنْهَا مُقَارِبًا لِاقْتِصَاصِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْعُولَ فَكَانَ أَحْسَنَهُ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ والعجائب التي ليس فِي غَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَحْسَنُ مَا يُقَصُّ فِي بَابِهِ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ، يراد في فنه.

_ (1) سورة فصلت: 41/ 44. [.....]

وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِانْفِرَادِهَا عَنْ سَائِرِهَا بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالشَّيَاطِينِ، وَالْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، وَالْأَنْعَامِ، وَالطَّيْرِ، وَسِيَرِ الْمُلُوكِ، وَالْمَمَالِكِ، وَالتُّجَّارِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ وَكَيْدِهِنَّ وَمَكْرِهِنَّ، مَعَ مَا فِيهَا مِنَ ذِكْرِ التَّوْحِيدِ، وَالْفِقْهِ، وَالسِّيَرِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَحُسْنِ الْمِلْكَةِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَالْحِيَلِ، وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ، وَالْمَعَادِ، وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فِي الْعِفَّةِ، وَالْجِهَادِ، وَالْخَلَاصِ مِنَ الْمَرْهُوبِ إِلَى الْمَرْغُوبِ، وَذِكْرِ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ، وَمَرْأَى السِّنِينَ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَالْعَجَائِبِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقِيلَ: كَانَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا كَانَ مَآلُهُ إِلَى السَّعَادَةِ. انْظُرْ إِلَى يُوسُفَ وَأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ والملك أسلم بيوسف وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَمُعَبِّرِ الرُّؤْيَا السَّاقِي، وَالشَّاهِدِ فِيمَا يُقَالُ. وَقِيلَ: أَحْسُنُ هُنَا لَيْسَتْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى حَسَنٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَسَنَ الْقَصَصِ، مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أي: القصص الحسن. وما في بما أَوْحَيْنَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِإِيحَائِنَا. وَإِذَا كَانَ الْقَصَصُ مَصْدَرًا فَمَفْعُولُ نَقُصُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ هَذَا الْقُرْآنَ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، إِذْ تَنَازَعَهُ نَقُصُّ. وأوحينا فَأُعْمِلَ الثَّانِي عَلَى الْأَكْثَرِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ قَبْلِهِ يَعُودُ عَلَى الْإِيحَاءِ. وَتَقَدَّمَتْ مَذَاهِبُ النُّحَاةِ فِي أَنِ الْمُخَفَّفَةِ وَمَجِيءِ اللَّامِ فِي ثاني الجزءين. وَمَعْنَى مِنَ الْغَافِلِينَ: لَمْ يَكُنْ لَكَ شُعُورٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَا سَبَقَ لَكَ عِلْمٌ فِيهَا، وَلَا طَرَقَ سَمْعَكَ طَرَفٌ مِنْهَا. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: اذْكُرْ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ قَالَ: وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الْوَقْتَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقَصَصِ وَهُوَ الْمَقْصُوصُ، فَإِذَا قَصَّ وَقْتَهُ فَقَدْ قَصَّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ نَقُصُّ كَانَ الْمَعْنَى: نَقُصُّ عَلَيْكَ الْحَالَ، إِذْ وَهَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ لَا تَتَّجِهُ حَتَّى تُخْلَعَ إِذْ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْوَقْتِ الْمَاضِي، وَتُجَرَّدَ لِلْوَقْتِ الْمُطْلَقِ الصَّالِحِ لِلْأَزْمَانِ كُلِّهَا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِيَّةِ. وَحَكَى مَكِّيٍّ أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ الْغَافِلِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ، كَمَا تَقُولُ: إِذْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، وَتَبْقَى إِذْ عَلَى وَضْعِهَا الْأَصْلِيِّ مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفًا لِمَا مضى. ويوسف اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَتَقَدَّمَتْ سِتُّ لُغَاتٍ فِيهِ. وَمَنْعُهُ الصَّرْفَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسَفِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ لُغَاتِهِ يَكُونُ فِيهِ الْوَزْنُ الْغَالِبُ، لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ أَعْجَمِيًّا غَيْرَ أَعْجَمِيٍّ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالْهَمْزِ وَفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ: يَا أَبَتَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا، وَوَقَفَ الِابْنَانِ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ، وَهَذِهِ التَّاءُ عِوَضٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَتَجَامَعَ الْأَلِفُ الَّتِي

هِيَ بَدَلٌ مِنَ التَّاءِ قَالَ: يَا أَبَتَا عَلَّكَ أَوْ عَسَاكَا. وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّاءِ مَفْتُوحَةً أَنَّهُ اجْتَزَأَ بِالْفَتْحَةِ عَنِ الألف، أَوْ رُخِّمَ بِحَذْفِ التَّاءِ، ثُمَّ أُقْحِمَتْ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. أَوْ الْأَلِفُ فِي أَبَتَا لِلنُّدْبَةِ، فَحَذَفَهَا قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقُطْرُبٌ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ نُدْبَةٍ أَوِ الْأَصْلُ يَا أَبَةً بِالتَّنْوِينِ، فَحُذِفَ وَالنِّدَاءُ نَادِ حُذِفَ قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ التَّنْوِينَ لَا يُحْذَفُ مِنَ الْمُنَادَى الْمَنْصُوبِ نَحْوَ: يَا ضَارِبًا رَجُلًا، وَفَتَحَ أَبُو جَعْفَرٍ يَاءَ إِنِّيَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَحَدَ عَشَرَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَلِيَظْهَرَ جَعْلُ الاسمين اسما واحدا. ورأيت هِيَ حُلْمِيَّةٌ لِدَلَالَةِ مُتَعَلِّقِهَا عَلَى أَنَّهُ مَنَامٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَوَاكِبَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقِيلَ: رَأَى إِخْوَتَهُ وَأَبَوَيْهِ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَعَبَّرَ عَنِ الشَّمْسِ عَنْ أُمِّهِ. وَقِيلَ: عَنْ خَالَتِهِ رَاحِيلَ، لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مَاتَتْ. وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ، فَسَكَتَ عَنْهُ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ بِأَسْمَائِهَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: جَرَيَانُ، وَالطَّارِقُ، وَالذَّيَّالُ، وَذُو الْكَتِفَيْنِ، وَقَابِسُ، وَوَثَّابُ، وَعَمُودَانُ، وَالْفَلِيقُ، وَالْمُصْبِحُ، وَالضَّرُوحُ، وَالْفُرُغُ، وَالضِّيَاءُ، وَالنُّورُ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِي وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ مُسْنَدًا إلى الحرث بْنِ أَبِي أُسَامَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِلَافٍ، وَذَكَرَ النَّطْحَ عِوَضًا عَنِ الْمُصْبَحِ. وَعَنْ وَهْبٍ أَنَّ يُوسُفَ رَأَى وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ عَصًا طُوَالًا كَانَتْ مَرْكُوزَةً فِي الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدَّارَةِ، وَإِذَا عَصًا صَغِيرَةٌ تَثِبُ عَلَيْهَا حَتَّى اقْتَلَعَتْهَا وَغَلَبَتْهَا، فَوَصَفَ ذَلِكَ لِأَبِيهِ فَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ هَذَا لِإِخْوَتِكَ، ثُمَّ رَأَى وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ سُجُودًا لَهُ فَقَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُصُّهَا عَلَيْهِمْ فَيَبْغُوا لَكَ الْغَوَائِلَ، وَكَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَسِيرِ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ. وَرُوِيَ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ كَانَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ جُمُعَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَا مُنْدَرِجَيْنِ فِي الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَلِذَلِكَ حِينَ عَدَّهُمَا الرَّسُولُ لِلْيَهُودِيِّ ذَكَرَ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا غَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُمَا مُنْدَرِجَانِ فِي الْأَحَدَ عَشَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ أَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؟ (قُلْتُ) : أَخَّرَهُمَا لِيَعْطِفَهُمَا عَلَى الْكَوَاكِبِ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِصَاصِ إِثْبَاتًا لِفَضْلِهِمَا، وَاسْتِبْدَادِهِمَا بِالْمَزِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الطَّوَالِعِ، كَمَا أَخَّرَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ عَطَفَهُمَا عَلَيْهِمَا. لِذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ

تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: رَأَيْتُ الْكَوَاكِبَ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّأْخِيرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَلَمْ يَقَعِ التَّرَقِّي فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ جَرْيًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَا قُدِّمَتْ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «1» وَقَالَ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً «2» وَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِسُطُوعِ نُورِهَا وَكِبَرِ جَرْمِهَا وَغَرَابَةِ سَيْرِهَا، وَاسْتِمْدَادِهِ مِنْهَا، وَعُلُوِّ مَكَانِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَأَيْتُهُمْ كَرَّرَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِلطُّولِ بِالْمَفَاعِيلِ، كَمَا كُرِّرَ إِنَّكُمْ فِي قَوْلِهِ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «3» لِطُولِ الْفَصْلِ بِالظَّرْفِ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى تَكْرَارِ رَأْيَتُهُمْ؟ (قُلْتُ) : لَيْسَ بِتَكْرَارٍ، إِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ وَقَعَ جَوَابًا لَهُ، كَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كَيْفَ رَأَيْتَهَا سَائِلًا عَنْ حَالِ رُؤْيَتِهَا؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ انْتَهَى. وَجَمَعَهُمْ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ، لِصُدُورِ السُّجُودِ لَهُ، وَهُوَ صِفَةُ مَنْ يَعْقِلُ، وَهَذَا سَائِغٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الشَّيْءَ حُكْمَ الشَّيْءِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي وَصْفٍ مَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ أَصْلُهُ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا. وَالسُّجُودُ: سُجُودُ كَرَامَةٍ، كَمَا سَجَدَتِ الْمَلَائِكَةُ لِآدَمَ. وَقِيلَ: كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ السُّجُودُ تَحِيَّةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَلَمَّا خَاطَبَ يُوسُفُ أَبَاهُ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ، وَفِيهِ إِظْهَارُ الطَّوَاعِيَةِ وَالْبِرِّ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَحَلِّ الشَّفَقَةِ بِطَبْعِ الْأُبُوَّةِ خَاطَبَهُ أَبُوهُ بِقَوْلِهِ: يَا بُنَيَّ، تَصْغِيرُ التَّحْبِيبِ وَالتَّقْرِيبِ وَالشَّفَقَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ هُنَا وَفِي لُقْمَانَ، وَالصَّافَّاتِ: يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَابْنُ كَثِيرٍ فِي لقمان: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ «4» وَقُنْبُلٌ يَا بُنَيْ أَقِمْ بِإِسْكَانِهَا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا تَقُصُّ مُدْغَمًا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْجُمْهُورُ بِالْفَكِّ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَالرُّؤْيَا مَصْدَرٌ كَالْبُقْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الرُّؤْيَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقَظَةِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بحر في التَّأْنِيثِ كَمَا قِيلَ: الْقُرْبَةُ وَالْقُرْبَى انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رُؤْيَاكَ وَالرُّؤْيَا حَيْثُ وَقَعَتْ بِالْهَمْزِ مِنْ غَيْرِ إِمَالَةٍ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِالْإِمَالَةِ وَبِغَيْرِ الْهَمْزِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَإِخْوَةُ يُوسُفَ هُمْ: كَاذٌ، وَبِنْيَامِينُ، وَيَهُوذَا، وَنَفْتَالِي، وَزَبُولُونُ، وَشَمْعُونُ، وَرُوبِينُ، وَيُقَالَ بِاللَّامِ كَجِبْرِيلَ، وَجِبْرِينُ، وَيُسَاخَا، وَلَاوِي، وَذَانٌ، وَيَاشِيرُ. فَيَكِيدُوا لك: منصوب

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 5. (2) سورة يونس: 10/ 5. (3) سورة المؤمنون: 23/ 35. (4) سورة لقمان: 31/ 13.

بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَعُدِّيَ فَيَكِيدُوا بِاللَّامِ، وَفِي «فَكِيدُونِ» «1» بِنَفْسِهِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ شَكَرْتُ زَيْدًا وَشَكَرْتُ لِزَيْدٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ، ضَمَّنَ فَيَكِيدُوا مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَيَحْتَالُوا لَكَ بِالْكَيْدِ، وَالتَّضْمِينُ أَبْلَغُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ أُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ. وَنَبَّهَ يَعْقُوبُ عَلَى سَبَبِ الْكَيْدِ وَهُوَ: مَا يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ وَيُسَوِّلُهُ لَهُ، وَذَلِكَ لِلْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَهُوَ يَجْتَهِدُ دَائِمًا أَنْ يُوقِعَهُ فِي الْمَعَاصِي وَيُدْخِلَهُ فِيهَا وَيَحُضَّهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ يَعْقُوبُ دَلَّتْهُ رُؤْيَا يُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْلِغُهُ مَبْلَغًا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَيَصْطَفِيهِ لِلنُّبُوَّةِ، وَيُنْعِمُ عَلَيْهِ بِشَرَفِ الدَّارَيْنِ كَمَا فَعَلَ بِآبَائِهِ، فَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ حَسَدِ إِخْوَتِهِ، فَنَهَاهُ مِنْ أَنْ يَقُصَّ رُؤْيَاهُ لَهُمْ. وَفِي خِطَابِ يَعْقُوبَ لِيُوسُفَ تَنْهِيَةٌ عَنْ أَنْ يَقُصَّ عَلَى إِخْوَتِهِ مَخَافَةَ كَيْدِهِمْ، دَلَالَةً عَلَى تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مِمَّنْ يَخَافُهُ عَلَيْهِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِ مَا لَا يَلِيقُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي بَابِ الْغَيْبَةِ. وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الِاجْتِبَاءِ، وَهُوَ مَا أَرَاهُ مِنْ تِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي دَلَّتْ عَلَى جَلِيلِ قَدْرِهِ، وَشَرِيفِ مَنْصِبِهِ، وَمَآلِهِ إِلَى النبوة والرسالة والملك. ويجتبيك: يَخْتَارُكَ رَبُّكَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ. قَالَ الْحَسَنُ: لِلنُّبُوَّةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلسُّجُودِ لَكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأُمُورٍ عِظَامٍ. وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَيْسَ دَاخِلًا فِي التَّشْبِيهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ يُعَلِّمُكَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ عِبَارَةُ الرُّؤْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَوَاقِبُ الْأُمُورِ، وَقِيلَ: عَامَّةٌ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: غَرَائِبُ الرُّؤْيَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَحَادِيثِ الرُّؤَى، لِأَنَّ الرُّؤَى إِمَّا حَدِيثُ نَفْسٍ أَوْ مَلَكٍ أَوْ شَيْطَانٍ، وَتَأْوِيلُهَا عِبَارَتُهَا وَتَفْسِيرُهَا، فَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْبَرَ النَّاسِ لِلرُّؤْيَا وَأَصَحَّهُمْ عِبَارَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ مَعَانِي كُتِبِ اللَّهِ وَسِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا غَمُضَ وَاشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فِي أَغْرَاضِهَا وَمَقَاصِدِهَا، يُفَسِّرُهَا لَهُمْ وَيَشْرَحُهَا، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مُودَعَاتِ حِكَمِهَا. وَسُمِّيَتْ أَحَادِيثَ لِأَنَّهَا تُحَدَّثُ بِهَا عَنِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فَيُقَالُ: قَالَ اللَّهُ: وَقَالَ الرَّسُولُ: كَذَا وَكَذَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «2» اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «3» كِتَابًا وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِجَمْعِ أُحْدُوثَةٍ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِاسْمِ جَمْعٍ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هُوَ

_ (1) سورة هود: 11/ 55. (2) سورة الأعراف: 7/ 185. (3) سورة الزمر: 39/ 23.

جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِحَدِيثٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَمَا قَالُوا: أَبَاطِلُ وَأَبَاطِيلُ، وَلَمْ يَأْتِ اسْمُ جَمْعٍ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ. وَإِذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي عَبَادِيدَ وَيَنَاذِيرَ أَنَّهُمَا جَمْعَا تَكْسِيرٍ وَلَمْ يُلْفَظْ لَهُمَا بِمُفْرَدٍ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَحَادِيثُ وَأَبَاطِيلُ جَمْعَيْ تَكْسِيرٍ؟. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَإِتْمَامُهَا بِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَلَ لَهُمْ نِعْمَةَ الدُّنْيَا بِأَنْ جَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، بِنِعْمَةِ الْآخِرَةِ بِأَنْ نَقَلَهُمْ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِكَ وَتَحْقِيقِ رُؤْيَاكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا شَيْءٌ أَعْلَمَهُ اللَّهُ يَعْقُوبَ مِنْ أَنَّهُ سَيُعْطِي يُوسُفَ النُّبُوَّةَ. وَقِيلَ: بِأَنْ يُحَوِّجَ إِخْوَتَكَ إِلَيْكَ، فَتُقَابِلُ الذَّنْبَ بِالْغُفْرَانِ، وَالْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ. وَقِيلَ: بِإِنْجَائِكَ مِنْ كُلِّ مكروه. وآل يعقوب الظاهر أنهم أَوْلَادُهُ وَنَسْلُهُمْ أَيْ: نَجْعَلُ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمْ نَسْلُهُمْ وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: أَهْلُ دِينِهِ وَأَتْبَاعُهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: مَنْ آلُكَ؟ فَقَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ» وَقِيلَ: امْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الْأَحَدَ عَشَرَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَعْقُوبُ نَفْسُهُ خَاصَّةً. وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ، وَالْإِنْجَاءِ مِنَ النَّارِ، وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِ نَمْرُوذَ. وَعَلَى إِسْحَاقَ بِإِخْرَاجِ يَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ مِنْ صُلْبِهِ. وسمي الجد وأبا الْجَدِّ أَبَوَيْنِ، لِأَنَّهُمَا فِي عَمُودِ النَّسَبِ كَمَا قَالَ: وَإِلهَ آبائِكَ «1» وَلِهَذَا يَقُولُونَ: ابْنُ فُلَانٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا عِدَّةٌ فِي عَمُودِ النَّسَبِ. إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الِاجْتِبَاءَ، حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ مُنَاسِبَانِ لِهَذَا الْوَعْدِ الذي وعده يعقوب ويوسف عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ قِيلَ: وَعَلِمَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَةِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَشَبَّهَ لَهُ بِعَيْصُو. لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ: آيَاتٌ أَيْ: عَلَامَاتٌ وَدَلَائِلُ عَلَى قدرة الله تعالى وحكمته فِي كُلِّ شَيْءٍ لِلسَّائِلِينَ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُمْ وَعَرَفَ قِصَّتَهُمْ. وَقِيلَ: آيَاتٌ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ سَأَلُوهُ مِنَ الْيَهُودِ عَنْهَا، فَأَخْبَرَهُمْ بِالصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ مِنْ أَحَدٍ، وَلَا قِرَاءَةِ كِتَابٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّلَالَاتُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَعَلَى مَا أَظْهَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مِنْ عَوَاقِبِ الْبَغْيِ عَلَيْهِ، وَصِدْقِ رُؤْيَاهُ، وَصِحَّةِ تَأْوِيلِهِ، وَضَبَطِ نَفْسِهِ وَقَهْرِهَا حَتَّى قَامَ بِحَقِّ الْأَمَانَةِ، وَحُدُوثِ السُّرُورِ بَعْدَ الْيَأْسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِمَنْ سَأَلَ وَلِمَنْ لم يسأل لقوله:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 133.

سَواءً لِلسَّائِلِينَ «1» أَيْ سَوَاءً لِمَنْ سَأَلَ وَلِمَنْ لَمْ يَسْأَلْ. وَحَسُنَ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ قوة الكلام عليه لقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» أَيْ وَالْبَرْدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ لِلسَّائِلِينَ، يَقْتَضِي تَحْضِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ الْأَنْبَاءِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا الْمُرَادُ آيَاتٌ لِلنَّاسِ، فَوَصَفَهُمْ بِالسُّؤَالِ، إِذْ كُلُّ أَحَدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَصِ، إِذْ هِيَ مَقَرُّ الْعِبَرِ وَالِاتِّعَاظِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ أَسْمَاءِ إِخْوَةِ يُوسُفَ مَنْقُولَةً مِنْ خَطِّ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبِيسَانِيِّ، وَنَقَلَهَا مِنْ خَطِّ الشَّرِيفِ النَّقِيبِ النَّسَّابَةِ أَبِي الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ الْحُسَيْنِيِّ الْجَوَّانِيِّ مُحَرَّرَةٌ بِالنُّقَطِ، وَتُوجَدُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مُحَرَّفَةً مُخْتَلِفَةً، وَكَانَ رُوبِيلُ أَكْبَرَهُمْ، وَهُوَ وَيَهُوذَا، وَشَمْعُونُ، وَلَاوِي، وَزَبُولُونُ، وَيُسَاخَا، شَقَائِقُ أُمِّهِمْ لَيَّا بِنْتِ لِيَانَ بْنِ نَاهِرَ بْنِ آزَرَ وَهِيَ: بِنْتُ خَالِ يَعْقُوبَ، وَذَانُ وَنَفْتَالِي، وَكَاذُ وَيَاشِيرُ، أَرْبَعَةٌ مِنْ سُرِّيَّتَيْنِ كَانَتَا لَلَيَّا وَأُخْتِهَا رَاحِيلَ، فَوَهَبَتَاهُمَا لِيَعْقُوبَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَحِلَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ. وَأَسْمَاءُ السُّرِّيَّتَيْنِ فِيمَا قِيلَ: لَيَّا، وَتَلْتَا، وتوقيت أُمُّ السَّبْعَةِ فَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا يَعْقُوبُ أُخْتِهَا رَاحِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ، وَمَاتَتْ مِنْ نِفَاسِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَشِبْلٌ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَابْنُ كَثِيرٍ: آيَةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْجُمْهُورُ آيَاتٌ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ عِبْرَةٌ لِلسَّائِلِينَ مَكَانَ آيَةٍ. وَالضَّمِيرُ فِي قَالُوا عَائِدٌ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ وَأَخُوهُ هُوَ بِنْيَامِينُ، وَلَمَّا كَانَا شَقِيقَيْنِ أَضَافُوهُ إِلَى يُوسُفَ. وَاللَّامُ فِي لَيُوسُفُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَفِيهَا تَأْكِيدٌ وَتَحْقِيقٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ أَيْ: كَثْرَةُ حُبِّهِ لَهُمَا ثَابِتٌ لا شبهة فيه. وأحب أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَهِيَ مَبْنِيٌّ مِنَ الْمَفْعُولِ شُذُوذًا، وَلِذَلِكَ عدى بإلى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ فَاعِلًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عُدِّيَ إِلَيْهِ بإلى، وَإِذَا كَانَ مَفْعُولًا عُدِّيَ إليه بفي، تَقُولُ: زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ، فَالضَّمِيرُ فِي أَحَبُّ مَفْعُولٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَعَمْرٌو هُوَ الْمُحِبُّ. وَإِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ، كَانَ الضَّمِيرُ فَاعِلًا، وعمرو هو المحبوب. ومن خَالِدٍ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ مَحْبُوبٌ، وَفِي الثَّانِي فَاعِلٌ، وَلَمْ يَبْنِ أَحَبُّ لِتَعَدِّيهِ بمن. وَكَانَ بِنْيَامِينُ أَصْغَرَ مِنْ يُوسُفَ، فَكَانَ يَعْقُوبُ يُحِبُّهُمَا بِسَبَبِ صِغَرِهِمَا وَمَوْتِ أُمِّهِمَا، وَحُبُّ الصَّغِيرِ وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ مَرْكُوزٌ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ. وَقِيلَ لِابْنَةِ الْحَسَنِ: أَيُّ بَنِيكِ أَحَبُّ إِلَيْكِ؟ قَالَتْ: الصَّغِيرُ حَتَّى يَكْبُرَ، وَالْغَائِبُ حَتَّى يَقْدَمَ، وَالْمَرِيضُ حَتَّى يُفِيقَ. وَقَدْ نَظَّمَ الشُّعَرَاءُ فِي مَحَبَّةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 10. (2) سورة النحل: 16/ 81.

قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْوَزِيرُ أَبُو مَرْوَانَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِدْرِيسَ الْجُزَيْرِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَى أَوْلَادِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ: وَصَغِيرُكُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَإِنَّنِي ... أَطْوِي لِفُرْقَتِهِ جَوًى لَمْ يَصْغُرِ ذَاكَ الْمُقَدَّمُ فِي الْفُؤَادِ وَإِنْ غَدَا ... كُفُؤًا لَكُمْ فِي الْمُنْتَمَى وَالْعُنْصُرِ إن البنان الْخَمْسَ أَكْفَاءٌ مَعًا ... وَالْحَلْيُ دُونَ جَمِيعِهَا لِلْخِنْصِرِ وَإِذَا الْفَتَى بَعْدَ الشَّبَابِ سَمَا لَهُ ... حُبُّ الْبَنِينَ وَلَا كَحُبِّ الْأَصْغَرِ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: تُفَضِّلُهُمَا عَلَيْنَا فِي الْمَحَبَّةِ، وَهُمَا ابْنَانِ صَغِيرَانِ لَا كِفَايَةَ فِيهِمَا وَلَا مَنْفَعَةَ، وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ عَشَرَةُ رِجَالٍ كُفَاةٌ نَقُومُ بِمُرَافَقَةٍ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِزِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ مِنْهُمَا. وَرَوَى النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَنَحْنُ عُصْبَةً. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَنَحْنُ نَجْتَمِعُ عُصْبَةً، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَهُوَ عَامِلٌ فِي عُصْبَةً، وَانْتَصَبَ عُصْبَةً عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ: حُكْمُكَ مُسَمَّطًا حُذِفَ الْخَبَرُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: قَالَ الْفَرَزْدَقُ: يَا لَهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطَا أَرَادَ لَكَ حُكْمُكَ مُسَمَّطًا، وَاسْتُعْمِلَ هَذَا فَكَثُرَ حَتَّى حذف استخفا، فالعلم السَّامِعِ مَا يُرِيدُ الْقَائِلُ كقولك: الهلا وَاللَّهِ أَيْ: هَذَا الْهِلَالُ، وَالْمُسَمَّطُ الْمُرْسَلُ غَيْرُ الْمَرْدُودِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: إِنَّمَا الْعَامِرِيُّ عِمَّتَهُ، أَيْ يَتَعَمَّمُ عِمَّتَهُ انْتَهَى. وَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ عُصْبَةً لَيْسَ مَصْدَرًا وَلَا هَيْئَةً، فَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ حُكْمُكَ مُسَمَّطًا. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: حُكْمُكَ ثَبَتَ مُسَمَّطًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعُصْبَةُ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَعَنْهُ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَعَنْ قَتَادَةَ: مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ: عَشَرَةٌ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ: عَشَرَةٌ فَمَا زَادَ، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالزَّجَّاجِ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ: الْعُصْبَةُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَإِذَا زَادُوا فَهُمْ رَهْطٌ إِلَى التِّسْعَةِ، فَإِذَا زَادُوا فَهُمْ عُصْبَةٌ، وَلَا يُقَالُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ عُصْبَةٌ. وَالضَّلَالُ هُنَا هُوَ الْهَوَى قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْخَطَأُ مِنَ الرَّأْيِ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْجَوْرُ فِي الْفِعْلِ قَالَهُ ابْنُ كَامِلٍ، أَوِ الْغَلَطُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا. رُوِيَ أَنَّهُ بَعْدَ إِخْبَارِهِ لِأَبِيهِ بِالرُّؤْيَا كَانَ يَضُمُّهُ كُلَّ سَاعَةٍ إِلَى صَدْرِهِ، وَكَأَنَّ قَلْبَهُ أَيْقَنَ بِالْفِرَاقِ فَلَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ وَالظَّاهِرُ أَنِ

اقْتُلُوا يُوسُفَ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ قَوْمٍ اسْتَشَارَهُمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ فِيمَا يُفْعَلُ بِهِ فقالوا ذلك. والظاهر أو اطْرَحُوهُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ: قَالَ بَعْضٌ: اقْتُلُوا يُوسُفَ، وَبَعْضٌ اطْرَحُوهُ. وَانْتَصَبَ أَرْضًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ: فِي أَرْضٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، قَرِيبٌ مِنْ أَرْضِ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى تَضْمِينِ اطْرَحُوهُ مَعْنَى أَنْزِلُوهُ، كَمَا تَقُولُ: أَنْزَلْتُ زَيْدًا الدَّارَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: ظَرْفٌ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرْضًا مَنْكُورَةٌ مَجْهُولَةٌ بَعِيدَةٌ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَهُوَ مَعْنَى تَنْكِيرِهَا وَإِخْلَائِهَا مِنَ النَّاسِ، وَلِإِبْهَامِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ نُصِبَتْ نَصْبَ الظُّرُوفِ الْمُبْهَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ بِمَعْنَى كَوْنِهَا مَنْصُوبَةً عَلَى الظَّرْفِ قَالَ: لِأَنَّ الظَّرْفَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ أَرْضٌ مُقَيَّدَةٌ بِأَنَّهَا بَعِيدَةٌ أَوْ قَاصِيَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَزَالَ بِذَلِكَ إِبْهَامُهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَخْلُ مِنَ الْكَوْنِ فِي أَرْضٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَرْضًا بَعِيدَةً غَيْرَ الَّتِي هُوَ فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ أَبِيهِ انْتَهَى. وَهَذَا الرَّدُّ صَحِيحٌ، لَوْ قُلْتَ: جَلَسْتُ دَارًا بَعِيدَةً، أَوْ قَعَدْتُ مَكَانًا بَعِيدًا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِوَسَاطَةِ فِي، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، أَوْ مَعَ دَخَلْتُ عَلَى الْخِلَافِ فِي دَخَلْتُ أَهِيَ لَازِمَةٌ أَوْ مُتَعَدِّيَةٌ. وَالْوَجْهُ هُنَا قِيلَ: الذَّاتُ، أَيْ يَخْلُ لَكُمْ أَبُوكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِعَارَةٌ عَنْ شَغْلِهِ بِهِمْ، وَصَرْفِ مَوَدَّتِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ صَرَفَ وَجْهَهُ إِلَيْكَ وَهَذَا كَقَوْلِ نَعَامَةَ حِينَ أَحَبَّتْهُ أُمُّهُ لَمَّا قَتَلَ إِخْوَتَهُ وَكَانَتْ قَبْلُ لَا تُحِبُّهُ. قَالَ: الثَّكْلُ أَرَامَهَا أَيْ: عَطَفَهَا، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدِهِ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ، أَوْ قَتْلِهِ، أَوْ طَرْحِهِ. وَصَلَاحُهُمْ إِمَّا صَلَاحُ حَالِهِمْ عِنْدَ أَبِيهِمْ وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، أَوْ صَلَاحُهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّنَصُّلِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَهَذَا أَظْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ الْكَلْبِيُّ. وَاحْتَمَلَ تَكُونُوا أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى مَجْزُومٍ، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ أَنْ. وَالْقَائِلُ: لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، رُوبِيلُ قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، أَوْ شَمْعُونُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ يَهُوذَا وَكَانَ أَحَلَمَهُمْ وَأَحْسَنَهُمْ فِيهِ رَأْيًا وَهُوَ الَّذِي قَالَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ قَالَ لَهُمْ: الْقَتْلُ عَظِيمٌ، قَالَهُ السدي، أو ذان. أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، وَهَذَا عَطْفٌ مِنْهُمْ عَلَى أَخِيهِمْ. لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ إِنْفَاذِ قَضَائِهِ وَإِبْقَاءٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَبَبٍ لِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْكَبِيرَةِ وَهُوَ إِتْلَافُ النَّفْسِ بِالْقَتْلِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْغَيَابَةُ فِي الْجُبِّ شَبَهُ لِحْفٍ، أَوْ طَاقٍ فِي الْبِئْرِ فُوَيْقَ الْمَاءِ يَغِيبُ مَا فِيهِ عَنِ الْعُيُونِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْغَيَابَةُ كُمُونٌ فِي قَعْرِ الْجُبِّ، لأن أسفله واسع ورأيه ضَيِّقٌ، فَلَا يَكَادُ النَّاظِرُ يَرَى مَا فِي جَوَانِبِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَوْرُهُ وَهُوَ مَا غَابَ مِنْهُ عَنْ عَيْنِ النَّاظِرِ وَأَظْلَمُ مِنْ أَسْفَلِهِ انْتَهَى. مِنْهُ قِيلَ للقبر: غيابة، قال المتنحل السَّعْدِيُّ.

فَإِنْ أَنَا يَوْمًا غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بِسَيْرِي فِي الْعَشِيرَةِ وَالْأَهْلِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غيابة على الإفراد، ونافع: غَيَابَاتِ عَلَى الْجَمْعِ، جَعَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِمَّا يَغِيبُ فِيهِ غَيَابَةً. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: غَيَّابَاتٍ بِالتَّشْدِيدِ وَالْجَمْعِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي لِلْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَأَلْحَقَهُ أَبُو عَلِيٍّ بِالِاسْمِ الجائي عَلَى فِعَالٍ نَحْوَ مَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْغَيَادِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَوَجَدْتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَبَارَ الْمُبَرَّحَ وَالْفَخَارَ الْخَزَفَ. وَقَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَعَّالَاتٍ كَحَمَّامَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَيْعَالَاتٍ كَشَيْطَانَاتٍ فِي جَمْعِ شَيْطَانَةٍ، وَكُلٌّ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فِي غَيْبَةٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرًا كَالْغَلَبَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ غَائِبٍ كَصَانِعٍ وَصَنْعَةٍ. وَفِي حِرَفِ أُبَيٍّ فِي غَيْبَةٍ بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَهِيَ ظُلْمَةُ الرَّكِيَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي جَمَاعَةٍ: الْجُبُّ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبٌ: بِأَرْضِ الْأُرْدُنِّ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى ثَلَاثِ فَرَاسِخَ مِنْ مَنْزِلِ يَعْقُوبَ، وَقِيلَ: بَيْنَ مَدَيْنَ وَمِصْرَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ: تَلْتَقِطْهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: إِذَا بَعْضُ السِّنِينَ تَعَرَّفَتْنَا ... كَفَى الْأَيْتَامَ فَقْدُ أَبِي الْيَتِيمِ وَالسَّيَّارَةُ جَمْعُ سَيَّارٍ، وَهُوَ الْكَثِيرُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُبَّ كَانَ فِيهِ مَاءٌ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ. وَقِيلَ: كَانَ فِيهِ مَاءٌ كَثِيرٌ يُغْرِقُ يُوسُفَ، فَنَشَزَ حَجَرٌ مِنْ أَسْفَلِ الْجُبِّ حَتَّى ثَبَتَ يُوسُفُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مَاءٌ فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ فِيهِ حَتَّى قَصَدَهُ النَّاسُ. وَرُوِيَ: أَنَّهُمْ رَمَوْهُ بِحَبْلٍ فِي الْجُبِّ، فَتَمَاسَكَ بِيَدَيْهِ حَتَّى رَبَطُوا يَدَيْهِ وَنَزَعُوا قَمِيصَهُ وَرَمَوْهُ حِينَئِذٍ، وَهَمُّوا بَعْدُ بِرَضْخِهِ بِالْحِجَارَةِ فَمَنَعَهُمْ أَخُوهُمُ الْمُشِيرُ بِطَرْحِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمَفْعُولُ فَاعِلِينَ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَاعِلِينَ مَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُكُمْ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ. قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ: لَمَّا تَقَرَّرَ فِي أَذْهَانِهِمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ يُوسُفَ وَأَبِيهِ، أَعْمَلُوا الْحِيلَةَ عَلَى يَعْقُوبَ وَتَلَطَّفُوا فِي إِخْرَاجِهِ مَعَهُمْ، وَذَكَرُوا نُصْحَهُمْ لَهُ وَمَا فِي إِرْسَالِهِ مَعَهُمْ مِنِ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِالِارْتِعَاءِ وَاللَّعِبِ، إِذْ هُوَ مِمَّا يُشْرِحُ الصِّبْيَانَ، وَذَكَرُوا حِفْظَهُمْ لَهُ مِمَّا يسوؤه. وَفِي قَوْلِهِمْ: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ سُؤَالٌ فِي أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ، وَذَكَرُوا سَبَبَ الْأَمْنِ وَهُوَ النُّصْحُ أَيْ: لِمَ لَا تَأْمَنَّا عَلَيْهِ

وَحَالَتُنَا هَذِهِ؟ وَالنُّصْحُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمَانَةِ، وَلِهَذَا قُرِنَا فِي قَوْلِهِ: نَاصِحٌ أَمِينٌ، وَكَانَ قَدْ أَحَسَّ مِنْهُمْ قَبْلُ مَا أَوْجَبَ أَنْ لا يأمنهم عليه. ولا تَأْمَنَّا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ صَحِبَهُ التَّعَجُّبُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: بِإِدْغَامِ نُونِ تَأْمَنَ فِي نُونِ الضَّمِيرِ مِنْ غَيْرِ إِشْمَامٍ وَمَجِيئِهِ بَعْدَ ما لك، وَالْمَعْنَى: يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ نَفْيٌ لَا نَهْيٌ، وَلَيْسَ كَقَوْلِهِمْ: مَا أَحْسَنَنَا فِي التَّعَجُّبِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُدْغِمَ لا لتبس بِالنَّفْيِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِدْغَامِ وَالْإِشْمَامِ لِلضَّمِّ، وَعَنْهُمْ إِخْفَاءُ الْحَرَكَةِ، فَلَا يَكُونُ إِدْغَامًا مَحْضًا. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: بِضَمِّ الْمِيمِ، فَتَكُونُ الضَّمَّةُ مَنْقُولَةً إِلَى الْمِيمِ مِنَ النُّونِ الْأُولَى بَعْدَ سَلْبِ الْمِيمِ حَرَكَتَهَا، وَإِدْغَامِ النُّونِ فِي النُّونِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْأَعْمَشُ: لَا تَأْمُنُنَا بِالْإِظْهَارِ، وَضَمِّ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ، وَخَطُّ الْمُصْحَفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو رَزِينٍ: لَا يَتْمَنَّا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَسَهَّلَ الْهَمْزَةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ ابْنُ وَثَّابٍ. وَفِي لَفْظَةِ: أَرْسِلْهُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُهُ وَيَصْحَبُهُ دَائِمًا. وَانْتَصَبَ غَدًا عَلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ يُطْلَقُ عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ، وَعَلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ. وَأَصْلُهُ: غُدُوٌّ، فَحُذِفَتْ لَامُهُ وَقَدْ جَاءَ تَامًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ، وَالِابْنَانِ وَأَبُو عمرو بالنون وَالْجَزْمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْحَرَمِيَّانِ، وَاخْتَلَفَ عَنْ قُنْبُلٍ فِي إِثْبَاتِ الْيَاءِ وَحَذْفِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: وَيَلْعَبْ بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَقَرَأَ الْعَلَاءُ بْنُ سَيَابَةَ: يَرْتَعِ بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مَجْزُومًا مَحْذُوفَ اللَّامِ، وَيَلْعَبُ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَهُوَ يَلْعَبُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ مِنِ ارْتَعْنَا وَنَلْعَبْ بِالنُّونِ، وَكَذَلِكَ أَبُو رَجَاءٍ، إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ فِيهِمَا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ، وَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يَرْتَعِ الْمَوَاشِي أَوْ غَيْرِهَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: نَرْتَعْ بِنُونٍ، وَيَلْعَبْ بِيَاءٍ، بِإِسْنَادِ اللَّعِبِ إِلَى يُوسُفَ وَحْدَهُ لِصِبَاهُ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاآتِ الْفِعْلَانِ فِيهَا مَبْنِيَّانِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُرْتَعْ وَيُلْعَبْ بِضَمِّ الْيَاءَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَيُخْرِجُهَا عَلَى أَنَّهُ أُضْمِرَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهُوَ ضَمِيرُ غَدٍ، وَكَانَ أَصْلُهُ يَرْتَعْ فِيهِ وَيَلْعَبْ فِيهِ، ثُمَّ حُذِفَ وَاتَّسَعَ، فَعُدِّيَ الْفِعْلُ لِلضَّمِيرِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: يَرْتَعْهُ وَيَلْعَبْهُ، ثُمَّ بَنَاهُ لِلْمَفْعُولِ فَاسْتَكَنَ الضَّمِيرُ الَّذِي كَانَ مَنْصُوبًا لِكَوْنِهِ نَابَ عَنِ الْفَاعِلِ. وَاللَّعِبُ هُنَا هُوَ الِاسْتِبَاقُ وَالِانْتِضَالُ، فَيُدَرَّبُونَ بِذَلِكَ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ، سَمَّوْهُ لَعِبًا لِأَنَّهُ بِصُورَةِ اللَّعِبِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ للهو بدليل قولهم: إنا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ، وَلَوْ كَانَ لَعِبَ لَهْوٍ مَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ

يَعْقُوبُ. وَمَنْ كَسَرَ الْعَيْنَ مِنْ يَرْتَعِ فَهُوَ يَفْتَعِلُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْمُرَاعَاةِ أَيْ: يُرَاعِي بَعْضُنَا بَعْضًا وَيَحْرُسُهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ رَعْيِ الْإِبِلِ أَيْ يَتَدَرَّبْ فِي الرَّعْيِ، وَحِفْظِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ رَعْيِ النَّبَاتِ وَالْكَلَأِ، أَيْ: يَرْتَعِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مَوَاشِينَا. وَمَنْ أَثْبَتَ الْيَاءَ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: تَقْدِيرُ حَذْفِ الْحَرَكَةِ فِي الْيَاءِ لُغَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ضَرُورَةً. وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ فَالْمَعْنَى: نَقُمْ فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ، وَيَعْنُونَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْأَمْرُ أَوِ الْجَوَابُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ لَا تُضْمَرُ، وَبِأَنَّ الْإِعْمَالَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِضْمَارِ إِذَا أُعْمِلَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ اعْتَذَرَ لَهُمْ يَعْقُوبُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَاجِلٌ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْحُزْنِ لِمُفَارَقَتِهِ وَكَانَ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: خَوْفُهُ عَلَيْهِ مِنَ الذِّئْبِ إِنْ غَفَلُوا عَنْهُ بِرِعْيِهِمْ وَلَعِبِهِمْ، أَوْ بِقِلَّةِ اهْتِمَامِهِمْ بِحِفْظِهِ وَعِنَايَتِهِمْ، فَيَأْكُلُهُ وَيَحْزَنُ عَلَيْهِ الْحُزْنَ الْمُؤَبَّدَ. وَخَصَّ الذِّئْبَ لِأَنَّهُ كَانَ السَّبُعَ الْغَالِبَ عَلَى قُطْرِهِ، أَوْ لِصِغَرِ يُوسُفَ فَخَافَ عَلَيْهِ هَذَا السَّبُعَ الْحَقِيرَ، وَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى خَوْفِهِ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ افْتِرِاسًا. وَلِحَقَارَةِ الذِّئْبِ خَصَّهُ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيُّ فِي كَوْنِهِ يَخْشَاهُ لَمَّا بَلَغَ مِنَ السِّنِّ فِي قَوْلِهِ: وَالذِّئْبُ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا وَكَانَ يَعْقُوبُ بِقَوْلِهِ: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لَقَّنَهُمْ مَا يَقُولُونَ مِنَ الْعُذْرِ إذا جاؤوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ يُوسُفُ، فَلُقِّنُوا ذَلِكَ وَجَعَلُوهُ عُدَّةً لِلْجَوَابِ، وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي يَحْزَنُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَيَحْزُنِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ، والجمهور بالفك. وليحزنني مُضَارِعٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا حَالٌ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى مُتَوَقَّعٍ تَخَلَّصَ لِلِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُتَوَقَّعَ مُسْتَقْبَلٌ وَهُوَ الْمُسَبِّبُ لِأَثَرِهِ، فَمُحَالُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْأَثَرُ عَلَيْهِ، فَالذَّهَابُ لَمْ يَقَعْ، فَالْحُزْنُ لَمْ يَقَعْ. كَمَا قَالَ: يُهُولُكَ أَنْ تَمُوتَ وَأَنْتَ مُلْغٍ ... لِمَا فِيهِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَذْهَبُوا بِهِ مِنْ أَذْهَبَ رُبَاعِيًّا، وَيَخْرُجُ عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ فِي بِهِ، كَمَا خَرَّجَ بَعْضُهُمْ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ. فِي قِرَاءَةِ مَنْ ضَمَّ التَّاءَ وَكَسَرَ الْبَاءَ أَيْ: تُنْبِتُ الدُّهْنَ وتذهبوه. وقرأ الجمهور: والذئب بالهمز، وهي لغة الحجز. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَوَرْشٌ، وَحَمْزَةُ: إِذَا

وَقَفَ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَالَ نَصْرٌ: سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَ وَلَا يَهْمِزُ. وَعَدَلَ إِخْوَةُ يُوسُفَ عَنْ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ حُزْنُهُ عَلَى ذَهَابِهِمْ بِهِ لِقِصَرِ مُدَّةِ الْحُزْنِ، وَإِيهَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِهِ إِلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ، وَعَدَلُوا إِلَى قَضِيَّةِ الذِّئْبِ وَهُوَ السَّبَبُ الْأَقْوَى فِي مَنْعِهِ أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، فَحَلَفُوا لَهُ لَئِنْ كَانَ مَا خَافَهُ مِنْ خَطْفَةِ الذِّئْبِ أَخَاهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ عَشَرَةُ رِجَالٍ بِمِثْلِهِمْ تُعْصَبُ الْأُمُورُ وَتُكْفَى الْخُطُوبُ، إِنَّهُمْ إِذًا لَقَوْمٌ خَاسِرُونَ أي: هالكون ضعفاء وجورا وَعَجْزًا، أَوْ مُسْتَحِقُّونَ أَنْ يَهْلِكُوا، لِأَنَّهُمْ لَا غِنَى عِنْدَهِمْ وَلَا جَدْوَى فِي حَيَاتِهِمْ، أَوْ مُسْتَحِقُّونَ بِأَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ بِالْخَسَارِ وَالدَّمَارِ، وَأَنْ يُقَالَ: خَسَّرَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ حِينَ أَكَلَ الذِّئْبُ بَعْضَهُمْ وَهُمْ حَاضِرُونَ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى حِفْظِ بَعْضِنَا فَقَدْ هَلَكَتْ مَوَاشِينَا، إِذًا وَخَسِرْنَا. وَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ عَلَى ذُرْوَةِ جَبَلٍ، وَكَانَ يُوسُفُ فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَإِذَا عَشَرَةٌ مِنَ الذِّئَابِ قَدِ احْتَوَشَتْهُ يُرِدْنَ أَكْلَهُ، فَدَرَأَ عَنْهُ وَاحِدٌ، ثُمَّ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ فَتَوَارَى يُوسُفُ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ. وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ: حُكِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِيُوسُفَ: اطْلُبْ مِنْ أَبِيكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَعَنَا، فَأَقْبَلَ عَلَى يُوسُفَ فَقَالَ: أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ يَعْقُوبُ: إِذَا كَانَ غَدًا أَذِنْتُ لَكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يُوسُفُ لَبِسَ ثِيَابَهُ وَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْطَقَتَهُ، وَخَرَجَ مَعَ إِخْوَتِهِ فَشَيَّعَهُمْ يَعْقُوبُ وَقَالَ: يَا بَنِيَّ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبِحَبِيبِي يُوسُفَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى يُوسُفَ وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْدَعَتُكَ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَانْصَرَفَ. فَحَمَلُوا يُوسُفَ عَلَى أَكْتَافِهِمْ مَا دَامَ يَعْقُوبُ يَرَاهُمْ، ثُمَّ لَمَّا غَابُوا عَنْ عَيْنِهِ طَرَحُوهُ لِيَعْدُوَ مَعَهُمْ إِضْرَارًا بِهِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تَتَضَمَّنُ كَيْفِيَّةَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الجب ومحاورته لَهُمْ بِمَا يُلِينُ الصَّخْرَ، وَهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا قَسَاوَةً. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَيُوقَفَ عَلَيْهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَبَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوهُ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ يُوسُفَ، فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَيْ: عَزَمُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى إلقائه في الجب، وأن يَجْعَلُوهُ مَفْعُولُ أَجْمَعُوا، يُقَالُ: أَجْمَعَ الْأَمْرَ وَأَزْمَعَهُ بِمَعْنَى الْعَزْمِ عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَ

أَنْ يَكُونَ الْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ، وَبِمَعْنَى التَّصْيِيرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ لَمَّا أهو مثبت؟ أم مَحْذُوفٌ؟ فَمَنْ قَالَ: مُثْبَتٌ، قَالَ: هُوَ قَوْلُهُمْ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ أَيْ: لَمَّا كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، قَالُوا وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ. وَقِيلَ: هُوَ أَوْحَيْنَا، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ يُزَادُ عِنْدَهُمْ بَعْدَ لَمَّا، وَحَتَّى إِذَا. وَعَلَى ذَلِكَ خَرَّجُوا قَوْلَهُ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَيْ: نَادَيْنَاهُ وقوله: حتى إذا جاؤوها وَفُتِحَتْ أَيْ: فُتِحَتْ. وَقَوْلَ امرئ القيس: فلما أحربا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى أَيِ: انْتَحَى. وَمَنْ قَالَ: هُوَ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ رَأْيُ الْبَصْرِيِّينَ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا مِنَ الْأَذَى، وَحَكَى الْحِكَايَةَ الطَّوِيلَةَ فِيمَا فَعَلُوا بِهِ، وَمَا حَاوَرُوهُ وَحَاوَرَهُمْ بِهِ. قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ عَظُمَتْ فِتْنَتُهُمْ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ جَعَلُوهُ فِيهَا، وَهَذَا أَوْلَى إِذْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ، وَهُوَ وَحْيُ إِلْهَامٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ مَنَامٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فِي الْبِئْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَعْطَاهُ اللَّهُ النُّبُوَّةَ فِي الْجُبِّ وَكَانَ صَغِيرًا، كَمَا أَوْحَى إِلَى يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ ظَاهِرُ أَوْحَيْنَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ قَوْلُهُ لَهُمْ قَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى يَعْقُوبَ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ لِيَأْنَسَ فِي الظُّلْمَةِ مِنَ الوحدة، وليبشر بما يؤول إليه أمره، ومعناه: لتتخلص مِمَّا أَنْتَ فِيهِ، وَلَتُحَدِّثَنَّ إِخْوَتَكَ بِمَا فَعَلُوا بِكَ. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بهذا أَيْ: غَيْرَ عَالِمِينَ أَنَّكَ يُوسُفُ وَقْتَ التَّنْبِئَةِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَذَلِكَ لِعُلُوِّ شَأْنِكَ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِكَ، وَبُعْدِ حَالِكَ عَنْ أَذْهَانِهِمْ، وَلِطُولِ الْعُمُرِ الْمُبْدِلِ لِلْهَيْئَاتِ وَالْأَشْكَالِ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ مُمْتَارِينَ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، دَعَا بِالصُّوَاعِ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيُخْبِرُنِي هَذَا الْجَامُ أَنَّهُ كَانَ لَكُمْ أَخٌ مِنْ أَبِيكُمْ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ، وَكَانَ يُدْنِيهِ دُونَكُمْ، وَأَنَّكُمُ انْطَلَقْتُمْ بِهِ وَأَلْقَيْتُمُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَقُلْتُمْ لِأَبِيكُمْ: أَكَلَهُ الذِّئْبُ. وَبِيعَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنَا أَيْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَيْ: بِإِيحَائِنَا إِلَيْكَ وَمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ مِنْ نَجَاتِكَ وَطُولِ عُمُرِكَ، إِلَى أَنْ تُنَبِّئَهُمْ بِمَا فَعَلُوا بِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَابْنُ عُمَرَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَكَذَا فِي بَعْضِ مَصَاحِفِ الْبَصْرَةِ. وَقَرَأَ سلام بِالنُّونِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْأَخْبَارِ وَالْقَصَصِ أَنَّ يُوسُفَ كَانَ صَغِيرًا، فَقِيلَ: كَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعَ سِنِينَ. وَقِيلَ: سِتٌّ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ، أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا بِحَيْثُ لَا يَدْفَعُ نَفْسَهُ قَوْلُهُ: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَيَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وَأَخْذُ السَّيَّارَةِ لَهُ، وَقَوْلُ الْوَارِدِ: هَذَا غُلَامٌ، وَقَوْلُ الْعَزِيزِ: عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، وَمَا حُكِيَ مِنْ حَمْلِهِمْ إِيَّاهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَمِنْ كَلَامِهِ لِأَخِيهِ يَهُوذَا: ارْحَمْ ضَعْفِي وَعَجْزِي وَحَدَاثَةَ سِنِّي، وَارْحَمْ قَلْبَ أَبِيكَ يَعْقُوبَ. وَمَنْ هُوَ ابْنُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الذِّئْبِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي رُفْقَةٍ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ قَادِرٌ عَلَى التَّحَيُّلِ فِي نَجَاةِ نَفْسِهِ، وَلَا يُسَمَّى غُلَامًا إِلَّا بِمَجَازٍ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا. وعشاء نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، أَوْ مِنَ الْعَشْوَةِ. وَالْعَشْوَةُ: الظَّلَامُ، فَجُمِعَ عَلَى فِعَالٍ مِثْلَ رَاعٍ وَرِعَاءٍ، وَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ عُشًا عَلَى وَزْنِ دُجًى، جَمْعُ عَاشٍ، حُذِفَ مِنْهُ الْهَاءُ كَمَا حُذِفَتْ فِي مَالِكٍ، وَأَصْلُهُ مَالِكَةٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ عُشَيًّا عَلَى التَّصْغِيرِ. قيل: وإنما جاؤوا عِشَاءً لِيَكُونَ أَقْدَرَ عَلَى الِاعْتِذَارِ فِي الظُّلْمَةِ، وَلِذَا قِيلَ: لَا تَطْلِبِ الْحَاجَةَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ الْحَيَاءَ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَلَا تَعْتَذِرْ فِي النَّهَارِ مِنْ ذَنْبٍ فَتَتَلَجْلَجُ فِي الِاعْتِذَارِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وجاؤوا أَبَاهُمْ دُونَ يُوسُفَ عِشَاءً يَبْكُونَ، فَقَالَ: أَيْنَ يُوسُفُ؟ قَالُوا: إِنَّا ذَهَبْنَا. وَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا سَمِعَ بُكَاءَهُمْ قَالَ: مَا لَكُمْ، أَجَرَى فِي الْغَنَمِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَيْنَ يُوسُفُ؟ قَالُوا: إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَبَكَى، وَصَاحَ، وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَأَفَاضُوا عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَنَادَوْهُ فَلَمْ يُجِبْ، وَوَضَعَ يَهُوذَا يَدَهُ عَلَى مَخَارِجَ نَفَسِهِ فَلَمْ يُحِسَّ بِنَفَسِهِ وَلَا تَحَرَّكَ لَهُ عِرْقٌ فَقَالَ: وَيْلٌ لَنَا مِنْ دَيَّانِ يَوْمِ الدَّيْنِ الَّذِي ضَيَّعْنَا أَخَانَا وَقَتَلْنَا أَبَانَا، فَلَمْ يُفِقْ إِلَّا بِبَرْدِ السَّحَرِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: لَا يُصَدَّقُ بَاكٍ بَعْدَ إخوة يوسف. ونستبق، أَيْ: نَتَرَامَى بِالسِّهَامِ، أَوْ نَتَجَارَى عَلَى الْأَقْدَامِ أَيُّنَا أَشَدُّ عَدْوًا، أَوْ نَسْتَبِقُ فِي أَعْمَالٍ نَتَوَزَّعُهَا مِنْ سَقْيٍ وَرَعْيٍ وَاحْتِطَابٍ، أَوْ نَتَصَيَّدُ. أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. عِنْدَ مَتَاعِنَا أَيْ: عِنْدَ ثِيَابِنَا، وَمَا تَجَرَّدْنَا لَهُ حَالَةَ الِاسْتِبَاقِ. وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِغَرِ يُوسُفَ، إِذْ لَوْ كَانَ ابْنَ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ لَكَانَ يَسْتَبِقُ مَعَهُمْ، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ تَلَقَّنُوا هَذَا الْجَوَابَ مِنْ قَوْلِ أَبِيهِمْ، وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، لِأَنَّ أَكْلَ الذِّئْبِ إِيَّاهُ كَانَ أَغْلَبَ مَا كَانَ خَافَ عَلَيْهِ. وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا أَيْ: بِمُصَدِّقٍ لَنَا الْآنَ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ. أَوَ لَسْتَ مُصَدِّقًا لَنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي حَالَةِ الصِّدْقِ، لِمَا غَلَبَ عَلَيْكَ مِنْ تُهْمَتِنَا وَكَرَاهَتِنَا فِي يُوسُفَ، وَإِنَّا

نَرْتَادُ لَهُ الْغَوَائِلَ، وَنَكِيدُ لَهُ الْمَكَائِدَ، وَأَوْهَمُوا بِقَوْلِهِمْ: وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي أَكْلِ الذِّئْبِ يُوسُفَ، فَيَكُونُ صِدْقُهُمْ مُقَيَّدًا بِهَذِهِ النَّازِلَةِ. أَوْ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالثِّقَةِ عِنْدَ يَعْقُوبَ قَبْلَ هَذِهِ النَّازِلَةِ، لِشِدَّةِ مَحَبَّتِكَ لِيُوسُفَ، فَكَيْفَ وأنت سيىء الظَّنِّ بِنَا فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، غَيْرُ وَاثِقٍ بِقَوْلِنَا فِيهِ؟. رُوِيَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا سَخْلَةً أَوْ جَدْيًا فَذَبَحُوهُ، وَلَطَّخُوا قَمِيصَ يُوسُفَ بِدَمِهِ، وَقَالُوا لِيَعْقُوبَ: هَذَا قَمِيصُ يُوسُفَ فَأَخَذَهُ، وَلَطَّخَ بِهِ وَجْهَهُ وَبَكَى، ثُمَّ تَأَمَّلَهُ فَلَمْ يَرَ خَرْقًا وَلَا ارْتَابَ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمُوا وَقَالَ لَهُمْ: مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ وَلَا يَخْرِقُ قَمِيصَهُ؟ قِيلَ: كَانَ فِي قَمِيصِ يُوسُفَ ثَلَاثُ آيَاتٍ، كَانَ دَلِيلًا لِيَعْقُوبَ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَأْكُلْهُ الذِّئْبُ، وَأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا، وَدَلِيلًا عَلَى بَرَاءَةِ يُوسُفَ حِينَ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : عَلَى قَمِيصِهِ مَا مَحَلُّهُ؟ (قُلْتُ) : مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ، كأنه قيل: وجاؤوا فَوْقَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ عَلَى جِمَالِهِ بِأَحْمَالٍ. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّمَةً؟ (قُلْتُ) : لَا، لِأَنَّ حَالَ الْمَجْرُورِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَلَا يُسَاعِدُ الْمَعْنَى عَلَى نَصْبِ عَلَى عَلَى الظَّرْفِ بِمَعْنَى فَوْقَ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ إِذْ ذاك جاؤوا، وَلَيْسَ الْفَوْقُ ظَرْفًا لَهُمْ، بَلْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَهُمْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: على متعلق بجاءوا، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَأَمَّا الْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ جَاءَ عَلَى جِمَالِهِ بِأَحْمَالٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْجَائِي، لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ الظَّرْفِيَّةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِهِ مِنْ جَمَلٍ عَلَى جَمَلٍ، وَيَكُونُ بِأَحْمَالٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: مَصْحُوبًا بِأَحْمَالٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى قَمِيصِهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ حَالًا مِنَ الدَّمِ، لِأَنَّ التقدير: جاؤوا بِدَمٍ كَذِبٍ عَلَى قَمِيصِهِ انْتَهَى. وَتَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ غَيْرِ الزَّائِدِ فِي جَوَازِهِ خِلَافٌ، وَمَنْ أَجَازَ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدَ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَالْمَعْنَى: يُرْشِدُ إِلَى مَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَذِبٍ وصف لدم عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: ذِي كَذِبٍ، لَمَّا كَانَ دَالًّا عَلَى الْكَذِبِ وُصِفَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْكَذِبُ صَادِرًا مِنْ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَذِبًا بِالنَّصْبِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ. وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ: كَدِبٍ بِالدَّالِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ، وَفُسِّرَ بِالْكَدَرِ، وَقِيلَ: الطَّرِيُّ، وَقِيلَ: الْيَابِسُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: وَمَعْنَاهُ ذِي كَذِبٍ أَيْ: أَثَرٍ لِأَنَّ الْكَذِبَ هُوَ بَيَاضٌ يَخْرُجُ فِي أَظَافِيرِ الشُّبَّانِ وَيُؤَثِّرُ فِيهَا، كَالنَّقْشِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْبَيَاضُ

الْفُوفَ، فَيَكُونُ هَذَا اسْتِعَارَةً لِتَأْثِيرِهِ فِي الْقَمِيصِ، كَتَأْثِيرِ ذَلِكَ فِي الْأَظَافِيرِ. قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ هُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَمْ يَأْكُلْهُ الذِّئْبُ، بَلْ سَوَّلَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرْتُكُمْ أَمْرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: زَيَّنَتْ، وَقِيلَ: رَضِيَتْ أمرا أي: صينعا قَبِيحًا. وَقِيلَ: سَهَّلَتْ. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَيْ: فَأَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، أَوْ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَمْثَلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْأَشْهَبُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: فَصَبْرًا جَمِيلًا بِنَصْبِهِمَا، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَمُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَنَصَبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْخَبَرِيِّ أَيْ: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا. قِيلَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَلَا يَصْلُحُ النَّصْبَ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا مَعَ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ يَحْسُنُ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ: شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السَّرَى ... صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَيُرْوَى صَبْرٌ جَمِيلٌ فِي الْبَيْتِ. وَإِنَّمَا تَصِحُّ قِرَاءَةُ النَّصْبِ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ أَنَّ يَعْقُوبَ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَاصْبِرِي يَا نَفْسُ صَبْرًا جَمِيلًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ أَنَّهُ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ» أَيْ: إِلَى الْخَلْقِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ «1» وَقِيلَ: أَتَجَمَّلُ لَكُمْ فِي صَبْرِي فَلَا أُعَاشِرُكُمْ عَلَى كَآبَةِ الْوَجْهِ، وَعُبُوسِ الْجَبِينِ، بَلْ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ مَعَكُمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مِنَ الصَّبْرِ أَنْ لَا تُحَدِّثَ بِمَا يُوجِعُكَ وَلَا بِمُصِيبَتِكَ وَلَا تَبْكِي نَفْسَكَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ أَيْ: الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَوْنُ عَلَى احْتِمَالِ مَا تَصِفُونَ مِنْ هَلَاكِ يُوسُفَ، وَالصَّبْرُ عَلَى الرَّزِيَّةِ. وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ قِيلَ: كَانُوا مِنْ مَدْيَنَ قَاصِدِينَ إِلَى مِصْرَ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَقَامَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ أَخُوهُ يَهُوذَا يَأْتِيهِ بِالطَّعَامِ خِفْيَةً مِنْ إِخْوَتِهِ. وَقِيلَ: جَاءَتِ السَّيَّارَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ طَرْحِهِ فِي الْجُبِّ. وَقِيلَ: كَانَ التَّسْبِيحُ غِذَاءَهُ فِي الْجُبِّ. قِيلَ: وَكَانَتِ السَّيَّارَةُ تَائِهَةً تَسِيرُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَقِيلَ: سَيَّارَةٌ فِي الطريق أخطؤوه فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْجُبِّ، وَكَانَ فِي قَفْرَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْعُمْرَانِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِلرُّعَاةِ، وَفِيهِمْ مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ الْخُزَاعِيُّ فَأَرْسَلُوهُ لِيَطْلُبَ لَهُمُ الْمَاءَ. وَالْوَارِدُ الَّذِي يَرِدُ الْمَاءَ لِيَسْتَقِيَ لِلْقَوْمِ، وَإِضَافَةُ الْوَارِدِ لِلضَّمِيرِ كَإِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ: أَلْقَيْتُ كَاسِبَهُمْ. لَيْسَتْ إِضَافَةً إِلَى الْمَفْعُولِ، بَلِ الْمَعْنَى الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِمْ وَالَّذِي يَكْسِبُ لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَارِدَ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَارِدُ هُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى جَمَاعَةٍ انْتَهَى. وَحُمِلَ عَلَى مَعْنَى السَّيَّارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلُوا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ التَّرْتِيبُ فَأَرْسَلَتْ وَارِدَهَا. فَأَدْلَى دَلْوَهُ أَيْ: أَرْسَلَهَا لِيَسْتَقِيَ الْمَاءَ قَالَ: يا بشراي. في

_ (1) سورة يوسف: 12/ 86.

الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَعَلَّقَ يُوسُفُ بِحَبْلِ الدَّلْوِ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ الْمُدْلِي قَالَ: يَا بُشْرَايَ. وَتَعَلُّقُهُ بِالْحَبْلِ يَدُلُّ عَلَى صِغَرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ ابْنَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ لَمْ يَحْمِلْهُ الْحَبْلُ غَالِبًا، وَلَفْظَةُ غُلَامٍ تُرَجِّحُ ذَلِكَ، إِذْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ الْحَوْلَيْنِ إِلَى الْبُلُوغِ حَقِيقَةً، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ الْكَامِلِ لِقَوْلِ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ فِي الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا وَقَوْلُهُ: يَا بُشْرَايَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِيُوسُفَ، إِذْ رَأَى أَحْسَنَ مَا خَلَقَ. وَأَبْعَدَ السُّدِّيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ بُشْرَى اسْمُ رَجُلٍ، وَأَضَافَ الْبُشْرَى إِلَى نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: فَهَذَا من آونتك. وقرأ يا بشرى بِغَيْرِ إِضَافَةٍ الْكُوفِيُّونَ، وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ: يَا بُشْرَايْ: بِسُكُونِ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حِدَّةٍ وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُ مِثْلِهِ فِي وَمَحْيايَ «1» وَقَرَأَ أَبُو الطُّفَيْلِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْجَحْدَرِيُّ: يا بشرى بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِهُذَيْلٍ. وَلِنَاسٍ غَيْرِهِمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْبَقَرَةِ، فِي فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ «2» قِيلَ: ذَهَبَ بِهِ الْوَارِدُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ أَصْحَابِهِ صَاحَ بِذَلِكَ، فَبَشَّرَهُمْ بِهِ وَأَسَرُوهُ. الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلسَّيَّارَةِ الَّتِي الْوَارِدُ مِنْهُمْ أَيْ: أَخْفَوْهُ مِنَ الرُّفْقَةِ، أَوْ كَتَمُوا أَمْرَهُ مِنْ وِجْدَانِهِمْ لَهُ فِي الْجُبِّ وَقَالُوا: دَفَعَهُ إِلَيْنَا أَهْلُ الْمَاءِ لِنَبِيعَهُ لَهُمْ بِمِصْرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضَّمِيرُ فِي وَأَسَرُّوهُ وَشَرَوْهُ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لِلرُّفْقَةِ: هَذَا غُلَامٌ قَدْ أَبْقِ لَنَا فَاشْتَرُوهُ مِنَّا، وَسَكَتَ يُوسُفُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَجَعَ إِلَى الْجُبِّ لِيَتَحَقَّقُوا أَمْرَ يُوسُفَ وَيَقِفُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ فَقْدِهِ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الوارد قد أخذوه، جاؤوهم وَقَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ. وَانْتَصَبَ بِضَاعَةً عَلَى الْحَالِ أَيْ: مَتْجَرًا لَهُمْ وَمَكْسَبًا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أَيْ: لَمْ تَخَفَ عَلَيْهِ أَسْرَارُهُمْ، وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ حَيْثُ اسْتَبْضَعُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ، أَوْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِعَمَلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ بِأَبِيهِمْ وَأَخِيهِمْ مِنْ سُوءِ الصُّنْعِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ تِذْكَارٍ بِمَا فَعَلُوا بِيُوسُفَ قِيلَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْجُبِّ أَنْ لَا يُطْلِعَ أَبَاهُ وَلَا غَيْرَهُ عَلَى حَالِهِ، لحكمة أراد إمضاءها، وَظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا جَرَى لَهُ مِنْ جَعْلِهِ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَإِحْوَاجِ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا كَانَ مَكْنُونًا فِي الْقَدَرِ. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 162. (2) سورة البقرة: 3/ 38.

مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: شَرَى بِمَعْنَى بَاعَ، وَبِمَعْنَى اشْتَرَى قَالَ يَزِيدُ بْنُ مُفَرَّعٍ الْحِمْيَرِيُّ: وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَّهْ أَيْ بِعْتُ بُرْدًا، وَبُرْدَ غُلَامِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ يَقْبَلُ فِدْيَةً ... شَرَيْتُ أَبَا زَيْدٍ بِمَا مَلَكَتْ يَدِي أَيِ اشْتَرَيْتُ أَبَا زَيْدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَشَرَوْهُ عَائِدٌ عَلَى السَّيَّارَةِ، أَيْ: وَبَاعُوا يُوسُفَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي وَأَسَرُّوهُ عَائِدٌ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَيْهِمْ أَيْ: بَاعُوا أَخَاهُمْ يُوسُفَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وبخس مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى مَبْخُوسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: زَيْفٌ نَاقِصُ الْعِيَارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ: قَلِيلٌ. وَهُوَ مَعْنَى الزَّمَخْشَرِيِّ: نَاقِصٌ عَنِ الْقِيمَةِ نَقْصًا ظَاهِرًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْبَخْسُ الْخَسِيسُ الَّذِي بَخَسَ بِهِ الْبَائِعُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَخْسٌ ظُلْمٌ، لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوهُ فِي بَيْعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ أَيْضًا فِي آخَرِينَ: بَخْسٌ حَرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: إِنَّمَا جَعَلَهُ بَخْسًا لِأَنَّهُ عِوَضُ نَفْسٍ شَرِيفَةٍ لَا تُقَابَلُ بِعِوَضٍ وَإِنْ جَلَّ انْتَهَى. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ بَاعُوهُ إِنْ كَانُوا الْوَارِدَةَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوا بِهِ ثَمَنًا، فَمَا أَخَذُوا فِيهِ رِبْحٌ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَتَهُ، فَالْمَقْصُودُ خَلُّو وَجْهَ أَبِيهِمْ منه لا ثمنه. ودراهم بَدَلٌ مِنْ ثَمَنٍ، فَلَمْ يبيعوه بدنانير. ومعدودة إِشَارَةٌ إِلَى الْقِلَّةِ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَزِنُونَ إِلَّا مَا بَلَغَ أُوقِيَّةً وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ الْكَثِيرَةَ يَعْسُرُ فِيهَا الْعَدُّ، بِخِلَافِ الْقَلِيلَةِ. قَالَ عِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَنَعْلَانِ وَحُلَّةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، كَذَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَخَذَهَا إِخْوَتُهُ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَعِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَنَوْفٌ الشَّامِيُّ، وَوَهْبٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطِيَّةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ فِي آخَرِينَ: عِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: عِشْرُونَ، وَحُلَّةٌ، وَنَعْلَانِ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا اشْتَرَوْا بِهَا أَخْفَافًا وَنِعَالًا. وَقِيلَ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فِيهِ إِلَى يُوسُفَ أَيْ: لَمْ يَعْلَمُوا مَكَانَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ: الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الثَّمَنِ، وَزُهْدُهُمْ فِيهِ لِرَدَاءَةِ الثَّمَنِ، أَوْ لِقَصْدِ إِبْعَادِ يُوسُفَ

لَا الثَّمَنِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي وَشَرَوْهُ وَكَانُوا عَائِدًا عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى السَّيَّارَةِ فَزُهْدُهُمْ فِيهِ لِكَوْنِهِمُ ارْتَابُوا فِيهِ، أو لوصف إخوته له بِالْخِيَانَةِ وَالْإِبَاقِ، أَوْ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ حُرٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الزَّاهِدِينَ، مِمَّنْ يَرْغَبُ عَمَّا فِي يَدِهِ فَيَبِيعُهُ بِمَا طَفَّ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُمُ الْتَقَطُوهُ، وَالْمُلْتَقِطُ لِلشَّيْءِ مُتَهَاوِنٌ بِهِ لَا يُبَالِي بِمَا بَاعَهُ، وَلِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ فَيَنْزِعُهُ مِنْ يَدِهِ فَيَبِيعُهُ مِنْ أَوَّلِ مُسَاوِمٍ بِأَوْكَسِ الثَّمَنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَشَرَوْهُ اشْتَرَوْهُ، يَعْنِي الرُّفْقَةَ مِنْ إِخْوَتِهِ. وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ آبِقٌ، فخافوا أن يخاطروا بمالهم فِيهِ. وَيُرْوَى أَنَّ إِخْوَتَهُ اتَّبَعُوهُمْ يَقُولُونَ: اسْتَوْثِقُوا مِنْهُ لَا يَأْبَقُ انْتَهَى. وَفِيهِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «1» وَأَنَّهُ خَرَجَ تَعَلُّقُ الْجَارِّ إِمَّا بَاعَنِي مُضْمَرَةٌ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ: أَيْ: وَكَانُوا زَاهِدِينَ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، أَوْ بِالزَّاهِدِينَ لِأَنَّهُ يَتَسَامَحُ فِي الْجَارِّ وَالظَّرْفِ. فَجُوِّزَ فِيهِمَا مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِمَا. وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ: ذَكَرُوا أَقْوَالًا مُتَعَارِضَةً فِيمَنِ اشْتَرَاهُ، وَفِي الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ تَفْسِيرُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُتَعَارِضَةِ. فَقِيلَ: اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنَ العماليق وقد آمن بيوسف، وَمَاتَ فِي حَيَاةِ يُوسُفَ: قِيلَ: وَهُوَ إِذْ ذَاكَ الْمَلِكُ بِمِصْرَ، وَاسْمُهُ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ بَرْوَانَ بْنِ أَرَاشَهْ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، فَمَلَكَ بَعْدَهُ قَابُوسُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ تَمْرِ بْنِ السَّلواسِ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ فِي نَسَبِ الرَّيَّانِ، فَدَعَاهُ يُوسُفُ إِلَى الْإِيمَانِ فَأَبَى، فَاشْتَرَاهُ الْعَزِيزُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاسْتَوْزَرَهُ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَآتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: كَانَ الْمَلِكُ فِي أَيَّامِهِ فِرْعَوْنَ مُوسَى عَاشَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ «2» وَقِيلَ: فِرْعَوْنُ مُوسَى مِنْ أَوْلَادِ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ، وَقِيلَ: عُرِضَ فِي السُّوقِ وَكَانَ أَجْمَلَ النَّاسِ، فَوَقَعَتْ فِيهِ مُزَايَدَةً حَتَّى بَلَغَ ثَمَنًا عَظِيمًا. فَقِيلَ: وَزْنُهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ حَرِيرٍ، فَاشْتَرَاهُ الْعَزِيزُ وَهُوَ كَانَ صَاحِبَ الْمَلِكِ وَخَازِنَهُ، وَاسْمُ الْمَلِكِ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ. وَقِيلَ: مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، وَهُوَ أَحَدُ الْفَرَاعِنَةِ، وَاسْمُ الْعَزِيزِ قِطْفِيرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: طفير، وَقِيلَ: قِنْطُورُ، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ رَاعِيلُ، وَقِيلَ: زَلِيخَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ أَمْرِ العزيز

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 21. [.....] (2) سورة غافر: 40/ 34.

أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ الصَّنَمِ فِي بَيْتِهِ حَسْبَمَا يُذْكَرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مُسْلِمًا، وَاسْمُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ رَاعِيلُ بِنْتُ رَعَايِيلَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْعَزِيزُ هُوَ الْمَلِكُ، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ زَلِيخَا بِنْتُ تَمْلِيخَا، وَمَثْوَاهُ مَكَانَ إِقَامَتِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فِي مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَلْبَسٍ. ولام لامرأته تتعلق بقال فَهِيَ لِلتَّبْلِيغِ، نَحْوَ قُلْتُ لك: لا باشتراه. عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، لَعَلَّهُ إِذَا تَدَرَّبَ وَرَاضَ الْأُمُورَ وَعَرَفَ مَجَارِيهَا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى بَعْضِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، فَيَنْفَعُنَا بِكِفَايَتِهِ، أَوْ نَتَبَنَّاهُ وَنُقِيمُهُ مَقَامَ الْوَلَدِ، وَكَانَ قِطْفِيرُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، فَتَفَرَّسَ فِيهِ الرُّشْدَ فَقَالَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التمكين مِنْ قَلْبِ الْعَزِيزِ حَتَّى عَطَفَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ. مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَرْضِ مِصْرَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَيْ: حَكَّمْنَاهُ فِيهَا. وَلَامُ وَلِنُعَلِّمَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، إِمَّا قَبْلَهُ لِنُمَلِّكَهُ وَلِنُّعَلِّمَهُ، وَإِمَّا بَعْدَهُ أَيْ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءُ وَالتَّمْكِينُ، أَوِ الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ أَيْ: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ لِنُعَلِّمَهُ وكل مقول. والأحاديث: الرُّؤْيَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: أَحَادِيثُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَى أَمْرِهِ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى اللَّهِ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، لَا يُمْنَعُ عَمَّا يَشَاءُ وَلَا يُنَازَعُ فِيمَا يُرِيدُ، وَيَقْضِي. أَوْ عَلَى يُوسُفَ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، أَيْ: يُدِيرُهُ وَلَا يَكِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ. قَدْ أَرَادَ إِخْوَتُهُ بِهِ مَا أَرَادُوا، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مَا أَرَادَ اللَّهُ وَدَبَّرَهُ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُمُ الْعِلْمَ هُمُ الْكُفَّارُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ الْجَمِيعُ أَيْ: لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى غَيْبِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَكْثَرِ النَّاسِ أَهْلُ مِصْرَ، وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ. وَالْأَشُدُّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ جَمْعٌ وَاحِدُهُ شِدَّةٌ وَأَشُدُّ كَنِعْمَةٍ وَأَنْعُمٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: شَدَّ وَأَشُدٌّ نَحْوُ صَكَّ وَأَصُكٍّ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا ... خُضِبَ الْبَنَانُ وَرَأْسُهُ بِالْعِظْلِمِ وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْأَشُدُّ بُلُوغُ الْحُلُمِ قَالَهُ: الشَّعْبِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا إِلَى نَحْوِ الْأَرْبَعِينَ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ إِلَى سِتِّينَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عِشْرُونَ قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثُونَ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ ثَمَانٌ وَثَلَاثُونَ حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوْ أَرْبَعُونَ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَسُئِلَ الْفَاضِلُ النَّحْوِيُّ مُهَذِّبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ علي بن أبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْخَيْمِيُّ عَنِ الْأَشُدِّ فَقَالَ: هُوَ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ، وَتَمَامُهُ أَرْبَعُونَ. وَقِيلَ: أَقْصَاهُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ. وَالْحُلُمُ الْحُكْمُ، وَالْعِلْمُ النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْعِلْمُ: الْفِقْهُ فِي

الدِّينِ. وَهَذَا أَشْبَهُ لِمَجِيءِ قِصَّةِ الْمُرَاوَدَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكَذَلِكَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ لِمَنْ صَبَرَ وَرَضِيَ بِالْمَقَادِيرِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ كَانَ مُحْسِنًا فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ فَآتَاهُ اللَّهُ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: مَنْ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ فِي شَبِيبَتِهِ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي اكْتِهَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحْسِنِينَ الْمُهْتَدِينَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصَّابِرِينَ عَلَى النَّوَائِبِ. وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ: الْمُرَاوَدَةُ: الْمُطَالَبَةُ بِرِفْقٍ، مِنْ رَادَ يَرُودُ إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ وَاحِدٍ نَحْوَ: دَاوَيْتُ الْمَرِيضَ، وَكُنِّيَ بِهِ عَنْ طَلَبِ النِّكَاحِ وَالْمُخَادَعَةِ لِأَجْلِهِ. كَانَ الْمَعْنَى وَخَادَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بعن. وَقَالَ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهَا، وَلَا بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، سِتْرًا عَلَى الْحُرُمِ. وَالْعَرَبُ تُضِيفُ الْبُيُوتَ إِلَى النِّسَاءِ فَتَقُولُ: رَبَّةُ الْبَيْتِ، وَصَاحِبَةُ الْبَيْتِ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ هُوَ تَضْعِيفُ تَكْثِيرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ بِكُلِّ بَابٍ بَابٍ. قِيلَ: وَكَانَتْ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ. هَيْتَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أسرع. ولك لِلتَّبْيِينِ أَيْ: لَكَ أَقُولُ، أَمَرَتْهُ بِأَنْ يُسْرِعَ إِلَيْهَا. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّهَا لُغَةُ حَوَرَانِيَّةٌ وَقَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ فَتَكَلَّمُوا بِهَا وَمَعْنَاهَا: تَعَالَ، وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هِيَ عِبْرَانِيَّةٌ، هيتلخ أَيْ تَعَالَهُ فَأَعْرَبَهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: بِالسِّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْقِبْطِيَّةِ هَلُمَّ لَكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: عَرَبِيَّةٌ تَدْعُوهُ بِهَا إِلَى نَفْسِهَا، وَهِيَ كَلِمَةُ حَثٍّ وَإِقْبَالٍ انْتَهَى. وَلَا يَبْعُدُ اتِّفَاقُ اللُّغَاتِ فِي لَفْظٍ، فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ لُغَاتِ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هَوْتَ وَهَيْتَ بِهِ صَاحَ بِهِ فَدَعَاهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنِ اسْمِ الْفِعْلِ، كَمَا اشْتَقُّوا مِنَ الْجُمَلِ نَحْوَ سَبَّحَ وَحَمَدَكَ. وَلَمَّا كَانَ اسْمَ فِعْلٍ لَمْ يَبْرُزْ فِيهِ الضَّمِيرُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى رُتْبَةِ الضَّمِيرِ بِمَا يَتَّصِلُ بِاللَّامِ مِنَ الْخِطَابِ نَحْوَ: هَيْتَ لَكَ، وَهَيْتَ لَكِ، وَهَيْتَ لَكُمَا، وَهَيْتَ لَكُمْ، وَهَيْتَ لَكُنَّ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: هَيْتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَالْحُلْوَانِيُّ عَنْ هِشَامٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ هَمَزَ وَعَلِيٌّ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَيَحْيَى، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَطَلْحَةُ، وَالْمُقْرِي، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ

عَنْهُمَا، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ، وَهِشَامٌ فِي رِوَايَةٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا التَّاءَ. وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمَا سَهَّلَا الْهَمْزَةَ. وذكر النحاس: أنه قرىء بِكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَكَسْرِ التَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ: بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْبَصْرِيُّونَ، كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا التَّاءَ. وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْأَسْوَدِ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَعِيسَى الْبَصْرَةِ كَذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَيِيَتْ مِثْلُ حَيِيَتْ، فَهَذِهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ هِيَ فِيهَا اسْمُ فِعْلٍ، إِلَّا قِرَاءَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَخِيرَةَ فَإِنَّهَا فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ مُسَهَّلُ الْهَمْزَةِ مِنْ هَيَّأْتُ الشَّيْءَ، وَإِلَّا مَنْ ضَمَّ التَّاءَ وَكَسَرَ الْهَاءَ سَوَاءٌ هَمَزَ أَمْ لَمْ يَهْمِزْ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فِعْلٍ كَحَالِهَا عِنْدَ فَتْحِ التَّاءِ أَوْ كَسْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا وَاقِعًا ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ هَاءِ الرَّجُلِ يهيىء إِذَا أَحْسَنَ هَيْئَتَهُ عَلَى مِثَالِ: جَاءَ يَجِيءُ، أَوْ بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ. يُقَالُ: هَيْتَ وَتَهَيَّأْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَإِذَا كَانَ فِعْلًا تَعَلَّقَتِ اللَّامُ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لُغَاتٌ أُخَرُ. وَانْتَصَبَ مَعَاذَ اللَّهِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ فِعْلِ السُّوءِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِذْ نَجَّانِي مِنَ الْجُبِّ، وَأَقَامَنِي فِي أَحْسَنِ مَقَامٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وغني بِرَبِّهِ سَيِّدَهُ الْعَزِيزَ فَلَا يَصْلُحُ لِي أَنْ أَخُونَهُ، وَقَدْ أَكْرَمَ مَثْوَايَ وَائْتَمَنَنِي قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَيَبْعُدُ جِدًّا، إِذْ لَا يُطْلِقُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى مَخْلُوقٍ أَنَّهُ رَبُّهُ، وَلَا بِمَعْنَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ مَمْلُوكًا لَهُ. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَيِ الْمُجَازُونَ الْإِحْسَانَ بِالسُّوءِ. وَقِيلَ: الزُّنَاةُ، وَقِيلَ: الْخَائِنُونَ. وَقَرَأَ أَبُو الطُّفَيْلِ وَالْجَحْدَرِيُّ مَثْوَيَّ، كَمَا قَرَأَ يَا بُشْرَيَّ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّنَصُّلَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي السُّوءِ. اسْتَعَاذَ أَوَّلًا بِاللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ الْعِصْمَةُ وَمَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ إِحْسَانَ اللَّهِ أَوْ إِحْسَانَ الْعَزِيزِ الَّذِي سَبَقَ مِنْهُ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجَازَى بِالْإِسَاءَةِ، ثُمَّ نَفَى الْفَلَاحَ عَنِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ الظَّفَرُ وَالْفَوْزُ بِالْبُغْيَةِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ أَكُونَ ظَالِمًا أَضَعُ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، وَأَتَعَدَّى مَا حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِي. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْهَمَّيْنِ، وَنَسَبَ بَعْضُهُمْ لِيُوسُفَ مَا لَا يَجُوزُ نِسْبَتَهُ لِآحَادِ الْفُسَّاقِ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَمٌّ بِهَا الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ مَنْفِيٌّ لِوُجُودِ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ كَمَا تَقُولُ: لَقَدْ قَارَفْتَ لَوْلَا أَنْ عَصَمَكَ اللَّهُ، وَلَا تَقُولُ: إِنَّ جَوَابَ لَوْلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ، بَلْ صَرِيحُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ الْعَامِلَةِ مُخْتَلِفٌ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ أَجْوِبَتِهَا عَلَيْهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَمِنْ أَعْلَامِ الْبَصْرِيِّينَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ

الْمُبَرِّدُ. بَلْ نَقُولُ: أَنَّ جَوَابَ لَوْلَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، فَيُقَدِّرُونَهُ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ، وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: أَنْتَ ظَالِمٌ عَلَى ثُبُوتِ الظُّلْمِ، بَلْ هُوَ مُثْبَتٌ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْفِعْلِ. وَكَذَلِكَ هُنَا التَّقْدِيرُ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهُمْ بِهَا، فكان موجدا الهم عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ، لَكِنَّهُ وَجَدَ رُؤْيَةَ الْبُرْهَانِ فَانْتَفَى الْهَمُّ. وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ وَلَهُمْ بِهَا كَانَ بَعِيدًا، فَكَيْفَ مَعَ سُقُوطِ اللَّامِ؟ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهَمَّ بِهَا هُوَ جَوَابُ لَوْلَا، وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ الْجَوَابِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الْجَوَابِ فَاللَّامُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِجَوَازِ أَنَّ مَا يَأْتِي جَوَابَ لَوْلَا إِذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي بِاللَّامِ، وَبِغَيْرِ لَامٍ تَقُولُ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، وَلَوْلَا زَيْدٌ أَكْرَمْتُكَ. فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَهَمَّ بِهَا هُوَ نَفْسُ الْجَوَابِ لَمْ يَبْعُدْ، وَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَإِنَّ جَوَابَ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: وَهَمَّ بِهَا، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَوْلَا أَنْ رَأَى الْبُرْهَانَ لَهَمَّ بِهَا فَلَمْ يَهُمَّ يوسف عليه السلام قال، وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ لِسَانُ الْعَرَبِ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: يَرُدُّهُ لِسَانُ الْعَرَبِ فَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِوُجُودِهِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1» فَقَوْلُهُ: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، إِمَّا أَنْ يَتَخَرَّجَ عَلَى أَنَّهُ الْجَوَابُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْقَائِلُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَخَرَّجَ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لَكَادَتْ تُبْدِي بِهِ. وَأَمَّا أَقْوَالُ السَّلَفِ فَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا أَقْوَالٌ مُتَكَاذِبَةٌ يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ كَوْنِهَا قَادِحَةً فِي بَعْضِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَضْلًا عَنِ الْمَقْطُوعِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ. وَالَّذِي رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا جَوَابَ لَوْلَا مَحْذُوفًا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوا لَهُمْ بِهَا. وَلَا يَدُلُّ كَلَامُ الْعَرَبِ إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْذَفُ الشَّيْءُ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَقَدْ طَهَّرْنَا كِتَابَنَا هَذَا عَنْ نَقْلِ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِمَّا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ، وَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَمَسَاقُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْعِصْمَةِ، وَبَرَاءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلْيُطَالِعْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمَا.

_ (1) سورة القصص: 28/ 10.

وَالْبُرْهَانُ الَّذِي رَآهُ يُوسُفُ هُوَ مَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ لَا يُمَكِّنُ الْهَمَّ بِهِ فَضْلًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَافُ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّثْبِيتِ ثَبَّتْنَاهُ أَوْ مَرْفُوعَةٌ أَيْ: الْأَمْرُ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ كَذَلِكَ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: جَرَتْ أَفْعَالُنَا وَأَقْدَارُنَا كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ عِصْمَتِهِ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، لِنَصْرِفَ عَنْهُ مَا هَمَّ بِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: كَذَلِكَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: أَرَيْنَاهُ الْبَرَاهِينَ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ: أَمَرُ الْبَرَاهِينَ كَذَلِكَ، وَالنَّصْبُ أَجْوَدُ لِمُطَالَبَةِ حُرُوفِ الْجَرِّ لِلْأَفْعَالِ أَوْ مَعَانِيهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: نُرَاعِيهِ كَذَلِكَ، انْتَهَى. وَأَقُولُ: إِنَّ التَّقْدِيرَ مِثْلَ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الرَّأْيِ، نُرِي بَرَاهِينَنَا لِنَصْرِفَ عَنْهُ، فَتُجْعَلُ الْإِشَارَةُ إِلَى الرَّأْيِ أَوِ الرُّؤْيَةِ، وَالنَّاصِبُ لِلْكَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ ربه. ولنصرف مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ النَّاصِبِ لِلْكَافِ. وَمَصْدَرُ رَأَى رُؤْيَةٌ وَرَأْيٌ قَالَ: وَرَأْيُ عَيْنَيَّ الْفَتَى أَبَاكَا ... يُعْطِي الْجَزِيلَ فَعَلَيْكَ ذَاكَا وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لِيَصْرِفَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا عَلَى رَبِّهِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: الْمُخْلِصِينَ إِذَا كَانَ فِيهِ إِلَى حَيْثُ وَقَعَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِهَا. وَفِي صَرْفِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ وَكَوْنِهِ مِنَ الْمُخْلَصِينَ دَلِيلٌ عَلَى عِصْمَتِهِ. وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ: أَيْ وَاسْتَبَقَ يُوسُفُ وَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ إِلَى الْبَابِ هَذَا لِلْخُرُوجِ وَالْهُرُوبِ مِنْهَا، وَهَذِهِ لِمَنْعِهِ وَمُرَاوَدَتِهِ. وَأَصْلُ اسْتَبَقَ أَنْ يَتَعَدَّى بِإِلَى، فَحُذِفَ اتِّسَاعًا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْأَبْوَابَ سَبْعَةٌ، فَكَانَ تَنْفَتِحُ لَهُ الْأَبْوَابُ بَابًا بَابًا مِنْ غَيْرِ مِفْتَاحٍ، عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ فِرَاشَ الْقُفْلِ كَانَ يَتَنَاثَرُ وَيَسْقُطُ، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْأَبْوَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَبْوَابُ الْمُغْلَقَةُ لَيْسَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ بَابًا فَبَابًا، بَلْ تَكُونُ فِي جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا مَنَافِذُ لِلْمَكَانِ الَّذِي كَانَا فِيهِ، فَاسْتَبَقَا إِلَى بَابٍ يَخْرُجُ مِنْهُ. وَلَا يَكُونُ

السَّابِعَ عَلَى التَّرْتِيبِ، بَلْ أَحَدَهَا. وَقَدَّتْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَاسْتَبَقَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: وَقَدْ قَدَّتْ جَذَبَتْهُ مِنْ خَلْفِهِ بِأَعْلَى الْقَمِيصِ مِنْ طَوْقِهِ، فَانْخَرَقَ إِلَى أَسْفَلِهِ. وَالْقَدُّ: الْقَطْعُ وَالشَّقُّ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا كَانَ طُولًا قَالَ: تَقُدَّ السَّلُوقِيَّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ وَالْقَطُّ: يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ عَرْضًا، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ حَرْبٍ: رَأَيْتُ في مصحف قط من دبر أي شق. قَالَ يَعْقُوبُ: الشَّقُّ فِي الجلد في الصَّحِيحِ، وَالثَّوْبِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ قَطَّ. وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا أَيْ: وجدا وصادفا زَوْجَهَا وَهُوَ قِطْفِيرُ. وَالْمَرْأَةُ تَقُولُ لِبَعْلِهَا: سَيِّدِي، وَلَمْ يُضَفْ إِلَيْهِمَا، لِأَنَّ قِطْفِيرَ لَيْسَ سَيِّدَ يُوسُفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَيُقَالُ: أَلْفَاهُ وَوَارَطَهُ وَصَادَفَهُ وَوَالَطَهُ وَلَاظَهُ، كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قِيلَ: أَلْفَيَاهُ مُقْبِلًا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ، وَقِيلَ: مَعَ ابْنِ عَمِّ الْمَرْأَةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَابَهُ أَمْرُهُمَا وَقَالَ: مَا لَكُمَا؟ فَلَمَّا سَأَلَ وَقَدْ خَافَتَ لَوْمَهُ، أَوْ سَبْقَ يُوسُفَ بِالْقَوْلِ، بَادَرَتْ أَنْ جَاءَتْ بِحِيلَةٍ جَمَعَتْ فِيهَا بَيْنَ تَبْرِئَةِ سَاحَتِهَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَغَضَبِهَا عَلَى يُوسُفَ وَتَخْوِيفِهِ طَمَعًا فِي مُوَاقَعَتِهَا خِيفَةً مِنْ مَكْرِهَا، كَرْهًا لَمَّا آيَسَتْ أَنْ يُوَاقِعَهَا طَوْعًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهَا: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ؟ وَلَمْ تُصَرِّحْ بَاسِمِ يُوسُفَ، بَلْ أَتَتْ بِلَفْظٍ عَامٍّ وَهُوَ قَوْلُهَا: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّخْوِيفِ. وما الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَزَاؤُهُ إِلَّا السِّجْنَ؟ وَبَدَأَتْ بِالسِّجْنِ إِبْقَاءً عَلَى مَحْبُوبِهَا، ثُمَّ تَرَقَّتْ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، قِيلَ: وَهُوَ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ. وَقَوْلُهَا: مَا جَزَاءُ أَيْ: إِنَّ الذَّنْبَ ثَابِتٌ مُتَقَرِّرٌ فِي حَقِّهِ، وَأَتَتْ بِلَفْظِ بِسُوءٍ أَيْ: بِمَا يَسُوءُ، وَلَيْسَ نَصًّا فِي مَعْصِيَةٍ كُبْرَى، إِذْ يَحْتَمِلُ خِطَابُهُ لَهَا بِمَا يَسُوؤُهَا، أَوْ ضَرْبَهُ إِيَّاهَا. وَقَوْلُهَا: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ، يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ السِّجْنِ مِنْ ذَوِي الْأَقْدَارِ حَيْثُ قَرَنَتْهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أو عَذَابًا أَلِيمًا، وَقَدَّرَهُ الْكِسَائِيُّ أَوْ يُعَذَّبُ عَذَابًا أَلِيمًا. وَلَمَّا أَغْرَتْ بِيُوسُفَ وَأَظْهَرَتْ تُهْمَتَهُ احْتَاجَ إِلَى إِزَالَةِ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وَلَمْ يَسْبِقْ إِلَى الْقَوْلِ أَوْلًا سَتْرًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِرْضِهِ الطَّاهِرِ قَالَ: هِيَ، وَأَتَى بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، إِذْ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَيَاءُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهَا وَيُعَيِّنَهَا بِالْإِشَارَةِ فَيَقُولُ: هَذِهِ رَاوَدَتْنِي، أو تلك راودتني، لأنّ فِي الْمُوَاجَهَةِ بِالْقَبِيحِ مَا لَيْسَ فِي الْغَيْبَةِ. وَلَمَّا تَعَارَضَ قَوْلَاهُمَا عِنْدَ الْعَزِيزِ وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ إِنَاءَةً وَنَصْفَةً، طَلَبَ الشَّاهِدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَشَهِدَ شَاهِدٌ

مِنْ أَهْلِهَا. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، وَالضَّحَّاكُ: كَانَ ابْنُ خَالَتِهَا طِفْلًا فِي الْمَهْدِ أَنْطَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْحُجَّةِ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُ مِنَ الصِّغَارِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ» وَأَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ. وَفِي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ السَّوْدَاءِ» وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهَا الَّذِي كَانَ مَعَ زَوْجِهَا لَدَى الْبَابِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَ قَتَادَةَ، كَانَ رَجُلًا حَلِيمًا مِنْ أَهْلِهَا ذَا رَأْيٍ يَأْخُذُ الْمَلِكُ بِرَأْيِهِ وَيَسْتَشِيرُهُ. وَقِيلَ: كَانَ حَكَمًا حَكَّمَهُ زَوْجُهَا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِهَا لِيَكُونَ أَوْجَبَ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهَا، وَأَوْثَقَ لِبَرَاءَةِ يُوسُفَ، وَأَنْفَى لِلتُّهْمَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا فِي الدَّارِ بِحَيْثُ لَا يُشْعَرُ بِهِ، فَبَصَرَ بِمَا جَرَى بَيْنَهُمَا، فَأَغْضَبَهُ اللَّهُ لِيُوسُفَ، وَشَهِدَ بِالْحَقِّ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْقَمِيصُ الْمَقْدُودُ لِقَوْلِهِ: شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا يُوصَفُ الْقَمِيصُ بِكَوْنِهِ شَاهِدًا مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ. وَسُمِّيَ الرَّجُلُ شَاهِدًا مِنْ حَيْثُ دَلَّ عَلَى الشَّاهِدِ، وَهُوَ تَخْرِيقُ الْقَمِيصِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَمَّى قَوْلَهُ شَهَادَةً لِأَنَّهُ أَدَّى تَأْدِيَتَهَا فِي أن ثَبْتِ قَوْلِ يُوسُفَ وَبَطْلِ قولها، وإن كَانَ قَمِيصُهُ مَحْكِيٌّ إِمَّا بقال مُضْمَرَةٍ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا بشهد، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَوْلٌ مِنَ الْأَقْوَالِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وكان هُنَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَدَاةُ الشَّرْطِ، وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْمُبَرِّدِ وَالْجُمْهُورِ فِيهَا، هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مُضِيِّهَا وَلَمْ تقلها أَدَاةُ الشَّرْطِ؟ أَوِ الْمَعْنَى: أَنْ يَتَبَيَّنَ كَوْنَهُ. فَأَدَاةُ الشَّرْطِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ. وجواب الشرط فصدقت وفكذبت، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ قَدْ أَيْ: فَقَدْ صَدَقَتْ، وَفَقَدَ كَذَبَتْ. وَلَوْ كَانَ فِعْلًا جَامِدًا أَوْ دُعَاءً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِ قَدْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ قُبُلٍ، ومن دُبُرٍ، بِضَمِّ الْبَاءِ فِيهِمَا وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةِ: بِتَسْكِينِهَا وَبِالتَّنْوِينِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَأَسَدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَنُوحٌ الْقَارِئُ، وَالْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مِنْ قُبُلٍ، ومن دبر، بثلاث ضمات. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْجَارُودُ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمْ: بِإِسْكَانِ الْبَاءِ مَعَ بِنَائِهِمَا عَلَى الضَّمِّ، جَعَلُوهَا غَايَةً نَحْوَ: مِنْ قَبْلُ. وَمَعْنَى الْغَايَةِ أَنْ يَصِيرَ الْمُضَافُ غَايَةَ نفسه بعد ما كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ غَايَتَهُ، وَالْأَصْلُ إِعْرَابُهُمَا لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ مُتَمَكِّنَانِ، وَلَيْسَا بِظَرْفَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهَذَا رَدِيءٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ هَذَا الْبِنَاءُ فِي الظُّرُوفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى مِنْ قُبُلِ الْقَمِيصِ وَمِنْ دُبُرِهِ، وَأَمَّا التَّنْكِيرُ فَمَعْنَاهُ مِنْ جِهَةٍ يُقَالُ لَهَا: قُبُلٌ، وَمِنْ جِهَةٍ يُقَالُ لَهَا: دُبُرٌ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ قَرَأَ مِنْ قُبُلَ وَمِنْ

دُبُرَ بِالْفَتْحِ، كَأَنْ جَعَلَهُمَا عَلَمَيْنِ لِلْجِهَتَيْنِ، فَمَنَعَهُمَا الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقَالَ أَيْضًا: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ دَلَّ قُدَّ قَمِيصُهُ مِنْ دُبُرٍ عَلَى أَنَّهَا كَاذِبَةٌ وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَبِعَتْهُ وَاجْتَذَبَتْ ثَوْبَهُ إِلَيْهَا فَقَدَّتْهُ، فَمِنْ أَيْنَ دَلَّ قَدُّهُ مِنْ قُبُلٍ عَلَى أَنَّهَا صَادِقَةٌ، وَأَنَّهُ كَانَ تَابِعُهَا؟ (قُلْتُ) : مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَابَعَهَا وَهِيَ دَافِعَةٌ عَنْ نَفْسِهَا فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ قُدَّامِهِ بِالدَّفْعِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُسْرِعَ خَلْفَهَا لِيَلْحَقَهَا، فَيَتَعَثَّرُ فِي قُدَّامِ قَمِيصِهِ فَيَشُقُّهُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، جُمْلَتَانِ مُؤَكِّدَتَانِ لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: فَصَدَقَتْ، يُعْلَمُ كَذِبُهُ. وَمِنْ قَوْلِهِ: فَكَذَبَتْ، يُعْلَمُ صِدْقُهُ. وَفِي بِنَاءِ قُدَّ لِلْمَفْعُولِ سَتْرٌ عَلَى مَنْ قَدَّهُ، وَلَمَّا كَانَ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِهَا رَاعَى جِهَةَ الْمَرْأَةِ فَبَدَأَ بِتَعْلِيقِ صِدْقِهَا عَلَى تَبَيُّنِ كَوْنِ الْقَمِيصِ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ، وَلَمَّا كَانَتْ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا أُبْرِزَ اسْمُ كَانَ بِلَفْظِ الْمَظْهَرِ، وَلَمْ يُضْمَرْ لِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَلِكَوْنِ التَّصْرِيحِ بِهِ أَوْضَحَ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى» فَلَمَّا رَأَى الْعَزِيزُ، وَقِيلَ: الشَّاهِدُ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ: إِنَّهُ أَيْ إِنَّ قَوْلَكِ: مَا جَزَاءُ إِلَى آخِرِهِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَهُوَ طَمَعُهَا فِي يُوسُفَ ذَكَرَهُ الْمَاوَرَدِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ إِلَى تَمْزِيقِ الْقَمِيصِ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ وَالْخِطَابُ فِي مِنْ كَيْدِكُنَّ لَهَا وَلِجَوَارِيهَا، أَوْ لَهَا وَلِلنِّسَاءِ. وَوَصَفَ كَيْدَ النِّسَاءِ بِالْعِظَمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ فِي الرِّجَالِ، لِأَنَّهُنَّ أَلْطَفُ كَيْدًا بِمَا جُبِلْنَ عَلَيْهِ وَبِمَا تَفَرَّغْنَ لَهُ، وَاكْتَسَبَ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَعْضٍ، وَهُنَّ أَنْفَذُ حِيلَةً. وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ «1» وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْقُصُورِ فَمَعَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِنَّ، لِكَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ تَفَرُّغًا مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَأَكْثَرَ تَأَنُّسًا بِأَمْثَالِهِنَّ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا أَيْ: عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَاكْتُمْهُ، وَلَا تَتَحَدَّثْ بِهِ. وَفِي نِدَائِهِ بِاسْمِهِ تَقْرِيبٌ لَهُ وَتَلْطِيفٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَقَالَ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الْعَزِيزُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَادَاهُ الشَّاهِدُ وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَزِيزِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، أَيْ لِزَوْجِكِ وَسَيِّدِكِ انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ الِاسْتِغْفَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِذَنْبِكِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْخَاطِئَاتِ، لِأَنَّ الْخَاطِئِينَ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الذُّكُورِ والإناث بالتغليب. يقال: خطىء إِذَا أَذْنَبَ مُتَعَمِّدًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كَانَ الْعَزِيزُ إِلَّا حَلِيمًا، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ انْتَهَى. وَتُرْبَةُ إِقْلِيمِ قِطْفِيرَ اقْتَضَتْ هَذَا، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا جَرَى لِبَعْضِ مُلُوكِنَا أَنَّهُ كَانَ مَعَ نُدَمَائِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ فِي مَجْلِسِ أُنْسٍ وجارية

_ (1) سورة الفلق: 113/ 4.

[سورة يوسف (12) : الآيات 30 إلى 44]

تُغَنِّيهِمْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، فَاسْتَعَادَ بَعْضُ خُلَصَائِهِ بَيْتَيْنِ مِنَ الْجَارِيَةِ كَانَتْ قَدْ غَنَّتْ بِهِمَا، فَمَا لَبِثَ أَنْ جِيءَ بِرَأْسِ الْجَارِيَةِ مَقْطُوعًا فِي طَسْتٍ وَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: اسْتَعِدِ الْبَيْتَيْنِ مِنْ هَذَا الرَّأْسِ، فَسَقَطَ فِي يَدِ ذَلِكَ الْمُسْتَعِيدِ، وَمَرِضَ مُدَّةَ حَيَاةِ ذَلِكَ الملك. [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)

النِّسْوَةُ بِكَسْرِ النُّونِ فِعْلَةٌ، وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِلْقِلَّةِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَزَعَمَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النِّسْوَةُ اسْمٌ مُفْرَدٌ لِجَمْعِ الْمَرْأَةِ، وَتَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِذَا لَمْ تَلْحَقْ فِعْلَهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ انْتَهَى. وَعَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لَا يُلْحِقُ التَّاءَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ: قَامَتِ الْهُنُودُ، وَقَامَ الْهُنُودُ. وَقَدْ تُضَمُّ نُونُهُ فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ اسْمُ جَمْعٍ، وَتَكْسِيرُهُ لِلْكَثْرَةِ عَلَى نِسْوَانٍ، وَالنِّسَاءُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِلْكَثْرَةِ أَيْضًا، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. شَغَفَ: خَرَقَ الشَّغَافَ، وَهُوَ حِجَابُ الْقَلْبِ. وَقِيلَ: سُوَيْدَاؤُهُ، وَقِيلَ: دَاءٌ يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ فَيَنْفُذُ إِلَى الْقَلْبِ. وَكَسْرُ الْغَيْنِ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقِيلَ: الشَّغَافُ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ يُقَالُ لَهَا لِسَانُ الْقَلْبِ، شَغَفَ وَصَلَتِ الْحِدَّةُ إِلَى الْقَلْبِ فَكَانَ يَحْتَرِقُ مِنْ شَغَفِ الْبَعِيرِ إِذَا هَنَّأَهُ فَأَحْرَقَهُ بِالْقَطْرَانِ، وَالْمَشْغُوفُ الَّذِي أَحْرَقَ الْحُبُّ قَلْبَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: يَعْصِي الْوُشَاةَ وَكَانَ الْحُبُّ آوِنَةً ... مِمَّا يُزَيِّنُ لِلْمَشْغُوفِ مَا صَنَعَا وَقَدْ تُكْسَرُ غَيْنُهُ. الْمُتَّكَأُ: الْوِسَادَةُ، وَالنَّمْرَقَةُ. الْمَتْكُ: الْأُتْرُجُّ، وَالْوَاحِدُ مُتْكَةٌ قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لَهْيَ أَبِيهَا وَقِيلَ: اسْمٌ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ الْأُتْرُجَّ وَغَيْرَهُ من الفواكه. وقال: يَشْرَبُ الْإِثْمَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا ... وَنَرَى الْمُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارًا وَهُوَ مِنْ مُتْكٍ بِمَعْنَى بَتَكَ الشَّيْءَ أَيْ قَطَعَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: الْمُتْكُ بِالضَّمِّ عِنْدَ الْخَلِيلِ الْعَسَلُ، وَعِنْدَ الْأَصْمَعِيِّ الْأُتْرُجُّ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالشَّرَابُ الْخَالِصُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، الْمُتْكُ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ الْخِلَالُ، وَقِيلَ: بَلِ

الْمِسْكُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: فِيهِ اللُّغَاتُ الثَّلَاثُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفَتْحِ الْمُجَمَّرِ عِنْدَ قُضَاعَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ يَكُونُ فِي اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ الْفَالُوذَ الْمُعَقَّدَ. وَقَالَ الْفَضْلُ: فِي اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ هُوَ الْبَزَمَاوَرْدُ، وَكُلُّ مَلْفُوفٍ بِلَحْمٍ وَرُقَاقٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الْمُتْكُ بِالضَّمِّ الْمَائِدَةُ، أَوِ الْخَمْرُ فِي لُغَةِ كِنْدَةَ. السِّكِّينُ: تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ. وَلَمْ يَعْرِفِ الْأَصْمَعِيُّ فِيهِ إِلَّا التَّذْكِيرَ. حَاشَ: قَالَ الْفَرَّاءُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُتِمُّهَا، وَفِي لُغَةِ الْحِجَازِ: حَاشَ لَكَ، وَبَعْضِ الْعَرَبِ: حَشَى زَيْدٌ كَأَنَّهُ أَرَادَ حَشَى لِزَيْدٍ، وَهِيَ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ انْتَهَى. وقال الزمخشري: حاشى كَلِمَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّنْزِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، تَقُولُ: أَسَاءَ القوم حاشى زيد. قال: حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ أَنَّ لَنَا ... ضَنًّا عَنِ الْمِلْحَاةِ وَالشَّتْمِ وَهِيَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فَوُضِعَتْ مَوْضِعَ التَّنْزِيهِ وَالْبَرَاءَةِ، فَمَعْنَى حَاشَ اللَّهِ: بَرَاءَةُ اللَّهِ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنَى التَّنْزِيهِ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَقَامَ الْقَوْمُ حَاشَى زَيْدٍ. وَلَمَّا مَثَّلَ بِقَوْلِهِ أَسَاءَ الْقَوْمُ حَاشَى زَيْدٌ، وَفُهِمَ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ بَرَاءَةُ زَيْدٍ مِنَ الْإِسَاءَةِ، جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَأَمَّا مَا أَنْشَدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ، فَكَذَا يُنْشِدُهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ. وَهُوَ بَيْتٌ رَكَّبُوا فِيهِ صَدْرَ بَيْتٍ عَلَى عَجْزٍ آخَرَ، وَهُمَا مِنْ بَيْتَيْنِ وَهُمَا: حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ أَنَّ أَبَا ... ثَوْبَانَ لَيْسَ بِبُكْمَةٍ فَدَمِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ بِهِ ... ضَنًّا عَنِ الْمِلْحَاةِ وَالشَّتْمِ عَصْرُ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ أَخْرَجَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ بِقُوَّةٍ. الخبر: مَعْرُوفُ، وَجَمْعُهُ أَخْبَازٌ، وَمَعَانِيهِ خَبَّازٌ. الْبِضْعُ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسَعِ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى السَّبْعَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبِضْعُ لَا يَبْلُغُ الْعَقْدَ وَلَا نِصْفَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يُذْكَرُ الْبِضْعُ إِلَّا مَعَ الْعَشَرَاتِ، وَلَا يُذْكَرُ مَعَ مِائَةٍ وَلَا أَلْفٍ. السِّمَنُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَصْدَرُ سَمِنَ يَسْمَنَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ سَمِينٌ، وَالْمَصْدَرُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. الْعَجْفَاءُ: الْمَهْذُولَةُ جِدًّا قَالَ: وَرِجَالُ مَكَةَ مُسْتَنُّونَ عِجَافٌ الضِّغْثُ أَقَلُّ مِنَ الْحُزْمَةِ وَأَكْثَرُ مِنَ الْقَبْضَةِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْعُشْبِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ، مِنْ أَخْلَاطِ النَّبَاتِ وَالْعُشْبِ فَمِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ

بِهِ «1» إِنَّهُ أَخَذَ عُثْكَالًا مِنَ النَّخْلِ. وَرُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَعَلَ نَحْوَ هَذَا فِي إِقَامَةِ حَدٍّ عَلَى رَجُلٍ. وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: خود كان راشها وُضِعَتْ بِهِ ... أَضْغَاثُ رَيْحَانٍ غَدَاةَ شِمَالِ وَمِنَ الْأَخْلَاطِ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي أَمْثَالِهَا: ضَغَثَ عَلَى إِمَالَةٍ. وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: لَمْ تَلْحَقْ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرِ الْمُؤَنَّثِ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَنِسْوَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا جَمْعُ قِلَّةٍ. وَكُنَّ عَلَى مَا نُقِلَ خَمْسًا: امْرَأَةً خَبَّازَةً، وَامْرَأَةً سَاقِيَةً، وَامْرَأَةً بَوَّابَةً، وامرأة سبحانه، وَامْرَأَةَ صَاحِبِ دَوَابِّهِ فِي الْمَدِينَةِ هِيَ مِصْرُ. وَمَعْنَى فِي الْمَدِينَةِ: أَنَّهُمْ أَشَاعُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ حُبِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ، وَصَرَّحُوا بِإِضَافَتِهَا إِلَى الْعَزِيزِ مُبَالَغَةً فِي التَّشْنِيعِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ أَقْبَلُ لِسَمَاعِ ذَوِي الْأَخْطَارِ وَمَا يَجْرِي لَهُمْ. وَعَبَّرَتْ بتراود وَهُوَ الْمُضَارِعُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ ذَلِكَ سَجِيَّةً لَهَا، تُخَادِعُهُ دَائِمًا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَلَمْ يَقُلْنَ: رَاوَدَتْ فَتَاهَا، ثُمَّ نَبَّهْنَ عَلَى عِلَّةِ دَيْمُومَةِ الْمُرَاوَدَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا أَيْ: بَلَغَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا. وَانْتَصَبَ حُبًّا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ: مَلَأْتُ الْإِنَاءَ مَاءً، أَصْلُهُ مَلَأَ الْمَاءُ الْإِنَاءَ. وَأَصْلُ هَذَا شَغَفَهَا حُبُّهُ، وَالْفَتَى الْغُلَامُ وَعُرْفُهُ فِي الْمَمْلُوكِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» ، وَقَدْ قِيلَ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ. وَأَصْلُ الْفَتَى فِي اللُّغَةِ الشَّابُّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جُلُّ الْخِدْمَةِ شُبَّانًا اسْتُعِيرَ لَهُمُ اسْمُ الْفَتَى. وَقَرَأَ ثَابِتٌ الْبَنَاتِيُّ: شَغَفَهَا بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَكَذَلِكَ قَتَادَةُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَالزُّهْرِيُّ بِخِلَافٍ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَابْنِ رَجَاءٍ كَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشغف في الحب، والشغف فِي الْبُغْضِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الشغف والمشغوف بالغين منقوطة فِي الْحُبِّ، وَالشَّغَفُ الْجُنُونُ، والمشغوف الْمَجْنُونُ. وَأَدْغَمَ النَّحْوِيَّانِ، وَحَمْزَةُ، وَهِشَامٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ دَالَّ قَدْ فِي شِينِ شَغَفَهَا. ثُمَّ نَقَمْنَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَقُلْنَ: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَيْ: فِي تحير واضح للناس.

_ (1) سورة ص: 38/ 44.

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ: رُوِيَ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الصَّادِرَةَ عَنِ النِّسْوَةِ إِنَّمَا قَصَدْنَ بِهَا الْمَكْرَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُغْضِبْنَهَا حَتَّى تَعْرِضَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفَ لِيَبِينَ عُذْرُهَا، أو يحق لومها ومكرهن هُوَ اغْتِيَابُهُنَّ إِيَّاهَا، وَسُوءُ مَقَالَتِهِنَّ فِيهَا أَنَّهَا عَشِقَتْ يُوسُفَ. وَسُمِّيَ الِاغْتِيَابُ مَكْرًا، لِأَنَّهُ فِي خُفْيَةٍ وَحَالِ غَيْبَةٍ، كَمَا يُخْفِي الْمَاكِرُ مَكْرَهُ. وَقِيلَ: كَانَتِ اسْتَكْتَمَتْهُنَّ سِرَّهَا فَأَفْشَيْنَهُ عَلَيْهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ لِيَحْضُرْنَ. قِيلَ: دَعَتْ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَاتُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى تِلْكَ النِّسْوَةِ الْقَائِلَةِ مَا قُلْنَ عَنْهَا. وَأَعْتَدَتْ لهن متكئا أَيْ: يَسَّرْتَ وَهَيَّأْتَ لَهُنَّ مَا يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ مِنَ النَّمَارِقِ وَالْمَخَادِّ وَالْوَسَائِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ أُعِدَّ لِلْكَرَامَةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِكْرَامِ لَا يَخْلُو مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَهُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجِئْنَ وَاتَّكَأْنَ. وَمُتَّكَئًا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَعْتَدَتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُتَّكَئًا، كَمَا جَاءَتْ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَّكَئًا مَجْلِسًا، ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ، وَيَكُونُ مُتَّكَئًا ظَرْفَ مَكَانٍ أَيْ: مَكَانًا يَتَّكِئْنَ فِيهِ. وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ تَكُونُ الْآلَاتُ الَّتِي يُتَّكَأُ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُتَّكَأُ الطَّعَامُ يُحَزُّ حَزًّا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: يُقَالُ اتَّكَأْنَا عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ أَكَلْنَا، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ عَبَّرَ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْآكِلُ الْمُتْرَفُ بِالْمُتَّكَأِ وَهِيَ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» أَوْ كَمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْمُتَّكَأُ لَيْسَ مُعَبَّرًا بِهِ عَمَّا يُؤْكَلُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَجْلِسِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَيَكُونُ فِي جُمْلَةِ الطَّعَامِ مَا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ. فَقِيلَ: كَانَ لَحْمًا وَكَانُوا لَا يَنْهَشُونَ اللَّحْمَ، إِنَّمَا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ حَزًّا بِالسَّكَاكِينِ. وَقِيلَ: كَانَ أُتْرُجًّا، وَقِيلَ: كَانَ بَزْمَاوَرْدَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْأُتْرُجِّ مَوْجُودٌ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْنُوعٌ مِنْ سُكَّرٍ وَلَوْزٍ وَأَخْلَاطٍ، وَمَضْمُونُهُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِالسِّكِّينِ، وَعَادَةً مَنْ يَقْطَعُ شَيْئًا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَيْهِ. قِيلَ: وَكَانَ قَصْدُهَا فِي بُرُوزِهِنَّ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَاتِ مُتَّكِئَاتٍ فِي أَيْدِيهِنَّ سَكَاكِينُ يَحْزُزْنَ بِهَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَهْشِهِنَّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَشَغْلِهِنَّ بِأَنْفُسِهِنَّ، فَتَقَعُ أَيْدِيهِنَّ عَلَى أَيْدِيهِنَّ فَيَقْطَعْنَهَا فَتُبَكِّتُهُنَّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَكْرًا بِهِنَّ إِذْ ذَهَلْنَ عَمَّا أَصَابَهُنَّ مِنْ تَقْطِيعِ أَيْدِيهِنَّ، وَمَا أَحْسَسْنَ بِهِ مَعَ الْأَلَمِ الشَّدِيدِ لِفَرْطِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِنَّ مِنِ اسْتِحْسَانِ يُوسُفَ وَسَلْبِهِ عُقُولَهُنَّ. وَالثَّانِي: التَّهْوِيلُ عَلَى يُوسُفَ بِمَكْرِهَا إِذَا خَرَجَ عَلَى نِسَاءٍ مُجْتَمِعَاتٍ فِي أَيْدِيهِنَّ الْخَنَاجِرُ، تُوهِمُهُ أَنَّهُنَّ يَثِبْنَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ يَحْذَرُ مَكْرَهًا

دَائِمًا. وَلَعَلَّهُ يُجِيبُهَا إِلَى مُرَادِهَا عَلَى زَعْمِهَا ذَلِكَ، وَيُوسُفُ قَدْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا تُرِيدُهُ بِهِ مِنَ السُّوءِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: مُتَّكِي مُشَدَّدُ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ بِوَزْنِ مُتَّقِي، فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاتِّكَاءِ، وَفِيهِ تَخْفِيفُ الْهَمْزِ كَمَا قَالُوا فِي تَوَضَّأْتُ تَوْضِئَةٌ. وَالثَّانِيَ: يَكُونُ مُفْتَعَلًا مِنْ أَوْكَيْتُ السِّقَاءَ إِذَا شَدَدْتُهُ أَيْ: مَا يَشْتَدِدْنَ عَلَيْهِ، إِمَّا بِالِاتِّكَاءِ، وَإِمَّا بِالْقَطْعِ بِالسِّكِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: مُتَّكِئًا مفعلا من تكأ يتكأ إِذَا اتَّكَأَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ: متكاء بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ، وَهُوَ مُفْتَعَلٌ مِنَ الِاتِّكَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ أَشْبَعَ الْفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الْأَلِفُ كَمَا قَالُوا: وَمِنْ ذَمَّ الرِّجَالَ بِمُنْتَزَاحِ. وَقَالُوا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الْأَذْنَابِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَإِبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: متكئا بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَتَنْوِينِ الْكَافِ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُعَاذٌ، وَكَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا فَتَحَا الْمِيمَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُتْكٍ، وَمَتْكٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَتْ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، هَذَا الْخِطَابُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَخُرُوجُهُ يَدُلُّ عَلَى طَوَاعِيَتِهَا فِيمَا لَا يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَخَرَجَ عَلَيْهِنَّ. وَمَعْنَى أَكْبَرْنَهُ: أَعَظَمْنَهُ وَدَهِشْنَ بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجَمَالِ الْفَائِقِ الرَّائِعِ. قِيلَ: كَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى نُجُومِ السَّمَاءِ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُخْبِرَ بِلُقْيَا يُوسُفَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: «كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» وَقِيلَ: كَانَ إِذَا سَارَ فِي أَزِقَّةِ مِصْرَ يُرَى تَلَأْلُؤُ وَجْهِهِ عَلَى الْجُدْرَانِ، كَمَا يُرَى نُورُ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: كَانَ يُشْبِهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ رَبُّهُ. وَقِيلَ: وَرِثَ الْجَمَالَ عَنْ جَدَّتِهِ سَارَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: مَعْنَاهُ حِضْنَ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ النِّسَاءِ حُجَّةً لِهَذَا التَّأْوِيلِ: تَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا ... تَأْتِي النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْبَيْتُ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ، كَذَلِكَ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَيْسَ عَبْدُ الصَّمَدِ مِنْ رُوَاةِ الْعِلْمِ رَحِمَهُ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ أَكْبَرْنَ بِمَعْنَى حِضْنَ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُقَالُ: أَكْبَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ، وَحَقِيقَتُهُ مِنَ الْكِبَرِ لِأَنَّهَا بِالْحَيْضِ تَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الصِّغَرِ إِلَى حَدِّ الْكِبَرِ، وَكَأَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ أَخَذَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلَهُ: خَفِ اللَّهِ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقُعٍ ... فَإِنْ لُحْتَ حَاضَتْ فِي الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ

انْتَهَى. وَإِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ هَاءَ السَّكْتِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ هَاءَ السَّكْتِ، وَكَانَ مَنْ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، لَمْ يَضُمَّ الْهَاءَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ فِي أَكْبَرْنَهُ عَلَى يُوسُفَ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْبَرَ بِمَعْنَى حَاضَ، فَتَكُونُ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أَكْبَرْنَ الْإِكْبَارَ. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أَيْ جَرَحْنَهَا، كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي. وَالتَّضْعِيفُ لِلتَّكْثِيرِ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الْقَاطِعَاتِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَكْثِيرِ الْحَزِّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. فَالْجُرْحُ كَأَنَّهُ وَقَعَ مِرَارًا فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَصَاحِبَتُهَا لا تشعر لما ذهلت بِمَا رَاعَهَا مِنْ جَمَالِ يُوسُفَ، فَكَأَنَّهَا غَابَتْ عَنْ حِسِّهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الْجَوَارِحُ الْمُسَمَّاةُ بِهَذَا الِاسْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَيْدِي هُنَا الْأَكْمَامُ، وَلَمَّا فَعَلْنَ هَذَا الْفِعْلَ الصَّعْبَ مِنْ جَرْحِ أَيْدِيهِنَّ، وَغَلَبَ عَلَيْهِنَّ مَا رَأَيْنَ مِنْ يُوسُفَ وَحُسْنِهِ قُلْنَ: حَاشَ لِلَّهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَاشَ لِلَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الشِّينِ، ولله بِلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: حَاشَا لِلَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ: حَشَى عَلَى وَزْنِ رَمَى لِلَّهِ بِلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حَاشَ بِسُكُونِ الشِّينِ وَصْلًا، وَوَقْفًا بِلَامِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: حَاشَى اللَّهِ بِالْإِضَافَةِ، وَعَنْهُمَا كَقِرَاءَةِ أبي عمر، وقاله صَاحِبُ الْلَوَامِحِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حَاشَ الْإِلَهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَحْذُوفًا مِنْ حَاشَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَرْفَ جَرٍّ يَجُرُّ مَا بَعْدَهُ. فَأَمَّا الْإِلَهُ فَإِنَّهُ فَكَّهُ عَنِ الْإِدْغَامِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ الْمَأْلُوهُ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ. قَالَ: وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ حَاشَ لِلتَّخْفِيفِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ الْلَوَامِحِ: مِنْ أَنَّ الْأَلِفَ فِي حَاشَى فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ مَحْذُوفَةٌ لَا تَتَعَيَّنُ، إِلَّا أَنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقِفُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِسُكُونِ الشِّينِ، فَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، إِذِ الأصل حاشى الْإِلَهِ، ثُمَّ نُقِلَ فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ وَحَرَّكَ اللَّامَ بِحَرَكَتِهَا، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهَذَا التَّحْرِيكِ لِأَنَّهُ عَارِضٌ، كَمَا تَنْحَذِفُ فِي يَخْشَى الْإِلَهَ. وَلَوِ اعْتَدَّ بِالْحَرَكَةِ لَمْ تُحْذَفِ الْأَلِفُ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: حَاشًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ كَرَعْيًا لِلَّهِ، فَأَمَّا الْقِرَاآتُ لِلَّهِ بِلَامِ الْجَرِّ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ أَبِي السَّمَّالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَاشَى، أَوْ حَاشَ، أَوْ حَشَى، أَوْ حَاشْ حَرْفُ جَرٍّ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا يَدْخُلُ عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ، وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِمَا بِالْحَذْفِ، وَأَصْلُ التَّصَرُّفِ بِالْحَذْفِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْحُرُوفِ. وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ كَابْنِ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِعْلِيَّتُهَا، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ يُوسُفَ أَيْ: حاشى يُوسُفَ أَنْ يُقَارِفَ مَا رَمَتْهُ بِهِ. وَمَعْنَى لِلَّهِ: لِطَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ لِمَكَانَةٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ لِتَرْفِيعِ اللَّهِ أَنْ يُرْمَى بِمَا رَمَتْهُ بِهِ، أَوْ

يُذْعِنَ إِلَى مِثْلِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ أَفْعَالُ الْبَشَرِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: جَانَبَ يُوسُفُ الْمَعْصِيَةَ لِأَجْلِ طَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ لِمَا ذَهَبَ قَبْلُ. وَذَهَبَ غَيْرُ الْمُبَرِّدِ إِلَى أَنَّهَا اسْمٌ، وَانْتِصَابُهَا انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى اسْمِيَّتِهَا قِرَاءَةُ أَبِي السَّمَّالِ حَاشًا مُنَوَّنًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يتعلق الله بمحذوف على البيان كلك بَعْدَ سُقْيًا، وَلَمْ يُنَوَّنْ فِي الْقِرَاآتِ الْمَشْهُورَةِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِهِ الَّذِي نُقِلَ مِنْهُ وَهُوَ الْحَرْفُ. أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: مِنْ عَنْ يَمِينِهِ، فَجَعَلُوا عَنْ اسْمًا وَلَمْ يُعْرِبُوهُ؟ وَقَالُوا: مِنْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُثْبِتُوا أَلِفَهُ مَعَ الْمُضْمَرِ، بَلْ أَبْقُوا عَنْ عَلَى بِنَائِهِ، وَقَلَبُوا أَلِفَ عَلَى مَعَ الضَّمِيرِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِهَا؟ وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِالْإِضَافَةِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى أَلِفِهِ كَمَا قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا قِرَاءَةُ أبي بن كعب وابن مَسْعُودٍ فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّ حَاشَى حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ، كما قال الشاعر: حاشى أَبِي ثَوْبَانَ انْتَهَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ حَاشْ بِالتَّسْكِينِ فَفِيهَا جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، وَقَدْ ضَعَّفُوا ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ الْعَجْزِ، وَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ جَمِيلٍ مِثْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حاشى لِلَّهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، فَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ عَفِيفٍ مِثْلِهِ. مَا هَذَا بَشَرًا لَمَّا كَانَ غَرِيبَ الْجَمَالِ فَائِقَ الْحُسْنِ عَمَّا عَلَيْهِ حُسْنُ صُوَرِ الْإِنْسَانِ، نَفَيْنَ عَنْهُ الْبَشَرِيَّةَ، وَأَثْبَتْنَ لَهُ الْمَلَكِيَّةَ، لِمَا كَانَ مَرْكُوزًا فِي الطِّبَاعِ حُسْنُ الْمَلَكِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرَى. وَقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ وَالْمُحَدِّثُونَ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً ... حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيتَا وَانْتِصَابُ بَشَرًا عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَا جَاءَ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ «1» وما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ الرَّفْعُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ عَلَى سَلِيقَتِهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَرَأَ بَشَرٌ بِالرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الَحُوَيْرِثِ الْحَنَفِيُّ: مَا هَذَا بُشْرَى، قَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِمَبِيعٍ أَوْ

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 2.

بِمُشْرًى أَيْ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُشْتَرَى وَيُبَاعُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَيْسَ بِثَمَنٍ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَالشِّرَاءُ هُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَتَابَعَهُمَا عبد الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو عَلَى ذَلِكَ، وَزَادَ عَلَيْهِمَا: إِلَّا مَلِكٌ بِكَسْرِ اللَّامِ وَاحِدُ الْمُلُوكِ، فَهُمْ نَفُوا بِذَلِكَ عَنْهُ ذُلَّ الْمَمَالِيكِ وَجَعَلُوهُ فِي حَيِّزِ الْمُلُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَسْرَ اللَّامِ لِلْحَسَنِ وَأَبِي الْحُوَيْرِثِ اللَّذَيْنِ قَرَآ بُشْرَى قَالَ: لَمَّا اسْتَعْظَمْنَ حُسْنَ صُورَتِهِ قُلْنَ هَذَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا بُشْرَى، إِنْ هَذَا إِلَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا كَرِيمًا. وقال الزمخشري: وقرىء مَا هَذَا بُشْرَى أَيْ: بِعَبْدٍ مَمْلُوكٍ لَئِيمٍ، إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كريم. تَقُولُ: هَذَا بُشْرَى أَيْ حَاصِلُ بُشْرَى، بِمَعْنَى هَذَا مُشْتَرِي. وَتَقُولُ: هَذَا لَكَ بُشْرَى، أَيْ بِكْرًا. وَقَالَ: وَإِعْمَالُ مَا عَمَلَ لَيْسَ هِيَ اللُّغَةُ الْقُدْمَى الْحِجَازِيَّةُ، وَبِهَا وَرَدَ الْقُرْآنُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ الْقُدْمَى، لِأَنَّ الْكَثِيرَ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ إِنَّمَا هُوَ جَرُّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ، فَتَقُولُ: مَا زَيْدٌ بِقَائِمٍ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا نَصْبُ الْخَبَرِ فَمِنْ لُغَةِ الْحِجَازِ الْقَدِيمَةِ، حَتَّى أَنَّ النَّحْوِيِّينَ لَمْ يَجِدُوا شَاهِدًا عَلَى نَصْبِ الْخَبَرِ فِي أشعار الحجازيين غَيْرَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِلُ الْجُيُوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أباهم ... حنقو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلَادُهَا وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ سَامِعُ لُغَةٍ حَافِظٌ ثِقَةٌ: لَا يَكَادُ أَهْلُ الْحِجَازِ يَنْطِقُونَ إِلَّا بِالْبَاءِ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْحِجَازِ النُّطْقُ بِالْبَاءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اللُّغَةُ القدمى الحجازية، فَالْقُرْآنُ جَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ الْقُدْمَى وَغَيْرِهَا. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ. قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ: ذَا اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَاللَّامُ لِبُعْدِ الْمُشَارِ، وكن خِطَابٌ لِتِلْكَ النِّسْوَةِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَمَّا رَأَى دَهْشَهُنَ وَتَقْطِيعَ أَيْدِيهِنَّ بِالسَّكَاكِينِ وَقَوْلِهِنَّ: مَا هَذَا بَشَرًا، بَعُدَ عَنْهُنَّ إِبْقَاءً عَلَيْهِنَّ فِي أَنْ لَا تَزْدَادَ فِتْنَتُهُنَّ، وَفِي أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى حُسْنِهِنَّ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي لِلْبَعِيدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَشَارَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ لِلْبُعْدِ قَرِيبٌ بِلَفْظِ الْبَعِيدِ رَفْعًا لِمَنْزِلَتِهِ فِي الْحُسْنِ، وَاسْتِبْعَادًا لِمَحَلِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لِغَرَابَتِهِ بَعِيدٌ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ تَضَمَّنَ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ:

الَّذِي قَطَعْتُنَّ أَيْدِيَكُنَّ بِسَبَبِهِ وَأَكْبَرْتُنَّهُ وَقُلْتُنَّ فِيهِ مَا قُلْتُنَّ مِنْ نَفْيِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْهُ وَإِثْبَاتِ الْمَلَكِيَّةِ لَهُ، هُوَ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أَيْ: فِي مَحَبَّتِهِ وَشَغَفِي بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمَعْنَى بِقَوْلِهِنَّ: عَشِقَتْ عَبْدَهَا الْكَنْعَانِيَّ تَقُولُ: هَذَا ذَلِكَ الْعَبْدُ الْكَنْعَانِيُّ الَّذِي صَوَّرْتُنَّ فِي أَنْفُسِكُنَّ ثُمَّ لُمْتُنَّنِي فِيهِ، يَعْنِي: إِنَّكُنَّ لَوْ تُصَوِّرْنَهُ بِحَقٍّ صُورَتِهِ، وَلَوْ صَوَّرْتُنَّهُ بِمَا عَايَنْتُنَّ لَعَذَرْتُنَّنِي فِي الِافْتِتَانِ بِهِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى حُبِّ يُوسُفَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحُبِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى غَائِبٍ عَلَى بَابِهِ انْتَهَى. ثُمَّ أَقَرَّتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ لِلنِّسْوَةِ بِالْمُرَاوَدَةِ، وَاسْتَنَامَتْ إِلَيْهِنَّ في ذلك، إذا عَلِمَتْ أَنَّهُنَّ قَدْ عَذَرْنَهَا. فَاسْتَعْصَمَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ طَلَبَ الْعِصْمَةَ، وَتَمَسَّكَ بِهَا وَعَصَانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالِاسْتِعْصَامُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ الْبَلِيغِ وَالتَّحَفُّظِ الشَّدِيدِ، كَأَنَّهُ فِي عِصْمَةٍ وَهُوَ يَجْتَهِدُ فِي الِاسْتِزَادَةِ مِنْهَا، وَنَحْوَ: اسْتَمْسَكَ، وَاسْتَوْسَعَ، وَاسْتَجْمَعَ الرَّأْيَ، وَاسْتَفْحَلَ الْخَطْبُ. وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا كَانَ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَبُرْهَانٌ لَا شَيْءَ أَنْوَرُ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا أَضَافَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحَشْوِ مِمَّا فَسَّرُوا بِهِ الْهَمَّ وَالْبُرْهَانَ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَ التَّصْرِيفِيُّونَ فِي اسْتَعْصَمَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِاعْتَصَمَ، فَاسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافِقٌ لِافْتَعَلَ، وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ جَعْلِ اسْتَفْعَلَ فِيهِ لِلطَّلَبِ، لِأَنَّ اعْتَصَمَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اعْتِصَامِهِ، وَطَلَبَ الْعِصْمَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهَا. وَأَمَّا أَنَّهُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِصْمَةِ، فَلَمْ يَذْكُرِ التَّصْرِيفِيُّونَ هَذَا الْمَعْنَى لِاسْتَفْعَلَ. وَأَمَّا اسْتَمْسَكَ وَاسْتَوْسَعَ وَاسْتَجْمَعَ الرَّأْيَ فَاسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِافْتَعَلَ، وَالْمَعْنَى: امْتَسَكَ وَاتَّسَعَ وَاجْتَمَعَ الرَّأْيَ، وَأَمَّا اسْتَفْحَلَ الْخَطْبُ فَاسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِتَفَعَّلَ أَيْ: تَفَحَّلَ الْخَطْبُ نَحْوَ: اسْتَكْبَرَ وَتَكَبَّرَ. ثُمَّ جَعَلَتْ تَتَوَعَّدُهُ مُقْسِمَةً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَسْمَعُ قَوْلَهَا بِقَوْلِهَا: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ. وَالضَّمِيرُ فِي أَمْرُهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ أَيْ: مَا آمُرُ بِهِ، فَحُذِفَ الْجَارُّ، كَمَا حُذِفَ فِي أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ. وَمَفْعُولُ آمُرُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ مَا آمُرُهُ بِهِ. وَإِنْ جَعَلْتَ مَا مَصْدَرِيَّةً جَازَ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى يُوسُفَ أَيْ: أَمْرِي إِيَّاهُ، وَمَعْنَاهُ: مُوجِبٌ أَمْرِي. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَلَيَكُونَنَّ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَكَتْبُهَا فِي الْمُصْحَفِ بِالْأَلِفِ مُرَاعَاةً لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى. وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا

وَمِنَ الصَّاغِرِينَ: مِنَ الْأَذِلَّاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الَّذِي ذَكَرَتْهُ فِي مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ فِي طَرَاوَةِ غَيْظِهَا وَمُتَنَصِّلَةً مِنْ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي رَاوَدَتْهُ، فَنَاسَبَ هُنَاكَ التَّغْلِيظَ بِالْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهَا فِي طَمَاعِيَةٍ وَرَجَاءٍ، وَأَقَامَتْ عُذْرَهَا عِنْدَ النِّسْوَةِ، فَرَقَتْ عَلَيْهِ، فَتَوَعَّدَتْهُ بِالسِّجْنِ. وَقَالَ لَهُ النِّسْوَةُ: أَطِعْ وَافْعَلْ مَا أَمَرَتْكَ بِهِ، فَقَالَ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهِنَّ لِمَا يَنْصَحْنَ لَهُ وَزَيَّنَّ لَهُ مُطَاوَعَتَهَا، وَنَهَيْنَهُ عَنْ إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي السِّجْنِ وَالصَّغَارِ، فَالْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّقْدِيرُ: دُخُولُ السِّجْنِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ، وَمَوْلَاهُ طَارِقٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَيَعْقُوبُ: السَّجْنُ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُوَ مَصْدَرُ سَجَنَ أَيْ: حَبْسُهُمْ إِيَّايَ فِي السجن أحب إليّ وأحب هُنَا لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّ مَا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هَذَانِ شَرَّانِ، فَآثَرَ أَحَدَ الشَّرَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا مَشَقَّةٌ وَفِي الْآخَرِ لَذَّةٌ، لَكِنْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ اللَّذَّةِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ، لَمْ يَخْطُرْ لَهُ بِبَالٍ. وَلِمَا فِي الْآخِرِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى النَّوَائِبِ، وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ، وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ دَاعِيًا لَهُ فِي تَخْلِيصِهِ. آثَرَهُ ثُمَّ نَاطَ الْعِصْمَةَ بِاللَّهِ، وَاسْتَسْلَمَ لِلَّهِ كَعَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا هُوَ. فَقَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أَيْ: أَمِلْ إِلَى مَا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. وَجَعَلَ جَوَابَ الشَّرْطِ قَوْلَهُ: أَصْبُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مُشْعِرَةٌ بِالْمَيْلِ فَقَطْ، لَا بِمُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ. وقرىء أَصْبُ إِلَيْهِنَّ مِنْ صَبَبْتُ صبابة فَأَنَا صَبٌّ، وَالصَّبَابَةُ إِفْرَاطُ الشَّوْقِ، كَأَنَّهُ يَنْصَبُّ فِيمَا يَهْوَى. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: أَصْبُ مِنْ صَبَا إِلَى اللَّهْوِ يَصْبُو صَبًا وَصَبْوًا، وَيُقَالُ: صَبَا يَصْبَا صَبًا، وَالصِّبَا بِالْكَسْرِ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ. وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ مِنَ الَّذِينَ يعملون بما، لِأَنَّ مَنْ لَا جَدْوَى لِعِلْمِهِ فَهُوَ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ سَوَاءٌ، أَوْ مِنَ السُّفَهَاءِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ فِي مُوَافَقَةِ النِّسَاءِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِنَّ سَفَاهَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَحْدَى بِلَيْلِي وَمَا هَامَ الْفُؤَادُ بها ... إلا السفاه والاذكرة حُلُمًا وَذَكَرَ اسْتِجَابَةَ اللَّهِ لَهُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظُ دُعَاءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي، فِيهِ مَعْنَى طَلَبِ الصَّرْفِ وَالدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ اصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ أَيْ: حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِدُعَاءِ الْمُلْتَجِئِينَ إِلَيْهِ، الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ

نِيَّاتُهُمْ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ، وَالْفَاعِلُ لبدا ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ: بَدَا لَهُمْ هُوَ أَيْ رَأَى أَوْ بَدَا. كَمَا قَالَ: بَدَا لَكَ مِنْ تِلْكَ الْقَلُوصِ بَدَاءُ هَكَذَا قَالَهُ النُّحَاةُ وَالْمُفَسِّرُونَ، إِلَّا مَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فَاعِلَةً، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيَسْجُنُنَّهُ فِي مَوْضِعِ الفاعل لبدا أَيْ: سَجَنَهُ حَتَّى حِينٍ، وَالرَّدُّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى السِّجْنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَيُسْجَنَنَّ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: السِّجْنُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ عَلَى السَّجْنُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ السِّينَ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ لِلْعَزِيزِ وأهله، والآيات هِيَ: الشَّوَاهِدُ الدَّالَّةُ عَلَى بَرَاءَةِ يُوسُفَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: قَدُّ الْقَمِيصِ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ طِفْلًا فَهِيَ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالْعَادَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ، وَجَمْعُهَا يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ أُمُورٍ وَاضِحَةٍ دَلَّتْ عَلَى بَرَاءَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الْآيَاتُ الَّتِي رَأَوْهَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى جَمِيعِهَا فِي الْقُرْآنِ، بَلْ رَأَوْا قَوْلَ الشَّاهِدِ. وَقَدَّ الْقَمِيصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عِكْرِمَةُ أَنَّ مِنَ الْآيَاتِ خَمْشُ وَجْهِهَا، وَالسُّدِّيُّ مِنْ حَزِّ أَيْدِيهِنَّ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ فلا يكون آية. وليسجننه جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَالْقَسَمُ وَجَوَابُهُ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَائِلِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَتَسْجُنُنَّهُ بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ بَعْضِهِمُ الْعَزِيزَ وَمَنْ يَلِيهِ، أَوِ الْعَزِيزَ وَحْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَتَّى بِإِبْدَالِ حَاءِ حَتَّى عَيْنًا، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ. وَأَقْرَأَ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إليه يأمره أن يقرىء بِلُغَةِ قُرَيْشٍ حَتَّى لَا بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَالْمَعْنَى: إِلَى زَمَانٍ. وَالْحِينُ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَمَنْ عَيَّنَ لَهُ هُنَا زَمَانًا فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مُدَّةِ سِجْنِ يُوسُفَ، لَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهَا اقْتَرَحَتْ زَمَانًا حَتَّى تُبْصِرَ مَا يَكُونُ مِنْهُ. وَفِي سَجْنِهِمْ لِيُوسُفَ دَلِيلٌ عَلَى مَكِيدَةِ النِّسَاءِ، وَاسْتِنْزَالُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَمُطَاوَعَتِهِ لَهَا، وَعِشْقِهِ لَهَا، وَجَعْلِهِ زِمَامَ أَمْرِهِ بِيَدِهَا، هَذَا مَعَ ظُهُورِ خِيَانَتِهَا وَبَرَاءَةِ يُوسُفَ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ يُوسُفُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَيَئِسَتْ مِنْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ الْعِبْرَانِيَّ قَدْ فَضَحَنِي فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ وَيَصِفُ الْأَمْرَ بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِ، وَأَنَا مَحْبُوسَةٌ مَحْجُوبَةٌ، فَإِمَّا أَذِنْتَ لِي فَخَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ فَاعْتَذَرْتُ وَكَذَّبْتُهُ، وَإِلَّا حَبَسْتَهُ كَمَا أَنَا مَحْبُوسَةٌ، فَحِينَئِذٍ بَدَا لَهُمْ سَجْنُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَمَرَ بِهِ فَحُمِلَ عَلَى حِمَارٍ، وَضُرِبَ بِالطَّبْلِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي أَسْوَاقِ مِصْرَ أَنَّ يُوسُفَ الْعِبْرَانِيَّ أَرَادَ سَيِّدَتَهُ، فَهَذَا جَزَاؤُهُ أَنْ يُسْجَنَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا بَكَى.

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَجَنُوهُ، فَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ غُلَامَانِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا لِلْمَلِكِ الْأَعْظَمِ الْوَلِيدِ بْنِ الرَّيَّانِ، أَحَدُهُمَا خَبَّازُهُ، وَالْآخَرُ سَاقِيهُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ اتَّهَمَهُمَا بِأَنَّ الْخَابِزَ مِنْهُمَا أَرَادَ سَمَّهُ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّاقِي، فَسَجَنَهُمَا قَالَهُ: السُّدِّيُّ. وَمَعَ تَدُلُّ عَلَى الصُّحْبَةِ وَاسْتِحْدَاثِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَجَنُوا الثَّلَاثَةَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَمَّا دَخَلَ يُوسُفُ السِّجْنَ اسْتَمَالَ النَّاسَ بِحُسْنِ حَدِيثِهِ وَفَضْلِهِ وَنُبْلِهِ، وَكَانَ يُسَلِّي حَزِينَهُمْ، وَيَعُودُ مَرِيضَهُمْ، وَيَسْأَلُ لِفَقِيرِهِمْ، وَيَنْدُبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ، فَأَحَبَّهُ الْفَتَيَانِ وَلَزِمَاهُ، وَأَحَبَّهُ صَاحِبُ السِّجْنِ وَالْقَيِّمُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: كُنْ فِي أَيِّ الْبُيُوتِ شِئْتَ فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ: لَا تُحِبَّنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلَقَدْ أَدْخَلَتْ عَلَيَّ الْمَحَبَّةُ مَضَرَّاتٍ، أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَامْتُحِنْتُ بِمَحَبَّتِهَا، وَأَحَبَّنِي أَبِي فَامْتُحِنْتُ بِمَحَبَّتِهِ، وَأَحَبَّتْنِي امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَامْتُحِنْتُ بِمَحَبَّتِهَا بِمَا تَرَى. وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ قَالَ لِأَهْلِ السِّجْنِ: إِنِّي أَعْبُرُ الرُّؤْيَا وَأُجِيدُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْفَتَيَيْنِ قَالَا لَهُ: إِنَّا لَنُحِبُّكَ مِنْ حِينِ رَأَيْنَاكَ فَقَالَ: أُنْشُدُكُمَا اللَّهَ أَنْ لَا تُحِبَّانِي ، وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: كَانَ فِي السِّجْنِ نَاسٌ قَدِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ وَطَالَ حُزْنُهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: اصْبِرُوا وَابْشِرُوا تُؤْجَرُوا إِنَّ لِهَذَا لَأَجْرًا فَقَالُوا: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ، وَمَا أَحْسَنَ خُلُقَكَ! لَقَدْ بُورِكَ لَنَا فِي جِوَارِكَ فَمَنْ أَنْتَ يَا فَتَى؟ قَالَ يُوسُفُ: ابْنُ صَفِّي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق ابن خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ لَهُ عَامِلُ السِّجْنِ: لَوِ اسْتَطَعْتُ خَلَّيْتُ سَبِيلَكَ. وَهَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي لِلْفَتَيَيْنِ قَالَ مُجَاهِدٌ: رَأَيَا ذَلِكَ حَقِيقَةً فأرادا سُؤَالَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ: اسْتَعْمَلَاهَا لِيُجَرِّبَاهُ. وَالَّذِي رَأَى عَصْرَ الْخَمْرِ اسْمُهُ بُنُو قَالَ: رَأَيْتُ حَبْلَةً مِنْ كَرْمٍ لَهَا ثَلَاثَةُ أَغْصَانٍ حِسَانٍ، فِيهَا عَنَاقِيدُ عِنَبٍ حِسَانٌ، فَكُنْتُ أَعْصِرُهَا وَأَسْقِي الْمَلِكَ. وَالَّذِي رَأَى الْخُبْزَ اسْمُهُ مُلْحَبُ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَطْبَخَةِ الْمَلِكِ وَعَلَى رَأْسِي ثَلَاثُ سِلَالٍ فِيهَا خُبْزٌ، وَالطَّيْرُ تَأْكُلُ مِنْ أعلاه، ورأى الْحُلْمِيَّةُ جَرَتْ مَجْرَى أَفْعَالِ الْقُلُوبِ فِي جَوَازِ كَوْنِ فَاعِلِهَا وَمَفْعُولِهَا ضَمِيرَيْنِ مُتَّحِدَيِ المعنى، فأراني فِيهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنُّ، وَقَدْ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَهُوَ رَافِعٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَكِلَاهُمَا لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: اضْرِبْنِي وَلَا أَكْرِمْنِي. وَسُمِّيَ الْعِنَبُ خَمْرًا بِاعْتِبَارِ ما يؤول إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْخَمْرُ بِلُغَةِ غَسَّانَ اسْمُ الْعِنَبِ. وَقِيلَ: فِي لُغَةِ أَزْدِ عُمَانَ. وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ: لَقِيتُ أَعْرَابِيًّا يَحْمِلُ عِنَبًا فِي وِعَاءٍ فَقُلْتُ: مَا تَحْمِلُ؟ قَالَ: خَمْرًا، أَرَادَ الْعِنَبَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ:

أَعْصِرُ عِنَبًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، وَلِلثَّابِتِ عَنْهُمَا بِالتَّوَاتُرِ قِرَاءَتُهُمَا أَعْصِرُ خَمْرًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْخَمْرِ بِأَنَّهَا مَعْصُورَةٌ، إِذِ الْعَصْرُ لَهَا وَمِنْ أَجْلِهَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: فَوْقَ رَأْسِي ثَرِيدًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وَهُوَ أَيْضًا تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي تَأْوِيلِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا قَصَا عَلَيْهِ، أُجْرِيَ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّهُمَا رَأَيَا مِنْهُ مَا عَلِمَا بِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي حَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِ السِّجْنِ وَإِجْمَالِهِ مَعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَرَادَا إِخْبَارَهُ أَنَّهُمَا يَرَيَانِ لَهُ إِحْسَانًا عَلَيْهِمَا وَيَدًا، إِذَا تَأَوَّلَ لَهُمَا مَا رَأَيَاهُ. قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا اسْتَعْدَاهُ وَوَصَفَاهُ بِالْإِحْسَانِ افْتَرَضَ ذَلِكَ، فَوَصَفَ يُوسُفُ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ فَوْقَ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّهُ يُنْبِئُهُمَا بِمَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمَا مِنَ الطَّعَامِ فِي السِّجْنِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمَا، وَيَصِفُهُ لَهُمَا وَيَقُولَ: الْيَوْمَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَجِدَانِهِ كَمَا أَخْبَرَهُمَا، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ تَخْلِيصًا إِلَى أَنْ يَذْكُرَ لَهُمَا التَّوْحِيدَ، وَيَعْرِضَ عَلَيْهِمَا الْإِيمَانَ وَيُزَيِّنَهُ لَهُمَا، وَيُقَبِّحَ لَهُمَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ أَنْ يَسْلُكَهَا مَعَ الْجُهَّالِ وَالْفَسَقَةِ إِذَا اسْتَفْتَاهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِرْشَادَ وَالْمَوْعِظَةَ وَالنَّصِيحَةَ أَوَّلًا، وَيَدْعُوهُ إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِمَّا اسْتَفْتَى فِيهِ، ثُمَّ يُفْتِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا جُهِلَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْعِلْمِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَغَرَضُهُ أَنْ يُقْتَبَسَ مِنْهُ، وَيُنْتَفَعَ بِهِ فِي الدِّينِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِبَيَانِ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَفْسِيرَ الْمُشْكَلِ وَالْإِعْرَابَ عَنْ مُعَايَنَةٍ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِتْيَانَ الطَّعَامِ يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَرَادَ يُوسُفُ لَا يَأْتِيكُمَا فِي الْيَقَظَةِ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا منه بعلم، وبما يؤول إليه أمر كما قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا، فَعَلَى هَذَا أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مُغَيَّبَاتٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَا، وَهَذَا عَلَى ما روي أنه نبىء فِي السِّجْنِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا عَلِمَ مِنْ تَعْبِيرِ مَنَامِهِ رَأَى الْخُبْزَ أَنَّهَا تُؤْذَنُ بِقَتْلِهِ، أَخَذَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ تَنْسِيَةً لَهُمَا أَمْرَ الْمَنَامِ، وَطَمَاعِيَةً فِي إِيمَانِهِمَا، لِيَأْخُذَ الْمَقْتُولُ بِحَظِّهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَتَسْلَمَ لَهُ آخِرَتُهُ فَقَالَ لَهُمَا مُعْلِنًا بِعَظِيمِ عِلْمِهِ لِلتَّعْبِيرِ: إِنَّهُ لَا يَجِيئُكُمَا طَعَامٌ فِي يَوْمِكُمَا تَرَيَانِ

أَنَّكُمَا رُزِقْتُمَاهُ إِلَّا أَعْلَمْتُكُمَا بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَيْ: بما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي الْيَقَظَةِ، قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ الَّذِي أُعْلِمُكُمَا بِهِ. فَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ مَا تَدَّعِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَأَنْتَ لَسْتَ بِكَاهِنٍ وَلَا مُنَجِّمٍ؟ فَقَالَ لَهُمَا: ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَأْتِيكُمَا إِلَى آخِرِهِ، أَنَّهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ نَبِيًّا يُوحَى إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنِّي تَرَكْتُ، اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَا قَدْ أَحَبَّاهُ وَكَلِفَا بِحُبِّهِ وَبِحُسْنِ أَخْلَاقِهِ، لِيُعْلِمَهُمَا مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ مُخَالَفَةِ قَوْمِهِمَا فَيَتْبَعَاهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لِأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خير لك من حمر النِّعَمِ» وَعَبَّرَ بِتَرَكْتُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَشَبَّثْ بِتِلْكَ الْمِلَّةِ قَطُّ، إِجْرَاءٌ لِلتَّرْكِ مَجْرَى التَّجَنُّبِ مِنْ أَوَّلِ حَالَةٍ، وَاسْتِجْلَابًا لَهُمَا لِأَنْ يَتْرُكَا تِلْكَ الْمِلَّةِ الَّتِي كَانَا فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنِّي تَرَكْتُ تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: عَلَّمَنِي ذَلِكَ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ لِأَنِّي رَفَضْتُ مِلَّةَ أُولَئِكَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ أَهْلُ مِصْرَ، وَمَنْ كَانَ الْفَتَيَانُ عَلَى دِينِهِمْ. وَنَبَّهَ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ وَهُمَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْإِيمَانُ بِدَارِ الْجَزَاءِ، وَكَرَّرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَحُسْنِ ذَلِكَ الْفَصْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَكْرِيرُهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خُصُوصًا كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا. وَلِتَوْكِيدِ كُفْرِهِمْ بِالْجَزَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يَرْتَكِبُهَا إِلَّا مَنْ هُوَ كَافِرٌ بِدَارِ الْجَزَاءِ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ عِنْدَنَا هُمْ تَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبَاقِي أَلْفَاظِهِ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَفَضَ مِلَّةَ أُولَئِكَ ذَكَرَ اتِّبَاعَهُ مِلَّةَ آبَائِهِ لِيُرِيَهُمَا أَنَّهُ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمَا أَنَّهُ نَبِيٌّ، بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ لِتَقْوَى رَغْبَتُهُمَا فِي الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: آبَائِي بِإِسْكَانِ الياء، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. مَا كَانَ لَنَا مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لَنَا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ عُمُومٌ فِي الْمَلَكِ وَالْجِنِّيِّ وَالْإِنْسِيِّ، فَكَيْفَ بِالصَّنَمِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ؟ فَشَيْءٌ يُرَادُ بِهِ الْمُشْرَكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ أَيْ: مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْإِشْرَاكِ، فَيَعُمُّ الْإِشْرَاكُ، وَيَلْزَمُ عُمُومُ مُتَعَلِّقَاتِهِ. ومن زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، إِذِ الْمَعْنَى: مَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ أَيْ: ذَلِكَ الدِّينُ وَالشَّرْعُ الْحَنِيفِيُّ الَّذِي انْتَفَى فِيهِ الإشراك بالله، مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا أَيْ: عَلَى الرُّسُلِ، إِذْ خُصُّوا بِأَنْ كَانُوا وَسَائِطَ بين الله وعباده. وعلى النَّاسِ أَيْ: عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، إِذْ يُسَاقُونَ بِهِ إِلَى النَّجَاةِ حَيْثُ أَرْشَدُوهُمْ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَشْكُرُونَ أَيْ: لَا يَشْكُرُونَ فَضْلَ اللَّهِ فَيُشْرِكُونَ وَلَا يَنْتَبِهُونَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُ نَصَبَ لَنَا الْأَدِلَّةَ الَّتِي نَنْظُرُ فِيهَا وَنَسْتَدِلُّ بِهَا، وَقَدْ نَصَبَ مِثْلَ ذَلِكَ لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ

غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَنْظُرُونَ وَلَا يَشْكُرُونَ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَيَبْقُونَ كافرين غير شاكرين. يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ تَلَطَّفَ فِي حُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى فَسَادِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُ الْفَتَيَيْنِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَنَادَاهُمَا بَاسِمِ الصُّحْبَةِ فِي الْمَكَانِ الشَّاقِّ الَّذِي تَخْلُصُ فِيهِ الْمَوَدَّةُ وَتَتَمَخَّضُ فِيهِ النَّصِيحَةُ. وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: يا صاحبي السِّجْنِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ، وَالْمَعْنَى: يَا صَاحِبَيَّ فِي السِّجْنِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى شِبْهِ الْمَفْعُولِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا سَاكِنَيِ السِّجْنِ، كَقَوْلِهِ أَصْحابُ النَّارِ «1» وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ «2» ثُمَّ أَوْرَدَ الدَّلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ مِلَّةِ قَوْمِهِمَا بِقَوْلِهِ: أَأَرْبَابٌ، فَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ حَتَّى لَا تَنْفِرَ طِبَاعُهُمَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ بِالدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ. وَهَكَذَا الْوَجْهُ فِي مُحَاجَّةِ الْجَاهِلِ أَنْ يُؤْخَذَ بِدَرَجَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الِاحْتِجَاجِ يَقْبَلُهَا، فَإِذَا قَبِلَهَا لَزِمَتْهُ عَنْهَا دَرَجَةٌ أُخْرَى فَوْقَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الْإِذْعَانِ بِالْحَقِّ. وَقَابَلَ تَفَرُّقَ أَرْبَابِهِمْ بِالْوَاحِدِ، وَجَاءَ بِصِفَةِ الْقَهَّارِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ هَذَا الْوَصْفُ الَّذِي مَعْنَاهُ الْغَلَبَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ، وَإِعْلَامًا بِعُرُوِّ أَصْنَامِهِمْ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا الْمُتَّصِفُ بِهِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ جَمَادٌ. وَالْمَعْنَى: أَعِبَادَةُ أَرْبَابٍ مُتَكَاثِرَةٍ فِي الْعَدَدِ خَيْرٌ أَمْ عِبَادَةُ وَاحِدٍ قَهَّارٍ وَهُوَ اللَّهُ؟ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَاقِلِ يَرَى خَيْرِيَّةَ عِبَادَتِهِ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى إِخْبَارٍ عَنْ حَقِيقَةِ مَا يَعْبُدُونَ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: مَا تَعْبُدُونَ، لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا مِنْ أَهْلٍ. وَمَعْنَى إِلَّا أَسْمَاءً: أَيْ أَلْفَاظًا أَحْدَثْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فَهِيَ فَارِغَةٌ لَا مُسَمَّيَاتِ تَحْتَهَا، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْأَعْرَافِ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِأَصْنَامِكُمْ حُكْمٌ مَا الْحُكْمُ فِي الْعِبَادَةِ وَالدِّينِ إِلَّا لِلَّهِ ثُمَّ بَيَّنَ مَا حَكَمَ بِهِ فَقَالَ أَمَرَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. وَمَعْنَى الْقَيِّمُ: الثَّابِتُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ. لَا يَعْلَمُونَ بِجَهَالَاتِهِمْ وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ. يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ. وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ

_ (1) سورة الحشر: 59/ 20. (2) سورة الحشر: 59/ 20.

فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ: لَمَّا أَلْقَى إِلَيْهِمَا مَا كَانَ أَهَمُّ وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ رَجَاءً فِي إِيمَانِهِمَا، نَادَاهُمَا ثَانِيًا لِتَجْتَمِعَ أَنْفُسُهُمَا لِسَمَاعِ الْجَوَابِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لِبُنُو: أَمَّا أَنْتَ فَتَعُودُ إِلَى مَرْتَبَتِكَ وَسِقَايَةَ رَبِّكَ، وَمَا رَأَيْتَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَحُسْنِهَا هُوَ الْمَلِكُ وَحُسْنُ حَالِكَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْقُضْبَانُ الثَّلَاثَةُ فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَمْضِي فِي السَّجْنِ ثُمَّ تَخْرُجُ وَتَعُودُ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ لِمُلَحِّبَ: أَمَّا أَنْتَ فَمَا رَأَيْتَ مِنَ السُّلَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُصْلَبُ، فَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَحَالَمْنَا لِنُجَرِّبَكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا الَّذِي حَدَّثَهُ بِالصَّلْبِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا رَأَيَا ثُمَّ أَنْكَرَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَسْقِي رَبَّهُ مِنْ سَقَى، وَفِرْقَةٌ: فَيُسْقِي مِنْ أَسْقَى، وَهُمَا لُغَتَانِ بمعنى واحد. وقرىء فِي السَّبْعَةِ: نَسْقِيكُمْ وَنُسْقِيكُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: سَقَى وَأَسْقَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ سَقَاهُ نَاوَلَهُ لِيَشْرَبَ، وَأَسْقَاهُ جَعَلَ لَهُ سُقْيًا. وَنُسِبَ ضَمُّ الْفَاءِ لِعِكْرِمَةَ وَالْجَحْدَرِيِّ، وَمَعْنَى رَبَّهُ. سَيِّدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَيُسْقَى رَبُّهُ خَمْرًا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ مَا يَرْوِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَيُسْقَى رَبُّهُ، فَيُسْقَى مَا يُرْوَى بِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ غَيْبِ عِلْمِهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ قُضِيَ وَوَافَقَ الْقَدَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْكُمَا حُلْمٌ، أَوْ تَحَالُمٌ. وَأَفْرَدَ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ أَمْرُ هَذَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمَا الَّذِي أدخلا به السجن، وهو اتِّهَامُ الْمَلِكِ إِيَّاهُمَا بِسَمِّهِ، فَرَأَيَا مَا رَأَيَا، أَوْ تَحَالَمَا بِذَلِكَ، فَقُضِيَتْ وَأُمْضِيَتْ تِلْكَ الْعَاقِبَةُ مِنْ نَجَاةِ أحدهما، وهلاك الآخر. وقال أَيْ: يُوسُفُ لِلَّذِي ظَنَّ: أَيْ أَيْقَنَ هُوَ أَيْ يُوسُفُ: أَنَّهُ نَاجٍ وَهُوَ السَّاقِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ عَلَى بَابِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي وَهُوَ السَّاقِي أَيْ: لَمَّا أَخْبَرَهُ يُوسُفُ بِمَا أَخْبَرَهُ، تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَنْجُو، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ، وَيَكُونُ مُسْنَدًا إِلَى يُوسُفَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَتَادَةُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: الظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّ عِبَارَةَ الرُّؤْيَا ظَنٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظَّانُّ هُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَيَبْعُدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُضِيَ الْأَمْرُ، فِيهِ تَحَتُّمُ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ وَإِمْضَاؤُهُ، فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ قُضِيَ الْأَمْرُ عَلَى قُضِيَ كَلَامِي، وَقُلْتُ مَا عِنْدِي، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى يُوسُفَ. فَالْمَعْنَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قال لِسَاقِي الْمَلِكِ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مَعَ الْمَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ الْمَلِكِ أَيْ: بِعِلْمِي وَمَكَانَتِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ مِمَّا آتَانِي اللَّهُ، أَوِ اذْكُرْنِي بِمَظْلَمَتِي وَمَا امْتُحِنْتُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَهَذَا مِنْ يُوسُفَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّعَاوُنِ فِي تَفْرِيجِ كَرْبِهِ، وَجَعْلِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ سَبَبًا لِلْخَلَاصِ كَمَا جَاءَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:

مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «1» وَكَمَا كَانَ الرَّسُولُ يَطْلُبُ مَنْ يَحْرُسُهُ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ يُوسُفَ إِنَّمَا قَالَ لِسَاقِي الْمَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى هِدَايَتِهِ وَإِيمَانِهِ بِاللَّهِ، كَمَا تَوَصَّلَ إِلَى إِيضَاحِ الْحَقِّ لِلسَّاقِي وَرَفِيقِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَأَنْسَاهُ عَائِدٌ عَلَى السَّاقِي، وَمَعْنَى ذِكْرَ رَبِّهِ: ذِكْرَ يُوسُفَ لِرَبِّهِ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَإِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ لَهُ بِمَا يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ مِنِ اشْتِغَالِهِ حَتَّى يُذْهَلَ عَمَّا قَالَ لَهُ يُوسُفُ، لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِيُوسُفَ مِنْ إِجْزَالِ أَجْرِهِ بِطُولِ مَقَامِهِ في السجن. وبضع سِنِينَ مُجْمَلٌ، فَقِيلَ: سَبْعٌ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ، إِخْبَارٌ عَنْ مُدَّةِ مَقَامِهِ فِي السِّجْنِ، مُنْذُ سُجِنَ إِلَى أَنْ أُخْرِجَ. وَقِيلَ: هَذَا اللَّبْثُ هُوَ مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْفَتَيَيْنِ وَذَلِكَ سَبْعٌ. وَقِيلَ: سَنَتَانِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَنْسَاهُ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ. وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَخْبَارًا لَا تَلِيقُ نِسْبَتُهَا إِلَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ: لَمَّا دَنَا فَرَجُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى مَلِكُ مِصْرَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ رُؤْيَا عَجِيبَةً هَالَتْهُ، فَرَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ خَرَجْنَ مِنْ نَهْرٍ يَابِسٍ، وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ. وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعًا أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ وَأُدْرِكَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى غَلَبْنَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَجِدْ فِي قَوْمِهِ مَنْ يُحْسِنُ عِبَارَتَهَا. أَرَى: يَعْنِي فِي مَنَامِهِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ: أفتوني في رؤياي. وأرى حِكَايَةُ حَالٍ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بالمضارع دون رأيت. وسمان صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: بَقَرَاتٍ، مَيَّزَ الْعَدَدَ بِنَوْعٍ مِنَ الْبَقَرَاتِ وَهِيَ السِّمَانُ مِنْهُنَّ لَا يُحْسِنُهُنَّ. وَلَوْ نَصَبَ صِفَةً لِسَبْعٍ لَكَانَ التَّمْيِيزُ بِالْجِنْسِ لَا بِالنَّوْعِ، وَيَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ الْبَقَرَاتِ بِالسِّمَنِ وَصْفُ السَّبْعِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ السَّبْعِ بِهِ وَصْفُ الْجِنْسِ بِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى سَبْعًا مِنَ الْبَقَرَاتِ سِمَانًا. وَفَرِّقْ بَيْنَ قَوْلِكَ: عِنْدِي ثَلَاثُ رِجَالٍ كِرَامٍ، وَثَلَاثَةُ رِجَالٍ كِرَامٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الرِّجَالِ الْكِرَامِ، فَيَلْزَمُ كَرَمُ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُمْ بَعْضٌ مِنَ الرِّجَالِ الْكِرَامِ. وَالْمَعْنَى فِي الثَّانِي: ثَلَاثَةٌ مِنَ الرِّجَالِ كِرَامٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى وَصْفِ الرِّجَالِ بِالْكَرَمِ. وَلَمْ يُضِفْ سَبْعَ إِلَى عِجَافٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَدَدِ لَا يُضَافُ إِلَى الصِّفَةِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، إِنَّمَا تَتْبَعُهُ الصِّفَةُ. وَثَلَاثَةُ فُرْسَانٍ، وَخَمْسَةُ أَصْحَابٍ مَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: سَبْعَ بقرات على أن

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 52.

السَّبْعَ الْعِجَافَ بَقَرَاتٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: سَبْعُ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ، أَوْ بَقَرَاتُ سَبْعٍ عِجَافٍ. وَجَاءَ جَمْعُ عَجْفَاءَ عَلَى عِجَافٍ، وَقِيَاسُهُ عَجَفَ كَخَضْرَاءَ أَوْ خُضْرٍ، حَمَلًا عَلَى سِمَانٍ لِأَنَّهُ نَقِيضُهُ. وَقَدْ يُحْمَلُ النَّقِيضُ عَلَى النَّقِيضِ، كما يحمل النظير عَلَى النَّظِيرِ. وَالتَّقْسِيمُ فِي الْبَقَرَاتِ يَقْتَضِي التَّقْسِيمَ فِي السُّنْبُلَاتِ، فَيَكُونُ قَدْ حَذَفَ اسْمَ الْعَدَدِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، لِدَلَالَةِ قِسْمَيْهِ وَمَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَسَبْعًا أُخَرَ يَابِسَاتٍ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَأُخَرَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مُمَيَّزِ سَبْعَ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أُخَرَ كان مباينا لسبع، فَتَدَافَعَا بِخِلَافٍ أَنْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَيَابِسَاتٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصِحُّ الْعَطْفُ، وَيَكُونُ مِنْ تَوْزِيعِ السُّنْبُلَاتِ إِلَى خُضْرٍ ويابسات. والملأ: أَشْرَافُ دَوْلَتِهِ وَأَعْيَانُهُمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الْمَلِكِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِالْإِدْغَامِ فِي الرُّؤْيَا، وَبَابُهُ بَعْدَ قَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ قَلَبَهَا يَاءً، لِاجْتِمَاعِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ، وَقَدْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ. وَنَصُّوا عَلَى شُذُوذِهِ، لِأَنَّ الْوَاوَ هِيَ بَدَلٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَاللَّامُ فِي الرُّؤْيَا مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ لِضَعْفِهِ قَدْ تَقْوَى بِهَا فَتَقُولُ: زَيْدٌ ضَارِبٌ لِعُمَرَ وَفَصِيحًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ كُنْتُمْ هُوَ قَوْلُهُ: تَعْبُرُونَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وُجُوهًا مُتَكَلِّفَةً أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا لِلْبَيَانِ قَالَ: كَقَوْلِهِ: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، فَتَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَعْنِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ هَذَا إِنْ كُنْتُمْ أَعْنِي الرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، وَيَكُونُ مَفْعُولُ تَعْبُرُونَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ تَعْبُرُونَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا خَبَرَ كَانَ قَالَ: كَمَا تَقُولُ: كَانَ فُلَانٌ لِهَذَا الْأَمْرِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا به متمكنا منه، وتعبرون خَبَرًا آخَرَ أَوْ حَالًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَضْمَنَ تَعْبَرُونَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَنْتَدِبُونَ لِعِبَارَةِ الرُّؤْيَا، وَعِبَارَةُ الرُّؤْيَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَبَرَ النَّهْرِ إِذَا جَازَهُ مِنْ شَطٍّ إِلَى شَطٍّ، فَكَانَ عَابِرُ الرُّؤْيَا يَنْتَهِي إِلَى آخِرِ تَأْوِيلِهَا. وَعَبَرَ الرُّؤْيَا بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ ثُلَاثِيًّا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ التَّشْدِيدَ، وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَرْتُهَا ... وَكُنْتُ لِلْأَحْلَامِ عبارا وأضغاث جَمْعُ ضِغْثٍ أَيْ تَخَالِيطُ أَحْلَامٍ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، أَوْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، أَوْ مِزَاجِ الْإِنْسَانِ. وَأَصْلُهُ أَخْلَاطُ النَّبَاتِ، اسْتُعِيرَ لِلْأَحْلَامِ، وَجَمَعُوا الْأَحْلَامَ. وَأَنَّ رُؤْيَاهُ وَاحِدَةٌ إِمَّا بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهَا إِذْ هِيَ أَشْيَاءُ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا فَرَسًا وَاحِدًا، تَعْلِيقًا بِالْجِنْسِ. وَإِمَّا بِكَوْنِهِ قَصَّ

[سورة يوسف (12) : الآيات 45 إلى 64]

عَلَيْهِمْ مَعَ هَذِهِ الرُّؤْيَا غَيْرَهَا. وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ حُلْمٍ، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي: هِيَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْعِلْمَ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ أَيْ: لَسْنَا مِنْ أَهْلِ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَحْلَامُ الْمَنْفِيُّ عِلْمُهَا أَرَادُوا بِهَا الْمَوْصُوفَةَ بِالتَّخْلِيطِ وَالْأَبَاطِيلِ أَيْ: وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ الَّتِي هِيَ أَضْغَاثٌ بِعَالِمِينَ أَيْ: لَا يَتَعَلَّقُ عِلْمٌ لَنَا بِتَأْوِيلِ تِلْكَ، لِأَنَّهُ لَا تَأْوِيلَ لَهَا إِنَّمَا التَّأْوِيلُ لِلْمَنَامِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ نَفْيٌ لِلْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْمَنَامِ الصَّحِيحِ، وَلَا تَصَوُّرُ عِلْمِهِمْ. وَالْبَاءُ فِي بِتَأْوِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بقوله بعالمين. [سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64] وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

أَمَهَ يَأْمَهُ أَمَهًا وَأَمْهًا نَسِيَ. يُغَاثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْغَوْثِ وَهُوَ الْفَرَجُ، يُقَالُ: أَغَاثَهُمُ اللَّهُ فَرَّجَ عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَيْثِ تَقُولُ: غِيثَتِ الْبِلَادُ إِذَا أُمْطِرَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيَّةِ: غِثْنَا مَا شِئْنَا. الْخَطْبُ: الشَّأْنُ وَالْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ خَطَرٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى خُطُوبٍ قَالَ: وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ حَصْحَصَ تَبَيَّنَ بَعْدَ الْخَفَاءِ، قَالَهُ الْخَلِيلُ. وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِصَّةِ حَصْحَصَ الْحَقُّ بَانَتْ حِصَّتُهُ مِنْ حِصَّةِ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا مِنْ حَصْحَصَ الْبَعِيرُ أَلْقَى ثَفِنَاتِهِ لِلْإِنَاخَةِ قَالَ: حَصْحَصَ فِي صُمِّ الصَّفَا ثَفِنَاتِهِ. الْجِهَازُ: مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ مِنْ زَادٍ وَمَتَاعٍ، وَكُلُّ مَا يُحْمَلُ، وَجِهَازُ الْعَرُوسِ مَا يَكُونُ مَعَهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالشُّورَةِ، وَجِهَازُ الْمَيِّتِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دَفْنِهِ. الرَّحْلُ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْمَرْكُوبِ مِنْ مَتَاعِ الرَّاكِبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَجَمْعُهُ رِحَالٌ فِي الْكَثْرَةِ، وَأَرْحُلٌ فِي الْقِلَّةِ. مَارَ يَمِيرُ، وَأَمَارَ يَمِيرُ، إِذَا جَلَبَ الْخَيْرَ وَهِيَ الْمِيرَةُ قَالَ: بَعَثْتُكَ مَائِرًا فَمَكَثْتَ حَوْلًا ... مَتَى يَأْتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ الْبَعِيرُ فِي الْأَشْهَرِ الْجَمَلُ مُقَابِلُ النَّاقَةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى النَّاقَةِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَلِ

فَيَقُولُ: عَلَى هَذَا نِعْمَ الْبَعِيرُ، الْجَمَلُ لِعُمُومِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْأَشْهَرِ لِتَرَادُفِهِ. وَفِي لُغَةٍ تُكْسَرُ بَاؤُهُ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَبْعِرَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى بِعِرَانٍ. وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ. قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ: لَمَّا اسْتَثْنَى الْمَلِكُ فِي رُؤْيَاهُ وَأَعْضَلَ عَلَى الْمَلَأِ تَأْوِيلَهَا، تَذَكَّرَ النَّاجِي مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ سَاقِي الْمَلِكِ يُوسُفَ، وَتَأْوِيلَ رُؤْيَاهُ وَرُؤْيَا صَاحِبِهِ، وَطَلَبَهُ إِلَيْهِ لِيَذْكُرَهُ عِنْدَ الْمَلِكِ. وَادَّكَرَ أَيْ تَذَكَّرَ مَا سَبَقَ لَهُ مَعَ يُوسُفَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَيْ: مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَادَّكَرَ حَالِيَّةٌ، وَأَصْلُهُ: وَاذْتَكَرَ أُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا وَأُدْغِمَتِ الذَّالُ فِيهَا فَصَارَ ادَّكَرَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَاذَّكَرَ بِإِبْدَالِ التَّاءِ ذَالًا، وَإِدْغَامُ الذَّالِ فِيهَا. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: بَعْدَ إِمَّةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: بَعْدَ نِعْمَةٍ أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْقَتْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى يُوسُفَ فِي تَقْرِيبِ إِطْلَاقِهِ، وَالْأُمَّةُ النِّعْمَةُ قَالَ: أَلَا لَا أَرَى ذَا إِمَّةٍ أَصْبَحَتْ بِهِ ... فَتَتْرُكُهُ الْأَيَّامُ وَهِيَ كَمَا هِيَا قَالَ الْأَعْلَمُ: الْأُمَّةُ النِّعْمَةُ، وَالْحَالُ الْحَسَنَةُ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عَمْرٍو: بَعْدَ أَمَهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْمِيمُ مُخَفَّفَةٌ، وَهَاءٌ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَاخْتَلَفَ عَنْهُمْ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَيْضًا مُجَاهِدٌ، وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ: بَعْدَ أُمْهِ بِسُكُونِ الْمِيمِ، مَصْدَرُ أَمَهَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْمِيمِ فَقَدْ أَخْطَأَ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي نِسْبَتِهِ الْخَطَأَ إِلَى القراء. أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أَيْ أُخْبِرُكُمْ بِهِ عَمَّنْ عِنْدَهُ عِلْمُهُ لَا مِنْ جِهَتِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَنَا أَتِيكُمُ مُضَارِعُ أَتَى مِنَ الْإِتْيَانِ، وَكَذَا فِي الْإِمَامِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: فَأَرْسِلُونِ، أَيِ ابْعَثُونِي إِلَيْهِ لِأَسْأَلَهُ، وَمُرُونِي بِاسْتِعْبَارِهِ، اسْتَأْذَنَ فِي الْمُضِيِّ إِلَى يُوسُفَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي السِّجْنِ فِي غَيْرِ مَدِينَةِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا، وَيَرْسُمُ النَّاسُ الْيَوْمَ سِجْنَ يُوسُفَ فِي مَوْضِعٍ عَلَى النِّيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُسْطَاطِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ: فَأَرْسِلُوهُ إِلَى يُوسُفَ فأتاه فقال: والصديق بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ كَالشَّرِّيبِ وَالسِّكِّيرِ، وَكَانَ

قَدْ صَحِبَهُ زَمَانًا وَجَرَّبَ صِدْقَهُ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ كَتَأْوِيلِ رُؤْيَاهُ وَرُؤْيَا صَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أَيْ: بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا. وَاحْتَرَزَ بِلَفْظَةِ لَعَلِّي، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ يَخْتَرِمَ دُونَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، كَالتَّعْلِيلِ لِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا. وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فَضْلَكَ وَمَكَانَكَ مِنَ الْعِلْمِ، فَيَطْلُبُونَكَ وَيُخَلِّصُونَكَ مِنْ مِحْنَتِكَ، فَتَكُونُ لَعَلَّ كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: أَفْتِنَا. قَالَ: تَزْرَعُونَ إِلَى آخِرِهِ، تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ يُوسُفَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوْلِ: أَحَدُهَا: تَعْبِيرٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ. وَالثَّانِي: عَرْضُ رَأْيٍ وَأَمَرَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ. وَالثَّالِثُ: الْإِعْلَامُ بِالْغَيْبِ فِي أَمْرِ الْعَامِ الثَّامِنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ غَيْبًا، بَلْ عِلْمُ الْعِبَارَةِ أَعْطَى انْقِطَاعَ الْخَوْفِ بَعْدَ سَبْعٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ الْأَخْصَبُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دأبا خبر، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَتَوَالَى لَهُمْ هذه السنون السبع لَا يَنْقَطِعُ فِيهَا زَرْعُهُمْ لِلرَّيِّ الَّذِي يُوجَدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ «1» وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِ إِنْجَازِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ وُجِدَ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ في معنى الأمر قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ فِي سُنْبُلِهِ عَلَى أَنَّ تَزْرَعُونَ فِي مَعْنَى ازْرَعُوا، بَلْ تَزْرَعُونَ إِخْبَارُ غَيْبٍ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ تَوَالِي الزَّرْعِ سَبْعَ سِنِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فَهُوَ أَمْرُ إِشَارَةٍ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوهُ. وَمَعْنَى دَأَبًا: مُلَازَمَةً، كَعَادَتِكُمْ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: دَأَبًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِهَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِدَأَبَ، وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مِنْ لَفْظِهِ أَيْ: تَدَابُونَ دَأَبًا، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَعِنْدَ المبرد بتزرعون بِمَعْنَى تَدْأَبُونَ، وَهِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: دَائِبِينَ، أَوْ ذَوِي دَأْبٍ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تزرعون. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَمَا حَصَدْتُمْ شرطية أو موصولة، فذروه فِي سُنْبُلِهِ إِشَارَةً بِرَأْيِ نَافِعٍ بِحَسَبِ طَعَامِ مِصْرَ وَحِنْطَتِهَا الَّتِي لَا تَبْقَى عَامَيْنِ بِوَجْهٍ إِلَّا بِحِيلَةِ إِبْقَائِهَا فِي السُّنْبُلِ، فَإِذَا بَقِيَتْ فِيهَا انْحَفَظَتْ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكُوا الزَّرْعَ فِي السُّنْبُلِ إِلَّا مَا لَا غِنَى عَنْهُ لِلْأَكْلِ، فَيَجْتَمِعُ الطَّعَامُ وَيَتَرَكَّبُ وَيُؤْكَلُ الْأَقْدَمُ فَالْأَقْدَمُ، فَإِذَا جَاءَتِ السُّنُونَ الْجَدْبَةُ تُقُوِّتَ الْأَقْدَمُ فَالْأَقْدَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُدَّخَرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: مِمَّا يَأْكُلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ أَيْ: يَأْكُلُ النَّاسُ، وَحَذَفَ الْمُمَيَّزَ فِي قَوْلِهِ: سَبْعٌ شِدَادٌ أَيْ: سَبْعُ سِنِينَ شِدَادٌ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: سَبْعُ سِنِينَ عَلَيْهِ. وَأَسْنَدَ

_ (1) سورة الصف: 61/ 11.

الْأَكْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: يَأْكُلْنَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ فِيهِمَا كَمَا قَالَ: وَالنَّهارَ مُبْصِراً «1» . وَمَعْنَى تُحْصِنُونَ تُحْرِزُونَ وَتُخْبِئُونَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْحِرْزُ وَالْمَلْجَأُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ: يُغَاثُ مِنَ الْغَيْثِ، وَقِيلَ: مِنَ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْفَرَجُ. فَفِي الْأَوَّلِ بُنِيَ مِنْ ثُلَاثِيٍّ، وَفِي الثَّانِي مِنْ رُبَاعِيٍّ، تَقُولُ: غَاثَنَا اللَّهُ مِنَ الْغَيْثِ، وَأَغَاثَنَا مِنَ الْغَوْثِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: تَعْصِرُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَصْرِ النَّبَاتِ كَالْعِنَبِ وَالْقَصَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ وَالْفِجْلِ وَجَمِيعِ مَا يُعْصَرُ، وَمِصْرُ بَلَدُ عَصِيرٍ لِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَالْحَلْبُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ عَصْرٌ لِلضُّرُوعِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْصِرُوا شَيْئًا مُدَّةَ الْجَدْبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُصْرَةِ، وَالْعَصْرُ وَهُوَ الْمُنَجِّي، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي زُبَيْدٍ فِي عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ ... وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ الْمَنْجُودِ فَالْمَعْنَى: يَنْجُونَ بِالْعُصْرَةِ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَعِيسَى الْبَصْرَةِ يُعْصَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَنْ عِيسَى أَيْضًا: تُعْصَرُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ: يَنْجُونَ مِنْ عَصْرِهِ إِذَا أَنْجَاهُ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: يُغَاثُ النَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسْتَنِيرِ: مَعْنَاهُ يُمْطَرُونَ، مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحَابَةُ مَاءَهَا عَلَيْهِمْ فَجُعِلُوا مُعْصِرِينَ مَجَازًا بِإِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ لِلْمَاءِ الَّذِي يُمْطَرُونَ بِهِ. وحكى النقاش أنه قرىء يُعَصِّرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَشَدِّهَا، مِنْ عَصَّرَ مُشَدَّدًا لِلتَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَفِيهِ تِعِصِّرُونَ، بِكَسْرِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ وَالصَّادِ وَشَدِّهَا، وَأَصْلُهُ تَعْتَصِرُونَ، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ وَنَقَلَ حَرَكَتَهَا إِلَى الْعَيْنِ، وَأَتْبَعَ حَرَكَةَ التَّاءِ لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اعْتَصَرَ الْعِنَبَ وَنَحْوِهِ. وَمِنِ اعْتَصَرَ بِمَعْنَى نَجَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي أَيْ نَجَاتِي. تَأَوَّلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَقَرَاتِ السِّمَانَ وَالسُّنْبُلَاتِ الْخُضْرَ بسين مُخْصِبَةٍ، وَالْعِجَافَ وَالْيَابِسَاتِ بِسِنِينَ مُجْدِبَةٍ، ثُمَّ بَشَّرَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا بِمَجِيءِ الْعَامِ الثَّامِنِ مُبَارَكًا خَصِيبًا كَثِيرَ الْخَيْرِ غَزِيرَ النِّعَمِ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: زَادَهُ اللَّهُ عِلْمَ سَنَةٍ، وَالَّذِي مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ هُوَ التَّفْضِيلُ بِحَالِ الْعَامِ بِأَنَّهُ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ بِانْتِهَاءِ السَّبْعِ الشِّدَادِ مَجِيءُ الْخِصْبِ.

_ (1) سورة يونس: 10/ 67.

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَحَفِظَ الرَّسُولُ مَا أَوَّلَ بِهِ يُوسُفُ الرُّؤْيَا، وَجَاءَ إِلَى الْمَلِكِ وَمَنْ أَرْسَلَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمَلِكُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي تَضَاعِيفِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَحْذُوفَاتٌ يُعْطِيهَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَ الْمَلِكِ فَنَصَّ عَلَيْهِمْ مَقَالَةَ يُوسُفَ، فَرَأَى الْمَلِكُ وَحَاضِرُوهُ نُبْلَ التَّعْبِيرِ، وَحُسْنَ الرَّأْيِ، وَتَضَمُّنَ الْغَيْبِ فِي أَمْرِ الْعَامِ الثَّامِنِ مَعَ مَا وَصَفَهُ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْمَنَامِ الْمُتَقَدِّمِ، فَعَظُمَ يُوسُفُ فِي نَفْسِ الْمَلِكِ وَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَمَرَ بِأَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ أَيْ: إِلَى الْمَلِكِ وَقُلْ لَهُ: مَا بَالُ النِّسْوَةِ؟ وَمَقْصِدُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ وَقُلْ لَهُ يَسْتَقْصِي عَنْ ذَنْبِي، وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِي، هَلْ سُجِنْتُ بِحَقٍّ أَوْ بِظُلْمٍ؟ وَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ يُوسُفَ إِنَاءَةً وَصَبْرًا وَطَلَبًا لِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِيمَا رُوِيَ خَشِيَ أَنْ يَخْرُجَ وَيَنَالَ مِنَ الْمَلِكِ مَرْتَبَةً، وَيَسْكُتَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ صَفْحًا، فَيَرَاهُ النَّاسُ بِتِلْكَ الْعَيْنِ أَبَدًا وَيَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي رَاوَدَ امْرَأَةَ مَوْلَاهُ، فَأَرَادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبَيِّنَ بَرَاءَتَهُ وَيَتَحَقَّقَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْعِفَّةِ وَالْخَيْرِ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ لِلْإِحْظَاءِ وَالْمَنْزِلَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا تَأَنَّى وَتَثَبَّتَ فِي إِجَابَةِ الْمَلِكِ، وَقَدَّمَ سُؤَالَ النِّسْوَةِ لِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ سَاحَتِهِ عَمَّا فُرِقَ بِهِ وَسُجِنَ فِيهِ، لِئَلَّا يَتَسَلَّقَ بِهِ الْحَاسِدُونَ إِلَى تَقْبِيحِ أَمْرِهِ عِنْدَهُ، وَيَجْعَلُوهُ سُلَّمًا إِلَى حَطِّ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ، وَلِئَلَّا يقولوا: ما خلد فِي السِّجْنِ سَبْعَ سِنِينَ إِلَّا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَجُرْمٌ كَبِيرٌ حَقَّ بِهِ أَنْ يُسْجَنَ وَيُعَذَّبَ، وَيُكْشَفَ سِرُّهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي نَفْيِ التُّهَمِ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ إِبْقَاءِ الْوُقُوفِ فِي مَوَاقِفِهَا. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» انْتَهَى. وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَانَ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ قَدْ أَثْبَتَ عَلَى الْقُضَاةِ أَنَّ رِجْلَهُ لَمْ تُقْطَعْ فِي خِيَانَةٍ وَلَا فَسَادٍ، وَكَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ فِي كُلِّ بَلَدٍ دَخَلَهُ خَوْفًا مِنْ تُهْمَةِ السُّوءِ. وَإِنَّمَا قَالَ: سَلِ الْمَلِكَ عَنْ شَأْنِ النِّسْوَةِ، وَلَمْ يَقُلْ سَلْهُ أَنْ يُفَتِّشَ عَنْهُنَّ، لِأَنَّ السُّؤَالَ مِمَّا يُهَيِّجُ الإنسان ويحركه للبحث عنما سُئِلَ عَنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ لِيُجْرِيَ التَّفْتِيشَ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِصَّةِ، وَقَصَّ الْحَدِيثَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ بَرَاءَتُهُ بَيَانًا مَكْشُوفًا يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَمِنْ كَرَمِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ زَوْجَ الْعَزِيزِ

مَعَ مَا صَنَعَتْ بِهِ وَتَسَبَّبَتْ فِيهِ مِنَ السِّجْنِ وَالْعَذَابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُقَطِّعَاتِ الْأَيْدِي. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ النُّسْوَةِ بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ اللاي بِالْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ الَّتِي. إِنَّ رَبِّي أَيْ: إِنَّ اللَّهَ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. أَرَادَ أَنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لِبُعْدِ عَوْدِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِعِلْمِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُنَّ كِدْنَهُ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا قُذِفَ بِهِ. أَوْ أَرَادَ الْوَعِيدَ لَهُنَّ، أَوْ هُوَ عَلِيمٌ بِكَيْدِهِنَّ فَيُجَازِيهِنَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالرَّبِّ الْعَزِيزَ مَوْلَاهُ، فَفِي ذَلِكَ اسْتِشْهَادٌ بِهِ وَتَقْرِيعٌ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَسُوغُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِكَيْدِهِنَّ عَائِدٌ عَلَى النِّسْوَةِ الْمَذْكُورَاتِ لَا لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهَا حَالَةُ تَوْقِيفٍ عَلَى ذَنْبٍ. قَالَ: مَا خَطْبُكُنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ يُوسُفُ، فَجَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ وَامْرَأَةَ الْعَزِيزِ وَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ؟ وَهَذَا اسْتِدْعَاءٌ مِنْهُ أَنْ يُعْلِمْنَهُ بِالْقِصَّةِ، وَنَزَّهَ جَانِبَ يُوسُفَ بِقَوْلِهِ: إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمُرَاوَدَتُهُنَّ لَهُ قَوْلُهُنَّ لِيُوسُفَ: أَطِعْ مَوْلَاتَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَلْ وَجَدْتُنَّ مِنْهُ مَيْلًا؟ لَكُنَّ قُلْنَ: حَاشَ لِلَّهِ تَعَجُّبًا مِنْ عِفَّتِهِ، وَذَهَابِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الرِّيبَةِ، وَمِنْ نَزَاهَتِهِ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجَابَ النِّسَاءُ بِجَوَابٍ جَيِّدٍ تَظْهَرُ مِنْهُ بَرَاءَةُ أَنْفُسِهِنَّ جُمْلَةً، وَأَعْطَيْنَ يُوسُفَ بَعْضَ بَرَاءَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا قَرَّرَهُنَّ أَنَّهُنَّ رَاوَدْنَهُ قُلْنَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ: حَاشَ لِلَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ: حَاشَ لِلَّهِ، فِي جِهَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُنَّ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ لَيْسَ بِإِبْرَاءٍ تَامٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِبْرَاءُ التَّامُّ وَصْفُ الْقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا حَتَّى يَتَقَرَّرَ الْخَطَأُ فِي جِهَتِهِنَّ، فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مَقَالَتَهُنَّ وَحَيْدَتَهُنَّ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْخِزْيِ قَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. وقرىء حُصْحِصَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالْمُرَاوَدَةِ، وَالْتَزَمَتِ الذَّنْبَ، وَأَبْرَأَتْ يُوسُفَ الْبَرَاءَةَ التَّامَّةَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: قَالَتْ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ، لِيَعْلَمَ يُوسُفُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي غَيْبَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ، وَأَرْمِيهِ بِذَنْبٍ هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ. ثُمَّ اعْتَذَرَتْ عَمَّا وَقَعَتْ فِيهِ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الْبَشَرُ مِنَ الشَّهَوَاتِ بِقَوْلِهَا: وما أبرىء نَفْسِي، وَالنُّفُوسُ مَائِلَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. وَقَالَ الزمخشري: وما أبرىء نَفْسِي مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنِّي قَدْ خُنْتُهُ حِينَ قَذَفْتُهُ وَقُلْتُ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ، وَأَوْدَعْتُهُ السِّجْنَ تُرِيدُ الِاعْتِذَارَ لِمَا كَانَ مِنْهَا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا نَفْسًا رَحِمَهَا اللَّهُ بِالْعِصْمَةِ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ

رَحِيمٌ، اسْتَغْفَرَتْ رَبَّهَا وَاسْتَرْحَمَتْهُ مِمَّا ارْتَكَبَتْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ إِلَى آخِرِهِ، مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ رَبْطٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ. فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ يُوسُفَ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِشَارَةٌ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ وَالْتِمَاسِهِ البراءة أي: هذا ليعلم سَيِّدِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ يُوسُفُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حِينَ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَلَامَهَا إِلَى قَوْلِهَا: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فَالْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا إِلَى قَوْلِهَا وَصُنْعِ اللَّهَ فِيهِ، وَهَذَا يَضْعُفُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حُضُورَهُ مَعَ النِّسْوَةِ عِنْدَ الْمَلِكِ. فَكَيْفَ يَقُولُ الْمَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ: ائْتُونِي بِهِ؟ وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ فَقَالَ: أَيْ ذَلِكَ التَّثَبُّتُ وَالتَّشَمُّرُ لِظُهُورِ الْبَرَاءَةِ، لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فِي حُرْمَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ لَا يُنْفِذُهُ وَلَا يُسَدِّدُهُ، وَكَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِامْرَأَتِهِ فِي خِيَانَتِهَا فِي أَمَانَةِ زَوْجِهَا، وَبِهِ فِي خِيَانَتِهِ أَمَانَةَ اللَّهِ حِينَ سَاعَدَهَا بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى حَبْسِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِأَمَانَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَائِنًا لَمَا هَدَى اللَّهُ كَيْدَهُ، وَلَا سَدَّدَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلَّهِ وَيَهْضِمَ نَفْسَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهَا مُزَكِّيًا، وَلِحَالِهَا فِي الْأَمَانَةِ مُعْجَبًا كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمَانَةِ لَيْسَ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ وَعِصْمَتِهِ. فَقَالَ: وَمَا أبرىء نَفْسِي مِنَ الزَّلَلِ، وَمَا أَشْهَدُ لَهَا بِالْبَرَاءَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَا أُزَكِّيهَا، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. أَرَادَ الْجِنْسَ أَيْ: هَذَا الْجِنْسُ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ، وَيَحْمِلُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَكْثِيرٌ وَتَحْمِيلٌ لِلَفْظِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابَتِهِ. وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإِشْكَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : كَفَى بِالْمَعْنَى دَلِيلًا قَائِدًا إِلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلِهِ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؟ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ يُخَاطِبُهُمْ وَيَسْتَشِيرُهُمْ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، إِذْ لَا يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَأِ تَقَدَّمَهُمْ فِرْعَوْنُ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَقَالُوا ذَلِكَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ خِطَابًا لِلْمَلَأِ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ خِطَابًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلَا يتنافى اجتماع المقالتين. وبالغيب يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: غَائِبًا عَنْهُ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: غَائِبًا عَنِّي، أَوْ ظَرْفًا أَيْ بِمَكَانِ الْغَيْبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ

الْجِنْسَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا النَّفْسَ الَّتِي رَحِمَهَا رَبِّي فَلَا تَأْمُرُ بِالسُّوءِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً من الضمير المستكن في أَمَّارَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنَى مِنْ مَفْعُولِ أَمَّارَةٌ الْمَحْذُوفِ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ صَاحِبَهَا، إِلَّا الَّذِي رَحِمَهُ رَبِّي فَلَا تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنَى مِنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ الْمَفْهُومِ عُمُومُهُ مِنْ مَا قبل الاستثناء، وما ظَرْفِيَّةٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ مُدَّةَ بَقَائِهَا إِلَّا وَقْتَ رَحْمَةِ اللَّهِ الْعَبْدَ وَذَهَابِهِ بِهَا عَنِ اشْتِهَاءِ الْمَعَاصِي. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، وما مَصْدَرِيَّةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَيْ: وَلَكِنْ رَحْمَةَ رَبِّي هِيَ الَّتِي تَصْرِفُ الْإِسَاءَةَ. وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ: رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَهُ فَقَالَ: أَجِبِ الْمَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ السِّجْنِ وَدَعَا لِأَهْلِهِ اللَّهُمَّ عَطِّفَ عَلَيْهِمْ قُلُوبَ الْأَخْيَارِ، وَلَا تُعْمِ عَلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ، فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْأَخْبَارِ فِي الْوَاقِعَاتِ. وَكَتَبَ عَلَى بَابِ السِّجْنِ: هَذِهِ مَنَازِلُ الْبَلْوَى، وَقُبُورُ الْأَحْيَاءِ، وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ، وَتَجْرِبَةُ الْأَصْدِقَاءِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَنَظَّفَ مِنْ دَرَنِ السِّجْنِ، وَلَبِسَ ثِيَابًا جُدُدًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِخَيْرِكَ مِنْ خَيْرِهِ، وَأَعُوذُ بِعِزَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ مِنْ شَرِّهِ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَقَالَ: مَا هَذَا اللِّسَانُ؟ فَقَالَ: لِسَانُ آبَائِي، وَكَانَ الْمَلِكُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِينَ لِسَانًا فَكَلَّمَهُ بِهَا، فَأَجَابَهُ بِجَمِيعِهَا، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ وَقَالَ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ رُؤْيَايَ مِنْكَ قَالَ: رأيت بقرات سمان فَوَصَفَ لَوْنَهُنَّ وَأَحْوَالَهُنَّ، وَمَا كَانَ خُرُوجَهُنَّ، وَوَصَفَ السَّنَابِلَ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ لَا يَخْرِمُ مِنْهَا حَرْفًا، وَقَالَ لَهُ: مِنْ حِفْظِكَ أَنْ تَجْعَلَ الطَّعَامَ فِي الْأَهْرَاءِ فَيَأْتِيكَ الْخَلْقُ مِنَ النَّوَاحِي يَمْتَارُونَ مِنْكَ، وَيَجْتَمِعُ لَكَ مِنَ الْمَكْنُونِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ. وَكَانَ يُوسُفُ قَصَدَ أَوَّلًا بِتَثَبُّتِهِ فِي السِّجْنِ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى أَعْلَى الْمَنَازِلِ، فَكَانَ اسْتِدْعَاءُ الْمَلِكِ إِيَّاهُ أَوَّلًا بِسَبَبِ عِلْمِ الرُّؤْيَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: ائْتُونِي بِهِ فَقَطْ، فَلَمَّا فَعَلَ يُوسُفُ مَا فَعَلَ فَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ وَصَبْرُهُ وَهِمَّتُهُ وَجَوْدَةُ نَظَرِهِ وَتَأَنِّيهِ فِي عَدَمِ التَّسَرُّعِ إِلَيْهِ بِأَوَّلِ طَلَبٍ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، فَطَلَبَهُ ثَانِيًا وَمَقْصُودُهُ: اسْتِخْلَاصُهُ لِنَفْسِهِ. وَمَعْنَى أَسْتَخْلِصْهُ: أَجْعَلْهُ خَالِصًا لِنَفْسِي وَخَاصًّا بِي، وَسَمَّى اللَّهُ فِرْعَوْنَ مِصْرَ مَلِكًا إِذْ هِيَ حِكَايَةُ اسْمٍ مَضَى حُكْمُهُ وَتَصَرَّمَ زَمَنُهُ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ حُكْمًا لَهُ إِذَا قِيلَ لِكَافِرٍ مَلِكٌ أَوْ أَمِيرٌ، وَلِهَذَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم إلى هر قل عَظِيمِ الرُّومِ وَلَمْ

يَقُلْ مَلِكًا وَلَا أَمْيِرًا ، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ. وَالْجَوَابُ مُسَلَّمٌ وَتَسَلَّمُوا. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَظِيمَهُمْ فَتِلْكَ صِفَةٌ لَا تُفَارِقُهُ كَيْفَ مَا تَقَلَّبُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ: فَسَمِعَ الْمَلِكُ كَلَامَ النِّسْوَةِ وَبَرَاءَةَ يُوسُفَ مِمَّا رُمِيَ بِهِ، فَأَرَادَ رُؤْيَتَهُ وَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ فَأَتَاهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بكلمة هُوَ ضَمِيرُ الْمَلِكِ أَيْ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْمَلِكُ وَرَأَى حُسْنَ جَوَابِهِ وَمُحَاوَرَتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ يُوسُفَ أَيْ: فَلَمَّا كَلَّمَ يُوسُفُ الْمَلِكَ، وَرَأَى الْمَلِكُ حُسْنَ مَنْطِقِهِ بِمَا صَدَّقَ به الْخَبَرَ، وَالْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ، قَالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَيْ: ذُو مَكَانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ، أَمِينٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: أَمِينٌ آمِينَ، وَالْوَصْفُ بِالْأَمَانَةِ هُوَ الْأَبْلَغُ فِي الْإِكْرَامِ، وَبِالْأَمْنِ يَحُطُّ مِنْ إِكْرَامِ يُوسُفَ. وَلَمَّا وَصَفَهُ الْمَلِكُ بِالتَّمَكُّنِ عِنْدَهُ، وَالْأَمَانَةِ، طَلَبَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يُنَاسِبُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَيْ: وَلِّنِي خَزَائِنَ أَرْضِكَ إِنِّي حَفِيظٌ أَحْفَظُ مَا تَسْتَحْفِظُهُ، عَلِيمٌ بِوُجُوهِ التَّصَرُّفِ. وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْأَمَانَةِ وَالْكَفَاءَةِ وَهُمَا مَقْصُودُ الْمُلُوكِ مِمَّنْ يُوَلُّونَهُ، إِذْ هُمَا يَعُمَّانِ وُجُوهَ التَّثْقِيفِ وَالْحِيَاطَةِ، وَلَا خَلَلَ مَعَهُمَا لِقَائِلٍ. وَقِيلَ: حَفِيظٌ لِلْحِسَابِ، عَلِيمٌ بِالْأَلْسُنِ. وَقِيلَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعْتَنِي، عَلِيمٌ بِسِنِي الْجُوعِ. وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا وَجْهَ لَهُ، وَدَلَّ إثنا يُوسُفَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ إِذَا جَهُلَ أَمْرُهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّزْكِيَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا. وَعَلَى جَوَازِ عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ التَّاجِرِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ وَالْعَدْلُ، لَا بِمَا يَخْتَارُهُ وَيَشْتَهِيهِ مِمَّا لَا يُسِيغُهُ الشَّرْعُ، وَإِنَّمَا طَلَبَ يُوسُفُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى إِمْضَاءِ حُكْمِ اللَّهِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَبَسْطِ الْعَدْلِ، وَالتَّمَكُّنِ مِمَّا لِأَجْلِهِ تُبْعَثُ الْأَنْبِيَاءُ إِلَى الْعِبَادِ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ قَدْ أَسْلَمَ كَمَا رَوَى مُجَاهِدٌ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْحُكْمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ إِلَّا بِتَمْكِينِهِ، فَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِهِ. وَقِيلَ: كَانَ الْمَلِكُ يُصْدِرُ عَنْ رَأْيِ يُوسُفَ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا رَأَى، فَكَانَ فِي حُكْمِ التَّابِعِ. وَمَا زَالَ قُضَاةُ الْإِسْلَامِ يَتَوَلَّوْنَ الْقَضَاءَ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَيْسَ بِصَالِحٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ، فَهُمْ مُثَابُونَ عَلَى ذلك إذا عدلوا. وَكَذَلِكَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّمْكِينِ فِي نَفْسِ الْمَلِكِ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ أَيْ: يَتَّخِذُ مِنْهَا مَبَاءَةً وَمَنْزِلًا كُلَّ مَكَانٍ أَرَادَ، فَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِهَا، وَدَخَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِ. رُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ تَوَجَّهَ بِتَاجِهِ، وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ، وَرَدَاهُ بِسَيْفِهِ، وَوَضَعَ لَهُ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ، وَدَانَتْ لَهُ الْمُلُوكُ، وَفَوَّضَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ أَمَرَهُ وَعَزَلَ قِطْفِيرَ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدُ، فَزَوَّجَهُ الْمَلِكُ امْرَأَتَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا طَلَبْتِ؟ فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ، لِأَنَّ

الْعَزِيزَ كَانَ لَا يَطَأُ، فولدت له ولدين: إفرائيم، وَمَنْشَا. وَأَقَامَ الْعَدْلَ بِمِصْرَ، وَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ الْمَلِكُ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَبَاعَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فِي سِنِي الْقَحْطِ الطَّعَامَ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي السَّنَّةِ الْأُولَى حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، ثُمَّ بِالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ، ثُمَّ بِالدَّوَابِّ، ثُمَّ بِالضَّيَاعِ وَالْعَقَارِ، ثُمَّ بِرِقَابِهِمْ، ثُمَّ اسْتَرَقَّهُمْ جَمِيعًا فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ مَلِكًا أَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْهُ فَقَالَ لِلْمَلِكِ: كَيْفَ رَأَيْتَ صُنْعَ اللَّهِ بِي فِيمَا خَوَّلَنِي، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: الرَّأْيُ رَأْيُكَ قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكَ أَنِّي أَعْتَقْتُ أَهْلَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ أَمْلَاكَهُمْ. وَكَانَ لَا يَبِيعُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُمْتَارِينَ أَكْثَرَ مِنْ حِمْلِ بَعِيرٍ تَقْسِيطًا بَيْنَ النَّاسِ، وَأَصَابَ أَرْضَ كَنْعَانَ وَبِلَادَ الشَّامِ نَحْوَ مَا أَصَابَ مِصْرَ، فَأَرْسَلَ يَعْقُوبُ بَنِيهِ لِيَمْتَارُوا، وَاحْتَبَسَ بِنْيَامِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ: حَيْثُ نَشَاءُ بِالنُّونِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْيَاءِ يَكُونُ فَاعِلُ نَشَاءُ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى يُوسُفَ، وَمَشِيئَتُهُ محذوقة بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ نَبِيُّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ أَيْ: حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، فَيَكُونُ الْتِفَاتًا. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا أَيْ: بِنِعْمَتِنَا مِنَ الْمُلْكِ وَالْغِنَى وَغَيْرِهِمَا، وَلَا نُضِيعُ فِي الدُّنْيَا أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَجْرَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، لِأَنَّهُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَفْنَى. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْمُؤْمِنُ يُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْفَاجِرُ يُعَجَّلُ لَهُ الْخَيْرُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُوَافِقُ مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَالَ يُوسُفَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ حَالَتِهِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا. وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ. قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ. وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ: أي جاؤوا مِنَ الْقُرَيَاتِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ بِأَرْضِ الشَّامِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَوْلَاجِ مِنْ نَاحِيَةِ الشِّعْبِ إِلَى مِصْرَ لِيَمْتَارُوا مِنْهَا، فَتَوَصَّلُوا إِلَى يُوسُفَ لِلْمِيرَةِ، فَعَرَفَهُمْ لِأَنَّهُ فَارَقَهُمْ وَهُمْ رِجَالٌ، وَرَأَى زِيَّهُمْ قَرِيبًا مِنْ زِيِّهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَلِأَنَّ هِمَّتَهُ كَانَتْ مَعْمُورَةً بِهِمْ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ، فَكَانَ يَتَأَمَّلُ وَيَتَفَطَّنُ. وَرُوِيَ أَنَّهُمُ انْتَسَبُوا فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ، وَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: مَا عَرَفَهُمْ حَتَّى تَعَرَّفُوا لَهُ، وَإِنْكَارُهُمْ إِيَّاهُ كَانَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِطُولِ الْعَهْدِ وَمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي سِنِّ الْحَدَاثَةِ، وَلِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، وَلِذَهَابِهِ عَنْ أَوْهَامِهِمْ لِقِلَّةِ فِكْرِهِمْ فِيهِ، وَلِبُعْدِ

حَالِهِ الَّتِي بَلَغَهَا مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ عَنْ حَالَتِهِ الَّتِي فَارَقُوهُ عَلَيْهَا طَرِيحًا فِي الْبِئْرِ مَشْرِيًّا بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، حَتَّى لَوْ تَخَيَّلَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ لَكَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ. وَلِأَنَّ الْمُلْكَ مِمَّا يُبَدِّلُ الزِّيَّ وَيُلْبِسُ صَاحِبَهُ مِنَ التَّهَيُّبِ وَالِاسْتِعْظَامِ مَا يُنْكَرُ مِنْهُ الْمَعْرُوفُ. وَقِيلَ: رَأَوْهُ عَلَى زِيِّ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ، فَمَا خَطَرَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ. وَقِيلَ: مَا رَأَوْهُ إِلَّا مِنْ بَعِيدٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ وَحِجَابٌ، وَمَا وَقَفُوا إِلَّا حَيْثُ يَقِفُ طُلَّابُ الْحَوَائِجِ. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ، وَكَانَ الْجِهَازُ الَّذِي لَهُمْ هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي امْتَارُوهُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَدْ كَانَ اسْتَوْضَحَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَهُمْ أَخٌ قَعَدَ عِنْدَ أَبِيهِمْ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَهُمْ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِجَمِيعِ أَمْرِهِمْ، فَبَاحَثَهُمْ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ تُرْجُمَانُهِ: أَظُنُّكُمْ جَوَاسِيسَ، فَاحْتَاجُوا إِلَى التَّعْرِيفِ بِأَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ رَجُلٍ صِدِّيقٍ، وَكُنَّا اثَّنَيْ عَشَرَ، ذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ فِي الْبَرِيَّةِ، وَبَقِيَ أَصْغَرُنَا عِنْدَ أَبِينَا، وَجِئْنَا نَحْنُ لِلْمِيرَةِ، وَسُقْنَا بِعِيرِ الْبَاقِي مِنَّا وَكَانُوا عَشَرَةً وَلَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا. فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: وَلِمَ تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ؟ قَالُوا: لِمَحَبَّةِ أَبَيْنَا فِيهِ قَالَ: فَأَتَوْنِي بِهَذَا الْأَخِ حَتَّى أَعْلَمَ حَقِيقَةَ قَوْلِكُمْ، وَأَرَى لِمَ أَحَبَّهُ أَبُوكُمْ أَكْثَرَ مِنْكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟ وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَصَصَ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ تُقَارِبُ هَذِهِ فِي الْمَعْنَى، وَفِي آخِرِهِ قَالَ: فَمَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ بِعُيُونٍ، وَأَنَّ الَّذِي تَقُولُونَ حَقٌّ؟ قَالُوا: إِنَّا بِبِلَادٍ لَا يَعْرِفُنَا فِيهَا أَحَدٌ يَشْهَدُ لَنَا. قَالَ: فَدَعُوا بَعْضَكُمْ عِنْدِي رَهِينَةً وَائْتُونِي بِأَخِيكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ وَهُوَ يحمل رِسَالَةٍ مِنْ أَبِيكُمْ حَتَّى أُصَدِّقَكُمْ، فَاقْتَرَعُوا فَأَصَابَ الْقُرْعَةُ شَمْعُونَ، وَكَانَ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا فِي يُوسُفَ، فَخَلَّفُوهُ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ أَحْسَنَ إِنْزَالَهُمْ وَضِيَافَتَهُمْ. وَقِيلَ: لَمْ يَرْتَهِنْ أَحَدًا، وَرُوِيَ غَيْرُ هَذَا فِي طَلَبِ الْأَخِ مِنْ أَبِيهِمْ. قِيلَ: كَانَ يُوسُفُ مُلَثَّمًا أَبَدًا سَتْرًا لِجَمَالِهِ، وَكَانَ يَنْقُرُ فِي الصُّوَاعِ فَيُفْهَمُ مِنْ طَنِينِهِ صِدْقَ الْحَدِيثِ أَوْ كَذِبَهُ، فَسُئِلُوا عَنْ أَخْبَارِهِمْ، فَكُلَّمَا صَدَقُوا قَالَ لَهُمْ: صَدَقْتُمْ، فَلَمَّا قَالُوا: وَكَانَ لَنَا أَخٌ أَكَلَهُ الذِّئْبُ أَطَنَّ يُوسُفُ الصُّوَاعَ وَقَالَ: كَذَبْتُمْ، ثُمَّ تَغَيَّرَ لَهُمْ وَقَالَ: أَرَاكُمْ جَوَاسِيسَ، وَكَلَّفَهُمْ سَوْقَ الْأَخِ الباقي ليظهر صدقهم. وقرىء: بِجِهَازِهِمْ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَتَنَكَّرَ أَخٌ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَخِيكُمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَّفَهُ وعرفهم مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهِ لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَعَرَّفَ لَهُمْ، وَلَا أَنَّهُ يُدْرِي مَنْ هُوَ. أَلَا تَرَى فَرْقًا بَيْنَ مَرَرْتُ بِغُلَامِكَ، وَمَرَرْتُ بِغُلَامٍ لَكَ؟ إِنَّكَ فِي التَّعْرِيفِ تَكُونُ عَارِفًا بِالْغُلَامِ، وَفِي التَّنْكِيرِ أَنْتَ جَاهِلٌ بِهِ. فَالتَّعْرِيفُ يُفِيدُ فَرْعَ عَهْدٍ فِي الْغُلَامِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمُخَاطَبِ، وَالتَّنْكِيرُ لَا عَهْدَ فِيهِ الْبَتَّةَ. وَجَائِزٌ أن تخبر عَمَّنْ تَعْرِفُهُ أَخْبَارُ النَّكِرَةِ فَتَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لَنَا وَأَنْتَ تَعْرِفُهُ لِصِدْقِ إِطْلَاقِ النَّكِرَةِ عَلَى

الْمَعْرِفَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُحَرِّضُهُمْ بِهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَخِيهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَوْنَ أني أوف الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أَيِ الْمُضِيفِينَ؟ يَعْنِي فِي قُطْرِهِ وَفِي زَمَانِهِ يُؤْنِسُهُمْ بِذَلِكَ وَيَسْتَمِيلُهُمْ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ إِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ إِلَيْهِ بِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: وَلَا تَقْرَبُونِ، أَنْ يَكُونَ نَهْيًا، وَأَنْ يَكُونَ نَفْيًا مُسْتَقِلًّا وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ. وَحُذِفَتِ النُّونُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، كَمَا حذفت في فبم تبشرون أَنْ يَكُونَ نَفْيًا دَاخِلًا فِي الْجَزَاءِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلٍّ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي، فَيَكُونُ مَجْزُومًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْرُبُونَ لَهُ بِكَذَا وَلَا طَاعَةٍ. وَظَاهِرُ كُلِّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُمْ أَنَّهُ بِوَحْيٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى الْبِرِّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى أَبِيهِ وَيَسْتَدْعِيَهُ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ تَكْمِيلَ أَجْرِ يَعْقُوبَ وَمِحْنَتِهِ: وَلِتَتَفَسَّرَ الرُّؤْيَا الْأُولَى قَالُوا: سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ أَيْ: سَنُخَادِعُهُ وَنَسْتَمِيلُهُ فِي رِفْقٍ إِلَى أَنْ يَتْرُكَهُ يَأْتِيَ مَعَنَا إِلَيْكَ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ الْوَعْدَ بِأَنَّهُمْ فَاعِلُو ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، لَا نُفَرِّطُ فِيهِ وَلَا نَتَوَانَى. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: لِفِتْيَانِهِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ لِفِتْيَتِهِ، فَالْكَثْرَةُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَأْمُورِينَ، وَالْقِلَّةُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ. فَهُمُ الْخَدَمَةُ الْكَائِلُونَ أَمَرَهُمْ بِجَعْلِ الْمَالِ الَّذِي اشْتَرَوْا بِهِ الطَّعَامَ فِي رِحَالِهِمْ مُبَالِغَةً فِي اسْتِمَالَتِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا أَيْ: يَعْرِفُونَ حَقَّ رَدِّهَا، وَحَقَّ التَّكَرُّمِ بِإِعْطَاءِ الْبَدَلَيْنِ فَيَرْغَبُونَ فِينَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أهلهم، وفرغوا ظروفهم. ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل، ولعلهم يَرْجِعُونَ تَعْلِيقٌ بِتَرَجِّي مَعْرِفَةِ الْبِضَاعَةِ لِلرُّجُوعِ إِلَى يُوسُفَ. قِيلَ: وَكَانَتْ بِضَاعَتُهُمُ النِّعَالَ وَالْأُدُمَ. وَقِيلَ: يَرْجِعُونَ مُتَعَدٍّ، فَالْمَعْنَى لَعَلَّهُمْ يَرُدُّونَ الْبِضَاعَةَ. وَقِيلَ: تَخَوَّفَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ أَبِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ. وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى رَدِّ الْبِضَاعَةِ، لَا يَسْتَحِلُّونَ إِمْسَاكَهَا فَيَرْجِعُونَ لِأَجْلِهَا. وَقِيلَ: جَعَلَهَا تَوْطِئَةً لَجَعْلِ السِّقَايَةِ فِي رَحْلِ أَخِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ لِمَنْ يَتَأَمَّلُ الْقِصَّةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ مِنْ صِلَتِهِمْ وَجَبْرِهِمْ فِي تِلْكَ الشِّدَّةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ مَلِكٌ عَادِلٌ وَهُمْ أَهْلُ إِيمَانٍ وَنُبُوَّةٍ. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ: أَيْ: رَجَعُوا مِنْ مِصْرَ مُمْتَارِينَ، بَادَرُوا بِمَا كَانَ أَهَمَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّوْطِئَةِ لِإِرْسَالِ أَخِيهِمْ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَتَاعِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِإِحْسَانِ الْعَزِيزِ إِلَيْهِمْ مِنْ رَدِّ بِضَاعَتِهِمْ. وَأَخْبَرُوا بِمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ الْعَزِيزِ الَّذِي عَلَى إِهْرَاءِ مِصْرَ، وَأَنَّهُمُ اسْتَدْعَى مِنْهُمُ الْعَزِيزُ أَنْ يَأْتُوا بِأَخِيهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَوَاسِيسَ، وَقَوْلُهُمْ: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي. وَيَكُونُ مُنِعَ يُرَادُ بِهِ فِي

[سورة يوسف (12) : الآيات 65 إلى 68]

الْمُسْتَأْنَفِ، وَإِلَّا فَقَدَ كَيَّلَ لهم. وجاؤوا أَبَاهُمْ بِالْمِيرَةِ، لَكِنْ لَمَّا أُنْذِرُوا بِمَنْعِ الْكَيْلِ قَالُوا: مُنِعَ. وَقِيلَ: أَشَارُوا إِلَى بَعِيرِ بِنْيَامِينَ الَّذِي مُنِعَ مِنَ الْمِيرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى بِحَمْلِ مُنِعَ عَلَى الْمَاضِي حَقِيقَةً، وَلِقَوْلِهِمْ: فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ، وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ يَكْتَلْ بِالْيَاءِ أَيْ: يَكْتَلْ أَخُونَا، فَإِنَّمَا مُنِعَ كَيْلُ بَعِيرِهِ لِغَيْبَتِهِ، أَوْ يَكُنْ سَبَبًا لِلِاكْتِيَالِ. فَإِنَّ امْتِنَاعَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَشْبِيهٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَخَوَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالنُّونِ أَيْ: نَرْفَعُ الْمَانِعَ مِنَ الْكَيْلِ، أَوْ نَكْتَلْ مِنَ الطَّعَامِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَضَمِنُوا لَهُ حِفْظَهُ وَحِيَاطَتَهُ. قَالَ: هَلْ آمَنُكُمْ، هَذَا تَوْقِيفٌ وَتَقْرِيرٌ. وَتَأَلُّمٌ مِنْ فِرَاقِهِ بِنْيَامِينَ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَنْعِهِ مِنْ حَمْلِهِ لَمَّا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَشَبَّهَ هَذَا الِائْتِمَانَ فِي ابْنِهِ هَذَا بِائْتِمَانِهِ إِيَّاهُمْ فِي حَقِّ يُوسُفَ. قُلْتُمْ فِيهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، كَمَا قُلْتُمْ فِي هَذَا، فَأَخَافُ أَنْ تَكِيدُوا لَهُ كَمَا كِدْتُمْ لِذَلِكَ، لَكِنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ كَمَا خَافَ عَلَى يُوسُفَ، وَاسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَقَالَ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: حَافِظًا اسْمُ فَاعِلٍ، وَانْتَصَبَ حِفْظًا وَحَافِظًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَنْسُوبُ لَهُ الْخَيْرُ هُوَ حِفْظُ اللَّهِ، وَالْحَافِظُ الَّذِي مِنْ جِهَةِ اللَّهِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا حَالًا، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْيِيدُ خَيْرٌ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: خَيْرُ حَافِظٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْحِفْظِ وَزِيَادَتِهِ عَلَى كُلِّ حَافِظٍ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ: خَيْرُ الْحَافِظِينَ، كَذَا نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقرأ ابن مَسْعُودٍ، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ خَيْرُ الْحَافِظِينَ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا، لَا أَنَّهَا قُرْآنٌ. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ، فَأَرْجُو مِنْهُ حِفْظَهُ، وَأَنْ لَا يَجْمَعَ عَلَى مُصِيبَتِهِ وَمُصِيبَةِ أَخِيهِ. [سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68] وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)

قَرَأَ عَلْقَمَةُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، رِدَّتْ بِكَسْرِ الرَّاءِ، نُقِلَ حَرَكَةُ الدَّالِ الْمُدْغَمَةِ إِلَى الرَّاءِ بَعْدَ تَوَهُّمِ خُلُوِّهَا مِنَ الضَّمَّةِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَنِي ضَبَّةَ، كَمَا نَقَلَتِ الْعَرَبُ فِي قِيلَ وَبِيعَ. وَحَكَى قُطْرُبٌ: النَّقْلُ فِي الْحَرْفِ الصَّحِيحِ غَيْرُ الْمُدْغَمِ نَحْوَ: ضَرَبَ زَيْدٌ، سَمَّوُا الْمَشْدُودَ الْمَرْبُوطَ بِجُمْلَتِهِ مَتَاعًا، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْفَتْحُ فِيهِ. وَمَا نَبْغِي، مَا فِيهِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ نَبْغِي وَنَطْلُبُ مِنَ الْكَرَامَةِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَكَانُوا قَالُوا لِأَبِيهِمْ: قَدِمْنَا عَلَى خَيْرِ رَجُلٍ أَنْزَلَنَا وَأَكْرَمَنَا كَرَامَةً، لَوْ كَانَ رَجُلًا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ مَا أَكْرَمَنَا كَرَامَتَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً أَيْ: مَا بَقِيَ لَنَا مَا نَطْلُبُ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً مِنَ الْبَغْيِ أَيْ: مَا افْتَرَيْنَا فَكَذَبْنَا عَلَى هَذَا الْمَلِكِ، وَلَا فِي وَصْفِ إِجْمَالِهِ وَإِكْرَامِهِ هَذِهِ الْبِضَاعَةُ مَرْدُودَةٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا نَبْغِي فِي الْقَوْلِ مَا تَتَزَيَّدُ فِيمَا وَصَفْنَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِ الْمَلِكِ وَالْكَرَامَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا نُرِيدُ مِنْكَ بِضَاعَةً أُخْرَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو حَيْوَةَ: مَا تَبْغِي بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ يَعْقُوبَ، وَرَوَتْهَا عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، وَيَحْتَمِلُ مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الِاسْتِفْهَامَ وَالنَّفْيَ كَقِرَاءَةِ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: وَنُمِيرُ بِضَمِّ النُّونِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا مُوَضِّحَةٌ لِقَوْلِهِمْ: مَا نَبْغِي، وَالْجُمَلُ بَعْدَهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا عَلَى تَقْدِيرِ: فَنَسْتَظْهِرُ بِهَا وَنَسْتَعِينُ بِهَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا فِي رُجُوعِنَا إِلَى الْمَلِكِ، وَنَحْفَظُ أَخَانَا فَلَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ مِمَّا تَخَافُهُ. وَإِذَا كَانَ مَا نَبْغِي بمعنى مَا نَتَزَيَّدُ وَمَا نَكْذِبُ، جَازَ أَنْ يَكُونَ وَنَمِيرُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا نَبْغِي أَيْ: لَا نَبْغِي فِيمَا نَقُولُ، وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَفْعَلُ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَكَرَّرُوا حِفْظَ الْأَخِ مُبَالَغَةً فِي الْحَضِّ عَلَى إِرْسَالِهِ، وَنَزْدَادُ بِاسْتِصْحَابِ أَخِينَا وَسَقَ بَعِيرٍ عَلَى أَوَسَاقِ بَعِيرِنَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ حَمَّلَ لَهُمْ عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ، وَلَمْ يُحَمِّلِ الْحَادِي عَشَرَ لِغَيْبَةِ صَاحِبِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَعِيرَ هُوَ مِنَ الْإِبِلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَيْلُ حِمَارٍ، قَالَ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ تَقُولُ لِلْحِمَارِ: بَعِيرٌ، وَهَذَا شَاذٌّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، مِنْ كَلَامِهِمْ لَا مِنْ كَلَامِ يَعْقُوبَ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا إِلَى كَيْلَ بَعِيرٍ أَيْ: يَسِيرٍ، بِمَعْنَى قليل، يجيبنا إِلَيْهِ الْمَلِكُ وَلَا يُضَايِقُنَا فِيهِ، أَوْ يَسِيرٌ بِمَعْنَى سهل عليه مُتَيَسِّرٍ لَا يَتَعَاظَمَهُ. وَقِيلَ: يَسِيرٌ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَهُمْ أَنْ يَزِيدَهُمْ حِمْلَ بَعِيرٍ بِغَيْرِ ثَمَنٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ ذَلِكَ مِكْيَلٌ قَلِيلٌ لَا يَكْفِينَا

يَعْنِي: مَا يُكَالُ لَهُمْ، فَازْدَادُوا إِلَيْهِ مَا يُكَالُ لِأَخِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ يَعْقُوبَ: أَيْ حِمْلُ بَعِيرٍ وَاحِدٍ شَيْءٌ يَسِيرٌ لَا يُخَاطَرُ لِمِثْلِهِ بِالْوَلَدِ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ يَعْقُوبَ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ. وَهَذَا كُلُّهُ تَحْمِيلٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ مَا يَبْعُدُ تَحْمِيلُهُ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَلَمَّا كَانَ يَعْقُوبُ غَيْرَ مُخْتَارٍ لِإِرْسَالِ ابْنِهِ، وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، عَلَّقَ إِرْسَالَهُ بِأَخْذِ الْمَوْثِقِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، إِذْ بِهِ تُؤَكَّدُ الْعُهُودُ وَتُشَدَّدُ. ولتأتنني بِهِ جَوَابٌ لِلْحَلِفِ، لِأَنَّ مَعْنَى حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا: حَتَّى تَحْلِفُوا لِي لَتَأْتُنَّنِي بِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ، لَفْظٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ وُجُوهِ الْغَلَبَةِ، وَالْمَعْنَى: تَعُمُّكُمُ الْغَلَبَةُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَكُمْ حِيلَةٌ وَلَا وَجْهُ تَخَلُّصٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ تُهْلَكُوا. وَعَنْهُ أَيْضًا: إلا أن لا تُطِيقُوا ذَلِكَ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مُرَاعَى فِي قَوْلِهِ: لَتَأْتُنَّنِي، وَإِنْ كَانَ مُثْبِتًا مَعْنَى النَّفْيِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَمْتَنِعُونَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِأَنْ يُحَاطَ بِكُمْ. وَمِثَالُهُ مِنَ الْمُثْبَتِ فِي اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ قَوْلُهُمْ: أُنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا فَعَلْتَ أَيْ: مَا أُنْشُدُكَ إِلَّا الْفِعْلَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنَى مِنَ الْأَحْوَالِ مُقَدَّرًا بِالْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ حَالًا، وَإِنْ كَانَ صَرِيحُ الْمَصْدَرِ قَدْ يَقَعُ حَالًا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا إِحَاطَةً بِكُمْ أَيْ: مُحَاطًا بِكُمْ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لَا تَقَعُ حَالًا وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْمَصْدَرِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ بِنَفْسِهِ حَالًا. فَإِنْ جَعَلْتَ أَنْ وَالْفِعْلَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ ظَرْفَ زَمَانٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَّا إِحَاطَةً بِكُمْ أَيْ: إِلَّا وَقْتَ إِحَاطَةٍ بِكُمْ. قُلْتُ: مَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَقَالَ: مَا مَعْنَاهُ: يَجُوزُ خُرُوجُنَا صِيَاحَ الدِّيكِ أَيْ: وَقْتَ صِيَاحِ الدِّيكِ، وَلَا يَجُوزُ خُرُوجُنَا أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، وَلَا مَا يَصِيحُ الدِّيكُ. وَإِنْ كَانَتْ أَنْ وَمَا مَصْدَرِيَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ظَرْفًا الْمَصْدَرُ الْمُصَرَّحُ بِلَفْظِهِ. وَأَجَازَ ابْنُ جِنِّي أَنْ تَقَعَ أَنْ ظَرْفًا، كَمَا يَقَعُ صَرِيحُ الْمَصْدَرِ، فَأَجَازَ فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا: وَقَالُوا لَهَا لَا تَنْكِحِيهِ فَإِنَّهُ ... لِأَوَّلِ فَصْلٍ أَنْ يُلَاقِيَ مَجْمَعًا وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: وَتَاللَّهِ مَا أن شهلة أُمُّ وَاحِدٍ ... بِأَوْجَدَ مِنِّي أَنْ يُهَانَ صَغِيرُهَا أَنْ يكون أن يلاقي تَقْدِيرَهُ: وَقْتَ لِقَائِهِ الْجَمْعَ، وَأَنْ يَكُونَ أَنْ يُهَانَ تَقْدِيرَهُ: وَقْتَ إِهَانَةِ صَغِيرِهَا. فَعَلَى مَا أَجَازَهُ ابْنُ جِنِّي يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ الْآيَةُ وَيَبْقَى لَتَأْتُنَّنِي بِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ

الْإِثْبَاتِ، وَلَا يُقَدَّرُ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَجَابُوهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ، فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ يَعْقُوبُ: اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ مِنْ طَلَبِ الْمَوْثِقِ وَإِعْطَائِهِ وَكِيلٌ رَقِيبٌ مُطَّلِعٌ. وَنَهْيُهُ إِيَّاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ هُوَ خَشْيَةُ الْعَيْنِ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَهْلَ جَمَالٍ وَبَسْطَةٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْعَيْنَ لَتُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ وَفِي التَّعَوُّذِ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي بَهَاءٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، وَقَدْ أَشْهَرَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ بِالْقُرْبَةِ عِنْدَ الْمَلِكِ وَالْكَرَامَةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِمْ، فَكَانُوا مَظِنَّةً لِطُمُوحِ الْأَبْصَارِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوُفُودِ، وَأَنْ يُشَارَ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ، وَيُقَالَ: هَؤُلَاءِ أَضْيَافُ الْمَلِكِ انْظُرُوا إِلَيْهِمْ مَا أَحْسَنَهُمْ مِنْ فِتْيَانٍ، وَمَا أَحَقَّهُمْ بالإكرام، لأمر ما أكرمهم الْمَلِكُ وَقَرَّبَهُمْ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى الْوَافِدِينَ عَلَيْهِ. فَخَافَ لِذَلِكَ أَنْ يَدْخُلُوا كَوْكَبَةً وَاحِدَةً فَيُعَانُوا لِجَمَالِهِمْ وَجَلَالَةِ أَمْرِهِمْ في الصدور، ويصيبهم مَا يَسُوءُهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوصِهِمْ بِالتَّفَرُّقِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَجْهُولِينَ معمورين بَيْنَ النَّاسِ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّ خَوْفَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَيْنِ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ بِحَسَبِ أَنَّ مَحْبُوبَهُ فِيهِمْ وَهُوَ بِنْيَامِينُ الَّذِي كَانَ يَتَسَلَّى بِهِ عَنْ شَقِيقِهِ يُوسُفَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى، فَأَهْمَلَ أَمْرَهُمْ وَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِمْ لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي يُوسُفَ. وَقِيلَ: نَهَاهُمْ خَشْيَةَ أَنْ يُسْتَرَابَ بِهِمْ لِقَوْلِ يُوسُفَ: أَنْتُمْ جَوَاسِيسُ. وَقِيلَ: طَمَعَ بِافْتِرَاقِهِمْ أَنْ يَتَسَمَّعُوا خَبَرَ يُوسُفَ، ثُمَّ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يُغْنِيَ عَنْهُمْ شَيْئًا يَعْنِي: بِوَصَاتِهِ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَيْ: هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ وَحْدَهُ وَيَنْفُذُ مَا يُرِيدُ، فَعَلَيْهِ وحده توكلت. ومن حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أَيْ: مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ. رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا وَدَّعُوا أَبَاهُمْ قَالَ لَهُمْ: بَلِّغُوا مَلِكَ مِصْرَ سَلَامِي وَقُولُوا لَهُ: إِنَّ أَبَانَا يُصَلِّي عَلَيْكَ، وَيَدْعُو لَكَ، وَيَشْكُرُ صَنِيعَكَ مَعَنَا. وَفِي كِتَابِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَهْرَانِيِّ: أَنَّهُ خَاطَبَهُ بكتاب قرىء عَلَى يُوسُفَ فَبَكَى. وَجَوَابُ لَمَّا قَوْلُهُ: مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَمَّا حَرَّفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ لَا، ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ، إِذْ لَوْ كَانَتْ ظَرْفَ زَمَانٍ مَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِمَا بَعْدَ مَا النَّافِيَةِ. لَا يَجُوزُ حِينَ قَامَ زَيْدٌ مَا قَامَ عَمْرٌو، وَيَجُوزُ لَمَّا قَامَ زَيْدٌ مَا قَامَ عَمْرٌو، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَمَّا حَرْفٌ يَتَرَتَّبُ جَوَابُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا، ثُمَّ يُخْبِرُ عَنْ دُخُولِهِمْ أَنَّهُ مَا كَانَ يُغْنِي. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: لَمْ يَكُنْ فِي دُخُولِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ دَفْعُ قَدَرِ اللَّهُ الَّذِي قَضَاهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَشْرِيفِهِمْ وَافْتِضَاحِهِمْ بِذَلِكَ، وَأَخْذِ أَخِيهِمْ بِوِجْدَانِ الصَّاعِ فِي رَحْلِهِ، وَتَزَايُدِ مُصِيبَتِهِ عَلَى أَبِيهِمْ، بَلْ كَانَ إِرْبًا لِيَعْقُوبَ قَضَاهُ وَتَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى مَا كَانَ يُغْنِي

[سورة يوسف (12) : الآيات 69 إلى 87]

عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، مَا يَرُدُّ عَنْهُمْ قَدَرًا لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى أَنْ يُصِيبَهُمْ عَيْنٌ لَأَصَابَتُهُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَإِنَّمَا طَمِعَ يَعْقُوبُ أَنْ تُصَادِفَ وَصِيَّتُهُ قَدَرَ السَّلَامَةِ، فَوَصَّى وَقَضَى بِذَلِكَ حَاجَةَ نَفْسِهِ فِي أَنْ بَقِيَ يَتَنَعَّمُ بِرَجَائِهِ أَنْ يُصَادِفَ وَصِيَّتَهُ الْقَدَرُ فِي سَلَامَتِهِمْ. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ يَعْنِي لِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَا بَعْدَهُ وَعِلْمُهُ بِأَنَّ الْقَدَرَ لَا يَدْفَعُهُ الْحَذَرُ. وَهَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعَامِلٌ بِمَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَنْ لَا يَعْمَلُ لَا يَكُونُ عَالِمًا، وَلَفْظَةُ ذُو عِلْمٍ لَا تُسَاعِدُهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مما علمناه. [سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

الْعِيرُ الْإِبِلُ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَحْمَالُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعِيرُ أَيْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ. وَقِيلَ: هِيَ قَافِلَةُ الْحَمِيرِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ قَافِلَةٍ عِيرٌ كَأَنَّهَا جَمْعُ عَيْرٍ. وَأَصْلُهَا فُعْلٌ كَسَقْفٍ، وَسُقْفٍ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ ببيض وعيد، وَالْعِيرُ مُؤَنَّثٌ. وَقَالُوا فِي الْجَمْعِ: عِيَرَاتٌ، فَشَذُّوا فِي جَمْعِهِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَفِي فَتْحِ يَائِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: غَشِيتُ دِيَارَ الْحَيِّ بِالْبَكَرَاتِ ... فَعَارِمَةٍ فَبَرْقَةِ الْعِيَرَاتِ قَالَ الأعلم: العيرات هُنَا مَوَاضِعُ الْأَعْيَارِ، وَهِيَ الْحَمِيرُ. الصُّوَاعُ الصَّاعُ، وَفِيهِ لُغَاتٌ تَأْتِي فِي الْقُرْآنِ، وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ. الْوِعَاءُ: الظَّرْفُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَتُضَمُّ وَاوُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تبدل واوه همزة. فتى؟؟؟ أَخَوَاتِ كَانَ النَّاقِصَةِ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: فَمَا فَتِئَتْ حَيٌّ كَأَنَّ غُبَارَهَا ... سُرَادِقُ بُومٍ ذِي رِيَاحٍ يرفع وَقَالَ أَيْضًا: فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِي ... وَيَلْحَقُ مِنْهَا لَاحِقٌ وَتَقَطَّعُ

وَيُقَالُ فِيهَا: فَتَأَ عَلَى وَزْنِ ضَرَبَ، وَأَفْتَأَ عَلَى وَزْنِ أَكْرَمَ. وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى سَكَنَ وَأَطْفَأَ، فَتَكُونُ تَامَّةً. وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ تَصْحِيفٌ مِنْهُ. صَحَّفَ الثَّاءَ بِثَلَاثٍ، بِالتَّاءِ بِثِنْتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، وَشَرَحَهَا بِسَكَنٍ وَأَطْفَأَ. الْحَرَضُ: الْمُشْفِي عَلَى الْهَلَاكِ يُقَالُ: حَرِضَ فَهُوَ حَرِضٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ، حَرَضًا بِفَتْحِهَا وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَأَحْرَضَهُ الْمَرَضُ فَهُوَ مُحْرَضٌ قَالَ: أَرَى الْمَرْءَ كَالْأَزْوَادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا ... كَإِحْرَاضِ بَكْرٍ فِي الدِّيَارِ مَرِيضِ وَقَالَ الْآخَرُ: إِنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي ... حَتَّى بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ وَقَالَ: رَجُلٌ حُرُضٌ بِضَمَّتَيْنِ كَجُنُبٍ وَشُلُلٍ. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ. قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ. قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ. قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ: رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: هَذَا أَخُونَا قَدْ جِئْنَاكَ بِهِ، فَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَصَبْتُمْ، وَسَتَجِدُونَ ذَلِكَ عِنْدِي، فَأَنْزَلَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ، ثُمَّ أَضَافَهُمْ، وَأَجْلَسَ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى مَائِدَةٍ، فَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحْدَهُ فَبَكَى وَقَالَ: لَوْ كَانَ أَخِي يُوسُفُ حَيًّا لَأَجْلَسَنِي مَعَهُ. فَقَالَ يُوسُفُ: بَقِيَ أَخُوكُمْ وَحِيدًا، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى مَائِدَتِهِ، وَجَعَلَ يُؤَاكِلُهُمْ وَقَالَ: أَنْتُمْ عَشَرَةٌ، فَلْيَنْزِلْ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْكُمْ بَيْتًا، وَهَذَا لَا ثَانِيَ لَهُ فَيَكُونُ مَعِي، فَبَاتَ يُوسُفُ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيَشُمُّ رَائِحَتَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، وَسَأَلَهُ عَنْ وَلَدِهِ فَقَالَ: لِي عشرة بنين اشتققت أسماهم مِنِ اسْمِ أَخٍ لِي هَلَكَ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَخَاكَ بَدَلَ أَخِيكَ الْهَالِكِ؟ قَالَ: مَنْ يَجِدُ أَخًا مِثْلَكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَلِدْكَ يَعْقُوبُ وَلَا رَاحِيلُ، فَبَكَى يُوسُفُ وَقَامَ إِلَيْهِ وَعَانَقَهُ وَقَالَ لَهُ: أَنَا أَخُوكَ يُوسُفُ فَلَا تَبْتَئِسْ، فَلَا تَحْزَنْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِنَا فِيمَا مَضَى، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَجَمَعَنَا عَلَى خَيْرٍ، وَلَا تُعْلِمُهُمْ بِمَا أَعْلَمْتُكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَعَرَّفَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، أَعْلَمَهُ أَنَّهُ أَخُوهُ حَقِيقَةً وَاسْتَكْتَمَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَا تُبَالِي بِكُلِّ مَا تَرَاهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي تَحَيُّلِي فِي أَخْذِكَ مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ

بِقَوْلِهِ: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِلَى مَا يَعْمَلُهُ فِتْيَانُ يُوسُفَ مِنْ أَمْرِ السِّقَايَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَلَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ بِمَا يَعْمَلُونَ بِغَيْرٍ كَانُوا، لَأَمْكَنَ عَلَى بُعْدِهِ، لِأَنَّ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِخْوَةِ يُوسُفَ. وَأَمَّا ذِكْرُ فِتْيَانِهِ فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ، وَقَدْ حَالَ بَيْنَهُمَا قَصَصٌ. وَاتَّسَقَ الْكَلَامُ مَعَ الْإِخْوَةِ اتِّسَاقًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ يَلْقَى مِنْهُمْ قَدِيمًا مِنَ الْأَذَى، إِذْ قَدْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِهِ بِأَخِيهِ يُوسُفَ. وَقَالَ وَهْبٌ: إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ فِي الْوُدِّ مَقَامَ أَخِيهِ الذَّاهِبِ، وَلَمْ يَكْشِفْ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، بَلْ تَرَكَهُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ كَسَائِرِ إِخْوَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ هُوَ يُوسُفُ، وَيَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَلِكًا أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، بَلْ جَعَلَ غَيْرَهُ مِنْ فِتْيَانِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَجْعَلَهَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ وَهْبٍ: أَنَّهُ لَمْ يَكْشِفْ لَهُ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَأَنَّهُ تَرَكَهُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ. وروي أنه قال ليوسف: أَنَا لَا أُفَارِقُكَ قَالَ: قَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي، فَإِذَا حَبَسْتُكَ ازْدَادَ غَمُّهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ أَنْسُبَكَ إِلَى مَا لَا يُحْمَلُ. قَالَ: لَا أُبَالِي، فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَدُسُّ صَاعِي فِي رَحْلِكَ، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِأَنَّكَ سَرَقْتَهُ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تَسْرِيحِكَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَافْعَلْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلَ السقاية في رحل أخيه، أَمْهَلَهُمْ حَتَّى انْطَلَقُوا، ثُمَّ أَذَّنَ. وَفِي نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فِي جَعَلَ دُونَ الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي رَحْلِ أَخِيهِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَقَدَهَا حَافِظُهَا كَمَا قِيلَ: إِنَّمَا أُوحِيَ إِلَى يُوسُفَ أَنْ يَجْعَلَ السِّقَايَةَ فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّ حَافِظَهَا فَقَدَهَا، فَنَادَى بِرَأْيِهِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَتَفْتِيشُ الْأَوْعِيَةِ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَأْذِينَ الْمُؤَذِّنِ كَانَ عَنْ أَمْرِ يُوسُفَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ هَذَا الْجَعْلُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْ بِنْيَامِينَ، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِعِلْمٍ مِنْهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: السِّقَايَةُ إِنَاءٌ يَشْرَبُ بِهِ الْمَلِكُ، وَبِهِ كَانَ يُكَالُ الطَّعَامُ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: كَانَ يُسْقَى بِهَا الْمَلِكُ ثُمَّ جُعِلَتْ صَاعًا يُكَالُ بِهِ، وَقِيلَ: كَانَتِ الدَّوَابُّ تَسْقِي بِهَا وَيُكَالُ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الصُّوَاعُ هُوَ مِثْلُ الْمَكُّوكِ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ إِنَاءُ يُوسُفَ الَّذِي يَشْرَبُ فِيهِ، وَكَانَ إِلَى الطُّولِ مَاهِرٌ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْلُهُ يَشْرَبُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ

ابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: الصُّوَاعُ الْمَكُّوكُ الْفَارِسِيُّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ، كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الْأَعَاجِمُ. وَالسِّقَايَةُ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مُمَوَّهَةٍ بِالذَّهَبِ، أَوْ نُحَاسٍ، أَوْ مِسْكٍ، أَوْ كَانَتْ مُرَصَّعَةً بِالْجَوَاهِرِ أَقْوَالٌ أَوَّلُهَا لِلْجُمْهُورِ، وَلِعِزَّةِ الطَّعَامِ فِي تِلْكَ الْأَعْوَامِ قَصَرَ كَيْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِنَاءِ. ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيْ: نَادَى مُنَادٍ، أَذَّنَ: أَعْلَمَ. وَآذَنَ أَكْثَرَ الْإِعْلَامَ، وَمِنْهُ الْمُؤَذِّنُ لكثرة ذلك منه. وثم تَقْتَضِي مُهْلَةً بَيْنَ جَعْلِ السِّقَايَةِ وَالتَّأْذِينِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ بِأَوْقَارِهَا وَخَرَجُوا مِنْ مِصْرَ أُدْرَكُوا وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ أُمِرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا، وَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ. وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْعِيرَ الْإِبِلُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ دَوَابُّهُمْ حَمِيرًا، وَمُنَادَاةُ الْعِيرِ وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا كَقَوْلِهِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخِطَابُ: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فَرُوعِيَ الْمَحْذُوفُ، وَلَمْ يُرَاعَ الْعِيرُ كَمَا رُوعِيَ فِي ارْكَبِي. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ الْعِيرُ عَلَى الْقَافِلَةِ، أَوِ الرُّفْقَةِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّحَيُّلَ، وَرَمْيَ أَبْرِيَاءٍ بِالسَّرِقَةِ، وَإِدْخَالَ الْهَمِّ عَلَى يَعْقُوبَ، بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ. لَمَّا عَلِمَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاحِ، وَلَمَّا أَرَادَ مِنْ مِحْنَتِهِمْ بِذَلِكَ. وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانُوا بَاعُوا يُوسُفَ اسْتُجِيزَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا، وَنِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا: وَإِنْ كَانَ الصُّوَاعُ إِنَّمَا وُجِدَ فِي رَحْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقُولُ: بَنُو فُلَانٍ فَتَلُوا فُلَانًا، وَالْقَاتِلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. قَالُوا: أَيْ إِخْوَةُ يُوسُفَ، وَأَقْبَلُوا جُمْلَةً حَالِيَّةً أَيْ: وَقَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، أَيْ: عَلَى طَالِبِيِ السِّقَايَةِ، أَوْ عَلَى الْمُؤَذِّنِ إِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ جَمْعٌ. كَأَنَّهُ جَعَلَ مُؤَذِّنِينَ يُنَادُونَ، وَسَاءَهُمْ أَنْ يُرْمَوْا بِهَذِهِ الْمَثْلَبَةِ وَقَالُوا: مَاذَا تَفْقِدُونَ؟ لِيَقَعَ التَّفْتِيشُ فَتَظْهَرُ بَرَاءَتُهُمْ، وَلَمْ يَلُوذُوا بِالْإِنْكَارِ مِنْ أَوَّلُ، بَلْ سَأَلُوا كَمَالَ الدَّعْوَى رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا تُبْطَلُ بِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى خِصَامٍ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَاذَا اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بتفقدون، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا وحدها استفهاما مبتدأ، وذا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرٌ عَنْ ما، وتفقدون صِلَةٌ لِذَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: تَفْقِدُونَهُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تُفْقِدُونَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَفْقَدْتُهُ إِذَا وَجَدْتَهُ فَقِيدًا نَحْوَ: أَحَمَدْتُهُ إِذَا أَصَبْتَهُ مَحْمُودًا. وَضَعَّفَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ، وَجْهُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَصُوَاعُ الْمَلِكِ هُوَ الْمِكْيَالُ، وَهُوَ السِّقَايَةُ سَمَّاهُ أَوَّلًا بِإِحْدَى جِهَتَيْهِ، وَآخِرًا بِالثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صُوَاعَ بِضَمِّ الصَّادِ، بَعْدَهَا وَاوٌ مَفْتُوحَةٌ، بَعْدَهَا أَلِفٌ، بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الصَّادَ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمُجَاهِدٌ: صَاعَ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، فَالْأَلِفُ فِيهَا بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ. وَقَرَأَ

أَبُو رَجَاءٍ: صَوْعَ عَلَى وَزْنِ قَوْسٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنِ بْنِ أبي أرطيان: صُوَعَ بِضَمِّ الصَّادِ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ فِي الصَّاعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُمَا صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: صُوَاغَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى وَزْنِ غُرَابٍ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْذِفُ الْأَلِفَ وَيُسَكِّنُ الْوَاوَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: صَوْغَ مَصْدَرُ صَاغٍ، وصواغ صوغ مُشْتَقَّانِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صَاغَ يَصُوغُ، أُقِيمَا مَقَامَ الْمَفْعُولِ بِمَعْنَى مَصُوغِ الْمَلِكِ. وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ أَيْ: وَلِمَنْ دَلَّ عَلَى سَارِقِهِ وفضحه، وهذا جعل وأنا به زَعِيمٌ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَذِّنِ. وَأَنَا بِحَمْلِ الْبَعِيرِ كَفِيلٌ أؤديه إلى من جَاءَ بِهِ، وَأَرَادَ بِهِ وَسَقَ بَعِيرٍ مِنْ طَعَامٍ جَعْلًا لِمَنْ حَصَّلَهُ. قَالُوا: تَاللَّهِ أَقْسَمُوا بِالتَّاءِ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ فِيهَا التَّعَجُّبُ غَالِبًا كَأَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ رَمْيِهِمْ بِهَذَا الْأَمْرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ رَدُّوا الْبِضَاعَةَ الَّتِي وَجَدُوهَا فِي الطَّعَامِ وَتَحَرَّجُوا مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ بِلَا ثَمَنٍ، وَكَانُوا قَدِ اشْتُهِرُوا بِمِصْرَ بِصَلَاحٍ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْأَكَمَةَ فِي أَفْوَاهِ إِبِلِهِمْ لِئَلَّا تَنَالَ زُرُوعَ النَّاسِ، فَأَقْسَمُوا عَلَى إِثْبَاتِ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَجِيئَنَا لَمْ يَكُنْ لِفَسَادٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْيِ صِفَةِ السَّرِقَةِ عَنْهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ قَطُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ الْقَسَمِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّاءُ فِي تَاللَّهِ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي تُرَاثٍ، وَفِي التَّوْرَاةِ، وَالتُّخْمَةِ، وَلَا تَدْخُلُ التَّاءُ فِي الْقَسَمِ إِلَّا فِي الْمَكْتُوبَةِ مِنْ بَيْنِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَقُولُ: تَالرَّحْمَنِ، وَلَا تَالرَّحِيمِ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالتَّاءُ فِي تَاللَّهِ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ. وَخَالَفَهُمُ السُّهَيْلِيُّ فَزَعَمَ أَنَّهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي التَّوْرَاةِ فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ إِذْ زَعَمُوا أنّ الأصل ورواة مِنْ وَرَى الزَّنْدِ. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّاءَ زَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَدْخُلُ إِلَى آخِرِهِ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ دُخُولَهَا عَلَى الرَّبِّ، وَعَلَى الرَّحْمَنِ، وَعَلَى حَيَاتِكَ، قَالُوا: تَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَتَالرَّحْمَنِ، وَتَحِيَّاتِكَ. وَالْخِطَابُ فِي لَقَدْ عَلِمْتُمْ لِطَالِبِي الصُّوَاعِ، وَالضَّمِيرُ فِي جَزَاؤُهُ عَائِدٌ عَلَى السَّارِقِ. فَمَا جَزَاءُ السَّارِقِ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِكُمْ: وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ لَهُ؟ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا جَزَاؤُهُ الضَّمِيرُ لِلصُّوَاعِ أَيْ: فَمَا جَزَاءُ سَرِقَتِهِ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ فِي جُحُودِكُمْ وَادِّعَائِكُمُ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: هُوَ الظَّاهِرُ لِاتِّحَادِ الضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ إِذْ ذَاكَ قَالَ: جَزَاءُ الصَّاعِ، أَيْ: سَرِقَتُهُ مَنْ وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ. وَقَوْلُهُمْ: جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، كَلَامُ مَنْ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُمْ بُرَآءُ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَلِاعْتِقَادِهِمُ الْبَرَاءَةَ عَلَّقُوا الْحُكْمَ عَلَى وِجْدَانِ الصَّاعِ لَا عَلَى سَرِقَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ

يَقُولُونَ: لَا يُمْكِنُ أَنْ نسرق، ألا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ الصَّاعُ فِي رِحَالِنَا. وَكَانَ فِي دِينِ يَعْقُوبَ اسْتِعْبَادُ السَّارِقِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُنَّةٌ، وَكَانَ فِي دِينِ مِصْرَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُضَعَّفَ عَلَيْهِ الْغُرْمُ، وَلِذَلِكَ أَجَابُوا عَلَى شَرِيعَتِهِمْ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ هَذَا الْكَلَامِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جزاؤه مبتدأ، ومن شَرْطِيَّةً أَوْ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً ثَانٍ، فَهُوَ جَزَاؤُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرٌ مَا الْمَوْصُولَةِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ وُجِدَ إِلَى آخِرِهِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَالُوا: جَزَاؤُهُ لِلسَّارِقِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِخُلُوِّ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرَ جَزَاؤُهُ مِنْ رَابِطٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى قَالُوا: جَزَاءُ سَرِقَتِهِ، وَيَكُونُ جَزَاؤُهُ مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كَمَا هِيَ خَبَرُهُ عَلَى إِقَامَةِ الظَّاهِرِ فِيهَا مَقَامُ الْمُضْمَرِ. وَالْأَصْلُ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، فَهُوَ هُوَ. فَمَوْضِعُ الْجَزَاءِ مَوْضِعُ هُوَ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: مَنْ أَخُو زَيْدٍ؟ فَتَقُولُ: أَخُوهُ مَنْ يَقْعُدُ إِلَى جَنْبِهِ، فَهُوَ هُوَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ إِلَى مَنْ، وَالثَّانِي إِلَى الْأَخِ. ثُمَّ تَقُولُ: فَهُوَ أَخُوهُ مُقِيمًا لِلْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلرَّبْطِ إِنَّمَا هُوَ فَصِيحٌ فِي مَوَاضِعِ التَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَغَيْرُ فَصِيحٍ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ نَحْوَ: زَيْدٌ قَامَ زَيْدٌ. وَيُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَوْ قُلْتَ كَانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا زَيْدٌ، لَمْ يَكُنْ ضِدَّ الْكَلَامِ، وَكَانَ هَاهُنَا ضَعِيفًا، وَلَمْ يَكُنْ كَقَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا هُوَ، لِأَنَّكَ قَدِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْ إِظْهَارِهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تضمره. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ خبر مبتدأ محذوف أي الْمَسْئُولُ عَنْهُ جَزَاؤُهُ ثُمَّ أَفْتُوا بِقَوْلِهِمْ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَمَا تَقُولُ: مَنْ يَسْتَفْتِي فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ، ثُمَّ تَقُولُ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «1» قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَهُوَ مُتَكَلِّفٌ، إِذْ تَصِيرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: الْمَسْئُولُ عَنْهُ جَزَاؤُهُ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا جَزَاؤُهُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ جَزَاءُ سَرِقَتِهِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نُطْقِهِمْ بِذَلِكَ؟ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمِثَالُ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ مِنْ قَوْلِ الْمُسْتَفْتِي. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ مُبْتَدَأً أَيْ: جَزَاءُ سَرِقَةِ الصَّاعِ، وَالْخَبَرُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أَيْ: أُخِذَ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ. وَقَوْلُهُمْ: فَهُوَ جَزَاؤُهُ، تَقْرِيرٌ لِحُكْمٍ أَيْ: فَأَخْذُ السَّارِقِ نَفْسِهِ هُوَ جَزَاؤُهُ لَا غَيْرَ كَقَوْلِكَ: حَقُّ زَيْدٍ أَنْ يُكْسَى وَيُطْعَمَ وَيُنْعَمَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَزَاؤُهُ، أَوْ فَهُوَ حَقُّهُ، لِتُقَرِّرَ مَا ذَكَرْتُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ الْوَاحِدَ قَوْلَيْنِ قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَبَرًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى جَزَاءُ السَّارِقِ من وجد

_ (1) سورة المائدة: 5/ 95.

فِي رَحْلِهِ عَائِدٌ عَلَى مَنْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَهُوَ جَزَاؤُهُ، زِيَادَةَ بَيَانٍ وَتَأْكِيدٍ. ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ جَزَاؤُهُ اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ جَزَاؤُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي قَبْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ أَبْرَزَ الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ فِي قَوْلِهِ: اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ، لِأَنَّ الذَّاتَ لَا تَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْمَصْدَرِ، فَالتَّقْدِيرُ فِي الْقَوْلِ قَبْلَهُ جَزَاؤُهُ أخذ من وجد في رَحْلِهِ، أَوِ اسْتِرْقَاقُ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَأَبْعَدِهَا مِنَ التَّكَلُّفِ. كَذَلِكَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الِاسْتِرْقَاقُ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أَهْلِ السَّرِقَةِ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ قِيلَ: قَالَ لَهُمْ مَنْ وُكِّلَ بِهِمْ: لَا بُدَّ مِنْ تَفْتِيشِ أَوْعِيَتِكُمْ، فَانْصَرَفَ بِهِمْ إِلَى يُوسُفَ، فَبَدَأَ بِتَفْتِيشِ أَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ بِنْيَامِينَ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ، وَتَمْكِينِ الْحِيلَةِ، وَإِبْقَاءِ ظُهُورِهَا حَتَّى بَلَغَ وِعَاءَهُ، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ هَذَا أَخَذَ شَيْئًا فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا تَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْظُرَ فِي رَحْلِهِ، فَإِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِكَ وَأَنْفُسِنَا، فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِنْ وُعَاءِ بِضَمِّ الْوَاوِ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ إِعَاءِ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ هَمْزَةً كَمَا قَالُوا: إِشَاحٌ وَإِسَادَةٌ فِي وِشَاحٍ وَوِسَادَةٍ، وَذَلِكَ مُطَّرَدٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، يُبَدِّلُونَ مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ الْوَاقِعَةِ أَوَّلًا هَمْزَةً، وَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا عَلَى مَعْنَى السِّقَايَةِ، أَوْ لِكَوْنِ الصُّوَاعِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُؤَنَّثُ الصُّوَاعُ مِنْ حَيْثُ سُمِّيَ سِقَايَةً، وَيُذَكَّرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَاعٌ، وَكَأَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ لَمْ يَحْفَظْ تَأْنِيثَ الصُّوَاعِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا عَائِدٌ عَلَى السَّرِقَةِ، كَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْكَيْدِ الْعَظِيمِ كِدْنَا لِيُوسُفَ يَعْنِي: عَلَّمْنَاهُ إِيَّاهُ، وَأَوْحَيْنَا بِهِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: كِدْنَا صَنَعْنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَيْدَ إِلَى ضَمِيرِهِ، لَمَّا أَخْرَجَ الْقَدْرَ الَّذِي أَبَاحَ لِيُوسُفَ أَخَذَ أَخِيهِ مَخْرَجَ مَا هُوَ فِي اعْتِيَادِ النَّاسِ كَيْدٌ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي دِينِ الْمَلِكِ بِسُلْطَانِهِ، وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تَفْسِيرٌ لِلْكَيْدِ وَبَيَانٌ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ، وَمَا كَانَ يَحْكُمُ بِهِ فِي السَّارِقِ أَنْ يَغْرَمَ مِثْلَيْ مَا أَخَذَ إِلَّا أَنْ يُلْزَمَ وَيُسْتَعْبَدَ. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِذْنِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالِاسْتِثْنَاءُ حِكَايَةٌ حَالَ

التَّقْدِيرِ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ مَا وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَخَذَهُ فِي دِينٍ غَيْرِ الْمَلِكِ، وَهُوَ دِينُ آلِ يَعْقُوبَ: أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ جَزَاءُ السَّارِقِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: نَرْفَعُ بِنُونٍ دَرَجَاتٍ مُنَوَّنًا مَنْ نَشَاءُ بِالنُّونِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَضَافُوا دَرَجَاتٍ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالْيَاءِ فِي يَرْفَعُ، وَيَشَاءُ أَيْ: يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ رَفْعَ دَرَجَاتِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى الْبَصْرَةِ: نَرْفَعُ بِالنُّونِ دَرَجَاتٍ مُنَوَّنًا مَنْ يَشَاءُ بِالْيَاءِ. قَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ مَرْغُوبٌ عَنْهَا تِلَاوَةً وَجُمْلَةً، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِنْكَارُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَرْفَعُ عَلَى ضَمِيرِ الْمُعَظِّمِ وَكَذَلِكَ نَشَاءُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَيَعْقُوبُ: بِالْيَاءِ أَيْ: اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. وَمَعْنَاهُ فِي الْعِلْمِ كَمَا رَفَعْنَا دَرَجَةَ يُوسُفَ فِيهِ. وعليم صِفَةُ مُبَالَغَةٍ. وَقَوْلُهُ: ذِي عِلْمٍ أَيْ: عَالِمٍ. فَالْمَعْنَى أَنَّ فَوْقَهُ أَرْفَعَ مِنْهُ دَرَجَةً فِي عِلْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وابن عباس. وعنه أَنَّ الْعَلِيمَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قِيلَ: رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ عَجِيبٍ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ رَجُلٌ مِمَّنْ حَضَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، إِنَّمَا الْعَلِيمُ اللَّهُ، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عَالِمٍ، فَخَرَجَتْ عَلَى زِيَادَةِ ذِي، أَوْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَالِمٌ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى عِلْمٍ كَالْبَاطِلِ، أَوْ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي شَخْصٍ عَالِمٌ. رُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَوْا إِخْرَاجَ الصُّوَاعِ مِنْ رَحْلِ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ قالوا: يا بنيامين ابن رَاحِيلَ قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَلَدَتْ أُمُّكَ أَخَوَيْنِ لِصَّيْنِ، كَيْفَ سَرَقْتَ هَذِهِ السِّقَايَةَ؟ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ، فَقَالُوا: فَمَنْ وَضَعَهَا فِي رَحْلِكَ؟ قَالَ: الَّذِي وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: رُمُوا بِالسَّرِقَةِ تَوْرِيَةً عَمَّا جَرَى مَجْرَى السَّرِقَةِ مِنْ فِعْلِهِمْ بِيُوسُفَ. وَإِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ، فَرْضٌ لِانْتِفَاءِ بَرَاءَتِهِمْ، وَفَرْضُ التَّكْذِيبِ لَا يَكُونُ تَكْذِيبًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِالتَّسْرِيقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ «1» وَالْكَيْدُ حُكْمُ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَصَالِحَ وَمَنَافِعَ دِينِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَيَتَخَلَّصُ مِنْ جِلْدِهَا وَلَا يَحْنَثُ. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هِيَ أُخْتِي لِتَسْلَمَ مِنْ يَدِ الْكَافِرِ. وَعَلِمَ اللَّهُ فِي هَذِهِ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 17.

الْحِيلَةِ الَّتِي لَقَّنَهَا لِيُوسُفَ مَصَالِحَ عَظِيمَةً، فَجَعَلَهَا سَلَمًا وَذَرِيعَةً إِلَيْهَا، فَكَانَتْ حَسَنَةً جَمِيلَةً انْتَهَى. وَقَوْلُهُمْ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُ سَرَقَ، بَلْ أَخْرَجُوا ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ أَيْ: إِنْ كَانَ وَقَعَتْ مِنْهُ سَرِقَةٌ فَهُوَ يَتَأَسَّى مِمَّنْ سَرَقَ قَبْلَهُ، فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالتَّعْلِيقُ عَلَى الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ فِي حَقِّ بِنْيَامِينَ وَأَخِيهِ لَيْسَ مَجْزُومًا بِهَا، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي رُمِيَ بِهِ بِنْيَامِينُ حَقًّا، فَالَّذِي رُمِيَ بِهِ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ حَقٌّ، لَكِنَّهُ قَوِيَ الظَّنُّ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ يُوسُفَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ جَرَى مِنْ بِنْيَامِينَ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ. وَقِيلَ: حَقَّقُوا السَّرِقَةَ فِي جَانِبِ بِنْيَامِينَ وَأَخِيهِ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ قَدْ سَرَقَ فَغَيْرَ بِدْعٍ مِنِ ابْنَيْ رَاحِيلَ، لِأَنَّ أَخَاهُ يُوسُفَ قَدْ كَانَ سَرَقَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُمْ إِنْحَاءً عَلَى يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَقَدْ قِيلَ عَنْ يُوسُفَ إِنَّهُ سَرَقَ، وَقَوْلُهُمْ هَذَا هُوَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَالْإِخْبَارِ بِأَمْرٍ جَرَى لِتَزُولَ الْمَعَرَّةُ عَنْهُمْ، وَتَخْتَصَّ بِالشَّقِيقَيْنِ. وَتَنْكِيرُ أَخٍ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، لِأَنَّ الْحَاضِرِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَقَالُوا لَهُ: لِأَنَّهُ كَانَ شَقِيقَهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ الَّتِي نُسِبَتْ هِيَ أَنَّ عَمَّتَهُ رَبَّتْهُ وَشَبَّ، وَأَرَادَ يَعْقُوبُ أَخْذَهُ، فَأَشْفَقَتْ مِنْ فِرَاقِهِ فَأَخَذَتْ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ، وَكَانَتْ مُتَوَارَثَةً عِنْدَهُمْ، فَنَطَقَتْهُ بِهَا مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ ثُمَّ صَاحَتْ وَقَالَتْ: فَقَدْتُ الْمِنْطَقَةَ فَفَتَّشَتْ فَوُجِدَتْ عِنْدَ يُوسُفَ، فَاسْتَرَقَّتْهُ حَسْبَمَا كَانَ فِي شَرْعِهِمْ وَبَقِيَ عِنْدَهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَصَارَ عِنْدَ أَبِيهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَمَرَتْ أُمُّهُ أَنْ يَسْرِقَ صَنَمًا. وَفِي كِتَابِ الزَّجَّاجِ: مِنْ ذَهَبٍ لِأَبِيهَا فَسَرَقَهُ وَكَسَرَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا تَغْيِيرًا لِلْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ: إِنَّمَا أَكَلَ بَنُو يَعْقُوبَ طَعَامًا، فَأَخَذَ يُوسُفُ عَرْقًا فَنَحَّاهُ. وَقِيلَ: كَانَ فِي الْبَيْتِ غَاقٌ أَوْ دَجَاجَةٌ، فَأَعْطَاهَا السَّائِلَ. وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ، وَابْنُ أَبِي شُرَيْحٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرُهُمْ: فَقَدْ سُرِّقَ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا للفعول بِمَعْنَى نُسِبَ إِلَى السَّرِقَةِ، بِمَعْنَى جُعِلَ سَارِقًا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ حَقِيقَةً. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَسَرَّهَا يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَيْ: الْحَزَازَةُ الَّتِي حَدَثَتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ كَمَا فَسَّرَهُ فِي قَوْلِ حَاتِمٍ: لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ نَفْسٌ وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ وَقِيلَ: أَسَرَّ الْمُجَازَاةَ، وَقِيلَ: الْحُجَّةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اخْتَارَ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ تَفْسِيرَهُ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا جُمْلَةٌ أَوْ كَلِمَةٌ عَلَى تَسْمِيَتِهِمُ الطَّائِفَةَ مِنَ الْكَلَامِ كَلِمَةً، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَسَرَّ الْجُمْلَةَ أَوِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ،

وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَأَسَرَّهُ بِضَمِيرِ تَذْكِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ الْقَوْلَ أَوِ الْكَلَامَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، خِطَابُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ، فَكَأَنَّهُ أَسَرَّ كَرَاهِيَةَ مَقَالَتِهِمْ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْذِيبِهِمْ وَتَقْوِيَةٌ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَنْ يَشْفَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى الشَّفَاعَةِ بِأَبِيهِ الشَّيْخِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ هَذَا الْكَلَامَ لَهُمْ مُوَاجَهَةً، إِنَّمَا قَالَهُ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: الَّذِي أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ الْمُتَقَدِّمُ. وَمَعْنَى شَرٌّ مَكَانًا أَيْ منزلة في السرق، لِأَنَّكُمْ سَارِقُونَ بِالصِّحَّةِ لِسَرِقَتِكُمْ أَخَاكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ. وَمَعْنَى أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ يَعْنِي: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ مِنْكُمْ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَكَيْفَ كَانَتْ سَرِقَةُ أَخِيهِ الَّتِي أَحَلْتُمْ سَرِقَتَهُ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ أَنْ رُوبِيلَ غَضِبَ وَوَقَفَ شَعْرُهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ ثِيَابِهِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ ابْنًا لَهُ يَمَسُّهُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَقَالَ رُوبِيلُ: لَقَدْ مَسَّنِي أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ أَنَّهُمْ تَشَاوَرُوا فِي مُحَارَبَةِ يُوسُفَ وَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ لَا يُدَانُونَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَحَسَّ يُوسُفَ بِذَلِكَ قَامَ إِلَى رُوبِيلَ فَلَبَّبَهُ وَصَرَعَهُ، فَرَأَوْا مِنْ قُوَّتِهِ مَا اسْتَعْظَمُوهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ. قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ: اسْتَعْطَفُوا يُوسُفَ إِذْ كَانَ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ. وَمَعْنَى كَبِيرًا فِي السِّنِّ، أَوِ الْقَدْرِ. وَكَانُوا قَدْ أَعْلَمُوا يُوسُفَ بِأَنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنٌ قَدْ هَلَكَ، وَهَذَا شَقِيقُهُ يَسْتَأْنِسُ بِهِ، وَخَاطَبُوهُ بِالْعَزِيزِ إِذْ كَانَ فِي تِلْكَ الْخُطَّةِ بِعَزْلِ قِطْفِيرَ، أَوْ مَوْتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَمَعْنَى مَكَانَهُ أَيْ: بَدَلَهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِرْهَانِ أَوِ الِاسْتِعْبَادِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: يُحْتَمَلُ قَوْلُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ حُرٍّ بِسَارِقٍ بَدَلَ مَنْ قَدْ أَحْكَمَتِ السُّنَّةُ رِقَّهُ، وَإِنَّمَا هَذَا كَمَنَ يَقُولُ لِمَنْ يُكْرَهُ فِعْلُهُ: اقْتُلْنِي وَلَا تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ وَلَكِنَّكَ تُبَالِغُ فِي اسْتِنْزَالِهِ، وَعَلَى هَذَا يَتَّجِهُ قَوْلُ يُوسُفَ: مَعَاذَ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَوَّذَ مِنْ غَيْرِ جَائِزٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حَقِيقَةً، وَبَعِيدٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ أَنْ يُرِيدُوا اسْتِرْقَاقَ حُرٍّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ طَرِيقَ الْجَمَّالَةِ، أَيْ: خُذْ أَحَدَنَا حَتَّى يَنْصَرِفَ إِلَيْكَ صَاحِبُكَ. وَمَقْصِدُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَصِلَ بِنْيَامِينُ إِلَى أَبِيهِ وَيَعْرِفَ يَعْقُوبُ جَلِيَّةَ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَصَفُوهُ بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ إِحْسَانِهِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، أَوْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْيَدِ إِنْ أَسْدَيْتَهَا إِلَيْنَا، وَهَذَا تأويل ابن إسحاق ومعاذ اللَّهِ تَقَدَّمَ الْكَلَامِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي، وَالْمَعْنَى: وَجَبَ عَلَى قَضِيَّةِ فَتْوَاكُمْ أَخْذُ مَنْ وُجِدَ الصُّوَاعُ فِي رَحْلِهِ وَاسْتِعْبَادُهُ. فَلَوْ أَخَذْنَا غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا فِي مَذْهَبِكُمْ، فَلِمَ تَطْلُبُونَ مَا

عَرَفْتُمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ، وَبَاطِنُهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي وَأَوْحَى إِلَيَّ بِأَخْذِ بِنْيَامِينَ وَاحْتِبَاسِهِ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ مَصَالِحَ جَمَّةٍ عَلِمَهَا فِي ذَلِكَ. فَلَوْ أَخَذْتَ غَيْرَ مَنْ أَمَرَنِي بِأَخْذِهِ كُنْتُ ظَالِمًا وَعَامِلًا عَلَى خِلَافِ الْوَحْيِ. وَأَنْ نَأْخُذَ تَقْدِيرُهُ: مِنْ أَنْ نأخذ، وإذن جَوَابٌ وَجَزَاءٌ أَيْ: إِنْ أَخَذْنَا بَدَلَهُ ظَلَمْنَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَيْأَسَهُمْ مِنْ حَمْلِهِ مَعَهُمْ: إِذَا أتيتم أباكم فاقرؤوا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقُولُوا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ مِصْرَ يَدْعُو لَكَ أَنْ لَا تَمُوتَ حَتَّى تَرَى وَلَدَكَ يُوسُفَ، لِيَعْلَمَ أَنَّ فِي أَرْضِ مِصْرَ صِدِّيقِينَ مِثْلَهُ. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ. قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ: اسْتَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، يَئِسَ وَاسْتَيْأَسَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ نَحْوَ: سَخِرَ وَاسْتَسْخَرَ، وَعَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ زِيَادَةَ السِّينِ وَالتَّاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ قَالَ: نَحْوَ مَا مَرَّ فِي اسْتَعْصَمَ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: اسْتَيْأَسُوا اسْتَفْعَلُوا، مِنْ أَيِسَ مَقْلُوبًا مِنْ يَئِسَ، وَدَلِيلُ الْقَلْبِ كَوْنُ يَاءِ أَيِسَ لَمْ تَنْقَلِبَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَمَعْنَى خَلَصُوا نَجِيًّا: انْفَرَدُوا مِنْ غَيْرِهِمْ يُنَاجِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَالنَّجِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، كَالْخَلِيطِ وَالْعَشِيرِ. وَمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّنَاجِي كَمَا قِيلَ: النَّجْوَى بِمَعْنَى التَّنَاجِي، وَهُوَ لَفْظٌ يُوصَفُ بِهِ مَنْ لَهُ نَجْوًى وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً، مُؤَنَّثًا أَوْ مُذَكَّرًا، فَهُوَ كَعَدْلٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَنْجِيَةٍ قَالَ لَبِيَدٌ: وَشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الْأَفَاقَةِ عَالِيًا ... كَعْبِي وَأَرْدَافُ الْمُلُوكِ شُهُودُ وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي إِذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ وَيَقُولُ: قَوْمٌ نَجِيٌّ وَهُمْ نَجْوَى تَنْزِيلًا لِلْمَصْدَرِ مَنْزِلَةَ الْأَوْصَافِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمْ نَجِيٌّ مِنْ بَابِ هُمْ صَدِيقٌ، لِأَنَّهُ بِزِنَةِ الْمَصَادِرِ مَحْصُوًّا لِلتَّنَاجِي، يَنْظُرُونَ مَاذَا يَقُولُونَ لِأَبِيهِمْ فِي شَأْنِ أَخِيهِمْ لِهَذَا الَّذِي دَهَمَهُمْ مِنَ الْخَطْبِ فِيهِ، فاحتاجوا إلى التشاور. وكبيرهم أَيْ: رَأْيًا وَتَدْبِيرًا وَعِلْمًا، وَهُوَ شَمْعُونُ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. أَوْ كَبِيرُهُمْ فِي السِّنِّ وَهُوَ رُوبِيلُ قَالَهُ:

قَتَادَةُ. وَقِيلَ: فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَهُوَ يَهُوذَا. ذَكَّرَهُمُ الْمِيثَاقَ فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يحاط بكم، وما زَائِدَةٌ أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ هَذَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ. ومن قبل متعلق بفرطتم، وَقَدْ جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ: وَمِنْ قَبْلُ تَفْرِيطُكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْمَصْدَرِ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ، وَهُوَ وَمِنْ قَبْلُ وَمَعْنَاهُ: وَوَقَعَ مِنْ قَبْلُ تَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ قبل، متعلقا بما فَرَّطْتُمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مَصْدَرِيَّةً، التَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلُ تَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ وَاقِعٌ وَمُسْتَقِرٌّ. وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ انْتَهَى. وَهَذَا وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ: إِنَّ مَا فَرَّطْتُمْ يُقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ بِالِابْتِدَاءِ، ومن قَبْلُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَذَهْلًا عَنْ قَاعِدَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَحَقَّ لَهُمَا أَنْ يَذْهَلَا وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ الَّتِي هِيَ غَايَاتٌ إِذَا ثَبَتَتْ لَا تَقَعُ أَخْبَارًا لِلْمُبْتَدَأِ جُرَّتْ أَوْ لَمْ تُجَرَّ، تَقُولُ: يَوْمُ السَّبْتِ مُبَارَكٌ وَالسَّفَرُ بَعْدَهُ، وَلَا يجوز والسفر بعد وعمرو زيد خلفه. ولا يقال: عمرو زيد خَلْفُ. وَعَلَى مَا ذَكَرَاهُ يكون تفريطكم مبتدأ، ومن قَبْلُ خَبَرٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَلِهَذَا ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مَرْفُوعٌ بالابتداء، وفي يُوسُفَ هُوَ الْخَبَرُ أَيْ: كَائِنٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ فِي يُوسُفَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي يُوسُفَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: فَرَّطْتُمْ، لَا أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالْمَصْدَرُ الْمَسْبُوكُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَخْذَ أَبِيكُمْ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنْ قَبْلُ وَتَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَفْرِيطُكُمْ مِنْ قَبْلُ فِي يُوسُفَ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ، فَصَارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَبِسَيْفِ عَمْرًا. وَقَدْ زَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَتَفْرِيطُكُمْ مِنْ قَبْلُ فِي يُوسُفَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ انْتَهَى. يَعْنِي بِالرَّفْعِ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ ومن قَبْلُ الْخَبَرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَيَعْنِي بِالنَّصْبِ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ، وَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ، وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ. وَأَحْسَنُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ مَا بَدَأْنَا بِهِ مِنْ كَوْنِ مَا زَائِدَةً، وَبَرِحَ التَّامَّةُ تَكُونُ بِمَعْنَى ذَهَبَ وَبِمَعْنَى ظَهَرَ، وَمِنْهُ بَرِحَ الْخَفَاءُ أَيْ ظَهَرَ. وَذَهَبَ لَا يَنْتَصِبُ الظَّرْفُ الْمَكَانِيُّ الْمُخْتَصُّ بِهَا، إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَسَاطَةٍ فِي

فَاحْتِيجَ إِلَى اعْتِقَادِ تَضْمِينِ بَرِحَ بِمَعْنَى فَارَقَ، فَانْتَصَبَ الْأَرْضُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مِنِ اسْمِهَا، وَالْأَرْضُ الْمَنْصُوبُ عَلَى الظَّرْفِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَّا بِحَرْفِ فِي. لَوْ قُلْتَ: زَيْدُ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ، وَعُنِيَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي فِيهَا الْوَاقِعَةُ، ثُمَّ غَيَّا ذَلِكَ بِغَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: خَاصَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي، يَعْنِي فِي الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ: عَامَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي، لِأَنَّ إِذْنَ اللَّهِ لَهُ هُوَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ لَهُ فِي مُفَارَقَةِ أَرْضِ مِصْرَ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْغَايَةِ الْخَاصَّةِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَأَتَى بِغَايَةٍ عَامَّةٍ تَفْوِيضًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُجُوعًا إِلَى مَنْ لَهُ الْحُكْمُ حَقِيقَةً، وَمَقْصُودُهُ التَّضْيِيقُ عَلَى نَفْسِهِ، كَأَنَّهُ سَجَنَهَا فِي الْقُطْرِ الَّذِي أَدَّاهُ إِلَى سُخْطِ أَبِيهِ إِبْلَاءً لِعُذْرِهِ. وَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعُذْرِ كَالْمَوْتِ، وَخَلَاصِ أَخِيهِ، أَوِ انْتِصَافِهِ مِنْ أَخْذِ أَخِيهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بِالسَّيْفِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. والظاهر أن أو يَحَكُمَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَأْذَنَ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ أَوْ فِي جَوَابِ النَّفْيِ، وَهُوَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أَيْ: إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي، كَقَوْلِكَ: لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِينِي حَقِّي، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَقْضِيَنِي، وَمَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ. رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى يَعْقُوبَ أَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ فَبَكَى وَقَالَ: يَا بَنِيَّ مَا تَذْهَبُونَ عَنِّي مَرَّةً إِلَّا نَقَصْتُمْ، ذَهَبْتُمْ فَنَقَصَتُمْ شَمْعُونَ حَيْثُ ارْتُهِنَ، ثُمَّ ذَهَبْتُمْ فَنَقَصْتُمْ بِنْيَامِينَ وَرُوبِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالرُّجُوعِ هُوَ مِنْ قَوْلِ كَبِيرِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَرَقَ ثُلَاثِيًّا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، إِخْبَارًا بِظَاهِرِ الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ سُرِّقَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لَمْ يَقْطَعُوا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ بَلْ ذَكَرُوا أَنَّهُ نُسِبَ إِلَى السَّرِقَةِ. وَيَكُونُ مَعْنَى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا مِنَ التَّسْرِيقِ. وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ أَيْ: لِلْأَمْرِ الْخَفِيِّ حَافِظِينَ، أَسَرَقَ بِالصِّحَّةِ أَمْ دُسَّ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ؟ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سَارِقٌ اسْمُ فَاعِلٍ، وَعَلَى قِرَاءَةِ سُرِّقَ وسارق اخْتَلَفَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَا عَلِمْنَا مِنْ سَرِقَتِهِ، وَتَيَقَّنَّا لِأَنَّ الصُّوَاعَ أُخْرِجَ مِنْ وِعَائِهِ، وَلَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ، وَقَوْلُنَا لَكَ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ إِنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ عِنْدَكَ بِمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ مَا جَرَى، وَالْعِلْمُ فِي الْغَيْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ ذَلِكَ فِي حِفْظِنَا، هَذَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادُوا وَمَا شَهِدْنَا بِهِ عِنْدَ يُوسُفَ أَنَّ السَّارِقَ يَسْتَرِقُّ فِي شَرْعِكَ، إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ أَنَّ السَّرِقَةَ تَخْرُجُ مِنْ رَحْلِ أَحَدِنَا، بَلْ حَسِبْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ، فَشَهِدْنَا عِنْدَهُ حِينَ سَأَلَنَا بِعِلْمِنَا. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ

أَيْ: حِينَ وَاثَقْنَاكَ، إِنَّمَا قَصَدْنَا أَنْ لَا يَقَعَ مِنَّا نَحْنُ فِي جِهَتِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَلَمْ نَعْلَمِ الْغَيْبَ فِي أَنَّهُ سَيَأْتِي هُوَ بِمَا يُوجِبُ رِقَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ، وَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يُسْتَرَقُّ حِينَ أَعْطَيْنَاكَ الْمَوْثِقَ، أَوْ رُبَّمَا عَلِمْنَا أَنَّكَ تُصَابُ كَمَا أُصِبْتَ بيوسف. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ: لِلْغَيْبِ، لِلَّيْلِ وَالْغَيْبُ اللَّيْلُ بِلُغَةِ حِمْيَرٍ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا شَهِدْنَا إلا بما علمنا من ظَاهِرِ حَالِهِ، وَمَا كُنَّا بِاللَّيْلِ حَافِظِينَ لِمَا يَقَعُ مِنْ سَرِقَتِهِ هُوَ، أَوِ التَّدْلِيسِ عَلَيْهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: رَجَعُوا إِلَى أبيهم وأخبروه بِالْقِصَّةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: ارْجِعُوا ثُمَّ اسْتَشْهَدُوا بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا وَهِيَ مِصْرَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ: أَرْسِلْ إِلَى الْقَرْيَةِ وَاسْأَلْ عَنْ كُنْهِ الْقِصَّةِ. وَالْعِيرُ كَانُوا قَوْمًا مِنْ كَنْعَانَ مِنْ جِرَانِ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ أَهْلٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَسَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ، إِلَّا أَنْ أُرِيدَ بِالْعِيرِ الْقَافِلَةُ، فَلَا إِضْمَارَ فِي قَوْلِهِ وَالْعِيرَ. وَأَحَالُوا فِي تَوْضِيحِ الْقِصَّةِ عَلَى نَاسٍ حَاضِرِينَ الْحَالَ فَيَشْهَدُونَ بِمَا سَمِعُوا، وَعَلَى نَاسٍ غُيَّبٍ يُرْسَلُ إِلَيْهِمْ فَيَسْأَلُونَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ أَحَالُوهُ عَلَى سُؤَالِ الْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ حَقِيقَةً، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحَقِيقَةِ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَجَازٌ. وَحَكَى أَبُو الْمَعَالِي عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مِنَ الْحَذْفِ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ قَالَ: وَإِنَّمَا الْمَجَازُ لَفْظَةٌ اسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِ مَا هِيَ لَهُ قَالَ: وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ عين المجاز، وعظمه هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ. وَحَكَى أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْ نَحْوُ هَذَا انْتَهَى. وَفِي الْمَحْصُولِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، وَفِي مُخْتَصَرَاتِهِ أَنَّ الْإِضْمَارَ وَالْمَجَازَ مُتَبَايِنَانِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا قِسْمًا من الآخر. وبل لِلْإِضْرَابِ، فَيَقْتَضِي كَلَامًا مَحْذُوفًا قَبْلَهَا حَتَّى يَصِحَّ الْإِضْرَابُ فِيهَا وَتَقْدِيرُهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ حَقِيقَةً كَمَا أَخْبَرْتُمْ، بَلْ سَوَّلَتْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا، إِنَّمَا هُوَ ظَنُّ سُوءٍ بِهِمْ كَمَا كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ قَبْلُ، فَاتَّفَقَ أَنْ صَدَقَ ظَنَّهُ هُنَاكَ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا أَرَدْتُمُوهُ، وَإِلَّا فَمَا أَدْرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ أَنَّ السَّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ لَوْلَا فَتْوَاكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ سَوَّلَتْ، وَإِعْرَابُ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. ثُمَّ تَرَجَّى أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ: يُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَكَبِيرُهُمْ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ. وَتَرَجَّى يَعْقُوبُ لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ، فَكَانَ يَنْتَظِرُهَا وَيُحْسِنُ ظَنَّهُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَلِمَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْ مَلِكِ مِصْرَ أَنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِرُؤْيَةِ ابْنِهِ، وَوَصْفُهُ اللَّهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لَائِقٌ بِمَا يُؤَخِّرُهُ تَعَالَى مِنْ لِقَاءِ بَنِيهِ، وَتَسْلِيمٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. قالُوا

تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ : وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ كَرَاهَةً لما جاؤوا بِهِ، وَأَنَّهُ سَاءَ ظَنُّهُ بِهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْ قَوْلَهُمْ، وَجَعَلَ يَتَفَجَّعُ وَيَتَأَسَّفُ. قَالَ الْحَسَنُ: خُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالِاسْتِرْجَاعِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ يعقوب: يا أسفى، وَنَادَى الْأَسَفَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَلَى مَعْنَى: هَذَا زَمَانُكَ فَاحْضُرْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ قُلِبَتْ أَلِفًا، كَمَا قَالُوا: فِي يَا غُلَامِي يَا غُلَامًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى النُّدْبَةِ، وَحَذَفَ الْهَاءَ الَّتِي لِلسَّكْتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّجَانُسُ بين لفظتي الأسف ويوسف مِمَّا يَقَعُ مَطْبُوعًا غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فَيُمْلِحُ وَيُبْدِعُ، وَنَحْوُهُ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ انْتَهَى. وَيُسَمَّى هَذَا تَجْنِيسُ التَّصْرِيفِ، وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ. وَذَكَرَ يَعْقُوبُ مَا دَهَاهُ مِنْ أمر بنيامين، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يُوسُفَ، فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ؟ بِخِلَافِ إِخْوَتِهِ. وَلِأَنَّهُ كَانَ أَصْلُ الرَّزَايَا عِنْدَهُ، إِذْ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ دَائِمًا يَذْكُرُهُ وَلَا يَنْسَاهُ. وَابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ مِنْ تَوَالِي الْعَبْرَةِ، فَيَنْقَلِبُ سَوَادُ الْعَيْنِ إِلَى بَيَاضٍ كَدِرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ عَمِيَ لِقَوْلِهِ: فَارْتَدَّ بَصِيرًا. وَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ «1» فَقَابَلَ الْبَصِيرَ بِالْأَعْمَى. وَقِيلَ: كَانَ يُدْرِكُ إِدْرَاكًا ضَعِيفًا، وَعَلَّلَ الِابْيِضَاضَ بِالْحُزْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْبُكَاءِ الْمُتَوَالِي، وَهُوَ ثَمَرَةُ الْحُزْنِ، فَعَلَّلَ بِالْأَصْلِ الَّذِي نَشَأَ مِنْهُ الْبُكَاءُ وَهُوَ الْحُزْنُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مِنَ الْحَزَنِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَقَتَادَةُ: بِضَمِّهَا، وَالْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ. وَالْكَظِيمُ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِحَالِ يَعْقُوبَ أَيْ: شَدِيدُ الْكَظْمِ كَمَا قَالَ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «2» وَلَمْ يَشْكُ يَعْقُوبُ إِلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُمُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُمْسِكُ هَمَّهُ فِي صَدْرِهِ، فَكَانَ يَكْظِمُهُ أَيْ: يَرُدُّهُ إِلَى قَلْبِهِ وَلَا يُرْسِلُهُ بِالشَّكْوَى وَالْغَضَبِ وَالضَّجَرِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، وَقَالَهُ قَوْمٌ كَمَا قَالَ فِي يُونُسَ: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ «3» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مَلِيءٌ بِحُزْنِهِ، فَكَأَنَّهُ كَظَمَ حُزْنَهُ فِي صَدْرِهِ. وَفَسَّرَ نَاسٌ الْكَظِيمَ بِالْمَكْرُوبِ وَبِالْمَكْمُودِ. وَرُوِيَ: أَنَّهُ مَا جَفَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ فِرَاقِ يُوسُفَ إلى لقائه ثمانين

_ (1) سورة فاطر: 35/ 19. (2) سورة آل عمران: 3/ 134. [.....] (3) سورة القلم: 68/ 48.

عَامًا، وَأَنَّ وَجْدَهُ عَلَيْهِ وَجْدُ سَبْعِينَ ثَكْلَى، وَأَجْرَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ كَظِيمٌ، فَهُوَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَلَا يُظْهِرُ مَا يسوؤهم انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لَا ينقاس، وجواب القسم تفتؤ حُذِفَتْ مِنْهُ، لَا لِأَنَّ حَذْفَهَا جَائِزٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَزَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَفْتُرُ مِنْ حُبِّهِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ الْفُتُوءَ وَالْفُتُورَ أَخَوَيْنِ، وَالْحَرَضُ الَّذِي قَدَّرْنَا مَوْتُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا دُونَ الْمَوْتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَالِي الْهَرِمُ، وَقَالَ نَحْوَهُ: الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْفَاسِدُ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ. وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ تَفْنِيدِ الرَّأْيِ أَيْ: لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ إِلَى حَالِ الْقُرْبِ مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ إِلَى أَنْ تَهْلَكَ فَقَالَ هُوَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: لَا أَشْكُو إِلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، وَلَا غَيْرِكُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: الْبَثُّ أَشَدُّ الْحُزْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ صُعُوبَتِهِ لَا يَطِيقُ حَمْلَهُ، فَيَبُثُّهُ أَيْ يَنْشُرُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى: وَحَزَنِي بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: بِضَمَّتَيْنِ. وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ: أَعْلَمُ مِنْ صُنْعِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحُسْنِ ظَنِّي بِهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْفَرَجِ مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الرُّؤْيَا الْمُنْتَظَرَةِ، أَوْ إِلَى مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مَلِكِ مِصْرَ إِنِّي أَدْعُو لَهُ بِرُؤْيَتِهِ ابْنَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: رَأَى مَلَكَ الْمَوْتِ فِي مَنَامِهِ فَسَأَلَهُ: هَلْ قَبَضْتَ رُوحَ يُوسُفَ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَيٌّ فَاطْلُبْهُ. اذْهَبُوا: أَمْرٌ بِالذَّهَابِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي جاؤوا مِنْهَا وَتَرَكُوا بِهَا أَخَوَيْهِمْ بِنْيَامِينَ وَالْمُقِيمَ بِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَسُّسِ وَهُوَ الِاسْتِقْصَاءُ، وَالطَّلَبُ بِالْحَوَاسِّ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ والشر. وقرىء: بِالْجِيمِ، كَالَّذِي فِي الْحُجُرَاتِ: وَلا تَجَسَّسُوا «1» وَالْمَعْنَى: فَتَحَسَّسُوا نَبَأً مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا لِأَنَّ الَّذِي أَقَامَ وَقَالَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ، إِنَّمَا أَقَامَ مُخْتَارًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَيْأَسُوا، وَفِرْقَةٌ: تَأَيْسُوا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: تئسوا بكسر التاء. وروح اللَّهِ رَحْمَتُهُ، وَفَرَجُهُ، وَتَنْفِيسُهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: مِنْ رَوْحِ اللَّهِ بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا تَيْأَسُوا مِنْ حَيٍّ مَعَهُ رُوحُ اللَّهِ الَّذِي وَهَبَهُ، فَإِنَّ مَنْ بَقِيَ رُوحُهُ يُرْجَى. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَفِي غَيْرِ مَنْ قدورات الْأَرْضُ فَاطْمَعِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ: وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 12.

[سورة يوسف (12) : الآيات 88 إلى 101]

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ رَوْحِ اللَّهِ بِالضَّمِّ أَيْ مِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي تَحْيَا بِهَا الْعِبَادُ انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِ، إِذْ فِيهِ التَّكْذِيبُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، أَوِ الْجَهْلُ بصفات الله [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

الْمُزْجَاةُ: الْمَدْفُوعَةُ يَدْفَعُهَا كُلُّ تَاجِرٍ رَغْبَةً عَنْهَا وَاحْتِقَارًا مِنْ أَزْجَيْتُهُ إِذَا دَفَعْتَهُ وَطَرَدْتَهُ، وَالرِّيحُ تُزْجِي السَّحَابَ. وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ: لَبَّيْكَ عَلَى مِلْحَانِ ضَيْفٍ مُدْفَعٍ ... وَأَرْمَلَةٍ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أَرْمَلَا الْإِيثَارُ: لَفْظٌ يَعُمُّ جَمِيعَ التَّفَضُّلِ وَأَنْوَاعَ الْعَطَايَا. التَّثْرِيبُ: التَّأْنِيبُ وَالْعَتْبُ، وَعَبَّرَ بعضهم عنه بالتعيير. وَمِنْهُ «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يَثْرِبْ» أَيْ لَا يُعَيِّرْ. وَأَصْلُهُ مِنَ الثَّرْبِ وَهُوَ الشَّحْمُ الذي هو غاشية الْكِرْشِ، وَمَعْنَاهُ: إِزَالَةُ الثَّرْبِ، كَمَا أَنَّ التَّجْلِيدَ وَالتَّقْرِيعَ إِزَالَةُ الْجِلْدِ وَالْقَرَعِ، لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْهُزَالِ، فَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّقْرِيعِ الَّذِي يُمَزِّقُ الْأَعْرَاضَ، وَيُذْهِبُ بَهَاءَ الْوَجْهِ. الْفَنَدُ: الْفَسَادُ، قَالَ: أَلَا سُلَيْمَانُ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ ... قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ وَفَنَّدْتُ الرَّجُلَ أَفْسَدْتُ رَأْيَهُ وَرَدَدْتُهُ قَالَ: يَا عَاذِلَيَّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي ... فَلَيْسَ مَا قُلْتُ مِنْ أَمْرٍ بِمَرْدُودِ وَأَفْنَدَ الدَّهْرُ فُلَانًا أَفْسَدَهُ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: دَعِ الدَّهْرَ يَفْعَلُ مَا أَرَادَ فَإِنَّهُ ... إِذَا كَلَّفَ الْإِفْنَادَ بِالنَّاسِ أَفْنَدَا الْقَدِيمُ: الَّذِي مَرَّتْ عَلَيْهِ أَعْصَارٌ، وَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ. الْبَدْوِ الْبَادِيَةُ وَهِيَ خِلَافُ الْحَاضِرَةِ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَذَهَبُوا مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ وَدَخَلُوهَا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ، وَكَانَ آكَدُ مَا حَدَّثُوهُ فِيهِ شَكْوَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ قَبْلَ مَا وَصَّاهُمْ بِهِ مِنْ تَحَسُّسِ نَبَأِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. وَالضُّرُّ: الْهُزَالُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْجُوعِ، وَالْبِضَاعَةُ كَانَتْ زُيُوفًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَلِيلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: نَاقِصَةٌ. وَقِيلَ: كَانَتْ عَرُوضًا. قِيلَ: كَانَتْ صُوفًا وَسَمْنًا. وَقِيلَ: صَنَوْبَرًا وَحَبَّةَ الْخَضْرَاءِ وَهِيَ الْفُسْتُقُ قَالَهُ: أَبُو صَالِحٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقِيلَ: سَوِيقُ الْمُقْلِ وَالْأَقِطِ، وَقِيلَ: قَدِيدُ وَحْشٍ. وَقِيلَ: حِبَالًا وَأَعْدَالًا وَأَقْتَابًا، ثُمَّ الْتَمَسُوا مِنْهُ إِيفَاءَ الْكَيْلِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ. وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا أَيْ: بِالْمُسَامَحَةِ وَالْإِغْمَاضِ عَنْ رَدَاءَةِ الْبِضَاعَةِ، أَوْ زِدْنَا عَلَى حَقِّنَا، فَسَمُّوا مَا هُوَ فَضْلٌ وَزِيَادَةٌ لَا تَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ. قِيلَ: لِأَنَّ

الصَّدَقَاتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: كَانَتْ تَحِلُّ لِغَيْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا، أَرَادَ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَمَسْكَنُوا لَهُ وَطَلَبُوا أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ رَقَّ لَهُمْ وَمَلَكَتْهُ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ عَرَّفَهُمْ نَفْسَهُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ شَاهِدٌ لِذَلِكَ، لِذِكْرِ اللَّهِ وَجَزَائِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: كَانَتِ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً، وَلَكِنْ قَالُوهَا تَجَوُّزًا اسْتِعْطَافًا مِنْهُمْ لَهُ فِي الْمُبَايَعَةِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ سَاوَمْتَهُ فِي سِلْعَةٍ: هَبْنِي مِنْ ثَمَنِهَا كَذَا، فَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَهَبَكَ، وَإِنَّمَا حَسُنَتْ مَعَهُ الْأَفْعَالُ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْكَ إِلَى سَوْمِكَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا خَصُّوا بِقَوْلِهِمْ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا أَمْرَ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ أَيْ: أَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِرَدِّ أَخِينَا عَلَى أَبِيهِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ، هِيَ مِنَ الْمَعَارِيضِ الَّتِي هِيَ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مَلِكًا كَافِرًا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ. وَلَوْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ بِصَدَقَتِكَ فِي الْآخِرَةِ كُذِّبُوا، فَقَالُوا لَهُ لَفْظًا يُوهِمُ أَنَّهُمْ أَرَادُوهُ، وَهُمْ يَصِحُّ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ بِالتَّأْوِيلِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَاسْتَعْطَفُوهُ، رَقَّ لَهُمْ وَرَحِمَهُمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَارْفَضَّ دَمْعُهُ بَاكِيًا، فَشَرَعَ فِي كَشْفِ أَمْرِهِ إِلَيْهِمْ. فَيُرْوَى أَنَّهُ حَسَرَ قِنَاعَهُ وَقَالَ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ أَيْ: مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي الصِّغَرِ، وَإِذَايَةِ بِنْيَامِينَ بَعْدَ مَغِيبِ يُوسُفَ؟ وَكَانُوا يُذِلُّونَهُ وَيَشْتُمُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَسَبَهُمْ إِمَّا إِلَى جَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِمَّا إِلَى جَهْلِ السيئات وَقِلَّةِ الْحُنْكَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَتَاهُمْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَكَانَ حَلِيمًا مُوَفَّقًا، فَكَلَّمَهُمْ مُسْتَفْهِمًا عَنْ مَعْرِفَةِ وَجْهِ الْقُبْحِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَهُ التَّائِبُ فَقَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ قُبْحَ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ لَا تَعْلَمُونَ قُبْحَهُ، فَلِذَلِكَ أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ يَعْنِي: هَلْ عَلِمْتُمْ قُبْحَهُ فَتُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ؟ لِأَنَّ عِلْمَ الْقُبْحِ يَدْعُو إِلَى الِاسْتِقْبَاحِ، وَالِاسْتِقْبَاحُ يَجُرُّ التَّوْبَةَ، فَكَانَ كَلَامُهُ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَتَنَصُّحًا لَهُمْ فِي الدِّينِ، وَإِيثَارًا لِحَقِّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي يَتَنَفَّسُ فِيهِ الْمَكْرُوبُ وَيَنْفُثُ الْمَصْدُورُ وَيَشْتَفِي الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ وَيُدْرِكُ ثَأْرَهُ الْمُوتُورَ، فَلِلَّهِ أَخْلَاقُ الْأَنْبِيَاءِ مَا أَوْطَاهَا وَأَسْمَحَهَا، وَلِلَّهِ حَصَى عُقُولِهِمْ مَا أَرْزَنَهَا وَأَرْجَحَهَا انْتَهَى! وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا فَعَلُوا مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إِلَّا جَاهِلٌ سَمَّاهُمْ جَاهِلِينَ. وَفِي التَّحْرِيرِ مَا لُخِّصَ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ: هَلْ عَلِمْتُمْ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَمُرَادُهُ تَعْظِيمُ الْوَاقِعَةِ أَيْ: مَا أَعْظَمَ مَا ارْتَكَبْتُمْ مِنْ يُوسُفَ. كَمَا يُقَالُ: هَلْ تَدْرِي مَنْ عَصَيْتَ؟ وَقِيلَ: هَلْ بِمَعْنَى قَدْ، لِأَنَّهُمْ كانوا عالمين، وفعلتم بِيُوسُفَ إِفْرَادُهُ مِنْ أَبِيهِمْ، وَقَوْلُهُمْ: بِأَنَّ

الذِّئْبَ أَكَلَهُ، وَإِلْقَاؤُهُ فِي الْجُبِّ وَبَيْعُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ إِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ بَاعُوهُ، وَقَوْلُهُمْ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وَالَّذِي فَعَلُوا بِأَخِيهِ أَذَاهُمْ لَهُ وَجَفَاؤُهُمْ لَهُ، وَاتِّهَامُهُ بِسَرِقَةِ الصَّاعِ، وَتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ سَرَقَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ مَا إِذْ وَاجَهَ أَبَاهُمْ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ أَنْ يَذْكُرَهُ مَعَ نَفْسِهِ وَأَخِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: جَاهِلُونَ صِبْيَانٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مُذْنِبُونَ. وَقِيلَ: جَاهِلُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ بَرِّ الْأَبِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَتَرْكِ الْهَوَى. وَقِيلَ: جاهلون بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ يُوسُفَ. وَقِيلَ: جَاهِلُونَ بِالْفِكْرِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَعَدَمِ النَّظَرِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَغَرَضُ يُوسُفَ تَوْبِيخُ إِخْوَتِهِ وَتَأْنِيبِهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا فِي حَقِّ أَبِيهِمْ وَفِي حَقِّ أَخَوَيْهِمْ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَأْنِيسًا لِقُلُوبِهِمْ، وَبَسْطِ عُذْرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أُقَدِّمُكُمْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ جَهَالَةَ الصِّبَا أَوِ الْغُرُورِ، وَكَأَنَّهُ لَقَّنَهُمُ الْحُجَّةَ كَقَوْلِهِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «1» وَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْهَيْصَمِ فِي قِصَّةٍ مِنْ أَنَّهُ صَلَبَهُمْ، وَالثَّعْلَبِيُّ فِي حِكَايَتِهِ أَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ فَبَكَوْا وَجَزِعُوا، فَرَقَّ لَهُمْ وَقَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ الْآيَةَ، لَا يَصِحُّ الْبَتَّةَ، وَكَانَ يُوسُفُ مِنْ أَرَقِّ خَلْقِ اللَّهِ وَأَشْفَقَهُمْ عَلَى الْأَجَانِبِ، فَكَيْفَ مَعَ إِخْوَتِهِ وَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِالْخَطَأِ قَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْآيَةَ. قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ. قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ: لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: هَلْ عَلِمْتُمْ؟ أَدْرَكُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَفْهِمُ مَلِكٌ لَمْ يَنْشَأْ عِنْدَهُمْ، وَلَا تَتَبَّعَ أَحْوَالَهُمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ إِلَّا وَعِنْدَهُ عِلْمٌ بِحَالِهِمْ فَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَرَفَعَهُ وَوَضَعَ التَّاجَ وَتَبَسَّمَ، وَكَانَ يُضِيءُ مَا حَوْلَهُ مِنْ نُورِ تَبَسُّمِهِ أَوْ رَأَوْا لَمْعَةً بَيْضَاءَ كَالشَّامَةِ فِي فَرَقِهِ حِينَ وَضَعَ التَّاجَ وَكَانَ مِثْلُهَا لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَسَارَةَ، فَتَوَسَّمُوا أَنَّهُ يُوسُفُ، وَاسْتَفْهَمُوهُ اسْتِفْهَامَ اسْتِخْبَارٍ. وَقِيلَ: اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَرَفُوهُ بِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كيف عَرَفُوهُ؟ (قُلْتُ) : رَأَوْا فِي رُوَائِهِ وَشَمَائِلِهِ حِينَ كَلَّمَهُمْ بِذَلِكَ مَا شَعَرُوا بِهِ أَنَّهُ هُوَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا خَاطَبَهُمْ بِهِ لا يصدر إلا عن حَنِيفٍ مُسْلِمٍ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا عَنْ بَعْضِ أَعِزَّاءِ مِصْرَ. وقرأ الجمهور: أإنك على

_ (1) سورة الانفطار: 82/ 6.

الِاسْتِفْهَامِ، وَالْخِلَافُ فِي تَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ، أَوْ تَلْيِينِ الثَّانِيَةِ وَإِدْخَالِ أَلِفٍ فِي التَّلْيِينِ، أَوِ التَّحْقِيقِ مَذْكُورٌ فِي القراآت السَّبْعِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّكَ بِغَيْرِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُرَادَةٌ. وَيَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ الْمَحْضِ، وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُهُمْ لِتَعَارُضِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ إِنِ اتَّحَدَ الْقَائِلُونَ فِي الْقَوْلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضًا اسْتَفْهَمَ وَبَعْضًا أَخْبَرَ، وَنَسَبَ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَى الْمَجْمُوعِ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: أَمْكَنَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ بعيد. وقرأ أبي: أإنك، أَوْ أَنْتَ يُوسُفُ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ جِنِّي عَلَى حَذْفِ خبر إن وقدره: أإنك لَأَنْتَ يُوسُفُ، أَوْ أَنْتَ يوسف. وقدره الزمخشري: أإنك يُوسُفُ، أَوْ أَنْتَ يُوسُفُ، فَحَذَفَ الْأَوَّلَ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ قَالَ: وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَعْجَبٌ مُسْتَغْرَبٌ لِمَا يُسْمَعُ، فَهُوَ يُكَرِّرُ الِاسْتِثْبَاتَ انْتَهَى. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالُوا: أَوَ أَنْتَ يُوسُفُ؟ وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أإنك لَأَنْتَ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ دَخَلَتْ عَلَى أَنْتَ، وَهُوَ فَصْلٌ. وَخَبَرُ إِنَّ يُوسُفُ كَمَا تَقُولُ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ لَهُوَ الْفَاضِلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَخَلَتْ عَلَى أَنْتَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَيُوسُفُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ إِنَّ لِحَيْلُولَةِ اللَّامِ بَيْنَهُمَا. وَلَمَّا اسْتَفْهَمُوهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: أَنَا يُوسُفُ كَاشِفًا لَهُمْ أَمْرَهُ، وَزَادَهُمْ فِي الْجَوَابِ قَوْلَهُ: وَهَذَا أَخِي، لِأَنَّهُ سَبَقَ قَوْلُهُ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟ وَكَانَ فِي ذِكْرِ أَخِيهِ بَيَانٌ لِمَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَتَوْطِئَةً لِمَا ذُكِرَ بعد من قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا أي: بالاجتماع بعد الفرقة والأنس بعد الوحشة. ثم ذكر أنّ سبب منّ الله عليه هُوَ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا تُخَصَّ التَّقْوَى بِحَالَةٍ وَلَا الصَّبْرُ. وَقَالَ مجاهد: من يتقي فِي تَرْكِهِ الْمَعْصِيَةَ وَيَصْبِرْ فِي السِّجْنِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: من يتقي الزِّنَا وَيَصْبِرْ عَلَى الْعُزُوبَةِ. وَقِيلَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وَيَصْبِرْ عَلَى الْمَصَائِبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ يَتَّقِ، مَنْ يَخَفِ اللَّهَ وَعِقَابَهُ، وَيَصْبِرْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَعَلَى الطَّاعَاتِ. وقيل: من يتقي مَعَاصِيَ اللَّهِ، وَيَصْبِرْ عَلَى أَذَى النَّاسِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تَخْصِيصَاتٌ بِحَسَبِ حَالَةِ يُوسُفَ وَنَوَازِلِهِ. وَقَرَأَ قُنْبُلٍ: مَنْ يَتَّقِي، فَقِيلَ: هُوَ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْيَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ، وَهَذِهِ الْيَاءُ إِشْبَاعٌ. وَقِيلَ: جَزَمَهُ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَرْمِي زَيْدٌ، وَقَدْ حَكَوْا ذَلِكَ لُغَةً. وقيل: هو مرفوع، ومن مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَعُطِفَ عَلَيْهِ مَجْزُومٌ وَهُوَ: وَيَصْبِرْ، وَذَلِكَ عَلَى التَّوَهُّمِ. كَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، ويتقي مَجْزُومٌ. وَقِيلَ: وَيَصْبِرْ مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى مَرْفُوعٍ، وَسُكِّنَتِ الرَّاءُ لَا لِلْجَزْمِ، بَلْ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، كَمَا سُكِّنَتْ فِي يَأْمُرْكُمْ، وَيُشْعِرْكُمْ، وَبُعُولَتْهِنَّ، أَوْ مُسَكِّنًا لِلْوَقْفِ، وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى

الْوَقْفِ. وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ يَكُونَ يَتَّقِي مَجْزُومًا عَلَى لُغَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ فِي الشِّعْرِ لَا فِي الْكَلَامِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّحْوِيِّينَ قَدْ نقلوا أنه لغة. والمحسنين: عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَ، أَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يضيع أجرهم. وآثرك: فَضَّلَكَ بِالْمُلْكِ، أَوْ بِالصَّبْرِ، وَالْعِلْمِ قَالَهُمَا ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ بِالْحِلْمِ وَالصَّفْحِ ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، أَوْ بِحُسْنِ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَالْعِلْمِ، وَالْحِلْمِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْمُلْكِ، وَالسُّلْطَانِ، وَبِصَبْرِكَ عَلَى أَذَانَا قَالَهُ: صَاحِبُ الْغُنْيَانِ. أَوْ بِالتَّقْوَى، وَالصَّبْرِ وَسِيرَةِ الْمُحْسِنِينَ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ «1» الْآيَةَ وَخِطَابُهُمْ إِيَّاهُ بِذَلِكَ اسْتِنْزَالٌ لِإِحْسَانِهِ، وَاعْتِرَافٌ بِمَا صَدَرَ منهم في حقه. وخاطئين: من خطىء إِذَا تَعَمَّدَ. وَأَمَّا أَخْطَأَ فَقَصْدُ الصَّوَابِ وَلَمْ يُوَفَّقْ له. ولا تَثْرِيبَ: لَا لَوْمَ وَلَا عقوبة. وتثريب اسم لا، وعليكم الخبر، واليوم مَنْصُوبٌ بِالْعَامِلِ فِي الْخَبَرِ أَيْ: لَا تَثْرِيبَ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَ الْيَوْمَ؟ (قُلْتُ) : بِالتَّثْرِيبِ، أَوْ بِالْمُقَدَّرِ فِي عَلَيْكُمْ مِنْ معنى الاستقرار، أو بيغفر. وَالْمَعْنَى: لَا أَثْرُبُكُمُ الْيَوْمَ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ التَّثْرِيبِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ! ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لكم، فدعا لهم بِمَغْفِرَةِ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ. يُقَالُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ جَمِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُشَمِّتِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. أَوِ اليوم يغفر الله لكم بِشَارَةً بِعَاجِلِ الْغُفْرَانِ، لِمَا تَجَدَّدَ يَوْمَئِذٍ مِنْ تَوْبَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى خَطِيئَتِهِمْ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْيَوْمَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّثْرِيبِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ التَّثْرِيبَ مَصْدَرٌ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ معموله بقوله: وعليكم إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، أو صفة لتثريب، وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ مِنْ تَمَامِهِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ اليوم متعلقا بتثريب لَمْ يَجُزْ بِنَاؤُهُ، وَكَانَ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُضَافِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمُطَوَّلَ، وَيُسَمَّى الْمَمْطُولَ، فَكَانَ يَكُونُ مُعْرَبًا مُنَوَّنًا. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ الثَّانِي فَتَقْدِيرٌ حَسَنٌ، وَلِذَلِكَ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ اليوم أكثر القراء. وابتدأوا بيغفر اللَّهُ لَكُمْ عَلَى جِهَةِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيِّ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اليوم متعلقا بيغفر فمقول، وَقَدْ وَقَفَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عَلَى عَلَيْكُمْ، وَابْتَدَأَ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَقْفُ عَلَى الْيَوْمَ أَرْجَحُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْآخَرَ فِيهِ حُكْمٌ عَلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بوحي. وأما قوله:

_ (1) سورة يوسف: 12/ 90.

فَبِشَارَةٌ إِلَى آخِرِهِ، فَعَلَى طريق الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ الْغُفْرَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ تَابَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الْعَفْوِ، وَسَبِيلُ الْعَافِي فِي مِثْلِهِ أَنْ لَا يُرَاجِعَ عُقُوبَةً. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لتثريب، وَيَكُونَ الْخَبَرُ الْيَوْمَ، وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ. وَقِيلَ: عَلَيْكُمْ بيان كلك فِي قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يتعلق عليكم بتثريب، لِأَنَّهُ كَانَ يُعْرَبُ، فَيَكُونُ مُنَوَّنًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُضَافِ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ، وعليكم مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَثْرِيبَ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْعَامِلَ فِي الْيَوْمَ وَتَقْدِيرُهُ: لا تثريب يثرب عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، كَمَا قَدَّرُوا فِي لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «1» أَيْ: يَعْصِمُ الْيَوْمَ، لَكَانَ وَجْهًا قَوِيًّا، لِأَنَّ خَبَرَ لَا إِذَا عُلِمَ كَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بَنُو تَمِيمٍ. وَلَمَّا دَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْغُفْرَانِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ الرُّحَمَاءِ، فَهُوَ يَرْجُو مِنْهُ قَبُولَ دُعَائِهِ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِقَمِيصِي الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْحَالِ أَيْ: مَصْحُوبِينَ أَوْ مُلْتَبِسِينَ بِهِ. وَقِيلَ: للتعدية أي: اذهبوا بقميصي، أَيِ احْمِلُوا قَمِيصِي. قِيلَ: هُوَ الْقَمِيصُ الَّذِي تَوَارَثَهُ يُوسُفُ وَكَانَ فِي عُنُقِهِ، وَكَانَ مِنَ الْجَنَّةِ، أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ فَإِنَّ فِيهِ رِيحَ الْجَنَّةِ، لَا يَقَعُ عَلَى مُبْتَلًى وَلَا سَقِيمٍ إِلَّا عُوفِيَ. وَقِيلَ: كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ كَسَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ خَرَجَ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ لِإِسْحَاقَ، ثُمَّ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِيُوسُفَ. وَقِيلَ: هُوَ الْقَمِيصُ الَّذِي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، أَرْسَلَهُ لِيَعْلَمَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ عُصِمَ مِنَ الْفَاحِشَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَمِيصٌ مِنْ مَلْبُوسِ يُوسُفَ بِمَنْزِلَةِ قَمِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ، قَالَ ذَلِكَ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَهَكَذَا تَتَبَيَّنُ الْغَرَابَةُ فِي أَنْ وَجَدَ يَعْقُوبُ رِيحَهُ مِنْ بَعْدُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قُمُصِ الْجَنَّةِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَابَةً ولوجده كل أحد. وَقَوْلُهُ: فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ عَمِيَ مِنَ الْحُزْنِ، إِمَّا بِإِعْلَامِهِمْ، وَإِمَّا بِوَحْيٍ. وَقَوْلُهُ: يَأْتِ بَصِيرًا، يَظْهَرُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ. وَأَهْلُوهُ الَّذِينَ أَمَرَ بِأَنْ يُؤْتَى بِهِمْ سَبْعُونَ، أَوْ ثَمَانُونَ، أَوْ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ، أَوْ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ، أَقْوَالٌ أَوَّلُهَا لِلْكَلْبِيِّ وَثَالِثُهَا لِمَسْرُوقٍ. وَفِي وَاحِدٍ مِنْ هذا العدد حلوا بِمِصْرَ وَنَمُوا حَتَّى خَرَجَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَمَعْنَى: يَأْتِ، يَأْتِينِي، وَانْتَصَبَ بَصِيرًا عَلَى الْحَالِ. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ

_ (1) سورة هود: 11/ 43.

لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ: فَصَلَ مِنَ الْبَلَدِ يَفْصِلُ فُصُولًا انْفَصَلَ مِنْهُ وَجَاوَزَ حِيطَانَهُ، وَهُوَ لَازِمٌ. وَفَصَلَ الشَّيْءَ فَصْلًا فَرَّقَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ. وَمَعْنَى فَصَلَتِ الْعِيرُ: انْفَصَلَتْ مِنْ عَرِيشِ مِصْرَ قَاصِدَةً مَكَانَ يَعْقُوبَ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: بِالْجَزِيرَةِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ آثَارَهُمْ وَقُبُورَهُمْ هُنَاكَ إِلَى الْآنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمَّا انْفَصَلَ الْعِيرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، هَاجَتْ رِيحٌ فَحَمَلَتْ عُرْفَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مِنْ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا، وَكَانَ مُدَّةُ فِرَاقِهِ مِنْهُ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: وَجَدَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَعَنْهُ: مَسِيرَةُ عَشْرِ لَيَالٍ. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْمَهْرَوِيِّ: أَنَّ الرِّيحَ اسْتَأْذَنَتْ فِي إِيصَالِ عُرْفِ يُوسُفَ إِلَى يَعْقُوبَ، فَأُذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَفَّقَتِ الرِّيحُ الْقَمِيصَ فَرَاحَتْ رَوَائِحُ الْجَنَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَاتَّصَلَتْ بِيَعْقُوبَ فَوَجَدَ رِيحَ الْجَنَّةِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْقَمِيصِ. وَمَعْنَى لَأَجِدُ: لَأَشُمُّ فَهُوَ وُجُودُ حَاسَّةِ الشَّمِّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَأَسْتَشْفِي بِكُلِّ غَمَامَةٍ ... يَهُبُّ بِهَا مِنْ نَحْوِ أَرْضِكِ رِيحُ وَمَعْنَى تُفَنِّدُونِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: تُسَفِّهُونِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: تُجَهِّلُونِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: تُضَعِّفُونِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: تُكَذِّبُونِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تُهْرِمُونِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: تَقُولُونَ ذَهَبَ عَقْلُكَ وَخَرِفْتَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: تُقَبِّحُونِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: تُعَجِّزُونِ. وقال أبو عبيد: تُضَلِّلُونِ. وَقِيلَ: تُخَطِّئُونِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَهِيَ رَاجِعَةٌ لِاعْتِقَادِ فَسَادِ رَأْيِ الْمُفَنِّدِ إِمَّا لِجَهْلِهِ، أَوْ لِهَوًى غَالِبٍ عَلَيْهِ، أَوْ لِكَذِبِهِ، أَوْ لِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ لِذَهَابِ عَقْلِهِ بِهَرَمِهِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ: يقال شج مفند أي: قد فسد رَأْيَهُ، وَلَا يُقَالُ: عَجُوزٌ مُفَنَّدَةٌ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْيٌ قَطُّ أَصِيلٌ فَيَدْخُلُهُ التَّفْنِيدُ. وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: التَّفْنِيدُ النِّسْبَةُ إِلَى الْفَنَدِ وَهُوَ الْخَوْفُ وَإِنْكَارُ الْعَقْلِ، مِنْ هَرَمَ يُقَالُ: شَيْخٌ مُفَنَّدٌ، وَلَا يُقَالُ عَجُوزٌ مُفَنَّدَةٌ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي شَبِيبَتِهَا ذَاتُ رَأْيٍ فَتُفَنَّدُ في كبرها. ولولا هُنَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى لَوْلَا تَفْنِيدُكُمْ إِيَّايَ لَصَدَّقْتُمُونِي انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: تَقْدِيرُهُ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِي لَأَخْبَرْتُكُمْ بِكَوْنِهِ حَيًّا لَمْ يَمُتْ، لِأَنَّ وِجْدَانِي رِيحَهُ دَالٌّ عَلَى حَيَاتِهِ. وَالْمُخَاطَبُ

بِقَوْلِهِ: تُفَنِّدُونِ، الظَّاهِرُ مِنْ تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ كَانَ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ أَوْلَادِهِ غَيْرَ الَّذِينَ رَاحُوا يَمْتَارُونَ، إِذْ كَانَ أَوْلَادُهُ جَمَاعَةً. وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ وَلَدُ وَلَدِهِ وَمَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ قَرَابَتِهِ. وَالضَّلَالُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ ضِدُّ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى إِنَّكَ لَفِي خَطَئِكَ، وَكَانَ حُزْنُ يَعْقُوبَ قَدْ تَجَدَّدَ بِقِصَّةِ بِنْيَامِينَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْحُزْنَيْنِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الشَّقَاءُ وَالْعَنَاءُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْجُنُونُ، وَيَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ غَلَبَةَ الْمَحَبَّةِ. وَقِيلَ: الْهَلَاكُ وَالذَّهَابُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ أَيْ: ذَهَبَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْحُبُّ، وَيُطْلَقُ الضَّلَالُ عَلَى الْمَحَبَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ مِنَ الْجَفَاءِ الَّذِي لَا يَسُوغُ لَهُمْ مُوَاجَهَتُهُ بِهِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ: قَالُوا لِوَالِدِهِمْ كَلِمَةً غَلِيظَةً لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوهَا لِوَالِدِهِمْ، وَلَا لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَفِي ذَهَابِكَ عَنِ الصَّوَابِ قُدُمًا فِي إِفْرَاطِ مَحَبَّتِكَ لِيُوسُفَ، ولهجك بذكره، ورجائك لقاءه، وَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْبَشِيرَ كَانَ يَهُوذَا، لِأَنَّهُ كَانَ جَاءَ بِقَمِيصِ الدَّمِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ يَهُوذَا لِإِخْوَتِهِ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ بِقَمِيصِ الْقُرْحَةِ، فَدَعُونِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ بِقَمِيصِ الْفَرْحَةِ فَتَرَكُوهُ، وَقَالَ هَذَا المعنى: السدي. وأن تَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا بَعْدَ لَمَّا، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي أَلْقَاهُ عَائِدٌ عَلَى الْبَشِيرُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، هُوَ لِقَوْلِهِ: فَأَلْقُوهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى يَعْقُوبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ الْوَجْهُ كُلُّهُ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّهُ مَتَى وَجَدَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا يَعْتَقِدُ فِيهِ الْبَرَكَةَ مَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الْعَيْنَيْنِ لِأَنَّهُمَا فِيهِ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بالكل عن البعض. وارتدّ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ فِي أَخَوَاتِ كَانَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَخَوَاتِهَا، فَانْتَصَبَ بَصِيرًا عَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مِنْ سَلَامَةِ الْبَصَرِ. فَفِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ أَنَّ بَصَرَهُ عَادَ أَقْوَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ، لِأَنَّ فَعِيلًا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَمَا عَدَلَ مِنْ مِفْعَلٍ إِلَى فَعِيلٍ إِلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فَعِيلًا هُنَا لَيْسَ لِلْمُبَالَغَةِ، إِذْ فَعِيلُ الَّذِي لِلْمُبَالَغَةِ هُوَ مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا بَصِيرًا هُنَا فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَصُرَ بِالشَّيْءِ، فَهُوَ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ فَعُلَ نَحْوَ ظَرُفَ فَهُوَ ظَرِيفٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ بِمَعْنَى مُبْصِرٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ فعيلا بمعنى مفعل لَيْسَ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: أَلِيمٌ وَسَمِيعٌ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَمُسْمِعٍ. وَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ سَأَلَ الْبَشِيرَ كَيْفَ يُوسُفُ؟ قَالَ: مَلِكُ مِصْرَ. قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِالْمُلْكِ؟ قَالَ: عَلَى أَيِّ دِينٍ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَجِدِ الْبَشِيرُ عِنْدَ يَعْقُوبَ شَيْئًا يُبِيتُهُ بِهِ وقال: ما خبرنا شَيْئًا مُنْذُ سَبْعَ لَيَالٍ، وَلَكِنْ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْكَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: رَجَعَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ بَعْدَ الْعَمَى، وَالْقُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ،

وَالشَّبَابُ بَعْدَ الْهَرَمِ، وَالسُّرُورُ بَعْدَ الْكَرْبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنِّي أَعْلَمُ، مَحْكِيٌّ بِالْقَوْلِ وَيُرِيدُ بِهِ إِنَّمَا أشكوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. فَقِيلَ: مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَيَاةِ يُوسُفَ، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. وَقِيلَ: مِنْ صِحَّةِ رُؤْيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: مِنْ بَلْوَى الْأَنْبِيَاءِ بِالْحُزْنِ، وَنُزُولِ الْفَرَجِ، وَقِيلَ: مِنْ أَخْبَارِ مَلَكِ الْمَوْتِ إِيَّايَ، وَكَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا لَا تَعْلَمُونَ هُوَ انْتِظَارُهُ لِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى حُسْنِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَقَطْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، أَوْ قَوْلَهُ: وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ، كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْقَوْلُ انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى ابْنِهِ يُوسُفَ، وَقَرَّرَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟ طَلَبُوا منه أن يستغفر لهم اللَّهَ لِذُنُوبِهِمْ، وَاعْتَرَفُوا بِالْخَطَأِ السابق منهم، وسوف أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ: عِدَةٌ لَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ بِسَوْفَ، وَهِيَ أَبْلَغُ فِي التَّنْفِيسِ مِنَ السِّينِ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ أَخَّرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ إِلَى السَّحَرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَعَنْهُ: إِلَى سَحَرِهَا. قَالَ السُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَالزَّجَّاجُ: أَخَّرَ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، لَا ضِنَّةً عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِغْفَارِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: سَوْفَ إِلَى قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَفِرْقَةٌ: إِلَى اللَّيَالِي الْبِيضِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا يُسْتَجَابُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَخَّرَهُ حَتَّى يَسْأَلَ يُوسُفَ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُمُ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ. وَقِيلَ: أَخَّرَهُمْ لِيَعْلَمَ حَالَهُمْ فِي صِدْقِ التَّوْبَةِ وَإِخْلَاصِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ الدَّوَامَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ. وَلَمَّا وَعَدَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ رَجَاهُمْ بِحُصُولِ الْغُفْرَانِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَحَلَ يَعْقُوبُ بِأَهْلِهِ أَجْمَعِينَ، وَسَارُوا حَتَّى تَلَقَّوْا يُوسُفَ. قِيلَ: وَجَهَّزَ يُوسُفُ إِلَى أَبِيهِ جِهَازًا، وَمِائَتَيْ رَاحِلَةٍ لِيَتَجَهَّزَ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ، وَخَرَجَ يُوسُفُ قِيلَ: وَالْمَلِكُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْجُنْدِ وَالْعُظَمَاءِ وَأَهْلِ مِصْرَ بِأَجْمَعِهِمْ، فَتَلَقَّوْا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يَمْشِي يَتَوَكَّأُ عَلَى يَهُوذَا، فَنَظَرَ إِلَى الْخَيْلِ وَالنَّاسِ فَقَالَ: يَا يَهُوذَا أَهَذَا فِرْعَوْنُ مِصْرَ؟ فَقَالَ: لَا، هَذَا وَلَدُكَ. فَلَمَّا لَقِيَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ

قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذْهِبَ الْأَحْزَانِ. وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ قَالَ لَهُ لَمَّا الْتَقَيَا: يَا أَبَتِ، بَكَيْتَ عَلَيَّ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُكَ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَةَ تَجْمَعُنَا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ تُسْلَبَ دِينَكَ، فَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أَيْ: ضَمَّهُمَا إِلَيْهِ وَعَانَقَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا أَبُوهُ وَأُمُّهُ رَاحِيلُ. فَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ أُمُّهُ بِالْحَيَاةِ. وَقِيلَ: كَانَتْ مَاتَتْ مِنْ نِفَاسِ بِنْيَامِينَ، وَأَحْيَاهَا لَهُ لِيَصْدُقَ رُؤْيَاهُ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» حُكِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ إِسْحَاقَ أَيْضًا. وَقِيلَ: أَبُوهُ وَخَالَتُهُ، وَكَانَ يَعْقُوبُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَوْتِ رَاحِيلَ، وَالْخَالَةُ أُمٌّ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَتْ رَبَّتْ يُوسُفَ، وَالرَّابَّةُ تُدْعَى أُمًّا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَبُوهُ وَجَدَّتُهُ أُمُّ أُمِّهِ، حَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ادْخُلُوا مِصْرَ، إِنَّهُ أَمَرَ بِإِنْشَاءِ دُخُولِ مِصْرَ. قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ حِينَ تَلَقَّاهُمْ انْتَهَى. فَيَبْقَى قَوْلُهُ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ كَأَنَّهُ ضَرَبَ لَهُ مَضْرِبٌ، أَوْ بَيْتٌ حَالَةَ التَّلَقِّي فِي الطَّرِيقِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِيهِ. وَقِيلَ: دَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مِصْرَ. وَمَعْنَى ادْخُلُوا مِصْرَ أَيْ: تَمَكَّنُوا مِنْهَا وَاسْتَقِرُّوا فِيهَا. وَالظَّاهِرُ تَعَلَّقَ الدُّخُولُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالدُّخُولِ، عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمَا لَا يَشَاءُ لَا يَكُونُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّقْدِيرُ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ دَخَلْتُمْ آمِنِينَ، ثُمَّ حُذِفَ الْجَزَاءُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِالْجُمْلَةِ الْجَزَائِيَّةِ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ. وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَنَّ مَوْضِعَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي كَلَامِ يَعْقُوبَ انْتَهَى. وَهَذَا الْبِدْعُ مِنَ التَّفْسِيرِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، بَلْ فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ. وَالْعَرْشُ سَرِيرُ الْمُلْكِ. وَلَمَّا دَخَلَ يُوسُفُ مِصْرَ وَجَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى سَرِيرِهِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، أَكْرَمَ أَبَوَيْهِ فَرَفَعَهُمَا مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّفْعُ وَالْخُرُورُ قَبْلَ دُخُولِ مِصْرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ادْخُلُوا مِصْرَ، فَكَانَ يَكُونُ فِي قُبَّةٍ مِنْ قِبَابِ الْمُلُوكِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى الْبِغَالِ أَوِ الْإِبِلِ، فَحِينَ دَخَلُوا إِلَيْهِ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ: ادْخُلُوا مِصْرَ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ. وَخَرُّوا لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي وَخَرُّوا عَائِدٌ عَلَى أَبَوَيْهِ وَعَلَى إِخْوَتِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَخَرُّوا عَائِدٌ عَلَى إِخْوَتِهِ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ هَيْبَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمِيرِ أَبَوَاهُ، بَلْ رَفَعَهُمَا عَلَى

_ (1) سورة يوسف: 12/ 4.

سَرِيرِ مُلْكِهِ تَعْظِيمًا لَهُمَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا أَنَّهُ السُّجُودُ الْمَعْهُودُ، وَأَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ لِمُطَابَقَةِ الرُّؤْيَا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً «1» الْآيَةَ وَكَانَ السُّجُودُ إِذْ ذَاكَ جَائِزًا مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ بِالْمُصَافَحَةِ، وَتَقْبِيلِ الْيَدِ، وَالْقِيَامِ مِمَّا شُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ فِي بَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تَحِيَّةُ الْمُلُوكِ عِنْدَهُمْ، وَأَعْطَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ السَّلَامَ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هَذَا السُّجُودُ كَانَ إِيمَاءً بِالرَّأْسِ فَقَطْ. وَقِيلَ: كَانَ كَالرُّكُوعِ الْبَالِغِ دُونَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَفْظَةُ وخروا تأبى هذين التفسيرين. قَالَ الْحَسَنُ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ: خَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا شُكْرًا عَلَى مَا أَوْزَعَهُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ رَأَيْتُهُمْ لِأَجْلِي سَاجِدِينَ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ لِيُوسُفَ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ السُّجُودُ تَحِيَّةً لَا عِبَادَةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّارَانِيُّ: لَا يَكُونُ السُّجُودُ إِلَّا لِلَّهِ لَا لِيُوسُفَ، وَيَبْعُدُ مِنْ عَقْلِهِ وَدِينِهِ أَنْ يَرْضَى بِأَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبُوهُ مَعَ سَابِقَتِهِ مِنْ صَوْنِ أَوْلَادِهِ، وَالشَّيْخُوخَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالدِّينِ، وَكَمَالِ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ وَإِنْ عَادَ عَلَى يُوسُفَ فَالسُّجُودُ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلُوا يُوسُفَ قِبْلَةً كَمَا تَقُولُ: صَلَّيْتُ لِلْكَعْبَةِ، وَصَلَّيْتُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ حَسَّانُ: مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الدَّهْرَ مُنْصَرِفٌ ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ عَنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ ... وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِالْأَشْيَاءِ وَالسُّنَنِ وَقِيلَ: السُّجُودُ هُنَا التَّوَاضُعُ، وَالْخُرُورُ بِمَعْنَى الْمُرُورِ لَا السُّقُوطِ عَلَى الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً «2» أَيْ لَمْ يَمُرُّوا عَلَيْهَا. وَقَالَ ثَابِتٌ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: سُجُودُكُمْ هَذَا تَأْوِيلٌ، أَيْ: عَاقِبَةُ رُؤْيَايَ أَنَّ تِلْكَ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ. وَمِنْ قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُؤْيَايَ، وَالْمَحْذُوفُ فِي مِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْكَوَائِنِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي جَرَتْ بَعْدَ رُؤْيَايَ. وَمَنْ تَأَوَّلَ أَنَّ أَبَوَيْهِ لَمْ يَسْجُدَا لَهُ زَعَمَ أَنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلرُّؤْيَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَسُجُودُ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يُعَبَّرُ بِتَعْظِيمِ الْأَكَابِرِ مِنَ النَّاسِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَهَابَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ وَلَدِهِ مِنْ كَنْعَانَ إِلَى مِصْرَ لِأَجْلِ يُوسُفَ نِهَايَةٌ فِي التَّعْظِيمِ لَهُ، فَكَفَى هَذَا الْقَدْرُ فِي صِحَّةِ الرُّؤْيَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى سُجُودَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ هَالَهُ ذَلِكَ وَاقْشَعَرَّ جِلْدَهُ مِنْهُ. وَقَالَ لِيَعْقُوبَ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 4. (2) سورة الفرقان: 25/ 73.

فَقَالَ: قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا أَيْ: صَادِقَةً، رَأَيْتُ مَا يَقَعُ لِي فِي الْمَنَامِ يَقَظَةً، لَا بَاطِلَ فِيهَا وَلَا لَغْوَ. وَفِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رُؤْيَاهُ وَسُجُودِهِمْ خِلَافٌ مُتَنَاقِضٌ. قِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ رُتَبِ الْعَدَدِ. وَكَذَا الْمُدَّةُ الَّتِي أَقَامَ يَعْقُوبُ فِيهَا بِمِصْرَ عِنْدَ ابْنِهِ يُوسُفَ خِلَافٌ متناقض، وأحسن أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِإِلَى قَالَ: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «1» وَقَدْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «2» كَمَا يُقَالُ أَسَاءَ إِلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ وَقَدْ يَكُونُ ضَمِنَ أَحْسَنَ مَعْنَى لَطَفَ، فَعَدَّاهُ بِالْبَاءِ، وَذَكَرَ إِخْرَاجَهُ مِنَ السِّجْنِ وَعَدَلَ عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجُبِّ صَفْحًا عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَلَّقَ بِقَوْلِ إِخْوَتِهِ، وَتَنَاسَيًا لِمَا جَرَى مِنْهُمْ إِذْ قَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ «3» وَتَنْبِيهًا عَلَى طَهَارَةِ نَفْسِهِ، وَبَرَاءَتِهَا مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُرَاوَدَةِ. وَعَلَى مَا تَنَقَّلَ إِلَيْهِ مِنَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ بِخِلَافِ مَا تَنَقَّلَ إِلَيْهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجُبِّ، إِلَى أَنْ بِيعَ مَعَ الْعَبِيدِ، وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنَ الْبَادِيَةِ. وَكَانَ يَنْزِلُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَطْرَافِ الشَّامِ بِبَادِيَةِ فِلَسْطِينَ، وَكَانَ رَبَّ إِبِلٍ وَغَنَمٍ وَبَادِيَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا أَهْلَ عَمَدٍ وَأَصْحَابَ مَوَاشٍ يَتَنَقَّلُونَ فِي الْمِيَاهِ وَالْمَنَاجِعِ. قِيلَ: كَانَ تَحَوَّلَ إِلَى بَادِيَةٍ وَسَكَنَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ. وَقِيلَ: كَانَ خَرَجَ إِلَى بَدَا وَهُوَ مَوْضِعٌ وَإِيَّاهُ عَنَى جَمِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْبًا إِلَى بَدَا ... إِلَيَّ وَأَوْطَانِي بِلَادٌ سِوَاهُمَا وَلِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسْجِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ. يُقَالُ: بَدَا الْقَوْمُ بَدْوًا، إِذَا أَتَوْا بَدَا كَمَا يُقَالُ: غَارُوا غَوْرًا، إِذَا أَتَوُا الْغَوْرَ. وَالْمَعْنَى: وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ مَكَانٍ بَدَا، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَابَلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نِعْمَةَ إِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ بِمَجِيئِهِمْ مِنَ الْبَدْوِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ، وَزَوَالِ حُزْنِ أَبِيهِ. فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يَنْقُلُهُ مِنَ الْبَادِيَةِ إِلَى الْحَاضِرَةِ» مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ أَيْ أَفْسَدَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَزَغَ، وَأَسْنَدَ النَّزْغَ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ الْمُوَسْوِسُ كَمَا قَالَ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «4» وَذَكَرَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ أَمْرِ أُخْوَتِهِ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ إِذَا جَاءَتْ

_ (1) سورة القصص: 28/ 77. (2) سورة البقرة: 2/ 83. (3) سورة يوسف: 12/ 92. (4) سورة البقرة: 2/ 36.

[سورة يوسف (12) : الآيات 102 إلى 111]

إِثْرَ شِدَّةٍ وَبَلَاءٍ كَانَتْ أَحْسَنَ مَوْقِعًا. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ، أَيْ: لَطِيفُ التَّدْبِيرِ لِمَا يَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ، رفيق. ومن فِي قَوْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ، وَفِي مِنْ تَأْوِيلِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتِهِ إِلَّا بَعْضَ مُلْكِ الدُّنْيَا، وَلَا عَلَّمَهُ إِلَّا بَعْضَ التَّأْوِيلِ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مِنْ زَائِدَةً، أَوْ جَعَلَهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُلْكَ هُنَا مُلْكُ مِصْرَ. وَقِيلَ: مُلْكُ نَفْسِهِ مِنْ إِنْفَاذِ شَهْوَتِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مُلْكُ حُسَّادِهِ بِالطَّاعَةِ، وَنَيْلُ الْأَمَانِي مِنَ الْمُلْكِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَمْرِو بْنِ ذَرٍّ: آتَيْتَنِ، وَعَلَّمْتَنِ بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنْهُمَا اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْهُمَا، مَعَ كَوْنِهِمَا ثَابِتَتَيْنِ خَطًّا. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ ذَرَانَةَ: قَرَأَ رَبِّ آتَيْتَنِي بِغَيْرٍ قَدْ، وَانْتَصَبَ فَاطِرَ عَلَى الصِّفَةِ، أو على النداء. وأنت وَلِيِّي تَتَوَلَّانِي بِالنِّعْمَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَتُوصِلُ الْمُلْكَ الْفَانِي بِالْمُلْكِ الْبَاقِي. وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ لَمَّا عَدَّ نِعَمَ اللَّهِ عِنْدَهُ تَشَوَّقَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّهِ وَلِحَاقِهِ بِصَالِحِي سَلَفِهِ، وَرَأَى أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا فَانِيَةٌ فَتَمَنَّى الْمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ حَيٌّ غَيْرُ يُوسُفَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ النِّعَمَ فِي بَاقِي أَمْرِهِ أَيْ: تَوَفَّنِي إِذَا حَانَ أَجْلِي عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاجْعَلْ لِحَاقِي بِالصَّالِحِينَ. وَإِنَّمَا تَمَنَّى الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا الموت، والصالحين أَهْلُ الْجَنَّةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ آبَاؤُهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ. وَعُلَمَاءُ التَّارِيخِ يَزْعُمُونَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاشَ مِائَةَ عَامٍ وَسَبْعَةَ أَعْوَامٍ، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ: إفرائيم، وَمَنْشَا، وَرَحْمَةُ زَوْجَةُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَوُلِدَ لِإِفْرَاثِيمَ نُونٌ، وَلِنُونٍ يُوشَعُ، وَهُوَ فَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَوُلِدَ لِمَنْشَا مُوسَى، وَهُوَ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عمران عليه السلام. وَيَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ صَاحِبُ الْخَضِرِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ صَاحِبَ الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، وَتَوَارَثَتِ الْفَرَاعِنَةُ مُلْكَ مِصْرَ، وَلَمْ تَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ عَلَى بَقَايَا دِينِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ بُعِثَ موسى عليه السلام. [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ وَالْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ فَنَزَلَتْ مَشْرُوحَةً شَرْحًا وَافِيًا، وَأَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، فَخَالَفُوا تَأْمِيلَهُ، فَعَزَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: الثَّنَوِيَّةِ، وَقِيلَ: فِي النَّصَارَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي تَلْبِيَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فِي أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا قَصَّهُ اللَّهُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ: عِنْدَ بَنِي يَعْقُوبَ حِينَ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْجُبِّ، وَلَا حِينَ أَلْقَوْهُ فِيهِ، وَلَا حِينَ الْتَقَطَتْهُ السَّيَّارَةُ، وَلَا حِينَ بِيعَ. وَهُمْ يَمْكُرُونَ أَيْ: يَبْغُونَ الْغَوَائِلَ لِيُوسُفَ، وَيَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ بِهِ. أَوْ يَمْكُرُونَ بِيَعْقُوبَ حِينَ أَتَوْا بِالْقَمِيصِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ لِقُرَيْشٍ بِصِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ يُسَمَّى بِالِاحْتِجَاجِ النَّظَرِيَّ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ، وَهُوَ أَنْ يُلْزِمَ الْخَصْمَ مَا هُوَ لَازِمٌ لِهَذَا الِاحْتِجَاجِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَفِي هُودٍ. وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِقُرَيْشٍ وَبِمَنْ كَذَّبَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَمَلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَشْبَاهِهِ، وَلَا لَقِيَ فِيهَا أَحَدًا وَلَا سَمِعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عِلْمِ قَوْمِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَقَصَّهُ هَذَا الْقَصَصَ

الَّذِي أَعْجَزَ حَمَلَتَهُ وَرُوَاتَهُ لَمْ تَقَعْ شُبْهَةٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ وَنَحْوُهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «1» . فَقَوْلُهُ: وَمَا كُنْتَ، هُنَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ مَعَهُمْ. وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ: عَزَمُوا عَلَى إِلْقَاءِ يُوسُفَ فِي الْجُبِّ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. وَالْمَكْرُ: أَنْ يُدَبِّرَ عَلَى الْإِنْسَانِ تَدْبِيرًا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ والناس، الظَّاهِرُ الْعُمُومُ لِقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ. وَلَوْ حَرَصْتَ: وَلَوْ بَالَغْتَ فِي طَلَبِ إِيمَانِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِفَرْطِ عِنَادِهِمْ وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَلَوْ حَرَصْتَ لَمْ يُؤْمِنُوا، إِنَّمَا يُؤْمِنُ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ إِيمَانَهُ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ أَيْ: مَا تَبْتَغِي عَلَيْهِ أَجْرًا عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: عَلَى التَّبْلِيغِ، وَقِيلَ: عَلَى الْأَنْبَاءِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. أَوْ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا تُحَدِّثُهُمْ بِهِ وَتُذَكِّرُهُمْ أَنْ يُنِيلُوكَ مَنْفَعَةً وَجَدْوَى، كَمَا يُعْطِي حملة الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ إِنْ هُوَ إِلَّا مَوْعِظَةٌ وَذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعَالَمِينَ عَامَّةً، وَحَثٌّ عَلَى طَلَبِ النَّجَاةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ بِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: وَمَا نَسْأَلُهُمْ بِالنُّونِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ، وَأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ هِيَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَفِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَتَقَدَّمَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وكأين. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَانَ فَهُوَ كَائِنٌ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى كَمْ فِي التَّكْثِيرِ انْتَهَى. وَهَذَا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ يُونُسَ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ فِي النَّحْوِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَمِنْ أَيْ، وَتَلَاعَبَتِ الْعَرَبُ بِهِ فَجَاءَتْ بِهِ لُغَاتٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ وَكَيِ بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا أَلِفٍ وَلَا تَشْدِيدٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، فَهِيَ لُغَةٌ انْتَهَى. مِنْ آيَةٍ عَلَامَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَصِدْقِ مَا جِيءَ بِهِ عَنْهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ قائد: وَالْأَرْضُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ. وَمَعْنَى يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فَيُشَاهِدُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ السُّدِّيُّ: وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ أَيْ: وَيَطْوُونَ الْأَرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا عَلَى آيَاتِهَا، وَمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الدَّلَالَاتِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا وَعَنْهَا فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ، وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَهِيَ بِجَرِّ الْأَرْضِ، يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى آيَةٍ أَيْ: يَمُرُّونَ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ وَيُشَاهِدُونَ تِلْكَ الدَّلَالَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالْأَرْضُ بِرَفْعِ

_ (1) سورة القصص: 28/ 44.

الضَّادِ، وَمَكَانُ يَمُرُّونَ يَمْشُونَ، وَالْمُرَادُ: مَا يَرَوْنَ مِنْ آثَارِ الْأُمَمِ الْهَالِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ. وَهُمْ مُشْرِكُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: إِيمَانُهُمْ مُلْتَبِسٌ بِالشِّرْكِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَفَرُوا بِنَبِيِّهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ مَا قَالُوا فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ أَقَرُّوا بِالْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ، وَكَفَرُوا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ قَالُوا: اللَّهُ رَبُّنَا لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُهُ، فَأَشْرَكُوا وَلَمْ يُوَحِّدُوا. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ أَيْضًا ذَلِكَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَفِي الْحَدِيثِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ أَحَدَهُمْ يَقُولُ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ يَقُولُ لَهُ: «قَطُّ قَطُّ» أَيْ قِفْ هُنَا وَلَا تَزِدْ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ. وَقِيلَ: هُمُ الثَّنَوِيَّةُ قَالُوا بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا فِي الدُّعَاءِ يَنْسَى الْكُفَّارُ رَبَّهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، جَهَرُوا بِالْإِيمَانِ وَأَخْفَوُا الْكُفْرَ. وَقِيلَ: عَلَى بَعْضِ الْيَهُودِ عَبَدُوا عُزَيْرًا، وَالنَّصَارَى عَبَدُوا عيسى. وَقِيلَ: قُرَيْشٌ لَمَّا غَشِيَهَمُ الدُّخَانُ فِي سِنِي الْقَحْطِ قَالُوا: إِنَّا مُؤْمِنُونَ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ كَشْفِهِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ الْخَلْقِ مُؤْمِنِهِمْ بِالرَّسُولِ وَكَافِرِهِمْ، فَالْكُفَّارُ تَقَدَّمَ شِرْكُهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِيهِمُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، وَأَقْرَبَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمُشَبِّهَةُ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آمنوا محملا، وَكَفَرُوا مُفَصَّلًا. وَثَانِيهَا مَنْ يُطِيعُ الْخَلْقَ بِمَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَثَالِثُهَا مَنْ يَقُولُ: نَفَعَنِي فُلَانٌ وَضَرَّنِي فُلَانٌ. أَفَأَمِنُوا: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ فِيهِ تَوْبِيخٌ وَتَهْدِيدٌ، غَاشِيَةٌ نِقْمَةٌ تَغْشَاهُمْ أَيْ، تُغَطِّيهِمْ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «1» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الصَّوَاعِقَ وَالْقَوَارِعَ انْتَهَى. وَإِتْيَانُ الْغَاشِيَةِ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً فِي الزَّمَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ بَغْتَةً. قَالَ الْكِرِمْانِيُّ: لَا يَشْعُرُونَ بِإِتْيَانِهَا أَيْ: وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَأْخُذُهُمُ الصَّيْحَةُ عَلَى أَسْوَاقِهِمْ وَمَوَاضِعِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَفْصٍ، وَبِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ. قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 55. [.....]

الْمُشْرِكِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً «1» وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «2» دَالًّا عَلَى أنه حارص عَلَى إِيمَانِهِمْ، مُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ، دَاعٍ إِلَيْهِ، مُثَابِرٌ عليه. وذكر وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ «3» أَشَارَ إِلَى مَا فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانُ، وَتَوْحِيدُ اللَّهِ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ وَالدَّعْوَةُ طَرِيقِي الَّتِي سَلَكْتُهَا وَأَنَا عَلَيْهَا، ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ السَّبِيلَ فَقَالَ: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يَعْنِي: لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ إِنْسَانٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ صَنَمٍ، إِنَّمَا دُعَائِي إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبِيلِي أَيْ دَعْوَتِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: صَلَاتِي، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سُنَّتِي، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْجُمْهُورُ: دِينِي. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْ هَذَا سَبِيلِي عَلَى التَّذْكِيرِ. وَالسَّبِيلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَمَفْعُولُ أَدْعُو هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَدْعُو النَّاسَ. وَالظَّاهِرُ تعلق على بصيرة بأدعو، وأنا تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي أَدْعُو، وَمَنْ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ وَالْمَعْنَى: أَدْعُو أَنَا إِلَيْهَا مَنِ اتَّبَعَنِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بصيرة خبرا مقدما، وأنا مُبْتَدَأٌ، وَمَنْ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ أَدْعُو، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيَكُونُ أَنَا فَاعِلًا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّائِبِ عَنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَمَنِ اتَّبَعَنِي مَعْطُوفٌ عَلَى أَنَا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ: وَمَنِ اتَّبَعَنِي مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ أَيْ: دَاعٍ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَمَعْنَى بَصِيرَةٍ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ وَبُرْهَانٌ مُتَيَقِّنٌ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «4» وَسُبْحَانَ اللَّهِ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ قُلْ: أَيْ قُلْ، وَتَبْرِئَةُ اللَّهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ أَيْ: بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ. وَلَمَّا أَمَرَ بِأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَدْعُو هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنِ الشُّرَكَاءِ، أَمَرَ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مُنْتَفٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ أَشْرَكَ. وَهُوَ نَفْيٌ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَلَا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ. إِلَّا رِجَالًا حَصَرَ فِي الرُّسُلِ دُعَاةً إِلَى اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ مَلَكًا. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «5»

_ (1) سورة يوسف: 12/ 101. (2) سورة يوسف: 12/ 103. (3) سورة يوسف: 12/ 104. (4) سورة الأنعام: 6/ 104. (5) سورة فصلت: 41/ 14.

وَكَذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي رِجَالًا لَا نِسَاءً، فَالرَّسُولُ لَا يَكُونُ امْرَأَةً، وَهَلْ كَانَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ فِيهِ خِلَافٌ؟ وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ عَلَى مَنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ سَوَاءٌ أُرْسِلَ أَوْ لَمْ يُرْسَلْ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي سَجَاحَ الْمُتَنَبِّئَةِ: أَمْسَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا ... وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا فَلَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ ... عَلَى سَجَاحَ وَمَنْ بِالْإِفْكِ أَغْرَانَا أَعْنِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ لَا سَقِيَتْ ... أَصْدَاؤُهُ مَاءَ مُزْنٍ أَيْنَمَا كَانَا وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَطَلْحَةُ، وَحَفْصٌ: نُوحِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الحاء مبنيا للمفعول. والقرى الْمُدُنُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَهْلُ الْقُرَى أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَإِنَّهُمْ قليل نبلهم، ولم ينشىء اللَّهُ قَطُّ مِنْهُمْ رَسُولًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَلَا مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا مِنَ الْجِنِّ. وَالتَّبَدِّي مَكْرُوهٌ إِلَّا فِي الْفِتَنِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَدَا جَفَا» ثُمَّ اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ. وَالضَّمِيرُ فِي يَسِيرُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، وَمَنْ عَانَدَ الرَّسُولَ وَأَنْكَرَ رِسَالَتَهُ كَفَرَ أَيْ: هَلَا يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ فَيَعْلَمُونَ بِالتَّوَاتُرِ أَخْبَارَ الرُّسُلِ السَّابِقَةِ، وَيَرَوْنَ مَصَارِعَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، فَيَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ؟ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، هَذَا حَضٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِدَارِ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَاتِّقَاءِ الْمُهْلِكَاتِ. فَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَخْرِيجَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَأَصْلُهُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ صِفَتِهِ مَقَامَهُ، وَأَصْلُهُ: وَلَدَارُ الْمُدَّةِ الْآخِرَةِ أَوِ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَالْأَوَّلُ: تَخْرِيجٌ كُوفِيٌّ، وَالثَّانِي: تَخْرِيجٌ بَصْرِيٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ بِالْيَاءِ رَعْيًا لِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ: بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، فَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ أَنَّهَا خَيْرٌ، فَيَتَوَسَّلُوا إِلَيْهَا بِالْإِيمَانِ انْتَهَى. وَالِاسْتِيئَاسُ مِنَ النَّصْرِ، أَوْ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ قولان. وحتى غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَكُونُ لَهُ غَايَةٌ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرٍ فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا، فَتَرَاخَى نَصْرُهُمْ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسُوا عَنِ النَّصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا إِلَى مَا قَبْلَهُمْ، أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى دَعَوْهُمْ فَلَمْ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 90.

يُؤْمِنُوا بِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ بِهِمُ الْمَثُلَاتُ، فَصَارُوا فِي حَيِّزِ مَنْ يَعْتَبِرُ بِعَاقِبَتِهِ، فَلِهَذَا الْمُضَمَّنِ حَسَنٌ أَنْ يَدْخُلَ حَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَحَصَّلْ لَنَا مِنْ كَلَامِهِ شَيْءٌ يَكُونُ مَا بَعْدَ حَتَّى غَايَةً لَهُ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْغَايَةَ بِمَا ادَّعَى أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْنَى مُتَعَلِّقٌ بِالْآيَةِ الْأُولَى فَتَقْدِيرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رجالا يدعوا قَوْمَهُمْ فَكَذَّبُوهُمْ، وَصَبَرُوا وَطَالَ دُعَاؤُهُمْ، وَتَكْذِيبُ قَوْمِهِمْ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمَعْنَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا رِجَالًا، ثُمَّ لَمْ نُعَاقِبْ أُمَمَهُمْ بِالْعِقَابِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْكُوفِيُّونَ: كُذِبُوا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وابن أبي مُلَيْكَةَ، وَالْأَعْرَجُ وَعَائِشَةُ بِخِلَافٍ عَنْهَا بِتَشْدِيدِهَا. وَهُمَا مَبْنِيَّانِ لِلْمَفْعُولِ، فَالضَّمَائِرُ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ عَائِدَةٌ كُلُّهَا عَلَى الرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرُّسُلَ أَيْقَنُوا أَنَّهُمْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمُ الْمُشْرِكُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ يَعْنِي مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ قَالَ: وَالضَّمِيرُ لِلرُّسُلِ، وَالْمُكَذِّبُونَ مُؤْمِنُونَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْ: لَمَّا طَالَتِ الْمَوَاعِيدُ حَسِبَتِ الرُّسُلُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا قَدْ كَذَّبُوهُمْ وَارْتَابُوا بِقَوْلِهِمْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ، فَالضَّمِيرُ فِي وَظَنُّوا عَائِدٌ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِهِمْ فِي الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلِأَنَّ الرُّسُلَ تَسْتَدْعِي مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ، وَفِي أَنَّهُمْ. وَفِي قَدْ كُذِبُوا عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى: وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَّبَهُمْ مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْوَحْيِ عَنِ اللَّهِ وَبِنَصْرِهِمْ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ عَائِدَةً عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ أَيْ: وَظَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَّبَهُمُ الرُّسُلُ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَفِيمَا يُوعِدُونَ بِهِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَهَذَا مَشْهُورُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَأْوِيلُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَائِدَةً عَلَى الرُّسُلِ، لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ كَذَّبَهُ مَنْ جَاءَهُ بِالْوَحْيِ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسُوا مِنَ النَّصْرِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أَيْ: كَذَّبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ حِينَ حَدَّثَتْهُمْ أَنَّهُمْ يُنْصُرُونَ أَوْ رَجَاهُمْ كَقَوْلِهِ: رَجَاءٌ صَادِقٌ وَرَجَاءٌ كَاذِبٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُدَّةَ التَّكْذِيبِ وَالْعَدَاوَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَانْتِظَارُ النَّصْرِ مِنَ اللَّهِ وَتَأْمِيلُهُ قَدْ تَطَاوَلَتْ عَلَيْهِمْ وَتَمَادَتْ، حَتَّى اسْتَشْعَرُوا الْقُنُوطَ، وَتَوَهَّمُوا أَنْ لَا نَصْرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ احْتِسَابٍ انْتَهَى. فَجَعَلَ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا لِلرُّسُلِ، وَجَعَلَ الْفَاعِلَ الَّذِي صُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ كُذِبُوا، إِمَّا أَنْفُسُهُمْ، وَإِمَّا

رَجَاؤُهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: إِخْرَاجُ الظَّنِّ عَنْ مَعْنَى التَّرْجِيحِ، وَعَنْ مَعْنَى الْيَقِينِ إِلَى معنى التوهم، حتى تجري الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ على سنن واحد. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَظَنُّوا، وَفِي قَدْ كُذِبُوا، عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ وَالْمَعْنَى: كَذَّبَهُمْ من تباعدهم عَنِ اللَّهِ وَالظَّنُّ عَلَى بَابِهِ قَالُوا: وَالرُّسُلُ بَشَرٌ، فَضَعُفُوا وَسَاءَ ظَنُّهُمْ. وَرَدَّتْ عَائِشَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَأَعْظَمُوا أَنْ يُوصَفَ الرُّسُلُ بِهَذَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ أَرَادَ بِالظَّنِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، وَيَهْجِسُ فِي الْقَلْبِ مِنْ شُبَهِ الْوَسْوَسَةِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْبَشَرِيَّةُ. وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي هُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا بَالُ رُسُلِ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَعْرَفُ بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ خَلْفِ الْمِيعَادِ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ انْتَهَى. وَآخِرُهُ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ. فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى ظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ أُمَمَهُمْ عَلَى لِسَانِهِمْ قَدْ كُذِبُوا فِيهِ، فَقَدْ أَتَى عَظِيمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ مِثْلُهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا إِلَى صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ ضَعُفُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أُخْلِفُوا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: قَدْ كَذَبُوا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ: وَظَنَّ المرسل إليهم أن الرسل قَدْ كَذَبُوهُمْ فِيمَا قَالُوا عَنِ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالظَّنِّ عَلَى بَابِهِ. وَجَوَابُ إذ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي جَاءَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَنُجِّيَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَشَدِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ هُرْمُزَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الْيَاءَ، وَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ أُدْغِمَتْ فِيهِ النُّونُ فِي الْجِيمِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا تُدْغَمُ النُّونُ فِي الْجِيمِ. وَتَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ مَاضٍ كَالْقِرَاءَةِ الَّتِي قَبْلَهَا سُكِّنَتِ الْيَاءُ فِيهِ لُغَةَ مَنْ يَسْتَثْقِلُ الْحَرَكَةَ صِلَةً عَلَى الْيَاءِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ «1» بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، وَقَرَأَهُمَا فِي الْمَشْهُورِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ فَنُنْجِي بِنُونَيْنِ مُضَارِعُ أَنْجَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْيَاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوَاهَا هُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْ هُبَيْرَةَ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ غَلَطًا، وَلَهَا وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُمَا الْمُضَارِعُ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «2»

_ (1) سورة المائدة: 5/ 89. (2) سورة البقرة: 2/ 284.

بِنَصْبِ يَغْفِرَ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ أَدَاةُ الشَّرْطِ جَازِمَةً، أَوْ غَيْرَ جَازِمَةٍ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ السَّمَيْقَعِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِيسَى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: فَنَجَى، جَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا مُخَفَّفَ الْجِيمِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: وَقَرَأْتُ لِابْنِ مُحَيْصِنٍ فَنَجَّى بِشَدِّ الْجِيمِ فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى مَعْنَى فَنَجَّى النَّصْرَ. وَذَكَرَ الدَّانِيُّ أَنَّ الْمَصَاحِفَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى كَتْبِهَا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي التَّحْبِيرِ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ فَنُنَجِّي بِنُونَيْنِ، الثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ، وَالْجِيمُ مُشَدَّدَةٌ، وَالْيَاءُ سَاكِنَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: مِنَ يَشَاءُ بِالْيَاءِ أَيْ: فَنُجِّيَ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ نَجَاتَهُ. ومن يَشَاءُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْبَأْسُ هُنَا الْهَلَاكُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بَأْسُهُ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ أَيْ: بَأْسُ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: الضَّمِيرُ فِي قَصَصِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، أَوْ عَلَى يُوسُفَ وَأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، أَوْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَيَنْصُرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ قِصَصَهُمْ بِكَسْرِ الْقَافِ انْتَهَى. وَلَا يَنْصُرُهُ إِذْ قَصَصُ يُوسُفَ وَأَبِيهِ وَأُخْوَتِهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قِصَصٍ كَثِيرَةٍ وَأَنْبَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالَّذِي قَرَأَ بِكَسْرِ الْقَافِ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَالْقَصَبِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو جمع قِصَّةٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ الثَّالِثَ، بَلْ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ. وَالْعِبْرَةُ الدَّلَالَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْعِلْمِ. وَإِذَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، فَالِاعْتِبَارُ بِقَصَصِهِمْ مِنْ وُجُوهِ إِعْزَازِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ، وَإِعْلَاؤُهُ بَعْدَ حَبْسِهِ فِي السِّجْنِ، وَتَمَلُّكُهُ مِصْرَ بَعْدَ اسْتِعْبَادِهِ، وَاجْتِمَاعُهُ مَعَ وَالِدَيْهِ وَإِخْوَتِهِ عَلَى مَا أَحَبَّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ الطَّوِيلَةِ. وَالْإِخْبَارُ بِهَذَا الْقَصَصِ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَالْإِعْلَامِ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالٍ وَلَا يَجُولُ فِي فِكْرٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ أُولُو الْأَلْبَابِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِبَرِ، وَمَنْ لَهُ لُبٌّ وَأَجَادَ النَّظَرَ، وَرَأَى مَا فِيهَا مِنِ امْتِحَانٍ وَلُطْفٍ وَإِحْسَانٍ، عَلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ كَانَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْقَصَصِ أَيْ: مَا كَانَ الْقَصَصُ حَدِيثًا مختلقا، بَلْ هُوَ حَدِيثُ صِدْقٍ نَاطِقٌ بِالْحَقِّ جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ، وَلَا تَتَلْمَذَ لِأَحَدٍ، وَلَا خَالَطَ الْعُلَمَاءَ، فَمُحَالٌ أَنْ يَفْتَرِيَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِحَيْثُ تُطَابِقُ مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: مَا كَانَ الْقُرْآنُ

الَّذِي تَضَمَّنَ قَصَصَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ حَدِيثًا يُخْتَلَقُ، وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَاقِعٍ لِيُوسُفَ مَعَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى قَصَصِ يُوسُفَ، أَوْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلِهِ فِي الشَّرِيعَةِ إِنْ عَادَ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيُنَ، وَعِيسَى الْكُوفِيُّ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَصْدِيقٌ وَتَفْصِيلٌ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ بِرَفْعِ الْأَرْبَعَةِ أَيْ: وَلَكِنْ هُوَ تَصْدِيقٌ، وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ أَيْ: كَانَ هُوَ، أَيِ الْحَدِيثُ ذَا تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. وَيُنْشِدُ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ: وَمَا كَانَ مَالِي مِنْ تُرَابٍ وَرِثْتُهُ ... وَلَا دِيَةٍ كَانَتْ وَلَا كَسْبِ مَأْثَمِ وَلَكِنْ عَطَاءُ اللَّهِ مِنْ كُلِّ رِحْلَةٍ ... إِلَى كُلِّ مَحْجُوبِ السَّوَارِقِ خِضْرِمِ بِالرَّفْعِ فِي عَطَاءُ وَنَصْبِهِ أَيْ: وَلَكِنْ هُوَ عَطَاءُ اللَّهِ، أَوْ وَلَكِنْ كَانَ عَطَاءَ اللَّهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ لُوطِ بْنِ عُبَيْدٍ الْعَائِيِّ اللِّصِّ: وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا مَالَ مُسْلِمٍ ... أَخَذْتُ وَلَا مُعْطِيَ الْيَمِينَ مُحَالِفٌ وَلَكِنْ عَطَاءُ اللَّهِ مِنْ مَالِ فَاجِرٍ ... قَصِيِّ الْمَحَلِّ مُعْوِرٍ لِلْمُقَارِفِ وَهُدًى أَيْ سَبَبُ هِدَايَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَرَحْمَةً أَيْ: سَبَبٌ لِحُصُولِ الرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَخُصَّ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «2» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ «3» وَفِي آخِرِهَا: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى إِلَى آخِرِهِ، فَلِذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَصَصِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

_ (1) سُورَةُ البقرة: 2/ 2. (2) سورة يوسف: 12/ 2. (3) سورة يوسف: 12/ 3.

سورة الرعد

سورة الرعد ترتيبها 13 سورة الرّعد آياتها 43 [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)

الْعَمَدُ: اسْمُ جَمْعٍ، وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ جَمْعًا فَلِكَوْنِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْجَمْعِ، وَهِيَ الْأَسَاطِينُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَجَيْشُ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْغُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ وَالْمُفْرَدُ عِمَادٌ وَعَمَدٌ، كَإِهَابٍ وَأَهَبٍ. وَقِيلَ: عَمُودٌ وَعَمَدٌ كَأَدِيمٍ وَأَدَمٍ، وَقَضِيمٍ وَقَضَمٍ. وَالْعِمَادُ وَالْعَمُودُ مَا يُعْمَدُ بِهِ يُقَالُ: عَمَدْتُ الْحَائِطَ أَعْمُدُهُ عَمْدًا إِذَا أَدَعَمْتَهُ، فَاعْتَمَدَ الْحَائِطُ عَلَى الْعِمَادِ أَيْ: امْتَسَكَ بِهَا. وَيُقَالُ: فُلَانٌ عُمْدَةُ قَوْمِهِ إِذَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فيما يحزبهم. وَيُجْمَعُ عِمَادٌ عَلَى عُمُدٍ بِضَمَّتَيْنِ كَشِهَابٍ وَشُهُبٍ، وَعَمُودٍ عَلَى عُمُدٍ أَيْضًا كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَزَبُورٍ وَزُبُرٍ هَذَا فِي الْكَثْرَةِ، وَيُجْمَعَانِ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَعْمِدَةٍ. الصِّنْوُ: الْفَرْعُ يَجْمَعُهُ وَآخَرُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَأَصْلُهُ الْمِثْلُ وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْعَمِّ صِنْوٌ، وَجَمْعُهُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ صِنْوَانٌ بِكَسْرِ الصَّادِ كَقِنْوٍ وَقِنْوَانٍ، وبضمها فِي لُغَةِ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ، كَذِئْبٍ وَذُؤْبَانٍ. وَيُقَالُ: صَنْوَانٌ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهِ. الْجَدِيدُ ضِدُّ الْخَلَقِ وَالْبَالِي، وَيُقَالُ: ثَوْبٌ جَدِيدٌ أَيْ كَمَا فُرِغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَأَنَّهُ كَمَا قُطِعَ مِنَ النَّسْجِ. الْمَثُلَةُ: الْعُقُوبَةُ، وَيُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ كَسَمُوَةٍ وَسَمَاوَاتٍ. وَلُغَةُ الْحِجَازِ مَثْلَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَسُمِّيَتِ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ لِمَا بَيْنَ الْعِقَابِ وَالْمُعَاقَبِ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» أَوْ لِأَنَّهَا مِنَ الْمِثَالِ بِمَعْنَى الْقِصَاصِ. يُقَالُ: أَمْثَلْتُ الرَّجُلَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَأَقْصَصْتُهُ. أَوْ لِأَنَّهَا لِعِظَمِ نَكَالِهَا يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ. السَّارِبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَرَبَ أَيْ تَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِنِّي سَرَبْتُ وَكُنْتُ غَيْرَ سَرُوبِ ... وَتُقَرِّبُ الْأَحْلَامُ غَيْرَ قَرِيبِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ حَلَلْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ أَيْ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ كَيْفَ شَاءَ، لَا يَدْفَعُ عَنْ جِهَةٍ، يَفْتَخِرُ بِعِزَّةِ قَوْمِهِ. الْمِحَالُ: الْقُوَّةُ وَالْإِهْلَاكُ قَالَ الْأَعْشَى:

_ (1) سورة الشورى: 42/ 40.

فَرْعُ نَبْعٍ يَهُشُّ فِي غصن المه ... دِ غَزِيرُ النَّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَلِّبِ: لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ أَبَدًا مِحَالَكَ وَيُقَالُ: مَحَلَ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ مَكَرَ بِهِ وَأَخَذَهُ بِسِعَايَةٍ شَدِيدَةٍ، وَالْمُمَاحَلَةُ الْمُكَايَدَةُ وَالْمُمَاكَرَةُ وَمِنْهُ: تَمَحَّلَ لِكَذَا أَيْ: تَكَلَّفَ اسْتِعْمَالَ الْحِيلَةِ وَاجْتَهَدَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْمِحَالُ النِّقْمَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْمِحَالُ الْجِدَالُ مَا حَلَّ عَنْ أَمْرِهِ أَيْ جَادَلَ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أَيْ شَدِيدُ الْكَيْدِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِيلَةِ، جَعَلَ مِيمَهُ كَمِيمِ مَكَانٍ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكَوْنِ، ثُمَّ يُقَالُ: تَمَكَّنْتُ. وَغَلَّطَهُ الْأَزْهَرِيُّ فِي زِيَادَةِ الْمِيمِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مِفْعَلًا لَظَهَرَ مِنَ الْوَاوِ مِثْلَ مِرْوَدٍ وَمِحْوَلٍ وَمِحْوَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ كَمِهَادٍ وَمِرَاسٍ. الْكَفُّ: عُضْوٌ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَكُفٌّ كَصَكٍّ وَأَصُكٍّ، وَفِي الْكَثْرَةِ كُفُوفٌ كَصُكُوكٍ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ كَفَّ. ظِلُّ الشَّيْءِ: مَا يَظْهَرُ مِنْ خَيَالِهِ فِي النُّورِ، وَبِمِثْلِهِ فِي الضَّوْءِ. الزَّبَدُ: قَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمُ هُوَ مَا يَطْرَحُهُ الْوَادِي إِذَا جَاشَ مَاؤُهُ وَاضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ غُثَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَمَا يَرْمِي بِهِ عَلَى ضَفَّتَيْهِ مِنَ الْحُبَابِ الْمُلْتَبِكِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الزَّبَدُ وَضَرُ الْغَلَيَانِ وَخُبْثُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا الْفُرَاتُ إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ لَهُ ... تَرْمِي غَوَارِبُهُ الْعِبْرَيْنِ بِالزَّبَدِ الْجُفَاءُ: اسْمٌ لَمَا يَجْفَاهُ السَّيْلُ أَيْ يَرْمِي، يُقَالُ: جفأت القدر بزبدها، وجفأ السَّيْلُ بِزَبَدَهِ، وَأَجْفَأَ وَأَجْفَلَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: جُفَاءً أَيْ مُتَفِرِّقًا مِنْ جَفَأْتِ الرِّيحُ الْغَيْمَ إِذَا قَطَعَتْهُ، وَجَفَأَتِ الرَّجُلَ صَرَعَتْهُ. وَيُقَالُ: جَفَّ الْوَادِي إِذَا نَشِفَ. المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ. اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ: الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ إِلَّا قَوْلَهُ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا «1» وَعَنْ غَيْرِهِ إِلَّا قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 43.

الْبَرْقَ إِلَى قَوْلِهِ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ «1» وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ: الْكَلْبِيِّ، وَمُقَاتِلٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَاسْتَثْنَيَا آيَتَيْنِ قَالَا: نَزَلَتَا بِمَكَّةَ وَهُمَا وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «2» إِلَى آخِرِهِمَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا «3» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَعَنْ قَتَادَةَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا «4» الْآيَةَ حَكَاهُ الَمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ حَكَاهُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعْدِ الْبَلُّوطِيُّ وَمَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ السُّورَةُ أَيْ: تِلْكَ آيَاتُ السُّورَةِ الْكَامِلَةِ الْعَجِيبَةِ فِي بَابِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ قَالَ حُرُوفُ أَوَائِلِ السُّورِ مِثَالٌ لِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ قَالَ: الْإِشَارَةُ هنا بتلك هِيَ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَيَصِحُّ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ يُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ والإنجيل. والمر على هذا ابتداء، وتلك ابتداء ثان، وآيات خَبَرُ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَيَكُونُ الرَّابِطُ اسم الإشارة وهو تلك. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى مَا قُصَّ عَلَيْهِ مِنْ أنباء الرسل المشار إليها بِقَوْلِهِ: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَالَّذِي قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَالْإِشَارَةُ بتلك إِلَى جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي قَصَصْتُ عَلَيْكَ خَبَرَهَا هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ قَبْلَ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: والذي مبتدأ، والحق خبره، ومن ربك متعلق بانزل. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ من ربك الخبر، والحق مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ كِلَاهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَهُوَ إِعْرَابٌ مُتَكَلِّفٌ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ وَالَّذِي فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى آيَاتٍ، وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ وَالَّذِي فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ يَكُونَ الْحَقُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ الْحَقُّ، وَيَكُونُ وَالَّذِي أُنْزِلَ مِمَّا عُطِفَ فِيهِ الْوَصْفُ عَلَى الْوَصْفِ وَهُمَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي الظَّرِيفُ الْعَاقِلُ وَأَنْتَ تُرِيدُ شَخْصًا وَاحِدًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الهام ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ صِفَةَ الَّذِي يَعْنِي: إِذَا جَعَلْتَ وَالَّذِي مَعْطُوفًا على آيات.

_ (1) سورة الرعد: 13/ 12- 14. [.....] (2) سورة الرعد: 13/ 31. (3) سورة الرعد: 13/ 31. (4) سورة الرعد: 13/ 31.

وَأَكْثَرُ النَّاسِ قِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ لَا يُصَدِّقُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عَامٌّ. وَلَمَّا ذَكَرَ انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَمَا يَجْذِبُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فِيمَا يُفَكِّرُ فِيهِ الْعَاقِلُ وَيُشَاهِدُهُ مِنْ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَبَدِيعِ الصُّنْعِ. وَالْجَلَالَةُ مبتدأ، والذي هُوَ الْخَبَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً. وَقَوْلُهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَنْصُرُهُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَدٍ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِضَمَّتَيْنِ، وَبِغَيْرِ عَمَدٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: خَالِيَةً عَنْ عَمَدٍ. وَالضَّمِيرُ فِي تَرَوْنَهَا عائد على السموات أي: تشاهدون السموات خَالِيَةً عَنْ عَمَدٍ. وَاحْتَمَلَ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ تَرَوْنَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً أَيْ: رَفَعَهَا مَرْئِيَّةً لَكُمْ بِغَيْرِ عَمَدٍ. وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهُ حِينَ رَفَعَهَا لَمْ نَكُنْ مَخْلُوقِينَ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَرَوْنَهَا عَائِدٌ عَلَى عَمَدٍ أَيْ: بغير عمد مرئية، فترونها صِفَةٌ لِلْعَمَدِ. وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صِفَةً لِعَمَدٍ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: تَرَوْنَهُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ مُذَكَّرًا عَلَى لَفْظِ عَمَدٍ، إِذْ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ. قَالَ أَيِ ابْنُ عَطِيَّةَ: اسْمُ جَمْعِ عَمُودٍ وَالْبَابُ فِي جَمْعِهِ عُمُدٌ بِضَمِّ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ انْتَهَى. وَهُوَ وَهْمٌ، وَصَوَابُهُ: بِضَمِّ الْحَرْفَيْنِ، لِأَنَّ الثَّالِثَ هُوَ حَرْفُ الْإِعْرَابِ فَلَا يُعْتَبَرُ ضَمُّهُ فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ. هَذَا التَّخْرِيجُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَهَا عَمَدٌ، وَلَا تُرَى تِلْكَ الْعَمَدُ، وَهَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا بِعَمَدٍ لَا تُرَى؟ وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَمَدَ جَبَلُ قَافٍ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ، وَالسَّمَاءُ عَلَيْهِ كَالْقُبَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَفْيَ الْعَمَدِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَدِ، فَلَا عَمَدَ وَلَا رُؤْيَةَ أَيْ: لَا عَمَدَ لَهَا فَتُرَى. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أن السموات لَا عَمَدَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ لَهَا عَمَدٌ لا حتاجت تِلْكَ الْعَمَدُ إِلَى عَمَدٍ، وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُمْسَكَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «2» وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْعِمَادُ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ وَاقِفَةٌ فِي الْحَيِّزِ الْعَالِي بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَمَدُهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهَا عِمَادٌ فِي الْحَقِيقَةِ. إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْعَمَدَ إِمْسَاكُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِبْقَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي الْحَيِّزِ الْعَالِي، وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ ذَلِكَ التَّدْبِيرَ، وَلَا تَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ مِنْ دونها دعامة

_ (1) سورة الرعد: 13/ 3. (2) سورة الحج: 22/ 65.

تَدْعَمُهَا، وَلَا فَوْقَهَا عَلَّاقَةٌ تُمْسِكُهَا. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ تَرَوْنَهَا خَبَرٌ فِي اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ أي: رها وَانْظُرُوا هَلْ لَهَا مِنْ عَمَدٍ؟ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «1» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ هُنَا لِعَطْفِ الْجُمَلِ لَا لِلتَّرْتِيبِ، لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ قبل رفع السموات. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثم خلق السموات وَالْأَرْضَ» انْتَهَى. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَيْ: ذَلَّلَهُمَا لِمَا يُرِيدُ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ. وَعَبَّرَ بِالْجَرَيَانِ عَنِ السَّيْرِ الَّذِي فِيهِ سُرْعَةٌ، وكل مُضَافَةٌ فِي التَّقْدِيرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ ضَمِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَيْ: كِلَيْهِمَا يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي ضِمْنِ ذِكْرِهِمَا ذِكْرُ الْكَوَاكِبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ: كُلُّ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ من المسخر، وكل لَفْظَةٌ تَقْتَضِي الْإِضَافَةَ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً انْتَهَى. وَشَرَحَ كُلٌّ بِقَوْلِهِ أَيْ: كُلُّ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَا أَخْرَجَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ ذِكْرِ جَرَيَانِهِمَا إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى زَعْمِهِ: إِنَّ الْكَوَاكِبَ فِي ضِمْنِ ذِكْرِهِمَا أَيْ، وَمِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهِمَا إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهِيَ الْحُدُودُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهَا، قَدَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَيْرًا خَاصًّا إِلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ. وَقِيلَ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِهِ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ الْجَرَيَانُ وَالتَّسْيِيرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «2» وَقَالَ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمَعْنَى تَدْبِيرُ الْأَمْرِ إِنْفَاذُهُ وَإِبْرَامُهُ، وَعَبَّرَ بِالتَّدْبِيرِ تَقْرِيبًا لِلْإِفْهَامِ، إِذِ التَّدْبِيرُ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي إِدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَالْأَمْرُ أَمْرُ مَلَكُوتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ مِنْ إِيجَادٍ وَإِعْدَامٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ وَإِنْزَالِ وَحْيٍ وَبَعْثِ رُسُلٍ وَتَكْلِيفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يَقْضِيهِ وحده، ويفصل الْآيَاتِ يَجْعَلُهَا فُصُولًا مُبَيِّنَةً مُمَيِّزًا بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ. والآيات هُنَا دَلَائِلُهُ وَعَلَامَاتُهُ فِي سمواته عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، أَوْ آيَاتُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوْ آيَاتُ الْقُرْآنِ أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ، عَنْ قَتَادَةَ: نُدَبِّرُ الْأَمْرَ نُفَصِّلُ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ الْحَسَنِ فِيهِمَا، وَافَقَ فِي نُفَصِّلُ بِالنُّونِ الْخِفَافِ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ نُفَصِّلُ بِالنُّونِ فَقَطْ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: لَمْ يُخْتَلَفْ فِي يُدَبِّرُ، أَوْ لَيْسَ كَمَا قَالَ؟ إِذْ قَدْ تَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ أَبَانٍ. وَنَقَلَ الدَّانِيُّ عَنِ الْحَسَنِ: وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ أَنْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 54. (2) سورة التكوير: 81/ 1.

اسْتِفْهَامُ إِخْبَارٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يُدَبِّرُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَسَخَّرَ، ونفصل حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُدَبِّرُ، وَالْخِطَابُ فِي لَعَلَّكُمْ للكفرة، وتوقنون بِالْجَزَاءِ أَوْ بِأَنَّ هَذَا الْمُدَبِّرَ وَالْمُفَصِّلَ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ: لَمَّا قَرَّرَ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ أَرْدَفَهَا بِتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ. ومد الْأَرْضَ: بَسَطَهَا طُولًا وَعَرْضًا لِيُمْكِنَ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا. قِيلَ: مَدَّهَا وَدَحَاهَا مِنْ مَكَّةَ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ، فَذَهَبَتْ كَذَا وَكَذَا. وَقِيلَ: كَانَتْ مُجْتَمِعَةً عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي كَذَا وَكَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مَدَّ الْأَرْضَ، يَقْتَضِي أَنَّهَا بَسِيطَةٌ لَا كُرَةٌ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الشَّرِيعَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّارَانِيُّ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: مَدَّ الْأَرْضَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ عَظِيمٌ. وَالْكُرَةُ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الكبر كان كل قِطْعَةٌ مِنْهَا تُشَاهَدُ كَالسَّطْحِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّطْحِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَالْجِبالَ أَوْتاداً «1» مَعَ أَنَّ الْعَالَمَ وَالنَّاسَ يَسِيرُونَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ هُنَا. وَأَيْضًا إِنَّمَا ذَكَرَ مَدَّ الْأَرْضِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَكَوْنُهَا مُجْتَمِعَةً تَحْتَ الْبَيْتِ أَمْرٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلَا مَحْسُوسٍ، فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ. فَتَأْوِيلُ مَدَّ الْأَرْضَ أَنَّهُ جَعَلَهَا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَكَوْنُهَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ أَمْرٌ جَائِزٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، فَالِاخْتِصَاصُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصَّصٍ، وَتَقْدِيرِ مُقَدَّرٍ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: الْمَدُّ الْبَسْطُ إِلَى مَا لَا يُرَى مُنْتَهَاهُ، فَالْمَعْنَى: جَعَلَ الْأَرْضَ حَجْمًا يَسِيرًا لَا يَقَعُ الْبَصَرُ عَلَى مُنْتَهَاهُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ أَصْغَرَ حَجْمًا مِمَّا هِيَ الْآنَ عَلَيْهِ لَمَا كَمُلَ الانتفاع بِهِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَصْغَرَ إِلَى آخِرِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَعْمُورُ، وَالْمَعْمُورُ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِ الْمَعْمُورِ بِكَثِيرٍ. فَلَوْ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا مِقْدَارَ الْمَعْمُورِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمُتَنِعًا، فَتَحْصُلُ فِي قَوْلِهِ: مَدَّ الْأَرْضَ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ بَسَطَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً، وَاخْتِصَاصُهَا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَجَعَلَ حَجْمَهَا كَبِيرًا لَا يُرَى مُنْتَهَاهُ. وَالرَّوَاسِي الثَّوَابِتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِهِ خَالِدَاتٌ مَا يرمن وهامد ... وأشعت أرسته الوليدة بالقهر

_ (1) سورة النبأ: 78/ 7.

وَالْمَعْنَى: جِبِالًا رَوَاسِيَ، وَفَوَاعِلُ الْوَصْفِ لَا يَطَّرِدُ إِلَّا فِي الْإِنَاثِ، إِلَّا أَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مِنَ الْمُذَكَّرِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ يُجْرَى مَجْرَى جَمْعِ الْإِنَاثِ. وَأَيْضًا فَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْجِبَالِ وَصْفُهَا بِالرَّوَاسِي، وَصَارَتِ الصِّفَةُ تُغْنِي عَنِ الْمَوْصُوفِ، فَجُمِعَ جَمْعَ الِاسْمِ كَحَائِطٍ وَحَوَائِطَ وَكَاهِلٍ وَكَوَاهِلَ. وَقِيلَ: رَوَاسِيَ جَمْعُ رَاسِيَةٍ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ وَصْفُ الْجَبَلِ. كَانَتِ الْأَرْضُ مُضْطَرِبَةً فَثَقَّلَهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ فِي أَحْيَازِهَا فَزَالَ اضْطِرَابُهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِوُجُودِ الْجِبَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ. قِيلَ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ وَاحِدَةٌ، فَحُصُولُ الْجَبَلِ فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ قَادِرٍ حَكِيمٍ، وَمِنْ جِهَةِ مَا يَحْصُلُ مِنْهَا مِنَ الْمَعَادِنِ الْجَوْهَرِيَّةِ وَالرُّخَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا كَالنِّفْطِ وَالْكِبْرِيتِ يَكُونُ الْجَبَلُ وَاحِدًا فِي الطَّبْعِ، وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ وَاحِدٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ قَاهِرٍ مُتَعَالٍ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمِنْ جِهَةِ تَوَلُّدِ الأنهار منها. قيل: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَبَلَ جِسْمٌ صَلْبٌ، وَيَتَصَاعَدُ بُخَارُهُ مِنْ قعر الأرض إليه ويحتبس هُنَاكَ، فَلَا يَزَالُ يَتَكَامَلُ فِيهِ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، فَلِقُوَّتِهَا تَشُقُّ وَتَخْرُجُ وَتَسِيلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إذا ذكر الله تعالى الْجِبَالَ ذَكَرَ الْأَنْهَارَ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً «1» وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً «2» فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْأَنْهَارُ الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَسِيلُ الْمَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْأَنْهَارِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ كُلِّ الثَّمَرَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْأَنْهَارَ ذَكَرَ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا وَهُوَ الثَّمَرَاتُ، وَالزَّوْجُ هُنَا الصِّنْفُ الْوَاحِدُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الِاثْنَيْنِ، يَعْنِي أَنَّهُ حِينَ مَدَّ الْأَرْضَ جَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَكَثَّرَتْ وَتَنَوَّعَتْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالزَّوْجَيْنِ الْأَسْوَدَ وَالْأَبْيَضَ، وَالْحُلْوَ وَالْحَامِضَ، وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ مَوْجُودٌ فِيهَا نَوْعَانِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ ثَمَرَةٍ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعَيْنِ فَغَيْرُ ضَارٍّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَالَ الْكِرِمَانِيُّ: الزَّوْجُ وَاحِدٌ، وَالزَّوْجُ اثْنَانِ، وَلِهَذَا قُيِّدَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّوْجِ هُنَا الْفَرْدُ لَا التَّثْنِيَةُ، فَيَكُونُ أَرْبَعًا. وَخَصَّ اثْنَيْنِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، إِذْ لَا نَوْعَ تَنْقُصُ أَصْنَافُهُ عَنِ اثْنَيْنِ انْتَهَى. وَيُقَالُ: إِنَّ فِي كُلِّ ثمرة ذكر وَأُنْثَى، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالَمَ وَخَلَقَ فِيهِ الْأَشْجَارَ، خَلَقَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ اثْنَيْنِ فَقَطْ. فَلَوْ قَالَ: خلق

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 27. (2) سورة النحل: 16/ 15.

زَوْجَيْنِ، لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ النَّوْعُ أَوِ الشَّخْصُ، فَلَمَّا قَالَ: اثْنَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لَا أَقَلَّ وَلَا أَزْيَدَ. فَالشَّجَرُ وَالزَّرْعُ كَبَنِي آدَمَ، حَصَلَ مِنْهُمْ كَثْرَةٌ، وَابْتِدَاؤُهُمْ مِنْ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بِالشَّخْصِ وَهُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الثَّمَرَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ رَبُو الْجَنَّةِ فِي الْأَرْضِ، وَشَقَّ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، فَمِنَ الشَّقِّ الْأَعْلَى الشَّجَرَةُ الصَّاعِدَةُ، وَمِنَ الْأَسْفَلِ الْعُرُوقُ الْغَائِصَةُ، وَطَبِيعَةُ تِلْكَ الْجَنَّةِ وَاحِدَةٌ، وَتَأْثِيرَاتُ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ فِيهَا وَاحِدٌ. ثُمَّ يَخْرُجُ من الأعلى مَا يَذْهَبُ صُعُدًا فِي الْهَوَاءِ، وَمِنَ الْأَسْفَلِ مَا يَغُوصُ فِي الثَّرَى، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ طَبِيعَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ حَكِيمٍ. ثُمَّ تِلْكَ الشَّجَرَةُ يَكُونُ بَعْضُهَا خَشَبًا، وَبَعْضُهَا لَوْزًا، وَبَعْضُهَا ثَمَرًا، ثُمَّ تِلْكَ الثَّمَرَةُ يَحْصُلُ فِيهَا أَجْسَامٌ مُخْتَلِفَةُ الطَّبَائِعِ وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَلْخِيصٌ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ عَطْفِ الْمُفْرِدَاتِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى اثْنَيْنِ، وَقِيلَ: الزَّوْجَانِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَقِيلَ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وقراءاتها فِي الْأَعْرَافِ. وَخَصَّ الْمُتَفَكِّرِينَ لِأَنَّ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الصَّنِيعِ الْعَجِيبِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالتَّفَكُّرِ. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: قِطَعٌ جَمْعُ قِطْعَةٍ وَهِيَ الجزء. ومتجاورات متلاصقة متداينة، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ: أَرْضٌ طَيِّبَةٌ وَأَرْضٌ سَبِخَةٌ، نَبَتَتْ هَذِهِ، وَهَذِهِ إِلَى جَنْبِهَا لَا تَنْبُتُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْقُرَى الْمُتَجَاوِرَةَ. وَقِيلَ: مُتَجَاوِرَةً فِي الْمَكَانِ، مُخْتَلِفَةً فِي الصِّفَةِ، صلبة إلى رخوة. وسحرا إِلَى مَرْدٍ أَوْ مُخْصِبَةً إِلَى مُجْدِبَةٍ، وَصَالِحَةً لِلزَّرْعِ لَا لِلشَّجَرِ، وَعَكْسَهَا مَعَ انْتِظَامِ جَمِيعِهَا فِي الْأَرْضِيَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مَعْطُوفٌ أَيْ: وَغَيْرُ مُتَجَاوِرَاتٍ. وَالْمُتَجَاوِرَاتُ الْمُدُنُ وَمَا كَانَ عَامِرًا، وَغَيْرُ الْمُتَجَاوِرَاتِ الصَّحَارِي وَمَا كَانَ غَيْرَ عَامِرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ وَصْفِهِ لَهَا بِالتَّجَاوُرِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَوْعٍ وَاحِدٍ. وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا أَبْيَنُ، لِأَنَّهَا مَعَ اتِّفَاقِهَا في الترب وَالْمَاءِ تُفَضِّلُ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ بَعْضَ أَكْلِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: «الدَّقَلُ، وَالْقَارِسُ، وَالْحُلْوُ، وَالْحَامِضُ» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَيَّدَ مِنْهَا فِي هَذَا الْمِثَالِ مَا جَاوَرَ وَقَرُبَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ ذَلِكَ فِي الْأَكْلِ أَغْرَبُ.

وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَعَلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَجَنَّاتٌ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِالنَّصْبِ، بِإِضْمَارِ فَعْلٍ. وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى رَوَاسِيَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالْعَطْفِ عَلَى زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَوْ بِالْجَرِّ عَلَى كُلِّ الثَّمَرَاتِ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى إِضْمَارُ فِعْلٍ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي هَذِهِ التَّخَارِيجِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ بِالرَّفْعِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى مُرَاعَاةِ قِطَعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى أَعْنَابٍ، وَلَيْسَتْ عِبَارَةً مُحَرَّرَةً أَيْضًا، لِأَنَّ فِيهَا مَا لَيْسَ بِعَطْفٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: صِنْوَانٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفْضِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مُرَاعَاةِ مِنْ أَعْنَابٍ قَالَ: وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مِنَ الْأَعْنَابِ مِنْ رَفْعِ الزَّرْعِ، وَالْجَنَّةُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الْأَعْنَابُ، وَفِي ذَلِكَ تَجُوزُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّ عَيْنِي فِي غَرْبَيَّ مُقْبِلَةٌ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سحقه أَيْ نَخِيلَ جَنَّةٍ، إِذْ لَا يُوصَفُ بِالسُّحْقِ إِلَّا النَّخْلُ. وَمَنْ خَفَضَ الزَّرْعَ فَالْجَنَّاتُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ لَا مِنَ الزَّرْعِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمَزْرَعَةِ جَنَّةٌ إِلَّا إِذَا خَالَطَهَا ثَمَرَاتٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صِنْوَانٌ بِكَسْرِ الصَّادِّ فِيهِمَا، وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَالسُّلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِضَمِّهَا، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِهَا، وَبِالْفَتْحِ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ، كَالسَّعْدَانِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُسْقَى بِالْيَاءِ، أَيْ: يُسْقَى مَا ذُكِرَ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ. أَنَّثُوا لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى لَفْظِ مَا تَقَدَّمَ، ولقوله: ونفضل بِالنُّونِ. وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْيَاءِ فِي تُسْقَى، وَفِي نُفَضِّلُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْحَلَبِيُّ عَنْ عَبْدِ الوارث: ويفضل بالياء، وفتح الضاد بعضها بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَّطَ الْمَصَاحِفَ. وَتَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي ضَمِّ الْكَافِ من الأكل وسكونها. والأكل بِضَمِّ الْهَمْزَةِ الْمَأْكُولُ كَالنَّقْضِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوضِ، وَبِفَتْحِهَا الْمَصْدَرُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ تَفْسِيرِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ لِلصِّنْوَانِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صِنْوَانٌ، صِفَةً لِقَوْلِهِ: وَنَخِيلٌ. وَمَنْ فَسَّرَهُ مِنْهُمْ بِالْمِثْلِ جَعَلَهُ وَصْفًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ: أَشْكَالٌ، وَغَيْرُ أَشْكَالٍ. قِيلَ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قِنْوٌ وَقِنْوَانٌ، وَلَا يُوجَدُ لَهُمَا ثَالِثٌ ونص على الصنوان لِأَنَّهَا بِمِثَالِ التَّجَاوُرِ فِي الْقِطَعِ، فَظَهَرَ فِيهَا غَرَابَةُ اخْتِلَافِ الْأُكُلِ. وَمَعْنَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ: مَاءُ مَطَرٍ، أَوْ مَاءُ بَحْرٍ، أَوْ مَاءُ نَهَرٍ، أَوْ مَاءُ عَيْنٍ، أَوْ مَاءُ نَبْعٍ لَا يَسِيلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَخَصَّ التَّفْضِيلَ فِي الْأُكُلِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةً فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ غَالِبُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ

مِنَ الثَّمَرَاتِ. أَلَا تَرَى إِلَى تَقَارُبِهَا فِي الْأَشْكَالِ، وَالْأَلْوَانِ، وَالرَّوَائِحِ، وَالْمَنَافِعِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ؟ قِيلَ: نَبَّهَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّجَرَةَ تَخْرُجُ أَغْصَانُهَا وَثَمَرَاتُهَا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَلَا تَتَقَدَّمُ، ثُمَّ يَتَصَعَّدُ الْمَاءُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عُلُوًّا عُلُوًّا وَلَيْسَ مِنْ طَبْعِهِ إِلَّا التَّسَفُّلُ، يَتَفَرَّقُ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ وَالثَّمَرِ كُلٌّ بِقِسْطِهِ وَبِقَدْرِ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ طُعُومُ الثِّمَارِ وَالْمَاءُ وَاحِدٌ، وَالشَّجَرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مُدَبِّرٍ دَبَّرَهُ وَأَحْكَمَهُ، لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ الرَّاجِزُ: وَالْأَرْضُ فِيهَا عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ ... تُخْبِرُ عَنْ صُنْعِ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ أَشْجَارُهَا ... وَبُقْعَةٌ وَاحِدَةٌ قَرَارُهَا وَالشَّمْسُ وَالْهَوَاءُ لَيْسَ يَخْتَلِفُ ... وَأَكْلُهَا مُخْتَلِفٌ لَا يَأْتَلِفُ لَوْ أَنَّ ذَا مِنْ عَمَلِ الطَّبَائِعِ ... أَوْ أَنَّهُ صَنْعَةُ غَيْرِ صَانِعِ لَمْ يَخْتَلِفْ وَكَانَ شَيْئًا وَاحِدَا ... هَلْ يُشْبِهُ الْأَوْلَادَ إِلَّا الْوَالِدَا الشَّمْسُ وَالْهَوَاءُ يَا مُعَانِدُ ... وَالْمَاءُ وَالتُّرَابُ شَيْءٌ وَاحِدُ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ ذَا التَّفَاضُلَا ... إِلَّا حَكِيمٌ لَمْ يُرِدْهُ بَاطِلًا وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقُلُوبِ بَنِي آدَمَ، كَانَتِ الْأَرْضُ طِينَةً وَاحِدَةً فَسَطَّحَهَا، فَصَارَتْ قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا مَاءٌ وَاحِدٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُخْرِجُ هَذِهِ زَهْرَةً وَثَمَرَةً، وَتُخْرِجُ هَذِهِ سَبِخَةً وَمِلْحًا وَخُبْثًا. وَكَذَلِكَ النَّاسُ خُلِقُوا مِنْ آدَمَ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مُذَكِّرَةً، فربت قُلُوبٌ وَخَشَعَتْ قُلُوبٌ، وَقَسَتْ قُلُوبٌ وَلَهَتْ قُلُوبٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا جَالَسَ أَحَدٌ الْقُرْآنَ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ. قَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1» انْتَهَى، وَهُوَ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ. إِنَّ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ، لَآيَاتٌ: لَحُجَجًا وَدَلَالَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: يَعْلَمُونَ الْأَدِلَّةَ فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَشْيَاءَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ مِنْ مُشَاهَدَةِ تَجَاوُرِ الْقِطَعِ، وَالْجَنَّاتِ وَسَقْيِهَا وَتَفْضِيلِهَا، جَاءَ خَتْمُهَا بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، بِخِلَافِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَمَزِيدِ نَظَرٍ جَاءَ خَتْمُهَا بِقَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 82.

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ: وَلَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِمَا أَوْدَعَهُ مِنَ الْغَرَائِبِ فِي مَلَكُوتِهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِوَاهُ، عَجِبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من إنكار المشركين وجدانيته، وَتَوْهِينِهِمْ قُدْرَتَهُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ فَنَزَلَ: وَإِنْ تَعْجَبْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ تَعْجَبْ من تكذيبهم إياك بعد ما كَانُوا حَكَمُوا عَلَيْكَ أَنَّكَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَهَذَا أَعْجَبُ. وَقِيلَ: وَإِنْ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نفعا بعد ما عَرَفُوا الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَهَذَا أَعْجَبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا مُحَمَّدُ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَقَوْلُهُمْ عَجِيبٌ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِنْشَاءِ مَا عَدَّدَ عَلَيْكَ مِنَ الْفِطَرِ الْعَظِيمَةِ، وَلِمَ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، كَانَتِ الْإِعَادَةُ أَهْوَنَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَأَيْسَرَهُ، فَكَانَ إِنْكَارُهُمْ أُعْجُوبَةً مِنَ الْأَعَاجِيبِ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ جَعَلَ مُتَعَلِّقَ عَجَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ قولهم في إنكار البعث، فَاتَّحَدَ الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ، إِذْ صَارَ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ فَاعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَإِنَّمَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ أَنْ يَقَعَ مِنْكَ عَجَبٌ، فَلْيَكُنْ مِنْ قولهم: أءذا كُنَّا الْآيَةَ. وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ: هُوَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَرِعُ لِلْأَشْيَاءِ. وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِبْرَازِهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «1» وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ: هَيِّنٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ، أَيْ: إِنْ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جَهَالَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، فَهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَعَجِيبٌ وَغَرِيبٌ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمُ الْعَوْدَ بَعْدَ كَوْنِنَا خَلْقًا جَدِيدًا. وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَنْزَعًا آخَرَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدَ عَجَبًا فَهَلُمَّ، فَإِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ قَوْلَهُمْ انْتَهَى. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الِاسْتِفْهَامَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا، هُنَا مَوْضِعٌ، وَكَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْعَنْكَبُوتِ، وَفِي النَّمْلِ، وَفِي السَّجْدَةِ، وَفِي الْوَاقِعَةِ، وَفِي وَالنَّازِعَاتِ، وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْضِعَانِ، وَكَذَا فِي وَالصَّافَّاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِجَعْلِ الْأَوَّلِ اسْتِفْهَامًا، وَالثَّانِي خَبَرًا، إِلَّا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَالنَّمْلِ بِعَكْسِ نَافِعٍ. وجمع

_ (1) سورة الروم: 30/ 27.

الْكِسَائِيُّ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ فِي الْعَنْكَبُوتِ، وَأَمَّا فِي النَّمْلِ فَعَلَى أَصْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ نُونًا فَقَرَأَ: إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ «1» وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِجَعْلِ الْأَوَّلِ خَبَرًا، وَالثَّانِي اسْتِفْهَامًا، إِلَّا فِي النَّمْلِ وَالنَّازِعَاتِ فَعَكْسٌ، وَزَادَ فِي النَّمْلِ نُونًا كَالْكِسَائِيِّ. وَإِلَّا فِي الْوَاقِعَةِ فَقَرَأَهُمَا بِاسْتِفْهَامَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ وَحَفْصًا قَرَأَ فِي الْعَنْكَبُوتِ بِالْخَبَرِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالِاسْتِفْهَامِ فِي الثَّانِي، وَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَحْقِيقٍ وَفَصْلٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَتَرْكِهِ. وَقَوْلُهُمْ: فَعَجَبٌ، هُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ صِفَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْمَعْنَى بِمُطْلَقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِهِ وَتَقْدِيرُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: فَعَجَبٌ أَيْ عَجَبٌ، أَوْ فَعَجَبٌ غَرِيبٌ. وَإِذَا قَدَّرْنَاهُ مَوْصُوفًا جَازَ أَنْ يُعْرَبَ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِيهَا مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْوَصْفُ، وَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْخَبَرِ مَعْرِفَةً ذَلِكَ. كَمَا أَجَازَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ فِي كَمْ مَالِكٍ؟ لِمُسَوِّغِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ، وَفِي نَحْوِ: اقْصِدْ رَجُلًا خَيْرٌ مِنْهُ أَبُوهُ، لِمُسَوِّغِ الِابْتِدَاءِ أَيْضًا، وَهُوَ كَوْنُهُ عَامِلًا فِيمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَقِيلَ عَجَبٌ بِمَعْنَى مُعَجَّبٍ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ قَوْلُهُمْ بِهِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ لَا يجوز، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الْعَمَلِ كَحُكْمِهِ، فَمُعَجَّبٌ يَعْمَلُ، وَعَجَبٌ لَا يَعْمَلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلًا كَذَبَحَ، وَفِعْلًا كَقَبَضَ، وَفُعْلَةً كَغُرْفَةٍ، هِيَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَلَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذَبَحَ كَبْشَهُ، وَلَا بَرَجُلٍ قَبَضَ مَالَهُ، وَلَا بَرَجُلٍ غَرَفَ مَاءَهُ، بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ كَبْشُهُ وَمَقْبُوضٍ مَالُهُ وَمَعْرُوفٍ مَاؤُهُ. وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ تَنُوبُ فِي الدَّلَالَةِ لَا فِي الْعَمَلِ عَنِ الْمَفْعُولِ. وَقَدْ حَصَرَ النَّحْوِيُّونَ مَا يَرْفَعُ الْفَاعِلَ، والظاهر أن أءذا مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِمْ مَحْكِيٌّ بِهِ. وقال الزمخشري: أءذا كُنَّا إِلَى آخِرِ قَوْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ انْتَهَى. هَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ، وَعُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. وإذا مُتَمَحِّضَةٌ لِلظَّرْفِ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، فَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ يُفَسِّرُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَتَقْرِيرُهُ: أَنُبْعَثُ، أَوْ أَنُحْشَرُ. أُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَائِلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ مُصَمَّمٌ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَلِذَلِكَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ إِذْ عجزوا قدرته عن إِعَادَةِ مَا أَنْشَأَ وَاخْتَرَعَ ابْتِدَاءً. وَلَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا ذَكَرَ ما يؤولون إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُشَارٌ إِلَيْهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَغْلَالَ تَكُونُ حَقِيقَةً فِي أَعْنَاقِهِمْ كَالْأَغْلَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ

_ (1) سورة النمل: 27/ 67.

وَالسَّلَاسِلُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا أَيْ: هُمْ مَغْلُولُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَتَجْرِي إِذَا مَجْرَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا «1» وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ وَقِيلَ: الْأَغْلَالُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ فِي أَعْنَاقِهِمْ كَالْأَغْلَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مشار إِلَيْهِمْ رَادَّةٍ عَلَيْهِمْ مَا أَنْكَرُوهُ مِنَ الْبَعْثِ، إِذْ لَا يَكُونُ أَصْحَابُ النَّارِ إِلَّا بَعْدَ الْحَشْرِ. وَلَمَّا كَانُوا مُتَوَعَّدِينَ بِالْعَذَابِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، وَكَانُوا مُكَذِّبِينَ بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، سَأَلُوا وَاسْتَعْجَلُوا فِي الطَّلَبِ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا قَالُوا: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «2» وَقَالُوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «3» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّيِّئَةُ الْعَذَابُ، وَالْحَسَنَةُ الْعَافِيَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالشَّرِّ قَبْلَ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: بِالْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَةِ قَبْلَ الرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ أَيْ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُخْفِ عُقُولِهِمْ، إِذْ يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ. وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ تَعْذِيبُ أَمْثَالِهِمْ لَكَانُوا رُبَّمَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ، وَلَكِنَّهُمْ لا يعتبرون فيستهزؤون. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَثُلَاتُ الْعُقُوبَاتُ الْمُسْتَأْصِلَاتُ، كَمَثُلَاتِ قَطْعِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَنَحْوِهِمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: النَّقِمَاتُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقَائِعُ اللَّهِ الْفَاضِحَةُ، كَمَسْخِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ التَّاءِ، وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَيْرٍ وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَأَبُو بَكْرٍ: بِضَمِّهِمَا، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثاء. ولذو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ترجية للغفران، وعلى ظُلْمِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِاكْتِسَابِ الذُّنُوبِ أَيْ: ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ في القرآن آية أرجى مِنْ هَذِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لِيَغْفِرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى وَقَوْمٌ: لِيَغْفِرَ لَهُمُ الظُّلْمَ السَّالِفَ بِتَوْبَتِهِمْ فِي الْآنِفِ. وَقِيلَ: لِيَغْفِرَ السَّيِّئَاتِ الصَّغِيرَةَ لمجتنب الكبائر.

_ (1) سورة يس: 36/ 8. [.....] (2) سورة الأنفال: 8/ 32. (3) سورة الإسراء: 17/ 92.

وَقِيلَ: لِيَغْفِرَ لَهُمْ بِسَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ، فَلَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ مَعَ تَعْجِيلِهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ هُنَا هُوَ سَتْرُهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمْهَالُهُ لِلْكَفَرَةِ. أَلَا تَرَى التَّيْسِيرَ فِي لَفْظِ مَغْفِرَةٍ، وَأَنَّهَا مُنْكَرَةٌ مُقَلَّدَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا مُبَالَغَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ «1» وَمَحَطُّ الْآيَةِ يُعْطِي هَذَا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ بِالنَّارِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ، فَلَمَّا ظَهَرَ سُوءُ فِعْلِهِمْ وَجَبَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ تَعْذِيبُهُمْ، فَأَخْبَرَ بِسِيرَتِهِ فِي الْأُمَمِ، وَأَنَّهُ يُمْهِلُ مَعَ ظلم الكفرة انتهى. ولشديد الْعِقَابِ: تَخْوِيفٌ وَارْتِقَابٌ بَعْدَ تَرْجِيَةٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ لَمَا هَنَأَ لِأَحَدٍ عَيْشٌ، ولولا عقابه لا تكل كُلُّ أَحَدٍ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَوْ عَلِمَ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ لَمَا أَمْسَكَ عَنْ ذَنْبٍ، وَلَوْ عَلِمَ قَدْرَ عُقُوبَتِهِ لَقَمَعَ نَفْسَهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ وَضَعَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: «أَنَا مُنْذِرٌ» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَنْكِبِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «أَنْتَ الْهَادِي يَا عَلِيُّ، بِكَ يَهْتَدِي مَنْ بَعْدِي» ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكُو الْعَرَبِ، أَوْ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ مِنْ مُشْرِكِيهِمْ وَالْكُفَّارِ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالْآيَاتِ الْخَارِقَةِ الْمُنَزَّلَةِ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَانْقِيَادِ الشَّجَرِ، وَانْقِلَابِ الْعَصَا سَيْفًا، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، وَأَمْثَالِ هَذِهِ. فَاقْتَرَحُوا عِنَادًا آيَاتٍ كَالْمَذْكُورَةِ فِي سُبْحَانَ، وَفِي الْفُرْقَانِ كَالتَّفْجِيرِ لِلْيَنْبُوعِ، وَالرُّقِيِّ فِي السَّمَاءِ، وَالْمُلْكِ، وَالْكَنْزِ، فقال تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ تُخَوِّفُهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَنَاصِحٌ كَغَيْرِكَ مِنَ الرُّسُلِ، لَيْسَ لَكَ الْإِتْيَانُ بِمَا اقْتَرَحُوا. إِذْ قَدْ أَتَى بِآيَاتٍ عَدَدَ الْحَصَا، وَالْآيَاتُ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى، لَا تَفَاوُتَ فِيهَا. فَالِاقْتِرَاحُ إِنَّمَا هُوَ عِنَادٌ، وَلَمْ يُجْرِ اللَّهُ الْعَادَةَ بِإِظْهَارِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرِحَةِ إِلَّا لِلْآيَةِ الَّتِي حَتَّمَ بِعَذَابِهَا وَاسْتِئْصَالِهَا. وهاد: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَطَفَ عَلَى مُنْذِرٌ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ، وَبِهِ قَالَ: عِكْرِمَةُ، وَأَبُو الضُّحَى. فَإِنْ أَخَذْتَ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، عَلَى الْعُمُومِ فَمَعْنَاهُ: وَدَاعٍ إِلَى الْهُدَى، كَمَا قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ» فَإِنْ أَخَذْتَ هاد على حقيقته فكل قَوْمٍ مَخْصُوصٌ أَيْ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ قَائِلِينَ هَادٍ. وَقِيلَ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ سَلَفَتْ هَادٍ أَيْ: نَبِيٌّ يَدْعُوهُمْ. وَالْقَصْدُ: فَلَيْسَ أَمْرُكَ بِبِدْعٍ وَلَا مُنْكَرٍ، وَبِهِ قَالَ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالزَّجَّاجُ قَالَ: نبي

_ (1) سورة طه: 20/ 82.

يَدْعُوهُمْ بِمَا يُعْطَى مِنَ الْآيَاتِ، لَا بِمَا يَتَحَكَّمُونَ فِيهِ مِنَ الِاقْتِرَاحَاتِ. وَتَبِعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَقَالَ: هَادٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَهْدِيهِمْ إِلَى الدِّينِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَبِآيَةٍ خُصَّ بِهَا، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَشْيَاءَ شَرْعًا وَاحِدًا فِي آيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْهَادِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وابن جبير، وهاد: عَلَى هَذَا مُخْتَرِعٌ لِلْإِرْشَادِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَلْفَاظٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتُعْرَفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي هَذَا الْقَوْلِ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ كَوْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ آيَاتٍ وَيُعَانِدُونَ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُنْذِرَ، لَا أَنْ تُثْبِتَ الْإِيمَانَ بِالْإِلْجَاءِ، وَالَّذِي يُثْبِتُهُ بِالْإِلْجَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي تبع فيه مجاهد، وَابْنَ زَيْدٍ مَا نَصُّهُ: وَلَقَدْ دَلَّ بِمَا أَرْدَفَهُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِ عِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَضَايَا حِكْمَتِهِ، أَنَّ إِعْطَاءَ كُلِّ مُنْذِرٍ آيَاتٍ أَمْرٌ مُدَبَّرٌ بِالْعِلْمِ النَّافِذِ، مُقَدَّرٌ بِالْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَلَوْ عَلِمَ فِي إِجَابَتِهِمْ إِلَى مُقْتَرَحِهِمْ خَيْرًا أَوْ مَصْلَحَةً لَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا فِي مَعْنَى أَنَّ الْهَادِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: بِالْإِلْجَاءِ عَلَى زَعْمِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ دَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْقُدْرَةِ قُدْرَتَهُ وَهَذَا عِلْمُهُ، هُوَ الْقَادِرُ وَحْدَهُ عَلَى هِدَايَتِهِمُ الْعَالِمُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَهْدِيهِمْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ لِغَيْرِهِ انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْهَادِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِثَالًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَهُدَاتِهَا إِلَى الدِّينِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ يَا عَلِيُّ هَذَا وَصْفُكَ، لِيَدْخُلَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُلَمَاءُ كُلِّ عَصْرٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: إِنَّمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ دُعَاةٌ هُدَاةٌ إِلَى الْخَيْرِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْهَادِي الْعَمَلُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: ولكل قوم سابق سَبَقَهُمْ إِلَى الْهُدَى إِلَى نَبِيِّ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: هَادٍ قَائِدٌ إِلَى الْخَيْرِ أَوْ إِلَى الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى فِي الْخَيْرِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ «1» وَقَالَ فِي الشَّرِّ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «2» قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَوَقَفَ ابْنُ كثير على هاد وواق حيث واقعا، وعلى وال هنا وباق فِي النَّحْلِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِهَا. وَفِي الْإِقْنَاعِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَاذِشِ عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ: الْوَقْفُ عَلَى جَمِيعِ الْبَابِ

_ (1) سورة الحج: 22/ 24. (2) سورة الصافات: 37/ 23.

لِابْنِ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ، وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَكِّيُّونَ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَزْرَقِ عَنْ وَرْشٍ أَنَّهُ خَيَّرَهُ فِي الْوَقْفِ فِي جَمِيعِ الْبَابِ، بَيْنَ أَنْ يَقِفَ بِالْيَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَ بِحَذْفِهَا. وَالْبَابُ هُوَ كُلُّ مَنْقُوصٍ مُنَوَّنٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا طَلَبَ الْكُفَّارُ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ آيَةٌ وَكَمْ آيَةٍ نَزَلَتْ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ آيَاتِ عِلْمِهِ الْبَاهِرِ، وَقُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَلِيغَةِ، وَأَنَّ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ كَافِيَةٌ لِمَنْ تَبَصَّرَ، فَلَا يَقْتَرِحُونَ غَيْرَهَا، وَأَنَّ نُزُولَ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ لِتَفَرُّقِ الْأَجْزَاءِ وَاخْتِلَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، بِحَيْثُ لَا يَتَهَيَّأُ الِامْتِيَازُ بَيْنَهَا، نَبَّهَ على إحاط عِلْمِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ مَا أَنْشَأَ. وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَعْجَلُوا بِالسَّيِّئَةِ نَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَصْلَحَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَصَّ فِي هَذَا الْمَثَلِ الْمُنَبِّهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الْقَاضِيَةَ بِتَجْوِيزِ الْبَعْثِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْجِنْسِ الَّتِي هِيَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ يَعْنِي: الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا تَحْمِلُهُ الْإِنَاثُ مِنَ النُّطْفَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا الْبَدْءُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَى القادر عليها الإعادة. والله يَعْلَمُ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَنْ فَسَّرَ الْهَادِيَ بِاللَّهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ ابْتَدَأَ إِخْبَارًا عَنْهُ فقال: يعلم. ويعلم هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ هُنَا النِّسْبَةُ، إِنَّمَا الْمُرَادُ تَعَلُّقٌ العلم بالمفردات. وما جَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا فِي صَلَاتِهَا مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ تَغِيضُ متعديا. وأن تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، فَيَكُونُ تَغِيضُ وَتَزْدَادُ لَازِمَانِ. وَسَمَاعُ تَعْدِيَتِهِمَا وَلُزُومِهِمَا ثَابِتٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وأن تكون استفهاما مبتدأ، وتحمل خبره ويعلم مُتَعَلِّقُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ. وتحمل هُنَا مِنْ حَمْلِ الْبَطْنِ، لَا مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّهْرِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى، وما تَضَعُ وَتَحْمِلُ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ تَثْبُتْ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَغِيضُ تَنْقُصُ من الخلقة، وتزداد تَتِمُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْضُ الرَّحِمِ

أَنْ يَنْهَرِقَ دَمًا عَلَى الْحَمْلِ، فَيَضْعُفُ الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ وَيُسْحَبُ، فَإِذَا بَقِيَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مُدَّةً كَمُلَ فِيهَا مِنْ خَمْسَةٍ وَصَحِبَهُ مَا نَقَصَ مِنْ هِرَاقَةِ الدَّمِ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَغِيضُ بِطَهُورِ الْحَيْضِ فِي الْحَبَلِ، وَتَزْدَادُ بِدَمِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْوَضْعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغَيْضُ السَّقْطُ، وَالزِّيَادَةُ الْبَقَاءُ فَوْقَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غِيضَ الرَّحِمُ أَنْ تُسْقِطَ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ، وَالزِّيَادَةُ أَنْ تَضَعَهُ لِمُدَّةٍ كَامِلَةٍ تَامَّةٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: الْغَيْضُ النَّقْصُ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: مِنْ عَدَدِ الْأَوْلَادِ، فَقَدْ تَحْمِلُ وَاحِدًا، وَقَدْ تَحْمِلُ أَكْثَرَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: غَيْضُ الرَّحِمِ الدَّمُ عَلَى الْحَمْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً فَالْمَعْنَى: أَنْ يَعْلَمَ مَا تَحْمِلُ مِنَ الْوَلَدِ عَلَى أَيِّ حَالٍ هُوَ مِنْ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ، وَتَمَامٍ وَخَدْجٍ، وَحُسْنٍ وَقُبْحٍ، وَطُولٍ وَقِصَرٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الحاضرة المترقبة. وَيَعْلَمُ مَا تُغِيضُهُ الْأَرْحَامُ تنقصه، وما تَزْدَادُ أَيْ تَأْخُذُهُ زَائِدًا تَقُولُ: أَخَذْتُ مِنْهُ حَقِّي وَازْدَدْتُ مِنْهُ كَذَا، وَمِنْهُ: وَازْدَادُوا تِسْعاً «1» وَيُقَالُ: زِدْتُهُ فَزَادَ بِنَفْسِهِ وَازْدَادَ. وَمَا تنقصه الرحم وتزداده عَدَدُ الْوَلَدِ، فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدٍ، وَقَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ. وَيُرْوَى أَنْ شَرِيكًا كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَمِنْهُ جَسَدُ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَامًّا وُمُخْدَجًا، وَمِنْهُ مُدَّةُ وِلَادَتِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى سَنَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَى أَرْبَعٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِلَى خَمْسٍ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّحَّاكَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ، وَهَرَمَ بْنَ حِبَّانَ بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ هَرَمًا وَمِنْهُ الدَّمُ فَإِنَّهُ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ. وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى، وَيَعْلَمُ غَيْضَ الْأَرْحَامِ وَازْدِيَادَهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ غُيُوضُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَزِيَادَتُهُ، فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْأَرْحَامِ وَهُوَ لِمَا فِيهَا، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: الْغَيْضُوضَةُ أَنْ يَقَعَ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالِازْدِيَادُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْهُ: الْغَيْضُ الَّذِي يَكُونُ سَقْطًا لِغَيْرِ تَمَامٍ، وَالِازْدِيَادُ وَلَدُ التَّمَامِ انْتَهَى. وَهُوَ جَمْعُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مُفَرَّقًا. وَبِمِقْدَارٍ يُقَدَّرُ، وَيُطْلَقُ الْمِقْدَارُ عَلَى الْقَدْرِ، وَعَلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ الشَّيْءُ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، أَيْ: بِحَدٍّ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ أَيْ: بِقَدْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مِنَ الْغَيْضِ وَالِازْدِيَادِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ. وَقِيلَ: صِحَّةُ الْجَنِينِ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 25.

وَمَرَضُهُ، وَمَوْتُهُ، وَحَيَاتُهُ، وَرِزْقُهُ، وَأَجَلُهُ. وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّخْصِيصِ، لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِنْدِيَّةِ الْعِلْمُ أَيْ: هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَمِّيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ الْمُبِينِ، فَامْتَنَعَ وُقُوعُ اللَّبْسِ فِي تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِنْدِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ كُلُّ حَادِثٍ بِوَقْتِهِ بِعَيْنِهِ، وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَإِرَادَتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَالِمُ بِأَشْيَاءَ خَفِيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَكَانَتْ أَشْيَاءُ جُزْئِيَّةٌ مِنْ خَفَايَا عِلْمِهِ، ذَكَرَ أَنَّ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَعِلْمُهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُشَاهِدُهُ الْعَالِمُ تَعَلُّقُهُ بِمَا يَغِيبُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: الْغَائِبُ الْمَعْدُومُ، وَالشَّاهِدُ الْمَوْجُودُ. وَقِيلَ: الْغَائِبُ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ، وَالشَّاهِدُ مَا حَضَرَ لِلْحِسِّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: عَالِمُ الْغَيْبِ بِالنَّصْبِ، الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، الْمُتَعَالِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، أَوِ الَّذِي كَبُرَ عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدِثِينَ وَتَعَالَى عَنْهَا. وَأَثْبَتَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: يَاءَ الْمُتَعَالِ وَقْفًا وَوَصْلًا، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ وَصْلًا وَوَقْفًا، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ رُسِمَتْ فِي الْخَطِّ. وَاسْتَشْهَدَ سِيبَوَيْهِ بِحَذْفِهَا فِي الْفَوَاصِلِ وَمِنَ الْقَوَافِي، وَأَجَازَ غَيْرُهُ حَذْفَهَا مُطْلَقًا. وَوَجْهُ حَذْفِهَا مَعَ أَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ، وَإِنْ تَعَاقَبَ التَّنْوِينُ، فَحُذِفَتْ مَعَ الْمُعَاقَبِ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْمُعَاقَبِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُمُومِ، ذَكَرَ تَعَالَى تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِشَيْءٍ خَاصٍّ مِنْ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَقَالَ: سَوَاءٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ فِي عِلْمِهِ الْمُسِرُّ الْقَوْلِ، وَالْجَاهِرُ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ. وسواء تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَفِي مَعَانِيهِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، وَهُوَ لَا يُثَنَّى فِي أَشْهَرِ اللُّغَاتِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ تَثْنِيَتَهُ فَتَقُولُ: هما سواءان. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ أَيْ: سَوَاءٌ مِنْكُمْ سَرَّ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ، وَجَهَرَ مَنْ جَهَرَ بِهِ، وَأَعْرَبُوا سواء خبر مبتدأ مَنْ أَسَرَّ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُبْتَدَأً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بقوله: منكم، ومن الْمَعْطُوفُ الْخَبَرُ. وَكَذَا أَعْرَبَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الْعَرَبِ: سَوَاءٌ عَلَيْهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ سِيبَوَيْهِ ضَعَّفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ بِنَكِرَةٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُسْتَخْفٍ مستتر وسارب ظَاهِرٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْتَخْفٍ بِالْمَعَاصِي. وَتَفْسِيرُ الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ: الْمُسْتَخْفِي هُنَا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي اللُّغَةِ يَنْبُو عَنْهُ اقْتِرَانُهُ بِاللَّيْلِ، وَاقْتِرَانُ السَّارِبِ بِالنَّهَارِ. وَتَقَابَلَ الْوَصْفَانِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ، إِذْ قَابَلَ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ. وَفِي قَوْلِهِ: سَارِبٌ بِالنَّهَارِ إِذْ قَابَلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ. وَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-

إنه تعالى محيط علمه بِأَقْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَفْعَالِهِمْ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ مَنْ، لَكِنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، إِذْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَسَارِبٌ، مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ، لَا عَلَى مُسْتَخْفٍ، فَيَصِحُّ التَّقْسِيمُ. كَأَنَّهُ قِيلَ: سَوَاءٌ شَخْصٌ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، وَشَخْصٌ هُوَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مستخف. وأريد بمن اثْنَانِ، وَحَمَلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي تَقْسِيمِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ هُوَ، وَعَلَى لَفْظِ مَنْ فِي إِفْرَادِ هُوَ. وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ اللَّذَانِ هُمَا مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبُ بِالنَّهَارِ، هُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ يَسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ وَيَسْرِبُ بِالنَّهَارِ، وَلِيَرَى تَصَرُّفَهُ فِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَا قِسْمٌ وَاحِدٌ، جَعَلَ اللَّهُ نَهَارَ رَاحَتِهِ. وَالْمَعْنَى: هَذَا وَالَّذِي أَمْرُهُ كُلُّهُ وَاحِدٌ بَرِيءٌ مِنَ الرَّيْبِ، سَوَاءٌ فِي اطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكُلِّ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ عَطْفُ السَّارِبِ دُونَ تَكْرَارِ مَنْ، وَلَا يَأْتِي حَذْفُهَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنْ تَتَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ. فَالَّذِي يُسِرُّ طَرَفٌ، وَالَّذِي يَجْهَرُ طَرَفٌ مُضَادٌّ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ مُتَوَسِّطٌ مُتَلَوِّنٌ يَعْصِي بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا وَيُظْهِرُ الْبَرَاءَةَ بِالنَّهَارِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ بِظُلْمَتِهِ، يُرِيدُ إِخْفَاءَ عَمَلِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ: أَزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لِي. وَقَالَ: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَهُ عَلَى مَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ أَسَرَّ، وَمَنْ جَهَرَ، وَمَنِ اسْتَخْفَى، وَمَنْ سَرَبَ: مُعَقِّبَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ، وَكَذَلِكَ فِي بَاقِي الضَّمَائِرِ الَّتِي فِي الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُعَقِّبَاتُ عَلَى هَذَا حَرَسُ الرَّجُلِ وَجَلَاوِزَتُهُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، قَالَ: وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا فِي الرُّؤَسَاءِ الْكَافِرِينَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ السُّلْطَانُ الْمُحْرَسُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَفَى تَقْرِيرَهُ لَا يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ انْتَهَى. وَحَذَفَ لَا، لَا فِي الْجَوَابِ قَسَمٌ بَعِيدٌ. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْمُعَقِّبَاتِ الْحَرَسَ فَالْمَعْنَى: يَحْفَظُونَهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى ظَنِّهِ وَزَعْمِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: لِلَّهِ مُعَقِّبَاتٌ مَلَائِكَةٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَبْدِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَالْمُعَقِّبَاتُ عَلَى هَذَا الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالْحَفَظَةُ لَهُمْ أَيْضًا. وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَرِيبٌ، وَقَدْ

جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: يقولون: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1» وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفَظَةً مِنْ مُتَمَرِّدِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْآيَةُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتْ فِي حِفْظِ اللَّهِ لَهُ مِنْ أَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ، وَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ ، مِنَ الْقِصَّةِ الَّتِي سَنُشِيرُ إِلَيْهَا بَعْدُ فِي ذِكْرِ الصَّوَاعِقِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ هُوَ الْأَوْلَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ يُفَسَّرُ. وَيَقُولُ: لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنِ اسْتَخْفَى بِاللَّيْلِ وَسَرَبَ بِالنَّهَارِ، مُسْتَوٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ شَيْءٌ، ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ لِذَلِكَ الْمَذْكُورِ مُعَقِّبَاتٍ: جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَعْقُبُ فِي حِفْظِهِ وَكَلَاءَتِهِ. وَمُعَقِّبٌ: وَزْنُهُ مُفَعِّلٌ، مِنْ عَقَّبَ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَ عَلَى عَقِبِ الْآخَرِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْقُبُ بَعْضًا، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَعْقُبُونَ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فَيَكْتُبُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَصْلُ مُعْتَقِبَاتٌ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الْقَافِ كَقَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ «2» يَعْنِي الْمُعْتَذِرُونَ. وَيَجُوزُ مُعِقِّبَاتٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ فَاحِشٌ، لَا تُدْغَمُ التَّاءُ فِي الْقَافِ، وَلَا الْقَافُ فِي التَّاءِ، لَا مِنْ كَلِمَةٍ وَلَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ. وَقَدْ نَصَّ التَّصْرِيفِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْقَافَ وَالْكَافَ يُدْغَمُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، وَلَا يُدْغَمَانِ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَا يُدْغَمُ غَيْرُهُمَا فِيهِمَا. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ بِقَوْلِهِ: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَرَاءَةٌ تَوْجِيهُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ مُعِقِّبَاتٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مُعْتَقِبَاتٌ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الْقَافِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ فَاحِشٌ، وَالْمُعَقِّبَاتُ جَمْعُ مُعَقِّبَةٍ. وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي مُعَقِّبَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ، فَيَكُونُ كَرِجْلٍ نَسَّابَةٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ مُعَقِّبَةٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ الْأُخْرَى، جُمِعَتْ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْجَمَاعَاتِ، وَمُعَقِّبَةٌ لَيْسَتْ جَمْعُ مُعَقِّبٍ كَمَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ. وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ وَرِجَالٍ وَرِجَالَاتٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَجَمَلٍ وَجِمَالٍ وَجَمَالَاتٍ، وَمُعَقِّبَةٌ وَمُعَقِّبَاتٌ إِنَّمَا هِيَ كَضَارِبٍ وَضَارِبَاتٍ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُ الطَّبَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: جَمْعُ مُعَقِّبٍ، أَنَّهُ أَطْلَقَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى جَمْعِ مُعَقِّبٍ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ أن يطلق على مؤنث مُعَقِّبٌ، وَصَارَ مِثْلَ الْوَارِدَةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَرِدُونَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مُؤَنَّثٍ وَارِدٍ، مِنْ حَيْثُ أَنْ يُجْمَعَ جُمُوعَ التَّكْسِيرِ لِلْعَامِلِ يَجُوزُ أَنْ يُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فِي الْأَخْبَارِ. وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ لِقَوْلِهِ: الْعُلَمَاءُ قَائِلَةٌ كَذَا، وَقَوْلُهُمُ الرِّجَالُ وَأَعْضَادُهَا، وَتَشْبِيهُ الطَّبَرِيِّ ذَلِكَ بِرَجُلٍ ورجال ورجالات من حيث

_ (1) سورة الرعد: 13/ 7. (2) سورة التوبة: 9/ 90.

الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ صِنَاعَةِ النَّحْوِيِّينَ، فَبَيَّنَ أَنَّ مُعَقِّبَةً مِنْ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ كَرِجَالٍ مِنْ حَيْثُ وُضِعَ لِلْجَمْعِ، وَأَنْ مُعَقِّبَاتٍ مِنْ حَيْثُ اسْتُعْمِلَ جَمْعًا لِمُعَقِّبَةٍ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْجَمْعِ كَرِجَالَاتِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ رِجَالٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْمِنْبَرِ لَهُ الْمَعَاقِبُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وإبراهيم. وقال الزمخشري: وقرىء لَهُ مَعَاقِيبُ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هُوَ تَكْسِيرُ مُعْقِبٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْقَافِ، كمطعم ومطاعيم، وَمُقْدِمٍ وَمَقَادِيمَ، وَكَانَ مُعَقِّبًا جَمْعٌ عَلَى مُعَاقَبَةٍ، ثُمَّ جُعِلَتِ الْيَاءُ فِي مَعَاقِيبَ عِوَضًا مِنَ الْهَاءِ الْمَحْذُوفَةِ فِي مُعَاقَبَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمْعُ مُعَقِّبٍ أَوْ مُعَقِّبَةٍ، وَالْيَاءُ عِوَضٌ مِنْ حَذْفِ أَحَدِ الْقَافَيْنِ فِي التَّكْسِيرِ. وقرىء لَهُ مُعْتَقِبَاتٌ مِنِ اعْتَقَبَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرُقَبَاءُ مِنْ خَلْفِهِ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ له مُعَقِّبَاتٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَرَقِيبٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَيَنْبَغِي حمل هذه القراآت عَلَى التَّفْسِيرِ، لَا أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ. قِيلَ: مِنْ لِلسَّبَبِ كَقَوْلِكَ: كَسَرْتُهُ مِنْ عُرًى، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْبَاءِ سَوَاءٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِإِذْنِهِ، فَحِفْظُهُمْ إِيَّاهُ مُتَسَبَّبٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُمْ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَحْفَظُونَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَكْتُبُونَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ. وَقِرَاءَةُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٌّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ ، يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ السَّبَبِيَّةِ فِي مِنْ وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَجْلِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِحِفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، بِأَمْرِ اللَّهِ أَيْ: يَحْفَظُونَهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي التَّأْوِيلِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَحَكُّمٍ وَوُرُودُ مِنْ لِلسَّبَبِ ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ كَقَوْلِكَ: حَرَسْتُ زَيْدًا مِنَ الْأَسَدِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: إِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي دُعَائِهِمْ أَنْ يُمْهِلَهُ رَجَاءَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَيُنِيبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ «1» يَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى التَّضْمِينِ أَيْ: يَدْعُونَ لَهُ بِالْحِفْظِ مِنْ نَقَمَاتِ اللَّهِ رَجَاءَ تَوْبَتِهِ. وَمَنْ جَعَلَ الْمُعَقِّبَاتِ الْحَرَسَ، وَجَعَلَهَا فِي رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ فَيَحْفَظُونَهُ مَعْنَاهُ: فِي زَعْمِهِ وَتَوَهُّمِهِ مِنْ هَلَاكِ الله، ويدفعون قَضَاءَهُ فِي ظَنِّهِ، وَذَلِكَ لِجَهَالَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ بِهِ، وَحَقِيقَةُ التَّهَكُّمِ هُوَ أَنْ يُخْبِرَ بِشَيْءٍ ظَاهِرُهُ مَثَلًا الثُّبُوتُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مُنْتَصِفٌ، وَلِذَلِكَ حَمَلَ بعضهم يحفظونه

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 42.

عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ: لَا يَحْفَظُونَهُ، فَحَذَفَ لَا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مِنْ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً- كَمَا ذَكَرْنَا- بِيَحْفَظُونَهُ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ اللَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَرْفُوعٍ، وَيَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِلَى تَقْدِيرِ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، بَلْ وُصِفَتِ الْمُعَقِّبَاتُ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ فِي الظَّاهِرِ: أَحَدُهَا: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ: يَحْفَظُونَهُ أَيْ: حَافِظَاتٌ لَهُ. وَالثَّالِثَةُ: كَوْنُهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ جَعْلَنَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مُعَقِّبَاتٌ وُصِفَتْ بِصِفَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أنه بدىء بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ قَبْلَ الْوَصْفِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَذَلِكَ شَائِعٌ فَصِيحٌ، وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْجُمْلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّيْمُومَةِ فِي الْحِفْظِ آكَدَ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْوَصْفَ بِهَا. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ عَلَيْنَا، وَفِي الْكَتَبَةِ مِنْهُمْ أَقْوَالًا عَنِ المنجمين وأصحاب الطلسمات، وَنَاسٍ سَمَّاهُمْ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ يُوقِفُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِخَفَايَا الْأَشْيَاءِ وَجَلَايَاهَا، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُعَقِّبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لِضَبْطِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ مِنْهُمْ خَيْرًا وَشَرًّا، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا خَوَّلَهُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِحْسَانِ لَا يُزِيلُهُ عَنْهُمْ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَّا بِكُفْرِ تِلْكَ النِّعَمِ، وَإِهْمَالِ أَمْرِهِ بِالطَّاعَةِ، وَاسْتِبْدَالِهَا بِالْمَعْصِيَةِ. فَكَانَ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى لُزُومِ الطَّاعَةِ، وَتَحْذِيرٌ لِوَبَالِ الْمَعْصِيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَقَعَ تَغَيُّرُ النِّعَمِ بِقَوْمٍ حَتَّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَعَاصِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الموضع مؤول، لِأَنَّهُ صَحَّ الْخَبَرُ بِمَا قَدَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ أَخْذِ الْعَامَّةِ بِذُنُوبِ الْخَاصَّةِ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ «1» الْآيَةَ. وَسُؤَالُهُمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ» فَمَعْنَى الْآيَةِ: حَتَّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ إِمَّا مِنْهُمْ، وَإِمَّا مِنَ النَّاظِرِ لَهُمْ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ مِنْهُمْ تَسَبَّبَ، كَمَا غَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَبَبِ تَغْيِيرِ الرُّمَاةِ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، إِلَى غَيْرِ هَذَا فِي أَمْثَلِهِ الشَّرِيعَةِ. فَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْزِلُ بِأَحَدٍ عُقُوبَةٌ إِلَّا بِأَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْهُ ذَنْبٌ، بَلْ قَدْ تَنْزِلُ الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِ الْغَيْرِ. وَثَمَّ أَيْضًا مَصَائِبُ يَزِيدُ اللَّهُ بِهَا أجر

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 25.

الْمُصَابِ، فَتِلْكَ لَيْسَتْ تَغْيِيرًا انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» وَقِيلَ: هَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ «1» فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا ينزل بهم عذاب الاستئصال إِلَّا وَالْمَعْلُومُ مِنْهُمُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، إِلَّا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ، أَوْ فِي عَقِبِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْزِلُ بِهِمْ عذاب الاستئصال. وما مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا بِقَوْمٍ، وَكَذَا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَفِي مَا إِبْهَامٌ لَا يَتَغَيَّرُ الْمُرَادُ مِنْهَا: إِلَّا بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَاعْتِقَادِ مَحْذُوفٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ إِلَى تَوَالِي معصيته. والسوء يجمع على كُلَّ مَا يَسُوءُ مِنْ مَرَضٍ وَخَيْرٍ وَعَذَابٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاءِ. وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ اقْتَصَرَ على قوله: سوء، وَإِلَّا فَالسُّوءُ وَالْخَيْرُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْهَا فَلَا مَرَدَّ لَهُ، فَذَكَرَ السُّوءَ مُبَالَغَةً فِي التَّخْوِيفِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ وال من ملجأ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّنْ يَلِي أَمْرَهُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ نَاصَرٍ يَمْنَعُ مِنْ عَذَابِهِ. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ: لَمَّا خَوَّفَ تَعَالَى الْعِبَادَ بقوله تعالى: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ «2» أَتْبَعَهُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى أُمُورٍ دَالَّةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِكْمَتِهِ تُشْبِهُ النِّعَمَ مِنْ وَجْهٍ، وَالنِّقَمَ مِنْ وَجْهٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ وَالسَّحَابِ فِي الْبَقَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: خَوْفًا مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَطَمَعًا فِي الْغَيْثِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ مِنْ أَذَى الْمَطَرِ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ فِي نَفْعِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ: خَوْفًا لِلْبَلَدِ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ الْمَطَرِ لَهُ، وَطَمَعًا لِمَنْ يَرْجُو الِانْتِفَاعَ بِهِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ، وَطَمَعًا فِي الثَّوَابِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ كَنَّى بِالْبَرْقِ عَنِ الْمَاءِ، لَمَّا كَانَ الْمَطَرُ يُقَارِبُهُ غَالِبًا وَذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الشَّيْءِ مَجَازًا عَلَى مَا يُقَارِبُهُ غَالِبًا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: خَوْفًا وَطَمَعًا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ: خَائِفِينَ وَطَامِعِينَ، قَالَ: وَمَعْنَى الْخَوْفِ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 6. (2) سورة الرعد: 13/ 11.

وَالطَّمَعِ، أَنَّ وُقُوعَ الصَّوَاعِقِ يُخَوِّفُ عِنْدَ لَمْعِ الْبَرْقِ، وَيُطْمِعُ فِي الْغَيْثِ. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: فَتًى كَالسَّحَابِ الْجَوْنِ يُخْشَى وَيُرْتَجَى ... يُرْجَى الْحَيَا مِنْهُ وَتُخْشَى الصَّوَاعِقُ وقيل: يخاف البرق المطر مَنْ لَهُ مِنْهُ ضَرَرٌ كَالْمُسَافِرِ، وَمَنْ فِي جَرِينَتِهِ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ، وَمَنْ لَهُ بَيْتٌ يَكُفُّ، وَمِنَ الْبِلَادِ مَا لَا يَنْتَفِعُ أَهْلُهُ بِالْمَطَرِ كَأَهْلِ مِصْرَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: كَأَهْلِ مِصْرَ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَطَرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِ نُمُوِّ الزَّرْعِ، وَأَنَّهُ بِهِ يَنْمُو وَيَجُودُ، بَلْ تَمُرُّ عَلَى الزَّرْعِ أَوْقَاتٌ يَتَضَرَّرُ وَيَنْقُصُ نُمُوُّهُ بِامْتِنَاعِ الْمَطَرِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَا مَنْصُوبَيْنِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَرْقِ، كَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَوْفٌ وَطَمَعٌ، أَوْ عَلَى ذَا خَوْفٍ وَطَمَعٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: خَوْفًا وَطَمَعًا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: إِرَادَةَ خَوْفٍ وَطَمَعٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى إِخَافَةً وَإِطْمَاعًا انْتَهَى. وَإِنَّمَا لَمْ يَكُونَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ فِعْلُ اللَّهِ، وَالْخَوْفَ وَالطَّمَعَ فِعْلٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَتَّحِدِ الْفَاعِلُ فِي الْفِعْلِ فِي الْمَصْدَرِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ شَرْطِ اتِّحَادِ الْفَاعِلِ فِيهِمَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ خروف. والسحاب اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَيُفْرَدُ وَيُجْمَعُ، قَالَ: «وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ» «1» وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ: الثِّقَالَ، وَيَعْنِي بِالْمَاءِ، وَهُوَ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ تُحْمَلُ الْمَاءُ، وَالْعَرَبُ تَصِفُهَا بِذَلِكَ. قَالَ قَيْسُ بْنُ أَخْطَمَ: فَمَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْقَطَا ... كَأَنَّ الْمَصَابِيحَ جَوَدَانُهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا وَلَا مُزْنَةَ ... وَلَوْحٌ يَكْشِفُ أَوْجَانَهَا وَالدُّلُوجُ الْمُثْقَلَةُ، وَالظَّاهِرُ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ. فَإِنْ كَانَ مما يَصِحُّ مِنْهُ التَّسْبِيحُ فَهُوَ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَهُوَ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ. وَتَنْكِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ «2» يَنْفِي أَنْ يَكُونَ عَلَمًا لِمَلَكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْإِخْبَارُ بِالصَّوْتِ عَنِ التَّسْبِيحِ مَجَازٌ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: قَدْ غَمَّنِي كَلَامُكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُسَبِّحُ سَامِعُو الرَّعْدِ مِنَ الْعِبَادِ الرَّاجِينَ لِلْمَطَرِ حَامِدِينَ لَهُ، أَيْ: يَضِجُّونَ بِسُبْحَانَ اللَّهِ والحمد لله. وفي

_ (1) سورة ق: 50/ 10. (2) سورة البقرة: 2/ 19. [.....]

الْحَدِيثِ: «سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ: «سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحَتْ لَهُ إِذَا اشْتَدَّ الرَّعْدُ» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ» وَمِنْ بِدَعِ الْمُتَصَوِّفَةِ: الرَّعْدُ صَعَقَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْبَرْقُ زَفَرَاتُ أَفْئِدَتِهِمْ، وَالْمَطَرُ بُكَاؤُهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ فِي الرَّعْدِ أَنَّهُ رِيحٌ يَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّحَابِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا نَزَغَاتُ الطَّبِيعِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحُكَمَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِقُوًى رُوحَانِيَّةٍ فَلَكِيَّةٍ، وَلِلسَّحَابِ رُوحٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرِّيَاحِ، وَفِي سَائِرِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ. وَهَذَا عَيْنُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِمَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ هُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْحُكَمَاءِ، فَكَيْفَ بِالْعَاقِلِ الْإِنْكَارُ؟ انْتَهَى. وَهَذَا الرَّجُلُ غَرَضُهُ جَرَيَانُ مَا تَنْتَحِلُهُ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى مَنَاهِجِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ لَا يكون أبدا، وقد تقدمت أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرَّعْدِ فِي الْبَقَرَةِ، فَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِمَلَكٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَلَكٍ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الملك يدبر لا السحاب وَلَا غَيْرِهِ، إِذْ لَا يُسْتَفَادُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْعِصْمَةِ، لَا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الضُّلَّالِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خِيفَتِهِ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِحَمْدِهِ. وَمَعْنَى خِيفَتِهِ: مِنْ هَيْبَتِهِ وَإِجْلَالِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الرَّعْدِ. وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانُهُ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ خَائِفُونَ خَاضِعُونَ طَائِعُونَ لَهُ. وَالرَّعْدُ وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. ومن مَفْعُولُ فَيُصِيبُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، أَعْمَلَ فِيهِ الثَّانِيَ إِذْ يُرْسِلُ يَطْلُبُ من وفيصيب يَطْلُبُهُ، وَلَوْ أُعْمِلَ الْأَوَّلُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لَكِنْ جَاءَ عَلَى الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ إِعْمَالُ الثَّانِي. وَمَفْعُولُ يَشَاءُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ يَشَاءُ إِصَابَتَهُ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى جَبَّارٍ مِنَ الْعَرَبِ لِيُسْلِمَ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ إِلَهِ مُحَمَّدٍ؟ أَمِنْ لُؤْلُؤٍ هُوَ أَمْ مِنْ ذَهَبٍ؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ صَاعِقَةٌ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَاظَرَ يَهُودِيٌّ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ نَزَلَتْ صَاعِقَةٌ فَأَخَذَتْ قَحْفَ رَأْسِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا قِصَّةُ أَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَذَكَرَ قِصَّتَهُمَا الْمَشْهُورَةَ مَضْمُونُهَا أَنَّ عَامِرًا تَوَعَّدَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَأَنَّهُ وَأَرْبَدَ رَامَا الْفَتْكَ بِهِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَصَابَ عَامِرًا بِغُدَّةٍ فَمَاتَ غَرِيبًا، وَأَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ فَقَتَلَتْهُ، وَلِأَخِيهِ لَبِيدٍ فيه عدة مراث مِنْهَا قَوْلُهُ:

أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ فَجَعَنِي الْبَرْقُ وَالصَّوَاعِقُ بِالَفَا ... رِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ وَهَذِهِ الصِّلَاتُ الْأَرْبَعُ الَّتِي وُصِلَتْ بِهَا الَّذِي تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، فَالْمُتَّصِفُ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجَادِلَ فِيهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَهُمْ يُجَادِلُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُنْكِرِينَ الْآيَاتِ، يُجَادِلُونَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْخَلْقِ بقولهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «1» وَفِي وَحْدَانِيَّتِهِ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. وَنِسْبَةُ التَّوَالُدِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَمَعَ ذَلِكَ رَتَّبُوا عَلَيْهَا غَيْرَ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْمُجَادَلَةِ فِيهِ وَفِي أَوْصَافِهِ تَعَالَى، وَكَانَ مُقْتَضَاهَا التَّسْلِيمَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. وَقِيلَ: وَهُمْ يُجَادِلُونَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ يَشَاءُ أَيْ: فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ فِي حَالِ جِدَالِهِمْ كَمَا جَرَى لِلْيَهُودِيِّ. وَكَذَلِكَ الْجَبَّارُ، وَلِأَرْبَدَ. وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمِحَالِ بِكَسْرِ الْمِيمِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمِحَالُ الْعَدَاوَةُ، وَعَنْهُ الْحِقْدُ. وَعَنْ عَلِيٍّ: الْأَخْذُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْقُوَّةُ. وَعَنْ قُطْرُبٍ: الْغَضَبُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: الْهَلَاكُ بِالْمَحَلِّ، وَهُوَ الْقَحْطُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَالْأَعْرَجُ: الْمَحَالِ بِفَتْحِ الْمِيمِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَوْلُ. وَعَنْ عُبَيْدَةَ: الْحِيلَةُ. يُقَالُ: الْمَحَالُ وَالْمَحَالَةُ وَهِيَ الْحِيلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي مَثَلٍ: الْمَرْءُ يَعْجِزُ لَا الْمَحَالَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى شَدِيدَ الْعِقَابِ، وَيَكُونُ مَثَلًا فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، كَمَا جَاءَ: فَسَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ، وَمُوسَاهُ أَحَدُّ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا اشْتَدَّ غَايَةً كَانَ مَنْعُوتًا بِشِدَّةِ الْقُوَّةِ وَالِاضْطِلَاعِ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: فَقَرَتْهُ الْفَوَاقِرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَقَارَ عَمُودُ الظَّهْرِ وَقِوَامُهُ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَدَعْوَةُ الْحَقِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَعْوَةُ الْحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنَ الشَّرِيعَةِ فِي مَعْنَاهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، دَعْوَةُ الْحَقِّ التَّوْحِيدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، فَدُعَاؤُهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: دَعْوَةُ الْحَقِّ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْعَى فِيهِ إِلَّا هُوَ، كَمَا قَالَ: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ «2» قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: دَعْوَةُ الطَّلَبِ الْحَقُّ أَيْ: مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، وَدُعَاءُ غَيْرِ اللَّهِ لَا يُجَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضَافَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، كَمَا تُضَافُ الكلمة إليه في

_ (1) سورة يس: 36/ 78. (2) سورة الإسراء: 17/ 67.

قَوْلِهِ: «كَلِمَةُ الْحَقِّ» لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ مُلَابِسَةٌ لِلْحَقِّ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَأَنَّهَا بِمَعْزِلٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُدْعَى فَيَسْتَجِيبُ الدَّعْوَةَ، وَيُعْطِي الدَّاعِيَ سُؤْلَهُ إِنْ كَانَتْ مَصْلَحَةً لَهُ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُ مُلَابِسَةً لِلْحَقِّ لِكَوْنِهِ حَقِيقًا بِأَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ الدُّعَاءُ، لِمَا فِي دَعْوَتِهِ مِنَ الْجَدْوَى وَالنَّفْعِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يُجْدِي دُعَاؤُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تُضَافَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَعْنَى دَعْوَةِ الْمَدْعُوِّ الْحَقَّ الَّذِي يَسْمَعُ فَيُجِيبُ. وَعَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ دُعَاءٍ إِلَيْهِ دَعْوَةُ الْحَقِّ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ مَآلَهُ إِلَى تَقْدِيرِ: لله دعوة الله، كَمَا تَقُولُ: لِزَيْدٍ دَعْوَةُ زَيْدٍ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا يَصِحُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّهِ الدَّعْوَةُ الْحَقِّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ بَاطِلَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الدَّعْوَةُ لَهُ هِيَ الدَّعْوَةُ الْحَقِّ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى جِدَالَ الْكُفَّارِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ جِدَالُهُمْ فِي إِثْبَاتِ آلِهَةٍ مَعَهُ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَهُ الدَّعْوَةُ الْحَقِّ أَيْ: مَنْ يَدْعُو لَهُ فَدَعْوَتُهُ هِيَ الْحَقُّ، بِخِلَافِ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي جَادَلُوا فِي اللَّهِ لِأَجْلِهَا، فَإِنَّ دُعَاءَهَا بَاطِلٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْآلِهَةُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ إِلَّا اسْتِجَابَةً كَاسْتِجَابَةِ بَاسِطِ كَفَّيْهِ أَيْ: كَاسْتِجَابَةِ الْمَاءِ مِنْ بَسْطِ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ، يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَبْلُغَ فَاهُ، وَالْمَاءُ جَمَادٌ لَا يَشْعُرُ بِبَسْطِ كَفَّيْهِ وَلَا بِعَطَشِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُ وَيَبْلُغَ فَاهُ. وَكَذَلِكَ مَا يَدْعُونَهُ جَمَادٌ لَا يَحِسُّ بِدُعَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ إِجَابَتَهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ. وَقِيلَ: شُبِّهُوا فِي قِلَّةِ جَدْوَى دُعَائِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ بِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَغْرِفَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ لِيَشْرَبَهُ، فَبَسَطَهُمَا نَاشِرًا أَصَابِعَهُ فَلَمْ تُبْقِ كَفَّاهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ يَبْلُغْ طَلَبَتُهُ مِنْ شُرْبِهِ انْتَهَى. فَالضَّمِيرُ فِي يَدْعُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَدْعُونَهُمْ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فِي تَدْعُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْيَزِيدِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ. وَقِيلَ: الَّذِينَ أَيْ: الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَدْعُونَ، وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَدْعُونَ الْأَصْنَامَ. وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ الْوَاوُ فِي يَدْعُونَ، وَالْوَاوُ فِي لَا يَسْتَجِيبُونَ عَائِدٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَفْعُولِ يَدْعُونَ الْمَحْذُوفِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الَّذِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالنَّاظِرِ إِلَى خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ يُرِيدُ تَنَاوُلَهُ، فَكَذَا الْمُحْتَاجُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ خَيَالُ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَمَنْ بَسَطَ يَدَيْهِ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 14 والنحل: 16/ 20.

إِلَى الْمَاءِ لِيَصِلَ إِلَيْهِ بِلَا اغْتِرَافٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ فِي السَّاعِي فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ بِالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: فَأَصْبَحَتْ فِيمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... مِنَ الْوُدِّ مِثْلَ الْقَابِضِ الْمَاءِ فِي الْيَدِ وَقَالَ آخَرُ: وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ وَشَوْقًا إِلَيْكُمُ ... كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تَسَعْهُ أَنَامِلُهُ وَقِيلَ: شَبَّهُ الْكُفَّارَ فِي دُعَائِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ بِرَجُلٍ عَطْشَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، جَلَسَ عَلَى شَفِيرِ بِئْرٍ يَدْعُو الْمَاءَ لِيَبُلَّ غَلَّتَهُ، فَلَا هُوَ يَبْلُغُ قَعْرَ الْبِئْرِ إِلَى الْمَاءِ، وَلَا الْمَاءُ يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ جَمَادٌ وَلَا يَحِسُّ بِعَطَشِهِ وَدُعَائِهِ، كَذَلِكَ مَا يَدْعُو الْكُفَّارُ مِنَ الْأَوْثَانِ جَمَادٌ لَا يَحِسُّ بِدُعَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ إِجَابَتَهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ انْتَهَى. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مثل اسْتِجَابَةٍ، وَاسْتِجَابَةٌ مُضَافَةٌ فِي التَّقْدِيرِ إِلَى بَاسِطٍ، وَهِيَ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَفَاعِلُ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَإِجَابَةِ الْمَاءِ مَنْ يَبْسُطُ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا حُذِفَ أُظْهِرَ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ لَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ. هَذَا الَّذِي يُقَدَّرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي يَدْعُونَهُمُ الْكُفَّارُ إِلَى حَوَائِجِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ لَا يُجِيبُونَ، ثُمَّ مَثَّلَ تَعَالَى مِثَالًا لِإِجَابَتِهِمْ بِالَّذِي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِالْإِقْبَالِ، فَهُوَ لَا يَبْلُغُ فَمَهُ أَبَدًا، فَكَذَلِكَ إِجَابَةُ هَؤُلَاءِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِمْ لَا يَقَعُ انْتَهَى. وَفَاعِلُ لِيَبْلُغَ ضَمِيرُ الْمَاءِ، وليبلغ متعلق بباسط، وَمَا هُوَ أَيْ: وَمَا الْمَاءُ بِبَالِغِهِ، أَيْ: بِبَالِغِ الْفَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرُ الْفَمِ، وَالْهَاءُ فِي بِبَالِغِهِ لِلْمَاءِ أَيْ: وَمَا الْفَمُ بِبَالِغِ الْمَاءِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَبْلُغُ الْآخَرَ عَلَى هَذِهِ الحالة. وقرىء: كَبَاسِطٍ كَفَّيْهِ بِتَنْوِينِ بَاسِطٍ. وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ أَيْ: فِي حَيْرَةٍ، أَوْ فِي اضْمِحْلَالٍ، لِأَنَّهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا وَلَا يُفِيدُ، فَقَدْ ضَلَّ ذَلِكَ الدُّعَاءُ عَنْهُمْ كَمَا ضَلَّ الْمَدْعُونَ. قَالَ تَعَالَى: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا فِي ضَيَاعٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ دَعَوُا اللَّهَ لَمْ يُجِبْهُمْ، وَإِنْ دعوا الآلهة لم نستطع إِجَابَتَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْوَاتُ الْكَافِرِينَ مَحْجُوبَةٌ عَنِ الله فلا يسمع دعاءهم. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 37.

ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ: إِنْ كَانَ السُّجُودُ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ، فَمِنْ عُمُومِهَا يَنْقَادُ كُلُّهُمْ إِلَى مَا أراده تعالى بهم شاؤوا أَوْ أَبَوْا، وَتَنْقَادُ لَهُ تَعَالَى ظِلَالُهُمْ حَيْثُ هِيَ عَلَى مَشِيئَتِهِ مِنَ الِامْتِدَادِ وَالتَّقَلُّصِ، وَالْفَيْءِ وَالزَّوَالِ، وَإِنْ كَانَ السُّجُودُ عِبَارَةً عَنِ الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ: وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْوَاضِعُ، فَيَكُونُ عَامًّا مَخْصُوصًا إِذْ يَخْرُجُ مِنْهُ مَنْ لَا يَسْجُدُ، وَيَكُونُ قَدْ عَبَّرَ بِالطَّوْعِ عَنْ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِالْكَرْهِ عَنْ سُجُودِ مَنْ ضَمَّهُ السَّيْفُ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ: فَيَسْجُدُ كَرْهًا وَإِمَّا نِفَاقًا، أَوْ يَكُونُ الْكَرْهُ أَوَّلَ حَالِهِ، فَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الصِّفَةُ وَإِنْ صَحَّ إِيمَانُهُ بَعْدُ. وَقِيلَ: طَوْعًا لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ السُّجُودُ، وكرها يَثْقُلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِلْزَامَ التَّكَالِيفِ مَشَقَّةٌ. وَقِيلَ: مَنْ طَالَتْ مُدَّةُ إِسْلَامِهِ، فَأَلِفَ السجود. وكرها مَنْ بَدَا بِالْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَأْلَفَ السُّجُودَ قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ السجود عبارة عن الهيئة الْمَخْصُوصَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ يَسْجُدُ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَدْلُولُهُ أَثَرٌ. أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ: يَجِبُ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ كُلُّ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْوُجُوبِ بِالْوُقُوعِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَسَاقَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ مَقْهُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى، خَاضِعٌ لِمَا أَرَادَ مِنْهُ، مَقْصُورٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ، لَا يَكُونُ مِنْهُ إِلَّا مَا قَدَّرَ تَعَالَى. فَالَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ كَائِنًا مَا كَانُوا دَاخِلُونَ تَحْتَ الْقَهْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَشْرِيكُ الظِّلَالِ فِي السُّجُودِ. وَالظِّلَالُ لَيْسَتْ أَشْخَاصًا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا السُّجُودُ بِالْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَكِنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى يَصْرِفُهَا عَلَى مَا أَرَادَ، إِذْ هِيَ مِنَ الْعَالَمِ. فَالْعَالَمُ جَوَاهِرُهُ وَأَعْرَاضُهُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ إِرَادَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ «1» وَكَوْنُ الظِّلَالِ يُرَادُ بِهَا الْأَشْخَاصُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ ضَعِيفٌ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِلظِّلَالِ عُقُولًا تَسْجُدُ بِهَا وَتَخْشَعُ بِهَا، كَمَا جَعَلَ لِلْجِبَالِ أَفْهَامًا حَتَّى خَاطَبَتْ وَخُوطِبَتْ، لِأَنَّ الْجَبَلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَقْلٌ بِشَرْطِ تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا الظِّلُّ فَعَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الْحَيَاةِ بِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى سُجُودِ الظِّلَالِ مَيْلُهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ كَمَا أَرَادَ تَعَالَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الظِّلُّ مَصْدَرٌ يَعْنِي فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْخَيَالِ الَّذِي يَظْهَرُ لِلْجُرْمِ، وَطُولِهِ بِسَبَبِ انْحِطَاطِ الشَّمْسِ، وَقِصَرِهِ بِسَبَبِ ارْتِفَاعِهَا، فَهُوَ مُنْقَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي طُولِهِ وَقِصَرِهِ وَمَيْلِهِ مِنْ

_ (1) سورة النحل: 16/ 48.

جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. وَخَصَّ هَذَانِ الْوَقْتَانِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الظِّلَالَ إِنَّمَا تُعَظَّمُ وَتَكْثُرُ فِيهِمَا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ «1» رُوِيَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا سَجَدَ لِصَنَمِهِ كَانَ ظِلُّهُ يَسْجُدُ لِلَّهِ حِينَئِذٍ. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: وَالْإِيصَالُ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هُوَ مَصْدَرُ أَصْلٍ أَيْ: دَخَلَ فِي الْأَصِيلِ كَمَا تَقُولُ: أَصْبَحَ أَيْ دَخَلَ فِي الْإِصْبَاحِ. وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ أَمْرٍ وَاضِحٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ مِنْهُ أَحَدٌ، كَانَ جَوَابُهُ مِنَ السَّائِلِ، فَكَانَ السَّبْقُ إِلَيْهِ أَفْصَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ إِلَيْهِمْ وَأَسْرَعُ فِي قَطْعِهِمْ فِي انْتِظَارِ الْجَوَابِ مِنْهُمْ، إِذْ لَا جَوَابَ إِلَّا هَذَا الَّذِي وَقَعَتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ «2» وَيَبْعُدُ مَا قَالَ مَكِّيٌّ مِنْ أَنَّهُمْ جهلوا الجواب فطلبوه من جِهَةِ السَّائِلِ فَأَعْلَمَهُمْ بِهِ السَّائِلُ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» فَإِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ منشىء السموات وَالْأَرْضِ وَمُخْتَرِعَهَا هُوَ اللَّهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا الْجَوَابَ فَطَلَبُوهُ مِنَ السَّائِلِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُلِ اللَّهُ حكاية لاعترافهم تأكيد لَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّ السموات وَالْأَرْضِ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ، كَقَوْلِهِ قُلْ مَنْ رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سيقولون الله «4» وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُنَاظِرُ لِصَاحِبِهِ: أَهَذَا قَوْلُكَ؟ فَإِذَا قَالَ: هَذَا قَوْلِي، قَالَ: هَذَا قَوْلُكَ، فَيَحْكِي إِقْرَارَهُ تَقْرِيرًا عَلَيْهِ وَاسْتِئْنَافًا مِنْهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: فَيَلْزَمُكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَلْقِينًا أَيْ: إِنْ كَفُّوا عَنِ الْجَوَابِ فَلَقَّنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَلَقَّنُونَهُ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْكِرُوهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ مَنْ رب السموات وَالْأَرْضِ؟ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَاسْتِنْطَاقٍ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا قُلِ: اللَّهُ، أَيْ هُوَ كَمَا قُلْتُمْ. وَقِيلَ: فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا قُلِ: اللَّهُ، إِذْ لَا جَوَابَ غَيْرُ هَذَا انْتَهَى. وَهُوَ تَلْخِيصُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: أَجِبْ أَنْتَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ انْتَهَى. وَاسْتَفْهَمَ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ؟ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ السموات وَالْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَتَتْرُكُونَهُ، فَجَعَلْتُمْ مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّوْحِيدِ مِنْ عِلْمِكُمْ وَإِقْرَارِكُمْ سَبَبًا لِلْإِشْرَاكِ، ثُمَّ وَصَفَ تِلْكَ الْأَوْلِيَاءَ بِصِفَةِ الْعَجْزِ وَهِيَ كَوْنُهَا لَا تملك لانفسها

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 205. (2) سورة سبأ: 34/ 24. (3) سورة لقمان: 31/ 25. (4) سورة المؤمنون: 23/ 86- 87.

نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَمَنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا؟ ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ حَالَةَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، ثُمَّ حَالَةَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلَّذِي يُبَادِرُ الْمُخَاطَبُ إِلَى الْجَوَابِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ بِقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ؟ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْوَصْفَيْنِ الْقَائِمَيْنِ بِالْكَافِرِ وَهُوَ: الظُّلُمَاتُ، وَبِالْمُؤْمِنِ وَهُوَ النُّورُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: أَمْ هل يستوي بِالْيَاءِ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ، أَمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ، هَلْ منقطعة تتقدو بِبَلْ؟ وَالْهَمْزَةُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَهَلْ تَسْتَوِي؟ وَهَلْ وَإِنْ نَابَتْ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَقَدْ جَامَعَتْهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي الْقَفْرِ ذِي الْأُكَمِ وَإِذَا جَامَعَتْهَا مَعَ التَّصْرِيحِ بِهَا فَلَإِنْ تُجَامِعُهَا مَعَ أَمِ الْمُتَضَمِّنَةِ لَهَا أَوْلَى، وَهَلْ بَعْدَ أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا لِشَبَهِهَا بِالْأَدَوَاتِ الِاسْمِيَّةِ الَّتِي لِلِاسْتِفْهَامِ فِي عَدَمِ الأصالة فيه كقوله: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُؤْتَى بِهَا بَعْدَ أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ، لِأَنَّ أَمْ تَتَضَمَّنُهَا، فَلَمْ يَكُونُوا لِيَجْمَعُوا بَيْنَ أَمْ وَالْهَمْزَةِ لِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِهَلْ بَعْدَ أَمْ وَالْإِتْيَانِ بِهَا: هَلْ مَا عَلِمْتَ وَمَا اسْتَوْدَعْتَ مَكْتُومُ ... أَمْ حِبْلَهَا إِذْ نَأَتْكَ الْيَوْمَ مَصْرُومُ أَمْ هَلْ كَبِيرٌ بَكَى لَمْ يَقْضِ عَبْرَتَهُ ... إِثْرَ الْأَحِبَّةِ يَوْمَ الْبَيْنِ مَشْكُومُ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ غَائِبًا إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى تَوْبِيخِهِمْ فِي جَعْلِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَتَعْجِيبًا مِنْهُمْ، وَإِنْكَارًا عَلَيْهِمْ. وَتَضَمَّنَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّهَكُّمَ بِهِمْ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَمَا اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، وَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ ذَرَّةٍ، وَلَا إِيجَادِ شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الشركاء هُمْ خَالِقُونَ شَيْئًا حَتَّى يَسْتَحِقُّوا الْعِبَادَةَ، وَجَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ أَيْ: جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ مَوْصُوفِينَ بِالْخَلْقِ مِثْلَ خَلْقِ اللَّهِ، فَتَشَابَهَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَيَعْبُدُونَهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ فِي الْعِبَادَةِ؟ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «2» ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ: مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَعْبُودَاتِهِمْ وَغَيْرِهَا. وَهُمْ أَيْضًا مُقِرُّونَ بذلك، وَلَئِنْ

_ (1) سورة يونس: 10/ 31. (2) سورة النحل: 16/ 17.

سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، دَاخِلًا تَحْتَ الأمر بقل، فَيَكُونُ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الواحد المنفرد بِالْأُلُوهِيَّةِ، الْقَهَّارُ الَّذِي جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ فِيهِ يُقَالُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْقَهْرِ. فَهُوَ تَعَالَى لَا يُغَالَبُ، وَمَا سِوَاهُ مَقْهُورٌ مَرْبُوبٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ. أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ. لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَالْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ، كَمَا ضَرَبَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، مَثَلًا لَهُمَا. فَمَثَّلَ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَسِيلُ بِهِ أَوْدِيَةٌ لِلنَّاسِ فَيَحْيَوْنَ بِهِ وَيَنْفَعُهُمْ أَنْوَاعَ الْمَنَافِعِ، وَبِالْفِلِزِّ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي صَوْغِ الْحُلِيِّ مِنْهُ وَاتِّخَاذِ الْأَوَانِي وَالْآلَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْحَدِيدَ الَّذِي فِيهِ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ لَكَفَى فِيهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ مَاكِثٌ فِي الْأَرْضِ بَاقٍ بَقَاءً ظَاهِرًا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِي مَنَافِعِهِ، وَتَبْقَى آثَارُهُ فِي العيون والبئار والجبوب وَالثِّمَارِ الَّتِي تَنْبُتُ بِهِ مِمَّا يُدَّخَرُ وَيَكْثُرُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ تَبْقَى أَزْمِنَةً مُتَطَاوِلَةً. وَشَبَّهَ الْبَاطِلَ فِي سُرْعَةِ اضْمِحْلَالِهِ وَوَشْكِ زَوَالِهِ وَانْسِلَاخِهِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ بِزَبَدِ السَّيْلِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، وَبِزَبَدِ الْفِلِزِّ الَّذِي يَطْفُو فَوْقَهُ إِذَا أُذِيبَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَفَرَةِ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذِكْرُ ذَلِكَ جَعَلَهُ مِثَالًا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالشَّكِّ فِي الشَّرْعِ وَالْيَقِينِ بِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ، وَالْقُلُوبِ، وَالْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ. فَالْمَاءُ مِثْلُ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ، وَبَقَاءِ الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْأَوْدِيَةُ مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ، وَمَعْنَى بِقَدَرِهَا عَلَى سِعَةِ الْقُلُوبِ وَضِيقِهَا، فمنها ما انتفع بِهِ فَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ وَتَدَبَّرَ فِيهِ، فَظَهَرَتْ ثَمَرَتُهُ وَأَدْرَكَ تَأْوِيلَهُ وَمَعْنَاهُ، وَمِنْهَا دُونَ ذَلِكَ بِطَبَقَةٍ، وَمِنْهَا دُونَهُ بِطَبَقَاتٍ. وَالزَّبَدُ مِثْلُ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَإِنْكَارِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَدَفْعِهِمْ إِيَّاهُ بِالْبَاطِلِ. وَالْمَاءُ الصَّافِي الْمُنْتَفِعُ بِهِ مِثْلُ الْحَقِّ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا

_ (1) سورة لقمان: 31/ 25.

يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَجَادِبُ فَأَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَكَانَتْ مِنْهَا قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، يُرِيدُ بِهِ الشَّرْعَ وَالدِّينَ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ يُرِيدُ الْقُلُوبَ، أَيْ: أَخَذَ النَّبِيلُ بِحَظِّهِ، وَالْبَلِيدُ بِحَظِّهِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصِحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ يَنْحُو إِلَى أَقْوَالِ أَصْحَابِ الرُّمُوزِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَأَهْلُ تِلْكَ الطَّرِيقِ، وَلَا تَوْجِيهَ لِإِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَفْهُومِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَإِنَّ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ، مَعْنَاهُ: الْحَقُّ الَّذِي يَتَقَرَّرُ فِي الْقُلُوبِ، وَالْبَاطِلُ الَّذِي يَعْتَرِيهَا أَيْضًا انْتَهَى. وَالْمَاءُ الْمَطَرُ. وَنَكَّرَ أَوْدِيَةٌ لِأَنَّ الْمَطَرَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَاوَبَةِ، فَتَسِيلُ بَعْضُ الْأَوْدِيَةِ دُونَ بَعْضٍ. وَمَعْنَى بِقَدَرِهَا أَيْ: عَلَى قَدْرِ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، أَوْ بِمَا قُدِّرَ لَهَا مِنَ الْمَاءِ بِسَبَبِ نَفْعِ الْمَمْطُورِ عَلَيْهِمْ لَا ضَرَرِهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، فَالْمَطَرُ مَثَلٌ لِلْحَقِّ، فَهُوَ نَافِعٌ خَالٍ مِنَ الضَّرَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقَدَرِهَا بِفَتْحِ الدَّالِّ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: بِسُكُونِهَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بِقَدَرِهَا متعلق بسالت. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: بِقَدَرِهَا صفة لأودية، وَعَرَّفَ السَّيْلَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ مَا فُهِمَ مِنَ الْفِعْلِ، وَالَّذِي يَتَضَمَّنُهُ الْفِعْلُ مِنَ الْمَصْدَرِ هُوَ نَكِرَةٌ، فَإِذَا عَادَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ كَانَ مَعْرِفَةً، كَمَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ نَكِرَةً، وَلِذَلِكَ تَضَمَّنَ إِذَا عَادَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْمَصْدَرِ نَحْوَ: مَنْ كَذَّبَ كَانَ شَرًّا لَهُ أَيْ: كَانَ الْكَذِبُ شَرًّا لَهُ، وَلَوْ جَاءَ هُنَا مُضْمَرًا لَكَانَ جَائِزًا عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَسَالَتْ. وَاحْتَمَلَ بِمَعْنَى حَمَلَ، جَاءَ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى المجرد كاقتدر وقدر. ورابيا مُنْتَفِخًا عَالِيًا عَلَى وَجْهِ السَّيْلِ، وَمِنْهُ الرَّبْوَةُ. وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ أَيْ: وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوقِدُونَ عَلَيْهَا وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْحَدِيدُ، وَالنُّحَاسُ، وَالرَّصَاصُ، وَالْقَصْدِيرُ، وَنَحْوُهَا مِمَّا يُوقَدُ عَلَيْهِ وَلَهُ زَبَدٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ، وَيَحْيَى، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: يُوقِدُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، أَيْ يُوقِدُ النَّاسُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بتوقدون وفي النَّارِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَالْحَوْفِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِتُوقِدُونَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ يُوقَدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِي النَّارِ

كقوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ «1» فَذَلِكَ الْبِنَاءُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يُوقَدُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي النَّارِ، لَكِنْ يُصِيبُهُ لَهَبُهَا. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: فِي النَّارِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا، أَوْ ثَابِتًا. وَمَنَعُوا تَعْلِيقَهُ بِقَوْلِهِ: تُوقِدُونَ، لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أنه لا يوقد على شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ فِي النَّارِ، وَتَعْلِيقُ حَرْفِ الْجَرِّ بِتُوقِدُونَ يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ حَالٍ مِنْ حَالٍ أُخْرَى انْتَهَى. وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يُوقَدُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ فِي النَّارِ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِتُوقِدُونَ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ، وَانْتَصَبَ ابْتِغَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: مُبْتَغِينَ حِلْيَةً، وَفِي ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ ابْتِغَاءَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْفَعَةِ مَا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ. وَالْحِلْيَةُ مَا يُعْمَلُ لِلنِّسَاءِ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْمَتَاعُ مَا يُتَّخِذُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْعَيْشِ كَالْأَوَانِي، وَالْمَسَاحِي، وَآلَاتِ الْحَرْبِ، وَقَطَّاعَاتِ الْأَشْجَارِ، وَالسِّكَكِ، وَغَيْرِ ذلك. وزبد مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا تُوقِدُونَ. وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الزَّبَدَ هُوَ بَعْضُ مَا يُوقَدُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَعَادِنِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ: وَمِنْهُ يَنْشَأُ زَبَدٌ مِثْلَ زَبَدِ الْمَاءِ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي كَوْنِهِمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِثْلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. شَبَّهَ الْحَقَّ بِمَا يَخْلُصُ مِنْ جُرْمِ هَذِهِ الْمَعَادِنِ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْخَبَثِ وَدَوَامِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَشَبَّهَ الْبَاطِلَ بِالزَّبَدِ وَالْمُجْتَمِعِ مِنَ الْخَبَثِ وَالْأَقْذَارِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ. وَفَصَّلَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ وَمِنَ الزَّبَدِ، فَبَدَأَ بِالزَّبَدِ إِذْ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي قَوْلِهِ: زَبَدًا رَابِيًا، وَفِي قَوْلِهِ: زَبَدٌ مِثْلُهُ، وَلِكَوْنِ الْبَاطِلِ كِنَايَةً عَنْهُ وَصْفٌ مُتَأَخِّرٌ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ فَصِيحَةٌ يَبْدَأُ فِي التَّقْسِيمِ بِمَا ذُكِرَ آخِرًا كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «2» وَالْبِدَاءَةُ بِالسَّابِقِ فَصِيحَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «3» فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ «4» وَكَأَنَّهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يَبْدَأُ فِي التَّفْصِيلِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ فِي الذِّكْرِ. وَانْتَصَبَ جُفَاءً عَلَى الْحَالِ أَيْ: مُضْمَحِلًّا مُتَلَاشِيًّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ. وَالزَّبَدُ يُرَادُ بِهِ مَا سَبَقَ مِنْ مَا احْتَمَلَهُ السَّيْلُ وَمَا خَرَجَ مِنْ حَيْثُ الْمَعَادِنُ، وَأَفْرَدَ الزَّبَدَ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يُثَنِّ، وَإِنْ تَقَدَّمَ زَبَدَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُطْلَقِ الزَّبَدِيَّةِ، فَهُمَا وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَرَأَ رُؤْبَةُ: جُفَالًا بِاللَّامِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ مِنْ

_ (1) سورة القصص: 28/ 38. (2) سورة آل عمران: 3/ 106. [.....] (3) سورة هود: 11/ 105. (4) سورة هود: 11/ 106.

قَوْلِهِمْ: جَفَلَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ إِذَا حَمَلَتْهُ وَفَرَّقَتْهُ. وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ: لَا يُقْرَأُ بِقِرَاءَةِ رُؤْبَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْفَأْرَ بِمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ أَعْرَابِيًّا جَافِيًا. وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: لَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَةُ الْأَعْرَابِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ أَيْ: مِنَ الْمَاءِ الخالص من الغثاء وَمِنَ الْجَوْهَرِ الْمَعْدِنِيِّ الْخَالِصِ مِنَ الْخَبَثِ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبُ كَمَثَلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ انْتَقَلَ إِلَى مَا لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَهْلِ الْبَاطِلِ مِنَ الْعِقَابِ، فَقَالَ: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى، أَيْ: الَّذِينَ دَعَاهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنِ اتِّبَاعِ دِينِهِ الْحَالَةَ الْحُسْنَى، وَذَلِكَ هُوَ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا وَمَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ. فالحسنى مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَغَايَرَ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الِابْتِدَاءِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي الِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ، وَعَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْحُسْنَى لَا لِغَيْرِهِمْ. وَلِأَنَّ قِرَاءَةَ شُيُوخِنَا يَقِفُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَمْثَالَ، وَيَبْتَدِئُونَ لِلَّذِينَ. وَعَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ أَعْرَبَ الحوفي الحسنى مبتدأ، وللذين خَبَرَهُ، وَفَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَفَهِمَ السَّلَفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاءُ الْحُسْنَى وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَيَاةُ الْحُسْنَى مَا فِي الطِّيبَةِ. وَقِيلَ: الْجَنَّةُ لِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنَى. وَقِيلَ: الْمُكَافَأَةُ أَضْعَافًا. وَعَلَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلَّذِينَ بِقَوْلِهِ يَضْرِبُ فَقَالَ: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا متعلقة بيضرب أَيْ: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا، وَلِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا أَيْ: هُمَا مِثْلَا الْفَرِيقَيْنِ. والحسنى صِفَةٌ لِمَصْدَرِ اسْتَجَابُوا أَيْ: اسْتَجَابُوا الِاسْتِجَابَةَ الْحُسْنَى. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لِغَيْرِ الْمُسْتَجِيبِينَ انْتَهَى. وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ فِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِمَثَلِ هَذَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ضَرَبَ أَمْثَالًا كَثِيرَةً فِي هَذَيْنِ وَفِي غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّهُ فِيهِ ذِكْرُ ثَوَابِ الْمُسْتَجِيبِينَ بِخِلَافِ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَكَمَا ذَكَرَ مَا لِغَيْرِ الْمُسْتَجِيبِينَ مِنَ الْعِقَابِ، ذَكَرَ مَا لِلْمُسْتَجِيبِينَ مِنَ الثَّوَابِ. وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهُ الِاسْتِجَابَةَ الْحُسْنَى مشعر بتقييد الاستجابة، ومقابلتها لَيْسَ نَفْيَ الِاسْتِجَابَةِ مُطْلَقًا، إِنَّمَا مُقَابِلُهَا نَفْيُ الِاسْتِجَابَةِ الْحُسْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَفَى الِاسْتِجَابَةَ مُطْلَقًا. وَلِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، كَلَامًا مُفْلَتًا مِمَّا قَبْلَهُ، أَوْ كَالْمُفْلَتِ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ، فَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ بِحَرْفٍ رَابَطَ لَوْ بِمَا قَبْلَهَا زَالَ التَّفَلُّتُ، وَأَيْضًا فَيُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ فِي الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْكَافِرِينَ مَعْلُومًا لَهُمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّرْكِيبُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا

[سورة الرعد (13) : الآيات 19 إلى 43]

فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ معه لافتدوا به، وسوء الْحِسَابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ لَا تُقْبَلَ حَسَنَاتُهُمْ وَلَا تُغْفَرَ سَيِّئَاتُهُمْ. وَقَالَ النخعي: وشهد وفرقران يُحَاسَبَ عَلَى ذُنُوبِهِ كُلِّهَا، وَيُحَاسَبَ وَيُؤَاخَذَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: الْمُنَاقَشَةُ. وَقِيلَ: لِلتَّوْبِيخِ عِنْدَ الْحِسَابِ وَالتَّقْرِيعِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

الْقَارِعَةُ: الرَّزِيَّةُ الَّتِي تَقْرَعُ قَلْبَ صَاحِبِهَا أَيْ: تَضْرِبُهُ بِشِدَّةٍ، كَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَالنَّهْبِ، وَكَشْفِ الْحَرِيمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ ... بِبَعْضِ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تُكْسَرَا أَيْ ضَرَبْنَا بِقُوَّةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْقَارِعَةُ فِي اللُّغَةِ النَّازِلَةُ الشَّدِيدَةُ تَنْزِلُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ. الْمَحْوُ الْإِزَالَةُ مَحَوْتُ الْخَطَّ أَذْهَبْتُ أَثَرَهُ وَمَحَا الْمَطَرُ رَسْمَ الدَّارِ أَذْهَبَهُ وَأَزَالَهُ وَيُقَالُ فِي مُضَارِعِهِ يَمْحُو وَيَمْحِي لِأَنَّ عَيْنَهُ حَرْفُ حَلْقٍ وَالْإِثْبَاتُ ضِدُّ الْمَحْوِ. أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ أَفَمَنْ يَعْلَمُ فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبِي جَهْلٍ. قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أَوَ مَنْ بِالْوَاوِ بَدَلُ الْفَاءِ، إِنَّمَا أَنْزَلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَثَلَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَذَكَرَ مَا لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الثَّوَابِ، وَمَا لِلْكَافِرِ مِنَ الْعِقَابِ، ذَكَرَ اسْتِبْعَادَ مَنْ يَجْعَلُهَا سَوَاءً وَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى أَيْ: لَيْسَا مُشْتَبِهَيْنِ، لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ بَصِيرٌ بِهِ، وَالْجَاهِلَ بِهِ كَالْأَعْمَى، وَالْمُرَادُ أَعْمَى الْبَصِيرَةِ وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِالْعِلْمِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُرَادُ بِهِ: إِنْكَارُ أَنْ تَقَعَ شُبْهَةٌ بعد ما ضَرَبَ مِنَ الْمَثَلِ فِي أَنَّ حَالَ مَنْ عَلِمَ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فَاسْتَجَابَ، بِمَعْزِلٍ مِنْ حَالِ الْجَاهِلِ الَّذِي لَمْ يَسْتَبْصِرْ فَيَسْتَجِيبُ، كَبُعْدِ مَا بَيْنَ الزَّبَدِ وَالْمَاءِ، وَالْخَبَثِ وَالْإِبْرِيزِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ بِالْمَوْعِظَةِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ. وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ، وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ صَدْرُ الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ: فَأَمَنْ يَعْلَمُ، وَيُبْعِدُهَا أَنْ يَكُونَ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ عَاطِفَةٌ مَا بَعْدَهَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا «1» وَقَوْلِهِ: أَفَلا يَعْقِلُونَ «2» وَجَوَّزُوا فِي الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ بدلا من أولوا، أَوْ صِفَةً لَهُ، وَصِفَةً لِمَنْ مِنْ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَتَذَكَّرُ اعْتِرَاضٌ، وَمُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ «3» ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ «4» والظاهر

_ (1) سورة غافر: 40/ 82. (2) سورة يس: 36/ 68. (3) سورة الرعد: 13/ 25. (4) سورة الرعد: 13/ 25.

عُمُومُ الْعَهْدِ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ. وقال قتادة: في الأزل، وَهُوَ قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» وَقَالَ الْقَفَّالُ: مَا فِي حِيلَتِهِمْ وَعُقُولِهِمْ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ. وَقِيلَ: فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْمَأْخُوذُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالظَّاهِرُ إِضَافَةُ الْعَهْدِ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: بِمَا عَهِدَ اللَّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، جُمْلَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الْمِيثَاقُ، وَيَلْزَمُ مِنْ إِيفَاءِ الْعَهْدِ انْتِفَاءُ نَقِيضِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَهْدُ اللَّهِ مَا عَقَدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الشَّهَادَةِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَلَا يَنْقُضُونَ كُلَّ مَا وَثَّقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَقَبِلُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَوَاثِيقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعِبَادِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ انْتَهَى. فَأَضَافَ الْعَهْدَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَغَايَرَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِكَوْنِ الثَّانِيَةِ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ انْتَهَى. إِذْ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَامٌّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِعَهْدِ اللَّهِ اسْمُ الْجِنْسِ أَيْ: بِجَمِيعِ عُهُودِ اللَّهِ، وَبَيْنَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ الَّتِي وَصَّى بِهَا عَبِيدَهُ. وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْتِزَامُ جَمِيعِ الْفُرُوضِ، وَتَجَنُّبُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ أَيْ: إِذَا اعْتَقَدُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَهْدًا لَمْ يَنْقُضُوهُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَتَقَدَّمَ وَعِيدُ اللَّهِ إِلَى عِبَادِهِ فِي نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَنَهَى عَنْهُ فِي بِضْعٍ وَعِشْرِينَ آيَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مِيثَاقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الَّذِي أَخَذَهُ تَعَالَى عَلَى ظَهْرِ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ فِي الذِّكْرِ أَنْ لَا يُسْأَلَ سِوَاهُ، وَذَكَرَ قِصَّةَ أَبِي حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيِّ وقوعه فِي الْبِئْرِ، وَمُرُورَ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَتَغْطِيتَهُمُ الْبِئْرَ وَهُوَ لَا يَسْأَلُهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ، إِلَى أَنْ جَاءَ مَنْ أَخْرَجَهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَلَمْ يَرَ مَنْ أَخْرَجَهُ، وَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ: كَيْفَ رَأَيْتَ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ؟ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ، فَاقْتَدُوا بِهِ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِعْلَ أَبِي حَمْزَةَ هَذَا وَبَيَّنَ خَطَأَهُ، وَأَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي الِاسْتِغَاثَةَ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَذَكَرَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَغَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّ إِنْسَانًا لَوْ جَاعَ فَلَمْ يَسْأَلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِأَبِي حَمْزَةَ الجاهل. وما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِهِ صِلَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وقال

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 178.

قَتَادَةُ: الرَّحِمُ. وَقِيلَ: صِلَةُ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ. وَقِيلَ: صِلَةُ قَرَابَةِ الْإِسْلَامِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَشُهُودِ الْجَنَائِزِ، وَمُرَاعَاةِ حَقِّ الْجِيرَانِ، وَالرُّفَقَاءِ، وَالْأَصْحَابِ، وَالْخَدَمِ. وَقِيلَ: نُصْرَةُ المؤمنين. وَأَمْرٌ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ بِحَرْفِ جَرٍّ وَهُوَ بِهِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَأَنْ يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَيْ: بوصله. ويخشون رَبَّهُمْ أَيْ: وَعِيدَهُ كُلَّهُ. ويخافون سوء الحساب أي: استقصاءه فَيُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبُوا. وَقِيلَ: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ. وَقِيلَ: فِي قَطْعِ الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: فِيمَا أَمَرَهُمْ بوصله. وصبروا مُطْلَقٌ فِيمَا يُصْبَرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَمِيثَاقِ التَّكْلِيفِ. وَجَاءَتِ الصِّلَةُ هُنَا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَفِي الْمُوصِلِينَ قَبْلُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يوفون، والذين يصلون، وما عُطِفَ عَلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ هُنَا فِي مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ بِالْمَاضِي كَالْمُضَارِعِ فِي اسْمِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا أَشْبَهَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِذَا وَقَعَ الْمَاضِي صِلَةً أَوْ صِفَةً لِنَكِرَةٍ عَامَّةٍ احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُضِيُّ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ. فَمِنَ الْمُرَادِ بِهِ الْمُضِيُّ فِي الصِّلَةِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «1» وَمِنَ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ «2» . وَيَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذِهِ الصِّلَةِ بِالْمَاضِي وَتَيْنِكَ بِالْمُضَارِعِ، أَنَّ تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ قُصِدَ بِهِمَا الِاسْتِصْحَابُ وَالِالْتِبَاسُ دَائِمًا، وَهَذِهِ الصِّلَةُ قُصِدَ بِهَا تَقَدُّمُهَا عَلَى تَيْنِكَ الصلتين، وما عُطِفَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ حُصُولَ تِلْكَ الصِّلَاتِ إِنَّمَا هِيَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى حُصُولِ الصَّبْرِ وَتَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ صِلَةٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِصِيغَةِ الْمَاضِي، إِذْ هُوَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ التَّكَالِيفِ وَإِيقَاعِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَانْتَصَبَ ابْتِغَاءَ قِيلَ: عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ أَيْ: إِنَّ صَبْرَهُمْ هُوَ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا، لَا لِرَجَاءِ أَنْ يُقَالَ: مَا أَصْبَرَهُ، وَلَا مَخَافَةَ أَنْ يُعَابَ بِالْجَزَعِ، أَوْ تَشْمَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ كَمَا قَالَ: وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ وَلِأَنَّ الْجَزَعَ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، أَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَرَدَّ لِمَا فَاتَ وَلَا لِمَا وَقَعَ. وَالظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْوَجْهِ هُنَا جِهَةُ اللَّهِ أَيْ: الْجِهَةُ الَّتِي تُقْصَدُ عِنْدَهُ تَعَالَى بِالْحَسَنَاتِ لِتَقَعَ عَلَيْهَا الْمَثُوبَةُ، كَمَا تَقُولُ: خَرَجَ زَيْدٌ لِوَجْهِ كَذَا. وَنَبَّهَ عَلَى هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ: الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ، إِذْ هُمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمُ صَبْرٍ لِتَكَرُّرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِتَعَلُّقِ النفوس

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 173. (2) سورة المائدة: 5/ 34.

بِحُبِّ تَحْصِيلِ الْمَالِ. وَنَبَّهَ عَلَى حَالَتَيِ الْإِنْفَاقِ، فَالسِّرُّ أَفْضَلُ حَالَاتِ إِنْفَاقِ التَّطَوُّعِ كما جاء في «السبعة الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظله، ورجل تصدق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا» وَالْعَلَانِيَةُ أَفْضَلُ حَالَاتِ إِنْفَاقِ الْفُرُوضِ، لِأَنَّ الْإِظْهَارَ فِيهَا أَفْضَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الْحَلَالِ، لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ رِزْقًا، وَلَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلِلسَّلَفِ هُنَا فِي الصَّبْرِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَبَرُوا عَلَى أَمْرَ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: صَبَرُوا عَلَى دِينِهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: صَبَرُوا عَلَى الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَبَرُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ المعصية، ويدرؤون يَدْفَعُونَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرُّ بِالْخَيْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: رَدُّوا عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا كَقَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «1» وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا حُرِمُوا أَعْطَوْا، وَإِذَا ظُلِمُوا عَفَوْا، وَإِذَا قُطِعُوا وَصَلُوا. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: إِذَا سُفِّهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَدْفَعُونَ الْمُنْكَرَ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِذَا أَذْنَبُوا تَابُوا، وَإِذَا هَرَبُوا أَنَابُوا لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّوْبَةِ مَعَرَّةَ الذَّنْبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ. وقيل: يدفعون بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شِرْكَهُمْ. وَقِيلَ: بِالسَّلَامِ غَوَائِلَ النَّاسِ. وَقِيلَ: مَنْ رَأَوْا مِنْهُ مَكْرُوهًا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقِيلَ: بِالصَّالِحِ مِنَ العمل السيّء، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ إِلَى جَنْبِهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» . وَقِيلَ الْعَذَابُ: بِالصَّدَقَةِ. وَقِيلَ: إِذَا هَمُّوا بِالسَّيِّئَةِ فَكَرُّوا وَرَجَعُوا عَنْهَا وَاسْتَغْفَرُوا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا يُكَافِئُونَ الشَّرَّ بِالشَّرِّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ... وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانًا وَهَذَا بِخِلَافِ خُلُقِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا قَالَ: جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ ... سَرِيعًا وَإِنْ لَا يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، ثُمَّ هِيَ عَامَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وعقبى الدَّارِ: عَاقِبَةُ الدُّنْيَا، وَهِيَ الْجَنَّةُ. لِأَنَّهَا الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَةَ الدنيا وموضع أهلها. وجنات عَدْنٍ بَدَلٌ مِنْ عُقْبَى الدَّارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ عُقْبَى دَارِ الْآخِرَةِ لِدَارِ الدُّنْيَا فِي الْعُقْبَى الْحَسَنَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ هِيَ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جنات خبر ابتداء

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 63.

مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَّاتُ، وَالنَّخْعِيُّ: جَنَّةُ بِالْإِفْرَادِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو: يُدْخَلُونَهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَمَنْ صَلَحَ بِضَمِّ اللَّامِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ أَفْصَحُ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ: وَذُرِّيَّتَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ: فَنَعِمَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَهِيَ الْأَصْلُ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْيَوْمِ الشُّطُرِ وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: فَنَعْمَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ العين، وتخفيف فعل لُغَةٌ تَمِيمِيَّمَةٌ، وَالْجُمْهُورُ نِعْمَ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَهِيَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَمَنْ صَلَحَ أَيْ عَمَلَ صَالِحًا وَآمَنَ انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ النَّسَبِ مِنَ الصَّالِحِ لَا يَنْفَعُ، إِنَّمَا تَنْفَعُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَمَنْ صَلَحَ أَيْ لِذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَابِقِ عِلْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الصَّلَاحُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ بِنِعْمَةِ اجْتِمَاعِهِمْ مَعَ قَرَابَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَمَنْ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي يَدْخُلُونَهَا وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ أَيْ: يَدْخُلُونَهَا مَعَ مَنْ صَلَحَ. وَيَشْتَمِلُ قوله: من آبائهم، أبوي كُلِّ وَاحِدٍ وَالِدُهُ وَوَالِدَتُهُ، وَغَلَبَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ. وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَيْ: بِالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَكْرِمَةً لَهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَعْمَالٍ تُشِيرُ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، مَنْ عَمِلَهَا دَخَلَهَا مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ. قَالَ الْأَصَمُّ: نَحْوَ هَذَا قَالَ: مِنْ كُلِّ بَابٍ بَابُ الصَّلَاةِ، وَبَابُ الزَّكَاةِ، وَبَابُ الصَّبْرِ. وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ كَلَامٌ عَجِيبٌ فِي الْمَلَائِكَةِ ذَكَرَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ رُوحَانِيُّونَ، وَمِنْهُمْ كَرُوبِيُّونَ، فَالْعَبْدُ إِذَا رَاضَ نَفْسَهُ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ كَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ، فَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ جَوْهَرٌ قُدْسِيٌّ وَرُوحٌ عُلْوِيٌّ يُحْفَظُ لِتِلْكَ الصِّفَةِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ، فَعِنْدَ الْمَوْتِ إِذَا أَشْرَقَتْ تِلْكَ الْجَوَاهِرُ الْقُدْسِيَّةُ تَجَلَّتْ فِيهَا مِنْ كُلِّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَائِيَّةِ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الصِّفَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَيَفِيضُ عَلَيْهَا مِنْ مَلَائِكَةِ الصَّبْرِ كَمَالَاتٌ مَخْصُوصَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ لَا تَظْهَرُ إِلَّا فِي مَقَامِ الصَّبْرِ، وَمِنْ مَلَائِكَةِ الشُّكْرِ كَمَالَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ لَا تَتَجَلَّى إِلَّا فِي مَقَامِ الشُّكْرِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمَرَاتِبِ انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامٌ فَلْسَفِيٌّ لَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ، وَلَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَهُوَ كَلَامٌ مُطْرَحٌ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَكَى الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صِفَةِ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ أَحَادِيثَ لَمْ نُطَوِّلْ بِهَا لِضَعْفِ أَسَانِيدِهَا انْتَهَى.

وَارْتَفَعَ سَلَامٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وعليكم الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِمَا صَبَرْتُمْ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذَا الثَّوَابُ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمَشَاقِّ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى بَدَلٍ أَيْ: بَدَلَ صَبْرِكُمْ أَيْ: بَدَلَ مَا احْتَمَلْتُمْ مِنْ مَشَاقِّ الصَّبْرِ، هَذِهِ الْمَلَاذُ وَالنِّعَمُ. وَقِيلَ: سَلَامٌ جَمْعُ سَلَامَةٍ أَيْ: إِنَّمَا سَلَّمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِصَبْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بسلام أَيْ: يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ وَيُكْرِمُكُمْ بِصَبْرِكُمْ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الجنة من جهنم، والدار: تَحْتَمِلُ الدُّنْيَا وَتَحْتَمِلُ الْآخِرَةَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ عَقَّبُوا الْجَنَّةَ مِنْ جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى حَدِيثٍ وَرَدَ وَهُوَ: «أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ فِي الْجَنَّةِ قَدْ كَانَ لَهُ مَقْعَدٌ مَعْرُوفٌ فِي النَّارِ، فَصَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِلَى النَّعِيمِ فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَكَانُ مَقْعَدِكَ، فَبَدَّلَكَ اللَّهُ مِنْهُ الْجَنَّةَ بِإِيمَانِكَ وَطَاعَتِكَ وَصَبْرِكَ» انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ هُوَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ تِلْكَ الطَّاعَاتُ السَّابِقَةُ، ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ النَّعِيمَ السَّرْمَدِيَّ إِنَّمَا هُوَ حَاصِلٌ بِسَبَبِ الصَّبْرِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ: قَالَ مُقَاتِلٌ نَزَلَتْ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ اللَّهُ يَبْسُطُ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ وَمَا تَرَتَّبَ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ السُّنِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، ذَكَرَ حَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَمَا تَرَتَّبَ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخْزِيَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ «1» وَتَرَتَّبَ لِلسُّعَدَاءِ هُنَاكَ التَّصْرِيحُ بعقبى الدَّارِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَإِكْرَامِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِالسَّلَامِ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْقُرْبِ وَالتَّأْنِيسِ. وَهُنَا تَرَتَّبَ لِلْأَشْقِيَاءِ الْإِبْعَادُ مِنْ رحمة الله. وسوء الدَّارِ أَيْ: الدَّارُ السُّوءُ وهي النار، وسوء عَاقِبَةُ الدَّارِ، وَتَكُونُ دَارَ الدُّنْيَا. وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ نِعَمُ الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ لَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِالرِّزْقِ. قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُ، وَيَبْسُطُ لِلْكَافِرِ إِمْلَاءً لازدياد آثامه. ويقدر مُقَابِلُ يَبْسُطُ، وَهُوَ التَّضْيِيقُ من قوله:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 27.

وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «1» وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ «2» وَقَوْلُ ذَلِكَ الَّذِي أُحْرِقَ وَذُرِيَ فِي الْبَحْرِ: «لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ» أَيْ لَئِنْ ضَيَّقَ. وَقِيلَ: يَقْدِرُ يُعْطِي بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَيَقْدُرُ بِضَمِّ الدَّالِّ، حَيْثُ وَقَعَ وَالضَّمِيرُ فِي فَرِحُوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ جَهْلِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنْ بَسْطَةِ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ، وَفَرَحُهُمْ فَرَحُ بَطَرٍ وَبَسْطٍ لَا فَرَحُ سُرُورٍ بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِالشُّكْرِ حَتَّى يَسْتَوْجِبُوا نَعِيمَ الْآخِرَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ بِهِ، وَاسْتَجْهَلَهُمْ بِهَذَا الْفَرَحِ إِذْ هُوَ فَرَحٌ بِمَا يَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ وَيَنْقَضِي. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَاتٍ. وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ أَيْ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. ومتاع: مَعْنَاهُ ذَاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ يَسْتَمْتِعُ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ يَفْنَى. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَمَتَّعْ يَا مُشَعَّثُ إِنَّ شَيْئًا ... سَبَقْتَ بِهِ الْمَمَاتَ هُوَ الْمَتَاعُ وَقَالَ آخَرُ: أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ وَقَالَ آخَرُ: تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فَانٍ ... مِنَ النَّشَوَاتِ وَالنِّسَاءِ الْحِسَانِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خُفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ لَيْسَ إِلَّا شَيْئًا نَذْرًا، يَتَمَتَّعُ بِهِ كَعُجَالَةِ الرَّاكِبِ، وَهُوَ مَا يَتَعَجَّلُهُ مِنْ تُمَيْرَاتٍ أَوْ شَرْبَةِ سَوِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ: أعلم اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْآخِرَةِ نَذْرٌ لَيْسَ يَتَمَتَّعُ بِهِ كَعُجَالَةِ الرَّاكِبِ، وَهُوَ مَا يَتَعَجَّلُهُ مِنْ تُمَيْرَاتٍ أَوْ شَرْبَةِ سَوِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زَادٌ كَزَادِ الرَّعْيِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَلِيلٌ ذَاهِبٌ مِنْ مَتَعَ النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ زَوَالٍ. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ: نَزَلَتْ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، طَلَبُوا مِثْلَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْمُلْتَمِسُ ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي أُمَيَّةَ وَأَصْحَابُهُ، رَدَّ تَعَالَى

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 7. (2) سورة الأنبياء: 21/ 87.

عَلَى مُقْتَرَحِي الْآيَاتِ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كَسُقُوطِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا. وَقَوْلُهُمْ: سَيِّرْ عَلَيْنَا الْأَخْشَبَيْنِ، وَاجْعَلْ لَنَا الْبِطَاحَ مَحَارِثَ وَمُغْتَرَسًا كَالْأُرْدُنِّ، وَأَحْيِ لَنَا مُضُيَّنَا وَأَسْلَافَنَا، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ اللَّهِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ هَلَاكَ مُقْتَرِحِهَا، فَرَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي ضَرُورَةَ إِيمَانِكُمْ وَهُدَاكُمْ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يُطَابِقُ قَوْلِهِمْ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ؟ (قُلْتُ) : هُوَ كَلَامٌ يَجْرِي مَجْرَى التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الْمُتَكَاثِرَةِ الَّتِي أُوتِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْتَهَا نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَكَفَى بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ آيَةً وَرَاءَ كُلِّ آيَةٍ، فَإِذَا جَحَدُوهَا وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِهَا وَجَعَلُوهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قَطُّ كَانَ مَوْضِعُ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِنْكَارِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: مَا أَعْظَمَ عِنَادَكُمْ وَمَا أَشَدَّ تَصْمِيمَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، فَمَنْ كَانَ عَلَى صِفَتِكُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ وَشِدَّةِ التَّسْلِيمِ فِي الْكُفْرِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اهْتِدَائِكُمْ وَإِنْ أُنْزِلَتْ كُلُّ آيَةٍ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ صِفَتِكُمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ أَيْ: إِلَى جَنَّتِهِ مَنْ أَنَابَ أَيْ: مَنْ تَابَ. وَالْهُدَى تَعَلُّقُهُ بِالْمُؤْمِنِ هُوَ الثَّوَابُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُضِلُّ عَنِ الثَّوَابِ بِالْعِقَابِ، لَا عَنِ الدِّينِ بِالْكُفْرِ، عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ خَالَفَنَا انْتَهَى. وَهِيَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: إِلَى دِينِهِ وشرعه. وأناب أَقْبَلَ إِلَى الْحَقِّ، وَحَقِيقَتُهُ دَخَلَ فِي تَوْبَةِ الْخَيْرِ. والذين آمَنُوا: بَدَلٌ مِنْ أَنَابَ. وَاطْمِئْنَانُ الْقُلُوبِ سُكُونُهَا بَعْدَ الاضطراب من خشيته. وذكر اللَّهِ ذِكْرُ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، أَوْ ذِكْرُ دَلَائِلِهِ عَلَى وحدانيته المزيلة لعلف الشُّبَهِ. أَوْ تَطْمَئِنُّ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ تَسْكُنُ بِهِ الْقُلُوبُ وَتَنْتَبِهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَضَّ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَأَنَّهُ بِهِ تَحْصُلُ الطُّمَأْنِينَةُ تَرْغِيبًا فِي الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ بِذِكْرِهِ تَعَالَى تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لَا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، بَلْ رُبَّمَا كَفَرَ بَعْدَهَا، فَنَزَلَ الْعَذَابُ كَمَا سَلَفَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ. وَجَوَّزُوا فِي الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ، وَبَدَلًا مِنَ الْقُلُوبُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: قُلُوبُ الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي: هم الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وطوبى: فِعْلٌ مِنَ الطِّيبِ، قُلِبَتْ يَاؤُهُ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا كَمَا قَلُبِتْ فِي مُوسِرٍ،

وَاخْتَلَفُوا فِي مَدْلُولِهَا: فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْهَنَائِيُّ: هِيَ جَمْعُ طَيِّبَةٍ قَالُوا فِي جمع كيسة كوسى، وصيفة صوفى. وَفُعْلَى لَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ، فَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِهَا اسْمَ جَمْعٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هي مفرد مصدر كَبُشْرَى وَسُقْيَا وَرُجْعَى وَعُقْبَى، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي مَعْنَاهَا. فَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَعْنَى غِبْطَةٌ لَهُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَصَبْتَ خَيْرًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نُعْمَى لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَحٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حُسْنَى لَهُمْ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: خَيْرٌ لَهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا كَرَامَةٌ لَهُمْ. وَعَنْ سُمَيْطِ بْنِ عَجْلَانَ: دَوَامُ الْخَيْرِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَعْنَى الْعَيْشُ الطَّيِّبُ لَهُمْ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: طُوبَى اسْمٌ لِلْجَنَّةِ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقِيلَ: بِلُغَةِ الْهِنْدِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُعَتِّبُ بْنُ سُمَيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هِيَ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ، وَقَدْ سَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي الْجَنَّةِ فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ فِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا شَجَرَةٌ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ حَدِيثِ عُتْبَةَ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ في التمهيد والثعلبي. وطوبى: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ لَهُمْ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَمًا لِشَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَلَا كَلَامَ فِي جَوَازِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً فَمُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ بِهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّهُ ذَهَبَ بِهَا مَذْهَبَ الدُّعَاءِ كَقَوْلِهِمْ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، إِلَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ فِيهِ الرَّفْعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ نَوَاسِخُهُ هَكَذَا قَالَ: ابْنُ مَالِكٍ. ويرده أنه قرىء: وَحُسْنَ مَآبٍ بِالنَّصْبِ، قَرَأَهُ كَذَلِكَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ ثَعْلَبٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى طُوبَى، وَأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَحُسْنُ مَآبٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا. قَالَ ثعلب: وطوبى عَلَى هَذَا مَصْدَرٌ كَمَا قَالُوا: سُقْيَا. وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ عَلَى النِّدَاءِ قَالَ: بِتَقْدِيرِ يَا طُوبَى لَهُمْ، ويا حسن مآب. فحسن مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُنَادَى الْمُضَافِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَهَذَا نِدَاءٌ لِلتَّحْنِينِ وَالتَّشْوِيقِ كَمَا قَالَ: يَا أَسَفَى عَلَى الْفَوْتِ وَالنُّدْبَةِ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُنَادَى الْمُضَافِ، أَنَّ طُوبَى مُضَافٌ لِلضَّمِيرِ، وَاللَّامَ مُقْحَمَةٌ كَمَا أُقْحِمَتْ فِي قَوْلِهِ: يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لِأَقْوَامٍ، وَقَوْلِ الْآخَرِ: يَا بُؤْسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي، وَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّنْوِينُ مِنْ بُؤْسٍ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا طُوبَاهُمْ وَحُسْنَ مَآبٍ أَيْ: مَا أَطْيَبَهُمْ وَأَحْسَنَ مَآبَهُمْ، كَمَا تَقُولُ: يَا طِيبَهَا لَيْلَةً أَيْ: مَا أَطْيَبَهَا لَيْلَةً. وَقَرَأَ بَكْرَةُ الْأَعْرَابِيُّ طِيبَى بِكَسْرِ الطَّاءِ، لِتَسْلَمَ الْيَاءُ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِنْ كَانَ وَزْنُهَا فُعْلَى، كَمَا كَسَرُوا فِي بِيضٍ لِتَسْلَمَ الْيَاءُ، وَإِنْ كَانَ وَزْنُهَا فُعُلًا كَحُمُرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصَبْتَ خَيْرًا وَطِيبًا، وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ أَوِ الرَّفْعُ كَقَوْلِكَ: طِيبًا لَكَ، وَطِيبٌ لَكَ، وَسَلَامًا لَكَ، وَسَلَامٌ لَكَ، وَالْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: وَحُسْنُ مَآبٍ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ

بِذَلِكَ عَلَى مَحَلِّهَا، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْبَيَانِ مِثْلُهَا في سقيا لك. وقرىء: وَحُسْنُ مَآبٍ بِفَتْحِ النُّونِ، ورفع مآب. فحسن فِعْلٌ مَاضٍ أَصْلُهُ وَحَسُنَ نُقِلَتْ ضَمَّةُ سِينِهِ إِلَى الْحَاءِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي فِعْلٍ إِذَا كَانَ لِلْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ كَمَا قَالُوا: حُسْنَ ذَا أَدَبَا. كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ: قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا رَأَوْا كِتَابَ الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ كُتِبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا يَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا مُسَيْلِمَةُ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: سَمِعَ أَبُو جَهْلٍ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَا رَحْمَنُ، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَنْهَانَا عَنْ عِبَادَةِ آلِهَةٍ وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ فَنَزَلَتْ. ذَكَرَ هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا قِيلَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ فَنَزَلَتْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ أَرْسَلْنَاكَ يَعْنِي: أَرْسَلْنَاكَ إِرْسَالًا لَهُ شَأْنٌ وَفَضْلٌ عَلَى سَائِرِ الْإِرْسَالَاتِ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِرْسَالٌ يُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، إِلَّا إِنْ كَانَ يُفْهَمُ مِنَ الْمَعْنَى فَيُمْكِنُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَإِرْسَالِنَا الرُّسُلَ أَرْسَلْنَاكَ، فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِرْسَالِهِ الرُّسُلَ. وَقِيلَ: الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ «1» كَمَا أَنْفَذَ اللَّهُ هَذَا كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَعْنَى كَمَا أَجْرَيْنَا الْعَادَةَ بِأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، فَكَذَلِكَ فَعَلْنَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِمْ بِوَحْيٍ، لَا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: كَفِعْلِنَا الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ أَنَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَذَلِكَ التَّقْدِيرُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ أَيْ: تَقَدَّمَتْهَا أُمَمٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمَعْنَى: أُرْسِلَتْ فِيهِمْ رُسُلٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ أَرْسَلْنَاكَ. وَدَلَّ هَذَا الْمَحْذُوفُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى إِرْسَالِهِ تَعَالَى الرُّسُلَ كما قال الحسن، ولتتلو أَيْ: لِتَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ عَلَيْكَ. وَعِلَّةُ الْإِرْسَالِ هِيَ الْإِبْلَاغُ لِلدِّينِ الَّذِي أَتَى بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ أَيْ: وَحَالُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ رَحْمَةً لَهَا مِنِّي وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِي أَيْ: وَحَالُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ بِالْبَلِيغِ الرَّحْمَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: وَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى أُمَّةِ المرسل إليهم الرسول

_ (1) سورة الرعد: 13/ 27. [.....]

إِعَادَةً عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ لَوْ أَعَادَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ وَهِيَ تَكْفُرُ، وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَدِينُونَ دِينَ الْكُفْرِ، فَهَدَى اللَّهُ بِكَ مَنْ أَرَادَ هِدَايَتَهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الذين قالوا: الْأُمَمَ السَّالِفَةَ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَالْأُمَّةُ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا جَمِيعُهُمْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَهُمْ يَدِينُونَ دِينَ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أُمَّتُهُ مِثْلُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَهُوَ الرَّحْمَةُ الْمُوجِبَةُ لَشُكْرِ اللَّهِ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. قُلْ: هُوَ أَيِ الرَّحْمَنُ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ هُوَ رَبِّي الْوَاحِدُ الْمُتَعَالِ عَنِ الشُّرَكَاءِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي نُصْرَتِي عَلَيْكُمْ، وَجَمِيعِ أُمُورِي، وَإِلَيْهِ مَرْجِعِي، فَيُثَبِّتُنِي عَلَى مُجَاهَدَتِكُمْ. وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّرْ جَبَلَيْ مَكَّةَ فَقَدْ ضَيَّقَا عَلَيْنَا، وَاجْعَلْ لَنَا أَرْضًا قِطَعًا غِرَاسًا، وَأَحْيِ لَنَا آبَاءَنَا وَأَجْدَادَنَا، وَفُلَانًا وَفُلَانًا، فَنَزَلَتْ مُعْلِمَةً أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عِلَّةَ إِرْسَالِهِ وَهِيَ تِلَاوَةُ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، ذَكَرَ تَعْظِيمَ هَذَا الْمُوحَى وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا تَسِيرُ بِهِ الْجِبَالُ عَنْ مَقَارِّهَا، أَوْ تُقَطَّعُ بِهِ الْأَرْضُ حَتَّى تَتَزَايَلَ قِطَعًا قِطَعًا، أَوْ تُكَلَّمُ بِهِ الْمَوْتَى فَتَسْمَعُ وَتُجِيبُ، لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِكَوْنِهِ غَايَةً فِي التَّذْكِيرِ، وَنِهَايَةً فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّخْوِيفِ. كَمَا قَالَ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «2» الْآيَةَ فَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ وَهُوَ مَا قَدَّرْنَاهُ، وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ جَائِزٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ «3» وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «4» وَقَالَ الشَّاعِرِ: وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ عَنْكَ مَدْفَعَا وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ لَمَّا آمَنُوا بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا «5» قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الفراء: هو

_ (2) سورة الحشر: 59/ 21. (3) سورة البقرة: 2/ 165. (4) سورة الأنعام: 6/ 27. (5) سورة الأنعام: 6/ 111.

مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ. وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: يَتَرَتَّبُ جَوَابُ لَوْ أَنْ يَكُونَ لَمَّا آمَنُوا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ لَيْسَ جَوَابًا، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ. وَقِيلَ: مَعْنَى قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ أَنْهَارًا وَعُيُونًا. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْمَحْذُوفُ لَمَّا آمَنُوا قَوْلَهُ: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَيْ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ، إِنَّمَا يَخْلُقُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيُرِيدُهُمَا. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَمِيمَةٍ وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الْمَطْلُوبَ فِيهِ إِيمَانُهُمْ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَيْ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ بِيَدِ اللَّهِ يَخْلُقُهُمَا فِيمَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَلْ لِلَّهِ الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا، إِلَّا أَنَّ عِلْمَهُ بِأَنَّ إِظْهَارَهَا مَفْسَدَةٌ. وَالثَّانِي: بَلْ لِلَّهِ أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِلْجَاءِ. لَوْلَا أَنَّهُ بَنَى أَمْرَ التَّكْلِيفِ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يايئس الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ، مَشِيئَةَ الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالْيَأْسُ الْقُنُوطُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ هِيَ: لُغَةُ هَوَازِنَ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: هي لغة في مِنَ النَّخَعِ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ لِسُحَيْمِ بْنِ وَثِيلٍ الرِّيَاحِيِّ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ وَقَالَ رَبَاحُ بْنُ عَدِيٍّ: أَلَمْ يَيْأَسِ الْأَقْوَامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ ... وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ الْعَشِيرَةِ نَائِيَا وَقَالَ آخَرُ: حَتَّى إِذَا يَئِسَ الرُّمَاةُ وَأَرْسَلُوا ... غُضْفًا دَوَاجِنَ قَافِلًا أَعْصَامُهَا أَيْ إِذَا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا. وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ يَئِسَ بِمَعْنَى عَلِمَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: يَئِسْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ انْتَهَى. وَقَدْ حَفِظَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَهَذَا الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ مِنْ ثِقَاةِ الْكُوفِيِّينَ وَأَجِلَّائِهِمْ نَقَلَ أَنَّهَا لُغَةُ هَوَازِنَ، وَابْنُ الْكَلْبِيِّ نَقَلَ أَنَّهَا لُغَةٌ لِحَيٍّ مِنَ النَّخَعِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتُعْمِلَ الْيَأْسُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ، كَمَا اسْتُعْمِلَ الرَّجَاءُ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ، وَالنِّسْيَانُ فِي مَعْنَى التَّرْكِ. وَحَمَلَ جَمَاعَةٌ هُنَا الْيَأْسَ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِيهِ

فِي اللُّغَةِ وَهُوَ: الْقُنُوطُ مِنَ الشَّيْءِ، وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ. فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى أَفَلَمْ ييأس الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ إِيمَانِ الْكُفَّارِ مِنْ قُرَيْشٍ الْمُعَانِدِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلُوا هَذِهِ الْآيَاتِ اشْتَاقَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَيْهَا وَأَحَبُّوا نُزُولَهَا لِيُؤْمِنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَوْ يَشَاءُ هَدَى النَّاسَ جَمِيعًا فَقَالَ: أَفَلَمْ يَيْأَسُوا؟ عَلِمْنَا بِقَوْلِ آبَائِهِمْ، فَالْعِلْمُ مُضْمَرٌ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: يَئِسْتُ مِنْكَ أَنْ لَا تُفْلِحَ كَأَنَّهُ قَالَ: عَلِمْتُهُ عِلْمًا قَالَ: فَيَئِسْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سُمِعَ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَفَلَمْ يَيْأَسُوا بِعِلْمِهِمْ أَنْ لَا هِدَايَةَ إِلَّا بِالْمَشِيئَةِ؟ وَإِيضَاحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ: أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ متعلقا بآمنوا أَيْ: أَفَلَمْ يَقْنَطْ عَنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَهَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَوِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَأْسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَبْعَدَ إِيمَانَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا الْآيَةَ عَلَى التَّأْوِيلِ فِي الْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ. قَالَ فِي هَذِهِ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الْمُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ بآمنوا على أو لم يَقْنَطْ عَنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنَّ الكلام تام عند قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِذْ هُوَ تَقْرِيرٌ أَيْ: قَدْ يَئِسَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ إيمان هؤلاء المعاندين. وأن لَوْ يَشَاءُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَأَقْسَمُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، وَيَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِ هَذَا الْقَسَمِ وُجُودُ أَنْ مَعَ لَوْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كُنْتَ حُرًّا ... وَمَا بِالْحُرِّ أَنْتَ وَلَا الْقَمِينُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: فَأُقْسِمُ أَنْ لَوِ الْتَقَيْنَا وَأَنْتُمُ ... لَكَانَ لَنَا يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ أَنْ تَأْتِي بَعْدَ الْقَسَمِ، وَجَعَلَهَا ابْنُ عُصْفُورٍ رَابِطَةً للقسم المقسم بالجملة عَلَيْهَا، وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الجمهور فإن عِنْدَهُمْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ: أَنَّهُ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُهُ زَيْدٌ، وَأَبُو زَيْدٍ الْمُزَنِيُّ، وَعَلِيُّ بن نديمة، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ بَيَّنْتُ كَذَا إِذَا عَرَفْتَهُ. وَتَدُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَفَلَمْ يَيْأَسِ هُنَا مَعْنَى الْعِلْمِ، كَمَا تَظَافَرَتِ النُّقُولُ أَنَّهَا لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ.

وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ قِرَاءَةَ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، بَلْ هِيَ قِرَاءَةٌ مُسْنَدَةٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِلسَّوَادِ إِذْ كَتَبُوا يَيْئَسُ بِغَيْرِ صُورَةِ الْهَمْزَةِ، وَهَذَا كَقِرَاءَةِ: فَتَبَيَّنُوا «1» وفَثَبِّتُوا «2» وَكِلْتَاهُمَا فِي السَّبْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَتَبَهُ الْكَاتِبُ وَهُوَ نَاعِسٌ، فَسَوَّى أَسْنَانَ السِّينِ فَقَوْلُ زِنْدِيقٍ مُلْحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَكَيْفَ يَخْفَى مِثْلُ هَذَا حَتَّى يَبْقَى ثَابِتًا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْإِمَامِ، وَكَانَ مُتَقَلِّبًا فِي أَيْدِي أُولَئِكَ الْأَعْلَامِ الْمُحْتَاطِينَ فِي دِينِ اللَّهِ الْمُهْتَمِّينَ عَلَيْهِ، لَا يَغْفُلُونَ عَنْ جَلَائِلِهِ وَدَقَائِقِهِ، خُصُوصًا عَنِ الْقَانُونِ الَّذِي إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْقَاعِدَةُ التي عليها البناء، هذه وَاللَّهِ فِرْيَةٌ مَا فِيهَا مِرْيَةٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يُتْلَى إِلَّا كَمَا أَنْزَلَ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ انْتَهَى. وَالْكُفَّارُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُسْتَمِرٌّ فِيهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَابْنُ السَّائِبِ، أَوْ هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَالْعَرَبُ لَا تَزَالُ تُصِيبُهُمْ قَوَارِعُ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَوَاتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: كُفَّارُ مَكَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا مِنْ كُفْرِهِمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهِمْ قَارِعَةٌ دَاهِيَةٌ تَقْرَعَهُمْ بِمَا يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ صُنُوفِ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ تَحُلُّ الْقَارِعَةُ قَرِيبًا مِنْهُمْ فَيَفْزَعُونَ وَيَضْطَرِبُونَ وَيَتَطَايَرُ إِلَيْهِمْ شَرَرُهَا، وَتَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ شُرُورُهَا حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ مَوْتُهُمْ، أَوِ الْقِيَامَةُ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَالُ الْكَفَرَةِ هَكَذَا هُوَ أَبَدًا، وَوَعَدَ اللَّهُ قِيَامَ السَّاعَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَحُلُّ عَائِدٌ عَلَى قَارِعَةٌ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: التَّاءُ لِلْخِطَابِ، وَالضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ بِجَيْشِكَ كَمَا حَلَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَيَكُونُ وَعْدُ اللَّهِ فَتْحَ مَكَّةَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَهُ ذَلِكَ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَوْ يَحُلُّ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى مَعْنَى الْقَارِعَةِ رَاعَى فِيهِ التَّذْكِيرَ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَلَاءِ، أَوْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي قَارِعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، فَذُكِّرَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: وَيَحُلُّ الرَّسُولُ قَرِيبًا. وَقَرَأَ أَيْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَارِعَةُ الْعَذَابُ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: السَّرَايَا وَالطَّلَائِعُ. وَفِي قوله: ولقد استهزىء الْآيَةَ، تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ حَالَكَ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَكَ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ يُمْلَى لَهُمْ أَيْ: يُمْهَلُونَ ثُمَّ يُؤْخَذُونَ. وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ

_ (1) سورة النساء: 4/ 94. (2) سورة الأنفال: 8/ 12.

حَالَ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِكَ، وَإِنْ أَمْهَلَ حَالَ أُولَئِكَ فِي أَخْذِهِمْ وَوَعِيدٌ لَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ بِمَا حَلَّ، وَفِي ضِمْنِهِ وَعِيدُ مُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم من الْكُفَّارِ. أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ: مَنْ مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا مَا بَعْدَهَا، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ يَيَئْسُ، كَذَلِكَ مِنْ شُرَكَائِهِمُ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «1» تَقْدِيرُهُ: كَالْقَاسِي قَلْبُهُ الَّذِي هُوَ فِي ظُلْمَةٍ. وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، كَمَا دَلَّ عَلَى الْقَاسِي فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ «2» وَيُحَسِّنُ حَذْفَ هَذَا الْخَبَرِ كَوْنُ الْمُبْتَدَأِ يَكُونُ مُقَابِلُهُ الْخَبَرَ الْمَحْذُوفَ، وَقَدْ جَاءَ مُثْبَتًا كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «3» أَفَمَنْ يَعْلَمُ «4» ثُمَّ قَالَ: كَمَنْ هُوَ أَعْمى «5» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَكَوْنِهِمْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا يَصْلُحُ لِلْأُلُوهِيَّةِ. نَعَى عَلَيْهِمْ هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ، هَذَا وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُحِيطُ بِأَحْوَالِ النُّفُوسِ جَلَيِّهَا وَخَفِيِّهَا. وَنَبَّهَ عَلَى بَعْضِ حَالَاتِهَا وَهُوَ الْكَسْبُ، لِيَتَفَكَّرَ الْإِنْسَانُ فِيمَا يَكْسِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْكَسْبِ فِي الْجَزَاءِ، وَعَبَّرَ بِقَائِمٍ عَنِ الْإِحَاطَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ الَّتِي لَا يَغْفُلُ عَنْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا يَقَعُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَيْ: وَجَعَلُوا، وَتَمْثِيلُهُ: أَفَمَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُوَحِّدُوهُ، وَجَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ انْتَهَى. وَفِي هَذَا التَّوْجِيهِ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَيْ: وَجَعَلُوا لَهُ، وَفِيهِ حَذْفُ الْخَبَرِ عَنِ الْمُقَابِلِ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ مُقَابِلًا. وَفِي تَفْسِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ قَالَ: الشَّدِيدُ صَاحِبُ الْعَقْدِ، الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا وَاوُ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ مَوْجُودٌ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ، ثُمَّ أُقِيمَ الظَّاهِرُ وَهُوَ لِلَّهِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ تَقْدِيرًا لِأُلُوهِيَّتِهِ وَتَصْرِيحًا بِهَا، كَمَا تَقُولُ: مُعْطِي النَّاسِ وَمُغْنِيهِمْ مَوْجُودٌ، وَيُحْرَمُ مِثْلِي انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ أَمِ الْجَمَادَاتُ الَّتِي لا تضر ولا

_ (1) سورة الزمر: 39/ 22. (2) سورة الزمر: 39/ 22. (3) سورة النحل: 16/ 17. (4) سورة الرعد: 13/ 19. (5) سورة الرعد: 13/ 19.

تَنْفَعُ؟ هَذَا تَأْوِيلٌ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَوْلَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: أَفَمَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَيُجْعَلُ لَهُ شَرِيكٌ، هَلْ يَنْتَقِمُ وَيُعَاقِبُ أَمْ لَا؟ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ الْمُرَادُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِبَنِي آدَمَ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَالْخَبَرُ أَيْضًا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. وَأَبْعَدُ أَيْضًا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا مَعْطُوفًا على استهزىء، أي: استهزؤوا وَجَعَلُوا، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: سَمُّوهُمْ أَيْ: اذْكُرُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يُذْكَرُ وَيُسَمَّى، إِنَّمَا يُذْكَرُ وَيُسَمَّى مَنْ هُوَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ، وَهَذَا مِثْلُ مَنْ يَذْكُرُ لَكَ أَنَّ شَخْصًا يُوَقَّرُ وَيُعَظَّمُ وَهُوَ عِنْدَكَ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَتَقُولُ لَذَاكِرِهِ: سَمِّهِ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ زَيْفَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا تَذْكُرُ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ سَمُّوهُمْ، إِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْقَرِ الَّذِي يَبْلُغُ فِي الْحَقَارَةِ إِلَى أَنْ لَا يُذْكَرَ وَلَا يُوضَعَ لَهُ اسْمٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: سَمِّهِ إِنْ شِئْتَ أَيْ: هُوَ أَخَسُّ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَيُسَمَّى. وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَضَعَ لَهُ اسْمًا فَافْعَلْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَمُّوهُمْ بِالْآلِهَةِ عَلَى جِهَةِ التَّهْدِيدِ. وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ سَمَّيْتُمُوهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ أَمْ لَمْ تُسَمُّوهُمْ بِهِ فَإِنَّهَا فِي الْحَقَارَةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَلْفِتَ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: سَمُّوهُمْ إِذَا صَنَعُوا وَأَمَاتُوا وَأَحْيَوْا لِتَصِحَّ الشَّرِكَةُ. وَقِيلَ: طَالِبُوهُمْ بِالْحُجَّةِ عَلَى أَنَّهَا آلِهَةٌ. وَقِيلَ: صِفُوهُمْ وَانْظُرُوا هَلْ يَسْتَحِقُّونَ الْإِلَهِيَّةَ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلْتُمْ لَهُ شُرَكَاءَ فَسَمُّوهُمْ لَهُ مَنْ هُمْ، وَبَيِّنُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا تَهْدِيدٌ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُهَدِّدُهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ: سَمِّ الْخَمْرَ بعد هذا. وأم في قوله: أم تنبؤونه مُنْقَطِعَةٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ. قال الزمخشري: بل أتنبؤونه بِشُرَكَاءَ لَا يَعْلَمُهُمْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا في السموات وَالْأَرْضِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْهُمْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُرَكَاءُ، وَنَحْوُهُ: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «1» انْتَهَى. فَجُعِلَ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ: بِمَا لَا يَعْلَمُ، عَائِدًا عَلَى اللَّهِ. وَالْعَائِدُ عَلَى بِمَا مَحْذُوفٌ أَيْ: بِمَا لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَكُنَّا قَدْ خَرَّجْنَا تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا لَا يَعْلَمُ، عَائِدٌ عَلَى مَا، وَقَرَّرْنَا ذَلِكَ هُنَاكَ، وَهُوَ يَتَقَرَّرُ هُنَا أَيْضًا. أَيْ: أتنبؤون اللَّهَ بِشَرِكَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَتَّصِفُ بِعِلْمٍ الْبَتَّةَ. وَذَكَرَ نَفْيَ الْعِلْمِ فِي الْأَرْضِ، إِذِ الْأَرْضُ هِيَ مَقَرُّ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، فَإِذَا انْتَفَى عِلْمُهَا فِي الْمَقَرِّ الَّتِي هِيَ فِيهِ، فَانْتِفَاؤُهُ في السموات أحرى. وقرأ الحسن: تنبؤونه مِنْ أَنْبَأَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تُقَدِّرُونَ أَنْ تُعْلِمُوهُ بِأَمْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ، وَخَصَّ الْأَرْضَ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهُمُ

_ (1) سورة يونس: 10/ 1.

ادَّعَوْا أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي الْأَرْضِ لَا فِي غَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ فِي أَمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ، بِظَاهِرٍ أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ أَيْضًا أَيْ: بَلْ أَتُسَمُّونَهُمْ شُرَكَاءَ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ حَقِيقَةٌ أَيْ: إِنَّكُمْ تَنْطِقُونَ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَتُسَمُّونَهَا آلِهَةً وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا، إِذْ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَا تَتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِ الْأُلُوهِيَّةِ كَقَوْلِهِ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِبَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ، لَا بَاطِنَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَعَيَّرْتَنَا أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا ... وَذَلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطَةَ ظَاهِرُ أَيْ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: أَمْ مُتَّصِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَقَوْلِهِ: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ «2» ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا الْحِجَاجِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَقَالَ: دَعْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، لِأَنَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ مَكْرُهُمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: بَلْ زَيَّنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مَكْرَهُمْ بِالنَّصْبِ. وَالْجُمْهُورُ: زُيِّنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مَكْرُهُمْ بِالرَّفْعِ أَيْ: كَيْدُهُمْ لِلْإِسْلَامِ بِشِرْكِهِمْ، وَمَا قَصَدُوا بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ مِنْ مُنَاقَضَةِ الشَّرْعِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: وَصُدُّوا هُنَا، وَفِي غَافِرٍ بِضَمِّ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَالْفِعْلُ مُتَعَدٍّ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، فَاحْتَمَلَ التَّعَدِّيَ وَاللُّزُومَ أَيْ: صَدُّوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ غَيْرَهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: وَصِدُّوا بِكَسْرِ الصَّادِ، وَهِيَ كَقِرَاءَةِ رُدَّتْ إِلَيْنَا بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَفِي الْلَوَامِحِ الْكِسَائِيُّ لِابْنِ يَعْمَرَ: وَصِدُّوا بِالْكَسْرِ لُغَةً، وَفِي الضَّمِّ أَجْرَاهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ نَحْوَ قَبْلُ، فَأَمَّا فِي الْمُؤْمِنِ فَبِالْكَسْرِ لِابْنِ وَثَّابٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: وَصَدٌّ بِالتَّنْوِينِ عَطْفًا عَلَى مَكْرُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ، وَمَنْ يَخْذُلْهُ يَعْلَمْهُ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي، فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ فَمَا لَهُ مِنْ وَاحِدٍ يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا يُصِيبُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ وَالذِّلَّةِ وَالْحُرُوبِ وَالْبَلَايَا فِي أَجْسَامِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْتَحَنُ بِهِ الْكُفَّارُ. وَكَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقَّ عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّهُ إِحْرَاقٌ بِالنَّارِ دَائِمًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «3» وَمِنْ وَاقٍ: مِنْ سَاتِرٍ يَحْفَظُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَيَحْمِيهِمْ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لِلْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى

_ (1) سورة يوسف: 12/ 40. (2) سورة التوبة: 9/ 30. [.....] (3) سورة النساء: 4/ 56.

الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ أَيْ: صِفَتُهَا الَّتِي هِيَ فِي غَرَابَةِ الْمَثَلِ، وَارْتَفَعَ مَثَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مَثَلُ الجنة، وتجري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْمَثَلِ. تَقُولُ: مَثَّلْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَصَفْتَهُ وَقَرَّبْتَهُ لِلْفَهْمِ، وَلَيْسَ هُنَا ضَرْبُ مَثَلٍ لَهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى «1» أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَأَنْكَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ قَالَ: إِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ صِفَتُهَا أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَنَحْوُ هَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ حَذْفُ أَنْهَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِعْرَابَ. وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ عَلَى الْقُرْآنِ مَثَلٌ مُقْحَمٌ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي، وَإِقْحَامُ الْأَسْمَاءِ لَا يَجُوزُ. وَحَكَوْا عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْعَرَبَ تُقْحِمُ كَثِيرًا الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ، وَخَرَجَ عَلَى ذَلِكَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «2» أَيْ: كَهُوَ شَيْءٌ. فَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْخَبَرُ تَجْرِي، كَمَا تَقُولُ: صِفَةُ زَيْدٍ أَسْمَرُ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَجْرِي خَبَرًا عَنِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا يُتَأَوَّلُ تَجْرِي عَلَى إِسْقَاطِ أَنْ وَرَفْعِ الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَجْرِيَ خَبَرٌ ثَانٍ الْأَنْهَارُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ مَثَلُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ تَجْرِي عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ تَمْثِيلًا لِمَا غَابَ عَنَّا بِمَا نُشَاهِدُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَصِحُّ مَا قَالَ الزَّجَّاجُ، لَا عَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ، وَلَا عَلَى مَعْنَى الشَّبَهِ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي قَدَّرَهَا جَنَّةٌ وَلَا تَكُونُ الصِّفَةَ، وَلِأَنَّ الشَّبَهَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَهُوَ حَدَثٌ، وَالْجَنَّةُ جَنَّةٌ فَلَا تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: مِثَالُ الْجَنَّةِ عَلَى الْجَمْعِ أَيْ: صِفَاتُهَا. وَفِي الْلَوَامِحِ عَلَى السُّلَمِيِّ أَمْثَالُ الْجَنَّةِ جَمْعٌ، وَمَعْنَاهُ: صِفَاتُ الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِذَلِكَ جُمِعَ نَحْوَ الْحُلْقُومِ وَالْإِسْعَالِ. وَالْأُكُلُ مَا يُؤْكَلُ فِيهَا، وَمَعْنَى دَوَامُهُ: أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ «3» وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أَيْ لَذَّاتُهُ دَائِمَةٌ لَا تُزَادُ بِجُوعٍ وَلَا تُمَلُّ مِنْ شِبَعٍ. وَظِلُّهَا أَيْ: دَائِمُ الْبَقَاءِ وَالرَّاحَةِ، لَا تَنْسَخُهُ شَمْسٌ، وَلَا يَمِيلُ لِبَرْدٍ كَمَا فِي الدُّنْيَا. أَيْ: تِلْكَ الْجَنَّةُ عَاقِبَةُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ: اجْتَنَبُوا الشِّرْكَ. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ

_ (1) سورة الروم: 30/ 27. (2) سورة الشورى: 42/ 11. (3) سورة الواقعة: 56/ 33.

سَلَامٍ وَكَعْبٍ وَأَصْحَابِهِمَا، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّصَارَى وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا: أَرْبَعُونَ مِنْ نَجْرَانَ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ. وَمِنَ الْأَحْزَابِ يَعْنِي: وَمِنْ أَحْزَابِهِمْ وَهُمْ كَفَرَتُهُمُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَدَاوَةِ نَحْوُ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ، وَالسَّيِّدِ وَالْعَاقِبِ أسقفي نجران وأشياعهما، ومن يُنْكِرُ بَعْضَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُنْكِرُونَ الْأَقَاصِيصَ وَبَعْضَ الْأَحْكَامِ وَالْمَعَانِي مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي كُتُبِهِمْ غَيْرُ مُحَرَّفٍ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ مَا هُوَ نَعْتُ الْإِسْلَامِ، وَنَعْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: فِي مُؤْمِنِي الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، وَعَنْ قَتَادَةَ فِي أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يُسِرُّونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ جَمِيعُهُمْ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذْ فِيهِ تَصْدِيقُ كُتُبِهِمْ، وَثَنَاءٌ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمُ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَمَّهُمْ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ فَرَحِهِمْ، فَلَا يُعْتَدُّ بِفَرَحِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُنْكِرُونَ بَعْضَهُ، وَقَدْ قَذَفَ تَعَالَى بَيْنَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ بَعْضَهُ وَبَيْنَ الذين آتيناهم الكتاب. والأحزاب قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمْ أَحْزَابُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْأَحْزَابُ بَنُو أُمَيَّةَ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ، وَآلُ أَبِي طَلْحَةَ. وَلَمَّا كَانَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ يَتَضَمَّنُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَفْيَ الشَّرِيكِ، أَمَرَ بِجَوَابِ الْمُنْكِرِينَ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ، فَإِنْكَارُكُمْ لِبَعْضِ الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَنْتُمْ تَدْعُونَ وُجُوبَ الْعِبَادَةِ وَنَفْيَ الشريك إليه، أدعوا إِلَى شَرْعِهِ وَدِينِهِ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعِي عِنْدَ الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جُلَيْدٍ عَنْ نَافِعٍ: وَلَا أُشْرِكَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ: وَأَنَا لَا أُشْرِكُ بِهِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِهِ. وَكَذَلِكَ أَيْ: مِثْلُ إِنْزَالِنَا الْكِتَابَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، يَتَضَمَّنُ إِنْزَالَهُ الْكِتَابَ، وَهَذَا الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ هُوَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، كَمَا أَنَّ الْكُتُبَ السَّابِقَةَ بِلِسَانِ مَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «1» وَأَرَادَ بِالْحُكْمِ أَنَّهُ يُفَصِّلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيَحْكُمُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى: كَمَا يَسَرَّنَا لِهَؤُلَاءِ الْفَرَحَ وَلِهَؤُلَاءِ الْإِنْكَارَ لِبَعْضٍ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا انْتَهَى. وَانْتَصَبَ حُكْمًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي أَنْزَلْنَاهُ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالْحُكْمُ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْمَعَانِي. وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ نَسَبَهُ

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 4.

إِلَيْهَا. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ: الْخُطَّابُ لِغَيْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ الْإِلْهَابِ وَالتَّهْيِيجِ وَالْبَعْثِ لِلسَّامِعِينَ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الدِّينِ وَالتَّصَلُّبِ فِيهِ. أَنْ لَا يزال زَالٌّ عِنْدَ الشُّبَهِ بَعْدَ اسْتِمْسَاكِهِ بِالْحُجَّةِ، وَإِلَّا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّةِ الشَّكِيمَةِ بِمَكَانٍ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَيَّرَتِ الْيَهُودُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وقالوا: ما نرى لِهَذَا الرَّجُلِ هِمَّةً إِلَّا النِّسَاءَ وَالنِّكَاحَ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا كَمَا زَعَمَ لَشَغَلَهُ أَمْرُ النُّبُوَّةِ عَنِ النِّسَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قِيلَ: وَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ وَيُنْكِرُونَ النَّسْخَ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ كَانُوا مِثْلَهُ ذَوِي أَزْوَاجٍ وَذُرِّيَّةٍ، وَمَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِآيَاتٍ بِرَأْيِهِمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِمَا يُقْتَرَحُ عَلَيْهِمْ. وَمِنَ الشَّرَائِعِ مَصَالِحُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، فَلِكُلِّ وَقْتٍ حُكْمٌ يُكْتَبُ فِيهِ عَلَى الْعِبَادِ أَيْ: يُفْرَضُ عَلَيْهِمْ مَا يُرِيدُهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، لَفْظٌ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا آجَالٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا وَلَهُ أَجَلٌ فِي بَدْئِهِ وَفِي خَاتِمَتِهِ، وَذَلِكَ الْأَجَلُ مَكْتُوبٌ مَحْصُورٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ، وَلَا يَجُوزُ ادِّعَاءُ الْقَلْبِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَأَمَّا هُنَا فَالْمَعْنَى فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ بِلَا عَكْسٍ وَلَا قَلْبٍ بَلِ ادِّعَاءُ الْقَلْبِ هُنَا لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذْ ثَمَّ أَشْيَاءُ كَتَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَزَلِيَّةً كَالْجَنَّةِ وَنَعِيمِ أَهْلِهَا، لَا أَجَلَ لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّسْخِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ، وَالْإِثْبَاتَ عبارة عن دوامها وتقررها وَبَقَائِهَا أَيْ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مَحْوَهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ إِثْبَاتَهُ. وَقِيلَ: هَذَا عَامٌّ فِي الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى: عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي وَائِلٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَالْكَلْبِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي وَائِلٍ فِي دُعَائِهِمْ مَا مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْنِي فِيهِمْ، أَوْ فِي الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُنِي مِنْهُمْ. وَإِنْ صَحَّ عَنْهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ أَشْقَيْتِنَا بِالْمَعْصِيَةِ فَامْحُهَا عَنَّا بِالْمَغْفِرَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَالرِّزْقَ وَالْخَلْقَ وَالْأَجَلَ لَا يَتَغَيَّرُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ أُمُورِ عِبَادِهِ إِلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَالْآجَالَ، فَإِنَّهُ لَا مَحْوَ فِيهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَفِرْقَةٌ: هِيَ آجَالُ بَنِي آدَمَ تُكْتَبُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: فِي لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ آجَالُ الْمَوْتَى، فَتُمْحَى نَاسٌ مِنْ دِيوَانِ الْأَحْيَاءِ وَيُثْبَتُونَ فِي دِيوَانِ الْأَمْوَاتِ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ: فِي الْعَاشِرِ مِنْ رَجَبٍ يَمْحُو

اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ: يَمْحُو مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ وَلَا سَيِّئَةٍ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكَتْبِ كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَيُثْبِتُ غَيْرَهُ. وَقِيلَ: يَمْحُو كُفْرَ التَّائِبِينَ وَمَعَاصِيَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَيُثْبِتُ إِيمَانَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ. وَقِيلَ: يَمْحُو بَعْضَ الْخَلَائِقِ وَيُثْبِتُ بَعْضًا مِنَ الْأَنَاسِيِّ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ، يَنْسَخُ مَا يَسْتَصْوِبُ نَسْخَهُ، وَيُثْبِتُ بِهِ لَهُ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ في إثباته، أَوْ يَتْرُكُهُ غَيْرَ مَنْسُوخٍ، وَالْكَلَامُ فِي نَحْوِ هَذَا وَاسِعُ الْمَجَالِ انْتَهَى. وَهُوَ وَقَوْلُ: قَتَادَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ قَالُوا: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ فَيَنْسَخُهُ وَيُبَدِّلُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يَنْسَخُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْكِمُ اللَّهُ أَمْرَ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ، إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ وَالشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: يَغْفِرُ مَا يَشَاءُ مِنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَيَتْرُكُ مَا يَشَاءُ فلا يغفره. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَمْحُو يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ جَمِيعَ الذُّنُوبِ، وَيُثْبِتُ بَدَلَ الذُّنُوبِ حَسَنَاتٍ. قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «1» وَقِيلَ: يُنْسِي الْحَفَظَةَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَا يَنْسَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أَجَلَهُ، وَيُثْبِتُ مَنْ يَأْتِي أَجَلَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَمْحُو اللَّهُ يَعْنِي الْقَمَرَ، وَيُثْبِتُ يَعْنِي الشَّمْسَ بَيَانُهُ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «2» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِلَّهِ لَوْحًا مَحْفُوظًا وَذَكَرَ وَصْفَهُ فِي كِتَابِ التَّحْبِيرِ، ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نَظْرَةً، يُثْبِتُ مَا يَشَاءُ وَيَمْحُو مَا يَشَاءُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: هَذَا فِي الْأَرْوَاحِ حَالَةَ النَّوْمِ يَقْبِضُهَا عِنْدَ النَّوْمِ إِذَا أَرَادَ مَوْتَهُ فَجْأَةً أَمْسَكَهُ، وَمَنْ أَرَادَ بَقَاءَهُ أَثْبَتَهُ وَرَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «3» الْآيَةَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرُونِ لِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ «4» وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ «5» فَيَمْحُو قَرْنًا وَيُثْبِتُ قَرْنًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْحُو يُمِيتُ الرَّجُلَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَقَدْ عَمِلَ بِالطَّاعَةِ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، يَخْتِمُهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَيُثْبِتُ عَكْسَهُ. وَقِيلَ: يَمْحُو الدُّنْيَا وَيُثْبِتُ الْآخِرَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «أَنَّهُ تَعَالَى يَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِينَ مِنَ الليل فينظر ما

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 7. (2) سورة الإسراء: 17/ 12. (3) سورة الزمر: 39/ 42. (4) سورة يس: 36/ 31. (5) سورة المؤمنون: 23/ 42.

فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرَهُ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ» وَقَالَ الْغَزْنَوِيُّ: مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ خَرَجَ عَنِ الْغَيْبِ لِإِحَاطَةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ، فَيَحْتَمَلُ التَّبْدِيلَ وإحاطة الْخَلْقَ بِجَمِيعِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى مِنْ تَقْدِيرِ الْأَشْيَاءِ لَا يُبَدَّلُ انْتَهَى. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ نَقْلُهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الرَّافِضَةُ بِقَوْلِهِ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، عَلَى أَنَّ الْبَدْءَ جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ شَيْئًا ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ خِلَافُ مَا اعْتَقَدَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ دُخُولُ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فِيهِ مُحَالًا. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدِ احْتَمَلَتْ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ، فَلَيْسَتْ نَصًّا فِيمَا ادَّعَوْهُ، وَلَوْ كَانَتْ نَصًّا وَجَبَ تَأْوِيلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ: وَيُثْبِتُ مُخَفَّفًا مِنْ أَثْبَتَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُثَقَّلًا مِنْ ثَبَّتَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أُمُّ الْكِتَابِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُمُّ الْكِتَابِ الذِّكْرُ، وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَكَعْبٌ: هُوَ عِلْمُ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَمَا خَلْقُهُ عَامِلُونَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُ كُلِّ كِتَابٍ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، لِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مَكْتُوبٌ فِيهِ انْتَهَى. وَمَا جَرَى مَجْرَى الْأَصْلِ لِلشَّيْءِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ، أَمَّا كَقَوْلِهِمْ: أُمُّ الرَّأْسِ لِلدِّمَاغِ، وَأُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَصْوَبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ أُمُّ الْكِتَابِ أَنَّهُ دِيوَانُ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي قَدْ سَبَقَ فِي الْقَضَاءِ أَنْ تُبَدَّلَ وَتُمْحَى، أَوْ تُثْبَتَ. وَقَالَ نَحْوَهُ قَتَادَةُ: أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ، وَكَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي مَا وَنُونِ التَّوْكِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ، وَكَيْفَمَا دَارَتِ الْحَالُ أَرَيْنَاكَ مَصَارِعَهُمْ، وَمَا وَعَدْنَاهُمْ مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَا يَجِبُ عَلَيْكَ إِلَّا تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، وَعَلَيْنَا لَا عَلَيْكَ حِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ إِعْرَاضَهُمْ، وَلَا تَسْتَعْجِلْ بِعَذَابِهِمْ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ شَرْطَانِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ. فَأَمَّا كَوْنُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ مَا نَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الثَّانِي هُوَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِنَّ مَا نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ وُجُوبُ التَّبْلِيغِ عَلَيْهِ عَلَى وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ: أَنْ يَتَقَدَّرَ لِكُلِّ شَرْطٍ مِنْهُمَا مَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ- وَاللَّهِ أَعْلَمُ- وَإِنَّ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فَذَلِكَ شَافِيكَ مِنْ أَعْدَائِكَ، وَدَلِيلٌ عَلَى صِدْقِكَ، إِذَا أَخْبَرْتَ بِمَا يَحُلُّ بِهِمْ. وَلَمْ يُعَيِّنْ زَمَانَ حُلُولِهِ بِهِمْ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ،

وَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِكَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أَيْ: أَوْ أَنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ، فَلَا لَوْمَ عَلَيْكَ وَلَا عَتْبَ، إِذْ قَدْ حَلَّ بِهِمْ بَعْضُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِكَ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لَا حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ. إذ ذاك راجع إلي، وَعَلَيْنَا جَزَاؤُهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، وَكَفْرِهِمْ بِمَا جِئْتَ بِهِ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ: الضَّمِيرُ فِي أو لم يَرَوْا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ وُعِدُوا، وَفِي ذَلِكَ اتِّعَاظٌ لِمَنِ اتَّعَظَ، نُبِّهُوا عَلَى أَنْ يَنْظُرُوا بَعْضَ الْأَرْضِ من أطرافها. ونأتي يَعْنِي بِالْأَمْرِ وَالْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ «1» وَالْأَرْضُ أَرْضُ الْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَعْنِي بنقضها مِنْ أَطْرَافِهَا لِلْمُسْلِمِينَ: مِنْ جَوَانِبِهَا. كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ مِنْ حَوَالَيْ أَرْضِ الْكُفَّارِ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ، وَيَغْلِبُونَ عَلَى جَوَانِبِ أَرْضِ مَكَّةَ، وَالْأَطْرَافُ: الْجَوَانِبُ. وَقِيلَ: الطَّرَفُ مِنْ كُلِّ شَيْءِ خِيَارُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْعُلُومُ أَوْدِيَةٌ، فِي أَيِّ وَادٍ أَخَذْتَ مِنْهَا خَسِرْتَ، فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفًا يَعْنِي: خِيَارًا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى طَرَفًا جَانِبًا وَبَعْضًا، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مُشَارِكًا فِي أَطْرَافٍ مِنَ الْعُلُومِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِهَا، وَلَمْ يُشِرْ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ زَمَانَهُ فِي عِلْمٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: نَأْتِي أَرْضَ هَؤُلَاءِ بِالْفَتْحِ عليك، فننقصها بِمَا يَدْخُلُ فِي دِينِكَ مِنَ الْقَبَائِلِ وَالْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ، فَمَا يُؤْمِنُهُمْ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهُمْ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا أَنْ قُدِّرَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: الْأَرْضَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالِانْتِقَاصُ مِنَ الْأَطْرَافِ بِتَخْرِيبِ الْعُمْرَانِ الَّذِي يُحِلُّهُ اللَّهُ بِالْكَفَرَةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٍ، وَعَنْهُمَا أَيْضًا: الِانْتِقَاصُ هُوَ بِمَوْتِ الْبَشَرِ، وَهَلَاكِ الثَّمَرَاتِ، وَنَقْصِ الْبَرَكَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَوْتُ أَشْرَافِهَا وَكُبَرَائِهَا، وَذَهَابُ الصُّلَحَاءِ وَالْأَخْيَارِ، فَعَلَى هَذَا الْأَطْرَافُ هُنَا الْأَشْرَافُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الطَّرْفُ وَالطَّرَفُ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ. وَعَنْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: ذَهَابُ فُقَهَائِهَا وَخُيَّارِ أَهْلِهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَوْتُ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ نَقْصُ الْأَنْفُسِ. وَقِيلَ: هَلَاكُ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ قُرَيْشٍ، وَهَلَاكُ أَرْضِهِمْ بَعْدَهُمْ.

_ (1) سورة النحل: 16/ 26.

وَالْمُنَاسِبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَّا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ قَالَ: نَأْتِي الْأَرْضَ أَرْضَ الْكُفْرِ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بِمَا يُفْتَحُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَيُنْقِصُ دَارَ الْحَرْبِ، وَيُزِيدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْغَلَبَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَنَحْوُهُ: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ «1» سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ «2» وَالْمَعْنَى: عليك بالبلاغ الَّذِي حَمَلْتَهُ، وَلَا تَهْتَمَّ بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَكْفِيكَهُ، وَنُتِمُّ مَا وَعَدْنَاكَ مِنَ الظَّفَرِ، وَلَا يُضْجِرُكَ تَأَخُّرُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِمَا نَعْلَمُ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا تَعْلَمُهَا، ثُمَّ طَيَّبَ نَفْسَهُ وَنَفَّسَ عَنْهَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ طُلُوعِ تَبَاشِيرِ الظَّفَرِ. وَيَتَّجِهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: النَّقْصُ بِمَوْتِ الْأَشْرَافِ والعلماء والخيار وتقريره: أو لم يَرَوْا أَنَا نُحْدِثُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ خَرَابًا بَعْدَ عَمَارِهِ، وَمَوْتًا بَعْدَ حياة، وذلا بَعْدَ عِزٍّ، وَنَقْصًا بَعْدَ كَمَالٍ، وَهَذِهِ تَغْيِيرَاتٌ مُدْرَكَةٌ بِالْحِسِّ. فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُهُمْ أَنْ يُقَلِّبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ وَيَصِيرُونَ ذَلِيلِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَاهِرِينَ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: نُنَقِّصُهَا مُثَقَّلًا، مِنْ نَقَّصَ عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ مِنْ نَقَصَ اللَّازِمِ، وَالْمُعَقِّبُ الَّذِي يَكُرُّ عَلَى الشَّيْءِ فَيُبْطِلُهُ، وَحَقِيقَتُهُ الَّذِي يُعْقِبُهُ أَيْ: بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ: مُعَقِّبٌ، لِأَنَّهُ يُقَفِّي غَرِيمَهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالطَّلَبِ. قَالَ لَبِيَدٌ: طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقَّهُ الْمَظْلُومُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَكَمَ لِلْإِسْلَامِ بِالْغَلَبَةِ وَالْإِقْبَالِ، وَعَلَى الْكُفْرِ بِالْإِدْبَارِ وَالِانْتِكَاسِ. وَقِيلَ: تَتَعَقَّبُ أَحْكَامَهُ أَيْ: يَنْظُرُ فِي أَعْقَابِهَا أَمُصِيبَةٌ هِيَ أَمْ لَا، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: نَافِذُ حُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْمَكْرُ بِأَنْبِيَائِهِمْ كَمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَادَةُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، مَكَرَ بِإِبْرَاهِيمَ نَمْرُوذُ، وَبِمُوسَى فِرْعَوْنُ، وَبِعِيسَى الْيَهُودُ، وَجَعَلَ تَعَالَى مَكْرَهُمْ كَلَا مَكْرٍ إِذْ أَضَافَ الْمَكْرَ كُلَّهُ لَهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى مَكْرِهِ تَعَالَى عُقُوبَتُهُ إِيَّاهُمْ، سَمَّاهَا مَكْرًا إِذْ كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ الْمَكْرِ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3» ثُمَّ فَسَّرَ قَوْلَهُ: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ، بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ، وَالْمَعْنَى: يُجَازِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. ثُمَّ هَدَّدَ الكافر بقوله: وسيعلم الْكَافِرِ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ، إِذْ يَأْتِيهِ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ لِمَنْ هي العاقبة المحمودة.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 44. (2) سورة فصلت: 41/ 53. (3) سورة البقرة: 2/ 15. [.....]

وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وَسَيُعْلَمُ الْكَافِرُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَعْلَمَ أَيْ: وَسَيُخْبَرُ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: الْكَافِرُ عَلَى الْإِفْرَادِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ الْكُفَّارُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: الْكَافِرُونَ جَمْعَ سَلَامَةٍ وَأُبَيٌّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَفَسَّرَ عَطَاءٌ الْكَافِرَ بِالْمُسْتَهْزِئِينَ وَهُمْ خَمْسَةٌ، وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِالْكَافِرِ أَبَا جَهْلٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ تَفْسِيرُهُ وتفسير عَطَاءً عَلَى التَّمْثِيلِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِعِلْمِ الْكَافِرِ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ مَعْنًى يَعُمُّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَلَمَّا قَالَ الْكُفَّارُ: لَسْتَ مُرْسَلًا أَيْ: إِنَّمَا أَنْتَ مُدَّعٍ مَا لَيْسَ لَكَ، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتَفِيَ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَهُمْ، إِذْ قَدْ أَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ مَا فِي بَعْضِهَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ، ثُمَّ أَرْدَفَ شَهَادَةَ اللَّهِ بِشَهَادَةِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَالْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ مَنْ عَرِفَ مَا أُلِّفَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ الْفَائِتِ لِقُدَرِ الْبَشَرِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: الْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَالَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ نَعْتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُتُبِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَتَمِيمِ الدَّارِيِّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ خَاصَّةً. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَا يَسْتَقِيمَانِ إِلَّا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْبَاقِرُ: هُوَ علي بن أبي طالب. وقيل: جبريل، وَالْكِتَابُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالزَّجَّاجُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَا وَاللَّهِ مَا يَعْنِي إِلَّا اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: كَفَى بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَبِالَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا فِي اللَّوْحِ إِلَّا هُوَ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُعْتَرَضُ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ فِيهِ عَطْفُ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا تُعْطَفُ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ انْتَهَى. وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا زَعَمَ مَنْ عَطَفَ الصِّفَةَ عَلَى الْمَوْصُوفِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُوصَفُ بِهَا وَلَا لِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْصُولَاتِ إِلَّا بالذي والتي وفروعهما، وذو وَذَوَاتِ الطَّائِيَّتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا تُعْطَفُ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ لَهُ شَرْطٌ وَهُوَ أَنْ تَخْتَلِفَ مَدْلُولَاتُهَا. وَيَعْنِي ابْنَ عَطِيَّةَ: لَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ. وَالْعَالِمِ فَتَعْطِفُ، والعالم عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ عَلَمٌ لَمْ يَلْحَظْ مِنْهُ مَعْنَى صِفَةٍ، وَكَذَلِكَ اللَّهُ عَلَمٌ. وَلَمَّا شَعَرَ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى اللَّهِ قَدَّرَ قَوْلَهُ: بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، حَتَّى يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، لَا مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الِاسْمِ. وَمَنْ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ اللَّهُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ فِي مَذْهَبِ مَنْ جعل الباء زائدة فاعل بكفى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع بالابتداء،

وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَعْدَلُ وَأَمْضَى قَوْلًا وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظَةُ شَهِيدًا، وَيُرَادُ بِذَلِكَ اللَّهُ تعالى. وقرىء: وَبِمَنْ بِدُخُولِ الْبَاءِ عَلَى مَنْ عَطْفًا عَلَى بِاللَّهِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَالضَّحَّاكُ وَسَالِمُ بْنُ عبد الله بن عمرو بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَعْمَشُ: وَمِنْ عِنْدِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ بِجَعْلِ مِنْ حَرْفُ جَرٍّ، وَجُرَّ مَا بَعْدَهُ بِهِ، وَارْتِفَاعُ عِلْمُ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ أَيْضًا وَابْنُ السَّمَيْقَعِ، وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَمَنْ عِنْدَهُ بِجَعْلِ مِنْ حَرْفُ جَرٍّ عِلْمُ الْكِتَابِ، بِجَعْلِ عُلِمَ فعلا مبنيا للمفعول، والكتاب رفع به. وقرىء وَمَنْ عِنْدَهُ بِحَرْفِ جَرٍّ عِلْمُ الْكِتَابِ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالضَّمِيرُ فِي عِنْدِهِ فِي هَذِهِ الْقِرَاآتِ الثَّلَاثِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا عِنْدَهُ صِلَةً يَرْتَفِعُ الْعِلْمُ بِالْمُقَدَّرِ فِي الظَّرْفِ فَيَكُونُ فَاعِلًا، لِأَنَّ الظَّرْفَ إِذَا وَقَعَ صلة أو غل فِي شَبَهِ الْفِعْلِ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْمَوْصُولِ، فَعَمِلَ عَلَى الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالَّذِي فِي الدَّارِ أَخُوهُ، فَأَخُوهُ فَاعِلٌ، كَمَا تَقُولُ: بِالَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الدَّارِ أَخُوهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّحَتُّمِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ إِذَا وَقَعَا صِلَتَيْنِ أَوْ حَالَيْنِ أَوْ خَبَرَيْنِ، إِمَّا فِي الْأَصْلِ، وَإِمَّا فِي النَّاسِخِ، أَوْ تَقَدَّمَهُمَا أَدَاةُ نَفْيٍ، أَوِ اسْتِفْهَامٍ، جَازَ فِيمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ الْأَجْوَدُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَرْفُوعُ مُبْتَدَأً، وَالظَّرْفُ أَوِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِهِ، وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ صِلَةٌ أَوْ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ أَوْ خَبَرٌ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ. فَكَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَحْسَنُ إِعْمَالَهُ فِي الِاسْمِ الظَّاهِرِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي مَا نَابَ عَنْهُ مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مَجْرُورٍ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى إِجَازَةِ ذَلِكَ فِي نَحْوِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٌ وَجْهُهُ، فَأَجَازَ حَسَنٌ وَجْهُهُ عَلَى رَفْعِ حَسَنٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَهَكَذَا تَلَقَّفْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنِ الشُّيُوخِ. وَقَدْ يُتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّشْأَةِ فِي النَّحْوِ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ يَتَحَتَّمُ إِعْمَالُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَدْ أَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فِي صِلَةِ مَنْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا يَعْنِي عِنْدَهُ، وَالْمُبْتَدَأُ عِلْمُ الْكِتَابِ انْتَهَى. وَمَنْ قَرَأَ: وَمَنْ عِنْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ حَرْفُ جَرٍّ فَالْكِتَابُ فِي قِرَاءَتِهِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلِمَ الْكِتَابَ، أَوْ عُلِمَ الْكِتَابُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ: عَلِمْتُ مَعَانِيَهُ وَكَوْنُهُ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاقِي عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، فَتَشْرِيفُ الْعَبْدِ بِعُلُومِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ وَتَوْفِيقِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا، وَتَوْفِيقِهِ لِإِدْرَاكِ ذلك.

سورة ابراهيم

سورة ابراهيم ترتيبها 14 سورة إبراهيم آياتها 52 [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الآية إِلَى قَوْلِهِ إِلَى النَّارِ «1» وَارْتِبَاطُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالسُّورَةِ قَبْلَهَا وَاضِحٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً «2» ثُمَّ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا «3» ثُمَّ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» فَنَاسَبَ هَذَا قَوْلَهُ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِرَاحِ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «5» وَقِيلَ لَهُ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ «6» أَنْزَلَ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليك كأنه قيل: أو لم يَكْفِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ هِيَ الضَّلَالُ، إِلَى النُّورِ وَهُوَ الْهُدَى. وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الر أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع بالابتداء، وكتاب الْخَبَرُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الر، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ: الْزَمْ أَوِ اقْرَأْ الر. وكتاب أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ في هذين الإعرابين، وكتاب مُبْتَدَأٌ. وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ كَوْنُهُ مَوْصُوفًا فِي التَّقْدِيرِ أي: كتاب أي: عَظِيمٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كِتَابٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا كتاب، وأنزلناه جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْزَلْنَاهُ. وَإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ وَمُخَاطَبَتِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَيْكَ، وإسناد الإخراج إليه

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 28- 30. (2) سورة الرعد: 13/ 31. (3) سورة الرعد: 13/ 37. (4) سورة الرعد: 13/ 43. (5) سورة يونس: 10/ 20. (6) سورة الرعد: 13/ 27.

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَنْوِيهٌ عظيم وتشريف لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم مِنْ حَيْثُ الْمُشَارَكَةُ فِي تَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ بِإِنْزَالِهِ تَعَالَى، وَبِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ هُوَ الدَّاعِي وَالْمُنْذِرُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخْتَرِعُ الْهِدَايَةِ هُوَ اللَّهُ تعالى. والناس عَامٌّ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ مُسْتَعَارَانِ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ عِلَّةَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ قَالَ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ بِتَسْهِيلِ مَالِكِهِمُ النَّاظِرِ فِي مَصَالِحِهِمْ، إِذْ هُمْ عَبِيدُهُ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الرَّبِّ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى مِنَّةِ الْمَالِكِ، وَكَوْنُهُ نَاظِرًا في حال عبيده. وبإذن ظَاهِرُهُ التَّعَلُّقُ بِقَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قَالَ: أَيْ مَأْذُونًا لَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ، مُسْتَعَارٌ مِنَ الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ تَسْهِيلُ الْحِجَابِ، وَذَلِكَ مَا يَمْنَحُهُمْ مِنَ اللُّطْفِ وَالتَّوْفِيقِ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى صِرَاطِ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى النُّورِ، وَلَا يَضُرُّ هَذَا الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ، لِأَنَّ بِإِذْنِ مَعْمُولٌ لِلْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ لِتُخْرِجَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ إِلَى صِرَاطِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى أَيِّ نُورٍ، فَقِيلَ: إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وقرىء: لِيَخْرُجَ مُضَارِعُ خَرَجَ بِالْيَاءِ بنقطتين من تحتها، والناس رُفِعَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِلَى النُّورِ، فِيهِ إِبْهَامٌ مَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَى صِرَاطِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا إِسْنَادُ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، نَاسَبَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ صِفَةَ الْعِزَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقُدْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنْزَالُ الْكِتَابِ، وَصِفَةُ الْحَمْدِ الْمُتَضَمِّنَةُ اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ مِنْ حَيْثُ الْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، إِذِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْإِيمَانِ هِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْحَمْدُ عَلَيْهَا وَالشُّكْرُ. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ الْعَزِيزِ، لِتَقَدُّمِ مَا دَلَّ عَلَيْهَا، وَتَلِيهَا صِفَةُ الْحَمِيدِ لِتُلُوِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ اللَّهُ بِالرَّفْعِ فَقِيلَ: مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ اللَّهُ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَمْكَنَ لِظُهُورِ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ، وَتَفَلُّتِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: اللَّهِ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَالْحَوْفِيِّ، وَأَبِي الْبَقَاءِ. وَعَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ لِغَلَبَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْمَعْبُودِ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ، كَمَا غَلَبَ النَّجْمُ عَلَى الثُّرَيَّا انْتَهَى. وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْإِلَهَ، ثُمَّ نُقِلَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، وَالْتَزَمَ فِيهِ النَّقْلَ وَالْحَذْفَ، وَمَادَّتُهُ إِذْ ذَاكَ الْهُمَزَةُ وَاللَّامُ وَالْهَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْحَمْدِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: لَا تُقَدَّمُ صِفَةٌ عَلَى مَوْصُوفٍ إِلَّا حَيْثُ سُمِعَ وَذَلِكَ قَلِيلٌ، وَلِلْعَرَبِ فِيمَا وُجِدَ

مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُقَدَّمَ الصِّفَةُ وَتَبْقِيَتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَفِي إِعْرَابِ مِثْلِ هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِعْرَابُهُ نَعْتًا مُقَدَّمًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعْدَ الصِّفَةِ بَدَلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُضِيفَ الصِّفَةَ إِلَى الْمَوْصُوفِ إِذَا قَدِمَتْهَا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يُعْرَبَانِ صِفَتَيْنِ مُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَيُعْرَبُ لَفْظُ اللَّهِ مَوْصُوفًا مُتَأَخِّرًا. وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ تقديم ما لو تأخير لَكَانَ صِفَةً، وَتَأْخِيرُ مَا لَوْ تَقَدَّمَ لَكَانَ مَوْصُوفًا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا ... رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسَّعَدِ فَلَوْ جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: وَالْمُؤْمِنِ الطَّيْرَ الْعَائِذَاتِ، وَارْتَفَعَ وَيْلٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلِلْكَافِرِينَ خَبَرُهُ. لَمَّا تَقَدَّمَ ذكر الظُّلُمَاتِ دَعَا بِالْهَلَكَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، ومن عَذَابٍ شَدِيدٍ فِي مَوْضِعِ الصفة لويل. وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ وَالْخَبَرُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بويل لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِالْخَبَرِ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا وَجْهُ اتِّصَالِ قَوْلِهِ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ بِالْوَيْلِ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُوَلُّونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَيَضِجُّونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَاهُ كَقَوْلِهِ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً «1» انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَيُحْتَمَلُ هَذَا الْعَذَابُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ وَاقِعًا بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالِاسْتِحْبَابُ الْإِيثَارُ وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لِلشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ نَفْسِهِ يَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهَا وَأَفْضَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَاسْتَجَابَ وَأَجَابَ، وَلَمَّا ضَمِنَ مَعْنَى الْإِيثَارِ عدي بعلى. وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الذَّمِّ، إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ أَذُمُّ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْكَافِرِينَ. وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فِي موضع الصفة لويل، أَمْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: يَضِجُّونَ وَيُوَلْوِلُونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. وَنَظِيرُهُ إِذَا كَانَ صِفَةً أَنْ تَقُولَ: الدَّارُ لِزَيْدٍ الْحَسَنَةُ الْقُرَشِيِّ، فَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَ زَيْدٍ وَصِفَتِهِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ صِفَةُ الدَّارِ، وَالتَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ أَنْ تَقُولَ: الدَّارُ الْحَسَنَةُ لِزَيْدٍ الْقُرَشِيِّ، أَوِ الدَّارُ لزيد القرشي

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 13.

الْحَسَنَةُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَيُصِدُّونَ مُضَارِعُ أَصَدَّ، الدَّاخِلِ عَلَيْهِ هَمْزَةُ النَّقْلِ مِنْ صَدَّ اللَّازِمِ صُدُودًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْغُونَها عِوَجاً «1» فِي آلِ عِمْرَانَ، وَعَلَى وَصْفِ الضَّلَالِ بِالْبُعْدِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: مَا بَالُ الْكُتُبِ كُلِّهَا أَعْجَمِيَّةٌ وَهَذَا عَرَبِيٌّ؟ فَنَزَلَتْ. وَسَاقَ قِصَّةَ مُوسَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ بِلِسَانِهِ، أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَمَا أَرْسَلَكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ، الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ عَامَّةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، أَوِ انْدَرَجَ فِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ الرَّسُولِ مَنْ لَيْسَ مِنْ قَوْمِهِ، كَانَ مَنْ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ لُغَةَ ذَلِكَ النَّبِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى تَعَلُّمِ تِلْكَ اللُّغَةِ حَتَّى يَفْهَمَهَا، وَأَنْ يَرْجِعَ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى مَنْ يَعْلَمُهَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ قَبْلَكَ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وَأَنْتَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِلِسَانِ قَوْمِكَ، وَقَوْمُكَ يُتَرْجِمُونَ لِغَيْرِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَعْنَى بِلِسَانِ قَوْمِهِ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: بِلِسْنِ بِإِسْكَانِ السِّينِ، قَالُوا: هُوَ كَالرِّيشِ وَالرِّيَاشِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: وَاللِّسْنُ خَاصٌّ بِاللُّغَةِ، وَاللِّسَانُ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْعُضْوِ، وَعَلَى الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: اللِّسَانُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ اللُّغَةُ، وَيُقَالُ: لِسْنٌ وَلِسَانٌ فِي اللُّغَةِ، فَأَمَّا الْعُضْوُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ لِسْنٌ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَالْجَحْدَرِيُّ: لُسُنِ بِضَمِّ اللَّامِ وَالسِّينِ، وَهُوَ جَمْعُ لسان كعماد وعمد. وقرىء أَيْضًا بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ السِّينِ مُخَفَّفٌ كَرُسُلٍ وَرُسْلٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى رَسُولٍ أَيْ: قَوْمِ ذَلِكَ الرَّسُولِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالْكُتُبُ كُلُّهَا نَزَلَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ أَدَّاهَا كُلُّ نَبِيٍّ بِلُغَةِ قَوْمِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، ضَمِيرُ الْقَوْمِ وَهُمُ الْعَرَبُ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ مِنَ السَّمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِيُبَيِّنَ لِلْعَرَبِ، وَهَذَا مَعْنًى فَاسِدٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: جَمِيعُ الْكُتُبِ أُدَّتْ إِلَى جِبْرِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ رَسُولَ كُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ. وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا سُؤَالًا وَابْنُ عَطِيَّةَ أَخَّرَهُمَا فِي كِتَابَيْهِمَا، وَيَقُولُ: قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْبَشَرِ بِإِذْعَانِ الْفُصَحَاءِ الذين يظن

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 45 وآل عمران: 3/ 99.

بِهِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَإِقْرَارُهُمْ بِالْعَجْزِ، كَمَا قَامَتْ بِإِذْعَانِ السَّحَرَةِ لِمُوسَى، وَالْأَطِبَّاءِ لعيسى عليهما السلام. وبين تَعَالَى الْعِلَّةَ فِي كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَ مِنَ الرُّسُلِ بِلُغَةِ قَوْمِهِ وَهِيَ التَّبْيِينُ لَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ، فَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الرَّسُولِ غَيْرُ التَّبْلِيغِ وَالتَّبْيِينِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَهْدِيَ بَلْ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الْوَاضِعُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْإِضْلَالِ التَّخْلِيَةُ وَمَنْعُ الْإِلْطَافِ، وَبِالْهِدَايَةِ التَّوْفِيقُ وَاللُّطْفُ، وَكَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ فَلَا يُغْلَبُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، الْحَكِيمُ فَلَا يَخْذُلُ إِلَّا أَهْلَ الْخِذْلَانِ، وَلَا يَلْطُفُ إِلَّا بِأَهْلِ اللُّطْفِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِآيَاتِنَا، إِنَّهَا تِسْعُ الْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ التَّوْرَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْقُرْآنِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ وَهُوَ آيَاتُنَا، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا مُوسَى بالتوراة بلسان قومه، وأن أَخْرِجْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تَكُونُ تَفْسِيرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَيَضْعُفُ زَعْمُ مِنْ زَعَمَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: قَوْمَكَ خُصُوصٌ لِرِسَالَتِهِ إِلَى قَوْمِهِ، بِخِلَافِ لِتُخْرِجَ النَّاسَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَهُ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: الْقِبْطُ. فَإِنْ كَانُوا الْقِبْطَ فَالظُّلُمَاتُ هُنَا الْكُفْرُ، وَالنُّورُ الْإِيمَانُ، وَإِنْ كَانُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْنَا: إِنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَالظُّلُمَاتُ ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَالنُّورُ الْعِزَّةُ بِالدِّينِ وَظُهُورُ أَمْرِ اللَّهِ. وَإِنْ كَانُوا أَشْيَاعًا مُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ، قَوْمٌ مَعَ الْقِبْطِ فِي عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ، وَقَوْمٌ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، فَالظُّلُمَاتُ الْكُفْرُ وَالنُّورُ الْإِيمَانُ. قِيلَ: وَكَانَ مُوسَى مَبْعُوثًا إِلَى الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: إِلَى الْقِبْطِ بِالِاعْتِرَافِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يُشْرَكَ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمُوسَى، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّكْلِيفِ وَبِفُرُوعِ شَرِيعَتِهِ إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَيَحْتَمِلُ وَذَكِّرْهُمْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُسْتَأْنَفًا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ أخرج، فيكون في حيزان. وأيام اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَرَوَاهُ أُبَيٌّ مَرْفُوعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ ... عَصَيْنَا الْمَلِكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُقَاتِلٍ، وَابْنِ زَيْدٍ: وَقَائِعُهُ وَنَقَمَاتُهُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ أَيْ وَقَائِعِهَا وَحُرُوبِهَا وَمَلَاحِمِهَا: كَيَوْمِ ذِي قَارٍ، وَيَوْمِ الْفِجَارِ، وَيَوْمِ فِضَّةَ وَغَيْرِهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَاؤُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ فِي عَدُوِّنَا

أَيْ وَقَائِعُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، فَنَعْمَاؤُهُ: بِتَظْلِيلِهِ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَفَلْقِ الْبَحْرِ. وَبَلَاؤُهُ: بِاسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ، وَتَذْبِيحِ أَبْنَائِهِمْ، وَإِهْلَاكِ الْقُرُونِ قَبْلَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخِضْرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، بَيْنَمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَأَيَّامُ اللَّهِ بَلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ الْآخَرَ. وَلَفْظَةُ الْأَيَّامِ تَعُمُّ الْمَعْنَيَّيْنِ، لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يَقَعُ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَعْظِيمُ الْكَوَائِنِ الْمُذَكَّرِ بِهَا. وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالظَّرْفِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْإِسْنَادُ إِلَى الظَّرْفِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْإِسْنَادُ لِغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: يَوْمٌ عَبُوسٌ، وَيَوْمٌ عَصِيبٌ، وَيَوْمٌ بَسَّامٌ. وَالْحَقِيقَةُ وَصْفُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ أَوْ سُرُورٍ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ، إِلَى التذكير بأيام الله. وصبار، شَكُورٍ، صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهُمَا مُشْعِرَتَانِ بِأَنَّ أَيَّامَ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهِمَا بَلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ أَيْ: صَبَّارٌ عَلَى بَلَائِهِ، شَكُورٌ لِنَعْمَائِهِ. فَإِذَا سَمِعَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَلَاءِ عَلَى الْأُمَمِ، أَوْ بِمَا أَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، تَنَبَّهَ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ إذا أصابه بلاء، من والشكر إِذَا أَصَابَتْهُ نَعْمَاءُ، وَخَصَّ الصَّبَّارَ وَالشَّكُورَ لِأَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ يَنْتَفِعَانِ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ وَيَتَّعِظَانِ بِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ نَاظِرٍ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ سَجَايَا أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ: لَمَّا تَقَدَّمَ أَمْرُهُ تَعَالَى لِمُوسَى بِالتَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْعَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ نَجَاتِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَفِي ضِمْنِهَا تَعْدَادُ شَيْءٍ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنْ نَقَمَاتِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ إِذْ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ في قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً «1» وَتَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا: وَيُذَبِّحُونَ بِالْوَاوِ، وَفِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي الْأَعْرَافِ يُقَتِّلُونَ فَحَيْثُ لَمْ يُؤْتَ بِالْوَاوِ جَعَلَ الْفِعْلَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ. وَحَيْثُ أَتَى بِهَا دَلَّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ. وَأَنَّ سَوْمَ سُوءِ الْعَذَابِ كَانَ بِالتَّذْبِيحِ وَبِغَيْرِهِ، وَحَيْثُ جَاءَ يُقَتِّلُونَ جَاءَ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّذْبِيحِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَيَذْبَحُونَ مُضَارِعُ ذَبَحَ ثُلَاثِيًّا، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حذف الواو.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 103.

وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَأَذَّنَ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ «1» وَاحْتَمَلَ إِذْ أَنْ يكون منصوبا باذكروا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى إِذْ أَنْجَاكُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْإِعْلَامَ بِالْمَزِيدِ عَلَى الشُّكْرِ مَنْ نِعَمِهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ هُوَ الْإِنْعَامُ أَيْ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ إِنْعَامِي، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ. قَالَ الْحَسَنُ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ طَاعَتِي. وَقَالَ الرَّبِيعُ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ فَضْلِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَئِنْ وَحَّدْتُمْ وَأَطَعْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فِي الثَّوَابِ. وَكَأَنَّهُ رَاعَى ظَاهِرَ الْمُقَابَلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. وَظَاهِرُ الْكُفْرِ الْمُرَادُ بِهِ الشِّرْكُ، فَلِذَلِكَ فَسَّرَ الشُّكْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، أَيْ نِعْمَتِي فَلَمْ تَشْكُرُوهَا، رَتَّبَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحَلِّ الزِّيَادَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى. وإذ ذُكِرَ الْعَذَابُ بَعْدَهُ عَدَلَ عَنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَأَزِيدَنَّكُمْ، فَنَسَبَ الزِّيَادَةَ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ لَأُعَذِّبَنَّكُمْ، وَخَرَجَ فِي لَأَزِيدَنَّكُمْ بِالْمَفْعُولِ، وَهُنَا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: إِنَّ عَذَابِي لَكُمْ لَشَدِيدٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ، كَأَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ: تَأَذَّنَ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَذِنَ أَيْ: أَعْلَمَ، وَأَعْلَمَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ. ثُمَّ نَبَّهَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى، وَإِنْ أَوْعَدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى شُكْرِكُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ شُكْرِكُمْ، الْحَمِيدُ الْمُسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى مَا أَسْبَغَ مِنْ نِعَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ الْحَامِدُونَ، فَثَمَرَةُ شُكْرِكُمْ إِنَّمَا هي عائدة إليكم. وأنتم خِطَابٌ لِقَوْمِهِ وَقَالَ: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي: النَّاسَ كُلَّهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا يَدْخُلُونَ فِي مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَجَوَابُ إِنْ تَكْفُرُوا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى التَّقْدِيرُ: فَإِنَّمَا ضَرَرُ كفركم لا حق بِكُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ. وَالْحَمْدِ سَوَاءٌ كَفَرُوا أَمْ شَكَرُوا، وَفِي خِطَابِهِ لَهُمْ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمْ، وَتَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ فِي ذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ. قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 167.

تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ خِطَابِ مُوسَى لِقَوْمِهِ. وَقِيلَ: ابْتِدَاءُ خِطَابٍ مِنَ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَخَبَرُ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ قَدْ قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ وَهُودٍ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَمْ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، إِمَّا عَلَى الَّذِينَ، وَإِمَّا عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، اعْتِرَاضٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الاعتراض تكون بين جزءين، يَطْلُبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي مِنْ بَعْدِهِمْ، فَإِنْ عَنَى مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بَعْدِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَالٌ مِمَّا جُرَّ بِالْإِضَافَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مَحَلُّ إِعْرَابٍ مِنْ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، وَإِنْ عَنَى مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّائِبِ عَنِ الْعَامِلِ أَمْكَنَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْضًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأَنَفًا، وَكَذَلِكَ جَاءَتْهُمْ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا انْتَهَى. وَلَيْسَتْ بِاعْتِرَاضٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ بَيْنَ جزءين: أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ. وَالضَّمِيرُ فِي جَاءَتْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِلنَّبَأِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الْجَوَارِحُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَيْدِيهِمْ وَفِي أَفْوَاهِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ زَيْدٍ أَيْ: جَعَلُوا، أَيْ: أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ فِي أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ لِيَعَضُّوهَا غَيْظًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. وَالْعَضُّ بِسَبَبٍ مَشْهُورٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ أَفْنَى أَنَامِلَهُ أَزْمُهْ ... وَأَضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا وَقَالَ آخَرُ: لَوْ أَنَّ سَلْمَى أَبْصَرَتْ تَخَدُّدِي ... وَدَقَّةً فِي عَظْمِ سَاقِي وَيَدِي وَبُعْدَ أَهْلِي وَجَفَاءَ عُوَّدِي ... عَضَّتْ مِنَ الْوَجْدِ بِأَطْرَافِ الْيَدِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إليكم، وأشاروا بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ أَنِ اسْكُتْ تَكْذِيبًا لَهُ، وَرَدًّا لِقَوْلِهِ، وَاسْتِبْشَاعًا لِمَا جَاءَ بِهِ. وَقِيلَ: رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ضَحِكًا وَاسْتِهْزَاءً كَمَنْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ. وَقِيلَ: أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى

أَلْسِنَتِهِمْ وَمَا نَطَقَتْ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ أَيْ: هَذَا جَوَابٌ لَكُمْ لَيْسَ عِنْدَنَا غَيْرُهُ إِقْنَاطًا لَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ عَلَى الرُّسُلِ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، قَالَ: أَخَذُوا أَيْدِيَ الرُّسُلِ وَوَضَعُوهَا عَلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: جَعَلُوا أيدي أنفسهم في أفواه الرُّسُلِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا أَشْنَعُ فِي الرَّدِّ وَأَذْهَبُ فِي الِاسْتِطَالَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَالنَّيْلِ مِنْهُمْ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ على الكفار، وفي أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي هُنَا النِّعَمُ، جَمْعُ يَدٍ الْمُرَادُ بِهَا النِّعْمَةُ أَيْ: رَدُّوا نِعَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ النِّعَمِ مِنْ مَوَاعِظِهِمْ وَنَصَائِحِهِمْ، وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْآيَاتِ فِي أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوهَا فَكَأَنَّهُمْ رَدُّوهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَرَجَعُوهَا إِلَى حَيْثُ جَاءَتْ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَفْوَاهِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِأَفْوَاهِهِمْ، وَالْمَعْنَى: كَذَّبُوهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ يُقَالُ: جَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، وَبِالْبَيْتِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ وَجَدْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ فِي مَوْضِعَ الْبَاءِ فَتَقُولُ: أَدْخَلَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَفِي الْجَنَّةِ. وَأَنْشَدَ: وَأَرْغَبُ فِيهَا مِنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ ... ولكنني عَنْ شِنْبِسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ يُرِيدُ: أَرْغَبُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ أَيْ: لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُجِيبُوا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ وَأَمْسَكَ: رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ، وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ أَيْضًا. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ إِذَا تَرَكَ مَا أَمَرَ بِهِ انْتَهَى. وَمَنْ سَمِعَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ نَقَلَا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ، كَأَنَّ الْمُمْسِكَ عَنِ الْجَوَابِ السَّاكِتَ عَنْهُ وَضَعَ يَدَهُ فِيهِ. وَقَدْ رَدَّ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ أَجَابُوا بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ، وَلَا يَرُدُّ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ أَمْسَكُوا وَسَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ الْمُرْضِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ يَتَجَوَّزَ فِي لَفْظَةِ الْأَيْدِي أَيْ: أَنَّهُمْ رَدُّوا قُوَّتَهُمْ وَمُدَافَعَتَهُمْ وَمُكَافَحَتَهُمْ فِيمَا قَالُوا بِأَفْوَاهِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: رَدُّوا جَمِيعَ مُدَافَعَتِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ أَيْ: فِي أَقْوَالِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ الْمُدَافَعَةِ بِالْأَيْدِي، إِذِ الْأَيْدِي مَوْضِعُ أَشَدِّ الْمُدَافَعَةِ وَالْمَرَادَّةِ انْتَهَى. بَادَرُوا أَوَّلًا إِلَى الْكُفْرِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ الْمَحْضُ، ثُمَّ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ وَهُوَ التَّرَدُّدُ، كَأَنَّهُمْ نَظَرُوا بَعْضَ نَظَرٍ اقْتَضَى أَنِ انْتَقَلُوا مِنَ التَّكْذِيبِ الْمَحْضِ إِلَى

التَّرَدُّدِ، أَوْ هُمَا قَوْلَانِ مِنْ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٍ بَادَرَتْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ، وَطَائِفَةٍ شَكَّتْ، وَالشَّكُّ فِي مِثْلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُفْرٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: مِمَّا تَدْعُونَا بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي الضَّمِيرِ، كَمَا تُدْغَمُ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ فِي مِثْلِ: أَتُحَاجُّونِّي وَالْمَعْنَى: مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. ومريب صِفَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ، وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ عَلَى الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الشَّكِّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ وَشَهَادَتِهَا عَلَيْهِ. وَقُدِّرَ مُضَافٌ فَقِيلَ: أَفِي إِلَاهِيَّةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أَفِي وَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ الْبَتَّةَ وَهُوَ كَوْنُهُ منشىء الْعَالَمِ وَمُوجِدَهُ، فَقَالَ: فَاطِرِ السموات والأرض. وفاطر صِفَةٌ لِلَّهِ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُبْتَدَأِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: فِي الدَّارِ زِيدٌ الْحَسَنَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ التَّرْكِيبِ فِي الدَّارِ الْحَسَنَةِ زَيْدٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَاطِرَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مُوجِدُ الْعَالَمِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِيهِ شَكٌّ ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ أَيْ: يَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ يَدْعُوكُمْ لِأَجْلِ الْمَغْفِرَةِ، نَحْوَ: دَعَوْتُهُ لِيَنْصُرَنِي. وَقَالَ الشَّاعِرُ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مسور ومن ذُنُوبِكُمْ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ إِلَى زِيَادَةِ مِنْ أَيْ: لِيَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُ زِيَادَتَهَا فِي الْوَاجِبِ، وَلَا إِذَا جُرَّتِ الْمَعْرِفَةُ، وَالتَّبْعِيضُ يُصْبِحُ فِيهَا إِذِ الْمَغْفُورُ هُوَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَظَالِمِ. وَبِطَرِيقٍ آخَرَ يَصِحُّ التَّبْعِيضُ وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَيَبْقَى مَا يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنَ الذُّنُوبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، هُوَ فِي الْمَشِيئَةِ وَالْوَعْدُ إِنَّمَا هُوَ بِغُفْرَانِ مَا تَقَدَّمَ، لَا بِغُفْرَانِ مَا يُسْتَأْنَفُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ فِي الْكَافِرِينَ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ ذُنُوبَكُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ، وَلِأَنْ لَا يُسَوِّيَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ انْتَهَى. وَيُقَالُ: مَا فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي الْخِطَابِ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ، إِذِ الْكَافِرُ إِذَا آمَنَ، وَالْمُؤْمِنُ إِذَا تَابَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْغُفْرَانِ وَمَا تَخَيَّلْتَ فِيهِ مَغْفِرَةَ بَعْضِ الذُّنُوبِ فِي الْكَافِرِ الَّذِي آمَنَ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُؤْمِنِ الَّذِي تَابَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ الْمُرَادُ تَمْيِيزُ خِطَابِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خِطَابِ الْكَافِرِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الطَّامَّاتِ، لِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 إلى 17]

حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فَاسِدًا. وَقَالَ: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِلَى وَقْتٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ، أَوْ بَيَّنَّا مِقْدَارَهُ إِنْ آمَنْتُمْ، وَإِلَّا عَاجَلَكُمْ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي طَرْفٍ مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ «1» وَقِيلَ هُنَا: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعَذَابِ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا لَا فَضْلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَلَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْنَا، فَلِمَ تُخَصُّونَ بِالنُّبُوَّةِ دُونَنَا؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى الْبَشَرِ رُسَلًا لَجَعَلَهُمْ مِنْ جِنْسٍ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِهِمُ اسْتِبْعَادُ بِعْثَةِ الْبَشَرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ أَرَادُوا إِحَالَتَهُ، وَذَهَبُوا مَذْهَبَ الْبَرَاهِمَةِ، أَوْ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْأَجْنَاسَ لَا يَقَعُ فِيهَا هَذَا الْقِيَاسُ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَغْمَضُوا هَذَا الْإِغْمَاضَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُمْ حُجَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْهُمُ السُّلْطَانَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّعْجِيزِ أَيْ: بَعْثَتُكُمْ مُحَالٌ، وَإِلَّا فَأَتُوا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أَيْ: إِنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَتَقْوَى بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَنَحَاهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ طَلَبَهُمُ السُّلْطَانَ الْمُبِينَ وَقَدْ أَتَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ، وَإِلَّا فَمَا أُتُوا بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ كَافٍ لِمَنِ اسْتَبْصَرَ، وَلَكِنَّهُمْ قَلَّدُوا آبَاءَهُمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مُمَاثِلُوهُمْ قَالُوا: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَيْ: لَيْسَ مَقْصُودُكُمْ إِلَّا أَنْ نَكُونَ لَكُمْ تَبَعًا، وَنَتْرُكُ مَا نَشَأْنَا عَلَيْهِ مِنْ دِينِ آبَائِنَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: أَنْ تَصُدُّونَا بِتَشْدِيدِ النُّونِ، جَعَلَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَدَّرَ فَصْلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنَّهُ تَصُدُّونَنَا، فَأَدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ فِي الضَّمِيرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَنْ الثُّنَائِيَّةَ الَّتِي تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ، لَكِنَّهُ هُنَا لَمْ يُعْمِلْهَا بَلْ أَلْغَاهَا، كَمَا أَلْغَاهَا مَنْ قَرَأَ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «2» بِرَفْعِ يُتِمُّ حَمَلًا عَلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ أختها. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 34. (2) سورة البقرة: 2/ 233.

سَلَّمُوا لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ يُمَاثِلُونَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَحْدَهَا، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ تَوَاضُعًا مِنْهُمْ، ونسبة ذلك إلى الله. وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِمَنِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمْ، وَلَكِنْ أَبْرَزُوا ذَلِكَ فِي عُمُومِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَالْمَعْنَى: يَمُنُّ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ تَنْبِئَتَهُ. وَمَعْنَى بِإِذْنِ اللَّهِ: بِتَسْوِيغِهِ وَإِرَادَتِهِ، أَيِ الْآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوهَا لَيْسَ لَنَا الْإِتْيَانُ بِهَا، وَلَا هِيَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّرْكِيبُ: وَمَا كَانَ لَنَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. فَلْيَتَوَكَّلْ أَمْرٌ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ، وَقَصَدُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَصْدًا أَوَّلِيًّا وَأَمَرُوهَا بِهِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمِنْ حَقِّنَا أَنْ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مُعَانَدَتِكُمْ وَمُعَادَاتِكُمْ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْنَا مِنْكُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ وَمَا لَنَا أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَمَعْنَاهُ: وَأَيُّ عُذْرٍ لَنَا فِي أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا، فَعَلَ بِنَا مَا يُوجِبُ تَوَكُّلَنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ لِهِدَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا سَبِيلَهُ الَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِ سُلُوكَهُ فِي الدِّينِ. وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لِاسْتِحْدَاثِ التَّوَكُّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّبَاتِ عَلَى ما استحدثوا من توكيلهم. وَلَنَصْبِرَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، وَيَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مَا يَجِبُ فِيهِ الصَّبْرُ وَهُوَ الْأَذَى. وما مَصْدَرِيَّةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي. وَالضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا آذَيْتُمُونَاهُ وَكَانَ أَصْلُهُ بِهِ، فَهَلْ حُذِفَ بِهِ أَوِ الْبَاءِ فَوَصْلُ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ قَوْلَانِ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ فِي لِيَتَوَكَّلِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَأَوْ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَقْسَمُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ، أَوْ عَوْدِهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَيَكُونَنَّ أَحَدُ هَذَيْنِ. وَتَقْدِيرُ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ فِي مَا بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَرْكِيبُ حَتَّى، وَلَا تَرْكِيبُ إِلَّا أَنْ مَعَ قَوْلِهِ: لَتَعُودُنَّ بِخِلَافِ لَأَلْزَمَنَّكَ، أَوْ تَقْضِيَّنِّي حَقِّي وَالْعَوْدُ هُنَا بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ. أَوْ يَكُونُ خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَمَنْ آمَنُوا بِهِمْ. وَغَلَبَ حُكْمُ مَنْ آمَنُوا بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي مِلَّتِهِمْ، فَيَصِحُّ إِبْقَاءُ

لَتَعُودُّنَ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنْهَا أَوَّلًا إِذْ سَبَقَ كَوْنُهُمْ كَانُوا فِي مِلَّتِهِمْ، وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَكُونُوا فِي مِلَّتِهِمْ قَطُّ. أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ سُكُوتَهُمْ عَنْهُمْ، وَكَوْنَهُمْ أَغْفَالًا عَنْهُمْ لَا يُطَالِبُونَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: لَيُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلِيُسْكِنَنَّكُمْ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، إِذْ لَفْظُهُ لَفْظُ الْغَائِبِ. وَجَاءَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لَهُمْ بِالْخِطَابِ، وَلَمْ يَأْتِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ. وَلَمَّا أَقْسَمُوا بِهِمْ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ وَالْعَوْدَةِ فِي مِلَّتِهِمْ، أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى إِهْلَاكِهِمْ. وَأَيُّ إِخْرَاجٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِهْلَاكِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَوْدَةٌ إِلَيْهَا أَبَدًا، وَعَلَى إِسْكَانِ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَرْضَ أُولَئِكَ الْمُقْسِمِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّ الظَّالِمِينَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِذْ جَائِزٌ أَنْ يُؤْمِنَ مِنَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ قَالُوا الْمَقَالَةَ نَاسٌ، وَإِنَّمَا تَوَعَّدَ لِإِهْلَاكِ مَنْ خَلَصَ لِلظُّلْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرَادَ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى تَوْرِيثِ الْأَرْضِ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ بَعْدَ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» . وَمَقَامٌ يَحْتَمِلُ الْمَصْدَرَ وَالْمَكَانَ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَقَامِي مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: قِيَامِي عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ لِأَعْمَالِهِ، وَمُرَاقَبَتِي إِيَّاهُ لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكَانُ وُقُوفِهِ بَيْنَ يَدَيَّ لِلْحِسَابِ، وَهُوَ مَوْقِفُ اللَّهِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «4» وَعَلَى إِقْحَامِ الْمَقَامِ أَيْ لِمَنْ خَافَنِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَاسْتَفْتَحُوا عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ: أَيِ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «5» ويجوز أن يكون الْفُتَاحَةِ وَهِيَ الْحُكُومَةُ، أَيِ: اسْتَحْكَمُوا اللَّهَ طَلَبُوا مِنْهُ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ. وَاسْتِنْصَارُ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ كَقَوْلِ نُوحٍ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي «6» وَقَوْلِ لُوطٍ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ «7» وَقَوْلِ شُعَيْبٍ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «8» وَقَوْلِ مُوسَى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ «9» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنِ زَيْدٍ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْ: وَاسْتَفْتَحَ الكفار

_ (1) سورة لقمان: 31/ 13. (2) سورة الأعراف: 7/ 128. [.....] (3) سورة الرعد: 13/ 33. (4) سورة الرحمن: 55/ 46. (5) سورة الأنفال: 8/ 19. (6) سورة الشعراء: 26/ 118. (7) سورة الشعراء: 26/ 169. (8) سورة الأعراف: 7/ 89. (9) سورة يونس: 10/ 88.

عَلَى نَحْوِ مَا قَالَتْ قُرَيْشٌ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «1» وَقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَقَطَعَنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ. وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا قَوِيَ تَكْذِيبُهُمْ وَأَذَاهُمْ وَلَمْ يُعَاجَلُوا بِالْعُقُوبَةِ، ظنوا أن ما جاؤوا بِهِ بَاطِلٌ فَاسْتَفْتَحُوا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «2» وَقَوْمِ شُعَيْبٍ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً «3» وَعَادٍ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «4» وَبَعْضِ قُرَيْشٍ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «5» . وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ: الْأَنْبِيَاءِ، وَمُكَذِّبِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُلُّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يُنْصَرَ الْمُحِقُّ وَيُبْطَلَ الْمُبْطِلُ. وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى الرُّسُلِ خَاصَّةً قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَاسْتَفْتِحُوا بِكَسْرِ التَّاءِ، أَمْرًا لِلرُّسُلِ مَعْطُوفًا عَلَى لَيُهْلِكَنَّ أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: لَيُهْلِكَنَّ، وَقَالَ لَهُمُ: اسْتَفْتِحُوا أَيِ: اطْلُبُوا النَّصْرَ وَسَلُوهُ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ مَكَّةَ قَدِ اسْتَفْتَحُوا أَيِ اسْتَمْطَرُوا، وَالْفَتْحُ الْمَطَرُ فِي سِنِي الْقَحْطِ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ فَلَمْ يُسْقَوْا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ خَيَّبَ رَجَاءَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَأَنَّهُ يُسْقَى فِي جَهَنَّمَ بَدَلَ سُقْيَاهُ مَاءً آخَرَ وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. وَاسْتَفْتَحُوا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُنْقَطِعٌ عَنْ حَدِيثِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ انْتَهَى. وَخَابَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَنُصِرُوا وَظَفِرُوا. وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَهُمْ قَوْمُ الرُّسُلِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ جَبَّارٍ. وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ كَالْخَلِيطِ بِمَعْنَى الْمُخَالِطِ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْكُفَّارِ، كَأَنَّ وَخَابَ عَطْفًا عَلَى وَاسْتَفْتَحُوا. وَمِنْ وَرَائِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَيْ: مِنْ بَعْدِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَهْرَبُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وقطرب، والطبري، وجماعة: ومن وَرَائِهِ أَيْ وَمِنْ أَمَامِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَأَنْشَدَ: عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فيه ... يكون وراء فَرَجٌ قَرِيبٌ وَهَذَا وَصْفُ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ مُرْصَدٌ لِجَهَنَّمَ، فَكَأَنَّهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ عَلَى شَفِيرِهَا، أَوْ وَصْفُ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُبْعَثُ وَيُوقَفُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمُ تميم والفلاة ورائيا

_ (1) سورة ص: 38/ 16. (2) سورة الأعراف: 7/ 70. (3) سورة الشعراء: 26/ 187. (4) سورة الشعراء: 26/ 138. (5) سورة الأنفال: 8/ 32.

وَقَالَ آخَرُ: أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومُ العصا نحني عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ وَوَرَاءُ مِنَ الْأَضْدَادِ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ. وَقِيلَ: لَيْسَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: اسْمٌ لِمَا تَوَارَى عَنْكَ، سَوَاءٌ كَانَ أَمَامَكَ أَمْ خَلْفَكَ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى مِنْ خَلْفِهِ أَيْ: فِي طَلَبِهِ كَمَا تَقُولُ الْأَمْرُ مِنْ وَرَائِكَ أَيْ: سَوْفَ يَأْتِيكَ. وَيُسْقَى مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يُلْقَى فِيهَا وَيُسْقَى، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْعَامِلِ فِي مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ. وَارْتِفَاعُ جَهَنَّمَ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ حَقِيقَةِ الْمَاءِ. وَصَدِيدٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَاءٍ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا خَاتَمُ حَدِيدٍ وَلَيْسَ بِمَاءٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ بَدَلَ الْمَاءِ فِي الْعُرْفِ عِنْدَنَا يَعْنِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ مَاءٌ. وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ عَلَى إِسْقَاطِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ أَسَدٍ التَّقْدِيرُ: مِثْلُ صَدِيدٍ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ هُوَ نَفْسُ الصَّدِيدِ وَلَيْسَ بِمَاءٍ حَقِيقَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ صَدِيدًا وَلَكِنَّهُ مَا يُشَبَّهُ بِالصَّدِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَدِيدٍ عَطْفُ بَيَانٍ لِمَاءٍ قَالَ: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ، فَأَبْهَمَهُ إِبْهَامًا، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: صَدِيدٍ انْتَهَى. وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ عَطْفَ الْبَيَانِ فِي النَّكِرَاتِ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَتَبِعَهُمُ الْفَارِسِيُّ، فَأَعْرَبَ زَيْتُونَةٍ «1» عطف بيان ل شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ «2» فَعَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صَدِيدٍ، عَطْفَ بَيَانٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: صَدِيدٍ نَعْتٌ لِمَاءٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَجْسَادِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ: هُوَ غُسَالَةُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ فُرُوجِ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي. وَقِيلَ: صَدِيدٍ بِمَعْنَى مَصْدُودٍ عَنْهُ أَيْ: لِكَرَاهَتِهِ يُصَدُّ عَنْهُ، فَيَكُونُ مَأْخُوذًا عَنْهُ مِنَ الصَّدِّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أمامة عن الرسول قاله فِي قَوْلِهِ: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ قَالَ: «يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، وَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ» يَتَجَرَّعُهُ يَتَكَلَّفُ جَرْعَهُ. وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ أَيْ: وَلَا يُقَارِبُ أَنْ يُسِيغَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْإِسَاغَةُ. وَالظَّاهِرُ هُنَا انْتِفَاءُ مُقَارَبَةِ إِسَاغَتِهِ إِيَّاهُ، وَإِذَا انْتَفَتِ انْتَفَتِ الْإِسَاغَةُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكَدْ يَراها «3» أَيْ لَمْ يَقْرُبُ مِنْ رُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَرَاهَا؟ وَالْحَدِيثُ: «جَاءَنَا ثُمَّ يَشْرَبُهُ» فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ كَانَ الْمَعْنَى: وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَهُ ثُمَّ شَرِبَهُ، كَمَا جَاءَ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «4» أَيْ وَمَا

_ (1) سورة النور: 24/ 35. (2) سورة النور: 24/ 35. [.....] (3) سورة النور: 24/ 40. (4) سورة البقرة: 2/ 71.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 إلى 34]

كَادُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَ الذَّبْحِ. وَتَجَرَّعَ تَفَعَّلَ، وَيَحْتَمِلُ هُنَا وُجُوهًا أَنْ يَكُونَ لِلْمُطَاوَعَةِ أَيْ جَرَّعَهُ فَتَجَرَّعَ كَقَوْلِكَ: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ. وَأَنْ يَكُونَ لِلتَّكَلُّفِ نَحْوَ: تَحَلَّمَ، وَأَنْ يَكُونَ لِمُوَاصَلَةِ الْعَمَلِ فِي مَهَلَةٍ نَحْوَ: تَفَهَّمَ أَيْ يَأْخُذُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ أَيْ: تَجَرَّعَهُ كَمَا تَقُولُ: عَدَا الشَّيْءَ وَتَعَدَّاهُ. وَيَتَجَرَّعُهُ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَيُسْقَى، أَوِ اسْتِئْنَافٌ. وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أَيْ: أَسْبَابُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ كُلِّ مَكَانٍ مَعْنَاهُ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ، وَذَلِكَ لِفَظِيعِ مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْآلَامِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مِنْ كُلِّ مَكَانٍ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ. وَقِيلَ: حَتَّى مِنْ إِبْهَامِ رِجْلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَرَادَ الْبَلَايَا الَّتِي تُصِيبُ الْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا، سَمَّاهَا مَوْتًا وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْكَافِرِ فِي جَهَنَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ لِتَطَاوُلِ شَدَائِدِ الْمَوْتِ، وَامْتِدَادِ سَكَرَاتِهِ. وَمِنْ وَرَائِهِ الْخِلَافُ فِي مِنْ وَرَائِهِ كَالْخِلَافِ فِي مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ. وقال الزمخشري: وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ أَيْ: فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْتَقْبِلُهُ يَتَلَقَّى عَذَاًبا أَشَدَّ مِمَّا قَبْلَهُ وَأَغْلَظَ. وَعَنِ الْفُضَيْلِ: هُوَ قَطْعُ الْأَنْفَاسِ وَحَبْسُهَا فِي الْأَجْسَادِ انْتَهَى. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَرَائِهِ هُوَ يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ الْمُتَقَدِّمِ لَا عَلَى كل جبار. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

الرَّمَادُ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: هُوَ جِسْمٌ يَسْحَقُهُ الْإِحْرَاقُ سَحْقَ الْغُبَارِ، وَيُجْمَعُ عَلَى رُمُدٍ فِي الْكَثْرَةِ وَأَرْمِدَةٍ فِي الْقِلَّةِ، وَشَذَّ جَمْعُهُ عَلَى أَفْعِلَاءَ قَالُوا: أَرْمِدَاءُ، وَرَمَادٌ رَمْدَدٌ إِذَا صَارَ هَبَاءً أَرَقَّ مَا يَكُونُ. الْجَزَعُ: عَدَمُ احْتِمَالِ الشِّدَّةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الصَّبْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ: جَزِعْتُ وَلَمْ أَجْزَعْ مِنَ الْبَيْنِ مَجْزَعًا ... وعذبت قَلْبًا بِالْكَوَاعِبِ مُولَعَا الْمُصْرِخُ: الْمُغِيثُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا تَجْزَعُوا إِنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ... وَلَيْسَ لَكُمْ عَنِّي غَنَاءٌ وَلَا نَصْرٌ

وَالصَّارِخُ الْمُسْتَغِيثُ، صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخًا وَصُرَاخًا وَصَرْخَةً. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ: كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعُ الظَّنَابِيبِ وَاصْطَرَخَ بِمَعْنَى صَرَخَ، وَتَصَرَّخَ تَكَلَّفَ الصُّرَاخَ، وَاسْتَصْرَخَ اسْتَغَاثَ فَقَالَ: اسْتَصْرَخَنِي فاصرخته والصريخ مصدر كالتريخ وَيُوصَفُ بِهِ الْمُغِيثُ وَالْمُسْتَغِيثُ مِنَ الْأَضْدَادِ. الْفَرْعُ الْغُصْنُ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُولَدُ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْفَرْعُ الشَّعْرُ يُقَالُ: رَجُلٌ أَفْرَعُ وَامْرَأَةٌ فَرْعَاءُ لِمَنْ كَثُرَ شَعْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ: وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمِ اجْتَثَّ الشَّيْءَ اقْتَلَعَهُ، وَجَثَّ الشَّيْءَ قَلَعَهُ، وَالْجُثَّةُ شَخْصُ الْإِنْسَانِ قَاعِدًا وقائما. وقال لقيط الأياري: هُوَ الْجَلَاءُ الَّذِي يَجْتَثُّ أَصْلَكُمْ ... فَمَنْ رَأَى مِثْلَ ذَا آتٍ وَمَنْ سَمِعَا الْبَوَارُ: الْهَلَاكُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ أَبْطَالَ حَرْبٍ ... غَدَاةَ الْحَرْبِ إِذْ خِيفَ الْبَوَارُ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ: ارْتِفَاعُ مَثَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ يُقَصُّ. وَالْمَثَلُ مُسْتَعَارٌ لِلصِّفَةِ الَّتِي فِيهَا غَرَابَةٌ، وَأَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ مَثَلُهُمْ؟ فَقِيلَ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ، كَمَا تَقُولُ: صِفَةُ زَيْدٍ عِرْضُهُ مَصُونٌ، وَمَالُهُ مَبْذُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ عَلَى إِلْغَاءٍ مَثَلُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَثَلُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَعْمَالُهُمْ بَدَلٌ مِنْ مَثَلُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَا لِلْجَمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدًا ... أَجُنْدُلًا يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدًا وَكَرَمَادٍ الْخَبَرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَكُونُ أَعْمَالُهُمْ بَدَلًا مِنْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى تَقْدِيرِ: مَثَلُ أَعْمَالِهِمْ، وكرماد الْخَبَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ ابتداء، وأعمالهم ابتداء ثان، وكرماد خَبَرٌ لِلثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ. وَهَذَا عِنْدِي أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: الْمُتَحَصِّلُ مِثَالًا فِي النَّفْسِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ أَعْمَالُهُمْ فِي فَسَادِهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَتَلَاشِيهَا كَالرَّمَادِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيحُ، وَتُفَرِّقُهُ بِشِدَّتِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، وَلَا

يَجْتَمِعَ مِنْهُ شَيْءٌ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي رَجَّحَهُ ابن عطية قال الْحَوْفِيُّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَثَلُ عَارِيَةٌ مِنْ رَابِطٍ يَعُودُ عَلَى الْمَثَلِ، وَلَيْسَتْ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ. وَأَعْمَالُ الْكَفَرَةِ الْمَكَارِمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَعِتْقِ الرِّقَابِ، وَفِدَاءِ الْأَسَارَى، وَعَقْرِ الْإِبِل لِلْأَضْيَافِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ، وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. شَبَّهَهَا فِي حبوطها وذهابها هباء مَنْثُورًا لِبِنَائِهَا عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَكَوْنِهَا لِوَجْهِهِ بِرَمَادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: الرِّيَاحُ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بقوم عَاصِفٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، كَمَا قَالُوا: يَوْمَ مَا حَلَّ وَكِيلٌ نَائِمٌ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: التَّقْدِيرُ فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ، فَحُذِفَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا جَاءَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ يُرِيدُ كَاسِفُ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: عَاصِفٌ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بَعْدَ الْيَوْمِ أُتْبِعَ إِعْرَابَهُ كَمَا قِيلَ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ خُفِضَ عَلَى الْجِوَارِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنِ الْحَسَنِ: فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ عَلَى إِضَافَةِ الْيَوْمِ لِعَاصِفٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، تَقْدِيرُهُ: فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعُصُوفِ فِي يُونُسَ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ «1» وَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ: لَا يَقْدِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ، أَيْ: لَا يَرَوْنَ لَهُ أَثَرًا مِنْ ثَوَابٍ، كَمَا لَا يُقْدَرُ مِنَ الرَّمَادِ الْمَطِيرِ بِالرِّيحِ عَلَى شَيْءٍ. وَقِيلَ: لَا يَقْدِرُونَ مِنْ ثَوَابِ ما كسبوا، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، هَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا يَنْفَعُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «إِنَّ الْكَافِرَ لَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا عَمِلَ لِلَّهِ مِنْهَا» ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْغَرَرِ الْبَعِيدِ الَّذِي يُعْمِقُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَأُبْعِدَ عَنْ طَرِيقِ النَّجَاةِ، وَالْبَعِيدُ عَنِ الْحَقِّ، أَوِ الثَّوَابِ. وَفِي الْبَقَرَةِ: لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا «2» عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَالْمُغَايَرَةِ فِي التَّقْدِيمِ والتأخير، والمعنى واحد.

_ (1) سورة يونس: 10/ 22. (2) سورة البقرة: 2/ 264.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ: قَرَأَ السُّلَمِيُّ أَلَمْ تَرْ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ. وَتَوْجِيهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ تَرَى حَذَفَتِ الْعَرَبُ أَلِفَهَا فِي قَوْلِهِمْ: قَامَ الْقَوْمُ وَلَوْ تَرَ مَا زَيْدٌ، كَمَا حُذِفَتْ يَاءُ لَا أُبَالِي فِي لَا أُبَالِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْجَازِمُ تُخُيِّلَ أَنَّ الرَّاءَ هِيَ آخِرُ الْكَلِمَةِ فَسُكِّنَتْ لِلْجَازِمِ كَمَا قَالُوا فِي: لَا أُبَالِي لَمْ أُبَلْ، تَخَيَّلُوا اللَّامَ آخِرَ الْكَلِمَةِ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَهِيَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: خَالِقُ اسْمَ فَاعِلٍ، والأرض بِالْخَفْضِ. قَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: خلق فعلا ماضيا، والأرض بِالْفَتْحِ. وَمَعْنَى بِالْحَقِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالْحِكْمَةِ، وَالْغَرَضِ الصَّحِيحِ، وَالْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يَخْلُقْهَا عَبَثًا وَلَا شَهْوَةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِالْحَقِّ أَيْ بِمَا يَحِقُّ مِنْ جِهَةِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَإِنْفَاذِ سَابِقِ قَضَائِهِ، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ وَكَلَامِهِ. وَقِيلَ: بِالْحَقِّ حَالٌ أَيْ مُحِقًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُذْهِبْكُمْ، خِطَابٌ عَامٌّ لِلنَّاسِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ. وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِنَاسٍ آخَرِينَ مِنْ جِنْسِكُمْ آدَمِيِّينَ، وَيَحْتَمِلْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِكُمْ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ فِي النِّسَاءِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ «1» وَبَيَّنَّا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ. وَمَا ذَلِكَ أَيْ: وَمَا ذَهَابُكُمْ وَالْإِتْيَانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بِمُمْتَنِعٍ وَلَا مُتَعَذِّرٍ عَلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ قَادِرُ الذَّاتِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِمَقْدُورٍ دُون مَقْدُورٍ، فَإِذَا خَلَصَ لَهُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ، وَانْتَفَى الصَّارِفُ، تَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ كَتَحْرِيكِ أُصْبُعِكَ. وَإِذَا دَعَا إِلَيْهِ دَاعٍ وَلَمْ يَعْتَرِضْ مِنْ دُونِهِ صَارِفٌ انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ لِقَوْلِهِ: الْقَادِرُ، لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقَادِرِيَّةَ وَيَنْفُونَ الْقُدْرَةَ، وَلِتَشْبِيهِ فِعْلِهِ تَعَالَى بِفِعْلِ الْعَبْدِ فِي قَوْلِهِ: كَتَحْرِيكِ أُصْبُعِكَ. وَعِنْدَنَا أَنَّ تَحْرِيكَ أُصْبُعِنَا لَيْسَ إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا نُسِبَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُدْرَةِ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي إِيجَادِ شَيْءٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِإِبْعَادِهِمْ فِي الضَّلَالِ، وَعَظِيمِ خَطْبِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، لِوُضُوحِ آيَاتِهِ الشَّاهِدَةِ لَهُ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ

_ (1) سورة النساء: 4/ 133.

الْحَقِيقُ بِأَنْ يُعْبَدَ وَيُخَافَ عِقَابُهُ، وَيُرْجَى ثَوَابُهُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ انْتَهَى. وَبَرَزُوا: أَيْ ظَهَرُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى جَزَاءِ اللَّهِ وَحِسَابِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى بُرُوزِهِمْ لِلَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَوَارَى عَنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُبْرِزَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْعُيُونِ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ خَافٍ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ انْكَشَفُوا لِلَّهِ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَرَزُوا مَعْنَاهُ صَارُوا بِالْبَرَازِ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُتَّسِعَةُ، فاستعير ذلك لجميع يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: تَأْوِيلُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا فَارَقَتِ الْجَسَدَ فَكَأَنَّهُ زَالَ الْغِطَاءُ وَبَقِيَتْ مُتَجَرِّدَةً بِذَاتِهَا عَارِيَةً عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْبُرُوزُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الرَّجُلُ كَثِيرًا مَا يُورِدُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ وَهُمْ مُبَايِنُونَ لِأَهْلِ الشَّرَائِعِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ لَا تَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ مَفَاهِيمِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ، فَتَفْسِيرُهُمْ كَاللُّغَزِ وَالْأَحَاجِيَّ، وَيُسَمِّيهِمْ هَذَا الرَّجُلُ حُكَمَاءَ، وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِأَنْبِيَائِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي وَبَرَزُوا عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ الْمُحَاسَبِينَ، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وبرزوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَبِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. وَالضُّعَفَاءُ: الْأَتْبَاعُ، وَالْعَوَامُّ. وَكُتِبَ بِوَاوٍ فِي الْمُصْحَفِ قَبْلَ الْهَمْزَةِ عَلَى لَفْظِ مَنْ يُفَخِّمُ الْأَلِفَ قَبْلَ الْهَمْزَةِ فَيُمِيلُهَا إِلَى الْوَاوِ، وَمِثْلُهُ علمؤا بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: هم رؤساؤهم وقاداتهم، استغووا الضعفاء واستتبعوهم. واستكبروا تكبروا، وَأَظْهَرُوا تَعْظِيمَ أَنْفُسِهِمْ. أَوِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ. وَتَبَعًا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ لِتَابِعٍ، كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ، وَغَائِبٍ وَغَيَبٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَقَوْلِهِ: عَدْلٌ وَرِضًا. وَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ؟ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ تَوْبِيخُهُمْ إِيَّاهُمْ وَتَقْرِيعُهُمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا وَالْمَعْنَى: إِنَّا اتَّبَعْنَاكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ كَمَا أَمَرْتُمُونَا وَمَا أَغْنَيْتُمْ عَنَّا شَيْئًا، فَلِذَلِكَ جاء جوابعهم: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ، أَجَابُوا بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ وَالْخَجَلِ وَرَدِّ الْهِدَايَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ الْأُولَى لِلتَّبْيِينِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا بَعْضَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ اللَّهِ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا لِلتَّبْعِيضِ مَعًا بِمَعْنَى: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا بعض شيء، هو بعض عَذَابِ اللَّهِ أَيْ: بَعْضُ بَعْضِ عَذَابِ اللَّهِ انْتَهَى. وَهَذَانِ التَّوْجِيهَانِ اللَّذَانِ وَجَّهَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مِنْ فِي الْمَكَانَيْنِ يَقْتَضِي أَوَّلُهُمَا التَّقْدِيمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: من عذاب الله. ومن التَّبْيِينِيَّةُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا مَا تبينه، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني، وَهُوَ بَعْضُ شَيْءٍ، هُوَ بَعْضُ الْعَذَابِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، فَيَكُونُ بَدَلَ عَامٍّ

مِنْ خَاصٍّ، لِأَنَّ مِنْ شَيْءٍ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَأَنَّ عَنَى بِشَيْءٍ شَيْئًا مِنَ العذاب فيؤول الْمَعْنَى إِلَى مَا قُدِّرَ، وَهُوَ بَعْضُ بَعْضِ عَذَابِ اللَّهِ. وَهَذَا لَا يُقَالُ، لِأَنَّ بَعْضِيَّةَ الشَّيْءِ مُطْلَقَةٌ، فَلَا يَكُونُ لَهَا بَعْضٌ. وَنَصَّ الْحَوْفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ، زَائِدَةٌ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ عَذَابِ الله متعلق بمغنون، ومن فِي مِنْ شَيْءٍ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَقَالَ أبو البقاء: ومن زَائِدَةٌ أَيْ: شَيْئًا كَائِنًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: هَلْ تَمْنَعُونَ عَنَّا شَيْئًا؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٍ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ أَيْ: غِنًى فَيَكُونُ مِنْ عَذَابِ الله متعلقا بمغنون انْتَهَى. وَمُسَوِّغُ الزِّيَادَةِ كَوْنُ الْخَبَرِ فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ، فَكَأَنَ الِاسْتِفْهَامَ دَخَلَ عَلَيْهِ وَبَاشَرَهُ، وَصَارَتِ الزِّيَادَةُ هُنَا كَالزِّيَادَةِ فِي تَرْكِيبِ: فَهَلْ تُغْنُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَجَابُوهُمْ مُعْتَذِرِينَ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَوْهُمْ، ولم يضلوهم إما موركين الذَّنْبَ فِي ضَلَالِهِمْ، وَإِضْلَالِهِمْ عَلَى اللَّهِ كَمَا حَكَى اللَّه عَنْهُمْ. وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الْمُنَافِقِينَ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ «1» انْتَهَى. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمُنَافِقِينَ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُجَوِّزُونَ صُدُورَ الْكَذِبِ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مُخَالِفًا لِأُصُولِ مَشَايِخِهِ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَوْ كُنَّا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ فَلَطَفَ بِنَا رَبُّنَا. وَاهْتَدَيْنَا لَهَدَيْنَاكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا الْوَجْهَ وَزَيَّفَهُ بِأَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا عَلَى اللُّطْفِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: لَوْ خَلَّصَنَا اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَهَدَانَا إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَهَدَيْنَاكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي بَسْطِ هَذَا الْقَوْلِ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ طَرِيقَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ لَهَدَيْنَاكُمْ أَيْ: لَأَغْنَيْنَا عَنْكُمْ وَسَلَكْنَا بِكُمْ طَرِيقَ النَّجَاةِ، كَمَا سَلَكْنَا بِكُمْ سَبِيلَ الْهَلَكَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى الْهُدَى إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَمَسُوهُ وَطَلَبُوهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ لَأَرْشَدْنَاكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا إلى

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 18.

آخِرِهِ، دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَجَاءَتْ جُمَلُهُ بِلَا وَاوِ عَطْفٍ، كَأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ أَنُشِئَتْ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا؟ إِنَّمَا كَانَ لِجَزَعِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ فَقَالُوا ذَلِكَ: سَوَّوْا بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي عِقَابِ الضَّلَالَةِ الَّتِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهَا، يَقُولُونَ: مَا هَذَا الْجَزَعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْجَزَعِ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي الصَّبْرِ. وَلَمَّا قَالُوا: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ، أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِالْإِقْنَاطِ مِنَ النَّجَاةِ فَقَالُوا: مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ: أَيْ مَنْجًى وَمَهْرَبٍ، جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا. وَقِيلَ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا مِنْ كَلَامِ الضُّعَفَاءِ وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا جَمِيعًا سَوَاءٌ عَلَيْنَا يُخْبِرُونَ عَنْ حَالِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَ الضُّعَفَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْعَرْضِ وَقْتَ الْبُرُوزِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَنَّ قَوْلَهُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا، بَعْدَ صَبْرِهِمْ فِي النَّارِ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، وَبَعْدَ جَزَعِهِمْ مِثْلَهَا. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مُحَاوَرَةَ الْأَتْبَاعِ لِرُؤَسَائِهِمُ الْكَفَرَةِ، ذَكَرَ مُحَاوَرَةَ الشَّيْطَانِ وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْإِنْسِ، وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الرُّؤَسَاءِ وَالشَّيَاطِينِ فِي التَّلَبُّسِ بِالْإِضْلَالِ. وَالشَّيْطَانُ هُنَا إِبْلِيسُ، وَهُوَ رَأْسُ الشَّيَاطِينِ. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «أَنَّ الْكَافِرِينَ يَقُولُونَ: وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لهم فمن يشع لَنَا، فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ غَيْرُ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، فَقُمْ أَنْتَ فَاشْفَعْ لَنَا، فَإِنَّكَ أَضْلَلْتَنَا، فَيَقُومُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْتَنُ رِيحٍ شَمَّهُ أَحَدٌ وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكُمْ» الْآيَةَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَقِفُ إِبْلِيسُ خَطِيبًا فِي جَهَنَّمَ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ نَارٍ يَسْمَعُهُ الْخَلَائِقُ جَمِيعًا فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، يَعْنِي: الْبَعْثَ، وَالْجَنَّةَ، وَالنَّارَ، وَثَوَابَ الْمُطِيعِ، وَعِقَابَ الْعَاصِي، فَصَدَقَكُمْ وَعْدَهُ، وَوَعَدْتُكُمْ أَنْ لَا بَعْثٌ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، فَأَخْلَفْتُكُمْ. قُضِيَ الْأَمْرُ تَعَيَّنَ قَوْمٌ لِلْجَنَّةِ وَقَوْمٌ لِلنَّارِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْمَوْقِفِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ أَوْ بَعْدَ حُصُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الطَّبَرِيِّ. وَقِيلَ: قُضِيَ الْأَمْرُ قطع وفرغ مِنْهُ، وَهُوَ الْحِسَابُ، وَتَصَادَرَ الفريقين إلى مقربهما. وَوَعْدُ الْحَقِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ

إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ أَيْ: الْوَعْدِ الْحَقِّ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَقُّ صِفَةَ اللَّهِ أَيْ: وَعْدَهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الشَّيْءَ الثَّابِتَ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ أَيْ: فَوَفَّى لَكُمْ بِمَا وَعَدَكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَإِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ وَوَسْوَسَتَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسُّلْطَانِ الْغَلَبَةَ وَالتَّسْلِيطَ وَالْقُدْرَةَ أَيْ: مَا اضْطَرَرْتُكُمْ ولا خوفتكم بقوة مني، بَلْ عَرَضْتُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا فَأَتَى رَأْيُكُمْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَهْرِ مِنَ الْحَامِلِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِتَقْوِيَةِ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَاسِ إِلَيْهِ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسْلِيطِ. وَقِيلَ: وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى صَرْعِ الْإِنْسَانِ وَتَعْوِيجِ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَإِزَالَةِ عقله، فلا تلوموني. وقرىء: فَلَا يَلُومُونِي بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ يُرِيدُ فِي مَا آتَيْتُمُوهُ مِنَ الضَّلَالِ، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ فِي سُوءِ نَظَرِكُمْ وَاسْتِجَابَتِكُمْ لِدُعَائِي مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حَيْثُ اغْتَرَرْتُمْ، وَأَطَعْتُمُونِي إِذْ دَعَوْتُكُمْ، وَلَمْ تُطِيعُوا رَبَّكُمْ إِذْ دَعَاكُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَيُحَصِّلُهَا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا التَّمْكِينُ، وَلَا مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا التَّزْيِينُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُ الْمُجْبِرَةُ لَقَالَ: فَلَا تَلُومُونِي وَلَا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى عَلَيْكُمِ الْكُفْرَ وَأَجْبَرَكُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِنَافِعِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِمُنْقِذِكُمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: بِمُنْجِيكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِمُغِيثِكُمْ، وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: بِمُصْرِخِيِّ بِكَسْرِ الْيَاءِ، وَطَعَنَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَعَلَّهَا مِنْ وَهْمِ الْقُرَّاءِ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ مَنِ الْوَهْمِ، وَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْبَاءَ فِي بِمُصْرِخِيِّ خَافِضَةٌ لِلَّفْظِ كُلِّهِ، وَالْبَاءُ لِلْمُتَكَلِّمِ خَارِجَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: نَرَاهُمْ غَلِطُوا، ظَنُّوا أَنَّ الْبَاءَ تُكْسَرُ لِمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ رَدِيئَةٌ مَرْذُولَةٌ، وَلَا وَجْهَ لَهَا إِلَّا وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: صَارَ هَذَا إِجْمَاعًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى الشُّذُوذِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ ضَعِيفَةٌ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهَا بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ: قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِيِّ ... قَالَتْ لَهُ مَا أَنْتَ بِالْمَرَضِيِّ

وَكَأَنَّهُ قَدَّرَ يَاءَ الْإِضَافَةِ سَاكِنَةً، وَقَبْلَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ فَحَرَّكَهَا بِالْكَسْرِ لِمَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ يَاءَ الْإِضَافَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَفْتُوحَةً حَيْثُ قَبْلَهَا أَلِفٌ نَحْوَ: عَصَايَ فَمَا بَالُهَا، وقبلها باء. (فَإِنْ قُلْتَ) : جَرَتِ الْيَاءُ الْأُولَى مَجْرَى الْحُرِّ الصَّحِيحِ لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ، كَأَنَّهَا يَاءٌ وَقَعَتْ سَاكِنَةً بَعْدَ حَرْفٍ صَحِيحٍ سَاكِنٍ، فَحُرِّكَتْ بِالْكَسْرِ عَلَى الْأَصْلِ. (قُلْتُ) : هَذَا قِيَاسٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْمُسْتَفِيضَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ تَتَضَاءَلُ إِلَيْهِ الْقِيَاسَاتُ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَشْهَدُوا لَهَا بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ، قَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِلْأَغْلَبِ الْعِجْلِيِّ، وَهِيَ لُغَةٌ بَاقِيَةٌ فِي أَفْوَاهِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْيَوْمِ، يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا فِيِّ أَفْعَلُ كَذَا بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَالَ: فَهُوَ تَوْجِيهُ الْفَرَّاءِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ الزَّجَّاجُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ، فِي غُضُونِ كَلَامِهِ حَيْثُ قَبْلَهَا أَلِفٌ، فَلَا أَعْلَمُ حَيْثُ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالظَّرْفِ نَحْوَ: قَعَدَ زَيْدٌ حَيْثُ أَمَامَ عُمَرَ وَبَكْرٍ، فَيَحْتَاجُ هَذَا التَّرْكِيبُ إِلَى سَمَاعٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ يَاءَ الْإِضَافَةِ إِلَى آخِرِهِ، قَدْ رَوَى سُكُونَ الْيَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ. وَقَرَأَ بِذَلِكَ الْقُرَّاءُ نَحْوَ: مَحْيَايَ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَكَرْنَا مِنَ النُّحَاةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ. وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِيهَا الْخَلَفُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا: إِنَّهَا خَطَأٌ، أَوْ قَبِيحَةٌ، أَوْ رَدِيئَةٌ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَة أَنَّهَا لُغَةٌ، لَكِنَّهُ قَلَّ اسْتِعْمَالُهَا. وَنَصَّ قُطْرُبٌ عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ فِي بَنِي يَرْبُوعٍ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ: هِيَ صَوَابٌ، وَسَأَلَ حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ وَذَكَرَ تَلْحِينَ أَهْلِ النَّحْوِ فَقَالَ: هِيَ جَائِزَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا تُبَالِي إِلَى أَسْفَلِ حَرَكَتِهَا، أَوْ إِلَى فَوْقُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ بِالْخَفْضِ حَسَنَةٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هِيَ جَائِزَةٌ. وَلَيْسَتْ عِنْدَ الْإِعْرَابِ بِذَلِكَ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى إِنْكَارِ أَبِي حَاتِمٍ عَلَى أَبِي عَمْرٍو تَحْسِينَهَا، فَأَبُو عَمْرٍو إِمَامُ لُغَةٍ، وَإِمَامُ نَحْوٍ، وَإِمَامُ قِرَاءَةٍ، وَعَرَبِيٌّ صَرِيحٌ، وَقَدْ أَجَازَهَا وَحَسَّنَهَا، وَقَدْ رَوَوْا بَيْتَ النَّابِغَةِ: عَلَيِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبَ بِخَفْض الْيَاء مِنْ عليّ. وما فِي بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مَصْدَرِيَّةٌ، ومن قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ بِأَشْرَكْتُمُونِي أَيْ: كَفَرْتُ الْيَوْمَ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْيَوْمِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ «1» وَقَالَ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ. وقيل: موصولة

_ (1) سورة الممتحنة: 60/ 4.

بِمَعْنَى الَّذِي، وَالتَّقْدِيرُ: كَفَرْتُ بِالصَّنَمِ الَّذِي أَشْرَكْتُمُونِيهِ، فَحَذَفَ الْعَائِدَ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلُ متعلق بكفرت، وما بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: كَفَرْتُ مِنْ قَبْلُ حِينِ أَبَيْتُ السُّجُودَ لِآدَمَ بِالَّذِي أَشْرَكْتُمُونِيهِ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. تَقُولُ: شَرَكْتُ زَيْدًا، فَإِذَا أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ قُلْتُ: أَشْرَكْتُ زَيْدًا عَمْرًا، أَيْ جَعَلْتُهُ لَهُ شَرِيكًا. إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِطْلَاقَ مَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا الْأَصَحُّ فِيهَا أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى آحَادٍ مِنْ يَعْلَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَحْوُ مَا هَذِهِ يَعْنِي فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ مَا فِي قَوْلِهِمْ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا انْتَهَى. وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ جَعَلَ سُبْحَانَ عَلَمًا عَلَى مَعْنَى التَّسْبِيحِ، كَمَا جَعَلَ بَرَّةً عَلَمًا للمبرة. وما مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِبْلِيسَ إِقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِكُفْرِهِ الْأَقْدَمِ أَيْ: خَطِيئَتِي قَبْلَ خَطِيئَتِكُمْ. فَلَا إِصْرَاخَ عِنْدِي أَنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، حَكَى اللَّهُ عَنْهُ مَا سَيَقُولُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيَكُونَ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ عَلَيَّ النَّظَرُ فِي عَاقِبَتِهِمْ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَنْ يَتَصَوَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ الْمَقَامَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّيْطَانُ مَا يقول، يخافوا، ويعلموا مَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْهُ، وَيُنْجِيهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ يَوْمَ ذَاكَ. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ كَلَامٌ هُنَا فِي الشَّيْطَانِ وَالْمَلَائِكَةِ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِهِ. وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ: لَمَّا جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً «1» وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأُدْخِلَ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَأُدْخِلُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُضَارِعُ أَدْخَلَ أَيْ: وَأُدْخِلُ أَنَا. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَلَائِكَةَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلَّقَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِأُدْخِلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَبِمَ يَتَعَلَّقُ يَعْنِي بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَقَوْلِكَ وَأُدْخِلُهُمْ أَنَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ كَلَامٌ غَيْرُ مُلْئَتِمٍ؟ (قُلْتُ) : الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِمَا بَعْدَهُ أَيْ: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يَعْنِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ الْحَسَنُ: أُدْخِلُ بِرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ بِإِخْبَارِ الله

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 21.

تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَلْطَفَ لَهُمْ وَأَحْنَى عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «1» فِي أَوَائِلِ سُورَةِ يُونُسَ. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ضَرَبَ مَعَ الْمَثَلِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ، فَكَانَ يُغْنِي ذَلِكَ عَنِ الْكَلَامِ فِيهِ هُنَا، إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَبْدَوْا هُنَا تَقْدِيرَاتٍ، فَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَأَبُو البقاء مثلا مفعولا بضرب، وكلمة بَدَلٌ مِنْ مَثَلًا. وَإِعْرَابُهُمْ هَذَا تَفْرِيعٌ، عَلَى أَنَّ ضرب مثل لَا يَتَعَدَّى لَا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَثَلًا مفعول بضرب، وكلمة مَفْعُولٌ أَوَّلُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهَا مَعَ الْمَثَلِ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى جَعَلَ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ شجرة خبر مبتدأ محذوف أي: جَعَلَ كَلِمَةَ طَيِّبَةٍ مَثَلًا هِيَ أَيِ: الْكَلِمَةُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَعَلَى الْبَدَلِ تَكُونُ كَشَجَرَةٍ نَعْتًا لِلْكَلِمَةِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبَدَأَ بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةً نَصْبًا بِمُضْمَرٍ أي: جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، كَقَوْلِكَ: شَرَّفَ الْأَمِيرُ زَيْدًا كَسَاهُ حُلَّةً، وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ انْتَهَى. وَفِيهِ تَكَلُّفُ إِضْمَارٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ. وقرىء شَاذًّا كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى الابتداء، وكشجرة خَبَرُهُ انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ أَيِ الْمَثَلُ كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكلمة، والكلمة الطيبة هي: لا له إلا الله قاله ان عَبَّاسٍ، أَوِ الْإِيمَانُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، أَوِ المؤمن نفسه قال عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالرَّبِيعُ، أَوْ جَمِيعُ طَاعَاتِهِ أَوِ الْقُرْآنُ قَالَهُ الْأَصَمُّ، أَوْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ، أَوِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ أَوِ التَّسْبِيحُ وَالتَّنْزِيهُ وَالشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ الْمُؤْمِنُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ جَوْزَةُ الْهِنْدِ قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوِ النَّخْلَةُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَجَاءَ ذَلِكَ نَصًّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْآيَةَ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا هِيَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَجِيءَ بِطِبْقٍ عَلَيْهِ رُطَبٌ فَقَالَ

_ (1) سورة يونس: 10/ 10.

أَنَسٌ: كُلْ يَا أَبَا الْعَالِيَةِ، فَإِنَّهَا الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ثُمَّ قَالَ: أُتِيَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعِ بُسْرٍ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نحو هذا. وقال لزمخشري: كُلُّ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ طَيِّبَةِ الثِّمَارِ كَالنَّخْلَةِ، وَشَجَرَةِ التِّينِ، وَالْعِنَبِ، وَالرُّمَّانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَدْ شَبَّهَ الرَّسُولُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِالْأُتْرُجَّةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُشَبَّهَ أَيْضًا بِشَجَرَتِهَا. أَصْلُهَا ثَابِتٌ أَيْ: فِي الْأَرْضِ ضَارِبٌ بِعُرُوقِهِ فِيهَا. وَقَرَأَ نس بْنُ مَالِكٍ: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا، أُجْرِيَتِ الصِّفَةُ عَلَى الشَّجَرَةِ لَفْظًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ لِلسَّبَبِيِّ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا إِسْنَادُ الثُّبُوتِ إِلَى السَّبَبِيِّ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَفِيهَا حُسْنُ التَّقْسِيمِ، إِذْ جَاءَ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، يُرِيدُ بِالْفَرْعِ أَعْلَاهَا وَرَأَسَهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ ذَا فُرُوعٍ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِلَفْظِ الْجِنْسِ. وَمَعْنَى فِي السَّمَاءِ: جِهَةُ الْعُلُوِّ وَالصُّعُودِ لَا الْمِظَلَّةُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَلَمَّا شُبِّهَتِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ كَانَتِ الْكَلِمَةُ أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هُوَ فَرْعُهَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1» وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَهُوَ ثَوَابُ اللَّهِ هُوَ جَنَاهَا، وَوَصَفَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: طَيِّبَةٍ، أَيْ كَرِيمَةِ الْمَنْبَتِ، وَالْأَصْلُ فِي الشَّجَرَةِ لَهُ لَذَّةٌ فِي الْمَطْعَمِ. قَالَ الشَّاعِرُ: طَيِّبُ الْبَاءَةِ سَهْلٌ وَلَهُمْ ... سُبُلٌ إِنْ شِئْتَ فِي وَحْشٍ وَعْرِ أَيْ سَاحَتُهُمْ سَهْلَةٌ طَيِّبَةٌ. الثَّانِي: رُسُوخُ أَصْلِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهَا، وَأَنَّ الرِّيَاحَ لَا تَقْصِفُهَا، فَهِيَ بَطِيئَةُ الْفَنَاءِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ حَصَلَ الْفَرَحُ بِوِجْدَانِهِ. وَالثَّالِثُ: عُلُوُّ فَرْعِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الشَّجَرَةِ وَرُسُوخِ عُرُوقِهَا، وَعَلَى بُعْدِهَا عَنْ عُفُونَاتِ الْأَرْضِ، وَعَلَى صَفَائِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ. الرَّابِعُ: دَيْمُومَةُ وُجُودِ ثَمَرَتِهَا وَحُضُورُهَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ. وَالْحِينُ فِي اللُّغَةِ قِطْعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ قَالَ الشَّاعِرُ: تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سُمِّهَا ... تُطْلِقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ وَالْمَعْنَى: تُعْطِي جَنَاهَا كُلَّ وَقْتٌ وَقَّتَهُ اللَّهُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ،

_ (1) سورة فاطر: 35/ 10.

وَالْحَسَنُ، أَيْ كُلَّ سَنَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا حِينًا فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ سَنَةً، وَاسْتَشْهَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ قَالَهُ عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ، سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ مُدَّةُ بَقَاءِ الثَّمَرِ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْحِينُ شَهْرَانِ، لِأَنَّ النَّخْلَةَ تَدُومُ مُثْمِرَةً شَهْرَيْنِ. وَقِيلَ: لَا تَتَعَطَّلُ مِنْ ثَمَرٍ تَحْمِلُ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَهِيَ شَجَرَةُ جَوْزِ الْهِنْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ: كُلَّ حِينٍ أَي كُلَّ غُدْوَةٍ وَعَشِيَّةٍ، وَمَتَى أُرِيدُ جَنَاهَا وَيَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّهَا شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَالتَّذَكُّرُ الْمَرْجُوُّ بِضَرْبِ الْمَثَلِ هُوَ التَّفَهُّمُ وَالتَّصَوُّرُ لِلْمَعَانِي الْمُدْرَكَةِ بِالْعَقْلِ، فَمَتَى أُبْرِزَتْ بِالْمَحْسُوسَاتِ لَمْ يُنَازَعْ فِيهَا الْحِسُّ وَالْخَيَالُ وَالْوَهْمُ، وَانْطَبَقَ الْمَعْقُولُ عَلَى الْمَحْسُوسِ، فَحَصَلَ الْفَهْمُ وَالْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: الْكَذِبُ، وَقَالَ: أَنْ تَجُرَّ دَعْوَةَ الْكُفْرِ وَمَا يُعْزَى إِلَيْهِ الْكَافِرُ. وَقِيلَ: كُلُّ كَلَامٍ لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً خَبِيثَةً، وقرىء: ومثل كَلِمَةٍ بِنَصْبِ مَثَلَ عَطْفًا عَلَى كَلِمَةً طَيِّبَةً. وَالشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَفِرْقَةٌ: شَجَرَةُ الثُّومِ. وَقِيلَ: شَجَرَةُ الْكَشُوتِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ لَا وَرَقَ لَهَا وَلَا أَصْلَ قَالَ: وَهِيَ كُشُوتٌ فَلَا أَصْلَ وَلَا ثَمَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُرَدُّ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مِنَ النَّجْمِ وَلَيْسَتْ مِنَ الشَّجَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا مَثَّلَ بِالشَّجَرِ فَلَا تُسَمَّى هَذِهِ شَجَرَةً إلا بتحوّز، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» وَقِيلَ: الطُّحْلُبَةُ. وَقِيلَ: الْكَمْأَةُ. وَقِيلَ: كُلُّ شَجَرٍ لَا يَطِيبُ لَهُ ثَمَرٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْكَافِرُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: شَجَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ بِشَجَرَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، إِذَا وُجِدَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَوْصَافُ هُوَ أَنْ يَكُونَ كَالْعِضَاةِ أَوْ شَجَرَةِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا إِذَا اجْتُثَّتْ أَيِ: اقْتُلِعَتْ جَثَّهَا بِنَزْعِ الْأُصُولِ وَبَقِيَتْ فِي غَايَةِ الْوَهْيِ وَالضَّعْفِ، فَتُقَلِّبُهَا أَقَلُّ رِيحٍ. فَالْكَافِرُ يَرَى أَنَّ بِيَدِهِ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يُغْنِي عَنْهُ كَهَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي يَظُنُّ بِهَا عَلَى بُعْدِ الْجَاهِلِ أَنَّهَا شَيْءٌ نَافِعٌ، وَهِيَ خَبِيثَةُ الْجَنْيِ غَيْرُ نَافِعَةٍ انْتَهَى. وَاجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: أَصْلُهَا ثَابِتٌ أَيْ: لَمْ يَتَمَكَّنْ لَهَا أَصْلٌ وَلَا عِرْقٌ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَابِتَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ أَيِ: اسْتِقْرَارٍ. يُقَالُ: أقر الشَّيْءُ قَرَارًا ثَبَتَ ثَبَاتًا، شَبَّهَ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُعَضَّدْ بِحُجَّةٍ، فَهُوَ لَا يَثْبُتُ بَلْ يَضْمَحِلُّ عَنْ قَرِيبٍ لِبُطْلَانِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّابِتُ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ وَتَمَكَّنَ فِيهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ

نَفْسُهُ. وَتَثْبِيتُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَوْنُهُمْ لَوْ فُتِنُوا عَنْ دِينِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَثَبَتُوا عَلَيْهِ وَمَا زَلُّوا، كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَالَّذِينَ نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ، وَكُشِطَتْ لُحُومُهُمْ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، كَمَا ثَبَتَ جُرْجِيسُ وَشَمْعُونُ وَبِلَالٌ حَتَّى كَانَ يُعَذَّبُ بِالرَّمْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَتَثْبِيتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَوْنُهُمْ إِذَا سُئِلُوا عِنْدَ تَوَافُقِ الْإِشْهَادِ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَلَمْ يَبْهَتُوا، وَلَمْ تُحَيِّرْهُمْ أَهْوَالُ الْحَشْرِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا عَامٌّ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ طاووس وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ تَثْبِيتَهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مُدَّةُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ وَقْتُ سُؤَالِهِ فِي قَبْرِهِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَجَمَاعَةٌ: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ وَقْتُ سُؤَالِهِ فِي قَبْرِهِ، وَرَوَاهُ الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْعَرْضِ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَثْبِيتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ حَيَاتُهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَحَشْرُهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: التَّثْبِيتُ فِي الدُّنْيَا الْفَتْحُ وَالنَّصْرُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ وَالثَّوَابُ. وَمَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ تِلَاوَتِهِ عِنْدَ إِيعَادِ الْمُؤْمِنِ فِي قَبْرِهِ، وَسُئِلَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْإِخْلَاصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ ، لَا يَظْهَرُ مِنْهُ يَعْنِي: أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ فِي الْقَبْرِ، وَلَا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ فِي الْقَبْرِ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بَلِ اللَّفْظُ مُحْتَمَلٌ. وَمَعْنَى يُثَبِّتُ: يُدِيمُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الزَّلَلِ. وَمِنْهُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُثَبِّتُ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِآمَنُوا. وَسُؤَالُ الْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أَيِ: الْكَافِرِينَ لِمُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِضْلَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَوْنُهُمْ لَا يَثْبُتُونَ فِي مَوَاقِفِ الْفِتَنِ، وَتَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ وَهِيَ الْحَيْرَةُ الَّتِي تَلْحَقُهُمْ، إِذْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِحُجَّةٍ. وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ اضْطِرَابُهُمْ فِي جَوَابِهِمْ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ تَشْبِيهُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ عَلَى تَشْبِيهِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَتَلَاهُ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فَعَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِرَاضٌ فِيمَا خَصَّ بِهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ ذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى، إِنَّ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا يسئل عَمَّا يَفْعَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ أَيْ: تَوْجِيهَ الْحِكْمَةِ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةٌ لِلْحِكْمَةِ مِنْ تَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَأْيِيدِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ عِنْدَ ثَبَاتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ، وَمِنْ إِضْلَالِ الظَّالِمِينَ وَخِذْلَانِهِمْ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَأْنِهِمْ عِنْدَ زَلَلِهِمْ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ. وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُدَاهُمْ، وَحَالَ الْكَافِرِينَ وَإِضْلَالَهُمْ، ذَكَرَ السَّبَبَ فِي إِضْلَالِهِمْ. وَالَّذِينَ بَدَّلُوا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ قَالَهُ الْحَسَنُ، بَدَّلُوا بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ رَسُولًا مِنْهُمْ يُعَلِّمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِ وَشَرَّفَهُمْ بِهِ، وَأَسْكَنَهُمْ حرمه، وجعلهم قوام بيته، فَوَضَعُوا مَكَانَ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ كُفْرًا. وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُمَرَ عَنْهُمْ فَقَالَ: هُمَا الْأَعْرَابُ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالِي أَيْ: بَنِي مَخْزُومٍ، وَاسْتُؤْصِلُوا بِبَدْرٍ. وَأَعْمَامُكَ أَيْ: بَنِي أُمَيَّةَ، وَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوٌ مَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَادَةُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ: هُمْ قُرَيْشٌ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَلَى أَنَّهُمْ قُرَيْشٌ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: هُمْ مُنَافِقُو قُرَيْشٍ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ عَلَمِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ صَانَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْكُفْرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ قَبْلَ قِصَّتِهِ، وَقِصَّتُهُ كَانَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تَخُصُّ من فعل فعل جِبِلَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بَدَّلُوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1» أَيْ شُكْرَ رِزْقِكُمْ، كَأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّكْرُ فَوَضَعُوا مَكَانَهُ كُفْرًا، وَجَعَلُوا مَكَانَ شُكْرِهِمُ التَّكْذِيبَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نَفْسَ النِّعْمَةِ بِالْكُفْرِ حَاصِلًا لهم الكفر بدل النعمة، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ أَسْكَنَهُمُ اللَّهُ حَرَمَهُ، وَجَعَلَهُمْ قِوَامَ بَيْتِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بَدَلَ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنَ الشُّكْرِ الْعَظِيمِ، أَوْ أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِالنِّعْمَةِ وَالسَّعَةِ لِإِيلَافِهِمُ الرِّحْلَتَيْنِ، فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ، فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ، فَحَصَلَ لَهُمُ الْكُفْرُ بَدَلَ النِّعْمَةِ، وَبَقِيَ الْكُفْرُ طَوْقًا فِي أَعْنَاقِهِمْ انْتَهَى. وَنِعْمَةُ اللَّهِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ أَيْ: بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَكُفْرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «2» أَيْ بِسَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. فَالْمَنْصُوبُ هُوَ الْحَاصِلُ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ أَوِ الْمَنْصُوبُ عَلَى إِسْقَاطِهَا هُوَ الذَّاهِبُ، عَلَى هَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ «3» وَإِذَا قَدَّرْتَ مُضَافًا مَحْذُوفًا وَهُوَ

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 82. (2) سورة الفرقان: 25/ 70. (3) سورة البقرة: 2/ 108.

شُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ ثُمَّ حُذِفَتْ، وَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ فَالْبَاءُ دَخَلَتْ عَلَى نِعْمَةِ ثُمَّ حُذِفَتْ. وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أَيْ: مَنْ تَابَعَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَزَعَمَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ كُفْرًا هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَبَدَّلُوا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ بَدَّلَ مِنْ أَخَوَاتِ اخْتَارَ، فَالَّذِي يُبَاشِرُهُ حَرْفُ الْجَرِّ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَالَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ لَا بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. وَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: جَهَنَّمُ بَدَلًا مِنْ دَارِ الْبَوَارِ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفُ بَيَانٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِحْلَالُ فِي الْآخِرَةِ. وَدَارُ الْبَوَارِ جَهَنَّمُ، وَقَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: عَنْ عَلِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: نَزَلَتْ فِي قَتْلَى بَدْرٍ، فَيَكُونُ دَارُ الْبَوَارِ أَيِ: الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا كَقَلِيبِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قُتِلُوا فِيهِ. وَعَلَى هَذَا أَعْرَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ: جَهَنَّمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ: يَصْلَوْنَ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ: جَهَنَّمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَهَنَّمُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّصْبَ عَلَى الِاشْتِغَالِ مَرْجُوحٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُرَجِّحُهُ، وَلَا مَا يَكُونُ مُسَاوِيًا، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى النَّصْبِ. وَلَمْ يكونوا ليقرأوا بِغَيْرِ الرَّاجِحِ أَوِ الْمُسَاوِي، إِذْ زَيْدٌ ضَرَبْتَهُ أَفْصَحُ مِنْ زَيْدًا ضَرَبْتُهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ ارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ رَاجِحًا، وَعَلَى تَأْوِيلِ الِاشْتِغَالِ يَكُونُ يَصْلَوْنَهَا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جَهَنَّمَ، أَوْ حَالًا مِنْ دَارِ الْبَوَارِ، أَوْ حَالًا مَنْ قَوْمِهِمْ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَبِئْسَ الْقَرَارُ هِيَ أَيْ: جَهَنَّمُ. وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أَيْ زَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ نِعْمَتَهُ أَنْ صَيَّرُوا لَهُ أَنْدَادًا وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عُمَرَ: وَلِيَضِلُّوا هنا، ولِيُضِلَّ «1» فِي الْحَجِّ وَلُقْمَانَ وَالرُّومِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَالْمَآلِ. لَمَّا كَانَتْ نَتِيجَةُ جَعْلِ الْأَنْدَادِ آلِهَةً الضَّلَالَ أَوِ الْإِضْلَالَ، جَرَى مَجْرَى لَامِ الْعِلَّةِ فِي قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِتُكْرِمَنِي، عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: قِرَاءَةُ الْفَتْحِ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَتَحْتَمِلُ الْعَاقِبَةَ. وَالْعِلَّةُ وَالْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «2» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَمَتَّعُوا إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ لِانْغِمَاسِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ بِالْحَاضِرِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ وَلَا يُرِيدُونَهُ، مَأْمُورُونَ بِهِ، قَدْ أَمَرَهُمْ آمِرٌ مُطَاعٌ لَا يَسَعُهُمْ أن يخالفوه، ولا

_ (1) سورة الحج: 22/ 9 وسورة لقمان: 31/ 6. [.....] (2) سورة الزمر: 39/ 40.

يَمْلِكُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ أَمْرًا دُونَهُ، وَهُوَ آمِرُ الشَّهْوَةِ وَالْمَعْنَى: إِنْ دُمْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْخِذْلَانُ وَالتَّخْلِيَةُ وَنَحْوُهُ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ «1» انتهى ومصيركم مَصْدَرُ صَارَ التَّامَّةِ بِمَعْنَى رَجَعَ. وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَى النَّارِ، وَلَا يُقَالُ هُنَا صَارَ بِمَعْنَى انْتَقَلَ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى بِإِلَى أَيْ: فَإِنَّ انْتِقَالَكُمْ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّهُ تَبْقَى إِنَّ بِلَا خَبَرٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ حَذْفَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ أَوْ كَائِنٌ، لِأَنَّ حَذْفَ الْخَبَرِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ قَلِيلٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُحْذَفُ إِذَا كَانَ اسْمُ إِنَّ نَكِرَةً، وَالْخَبَرُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ. وَقَدْ أَجَازَ الْحَوْفِيُّ: أَنْ يَكُونَ إِلَى النَّارِ مُتَعَلِّقًا بِمَصِيرَكُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا. قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ وَكُفْرَهُمْ نِعْمَتَهُ، وَجَعَلَهُمْ لَهُ أَنْدَادًا، وَتَهَدُّدَهُمْ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ وَالتَّيَقُّظِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِلْزَامِ عَمُودَيِ الْإِسْلَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَعْمُولُ قُلْ، مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ يُقِيمُوا. وَيُقِيمُوا مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَهَذَا قَوْلُ: الْأَخْفَشِ، وَالْمَازِنِيِّ. وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ إِنْ يُقِيمُوا، وَرَدَ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّهُ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِقَامَةِ لَا الْكَافِرِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَتَى أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ بِشَيْءٍ فَعَلُوُهُ لَا مَحَالَةَ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون يُقِيمُوا جَوَابَ الْأَمْرِ الَّذِي يُعْطِينَا مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: قُلْ وَذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ قُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى بَلِّغْ وَأَدِّ الشَّرِيعَةَ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ انْتَهَى. وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّ فِي مَا قَبْلَهُ مَعْمُولَ الْقَوْلِ: أَقِيمُوا، وَفِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بَلِّغِ الشَّرِيعَةَ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ مَعْمُولَ قُلْ هُوَ قَوْلُهُ: يُقِيمُوا، وَهُوَ أَمْرٌ مَجْزُومٌ بِلَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفَةٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسِ أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ:

_ (1) سورة الزمر: 39/ 8.

وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُ اللَّامِ لِأَنَّ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قُلْ، عِوَضٌ مِنْهُ. وَلَوْ قِيلَ: يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا ابْتِدَاءٌ بِحَذْفِ اللَّامِ، لَمْ يَجُزْ انْتَهَى. وَذَهَبَ الْمُبَّرِدُ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا يُقِيمُوا، فَيُقِيمُوا الْمُصَرَّحُ بِهِ جَوَابُ أَقِيمُوا الْمَحْذُوفِ قِيلَ. وَهُوَ فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ يُخَالِفُ الشَّرْطَ إِمَّا فِي الْفِعْلِ، أَوْ فِي الْفَاعِلِ، أَوْ فِيهِمَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِثْلُهُ فِيهِمَا فَهُوَ خَطَأٌ كَقَوْلِكَ: قُمْ يَقُمْ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَنْ يُقِيمُوا يُقِيمُوا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ المقدر للمواجهة ويقيموا عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ وَهُوَ خَطَأٌ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ وَاحِدًا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَنْ تَقُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا يُقِيمُوا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ الْأَمْرِ مَعَهُ شَرْطٌ مُقَدَّرٌ تَقُولُ: أَطِعِ اللَّهَ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، أَيْ إِنْ تُطِعْهُ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ. وَمُخَالَفَةُ هَذَا الْقَوْلِ لِلْقَوْلِ قَبْلَهُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي هَذَا مُقَدَّرٌ بَعْدَ فِعْلِ الْأَمْرِ، وَفِي الَّذِي قَبْلَهُ الْأَمْرُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعٌ بِلَفْظِ الْخَبَرِ صُرِفَ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: أَقِيمُوا، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَفِرْقَةٌ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُضَارِعًا بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، لَبَقِيَ عَلَى إِعْرَابِهِ بِالنُّونِ كَقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ «1» ثُمَّ قَالَ: تُؤْمِنُونَ «2» وَالْمَعْنَى: آمِنُوا. وَاعْتَلَّ أَبُو عَلِيٍّ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بُنِيَ يَعْنِي: عَلَى حَذْفِ النُّونِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَقِيمُوا، وَهَذَا كَمَا بُنِيَ الِاسْمُ الْمُتَمَكِّنُ فِي النِّدَاءِ فِي قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ، يَعْنِي عَلَى الضَّمَّةِ لَمَّا شُبِّهَ بِقَبْلُ وَبَعْدُ انْتَهَى، وَمُتَعَلِّقُ الْقَوْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ أَوِ الْمُقَدَّرِ فِي هَذِهِ التَّخَارِيجِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ وَالْإِنْفَاقِ، إِلَّا فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ فَمُتَعَلِّقُهُ الشَّرِيعَةُ فَهُوَ أَعَمُّ، إِذْ قُدِّرَ قُلْ بِمَعْنَى بَلِّغْ وَأَدِّ الشَّرِيعَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقُولَ هُوَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدُ أَعْنِي قَوْلَهُ: اللَّهُ الَّذِي خلق السموات وَالْأَرْضَ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِ مَعْمُولِ الْقَوْلِ هُوَ قَوْلَهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي الْآيَةَ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، يُخَالِفُهُ تَرْتِيبُ التَّرْكِيبِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُقِيمُوا الصَّلَاةَ كَلَامًا مُفْلِتًا مِنَ الْقَوْلِ وَمَعْمُولِهِ، أَوْ يَكُونُ جَوَابًا فُصِلَ بِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَعْمُولِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ، لَا يَسْتَدْعِي إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقَ إِلَّا بِتَقْدِيرٍ بَعِيدٍ جِدًّا. وَاحْتَمَلَ الصَّلَاةَ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعُمُومُ أَيْ: كُلُّ صَلَاةٍ فَرْضٍ وَتَطَوُّعٍ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْخَمْسُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: وَفَسَّرَ الْإِنْفَاقَ بِزَكَاةِ الْأَمْوَالِ. وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ سِرًّا وَعَلانِيَةً «3» وَشَرَحَهَا فِي أَوَاخِرِ البقرة.

_ (1) سورة الصف: 61/ 10. (2) سورة الصف: 61/ 11. (3) سورة الْبَقَرَةِ: 2/ 274.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبَيْعُ هُنَا الْبَذْلُ، وَالْخِلَالُ الْمُخَالَّةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ خَالَلْتُ خِلَالًا وَمُخَالَّةً وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْبَذْلِ مُقَابِلَ شَيْءٍ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: صَرَفْتُ الْهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ... وَلَسْتُ بِمُقْلِي الْخِلَالِ وَلَا قَالِ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخِلَالُ جَمْعُ خَلَّةٍ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ «1» بِالْفَتْحِ أَوْ بِالرَّفْعِ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ طَابَقَ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ وَصْفَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ؟ (قُلْتُ) : مِنْ قِبَلِ أَنَّ النَّاسَ يُخْرِجُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَيُعْطُونَ بَدَلًا لِيَأْخُذُوا مِثْلَهُ، وَفِي الْمُكَارَمَاتِ وَمُهَادَاةِ الْأَصْدِقَاءِ لِيَسْتَخْرِجُوا بِهَدَايَاهُمْ أَمْثَالَهَا أو خيرا مِنْهَا، وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا كَقَوْلِهِ: وَمَا لا حد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى فَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ، فَبَعَثُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوا بَدَلَهُ فِي يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ أَيْ: لَا انْتِفَاعَ فِيهِ بِمُبَايِعَةٍ وَلَا مُخَالَّةٍ، وَلَا بِمَا يُنْفِقُونَ فِيهِ أَمْوَالَهُمْ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُكَارَمَاتِ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ لِوَجْهِ اللَّهِ انْتَهَى. وَلَمَّا أَطَالَ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي وَصْفِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، وَكَانَ حُصُولُ السَّعَادَةِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَالشَّقَاوَةِ بِالْجَهْلِ، بِذَلِكَ خَتَمَ وَصْفَهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَالَ: الله الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ وَذَكَرَ عَشَرَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ فَذَكَرَ أَوَّلًا إبداعه وإنشاء السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِبَاقِي الدَّلَائِلِ، وَأَبْرَزَهَا فِي جُمَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ لِيَدُلَّ وَيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ فِي الدَّلَالَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مُتَعَلِّقَاتِهَا مَعْطُوفَاتِ عَطْفِ المفرد على المفرد، وَاللَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، والذي خَبَرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ أَخْبَرَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَقَرَّرَتْ فِي نَفْسِهِ آمَنَ وَصَلَّى وَأَنْفَقَ انْتَهَى. يُشِيرُ إِلَى مَا تقدم من قَوْلِهِ: إِنَّ مَعْمُولَ قُلْ هو قوله تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ الْآيَةَ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ لِعِبَادِي اللَّهُ الَّذِي خلق السموات وَالْأَرْضَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ أَخْرَجَ هُوَ رِزْقًا لَكُمْ، ومن لِلتَّبْعِيضِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى النَّكِرَةِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الرِّزْقَ هُوَ بَعْضُ جَنْيِ الْأَشْجَارِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِرِزْقٍ كَالْمُجَرِّدِ لِلْمَضَرَّاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَأَخْرَجَ بِهِ رِزْقًا لَكُمْ هُوَ الثَّمَرَاتُ. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ مِنْ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ إِنَّمَا تَأْتِي بَعْد الْمُبْهَمِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَفْعُولَ

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 31.

أخرج، ورزقا حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوْ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ أَخْرَجَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى رِزْقٍ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَاجِبٌ، وَبَعْدَهَا مَعْرِفَةٌ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْأَخْفَشِ. وَالْفُلْكُ هُنَا جَمْعُ فُلْكٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لِتَجْرِيَ. وَمَعْنَى بِأَمْرِهِ: رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِقَوْلِهِ، كُنْ. وَانْطَوَى فِي تَسْخِيرِ الْفُلْكِ تَسْخِيرُ الْبِحَارِ، وَتَسْخِيرُ الرِّيَاحِ. وَأَمَّا تَسْخِيرُ الْأَنْهَارِ فَبِجَرَيَانِهَا وَبِتَفْجِيرِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا. وَانْتَصَبَ دَائِبَيْنِ عَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى: يَدْأَبَانِ فِي سَيْرِهِمَا وَإِنَارَتِهِمَا وَإِصْلَاحِهِمَا مَا يُصْلِحَانِ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَبْدَانِ وَالنَّبَاتِ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ يَرْفَعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ دَائِبَيْنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول إِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ أَنَّ الطَّاعَةَ انْقِيَادٌ مِنْهُمَا فِي التَّسْخِيرِ، فَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ: سَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ يُرَادُ أَنَّهَا طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَطَاعَةِ الْعِبَادَةِ مِنَ الْبَشَرِ فَهَذَا جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. وَتَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَوْنُهُمَا يَتَعَاقَبَانِ خَلْفَهُ لِلْمَنَامِ وَالْمَعَاشِ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: تَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُمَا عَرَضَانِ، وَالْأَعْرَاضُ لَا تُسَخَّرُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، وَالْخِطَابُ لِلْجِنْسِ مِنَ الْبَشَرِ أَيْ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ أُوتِيَ مِنْ كل ما شأن أَنْ يَسْأَلَ وَيَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَا يَطَّرِدُ هَذَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ هَذِهِ النِّعَمُ فِي الْبَشَرِ فَيُقَالُ: بِحَسَبِ هَذَا الْجَمِيعِ أُوتِيتُمْ كَذَا عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ لِلنِّعْمَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٌّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ قَائِدٍ، وَقَتَادَةُ، وَسَلَامٌ، وَيَعْقُوبُ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ ، أَيْ: مِنْ كُلِّ هَذِهِ المخلوقات المذكورات. وما مَوْصُولَةٌ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ: مَا شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَلَ بِمَعْنَى يَطْلُبُ الِانْتِفَاعَ بِهِ. وَقِيلَ: مَا نَافِيَةٌ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ مِنْ كُلٍّ كَقَوْلِهِ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «1» أَيْ غَيْرَ سَائِلِيهِ. أَخْبَرَ بِسُبُوغِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَمْ يَسْأَلُوهُ مِنَ النِّعَمِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِمَا سَأَلُوهُ. وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَثَنَى بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُظْهِرُ أَنَّهُ مُنَافٍ لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْقِرَاءَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّخْرِيجِ تَكُونُ مَا نَافِيَةً، فَيَكُونُونَ لَمْ يَسْأَلُوهُ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُونَ قَدْ سَأَلُوهُ، وما بِمَعْنَى الَّذِي. وَأُجِيزَ أَنْ تكون

_ (1) سورة النمل: 27/ 23.

مَصْدَرِيَّةً، وَيَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِظُهُورِ التَّنَافِي بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ تِلْكَ عَلَى تَقْدِيرٍ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً عَلَى وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، وَلَمْ تَصْلُحْ أَحْوَالُكُمْ وَمَعَائِشُكُمْ إِلَّا بِهِ، فَكَأَنَّكُمْ سَأَلْتُمُوهُ، أَوْ طَلَبْتُمُوهُ بِلِسَانِ الْحَالِ. فَتَأَوَّلَ سَأَلْتُمُوهُ بِقَوْلِهِ: مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي سَأَلْتُمُوهُ إِنْ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ يُرَادُ بِهِ الْمَسْئُولُ. وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي عَادَ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ كُلِّ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ إِيَّاهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ. وَالرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّكَ إِنْ قَدَّرْتَهُ مُتَّصِلًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا سَأَلْتُمُوهُوهُ، فَلَا يَجُوزُ. أَوْ مُنْفَصِلًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا سَأَلْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَالْمُنْفَصِلُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. وَالنِّعْمَةُ هُنَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، يُقَالُ: أَنْعَمَ إِنْعَامًا وَنِعْمَةً، أُقِيمَ الِاسْمُ مَقَامَ الْإِنْعَامِ كَقَوْلِكَ: أَنْفَقْتُ إِنْفَاقًا وَنَفَقَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النِّعْمَةَ هُوَ الْمُنْعَمُ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ اسْمُ جِنْسٌ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ بَلْ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَمَعْنَى لَا تحصوها، لَا تُحْصُوهَا، لَا تَحْصُرُوهَا وَلَا تُطِيقُوا عَدَّهَا، هَذَا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَعُدُّوهَا عَلَى الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ لَمْ يَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ فَقَدْ قَلَّ عِلْمُهُ، وَحَضَرَ عَذَابُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْجِنْسُ أَيْ: تُوجَدُ فِيهِ هَذِهِ الْخِلَالُ وَهِيَ: الظُّلْمُ، وَالْكُفْرُ، يَظْلِمُ النِّعْمَةَ بِإِغْفَالِ شُكْرِهَا، وَيَكْفُرُهَا بِجَحْدِهَا. وَقِيلَ: ظَلُومٌ فِي الشِّدَّةِ فَيَشْكُو وَيَجْزَعُ، كَفَّارٌ فِي النِّعْمَةِ يَجْمَعُ وَيَمْنَعُ. وَفِي النَّحْلِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «1» وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْخَتْمَيْنِ: أَنَّهُ هُنَا تَقَدَّمَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَبَعْدَهُ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا، فَكَانَ ذَلِكَ نَصًّا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْقَبَائِحِ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالظُّلْمِ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ، بِجَعْلِ الْأَنْدَادِ نَاسَبَ أَنْ يحتم بِذَمِّ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَجَاءَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ. وَأَمَّا فِي النَّحْلِ فَلَمَّا ذَكَرَ عِدَّةَ تَفَضُّلَاتٍ، وَأَطْنَبَ فِيهَا، وَقَالَ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «2» أَيْ: مَنْ أَوْجَدَ هَذِهِ النِّعَمَ السَّابِقَ ذِكْرُهَا لَيْسَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، ذَكَرَ مِنْ تَفَضُّلَاتِهِ اتِّصَافَهُ بِالْعَذَابِ وَالرَّحْمَةِ تَحْرِيضًا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِمَا، كَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْخَلْقِ، فَفِي ذَلِكَ إِطْمَاعٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ. وَانْتَقَلَ مِنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى عِبَادَةِ الْخَالِقِ أَنَّهُ

_ (1) سورة النحل: 16/ 18. (2) سورة النحل: 16/ 17.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 52]

يَغْفِرُ زَلَلَهُ السَّابِقَ وَيَرْحَمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِالنِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ، ذَكَرَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمُنْعِمِ، وَمِنْ جِنْسِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ مِنَ الْمُنْعِمِ مَا يُنَاسِبُهُ حَالَةَ عَطَائِهِ وَهُوَ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، إِذْ لَوْلَاهُمَا لَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وَحَصَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مَا يُنَاسِبُهُ حَالَةَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْكُفْرَانُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ صَدَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ ظُلْمٌ فَاللَّهُ غَفُورٌ، أَوْ كُفْرَانُ نِعْمَةٍ فَاللَّهُ رَحِيمٌ، لِعِلْمِهِ بِعَجْزِ الْإِنْسَانِ وَقُصُورِهِ. وَدَعْوَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بآية النَّحْلِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ السَّخَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيد بن أسلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

جَنَبَ مُخَفَّفًا، وَأَجْنَبَ رُبَاعِيًّا لُغَةُ نَجْدٍ، وَجَنَّبَ مُشَدَّدًا لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْمَعْنَى: مَنَعَ، وأصله من الْجَانِبُ. الْهَوَى: الْهُبُوطُ بِسُرْعَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا رُمِيَتْ بِهِ الْفِجَاجُ رَأَيْتَهُ ... تَهْوِي مَخَارِمُهَا هَوَى الْأَجْدَلِ شَخَصَ الْبَصَرُ أَحَدَ النَّظَرِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي مَكَانِهِ. الْمُهْطِعُ: الْمُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: بِمُهْطِعٍ سَرَحَ كَأَنَّ عِنَانَهُ ... فِي رَأْسِ جِذْعٍ مَنْ أَرَاكٍ مُشَذَّبِ وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ: إِذَا دَعَانَا فَأُهْطِعْنَا لِدَعْوَتِهِ ... دَاعٍ سُمَيْعٍ فَلَبَوْنَا وَسَاقُونَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ يَكُونُ الْإِهْطَاعُ الْإِسْرَاعُ وَإِدَامَةُ النَّظَرِ. الْمُقْنِعُ: هُوَ الرَّافِعُ رَأْسَ الْمُقْبِلِ بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْقُتَبِيُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يُبَاكِرُنَّ الْعُصَاةَ بِمُقْنِعَاتٍ ... نَوَاجِذُهُنَّ كالحدإ الوقيع نصف الْإِبِلَ بِالْإِقْنَاعِ عِنْدَ رَعْيِهَا أَعَالِيَ الشَّجَرِ، وَيُقَالُ: أَقْنَعَ رَأْسَهُ نَكَّسَهُ وَطَأْطَأَهُ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى رَفَعَ أَعْرَفَ فِي اللُّغَة انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنْهُ قَنِعَ الرَّجُلُ إِذَا رَضِيَ، كَأَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السُّؤَالِ. وَفَمٌ مُقْنِعٌ مَعْطُوفَةٌ أَسْنَانُهُ إِلَيْهِ دَاخِلًا، وَرَجُلٌ مُقَنِّعٌ بِالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ بَيْضَةُ الرَّأْسِ مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَرْؤُسٍ. الطَّرْفُ: الْعَيْنُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا وَيُقَالُ: طَرَفَ الرَّجُلُ طَبَّقَ جَفْنَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَسُمِّيَ الْجَفْنُ طَرَفًا لِأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ

ذَلِكَ. الْهَوَاءُ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْخَلَاءُ الَّذِي لَمْ تَشْغَلُهُ الْأَجْرَامُ الْكَثِيفَةُ، وَاسْتُعِيرَ لِلْجَبَانِ فَقِيلَ: قَلْبُ فُلَانٍ هَوَاءٌ. وَقَالَ الشاعر: كأن الرحل مِنْهَا فَوْقَ صَعْلٍ ... مِنَ الظُّلُمَاتِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ الْمُقَرَّنُ: الْمَشْدُودُ فِي الْقَرْنِ، وَهُوَ الْحَبْلُ. الصَّفَدُ: الْغُلُّ، وَالْقَيْدُ يُقَالُ: صَفَدَهُ صَفْدًا قَيَّدَهُ، وَالِاسْمُ الصَّفْدُ، وَفِي التَّكْثِيرِ صَفَّدَهُ مُشَدَّدًا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَبْقَى بِالْمُلُوكِ مُصْفِدِينَا وَأَصْفَدْتُهُ: أَعْطَيْتُهُ. وَقِيلَ: صَفَّدَ وَأَصْفَدَ مَعًا فِي الْقَيْدِ وَالْإِعْطَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ: فلم أَعْرِضْ أَبَيْتُ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ أَيْ: بِالْعَطَاءِ. وَسُمِّيَ الْعَطَاءُ صَفَدًا لأنه يقيده وَيُعْبَدُ. السِّرْبَالُ: الْقَمِيصُ، يُقَالُ: سَرْبَلْتُهُ فَتَسَرْبَلَ. الْقَطِرَانُ: مَا يُحْلَبُ مِنْ شَجَرِ الْأَبْهَلِ فَيُطْبَخُ، وَتَهْنَأُ بِهِ الْإِبِلُ الْجَرْبَى، فَيُحْرَقُ الْجَرَبُ بِحَرِّهِ وَحِدَّتِهِ، وَهُوَ أَقْبَلُ الْأَشْيَاءِ اشْتِعَالًا، وَيُقَالُ فِيهِ قَطْرَانٌ بِوَزْنِ سَكْرَانَ، وَقِطْرَانٌ بِوَزْنِ سِرْحَانٍ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّعْجِيبَ مِنَ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِسْكَانُهُ إِيَّاهُمْ حَرَمَهُ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَصْلِهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ دَعَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ آمِنَةً، وَدَعَا بِأَنْ يُجَنِّبَ بَنِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّهُ أَسْكَنَهُ وَذُرِّيَّتَهُ فِي بَيْتِهِ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الصَّلَاةُ، لِيَنْظُرُوا فِي دِينِ أَبِيهِمْ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيَزْدَجِرُوا وَيَرْجِعُوا عَنْهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ هُنَا هَذَا الْبَلَدُ مُعَرَّفًا، وَفِي الْبَقَرَةِ مُنْكَرًا «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا سَأَلَ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِلَادِ الَّتِي يَأْمَنُ أَهْلُهَا وَلَا يَخَافُونَ، وَفِي الثَّانِي أَنْ يخرجه مِنْ صِفَةٍ كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْخَوْفِ إِلَى ضِدِّهَا مِنَ الْأَمْنِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ بَلَدٌ مَخُوفٌ، فَاجْعَلْهُ آمِنًا انْتَهَى. وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ أَوَّلًا بِمَا هُوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 126.

وَهُوَ كَوْنُ مَحَلِّ الْعَابِدِ آمِنًا لَا يَخَافُ فِيهِ، إِذْ يَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ دَعَا ثَانِيًا بِأَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَمَعْنَى وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ: أَدِمْنِي وَإِيَّاهُمْ عَلَى اجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَبَنِيَّ أَوْلَادَهُ، مِنْ صُلْبِهِ الْأَقْرِبَاءِ. وَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا، وَلَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ الْأَقْرِبَاءِ لِصُلْبِهِ صَنَمًا. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَدْ سُئِلَ، كَيْفَ عَبَدَتِ الْعَرَبُ الْأَصْنَامَ؟ قَالَ: مَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ صَنَمًا وَكَانُوا ثَمَانِيَةً، إِنَّمَا كَانَتْ لهم حجارة ينصبوها وَيَقُولُونَ: حَجَرٌ، فَحَيْثُ مَا نَصَبُوا حَجَرًا فَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيْتِ، فَكَانُوا يَدُورُونَ بِذَلِكَ الْحَجَرِ وَيُسَمُّونَهُ الدُّوَارَ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْتَضِي إِفْرَاطَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ حَصَلَ فِي رُتْبَتِهِ فَكَيْفَ يَخَافُ أَنْ يَعْبُدَ صَنَمًا؟ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهَا فِي الْخَوْفِ وَطَلَبِ الْخَاتِمَةِ. وَكَرَّرَ النِّدَاءَ اسْتِعْطَافًا لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ سَبَبَ طَلَبِهِ: أَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، إِذْ قَدْ شَاهَدَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَمَعْنَى أَضْلَلْنَا: كُنَّا سَبَبًا لِإِضْلَالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ضَلُّوا بِعِبَادَتِهَا، كَمَا تَقُولُ: فِتْنَتُهُمُ الدُّنْيَا أَيِ: افْتَتَنُوا بِهَا، وَاغْتَرُّوا بِسَبَبِهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ: وَأَجْنِبْنِي مِنْ أَجْنَبَ، وَأَنَّثَ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ يُخْبِرُ عَنْهُ أَخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ كَمَا تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتْ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ إِخْبَارُ جَمْعِ الْعَاقِلِ الْمُذَكَّرِ بِالْوَاوِ وَمَجَازٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلُّوا كَثِيرًا. فَمَنْ تَبِعَنِي أَيْ: عَلَى دِينِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنِّي. جَعَلَهُ لِفَرْطِ الِاخْتِصَاصِ بِهِ وَمُلَابَسَتِهِ كَقَوْلِهِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أَيْ لَيْسَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى تَعْظِيمِ الْغِشِّ بِحَيْثُ هُوَ يَسْلُبُ الْغَاشَّ الْإِيمَانَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغِشَّ لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَمَنْ عَصَانِي، هَذَا فِيهِ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ طَاعَةٌ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَنْ عَصَانِي فَيُحَادُّونَ الشِّرْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَغْفِرُ لِي مَا سَلَفَ مِنَ الْعِصْيَانِ إِذَا بَدَا لِي فِيهِ وَاسْتَحْدَثَ الطَّاعَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ عَصَانِي ظَاهِرُهُ بِالْكُفْرِ لِمُعَادَلَةِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَعْنَاهُ حِين يُؤْمِنُوا، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ كَافِرٍ، لَكِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا كَانَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالنُّطْقِ الْحَسَنِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» .

_ (1) سورة المائدة: 5/ 118.

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ: كَرَّرَ النِّدَاءَ رَغْبَةً فِي الْإِجَابَةِ وَإِظْهَارًا لِلتَّذَلُّلِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَتَى بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَذَكَرَ بَنِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُ. وَذَلِكَ هَاجَرُ لَمَّا وَلَدَتْ إِسْمَاعِيلَ غَارَتْ مِنْهَا سَارَّةُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاقَ هُوَ وَهَاجَرُ وَالطِّفْلُ، فَجَاءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَ وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَمَتَهُ هُنَالِكَ، وَرَكِبَ مُنْصَرِفًا مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ ، وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا وَلِيَ دَعَا بِمَا فِي ضِمْنِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ بَقَاءِ هَاجَرَ وَمَا جَرَى لَهَا وَلِإِسْمَاعِيلَ هُنَاكَ فَفِي كِتَابِ البخاري والسير وغيره. ومن لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ إِسْحَاقَ كَانَ فِي الشَّامِ، وَالْوَادِي مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَاءٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، لِأَنَّهُ كَانَ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ هَاجَرَ وَابْنَهَا فِي ذَلِكَ الْوَادِي، وَأَنَّهُ يَرْزُقُهَا الْمَاءَ، وَإِنَّمَا نَظَرَ النَّظَرَ الْبَعِيدَ فَقَالَ: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَقَالَ: غَيْرِ ذِي مَاءٍ، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُ الْوَادِي عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ ذَا زَرْعٍ مُسْتَلْزِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ زَرْعٌ إِلَّا حَيْثُ وُجِدَ الْمَاءُ، فَنَفَى مَا يَتَسَبَّبُ عَنِ الْمَاءِ وَهُوَ الزَّرْعُ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِوَادٍ هُوَ وَادِي مَكَّةَ، غَيْرِ ذِي زَرْعٍ: لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ زَرْعٍ قَطُّ كَقَوْلِهِ: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ «1» بِمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيهِ اعْوِجَاجٌ، مَا فِيهِ إِلَّا اسْتِقَامَةٌ لَا غَيْرَ انْتَهَى. وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ وَهِيَ ظَرْفٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَعَ الْمَاضِي مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: لَا يَكُونُ، وَلَيْسَ هُوَ مَاضِيًا، وَهُوَ مَكَانُ أَبَدًا الَّذِي يُسْتَعْمَلُ مَعَ غَيْرِ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَيْتِ حَالَةَ الدُّعَاءِ، وَسَبَقَهُ قِبَلَهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَيْتِ وَمَتَى وُضِعَ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ. وَوُصِفَ بِالْمُحَرَّمِ لِكَوْنِهِ حُرِّمَ عَلَى الطُّوفَانِ أَيْ: مُنِعَ مِنْهُ، كَمَا سُمِّيَ بِعَتِيقٍ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْهُ فَلَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ عَزِيزًا مُمَنَّعًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُحْتَرَمًا لَا يحل انتهاكه. وليقيموا متعلق بأسكنت. وربنا دُعَاءٌ مُعْتَرِضٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لَا يَخْلُو هَذَا الْبَيْتُ الْمُعَظَّمُ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْأَمْرِ، دَعَا لَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَخَصَّ الصَّلَاةَ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا أَفْضَلُهَا، أَوْ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ. وَقَوْلُهُ: لِيُقِيمُوا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُهُ بِأَنَّ

_ (1) سورة الزمر: 39/ 28.

هَذَا الطِّفْلَ سَيُعَقَّبُ هُنَالِكَ، وَيَكُونُ لَهُ نَسْلٌ. وَأَفْئِدَةٌ: جَمْعُ فُؤَادٍ وَهِيَ الْقُلُوبُ، سمي القلب فؤاد لإنفاده مَأْخُوذٌ مِنْ فَأَدَ، وَمِنْهُ الْمُفْتَأَدُ، وَهُوَ مُسْتَوْقَدُ النَّارِ حَيْثُ يُشْوَى اللَّحْمُ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ الْأَفْئِدَةُ: الْقَطْعُ مِنَ النَّاسِ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ بَحْرٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَفْئِدَةُ النَّاسِ، لَازْدَحَمَتْ عَلَى الْبَيْتِ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَحَجَّتْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَفْئِدَةٌ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِكَ: الْقَلْبُ مِنِّي سَقِيمٌ يُرِيدُ قَلْبِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفْئِدَةُ نَاسٍ، وَإِنَّمَا نَكَّرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ لِتَنْكِيرِ أَفْئِدَةٍ، لِأَنَّهَا فِي الْآيَةِ نَكِرَةٌ لِتَتَنَاوَلَ بَعْضَ الْأَفْئِدَةِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَ لَنَا فِعْلٌ يُبْتَدَأُ فِيهِ لِغَايَةٍ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، إِذْ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً جَعْلُ الْأَفْئِدَةِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ فِي مِنْ التبعيض. وقرأ هشام: أفئدة بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحُلْوَانِيُّ عَنْهُ وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى الْإِشْبَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ هِشَامًا قَرَأَ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ كَالْيَاءِ، فَعَبَّرَ الرَّاوِي عَنْهَا بِالْيَاءِ، فَظَنَّ مَنْ أَخْطَأَ فَهْمَهُ أَنَّهَا بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَالْمُرَادُ بِيَاءٍ عِوَضًا مِنَ الْهَمْزَةِ، قَالَ: فَيَكُونُ هَذَا التَّحْرِيفُ مِنْ جِنْسِ التَّحْرِيفِ الْمَنْسُوبِ إِلَى مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بَارِئُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ، وَنَحْوُهُ بِإِسْكَانِ حَرَكَةِ لإعراب، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَاسًا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالدَّانِيُّ الْحَافِظُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّقَلَةَ عَنْ هشام وأبي عمرو كانوا مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْقِرَاءَةِ وَوُجُوهِهَا، وَلَيْسَ يُفْضِي بِهِمُ الْجَهْلُ إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ فيهم مثل هذا وقرىء آفِدَةً: عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ لِلْحَذْفِ مَنْ أَفِدَ أَيْ دَنَا وَقَرُبَ وَعَجِلَ أَيْ: جَمَاعَةٌ آفِدَةٌ، أَوْ جَمَاعَاتٌ آفِدَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعُ ذَلِكَ فُؤَادٌ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، وَصَارَ بِالْقَلْبِ أَأْفِدَةً، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ السَّاكِنَةُ أَلِفًا كَمَا قَالُوا. فِي آرَآمٍ أَأْرَامٍ، فَوَزْنُهُ أعفلة. وقرىء أَفِدَّةٌ عَلَى وَزْنِ فَعِلَّةٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ فُؤَادٍ وَذَلِكَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْفَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ هُوَ الْوَجْهَ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِل مِنْ أَفِدَ كَمَا تَقُولُ: فَرِحَ فَهُوَ فَرِحٌ. وَقَرَأَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ: أَفْوِدَةٌ بِالْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ جَمْعُ وَفَدٍ، وَالْقِرَاءَةُ حَسَنَةٌ: لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، بَلْ ذَكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ انْتَهَى. أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ فِي فُؤَادٍ بَعْدَ الضَّمَّةِ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي جَوْنٍ، ثُمَّ جَمَعَ فَأَقَرَّهَا فِي الْجَمْعِ إِقْرَارَهَا فِي المفرد. أو هو جَمْعُ وَفَدٍ كَمَا قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَقَلَبَ إِذِ الْأَصْلُ أَوْفَدَهُ. وَجَمْعَ فَعْلٍ عَلَى أَفْعِلَةٍ شَاذٌّ نَحْوَ: نَجْدٍ وَأَنْجِدَةٍ، وَوَهْيٍ وَأَوْهِيَةٍ. وَأُمُّ الْهَيْثَمِ امْرَأَةٌ نُقِلَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ

عَلِيٍّ: إِفَادَةٌ عَلَى وَزْنِ إِشَارَةٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ كَمَا قَالُوا: إِشَاحٌ فِي وِشَاحٍ، فَالْوَزْن فِعَالَةٌ أَيْ: فَاجْعَلْ ذَوِي وِفَادَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ أَفَادَ إِفَادَةً، أَوْ ذَوِي إِفَادَةٍ، وَهُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يُفِيدُونَ وَيُنْتَفَعُ بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَهْوِي إِلَيْهِمْ أَيْ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ وَتَطِيرُ نَحْوَهُمْ شَوْقًا وَنِزَاعًا، وَلَمَّا ضَمَّنَ تَهْوِي مَعْنَى تَمِيلُ عَدَّاهُ بِإِلَى، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيدِ بِهَا ... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا تَبْكِ وَمِثَالُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُ الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: تُهْوَى بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَهْوَى الْمَنْقُولَةِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ مِنْ هَوَى اللَّازِمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُسْرِعُ بِهَا إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُجَاهِدٌ: تَهْوَى مُضَارِعُ هَوَى بِمَعْنَى أَحَبَّ ، وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى النُّزُوعِ وَالْمَيْلِ عُدِّيَ بِإِلَى. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَعَ سُكَّانِهِمْ وَادِيًا مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِأَنْ يُجْلَبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ كَقَوْلِهِ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «1» وَرُوِيَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّائِفِيِّ أَنَّهُ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَرْزُقَ سُكَّانَ مَكَّةَ الثَّمَرَاتِ، بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاقْتَلَعَ بِجَنَاحِهِ قِطْعَةٌ مِنْ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: مِنَ الْأُرْدُنِّ فَجَاءَ بِهَا، وَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعًا، وَوَضَعَهَا قَرِيبَ مَكَّةَ فَهِيَ الطَّائِفُ. وَبِهَذِهِ الْقِصَّةِ سُمِّيَتْ وَهِيَ مَوْضِعُ ثَقِيفٍ، وَبِهَا أَشْجَارٌ وَثَمَرَاتٌ. وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ النِّعْمَةُ فِي أَنْ يُرْزَقُوا أَنْوَاعَ الثَّمَرَاتِ حَاضِرَةً فِي وَادٍ بِبَابٍ لَيْسَ فِيهِ نَجْمٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَاءٌ، لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا، ثُمَّ فَضَّلَهُ فِي وُجُودِ أَصْنَافِ الثِّمَارِ فِيهِ عَلَى كُلِّ رِيفٍ، وَعَلَى أَخْصَبِ الْبِلَادِ وَأَكْثَرِهَا ثِمَارًا، وَفِي أَيِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ تَرَى الْأُعْجُوبَةَ الَّتِي يُرِيكُهَا اللَّهُ. بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَهِيَ: اجْتِمَاعُ الْبَوَاكِيرِ وَالْفَوَاكِهِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَزْمَانِ مِنَ الرَّبِيعِيَّةِ وَالصَّيْفِيَّةِ وَالْخَرِيفِيَّةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ بِعَجِيبٍ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي

_ (1) سورة القصص: 28/ 57.

السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ: كَرَّرَ النِّدَاءَ لِلتَّضَرُّعِ وَالِالْتِجَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ تَفَاوُتٌ بَيْنَ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى جَمْعِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ عَامٌّ فِيمَا يُخْفُونَهُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ. وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنَ الْوَجْدِ لِمَا وَقَعَ بَيْنَنَا مِنَ الْفُرْقَةِ، وَمَا نُعْلِنُ مِنَ الْبُكَاءِ وَالدُّعَاءِ. وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنْ كَآبَةِ الِافْتِرَاقِ، وَمَا نُعْلِنُ مِمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَاجَرَ حِينَ قَالَتْ لَهُ عِنْدَ الْوَدَاعِ: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَكِلُكُمْ. قَالَتْ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: لَا نَخْشَى تَرَكْتَنَا إِلَى كَافٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِاكْتِنَافِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ. لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَمَّمَ مَا يَخْفَى هُوَ وَمَنْ كَنَّى عَنْهُ، تَمَّمَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ خَافِيَةٍ عَنْهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: وَمَا يَخْفَى الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ مَا وَقَعَ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَةَ دُعَائِهِ، إِذْ تَرَكَ هاجر والطفل بِمَكَّةَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَمْدَهُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هِبَةِ وَلَدَيْهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ إِسْحَاقَ، وَعَلَى الْكِبَرِ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي وُهِبَ لَهُ فِيهَا وَلَدَاهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِسْمَاعِيلُ لِأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَإِسْحَاقُ لِتِسْعِينَ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَمْ يُولَدْ لَهُ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْكِبَرِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِيهَا بِهِبَةِ الْوَلَدِ أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكِبَرَ مَظِنَّةُ الْيَأْسِ مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ مَجِيءَ الشَّيْءِ بَعْدَ الْإِيَاسِ أَحْلَى فِي النَّفْسِ وَأَبْهَجُ لَهَا. وَعَلَى الْكِبَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ قال: وأنا كبير، وعلى عَلَى بَابِهَا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ لَكِنَّهُ مَجَازٌ، إِذِ الْكِبَرُ مَعْنَى لَا جَرَمَ يَتَكَوَّنُ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَسَنَّ وَكَبِرَ صَارَ مُسْتَعْلِيًا عَلَى الْكِبَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى فِي قَوْلِهِ عَلَى الْكِبَرِ بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْكَتِفُ وَكَنَّى بِسَمِيعِ الدُّعَاءِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَالتَّقَبُّلِ، وَكَانَ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ يهبه ولدا بقوله:

_ (1) سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: 26/ 74. [.....]

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «1» فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَهُ مِنَ الْوَلَدِ وَأَكْرَمَهُ بِهِ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ. وَالظَّاهِرُ إِضَافَةُ سَمِيعٍ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمِثَالِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ إِضَافَةً مِنْ نَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى إِعْمَالِ فَعِيلٍ الَّذِي لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَفْعُولِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فِيهِ. وَفِي إِعْمَالِ بَاقِي الْخَمْسَةِ الْأَمْثِلَةِ فَعُولٍ، وَفَعَّالٍ، وَمِفْعَالٍ، وَفَعِلٍ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا لَيْسَ ذَلِكَ إِضَافَةً مِنْ نَصْبٍ فَيَلْزَمُ جَوَازُ إِعْمَالِهِ، بَلْ هِيَ إِضَافَةٌ كَإِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي نَحْوِ: هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ فَعِيلٍ إِلَى فَاعِلِهِ، وَيَجْعَلُ دُعَاءَ اللَّهِ سَمِيعًا عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَالْمُرَادُ: سَمَاعُ اللَّهِ انْتَهَى. وَهُوَ بَعِيدٌ لِاسْتِلْزَامِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصفة الْمُشَبَّهَةِ، وَالصِّفَةُ مُتَعَدِّيَةٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عِنْد أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَبْسٌ. وَأَمَّا هُنَا فَاللَّبْسُ حَاصِلٌ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمِثَالِ لِلْمَفْعُولِ، لَا مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ. وَإِنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ فِي مِثْلِ: زَيْدٌ ظَالِمُ الْعَبِيدِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ لَهُ عَبِيدًا ظَالِمِينَ. وَدُعَاؤُهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُقِيمُهَا، إِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الدَّيْمُومَةَ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ أُعْلِمَ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ كَافِرًا، أَوْ مَنْ يُهْمِلُ إِقَامَتَهَا وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: دُعَاءُ رَبِّنَا بِغَيْرِ يَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ فِي الْوَصْلِ، وَأَثْبَتَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْوَقْفِ. وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ: إِثْبَاتُهَا فِي الْوَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ الْمَغْفِرَة لِأَبَوَيْهِ الْقَرِيبَيْنِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مُؤْمِنَةً، وَكَانَ وَالِدُهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ إِيمَانِهِ وَلَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ عَدَاوَةُ اللَّهِ، وَهَذَا يَتَمَشَّى إِذَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ كَانَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَمَعَ هُنَا أَشْيَاء مِمَّا كَانَ دَعَا بِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ أُمَّهُ، وَنُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ جَاءَ نَصًّا دُعَاؤُهُ لِأَبِيهِ بِالْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ وَكَانَا كَافِرَيْنِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ مِنْ تَجْوِيزَاتِ الْعَقْلِ، لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ جَوَازِهِ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ انْتَهَى. وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدٌ، وَزَيْدٌ: رَبَّنَا عَلَى الْخَبَرِ. وَابْنُ يَعْمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: وَلِوَلَدَيَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِفَتْحِ اللَّامِ يَعْنِي:

_ (1) سورة الصافات: 37/ 100. (2) سورة الشعراء: 26/ 86.

إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَأَنْكَرَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ: إن فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: وَلِأَبَوِيَّ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: وَلِوُلْدَيَّ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ وَلَدٍ كَأَسُدٍ فِي أَسَدٍ، ويكون قد دعا لذريته، وَأَنْ يَكُونَ لُغَةً فِي الْوَلَدِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَيْتَ زِيَادًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ زِيَادًا كَانَ وَلَدَ حِمَارٍ كَمَا قَالُوا: الْعَدَمُ وَالْعُدْمُ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَلِوَالِدِي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ كَقَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي، وَقِيَامُ الْحِسَابِ مَجَازٌ. عَنْ وُقُوعِهِ وَثُبُوتِهِ كَمَا يُقَالُ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَهْلِ الْحِسَابِ كما قال: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» . وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ، لِلسَّامِعِ الَّذِي يُمْكِنُ مِنْهُ حُسْبَانُ مِثْلِ هَذَا لِجَهْلِهِ بِصِفَاتِ اللَّهِ، لا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِلظَّالِمِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِينَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَلَا تَحْسَبْ بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَكَذَا فَلَا تَحْسَبِ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ حُسْبَانِهِ غَافِلًا الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُ الظَّالِمُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُعَاقِبُهُمْ عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ «2» يُرِيدُ الْوَعِيدَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُ، يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْغَافِلِ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنْ مُعَامَلَةَ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمُ الْمُحَاسِبِ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ وَعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهَارُونَ الْعَتَكِيِّ، وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عُمَرَ: وَنُؤَخِّرُهُمْ بِنُونِ الْعَظْمَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ أَيْ: يُؤَخِّرُهُمُ اللَّهُ. مُهْطِعِينَ مُسْرِعِينَ، قَالَهُ: ابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ. وَذَلِكَ بِذِلَّة وَاسْتِكَانَةٍ كَإِسْرَاعِ الْأَسِيرِ وَالْخَائِفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الضُّحَى: شَدِيدِي النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْرُقُوا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: غير رافعي رؤوسهم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَدَّ يَمِينِ النَّظَرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُقْبِلِينَ للإصغاء، وأنشد: بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ وَقَالَ الحسن: مقنعي رؤوسهم وُجُوهُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَى السَّمَاءِ، لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَوَاءٌ صُفْرٌ مِنَ الْخَيْرِ خَاوِيَةٌ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَوْفٌ لا عقول

_ (1) سورة المطففين: 83/ 6. (2) سورة البقرة: 2/ 283.

لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: خَرِبَةٌ خَاوِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ وَلَا عَقْلٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ: خَالِيَةٌ إِلَّا مِنْ فَزَعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا، أَيْ: إِلَّا مِنْ هَمِّ مُوسَى. وَهَوَاءٌ تَشْبِيهٌ مَحْضٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِهَوَاءٍ حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي فَرَاغِهَا مِنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فِي الرَّحْمَةِ، فَهِيَ منحرقة مُشْبِهَةُ الْهَوَاءِ فِي تَفَرُّغِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَانْخِرَاقِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي اضْطِرَابِ أَفْئِدَتِهِمْ وَجَيَشَانِهَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهَا تَجِيءُ وَتَذْهَبُ وَتَبْلُغُ عَلَى مَا رَوى حَنَاجِرَهُمْ، فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ أَبَدًا فِي اضْطِرَابٍ. وَحُصُولُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ لِلظَّالِمِينَ قَبْلَ الْمُحَاسَبَةِ بِدَلِيلِ ذِكْرِهَا عَقِيبَ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ. وَقِيلَ: عِنْدَ إِجَابَةِ الدَّاعِي، وَالْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: عِنْدَ ذَهَابِ السُّعَدَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْأَشْقِيَاءِ إِلَى النَّارِ. وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ،. وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لا نذر، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَيْسَ بِزَمَانٍ لِلْإِنْذَارِ، وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْمَعْنَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ الظَّالِمِينَ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُبَشِّرُونَ وَلَا يُنْذِرُونَ. وَقِيلَ: الْيَوْمُ يَوْمُ هَلَاكِهِمْ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، أَوْ يَوْمُ مَوْتِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِشِدَّةِ السَّكَرَاتِ، وَلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ بِلَا بُشْرَى كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ «1» وَمَعْنَى التَّأَخُّرِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ الرَّدُّ إِلَى الدُّنْيَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ، إِذِ الْإِمْهَالُ إِلَى أَمَدٍ وَحَدٍّ مِنَ الزَّمَانِ قَرِيبٌ قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَيْ: لِتَدَارُكِ مَا فَرَّطُوا مِنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ. أَوْ لَمْ تَكُونُوا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ فَيُقَالُ لَهُمْ، وَالْقَائِلُ الْمَلَائِكَةُ، أَوِ الْقَائِلُ اللَّهُ تَعَالَى. يُوَبِّخُونَ بِذَلِكَ، وَيَذْكُرُونَ مَقَالَتَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَإِقْسَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «2» وَمَعْنَى مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ، مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْ: لَا نُبْعَثُ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي النَّارِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ: أَوْ لَمْ تَكُونُوا، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ بَطَرًا وَأَشَرًا، وَلِمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ من عادة الجهل

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 10. (2) سورة النحل: 16/ 38.

وَالسَّفَهِ. وَأَنْ يَقُولُوا بِلِسَانِ الْحَالِ حَيْثُ بَنَوْا شَدِيدًا، وَأَمْلَوْا بَعِيدًا. وَمَا لَكُمْ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: أَقْسَمْتُمْ، وَلَوْ حَكَى لَفْظَ الْمُقْسِمِينَ لَقِيلَ: مَا لَنَا مِنْ زَوَالٍ، وَالْمَعْنَى: أَقْسَمْتُمْ أَنَّكُمْ بَاقُونَ فِي الدُّنْيَا لَا تَزُولُونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ، وَقِيلَ: لَا تَنْتَقِلُونَ إِلَى دَارٍ أُخْرَى انْتَهَى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ لَمْ تَكُونُوا مَحْكِيًّا بِقَوْلِهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: لَا يَزُولُونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ. وَقَوْلُهُ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَسَكَنْتُمْ إِنْ كَانَ مِنَ السُّكُونِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَرُّوا فِيهَا وَاطْمَأَنُّوا طَيِّبِي النُّفُوسِ سَائِرِينَ بِسَيْرَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، لَا يُحَدِّثُونَهَا بِمَا لَقِيَ الظَّالِمُونَ قَبْلَهُمْ. وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّكْنَى، فَإِنَّ السُّكْنَى مِنَ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ اللُّبْثُ، وَالْأَصْلُ تَعْدِيَتُهُ بفي كَمَا يُقَالُ: أَقَامَ فِي الدَّارِ وَقَرَّ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ عَلَى سُكُونٍ خَاصٍّ تَصَرَّفَ فِيهِ، فَقِيلَ: سَكَنَ الدَّارَ كَمَا قِيلَ: تَبَوَّأَهَا، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ بِالْخَبَرِ وَبِالْمُشَاهَدَةِ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالِانْتِقَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَبَيَّنَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَيْ: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ هُوَ أَيْ حَالُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ كَيْفَ، لِأَنَّ كَيْفَ إِنَّمَا تَأْتِي اسْمَ اسْتِفْهَامٍ أَوْ شَرْطٍ، وَكِلَاهُمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ شَاذًّا مِنْ دُخُولِ عَلَى عَلَى كَيْفَ فِي قَوْلِهِمْ: عَلَى كيف تبيع الأحمرين، وإلى فِي قَوْلِهِمْ: أَنْظُرُ إِلَى كَيْفَ تَصْنَعُ، وَإِنَّمَا كَيْفَ هُنَا سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَعَلْنَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ فِيمَا حَكَى عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: وَنُبَيِّنُ بِضَمِّ النُّونِ، وَرَفْعِ النُّونِ الْأَخِيرَةِ مُضَارِعُ بَيَّنَ، وَحَكَاهَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ عَنِ السُّلَمِيِّ: إِنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ جَزَمَ النُّونَ عطفا على أو لم تَكُونُوا أَيْ: وَلَمْ نُبَيِّنْ فَهُوَ مُشَارِكٌ فِي التَّقْرِيرِ. وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ أَيْ: صِفَاتِ مَا فَعَلُوا وَمَا فُعِلَ بِهِمْ، وَهِيَ فِي الْغَرَابَةِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِكُلِّ ظَالِمٍ. وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَكَرُوا عَائِدٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ:

أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ «1» أَيْ مَكَرُوا بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ النَّاسَ «2» أَيْ: وَقَدْ مَكَرَ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «3» الْآيَةَ وَمَعْنَى مَكْرُهُمْ أَيِ: الْمَكْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي اسْتَفْرَغُوا فِيهِ جُهْدَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مَقُولًا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلظَّلَمَةِ الَّذِينَ سَكَنَ فِي مَنَازِلِهِمْ. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أَيْ: عِلْمُ مَكْرِهِمْ فَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُنَفِّذُ لَهُمْ فِيهِ قَصْدًا، وَلَا يُبَلِّغُهُمْ فِيهِ أَمَلًا أَوْ جَزَاءَ مَكْرِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُهُ لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ إِضَافَةُ مَكْرٍ وَهُوَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ، كَمَا هُوَ مُضَافٌ فِي الْأَوَّلِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعِنْدَ اللَّهِ مَا مَكَرُوا أَيْ مَكْرُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ عَلَى مَعْنَى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُهُمْ بِهِ، وَهُوَ عَذَابُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ، يَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَحْتَسِبُونَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ كَانَ مَكْرٌ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ هُوَ، إِذْ قُدِّرَ يَمْكُرُهُمْ بِهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ مَكَرَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ بِنَفْسِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «4» وَتَقُولُ: زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِهِ، وَلَا يُحْفَظُ زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِسَبَبِ كَذَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ عَمْرٌو، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَإِنْ كَادَ بِدَالٍ مَكَانَ النُّونِ لَتَزُولُ بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ الثَّانِيَةِ ، وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْكِسَائِيُّ كذلك، إلا أنهم قرأوا وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ، فَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ تَكُونَ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا. فَمَنْ قَرَأَ كَادَ بِالدَّالِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْرُبُ زَوَالُ الْجِبَالِ بِمَكْرِهِمْ، وَلَا يَقَعُ الزَّوَالُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ كَانَ بِالنُّونِ، يَكُونُ زَوَالُ الْجِبَالِ قَدْ وَقَعَ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ مَكْرِهِمْ وَشِدَّتُهُ، وَهُوَ بِحَيْثُ يَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ وَتَنْقَطِعُ عَنْ أَمَاكِنِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لِتَزُولَ لَيَقْرُبُ زَوَالُهَا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كَمَعْنَى قِرَاءَةِ كَادَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَلَوْلَا كَلِمَةُ اللَّهِ لَزَالَ مِنْ مَكْرِهِمُ الْجِبَالُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهَا لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ بكسر اللام،

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 44. (2) سورة ابراهيم: 14/ 44. (3) سورة الأنفال: 8/ 30. (4) سورة الأنفال: 8/ 30.

وَنَصْبِ الْأَخِيرَةِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِهَا. فَعَنِ الْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ، وكان تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: وَتَحْقِيرُ مَكْرِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِتَزُولَ مِنْهُ الشَّرَائِعُ وَالنُّبُوَّاتُ وَأَقْدَارُ اللَّهِ الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ فِي ثُبُوتِهَا وَقُوَّتِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَا كَانَ بِمَا النَّافِيَةِ: لَكِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قِرَاءَةِ وَمَا بِالنَّفْيِ، يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، لِأَنَّ فِيهَا تَعْظِيمَ مَكْرِهِمْ، وَفِي هَذَا تَحْقِيرُهُ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا نَافِيَةٌ أَنْ تَكُونَ كَانَ نَاقِصَةً، وَاللَّامُ لَامُ الْجُحُودِ، وَخَبَرُ كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: أَهْوَ مَحْذُوفٌ؟ أَوْ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللَّامُ؟ وَعَلَى أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ وَكَانَ نَاقِصَةٌ، وَاللَّامُ فِي لِتَزُولَ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، خَرَّجَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وَإِنْ عَظُمَ مَكْرُهُمْ وَتَتَابَعَ فِي الشِّدَّةِ بِضَرْبِ زَوَالِ الْجِبَالِ مِنْهُ مَثَلًا لِتَفَاقُمِهِ وَشِدَّتِهِ أَيْ: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ مُسْتَوٍ لِإِزَالَةِ الْجِبَالِ مُعَدًّا لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى تَعْظِيمِ مَكْرِهِمْ أَيْ: وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا بِمَا يَفْعَلُ لِيَذْهَبَ بِهِ عِظَامُ الْأُمُورِ انْتَهَى. وَعَلَى تَخْرِيجِ هَذَيْنِ تَكُونَ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَكَانَ هِيَ النَّاقِصَةُ. وعلى هذا التخريج تنفق مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ أَوْ تَتَقَارَبُ، وَعَلَى تَخْرِيجِ النَّفْيِ تَتَعَارَضُ كما ذكرنا. وقرىء لتزول بفتح اللام الأولى وَنَصْبِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ فَتَحَ لَامَ كَيْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ زَوَالَ الْجِبَالِ مَجَازٌ ضُرِبَ مَثَلًا لِمَكْرِ قُرَيْشٍ، وَعِظَمِهِ وَالْجِبَالُ لَا تَزُولُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغُلُوِّ وَالْإِيغَالِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ مَكْرِهِمْ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ جَبَلًا زَالَ بِحَلِفِ امْرَأَةٍ اتَّهَمَهَا زَوْجُهَا وَكَانَ ذَلِكَ الْجَبَلُ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ كَاذِبًا مَاتَ، فَحَمَلَهَا لِلْحَلِفِ، فَمَكَرَتْ بِأَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَنِ الدَّابَّةِ وَكَانَتْ وَعَدَتْ مَنِ اتُّهِمَتْ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ عَنِ الدَّابَّةِ، فَأَرْكَبَهَا زَوْجُهَا وَذَلِكَ الرَّجُلُ، وَحَلَفَتْ عَلَى الْجَبَلِ أَنَّهَا مَا مَسَّهَا غَيْرُهُمَا، فَنَزَلَتْ سَالِمَةً، وَأَصْبَحَ الْجَبَلُ قَدِ انْدَكَّ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ عَدْنَانَ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ النَّمْرُودِ أَوْ بُخْتُ نَصَّرَ، وَاتِّخَاذُ الْأَنْسَرِ وَصُعُودُهُمَا عَلَيْهَا إِلَى قُرْبِ السَّمَاءِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْجِبَالِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْقُرْآنِ لِثُبُوتِهِ وَرُسُوخِهِ، وَعَبَّرَ بِمَكْرِهِمْ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ هَذَا شِعْرٌ هَذَا إِفْكٌ، فَأَقْوَالٌ يَنْبُو عَنْهَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَبِعِيدٌ جِدًّا قِصَّةُ الْأَنْسَرِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُسْبَانِ كَهَوَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا «1» وَأَطْلَقَ الْحُسْبَانَ عَلَى الْأَمْرِ الْمُتَحَقِّقِ هُنَا كما قال الشاعر:

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 42.

فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي أَضِلُّ مَنِيَّتِي ... فَكُلُّ امْرِئٍ كَأْسَ الْحِمَامِ يَذُوقُ وَهَذَا الْوَعْدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «1» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «2» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى وَعْدِهِ، وَنَصْبِ رُسُلَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي إعرابه فقال الجمهور والفراء، وَقُطْرُبٌ، وَالْحَوْفِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مِمَّا أُضِيفَ فِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ: هَذَا مُعْطِي دِرْهَمٍ زَيْدًا، لَمَّا كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ جَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَنْتَصِبُ مَا تَأَخَّرَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ نَظِيرًا لَهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: تَرَى الثَّوْرَ فِيهَا مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ ... وَسَائِرُهُ بَادٍ إِلَى الشَّمْسِ أَجْمَعَ وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أَهْلَ الدَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: لَمَّا تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا لَمْ يُبَالِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، وَلِمَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ؟ (قُلْتُ) : قَدَّمَ الْوَعْدَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «3» ثُمَّ قَالَ: رُسُلَهُ، لِيُؤْذِنَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُخْلِفْ وَعْدَهُ أَحَدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ إِخْلَافُ الْمَوَاعِيدِ، كَيْفَ يَخْلُفُهُ رُسُلُهُ الَّذِينَ هُمْ خِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ؟ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَنْ وَعَدَهُ بِالنَّارِ مِنَ الْعُصَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ أَصْلًا. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ مِنَ الْعَذَابِ لِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَشْرُوطٌ إِنْفَاذُهُ بِالْمَشِيئَةِ. وَقِيلَ: مُخْلِفُ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «4» فَأُضِيفَ إِلَيْهِ، وَانْتَصَبَ رُسُلَهُ بِوَعْدِهِ إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ: مُخْلِفَ مَا وَعَدَ رُسُلَهُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، لَا بِمَعْنَى الَّذِي. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: مُخْلِفٌ وَعْدَهُ رُسُلِهِ بِنَصْبِ وَعْدَهُ، وَإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى رُسُلِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ كَقِرَاءَةِ: قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُشَبَّعًا فِي الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَيَّدُ إِعْرَابَ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ مِمَّا تَعَدَّى فِيهِ مُخْلِفَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يُغَالَبُ ذُو انْتِقَامٍ مِنَ الْكَفَرَةِ لَا يَعْفُو عَنْهُمْ. وَالتَّبْدِيلُ يَكُونُ فِي الذَّاتِ أَيْ: تَزُولُ ذَاتٌ وَتَجِيءُ أُخْرَى. وَمِنْهُ: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «5» وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «6» وَيَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ

_ (1) سورة غافر: 4/ 51. (2) سورة المجادلة: 58/ 21. (3) سورة آل عمران: 3/ 9. [.....] (4) سورة آل عمران: 3/ 9. (5) سورة النساء: 4/ 56. (6) سورة سبأ: 34/ 16.

الْحَلَقَةَ خَاتَمًا، فَالذَّاتُ لَمْ تُفْقَدْ لَكِنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّبْدِيلِ هُنَا، أَهْوَ فِي الذَّاتِ، أَوْ فِي الصِّفَاتِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ كَمَا يُمَدُّ الْأَدِيمُ، وَتُزَالُ عَنْهَا جِبَالُهَا وَآكَامُهَا وَشَجَرُهَا، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَوِيَةً لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أمتا، وتبدل السموات بِتَكْوِيرِ شَمْسِهَا، وَانْتِثَارِ كَوَاكِبهَا، وَانْشِقَاقِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ بِأَرْضٍ كَالْفِضَّةِ نَقِيَّةٍ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ، وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهَا خَطِيئَةٌ. وَقَالَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ مِنْ فِضَّةٍ وَالْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ أَرْضٌ مِنْ خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، وَجَاءَ هَذَا مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: تَصِيرُ نَارًا وَالْجَنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا تَرَى أَكْوَابَهَا وَكَوَاعِبَهَا. وقال أبي: تصير السموات حِقَابًا. وَقِيلَ: تَبْدِيلُهَا طَيُّهَا. وَقِيلَ: مَرَّةً كَالْمُهْلِ، وَمَرَّةً وَرْدَةٌ كَالدِّهَانِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: بِانْشِقَاقِهَا فَلَا تَظَلُّ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يُبَدِّلُ هَذِهِ الْأَرْضَ بِأَرْضٍ عَفْرَاءَ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قُرْصَةُ نَقِيٍّ» وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَعَنْ عَلِيٍّ: تُبَدَّلُ أرضا من فضة، وسموات مِنْ ذَهَبٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَرْضًا مِنْ فِضَّةٍ بَيْضَاءَ كَالصَّحَائِفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ تِلْكَ الْأَرْضُ وَإِنَّمَا تُغَيَّرُ، وَأَنْشَدَ: وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ ... وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْلَمُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَمِعْتُ مِنْ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى أَنَّ التَّبْدِيلَ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ تُبَدَّلُ لِكُلِّ فَرِيقٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ عَلَى خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنْهُ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَفَرِيقٌ يَكُونُونَ عَلَى فِضَّةٍ إِنْ صَحَّ السَّنَدُ بِهَا، وَفَرِيقُ الْكَفَرَةِ يَكُونُونَ عَلَى نَارٍ وَنَحْوِ هَذَا، وَكُلُّهُ وَاقِعٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُونَ وَقْتَ التَّبْدِيلِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ عَلَى الصِّرَاطِ» وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ تَبْدِيلِ الْأَرْضِ والسموات هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الأرض جهنم، ويجعل السموات الْجَنَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ «1» وَقَوْلُهُ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «2» انْتَهَى. وَكَلَامُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً إِلَّا بَعْدَ خَلْقِهِمَا. وَبَرَزُوا: أَيْ ظَهَرُوا. لَا يُوَارِيهِمْ بِنَاءٌ وَلَا حِصْنٌ، وَانْتِصَابُ يَوْمَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ قَالَهُ الزمخشري، أو معمولا لمخلف وَعْدِهِ. وَإِنَّ وَمَا بَعْدَهَا اعتراض قاله الحوفي.

_ (1) سورة المطففين: 83/ 7. (2) سورة المطففين: 83/ 18.

وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظرفا فَالْمُخْلِفُ وَلَا لِوَعْدِهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ أَنْ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، وَلَكِنْ جُوِّزَ أَنْ يَلْحَقَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا يَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ أَيْ: لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ يَوْمَ تُبَدَّلُ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ إِنَّ وَمَا بَعْدَهَا اعْتِرَاضًا، لَمْ يُبَالِ أَنَّهُ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ، أَوْ مَعْمُولًا لِانْتِقَامٍ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْحَوْفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، أَوَّلًا ذَكَرَ قاله أبو البقاء. وقرىء: نُبَدِّلُ بِالنُّونِ الْأَرْضَ بِالنَّصْبِ، والسموات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي: غير السموات، حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ اسْتِئْنَافٌ. وَبَرَزُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الأرض، وقد مَعَهُ مُزَادَةٌ. وَمَعْنَى لِلَّهِ: لِحُكْمِ اللَّهِ، أَوْ لِمَوْعُودِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وبرزوا بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً جَعَلَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالَمِ وَكَثْرَتِهِمْ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ. وَجِيءَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَهُمَا: الْوَاحِدُ وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لا يشركه أحد في أُلُوهِيَّتِهِ، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ آلِهَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تَنْفَعُ. وَالْقَهَّارُ وَهُوَ الْغَالِبُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «1» . وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ إِذْ تُبَدَّلُ، وَبَرَزُوا مُقَرَّنِينَ مَشْدُودِينَ فِي الْقَرْنِ أَيْ: مَقْرُونٌ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، أَوْ مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي غُلٍّ أَوْ تُقْرَنُ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَرْجُلِهِمْ مُغَلَّلِينَ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقٌ فِي الْأَصْفَادِ بِقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ أَيْ: يُقْرَنُونَ فِي الْأَصْفَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لمقرنين، وَفِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُسْتَقِرِّينَ فِي الْأَصْفَادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فِي جَهَنَّمَ وَادٍ، وَلَا مَفَازَةٌ، وَلَا قَيْدٌ، وَلَا سِلْسِلَةٌ، إِلَّا اسْمُ صَاحِبِهِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحْنِقِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْكَلْبِيُّ، وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ مِنْ قَطِرٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَتَنْوِين الرَّاء ، أَنَّ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ أَنَّى صِفَةٌ لِقِطْرٍ. قِيلَ: وَهُوَ الْقَصْدِيرُ، وَقِيلَ: النُّحَاسُ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِالْقَطِرَانِ، وَلَكِنَّهُ النُّحَاسُ يَصِيرُ بِلَوْنِهِ. وَالْآنِيُّ الذَّائِبُ الْحَارُّ الَّذِي قَدْ تَنَاهَى حَرُّهُ. قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ سُعِّرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ، فَتَنَاهَى حَرُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ آنَ أَنْ يُعَذَّبُوا بِهِ يَعْنِي: حَانَ تَعْذِيبُهُمْ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ شَأْنِهِ. أَيِ: الْقَطْرَانُ، أَنْ يُسْرِعَ فِيهِ اشْتِعَالُ النَّارِ، وَقَدْ يَسْتَسْرِجُ بِهِ، وَهُوَ أَسْوَدُ اللَّوْنِ منتن الريح،

_ (1) سورة غافر: 40/ 16.

فَيُطْلَى بِهِ جُلُودُ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَعُودَ طِلَاؤُهُ لَهُمْ كَالسَّرَابِيلِ وَهِيَ الْقُمُصُ، لِتَجْتَمِع عَلَيْهِمُ الْأَرْبَعُ: لَذْعُ الْقَطِرَانِ وَحُرْقَتُهُ، وَإِسْرَاعُ النَّارِ فِي جُلُودِهِمْ، وَاللَّوْنُ الْوَحْشُ، وَنَتَنُ الرِّيحِ. عَلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْقَطِرَانَيْنِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّارَيْنِ. وَكُلُّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ، أَوْ أَوْعَدَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَكَأَنَّهُ مَا عِنْدَنَا مِنْهُ إِلَّا الْأَسَامِيَ وَالْمُسَمَّيَاتِ ثَمَّةَ، فَبِكَرَمِهِ الْوَاسِعِ نَعُوذُ مِنْ سُخْطِهِ وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا يُنْجِينَا مِنْ عَذَابِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مِنْ قَطْرَانٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ ، وَهُوَ فِي شِعْرِ أَبِي النَّجْمِ قَالَ: لَبِسْنَهُ الْقَطْرَانَ وَالْمُسُوحَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ بالنصب، وقرىء بِالرَّفْعِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى «1» فَهِيَ عَلَى حَقِيقَةِ الْغَشَيَانِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى التَّجَوُّزِ، جَعَلَ وُرُودَ الْوَجْهِ عَلَى النَّارِ غشيانا. وقرىء: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ بِمَعْنَى تَتَغَشَّى، وَخَصَّ الْوُجُوهَ هُنَا. وَفِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ويَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «2» لِأَنَّ الْوَجْهَ أَعَزُّ مَوْضِعٍ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَأَشْرَفِهِ كَالْقَلْبِ فِي بَاطِنِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «3» . وليجزي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ مَا يَفْعَلُ، لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ أَيْ: مُجْرِمَةٍ بِمَا كَسَبَتْ، أَوْ كُلَّ نَفْسٍ مِنْ مُجْرِمَةٍ وَمُطِيعَةٍ: لِأَنَّهُ إِذَا عَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ لِإِجْرَامِهِمْ عُلِمَ أَنَّهُ يُثِيبُ الْمُطِيعِينَ لِطَاعَتِهِمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَبَرَزُوا أَيِ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، وَيَكُونُ كُلُّ نَفْسٍ عَامًّا أَيْ: مُطِيعَةٌ وَمُجْرِمَةٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَى، مُعْتَرِضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَ هَذَا، أَوْ أَنْفَذَ هَذَا الْعِقَابَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ لِيَجْزِيَ فِي ذَلِكَ الْمُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ انْتَهَى. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا ذُكِرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا «4» إِلَى قَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ «5» وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: إِلَى السُّورَةِ. وَمَعْنَى بَلَاغٌ كِفَايَةٌ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: هُوَ عَطْفٌ مُفْرَدٌ على مُفْرَدٌ أَيْ: هَذَا بَلَاغٌ وَإِنْذَارٌ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لا تفسير إعراب. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ: لِيُبَلِّغُوا وَلِيُنْذِرُوا. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ حَسَنٌ لَوْلَا قَوْلُهُ: وَلِيَذَّكَّرَ، فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ لَا غَيْرُ انْتَهَى. وَلَا يَخْدِشُ ذَلِكَ، إِذْ يَكُونُ وَلِيَذَّكَّرَ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ، بَلْ يُضْمِرُ لَهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ. وقال

_ (1) سورة الليل: 92/ 1. (2) سورة القمر: 54/ 48. (3) سورة الهمزة: 104/ 7. (4) سورة ابراهيم: 14/ 42. (5) سورة ابراهيم: 14/ 51.

ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ، وَهُوَ لِيُنْذَرُوا بِهِ انْتَهَى. فَجَعَلَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرًا لِهُوَ الْمَحْذُوفَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِيُنْذَرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: لِيُنْصَحُوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ بِهَذَا الْبَلَاغِ انْتَهَى. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ: بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ الذَّالِ، كَانَ الْبَلَاغُ الْعُمُومَ، وَالْإِنْذَارُ لِلْمُخَاطِبِينَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ: الذَّرَّاعُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ: وَلِيَنْذَرُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ، مُضَارِعُ نَذَرَ بِالشَّيْءِ إِذَا عَلِمَ بِهِ فَاسْتَعَدَّ لَهُ. قَالُوا: وَلَمْ يُعْرَفْ لِهَذَا الْفِعْلِ مَصْدَرٌ، فَهُوَ مِثْلُ عَسَى وَغَيْرِهِ مِمَّا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ. وَلِيَعْلَمُوا لِأَنَّهُمْ إِذَا خَافُوا مَا أَنْذَرُوا بِهِ دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى النَّظَرِ، فَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، إِذِ الْخَشْيَةُ أَصْلُ الْخَيْرِ. وَلِيَذَّكَّرَ أَيْ: يَتَّعِظَ وَيُرَاجِعَ نَفْسَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْمَوَاعِظِ. وَأَسْنَدَ التَّذَكُّرَ وَالِاتِّعَاظَ إِلَى مَنْ لَهُ لُبٌّ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُجْدِي فِيهِمُ التَّذَكُّرُ. وَقِيلَ: هِيَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَنَاسَبَ مُخْتَتَمُ هَذِهِ السُّورَة مُفْتَتَحَهَا، وَكَثِيرًا مَا جَاءَ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله: لتخرج الناس.

سورة الحجر

سورة الحجر ترتيبها 15 سورة الحجر آياتها 99 [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

رُبَّ: حَرْفُ جَرٍّ لَا اسْمٌ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَابْنُ الطَّرَاوَةِ وَمَعْنَاهَا فِي الْمَشْهُورِ: التَّقْلِيلُ لَا التَّكْثِيرُ، خِلَافًا لِزَاعِمِهِ وَنَاسِبِهِ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَلِمَنْ قَالَ: لَا تُفِيدُ تَقْلِيلًا وَلَا تَكْثِيرًا، بَلْ هِيَ حَرْفُ إِثْبَاتٍ. وَدَعْوَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ بَاطِلَةٌ، وَقَوْلُ الزُّجَاجِ: إِنَّ رُبَّ لِلْكَثْرَةِ ضِدُّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَفِيهَا لُغَاتٌ، وَأَحْكَامُهَا كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَلَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. ذَرْ: أَمْرٌ اسْتَغْنَى غَالِبًا عَنْ مَاضِيهِ بِتَرْكٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: «ذَرُوا الْحَبَشَةَ مَا وَذَرَتْكُمْ» لَوْمَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ، فَيَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَحَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ فِيلَيْهَا الِاسْمُ مُبْتَدَأً عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ وَمِنْهُ، قَوْلُ الشَّاعِرِ: لو ما الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي وَقَالَ بعضهم: الميم في لو ما بَدَلٌ مِنَ اللَّامِ فِي لَوْلَا، وَمِثْلُهُ: اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ وَاسْتَوْمَا. وَخَالَلْتُهُ وَخَالَمْتُهُ فَهُوَ خِلِّي وَخِلْمِي أَيْ: صَدِيقِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ رُكِّبَتْ مَعَ لَا وَمَا لِمَعْنَيَيْنِ، وَأَمَّا هَلْ فَلَمْ تُرَكَّبْ إِلَّا مَعَ لَا وَحْدَهَا لِلتَّحْضِيضِ انْتَهَى. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ الْبَسَاطَةَ فِيهِمَا لَا التَّرْكِيبَ، وَأَنَّ مَا لَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ لَا. سَلَكَ الْخَيْطَ فِي الْإِبْرَةِ وَأَسْلَكَهَا أَدْخَلَهُ فِيهَا وَنَظَمَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا سَلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الْحَمَّالَةُ الشُّرَّدَا وَقَالَ الْآخَرُ: وَكُنْتُ لِزَازِ خَصْمِكَ لَمْ أُعَوَّدْ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبٍ الشِّهَابُ: شُعْلَةُ النَّارِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَوْكَبِ لِبَرِيقِهِ شُبِّهَ بِالنَّارِ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: وَالْعَلَمُ فِي شُهُبِ الْأَرْمَاحِ لَامِعَةٌ ... بَيْنَ الْخَمِيسَيْنِ لَا فِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ اللَّوَاقِحُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا جَمْعُ لَاقِحٍ أَيْ: ذَوَاتُ لِقَاحٍ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ تَمُرُّ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ تَمُرُّ عَلَى السَّحَابِ وَالشَّجَرِ فَيَكُونُ فِيهَا لِقَاحٌ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:

حَوَامِلُ تَحْمِلُ السَّحَابَ وَتُصَرِّفُهُ، وَنَاقَةٌ لَاقِحٌ، وَنُوقٌ لَوَاقِحُ إِذَا حَمَلَتِ الْأَجِنَّةَ فِي بُطُونِهَا. وَقَالَ زُهَيْرٌ: إِذَا لُقِّحَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تَهُرُّ النَّاسُ أَنْيَابَهَا عَصْلُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ مَلَاقِحُ جَمْعُ مُلَقِّحَةٍ، لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ السَّحَابِ بِإِلْقَاءِ الْمَاءِ. وَقَالَ: وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ أَيِ: الْمَطَاوِحُ جَمْعُ مُطِيحَةٍ. الصَّلْصَالُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الطِّينُ إِذَا خُلِطَ بِالرَّمْلِ وَجَفَّ، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الصَّلْصَالُ صَوْتُ اللِّجَام وَمَا أَشْبَهَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الْقَعْقَعَةِ فِي الثَّوْبِ. وَقِيلَ: التُّرَابُ الْمُدَقِّقُ، وَصَلْصَلَ الرَّمْلُ صَوَّتَ، وَصَلْصَالٌ بِمَعْنَى مُصَلْصِلٍ كَالْقَضْقَاضِ أَيِ الْمُقَضْقِضِ، وَهُوَ فِيهِ كَثِيرٌ، وَيَكُونُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُضَعَّفِ مَصْدَرًا فَتَقُولُ: زُلْزِلَ زَلْزَالًا بِالْفَتْحِ، وَزِلْزَالًا بِالْكَسْرِ، وَوَزْنُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فِعْلَالٌ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْمُضَاعَفِ حُرُوفُهُ كُلُّهَا أُصُولٌ لَا قَعْقَعٌ، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ وَكَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَلَا فَعْفَلَ خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَا أَنَّ أَصْلَهُ فَعَّلَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ أُبْدِلَ مِنَ الثَّانِي حَرْفٌ مِنْ جِنْسِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: وَرُبُّ صَلْصَالٍ. الْحَمَأُ: طِينٌ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ، وَاحِدَةٌ حَمَأَةٌ بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ قَالَهُ اللَّيْثُ وَوَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْحَمَأَةُ إِلَّا سَاكِنَةَ الْمِيمِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَكْثَرُونَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: يَجِئْكَ بِمَلَئِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا ... يَجِيءُ بِحَمَاةٍ وَقَلِيلِ مَاءِ وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ حَمَأٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ. السَّمُومُ: إِفْرَاطُ الْحَرِّ، يَدْخُلُ فِي الْمَسَامِّ حَتَّى يَقْتُلَ مِنْ نَارٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ رِيحٍ. وَقِيلَ: السَّمُومُ بِاللَّيْلِ، وَالْحَرُّ بِالنَّهَارِ. الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ السُّورَةِ قَبْلَهَا أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ مِنْ تبديل السموات وَالْأَرْضِ، وَأَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ هُوَ عَلَى حَسَبِ التَّبْلِيغِ وَالْإِنْذَارِ، ابْتَدَأَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ، وَأَحْوَالُ الْكَفَرَةِ، وَوِدَادَتُهُمْ لَوْ كَانُوا

مُسْلِمِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْكِتَابُ هُنَا مَا نَزَلَ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَكُونُ تِلْكَ إِشَارَةً إِلَى آيَاتِ الْكِتَابُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَعُطِفَتِ الصِّفَةُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْإِشَارَةَ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الْآيَاتِ قَالَ: وَالْكِتَابُ وَالْقُرْآنُ الْمُبِينُ السُّورَةُ، وَتَنْكِيرُ الْقُرْآنِ لِلتَّفْخِيمِ، وَالْمَعْنَى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْكَامِلِ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا، وَآيُ قُرْآنٍ مُبِينٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْكِتَابُ الْجَامِعُ لِلْكَمَالِ وَالْغَرَابَةِ فِي الشَّأْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي رُبَّمَا مُهَيِّئَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرْفُ جَرٍّ لَا يَلِيهَا إِلَّا الْأَسْمَاءُ، فَجِيءَ بِمَا مُهَيِّئَةٌ لِمَجِيءِ الْفِعْلِ بَعْدَهَا. وَجَوَّزُوا فِي مَا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، ورب جازة لَهَا، وَالْعَائِدُ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رُبَّ شَيْءٍ يَوَدُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. ولو كَانُوا مُسْلِمِينَ بَدَلٌ مِنْ مَا عَلَى أَنَّ لَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لِيَوَدُّ، وَمَنْ لَا يَرَى أَنَّ لَوْ تَأْتِي مَصْدَرِيَّةً جَعَلَ مَفْعُولَ يَوَدُّ مَحْذُوفًا. وَلَوْ فِي لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لوقوع غَيْرِهِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْإِسْلَامَ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَسُرُّوا بِذَلِكَ وَخَلَصُوا مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمَّا كَانَتْ رُبَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا تَدْخُلُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ تَأَوَّلُوا يَوَدُّ فِي مَعْنَى وَدَّ، لما كَانَ الْمُسْتَقْبَلُ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالْمَاضِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَدَّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، بَلْ قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دُخُولِهَا عَلَى الْمَاضِي. وَمِمَّا وَرَدَتْ فِيهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُ سُلَيْمٍ الْقُشَيْرِيِّ: وَمُعْتَصِمٍ بِالْجُبْنِ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ... سَيَرْدَى وَغَازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُبُ وَقَوْلُ هِنْدٍ أُمِّ مُعَاوِيَةَ: يَا رُبَّ قَائِلَةٍ غَدًا ... يَا لَهْفَ أُمِّ مُعَاوِيَةَ وَقَوْلُ جَحْدَرٍ: فَإِنْ أَهْلِكْ فَرُبَّ فَتًى سَيَبْكِي ... عَلَيَّ مُهَذَّبٌ رَخْصُ الْبَنَانِ فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ. وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ رُبَّ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ يَوَدُّ مُحْتَاجًا إِلَى تَأْوِيلٍ. وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ: رُبَّمَا كَانَ يَوَدُّ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ إِضْمَارِ كَانَ. وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ رُبَّ لِلتَّقْلِيلِ احْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِ مَجِيءِ رُبَّ هُنَا، وَطَوَّلَ

الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لِلتَّكْثِيرِ، فَالتَّكْثِيرُ فِيهَا هَنَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ وِدَادَتَهُمْ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّقْلِيلَ وَالتَّكْثِيرَ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ رُبَّ، قَالَ: دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الْكَثْرَةِ. وَقِيلَ: تُدْهِشُهُمْ أَهْوَالُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَبْقُونَ مَبْهُوتِينَ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمْ إِفَاقَةً فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ سَكْرَتِهِمْ تَمَنَّوْا، فَلِذَلِكَ قَلَّلَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَنَافِعٌ: رُبَّمَا بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَشْدِيدِهَا. وعن أبي عمر: والوجهان. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، رُبَّتَمَا بِزِيَادَةِ تَاءٍ. وَمَتَى يَوَدُّونَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَدُّوا ذَلِكَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ حِينَ رَأَوُا الْغَلَبَة لِلْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: حِينَ حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنْ تَمَلُّكِ الْمُسْلِمِينَ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، وَدُّوا ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ. وَقِيلَ: وَدُّوا ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا أُخْرِجَ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الرَّسُولُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ: حِينَ يَشْفَعُ الرَّسُولُ وَيُشَفَّعُ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِذَا عَايَنُوا الْقِيَامَةَ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: عِنْدَ كُلِّ حَالَةٍ يُعَذَّبُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيَسْلَمُ الْمُؤْمِنُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنْ يُنْذِرَهُمْ، وَهُوَ أَمْرُ وَعِيدٍ لَهُمْ وَتَهْدِيدٍ أَيْ: لَيْسُوا مِمَّنْ يَرْعَوِي عَنْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلَا مِمَّنْ تَنْفَعُهُ النَّصِيحَةُ وَالتَّذْكِيرُ، فَهُمْ إِنَّمَا حَظُّهُمْ حَظُّ الْبَهَائِمِ مِنَ الْأَكْلِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْأَمَلِ فِي تَحْصِيلِهَا، هُوَ الَّذِي يُلْهِيهِمْ وَيَشْغَلُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّلَذُّذَ وَالتَّنَعُّمَ وَعَدَمَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ مَنْ يَطْلُبُ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: التَّمَتُّعُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَخْلَاقِ الْهَالِكِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ. وَانْجَزَمَ يَأْكُلُوا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ وَتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ وَبِمُهَادَنَتِهِمْ وَمُوَادَعَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَرَتَّبَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا، لِأَنَّهُ لَوْ شَغَلَهُمْ بِالْقِتَالِ وَمُصَالَتَةِ السُّيُوفِ وَإِيقَاعِ الْحَرْبِ ما هنا هم أكل ولا تمتع، وبدل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَإِذَا جَعَلْتَ ذَرْهُمْ أَمْرًا بِتَرْكِ نَصِيحَتِهِمْ وَشَغْلِ بَالِهِ بِهِمْ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، لِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ سَوَاءٌ تَرَكَ نَصِيحَتَهُمْ، أَمْ لَمْ يَتْرُكْهَا. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ: تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَيْ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ وما يؤولون إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الذُّلِّ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ. وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمْ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِمَا يُشْعِرُ بِهَلَاكِهِمْ، وَأَنَّهُ

لَا يُسْتَبْطَأُ، فَإِنَّ لَهُ أَجَلًا لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ كَافِرِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَلَاكِ هَلَاكُ الِاسْتِئْصَالُ لِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْإِهْلَاكُ بِالْمَوْتِ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهَا، وَاوُ الْحَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُقْحَمَةٌ أَيْ زَائِدَةٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِإِسْقَاطِهَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ صِفَةً لِقَرْيَةٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ لَا تَتَوَسَّطُ الْوَاوَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ «1» وَإِنَّمَا تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا يُقَالُ فِي الْحَالِ: جَاءَنِي زَيْدٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَجَاءَنِي وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: الْجُمْلَةُ نَعْتٌ لِقَرْيَةٍ كَقَوْلِكَ: مَا لَقِيتُ رَجُلًا إِلَّا عَالِمًا قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَ الْوَاوِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «2» انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ فِيهِ أَبُو الْبَقَاءِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ما بعدا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، وَقَدْ مَنَعُوا ذَلِكَ. قَالَ: الْأَخْفَشُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْإِثْمِ، قَالَ: وَنَحْوُ مَا جَاءَنِي رَجُلٌ إِلَّا رَاكِبٌ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا رَجُلٌ رَاكِبٌ، وَفِيهِ قُبْحٌ بِجَعْلِكَ الصِّفَةَ كَالِاسْمِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَقُولُ مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، فَقَائِمًا حَالٌ مِنْ أَحَدٍ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا قَائِمٌ، لِأَنَّ إِلَّا لَا تَعْتَرِضُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَقَدْ ذَكَرَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: فِي نَحْوِ مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ، أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَ إِلَّا صِفَةٌ لِأَحَدٍ، أَنَّهُ مَذْهَبُ لَمْ يُعْرَفْ لِبَصْرِيٍّ وَلَا كُوفِيٍّ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَأَبْطَلَ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْوَاوَ تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذِهِ الْوَاوُ هِيَ الَّتِي تُعْطِي أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي بَعْدَهَا فِي اللَّفْظِ هِيَ فِي الزَّمَنِ قَبْلَ الْحَالَةِ الَّتِي قَبْلَ الْوَاوِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «3» انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَعْلُومَ هُوَ الْأَجَلُ الَّذِي كُتِبَ فِي اللَّوْحِ وَبُيِّنَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ وَأَعْمَارُهُمْ وَآجَالُ هَلَاكِهِمْ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: كِتَابٌ مَعْلُومٌ أَيْ: فَرْضٌ محتوم، ومن زَائِدَةٌ تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ أَيْ: مَا تَسْبِقُ أُمَّةٌ، وَأَنَّثَ أَجَلَهَا عَلَى لَفْظِ أُمَّةٍ وَجَمَعَ وَذَكَرَ فِي وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَحَذَفَ عَنْهُ لِدَلَالَةِ الكلام عليه.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 208. (2) سورة البقرة: 2/ 216. (3) سورة الزمر: 39/ 71. [.....]

وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، والنضر بن الحرث، وَنَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نَزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مَاضِيًا مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ: يَا أَيُّهَا الَّذِي أُلْقِيَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَفْسِيرًا، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَهَذَا الْوَصْفُ بِأَنَّهُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِتَنْزِيلِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا بِرِسَالَةِ مُوسَى وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْجُنُونِ. ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ شَاهِدِينَ لِصِدْقِكَ وَبِصِحَّةِ دَعْوَاكَ وَإِنْذَارِكَ كَمَا قَالَ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ «1» فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ مُعَاقِبِينَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، كَمَا كَانَتْ تَأْتِي الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْعَرَبِيَّانِ: مَا تَنَزَّلُ مُضَارِعُ تَنَزَّلَ أَيْ: مَا تَتَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: مَا تُنَزَّلُ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ، وَحَفْصٌ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ: مَا نُنَزِّلُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى، وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَكَسْرِ الزَّايِ الْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَا نَزَلَ مَاضِيًا مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَالْحَقُّ هُنَا الْعَذَابُ قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ الرِّسَالَةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ، أَوِ الْقُرْآنُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَّا تَنْزِلَا مُلْتَبِسًا بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَا حِكْمَةَ فِي أَنْ تَأْتِيَكُمْ عِيَانًا تُشَاهِدُونَهُمْ وَيَشْهَدُونَ لَكُمْ بِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّكُمْ حِينَئِذٍ مُصَدِّقُونَ عَنِ اضْطِرَارٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهَا: كَمَا يَجِبُ وَيَحِقُّ مِنَ الْوَحْيِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، لَا عَلَى اقْتِرَاحِ كَافِرٍ، وَلَا بِاخْتِيَارِ مُعْتَرِضٍ. ثُمَّ ذَكَرَ عَادَةَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةِ اقْتِرَاحٍ إِلَّا وَمَعَهَا الْعَذَابُ فِي إِثْرِهَا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَكَانَ الْكَلَامُ مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِحَقٍّ وَاجِبٍ لَا بِاقْتِرَاحِكُمْ. وَأَيْضًا فَلَوْ نَزَلَتْ لَمْ تَنْظُرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَذَابِ أَيْ: تُؤَخِّرُوا وَالْمَعْنَى، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِذْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، أَوْ يَلِدُ مَنْ يؤمن. وقال الزمخشري: وادن جَوَابٌ وَجَزَاءٌ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ لَهُمْ، وَجَزَاءٌ بِالشَّرْطِ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ نَزَّلْنَا الْمَلَائِكَةَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ وَمَا أخر عذبهم. وَلَمَّا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ ولا

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 8 (عليه بدل إليه) .

قِبَلِ أَحَدٍ، بَلْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى رَسُولِهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ، بِدُخُولِ إِنَّ وَبِلَفْظِ نَحْنُ. وَنَحْنُ مُبْتَدَأٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ لِاسْمٍ إِنَّ ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ أَيْ: حَافِظُونَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَفِي كُلِّ وَقْتٍ تَكَفَّلَ تَعَالَى بِحِفْظِهِ، فَلَا يَعْتَرِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا تَحْرِيفٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَكَفَّلْ حِفْظَهَا بَلْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الربانيين والأحبار بما اسْتَحْفَظُوهَا «1» وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ. وَحِفْظُهُ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ لَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ مَا تَطَرَّقَ لِكَلَامِ الْبَشَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَفِظَهُ بِإِبْقَاءِ شَرِيعَتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: يَحْفَظُهُ فِي قُلُوبِ مَنْ أَرَادَ بِهِمْ خَيْرًا حَتَّى لَوْ غَيَّرَ أَحَدٌ نُقْطَةً لَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ: كَذَبْتَ، وَصَوَابُهُ كَذَا، ولم يتفق هذا الشيء مِنَ الْكُتُبِ سِوَاهُ. وَعَلَى هَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ: مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: يَحْفَظُهُ مِنْ أَذَاكُمْ، وَيَحُوطُهُ مِنْ مَكْرِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «2» وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ الْآيَةِ التَّبْشِيرُ بِحَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُظْهِرَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِهْزَاءَ الْكُفَّارِ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنِسْبَتَهُ إِلَى الْجُنُونِ، وَاقْتِرَاحَ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، سَلَّاهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ أُرْسِلَ مِنْ قَبْلِكَ كَانَ دَيْدَنَ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ مِثْلَ دَيْدَنِ هَؤُلَاءِ مَعَكَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشِّيَعِ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ. وَمَفْعُولُ أَرْسَلْنَا مَحْذُوفٌ أَيْ: رَسُلًا مِنْ قَبْلِكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ: حَقُّ الْيَقِينِ، وَبِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ أَيِ الشِّيَعُ الْمَوْصُوفُ، أَيْ: فِي شِيَعِ الْأُمَمِ الْأَوَّلِينَ، وَالْأَوَّلُونَ هُمُ الْأَقْدَمُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا يَأْتِيهِمْ حِكَايَةٌ مَاضِيَةٌ، لِأَنَّ مَا لَا تَدْخُلُ عَلَى مُضَارِعٍ، إِلَّا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا عَلَى مَاضٍ إِلَّا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَنَّ مَا تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ وَتُعَيِّنُهُ لَهُ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ مَا يَكْثُرُ دُخُولُهَا عَلَى الْمُضَارِعِ مُرَادًا بِهِ الْحَالُ، وَتَدْخُلُ عَلَيْهِ مُرَادًا بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ أَبِي ذؤيب:

_ (1) ليست آية قرآنية بلفظها. (2) سورة المائدة: 5/ 67.

أَوْدَى بَنِيَّ وَأَوْدَعُونِي حَسْرَةً ... عِنْدَ الرُّقَادِ وَعَبْرَةً مَا تُقْلِعُ وَقَوْلَ الْأَعْشَى يَمْدَحُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَهُ نَافِلَاتٌ مَا يَغِبُّ نَوَالَهَا ... وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدًا وَقَالَ تَعَالَى: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ «1» وَالضَّمِيرُ فِي نَسْلُكُهُ عَائِدٌ عَلَى الذِّكْرِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: وَالضَّمِيرُ لِلذِّكْرِ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ السِّلْكِ. وَنَحْوُهُ: نَسْلُكُ الذِّكْرَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ مُكَذَّبًا مُسْتَهْزَأً بِهِ غَيْرَ مَقْبُولٍ، كَمَا لَوْ أَنْزَلْتَ بِلَئِيمٍ حَاجَةً فَلَمْ يُجِبْكَ إِلَيْهَا فَقُلْتَ: كَذَلِكَ أُنْزِلُهَا بِاللِّئَامِ يَعْنِي: مِثْلَ هَذَا الْإِنْزَالِ أُنْزِلُهَا بِهِمْ، مَرْدُودَةً غَيْرَ مُقْصِيَةٍ. وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَيْ: غَيْرَ مُؤْمِنٍ بِهِ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ من أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الذِّكْرِ ذَكَرَهُ الْغَرْنَوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ نَسْلُكُ الذِّكْرَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي نَسْلُكُهُ عَائِدٌ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ قَوْلُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنِ زَيْدٍ. وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بِهِ يعود أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ نَفْسِهِ، وَتَكُونُ بَاءَ السَّبَبِ أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي نَسْلُكُهُ عَائِدًا عَلَى الذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَيْ: مُكَذَّبًا بِهِ مَرْدُودًا مُسْتَهْزَأً بِهِ، يُدْخِلُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدًا عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي نَسْلُكُهُ عَائِدًا عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالشِّرْكِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، فَيَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا عَوْدُ الضَّمِيرَيْنِ انْتَهَى. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عن مجاهد تلك التَّكْذِيبَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ عَوْدُهُ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يستهزؤون، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِ. وَالْمُجْرِمُونَ هُنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنْ دَعَاهُمُ الرَّسُولُ إِلَى الْإِيمَانِ. وَلَا يُؤْمِنُونَ إِنْ كَانَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ فِيمَنْ خَتَمَ عَلَيْهِ، إِذْ قَدْ آمَنَ عَالَمٌ مِمَّنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ. وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، أَوْ فِي إِهْلَاكِهِمْ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، واستهزأوا بِهِمْ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ تَكْذِيبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى يُنْكِرُوا مَا هُوَ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ بِالْأَعْيُنِ مُمَاسٌّ بِالْأَجْسَادِ بِالْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ، وَهَذَا بِحَسَبِ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ في إنكار الحق.

_ (1) سُورَةِ يُونُسَ: 15/ 10.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَظَلُّوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، أَيْ: لَوْ فُتِحَ لَهُمْ بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَجُعِلَ لَهُمْ مِعْرَاجٌ يَصْعَدُونَ فِيهِ لَقَالُوا: هُوَ شَيْءٌ تتخيله لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقَدْ سخرنا بِذَلِكَ. وَجَاءَ لَفْظُ فَظَلُّوا مُشْعِرًا بِحُصُولِ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ لِيَكُونُوا مُسْتَوْضِحِينَ لِمَا عَايَنُوا، عَلَى أَنَّ ظَلَّ يَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ أَيْضًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَظَلُّوا يَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِمْ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ «1» أَيْ: وَلَوْ رَأَوُا الْمَلَائِكَةَ تَصْعَدُ وَتَنْصَرِفُ فِي بَابٍ مَفْتُوحٍ فِي السَّمَاءِ لَمَا آمَنُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: يَعْرِجُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ فِي الْعُرُوجِ بِمَعْنَى الصُّعُودِ. وَجَاءَ لَفْظُ إِنَّمَا مُشْعِرًا بِالْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَسْكِيرًا لِلْأَبْصَارِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ: سُكِرَتْ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُخَفَّفَةً مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، شَبَّهُوا رُؤْيَةَ أَبْصَارِهِمْ بِرُؤْيَةِ السَّكْرَانِ لِقِلَّةِ تَصَوُّرِهِ مَا يَرَاهُ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ مُنِعْتُ عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِيقَةِ مِنَ السِّكْرِ، بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ الشَّدُّ وَالْحَبْسُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ شُدَّتْ، وَعَنْ جَوْهَرٍ جُدِعَتْ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ حُبِسَتْ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ عَمِيَتْ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو غُطِّيَتْ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا أُخِذَتْ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ غُشِيَتْ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَقِيلَ: بِالتَّشْدِيدِ، إِلَّا أَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ، وَالتَّخْفِيفُ يُؤَدِّي عَنْ مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى التَّشْدِيدِ أُخِذَتْ، وَمَعْنَى التَّخْفِيف سُحِرَتْ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ سَكِرَ لَا يَتَعَدَّى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سمع متعديا في البصر. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ يُقَالُ: سُكِّرَتْ أَبْصَارُهُمْ إِذَا غَشِيَهَا سُهَادٌ حَتَّى لَا يُبْصِرُوا. وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ مِنْ سُكِّرَ الْمَاءُ، وَالتَّخْفِيفُ مِنْ سُكِرَ الشَّرَابُ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سَكَرَتِ الرِّيحُ تَسْكُرُ سَكَرًا إِذَا رَكَدَتْ وَلَمْ تَنْفَذْ لِمَا انتفت بسبيله، أولا وسكرا الرَّجُلُ مِنَ الشَّرَابِ سُكْرًا إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَرَكَدَ وَلَمْ يَنْفُذْ فِيمَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سَكْرَانُ لا يَبِتُّ أَيْ: لَا يَقْطَعُ أَمْرًا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سُكِرَتْ فِي مَجَارِي الْمَاءِ إِذَا طُمِسَتْ، وَصَرَفَتِ الْمَاءَ فَلَمْ يَنْفُذْ لِوَجْهِهِ. فَإِنْ كَانَ من سكر الشراب، أو مِنْ سُكِّرَ الرِّيحُ، فَالتَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ. أَوْ مِنْ سَكَّرَ مَجَارِيَ الْمَاءِ فَلِلتَّكْثِيرِ، لِأَنَّ مُخَفَّفَهُ مُتَعَدٍّ. وَأَمَّا سَكَرَتْ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنْ كَانَ مِنْ سَكَرَ الْمَاءُ فَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، أَوْ مِنْ سَكَرَ الشَّرَابُ أَوِ الرِّيحُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ وَجَعَ زَيْدٌ وَوَجَّعَهُ غَيْرُهُ، فَتَقُولُ: سَكِرَ الرَّجُلُ وَسَكَّرَهُ غَيْرُهُ، وَسَكَرَتِ الرِّيحُ وَسَكَّرَهَا غَيْرُهَا، كَمَا جَاءَ سَعِدَ زَيْدٌ وَسَعَّدَهُ غَيْرُهُ. وَلَخَّصَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا فقال:

_ (1) سورة الحجر: 15/ 7.

وسكرت خيرت أَوْ حُبِسَتْ مِنَ السُّكْرِ، أو السكر. وقرىء بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: حُبِسَتْ كَمَا يُحْبَسُ النَّهْرُ عَنِ الْجَرْيِ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ: سُحِرَتْ أَبْصَارُنَا. وَيَجِيءُ قَوْلُهُ: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ، انْتِقَالًا إِلَى دَرَجَةٍ عُظْمَى مِنْ سِحْرِ الْعَقْلِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَفْسِيرَ مَعْنًى لَا تِلَاوَةٍ، لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَجَاءَ جَوَابُ وَلَوْ، قَوْلُهُ: لَقَالُوا أَيْ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا يُشَاهِدُونَ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْمَحْسُوسِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْتَقِدُونَ مُوَاطَأَةً عَلَى الْعِنَادِ، وَدَفْعِ الْحُجَّةِ، وَمُكَابَرَةً وَإِيثَارًا لِلْغَلَبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «1» . وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَكَانَتْ مُفَرَّعَةً عَلَى التَّوْحِيدِ، ذَكَرَ دَلَائِلَهُ السَّمَاوِيَّةَ، وَبَدَأَ بِهَا ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِالدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوُا الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي السَّمَاءِ لَعَانَدُوا فِيهَا، عَقِبَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّ فِي السَّمَاءِ لِعِبَرًا مَنْصُوبَةً عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَكُفْرِهِمْ بِهَا، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا إِصْرَارٌ مِنْهُمْ وَعُتُوٌّ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَعَلْنَا بِمَعْنَى خلقنا، وفي السَّمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، وفي السَّمَاءِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَالْبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ لُغَةً. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ، وَهِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ فِيهَا الْحَرَسُ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً «2» وَقِيلَ: الْفَلَكُ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، كُلُّ بُرْجٍ مِيلَانِ وَنِصْفٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَزَيَّنَّاهَا عَائِدٌ عَلَى الْبُرُوجِ لِأَنَّهَا الْمُحَدَّثُ عَنْهَا، وَالْأَقْرَبُ فِي اللَّفْظِ. وَقِيلَ: عَلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَخُصَّ بِالنَّاظِرِينَ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِنَظَرِ الْعَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَهُوَ مَا فِيهَا مَنْ حُسْنِ الْحُكْمِ وَبَدَائِعِ الصُّنْعِ وَغَرَائِبِ الْقُدْرَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي حَفِظْنَاهَا عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي وَزَيَّنَّاهَا عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ الضَّمَائِرُ، وَحِفْظُ السَّمَاءِ هُوَ بالرجم بالشهب على

_ (1) سورة النمل: 17/ 14. (2) سورة الجن: 72/ 8.

مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أن الشَّيَاطِينَ تَقْرُبُ مِنَ السَّمَاءِ أَفْوَاجًا فَيَنْفَرِدُ الْمَارِدُ مِنْهَا فَيَسْتَمِعُ، فَيَرْمِي بِالشِّهَابِ فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ. وَهُوَ يَلْتَهِبُ: إِنَّهُ الْأَمْرُ كَذَا وَكَذَا، فَتَزِيدُ الشَّيَاطِينُ فِي ذَلِكَ وَيُلْقُونَ إِلَى الْكَهَنَةِ فَيَزِيدُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ مِائَةَ كَلِمَةٍ» وَنَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الشُّهُبَ تَخْرُجُ وَتُؤْذِي، وَلَا تَقْتُلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَقْتُلُ. وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنَّهُ اشْتَدَّ فِي وَقْتِ الْإِسْلَامِ. وَحُفِظَتِ السَّمَاءُ حِفْظًا تَامًّا. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا لَا يُحْجَبُونَ عَنِ السموات، فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى مُنِعُوا من ثلاث سموات، فَلَمَّا وُلِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا من السموات كُلِّهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ، اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَالْمَعْنَى: فَإِنَّهَا لَمْ تُحْفَظْ مِنْهُ، ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ خَبَرِهَا شَيْئًا وَأَلْقَاهُ إِلَى الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حُفِظَتْ مِنْهُ، وَعَلَى كِلَا التقديرين فمن فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَنْ بَدَلٌ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حر عَلَى الْبَدَلِ أَيْ: إِلَّا مِمَّنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ غَيْرُ سَائِغٍ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مُوجَبٌ، فَلَا يُمْكِنُ التَّفْرِيغُ، فَلَا يَكُونُ بَدَلًا، لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ نَعْتًا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفَأَتْبَعَهُ الْخَبَرُ. وَجَازَ دُخُولُ الْفَاءِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ شَرْطٌ انْتَهَى. وَالِاسْتِرَاقُ افْتِعَالٌ مِنَ السَّرِقَةِ، وَهِيَ أَخْذُ الشَّيْءِ بِخُفْيَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَخْطِفَ الْكَلَامَ خَطْفَةً يَسِيرَةً. وَالسَّمْعُ الْمَسْمُوعُ، وَمَعْنَى مُبِينٍ: ظَاهِرٌ لِلْمُبْصِرِينَ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ: مَدَدْنَاهَا بَسَطْنَاهَا لِيَحْصُلَ بِهَا الِانْتِفَاعُ لِمَنْ حَلَّهَا. قَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ طِينَةً فَقَالَ لَهَا: انْبَسِطِي فَانْبَسَطَتْ. وَقِيلَ: بُسِطَتْ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، كَانَ النَّصْبُ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَلِذَلِكَ نَصَبَ وَالْأَرْضَ. وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تَتَكَفَّأُ بِأَهْلِهَا كَمَا تَتَكَفَّأُ السَّفِينَةُ فَثَبَّتَهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ» ومن فِي مِنْ كُلِّ لِلتَّبْعِيضِ، وَعِنْدَ الْأَخْفَشِ هِيَ زَائِدَةٌ أَيْ كُلِّ شَيْءٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيهَا يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَمْدُودَةِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْجِبَالِ، وَقِيلَ: عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَرْضِ مَعًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،

وَابْنُ جُبَيْرٍ: مَوْزُونٍ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ: وُزِنَ بِمِيزَانِ الْحِكْمَةِ، وَقُدِّرَ بِمِقْدَارٍ يَقْتَضِيهِ لَا يَصْلُحُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ مُقَدَّرٌ مُحَرَّرٌ بِقَصْدٍ وَإِرَادَةٍ، فَالْوَزْنُ عَلَى هَذَا مُسْتَعَارٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ مَا يُوزَنُ حَقِيقَةً كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوزَنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَوْزُونٍ مَقْسُومٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْدُودٌ، وقال الزمخشري: أوله وَزْنٌ وَقَدْرٌ فِي أَبْوَابِ النِّعْمَةِ وَالْمَنْفَعَةِ. وَبَسَطَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ: مَا لَهُ مَنْزِلَةٌ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ لَهُ وَزْنٌ أَيْ: قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ. وَيُقَالُ: هَذَا كَلَامٌ مَوْزُونٌ، أَيْ مَنْظُومٌ غَيْرُ مُنْتَثِرٍ. فَعَلَى هَذَا أَيْ: أَنْبَتْنَا فِيهَا، مَا يُوزَنُ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَعَادِنِ وَالْحَيَوَانِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «1» وَالْمَقْصُودُ بِالْإِنْبَاتِ الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ: مَعَائِشَ بِالْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَجْهُ تَرْكُ الْهَمْزِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعَايِشُ بِيَاءٍ صَرِيحَةٍ بِخِلَافِ الشَّمَائِلِ وَالْخَبَائِثِ، فَإِنَّ تَصْرِيحَ الْيَاءِ فِيهَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الْهَمْزَةُ، أَوْ إِخْرَاجُ الْيَاءِ بَيْنَ بَيْنَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَعَايِشِ أَوَّلَ الْأَعْرَافِ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَيُرَادُ بِهِ الْعِيَالُ وَالْمَمَالِيكُ وَالْخَدَمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَرْزُقُونَهُمْ وَيُخْطِئُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ يَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وَقَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ مَا لَا يَعْقِلُ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ كالأنعام والدواب، وما بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ مِمَّا اللَّهُ رَازِقُهُ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمُ الرَّازِقُونَ، وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ وَالْبَهَائِمُ. وَقِيلَ: الْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ وَالطَّيْرُ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ مَنْ لِمَا لَا يَعْقِلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَيُونُسَ وَالْأَخْفَشِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «3» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَأَعَشْنَا مَنْ لَسْتُمْ أَيْ: أُمَمًا غَيْرَكُمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَعَشْنَاكُمْ. وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى مَعَايِشَ أَيْ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالصُّنَّاعِ. وَقِيلَ: وَالْحَيَوَانُ. وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ لَكُمْ. وَقِيلَ: مَنْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ جَعَلْنَا لَهُ فِيهَا مَعَايِشَ. وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ أَجَازُوا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَعَمْرٌو بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ: وَعَمْرٌو ضَرَبْتُهُ، فَحَذَفَ الْخَبَرَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْخَزَائِنِ. وَإِنْ نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا مِنْ شَيْءٍ يَنْتَفِعُ به العباد إلا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 37. (2) سورة الأعراف: 7/ 10. (3) سورة البقرة: 2/ 217.

وَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَالْإِنْعَامِ بِهِ، فَتَكُونُ الْخَزَائِنُ وَهِيَ مَا يُحْفَظُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَعَارَةً مِنَ الْمَحْسُوسِ الَّذِي هُوَ الْجِسْمُ إِلَى الْمَعْقُولِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ الْخَزَائِنُ حَقِيقَةً، وَهِيَ الَّتِي تُحْفَظُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، وَأَنَّ لِلرِّيحِ مَكَانًا، وَلِلْمَطَرِ مَكَانًا، وَلِكُلِّ مَكَانٍ مَلَكٌ وَحَفَظَةٌ، فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْهُ أَخْرَجَتْهُ الْحَفَظَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ هُنَا الْمَطَرُ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَا نُرْسِلُهُ مَكَانَ وَمَا نَنَزِّلُهُ، وَالْإِرْسَالُ أَعَمُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ تَفْسِيرِ مَعْنًى لَا أَنَّهَا لَفْظُ قُرْآنٍ، لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ لَيْسَ عَامٌ أَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَزِّلُهُ فِي مَوَاضِعَ دُونَ مَوَاضِعَ. وَلَوَاقِحُ جَمْعُ لَاقِحٍ، يُقَالُ: رِيحٌ لَاقِحٌ جَائِيَاتٌ بِخَيْرٍ مِنْ إِنْشَاءِ سَحَابٍ مَاطِرٍ، كَمَا قِيلَ لِلَّتِي لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ بَلْ بِشَرٍّ رِيحٌ عَقِيمٌ، أَوْ مَلَاقِحُ أَيْ: حَامِلَاتٌ لِلْمَطَرِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: لَوَاقِحُ مَلَاقِحُ مُلَقَّحَةٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُرْسِلُ اللَّهُ الْمُبَشِّرَةَ تَقُمُّ الْأَرْضَ قمائم الْمُثِيرَةَ، فَتُثِيرُ السَّحَابَ. ثُمَّ الْمُؤَلَّفَةَ فَتُؤَلِّفُهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ. وَمَنْ قَرَأَ بِإِفْرَادِ الرِّيحِ فَعَلَى تَأْوِيلِ الْجِنْسِ كَمَا قَالُوا: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، وَسَقَى وَأَسْقَى قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ سَقَى الشَّفَةَ سَقَى فَقَطْ، أَوِ الْأَرْضَ وَالثِّمَارَ أَسْقَى، وَلِلدَّاعِي لِأَرْضٍ وَغَيْرِهَا بِالسُّقْيَا أَسْقَى فَقَطْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ بُطُونِ الْأَنْعَامِ، وَمِنَ السَّمَاءِ، أَوْ نَهْرٍ يَجْرِي: أَسْقَيْتُهُ، أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهُ مَسْقًى. فَإِذَا كَانَ لِلشَّفَةِ قَالُوا: سَقَى، وَلَمْ يَقُولُوا أَسْقَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حَتَّى رُوِيَ، وَأَسْقَيْتُهُ نَهْرًا جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ. وَجَاءَ الضَّمِيرُ هُنَا مُتَّصِلًا بَعْدَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَنُلْزِمُكُمُوها «1» وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ فِيهِ وُجُوبُ الِاتِّصَالِ. وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ أَيْ: بِقَادِرِينَ عَلَى إِيجَادِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ. هُمْ أَيْ: لَسْتُمْ بِقَادِرِينَ عَلَيْهِ حِينَ احْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: بِخَازِنِينَ أَيْ بِمَانِعِينَ الْمَطَرَ. نُحْيِي: نُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْحَيَاةِ. وَنُمِيتُ: نُزِيلُ حَيَاتَهُ. وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ الْبَاقُونَ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ. وَالْمُسْتَقْدِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْأَمْوَاتُ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ الْأَحْيَاءُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي الْخَلْقِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُخْلَقُوا بَعْدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَ الْأُمَمِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ أُمَّةُ محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أيضا:

_ (1) سورة هود: 11/ 28.

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 إلى 44]

في الطاعة والخير، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: فِي صُفُوفِ الحرب، والمستأخرين فيها. وَقِيلَ: مَنْ قُتِلَ فِي الْجِهَادِ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ. وَقِيلَ: فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ بِسَبَبِ النِّسَاءِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِنَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُتَقَاعِسِينَ عَنْهُ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى: إنه تعالى محيط علمه بِمَنْ تَقَدَّمَ وَبِمَنْ تَأَخَّرَ وَبِأَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ أَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَحْشِرُهُمْ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَأَبُو الْحَوْرَاءِ: كَانَتْ تُصَلِّي وَرَاءَ الرَّسُولِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، فَبَعْضٌ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا تَفْتِنَهُ وَبَعْضٌ يَتَأَخَّرُ لِيَسْرِقَ النَّظَرَ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ. وَفَصَلَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ فِي غاية المناسبة. [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) لَمَّا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى مُنْتَهَى الْخَلْقِ وَهُوَ الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، نَبَّهَّهُمْ عَلَى مَبْدَأِ أَصْلِهِمْ آدَمَ، وَمَا جَرَى لِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ عَقِبَ ذِكْرِ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَفِي الْأَعْرَافِ بَعْدَ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذِكْرِ الْمَوَازِينِ فِيهِ. وَفِي الْكَهْفِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَشْرِ، وَكَذَا فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ مَا أَعَدَّ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِخَلْقِهِ. فَحَيْثُ ذَكَرَ مُنْتَهَى هَذَا الْخَلْقِ ذَكَرَ مَبْدَأَهُمْ وَقِصَّتَهُ مَعَ عَدُوِّهِ إِبْلِيسَ لِيُحَذِّرَهُمْ مِنْ كَيْدِهِ، وَلِيَنْظُرُوا مَا جَرَى لَهُ مَعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ مَقَرَّ السَّعَادَةِ وَالرَّاحَةِ، إِلَى الْأَرْضِ مَقَرِّ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبِ، فيتحرزوا من كيده، ومن حَمَأٍ قَالَ الْحَوْفِيُّ بَدَلٌ مِنْ صَلْصَالٍ، بِإِعَادَةِ الْجَارِّ. وقال أبو البقاء: من حَمَأٍ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِصَلْصَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَسْنُونَ الطِّينُ وَمَعْنَاهُ الْمَصْبُوبُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَصْبُوبًا إِلَّا وَهُوَ رَطْبٌ، فَكَنَّى عَنِ الْمَصْبُوبِ بِوَصْفِهِ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمَعْمَرٌ: الْمُنْتِنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ سَنَنْتُ الْحَجْرَ عَلَى الْحَجْرِ إِذَا حَكَكْتَهُ بِهِ، فَالَّذِي يَسِيلُ بَيْنَهُمَا سَنِينٌ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُنْتِنًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ أَسِنَ الْمَاءُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَلَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ. وَقِيلَ: مَصْبُوبٌ مِنْ سَنَنْتُ التُّرَابَ وَالْمَاءَ إِذَا صَبَبْتَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أُفْرِغُ صُورَةَ إِنْسَانٍ كَمَا تُفْرَغُ الصُّوَرُ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُذَوَّبَةِ فِي أمثلتها. قال الزمخشري: وحق مَسْنُونٍ بِمَعْنَى مُصَوَّرٍ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِصَلْصَالٍ، كَأَنَّهُ أَفْرَغَ الْحَمَأَ فَصَوَّرَ مِنْهَا تِمْثَالَ إِنْسَانٍ أَجْوَفَ، فَيَبِسَ حَتَّى إِذَا نَقَرَ صَلْصَلٌ ثُمَّ غَيَّرَهُ بَعْدَ. ذَلِكَ إِلَى جَوْهَرٍ آخَرَ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَسْنُونَ الْمُصَوَّرُ مِنْ سُنَّةِ الْوَجْهِ، وَهِيَ صُورَتُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ وَقِيلَ: الْمَسْنُونَ الْمَنْسُوبُ أَيْ: يُنْسَبُ إِلَيْهِ ذُرِّيَّتُهُ. وَالْجَانُّ: هُوَ أَبُو الْجِنِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجَانُّ لِلْجِنِّ كَآدَمَ لِلنَّاسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِبْلِيسُ، خُلِقَ قَبْلَ آدَمَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُوَ اسْمٌ لِجِنْسِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسَانُ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ، وَمِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: وَالْجَأْنُ بِالْهَمْزِ. وَالسَّمُومُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَقْتُلُ. وَعَنْهُ: نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا، مِنْهَا تَكُونُ الصَّوَاعِقُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَارٌ دُونَهَا حِجَابٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَفَسُ النَّارِ، وَعَنْهُ: لَهَبُ النَّارِ. وَقِيلَ: نَارُ اللَّهَبِ السُّمُومُ. وَقِيلَ: أَضَافَ الْمَوْصُوفَ إِلَى صِفَتِهِ أَيِ: النَّارُ السُّمُومُ. وَسَوَّيْتُهُ أَكْمَلْتُ خَلْقَهُ، وَالتَّسْوِيَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْقَانِ، وَجَعْلِ أَجْزَائِهِ مُسْتَوِيَةً فِيمَا خُلِقَتْ. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أَيْ: خَلَقْتُ الْحَيَاةَ فِيهِ، وَلَا نَفْخَ هُنَاكَ، وَلَا مَنْفُوخَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِتَحْصِيلِ مَا يحيي بِهِ فِيهِ. وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى

سَبِيلِ التَّشْرِيفِ نَحْوَ: بَيْتُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، أَوْ الْمِلْكُ إِذْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ في الإنشاء للروح، ولمودعها حَيْثُ يَشَاءُ. وَقَعُوا لَهُ أَيِ: اسْقُطُوا عَلَى الْأَرْضِ. وَحَرْفُ الْجَرِّ مَحْذُوفٌ مِنْ أَنْ أَيْ: مَا لَكَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ. وَأَيُّ: دَاعٍ دَعَا بِكَ إلى إبائك السجود. ولا سجد اللَّامُ لَامُ الْجُحُودِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُنَاسِبُ حَالِي السُّجُودَ لَهُ. وَفِي الْبَقَرَةِ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ لَهُ وَهِيَ الِاسْتِكْبَارُ أَيْ: رَأَى نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ يَسْجُدَ. وَفِي الْأَعْرَافِ صَرَّحَ بِجِهَةِ الِاسْتِكْبَارِ، وَهِيَ ادِّعَاءُ الْخَيْرِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ بِادِّعَاءِ الْمَادَّةِ الْمَخْلُوقِ مِنْهَا كُلٌّ مِنْهُمَا. وَهُنَا نَبَّهَ عَلَى مَادَّةِ آدَمَ وَحْدَهُ، وَهُنَا فَاخْرُجْ مِنْهَا وَفِي الْأَعْرَافِ: فَاهْبِطْ مِنْها «1» وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ مِنْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مِنْهَا مَبَاحِثُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، أَعَادَهَا الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، وَنَحْنُ نُحِيلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إِلَّا مَا لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ. فَنَقُولُ: وَضَرَبَ يَوْمَ الدِّينِ غَايَةً لِلَّعْنَةِ، إِمَّا لأنه أبعد غاية يضربها النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّكَ مَذْمُومٌ مَدْعُوٌّ عَلَيْكَ بِاللَّعْنَةِ فِي السموات وَالْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعَذَّبَ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمُ عُذِّبْتَ بِمَا يُنْسِي اللَّعْنَ مَعَهُ. وَيَوْمُ الدِّينِ، وَيَوْمُ يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، وَاحِدٌ. وَهُوَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأَوْلَى حَتَّى تَمُوتَ الْخَلَائِقُ. وَوُصِفَ بِالْمَعْلُومِ إِمَّا لِانْفِرَادِ اللَّهِ بِعِلْمِهِ كَمَا قَالَ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي «2» إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «3» أَوْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فَنَاءُ الْعَالَمِ فِيهِ، فَيَكُونُ قَدْ عَبَّرَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَبِيَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَيَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، بِمَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى إِغْوَائِهِ إِيَّاهُ نِسْبَتُهُ لِغَيِّهِ، بِأَنْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى غَيِّهِ. وَمَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ الْأَحْسَنِ، وَتَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ بِالتَّوَاضُعِ، وَالْخُضُوعِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ إِبْلِيسَ اخْتَارَ الْإِبَاءَ وَالِاسْتِكْبَارَ فهلك، والله تعالى بريء مِنْ غَيِّهِ وَمِنْ إِرَادَتِهِ وَالرِّضَا بِهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بَلْ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ ذُرِّيَّةُ آدَمَ. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «4» والتزين تَحْسِينُ الْمَعَاصِي لَهُمْ وَوَسْوَسَتُهُ حَتَّى يَقَعُوا فِيهَا فِي الْأَرْضِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْغُرُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ «5» أَوْ أَرَادَ أَنِّي أَقْدِرُ عَلَى الاحتيال

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 13. (2) سورة الأعراف: 7/ 187. (3) سورة لقمان: 31/ 34. [.....] (4) سورة الإسراء: 17/ 62. (5) سورة الأعراف: 7/ 176.

لِآدَمَ، وَالتَّزْيِينِ لَهُ الْأَكْلُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، فَأَنَا عَلَى التَّزْيِينِ لِأَوْلَادِهِ أَقْدَرُ. أَوْ أَرَادَ لأجعلن مكان التزين عندهم الأرض، ولأرفعن رتبني فِيهَا أَيْ: لَأُزَيِّنَّهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَلَأُحَدِّثَنَّهُمْ بِأَنَّ الزِّينَةَ فِي الدُّنْيَا وَحْدَهَا حَتَّى يَسْتَحِبُّوهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيْهَا دُونَهَا، وَنَحْوَهُ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نُصَلِّي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِلَّا عِبَادَكَ اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ، إِذِ الْمُخْلَصُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَاوِينَ قَلِيلٌ، وَاسْتِثْنَاؤُهُمْ إِبْلِيسُ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ تَزْيِينَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَلَالَةِ هَذَا الْوَصْفِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الطَّائِعُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَنَافِعٌ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ: بِفَتْحِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ أَخْلَصْتَهُ لِلطَّاعَةِ أَنْتَ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَزْيِينِي. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا أَيْ: إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَلَمْ يُشْرِكْ فيه غيره. ولا راءى بِهِ، وَالْفَاعِلُ لَقَالَ اللَّهُ أَيْ: قَالَ اللَّهُ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْمُخْلَصِينَ مِنَ الْمَصْدَرِ أَيِ: الْإِخْلَاصُ الَّذِي يَكُونُ فِي عِبَادِي هُوَ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ لَا يَسْلُكُهُ أَحَدٌ فَيَضِلُّ أَوْ يَزِلُّ، لِأَنَّ مَنِ اصْطَفَيْتُهُ أَوْ أَخْلَصَ لِي الْعَمَلَ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَمَّا قَسَّمَ إِبْلِيسُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ إِلَى غَاوٍ وَمُخْلَصٍ قَالَ تَعَالَى: هَذَا أَمْرٌ مَصِيرُهُ إِلَيَّ، وَوَصَفَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ، أَيْ: هُوَ حَقٌّ، وَصَيْرُورَتُهُمْ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَيْسَتْ لَكَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طَرِيقُكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ أَيْ: إِلَيْهِ يَصِيرُ النَّظَرُ فِي أَمْرِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا طَرِيقٌ حَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أُرَاعِيَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِي، إِلَّا مَنِ اخْتَارَ اتِّبَاعَكَ مِنْهُمْ لِغَوَايَتِهِ انْتَهَى. فَجَعَلَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى انْتِفَاءِ تَزْيِينِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَكَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا اسْتَثْنَاهُ إِبْلِيسُ، وَإِلَى مَا قَرَّرَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي. وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: أَيْ: هَذَا صِرَاطٌ عُهْدَةُ اسْتِقَامَتِهِ عَلَيَّ. وَفِي حِفْظِهِ أَيْ: حِفْظُهُ عَلَيَّ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ غَيْرُ مُعْوَجٍّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى عَلَيَّ إِلَيَّ. وَقِيلَ: عَلَيَّ كَأَنَّهُ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ مَرَّ عَلَيَّ أَيْ: عَلَى رِضْوَانِي وَكَرَامَتِي. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمُ. وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَحُمَيْدٌ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَعِمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَأَبُو شَرَفٍ مَوْلَى كِنْدَةَ، وَيَعْقُوبُ: عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: عَالٍ لِارْتِفَاعِ شَأْنِهِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَكِّدُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ. وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي، إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ أَيْ: أَنَّ الْمُخْتَصِّينَ بِعِبَادَتِي، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قوله: إلا من اتبعك، اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي: وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِعِبَادِي عُمُومُ الْخَلْقِ فَيَكُونُ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومٍ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، وَبَقَاءُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَقَلُّ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا النُّحَاةُ. فَأَجَازَ

[سورة الحجر (15) : الآيات 45 إلى 99]

ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَتَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ، وَدَلَائِلُ ذَلِكَ مُسَطَّرَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا اسْتَثْنَى الْعِبَادَ الْمُخْلَصِينَ كَانَتِ الصِّفَةُ مَلْحُوظَةً فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي أَيْ: عِبَادِي الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. ومن في من الْغَاوِينَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَيْ: الَّذِينَ هُمُ الْغَاوُونَ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْجِنَّ يُمْكِنُهُمْ صَرْعُ النَّاسِ وَإِزَالَةُ عُقُولِهِمْ كَمَا تَقُولُ الْعَامَّةُ، وَرُبَّمَا نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى السَّحَرَةِ. قَالَ: وَذَلِكَ خِلَافُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلِمَوْعِدِهِمْ مَكَانَ وَعْدِ اجْتِمَاعِهِمْ وَالضَّمِيرُ لِلْغَاوِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا جُنُوحٌ لِمَذْهَبِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَجْمَعِينَ تَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ الْوَقْتِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَدْلُولَهُ مَدْلُولُ كُلِّهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ وَاحِدَةٌ، وَلَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ. وَقِيلَ: أَبْوَابُ النَّارِ أَطْبَاقُهَا وَأَدْرَاكُهَا، فَأَعْلَاهَا لِلْمُوَحِّدِينَ، وَالثَّانِي لِلْيَهُودِ، وَالثَّالِثُ لِلنَّصَارَى، وَالرَّابِعُ للصائبين، وَالْخَامِسُ لِلْمَجُوسِ، وَالسَّادِسُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالسَّابِعُ لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ: جَزَّ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ من غير همز، ووجهه أَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الزَّايِ، ثُمَّ وَقَفَ بِالتَّشْدِيدِ نَحْوَ: هَذَا فَرْجٌ، ثُمَّ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَاخْتُلِفَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ بِضَمِّ الزَّايِ، وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ مِنَ النَّاسِخِ، لِأَنِّي وَجَدْتُ فِي التَّحْرِيرِ: وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ بِضَمِّهَا مَهْمُوزًا فِيهِمَا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ دُونَ هَمْزٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ الْقَعْقَاعِ. وَأَنَّ فِرْقَةً قَرَأَتْ بِالتَّشْدِيدِ مِنْهُمُ: ابْنُ الْقَعْقَاعِ. وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَكِتَابِ اللَّوَامِحِ: أَنَّهُ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي اللَّوَامِحِ هُوَ وأبو جعفر. [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

السُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ، كَكَلِيبٍ وَكُلُبٍ. وَبَعْضُ تَمِيمٍ يَفْتَحُ الرَّاءَ، وَكَذَا كُلُّ مُضَاعَفَةٍ فَعِيلٌ. النَّصَبُ: التَّعَبُ. الْقُنُوطُ: أَتَمُّ الْيَأْسِ، يُقَالُ: قَنِطَ يَقْنَطُ بِفَتْحِهَا، وَقَنَطَ بِفَتْحِ النُّونِ يَقْنِطُ بِكَسْرِهَا وَبِضَمِّهَا. الْفَضْحُ وَالْفَضِيحَةُ مَصْدَرَانِ لِفَضَحَ يَفْضَحُ، إِذَا أَتَى مِنْ أَمْرِ الْإِنْسَانِ مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْعَارُ، وَيُقَالُ: فَضَحَكَ الصُّبْحُ، إِذَا تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَاحَ ضَوْءُ هِلَالٍ كَادَ يَفْضَحُنَا ... مِثْلُ الْقُلَامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفْرِ التَّوَسُّمُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا، يُقَالُ: تَوَسَّمَ فِيهِ الْخَيْرَ إِذَا رَأَى مِيسَمَ ذَلِكَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَجْمَعَهُ ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَوَسَّمْتُ لَمَّا أَنْ رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ وَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ وَاتَّسَمَ الرَّجُلُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا، وَتَوَسَّمَ الرجل طلب كلاء الْوَسْمِيِّ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْوَاسِمُ النَّاظِرُ إِلَيْكَ مِنْ فَرْقِكَ إِلَى قَدَمِكَ. وَأَصْلُ التَّوَسُّمِ التَّثَبُّتُ وَالتَّفَكُّرُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ. الْأَيْكَةُ: الشَّجَرَةُ الْمُلْتَفَّةُ وَاحِدَةُ أَيْكٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَجْلُو بِقَادِمَتِي حَمَامَةُ أَيْكَةٍ ... بَرَدًا أَسِفَ لَثَاتَهُ بِالْإِثْمِدِ الْخَفْضُ مُقَابِلَ الرَّفْعِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِلَانَةِ وَالرِّفْقِ. عِضِينَ: جَمْعُ عِضَةٍ، وَأَصْلُهَا الْوَاوُ وَالْهَاءُ يُقَالُ: عَضَّيْتُ الشَّيْءَ تَعْضِيَةً فَرَّقْتُهُ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ عِضَةٌ، فَأَصْلُهُ عُضْوَةٌ. وَقِيلَ: الْعِضَهُ فِي قُرَيْشٍ السِّحْرُ، يَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ: عَاضِهٌ، وَلِلسَّاحِرَةِ: عَاضِهَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَاتِ ... فِي عُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْعَاضِهَةَ وَالْمُسْتَعْضِهَةَ» وَفُسِّرَ بِالسَّاحِرِ وَالْمُسْتَسْحِرَةِ، فَأَصْلُهُ

الْهَاءُ. وَقِيلَ: مِنَ الْعِضَهِ يُقَالُ: عَضَهَهُ عِضَهًا، وَعَضِيهَةً رَمَاهُ بِالْبُهْتَانِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعِضَةُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ، وَجَمْعُهَا عُضُونُ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ عِضِينَ مِنَ الْعِضَاةِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ تُؤْذِي تَخْرُجُ كَالشَّوْكِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَلْزَمُ الْيَاءَ وَيَجْعَلُ الْإِعْرَابَ فِي النُّونِ فَيَقُولُ: عِضِينُكَ كَمَا قَالُوا: سِنِينُكَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي تَمِيمٍ وَأَسَدٍ. الصَّدْعُ: الشَّقُّ، وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ تَفَرَّقُوا، وَصَدَعْتُهُ فَانْصَدَعَ أَيْ شَقَقْتُهُ فَانْشَقَّ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: أَصْدَعُ أَفْصِلُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَفْصِدُ. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ النَّارِ، ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، لِيُظْهِرَ تَبَايُنَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ مُعْتَنًى بِهِ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، جَعَلَ مَا يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ فِي الْآخِرَةِ كَأَنَّهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ: ادْخُلُوهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي الشَّيْءِ لَا يُقَالُ لَهُ: أُدْخِلَ فِيهِ. وَجَاءَ حَالُ الْغَاوِينَ مَوْعُودًا بِهِ فِي قَوْلِهِ: لَمَوْعِدُهُمْ «1» لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا. وَالْعُيُونُ: جَمْعٌ عَيْنٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عُمَرَ، وَحَفْصٌ، وَهِشَامٌ: وَعُيُونٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: ادْخُلُوهَا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْإِدْخَالِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةِ رُوَيْسٍ كَذَلِكَ، وَبِضَمِّ التَّنْوِينِ، وَعَنْهُ فَتْحُهُ. وَمَا بَعْدَهُ أَمْرٌ عَلَى تَقْدِيرٍ: أَدْخِلُوهَا إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِدْخَالِ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِإِدْخَالِ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ، وَتَسْقُطُ الْهَمْزَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ادْخُلُوهَا أَمْرٌ مِنَ الدُّخُولِ. فَعَلَى قِرَاءَتَيِ الْأَمْرِ، ثَمَّ مَحْذُوفٌ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ يُقَالُ للملائكة. وبسلام فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَصْحُوبِينَ بِالسَّلَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مُسَلَّمًا عَلَيْكُمْ أَيْ: مُحَيَّوْنَ، كَمَا حُكِيَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْأَعْرَافِ «2» . قِيلَ: وَانْتَصَبَ إِخْوَانًا عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَالْحَالُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا لِمَا أُضِيفَ عَلَى سَبِيلِ الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ تَنْدُرُ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ المضاف جزأ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَهَذَا، لِأَنَّ الصُّدُورَ بَعْضُ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ وَكَالْجُزْءِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «3» جَاءَتِ الْحَالُ مِنَ الْمُضَافِ. وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ لَهُ تَأْوِيلٌ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا، فَتَأْوِيلُهُ هُنَا أنه منصوب

_ (1) سورة الحجر: 15/ 43. (2) سورة الأعراف: 7/ 43. (3) سورة النساء: 4/ 125.

عَلَى الْمَدْحِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْدَحُ إِخْوَانًا. لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلضَّمِيرِ قُطِعَ مِنْ إِعْرَابِهِ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي: ادْخُلُوهَا، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي: آمِنِينَ. وَمَعْنَى إِخْوَانًا: ذَوُو تَوَاصُلٍ وَتَوَادُدٍ. وَعَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ: حَالَانِ. وَالْقُعُودُ عَلَى السَّرِيرِ: دَلِيلٌ عَلَى الرِّفْعَةِ وَالْكَرَامَةِ التَّامَّةِ كَمَا قَالَ: يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى سُرُرٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُتَقَابِلِينَ مُتَسَاوِينَ فِي التَّوَاصُلِ وَالتَّزَاوُرِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى قَفَا بَعْضٍ، تَدُورُ بِهِمُ الْأَسِرَّةُ حَيْثُ مَا دَارُوا، فَيَكُونُونَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُتَقَابِلِينَ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا مَحَلَّ تَعَبٍ بِمَا يُقَاسَى فِيهَا مِنْ طَلَبِ الْمَعِيشَةِ، وَمُعَانَاةِ التَّكَالِيفِ الضَّرُورِيَّةِ لِحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَمُعَاشَرَةِ الْأَضْدَادِ، وَعُرُوضِ الْآفَاتِ وَالْأَسْقَامِ، وَمَحَلَّ انْتِقَالٍ مِنْهَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى مَخُوفٌ أَمْرُهَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِ، لَا مَحَلَّ إِقَامَةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ. وَإِذَا انْتَفَى الْمَسُّ، انْتَفَتِ الدَّيْمُومَةُ. وَأَكَّدَ انْتِفَاءَ الْإِخْرَاجِ بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي: بِمُخْرَجِينَ. وَقِيلَ: لِلثَّوَابِ أَرْبَعُ شَرَائِطَ أَنْ يَكُونَ مَنَافِعَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ خَالِصَةً عَنْ مَظَانِّ الشَّوَائِبِ الرُّوحَانِيَّةِ: كَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالْغِلِّ، وَالْجُسْمَانِيَّةِ كَالْإِعْيَاءِ، وَالنَّصَبِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَنَزَعْنَا إِلَى لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ دَائِمَةٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ قَوْلَهُ وَنَزَعْنَا الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ، وَالْغِلُّ غِلُّ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: كَانَتْ بَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ وَهَاشِمٍ أَضْغَانٌ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا تَحَابُّوا. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا فِي النَّارِ، وَذِكْرُ مَا فِي الْجَنَّةِ، أَكَّدَ تَعَالَى تَنْبِيهَ النَّاسِ. وَتَقْرِيرَ ذَلِكَ وَتَمْكِينَهُ فِي النفس بقوله: نبىء عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ اتِّصَالُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ. وَتَقْدِيمًا لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفَ بِهِمَا نَفْسَهُ وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ عَذَابِي، فِي غَايَةِ اللُّطْفِ إِذْ لَمْ يَقُلْ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ. وَأَنِّي الْمُعَذَّبُ الْمُؤْلَمُ، كُلُّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ لِجِهَةِ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ. وَسَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ نبىء إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَعَدَّتْ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَمَسَدَّ وَاحِدٍ إِنْ قُلْنَا: تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ، وَعَذَابُهُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ. وَفِي قوله: نبىء الْآيَةَ، تَرْجِيحُ جِهَةِ الْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذَا التَّبْلِيغِ، فَكَأَنَّهُ إِشْهَادٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الْمَغْفِرَةِ

وَالرَّحْمَةِ. وَكَوْنُهُ أَضَافَ الْعِبَادَ إِلَيْهِ فَهُوَ تَشْرِيفٌ لَهُمْ، وَتَأْكِيدُ اسْمِ أَنَّ بِقَوْلِهِ: أَنَا. وَإِدْخَالُ الْ عَلَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَكَوْنُهُمَا جَاءَتَا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَالْبَدَاءَةِ بِالصِّفَةِ السَّارَّةِ أَوَّلًا وَهِيَ الْغُفْرَانُ، وَاتِّبَاعُهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي نَشَأَ عَنْهَا الْغُفْرَانُ وَهِيَ الرَّحْمَةُ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ مَا تَوَرَّعَ عَنْ حَرَامٍ وَلَوْ يَعْلَمُ قَدْرَ عَذَابَهُ لَبَخَعَ نَفْسَهُ» وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بَنُو شَيْبَةَ وَنَحْنُ نَضْحَكُ فَقَالَ: «أَلَا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ» ثُمَّ أَدْبَرَ حَتَّى إذا كان عناء الْحَجَرِ، رَجَعَ إِلَيْنَا الْقَهْقَرَى فَقَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ يَقُولُ اللَّهُ لم تقنط عبادي نبىء عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِلْعَاصِينَ مِنَ النَّارِ، وَلِلطَّائِعِينَ مِنَ الْجَنَّةِ، ذَكَّرَ الْعَرَبَ بِأَحْوَالِ مَنْ يَعْرِفُونَهُ مِمَّنْ عَصَى وَكَذَبَ الرُّسُلَ فَحَلَّ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِيَزْدَجِرُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، وَلِيَعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ. فَبَدَأَ بِذِكْرِ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا جَرَى لِقَوْمِ ابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ، ثُمَّ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الْحِجْرِ وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ، ثُمَّ بِأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَنَبِيُّهُمْ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً. وَضَيْفُ إِبْرَاهِيمَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، وَبِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ. وَأُضِيفُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَضْيَافًا، لِأَنَّهُمْ فِي صُورَةِ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْأَضْيَافِ، إِذْ كَانَ لَا يَنْزِلُ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا ضَافَهُ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا الضِّيفَانِ. وَكَانَ لِقَصْرِهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بَابٌ، لِئَلَّا يَفُوتَهُ أَحَدٌ. وَالضَّيْفُ أَصْلُهُ الْمَصْدَرُ، وَالْأَفْصَحُ أَنْ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ إِضْمَارٍ كَمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ مِنْ تَقْدِيرِ: أَصْحَابِ ضَيْفٍ. وَسَلَامًا مُقْتَطِعٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْكِيَّةٍ بِقَالُوا، فَلَيْسَ مَنْصُوبًا بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَلَّمْتُ سَلَامًا مِنَ السَّلَامَةِ، أَوْ سَلَّمْنَا سَلَامًا مِنَ التَّحِيَّةِ. وَقِيلَ: سَلَامًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَقَالُوا قَوْلًا سَلَامًا، وَتَصْرِيحُهُ هنا بأنه وجل مِنْهُمْ، كَانَ بَعْدَ تَقْرِيبِهِ إِلَيْهِمْ مَا أَضَافَهُمْ بِهِ وَهُوَ الْعِجْلُ الْحَنِيذُ، وَامْتِنَاعُهُمْ من الأكل وفي هو ذاته أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، فَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا التَّصْرِيحَ كَانَ بَعْدَ إِيجَاسِ الْخِيفَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ هُنَا مَجَازًا بِأَنَّهُ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْخَوْفِ حَتَّى صَارَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ الْقَائِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَوْجَلْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ من

الإيجال. وقرىء: لَا تَاجَلْ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ أَلِفًا كَمَا قَالُوا: تَابَةٌ في توبة. وقرىء: لَا تُوَاجِلْ مِنْ وَاجَلَهُ بِمَعْنَى أَوْجَلَهُ. إِنَّا نُبَشِّرُكَ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَجِلِ، أَيْ: إِنَّكَ بِمَثَابَةِ الْآمِنِ الْمُبَشِّرِ فَلَا تَوْجَلْ. وَالْمُبَشَّرُ بِهِ هُوَ إِسْحَاقُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَشَبَّ بَشَّرُوهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرٌ. وَالثَّانِي: وَصَفَهُ بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. فَقِيلَ: النُّبُوَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا «1» وَقِيلَ: عَلِيمٌ بِالدِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: بَشَّرْتُمُونِي بِغَيْرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَعَلَى أَنَّ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: الْكُبْرُ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَاسْتَنْكَرَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُولَدَ لَهُ مَعَ الْكِبَرِ. وفبم تُبَشِّرُونِ، تَأْكِيدُ اسْتِبْعَادٍ وَتَعَجُّبٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ رُسُلِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ، وَاسْتَنْكَرَ أَنْ يُولَدَ لَهُ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ مَا تَعَجَّبَ وَلَا اسْتَنْكَرَ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عِيَانًا كَيْفَ أَحْيَا الْمَوْتَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ: فَبِأَيِّ أُعْجُوبَةٍ تُبَشِّرُونِي، أَوْ أَرَادَ أَنَّكُمْ تُبَشِّرُونَنِي بِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْعَادَةِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُبَشِّرُونَ؟ يَعْنِي: لَا تُبَشِّرُونِي فِي الْحَقِيقَةِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ بِمِثْلِ هَذَا بِشَارَةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ صِلَةً لِبَشَرٍ، وَيَكُونُ سُؤَالًا عَلَى الْوَجْهِ وَالطَّرِيقَةِ يَعْنِي: بِأَيِّ طَرِيقَةٍ تُبَشِّرُونَنِي بِالْوَلَدِ، وَالْبِشَارَةُ بِهِ لَا طَرِيقَةَ لَهَا فِي الْعَادَةِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَعَلَى وَصْفِي بِالْكِبَرِ، أَمْ عَلَى أَنِّي أُرَدُّ إِلَى الشَّبَابِ؟ وَقِيلَ: لَمَّا اسْتَطَابَ الْبِشَارَةَ أَعَادَ السُّؤَالَ، وَيُضْعِفُ هَذَا قَوْلَهُمْ لَهُ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُبَشِّرُونِّي بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، أَدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. وَابْنُ كَثِيرٍ: بِشَدِّهَا مَكْسُورَةً دُونَ يَاءٍ. وَنَافِعٌ يَكْسِرُهَا مُخَفَّفَةً، وَغَلَّطَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: هَذَا يَكُونُ فِي الشِّعْرِ اضْطِرَارًا، وَخُرِّجَتْ عَلَى أَنَّهُ حَذَفَ نُونَ الْوِقَايَةِ وَكَسَرَ نُونَ الرَّفْعِ لِلْيَاءِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِدَلَالَةِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهَا. وَقَالُوا هُوَ مِثْلُ قوله: يسوء القاليات إِذَا قَلَيْنِي وَقَوْلِ الْآخَرِ: لَا أَبَاكِ تُخَوِّفِينِي وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحٍ وَهِيَ عَلَامَةُ الرَّفْعِ. قَالَ الْحَسَنُ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِقَارِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْمُبَشِّرَاتِ لِمُضِيِّ الْعُمْرِ وَاسْتِيلَاءِ الْكِبَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَجِبَ مِنْ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 112.

كِبْرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ سِنِّهِ وَقْتَ الْبِشَارَةِ. وَبِالْحَقِّ أَيْ بِالْيَقِينِ الَّذِي لَا لَبْسَ فِيهِ، أَوْ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ، وَهِيَ قَوْلُ اللَّهِ وَوَعْدُهُ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُوجِدَ وَلَدًا مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْنِ، فَكَيْفَ مِنْ شَيْخٍ فَانٍ، وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، والأعمش، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مِنَ الْقَنْطِينِ، مِنْ قَنِطَ يَقْنَطُ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَالْأَعْمَشُ: ومن يقنط، وفي الروم والزمر بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي والأشهب بضمها. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي ضِمْنِهِ النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الضَّالُّونَ وَقَوْلُهُمْ لَهُ: فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ نَهْيٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَلَبُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِهِ وَلَا بِمُقَارَنَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْنَطُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْمُحَاوَرَةَ فِي الْبِشَارَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقُنُوطِ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ لِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هِبَةَ الْوَلَدِ عَلَى الْكِبَرِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِذْ يَشُدُّ عَضُدَ وَالِدِهِ بِهِ وَيُؤَازِرُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ لَا يَسْتَقِلُّ وَيَرِثُ مِنْهُ عِلْمَهُ وَدِينَهُ. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ: لَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ رَاجَعُوهُ فِي ذَلِكَ، عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ، فَاسْتَفْهَمَ بِقَوْلِهِ: فَمَا خَطْبُكُمْ؟ الْخَطْبُ لَا يَكَادُ يُقَالُ أَلَا فِي الْأَمْرِ الشَّدِيدِ، فَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ حَامِلُوهُ إِلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ. وَنَكَّرَ قَوْمًا وَصِفَتَهُمْ تَقْلِيلًا لَهُمْ وَاسْتِهَانَةً بِهِمْ، وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ أَهْلِ مَدِينَةِ سَدُومَ وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا بِالْهَلَاكِ. وَإِلَّا آلَ لُوط: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الضمير المستكن فِي مُجْرِمِينَ وَالتَّقْدِيرُ: أَجْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا آلَ لُوطٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجْرِمُوا. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ نَجَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُجْرِمُوا، وَيَكُونُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ مُنْسَحِبًا عَلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَعَلَى آلِ لُوطٍ لِإِهْلَاكِ هَؤُلَاءِ، وَإِنْجَاءِ هَؤُلَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ آلَ لُوطٍ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي قَوْلِهِ: قوم مجرمين، لا على عموم البدل، لأنّ وصف الإجرام منتف عن آلَ لُوطٍ، وَلَا عَلَى عُمُومِ الشُّمُولِ لِتَنْكِيرِ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، وَلِانْتِفَاءِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ عَنْ آلِ لُوطٍ. وَإِذَا كان استثناء منقطعا فَهُوَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ النَّصْبُ، لِأَنَّهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ بِوَجْهِ الْعَامِلِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَيْهِمْ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أُرْسِلُوا إِلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ

جَرَى مَجْرَى خَبَرِ، لَكِنَّ فِي اتِّصَالِهِ بِآلِ لُوطٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَكِنَّ آلَ لُوط مُنْجَوْنَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ الْمُقَدَّرِ بَلَكِنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِجَرَيَانِ إِلَّا وَتَقْدِيرِهَا بَلَكِنَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَقَوْلُهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ مِمَّ اسْتَثْنَى، وَهَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ؟ (قُلْتُ) : اسْتُثْنِيَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: لَمُنَجُّوهُمْ، وَلَيْسَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ، لأن الاستثناء من الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ فِيهِ، وَأَنْ يُقَالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ إِلَّا آلَ لوط إلا امْرَأَتِهِ، كَمَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ فِي قَوْلِ الْمُطَلِّقِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَفِي قَوْلِ الْمُقِرِّ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمًا. فَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحُكْمَانِ، لِأَنَّ إِلَّا آلَ لُوطٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَرْسَلْنَا أَوْ بِمُجْرِمِينَ، وَإِلَّا امْرَأَتَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِمُنَجُّوهُمْ، فَأَنَّى يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنِ اسْتِثْنَاءٍ: انْتَهَى. وَلَمَّا اسْتَسْلَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ إِلَّا امْرَأَتَهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَمُنَجُّوهُمْ، لَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ اسْتِثْنَاءٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ فِي لَمُنَجُّوهُمْ عَائِدٌ عَلَى آلِ لُوطٍ، وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَرْأَةَ، صَارَ كَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ آلِ لُوطٍ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ قوله: إلا آل لوط، لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْحُكْمِ عَلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ اقْتَضَى ذَلِكَ نَجَاتَهُمْ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، إِذِ الْمَعْنَى إِلَّا آلَ لُوطٍ، فَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ، وَنَجَاتُهُمْ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى عَدَمِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَإِلَّا زَيْدًا لَمْ يَقُمْ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا بِضِدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِلَّا امْرَأَتَهُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ آلِ لُوطٍ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِمَّا جِيءَ بِهِ لِلتَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا جِيءَ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: لَمُنَجُّوهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: قَدَرْنَا بِالتَّخْفِيفِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ، وَكُسِرَتْ إِنَّهَا إِجْرَاءً لِفِعْلِ التَّقْدِيرِ مَجْرَى الْعِلْمِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ بِمَعْنَاهُ، وَإِمَّا لِتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ. وَأَسْنَدُوا التَّقْدِيرَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَقُولُوا: قَدَّرَ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِإِهْلَاكِهِمْ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَلُوذُ بِالْمَلِكِ وَمَنْ هُوَ مُتَصَرِّفٌ بِأَوَامِرِهِ: أَمَرَنَا بِكَذَا، وَالْآمِرُ هُوَ الْمَلِكُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ الَّذِي لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ انْتَهَى. فَأَدْرَجَ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ فِي غُضُونِ كَلَامِهِ، وَوَصَفَ قَوْمٌ بِمُنْكِرُونَ لِأَنَّهُ نَكِرَتْهُمْ نَفْسُهُ وَنَفَرَتْ مِنْهُمْ، وَخَافَ أَنْ يَطْرُقُوهُ بِشَرٍّ. وَبَلْ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلٍ

مَحْذُوفٍ أَيْ: مَا جِئْنَاكَ بِشَيْءٍ تَخَافُهُ، بَلْ جِئْنَاكَ بِالْعَذَابِ لِقَوْمِكَ، إِذْ كَانُوا يَمْتَرُونَ فِيهِ أَيْ: يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِهِ، أَوْ يُجَادِلُونَكَ فِيهِ تَكْذِيبًا لَكَ بِمَا وَعَدَتْهُمْ عَنِ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَكِرَهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَيْسُوا بِمَعْرُوفِينَ فِي هَذَا الْقُطْرِ، فَخَافَ الْهُجُومَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَتَعَرَّضَ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ إِذْ كَانُوا فِي صُورَةِ شَبَابٍ حِسَانٍ مُرْدٍ. وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْيَقِينِ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فِي الْإِخْبَارِ لِحُلُولِهِ بِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي فَأَسْرِ. وَرَوَى صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ فُسِّرَ مِنَ السَّيْرِ، وَحَكَاهَا ابن عطية وصاحب اللوامح عَنِ الْيَمَانِيِّ. وَحَكَى الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ فِرْقَةً قَرَأَتْ بِقَطْعٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْقَطْعِ وَفِي الِالْتِفَاتِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ أَدْبَارِهِمْ، وَنَهْيِهِمْ عَنِ الِالْتِفَاتِ؟ (قُلْتُ) : قَدْ بَعَثَ اللَّهُ الْهَلَاكَ عَلَى قَوْمِهِ وَنَجَّاهُ وَأَهْلَهُ، إِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي شُكْرِ اللَّهِ وَإِدَامَةِ ذِكْرِهِ وَتَفْرِيغِ بَالِهِ، لِذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَنْ يُقَدِّمَهُمْ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِمَنْ خَلْفَهُ قَلْبُهُ، وَلِيَكُونَ مُطَّلِعًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَهْوَالِهِمْ، فَلَا يُفَرِّطُ مِنْهُمُ الْتِفَاتَةٌ احْتِشَامًا مِنْهُ وَلَا غَيْرُهَا مِنَ الْهَفَوَاتِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمَهُولَةِ الْمَحْذُورَةِ، وَلِئَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِغَرَضٍ لَهُ فَيُصِيبَهُ، وَلِيَكُونَ مَسِيرُهُ مَسِيرَ الْهَارِبِ الَّذِي تَقَدَّمَ سَرْيُهُ وَتَفَوَّتَ بِهِ. وَحَيْثُ تُؤْمَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّامُ. وَقِيلَ: مَوْضِعُ نَجَاةٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَقِيلَ: مِصْرُ. وَقِيلَ: إِلَى أَرْضِ الْخَلِيلِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْيَقِينُ. وَحَيْثُ عَلَى بَابِهَا مِنْ أَنَّهَا ظَرْفُ مَكَانٍ، وَادِّعَاءٌ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ هُنَا ظَرْفَ زَمَانٍ مِنْ حَيْثُ أنه ليس في الآية أَمْرٌ إِلَّا قَوْلُهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: حَيْثُ تُؤْمَرُ ضَعِيفٌ. وَلَفْظُ تُؤْمَرُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ مِنْ حَيْثُ أُمِرْتُمْ، وَحَيْثُ مِنَ الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ الْمُبْهَمَةِ، وَلِذَلِكَ يَتَعَدَّى إِلَيْهَا الْفِعْلُ وَهُوَ: امْضُوا بِنَفْسِهِ، تَقُولُ: قَعَدْتُ حَيْثُ قَعَدَ زَيْدٌ، وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ دُخُولُ فِي عَلَيْهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَصْبَحَ فِي حَيْثُ الْتَقَيْنَا شَرِيدُهُمْ ... طَلِيقٌ وَمَكْتُوفُ الْيَدَيْنِ وَمُرْعِفُ وَلَمَّا ضَمَّنَ قَضَيْنَا مَعْنَى أَوْحَيْنَا، تَعَدَّتْ تَعَدِّيَهَا بِإِلَى أَيْ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى لُوطٍ مَقْضِيًّا مَبْتُوتًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَعَدَهُ تَعَالَى مِنْ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ. وأنّ دَابِرَ تَفْخِيمٌ لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذَلِكَ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْبَاءِ أَيْ بأنّ دابر قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَجَوَّزَهُ الْحَوْفِيُّ. وَأَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِئْصَالِ. وَتَقَدَّمَ

تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» ومصبحين دَاخِلِينَ فِي الصَّبَاحِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي مَقْطُوعٍ عَلَى الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ جَمَعَهُ وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا كَانُوا مُصْبِحِينَ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ رَاكِبًا أَحْسَنُ مِنْكَ مَاشِيًا، فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْرَابَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أَنَّ دَابِرَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَمَّا ضَمَّنَ قَضَيْنَا مَعْنَى أَوْحَيْنَا، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَعْلَمْنَا، عَلَّقَ الْفِعْلَ فَكَسَرَ إِنَّ أَوْ لِمَا كَانَ الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْإِيحَاءِ مَعْنَاهُ الْقَوْلُ كَسْرَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقُلْنَا: إِنَّ دَابِرَ وَهِيَ قِرَاءَةُ تَفْسِيرٍ لَا قُرْآنٍ، لِمُخَالَفَتِهَا السَّوَادَ. وَالْمَدِينَةُ: سَدُومُ، وَهِيَ الَّتِي ضُرِبَ بِقَاضِيهَا الْمَثَلُ فِي الْجَوْرِ. وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ: اسْتِبْشَارُهُمْ: فَرَحُهُمْ بِالْأَضْيَافِ الَّذِينَ وَرَدُوا عَلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَجِيءَ وَمُحَاوَرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي حَقِّ أَضْيَافِهِ، وَعَرْضِهِ بَنَاتِهِ عَلَيْهِمْ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِهَلَاكِ قَوْمِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُمْ ضيفان خَوْفَ الْفَضِيحَةِ، لِأَجْلِ تَعَاطِيهِمْ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُرَتَّبًا هَكَذَا فِي هُودٍ، وَالْوَاوُ لَا تُرَتَّبُ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ يَكُونَ الْمَجِيءُ وَالْمُحَاوَرَةُ بعد علمه بهلاكهم، وخاور تِلْكَ الْمُحَاوَرَةَ عَلَى جِهَةِ التَّكَتُّمِ عَنْهُمْ، وَالْإِمْلَاءِ لَهُمْ، وَالتَّرَبُّصِ بِهِمْ انْتَهَى. وَنَهَاهُمْ عَنْ فَضْحِهِمْ إِيَّاهُ لِأَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَى ضَيْفِهِ أَوْ جَارِهِ فَقَدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. وَلَا تُخْزُونِ مِنَ الْخِزْيِ وَهُوَ الْإِذْلَالُ، أَوْ مِنَ الْخَزَايَةِ وَهُوَ الِاسْتِحْيَاءُ. وَفِي قَوْلِهِمْ: أَوْ لَمْ نَنْهَكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمَ نَهْيِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ أَنْ يضيف، أو يجبر أَحَدًا، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ، أَوْ يَمْنَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وعليه يَقُومُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحَجْزِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَأَوْعَدُوهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ أَخْرَجُوهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: بَنَاتِي، وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي هود. وإن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ شَكَّ فِي قَبُولِهِمْ لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أَقُولُ، وَلَكُمْ مَا أَظُنُّكُمْ تَفْعَلُونَ. وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ دُونَ مَا حَرَّمَ. وَاللَّامُ فِي لَعَمْرُكَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَتِ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 45.

الْمَلَائِكَة لِلُوطٍ لَعَمْرُكَ، وَكَنَّى عَنِ الضَّلَالَةِ وَالْغَفْلَةِ بِالسَّكْرَةِ أي: تحيرهم فِي غَفْلَتِهِمْ، وَضَلَالَتِهِمْ مَنَعَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ الصَّوَابِ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْبَنِينَ إِلَى الْبَنَاتِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْحَوْرَاءِ، وَغَيْرُهُمَا. أَقْسَمَ تَعَالَى بِحَيَاتِهِ تَكْرِيمًا لَهُ. وَالْعَمْرُ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا الْبَقَاءُ، وَأَلْزَمُوا الْفَتْحَ الْقَسَمَ، وَيَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَعَمْرُكَ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: لَعَمْرُكَ لَدِينُكَ الَّذِي يَعْمُرُ، وَأَنْشَدَ: أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرُكَ اللَّهُ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ أَيْ: عِبَادَتُكَ اللَّهَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: عَمَرْتُ رَبِّي أَيْ عَبَدْتُهُ، وَفُلَانٌ عَامِرٌ لِرَبِّهِ أَيْ عَابِدٌ. قَالَ: وَيُقَالُ تَرَكْتُ فُلَانًا يَعْمُرُ رَبَّهُ أَيْ يَعْبُدُهُ، فَعَلَى هَذَا لَعَمْرُكَ لَعِبَادَتُكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَلْزَمُوا الْفَتْحَ الْقَسَمَ لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ يُكْثِرُونَ الْقَسَمَ بِلَعَمْرِي وَلَعَمْرُكَ فَلَزِمُوا الْأَخَفَّ، وَارْتِفَاعُهُ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا أَقْسَمَ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلَّهِ تَعَالَى عَمْرٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هُوَ أَزَلِيٌّ، وَكَأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ العمر لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا لَهُ انْقِطَاعٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَمْرُ، وَالْعَمْرُ الْبَقَاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهُ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا وَقَالَ الْأَعْشَى: وَلَعَمْرُ مَنْ جَعَلَ الشُّهُورَ عَلَامَةً ... فَبَيَّنَ مِنْهَا نَقْصَهَا وَكَمَالَهَا وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ أَنْ يُقَالَ: لَعَمْرِي، لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِحَيَاةِ الْمُقْسِمِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ وَالضَّمِيرُ فِي سَكْرَتِهِمْ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لِقُرَيْشٍ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ قَالَ لَهُ: وَحَيَاتِكَ إِنَّهُمْ أَيْ قَوْمَكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أَيْ ضلالهم، وجهلهم يعمهون يتردّدون. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا بَعِيدٌ لِانْقِطَاعِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ: سُكْرَتِهِمْ بِضَمِّ السِّينِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَكَرَاتِهِمْ بِالْجَمْعِ، وَالْأَعْمَشُ: سُكْرِهِمْ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْجَهْضَمِيِّ: أَنَّهُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّهُمْ. وَالصَّيْحَةُ: صَيْحَةُ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: صَوْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ صَيْحَةُ الْوَحْشَةِ، وَلَيْسَتْ كَصَيْحَةِ ثَمُودَ مُشْرِقِينَ: دَاخِلِينَ فِي الشُّرُوقِ، وَهُوَ

بُزُوغُ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ الْعَذَابِ كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، وَامْتَدَّ إِلَى شُرُوقِ الشَّمْسِ، فَكَأَنَّهُ تَمَامُ الْهَلَاكِ عِنْدَ ذَلِكَ. وَالضَّمِيرُ فِي عَالِيَهَا سَافِلَهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِقُرَى قَوْمِ لُوطٍ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظُ الْقُرَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ، لِلْمُتَفَكِّرِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لِلنَّاظِرِينَ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَوَ كُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إِلَى عَرِيفِهِمْ يَتَوَسَّمُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِلْمُتَبَصِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَرُوِيَ نَهْشَلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُهْلَكَةِ أَيْ: أَنَّهَا لِبِطْرِيقٍ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ لِلْمُعْتَبِرِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْآيَاتِ، ويحتمل أن يعود على الْحِجَارَةِ. وَقَوْلُهُ: لَبِسَبِيلٍ أَيْ مَمَرٍّ ثَابِتٍ، وَهِيَ بِحَيْثُ يَرَاهَا النَّاسُ وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا لَمْ تَنْدَرِسْ. وَهُوَ تَنْبِيهٌ لِقُرَيْشٍ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الصَّيْحَةِ أَيْ: وَإِنَّ الصَّيْحَةَ لَبِمَرْصَدٍ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ لِقَوْلِهِ: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. وَقِيلَ: مُقِيمٌ مَعْلُومٌ. وَقِيلَ: مُعْتَدٍ دَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلَاكٌ دَائِمُ السُّلُوكِ إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: فِي صُنْعِنَا بِقَوْمِ لُوطٍ لَعَلَامَةً وَدَلِيلًا لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَالْأَيْكَةُ الَّتِي أُضِيفُوا إِلَيْهَا كَانَتْ شَجَرَ الدَّوْمِ. وَقِيلَ: الْمُقْلُ. وَقِيلَ: السِّدْرُ. وَقِيلَ: الْأَيْكَةُ اسْمُ النَّاحِيَةِ، فَيَكُونُ عَلَمًا. وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ فِي الشُّعَرَاءِ وَص: لَيْكَةَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ. كَفَرُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ، وَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الظُّلَّةِ. ويأتي ذلك مستوفى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في سورة الشعراء. وإن عند البصريين هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا. وَتَقَدَّمُ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «1» فِي الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَإِنَّهُمَا عَائِدٌ عَلَى قَرْيَتَيْ: قَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ. أَيْ: عَلَى أَنَّهُمَا مَمَرُّ السَّائِلَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى شُعَيْبٍ وَلُوطٍ أَيْ: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ، أَيْ بِطَرِيقٍ مِنَ الْحَقِّ وَاضِحٍ، وَالْإِمَامُ الطَّرِيقُ. وَقِيلَ: وَإِنَّهُمَا أَيْ: الْحَرُّ بِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، لَفِي مَكْتُوبٍ مُبِينٍ أَيِ: اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ مُؤَرِّجٌ: وَالْإِمَامُ الْكِتَابُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَمَدْيَنَ، لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمَا، فَدَلَّ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إليهما.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143.

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ: أَصْحَابُ الْحِجْرِ ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحِجْرُ أَرْضٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفَاةً. وَالْمُرْسَلِينَ يَعْنِي بِتَكْذِيبِهِمْ صَالِحًا، لِأَنَّ مِنْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَكَأَنَّمَا كَذَّبَهُمْ جَمِيعًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَرَادَ صَالِحًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ: الْخُبَيْبِيُّونَ فِي ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابِهِ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ فَقَالَ لَنَا: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ زَجَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ فَأَسْرَعَ حَتَّى خَلَّفَهَا» وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَؤُلَاءِ قَوْمُ صَالِحٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ إِلَّا رَجُلًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ» قِيلَ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَبُو رِغَالٍ» وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ ثَقِيفٌ. وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا قِيلَ: أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: يُرَادُ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ فَأَعْرَضُوا عَنْهَا. وَقِيلَ: كَانَ فِي النَّاقَةِ آيَاتٌ خَمْسٌ. خُرُوجُهَا مِنَ الصَّخْرَةِ، وَدُنُوُّ نِتَاجِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَعِظَمُهَا حَتَّى لَمْ تُشْبِهْهَا نَاقَةٌ، وَكَثْرَةُ لَبَنِهَا حَتَّى يَكْفِيَهُمْ جَمِيعًا. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ آيَاتٌ غَيْرُ النَّاقَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَنْحِتُونَ بِكَسْرِ الخاء. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِهَا وَصَفَهُمْ بِشِدَّةِ النَّظَرِ لِلدُّنْيَا وَالتَّكَسُّبِ مِنْهَا، فَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مِثَالًا وَهُوَ نَقْرُهُمْ بِالْمَعَاوِلِ وَنَحْوِهَا فِي الْحِجَارَةِ. وَآمِنِينَ، قِيلَ: مِنَ الِانْهِدَامِ. وَقِيلَ: مِنْ حَوَادِثِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مِنَ الْمَوْتِ لِاغْتِرَارِهِمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ. وَقِيلَ: مِنْ نَقَبِ اللُّصُوصِ، وَمِنَ الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يَحْسَبُونَ أَنَّ الْجِبَالَ تَحْمِيهِمْ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَصَحُّ مَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمَنُونَ عَوَاقِبَ الْآخِرَة، فَكَانُوا لَا يَعْمَلُونَ بِحَسَبِهَا، بَلْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِحَسَبِ الْأَمْنِ منها. ومصبحين: دَاخِلِينَ فِي الصَّبَاحِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ فَمَا أَغْنَى نَافِيَةٌ، وَتَحْتَمِلُ الِاسْتِفْهَامَ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعَجُّبُ. وما في كَانُوا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَالضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَكْسِبُونَهُ مِنَ الْبُيُوتِ الْوَثِيقَةِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ، بَلْ خَرُّوا جَاثِمِينَ هَلْكَى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَ رَبِّكَ

لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ: إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: خَلْقًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ. لَمْ يُخْلَقْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا هَمَلًا، بَلْ لِيُطِيعَ مَنْ أَطَاعَ بِالتَّفَكُّرِ فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَلِيَتَذَكَّرَ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بِهَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى. وَلِذَلِكَ نَبَّهَ مَنْ يَتَنَبَّهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، فَيُجَازِي مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى. ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفْحِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُهَادَنَةَ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ إِظْهَارِ الْحُكْمِ عَنْهُمْ وَالْإِغْضَاءِ لَهُمْ. ولما ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ، أَتَى بِصِفَةِ الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَا خَلَقَ، أَوِ الْخَلَّاقُ مَنْ شَاءَ لِمَا شَاءَ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخَلَّاقُ الَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَهُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِحَالِكَ وَحَالِهِمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي بَيْنَكُمْ. أَوْ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَعَلِمَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الصَّفْحَ الْيَوْمَ أَصْلَحُ إِلَى أَنْ يَكُونَ السَّيْفُ أَصْلُحَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: هُوَ الْخَالِقُ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعُثْمَانَ، مِنَ الْمَثَانِي. والمثاني جمع مثناة، وَالْمُثَنَّى كُلُّ شَيْءٍ يُثَنَّى أَيْ: يُجْعَلُ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ ثَنْيًا أَيْ عَطَفْتُهُ وَضَمَمْتُ إِلَيْهِ آخَرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِرُكْبَتَيِ الدَّابَّةِ وَمِرْفَقَيْهِ: مَثَانِي، لِأَنَّهُ يُثْنِي بِالْفَخِذِ وَالْعَضُدِ. وَمَثَانِي الْوَادِي مَعَاطِفُهُ. فَتَقُولُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي مَفْهُومُ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُثَنَّى، وَهَذَا مُجْمَلٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: السَّبْعُ هُنَا هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، وَالْأَعْرَافِ، وَالْأَنْفَالِ، وَبَرَاءَةٌ، لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ سُورَةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُمَا بِالتَّسْمِيَةِ. وَسُمِّيَتِ الطِّوَالُ مَثَانِيَ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ وَالْأَمْثَالَ ثُنِّيَتْ فِيهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَقِيلَ: السَّابِعَةُ سُورَةُ يُونُسَ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَقِيلَ: بَرَاءَةٌ وَحْدَهَا، قَالَهُ أَبُو مَالِكٍ. وَالْمَثَانِي عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ: الْقُرْآنُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «1» وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصَصَ وَالْأَخْبَارَ تُثَنَّى فِيهِ وَتُرَدَّدُ. وَقِيلَ: السَّبْعُ آلُ حَمِيم، أَوْ سَبْعُ صحائف

_ (1) سورة الزمر: 39/ 23.

وَهِيَ الْأَسْبَاعُ. وَقِيلَ: السَّبْعُ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الْقُرْآنِ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَبِشَارَةٌ، وَإِنْذَارٌ، وَضَرْبُ أَمْثَالٍ، وَتَعْدَادُ النِّعَمِ، وَإِخْبَارُ الْأُمَمِ. قَالَهُ زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَجَمَاعَةُ: السَّبْعِ هُنَا هِيَ آيَاتُ الْحَمْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ سَبْعٌ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعٌ دُونَ الْبَسْمَلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَمَا نَزَلَ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ شَيْءٌ، وَلَا ينبغي أن يعدل عن هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِمَا فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ فَفِي آخِرِهِ، «هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي» وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَأُمُّ الْقُرْآنِ وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ» وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا يُثَنَّى بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَوَّزَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ نَظَرٌ انْتَهَى. وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهَا جَمْعُ مُثْنِي بِضَمِّ الْمِيمِ مُفْعِلٌ مَنْ أَثْنَى رُبَاعِيًّا أَيْ: مُقِرُّ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: فِيهَا ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَاهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يُعْطِهَا لِغَيْرِهَا، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ تَكُونَ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّتِي هِيَ الْمَثَانِي، وَكَذَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا أَسْبَاعَ الْقُرْآنِ، أَوْ سَبْعَ الْمَعَانِي. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهَا السَّبْعَ الطِّوَالِ أَوْ آلَ حَمِيم فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَكَذَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ سَبْعًا الْفَاتِحَةَ وَالْمَثَانِيَ الْقُرْآنَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُتُبُ اللَّهِ كُلُّهَا مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا تُثْنِي عَلَيْهِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ الْمُكَرَّرَةِ، وَيَكُونُ الْقُرْآنُ بَعْضَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِالنَّصْبِ. فَإِنْ عَنَى بِالسَّبْعِ الفاتحة أو السبع الطوال لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَصَارَ الْخَاصُّ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: بِجِهَةِ الْخُصُوصِ، وَالْأُخْرَى: بِجِهَةِ الْعُمُومِ. أَوْ لِأَنَّ مَا دُونَ الْفَاتِحَةِ أَوِ السَّبْعِ الطِّوَالِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الشَّيْءِ، كَمَا يَقَعُ عَلَى كُلِّهِ. وَإِنْ عَنَى الْإِسْبَاعَ فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَيِ: الْجَامِعُ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ الثَّنَاءُ وَالتَّنْبِيهُ وَالْعِظَمُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمَثَانِي. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ مُقْحَمَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِتْيَانِهِ مَا آتَاهُ، نَهَاهُ. وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْمُلَابَسَةَ وَلَا الْمُقَارَبَةَ عَنْ طُمُوحِ عَيْنِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَعْنَى: نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ

مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ شَغَلَهُ النَّظَرُ فِيهِ وَامْتِثَالُ تَكَالِيفِهِ وَفَهْمُ مَعَانِيهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا. وَمَدُّ الْعَيْنِ لِلشَّيْءِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْسَانِهِ وَإِيثَارِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا تَتَمَنَّ مَا فَضَّلْنَا بِهِ أَحَدًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَزْوَاجًا مِنْهُمْ، أَيْ رِجَالًا مَعَ نِسَائِهِمْ، أَوْ أَمْثَالًا فِي النِّعَمِ، وَأَصْنَافًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى والمشرين أَقْوَالٌ. وَنَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّفَقَةِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَادًّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ كُلُّهُمْ، فَكَانَ يَلْحَقُهُ الْحُزْنُ عَلَيْهِمْ. نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ عَمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَأَمَرَهُ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِمَنْ آمَنَ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّلَطُّفِ وَالرِّفْقِ. وَأَصْلُهُ: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ الْفَرْخَ إليه بسط جناحه لم ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى فَرْخِهِ، وَالْجَنَاحَانِ مِنِ ابْنِ آدَمَ جَانِبَاهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ أَنَّهُ هُوَ النَّذِيرُ الْكَاشِفُ لَكُمْ مَا جِئْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ تَعْذِيبِكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَإِنْزَالِ نِقَمِ اللَّهِ الْمَخُوفَةِ بِكُمْ. وَالْكَافُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ: بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا، فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَعَصَوْهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ لِي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ لِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ مَا يقرأونه مِنْ كُتُبِهِمْ، وَقَدِ اقْتَسَمُوهُ بِتَحْرِيفِهِمْ، وَبِأَنَّ الْيَهُودَ أَقَرَّتْ بِبَعْضِ التَّوْرَاةِ وَكَذَّبَتْ بِبَعْضٍ، وَالنَّصَارَى أَقَرَّتْ بِبَعْضِ الْإِنْجِيلِ وَكَذَّبَتْ بِبَعْضٍ، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَنِيعِ قَوْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَأَسَاطِيرُ، بِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ فَعَلُوا بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ نَحْوَ فِعْلِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، وَأَنْذِرْ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يَعْنِي: الْيَهُودَ، هُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ مِنَ الْإِعْجَازِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ كَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ مَنْصُوبًا بِالنَّذِيرِ أَيْ: أَنْذِرِ الْمُعْضِينَ الَّذِينَ يُجَزِّؤُونَ الْقُرْآنَ إِلَى سِحْرٍ وَشِعْرٍ وَأَسَاطِيرَ مثل ما أنزلنا على الْمُقْتَسِمِينَ وَهُمُ: الِاثْنَا عَشَرَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَقَعَدُوا فِي كُلِّ مَدْخَلٍ مُتَفَرِّقِينَ لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا بِالْخَارِجِ مِنَّا فَإِنَّهُ سَاحِرٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: كَذَّابٌ، وَالْآخَرُ: شَاعِرٌ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَبْلَهُ بِآفَاتٍ: كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَغَيْرِهِمْ. أَوْ مِثْلَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَى الرَّهْطِ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا عَلَى أَنْ يُبَيِّتُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالِاقْتِسَامُ بِمَعْنَى التَّقَاسُمِ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا عَلَّقْتَ قَوْلَهُ كَمَا أَنْزَلْنَا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ فَمَا مَعْنَى تَوَسُّطِ لَا تَمُدَّنَّ إِلَى آخِرِهِ

بَيْنَهُمَا (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ ذلك تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن تَكْذِيبِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمُ اعْتَرَضَ بِمَا هُوَ مَدَدٌ لِمَعْنَى التَّسْلِيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى دُنْيَاهُمْ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمِنَ الْأَمْرِ بِأَنْ يُقْبِلَ بِمَجَامِعِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ تَعَلُّقُ كَمَا بِآتَيْنَاكَ فَذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ وَهُوَ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي إِيتَاءً كَمَا أَنْزَلْنَا أَوْ إِنْزَالًا كَمَا أَنْزَلْنَا لِأَنَّ آتَيْنَاكَ بِمَعْنَى أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْمُقْتَسِمِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ فَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ اقْتَسَمُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَبَعْضُهُمْ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إِلَخْ فَقَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ هُمُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ وَالْوَلِيدُ وَالْعَاصِي والحرث بْنُ قَيْسٍ ذَكَرُوا الْقُرْآنَ فَمِنْ قَائِلِ الْبَعُوضِ لِي وَمِنْ قَائِلِ النَّمْلِ لِي وَقَائِلِ الذُّبَابِ لِي وَقَائِلِ الْعَنْكَبُوتِ لِي اسْتِهْزَاءً فَأَهْلَكَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَمَّا يقرأونه مِنْ كُتُبِهِمْ إِلَى آخِرِهِ فَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَأَمَّا قَوْلَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ مَنْصُوبًا بِالنَّذِيرِ أَيْ أَنْذِرِ الْمُعْضِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالنَّذِيرِ كَمَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْمُبِينِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَعْمُولِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجَوِّزُ هَذَا عَلِيمٌ شُجَاعٌ عِلْمَ النَّحْوِ فَتَفْصِلُ بَيْن عَلِيمٌ وَعِلْمَ بِقَوْلِهِ شُجَاعٌ وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ تُذْكَرُ دَلَائِلُهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ يُجَزِّؤُونَ الْقُرْآنَ إِلَى سِحْرٍ وَشِعْرٍ وَأَسَاطِيرَ فَمَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ شِعْرٍ كِهَانَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ فَهُوَ قَوْلُ السَّائِبِ وَفِيهِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: لِيَقُلْ بَعْضُكُمْ كَاهِنٌ وَبَعْضُكُمْ سَاحِرٌ وَبَعْضُكُمْ شَاعِرٌ وَبَعْضُكُمْ غاو وهم حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو جَهْلٍ وَالْعَاصِي بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ وَزُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ وَالسَّائِبُ بْنُ صيفي والنضر بن احرث وأبو البختري بْنُ هِشَامٍ وَزَمَعَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَف وَأَوْسُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تَقَاسَمُوا عَلَى تَكْذِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُمُ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا أَنْ يُبَيِّتُوا صَالِحًا فَقَوْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ عَذَابًا كَالَّذِي أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ فَالْكَافُ اسْمٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ كَمَا لَيْسَ مِمَّا يَقُولُهُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْفَصِلُ الْكَلَامُ وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ هَذَا القول بأن يقدران اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ أَنْذِرْ عَذَابًا كَمَا وَالَّذِي أَقُولُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَقُلْ أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا قَالَ قَبْلَكَ رُسُلُنَا وَأَنْزَلَنَا عَلَيْهِمْ كَمَا

أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا قَدْ أَنْزَلْنَا فِي الْكُتُبِ أَنَّكَ سَتَأْتِي نَذِيرًا وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ أَهْلُ الْكِتَابِ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ إِلَى آخِرِهِ فَقَدِ اسْتَعْذَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ أَنَا النَّذِيرُ بِعَذَابٍ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا وَإِنْ كَانَ الْمُنَزِّلُ اللَّهَ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ خَوَاصِّ الْمَلِكِ أُمِرَنَا بِكَذَا وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ هُوَ الْآمِرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالَّذِي أَقُولُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِلَى آخِرِهِ فَكَلَامٌ مُثَبَّجٌ وَلَعَلَّهُ مِنَ النَّاسِخِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْزَلَنَا عَلَيْكَ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ مَتَّعْنَاهُمْ تَمْتِيعًا كَمَا أَنْزَلْنَا وَالْمَعْنَى مَتَّعْنَا بَعْضَهُمْ كَمَا عَذَّبْنَا بَعْضَهُمْ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ إِنْذَارٌ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا انْتَهَى. وَقِيلَ الْكَافُ زَائِدَةٌ التَّقْدِيرُ أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ هَذِهِ أَقْوَالٌ وَتَوْجِيهَاتٌ مُتَكَلَّفَةٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَأَمَرَهُ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرَهُمْ إِنَّهُ هُوَ النَّذِيرُ الْمُبِينُ لِئَلَّا يَظُنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لَهُمْ خَرَجُوا مِنْ عُهْدَةِ النِّذَارَةِ فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لَكُمْ وَلِغَيْرِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ مَنْ يَخْشَاهَا وَتَكُونُ الْكَافُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَقُلْ قَوْلًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ إِنَّكَ نَذِيرٌ لَهُمْ فَالْقَوْلُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النِّذَارَةِ كَالْقَوْلِ لِلْكُفَّارِ الْمُقْتَسِمِينَ لِئَلَّا يُظَنُّ إِنْذَارُكَ لِلْكَفَّارِ مُخَالِفٌ لِإِنْذَارِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ أَنْتَ فِي وَصْفِ النِّذَارَة لَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ تُنْذِرُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تُنْذِرُ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ صِفَةٌ لِلْمُقْتَسِمِينَ وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ وَتَقَدَّمَ تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِالنَّذِيرِ فَوَرَبِّكَ أَقْسَمَ تَعَالَى بِذَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مُضَافًا إِلَى رَسُولِهِ عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ وَالضَّمِيرُ فِي لَنَسْأَلَنَّهُمْ يَظْهَرُ عَوْدُهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَهُوَ وَعِيدُهُ مِنْ سُؤَالِ تَقْرِيعٍ وَيُقَالُ إِنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا وَالسُّؤَالُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ كِنَايَةً عَنِ الجزاء وعن ما كَانُوا يَعْمَلُونَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَسْأَلُ الْعِبَادَ عَنْ حَالَتَيْنِ عَنْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَعَنْ مَا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقَالُ لَهُمْ لِمْ عَمِلْتُمْ كَذَا؟ قَالَ أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ السُّؤَالُ عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَنِ الْوَفَاءِ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالصِّدْقِ لِمَقَالِهَا كَمَا قَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا الدِّينُ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ امْضِ بِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ اجْهَرْ بِهِ وَأَظْهِرْهُ مِنَ الصَّدِيعِ وَهُوَ الْفَجْرُ قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأَنَّ بَيَاضَ غُرَّتِهِ صَدِيعٌ وَقَالَ السُّدِّيُّ تَكَلَّمْ بِمَا تُؤْمَرُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَعْلَمْ بِالتَّبْلِيغِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ جَرَّدَ لَهُمُ الْقَوْلُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ رُؤْبَةَ مَا فِي الْقُرْآنِ أَغْرَبُ مِنْ قَوْلِهِ فَاصْدَعْ بِمَا تؤمر وما فِي بِمَا بِمَعْنَى الَّذِي وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِمَا تُؤْمَرُهُ وَكَانَ أَصْلُهُ تُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ فَحَذَفَ الْحَرْفَ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ مَا مَوْصُولَةٌ وَالتَّقْدِيرُ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ بِصَدْعِهِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ ثُمَّ الْجَارَّ ثُمَّ الضَّمِيرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ بِأَمْرِكَ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ انْتَهَى. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ أَنَّ الْمَصْدَرَ يُرَادُ بِهِ أَنْ وَالْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ آيَاتِ الْمُهَادَنَاتِ الَّتِي نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَخْبَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَفَاهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِمَصَائِبَ أَصَابَتْهُمْ لَمْ يَسْعَ فِيهَا الرَّسُولُ وَلَا تَكَلَّفَ لَهَا مَشَقَّةً. قَالَ عُرْوَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ هُمْ خَمْسَةٌ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو زَمْعَةَ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ وَمِنْ بني خزاعة الحرث بْنُ الطَّلَاطِلَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ إِنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ اخْتَلَفَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ هو الحرث بْنُ عَيْطَلَةَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هو الحرث بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ صَدَقَا إِنَّهُ عَيْطَلَةُ وَأَبُوهُ قَيْسٌ وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَذَلِكَ وَهْمٌ لِأَنَّ هَبَّارًا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَرَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَانُوا ثَمَانِيَةً وَفِي رِوَايَةٍ مَكَانَ الحرث بْنِ قَيْسٍ عَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي بَزَّةَ كَانُوا سَبْعَةً فذكر الوليد والحرث بْنَ عَدِيٍّ وَالْأَسْوَدَيْنِ وَالْأَثْرَمَ وبعكك ابني الحرث بْنِ السَّبَّاقِ وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ مكان الحرث بن عدي الحرث بْنَ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أَكْفِيَكَهُمْ فَأَوْمَأَ إِلَى سَاقِ الْوَلِيدِ فَمَرَّ بِنِبَالٍ فَتَعَلَّقَ بِثَوْبِهِ فَمَنَعَهُ الْكِبَرُ أَنْ يُطَامِنَ لِنَزْعِهِ فَأَصَابَ عِرْقًا فِي عَقِبِهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمِقْسَمٌ وَهُوَ الْأَكْحَلُ فَقَطَعَهُ فَمَاتَ وَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِ الْعَاصِي فَدَخَلَتْ فِيهِ شَوْكَةٌ. وَقِيلَ ضَرَبَتْهُ حَيَّةٌ فَانْتَفَخَتْ رِجْلُهُ حَتَّى صَارَتْ كَالرَّحَى وَمَاتَ وَأَوْمَأَ إِلَى عَيْنَيِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ وَهَلَكَ وأشار إلى أنف الحرث بْنِ قَيْسٍ فَامْتَخَطَ قَيْحًا فَمَاتَ. وَقِيلَ أَصَابَتْهُ سَمُومٌ فَاسْوَدَّ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ حَبَشِيٌّ فَأَتَى أَهْلُهُ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ وَأَغْلَقُوا الْبَابَ فِي وَجْهِهِ فَصَارَ يَطُوفُ فِي شِعَابِ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ وَفِي بَعْضِ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ اخْتِلَافٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ أَصَابَ الْأَثْرَمَ أَوْ بَعْكَكًا الدُّبَيْلَةُ وَالْآخَرَ ذَاتُ الْجَنْبِ فَمَاتَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْمُجَازَاةِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ وَجَعْلِهِمْ إِلَهًا مَعَ اللَّهِ فِي

الْآخِرَةِ كَمَا جَوَّزُوا فِي الدُّنْيَا وَكُنِّيَ بِالصَّدْرِ عَنِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ وَجَعَلَ سَبَبَ الضِّيقِ مَا يَقُولُونَ وهو ما ينطقون بِهِ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالطَّعْنِ فِيمَا جَاءَ بِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ مَا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ اتِّخَاذِ الشَّرِيكِ مَعَهُ مَصْحُوبًا بِحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَى مَا أُسْدِيَ إِلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ فَهَذَا فِي الْمُعْتَقَدِ وَالْفِعْلِ الْقَلْبِيِّ وَأَمَرَهُ بِكَوْنِهِ مِنَ السَّاجِدِينَ وَالْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنَ الْمُصَلِّينَ فَكَنَّى بِالسُّجُودِ عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَشْرَفُ أَفْعَالِ الْجَسَدِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَلَمَّا كَانَ الصَّادِرُ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ اعْتِقَادًا وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَقَوْلًا وَهُوَ مَا يَقُولُونَ فِي الرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ فِعْلُ جَارِحَةٍ أَمَرَ تَعَالَى بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ التَّنْزِيهِ لِلَّهِ وَمِنَ السُّجُودِ وَهُمَا جَامِعَانِ فِعْلَ الْقَلْبِ وَفِعْلَ الْجَسَدِ ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ تَعَالَى وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ مَعْنَاهَا دُمْ عَلَى كَذَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ مُتَلَبِّسًا بِهَا أَيْ دُمْ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمَوْتُ أَيْ مَا دُمْتَ حَيًّا فَلَا تُخِلَّ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عِنْدَ مَوْتِهِ أَمَّا هُوَ فَقَدْ رَأَى الْيَقِينَ وَيُرْوَى فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَلَيْسَ الْيَقِينُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِهِ يَقِينٌ لَا يَمْتَرِي فِيهِ عَاقِلٌ فَسُمِّيَ يَقِينًا تَجَوُّزًا أَيْ يَأْتِيكَ الْأَمْرُ الْيَقِينُ عِلْمُهُ وَوُقُوعُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُحْتَمَلُ أن يكون المعنى حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فِي النَّصْرِ الَّذِي وُعِدْتَهُ انْتَهَى وَقَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ قَالَ الْيَقِينُ النَّصْرُ عَلَى الْكَافِرِينَ انْتَهَى وَحِكْمَةُ التَّغْيِيَةِ بِالْيَقِينِ وَهُوَ الْمَوْتُ أَنَّهُ يَقْتَضِي دَيْمُومَةَ الْعِبَادَةِ مَا دَامَ حَيًّا بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ غَيْرَ مُغَيًّا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطْلَقًا فَيَكُونُ مُطِيعًا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْعِبَادَةَ حَتَّى يَمُوتَ.

سورة النحل

سورة النّحل [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

النُّطْفَةُ: الْقَطْرَةُ مِنَ الْمَاءِ، نَطَفَ رَأْسُهُ مَاءً أَيْ قَطَرَ. الدِّفْءُ اسْمٌ لِمَا يُدَّفَأُ بِهِ أَيْ يُسَخَّنُ. وتقول العرب: دفىء يَوْمُنَا فَهُوَ دَفِيءٌ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ سُخُونَةٌ تُزِيلُ البرد، ودفىء الرجل فداء وَدَفَأً، وَجَمْعُ الدِّفْءِ أَدَفَاءٌ. وَرَجُلٌ دَفْآنُ وَامْرَأَةٌ دَفْأَى، وَالدَّفِئَةُ الْإِبِلُ الْكَثِيرَةُ

الْأَوْبَارِ، لِإِدْفَاءِ بَعْضِهَا بَعْضًا بِأَنْفَاسِهَا. وَقَدْ تُشَدَّدُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الدَّفِئَةُ الْكَثِيرَةُ الْأَوْبَارِ وَالشُّحُومِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدِّفْءُ نِتَاجُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا، وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. الْبَغْلُ: مَعْرُوفٌ، وَلِعَمْرِو بْنِ بَحْرٍ الْجَاحِظِ كِتَابُ الْبِغَالِ. الْحِمَارُ: مُعَيْرُوفٌ، يُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَحْمُرٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى حُمُرٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعَلَى حَمِيرٍ. الطَّرِيُّ: فَعِيلٌ مِنْ طَرَّ وَيُطِرُ، وَطَرَاوَةً مِثْلُ سَرَّ وَيُسِرُّ سَرَاوَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: طَرِيَ يَطْرِي طِرَاءً وَطَرَاوَةً مِثْلُ: شَقِيَ، يَشْقَى، شَقَاءً، وَشَقَاوَةً. الْمَخْرُ: شَقُّ الْمَاءِ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، يُقَالُ: مَخَرَ الْمَاءُ الْأَرْضَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: صَوْتُ جَرْيِ الْفُلْكِ بِالرِّيَاحِ، وَقِيلَ: الصَّوْتُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ إِذَا اشْتَدَّتْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا. مَادَ: تَحَرَّكَ وَدَارَ. السَّقْفُ: مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ عَلَى سُقُوفٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى سُقُفٍ وَسَقَفٍ، وَفُعُلٌ وَفَعَلٌ مَحْفُوظَانِ فِي فَعْلٍ، وَلَيْسَا مَقِيسَيْنِ فِيهِ. أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ: قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَجَابِرٌ: هِيَ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ حَمْزَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «1» وَقِيلَ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ وَإِنْ عاقَبْتُمْ «2» الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ، وَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «3» وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «4» وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: يُشْرِكُونَ مَدَنِيٌّ وَمَا سِوَاهُ مَكِّيٌّ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَكْسُ هَذَا. وَوَجْهُ ارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «5» كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى حَشْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُؤَالِهِمْ عَمَّا أَجْرَمُوهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَقِيلَ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ: نَصْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

_ (1) سورة النحل: 16/ 95- 96. (2) سورة النحل: 16/ 126. (3) سورة النحل: 16/ 127. (4) سورة النحل: 16/ 110. (5) سورة الحجر: 15/ 92. [.....]

وَظُهُورُهُ عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ مَا وُعِدُوا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا بِالْوَعْدِ انْتَهَى. وَهَذَا الثَّانِي قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: الْأَمْرُ هُنَا مَا وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ النَّصْرِ وَظَفَرِهِ بِأَعْدَائِهِ، وَانْتِقَامِهِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَمْرُ هُنَا مَصْدَرُ أَمَرَ، وَالْمُرَادُ بِهِ: فَرَائِضُهُ وَأَحْكَامُهُ. قِيلَ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا: الْأَمْرُ عِقَابُ اللَّهِ لِمَنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ، وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ، وَاسْتِعْجَالُ الْعَذَابِ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: هُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بَعْضُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَأَتَى قِيلَ: بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الْمُضِيِّ، وَالْمَعْنَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وُقُوعًا. وَقِيلَ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، أَتَتْ مَبَادِئُهُ وَأَمَارَاتُهُ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُضَارِعِ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ وَتَحَقُّقِهِ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَسْتَعْجِلُوهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ. وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها «1» وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِالْيَاءِ نَهْيًا لِلْكُفَّارِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ عَلَى الْأَمْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ بِالْعَذَابِ، أَوْ بِإِتْيَانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «2» وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تُشْرِكُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُوهُ جَعْفَرٌ، وَابْنُ وَضَّاحٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ. وَقَرَأَ عِيسَى: الْأُولَى بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَالثَّانِيَةُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَعًا الْأَعْمَشُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَمَصْدَرِيَّةً. وَأَفْضَلُ قِرَاءَتِهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ بِاسْتِعْجَالِهِمْ، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمُ اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ، وَذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: يُنْزِلُ مُخَفَّفًا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُشَدَّدًا، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ: تُنَزَّلُ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَالْجَحْدَرِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ. وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ: بِفَتْحِ التَّاءِ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَا نُنَزِّلُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَقَتَادَةُ بِالنُّونِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِيهِمَا شُذُوذٌ كَثِيرٌ انْتَهَى. وَشُذُوذُهُمَا أَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ ضَمِيرُ غَيْبَةٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، وَالْمَلَائِكَةُ هَنَا جِبْرِيلُ وَحْدَهُ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ الْمُشَارُ إليهم بقوله:

_ (1) سورة الشورى: 42/ 18. (2) سورة الحج: 22/ 27، والعنكبوت: 29/ 53- 54.

وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً «1» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّوحُ الْوَحْيُ تَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنَظِيرُهُ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «2» وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَمِنْهُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «3» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ أَرْوَاحُ الْخَلْقِ، لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا مَعْنَاهُ الرُّوحُ الْهِدَايَةُ لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ، كَمَا تَحْيَا الْأَبْدَانُ بِالْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: الرُّوحُ جِبْرِيلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «4» وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِالرُّوحِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: الرُّوحُ حَفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لَا تَرَاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا الْمَلَائِكَةُ حَفَظَةٌ عَلَيْنَا لَا تَرَاهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الرُّوحُ اسْمُ مَلَكٍ، وَمِنْهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «5» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرُّوحَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَصُوَرِ ابْنِ آدَمَ، لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول ضَعِيفٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ سَنَدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ، بِمَا تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ الْمَيِّتَةُ بِالْجَهْلِ، مِنْ وَحْيِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ فِي الدِّينِ مَقَامَ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ انْتَهَى. ومن لِلتَّبْعِيضِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَمَنْ يَشَاءُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وأن مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ الْمُضَارِعَ، وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ كَمَا وُصِلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ. أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ: بِأَنْ أَنْذِرُوا، فَيَجْرِي الْخِلَافِ فِيهِ: أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؟ أَوْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ أَنْذِرُوا بَدَلًا مِنَ الرُّوحِ أَيْ: نُنَزِّلُهُمْ بِأَنْ أَنْذِرُوا، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْذِرُوا أَيْ: بِأَنَّ الشَّأْنَ أَقُولُ لَكُمْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا انْتَهَى. فجعلها المخفف مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَضْمَرَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَقَدَّرَ إِضْمَارَ الْقَوْلِ: حَتَّى يَكُونَ الْخَبَرُ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً وَهِيَ أَقُولُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ مَعَ سُهُولَةِ كَوْنِهَا الشَّانِيَّةَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا نَصْبُ الْمُضَارِعِ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَصَاحِبُ الْغُنْيَانِ: أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي التَّنَزُّلِ بِالْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: أَعْلِمُوا النَّاسَ مِنْ نَذَرْتُ بِكَذَا إِذَا أَعْلَمْتُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى يَقُولُ لَهُمْ: أَعْلِمُوا النَّاسَ قَوْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ انْتَهَى. لَمَّا جَعَلَ أَنْ هِيَ الَّتِي حُذِفَ مِنْهَا ضَمِيرُ الشأن قدر هذا

_ (1) سورة النازعات: 79/ 1. (2) سورة غافر: 40/ 15. (3) سورة الشورى: 42/ 52. (4) سورة الشعراء: 26/ 193. (5) سورة النبأ: 78/ 38.

التَّقْدِيرَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: أعلموا. وقرىء: لِيُنْذِرُوا أَنَّهُ، وَحَسُنَتِ النِّذَارَةُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا فِيهِ خَوْفٌ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُنْذِرُونَ كَافِرِينَ بِأُلُوهِيَّتِهِ، فَفِي ضِمْنِ أَمْرِهِمْ مَكَانُ خَوْفٍ، وَفِي ضِمْنِ الْإِخْبَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ نَهْيٌ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَوَعِيدٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَمَعْنَى: فَاتَّقُونِ أَيِ اتَّقُوا عِقَابِي بِاتِّخَاذِكُمْ إِلَهًا غَيْرِي. وَجَاءَتِ الْحِكَايَةُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنَا، وَلَوْ جَاءَتْ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكِلَاهُمَا سَائِغٌ. وَحِكَايَةُ الْمَعْنَى هُنَا أَبْلَغُ إِذْ فِيهَا نِسْبَةُ الْحُكْمِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِمَا ذَكَرَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ من خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا. وَبِالْحَقِّ أَيْ: بِالْوَاجِبِ اللَّائِقِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِفَاتٍ تُحِقُّ لِمَنْ كَانَتْ لَهُ أَنْ يَخْلُقَ وَيَخْتَرِعَ وَهِيَ: الْحَيَاةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، بِخِلَافِ شُرَكَائِهِمُ الَّتِي لَا يَحِقُّ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَتَعَالَى بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِدِ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَنْ أَنْ يُتَّخَذَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْخَارِجِ، ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، فَذَكَرَ إِنْشَاءَهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَكَانَ حَقُّهُ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ وَيَنْقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَالْخَصِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ خَصَمَ بِمَعْنَى اخْتَصَمَ، أَوْ بِمَعْنَى مُخَاصِمٍ، كَالْخَلِيطِ وَالْجَلِيسِ، وَالْمُبِينُ الظَّاهِرُ الْخُصُومَةِ أَوِ الْمُظْهِرُهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سِيَاقَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ سِيَاقُ ذَمٍّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرُوا الْآيَةَ. ولتكرير تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَلِقَوْلِهِ فِي يس: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ «1» الْآيَةَ وَقَالَ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «2» وَعَنَى بِهِ مُخَاصَمَتَهُمْ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالْحُجَجِ الدَّاحِضَةِ، وَأَكْثَرُ مَا ذُكِرَ الْإِنْسَانُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، أَوِ مُرْدَفًا بِالذَّمِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هَنَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ. وَقَالَ قَوْمٌ: سِيَاقُ الْوَصْفَيْنِ سِيَاقُ الْمَدْحِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَوَّاهُ عَلَى مُنَازَعَةِ الْخُصُومِ، وَجَعَلَهُ مُبَيِّنَ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَنَقَلَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْجَمَادِيَّةِ وَهُوَ كَوْنُهُ نُطْفَةً إِلَى الْحَالَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ: حالة النطق والإبانة. وإذ هُنَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَبَعْدَ خَلْقِهِ مِنَ النُّطْفَةِ لَمْ تَقَعِ الْمُفَاجَأَةُ بِالْمُخَاطَبَةِ إِلَّا بَعْدَ أَحْوَالٍ تَطَوَّرَ فِيهَا، فَتِلْكَ الْأَحْوَالُ مَحْذُوفَةٌ، وَتَقَعُ الْمُفَاجَأَةُ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ

_ (1) سورة يس: 36/ 77. (2) سورة الزخرف: 43/ 58.

أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْسَانَ وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ أَشْرَفُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ فِي قِوَامِ مَعِيشَتِهِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَكْثَرَهَا مَنَافِعَ، وَأَلْزَمَ لِمَنْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ وَذَلِكَ الْأَنْعَامُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَنْعَامِ فِي الْأَنْعَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ اسْتِئْنَافٌ لِذَكَرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَدِفْءٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَكُمْ، وَيَتَعَلَّقُ فِيهَا بِمَا فِي لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَالًا مِنْ دِفْءٍ، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ حَالًا مِنْ دِفْءٍ وَفِيهَا الْخَبَرُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَالَ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا، لَا يَجُوزُ: قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ، فَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْحَالُ عَنِ الْجُمْلَةِ جَازَتْ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ تَوَسَّطَتْ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَرْتَفِعَ دِفْءٌ بلكم أو نعتها بأل، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ انْتَهَى. وَلَا تُسَمَّى جُمْلَةً، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ، أَوْ خَلَقهَا لَكُمْ كَائِنًا فِيهَا دِفْءٌ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْجُمْلَةِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ مُتَعَلِّقًا بِخَلَقَهَا، وَفِيهَا دِفْءٌ اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ يَظْهَرُ فِيهِ الِاسْتِئْنَافُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ، فَقَابَلَ الْمَنْفَعَةَ الضَّرُورِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ غَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدِّفْءُ نَسْلُ كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرُهُ الْأُمَوِيُّ عَنْ لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَصْبَ وَالْأَنْعَامَ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَحَسَّنَ النَّصْبَ كَوْنُ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ تَقَدَّمَتْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَتُهُ فِي الشَّاذِّ بِرَفْعِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُطِفَ عَلَى الْبَيَانِ، وعلى هذا يكون لَكُمْ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَقَهَا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ: دفء بِضَمِّ الْفَاءِ وَشَدِّهَا وَتَنْوِينِهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ الْحَرَكَةَ مِنَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْفَاءِ بَعْدَ حَذْفِهَا، ثُمَّ شَدَّدَ الْفَاءَ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، إِذْ يَجُوزُ تَشْدِيدُهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: دِفٌ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ دُونَ تَشْدِيدِ الْفَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: الزُّهْرِيُّ دُفٌّ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالْفَاءُ مُحَرَّكَةٌ بِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ مِنْ هَذِهِ الْهَمْزَةِ فَيُشَدِّدُ الْفَاءَ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَقْفًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنَافِعُ الرُّكُوبِ، والحمل، والألبان، والسمن، والنضج عَلَيْهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَفْرَدَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِالذِّكْرِ، كَمَا أَفْرَدَ مَنْفَعَةَ الدِّفْءِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : تَقَدُّمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ مُؤْذِنٌ، بِالِاخْتِصَاصِ وَقَدْ يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهَا (قُلْتُ) : الْأَكْلُ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ النَّاسُ فِي

مَعَائِشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَكَغَيْرِ الْمُعْتَدِّ بِهِ، وَكَالْجَارِي مَجْرَى التَّفَكُّهِ. وَمَا قَالَهُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ أَوِ الْمَفْعُولِ دَالٌّ عَلَى الِاخْتِصَاصَ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِكَ: إِذَا أَكَلْتَ مِنَ الرَّغِيفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ طُعْمَتَكُمْ مِنْهَا لِأَنَّكُمْ تَحْرُثُونَ بِالْبَقْرِ، وَالْحَبُّ وَالثِّمَارِ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا مِنْهَا، وَتَكْتَسِبُونَ بِإِكْرَاءِ الْإِبِلِ، وَتَبِيعُونَ نِتَاجَهَا وَأَلْبَانَهَا وَجُلُودَهَا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّبْعِيضُ مَجَازًا، أَوْ تَكُونُ مِنْ لِلسَّبَبِ. الْجَمَالُ مَصْدَرُ جَمُلَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالرَّجُلُ جَمِيلٌ، وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ وَجَمْلَاءُ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَأَنْشَدَ: فَهِيَ جَمْلَاءُ كَبَدْرٍ طَالِعٍ ... بَزَّتِ الْخَلْقَ جَمِيعًا بِالْجَمَالِ وَيُطْلَقُ الْجَمَالُ وَيُرَادُ بِهِ التَّجَمُّلُ، كَأَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى إِسْقَاطِ الزَّوَائِدِ. وَالْجَمَالُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ بِحُسْنِ التَّرْكِيبِ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ، وَيُلْقِيهِ فِي أَلْقَابٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ. وَفِي الْأَخْلَاقِ بِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ: كَالْعِلْمِ، وَالْعِفَّةِ، وَالْحِلْمِ، وَفِي الْأَفْعَالِ: بِوُجُودِهَا مُلَائِمَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، وَجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِمْ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ. وَالْجَمَالُ الَّذِي لَنَا فِي الْأَنْعَامِ هُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَنَا فِيهَا جَمَالٌ وَعَظَمَةٌ عِنْدَ النَّاسِ بِاقْتِنَائِهَا وَدَلَالَتِهَا عَلَى سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنِهِ فِيهَا مِنْ أَهْلِ السِّعَةِ، فَمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّجَمُّلِ بِهَا، كَمَا مَنَّ بِالِانْتِفَاعِ الضَّرُورِيِّ، لِأَنَّ التَّجَمُّلَ بِهَا مِنْ أَغْرَاضِ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي وَمَفَاخِرِ أَهْلِهَا، وَالْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرُ: لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ نَرَى أَمْسَ فِيهِمْ ... مَرَابِطَ للإمهاز وَالْعَكَرِ الدَّثْرِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أُنَاسٍ بِقَنَّةٍ ... يَرُوحُ عَلَى آثَارِ شَائِهِمُ النَّمِرُ وَالْعَكَرَةُ مِنَ الْإِبِلِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَالْجَمْعُ عَكَرٌ. وَالدَّثْرُ الْكَثِيرُ، وَيُقَالُ: أَرَاحَ الْمَاشِيَةَ رَدَّهَا بِالْعَشِيِّ مِنَ الْمَرْعَى، وَسَرَحَهَا يَسْرَحُهَا سَرْحًا وَسُرُوحًا أَخْرَجَهَا غُدْوَةً إِلَى الْمَرْعَى، وَسَرَحَتْ هِيَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ إِذَا سَقَطَ الْغَيْثُ وَكَبُرَ الْكَلَأُ وَخَرَجُوا لِلنُّجْعَةِ. وَقَدَّمَ الْإِرَاحَةَ عَلَى السَّرْحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ فِيهَا أَظْهَرُ إِذَا أَقْبَلَتْ مَلْأَى الْبُطُونِ، حَافِلَةَ الضُّرُوعِ، ثُمَّ أَوَتْ إِلَى الْحَظَائِرِ، بِخِلَافِ وَقْتِ سَرْحِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْوَقْتَيْنِ تُزَيِّنُ الْأَفْنِيَةَ، وَتَجَاوَبَ فِيهَا الرُّغَاءُ وَالثُّغَاءُ، فَيَأْتَنِسُ أَهْلُهَا، وَتَفْرَحُ أَرْبَابُهَا وَتُجِلُّهُمْ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا، وَتُكْسِبُهُمُ الْجَاهَ وَالْحُرْمَةَ لقوله تعالى:

_ (1) سورة فاتحة الكتاب: 1/ 4.

الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ «2» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ «3» وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْجَحْدَرِيُّ: حِينًا فِيهِمَا بِالتَّنْوِينِ، وَفَكِّ الْإِضَافَةِ. وَجَعَلُوا الْجُمْلَتَيْنِ صِفَتَيْنِ حُذِفَ مِنْهُمَا الْعَائِدُ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «4» وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي حِينًا عَلَى هَذَا، إِمَّا الْمُبْتَدَأُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّجَمُّلِ، وَإِمَّا خَبَرُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَالْأَثْقَالُ. الْأَمْتِعَةُ: وَاحِدُهَا ثِقَلٌ. وَقِيلَ: الْأَجْسَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «5» أَيْ أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ. وَقَوْلُهُ: إِلَى بَلَدٍ، لَا يُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ أَيْ: إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهِ لِأَغْرَاضِكُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ وَهُوَ مَكَّةَ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: مَدِينَةُ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مِصْرُ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْمُرَادِ، إِذِ الْمِنَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَمْلِ إِلَيْهَا. وَلَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ صِفَةٌ لِلْبَلَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِهَا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى بُعْدِ الْبَلَدِ، وَأَنَّهُ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ بِأَنْفُسِكُمْ دُونَهَا إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ عَنْ أَنْ تَحْمِلُوا عَلَى ظُهُورِكُمْ أَثْقَالَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِشِقِّ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ مَيْمُونٍ، وَابْنُ أَرْقَمَ: بِفَتْحِهَا. وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَهُمَا مَصْدَرَانِ مَعْنَاهُمَا الْمَشَقَّةُ. وَقِيلَ: الشَّقُّ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَيَعْنِي بِهِ: الْمَشَقَّةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الكسر: أذي إِبِلٍ يَسْعَى وَيَحْسَبُهَا لَهُ ... أَخِي نَصَبٍ مِنْ شِقِّهَا ودؤوب أَيْ مَشَقَّتِهَا. وَشِقُّ الشَّيْءِ نِصْفُهُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ الْفَرَّاءُ هُنَا أَيْ: يُذْهِبَانِ نِصْفَ الْأَنْفُسِ، كَأَنَّهَا قَدْ ذَابَتْ تَعَبًا وَنَصَبًا كَمَا تَقُولُ: لَا تَقْدِرُ عَلَى كَذَا إِلَّا بِذَهَابِ جُلِّ نَفْسِكَ، وَبِقِطْعَةٍ مِنْ كَبِدِكَ. وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ. وَيُقَالُ: أَخَذْتُ شِقَّ الشَّاةِ أَيْ نِصْفَهَا وَالشِّقُّ: الْجَانِبُ، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَشَقٌّ اسْمُ كَاهِنٍ. وَنَاسَبَ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ مِنْ حَمْلِهَا الْأَثْقَالَ الْخَتْمُ بِصِفَةِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّ مِنْ رَأْفَتِهِ تَيْسِيرُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَتَسْخِيرُ الْأَنْعَامِ لَكُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنَنَهُ بِالْأَنْعَامِ وَمَنَافِعَهَا الضَّرُورِيَّةِ، ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِمَنَافِعِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْخَيْلَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى وَالْأَنْعَامَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ. وَلَمَّا كَانَ الرُّكُوبُ أَعْظَمَ مَنَافِعِهَا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لكل

_ (1) سورة الكهف: 18/ 46. (2) سورة آل عمران: 3/ 14. (3) سورة الأنعام: 18/ 13. (4) سورة البقرة: 2/ 48. [.....] (5) سورة الزلزلة: 99/ 2.

الْخَيْلِ، خِلَافًا لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ. وَانْتَصَبَ وَزِينَةً، وَلَمْ يَكُنْ بِاللَّامِ، وَوُصِلَ الْفِعْلُ إِلَى الرُّكُوبِ بِوَسَاطَةِ الْحَرْفِ، وَكِلَاهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: خَلَقَهَا، وَالرُّكُوبُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَهُمْ ذَلِكَ فَانْتَفَى شَرْطُ النَّصْبِ، وَهُوَ: اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ. وَالزِّينَةُ مِنْ وَصْفِ الْخَالِقِ، فَاتَّحَدَ الْفَاعِلُ، فَوَصَلَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَزِينَةً نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلْنَاهَا زِينَةً. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِتَرْكَبُوهَا زِينَةً بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَالزِّينَةُ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي خَلَقَهَا، أَوْ مِنْ لِتَرْكَبُوهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَخَلَقَهَا زِينَةً لِتَرْكَبُوهَا، أَوْ يَجْعَلُ زِينَةً حَالًا مِنْ هَاءِ، وَخَلَقَهَا لِتَرْكَبُوهَا وَهِيَ زِينَةٌ وَجَمَالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالنَّصْبُ حِينَئِذٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي تَرْكَبُوهَا. وَالظَّاهِرُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْ ذَوَاتِ مَا يَخْلُقُ تَعَالَى، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا كُلَّهَا لِمَنَافِعِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّ لَهُ مِنَ الْخَلَائِقِ مَا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ، لِنَزْدَادَ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ بِالْإِخْبَارِ، وَإِنْ طَوَى عَنَّا عِلْمَهُ حِكْمَةً لَهُ فِي طَيِّهِ، وَمَا خَلَقَ تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ بَشَرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَصْلَ حُدُوثِهِ كَالسُّوسِ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودِ فِي الْفَوَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ بحر: لا تَعْلَمُونَ كَيْفَ يَخْلُقُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَزَادَ بَعْدُ فِي الْجَنَّةِ وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا، وَالْبَاقِي بِالْمَعْنَى. وَرُوِيَتْ تَفَاسِيرُ فِي: مَا لَا تَعْلَمُونَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالشَّعْبِيِّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَيُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا ضَرُورِيًّا وَغَيْرَ ضَرُورِيٍّ، أَعْقَبَ بِذَكَرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ غَالِبًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، إِذْ تَفَاصِيلُهُ خَارِجَةٌ عَنِ الْإِحْصَاءِ وَالْعَدِّ، وَالْقَصْدُ مَصْدَرٌ يَقْصِدُ الْوَجْهَ الَّذِي يَؤُمُّهُ السَّالِكُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ، وَالسَّبِيلُ هُنَا مُفْرَدُ اللَّفْظِ. فَقِيلَ: مُفْرَدُ الْمَدْلُولِ، وَأَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَهِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ، وَلَيْسَتْ لِلْجِنْسِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ. وَالْمَعْنَى: وَعَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ طَرِيقِ الْهُدَى، وَذَلِكَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ مِنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْقَاصِدَ فَعَلَى اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَنَعِيمُهُ وَطَرِيقُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ مصيره. وعلى أنّ لِلْعَهْدِ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهَا جَائِرٌ، عَائِدٌ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا مَعْنَى الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، لِأَنَّ مُقَابِلَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْعِ، وَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ: فِرَقُ الضَّلَالَةِ مِنْ

أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، وَمِنْ شُعَبِهَا. وَقِيلَ: الْ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ، وَانْقَسَمَتْ إِلَى مَصْدَرٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَإِلَى جَائِرٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْبَاطِلِ، وَالْجَائِرُ الْعَادِلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْهِدَايَةِ كَمَا قَالَ: يَجُورُ بِهَا الْمَلَّاحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: وَمِنَ الطَّرِيقَةِ جَائِرٌ وَهُدَى ... قَصْدِ السَّبِيلِ وَمِنْهُ ذُو دَخَلِ قَسَّمَ الطَّرِيقَةَ: إِلَى جَائِرٍ، وَإِلَى هُدًى، وَإِلَى ذِي دَخَلٍ وَهُوَ الْفَسَادُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أَنَّ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْحَقِّ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى «1» (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهَا جَائِرٌ؟ (قُلْتُ) : لِيُعْلَمَ بِمَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُ الْمُجَبِّرَةُ لَقِيلَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَعَلَيْهِ جَائِرُهَا، أَوْ وَعَلَيْهِ الْجَائِرُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمِنْكُمْ جَائِرٌ يَعْنِي وَمِنْكُمْ جَائِرٌ عَنِ القصد بسواء اختياره، والله بريء مِنْهُ. وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قَسْرًا وَالْجَاءً انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمِنْهَا يَعُودُ عَلَى الْخَلَائِقِ أَيْ: وَمِنَ الْخَلَائِقِ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عِيسَى: وَمِنْكُمْ جَائِرٌ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقِرَاءَةُ عَلِيٍّ: فَمِنْكُمْ جَائِرٌ بِالْفَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. وَلَهَدَاكُمْ: لَخَلَقَ فِيكُمُ الْهِدَايَةَ، فَلَمْ يَضِلَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ، وَهِيَ مَشِيئَةُ الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَفَرَضَ عَلَيْكُمْ آيَةً تَضْطَرُّكُمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ سُوءٍ لِأَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَرَوْنَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، لَمْ يُحَصِّلْهُ الزَّجَّاجُ، وَوَقَعَ فِيهِ رَحْمَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ انْتَهَى. وَلَمْ يَعْرِفِ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الزَّجَّاجَ مُعْتَزِلِيٌّ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ أَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْهُ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ إِلَى الثَّوَابِ، أَوْ إِلَى الْجَنَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَوْ شَاءَ لَمَحَضَ قَصْدِ السَّبِيلِ دُونَ الْجَائِرِ. وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ لَهَدَاكُمْ أَيْ: وَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ

_ (1) سورة الليل: 92/ 12.

الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ بِإِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ وَإِيجَادِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرُّكُوبِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ وَحَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ وَأَقْوَاتِهَا مِنَ الزَّرْعِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ مِنْهَا الْأَغْلَبَ، ثُمَّ عَمَّمَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّيْلِ الَّذِي هُوَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَالنَّهَارِ الَّذِي هُوَ مَعَاشٌ، ثُمَّ بِالنَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مُؤَثِّرَيْنِ بِإِرَادَتِهِ فِي إِصْلَاحِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بِمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لماء، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيَرْتَفِعُ شَرَابٌ بِهِ أَيْ: مَاءً كَائِنًا لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَنْزَلَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، وَشَرَابٌ مُبْتَدَأٌ. لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْمَاءِ أَخَذَ فِي تَقْسِيمِهِ. وَالشَّرَابُ هُوَ الْمَشْرُوبُ، وَالتَّبْعِيضُ فِي مِنْهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي مِنْهُ شَجَرٌ فَمَجَازٌ، لَمَّا كَانَ الشَّجَرُ إِنْبَاتُهُ عَلَى سَقْيِهِ بِالْمَاءِ جَعَلَ الشَّجَرَ مِنَ الْمَاءِ كَمَا قَالَ: أَسْنِمَةُ الْآبَالِ فِي رَبَابِهْ، أَيْ فِي سَحَابِ الْمَطَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، إِمَّا قَبْلَ الضَّمِيرِ أَيْ: وَمِنْ جِهَتِهِ، أَوْ سَقْيُهُ شَجَرٌ، وَإِمَّا قَبْلَ شَجَرٍ أَيْ: شُرِبَ شَجَرٌ كَقَوْلِهِ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «1» أَيْ حُبَّهُ. وَالشَّجَرُ هُنَا كُلُّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ: نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَرُ، فَسُمِّيَ الْكَلَأُ شَجَرًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الشَّجَرُ هُنَا الْكَلَأُ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ: «لَا تَأْكُلُوا الشَّجَرَ فَإِنَّهُ سُحْتٌ» يَعْنِي الْكَلَأَ. وَيُقَالُ: أَسَامَ الْمَاشِيَةَ وَسَوَّمَهَا جَعَلَهَا تَرْعَى، وَسَامَتْ بِنَفْسِهَا فَهِيَ سَائِمَةٌ وَسِوَامٌ رَعَتْ حَيْثُ شَاءَتْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ عَلَامَاتٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَسِيمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، فَإِنْ سُمِعَ مُتَعَدِّيًا كَانَ هُوَ وَأَسَامَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَتَأْوِيلُهُ عَلَى حذف مضاف يسيمون أَيْ: تُسِيمُ مَوَاشِيكُمْ لَمَّا ذَكَرَ، وَمِنْهُ شَجَرٌ. أَخَذَ فِي ذِكْرِ غَالِبُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الشَّجَرِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْهُ شَجَرُ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْكَلَأَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارِ مَنَافِعِ الْمَاءِ. وَيُقَالُ: نَبَتَ الشَّيْءُ وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَنْبُوتٌ، وَهَذَا قِيَاسُهُ مَنْبَتٌ. وَقِيلَ: يُقَالُ أَنْبَتَ الشَّجَرُ لَازِمًا. وأنشد الفراء:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 93.

رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَّاتِ حَوْلَ بيوتهم ... قطينا بهم حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ أَيْ نَبَتَ. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَأْبَى أَنْبَتَ بِمَعْنَى نَبَتَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: نُنْبِتُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: نُنَبِّتُ بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ: لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَضْعِيفُ التَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَنْبُتُ مِنْ نَبَتَ وَرَفَعَ الزرع وما عطف عليه. وَخَصَّ الْأَرْبَعَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا يَنْبُتُ، وَأَجْمَعُهُ لِلْمَنَافِعِ. وَبَدَأَ بِالزَّرْعِ لِأَنَّهُ قُوتُ أَكْثَرِ الْعَالَمِ، ثُمَّ بِالزَّيْتُونِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِدُهْنِهِ، وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ مَعَ مَنْفَعَةِ أَكْلِهِ وَالِائْتِدَامِ بِهِ وَبِدَهْنِهِ، وَالِاطِّلَاءِ بِدُهْنِهِ، ثُمَّ بِالنَّخْلِ لِأَنَّ ثَمَرَتَهُ مِنْ أَطْيَبِ الْفَوَاكِهِ وَقُوتٌ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، ثُمَّ بِالْأَعْنَابِ لِأَنَّهَا فَاكِهَةٌ مَحْضَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أَتَى بِلَفْظِ مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَرَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا أُنْبِتَ فِي الْأَرْضِ بَعْضٌ مِنْ كُلِّهَا لِلتَّذْكِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، كَذَلِكَ هُنَا ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا وَمَنَافِعهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَرُ، كَمَا أَنَّ تَفْصِيلَ مَا خَلَقَ مِنْ بَاقِي الْحَيَوَانِ لَا يَكَادُ يُحْصَرُ. وَخَتَمَ ذَلِكَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ وَاسْتِعْمَالِ فِكْرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وُضِعَتْ فِي الْأَرْضِ وَمَرَّ عَلَيْهَا مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مُعَيَّنٌ لَحِقَهَا مِنْ نَدَاوَةِ الْأَرْضِ مَا تَنْتَفِخُ بِهِ، فَيَنْشَقُّ أَعْلَاهَا فَيَصْعَدُ مِنْهُ شَجَرَةٌ إِلَى الْهَوَاءِ، وَأَسْفَلُهَا يَغُوصُ مِنْهُ فِي عُمْقِ الْأَرْضِ شَجَرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْعُرُوقُ، ثُمَّ يَنْمُو الْأَعْلَى وَيَقْوَى، وَتَخْرُجُ الْأَوْرَاقُ وَالْأَزْهَارُ وَالْأَكْمَامُ، وَالثِّمَارُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَجْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَشْكَالِ وَالْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالشَّمْسَ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا، وَانْتَصَبَ مُسَخَّرَاتٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ إِنْ كَانَ مُسَخَّرَاتٍ اسْمَ مَفْعُولٍ، وَهُوَ إِعْرَابُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون الْمَعْنَى: أَنَّهُ سَخَّرَهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّسْخِيرِ جَمْعُ مُسَخَّرٍ بِمَعْنَى: تَسْخِيرٍ مِنْ قَوْلِكَ: سَخَّرَهُ اللَّهُ مُسَخَّرًا، كَقَوْلِكَ: سَرَّحَهُ مُسَرَّحًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَسَخَّرَهَا لَكُمْ تَسْخِيرَاتٍ بِأَمْرِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: والشمس وَمَا بَعْدَهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ، وَحَفْصٌ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِرَفْعِهِمَا، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ يُبْعِدَانِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّ مُسَخَّرَاتٍ بِمَعْنَى تَسْخِيرَاتٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ: وَالرِّيَاحُ مُسَخَّرَاتٌ فِي مَوْضِعِ، وَالنُّجُومُ وَهِيَ مُخَالَفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَالظَّاهِرُ فِي قِرَاءَةِ نَصْبِ الْجَمِيعِ أَنَّ وَالنُّجُومَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ

الْأَخْفَشُ: وَالنُّجُومَ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ النُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ، فَأَضْمَرَ الْفِعْلَ. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ لَا تَكُونُ مُسَخَّرَاتٍ حَالًا مُؤَكِّدَةً، بَلْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِجَعَلَ إِنْ كَانَ جَعَلَ الْمُقَدَّرَةُ بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَحَالًا مُبَيِّنَةً إِنْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ فِي الْأَعْرَافِ. وَجَمَعَ الْآيَاتِ هُنَا، وَذَكَرَ الْعَقْلَ، وَأَفْرَدَ فِيمَا قَبْلُ، وَذَكَرَ التَّفَكُّرَ لِأَنَّ فِيمَا قَبْلُ استدلالا بإنبات الْمَاءِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ كَثُرَتْ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ، وَالِاسْتِدْلَالُ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَلِأَنَّ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ أَظْهَرُ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَأَبْيَنُ شَهَادَةً للكبرياء والعظمة. وما درأ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْنِي: مَا خَلَقَ فِيهَا مِنْ حَيَوَانٍ وَشَجَرٍ وَثَمَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ أَصْنَافُهُ كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ أَلْوَانٌ مِنَ الثَّمَرِ وَمِنَ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَعَادِنُ. إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: فِيمَا ذَرَأَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ، أَوْ إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ. وَخَتَمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: يَذَّكَّرُونَ، وَمَعْنَاهُ الِاعْتِبَارُ وَالِاتِّعَاظُ، كَانَ علمهم بذلك سابق طَرَأَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ فَقِيلَ: يَذَّكَّرُونَ أَيْ: يَتَذَكَّرُونَ مَا نَسُوا مِنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْمُكَوِّنَاتِ فِي الْأَرْضِ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ بِمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ. وَمَعْنَى تَسْخِيرِهِ: كَوْنُهُ يَتْمَكَنُّ النَّاسُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلرُّكُوبِ فِي الْمَصَالِحِ، وَلِلْغَوْصِ فِي اسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ، وَلِلِاصْطِيَادِ لِمَا فِيهِ. وَالْبَحْرُ جِنْسٌ يَشْمَلُ الْمِلْحَ وَالْعَذْبَ، وَبَدَأَ أَوَّلًا مِنْ مَنَافِعِهِ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَمِنْهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لِتَأْكُلُوا مِنْ حَيَوَانِهِ طَرِيًّا، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَهُوَ الْحِلْيَةُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَنَبَّهَ عَلَى غَايَةِ الْحِلْيَةِ وَهُوَ اللُّبْسُ. وَفِيهِ مَنَافِعُ غَيْرُ اللُّبْسِ، فَاللَّحْمُ الطَّرِيُّ مِنَ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ، وَالْحِلْيَةِ مِنَ الْمِلْحِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذْبَ يَخْرُجُ مِنْهُ لُؤْلُؤٌ لَا يُلْبَسُ إِلَّا قَلِيلًا وَإِنَّمَا يُتَدَاوَى بِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ فِي الزُّمُرُّدِ بَحْرِيًّا، فَأَمَّا لِتَأْكُلُوا فَعَامٌّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَأَمَّا تَلْبَسُونَهَا فَخَاصٌّ بِالنِّسَاءِ. وَالْمَعْنَى: يَلْبَسُهَا نِسَاؤُكُمْ. وَأُسْنِدَ اللُّبْسُ إِلَى الذُّكُورِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ إِنَّمَا يَتَزَيَّنَّ بِالْحِلْيَةِ مِنْ أَجْلِ رِجَالِهِنَّ، فَكَأَنَّهَا زِينَتُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَةَ الْأَكْلِ مِنْهُ وَالِاسْتِخْرَاجِ لِلْحِلْيَةِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ تَصَرُّفِ الْفُلْكِ فِيهِ مَاخِرَةً أَيْ: شَاقَّةً فِيهِ، أَوْ ذَاتَ صَوْتٍ لِشَقِّ الْمَاءِ لِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَقْوَاتِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَسْنَدَ الرُّؤْيَةَ إِلَى الْمُخَاطَبِ الْمُفْرَدِ فَقَالَ: وَتَرَى، وَجَعَلَهَا جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّعْلِيلَيْنِ: تَعْلِيلِ الِاسْتِخْرَاجِ،

وتعليل الابتغاء، فلذلك عَدَلَ عَنْ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ، وَالظَّاهِرُ عَطْفُ، وَلِتَبْتَغُوا عَلَى التَّعْلِيلِ قَبْلَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَأَجَازَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ: لِتَبْتَغُوا بِذَلِكَ. وَلِتَبْتَغُوا، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: وَفَعَلَ ذَلِكَ لِتَبْتَغُوا. وَالْفَضْلُ هُنَا حُصُولُ الْأَرْبَاحِ بِالتِّجَارَةِ، وَالْوُصُولُ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، عَلَى مَا مَنَحَكُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ. قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَجَعَلَتْ تمور فقالت الْمَلَائِكَةُ: مَا هِيَ بِمَقَرِّ أَحَدٍ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ، لَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتْ. وَعَطَفَ وَأَنْهَارًا عَلَى رَوَاسِيَ. وَمَعْنَى أَلْقَى: جَعَلَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً «1» وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ، مِنْ فَوْقِهَا. وَقَالَ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أَيْ: جَعَلْتُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْمُتَأَوِّلُونَ: أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ وَجَعَلَ، وَهِيَ عِنْدِي أَخَصُّ مِنْ خَلَقَ وَجَعَلَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَلْقَى يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْجِبَالَ لَيْسَ مِنَ الْأَرْضِ لَكِنْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَاخْتِرَاعِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ مَا رُوِيَ فِي الْقَصَصِ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَقَوْلُهُ: وَأَنْهَارًا، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ، أَوْ خَلَقَ أَنْهَارًا. وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِضْمَارِ هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى خُصُوصِ أَلْقَى، وَلَوْ كَانَتْ أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ انْتَهَى. وَأَيُّ إِجْمَاعٍ فِي هَذَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّ أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ وَجَعَلَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْهَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا لِأَنَّ أَلْقَى فِيهِ مَعْنَى جَعَلَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً «2» . وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ وَشَقَّ أَنْهَارًا وَعَلَامَاتٍ أَيْ: وَضَعَ عَلَامَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى رَوَاسِيَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْهَارِ إِنَّمَا تَتَفَجَّرُ مَنَابِعُهَا فِي الْجِبَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِتَفْجِيرِ الْأَنْهَارِ، وَسُبُلًا طُرُقًا إِلَى مَقَاصِدِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بِالسُّبُلِ إِلَى مَقَاصِدِكُمْ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَقِيلَ: تَهْتَدُونَ أَيْ: بِالنَّظَرِ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ عَلَى صَانِعِهَا، فَهُوَ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَدِينِ اللَّهِ. وَعَلَامَاتٍ هِيَ مَعَالِمُ الطُّرُقِ، وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ السَّابِلَةُ مِنْ جَبَلٍ وَسَهْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً يَتَعَرَّفُونَ الطُّرُقَاتِ بِشَمِّ التُّرَابِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْعَلَامَةُ صُورَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مَا يُرَادُ مِنْ خَطٍّ أَوْ لَفْظٍ أو

_ (1، 2) سورة النبأ: 78/ 7.

إِشَارَةٍ أَوْ هَيْئَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَامَاتٍ نُصِبَ كَالْمَصْدَرِ أَيْ: فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَعَلَّكُمْ تَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَعَلَامَاتٍ أَيْ: عِبْرَةً وَإِعْلَامًا فِي كُلِّ سُلُوكٍ، فَقَدْ يُهْتَدَى بِالْجِبَالِ وَبِالْأَنْهَارِ وَبِالسُّبُلِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْعَلَامَاتُ الْجِبَالُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ: النُّجُومُ. وَأَغْرَبُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْعَلَامَاتُ أَنَّهَا حَيَّتَانِ طُوَالٌ رِقَاقٌ كَالْحَيَّاتِ فِي أَلْوَانِهَا وَحَرَكَاتِهَا تُسَمَّى بِالْعَلَامَاتِ، وَذَلِكَ فِي بَحْرِ الْهِنْدِ الَّذِي يُسَارُ إِلَيْهِ مِنَ الْيَمَنِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ كَانَتْ عَلَامَةً لِلْوُصُولِ لِبِلَادِ الْهِنْدِ وَأَمَارَةً لِلنَّجَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَبِالنَّجْمِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ: وَبِالنُّجُمِ بِضَمِّ النُّونِ وَالْجِيمِ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ: بِضَمِّ النُّونِ. وَفِي اللَّوَامِحِ الْحَسَنُ: النُّجُمُ بِضَمَّتَيْنِ، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِضَمَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَذْكُرُهُ عَنْ أَصْحَابِ عَاصِمٍ انْتَهَى. وَذَلِكَ جَمْعٌ كَسُقُفٍ وَسَقَفِ، وَرُهُنٍ وترهن، وَجَعْلُهُ مِمَّا جُمِعَ عَلَى فُعُلٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النُّجُومَ، فَحَذَفَ الْوَاوَ. إِلَّا أَنَّ ابْنَ عُصْفُورٍ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: النُّجُمُ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأَنْشَدَ: إِنَّ الَّذِي قَضَى بِذَا قَاضٍ حَكَمْ ... أَنْ يَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ قَالَ: يُرِيدُ النُّجُومَ. مِثْلَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا ابْتَلَّتْ حَلَاقِيمُ الْحَلْقِ يُرِيدُ: الْحُلُوقَ. وَالتَّسْكِينُ: قِيلَ تَخْفِيفٌ، وَقِيلَ: لُغَةٌ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: هُوَ الثُّرَيَّا، وَالْفَرْقَدَانِ، وَبَنَاتُ نَعْشٍ، وَالْجَدْيُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ انْتَهَى. قِيلَ: وَالْجَدْيُ هُوَ السَّابِعُ مِنْ بَنَاتِ نَعْشِ الصُّغْرَى، وَالْفَرْقَدَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْهَا، وَلَيْسَ بِالْجَدْيِ الَّذِي هُوَ الْمَنْزِلَةُ، وَبَعْضُهُمْ يُصَغِّرُهُ فَيَقُولُ: جُدَيٌّ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: وَبِالنَّجْمِ، فقل: «هُوَ الْجَدْيُ» وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَعْدِلْ أَحَدٌ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ، وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي لَا يَجْرِي. وَقِيلَ: هُوَ الثُّرَيَّا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا طَلَبَ الْجَوْزَاءُ وَالنَّجْمُ طَالِعٌ ... فَكُلُّ مَخَاضَاتِ الْفُرَاتِ مَعَابِرُ وَقَالَ آخَرُ: حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ الْبَقْلُ مُلَوًّى وَمَحْصُودُ أَيْ وَمِنْهُ مُلَوًّى، وَمِنْهُ مَحْصُودٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا. وَهُمْ: ضَمِيرُ غَيْبَةٍ خَرَجَ

مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، كَانَ الضَّمِيرُ النَّعْتَ بِهِ إِلَى قُرَيْشٍ إِذْ كَانَ لَهُمُ اهْتِدَاءٌ بِالنُّجُومِ فِي مَسَايِرِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ بِذَلِكَ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ الشُّكْرُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ وَالِاعْتِبَارُ أَلْزَمَ لَهُمْ. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اعْتِنَاءً وَلِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَبِالنَّجْمِ خُصُوصًا هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ: ذَكَرَ تَعَالَى التَّبَايُنَ بَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ وَهُوَ الْبَارِي تَعَالَى، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَخْلُقُ وَهِيَ الْأَصْنَامُ، وَمَنْ عُبِدَ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، فَجَدِيرٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ مَنْ لَهُ الْإِنْشَاءُ دُونَ غَيْرِهِ. وَجِيءَ بِمَنْ فِي الثَّانِي لِاشْتِمَالِ الْمَعْبُودِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، أَوْ لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا وَأَفْعَالًا، فَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ أُولِي الْعِلْمِ، أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ، أَوْ لِتَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَعْلَمُ. فَإِذَا وَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْخَالِقِ، مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَعْلَمُ الْبَتَّةَ كَقَوْلِهِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها «1» أَيْ: أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُنْحَطَّةٌ عَنْ حَالِ مَنْ لَهُ أَرْجُلٌ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ هَذِهِ حَيٌّ، وَتِلْكَ أَمْوَاتٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ لَا أَنَّ مَنْ لَهُ رِجْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هُوَ إِلْزَامٌ لِلَّذِينِ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَسَمَّوْهَا آلِهَةً تَشْبِيهًا بِاللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ، فَكَانَ حَقَّ الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَفَمَنْ لَا يَخْلُقُ كَمَنْ يَخْلُقُ؟ (قُلْتُ) : حِينَ جَعَلُوا غَيْرَ اللَّهِ مِثْلَ اللَّهِ فِي تَسْمِيَتِهِ بِاسْمِهِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَسَوَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَدْ جَعَلُوا اللَّهَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ وَشَبِيهًا بِهَا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، أَيْ: مِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ فِيهِ الْغَفْلَةُ. وَالنِّعْمَةُ يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ لَا نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا وَقَوْلُهُ: لَا تُحْصُوها «2» إِذْ يَنْتَفِي الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ فِي الْوَاحِدَةِ، وَالْمَعْنَى: لَا تُحْصُوا عَدَّهَا، لِأَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا خَرَجَتْ عَنْ إِحْصَائِكُمْ لَهَا، وَانْتِفَاءُ إِحْصَائِهَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا مِنَ الشُّكْرِ. وَلَمَّا ذَكَرَ نِعَمًا سَابِقَةً أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ نِعَمِهِ لَا يُطِيقُونَ عَدَّهَا. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، حَيْثُ يَتَجَاوَزُ عَنْ تقصيركم في

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 195. (2) سورة ابراهيم: 14/ 34.

أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ، وَلَا يَقْطَعُهَا عَنْكُمْ لِتَفْرِيطِكُمْ، وَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرَانِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ، وَأَنَّ لَهُ حَالَةً يَعْرِضُ فِيهَا مِنْهُ كُفْرَانَهَا قَالَ فِي عَقِبِ الْآيَةِ الَّتِي فِي إِبْرَاهِيمَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «1» أَيْ لَظَلُومٌ بِتَرْكِ الشُّكْرِ كَفَّارٌ لِلنِّعْمَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ لُطْفًا بِهِ، وَإِيذَانًا فِي التَّجَاوُزِ عَنْهُ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ، وَضَمَّنَهُ الْوَعِيدَ لَهُمْ، وَالْإِخْبَارَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْ آلِهَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فِي تُسِرُّونَ وَتُعْلِنُونَ وَتَدْعُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: مُجَاهِدٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَشَيْبَةَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَهُبَيْرَةَ، عَنْ عَاصِمٍ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي مَشْهُورِهِ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالتَّاءِ فِي السَّابِقَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ: يَعْلَمُ الَّذِي يُبْدُونَ وَمَا يَكْتُمُونَ، وَتَدْعُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَتَدْعُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُخَالِفَتَانِ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَالْمَشْهُورُ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ. وَلَمَّا أَظْهَرَ تَعَالَى التَّبَايُنَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَغَيْرِهِ، نَصَّ عَلَى أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَخْلُقُ، وَعَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْيَاءٍ، ثُمَّ نَفَى عَنْهُمُ الشُّعُورَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَهَائِمِ، فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ الَّذِي تَتَّصِفُ بِهِ الْعُقَلَاءُ. وَعَبَّرَ بِالَّذِينِ وَهُوَ لِلْعَاقِلِ عُومِلَ غَيْرُهُ مُعَامَلَتَهُ، لِكَوْنِهَا عُبِدَتْ وَاعْتُقِدَتْ فِيهَا الْأُلُوهِيَّةُ، وَقَرَأَ مُحَمَّدٌ الْيَمَانِيُّ: يُدْعَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتَحَ الْعَيْنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَيِ: اللَّهُ أَنْشَأَهُمْ وَاخْتَرَعَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ النَّاسَ يَخْلُقُونَهُمْ بِالنَّحْتِ وَالتَّصْوِيرِ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ عَبَدَتِهِمْ انْتَهَى. وَأَمْوَاتٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُمْ أَمْوَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مِمَّا حَدَّثَ بِهِ عَنِ الْأَصْنَامِ، وَيَكُونُ بَعْثُهُمْ إِعَادَتُهَا بَعْدَ فَنَائِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «2» . وَقِيلَ: مَعْنَى بَعْثِهَا إِثَارَتُهَا، كَمَا تَقُولُ: بَعَثْتُ النَّائِمَ مِنْ نَوْمِهِ إِذَا نَبَّهْتَهُ، كَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِغَايَةِ الْجُمُودِ أَيْ: وَإِنْ طَلَبْتَهُمْ بِالتَّحْرِيكِ أَوْ حَرَّكْتَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْحَيَاةَ لِأَنَّ مِنَ الْأَمْوَاتِ مَا يَعْقُبُ مَوْتَهُ حَيَاةٌ كَالنُّطَفِ الَّتِي يُنْشِئُهَا اللَّهُ حَيَوَانًا، وَأَجْسَادِ الْحَيَوَانِ الَّتِي تُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَأَمَّا الْأَصْنَامُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْخَشَبِ

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 34. (2) سورة الأنبياء: 21/ 21.

فَأَمْوَاتٌ لَا يَعْقُبُ مَوْتَهَا حَيَاةٌ، وَذَلِكَ أَعْرَقُ فِي مَوْتِهَا. وَقِيلَ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ، هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَانَ نَاسٌ من الكفار يعبدونهم. وأموت أَيْ: لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَغَيْرُ أَحْيَاءٍ أَيْ: غَيْرُ بَاقٍ حَيَاتُهُمْ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيْ: لَا عِلْمَ لَهُمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ. وَجَوَّزُوا فِي قِرَاءَةِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ موت، يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ ضَمِيرُهُمْ فِي: يَدْعُونَ، شَبَّهَهُمْ بِالْأَمْوَاتِ غَيْرِ الْأَحْيَاءِ مِنْ حَيْثُ هُمْ ضُلَّالٌ. غَيْرُ مُهْتَدِينَ وَمَا بَعْدَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالْبَعْثُ الْحَشْرُ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقِيلَ: فِي هَذَا التَّقْدِيرِ وَعِيدٌ أَيْ: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَى التَّعْذِيبِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمَا يَشْعُرُونَ، لِلْأَصْنَامِ وَفِي: يُبْعَثُونَ، لِعَبَدَتِهَا. أَيْ: لَا تَشْعُرُ الْأَصْنَامُ مَتَى تُبْعَثُ عَبَدَتُهَا. وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقْتَ بَعْثِ عَبَدَتِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ وَقْتُ جَزَاءٍ عَلَى عِبَادَتِهِمْ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ تَكُونَ الْأَخْبَارُ بِتِلْكَ الجمل كلها عن الْمَدْعُوِّينَ آلِهَةً، إِمَّا الْأَصْنَامُ، وَإِمَّا الْمَلَائِكَةُ، أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْوَاتٌ إِلَى آخره، إخبارا عن الكفار. أو يكون وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، فقط إخبارا عن الكفار، أو يكون وما يشعرون إِخْبَارًا عَنِ الْمَدْعُوِّينَ، وَيُبْعَثُونَ: إِخْبَارًا عَنِ الدَّاعِينَ الْعَابِدِينَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِيَّانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَوْمِهِ سُلَيْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِيَّانَ، مَعْمُولٌ لِيُبْعَثُونِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَشْعُرُونَ، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ. إِذْ مَعْنَاهُ الْعِلْمُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ عِلْمَ مَا انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَهُوَ وَقْتُ الْبَعْثِ إِذَا أُرِيدَ بِالْبَعْثِ الْحَشْرُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَا يشعرون. وأيان يُبْعَثُونَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَخْبَرَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّ الْإِلَهَ فِيهِ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ أَيَّانَ إِذْ ذَاكَ تَخْرُجُ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِيهَا مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفًا، إِمَّا اسْتِفَهَامًا، وَإِمَّا شَرْطًا. وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ ظَرْفًا بِمَعْنَى وَقْتٍ مُضَافًا لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: وَاحِدٌ، كَقَوْلِك: يَوْمَ يَقُومُ زَيْدٌ قَائِمٌ. وَفِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا اتَّصَفَتْ بِهِ آلِهَتُهُمْ بِمَا يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ وُضُوحِ بُطْلَانِ أَنْ تَكُونَ الْإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ بَلْ لَهُ وَحْدَهُ، هُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى شِرْكِهِمْ، مُنْكِرُونَ وَحْدَانِيَّتَهُ، مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهَا، لِاعْتِقَادِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْنَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهَا فِي الْوُجُودِ. وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُبَالَغَةٌ فِي نِسْبَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ، إِذْ عَدَمُ التَّصْدِيقِ بِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالْبَعْثِ، إِذْ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَذِّبَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ ذَنْبٍ يُمْكِنُ التَّسَتُّرُ بِهِ وَإِخْفَاؤُهُ إِلَّا التَّكَبُّرَ فَإِنَّهُ

فِسْقٌ يَلْزَمُهُ الْإِعْلَانُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يجيؤون أَمْثَالَ الذَّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ» أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا جَرَمَ فِي هُودٍ «1» . وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَقَدْ يُغْنِي لَا جَرَمَ عَنْ لَفْظِ الْقَسَمِ، تَقُولُ: لَا جَرَمَ لَآتِيَنَّكَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ تَعَلَّقَ بِلَا جَرَمَ، وَلَا يَكُونُ اسْتِئْنَافًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ لِمِرْدَاسٍ الْخَارِجِيِّ: لَا جَرَمَ وَاللَّهِ لَأُفَارِقَنَّكَ أَبَدًا، نَفَى كَلَامَهُ تَعَلُّقُهَا بِالْقَسَمِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَعِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ، وَالنَّقَّاشُ: الْمُرَادُ هُنَا بِمَا يُسِرُّونَ تَشَاوُرُهُمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم انتهى. ولا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقِسْطِهِ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ الْآيَةَ، أَنَّ النضر بن الحرث سَافَرَ عَنْ مَكَّةَ إِلَى الْحِيرَةِ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ كُتُبَ التَّوَارِيخِ وَالْأَمْثَالِ كَكَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَأَخْبَارَ اسْفَنْدِيَارَ وَرُسْتُمَ، فَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُحَدِّثُ مُحَمَّدٌ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَحَدِيثِي أَجْمَلُ من حديثه. وماذا كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ مَفْعُولٌ بِأَنْزَلَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَعَائِدُهُ فِي أَنْزَلَ مَحْذُوفٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ الَّذِي أَنْزَلَهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَاذَا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ قَالَ: بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ رَبُّكُمْ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كفار قريش. وَمَاذَا أَنْزَلَ لَيْسَ مَعْمُولًا لَقِيلَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ، وَالْجُمْلَةُ لَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَمَا لَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْفَاعِلِ. وقرىء شَاذًّا: أَسَاطِيرَ بِالنَّصْبِ عَلَى معنى ذكر ثم أَسَاطِيرَ، أَوْ أَنْزَلَ أَسَاطِيرَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالسُّخْرِيَةِ، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْإِنْزَالِ يُنَافِي أَسَاطِيرَ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَا نَزَلَ شَيْءٌ وَلَا أن ثمّ منزل. وَبَنَى قِيلَ: لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أن كون القائل بعضهم

_ (1) سورة هود: 11/ 22.

لِبَعْضٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَالُوا لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ يُنَفِّرُونَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَأَلَهُمْ وُفُودُ الْحَاجِّ: مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ أَسَاطِيرَ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ: أَسَاطِيرُ، أَوِ الْمُنَزَّلُ أَسَاطِيرُ، جَعَلُوهُ مُنَزَّلًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا لَامُ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى الْحَتْمِ عَلَيْهِمْ وَالصَّغَارِ الْمُوجِبِ لَهُمْ، أَوْ لَامُ التَّعْلِيلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا كَقَوْلِكَ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ مَخَافَةَ الشَّرِّ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَامِ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا بِقَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَنْ يَحْمِلُوا الْأَوْزَارَ. وَلَمَّا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الْعَاقِبَةِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحُ لَامِ كَيْ عَلَى مَعْنَى قُدِّرَ هَذَا لِكَذَا، وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهَا بِقَوْلِهِ. قَالُوا: بَلْ أَضْمَرَ فِعْلًا آخَرَ وَهُوَ: قَدَّرَ هَذَا، وَكَامِلَةً حَالٌ أَيْ: لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْمِلُ مِنْ وِزْرِ كُلِّ مَنْ أَضَلَّ أَيْ: بَعْضَ وِزْرِ مَنْ ضَلَّ بِضَلَالِهِمْ، وَهُوَ وِزْرُ الْإِضْلَالِ، لِأَنَّ الْمُضِلَّ وَالضَّالَّ شَرِيكَانِ، هَذَا يُضِلُّهُ، وَهَذَا يُطَاوِعُهُ عَلَى إِضْلَالِهِ، فَيَتَحَامَلَانِ الْوِزْرَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ أَيْ: وَأَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، وَالْمَعْنَى: وَمِثْلَ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ «1» كَقَوْلِهِ: «فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» الْمُرَادُ: وَمِثْلُ وِزْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا وَضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقَابُهُ حَتَّى إِنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِعِقَابِ كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَيْسَتْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْفِيفَ الْأَوْزَارِ عَنِ الْأَتْبَاعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» لَكِنَّهَا لِلْجِنْسِ أَيْ: لِيَحْمِلُوا مِنْ جِنْسِ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ انْتَهَى. وَلَا تَتَقَدَّرُ مِنَ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَإِنَّمَا تُقَدَّرُ: الْأَوْزَارُ الَّتِي هِيَ أَوْزَارُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، فيؤول مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي التَّقْدِيرِ. وَبِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَالٌ مِنْ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُضِلُّونَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ أَوْلَى، إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْإِضْلَالُ عَلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى هَذَا الْإِضْلَالِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْلَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سُوءِ مَا يَتَحَمَّلُونَهُ لِلْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ مِثْلِ سَاءَ مَا يَزِرُونَ. فَأَتَى اللَّهُ أَيْ: أَمْرُهُ وَعَذَابُهُ وَالْبُنْيَانُ، قِيلَ: حَقِيقَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ نمرود بنى

_ (1) سورة النحل: 16/ 25.

صَرْحًا لِيَصْعَدَ بِزَعْمِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَفْرَطَ فِي عُلُوِّهِ وَطُولِهِ فِي السَّمَاءِ فَرْسَخَيْنِ عَلَى مَا حَكَى النَّقَّاشُ، وَقَالَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: طَولُهُ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رِيحًا فَهَدَمَتْهُ، وَخَرَّ سَقْفُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ. وَقِيلَ: هَدَمَهُ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ، وَأَلْقَى أَعْلَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَالْحِقْفُ مِنْ أَسْفَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْمُرَادُ الْمُقْتَسِمُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بخت نصر وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قُرَيَّاتُ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَكَرَ، وَنَزَلَتْ بِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ إِلَى آخِرِهِ تَمْثِيلًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَوَّوْا مَنْصُوبَاتٍ لِيَمْكُرُوا بِهَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ هَلَاكَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَنْصُوبَاتِ كَحَالِ قَوْمٍ بَنَوْا بُنْيَانًا وَعَمَّدُوهُ بِالْأَسَاطِينِ، فَأَتَى الْبُنْيَانَ مِنَ الْأَسَاطِينِ بِأَنْ تَضَعْضَعَتْ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ وَهَلَكُوا وَنَحْوُهُ: مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ: أَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ الْقَوَاعِدِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ. جَاءَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ فَوْقَهُمْ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ بُنْيَانُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَنْجَرُّ إِلَى اللُّغْزِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ، رَفْعُ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: انْهَدَمَ عَلَى فُلَانٍ بِنَاؤُهُ وَلَيْسَ تَحْتَهُ، كَمَا تَقُولُ: انْفَسَدَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ فَوْقِهِ، أَلْزَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: يُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا جَالِسِينَ تَحْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَجَاءَ بِقَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ لِيَخْرُجَ هَذَا الَّذِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ، أَيْ: عَلَيْهِمْ وَقَعَ، وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا، فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْبَعُوضَةَ الَّتِي أُهْلِكَ بِهَا نُمْرُوذٌ، وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُنْيَانَهُمْ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بُنْيَتَهُمْ. وَقَرَأَ جَعْفَرٌ: بَيْتَهُمْ، وَالضَّحَّاكُ: بُيُوتَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: السَّقْفُ مُفْرَدًا، وَالْأَعْرَجُ السُّقُفُ بِضَمَّتَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٌ، بِضَمِّ السِّينِ فَقَطْ. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ مِثْلِ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي وَبِالنَّجْمِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: السَّقُفُ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْقَافِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي السَّقْفِ، وَلَعَلَّ السَّقْفَ مُخَفَّفٌ منعه، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا قَالُوا فِي رَجُلٍ رَجْلٍ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَلَّ بِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ذَكَرَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيُخْزِيهِمْ: يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَكَارِهِ الَّتِي تَحُلُّ بِهِمْ،

وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِدْخَالَهُمُ النَّارَ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «1» أَيْ أَهَنْتَهُ كُلَّ الْإِهَانَةِ. وَجَمَعَ بَيْنَ الْإِهَانَةِ بِالْفِعْلِ، وَالْإِهَانَةِ بِالْقَوْلِ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: يُخْزِيهِمْ. وَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَائِي، أَضَافَ تَعَالَى الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَالْمَعْنَى: شُرَكَائِي فِي زَعْمِكُمْ، إِذْ أَضَافَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُرَكَائِيَ مَمْدُودًا مَهْمُوزًا مَفْتُوحَ الْيَاءِ، وَفِرْقَةٌ كَذَلِكَ: تُسَكِّنُهَا، فَسَقَطَ فِي الدَّرَجِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مَقْصُورًا وَفَتَحَ الْيَاءَ هُنَا خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنْهُ: تَرْكُ الْهَمْزِ فِي الْقَصَصِ وَالْعَمَلُ عَلَى الْهَمْزِ فِيهِ وَقَصْرُ الْمَمْدُودِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِثُبُوتِهِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَيَجُوزُ قَلِيلًا فِي الْكَلَامِ. وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُفَادَاةُ وَالْمُخَاصَمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُشَاقُّونَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِهَا، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَضْعِيفِ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِتَشْدِيدِهَا، أُدْغِمَ نُونُ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، عَامٌّ فِيمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعُلَمَاءِ أُمَمِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَعِظُونَهُمْ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مَنْ حَضَرَ الْمَوْقِفَ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسِيٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَيَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ: شَمَاتَةً بِالْكُفَّارِ وَتَسْمِيعًا لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ إِعْظَامٌ لِلْعِلْمِ، إِذْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «2» تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ «3» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ صِفَةٌ لِلْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْقَوْلِ. فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ تَتَوَفَّاهُمْ حكاية حال ماضية، وأن كَانَ الْقَوْلُ فِي الدُّنْيَا لَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُخْزِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقُولُ لَهُمْ مَا يَقُولُ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ أَنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُخْزِيهِمْ فِيهِ، فَيَكُونُ تَتَوَفَّاهُمْ عَلَى بَابِهَا. وَيَشْمَلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مِنْ تَوَفَّتْهُ، وَمَنْ تَتَوَفَّاهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقُولٍ، بَلْ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، فَزِيدَتِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، فَإِنَّهُ يُجِيزُ: زَيْدٌ فَقَامَ، أَيْ قَامَ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْفَاءَ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَإِ

_ (1- 3) سورة آل عمران: 3/ 192. (2) سورة النساء: 4/ 197.

إِذَا كَانَ مَوْصُولًا، وَضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ صَرِيحِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ فِيمَا ضُمِّنَ مَعْنَاهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ: يَتَوَفَّاهُمْ بِالْيَاءِ مِنْ أسفل في الموضعين. وقرىء: بِإِدْغَامِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ فِي التَّاءِ بَعْدَهَا، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالسَّلْمُ هُنَا الِاسْتِسْلَامُ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوِ الْخُضُوعُ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَيِ، انْقَادُوا حِينَ عَايَنُوا الْمَوْتَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ انْقَادُوا وَأَجَابُوا بِمَا كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّقَاقِ وَالْكِبْرِ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ فَأَلْقَوْا عَلَى تَتَوَفَّاهُمْ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: قَالَ الَّذِينَ إِلَى قَوْلِهِ فَأَلْقَوْا، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْكُفَّارِ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ: وَنَعْتُهُمْ بِحَمْلِ السُّوءِ، إِمَّا أَنْ يكون صريخ كَذِبٍ كَمَا قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَيْ لَوْ كَانَ الْكُفْرُ عِنْدَ أَنْفُسِنَا سَوَاءً مَا عَلِمْنَاهُ. وَيُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِبَلَى، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى حَسْبِ اعْتِقَادِهِمْ لَمَا كَانَ الْجَوَابُ بَلَى، عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِبَلَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ كَذَبْتُمْ فِي اعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُوءٍ، بَلْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ سُوءٌ لِأَنَّكُمْ تَبَيَّنْتُمُ الْحَقَّ وَعَرَفْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» وَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ كُلَّهُ هُوَ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكُفَّارِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ إِخْبَارَهُمْ بِنَفْيِ عَمَلِ السُّوءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْآمِرُوهُمْ بِالدُّخُولِ فِي النَّارِ، يَسُوقُونَهُمْ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: الْخَزَنَةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَبْوَابُ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الدَّرَكَاتُ. وَقِيلَ: الْأَصْنَافُ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْظُرُ فِي بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ صِنْفٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ مُسْتَدِلًّا بِمَا جَاءَ «الْقَبْرِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ» وَلَمَّا أَكْذَبُوهُمْ مِنْ دَعْوَاهُمْ أُخْبِرُوا أَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهَا، ثُمَّ أَمَرُوهُمْ بِالدُّخُولِ، وَاللَّامُ فِي فَلَبِئْسَ لَامُ تَأْكِيدٍ، وَلَا تَدْخُلَ عَلَى الْمَاضِي الْمُنْصَرِفِ، وَدَخَلَتْ عَلَى الْجَامِدِ لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَفْعَالِ وَقُرْبِهِ مِنَ الأسماء.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 89. (2) سورة النحل: 16/ 14. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 30 إلى 50]

وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ هِيَ أَيْ جَهَنَّمُ. وَوَصْفُ التَّكَبُّرِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ صَاحِبِهِ النَّارَ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ «1» . [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

_ (1) سورة النحل: 16/ 22.

خَسَفَ الْمَكَانُ يَخْسِفُ خُسُوفًا ذَهَبَ، وَخَسَفَهُ اللَّهُ يُرِيدُ أَذْهَبَهُ فِي الْأَرْضِ بِهِ. دَخَرَ دُخُورًا تَصَاغَرَ، وَفَعَلَ مَا يُؤْمَرُ شَاءَ أَوْ أَبَى. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَوَاضَعَ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِرٌ فِي مَجْلِسٍ ... وَمُنْجَحِرٌ فِي غير أرضك في حجر وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ إِعْرَابُ مَاذَا، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ ذَا مَوْصُولَةً لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، لِكَوْنِ ماذا مبتدأ وخبر، أَوِ الْجَوَابُ نَصْبٌ وَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْمُطَابَقَةَ فِي الْإِعْرَابِ أَحْسَنُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَيْرًا بِالنَّصْبِ أَيْ: أَنْزَلَ خَيْرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمْ نَصَبَ هَذَا، وَرَفَعَ الْأَوَّلَ؟ (قُلْتُ) : فَصْلًا بَيْنَ جَوَابِ الْمُقِرِّ وَجَوَابِ الْجَاحِدِ، يَعْنِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلُوا: لَمْ يَتَلَعْثَمُوا وَأَطْبَقُوا الْجَوَابَ عَلَى السُّؤَالِ مَكْشُوفًا مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ فَقَالُوا: خَيْرًا، وَأُولَئِكَ عَدَلُوا بِالْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ فَقَالُوا: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْزَالِ فِي شَيْءٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خَيْرٌ بِالرَّفْعِ أَيِ: الْمُنَزَّلُ فَتُطَابِقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَأْوِيلَ مَنْ جَعَلَ إِذَا مَوْصُولَةً، وَلَا تُطَابِقُ مَنْ جَعَلَ مَاذَا مَنْصُوبَةً، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِعْرَابِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ جَائِزًا كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ أَنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ

كَانُوا يَبْعَثُونَ أَيَّامَ الْمَوَاسِمِ مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَاءَ الْوَفْدُ كَفَّهُ الْمُقْتَسِمُونَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَقَالُوا: إِنْ لَمْ تَلْقَهُ كَانَ خَيْرًا لَكَ فَيَقُولُ: أَنَا شَرُّ وَافِدٍ إِنْ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي دُونَ أَنْ أَسْتَطْلِعَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَاهُ، فَيَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُونَهُ بِصِدْقِهِ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا خَيْرًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ، مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْخَيْرِ الَّذِي أنزله اللَّهُ فِي الْوَحْيِ: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ فَلَهُ حَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَنَعِيمٌ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ خَيْرٍ، حِكَايَةً لِقَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ: قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، فَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَسْمِيَتَهُ خَيْرًا ثُمَّ خكاه انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى وَعْدٌ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ إِحْسَانِ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَالَتِهِمْ. وَمَعْنَى حَسَنَةٍ مُكَافَأَةٌ فِي الدُّنْيَا بِإِحْسَانِهِمْ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ هُوَ جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحَذَفَ الْمُخَصَّصَ بِالْمَدْحِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَجَنَّاتُ عَدْنٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ انْتَهَى. وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَبْلَهُمَا الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ جَنَّاتُ عَدْنٍ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ يَدْخُلُونَهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَنَّاتِ عَدْنٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُقَوِّي إِعْرَابَ جَنَّاتُ عَدْنٍ بِالرَّفْعِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، ويدخلونها الخبر. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلَنِعْمَتُ دَارِ، بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ، وَدَارٍ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ، فيكون نعمت مبتدأ وجنات الْخَبَرَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَدْخُلُونَهَا بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ نَافِعٍ: يَدْخُلُونَهَا بِيَاءٍ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: تَجْرِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِجَنَّاتٌ انْتَهَى. فَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَحَظَ كَوْنَ جَنَّاتُ عَدْنٍ مَعْرِفَةً، وَالْحَوْفِيُّ لَحَظَ كَوْنَهَا نَكِرَةً، وَذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدْنٍ هَلْ هِيَ عَلَمٌ؟ أَوْ نَكِرَةٌ بِمَعْنَى إِقَامَةٍ؟ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: جَزَاءٌ مِثْلُ جَزَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا يَجْزِي، وَطَيِّبِينَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ تَتَوَفَّاهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَالِحُو الْأَحْوَالِ مُسْتَعِدُّونَ لِلْمَوْتِ وَالطِّيبِ الَّذِي لَا خَبَثَ فِيهِ، وَمِنْهُ: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ «1» . وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: طَيِّبِينَ طاهرين من الشرك بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ. وَقِيلَ: طَيِّبِينَ سَهْلَةٌ وَفَاتُهُمْ لَا صُعُوبَةَ فِيهَا وَلَا أَلَمَ، بِخِلَافِ مَا يَقْبِضُ رُوحَ الْكَافِرِ وَالْمُخْلِطِ. وَقِيلَ: طَيِّبَةٌ نُفُوسُهُمْ

_ (1) سورة الزمر: 39/ 73.

بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: زَاكِيَةٌ أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ، وَقِيلَ: صَالِحِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: طَاهِرِينَ مِنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ. وَيَقُولُونَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. وَقَوْلُهُ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، هُوَ وَقْتُ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، قاله: ابن مسعود، ومحمد بْنُ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٌ. وَالْأَكْثَرُونَ جَعَلُوا التَّبْشِيرَ بِالْجَنَّةِ دُخُولًا مَجَازًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْحَسَنُ: عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بما صبرتم، فنعم عقبى الدَّارِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يَقُولُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ وَقْتَ التَّوَفِّي. وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ يَقُولُونَ، وَالْمَعْنَى: يَقُولُونَ لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَوَقْتَ الْمَوْتِ لَا يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَالتَّوَفِّي هُنَا تَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ وَقْتَ الْحَشْرِ. وَقَوْلُهُ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ظَاهِرُهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ طَعْنَ الْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ وَصَفَ الْقُرْآنُ بِالْخَيْرِيَّةِ بَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَفَرَةَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ حَالِهِمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْدِيدِ، أَوْ أَمْرِ اللَّهِ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَأْتِيهِمْ بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَإِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ لِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَهُمْ ظَالِمُو أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْرُ رَبِّكَ الْعَذَابُ الْمُسْتَأْصِلُ أَوِ الْقِيَامَةُ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مِثْلُ فِعْلِهِمْ فِي انْتِظَارِ الْمَلَائِكَةِ أَوَامِرَ اللَّهِ فِعْلُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَهُمْ. وَقِيلَ: مِثْلُ فِعْلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالدَّيْمُومَةِ عَلَيْهِ فَعَلَ مُتَقَدِّمُوهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: فَعَلَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ اغْتِرَارِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مِثْلُ اغْتِرَارِهِمْ بِاسْتِبْطَاءِ الْعَذَابِ اغْتَرَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ: هَلْ يَنْظُرُونَ عليه، وما ظلمهم بالله بِإِهْلَاكِهِمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: فَأَصَابَهُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى فَعَلَ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اعْتِرَاضٌ. وَسَيِّئَاتُ: عُقُوبَاتُ كُفْرِهِمْ. وَحَاقَ بِهِمْ أَحَاطَ بِهِمْ جَزَاءَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَقَالَ

الَّذِينَ أَشْرَكُوا، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، فَأَغْنَى عَنِ الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا يَعْنِي أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَحَرَّمُوا مَا أَحَلَّ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ نَسَبُوا فِعْلَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ نَفْعَلْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُجَبِّرَةِ بِعَيْنِهِ. كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ أَشْرَكُوا وَحَرَّمُوا حَلَالَ اللَّهِ، فَلَمَّا نُبِّهُوا على قبح فعلهم وركوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغُوا الْحَقَّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ، وَيَطَّلِعُوا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَقُبْحِهِ، وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُمْ فَاعِلُوهَا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَاعِثُهُمْ عَلَى جَمِيلِهَا، وَمُوَفِّقُهُمْ لَهُ وَزَاجِرُهُمْ عَنْ قَبِيحِهَا وَمُوعِدُهُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَادِرٌ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِوُجُودِهِ. فَعَلَى تَقْدِيرٍ أَنَّ الرَّبَّ الذي يعبده محمد وَيَصِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَعْلَمُ حَالَنَا، وَهَذَا جِدَالٌ مِنْ أي الصفنين كَانَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِهْزَاءٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَمِنَ الْمُطَابَقَةِ الَّتِي أَنْكَرَتْ مُطَابَقَةَ الْأَدِلَّةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ مِنْ مَذْهَبِ خَصْمِهَا مُسْتَهْزِئَةً فِي ذَلِكَ. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ أَمَدَّ إِبْطَالَ قَدْرِ السُّوءِ وَمِشْيَةِ الشَّرِّ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ الطَّاغُوتُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ لَطَفَ بِهِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْخِذْلَانُ وَالشِّرْكُ مِنَ اللُّطْفِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مُصَمَّمًا عَلَى الْكُفْرِ لَا يَأْتِي مِنْهُ خَيْرٌ. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا مَا فَعَلْتُ بِالْمُكَذِّبِينَ حَتَّى لَا تَبْقَى لَكُمْ شُبْهَةٌ وَإِنِّي لَا أُقَدِّرُ الشَّرَّ وَلَا أَشَاؤُهُ، حَيْثُ أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ بِالْأَشْرَارِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَلَمَّا قَالَ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، بَيَّنَ ذَلِكَ هُنَا بِأَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ بِعِبَادَتِهِ وَتَجَنُّبِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ فَهَدَاهُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ وَكَفَرَ، ثُمَّ أَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاسْتِقْرَاءِ الْأُمَمِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى عَذَابِ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ خَاطَبَ نَبِيَّهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ حَتَّمَ عَلَيْهِ بِالضَّلَالَةِ لَا يُجْدِي فِيهِ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَتِهِ.

وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: وَإِنْ بِزِيَادَة وَاوٍ وَهُوَ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: تَحْرَصْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مُضَارِعُ حَرِصَ بِكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ مُضَارِعُ حَرَصَ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَيْبَةُ، وَشِبْلٌ، وَمُزَاحِمٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالْعُطَارِدِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ: لَا يُهْدَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَنْ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْفَاعِلُ فِي يُضِلُّ ضَمِيرُ اللَّهِ وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبَ، وَجَمَاعَةٌ: يَهْدِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي يَهْدِي ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ مَفْعُولٌ، وَعَلَى مَا حَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ هَدَى يَأْتِي بِمَعْنَى اهْتَدَى يَكُونُ لَازِمًا، وَالْفَاعِلُ مَنْ أَيْ لَا يَهْتَدِي مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ: لَا يَهِدِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَالدَّالِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَعْنِي: وَتَشْدِيدُ الدَّالِ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي، فَأُدْغِمَ كَقَوْلِكَ فِي: يَخْتَصِمُ يَخْصِمُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يَهْدِي بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَدَى لَازِمٌ بِمَعْنَى اهْتَدَى لَمْ تَكُنْ ضَعِيفَةً، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى اللَّازِمِ هَمْزَةَ التَّعْدِيَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْعَلُ مُهْتَدِيًّا مَنْ أَضَلَّهُ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: لَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ أُبِيٍّ فَإِنَّ اللَّهَ لَا هَادِيَ لِمَنْ يُضِلُّ وَلِمَنْ أضل. وقرىء: يَضِلُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَالَ أَيْضًا: حَرِصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِيمَانِ قُرَيْشٍ، وَعَرَّفَهُ أَنَّهُمْ مَنْ قِسْمِ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، وَأَنَّهُ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أَيْ: لَا يَلْطُفُ بِمَنْ يَخْذُلُ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ الْعَبَثِ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَالضَّمِيرُ فِي وَأَقْسَمُوا عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقَاضَى دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ فِيمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُسْلِمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ الْمُشْرِكُ، وَأَنْكَرَ أَنَّكَ تُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَقْسَمُ بِاللَّهِ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلَى رَدَّ عَلَيْهِ مَا نَفَاهُ، وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلَى يَبْعَثُهُ. وَانْتَصَبَ وَعْدًا وَحَقًّا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ مُؤَكِّدَانِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَلَى مِنْ تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ يَبْعَثُهُ. وَقَالَ الحوفي: حقا نعت لو عدا. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: بَلَى وَعْدٌ حَقٌّ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعْثُهُمْ وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَحَقٌّ صِفَةٌ لِوَعْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، إِيذَانًا بِأَنَّهُمَا كُفْرَتَانِ عَظِيمَتَانِ مَوْصُوفَتَانِ حَقِيقَتَانِ بِأَنْ تُحْكَيَا وَتُدَوَّنَا، تُورِيكَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَإِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ مُقْسِمِينَ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَذَا الْمَوْعِدِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ، أَوْ أَنَّهُ وَعْدٌ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ:

لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، لَا ثَوَابُ عَامِلٍ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ مَوَاجِبِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ هُمُ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشِّيعَةِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَخَافَةٌ مِنَ الْقَوْلِ. وَالْقَوْلُ بِالرَّجْعَةِ بَاطِلٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ عَلَى عَادَتِهِمْ، رَدَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَاللَّامُ فِي لِيُبَيِّنَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ بَلَى أَيْ: نَبْعَثُهُمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: مَا ضَرَبْتَ أَحَدًا فَيَقُولُ: بَلَى زَيْدًا أَيْ: ضَرَبْتُ زَيْدًا. وَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي يَبْعَثُهُمْ الْمُقَدَّرُ، وَفِي لَهُمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَمُوتُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ. وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا اعْتَقَدُوا مِنْ جَعْلِ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ، وَإِنْكَارِ النُّبُوَّاتِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ. وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ فَكَذَّبُوا بِهِ وَكَذَبُوا فِي نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي قَوْلِهِمْ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِمْ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ لِيُبَيِّنَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، أَيْ: لِيُظْهِرَ لَهُمُ اخْتِلَافَهُمْ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ مِنْ قَبْلِ بَعْثِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، كَاذِبُونَ فِي رَدِّ مَا يَجِيءُ بِهِ الرُّسُلُ. إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ: لَمَّا تَقَدَّمَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ الَّذِي أَوَجَدَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلى «1» وَذَكَرَ حَقِّيَّةَ وَعْدِهِ بِذَلِكَ، أَوْضَحَ أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِوُجُودِ شَيْءٍ أَوْجَدَهُ. وَقَدْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ هَذَا الْعَالَمِ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَنَّ إِيجَادَهُ ذَلِكَ لَمْ يُوقَفْ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا آلَةٍ، فَكَمَا قَدَرَ عَلَى الْإِيجَادِ ابْتِدَاءً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْ فَيَكُونُ فِي الْبَقَرَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي لِشَيْءٍ وَفِي لَهُ لِلتَّبْلِيغِ، كَقَوْلِكَ: قُلْتُ لِزَيْدٍ قُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ لَامُ السَّبَبِ أَيْ: لِأَجْلِ إِيجَادِ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَيْ لِأَجْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِئْنَافِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُرَادِ، لَا إِلَى الْإِرَادَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُرَادَةَ الْمُكَوَّنَةَ فِي وُجُودِهَا اسْتِئْنَافٌ وَاسْتِقْبَالٌ، لَا فِي إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَلَا فِي الْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ ذَيْنَكَ قَدِيمَانِ. فَمِنْ أَجْلِ الْمُرَادِ عَبَّرَ بِإِذَا، وَنَقُولُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ لِشَيْءٍ فَيَحْتَمِلُ وجهين:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 172.

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وُجُودُهُ حَتْمًا جَازَ أَنْ يُسَمَّى شَيْئًا وَهُوَ فِي حَالَةِ عَدَمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا، وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مَوْجُودًا كَانَ مُرَادًا، وَقِيلَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، فَصَارَ مِثَالًا لِمَا يَتَأَخَّرُ مِنَ الْأُمُورِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَفِي هَذَا مَخْلَصٌ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ: إِذَا أَرَدْنَاهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ مُرَادٍ، وَلَكِنَّهُ أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِحَسْبِ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَجِيءُ وَتَظْهَرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا ظَهَرَ الْمُرَادُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَخْرُجُ قَوْلُهُ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ «1» وَقَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَنَحْوُ هَذَا مَعْنَاهُ يَقَعُ مِنْكُمْ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ وَعَلِمَهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ نَقُولَ، يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ قَوْلُنَا، وَلَكِنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ تُعْطِي اسْتِئْنَافًا لَيْسَ في الصدر فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا، وَقَدْ تَجِيءُ فِي مَوَاضِعَ لَا يُلْحَظُ فِيهَا الزَّمَنُ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ «2» وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَلَكِنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ يَعْنِي الْمُضَارِعَ، وَقَوْلُهُ: فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ تَجِيءُ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ يُفْهَمْ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ أَنْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ نِسْبَةِ قِيَامِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِأَمْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فِي حَقِّهِ تَعَالَى. ونظيره كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً «3» فَكَانَ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهُوَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِهَذَا الْوَصْفِ مَاضِيًا وَحَالًا وَمُسْتَقْبَلًا، وَتَقْيِيدُ الْفِعْلِ بِالزَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُهَاجِرِي أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ: فِي أَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي صُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَأَضْرَابِهِمْ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ، فَبَوَّأَهُمُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ يَتَنَزَّلُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا ذَكَرَ اللَّهُ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ، وَرَدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَكَرَ مُؤْمِنِي مَكَّةَ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ الْآيَةِ، لِأَنَّ هِجْرَةَ الْمَدِينَةِ مَا كَانَتْ إِلَّا بَعْدَ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ انْتَهَى. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا، عُمُومٌ فِي الْمُهَاجِرِينَ كَائِنًا مَا كَانُوا، فَيَشْمَلُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ. وَقَرَأَ الجمهور: لنبوأنهم، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ حَسَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ أَيْ: تَبْوِئَةً حَسَنَةً. وَقِيلَ: انْتِصَابُ حَسَنَةٍ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، لِأَنَّ مَعْنَى لنبوأنهم

_ (1) سورة التوبة: 9/ 105. (2) سورة الروم: 30/ 25. (3) سورة الأحزاب: 33/ 27.

فِي الدُّنْيَا لَنُحْسِنَنَّ إِلَيْهِمْ، فَحَسَنَةٌ فِي مَعْنَى إِحْسَانًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَسَنَةً مفعول ثان لنبوأنهم، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَنُعْطِيَنَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ أي: دار حَسَنَةً انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: دَارًا حَسَنَةً وَهِيَ الْمَدِينَةُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَنْزِلَةً حَسَنَةً، وَهِيَ الْغَلَبَةُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَعَلَى الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَعَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّزْقُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقِيلَ: مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ وَصَارَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ. وَقِيلَ: مَا بَقِيَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ، وَمَا صَارَ فِيهَا لِأَوْلَادِهِمْ مِنَ الشَّرَفِ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَحْسَنٌ نَالَهُ الْمُهَاجِرُونَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: لَنُثْوِيَنَّهُمْ بِالثَّاء الْمُثَلَّثَةِ ، مُضَارِعُ أَثْوَى الْمَنْقُولُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ مَنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ أَقَامَ فِيهِ، وَانْتَصَبَ حَسَنَةً عَلَى تَقْدِيرِ إثواءة حَسَنَةً، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: فِي حَسَنَةً، أي: دار حَسَنَةً، أَوْ مَنْزِلَةً حَسَنَةً. وَدَلَّ هَذَا الْإِخْبَارُ بِالْمُؤَكَّدِ بِالْقَسَمِ عَلَى عَظِيمِ مَحَلِّ الْهِجْرَةِ، لِأَنَّهُ بِسَبَبِهَا ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ بِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُ. وَفِي اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمَنْ هَاجَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ هِجْرَتُهُ لِمَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ الَّذِينَ بِجُمْلَةِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفَةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، خِلَافًا لِثَعْلَبٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لنبوأنهم، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ إِلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ. وَلَا يَجُوزُ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّهُ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءَهُ قَالَ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ فِي الدُّنْيَا وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَيْ: وَلَأَجْرُ الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، أَيْ: أَكْبَرُ أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدٌ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهِ كَمَا قَالَ: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا. وَالضَّمِيرُ فِي يَعْلَمُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَيْدِيهِمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لَرَغِبُوا فِي دِينِهِمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَزَادُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَقْدِيرِهِمُ الَّذِينَ، أَوْ أَعْنِي الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ، لَا سِيَّمَا حَرَمُ اللَّهِ الْمَحْبُوبَ لِكُلِّ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ، فَكَيْفَ لِمَنْ كَانَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ؟ وَعَلَى بَذْلِ الرُّوحِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَاحْتِمَالِ الْغُرْبَةِ فِي دَارٍ لَمْ يَنْشَأْ بِهَا، وَنَاسٍ لَمْ يَأْلَفْهُمْ أَجَانِبَ حَتَّى فِي النَّسَبِ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ

مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ : نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا، فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا؟ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آخِرِ يُوسُفَ، وَالْمَعْنَى: نُوحِي إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوحَى بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِالْيَاءِ وَكَسْرِهَا وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَحَفْصٌ: بِالنُّونِ وَكَسْرِهَا. وَأَهْلُ الذِّكْرِ: الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْيَهُودُ. وَالذِّكْرُ: التَّوْرَاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «1» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَامٌّ فِيمَنْ يُعْزَى إِلَيْهِ عِلْمٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَيُضَعَّفُ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّازِلَةِ، إِنَّمَا يُخْبِرُونَ مِنَ الرُّسُلِ عَنِ الْبَشَرِ، وَإِخْبَارُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُصَدِّقِينَ لَهُمْ، وَلَا يُتَّهَمُونَ بِشَهَادَةٍ لَهُمْ لَنَا، لِأَنَّهُمْ مُدَافِعُونَ فِي صَدْرِ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ كَسْرُ حُجَّتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، لا أنا افْتَقَرْنَا إِلَى شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ، بَلِ الْحَقُّ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ أَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى يَهُودِ يَثْرِبَ يَسْأَلُونَهُمْ وَيُسْدُونَ إِلَيْهِمْ انْتَهَى. وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: بِالْبَيِّنَاتِ، بِمُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ أُرْسِلُوا؟ قَالَ: أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، فَيَكُونُ عَلَى كَلَامَيْنِ، وَقَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا، وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَّةَ فِيهِ التَّقْدِيمُ قَبْلَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا حَتَّى لَا يَكُونَ مَا بَعْدَ إِلَّا مَعْمُولَيْنِ مُتَأَخِّرِينَ لَفْظًا وَرُتْبَةً، دَاخِلَيْنَ تَحْتَ الْحَصْرِ لِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ فِرْقَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ، بَلْ وَقَعَا بَعْدَ إِلَّا فِي نِيَّةِ الْحَصْرِ، وَهَذَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ قَالَ: تَتَعَلَّقُ بِمَا أَرْسَلْنَا دَاخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ رِجَالًا أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَّا رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا بِالسَّوْطِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَفِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا إِذَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى إِلَّا وَمَا يَلِيهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 105.

لَيْتَهُمْ عَذَّبُوا بِالنَّارِ جَارَهُمْ ... وَلَا يُعَذِّبُ إِلَّا اللَّهُ بِالنَّارِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ إِلَّا، إِلَّا مُسْتَثْنًى، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، أَوْ تَابِعًا، وَمَا ظَنَّ مِنْ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَ إِلَّا قُدِّرَ لَهُ عَامِلٌ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ تَقَعَ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَهَا مَنْصُوبٌ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدٌ عَمْرًا، وَمَخْفُوضٌ نَحْوَ: مَا مَرَّ إِلَّا زَيْدٌ بِعَمْرٍو، وَمَرْفُوعٌ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدًا عَمْرٌو. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَرْفُوعِ، وَالْأَخْفَشُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْحَالِ. فَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرِجَالٍ أَيْ: رِجَالًا مُلْتَبِسِينَ بِالْبَيِّنَاتِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِمَا بَعْدَ: إِلَّا، فَوُصِفَ رِجَالًا بِيُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ الْعَامِلِ فِي بِالْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقُولُ: مَا أَكْرَمْتُ إِلَّا رَجُلًا مُسْلِمًا مُلْتَبِسًا بِالْخَيْرِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيُوحَى إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَا يَعْلَمُونَ. قَالَ: عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى التَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ كَقَوْلِ الْأَجِيرِ: إِنْ كُنْتَ عَمِلْتُ لَكَ فَأَعْطِنِي حَقِّي، وَقَوْلُهُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، اعْتِرَاضٌ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَعْنِي: مِنَ الَّتِي ذَكَرَ غَيْرَ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ لِلْغَافِلِينَ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ الْعِلْمُ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْكِلِ وَالْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ النَّصَّ وَالظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى بَيَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ، وَوُعِدُوا وَأُوعِدُوا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِتُبَيِّنَ بِسَرْدِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِتُبَيِّنَ بِتَفْسِيرِكَ الْمُجْمَلِ وَشَرْحِكَ مَا أُشْكِلَ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ انْتَهَى. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: وَإِرَادَةُ أَنْ يُصْغُوا إِلَى تَنْبِيهَاتِهِ فَيَتَنَبَّهُوا وَيَتَأَمَّلُوا، وَالسَّيِّئَاتُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: الْمَكْرَاتِ السَّيِّئَاتِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ مَفْعُولٌ يمكروا عَلَى تَضْمِينِ مَكَرُوا مَعْنَى فَعَلُوا وَعَمِلُوا، وَالسَّيِّئَاتُ عَلَى هَذَا مَعَاصِي الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ مَفْعُولٌ بِأَمِنَ وَيَعْنِي بِهِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَسُوءُهُمْ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَلَى هَذَا الْأَخِيرِ يَكُونُ أَنْ يَخْسِفَ بَدَلًا مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، قَبْلَهُ مَفْعُولٌ بِأَمِنَ، وَالَّذِينَ مَكَرُوا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ مَكَرُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ نُمْرُودٌ، وَالْخَسْفُ بَلْعُ الْأَرْضِ الْمَخْسُوفِ بِهِ وَقُعُودُهَا بِهِ إِلَى أَسْفَلَ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّهُ وَقَعَ الْخَسْفُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا فُعِلَ بِقَارُونَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَخْلَاطًا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ خُسِفَ بِهَا، وَحِينَ أَحَسَّ أَهْلُهَا بِذَلِكَ فَرَّ أَكْثَرُهُمْ، وَأَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ مِمَّنْ كَانَ يَرِدُ إِلَيْهَا رَأَى ذَلِكَ مِنْ بَعِيدٍ فَرَجَعَ بِتِجَارَتِهِ. مِنْ حَيْثُ

لَا يَشْعُرُونَ: مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا شُعُورَ لَهُمْ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ مِنْهَا، كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ فِي مَنَامِهِمْ رُوِيَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُقَاتِلٌ: فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ أَيْ: حَالَةَ ذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ فِيهِمَا. وَقِيلَ: فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي مَكْرِهِمْ وَحِيَلِهِمْ، فَيَأْخُذُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُونَ فِيهِ، فَمَا هُمْ بِسَابِقِينَ اللَّهَ وَلَا فَائِتِيهِ. وَالْأَخْذُ هُنَا الْإِهْلَاكُ كَقَوْلِهِ: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «1» وعلى تَخَوُّفٍ عَلَى تَنَقُّصٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ خَوَّفْتُهُ وَتَخَوَّفْتُهُ إِذَا تَنَقَّصْتُهُ وَأَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ وَجِسْمِهِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: هُوَ النَّقْصُ بِلُغَةِ أَزْدِشَنُوءَةَ. وَفِي حَدِيثٍ لِعُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ التَّخَوُّفِ، فَأَجَابَهُ شَيْخٌ: بِأَنَّهُ التَّنَقُّصُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ. وَأَنْشَدَهُ قَوْلِ أَبِي كَثِيرٍ الْهُذَلِيِّ: تَخَوَّفَ الرجل مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تخوف عود النبعة السقر وَهَذَا التَّخَوُّفُ بِمَعْنَى التَّنَقُّصِ، قِيلَ: مِنْ أَعْمَالِهِ، وَقِيلَ: يَأْخُذُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَرُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُنْقِصُ ثِمَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ. وَقِيلَ: عَلَى تَخَوُّفٍ، عَلَى خَوْفِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ أَوْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى تَخَوُّفٍ مُتَخَوِّفِينَ، وَهُوَ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا قَبْلَهُمْ فَيَتَخَوَّفُوا، فَيَأْخُذَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُمْ مُتَخَوِّفُونَ مُتَوَقِّعُونَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ انْتَهَى. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ، يَأْخُذُ قَرْيَةً فَتَخَافُ الْقَرْيَةُ الْأُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَلَى تَخَوُّفٍ ضِدُّ الْبَغْتَةِ أَيْ: عَلَى حُدُوثِ حَالَاتٍ يُخَافُ مِنْهَا كَالرِّيَاحِ وَالزَّلَازِل وَالصَّوَاعِقِ، وَلِهَذَا خَتَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُهْلَةً وَامْتِدَادَ وَقْتٍ، فَيُمْكِنُ فِيهِ التَّلَافِي. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: عَلَى تَخَوُّفٍ عَلَى عَجَلٍ. وَقِيلَ: عَلَى تَقْرِيعٍ بِمَا قَدَّمُوهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِهَا نَاسَبَ وَصْفَهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ عَلَى تَعْذِيبِ الْمَاكِرِينَ وَإِهْلَاكِهِمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَخْذِ، ذَكَرَ تَعَالَى طَوَاعِيَةَ مَا خَلَقَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَخُضُوعَهُ ضِدَّ حَالِ الْمَاكِرِينَ، لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا طائعين

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 40.

مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، والأعرج، والأخوان: أو لم تَرَوْا، بِتَاءِ الْخِطَابِ إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ لِلْخَلْقِ اسْتُؤْنِفَ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ إِذَا كَانَ خِطَابًا خَاصًّا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَاحْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الذين مَكَرُوا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ: تتفيئوا بالتاء على لتأنيث، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ظِلَالُهُ جَمْعُ ظِلٍّ. وَقَرَأَ عِيسَى: ظُلَلُهُ جَمْعُ ظُلَّةٍ، كَحُلَّةٍ وَحُلَلٍ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ الْقَلْبِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاعْتِبَارُ، وَلَكِنَّهَا بِوَاسِطَةِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. قِيلَ: وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبَ وَالتَّقْدِيرُ: تَعَجَّبُوا مِنِ اتِّخَاذِهِمْ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا وَقَدْ رَأَوْا هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ الَّتِي أَظْهَرَتْ عَجَائِبَ قُدْرَتِهِ وَغَرَائِبَ صُنْعِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي اتخذوها شركاء لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تَتَفَيَّئُوا، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ شَيْءٍ لَفْظٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا اقْتَضَتْهُ الصِّفَةُ في قوله: تتفيؤ ظِلَالُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِمَا عُرِضَ لِلْعِبْرَةِ فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا مَوْصُولَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ وَهُوَ مُبْهَمٌ بَيَانُهُ مِنْ شَيْءٍ تتفيؤ ظِلَالُهُ، وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: الْمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ مِنْ جَبَلٍ وَشَجَرٍ وَبِنَاءٍ وَجِسْمٍ قَائِمٍ، وَقَوْلُهُ: تتفيؤ ظِلَالُهُ، إِخْبَارٌ عَنْ قَوْلِهِ مِنْ شَيْءٍ وَصْفٌ لَهُ، وَهَذَا الْإِخْبَار يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هو له ظل. وتتفيؤ تتفعل مِنَ الْفَيْءِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ يَفِيءُ فيأرجع، وعاد بعد ما نَسَخَهُ ضِيَاءُ الشَّمْسِ. وَفَاءَ إِذَا عُدِّيَ فَبِالْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ «1» أَوْ بِالتَّضْعِيفِ نَحْوَ: فَيَّأَ اللَّهُ الظِّلَّ فَتَفَيَّأَ، وَتَفَيَّأَ مِنْ بَابِ الْمُطَاوَعَةِ، وَهُوَ لَازِمٌ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو تَمَّامٍ مُتَعَدِّيًا قَالَ: طَلَبْتُ رَبِيعَ رَبِيعَةَ الْمُمْهَى لها ... وتفيأت ظلالها مَمْدُودًا وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مُتَعَدِّيًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَفَيُّؤُ الظِّلَالِ رُجُوعُهَا بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَالتَّفَيُّؤُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَشِيِّ وَمَا انْصَرَفَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ، وَالظِّلُّ مَا يَكُونُ بِالْغَدَاةِ وَهُوَ مَا لَمْ تَنَلْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا الظِّلَّ مِنْ بَرْدَ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الْفَيْءَ مَنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ

_ (1) سورة الحشر: 59/ 7.

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْد ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طام وَعَنْ رُؤْبَةَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ فَيْءٌ وَظِلٌّ مَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فَهُوَ ظِلٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ مِنْ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ تَنْسَخُ الظِّلَّ، فَإِذَا زَالَتْ رَجَعَ، وَلَا يَزَالُ يَنْمُو إِلَى أَنْ تَغِيبَ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْفَيْءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ. فَمَعْنَى تَتَفَيَّؤُ تَتَنَقَّلُ وَتَمِيلُ، وَأَضَافَ الظِّلَالَ وَهِيَ جَمْعٌ إِلَى ضَمِيرٍ مُفْرَدٍ، لِأَنَّهُ ضَمِيرُ مَا، وَهُوَ جَمْعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «1» وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فِي قِرَاءَةِ عِيسَى ظُلَلُهُ، وَظِلُّهُ الْغَيْمُ وَهُوَ جِسْمٌ، وَبِالْكَسْرِ الْفَيْءُ وَهُوَ عَرَضٌ فِي الْعَامَّةِ: فَرَأَى عِيسَى أَنَّ التَّفَيُّؤَ الَّذِي هُوَ الرُّجُوعُ بِالْأَجْسَامِ أَوْلَى، وَأَمَّا فِي الْعَامَّةِ فَعَلَى الِاسْتِعَارَةِ انْتَهَى. قَالُوا فِي قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ، بَحْثَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِفْرَادِ الْيَمِينِ وَجَمْعِ الشَّمَائِلِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالُوا: يَمِينُ الْفَلَكِ وَهُوَ الْمَشْرِقُ. وَشِمَالُهُ هُوَ الْمَغْرِبُ. وَخَصَّ هَذَانِ الِاسْمَانِ بِهَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ أَقْوَى جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ يَمِينُهُ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ الْيَوْمِيَّةُ آخِذَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَشْرِقُ يَمِينَ الْفَلَكِ وَالْمَغْرِبُ شِمَالَهُ، فَعَلَى هَذَا تَقُولُ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ انْتِهَائِهَا إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ يَقَعُ الظِّلَالُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَإِنِ انْحَدَرَتْ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ عَنِ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَعَتِ الظِّلَالُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَهَذَا الْمُرَادُ مِنْ تَفَيُّؤِ الظِّلَالِ من اليمين إلى الشمال. وَقِيلَ: الْبَلْدَةُ الَّتِي عَرْضُهَا أَقَلُّ مِنْ مِقْدَارِ الْمِيلِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي الصَّيْفِ عَنْ يَمِينِ الْبَلْدَةِ فَتَقَعُ الظِّلَالُ عَلَى يَمِينِهِمْ. وَقَالَ الزمخشري: المعنى أَوْ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرَامِ الَّتِي لَهَا ظِلَالٌ مُتَفَيِّئَةٌ عَنْ أَيْمَانِهَا وَشَمَائِلِهَا عَنْ جَانِبَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَشِقَّيْهِ، اسْتِعَارَةٌ مِنْ يَمِينِ الْإِنْسَانِ وَشِمَالِهِ بِجَانِبَيِ الشَّيْءِ أَيْ: تَرْجِعُ الظِّلَالُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ كُلُّ جِرْمٍ لَهُ ظِلٌّ كَالْجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَتَرَتَّبُ فِيهِ أَيْمَانٌ وَشَمَائِلُ إِنَّمَا هُوَ الْبَشَرُ فَقَطْ، لَكِنَّ ذِكْرَ الْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ هُنَا عَلَى حَسْبِ الِاسْتِعَارَةِ لِغَيْرِ اللَّبْسِ تُقَدِّرُهُ: ذَا يَمِينِ وَشِمَالٍ، وَتُقَدِّرُهُ: بِمُسْتَقْبِلِ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتَ، ثُمَّ تَنْظُرُ ظِلَّهُ فَتَرَاهُ يَمِيلُ إِمَّا إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ وَإِمَّا إِلَى جِهَةِ

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 13.

الشِّمَالِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الدُّنْيَا، فَهَذَا يَعُمُّ أَلْفَاظَ الْآيَةِ. وَفِيهِ تَجَوُّزٌ وَاتِّسَاعٌ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ مِنْ غُدْوَةِ الزَّوَالِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْمَغِيبِ عَنِ الشِّمَالِ، وَهُوَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ فِيمَا قَدَّرَهُ مُسْتَقْبِلَ الْجَنُوبِ انْتَهَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْيَمِينُ بِمَعْنَى الْأَيْمَانِ، فَجَعَلَهُ وَهُوَ مُفْرَدٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَطَابَقَ الشَّمَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» يُرِيدُ الْإِدْبَارَ. وَقَالَ الفراء: كأنه إذا وجد ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الظِّلَالِ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، لفظه وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، فَعَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «2» وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «3» وَقِيلَ: إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْمَشْرِقِ، كَانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَكَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا الشَّمَائِلُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الظِّلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّمَائِلِ الشِّمَالُ وَالْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ، لِأَنَّ الظِّلَّ يَفِيءُ من الجهات كلها فبدىء بِالْيَمِينِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ التَّفَيُّؤِ مِنْهَا، أَوْ تَيَمُّنًا بِذِكْرِهَا، ثُمَّ جَمَعَ الْبَاقِيَ عَلَى لَفْظِ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ مِنَ التَّضَادِّ، وَتَنَزُّلُ الْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ مَنْزِلَةَ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنَ الْخِلَافِ. وَقِيلَ: وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ، لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ عَنِ الْيَمِينِ، ثُمَّ يَنْقَبِضُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَصَدَقَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَفْظَةُ الشِّمَالِ، فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْحَالَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ لِلظِّلِّ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ الْآخِرُ إِلَى الْغُرُوبِ هِيَ عَنِ الشَّمَائِلِ، وَأَفْرَدَ الْيَمِينَ فَتَخْلِيطٌ مِنَ الْقَوْلِ وَمُبْطَلٌ مِنْ جِهَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا صَلَّيْتَ الْفَجْرَ كَانَ مَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ظِلًّا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّمْسَ دَلِيلًا فَقَبَضَ إِلَيْهِ الظِّلَّ، فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ دَوْرَةَ الشَّمْسِ بِالظِّلِّ عَنْ يَمِينِ مُسْتَقْبَلِ الْجَنُوبِ، ثُمَّ يَبْدَأُ الانحراف فهو عن الشَّمَائِلِ، لِأَنَّهُ حَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ وَظِلَالٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَهِيَ شَمَائِلُ كَثِيرَةٌ، فَكَانَ الظِّلُّ عَنِ الْيَمِينِ مُتَّصِلًا وَاحِدًا عَامًّا لِكُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَقَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْكُتَامِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّائِغِ: أَفْرَدَ وَجَمَعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَايَتَيْنِ، لِأَنَّ ظِلَّ الْغَدَاةِ يَضْمَحِلُّ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الْيَسِيرُ فَكَأَنَّهُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ بِالْعَشِيِّ عَلَى الْعَكْسِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَلُحِظَتِ الْغَايَتَانِ فِي الْآيَةِ: هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ

_ (1) سورة القمر: 54/ 45. (2) سورة الأنعام: 6/ 1. (3) سورة البقرة: 2/ 7.

الْمُطَابَقَةُ، لِأَنَّ سُجَّدًا جَمْعٌ فَطَابَقَهُ جَمْعُ الشَّمَائِلِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، وَلَحْظُهُمَا مَعًا وَتِلْكَ الْغَايَةُ فِي الْإِعْجَازِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الظِّلَالِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ وَقَعَ كَلَامُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقِبْلَةِ كَانَ الظِّلُّ قُدَّامَكَ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَلَى يَمِينِكَ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ خَلْفَكَ فَإِذَا أرادت الْغُرُوبَ كَانَ عَلَى يَسَارِكَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الظِّلَالُ هُنَا الْأَشْخَاصُ وَهِيَ الْمُرَادَةُ نَفْسُهَا، وَالْعَرَبُ تُخْبِرُ أَحْيَانًا عَنِ الْأَشْخَاصِ بِالظِّلَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ: إِذَا نَزَلْنَا نَصَبْنَا ظِلَّ أَخْبِيَةٍ ... وَفَارَ لِلْقَوْمِ بِاللَّحْمِ الْمَرَاجِيلُ وَإِنَّمَا تُنْصَبُ الْأَخْبِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَتْبَعُ أَفْيَاءَ الظِّلَالِ عَشِيَّةً أَيْ: أَفْيَاءَ الْأَشْخَاصِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ قَرَّرَهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ، وَجَرَيَانِهَا عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَيَلَانِ تِلْكَ الظِّلَالِ وَدَوَرَانِهَا كَمَا يُقَالُ لِلْمُشِيرِ بِرَأْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى جِهَةِ الْخُضُوعِ: سَاجِدٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُجَّدًا حَالٌ مِنَ الظِّلَالِ، وَهُمْ دَاخِرُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلَالُهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهُوَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ. وَجُمِعَ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الدُّخُورَ مِنْ أَوْصَافِ الْعُقَلَاءِ، أَوْ لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ مَنْ يَعْقِلُ فَغُلِّبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الظِّلَالَ مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَلَيْهِ فِيمَا سَخَّرَهَا لَهُ مِنَ التَّفَيُّؤِ وَالْإِجْرَامِ في أنفسها. ذاخرة أَيْضًا صَاغِرَةٌ مُنْقَادَةٌ لِأَفْعَالِ اللَّهِ فِيهَا لَا تَمْتَنِعُ انْتَهَى. فَغَايَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، جَعَلَ سُجَّدًا حَالًا من الظلال، ووهم دَاخِرُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي سُجَّدًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا ثَانِيَةً مِنَ الظِّلَالِ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا وَهُوَ ضَاحِكٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ ضَاحِكٌ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي رَاكِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ زَيْدٍ، وَهَذَا الثَّانِي عِنْدِي أَظْهَرُ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالَيْنِ هُوَ تَتَفَيَّؤُ، وعن مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقِيلَ: عَنِ اسْمِ أَيْ: جَانِبِ الْيَمِينِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ. وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ دَاخِرُونَ، حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلَالِهِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ جَاءَنِي غُلَامُ هِنْدٍ ضَاحِكَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا أَوْ كَالْجُزْءِ جَازَ، وَقَدْ يُخْبِرُ هُنَا وَيَقُولُ: الظِّلَالُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جُزْءًا مِنَ الْأَجْرَامِ فَهِيَ كَالْجُزْءِ، لأن وجودها ناشىء عَنْ

وُجُودِهَا. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ هُنَا حَقِيقَةٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ نَبْتٍ وَشَجَرٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّالِحُونَ يَسْتَحِبُّونَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا تَسْجُدُ الظِّلَالُ دُونَ الْأَشْخَاصِ، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَّا ظِلُّكَ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تَسْجُدُ لَهُ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الظِّلَالُ مُلْصَقَةً بِالْأَرْضِ وَاقِعَةً عَلَيْهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّاجِدِ وُصِفَتْ بِالسُّجُودِ، وَكَوْنُ السُّجُودِ يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ الْوُقُوعُ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَقَصْدِهَا يَبْعُدُ، إِذْ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقَصْدَ بِالْعِبَادَةِ. وَخَصَّ الظِّلَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ سَرِيعُ التَّغَيُّرِ، وَالتَّغَيُّرُ يَقْتَضِي مُغَيِّرًا غَيْرَهُ وَمُدَبِّرًا لَهُ، وَلَمَّا كَانَ سُجُودُ الظِّلَالِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ بدىء بِهِ، ثُمَّ انْتُقِلَ إِلَى سجود ما في السموات والأرض. ومن دَابَّةٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الظَّرْفَيْنِ، ويكون من في السموات خَلْقٌ يَدِبُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كُلَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ. وَعَطَفَ وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي عُمُومِ مَا تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْحَفَظَةُ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَبِمَا في السموات مَلَائِكَتُهُنَّ، فَلَمْ يَدْخُلُوا فِي العموم. قيل: بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّلَالِ أَنَّ الْجَمَادَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ، بَيَّنَ أَنَّ أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَخَسَّهَا وَهِيَ الدَّوَابُّ مُنْقَادَةٌ له تَعَالَى، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُنْقَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ جُسْمَانِيٍّ يَتَحَرَّكُ وَيَدِبُّ، فَلَمَّا مَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ الدَّابَّةِ، عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدِبُّ، بَلْ هِيَ أَرْوَاحٌ مُخْتَصَّةٌ بِحَرَكَةٍ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلٌ فَلْسَفِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي السُّجُودِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ لِإِرَادَةِ اللَّهِ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّةِ السُّجُودِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا جيء بمن دُونَ مَا تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ لَوْ جِيءَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّغْلِيبِ، فَكَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْعُقَلَاءِ خَاصَّةً، فَجِيءَ بِمَا هُوَ صَالِحٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ إِرَادَةَ الْعُمُومِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ السُّؤَالِ تَسْلِيمُ أَنَّ مَنْ قَدْ تَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ، وَظَاهِرُ الْجَوَابِ تَخْصِيصُ مَنْ بِالْعُقَلَاءِ، وَأَنَّ الصَّالِحَ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَا دُونَ مَنْ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ، لِأَنَّهُ أَوْرَدَ السُّؤَالَ عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَلَى غَيْرِ التَّسْلِيمِ فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يُغَلَّبُ بِهَا، وَالْجَوَابُ لَا يُغَلَّبُ بِهَا، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يَخَافُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِمُ السُّجُودُ. فِي وَلِلَّهِ يَسْجُدُ، وَقَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ.

[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 74]

وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: يَخَافُونَ مِنْ صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ خَاصَّةً، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَالْمَلَائِكَةُ مَوْصُوفُونَ بِالْخَوْفِ، لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْصُونَ. وَالْفَوْقِيَّةُ الْمَكَانِيَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَإِنْ علقته بيخافون كَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: يَخَافُونَ عَذَابَهُ كَائِنًا مِنْ فَوْقِهِمْ، لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ، وَإِنْ عَلَّقْتَهُ بِرَبِّهِمْ كَانَ حَالًا مِنْهُ أَيْ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ عَالِيًا لَهُمْ قَاهِرًا لِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «1» وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «2» وَفِي نِسْبَةِ الْخَوْفِ لِمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ السُّجُودُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمَلَائِكَةِ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مُدَارُونَ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «3» وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنَّهُ إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: الْخَوْفُ خَوْفُ جَلَالٍ وَمَهَابَةٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ يَخَافُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي من لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِنَفْيِ الِاسْتِكْبَارِ وَتَأْكِيدًا لَهُ، لِأَنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَقَوْلِهِ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَبِحَسْبِ الشَّرْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ فَبِالتَّسْخِيرِ وَالْقَدْرِ الَّذِي يَسُوقُهُمْ إِلَى مَا نَفَذَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74] وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 18. [.....] (2) سورة الأعراف: 7/ 127. (3) سورة الأنبياء: 21/ 28.

وَصَبَ الشَّيْءُ دَامَ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:

لَا أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلَ بَقَاؤُهُ ... يَوْمًا بِذَمِّ الدَّهْرِ أَجْمَعَ وَاصِبًا وَقَالَ حَسَّانُ: غَيَّرَتْهُ الرِّيحُ يُسْفَى بِهِ ... وَهَزِيمُ رَعْدِهِ وَاصِبُ وَالْعَلِيلُ وَصِيبٌ، لَكِنَّ الْمَرَضَ لَازِمٌ لَهُ. وَقِيلَ: الْوَصَبُ التَّعَبُ، وَصَبَ الشَّيْءُ شُقَّ، وَمَفَازَةٌ وَاصِبَةٌ بَعِيدَةٌ لَا غَايَةَ لها. الجوار: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ، وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ رَاهِبًا: يُدَاوِمُ من صلوات المليك طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا وَيُرْوَى: يُرَاوِحُ. دَسَّ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ أَخْفَاهُ فِيهِ. الْفَرْثُ: كَثِيفٌ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَأْكُولِ فِي الْكَرِشِ أَوِ الْمِعَى. النَّحْلُ: حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ. الْحَفَدَةُ: الْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ، وَمَنْ يُسَارِعُ فِي الطَّاعَةِ حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا، وَمِنْهُ: وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ أَيْ: نُسْرِعُ فِي الطَّاعَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوَّلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ وَقَالَ الْأَعْشَى: كَلَّفَتْ مَجْهُودَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً ... إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا وَتَتَعَدَّى فَيُقَالُ: حَفَدَنِي فَهُوَ حَافِدِي. قَالَ الشَّاعِرُ: يَحْفِدُونَ الضَّيْفَ فِي أَبْيَاتِهِمْ ... كَرَمًا ذَلِكَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذُلِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى، أَحْفَدَ إِحْفَادًا، وَقَالَ: الْحَفَدُ الْعَمَلُ وَالْخِدْمَةُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْحَفَدَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَقِيلَ: الْأَخْتَانُ. وَأَنْشَدَ: فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ ... لَهَا حَفَدٌ مِمَّا يُعَدُّ كَثِيرُ وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ أَبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لِأَصْحَابِ اللِّئَامِ قَذُورُ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ انْقِيَادَ مَا في السموات وَمَا فِي

الْأَرْضِ لِمَا يُرِيدُهُ تَعَالَى مِنْهَا، فَكَانَ هُوَ الْمُتَفَرِّدَ بِذَلِكَ. نَهَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَدَلَّ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ قَدْ يُتَجَوَّزُ فِيهِ فَيُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ نَحْوَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَنِعْمَ الرَّجُلَانِ الزَّيْدَانِ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى ... وَإِنَّ الْحَرْبَ أَوَّلُهَا الْكَلَامُ أَكَّدَ الْمَوْضُوعَ لَهُمَا بِالْوَصْفِ، فَقِيلَ: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَقِيلَ: إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاسْمُ الْحَامِلُ لِمَعْنَى الْإِفْرَادِ أَوِ التَّثْنِيَة دَالٌّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الْجِنْسِيَّةِ، وَالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ. فَإِذَا أَرَدْتَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ مُبْهَمٌ. وَالَّذِي يُسَاقُ بِهِ الْحَدِيثُ هُوَ الْعَدَدُ شَفَعَ بِمَا يُؤَكِّدُهُ، فَدَلَّ بِهِ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَلَمْ تُؤَكِّدْهُ بِوَاحِدٍ، لَمْ يَحْسُنْ، وَخُيِّلَ، أَنَّك تُثْبِتُ الْإِلَهِيَّةَ لَا الْوَحْدَانِيَّةَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا تَتَّخِذُوا، تُعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَأْكِيدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَقِيلَ: تَقَدَّمَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ. وَقِيلَ: حَذَفَ الثَّانِيَ لِلدَّلَالَةِ تَقْدِيرُهُ مَعْبُودًا وَاثْنَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَأْكِيدٌ، وَتَقْرِيرُ مُنَافَاةِ الاثْنَيْنِيَّةِ لِلْإِلَهِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَلَمَّا نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْإِلَهَيْنِ، وَاسْتَلْزَمَ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1» بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَبِالتَّأْكِيدِ بِالْوَحْدَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَرْهَبُوهُ، وَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الرَّهْبَةِ، وانتصب إياي بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرِ التَّأْخِيرِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَارْهَبُونِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِيَّايَ ارْهَبُوا. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: فَإِيَّايَ، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَارْهَبُوا إِيَّايَ فَارْهَبُونِ، ذُهُولٌ عَنِ الْقَاعِدَةِ فِي النَّحْوِ، أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا وَالْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ هُوَ الضَّمِيرُ، وَجَبَ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «2» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِلَيْكَ حِينَ بَلَغْتَ إِيَّاكَا ثُمَّ الْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ له ما في السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ كَانَ مَا سِوَاهُ مَوْجُودًا بِإِيجَادِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الدِّينَ وَاصِبًا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 163. (2) سورة فاتحة الكتاب 1/ 4.

قَالَ مُجَاهِدٌ: الدِّينُ الْإِخْلَاصُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْعِبَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْفَرَائِضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: الطَّاعَةُ، زَادَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُلْكُ. وَأَنْشَدَ: فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ أَيْ: فِي طَاعَتِهِ وَمُلْكِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلُهُ الْحَدَّادُ أَيْ: دَائِمًا ثَابِتًا سَرْمَدًا لَا يَزُولُ، يَعْنِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ: وَاصِبًا دَائِمًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاصِبُ الْوَاجِبُ الثَّابِتُ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنْهُ بِالطَّاعَةِ وَاجِبَةٌ لَهُ عَلَى كُلِّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ مِنَ الْوَصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ أَيْ: ذَا وَصَبٍ، كَمَا قَالَ: أَضْحَى فُؤَادِي بِهِ فَاتِنًا، أَيْ ذَا فُتُونٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ وَلَهُ الدِّينُ ذَا كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَكْلِيفًا انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَهُ الدِّينُ وَالطَّاعَةُ رَضِيَ الْعَبْدُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِ أَمْ لَا يَسْهُلُ فَلَهُ الدِّينُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْوَصَبُ. وَالْوَصَبُ: شِدَّةُ التَّعَبِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَاصِبًا خَالِصًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَاوُ فِي وله ما في السموات وَالْأَرْضِ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ ابْتِدَاءٍ انْتَهَى. وَلَا يُقَالُ وَاوُ ابْتِدَاءٍ إِلَّا لِوَاوِ الْحَالِ، وَلَا يَظْهَرُ هُنَا الْحَالُ، وَإِنَّمَا هِيَ عَاطِفَةٌ: فَإِمَّا عَلَى الْخَبَرِ كَمَا ذَكَرَ أَوْلَا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَإِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا الَّتِي هِيَ: إِنَّمَا هي إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَانْتَصَبَ وَاصِبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ. أَفَغَيْرَ اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّوْبِيخَ وَالتَّعَجُّبَ أَيْ: بعد ما عَرَفْتُمْ وَحْدَانِيَّتَهُ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ لَهُ وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، كَيْفَ تَتَّقُونَ وَتَخَافُونَ غَيْرَهُ وَلَا نَفْعَ وَلَا ضُرَّ يَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ إِيجَادِهِ وَاخْتِرَاعِهِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَى مَا أَسْدَى مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَنِعَمُهُ تَعَالَى لَا تُحْصَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «1» . وما مَوْصُولَةٌ، وَصِلَتُهَا بِكُمْ، وَالْعَامِلُ فِعْلُ الِاسْتِقْرَارِ أَيْ: وَمَا استقر بكم، ومن نِعْمَةٍ تَفْسِيرٌ لِمَا، وَالْخَبَرُ فَمِنَ اللَّهِ أَيْ: فَهِيَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِلِ بِكُمْ خَاصًّا كَحَلَّ أَوْ نَزَلَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْحَوْفِيُّ: أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً، وَحُذِفَ فِعْلُ الشَّرْطِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ. وَمَا يَكُنْ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَهَذَا ضعيف جدا لأنه

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 34.

لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَحَّدَهَا فِي بَاب الِاشْتِغَالِ، أَوْ مَتْلُوَّةً بِمَا النَّافِيَةِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِمَا قَبْلَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْءٍ ... وَإِلَّا يَعْلُ مَفْرِقَكَ الْحُسَامُ أَيْ: وَإِلَّا تُطَلِّقْهَا، حَذَفَ تطلقها الدلالة طَلِّقْهَا عَلَيْهِ، وَحَذْفُهُ بَعْدَ أَنْ مَتْلُوَّةً بِلَا مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ أَيْ: وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَمَّا غَيْرُ إِنْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا مَدْلُولًا عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ مَخْصُوصًا بِالضَّرُورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ. التَّقْدِيرُ: أَيْنَمَا تُمَيِّلْهَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنْهُ ذَكَرَ حَالَةَ افْتِقَارِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، حَيْثُ لَا يَدْعُو وَلَا يَتَضَرَّعُ لِسِوَاهُ، وَهِيَ حَالَةُ الضُّرِّ وَالضُّرُّ، يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَهْبِ مَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تَجَرُونَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الْجِيمِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: كَاشَفَ، وَفَاعِلٌ هُنَا بِمَعْنَى فَعَلَ، وَإِذَا الثَّانِيَةُ لِلْفُجَاءَةِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِذَا الشَّرْطِيَّةَ لَيْسَ الْعَامِلُ فِيهَا الْجَوَابُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا. وَمِنْكُمْ: خِطَابٌ لِلَّذِينِ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، إِذْ بِكُمْ خِطَابٌ عَامٌّ. وَالْفَرِيقُ هُنَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْتَقِدُونَ حَالَةَ الرَّجَاءِ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ وَتُشْقِي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُنَافِقُونَ. وَعَنِ ابن السائب: الكفار. ومنكم فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَمَنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَيَانِ لَا لِلتَّبْعِيضِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ فَإِذَا فَرِيقٌ كَافِرٌ وَهُمْ أَنْتُمْ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِمْ مَنِ اعْتَبَرَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ «1» انْتَهَى وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا، إِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِاللَّهِ سَبَبُهُ كُفْرُهُمْ بِهِ، أَيْ جُحُودُهُمْ أَوْ كُفْرَانُ نِعْمَتِهِ، وَبِمَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، أَوْ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ، أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ لِلصَّيْرُورَةِ فَالْمَعْنَى: صَارَ أَمْرُهُمْ لِيَكْفُرُوا وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ أَنْ يَكْفُرُوا، بَلْ آلَ أَمْرُ ذَلِكِ الْجُؤَارِ وَالرَّغْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ جُحُودُهُ وَالشِّرْكُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلْأَمْرِ فَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَكْفُرُوا فَتَمَتَّعُوا، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَمْرِ الْوَارِدِ فِي مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ انْتَهَى. وَلَمْ يَخْلُ كَلَامُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ قوله:

_ (1) سورة لقمان: 31/ 32.

فِي مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ: فَيُمَتَّعُوا بِالْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، سَاكِنَ الْمِيمِ وَهُوَ مُضَارِعُ مَتَعَ مُخَفَّفًا، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَكْفُرُوا، وَحُذِفَتِ النُّونُ إِمَّا لِلنَّصْبِ عَطْفًا إِنْ كَانَ يَكْفُرُوا مَنْصُوبًا، وَإِمَّا لِلْجَزْمِ إِنْ كَانَ مَجْزُومًا إِنْ كَانَ عَطْفًا، وَأَنْ لِلنَّصْبِ إِنْ كَانَ جَوَابَ الْأَمْرِ. وَعَنْهُ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَدْ رَوَاهُمَا مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالتَّمَتُّعُ هُنَا هُوَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَآلُهَا إِلَى الزَّوَالِ. وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ : الضَّمِيرُ فِي: وَيَجْعَلُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي يَعْلَمُونَ عائد عليهم. وما هِيَ الْأَصْنَامُ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ الْكُفَّارُ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، أَوْ لَا يَعْلَمُونَ فِي اتِّخَاذِهَا آلِهَةً حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا. وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَشْفَعُ، فَهُمْ جَاهِلُونَ بِهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَا يَعْلَمُونَ لِلْأَصْنَامِ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا تَشْعُرُ بِهِ، إِذْ هِيَ جَمَادٌ لَمْ يَقُمْ بها علم الْبَتَّةِ. وَالنَّصِيبُ: هُوَ مَا جَعَلُوهُ لَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، قَبَّحَ تَعَالَى فِعْلَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يُفْرِدُوا نَصِيبًا مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِجَمَادَاتٍ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَنْتَفِعُ هِيَ بِجَعْلِ ذَلِكَ النَّصِيبِ لَهَا، ثُمَّ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنِ افْتِرَائِهِمْ وَاخْتِلَاقِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، وَأَنَّهَا أَهْلٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا بِجَعْلِ النَّصِيبِ لَهَا، وَالسُّؤَالِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ أقوال. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنِ افْتِرَائِهِمْ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّوَالُدَ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَنَسَبُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَرْتَضُوهُ، وَتَرْبَدُّ وُجُوهُهُمْ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِمْ وَيَكْرَهُونَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ. وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ لَهُ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ: وَهُمُ الذُّكُورُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِيمَا يَشْتَهُونَ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَنَاتِ أَيْ: وَجَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الذُّكُورِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ مِنَ النَّصْبِ تَبِعَ فِيهِ الْفَرَّاءَ وَالْحَوْفِيَّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَقَدْ حَكَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَهِلَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَاعِدَةٍ فِي النَّحْوِ: وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُتَّصِلِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرِهِ الْمُتَّصِلِ

الْمَنْصُوبِ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ ضَرَبَهُ زَيْدٌ، تُرِيدُ ضَرْبَ نَفْسِهِ إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ فَقْدٍ، وَعَدَمٍ، فَيَجُوزُ: زَيْدٌ ظَنَّهُ قَائِمًا وَزَيْدٌ فَقَدَهُ، وَزَيْدٌ عَدِمَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْحَرْفِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ تُرِيدُ غَضِبَ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا يَجُوزُ النَّصْبُ إِذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. قَالُوا: وَضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ، وَلَهُمْ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ، فَهُوَ نَظِيرُ: زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ. وَإِذَا بُشِّرَ، الْمَشْهُورُ أَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَسُرُّ، وَهُنَا قَدْ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْإِخْبَارِ، أَوْ تَغَيُّرُ الْبَشَرَةِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخَبَرِ السَّارِّ أَوِ الْمُخْبِرِينَ، وَفِي هَذَا تَقْبِيحٌ لِنِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْوَلَدِ الْبَنَاتِ وَاحِدُهُمْ أَكْرَهُ النَّاسِ فِيهِنَّ، وَأَنْفَرُهُمْ طَبْعًا عَنْهُنَّ. وَظَلَّ تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَبِمَعْنَى أَقَامَ نَهَارًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى اسْمِهَا تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَارَ، لِأَنَّ التَّبْشِيرَ قَدْ يَكُونُ فِي لَيْلٍ وَنَهَارٍ، وَقَدْ تُلْحَظُ الْحَالَةُ الْغَالِبَةُ. وَأَنَّ أَكْثَرَ الْوِلَادَاتِ تَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَتَتَأَخَّرُ أَخْبَارُ الْمَوْلُودِ لَهُ إِلَى النَّهَارِ وَخُصُوصًا بِالْأُنْثَى، فَيَكُونُ ظُلُولُهُ عَلَى ذَلِكَ طُولَ النَّهَارِ. وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُبُوسِ وَالْغَمِّ وَالتَّكَرُّهِ وَالنَّفْرَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُ بِوِلَادَةِ الْأُنْثَى. قِيلَ: إِذَا قَوِيَ الْفَرَحُ انْبَسَطَ رَوْحُ الْقَلْبِ مِنْ دَاخِلِهِ وَوَصَلَ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الْوَجْهِ لِمَا بَيْنَ الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ، فَتَرَى الْوَجْهَ مُشْرِقًا مُتَلَأْلِئًا. وَإِذَا قَوِيَ الْغَمُّ انْحَصَرَ الرُّوحُ إِلَى بَاطِنِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي ظَاهِرِ الْوَجْهِ، فَيَرْبَدُّ الْوَجْهُ وَيَصْفَرُّ وَيَسْوَدُّ، وَيَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْأَرْضِيَّةِ، فَمِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ اسْتِنَارَةُ الْوَجْهِ وَإِشْرَاقُهُ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ ارْبِدَادُهُ وَاسْوِدَادُهُ، فَلِذَلِكَ كَنَّى عَنِ الْفَرَحِ بِالِاسْتِنَارَةِ، وَعَنِ الْغَمِّ بِالِاسْوِدَادِ. وَهُوَ كَظِيمٌ أي: ممتلىء الْقَلْبِ حُزْنًا وَغَمًّا. أَخْبَرَ عَمَّا يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ وَعَنْ مَا يُجِنُّهُ فِي قَلْبِهِ. وَكَظِيمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ مَكْظُومٌ «1» وَيُقَالُ: سِقَاءٌ. مَكْظُومٌ، أَيْ مَمْلُوءٌ مَشْدُودُ الْفَمِ. وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ بِنْتًا سَمَّتْهَا الذَّلْفَاءَ، فَهَجَرَهَا زَوْجُهَا فَقَالَتْ: مَا لِأَبِي الذَّلْفَاءِ لَا يَأْتِينَا ... يَظَلُّ فِي الْبَيْتُ الذي يلينا يحردان لَا نَلِدَ الْبَنِينَا ... وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا يُعْطِينَا يَتَوَارَى: يَخْتَفِي مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ سوء للتعليل أي: الحال لَهُ عَلَى التَّوَارِي هُوَ سُوءُ مَا أُخْبِرَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَى حَالَةَ الطَّلْقِ، فَإِنْ أُخْبِرَ بِذَكَرٍ ابْتَهَجَ، أو أنثى

_ (1) سورة القلم: 68/ 48.

حَزِنَ. وَتَوَارَى أَيَّامًا يُدَبِّرُ فِيهَا مَا يَصْنَعُ. أَيُمْسِكُهُ قَبْلَهُ حَالٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: مُفَكِّرًا أَوْ مُدَبِّرًا أَيُمْسِكُهُ؟ وَذَكَرَ الضَّمِيرُ مُلَاحَظَةً لِلَّفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: أَيُمْسِكُهَا عَلَى هَوَانٍ، أَمْ يَدُسُّهَا بِالتَّأْنِيثِ عَوْدًا عَلَى قَوْلِهِ: بِالْأُنْثَى، أَوْ عَلَى مَعْنَى مَا بُشِّرَ بِهِ، وَافَقَهُ عِيسَى عَلَى قِرَاءَةِ هَوَانٍ عَلَى وَزْنٍ فَعَالٍ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: أَيُمْسِكُهُ بِضَمِيرِ التَّذْكِيرِ، أَمْ يَدُسُّهَا بِضَمِيرِ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: عَلَى هَوْنٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عَلَى سُوءٍ، وَهِيَ عِنْدِي تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ، لِمُخَالَفَتِهَا السَّوَادَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْإِمْسَاكِ حَبْسُهُ وَتَرْبِيَتُهُ، وَالْهُونُ الْهَوَانُ كَمَا قَالَ: عَذابَ الْهُونِ «1» وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ الرِّفْقُ وَاللِّينُ، يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً «2» وَفِي قَوْلِهِ: عَلَى هُونٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَبِ، وَالْمَعْنَى: أَيُمْسِكُهَا مَعَ رِضَاهُ بِهَوَانِ نَفْسِهِ، وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ؟ وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: أَيُمْسِكُهَا مُهَانَةً ذَلِيلَةً، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، أَنَّهُ يَئِدُهَا وَهُوَ دَفْنُهَا حَيَّةً حَتَّى تَمُوتَ. وَقِيلَ: دَسُّهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ كَالْمَدْسُوسِ فِي التُّرَابِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ الْآيَةَ أَيْ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَا هُوَ مُسْتَكْرَهٌ عِنْدَهُمْ، نَافِرٌ عَنْهُنَّ طَبْعُهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُونَ نِسْبَتَهُنَّ إِلَيْهِنَّ، وَيَئِدُونَهُنَّ اسْتِنْكَافًا مِنْهُنَّ، وَيَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ الذَّكَرَ كَمَا قَالَ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «3» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ يُدَبِّرُ أَيُمْسِكُ هَذِهِ الْأُنْثَى عَلَى هَوَانٍ يَتَجَلَّدُ لَهُ، أَمْ يَئِدُهَا فَيَدْفِنُهَا حَيَّةً فَهُوَ الدَّسُّ فِي التُّرَابِ؟ ثُمَّ اسْتَقْبَحَ اللَّهُ سُوءَ فِعْلِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِهَذَا فِي بَنَاتِهِمْ وَرِزْقُ الْجَمِيعِ عَلَى اللَّهِ انْتَهَى. فَعَلَّقَ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ بِصُنْعِهِمْ فِي بَنَاتِهِمْ مَثَلَ السَّوْءِ. قِيلَ: مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ أَيْ: صِفَةُ السُّوءِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ وَكَرَاهَةُ الْإِنَاثِ، وَوَأْدُهُنَّ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ وَإِقْرَارُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالشُّحِّ الْبَالِغِ. وَلِلَّهِ المثل الأعلى أي: الصفة الْعُلْيَا، وَهِيَ الْغِنَى عَنِ الْعَالَمِينَ، وَالنَّزَاهَةُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ. وَقِيلَ: مَثَلُ السَّوْءِ هُوَ وَصْفُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنَّ لَهُ الْبَنَاتِ، وَسَمَّاهُ مَثَلَ السَّوْءِ لِنِسْبَتِهِمُ الْوَلَدَ إِلَى اللَّهِ، وَخُصُوصًا عَلَى طَرِيقِ الْأُنُوثَةِ الَّتِي هُمْ يَسْتَنْكِفُونَ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ السَّوْءِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَتْ فِرْقَةٌ مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ صِفَةُ السَّوْءِ، وَلِلَّهِ الْوَصْفُ الْأَعْلَى، وَهَذَا لَا نَضْطَرُّ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ اللَّفْظِ، بَلْ قَوْلُهُ: مَثَلُ، عَلَى بَابِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 93. (2) سورة الفرقان: 25/ 63. (3) سورة النجم: 53/ 21.

إِنَّ الْبَنَاتِ لِلَّهِ فَقَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا، فَالْبَنَاتُ مِنَ الْبَشَرِ وَكَثْرَةُ الْبَنَاتِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ ذَمِيمٌ فَهُوَ الْمَثَلُ السُّوءُ. وَالَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي الْبَنَاتِ فَقَطْ، بَلْ لَمَّا جَعَلُوهُ هُمُ الْبَنَاتُ جَعَلَهُ هُوَ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ سَوْءٍ، وَلَا غَايَةَ أَبْعَدُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيِ: الْكَمَالُ الْمُسْتَغْنَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَثَلُ الْأَعْلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى، وَقَوْلُ قَتَادَةَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَا نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ، وَأَتَى ثَانِيًا مَا كَانَ مَنْسُوبًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَبَدَأَ هُنَا بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ، وَأَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ التَّنْزِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُنَزَّهُ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالتَّوَالُدِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَنَاسَبَ الْخَتْمَ بِالْعَزِيزِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ: لَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّار عَظِيمَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَنِسْبَةِ التولد لَهُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَيُؤَاخِذُ: مُضَارِعُ آخَذَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ الَّذِي هُوَ أَخَذَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ أَحَدَ الْمُؤَاخِذَيْنِ يَأْخُذُ مِنَ الْآخَرِ، إِمَّا بِمَعْصِيَةٍ كَمَا هِيَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِإِذَايَةٍ فِي جِهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَأْخُذُ الْآخَرُ مِنَ الْأَوَّلِ بِالْمُعَاقَبَةِ وَالْجَزَاءِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ: عُمُومُ النَّاسِ. وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمِهِمْ لِلسَّبَبِ. وَظُلْمُهُمْ كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَرْضُ قَوْلُهُ: مِنْ دَابَّةٍ، لِأَنَّ الدَّبِيبَ مِنَ النَّاسِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «1» أَيْ بِالْمَكَانِ لِأَنَّ وَالْعادِياتِ «2» مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَعْدُو إِلَّا فِي مَكَانٍ، وَكَذَلِكَ الْإِثَارَةُ وَالنَّقْعُ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ مِنْ دَابَّةٍ فَيُهْلِكُ الصَّالِحَ بِالطَّالِحِ، فَكَانَ يُهْلِكُ جَمِيعَ مَا يدب على الأرض

_ (1) سورة العاديات: 100/ 4. (2) سورة العاديات: 100/ 1.

حَتَّى الْجِعْلَانُ فِي جُحْرِهَا قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا قَحِطَ الْمَطَرُ لَمْ تَبْقَ دَابَّةٌ إِلَّا هَلَكَتْ. وَسَمِعَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ حَتَّى إِنَّ الْحَبَارَى لَتَمُوتَ فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ الظَّالِمِ. وَهَذَا نَظِيرُ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً «1» الْآيَةَ وَالْحَدِيثُ «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ» وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: مِنْ دَابَّةٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ النَّاسِ خَاصَّةً. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ دَابَّةٍ مِنْ مُشْرِكٍ يَدِبُّ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ الْآيَةَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا يُشْبِهُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَمَا فِي مَا يَكْرَهُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ، أُرِيدَ بِهَا النَّوْعُ كَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ «2» وَمَعْنَى: وَيَجْعَلُونَ، يَصِفُونَهُ بِذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَكْرَهُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ، وَمِنْ شُرَكَاءَ فِي رِئَاسَتِهِمْ، وَمِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِرُسُلِهِمْ وَالتَّهَاوُنِ بِرِسَالَاتِهِمْ، وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَرْذَلَ أَمْوَالِهِمْ، وَلِأَصْنَامِهِمْ أَكْرَمَهَا، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «3» انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْنَى قَوْلُ قُرَيْشٍ لَنَا الْبَنُونَ، يَعْنِي قَالُوا: لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَنَا الْبَنُونَ. وَقِيلَ: الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَيُؤَيِّدُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْمَكْرُوهَ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ تَعْصِي اللَّهَ وَتَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: أَنَّكَ تَنْجُو، أَيْ هَذَا بَعِيدٌ مَعَ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِمَّنْ يَقُولُ بِالْبَعْثِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِهِ. أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مِنَ الْبَعْثِ صَحِيحًا، وَأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ بِاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ: بِإِسْكَانِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ جمع لسانا الْمُذَكَّرِ نَحْوَ: حِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، وَفِي التَّأْنِيثِ: أَلْسُنٌ كَذِرَاعٍ وَأَذْرُعٍ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ وَالْبَاءِ صِفَةً لِلْأَلْسُنِ، جَمْعُ كَذُوبٍ كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ، وَهُوَ مَقِيسٌ، أَوْ جَمْعُ كَاذِبٍ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ وَلَا يَنْقَاسُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ لَهُمْ مَفْعُولُ تَصِفُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا جَرَمَ أَنَّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: لَهُمْ بِكَسْرِ الهمزة، وأن جَوَابُ قَسَمٍ أَغْنَتْ عَنْهُ

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 25. (2) سورة النساء: 4/ 3. [.....] (3) سورة فصلت: 41/ 50.

لَا جَرَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مُفْرِطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أَفْرَطَ حَقِيقَةً أَيْ: مُتَجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ، بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ أَفْرَطْتُهُ إِلَى كَذَا قَدَّمْتُهُ، مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ فَرَطَ إِلَى كَذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ. قَالَ الْقَطَامِيُّ: وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ وَمِنْهُ «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي هِنْدٍ: مُفْرَطُونَ مُخَلَّفُونَ مَتْرُوكُونَ فِي النَّارِ مِنْ أَفْرَطْتُ فُلَانًا خَلْفِي إِذَا خَلَّفْتُهُ وَنَسِيتُهُ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَفْرَطْتُ مِنْهُمْ نَاسًا أَيْ خَلَّفْتُهُمْ وَنَسِيتُهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مُفَرِّطُونَ مُشَدَّدًا مِنْ فَرَّطَ أَيْ: مُقَصِّرُونَ مُضَيِّعُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: فَتْحُ الرَّاءِ وَشَدُّهَا أَيْ، مُقَدَّمُونَ مِنْ فَرَّطْتُهُ الْمُعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ مِنْ فَرَّطَ بِمَعْنَى: تَقَدَّمَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِإِرْسَالِ الرُّسُلَ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ أُمَمِكَ، مُقْسِمًا عَلَى ذَلِكَ وَمُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ وَبِقَدِ الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما كَانَ يَنَالُهُ بِسَبَبِ جَهَالَاتِ قَوْمِهِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ مِنْ تَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٌ أَيْ: لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا هُوَ، أَوْ عَبَّرَ بِالْيَوْمِ عَنْ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَمُحَاوَرَةِ الرُّسُلِ لَهُمْ، أَوْ حِكَايَةُ حَالٍ آتِيَةٍ وَهِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْ فِي الْيَوْمِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ، فَهُوَ وَلِيُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ: قَرِينُهُمْ وَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَلِيُّهُمْ إِلَى أُمَمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُ زَيَّنَ لِلْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: فَهُوَ وَلِيُّ أَمْثَالِهِمُ الْيَوْمَ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَلَا إِلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. وَاللَّامُ فِي لِتُبَيِّنَ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَنَفْيِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ مِنَ الْأَحْكَامِ: كَتَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ، وَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَهُدًى وَرَحْمَةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَانْتَصَبَا لِاتِّحَادِ الْفَاعِلِ فِي الْفِعْلِ وَفِيهِمَا، لِأَنَّ الْمُنَزِّلَ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الْهَادِي وَالرَّاحِمُ. وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي لِتُبَيِّنَ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْمُنَزِّلَ هُوَ اللَّهُ، وَالتَّبْيِينُ مُسْنَدٌ لِلْمُخَاطَبِ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: مَعْطُوفُ مَحَلِّ لِتُبَيِّنَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ لَيْسَ نَصْبًا فَيُعْطَفُ مَنْصُوبٌ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَبَهُ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ؟.

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ: الْإِلَهِيَّاتُ، وَالنُّبُوَّاتُ، والمعاد، والقدر، والأعظم مِنْهَا الْإِلَهِيَّاتُ فَابْتَدَأَ فِي ذِكْرِ دَلَائِلِهَا بِالْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ، ثُمَّ بِالْإِنْسَانِ ثُمَّ بِالْحَيَوَانِ، ثُمَّ بِالنَّبَاتِ ثُمَّ بِأَحْوَالِ الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا أَمَرَهُ بِتَبْيِينِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ قَصَّ الْعِبَرَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى بَيَانِ أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَبَدَأَ بِنِعْمَةِ الْمَطَرِ الَّتِي هِيَ أَبْيَنُ الْعِبَرِ، وَهِيَ مِلَاكُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا عَاقِلٌ انْتَهَى. وَنَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْكِتَابِ لِلتَّبْيِينِ كَانَ الْقُرْآنُ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ عِلَلِ الْعَقَائِدِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ: يُصَدِّقُونَ. وَالتَّصْدِيقُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، فَكَذَا إِنْزَالُ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَجْسَامِ وَسَبَبٌ لِبَقَائِهَا. ثُمَّ أَشَارَ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى إِحْيَاءِ الْقُلُوبِ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «1» فَكَمَا تَصِيرُ الْأَرْضُ خَضِرَةً بِالنَّبَاتِ نَضِرَةً بَعْدَ هُمُودِهَا، كَذَلِكَ الْقَلْبُ يَحْيَا بِالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيْتًا بِالْجَهْلِ. وَكَذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: يَسْمَعُونَ هَذَا التَّشْبِيهَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّرٍ، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَمْ يَخْتِمْ بلقوم يُبْصِرُونَ، وَإِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مِمَّا يُبْصَرُ وَيُشَاهَدُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ يَسْمَعُونَ، يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ هَذَا الْمُعْتَبَرِ فِيهِ وَتِبْيَانُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْبَتَّةَ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ فَقَطْ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ: لما ذكر الله تعالى إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، ذَكَرَ مَا يَنْشَأُ عَنْ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْمَطَرِ وَهُوَ حَيَاةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَأْلُوفُ الْعَرَبِ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ النَّبَاتِ النَّاشِئِ عَنِ الْمَطَرِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِبْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَهُوَ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِخِلَافٍ، وَالْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. نَسْقِيكُمْ هُنَا، وَفِي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: بِفَتْحِ النُّونِ مُضَارِعُ سَقَى، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا مُضَارِعُ أَسْقَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَقَى وَأَسْقَى في قوله

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 122.

فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «1» وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يُسْقِيكُمْ بِالْيَاء مَضْمُومَةً، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ: يَسْقِيكُمُ اللَّهُ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى النَّعَمِ، وَذَكَّرَ لِأَنَّ النَّعَمَ مِمَّا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَمَعْنَاهُ: وَأَنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ نِعْمًا يَسْقِيكُمْ أَيْ: يَجْعَلُ لَكُمْ سُقْيًا انْتَهَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَضَعْفُهَا عِنْدَهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ حَيْثُ أَنَّثَ فِي تَسْقِيكُمْ، وَذَكَّرَ فِي قَوْلِهِ مِمَّا فِي بُطُونِهِ، وَلَا ضَعْفَ فِي ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ وَالتَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ وَجْهَيْنِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا مُرَاعَاةً لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ وُقُوعُ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ مَقَامَ جَمْعِهِ جَازَ عَوْدُهُ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَنْبَلُهُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ هُوَ أَحْسَنُ فَتًى، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ. وَقِيلَ: جَمْعُ التَّكْسِيرِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَمُعَامَلَةَ الْجَمْعِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا. كَقَوْلِهِ: مِثْلُ الْفِرَاخِ نَبَقَتْ حَوَاصِلُهُ وَقِيلَ: أَفْرَدَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَذْكُورِ كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الْجَمْعِ كَمَا قَالَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فَقَالَ: كَأَنَّهُ وَقَدَّرَ بَكَانَ الْمَذْكُورِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ «2» فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «3» أَيْ ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ. وَقَالَ: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي «4» أَيْ هَذَا الشَّيْءُ الطَّالِعُ. وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا فِي التَّأْنِيثِ الْمَجَازِيِّ، لَا يَجُوزُ جَارِيَتُكَ ذَهَبَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَعْضِ، إِذِ الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا، فَكَأَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَعْضِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ الْأَنْعَامَ فِي بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أفعال كقولهم: ثواب أَكْيَاشَ، وَلِذَلِكَ رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا، وَأَمَّا فِي بُطُونِهَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَنْعَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَكْسِيرُ نَعَمٍ كَالْأَجْبَالِ فِي جَبَلٍ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا مُقْتَضِيًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ كَنَعَمٍ، فَإِذَا ذُكِّرَ فَكَمَا يُذْكَرُ نَعَمٍ فِي قَوْلِهِ:

_ (1) سورة الحجر: 15/ 22. (2) سورة المزمل: 73/ 19. (3) سورة عبس: 80/ 12. (4) سورة الأنعام: 6/ 78.

فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ ... يُلَقِّحُهُ قَوْمٌ وَيُنْتِجُونَهُ وَإِذَا أُنِّثَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: إِنَّهُ تَكْسِيرُ نَعَمٍ، وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ فَفِي كِتَابِهِ فِي هَذَا فِي بَابِ مَا كَانَ عَلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا أَجَمَالٌ وَفُلُوسٌ فَإِنَّهَا تَنْصَرِفُ وَمَا أَشْبَهَهَا، لِأَنَّهَا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَقْوَالٌ وَأَقَاوِيلُ، وَأَعْرَابٌ وَأَعَارِيبُ، وَأَيْدٍ وَأَيَادٍ، فَهَذِهِ الْأَحْرُفُ تَخْرُجُ إِلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ كَمَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْوَاحِدُ إِذَا كُسِرَ لِلْجَمْعِ، وَأَمَّا مَفَاعِلُ وَمَفَاعِيلُ فَلَا يُكْسَرُ، فَيَخْرُجُ الْجَمْعُ إِلَى بِنَاءٍ غَيْرِ هَذَا، لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ هُوَ الْغَايَةُ، فَلَمَّا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ صُرِفَتْ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْفُعُولُ لَوْ كُسِرَتْ مِثْلُ الْفُلُوسِ لِأَنْ تُجْمَعَ جَمْعًا لَأَخْرَجَتْهُ إِلَى فَعَائِلَ، كَمَا تَقُولُ: جُدُودٌ وَجَدَائِدُ، وَرُكُوبٌ وَرَكَائِبُ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِمَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَمْ يُجَاوِزْ هَذَا الْبِنَاءَ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَتَى لِلْوَاحِدِ فَيَضُمُّ الْأَلِفَ، وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ هُوَ الْأَنْعَامُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَزَّ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ يقولون: هذا ثواب أَكْيَاشَ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ، وَبَيْنَ أَفْعَالٍ وَفُعُولٍ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ أَبْنِيَةً لِلْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَا يُجْمَعَانِ، وَأَفْعَالٌ وَفُعُولٌ قَدْ يَخْرُجَانِ إِلَى بِنَاءِ شِبْهِ مَفَاعِلَ أَوْ مَفَاعِيلَ لِشَبَهِ ذَيْنَكَ بِالْمُفْرَدِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا وَامْتِنَاعُ هَذَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، ثُمَّ قَوَّى شَبَهُهُمَا بِالْمُفْرَدِ بِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَالَ فِي أَتَى: أُتَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ جَاءَ نَادِرًا فُعُولٌ مِنْ غَيْرِ الْمَصْدَرِ لِلْمُفْرَدِ، وَبِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَدْ يُوقِعُ أَفْعَالًا لِلْوَاحِدَةِ مِنْ حَيْثُ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فَتَقُولُ: هُوَ الْأَنْعَامُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ الْأَنْعَامَ فِي مَعْنَى النَّعَمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَكْنَا الْخَيْلَ وَالنَّعَمَ الْمُفَدَّى ... وَقُلْنَا لِلنِّسَاءِ بِهَا أَقِيمِي وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أَفْعَالٍ تَحْرِيفٌ فِي اللَّفْظِ، وَفُهِمٌ عَنْ سِيبَوَيْهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ حِينَ ذَكَرَ أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَحِقَتْهُ الزَّوَائِدُ مِنْ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ: أَفْعِيلٌ، وَلَا أُفَعْوِلٌ، وَلَا أَفْعَالٌ، وَلَا إِفْعِيلٌ، وَلَا إِفْعَالٌ إِلَّا أَنْ تَكْسِرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ انْتَهَى. فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَا يَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُفْرَدَةِ. وَنَسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ

تَبْيِينٌ لِلْعِبْرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ الْعِبْرَةُ؟ فَقِيلَ: نَسْقِيكُمْ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، أَيْ: يَخْلُقُ اللَّهُ اللَّبَنَ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ يَكْتَنِفَانِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ لَا يَبْغِي أَحَدَهُمَا عَلَيْهِ بِلَوْنٍ وَلَا طَعْمٍ وَلَا رَائِحَةٍ، بَلْ هُوَ خَالِصٌ مِنْ ذلك كُلِّهِ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا اسْتَقَرَّ الْعَلَفُ فِي الْكِرْشِ صَارَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا يَبْقَى فِيهِ، وَأَعْلَاهُ دَمًا يَجْرِي فِي الْعُرُوقِ، وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا يَجْرِي فِي الضَّرْعِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْفَرْثُ فِي أَوْسَطِ الْمَصَارِينِ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهَا، وَاللَّبَنُ بَيْنَهُمَا، وَالْكَبِدُ يَقْسِمُ الْفَرْثَ إِلَى الْكَرِشِ، وَالدَّمَ إِلَى الْعُرُوقِ، وَاللَّبَنَ إِلَى الضُّرُوعِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهُ، وَاللَّبَنُ فِي الْوَسَطِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَكَانَ الرَّازِيُّ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُذْبَحُ وَلَا يُرَى فِي كَرِشِهِ دَمٌ وَلَا لَبَنٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْغِذَاءَ إِذَا تَنَاوَلَهُ الْحَيَوَانُ وَصَلَ إِلَى الْكَرِشِ وَانْطَبَخَ وَحَصَلَ الْهَضْمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ كَثِيفًا نَزَلَ إِلَى الْأَمْعَاءِ، وَصَافِيًا انْحَدَرَ إِلَى الْكَبِدِ فَيَنْطَبِخُ فِيهَا وَيَصِيرُ دَمًا، وَهُوَ الْهَضْمُ الثَّانِي مَخْلُوطًا بِالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ، فَتَذْهَبُ الصَّفْرَاءُ إِلَى الْمَرَارَةِ، وَالسَّوْدَاءُ إِلَى الطِّحَالِ، وَالْمَاءُ إِلَى الْكُلْيَةِ، وَخَالِصُ الدَّمِ يَذْهَبُ إِلَى الْأَوْرِدَةِ وَهِيَ الْعُرُوقُ النَّابِتَةُ مِنَ الْكَبِدِ فَيَحْصُلُ الْهَضْمُ الثَّالِثُ. وَبَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ يَنْصَبُّ الدَّمُ مِنْ تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الضَّرْعِ، وَهُوَ لَحْمٌ رِخْوٌ أَبْيَضُ فَيَنْقَلِبُ مِنْ صُورَةِ الدَّمِ إِلَى صُورَةِ اللَّبَنِ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَالُدِ اللَّبَنِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ أَيْضًا: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ. فَاللَّبَنُ مُتَوَلَّدٌ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنُ الْفَرْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا انْتَهَى، مُلَخَّصًا أَيْضًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، وَالْبَيْنِيَّةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِيَّةِ حَقِيقَةً كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَادَّعَى الرَّازِيُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَيْنِيَّةُ مَجَازِيَّةً، بِاعْتِبَارِ تَوَلُّدِهِ مِنْ مَا حَصَلَ فِي الْفَرْثِ أَوَّلًا، وَتُوَلُّدِهُ مِنَ الدَّمِ النَّاشِئِ مِنْ لَطِيفِ مَا كَانَ فِي الْفَرْثِ ثَانِيًا كما قرره الرازي. ومن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بنسقيكم، وَجَازَ تَعَلُّقُهُمَا بِعَامِلٍ

وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً أَيْ: كَائِنًا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ بَدَلًا مِنْ مَا فِي بُطُونِهِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: سَيِّغًا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: سَيْغًا مُخَفَّفًا مِنْ سَيِّغٍ كَهَيْنٍ الْمُخَفَّفِ مِنْ هَيِّنٍ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ لَازِمٍ كَانَ يَكُونُ سَوْغًا. وَالسَّائِغُ: السَّهْلُ فِي الْحَلْقِ اللَّذِيذُ، وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَشْرَقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ» وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ، ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ النَّبَاتِ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ من ثمرات بتتخذون، وَكُرِّرَتْ مِنْ لِلتَّأْكِيدِ، وَكَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا رَاعِيًا لِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَمِنْ عَصِيرِ ثَمَرَاتٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الثَّمَرَاتِ وَهُوَ الثَّمَرُ، أَوْ بِتَقْدِيرٍ مِنَ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بنسقيكم، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مِمَّا في بطونه، أو بنسقيكم مَحْذُوفَةً دَلَّ عَلَيْهَا نُسْقِيكُمُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعَامِلِ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَنْعَامِ أَيْ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عِبْرَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِبْرَةَ بِقَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ. فَحَذَفَ مَا هو لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ: بِكَفِّي كَانَ مِنْ أَرْمَى البشر. تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ثَمَرٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ: أَيْ وَإِنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ، وَإِنْ شِئْتَ شَيْءٌ بِالرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ خَبَرُهُ انْتَهَى. وَالسَّكَرُ فِي اللُّغَةِ الْخَمْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ: بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ ... إِذَا جَرَى مِنْهُمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ سَكِرَ سُكْرًا وَسَكَرًا نَحْو: رَشُدَ رُشْدًا وَرَشَدًا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَجَاءُونَا بِهِمْ سكر عَلَيْنَا ... فَأُجْلِيَ الْيَوْمَ وَالسَّكْرَانُ صَاحِي وَقَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: ذَكَرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي السَّكَرِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقِيلَ: الْعَصِيرُ الْحُلْوُ الْحَلَالُ، وَسُمِّيَ سَكَرًا بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إِذَا تُرِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ الطعم، يُقَالُ هَذَا سَكَرٌ

لك أي طعم، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ: وَالسَّكَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُطْعَمُ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَعَلَتْ أَعْرَاضَ الْكِرَامِ سَكَرًا أَيْ: تَنَقَّلَتْ بِأَعْرَاضِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ إِذَا ابْتَرَكَ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ تَخَمَّرَ بِهَا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَ الزَّجَّاجُ قَالَ: يَصِفُ أَنَّهُ يُخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا نَسْخَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَا يَصِحُّ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقِيلَ: السَّكَرُ مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَقِيلَ: السَّكَرُ النَّبِيذُ، وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إِذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ انْتَهَى. وَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّكَرِ الْخَمْرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، وَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِنَسْخٍ فَقِيلَ: جَمَعَ بَيْنَ الْعِتَابِ وَالْمِنَّةِ. يَعْنِي بِالْعِتَابِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحْرُمُ، وَبِالْمِنَّةِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحِلُّ، وَهُوَ الْخَلُّ وَالرُّبُّ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا كَأَنَّهُ قِيلَ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا هُوَ سَكَرٌ وَرِزْقٌ حَسَنٌ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ. وَلَمَّا كَانَ مُفْتَتَحُ الْكَلَامِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً، نَاسَبَ الْخَتْمَ بِقَوْلِهِ: يَعْقِلُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا ذَوُو الْعُقُولِ كَمَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ «1» . وَانْظُرْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نِعْمَةِ اللَّبَنِ وَنِعْمَةِ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ، لَمَّا كَانَ اللَّبَنُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ مِنَ النَّاسِ، أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ. وَلَمَّا كَانَ السَّكَرُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ قَالَ: تَتَّخِذُونَ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنْهُ السَّكَرَ وَالرِّزْقَ، وَلِأَمْرٍ مَا عَجَزَتِ الْعَرَبُ الْعَرْبَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمِنَّةَ بِالْمَشْرُوبِ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ، أَتَمَّ النِّعْمَةَ بِذِكْرِ الْعَسَلِ النَّحْلِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَشْرُوبَاتِ مِنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ أَكْثَرَ مِنَ الْعَسَلِ، قَدَّمَ اللَّبَنَ وَغَيْرَهُ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ اللَّبَنَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ كَثِيرًا وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ وَالْخَمْرُ وَالْعَسَلُ، وَجَاءَ تَرْتِيبُهَا فِي الْجَنَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى «2» فَفِي إِخْرَاجِ اللَّبَنِ مِنَ النِّعَمِ وَالسَّكَرِ، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَالْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ، دَلَائِلُ بَاهِرَةٌ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ. وَالْإِيحَاءُ هُنَا الْإِلْهَامُ وَالْإِلْقَاءُ فِي رُوعِهَا، وَتَعْلِيمُهَا عَلَى وَجْهٍ هُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِكُنْهِهِ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ. والنحل: جنس واحده

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 13 وفي لفظها لأولي الأبصار. (2) سورة محمد: 47/ 15.

نَحْلَةٌ، وَيُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَنِ اتَّخِذِي. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: النحل بفتح الحاء، وأن تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْقَوْلِ وَهُوَ: وَأَوْحَى. أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِاتِّخَاذٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَفِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ الْوَحْيَ هُنَا بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ هُوَ الْإِلْهَامُ، وَلَيْسَ فِي الْإِلْهَامِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقَالَ: قَرَّرَ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهَا الْأَعْمَالَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ مِنْهَا بِنَاؤُهَا الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ مِنْ أَضْلَاعٍ، مُتَسَاوِيَةٍ بِمُجَرَّدِ طِبَاعِهَا، وَلَا يَتِمُّ مِثْلُ ذلك العقلاء إِلَّا بِآلَاتٍ كَالْمِسْطَرَةِ وَالْبُرْكَانِ، وَلَمْ تَبْنِهَا بِأَشْكَالٍ غَيْرِ تِلْكَ، فَتَضِيقُ تِلْكَ الْبُيُوتُ عَنْهَا لِبَقَاءِ فُرَجٍ لَا تَسَعُهَا، وَلَهَا أَمِيرٌ أَكْبَرُ جُثَّةً مِنْهَا نَافِذُ الْحُكْمِ يَخْدِمُونَهُ، وَإِذَا نَفَرَتْ عَنْ وَكْرِهَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَرَادُوا عَوْدَهَا إِلَى وَكْرِهَا ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، وَبِوَسَاطَةِ تِلْكَ الْأَلْحَانِ تَعُودُ إِلَى وَكْرِهَا، فَلَمَّا امْتَازَتْ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْعَجِيبَةِ وَلَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، وَهِيَ حَالَةٌ تُشْبِهُ الْوَحْيَ لِذَلِكَ قَالَ: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. ومن لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهَا لَا تَبْنِي فِي كُلِّ جَبَلٍ، وَكُلِّ شَجَرٍ، وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ، وَلَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُيُوتَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْجِبَالِ، وَفِي مُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ. وَإِمَّا مِنْ مَا يَعْرِشُ ابْنُ آدم فالخلايا التي يصنها لِلنَّحْلِ ابْنُ آدَمَ، وَالْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْحِيطَانِ. وَلَمَّا كَانَ النَّحْلُ نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مَقَرُّهُ فِي الْجِبَالِ وَالْغِيَاضِ وَلَا يَتَعَهَّدُهُ أَحَدٌ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي بُيُوتِ النَّاسِ وَيُتَعَهَّدُ فِي الْخَلَايَا وَنَحْوِهَا، شَمِلَ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ النَّوْعَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُيُوتَ لَيْسَتِ الْكُوَى، وَإِنَّمَا هِيَ مَا تَبْنِيهِ هِيَ، فَقَالَ: أُرِيدَ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، يَعْنِي بِمِنْ، وَأَنْ لَا يُبْنَى بُيُوتُهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَكُلِّ شَجَرٍ وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ الْكُرُومُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِمَّا يَبْنُونَ مِنَ السُّقُوفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مِنْهُمَا تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا، وَتَقْتَضِي ثُمَّ الْمُهْلَةَ وَالتَّرَاخِيَ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ الَّذِي تَدَّخِرُ مِنْهُ الْعَسَلَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَطْفُ بِثُمَّ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اتَّخِذِي، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أَمْرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلِّ الثَّمَرَاتِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَيِ: الْمُعْتَادَةِ، لَا كُلِّهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيِ ابْنِي الْبُيُوتَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِيهَا انْتَهَى. فَدَلَّ قَوْلُهُ: أَيْ ابني

_ (1) سورة النمل: 27/ 18.

الْبُيُوتَ، أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ بُيُوتًا الْكُوَى الَّتِي فِي الْجِبَالِ وَمُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ وَلَا الْخَلَايَا، وَإِنَّمَا يُرَادُ البيوت المسدسة التي تبينها هِيَ. وَظَاهِرُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كل الثمرات أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، فَتَأْكُلُ مِنَ الْأَشْجَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَوْرَاقِ الْعَطِرَةِ أَشْيَاءَ يُوَلِّدُ اللَّهُ مِنْهَا فِي أَجْوَافِهَا عَسَلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا تَأْكُلُ النَّوَّارَ مِنَ الْأَشْجَارِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: يُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْهَوَاءِ ظِلًّا كَثِيرًا يَجْتَمِعُ مِنْهُ أَجْزَاءٌ محسوسة مثل الترنجبين وهو محسوس، وقليلا لَطِيفُ الْأَجْزَاءِ صَغِيرُهَا، وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّحْلَ الْتِقَاطَهُ مِنَ الْأَزْهَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، وَتَغْتَذِي بِهَا فَإِذَا شَبِعَتِ الْتَقَطَتْ بِأَفْوَاهِهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَوَضَعَتْهَا فِي بُيُوتِهَا كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِهَا غِذَاءَهَا، فَالْمُجْتَمِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَا لِلتَّبْعِيضِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي فَاسْلُكِي أَنَّهُ بِعَقِيبِ الْأَكْلِ أَيْ: فَإِذَا أَكَلْتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ، أَيْ طُرُقَ رَبِّكِ إِلَى بُيُوتِكِ رَاجِعَةً، وَالسُّبُلُ إِذْ ذَاكَ مَسَالِكُهَا فِي الطَّيَرَانِ. وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَكَانَهَا فَانْتَجَعَتِ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: سُبُلَ رَبِّكِ أَيِ الطُّرُقَ الَّتِي أَلْهَمَكِ وَأَفْهَمَكِ فِي عَمَلِ الْعَسَلِ، أَوْ فَاسْلُكِي مَا أَكَلْتِ أَيْ: فِي سُبُلِ رَبِّكِ، أَيْ فِي مَسَالِكِهِ الَّتِي يحيل فيها بقدرته النور الْمُرَّ عَسَلًا مِنْ أَجْوَافِكِ وَمَنَافِذِ مَأْكَلِكِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْتَصِبُ سُبُلَ رَبِّكِ عَلَى الظَّرْفِ، وَعَلَى مَا قَبْلَهُ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ كُلِي، ثُمَّ اقْصِدِي الْأَكْلَ مِنَ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي فِي طَلَبِهَا سُبُلَ رَبِّكِ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ فِي الْمَجَازِ فِي سُبُلَ رَبِّكِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّ كُلِي بِمَعْنَى اقْصِدِي الْأَكْلَ، مَجَازٌ أَضَافَ السُّبُلَ إِلَى رَبِّ النَّحْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا وَمَالِكُهَا وَالنَّاظِرُ فِي تَهْيِئَةِ مَصَالِحِهَا وَمَعَاشِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذُلُلًا غَيْرَ مُتَوَعِّرَةٍ عَلَيْهَا سَبِيلٌ تَسْلُكُهُ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا حَالٌ مِنْ سَبِيلِ رَبِّكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا «1» وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مُطِيعَةً مُنْقَادَةً. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَخْرُجُونَ بِالنَّحْلِ يَنْتَجِعُونَ وَهِيَ تَتْبَعُهُمْ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا حَالٌ مِنَ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها لَهُمْ «2» ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمِنَّةِ ثَمَرَةَ هَذَا الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ وَالسُّلُوكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ، وَهُوَ الْعَسَلُ. وَسَمَّاهُ شَرَابًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُشْرَبُ، كَمَا ذَكَرَ ثَمَرَةَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ سَقْيُ اللَّبَنِ، وَثَمَرَةَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَهُوَ اتِّخَاذُ السَّكَرِ والرزق الحسن.

_ (1) سورة الملك: 67/ 15. (2) سورة يس: 36/ 72.

وَذَكَرَ تَعَالَى الْمَقَرَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّرَابُ وَهُوَ بُطُونُهَا، وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأُولَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَلِذَلِكَ قال الحريري: تقل هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وَإِنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ قَيْءَ الزَّنَابِيرِ وَالْمُجَاجُ وَالْقَيْءُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ الْفَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَحْقِيرِ الدُّنْيَا: أَشْرَفُ لِبَاسِ ابْنِ آدَمَ فِيهَا لُعَابُ دُودَةٍ، وَأَشْرَفَ شَرَابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَمَّا الْعَسَلُ فَوَنِيمُ ذُبَابٍ ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ الْفَمِ، وَقَدْ خَفِيَ مِنْ أَيِّ الْمَخْرَجَيْنِ يَخْرُجُ، أَمِنَ الْفَمِ؟ أَمْ مِنْ أَسْفَلُ؟ وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِسْكَنْدَرَ، وَأَرِسْطَاطَالِيسَ، صَنَعُوا لَهَا بُيُوتًا مِنْ زُجَاجٍ لِيَنْظُرُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا، وَهَلْ يَخْرُجُ الْعَسَلُ مِنْ فِيهَا أَمْ مِنْ أَسْفَلِهَا؟ فَلَمْ تَضَعْ مِنَ الْعَسَلِ شَيْئًا حَتَّى لَطَّخَتْ بَاطِنَ الزُّجَاجِ بِالطِّينِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لُبَابُ الْبُرِّ بِلُعَابِ النَّحْلِ بِخَالِصِ السَّمْنِ مَا عَابَهُ مُسْلِمٌ، فَجَعَلَهُ لُعَابًا كَالرِّيقِ الدَّائِمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَمِ ابْنِ آدَمَ. وَقِيلَ: مِنْ بُطُونِهَا مِنْ أَفْوَاهِهَا، سَمَّى الْفَمَ بَطْنًا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَطْنِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يَبْطَنُ وَلَا يَظْهَرُ. وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ بِالْبَيَاضِ وَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّحْلِ، وَاخْتِلَافِ الْمَرَاعِي. وَقَدْ يَخْتَلِفُ طَعْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ «جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعَرْفَطَ» وَقِيلَ: الْأَبْيَضُ تُلْقِيهِ شَبَابُ النَّحْلِ، وَالْأَصْفَرُ كُهُولُهَا، وَالْأَحْمَرُ شَبِيبُهَا. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ إِلَى الشَّرَابِ وَهُوَ الْعَسَلُ، لِأَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْفِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمَشْهُورَةِ النَّافِعَةِ. وَقَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ لَمْ يَذْكُرِ الْأَطِبَّاءُ فِيهِ الْعَسَلَ، وَالْعَسَلُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ. وَأَمَّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ الْبِلَادِ وَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَزْمَانِ يُجْعَلُ فِي الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إِلَّا الْعَسَلَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْعُمُومَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِي دَوَائِهَا الْعَسَلُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لِلنَّاسِ الَّذِي يُنْجَعُ الْعَسَلُ فِي أَمْرَاضِهِمْ. وَنَكَّرَ شِفَاءً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِيهِ شِفَاءٌ أَيْ شِفَاءٌ، وَإِمَّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الشِّفَاءِ أَيْ: فِيهِ بَعْضُ الشِّفَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْفَرَّاءِ، وَابْنِ كَيْسَانَ: أَنَّ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْ: فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَرَى هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ النِّحَلِ عَجِيبًا فِي بِنَائِهَا تِلْكَ الْبُيُوتَ

الْمُسَدَّسَةَ، وَفِي أَكْلِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ وَالْأَوْرَاقِ الْحَامِضِ وَالْمُرِّ وَالضَّارِّ، وَفِي طَوَاعِيَتِهَا لِأَمِيرِهَا وَلِمَنْ يَمْلِكُهَا فِي النُّقْلَةِ مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَزِيَادَةِ تَدَبُّرٍ خَتَمَ بقوله تخ عالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَالثَّمَرَاتِ وَالنَّحْلِ، ذَكَرَ مَا نَبَّهَنَا بِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ فِي إِنْشَائِنَا مِنَ الْعَدَمِ وَإِمَاتَتِنَا، وَتَنَقُّلِنَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ حَالَةِ الْجَهْلِ إِلَى حَالَةِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ قَدِيرٌ. وَأَرْذَلُ الْعُمُرِ آخِرُهُ الَّذِي تَفْسُدُ فِيهِ الْحَوَاسُّ، وَيَخْتَلُّ النُّطْقُ وَالْفِكْرُ. وَخَصَّ بِالرَّذِيلَةِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا رَجَاءَ بَعْدَهَا لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ، بِخِلَافِ حَالِ الطُّفُولَةِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ تَتَقَدَّمُ فِيهَا إِلَى الْقُوَّةِ وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَتَقَيَّدُ أَرْذَلُ الْعُمُرِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ تِسْعُونَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسْبِ إِنْسَانٍ إِنْسَانٍ فَرُبَّ ابْنِ خَمْسِينَ انْتَهَى، إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَرُبَّ ابْنِ مِائَةٍ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عَامٌّ، فِيمَنْ يَلْحَقُهُ الْخَرَفُ وَالْهَرَمُ. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْكَافِرِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَزْدَادُ بطول عمره لا كَرَامَةً عَلَى اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» أَيْ لَمْ يُرَدُّوا إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرذل لعمر. وَاللَّامُ فِي لِكَيْ قَالَ الْحَوْفِيُّ: هِيَ لَامُ كَيْ دَخَلَتْ عَلَى كَيْ لِلتَّوْكِيدِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُرَدُّ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَقِّقُو النُّحَاةِ فِي مِثْلِ لِكَيْ أَنَّ كَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ وَهِيَ النَّاصِبَةُ كَأَنْ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ كَيْ وَالْمُضَارِعُ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ تَقْدِيرًا، فَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى كَيْ لِلتَّوْكِيدِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهُمَا واختلاف

_ (1) سورة التين: 95/ 5- 6.

عَمَلِهِمَا، لِأَنَّ اللَّامَ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْلِيلِ، وَكَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ، وَكَيْ نَاصِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ لَامَ صَيْرُورَةٍ وَالْمَعْنَى: لِيَصِيرَ أَمْرُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَعْلَمَ شَيْئًا. وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ، لَا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا الْبَتَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَصِيرَ إِلَى حَالَةٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِهِ فِي النِّسْيَانِ، وَأَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ثُمَّ يُسْرِعُ فِي نِسْيَانِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِنْ سُئِلَ عَنْهُ. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَعْقِلَ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَعْلَمَ زِيَادَةَ عِلْمٍ عَلَى عِلْمِهِ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ شَيْئًا إِمَّا بِالْمَصْدَرِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِهِ مَا يَلِي لِلْقُرْبِ، أو بيعلم عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِ مَا سَبَقَ لِلسَّبْقِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَعْرِضُ فِي الْهَرَمِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَى وَالْقُدْرَةِ وَانْتِفَاءِ الْعِلْمِ، ذَكَرَ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ اللَّذَيْنِ لَا يَتَبَدَّلَانِ وَلَا يَتَغَيَّرَانِ وَلَا يَدْخُلُهُمَا الْحَوَادِثُ، وَوَلِيَتْ صِفَةُ الْعِلْمِ مَا جَاوَرَهَا مِنِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ مُنَاسَبَةٍ لِلْخَتْمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَنَا، ثُمَّ إِمَاتَتَنَا وَتَفَاوُتَنَا فِي السِّنِّ، ذَكَرَ تَفَاوُتَنَا فِي الرِّزْقِ، وَأَنَّ رِزْقَنَا أَفْضَلُ مِنْ رِزْقِ الْمَمَالِيكِ وَهُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَمْلُوكُ خَيْرًا مِنَ الْمَوْلَى فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالتَّصَرُّفِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ فِي الرِّزْقِ لَا يُسَاهِمُ مَمْلُوكَهُ فِيمَا رُزِقَ فَيُسَاوِيهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ فَضْلَ مَا رُزِقَ عَلَيْهِ وَيُسَاوِيهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ رِيءَ عَبْدُهُ وَإِزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ مِثْلُ رِدَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، عَمَلًا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ فَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْإِخْبَارَ بِقَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ أَيْ: أَنَّ الْمُفَضَّلَيْنِ فِي الرِّزْقِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يُسَاهِمُوا مَمَالِيكَهُمْ فِيمَا أُعْطُوا حَتَّى تَسْتَوِيَ أَحْوَالُهُمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْبَشَرِ فَكَيْفَ تَنْسُبُونَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْكَفَرَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُشْرِكُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَالْجَمِيعُ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ مُشِيرَةٌ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمَوَالِيَ وَالْمَمَالِيكَ أَنَا رَازِقُهُمْ جَمِيعًا، فَهُمْ فِي رِزْقِي سَوَاءٌ، فَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَوَالِيَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ مِنْ عِنْدِهِمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ أُجْرِيهِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ جُمْلَةَ إِخْبَارٍ عَنْ تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهُمْ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي

_ (1) سُورَةِ الرُّومِ: 30/ 28.

مَوْضِعِ جَوَابِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَسْتَوُوا. وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْهَمْزَةُ التَّقْدِيرُ: أَفَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَيْ: لَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي الرِّزْقِ، بَلِ التَّفْضِيلُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ جُحُودِهِمْ نِعْمَهُ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، وَأَتَى بِالنِّعْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلرِّزْقِ وَغَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى أَيْ: إِنَّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالنَّشْأَةِ أَوَّلًا ثُمَّ مِمَّا فِيهِ قِوَامُ حَيَاتِكُمْ جَدِيرٌ بِأَنْ تُشْكَرَ نِعَمُهُ وَلَا تُكْفَرَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَعْرَجُ بِخِلَافِ عَنْهُ: تَجْحَدُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: فَضَّلَ، تَبْكِيتًا لَهُمْ فِي جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى امْتِنَانَهُ بِالْإِيجَادِ ثُمَّ بِالرِّزْقِ الْمُفَضَّلِ فِيهِ، ذَكَرَ امْتِنَانَهُ بِمَا يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِ وَيَخْدِمُهُ، وَاحْتَمَلَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جِنْسِكُمْ وَنَوْعِكُمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى بَنِي آدَمَ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُجَازٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَطْفَ حَفَدَةً عَلَى بَنِينَ يُفِيدُ كَوْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْبَنِينَ. فَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو ابْنِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَزْهَرِيُّ: الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْبَنُونَ صِغَارُ الْأَوْلَادِ، وَالْحَفَدَةُ كِبَارُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِعَكْسِهِ، وَقِيلَ: الْبَنَاتُ لِأَنَّهُنَّ يَخْدِمْنَ فِي الْبُيُوتِ أَتَمَّ خِدْمَةٍ. فَفِي هَذَا الْقَوْلِ خَصَّ الْبَنِينَ بِالذُّكْرَانِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ كَمَا قَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» وَإِنَّمَا الزِّينَةُ فِي الذُّكُورَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ أَوْلَادُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ الَّتِي هِيَ فِي عِصْمَتِهِ. وَقِيلَ: وَحَفَدَةً مَنْصُوبٌ بِجَعَلَ مُضْمَرَةً، وَلَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي كَوْنِهِمْ مِنَ الْأَزْوَاجِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو الضُّحَى، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَصْهَارُ، وَهُمْ قَرَابَةُ الزَّوْجَةِ كَأَبِيهَا وَأَخِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْحَفَدَةُ هُمُ الْبَنُونَ أَيْ: جَامِعُونَ بَيْنَ الْبُنُوَّةِ وَالْخِدْمَةِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ جَعَلَ لَهُ مِنْ زَوْجِهِ بَنِينَ وَحَفَدَةً، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ وعظم النَّاسِ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاشْتِرَاكِ أَيْ: مِنْ أَزْوَاجِ الْبَشَرِ جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ جَعَلَ الْخِدْمَةَ، وَهَكَذَا رَتَّبَتِ الْآيَةُ النِّعْمَةَ الَّتِي تَشْمَلُ الْعَالَمَ. وَيَسْتَقِيمُ لَفْظُ الْحَفَدَةِ عَلَى مَجْرَاهَا فِي اللُّغَةِ، إِذِ الْبَشَرُ بِجُمْلَتِهِمْ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ حَفَدَةٍ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا دَلَالَةٌ عَلَى كَذِبِ الْعَرَبِ في

_ (1) سورة الكهف: 18/ 46. [.....]

اعْتِقَادِهَا أَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ يَتَزَوَّجُ مِنَ الْجِنِّ وَيُبَاضِعُهَا، حَتَّى حَكَوْا ذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هندانة تزوج سعلاة. ومن فِي الطَّيِّبَاتِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ الطَّيِّبَاتِ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجٌ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هُنَا الْمُسْتَلَذَّاتُ لَا الْحَلَالُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كُفَّارٌ لَا يَتَلَبَّسُونَ بِشَرْعٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ جَعْلِ الْأَزْوَاجِ وَمَا نَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، ذَكَرَ مِنَنَهُ بِالرِّزْقِ. وَالطَّيِّبَاتِ عَامٌّ فِي النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: الطَّيِّبَاتُ الْغَنَائِمُ. وَقِيلَ: مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ نَصَبٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ، وَنِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَاعَةُ الشَّيْطَانِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقِيلَ: مَا يُرْجَى مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَا يعتقدون من مننفعة الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا وَشَفَاعَتِهَا، وَمَا هُوَ إِلَّا وَهْمٌ بَاطِلٌ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَلَا أَمَارَةٍ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِيمَانٌ إِلَّا بِهِ، كَأَنَّهُ شَيْءٌ مَعْلُومٌ مُسْتَيْقَنٌ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ الْمُشَاهَدَةُ الْمُعَايَنَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا لِذِي عقل، وتمييزهم كَافِرُونَ بِهَا مُنْكِرُونَ لَهَا كَمَا يُنْكَرُ الْمُحَالَ الَّذِي لَا تَتَصَوَّرُهُ الْعُقُولُ. وَقِيلَ: الْبَاطِلُ مَا يُسَوِّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ مَا أَحَلَّ لَهُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على إِيمَانِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَيَنْدَرِجُ فِي التَّوْقِيفِ الْمَعْطُوفِ بَعْدَهَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالتَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ، وَهُوَ خِطَابُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ لَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي التَّقْرِيعِ. وَيَعْبُدُونَ، اسْتِفْهَامُ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِقَوْلِهِ: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ، نَعَى عَلَيْهِمْ فَسَادَ نَظَرِهِمْ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَسْعَى عَابِدُهُ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْهُ وَهُوَ الرِّزْقُ، وَلَا هُوَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ. فَنَفَى أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الرِّزْقِ فِي مِلْكِهِمْ، وَنَفَى ثَانِيًا قُدْرَتَهَا عَلَى أَنْ تُحَاوِلَ ذَلِكَ، وما لا تملك فِي جَمِيعِ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَجَازُوا فِي شَيْئًا انْتِصَابَهُ بِقَوْلِهِ: رِزْقًا، أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الطَّرَاوَةِ بِأَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْمَرْزُوقُ كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ، وَالْمَصْدَرُ هُوَ الرَّزْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ. وَرُدَّ عَلَى ابن الطراوة بأن الرزق بِالْكَسْرِ يَكُونُ أَيْضًا مَصْدَرًا، وَسُمِعَ ذَلِكَ فِيهِ، فَصَحَّ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْمَعْنَى: مَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَ مِنَ السموات والأرض شيئا. ومن السموات مُتَعَلِّقٌ إِذْ ذَاكَ بِالْمَصْدَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إِعْمَالَ الْمَصْدَرِ مُنَوَّنًا: وَالْمَصْدَرُ يَعْمَلُ مُضَافًا بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ، وَلَا يَعْمَلُ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَغَّلَ فِي حَالِ الْأَسْمَاءِ وَبَعُدَ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ. وَتَقْدِيرُ

الِانْفِصَالِ فِي الْإِضَافَةِ حَسُنَ عَمَلُهُ، وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ الْبَيْتَ. وَقَوْلِهِ: لَحِقْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مَسْمَعًا انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: يَعْمَلُ مُضَافَاً بِالِاتِّفَاقِ إِنْ عَنَى مِنَ الْبَصْرِيِّينَ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ عَنَى مِنْ النَّحْوِيِّينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ أُضِيفَ لَا يَعْمَلُ، وَإِنْ نَصَبَ مَا بَعْدَهُ أَوْ رَفَعَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَكَانَتِ الْإِضَافَةُ غَيْرَ مَحْضَةٍ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ، وَمَذْهَبُهُمَا فَاسِدٌ لِنَعْتِ هَذَا الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ، وَتَوْكِيدِهِ بِالْمَعْرِفَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَعْمَلُ إِلَى آخِرِهِ فَقَدْ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ أَخِيرًا: وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَعْمَلُ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فَهُوَ مَذْهَبٌ مَنْقُولٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ جَوَازُ إِعْمَالِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ عَجِبْتُ مِنَ الضَّرْبِ زَيْدًا، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْتُ مِنَ الضَّارِبِ زَيْدًا، تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ. وَإِذَا كَانَ رِزْقًا يُرَادُ بِهِ الْمَرْزُوقُ فَقَالُوا: انْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ رِزْقًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ من السموات وَالْأَرْضِ شَيْئًا، وَهُوَ الْبَدَلُ جَارِيًا عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ رِزْقٍ، وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ لَيْسَ مُرَادِفًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، إِذْ لَا يَخْلُوَ الْبَدَلُ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْهِ هَذَيْنِ: إِمَّا الْبَيَانُ، وَإِمَّا التَّوْكِيدُ. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْمِلْكِ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا أَيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ تتعلق من السموات بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرِزْقٍ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَمِنَ السموات رِزْقًا يَعْنِي بِهِ الْمَطَرَ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ رِزْقٌ لِأَنَّهُ عَنْهُ يَنْشَأُ الرِّزْقُ. وَالْأَرْضُ يَعْنِي: الشَّجَرَ، وَالثَّمَرَ، وَالزَّرْعَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَطِيعُونَ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا آلهتهم، بعد ما عَادَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَمْلِكُ، فَأَفْرَدَ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي صِلَةِ مَا، وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا، بَلْ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِانْتِفَاء الِاسْتِطَاعَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهُ يُرَادُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ الْمِلْكِ وَالِاسْتِطَاعَةِ التَّوْكِيدِ فَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمِلْكَ مُغَايِرٌ لِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:

[سورة النحل (16) : الآيات 75 إلى 89]

وَيَعْبُدُونَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ أَيْ: وَلَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُتَصَرِّفُونَ أُولُو أَلْبَابٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَكَيْفَ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا حِسَّ بِهِ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ يُظْهِرُونَهُ وَحُجَّةٍ يُثْبِتُونَهَا انْتَهَى. وَنَهَى تَعَالَى عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلَّهِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ تَمْثِيلُهَا وَالْمَعْنَى هُنَا: تَمْثِيلٌ لِلْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ مُشَبِّهٌ حَالًا بِحَالٍ. وَقِصَّةً بِقِصَّةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا ضَرْبٌ لِهَذَا أَيْ: مَثَلٌ، وَالضَّرْبُ النَّوْعُ. تَقُولُ: الْحَيَوَانُ عَلَى ضُرُوبٍ أَيْ أَنْوَاعٍ، وَهَذَا مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ أَيْ: مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ انْتَهَى. وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَثْبَتَ الْعِلْمَ لِنَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْجَزَاءِ بِالْعِلْمِ: وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَلَا وَبَالَ عَاقِبَتِهِ، فَعَدَمُ عِلْمِكُمْ بِذَلِكَ جَرَّكُمْ وَجَرَّأَكُمْ وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كَيْفَ نَضْرِبُ الْأَمْثَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ انْتَهَى. وَقَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ قَالَ: يَعْلَمُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: يَعْلَمُ خَطَأَ مَا تَضْرِبُونَ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ صَوَابَ ذلك من خطته. [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

الْكَلُّ: الثَّقِيلُ، وَقَدْ يُسَمَّى الْيَتِيمُ كَلًّا لِثِقَلِهِ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَكُولٌ لِمَالِ الْكَلِّ قَبْلَ شَبَابِهِ ... إِذَا كَانَ عَظْمُ الْكَلِّ غَيْرَ شَدِيدِ وَالْكَلُّ أَيْضًا الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَالْكَلُّ الْعِيَالُ، وَالْجَمْعُ كُلُولٌ. اللَّمْحُ: النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ، لَمَحَهُ لَمْحًا وَلَمَحَانًا. الْجَوُّ: مَسَافَةُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَلِي الْأَرْضَ فِي سَمْتِ الْعُلُوِّ، وَاللَّوْحُ وَالسُّكَاكُ أَبْعَدُ مِنْهُ. الظَّعْنُ: سَيْرُ الْبَادِيَةِ فِي الِانْتِجَاعِ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَالظَّعْنُ الْهَوْدَجُ أَيْضًا. الصُّوفُ لِلضَّأْنِ، وَالْوَبَرُ لِلْإِبِلِ، وَالشَّعْرُ لِلْمَعَزِ، قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَصْوَافِهَا الْآيَةَ. الْأَثَاثُ: قَالَ الْمُفَضَّلُ مَتَاعُ الْبَيْتِ كَالْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لفظه، كَمَا أَنَّ الْمَتَاعَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ

لَفْظِهِ، وَلَوْ جَمَعْتَ لَقُلْتَ: أَأْثِثَةٌ فِي الْقَلِيلِ، وَأُثُثٌ فِي الْكَثِيرِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَاحِدُهُ أُثَاثةٌ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَثَثَ النَّبَاتُ وَالشَّعْرُ، فَهُوَ أَثِيثٌ إِذَا كَثُرَ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَفَرْعٌ يُزَيِّنُ المتن أسود فاحم ... أثيت كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ الْكِنُّ مَا حَفَظَ، وَمَنَعَ مِنَ الرِّيحِ وَالْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنَ الْجِبَالِ الْغَارُ. اسْتَعْتَبْتُ الرَّجُلَ بِمَعْنَى أَعْتَبْتُهُ أَيْ: أَزَلْتُ عَنْهُ مَا يُعْتَبُ عَلَيْهِ وَيُلَامُ، وَالِاسْمُ الْعُتْبَى، وَجَاءَتِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ نَحْوَ اسْتَدْيَنْتُهُ وَأَدْيَنْتُهُ. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: مُنَاسَبَةُ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ضَلَالَهُمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ غَيْرَهُ وَهُوَ لَا يَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا لِنَفْسِهِ وَلَا لِعَابِدِهِ، ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا قِصَّةَ عَبْدٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، عَاجِزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَحُرٍّ غَنِيٍّ مُتَصَرِّفٍ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَانِ لَا يَسْتَوِيَانِ عِنْدَكُمْ مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَكَيْفَ تُشْرِكُونَ بِاللَّهِ وَتُسَوُّونَ به من مَخْلُوقٌ لَهُ مَقْهُورٌ بِقُدْرَتِهِ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ، مَعَ تَبَايُنِ الْأَوْصَافِ. وَأَنَّ مُوجِدَ الْوُجُودِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْبِهَهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُمْكِنَ لِعَاقِلٍ أَنْ يُشَبِّهَ بِهِ غَيْرَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مَثَلٌ لِلَّهِ وَلِلْأَصْنَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَالْكَافِرُ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لَا يَنْتَفِعُ بِعِبَادَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَثَلٌ لِلْبَخِيلِ وَالسَّخِيِّ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ عَبْدٍ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّ، خُصِّصَ بِمَمْلُوكٍ. وَلَمَّا كَانَ الْمَمْلُوكُ قَدْ يَكُونُ لَهُ تَصَرُّفٌ وَقُدْرَةٌ كَالْمَأْذُونِ لَهُ وَالْمُكَاتَبِ، خُصِّصَ بِقَوْلِهِ: لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمَعْنَى: عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ حَرَكَاتِهِ: كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالنَّوْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ كَوْنُ وَمَنْ مَوْصُولَةً أَيْ: وَالَّذِي رَزَقْنَاهُ، وَدَلَّتِ الصِّلَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحُرُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَوْصُوفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَحُرًّا رَزَقْنَاهُ لِيُطَابِقَ عَبْدًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ

مَوْصُولَةً. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَنْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَلَا يَقْتَضِي ضَرْبَ الْمَثَلِ لِشَخْصَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِأَوْصَافٍ مُتَبَايِنَةٍ تَعْيِينُهُمَا، بَلْ مَا رُوِيَ فِي تَعْيِينِهِمَا مِنْ أَنَّهُمَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدٌ لَهُ أَوْ أَنَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبُو جَهْلٍ، لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ. وَجَمَعَ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَوُونَ وَلَمْ يُثَنِّ لِسَبْقِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْجَمْعُ فَيَصِيرُ إِذْ ذَاكَ جَمْعُ الضَّمِيرِ لِانْتِظَامِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَبْدًا مَمْلُوكًا. وَالْمُلَّاكُ الْمُرْزُوقُونَ الْمُنْفِقُونَ. ويحتمل أن يراد بعبدا مَمْلُوكًا الْجِنْسُ، فَيَصْلُحُ عَوْدُ الضَّمِيرِ جَمْعًا عَلَيْهِ، وَعَلَى جِنْسِ الْأَغْنِيَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لِلْجَمْعَيْنِ ذِكْرٌ، لِدَلَالَةِ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ عَلَيْهِمَا. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ، أَمَرَهُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ مَيَّزَهُ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ الضَّعِيفِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرٌ عَلَى بَيَانِ الْأَمْرِ بِهَذَا الْمَثَلِ، وَعَلَى إِذْعَانِ الْخَصْمِ لَهُ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ أَذْعَنَ لَكَ فِي حُجَّةٍ وَسَلَّمَ تَبْنِي أَنْتَ عَلَيْهِ، قَوْلَكَ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى هَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَالَ هُنَا: هَلْ يَسْتَوُونَ، فَكَأَنَّ الْخَصْمَ قَالَ لَهُ: لَا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ دُونَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ، إِذْ لَا نِعْمَةَ لِلْأَصْنَامِ عَلَيْهِمْ فَتُحْمَدُ عَلَيْهَا، إِنَّمَا الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْخَالِقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَالظَّاهِرُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَانَ لَهُ الْحَقُّ وَرَجَعَ إِلَيْهِ، أَوْ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ أَيْ: بَلْ هُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَمُتَعَلِّقُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ، إِمَّا لِأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ الْعِلْمِ عَنِ الْأَكْثَرِ وَلَمْ يُلْحَظْ مُتَعَلِّقُهُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَحْذُوفٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي سَبَبُهَا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَيْ قِصَّةَ رَجُلَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مَثَلٌ ثَانٍ ضَرَبَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَا يُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ وَيَشْمَلُهُمْ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَأَلْطَافِهِ وَنِعَمِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ أَمْوَاتٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. وَالْأَبْكَمُ الَّذِي وُلِدَ أخرس لَا يُفْهَمُ وَلَا يَفْهَمُ. وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْ: ثَقِيلٌ، وَعِيَالٌ عَلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ وَيَعُولُهُ. أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ: حَيْثُمَا يُرْسِلْهُ وَيَصْرِفْهُ فِي مَطْلَبِ حَاجَةٍ أَوْ كِفَايَةٍ مُهِمٍّ لَمْ يَنْفَعْ وَلَمْ يَأْتِ بِنُجْحٍ. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ، وَمَنْ هُوَ سَلِيمُ الْحَوَاسِّ نَفَّاعٌ ذُو كِفَايَاتٍ مَعَ رُشْدٍ وَدِيَانَةٍ، فَهُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ عَلَى سِيرَةٍ صَالِحَةٍ، وَدِينٍ قَوِيمٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ مَثَلٌ

لِلْكَافِرِ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مثل لله تعالى، والأصنام فهي الأبكم الَّذِي لَا نُطْقَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مَنْ وَالَاهُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ، كَمَا الْأَصْنَامُ تَحْتَاجُ أَنْ تُنْقَلَ وَتُخْدَمَ وَيُتَعَذَّبَ بِهَا، ثُمَّ لَا يَأْتِي مِنْ جِهَتِهَا خَيْرٌ أَلْبَتَّةَ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا وَغَيْرِهِ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَثَنِ، فَالْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ الْوَثَنُ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: مَثَلًا رَجُلَيْنِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَدِيلَ الأبكم الموصوف بتلك الصفات، وَمُقَابِلُهُ رَجُلٌ مَوْصُوفٌ بِمَا يُقَابِلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ النُّطْقِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْمُقَابِلَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قِيلَ: هَلْ يَسْتَوِي ذَلِكَ الْأَبْكَمُ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهَذَا النَّاطِقُ: فَفِي ذِكْرِ اسْتِوَائِهِمَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى حَذْفِ الْمُقَابِلِ. وَلَمَّا كَانَ الْبُكْمُ هُوَ الْمُبْدَأُ بِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَعَنْهُ تَكُونُ الْأَوْصَافُ الَّتِي بَعْدَهُ قَابِلَةً فِي الِاسْتِوَاءِ بِالنُّطْقِ، وَثَمَرَتُهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ غَيْرُهُ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، فَحَيْثُمَا تَوَجَّهَ صَدَرَ مِنْهُ الخبر وَنَفَعَ، وَلَيْسَ بِكَالٍّ عَلَى أَحَدٍ. وَقَدْ تَقَرَّرُ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْأَبْكَمَ الْعَاجِزَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْعَقْلِ وَالشَّرَفِ لِلنَّاطِقِ الْقَادِرِ الْكَامِلِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلِأَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْجَمَادَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي العبودية أَحْرَى وَأَوْلَى. وَكَمَا قُلْنَا فِي الْمَثَلِ السَّابِقِ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ الْمَضْرُوبِ بِهِمَا الْمَثَلُ، فَكَذَلِكَ هُنَا، فَتَعْيِينُ الْأَبْكَمِ بِأَبِي جَهْلٍ، وَالْآمِرُ بِالْعَدْلِ: بِعَمَّارٍ، أَوْ بِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، أَوْ بِهَاشِمِ بن عمرو بن الحرث كَانَ يُعَادِي الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلْقَمَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ يُوَجِّهُ بِهَاءٍ وَاحِدَةٍ سَاكِنَةٍ مَبْنِيًّا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَوْلَاهُ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى الْأَبْكَمِ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ لَازِمًا وَجَّهَ بِمَعْنَى تَوَجَّهَ، كَانَ الْمَعْنَى: أَيْنَمَا يَتَوَجَّهْ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا: تُوَجِّهْهُ بِهَاءَيْنِ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ وَالْهَاءَيْنِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ وَابْنِ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةَ، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ، وَطَلْحَةَ: يُوَجِّهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهَاءٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّ الْهَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ مَحْذُوفَةٌ فِرَارًا مِنَ التَّضْعِيفِ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ بِهِ صَعْبٌ مَعَ التَّضْعِيفِ، أَوْ لَمْ يُرَدْ بِهِ الشَّرْطُ، بَلْ أَمَرَ هُوَ بِتَقْدِيرِ أَيْنَمَا هُوَ يُوَجِّهُ، وَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ بِهِ، فَيَكُونُ حَذْفُ الْيَاءِ مِنْ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ عَلَى التَّخْفِيفِ نَحْوَ: يَوْمَ يَأْتِ. وإذا يَسْرِ انْتَهَى. وَلَا يَخْرُجُ أَيْنَ عَنِ الشَّرْطِ أَوْ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ الْجَزْمَ لَازِمٌ انْتَهَى. وَالَّذِي تُوَجَّهُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ إِنْ صَحَّتْ أَنَّ أَيْنَمَا شَرْطٌ

حُمِلَتْ عَلَى إِذَا لِجَامِعٍ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الشَّرْطِيَّةِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ لَا يَأْتِ تَخْفِيفًا، أَوْ جَزْمُهُ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّهُ نُطِقَ بِأَيْنَمَا الْمُهْمَلَةِ مُعْمِلَةً لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَيَكُونُ مَعْنَى يُوَجَّهْ يَتَوَجَّهْ، فَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ لَا مُتَعَدٍّ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَهُ غيب السموات وَالْأَرْضِ، وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ وَخَفِيَ فِيهِمَا عَنْهُمْ عِلْمُهُ. وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ «1» أَخْبَرَ باستئثاره بعلم غيب السموات وَالْأَرْضِ، بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالسَّاعَةِ الَّتِي تُنْكِرُونَهَا فِي لَمْحَةِ الْبَصَرِ أَوْ أَقْرَبَ، وَالْمَعْنَى بِهَذَا الْإِخْبَارِ: أَنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مُنْتَفٍ عَنْهَا هَذَانِ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ لِلْإِلَهِ وَهُمَا: الْعِلْمُ الْمُحِيطُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَالْقُدْرَةُ الْبَالِغَةُ التَّامَّةُ. وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ذَكَرَ ارْتِبَاطَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا بِأَنَّ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. قِيلَ: وَالْغَيْبُ هُنَا مَا لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَلَا يُفْهَمُ بِالْعَقْلِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَا غَابَ عَنِ الْخَلْقِ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «2» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو أراد بغيب السموات وَالْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ غَائِبٌ عَنْ أهل السموات وَالْأَرْضِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. قِيلَ: لَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ آتِيَةً وَلَا بُدَّ، جُعِلَتْ مِنَ الْقُرْبِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ سُرْعَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَيْ: يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ. وَقِيلَ: هَذَا تَمْثِيلٌ لِلْقُرْبِ كَمَا تَقُولُ: مَا السَّنَةُ إِلَّا لَحْظَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ تَرَاخَى، كَمَا يَقُولُونَ أَنْتُمْ في الشيء التي تَسْتَقْرِبُونَهُ: كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِذَا بَالَغْتُمْ فِي اسْتِقْرَابِهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «3» ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ «4» وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «5» أَيْ هُوَ عِنْدَهُ دَانٍ، وَهُوَ عِنْدُكُمْ بَعِيدٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ إِقَامَةَ السَّاعَةِ وَإِمَاتَةَ الْأَحْيَاءِ، وَإِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، يَكُونُ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ أَوْحَاهُ. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُقِيمَ السَّاعَةَ، وَيَبْعَثَ الْخَلْقَ، لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمَقْدُورَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَمَا تَكُونُ السَّاعَةُ وَإِقَامَتُهَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَهَا: كُنْ فَلَوِ اتَّفَقَ أَنْ يَقِفَ عَلَى ذَلِكَ شَخْصٌ مِنَ الْبَشَرِ لَكَانَتْ مِنَ السرعة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 216. (2) سورة لقمان: 31/ 34. (3) سورة الحج: 22/ 47. (4) سورة الحج: 22/ 47. (5) سورة الحج: 22/ 47.

بِحَيْثُ يَشُكُّ هَلْ هِيَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ؟ أَوْ هِيَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَأَوْ عَلَى هَذَا عَلَى بَابِهَا فِي الشَّكِّ. وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّخْيِيرِ انْتَهَى. وَالشَّكُّ وَالتَّخْيِيرُ بَعِيدَانِ، لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن أَمْرِ السَّاعَةِ، فَالشَّكُّ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَحْظُورَاتِ كَقَوْلِهِمْ: خُذْ مِنْ مَالِي دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا، أَوْ فِي التَّكْلِيفَاتِ كَآيَةِ الْكَفَّارَاتِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ «1» وَأَوْ هُنَا لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «2» وَقَوْلِهِ: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً «3» وَهُوَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ عَدَدَهُمْ، وَمَتَى يَأْتِيهَا أَمْرُهُ، كَمَا عَلِمَ أَمْرَ السَّاعَةِ، لَكِنَّهُ أُبْهِمَ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَكَوْنُ أَوْ هُنَا لِلْإِبْهَامِ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ هُنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ إِقَامَةَ السَّاعَةِ لَيْسَتْ حَالَ تَكْلِيفٍ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا فِي زَمَانٍ يَعْنِي الْقَاضِيَ فَيَكُونُ الإبهام على المخاطب في ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَيْسَ زَمَانَ تَكْلِيفٍ. وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْإِبْهَامَ وَقَعَ وَقْتَ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى أَمْرِ السَّاعَةِ، لَا وَقْتَ الْإِتْيَانِ بِهَا. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ اتِّحَادُ زَمَانِ الْإِخْبَارِ وَزَمَانِ وُقُوعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَلَا تَرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «4» كيف تأمر زَمَانُ الْإِخْبَارِ عَنْ زَمَانِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ، وَوُجُودِهِمْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمْحُ الْبَصَرِ انْتِقَالُ الْجِسْمِ بِالطَّرْفِ مِنْ أَعْلَى الْحَدَقَةِ، وَهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ كَثِيرَةٌ، وَالزَّمَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ للمح مُرَكَّبٌ مِنْ آنَاءٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْآنَاءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ «5» وَلَمَّا كَانَ أَسْرَعُ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ فِي عُقُولِنَا هُوَ لَمْحُ الْبَصَرِ ذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ تَنْبِيهًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ طَرِيقَةَ الشَّكِّ، وَالْمُرَادُ بَلْ هُوَ أَقْرَبُ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِضْرَابَ عَلَى قِسْمَيْنِ كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ هُنَا. أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَأَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِلْإِسْنَادِ السَّابِقِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ هُنَا، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى إِسْنَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ السَّابِقِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ هُنَا لِلتَّنَافِي الَّذِي بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِكَوْنِهِ مِثْلَ لَمْحِ الْبَصَرِ فِي السُّرْعَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِالْأَقْرَبِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا معا. وقال

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 2. (2) سورة الصافات: 37/ 147. (3) سورة يونس: 10/ 24. (4) سورة الصافات: 37/ 147. (5) سورة النحل: 16/ 77.

صَاحِبُ الْغَنِيَّانِ: وَهَذَا وَإِنْ كان يعتبر إِدْرَاكُهُ حَقِيقَةً، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمُبَالَغَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ وَأَرْبَابِ النَّظْمِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْأَبْلَهِ الشَّاعِرِ فِي الْمَعْنَى: قَالَ لَهُ الْبَرْقُ وَقَالَتْ لَهُ الرِّيحُ ... جَمِيعًا وَهُمَا مَا هُمَا أَأَنْتَ تَجْرِي مَعَنَا قَالَ إِنْ ... نَشِطْتُ أَضْحَكْتُكُمَا مِنْكُمَا أَنَا ارْتِدَادُ الطَّرْفِ قَدْ فُتُّهُ ... إِلَى الْمَدَى سَبْقًا فَمَنْ أَنْتُمَا وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَتَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ، ذَكَرَ تَعَالَى النَّشْأَةَ الْأُولَى وَهِيَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ غَيْرَ عَالِمِينَ شَيْئًا، تَنْبِيهًا عَلَى وُقُوعِ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِ الْحَوَاسِّ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَالْعِلْمِ، وَلَمَّا كَانَتِ النَّشْأَةُ الْأُولَى، وَجَعَلَ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ لَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أُمَّهَاتِ فِي النِّسَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْمِيمِ هُنَا وَفِي النُّورِ، وَالزُّمَرِ، وَالنَّجْمِ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِنَّ، وَالْأَعْمَشُ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى بِحَذْفِهَا وَفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَذْفُ الْهَمْزَةِ رديء، وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ أُبَيٍّ أَصْوَبُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَتْ أَصْوَبَ لِأَنَّ كَسْرَ الْمِيمِ إِنَّمَا هُوَ لِإِتْبَاعِهَا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَحْذُوفَةً زَالَ الْإِتْبَاعُ، بِخِلَافِ قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ أَقَرَّ الْمِيمَ عَلَى حركتها. ولا تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: غَيْرُ عَالِمِينَ. وَقَالُوا: لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ، أَوْ شَيْئًا مِمَّا قَضَى عَلَيْكُمْ مِنَ السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ، أَوْ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِكُمْ. وَالْأَوْلَى عُمُومُ لَفْظِ شَيْءٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَقَالَ وَهْبٌ: يُولَدُ الْمَوْلُودُ حَذِرًا إِلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يُدْرِكُ رَاحَةً وَلَا أَلَمًا. وَيَحْتَمِلُ وَجَعَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَخْرَجَكُمْ، فَيَكُونُ وَاحِدًا فِي حَيِّزِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ كَاسْتِئْنَافِهَا. وَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ إِحْسَاسُهَا وَإِدْرَاكُهَا، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّمَا جَمَعَ الْفُؤَادَ جَمْعَ قِلَّةٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مَشْغُولُونَ بِالْأَفْعَالِ الْبَهِيمِيَّةِ، فَكَانَ فُؤَادُهُمْ لَيْسَ بِفُؤَادٍ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي جَمْعِهِ جَمْعَ الْقِلَّةِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهُوَ قَوْلٌ هَذَيَانِيٌّ، وَلَوْلَا جَلَالَةُ قَائِلِهِ وَتَسْطِيرُهُ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّهُ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ الَّتِي جَرَتْ مَجْرَى

جُمُوعِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي السَّمَاعِ غَيْرُهَا كَمَا جَاءَ: شُسُوعٌ فِي جَمْعِ شِسْعٍ لَا غَيْرُ، فَجَرَى ذَلِكَ الْمَجْرَى انْتَهَى. إِلَّا أَنَّ دَعْوَى الزمخشري أنه لم يجىء فِي جَمْعِ شِسْعٍ إِلَّا شسع لَا غَيْرُ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ جَاءَ فِيهِ جَمْعُ الْقِلَّةِ قَالُوا: أَشْسَاعٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: غُلِّبَ شُسُوعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ هُرْمُزَ: أَلَمْ تَرَوْا بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ، وَعَاصِمٍ، وَأَبِي عَمْرٍو. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَدَارِكَ الْعِلْمِ الثَّلَاثَةَ: السَّمْعَ، وَالنَّظَرَ، وَالْعَقْلَ، وَالْأَوَّلَانِ مَدْرِكُ الْمَحْسُوسِ، وَالثَّالِثُ مَدْرِكُ الْمَعْقُولِ، اكْتَفَى مِنْ ذِكْرِ مُدْرِكِ الْمَحْسُوسِ بِذِكْرِ النَّظَرِ، فَإِنَّهُ أَغْرَبُ لِمَا يُشَاهَدُ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بُعْدِهَا الْمُتَفَاوِتِ، كَمُشَاهَدَتِهِ النَّيِّرَاتِ الَّتِي فِي الْأَفْلَاكِ. وَجَعَلَ هُنَا مَوْضِعَ الِاعْتِبَارِ وَالتَّعَجُّبِ الْحَيَوَانَ الطَّائِرَ، فَإِنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ مَعَ ثِقَلِ جِسْمِهِ مِمَّا يُعْجَبُ مِنْهُ وَيُعْتَبَرُ بِهِ. وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَيْضًا ذِكْرَ مُدْرِكِ الْعَقْلِ فِي كَوْنِهِ لَا يَسْقُطُ، إِذْ لَيْسَ تَحْتَهُ مَا يُدَعِّمُهُ، وَلَا فَوْقَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَهُ مُمْسِكَ قَادِرٌ عَلَى إِمْسَاكِهِ وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ «1» فَانْتَظَمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مُدْرِكِ الْحِسِّ وَمَدْرَكِ الْعَقْلِ. وَمَعْنَى مُسَخَّرَاتٍ: مُذَلَّلَاتٌ، وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ لَهُ مُسَخِّرًا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الطَّائِرَ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُهُ الطَّيَرَانُ، أَعْطَاهُ جَنَاحًا يَبْسُطُهُ مَرَّةً، وَيُكِنُّهُ أُخْرَى مِثْلَ مَا يَعْمَلُ السَّابِحُ فِي الْمَاءِ، وَخَلَقَ الْجَوَّ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُ الطَّيَرَانُ خَلَقَهُ خِلْقَةً لَطِيفَةً، يَسْهُلُ بِسَبَبِهَا خَرْقُهُ وَالنَّفَاذُ فِيهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ الطَّيَرَانُ مُمْكِنًا انْتَهَى. وَكَلَامُهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي قَالَ: إِنَّمَا أَضَافَ الْإِمْسَاكَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْآلَاتِ لِأَجْلِهَا تَمَكَّنَ الطَّائِرُ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَلَمَّا كَانَ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ صَحَّتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ انْتَهَى. وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطِيرَ وَلَوْ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ جَنَاحٌ، وَأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ خَرْقُ الشَّيْءِ الْكَثِيفِ وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُمْسِكَ لَهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، فَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا الْجَنَاحُ وَلُطْفُ الْجَوِّ مَا أَمْكَنَ الطَّيَرَانُ، وَلَا لَوْلَا الْآلَاتُ مَا أَمْكَنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يُوَافِقُ كَلَامَهُمَا قَالَ: مُسَخَّرَاتٌ، مُذَلَّلَاتٌ لِلطَّيَرَانِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنَ الْأَجْنِحَةِ، وَالْأَسْبَابِ الْمُوَاتِيَةِ لِذَلِكَ. ثُمَّ أَحْسَنَ أَخِيرًا فِي قَوْلِهِ: مَا يمسكهن في قبضهن

_ (1) سورة الملك: 67/ 19.

وَبَسْطِهِنَّ وَوُقُوفِهِنَّ إِلَّا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ انْتَهَى. لَآيَاتٍ: جَمَعَ وَلَمْ يُفْرِدْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ خِفَّةُ الطَّائِرِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِيهِ لِأَنْ يَرْتَفِعَ بِهَا، وَثِقْلُهُ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ لِأَنْ يَنْزِلَ، وَالْفَضَاءُ الَّذِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَقَالَ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالِاعْتِبَارِ، وَلِتَضَمُّنِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسَخِّرَ وَالْمُمْسِكَ لَهَا هُوَ اللَّهُ، فَهُوَ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى مَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِهِمْ، وَمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْ دَوَابِّهِمْ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا، مِنَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَالْأَخْشَابِ وَغَيْرِهَا. وَالسَّكَنُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْقَنْصِ، وَالنَّقْصِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: جَاءَ الشِّتَاءُ وَلَمَّا أَتَّخِذْ سَكَنًا ... يَا وَيْحَ نَفْسِيَ مِنْ حَفْرِ الْقَرَامِيصِ وَلَيْسَ السَّكَنُ بِمَصْدَرٍ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا مَا غَالَبَ الْبُيُوتِ عَلَيْهِ مِنْ كونها لا تنقل، بَلْ يَنْتَقِلُ النَّاسُ إِلَيْهَا. ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْمُتَّخَذِ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ مَا يَنْتَقِلُ مِنَ الْقِبَابِ وَالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ الَّتِي مِنَ الْأَدَمِ، أَوْ ذَكَرَ أَوَّلًا الْبُيُوتَ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ، ثُمَّ ذَكَرَ بُيُوتَ الْجُلُودِ خُصُوصًا تَنْبِيهًا عَلَى حَالِ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ لِانْتِجَاعِهِمْ إِنَّمَا بُيُوتُهُمْ مِنَ الْجُلُودِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتُ الشَّعَرِ، وَبُيُوتُ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: تَنْدَرِجُ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيهَا، فَهِيَ مِنْهَا. وَمَعْنَى تَسْتَخِفُّونَهَا: تَجِدُونَهَا خَفِيفَةَ الْمَحْمَلِ فِي الضَّرْبِ وَالنَّقْضِ وَالنَّقْلِ. يَوْمَ ظَعْنِكُمْ: يَوْمَ تَرْحَلُونَ خَفَّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا وَنَقْلُهَا، وَيَوْمَ تَنْزِلُونَ وَتُقِيمُونَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَثْقُلْ عَلَيْكُمْ ضَرْبُهَا. وَقَدْ يُرَادُ بِالِاسْتِخْفَافِ فِي وَقْتَيِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَيْ: مُدَّةَ النُّجْعَةِ وَالْإِقَامَةِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: ظَعَنِكِمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِسُكُونِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَلَيْسَ السُّكُونُ بِتَخْفِيفٍ كَمَا جَاءَ فِي نَحْوِ الشَّعَرُ وَالشَّعْرُ لِمَكَانِ حَرْفِ الْحَلْقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَثَاثًا مَفْعُولٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا. وَقِيلَ: أَثَاثًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عَلَى

أَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا بُيُوتًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ، كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ مِنَ الْمَاءِ شَرَابًا وَمِنَ اللَّبَنِ، وَفِي التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَدْ عَطَفَ مَجْرُورًا عَلَى مَجْرُورٍ، وَمَنْصُوبًا عَلَى مَنْصُوبٍ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ فِي الدَّارِ زَيْدًا وَفِي الْقَصْرِ عَمْرًا، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ بِلَادُهُمْ بِلَادَ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ وَحَرِيرٍ اقْتُصِرَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُنَا، وَانْدَرَجَتْ فِي قَوْلِهِ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ أَيْ: يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزِّينَةُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الْمَتْجَرُ وَالْمَعَاشُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْأَثَاثُ وَالْمَتَاعُ وَاحِدٌ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا. وَغَيَّا تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِلَى حِينٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَى الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى بِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَقِيلَ: إِلَى انْقِضَاءِ حَاجَتِكُمْ مِنْهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ غَالِبًا عَلَيْهَا الْحَرُّ، ذَكَرَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقِيهِمُ الْحَرَّ مِنْ خَلْقِ الْأَجْرَامِ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ كَالشَّجَرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ أَذَى الشَّمْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ظِلَالُ الْغَمَامِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: ظِلَالُ الْبُيُوتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالزَّجَّاجُ: ظِلَالُ الشَّجَرِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ظِلَالُ الشَّجَرِ وَالْجِبَالِ وَالْأَكْنَانُ مِنَ الْجِبَالِ هِيَ الْغِيرَانُ، وَالْكُهُوفُ، وَالْبُيُوتُ الْمَنْحُوتَةُ مِنْهَا. وَالسِّرْبَالُ مَا لُبِسَ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ: قَمِيصٍ، وَقَرْقَلٍ، وَمِجْوَلٍ، وَدِرْعٍ، وَجَوْشَنٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صُوفٍ وَكَتَّانٍ وَقُطْنِ وَغَيْرِهَا. وَاقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ الْحَرِّ إِمَّا لِأَنَّ مَا يَقِي الْحَرَّ يَقِي الْبَرْدَ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ حَذَفَ الْبَرْدَ لِدَلَالَةِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَمَسُّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْبَرَدُ فِيهَا مَعْدُومٌ فِي الْأَكْثَرِ. وَإِذَا جَاءَ تَوَقَّى بِالْأَثَاثِ فَيَخْلُصُ السِّرْبَالُ لِتَوَقِّي الْحَرِّ فَقَطْ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. وَهَذَا فِي بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ فَيُوجَدُ فِيهَا الْبَرْدُ الشَّدِيدُ كَمَا قَالَ مُتَمِّمٌ: إِذَا الْقَشْعُ مِنْ بَرْدِ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا وَقَالَ آخَرُ: فِي ليلةٍ من جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةِ وَالسَّرَابِيلُ الَّتِي تَقِي النَّاسَ هِيَ الدُّرُوعُ. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: شُمُّ الْعِرَانَيْنِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ وَالسِّرْبَالُ عَامٌّ، يَقَعُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ وَغَيْرِهِ. وَالْبَأْسُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الشِّدَّةُ، وَهُنَا الْحَرْبُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كُنَّا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَالْمَعْنَى: تَقِيكُمْ أَذَى

الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يَعْرِضُ فِيهَا مِنَ الْجِرَاحِ النَّاشِئَةِ مِنْ ضَرْبِ السَّيْفِ، وَالدَّبُّوسِ، وَالرُّمْحِ، وَالسَّهْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ لِلْحَدِيثِ. كَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ لِلنِّعْمَةِ فِيمَا سَبَقَ، يُتِمُّ نِعْمَتَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتِمُّ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ نِعْمَتُهُ بِالرَّفْعِ، أَسْنَدَ التَّمَامَ إِلَيْهَا اتِّسَاعًا، وَعَنْهُ نِعَمُهُ جَمْعًا. وَقَرَأَ: لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَاللَّامِ مِنَ السَّلَامَةِ وَالْخَلَاصِ، فَكَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِوِقَايَةِ السَّرَابِيلِ مِنْ أَذَى الْحَرْبِ، أَوْ تُسْلِمُونَ مِنَ الشِّرْكِ. وَأَمَّا تُسْلِمُونَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: تُؤْمِنُونَ، أَوْ تَنْقَادُونَ إِلَى النَّظَرِ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مُفْضٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِانْقِيَادِ. رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ فَقَالَ: عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَلَمَّا سَمِعَ: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا فَلَا، فَنَزَلَتْ. فَإِنْ تَوَلَّوْا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَيْ: فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا أَيْ: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، وَحُذِفَتِ التَّاءُ، وَيَكُونُ جَارِيًا عَلَى الْخِطَابِ السَّابِقِ وَالْمَاضِي عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَالْفَاءُ وَمَا بَعْدَهَا جَوَابُ الشَّرْطِ صُورَةً، وَالْجَوَابُ حَقِيقَةً مَحْذُوفٌ أَيْ: فَأَنْتَ مَعْذُورٌ إِذْ أَدَّيْتَ مَا وَجَبَ عَلَيْكَ، فَأُقِيمَ سَبَبُ الْعُذْرِ وَهُوَ الْبَلَاغُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى إِنْ أَعْرَضُوا فَلَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَى حَقِّ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبَيِّنَ وَتُبَلِّغَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ انْتَهَى. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، وَعِرْفَانُهُمْ لِلنِّعَمِ الَّتِي عُدَّتْ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَعْتَرِفُونَ بِهَا، وَأَنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى، وَإِنْكَارُهُمْ لَهَا حَيْثُ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ لَمْ يُرَتِّبُوا عَلَى مَعْرِفَةِ نِعَمِهِ تَعَالَى مُقْتَضَاهَا مِنْ عِبَادَتِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ، قَالَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مُجَاهِدٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: النِّعْمَةُ هَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: يَعْرِفُونَ بِمُعْجِزَاتِهِ وَآيَاتِ نُبُوَّتِهِ، وَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ بِالتَّكْذِيبِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: إِنْكَارُهُمْ قَوْلَهُمْ وَرِثْنَاهَا مِنْ آبَائِنَا. وَعَنِ ابْنِ عَوْنٍ: إِضَافَتُهَا إِلَى الْأَسْبَابِ لَا إِلَى مُسَبِّبِهَا، وَحَكَى صَاحِبُ الْغَنِيَّان: يَعْرِفُونَهَا فِي الشِّدَّةِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا فِي الرَّخَاءِ. وَقِيلَ: إِنْكَارُهُمْ هِيَ بِشَفَاعَةِ آلِهَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَعْرِفُونَهَا بِقُلُوبِهِمْ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وَأَكْثَرُهُمْ مَوْضُوعُهُ الْأَصْلِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَكُلُّهُمْ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَقُومُ بِوَاجِبِ حَقِّ الشُّكْرِ، فَجَعَلَهُ من كفران النعمة. وظاهر أَنَّ الْكُفْرَ هُنَا هُوَ مُقَابِلُ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ أَهْلِ مَكَّةَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَى. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَافِرُونَ الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يَعْرِفْ فَيُعَانِدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى ثُمَّ؟

(قُلْتُ) : الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُمْ مُسْتَبْعَدٌ بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ حَقَّ مَنْ عَرَفَ النِّعْمَةَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَا أَنْ يُنْكِرَ. وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ: لَمَّا ذَكَرَ إِنْكَارَهُمْ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ فِيهِ الْإِنْكَارُ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ لَهُمْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ قَالَهُ: الْحَوْفِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَوْمَ نَبْعَثُ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ظَرْفٍ مَحْذُوفٍ الْعَامِلُ فِيهِ: ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، أَيْ يُنْكِرُونَهَا الْيَوْمَ. وَيَوْمَ نَبْعَثُ أَيْ: يُنْكِرُونَ كُفْرَهُمْ، فَيُكَذِّبُهُمُ الشَّهِيدُ، وَالشَّهِيدُ نَبِيُّ تِلْكَ الْأُمَّةِ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَبِكُفْرِهِمْ، وَمُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ مَحْذُوفٌ. فَقِيلَ: فِي الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ وَالِاعْتِذَارِ كَمَا قَالَ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ «1» فَيَعْتَذِرُونَ أَيْ بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْبِيَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَقَبْلَ ذَلِكَ تُجَادِلُ كُلُّ أُمَّةٍ عَنْ نَفْسِهِ. وَجَاءَ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا مَوَاطِنُ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِهَا وَلَا يَنْطِقُونَ فِي بَعْضِهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أَيْ: مُزَالٌ عَنْهُمُ الْعَتَبُ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَا يَسْأَلُونَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا اسْتِعْتَابٌ مَعْنَاهُ طَلَبُ عُتْبَاهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: وَلَا هُمْ يُسْتَرْضَوْنَ أَيْ: لَا يُقَالُ لَهُمُ ارْضُوا رَبَّكُمْ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ يُعْطَوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَقَعُ مِنْهُمْ تَوْبَةٌ وَعَمَلٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى ثُمَّ هَذِهِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ يُمْنَوْنَ بَعْدَ شَهَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا هُوَ أَطَمُّ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ الْكَلَامَ فَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي إِلْقَاءِ مَعْذِرَةٍ، وَلَا إِدْلَاءٍ بِحُجَّةٍ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتْ حَالَةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا مُخَالِفَةً لِحَالِ الْآخِرَةِ إِذْ مَنْ رَأَى الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا رَجَا أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ، وَإِنْ وَقْعَ فِيهِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أن عذاب

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 35- 36.

الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ فِيهِ تَخْفِيفٌ وَلَا نَظِرَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ إِذَا قَوْلُهُ فَلَا يُخَفَّفُ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ أَيْ: فَهُوَ لَا يُخَفَّفُ، لِأَنَّهُ لَوْلَا تَقْدِيرُ الْإِضْمَارِ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ، لِأَنَّ جَوَابَ إِذَا إِذَا كَانَ مُضَارِعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى دُخُولِ الْفَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوجَبًا أَمْ مَنْفِيًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ «1» وَتَقُولُ: إِذَا جَاءَ زَيْدٌ لَا يَجِيءُ عَمْرٌو. قَالَ الْحَوْفِيُّ: فَلَا يُخَفَّفُ جَوَابُ إِذَا، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فَاءَ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ أَمَّا لَا تَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَبَيَّنَا أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذَا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا كَسَائِرِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَوَابَ إِذَا مَحْذُوفًا فَقَالَ: وَقَدْ قُدِّرَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ نَبْعَثُ مَجْزُومًا قَالَ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَكَذَلِكَ وَإِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ بَغَتَهُمْ وَثَقُلَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُخَفَّفُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ كَقَوْلِهِ: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً «2» فَتَبْهَتُهُمْ الْآيَةَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: شُرَكَاءَهُمْ، عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ اتَّخَذُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ مِنْ صَنَمٍ وَوَثَنٍ وَآدَمِيٍّ وَشَيْطَانٍ وَمَلَكٍ، فَيُكَذِّبُهُمْ مَنْ لَهُ مِنْهُمْ عَقْلٌ، فَيَكُونُ: فَأَلْقَوْا عَائِدًا عَلَى مَنْ لَهُ الْكَلَامُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا يُنْطِقُ اللَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ. وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِكَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شُرَكَاؤُهُمْ الشَّيَاطِينُ، شَرَكُوهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «3» ، وَقِيلَ: شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَنِ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ وَعَبَدُوهُمْ، أَوْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَنْ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى جَوَارِحِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْإِشْرَاكَ بِقَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «4» أَصْمَتَ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ وَأَنْطَقَ جَوَارِحَهُمْ. ومعنى: تدعو، ونعبد قَالُوا ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يُشْرَكُوا مَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ، إِذْ يَحْصُلُ التَّأَسِّي، أَوِ اعْتِذَارًا عَنْ كُفْرِهِمْ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ هُمُ الشَّيَاطِينَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ. قَالُوا: ذَلِكَ إِحَالَةُ هَذَا الذَّنْبِ عَلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ عذابهم، فعند ذلك تكذيبهم تِلْكَ الْأَصْنَامَ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْعَذَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ، وَلَا نُصْرَةَ، وَلَا فِدْيَةَ، وَلَا شَفَاعَةَ. وَتَقَدَّمُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ، وَالْإِخْبَارُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ: أَيْ يَعْبُدُونَهُمْ، فَاحْتَمَلَ التَّكْذِيبُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا لِلْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ أي: لسنا شركاء

_ (1) سورة الحج: 22/ 72. (2) سورة الأنبياء: 21/ 40. [.....] (3) سورة الإسراء: 17/ 64. (4) سورة الأنعام: 6/ 23.

لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا آلِهَةً نَزَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْإِخْبَارِ الثَّانِي وَهُوَ الْعِبَادَةُ، لَمَّا لَمْ يَكُونُوا رَاضِينَ بِالْعِبَادَةِ جَعَلُوا عِبَادَتَهُمْ كَلَا عِبَادَةٍ، أَوْ لَمَّا لَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْعِبَادَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ لَا شُعُورَ لَهَا بِالْعِبَادَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْعُوَ وَإِنَّ مَنْ عُبِدَ مِنْ صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةِ، لَمْ يَدْعُ إِلَى عِبَادَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ الشَّيَاطِينَ جَازَ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِي إِخْبَارِهِمْ بِكَذِبِ مَنْ عَبَدَهُمْ، كَمَا كَذَبَ إِبْلِيسُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «1» وَالضَّمِيرُ فِي فَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَالسَّلَمُ: الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِحُكْمِ اللَّهِ بَعْدَ الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِذْ ذَاكَ حِيلَةٌ وَلَا دَفْعٌ. وَرَوَى يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: السَّلْمَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الذين أَشْرَكُوا، وَشُرَكَائِهِمْ كُلِّهِمْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَسْلَمُوا مُنْقَادِينَ لِحُكْمِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَضَلُّوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا خَاصَّةً أَيْ: وَبَطَلَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَأَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُمْ وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ حِينَ كَذَّبُوهُمْ وَتَبَرَّأُوا مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذين مبتدأ وزدناهم الْخَبَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ، بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يفترون. وزدناهم فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ إِخْبَارُهُ. وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: غَيْرَهُمْ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا بِسَبَبِ الصَّدِّ فَوْقَ الْعَذَابِ، أَيِ: الَّذِي تَرَتَّبَ لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ ضَاعَفُوا كُفْرَهُمْ، فَضَاعَفَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ. وَهَذَا الْمَزِيدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَقَارِبُ كَأَمْثَالِ النَّخْلِ الطِّوَالِ، وَعَنْهُ: حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْفِيَلَةِ، وَعَقَارِبُ كَأَمْثَالِ الْبِغَالِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مِنْ صُفْرٍ مُذَابٍ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُعَذَّبُونَ بِهَا، وَعَنِ الزَّجَّاجِ: يَخْرُجُونَ مِنْ حَرِّ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ، فَيُبَادِرُونَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ إِلَى النَّارِ، وَعَلَّلَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِكَوْنِهِمْ مُفْسِدِينَ غَيْرَهُمْ، وَحَامِلِينَ عَلَى الْكُفْرِ. وَفِي كُلِّ أُمَّةٍ فِيهَا مِنْهَا حَذْفٌ فِي السَّابِقِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَثْبَتَهُ هُنَا وَحَذَفَ هُنَاكَ فِي وَأَثْبَتَهُ هُنَا، وَالْمَعْنَى فِي كِلَيْهِمَا: أَنَّهُ يَبْعَثُ اللَّهُ أَنْبِيَاءَ الْأُمَمِ فِيهِمْ مِنْهُمْ، وَالْخِطَابُ فِي ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى أُمَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ شُهَدَاءَ مِنَ الصَّالِحِينَ مَعَ الرُّسُلِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: إِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَانْهَهُ، فَإِنْ أَطَاعَكَ وَإِلَّا كُنْتَ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. وَكَانَ الشَّهِيدُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الْأَصَمُّ أَبُو بَكْرٍ الْمُرَادُ الشَّهِيدُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنْطِقُ عَشَرَةً مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ حَتَّى تَشْهَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قال

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 22.

فِي صِفَةِ الشَّهِيدِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ، فَيَقْتَضِي الْمُقَابَلَةَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ أَنْبِيَاؤُهُمْ كَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَزَّلَنَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، وَلَيْسَ دَاخِلًا مَعَ مَا قَبْلَهُ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ. لَمَّا ذَكَرَ مَا شَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أُمَّتِهِ، ذَكَرَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِمَّا فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، لِيُزِيحَ بِذَلِكَ عِلَّتَهُمْ فِيمَا كُلِّفُوا، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تِبْيَانًا مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى تِفْعَالٍ، وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمَصَادِرِ أَنْ يَجِيءَ عَلَى تَفْعَالٍ بِالْفَتْحِ كَالتَّرْدَادِ وَالتَّطْوَافِ، وَنَظِيرُ تِبْيَانٍ فِي كَسْرِ تَائِهِ تِلْقَاءَ. وَقَدْ جَوَّزَ الزَّجَّاجُ فَتْحَهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تِبْيَانًا اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النُّحَاةِ. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ ولم يجىء عَلَى تِفْعَالٍ مِنَ الْمَصَادِرِ إِلَّا ضَرْبَانِ: تِبْيَانٌ وَتِلْقَاءٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ كَانَ الْقُرْآنُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؟ (قُلْتُ) : الْمَعْنَى أَنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ حَيْثُ كَانَ نَصًّا عَلَى بَعْضِهَا وَإِحَالَةً عَلَى السُّنَّةِ، حَيْثُ أُمِرَ فِيهِ بِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَتِهِ. وَقِيلَ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «1» وَحَثًّا عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي قَوْلُهُ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ اتِّبَاعَ أَصْحَابِهِ، وَالِاقْتِدَاءَ بِآثَارِهِمْ فِي قَوْلِهِ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» وَقَدِ اجْتَهَدُوا، وَقَاسَوْا، وَوَطَّئُوا طُرُقَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ مُسْتَنِدَةً إِلَى تَبْيِينِ الْكِتَابِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِهِ: اهْتَدَيْتُمْ، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَزْمٍ فِي رِسَالَتِهِ فِي إِبْطَالِ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانِ، وَالتَّعْلِيلِ، وَالتَّقْلِيدِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا خَبَرٌ مَكْذُوبٌ مَوْضُوعٌ باطل لم يصح قَطُّ، وَذَكَرَ إِسْنَادَهُ إِلَى البزار صَاحِبِ الْمُسْنَدِ قَالَ: سَأَلْتُمْ عَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا فِي أَيْدِي الْعَامَّةِ تَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ أَصْحَابِي كَمَثَلِ النُّجُومِ أَوْ كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهَا اقْتَدَوُا اهْتَدَوْا. وَهَذَا كَلَامٌ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا أَتَى ضَعْفُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ سَكَتُوا عَنِ الرِّوَايَةِ لِحَدِيثِهِ. وَالْكَلَامُ أَيْضًا مُنْكَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُثْبِتْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبِيحُ الِاخْتِلَافَ بَعْدَهُ مِنْ أصحابه، هذا نص

_ (1) سورة النجم: 53/ 3.

[سورة النحل (16) : الآيات 90 إلى 128]

كَلَامِ الْبَزَّارِ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ كَذَّابٌ خَبِيثٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ مَتْرُوكٌ، رَوَاهُ أَيْضًا حَمْزَةُ الْجَزَرِيُّ، وَحَمْزَةُ هَذَا سَاقِطٌ مَتْرُوكٌ. وَنَصَبُوا تِبْيَانًا عَلَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أجله. وللمسلمين متعلق ببشرى وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ متعلق بهدى ورحمة. [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

النَّقْضُ ضِدُّ الْإِبْرَامِ، وَفِي الْجِرْمِ فَكُّ أَجْزَائِهِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. التَّوْكِيدُ: التَّثْبِيتُ وَيُقَالُ: تَوْكِيدٌ، وَتَأْكِيدٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ. لِأَنَّ التَّصْرِيفَ جَاءَ فِي التَّرْكِيبَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَصْلَانِ. الْغَزْلُ: مَعْرُوفٌ، وَفِعْلُهُ غَزَلَ يَغْزِلُ بِكَسْرِ الزَّايِ غَزْلًا، وَأُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَغْزُولِ. نَفِدَ الشَّيْءُ يَنْفَدُ فَنِيَ. الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ

فِيهِ تَخْتَلِفُونَ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ مِنْهُ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ جَلِيسَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَقْتًا فَقَالَ لَهُ: عُثْمَانُ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ فِعْلَتَكَ الْغَدَاةَ؟ قَالَ: «وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟» قَالَ: شَخَصَ بَصَرُكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِك فَتَحَرَّفْتَ عَنِّي إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي، فَأَخَذْتَ تَنْغُضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفِقْهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ قَالَ: أو فطنت لِذَلِكَ؟ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ قَالَ: فَمَاذَا قَالَ لَكَ: قَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْآيَةَ. قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، فَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر الله تعالى. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَصَلَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكَالِيفَ فَرْضًا وَنَفْلًا وَأَخْلَاقًا وَآدَابًا. وَالْعَدْلُ فِعْلُ كُلِّ مَفْرُوضٍ مِنْ عَقَائِدَ، وَشَرَائِعَ، وَسَيْرٍ مَعَ النَّاسِ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَالْإِنْصَافُ، وَإِعْطَاءُ الْحَقِّ وَالْإِحْسَانُ فِعْلُ كُلِّ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَدْلُ هُوَ الْوَاجِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَدَلَ فِيهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَجَعَلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَاقِعًا تَحْتَ طَاقَتِهِمْ. وَالْإِحْسَانُ النَّدْبُ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ أَمْرُهُ بِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ فَيَجْبُرُهُ النَّدْبُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: تَحْتَ طَاقَتِهِمْ، نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْحَقُّ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ أسوأ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1» وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الْعَدْلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْإِنْصَافُ. وَقِيلَ: خَلْعُ الْأَنْدَادِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَقْوَالِ. وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى: هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْإِحْسَانِ، لَكِنَّهُ نُبِّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَحَضًّا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَالْفَحْشَاءُ: الزِّنَا، أَوْ مَا شُنْعَتُهُ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي. وَفَاعِلُهَا أَبَدًا مُسْتَتِرٌ بِهَا، أَوِ الْقَبِيحُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوِ الْبُخْلُ، أَوْ مُوجَبُ الْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ اللَّهِ أَقْوَالٌ، أَوَّلُهَا لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُنْكَرُ: الشِّرْكُ عَنْ مُقَاتِلٍ، أَوْ مَا وُعِدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ عَنِ ابْنِ السَّائِبِ، أَوْ مُخَالَفَةُ السَّرِيرَةِ لِلْعَلَانِيَةِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أَوْ مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. أَوْ مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ أَقْوَالٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْفَحْشَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِل وَالْبَغْيِ: التَّطَاوُلُ بِالظُّلْمِ وَالسِّعَايَةِ فِيهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُنْكَرِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِاجْتِنَابِهِ. وَجَمَعَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَيْنَ مَا يَجِبُ وَيُنْدَبُ، وَمَا يَحْرُمُ وَيُكْرَهُ، لِاشْتِرَاكِ ذَلِكَ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ الطَّلَبُ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّرْكُ فِي النهي.

_ (1) سورة النساء: 4/ 58.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَمَرَ بِثَلَاثَةٍ، وَنَهَى عَنْ ثَلَاثَةٍ. فَالْعَدْلُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ وَأَعْمَالِ الرُّعَاةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ، فَلَيْسَ تَعْطِيلًا مَحْضًا وَلَا إِثْبَاتَ أَكْثَرَ مِنْ إِلَهٍ. وَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا وَاجِبَ الصِّفَاتِ فَلَيْسَ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ، وَلَا إِثْبَاتَ صِفَةٍ حَادِثَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ. وَكَوْنُ فِعْلِ الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَالدَّاعِيَةُ الَّتِي جَعَلَهَا فِيهِ فَلَيْسَ جَبْرًا مَحْضًا، وَلَا اسْتِقْلَالًا بِالْفِعْلِ. وَكَوْنُهُ تَعَالَى يخرج من النار من دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَلَيْسَ إِرْجَاءً وَلَا تَخْلِيدًا بِالْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا أَعْمَالُ الرُّعَاةِ فَالتَّكَالِيفُ اللَّازِمَةُ لَهُمْ، فَلَيْسَ قَوْلًا بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ، وَلَا قَوْلًا بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَاجْتِنَابِ مَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَيْهِ مِنْ: أَكْلِ الطَّيِّبِ، وَالتَّزَوُّجِ، وَرَمْيِ نَفْسِهِ مِنْ شَاهِقٍ، وَالْقِصَاصِ، أَوِ الدِّيَةِ، أَوِ الْعَفْوِ، فَلَيْسَ تَشْدِيدًا فِي تَعْيِينِ الْقِصَاصِ كَشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا عَفْوًا حَتْمًا كَشَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَجَنُّبِ الْحَائِضِ فِي اجْتِنَابِ وَطْئِهَا فَقَطْ فَلَيْسَ اجْتِنَابًا مُطْلَقًا كَشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا حَلَّ وَطْئِهَا حَالَةَ الْحَيْضِ كَشَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالِاخْتِتَانِ فَلَيْسَ إِبْقَاءً لِلْقُلْفَةِ وَلَا قَطْعًا لِلْآلَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَانَوِيَّةُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا «2» وَلَا تَجْعَلِ الْآيَتَيْنِ. وَمِنَ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُمْ بِالْعَدْلِ: قَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّ مَقَادِيرَ الْعَنَاصِرِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَادِلَةً، وَكَانَ بَعْضُهَا أَزْيَدَ، لَغَلَبَ الِازْدِيَادُ وَانْقَلَبَتِ الطَّبَائِعُ. فَالشَّمْسُ لَوْ قَرُبَتْ مِنَ الْعَالَمِ لَعَظُمَتِ السُّخُونَةُ وَاحْتَرَقَ مَا فِيهِ، وَلَوْ زَادَ بَعْدَهَا لَاسْتَوَى الْحَرُّ وَالْبَرْدُ. وَكَذَا مَقَادِيرُ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَمَرَاتِبُ سُرْعَتِهَا، وَبُطْئِهَا. وَالْإِحْسَانُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الطَّاعَاتِ بِحَسْبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَالدَّوَاعِي، وَالصَّوَارِفِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَمِنَ الْإِحْسَانِ الشَّفَقَةُ عَلَى الْخَلْقِ، وَأَصْلُهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ ثَلَاثَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْدَعَ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ قُوًى أَرْبَعَةً: الشَّهْوَانِيَّةَ وَهِيَ تَحْصِيلُ اللَّذَّاتِ، وَالْغَضَبِيَّةَ وَهِيَ: إِيصَالُ الشَّرِّ، وَوَهْمِيَّةً: وَهِيَ شَيْطَانِيَّةٌ تَسْعَى فِي التَّرَفُّعِ وَالتَّرَاوُسِ عَلَى النَّاسِ. فَالْفَحْشَاءُ مَا نَشَأَ عَنِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَدَبِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُنْكَرُ مَا نَشَأَ عَنِ الْغَضَبِيَّةِ، وَالْبَغْيُ مَا نَشَأَ عَنِ الْوَهْمِيَّةِ انْتَهَى مَا تَخَلَّصَ مِنْ كَلَامِهِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثِ، وَنَهَى عَنْ تِلْكَ الثَّلَاثِ قَالَ: يَعِظُكُمْ بِهِ، أَيْ بِمَا ذُكِرَ تَعَالَى مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَالْمَعْنَى: يُنَبِّهُكُمْ أَحْسَنَ تَنْبِيهٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَتَنَبَّهُونَ لِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَنُهِيتُمْ عَنْهُ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143. (2) سورة الفرقان: 25/ 67.

وَعَقْدُ اللَّهِ عِلْمٌ لِمَا عَقَدَهُ الْإِنْسَانُ وَالْتَزَمَهُ مِمَّا يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1» وَكَأَنَّهُ لَحَظَ مَا قِيلَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ عَنْ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: فِيمَا كَانَ مِنْ تَحَالُفِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْوَفَاءُ لِمَنْ عَاهَدْتَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْجِهَادُ وَمَا فُرِضَ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ حَقٍّ. وَقِيلَ: الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَلَا تَنْقُضُوا الْعُهُودَ الْمُوَثَّقَةَ بِالْأَيْمَانِ، نَهَى عَنْ نَقْضِهَا تَهَمُّمًا بِهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا أَيْ: تَوْثِيقِهَا بِاسْمِ اللَّهِ وَكَفَالَةِ اللَّهِ وَشَهَادَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ، لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُرَاعٍ لِحَالِ الْمَكْفُول بِهِ. وَلَا تَكُونُوا أَيْ: فِي نَقْضِ الْعَهْدِ بَعْدَ تَوْكِيدِهِ بِاللَّهِ كَالْمَرْأَةِ الْوَرْهَاءِ تُبْرِمُ فَتْلَ غَزْلِهَا ثُمَّ تَنْقُضُهُ نَكْثًا، وَهُوَ مَا يُحَلُّ فَتْلُهُ. وَالتَّشْبِيهُ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: هِيَ امْرَأَةٌ حَمْقَاءُ كَانَتْ بِمَكَّةَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: هِيَ مِنْ قُرَيْشٍ خَرْقَاءُ اسْمُهَا رَيْطَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، تُلَقَّبُ بِجَفْرَاءَ، اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَصِنَّارَةً مِثْلَ أُصْبُعٍ، وَفَلْكَةً عَظِيمَةً عَلَى قَدْرِهَا، فَكَانَتْ تَغْزِلُ هِيَ وَجَوَارِيهَا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ فَيَنْقُضْنَ مَا غَزَلْنَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هَذَا فِعْلُ نِسَاءِ أَهْلِ نَجْدٍ، تَنْقُضُ إِحْدَاهُنَّ غَزْلَهَا ثُمَّ تَنْفُشُهُ، وَتَخْلِطُهُ بِالصُّوفِ فَتَغْزِلُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمُرِّيَّةُ، وَلَقَبُهَا الْجَفْرَاءُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَيْ: شِدَّةٍ حَدَثَتْ مِنْ تَرْكِيبِ قُوَى الْغَزْلِ. وَلَوْ قَدَّرْنَاهَا وَاحِدَةَ الْقُوَى لَمْ تَكُنْ تَنْتَقِضُ أَنْكَاثًا. وَالنِّكْثُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْلُ إِذَا انْتَقَضَتْ قُوَاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَنْ بَعْدِ إِمْرَارِ قُوَّةً. وَالدَّخَلُ: الْفَسَادُ وَالدَّغَلُ، جَعَلُوا الْإِيمَانَ ذَرِيعَةً إِلَى الْخِدَعِ وَالْغَدْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ لَهُ مُطَمْئِنٌّ، فَيُمْكِنُ الْحَالِفَ ضَرُّهُ بِمَا يُرِيدُهُ. قَالُوا: نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ كَانُوا إِذَا حَالَفُوا قَبِيلَةً فَجَاءَ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدًا حَالَفُوهُ وَغَدَرُوا بِالَّتِي كَانَتْ أَقَلَّ. وَقِيلَ: أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ أَزْيَدَ خَبَرًا، فَأُسْنِدَ إِلَى أُمَّةٍ، وَالْمُرَادُ الْمُخَاطَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الدَّخَلُ وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ، وَدَخَلًا مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ تَكُونَ أَيْ: بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ وَهِيَ أَرْبَى مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَكُونَ هِيَ عِمَادًا يَعْنُونَ فَضْلًا، فَيَكُونُ أَرْبَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَنْكِيرِ أُمَّةٍ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ أَنْ تَكُونَ أَيْ: بِسَبَبِ كَوْنِ أُمَّةٍ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ يَخْتَبِرُكُمْ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَنْظُرَ أَتَتَمَسَّكُونَ بِحَبْلِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَمَا عَقَّدْتُمْ عَلَى أنفسكم ووكدتم من

_ (1) سورة الفتح: 48/ 10.

أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ تَغْتَرُّونَ بِكَثْرَةِ قُرَيْشٍ وَثَرْوَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَقْرِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ: إِنْذَارٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ السَّائِبِ، وَمُقَاتِلٌ: يَعُودُ عَلَى الْكَثْرَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَمَّا كَانَ تَأْنِيثُهَا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ، كَمَا حُمِلَتِ الصَّيْحَةُ عَلَى الصياح. لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ : هَذِهِ الْمَشِيئَةُ مَشِيئَةُ اخْتِيَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، ابْتَلَى النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَذْهَبَ كُلٌّ إِلَى مَا يُسِّرَ لَهُ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الْمَلِكِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَلَوْ شَاءَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، إِمَّا هُدًى، وَإِمَّا ضَلَالَةٌ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ، فَنَاسٌ لِلسَّعَادَةِ، وَنَاسٌ لِلشَّقَاوَةِ. فَخَلَقَ الْهُدَى وَالضَّلَالَ، وَتَوَعَّدَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَا سُؤَالُ تَفَهُّمٍ، وَسُؤَالُ التَّفَهُّمِ هُوَ الْمَنْفِيُّ فِي آيَاتٍ. وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ مَشِيئَةُ قَهْرٍ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ قَهْرًا، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَخَلَقَكُمْ لِيُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيُثِيبَ مَنْ يَشَاءُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَلَا يَشَاءُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَسْتَحِقَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ شَاءَ خَلَقَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِيُثِيبَ الْمُطِيعِينَ مِنْكُمْ، وَيُعَذِّبَ الْعُصَاةَ. ثُمَّ قَالَ: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي: سُؤَالَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُجَازَاةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي الْآيَةِ الْعِقَابُ، وَلَوْ كَانَ الْإِضْلَالُ عَنِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ حَنِيفَةٌ مُسْلِمَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يُضِلَّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَخْذُلَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَيُصَمِّمَ عَلَيْهِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَنْ يَلْطُفَ بِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْإِيمَانَ، يَعْنِي: أَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اللُّطْفَ وَالْخِذْلَانَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَلَمْ يُنَبَّهْ عَلَى الْإِجْبَارِ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَحَقَّقَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَتُسْأَلُنَّ

عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُضْطَرَّ إِلَى الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ، لَمَا أَثْبَتَ لَهُمْ عَمَلًا يُسْأَلُونَ عَنْهُ انْتَهَى. قَالُوا: كَرَّرَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا تَهَمُّمًا بِذَلِكَ، وَمُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ فِي الدِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَرَدُّدِهِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَأْكِيدًا عليهم، وإظهار العظم مَا يَرْتَكِبُ مِنْهُ انْتَهَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرَّرَ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَهَى فِيهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْحَلِفِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَهُنَا نُهِيَ عَنِ الدَّخَلِ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا اقْتِطَاعُ حُقُوقٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَخَلًا بَيْنَكُمْ لِتَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى قَطْعِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقُولُ: لَمْ يَتَكَرَّرِ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا، وَإِنَّمَا سَبَقَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ دَخَلًا مُعَلَّلًا بِشَيْءٍ خَاصٍّ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ. وَجَاءَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَتَّخِذُوا، اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا عَلَى الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ مِنَ الْحِلْفِ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَقَطْعِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ فَتَزِلَّ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا وَوَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ وَسَقَطَ، لِأَنَّ الْقَدَمَ إِذَا زَلَّتْ تَقَلَّبَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَالِ خَيْرٍ إِلَى حَالِ شَرٍّ. وَقَالَ كُثَيِّرٌ: فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فنزل أَقْدَامُكُمْ عَنْ مَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهَا. (فَإِنْ قلت) : لم وجدت الْقَدَمَ وَنَكَّرْتَ؟ (قُلْتُ) : لِاسْتِعْظَامِ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ وَاحِدَةٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِأَقْدَامٍ كَثِيرَةٍ انْتَهَى؟ وَنَقُولُ: الْجَمْعُ تَارَةً يُلْحَظُ فِيهِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، وَتَارَةً يُلْحَظُ فِيهِ اعْتِبَارُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَإِذَا لُوحِظَ فِيهِ الْمَجْمُوعُ كَانَ الْإِسْنَادُ مُعْتَبَرًا فِيهِ الْجَمْعِيَّةُ، وَإِذَا لُوحِظَ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ كَانَ الْإِسْنَادُ مُطَابِقًا لِلَفْظِ الْجَمْعِ كَثِيرًا، فَيَجْمَعُ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَمُطَابِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيُفْرَدُ كَقَوْلِهِ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «1» أفرد متكأ لِمَا كَانَ لُوحِظَ فِي قَوْلِهِ لَهُنَّ مَعْنًى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ جَاءَ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعِيَّةُ أَوْ عَلَى الْكَثِيرِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِجَمْعِ الْمُتَّكَأِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنِّي وَجَدْتُ الضَّامِرَيْنِ مَتَاعُهُمْ ... يَمُوتُ وَيَفْنَى فَارْضَخِي مِنْ وَعَائِيَا أَيْ: رَأَيْتُ كُلَّ ضَامِرٍ. وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يَمُوتُ وَيَفْنَى. وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُنَا: لَا يَتَّخِذُ كُلُّ واحد منكم، جاء فنزل قَدَمٌ مُرَاعَاةً لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ: وَتَذُوقُوا، مُرَاعَاةً لِلْمَجْمُوعِ، أَوْ لِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَثِيرِ. إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْنَادَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَبِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بإفراد

_ (1) سورة يوسف: 12/ 31.

قَدَمٍ وَبِجَمْعِ الضَّمِيرِ فِي: وتذوقوا. وما مَصْدَرِيَّةٌ فِي بِمَا صَدَدْتُمْ، أَيْ: بِصُدُودِكُمْ أَوْ بِصَدِّكُمْ غَيْرَكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ نَقَضُوا الْأَيْمَانَ وَارْتَدُّوا لَاتُّخِذَ نَقْضُهَا سُنَّةً لِغَيْرِهِمْ فَيُسَبُّونَ بِهَا، وَذَوْقُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا. وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ. وَالسُّوءُ: مَا يَسُوءُهُمْ مِنْ قَتْلٍ، وَنَهْبٍ، وَأَسْرٍ، وَجَلَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بَايَعَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِخُصُوصِهِ، بَلْ نَقْضُ الْأَيْمَانِ فِي الْبَيْعَةِ مُنْدَرِجٌ فِي الْعُمُومِ. وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، هَذَا نَهْيٌ عَنْ نَقْضِ مَا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَبْدِ لِأَخْذِ حُطَامٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ قَوْمٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ لِجَزَعِهِمْ مِمَّا رَأَوْا مِنْ غَلَبَةِ قُرَيْشٍ وَاسْتِضْعَافِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ، وَلَمَّا كَانُوا يَعِدُونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا مِنَ الْمَوَاعِيدِ أَنْ يَنْقُضُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ. وَلَا تَشْتَرُوا: وَلَا تَسْتَبْدِلُوا بِعَهْدِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا يَسِيرًا، وَهُوَ مَا كَانَتْ قُرَيْشُ يَعِدُونَهُمْ وَيُمَنُّونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ إِظْهَارِكُمْ وَتَغْنِيمِكُمْ وَمِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ آيَةُ نَهْيٍ عَنِ الرِّشَا وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ عَلَى تَرْكِ مَا يَجِبُ عَلَى الْآخِذِ فِعْلُهُ، أَوْ فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الَّتِي عَهِدَ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فِيهَا وَبَيَّنَ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الدُّنْيَا وَحَالِ الْآخِرَةِ، بِأَنَّ هَذِهِ تَنْفَدُ وَتَنْقَضِي عَنِ الْإِنْسَانِ، وَيَنْقَضِي عَنْهَا، وَالَّتِي فِي الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ، عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ، وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ إِذْ زَعَمَ أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ مُنْقَطِعٌ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَنَجْزِيَّنَ بِالنُّونِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَصَبَرُوا: أَيْ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مِيثَاقِ الْإِسْلَامِ وَأَذَى الْكُفَّارِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَكَسْبِ الْمَالِ بِالْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحِلُّ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قِيلَ: مِنَ التَّنَفُّلِ بِالطَّاعَاتِ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ لِأَنَّهَا لَمْ يُحَتَّمْ فِعْلُهَا، فَكَانَ الْإِنْسَانُ يَأْتِي بِالتَّنَفُّلَاتِ مُخْتَارًا غَيْرَ مَلْزُومٍ بِهَا. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْأَحْسَنَ تَرْغِيبًا فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ. وَقِيلَ: الْأَحْسَنُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَسَنِ، فَلَيْسَ أَفْعَلُ الَّتِي لِلتَّفْضِيلِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْسَنِ هُنَا الصَّبْرُ أَيْ: وَلَيَجْزِيَّنَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِصَبْرِهِمْ أَيْ: بِجَزَاءِ صَبْرِهِمْ، وَجَعَلَ الصَّبْرَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ لِاحْتِيَاجِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ إِلَيْهِ، فَالصَّبْرُ هُوَ رَأْسُهَا، فَكَانَ الْأَحْسَنُ لِذَلِكَ. ومن صَالِحَةٌ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ وَفُرُوعِهِمَا. لَكِنْ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، فَبَيَّنَ بِالنَّوْعَيْنِ لِيَعُمَّ الْوَعْدُ كِلَيْهِمَا. وَهُوَ مُؤْمِنٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي الْعَمَلِ

الصَّالِحِ مُخَصَّصٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «1» أَوْ يُرَادُ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، كَمَا جَاءَ فِي مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فلنحيينه حياة طيبة، أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ شَرِيكٌ: فِي الْقَبْرِ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا هِيَ: الْقَنَاعَةُ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: الرِّزْقُ الْحَلَالُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: السَّعَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الطَّاعَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الرِّزْقُ فِي يَوْمٍ بِيَوْمٍ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: الْعَافِيَةُ وَالْكِفَايَةُ، وَقِيلَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُؤْمِنُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَلَا مَقَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَمَعَهُ مَا يَطِيبُ عَيْشُهُ، وَهُوَ الْقَنَاعَةُ وَالرِّضَا بِقِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْفَاجِرُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْحِرْصُ لَا يَدَعُهُ أَنْ يَتَهَنَّأَ بِعَيْشِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: طَيَّبَ الْحَيَاةَ لِلصَّالِحِينَ بِانْبِسَاطِ نُفُوسِهِمْ وَنَيْلِهَا وَقُوَّةِ رَجَائِهِمْ، وَالرَّجَاءُ لِلنَّفْسِ أَمْرٌ مُلِذٌّ، وَبِأَنَّهُمُ احْتَقَرُوا الدُّنْيَا فَزَالَتْ هُمُومُهَا عَنْهُمْ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى هَذَا مَالٌ حَلَالٌ وَصِحَّةٌ وَقَنَاعَةٌ فَذَاكَ كَمَالٌ، وَإِلَّا فَالطَّيِّبُ فِيمَا ذَكَرْنَا رَاتِبٌ. وَعَادَ الضَّمِيرُ في فلنحيينه على لفظه مَنْ مْفُرَدًا، وَفِي وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ الْجَمْعِ، فَجَمَعَ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ: وَلَيَجْزِينَّهُمْ بِالْيَاءِ بَدَلَ النُّونِ، الْتَفَتَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ قَسَمٍ ثَانٍ لَا مَعْطُوفًا عَلَى فَلْنُحْيِيَنَّهُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ، وَكِلْتَاهُمَا مَحْذُوفَتَانِ. وَلَا يَكُونُ مِنْ عَطْفِ جَوَابٍ عَلَى جَوَابٍ، لِتَغَايُرِ الْإِسْنَادِ وَإِفْضَاءِ الثَّانِي إِلَى إِخْبَارِ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِخْبَارِ الْغَائِبِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ: زَيْدٌ قُلْتُ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ هِنْدًا وَلِيَنْفِيَنَّهَا، يُرِيدُ وَلَيَنْفِيهَا زَيْدٌ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ عَلَى إِضْمَارِ قَسَمٍ ثَانٍ جَازَ أَيْ: وَقَالَ زَيْدٌ لَيَنْفِيَنَّهَا لِأَنَّ، لَكَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ تَحْكِيَ لَفْظَهُ، وَأَنْ تَحْكِيَ عَلَى الْمَعْنَى. فَمِنَ الْأَوَّلِ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى «2» وَمِنَ الثَّانِي: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا «3» وَلَوْ جَاءَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ مَا قُلْنَا. فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ

_ (1) سورة الزلزلة: 99/ 7. (2) سورة التوبة: 9/ 107. (3) سورة التوبة: 9/ 74.

آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «1» وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِمَّا بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً «2» ذَكَرَ مَا يَصُونُ بِهِ الْقَارِئُ قِرَاءَتَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، فَخَاطَبَ السَّامِعَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ إِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا فَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ كُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَالظَّاهِرُ بِعَقِبِ الِاسْتِعَاذَةِ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ حَمْزَةَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا قَرَأْتَ الْفَاتِحَةَ حِينَ تَقُولُ: آمِينَ، فَاسْتَعِذْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ، وَدَاوُدَ. تَعْقُبُهَا الْقِرَاءَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَالْجُمْهُورِ: عَلَى تَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ وَتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى: فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْفِعْلَ يُوجَدُ عِنْدَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ بِغَيْرِ فَاصِلٍ وَعَلَى حَسْبِهِ، فَكَانَ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ وَمُلَابَسَةٍ ظَاهِرَةٍ كَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «3» وَكَقَوْلِهِ: «إِذَا أَكَلْتَ فَسَمِّ اللَّهِ» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِذَا وَصْلَةٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهَا فِي مِثْلِ هَذَا، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا أَخَذْتَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ، أَمْرٌ بِالِاسْتِعَاذَةِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْوُجُوبُ. وَالظَّاهِرُ: طَلَبُ الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ الْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ وَأَعْوَانُهُ. وَقِيلَ: عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ مِنْ جِنٍّ وَإِنْسٍ، كَمَا قَالَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ، وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارُوهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ اسْتَعَاذَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ» وَنَفَى تَعَالَى سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالسُّلْطَانُ هُنَا التَّسْلِيطُ وَالْوِلَايَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ وَلَا يُطِيعُونَهُ فِيمَا يُرِيدُ مِنْهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «4» وَكَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ فِي قِصَّةِ أَوْلِيَائِهِ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «5» وقيل:

_ (1) سورة النحل: 16/ 89. (2) سورة النحل: 16/ 97. [.....] (3) سورة المائدة: 5/ 6. (4) سورة الحجر: 15/ 42. (5) سورة ابراهيم: 14/ 22.

الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْحُجَّةُ، وَظَاهِرُ الْإِخْبَارِ انْتِفَاءُ سَلْطَنَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ لِاسْتِعَاذَتِهِمْ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى بِهِمْ، وَقِيلَ: عَلَى الشَّيْطَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِاتِّفَاقِ الضَّمَائِرِ وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِإِشْرَاكِهِمْ إِبْلِيسَ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَصْرِفُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ، كَأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْزَالَ الْكِتَابِ تَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ، ذَكَرَ تَعَالَى نَتِيجَةَ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، فَأَلْقَى إِلَيْهِمْ إِنْكَارَ النَّسْخِ لَمَّا رَأَوْا تَبْدِيلَ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّسْخِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ رَفَعَ آيَةً لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّبْدِيلُ لِحُكْمِ الْمَعْنَى وَإِبْقَاءِ اللَّفْظِ. وَوَجَدَ الْكُفَّارُ بِذَلِكَ طَعْنًا فِي الدِّينِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الْمَصَالِحَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ، وَكَمَا وَقَعَ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ يَقَعُ فِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا يُنَزِّلُ لَا أَنْتُمْ، وَمَا يُنَزِّلُ مِمَّا يُقِرُّهُ وَمَا يَرْفَعُهُ، فَمَرْجِعُ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى حَسْبِ الْحَوَادِثِ وَالْمَصَالِحِ، وَهَذِهِ حِكْمَةُ إِنْزَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. وَبَالَغُوا فِي نِسْبَةِ الِافْتِرَاءِ لِلرَّسُولِ بِلَفْظِ إِنَّمَا، وَبِمُوَاجِهَةِ الْخِطَابِ، وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْلَمُ وَيَكْفُرُ عِنَادًا. وَمَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الشَّرَائِعَ حِكَمٌ وَمَصَالِحُ. هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَرُوحُ الْقُدُسِ: هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَا خِلَافٍ، وَتَقَدَّمَ لِمَ سُمِّيَ رُوحَ الْقُدُسِ. وَأَضَافَ الرَّبِّ إِلَى كَافِ الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِصَاصِ الْإِضَافَةِ، وَإِعْرَاضًا عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يُضِفْ إِلَيْهِمْ. وَبِالْحَقِّ حَالٌ أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ نَاسِخًا أَوْ مَنْسُوخًا، فَكُلُّهُ مَصْحُوبٌ بِالْحَقِّ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ. وَلِيُثْبِتَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَضْطَرِبُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِكَوْنِهِ نُسِخَ، بَلِ النَّسْخُ مُثَبِّتٌ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ جَمِيعُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ وَاطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَكِيمٌ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ، فَهِيَ صَوَابُ كُلُّهَا. وَدَلَّ اخْتِصَاصُ التَّعْلِيلِ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى اتِّصَافِ الْكُفَّارِ بِضِدِّهِ مِنْ لَحَاقِ الِاضْطِرَابِ لَهُمْ وَتَزَلْزُلِ عَقَائِدِهِمْ وضلالهم. وقرىء: لِيُثْبِتَ مُخَفَّفًا مِنْ أَثْبَتَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُدًى وَبُشْرَى مَفْعُولٌ لَهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلٍّ لِيُثْبِتَ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ هَذَا، وَهُوَ

قَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» وَهُدًى وَرَحْمَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَا يَمْتَنِعُ عَطْفُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ أَنْ وَالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ، فَيَكُونُ وَهُدًى وَبُشْرَى مَجْرُورَيْنِ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ لِأُحْسِنَ إِلَى زَيْدٍ وَإِكْرَامٍ لِخَالِدٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لِإِحْسَانٍ إِلَى زَيْدٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُ هُدًى وَبُشْرَى عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: وَهُوَ هُدًى وَبُشْرَى. وَلَمَّا نَسَبُوهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلِافْتِرَاءِ وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ الِافْتِرَاءَ الَّذِي نَسَبُوهُ هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ بَشَرٍ إِيَّاهُ، فَلَيْسَ هُوَ الْمُخْتَلِقُ بَلِ الْمُخْتَلِقُ غَيْرُهُ، وَهُوَ نَاقِلٌ عَنْهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ. إِنَّ مَعْنَاهُ: مُخْتَلِقُ الْكَذِبِ، وَهُوَ يُنَافِي التَّعَلُّمَ مِنَ الْبَشَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مُفْتَرٍ، فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُفْتَرِي، وَطَائِفَةً أَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنَ الْبَشَرِ. وَيُعَلِّمُ مُضَارِعُ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ: الْمُضِيُّ أَيْ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا، وَجَاءَ إِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَى مُبْهَمٍ لَمْ يُعَيَّنْ. فَقِيلَ: هُوَ حَبْرٌ غلام ورمى كَانَ لِعَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَقِيلَ: عَائِشٌ أَوْ يَعِيشُ، وَكَانَ صَاحِبَ كُتُبِ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: أَبُو فَكِيهَةَ أَعْجَمِيٌّ مولى لمرأة بِمَكَّةَ. قِيلَ: وَاسْمُهُ يَسَارٌ وَكَانَ يَهُودِيًّا قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَانَ يَهُودِيًّا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ رَجُلًا حَدَّادًا نَصْرَانِيًّا اسْمُهُ عَنَسٌ. وَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ عبد الله بن مسلم: كَانَ لَنَا غُلَامَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ، يَسَارٌ وَحَبْرٌ، كَانَا يَقْرَآنِ كُتُبًا لَهُمَا بِلِسَانِهِمْ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِمَا فَيَسْمَعُ قِرَاءَتَهُمَا. قِيلَ: وَكَانَا حَدَّادَيْنِ يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِأَحَدِهِمَا ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُوَ يُعَلِّمُنِي ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي مَكَّةَ غُلَامٌ أَعْجَمِيٌّ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: بَلْعَامُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُ الْإِسْلَامَ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا مِنْ جِهَةِ الْأَعَاجِمِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْإِشَارَةُ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَضُعِّفَ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ سَلْمَانَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بعد الهجرة، وهذا السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَدَنِيٌّ. وَاللِّسَانُ: هُنَا اللُّغَةُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: اللِّسَانُ الَّذِي بِتَعْرِيفِ اللِّسَانِ بِالْ، وَالَّذِي صِفَتُهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَلْحَدُونَ مَنْ لَحَدَ ثُلَاثِيًّا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَلْحَةَ، وَالسُّلَمِيِّ، وَالْأَعْمَشِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَابْنُ الْقَعْقَاعِ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَنْ أَلْحَدَ رُبَاعِيًّا وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ أَلْحَدَ الْقَبْرَ ولحده، فهو ملحد وملحودا ذا أَمَالَ حَفْرَهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَحَفَرَ فِي شِقٍّ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ إِمَالَةٍ عَنِ اسْتِقَامَةٍ فَقَالُوا: أَلْحَدَ فُلَانٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْحَدَ فِي دِينِهِ لِأَنَّهُ أَمَالَ دِينَهُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، لم

_ (1) سورة النحل: 16/ 64.

يُمِلْهُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ. وَالْمَعْنَى: لِسَانُ الرَّجُلِ الَّذِي يُمِيلُونَ قَوْلَهُمْ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ غَيْرُ بَيِّنٍ، وَهَذَا الْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذُو بَيَانٍ وَفَصَاحَةٍ، رَدًّا لِقَوْلِهِمْ وَإِبْطَالًا لِطَعْنِهِمْ انْتَهَى. وَظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ اللِّسَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللُّغَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ اللِّسَانُ هُنَا الْجَارِحَةَ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّغَةُ، ويحتمل أن يراد وَهَذَا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ اللِّسَانُ هُنَا الْجَارِحَةَ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّغَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى أَنْتُمْ أَفْصَحُ وَأَبْلَغُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَقَدْ عَجَزْتُمْ وَعَجَزَ جَمِيعُ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ تَنْسُبُونَهُ إِلَى أَعْجَمِيٍّ أَلْكَنَ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ لبيان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، مَا مَحَلُّهَا؟ (قُلْتُ) : لَا مَحَلَّ لَهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ اللَّهُ: أَعْلَمُ، حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ «1» انْتَهَى. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً فَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَيْ: عِلْمُهُمْ بِأَعْجَمِيَّةِ هَذَا الْبَشَرِ وَإِبَانَةِ عَرَبِيَّةِ هَذَا الْقُرْآنَ كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، كَمَا تَقُولُ: تَشْتُمُ فُلَانًا وَهُوَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ أَيْ: عِلْمُكَ بِإِحْسَانِهِ لَكَ كَانَ يَقْتَضِي مَنْعَكَ مِنْ شَتْمِهِ. وَإِنَّمَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْحَالِ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الِاسْمِيَّةِ بِغَيْرِ وَاوٍ شَاذٌّ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ جِدًّا، وَمَجِيءُ ذَلِكَ بِغَيْرِ وَاوٍ لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ كَثْرَةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ تَبِعَ فِيهِ الفراء، وأما الله أَعْلَمُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِيهَا، لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ ذَا الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ قَالُوا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذُو الْحَالِ ضَمِيرُ يَقُولُونَ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي جُمْلَةِ الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي يُلْحِدُونَ، فَالْجُمْلَةُ وَإِنْ عُرِّيَتْ عَنِ الْوَاوِ فَفِيهَا ضَمِيرُ ذِي الْحَالِ. إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 124.

الْكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِسْبَتَهُمْ إِلَى الِافْتِرَاءِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، كَانَ ذَلِكَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَبَدًا إِذْ كَانُوا جَاحِدِينَ آيَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَخُصُوصًا الْقُرْآنُ، فَمَنْ بَالَغَ فِي جَحْدِ آيَاتِ اللَّهِ سَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ الْهِدَايَةِ. وَذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَهُمْ، وَمَعْنَى لَا يَهْدِيهِمْ: لَا يَخْلُقُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَقَدِ اهْتَدَى قَوْمٌ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِذْلَان فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الآخرة، لَا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ وَالثَّوَابِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَفْهُومُ مِنَ الْوُجُودِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ فِي هَذَا الترتيب وأخبرتهما بِتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ وَالتَّشْنِيعِ بِخَطَئِهِمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي: أَقْوَى مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَسُوقُهُمْ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَهْتَدُوا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَيْ لَا يَهْتَدُونَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَدَى اللَّهُ فُلَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا اهْتَدَى هُوَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهُدَى فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، كَمَا قَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2» ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ «3» بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ، أَيْ إِنَّمَا يَلِيقُ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ عِقَابًا عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا وَهُوَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عِنْد بَعْضِهِمْ، جَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِإِنَّمَا أَيْضًا، وَجَاءَ بِلَفْظِ يَفْتَرِي الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلِافْتِرَاءِ وَهُوَ: انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ. فَاقْتَضَى التَّوْكِيدَ الْبَالِغَ وَالْحَصْرَ بِلَفْظِ الْإِشَارَةِ، وَالتَّأْكِيدَ بِلَفْظِ هُمُ، وَإِدْخَالِ الْ عَلَى الْكَاذِبُونَ، وَبِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ، فَجَاءَ يَفْتَرِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، وَجَاءَ الْكَاذِبُونَ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأُولَئِكَ إشارة

_ (1) سورة الصف: 61/ 5. (2) سورة فصلت: 41/ 17. (3) سورة النحل: 16/ 101.

إِلَى قُرَيْشٍ هُمُ الْكَاذِبُونَ، هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمُ الْكَاذِبُونَ. أَوْ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ آيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ الْكَذِبِ. أَوْ أُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ عَادَتْهُمُ الْكَذِبُ لَا يُبَالُونَ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ مُرُوءَةٌ وَلَا دِينٌ. أَوْ أُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ بَعِيدٌ، وَهُوَ أَنَّ وَأُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قُرَيْشٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ بِاللَّفْظِ وَبِالِاعْتِقَادِ، اسْتَثْنَى مِنَ الْكَافِرِينَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّفْظِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَرَخَّصَ لَهُ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذْ كَانَ قَلْبُهُ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ مَعَ الْإِكْرَاهِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: الْكَافِرُونَ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ الْمُكْرَهِينَ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فَلَا غَضَبَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ وَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَعْنِي الْجَوَابَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مِنْ شَرْطًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ كَفَرَ ابْتِدَاءٌ، وَقَوْلُهُ: مَنْ شَرَحَ تَخْصِيصٌ مِنْهُ، وَدَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِ عَمَّارٍ وَشَبَهِهِ. وَدَنَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ الِاسْتِدْرَاكُ بَلَكِنْ وَقَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ، خَبَرٌ عَنْ مَنِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِخْبَارَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ الصِّنْفُ الشَّارِحُ بِالْكُفْرِ انْتَهَى. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ فَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ شَرْطِيَّتَانِ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِأَدَاةِ الِاسْتِدْرَاكِ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ جَوَابٍ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ الْحَذْفِ أَحْرَى عَلَى صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ. وَقَدْ ضَعَّفُوا مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ «1» وَقَوْلَهُ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «2» جَوَابٌ لِأَمَّا، وَلِأَنَّ هَذَا وَهُمَا أَدَاتَا شَرْطٍ، إِحْدَاهُمَا تَلِي الْأُخْرَى، وَعَلَى كَوْنِ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَمَا بَعْدَهَا صِلَتُهَا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَذْفِ جَوَابِ الشَّرْطِ. إِلَّا أَنَّ مَنِ الثَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطًا حَتَّى يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مُبْتَدَأٌ لِأَنَّ مَنْ وَلِيَتْ لَكِنْ فَيَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ قُدِّرَ مُبْتَدَأٌ بَعْد لَكِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً فِي مَوْضِعِ خَبَرِ ذَلِكَ المبتدأ المقدر كقوله:

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 91. (2) سورة الواقعة: 56/ 39.

وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدِ أَيْ: وَلَكِنْ أَنَا مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدُ. وَكَذَلِكَ تُقَدَّرُ هُنَا، وَلَكِنْ هُمْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أَيْ: مِنْهُمْ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمِنَ الْكَاذِبُونَ. وَلَمْ يُجِزِ الزَّجَّاجُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْكَاذِبُونَ، لِأَنَّهُ رَأَى الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرَ تَامٍّ، فَعَلَّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أُولَئِكَ، فَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ. وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ الْكَاذِبُونَ فَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ أُولَئِكَ فَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ عِنْدِي ضَعِيفَةٌ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالْوُجُودُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ هُوَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَطُّ، بَلْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَطُّ هُمُ الْأَكْثَرُونَ الْمُفْتَرُونَ الْكَذِبَ. وأما الثاني فيؤول الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ أَيِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُفْتَرُونَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَذَلِكَ. إِذِ التَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، مُخْبِرٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ انْتَهَى. وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ فَصَاحَةُ الْكَلَامِ جَعْلُ الْجُمَلِ كُلِّهَا مُسْتَقِلَّةً لَا تَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالْمُنَاسَبَةُ وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمُكْرَهَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ قَدْ سُومِحَ لِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَالْمُسَامَحَةُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي أَوْلَى. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحِ لِذَلِكَ، وَفِي تَفْصِيلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقَعُ الْإِكْرَاهُ فِيهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَالْمُكْرَهُونَ عَلَى الْكُفْرِ الْمُعَذَّبُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ: خَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبَوَاهُ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَسَالِمٌ، وَحَبْرٌ، عُذِّبُوا فَأَجَابَهُمْ عَمَّارٌ وَحَبْرٌ بِاللَّفْظِ فَخُلِّيَ سَبِيلُهُمَا، وَتَمَادَى الْبَاقُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُتِلَ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَعُذِّبَ بِلَالٌ وَهُوَ يَقُولُ: (أَحَدٌ أَحَدٌ) وَعُذِّبَ خَبَّابٌ بِالنَّارِ فَمَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ ظَهْرِهِ. وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي فَعَلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَأَفْرَدَ فِي شَرْحٍ

عَلَى لَفْظِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعَذَابِ أَيْ: كَائِنٌ لَهُمْ بِسَبَبِ اسْتِحْبَابِهِمُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاسْتِحْقَاقُهُمْ خِذْلَانَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي بِأَنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ فِي مَنْ شَرَحَ: وَلَمَّا فَعَلُوا فِعْلَ مَنِ اسْتَحَبَّ، أُلْزِمُوا ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا غيره مُصَدِّقِينَ بِآخِرِهِ، لَكِنَّ مِنْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ كَانُوا كَمَنِ اسْتَحَبَّ غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: اسْتَحَبُّوا، هُوَ تَكَسُّبٌ مِنْهُمْ عُلِّقَ بِهِ الْعِقَابُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِرَاعِ اللَّهِ الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَهَذَا عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الِارْتِدَادِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْخَتْمِ عَلَيْهَا. وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ مَا يُرَادُ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَامِلُونَ فِي الْغَفْلَةِ الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَغْفَلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ تَدَبُّرِ الْعَوَاقِبِ هِيَ غَايَةُ الْغَفْلَةِ وَمُنْتَهَاهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِسْنَادُ لِيَكْتَسِبَ بِالطَّاعَاتِ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، فَعَمِلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ عَظُمَ خُسْرَانُهُ فَقِيلَ فِيهِمْ: هُمُ الْخَاسِرُونَ لَا غَيْرُهُمْ. وَمَنْ أَخْسَرُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مِنْ كَيْنُونَةِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَاسْتِحْبَابِ الدُّنْيَا، وَانْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ، وَالْإِخْبَارِ بِالطَّبْعِ وَبِغَفْلَتِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَحَالَ مَنْ أُكْرِهَ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ هاجر بعد ما فُتِنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فَكَتَبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ كَانَ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى نَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، فَعَلَى هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ جِهَادُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا وَاتَّبَعُوا وَجَاهَدُوا مُتَّبِعِيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَنَجَا مَنْ نَجَا، فَنَزَلَتْ حِينَئِذٍ، فَعَنَى بِالْجِهَادِ جِهَادَهُمْ لِمُتَّبِعِيهِمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذِكْرُ عَمَّارٍ فِي هَذَا غَيْرُ قَوِيمٍ، فَإِنَّهُ أَرْفَعُ مِنْ طَبَقَةِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ مِمَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَأَشْبَاهِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا فَتَنَهُمُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَبَاعُدِ حَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَالِ أُولَئِكَ، وَهُمْ عمار وأصحابه. وللذين عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوْضِعِ خبران قَالَ: وَمَعْنَى إِنَّ رَبَّكَ لَهُمْ أَنَّهُ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَلِيُّهُمْ وَنَاصِرُهُمْ،

لَا عَدُوُّهُمْ وَخَاذِلُهُمْ كَمَا يَكُونُ الْمَلِكُ لِلرَّجُلِ: لَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَحْمِيًّا مَنْفُوعًا غَيْرَ مَضْرُورٍ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مَنْفُوعًا اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ نَفَعَ، وَهُوَ قِيَاسُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ ثُلَاثِيٌّ. وَزَعَمَ الْأَهْوَازِيُّ النَّحْوِيُّ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ نَفَعَ اسْمُ مَفْعُولٍ، فَلَا يُقَالُ مَنْفُوعٌ وَقَفْتُ لَهُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِهِ مُوجَزِ الرُّمَّانِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: خَبَرُ إِنَّ الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَغَفُورٌ، وَإِنَّ الثَّانِيَةُ وَاسْمُهَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْكِيدِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ إِنَّ الثَّانِيَةُ وَاسْمُهَا تَكْرِيرًا لِلتَّوْكِيدِ كَمَا ذُكِرَ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ الْأَوْلَى هُوَ قَوْلَهُ: لَغَفُورٌ، وَيَكُونُ لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَغَفُورٌ، أَوْ بِرَحِيمٍ عَلَى الْإِعْمَالِ، لِأَنَّ إِنَّ رَبَّكَ الثَّانِيَةَ لَا يَكُونُ لَهَا طَلَبٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ. كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ قَامَ زَيْدٌ، فَزَيْدٌ إِنَّمَا هُوَ مَرْفُوعٌ بِقَامَ الْأُولَى، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِلْأُولَى. وَقِيلَ: لَا خَبَرَ لِأَنَّ الْأُولَى فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ خَبَرَ الثَّانِيَةِ أَغْنَى عَنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ أَلْغَى حُكْمَ الْأُولَى وَجَعَلَ الْحُكْمَ لِلثَّانِيَةِ، وَهُوَ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْنِي لِلَّذِينِ، أَيِ الْغُفْرَانَ لِلَّذِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُتِنُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: بِالْعَذَابِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَتَنُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ هَاجَرُوا، فَالْمَعْنَى: فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَعْطَوُا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْقَوْلِ كَمَا فَعَلَ عَمَّارٌ. أَوْ لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعُذِّبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَذِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا عَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ كَالْحَضْرَمِيِّ وَأَشْبَاهِهِ. وَالضَّمِيرُ في من بعدها عائد عَلَى الْمَصَادِرِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْفِتْنَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدِهَا عَائِدٌ عَلَى الْفِتْنَةِ، أَوِ الْهِجْرَةِ، أَوِ التَّوْبَةِ، وَالْكَلَامُ يُعْطِيهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ صَرِيحٌ. يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَنَاصِبُهُ رَحِيمٌ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَنَاصِبُهُ اذْكُرْ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ كُلِّ نَفْسٍ، فَيُجَادِلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَجِدَالُهُ بِالْكَذِبِ وَالْجَحَدِ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَالْجَوَارِحُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْطِقُونَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:

الْجِدَالُ قَوْلُ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ: نَفْسِي نَفْسِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَيْسَ بِجِدَالٍ وَلَا احْتِجَاجٍ، إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ رَغْبَةٍ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَكَّبَ مَعَهُ مَا قَبْلَهُ فَقَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ لَا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ، كُلٌّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي. وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ الِاعْتِذَارُ عَنْهَا كَقَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ أَضَلُّونا «1» وما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ: يُقَالُ لَعِينِ الشَّيْءِ وَذَاتِهِ نَفْسُهُ، وَفِي نَقِيضِهِ غَيْرُهُ، وَالنَّفْسُ الْجُمْلَةُ كَمَا هِيَ، فَالنَّفْسُ الْأُولَى هِيَ الْجُمْلَةُ، وَالثَّانِيَةُ عَيْنُهَا وَذَاتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ كُلُّ ذِي نَفْسٍ، ثُمَّ أُجْرِيَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَذْكُورِ، فَأَثْبَتَ الْعَلَامَةَ. وَنَفْسٌ الْأُولَى هِيَ النَّفْسُ الْمَعْرُوفَةُ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ بِمَعْنَى الْبَدَنِ كَمَا تَقُولُ: نَفْسُ الشَّيْءِ وَعَيْنُهُ أَيْ ذَاتُهُ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْإِنْسَانُ يُسَمَّى نَفْسًا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا جَاءَنِي إِلَّا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ أَيْ: إِنْسَانٌ وَاحِدٌ. وَالنَّفْسُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَأْتِي، لِأَنَّهَا هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الْإِنْسَانُ انْتَهَى. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ لَمْ يَتَعَدَّ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، لَا إِلَى لَفْظِ النَّفْسِ؟ (قُلْتُ) : مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ ظَنَّ، وَفَقَدَ لَا يَتَعَدَّى فِعْلُ ظَاهِرِ فَاعِلِهِ، وَلَا مُضْمَرِهِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ، فَلِذَلِكَ لم يجىء التَّرْكِيبُ تُجَادِلُ عَنْهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: ضَرَبَتْهَا هِنْدٌ وَلَا هِنْدٌ ضَرَبَتْهَا، وَإِنَّمَا تَقُولُ: ضَرَبَتْ نَفْسَهَا هِنْدٌ، وَضَرَبَتْ هِنْدٌ نَفْسَهَا، مَا عَمِلَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ إِحْسَانٍ أَوْ إِسَاءَةٍ، وَأَنَّثَ الْفِعْلَ فِي تَأْتِي، وَالضَّمِيرَ فِي تُجَادِلُ وفي عن نفسها، وَفِي تُوُفَّى، وَفِي عَمِلَتْ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى كُلُّ، وَلَوْ رُوعِيَ اللَّفْظُ لَذُكِّرَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: جَادَتْ عَلَيْهَا كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ فَأَنَّثَ عَلَى الْمَعْنَى. وَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجِدَالَ هُنَا هُوَ جِدَالُ الْجَسَدِ لِلرُّوحِ، وَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ لَا يَظْهَرُ قَالَ: يَقُولُ الْجَسَدُ: رَبِّ جَاءَ الرُّوحُ بِأَمْرِكَ بِهِ نَطَقَ لِسَانِي وَأَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَشَتْ رِجْلِي، فَتَقُولُ الرُّوحُ: أَنْتَ كَسَبْتَ وَعَصَيْتَ لَا أَنَا، وَأَنْتَ كُنْتَ الْحَامِلَ وَأَنَا الْمَحْمُولُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَضْرِبُ لَكُمَا مَثَلَ أَعْمَى حَمَلَ مُقْعَدًا إِلَى بُسْتَانٍ فَأَصَابَا مِنْ ثِمَارِهِ، فَالْعَذَابُ عَلَيْكُمَا. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْقَرْيَةَ الْمَضْرُوبَ بِهَا الْمَثَلُ مَكَّةُ، كَانَتْ لَا تُغْزَى وَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا، وَالْأَرْزَاقُ تُجْلَبُ إِلَيْهَا، وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرَتْ، فَأَصَابَهَا السُّنُونَ وَالْخَوْفُ. وَسَرَايَا الرَّسُولِ وَغَزَوَاتُهُ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِغَيْرِهَا مِمَّا يَأْتِي بَعْدَهَا. وهذا وإن كَانَتِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ مَكِّيَّةً فَجُوعُ السِّنِينَ وخوف

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 38.

الْعَذَابِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا مَكِّيَّةً قَوْلُهُ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْأَوَّلِينَ. وَعَنْ حَفْصَةَ: أَنَّهَا الْمَدِينَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَتَوَجَّهُ عِنْدِي أَنَّهَا قُصِدَ بِهَا قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، جُعِلَتْ مَثَلًا لِمَكَّةَ عَلَى مَعْنَى التَّحْذِيرِ لِأَهْلِهَا وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قرية مقدرة على هذه الصِّفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي قُرَى الْأَوَّلِينَ قَرْيَةٌ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهَا، فَضَرَبَهَا اللَّهُ مَثَلًا لِمَكَّةَ إِنْذَارًا مِنْ مِثْلِ عَاقِبَتِهَا انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قرية مقدرة على هذه الصفة، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ. كَانَتْ آمِنَةً ابْتَدَأَ بِصِفَةِ الْأَمْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ لِخَائِفٍ. وَالِاطْمِئْنَانُ زِيَادَةٌ فِي الْأَمْنِ، فَلَا يُزْعِجُهَا خَوْفٌ. يَأْتِيهَا رِزْقُهَا أَقْوَاتُهَا وَاسِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا، لَا يَتَعَذَّرُ مِنْهَا جِهَةٌ. وَأَنْعُمٌ جَمْعُ نَعْمَةٍ، كَشَدَّةٍ وَأَشُدٍّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: جَمْعُ نِعَمٍ بِمَعْنَى النَّعِيمِ، يُقَالُ: هَذِهِ أَيَّامُ طُعْمٍ وَنَعْمٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ كَبُؤْسٍ وَأَبْؤُسٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمَعَ نِعْمَةً عَلَى تَرْكِ التَّاءِ، وَالِاعْتِدَادِ بِالتَّاءِ كَدِرْعٍ وَأَدْرُعٍ. وَقَالَ الْعُقَلَاءُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ: الْأَمْنُ، وَالصِّحَّةُ وَالْكِفَايَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: آمِنَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْنِ، مُطَمْئِنَّةً إِشَارَةٌ إِلَى الصِّحَّةِ، لِأَنَّ هَوَاءَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُلَازِمًا لِأَمْزِجَتِهِمُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا وَاسْتَقَرُّوا، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «1» وَقَالَ: الْأَنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ وَجَمْعُ قِلَّةٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِنِعَمِ اللَّهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى بِمَعْنَى أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ أَوْجَبَ الْعَذَابَ، فَكُفْرَانُ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى بِإِيجَابِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا بَاشَرَهُمْ ذَلِكَ صَارَ كَاللِّبَاسِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْأَعْشَى: إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسًا وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ «2» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَدْ لَبِسَتْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجَاشِعُ ... ثِيَابَ الَّتِي حَاضَتْ وَلَمْ تَغْسِلِ الدَّمَا كَأَنَّ الْعَارَ لَمَّا بَاشَرَهُمْ وَلَصِقَ بِهِمْ جَعَلَهُمْ لَبِسُوهُ. وَقَوْلُهُ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «3» ونظير قول الشاعر:

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 37. (2) سورة البقرة: 2/ 187. (3) سورة الدخان: 44/ 49. [.....]

دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فَاحْسُ وَذُقْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِذَاقَةُ وَاللِّبَاسُ اسْتِعَارَتَانِ، فَمَا وَجْهُ صِحَّتِهِمَا؟ وَالْإِذَاقَةُ الْمُسْتَعَارَةُ مُوقَعَةٌ عَلَى اللِّبَاسِ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ إِيقَاعِهَا؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْإِذَاقَةُ فَقَدْ جَرَتْ عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ لِشُيُوعِهَا فِي الْبَلَايَا وَالشَّدَائِدِ وَمَا يَمَسُّ النَّاسَ مِنْهَا فَيَقُولُونَ: ذَاقَ فُلَانٌ الْبُؤْسَ وَالضُّرَّ، وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ شَبَّهَ مَا يُدْرَكُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ بِمَا يُدْرَكُ مِنْ طَعْمِ الْمُرِّ وَالْبَشِعِ. وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَقَدْ شُبِّهَ بِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى اللَّابِسِ مَا غَشِيَ الْإِنْسَانَ وَالْتَبَسَ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ. وَأَمَّا إِيقَاعُ الْإِذَاقَةِ عَلَى لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ عِبَارَةُ: عَمَّا يُغْشَى مِنْهُمَا وبلابس، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَلَهُمْ فِي نَحْوِ هَذَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ، كما نظر إليه هاهنا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا ... غُلِقَتْ لِضُحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ اسْتَعَارَ الرِّدَاءَ لِلْمَعْرُوفِ، لِأَنَّهُ يَصُونُ عِرْضَ صَاحِبِهِ، صَوْنَ الرِّدَاءِ لِمَا يُلْقَى عَلَيْهِ. وَوَصَفَهُ بِالْغَمْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْمَعْرُوفِ وَالنَّوَالِ، لَا صِفَةُ الرِّدَاءِ، نَظَرًا إِلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْتَعَارِ كَقَوْلِهِ: يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرٍو ... رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْرِ لِيَ الشَّطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِينِي ... وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ أَرَادَ بِرِدَائِهِ سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ: فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرٍ، فَنُظِرَ إِلَى الْمُسْتَعَارِ فِي لَفْظِ: الِاعْتِجَارِ، وَلَوْ نُظِرَ إِلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لقيل: فكساهم لبس الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَلَقَالَ كُثَيِّرٌ: ضَافِي الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْنِ وَإِتْيَانِ الرِّزْقِ، قَابَلَهُمَا بِالْجُوعِ النَّاشِئِ عَنِ انْقِطَاعِ الرِّزْقِ وَبِالْخَوْفِ. وَقَدَّمَ الْجُوعَ لَيَلِيَ الْمُتَأَخِّرَ وَهُوَ إِتْيَانُ الرِّزْقِ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «1» وَأَمَّا قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «2» فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النار فقدم ما بدىء بِهِ وَهُمَا طَرِيقَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْخَوْفِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْجُوعِ. وَرَوَى الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْخَوْفَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِبَاسٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَصْلُهُ وَلِبَاسَ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 106. (2) سورة هود: 11/ 105.

الْخَوْفِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْخَوْفَ وَالْجُوعَ، وَلَا يُذْكَرُ لِبَاسَ. وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى لَا قِرَاءَةٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ مُسْتَفِيضًا مِثْلُ مَا فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِبَاسَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ، بَدَأَ بِمُقَابِلِ مَا بَدَأَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: كَانَتْ آمِنَةً، وَهَذَا عِنْدِي إِنَّمَا كَانَ فِي مُصْحَفِهِ قَبْلَ أَنْ يَجْمَعُوا مَا فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمَوْجُودِ الْآنَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَلِذَلِكَ الْمُسْتَفِيضِ عَنْ أُبَيٍّ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ، وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي جَاءَهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً، أَيْ: قِصَّةَ أَهْلِ قَرْيَةٍ، أَعَادَ الضَّمِيرَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ قَرْيَةٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً «1» أَوْ هُمْ قائِلُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلَقَدْ جَاءَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي جَاءَهُمْ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، يَكُونُ هَذَا بِمَا جَرَى فِيهَا كَمَدِينَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الْمَثَلَ قَالَ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ- يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ- رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْنِي- مِنْ أَنْفُسِهِمْ- يَعْرِفُونَهُ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ، وَلَمَّا وَعَظَ تَعَالَى بِضَرْبِ ذَلِكَ الْمَثَلِ وَصَلَ هَذَا الْأَمْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْفَاءِ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ مَا رَزَقَهُمْ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ لِيُبَايِنُوا تِلْكَ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللَّهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جَاءَ هُنَا: وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ. وَفِي البقرة جاء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ «2» لَمْ يَذْكُرْ مَنْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ فَقَالَ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ «3» وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقَهُمْ، عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مُحَرَّمَاتِهِ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهِمْ وَتَحْلِيلِهِمْ بِأَهْوَائِهِمْ دُونَ اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ. وَكَذَا جَاءَ فِي الْبَقَرَةِ ذِكْرُ مَا حَرَّمَ إِثْرَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ. وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا حَرَّمَ الْآيَةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهَا فِي الْبَقَرَةِ «4» . وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا حَرَّمَ، بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الزيادة فيما حرم

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 4. (2) سورة البقرة: 2/ 172. (3) سورة البقرة: 2/ 172. (4) سورة البقرة: 2/ 173.

كَالْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَفِيمَا أَحَلَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ السُّورَةِ وَهُمَا مَكِّيَّتَانِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ «1» الْآيَةَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ «2» هُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ «3» الْآيَةَ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ فَكَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعِ مُشَرَّعًا ثَانِيًا فِي أَوَّلِ مَكَّةَ وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا. فَنَهَى تَعَالَى أَنْ يُحَرِّمُوا وَيُحِلُّوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَفْتَرُونَ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ يَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْكَذِبَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْبَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَجَوَّزُوا فِي مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِتَقُولُوا أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إِلَى الْوَحْيِ. وَهَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: فَتَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ الْكَذِبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي الَّذِي ضَرَبْتُ أَخَاكَ، أَي ضَرَبْتَهُ أَخَاكَ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَانْتَصَبَ الْكَذِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ: لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ. وَمَعْمُولُ: وَلَا تَقُولُوا، الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُحَلِّلُوا وَلَا تُحَرِّمُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ كَذِبًا، لَا بِحُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ. وَهَذَا مَعْنًى بَدِيعٌ، جَعَلَ قَوْلَهُمْ: كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ وَمَحْضُهُ، فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ جلت الْكَذِبَ بِحِلْيَتِهِ وَصُورَتَهُ بِصُورَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: وَجْهُهُ يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عُبَيْدٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي: تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الكذب بالجر صفة لما الْمَصْدَرِيَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ: لِوَصْفِهَا الْكَذِبَ بِمَعْنَى الْكَاذِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِدَمٍ كَذِبٍ «4» وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ وَصْفُهَا الْبَهَائِمَ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ انْتَهَى. وَهَذَا عِنْدِي لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ لَا يُنْعَتُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا وَمِنَ الْفِعْلِ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ: يُعْجِبُنِي أَنْ قُمْتَ السَّرِيعَ، يُرِيدُ قِيَامَكَ السَّرِيعَ، وَلَا عَجِبْتُ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ السَّرِيعَ أَيْ: مِنْ خُرُوجِكَ السَّرِيعِ. وَحُكْمُ باقي

_ (1) سورة المائدة: 5/ 1. (2) سورة المائدة: 5/ 1. (3) سورة المائدة: 5/ 3. (4) سورة يوسف: 12/ 18.

الْحُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ حُكْمُ أَنْ فَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَصْفُ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ وَلَا، مِنْ مَا وَلَا، مِنْ كَيْ، بِخِلَافٍ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْعَتَ، وَلَيْسَ لِكُلِّ مُقَدَّرٍ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَإِنَّمَا يُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ. وَقَرَأَ مُعَاذٌ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الثَّلَاثَةِ صِفَةً لِلْأَلْسِنَةِ، جَمْعُ كَذُوبٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: أَوْ جَمْعُ كَاذِبٍ أَوْ كَذَّابٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ، أَوْ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَنَسَبَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ لِمَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ الْكُذُبَ بِفَتْحِ الياء عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَذَّابٍ، كَكُتُبٍ فِي جَمْعِ كِتَابٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَجَاءَ عَنْ يَعْقُوبَ الْكُذُبَ بِضَمَّتَيْنِ وَالنَّصْبِ، فَأَمَّا الضَّمَّتَانِ فَلِأَنَّهُ جَمْعُ كَذَّابٍ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِثْلُهُ كِتَابٌ وَكُتُبٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالنَّصْبِ عَلَى الشَّتْمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْكَلِمِ الْكَوَاذِبِ، أَوْ هُوَ جَمْعُ الْكِذَابِ مِنْ قَوْلِكَ: كَذَبَ كِذَابًا ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي انْتَهَى. وَالْخِطَابُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا، لِلْكُفَّارِ فِي شَأْنِ مَا أَحَلُّوا وَمَا حَرَّمُوا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْمُكَلَّفِينَ كُلِّهِمْ أَيْ: لَا تُسَمُّوا مَا لَمْ يَأْتِكُمْ حَظْرُهُ وَلَا إِبَاحَتُهُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، فَتَكُونُوا كَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ فِي إِخْبَارِكُمْ بِأَنَّهُ حَلَّلَهُ وَحَرَّمَهُ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ خِطَابٌ مَعْطُوفٌ عَلَى خِطَابٍ وَهُوَ: فَكُلُوا إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ. وَاللَّامُ فِي لِتَفْتَرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْغَرَضِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَلَامَ الصَّيْرُورَةِ. قِيلَ: ذَلِكَ الِافْتِرَاءُ مَا كَانَ غَرَضًا لَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا الِافْتِرَاءَ كَمَا قَالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا «1» وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ لِتَضَمُّنِهِ الْكَذِبَ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَنِ افْتَرَوْهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الكذب يدل مِنْ قَوْلِهِ: لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ، لِأَنَّ وَصْفَهُمُ الْكَذِبَ هُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، فَفَسَّرَ وَصْفَهُمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي فَاللَّامُ فِي لِمَا لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، فَيُبْدَلُ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ، بَلِ اللام متعلقة بلا تَقُولُوا عَلَى حَدِّ تَعَلُّقِهَا فِي قَوْلِكَ: لَا تَقُولُوا، لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ هَذَا حَرَامٌ أَيْ: لَا تُسَمُّوا الْحَلَالَ حَرَامًا، وَكَمَا تَقُولُ لِزَيْدٍ عَمْرٌو أَيْ لَا تُطْلِقُ عَلَى زَيْدٍ هَذَا الِاسْمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ افْتَرَوْا على الله حقيقة،

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 28.

وَهُوَ ظَاهِرُ الِافْتِرَاءِ الْوَارِدِ فِي آيِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يُرِيدَ أَنَّهُ كَانَ شَرْعُهُمْ لِأَتْبَاعِهِمْ سُنَنًا لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ شَرَعَ أَمْرًا فَكَأَنَّهُ قَالَ لِتَابِعِهِ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا مُرَادُ اللَّهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِانْتِفَاءِ الْفَلَاحِ. وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ بِمَا يُؤَمَّلُ، فَتَارَةً يَكُونُ فِي الْبَقَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَالْمِسَى وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهُ وَتَارَةً فِي نُجْحِ الْمَسَاعِي كَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ فَقَدَ يُبْ ... لَغُ بِالضَّعْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ الْأَرِيبُ وَارْتِفَاعُ مَتَاعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَنْفَعَتَهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْفَعَةً قَلِيلَةً وَعِقَابُهَا عَظِيمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَيْشُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ هُنَا مَا حَلَّلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا حَرَّمَهُ الله تعالى. وقال أبو الْبَقَاءِ: بَقَاؤُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ أَيْ: مَتَاعُهُمْ قَلِيلٌ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَتْبَعَهُ بِمَا كَانَ خَصَّ بِهِ الْيَهُودَ مُحَالًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، إِذْ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ إِلَّا بِذَلِكَ. وَيَتَعَلَّقُ مِنْ قَبْلُ بِقَصَصْنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: بِحَرَمِنَا، وَالْمَحْذُوفُ الَّذِي فِي مِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِ تَحْرِيمِنَا عَلَى أَهْلِ مِلَّتِكَ. وَالسُّوءُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ انْتَهَى. مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ غَيْرِهِ. وَالْكَلَامُ فِي لِلَّذِينَ عَمِلُوا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِجَهَالَةٍ تَعَمُّدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَتْ هُنَا ضِدَّ الْعِلْمِ، بَلْ تَعَدَّى الطَّوْرَ وَرُكُوبَ الرَّأْسِ مِنْهُ: أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَالَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعِلْمِ، تَصْحَبُ هَذِهِ كَثِيرًا، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنْهَا الْمُتَعَمِّدُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَلَّ مَا يُوجَدُ فِي الْعُصَاةِ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ بِخَطَرِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي يُوَاقِعُ انْتَهَى. مُلَخَّصًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِجَهَالَةٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: عَمِلُوا السُّوءَ جَاهِلِينَ غَيْرَ عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَبِعِقَابِهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ لِلْعَاقِبَةِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: جَهَالَتُهُ أَنْ يَلْتَذَّ بِهَوَاهُ، وَلَا يبالي

_ (1) سورة النحل: 16/ 110.

بِمَعْصِيَةِ مَوْلَاهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِاغْتِرَارِ الْحَالِ عَنِ الْمَآلِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ عَمِلَهُ بِغَيْرِ جَهَالَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَابَ فَهَذَا سَبِيلُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَأْتِي الذُّنُوبَ يَأْتِيهَا بِقِلَّةِ فِكْرٍ فِي عَاقِبَةٍ، أَوْ عِنْدَ غَلَبَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ فِي جَهَالَةِ شَبَابٍ، فذكر الأكثر عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مِثْلَ ذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى عَمَلِ السُّوءِ، وَأَصْلَحُوا: اسْتَمَرُّوا عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: أَصْلَحُوا آمَنُوا وَأَطَاعُوا، وَالضَّمِيرُ فِي من بعدها عائد على الْمَصَادِرِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْجَهَالَةِ. وَقِيلَ: عَلَى السُّوءِ عَلَى مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ. إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: لَمَّا أَبْطَلَ تَعَالَى مَذَاهِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، وَالطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ، وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ، وَكَانُوا مُفْتَخِرِينَ بِجَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُقِرِّينَ بِحُسْنِ طَرِيقَتِهِ وَوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، ذَكَرَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَأَوْضَحَ مِنْهَاجَهُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْيَهُودِ بَيْنَ طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِهِ وَحَالِهِمْ، وَحَالِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَ أُمَّةً لِانْفِرَادِهِ بِالْإِيمَانِ فِي وَقْتِهِ مُدَّةً مَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَّةَ: لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ الْيَوْمَ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ. وَالْأُمَّةُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ مِنْهَا: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ يُشَبَّهُ بِهِ الرَّجُلُ الصَّائِمُ، أَوْ الْمَلِكُ، أَوِ الْمُنْفَرِدُ بِطَرِيقَةٍ وَحْدَهُ عَنِ النَّاسِ فَسُمِّيَ أُمَّةً، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا كَانَ عنده أُمَّةٍ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ الحسن بن هانىء قَوْلَهُ: وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَأَطْلَقَ هُوَ وَعُمَرُ ذَلِكَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: كَانَ أُمَّةً قَانِتًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ رُحَمَةٌ، وَعَلَّامَةٌ، وَنَسَّابَةٌ، يَقْصِدُونَ بِالتَّأْنِيثِ التَّنَاهِيَ فِي الْمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِهِ. وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الْإِمَامُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَمَّ يَؤُمُّ،

وَالْمَفْعُولُ قَدْ يُبْنَى لِلْكَثْرَةِ عَلَى فُعَلَةٍ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقَانِتِ، وَالْحَنِيفِ: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَغَدَّى إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ، فَلَمْ يَجِدْ ذَاتَ يَوْمٍ ضَيْفًا فَأَخَّرَ غَدَاهُ، فَإِذَا هُوَ بِفَوْجٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّعَامِ، فَخُيِّلُوا أَنَّ بِهِمْ جُذَامًا فَقَالَ: الْآنَ وجبت مؤاكلتكم، شكر الله عَلَى أَنَّهُ عَافَانِي وَابْتَلَاكُمْ. ورتيناه فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، قَالَ قَتَادَةُ: حَبَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ، فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَتَوَلَّوْنَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ، وَخُصُوصًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ فَخْرَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِهِ، وَذَلِكَ بِإِجَابَةِ دعوته: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1» وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ قَوْلُ الْمُصَلِّي مِنَّا: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الذِّكْرُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِسَانُ صِدْقٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقَبُولُ، وَعَنْهُ تَنْوِيهُ اللَّهِ بِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ عَلَى الْكِبَرِ. وَقِيلَ: الْمَالُ يَصْرِفُهُ فِي الْخَيْرِ وَالْبِرِّ. وَإِنَّهُ لَمِنَ المصلحين، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَلَمَّا وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: وَأَمَرَ الْفَاضِلَ بِاتِّبَاعِ الْمَفْضُولِ، لَمَّا كَانَ سَابِقًا إِلَى قَوْلِ الصَّوَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا فِي ثُمَّ هَذِهِ مَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ، وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْكَرَامَةِ، وَأَجَلَّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّتَهُ، مِنْ قَبْلِ أَنَّهَا عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّعُوتِ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهَا بِهَا انْتَهَى. وَأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ. وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ قَالَ قَتَادَةُ: فِي الْإِسْلَامِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: جَمِيعَ مِلَّتِهِ إِلَّا مَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ عَقَائِدُ الشَّرْعِ دُونَ الْفُرُوعِ لِقَوْلِهِ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «2» وَقِيلَ: فِي التَّبَرِّي مِنَ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ قَوْمٌ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يَنْفَرِدُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِهِ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَفَى الشِّرْكَ وَأَثْبَتَ التَّوْحِيدَ بِنَاءً عَلَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَابِعًا لَهُ، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ قَوْلِهِ: أَنِ اتَّبِعْ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي يَصِحُّ حُصُولُ الْمُتَابَعَةِ فيها.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 84. (2) سورة المائدة: 5/ 48. [.....]

(قُلْتُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُتَابَعَتَهُ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهِيَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالسُّهُولَةِ، وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا، لِأَنَّ الْمُعْتَقَدَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ دَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوحَى لِتَظَافُرِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ عَلَى اعْتِقَادِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1» فَلَيْسَ اعْتِقَادَ الْوَحْدَانِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْوَحْيِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا تَظَافُرُ الْمَنْقُولِ عَنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مَعَ دَلِيلِ الْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ هُنَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا، وَأَمَرَ الرَّسُولَ بِاتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ انْتِفَاءُ الشِّرْكِ لَيْسَ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدَ الْوَحْيِ، بَلِ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ تَظَافَرَا عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ مَكِّيٌّ: وَلَا يَكُونُ- يَعْنِي حَنِيفًا- حَالًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ تَعْمَلُ فِيهَا حُرُوفُ الْخَفْضِ إِذَا عَمِلَتْ فِي ذِي الْحَالِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ قَائِمًا انْتَهَى. أَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ مَكِّيٍّ وَتَعْلِيلِهِ امْتِنَاعَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، جَازَتِ الْحَالُ مِنْهُ نَحْوَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ مُسْرِعًا، وَشُرْبُ السَّوِيقِ مَلْتُوتًا. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: وَيَجُوزُ أَيْضًا ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ «2» إِخْوَانًا أَوْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «3» وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى التَّسْهِيلِ، وَعَلَى الْأَلْفِيَّةِ لِابْنِ مَالِكٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي رَدِّهِ عَلَى مَكِّيٍّ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْحَالَ إِلَى آخِرِهِ فَقَوْلٌ بَعِيدٌ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، لِأَنَّ الْبَاءَ فِي بِزَيْدٍ لَيْسَتْ هِيَ الْعَامِلَةَ فِي قَائِمًا، وَإِنَّمَا الْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَرَرْتُ، وَالْبَاءُ وَإِنْ عَمِلَتِ الْجَرَّ فِي زَيْدٍ فَإِنَّ زَيْدًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَرَرْتُ، وَكَذَلِكَ إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ حَيْثُ يَجُوزُ حَذْفُهُ نَصَبَ الْفِعْلُ ذَلِكَ الِاسْمَ الَّذِي كَانَ مَجْرُورًا بِالْحَرْفِ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ الرَّسُولُ قَدِ اخْتَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، بَيَّنَ أَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ لَمْ يَكُنْ تَعْظِيمُهُ، وَاتِّخَاذُهُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا دِينِهِ، وَالسَّبْتُ مَصْدَرٌ، وَبِهِ سُمِّي الْيَوْمُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي الْأَعْرَافِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ سَبْتَهَا وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ وَهُوَ الْمَسْخُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 108. (2) سورة الأعراف: 7/ 43. (3) سورة البقرة: 2/ 135.

فِيهِ: أَنَّهُمْ أَحَلُّوا الصَّيْدَ فِيهِ تَارَةً وَحَرَّمُوهُ تَارَةً، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى كلمة واحدة بعد ما حَتَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ عَنِ الصَّيْدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى فِي ذِكْرِ ذَلِكَ نَحْوَ الْمَعْنَى فِي ضَرْبِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ مَثَلًا، وَغَيْرِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ الْإِنْذَارُ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ عَلَى الْعُصَاةِ وَالْمُخَالِفِينَ لِأَوَامِرِهِ وَالْخَالِعِينَ رِبْقَةَ طَاعَتِهِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُحِلِّينَ أَوْ مُحَرِّمِينَ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ اخْتِلَافِ فِعْلِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ مُحَلِّينَ تَارَةً وَمُحْرِمِينَ أُخْرَى، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: نُرِيدُ الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّبْتُ، إِلَّا شِرْذِمَةً مِنْهُمْ قَدْ رَضُوا بِالْجُمُعَةِ، فَهَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّبْتِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمُ اخْتَارَهُ، وَبَعْضَهُمُ اخْتَارَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي السَّبْتِ، وَابْتَلَاهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِيهِ، فَأَطَاعَ أَمْرَ اللَّهِ الرَّاضُونَ بِالْجُمُعَةِ فَكَانُوا لَا يَصِيدُونَ، وَأَعْقَابُهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الصَّيْدِ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ دُونَ أُولَئِكَ. وَهُوَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِمَا يَسْتَوْجِبُهُ. وَمَعْنَى جَعَلَ السَّبْتَ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَهُ، وَتَرْكَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عُدِّيَّ جَعَلَ بِعَلَى، لِأَنَّ الْيَوْمَ صَارَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، لِارْتِكَابِهِمُ الْمَعَاصِيَ فِيهِ انْتَهَى. وَلِهَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: جُعِلَ السَّبْتُ لَعْنَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: ذَرُوا الْأَعْمَالَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِعِبَادَتِي، فَقَالُوا: نُرِيدُ السَّبْتَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّاحَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: جَعَلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ والأعمش: أنهما قرآ إِنَّمَا أَنْزَلْنَا السَّبْتَ، وَهِيَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا قِرَاءَةٍ، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَلِمَا اسْتَفَاضَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أنهما قرآ كَالْجَمَاعَةِ. ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ: أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ بِتَلَطُّفٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْمَدْعُوُّ حُكْمَهُ، وَهُوَ الْكَلَامُ الصَّوَابُ

الْقَرِيبُ الْوَاقِعُ مِنَ النَّفْسِ أَجْمَلَ مَوْقِعٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحِكْمَةَ الْقُرْآنُ، وَعَنْهُ: الْفِقْهُ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: مَا يَمْنَعُ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ آيَاتِ رَبِّكَ الْمُرَغِّبَةِ وَالْمُرَهِّبَةِ. وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الْأَدَبُ الْجَمِيلُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيَ الْعِبَرُ الْمَعْدُودَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْحِكْمَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَرَاتِبِ الْأَفْعَالِ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ أَنْ تَخْتَلِطَ الرَّغْبَةُ بِالرَّهْبَةِ، وَالْإِنْذَارُ بِالْبِشَارَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ الْإِسْلَامِ، بِالْحِكْمَةِ بِالْمَقَالَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْمُوَضِّحُ لِلْحَقِّ الْمُزِيلِ لِلشُّبْهَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ إِنَّكَ تُنَاصِحُهُمْ بِهَا وَتَقْصِدُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِيهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْقُرْآنَ أَيِ: ادْعُهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ حِكْمَةٌ وَمَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ مِنَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ فَظَاظَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ التَّخْوِيفُ وَالتَّرْجِئَةُ وَالتَّلَطُّفُ بِالْإِنْسَانِ بِأَنْ تُجِلَّهُ وَتُنَشِّطَهُ، وَتَجْعَلَهُ بصورة من قبل الْفَضَائِلَ وَنَحْوَ هَذَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ أَطْبَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَغَيْرِهِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي كِتَابِ السِّيَرِ. وَذَهَبَ النَّحَّاسُ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهَا اتِّصَالًا حَسَنًا، لِأَنَّهَا تَتَدَرَّجُ الذَّنْبَ مِنَ الَّذِي يَدَّعِي، وَتُوعَظُ إِلَى الَّذِي يُجَادِلُ، إِلَى الَّذِي يُجَازَى عَلَى فِعْلِهِ، وَلَكِنْ مَا رَوَى الْجُمْهُورُ أَثْبَتُ انْتَهَى. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أُصِيبَ بِظُلَامَةٍ أَنْ لَا يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْثَلُ ظُلَامَتَهُ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَسَمَّى الْمُجَازَاةَ عَلَى الذَّنْبِ مُعَاقَبَةً لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمَعْنَى: قَابِلُوا مَنْ صَنَعَ بِكُمْ صَنِيعَ سُوءٍ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ عَكْسُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «1» . الْمَجَازُ فِي الثَّانِي وَفِي: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فِي الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ: وَإِنْ عَقَّبْتُمْ فَعَقِّبُوا بِتَشْدِيدِ الْقَافَيْنِ أَيْ: وَإِنْ قَفَّيْتُمْ بِالِانْتِصَارِ فَقَفُّوا بِمِثْلِ مَا فُعِلَ بِكُمْ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مُبْتَدَأً بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ أَيْ: لِصَبْرِكُمْ وَلِلصَّابِرِينَ أَيْ: لَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، فَوَضَعَ الصَّابِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ثَنَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَبِصَبْرِهِمْ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى جِنْسِ الصَّبْرِ، وَيُرَادُ بِالصَّابِرِينَ جِنْسُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَالصَّبْرُ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، فَيَنْدَرِجُ صَبْرُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الصَّبْرِ،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 54.

وَيَنْدَرِجُونَ هُمْ فِي الصَّابِرِينَ. وَنَحْوُهُ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ «1» وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «2» وَلَمَّا خُيِّرَ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْمُعَاقَبَةِ وَالصَّبْرِ عَنْهَا عَزَمَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأُمِرَ هُوَ وَحْدَهُ بِالصَّبْرِ. وَمَعْنَى بِاللَّهِ: بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ فِي يَمْكُرُونَ كَمَا قَالَ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «3» وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْقَتْلَى الْمُمَثَّلِ بِهِمْ حَمْزَةَ، وَمَنْ مُثِّلَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ضَيْقٍ بِفَتْحِ الضَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِكَسْرِهَا، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ كَالْقِيلِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بِفَتْحِ الضَّادِ مُخَفَّفٌ مِنْ ضَيِّقٍ أَيْ: وَلَا تَكُ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ كَلَيْنٍ فِي لَيِّنٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الضَّيْقُ لُغَةً فِي الْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُخَفَّفًا مِنْ ضَيِّقٍ لَزِمَ أَنْ تُقَامَ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِذَا تَخَصَّصَ الْمَوْصُوفُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذَلِكَ، وَالصِّفَةُ إِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِذَا تَخَصَّصَ الْمَوْصُوفُ مِنْ نَفْسِ الصِّفَةِ كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ ضَاحِكًا، فَإِنَّمَا تُخَصِّصُ الْإِنْسَانَ. وَلَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ بَارِدًا لَمْ يَحْسُنْ، وَبِبَارِدٍ مِثْلَ سِيبَوَيْهِ وَضَيِّقٌ لَا يُخَصِّصُ الْمَوْصُوفَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ مَنْسُوخٌ، وَمَعْنَى الْمَعِيَّةِ هُنَا بِالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ والإعانة.

_ (1) سورة الشورى: 42/ 40. (2) سورة البقرة: 2/ 237. (3) سورة المائدة: 5/ 68.

سورة الإسراء

[الجزء السابع] سورة الإسراء [سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)

جَاسَ يَجُوسُ جَوْسًا وَجَوَسَانًا تَرَدَّدَ فِي الْغَارَةِ قَالَهُ اللَّيْثُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَاسُوا فَتَّشُوا هَلْ بَقِيَ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ. وَقَالَ الفراء: قيلوا. قَالَ حَسَّانُ: وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى لِسَيْفِ مُحَمَّدٍ ... فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءُ عَرْضَ الْعَسَاكِرِ وَقَالَ قُطْرُبٌ: نَزَلُوا، قَالَ الشَّاعِرُ: فَجُسْنَا دِيَارَهُمْ عَنْوَةً ... وَأَبْنَاءُ سَادَاتِهِمْ مُوَثَّقِينَا وَقِيلَ: دَاسُوا، وَمِنْهُ: إِلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بِالْمَطِيِّ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجَوْسُ وَالْحَوْسُ وَالْعَوْسُ وَالْهَوْسُ الطَّوَافُ بِاللَّيْلِ. فَالْجَوْسُ وَالْحَوْسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ. حَظَرْتُ الشَّيْءَ مَنَعْتُهُ. سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي

بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. سَبَبُ نُزُولِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ الْإِسْرَاءَ بِهِ وَتَكْذِيبُهُمْ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ قَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ بِإِجْمَاعٍ وَقِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ وَقِيلَ: إِلَّا أَرْبَعَ هَاتَانِ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَقَوْلُهُ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَزَادَ مُقَاتِلٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ الْآيَةَ وَقَالَ قَتَادَةُ إِلَّا ثَمَانِيَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إِلَى آخِرِهِنَّ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، وَكَانَ مِنْ مَكْرِهِمْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْكَذِبِ والسحر والسعر وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا رَمَوْهُ بِهِ، أَعْقَبَ تَعَالَى ذَلِكَ بِذِكْرِ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَاحْتِفَائِهِ بِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُبْحَانَ فِي الْبَقَرَةِ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَعُثْمَانَ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِي آخِرِهِ زَائِدَتَيْنِ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ بِالْعَلَمِيَّةِ وَإِضَافَتُهُ لَا تَزِيدُهُ تَعْرِيفًا انْتَهَى. وَيَعْنِيَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَفْ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ عَلَمٌ لَنُوِيَ تَنْكِيرُهُ ثُمَّ يُضَافُ وَصَارَ إِذْ ذَاكَ تَعْرِيفُهُ بِالْإِضَافَةِ لَا بِالْعَلَمِيَّةِ. أَسْرى بِمَعْنَى سَرَى وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ فيه للتعدية وعدّيا بِالْبَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ، بَلِ الْمَعْنَى جَعَلَهُ يَسْرِي لِأَنَّ السُّرَى يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَالِ كَمَشَى وَجَرَى وَهُوَ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «1» أَيْ لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ، فَأَسْرَى وَسَرَى عَلَى هَذَا كسقى وأسقى إذا كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ سَرَى بِعَبْدِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ أَسْرى مُعَدَّاةٌ بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَسْرَى الْمَلَائِكَةَ بِعَبْدِهِ لِأَنَّهُ يُقْلِقُ أَنْ يُسْنَدَ أَسْرَى وَهُوَ بِمَعْنَى سَرَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ فِعْلٌ يُعْطِي النُّقْلَةَ كَمَشَى وَجَرَى وَأَحْضَرَ وَانْتَقَلَ، فَلَا يَحْسُنُ إِسْنَادُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَنَحْنُ نَجِدُ مَنْدُوحَةً فَإِذَا صَرَّحَتِ الشَّرِيعَةُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كقوله في الحديث:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 20.

«أَتَيْتُهُ سَعْيًا وَأَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» حُمِلَ ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَلِّصِ مِنْ نَفْيِ الحوادث، وأَسْرى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْرُجُ فَصِيحَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَجَوُّزِ قَلَقٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَإِنَّهُ أَلْزَمُ لِلنُّقْلَةِ مِنْ أَتَيْتُهُ وَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى اعْتِقَادَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى لَزِمَ مِنْ كَوْنِ الْبَاءِ لِلتَّعْدِيَةِ مُشَارَكَةُ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ وَهَذَا شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، فَإِذَا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ لَزِمَ مِنْهُ قِيَامُكَ وَقِيَامُ زِيدٍ عِنْدَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، الْتَبَسَتْ عِنْدَهُ بَاءُ التَّعْدِيَةِ بِبَاءِ الْحَالِ، فَبَاءُ الْحَالِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ إِذِ الْمَعْنَى قُمْتُ مُلْتَبِسًا بِزَيْدٍ وَبَاءُ التَّعْدِيَةِ مُرَادِفَةٌ لِلْهَمْزَةِ، فَقُمْتُ بِزَيْدٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَقَوْلِكَ أَقَمْتُ زَيْدًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِقَامَتِكَهُ أَنْ تَقُومَ أَنْتَ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «1» يَعْنِي أَنْ يَكُونَ التقدير لسرت مَلَائِكَتُهُ بِعَبْدِهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشَارَكَةَ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَأَيْضًا فَمَوَارِدُ الْقُرْآنِ فِي فَأَسْرِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ «2» وأَنْ أَسْرِ بِعِبادِي «3» قرىء بِالْقَطْعِ وَالْوَصْلِ، وَيَبْعُدُ مَعَ الْقَطْعِ تَقْدِيرُ مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ، فَيُسْتَدَلُّ بِالْمُصَرَّحِ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ كَانَ بِشَخْصِهِ وَلِذَلِكَ كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِهِ وَشَنَّعَتْ عَلَيْهِ، وَحِينَ قَصَّ ذلك على أم هانىء قَالَتْ: لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِهَا فَيُكَذِّبُوكَ وَلَوْ كَانَ مَنَامًا اسْتُنْكِرَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ. وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ مَرْوِيٌّ فِي الْمَسَانِيدِ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ رَوَاهُ عِشْرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ. قِيلَ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ مَنَامًا فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُمَا، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشَاهِدَا ذَلِكَ لِصِغَرِ عَائِشَةَ وَكُفْرِ مُعَاوِيَةَ إِذْ ذَاكَ، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يُسْنِدَا ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَدَّثَا بِهِ عَنْهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ كَانَ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا رَآهَا وَقَوْلُهُ: بِعَبْدِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا وَصَلَ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمَعَارِجِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا محمد بم أُشَرِّفُكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ بِنِسْبَتِي إِلَيْكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ فِيهِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الْآيَةَ انْتَهَى. وَعَنْهُ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَعَنْهُ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ وَهَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ. وقال الشاعر:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 17. (2) سورة هود: 11/ 18 وسورة الحجر: 15/ 65. (3) سورة طه: 20/ 77 وسورة الشعراء: 26/ 52.

لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمٌ أَشْرَفُ مِنْهُ لَسَمَّاهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَانْتَصَبَ لَيْلًا عَلَى الظَّرْفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّرَى لَا يَكُونُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَقِيلَ: يَعْنِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَلَمْ يَكُنْ إِدْلَاجًا وَلَا ادِّلَاجًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْلًا بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ بَعْضِ اللَّيْلِ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ «1» عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هُوَ الْمَسْجِدُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ. وَقِيلَ مِنَ الْحِجْرِ. وَقِيلَ مِنْ بَيْنِ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ. وَقِيلَ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هانىء. وَقِيلَ مِنْ سَقْفِ بَيْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ أَطْلَقَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِعَامٍ وَنِصْفٍ فِي رَجَبٍ. وَقِيلَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِسَبْعَةِ أَعْوَامٍ. وَعَنِ الْحَرْبِيِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَالْمُتَحَقِّقُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ شَقِّ الصَّحِيفَةِ وَقَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ، وَوَقَعَ لِشَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنْ شَرِيكٍ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الرُّعَيْنِيُّ فِي تَارِيخِهِ: أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي بَيْتِ أم هانىء بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَأُسْرِيَ بِهِ وَرَجَعَ مِنْ لَيْلَتِهِ وَقَصَّ الْقِصَّةَ عَلَى أُمِّ هانىء وَقَالَ: «مُثِّلَ لِيَ النَّبِيُّونَ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ» . وَقَامَ لِيَخْرُجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَتَشَبَّثَتْ أُمُّ هانىء بِثَوْبِهِ فَقَالَ: «مَا لَكِ» ؟ قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُكَذِّبَكَ قَوْمُكَ إِنْ أَخْبَرْتَهُمْ، قَالَ: «وَإِنْ كَذَّبُونِي» فَخَرَجَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمَّ فَحَدَّثَهُمْ فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَوَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا وَإِنْكَارًا، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَسَعَى رِجَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لقد صدق، قالوا:

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 79.

أَتُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ عَلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَافَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَاسْتَنْعَتُوهُ، فَجُلِّيَ لَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَطَفِقَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَنْعَتُهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: أَمَّا النَّعْتُ فَقَدْ أَصَابَ فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا، فَأَخْبَرَهُمْ بِعَدَدِ جِمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا وَقَالَ: «تَقْدَمُ يَوْمَ كَذَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ» فَخَرَجُوا يَشْتَدُّونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ شَرَقَتْ. وَقَالَ آخَرُ: وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْعِيرُ قَدْ أَقْبَلَتْ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، وَقَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَكَانَ الْعُرُوجُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا أَيْضًا بِمَا رَأَى فِي السَّمَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَأَنَّهُ لَقِيَ الْأَنْبِيَاءَ وَبَلَغَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَسِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ هِيَ غَيْرُ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ. والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقْصَى بُيُوتِ اللَّهِ الْفَاضِلَةِ مِنَ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَقْصَى الْبَعِيدَ دُونَ مُفَاضَلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِوَاهُ، وَيَكُونَ الْمَقْصِدُ إِظْهَارَ الْعَجَبِ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى هَذَا الْبُعْدِ فِي لَيْلَةٍ انْتَهَى. وَلَفْظَةُ: إِلَى تَقْتَضِي أَنَّهُ انْتَهَى الْإِسْرَاءُ بِهِ إِلَى حَدِّ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَلَا يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ عَلَى دُخُولِهِ. والَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةُ مَدْحٍ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاطٍ عَارِضٍ وَبَرَكَتُهُ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الدِّينِيَّةِ كَالنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ وَنَوَاحِيهِ وَنَوَادِيهِ، وَالدُّنْيَاوِيَّةِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْأَرْضِ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ تَعَالَى بَارَكَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ وَخَصَّ فِلَسْطِينَ بِالتَّقْدِيسِ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِنُرِيَهُ بِالنُّونِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ لِيُرِيَهُ بِالْيَاءِ فَيَكُونُ الِالْتِفَاتُ فِي آيَاتِنَا وَهَذِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ وَالْآيَاتُ الَّتِي أُرِيَهَا هِيَ الْعَجَائِبُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّاسَ وَإِسْرَاؤُهُ مِنْ مَكَّةَ وَعُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَوَصْفُهُ الْأَنْبِيَاءَ وَاحِدًا وَاحِدًا حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِيُرِيَ مُحَمَّدًا لِلنَّاسِ آيَةً، أَيْ يَكُونُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ آيَةً فِي أَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ بِبَشَرٍ هَذَا الصُّنْعَ فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عَلَى هَذَا رُؤْيَةَ الْقَلْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ مُحَمَّدٍ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِ الْعَالِمُ بِتَهْذِيبِهَا

وَخُلُوصِهَا فَيُكْرِمُهُ وَيُقَرِّبُهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الْإِسْرَاءِ، فَهِيَ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ بَلِيغَةٌ إِلَى ذَلِكَ أَيْ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُونَ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِكُمُ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَشْرِيفَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِسْرَاءِ وَإِرَاءَتَهُ الْآيَاتِ ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُوسَى بِإِيتَائِهِ التَّوْرَاةَ وَآتَيْنا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَاءَتِهِ مِنَ السُّوءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْخَبَرِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفُ قَوْلِهِ وَآتَيْنَا عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنْ تَقْدِيرِ الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْرَيْنَا بِعَبْدِنَا وَأَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا وَآتَيْنَا. وَقَالَ الْعُكْبَرِيُّ وَآتَيْنَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَسْرَى انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ والْكِتابَ هُنَا التَّوْرَاةُ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ مِنْ وَجَعَلْنَاهُ عَلَى الْكِتَابِ، ويحتمل أن يعود على مُوسَى، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً وَلَا نَهْيَ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً تَعْلِيلًا أَيْ لِأَنْ لَا يَتَّخِذُوا وَلَا نَفْيَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ زَائِدَةً وَيَكُونَ لَا تَتَّخِذُوا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ خِلَافًا لِمُجَوِّزِ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ أَنْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ: يَتَّخِذُوا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْوَكِيلُ فَعِيلٌ مِنَ التَّوَكُّلِ أَيْ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَبًّا تَكِلُونَ إِلَيْهِ أُمُورَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ لِلرَّبِّ وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عِبَادِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى ارْتِفَاعِ مَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ وَانْحِطَاطِ أَمْرِ الْوَكِيلِ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ ذُرِّيَّةَ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا ذُرِّيَّةً أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ وَكِيلًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَتَّخِذُوا ووكيلا وَفِي مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ لَا يَتَّخِذُوا وُكَلَاءَ ذُرِّيَّةً، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ ذُرِّيَّةُ بِالرَّفْعِ وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتَّخِذُوا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاءَةِ بِالتَّاءِ لِأَنَّكَ لَا تُبْدِلُ مِنْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ لَوْ قُلْتَ ضَرَبْتُكَ زَيْدًا عَلَى الْبَدَلِ لَمْ يَجُزْ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ إِطْلَاقِ أَنَّكَ لَا تُبْدِلُ مِنْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بدل بعض من كل وَبَدَلِ اشْتِمَالٍ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَدَلِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِكُمْ صَغِيرِكُمْ وَكَبِيرِكُمْ وَإِنْ لَمْ يُفِدِ التَّوْكِيدَ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ الْمَنْعُ وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ الْجَوَازُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّسْهِيلِ، وَذَكَرَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي نَجَّاهُمْ بِهَا مِنَ الْغَرَقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبَانُ بْنُ

عُثْمَانَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ بِكَسْرِ ذَالِ ذِرِّيَّةَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا بِفَتْحِهَا. وَعَنْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ذَرِّيَّةً بِفَتْحِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ فَعِلِيَّةٍ كَمَطِيَّةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى نُوحٍ. قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ شُكْرُهُ إِذَا أَكَلَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا نَزَعَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى انْتَهَى. وَنَبَّهَ عَلَى الشُّكْرِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّوْحِيدَ إِذِ النِّعَمُ الَّتِي يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا هِيَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ كُونُوا مُوَحِّدِينَ شَاكِرِينَ لِنِعَمِ اللَّهِ مُقْتَدِينَ بِنُوحٍ الَّذِي أَنْتُمْ ذُرِّيَّةُ مَنْ حُمِلَ مَعَهُ. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً. قَضَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «1» وَلَمَّا ضُمِّنَ هُنَا مَعْنَى الْإِيحَاءِ أَوِ الْإِنْفَاذِ تَعَدَّى بِإِلَى أَيْ وَأَوْحَيْنَا أَوْ أَنْفَذْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَضَاءِ الْمَحْتُومِ الْمَبْتُوتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَعْلَمْنَاهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا قَضَيْنَا عَلَيْهِمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا كَتَبْنَا. وَاللَّامُ فِي لَتُفْسِدُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفًا وَيَكُونُ مُتَعَلَّقُ الْقَضَاءِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَعُلُوِّهِمْ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ قَضَيْنَا وَأُبْقِيَ مَنْصُوبُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَيْنَا أُجْرِيَ مَجْرَى القسم ولتفسدنّ جَوَابُهُ، كَقَوْلِهِمْ قَضَاءُ اللَّهِ لَأَقُومَنَّ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكُتُبِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِنْسَ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ التَّوْرَاةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لَتُفْسَدُنَّ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ السِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُفْسِدُكُمْ غَيْرُكُمْ. فَقِيلَ مِنَ الْإِضْلَالِ. وَقِيلَ مِنَ الْغَلَبَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى لَتَفْسُدُنَّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ السِّينِ أَيْ فَسَدْتُمْ بأنفسكم بارتكاب المعاصي

_ (1) سورة القصص: 28/ 29.

مَرَّتَيْنِ أُولَاهُمَا قَتْلُ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ صِدِّيقَةُ مَلِكُهُمْ تَنَافَسُوا عَلَى الْمُلْكِ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ زَكَرِيَّا. فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُمْ فِي قَوْمِكَ أُوحِ عَلَى لِسَانِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ عَدَوْا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ فَانْفَلَقَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهِ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهَا فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ فِي وَسَطِهَا حَتَّى قَطَعُوهُ فِي وَسَطِهَا. وَقِيلَ: سَبَبُ قَتْلِ زَكَرِيَّا أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِمَرْيَمَ قِيلَ قَالُوا حِينَ حَمَلَتْ مَرْيَمُ: ضَيَّعَ بِنْتَ سَيِّدِنَا حَتَّى زَنَتْ، فَقَطَعُوهُ بِالْمِنْشَارِ فِي الشَّجَرَةِ. وقيل شعياء قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ كَانَ زَكَرِيَّاءُ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُقْتَلْ وَإِنَّ الَّذِي دَخَلَ الشَّجَرَةَ وَقُطِعَ نِصْفَيْنِ بِالْمِنْشَارِ فِي وَسَطِهَا هُوَ شعياء، وَكَانَ قَبْلَ زَكَرِيَّاءَ وَحُبِسَ أَرْمِيَاءُ حِينَ أَنْذَرَهُمْ سَخَطَ اللَّهِ وَالْآخِرَةَ قَبْلَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ وَقَصْدَ قَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَعْلَمَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُمْ عِصْيَانٌ وَكُفْرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَفِي الْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ أُمَّةً تَغْلِبُهُمْ وَتَقْتُلُهُمْ وَتُذِلُّهُمْ ثُمَّ يَرْحَمُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ لَهُمُ الْكَرَّةَ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى حَالِهِمُ الْأُولَى مِنَ الظُّهُورِ فَتَقَعُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي وَكُفْرُ النِّعَمِ وَالظُّلْمُ وَالْقَتْلُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أُمَّةً أُخْرَى تُخَرِّبُ دِيَارَهُمْ وَتَقْتُلُهُمْ وَتُجْلِيهِمْ جَلَاءً مُبَرِّحًا وَدَلَّ الْوُجُودُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ كُلِّهِ، قِيلَ وَكَانَ بَيْنَ آخِرِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِائَتَا سَنَةٍ وَعَشْرُ سِنِينَ مُلْكًا مُؤَيَّدًا ثَابِتًا. وَقِيلَ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ لَتَعْصُنَّ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَتَعْلُنَّ أَيْ تَطْغَوْنَ وَتَعْظُمُونَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عُلِيًّا كَبِيرًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عُلُوًّا وَالصَّحِيحُ فِي فُعُولٍ الْمَصْدَرُ أَكْثَرُ كَقَوْلِهِ: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً «1» بِخِلَافِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْإِعْلَالَ فِيهِ هُوَ الْمَقِيسُ وَشَذَّ التَّصْحِيحُ نَحْوُ نَهُوَ وَنُهُوٌّ خِلَافًا لِلفَرَّاءِ إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ قِيَاسًا فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أَيْ مَوْعِدُ أُولَاهُمَا لِأَنَّ الْوَعْدَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ وَالْمَوْعُودُ هُوَ الْعِقَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَعْدُ عِقَابِ أُولَاهُمَا. وَقِيلَ: الْوَعْدُ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْمَوْعِدِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ، وَالضَّمِيرُ فِي أُولَاهُمَا عَائِدٌ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عِباداً وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَبِيدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَزَاهُمْ وَقَتَادَةُ جَالُوتُ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ غَزَاهُمْ سَنْجَارِيبُ وَجُنُودُهُ مَلِكُ بَابِلَ. وَقِيلَ بخت نصر، وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ قَبْلُ فِي جَيْشٍ مِنَ الْفُرْسِ وهو حامل يسير في مطبخ

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 21. [.....]

الْمَلِكِ، فَاطَّلَعَ مِنْ جَوْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْفُرْسُ لِأَنَّهُ كَانَ يُدَاخِلُهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الْجَيْشُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ جَعَلَهُ الْمَلِكُ رَئِيسَ جَيْشٍ وَبَعَثَهُ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ وَجَلَّاهُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَجَدَ الْمَلِكَ قَدْ مَاتَ فَمَلَكَ مَوْضِعَهُ، وَاسْتَمَرَّتْ حَالُهُ حَتَّى مَلَكَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ هُمُ الْعَمَالِقَةُ وَكَانُوا كُفَّارًا. وَقِيلَ: كَانَ الْمَبْعُوثُونَ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ وَأَمَرَهُمْ بِغَزْوِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْبَعْثُ هُنَا الْإِرْسَالُ وَالتَّسْلِيطُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما فعلوا وَلَمْ نَمْنَعْهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا أَسْنَدَ بَعْثَ الْكَفَرَةِ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» وَكَقَوْلِ الدَّاعِي: وَخَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ وَأَسْنَدَ الْجَوْسَ وَهُوَ التَّرَدُّدُ خِلَالَ الدِّيَارِ بِالْفَسَادِ إِلَيْهِمْ، فَتَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَإِحْرَاقُ التَّوْرَاةِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوْسِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا فَعَلُوا دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعَثْنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ تِلْكَ الْأُمَّةِ رَسُولًا بأمره بِغَزْو بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَكُونُ الْبَعْثَةُ بِأَمْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ بِالْبَعْثِ عَمَّا أَلْقَى فِي نَفْسِ الْمَلِكِ أَيْ غَزَاهُمُ انْتَهَى. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أَيْ قِتَالٍ وَحَرْبٍ شَدِيدٍ لِقُوَّتِهِمْ وَنَجْدَتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَجاسُوا بِالْجِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَطَلْحَةُ فَحَاسُوا بالحاء المهملة. وقرىء فَتَجَوَّسُوا عَلَى وَزْنِ تَكَسَّرُوا بِالْجِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ خِلالَ الدِّيارِ وَاحِدًا وَيُجْمَعُ عَلَى خَلَلٍ كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِلَالَ مُفْرَدًا كَالْخَلَلِ وَهُوَ وَسَطُ الدِّيَارِ وَمَا بَيْنَهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْبِعْثَةِ الْأُولَى خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَوَقَعَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْجَلَاءُ وَالْأَسْرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ حِينَ غُزُوا جَاسَ الْغَازُونَ خِلَالَ الدِّيَارِ وَلَمْ يَكُنْ قَتْلٌ وَلَا قِتَالٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَانْصَرَفَتْ عَنْهُمُ الْجُيُوشُ. وَالضَّمِيرُ في وَكانَ عائدا عَلَى وَعْدِ أُولَاهُمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ وَعْدُ الْعِقَابِ وَعْدًا لَا بُدَّ أَنْ يُفْعَلَ انْتَهَى. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الْجُيُوشِ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَجَعَلَ رَدَدْنا مَوْضِعَ نَرُدُّ إِذْ وَقَتَ إِخْبَارِهِمْ لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بَعْدُ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ وَعْدُ اللَّهِ فِي غَايَةِ الثِّقَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَبَّرَ عَنْ مُسْتَقْبَلِهِ بِالْمَاضِي، وَالْكَرَّةُ الدَّوْلَةُ وَالْغَلَبَةُ عَلَى الَّذِينَ بُعِثُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَابُوا وَرَجَعُوا عَنِ الْفَسَادِ مَلَكُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الكرة قبل بخت نصر وَاسْتِبْقَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْرَاهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَرُجُوعِ الْمُلْكِ إِلَيْهِمْ، وَذُكِرَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكًا غَزَا أَهْلَ بابل وكان بخت نصر قَدْ قَتَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِمَّنْ يقرأ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 129.

التوراة وبقي بَقِيَّتَهُ عِنْدَهُمْ بِبَابِلَ فِي الدل، فَلَمَّا غَزَاهُمْ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَغَلَبَ عَلَى بَابِلَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفَعَلَ، وَبَعْدَ مُدَّةٍ قَامَتْ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ فَرَجَعُوا إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا. وَقِيلَ: الْكَرَّةُ تَقْوِيَةُ طَالُوتَ حَتَّى حَارَبَ جَالُوتَ وَنَصْرُ دَاوُدَ عَلَى قَتْلِ جَالُوتَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَكْثَرَ شَرًّا فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَانْتَصَبَ نَفِيراً عَلَى التَّمْيِيزِ. فَقِيلَ: النَّفِيرُ وَالنَّافِرُ وَاحِدٌ وَأَصْلُهُ مِنْ يَنْفِرُ مَعَ الرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَفْرٍ كَكَلْبٍ وَكَلِيبٍ وَعَبْدٍ وَعَبِيدٍ، وَهُمُ الْمُجْتَمِعُونَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: النَّفِيرُ مَصْدَرٌ أَيْ أَكْثَرَ خُرُوجًا إِلَى الْغَزْوِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَأَكْرِمْ بِقَحْطَانَ مِنْ وَالِدٍ ... وَحِمْيَرُ أَكْرِمْ بِقَوْمٍ نَفِيرًا وَيُرْوَى بِالْحِمْيَرِيِّينَ أَكْرِمْ نَفِيرًا، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَكْثَرُ نَفِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ، وَأَكْثَرُ نَفِيرًا مِنَ الْأَعْدَاءِ. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَيْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ كَانَ ثَوَابُ الطَّاعَةِ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ بِمَعْصِيَتِهِ كَانَ عِقَابُ الْإِسَاءَةِ لِأَنْفُسِكُمْ لَا يَتَعَدَّى الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَجَوَابُ وَإِنْ أَسَأْتُمْ قَوْلُهُ: فَلَها عَلَى حَذْفِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلَهَا خَبَرُهُ تَقْدِيرُهُ فَالْإِسَاءَةُ لَهَا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: جَاءَ فَلَهَا بِاللَّامِ ازْدِوَاجًا انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ قَابَلَ قَوْلَهُ لِأَنْفُسِكُمْ بِقَوْلِهِ فَلَهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى أَيْ فَإِلَيْهَا تَرْجِعُ الْإِسَاءَةُ. وَقِيلَ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ فَعَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وللقم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيِ الْمَرَّةُ الْآخِرَةِ فِي إِفْسَادِكُمْ وَعُلُوِّكُمْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ إِذَا الْأُولَى تَقْدِيرُهُ بَعَثْنَاهُمْ عَلَيْكُمْ وَإِفْسَادُهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَكَانَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ حَاجَةٌ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ تَقْضِيهَا، فَأَلْقَتْ أُمُّهَا إِلَيْهَا أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَبْحِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بِسَبَبِ مَا كَانَ مَنْعُهُ مِنْ تَزَوُّجِ ابْنَتِهَا فَسَأَلَتْهُ ذَلِكَ، فدافعها فألحق عَلَيْهِ فَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ فَنَدَرَتْ قَطْرَةٌ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بعث اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَبْعُوثُ فِي المرة الآخرة بخت نصر لِأَنَّ قَتْلَ يَحْيَى بَعْدَ رفع عيسى، وبخت نصر كَانَ قَبْلَ عِيسَى بِزَمَنٍ

طَوِيلٍ. وَقِيلَ: الْمَبْعُوثُ عَلَيْهِمُ الْإِسْكَنْدَرُ وَبَيْنَ الْإِسْكَنْدَرِ وَعِيسَى نَحْوُ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَرَّةِ الْأُخْرَى حين قتلوا شعياء فكان بخت نصر إِذْ ذَاكَ حَيًّا فَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَاتَّبَعَهُمْ إِلَى مِصْرَ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير أَنَّ الَّذِي غَزَاهُمْ آخِرًا مَلِكٌ اسْمُهُ خَرْدُوسُ وَتَوَلَّى قَتْلَهُمْ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ قَائِدٌ لَهُ فَسَكَنَ الدَّمُ. وَقِيلَ قَتَلَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسرائيل يقال له لا حب. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ يَحْيَى قَدْ أُعْطِيَ حُسْنًا وَجَمَالًا فَرَاوَدَتْهُ امْرَأَةُ الْمَلِكِ عَنْ نَفْسِهِ فَأَبَى، فَقَالَتْ لِابْنَتِهَا: سَلِي أَبَاكِ رَأْسَ يَحْيَى فَأَعْطَاهَا مَا سألت. وقرأ الجمهور لِيَسُوؤُا بِلَامِ كَيْ وَيَاءِ الْغَيْبَةِ وَضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَبْعُوثِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ لِيَسُوءَ بِالْيَاءِ وَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى الْإِفْرَادِ وَالْفَاعِلُ الْمُضْمَرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى الْوَعْدِ أَوْ عَلَى الْبَعْثِ الدَّالِّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْكِسَائِيُّ لِنَسُوءَ بِالنُّونِ الَّتِي لِلْعَظَمَةِ وَفِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ لِنَسُوءُنَّ بِلَامِ الْأَمْرِ وَالنُّونِ الَّتِي لِلْعَظَمَةِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ آخِرًا. وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا لَنَسُوءُنَّ وَلَيَسُوءُنَّ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ وَهِيَ لَامُ الْقَسَمِ ، وَدَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ «1» وَجَوَابُ إِذَا هُوَ الْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ لِيُسِيءَ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ لِيَسُوءَ وَجْهَكُمْ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْوُجُوهِ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ آثَارَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ فِي الْقَلْبِ تَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ، فَفِي الْفَرَحِ يَظْهَرُ الْإِسْفَارُ وَالْإِشْرَاقُ، وَفِي الْحُزْنِ يَظْهَرُ الْكُلُوحُ وَالْغَبَرَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْوَجْهِ فَإِنَّهُمْ سَاءُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ فَحَصَلَتِ الْإِسَاءَةُ لِلذَّوَاتِ كُلِّهَا أَوْ عَنْ سَادَاتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ بِالْوُجُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْخِطَابِ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ. وَاللَّامُ فِي وَلِيَدْخُلُوا لَامُ كَيْ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ لَامَ كَيْ، وَمَنْ قَرَأَ بِلَامِ الْأَمْرِ أَوْ بِلَامِ الْقَسَمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَلِيَدْخُلُوا وَمَا بَعْدَهَا أَمْرًا، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ لَامُ كَيْ أَيْ وَبَعَثْنَاهُمْ لِيَدْخُلُوا. والْمَسْجِدَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَعْنَى كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ بِالسَّيْفِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالْإِذْلَالِ، وَهَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَتْلٌ وَلَا قِتَالٌ وَلَا نَهْبٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ. وَلِيُتَبِّرُوا يُهْلِكُوا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: يهدموا. قال الشاعر:

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 12.

فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَفْعُولَةٌ بيتبروا أَيْ يُهْلِكُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا ظَرْفِيَّةٌ أَيْ مُدَّةَ اسْتِيلَائِهِمْ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِنْ تُبْتُمْ وَانْزَجَرْتُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَهَذِهِ التَّرْجِئَةُ لَيْسَتْ لِرُجُوعِ دَوْلَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ تَرَحُّمِ الْمُطِيعِ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنَ الطَّاعَةِ أَنْ يَتَّبِعُوا عِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَلَمْ يَفْعَلُوا. وَإِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ مَرَّةً ثَالِثَةً عُدْنَا إِلَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عَادُوا فَأَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النِّقْمَةَ بِتَسْلِيطِ الْأَكَاسِرَةِ وَضَرْبِ الْإِتَاوَةِ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ عَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: ثُمَّ كَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ فَهُمْ مِنْهُ فِي عَذَابٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. وَمَعْنَى عُدْنا أَيْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «1» ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ جَعْلُ جَهَنَّمَ لَهُمْ حَصِيراً وَالْحَصِيرُ السِّجْنُ. قَالَ لَبِيدٌ: وَمَقَامُهُ غَلَبَ الرِّجَالَ كَأَنَّهُمْ ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِرَاشًا، وَعَنْهُ أَيْضًا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَصْرِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا حَاصِرَةٌ لَهُمْ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، فَحَصِيرٌ مَعْنَاهُ ذَاتُ حَصْرٍ إِذْ لَوْ كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ لَزِمَتْهُ التَّاءُ لِجَرَيَانِهِ عَلَى مُؤَنَّثٍ كَمَا تَقُولُ: رَحِيمَةٌ وَعَلِيمَةٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ كَقَوْلِهِ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أَيْ ذَاتُ انْفِطَارٍ. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. لما ذكر تعالى من اخْتَصَّهُ بِالْإِسْرَاءِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ آتَاهُ التَّوْرَاةَ وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهَا هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرَ مَا قَضَى عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيطِ عليهم

_ (1) سورة 7/ 167.

بِذُنُوبِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ رَادِعًا مَنْ عَقَلَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَذَكَرَ مَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْقُرْآنِ النَّاسِخِ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَكُلِّ كِتَابٍ إِلَهِيٍّ، وَأَنَّهُ يَهْدِي لِلطَّرِيقَةِ أَوِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَقَالَ الضحاك والكلبي والفراء لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ هِيَ شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْأَوَامِرِ والنواهي وأَقْوَمُ هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ إِذْ قُدِّرَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ أَقْوَمُ مِمَّا عَدَاهَا أَوْ مِنْ كُلِّ حَالٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ أَقْوَمُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهَا التَّفْضِيلُ إِذْ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُرْشِدُ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَطَرِيقَةٍ غَيْرِهَا، وَفُضِّلَتْ هَذِهِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الَّتِي هِيَ قَيِّمَةٌ أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ كَمَا قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «1» وفِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ «2» أَيْ مُسْتَقِيمَةُ الطَّرِيقَةِ، قَائِمَةٌ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وقال الزمخشري: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لِلْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ وَأَشَدُّهَا أَوْ لِلْمِلَّةِ أَوْ لِلطَّرِيقَةِ، وَأَيْنَمَا قَدَّرْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَ الْإِثْبَاتِ ذَوْقَ الْبَلَاغَةِ الَّذِي تَجِدُهُ مَعَ الْحَذْفِ لِمَا فِي إِبْهَامِ الْمَوْصُوفِ لِحَذْفِهِ مِنْ فَخَامَةٍ تُفْقَدُ مَعَ إِيضَاحِهِ انْتَهَى. وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قَيْدٌ فِي الْإِيمَانِ الْكَامِلِ إِذِ الْعَمَلُ هُوَ كَمَالُ الْإِيمَانِ، نَبَّهَ عَلَى الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ لِيَتَحَلَّى بِهَا الْمُؤْمِنُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُفَرِّطُ فِي عَمَلِهِ لَهُ بِإِيمَانِهِ حَظٌّ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارَ وَالْكُفَّارَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَسَقَةَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّاسُ حِينَئِذٍ إِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَإِمَّا مُشْرِكٌ، وَإِنَّمَا حَدَثَ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا مُكَابَرَةٌ بَلْ وَقَعَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ هَنَاتٌ وَسَقَطَاتٌ بَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ. وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً بُشِّرُوا بِفَوْزِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَبِكَيْنُونَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَعْدَائِهِمُ الْكُفَّارِ، إِذْ فِي عِلْمِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَتَبْشِيرِهِمْ بِهِ مَسَرَّةٌ لَهُمْ، فَهُمَا بِشَارَتَانِ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَيُخْبَرَ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاخِلًا تَحْتَ الْبِشَارَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ لَا يُعَدُّ لَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ شَرْطًا فِي نَجَاتِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيُبَشِّرُ مُشَدَّدًا مُضَارِعُ بَشَّرَ الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَابْنُ

_ (1) سورة البيّنة: 98/ 5. (2) سورة البيّنة: 98/ 3.

وَثَّابٍ وَالْأَخَوَانِ وَيُبَشِّرُ مُضَارِعُ بَشَرَ الْمُخَفَّفِ وَمَعْنَى أَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ عَقِبَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ، وَانْدَرَجُوا فِيمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَقُولُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1» فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآخِرَةِ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ بِهَا. وَيَدْعُ الْإِنْسانُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ ذَامَّةً لِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الْغَضَبِ وَالضَّجَرِ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ كَانَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِتَعْجِيلِ مَا وُعِدَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ فِي الْآخِرَةِ، كَقَوْلِ النَّضْرِ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «2» الْآيَةَ. وَكُتِبَ وَيَدْعُ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى حَسَبِ السَّمْعِ وَالْإِنْسَانُ هُنَا لَيْسَ وَاحِدًا مُعَيَّنًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي طِبَاعِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا ضَجِرَ وَغَضِبَ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ بِالشَّرِّ أَنْ يُصِيبَهُ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ أَنْ يُصِيبَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ تَثَبُّتِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ. وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَشَارَ بِهِ إِلَى آدَمَ لَمَّا نُفِخَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ وَأَبْصَرَ، فَلَمَّا مَشَى الرُّوحُ فِي بَدَنِهِ قَبْلَ سَاقِهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَذَهَبَ يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا فَلَمْ يَقْدِرْ، أَوِ الْمَعْنَى ذُو عَجَلَةٍ مَوْرُوثَةٍ مِنْ أَبِيكُمُ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ تَنْبُو عَنْهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ ذَمٌّ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «3» الْآيَةَ. وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولُوا: فَاهْدِنَا إِلَيْهِ وَارْحَمْنَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مُعَاتَبَةٌ لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا نَالَهُمْ شَرٌّ وَضُرٌّ دَعَوْا وَأَلَحُّوا فِي الدُّعَاءِ وَاسْتَعْجَلُوا الْفَرَجَ، مِثْلَ الدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ يَدْعُوهُ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ انْتَهَى. وَالْبَاءُ في بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى فِي، وَالْمَدْعُوُّ بِهِ لَيْسَ الشَّرَّ وَلَا الْخَيْرَ، وَيُرَادُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ حَالَتَاهُ فِي الشَّرِّ وَالْخَيْرِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ لِلَّهِ والرغبة والذكر، وَيَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: دُعاءَهُ إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ يَقْتَضِي وُجُودَهُ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ شَبَّهَ دُعاءَهُ فِي حَالَةِ الشَّرِّ بِدُعَاءٍ مَقْصُودٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَيَدْعُ الْإِنْسانُ فِي طَلَبِ الْمُحَرَّمِ كَمَا يَدْعُو فِي طَلَبِ الْمُبَاحِ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَأَنَّهُ هَادٍ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَكْمُلِ الِانْتِفَاعُ إِلَّا بِهِ، وَمَا دَلَّ عَلَى تَوْحِيدِهِ مِنْ عَجَائِبِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ عَجَلَةَ الْإِنْسَانِ وَانْتِقَالَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ كَذَلِكَ فِي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 80. (2) سورة الأنفال: 8/ 32. (3) سورة الأنفال: 8/ 32.

الِانْتِقَالِ لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ، فَنُورٌ عَقِبَ ظُلْمَةٍ وبالعكس، وازدياد نور وانتقاص. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِجَعَلَ بِمَعْنَى صير، وآيَتَيْنِ ثَانِي الْمَفْعُولَيْنِ وَيَكُونَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا آيَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا عَلَامَتَانِ لِلنَّظَرِ وَالْعِبْرَةِ، وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ في آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ لِلتَّبْيِينِ كَإِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَى الْمَعْدُودِ، أَيْ فَمَحَوْنا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَجَعَلْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ النار مُبْصِرَةً. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلْنَا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيتين، وقدّره بعضهم و: جعلنا ذَوَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ صَاحِبَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُرَادُ بِهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ آيَتَيْنِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، واللَّيْلَ وَالنَّهارَ ظَرْفَانِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، أَيْ وَجَعَلْنَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَتَيْنِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَالَةً تَقَدَّمَتْ نُقِلَ الشَّيْءُ عَنْهَا إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَلَا بِمَعْنَى سَمَّى وَحَكَمَ، وَالْآيَةُ فِيهَا إِقْبَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِدْبَارُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ، وَنُقْصَانُ أَحَدِهِمَا بِزِيَادَةِ الْآخَرِ، وَضَوْءُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ إِذَا قُلْنَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ هُمَا الْمَجْعُولَانِ آيَتَيْنِ فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِيهِ، بَلْ خُلِقَ أَسْوَدَ أَوَّلَ حَالِهِ وَلَا تَقْتَضِي الْفَاءُ تَعْقِيبًا وَهَذَا كَمَا يَقُولُ بَنَيْتُ دَارِي فَبَدَأْتُ بِالْأُسِّ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْآيَتَيْنِ هُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَقِيلَ: مَحْوُ الْقَمَرِ كَوْنُهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا. وَقِيلَ: مَحْوُهُ طُلُوعُهُ صَغِيرًا ثُمَّ يَنْمُو ثُمَّ يَنْقُصُ حَتَّى يُسْتَرَ. وَقِيلَ: مَحْوُهُ نَقْصُهُ عَمَّا كَانَ خُلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِضَاءَةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعِينَ جُزْءًا وَنُورَ الْقَمَرِ كَذَلِكَ، فَمَحَا مِنْ نُورِ الْقَمَرِ حَتَّى صَارَ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ، وجعل ما محا مِنْهُ زَائِدًا فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: جَعَلْنَاهَا لَا تُبْصَرُ الْمَرْئِيَّاتُ فِيهَا كَمَا لَا يُبْصَرُ مَا مُحِيَ مِنَ الْكِتَابِ. قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْبَلَاغَةِ الْحَسَنَةِ جِدًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أَيْ جَعَلْنَا اللَّيْلَ ممحوا لضوء مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا يُسْتَبَانُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا أَيْ يُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ، أَوْ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ الَّتِي هِيَ الْقَمَرُ حَيْثُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ فَتُرَى بِهِ الْأَشْيَاءُ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، وَجَعَلْنَا الشَّمْسَ ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَنُسِبَ الْإِبْصَارُ إِلَى آيَةَ النَّهارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ: لَيْلٌ قَائِمٌ وَنَائِمٌ، أَيْ يُقَامُ فِيهِ وَيُنَامُ فِيهِ. فَالْمَعْنَى يُبْصَرُ فِيهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى مُبْصِرَةً مُضِيئَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ أَفْعَلَ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ مَنْ أسند أفعل إليه كقولهم: أَجْبَنَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ أَهْلُهُ جُبَنَاءَ، وَأَضْعَفَ إِذَا كَانَ دَوَابُّهُ ضِعَافًا فَأَبْصَرَتِ

الْآيَةُ إِذَا كَانَ أَصْحَابُهَا بُصَرَاءَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُبْصِرَةً بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالصَّادِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَكَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَمْكِنَةِ كَقَوْلِهِمْ: أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ وَمَكَانٌ مَضَبَّةٌ، وَعَلَّلَ الْمَحْوَ وَالْإِبْصَارَ بِابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَعِلْمِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَوَلِيَ التَّعْلِيلَ بِالِابْتِغَاءِ مَا وَلِيَهُ مِنْ آيَةِ النَّهَارِ وَتَأَخَّرَ التَّعْلِيلُ بِالْعِلْمِ عَنْ آيَةِ اللَّيْلِ. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «1» الْبُدَاءَةُ بِتَعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ تَعْلِيلِ الْمُتَأَخِّرِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا. وَمَعْنَى لِتَبْتَغُوا لِتَتَوَصَّلُوا إِلَى اسْتِبَانَةِ أَعْمَالِكُمْ وَتَصَرُّفِكُمْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَالْحِسابَ لِلشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ آيَةِ اللَّيْلِ لَا مِنْ جِهَةِ آيَةِ النَّهَارِ وَكُلَّ شَيْءٍ مِمَّا تَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ فَصَّلْناهُ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا غَيْرَ مُلْتَبِسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَصْبَ وَكُلَّ شَيْءٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ لِسَبْقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَكُلَّ شَيْءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْحِسابَ وَالطَّائِرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قُدِّرَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَخَاطَبَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا تَعْرِفُ إِذْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالطَّيْرِ فِي كَوْنِهَا سَانِحَةً وَبَارِحَةً وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَتْهُ بِالظِّبَاءِ وَحَيَوَانِ الْفَلَاةِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَطَيُّرًا. وَكَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الطِّيَرَةَ قَاضِيَةٌ بِمَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَبْلَغِ إِشَارَةٍ أَنَّ جَمِيعَ ما يلقى الإنسان من خَيْرٍ وَشَرٍّ فَقَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَأُلْزِمَ حَظُّهُ وَعَمَلُهُ وَمَكْسَبُهُ فِي عُنُقِهِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْحَظِّ وَالْعَمَلِ إِذْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ بِالطَّائِرِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ الْعَرَبِ فِي التَّطَيُّرِ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْأُمُورِ عَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ وَبِأَسْعَدِ طَائِرٍ، وَمِنْهُ مَا طَارَ فِي الْمُحَاصَّةِ وَالسَّهْمِ، وَمِنْهُ فَطَارَ لَنَا مِنَ الْقَادِمِينَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَيْ كَانَ ذَلِكَ حَظَّنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طائِرَهُ عَمَلَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ كِتَابَهُ الَّذِي يَطِيرُ إِلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْبَخْتَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَا ابْنَ آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ إِذَا بُعِثْتَ قُلِّدْتَهَا فِي عُنُقِكَ، وَخُصَّ الْعُنُقُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الزِّينَةِ وَالشَّيْنِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا زَانَهُ كَمَا يُزَيِّنُ الطَّوْقُ وَالْحُلِيُّ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا شَانَهُ كَالْغُلِّ فِي الرَّقَبَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ طَيْرَهُ. وقرىء: فِي عُنُقِهِ بِسُكُونِ النُّونِ. وقرأ الجمهور ومنهم أبو جعفر:

_ (1) سورة القصص: 28/ 73.

وَنُخْرِجُ بِنُونٍ مُضَارِعُ أَخْرَجَ. كِتاباً بِالنَّصْبِ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا وَيُخْرَجُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ كِتاباً أَيْ وَيُخْرَجُ الطَّائِرُ كِتَابًا. وَعَنْهُ أَيْضًا كِتَابٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ: وَيَخْرُجُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ طَائِرُهُ كِتَابًا إِلَّا الْحَسَنَ فَقَرَأَ: كِتَابٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يَخْرُجُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَيُخْرِجُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ وَيُخْرِجُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَلْقاهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ يَلْقاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. مَنْشُوراً غَيْرَ مَطْوِيٍّ لِيُمْكِنَهُ قراءته، ويَلْقاهُ ومَنْشُوراً صِفَتَانِ لِكِتَابٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْشُوراً حَالًا مِنْ مَفْعُولِ يَلْقَاهُ اقْرَأْ كِتابَكَ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقْرَأُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا قَارِئًا. وَقَالَ الزمخشري وغيره. وبِنَفْسِكَ فَاعِلُ كَفى انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ لَا اللُّزُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا حُذِفَتِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِكَفَى. قَالَ الشَّاعِرُ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ ناهيا وقال آخر: وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ ... كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرَا وَقِيلَ: فَاعِلُ كَفى ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، أَيْ كَفَى هُوَ أَيِ الِاكْتِفَاءُ بِنَفْسِكَ. وَقِيلَ: كَفى اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اكْتَفِ، وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِنَّ بِنَفْسِكَ هُوَ فَاعِلُ كَفى فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَدْخُلَ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِتَأْنِيثِ الْفَاعِلُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ كَفَتْ بِنَفْسِكَ كَمَا تُلْحَقُ مَعَ زِيَادَةِ مِنْ فِي الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ مُؤَنَّثًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها «1» وَقَوْلِهِ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ «2» وَلَا نَحْفَظُهُ جَاءَ التَّأْنِيثُ فِي كَفَى إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ مُؤَنَّثًا مَجْرُورًا بِالْبَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْسِكَ ذَاتُكَ أَيْ كَفَى بِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُرِيدُ بِنَفْسِهِ جَوَارِحَهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْ مَا أَشَدَّ كِفَايَةَ ما علمت بما علمت. والْيَوْمَ منصوب بكفى وعَلَيْكَ متعلق بحسيبا. وَمَعْنَى حَسِيباً حَاكِمًا عَلَيْكَ بِعَمَلِكَ قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ أَنْصَفَكَ اللَّهُ وَجَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُحَاسِبًا يَعْنِي فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ. وَقِيلَ: حَاسِبًا كضريب القداح

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 6. (2) سورة الأنعام: 6/ 4.

أَيْ ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٍ بِمَعْنَى صَارِمٍ يَعْنِي أَنَّهُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ كَرَحِيمٍ وَحَفِيظٍ، وَذَكَرَ حَسِيباً لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ وَالْقَاضِي وَالْأَمِيرِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَتَوَلَّاهَا الرجال، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: كَفَى بِنَفْسِكَ رَجُلًا حَسِيبًا. وَقَالَ الْأَنْبَارِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ حَسِيباً وَالنَّفْسُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ يَعْنِي بِالنَّفْسِ الشَّخْصَ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا عَلَامَةَ لِلتَّأْنِيثِ فِي لَفْظِ النَّفْسِ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا مَنِ اهْتَدى الْآيَةَ قَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْهُدَى إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَفِي الضَّلَالِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ هَذَا قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَإِثْمُكُمْ عَلَيَّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا غَيَّا انْتِفَاءَ التَّعْذِيبِ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولًا فَيُكَذَّبُ وَلَا يُؤْمَنُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَانْتِفَاءُ التَّعْذِيبِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا بِالْهَلَاكِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ فَهُوَ يَشْمَلُهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَى الشُّمُولِ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذا أَرَدْنا وَفِي الْآخِرَةِ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وَآيٌ كَثِيرَةٌ نُصَّ فِيهَا عَلَى الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ حِينَ كَذَّبَتِ الرُّسُلَ. وَقَوْلُهُ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نذير؟ وقالوا: بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ، وَكُلَّمَا تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ أَزْمَانِ الْإِلْقَاءِ فَتَعُمُّ الْمُلْقَيْنَ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «2» وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ الْحُجَّةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ قَبْلَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ لِأَنَّ مَعَهُمْ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ اللَّهُ وَقَدْ أَغْفَلُوا النَّظَرَ وَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ، وَاسْتِيجَابُهُمُ الْعَذَابَ لِإِغْفَالِهِمُ النَّظَرَ فِيمَا مَعَهُمْ رُكُونُهُمْ لِذَلِكَ الْإِغْفَالِ الشَّرَائِعَ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَالْعَمَلُ بِهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: بَعْثَةُ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم من جُمْلَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى النَّظَرِ وَالْإِيقَاظِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ لِئَلَّا يَقُولُوا كُنَّا غَافِلِينَ، فَلَوْلَا بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا يُنَبِّهُنَا عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى وَمَا كُنَّا مُسْتَأْصِلِينَ فِي الدُّنْيَا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ حَتَّى

_ (1) سورة المزمل: 73/ 18. (2) سورة فاطر: 35/ 24.

يَبْعَثَ رَسُولًا إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَطْعًا لِلْعُذْرِ عَنْهُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَغَيْرِهَا. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عِلَّةَ إِهْلَاكِهِمْ وَهِيَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمَادِي عَلَى الْفَسَادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذا أَرَدْنا وَقْتَ إِهْلَاكِ قَوْمٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ زَمَانِ إِهْلَاكِهِمْ إِلَّا قَلِيلٌ انْتَهَى. فَتُؤَوَّلُ أَرَدْنا عَلَى مَعْنَى دَنَا وَقْتُ إِهْلَاكِهِمْ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنَا، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ، وَاخْتُلِفَ فِي مُتَعَلَّقِهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَقَالَ: أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَعَلُوا، وَالْأَمْرُ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ بِالْفِسْقِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ افْسُقُوا وَهَذَا لَا يَكُونُ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، وَوَجْهُ الْمَجَازِ أَنَّهُ صَبَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَجَعَلُوهَا ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعَاصِي وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَكَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ لِتَسَبُّبِ إِيلَاءِ النِّعْمَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا خَوَّلَهُمْ إِيَّاهَا لِيَشْكُرُوا وَيَعْمَلُوا فِيهَا الْخَيْرَ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ كَمَا خَلَقَهُمْ أَصِحَّاءَ أَقْوِيَاءَ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ إِيثَارَ الطَّاعَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَآثَرُوا الْفُسُوقَ فَلَمَّا فَسَقُوا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَدَمَّرَهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَفَسَقُوا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دليل عليه غير جائز فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى نَقِيضِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ فَسَقُوا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَفِيضٌ. يُقَالُ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِيَامٌ أَوْ قِرَاءَةٌ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تُقَدِّرُ غَيْرَهُ فَقَدْ رُمْتَ مِنْ مُخَاطِبِكَ عِلْمَ الْغَيْبِ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا قَوْلَهُمْ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي أَوْ فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرِي لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْأَمْرِ مُنَاقِضٌ لَهُ، وَلَا يَكُونُ مَا يُنَاقِضُ الْأَمْرَ مَأْمُورًا بِهِ، فَكَانَ مُحَالًا أَنْ يُقْصَدَ أَصْلًا حَتَّى يُجْعَلَ دَالًّا عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ غَيْرَ مَدْلُولٍ

عَلَيْهِ وَلَا مَنْوِيٍّ، لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْوِي لِأَمْرِهِ مَأْمُورًا بِهِ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كَانَ مِنِّي أَمْرٌ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ طَاعَةٌ كَمَا أَنَّ مَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى غَيْرُ قَاصِدٍ إِلَى مَفْعُولٍ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا كَانَ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْقِسْطِ وَالْخَيْرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَمَرْنَاهُمْ بِالْخَيْرِ فَفَسَقُوا ؟ قُلْتُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَفَسَقُوا يُدَافِعُهُ فَكَأَنَّكَ أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ، فَكَانَ صَرْفُ الْأَمْرِ إِلَى الْمَجَازِ هُوَ الْوَجْهَ. وَنَظِيرُ أَمَرَ شَاءَ فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ فِيهِ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقُولُ: لَوْ شَاءَ لَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَلَوْ شَاءَ لَأَسَاءَ إِلَيْكَ، تُرِيدُ لَوْ شَاءَ الْإِحْسَانَ وَلَوْ شَاءَ الْإِسَاءَةَ فَلَوْ ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ وَقُلْتَ: قَدْ دَلَّتْ حَالُ مَنْ أَسْنَدْتَ إِلَيْهِ الْمَشِيئَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسَاءَةِ فَاتْرُكِ الظَّاهِرَ الْمَنْطُوقَ بِهِ وَأَضْمِرْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَالُ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَدَادٍ انْتَهَى. أَمَّا مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّ أَمَرْنا مُتْرَفِيها صَبَبْنَا عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَيَبْعُدُ جِدًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى آخِرِهِ فَمَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزِ تَعْلِيلٌ لَا يَصِحُّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ. وَقَوْلُهُ فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى نَقِيضِهِ إِلَى قَوْلِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ، فَنَقُولُ: حَذْفُ الشَّيْءِ تَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةٍ مُوَافِقَةٍ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا مَثَّلَ بِهِ فِي قَوْلِهِ أَمَرْتُهُ فَقَامَ وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ، وَتَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةِ خِلَافِهِ أَوْ ضِدِّهِ أَوْ نَقِيضِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» قَالُوا: تَقْدِيرُهُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» قَالُوا: الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي تَقْدِيرُهُ: أُرِيدُ الْخَيْرَ وَأَجْتَنِبُ الشَّرَّ، وَتَقُولُ: أَمَرْتُهُ فَلَمْ يُحْسِنْ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِعَدَمِ الْإِحْسَانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، بَلِ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ يُسْتَدَلُّ عَلَى حَذْفِ النَّقِيضِ بِإِثْبَاتِ نَقِيضِهِ، وَدَلَالَةُ النَّقِيضِ عَلَى النَّقِيضِ كَدَلَالَةِ النَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وَكَذَلِكَ أَمَرْتُهُ فَأَسَاءَ إِلَيَّ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِالْإِسَاءَةِ فَأَسَاءَ إِلَيَّ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ فَأَسَاءَ إِلَيَّ. وَقَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا قَوْلَهُمْ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي. نَقُولُ: بَلْ يَلْزَمُ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ

_ (1) سورة الأنعام: 3/ 13. [.....] (2) سورة النحل: 16/ 81.

ذَلِكَ مُنَافٍ أَيْ لِأَنَّ الْعِصْيَانَ مُنَافٍ وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ غَيْرَ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ وَلَا مَنْوِيٍّ هَذَا لَا يَسْلَمُ بَلْ هُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ وَمَنْوِيٌّ لَا دَلَالَةُ الْمُوَافِقِ بَلْ دَلَالَةُ الْمُنَاقِضِ كَمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْوِي لِأَمْرِهِ مَأْمُورًا بِهِ هَذَا أَيْضًا لَا يَسْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي جَوَابِ السُّؤَال لِأَنَّ قَوْلَهُ فَفَسَقُوا يُدَافِعُهُ، فَكَأَنَّكَ أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ. قُلْنَا: نَعَمْ يَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ نَقِيضُهُ. وَقَوْلُهُ: وَنَظِيرُ أَمَرَ شَاءَ فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ فِيهِ الْحَذْفُ. قُلْتُ: لَيْسَ نَظِيرَهُ لِأَنَّ مَفْعُولَ أَمَرَ لَمْ يَسْتَفِضْ فِيهِ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ شَاءَ مَحْذُوفًا مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ مُثْبَتَ الْمَفْعُولِ لِانْتِفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى حَذْفِهِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ «1» أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «2» أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا «3» قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ «4» أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا «5» أَيْ بِهِ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفِسْقِ لِأَنَّ الْفِسْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنَافِي كَوْنَهُ مأمورا به، أَنَّ كَوْنَهُ مَعْصِيَةً يُنَافِي كَوْنَهَا مَأْمُورًا بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَدُلَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ. هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَلَا أدري لم أَصَرَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَلَى قَوْلِهِ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنْ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْقَوْمُ خَالَفُوا ذَلِكَ عِنَادًا وَأَقْدَمُوا عَلَى الْفِسْقِ انْتَهَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنا كَثَّرْنَا أَيْ كَثَّرْنَا مُتْرَفِيها يُقَالُ: أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ أَيْ كَثَّرَهُمْ حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا وَأَمِرَهُمُ اللَّهُ إِذَا كَثَّرَهُمُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْجَيِّدُ فِي أَمَرْنَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَثَّرْنَا، وَاسْتَدَلَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ، يُقَالُ: أَمِرَ اللَّهُ الْمُهْرَةَ أَيْ كَثَّرَ وَلَدَهَا، وَمَنْ أَنْكَرَ أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ بِمَعْنَى كَثَّرَهُمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ لُغَةً وَيَكُونُ مِنْ بَابِ مَا لَزِمَ وعدّي بالحركة

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 28. (2) سورة يوسف: 12/ 40. (3) سورة الطور: 52/ 32. (4) سورة الأعراف: 7/ 29. (5) سورة الفرقان: 25/ 60.

الْمُخْتَلِفَةِ، إِذْ يُقَالُ: أَمِرَ الْقَوْمُ كَثُرُوا وَأَمِرَهُمُ اللَّهُ كَثَّرَهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُطَاوَعَةِ أَمِرَهُمُ اللَّهُ فَأَمِرُوا كَقَوْلِكَ شَتَرَ اللَّهُ عَيْنَهُ فَشُتِرَتْ، وَجَدَعَ أَنْفَهُ وَثَلَمَ سِنَّهُ فَثُلِمَتْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ. أَمَرْنا بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَحَكَاهَا النَّحَّاسُ وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَدَّ الْفَرَّاءُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِذْ نُقِلَ أَنَّهَا لُغَةٌ كَفَتْحِ الْمِيمِ وَمَعْنَاهَا كَثَّرْنَا. حَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ يُقَالُ: أَمَرَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَمِرَهُ أَيْ كَثَّرَهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَسَلَّامٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَالْكَلْبِيُّ: آمَرْنَا بِالْمَدِّ وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ هُرْمُزَ، وَعَاصِمٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ يَعْقُوبَ وَمَعْنَاهُ كَثَّرْنَا. يُقَالُ أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ وَآمَرَهُمْ فَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: أَمَرْنا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْبَاقِرِ وَعَاصِمٍ وَأَبِي عُمَرَ وَعُدِّيَ أَمَرَ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا كَثَّرْنَا وَقَدْ يَكُونُ أَمَرْنا بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَلَّيْنَاهُمْ وَصَيَّرْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، وَاللَّازِمُ مِنْ ذَلِكَ أُمِّرَ فُلَانٌ إِذَا صَارَ أَمِيرًا أَيْ وَلِيَ الْأَمْرَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا وَجْهَ لِكَوْنِ أَمَرْنا مِنَ الْإِمَارَةِ لِأَنَّ رِيَاسَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا لِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْإِهْلَاكُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مُدَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمِيرَ هُوَ الْمَلِكُ بَلْ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَأْمُرُ وَيُؤْتَمَرُ بِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَمِيرًا مَنْ يُؤْتَمَرُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ إِذَا مُلِّكَ عَلَيْهَا مُتْرَفٌ ثُمَّ فَسَقَ ثُمَّ آخَرُ فَفَسَقَ ثُمَّ كَذَلِكَ كَثُرَ الْفَسَادُ وَتَوَالَى الْكُفْرُ وَنَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْآخِرِ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ أَنِّي قرأت وقرىء بِحَضْرَتِي وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها الْآيَةَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ. فَأَقُولُ فِي النَّوْمِ: مَا أَفْصَحَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَالْقَوْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ هُوَ وَعِيدُ اللَّهِ الَّذِي قَالَهُ رَسُولُهُمْ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ لَأَمْلَأَنَّ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي. وَالتَّدْمِيرُ الْإِهْلَاكُ مَعَ طَمْسِ الْأَثَرِ وَهَدْمِ الْبِنَاءِ. وَكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى المفعول بأهلكنا أَيْ كَثِيرًا مِنَ الْقُرُونِ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ بَيَانٌ لِكَمْ وَتَمْيِيزٌ لَهُ كَمَا يُمَيَّزُ الْعَدَدُ بِالْجِنْسِ، وَالْقُرُونُ عَادٌ وَثَمُودُ وَغَيْرُهُمْ وَيَعْنِي بِالْإِهْلَاكِ هُنَا الْإِهْلَاكَ بِالْعَذَابِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ وَقَالَ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ بَعْدِ آدَمَ لِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ بَالَغَ قَوْمُهُ فِي تَكْذِيبِهِ، وَقَوْمُهُ أَوَّلُ مَنْ حَلَّتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ بِالْعُظْمَى وَهِيَ الِاسْتِئْصَالُ بِالطُّوفَانِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي عُمُرِ القرن ومِنَ الْأُولَى لِلتَّبْيِينِ وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الغاية وتعلقا

بأهلكنا لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ مِنَ الثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْبَاءُ يَعْنِي فِي وَكَفى بِرَبِّكَ إِنَّمَا تَجِيءُ فِي الْأَغْلَبِ فِي مَدْحٍ أَوْ ذم انتهى. وبِذُنُوبِ عِبادِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ هِيَ أَسْبَابُ الْهَلَكَةِ، وخَبِيراً بَصِيراً تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا فَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا وَيَتَعَلَّقُ بِذُنُوبِ بِخَبِيرًا أَوْ بِبَصِيرًا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِكَفَى انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ والْعاجِلَةَ هِيَ الدُّنْيَا وَمَعْنَى إِرَادَتِهَا إيثارها على الآخرة، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُقَابِلُ في قوله: مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ كَافِرٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ كَالْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي وَالْمُهَاجِرِ لِلدُّنْيَا وَالْمُجَاهِدِ لِلْغَنِيمَةِ وَالذِّكْرِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ نَصِيبٍ» . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَنِيمَةِ لَا لِلثَّوَابِ، ومَنْ شَرْطٌ وَجَوَابُهُ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ فَقَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِمَشِيئَتِهِ أَيْ مَا يشاء تعجيله. ولِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى مَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَكِنْ جَاءَتِ الضَّمَائِرُ هُنَا عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى، فَقَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِإِرَادَتِهِ فَلَيْسَ مَنْ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُرِيدُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَخْتَارُونَ الدُّنْيَا وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا مَا قَسَمَهُ الله لهم، وكثيرا مِنْهُمْ يَتَمَنَّوْنَ النَّزْرَ الْيَسِيرَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ شَقَاوَةَ الدُّنْيَا وَشَقَاوَةَ الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا نَشاءُ بِالنُّونِ وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَا يَشَاءُ بِالْيَاءِ. فَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي يَشَاءُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فَقِرَاءَةُ النُّونِ وَالْيَاءِ سَوَاءٌ. وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَنِ الْعَائِدِ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَامًّا بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ مَا يَشَاءُ إِلَّا آحاد أَرَادَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لِمَنْ نُرِيدُ يُقَدَّرُ مَعَ تَقْدِيرِهِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ لِمَنْ نُرِيدُ تَعْجِيلَهُ لَهُ أَيْ تَعْجِيلَ مَا نَشَاءُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ الْمَعْنَى لِمَنْ نُرِيدُ هَلَكَتَهُ وَمَا قَالَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظٌ فِي الْآيَةِ. وجَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ جَهَنَّمَ وَالثَّانِي لَهُ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدَ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، فَنَقُولُ: جَهَنَّمُ لِلْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَهَؤُلَاءِ للجنة ويَصْلاها حَالٌ مِنْ جَهَنَّمَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: مَفْعُولُ

جَعَلْنا الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَصِيرًا أَوْ جَزَاءً انْتَهَى. مَذْمُوماً إِشَارَةٌ إِلَى الْإِهَانَةِ. مَدْحُوراً إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أَيْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِأَنْ يُؤْثِرَهَا عَلَى الدُّنْيَا، وَيَعْقِدَ إِرَادَتَهُ بِهَا وَسَعى فِيمَا كُلِّفَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ سَعْيَها أَيِ السَّعْيَ الْمُعَدَّ لِلنَّجَاةِ فِيهَا. وَهُوَ مُؤْمِنٌ هُوَ الشَّرْطُ الْأَعْظَمُ فِي النَّجَاةِ فَلَا تَنْفَعُ إِرَادَةٌ وَلَا سَعْيٌ إِلَّا بِحُصُولِهِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ النَّاشِئُ عَنْهُ إِرَادَةُ الْآخِرَةِ وَالسَّعْيُ لِلنَّجَاةِ فِيهَا وَحُصُولُ الثَّوَابِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ: إِيمَانٌ ثَابِتٌ، وَنِيَّةٌ صَادِقَةٌ، وَعَمَلٌ مُصِيبٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَرَاعَى مَعْنَى مَنْ فَلِذَلِكَ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَشْكُرُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَهُوَ تَعَالَى الْمَشْكُورُ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ الْعَقْلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِيضَاحِ الدَّلَائِلِ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلشُّكْرِ حَقِيقَةً وَمَعْنَى شُكْرِهِ تعالى المطيع الإثناء عَلَيْهِ وَثَوَابُهُ عَلَى طَاعَتِهِ. وانتصب كُلًّا بنمد وَالْإِمْدَادُ الْمُوَاصَلَةُ بِالشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نُمِدُّ كَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَعْرَبُوا هؤُلاءِ بَدَلًا مِنْ كُلًّا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ كُلٍّ عَلَى تَقْدِيرِ كُلُّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِذْ ذَاكَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيُرُ كُلُّ الْفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِمْدَادَ هُوَ فِي الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ فِي الدُّنْيَا مُرِيدِي الْعَاجِلَةَ الْكَافِرِينَ، وَمُرِيدِي الْآخِرَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَمُدُّ الْجَمِيعَ بِالرِّزْقِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْآخِرَةِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أَيْ إِنَّ رِزْقَهُ لَا يَضِيقُ عَنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ مِنَ الطَّاعَاتِ لِمُرِيدِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَاصِي لِمُرِيدِ الْعَاجِلَةِ، فَيَكُونُ الْعَطَاءُ عِبَارَةٌ عَمَّا قَسَمَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَيَنْبُو لَفْظُ الْعَطَاءِ عَلَى الْإِمْدَادِ بِالْمَعَاصِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ انْظُرْ بَصَرِيَّةٌ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الدُّنْيَا مُشَاهَدٌ وكَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ نَظَرَ يَتَعَدَّى بِهِ، فَانْظُرْ هُنَا مُعَلَّقَةٌ. وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ مُفْضِيًا وَسَبَبًا إِلَى الْعِلْمِ جَازَ أَنْ يُعَلَّقَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ انْظُرْ مِنْ نَظَرِ الْفِكْرِ فَلَا كَلَامَ فِي تَعْلِيقِهِ إِذْ هُوَ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ. وَالتَّفْضِيلُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الطَّاعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ كَأَنَّهُ قِيلَ: انْظُرْ فِي تَفْضِيلِ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ فِي تَفْضِيلِ شَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالْمَفْضُولُ فِي قَوْلِهِ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَا وَمِنْ تَفْضِيلِ الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ الْأَشْرَافِ وَمَنْ دُونَهُمُ اجْتَمَعُوا بِبَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَخَرَجَ

الْإِذْنُ لِبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ فَشَقَّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ سهيل بن عمر: وَإِنَّمَا أُتِينَا مِنْ قِبَلِنَا إِنَّهُمْ دُعُوا وَدُعِينَا، - يَعْنِي إِلَى الْإِسْلَامِ- فَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأْنَا، وَهَذَا بَابُ عُمَرَ فَكَيْفَ التَّفَاوُتُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَئِنْ حَسَدْتُمُوهُمْ عَلَى بَابِ عُمَرَ لَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أكثر. وقرىء أَكْثَرُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ لَكِنَّهُ في المعنى، ولا بد أَكْبَرُ دَرَجاتٍ مِنْ كُلِّ مَا يُضَافُ بِالْوُجُودِ أَوْ بِالْفَرْضِ، وَرَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَالتَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ فِي ذلك حديثا «إِنَّ أَنْزَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْفَلَهُمْ دَرَجَةً كَالنَّجْمِ يُرَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَقَدْ أَرْضَى اللَّهُ الْجَمِيعَ فَمَا يَغْبِطُ أَحَدٌ أَحَدًا» . وَالْخِطَابُ فِي لَا تَجْعَلْ لِلسَّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ. وَقَالَ الطبري وغيره: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. فَتَقْعُدَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِهِمْ شَحَذَ الشَّفْرَةَ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا حَرْبَةٌ، بِمَعْنَى صَارَتْ. يَعْنِي فَتَصِيرُ جَامِعًا عَلَى نَفْسِكَ الذَّمَّ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْهَلَاكِ مِنَ الذُّلِّ وَالْخِذْلَانِ وَالْعَجْزِ عَنِ النُّصْرَةِ مِمَّنْ جَعَلْتَهُ شَرِيكًا لَهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ فَتَقْعُدَ بِمَعْنَى فَتَصِيرَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَقَعَدَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى صَارَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّهُ يَطَّرِدُ جَعْلُ قَعَدَ بِمَعْنَى صَارَ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ: لَا يُقْنِعُ الْجَارِيَةَ الْخِضَابُ ... وَلَا الْوِشَاحَانِ وَلَا الْجِلْبَابُ مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِي الْأَرْكَابُ ... وَيَقْعُدَ الْأَيْرُ لَهُ لُعَابُ وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: قَعَدَ لَا يُسْأَلُ حَاجَةً إِلَّا قضاها بمعنى صار، فالزمخشري أَخَذَ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ، وَالْقُعُودُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُكْثِ أَيْ فَيَمْكُثُ فِي النَّاسِ مَذْمُوماً مَخْذُولًا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ حَالِ شَخْصٍ هُوَ قَاعِدٌ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَمَعْنَاهُ مَاكِثٌ وَمُقِيمٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَمْ جَالِسًا، وَقَدْ يُرَادُ الْقُعُودُ حَقِيقَةً لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ حَائِرًا مُتَفَكِّرًا، وَعَبَّرَ بِغَالِبِ حَالِهِ وَهِيَ الْقُعُودُ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَتَقْعُدَ فَتَعْجِزَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَقْعَدَكَ عَنِ الْمَكَارِمِ والذمّ هنا لا حق مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ذَوِي الْعُقُولِ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ يَجْعَلُ عُودًا أَوْ حَجَرًا أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَيَخُصُّهُ بِالْكَرَامَةِ وَيَنْسُبُ إِلَيْهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَيُشْرِكُهُ مَعَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَالْخِذْلَانُ فِي هَذَا يَكُونُ بِإِسْلَامِ اللَّهِ وَلَا يَكْفُلُ لَهُ بِنَصْرٍ، وَالْمَخْذُولُ الَّذِي لَا يَنْصُرُهُ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَنْصُرَهُ. وَانْتَصَبَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِتَقْعُدَ كُلًّا لِمُذَكَّرَيْنِ مُثَنًّى مَعْنًى اتِّفَاقًا مُفْرَدًا لَفْظًا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ كَمَعْيٍ فَلَامُهُ أَلْفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، مُثَنًّى لَفْظًا عِنْدَ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 إلى 49]

الْكُوفِيِّينَ، وَتَبِعَهُمُ السُّهَيْلِيُّ فَأَلِفُهُ لِلتَّثْنِيَةِ لَا أَصْلٌ وَلَامُهُ لَامٌ مَحْذُوفَةٌ عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ وَلَا نَصَّ عَنِ الْكُوفِيِّينَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً عَلَى حَرْفَيْنِ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنِ الْإِضَافَةِ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مُظْهَرٍ فَأَلِفُهُ ثَابِتَةٌ مُطْلَقًا فِي مَشْهُورِ اللُّغَاتِ، وَكِنَانَةُ تَجْعَلُهُ كَمَشْهُورِ الْمُثَنَّى أَوْ إِلَى مُضْمَرٍ، فَالْمَشْهُورُ قَلْبُ أَلِفِهِ يَاءً نَصْبًا وَجَرًّا، وَالَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ مُثَنًّى أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَجَاءَ التَّفْرِيقُ فِي الشعر مضافا فالظاهر وَحَفِظَ الْكُوفِيُّونَ كِلَايَ وَكِلَاكَ قَامَا وَيُسْتَعْمَلُ تَابِعًا تَوْكِيدًا وَمُبْتَدَأً وَمَنْصُوبًا وَمَجْرُورًا، وَيُخْبَرُ عَنْهُ إِخْبَارَ الْمُفْرَدِ فَصِيحًا، وَرُبَّمَا وَجَبَ، وَإِخْبَارَ الْمُثَنَّى قليلا وربما وجب. [سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 49] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)

أُفٍّ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَتَضَجَّرُ وَلَمْ يَأْتِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ إِلَّا قَلِيلًا نَحْوُ: أُفٍّ وَأَوَّهْ بمعين أَتَوَجَّعُ، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ لَا يُبْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْمَبْنِيِّ. وَذَكَرَ الزَّنَاتِيُّ فِي كِتَابِ الْحُلَلِ لَهُ: إِنَّ فِي أُفٍّ لُغَاتٍ تُقَارِبُ الْأَرْبَعِينَ وَنَحْنُ نَسْرُدُهَا مَضْبُوطَةً كَمَا رَأَيْنَاهَا وَهِيَ: أُفَ أُفِ أُفُ أف أف أف أفا أف أف أفا أف أُفٌ أُفْ أُفْءَ أُفَّى بِغَيْرِ إِمَالَةٍ أُفِّيِ بِالْإِمَالَةِ الْمَحْضَةِ أُفِّيِ بِالْإِمَالَةِ بَيْنَ بَيْنَ أُفِيْ أُفُوْ أُفَّهُ أُفِّهْ أُفُّهْ فَهَذَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مَعَ الْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ أف أف أف أف أف أفا أف أف إِفًا إِفِّي بِالْإِمَالَةِ إِفَّى فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَعَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ أَفْ أَفٌ آفٌ آفٍّ آفَّى. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أُفَّاهْ بِهَاءِ السَّكْتِ وَهِيَ تَمَامُ الْأَرْبَعِينَ. النَّهْرُ الزَّجْرُ بِصِيَاحٍ وَإِغْلَاظٍ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: وَأَصْلُهُ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ النَّهْرُ وَالِانْتِهَارُ، وَأَنْهَرَ الدَّمَ أَظْهَرَهُ وَأَسَالَهُ، وَانْتَهَرَ الرَّجُلَ أَظْهَرَ لَهُ الْإِهَانَةَ بِقُبْحِ الزَّجْرِ وَالطَّرْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الِانْتِهَارُ إِظْهَارُ

الْغَضَبِ فِي الصَّوْتِ وَاللَّفْظِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النَّهْيُ وَالنَّهْرُ وَالنَّهْمُ أَخَوَاتٌ. التَّبْذِيرُ الْإِسْرَافُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ يَعْنِي فِي النَّفَقَةِ، وَأَصْلُهُ التَّفْرِيقُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَذْرُ بَذْرًا لِأَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْمَزْرَعَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَرَائِبَ يَسْتَضِيءُ الْحَلْيُ فِيهَا ... كَجَمْرِ النَّارِ بُذِّرَ بِالظَّلَامِ وَيُرْوَى بُدِّدَ أَيْ فُرِّقَ. الْمَحْسُورُ قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ بَعِيرٌ مَحْسُورٌ إِذَا انْقَطَعَ سَيْرُهُ، وَحَسِرَتِ الدَّابَّةُ حَتَّى انْقَطَعَ سَيْرُهَا، وَيُقَالُ حَسِيرٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَيُجْمَعُ عَلَى حَسْرَى. قَالَ الشَّاعِرُ: بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ الْقِسْطَاسُ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا وَبِالسِّينِ الْأُولَى وَالصَّادِ. قَالَ مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ: هِيَ الْمِيزَانُ بِلُغَةِ الرُّومِ وَتَأْتِي أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ. الْمَرَحُ شِدَّةُ الْفَرَحِ، يُقَالُ: مَرِحَ يَمْرَحُ مَرَحًا. الطُّولُ ضِدُّ الْقِصَرِ، وَمِنْهُ الطُّولُ خِلَافُ الْعَرْضِ. الْحِجَابُ مَا سَتَرَ الشَّيْءَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. الرُّفَاتُ قَالَ الْفَرَّاءُ: التُّرَابُ. وَقِيلَ: الَّذِي بُولِغَ فِي دَقِّهِ حَتَّى تَفَتَّتَ، وَيُقَالُ: رَفَتَ الشَّيْءَ كَسَرَهُ يَرْفِتُهُ بِالْكَسْرِ وَالرُّفَاتُ الْأَجْزَاءُ الْمُتَفَتِّتَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مُكَسَّرٍ، وَفُعَالٌ بِنَاءٌ لِهَذَا الْمَعْنَى كَالْحُطَامِ وَالْفُتَاتِ وَالرُّضَاضِ وَالدُّقَاقِ. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقَضى فِعْلًا مَاضِيًا مِنَ الْقَضَاءِ. وَقَرَأَ بَعْضُ وَلَدِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: وَقَضَاءُ رَبِّكَ مَصْدَرُ قَضى مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وأَلَّا تَعْبُدُوا الْخَبَرُ. وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ مِنَ التَّوْصِيَةِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَأَوْصَى مِنَ الْإِيصَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ وَالْمُتَوَاتِرُ هُوَ وَقَضى وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ فِي أَسَانِيدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ. وَقَضى هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِمَعْنَى أَمَرَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ: بِمَعْنَى وَصَّى. وَقِيلَ: أَوْجَبَ وَأَلْزَمَ وَحَكَمَ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَحْكَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَقُولُ إِنَّ الْمَعْنَى وَقَضى رَبُّكَ أمره أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ

الْأَلْفَاظِ إِلَّا أَمْرٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْضِيُّ لَا نَفْسُ العبادة، والمقتضي هُنَا هُوَ الْأَمْرُ انْتَهَى. كَأَنَّهُ رَامَ أَنْ يَتْرُكَ قَضَى عَلَى مَشْهُورِ مَوْضُوعِهَا بِمَعْنَى قَدَّرَ، فَجَعَلَ مُتَعَلَّقَهُ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لَا الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا بِمَعْنَى أَنْ يُقَدِّرَ إِلَّا وَيَقَعُ، وَالَّذِي فَهِمَ الْمُفَسِّرُونَ غَيْرَهُ أَنَّ متعلق قضى هو أَلَّا تَعْبُدُوا وَسَوَاءٌ كَانَتْ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً أَمْ مَصْدَرِيَّةً. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نصب أَيْ أَلْزَمَ رَبُّكَ عِبَادَتَهُ ولا زَائِدَةٌ انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ لِدُخُولِ إِلَّا عَلَى مَفْعُولِ تَعْبُدُوا فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا أَوْ مَنْهِيًّا وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ لَا تَعْبُدُوا عَامٌّ لِلْخَلْقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَضى عَلَى مَشْهُورِهَا فِي الْكَلَامِ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي تَعْبُدُوا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّاسِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. قَالَ الْحَوْفِيُّ: الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَضَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَوْصَى بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وإِحْساناً مَصْدَرٌ أَيْ تُحْسِنُوا إِحْسَانًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عَطْفٌ عَلَى أَنِ الْأُولَى أَيْ أَمَرَ الله أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مَقْطُوعًا مِنَ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ فِي بِالْوالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ صِلَتُهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْوالِدَيْنِ مِنْ صِلَةِ الْإِحْسَانِ، وَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: بِزَيْدٍ فَامْرُرِ، انْتَهَى. وَأَحْسَنَ وَأَسَاءَ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِالْبَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي «1» وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً وَكَأَنَّهُ تَضَمَّنَ أَحْسَنَ مَعْنَى لَطَفَ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ وإِحْساناً إِنْ كَانَ مَصْدَرًا يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مُتَعَلَّقِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَحْسِنُوا فَيَكُونُ بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ نَحْوُ ضَرْبًا زَيْدًا، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ أَنْ حرف تفسير ولا تَعْبُدُوا نهي وإِحْساناً مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ عُطِفَ مَا مَعْنَاهُ أَمْرٌ عَلَى نَهْيٍ كَمَا عُطِفَ فِي:

_ (1) سورة يوسف: 12/ 100.

يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ وَقَدِ اعْتَنَى بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ حَيْثُ قُرِنَ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْبُدُوا وَتَقْدِيمُهُمَا اعْتِنَاءٌ بِهِمَا عَلَى قَوْلِهِ: إِحْساناً وَمُنَاسَبَةُ اقْتِرَانِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُوجِدُ حَقِيقَةً، وَالْوَالِدَانِ وَسَاطَةٌ فِي إِنْشَائِهِ، وَهُوَ تَعَالَى الْمُنْعِمُ بِإِيجَادِهِ وَرِزْقِهِ، وَهُمَا سَاعِيَانِ فِي مَصَالِحِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا هِيَ الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ عَلَيْهَا مَا تَوْكِيدًا لَهَا، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي الْفِعْلِ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُهَا لَا تَقُولُ إِنْ تُكْرِمَنَّ زَيْدًا يُكْرِمْكَ، وَلَكِنْ إِمَّا تُكْرِمَنَّهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ إِمَّا وَنُونِ التَّوْكِيدِ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِأَنْ وَحْدَهَا وَنُونِ التَّوْكِيدِ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِإِمَّا وَحْدَهَا دُونَ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ كَمَا أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ لَمْ تجىء بِمَا يُعْنَى مَعَ النُّونِ وَعَدَمِهَا، وَعِنْدَكَ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِيَبْلُغَنَّ، وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ هُنَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ وَفِي كَنَفِهِ لَا كَافِلَ لَهُمَا غَيْرُهُ لِكِبَرِهِمَا وَعَجْزِهِمَا، وَلِكَوْنِهِمَا كَلًّا عَلَيْهِ وأحدهما فاعل يَبْلُغَنَّ وأَوْ كِلاهُما مَعْطُوفٌ عَلَى أَحَدُهُما. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْلُغَنَّ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ وَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى أَحَدُهُما. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: إِمَّا يَبْلُغَانَّ بِأَلِفِ التَّثْنِيَةِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الْمُشَدَّدَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ السُّلَمِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْجَحْدَرِيِّ. فَقِيلَ الْأَلِفُ عَلَامَةُ تَثْنِيَةٍ لَا ضَمِيرٌ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَأَحَدُهُمَا فاعل وأَوْ كِلاهُما عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ شَرْطَ الْفَاعِلِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَحِقَتْهُ عَلَامَةُ التَّثْنِيَةِ أَنْ يكون مسند المثنى أو معرف بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ، وَنَحْوُ قَامَا أَخَوَاكَ أَوْ قَامَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الْأَخِيرِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ جوازه وأَحَدُهُما لَيْسَ مُثَنًّى وَلَا هُوَ مُعَرَّفٌ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ مَعَ مُفْرَدٍ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ ضَمِيرُ الوالدين وأَحَدُهُما بدل من الضمير وكِلاهُما عَطْفٌ عَلَى أَحَدُهُما وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْبَدَلِ بَدَلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ قِيلَ إِمَّا يَبْلُغَانَّ كِلاهُما كَانَ كِلاهُما تَوْكِيدًا لَا بَدَلًا، فَمَا لَكَ زَعَمْتَ أَنَّهُ بَدَلٌ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا للاثنين فَانْتَظَمَ فِي حُكْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ. فَإِنْ قلت: ما ضرك لو جَعَلْتَهُ تَوْكِيدًا مَعَ كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَدَلًا وَعَطَفْتَ التَّوْكِيدَ عَلَى الْبَدَلِ؟ قُلْتُ: لَوْ أُرِيدَ تَوْكِيدُ التَّثْنِيَةِ لَقِيلَ كِلاهُما فَحَسْبُ فَلَمَّا قِيلَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما عُلِمَ أَنَّ التَّوْكِيدَ غَيْرُ مُرَادٍ فَكَانَ بَدَلًا مِثْلَ الْأَوَّلَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذِهِ

الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ يَعْنِي يَبْلُغَانَّ يَكُونُ قَوْلُهُ أَحَدُهُما بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَبْلُغَانَّ وَهُوَ بَدَلٌ مُقَسَّمٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنٍ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَأُخْرَى رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ انْتَهَى. وَيَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ كِلاهُما مَعْطُوفًا عَلَى أَحَدُهُما وَهُوَ بَدَلٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْبَدَلِ بَدَلٌ، وَالْبَدَلُ مُشْكَلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بَدَلًا، وَإِذَا جَعَلْتَ أَحَدُهُما بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَإِذَا عَطَفْتَ عَلَيْهِ كِلاهُما فَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّ كِلاهُما مُرَادِفٌ لِلضَّمِيرِ مِنْ حَيْثُ التَّثْنِيَةُ، فَلَا يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الضَّمِيرِ التَّثْنِيَةُ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كِلاهُما فَلَمْ يُفِدِ الْبَدَلُ زِيَادَةً عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَهُوَ بَدَلٌ مُقَسَّمٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ. الْبَيْتَ. فَلَيْسَ مِنْ بَدَلِ التَّقْسِيمِ لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وأَيْضًا فَالْبَدَلُ الْمُقَسَّمُ لَا يَصْدُقُ الْمُبْدَلُ فِيهِ على أحد قسميه، وكِلاهُما يَصْدُقُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْمُقَسَّمِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ كِلاهُما تَوْكِيدٌ وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ يُعْرَبَ أَحَدُهُما بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَيُضْمَرَ بعده فعل رافع الضمير، وَيَكُونُ كِلاهُما تَوْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ أَوْ يَبْلُغَا كِلاهُما وَفِيهِ حَذْفُ الْمُؤَكِّدِ. وَقَدْ أَجَازَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ قَالَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَإِيَّايَ أَخُوهُ أَنْفُسَهُمَا بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِهِمَا صَاحِبَايَ أنفسهما، والنصف عَلَى تَقْدِيرِ أَعْيُنِهِمَا أَنْفُسَهُمَا، إِلَّا أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّي وَالْأَخْفَشِ قَبْلَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمُؤَكَّدِ وَإِقَامَةُ الْمُؤَكِّدِ مَقَامَهُ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُما بَدَلًا من الضمير وكِلاهُما مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَوْ يَبْلُغَ كِلاهُما فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَصَارَ الْمَعْنَى أَنْ يَبْلُغَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ يَبْلُغَ كِلاهُما عِنْدَكَ الْكِبَرَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَتَقَدَّمَ مَدْلُولُ لَفْظِ أُفٍّ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَاللُّغَاتِ الَّتِي فِيهَا، وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى أَنْ يَسْتَقْبِلَهُمَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الضَّجَرِ وَالتَّبَرُّمِ بِهِمَا فَالنَّهْيُ عَمَّا هُوَ أَشَدُّ كَالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ هُوَ بِجِهَةِ الْأَوْلَى، وَلَيْسَتْ دَلَالَةُ أُفٍّ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ دَلَالَةً لَفْظِيَّةً خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُفٍّ كَلِمَةُ كَرَاهَةٍ بَالَغَ تَعَالَى فِي الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ، وَاسْتِعْمَالِ

وَطْأَةِ الْخُلُقِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَالِاحْتِمَالِ حَتَّى لَا نَقُولَ لَهُمَا عِنْدَ الضَّجَرِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَضْلًا عَمَّا يَزِيدُ عَلَيْهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا صَارَ قَوْلُ أُفٍّ لِلْوَالِدَيْنِ أَرْدَأَ شَيْءٍ لأن رَفَضَهُمَا رَفْضَ كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَجَحَدَ التَّرْبِيَةَ، وَرَدَّ وَصِيَّةَ الله. وأُفٍّ كَلِمَةٌ مَنْقُولَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مَرْفُوضٍ وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» أَيْ رَفْضٌ لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْأَصْنَامِ مَعَكُمُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعِيسَى وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ أُفٍّ بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيدِ مَعَ التَّنْوِينِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ كَذَلِكَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا مُشَدَّدَةً مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَحَكَى هَارُونُ قِرَاءَةً بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ أُفٍّ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أُفًّا بِالنَّصْبِ وَالتَّشْدِيدِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُفٍ خَفِيفَةً فَهَذِهِ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ مِنَ اللُّغَاتِ الَّتِي حُكِيَتْ فِي أُفٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ مَعْنَاهُ إِذَا رَأَيْتَ منهما في حال الشيخ الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ اللَّذَيْنِ رَأَيَا مِنْكَ فِي حَالِ الصِّغَرِ فَلَا تَقْذَرْهُمَا وَتَقُولُ أُفٍّ انْتَهَى. وَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا نَهَاهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمَا مَا مَدْلُولُهُ أَتَضَجَّرُ مِنْكُمَا ارْتَقَى إِلَى النَّهْيِ عَمَّا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ أَشَدُّ مِنْ أُفٍّ وَهُوَ نَهْرُهُمَا، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ نَهْرِهِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ أُفٍّ لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنِ الْأَدْنَى كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الْأَعْلَى بِجِهَةِ الْأَوْلَى، وَالْمَعْنَى وَلَا تَزْجُرْهُمَا عَمَّا يَتَعَاطَيَانِهِ مِمَّا لَا يُعْجِبُكَ وَقُلْ لَهُما بَدَلَ قَوْلِ أُفٍّ وَنَهْرِهِمَا قَوْلًا كَرِيماً أَيْ جَامِعًا لِلْمَحَاسِنِ مِنَ الْبِرِّ وَجَوْدَةِ اللَّفْظِ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَوْلُ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ للسيد اللفظ. وَقِيلَ: قَوْلًا كَرِيماً أَيْ جَمِيلًا كَمَا يَقْتَضِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ. وَقَالَ عُمَرُ: أَنْ تَقُولَ يَا أَبَتَاهُ يَا أُمَّاهُ انْتَهَى. كَمَا خَاطَبَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ مَعَ كُفْرِهِ، وَلَا تَدْعُوهُمَا بِأَسْمَائِهِمَا لِأَنَّهُ مِنَ الْجَفَاءِ وَسُوءِ الْأَدَبِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ نَحَلَنِي أَبُو بَكْرٍ كَذَا. وَلَمَّا نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْقَوْلِ الْمُؤْذِي وَكَانَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ لَهُمَا الْقَوْلَ الطَّيِّبَ السَّارَّ الْحَسَنَ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ دَالًّا عَلَى التَّعْظِيمِ لَهُمَا وَالتَّبْجِيلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: تَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَرْفَعَ إِلَيْهِمَا بَصَرَكَ وَلَا تَشُدَّ إِلَيْهِمَا نَظَرَكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقَوْلَ الْكَرِيمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلًا سَهْلًا سَلِسًا لَا شَرَاسَةَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ مَعَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 67.

فِي تَقْرِيرِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ فَرْخَهُ إِلَيْهِ لِلتَّرْبِيَةِ خَفَضَ لَهُ جَنَاحَهُ، فَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ لِلْوَلَدِ اكْفُلْ وَالِدَيْكَ بِأَنْ تَضُمَّهُمَا إِلَى نَفْسِكَ كَمَا فَعَلَا ذَلِكَ بِكَ حَالَ صِغَرِكَ. الثَّانِي: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالِارْتِفَاعَ نَشَرَ جَنَاحَهُ، وَإِذَا أَرَادَ تَرْكَ الطَّيَرَانِ وَتَرْكَ الِارْتِفَاعِ خَفَّضَ جَنَاحَهُ فَصَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنْ فِعْلِ التَّوَاضُعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اسْتِعَارَةٌ أَيِ اقْطَعْهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ مِنْكَ وَدَمِّثْ لَهُمَا نَفْسَكَ وَخُلُقَكَ، وَبُولِغَ بِذِكْرِ الذُّلِّ هُنَا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1» وَذَلِكَ بِسَبَبِ عِظَمِ الْحَقِّ انْتَهَى. وَبِسَبَبِ شَرَفِ الْمَأْمُورِ فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ نِسْبَةَ الذُّلِّ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى جَناحَ الذُّلِّ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ كَمَا قَالَ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» فَأَضَافَهُ إِلَى الذُّلِّ أَوِ الذِّلِّ كَمَا أُضِيفَ حَاتِمٌ إِلَى الْجُودِ عَلَى مَعْنَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ الذَّلِيلَ أَوِ الذَّلُولَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ لِذُلِّهِ أَوْ لِذِلِّهِ جَنَاحًا خَفِيضًا كَمَا جَعَلَ لَبِيدٌ لِلشَّمَالِ يَدًا، وَلِلْقَرَّةِ زَمَانًا مُبَالَغَةً فِي التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اللِّينَ ذُلًّا وَاسْتَعَارَ لَهُ جَنَاحًا ثُمَّ رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ بِأَنْ أَمَرَ بِخَفْضِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ لَمَّا نَظَمَ قَوْلَهُ: لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمُلَامِ فَإِنَّنِي ... صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِيَا جَاءَهُ رَجُلٌ بِقَصْعَةٍ وَقَالَ لَهُ أَعْطِنِي شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ، فَقَالَ لَهُ: حَتَّى تَأْتِيَنِي بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِ الذُّلِّ. وَجَنَاحَا الْإِنْسَانِ جَانِبَاهُ، فَالْمَعْنَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَكَ وَلَا تَرْفَعْهُ فِعْلَ الْمُتَكَبِّرِ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَحْسَنَ: أَرَاشُوا جَنَاحِي ثُمَّ بَلُّوهُ بِالنَّدَى ... فَلَمْ أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهِمْ طَيَرَانَا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِ الذَّالِ وَذَلِكَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ فِي النَّاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي الدَّوَابِّ فِي ضِدِّ الصُّعُوبَةِ، كَمَا أَنَّ الذُّلَّ بِالضَّمِّ فِي ضِدِّ الْغَيْرِ مِنَ النَّاسِ، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لِلسَّبَبِ أَيِ الْحَامِلُ لَكَ عَلَى خَفْضِ الْجَنَاحِ هُوَ رَحْمَتُكَ لَهُمَا إِذْ صَارَا مُفْتَقِرَيْنِ لَكَ حَالَةَ الْكِبَرِ كَمَا كُنْتَ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِمَا حَالَةَ الصِّغَرِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنَ الرَّحْمَةِ أَيْ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ رِفْقِكَ بِهِمَا فَمِنْ متعلقة بأخفض، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَاحَ. وَقَالَ ابْنُ عطية:

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 215. (2) سورة الحجر: 15/ 88.

مِنَ الرَّحْمَةِ هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَيْ إِنَّ هَذَا الْخَفْضَ يَكُونُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْمُسْتَكِنَّةِ فِي النَّفْسِ لَا بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ انْتَهَى. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِأَنْ يَرْحَمَهُمَا رَحْمَتَهُ الْبَاقِيَةَ إِذْ رَحْمَتُهُ عَلَيْهِمَا لَا بَقَاءَ لَهَا. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَالْبِرِّ بِهِمَا وَاسْتِرْحَامِ اللَّهِ لَهُمَا وَهِيَ تَرْبِيَتُهُمَا لَهُ صَغِيرًا، وَتِلْكَ الْحَالَةُ مِمَّا تَزِيدُهُ إِشْفَاقًا وَرَحْمَةً لَهُمَا إِذْ هِيَ تَذْكِيرٌ لِحَالَةِ إِحْسَانِهِمَا إِلَيْهِ وَقْتَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْإِحْسَانِ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا اللَّفْظَ يَعْنِي وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «1» وَقِيلَ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِوَالِدَيْهِ الْكَافِرَيْنِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَأَنْ يَطْلُبَ الرَّحْمَةَ لَهُمَا بَعْدَ حُصُولِ الْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ فِي كَما لِلتَّعْلِيلِ أَيْ رَبِّ ارْحَمْهُما لِتَرْبِيَتِهِمَا لِي وَجَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِمَا إِلَيَّ حَالَةَ الصِّغَرِ وَالِافْتِقَارِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِي صَغِيرًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَما نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ رَحْمَةً مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا. وَسَرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَحَادِيثَ وَآثَارًا كَثِيرَةً فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِمْ. وَلَمَّا نَهَى تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْكِبَرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ رُبَّمَا تَظَاهَرَ بِعِبَادَةٍ وَإِحْسَانٍ إِلَى وَالِدَيْهِ دُونَ عَقْدِ ضَمِيرٍ عَلَى ذَلِكَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ مِنْ دُونِ قَصْدِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أَيْ ذَوِي صَلَاحٍ ثُمَّ فَرَطَ مِنْكُمْ تَقْصِيرٌ فِي عِبَادَةٍ أَوْ بِرٍّ وَأُبْتُمْ إِلَى الْخَيْرِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ لِمَا فَرَطَ مِنْ هَنَاتِكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ فَرَطَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ جَنَى عَلَى أَبَوَيْهِ ثُمَّ تَابَ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ فِي الْمُبَارَزَةِ تَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى أَبِيهِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ. وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 113.

لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَمَرَ بِصِلَةِ الْقَرَابَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي قَرَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ وَأَلْحَقَ هُنَا مَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَسَدِّ الْخَلَّةِ، وَالْمُوَاسَاةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالْمَالِ وَالْمَعُونَةِ بِكُلِّ وَجْهٍ. قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وغيرهم. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فِيهَا: هُمْ قُرَابَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ بِإِعْطَائِهِمْ حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ هُنَا مُجْمَلٌ وَأَنَّ ذَا الْقُرْبى عَامٌّ فِي ذِي الْقَرَابَةِ فَيُرْجَعُ فِي تَعْيِينِ الْحَقِّ وَفِي تَخْصِيصِ ذِي الْقَرَابَةِ إِلَى السُّنَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْقَرَابَةَ إِذَا كَانُوا مَحَارِمَ فُقَرَاءَ عَاجِزِينَ عَنِ التَّكَسُّبِ وَهُوَ مُوسِرٌ حَقُّهُمْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يُنْفِقُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ فَحَسْبُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَنَهَى تَعَالَى عَنِ التَّبْذِيرِ وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَنْحَرُ إِبِلَهَا وَتَتَيَاسَرُ عَلَيْهَا وَتُبَذِّرُ أَمْوَالَهَا فِي الْفَخْرِ وَالسُّمْعَةِ وَتَذْكُرُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ النَّفَقَةِ فِي غَيْرِ وُجُوهِ الْبِرِّ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: التَّبْذِيرُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي حَقٍّ مَا كَانَ مُبَذِّرًا. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْإِسْرَافُ الْمُتْلِفُ لِلْمَالِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْحَجْرِ عَلَى الْمُبَذِّرِ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْهُ بِالْحَجْرِ وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلتَّبْذِيرِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِنْ بَذَلَهُ فِي الشَّهَوَاتِ وَخِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ، فَإِنْ أَنْفَقَ وَحَفِظَ الْأَصْلَ فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ وَأُخُوَّةُ الشَّيَاطِينِ كَوْنُهُمْ قُرَنَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَدُلُّ هَذِهِ الْأُخُوَّةُ عَلَى أَنَّ التَّبْذِيرَ هُوَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ كَوْنِهِمْ يُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ إِخْوَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَكَذَا ثَبَتَ فِي مُصْحَفِ أَنَسٍ، وَذُكِرَ كُفْرُ الشَّيْطَانِ لِرَبِّهِ لِيُحْذَرَ وَلَا يُطَاعَ لِأَنَّهُ لا يدعو إلى خيركما قَالَ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ مُزَيْنَةَ اسْتَحْمَلُوا الرَّسُولَ فَقَالَ: «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» . فَبَكَوْا. وَقِيلَ فِي بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَالِمٍ وَخَبَّابٍ: سَأَلُوهُ مَا لَا يَجِدُ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي وَسُئِلَ قَالَ: «يَرْزُقُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فَالرَّحْمَةُ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ الْمُنْتَظَرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّحْمَةُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ وَإِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْبَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُمْ نَفَقَةَ الْمَالِ فِي فَسَادٍ، فَكَانَ يُعْرِضُ عَنْهُمْ وَعَنْهُ فِي الْأَجْرِ فِي مَنْعِهِمْ لِئَلَّا يُعِينَهُمْ عَلَى

فَسَادِهِمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قَوْلًا مَيْسُوراً يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ فِي الْفَتْحِ لَهُمْ وَالْإِصْلَاحَ انْتَهَى مِنْ كَلَامِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَيَاءً مِنَ الرَّدِّ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً وَلَا تَتْرُكْهُمْ غَيْرَ مُجَابِينَ إِذَا سَأَلُوكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُئِلَ شَيْئًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَعْرَضَ عَنِ السَّائِلِ وَسَكَتَ حَيَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ وَتَرْفَعْ خَصَاصَتَهُمْ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا يُرِيدُ الْإِعْرَاضَ بِالْوَجْهِ كِنَايَةً بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَنَهَاهُ عَنِ التَّبْذِيرِ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إِعْرَاضٌ عَنْهُمْ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَعَلَّلَ الْإِعْرَاضَ بِطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الرِّزْقِ والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عَنْ فِقْدَانِ مَا يَجُودُ بِهِ وَيُؤْتِيهِ مَنْ سَأَلَهُ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ لِإِعْسَارِكَ فَوَضَعَ الْمُسَبَّبَ وَهُوَ ابْتِغَاءُ الرَّحْمَةِ مَوْضِعَ السَّبَبِ وَهُوَ الْإِعْسَارُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ عِلَّةً لِجَوَابِ الشَّرْطِ فَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ أَيْ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا سَهْلًا لَيِّنًا وَعِدْهُمْ وَعْدًا جَمِيلًا رَحْمَةً لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيِ ابْتَغِ رَحْمَةَ اللَّهِ الَّتِي تَرْجُوهَا بِرَحْمَتِكَ عَلَيْهِمُ انْتَهَى. وَمَا أَجَازَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِكَ إِنْ يَقُمْ فَاضْرِبْ خَالِدًا أَنْ تَقُولَ: إِنْ يَقُمْ خَالِدًا فَاضْرِبْ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَإِنْ حَذَفْتَ الْفَاءَ فِي مِثْلِ إِنْ يَقُمْ يَضْرِبْ خَالِدًا فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ الْجَوَازُ، فَتَقُولُ: إِنْ يَقُمْ خَالِدًا نَضْرِبْ، وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ الْمَنْعُ فَإِنْ كَانَ مَعْمُولُ الْفِعْلِ مَرْفُوعًا نَحْوُ إِنْ تَفْعَلْ يَفْعَلْ زَيْدٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ زَيْدٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مرفوعا بيفعل، هَذَا وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ يَفْعَلُ كَأَنَّكَ قُلْتَ: إِنْ تَفْعَلْ يَفْعَلْ زَيْدٌ يَفْعَلُ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الضَّمِيرُ فِي عَنْهُمُ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ أَيْ نَصْرٍ لَكَ عَلَيْهِمْ أَوْ هِدَايَةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ الْمُدَارَاةُ لَهُمْ بِاللِّسَانِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَيَسَّرَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا فَمَيْسُورٌ مِنَ الْمُتَعَدِّي تَقُولُ: يَسَّرْتُ لَكَ كَذَا إِذَا أَعْدَدْتُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ يَسَرَ الْأَمْرُ وَعَسَرَ مِثْلُ سَعَدَ وَنَحَسَ فَهُوَ مَفْعُولٌ انْتَهَى وَلِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَشَارَ الشَّاعِرُ فِي الْقَصِيدَةِ الَّتِي تُسَمَّى بِالْيَتِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: لِيَكُنْ لَدَيْكَ لِسَائِلٍ فَرَجٌ ... إِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَحْسُنِ الرَّدُّ

وَقَالَ آخَرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهِ ... لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي ... إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِي وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الْآيَةَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي إِعْطَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ وَبَقِيَ عُرْيَانًا. وَقِيلَ: أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَعُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ خَمْسِينَ ثُمَّ كَمَّلَهَا مِائَةً فَنَزَلَتْ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ اسْتُعِيرَ فِيهَا الْمَحْسُوسُ لِلْمَعْقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُخْلَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْإِنْسَانِ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ الْغُلَّ الَّذِي هُوَ ضَمُّ الْيَدِ إِلَى الْعُنُقِ فَامْتَنَعَ مِنْ تَصَرُّفِ يَدِهِ وَإِجَالَتِهَا حَيْثُ تُرِيدُ، وَذَكَرَ الْيَدَ لِأَنَّ بِهَا الْأَخْذَ وَالْإِعْطَاءَ، وَاسْتُعِيرَ بَسْطَ الْيَدِ لِإِذْهَابِ الْمَالِ وَذَلِكَ أَنَّ قَبْضَ الْيَدِ يَحْبِسُ مَا فِيهَا، وَبَسْطَهَا يُذْهِبُ مَا فِيهَا، وَطَابَقَ فِي الِاسْتِعَارَةِ بَيْنَ بَسْطِ الْيَدِ وَقَبْضِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ جَعْلَ الْيَدِ مَغْلُولَةً هُوَ قَبْضُهَا، وَغَلُّهَا أَبْلَغُ فِي الْقَبْضِ وَقَدْ طَابَقَ بَيْنَهُمَا أَبُو تَمَّامٍ. فَقَالَ فِي الْمُعْتَصِمِ: تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لوانّه ... ثَنَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا تَمْثِيلٌ لِمَنْعِ الشَّحِيحِ وَإِعْطَاءِ المسرف، أمر بِالِاقْتِصَادِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْخِطَابِ أُمَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَإِلَّا فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ وَاثِقًا بِاللَّهِ حَقَّ الْوُثُوقِ كَأَبِي بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى لَا تُمْسِكْ عَنِ النَّفَقَةِ فِيمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَلا تَبْسُطْها فِيمَا نَهَيْتُكَ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ قَالُونَ: كُلَّ الْبَصْطِ بِالصَّادِ فَتَقْعُدَ جَوَابٌ لِلْهَيْئَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْحَالَيْنِ، فَالْمَلُومُ رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الْبَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُ كَانَ ... وَلَكِنَّ الْجَوَادَ عَلَى علّانه هرم والمحسور راجع لنوله وَلا تَبْسُطْها وَكَأَنَّهُ قِيلَ فَتُلَامَ وَتُحْسَرَ، ثُمَّ سَلَّاهُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الْإِضَافَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِهَوَانٍ مِنْكَ عَلَيْهِ وَلَا لِبُخْلٍ بِهِ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ لِأَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَضْيِيقَهُ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ لِمَا يَعْلَمُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِعِبَادِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وَخَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ خَبِيراً وَهُوَ الْعِلْمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ بَصِيراً أَيْ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ حَيْثُ يَبْسُطُ لِقَوْمٍ وَيُضَيِّقُ عَلَى قَوْمٍ.

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ حَيْثُ قَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ومن إِمْلَاقٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: نَرْزُقُهُمْ ونرزقكم. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ: وَلا تَقْتُلُوا بالتضعيف. وقرىء خَشْيَةَ بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خِطْأً بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا وَفَتْحِ الطَّاءِ وَالْمَدِّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ وَشِبْلٍ وَالْأَعْمَشِ وَيَحْيَى وَخَالِدِ بْنِ إِلْيَاسَ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالْأَعْرَجِ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهًا وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا أَبُو حَاتِمٍ غَلَطًا. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: هِيَ مَصْدَرٌ مِنْ خاطأ يخاطىء وَإِنْ كُنَّا لَمْ نَجِدْ خَاطَأَ وَلَكِنْ وَجَدْنَا تَخَاطَأَ وَهُوَ مُطَاوِعُ خَاطَأَ، فَدَلَّنَا عَلَيْهِ فَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَخَاطَأْتُ النَّبْلَ أَخْشَاهُ ... وَأُخِّرَ يَوْمِي فَلَمْ يَعْجَلِ وَقَوْلُ الْآخَرِ فِي كَمْأَةٍ تَخَاطَأَهُ الْقَنَّاصُ حَتَّى وَجَدْتُهُ ... وَخُرْطُومُهُ فِي مَنْقَعِ الْمَاءِ رَاسِبُ فَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ يُخَاطِئُونَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ خِطْأً عَلَى وَزْنِ نَبَأٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ خَطَاءً بِفَتْحِهِمَا وَالْمَدِّ جَعَلَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ مِنْ أَخْطَأَ كَالْعَطَاءِ مِنْ أَعْطَى قَالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ غَلَطٌ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي اللُّغَةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا خَطَى كَهَوَى خَفَّفَ الْهَمْزَةَ فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا وَذَهَبَتْ لِالْتِقَائِهِمَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالزُّهْرِيُّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا كَسَرَا الْخَاءَ فَصَارَ مِثْلَ ربا وكلاهما من خطىء فِي الدِّينِ وَأَخْطَأَ فِي الرَّأْيِ، لَكِنَّهُ قَدْ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ خِطْأً بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ مَعَ إِسْكَانِ الطَّاءِ وَهُوَ مصدر ثالث من خطىء بالكسر. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا: لَمَّا نَهَى تَعَالَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ نَهَى عَنِ التَّسَبُّبِ فِي إِيجَادِهِ مِنَ الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ، فَنَهَى عَنْ قُرْبَانِ الزِّنَا وَاسْتَلْزَمَ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا، وَالزِّنَا الْأَكْثَرُ فِيهِ الْقَصْرُ وَيُمَدُّ لُغَةً لَا ضَرُورَةً، هَكَذَا نَقَلَ اللُّغَوِيُّونَ. وَمِنَ الْمَدِّ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ:

أَبَا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ ... وَمَنْ يَشْرَبِ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرَا وَيُرْوَى أَبَا خَالِدٍ. وَقَالَ آخَرُ: كَانَتْ فَرِيضَةَ مَا تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ وَكَانَ الْمَعْنَى لَمْ يَزَلْ أَيْ لَمْ يَزَلْ فاحِشَةً أَيْ مَعْصِيَةً فَاحِشَةً أَيْ قَبِيحَةً زَائِدَةً فِي الْقُبْحِ وَساءَ سَبِيلًا أَيْ وَبِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُهُ لِأَنَّهَا سَبِيلٌ تُؤَدِّي إِلَى النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وسَبِيلًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ التَّقْدِيرُ، وَسَاءَ سَبِيلُهُ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ سَبِيلًا نَصْبًا عَلَى التَّمْيِيزِ فَإِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزٌ لِلْمُضْمَرِ الْمُسَّتكِنِّ فِي ساءَ، وَهُوَ مِنَ الْمُضْمَرِ الَّذِي يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَسَاءَ سَبِيلُهُ سَبِيلًا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُهُ ضَمِيرًا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مُفَسَّرًا بِالتَّمْيِيزِ، وَيَبْقَى التَّقْدِيرُ أَيْضًا عَارِيًا عَنِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «1» فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ قَالَ الضَّحَّاكُ: هَذِهِ أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنْ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ انْتَهَى. وَلَمَّا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَعَنْ إِيجَادِهِمْ مِنَ الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ فَانْتَقَلَ مِنَ الْخَاصِّ إِلَى الْعَامِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَنْهِيَّاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ كاندراج أَلَّا تَعْبُدُوا «2» وَانْتَصَبَ مَظْلُوماً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن فِي قُتِلَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ وَهُوَ الطَّالِبُ بِدَمِهِ شَرْعًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ انْدِرَاجُ مَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْوَلِيِّ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ عِنْدَهُمْ هُوَ الْوَارِثُ هُنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ لِلرِّجَالِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ: لَيْسَ إِلَى النِّسَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ وَالدَّمِ وَلِلسُّلْطَانِ التَّسَلُّطُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ أَوْ حُجَّةٌ يُثْبِتُ بِهَا عَلَيْهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ وَالْمَلِكُ الَّذِي جَعَلَ إِلَيْهِ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي قَبُولِ الدَّمِ أَوِ الْعَفْوِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السُّلْطَانُ الْقَوَدُ وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ السُّلْطَانُ الْقُوَّةُ وَالْوِلَايَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَيِّنَةُ فِي طَلَبِ الْقَوَدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْقَوَدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْحُجَّةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَالِي أَيْ وَالِيًا يُنْصِفُهُ فِي حَقِّهِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَلا يُسْرِفْ عَلَى الْوَلِيِّ، وَالْإِسْرَافُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أن يقتل غير

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 151. (2) سورة الإسراء: 17/ 23.

الْقَاتِلِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ، أَوْ يَقْتُلَ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِي قُتِلَ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ يُمَثِّلَ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ يَتَوَلَّى الْقَاتِلُ دُونَ السُّلْطَانِ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: السَّلْطَنَةُ مُجْمَلَةٌ يُفَسِّرُهَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «1» الْآيَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْفَتْحِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» . فَمَعْنَى فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ لَا يُقْدِمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ، وَيَكْتَفِي بِأَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ يَمِيلُ إِلَى الْعَفْوِ وَلَفْظَةُ فِي مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَاءِ أَيْ فَلَا يَصِيرُ مُسْرِفًا بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ كَمَا قَالَ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «2» انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ بِحَقٍّ قَاتِلَ مُوَلِّيهِ لَا يصير مسرقا بِقَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ النَّهْيُ عَمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَقَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْمُثْلَةِ وَمُكَافَأَةِ الَّذِي يَقْتُلُ مَنْ قَتَلَهُ. وَقَالَ مُهَلْهَلٌ حِينَ قَتَلَ بُجَيْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ: بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَلا يُسْرِفْ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا يَعُودُ عَلَى الْعَامِلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَمَنْ قُتِلَ أَيْ لَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ تَعَدِّيًا وَظُلْمًا فَيَقْتُلُ مَنْ لَيْسَ لَهُ قَتْلُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا يُسْرِفْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَمُجَاهِدٌ بِخِلَافٍ وَجَمَاعَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ وَهْمٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى خِطَابِ الْوَلِيِّ فَالضَّمِيرُ لَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ فَلَا تَقْتُلُوا غَيْرَ الْقَاتِلِ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمٍ السَّرَّاجُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرَأَ أَبُو مُسْلِمٍ صَاحِبُ الدَّوْلَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ أَوْ مُسْلِمٌ الْعِجْلِيُّ مَوْلَى صَاحِبِ الدَّوْلَةِ: فَلا يُسْرِفْ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ وَقَدْ يَأْتِي الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِأَبِي مُسْلِمٍ فِي الْقِرَاءَةِ نَظَرٌ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَلَا تُسْرِفُوا فِي الْقَتْلِ إِنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ كَانَ مَنْصُورًا انْتَهَى. رَدَّهُ عَلَى وَلَا تَقْتُلُوا وَالْأَوْلَى حَمْلُ قَوْلِهِ إِنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ لِمُخَالَفَتِهِ السَّوَادَ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ عَنْهُ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَلِيِّ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ وَنَصْرُهُ إِيَّاهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لَهُ الْقِصَاصَ، فَلَا يُسْتَزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَصْرُهُ بِمَعُونَةِ السُّلْطَانِ وَبِإِظْهَارِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ. وَقِيلَ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 178. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 237.

يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَقْتُولِ نَصَرَهُ اللَّهُ حَيْثُ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ بِقَتْلِهِ فِي الدُّنْيَا، وَنَصَرَهُ بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ الْمَظْلُومُ، وَلَفْظَةُ النَّصْرِ تُقَارِنُ الظُّلْمَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ» وَكَقَوْلِهِ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَتْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ إِذَا قُتِلَ فِي الدُّنْيَا وَخَلَصَ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَقَدْ نُصِرَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ بَعِيدُ الْقَصْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أنه الذي بقتله الْوَلِيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُسْرِفُ فِي قَتْلِهِ فَإِنَّهُ مَنْصُورٌ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسْرِفِ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ إِتْلَافِ النُّفُوسِ نَهَى عَنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ» . لما كَانَ الْيَتِيمُ ضَعِيفًا عَنْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ مَالِهِ لِصِغَرِهِ نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ مَالِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ. وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ عام فيما عقده الإنساب بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمِيٍّ فِي طَاعَةٍ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الْمَسْئُولُ مِنَ الْمُعَاهِدِ أَنْ يفي به وَلَا يُضَيِّعَهُ أَوْ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ، كَأَنَّهُ يُقَالُ لِلْعَهْدِ: لِمَ نُكِثْتَ، فَمُثِّلَ كَأَنَّهُ ذَاتٌ مِنَ الذَّوَاتِ تُسْأَلُ لِمَ نُكِثَتْ دَلَالَةً عَلَى الْمُطَاوَعَةِ بِنَكْثِهِ وَإِلْزَامِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَكْثِهِ، كَمَا جَاءَ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ «1» فِيمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ التَّاءِ الَّتِي لِلْخِطَابِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ إِنَّ ذَا العهد كان مسؤولا عَنْهُ إِنْ لَمْ يَفِ بِهِ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَبِالْوَزْنِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ بِالْأَمْوَالِ. وَفِي قَوْلِهِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْقِسْطاسِ القبان وهو القلسطون وَيُقَالُ الْقَرَسْطُونُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْقِسْطاسِ الْعَدْلُ لَا أَنَّهُ آلَةٌ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْإِبْدَالِ مِنَ السِّينِ الْأُولَى صَادًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّفْظِيَّةُ لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الْقِسْطِ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقِسْطِ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ لِأَنَّ الْقِسْطَ مَادَّتُهُ ق س ط، وَذَلِكَ مَادَّتُهُ ق س ط س إِلَّا أَنِ اعْتُقِدَ زِيَادَةُ السِّينِ آخِرًا كَسِينِ قدموس وضغيوس وَعُرْفَاسَ، فَيُمْكِنُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ السِّينِ المقيسة والتقييد بقوله:

_ (1) سورة التكوير: 81/ 8.

إِذا كِلْتُمْ أَيْ وَقْتَ كَيْلِكُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ الْإِيفَاءُ بِأَنْ يَكِيلَ بِهِ بِنُقْصَانٍ مَا ثُمَّ يُوَفِّيهِ بَعْدُ فَلَا يَتَأَخَّرُ الْإِيفَاءُ عَنْ وَقْتِ الْكَيْلِ. ذلِكَ خَيْرٌ أَيِ الْإِيفَاءُ وَالْوَزْنُ لِأَنَّ فِيهِ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ بِالِاتِّسَامِ بِالْعَدْلِ وَالْإِيصَالِ لِلْحَقِّ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ عَاقِبَةً، إِذْ لَا يَبْقَى عَلَى الْمُوفِي وَالْوَازِنِ تَبِعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مِنَ الْمَآلِ وَهُوَ الْمَرْجِعُ كَمَا قَالَ: خَيْرٌ مَرَدًّا، خَيْرٌ عُقْبًا، خَيْرٌ أَمَلًا وَإِنَّمَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسُنُ لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ التَّطْفِيفِ، فَعُوِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمَالَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ. وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً. لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالْإِيفَاءِ بِالْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بثلاثة أمّناه: وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ وَلا تَجْعَلْ. وَمَعْنَى وَلا تَقْفُ لَا تَتَّبِعْ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، نَهَى أَنْ نَقُولَ مَا لَا نَعْلَمُ وَأَنْ نَعْمَلَ بِمَا لَا نَعْلَمُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ بِمَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَا تَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَهْ وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْهُ وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن الحنيفة: لَا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا تَقُلْ لَكِنَّهَا كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَذْفِ وَالْعَضْهِ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ» . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنُ كِنَانَةَ لَا تَقْفُو مِنَّا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ: وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعِرَانِينَ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَا لَا يَتَّبِعْنَ التَّقَافِيَا وَقَالَ الْكُمَيْتُ فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاضِنَ إِنْ قُفِينَا وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ نَهَى عَنِ اتِّبَاعِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أنواع. فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مُبْطِلُ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّرْعُ غَالِبَ الظَّنِّ مَقَامَ الْعِلْمِ وَأَمَرَ

بِالْعَمَلِ بِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تَقْفُ بِحَذْفِ الْوَاوِ لِلْجَزْمِ مُضَارِعُ قَفَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَلَا تَقْفُو بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: هَجَوْتَ زَبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا ... مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَعِ وَإِثْبَاتُ الْوَاوِ وَالْيَاءِ وَالْأَلِفِ مَعَ الْجَازِمِ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَضَرُورَةٌ لِغَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ مُعَاذٌ الْقَارِئُ: وَلا تَقْفُ مِثْلَ تَقُلْ، مِنْ قَافَ يَقُوفُ تَقُولُ الْعَرَبُ: قُفْتُ أَثَرَهُ وَقَفَوْتُ أَثَرَهُ وَهُمَا لُغَتَانِ لِوُجُودِ التَّصَارِيفِ فِيهِمَا كَجَبَذَ وَجَذَبَ، وَقَاعَ الْجَمَلُ النَّاقَةَ وَقَعَاهَا إِذَا رَكِبَهَا، وَلَيْسَ قَافَ مَقْلُوبًا مِنْ قَفَا كَمَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. وَقَرَأَ الْجَرَّاحُ الْعُقَيْلِيُّ: وَالْفُؤادَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْوَاوِ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ وَاوًا بَعْدَ الضَّمَّةِ فِي الْفُؤَادِ ثُمَّ اسْتُصْحِبَ الْقَلْبُ مَعَ الْفَتْحِ وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْفُؤادَ وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ وَبِهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَلَمٍ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَكَ وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَهُوَ لَا يَظْهَرُ وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الْحَوَاسِّ وَمِنَ الْعُقُولِ، وَجَاءَ هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْقُرْآنِيِّ فِي الْبَدَاءَةِ بِالسَّمْعِ، ثُمَّ يَلِيهِ الْبَصَرُ، ثُمَّ يَلِيهِ الْفُؤَادُ. وأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ وَهُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ الْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ. وَتَخَيَّلَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْعَاقِلِ. فَقَالَ: وَعَبَّرَ عَنِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ بِأُولَئِكَ لِأَنَّهَا حَوَاسٌّ لَهَا إِدْرَاكٌ، وَجَعَلَهَا فِي هذه الآية مسؤولة فَهِيَ حَالَةُ مَنْ يَعْقِلُ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِأُولَئِكَ. وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ في قوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» إِنَّمَا قَالَ: رَأَيْتُهُمْ فِي نُجُومٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَهَا بِالسُّجُودِ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْهَا بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَمَّنْ يَعْقِلُ وَعَمَّا لَا يَعْقِلُ بِأُولَئِكَ، وَأَنْشَدَ هُوَ وَالطَّبَرِيُّ: ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ وَأَمَّا حِكَايَةُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ اللُّغَةِ فَأَمْرٌ يُوقَفُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْبَيْتُ فَالرِّوَايَةُ فِيهِ الْأَقْوَامُ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا تَخَيَّلَهُ صَحِيحًا، وَالنُّحَاةُ يُنْشِدُونَهُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَكُونُوا لِيُنْشِدُوا إِلَّا مَا رُوِيَ، وَإِطْلَاقُ أُولَاءِ وَأُولَاكَ وَأُولَئِكَ وَأُولَالِكَ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِيهِ، وكُلُّ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُ، وَاسْمُ كانَ عَائِدٌ عَلَى كُلُّ وكذا الضمير في مَسْؤُلًا. وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ يُسْأَلُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ أَيْ عَنِ انْتِفَاءِ مَا

_ (1) سورة يوسف: 12/ 4.

لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَهَذَا الظَّاهِرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُسْتَشْهَدُ بِهَا كَمَا قَالَ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ «1» . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أَحْكَامِهِ: يُسْأَلُ الْفُؤَادُ عَمَّا اعْتَقَدَهُ، وَالسَّمْعُ عَمَّا سَمِعَ، وَالْبَصَرُ عَمَّا رَأَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْأَلُ سَمْعَ الْإِنْسَانِ وَبَصَرَهُ وَفُؤَادَهُ عَمَّا قَالَ مِمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَيَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِنْ جَوَارِحِهِ وَتِلْكَ غَايَةُ الْخِزْيِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي كانَ ومَسْؤُلًا عَائِدَانِ عَلَى الْقَائِفِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى كُلُّ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْخِطَابِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ كُلُّ أُولَئِكَ كُنْتَ عنه مسؤولا. وقال الزمخشري: وعَنْهُ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِالْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كان مسؤولا عنه، فمسؤول مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَالْمَغْضُوبِ فِي قَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «2» يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ: لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ؟ وَلِمَ نَظَرْتَ مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ؟ وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ؟ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ عَنْهُ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِالْفَاعِلِيَّةِ، وَيَعْنِي بِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ وَمَا يُقَامُ مَقَامَ الْفَاعِلِ مِنْ مَفْعُولٍ بِهِ وَمَصْدَرٍ وَظَرْفٍ بِشُرُوطِهِمَا جَارٍ مَجْرَى الْفَاعِلِ، فَكَمَا أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ فَكَذَلِكَ مَا جَرَى مَجْرَاهُ وَأُقِيمُ مَقَامَهُ، فَإِذَا قُلْتَ غَضِبَ عَلَى زَيْدٍ فَلَا يَجُوزُ عَلَى زَيْدٍ غَضِبَ بِخِلَافِ غَضِبْتُ عَلَى زَيْدٍ فَيَجُوزُ عَلَى زَيْدٍ غَضِبْتُ. وَقَدْ حَكَى الِاتِّفَاقَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي يُقَامُ مَقَامَ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمُقْنِعِ مِنْ تَأْلِيفِهِ، فَلَيْسَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كَالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِ الْجَارِّ والمجرور في عَنْهُ مَسْؤُلًا وَتَأْخِيرِهِ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَلِمَ نَظَرْتَ مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ أَسْقَطَ إِلَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ جَاءَ فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ لِأَنَّ نَظَرَ يَتَعَدَّى بِإِلَى فَكَانَ التَّرْكِيبُ، وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ كَمَا قَالَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَعَدَّاهُ بِإِلَى. وَانْتَصَبَ مَرَحاً عَلَى الْحَالِ أَيْ مَرَحاً كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ رَكْضًا أَيْ رَاكِضًا أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أي ذَا مَرَحٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ لِلْمَرَحِ وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرَحَ هُوَ السُّرُورُ وَالِاغْتِبَاطُ بِالرَّاحَةِ وَالْفَرَحِ وَكَأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الِاخْتِيَالِ لِأَنَّ غَلَبَةَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ يَصْحَبُهَا التَّكَبُّرُ والاختيال، ولذلك بقوله

_ (1) سورة النور: 24/ 24. (2) سورة الفاتحة: 1/ 7.

علل إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ فِيمَا حَكَى يَعْقُوبُ: مَرَحاً بِكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ حَالٌ أَيْ لَا تَمْشِ مُتَكَبِّرًا مُخْتَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَنْ تَخْرِقَ بِمَشْيِكَ عَلَى عَقِبَيْكَ كِبْرًا وَتَنَعُّمًا، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ بِالْمَشْيِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْكَ تَفَاخُرًا وطُولًا وَالتَّأْوِيلُ أَنَّ قُدْرَتَكَ لَا تَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَصْلَةً إِلَى الِاخْتِيَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَنَظِيرُهُ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً «1» واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لَنْ تَجْعَلَ فِيهَا خَرْقًا بِدَوْسِكَ لَهَا وَشِدَّةِ وَطْئِكَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا بِتَطَاوُلِكَ وَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْمُخْتَالِ. وَقَرَأَ الْجَرَّاحُ الْأَعْرَابِيُّ: لَنْ تَخْرِقَ بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا تُعْرَفُ هَذِهِ اللُّغَةُ. وَقِيلَ: أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحْصُورٌ بَيْنَ جَمَادَيْنِ ضَعِيفٌ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيهِمَا بِالْخَرْقِ وَبُلُوغِ الطُّولِ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمْ مِنْكَ أَرْفَعُ وَالْأَجْوَدُ انْتِصَابُ قَوْلِهِ طُولًا عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ لَنْ يَبْلُغَ طُولُكَ الْجِبَالَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: طُولًا نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ تَبْلُغَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ تخرق، وطُولًا بِمَعْنَى مُتَطَاوِلٍ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: طُولًا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا وَمَفْعُولًا لَهُ وَمَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى تَبْلُغَ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ سَيِّئَةً بِالنَّصْبِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ سَيِّئُهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُضَافًا لِهَاءِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ سَيِّئَاتُهُ بِالْجَمْعِ مُضَافًا لِلْهَاءِ، وَعَنْهُ أَيْضًا سَيِّئَاتٌ بِغَيْرِهَا، وَعَنْهُ أَيْضًا كَانَ خَبِيثُهُ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرَيِ النَّهْيَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا قَفْوُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَالْمَشْيُ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْمَنَاهِي الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وسيئة خبر كان وأنت ثُمَّ قَالَ مَكْرُوهًا فَذُكِّرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّيِّئَةُ فِي حُكْمِ الْأَسْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ الذَّنْبِ، وَالِاسْمُ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الصِّفَاتِ فَلَا اعْتِبَارَ بِتَأْنِيثِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَرَأَ سَيِّئَةً وَمَنْ قَرَأَ سَيِّئًا، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: الزِّنَا سَيِّئَةٌ كَمَا تَقُولُ السَّرِقَةُ سَيِّئَةٌ، فَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِسْنَادِهَا إِلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ انْتَهَى. وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ.

_ (1) سورة الفرقان: 7/ 63. (2) سورة لقمان: 31/ 19.

وَقِيلَ: ذَكَرَ مَكْرُوهاً عَلَى لَفْظِ كُلُّ وَجَوَّزُوا فِي مَكْرُوهاً أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا لِكَانَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ لِكَانَ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ سَيِّئَةٍ وَالْبَدَلُ بِالْمُشْتَقِّ ضَعِيفٌ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي الظَّرْفِ قَبْلَهُ وَالظَّرْفُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِسَيِّئَةٍ لَمَّا كَانَ تَأْنِيثُهَا مَجَازِيًّا جَازَ أَنْ تُوصَفَ بِمُذَكَّرٍ، وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ الْمَجَازِيِّ إِذَا تَقَدَّمَ، أَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ وَأُسْنِدَ إِلَى ضَمِيرِهَا فَهُوَ قَبِيحٌ، تَقُولُ: أَبْقَلَ الْأَرْضُ إِبْقَالَهَا فَصِيحًا وَالْأَرْضُ أَبْقَلَ قَبِيحٌ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ سَيِّئُهُ بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِضَافَةِ فسيئة اسم كانَ ومَكْرُوهاً الْخَبَرُ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الخصال ما هو سيىء وَمَا هُوَ حَسَنٌ أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى الْمَجْمُوعِ وَأُفْرِدَ سَيِّئَةٌ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَجْعَلْ إِلَى آخِرِ الْمَنْهِيَّاتِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ فتخرج عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا أُخْبِرَ فِيهِ عَنِ الْجَمْعِ إِخْبَارَ الْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ قَلِيلٌ نَحْوُ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا لِصَلَاحِيَةِ الْحِدْثَانِ مَكَانَ الْحَوَادِثِ وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْضًا كَانَ مَا يَسُوءُ مَكَانَ سَيِّئَاتِهِ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً «1» وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا مِنَ التَّكَالِيفِ بَعْضُهَا أَمْرٌ وَبَعْضُهَا نَهْيٌ بَدَأَهَا بِقَوْلِهِ لَا تَجْعَلْ. وَاخْتَتَمَ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ وَلا تَجْعَلْ وَقَالَ: مِمَّا أَوْحَى لِأَنَّ ذَلِكَ بَعْضٌ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْهِ إِذْ أَوْحَى إِلَيْهِ بِتَكَالِيفَ أخر، ومِمَّا أَوْحى خَبَرٌ عَنْ ذَلِكَ، ومِنَ الْحِكْمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَوْحَى وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ عَلَى مَا وَكَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ حِكْمَةً لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْعُقُولُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَهِيَ شَرَائِعُ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَتْ فِي أَلْوَاحِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوَّلُهَا لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قَالَ تَعَالَى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ «2» وَكَرَّرَ تَعَالَى النَّهْيَ عَنِ الشِّرْكِ، فَفِي النَّهْيِ الْأَوَّلِ. فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا «3» وَفِي الثَّانِي فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَذْمُومٍ وَمَلُومٍ أَنَّ كَوْنَهُ مَذْمُومًا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ، وَكَوْنَهُ مَلُومًا أَنْ يقال له بعد

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 37. (2) سورة الأعراف: 7/ 145. (3) سورة الإسراء: 17/ 18.

الْفِعْلِ وَذَمِّهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَمَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ وَمَا اسْتَفَدْتَ مِنْهُ إِلَّا إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِنَفْسِكَ، فَأَوَّلُ الْأَمْرِ الذَّمُّ وَآخِرُهُ اللَّوْمُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَخْذُولٍ وَمَدْحُورٍ أَنَّ الْمَخْذُولَ هُوَ الْمَتْرُوكُ إِعَانَتُهُ وَنَصْرُهُ وَالْمُفَوَّضُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمَدْحُورُ الْمَطْرُودُ الْمُبْعَدُ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ لَهُ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَأَوَّلُ الْأَمْرِ الْخِذْلَانُ وَآخِرُهُ الطَّرْدُ مُهَانًا. وَكَانَ وَصْفُ الذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَوَصْفُ اللَّوْمِ وَالدُّحُورِ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ وَالْخِطَابُ بِالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلسَّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَعَلَا فَاتِحَتَهَا وَخَاتِمَتَهَا النَّهْيَ عَنِ الشِّرْكِ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ وَمِلَاكُهَا، وَمَنْ عَدِمَهُ لَمْ تَنْفَعْهُ حِكَمُهُ وَعُلُومُهُ وَإِنْ بَذَّ فِيهَا الْحُكَمَاءَ وَحَكَّ بِيَافُوخِهِ السَّمَاءَ، وَمَا أَغْنَتْ عَنِ الْفَلَاسِفَةِ أَسْفَارُ الْحِكَمِ وَهُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَضَلُّ مِنَ النَّعَمِ. أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً. لَمَّا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى فَسَادِ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا وَنَظِيرًا أَتْبَعَهُ بِفَسَادِ طَرِيقَةِ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَالِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالْخِطَابُ لِمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَمَعْنَى أَفَأَصْفاكُمْ آثَرَكُمْ وَخَصَّكُمْ وهذا كما قال: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «1» وَهَذَا خِلَافُ الْحِكْمَةِ وَمَا عَلَيْهِ مَعْقُولُكُمْ وَعَادَتُكُمْ، فَإِنَّ الْعَبِيدَ لَا يُؤْثَرُونَ بِأَجْوَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَصْفَاهَا مِنَ الشَّوْبِ وَيَكُونُ أَرْدَؤُهَا وَأَدْوَنُهَا لِلسَّادَاتِ. وَمَعْنَى عَظِيماً مُبَالَغًا فِي الْمُنْكَرِ وَالْقُبْحِ حَيْثُ أَضَفْتُمْ إِلَيْهِ الْأَوْلَادَ ثُمَّ حَيْثُ فَضَّلْتُمْ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْفُسَكُمْ فَجَعَلْتُمْ لَهُ مَا تَكْرَهُونَ، ثُمَّ نِسْبَةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ شَرِيفِ مَا خَلَقَ إِلَى الْأُنُوثَةِ. وَمَعْنَى صَرَّفْنا نَوَّعْنَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَمِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ، وَالتَّصْرِيفُ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ صَارَ كِنَايَةً عَنِ التَّبْيِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. فَقَالَ: لَمْ نَجْعَلْهُ نَوْعًا وَاحِدًا بَلْ وَعْدًا وَوَعِيدًا، وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَأَمْرًا وَنَهْيًا، وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَأَخْبَارًا وَأَمْثَالًا مِثْلَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ مِنْ صَبًا وَدَبُورٍ وَجَنُوبٍ وَشَمَالٍ، وَمَفْعُولُ صَرَّفْنا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَحْذُوفٌ وَهِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَيْ: صَرَّفْنَا الْأَمْثَالَ وَالْعِبَرَ والحكم والأحكام والأعلام.

_ (1) سورة النجم: 53/ 21.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ نُنْزِلْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بَلْ نُجُومًا وَمَعْنَاهُ أَكْثَرْنَا صَرْفَ جِبْرِيلَ إِلَيْكَ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ صَرَّفْنا جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: فِي زَائِدَةٌ أَيْ صَرَّفْنا هذَا الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي «1» وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِي لَا تُزَادُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِبْطَالَ إِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُ مِمَّا صَرَّفَهُ وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ، وَالْمَعْنَى وَلَقَدْ صَرَّفْنا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَأَوْقَعْنَا التَّصْرِيفَ فِيهِ وَجَعَلْنَاهُ مَكَانًا لِلتَّكْرِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشِيرَ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى التَّنْزِيلِ، وَيُرِيدُ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ يَعْنِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّنْزِيلِ، فَتَرَكَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ انْتَهَى. فَجَعَلَ التَّصْرِيفَ خَاصًّا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَبْلَهُ وَجَعَلَ مَفْعُولَ صَرَّفْنا إِمَّا الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَوِ الْمَعْنَى وَهُوَ الضَّمِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ فِي صَرَّفْنَاهُ وَغَيْرُهُ جَعَلَ التَّصْرِيفَ عَامًّا فِي أَشْيَاءَ فَقَدَّرَ مَا يَشْمَلُ مَا سِيقَ لَهُ مَا قَبْلَهُ وَغَيْرَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ. فَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هُوَ بِمَعْنَى الْعَامَّةِ يَعْنِي بِالْعَامَّةِ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، قَالَ: لِأَنَّ فَعَلَ وَفَعَّلَ رُبَّمَا تَعَاقَبَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى مَعْنَى صَرَفْنَا فِيهِ النَّاسَ إِلَى الْهُدَى بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَذَّكَّرُوا أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا مِنَ التَّذْكِيرِ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ لِيَذْكُرُوا بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ مِنَ الذِّكْرِ أو الذكر، أي ليعظوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَنْظُرُوا فِيمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيْهِ وَما يَزِيدُهُمْ أَيِ التَّصْرِيفُ إِلَّا نُفُوراً أَيْ بُعْدًا وَفِرَارًا عَنِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2» وَقَالَ: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ «3» وَالنُّفُورُ مِنْ أَوْصَافِ الدَّوَابِّ الشَّدِيدَةِ الشِّمَاسِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِسْبَةَ الْوَلَدِ إِلَيْهِمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ذَكَرَ قَوْلَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَهُ آلِهَةٌ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ كَما يَقُولُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتَ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ. وَمَعْنَى لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا إِلَى مُغَالَبَتِهِ وَإِفْسَادِ مُلْكِهِ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. وَقَالَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ مِثْلَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَالنَّقَّاشُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ بَيَانًا لِلتَّمَانُعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «4» وَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ مَا مَعْنَاهُ: لابتغوا

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 15. (2) سورة التوبة: 9/ 125. (3) سورة المدثر: 74/ 49. [.....] (4) سورة الأنبياء: 21/ 22.

إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَى ذِي الْعَرْشِ وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ بَطَلَ كَوْنُهَا آلِهَةً، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «1» أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، وَالْكَافُ مِنْ كَما فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَعَ وهو الاستقرار ومَعَهُ خَبَرُ كَانَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَوْنًا لِقَوْلِكُمْ. وَقَالَ الزمخشري: وإِذاً دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا وَهُوَ لَابْتَغَوْا جَوَابٌ عَنْ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ وَجَزَاءٌ للو انْتَهَى. وَعُطِفَ وَتَعالى عَلَى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ قَامَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، أَيْ بَرَاءَةُ اللَّهِ وَقُدِّرَ تَنَزَّهَ وَتَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِهِ عن عَلَى سَبِيلِ الْإِعْمَالِ إِذْ يَصِحُّ لِسُبْحَانَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ عَنْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «2» وَالتَّعَالِي فِي حَقِّهِ تَعَالَى هُوَ بِالْمَكَانَةِ لَا بِالْمَكَانِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: عَمَّا تَقُولُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَانْتَصَبَ عُلُوًّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ أَيْ تَعَالِيًا وَوُصِفَ تَكْبِيرًا مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى الْبَرَاءَةِ وَالْبُعْدِ عَمَّا وَصَفُوهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ، وَبَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُحْتَاجِ مُنَافَاةٌ لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَنِسْبَةُ التَّسْبِيحِ للسموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النُّطْقِ بِالتَّسْبِيحِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ مَا لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا نُمُوَّ يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ نُطْقًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ مِنْ نَامٍ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ يُسَبِّحُ حَقِيقَةً، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ: الشَّجَرَةُ تُسَبِّحُ وَالْأُسْطُوَانَةُ لَا تُسَبِّحُ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنِ الْخِوَانِ أَيُسَبِّحُ؟ فَقَالَ: قَدْ كان تسبّح مَرَّةً يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ حِينَ كَانَ شَجَرَةً كَانَ يُسَبِّحُ، وَحِينَ صَارَ خُوَانًا مَدْهُونًا صَارَ جَمَادًا لَا يُسَبِّحُ. وَقِيلَ: التَّسْبِيحُ الْمَنْسُوبُ لِمَا لَا يَعْقِلُ مَجَازٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِلِسَانِ الْحَالِ حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَكَمَالِهِ، فَكَأَنَّهَا تَنْطِقُ بِذَلِكَ وَكَأَنَّهَا تُنَزِّهُ اللَّهَ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِهَا. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالْخَالِقِ أَنَّهُ اللَّهُ لَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً لَمْ يَنْظُرُوا وَلَمْ يُقِرُّوا لِأَنَّ نَتِيجَةَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالْإِقْرَارِ الثَّابِتِ خِلَافُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْقَهُوا التَّسْبِيحَ وَلَمْ يَسْتَوْضِحُوا الدَّلَالَةَ عَلَى الْخَالِقِ فَيَكُونُ التَّسْبِيحُ الْمُسْنَدُ إلى السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُرُ التَّسْبِيحُ حَقِيقَةً مِمَّنْ فِيهِنَّ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وجان ولا

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 57. (2) سورة الصافات: 37/ 180.

يحمل نسبته إلى السموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْمَجَازِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِئَلَّا يَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ثُمَّ أعاد على السموات وَالْأَرْضِ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إِلَيْهَا فِعْلَ الْعَاقِلِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ انْتَهَى. وَيُعْنَى بِالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَكَأَنَّهُ تُخُيِّلَ أَنَّ هُنَّ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ وَلَيْسَ كَمَا تُخُيِّلَ بَلْ هُنَّ يَكُونُ ضَمِيرَ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ مُطْلَقًا. وَقَرَأَ النحويان وحزة وَحَفْصٌ: تُسَبِّحُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ، وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ سَبَّحَتْ له السموات بِلَفْظِ الْمَاضِي وَتَاءِ التَّأْنِيثِ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حَيْثُ لَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى سُوءِ نَظَرِكُمْ غَفُوراً إِنْ رَجَعْتُمْ وَوَحَّدْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى. وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. نَزَلَتْ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فِي أَبِي سُفْيَانَ وَالنَّضْرِ وَأَبِي جَهْلٍ وَأُمِّ جَمِيلٍ امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ، كَانُوا يُؤْذُونَ الرَّسُولَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَحَجَبَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ إِذَا قَرَأَ فَكَانُوا يَمُرُّونَ بِهِ وَلَا يَرَوْنَهُ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ، دَخَلَتْ مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهَا فِهْرٌ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: هَجَانِي صَاحِبُكَ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَالَتْ: قَالَ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «1» وَمَا يُدْرِيهِ مَا فِي جِيدِي؟ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «سَلْهَا هَلْ تَرَى غَيْرَكَ فَإِنَّ مَلَكًا لَمْ يَزَلْ يَسْتُرُنِي عَنْهَا» فَسَأَلَهَا فَقَالَتْ: أَتَهْزَأُ بِي مَا أَرَى غَيْرَكَ؟ فَانْصَرَفَتْ وَلَمْ تَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَانُوا يُؤْذُونَهُ فِي اللَّيْلِ إِذَا صَلَّى وَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، فَحَالَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَذَاهُ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْإِلَهِيَّةِ جَاءَ بَعْدَهُ تَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ وَذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْكَفَرَةِ فِي إِنْكَارِهَا وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ، وَالْمَعْنَى وَإِذَا شَرَعْتَ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْقِرَاءَةِ بَلِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّكَ إِذَا الْتَبَسْتَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُرَادُ بِالْقُرْآنِ جَمِيعُهُ بَلْ مَا ينطلق

_ (1) سورة المسد: 11/ 5.

عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَإِنَّكَ تَقُولُ لِمَنْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ هَذَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرْآنَ هُنَا هو ما قرىء مِنَ الْقُرْآنِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ مِنْهُ. وَقِيلَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْهُ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ فِي النَّحْلِ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ- إِلَى- الْغافِلُونَ «1» وَفِي الكهف فَمَنْ أَظْلَمُ- إِلَى- إِذاً أَبَداً «2» وَفِي الْجَاثِيَةِ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ- إِلَى- أَفَلا تَذَكَّرُونَ «3» وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَسْتَتِرُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ عَيَّنَهَا لَهُ هَاتِفٌ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَسَرَّ زَمَانًا ثُمَّ اهْتَدَى قِرَاءَتَهَا فَخَرَجَ لَا يُبْصِرُهُ الْكُفَّارُ وَهُمْ يَتَطَلَّبُونَهُ تَمَسُّ ثِيَابُهُمْ ثِيَابَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُزَادُ إِلَى هَذِهِ الْآيِ أَوَّلُ يس إِلَى فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ «4» فَفِي السِّيرَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حِينَ نَامَ عَلَى فِرَاشِهِ خَرَجَ يَنْثُرُ التُّرَابَ على رؤوس الْكُفَّارِ فَلَا يَرَوْنَهُ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ يس، ولم يبق أحد مِنْهُمْ إِلَّا وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا بَيْنَ رُؤْيَتِكَ وَبَيْنَ أَبْصَارِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ مَا معناه: جَعَلْنا بَيْنَكَ فَهْمِ مَا تَقْرَأُ وَبَيْنَهُمْ حِجاباً فَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِكَ وَلَا بِالْبَعْثِ، فَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ الْآيَةِ بَعْدَهَا، وَالظَّاهِرُ إِقْرَارُ مَسْتُوراً عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَفْعُولٍ أَيْ مَسْتُوراً عَنْ أَعْيُنِ الْكُفَّارِ فَلَا يَرَوْنَهُ، أَوْ مَسْتُوراً بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ. وَنُسِبَ السَّتْرُ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ مَسْتُورًا بِهِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ ذُو سَتْرٍ كَمَا جَاءَ فِي صِيغَةِ لَابِنٍ وَتَامِرٍ أَيْ ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ. وَقَالُوا: رَجُلٌ مَرْطُوبٌ أَيْ ذُو رَطْبَةٍ وَلَا يُقَالُ رَطَّبْتُهُ، وَمَكَانٌ مَهُولٌ أَيْ ذُو هَوْلٍ، وَجَارِيَةٌ مَغْنُوجَةٌ وَلَا يُقَالُ هُلْتُ الْمَكَانَ وَلَا غَنِجَتِ الْجَارِيَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَجَمَاعَةٌ مَسْتُوراً سَاتِرًا وَاسْمُ الْفَاعِلِ قَدْ يَجِيءُ بِلَفْظِ المفعول كما قالوا مشؤوم وَمَيْمُونٌ يُرِيدُونَ شَائِمٌ وَيَامِنٌ. وَقِيلَ: مَسْتُورٌ وَصْفٌ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالُوا شِعْرٌ شَاعِرٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَمِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ. قِيلَ: دَخَلَ مَلَأُ قُرَيْشٍ عَلَى أَبِي طَالِبٍ يَزُورُونَهُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ وَمَرَّ بِالتَّوْحِيدِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لكم العجم» فولوا وانفروا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي حَالِ الْفَارِّينَ عِنْدَ وَقْتِ قِرَاءَتِهِ وَمُرُورِهِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى إِذَا جَاءَتْ مَوَاضِعُ التَّوْحِيدِ فَرَّ الْكُفَّارُ إِنْكَارًا لَهُ وَاسْتِبْشَاعًا لِرَفْضِ آلِهَتِهِمْ وَاطِّرَاحِهَا.

_ (1) سورة النحل: 16/ 108. (2) سورة الكهف: 18/ 57. (3) سورة الجاثية: 45/ 23. (4) سورة يس: 36/ 9.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَدَ يَحِدُ وَحْدًا وَحِدَةً نَحْوُ وَعَدَ يعد وعدا وعدة ووَحْدَهُ مِنْ بَابِ رَجَعَ عَوْدُهُ عَلَى بَدْئِهِ وَافْعَلْهُ جُهْدَكَ وَطَاقَتَكَ فِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ سَادٌّ مَسَدَّ الْحَالِ، أَصْلُهُ يَحِدُ وَحْدَهُ بِمَعْنَى وَاحِدًا انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ وَحْدَهُ مَصْدَرٌ سَادٌّ مَسَدَّ الْحَالِ خِلَافُ مذهب سيبويه ووَحْدَهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ مَصْدَرًا بَلْ هُوَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الحال، فوحده عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ إِيحَادٍ، وَإِيحَادٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ مُوَحِّدٍ. وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّ وَحْدَهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لَا فِعْلَ لَهُ، وَقَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِأَوْحَدَ عَلَى حَذْفِ الزِّيَادَةِ، وَقَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِوَحْدٍ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَإِذَا ذَكَرْتَ وَحْدَهُ بَعْدَ فَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ نَحْوُ ضَرَبْتُ زَيْدًا فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ مُوَحِّدًا لَهُ بِالضَّرْبِ، وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ فَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ مُوَحِّدًا لَهُ بِالذِّكْرِ وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُوَحِّدًا بالذكر. ونُفُوراً حَالٌ جَمْعُ نَافِرٍ كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ، أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِأَنَّ مَعْنَى وَلَّوْا نَفَرُوا، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَلَّوْا عَلَى الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ضَمِيرُ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ يَفِرُّونَ مِنَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ. وَقَالَ أَبُو الْحَوْرَاءِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَطْرَدَ لِلشَّيْطَانِ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا وَإِذا ذَكَرْتَ الْآيَةَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هُوَ الْبَسْمَلَةُ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أَيْ بِالِاسْتِخْفَافِ الَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ وَالْهُزْءِ بِكَ وَاللَّغْوِ، كَانَ إِذَا قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ وَرَجُلَانِ مِنْهُمْ عَنْ يَسَارِهِ، فَيُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ ويخلطون عليه بالأشعار. وبما مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي بَابِ أَفْعَلَ فِي التَّعَجُّبِ، وَفِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ تَعَدَّى بِالْبَاءِ تَقُولُ: مَا أَعْلَمَ زَيْدًا بِكَذَا وَمَا أَجْهَلَهُ بِكَذَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكَذَا وَأَجْهَلُ بِكَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ لِمَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى فِي أَفْعَلَ فِي التَّعَجُّبِ وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بِاللَّامِ، تَقُولُ: مَا أَضْرِبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو وَزَيْدٌ أَضْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: يَسْتَمِعُونَ بِالْهُزْءِ أَيْ هَازِئِينَ وإِذْ يَسْتَمِعُونَ نَصْبٍ بِأَعْلَمَ أَيْ أَعْلَمُ وَقْتَ اسْتِمَاعِهِمْ بِمَا بِهِ يَسْتَمِعُونَ وَبِمَا بِهِ يَتَنَاجَوْنَ، إِذْ هُمْ ذَوُو نَجْوَى إِذْ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ إِذْ هُمْ انْتَهَى.

وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: لَمْ يَقُلْ يَسْتَمِعُونَهُ وَلَا يَسْتَمِعُونَكَ لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ لَيْسَ الْإِخْبَارَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ فَقَطْ، وَكَانَ مُضَمَّنًا أَنَّ الِاسْتِمَاعَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْهُزْءِ بِأَنْ يَقُولُوا: مَجْنُونٌ أَوْ مَسْحُورٌ، جَاءَ الِاسْتِمَاعُ بِالْبَاءِ وَإِلَى لِيُعْلَمَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَفَهُّمَ الْمَسْمُوعِ دُونَ هَذَا الْمَقْصِدِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى فإذا الأولى تتعلق بيستمعون بِهِ وَكَذَا وَإِذْ هُمْ نَجْوى لِأَنَّ الْمَعْنَى نَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِلَيْكَ وَإِلَى قِرَاءَتِكَ وَكَلَامِكَ إِنَّمَا يَسْتَمِعُونَ لِسَقَطِكَ وَتَتَبُّعِ عَيْبِكَ وَالْتِمَاسِ مَا يَطْعَنُونَ بِهِ عَلَيْكَ، يَعْنِي فِي زَعْمِهِمْ وَلِهَذَا ذُكِرَ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ وَإِلَى انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَسْتَمِعُونَ بِهِ. قِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، لا وَإِذْ ظَرْفٌ لِيَسْتَمِعُونَ الْأُولَى، وَالنَّجْوَى مَصْدَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ نَجِيٍّ كَقَتِيلٍ وَقَتْلَى، وَإِذْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ الْأُولَى. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ اذْكُرْ إِذْ تَقُولُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْمُرَادُ الِاسْتِخْفَافُ وَالْإِعْرَاضُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِالِاسْتِخْفَافِ وَالِاسْتِهْزَاءِ الَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ أَيْ هُوَ مُلَازِمُهُمْ، فَفَضَحَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ سِرَّهُمْ وَالْعَامِلُ فِي إِذْ الْأُولَى وَفِي الْمَعْطُوفِ يَسْتَمِعُونَ الْأُولَى انْتَهَى. تَنَاجَوْا فَقَالَ النَّضْرُ: مَا أَفْهَمُ مَا تَقُولُ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَرَى بَعْضَهُ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَجْنُونٌ، وَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: كَاهِنٌ، وَقَالَ حُوَيْطِبٌ: شَاعِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وَرُوِيَ أَنَّ تَنَاجِيَهُمْ كَانَ عِنْدَ عُتْبَةَ دَعَا أَشْرَافَ قُرَيْشٍ إِلَى طَعَامٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَتَنَاجَوْا يَقُولُونَ سَاحِرٌ مَجْنُونٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَسْحُوراً مِنَ السِّحْرِ أَيْ خَبِلَ عَقْلَهُ السِّحْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَخْدُوعًا نَحْوُ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ «1» أَيْ تُخْدَعُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَسْحُوراً مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ سَحْرًا أَيْ رِئَةً فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ مِثْلُكُمْ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْجَبَانِ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ وَلِكُلِّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ مَسْحُورٌ. قال: أَرَانَا مَوْضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... ونسحر بالطعام والشراب أَيْ نُغَذَّى وَنُعَلَّلُ وَنُسْحَرُ. قَالَ لَبِيدٌ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا أَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُسْتَكْرَهِ مَعَ أَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِالْوُجُوهِ الْوَاضِحَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذَا تُقَوِّي أن اللفظة من

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 89.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 إلى 69]

السِّحْرِ بِكَسْرِ السِّينِ لِأَنَّ «2» فِي قَوْلِهِمْ ضَرْبَ مَثَلٍ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّهَا مِنَ السَّحْرِ الَّذِي هُوَ الرِّئَةُ وَمِنَ التَّغَذِّي وَأَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ بَشَرٌ فَلَمْ يُضْرَبْ لَهُ فِي ذَلِكَ مَثَلٌ بَلْ هِيَ صفة حقيقة له، والْأَمْثالَ تَقَدَّمَ مَا قَالُوهُ فِي تَنَاجِيهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّلْبِيسِ، ثُمَّ رَأَى الْوَلِيدُ بْنُ المغيرة أن أقر بها لِتَخْيِيلِ الطَّارِئِينَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَضَلُّوا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ضَلَالَ مَنْ يَطْلُبُ فِيهِ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِهِ عَلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى الْهُدَى وَالنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ، أَوْ سَبِيلًا إِلَى إِفْسَادِ أَمْرِكَ وَإِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ بِضَرْبِهِمُ الْأَمْثَالَ وَاتِّبَاعِهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ فِي جِهَتِكَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وأصحابه وَقالُوا: أَإِذا كُنَّا هَذَا اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ وَاسْتِبْعَادٍ لَمَّا ضَرَبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ وَقَالُوا عَنْهُ إِنَّهُ مَسْحُورٌ ذَكَرُوا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ عَلَى اتِّصَافِهِ بِمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَبْعَدُوا أَنَّهُ بَعْدَ مَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ رُفَاتًا يُحْيِيهِ اللَّهُ وَيُعِيدُهُ، وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي فَطَرَهُمْ بَعْدَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ عَلَى مَا يَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، وَمَنْ قَرَأَ مِنَ الْقُرَّاءِ إِذَا وَإِنَّا مَعًا أَوْ إِحْدَاهُمَا عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ فَلَا يُرِيدُ الْخَبَرَ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ تَصْدِيقًا بِالْبَعْثِ وَالنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ حذف همزة الاستفهام لدلالة الْمَعْنَى. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ إِذَا كُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا نُبْعَثُ أَوْ نُعَادُ، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ وَانْصَبَّ عَلَيْهِ عِنْدَ يُونُسَ وخلقا حَالٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَفْعُولِ أي مخلوقا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 69] قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)

_ (2) هكذا بياض بجميع النسخ.

الجديد مَعْرُوفٌ. نَغَضَتْ سِنُّهُ: تَحَرَّكَتْ قَالَ. وَنَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أَسْنَانُهَا. تَنْغِضُ وَتَنْغُضُ نَغْضًا وَنُغُوضًا، وَأَنْغَضَ رَأْسَهُ حَرَّكَهُ بِرَفْعٍ وَخَفْضٍ. قَالَ: لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِيَ الرَّأْسَا وَقَالَ الْآخَرُ: أَنْغَضَ نَحْوِي رَأَسَهُ وَأَقْنَعَا ... كَأَنَّهُ يَطْلُبُ شيئا أطمعا وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْغَضَ رَأْسَهُ حَرَّكَهُ إِلَى فَوْقَ وَإِلَى أَسْفَلَ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: إِذَا أُخْبِرَ بِشَيْءٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ إِنْكَارًا لَهُ فَقَدْ أَنْغَضَ رَأْسَهُ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: ظَعَائِنُ لَمْ يَسْكُنَّ أَكْنَافَ قَرْيَةٍ ... بِسَيْفٍ وَلَمْ يَنْغُضْ بِهِنَّ الْقَنَاطِرُ حَنَّكَ الدَّابَّةَ وَاحْتَنَكَهَا: جَعَلَ فِي حَنَكِهَا الْأَسْفَلِ حَبْلًا يَقُودُهَا بِهِ، وَاحْتَنَكَ الْجَرَادُ الْأَرْضَ أكلت نباتها. قال: نشكو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ... جَهْدًا إِلَى جَهْدٍ بِنَا فأضعفت واحتنكت أموالنا وحنفت، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْنَكُ الشَّاتَيْنِ أَيْ آكِلُهُمَا. اسْتَفَزَّ الرَّجُلَ: اسْتَخَفَّهُ، وَالْفَزُّ الْخَفِيفُ وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ وَمِنْهُ تَفَزَّزَ الثَّوْبُ انْقَطَعَ، وَاسْتَفَزَّنِي فُلَانٌ خَدَعَنِي حَتَّى وَقَعْتُ فِي أَمْرٍ أَرَادَهُ. وَقِيلَ لِوَلَدِ الْبَقَرَةِ فَزٌّ لِخِفَّتِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: كما استغاث بشيء فَزُّ غَيْطَلَةٍ ... خَافَ الْعُيُونَ فلم ينظرنه الْحَشَكُ الْجَلَبَةُ الصِّيَاحُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَلَبَ وَأَجْلَبَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْلَبَ عَلَى الْعَدُوِّ وَجَمَعَ عَلَيْهِ الْخَيْلَ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: جَلَبَ عَلَيْهِ أَعَانَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَجْلَبَ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا تَوَعَّدَهُ الشَّرَّ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ الْجَمْعَ. الصَّوْتُ مَعْرُوفٌ. الْحَاصِبُ الرِّيحُ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالْحَصَبُ الرَّمْيُ بِالْحَصْبَاءِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ نَضْرِبُهُمْ ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ وَالْحَاصِبُ الْعَارِضُ الرَّامِي بِالْبَرَدِ وَالْحِجَارَةِ. تَارَةً مَرَّةً وَتُجْمَعُ عَلَى تِيَرٍ وَتَارَاتٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الْمَاءَ تَارَةً ... فَيَبْدُو وَتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ

الْقَاصِفُ الَّذِي يَكْسِرُ كُلَّ مَا يَلْقَى، وَيُقَالُ قَصَفَ الشَّجَرَ يَقْصِفُهُ قَصْفًا كَسَرَهُ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ... عِيدَانَ نَجْدٍ وَلَا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ وَقِيلَ: الْقَاصِفُ الرِّيحُ الَّتِي لَهَا قَصِيفٌ وَهُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ كَأَنَّهَا تَتَقَصَّفُ أَيْ تَتَكَسَّرُ. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا قالوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً «1» قِيلَ لَهُمْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فَرَدَّ قَوْلُهُ كُونُوا عَلَى قَوْلِهِمْ كُنَّا كَأَنَّهُ قِيلَ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً وَلَا تَكُونُوا عِظَامًا فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِكُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يُجَدِّدَ اللَّهُ خَلْقَكُمْ وَيَرُدَّهُ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ وَإِلَى رُطُوبَةِ الحي وغضاضته بعد ما كُنْتُمْ عِظَامًا يَابِسَةً، مَعَ أَنَّ الْعِظَامَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْحَيِّ بَلْ هِيَ عَمُودُ خَلْقِهِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ سَائِرُهُ، فَلَيْسَ بِبْدَعٍ أَنْ يَرُدَّهَا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَلَكِنْ لَوْ كُنْتُمْ أَبْعَدَ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَرُطُوبَةِ الْحَيِّ وَمِنْ جِنْسِ مَا رُكِّبَ بِهِ الْبَشَرُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونُوا حِجارَةً يَابِسَةً أَوْ حَدِيداً مَعَ أَنَّ طِبَاعَهَا الْقَسَاوَةُ وَالصَّلَابَةُ لَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَرُدَّكُمْ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ عِنْدَكُمْ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ، وَيَعْظُمُ فِي زَعْمِكُمْ عَلَى الْخَالِقِ إِحْيَاؤُهُ فَإِنَّهُ يُحْيِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُونُوا إِنِ اسْتَطَعْتُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الصَّعْبَةَ الْمُمْتَنِعَةَ التَّأَتِّي لَا بُدَّ مِنْ بَعْثِكُمْ. وَقَوْلُهُ كُونُوا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ التَّعْجِيزَ مِنْ أَنْوَاعِ أَفْعَلَ، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ مَثَّلَ بَعْضُهُمْ وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ وَإِنَّمَا التَّعْجِيزُ حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمْرِ فِعْلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ المخاطب كقوله تعالى: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ «2» وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّقْدِيرِ كَذَا وَكَذَا الَّذِي فَطَرَكُمْ كَذَلِكَ هُوَ يُعِيدُكُمُ انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى كُونُوا مَا شِئْتُمْ فَسَتُعَادُونَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا حِجَارَةً وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِخَالِقِهِمْ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَقِيلَ لَهُمْ اسْتَشْعِرُوا أَنْ تَكُونُوا مَا شِئْتُمْ، فَلَوْ كُنْتُمْ حِجارَةً أَوْ حَدِيداً لَبُعِثْتُمْ كَمَا خُلِقْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ انْتَهَى. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ صَلَابَتُهُ وَزِيَادَتُهُ عَلَى قُوَّةِ الْحَدِيدِ وَصَلَابَتِهِ، وَلَمْ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 49- 98. (2) سورة آل عمران: 3/ 168.

يُعَيِّنْهُ تَرَكَ ذَلِكَ إِلَى أَفْكَارِهِمْ وَجَوَلَانِهَا فِيمَا هُوَ أَصْلَبُ مِنَ الْحَدِيدِ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالصُّلْبِ ثُمَّ ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي الْأَصْلَبَ مِنْهُ ثُمَّ الْأَصْلَبَ مِنَ الْحَدِيدِ، أَيِ افْرِضُوا ذَوَاتِكُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْبَعْثِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتُمْ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ الَّذِي يَكْبُرُ الْمَوْتُ، أَيْ لَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ لَأَمَاتَكُمْ ثُمَّ أَحْيَاكُمْ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ لَا نَفْسُ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْبَدَنَ جِسْمٌ وَالْمَوْتَ عَرَضٌ وَلَا يَنْقَلِبُ الْجِسْمُ عَرَضًا وَلَوْ فُرِضَ انْقِلَابُهُ عَرَضًا لَمْ يَكُنْ لِيَقْبَلَ الْحَيَاةَ لِأَجْلِ الضِّدِّيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الذي يكبر السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَصْلَبَ شَيْءٍ وَأَبْعَدَهُ مِنْ حُلُولِ الْحَيَاةِ بِهِ كَانَ خَلْقُ الْحَيَاةِ فِيهِ مُمْكِنًا. قَالُوا: مَنِ الَّذِي هُوَ قَادِرٌ عَلَى صَيْرُورَةِ الْحَيَاةِ فِينَا وَإِعَادَتِنَا فَنَبَّهَهُمْ عَلَى مَا يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَاخْتَرَعَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُوَ الَّذِي يُعِيدُكُمْ والَّذِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُعِيدُكُمْ فَيُطَابِقُ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا أَيْ يُعِيدُكُمُ الَّذِي فَطَرَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، أَيْ مُعِيدُكُمُ الَّذِي فطركم وأَوَّلَ مَرَّةٍ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ فَطَرَكُمْ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. فَسَيُنْغِضُونَ أَيْ يُحَرِّكُونَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَيَقُولُونَ: مَتَى هُوَ؟ أَيْ مَتَى الْعَوْدُ؟ وَلَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيمِ لِلْعَوْدِ. وَلَكِنْ حَيْدَةً وَانْتِقَالًا لِمَا لَا يُسْأَلُ عَنْهُ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ إِمْكَانُهُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِ وُقُوعِهِ، وَلَكِنْ أَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِقُرْبِ وُقُوعِهِ لَا بِتَعْيِينِ زَمَانِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فِي عَسى إِضْمَارٌ أَيْ عَسى هُوَ أَيِ الْعَوْدُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعُهَا أَنْ يَكُونَ فَتَكُونَ تَامَّةً. وقَرِيباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ كَانَ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ الْعَوْدُ مُتَّصِفًا بِالْقُرْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا أَيْ زَمَانًا قَرِيبًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَوْمَ نَدْعُوكُمْ بَدَلًا مِنْ قَرِيبًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ظَرْفٌ لِيَكُونَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِاسْمِ كَانَ وَإِنْ كَانَ ضَمِيرَ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعْمَلُ انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُهُ ظَرْفًا لِيَكُونَ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ كَانَ النَّاقِصَةِ فِي الظَّرْفِ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعْمَلُ فَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَيُجِيزُونَ أَنْ يَعْمَلَ نَحْوِ مُرُورِي بِزَيْدٍ حَسَنٌ وهو بعمر وقبيح، يُعَلِّقُونَ بِعَمْرٍو بِلَفْظِ هُوَ أَيْ وَمُرُورِي بِعَمْرٍو قَبِيحٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدُّعَاءَ حَقِيقَةٌ أَيْ يَدْعُوكُمْ بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُسْمِعُكُمْ وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ كما قال يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «1»

_ (1) سورة ق: 50/ 41.

الْآيَةَ وَيُقَالُ: إِنَّ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنَادِي أَيَّتُهَا الْأَجْسَامُ الْبَالِيَةُ وَالْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْأَجْزَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ عُودِي كَمَا كُنْتِ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ» . وَمَعْنَى فَتَسْتَجِيبُونَ تُوَافِقُونَ الدَّاعِيَ فِيمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدُّعَاءُ وَالِاسْتِجَابَةُ كِلَاهُمَا مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى يَوْمَ يَبْعَثُكُمْ فَتَنْبَعِثُونَ مُطَاوِعِينَ مُنْقَادِينَ لَا تَمْتَنِعُونَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ إِذِ الْكَلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَهُمْ فَالضَّمِيرُ لَهُمْ وبِحَمْدِهِ حَالٌ مِنْهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي انْقِيَادِهِمْ لِلْبَعْثِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَأْمُرُهُ بِرُكُوبِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَتَأَبَّى وَيَمْتَنِعُ سَتَرْكَبُهُ وَأَنْتَ حَامِدٌ شَاكِرٌ، يَعْنِي أَنَّكَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ وَتُقْسَرُ قَسْرًا حَتَّى أَنَّكَ تَلِينُ لِينَ المسمح الرَّاغِبِ فِيهِ الْحَامِدِ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ينفضون التراب عن رؤوسهم وَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ انْتَهَى. وَذَلِكَ لِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى بِحَمْدِهِ أَنَّ الرَّسُولَ قَائِلٌ ذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ يَكُونُ بِحَمْدِهِ حَالًا مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَسَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ قَرِيبَةً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَقُومُونَ بِخِلَافِ مَا تَعْتَقِدُونَ الْآنَ، وَذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ خَبَرِي كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ خَصَمْتَهُ أَوْ حَاوَرْتَهُ فِي عِلْمٍ: قَدْ أَخْطَأْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ فَبِحَمْدِ اللَّهِ لَيْسَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ أَخْطَأْتَ، بَلِ الْمَعْنَى أَخْطَأْتَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَهَذَا مَعْنًى مُتَكَلَّفٌ نَحَا إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَكَانَ بِحَمْدِهِ يَكُونُ اعْتِرَاضًا إِذْ مَعْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ أَيْ فَإِنِّي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، كَمَا أَنَّ بِحَمْدِهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ وَوَقَعَ فِي لَفْظِ ابْنِ عَطِيَّةَ حِينَ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: عَسَى أَنَّ السَّاعَةَ قَرِيبَةٌ وَهُوَ تَرْكِيبٌ لَا يَجُوزُ، لَا تَقُولُ عَسَى أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ بِخِلَافِ عَسَى أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ بِحَمْدِهِ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ فَتَسْتَجِيبُونَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حَمِدُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْحَمْدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَّنَ النَّفْخَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يُزَالُ عَنْهُمُ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا فَهَذَا عائد إلى لَبِثْتُمْ فِيمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَقْرِيبُ وَقْتِ الْبَعْثِ فَكَأَنَّكَ بِالدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ وَبِالْآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اسْتِقْلَالِ مُدَّةِ اللُّبْثِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَظُنُّونَ وَتَرَوْنَ الْهَوْلَ فَعِنْدَهُ تَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ لُبْثِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَتَحْسَبُونَهَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ تَحَاقَرَتِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ عَايَنُوا الْآخِرَةَ

انْتَهَى. وَقِيلَ: اسْتَقَلُّوا لُبْثَهُمْ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الدُّخُولَ إِلَى النَّارِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ فِي بَرْزَخِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. ويَوْمَ يَدْعُوكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَعَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ بِحَمْدِهِ يَحْمَدُونَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ فَلَا يَلِيقُ هَذَا إِلَّا بِهِمْ. وَقِيلَ: يَحْمَدُهُ الْمُؤْمِنُ اخْتِيَارًا وَالْكَافِرُ اضْطِرَارًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَيُحْمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ فَيَكُونُ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ وَقَعَ لَهُمُ الظَّنُّ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنِ الدُّنْيَا إِلَّا فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ إِذْ كَانُوا فِي ظَنِّهِمْ نَائِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ مِنْ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُنْقَضٍ مُتَصَرِّمٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَتَظُنُّونَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَسْتَجِيبُونَ وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ وَأَنْتُمْ تَظُنُّونَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ انْتَهَى. وَإِنْ هُنَا نَافِيَةٌ، وَتَظُنُّونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَقَلَّمَا ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ إِنِ النَّافِيَةَ، وَيَظْهَرُ أَنَّ انْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إلّا زمن قَلِيلًا. كَقَوْلِهِ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ لُبْثًا قَلِيلًا وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى مصدره دلالة قوية. قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَتَمَهُ بَعْضُ الْكَفَرَةِ، فَسَبَّهُ عُمَرُ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ فَكَادَ يُثِيرُ فِتْنَةً فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَارْتِبَاطُهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا نَسَبَ الْكُفَّارُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْوَلَدِ، وَنُفُورُهُمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ إِذَا سَمِعُوهُ، وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِسْبَتُهُ إِلَى أَنَّهُ مَسْحُورٌ، وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ كَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةً لِإِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَجْلَبَةً لِبُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِمَا عَامَلُوهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يُوصِيَ الْمُؤْمِنِينَ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 113. [.....]

بِالرِّفْقِ بِالْكُفَّارِ وَاللُّطْفِ بِهِمْ فِي الْقَوْلِ، وَأَنْ لَا يُعَامِلُوهُمْ، بِمِثْلِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى قُلْ لِعِبادِي الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْكَلِمَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَقُولُوا أَيْ يَقُولُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ الْكَلِمَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ يُجِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُعَظِّمُهُ، وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْكَلَامُ الطَّيِّبُ والقول الجميل، فيكونوا مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالتَّهَاجِي وَالسِّبَابِ وَالْحُرُوبِ وَالنَّهْبِ لِلْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ لِلنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ. وَقِيلَ: عِبَادِي هنا المشركون إذا الْمَقْصُودُ هُنَا الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَخُوطِبُوا بِالْخِطَابِ الْحَسَنِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى قَبُولِ الدِّينِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ لِلَّذِينَ أَقَرُّوا أَنَّهُمْ عِبَادٌ لِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الْوَلَدِ وَاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ بَنَاتٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ وَتَحْسِينِهِ. وَقِيلَ: عِبَادِي شَامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْسِيرُ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَةَ عِبَادِي مُضَافَةٌ إِلَيْهِ تَعَالَى كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ «1» فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَيْناً «2» يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «3» . وقُلْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَمْرٌ، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَانْجَزَمَ يَقُولُوا عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قُلْ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عِبَادِي يُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمْ لِمُسَارَعَتِهِمْ لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَفْسِ مَا يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ انْجَزَمَ عَلَى جَوَابٍ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْ يَقُلْ لَهُمْ يَقُولُوا فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ حَذْفُ مَعْمُولِ الْقَوْلِ وَحَذْفُ الشَّرْطِ الَّذِي يَقُولُوا جَوَابُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: انْجَزَمَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَعْمُولُ قُلْ أَيْ قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا. وَقِيلَ مَعْمُولُ قُلْ مَذْكُورٌ لَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ يَقُولُوا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ وَهُوَ مَجْزُومٌ بِهَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: يَقُولُوا مَبْنِيٌّ وَهُوَ مُضَارِعٌ حَلَّ مَحَلَّ الْمَبْنِيِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْأَمْرِ فَبُنِيَ، وَالْمَعْنَى قُلْ لِعِبادِي قُولُوا قَالَهُ الْمَازِنِيُّ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ جَرَتْ فِي قَوْلِهِ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «4» وَتَرْجِيحُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 17. (2) سورة الفجر: 89/ 29. (3) سورة الإنسان: 76/ 6. (4) سورة إبراهيم: 14/ 31.

والَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِعِبادِي يُرِيدُ بِهِ جَمِيعَ الْخَلْقِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مَدْعُوٌّ إِلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَيَجِيءُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِلْمَعْنَى إِلَّا عَلَى تَكَبُّرِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُمْ بِمَعْنَى خِلَالِهِمْ وَأَثْنَاءِهِمْ وَيُجْعَلَ النَّزْغُ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ وَالْإِمْلَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، وَعَنْهُ أَيْضًا الْأَمْرُ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنَاهِي. وَقِيلَ الْقَوْلُ لِلْمُؤْمِنِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَلِلْكَافِرِ هَدَاكَ اللَّهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَهِيَ الْمُحَاوَرَةُ الْحُسْنَى بِحَسَبِ مَعْنًى مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فُسِّرَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بِقَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ يَعْنِي يَقُولُ لَهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَنَحْوَهَا وَلَا تَقُولُوا لَهُمْ أَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَّكُمْ مُعَذَّبُونَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَغِيظُهُمْ وَيُهَيِّجُهُمْ عَلَى الشَّرِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ اعْتِرَاضٌ بِمَعْنَى يُلْقِي بَيْنَهُمُ الْفَسَادَ وَيُغْرِي بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِيَقَعَ بَيْنَهُمُ الْمُشَارَّةُ وَالْمُشَاقَّةُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِذَا أَرَدْتُمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُخَالِفِ فَاذْكُرُوهَا بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ وَهُوَ أَنْ لَا يُخْلَطَ بِالسَّبِّ كَقَوْلِهِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» وَخَلْطُ الْحُجَّةِ بِالسَّبِّ سَبَبٌ لِلْمُقَابَلَةِ بِمِثْلِهِ، وَتَنْفِيرٌ عَنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِظْهَارِ الْحُجَّةِ وَتَأْثِيرِهَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ جَامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ أَيْ مَتَى امْتَزَجَتِ الْحُجَّةُ بِالْإِيذَاءِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ يَنْزَغُ بِكَسْرِ الزَّايِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَعَلَّهَا لُغَةٌ وَالْقِرَاءَةُ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هِيَ لُغَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ نَحْوُ يَعْرِشُونَ وَيَعْرُشُونَ انْتَهَى. وَلَوْ مثل بينطح وَيَنْطِحُ كَانَ أَنْسَبَ وَبَيَّنَ تَعَالَى سَبَبَ النَّزْغِ وَهِيَ الْعَدَاوَةُ الْقَائِمَةُ لِأَبِيهِمْ آدَمَ قَبْلَهُمْ وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ «3» الْآيَةَ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَسَلُّطِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَابْتِغَاءِ الْغَوَائِلِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ رَبُّكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالرَّحْمَةُ الْإِنْجَاءُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ وَأَذَاهُمْ وَالتَّعْذِيبُ تَسْلِيطُهُمْ عَلَيْهِمْ. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْكُفَّارِ حَافِظًا وَكَفِيلًا فَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِالدَّعْوَةِ وَإِنَّمَا هِدَايَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: يَرْحَمْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى التَّوْفِيقِ وَالْأَعْمَالِ الصالحة، وإن شاء

_ (1) سورة النحل: 16/ 125. (2) سورة العنكبوت: 29/ 46. (3) سورة الأعراف: 7/ 17.

عَذَّبَكُمْ بِالْخِذْلَانِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ فَقَالَ يُقَابِلُ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الإيمان ويعذبكم يُمِيتُكُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ لَمَّا نَزَلَ الْقَحْطُ بِالْمُشْرِكِينَ قَالُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ «1» فَقَالَ اللَّهُ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ بِالَّذِي يُؤْمِنُ مِنَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فَيَكْشِفُ الْقَحْطَ عَنْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فَيَتْرُكُهُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ تُقَوِّي أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا هِيَ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَكُفَّارِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ مُخَاطِبَةٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا فَكَأَنَّهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُخَاشِنُوا الْكُفَّارَ فِي الدِّينِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ وَرَجَّاهُمْ وَخَوَّفَهُمْ، وَمَعْنَى يَرْحَمْكُمْ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْكُمْ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ هِيَ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكُفَّارِ وَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَوْ دَخَلَتْ هُنَا لِسَعَةِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ ولا يرد عَنْهُمَا، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَوِ الْمُبِيحَةِ فِي قَوْلِهِمْ جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ يَعْنُونَ قَدْ وَسَّعْنَا لَكَ الْأَمْرَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَوْ لِلْإِضْرَابِ وَلِهَذَا كَرَّرَ إِنْ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ انْتَقَلَ مِنَ الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْكُمْ بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، بِأَحْوَالِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ وَمَا يَسْتَأْهِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وبِمَنْ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ كَمَا تَعَلَّقَ بِكُمْ قَبْلَهُ بِأَعْلَمَ وَلَا يَدُلُّ تَعَلُّقُهُ بِهِ عَلَى اخْتِصَاصِ أَعْلَمِيَّتِهِ تَعَالَى بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَعْلَمُ بِالنَّحْوِ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَمَ بِغَيْرِ النَّحْوِ مِنَ الْعُلُومِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ عَلِمَ بِمَنْ قَالَ لِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَهَا بِأَعْلَمَ لَاقْتَضَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْلَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، وأَيْضًا فَإِنَّ عَلِمَ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِنَّمَا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ لَا بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ أَوْ لَا يُبَيِّنُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ قَدِ اسْتَبْعَدُوا تَنْبِئَةَ الْبَشَرِ إِذْ فِيهِ تَفْضِيلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَخْبَرَ تَعَالَى بِتَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ تَفْضِيلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ إِذْ وَقَعَ التَّفْضِيلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ الْمُفَضَّلِ عَلَى النَّاسِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَزَايَا فَهُوَ يُفَضِّلُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ شَاءَ إِذْ هُوَ الْحَكِيمُ فَلَا يَصْدُرُ شَيْءٌ إِلَّا عَنْ حِكْمَتِهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ تَفْضِيلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَخُصَّ داوُدَ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي

_ (1) سورة الدخان: 44/ 12.

الزَّبُورِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ أُمَّتَهُ خَيْرُ الْأُمَمِ. وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1» وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَرْجِعُ إِلَى الْيَهُودِ كَثِيرًا فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ زَبُورَ دَاوُدَ تَضَمَّنَ الْبِشَارَةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةُ رَدٍّ عَلَى مُكَابِرِي الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا: لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُوسَى وَلَا كِتَابَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ، وَنَصَّ تَعَالَى هُنَا عَلَى إِيتَاءِ دَاوُدَ الزَّبُورَ وَإِنْ كَانَ قَدْ آتَاهُ مَعَ ذَلِكَ الْمُلْكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ الْمَحْضَ هُوَ بِالْعِلْمِ الَّذِي آتَاهُ، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ كَمَا فُضِّلَ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَا آتَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي أَوَاخِرِ النِّسَاءِ وَذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا عُرِّفَ الزَّبُورُ كَمَا عُرِّفَ فِي وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزَّبُورُ وَزَبُورٌ كَالْعَبَّاسِ وَعَبَّاسٍ وَالْفَضْلِ وَفَضْلٍ، وَأَنْ يُرِيدَ وَآتَيْنا داوُدَ بَعْضَ الزَّبُورِ وَهِيَ الْكُتُبُ وَأَنْ يُرِيدَ مَا ذُكِرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من الزَّبُورِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ زَبُوراً لِأَنَّهُ بَعْضُ الزَّبُورِ كَمَا سُمِّيَ بَعْضُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا. قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ فِي عَبَدَةِ الشَّيَاطِينِ وَهُمْ خُزَاعَةُ أَسْلَمَتِ الشَّيَاطِينُ وَبَقَوْا يَعْبُدُونَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ فِي عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَبَدَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَعُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ انْتَهَى. وَيَكُونُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ عَامًّا غُلِّبَ فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، وَالْمَعْنَى ادْعُوهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكْشِفُوا عَنْكُمُ. الضُّرَّ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ عَذَابٍ وَلَا أَنْ يُحَوِّلُوهُ من واحد إلى وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ أَوْ يُبَدِّلُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدْعُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِيَاءِ الْغَيبَةِ مبنيا للمفعول، والمعنى

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 105.

يَدْعُونَهُمْ آلِهَةً أَوْ يَدْعُونَهُمْ لِكَشْفِ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنَ الضُّرِّ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ قُلِ ادْعُوا أَيِ ادْعُوهُمْ لِكَشْفِ الضُّرِّ. وَفِي قَوْلِهِ: زَعَمْتُمْ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وأُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ صفته، والخبر يَبْتَغُونَ. والْوَسِيلَةَ الْقُرْبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْبُودِينَ وَالْوَاوُ فِي يَدْعُونَ لِلْعَابِدِينَ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ مَنْصُوبٌ مَحْذُوفٌ أَيْ يَدْعُونَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: الإشارة بقوله بأولئك إِلَى النَّبِيِّينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يَدْعُونَ ويَبْتَغُونَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا إِنْ الَّذِينَ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُمْ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا يَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَّا إِلَيْهِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلى رَبِّهِمُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى رَبِّكَ بِالْكَافِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَتَقْدِيرِهِ. فَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالْمَعْنَى يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ فِي يَبْتَغُونَ انْتَهَى. فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَضْمَرَ فِعْلَ التَّعْلِيقِ، وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ لِأَنَّ نَظَرَ إِنْ كَانَ بمعنى الفكر تعدّى بفي، وَإِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ بإلى، فَالْجُمْلَةُ الْمُعَلَّقُ عَنْهَا الْفِعْلُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً «1» وَفِي إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّقِ نَظَرٌ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَتَكُونُ أَيْ مَوْصُولَةً، أَيْ يَبْتَغِي مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ وَأَزْلَفُ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ بِغَيْرِ الْأَقْرَبِ انْتَهَى. فَعَلَى الْوَجْهِ يَكُونُ أَقْرَبُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَاحْتُمِلَ أَيُّهُمْ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا وَهُوَ الْوَجْهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِوُجُودِ مُسَوِّغِ الْبِنَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ ضُمِّنَ يَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ مَعْنَى يَحْرِصُونَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَحْرِصُونَ أَيُّهُمْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ بِالطَّاعَةِ وَازْدِيَادِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَيَكُونُ قَدْ ضُمِّنَ يَبْتَغُونَ مَعْنَى فِعْلٍ قَلْبِيٍّ وَهُوَ يَحْرِصُونَ حَتَّى يَصِحَّ التَّعْلِيقُ،

_ (1) سورة الكهف: 18/ 19.

وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ لِأَنَّ حَرَصَ يَتَعَدَّى بِعَلَى، كَقَوْلِهِ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ «1» . وَقَالَ ابن عطية: وأَيُّهُمْ ابتدأ وأَقْرَبُ خبره، والتقدير نظرهم وددكهم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَهَذَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، أَيْ يَتَبَارَوْنَ فِي طَلَبِ الْقُرْبِ. فَجَعَلَ الْمَحْذُوفَ نَظَرَهُمْ وَوَدَكَهُمْ وَهَذَا مُبْتَدَأٌ فَإِنْ جَعَلْتَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَظَرِهِمُ الْمَحْذُوفِ بَقِيَ الْمُبْتَدَأُ الَّذِي هُوَ نَظَرُهُمْ بِغَيْرِ خَبَرٍ مُحْتَاجٌ إِلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ، وَإِنْ جَعَلْتَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ هُوَ الْخَبَرَ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ نَظَرَهُمْ لَيْسَ هُوَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَإِنْ جَعَلْتَ التَّقْدِيرَ نَظَرَهُمْ فِي أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أَيْ كَائِنٌ أَوْ حَاصِلٌ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ كَائِنًا وَحَاصِلًا لَيْسَ مِمَّا تَعَلَّقَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيُّهُمْ مبتدأ وأَقْرَبُ خَبَرُهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي موضع نصب بيدعون، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيُّهُمْ بِمَعْنَى الَّذِي وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَدْعُونَ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ انتهى. ففي الوجه الأولى عُلِّقَ يَدْعُونَ وَهُوَ لَيْسَ فِعْلًا قَلْبِيًّا، وَفِي الثَّانِي فُصِلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَمَعْمُولِهَا بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِلصِّلَةِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كَغَيْرِهِمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً يَحْذَرُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِنْ نَافِيَةٌ ومِنْ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِلَّا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُصُوصُ وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ انْتَهَى. وَالَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِبْهَامٌ مَا فَتَأْتِي مِنْ لِبَيَانِ مَا أُرِيدَ بِذَلِكَ الَّذِي فِيهِ إِبْهَامُ مَا. كَقَوْلِهِ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «2» وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ مُبْهَمٌ تَكُونُ مِنْ فِيهِ بَيَانًا لَهُ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ مِنَ النَّاسِخِ وَيَكُونُ هُوَ قَدْ قَالَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُصُوصُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرَى تَهْلِكُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِهْلَاكُهَا تَخْرِيبُهَا وَفَنَاؤُهَا، وَيَتَضَمَّنُ تَخْرِيبُهَا هَلَاكَ أَهْلِهَا بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ شَيْئًا فشَيْئًا أَوْ تعذب والمعنى أَهْلِهَا بِالْقَتْلِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْهَلَاكُ لِلصَّالِحَةِ وَالْعَذَابُ لِلطَّالِحَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَجَدْتُ في كتب

_ (1) سورة النحل: 16/ 37. (2) سورة فاطر: 35/ 2.

الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي تَفْسِيرِهَا: أَمَّا مَكَّةُ فَتُخَرِّبُهَا الْحَبَشَةُ، وَتَهْلِكُ الْمَدِينَةُ بِالْجُوعِ، وَالْبَصْرَةُ بِالْغَرَقِ، وَالْكُوفَةُ بِالتُّرْكِ، وَالْجِبَالُ بِالصَّوَاعِقِ. وَالرَّوَاجِفِ، وَأَمَّا خُرَاسَانَ فَعَذَابُهَا ضُرُوبٌ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَلَدًا بَلَدًا وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ هَلَاكَ الْأَنْدَلُسِ وَخَرَابَهَا يَكُونُ بِسَنَابِكِ الْخَيْلِ وَاخْتِلَافِ الْجُيُوشِ. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أَيْ فِي سَابِقِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَيْ مَكْتُوبًا أَسْطَارًا وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ فَيَزْرَعُونَ، اقْتَرَحُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ شِئْتَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فَإِنْ تَأَخَّرُوا عَاجَلْتُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ عَسَى أَنْ أَجْتَبِيَ مِنْهُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «بَلْ تَسْتَأْنِي بِهِمْ يَا رَبِّ» . فَنَزَلَتْ ، وَاسْتُعِيرَ الْمَنْعُ لِلتَّرْكِ أَيْ مَا تَرَكْنَا إِرْسَالَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا لِتَكْذِيبِ الْأَوَّلِينَ بِهَا، وَتَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ عِلَّةً فِي إِرْسَالِ الْآيَاتِ لِقُرَيْشٍ، فالمعنى إلّا ابتاعهم طَرِيقَةَ تَكْذِيبِ الْأَوَّلِينَ بِهَا، فَتَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ فَاعِلٌ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ فَإِذَا كَذَّبُوا بِهَا كَمَا كَذَّبَ الْأَوَّلُونَ عَاجَلْتُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَقَدِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنْ لَا أَسْتَأْصِلَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَالْمَعْنَى وَمَا صَرَفَنَا عَنْ إِرْسَالِ مَا تَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الَّذِينَ هُمْ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمَطْبُوعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَإِنَّهَا لَوْ أُرْسِلَتْ لَكَذَّبُوا بِهَا تَكْذِيبَ أُولَئِكَ وَقَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ كَمَا يَقُولُونَ فِي غَيْرِهَا، وَاسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ الْمُسْتَأْصِلَ وَقَدْ عَزَمْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ أَمْرَ مَنْ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْأَوَّلُونَ ثُمَّ كَذَّبُوا بِهَا لَمَّا أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمْ فَأُهْلِكُوا وَاحِدَةً وَهِيَ نَاقَةُ صَالِحٍ لِأَنَّ آثَارَ هَلَاكِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَرِيبَةٌ مِنْ حُدُودِهِمْ يُبْصِرُهَا صَادِرُهُمْ وَوَارِدُهُمُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثَمُودَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ. وَقَالَ هَارُونُ: أَهْلُ الْكُوفَةِ يُنَوِّنُونَ ثَمُودَ فِي كُلِّ وَجْهٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا تُنَوِّنُ الْعَامَّةُ وَالْعُلَمَاءُ بِالْقُرْآنِ ثَمُودَ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَفِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ ألف مكتوبة ونحن نقرؤها بِغَيْرِ أَلِفٍ انْتَهَى. وَانْتُصِبَ مُبْصِرَةً عَلَى الْحَالِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مُبْصِرَةً بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ هِيَ مُبْصِرَةٌ، وَأَضَافَ الْإِبْصَارَ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لَمَّا كَانَتْ يُبْصِرُهَا النَّاسُ، وَالتَّقْدِيرُ آيَةٌ مُبْصِرَةٌ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: بِفَتْحِ الصَّادِ اسْمَ مَفْعُولٍ أَيْ يُبْصِرُهَا النَّاسُ وَيُشَاهِدُونَهَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ مَفْعَلَةً مِنَ الْبَصَرِ أَيْ مَحَلَّ إِبْصَارٍ كَقَوْلِهِ: وَالْكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ النعم

أَجْرَاهَا مَجْرَى صِفَاتِ الْأَمْكِنَةِ نَحْوُ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ وَمَكَانٌ مَضَبَّةٌ، وَقَالُوا: الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ فَظَلَمُوا بِها أَيْ بِعَقْرِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَحَدُوا كَوْنَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: جَعَلُوا التَّكْذِيبَ بِهَا مَوْضِعَ التَّصْدِيقِ وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ قَبْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ الْأَخِيرَةَ غَيْرُ الْآيَاتِ الْأُولَى، لُوحِظَ فِي ذَلِكَ وَصْفُ الِاقْتِرَاحِ وَفِي هَذِهِ وَصْفُ غَيْرِ الْمُقْتَرَحَةِ وَهِيَ آيَاتٌ مَعَهَا إِمْهَالٌ لَا مُعَاجَلَةٌ كَالْكُسُوفِ وَالرَّعْدِ وَالزَّلْزَلَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَالْمَوْتُ الذَّرِيعُ، وَفِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: «فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَآيَاتُ اللَّهِ الْمُعْتَبَرُ بِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامِ قِسْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ إذ حيث ما وَضَعْتَ نَظَرَكَ وَجَدْتَ آيَةً. وَهُنَا فِكْرَةُ الْعُلَمَاءِ، وَقِسْمٌ مُعْتَادٌ كَالرَّعْدِ وَالْكُسُوفِ وَنَحْوِهِ وَهُنَا فِكْرَةُ الْجَهَلَةِ فَقَطْ، وَقِسْمٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ وَقَدِ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمًا لِمَا سَلَفَ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ قَالَ فِيهِ وَقَدِ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ النُّبُوَّةِ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُثْبِتُ هَذَا الْقِسْمَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَيُسَمِّيهِ كَرَامَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ أَرَادَ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ فَالْمَعْنَى لَا نُرْسِلُهَا إِلَّا تَخْوِيفاً مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ كَالطَّلِيعَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا وَقَعَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهَا فَالْمَعْنَى وَما نُرْسِلُ مَا نُرْسِلُ مِنَ الْآيَاتِ كَآيَاتِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا إِلَّا تَخْوِيفاً وَإِنْذَارًا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَخْوِيفًا لِعِبَادِهِ سَمَاوِيَّةٌ كُسُوفُ الشَّمْسِ، وَخُسُوفُ الْقَمَرِ، وَالرَّعْدُ، وَالْبَرْقُ، وَالصَّوَاعِقُ، وَالرُّجُومُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَأَرْضِيَّةٌ زَلَازِلُ، وَخَسْفٌ، وَمُحُولٌ وَنِيرَانٌ تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَغَوْرُ مَاءِ الْعُيُونِ وَزِيَادَتُهَا عَلَى الْحَدِّ حَتَّى تُغْرِقَ بَعْضَ الْأَرَضِينَ، وَلَا سَمَاوِيَّةٌ وَلَا أَرْضِيَّةٌ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ قَلْعِ الْأَشْجَارِ وَتَدْمِيرِ الدِّيَارِ وَمَا تَسُوقُهُ مِنَ السَّوَاقِي وَالرِّيَاحِ السَّمُومِ. وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً. لَمَّا طَلَبُوا الرَّسُولَ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَأَخْبَرَ اللَّهُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي عَدَمِ الْمَجِيءِ بِهَا طَعَنَ الْكُفَّارُ فِيهِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ رَسُولًا حَقًّا لَأَتَى بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ وَأَنَّهُ أَحاطَ بِالنَّاسِ. فَقِيلَ بِعِلْمِهِ فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ عِلْمِهِ. وَقِيلَ: بِقُدْرَتِهِ فَقُدْرَتُهُ غَالِبَةٌ كُلَّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: الْإِحَاطَةُ هُنَا الْإِهْلَاكُ كَقَوْلِهِ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّاسَ عام.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 73. (2) سورة الكهف: 18/ 42. [.....]

وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ بَشَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَغْلِبُهُمْ ويظهر عليهم، وأَحاطَ بِمَعْنَى يُحِيطُ عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي لِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْوَقْتُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْإِحَاطَةُ بِهِمْ. قِيلَ يَوْمُ بَدْرٍ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: هَذَا خَبَرُ غَيْبٍ قَدَّمَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ وَمَجِيءِ الْأَحْزَابِ يَطْلُبُونَ ثَأْرَهُمْ بِبَدْرٍ فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ يَوْمُ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أَحَاطَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ أَهْلِ مَكَّةَ فِيهِ وَأَمْكَنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَحاطَ بِالنَّاسِ فِي مَنْعِكَ يَا مُحَمَّدُ وَحِيَاطَتِكَ وَحِفْظِكَ، فَالْآيَةُ إِخْبَارٌ لَهُ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنَ الْكَفَرَةِ آمِنٌ أَنْ يُقْتَلَ وَيُنَالَ بِمَكْرُوهٍ عَظِيمٍ، أَيْ فَلْتُبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ وَلَا تَتَهَيَّبْ أَحَدًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَيِّنٌ جَارٍ مَعَ اللَّفْظِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ مُنَاسَبَةً شَدِيدَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ مُنَاسِبًا لِمَا بَعْدَهُ تَوْطِئَةً لَهُ. فَأَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرُّؤْيَا. فَقَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ وَيَقَظَةٍ وَهِيَ مَا رَأَى فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ نَخُبُّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرَيْنِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا وَيَقُولُ مُحَمَّدٌ جَاءَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ وَانْصَرَفَ مِنْهُ، فَافْتَتَنَ بِهَذَا التَّلْبِيسِ قَوْمٌ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَارْتَدُّوا وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، فَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أَيْ فِي إِضْلَالِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَيْ فَلَا تَهْتَمَّ أَنْتَ بِكُفْرِ مَنْ كَفَرَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فَقَدْ قِيلَ لَكَ إِنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِهِمْ مَالِكٌ لِأَمْرِهِمْ وَهُوَ جَعَلَ رُؤْيَاكَ هَذِهِ فِتْنَةً لِيَكْفُرَ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ، وَسُمِّيَتِ الرُّؤْيَةُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ رُؤْيَا إِذْ هُمَا مَصْدَرَانِ مِنْ رَأَى. وَقَالَ النَّقَّاشُ: جَاءَ ذَلِكَ مِنِ اعْتِقَادِ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَنَامِيَّةٌ وَإِنْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ غَيْرَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرِهِمْ: هُوَ قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ عِيَانًا آمَنَ بِهِ الْمُوَفَّقُونَ وَكَفَرَ بِهِ الْمَخْذُولُونَ، وَسَمَّاهُ رُؤْيَا لِوُقُوعِهِ فِي اللَّيْلِ وَسُرْعَةِ تَقَضِّيهِ كَأَنَّهُ مَنَامٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا هُوَ رُؤْيَاهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَعَجَّلَ فِي سَنَتِهِ الْحُدَيْبِيَةَ وَرُدَّ فَافْتَتَنَ النَّاسُ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِصَدْرِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِمَكَّةَ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: هِيَ رُؤْيَاهُ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ وَمَا اسْتَجْمَعَ ضَاحِكًا مِنْ يَوْمِئِذٍ حَتَّى مَاتَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُخْبِرَةً أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ وَصُعُودِهِمُ الْمَنَابِرَ إِنَّمَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَيَجِيءُ قَوْلُهُ أَحاطَ بِالنَّاسِ أَيْ بِأَقْدَارِهِ وَإِنْ كَانَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ فَلَا تَهْتَمَّ بِمَا يَكُونُ بَعْدَكَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي خُطْبَتِهِ فِي شَأْنِ بَيْعَتِهِ لِمُعَاوِيَةَ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ

وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الرُّؤْيَا رُؤْيَا مَنَامٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي بِفَسَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَا الْمَنَامِ لَا فِتْنَةَ فِيهَا وَمَا كَانَ أحد لينكرها انتهى. ولبس كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ بِوُقُوعِ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَيَصِيرُ إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ فِتْنَةً لِمَنْ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: ذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا إِلَى أَمْرٍ غَيْرِ مُلَائِمٍ فِي سِيَاقِ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ يَقَظَةً لَمَّا آتَاهُ بَدْرًا أَرَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَصَارِعَ الْقَوْمِ فَأَرَاهَا النَّاسَ، وَكَانَتْ فِتْنَةً لِقُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا أَخَذُوا فِي الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ هُنَا هِيَ أَبُو جَهْلٍ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ مَصَارِعَهُمْ فِي مَنَامِهِ فَقَدْ كَانَ يَقُولُ حِينَ وَرَدَ مَاءَ بَدْرٍ: «وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ القوم» وهو يومىء إِلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ» . فَتَسَامَعَتْ قُرَيْشٌ بِمَا أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ بَدْرٍ وَمَا أُرِيَ فِي مَنَامِهِ مِنْ مَصَارِعِهِمْ، فَكَانُوا يَضْحَكُونَ وَيَسْتَسْخِرُونَ بِهِ اسْتِهْزَاءً. وَقِيلَ: رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ وَلَدَ الْحَكَمِ يَتَدَاوَلُونَ مِنْبَرَهُ كَمَا يَتَدَاوَلُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالشَّجَرَةِ حَقِيقَتُهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْكَشُوثُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ «1» وَعَنْهُ أَيْضًا: هِيَ الشَّجَرَةَ الَّتِي تَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرَةِ فَتُفْسِدُهَا. قَالَ: وَالْفِتْنَةُ قَوْلُهُمْ مَا بَالُ الْحَشَائِشِ تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ لَمَّا نَزَلَ أَمْرُهَا فِي الصَّافَّاتِ وَغَيْرِهَا. قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا مُحَمَّدٌ يَتَوَعَّدُكُمْ بِنَارٍ تُحْرِقُ الْحِجَارَةَ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهَا تُنْبِتُ الشَّجَرَ وَالنَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَمَا نَعْرِفُ الزَّقُّومَ إِلَّا التَّمْرَ بِالزُّبْدِ، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو جَهْلٍ جَارِيَةً لَهُ فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «تَزَقَّمُوا» فَافْتَتَنَ أَيْضًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَنْكَرُوا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الشَّجَرَةَ مِنْ جِنْسٍ لَا تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَهَذَا وَبَرُ السَّمَنْدَلِ وَهُوَ دُوَيْبَةٌ بِبِلَادِ التُّرْكِ يُتَّخَذُ مِنْهَا مَنَادِيلُ إِذَا اتَّسَخَتْ طُرِحَتْ فِي النَّارِ فَيَذْهَبُ الْوَسَخُ وَبَقِيَ الْمِنْدِيلُ سَالِمًا لَا تَعْمَلُ فِيهِ النَّارُ، وَتَرَى النَّعَامَةَ تَبْتَلِعُ الْجَمْرَ وَقِطَعَ الْحَدِيدِ الْحُمْرِ كَالْجَمْرِ بِإِحْمَاءِ النَّارِ فَلَا يَضُرُّهَا ثُمَّ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ نَارًا فَلَا تُحْرِقُهَا فَمَا أَنْكَرُوا أَنْ يَخْلُقَ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تُحْرِقُهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْآيَاتِ إِنَّمَا نرسل بها

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 26.

تَخْوِيفًا لِلْعِبَادِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ خُوِّفُوا بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَا كَانَ مَا أَرَيْنَاكَ مِنْهُ فِي مَنَامِكَ بَعْدَ الْوَحْيِ إِلَيْكَ إِلَّا فِتْنَةً لَهُمْ حَيْثُ اتَّخَذُوهُ سُخْرِيًّا وَخُوِّفُوا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَبِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَمَا أَثَّرَ فِيهِمْ ثُمَّ قَالَ وَنُخَوِّفُهُمْ أَيْ بِمَخَاوِفَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَما يَزِيدُهُمْ التَّخْوِيفُ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فَكَيْفَ يَخَافُ قَوْمٌ هَذِهِ حَالُهُمْ بِإِرْسَالِ مَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْآيَاتِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ بَعْدَ الْوَحْيِ إِلَيْكَ هُوَ قَوْلُهُ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» وَقَوْلُهُ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ «2» وَالظَّاهِرُ إِسْنَادُ اللَّعْنَةِ إِلَى الشَّجَرَةَ وَاللَّعْنُ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَهِيَ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فِي أَبْعَدِ مَكَانٍ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ ضَارٍّ مَلْعُونٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَأَلْتُ بَعْضَهُمْ فَقَالَ نَعَمِ الطَّعَامُ الْمَلْعُونُ الْقِشْبُ الْمَمْحُونُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلْعُونَةَ يُرِيدُ آكِلَهَا، وَنَمَّقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: لُعِنَتْ حَيْثُ لُعِنَ طَاعِمُوهَا مِنَ الْكَفَرَةِ وَالظَّلَمَةِ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ لَا ذَنْبَ لَهَا حَتَّى تُلْعَنَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِلَعْنِ أَصْحَابِهَا عَلَى الْمَجَازِ انْتَهَى. وَقِيلَ لَمَّا شبه طلعها برؤوس الشَّيَاطِينِ، وَالشَّيْطَانُ مَلْعُونٌ نُسِبَتِ اللَّعْنَةُ إِلَيْهَا. وَقَالَ قَوْمٌ الشَّجَرَةَ هُنَا مَجَازٌ عَنْ وَاحِدٍ وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ. وَقِيلَ هُوَ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ مَجَازٌ عَنْ جَمَاعَةٍ وَهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ تَظَاهَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِتْنَتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَعْثَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ كَفَرُوا بِهِ وَقَالُوا: لَيْسَ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ فَثَبَّطُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِمَقَالَتِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ بَنُو أُمَيَّةَ حَتَّى أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُمْ إِلَّا بِالشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا وَتَغْيِيرِ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَبْدِيلِ الْأَحْكَامِ، وَلَعْنُهَا فِي الْقُرْآنِ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «3» إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ عَطْفًا عَلَى الرُّؤْيَا فَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَصْرِ، أَيْ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِرَفْعِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ أَيْ فِتْنَةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي وَنُخَوِّفُهُمْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ. وَقِيلَ لِمُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَ الْخِلَافَةِ الَّتِي قَالَ

_ (1) سورة القمر: 54/ 45. (2) سورة آل عمران 3/ 12. (3) سورة هود: 11/ 18.

النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا» وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيُخَوِّفُهُمْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْجُمْهُورُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا نَازَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النُّبُوَّةِ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ الْآيَاتِ كَانَ ذَلِكَ لِكِبْرِهِمْ وَحَسَدِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْلِيسَ حَيْثُ حَمَلَهُ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّجُودِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً «1» بَيَّنَ مَا سَبَبُ هَذَا الطُّغْيَانِ وَهُوَ قَوْلُ إِبْلِيسَ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا وَانْتَصَبَ طِيناً عَلَى الْحَالِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ الْحَوْفِيُّ، فَقَالَ: مِنَ الْهَاءِ فِي خَلَقْتُهُ الْمَحْذُوفَةِ، وَالْعَامِلُ خَلَقْتَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ طِيناً إِمَّا مِنَ الْمَوْصُولِ وَالْعَامِلُ فِيهِ أَأَسْجُدُ عَلَى آسْجُدُ لَهُ وَهُوَ طِينٌ أَيْ أَصْلُهُ طِينٌ، أَوْ مِنَ الرَّاجِعِ إِلَيْهِ مِنَ الصِّلَةِ عَلَى آسْجُدُ لِمَنْ كَانَ فِي وَقْتِ خَلْقِهِ طِيناً انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالْعَامِلُ فِيهِ خَلَقْتَ يَعْنِي إِذَا كَانَ حَالًا مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى حَذْفِ مِنَ التَّقْدِيرُ مِنْ طِينٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «2» وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ تَمْيِيزًا وَقَوْلُهُ أَأَسْجُدُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَعَجُّبٍ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَأَسْجُدُ وَمَا قَبْلَهُ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ، وَكَأَنَّ تَقْدِيرَهُ قَالَ: لِمَ لَمْ تَسْجُدْ لِآدَمَ قَالَ: أَأَسْجُدُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَرَأَيْتَكَ وَقَالَ آسْجُدُ جُمَلٌ قَدْ ذُكِرَتْ حَيْثُ طُوِّلَتْ قِصَّتُهُ، وَالْكَافُ فِي أَرَأَيْتَكَ لِلْخِطَابِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَا يَلْحَقُ كَافُ الْخِطَابِ هَذِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّرَهَا الْحَوْفِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِيهَا وَالزَّجَّاجِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وأَ رَأَيْتَكَ بِمَعْنَى عَرِّفْنِي وَأَخْبِرْنِي، وَهَذَا منصوب بأرأيتك، والمعنى

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 60. (2) سورة الأعراف: 7/ 12.

أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ وَقَدْ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، وَحُذِفَ هَذَا لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَافُ لِلْخِطَابِ وهذَا مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ أَيْ فَضَّلْتَهُ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِحَذْفِ ذَلِكَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكَافُ فِي أَرَأَيْتَكَ حَرْفُ خِطَابٍ وَمُبَالَغَةٍ فِي التَّنْبِيهِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَهِيَ زَائِدَةٌ، وَمَعْنَى أَرَأَيْتَ أَتَأَمَّلْتَ وَنَحْوَهُ كَانَ الْمُخَاطِبُ بِهَا يُنَبِّهُ الْمُخَاطَبَ لِيَسْتَجْمِعَ لِمَا يَنُصُّهُ عَلَيْهِ بَعْدُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا أَيُؤْمِنُ هُوَ. وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ وَلَمْ يُمَثِّلْ، وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ حَيْثُ يَكُونُ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ كَمِثَالِهِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهِيَ كَمَا قُلْتُ وَلَيْسَتِ الَّتِي ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَرَأَيْتَكَ هُنَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَلِذَلِكَ قُدِّرَ الِاسْتِفْهَامُ وَهُوَ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ فَقَدِ انْعَقَدَ مِنْ قَوْلِهِ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَصَارَ مِثْلَ: زَيْدٌ أَيُؤْمِنُ هُوَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَرَأَيْتَكَ فَعَمِلَتْ فِي الْأَوَّلِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الثَّانِي وَالْمُسْتَقِرُّ فِي أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي أَنْ تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ يَكُونُ الْخَبَرُ اسْتِفْهَامًا، فَإِنْ صُرِّحَ بِهِ فَذَلِكَ وَاضِحٌ وَإِلَّا قُدِّرَ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَنْعَامِ وَفِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُنَا لِلْكَافِ محل مِنَ الْإِعْرَابِ وَهُوَ النَّصْبُ أَيْ أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ قَالَ: وَهَذَا كَمَا تَقُولُ أَتَدَبَّرْتَ آخِرَ أَمْرِكَ. فَإِنِّي صَانِعٌ فِيهِ كَذَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ انْتَهَى. وَالرَّدُّ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَالثَّانِي الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ بَعْدَهُ لِانْعِقَادِهِمَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا قَبْلَ دُخُولِ أَرَأَيْتَكَ لذهب مَذْهَبًا حَسَنًا، إِذْ لَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْكَافُ إِمَّا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَهَذَا مُبْتَدَأٌ، وَإِمَّا حَرْفُ خِطَابٍ وَهَذَا مَفْعُولٌ بِأَرَأَيْتَ بِمَعْنًى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ أَوْ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ، وَمَعْنَى لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أَيْ أَخَّرْتَ مَمَاتِي وَأَبْقَيْتَنِي حَيًّا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَحْتَنِكَنَّ لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ لَأُضِلَّنَّهُمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَأَسْتَأْصِلَنَّ وَكَفَرَ إِبْلِيسُ بِجَهْلِهِ صِفَةَ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ حِينَ لَحِقَتْهُ الْأَنَفَةُ وَالْكِبْرُ، وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ إِذْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَرَّمَ بِالسُّجُودِ مِنِّي مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَقْسَمَ إِبْلِيسُ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَنِكُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ وَعَلِمَ ذَلِكَ إِمَّا بِسَمَاعِهِ

مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَوِ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «1» أَوْ نَظَرَ إِلَيْهِ فَتَوَسَّمَ فِي مَخَايِلِهِ أَنَّهُ ذُو شَهْوَةٍ وَعَوَارِضَ كَالْغَضَبِ وَنَحْوِهِ، وَرَأَى خِلْقَتَهُ مُجَوَّفَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَجْزَاءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: ظَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسَوَّسَ إِلَى آدَمَ فَلَمْ يجد له عز ما فَظَنَّ ذَلِكَ بِذُرِّيَّتِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ قَوْلَ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ وَسْوَسَتِهِ لِآدَمَ فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَاسْتَثْنَى الْقَلِيلَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ مَنْ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «2» وَالْأَمْرُ بِالذَّهَابِ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ نَقِيضِ الْمَجِيءِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى اذْهَبْ لِشَأْنِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ، وَعَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا جَرَّهُ سُوءُ فِعْلِهِ مِنْ جَزَائِهِ وَجَزَاءِ أَتْبَاعِهِ جَهَنَّمَ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ اسْمٌ غَائِبٌ وَضَمِيرُ خِطَابٍ غَلَبَ الْخِطَابُ فَقَالَ: جَزاؤُكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ مِنْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَالْمَوْفُورُ الْمُكَمَّلُ وَوَفَرَ مُتَعَدٍّ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عَرْضِهِ ... يَفْرِهُ وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وَلَازِمٌ تَقُولُ وَفَرَ الْمَالُ يَفِرُ وُفُورًا، وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ جَزاؤُكُمْ أَوْ يُجَاوِزُ مُضْمَرَهُ أَوْ عَلَى الْحَالِ الْمُوَطِّئَةِ. وَقِيلَ: تَمْيِيزٌ وَلَا يُتَعَقَّلُ وَاسْتَفْزِزْ مَعْطُوفٌ عَلَى فَاذْهَبْ وَعُطِفَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَكُلُّهَا بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «3» وَمَنْ فِي مَنِ اسْتَطَعْتَ مَوْصُولَةٌ مَفْعُولَةٌ بِاسْتِفْزِزْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَنِ اسْتَطَعْتَ مَنِ اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِاسْتَطَعْتَ، وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ اسْتَفْزِزْ وَمَفْعُولَ اسْتَطَعْتَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَفِزَّهُ وَالصَّوْتُ هُنَا الدُّعَاءُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ وَاللَّهْوُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: صَوْتُ الْمِزْمَارِ وَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ أَنَّ آدَمَ أَسْكَنَ وَلَدَ هَابِيلَ أَعْلَى الْجَبَلِ وَوَلَدَ قَابِيلَ أَسْفَلَهُ. وَفِيهِمْ بَنَاتٌ حِسَانٌ، فَزَمَّرَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنِ انْحَدَرُوا وَاقْتَرَنُوا. وَقِيلَ: الصَّوْتُ هُنَا الْوَسْوَسَةُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَضَمِّ اللَّامِ مِنْ جَلَبَ ثُلَاثِيًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَهُ خَيْلٌ وَرَجَّالَةٌ مِنَ الْجِنِّ جِنْسِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْخَيْلُ تُطْلَقُ عَلَى الْأَفْرَاسِ حَقِيقَةً وَعَلَى أَصْحَابِهَا مَجَازًا وَهُمُ الْفُرْسَانُ، وَمِنْهُ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَالْبَاءُ فِي بِخَيْلِكَ قِيلَ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: مِنَ الْآدَمِيِّينَ أُضِيفُوا إِلَيْهِ لِانْخِرَاطِهِمْ فِي طَاعَتِهِ وَكَوْنِهِمْ أَعْوَانَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ قاله مجاهد.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30. (2) سورة ص: 38/ 82- 83. (3) سورة فصلت: 41/ 40.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ. وقيل: هَذَا مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى اسْعَ سَعْيَكَ وَابْلُغْ جُهْدَكَ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ خَيْلٌ وَلَا رَجِلٌ وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ إِنَّمَا هَذَا زَجْرٌ وَاسْتِخْفَافٌ بِهِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُهَدِّدُهُ اذْهَبْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ وَاسْتَعِنْ بِمَا شِئْتَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى اسْتِفْزَازِ إِبْلِيسَ بِصَوْتِهِ وَإِجْلَابِهِ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ؟ قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّمْثِيلِ مُثِّلَتْ حَالُهُ فِي تَسَلُّطِهِ عَلَى مَنْ يُغْوِيهِ بِمِغْوَارٍ أَوْقَعَ عَلَى قَوْمٍ فَصَوَّتَ بِهِمْ صَوْتًا يَسْتَفِزُّهُمْ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ وَيُقْلِقُهُمْ عَنْ مَرَاكِزِهِمْ، وَأَجْلَبَ عَلَيْهِمْ بِجُنْدِهِ مِنْ خَيَّالَةٍ وَرَجَّالَةٍ حَتَّى اسْتَأْصَلَهُمُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَرَجِلِكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَهُوَ اسْمُ جمع واحده رَاجِلٍ كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَحَفْصٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ بِمَعْنَى الرِّجَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هِيَ صِفَةٌ يُقَالُ فُلَانٌ يَمْشِي رَجِلًا أَيْ غَيْرُ رَاكِبٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رَجِلًا إِلَّا بِأَصْحَابِ وَقَالَ الزمخشري: وقرىء وَرَجِلِكَ عَلَى أَنْ فَعِلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ نَحْوَ تَعِبٍ وَتَاعِبٍ، وَمَعْنَاهُ وَجَمْعُكَ الرَّجُلَ وَتُضَمُّ جِيمُهُ أَيْضًا فَيَكُونُ مِثْلَ حَدِثَ وَحَدُثَ وَنَدِسَ وَنَدُسَ وَأَخَوَاتٌ لَهُمَا انْتَهَى. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَرِجَالِكَ. وقرىء: وَرُجِّلَ لَكَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا يَذْبَحُونَ لِآلِهَتِهِمْ وَقَتَادَةُ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ. وَقِيلَ: مَا أُصِيبَ مِنْ مَالٍ وَحَرَامٍ. وَقِيلَ: مَا جَعَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا صُرِفَ فِي الزِّنَا وَالْأَوْلَى مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ وَمَا وُضِعَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَوْلَادِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَسْمِيَتُهُمْ عَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ اللَّاتِ وَعَبْدَ الشَّمْسِ وَعَبْدَ الحارث، وَعَنْهُ أَيْضًا تَرْغِيبُهُمْ فِي الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا إِقْدَامُهُمْ عَلَى قَتْلِ الْأَوْلَادِ قَالَ الْحَسَنُ وقتادة. ما مَجَّسُوهُ وَهَوَّدُوهُ وَنَصَّرُوهُ وَصَبَغُوهُمْ غَيْرَ صِبْغَةِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَدَمُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْجِمَاعِ فَالْجَانُّ يَنْطَوِي إِذْ ذَاكَ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَيُجَامِعُ مَعَهُ. وَقِيلَ تَرْغِيبُهُمْ فِي الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ وَحِفْظِ الشِّعْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْفُحْشِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ فِي الْوَلَدِ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِكَابِ مُنْكَرٍ وَقَبِيحٍ، وَأَمَّا وَعْدُهُ فَهُوَ الْوَعْدُ الْكَاذِبُ كَوَعْدِهِمْ أَنْ لَا بَعْثَ وَهَذِهِ مُشَارَكَةٌ فِي النُّفُوسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِدْهُمْ الْمَوَاعِيدَ الْكَاذِبَةَ مِنْ شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى اللَّهِ بِالْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ، وَتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ بِدُونِهَا، وَالِاتِّكَالِ عَلَى الرَّحْمَةِ وَشَفَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَبَائِرِ وَالْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَصِيرُوا حَمِيمًا، وَإِيثَارِ الْعَاجِلِ عَلَى

الْآجِلِ انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ لَا تُغْفَرُ الذُّنُوبُ بِدُونِ التَّوْبَةِ، وَبِأَنَّهُ لَا شَفَاعَةَ فِي الْكَبَائِرِ، وَبِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَبَدًا مَنْ دَخَلَهَا مِنْ فَاسِقٍ مُؤْمِنٍ. وَانْتَصَبَ غُرُوراً وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَعْدًا غُرُورًا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي فِي رَجُلٍ صَوْمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ وَمَا يَعِدُكُمْ وَيُمَنِّيكُمْ مَا لَا يَتِمُّ وَلَا يَقَعُ إِلَّا لِأَنْ يَغُرَّكُمْ، وَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي إِنَّ عِبادِي إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَالْمَعْنَى الْمُخْتَصِّينَ بِكَوْنِهِمْ عِبادِي لَا يُضَافُونَ إِلَى غَيْرِي كَمَا قَالَ فِي مُقَابِلِهِمْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ وأولياء الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ إِنَّ عِبادِي الصَّالِحِينَ، وَنَفَى السُّلْطَانَ وَهُوَ الْحَجَّةُ وَالِاقْتِدَارُ عَلَى إِغْوَائِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَى لَحْظِ الصِّفَةِ قَوْلُهُ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ «1» . وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: عِبادِي عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ فِي آيٍ مَنِ اتَّبَعَهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «2» وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى تَخْلِيطِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا قُدْرَتُهُ عَلَى الْوَسْوَسَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ لَخَبَطَ الْعُلَمَاءَ لِيَكُونَ ضَرَرُهُ أَتَمَّ، وَمَعْنَى وَكِيلًا حَافِظًا لِعِبَادِهِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ مِنْ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ أَوْ وَكِيلًا يَكِلُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ فَهُوَ حَافِظُهُمْ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى وَصْفَ الْمُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِهِمْ آلِهَتَهُمْ وَأَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ مَعَ آدَمَ، وَتَمْكِينِهِ مِنْ وَسْوَسَةِ ذُرِّيَّتِهِ وَتَسْوِيلِهِ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ مِنْ أَفْعَالِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَذَكَرَ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ بَحْرًا وَبَرًّا، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُتَمَكِّنٌ بِقُدْرَتِهِ مِمَّا يُرِيدُهُ. وَإِزْجَاءُ الْفُلْكِ سَوْقُهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ بِالرِّيحِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَجَادِيفِ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ طَلَبُ التِّجَارَةِ أَوِ الْحَجُّ فِيهِ أَوِ الْغَزْوُ. وَالضُّرُّ فِي الْبَحْرِ الْخَوْفُ مِنَ الْغَرَقِ بِاضْطِرَابِهِ وَعَصْفِ الرِّيحِ، وَمَعْنَى ضَلَّ ذهب

_ (1) سورة النحل: 16/ 100. (2) سورة الحجر: 15/ 42.

عَنْ أَوْهَامِكُمْ مَنْ تَدْعُونَهُ إِلَهًا فَيَشْفَعُ أَوْ يَنْفَعُ، أَوْ ضَلَّ مَنْ تَعْبُدُونَهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ فَتُفْرِدُونَهُ إِذْ ذَاكَ بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِقَادِ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ إِلَّا هُوَ وَلَا يَرْجُونَ لِكَشْفِ الضُّرِّ غَيْرَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ إِذْ كُشِفَ عَنْهُمْ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَكُفْرَانِهِمْ نِعْمَةَ إِنْجَائِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَجَاءَتْ صِفَةُ كَفُوراً دَلَالَةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِذَلِكَ بَلْ أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِنْسَانِ لُطْفًا بِهِمْ وَإِحَالَةً عَلَى الْجِنْسِ إِذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَكَادُ يُؤَدِّي شُكْرَ نِعَمِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْكُفَّارُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا إِيَّاهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي قَوْلِهِ مَنْ تَدْعُونَ إِذِ الْمَعْنَى ضَلَّتْ آلِهَتُهُمْ أَيْ مَعْبُودَاتُهُمْ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَهَذَا عَلَى مَعْنَى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ إِلَى مَعْبُودَاتِهِمْ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لا يلجؤون إِلَّا إِلَى اللَّهِ وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَأَمِنْتُمْ لِلْإِنْكَارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَنَجَوْتُمْ فَأَمِنْتُمُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَعَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْجَمَاعَةِ أَنْ لَا مَحْذُوفَ هُنَاكَ، وَأَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَأَنَّهُ اعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِكَوْنِهَا لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ فَقُدِّمَتْ وَالنِّيَّةُ التَّأْخِيرُ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فَأَمِنْتُمْ. وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ وَالْخِطَابُ لِلسَّابِقِ ذِكْرُهُمْ أَيْ أَفَأَمِنْتُمْ أَيُّهَا النَّاجُونَ الْمُعْرِضُونَ عَنْ صُنْعِ اللَّهِ الَّذِي نَجَّاكُمْ، وَانْتَصَبَ جانِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِنَخْسِفَ كَقَوْلِهِ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «1» وَالْمَعْنَى أَنْ نُغَيِّرَهُ بِكُمْ فَتَهْلَكُونَ بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ نَقْلِبَهُ وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: جانِبَ الْبَرِّ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَسْفُ تَغْيِيبًا فِي التُّرَابِ قال: جانِبَ الْبَرِّ وبِكُمْ حَالٌ أَيْ نَخْسِفُ جانِبَ الْبَرِّ مَصْحُوبًا بِكُمْ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِكُمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى جانِبَ الْبَرِّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، فَيَحْصُلُ بِخَسْفِهِ إِهْلَاكُهُمْ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَسْفِ جانِبَ الْبَرِّ بِسَبَبِهِمْ إِهْلَاكُهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: الْحَاصِبُ الْحِجَارَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَامٍ يَرْمِيكُمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى بَالِغَةٌ فَإِنْ كَانَ نَجَّاكُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَكَفَرْتُمْ نِعْمَتَهُ فَلَا تَأْمَنُوا إِهْلَاكَهُ إِيَّاكُمْ وَأَنْتُمْ فِي الْبَرِّ، إِمَّا بِأَمْرٍ يَكُونُ مِنْ تَحْتِكُمْ وَهُوَ تَغْوِيرُ الْأَرْضِ بِكُمْ، أَوْ مِنْ فَوْقِكُمْ بِإِرْسَالِ حَاصِبٍ عَلَيْكُمْ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ فِي تَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ ثُمَّ لَا تَجِدُوا عند حلول أحد

_ (1) سورة القصص: 28/ 81.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 إلى 77]

هَذَيْنِ بِكُمْ مَنْ تَكِلُونَ أُمُورَكُمْ إِلَيْهِ فَيَتَوَكَّلُ فِي صرف ذلك عنكم. وأَمْ فِي أَمْ أَمِنْتُمْ مُنْقَطِعَةٌ تُقَدَّرُ بِبَلْ، وَالْهَمْزَةُ أَيْ بَلْ أَمِنْتُمْ وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْبَحْرِ، وَانْتَصَبَ تَارَةً عَلَى الظَّرْفِ أَيْ وَقْتًا غَيْرَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرْتُمْ سَبَبِيَّةٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمُ السَّابِقِ مِنْكُمْ، وَالْوَقْتُ الْأَوَّلُ الَّذِي نَجَّاكُمْ فِيهِ أَوْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمُ الَّذِي هُوَ دَأْبُكُمْ دَائِمًا. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فَنُغْرِقَكُمْ، إِذْ هُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَهُوَ نَتِيجَةُ الْإِرْسَالِ. وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى الْإِرْسَالِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ كَاسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَعْنَى بِمَا وَقَعَ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِغْرَاقِ. وَالتَّبِيعُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّصِيرُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: طَالِبُ الثَّأْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُطَالِبُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ يُتْبِعُ بِالْإِنْكَارِ مَا نَزَلَ بِكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها «1» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . وَقَالَ الشَّمَّاخُ: كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ تَبِيعٌ، أَيْ مُسَيْطِرٌ بِحَقِّهِ مُطَالِبٌ بِهِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ: غَدَوْا وَغَدَتْ غِزْلَانُهُمْ فَكَأَنَّهَا ... ضوامن غرم لدهن تَبِيعُ أَيْ مُطَالِبٌ بِحَقِّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عُمَرَ: وَنَخْسِفُ وَأَوْ نُرْسِلُ وَأَنْ نُعِيدَكُمْ وَفَنُرْسِلُ وَفَنُغْرِقُكُمْ خَمْسَتُهَا بِالنُّونِ، وَبَاقِي الْقُرَّاءِ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو جعفر فتغرقكم بناء الْخِطَابِ مُسْنَدًا إِلَى الرِّيحِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ فَيُغْرِقَكُمْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَفَتْحِ الْغَيْنَ وَشَدِّ الرَّاءِ، عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْمُقْرِي لِأَبِي جَعْفَرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَحُمَيْدٌ بِالنُّونِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنَ الرِّيحِ بِالْإِفْرَادِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الرِّيَاحِ جَمْعًا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 77] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)

_ (1) سورة الشمس: 91/ 15.

وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ إِزْجَاءِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ وَمِنْ تَنْجِيَتِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ، تَمَّمَ ذِكْرَ الْمِنَّةِ بِذِكْرِ تَكْرِمَتِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَتَفْضِيلِهِمْ، أَوْ لَمَّا هَدَّدَهُمْ بِمَا هَدَّدَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْغَرَقِ وَأَنَّهُمْ كَافِرُو نِعْمَتَهُ ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَتَذَكَّرُوا فَيَشْكُرُوا نِعَمَهُ وَيُقْلِعُوا عَنْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَيُطِيعُوهُ تَعَالَى، وَفِي ذِكْرِ النِّعَمِ وَتَعْدَادِهَا هَزٌّ لِشُكْرِهَا وَكَرَّمَ مُعَدًّى بِالتَّضْعِيفِ مِنْ كَرُمَ أَيْ جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي كَرَمٍ بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالْمَحَاسِنِ الْجَمَّةِ، كَمَا تَقُولُ: ثَوْبٌ كَرِيمٌ وَفَرَسٌ كَرِيمٌ أَيْ جَامِعٌ لِلْمَحَاسِنِ. وَلَيْسَ مِنْ كَرَمِ الْمَالِ. وَمَا جَاءَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ تَكْرِيمِهِمْ وَتَفْضِيلِهِمْ بِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ فِي ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّفْضِيلَ بِالْعَقْلِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ بِالنُّطْقِ. وَعَنْ عَطَاءٍ بِتَعْدِيلِ الْقَامَةِ وَامْتِدَادِهَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْمَطَاعِمِ وَاللَّذَّاتِ، وَعَنْ يَمَانٍ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، وَعَنْ

مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بِجَعْلِ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ. وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُ. وَقِيلَ: بِالْخَطِّ. وَقِيلَ: بِاللِّحْيَةِ لِلرَّجُلِ وَالذُّؤَابَةِ لِلْمَرْأَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِأَكْلِهِ بِيَدِهِ وَغَيْرِهِ بِفَمِهِ. وَقِيلَ: بِتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. وَقِيلَ: بِخَلْقِ اللَّهِ آدَمَ بِيَدِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا يَفْضُلُ بِنَوْعٍ مَا ابْنَ آدَمَ كَجَرْيِ الْفَرَسِ وَسَمْعِهِ وَإِبْصَارِهِ، وَقُوَّةِ الْفِيلِ، وَشَجَاعَةِ الْأَسَدِ، وَكَرَمِ الدِّيكِ. قَالَ: وَإِنَّمَا التَّكْرِيمُ وَالتَّفْضِيلُ بِالْعَقْلِ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الْحَيَوَانُ كُلُّهُ وَبِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُفْهَمُ كَلَامُهُ وَيُوصَلُ إِلَى نَعِيمِهِ انْتَهَى. وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ تَكْرِيمِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْبَرِّ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَلَى أَكْبَادٍ رَطْبَةٍ وَأَعْوَادٍ يَابِسَةٍ. والطَّيِّباتِ كَمَا تَقَدَّمَ الْحَلَالُ أَوِ الْمُسْتَلَذُّ وَلَا يَتَّسِعُ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي الرِّزْقِ اتِّسَاعَهُ لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ الْمَالَ وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ وَيَأْكُلُ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَكْتَسِبُ وَلَا يَلْبَسُ وَلَا يَأْكُلُ غَالِبًا إِلَّا لَحْمًا نَيِّئًا وَطَعَامًا غَيْرَ مُرَكَّبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنُّ كَثِيرًا بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فُضِّلُوا عَلَى الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ غَيْرَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَأَشْبَاهِهِمْ وَهَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَيَوَانُ وَالْجِنُّ هُوَ الْكَثِيرُ الْمَفْضُولُ وَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الْكَثِيرِ الْمَفْضُولِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْآيَةُ تَقْضِي بِفَضْلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْإِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُمْ الْمُسْتَثْنَوْنَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «1» وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلِ التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَمْ تَعْنِ لَهُ الْآيَةُ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ وَيُحْتَمَلُ التَّسَاوِي، وَإِنَّمَا يَصِحُّ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنَ الشَّرْعِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هُوَ مَا سِوَى الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَحَسْبُ بَنِي آدَمَ تَفْضِيلًا أَنْ تُرْفَعَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ هُمْ وَمَنْزِلَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَتُهُمْ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُجْبِرَةِ كَيْفَ عَكَسُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَكَابَرُوا حَتَّى جَسَرَتْهُمُ الْمُكَابَرَةُ عَلَى الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ تَفْضِيلُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمَلَكِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَشْنِيعًا أَقْذَعَ فِيهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ. وَقِيلَ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ بِالْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ. وَقِيلَ: بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلتَّفْضِيلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 172. [.....]

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثِيرٍ مَجَازُهُ وَهُوَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، والعرب تفعل ذلك وهذا الْقَوْلُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ هُنَا لِأَنَّكَ لَوْ جَعَلْتَ جَمِيعًا كَانَ بِكَثِيرٍ، فَقُلْتُ عَلَى جَمِيعٍ مِمَّنْ خَلَقَنَا لَكَانَ نَائِيًا عَنِ الْفَصَاحَةِ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ كَلَامٌ فِي تَكْرِيمِ ابْنِ آدَمَ وَتَفْضِيلِهِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ حُكَمَاءَ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ إِذْ هُوَ جَارٍ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنْوَاعًا مِنْ كَرَامَاتِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فقال: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ فِي يَوْمَ. فَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مَتَى هُوَ. وَقِيلَ: فَتَسْتَجِيبُونَ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوهَا لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ ظَرْفٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ انْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ اذْكُرْ وَعَلَى تَقْدِيرِ اذْكُرْ لَا يَكُونُ ظَرْفًا بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا بَعْدَ قَوْلِهِ هُوَ ظَرْفٌ: وَالْعَامِلُ فِيهِ اذْكُرْ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَلا يُظْلَمُونَ، وَحَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَقَدَّرَهُ وَلا يُظْلَمُونَ يَوْمَ نَدْعُو. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَفَضَّلْناهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ فَضْلَ الْبَشَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ بَيِّنٌ لِأَنَّهُمُ الْمُنَعَّمُونَ الْمُكَلَّفُونَ الْمُحَاسَبُونَ الَّذِينَ لَهُمُ الْقَدْرُ إِلَّا أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَئِذٍ أَخْسَرُ مَنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، إِذْ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ مَنْصُوبًا عَلَى الْبِنَاءِ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَيَكُونُ مَوْضِعُهُ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي التَّقْسِيمِ الَّذِي أَتَى بَعْدُ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ كانَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْبِنَاءِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ: لَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَمَكِّنٍ وَغَيْرِ مُتَمَكِّنٍ هُوَ الِاسْمُ لَا الْفِعْلُ، وَهَذَا أُضِيفَ إِلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ مُعْرَبٍ لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: والخبر في التقسيم فالتقسيم عَارٍ مِنْ رَابِطٍ لِهَذِهِ الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا إِنْ قَدَّرَ مَحْذُوفًا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَيْ مِمَّنْ أُوتِيَ كِتابَهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْرِيجِ تَخْرِيجٌ مُتَكَلَّفٌ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: الْعَامِلُ فِيهِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ وَفَضَّلْناهُمْ بِالثَّوَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ قَبْلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ ثُمَّ لَا تَجِدُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ نُعِيدُكُمْ مُضْمَرَةٌ أَيْ نُعِيدُكُمْ يَوْمَ نَدْعُوا وَالْأَقْرَبُ

مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِاذْكُرْ مُضْمَرَةً. وَقَرَأَ الجمهور: نَدْعُوا بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَمُجَاهِدٌ يَدْعُو بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيْ يَدْعُو اللَّهَ، وَالْحَسَنُ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ يُدْعَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ كُلَّ مَرْفُوعٌ بِهِ، وَفِيمَا ذَكَرَ غَيْرُهُ يَدْعُو بِالْوَاوِ وَخُرِّجَ عَلَى إِبْدَالِ الْأَلِفِ وَاوًا عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: أَفْعُو فِي الْوَقْفِ عَلَى أَفْعَى، وَإِجْرَاءُ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَكُلُّ مَرْفُوعٌ بِهِ، وَعَلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ ضَمِيرًا مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَصْلُهُ يَدْعُونَ فَحُذِفَتِ النُّونُ كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: أَبِيتُ أُسَرِّي وَتَبِيتِي تُدَلِّكِي ... وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الزَّكِيِّ أَيْ تَبِيتِينَ تَدْلُكِينَ وَكُلُّ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الضَّمِيرِ. وأُناسٍ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْبَاءُ فِي بِإِمامِهِمْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِنَدْعُو، أَيْ بِاسْمِ إِمَامِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ بَاءُ الْحَالِ أَيْ مَصْحُوبِينَ بِإِمامِهِمْ. وَالْإِمَامُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ كِتَابُهُمُ الَّذِي فِيهِ أَعْمَالُهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: كِتَابُهُمُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: نَبِيُّهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِمَامُ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُؤْتَمُ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَامُهُمْ مَنِ ائتموا به من نَبِيٌّ أَوْ مُقَدَّمٌ فِي الدِّينِ أَوْ كِتَابٌ أَوْ دِينٌ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ دِينِ كَذَا وَكِتَابِ كَذَا. وَقِيلَ: بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمْ يَا أَصْحَابَ كِتَابِ الْخَيْرِ وَيَا أَصْحَابَ كِتَابِ الشَّرِّ. وَفِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ بِكِتَابِهِمْ وَمِنْ بِدَعِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِمَامَ جَمْعُ أُمٍّ وَأَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الدُّعَاءِ بِالْأُمَّهَاتِ دُونَ الْآبَاءِ رِعَايَةَ حَقِّ عِيسَى وَشَرَفِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ. وَأَنْ لَا يَفْتَضِحَ أَوْلَادُ الزِّنَا وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّهُمَا أَبْدَعُ أَصِحَّةُ لَفْظِهِ أَمْ بَهَاءُ حِكْمَتِهِ انْتَهَى. وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي يُؤْتَاهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَإِيتَاؤُهُ بِالْيَمِينِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاةِ الطَّائِعِ وَخَلَاصِ الْفَاسِقِ مِنَ النَّارِ إِنْ دَخَلَهَا وَبِشَارَتِهِ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِيهَا فَأُولئِكَ جَاءَ جَمْعًا عَلَى مَعْنَى مَنْ إِذْ قَدْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ أَوَّلًا فَأُفْرِدَ فِي قَوْلِهِ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَقِرَاءَتُهُمْ كُتُبَهُمْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّلَذُّذِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهَا مِنَ الْبِشَارَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمُوا مِنْ حَيْثُ إِيِتَاؤُهُمْ إِيَّاهَا بِالْيَمِينِ أَنَّهُمْ مَنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمِنْ فَرَحِهِمْ بِذَلِكَ يَقُولُ الْبَارِي لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «1» وَلَمْ يَأْتِ هُنَا قَسِيمُ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ جَاءَ قَسِيمُهُ قَوْلُهُ. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُقَابِلُهُ لِأَنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 19.

هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ لَا يَنْقُصُونَ أَدْنَى شَيْءٍ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْفَتِيلِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: فِي هذِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ أَيْ: مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَعْمَى عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَعِبَرِهِ وَالْإِيمَانِ بِأَنْبِيَائِهِ، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى معنى أنه خبر إن لَا يَتَوَجَّهَ لَهُ صَوَابٌ وَلَا يَلُوحَ لَهُ نُجْحٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَعْمَى فِي الْآخِرَةِ عَنْ حُجَجِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ النِّعَمُ يُشِيرُ إِلَى نِعَمِ التَّكْرِيمِ وَالتَّفْضِيلِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي لَمْ تَرَ وَلَمْ تُعَايِنْ أَعْمى. وَقِيلَ: وَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا ضَالًّا كَافِرًا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ، وَفِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ وَفِي الدُّنْيَا يَهْتَدِي إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْآفَاتِ، وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. وَقِيلَ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: أَعْمَى الْبَصَرِ كَمَا قَالَ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «1» وَقَوْلُهُ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً «2» . وَقِيلَ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى عَنْ إِبْصَارِ الْحَقِّ وَالِاعْتِبَارِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى عَنِ الِاعْتِذَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذِهِ إِلَى الدُّنْيَا أَيْ مَنْ كَانَ فِي دُنْيَاهُ هذِهِ وَقْتَ إِدْرَاكِهِ وَفَهْمِهِ أَعْمى عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَهُوَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ حَيْرَةً وَعَمًى لِأَنَّهُ قَدْ بَاشَرَ الْخَيْبَةَ وَرَأَى مَخَائِلَ الْعَذَابِ، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ مُعَادِلَةً الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ فِي الْآخِرَةِ بِمَعْنَى فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ لَمْ تَطَّرِدِ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَعْمَى مُسْتَعَارٌ مِمَّنْ لَا يُدْرِكُ الْمُبْصَرَاتِ لِفَسَادِ حَاسَّتِهِ لِمَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِفَقْدِ النَّظَرِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاهْتِدَاءُ إِلَيْهِ وَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ. وَمِنْ ثَمَّ قَرَأَ أَبُو عمر الأول مما لا وَالثَّانِي مُفَخَّمًا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ تَمَامُهُ بِمِنْ فَكَانَتْ أَلِفُهُ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ أَعْمالُكُمْ «3» وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَتْ أَلِفُهُ وَاقِعَةً فِي الطَّرَفِ مُعَرَّضَةً لِلْإِمَالَةِ انْتَهَى. وَتَعْلِيلُهُ تَرْكُ إِمَالَةِ أَعْمَى الثَّانِي أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لِأَنَّ الْإِمَالَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ في الأواخر، وأَعْمى لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ أَعْمى من كذا

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 97. (2) سورة طه: 20/ 125. (3) سورة البقرة: 2/ 139 وغيرها.

فَلَيْسَ يَتِمُّ إِلَّا فِي قَوْلِنَا مِنْ كَذَا فَهُوَ إِذَنْ لَيْسَ بِآخِرٍ، وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ عَطْفُ وَأَضَلُّ سَبِيلًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ فَيَنْجُوَ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَهُوَ أَضَلُّ سَبِيلًا وَأَشَدُّ حَيْرَةً وأقرب إلى العذاب، وأَعْمى هُنَا مِنْ عَمَى الْقَلْبِ لَا مِنْ عَمَى الْبَصَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ التَّفَاضُلُ لَا هَذَا. وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا. الضَّمِيرُ فِي وَإِنْ كادُوا قِيلَ لِقُرَيْشٍ. وَقِيلَ لِثَقِيفٍ، وَذَكَرُوا أَسْبَابَ نُزُولٍ مُخْتَلِفَةً وَفِي بَعْضِهَا مَا لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالتَّحْرِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمِنْ عَمَى أَهْلِ الشَّقَاوَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَهُمُّ بِهِ الْأَشْقِيَاءَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى سَيِّدِ أَهْلِ السَّعَادَةِ الْمَقْطُوعِ لَهُ بِالْعِصْمَةِ، وَمَعْنَى لَيَفْتِنُونَكَ لَيَخْدَعُونَكَ وَذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لَا أَنَّهُمْ قَارَبُوا ذَلِكَ إِذْ هُوَ مَعْصُومٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُقَارِبُوا فِتْنَتَهُ عَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَتِلْكَ الْمُقَارَبَةُ فِي زَعْمِهِمْ سَبَبُهَا رَجَاؤُهُمْ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ الْوَعْدِ وَعِيدًا أَوِ الْوَعِيدِ وَعْدًا، وَمَا اقْتَرَحَتْهُ ثَقِيفٌ مِنْ أَنْ يُضِيفَ إِلَى اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ عليه وإِنْ هَذِهِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلِيَتْهَا الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ وَهِيَ كادُوا لِأَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْأَفْعَالِ عَلَى النَّوَاسِخِ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَاللَّامُ فِي لَيَفْتِنُونَكَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ إِنْ هَذِهِ وَإِنِ النَّافِيَةِ وَإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَيُقَدَّرُ قَسَمٌ هُنَا تَكُونُ لَاتَّخَذُوكَ جَوَابًا لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهِ إِذاً أَيْ إِنِ افْتُتِنْتَ وَافْتَرَيْتَ لَاتَّخَذُوكَ ولا اتخذوك فِي مَعْنَى لَيَتَّخِذُونَكَ كَقَوْلِهِ وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «1» أَيْ لَيَظَلُّنَّ لِأَنَّ إِذاً تَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى جزءا فَيُقَدَّرُ مَوْضِعُهَا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ أَيْ وَلَوِ اتَّبَعْتَ مُرَادَهُمْ لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا

_ (1) سورة الروم: 30/ 51.

وَلَكُنْتَ لَهُمْ وَلِيًّا، وَلَخَرَجْتَ مِنْ وِلَايَتِي انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا أن لَاتَّخَذُوكَ جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفَةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ولو تَثْبِيتُنَا لَكَ وَعِصْمَتُنَا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لَقَارَبْتَ أَنْ تَمِيلَ إِلَى خُدَعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، وَهَذَا تَهْيِيجٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ وَفَضْلُ تَثْبِيتٍ، وَفِي ذَلِكَ لُطْفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَنْ لَوْ قَارَبْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أَدْنَى رَكْنَةٍ لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أَيْ لَأَذَقْناكَ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَعَذَابَ الْقَبْرِ مُضَاعَفَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ حَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ؟ قُلْتُ: أَصْلُهُ لَأَذَقْناكَ عَذَابَ الْحَيَاةِ وَعَذَابَ الْمَمَاتِ لِأَنَّ الْعَذَابَ عَذَابَانِ، عَذَابٌ فِي الْمَمَاتِ وَهُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَعَذَابٌ فِي حَيَاةِ الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَالضِّعْفُ يُوصَفُ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ «1» يَعْنِي مُضَاعَفًا، فَكَانَ أَصْلُ الْكَلَامِ لَأَذَقْناكَ عَذَابًا ضِعْفًا فِي الْحَيَاةِ، وَعَذَابًا ضِعْفًا فِي الْمَمَاتِ، ثُمَّ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ وَهُوَ الضِّعْفُ، ثُمَّ أُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ، فَقِيلَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ كَمَا لو قِيلَ لَأَذَقْناكَ أَلِيمَ الْحَيَاةِ وَأَلِيمَ الْمَمَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِضِعْفِ الْحَيَاةِ عَذَابُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبِضِعْفِ الْمَمَاتِ مَا يَعْقُبُ الْمَوْتَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَالْمَعْنَى لَضَاعَفْنَا لَكَ الْعَذَابَ الْمُعَجَّلَ لِلْعُصَاةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَمَا نُؤَخِّرُهُ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ انْتَهَى. وَجَوَابُ لَوْلا يَقْتَضِي إِذَا كَانَ مُثْبَتًا امْتِنَاعَهُ لِوُجُودِ مَا قَبْلَهُ، فَمُقَارَبَةُ الرُّكُونِ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ وَالْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وُجُودُ تَثْبِيتِ اللَّهِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ مُصَرِّفٍ: تَرْكَنُ بِضَمِّ الْكَافِ مُضَارِعُ رَكَنَ بِفَتْحِهَا وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يُرِيدُ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ أَذْنَبَ مِنْ عُقُوبَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُنَّا نُضَعِّفُهُ. وَذَهَبَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَقَدْ كَادَ أَنْ يُخْبِرُوا عَنْكَ أَنَّكَ رَكَنْتَ إِلَى قَوْلِهِمْ بِسَبَبِ فِعْلِهِمْ إِلَيْهِ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كِدْتَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ أَيْ كَادَ النَّاسُ يَقْتُلُونَكَ بِسَبَبِ مَا فَعَلْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا ، وَلَكِنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْأُمَّةِ لِئَلَّا يَرْكَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرَائِعِهِ انْتَهَى. وَاللَّامُ فِي لَأَذَقْناكَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ إِذاً أَيْ وَاللَّهِ إِنْ حَصَلَ رُكُونٌ لَيَكُونَنَّ كَذَا، وَالْقَوْلُ فِي لَأَذَقْناكَ كَالْقَوْلِ فِي لَاتَّخَذُوكَ مِنْ وُقُوعِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ الدَّاخِلِ عليه

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 38.

اللَّامُ وَالنُّونُ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي لَاتَّخَذُوكَ ولَأَذَقْناكَ هِيَ لَامُ الْقَسَمِ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي ذِكْرِ الْكَيْدُودَةِ وَتَعْلِيلِهَا مَعَ إِتْبَاعِهَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالْعَذَابِ الْمُضَاعَفِ فِي الدَّارَيْنِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْقَبِيحَ يَعْظُمُ قُبْحُهُ بِمِقْدَارِ عِظَمِ شَأْنِ فَاعِلِهِ وَارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِ انْتَهَى. وَمِنْ ذَلِكَ يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «1» الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ أَدْنَى مُدَاهَنَةٍ لِلْغُوَاةِ مُضَادَّةٌ لِلَّهِ وَخُرُوجٌ عَنْ وِلَايَتِهِ، وَسَبَبٌ مُوجِبٌ لِغَضَبِهِ وَنَكَالِهِ انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» . قَالَ حَضْرَمِيٌّ: الضَّمِيرُ فِي وَإِنْ كادُوا لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَاحِيَتِهَا كَحُيِّي بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى الْمَكْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا أَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ الشَّامُ، وَلَكِنَّكَ تَخَافُ الرُّومَ فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَاخْرُجْ إِلَيْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيَحْمِيكَ كَمَا حَمَى غَيْرَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَنَزَلَتْ ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ يُلْبِثْهُمْ بَعْدُ إِلَّا قَلِيلًا. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهُ خَرَجَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ وَعَسْكَرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ أَصْحَابَهُ فَنَزَلَتْ وَرَجَعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لَمْ يَقَعْ فِي سِيرَةٍ وَلَا فِي كِتَابٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَذُو الْحُلَيْفَةِ لَيْسَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ مِنَ الْمَدِينَةِ انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَاسْتِفْزَازُهُمْ هُوَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ مَكَّةَ كَمَا ذَهَبُوا إِلَى حَصْرِهِ فِي الشِّعْبِ، وَوَقَعَ اسْتِفْزَازُهُمْ هَذَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ وَاتَّبَعُوهُ إِلَى الْغَارِ وَنَفَذَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ فِي أن لم يلبثوا خلفه إِلَّا قَلِيلًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ حَاكِيًا أَنَّ اسْتِفْزَازَهُمْ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ مِنْ قَتْلِهِ وَالْأَرْضُ عَلَى هَذَا الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَهَبَتْ قُرَيْشٌ إِلَى هَذَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ تَعَالَى اسْتِبْقَاءَ قريش وأن لا يستأصلهما أَذِنَ لِرَسُولِهِ فِي الْهِجْرَةِ فَخَرَجَ بِإِذْنِهِ لَا بِقَهْرِ قُرَيْشٍ، وَاسْتُبْقِيَتْ قُرَيْشٌ لِيُسْلِمَ مِنْهَا وَمِنْ أَعْقَابِهَا مَنْ أَسْلَمَ قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَتْهُ قُرَيْشٌ لَعُذِّبُوا. ذَهَبَ مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَلْبَثُونَ لِجَمِيعِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيَسْتَفِزُّونَكَ لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ رَأْيِكَ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: لَيُزْعِجُونَكَ وَيَسْتَخِفُّونَكَ. وَأَنْشَدَ: يُطِيعُ سَفِيهَ الْقَوْمِ إِذْ يَسْتَفِزُّهُ ... وَيَعْصِي حَلِيمًا شَيَّبَتْهُ الْهَزَاهِزُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى مُقَارَبَةِ اسْتِفْزَازِهِ لِأَنْ يُخْرِجُوهُ، فَمَا وَقَعَ الِاسْتِفْزَازُ وَلَا إخراجهم

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 30.

إِيَّاهُ الْمُعَلَّلُ بِهِ الِاسْتِفْزَازُ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «1» أَيْ أَخْرَجَكَ أَهْلُهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ فِيهَا جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ قَالَ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ» ؟ الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ. لَكِنَّ الْإِخْرَاجَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ لِلِاسْتِفْزَازِ لَمْ يَقَعْ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَا خَرَجَ بِسَبَبِ إِخْرَاجِهِمْ وَإِنَّمَا خَرَجَ بِأَمْرِ اللَّهِ فَزَالَ التَّنَاقُضُ انْتَهَى. وَلَا يَلْبَثُونَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَاللَّهِ إِنِ اسْتَفَزُّوكَ فَخَرَجْتَ لَا يَلْبَثُونَ وَلِذَلِكَ لَمْ تَعْمَلْ إِذاً لِأَنَّهَا تَوَسَّطَتْ بَيْنَ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وَالْفِعْلِ فَلَا يَلْبَثُونَ لَيْسَتْ مُنْصَبَّةً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَا يَلْبَثُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تقديره، وهم إِذاً لَا يَلْبَثُونَ فَوَقَعَتْ إِذًا بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ فَأُلْغِيَتْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَإِذًا لَا يَلْبَثُوا بِحَذْفِ النُّونِ أَعْمَلَ إِذًا فَنَصَبَ بِهَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَبِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مَحْذُوفَةُ النُّونِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ الْقِرَاءَتَيْنِ؟ قُلْتُ: أَمَّا الشَّائِعَةُ فَقَدْ عَطَفَ فِيهَا الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِوُقُوعِهِ خَبَرَ كَادَ، وَالْفِعْلُ فِي خَبَرِ كَادَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فَفِيهَا الْجُمْلَةُ بِرَأْسِهَا الَّتِي هِيَ وَإِذًا لَا يَلْبَثُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ انْتَهَى. وَقَرَأَ عَطَاءٌ لَا يَلْبَثُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَالْبَاءِ مُشَدَّدَةٍ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْبَاءَ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ خِلافَكَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ خَلْفَكَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: عَفَتِ الدِّيَارُ خِلَافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ «2» خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ أَيْ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: بَعْدَكَ مَكَانَ خَلْفِكَ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لِخَلْفِكَ لَا قِرَاءَةً لِأَنَّهَا لَا تُخَالِفُ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ خَلْفَكَ هُنَا لَيْسَتْ ظَرْفَ مَكَانٍ وَإِنَّمَا تَجُوزُ فِيهَا فَاسْتُعْمِلَتْ ظَرْفَ زَمَانٍ بِمَعْنَى بَعْدَكَ. وَهَذِهِ الظُّرُوفُ الَّتِي هِيَ قَبْلُ وَبَعْدُ وَنَحْوُهُمَا اطَّرَدَ إِضَافَتُهَا إِلَى أَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، فِي نَحْوِ خَلْفِكَ أَيْ خَلْفَ إِخْرَاجِكَ، وَجَاءَ زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو أَيْ قَبْلَ مَجِيءِ عَمْرٍو، وَضَحِكَ بَكْرٌ بَعْدَ خَالِدٍ أَيْ بَعْدَ ضَحِكِ خَالِدٍ. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ أَيْ سنّ الله سنة،

_ (1) سورة محمد: 47/ 13. (2) سورة التوبة: 9/ 81.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 إلى 111]

وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ قَوْمٍ أَخْرَجُوا رَسُولَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فَسُنَّةُ اللَّهِ أَنْ يُهْلِكَهُمْ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ وَيَسْتَأْصِلَهُمْ وَلَا يُقِيمُونَ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: انْتَصَبَ سُنَّةَ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ لِأَنَّ الْمَعْنَى كَسُنَّةٍ فَنُصِبَ بَعْدَ حَذْفِ الْكَافِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: سُنَّةَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ سَنَنَّا بِكَ سُنَّةَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ أَيِ اتَّبِعْ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنًى غَيْرُ الْأَوَّلِ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لمعنى الآية قبلها وَلا تَجِدُ لِمَا أَجْرَيْنَا بِهِ الْعَادَةَ تَحْوِيلًا مِنْهُ إِلَى غيره إذا كُلُّ حَادِثٍ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ وَصِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَنَفْيُ الْوِجْدَانِ هُنَا وَفِيمَا أَشْبَهَهُ معناه نفي الوجود. [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 111] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 90.

الدُّلُوكُ الْغُرُوبُ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَاسْتَدَلَّ الْفَرَّاءُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: هَذَا مَقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحٍ ... غُدْوَةً حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحُ أَيْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَبَرَاحٌ اسْمُ الشَّمْسِ وَأَنْشَدَ ابْنُ قُتَيْبَةَ لِذِي الرُّمَّةِ: مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي يَقُودُهَا ... نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ وَقِيلَ: الدُّلُوكُ زَوَالُ الشَّمْسِ نِصْفَ النَّهَارِ. قِيلَ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدَّلْكِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ تُدْلَكُ عَيْنُهُ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ الدُّلُوكُ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ. الْغَسَقُ سَوَادُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ غَسَقَ اللَّيْلُ غُسُوقًا وَالْغَسَقُ الِاسْمُ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: غَسَقُ اللَّيْلِ دُخُولُ أَوَّلِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا وَأَصْلُهُ مِنَ السَّيَلَانِ غَسَقَتِ الْعَيْنُ تَغْسِقُ هَمَلَتْ بِالْمَاءِ وَالْغَاسِقُ السَّائِلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ عَلَى الْعَالَمِ. قَالَ الشَّاعِرُ: ظَلَّتْ تَجُودُ يَدَاهَا وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... حَتَّى إِذَا جَنَحَ الْإِظْلَامُ وَالْغَسَقُ وَسَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا الْغَسَقُ؟ قَالَ: اللَّيْلُ بِظُلْمَتِهِ، وَيُقَالُ غَسَقَتِ الْعَيْنُ امْتَلَأَتْ دَمًا. وَحَكَى الْفَرَّاءُ غَسَقَ اللَّيْلُ وَاغْتَسَقَ وَظَلُمَ وَأَظْلَمَ وَدَجَى وَأَدْجَى وَغَبَشَ وَأَغْبَشَ، أَبُو عُبَيْدَةَ الْهَاجِدُ النَّائِمُ وَالْمُصَلِّي. وَقَالَ ابْنُ الْإِعْرَابِيِّ: هَجَدَ الرَّجُلُ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ، وَهَجَدَ نَامَ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ اللَّيْثُ تَهَجَّدَ اسْتَيْقَظَ لِلصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ بِرَزْحَ هَجَّدْتُهُ أَيْقَظْتُهُ، فَعَلَى مَا ذَكَرُوا يَكُونُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ الْهَاجِدَ النَّائِمُ وَقَدْ هَجَدَ هُجُودًا نَامَ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا زَارَتْ وَأَهْلُ منى هجود ... وليت خيالنا منا يَعُودُ وَقَالَ آخَرُ: أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودُ وَقَالَ آخر: وَبَرْكٍ هُجُودٍ قَدْ أَثَارَتْ مَخَافَتِي زَهَقَتْ نَفْسُهُ تَزْهَقُ زُهُوقًا ذَهَبَتْ، وَزَهَقَ الْبَاطِلُ زَالَ وَاضْمَحَلَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سَقَمَهَا ... إِقْدَامُهُ مُزَالَةً لَمْ تَزْهَقِ نَاءَ يَنُوءُ: نَهَضَ. الشَّاكِلَةُ الطَّرِيقَةُ وَالْمَذْهَبُ الَّذِي جُبِلَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّكْلِ يُقَالُ لَسْتَ عَلَى شَكْلِي وَلَا شَاكِلَتِي، وَالشَّكْلُ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ، وَالشِّكْلُ بِكَسْرِ الشِّينِ الْهَيْئَةُ يُقَالُ جَارِيَةٌ حَسَنَةُ الشِّكْلِ. الْيَنْبُوعُ مَفْعُولٌ مِنَ النَّبْعِ وَهُوَ عَيْنٌ تَفُورُ بِالْمَاءِ. الْكِسَفُ الْقِطَعُ وَاحِدُهَا كِسْفَةٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: كَسَفْتُ الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ قَطَعْتُهُ، وَمَا زَعَمَ الزَّجَّاجُ مِنْ أَنْ كَسَفَ بِمَعْنَى غَطَّى لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي دَوَاوِينِ اللُّغَةِ. الرُّقِيُّ وَالرُّقَى الصُّعُودُ يُقَالُ: رَقَيْتُ فِي السُّلَّمِ أَرْقَى قَالَ الشَّاعِرُ: أَنْتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رَقْيَ الدَّرَجْ ... عَلَى الْكَلَالِ وَالْمَشِيبِ وَالْعَرَجْ خَبَتِ النَّارُ تَخْبُو: سَكَنَ لَهَبُهَا وَخَمَدَتْ سَكَنَ جَمْرُهَا وَضَعُفَ وَهَمَدَتْ طُفِئَتْ جُمْلَةً. قَالَ الشَّاعِرُ: أَمِنْ زَيْنَبَ ذِي النَّارِ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مَا تخبو إذا ما أخمدت ألقى عَلَيْهَا الْمَنْدَلُ الرَّطْبُ وَقَالَ آخر: وسطه كالبراع أَوْ سَرْجِ الْمَجْدَلِ ... طُورًا يَخْبُو وَطُورًا يُنِيرُ الثُّبُورُ: الْهَلَاكُ يُقَالُ: ثَبَرَ اللَّهُ الْعَدُوَّ ثُبُورًا أَهْلَكُهُ. وَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: إِذَا جَارَى الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مِثْلُهُ مَثْبُورُ اللَّفِيفُ الْجَمَاعَاتُ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى مُخْتَلِطَةٍ قَدْ لُفَّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَفَفْتُهُ لَفًّا وَلَفِيفًا. الْمُكْثُ: التَّطَاوُلُ فِي الْمُدَّةِ، يُقَالُ: مَكَثَ وَمَكُثَ أَطَالَ الْإِقَامَةَ. الذَّقَنُ مُجْتَمَعُ اللِّحْيَيْنِ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَخَرُّوا لِأَذْقَانِ الْوُجُوهِ تَنُوشُهُمْ ... سِبَاعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْعَوَادِي وَتَنْتِفُ خَافَتَ بِالْكَلَامِ أَسَرَّهُ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَسْمَعُهُ الْمُتَكَلِّمُ وَضَرَبَهُ حَتَّى خَفَتَ أَيْ لَا يُسْمَعُ لَهُ حِسٌّ. أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي

مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً. وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً. وَمُنَاسَبَةُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْدَهُمْ لِلرَّسُولِ وَمَا كَانُوا يَرُومُونَ بِهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَأَنْ لَا يَشْغَلَ قَلْبَهُ بِهِمْ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ، فَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْمُوَاجَهُ بِالْأَمْرِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَاللَّامُ فِي لِدُلُوكِ قَالُوا: بِمَعْنَى بَعْدَ أَيْ بَعْدَ دُلُوكِ الشَّمْسِ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا: فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا أَيْ بَعْدَ طُولِ اجْتِمَاعٍ وَمِنْهُ كَتَبَتُهُ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ كَذَا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: اللَّامُ لِلسَّبَبِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي إِقَامَتُهَا لِأَجْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَقِمِ الصَّلاةَ الْآيَةَ هَذِهِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بُرْدَةَ وَالْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَغَسَقُ اللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أُرِيدَ بِهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا تَعُمُّ جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ» . وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ طَعِمَ وَزَالَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: «اخْرُجْ يَا أَبَا بَكْرٍ فَهَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَغْرِبِ وغَسَقِ اللَّيْلِ ظُلْمَتُهُ فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَتَمَةِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَلَمْ تَقَعْ إِشَارَةٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ انْتَهَى. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ الْغُرُوبُ، وَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ وَإِلَى بِأَقِمْ، فَتَكُونُ إِلَى غَايَةٍ لِلْإِقَامَةِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: أَيْ مَمْدُودَةٌ وَيَعْنِي بِقُرْآنِ الْفَجْرِ صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَخُصَّتْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّهُ عِظَمُهَا إِذْ قِرَاءَتُهَا طَوِيلَةٌ مَجْهُورٌ بِهَا، وَانْتَصَبَ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عَطْفًا عَلَى الصَّلاةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ وَآثِرْ قُرْآنَ الْفَجْرِ أَوْ عَلَيْكَ قُرْآنَ الْفَجْرِ انْتَهَى. وَسُمِّيَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِبَعْضِ مَا يَقَعُ فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَتْ صَلَاةُ

الْفَجْرِ قُرْآنًا وَهِيَ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّهَا رُكْنٌ كَمَا سُمِّيَتْ رُكُوعًا وَسُجُودًا وَقُنُوتًا وَهِيَ حجة عليّ بن أَبِي عُلَيَّةَ. وَالْأَصَمِّ فِي زَعْمِهِمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: إِذَا فَسَّرْنَا الدُّلُوكَ بِزَوَالِ الشَّمْسِ كَانَ الْوَقْتُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا غُيِّيَتِ الْإِقَامَةُ بِغَسَقِ اللَّيْلِ، وَيَكُونُ الْغَسَقُ وَقْتًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ: أَوَّلُ وَقْتِ الزَّوَالِ، وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَأَوَّلُ وَقْتِ الْفَجْرِ انْتَهَى، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ إِمَّا مِنْ أَوَّلِ الزَّوَالِ إِلَى الْغَسَقِ، وَبِقُرْآنِ الْفَجْرِ، وَإِمَّا مِنَ الْغُرُوبِ إِلَى الْغَسَقِ وَبِقُرْآنِ الْفَجْرِ، فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ الصَّلَاةَ فِي وَقْتَيْنِ وَلَا تُؤْخَذُ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بِوَجْهٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَا قِرَاءَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ وَمَنْ قَالَ مَعْنَى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صَلَاةُ الْفَجْرِ غَلِطَ لِأَنَّهُ صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ وَيَسْتَحِيلُ التَّهَجُّدُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلًا. وَالْهَاءُ فِي بِهِ كِنَايَةٌ عَنْ قُرْآنَ الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الْقُرْآنِ لَا مَكَانُ التَّهَجُّدِ بِالْقُرْآنِ الْمَقْرُوءِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاسْتِحَالَةُ التَّهَجُّدِ فِي اللَّيْلِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوا لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُجْعَلِ الْقِرَاءَةُ عِبَارَةً عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَالظَّاهِرُ نَدْبِيَّةُ إِيقَاعِ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِ قُرْآنِ الْفَجْرِ، فَكَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَوَّلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ النَّدْبُ لِوُجُودِ الْمَطْلُوبِيَّةِ، فَإِذَا انْتَفَى وُجُوبُهَا بَقِيَ نَدْبُهَا وَأَعَادَ قُرْآنَ الْفَجْرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَأْتِ مُضْمَرًا فَيَكُونُ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّنْوِيهِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ وَمَعْنَى مَشْهُوداً تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ حَفَظَةُ اللَّيْلِ وَحَفَظَةُ النَّهَارِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ يَتَعَاقَبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ» . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ يَشْهَدُهُ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُصَلِّينَ فِي الْعَادَةِ. وَقِيلَ: مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَشْهَدَهُ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ حَثًّا عَلَى طُولِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ لِكَوْنِهَا مَكْثُورًا عَلَيْهَا لِيَسْمَعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ فَيَكْثُرُ الثَّوَابُ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَجْرُ أَطْوَلَ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً انْتَهَى. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ حَثًّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَعَلَيْكَ قُرْآنَ الْفَجْرِ أَوْ وَالْزَمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ: مَشْهُوداً يَشْهَدُهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي

الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى يَنْزِلُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ كَلَامٌ فِي قَوْلِهِ مَشْهُوداً عَلَى عَادَتِهِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَا لَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي بَلْ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ مَا فَسَّرَهُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ: «يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ» . وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِلْوَقْتِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ يَدُلَّ أَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ ذَكَرَ مَا اخْتَصَّهُ بِهِ تَعَالَى وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي أُمَّتِهِ تَطَوُّعٌ. فَقَالَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ نافِلَةً زِيَادَةً مَخْصُوصًا بِهَا أَنْتَ وَتَهَجَّدَ هُنَا تَفَعَّلَ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَالتَّرْكِ، كَقَوْلِهِمْ: تَأَثَّمَ وَتَحَنَّثَ تَرَكَ التَّأَثُّمَ وَالتَّحَنُّثَ، وَمِنْهُ تَحَنَّثْتُ بِغَارِ حِرَاءَ أَيْ بِتَرْكِ التَّحَنُّثِ، وَشُرِحَ بِلَازِمِهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ وَمِنَ لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ وَاسْهَرْ مِنَ اللَّيْلِ بِالْقُرْآنِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَقُمْ بَعْدَ نَوْمَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمِنَ لِلتَّبْعِيضِ التَّقْدِيرُ وَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ أَيْ وَقُمْ وَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنَ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ بَعْضَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ وَالتَّهَجُّدُ تَرْكُ الْهُجُودِ لِلصَّلَاةِ انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ وَعَلَيْكَ بَعْضَ اللَّيْلِ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَيَقْرُبُ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ صِنَاعَةَ النَّحْوِ وَالْإِعْرَابِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُغْرَى بِهِ لَا يَكُونُ حَرْفًا، وَتَقْدِيرُ مِنْ بِبَعْضٍ فِيهِ مُسَامَحَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادِفِهِ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ كَانَ مُرَادِفَهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِجْمَاعَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ وَاوَ مَعَ حَرْفٌ وَإِنْ قُدِّرَتْ بِمَعَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الذِّكْرِ، وَلَا تُلْحَظُ الْإِضَافَةُ فِيهِ وَالتَّقْدِيرُ فَتَهَجَّدْ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى وَقْتِ الْمُقَدَّرِ فِي وَقُمْ وَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ انْتَهَى. فَتَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً أَيْ فَتَهَجَّدْ فِيهِ وَانْتُصِبَ نافِلَةً. قَالَ الْحَوْفِيُّ: عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ نَفَّلْنَاكَ نَافِلَةً قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ نافِلَةً بِتَهَجَّدْ إِذَا ذَهَبْتَ بِذَلِكَ إِلَى مَعْنَى صَلِّ بِهِ نَافِلَةً أَيْ صَلِّ نَافِلَةً لَكَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى تَهَجَّدْ أَيْ تَنَفَّلْ نفلا ونافِلَةً هُنَا مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالثَّانِي هُوَ حَالٌ أَيْ صَلَاةُ نَافِلَةٍ انْتَهَى. وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ وَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ لَا عَلَى وَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو: التَّهَجُّدُ بَعْدَ نَوْمَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نافِلَةً زِيَادَةً لَكَ فِي الْفَرْضِ وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرْضًا عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فِي التَّنَفُّلِ وَالْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ

هُوَ وَأُمَّتُهُ كَخِطَابِهِ فِي أَقِمِ الصَّلاةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّمَا هِيَ نَافِلَةٌ لَهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّمَا كَانَتْ نَوَافِلُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ فَضَائِلَ مِنَ الْعَمَلِ وَقُرَبًا أَشْرَفَ مِنْ نَوَافِلِ أُمَّتِهِ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْنِي نَوَافِلَ أُمَّتِهِ إِمَّا أَنْ يُجْبَرَ بِهَا فَرَائِضُهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُحَطَّ بِهَا خَطِيئَاتُهُمْ. وَضَعَّفَ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ. وقال مقاتل فله كَرَامَةٌ وَعَطَاءٌ لَكَ. وَقِيلَ: كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ رُخِّصَ فِي تَرْكِهَا. وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: رَمَقَ صَلَاتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْلَةً فَصَلَّى بِالْوَتْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عشرة ركعة. وعَسى مَدْلُولُهَا فِي الْمَحْبُوبَاتِ التَّرَجِّي. فَقِيلَ: هِيَ عَلَى بَابِهَا فِي التَّرَجِّي تَقْدِيرُهُ لِتَكُنْ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ أَنْ يَبْعَثَكَ. وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى كَيْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرَ مَعْنًى، وَالْأَجْوَدُ أَنَّ أَنْ هَذِهِ التَّرَجِّيَةُ وَالْإِطْمَاعُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: فَتَهَجَّدْ وعَسى هُنَا تَامَّةٌ وفاعلها أَنْ يَبْعَثَكَ، ورَبُّكَ فاعل بيبعثك ومَقاماً الظاهر أنه معمول لِيَبْعَثَكَ هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ لِأَنَّ يَبْعَثَكَ بِمَعْنَى يُقِيمُكَ تَقُولُ أُقِيمَ مِنْ قَبْرِهِ وَبُعِثَ مِنْ قَبْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَقَامٍ مَحْمُودٍ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ ذَا مَقَامٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ فَتَقُومُ مَقاماً وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَسى هُنَا نَاقِصَةً، وَتَقَدَّمَ الْخَبَرُ عَلَى الِاسْمِ فَيَكُونُ رَبُّكَ مرفوعا اسم عَسى وأَنْ يَبْعَثَكَ الْخَبَرُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَا إِلَّا فِي هَذَا الْإِعْرَابِ الْأَخِيرِ. وَأَمَّا فِي قَبْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَقاماً مَنْصُوبٌ بِيَبْعَثَكَ ورَبُّكَ مَرْفُوعٌ بِعَسَى فَيَلْزَمُ الْفَصْلُ بِأَجْنَبِيٍّ بَيْنَ مَا هُوَ موصول وبين مَعْمُولِهِ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَفِي تَفْسِيرِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يَتَدَافَعُهَا الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ وَفِي دُعَائِهِ الْمَشْهُورِ: «وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ» وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ. الثَّانِي: أَنَّهُ فِي أَمْرِ شَفَاعَتِهِ لِأُمَّتِهِ فِي إِخْرَاجِهِ لِمُذْنِبِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْحِسَابِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَدُخُولِ النَّارِ، وَهَذِهِ لَا يَتَدَافَعُهَا الْأَنْبِيَاءُ بَلْ يَشْفَعُونَ وَيَشْفَعُ الْعُلَمَاءُ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ وَفِي آخِرِهِ: «حَتَّى لَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ

حَبَسَهُ الْقُرْآنُ» أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ. قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي» فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ تَخْصِيصُ شَفَاعَتِهِ لِأُمَّتِهِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى الَّتِي يَحْمَدُهُ بِسَبَبِهَا الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لِأُمَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ أَوْ يُقَالُ إِنَّ كُلَّ مَقَامٍ مِنْهُمَا مَحْمُودٌ. الثَّالِثُ: عَنْ حُذَيْفَةَ: يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ فَلَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ فَأَوَّلُ مَدْعُوٍّ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ لَا مَنْجَأَ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ. قَالَ: فَهَذَا قَوْلُهُ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. الرَّابِعُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الْمُقَامُ الَّذِي يَحْمَدُهُ الْقَائِمُ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ رَآهُ وَعَرَفَهُ وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَجْلِبُ الْحَمْدَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَلِذَلِكَ نَكَّرَ مَقاماً مَحْمُوداً فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مَقَامًا مَخْصُوصًا بَلْ كُلُّ مَقَامٍ مَحْمُودٍ صَدَقَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ. الْخَامِسُ: مَا قَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهَا مُجَاهِدٌ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ أَنْ يُجْلِسَهُ اللَّهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يُحَدِّثُونَ بِهَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعْنِي مَنْ أَنْكَرَ جَوَازَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو وَمُجَاهِدٌ: إِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ فَإِنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ مَهْجُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالثَّانِي فِي تَأْوِيلِ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» قَالَ: تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ لَيْسَ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ قَوْلُهُ مَعَهُ عَلَى رَفْعِ مَحَلِّهِ وَتَشْرِيفِهِ عَلَى خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» وَقَوْلِهِ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً «3» وإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «4» كُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْمَكَانَةِ لَا عَنِ الْمَكَانِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلٌ رَذْلٌ مُوحِشٌ فَظِيعٌ لَا يَصِحُّ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَصُّ الْكِتَابِ يُنَادِي بِفَسَادِهِ مِنْ وجوه.

_ (1) سورة القيامة: 75/ 22. (2) سورة الأعراف: 7/ 206. (3) سورة التحريم: 66/ 11. (4) سورة العنكبوت: 29/ 69. [.....]

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَعْثَ ضِدَّ الْإِجْلَاسِ بَعَثْتُ التَّارِكَ وَبَعَثَ اللَّهُ الْمَيِّتَ أَقَامَهُ مِنْ قبره، فتفسيره الْبَعْثِ بِالْإِجْلَاسِ تَفْسِيرُ الضِّدِّ بِالضِّدِّ. الثَّانِي: لَوْ كَانَ جَالِسًا تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا فَكَانَ يَكُونُ مُحْدَثًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ مَقاماً وَلَمْ يَقُلْ مَقْعَدًا مَحْمُوداً، وَالْمَقَامُ مَوْضِعُ الْقِيَامِ لَا مَوْضِعُ الْقُعُودِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَمْقَى وَالْجُهَّالَ يَقُولُونَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَجْلِسُونَ كُلُّهُمْ مَعَهُ تَعَالَى وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ بِإِجْلَاسِهِ مَعَهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ بَعَثَ السُّلْطَانُ فُلَانًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَجْلَسَهُ مَعَ نَفْسِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّهَجُّدِ وَوَعَدَهُ بَعْثَهُ مَقاماً مَحْمُوداً وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِمَا يَشْمَلُ أُمُورَهُ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ، فَقَالَ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ وَمَصَادِرِهِ دُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةً، وَالصِّدْقُ هُنَا لَفْظٌ يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَذَامِّ وَاسْتِيعَابَ الْمَدْحِ كَمَا تَقُولُ: رَجُلُ صِدْقٍ إِذْ هُوَ مُقَابِلُ رَجُلِ سُوءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِدْخَالٌ خَاصٌّ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ، وَإِخْرَاجٌ خَاصٌّ وَهُوَ مِنْ مَكَّةَ. فَيَكُونُ الْمُقَدَّمُ فِي الذِّكْرِ هُوَ الْمُؤَخَّرُ فِي الْوُقُوعِ، وَمَكَانُ الْوَاوِ هو الأهم فبدىء بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: مَا مَعْنَاهُ إِدْخَالُهُ فِيمَا حَمَلَهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَأَدَاءِ الشَّرْعِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْهُ مُؤَدِّيًا لِمَا كُلِّفَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَدْخِلْنِي الْقَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ إِدْخَالًا مَرْضِيًّا عَلَى طَهَارَةٍ وَطِيبٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَأَخْرِجْنِي مِنْهُ عِنْدَ الْبَعْثِ إِخْرَاجًا مَرْضِيًّا مُلْقًى بِالْكَرَامَةِ آمِنًا مِنَ السُّخْطِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ عَلَى ذِكْرِ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: إِدْخَالُهُ مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهَا بِالْفَتْحِ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْهَا آمِنًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِدْخَالُهُ الْغَارَ وَإِخْرَاجُهُ مِنْهُ سَالِمًا. وَقِيلَ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَالْإِدْخَالُ مَكَّةَ بِالْفَتْحِ. وَقِيلَ: الْإِدْخَالُ فِي الصَّلَاةِ وَالْإِخْرَاجُ مِنْهَا. وَقِيلَ: الْإِدْخَالُ فِي الْجَنَّةِ وَالْإِخْرَاجُ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: الْإِدْخَالُ فِيمَا أمر به الإخراج مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: أَدْخِلْنِي فِي بِحَارِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَأَخْرِجْنِي مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالدَّلِيلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ وَالتَّأَمُّلِ فِي آثَارِ مُحْدَثَاتِهِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ: حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ وَقَدْ قَالَ

الْمُنَافِقُونَ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «1» يَعْنِي إِدْخَالَ عِزٍّ وَإِخْرَاجَ نَصْرٍ إِلَى مَكَّةَ، وَالْأَحْسَنُ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا التَّعْيِينِ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَوَارِدِ وَالْمَصَادِرِ. وَقَرَأَ الجمهور: مُدْخَلَ ومُخْرَجَ بِضَمِّ مِيمِهِمَا وَهُوَ جَارٍ قِيَاسًا عَلَى أَفْعَلَ مَصْدَرٌ، نَحْوَ أَكْرَمْتُهُ مَكْرَمًا أَيْ إِكْرَامًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيْدٌ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِهِمَا. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُمَا مَصْدَرَانِ مَنْ دَخَلَ وَخَرَجَ لَكِنَّهُ جَاءَ مِنْ مَعْنَى أَدْخِلْنِي وَأَخْرِجْنِي الْمُتَقَدِّمَيْنِ دُونَ لَفْظِهِمَا وَمِثْلُهُمَا أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «2» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا اسْمَ الْمَكَانِ وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الظَّرْفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْصُوبَانِ مَصْدَرَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَدْخِلْنِي فَأَدْخُلُ مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي فَأَخْرُجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. وَالسُّلْطَانُ هُنَا قَالَ الْحَسَنُ: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِالسَّيْفِ، وَعَلَى الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُلْكًا عَزِيزًا تَنْصُرُنِي بِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ نَاوَأَنِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ. وَقِيلَ: كِتَابًا يَحْوِي الْحُدُودَ وَالْأَحْكَامَ. وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَقِيلَ: فِي كُلِّ عَصْرٍ سُلْطاناً ينصر دينك ونَصِيراً مُبَالَغَةً فِي نَاصِرٍ. وَقِيلَ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَنْصُورًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِقَوْلِهِ سُلْطاناً نَصِيراً وَرُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ ذَلِكَ وَأَنْجَزَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَتَمَّمَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ. قال قتادة: والْحَقُّ القرآن والْباطِلُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الجهاد والْباطِلُ الشِّرْكُ. وَقِيلَ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: جَاءَتْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَذَهَبَتْ عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَشْهِدُ بِهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقْتَ طَعْنِهِ الْأَصْنَامَ وَسُقُوطِهَا لِطَعْنِهِ إِيَّاهَا بِمِخْصَرَةٍ حَسْبَمَا ذُكِرَ فِي السير. وزَهُوقاً صِفَةُ مُبَالَغَةٍ فِي اضْمِحْلَالِهِ وعلم ثُبُوتِهِ فِي وَقْتٍ مَا. ومِنَ فِي مِنَ الْقُرْآنِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ لِلتَّبْعِيضِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ: وَأَنْكَرَ ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ أَنَّ بَعْضَهُ لَا شِفَاءَ فِيهِ وَرُدَّ هَذَا الْإِنْكَارُ لِأَنَّ إِنْزَالَهُ إِنَّمَا هُوَ مُبَعَّضٌ. وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُبْهَمِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ. وَقَرَأَ الجمهور: ونُنَزِّلُ بِالنُّونِ وَمُجَاهِدٌ بِالْيَاءِ خَفِيفَةً وَرَوَاهَا الْمَرْوَزِيُّ عَنْ حَفْصٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: شفاء ورحمة بنصبهما

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 8. (2) سورة نوح: 71/ 17.

وَيَتَخَرَّجُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنَ الْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «1» بِنَصْبِ مَطْوِيَّاتٍ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: رَهْطُ ابن كوز محقي أَدْرَاعِهِمْ ... فِيهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بْنِ حِذَارِ وَتَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ مِنَ الظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ الْأَخْفَشِ، وَمَنْ مَنَعَ جَعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي وَشِفَاؤُهُ كَوْنُهُ مُزِيلًا لِلرَّيْبِ كَاشِفًا عَنْ غِطَاءِ الْقَلْبِ بِفَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ الْمُقَرِّرَةِ لِدِينِهِ، فَصَارَ لِعِلَّاتِ الْقُلُوبِ كَالشِّفَاءِ لِعِلَّاتِ الْأَجْسَامِ. وَقِيلَ: شِفَاءٌ بِالرُّقَى وَالْعَوْذِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الَّذِي رَقِيَ بِالْفَاتِحَةِ مِنْ لَسْعَةِ الْعَقْرَبِ. وَاخْتَلَفُوا فِي النُّشْرَةِ وَهُوَ أَنْ يُكْتَبَ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يُمْسَحُ بِهِ الْمَرِيضُ أَوْ يُسْقَاهُ، فَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَلَمْ يَرَهُ مُجَاهِدٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَتْ تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ تَأْمُرُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِنِيُّ: النُّشْرَةُ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّعْزِيمِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تنشر عن صاحبها أَيْ تَحُلُّ، وَمَنَعَهَا الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ: «هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» . وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ، وَالنُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ فِي غُسَالَةِ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَعْنَاقِ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ بِهَا إِذَا لَمْ يُرِدُ مُعَلِّقُهَا بِذَلِكَ مُدَافَعَةَ الْعَيْنِ، وَهَذَا مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَيْنِ أَمَّا بَعْدُ نُزُولِ الْبَلَاءِ فَيَجُوزُ رَجَاءَ الْفَرَجِ وَالْبُرْءِ وَالْمَرَضُ كَالرُّقَى الْمُبَاحَةِ الَّتِي وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا مِنَ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْعُوذَةِ فِي قَصَبَةٍ أَوْ رُقْعَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَيَضَعُهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ الْغَائِطِ، وَرَخَّصَ الْبَاقِرُ فِي الْعُوذَةِ تُعَلَّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالشَّيْءِ مِنَ الْقُرْآنِ يُعَلِّقُهُ الْإِنْسَانُ. وَخَسَارُ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يَضَعُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ هُوَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ إِيمَانًا. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي

_ (1) سورة الزمر: 39/ 67.

وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَنْوِيعَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ شِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِ وَبِزِيَادَةِ خسار للظالم، عرّض بِمَا أَنْعَمَ بِهِ وَمَا حَوَاهُ مِنْ لَطَائِفِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَبَعُدَ بِجَانِبِهِ اشْمِئْزَازًا لَهُ وَتَكَبُّرًا عَنْ قُرْبِ سَمَاعِهِ وَتَبْدِيلًا مَكَانَ شُكْرِ الْإِنْعَامِ كُفْرَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنَأى مِنَ النَّأْيِ وَهُوَ الْبُعْدُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَاءٍ. وَقِيلَ هُوَ مَقْلُوبٌ نَأَى فَمَعْنَاهُ بَعُدَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَهَضَ بِجَانِبِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا مَا الْتَأَمَتْ مَفَاصِلُهُ ... وَنَاءَ فِي شِقِّ الشِّمَالِ كَاهِلُهُ أَيْ نَهَضَ مُتَوَكِّئًا عَلَى شماله. ومعنى يَؤُساً قَنُوطًا مِنْ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ هُنَا لَيْسَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ كَقَوْلِهِ إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «1» إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً «2» الْآيَةَ وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْكَافِرِ، وَالْإِعْرَاضُ يَكُونُ بِالْوَجْهِ وَالنَّأْيُ بِالْجَانِبِ يَكُونُ بِتَوْلِيَةِ الْعِطْفِ أَوْ يُرَادُ بِنَأْيِ الْجَانِبِ الِاسْتِكْبَارُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ. وَالشَّاكِلَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَاحِيَتُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَبِيعَتُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: حِدَّتُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: نِيَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دِينُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَلْقُهُ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى مَذْهَبِ الَّذِي يُشَاكِلُ حَالَهُ فِي الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ طَرِيقٌ ذُو شَوَاكِلَ وَهِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تَشَعَّبَتْ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أَيْ أَشَدُّ مَذْهَبًا وَطَرِيقَةً. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَمْ أَرَ فِي الْقُرْآنِ آيَةً أَرْجَى مِنَ الَّتِي فِيهَا غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ «3» قَدَّمَ الْغُفْرَانَ قَبْلَ قَبُولِ التَّوْبَةِ. وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ أر آية أرجى من نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «4» . وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «5» الْآيَةَ. قَالُوا ذَلِكَ حِينَ تَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ. وَعَنِ الْقُرْطُبِيِّ: لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «6» الآية.

_ (1) سورة العاديات: 100/ 6. (2) سورة المعارج: 70/ 19. (3) سورة غافر: 40/ 3. (4) سورة الحجر: 15/ 49. (5) سورة الزمر: 39/ 53. (6) سورة الأنعام: 6/ 82.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَرْوَاحُ وَالنُّفُوسُ مُخْتَلِفَةٌ بِمَاهِيَّتِهَا فَبَعْضُهَا مُشْرِقَةٌ صَافِيَةٌ يَظْهَرُ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ ظَلْمَانِيَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ ضَلَالٌ وَنَكَالٌ انْتَهَى. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ بالمدينة وهو متكىء عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِنَا نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ فَسَيُفْتِيكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ مَاجَ فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي عَلَى جَبْهَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ فأنزل عليه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ يَهُودَ قَالُوا لِقُرَيْشٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ فِتْيَةٍ فُقِدُوا فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ، وَعَنْ رَجُلٍ بَلَغَ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا فَإِنْ أَجَابَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ لَمْ يُجِبْ فِي شَيْءٍ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَإِنْ أَجَابَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَسَكَتَ عَنْ بَعْضٍ فَهُوَ نبي. وفي طُرُقِ هَذَا: إِنْ فَسَّرَ الثَّلَاثَةَ فَهُوَ كَذَّابٌ وَإِنْ سَكَتَ عَنِ الرُّوحِ فَهُوَ نَبِيٌّ فَنَزَلَ فِي شَأْنِ الْفِتْيَةِ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ «1» وَنَزَلَ فِي شَأْنِ الَّذِي بَلَغَ الشَّرْقَ والغرب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «2» وَنَزَلَ في الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَمِنْ سُؤَالِ قُرَيْشٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالرُّوحُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ هُنَا الرُّوحُ الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قال وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهُ. وَقِيلَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَلَكٌ ، وَذَكَرَ مِنْ وَصْفِهِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ. وَقِيلَ: الرُّوحُ الْقُرْآنُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَبْلَهُ وَالْآيَةُ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: خَلْقٌ عَظِيمٌ رُوحَانِيٌّ أَعْظَمُ مِنَ الْمَلَكِ. وَقِيلَ: الرُّوحُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ذَكَرَهُ الْعَزِيزِيُّ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ خَلْقٌ كَخَلْقِ آدَمَ وَلَيْسُوا بَنِي آدَمَ لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ، وَلَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَقِيلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مُدَاخَلَتِهَا الْجَسَدَ الْحَيَوَانِيَّ وَانْبِعَاثِهَا فِيهِ وَصُورَةِ مُلَابَسَتِهَا لَهُ، وَكِلَاهُمَا مُشْكِلٌ لَا يَعْلَمُهُ قَبْلُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ كِتَابًا يُتَرْجَمُ بِكِتَابِ النَّفْخَةِ وَالتَّسْوِيَةِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ يَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي إِنَّمَا هُوَ لِلْعَوَامِّ، وَأَمَّا الْخَوَاصُّ فَهُمْ عِنْدَهُ يَعْرِفُونَ الرُّوحَ، وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَةٌ، وَذَهَبَ كَفَرَةُ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَى أَنَّهَا قديمة

_ (1) سورة الكهف: 18/ 9. (2) سورة الكهف: 18/ 38.

وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الرُّوحِ بَلَغَ إِلَى سَبْعِينَ قَوْلًا، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلِ الرُّوحُ النَّفْسُ أَمْ شَيْءٌ غَيْرُهَا، وَمَعْنَى مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيْ فِعْلُ رَبِّي كَوْنُهَا بِأَمْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِهَا وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ وَارِدٌ قَالَ تَعَالَى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ «1» أَيْ فِعْلُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون أمرا واحدا الْأُمُورِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لَهَا أَيْ مِنْ جُمْلَةِ أُمُورِ اللَّهِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا. وَقِيلَ: مِنْ وَحْيِ رَبِّي، وَكَلَامُهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ أن الرُّوحَ هُنَا الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: مِنْ عِلْمِ رَبِّي وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي وَما أُوتِيتُمْ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ الْيَهُودُ بِجُمْلَتِهِمْ. وَقِيلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْلَهُ قُلِ الرُّوحُ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِالْقَوْلِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ إِذْ جَمِيعُ عُلُومِهِمْ مَحْصُورَةٌ وَعِلْمُهُ تَعَالَى لَا يَتَنَاهَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ: وَمَا أُوتُوا بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا عَلَى السَّائِلِينَ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِفَاءً وَرَحْمَةً وَقُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِمَا أَوْحَى وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّا كَمَا نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِنْزَالِهِ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِذْهَابِهِ. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ: هَذَا تَهْدِيدٌ لِغَيْرِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِإِذْهَابِ مَا أُوتُوا لِيَصُدَّهُمْ عَنْ سُؤَالِ مَا لَمْ يُؤْتَوْا كَعِلْمِ الرُّوحِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ. وَرُوِيَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُسْرَى بِهِ فِي لَيْلَةٍ فَيَذْهَبُ بِمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَبِمَا فِي الْقُلُوبِ ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَجْهٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الرُّوحِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَبَلَغَ مِنْهُ الْغَايَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَهْذِيبًا لَهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَيَعِزُّ عَلَيْكَ تَأَخُّرُ الْوَحْيِ فَإِنَّا لَوْ شِئْنَا ذَهَبْنَا بِمَا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جَمِيعِهِ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَابَ قَلْبُهُ وَلَزِمَ الْأَدَبَ انْتَهَى. وَالْبَاءُ فِي لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي لِلتَّعْدِيَةِ كَالْهَمْزَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «2» فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْكَفِيلُ هُنَا قِيلَ مَنْ يَحْفَظُ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. وَقِيلَ كَفِيلًا بِإِعَادَتِهِ إِلَى الصُّدُورِ. وَقِيلَ كَفِيلًا يَضْمَنُ لَكَ أَنْ يُؤْتِيَكَ مَا أُخِذَ مِنْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ شِئْنَا ذَهَبْنَا بِالْقُرْآنِ وَمَحَوْنَاهُ عَنِ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ وَلَمْ نَتْرُكْ لَهُ أَثَرًا وَبَقِيتَ كَمَا كُنْتَ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهَذَا الذَّهَابِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْنَا بِاسْتِرْدَادِهِ وَإِعَادَتِهِ مَحْفُوظًا مَسْطُورًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِلَّا أَنْ

_ (1) سورة هود: 11/ 97. (2) سورة البقرة: 12/ 20.

يَرْحَمَكَ رَبُّكَ فَيَرُدُّهُ عَلَيْكَ كَانَ رَحْمَتُهُ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ أَوْ يَكُونُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِمَعْنَى وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ نَتْرُكُهُ غَيْرَ مَذْهُوبٍ بِهِ، وَهَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِبَقَاءِ الْقُرْآنِ مَحْفُوظًا بَعْدَ الْمِنَّةِ فِي تَنْزِيلِهِ وَتَحْفِيظِهِ انْتَهَى. وَعَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ خَرَّجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تُسْلَبَ الْقُرْآنَ، وَقَالَ فِي زَادِ الْمَسِيرِ الْمَعْنَى لَكِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُكَ فَأَثْبَتُ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تُمْسِكَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ الْأَوَّلُ جَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا جَعَلَ رَحْمَتَهُ تَعَالَى مُنْدَرِجَةً تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَكِيلًا. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ بإنزال وَحْيِهِ عَلَيْهِ وَبَاهِرَ قُدْرَتِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِالْقُرْآنِ، ذَكَرَ مَا مَنَحَهُ تَعَالَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى نَبُّوتِهِ الْبَاقِي بَقَاءَ الدَّهْرِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي عَجَزَ الْعَالَمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ وَالْفَضْلِ الَّذِي أَبْقَى لَهُ ذِكْرًا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَرَفَعَ لَهُ قَدْرًا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ فُصَحَاءُ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ وَبُلَغَاؤُهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فَلَأَنْ يَكُونُوا أَعْجَزَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ جَمِيعِهِ، وَلَوْ تَعَاوَنَ الثَّقَلَانِ عَلَيْهِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ الْجِنُّ تَفْعَلُ أَفْعَالًا مُسْتَغْرَبَةً كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُدْرِجُوا مَعَ الْإِنْسِ فِي التَّعْجِيزِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْعَجْزِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ مُنْدَرِجِينَ تَحْتَ لَفْظِ الْجِنِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْمُ كَقَوْلِهِ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «1» وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالَهُ فِي غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْأَشْكَالِ الْجِنِّيَّةِ الْمُسْتَتِرِينَ عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْجِنَّ هُنَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَوَقَعَ التَّعْجِيزُ لِلثَّقَلَيْنِ معا لذلك.

_ (1) سورة الصافات: 37/ 158. [.....]

وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْنَا بِآيَةٍ غَرِيبَةٍ غَيْرَ هَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّا نَحْنُ نَقْدِرُ عَلَى الْمَجِيءِ بِمِثْلِ هَذَا، فَنَزَلَتْ وَلَا يَأْتُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ فِي لَئِنِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ «1» فَالْجَوَابُ فِي نَحْوِ هَذَا لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ لَا لِلشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مَرْفُوعًا. فَأَمَّا قَوْلُ الْأَعْشَى: لَئِنْ مُنِيتَ بِنَا عَنْ غِبِّ مَعْرَكَةٍ ... لَأَتْلَفْنَا عَنْ دِمَاءِ الْقَوْمِ نَنْتَفِلُ فَاللَّامُ فِي لَئِنِ زَائِدَةٌ وَلَيْسَتْ مُوَطِّئَةً لِقَسَمٍ قَبْلَهَا. فَلِذَلِكَ جَزَمَ فِي قَوْلِهِ لَأَتْلَفْنَا وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا وَنَحْوِهِ الْفَرَّاءُ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْقَسَمُ وَالشَّرْطُ وَتَقَدَّمَ الْقَسَمُ وَلَمْ يَسْبِقْهُمَا ذُو خَبَرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ لِلْقَسَمِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَلِلشَّرْطِ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ يُحَتِّمُ الْجَوَابَ لِلْقَسَمِ خَاصَّةً. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا فَصْلًا حَسَنًا فِي ذِكْرِ الْإِعْجَازِ نَقَلْنَاهُ بِقِصَّتِهِ. قَالَ: وَفَهِمَتِ الْعَرَبُ بِخُلُوصِ فَهْمِهَا فِي مَيْزِ الْكَلَامِ وَدِرْيَتِهَا بِهِ مَا لَا نَفْهَمُهُ نَحْنُ وَلَا كُلُّ مَنْ خَالَطَتْهُ حَضَارَةٌ، فَفَهِمُوا الْعَجْزَ عَنْهُ ضَرُورَةً وَشَاهَدَهُ وَعَلِمَهُ النَّاسُ بَعْدَهُمُ اسْتِدْلَالًا وَنَظَرًا وَلِكُلٍّ حَصَلَ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ لَكِنْ لَيْسَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا كَمَا عَلِمَتِ الصَّحَابَةُ شَرْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْمَالَهُ وَمَشَاهِدَهُ عِلْمَ ضَرُورَةٍ، وَعَلِمْنَا نَحْنُ الْمُتَوَاتِرَ مِنْ ذَلِكَ بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ فَحَصَلَ لِلْجَمِيعِ الْقَطْعُ لَكِنْ فِي مَرْتَبَتَيْنِ، وَفَهِمَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ الَّذِينَ لَهُمْ غَرَائِبُ فِي مَيْزِ الْكَلَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى فَهْمِ الْفَرَزْدَقِ شِعْرَ جَرِيرٍ وَذِي الرُّمَّةِ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: عَلَامَ تَلْفِتِينَ وَأَنْتِ تَحْتِي وَفِي قَوْلِ جَرِيرٍ: تَلْفِتُ إِنَّهَا تَحْتَ ابْنِ قَيْنٍ وَأَلَا تَرَى قَوْلَ الْأَعْرَابِيِّ: عَزَّ فَحَكَمَ فَقَطَعَ، وَأَلَا تَرَى إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْآخَرِ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ «2» فَقَالَ: إِنَّ الزِّيَارَةَ تَقْتَضِي الِانْصِرَافَ، وَمِنْهُ عَلِمَ بَشَّارٌ بِقَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى: وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كان الذي نكرت

_ (1) سورة الحشر: 59/ 12. (2) سورة التكاثر: 102/ 2.

وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ لِلْأَصْمَعِيِّ: مَنْ أَحْوَجَ الْكَرِيمَ أَنْ يُقْسِمَ فَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْأَفْهَامِ أَقَرُّوا بِالْعَجْزِ، وَلَجَأَ النِّجَادُ مِنْهُمْ إِلَى السَّيْفِ وَرَضِيَ بِالْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَكَشْفِ الْحُرُمِ. وَهُوَ كَانَ يَجِدُ الْمَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمُعَارَضَةِ انْتَهَى. مَا اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلَهُ وَالْعَجْزُ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي النَّظْمِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ الْإِحَاطَةُ الَّتِي لَا يَتَّصِفُ بِهَا إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالْبَشَرُ مُقَصِّرٌ ضَرُورَةً بِالْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ وَأَنْوَاعِ النَّقْصِ، فَإِذَا نَظَمَ كَلِمَةً خَفِيَ عَنْهُ الْعِلَلُ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَأْتُونَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَلَوْلَا اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لَجَازَ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ. كَقَوْلِهِ: يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَقَعَ مَاضِيًا انْتَهَى. يَعْنِي بِالشَّرْطِ قَوْلَهُ وَهُوَ صَدْرُ الْبَيْتِ: وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ فَأَتَاهُ فِعْلٌ مَاضٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ فَخَلَّصَتْهُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَأَفْهَمَ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ وَإِنْ أَتَاهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَلِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرِّدِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا وَبَعْدَهُ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمُضَارِعَ هُوَ عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ والمبرد أنه هو الْجَوَابُ لَكِنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ، وَمَذْهَبٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْعَجَبُ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُعْجِزُ حَيْثُ تَكُونُ الْقُدْرَةُ فَيُقَالُ: اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَالْعِبَادِ عَاجِزُونَ عَنْهُ، وَالْمُحَالُ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِيهِ كَثَانِي الْقَدِيمِ فَلَا يُقَالُ لِلْفَاعِلِ قَدْ عَجَزَ عَنْهُ وَلَا هُوَ مُعْجِزٌ، وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَجَازَ وَصْفُ اللَّهِ بِالْعَجْزِ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُحَالِ إِلَّا أَنْ يُكَابِرُوا فَيَقُولُوا: هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمُحَالِ فَإِنَّ رَأْسَ مَالِهِمُ الْمُكَابَرَةُ وَقَلْبُ الْحَقَائِقِ انْتَهَى. وَتَكَرَّرَ لَفْظُ مِثْلِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ

وَالتَّوْضِيحِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ إِذْ قَدْ يُرَادُ بِمِثْلِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ، فَبَيَّنَ بِتَكْرَارِ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ لَا يَأْتُونَ بِهِ رَفْعًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْمِثْلِ لَا أَنْ يَأْتُوا بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَجْزَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ نَبَّهَ عَلَى فَضْلِهِ تَعَالَى بِمَا رَدَّدَ فِيهِ وَضَرَبَ مِنَ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى، وَمَعَ كَثْرَةِ مَا رَدَّدَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ وَأَسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا كَافِرِينَ بِهِ وَبِنِعَمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صَرَّفْنا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْحَسَنُ بِتَخْفِيفِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ صَرَّفْنا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الْبَيِّنَاتُ وَالْعِبَرُ ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مؤكدة زائدة التقدير وَلَقَدْ صَرَّفْنا كُلِّ مَثَلٍ انْتَهَى. يَعْنِي فَيَكُونُ مَفْعُولُ صَرَّفْنا كُلِّ مَثَلٍ وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ لَا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ هُوَ الْقَوْلُ الْغَرِيبُ السَّائِرُ فِي الْآفَاقِ، وَالْقُرْآنُ مَلْآنُ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنْ كُلِّ مَعْنًى هُوَ كَالْمَثَلِ فِي غَرَابَتِهِ وَحُسْنِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي بِهِ بِالْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالتَّحَدِّي بِكُلِّ الْقُرْآنِ كَالَّذِي هُنَا، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَبِكَلَامٍ مِنْ سُورَةٍ كَقَوْلِهِ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ «1» وَمَعَ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ أَبَوْا إِلَّا كُفُوراً انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَأَنْبَاءِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَكْثَرِ النَّاسِ. قِيلَ: مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ مَا أَتَى بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي دُخُولِ إِلَّا بَعْدَ أَبَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَرُوِيَ فِي مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ أَخْبَارٌ مُطَوَّلَةٌ هِيَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ مُلَخَّصُهَا أَنَّ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا وَسَيَّرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِمْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ مُحَاوَرَاتٌ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ وَطَلَبِهِ مِنْهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا وَيَعْبُدُوا اللَّهَ فَأَرْغَبُوهُ بِالْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالْمُلْكِ فَأَبَى، فَقَالَ: «لَسْتُ أَطْلُبُ ذَلِكَ» . فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ السِّتَّ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ هُنَا، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِأَنَّ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ فَتَبَيَّنَ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِعْجَازُهُ، وَانْضَمَّتْ إِلَيْهِ مُعْجِزَاتٌ أُخَرُ وَبَيِّنَاتٌ وَاضِحَةٌ فَلَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَغُلِبُوا أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ بِاقْتِرَاحِ آيَاتِ فِعْلِ الْحَائِرِ الْمَبْهُوتِ الْمَحْجُوجِ، فَقَالُوا مَا حكاه الله عنهم.

_ (1) سورة الطور: 52/ 34.

وقرأ الكوفيون: تفجره مِنْ فَجَرَ مُخَفَّفًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مِنْ فَجَّرَ مُشَدَّدًا، وَالتَّضْعِيفُ لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْأَعْمَشُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ مِنْ أَفْجَرَ رُبَاعِيًّا وَهِيَ لُغَةٌ فِي فَجَّرَ الْأَرْضُ هُنَا أَرْضُ مَكَّةَ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا تَصَرُّفُ الْعَالَمِينَ وَمَعَاشُهُمْ، رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: أَزِلْ جِبَالَ مَكَّةَ وَفَجِّرْ لَنَا يَنْبُوعاً حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْنَا الْحَرْثُ والزرع وأحي لَنَا قُصَيًّا فَإِنَّهُ كَانَ صَدُوقًا يُخْبِرُنَا عَنْ صِدْقِكَ اقْتَرَحُوا لَهُمْ أَوَّلًا هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ اقْتَرَحُوا أُخْرَى له عليه السلام أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ وَهُمَا كَانَا الْغَالِبَ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَقْتَنُونَ، وَمَعْنَى خِلالَها أَيْ وَسَطَ تِلْكَ الْجَنَّةِ وَأَثْنَاءَهَا. فَتَسْقِي ذَلِكَ النَّخْلَ وَتِلْكَ الْكُرُومَ وَانْتَصَبَ خِلالَها عَلَى الظَّرْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُسْقِطَ بِتَاءِ الْخِطَابِ مُضَارِعُ أَسْقَطَ السَّمَاءَ نَصْبًا، وَمُجَاهِدٌ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ مُضَارِعُ سَقَطَ السَّمَاءُ رَفْعًا، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كِسَفاً بِسُكُونِ السِّينِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِهَا. وَقَوْلُهُمْ كَما زَعَمْتَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «1» . وَقِيلَ: كَما زَعَمْتَ إِنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قوله أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً «2» . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ قَبِيلًا مُعَايَنَةً كَقَوْلِهِ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا «3» . وَقَالَ غَيْرُهُ: قَبِيلًا كَفِيلًا مِنْ تقبله بكذا إذا كَفَلَهُ، وَالْقَبِيلُ وَالزَّعِيمُ وَالْكَفِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَبِيلًا كَفِيلًا بِمَا تَقُولُ شَاهِدًا لِصِحَّتِهِ، وَالْمَعْنَى أَوْ تَأْتِي بِاللَّهِ قَبِيلًا وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا كَقَوْلِهِ: كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِّيًّا ... وَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أَيْ مُقَابِلًا كَالْعَشِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ وَنَحْوَهُ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا أَوْ جَمَاعَةً حَالًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الأعرج قبلا م الْمُقَابَلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ زُخْرُفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَا تُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا قِرَاءَةٌ لِمُخَالَفَةِ السَّوَادِ وَإِنَّمَا هِيَ تَفْسِيرٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنَّا لَا نَدْرِي مَا الزُّخْرُفُ حَتَّى رَأَيْتُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ ذَهَبٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزُّخْرُفُ الزِّينَةُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الزُّخْرُفِ. وَفِي السَّماءِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فِي مَعَارِجِ السَّمَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّماءِ هُنَا هِيَ الْمُظِلَّةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَى مَكَانٍ عَالٍ وَكُلُّ مَا عَلَا وَارْتَفَعَ يُسَمَّى سَمَاءً وَقَالَ الشاعر:

_ (1) سورة سبأ: 34/ 9. (2) سورة الإسراء: 17/ 68. (3) سورة الفرقان: 25/ 21.

وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ ... وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ قِيلَ: وَقَائِلُ هَذِهِ هُوَ ابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى تَضَعَ عَلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا ثُمَّ تَأْتِي مَعَكَ بِصَكٍّ مَنْشُورٍ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ أُولَئِكَ الصَّنَادِيدِ قَالُوا ذَلِكَ وَغَيَّوْا إِيمَانَهُمْ بِحُصُولِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمُقْتَرَحَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ اقْتَرَحَ وَاحِدًا مِنْهَا وَنُسِبَ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ لِرِضَاهُمْ بِهِ أَوْ تَكُونُ أَوْ فِيهَا لِلتَّفْضِيلِ أَيْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقَالَةً مَخْصُوصَةً مِنْهَا، وَمَا اكْتَفَوْا بِالتَّغْيِيَةِ بِالرُّقِيِّ فِي السَّماءِ حَتَّى غَيُّوا ذَلِكَ بِأَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً يقرؤونه، وَلَمَّا تَضَمَّنَ اقْتِرَاحُهُمْ مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمِنْ أَنْ يُقْتَرَحَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْتُمْ فَقَالَ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أَيْ مَا كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا أَيْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْكُمْ لَا مُقْتَرِحًا عَلَيْهِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ إِلَّا الْعِنَادَ وَاللَّجَاجَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لَقَالُوا هَذَا سِحْرٌ كَمَا قَالَ عِزَّ وَعَلَا وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ «1» وَحِينَ أَنْكَرُوا. الْآيَةَ الْبَاقِيَةَ الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْآيَاتِ، وَلَيْسَتْ بِدُونِ مَا اقْتَرَحُوهُ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ لَمْ يَكُنِ انْتَهَى وَشَقُّ الْقَمَرِ أَعْظَمُ مِنْ شَقِّ الْأَرْضِ ونبع الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ أَعْظَمُ مِنْ نَبَعِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ قَالَ سُبْحانَ رَبِّي عَلَى الْخَبَرِ تَعَجَّبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ اقْتِرَاحَاتِهِمْ عَلَيْهِ، وَنَزَّهَ رَبَّهُ عَمَّا جَوَّزُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِتْيَانِ وَالِانْتِقَالِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً مِثْلَهُمْ رَسُولًا، وَالرُّسُلُ لَا تَأْتِي إِلَّا بِمَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ وَلَيْسَ أَمْرُهَا إِلَيْهِمْ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ. وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً

_ (1) سورة الحجر: 15/ 14.

وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً. الظَّاهِرُ أَنَّ قوله: وَما مَنَعَ النَّاسَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ السَّبَبِ الضَّعِيفِ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ ظَهَرَ لَهُمُ الْمُعْجِزُ وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مَلَكًا، وَبَعْدَ أَنْ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ فَيَجِبُ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِرِسَالَتِهِ فَقَوْلُهُمْ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ قَوْلَهُ وَما مَنَعَ النَّاسَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّلَهُّفِ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَأَنَّهُ يَقُولُ مُتَعَجِّبًا مِنْهُمْ مَا شاء الله كان ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا هَذِهِ الْعِلَّةُ النَّزِرَةُ وَالِاسْتِبْعَادُ الَّذِي لَا يُسْنَدُ إِلَى حُجَّةٍ، وَبَعْثَةُ الْبَشَرِ رُسُلًا غَيْرُ بِدْعٍ وَلَا غَرِيبَ فِيهَا يَقَعُ الْإِفْهَامُ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ النَّظَرِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَسْكُنُونَهَا مُطْمَئِنِّينَ لَكَانَ الرَّسُولُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَقَعَ الْإِفْهَامُ، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَوْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مَلَكٌ لَنَفَرَتْ طَبَائِعُهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَلَمْ تَحْتَمِلْهُ أَبْصَارُهُمْ وَلَا تَجَلَّدَتْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَإِنَّمَا اللَّهُ أَجْرَى أَحْوَالَهُمْ عَلَى مُعْتَادِهَا انتهى. وأَنْ يُؤْمِنُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وأَنْ قالُوا: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وإِذْ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ مَنَعَ والناس كَفَّارُ قُرَيْشٍ الْقَائِلُونَ تِلْكَ المقالات السابقة والْهُدى هُوَ الْقُرْآنُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ بَلْ قَوْلُهُمُ النَّاشِئُ عَنِ اعْتِقَادٍ وَالْهَمْزَةُ فِي أَبَعَثَ للإنكار ورَسُولًا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَعْتٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مَفْعُولَ بعث، وبَشَراً حَالٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ أَيْ أَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا فِي حَالِ كَوْنِهِ بَشَراً، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ مَلَكاً رَسُولًا أَيْ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ رَسُولًا فِي حَالِ كَوْنِهِ مَلَكاً. وَقَوْلُهُ يَمْشُونَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِالْمَشْيِ وَلَيْسَ لَهُمْ صُعُودٌ إِلَى السَّمَاءِ فَيَسْمَعُوا مِنْ أَهْلِهَا وَيَعْلَمُونَ مَا يَجِبُ عِلْمُهُ، بَلْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الْأَرْضِ يَلْزَمُهُمْ مَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ عِبَادَاتٍ مَخْصُوصَةٍ وَأَحْكَامٍ لَا يُدْرَكُ تَفْصِيلُهَا بِالْعَقْلِ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ وَيُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا دَعَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَحَدَّى عَلَى صِدْقِ نَبُّوتِهِ بِالْمُعْجِزِ الْمُوَافِقِ لداعوه، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الشَّهِيدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَمَا قَامَ بِهِ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَعَدَمِ قَبُولِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ، وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ

تَهْدِيدٌ وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بِخَفِيَّاتِ أَسْرَارِهِمْ بَصِيراً مُطْلَقًا عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ قُلْ لِقَوْلِهِ وَنَحْشُرُهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا لِمَجِيءِ وَمَنْ بِالْوَاوِ، وَيَكُونُ وَنَحْشُرُهُمْ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْتِفَاتًا إِذْ خَرَجَ مِنْ الْغَيْبَةِ لِلتَّكَلُّمِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ دَعْوَةُ الرَّسُولِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَحَدَّى بِالْمُعْجِزِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ، وَلَجُّوا فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَلَمْ يَجِدْ فِيهِمْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى أَخْبَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ هُوَ الْهَادِي وَهُوَ الْمُفَضِّلُ، فَسَلَّاهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ لَهُمْ وَالْوَعِيدِ الصِّدْقِ لِحَالِهِمْ وَقْتَ حَشْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ وَمَنْ يُوَفِّقْهُ وَيَلْطُفْ بِهِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لِأَنَّهُ لَا يَلْطُفُ إِلَّا بِمَنْ عَرَفَ أَنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ وَمَنْ يُضْلِلْ وَمَنْ يَخْذُلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أَنْصَارًا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَمَنْ مَفْعُولٌ بِيَهْدِ وَبِيُضْلِلْ، وَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي فَأُفْرِدَ مُلَاحَظَةً لِسَبِيلِ الْهُدَى وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَنَاسَبَ التَّوْحِيدُ التَّوْحِيدَ، وَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ لَا عَلَى اللَّفْظِ مُلَاحَظَةً لِسَبِيلِ الضَّلَالِ فَإِنَّهَا مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَنَاسَبَ التَّشْعِيبُ وَالتَّعْدِيدُ الْجَمْعَ، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ وَهِيَ قَلِيلَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلى وُجُوهِهِمْ حَقِيقَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1» الَّذِينَ يُحْشُرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ. وَفِي هَذَا حَدِيثٌ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَمْشِي الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْنِ قَادِرًا أَنْ يُمْشِيَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِهِ» . قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا. وَقِيلَ: عَلى وُجُوهِهِمْ مَجَازٌ يُقَالُ لِلْمُنْصَرِفِ عَنْ أَمْرٍ خَائِبًا مَهْمُومًا انْصَرَفَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيُقَالُ لِلْبَعِيرِ كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مُجَازٌ عَنْ سَحْبِهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ قَدِمَ الْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِذَا أَسْرَعُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا هُوَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَبْصَارَهُمْ وَسَمْعَهُمْ وَنُطْقَهُمْ فَيَرَوْنَ النَّارَ وَيَسْمَعُونَ زَفِيرَهَا وَيَنْطِقُونَ بِمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: هِيَ اسْتِعَارَاتٌ إِمَّا لِأَنَّهُمْ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالذُّهُولِ يُشْبِهُونَ أَصْحَابَ هَذِهِ

_ (1) سورة القمر: 54/ 48.

الصِّفَاتِ، وَإِمَّا مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَ مَا يَسُرُّهُمْ وَلَا يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَبْصِرُونَ وَلَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ وَيَتَصَامُّونَ عَنْ سَمَاعِهِ فَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ لَا يُبْصِرُونَ مَا يَقَرُّ أَعْيُنَهُمْ وَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَلَذُّ أَسْمَاعَهُمْ وَلَا يَنْطِقُونَ بِمَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ قَالَا الْمَعْنَى عُمْياً عَمَّا يَسُرُّهُمْ، بُكْماً عَنِ التَّكَلُّمِ بِحُجَّةٍ صُمًّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. وَقِيلَ: عُمْياً عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ، بُكْماً عَنْ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ، صُمًّا عَمَّا مَدَحَ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، وَانْتَصَبَ عُمْياً وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا نَحْشُرُهُمْ. وَقِيلَ: يَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ حَقِيقَةً عِنْدَ قَوْلِهِ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «1» فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لَهُمْ وَقْتَ الْحَشْرِ. كُلَّما خَبَتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّمَا فَرَغَتْ مِنْ إِحْرَاقِهِمْ فَيَسْكُنُ اللَّهِيبُ الْقَائِمُ عَلَيْهِمْ قَدْرَ مَا يُعَادُونَ ثُمَّ يَثُورُ فَتِلْكَ زِيَادَةُ السَّعِيرِ، فَالزِّيَادَةُ فِي حَيِّزِهِمْ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَعَلَى حَالِهَا مِنَ الشِّدَّةِ لَا يُصِيبُهَا فُتُورٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خَبَتْ مَجَازًا عَنْ سُكُونِ لَهَبِهَا مِقْدَارَ مَا تَكُونُ إِعَادَتُهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ الْإِفْنَاءِ جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُمْ أَنْ سَلَّطَ النَّارَ عَلَى أَجْزَائِهِمْ تَأْكُلُهَا وَتُفْنِيهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا، لَا يَزَالُونَ عَلَى الْإِفْنَاءِ وَالْإِعَادَةِ لِيَزِيدَ ذَلِكَ فِي تَحْسِيرِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الْجَاحِدِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ جَزاؤُهُمْ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَشْرِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَصَيْرُورَتِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وَالْعَذَابِ فِيهَا، وَالْآيَاتُ تَعُمُّ الْقُرْآنَ وَالْحُجَجَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَّ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ إِذْ هُوَ طَعْنٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهَذَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ تعالى منشىء الْعَالَمِ وَمُخْتَرِعُهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ فَصَارَ ذَلِكَ تَعْجِيزًا لِقُدْرَتِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ نَبَّهَهُمْ تَعَالَى عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ قدر أو أقدرة اللَّهِ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بَعْضُ مَا تَحْوِيهِ الْبَشَرُ، فَكَيْفَ يُقِرُّونَ بِخَلْقِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ ثُمَّ يُنْكِرُونَ إِعَادَةَ بعض مما حله وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ بَلْ هُوَ مِمَّا يُجَوِّزُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِوُقُوعِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالرُّؤْيَةُ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 108.

هُنَا رُؤْيَةُ الْقَلْبِ وَهِيَ الْعِلْمُ، وَمَعْنَى مِثْلَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَشَدَّ خَلْقًا مِنْهُنَّ كَمَا قَالَ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «1» وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْشَاءِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُمْ كَمَا قَالَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «2» وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ وَجَعَلَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّقْرِيرَ وَالْمَعْنَى قَدْ عَلِمُوا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَجَعَلَ لَهُمْ أَيْ لِلْعَالَمِينَ ذَلِكَ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقِيَامَةُ، وَلَيْسَ هَذَا الْجَعْلُ وَاحِدًا فِي الِاسْتِفْهَامِ الْمُتَضَمِّنِ التَّقْرِيرَ، أَوْ إِنْ كَانَ الْأَجَلُ الْقِيَامَةَ لِأَنَّهُمْ مُنْكِرُوهَا وَإِذَا كَانَ الْأَجَلُ الْمَوْتَ فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاقِعُ مَوْقِعَ آجَالٍ: فَأَبَى الظَّالِمُونَ وَهُمُ الْوَاضِعُونَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ عَلَى سَبِيلِ الاعتداء إِلَّا كُفُوراً جحودا لِمَا أَتَى بِهِ الصَّادِقُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَبَعْثِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ. قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً. مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. فَطَلَبُوا إِجْرَاءَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي بَلَدِهِمْ لِتَكْثُرَ أَقْوَاتُهُمْ وَتَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا خَزَائِنَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَبَقَوْا عَلَى بُخْلِهِمْ وَشُحِّهِمْ، وَلَمَا قَدِمُوا عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ لِأَحَدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَائِدَةَ فِي إِسْعَافِهِمْ بِمَا طَلَبُوا هَذَا مَا قِيلَ فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَهُ الْعَسْكَرِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَمْنَحْهُ لِأَحَدٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَهُوَ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ يُثَابِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى الْقَبَائِلِ وَأَحْيَاءِ الْعَرَبِ سَمْحًا بِذَلِكَ لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَجْرًا، وَهَؤُلَاءِ أَقْرِبَاؤُهُ لَا يَكَادُ يُجِيبُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ قَدْ لَجُّوا فِي عِنَادِهِ وَبَغْضَائِهِ، فَلَا يَصِلُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا الْأَذَى، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَمَاحَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَذْلِهِ مَا آتَاهُ اللَّهُ، وَعَلَى امْتِنَاعِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَصِلَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ مَلَكُوا التصرف في خَزائِنَ

_ (1) سورة النازعات: 79/ 27. (2) سورة الروم: 30/ 27.

رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كَانُوا أَبْخَلَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا أُوتُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ مِنْهُمْ لِأَحَدٍ شَيْءٌ مِنَ النَّفْعِ إِذْ طَبِيعَتُهُمُ الْإِقْتَارُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ التَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَةِ، هَذَا مَعَ مَا أُوتُوهُ مِنَ الْخَزَائِنِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ مُبَيِّنَةً تُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى نَفْعِهِمْ وَعَدَمِ إِيصَالِ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، وَالْمُسْتَقْرَأُ فِي لَوْ الَّتِي هِيَ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْلُ إِمَّا مَاضِيًا وَإِمَّا مُضَارِعًا. كَقَوْلِهِ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً «1» أَوْ مَنْفِيًّا بِلَمْ أَوْ إِنْ وَهُنَا فِي قَوْلِهِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ وَلِيَهَا الِاسْمُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِهِ، فَذَهَبَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الْفِعْلُ بَعْدَهُ، وَلَمَّا حُذِفَ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَهُوَ تَمْلِكُ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْفَاعِلُ بِتَمْلِكُ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا التَّقْدِيرُ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فَحُذِفَ لَمْ يَحْمِلْ وَانْفَصَلَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَحْمِلُ فَصَارَ هُوَ، وَهُنَا انْفَصَلَ الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ الْبَارِزُ وَهُوَ الْوَاوُ فَصَارَ أَنْتُمْ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَوْ يَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا وَمُضْمَرًا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: لَا تَلِي لو إلّا الفعل ظاهر أو لَا يَلِيهَا مُضْمَرًا إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ أَوْ نَادِرِ كَلَامٍ مِثْلَ: مَا جَاءَ فِي الْمَثَلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لو ذات سوار لطمتني وَقَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّائِغِ: الْبَصْرِيُّونَ يُصَرِّحُونَ بِامْتِنَاعِ لَوْ زَيْدٌ قَامَ لَأَكْرَمْتُهُ عَلَى الْفَصِيحِ، وَيُجِيزُونَهُ شَاذًّا كَقَوْلِهِمْ: لَوْ ذَاتُ سُوَارٍ لَطَمَتْنِي وَهُوَ عِنْدُهُمْ عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ «2» فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ انْتَهَى. وَخَرَّجَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فَضَالٍ الْمُجَاشَعِيُّ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ فَظَاهَرُ هَذَا التَّخْرِيجِ أَنَّهُ حُذِفَ كُنْتُمْ بِرُمَّتِهِ وَبَقِيَ أَنْتُمْ تَوْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ مَعَ الْفِعْلِ، وَذَهَبَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ الصَّائِغُ إِلَى حَذْفِ كَانَ فَانْفَصَلَ اسْمُهَا الَّذِي كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا، والتقدير قُلْ لَوْ

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 65. (2) سورة التوبة: 9/ 6.

كُنْتُمْ تَمْلِكُونَ فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ انْفَصَلَ الْمَرْفُوعُ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ أَحْسَنُ لِأَنَّ حَذْفَ كَانَ بَعْدَ لَوْ مَعْهُودٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالرَّحْمَةُ هُنَا الرِّزْقُ وَسَائِرُ نِعَمِهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ إِذاً لَأَذَقْناكَ «1» وخَشْيَةَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْفاقِ عَلَى مَشْهُورِ مَدْلُولِهِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ خَشْيَةَ عَاقِبَةِ الْإِنْفاقِ وَهُوَ النَّفَادُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنْفَقَ وَأَمْلَقَ وَأَعْدَمَ وَأَصْرَمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى خَشْيَةَ الِافْتِقَارِ. والقتور الممسك البخيل والْإِنْسانُ هُنَا لِلْجِنْسِ. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قُرَيْشٍ مَا حَكَى مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي اقْتِرَاحِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّاهُ تَعَالَى بِمَا جَرَى لِمُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَعَ قَوْمِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «2» إِذْ قَالَتْ قُرَيْشٌ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ «3» وَقَالَتْ أَوْ نَرى رَبَّنا «4» وَسَكَّنَ قَلَبَهُ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ لِلدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ كما جرى لفرعون إِذْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ وَمَنْ معه. وتِسْعَ آياتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: هِيَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَالْعَصَا، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ هَذِهِ سَبْعٌ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لسانه كان به عقد فَحَلَّهَا اللَّهُ، وَالْبَحْرُ الَّذِي فُلِقَ لَهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا الْبَحْرُ وَالْجَبَلُ الَّذِي نُتِقَ عَلَيْهِمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا السُّنُونَ وَنَقْصٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَقَالَهُ مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة. وَقَالَ الْحَسَنُ: السُّنُونَ وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَنِ الحسن ووهب الْبَحْرُ وَالْمَوْتُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ الْحَجَرُ وَالْبَحْرُ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: الْبَحْرُ وَالسُّنُونَ. وَقِيلَ: تِسْعَ آياتٍ هِيَ مِنَ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنْ يَهُودِيًّا قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ حَتَّى نَسْأَلَ هَذَا النَّبِيَّ فَقَالَ الْآخَرُ لَا تَقُلْ إِنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَ كَلَامَكَ صَارَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَاهُ وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَقَالَ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْخَرُوا، وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَاتِ، وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةَ يَهُودُ أَنْ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ، قَالَ: فَقَبَّلَا يَدَهُ وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُسْلِمَا؟ قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا تَقْتُلُنَا الْيَهُودُ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَسَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مُعَاصِرُوهُ، وَفَسَلْ مَعْمُولٌ لقول

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 75. [.....] (2) سورة النساء: 4/ 153. (3) سورة الإسراء: 17/ 92. (4) سورة الفرقان: 25/ 21.

مَحْذُوفٍ أَيْ فَقُلْنَا سَلْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَمَّا أَعْلَمَهُ بِهِ مِنْ غَيْبِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ قَالَ: إِذا جاءَهُمْ يُرِيدُ آبَاءَهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ فِي الضَّمِيرِ إِذْ هُمْ مِنْهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَلْهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَعَنْ حَالِ دِينِهِمْ، أَوْ سَلْهُمْ أَنْ يُعَاضِدُوكَ وَتَكُونَ قُلُوبُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ مَعَكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَأَلَ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: فَسَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وأصحابه عَنِ الْآيَاتِ لِتَزْدَادَ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةَ قَلْبٍ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ إِذَا تَظَافَرَتْ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى وَأَثْبَتَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا أَعْلَمَهُ بِهِ مِنْ غَيْبِ الْقِصَّةِ. وَلَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقُ السُّؤَالِ مَحْذُوفًا احْتَمَلَ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّؤَالِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عِبَارَةً عَنْ تَطَلُّبِ أَخْبَارِهِمْ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَا فِي كُتُبِهِمْ. نحو قوله وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا «2» جُعِلَ النَّظَرُ وَالتَّطَلُّبُ مُعَبَّرًا عَنْهُ بِالسُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: سُؤَالُكَ إِيَّاهُمْ نَظَرُكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِذْ مَعْمُولَةٌ لَآتَيْنَا أَيْ آتَيْنا حِينَ جَاءَ أَتَاهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بم نعلق إِذْ جاءَهُمْ؟ قُلْتُ: أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَبِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ أَيْ فَقُلْنَا لَهُ سَلْهُمْ حِينَ جَاءَهُمْ، وَإِمَّا عَلَى الْآخَرِ فَبِآتَيْنَا أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ أَوْ يُخْبِرُونَكَ انْتَهَى. وَلَا يَتَأَتَّى تَعَلُّقُهُ بِاذْكُرْ وَلَا بِيُخْبِرُونَكَ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مَاضٍ. وَقِرَاءَةُ فَسَأَلَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَامٌ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَسَأَلَ مُوسَى فِرْعَوْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ طَلَبَهُمْ لِيُنْجِيَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ انْتَهَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ فَسَلْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَقُلْنَا لَهُ سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ سَلْ فِرْعَوْنَ إِطْلَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فَسَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ اعْتِرَاضٌ فِي الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ إِذْ جَاءَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَسَلْهُمْ وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْ سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَفِيدَ هَذَا الْعِلْمَ مِنْهُمْ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنْ يَظْهَرَ لِعَامَّةِ الْيَهُودِ صِدْقُ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ هَذَا السُّؤَالُ سُؤَالَ اسْتِشْهَادٍ انْتَهَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ فَسَأَلَ مَاضِيًا وَقَدَّرَهُ فَسَأَلَ فِرْعَوْنُ بَنِي إِسْرائِيلَ يَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لَسَأَلَ مَحْذُوفًا، وَالثَّانِي هُوَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِعْمَالِ لِأَنَّهُ تَوَارَدَ عَلَى فِرْعَوْنَ سَأَلَ وَفَقَالَ فَأُعْمِلَ، الثَّانِي عَلَى مَا هُوَ أَرْجَحُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَسْحُوراً اسْمُ مَفْعُولٍ أَيْ قَدْ سَحَرْتَ بِكَلَامِكَ هَذَا مُخْتَلٌّ وما

_ (1) سورة البقرة: 2/ 260. (2) سورة الزخرف: 43/ 45.

يَأْتِي بِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَهَذَا خِطَابٌ بِنَقِيضٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالطَّبَرِيُّ: مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ سَاحِرًا، فَهَذِهِ الْعَجَائِبُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا مِنْ أَمْرِ السِّحْرِ، وَقَالُوا: مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وَمَيْمُونٌ وَإِنَّمَا هُوَ شَائِمٌ وَيَامِنٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَقَدْ عَلِمْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى خِطَابِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ وَتَبْكِيتُهُ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ أَنَّهُ مسحور رأى لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَلَا أَنِّي خُدِعْتُ فِي عَقْلِي، بَلْ عَلِمْتَ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ إِسْنَادِ إِنْزَالِهَا إِلَى لَفْظِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِذْ هُوَ لَمَّا سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ فِي أَوَّلِ مُحَاوَرَتِهِ فَقَالَ لَهُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُنَبِّهُهُ عَلَى نَقْصِهِ وَأَنَّهُ لَا تَصَرُّفَ لَهُ فِي الْوُجُودِ فَدَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ دَعْوَى اسْتِحَالَةٍ، فَبَكَّتَهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ آيَاتِ اللَّهِ وَمَنْ أَنْزَلَهَا وَلَكِنَّهُ مُكَابِرٌ مُعَانِدٌ كَقَوْلِهِ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «1» وَخَاطَبَهُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ أَيْ أَنْتَ بِحَالِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا وَهِيَ مِنَ الْوُضُوحِ بِحَيْثُ تَعْلَمُهَا وَلَيْسَ خِطَابُهُ عَلَى جِهَةِ إِخْبَارِهِ عَنْ عِلْمِهِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْكِسَائِيُّ عَلِمْتُ بِضَمِّ التَّاءِ أَخْبَرَ مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْحُورٍ كَمَا وَصَفَهُ فِرْعَوْنُ، بَلْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ الْآيَاتِ إِلَّا اللَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ قَطُّ وَإِنَّمَا عَلِمَ مُوسَى ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ رَوَاهُ كُلْثُومٌ الْمُرَادِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِالْفَتْحِ عَلَى خِطَابِ فرعون. وما أَنْزَلَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عُلِّقَ عَنْهَا عَلِمْتَ. وَمَعْنَى بَصائِرَ دَلَالَاتٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى الْآيَاتِ التِّسْعِ. وَانْتَصَبَ بَصائِرَ عَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَالْحَوْفِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ، وَقَالَا: حَالٌ مِنْ هؤُلاءِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ لِأَنَّهُمَا يُجِيزَانِ مَا ضَرَبَ هِنْدًا هَذَا إِلَّا زَيْدٌ ضَاحِكَةً. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ أُوِّلَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ التَّقْدِيرُ ضَرَبَهَا ضَاحِكَةً، وَكَذَلِكَ يُقَدِّرُونَ هُنَا أَنْزَلَهَا بَصائِرَ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلَ مَا قَبْلَ إِلَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ أَوْ تَابِعًا لَهُ. وَقَابَلَ مُوسَى ظَنَّهُ بِظَنِّ فِرْعَوْنَ فَقَالَ: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الظَّنَّيْنِ ظَنُّ فِرْعَوْنَ ظَنٌّ بَاطِلٌ، وَظَنُّ مُوسَى ظَنُّ صِدْقٍ، وَلِذَلِكَ آلَ أَمْرُ فرعون إلى الهلاك

_ (1) سورة النمل: 27/ 14.

كَانَ أَوَّلًا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَقَّعُ مِنْ فِرْعَوْنَ أذى كما قال إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى «1» فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا فَلَمَّا قَالَ لَهُ اللَّهُ: لَا تَخَفْ وَثِقَ بِحِمَايَةِ اللَّهِ، فَصَالَ عَلَى فِرْعَوْنَ صَوْلَةَ الْمَحْمِيِّ. وَقَابَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لِيُقَابِلَهُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَمَثْبُورٌ مُهْلَكٌ في قول الحسن ومجاهد، وَمَلْعُونٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَاقِصُ الْعَقْلِ فِيمَا رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَمَسْحُورٌ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ قَالَ: رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ مَثْبُورٌ مَصْرُوفٌ عَنِ الْخَيْرِ مَطْبُوعٌ عَلَى قَلْبِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا؟ أَيْ مَا مَنَعَكَ وَصَرَفَكَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَإِنْ أَخَالُكَ يَا فِرْعَوْنُ لَمَثْبُورًا وَهِيَ إِنِ الْخَفِيفَةُ، وَاللَّامُ الْفَارِقَةُ وَاسْتِفْزَازُهُ إِيَّاهُمْ هُوَ اسْتِخْفَافُهُ لِمُوسَى وَلِقَوْمِهِ بِأَنْ يَقْلَعَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقَتْلٍ أَوْ جَلَاءٍ، فَحَاقَ بِهِ مَكْرُهُ وَأَغْرَقَهُ اللَّهُ وَقِبْطَهُ أَرَادَ أَنْ تَخْلُوَ أَرْضُ مِصْرَ مِنْهُمْ فَأَخْلَاهَا اللَّهُ مِنْهُ. وَمِنْ قَوْمِهِ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ أَيْ مِنْ بَعْدِ إِغْرَاقِهِ، والْأَرْضَ الْمَأْمُورَ بِسُكْنَاهَا أَرْضَ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَعْدُ الْآخِرَةِ قِيَامُ السَّاعَةِ. وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً. وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ «2» الْآيَةَ وَهَكَذَا طَرِيقَةُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَأُسْلُوبُهَا تَأْخُذُ فِي شَيْءٍ وَتَسْتَطْرِدُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ ثُمَّ إِلَى آخَرَ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَا ذَكَرَتْهُ أَوَّلًا، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنْزَلْناهُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ مُنْزَلًا كَمَا قَالَ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «3» أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْآيَاتِ التِّسْعِ، وَذُكِرَ عَلَى الْمَعْنَى أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أَيْ بِالتَّوْحِيدِ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَيْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: بِالْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَالسَّدَادُ لِلنَّاسِ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَيْ بِالْحَقِّ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأَخْبَارِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ إِلَّا بِالْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِنْزَالِهِ وَمَا نَزَلَ إِلَّا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَمَا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا بِالْحَقِّ

_ (1) سورة طه: 20/ 45. (2) سورة الإسراء: 17/ 88. (3) سورة الحديد: 57/ 22.

مَحْفُوظًا بِالرَّصَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا مَحْفُوظًا بِهِمْ مِنْ تَخْلِيطِ الشَّيَاطِينِ انْتَهَى. وَقَدْ يَكُونُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ تَوْكِيدًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَا كَانَ يُقَالُ أَنْزَلْتُهُ فَنَزَلَ، وَأَنْزَلْتُهُ فَلَمْ يَنْزِلْ إِذَا عَرَضَ لَهُ مَانِعٌ مِنْ نزوله جاء، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ مُزِيلًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ وَمُؤَكِّدًا حَقِيقَةَ، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَإِلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ نَحَا الطَّبَرِيُّ. وَانْتَصَبَ مُبَشِّراً وَنَذِيراً عَلَى الْحَالِ أَيْ مُبَشِّراً لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمُنْذِرًا مِنَ النَّارِ لَيْسَ لَكَ شَيْءٌ مِنْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الدِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرَقْناهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ بَيَّنَّا حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ فَرَّقْنَا فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَحْكَمْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ كَقَوْلِهِ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «1» . وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَمْرُو بن ذر وعكرمة وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ بِشَدِّ الرَّاءِ أَيْ أَنْزَلْناهُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ. وَفَصَّلْنَاهُ فِي النُّجُومِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنِ اخْتَارَ ذَلِكَ: لَمْ يَنْزِلْ فِي يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا شَهْرٍ وَلَا شَهْرَيْنِ وَلَا سَنَةٍ وَلَا سَنَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً، هَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سِنِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَنِ الْحَسَنِ نَزَلَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول مُخْتَلٌّ لَا يَصِحُّ عَنِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ مَعْنَى: فَرَقْناهُ بِالتَّشْدِيدِ فَرَّقْنَا آيَاتِهِ بَيْنَ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَحِكَمٍ وَأَحْكَامٍ، وَمَوَاعِظَ وَأَمْثَالٍ، وَقِصَصٍ وَأَخْبَارٍ مُغَيَّبَاتٍ أَتَتْ وَتَأْتِي. وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ فَرَقْناهُ أَيْ وَفَرَّقَنَا قُرْآناً فَرَقْناهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ وَحَسُنَ النَّصْبُ، وَرَجَّحَهُ عَلَى الرَّفْعِ كَوْنُهُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ وَما أَرْسَلْناكَ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ صِفَةٍ لِقَوْلِهِ وَقُرْآناً حَتَّى يَصِحَّ كَوْنُهُ كَانَ يَجُوزُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ لَا مُسَوِّغَ لَهَا فِي الظَّاهِرِ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ وَقُرْآناً أَيَّ قُرْآنٍ أَيْ عَظِيمًا جَلِيلًا، وَعَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ بَعْدَهُ خَرَّجَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِأَرْسَلْنَاكَ أي ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً كَمَا تَقُولُ رَحْمَةً لِأَنَّ الْقُرْآنَ رَحْمَةٌ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ وَأَكْثَرُ تَكَلُّفًا مِنْهُ قَوْلُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ مِنْ حَيْثُ كَانَ إِرْسَالُ هَذَا وَإِنْزَالُ هَذَا الْمَعْنَى واحد.

_ (1) سورة الدخان: 44/ 4.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ فَرَقْناهُ عَلَيْكَ بِزِيَادَةِ عَلَيْكَ ولِتَقْرَأَهُ مُتَعَلِّقٌ بِفَرَقْنَاهُ، وَالظَّاهِرُ تَعَلَّقَ عَلَى مُكْثٍ بِقَوْلِهِ لِتَقْرَأَهُ وَلَا يُبَالَى بِكَوْنِ الْفِعْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفَا جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ اخْتَلَفَ مَعْنَى الْحَرْفَيْنِ الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَالثَّانِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَمَهِّلًا مُتَرَسِّلًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وابن جُرَيْجٍ: عَلى مُكْثٍ عَلَى تَرَسُّلٍ فِي التِّلَاوَةِ. وَقِيلَ: عَلى مُكْثٍ أَيْ تَطَاوُلٍ فِي الْمُدَّةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: عَلى مُكْثٍ بَدَلٌ مِنْ عَلَى النَّاسِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلى مُكْثٍ هُوَ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقَارِئُ، أَوْ صِفَاتُ الْمَقْرُوءِ فِي الْمَعْنَى وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ النَّاسِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ يَتَعَلَّقُ عَلى مُكْثٍ بِقَوْلِهِ فَرَقْناهُ وَيُقَالُ مُكْثٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ مِنْ مُكْثٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالْمُكْثُ بِالضَّمِّ والفتح لغتان، وقد قرىء بِهِمَا وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى كَسْرُ الْمِيمِ. وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا يَتَضَمَّنُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَالِاحْتِقَارَ لَهُمْ وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ وَعَدَمَ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِإِيمَانِهِمْ وَبِامْتِنَاعِهِمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِالْقُرْآنِ وَهُمْ أَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، فَإِنَّ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَفْضَلَ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِي قرؤوا الْكِتَابَ وَعَلِمُوا مَا الْوَحْيُ وَمَا الشَّرَائِعُ، قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْمَوْعُودُ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا اللَّهَ تَعْظِيمًا لِوَعْدِهِ وَلِإِنْجَازِهِ مَا وَعَدَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَبَشَّرَ بِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا. وإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا أَيْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقُلْ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ قُلْ عَنْ إِيمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ بِإِيمَانِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قُلْ آمِنُوا الْآيَةَ تَحْقِيرٌ لِلْكَفَّارِ، وَفِي ضِمْنِهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّوَعُّدِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَسْتُمْ بِحُجَّةٍ فَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَآمَنْتُمْ أَمْ كَفَرْتُمْ وَإِنَّمَا ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ أَهْلُ الْعِلْمِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قُلْ آمِنُوا بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمْ مُؤْمِنُوَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: وَرَقَةُ بن نوفل، وزيد بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ وَاطَّلَعَا عَلَى

التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَوَجَدَا فِيهِمَا صِفَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ جَلَسُوا وَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَتَذَكَّرُوا أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وقرىء عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ فَخَشَعُوا وَسَجَدُوا لِلَّهِ وَقَالُوا: هَذَا وَقْتُ نُبُوَّةِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْرَاةِ وَهَذِهِ صِفَتُهُ، وَوَعْدُ اللَّهِ بِهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَجَنَحُوا إِلَى الْإِسْلَامِ هَذَا الْجُنُوحَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْ قَبْلِهِ عائد على القرآن كَمَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وقيل الضمير إن فِي بِهِ وَفِي مِنْ قَبْلِهِ عَائِدَانِ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَاسْتَأْنَفَ ذِكْرَ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يُتْلى عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ تَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْخُرُورُ هُوَ السُّقُوطُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ «1» وَانْتَصَبَ سُجَّداً عَلَى الْحَالِ، وَالسُّجُودُ وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ غَايَةُ الْخُرُورِ وَنِهَايَةُ الْخُضُوعِ، وَأَوَّلُ مَا يَلْقَى الْأَرْضَ حَالَةَ السُّجُودِ الذَّقَنُ، أَوْ عَبَّرَ عَنِ الْوُجُوهِ بِالْأَذْقَانِ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِبَعْضِ مَا يُلَاقِيهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فخرو الأذقان الْوُجُوهِ تَنُوشُهُمْ ... سِبَاعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْعَوَادِي وَتَنْتِفُ وَقِيلَ: أُرِيدَ حَقِيقَةُ الْأَذْقَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ وَكَانَ سُجُودُهُمْ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى لِلْوُجُوهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ ظَاهِرُ الْمَعْنَى إِذَا قُلْتَ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَعَلَى ذَقْنِهِ فَمَا مَعْنَى اللَّامِ فِي خَرَّ لِذَقْنِهِ؟ قَالَ: فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ قُلْتُ: مَعْنَاهُ جَعَلَ ذَقْنَهُ وَوَجْهَهُ لِلْخُرُورِ، وَاخْتَصَّهُ بِهِ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ انْتَهَى. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى وسُبْحانَ رَبِّنا نَزَّهُوا اللَّهَ عَمَّا نَسَبَتْهُ إِلَيْهِ كَفَارُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ الْبَشَرَ رُسُلًا وَأَنَّهُ لَا يُعِيدُهُمْ لِلْجَزَاءِ، وَإِنْ هُنَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ الْمَعْنَى إِنَّ مَا وَعَدَ بِهِ مِنْ إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَدْ فَعَلَهُ وَأَنْجَزَهُ، وَنُكِّرَ الْخُرُورُ لِاخْتِلَافِ حَالَيِ السُّجُودِ وَالْبُكَاءِ، وَجَاءَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْحَالَةِ الْأَوْلَى بِالِاسْمِ وَعَنِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُكَاءَ ناشىء عَنِ التَّفَكُّرِ فَهُمْ دَائِمًا في

_ (1) سورة النحل: 16/ 26.

فِكْرَةٍ وَتَذَكُّرٍ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ الْفِعْلِ إِذْ هُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ، وَلَمَّا كَانَتْ حَالَةُ السُّجُودِ لَيْسَتْ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَبَّرَ فِيهَا بِالِاسْمِ. وَيَزِيدُهُمْ أَيْ مَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ خُشُوعاً أَيْ تَوَاضُعًا. وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى التَّيْمِيُّ: مَنْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُبْكِيهِ خَلِيقٌ أَنْ لَا يَكُونَ أوتي علما ينفعه لأن تَعَالَى نَعَتَ الْعُلَمَاءَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَوَجَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا مُخَلِّصًا لِلْوَعِيدِ دُونَ التَّحْقِيرِ، الْمَعْنَى فَسَتَرَوْنَ مَا تُجَازَوْنَ بِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ فِي الْكُفْرِ بَلْ كَانَ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ خَشَعُوا وَآمَنُوا انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى طَرَفٍ مِنْ هَذَا. قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَهَجَّدَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ» . فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَدْعُو إِلَهًا وَاحِدًا فَهُوَ الْآنُ يَدْعُو إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ، مَا الرَّحْمَنُ إِلَّا رَحْمَنُ الْيَمَامَةِ يَعَنُونَ مُسَيْلِمَةَ فَنَزَلَتْ قَالَهُ فِي التَّحْرِيرِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوًا مِنْهُ عَنْ مَكْحُولٍ. وَقَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ يَدْعُو يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ، فَقَالُوا: كَانَ يَدْعُو إِلَهًا وَاحِدًا وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ حَتَّى نَزَلَتْ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَكَتَبَهَا فَقَالَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ: هَذَا الرَّحِيمُ نَعْرِفُهُ، فَمَا الرَّحْمَنُ؟ فَنَزَلَتْ: وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَتُقِلُّ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا الِاسْمَ، فَنَزَلَتْ لَمَّا لَجُّوا فِي إِنْكَارِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ جَاءَهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَالرَّفْضِ لِآلِهَتِهِمْ عَدَلُوا إِلَى رَمْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ رَجَعَ هُوَ إِلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَا قَوْلُهُ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ أَوْ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَعْنَى النِّدَاءِ وَالْمَعْنَى: إِنْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَهُوَ اسْمُهُ وَإِنْ دَعَوْتُمُ الرَّحْمَنَ فَهُوَ صِفَتُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ لَا بِمَعْنَى النِّدَاءِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ: دَعْوَتُهُ زَيْدًا ثُمَّ تَتْرُكُ أَحَدَهُمَا

اسْتِغْنَاءً عَنْهُ، فَتَقُولُ: دَعَوْتُ زَيْدًا انْتَهَى. وَدَعَوْتُ هَذِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ ثَانِيهِمَا بِحَرْفِ جَرٍّ، تَقُولُ: دَعَوْتُ وَالِدِي بِزَيْدٍ ثُمَّ تَتَّسِعُ فَتَحْذِفُ الْبَاءَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي دَعَا هَذِهِ: دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو وَلَمْ أَكُنْ ... أخاها ولم أرضع لها بِلِبَانِ وَهِيَ أَفْعَالٌ تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهَا وَإِلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، يُحْفَظُ وَيُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى السَّمَاعِ وَعَلَى مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَكُونُ الثَّانِي لِقَوْلِهِ ادْعُوا لَفْظَ الْجَلَالَةِ، وَلَفْظَ الرَّحْمنَ وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ ثُمَّ حُذِفَ وَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ ادْعُوا مَعْبُودَكُمْ بِاللَّهِ أَوِ ادْعُوهُ بِالرَّحْمَنِ وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِهِمَا اسْمُ الْمُسَمَّى وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ، فَمَعْنَى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سَمُّوا بِهَذَا الِاسْمِ أَوْ بِهَذَا، وَاذْكُرُوا إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُمَا اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، فَإِنْ دَعَوْتُمُوهُ بِاللَّهِ فَهُوَ ذَاكَ، وَإِنْ دَعَوْتُمُوهُ بِالرَّحْمَنِ فَهُوَ ذَاكَ وَأَيُّ هُنَا شَرْطِيَّةٌ. وَالتَّنْوِينُ قِيلَ عوض من المضاف وما زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ. وَقِيلَ: مَا شَرْطٌ وَدَخَلَ شَرْطٌ عَلَى شَرْطٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. أَيًّا مِنْ تَدْعُوا فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ إِذْ قَدِ ادَّعَى زِيَادَتَهَا فِي قَوْلِهِ: يَا شَاةُ مِنْ قَنْصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ واحتمل أن يكون جمع بَيْنَ أَدَاتَيْ شَرْطٍ عَلَى وَجْهِ الشُّذُوذِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ حَرْفَيْ جَرٍّ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَلَهُ عَائِدٌ عَلَى مُسَمَّى الِاسْمَيْنِ وَهُوَ وَاحِدٌ، أَيْ فَلِمُسَمَّاهُمَا الْأَسْماءُ الْحُسْنى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فِي الْأَعْرَافِ. وَقَوْلُهُ: فَلَهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ. قِيلَ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَيًّا جَعَلَ مَعْنَاهُ أَيَّ اللَّفْظَيْنِ دَعَوْتُمُوهُ بِهِ جَازَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ مَا تَدْعُوهُ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مَا لَا تُطْلَقُ عَلَى آحَادِ أُولِي الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي عُمُومًا وَلَا يَصِحُّ هُنَا، وَالصَّلَاةُ هُنَا الدُّعَاءُ قَالَهُ ابْنُ عباس وعائشة وَجَمَاعَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ بِقِرَاءَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا يُلْبِسُ تَقْدِيرُ هَذَا الْمُضَافِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مُعْتَقِبَانِ عَلَى الصَّوْتِ لَا غَيْرُ، وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ وَأَذْكَارٌ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِقِرَاءَتِهِ فَيَسُبُّ الْمُشْرِكُونَ وَيَلْغُونَ فَأُمِرَ بِأَنْ يَخْفِضَ مِنْ صَوْتِهِ حَتَّى لَا يُسْمِعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْ لَا يُخَافِتَ حَتَّى يَسْمَعَهُ مَنْ وَرَاءَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ سَبِيلًا وَسَطًا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَيْنَ ذلِكَ فِي قَوْلِهِ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: لَا تُحَسِّنُ عَلَانِيَتَهَا وَتُسِيءُ سِرِّيَّتَهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ: الصَّلَاةُ يُرَادُ بِهَا هُنَا التَّشَهُّدُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَ الْأَعْرَابُ يَجْهَرُونَ بِتَشَهُّدِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُسِرُّ قراءته وعمر يَجْهَرُ بِهَا. فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أُنَاجِي رَبِّي وَهُوَ يَعْلَمُ حَاجَتِي. وَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَأُوقِظُ الْوَسَنَانَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ ارْفَعْ أَنْتَ قَلِيلًا. وَقِيلَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ أَنْتَ قَلِيلًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمَعْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلَاةِ النَّهَارِ وَلا تُخافِتْ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَحْيَانًا فَيَرْفَعُ النَّاسُ مَعَهُ، وَيَخْفِضُ أَحْيَانًا فَيَسْكُتُ النَّاسُ خَلْفَهُ انْتَهَى. كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ زَمَانِنَا مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْحِينِ وَطَرَائِقِ النَّغَمِ الْمُتَّخَذَةِ لِلْغِنَاءِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ أَمَرَ تَعَالَى أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِمَّا آتَاهُ مِنْ شَرَفِ الرِّسَالَةِ وَالِاصْطِفَاءِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فَيُعْتَقَدُ فِيهِ تَكَثُّرُ بِالنَّوْعِ، وَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَجَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَالْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ. وَنَفَى أَوَّلًا الْوَلَدَ خُصُوصًا ثُمَّ نَفَى الشَّرِيكَ فِي مُلْكِهِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ وَلَدٌ فَيَشْرُكُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَمَّا نَفَى الْوَلَدَ وَنَفَى الشَّرِيكَ نَفَى الْوَلِيَّ وَهُوَ النَّاصِرُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا أَوْ غَيْرَ شَرِيكٍ. وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْوَلِيِّ قَدْ يَكُونُ لِلِانْتِصَارِ وَالِاعْتِزَازِ بِهِ وَالِاحْتِمَاءِ مِنَ الذُّلِّ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّفَضُّلِ وَالرَّحْمَةِ لِمَنْ وَالَى مِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ كَانَ النَّفْيُ لِمَنْ يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْ أَجْلِ الْمَذَلَّةِ، إِذْ كَانَ مَوْرِدُ الْوِلَايَةِ يَحْتَمِلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَنَفَى الْجِهَةَ الَّتِي لِأَجْلِ النَّقْصِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ فَإِنَّهُمَا نُفِيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَجَاءَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ وَلَمْ يَعُدَّ أَحَدًا وَلَدًا وَلَمْ يَنْفِهِ بِجِهَةِ التَّوَالُدِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ في بداية الْعُقُولِ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لِنَفْيِهِ بِالْمَنْقُولِ وَلِذَلِكَ جَاءَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا ولدا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 68.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ الْمَعْنَى لَمْ يُخَالِفْ أَحَدًا وَلَا ابْتَغَى نَصْرَ أَحَدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ نَاصِرٌ مِنَ الذُّلِّ وَمَانِعٌ لَهُ مِنْهُ لِاعْتِزَازِهِ بِهِ، أَوْ لَمْ يُوالِ أَحَدًا مِنْ أَجْلِ الْمَذَلَّةِ بِهِ لِيَدْفَعَهَا بِمُوالَاتِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُمْ أَذَلُّ النَّاسِ فَيَكُونُ مِنَ الذُّلِّ صِفَةً لِوَلِيٍّ انْتَهَى. أَيْ وَلِيٌّ مِنَ أَهْلِ الذُّلِّ، فَعَلَى هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ يَكُونُ مِنَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَوْ لِلسَّبَبِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ لَاقَ وَصْفُهُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ وَالذُّلِّ بِكَلِمَةِ التَّحْمِيدِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاءِ كُلِّ نِعْمَةٍ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ جِنْسَ الْحَمْدِ، وَالَّذِي تَقَرَّرَ أَنَّ النَّفْيَ تَسَلُّطٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى الْقَيْدِ أَيْ لَا ذُلَّ يُوجَدُ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ لَهُ وَلِيٌّ يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْهُ، فَالذُّلُّ وَالْوَلِيُّ الَّذِي يَكُونُ اتِّخَاذُهُ بِسَبَبِهِ مُنْتَفِيَانِ. وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً التَّكْبِيرُ أَبْلَغُ لَفْظَةٍ لِلْعَرَبِ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَأُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ تَحْقِيقًا لَهُ وَإِبْلَاغًا فِي مَعْنَاهُ، وَابْتُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتُتِمَتْ بِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْصَحَ الْغُلَامُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ «1» إِلَى آخِرِهَا والله أعلم.

_ (1) سورة النمل: 27/ 93.

سورة الكهف

سورة الكهف ترتيبها 18 سورة الكهف 0 يأتها 110 [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)

بَخَعَ يَبْخَعُ بَخْعًا وَبُخُوعًا أَهْلَكَ مِنْ شَدَّةِ الْوَجْدِ وَأَصْلُهُ الْجَهْدُ قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ: بَخَعَ الْأَرْضَ أَيْ جَهَدَهَا حَتَّى أَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بَخَعَ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ جَعَلَهَا ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتَابَعَةِ الْحِرَاثَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: بَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ قَتَلَهَا مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهِ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ: أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدَ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِيرُ أَيْ نَحَّتْهُ بِشَدِّ الْحَاءِ فَخُفِّفَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ ذُو الرُّمَّةِ يَنْشُدُ الْوَجْدُ بِالرَّفْعِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إِنَّمَا هُوَ الْوَجْدَ بِالْفَتْحِ انْتَهَى. فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. جَرَزَتِ الْأَرْضُ بِقَحْطٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ نَحْوِهِ: ذَهَبَ نَبَاتُهَا وَبَقِيَتْ لَا شَيْءَ فِيهَا وَأَرْضُونَ أَجْرَازٌ، وَيُقَالُ: سَنَةٌ جُرْزٌ وَسُنُونَ أَجْرَازٌ لَا مَطَرَ فِيهَا، وَجُرُزُ الْأَرْضِ الْجَرَادُ أَكَلَ مَا فِيهَا، وَامْرَأَةٌ جَرُوزٌ أَيْ أَكُولٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةٌ جُرُوزَا ... تَأْكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَفِيزَا الْكَهْفُ النَّقْبُ الْمُتَّسِعُ فِي الْجَبَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُ وَاسِعًا فَهُوَ غَارٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. حَكَى اللُّغَوِيُّونَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِ فِي الْجَبَلِ. الرَّقِيمُ: فَعِيلُ مِنْ رَقَمَ إِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَإِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِهِ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. فَأَمَّا قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا الرَّقِيمُ مُجَاوِرًا ... وَصَيْدَهُمْ وَالْقَوْمُ فِي الْكَهْفِ هُمَّدُ فَعُنِيَ بِهِ كَلْبُهُمْ. أَحْصَى الشَّيْءَ حَفِظَهُ وَضَبَطَهُ. الشَّطَطُ: الْجَوْرُ وَتَعَدِّي الْحَدَّ وَالْغُلُوَّ. وَقَالَ

الْفَرَّاءُ: اشْتَطَّ فِي الشُّؤْمِ جَاوَزَ الْقَدْرَ، وَشَطَّ الْمَنْزِلَ بَعُدَ شُطُوطًا، وَشَطَّ الرَّجُلُ وَأَشَطَّ جَارَ، وَشَطَّتِ الْجَارِيَةُ شَطَاطًا وَشَطَاطَةً طَالَتْ. تَزْوَرُّ: تَرُوعُ وَتَمِيلُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَزْوَرُّ تَنْقَبِضُ انْتَهَى. وَالزَّوْرُ الْمَيْلُ وَالْأَزْوَرُ الْمَائِلُ بِعَيْنِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ، وَيَكُونُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: وَجَبَنِي خِيفَةَ الْقَوْمِ أَزُورُهُ وَقَالَ عَنْتَرَةُ: فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ ... وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: تَؤُمُّ بِهَا الْحُدَاةُ مِيَاهَ نَخْلٍ ... وَفِيهَا عَنْ أَبَانِينَ ازْوِرَارُ وَمِنْهُ زَارَهُ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، وَالزُّورُ الْمَيْلُ عَنِ الصِّدْقِ. قَرَضَ الشَّيْءَ قَطَعَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَرَضَتْ مَوْضِعَ. كَذَا أَيْ قَطَعَتْهُ. وَقَالَ ذُو الرمّة: إلى ظعن يقوضن أَجْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: قَرَضَتْ مَوْضِعَ كَذَا جَاذَبَتْهُ، وَحَكَوْا عَنِ الْعَرَبِ قَرَضَتْهُ قُبُلًا وَدُبُرًا. الْفَجْوَةُ: الْمُتَّسَعُ مِنَ الْفِجَاءِ وَهُوَ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ، رَجُلٌ أَفْجَأُ وَامْرَأَةٌ فَجْوَاءُ وَجَمْعُ الْفَجْوَةِ فِجَاءٌ. الْيَقِظُ الْمُتَنَبِّهُ وَجَمْعُهُ أَيْقَاظٌ كَعَضُدٍ وَأَعْضَادٍ، وَيِقَاظٌ كَرَجُلٍ وَرِجَالٍ وَرَجُلٌ يَقْظَانُ وَامْرَأَةٌ يَقْظَى. الرُّقَادُ مَعْرُوفٌ وَسُمِّيَ بِهِ عَلَمًا. الْوَصِيدُ الْفَنَاءُ. وَقِيلَ: الْعَتَبَةُ. وَقِيلَ: الْبَابُ. قَالَ الشَّاعِرُ: بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدُّ وَصِيدُهَا ... عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرٍ الْوَرِقُ الْفِضَّةُ مَضْرُوبَةٌ وَغَيْرُ مَضْرُوبَةٍ. السُّرَادِقُ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ سَرَادِارُ وَهُوَ الدِّهْلِيزُ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: تَمَنَّيْتُهُمْ حَتَّى إِذَا مَا لَقِيتُهُمْ ... تَرَكْتُ لَهُمْ قَبْلَ الضِّرَابِ السُّرَادِقَا وَبَيْتٌ مُسَرْدَقٌ أَيْ ذُو سُرَادِقَ. الْمُهْلُ: مَا أُذِيبَ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. شَوَى اللَّحْمَ: أَنْضَجَهُ مِنْ غَيْرِ مَرَقٍ. السُّوَارُ: مَا جُعِلَ فِي الذِّرَاعِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ وَيُجْمَعُ عَلَى أَسْوِرَةٍ فِي الْقِلَّةِ كَخِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ، وَعَلَى خُمُرٍ وَفِي الْكَثْرَةِ كَخِمَارٍ وَخُمُرٍ إِلَّا أَنَّهُ تُسَكَّنُ عَيْنُهُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ فَتُحَرَّكُ، وَأَسَاوِرُ جَمْعُ أَسْوِرَةٍ. وَقَالَ أَبُو

عُبَيْدَةَ: جَمْعُ أَسْوَارٍ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا فِي الذِّرَاعِ مِنَ الْحُلِيِّ وَعَنْهُ وَعَنْ قُطْرُبٍ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الزِّيَادَةِ وَأَصْلُهُ أَسَاوِيرُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَاللَّهِ لَوْلَا صِبْيَةٌ صِغَارُ ... كَأَنَّمَا وُجُوهُهُمْ أَقْمَارُ تَضُمُّهُمْ مِنَ الْفَنِيكِ دَارُ ... أَخَافَ أَنْ يُصِيبَهُمْ إِقْتَارُ أَوْ لَاطِمٌ لَيْسَ لَهُ أَسْوَارُ ... لَمَا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ بِبَابِهِ مَا وَضَحَ النَّهَارُ السُّنْدُسُ رَقِيقُ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَالْإِسْتَبْرَقُ رُومِيٌّ عُرِّبَ وَأَصْلُهُ اسْتَبَرَهُ أَبْدَلُوا الْهَاءَ قَافًا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ: مُسَمًّى بِالْفِعْلِ وَهُوَ إِسْتَبْرَقُ مِنَ الْبَرِيقِ فَقُطِعَتْ بِهَمْزَةِ وَصْلِهِ. وَقِيلَ: الْإِسْتَبْرَقُ اسْمُ الْحَرِيرِ. وَقَالَ الْمُرَقَّشُ: تَرَاهُنَّ يَلْبَسْنَ الْمَشَاعِرَ مَرَّةً ... وإستبرق الديباج طور إلباسها وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْإِسْتَبْرَقُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ. الْأَرِيكَةُ السَّرِيرُ فِي حَجَلَةٍ، فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَلَا يُسَمَّى أَرِيكَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَرَائِكُ الْفُرُشُ فِي الْحِجَالِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً. هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إلا في قوله. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ إِلَّا قَوْلَهُ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ «1» الْآيَةَ فَمَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى جُرُزاً وَمِنْ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» الْآيَتَيْنِ فَمَدَنِيٌّ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتِ النَّضْرَ بن الحارث وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَدِينَةَ فَسَأَلَاهُمْ فَقَالَتْ: سَلُوهُ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرُوا فِيهِ رَأْيَكُمْ سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ لهم حديث

_ (1) سورة الكهف: 18/ 28. [.....] (2) سورة الكهف: 18/ 30.

عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ بِنَاؤُهُ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَأَقْبَلَ النضر وعقبة إِلَى مَكَّةَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: «غدا أخبركم» وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاسْتَمْسَكَ الْوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَرْجَفَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ تَرَكَهُ رَئِيُّهُ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ مِنَ الْجِنِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ عَجَزَ عَنْ أَكَاذِيبِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْقَضَى الْأَمَدُ جَاءَهُ الْوَحْيُ بِجَوَابِ الْأَسْئِلَةِ وَغَيْرِهَا. وَرُوِيَ فِي هَذَا السَّبَبِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: إِنْ أَجَابَكُمْ عَنِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ أَجَابَ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْأُخْرَى فَهُوَ نَبِيٌّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَنْزَلَ بَعْدَ ذلك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «1» . وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ «2» وَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ خُشُوعًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْحَمْدِ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ السَّالِمِ مِنَ الْعِوَجِ الْقَيِّمِ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ الْمُنْذِرِ مَنِ اتَّخَذَ وَلَدًا، الْمُبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجْرِ الْحَسَنِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى حَدِيثِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْتَفَتَ مِنَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً «3» إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ عَلى عَبْدِهِ لِمَا فِي عَبْدِهِ مِنَ الْإِضَافَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك. والْكِتابَ الْقُرْآنُ، وَالْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَشْخَاصِ وَنُكِّرَ عِوَجاً لِيَعُمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ لَا تَنَاقُضَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَعَانِيهِ، لَا حُوشِيَّةَ وَلَا عِيَّ في تراكيبه ومبانيه. وقَيِّماً تَأْكِيدٌ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِقَامَةِ إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ مُسْتَقِيمًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: قَيِّماً بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَشَرَائِعِ دِينِهِمْ وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. وَقِيلَ: قَيِّماً عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ بِتَصْدِيقِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَنْزَلَ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي انْتِصَابِ قَيِّماً أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَلَا يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْكِتابَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَقَدَّرَهُ جَعَلَهُ قَيِّماً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَيِّماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْكِتابَ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ مُؤَخَّرٌ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّماً وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ قَوْلُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 85. (2) سورة الإسراء: 17/ 105. (3) سورة الإسراء: 17/ 111.

بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ أَنْزَلَهُ أَوْ جَعَلَهُ قَيِّماً. أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَنْفِيَّةَ اعْتِرَاضٌ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيُفْصَلُ بِجُمَلٍ لِلِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: احْمِدُوا اللَّهَ عَلَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ قَيِّماً لَا عِوَجَ فِيهِ، وَمِنْ عَادَةِ الْبُلَغَاءِ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَهَمَّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا فِي ذَاتِهِ. وَقَوْلُهُ قَيِّمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا بِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِذَا جَعَلْتَهُ حَالًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا حَالَانِ مِنَ الْكِتابَ الْأُولَى جُمْلَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُفْرَدٌ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ وُقُوعَ حَالَيْنِ مِنْ ذِي حَالٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَقَالَ: هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ وَالتَّقْدِيرُ غَيْرُ جَاعِلٍ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً وَقَالَ صَاحِبُ حَلِّ الْعَقْدِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قَيِّمًا بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا قَيِّماً انْتَهَى. وَيَكُونُ بَدَلَ مُفْرَدٍ مِنْ جُمْلَةٍ كَمَا قَالُوا فِي عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ أَنَّهُ بَدَلُ جُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَقِيلَ: قَيِّماً حَالٌ مِنَ الْهَاءِ الْمَجْرُورَةِ فِي وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُؤَكِّدَةٌ. وَقِيلَ: مُنْتَقِلَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتابَ وَعَلَيْهِ التَّخَارِيجُ الْإِعْرَابِيَّةُ السَّابِقَةُ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى عَبْدِهِ وَالتَّقْدِيرُ عَلى عَبْدِهِ وَجَعَلَهُ قَيِّماً. وَحَفْصٌ يَسْكُتُ عَلَى قَوْلِهِ عِوَجاً سَكْتَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُولُ قَيِّماً. وَفِي بَعْضِ مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى لَا أَنَّهَا قِرَاءَةٌ. وَأَنْذَرَ يتعدى لمفعولين قال نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً «1» وَحُذِفَ هُنَا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَصُرِّحَ بِالْمُنْذَرِ بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِ فَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صُرِّحَ بِالْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ حِينَ كَرَّرَ الْإِنْذَارَ فَقَالَ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فَحُذِفَ الْمُنْذِرُ أَوَّلًا لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَحُذِفَ الْمُنْذَرُ بِهِ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْحَذْفِ وَجَلِيلِ الْفَصَاحَةِ، وَلَمَّا لَمْ يُكَرِّرِ الْبِشَارَةَ أَتَى بِالْمُبَشِّرِ وَالْمُبَشَّرِ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِيُنْذِرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْزَلَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِقَيِّمًا، وَمَفْعُولُ لِيُنْذِرَ الْمَحْذُوفُ قَدَّرَهُ ابْنُ عطية لِيُنْذِرَ العالم، وأبو الْبَقَاءِ لِيُنْذِرَ الْعِبَادَ أَوْ لِيُنْذِرَكُمْ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَدَّرَهُ خَاصًّا قَالَ: وَأَصْلُهُ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَأْساً شَدِيداً، وَالْبَأْسُ مِنْ قَوْلِهِ بِعَذابٍ بَئِيسٍ «2» وَقَدْ بَؤُسَ الْعَذَابُ وَبَؤُسَ

_ (1) سورة النبأ: 78/ 40. (2) سورة الأعراف: 7/ 165.

الرَّجُلُ بَأْسًا وَبَأْسَةً انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ رَاعَى فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ مُقَابَلَةً وَهُوَ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَالْبَأْسُ الشَّدِيدُ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْدَرِجَ فِيهِ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَمَعْنَى مِنْ لَدُنْهُ صَادِرٌ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِسُكُونِ الدَّالِ وَإِشْمَامِهَا الضَّمَّ وَكَسْرِ النُّونِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ هُودٍ. وقرىء وَيُبَشِّرَ بِالرَّفْعِ وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِيُنْذِرَ وَالْأَجْرُ الْحَسَنُ الْجَنَّةُ، وَلَمَّا كَنَّى عَنِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ أَجْراً حَسَناً قَالَ: ماكِثِينَ فِيهِ أَيْ مُقِيمِينَ فِيهِ، فَجَعَلَهُ ظَرْفًا لِإِقَامَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمُكْثُ لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ قَالَ أَبَداً وَهُوَ ظَرْفٌ دَالٌّ عَلَى زَمَنٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ، وَانْتَصَبَ ماكِثِينَ عَلَى الْحَالِ وَذُو الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ فِي لَهُمْ وَالَّذِينَ نَسَبُوا الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُ الْيَهُودِ فِي عزيز، وَبَعْضُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَوْهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ صِفَةً لِلْوَلَدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِفُهُ إِلَّا الْقَائِلُ وَهُمْ لَيْسَ قَصْدُهُمْ أَنْ يَصِفُوهُ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ نَفْيٌ مُؤْتَنِفٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِجَهْلِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ ويحتمل أن يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَذُمُّ لَهُمْ وَأَقْضَى فِي الْجَهْلِ التَّامِّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ انْتَهَى. قِيلَ: وَالْمَعْنَى مَا لَهُمْ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ فَيُنَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَوْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قالُوا أَيْ مَا لَهُمْ. بِقَوْلِهِمْ هَذَا مِنْ عِلْمٍ فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قالُوا جَاهِلِينَ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ وَلَا نَظَرٍ فِي مَا يَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الِاتِّخَاذِ الْمَفْهُومِ مِنِ اتَّخَذَهُ أَيْ مَا لَهُمْ بِحِكْمَةِ الِاتِّخَاذِ مِنْ عِلْمٍ إِذْ لَا يَتَّخِذُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ عَاجِزٌ مَقْهُورٌ يَحْتَاجُ إِلَى مُعِينٍ يَشُدُّ بِهِ عَضُدَهُ. وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلَدًا فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ قِيلَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُعْلَمُ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ لَا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى. وَلا لِآبائِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى لَهُمْ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ السَّخِيفَةِ، بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالَهُ عَنْ جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ. وَذَكَرَ الْآبَاءَ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ قَدْ أَخَذُوهَا عَنْهُمْ وَتَلَقَّفُوهَا مِنْهُمْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَلِمَةً بِالنَّصْبِ وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَفَاعِلُ كَبُرَتْ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَقَالَةِ الْمَفْهُومَةِ مَنْ قَوْلِهِ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ أَيْ مَا أَكْبَرُهَا كَلِمَةً، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِفَةٌ لَهَا تُفِيدُ اسْتِعْظَامَ اجْتِرَائِهِمْ عَلَى النُّطْقِ بِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي الْقُلُوبِ وَيُحَدِّثُ بِهِ النَّفْسَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ بَلْ يَصْرِفُ عَنْهُ الْفِكْرَ، فَكَيْفَ بِمِثْلِ هَذَا الْمُنْكَرِ وَسُمِّيَتْ كَلِمَةً كَمَا يُسَمُّونَ الْقَصِيدَةَ كَلِمَةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ هِيَ قَائِمَةٌ فِي النَّفْسِ مَعْنًى وَاحِدًا فَيَحْسُنُ أَنْ تُسَمَّى كَلِمَةً وَقَالَ أَيْضًا: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ الْكَلِمَةِ كَمَا تَقُولُ نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَفَسَّرَ بِالْكَلِمَةِ وَوَصَفَهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَصْبُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ عَلَى حَدِّ نَصْبِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَساءَتْ مُرْتَفَقاً «1» . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ أَيْ كَبُرَتْ فِرْيَتُهُمْ وَنَحْوَ هَذَا انْتَهَى. فَعَلَى قَوْلِهِ كَمَا تَقُولُ نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفًا لِأَنَّهُ جَعَلَ تَخْرُجُ صِفَةً لِكَلِمَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ كَبُرَتْ كَلِمَةً خَارِجَةً مِنْ أَفْواهِهِمْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ الَّتِي فَاهُوا بِهَا وَهِيَ مَقَالَتُهُمْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. وَالضَّمِيرُ فِي كَبُرَتْ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ التَّمْيِيزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ محذوفا وَتَخْرُجُ صِفَةً لَهُ أَيْ كَبُرَتْ كَلِمَةً كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نُصِبَ عَلَى التَّعَجُّبِ أَيْ أَكْبِرْ بِهَا كَلِمَةً أي من كَلِمَةً. وقرىء كبرت سكون الْبَاءِ وَهِيَ فِي لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وابن مُحَيْصِنٍ وَالْقَوَّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالنَّصْبُ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى وأقوى، وإِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا يَقُولُونَ وكَذِباً نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَوْلًا كَذِباً. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَحْذُورِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: فِيهَا هُنَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ النَّهْيِ يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى لَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ. وَقِيلَ: وُضِعَتْ مَوْضِعَ الِاسْتِفْهَامِ تَقْدِيرُهُ هَلْ أَنْتَ باخِعٌ نَفْسَكَ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْرِيرٌ وَتَوْقِيفٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَيْ لَا تَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ وَإِيَّاهُمْ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَمَا تَدَاخَلَهُ مِنَ الْوَجْدِ وَالْأَسَفِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ بِرَجُلٍ فَارَقَتْهُ أَحِبَّتُهُ وَأَعِزَّتُهُ، فَهُوَ يَتَسَاقَطُ حَسَرَاتٍ عَلَى آثَارِهِمْ وَيَبْخَعُ نَفْسَهُ وَجْدًا عَلَيْهِمْ وَتَلَهُّفًا عَلَى فِرَاقِهِمُ انْتَهَى. وتكون لعل

_ (1) سورة الكهف: 18/ 16.

لِلِاسْتِفْهَامِ قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْإِشْفَاقِ أَشْفَقَ أَنْ يَبْخَعَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ اسْتِعَارَةٌ فَصِيحَةٌ مِنْ حَيْثُ لَهُمْ إِدْبَارٌ وَتَبَاعُدٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الشَّرْعِ، فَكَأَنَّهُمْ مِنْ فَرْطِ إِدْبَارِهِمْ قَدْ بَعُدُوا فَهُوَ فِي إِدْبَارِهِمْ يَحْزَنُ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى عَلى آثارِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ بَعْدَ يَأْسِكَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَيُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ أَيْ بَعْدَهُ، وقرىء باخِعٌ نَفْسَكَ بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: باخِعٌ بِالتَّنْوِينِ نَفْسَكَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْأَصْلِ يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَ الْعَلَمِ فَالْأَصْلُ أَنْ يَعْمَلَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَمَلُ وَالْإِضَافَةُ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَا وَضَعْنَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وقرىء: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا فَمَنْ كَسَرَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ يَعْنِي اسْمَ الْفَاعِلِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَمَنْ فَتَحَ فَلِلْمُضِيِّ يَعْنِي حَالَةَ الْإِضَافَةِ، أَيْ لِأَنَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِلَى الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «1» . وأَسَفاً قَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: غَضَبًا وَعَنْهُ أَيْضًا حَزَنًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَدَمًا وَتَحَسُّرًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَسَفُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: الْأَسَفُ هُنَا الْحُزْنُ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ وَلَا هُوَ تَحْتَ يَدِ الْآسِفِ، وَلَوْ كَانَ الْأَسَفُ مِنْ مُقْتَدِرٍ عَلَى مَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَمِلْكِهِ كَانَ غَضَبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «2» أَيْ أَغْضَبُونَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اطَّرَدَ انْتَهَى. وَانْتِصَابُ أَسَفاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَارْتِبَاطُ قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الزِّينَةِ لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ عَمَلًا فَلَيْسُوا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ عَمَلًا وَمَنْ هُوَ أَسْوَأُ عَمَلًا، فَلَا تَغْتَمَّ وَتَحْزَنْ عَلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَسْوَأَ عَمَلًا وَمَعَ كَوْنِهِمْ يَكْفُرُونَ بِي لَا أَقْطَعُ عَنْهُمْ مَوَادَّ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقْتُهَا. وجَعَلْنا هُنَا بِمَعْنَى خَلَقْنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الْعَاقِلِ وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ فِيمَا لَا يعقل. وزِينَةً كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ إِيذَاءٌ من

_ (1) سورة الزمر: 39/ 23. (2) سورة الزخرف: 43/ 55.

حَيَوَانٍ وَحَجَرٍ وَنَبَاتٍ لِأَنَّهُ لَا زِينَةَ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ قَالَ فِيهِ زِينَةً مِنْ جِهَةِ خَلْقِهِ وَصَنْعَتِهِ وَإِحْكَامِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا هُنَا خُصُوصُ مَا لا بعقل. فَقِيلَ: الْأَشْجَارُ وَالْأَنْهَارُ. وَقِيلَ: النَّبَاتُ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْأَزْهَارِ. وَقِيلَ: الْحَيَوَانُ الْمُخْتَلِفُ الْأَشْكَالِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنُّحَاسُ وَالرَّصَاصُ وَالْيَاقُوتُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْجَوْهَرُ وَالْمَرْجَانُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْأَحْجَارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَلَى الْأَرْضِ يَعْنِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَها وَلِأَهْلِهَا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا. وَقَالَتْ: فِرْقَةٌ أَرَادَ النَّعِيمَ وَالْمَلَابِسَ وَالثِّمَارَ وَالْخُضْرَةَ وَالْمِيَاهَ. وَقِيلَ: مَا هُنَا لِمَنْ يَعْقِلُ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ الرِّجَالُ وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ الزِّينَةَ الْخُلَفَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ. وَانْتَصَبَ زِينَةً عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ إِنْ كَانَ جَعَلْنا بِمَعْنَى خَلَقْنَا، وَأَوْجَدْنَا، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرْنَا فَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَاللَّامُ مِنْ لِنَبْلُوَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِجَعَلْنَا، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالضَّمِيرُ فِي لِنَبْلُوَهُمْ إِنْ كَانَتْ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنْ لَا يَعُودَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُوَ سُكَّانُ الْأَرْضِ الْمُكُلَّفُونَ وأَيُّهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِيهَا إِعْرَابًا فَيَكُونُ أَيُّهُمْ مبتدأ وأَحْسَنُ خبره. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِنَبْلُوَهُمْ وَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ لِنَبْلُوَهُمْ إِجْرَاءً لَهَا مَجْرَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ وَالِاخْتِبَارَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، كَمَا عَلَّقُوا سَلْ وَانْظُرِ الْبَصَرِيَّةَ لِأَنَّهُمَا سَبَبَانِ لِلْعِلْمِ وَإِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ذَهَبَ الْحَوْفِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الضَّمَّةُ فِيهَا بناء على مذهب سيبويه لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِي أَيْ. وَهُوَ كَوْنُهَا مُضَافَةً قَدْ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، فَأَحْسَنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَحْسَنُ وَيَكُونُ أَيُّهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي لِنَبْلُوَهُمْ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ أَحْسَنُ عَمَلًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَحْسَنُهُمْ عَمَلًا أَزْهَدُهُمْ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَتْرَكُ لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُسْنُ الْعَمَلِ الزُّهْدُ فِيهَا وَتَرْكُ الِاغْتِرَارِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ غَالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ: أَحْسَنُ الْعَمَلِ أَخْذٌ بِحَقٍّ مَعَ الْإِيمَانِ وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَحْسَنَ طَاعَةً. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ لِيَبْلُوَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْعُلَمَاءِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ قَبُولًا وَإِجَابَةً. وَقَالَ سَهْلٌ: أَحْسَنُ تَوَكُّلًا عَلَيْنَا فِيهَا. وَقِيلَ: أَصْفَى قَلْبًا وَأَحْسَنُ سَمْتًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَيَهُمُّ أَتْبَعُ لِأَمْرِي وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِي.

وإِنَّا لَجاعِلُونَ أَيْ مُصَيِّرُونَ مَا عَلَيْها مِمَّا كَانَ زِينَةً لَهَا أَوْ مَا عَلَيْها مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الزِّينَةِ وَغَيْرِهِ صَعِيداً تُرَابًا جُرُزاً لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن مَا تَضَمَّنَتْهُ أَيْدِي الْمُتْرَفِينَ مِنْ زِينَتِهَا، إِذْ مَآلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْفَنَاءِ والحاق. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَلَيْها مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ صَعِيداً جُرُزاً يَعْنِي مِثْلَ أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَضْرَاءَ مُعْشِبَةً فِي إِزَالَةِ بَهْجَتِهِ وَإِمَاطَةِ حُسْنِهِ وَإِبْطَالِ مَا بِهِ كَانَ زِينَةً مِنْ إِمَاتَةِ الْحَيَوَانِ وَتَجْفِيفِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى. قِيلَ: وَالصَّعِيدُ مَا تَصَاعَدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ بِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ الْأَمْلَسُ الْمُسْتَوِي. وَقِيلَ: الطَّرِيقُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالْقُعُودَ عَلَى الصُّعُدَاتِ» . أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. أَمْ هُنَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ فَتَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ. قِيلَ: لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ لَا بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ أَمْ هُنَا بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ فَقَطْ، وَالظَّاهِرُ فِي أَمْ حَسِبْتَ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَنْهَهُ عَنِ التَّعَجُّبِ وَإِنَّمَا أَرَادَ كُلُّ آيَاتِنَا كَذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَتَعَجَّبُ مِنْهَا فَالْعَجَائِبُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْثَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلُوكَ عَنْ ذَلِكَ لِيَجْعَلُوا جَوَابَكَ عَلَامَةً لِصِدْقِكَ وَكَذِبِكَ، وَسَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَبْلَغُ وَأَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى صِدْقِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: تَقْرِيرٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حُسْبَانِهِ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ كَانُوا عَجَباً بِمَعْنَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَظِّمَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا عَظَّمَهُ عَلَيْكَ السَّائِلُونَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَإِنَّ سَائِرَ آيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ قِصَّتِهِمْ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد وقتادة وابن إِسْحَاقَ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لَهُ هَلْ عَلِمَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ ... كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً بِمَعْنَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ عَجَبٌ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ تَقْرِيرِهِ جَمْعَ نَفْسِهِ لِلْأَمْرِ لِأَنَّ جَوَابَهُ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَحْسَبْ وَلَا عَلِمْتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ وَصْفُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَالتَّجَوُّزُ فِي هَذَا

التَّأْوِيلِ هُوَ فِي لَفْظَةِ حَسِبْتَ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ أَعَلِمْتَ أَيْ لَمْ تَعْلَمْهُ حَتَّى أَعْلَمْتُكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُلِّيَّةِ تَزْيِينَ الْأَرْضِ بِمَا خَلَقَ فَوْقَهَا مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا، وَإِزَالَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ قَالَ: أَمْ حَسِبْتَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَإِبْقَاءِ حَيَاتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً انْتَهَى. وَقِيلَ: أَيْ أَمْ عَلِمْتَ أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كانُوا عَجَباً كَمَا تَقُولُ: أَعَلِمْتَ أَنَّ فُلَانًا فَعَلَ كَذَا أَيْ قَدْ فَعَلَ فَاعْلَمْهُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلسَّامِعِ، وَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ قل لهم أَمْ حَسِبْتَ الْآيَةَ. وَالظَّنُّ قَدْ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ، فَكَذَلِكَ حَسِبْتَ بِمَعْنَى عَلِمْتَ وَالْكَهْفُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَعَنْ أَنَسٍ: الْكَهْفُ الْجَبَلُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفْرِيجٌ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ هُمُ الْفِتْيَةُ الْمَذْكُورُونَ هُنَا. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانَ حَالُهُمْ كَأَصْحَابِ الْكَهْفِ. فَقَالَ الضَّحَّاكُ الرَّقِيمِ بَلْدَةٌ بِالرُّومِ فِيهَا غَارٌ فِيهِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا أَمْوَاتٌ كُلُّهُمْ نِيَامٌ عَلَى هَيْئَةِ أَصْحابَ الْكَهْفِ. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْغَارِ فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الرَّقِيمَ قَالَ: «إِنْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ أَصَابَتْهُمُ السَّمَاءُ فَأَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ فَانْحَطَّتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْعَفِيفِ وَبَارِّ وَالِدَيْهِ، وَفِيمَا أَوْرَدَهُ فِيهِ زِيَادَةُ أَلْفَاظٍ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ طَائِفَتَانِ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ بِشَيْءٍ، وَمَنْ قَالَ: بِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِ الرَّقِيمِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الرَّقِيمِ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ، وَعَنْهُ أَنَّهُ كِتَابٌ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ الشَّرْعُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: مِنْ دِينٍ قَبْلَ عِيسَى، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبٍ أَنَّهُ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ. وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْجِدَارِ أَقَامَهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: كَتَبَ فِيهِ أسماؤهم وَقِصَّتَهُمْ وَسَبَبَ خُرُوجِهِمْ. وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ رَصَاصٍ كُتِبَ فِيهِ شَأْنُ الْفِتْيَةِ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نُحَاسٍ فِي فَمِ الْكَهْفِ. وَقِيلَ: صَخْرَةٌ كُتِبَ فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ وَجُعِلَتْ فِي سُورِ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: اسْمُ كَلْبِهِمْ وَتَقَدَّمَ بَيْتُ أُمَيَّةَ قَالَهُ أَنَسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْجَبَلُ الَّذِي بِهِ الْكَهْفُ وَعَنْ عِكْرِمَةَ اسْمُ الدَّوَاةِ بِالرُّومِيَّةِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. وَقِيلَ: رَقَمَ النَّاسُ حَدِيثَهُمْ نقرا في الجبل. وعَجَباً نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَتَقْدِيرُهُ آيَةً عَجَباً، وُصِفَتْ بِالْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَاتِ عَجَبٍ وَأَمَّا أَسْمَاءُ فِتْيَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ فَأَعْجَمِيَّةٌ لَا تَنْضَبِطُ

بِشَكْلٍ وَلَا نَقْطٍ، وَالسَّنَدُ فِي مَعْرِفَتِهَا ضَعِيفٌ وَالرُّواةُ مُخْتَلِفُونَ فِي قِصَصِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ وَلَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَا قَصَّ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ قَصَصِهِمْ، وَمَنْ أَرَادَ تَطَلَّبَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَرُوِيَ أَنَّ اسْمَ الْمَلِكِ الْكَافِرِ الَّذِي خَرَجُوا فِي أَيَّامِهِ عَنْ مِلَّتِهِ اسْمُهُ دِقْيَانُوسُ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الرُّومِ. وَقِيلَ: فِي الشَّامِ وَأَنَّ بِالشَّامِ كَهْفًا فِيهِ مَوْتَى، وَيَزْعُمُ مُجَاوَرُوهُ أَنَّهُمْ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَعَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ وَبِنَاءٌ يُسَمَّى الرَّقِيمِ وَمَعَهُمْ كَلْبٌ رُمَّةٌ. وَبِالْأَنْدَلُسِ فِي جِهَةِ غَرْنَاطَةَ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ تُسَمَّى لُوشَةَ كَهْفٌ فِيهِ مَوْتَى وَمَعَهُمْ كَلْبٌ رُمَّةٌ وَأَكْثَرُهُمْ قَدِ انْجَرَدَ لَحْمُهُ وَبَعْضُهُمْ مُتَمَاسِكٌ، وَقَدْ مَضَتِ الْقُرُونُ السَّالِفَةُ وَلَمْ نَجِدْ مَنْ عَلِمَ شَأْنَهُمْ وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّهُمْ أَصْحابَ الْكَهْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلْتُ إِلَيْهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ مُنْذُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَهُمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَعَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُمْ بِنَاءٌ رُومِيٌّ يُسَمَّى الرَّقِيمِ كَأَنَّهُ قَصْرٌ مُخَلَّقٌ قَدْ بَقِيَ بَعْضُ جُدْرَانِهِ، وَهُوَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ خَرِبَةٍ وَبِأَعْلَى حَضْرَةِ غَرْنَاطَةَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ آثَارُ مَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ يُقَالُ لَهَا مَدِينَةُ دِقْيُوسَ. وَجَدْنَا فِي آثَارِهَا غَرَائِبَ مِنْ قُبُورٍ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا اسْتَسْهَلْتُ ذِكْرَ هَذَا مَعَ بُعْدِهِ لِأَنَّهُ عَجَبٌ يَتَخَلَّدُ ذِكْرُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْتَهَى. وَحِينَ كُنَّا بِالْأَنْدَلُسِ كَانَ النَّاسُ يَزُورُونَ هَذَا الْكَهْفَ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ يَغْلَطُونَ فِي عِدَّتِهِمْ إِذَا عَدُّوهُمْ، وَأَنَّ مَعَهُمْ كَلْبًا وَيَرْحَلُ النَّاسُ إِلَى لُوشَةَ لِزِيَارَتِهِمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ مِنْ مَدِينَةِ دِقْيُوسَ الَّتِي بِقَبْلِي غَرْنَاطَةَ فَقَدْ مَرَرْتُ عَلَيْهَا مِرَارًا لَا تُحْصَى، وَشَاهَدْتُ فِيهَا حِجَارَةً كِبَارًا، وَيَتَرَجَّحُ كَوْنُ أَهْلِ الْكَهْفِ بِالْأَنْدَلُسِ لِكَثْرَةِ دِينِ النَّصَارَى بِهَا حَتَّى أَنَّهَا هِيَ بِلَادُ مَمْلَكَتِهِمُ الْعُظْمَى، وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ بِمَا هُوَ فِي أَقْصَى مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ أَغْرَبُ وَأَبْعَدُ أَنْ يَعْرِفَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ. قِيلَ: اذْكُرْ مُضْمَرَةً. وَقِيلَ عَجَباً، وَمَعْنَى أَوَى جَعَلُوهُ مَأْوًى لَهُمْ وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ، ثُمَّ دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُؤْتِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ وَفَسَّرَهَا الْمُفَسِّرُونَ بِالرِّزْقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْمَغْفِرَةُ وَالرِّزْقُ وَالْأَمْنُ مِنَ الأعداء. والْفِتْيَةُ جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَكَذَلِكَ كَانُوا قَلِيلِينَ. وَعِنْدَ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ. وَلَفْظُ الْفِتْيَةُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَشْرَافِ وَالْعُظَمَاءِ مُطَوَّقِينَ مُسَوَّرِيِنَ بِالذَّهَبِ ذَوِي ذَوَائِبَ وَهُمْ مِنَ الرُّومِ، اتَّبَعُوا دِينَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: كَانُوا قَبْلَ عِيسَى وَأَصْحَابُنَا الْأَنْدَلُسِيُّونَ تَكْثُرُ فِي أَلْفَاظِهِمْ تَسْمِيَةُ نَصَارَى الْأَنْدَلُسِ بِالرُّومِ فِي نَثْرِهِمْ وَنَظْمِهِمْ وَمُخَاطَبَةِ عَامَّتِهِمْ، فَيَقُولُونَ: غَزَوْنَا الرُّومَ، جَاءَنَا الرُّومُ. وَقَلَّ مَنْ يَنْطِقُ بِلَفْظِ النَّصَارَى، وَلَمَّا دَعَوْا بِإِيتَاءِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَغَيْرَهُ، دَعَوُا اللَّهَ

بأن يهيىء لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمُ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ مُفَارَقَةِ دِينِ أَهْلِيهِمْ وَتَوْحِيدِ اللَّهِ رَشَدًا وَهِيَ الِاهْتِدَاءُ وَالدَّيْمُومَةُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاجْعَلْ أَمْرِنا رَشَداً كُلَّهُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ: وَهَيِّ وَيُهَيِّي بِيَاءَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَمْزِ، يَعْنِي أَنَّهُ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ السَّاكِنَةَ يَاءً. وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عاصم: وهيء لَنَا وَيُهَيِّ لَكُمْ لَا يُهْمَزُ انْتَهَى. فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ يَاءً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَذَفَهَا فَالْأَوَّلُ إِبْدَالٌ قِيَاسِيٌّ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ يَنْقَاسُ حَذْفُ الْحَرْفِ الْمُبْدَلِ مِنَ الْهَمْزَةِ فِي الْأَمْرِ أَوِ الْمُضَارِعِ إِذَا كَانَ مَجْزُومًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: رُشْدٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَشَداً بِفَتْحِهِمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ أَرْجَحُ لِشَبَهِهَا بِفَوَاصِلِ الْآيَاتِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنْهُمْ كَانَ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَأَلْفَاظُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ رشد الآخرة ورحمتها، وَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَجْعَلَ دُعَاءَهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّهَا كَافِيَةٌ، وَيُحْتَمَلُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ انْتَهَى. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ لِلْإِنَامَةِ الْمُسْتَثْقَلَةِ الَّتِي لَا يَكَادُ يُسْمَعُ مَعَهَا، وَعَبَّرَ بِالضَّرْبِ لِيَدُلَّ عَلَى قُوَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَاللُّصُوقِ وَاللُّزُومِ وَمِنْهُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ «1» وَضُرِبَ الْجِزْيَةِ وَضَرْبُ الْبَعْثِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقِ: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ: وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَكَ إِنَّنِي ... ضُرِبَتْ على الأرض بالأشداد وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالسَّمَاحَةَ وَالنِّدَّى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ اسْتُعِيرَ لِلُزُومِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لِهَذَا الْمَمْدُوحِ، وَذَكَرَ الْجَارِحَةَ الَّتِي هِيَ الْآذَانُ إِذْ هِيَ يَكُونُ مِنْهَا السَّمْعُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْكِمُ نَوْمٌ إِلَّا مَعَ تَعَطُّلِ السَّمْعِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» أَيِ اسْتَثْقَلَ نَوْمَهُ جِدًّا حَتَّى لَا يَقُومَ بِاللَّيْلِ. وَمَفْعُولُ ضَرَبْنَا مَحْذُوفٌ أَيْ حِجَابًا مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَمَا يُقَالُ بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ يُرِيدُونَ بَنَى عَلَيْهَا الْقُبَّةَ. وَانْتَصَبَ سِنِينَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فَضَرَبْنا، وعَدَداً مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ أَوْ منتصب بفعل مضمر

_ (1) سورة البقرة: 2/ 61.

أَيْ بَعْدَ عَدَداً وَبِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْقَبْضِ وَالنَّفْضِ، وَوُصِفَ بِهِ سِنِينَ أَيْ سِنِينَ مَعْدُودَةً. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ عَدَداً الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُعَدَّ إِلَّا مَا كَثُرَ لَا مَا قَلَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْقِلَّةَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ قَلِيلٌ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «1» انْتَهَى وَهَذَا تَحْرِيفٌ فِي التَّشْبِيهِ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهَذَا تَشْبِيهٌ لِسُرْعَةِ انْقِضَاءِ مَا عَاشُوا فِي الدُّنْيَا إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ الْفَتَى لَمْ يَعْرَ يَوْمًا إِذَا اكْتَسَى ... وَلَمْ يَكُ صُعْلُوكًا إِذَا مَا تَمَوَّلَا ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أَيْ أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ، وَالْبَعْثُ التَّحْرِيكُ عَنْ سُكُونٍ إِمَّا فِي الشَّخْصِ وَإِمَّا عَنِ الْأَمْرِ الْمَبْعُوثِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ فيه متحركا ولِنَعْلَمَ أي لنظر لَهُمْ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا فِي قَوْلِهِ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ «2» . وَفِي التَّحْرِيرِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِنَعْلَمَ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِالْيَاءِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ لِيَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ حَكَاهُ الْأَخْفَشُ. وَفِي الْكَشَّافِ وقرىء لِيَعْلَمَ وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنْهُ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهُ بِالِابْتِدَاءِ لَا بِإِسْنَادِ يَعْلَمُ إِلَيْهِ، وَفَاعِلُ يَعْلَمُ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ كَمَا أنه مَفْعُولُ يَعْلَمُ انْتَهَى. فَأَمَّا قِرَاءَةُ لِنَعْلَمَ فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْتِفَاتٌ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى لِنَعْلَمَ بِالنُّونِ سَوَاءً، وَأَمَّا لِيَعْلَمَ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ لِيُعْلِمَ اللَّهُ النَّاسَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ. وَالْجُمْلَةُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ يُعْلِمَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلِيَعْلَمَ مُعَلَّقٌ. وَأَمَّا مَا فِي الْكَشَّافِ فَلَا يَجُوزُ مَا ذَكَرَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ إِذْ ذَاكَ تَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَا يُسَمَّى فَاعِلُهُ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَكَمَا أَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْجُمَلِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ فَكَذَلِكَ لَا يَقُومُ مَقَامَ مَا نَابَ عَنْهُ. وَلِلْكُوفِيِّينَ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْنَادُ إِلَى الْجُمْلَةِ اللَّفْظِيَّةِ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحِزْبَيْنِ هُمَا مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ «3» الْآيَةَ. وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ تَطَاوَلَ، ويدل على

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 35. (2) سورة البقرة: 2/ 143. (3) سورة الكهف: 18/ 19.

ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بقصتهم أولا محنصرة مِنْ قَوْلِهِ أَمْ حَسِبْتَ إِلَى قَوْلِهِ أَمَداً ثُمَّ قَصَّهَا تَعَالَى مُطَوَّلَةً مُسْهَبَةً مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ نَقُصُّ- إِلَى قَوْلِهِ- قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْحِزْبَ الْوَاحِدَ هُمُ الْفِتْيَةُ أَيْ ظَنُّوا لُبْثَهُمْ قَلِيلًا، وَالْحِزْبُ الثَّانِي هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الْفِتْيَةُ عَلَى عَهْدِهِمْ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّارِيخُ بِأَمْرِ الْفِتْيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمَا حِزْبَانِ كَافِرَانِ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ. قَالَ السُّدِّيُّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ عَلَّمُوا قُرَيْشًا السُّؤَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَعَنِ الْخَضِرِ وَعَنِ الرُّوحِ وَكَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ فِي الْكَهْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْمُ أَهْلِ الْكَهْفِ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ. وَقِيلَ: حِزْبَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ أَصْحابَ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا مُلْكَ الْمَدِينَةِ حِزْبٌ وَأَهْلُ الْكَهْفِ حِزْبٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْحِزْبَانِ اللَّهُ وَالْخَلْقُ كَقَوْلِهِ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ «2» وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ قَتَادَةَ: لَمْ يَكُنْ لِلْفَرِيقَيْنِ عِلْمٌ بِلُبْثِهِمْ لَا لِمُؤْمِنٍ وَلَا لِكَافِرٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا «3» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَمَا بُعِثُوا زَالَ الشَّكُّ وَعُرِفَتْ حَقِيقَةُ اللبث. وأَحْصى جوز الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَمَا مصدرية وأَمَداً مَفْعُولٌ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ أفعل تفضيل وأَمَداً تَمْيِيزٌ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ واختار الفارسي والزمخشري وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَرَجَّحُوا هَذَا بِأَنَّ أَحْصى إِذَا كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ كَانَ بِنَاءً مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا أَعْطَاهُ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ. وَيَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فَيَجُوزُ، وَخَلَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَأَوْرَدَ فِيمَا بُنِيَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ مَا أَعْطَاهُ لِلْمَالِ وَآتَاهُ لِلْخَيْرِ وَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللبن. وفهو لِمَا سِوَاهَا أَضَيْعُ. قَالَ: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَفْعَلُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ انْتَهَى. وَأَسْوَدُ وَأَبْيَضُ لَيْسَ بِنَاؤُهُمَا مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَفِي بِنَاءِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ وَلِلتَّفْضِيلِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ جَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ وَلَا يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا وَمَا وَرَدَ حمل على الشذوذ وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ. فَلَا يَجُوزُ، أَوْ لِغَيْرِ النَّقْلِ كَأَشْكَلَ الْأَمْرُ وَأَظْلَمَ اللَّيْلُ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ مَا أَشْكَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَمَا أَظْلَمَ هَذَا اللَّيْلَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَإِذَا

_ (1) سورة الكهف: 18/ 25. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 140. (3) سورة الكهف: 18/ 25.

قُلْنَا بِأَنَّ أَحْصى اسْمٌ لِلتَّفْضِيلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ موصولا مبينا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ أَيُّ مُضَافَةً حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وَالتَّقْدِيرُ لِيُعْلَمَ الْفَرِيقُ الَّذِي هُوَ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُحْصُوا، وَإِذَا كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُحْذَفْ صَدْرُ صِلَتِهَا لِوُقُوعِ الْفِعْلِ صِلَةً بِنَفْسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ أَيُّ مَوْصُولَةً فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا لِأَنَّهُ فَاتَ تَمَامُ شَرْطِهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا. وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُوُلُ فِيمَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ؟ قُلْتُ: لَيْسَ بِالْوَجْهِ السَّدِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ بِنَاءَهُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَنَحْوَ أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَأَفْلَسَ مِنَ ابْنِ الْمُذَلَّقِ شَاذٌّ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الشَّاذِّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مُمْتَنِعٌ فَكَيْفَ بِهِ، وَلِأَنَّ أَمَداً لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِأَفْعَلَ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَإِنْ زَعَمْتَ أَنِّي أَنْصِبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْصى كَمَا أُضْمِرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى يَضْرِبُ الْقَوَانِسَ فَقَدْ أَبْعَدْتَ الْمُتَنَاوَلَ وَهُوَ قَرِيبٌ حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكُونَ أَحْصى فِعْلًا ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إِلَى تَقْدِيرِهِ وَإِضْمَارِهِ انْتَهَى. أَمَّا دَعْوَاهُ الشُّذُوذَ فَهُوَ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَوَازُ بِنَائِهِ مِنْ أَفْعَلَ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَنَّ التَّفْصِيلَ اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَقَوْلُ غَيْرِهِ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَحْصى لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ في التمييز، وأَمَداً تَمْيِيزٌ وَهَكَذَا أَعْرَبَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْصى أَفْعَلُ لِلتَّفْضِيلِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا أَقْطَعُ النَّاسُ سَيْفًا، وَزَيْدٌ أَقْطَعُ لِلْهَامِ سَيْفًا، وَلَمْ يعر به مَفْعُولًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ لَا يَكُونُ سَدِيدًا فَقَدْ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى نَصْبِ أَمَداً بِلَبِثُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا غَيْرُ مُتَّجِهٍ انْتَهَى. وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمَدَ هُوَ الْغَايَةُ وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلْمُدَّةِ غَايَةً فِي أَمَدِ الْمُدَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا بمعنى الذي وأَمَداً مُنْتَصِبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، وَتَقْدِيرُهُ لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ أَيْ مُدَّةٍ، وَيَصِيرُ مِنْ أَمَدٍ تَفْسِيرًا لِمَا أنهم في لفظ لِما لَبِثُوا كَقَوْلِهِ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «1» وَلَمَّا سَقَطَ الْحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ زَعَمْتَ إِلَى آخِرِهِ فَيَقُولُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الزَّعْمِ لِأَنَّهُ لِقَائِلِ

_ (1) سورة فاطر: 35/ 2.

ذَلِكَ أَنْ يَسْلُكَ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَنْتَصِبُ الْمَفْعُولَ بِهِ، فَالْقَوَانِسُ عِنْدَهُمْ مَنْصُوبٌ بِأَضْرِبُ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُهُ بِضَرْبِ الْقَوَانِسِ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «1» مَنْ مَنْصُوبَةٌ بِأَعْلَمَ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَوْ كَثُرَ وُجُودُ مِثْلِ: وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا لَكِنَّا نَقِيسُهُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ صَحِيحًا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْمَصْدَرِ فَيَعْمَلُ بِذَلِكَ التَّضْمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى يَزِيدُ ضَرْبَنَا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا، وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ لِيَعْلَمَ مُشْعِرًا بِاخْتِلَافٍ فِي أَمْرِهِمْ عَقَّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُصُّ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ، وَجَاءَ لَفْظُ نَحْنُ نَقُصُّ مُوَازِيًا لِقَوْلِهِ لِنَعْلَمَ. ثُمَّ قَالَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فَفِيهِ إِضَافَةُ الرَّبِّ وَهُوَ السَّيِّدُ وَالنَّاظِرُ فِي مَصْلَحَةِ عَبِيدِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ آمَنُوا بِنَاءً لِلْأَشْعَارِ بِتِلْكَ الرُّتْبَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ لَهُ مَمْلُوكُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَزِدْناهُمْ هُدىً وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَزَادَهُمْ لِمَا في لفظة نامن الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، وَزِيَادَتُهُ تَعَالَى لَهُمْ هُدىً هُوَ تَيْسِيرُهُمْ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَمُبَاعَدَةِ النَّاسِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ. وَفِي التَّحْرِيرِ زِدْناهُمْ ثَمَرَاتٍ هُدىً أَوْ يَقِينًا قَوْلَانِ، وَمَا حَصَلَتْ بِهِ الزِّيَادَةُ امْتِثَالُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ، أَوْ إِنْطَاقُ الْكَلْبِ لَهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ، أَوْ إِنْزَالُ مَلَكٍ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْشِيرِ وَالتَّثْبِيتِ وَإِخْبَارُهُمْ بِظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ يَكُونُ الدِّينُ بِهِ كُلُّهُ لِلَّهِ فَآمَنُوا بِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ أَقْوَالٌ مُلَخَّصَةٌ مِنَ التَّحْرِيرِ. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ثَبَّتْنَاهَا وَقَوَّيْنَاهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى هِجْرَةِ الْوَطَنِ وَالنَّعِيمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ إِلَى غَارٍ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ لَا أَنِيسَ بِهِ وَلَا مَاءَ وَلَا طَعَامَ، وَلَمَّا كَانَ الْفَزَعُ وَخَوْفُ النَّفْسِ يُشْبِهُ بِالتَّنَاسُبِ الِانْحِلَالَ حَسُنَ فِي شِدَّةِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ التَّصْمِيمِ أَنْ تُشْبِهَ الرَّبْطَ، وَمِنْهُ فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَتَفَرَّقُ عِنْدَ الْفَزَعِ وَالْحَرْبِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها «2» وَالْعَامِلُ فِي أَنْ رَبَطْنا أَيْ رَبَطْنَا حِينَ قامُوا، وَيَحْتَمِلُ الْقِيَامُ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْكَافِرِ دِقْيَانُوسَ، فَإِنَّهُ مَقَامٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ حَيْثُ صَلَبُوا عَلَيْهِ وَخَلَعُوا دِينَهُ وَرَفَضُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ هَيْبَتَهُ، ويحتمل أن

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 117. (2) سورة القصص: 28/ 10.

يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ انْبِعَاثِهِمْ بِالْعَزْمِ إِلَى الْهُرُوبِ إِلَى اللَّهِ وَمُنَابَذَةِ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا اعْتَزَمَ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْجِدِّ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ. وَقِيلَ: قامُوا يَدْعُونَ النَّاسَ سِرًّا. وَقَالَ عَطَاءٌ قامُوا عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنَ النَّوْمِ قَالُوا وقبل: قامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: إِذْ قامُوا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَتَحَرَّكَتْ هِرَّةٌ. وَقِيلَ: فَأْرَةٌ فَفَزِعَ دِقْيَانُوسُ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ قَالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ قَوْمُهُمْ عُبَّادَ أَصْنَامٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا وَحَّدُوا اللَّهَ بِأَنَّ رَبَّهُمْ هو موجد السموات وَالْأَرْضِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا عَلَى مَا يَشَاءُ، ثُمَّ أَكَّدُوا هذا التوجيد بِالْبَرَاءَةِ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِهِ بِلَفْظِ النَّفْيِ الْمُسْتَغْرِقِ تَأْبِيدَ الزَّمَانِ عَلَى قَوْلٍ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ لَامُ تَوْكِيدٍ وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، أَيْ لَقَدْ قُلْنا لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا قَوْلًا شَطَطاً أَيْ ذَا شَطَطٍ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالْجَوْرُ، فَشَطَطًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ إِمَّا عَلَى الْحَذْفِ كَمَا قَدَّرْنَاهُ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ بِقُلْنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَطَطاً كَذِبًا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: خَطَأٌ. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَلَمَّا وَحَّدُوا اللَّهَ تَعَالَى وَرَفَضُوا مَا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ أَخَذُوا فِي ذَمِّ قَوْمِهِمْ وَسُوءِ فِعْلِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ عَظَّمُوا جُرْمَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوهَا فِي مَقَامِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ تَقْبِيحًا لِمَا هُوَ وَقَوْمُهُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّبَرِّي مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَفَتُّ فِي عَضُدِ الْمَلِكِ إِذَا اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ بِذَمِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ لِلْأَمْرِ الذي عزموا عليه وهؤُلاءِ مبتدأ. وقَوْمُنَا قال الحوفي: خبر واتَّخَذُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: قَوْمُنَا عطف بيان واتَّخَذُوا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ دُونِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا تَحْضِيضٌ صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ سُلْطَانٍ بَيِّنٍ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّحْضِيضُ الصِّرْفُ، فَحَضُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ لَهُمْ، وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ عَلَى اتخاذهم آلهة واتَّخَذُوا هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَمِلُوا لِأَنَّهَا أَصْنَامٌ هُمْ نَحَتُوهَا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرُوا، وَفِي مَا ذَكَرُوهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا

بِالْحُجَّةِ وَالدَّعْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ فَاسِدَةٌ وَهِيَ ظُلْمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبٌ بِنِسْبَةِ شُرَكَاءِ اللَّهِ. وإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خِطَابٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَالِاعْتِزَالُ يَشْمَلُ مُفَارَقَةَ أَوْطَانِ قَوْمِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ فَهُوَ اعْتِزَالٌ جُسْمَانِيٌّ وَقَلْبِيٌّ، وَمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أَيْ واعتزلتم معبودهم وإِلَّا اللَّهَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ إِنْ كَانَ قَوْمُهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ لِانْدِرَاجِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً فَاعْتَزَلَتِ الْفِتْيَةُ عِبَادَةَ تِلْكَ الْآلِهَةِ وَلَمْ يَعْتَزِلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ. وَقَالَ هَذَا أَيْضًا الْفَرَّاءُ، وَمُنْقَطِعٌ إِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ لِعَدَمِ انْدِرَاجِهِ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِنَا انْتَهَى وَمَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرَ هَارُونُ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَفْسِيرُ الْمَعْنَى. وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ اعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْآنًا لِمُخَالَفَتِهَا لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بَلْ هُوَ مُتَوَاتِرٌ مَا ثَبَتَ فِي السَّوَادِ وهو وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَقِيلَ: وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ كَلَامٌ مُعْتَرَضٌ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن الْفِتْيَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا ما فيه وإِلَّا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ لَهُ الْعَامِلُ. فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أَيِ اجْعَلُوهُ مَأْوًى لَكُمْ تُقِيمُونَ فِيهِ وَتَأْوُونَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ يَنْشُرْ فِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ حَيْثُ أَوَوْا إِلَى كَهْفٍ، وَرَتَّبُوا عَلَى مَأْوَاهُمْ إِلَيْهِ نَشْرَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَهْيِئَةَ رِفْقِهِ تَعَالَى بِهِمْ لِأَنَّ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ لَا يُضَيِّعُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيَبْسُطُ عَلَيْنَا رَحْمَتَهُ ويهيىء لَنَا مَا نَرْتَفِقُ بِهِ فِي أَمْرِ عَيْشِنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ يُسَهِّلْ عَلَيْكُمْ مَا تَخَافُونَ مِنَ الْمَلِكِ وَظُلْمِهِ، وَيَأْتِيكُمْ بِالْيُسْرِ وَالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى وَيُهَيِّئْ لَكُمْ بَدَلًا مِنْ أَمْرِكُمُ الصَّعْبِ مِرفَقاً. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ أَيْ بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ ثِقَةً بِفَضْلِ اللَّهِ وَقُوَّةً فِي رَجَائِهِمْ لِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ وَنُصُوعِ يَقِينِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِهِ نَبِيٌّ فِي عَصْرِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ نَبِيًّا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ سَعْدَانَ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ في رواية

الأعشى والبرجمي وَالْجُعْفِيِّ عَنْهُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ رِفْقًا لِأَنَّ جَمِيعًا فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَرْتَفِقُ بِهِ وَفِي الْجَارِحَةِ حَكَاهُ الزَّجَّاجُ وَثَعْلَبٌ. وَنَقَلَ مَكِّيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي الْأَمْرِ وَفِي الْيَدِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا كَسْرَ الْمِيمِ، وَأَنْكَرَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْفِقُ مِنَ الْجَارِحَةِ إِلَّا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَخَالَفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: الْمَرْفِقُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَوْضِعُ كَالْمَسْجِدِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هُوَ مَصْدَرٌ كَالرِّفْقِ جَاءَ عَلَى مَفْعِلٍ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ فِيمَا يُرْتَفَقُ بِهِ وَإِمَّا مِنَ الْيَدِ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ لَا غَيْرُ، وَعَنِ الْفَرَّاءُ أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ مِرفَقاً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ فِيمَا ارْتَفَقْتَ بِهِ وَيَكْسِرُونَ مَرْفِقَ الْإِنْسَانِ، وَالْعَرَبُ قَدْ يَكْسِرُونَ الْمِيمَ مِنْهُمَا جَمِيعًا انْتَهَى وَأَجَازَ مُعَاذٌ فَتْحَ الْمِيمِ وَالْفَاءِ. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً. هُنَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ «1» فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَأَرْفَقَهُمْ فِي الْكَهْفِ بِأَشْيَاءَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عُمَرَ وتَتَزاوَرُ بِإِدْغَامِ تَتَزَاوَرُ فِي الزَّايِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ مَنَاذِرَ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ إِذَا حَذَفُوا التَّاءَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عامر، وقتادة، وَحُمَيْدٌ، وَيَعْقُوبُ عَنِ الْعُمَرِيِّ: تَزْوَرُّ عَلَى وَزْنِ تَحْمَرُّ. وقرأ الجحدري، وأبو رَجَاءٍ، وَأَيُّوبٌ السِّخْتِيَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَجَابِرٌ، وَوَرَدَ عَنْ أَيُّوبَ تَزْوَارُّ عَلَى وَزْنِ تَحْمَارُّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ: تَزْوَئِرُّ بِهَمْزَةٍ قَبْلَ الرَّاءِ عَلَى قولهم ادهأمّ واشعألّ بِالْهَمْزِ فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، والمعنى تزوغ وتميل. وذاتَ الْيَمِينِ جِهَةَ يَمِينِ الْكَهْفِ، وَحَقِيقَتُهُ الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ يَعْنِي يَمِينَ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَهْفِ أَوْ يَمِينَ الْفِتْيَةِ. وتَقْرِضُهُمْ لَا تَقْرَبُهُمْ مِنْ مَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ أَيْ مُتَّسَعٌ مِنَ الْكَهْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَقْرِضُهُمْ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْيَاءِ أَيْ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 16.

يَقْرِضُهُمُ الْكَهْفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا تُصِيبُهُمُ الشَّمْسُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهَا كَانَتِ الشَّمْسُ بِالْعَشِيِّ تَنَالُهُمْ بِمَا فِي مَسِّهَا صَلَاحٌ لِأَجْسَامِهِمْ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَعَ الشَّمْسِ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ، وَحَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الدَّبُورِ، وَهُمْ فِي زَاوِيَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسلم: كَانَ بَابُ الْكَهْفِ يَنْظُرُ إِلَى بَنَاتِ نَعْشٍ وَعَلَى هَذَا كَانَ أَعْلَى الْكَهْفِ مَسْتُورًا مِنَ الْمَطَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ كَهْفُهُمْ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ لَا تَدْخُلُهُ الشَّمْسُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، اخْتَارَ اللَّهُ لَهُمْ مَضْجَعًا مُتَّسَعًا فِي مَقْنَاةٍ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ فَتُؤْذِيَهِمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ كُرْبَةَ الْغَارِ وَغُمُومَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي ظِلِّ نَهَارِهِمْ كُلِّهِ لَا تُصِيبُهُمُ الشَّمْسُ فِي طُلُوعِهَا وَلَا غُرُوبِهَا مَعَ أَنَّهُمْ فِي مَكَانٍ وَاسِعٍ مُنْفَتِحٍ مُعَرَّضٍ لِإِصَابَةِ الشَّمْسِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَحْجُبُهَا عَنْهُمُ انْتَهَى. وَهُوَ بَسْطُ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِعْلُ الشَّمْسِ آيَةٌ مِنْ آياتِ اللَّهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ بَابُ الْكَهْفِ إِلَى جِهَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَى تَقْرِضُهُمْ تُعْطِيهِمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا ثُمَّ تَزُولُ سَرِيعًا كَالْقَرْضِ يُسْتَرَدُّ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ أَنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ بِالْغَدْوَةِ وَتُصِيبُهُ بِالْعَشِيِّ إِصَابَةً خَفِيفَةً انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقَرْضِ الَّذِي يُعْطَى ثُمَّ يُسْتَرَدُّ لَكَانَ الْفِعْلُ رُبَاعِيًّا فَكَانَ يَكُونُ تُقْرِضُهُمْ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً. لَكِنَّهُ مِنَ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ تُقْرِضُ لَهُمْ أَيْ تَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا. قِيلَ: وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ لَا تُصِيبُ مَكَانَهُمْ أَصْلًا لَكَانَ يَفْسُدُ هَوَاؤُهُ وَيَتَعَفَّنُ مَا فِيهِ فَيَهْلِكُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ أَمْرَهُمْ فَأَسْكَنَهُمْ مَسْكَنًا لَا يَكْثُرُ سُقُوطُ الشَّمْسِ فِيهِ فَيَحْمِي، وَلَا تَغِيبُ عَنْهُ غَيْبُوبَةً دَائِمَةً فَيَعْفَنُ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا صَنَعَهُ تَعَالَى بِهِمْ مِنَ ازْوِرَارِ الشَّمْسِ وَقَرْضِهَا طَالِعَةً وَغَارِبَةً آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ السَّمْتِ تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَلَا تُصِيبُهُمُ اخْتِصَاصًا لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ، وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ بِحَيْثُ كَانَ لَهُ حَاجِبٌ مِنَ الشَّمْسِ كَانَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ حَدِيثَهُمْ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَهُوَ هِدَايَتُهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ بَيْنِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَإِيوَاؤُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْكَهْفِ، وَحِمَايَتُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِلْقَاءُ الْهَيْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَصَرْفُ الشَّمْسِ عَنْهُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لِئَلَّا تَفْسَدَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنَامَتُهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، وَصَوْنُهُمْ مِنَ الْبِلَى وَثِيَابُهُمْ مِنَ التَّمَزُّقِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ قَوْلُهُ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ مَا سَبَقَ نِسْبَتُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْكَهْفِ، وَمَنْ يُضْلِلْ عَامٌّ أَيْضًا مِثْلَ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ وَأَصْحَابِهِ، وَالْخِطَابُ فِي وَتَحْسَبُهُمْ وَفِي وَتَرَى الشَّمْسَ لِمَنْ قُدِّرَ لَهُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: كَانُوا مُفَتَّحَةً أَعْيُنُهُمْ وَهُمْ نِيَامٌ فَيَحْسَبُهُمُ النَّاظِرُ مُنْتَبِهِينَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ

عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْسَبَ الرَّائِي ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحِفْظِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ وَقِلَّةِ التَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّوَّامِ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اسْتِرْخَاءٌ وَهَيْئَاتٌ تَقْتَضِي النَّوْمَ، فَيَحْسَبُهُ الرَّائِي يَقْظَانَ وَإِنْ كَانَ مَسْدُودَ الْعَيْنَيْنِ، وَلَوْ صَحَّ فَتْحُ أَعْيُنِهِمْ بِسَنَدٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ كَانَ أَبْيَنَ فِي أَنْ يَحْسِبَ عَلَيْهِمُ التَّيَقُّظَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ وَلَيْسَ عَلَى تَقْدِيرٍ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَحَسِبْتَهُمْ أَيْقاظاً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَنُقَلِّبُهُمْ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَقَعَ الْحُسْبَانُ مِنْ جِهَةِ تَقَلُّبِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْيَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ وَمِنَ الشِّمَالِ إِلَى الْيَمِينِ وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَنُقَلِّبُهُمْ بِالنُّونِ مَزِيدُ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِمْ حَيْثُ أَسْنَدَ التَّقْلِيبَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ ذَلِكَ. وحكى الزمخشري أنه قرىء وَيُقَلِّبُهُمْ بِالْيَاءِ مُشَدَّدًا أَيْ يُقَلِّبُهُمُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا حَكَى الْأَهْوَازِيُّ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيَقْلِبُهُمْ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ سَاكِنَةِ الْقَافِ مُخَفَّفَةِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا حَكَى ابْنُ جِنِّي: وَتَقَلُّبَهُمْ مَصْدَرُ تَقَلَّبَ مَنْصُوبًا، وَقَالَ: هَذَا نُصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَتَرَى أَوْ تُشَاهِدُ تَقَلُّبَهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الْيَاءَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ الْيَمَانِيِّ. وَذَكَرَ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَرَأَ وَتَقْلِبُهُمْ بِالتَّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ مُضَارِعُ قَلَبَ مُخَفَّفًا. قِيلَ: وَالْفَائِدَةُ فِي تَقْلِيبِهِمْ فِي الْجِهَتَيْنِ لِئَلَّا تُبْلِيَ الْأَرْضُ ثِيَابَهُمْ وَتَأْكُلَ لُحُومَهُمْ، فَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ مَاتُوا وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْيَاءً تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى حِفْظِ أَجْسَامِهِمْ وَثِيَابِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ مَسَّتْهُمُ الشَّمْسُ لَأَحْرَقَتْهُمْ، وَلَوْلَا التَّقْلِيبُ لأكلتهم الأرض انتهى. وذاتَ بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ أَيْ جِهَةً ذاتَ الْيَمِينِ. وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ الْخِلَافَ فِي أَوْقَاتِ تَقْلِيبِهِمْ وَفِي عَدَدِ التَّقْلِيبَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ عِيَاضٍ بِأَقْوَالٍ مُتَعَارِضَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ ضَرَبْنَا عَنْ نَقْلِهَا صَفْحًا وَكَذَلِكَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لِاسْمِ كَلْبِهِمْ وَلَا لِكَوْنِهِ كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّ مِثْلَ الْعَدَدِ وَالْوَصْفِ وَالتَّسْمِيَةِ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ، وَالسَّمْعُ لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَسْتَحِيلُ وُرُودُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَكَلْبُهُمْ أُرِيدَ بِهِ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَسَدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ رَجُلٌ طَبَّاخٌ لَهُمْ تَبِعَهُمْ، أَوْ أَحَدُهُمْ قَعَدَ عِنْدَ الْبَابِ طَلِيعَةً لَهُمْ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ غُلَامُ ثعلب أنه قرىء وَكَالِئُهُمُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَلَأَ إِذَا حَفِظَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ الْكَلْبُ لِحِفْظِهِ لِلْإِنْسَانِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَالِئِ الرَّجُلُ عَلَى مَا رُوِيَ إِذْ بَسْطُ الذِّرَاعَيْنِ وَاللُّصُوقُ بِالْأَرْضِ مَعَ رَفْعِ الْوَجْهِ للتطلع هي

هيئة الريئة الْمُسْتَخْفِي بِنَفْسِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّادِقُ: وَكَالِبُهُمْ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ أَيْ صَاحِبُ كَلْبِهِمْ، كَمَا تَقُولُ لَابِنٌ وَتَامِرٌ أَيْ صَاحِبُ لَبَنٍ وَتَمْرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: باسِطٌ ذِراعَيْهِ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ، وَإِضَافَتُهُ إِذَا أُضِيفَ حَقِيقَةً مُعَرَّفَةً كَغُلَامِ زَيْدٍ إِلَّا إِذَا نَوَيْتَ حِكَايَةَ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ لَيْسَ إِجْمَاعًا، بَلْ ذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُضَاءٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ، وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْوَصِيدُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَابُ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ: الْفِنَاءُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: الصَّعِيدُ وَالتُّرَابُ. وَقِيلَ: الْعَتَبَةُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا التُّرَابُ. وَالْخِطَابُ فِي لَوِ اطَّلَعْتَ لمن هوله فِي قَوْلِهِ وَتَرَى الشَّمْسَ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: لَوِ اطَّلَعْتَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَصْلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ ضَمُّهَا عَنْ شَيْبَةَ وَأَبِي جعفر ونافع وتملية الرُّعْبِ لِمَا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ، فَمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِمْ أَدْرَكَتْهُ تِلْكَ الْهَيْبَةُ. وَمَعْنَى لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ أَعْرَضْتَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ. وَأَوْلَيْتَهُمْ كَشْحَكَ، وَانْتَصَبَ فِراراً عَلَى الْمَصْدَرِ إِمَّا لَفَرَرْتَ مَحْذُوفَةً، وَإِمَّا لَوَلَّيْتَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى لَفَرَرْتَ، وَإِمَّا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ. وَانْتَصَبَ رُعْباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1» عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ نَقْلَ التَّمْيِيزِ مِنَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّكَ لَوْ سَلَّطْتَ عَلَيْهِ الْفِعْلَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ تَعَدِّي الْمَفْعُولِ بِهِ بِخِلَافِ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وَقِيلَ: سَبَبُ الرُّعْبِ طُولُ شُعُورِهِمْ وَأَظْفَارِهِمْ وَصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ وَتَغْيِيرُ أَطْمَارِهِمْ. وَقِيلَ: لِإِظْلَامِ الْمَكَانِ وَإِيحَاشِهِ، وَلَيْسَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَنْكَرُوا أَحْوَالَهُمْ وَلَمْ يَقُولُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «2» وَلِأَنَّ الَّذِي بُعِثَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يُنْكِرْ إِلَّا الْعَالَمَ وَالْبِنَاءَ لَا حَالَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُمْ بِحَالَةٍ حَسَنَةٍ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ الرَّائِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَيْقَاظِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ تَتَخَرَّقُهُ الرِّيَاحُ وَالْمَكَانُ الَّذِي بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ مُوحِشًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَإِبْدَالِ الْيَاءِ مِنَ

_ (1) سورة القمر: 54/ 12. (2) سورة الكهف: 18/ 19.

الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْإِبْدَالِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي رُعْباً فِي آلِ عِمْرَانَ. وَقَرَأَ هُنَا بِضَمِّ الْعَيْنِ أَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى. وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً. الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ. قِيلَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ «1» أَيْ مِثْلُ جَعْلِنَا إِنَامَتَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ آيَةً، جعلنا بعثهم آية. قال الزَّجَّاجُ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَقَالَ: وَكَمَا أَنَمْنَاهُمْ تِلْكَ النَّوْمَةَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ إِذْكَارًا بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْبَعْثِ جَمِيعًا، لِيَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَرَّفُوا حَالَهُمْ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ، فَيَعْتَبِرُوا وَيَسْتَدِلُّوا عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَيَزْدَادُوا يقينا ويشكر وأما أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَكُرِّمُوا بِهِ انْتَهَى. وَنَاسَبَ هَذَا التَّشْبِيهُ قَوْلَهُ تَعَالَى حِينَ أَوْرَدَ قِصَّتَهُمْ أَوَّلًا مُخْتَصَرَةً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي جِهَتِهِمْ وَالْعِبْرَةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ، وَاللَّامُ فِي لِيَتَسائَلُوا لَامُ الصَّيْرُورَةِ لِأَنَّ بَعْثَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِ تَسَاؤُلِهِمُ انْتَهَى. وَالْقَائِلُ. قِيلَ: كَبِيرُهُمْ مُكَسْلِمِينَا. وَقِيلَ: صَاحِبُ نَفَقَتِهِمْ تَمْلِيخَا وَكَمْ سُؤَالٌ عَنِ الْعَدَدِ وَالْمَعْنَى كَمْ يَوْمًا أَقَمْتُمْ نَائِمِينَ، وَالظَّاهِرُ صُدُورُ الشَّكِّ مِنَ الْمَسْئُولِينَ. وَقِيلَ: أَوْ لِلتَّفْصِيلِ. قَالَ بَعْضُهُمْ لَبِثْنا يَوْماً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ يَوْمٍ وَالسَّائِلُ أَحَسَّ فِي خَاطِرِهِ طُولَ نَوْمِهِمْ وَلِذَلِكَ سَأَلَ. قِيلَ: نَامُوا أَوَّلَ النَّهَارِ وَاسْتَيْقَظُوا آخِرَ النَّهَارِ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَالْقَوْلُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ لَا يُعَدَّ كَذِبًا، وَلَمَّا عَرَضَ لَهُمُ الشَّكُّ فِي الْإِخْبَارِ رَدُّوا عِلْمَ لُبْثِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمُدَّةٍ لُبْثِهِمْ كَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ عَلِمُوا بِالْأَدِلَّةِ أَوْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ أَنَّ الْمُدَّةَ مُتَطَاوِلَةٌ وَأَنَّ مِقْدَارَهَا مُبْهَمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى. وَلَمَّا انْتَبَهُوا مِنْ نَوْمِهِمْ أَخَذَهُمْ مَا يَأْخُذُ مَنْ نَامَ طَوِيلًا مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَاتَّصَلَ فَابْعَثُوا بِحَدِيثِ التَّسَاؤُلِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا خُذُوا فِيمَا يهمكم

_ (1) سورة الكهف: 18/ 11.

وَدَعُوا عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمَبْعُوثُ قِيلَ هُوَ تَمْلِيخَا، وَكَانُوا قَدِ اسْتَصْحَبُوا حِينَ خَرَجُوا فَارِّينَ دَرَاهِمَ لِنَفَقَتِهِمْ وَكَانَتْ حَاضِرَةً عِنْدَهُمْ، فلهذا أشار وإليها بِقَوْلِهِمْ هذِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَالْيَزِيدِيُّ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ بِوَرِقِكُمْ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ وَكَذَا إِسْمَاعِيلُ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الرَّاءَ لِيَصِحَّ الْإِدْغَامُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِوَرِقِكُمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ انْتَهَى. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَ النَّاسُ عَنْهُ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ قِرَاءَةً بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ دُونَ إِدْغَامٍ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَوَارِقِكُمْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ جَعَلَهُ اسْمَ جَمْعٍ كباقر وجائل. والْمَدِينَةِ هِيَ مَدِينَتُهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا، وَقِيلَ وَتُسَمَّى الْآنَ طَرْسُوسُ وَكَانَ اسْمُهَا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ أَفْسُوسَ. فَلْيَنْظُرْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَلْيَنْظُرْ معلق عنها الفعل. وأَيُّها استفهام مبتدأ وأَزْكى خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيُّها مَوْصُولًا مَبْنِيًّا مَفْعُولًا لِيَنْظُرَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وأَزْكى خبر مبتدأ محذوف. وأَزْكى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ أَحَلُّ ذَبِيحَةٍ وَأَطْهَرُ لِأَنَّ عَامَّةَ بَلْدَتِهِمْ كَانُوا كُفَّارًا يَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَحَلُّ طَعَامًا. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَكَانَ أَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ غُصُوبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا لَهُ لَا تَبْتَعْ طَعَامًا فِيهِ ظُلْمٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَكْثَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَجْوَدُ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: أَطْيَبُ. وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رَيَّانَ: أَرْخَصُ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ بَرَكَةً وَرِيعًا. وَقِيلَ: هُوَ الْأُرْزُ. وَقِيلَ: التَّمْرُ. وَقِيلَ: الزَّبِيبُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ أَيْ أَهْلُهَا أَزْكى طَعاماً فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ عَائِدًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَذْفٌ فَيَكُونُ عَائِدَةً عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَيُّ الْمَآكِلِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَمْلَ النَّفَقَةِ وَمَا يَصْلُحُ لِلْمُسَافِرِ هُوَ رَأْيُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ دُونَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى الْإِنْفَاقَاتِ وَعَلَى مَا فِي أَوْعِيَةِ النَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَا لِهَذَا السَّفَرِ يَعْنِي سَفَرَ الْحَجِّ إِلَّا شَيْئَانِ شَدُّ الْهِمْيَانِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى الرَّحْمَنِ. وَلْيَتَلَطَّفْ فِي اخْتِفَائِهِ وَتَحَيُّلِهِ مَدْخَلًا وَمَخْرَجًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلْيَتَكَلَّفِ اللُّطْفَ وَالنِّيقَةَ فِيمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ أَمْرِ الْمُبَايَعَةِ حَتَّى لَا يُغْبَنَ، أَوْ فِي أَمْرِ التَّخَفِّي حَتَّى لَا يُعْرَفَ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلْيَتَلَطَّفْ بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَعَنْ قُتَيْبَةَ الْمَيَّالِ وَلْيَتَلَطَّفْ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَلا يُشْعِرَنَّ أَيْ لَا يَفْعَلُ مَا يُؤَدِّي مِنْ غَيْرِ

قَصْدٍ مِنْهُ إِلَى الشُّعُورِ بِنَا، سُمِّيَ ذَلِكَ إِشْعَارًا مِنْهُ بِهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو صَالِحٍ وَيَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَقُتَيْبَةُ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدٌ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، وَرَفْعِ أَحَدٍ. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ كُفَّارِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى أَحَداً لِأَنَّ لَفْظَهُ لِلْعُمُومِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ كَقَوْلِهِ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» فَفِي حَاجِزِينَ ضَمِيرُ جَمْعٍ عَائِدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَهْلِ الْمُقَدَّرِ فِي أَيُّها وَالظُّهُورُ هُنَا الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِمْ وَالْعِلْمُ بِمَكَانِهِمْ. وَقِيلَ: الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يُظْهَرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ وَكَانَ الْمَلِكُ عَازِمًا عَلَى قَتْلِهِمْ لَوْ ظَفَرَ بِهِمْ، وَالرَّجْمُ كَانَ عَادَةً فِيمَا سَلَفَ لِمَنْ خَالَفَ مِنَ النَّاسِ إِذْ هِيَ أَشَفَى وَلَهُمْ فِيهَا مُشَارَكَةٌ. وَقَالَ حَجَّاجٌ: مَعْنَاهُ بِالْقَوْلِ يُرِيدُ السَّبَّ وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أَوْ يُعِيدُوكُمْ يُدْخِلُوكُمْ فِيهَا مُكْرَهِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الشَّيْءِ التَّلَبُّسُ بِهِ قَبْلَ إِذْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الصَّيْرُورَةُ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِنْ دَخَلْتُمْ في دينهم وإِذاً حَرْفُ جَزَاءٍ وَجَوَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَكَثِيرًا مَا يَتَّضِحُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ. وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً. قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ وَنَظَرَ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا وَتَلَطَّفَ، وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِمْ أَحَدًا فَأَطْلَعُ اللَّهُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى حَالِهِمْ وَقِصَّةُ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ أَهْلِهَا، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمَلِكِ وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ كُنُوزِ الْأَقْدَمِينَ، وَحَمْلِ الْمَلِكِ وَمَنْ ذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي التَّفَاسِيرِ ذَلِكَ بِأَطْوَلِ مِمَّا جَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَيُقَالُ عَثَرْتُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ وَأَعْثَرَنِي غَيْرِي إِذَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً «2» وَمَفْعُولُ أَعْثَرْنا

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 47. (2) سورة المائدة: 5/ 107.

مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أَهْلَ مَدِينَتِهِمْ، وَالْكَافُ فِي وَكَذلِكَ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّقْدِيرُ وَكَمَا أَنَمْنَاهُمْ بَعَثْنَاهُمْ لِمَا فِي ذلك الْحِكْمَةِ أَطْلَعَنَا عَلَيْهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي لِيَعْلَمُوا عَائِدٌ عَلَى مَفْعُولِ أَعْثَرْنا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطبري. ووَعْدَ اللَّهِ هُوَ الْبَعْثُ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ فِي نَوْمِهِمْ وَانْتِبَاهَتِهِمْ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُتَطَاوِلَةِ كَحَالِ مَنْ يَمُوتُ ثُمَّ يُبْعَثُ ولا رَيْبَ فِيهَا أَيْ لَا شَكَّ وَلَا ارْتِيَابَ فِي قِيَامِهَا وَالْمُجَازَاةِ فِيهَا، وَكَانَ الَّذِينَ أُعْثِرُوا عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ قَدْ دَخَلَتْهُمْ فِتْنَةٌ فِي أَمْرِ الْحَشْرِ وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْقُبُورِ، فَشَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ وَاسْتَبْعَدُوهُ. وَقَالُوا: تُحْشَرُ الْأَرْوَاحُ فَشَقَّ عَلَى مَلِكِهِمْ وَبَقِيَ حَيْرَانُ لَا يَدْرِي كَيْفَ يُبَيِّنُ أَمْرَهُ لَهُمْ حَتَّى لَبِسَ الْمُسُوحَ وَقَعَدَ عَلَى الرَّمَادِ، وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي حُجَّةٍ وَبَيَانٍ، فَأَعْثَرَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ، فَلَمَّا بَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَبَيَّنَ النَّاسُ أَمْرَهُمْ سُرَّ الْمَلِكُ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ شَكَّ فِي أَمْرِ بَعْثِ الْأَجْسَادِ إِلَى الْيَقِينِ، وَإِلَى هَذَا وَقَعْتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ وإِذْ مَعْمُولَةٌ لَأَعْثَرْنَا أَوْ لِيَعْلَمُوا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ في ولِيَعْلَمُوا عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ آيَةً لَهُمْ دَالَّةً عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَوْلُهُ إِذْ يَتَنازَعُونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ بُعِثُوا عَلَى عَهْدِهِمْ، وَالتَّنَازُعُ إِذْ ذَاكَ فِي أَمْرِ الْبِنَاءِ وَالْمَسْجِدِ لَا فِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: التَّنَازُعُ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَعْضٌ: هُمْ أَمْوَاتٌ. وَقَالَ بَعْضٌ: هُمْ أَحْيَاءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ انْطَلَقُوا مَعَ تَمْلِيخَا إِلَى الْكَهْفِ وَأَبْصَرُوهُمْ ثُمَّ قَالَتِ الْفِتْيَةُ لِلْمَلِكِ: نَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ وَنُعِيذُكَ بِهِ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّى اللَّهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَلْقَى الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ فَجُعِلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ تَابُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَآهُمْ فِي الْمَنَامِ كَارِهِينَ لِلذَّهَبِ فَجَعَلَهَا مِنَ السَّاجِ، وَبُنِيَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ كَلَامِ الْمُتَنَازِعِينَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَوْلِ أَيْ أَمَرُوا بِالْبِنَاءِ وَأَخْبَرُوا بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا أَمْرَهُمْ وَتَنَاقَلُوا الْكَلَامَ فِي أَنْسَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ قَالُوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى رَدُّ الْقَوْلِ الْخَائِضِينَ فِي حَدِيثِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَنَازِعِينَ أَوْ مِنَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالَّذِينَ غُلِبُوا. قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْوُلَاةُ. رُوِيَ أَنَّ طَائِفَةً ذَهَبَتْ إِلَى أَنْ يَطْمِسَ الْكَهْفَ عَلَيْهِمْ وَيُتْرَكُوا فِيهِ مُغَيَّبِينَ، وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْغَالِبَةُ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً فَاتَّخَذُوهُ. وَرُوِيَ أَنَّ الَّتِي دَعَتْ إِلَى الْبُنْيَانِ كَانَتْ كَافِرَةً أَرَادَتْ بِنَاءَ بِيعَةٍ أَوْ مَصْنَعٍ لِكُفْرِهِمْ

فَمَانَعَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَنَوْا عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ: غُلِبُوا بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي أَرَادَتِ الْمَسْجِدَ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ لَا يُبْنَى عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَلَا يَعْرِضُ لِمَوْضِعِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى مُؤْمِنَةً أَرَادَتْ أَنْ لَا يُطْمَسَ الْكَهْفُ، فَلَمَّا غُلِبَتِ الْأُولَى عَلَى أَنْ يَكُونَ بُنْيَانٌ وَلَا بُدَّ قَالَتْ يَكُونُ مَسْجِداً فَكَانَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ اللَّهَ عَمَّى عَلَى النَّاسِ أَمْرَهُمْ وَحَجَبَهُمْ عَنْهُ فَذَلِكَ دُعَاءٌ إِلَى بِنَاءِ الْبُنْيَانِ لِيَكُونَ مَعْلَمًا لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَيَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَهُمُ الْمُتَنَازِعُونَ فِي حَدِيثِهِمْ قَبْلَ ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِمَا كَانَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْمِهِمْ فِي عَدَدِهِمْ وَكَوْنُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا قُلْنَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ تَنَاظَرُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَدِهِمْ. فَقَالَتِ الْمَلْكَانِيَّةُ: الْجُمْلَةَ الْأُولَى، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ الْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ، وَهَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ السَّيِّدَ قَالَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَكَانَ يَعْقُوبِيًّا، وَالْعَاقِبُ قَالَ الثَّانِيَةَ وَكَانَ نَسْطُورِيًّا، وَالْمُسْلِمُونَ قَالُوا الثَّالِثَةَ وَأَصَابُوا وَعَرَفُوا ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتَكُونُ الضَّمَائِرُ فِي سَيَقُولُونَ وَيَقُولُونَ عَائِدًا بَعْضُهَا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، وَبَعْضُهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَعَنْ عَلِيٍّ هُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ أَسْمَاؤُهُمْ تَمْلِيخَا، وَمَكْشَلْبِينَا وَمَشَلْبِينَا هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ يَمِينِ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ مَرْنُوشُ، وَدَبَرْنُوشُ، وَشَاذَنُوشُ وَكَانَ يستشير هَؤُلَاءِ السِّتَّةَ فِي أَمْرِهِ، وَالسَّابِعُ الرَّاعِي الَّذِي وَافَقَهُمْ، هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسُ وَاسْمُ مَدِينَتِهِمْ أَفْسُوسُ وَاسْمُ كَلْبِهِمْ قِطْمِيرُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ سَيَقُولُونَ يُرَادُ بِهِ أَهْلُ التَّوْرَاةِ مِنْ مُعَاصِرِي محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكَهْفِ هَذَا الِاخْتِلَافُ الْمَنْصُوصُ انْتَهَى. قِيلَ: وَجَاءَ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ فِي الْكَلَامِ طَيٌّ وَإِدْمَاجٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَجَبْتَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَقَصَصْتَ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ فَسَلْهُمْ عَنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا سَأَلْتَهُمْ سَيَقُولُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ ثَلَاثَّ بِإِدْغَامِ الثَّاءِ فِي التَّاءِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِقُرْبِ مَخْرِجِهِمَا وَكَوْنِهِمَا مَهْمُوسَيْنِ، لِأَنَّ السَّاكِنَ الَّذِي قَبْلَ الثَّاءِ مِنْ حُرُوفِ اللِّينِ فَحَسُنَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ لَمْ يَأْتِ بِالسِّينِ فِيهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَدَخَلَ فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَوْ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لَهُ. وَقَرَأَ شِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِفَتْحِ مِيمٍ خَمْسَةٌ وَهِيَ لُغَةٌ كَعَشَرَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمِيمِ وَبِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، وَعَنْهُ أَيْضًا إِدْغَامُ التَّنْوِينِ فِي السِّينِ بِغَيْرِ غُنَّةٍ.

رَجْماً بِالْغَيْبِ رَمْيًا بِالشَّيْءِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ أَوْ ظَنًّا، اسْتُعِيرَ مِنَ الرَّجْمِ كَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْمِي الْمَوْضِعَ الْمَجْهُولَ عِنْدَهُ بِظَنِّهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ يَرْجُمُ بِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ، وَمِنْهُ التُّرْجُمَانُ وَتَرْجَمَةُ الْكِتَابِ. وَقَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمْ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ أَيِ الْمَظْنُونِ، وَأَتَتْ هَذِهِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ قَائِلَ تِلْكَ الْمَقَالَتَيْنِ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْمِينِ وَالْحَدْسِ، وَجَاءَتِ الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ خَالِيَةً عَنْ هَذَا الْقَيْدِ مُشْعِرَةً أَنَّهَا هِيَ الْمَقَالَةُ الصَّادِقَةُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَانْتَصَبَ رَجْماً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ يَرْجُمُونَ بِذَلِكَ، أو لتضمين سَيَقُولُونَ ويَقُولُونَ مَعْنَى يَرْجُمُونَ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ قَالُوا ذَلِكَ لِرَمْيِهِمْ بِالْخَبَرِ الْخَفِيِّ أَوْ لِظَنِّهِمْ ذَلِكَ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الرَّجْمُ بالغيب. وثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ أَيْ هُمْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا أَشْخَاصًا لِأَنَّ رابِعُهُمْ اسْمُ فَاعِلٍ أُضِيفَ إِلَى الضَّمِيرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَبَّعَهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً وَصَيَّرَهُمْ إِلَى هَذَا الْعَدَدِ، فَلَوْ قَدَّرَ ثَلاثَةٌ رِجَالٌ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ أَرْبَعَةً لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، وَالْوَاوُ فِي وَثامِنُهُمْ لِلْعَطْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ يَقُولُونَ هُمْ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَأَخْبَرُوا أَوَّلًا بِسَبْعَةِ رِجَالٍ جَزْمًا، ثُمَّ أَخْبَرُوا إِخْبَارًا ثَانِيًا أَنَّ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ بِخِلَافِ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَفَ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ بِصِفَةٍ، وَلَمْ يَعْطِفِ الْجُمْلَةَ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَابْنِ خَالَوَيْهِ أَنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا إِذَا تَحَدَّثْتُ تَقُولُ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ تِسْعَةٌ فَتُدْخِلُ الْوَاوَ فِي الثَّمَانِيَةِ، وَكَوْنُهُمَا جُمْلَتَيْنِ مَعْطُوفٌ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى مُؤْذِنٌ بِالتَّثْبِيتِ فِي الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنِ الْإِخْبَارِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِيهِ رَجْماً بِالْغَيْبِ ولم يجىء فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بِشَيْءٍ يقدح فيهما. وقرىء وَثَامِنُهُمْ كَالِبُهُمْ أَيْ صَاحِبُ كَلْبِهِمْ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةُ رِجَالٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَأَوَّلِ قَوْلِهِ وَكَلْبُهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَصَاحِبُ كَلْبِهِمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَثامِنُهُمْ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِمْ بَلْ لِقَوْلِهِمْ هُوَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، وَإِذَا كَانَ اسْتِئْنَافًا مِنَ اللَّهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ بِالْكَلْبِ، وَأَمَّا رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وسادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْكِيِّ مِنْ قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ

الْجُمْلَتَيْنِ صِفَةٌ، وَإِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ ثَمَانِيَةٌ بِالْكَلْبِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا هَذِهِ الْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ وَلِمَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا دُونَ الْأُولَتَيْنِ؟ قُلْتُ: هِيَ الْوَاوُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ كَمَا تَدْخُلَ عَلَى الْوَاقِعَةِ حَالًا عَنِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ آخَرُ، وَمَرَّرْتُ بِزَيْدٍ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ «1» وَفَائِدَتُهَا تَوْكِيدُ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى اتِّصَافِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهِيَ الْوَاوُ الَّتِي آذَنَتْ بِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قَالُوهُ عَنْ ثَبَاتِ عِلْمٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسِ وَلَمْ يَرْجُمُوا بِالظَّنِّ كَمَا غَيْرُهُمُ انْتَهَى. وَكَوْنُ الْوَاوِ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً دَالَّةً عَلَى لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ وَعَلَى ثُبُوتِ اتِّصَالِهِ بِهَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُهُ النَّحْوِيُّونَ، بَلْ قَرَّرُوا أَنَّهُ لَا تَعْطِفُ الصِّفَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِجُمْلَةٍ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَعَانِي حَتَّى يَكُونَ الْعَطْفُ دَالًّا عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ هَذَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، وَأَمَّا الْجُمَلُ الَّتِي تَقَعُ صِفَةً فَهِيَ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِيهَا، وَقَدْ رَدُّوا عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ لِمَعْنًى وَلَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ هُوَ عَلَى أَنَّ وَلَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ لِمَعْنًى، وَأَنَّ الْوَاوَ دَخَلَتْ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَيَأْكُلُ عَلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا وَلَها فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَيَكْفِي رَدًّا لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّحْوِ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَاضْطِرَابِهِمْ فِي عَدَدِهِمْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أَيْ لَا يُخْبِرُ بِعَدَدِهِمْ إِلَّا مَنْ يَعْلَمُهُمْ حَقِيقَةً وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَالْمُثْبَتُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْأَعْلَمِيَّةُ وَفِي حَقِّ الْقَلِيلِ الْعَالَمِيَّةُ فَلَا تَعَارُضَ. قِيلَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْعُلَمَاءِ وَعِلْمُ الْقَلِيلِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، ثُمَّ نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْجِدَالِ فِيهِمْ أَيْ فِي عِدَّتِهِمْ، وَالْمِرَاءِ وَسَمَّى مُرَاجَعَتَهُ لَهُمْ مِراءً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِمُمَارَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ ظَاهِرًا أَيْ غَيْرُ مُتَعَمِّقٍ فِيهِ وَهُوَ إن نقص عَلَيْهِمْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ فَحَسْبُ مِنْ غَيْرِ تَجْهِيلٍ وَلَا تَعْنِيفٍ كَمَا قَالَ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِراءً

_ (1) سورة الحجر: 15/ 4. (2) سورة النحل: 16/ 125.

ظاهِراً هُوَ قَوْلُكَ لَهُمْ لَيْسَ كَمَا تَعْلَمُونَ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ إِلَّا بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِلَّا جِدَالَ مُتَيَقِّنٍ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ الْخَبَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَلْقَى إِلَيْكَ مَا لَا يَشُوبُهُ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: ظاهِراً يَشْهَدُهُ النَّاسُ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: ظاهِراً ذَاهِبًا بِحُجَّةِ الْخَصْمِ. وَأَنْشَدَ: وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا أَيْ ذَاهِبٌ، ثُمَّ نَهَاهُ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قِصَّتِهِمْ لَا سُؤَالَ مُتَعَنِّتٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَمَرْتُ بِهِ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَا سُؤَالَ مُسْتَرْشِدٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرْشَدَكَ بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْكَ قِصَّتَهُمْ، ثُمَّ نَهَاهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا إِلَّا وَيَقْرِنُ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ سَأَلَهُ قُرَيْشٌ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَالْخَضِرِ وَالرُّوحِ قَالَ: «غَدًا أخبركم» . وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً. قِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ وإِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَقُولِ وَلَا يَنْهَاهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يمكن يَنْهِيَ عَنْهُ، فَاحْتِيجَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى تَقْدِيرٍ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ وَيُحَسِّنُهُ الْإِيجَازُ تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَوْ إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تَذْكُرَ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ لَا بِقَوْلِهِ إِنِّي فاعِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنِّي فاعِلٌ كَذَا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ كَانَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِضَ مَشِيئَةُ اللَّهِ دُونَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلنَّهْيِ وَتَعَلُّقُهُ بِالنَّهْيِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَلَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ. وَالثَّانِي: وَلَا تَقُولَنَّهُ إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ إِلَّا مُلْتَبِسًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَائِلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فِي مَعْنَى كَلِمَةٍ ثَانِيَةٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَقُولَنَّهُ أَبَدًا وَنَحْوَهُ وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا «1» لِأَنَّ عَوْدَهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ مِمَّا لَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا نَهْيُ تَأْدِيبٍ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ حِينَ قَالَ: «ائْتُونِي غَدًا أُخْبِرْكُمْ» . وَلَمْ يَسْتَثْنِ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَقُولَنَّ وحكاه الطبري، ورد

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 89. [.....]

عَلَيْهِ وَهُوَ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُحْكَى انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّهْيِ، وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ، وَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي الْأَيْمَانِ وَالظَّاهِرُ أَمْرُهُ تَعَالَى بِذِكْرِ اللَّهِ إِذَا عَرَضَ لَهُ نِسْيَانٌ، وَمُتَعَلِّقُ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الذِّكْرِ. فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا تَرَكْتَ بَعْضَ مَا أَمَرَكَ بِهِ. وَقِيلَ وَاذْكُرْهُ إِذَا اعْتَرَاكَ النِّسْيَانُ لِيُذَكِّرَكَ الْمَنْسِيَّ، وَقَدْ حَمَلَ قَتَادَةُ ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا. وَقِيلَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء تَشْدِيدًا فِي الْبَعْثِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَقِيلَ: وَاذْكُرْ مَشِيئَةَ رَبَّكَ إِذَا فَرَطَ مِنْكَ نِسْيَانٌ لِذَلِكَ أَيْ إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء ثُمَّ تَنَبَّهْتَ لَهَا، فَتَدَارَكْتَهَا بِالذِّكْرِ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ: وَلَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَعْدَ تَقَضِّي النِّسْيَانِ كَمَا تَقُولُ: اذْكُرْ لِعَبْدِ اللَّهِ إِذَا صَلَّى صَاحِبُكَ أَيْ إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا إِلَى الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ أَيِ اذْكُرْ رَبَّكَ عِنْدَ نِسْيَانِهِ بِأَنْ تقول عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلَ هَذَا الْمَنْسِيِّ أَقْرَبَ مِنْهُ رَشَداً وَأَدْنَى خَيْرًا أَوْ مَنْفَعَةً، وَلَعَلَّ النِّسْيَانَ كَانَ خَيْرَةً كَقَوْلِهِ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى بِنَاءِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَمَعْنَاهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُؤْتِينِي مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ عَلَى أَنِّي نَبِيٌّ صَادِقٌ مَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الدَّلَالَةِ وَأَقْرَبُ رَشَدًا مِنْ بِنَاءِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ آتَاهُ مِنْ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَدَلُّ انْتَهَى. وَهَذَا تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ قَالَ الْمَعْنَى: عَسى أَنْ يُيَسِّرَ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّتِي أَقْرَبَ مِنْ دَلِيلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عَسى أَنْ يُعَرِّفَنِي جَوَابَ مَسَائِلِكُمْ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّدْتُهُ لَكُمْ وَيُعَجِّلَ لِي مِنْ جِهَتِهِ الرَّشَادَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْكُوفِيُّ الْمُفَسِّرُ: هِيَ بِأَلْفَاظِهَا مِمَّا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهَا كُلُّ مَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ وَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِنِسْيَانِ الاستثناء. وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَبِثُوا الْآيَةَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ نِيَامًا فِي الْكَهْفِ إِلَى أَنْ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً «2» وَلَمَّا تَحَرَّرَ هَذَا الْعَدَدُ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ قُلِ اللَّهُ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 106. (2) سورة الكهف: 18/ 11.

أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فَخَبَرُهُ هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ رَيْبٌ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِما لَبِثُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدَّةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِما لَبِثُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْإِطْلَاعِ عَلَيْهِمْ إِلَى مُدَّةِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ وَازْدَادُوا تِسْعاً كَانَتِ التِّسْعَةُ مُنْبَهِمَةً هِيَ السَّاعَاتُ وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، وَاخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ يَعْنِي فِي التِّسْعِ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّهُ إِذَا سَبَقَ عَدَدٌ مُفَسِّرٌ وَعُطِفَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَسَّرْ حُمِلَ تَفْسِيرُهُ عَلَى السَّابِقِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ شَمْسِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ زِيدَتِ التِّسْعُ إِذْ حِسَابُ الْعَرَبِ هُوَ بِالْقَمَرِ لِاتِّفَاقِ الْحِسَابَيْنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: لَبِثُوا إِخْبَارٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالُوا لَبِثُوا وَعَلَى غَيْرِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ سَيَقُولُونَ «1» . ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ بِما لَبِثُوا رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَفْنِيدًا لِمَقَالَتِهِمْ. قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَمْرِهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مُقْتَضَى سِيَاقِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي هُوَ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِائَةٌ بِالتَّنْوِينِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى الْبَدَلِ أَوْ عَطْفِ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيَانٍ لِثَلَاثِمِائَةٍ. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ قَوْمًا أَجَازُوا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مِائَةٍ لِأَنَّ مِائَةً فِي مَعْنَى مِئَاتٍ، فَأَمَّا عَطْفِ الْبَيَانِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ فَالْمَحْفُوظُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورُ أَنَّ مِائَةً لَا يُفَسَّرُ إِلَّا بِمُفْرَدٍ مَجْرُورٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ إِذَا عَاشَ الْفَتَى مِائَتَيْنِ عَامًا مِنَ الضَّرُورَاتِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ كَوْنُ سِنِينَ جَمْعًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وخلف وابن سعدان وابن عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ مِائَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى سِنِينَ أَوْقَعَ الْجَمْعَ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، وَأَنْحَى أَبُو حَاتِمٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذِهِ تُضَافُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى الْمُفْرَدِ، وَقَدْ تُضَافُ إِلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ سَنَةً وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سُنُونَ بِالْوَاوِ عَلَى إِضْمَارِ هِيَ سُنُونَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ اللُّؤْلُؤَيِّ عَنْهُ تِسْعاً بِفَتْحِ التَّاءِ كَمَا قَالُوا عَشْرَ. ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِمَا غاب في السموات وَالْأَرْضِ وَخَفِيَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِهَا، وَجَاءَ بِمَا دَلَّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ إِدْرَاكِهِ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ فِي الإدراك

_ (1) سورة الكهف: 18/ 22.

خَارِجٌ عَنْ حَدِّ مَا عَلَيْهِ إِدْرَاكُ السَّامِعِينَ وَالْمُبْصِرِينَ، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ أَلْطَفَ الْأَشْيَاءِ وَأَصْغَرَهَا كَمَا يُدْرِكُ أَكْبَرَهَا حَجْمًا وَأَكْثَفَهَا جِرْمًا، وَيُدْرِكُ الْبَوَاطِنَ كَمَا يُدْرِكُ الظَّوَاهِرَ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ وَهَلْ أَسْمِعْ وأَبْصِرْ أَمْرَانِ حَقِيقَةً أَمْ أَمْرَانِ لَفْظًا مَعْنَاهُمَا إِنْشَاءُ التَّعَجُّبِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مُقَرَّرٌ فِي النَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون الْمَعْنَى أَبْصِرْ بِدِينِ اللَّهِ وَأَسْمِعْ أَيْ بَصِّرْ بِهَدْيِ اللَّهِ وَسَمِّعْ فَتَرْجِعُ الْهَاءُ إِمَّا عَلَى الْهُدَى وَإِمَّا عَلَى اللَّهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَرَأَ عِيسَى: أَسْمِعْ بِهِ وَأَبْصِرْ عَلَى الْخَبَرِ فِعْلًا مَاضِيًا لَا عَلَى التَّعَجُّبِ، أَيْ أَبْصِرْ عِبَادَهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَأَسْمِعْهُمْ، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهُ تَعَالَى. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَا لَهُمْ قال الزمخشري: لأهل السموات وَالْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ مُتَوَلٍّ لِأُمُورِهِمْ وَلا يُشْرِكُ فِي قَضَائِهِ أَحَداً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ على أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْ هَذِهِ قُدْرَتُهُ وَحْدَهُ. وَلَمْ يُوالِهِمْ غَيْرَهُ يَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَلَا أَشْرَكَ مَعَهُ أَحَدًا فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ وَمُشَاقِّيهِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ اعْتِرَاضًا بِتَهْدِيدٍ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُؤْمِنِي أهل السموات وَالْأَرْضِ أَيْ لَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ يَتَوَلَّى تَدْبِيرَهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ؟ أَوْ كَيْفَ يَعْلَمُونَ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يُشْرِكُ بِالْيَاءِ عَلَى النَّفْيِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ. قَالَ يَعْقُوبُ: لَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَزَيْدٌ وَحُمَيْدٌ ابْنُ الْوَزِيرِ عَنْ يَعْقُوبَ وَالْجُعْفِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: وَلَا تُشْرِكْ بِالتَّاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ. وَلَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُصَّ وَيَتْلُوَ عَلَى مُعَاصِرِيهِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابِهِ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لا مُبَدِّلَ له ولا مُبَدِّلَ عام ولِكَلِماتِهِ عَامٌّ أَيْضًا فَالتَّخْصِيصُ إِمَّا فِي لَا مُبَدِّلَ أَيْ لَا مُبَدِّلَ لَهُ سِوَاهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ «1» وَإِمَّا فِي كَلِمَاتِهِ أَيْ لِكَلِماتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْخَبَرَ لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَ غَيْرَ الْخَبَرِ وَقَعَ النَّسْخُ فِي بَعْضِهِ، وَفِي أَمْرِهِ تَعَالَى أَنْ يَتْلُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَبْدِيلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَهْلِ الْكَهْفِ، وَتَحْرِيفِ أَخْبَارِهِمْ وَالْمُلْتَحَدُ الْمُلْتَجَأُ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ وتعدل.

_ (1) سورة النمل: 16/ 101.

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً. قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَوْ أَبْعَدْتَ هَؤُلَاءِ عَنْ نَفْسِكَ لَجَالَسْنَاكَ وَصَحَبْنَاكَ، يَعْنُونَ عَمَّارًا وَصُهَيْبًا وَسَلْمَانَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَبِلَالًا وَنَحْوَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ ريح جبابهم تُؤْذِينَا، فَنَزَلَتْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الْآيَةَ، وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حصين وَالْأَقْرَعُ وَذَوُوهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَنَزَلَتْ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَدَنِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفَعَلَ الْمُؤَلَّفَةُ فِعْلَ قُرَيْشٍ فَرَدَّ بِالْآيَةِ عَلَيْهِمْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أَيِ احْبِسْهَا وَثَبِّتْهَا. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ صَبْرِ الْحَيَوَانِ أي حبسه للرمي ، ومَعَ تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ وَالْمُوافَقَةَ وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ هُنَا يَظْهَرُ مِنْهُ كَبِيرُ اعْتِنَاءٍ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ. وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ أَيْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ دَائِمًا، وَيَكُونُ مِثْلَ: ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ يُرِيدُ جَمِيعَ بَدَنِهِ لَا خُصُوصَ الْمَدْلُولِ بِالْوَضْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فِي الْأَنْعَامِ. وَلا تَعْدُ أَيْ لَا تَصْرِفْ عَيْناكَ النَّظَرَ عَنْهُمْ إِلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَعَدَا مُتَعَدٍّ تَقُولُ: عَدَا فُلَانٌ طَوْرَهُ وَجَاءَ الْقَوْمُ عَدَا زَيْدًا، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا لِيَبْقَى الْفِعْلُ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ التَّعْدِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعْنَ لِتَضْمِينِ عَدَا مَعْنَى نَبَا وَعَلَا فِي قَوْلِكَ: نَبَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ، وَعَلَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ إِذَا اقْتَحَمْتَهُ وَلَمْ تَعْلَقْ بِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ غَرَضٍ فِي هَذَا التَّضْمِينِ؟ وَهَلَّا قِيلَ وَلَا تَعْدُهُمْ عَيْنَاكَ أَوْ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ. قُلْتُ: الْغَرَضُ فِيهِ إِعْطَاءُ مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْنِ. وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إِعْطَاءِ مَعْنًى فَذٍّ، أَلَا تَرَى كَيْفَ رَجَعَ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِكَ وَلَا تَقْتَحِمُهُمْ عَيْنَاكَ مُجَاوَزِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ وَنَحْوَ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «2» أَيْ وَلَا تَضُمُّوهَا إِلَيْهَا آكِلِينَ لَهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّضْمِينِ لَا يَنْقَاسُ عند

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 52. (2) سورة النساء: 4/ 2.

الْبَصْرِيِّينَ وَإِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوْلَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلا تَعْدُ مِنْ أَعْدَى، وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ عِيسَى وَالْأَعْمَشِ وَلا تَعْدُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَقْلًا بِالْهَمْزَةِ وَبِنَقْلِ الْحَشْوِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَعُدْ عَمَّا تَرَى إِذْ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَعُدْ هَمَّكَ عَمَّا تَرَى انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا عَدَّيْتُهُ بِالتَّضْعِيفِ كَمَا كَانَ فِي الْأُولَى بِالْهَمْزِ، وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلِ الْهَمْزَةُ وَالتَّكْثِيرُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَيْسَا لِلتَّعْدِيَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُوافَقَةِ أَفْعَلَ وَفُعِلَ لِلْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا مُتَعَدٍّ وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَالُ عَدَاهُ إِذَا جَاوَزَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعْنَ لِلتَّضْمِينِ وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّضْمِينِ هُوَ مَجَازٌ وَلَا يَتَّسِعُونَ فِيهِ إِذَا ضَمَّنُوهُ فَيُعَدُّونَهُ بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، وَلَوْ عُدِّيَ بِهِمَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ لَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نَاصِبٌ مَفْعُولًا وَاحِدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّى بِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَالِ: إِنْ قُدِّرَ عَيْناكَ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ تُرِيدَانِ، وَإِنْ قُدِّرَ الْكَافُ فَمَجِيءُ الْحَالِ مِنَ الْمَجْرُورِ بِالْإِضَافَةِ مِثْلُ هَذَا فِيهَا إِشْكَالٌ لِاخْتِلَافِ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ وَذِي الْحَالِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا أَوْ كَالْجُزْءِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَالْمَيْلِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِقَوْلِهِ عَيْناكَ وَالْمَقْصُودُ هُوَ لِأَنَّهُمَا بِهِمَا تَكُونُ الْمُرَاعَاةُ لِلشَّخْصِ وَالتَّلَفُّتُ لَهُ، وَالْمَعْنَى وَلا تَعْدُ أَنْتَ عَنْهُمْ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ مَنْ جَعَلْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا عَنِ الذِّكْرِ بِالْخِذْلَانِ أَوْ وَجَدْنَاهُ غَافِلًا عَنْهُ كَقَوْلِكَ: أَجْبَنْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ، أَوْ مِنْ أَغْفَلَ إِبِلَهُ إِذَا تَرَكَهَا بِغَيْرِ سِمَةٍ أَيْ لَمْ نَسِمْهُ بِالذِّكْرِ، وَلَمْ نَجْعَلْهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَتَبْنَا فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَوَهُّمَ الْمُجْبِرَةِ بِقَوْلِهِ وَاتَّبَعَ هَواهُ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالتَّأْوِيلُ الْآخَرُ تَأْوِيلُ الرُّمَّانِيِّ وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا قَالَ: لَمْ نَسِمْهُ بِمَا نَسِمُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُبَيَّنُ بِهِ، فَلَاحُهُمْ كَمَا قَالَ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِعِيرٌ غُفْلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِمَةٌ، وَكِتَابٌ غُفْلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعْجَامٌ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْفَلَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ فِيهِ وَالْغَفْلَةِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَخْلَيْنَاهُ عَنِ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:

شَغَلْنَا قَلْبَهُ بِالْكُفْرِ وَغَلَبَةِ الشَّقَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بمن أَغْفَلْنا كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ فَائِدٍ وَمُوسَى الْأَسْوَارِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ أَغْفَلْنا بِفَتْحِ اللَّامِ قَلْبَهُ بِضَمِّ الْبَاءِ أَسْنَدَ الْأَفْعَالَ إِلَى الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي مَنْ ظَنَنَّا غَافِلِينَ عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَسِبْنَا قَلْبَهُ غَافِلِينَ مِنْ أَغْفَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ غَافِلًا انْتَهَى. وَاتَّبَعَ هَواهُ فِي طَلَبِ الشَّهَوَاتِ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: ضَيَاعًا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: سَرَفًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَتْرُوكًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ. قِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ عُتْبَةَ إِنْ أَسْلَمْنَا أَسْلَمَ النَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْفَرَطُ الْعَاجِلُ السَّرِيعُ، كَمَا قَالَ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «1» . وَقِيلَ: نَدَمًا. وَقِيلَ: بَاطِلًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُخَالِفًا لِلْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْفَرَطُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّفْرِيطِ وَالتَّضْيِيعِ، أَيْ أَمْرُهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِفْرَاطِ وَالْإِسْرَافِ أَيْ أَمْرُهُ وهَواهُ الَّذِي هُوَ بِسَبِيلِهِ انتهى. والْحَقُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْحَقُّ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ أَوْ هَذَا الْإِعْرَاضُ عَنْكُمْ وَتَرْكُ الطَّاعَةِ لَكُمْ وَصَبْرُ النَّفْسِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَقُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْمَعْنَى جَاءَ الْحَقُّ وَزَاحَتِ الْعِلَلُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اخْتِيَارُكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَخْذِ فِي طَرِيقِ النَّجَاةِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْهَلَاكِ، وَجِيءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالتَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ لَمَّا مُكِّنَ مِنَ اخْتِيَارِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَكَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَخَيَّرَ مَا شَاءَ مِنَ النَّجْدَيْنِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرَهُ مِنْ رَبِّكُمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ التَّوْحِيدُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: أَيِ الْهُدَى وَالتَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ مِنْ عِنْدِ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ فَيُؤْمِنُ، وَيَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ فَيَكْفُرُ لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَيِ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، وَهَذَا الَّذِي لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بِشَاءَ عَائِدٌ عَلَى مِنْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ بِالْإِيمَانِ آمَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا انْتَهَى. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ فِرْقَةٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شاءَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ تَابِعَيْنِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَتَّى كَأَنَّهُ تَحَتَّمَ وُقُوعُهُ مَأْمُورٌ بِهِ مَطْلُوبٌ مِنْهُ. وَقَرَأَ أبو السمال

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 11. (2) سورة الإنسان: 76/ 30.

قُعْنُبُ وَقُلَ الْحَقَّ بِفَتْحِ اللَّامِ حَيْثُ وَقَعَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَذَلِكَ رَدِيءٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ انْتَهَى. وَعَنْهُ أَيْضًا ضَمُّ اللَّامِ حَيْثُ وَقَعَ كَأَنَّهُ إِتْبَاعٌ لِحَرَكَةِ الْقَافِ. وَقَرَأَ أَيْضًا الْحَقُّ بِالنَّصْبِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هُوَ عَلَى صِفَةِ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرِهِ وَإِنْ لَمْ يُذْكُرْ فَيَنْصِبُهُ مَعْرِفَةً كَنَصْبِهِ إِيَّاهُ نَكِرَةً، وَتَقْدِيرُهُ وَقُلِ الْقَوْلَ الْحَقُّ وَتَعَلُّقُ مِنْ بِمُضْمَرٍ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ هُوَ إِرْجَاءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ بِكَسْرِ لَامَيِ الْأَمْرِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَعْقَبَ بِمَا أَعَدَّ لَهُمَا فَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ يَلِي قَوْلَهُ فَلْيَكْفُرْ وَأَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَعَ الْكُفَّارِ وَفِي سِيَاقِ مَا طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كانت الْبَدَاءَةُ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ أَهَمَّ وَآكَدَ، وَهُمَا طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ هَذِهِ الطَّرِيقُ وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَوَّلَ فِي التَّقْسِيمِ لِلْأَوَّلِ فِي الذِّكْرِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي. وَالسُّرَادِقُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَائِطٌ مِنْ نَارٍ مُحِيطٍ بِهِمْ. وَحَكَى أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالدُّنْيَا. وَحَكَى الْكَلْبِيُّ: أَنَّهُ عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ. وَقِيلَ: دُخَانٌ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يَطْلُبُوا الْغَوْثَ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّارِ وَشِدَّةِ إِحْرَاقِهَا وَاشْتِدَادِ عَطَشِهِمْ يُغاثُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ إِغَاثَةً. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَكَرُ الزَّيْتِ إِذَا قَرُبَ مِنْهُ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاءٌ غَلِيظٌ مِثْلُ دَرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْقَيْحُ وَالدَّمُ الْأَسْوَدُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: كُلُّ شَيْءٍ ذَائِبٍ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ الصَّدِيدُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ الرَّمَادُ الَّذِي ينفظ إِذَا خَرَجَ مِنَ التَّنُّورِ. وَقِيلَ: ضَرْبٌ مِنَ الْقَطِرَانِ. ويَشْوِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَاءٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَحَسُنَ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوهَ لِكَوْنِهَا عِنْدَ شُرْبِهِمْ يَقْرُبُ حَرُّهَا مِنْ وُجُوهِهِمْ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنْ جَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْضِجُ بِهِ جَمِيعُ جُلُودِهِمْ كَقَوْلِهِ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «1» وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِئْسَ الشَّرابُ هُوَ أَيِ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي ساءَتْ عَائِدٌ عَلَى النَّارِ. وَالْمُرْتَفَقُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَنْزِلُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَقَرُّ. وَقَالَ الْقُتْبِيُّ: الْمَجْلِسُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُجْتَمَعُ، وَأَنْكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يُعْرَفَ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ مَعْنًى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ مجاهدا ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الرَّفَاقَةِ وَمِنْهُ الرُّفْقَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُتَّكَأُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُتَّكَأُ عَلَى الْمِرْفَقِ، وَأَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: مُتَّكَأٌ مِنَ الْمِرْفَقِ وَهَذَا لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً «2» وَإِلَّا فَلَا

_ (1) سورة النساء: 4/ 56. (2) سورة الكهف: 18/ 31.

[سورة الكهف (18) : الآيات 30 إلى 31]

ارْتِفَاقَ لِأَهْلِ النَّارِ وَلَا اتِّكَاءَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَاءَتْ مَطْلَبًا لِلرِّفْقِ، لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ رِفْقًا مِنْ جَهَنَّمَ عَدِمَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرِيبًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَفَقُ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي يُطْلَبُ رِفْقُهُ بِاتِّكَاءٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَالْمَعْنَى بِئْسَ الرُّفَقَاءُ هَؤُلَاءِ، وَبِئْسَ مَوْضِعُ التَّرَافُقِ النَّارُ. [سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي النَّارِ ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَخَبَرُ إِنَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ إِنَّا لَا نُضِيعُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ أَلْبَسَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ انْتَهَى، وَلَا يَتَعَيَّنُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَلْبَسَهُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا هِيَ اسْمُ إِنَّ وَخَبَرُهَا الَّذِي هُوَ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّ اللَّهَ أَلْبَسَهُ هُوَ الْخَبَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلُهُ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مِنْهُمْ. أَوْ هُوَ قَوْلُهُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فِي رَبْطِهِ الْجُمْلَةَ بِالِاسْمِ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدَأُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ خَبَرَيْنِ لِأَنَّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقْتَضِي الْمُبْتَدَأُ خَبَرَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ أَنْ يَكُونَا، أَوْ يَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا كَانَ خَبَرُ إِنَّ قوله إِنَّا لا نُضِيعُ كَانَ قَوْلُهُ أُولئِكَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ مُوَضِّحٍ لِمَا أَنَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ إِنَّا لَا نُضِيعُ مِنْ مُبْهَمِ الْجَزَاءِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ لَا نُضِيعُ مِنْ ضَيَّعَ عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَضَاعَ عَدَّوْهُ بِالْهَمْزَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَكَانَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ النَّارُ. ذَكَرَ مَكَانَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَهِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَلَمَّا ذَكَرَ هُنَاكَ مَا يُغَاثُونَ بِهِ وَهُوَ الْمَاءُ كَالْمُهْلِ ذَكَرَ هُنَا مَا خَصَّ بِهِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ كَوْنِ الْأَنْهَارِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّحْلِيَةِ وَاللِّبَاسِ اللَّذَيْنِ هُمَا زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُحَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ أَسَاوِرَ سُوارٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَسُوارٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَسَوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ ويواقيت.

وقال الزمخشري: ومِنْ الْأَوَّلُ لِلِابْتِدَاءِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْيِينِ، وَتَنْكِيرُ أَساوِرَ لِإِبْهَامِ أَمْرِهَا فِي الْحُسْنِ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ ذَهَبٍ لِلتَّبْعِيضِ لَا لِلتَّبْيِينِ. وَقَرَأَ أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ أَسْوِرَةٍ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَبِزِيَادَةِ هَاءٍ وَهُوَ جَمْعُ سُوَارٍ. وَقَرَأَ أَيْضًا أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ أَبِي حَمَّادٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: وَيَلْبَسُونَ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَإِسْتَبْرَقٍ بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْقَافِ حَيْثُ وَقَعَ جَعْلُهُ فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَزْنِ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْبَرِيقِ، وَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ فِيهِ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ الَّذِي هُوَ بَرَقَ كَمَا تَقُولُ: قَرَّ وَاسْتَقَرَّ بِفَتْحِ الْقَافِ ذَكَرَهُ الْأَهْوَازِيُّ فِي الْإِقْنَاعِ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ. وَحْدَهُ: وَإِسْتَبْرَقٍ بِالْوَصْلِ وَفَتْحِ الْقَافِ حَيْثُ كَانَ لَا يَصْرِفُهُ انْتَهَى. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا مَاضِيًا بَلْ هُوَ اسْمٌ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: جَعَلَهُ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْبَرِيقِ ابْنُ مُحَيْصِنٍ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَخَالَفَهُمَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. قَالَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَإِسْتَبْرَقٍ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَيَجُوزُ أَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ تَخْفِيفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَهُ عربية مِنْ بَرَقَ يَبْرُقُ بَرِيقًا. وَذَلِكَ إِذَا تَلَأْلَأَ الثَّوْبُ لِجِدَّتِهِ وَنَضَارَتِهِ، فَيَكُونُ وَزْنُهُ اسْتَفْعَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا تَسَمَّى بِهِ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ الْفِعْلِ فِي وَصْلِ الْهَمْزَةِ، وَمُعَامَلَةَ الْمُتَمَكِّنَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ فِي الصَّرْفِ وَالتَّنْوِينِ، وَأَكْثَرُ التفاسير على أنه عربية وَلَيْسَ بِمُسْتَعْرَبٍ دَخَلَ فِي كَلَامِهِمْ فَأَعْرَبُوهُ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَتْحُ الْقَافِ وَصَرَفَهُ التَّنْوِينُ، وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي قِرَاءَةَ فَتْحِ الْقَافِ، وَقَالَ: هَذَا سَهْوٌ أَوْ كَالسَّهْوِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعْلَهُ اسْمًا وَمَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ فِعْلًا مَاضِيًا فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ سَهْوًا. قال الزمخشري: وجمع بين السُّنْدُسِ وَهُوَ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَبَيْنَ الْإِسْتَبْرَقِ وَهُوَ الْغَلِيظُ مِنْهُ جَمْعًا بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، وَقُدِّمَتِ التَّحْلِيَةُ عَلَى اللِّبَاسِ لِأَنَّ الْحُلِيَّ فِي النَّفْسِ أَعْظَمُ وَإِلَى الْقَلْبِ أَحَبُّ، وَفِي الْقِيمَةِ أَغْلَى، وَفِي الْعَيْنِ أَحْلَى، وَبِنَاءُ فِعْلِهِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ يُكْرَمُونَ بِذَلِكَ وَلَا يَتَعَاطَوْنَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: غَرَائِرُ فِي كَنٍّ وَصَوْنٍ وَنِعْمَةٍ ... تَحَلَّيْنَ يَاقُوتًا وَشَذَرًا مُفَقِّرَا وَأَسْنَدَ اللِّبَاسَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ خُصُوصًا لَوْ كَانَ بَادِيَ الْعَوْرَةِ، وَوَصَفَ الثِّيَابَ بِالْخُضْرَةِ لِأَنَّهَا أَحْسَنُ الْأَلْوَانِ وَالنَّفْسُ تَنْبَسِطُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ إِنَّهَا تَزِيدُ فِي ضَوْءِ الْبَصَرِ وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: أَرْبَعَةٌ مُذْهِبَةٌ لِكُلِّ هَمٍّ وَحُزْنٍ ... الْمَاءُ وَالْخُضْرَةُ وَالْبُسْتَانُ وَالْوَجْهُ الْحَسَنُ

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 44]

وَخَصَّ الِاتِّكَاءَ لِأَنَّهَا هَيْئَةُ الْمُنَعَّمِينَ وَالْمُلُوكِ عَلَى أَسِرَّتِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: عَلَى الْأَرائِكِ بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ إِلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَإِدْغَامِ لَامِ عَلَى فِيها فَتَنْحَذِفُ أَلِفُ عَلَى لِتَوَهُّمِ سُكُونِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَالنُّطْقِ بِهِ عَلَرَائِكِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا أَصْبَحَتْ عَلَرْضِ نَفْسٌ بَرِيَّةٌ ... وَلَا غَيْرُهَا إِلَّا سُلَيْمَانَ بَالَهَا يُرِيدُ عَلَى الْأَرْضِ، والمخصوص بالمدح محذوف أي نِعْمَ الثَّوَابُ مَا وُعِدُوا بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي حَسُنَتْ عائد على الجنات. [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) حَفَّهُ: طَافَ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَحُفُّهُ جانبا نيق وَيَتْبَعُهُ ... مِثْلُ الزُّجَاجَةِ لَمْ يكحل من الرمد وخففته بِهِ: جَعَلْتُهُ مُطِيفًا بِهِ، وَحَفَّ بِهِ الْقَوْمُ صَارُوا فِي حَفَّتِهِ، وَهِيَ جَوَانِبُهُ. كِلْتَا: اسْمٌ

مُفْرَدُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مُثَنَّى الْمَعْنَى وَمُثَنًّى لَفْظًا، وَمَعْنًى عِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَتَاؤُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرِ الْجَرْمِيِّ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ فَأَصْلُهُ كَلَوَى، وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ وَزَائِدَةٌ عِنْدَ الْجَرْمِيِّ، وَالْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ أَصْلِهَا وَوَزْنُهَا عِنْدَهُ فَعِيلُ. الْمُحَاوَرَةُ: مُرَاجَعَةُ الْكَلَامِ مِنْ حَارَ إِذَا رَجَعَ. الْبَيْدُودَةُ الْهَلَاكُ، وَيُقَالُ مِنْهُ: بَادَ يُبِيدُ بُيُودًا وَبَيْدُودَةً. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَئِنْ بَادَ أَهْلُهُ ... لَبِمَا كَانَ يَوْهَلُ النُّطْفَةُ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ، يُقَالُ مَا فِي الْقِرْبَةِ مِنَ الْمَاءِ نُطْفَةً، الْمَعْنَى لَيْسَ فِيهَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَسُمِّيَ الْمَنِيُّ نُطْفَةً لِأَنَّهُ يَنْطِفُ أَيْ يَقْطُرُ قَطْرَةً بَعْدَ قَطْرَةٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: جَاءَ وَرَأَسُهُ يَنْطِفُ مَاءً أَيْ يَقْطُرُ. الْحُسْبَانُ فِي اللُّغَةِ الْحِسَابُ، وَيَأْتِي أَقْوَالُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهِ. الزَّلَقُ: مَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْقَدَمُ مِنَ الْأَرْضِ. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً. قِيلَ نَزَلَتْ فِي أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ وَكَانَ كَافِرًا، وَأَبِي سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَسْوَدِ كَانَ مُؤْمِنًا. وَقِيلَ: أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرْطُوسُ وَهُوَ الْكَافِرُ وَقِيلَ: اسْمُهُ قِطْفِيرُ، وَيَهُوذَا وَهُوَ الْمُؤْمِنُ فِي قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُهُ تَمْلِيخَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ «1» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا ابْنَا مَلِكٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَفَرَ الْآخَرُ وَاشْتَغَلَ بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَتَنْمِيَةِ مَالِهِ. وَعَنْ مَكِّيٍّ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اشْتَرَكَا فِي مَالِ كَافِرٍ سِتَّةِ آلَافٍ فَاقْتَسَمَاهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا حَدَّادَيْنِ كَسَبَا مَالًا. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمَا ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَى الْكَافِرُ أَرْضًا بِأَلْفٍ وبنى دار بِأَلْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَلْفٍ وَاشْتَرَى خَدَمًا وَمَتَاعًا بِأَلْفٍ، وَاشْتَرَى الْمُؤْمِنُ أَرْضًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَجَعَلَ أَلْفًا صَدَاقًا لِلْحُورِ فَتَصَدَّقُ بِهِ، وَاشْتَرَى الْوِلْدَانَ الْمُخَلَّدِينَ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ فَجَلَسَ لِأَخِيهِ عَلَى طَرِيقِهِ فَمَرَّ فِي حَشَمِهِ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَطَرَدَهُ وَوَبَّخَهُ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُتَجَبِّرِينَ الطَّالِبِينَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْدَ الضُّعَفَاءِ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 51.

الْمُؤْمِنِينَ، فَالرَّجُلُ الْكَافِرُ بِإِزَاءِ الْمُتَجَبِّرِينَ وَالرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ بِإِزَاءِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَهَرَ بِضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ الرَّبْطُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا إِذْ كَانَ مَنْ أَشْرَكَ إِنَّمَا افْتَخَرَ بِمَالِهِ وَأَنْصَارِهِ، وَهَذَا قَدْ يَزُولُ فَيَصِيرُ الْغَنِيُّ فَقِيرًا، وَإِنَّمَا الْمُفَاخَرَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقْدِيرُ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا قِصَّةَ رَجُلَيْنِ وجعلنا تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ نَصْبًا نَعْتًا لِرَجُلَيْنِ. وَأُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْكَافِرُ الشَّاكُّ فِي الْبَعْثِ، وَأَبْهَمَ تَعَالَى مَكَانَ الْجَنَّتَيْنِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْيِينِهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ. وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ فِي كِتَابِهِ فِي عَجَائِبِ الْبِلَادِ أَنَّ بُحَيْرَةَ تِنِّيسَ كَانَتْ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ وكانتا الأخوين، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الْآخَرِ وَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ حَتَّى عَيَّرَهُ الْآخَرُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ قَالَ: فَغَرَّقَهَا اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَإِيَّاهُمَا عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْهَيْئَةَ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يَكَادُ يَتَخَيَّلُ أَجَلَّ مِنْهُمَا فِي مَكَاسِبِ النَّاسَ جَنَّتَا عِنَبٍ أَحَاطَ بِهِمَا نَخْلٌ بَيْنَهُمَا فُسْحَةٌ هِيَ مُزْدَرَعٌ لِجَمِيعِ الْحُبُوبِ وَالْمَاءِ الْمَعِينِ، يُسْقَى جَمِيعُ ذَلِكَ مِنَ النَّهَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ بَسَاتِينَ مِنْ كُرُومٍ، وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا النَّخْلَ مُحِيطًا بِالْجَنَّتَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤْثِرُهُ الدَّهَاقِينُ فِي كُرُومِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا مُؤَزَّرَةً بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ كِلَا الْجَنَّتَيْنِ، أَتَى بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْجَنَّتَيْنِ مَجَازِيٌّ، ثُمَّ قَرَأَ آتَتْ فَأُنِّثَ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُؤَنَّثٌ، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ طَلَعَ الشَّمْسُ وَأَشْرَقَتْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كُلُّ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ انْتَهَى فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى كُلُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَهَا أَرْضًا جَامِعَةً لِلْأَقْوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ، وَوَصَفَ الْعِمَارَةَ بِأَنَّهَا مُتَوَاصِلَةٌ مُتَشَابِكَةٌ لَمْ يَتَوَسَّطْهَا مَا يَقْطَعُهَا وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا مَعَ الشَّكْلِ الْحَسَنِ وَالتَّرْتِيبِ الْأَنِيقِ، وَنَعَتَهَمَا بِوَفَاءِ الثِّمَارِ وَتَمَامِ الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ ثُمَّ بِمَا هُوَ أَصْلُ الْخَيْرُ وَمَادَّتُهُ مِنْ أَمْرِ الشُّرْبِ، فَجَعَلَهُ أَفْضَلَ مَا يُسْقَى بِهِ وَهُوَ السَّيْحُ بِالنَّهَرِ الْجَارِي فِيهَا وَالْأَكْلُ الثَّمَرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَفَجَّرْنا بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا شَدَّدَ وَفَجَّرْنا وَهُوَ نَهَرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ النَّهَرَ يَمْتَدُّ فَكَأَنَّ التَّفَجُّرَ فِيهِ كُلَّهُ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ شُرْبَهُمَا كَانَ مِنْ نَهَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَغْزَرُ الشُّرْبِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَالتَّشْدِيدُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ عُيُوناً «1» وَقَوْلِهِ هنا

_ (1) سورة القمر: 54/ 12.

نَهَراً وَانْتَصَبَ خِلالَهُما عَلَى الظَّرْفِ أَيْ وَسَطَهُمَا، كَانَ النَّهَرُ يَجْرِي مِنْ دَاخِلِ الْجَنَّتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَهَراً بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَالِ وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَجَمَاعَةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ: ثَمَرٌ وَبِثُمُرِهِ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ جَمْعُ ثِمَارٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِسْكَانِ الْمِيمِ فِيهِمَا تَخْفِيفًا أَوْ جَمْعُ ثَمَرَةٍ كَبَدَنَةٍ وَبُدُنٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَجَّاجُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو حَاتِمٍ وَيَعْقُوبُ عَنْ رُوَيْسٍ عَنْهُ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ ثَمَرٌ بِضَمِّهِمَا وَبِثَمَرِهِ بِفَتْحِهِمَا فِيمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ الثَّمَرُ جَمِيعُ الْمَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ ... وَمَا أَثَمَرُوا مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرَادُ بِهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْأُصُولُ فِيهَا الثَّمَرُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الثَّمَرُ الْمَالُ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ إِلَى الْجَنَّتَيْنِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا، فَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ عِمَارَةِ الْجَنَّتَيْنِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَلَا إِشْكَالَ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ حَمْلَ الشَّجَرِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ فِي رِوَايَةٍ ثَمَرٌ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَآتَيْنَاهُ ثَمَرًا كَثِيرًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا. وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ فَقالَ لِصاحِبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهُ، وَهُوَ يُحاوِرُهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَا الْحَالِ هُوَ الْقَائِلُ أَيْ يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ فِي إِنْكَارِهِ الْبَعْثَ، وَفِي إِشْرَاكِهِ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مِنْ صَاحِبِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ كَانَ يُحَاوِرُهُ بِالْوَعْظِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَالظَّاهِرُ كَوْنُ أَفْعَلُ لِلتَّفْضِيلِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ لَهُ مَالٌ وَنَفَرٌ وَلَمْ يَكُنْ سُبْرُوتًا كَمَا ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ، وَأَنَّهُ جَاءَ يَسْتَعْطِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً «1» وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْكُفَّارِ فِي الِافْتِخَارِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَعِزَّةِ الْعَشِيرَةِ وَالتَّكَبُّرِ وَالِاغْتِرَارِ بِمَا نَالُوهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَمَقَالَتُهُ تِلْكَ لِصَاحِبِهِ بِإِزَاءِ مَقَالَةِ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ سَادَاتُ الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ، فَنَحِّ عَنَّا سَلْمَانَ وَقُرَنَاءَهُ. وَعَنَى بِالنَّفَرِ أَنْصَارَهُ وَحَشَمَهُ. وَقِيلَ: أَوْلَادًا ذُكُورًا لِأَنَّهُمْ يَنْفِرُونَ مَعَهُ دُونَ الْإِنَاثِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بِقَوْلِهِ: وَأَعَزُّ نَفَراً إِذْ لَوْ كَانَ أَخَاهُ لَكَانَ نَفَرُهُ وَعَشِيرَتُهُ نَفَرَ أَخِيهِ وَعَشِيرَتَهُ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ لَا يَرِدُ هَذَا. أَمَّا مَنْ فَسَّرَ النَّفَرَ بِالْعَشِيرَةِ التي هي

_ (1) سورة الكهف: 18/ 39.

مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَيَرِدُ، وَأَفْرَدَ الْجَنَّةَ فِي قَوْلِهِ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أَفْرَدَ الْجَنَّةَ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ وَدَخَلَ مَا هُوَ جَنَّتُهُ مَا لَهُ جَنَّةٌ غَيْرُهَا، يَعْنِي أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فَمَا مَلَكَهُ فِي الدُّنْيَا هُوَ جَنَّتُهُ لَا غَيْرُ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْجَنَّتَيْنِ وَلَا وَاحِدَةً مِنْهُمَا انْتَهَى. وَلَا يُتَصَوَّرُ مَا قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدُخُولِ ذَلِكَ الْكَافِرِ جَنَّتَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ قَصَدَ فِي الْإِخْبَارِ أَنَّهُ دَخَلَ إِحْدَى جَنَّتَيْهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَهُمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى وَدَخَلَ جَنَّتَهُ يُرِي صَاحِبَهُ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْبَهْجَةِ وَالنَّضَارَةِ وَالْحُسْنِ. وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ وَهُوَ كَافِرٌ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ مُغْتَرٌّ بِمَا مَلَكَهُ شَاكٌّ فِي نَفَادِ مَا خَوَّلَهُ. وَفِي الْبَعْثِ الَّذِي حَاوَرَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ هذِهِ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي دَخَلَهَا، وَعَنَى بِالْأَبَدِ أَبَدَ حَيَاتِهِ وَذَلِكَ لِطُولِ أَمَلِهِ وَتَمَادِي غَفْلَتِهِ، وَلِحُسْنِ قِيَامِهِ عَلَيْهَا بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْمَالِ وَالْخَدَمِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ عَلَى حَالِهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ، وَالْحِسُّ يَقْتَضِي أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ أَوْ يَكُونُ قَائِلًا بِقَدَمِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ الْجَنَّةُ إن فَنِيَتْ أَشْخَاصُ أَثْمَارِهَا فَتَخْلُفُهَا أَشْخَاصٌ أُخَرُ، وَكَذَا دَائِمًا. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ بِهَذِهِ إلى الهيئة من السموات وَالْأَرْضِ وَأَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ الْمُحَاوَرَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا هِيَ فِي فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي هَذِهِ الْجَنَّةُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَفِي الْبَعْثِ الْأُخْرَوِيِّ أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ تَقَرَّرَ لَهُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ يَشُكُّ فِيهِمَا. ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ رُدَّ إِلَى رَبِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَقِيَاسِ الْأُخْرَى عَلَى الدُّنْيَا وَكَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُهُ لَيَجِدَنَّ فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِهِ فِي الدُّنْيَا تَطَمُّعًا، وَتَمَنِّيًا عَلَى اللَّهِ، وَادِّعَاءً لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ مَا أَوْلَاهُ الْجَنَّتَيْنِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِاسْتِحْقَاقِهِ، وَأَنَّ مَعَهُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ أَيْنَ تَوَجَّهَ كَقَوْلِهِ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «1» . وَأَمَّا مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا فَلَيْسَ عَلَى حَدِّ مَقَالَةِ هَذَا لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْعَاصِيَ قَصَدَ الِاسْتِخْفَافَ وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَهَذَا قَالَ مَا مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ رُجُوعٌ فَسَيَكُونُ حَالِي كَذَا وَكَذَا. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ وَعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْجَنَّتَيْنِ، وَكَذَا فِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 50. [.....]

وَأَبُو عَمْرٍو مِنْها عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْجَنَّةِ الْمَدْخُولَةِ وَكَذَا فِي مَصَاحِفِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَمَعْنَى مُنْقَلَباً مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً أَيْ مُنْقَلَبُ الْآخِرَةِ لِبَقَائِهَا خَيْرٌ مِنْ مُنْقَلَبِ الدُّنْيَا لِزَوَالِهَا، وَانْتَصَبَ مُنْقَلَباً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً. وَهُوَ يُحاوِرُهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَهُوَ يُخَاصِمُهُ وَهِيَ قِرَاءَةُ تَفْسِيرٍ لَا قِرَاءَةُ رِوَايَةٍ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّ الَّذِي رُوِيَ بِالتَّوَاتُرِ هُوَ يُحاوِرُهُ لا يخاصمه. وأَ كَفَرْتَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ حَيْثُ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ. وَقَرَأَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: وَيْلَكَ أَكَفَرْتَ وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ لَا قِرَاءَةٌ ثَابِتَةٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَبَّهَهُ عَلَى أَصْلِ نَشْأَتِهِ وَإِيجَادِهِ بَعْدَ الْعَدَمِ وَأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، ثُمَّ تَحَتَّمَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِينَ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ إِمَّا أَنْ يُرَادَ خَلْقُ أَصْلِكَ مِنْ تُرابٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَخَلْقُ أَصْلِهِ سَبَبٌ فِي خَلْقِهِ فَكَانَ خَلْقُهُ خَلْقًا لَهُ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ يَتَوَلَّدُ مِنْ أَغْذِيَةٍ رَاجِعَةٍ إِلَى التُّرَابِ، فَنَبَّهَهُ أَوَّلًا عَلَى مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مَاءُ أَبِيهِ ثُمَّ ثَانِيهِ عَلَى النُّطْفَةِ الَّتِي هِيَ مَاءُ أَبِيهِ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ مَلَكًا وُكِّلَ بِالنُّطْفَةِ يُلْقِي فِيهَا قَلِيلًا مِنْ تُرَابٍ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الرَّحِمِ فَيَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ. ثُمَّ نَبَّهَهُ عَلَى تَسْوِيَتِهِ رَجُلًا وَهُوَ خَلْقُهُ مُعْتَدِلًا صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ، وَيُقَالُ لِلْغُلَامِ إِذَا تَمَّ شَبَابُهُ قَدِ اسْتَوَى. وَقِيلَ: ذَكَّرَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ رَجُلًا وَلَمْ يَخْلُقْهُ أُنْثَى، نَبَّهَهُ بِهَذِهِ التَّنَقُّلَاتِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّاكَ عَدَّلَكَ وَكَمَّلَكَ إِنْسَانًا ذَكَرًا بَالِغًا مَبْلَغَ الرِّجَالِ، جَعَلَهُ كَافِرًا بِاللَّهِ جَاحِدًا لِأَنْعُمِهِ لِشَكِّهِ فِي الْبَعْثِ كَمَا يَكُونُ الْمُكَذِّبُ بِالرَّسُولِ كَافِرًا انْتَهَى. وَانْتَصَبَ رَجُلًا عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ رَجُلًا نُصِبَ بِسَوَّى أَيْ جَعَلَكَ رَجُلًا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَدَّى سَوَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الِاسْتِفْهَامُ اسْتِفْهَامَ اسْتِعْلَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْرِيرٌ عَلَى كُفْرِهِ

وَإِخْبَارٌ عَنْهُ بِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ كَفَرْتَ بِالَّذِي اسْتَدْرَكَ هُوَ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي إِقْرَارٌ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةِ وَرْشٍ وَقَالُونُ لَكِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي الْوَصْلِ وَبِأَلِفٍ فِي الْوَقْفِ وَأَصْلُهُ، وَلَكِنْ أَنَا نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى نُونِ لَكِنِ وَحُذِفَ الْهَمْزَةُ فَالْتَقَى مِثْلَانِ فَأُدْغِمَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ. وَقِيلَ: حُذِفَ الْهَمْزَةُ مِنْ أَنَا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فَالْتَقَتْ نُونُ لَكِنِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ مَعَ نُونِ أَنَا فَأُدْغِمَتْ فِيهَا، وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ أَلِفَ أَنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَا، وَأَمَّا فِي الْوَصْلِ فَالْمَشْهُورُ حَذْفُهَا وَقَدْ أَبْدَلَهَا أَلِفًا فِي الْوَقْفِ أَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ فَوَقَفَ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَوَى هَارُونُ عَنْ أبي عمر ولكنه هُوَ اللَّهُ رَبِّي بِضَمِيرٍ لَحِقَ لَكِنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةِ المسيلي وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ وَكَرَدْمٌ وَوَرْشٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَقْفًا وَوَصْلًا، أَمَّا فِي الْوَقْفِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْوَصْلِ فَبَنُو تَمِيمٍ يُثْبِتُونَهَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرُهُمْ فِي الِاضْطِرَارِ فَجَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ حَذْفُ الْأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْهَاشِمِيِّ، وَدَلَّ إِثْبَاتُهَا فِي الْوَصْلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ لَكِنِ أَنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَسَّنَ ذَلِكَ يَعْنِي إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وُقُوعُ الْأَلِفِ عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الْهَمْزَةِ انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَةُ فِرْقَةٍ لَكِنَنَا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونَيْنِ. وَقَالَ أَيْضًا الزَّمَخْشَرِيُّ وَنَحْوُهُ يَعْنِي وَنَحْوَ إِدْغَامِ نُونِ لَكِنِ فِي نون أما بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ ... وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إِيَّاكِ لَا أَقْلِي أَيْ لَكِنْ أَنَا لَا أَقْلِيكِ انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ فِي الْبَيْتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَكِنَّنِي فَحُذِفَ اسْمُ لَكِنَّ وَذَكَرُوا أَنَّ حَذْفَهُ فَصِيحٌ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ أَيْ وَلَكِنَّكَ زِنْجِيٌّ، وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَكِنْ لَحِقَتْهَا نُونُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي فِي خَرَجْنَا وَضَرَبْنَا وَوَقَعَ الْإِدْغَامُ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ ثُمَّ وَحَّدَ فِي رَبِّي عَلَى الْمَعْنَى، وَلَوِ اتَّبَعَ اللَّفْظَ لَقَالَ رَبَّنَا انْتَهَى. وَهُوَ تَأْوِيلٌ بِعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَوَجَّهُ فِي لَكِنَّا أَنْ تَكُونَ الْمَشْهُورَةَ مِنْ أَخَوَاتِ إِنَّ الْمَعْنَى لَكِنَّ قَوْلِي هُوَ اللَّهُ رَبِّي إِلَّا أَنِّي لَا أَعْرِفُ مَنْ يَقْرَأُ بِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا

انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُف بْنِ عَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ الْهُذَلِيُّ فِي كِتَابِ الْكَامِلِ فِي الْقِرَاءَاتِ مِنْ تأليفه ما نصه: يحذفها فِي الْحَالَيْنِ يَعْنِي الْأَلِفَ فِي الْحَالَيْنِ يَعْنِي الْوَصْلَ وَالْوَقْفَ حِمْصِيٌّ وَابْنُ عُتْبَةَ وَقُتَيْبَةُ غَيْرُ الثَّقَفِيِّ، وَيُونُسُ عَنْ أَبِي عُمَرَ وَيَعْنِي بِحِمْصِيٍّ ابْنَ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبَا حَيْوَةَ وَأَبَا بَحْرِيَّةَ. وقرأ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ لَكِنِ أَنَا هُوَ اللَّهُ عَلَى الِانْفِصَالِ، وَفَكِّهِ مِنَ الْإِدْغَامِ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزِ، وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ بِغَيْرِ أَنَا، وَحَكَاهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَكَاهَا الْأَهْوَازِيُّ عَنِ الْحَسَنِ. فَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ هُوَ فَإِنَّهُ ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، وَثَمَّ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ لَكِنْ أَنَا أَقُولُ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، أَيْ أَنَا أَقُولُ: هُوَ أَيْ خالقك اللَّهُ رَبِّي ورَبِّي نَعْتٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ. أَقُولُ مَحْذُوفَةً فيكون أنا مبتدأ، وهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ واللَّهُ مبتدأ ثالث، ورَبِّي خبره والثالث وخبره خَبَرٌ عَنِ الثَّانِي، وَالثَّانِي وَخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أَنَا، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ هُوَ الْيَاءُ فِي رَبِّي، وَصَارَ التَّرْكِيبُ نَظِيرَ هِنْدٌ هُوَ زَيْدٌ ضَارِبُهَا. وَعَلَى رِوَايَةِ هَارُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ توكيد الضمير النَّصْبِ فِي لَكِنَّهُ الْعَائِدُ عَلَى الَّذِي خَلَقَكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا لِوُقُوعِهِ بَيْنَ مُعَرَّفَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ شَأْنٍ لِأَنَّهُ لَا عَائِدَ عَلَى اسْمِ لَكِنَّ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا. وَفِي قَوْلِهِ وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً تَعْرِيضٌ بِإِشْرَاكِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ مُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ فِي قوله يا ليتني لم أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرَى الْغِنَى وَالْفَقْرَ إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى، يُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُغْنِي مَنْ يَشَاءُ. وَقِيلَ: لَا أُعْجِزُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِعَادَةِ، فَأُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ إِشْرَاكًا كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ. وَلَمَّا وَبَّخَ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ أَوْرَدَ لَهُ مَا يَنْصَحُهُ فَحَضَّهُ عَلَى أَنْ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَخَلَ جَنَّتَهُ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيِ الْأَشْيَاءُ مَقْذُوفَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَفْقَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَغْنَى، وَإِنْ شَاءَ نَصَرَ، وَإِنْ شَاءَ خَذَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِشَاءَ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي مَرْفُوعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيِ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ كَائِنٌ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْلا تَحْضِيضِيَّةٌ، وَفُصِلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَهَا بِالظَّرْفِ وَهُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ قُلْتَ. ثُمَّ نصحه بالتبري مِنَ الْقُوَّةِ فِيمَا يُحَاوِلُهُ وَيُعَانِيهِ وَأَنْ يَجْعَلَ الْقُوَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِذَا قَالَهَا الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ» . وَنَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَفِيهِ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

ثُمَّ أَرْدَفَ تِلْكَ النَّصِيحَةَ بِتَرْجِيَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَتَوَقَّعَهُ أَنْ يَقْلِبَ مَا بِهِ وَمَا بِصَاحِبِهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى. فَقَالَ: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً أَيْ إِنِّي أَتَوَقَّعُ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ أَنْ يَمْنَحَنِي جَنَّةً خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ لِإِيمَانِي بِهِ، وَيُزِيلَ عَنْكَ نِعْمَتَهُ لِكُفْرِكَ بِهِ وَيُخَرِّبُ بُسْتَانَكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَقَلَّ بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَرَنِي وَهِيَ عِلْمِيَّةٌ لَا بَصَرِيَّةٌ لِوُقُوعِ أَنَا فَصْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي تَرَنِي، وَيَجُوزُ أَنْ تكون بصرية وأَنَا تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ فِي تَرَنِي الْمَنْصُوبِ فَيَكُونُ أَقَلَّ حَالًا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ أَقَلَّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ تكون أنا مبتدأ، وأَقَلَّ خبره، والجملة في موضع مَفْعُولِ تَرَنِي الثَّانِي إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً، وَفِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَوَلَداً عَلَى أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِهِ وَأَعَزُّ نَفَراً «1» عَنَى بِهِ الْأَوْلَادَ إِنْ قَابَلَ كَثْرَةَ الْمَالِ بِالْقِلَّةِ وَعِزَّةَ النَّفَرِ بِقِلَّةِ الْوَلَدِ. وَالْحُسْبَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْعَذَابُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْبَرْدُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: النَّارُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْقَضَاءُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: سِهَامٌ تُرْمَى فِي مَجْرًى فَقَلَّمَا تخطىء. وَقِيلَ: النَّبْلُ. وَقِيلَ: الصَّوَاعِقُ. وَقِيلَ: آفَةٌ مُجْتَاحَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَذَابُ حُسْبَانٍ وَذَلِكَ الْحُسْبَانُ حِسَابُ مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ، وَهَذَا التَّرَجِّي إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْتِيَهُ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ أَنَكَى لِلْكَافِرِ وَآلَمُ إِذْ يَرَى حَالَهُ مِنَ الْغِنَى قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْتِيَهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَشْرَفُ وَأَذْهَبُ مَعَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً أَيْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا لَا مِنْ كَرْمٍ وَلَا نَخْلٍ وَلَا زَرْعٍ، قَدِ اصْطُلِمَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَبَقِيَتْ يَبَابًا قَفْرًا يُزْلَقُ عَلَيْهَا لِإِمْلَاسِهَا، وَالزَّلَقُ الَّذِي لَا تَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ ذَهَبَ غِرَاسُهُ وَبِنَاؤُهُ وَسُلِبَ الْمَنَافِعَ حَتَّى مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فِيهِ فَهُوَ وَحْلٌ لَا يَنْبُتُ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الزَّلَقُ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْخَرَابُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَمْلًا هَائِلًا. وَقِيلَ: الزَّلَقُ الْأَرْضُ السَّبْخَةُ وَتَرَجِّي الْمُؤْمِنِ لِجَنَّةِ هَذَا الْكَافِرِ آفَةً عُلْوِيَّةً مِنَ السَّمَاءِ أَوْ آفَةً سُفْلِيَّةً مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ غَوْرُ مَائِهَا فَيُتْلَفُ كُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، وَغَوْرٌ مَصْدَرٌ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ أَصْبَحَ على سبيل المبالغة وأَوْ يُصْبِحَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَيُرْسِلَ لأن غؤور الْمَاءِ لَا يَتَسَبَّبُ عَلَى الْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَّا إِنْ عَنَى بِالْحُسْبَانِ الْقَضَاءَ الْإِلَهِيَّ، فَحِينَئِذٍ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ إِصْبَاحَ الْجَنَّةِ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ إِصْبَاحَ مَائِهَا غَوْراً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غَوْراً بِفَتْحِ الْغَيْنِ. وَقَرَأَ الْبُرْجُمِيُّ: غَوْراً بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَهَمْزِ الْوَاوِ يَعْنُونَ وَبِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ غؤورا كَمَا جَاءَ فِي مَصْدَرِ غارت عينه غؤورا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ أَيْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَى طَلَبِهِ لِكَوْنِهِ ليس مقدورا

_ (1) سورة الكهف: 18/ 39.

عَلَى رَدِّ مَا غَوَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَنْ تَسْتَطِيعَ طَلَبَ غَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ، وَبَلَّغَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ مَا تَرَجَّاهُ مِنْ هَلَاكِ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ الْكَافِرِ وَإِبَادَتِهِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَنَّ فِي قَوْلِهِ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِهْلَاكِ وَأَصْلُهُ مِنْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ وَهُوَ اسْتِدَارَتُهُ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَمَتَى أَحَاطَ بِهِ مَلَكَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ إِهْلَاكٍ وَمِنْهُ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِحَاطَةُ كِنَايَةٌ عَنْ عُمُومِ الْعَذَابِ وَالْفَسَادِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِحَاطَةَ كَانَتْ لَيْلًا لِقَوْلِهِ فَأَصْبَحَ عَلَى أَنَّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَأَصْبَحَ فَصَارَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ الْخَبَرِ بِالصَّبَاحِ، وَتَقْلِيبُ كَفَّيْهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَهُوَ أَنَّهُ يُبْدِي بَاطِنَ كَفِّهِ ثُمَّ يُعْوِجُ كَفَّهُ حَتَّى يَبْدُوَ ظَهْرُهَا، وَهِيَ فِعْلَةُ النَّادِمِ الْمُتَحَسِّرِ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فَاتَهُ، الْمُتَأَسِّفِ عَلَى فِقْدَانِهِ، كَمَا يُكَنَّى بِقَبْضِ الْكَفِّ وَالسُّقُوطِ فِي الْيَدِ. وَقِيلَ: يُصَفِّقُ بِيَدِهِ عَلَى الأخرى ويُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهر البطن. وَقِيلَ: يَضَعُ بَاطِنَ إِحْدَاهُمَا عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ كِنَايَةً عَنِ النَّدَمِ عَدَّاهُ تَعْدِيَةَ فِعْلِ النَّدَمِ فَقَالَ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَصْبَحَ نَادِمًا عَلَى ذَهَابِ مَا أَنْفَقَ فِي عِمَارَةِ تِلْكَ الْجَنَّةِ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَاخِرِ الْبَقَرَةِ. وَتَمَنِّيهِ انْتِفَاءَ الشِّرْكِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا عَلَى جِهَةِ التَّوْبَةِ بَعْدَ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ، وَفِي ذَلِكَ زَجْرٌ لِلْكَفَرَةِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا يَجِيءَ لَهُمْ حَالٌ يُؤْمِنُونَ فِيهَا بَعْدَ نِقَمٍ تَحُلُّ بِهِمْ، قِيلَ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا فَتَذَكَّرَ مَوْعِظَةَ أَخِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ أُتِيَ مِنْ جِهَةِ شِرْكِهِ وَطُغْيَانِهِ فَتَمَنَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْكَافِرِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا افْتَخَرَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ وَعَزَّةِ نَفَرِهِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أَيْ جَمَاعَةٌ تَنْصُرُهُ وَلَا كَانَ هُوَ مُنْتَصِرًا بِنَفْسِهِ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي يَنْصُرُونَهُ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا أَفْرَدَهُ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» وَاحْتُمِلَ النَّفْيُ أَنْ يَكُونَ مُنْسَحِبًا عَلَى الْقَيْدِ فَقَطْ، أَيْ لَهُ فِئَةٌ لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ. وَأَنْ يَكُونَ مُنْسَحِبًا عَلَى الْقَيْدِ، وَالْمُرَادُ انْتِفَاؤُهُ لِانْتِفَاءِ مَا هُوَ وَصْفٌ لَهُ أَيْ لَا فِئَةَ فَلَا نَصْرَ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا بِقُوَّةٍ عَنِ انْتِقَامِ اللَّهِ. وقرأ الأخوان وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَأَيُّوبُ وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وابن سعدان وابن عيسى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ بِالْيَاءِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْفِئَةِ مَجَازٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ فِئَةٌ تَنْصُرُهُ على اللفظ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 66. (2) سورة آل عمران: 3/ 13.

وَالْحَقِيقَةِ فِي هُنَالِكَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ مَكَانٍ لِلْبُعْدِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ لِدَارِ الْآخِرَةِ أَيْ فِي تِلْكَ الدَّارِ الْوِلَايَةُ لِلَّهِ كَقَوْلِهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «1» . قِيلَ: لَمَّا نَفَى عَنْهُ الْفِئَةَ النَّاصِرَةَ فِي الدُّنْيَا نَفَى عَنْهُ أَنْ يَنْتَصِرَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ هُنالِكَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ مُنْتَصِراً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ وَما كانَ مُنْتَصِراً فِي تِلْكَ الحال والْوَلايَةُ لِلَّهِ عَلَى هَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقِيلَ: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ مُنْتَصِراً. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ وَخَلَفٌ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الْوَلايَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّئَاسَةِ وَالرِّعَايَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِهَا بِمَعْنَى الْمُوَالَاةِ وَالصِّلَةِ. وَحُكِيَ عن أبي عمرو الأصمعي أَنَّ كَسْرَ الْوَاوِ هُنَا لَحْنٌ لِأَنَّ فَعَالَةَ إِنَّمَا تَجِيءُ فِيمَا كَانَ صَنْعَةً أَوْ مَعْنًى مُتَقَلَّدًا وَلَيْسَ هُنَالِكَ تَوَلِّي أُمُورٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَلايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ والتولي وبالكسر السلطان والملك، وقد قرىء بِهِمَا وَالْمَعْنَى هُنَالِكَ أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَتِلْكَ الْحَالُ النُّصْرَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ سِوَاهُ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ هُنالِكَ السُّلْطَانُ وَالْمُلْكُ لِلَّهِ لَا يُغْلَبُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ، أَوْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ يَتَوَلَّى اللَّهُ وَيُؤْمِنُ بِهِ كُلُّ مُضْطَرٍّ يَعْنِي إِنَّ قَوْلَهُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كَلِمَةٌ أُلْجِئَ إِلَيْهَا فَقَالَهَا فَزَعًا مِنْ شُؤْمِ كُفْرِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ يَنْصُرُ فِيهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَفَرَةِ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ وَيَشْفِي صُدُورَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، يَعْنِي أَنَّهُ نَصَرَ فِيمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ. وَصَدَّقَ قَوْلِهِ عَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ لِأَوْلِيَائِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَحُمَيْدٌ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَقِّ بِرَفْعِ الْقَافِ صِفَةٌ لِلْوَلَايَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِخَفْضِهَا وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ هُنالِكَ الْوَلايَةُ الْحَقُّ لِلَّهِ بِرَفْعِ الْحَقِّ لِلْوَلَايَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى قَوْلِهِ لِلَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو السَّمَّالِ وَيَعْقُوبُ عَنْ عِصْمَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو لِلَّهِ الْحَقَّ بِنَصْبِ الْقَافِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى التَّأْكِيدِ كَقَوْلِكَ هذا عبد الله الحق لَا الْبَاطِلَ وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ فَصِيحَةٌ، وَكَانَ عَمْرُو بن عبيد رحمة الله عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ مِنْ أَفْصَحِ

_ (1) سورة غافر: 40/ 16.

[سورة الكهف (18) : الآيات 45 إلى 59]

النَّاسِ وَأَنْصَحِهِمُ انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ رحمة اللَّهُ انْتَهَى. فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَتَرَضَّى عَنْهُ إِذْ هُوَ مِنْ أَوَائِلِ أَكَابِرِ شُيُوخِهِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَلَهُ أَخْبَارٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَطْعَنُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي أُرْجُوزَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا الْمُنَبِّهَةَ: وَابْنُ عُبَيْدٍ شَيْخُ الِاعْتِزَالِ ... وَشَارِعُ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ عُقْباً بِسُكُونِ الْقَافِ وَالتَّنْوِينِ، وَعَنْ عَاصِمٍ عُقْبَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ عَلَى وَزْنِ رُجْعَى، وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْقَافِ وَالتَّنْوِينِ وَالثَّلَاثُ بمعنى العاقبة. [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 59] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

الْهَشِيمُ الْيَابِسُ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَاحِدُهُ هَشِيمَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ شَيْءٍ كَانَ رَطْبًا وَيَبِسَ، وَمِنْهُ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَهَشِيمِ الثَّرِيدِ، وَأَصْلُ الْهَشِيمِ الْمُتَفَتِّتُ مِنْ يَابِسِ الْعُشْبِ. ذَرَى وَأَذْرَى لُغَتَانِ فَرَّقَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: تَذْرُوهُ تَجِيءُ بِهِ وَتَذْهَبُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَرْفَعُهُ. غَادَرَ ترك من الغدر، ومنه تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَمِنْهُ الْغَدِيرُ، وَهُوَ مَا تَرَكَهُ السَّيْلُ. الصَّفُّ الشَّخْصُ بِإِزَاءِ الْآخَرِ إِلَى نِهَايَتِهِمْ وُقُوفًا أَوْ جُلُوسًا أَوْ عَلَى غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ طُولًا أَوْ تَحْلِيقًا يُقَالُ مِنْهُ: صَفَّ يَصُفُّ وَالْجَمْعُ صُفُوفٌ. الْعَضُدُ الْعُضْوُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مَعْرُوفٌ وَفِيهِ لُغَتَانِ، فَتْحُ الْعَيْنِ وَضَمُّ الضَّادِ وَإِسْكَانُهَا وَفَتْحُهَا وَضَمُّ الْعَيْنِ وَالضَّادِ وَإِسْكَانُ الضَّادِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْعَوْنِ وَالنَّصِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْإِعْضَادُ التَّقَوِّي وَطَلَبُ الْمَعُونَةِ يُقَالُ: اعْتَضَدْتُ بِفُلَانٍ اسْتَعَنْتُ بِهِ. الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ يُقَالُ: وَبِقَ يَوْبَقُ وَبَقًا وَوَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا إِذَا هَلَكَ فَهُوَ وَابِقٌ، وَأَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ أَهْلَكَتْهُ. أَدْحَضَ الْحَقُّ أَرْهَقَهُ قَالَهُ ثَعْلَبٌ، وَأَصْلُهُ مِنْ إِدْحَاضِ الْقَدَمِ وَهُوَ إِزْلَاقُهَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَدْتُ وَنَجَّى الْيَشْكُرِيَّ حِذَارُهُ ... وَحَادَ كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ وَقَالَ آخَرُ: أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ وَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كما حاد البعير المدحض والدحض الطين الذي يزهق فِيهِ. الْمَوْئِلُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَنْجَى يُقَالُ وَالَتْ نَفْسُ فُلَانٍ نَجَتْ.

وَقَالَ الْأَعْشَى: وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ ... وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَا يَئِلُ أَيْ مَا يَنْجُو. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَلْجَأُ يُقَالُ: وَأَلَ فُلَانٌ إِلَى كذا ألجأ، يئل وألا وءولا. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً. لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ حَالَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مَا افْتَخَرَ بِهِ الْكَافِرُ مِنَ الْهَلَاكِ، بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَثَلِ حَالَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاضْمِحْلَالَهَا وَمَصِيرَ مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ والترفه إلى الهلاك وكَماءٍ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ أَيِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَمَاءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ ضَرْبًا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ وَأَقُولُ إِنَّ كَماءٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ وَاضْرِبْ أَيْ وَصَيِّرْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ صِفَتُهَا شِبْهُ مَاءٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي قَوْلِهِ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ «1» فِي يُونُسَ فَأَصْبَحَ أَيْ صَارَ وَلَا يُرَادُ تَقْيِيدُ الْخَبَرِ بِالصَّبَاحِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا وَقِيلَ: هِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالصَّبَاحِ لِأَنَّ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةَ أَكْثَرُ مَا تَطْرُقُ لَيْلًا فَهِيَ كَقَوْلِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ «2» . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُذْرِيهِ مِنْ أَذْرَى رُبَاعِيًّا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَخَلَفٌ وَابْنُ عِيسَى وَابْنُ جَرِيرٍ: الرِّيحُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْجُمْهُورُ تَذْرُوهُ الرِّياحُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ فِي صَيْرُورَةِ مَا كَانَ فِي غَايَةِ النَّضْرَةِ وَالْبَهْجَةِ إِلَى حَالَةِ التَّفَتُّتِ وَالتَّلَاشِي إِلَى أَنْ فرقته الرياح

_ (1) سورة يونس: 10/ 24. (2) سورة الكهف: 18/ 42.

وَلَعِبَتْ بِهِ ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ اقْتِدَارِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِفْنَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَتُهُ تَعَالَى. وَلَمَّا حَقَّرَ تَعَالَى حَالَ الدُّنْيَا بِمَا ضَرَبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَثَلِ ذَكَرَ أَنَّ مَا افْتَخَرَ بِهِ عُيَيْنَةُ وَأَضْرَابُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ إِنَّمَا ذَلِكَ زِينَةُ هَذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا الْمُحَقَّرَةِ، وَأَنَّ مَصِيرَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى النَّفَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَرَثَ بِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِزِينَةِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَقَرُّ زِينَةُ أَوْ وَضَعَ الْمَالَ وَالْبَنِينَ مَنْزِلَةَ الْمَعْنَى وَالْكَثْرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ زِينَةُ وَلَمَّا ذَكَرَ مَآلَ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى الْفَنَاءِ انْدَرَجَ فِيهِ هَذَا الْجُزْئِيُّ مِنْ كَوْنِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ زِينَةً، وَأَنْتَجَ. أَنَّ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَانٍ إِذْ ذَاكَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَرْتِيبُ هَذَا الْإِنْتَاجِ أَنْ يُقَالَ الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَكُلُّ مَا كَانَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا فَهُوَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ فَالْمَالُ وَالْبَنُونَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ، وَمِنْ بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ مَا كان كذلك بقبح بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ أَوْ يَفْرَحَ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ الْكَلِمَاتُ الْمَأْثُورُ فَضْلُهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَبْقَى لِلْآخِرَةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: كُلُّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ عَطَاءٍ: أَنَّهَا النِّيَّاتُ الصَّالِحَةُ فَإِنَّ بِهَا تُتَقَبَّلُ الْأَعْمَالُ وَتُرْفَعُ، وَمَعْنَى خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أَنَّهَا دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ وَخَيْرَاتُ الدُّنْيَا مُنْقَرِضَةٌ فَانِيَةٌ، وَالدَّائِمُ الْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَرِضِ الْمُنْقَضِي. وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيْ وَخَيْرٌ رَجَاءً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَأْمُلُ فِي الدُّنْيَا ثَوَابَ اللَّهِ وَنَصِيبَهُ فِي الْآخِرَةِ دُونَ ذِي الْمَالِ وَالْبَنِينَ الْعَارِي مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَابًا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الدُّنْيَا مِنَ النَّفَادِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَوَائِلِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ كَقَوْلِهِ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً «1» . وَقَالَ: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «2» . وَقَالَ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً «3» . وَقَالَ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ «4» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْفَكُّ نِظَامُ هذا

_ (1) سورة الطور: 52/ 9. (2) سورة النمل: 27/ 88. (3) سورة طه: 20/ 105. (4) سورة التكوير: 81/ 3.

الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَيُؤْتَى بِالْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ، وَانْتَصَبَ وَيَوْمَ عَلَى إِضْمَارِ اذْكُرْ أَوْ بِالْفِعْلِ المضمر عند قوله قَدْ جِئْتُمُونا أَيْ قُلْنَا يَوْمَ كَذَا لَقَدْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ نُسَيِّرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ الْجِبَالَ بِالنَّصْبِ، وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَسَنُ وَشِبْلٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى وَالزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَطَلْحَةُ وَالْيَزِيدِيُّ وَالزُّبَيْرِيُّ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْجِبالَ بِالرَّفْعِ وَعَنِ الْحَسَنِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ وتسير مِنْ سَارَتِ الْجِبَالُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ سُيِّرَتِ الْجِبَالُ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أَيْ مُنْكَشِفَةً ظَاهِرَةً لِذَهَابِ الْجِبَالِ وَالظِّرَابِ وَالشَّجَرِ وَالْعِمَارَةِ، أَوْ تَرَى أَهْلَ الْأَرْضِ بَارِزِينَ مِنْ بَطْنِهَا. وَقَرَأَ عِيسَى وَتَرَى الْأَرْضَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحَشَرْناهُمْ أَيْ أَقَمْنَاهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَمَعْنَاهُمْ لِعَرْصَةِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لم جِيءَ بِحَشَرْنَاهُمْ مَاضِيًا بَعْدَ تَسِيرُ وَتَرَى؟ قُلْتُ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَشْرَهُمْ قَبْلَ التَّسْيِيرِ وَقَبْلَ الْبُرُوزِ لِيُعَايِنُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْعَظَائِمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَحَشَرْناهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ لَا وَاوَ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى وَقَدْ حَشَرْناهُمْ أَيْ يُوقَعُ التَّسْيِيرُ فِي حَالَةِ حَشْرِهِمْ. وَقِيلَ: وَحَشَرْناهُمْ عُرِضُوا وَوُضِعَ الْكِتابُ مِمَّا وُضِعَ فِيهِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُغَادِرُ بَنُونِ الْعَظَمَةِ وَقَتَادَةُ تُغَادِرُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْقُدْرَةِ أَوِ الْأَرْضِ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَاصِمٍ كَذَلِكَ أَوْ بِفَتْحِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَاحِدٍ بِالرَّفْعِ وَعِصْمَةُ كَذَلِكَ، وَالضَّحَّاكُ نُغْدِرُ بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وكسر الدال، وانتصب فًّا عَلَى الْحَالِ وَهُوَ مُفْرَدٌ تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ أَيْ صُفُوفًا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفًا يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ» . الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا أَنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا» . أَوِ انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الْحَالِ أَيْ مصطفين. وقيل: المعنى فًّا صَفًّا فَحُذِفَ صَفًّا وَهُوَ مراد، وهذا التكرار منبىء عَنِ اسْتِيفَاءِ الصُّفُوفِ إِلَى آخِرِهَا، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْجُنْدِ الْمَعْرُوضِينَ عَلَى السُّلْطَانِ مُصْطَفِّينَ ظَاهِرِينَ يَرَى جَمَاعَتَهُمْ كَمَا يَرَى كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَحْجُبُ أَحَدٌ أَحَدًا. َدْ جِئْتُمُونا مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أي وقلنا وما خَلَقْناكُمْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَجِيئًا مِثْلَ مَجِيءِ خَلْقِكُمْ أَيْ «حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَخَالِينَ مِنَ الْمَالِ والولد وأن هُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَفُصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ بِحَرْفِ النَّفْيِ وَهُوَ

لَنْ كَمَا فُصِلَ فِي قَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ «1» ولْ لِلْإِضْرَابِ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ، وَالْمَعْنَى أَنْ لن نجمع لإعادتكم وحشركم وْعِداً أَيْ مَكَانَ وَعْدٍ أَوْ زَمَانَ وَعْدٍ لِإِنْجَازِ مَا وُعِدْتُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْخِطَابُ في قَدْ جِئْتُمُونا لِلْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ عَلَى سَبِيلِ تَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ. وَوُضِعَ الْكِتابُ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَوُضِعَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْكِتابُ بِالنَّصْبِ. والْكِتابُ اسْمُ جِنْسٍ أَيْ كُتُبُ أَعْمَالِ الْخَلْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّحَائِفُ كُلُّهَا جُعِلَتْ كِتَابًا وَاحِدًا وَوَضَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِمُحَاسَبَةِ الْخَلْقِ وَإِشْفَاقُهُمْ خَوْفُهُمْ مِنْ كَشْفِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَفَضْحِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَنَادَوْا هَلَكَتَهُمُ الَّتِي هُلِكُوا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الْهَلَكَاتِ فَقَالُوا يَا وَيْلَنَا وَالْمُرَادُ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا يَا مَنْ بِحَضْرَتِنَا انْظُرُوا هَلَكَتَنَا، وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ نِدَاءِ مَا لَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «2» يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ «3» يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «4» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا عَجَبًا لِهَذِهِ الْفَلِيقَةِ ... فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا الْمُتَحَمَّلِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ مَنْ يَعْقِلُ بِالتَّعَجُّبِ مِمَّا حل بالمنادي. ولا يُغادِرُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ وَالْكَبِيرَةُ الْقَهْقَهَةُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْقُبْلَةُ وَالزِّنَا وَعَنْ غَيْرِهِ السَّهْوُ والعمد. وعن الفضيل صبحوا وَاللَّهِ مِنَ الصَّغَائِرِ قَبْلَ الْكَبَائِرِ، وَقُدِّمَتِ الصَّغِيرَةُ اهْتِمَامًا بِهَا، وَإِذَا أُحْصِيَتْ فَالْكَبِيرَةُ أَحْرَى إِلَّا أَحْصاها ضَبَطَهَا وَحَفِظَهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً فِي الصُّحُفِ عَتِيدًا أَوْ جَزَاءَ مَا عَمِلُوا. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً فَيَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْ أَوْ يَزِيدُ فِي عِقَابِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ أَوْ يُعَذِّبُهُ بِغَيْرِ جُرْمٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا يُزْعَمُ مِنْ ظُلْمِ اللَّهِ فِي تَعْذِيبِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ انْتَهَى. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى كُلٌّ مَمْلُوكُونَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَمْلُوكِيهِ بِمَا يَشَاءُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَالصَّحِيحُ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ خَدَمًا لِأَهْلِهَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ

_ (1) سورة القيامة: 75/ 3. (2) سورة يوسف: 12/ 84. (3) سورة الزمر: 39/ 56. (4) سورة يس: 36/ 52. [.....]

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً. ذَكَرُوا فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نبيه عليه الصلاة والسلام بِمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ تَأَنَّفُوا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَذَكَرُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْدَهُمْ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّكَثُّرِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَشَرَفِ الْأَصْلِ وَالنَّسَبِ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءُ بِخِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ نَاسَبَ ذِكْرُ قِصَّةِ إِبْلِيسَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالِافْتِخَارِ بِالْأَصْلِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الِارْتِبَاطِ هُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ قَبْلَ ضَرْبِ الْمَثَلَيْنِ، وَإِمَّا أَنَّهُ وَاضِحٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ الْمَثَلَيْنِ فَلَا وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْحَشْرَ وَذَكَرَ خَوْفَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا سُطِّرَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْمُجْرِمِينَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ وَاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ مَعَ اللَّهِ نَاسَبَ ذِكْرَ إِبْلِيسَ وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ ذُرِّيَّتِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَبْعِيدًا عَنِ الْمَعَاصِي، وَعَنِ امْتِثَالِ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اسْتِثْنَاءِ إِبْلِيسَ أَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ أَمْ مُنْقَطِعٌ، وَهَلْ هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ قَتَادَةُ: الْجِنُّ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هُوَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ ظَفِرَتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: هُوَ أَوَّلُ الْجِنِّ وبدايتهم كَآدَمَ فِي الْإِنْسِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ إِبْلِيسُ وَقَبِيلُهُ جِنًّا لَكِنَّ الشَّيَاطِينَ الْيَوْمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَهُوَ كَنُوحٍ فِي الْإِنْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ جَارٍ مَجْرَى التَّعْلِيلِ بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا لَهُ لَمْ يَسْجُدْ فَقِيلَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَالْفَاءُ لِلتَّسْبِيبِ أَيْضًا جَعَلَ كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ سَبَبًا فِي فِسْقِهِ، يَعْنِي إِنَّهُ لَوْ كَانَ مَلَكًا كَسَائِرِ مَنْ سَجَدَ لِآدَمَ لَمْ يَفْسُقْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْصُومُونَ أَلْبَتَّةَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَجُوزُ عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا قَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «1» وَهَذَا الْكَلَامُ الْمُعْتَرَضُ تَعَمُّدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَعَلَا لِصِيَانَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ وُقُوعِ شُبْهَةٍ فِي عِصْمَتِهِمْ، فَمَا أَبْعَدَ الْبَوْنُ بَيْنَ مَا تَعَمَّدَهُ اللَّهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ ضَادَّهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ مَلَكًا وَرَئِيسًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَعَصَى فَلُعِنَ وَمُسِخَ شَيْطَانًا، ثُمَّ وَرَّكَهُ عَلَى ابن عباس انتهى.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 27.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَخَرَجَ عَمَّا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ مِنَ السُّجُودِ. قَالَ رُؤْبَةُ: يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا حَوَائِرَا وَقِيلَ: فَفَسَقَ صَارَ فَاسِقًا كَافِرًا بِسَبَبِ أَمْرِ رَبِّهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ اسْجُدُوا لِآدَمَ حَيْثُ لَمْ يَمْتَثِلْهُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَفَسَقَ بِأَمْرِ رَبِّهِ أَيْ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَمْرٌ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِكَ أَيْ بِحَسَبِ مُرَادِكَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَتَتَّخِذُونَهُ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ أَيْ أَبَعْدَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ تَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي مَعَ ثُبُوتِ عَدَاوَتِهِ لَكُمْ تَتَّخِذُونَهُ وَلِيًّا. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَخْطُبُ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ بِفَتْحِ الذَّالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِإِبْلِيسَ ذُرِّيَّةً وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ. قَالَ قَتَادَةُ: يَنْكِحُ وَيَنْسُلُ كَمَا يَنْسُلُ بَنُو آدَمَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَكُونُ ذُرِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِإِبْلِيسَ إِنِّي لَا أَخْلُقُ لِآدَمَ ذُرِّيَّةً إِلَّا ذَرَأْتُ لَكَ مِثْلَهَا، فَلَيْسَ يُولَدُ لِوَلَدِ آدَمَ وَلَدٌ إِلَّا وُلِدَ مَعَهُ شَيْطَانٌ يُقْرَنُ به. وقيل لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: أَلَكَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» . وَسَمَّى الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ جَمَاعَةً اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا كَيْفِيَّاتٍ فِي وَطْئِهِ وَإِنْسَالِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ وَلَدٌ وَإِنَّمَا الشَّيَاطِينُ هُمُ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلَى بُلُوغِ مَقَاصِدِهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ وَقَالَ لِلظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا مِنَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَجَعَلُوا مَكَانَ وِلَايَتِهِمْ إِبْلِيسَ وذريته، وهذا نفس الظالم لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غيره مَوْضِعِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا أَشْهَدْتُهُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ والسبختياني وَعَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ: مَا أَشْهَدْنَاهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي أَشْهَدْتُهُمْ عَلَى إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ أَيْ لَمْ أُشَاوِرْهُمْ فِي خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ بَلْ خَلَقْتُهُمْ عَلَى مَا أَرَدْتُ، وَلِهَذَا قَالَ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي إِنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ شُرَكَاءَ لِي فِي الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكُونُونَ شُرَكَاءَ فِيهَا لَوْ كَانُوا شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَنَفَى مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا أَعْتَضِدُ بِهِمْ فِي خَلْقِهَا وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أَيْ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ أَعْوَانًا فَوَضَعَ الْمُضِلِّينَ موضع

_ (1) سورة النساء: 4/ 29.

الضَّمِيرِ ذَمًّا لَهُمْ بِالْإِضْلَالِ فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا لِي عَضُداً فِي الْخَلْقِ فَمَا لَكُمْ تَتَّخِذُونَهُمْ شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا أَشْهَدَهُمْ ذَلِكَ وَلَا اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي خَلْقِهَا بَلْ خَلَقْتُهُمْ لِيُطِيعُونِي وَيَعْبُدُونِي فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهُمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي أَشْهَدْتُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَلَى النَّاسِ بِالْجُمْلَةِ، فَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ الرَّدَّ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالْمُتَحَكِّمِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَسِوَاهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ يَتَخَرَّصُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ الصَّقَلِّيُّ وَتَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهَا رَادَّةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ، وَذَكَرَ هَذَا بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَما كُنْتُ بِفَتْحِ التَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى وَمَا صَحَّ لَكَ الِاعْتِضَادُ بِهِمْ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْتَزَّ بِهِمُ انْتَهَى. وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ الْمَعْنَى إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَبِيِّهِ وَخِطَابٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُ فِي انْتِفَاءِ كَيْنُونَتِهِ مُتَّخِذَ عَضُدٍ مِنَ الْمُضِلِّينَ، بَلْ هُوَ مُذْ كَانَ وَوُجِدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَايَةِ التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَالْبُعْدِ عَنْهُمْ لِتَعْلَمَ أُمَّتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ لَمْ يَعْتَضِدْ بِمُضِلٍّ وَلَا مَالَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُتَّخِذًا الْمُضِلِّينَ أَعْمَلَ اسْمَ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ عِيسَى عَضُداً بِسُكُونِ الضَّادِ خَفَّفَ فَعْلًا كَمَا قَالُوا: رَجْلٌ وَسَبْعٌ فِي رَجُلٍ وَسَبُعٍ وَهِيَ لُغَةٌ عَنْ تَمِيمٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ شيبة وَأَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ هَارُونَ وَخَارِجَةَ وَالْخَفَّافِ عَضُداً بِضَمَّتَيْنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ عَضُداً بِفَتْحَتَيْنِ وَعَنْهُ أَيْضًا بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ عَضُداً بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَوْمَ يَقُولُ بِالْيَاءِ أَيِ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: نَقُولُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ أَيْ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا نادُوا شُرَكائِيَ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَمَفْعُولَا زَعَمْتُمْ مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا إِذِ التَّقْدِيرُ زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَائِيَ وَالنِّدَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ، أَيْ اسْتَغِيثُوا بِشُرَكَائِكُمْ وَالْمُرَادُ نَادُوهُمْ لِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ أَوْ لِلشَّفَاعَةِ لَكُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الدَّاعِينَ وَالْمَدْعُوِّينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالشُّرَكَاءُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُ الدُّعَاءِ حَقِيقَةً وَانْتِفَاءُ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً كَأَنَّ فِكْرَةَ الْكَافِرِ وَنَظَرَهُ فِي أَنَّ تِلْكَ الْجَمَادَاتِ لَا تُغْنِي شَيْئًا وَلَا تَنْفَعُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ شُرَكائِيَ مَمْدُودًا مُضَافًا لِلْيَاءِ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ مَكَّةَ مَقْصُورًا مُضَافًا لَهَا أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ بَيْنَهُمْ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَيْنُ هُنَا الْوَصْلُ أي وَجَعَلْنا نواصلهم فِي الدُّنْيَا هَلَاكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِجَعَلْنَا، وَعَلَى الظَّرْفِ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُوبِقُهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَمُجَاهِدٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَجْرِي بِدَمٍ وَصَدِيدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَدَاوَةً. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ الْمَجْلِسُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَوْعِدُ. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ هِيَ رُؤْيَةُ عَيْنٍ أَيْ عَايَنُوهَا، وَالظَّنُّ هُنَا قِيلَ: عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. وَكَوْنُهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِدُخُولِهَا رَجَاءً وَطَمَعًا فِي رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَظَنُّوا أَيْقَنُوا قَالَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَعْنَى مُواقِعُوها مُخَالِطُوهَا وَاقِعُونَ فِيهَا كَقَوْلِهِ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ «1» الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَطْلَقَ النَّاسُ أَنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى التَّيَقُّنِ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ ظَنُّوا أَيْقَنُوا لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَّسِقًا عَلَى مُبَالَغَةٍ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ بِالظَّنِّ لَا تَجِيءُ أَبَدًا فِي مَوْضِعِ يَقِينٍ تَامٍّ قد ناله الحسن بَلْ أَعْظَمُ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَجِيءَ فِي مَوْضِعِ عِلْمٍ مُتَحَقِّقٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَظْنُونُ وَإِلَّا فَمَنْ يَقَعُ وَيُحَسُّ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالظَّنِّ. وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَأَمَّلْ قَوْلَ دُرَيْدُ: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ انْتَهَى. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مُلَاقُوهَا مَكَانَ مُواقِعُوها وَقَرَأَهُ كَذَلِكَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ، وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِمُخَالَفَةِ سَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ مُلَافُّوهَا بِالْفَاءِ مُشَدَّدَةً مِنْ لَفَفْتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْكَافِرَ لَيَرَى جَهَنَّمَ وَيَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» . وَمَعْنَى مَصْرِفاً مَعْدِلًا وَمَرَاعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي كبير الهذلي: أزهير مل عَنْ شَيْبَةَ مِنْ مَصْرِفِ ... أَمْ لَا خُلُودَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ وَأَجَازَ أَبُو مُعَاذٍ مَصْرِفاً بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ جَعَلَهُ مَصْدَرًا كَالْمَضْرَبِ لِأَنَّ مُضَارِعَهُ يَصْرِفُ عَلَى يَفْعِلُ كيصرف.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 118. (2) سورة البقرة: 2/ 46.

وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ صَدْرِ هذه الآية: وشَيْءٍ هُنَا مُفْرَدٌ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجِدَالُ إِنْ فَصَّلْتَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. جَدَلًا خُصُومَةً وَمُمَارَاةً يَعْنِي أَنَّ جَدَلَ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ مِنْ جَدَلِ كُلِّ شَيْءٍ وَنَحْوُهُ، فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَانْتَصَبَ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ. قِيلَ: الْإِنْسانُ هُنَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: ابْنُ الزِّبَعْرَى. وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ جِدَالُهُ فِي الْبَعْثِ حِينَ أَتَى بِعَظْمٍ فَذَرَّهُ، فَقَالَ: أَيَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى إِعَادَةِ هَذَا؟ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْقِلُ مِنْ مَلَكٍ وَجِنٍّ يُجَادِلُ والْإِنْسانُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَدَلًا انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يُذْكَرُ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَقَدْ تَلَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا حِينَ عَاتَبَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى النَّوْمِ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّمَا نَفْسِي بِيَدِ اللَّهِ ، فَاسْتُعْمِلَ الْإِنْسانُ عَلَى الْعُمُومِ. وَفِي قوله وَما مَنَعَ النَّاسَ الْآيَةَ تَأَسُّفٌ عَلَيْهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ حَالِهِمْ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَمْ يَكُنْ بِقَصْدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا لِيَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا هُمْ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ لَكِنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ يَسُوقُهُمْ إِلَى هَذَا فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي التَّأَسُّفَ عليهم. والنَّاسَ يُرَادُ بِهِ كُفَّارُ عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا دَفْعَ الشَّرِيعَةِ وَتَكْذِيبَهَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْأُولَى نَصْبٌ وَالثَّانِيَةَ رَفْعٌ وَقَبْلَهُمَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَما مَنَعَ النَّاسَ الْإِيمَانَ إِلَّا انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَهِيَ الْإِهْلَاكُ أَوْ انْتِظَارُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ يَعْنِي عَذَابَ الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَهُوَ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا طَلَبُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعْنَى مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا أَنِّي قَدْ قَدَّرْتُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ

وَأُحُدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَحْوٌ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِنَا وَقَضَائِنَا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مِنَ الْمَسْخِ وَالصَّيْحَةِ وَالْخَسْفِ وَالْغَرَقِ وَعَذَابِ الظُّلَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِينَ مَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: إِلَّا إِرَادَةُ أَوِ انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّتُنَا فِي الْأَوَّلِينَ، وَمَنْ قَدَّرَ الْمُضَافَ هَذَا أَوِ الطَّلَبَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنْ بَعْضِهِمْ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» . وَقِيلَ: مَا هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ لَا نَافِيَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَأَيُّ شَيْءٍ مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا والْهُدى الرَّسُولُ أَوِ الْقُرْآنُ قَوْلَانِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَخَلَفٌ وَأَيُّوبُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قُبُلًا لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حَكَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْمُقَابَلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ قَبِيلٍ أَيْ يَجِيئُهُمُ الْعَذَابُ أَنْوَاعًا وَأَلْوَانًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَمُجَاهِدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ قُبُلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَمَعْنَاهُ عِيَانًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَهُوَ تَخْفِيفُ قُبُلٍ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ. وَذَكَرَ ابن قتيبة أنه قرىء بِفَتْحَتَيْنِ وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ مُسْتَقْبَلًا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَة قَبِيلًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَبَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أَيْ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لِمَنْ آمَنَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِمَنْ كَفَرَ لَا ليجادلوا ولا ليتمنى عَلَيْهِمُ الِاقْتِرَاحَاتُ لِيُدْحِضُوا لِيُزِيلُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي يَجْمَعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِ الرَّسُولِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَما أُنْذِرُوا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَاحْتَمَلَتْ مَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَما أُنْذَرُوهُ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ وَإِنْذَارُهُمْ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَائِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ هُزُواً أَيْ سُخْرِيَةً وَاسْتِخْفَافًا لِقَوْلِهِمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لَوْ شِئْنَا لقلنا مثل هذا وجدا لهم للرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولهم وما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «2» وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الْمُضَافُ إِلَى الرَّبِّ هُوَ الْقُرْآنُ وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْهَا كَوْنُهُ لَا يَتَذَكَّرُ حِينَ ذُكِّرَ وَلَمْ يَتَدَبَّرْ وَنَسِيَ عَاقِبَةَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِيهَا وَلَا نَاظِرٍ فِي أَنَّ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ يجزيان بما عملا.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 32. (2) سورة يس: 36/ 15.

وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَهْتَدُونَ أَبَدًا وَهَذَا مِنَ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُوَ مَنْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ إِذْ قَدِ اهْتَدَى كَثِيرٌ مِنَ الْكَفَرَةِ وَآمَنُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْجَمِيعِ أَيْ وَإِنْ تَدْعُهُمْ أَيْ إِلَى الْهُدى جَمِيعًا فَلَنْ يَهْتَدُوا جَمِيعًا أَبَداً وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فَأُفْرِدَ ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ فَجَمَعَ وَجَعَلُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ إِلَى الْهُدَى وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ الِاهْتِدَاءِ، سَبَبًا لِانْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ، وَهَذَا الشَّرْطُ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِلرَّسُولِ عَنْ تَقْدِيرِ قَوْلِهِ مَالِي لَا أَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى حِرْصًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى حُصُولِ إِيمَانِهِمْ، فَقِيلَ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ وَتَقْيِيدُهُ بِالْأَبَدِيَّةِ مُبَالَغَةٌ فِي انْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ. والْغَفُورُ صفة مبالغة وذُو الرَّحْمَةِ أَيِ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلَ رَحْمَتِهِ وهو كونه تعالى لَوْ يُؤاخِذُهُمْ عَاجِلًا بَلْ يُمْهِلُهُمْ مَعَ إِفْرَاطِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَوْعِدُ أَجَلُ الْمَوْتِ، أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَوْ يَوْمُ بَدْرٍ، أَوْ يَوْمُ أُحُدٍ، وَأَيَّامُ النَّصْرِ أَوِ الْعَذَابِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ أَقْوَالٌ. وَالْمَوْئِلُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحْرَزُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَخْلَصُ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ دُونِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْعِدِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ مَوِّلًا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْهُ مَوِلًا بِكَسْرِ الْوَاوِ خَفِيفَةً مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الْوَاوِ وهمزة بعدها مكسورة، وإشارة تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَتِلْكَ الْقُرى إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْعَرَبِ كَقُرَى ثَمُودٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ، لِيَعْتَبِرُوا بِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ وَلِيَحْذَرُوا مَا يَحِلُّ بِهِمْ كَمَا حَلَّ بِتِلْكَ الْقُرَى. وَتِلْكَ مبتدأ والْقُرى صِفَةٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَالْخَبَرُ أَهْلَكْناهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْقُرى الخبر وأَهْلَكْناهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ كَقَوْلِهِ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ أَيْ وَأَهْلَكْنَا تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ وتِلْكَ الْقُرى عَلَى إِضْمَارِ مُضَافٍ أَيْ وَأَصْحَابَ تِلْكَ الْقُرَى، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ أَهْلَكْناهُمْ. وَقَوْلُهُ لَمَّا ظَلَمُوا إِشْعَارٌ بِعِلَّةِ الْإِهْلَاكِ وَهِيَ الظُّلْمُ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ عَلَى حَرْفِيَّةِ لَمَّا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى حِينٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ لَمَّا ظَلَمُوا تَحْذِيرٌ مِنَ الظُّلْمِ إِذْ نَتِيجَتُهُ الْإِهْلَاكُ وضربنا لإهلاكهم وقتا

_ (1) سورة النمل: 27/ 52.

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 78]

مَعْلُومًا، وَهُوَ الْمَوْعِدُ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ زَمَانًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ وَأَنْ يَكُونَ زَمَانًا. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَهَارُونُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ زَمَانُ الْهَلَاكِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَصْدَرُ هَلَكَ يَهْلِكُ وَهُوَ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ. وَقِيلَ: هَلَكَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا فَعَلَى تَعْدِيَتِهِ يَكُونُ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ: وَمَهْمَهٍ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي هَذَا الْبَيْتِ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَالِكًا فِيهِ لَازِمٌ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ أَصْلُهُ هَالِكٍ مَنْ تَعَرَّجَا. فَمَنْ فَاعِلٌ ثُمَّ أُضْمِرَ فِي هَالِكٍ ضَمِيرُ مَهْمَهٍ، وَانْتَصَبَ مِنْ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ ثُمَّ أضاف مَنْ نَصَبَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَوْصُولِ هَلْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ؟ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: أَسِيلَاتُ أَبْدَانٍ دِقَاقٌ خُصُورُهَا ... وَثِيرَاتُ مَا الْتَفَّتْ عَلَيْهَا الْمَلَاحِفُ وَقَالَ آخَرُ: فَعُجْتُهَا قِبَلَ الْأَخْيَارِ مَنْزِلَةً ... وَالطَّيِّبِي كُلِّ مَا الْتَاثَتْ بِهِ الْأُزُرُ [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)

بَرِحَ: زَالَ مُضَارِعُ يَزُولُ، وَمُضَارِعُ يَزَالُ فَتَكُونُ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ النَّاقِصَةِ. الْحِقَبُ: السُّنُونُ وَاحِدُهَا حِقْبَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَنْأَ عَنْهَا حِقْبَةً لَا تُلَاقِهَا ... فَإِنَّكَ مما أحدثت بالمحرب وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحُقُبُ سَنَةٌ، وَيَأْتِي قَوْلُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهِ. السَّرَبُ: الْمَسْلَكُ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ. النَّصَبُ: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ. الصَّخْرَةُ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ حَجَرٌ كَبِيرٌ. السَّفِينَةُ مَعْرُوفَةٌ وَتُجْمَعُ عَلَى سُفُنٍ وَعَلَى سَفَائِنَ، وَتُحْذَفُ التَّاءُ فَيُقَالُ سَفِينَةٌ وَسَفِينٌ وَهُوَ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَخْلُوقِ نَادِرٌ فِي الْمَصْنُوعِ، نحو عمامة وعمام. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَتَى تَأْتِهِ تَأْتِ لُجَّ بَحْرٍ ... تَقَاذَفُ في غوار به السَّفِينُ الْإِمْرُ الْبَشِعُ مِنَ الْأُمُورِ كَالدَّاهِيَةِ وَالْإِدِّ وَنَحْوِهِ. الْجِدَارُ مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ عَلَى جُدُرٍ وَجُدْرَانٍ. انْقَضَّ سَقَطَ، ومن أبيات معاياة الْأَعْرَابِ: مَرَّ كَمَا انْقَضَّ عَلَى كَوْكَبٍ ... عِفْرِيتُ جِنٍّ فِي الدُّجَى الْأَجْدَلِ عَابَ الرَّجُلَ ذَكَرَ وَصْفًا فِيهِ يُذَمُّ بِهِ، وَعَابَ السَّفِينَةَ أَحْدَثَ فِيهَا مَا تَنْقُصُ بِهِ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا

الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. مُوسى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مُوسَى غَيْرَهُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مُوسَى بْنَ مَيْشًا بْنِ يُوسُفَ، أو موسى بن إفرائيم بْنِ يُوسُفَ فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ، بَلِ الثَّابِتُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِي التَّوَارِيخِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ نبيّ إِسْرَائِيلَ، وَالْمُرْسَلُ هُوَ وَأَخُوهُ هَارُونُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفَتَاهُ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ بن إفرائيم بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالْفَتَى الشَّابُّ وَلَمَّا كَانَ الْخَدَمُ أَكْثَرَ مَا يَكُونُونَ فِتْيَانًا قِيلَ لِلْخَادِمِ فَتًى عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ، وَنَدَبَتِ الشَّرِيعَةُ إِلَى ذَلِكَ. فَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» . وَقَالَ: لِفَتاهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُهُ وَيَتْبَعُهُ. وَقِيلَ: كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعِلْمَ. وَيُقَالُ: إِنَّ يُوشَعَ كَانَ ابْنَ أُخْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَبَبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَطَبَ فَأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بِطُولِ سَيْفِ الْبَحْرِ حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَسِيرُ أَيْ لَا أَزَالُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ سَائِرٌ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: فَمَا بَرِحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نِسَاؤُهُمْ ... بِبَطْحَاءِ ذِي قار عباب اللَّطَائِمِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ حَذْفُ خَبَرِ لَا أَبْرَحُ وَهِيَ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَجُوزُ وإن دل الدليل عَلَى حَذْفِهِ إِلَّا مَا جَاءَ فِي الشِّعْرِ مِنْ قَوْلِهِ: لَهَفِي عَلَيْكَ لِلَهْفَةٍ مِنْ خَائِفٍ ... يَبْغِي جِوَارَكَ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ أَيْ حِينَ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لَا أَبْرَحُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى لَا أَزُولُ مِنْ بَرِحَ الْمَكَانَ فَقَدْ دَلَّ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْخَبَرِ قُلْتُ: هُوَ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ وَقَدْ حُذِفَ الْخَبَرُ لِأَنَّ الْحَالَ وَالْكَلَامَ مَعًا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْحَالُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ حَالَ سَفَرٍ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ تَسْتَدْعِي مَا هِيَ غَايَةٌ لَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي حَتَّى أَبْلُغَ عَلَى أَنَّ

حَتَّى أَبْلُغَ هُوَ الْخَبَرُ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ أُقِيمَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، فَانْقَلَبَ الْفِعْلُ عَنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ وَجْهٌ لِطَيْفٌ انْتَهَى. وَهُمَا وَجْهَانِ خَلَطَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَجَعَلَ الْفِعْلَ مُسْنَدًا إِلَى الْمُتَكَلِّمِ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَجَعَلَ الْخَبَرَ مَحْذُوفًا كَمَا قَدَّرَهُ ابن عطية وحَتَّى أَبْلُغَ فَضْلَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ وَغَايَةٌ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي جَعَلَ لَا أَبْرَحُ مُسْنَدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ الْمَحْذُوفِ وَجَعَلَهُ لَا أَبْرَحُ هُوَ حَتَّى أَبْلُغَ فَهُوَ عُمْدَةٌ إِذْ أَصْلُهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ لِأَنَّهُ خَبَرُ أَبْرَحُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ مَا أَنَا عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَلْزَمُ الْمَسِيرَ وَالطَّلَبَ وَلَا أَتْرُكُهُ وَلَا أُفَارِقُهُ حَتَّى أَبْلُغَ كَمَا تَقُولُ لَا أَبْرَحُ الْمَكَانَ انْتَهَى. يَعْنِي إِنَّ بَرِحَ يَكُونُ بِمَعْنَى فَارَقَ فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ إِلَى مَفْعُولٍ وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى مِصْرَ أَنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْحَالُ خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَّرَ بِآلَاءِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يُرَى قَطُّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ إِلَّا فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ بَلِ الْمُتَظَاهِرُ أَنَّ مُوسَى مَاتَ بِفَحْصِ التِّيهِ قَبْلَ فَتْحِ دِيَارِ الْجَبَّارِينَ، وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى مِصْرَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتَقَرُّوا بَعْدَ هَلَاكِ الْقِبْطِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ النِّعْمَةَ فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى نَبِيَّكُمْ وَكَلَّمَهُ فَقَالُوا لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا هَذَا فَأَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بَلْ أَعْلَمُ مِنْكَ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ الْخَضِرُ، كَانَ الْخَضِرُ فِي أَيَّامِ أَفْرِيدُونَ قَبْلَ مُوسَى وَكَانَ عَلَى مَقْدُمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْأَكْبَرِ وَبَقِيَ إِلَى أَيَّامِ مُوسَى، وَذَكَرَ أَيْضًا فِي أَسْئِلَةِ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، قَالَ: أَعْلَمُ مِنْكَ الْخَضِرُ انْتَهَى. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَلْ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لا. ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ مُجْتَمَعُ بَحْرِ فَارِسَ وَبَحْرِ الرُّومِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ذِرَاعٌ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ مِنْ شَمَالٍ إِلَى جَنُوبٍ فِي أَرْضِ فَارِسَ مِنْ وَرَاءِ أَذْرَبِيجَانَ، فَالرُّكْنُ الَّذِي لِاجْتِمَاعِ الْبَحْرَيْنِ مِمَّا يَلِي بَرَّ الشَّامِ هُوَ مُجْتَمَعُ الْبَحْرَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هُوَ عِنْدَ طَنْجَةَ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْبَحْرُ

الْمُحِيطُ وَالْبَحْرُ الْخَارِجُ مِنْهُ مِنْ دَبُورٍ إِلَى صِبَا. وَعَنْ أُبَيٍّ بِإِفْرِيقِيَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ بَحْرُ الْأَنْدَلُسِ وَالْقَرْيَةُ الَّتِي أَبَتْ أَنْ تُضِيفَهُمَا هِيَ الْجَزِيرَةُ الْخَضْرَاءُ. وَقِيلَ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ بَحْرٌ مِلْحٌ وَبَحْرٌ عَذْبٌ فَيَكُونُ الْخَضِرُ عَلَى هَذَا عِنْدَ مَوْقِعِ نَهْرٍ عَظِيمٍ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْبَحْرَانِ كِنَايَةٌ عَنْ مُوسَى وَالْخَضِرُ لِأَنَّهُمَا بَحْرَا عِلْمٍ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بَحْرَا مَاءٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْبَحْرَيْنِ مُوسَى وَالْخَضِرُ لِأَنَّهُمَا كَانَا بَحْرَيْنِ فِي الْعِلْمِ انْتَهَى. وَقِيلَ: بَحْرُ الْقُلْزُمِ. وَقِيلَ: بَحْرُ الْأَزْرَقِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ مَجْمَعَ بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَالنَّضْرُ عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ فِي كِلَا الْحَرْفَيْنِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَقِيَاسُهُ مِنْ يَفْعَلُ فَتْحُ الْمِيمِ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ هُوَ اسْمُ مَكَانِ جَمْعِ الْبَحْرَيْنِ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُقُبُ الدَّهْرُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو وَأَبُو هُرَيْرَةَ: ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَبْعُونَ. وَقِيلَ: سَنَةٌ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: وَقْتٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ أَمْضِيَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَبْلُغَ فَغَيَّا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا بِبُلُوغِهِ الْمَجْمَعِ وَإِمَّا بِمُضِيِّهِ حُقُباً. وَقِيلَ: هِيَ تَغْيِيَةٌ لِقَوْلِهِ لَا أَبْرَحُ كَقَوْلِكَ لَا أُفَارِقُكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي، فَالْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى أَنْ أَمْضِيَ زَمَانًا أَتَيَقَّنُ مَعَهُ فَوَاتَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ حُقُباً بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ فسار فَلَمَّا بَلَغا أَيْ مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ بَيْنِهِما أَيْ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ نَسِيا حُوتَهُما وَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْحُوتِ وَقِصَّتِهِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رؤوسهما فَنَامَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ سَرَباً وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ. قِيلَ: وَكَانَ الْحُوتُ مَالِحًا. وَقِيلَ: مَشْوِيًّا. وَقِيلَ: طَرِيًّا. وَقِيلَ: جَمَعَ يُوشَعُ الْحُوتَ وَالْخُبْزَ فِي مِكْتَلٍ فَنَزَلَا لَيْلَةً عَلَى شَاطِئِ عَيْنٍ تُسَمَّى عَيْنَ الْحَيَاةِ وَنَامَ مُوسَى، فَلَمَّا أَصَابَ السَّمَكَةَ رَوْحُ الْمَاءِ وَبَرْدُهُ عَاشَتْ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا أَكَلَا مِنْهَا. وَقِيلَ: تَوَضَّأَ يُوشَعُ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ فَانْتَضَحَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ فَعَاشَ وَوَقَعَ فِي الْمَاءِ ، وَالظَّاهِرُ نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إِلَى مُوسَى وَفَتَاهُ.

وَقِيلَ: كَانَ النِّسْيَانُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ فَتَى مُوسَى نَسِيَ أَنْ يُعْلِمَ مُوسَى أَمْرَ الْحُوتِ إِذْ كَانَ نَائِمًا، وَقَدْ أَحَسَّ يُوشَعُ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْمِكْتَلِ إِلَى الْبَحْرِ وَرَآهُ قَدِ اتَّخَذَ السَّرَبَ فَأَشْفَقَ أَنْ يُوقِظَ مُوسَى. وَقَالَ أُؤَخِّرُ إِلَى أَنْ يَسْتَيْقِظَ ثُمَّ نَسِيَ أَنْ يُعْلِمَهُ حَتَّى ارْتَحَلَا وجاوَزا وَقَدْ يُسْنَدُ الشَّيْءُ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ نَسِيَ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ نَسِيا تَفَقُّدَ أَمْرِهِ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ مِمَّا جُعِلَ أَمَارَةً عَلَى الظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ. وَقِيلَ: نَسِيَ يُوشَعُ أَنْ يُقَدِّمَهُ، وَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِشَيْءٍ انْتَهَى. وَشُبِّهَ بِالسَّرَبِ مَسْلَكُ الْحُوتِ فِي الْمَاءِ حِينَ لَمْ يَنْطَبِقِ الْمَاءُ بَعْدَهُ بَلْ بَقِيَ كَالطَّاقِ، هَذَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَقِيَ مَوْضِعُ سُلُوكِهِ فَارِغًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَاءً جَامِدًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَجَرًا صَلْدًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا اتَّخَذَ سَبِيلَهُ سَرَبًا فِي الْبَرِّ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ ثُمَّ عَامَ عَلَى الْعَادَةِ كَأَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ سَرَباً تَصَرُّفًا وَجَوَلَانًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَحْلٌ سَارِبٌ أَيْ مُهْمَلٌ يَرْعَى حَيْثُ شَاءَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَسارِبٌ بِالنَّهارِ «1» أَيْ مُتَصَرِّفٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: اتَّخَذَ سَرَباً فِي التراب من المكتمل، وَصَادَفَ فِي طَرِيقِهِ حَجَرًا فَنَقَبَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّرَبَ كَانَ فِي الْمَاءِ وَلَا يُفَسَّرُ إِلَّا بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَاءَ صَارَ عَلَيْهِ كَالطَّاقِ وَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوِ الْخَضِرِ إِنْ قُلْنَا أَنَّهُ نَبِيٌّ وَإِلَّا تَكُنْ كَرَامَةً. وَقِيلَ: عَادَ مَوْضِعَ سُلُوكِ الْحُوتِ حَجَرًا طَرِيقًا وَأَنَّ مُوسَى مَشَى عَلَيْهِ مُتَّبِعًا لِلْحُوتِ حَتَّى أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ وَفِيهَا وَجَدَ الْخَضِرَ فَلَمَّا جاوَزا أَيْ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَوْعِدَ وَهُوَ الصَّخْرَةُ. قِيلَ: سَارَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصَّخْرَةِ اللَّيْلَةَ وَالْغَدَ إِلَى الظُّهْرِ وَأُلْقِيَ عَلَى مُوسَى النَّصَبُ وَالْجُوعُ حِينَ جَاوَزَ الْمَوْعِدَ وَلَمْ يَنْصَبْ وَلَا جَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَ الْحُوتَ وَطَلَبَهُ. وَقَوْلُهُ مِنْ سَفَرِنا هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسِيرِهِمَا وَرَاءَ الصَّخْرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصَباً بِفَتْحَتَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ وَهِيَ إِحْدَى اللُّغَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف نَسِيَ يُوشَعُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ لَا يُنْسَى لِكَوْنِهِ أَمَارَةً لَهُمَا عَلَى الطِّلْبَةِ الَّتِي تَنَاهَضَا مِنْ أَجْلِهَا وَلِكَوْنِهِ مُعْجِزَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ وَهُمَا حَيَاةُ السَّمَكَةِ الْمَمْلُوحَةِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَقِيلَ: مَا كَانَتْ إِلَّا شِقَّ سَمَكَةٍ وَقِيَامُ الْمَاءِ وَانْتِصَابُهُ مِثْلُ الطَّاقِ وَنُفُوذُهَا فِي مِثْلِ السَّرَبِ، ثُمَّ كَيْفَ اسْتَمَرَّ بِهِ النِّسْيَانُ حَتَّى خَلَّفَا الْمَوْعِدَ وَسَارَا مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إِلَى ظُهْرِ الْغَدِ، وَحَتَّى طَلَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحُوتَ قُلْتُ: قَدْ شَغَلَهُ الشَّيْطَانُ بِوَسَاوِسِهِ فذهب بفكره كل

_ (1) سورة الرعد: 13/ 10.

مَذْهَبٍ حَتَّى اعْتَرَاهُ النِّسْيَانُ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ضَرِيَ بِمُشَاهَدَةِ أَمْثَالِهِ عِنْدَ مُوسَى مِنَ الْعَجَائِبِ، وَاسْتَأْنَسَ بِأَخَوَاتِهِ فَأَعَانَ الْإِلْفَ عَلَى قِلَّةِ الِاهْتِمَامِ انْتَهَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ غَالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ وَالدَّانِيُّ عَبْدُ الْحَقِّ الْمُفَسِّرُ: سَمِعْتُ أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ يَقُولُ فِي وَعْظِهِ: مَشَى مُوسَى إِلَى الْمُنَاجَاةِ فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى طَعَامٍ، وَلَمَّا مَشَى إِلَى بَشَرٍ لَحِقَهُ الْجُوعُ فِي بَعْضِ يَوْمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ الْتِئَامِ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَرَأَيْتَ وإِذْ أَوَيْنا وفَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا طَلَبَ مُوسَى الْحُوتَ ذَكَرَ يُوشَعُ مَا رَأَى مِنْهُ وَمَا اعْتَرَاهُ مِنْ نِسْيَانِهِ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ فَدُهِشَ فَطَفِقَ يَسْأَلُ مُوسَى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فَحُذِفَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَكَوْنُ أَرَأَيْتُكَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ. وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِأَرَأَيْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ: إِنَّ الْعَرَبَ أَخْرَجَتْهَا عَنْ مَعْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَقَالُوا: أَرَأَيْتُكَ وَأَرَيْتُكَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ لَمْ تُحْذَفْ هَمْزَتُهَا قَالَ: وَشَذَّتْ أَيْضًا فَأَلْزَمَتْهَا الْخِطَابَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا تَقُولُ فِيهَا أَبَدًا أَرَانِي زَيْدٌ عَمْرًا مَا صَنَعَ، وَتَقُولُ هَذَا عَلَى مَعْنَى أَعْلَمُ. وَشَذَّتْ أَيْضًا فَأَخْرَجَتْهَا عَنْ مَوْضِعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الْفَاءِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فَمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ إِلَّا وَقَدْ أُخْرِجَتْ لِمَعْنَى أَمَّا أَوْ تَنَبَّهْ، وَالْمَعْنَى أَمَّا إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَالْأَمْرُ كَذَا، وَقَدْ أَخْرَجَتْهَا أَيْضًا إِلَى مَعْنَى أَخْبِرْنِي كَمَا قَدَّمْنَا، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا بُدَّ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا الِاسْتِفْهَامَ، وَقَدْ يَخْرُجُ لِمَعْنَى أَمَّا وَيَكُونُ أَبَدًا بَعْدَهَا الشَّرْطُ وَظَرْفُ الزَّمَانِ فَقَوْلُهُ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ مَعْنَاهُ أَمَّا إِذْ أَوَيْنا فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أَوْ تَنَبَّهْ إِذْ أَوَيْنا وَلَيْسَتِ الْفَاءُ إِلَّا جَوَابًا لِأَرَأَيْتَ، لِأَنَّ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجَازَى بِهَا إِلَّا مَقْرُونَةً بِمَا بَلَا خِلَافٍ انْتَهَى كَلَامُ الْأَخْفَشِ. وَفِيهِ إِنَّ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا بُدَّ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ، وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا الِاسْتِفْهَامَ وَهَذَانِ مَفْقُودَانِ فِي تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَرَأَيْتَ هُنَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَمَعْنَى نَسِيتُ الْحُوتَ نَسِيتُ ذِكْرَ مَا جَرَى فِيهِ لَكَ. وَفِي قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ حُسْنُ أَدَبٍ سَبَّبَ النِّسْيَانَ إِلَى المتسبب فيه بوسوسته وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْحُوتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ

فِي وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً عَائِدٌ عَلَى الْحُوتِ كَمَا عَادَ فِي قَوْلِهِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً وَهُوَ مِنْ كَلَامِ يُوشَعَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى أَيْ اتَّخَذَ مُوسَى. وَمَعْنَى عَجَباً أَيْ تَعَجُّبٌ مِنْ ذَلِكَ أَوِ اتِّخَاذًا عَجَباً وَهُوَ أَنَّ أَثَرَهُ بَقِيَ إِلَى حَيْثُ سَارَ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ سَبِيلَهُ عَجَباً وَهُوَ كَوْنُهُ شَبِيهَ السَّرَبِ قَالَ: أَوْ قَالَ عَجَباً فِي آخِرِ كَلَامٍ تَعَجُّبًا مِنْ حَالِهِ فِي رُؤْيَةِ تِلْكَ الْعَجِيبَةِ وَنِسْيَانِهِ لَهَا، أَوْ مِمَّا رَأَى مِنَ الْمُعْجِزَتَيْنِ وَقَوْلُهُ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَجَباً حِكَايَةٌ لِتَعَجُّبِ مُوسَى وَلَيْسَ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ يُوشَعَ لِمُوسَى أَيِ اتَّخَذَ الْحُوتُ سَبِيلًا عَجَبًا لِلنَّاسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ تَمَامَ الْخَبَرِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّعَجُّبَ فَقَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عَجَباً لِهَذَا الْأَمْرِ، وَمَوْضِعُ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ حُوتٌ قَدْ مَاتَ وَأَكَلَ شِقَّهُ ثُمَّ حَيَى بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو شُجَاعٍ فِي كِتَابِ الطَّبَرِيِّ رَأَيْتُهُ أَتَيْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ شَقُّ حُوتٍ وَعَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَشَقٌّ آخَرُ لَيْسَ فِيهِ شيّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنَا رَأَيْتُهُ وَالشِّقُّ الَّذِي فِيهِ شَيٌّ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ لَيْسَتْ تَحْتَهَا شَوْكَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ الْآيَةَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَ الْحُوتِ مِنَ الْبَحْرِ عَجَباً أَيْ تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْحُوتِ أَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَباً لِلنَّاسِ انْتَهَى. وَقَرَأَ حَفْصٌ: وَما أَنْسانِيهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَفِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ اللَّهُ وَذَلِكَ فِي الْوَصْلِ وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ فَتْحَةَ السِّينِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطانُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَاتِّخَاذُ سَبِيلِهِ عَطْفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي أَذْكُرَهُ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى أَمْرِ الْحُوتِ وَفَقْدِهِ وَاتِّخَاذِهِ سَبِيلًا فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ مِنْ لِقَاءِ ذَلِكَ الْعَبْدِ الصالح وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَبْغِيهِ. وَقُرِئَ نَبْغِ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتُهَا أَحْسَنُ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالْأَكْثَرُ فِيهِ طَرْحُ الْيَاءِ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَأَثْبَتَهَا فِي الْحَالَيْنِ ابْنُ كَثِيرٍ. فَارْتَدَّا رَجَعَا عَلَى أَدْرَاجِهِمَا مِنْ حَيْثُ جَاءَا. قَصَصاً أَيْ يَقُصَّانِ الْأَثَرَ قَصَصاً فَانْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ يَقُصَّانِ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُقْتَصِّينَ فَيُنْصَبُ بِقَوْلِهِ فَارْتَدَّا فَوَجَدا أَيْ مُوسَى وَالْفَتَى عَبْداً مِنْ عِبادِنا هَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ، وَجَدَاهُ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي فَقَدَ الْحُوتَ عِنْدَهَا وَهُوَ مُسَجَّى فِي

ثَوْبِهِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ فَرَفَعَ رَأَسَهُ، وَقَالَ: أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ لَهُ، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكُنْ لَكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَشْغَلُكَ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هُنَا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ لِقَاءَكَ وَأَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكَ، قَالَ لَهُ: إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ أَنَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْخَضِرُ وَخَالَفَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ آخَرُ. وَقِيلَ: الْيَسَعُ. وَقِيلَ: إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: خَضِرُونُ بْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قِيلَ: وَاسْمُ الْخَضِرِ بَلْيَا بْنُ مَلْكَانَ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ وَكَانَ عِلْمُهُ مَعْرِفَةَ بَوَاطِنَ قَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ، وَعِلْمُ مُوسَى الْأَحْكَامَ وَالْفُتْيَا بِالظَّاهِرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ وُجِدَ قَاعِدًا عَلَى ثَبَجِ الْبَحْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ سُمِّيَ خَضِرًا لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَالِيَةٍ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ. وَقِيلَ: كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. وَقِيلَ: جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ. وَقِيلَ: الصَّلْبَةُ وَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ. وَقِيلَ: كَانَتْ أُمُّهُ رُومِيَّةً وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ. وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَلَحِقَ بِجَزَائِرَ الْبَحْرِ فَطَلَبَهُ أَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ. وَقَالَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمَرْسِيُّ: أَمَّا خَضِرُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَلَيْسَ بِحَيٍّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَلَزِمَهُ الْمَجِيءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمْ يَسَعْهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي» . انْتَهَى هكذا أوراد لحديث وَمَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عِيسَى حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» . وَالرَّحْمَةُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا هِيَ الْوَحْيُ وَالنُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أَيْ مِنْ عِنْدِنَا أَيْ مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَا مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مِنْ لَدُنَّا بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ فِي لَدُنْ وَهِيَ الْأَصْلُ. قِيلَ: وَقَدْ أُولِعَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الصَّلَاحِ بِادِّعَاءِ هَذَا الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَهُ الْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وَأَنَّهُ يُلْقَى فِي رَوْعِ الصَّالِحِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُخْبِرَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى الْخَضِرَ. وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُطِيعٍ الْقُشَيْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يُخْبِرُ عَنْ شَيْخٍ لَهُ أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ وَحَدَّثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ الْخَضِرُ؟ وَمِنْ أَيْنَ عَرِفَ ذَلِكَ؟ فَسَكَتَ. وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرِيَّةَ رُتْبَةٌ يَتَوَلَّاهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ عَلَى قَدَمِ الْخَضِرِ، وَسَمِعْنَا الْحَدِيثَ عَنْ

شَيْخٍ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْعَبَّاسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ وَكَانَ أَصْحَابُهُ الْحَنَابِلَةُ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ بِالْخَضِرِ. قالَ لَهُ مُوسى فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمَّا الْتَقَيَا وَتَرَاجَعَا الْكَلَامَ وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّوَاضُعِ لِلْعَالِمِ، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَعَلَى حُسْنِ التَّلَطُّفِ وَالِاسْتِنْزَالِ وَالْأَدَبِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. بِقَوْلِهِ هَلْ أَتَّبِعُكَ وَفِيهِ الْمُسَافَرَةُ مَعَ الْعَالِمِ لِاقْتِبَاسِ فَوَائِدِهِ، وَالْمَعْنَى هَلْ يَخِفُّ عَلَيْكَ وَيَتَّفِقُ لَكَ وَانْتَصَبَ رُشْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ تُعَلِّمَنِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي أَتَّبِعُكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عِلْماً ذَا رُشْدٍ أُرْشَدُ بِهِ فِي دِينِي، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَمَا دَلَّتْ حَاجَتُهُ إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْ آخَرَ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ كَمَا قِيلَ مُوسَى بْنُ مِيشَا لَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ لِأَنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَإِمَامَهُمُ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الدِّينِ؟ قُلْتُ: لَا غَضَاضَةَ بِالنَّبِيِّ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَغُضُّ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ دُونَهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نُوفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِصَاحِبِ مُوسَى، وَأَنَّ مُوسَى هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْيَزِيدِيُّ رُشْداً بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ، وَنَفَى الْخَضِرُ اسْتِطَاعَةَ الصَّبْرِ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَأَنَّهَا مِمَّا لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى أُمُورًا هِيَ فِي ظَاهِرِهَا يُنْكِرُهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَكَيْفَ النَّبِيُّ فَلَا يَتَمَالَكُ أَنْ يَشْمَئِزَّ لِذَلِكَ، وَيُبَادِرَ بِالْإِنْكَارِ وَكَيْفَ تَصْبِرُ أَيْ إِنَّ صَبْرَكَ عَلَى مَا لَا خِبْرَةَ لَكَ بِهِ مُسْتَبْعَدٌ، وَفِيهِ إِبْدَاءُ عُذْرٍ لَهُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ لِمَا يَرَى مِنْ مُنَافَاةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ شَرِيعَتِهِ. وَانْتَصَبَ خُبْراً عَلَى التَّمْيِيزِ أَيْ مِمَّا لَمْ يُحِطْ بِهِ خُبْرُكَ فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِأَنَّ مَعْنَى بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ لَمْ تُخْبَرْهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ خُبْراً بِضَمِّ الْبَاءِ. قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَعَدَهُ بِوِجْدَانِهِ صابِراً وَقَرَنَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عِلْمًا مِنْهُ بِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَصُعُوبَتِهِ، إِذْ لَا يَصْبِرُ إِلَّا عَلَى مَا يُنَافِي ما هو عليه إذ رَآهُ وَلا أَعْصِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صابِراً أَيْ صابِراً وَغَيْرَ عَاصٍ فَيَكُونُ فِي

مَوْضِعِ نَصْبِ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ صَافَّاتٍ ويَقْبِضُ «1» أَيْ وَقَابِضَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى سَتَجِدُنِي فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْمَشِيئَةِ لَفْظًا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَدَ مُوسَى مِنْ نَفْسِهِ بِشَيْئَيْنِ: بِالصَّبْرِ وَقَرَنَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فَصَبَرَ حِينَ وَجَدَ عَلَى يَدَيِ الْخَضِرِ فِيمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْفِعْلِ، وَبِأَنْ لَا يَعْصِيَهُ فَأَطْلَقَ وَلَمْ يُقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَعَصَاهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ فَلا تَسْئَلْنِي فَكَانَ يَسْأَلُهُ فَمَا قَرَنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ وَمَا أَطْلَقَهُ وَقَعَ فِيهِ الْخُلْفُ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَلا أَعْصِي مَعْطُوفًا عَلَى سَتَجِدُنِي فَلَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أَيْ إِذَا رَأَيْتَ مِنِّي شَيْئًا خَفِيَ عَلَيْكَ وَجْهُ صِحَّتِهِ فَأَنْكَرْتَ فِي نَفْسِكَ فَلَا تُفَاتِحْنِي بِالسُّؤَالِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْفَاتِحَ عَلَيْكَ، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْمُتَعَلِّمِ مع العالم المتبوع. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فَلا تَسْئَلْنِي وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مُشَدِّدَةَ النُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ. كُلُّهُمْ بِيَاءٍ فِي الْحَالَيْنِ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي حَذْفِ الْيَاءِ خِلَافٌ غَرِيبٌ. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. فَانْطَلَقا أَيْ مُوسَى وَالْخَضِرُ وَكَانَ مَعَهُمْ يُوشَعُ وَلَمْ يُضْمَرْ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ. وَقِيلَ: كَانَ مُوسَى قَدْ صَرَفَهُ وَرَدَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي السَّفِينَةِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ فِي سَفِينَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَرُوِيَ فِي كَيْفِيَّةِ رُكُوبِهِمَا السَّفِينَةَ وَخَرْقِهَا وَسَدِّهَا أَقْوَالٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا قَالَا: «فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ

_ (1) سورة الملك: 67/ 19.

مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَها إِلَى قَوْلِهِ عُسْراً» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ الْأَوَّلُ مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ» . وَاللَّامُ فِي لِتُغْرِقَ أَهْلَها. قِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ لِيَغْرَقَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ أَهْلَها بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ تَاءِ الْخِطَابِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَنَصْبِ لَامِ أَهْلَها. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا فَتَحَا الْغَيْنَ وَشَدَّدَا الرَّاءَ. ثُمَّ ذَكَّرَهُ الْخَضِرُ بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ نَفْيِ اسْتِطَاعَتِهِ الصَّبْرَ لِمَا يَرَى فَقَالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَالظَّاهِرُ حَمْلُ النِّسْيَانِ عَلَى وَضْعِهِ. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَسِيَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَمِ سُؤَالِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُخْبِرَ لَهُ أَوَّلًا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ أُبَيِّ ابن كَعْبٍ أَنَّهُ مَا نَسِيَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ هَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ نَسِيَ وَصِيَّتَهُ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى النَّاسِي، أَوْ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ النَّهْيِ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ تَوَهَّمَهُ أَنَّهُ نَسِيَ لِيَبْسُطَ عُذْرَهُ فِي الْإِنْكَارِ وَهُوَ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ الَّتِي يُنْفَى بِهَا الْكَذِبُ مَعَ التَّوَصُّلِ إِلَى الْغَرَضِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. هَذِهِ أُخْتِي وَإِنِّي سَقِيمٌ: أَوْ أَرَادَ بِالنِّسْيَانِ التَّرْكَ أَيْ لَا تُؤاخِذْنِي بِمَا تَرَكْتُ مِنْ وَصِيَّتِكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَلَامَ أُبَيٍّ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَلَا يُعْتَمَدُ إِلَّا قَوْلُ الرَّسُولِ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» . وَلا تُرْهِقْنِي لَا تُغْشِنِي وَتُكَلِّفْنِي مِنْ أَمْرِي وَهُوَ اتِّبَاعُكَ عُسْراً أَيْ شَيْئًا صَعْبًا، بَلْ سَهِّلْ عَلَيَّ فِي مُتَابَعَتِكَ بِتَرْكِ الْمُنَاقَشَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ عُسْراً بِضَمِّ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ فَانْطَلَقَا فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَخَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ وَلَمْ يَقَعْ غَرَقٌ بِأَهْلِهَا، فَانْطَلَقَا فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ على الساحل إذا بصر الْخَضِرُ غُلاماً يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَمَرَّ بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى غُلَامٍ حَسَنِ الْهَيْئَةِ وَضِيءِ الْوَجْهِ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ. وَقِيلَ: رَضَّهُ بِحَجَرٍ. وَقِيلَ: ذَبَحَهُ. وَقِيلَ: فَتَلَ عُنُقَهُ. وَقِيلَ: ضَرَبَ بِرَأْسِهِ الْحَائِطَ.

قِيلَ: وَكَانَ هَذَا الْغُلَامُ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ وَلِهَذَا قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً. وَقِيلَ: كَانَ الْغُلَامُ بَالِغًا شَابًّا، وَالْعَرَبُ تُبْقِي عَلَى الشَّابِّ اسْمَ الْغُلَامِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ فِي الْحَجَّاجِ: شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الَّذِي قَدْ أَصَابَهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا وَقَالَ آخَرُ: تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَامٌ إذا هو جيت لَسْتُ بِشَاعِرِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الِاغْتِلَامِ وَهُوَ شِدَّةُ الشَّبَقِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشَّبَابِ الَّذِينَ قَدْ بَلَغُوا الْحُلُمَ وَيَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ تَجَوُّزًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يؤول إِلَيْهِ. (وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الْغُلَامِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ أُمِّهِ) وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ كَانَ يُفْسِدُ وَيُقْسِمُ لِأَبَوَيْهِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ فَيُقْسِمَانِ عَلَى قَسَمِهِ وَيَحْمِيَانِهِ مِمَّنْ يَطْلُبُهُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْعُرْسِ وَالْعَرَائِسِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لِلْخَضِرِ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً غَضِبَ الْخَضِرُ وَاقْتَلَعَ كَتِفَ الصَّبِيِّ الْأَيْسَرَ وَقَشَّرَ اللَّحْمَ عَنْهُ، وَإِذَا فِي عَظْمِ كَتِفِهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَبَدًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ خَرَقَها بغير فاء وفَقَتَلَهُ بِالْفَاءِ؟ قُلْتُ: جُعِلَ خَرَقَهَا جَزَاءً لِلشَّرْطِ، وَجُعِلَ قَتَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَالْجَزَاءُ قَالَ أَقَتَلْتَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ لَمْ يَتَعَقَّبِ الرُّكُوبَ وَقَدْ تَعَقَّبَ الْقَتْلُ لِقَاءَ الْغُلَامِ انْتَهَى. وَمَعْنَى زَكِيَّةً طَاهِرَةً مِنَ الذُّنُوبِ، وَوَصَفَهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا أَذْنَبَتْ، قِيلَ أَوْ لِأَنَّهَا صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغِ الْحِنْثَ. وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ يَرُدُّهُ وَيَدُلُّ عَلَى كِبَرِ الْغُلَامِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لَمْ يَحْتَلِمْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ بِنَفْسٍ وَلَا بِغَيْرِ نَفْسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَنَافِعٌ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ مُسْلِمٍ وَزَيْدٌ وَابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ يَعْقُوبَ وَالتَّمَّارِ عَنْ رُوَيْسٍ عَنْهُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو زَاكِيَةً بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ زَكِيَّةً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ زَاكِيَةٍ لِأَنَّ فَعِيلًا الْمُحَوَّلَ مِنْ فَاعِلٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُكْراً بِإِسْكَانِ الْكَافِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو حَاتِمٍ بِرَفْعِ الْكَافِ حَيْثُ كَانَ مَنْصُوبًا. وَالنُّكْرُ قِيلَ: أَقَلُّ مِنَ الْإِمْرِ لِأَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَهْوَنُ مِنْ إِغْرَاقِ أَهْلِ السَّفِينَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ شَيْئًا أَنْكَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ

الْخَرْقَ يُمْكِنُ سَدُّهُ وَالْقَتْلُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَدَارُكِ الْحَيَاةِ مَعَهُ. وَفِي قَوْلِهِ لَكَ زَجْرٌ وَإِغْلَاظٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَوْقِعَهُ التَّسَاؤُلُ بِأَنَّهُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إِلَى تَرْكِ السُّؤَالِ وَاسْتِعْذَارِ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ أَفْظَعُ وَأَفْظَعُ فِي الْمُخَالَفَةِ لِمَا كَانَ أَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَانْتِفَاءِ الْعِصْيَانِ. قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلا تُصاحِبْنِي أَيْ فَأَوْقِعِ الْفِرَاقَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تُصاحِبْنِي مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى وَيَعْقُوبُ فَلَا تَصْحَبْنِي مُضَارِعُ صَحِبَ وَعِيسَى أَيْضًا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مُضَارِعُ أَصْحَبَ، وَرَوَاهَا سَهْلٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْ فَلَا تُصْحِبْنِي عِلْمَكَ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فَلَا تُصْحِبْنِي إِيَّاكَ وَبَعْضُهُمْ نَفْسَكَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَشَدِّ النُّونِ. وَمَعْنَى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أَيْ قَدِ اعْتَذَرْتَ إِلَيَّ وَبَلَغْتَ إِلَى الْعُذْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ لَدُنِّي بِإِدْغَامِ نُونِ لَدُنْ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَهِيَ نُونُ لَدُنِ اتَّصَلَتْ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ أَصْلَ الْأَسْمَاءِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ تَلْحَقْ نُونُ الْوِقَايَةِ نَحْوُ غُلَامِي وَفَرَسِي، وَأَشَمَّ شُعْبَةُ الضَّمَّ فِي الدَّالِ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ سُكُونُ الدَّالِ. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ غَلَطٌ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَلَيْسَتْ بِغَلَطٍ لِأَنَّ مِنْ لُغَاتِهَا لَدْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ عِيسَى عُذْراً بِضَمِّ الذَّالِ وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَنْ أُبَيٍّ عُذْرِي بِكَسْرِ الرَّاءِ مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا» وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا لِأَحَدٍ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ عَلَى صَاحِبِهِ لَرَأَى الْعَجَبَ» وَلَكِنَّهُ قَالَ فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً. وَالْقَرْيَةُ الَّتِي أَتَيَا أَهْلَهَا إِنْطَاكِيَةُ أَوِ الْأُبُلَّةُ أَوْ بِجَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ وَهِيَ الْجَزِيرَةُ الْخَضْرَاءُ، أَوْ بُرْقَةُ أَوْ أَبُو حَوْرَانَ بِنَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، أَوْ نَاصِرَةُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ أَوْ قَرْيَةٌ بِأَرْمِينِيَّةَ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَتْ قصة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ يَسْتَطْعِمَانِهِمْ وَهَذِهِ عِبْرَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِهَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَكَرَّرَ لَفْظُ أَهْلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ عَنِ التَّوْكِيدِ وَهُوَ أَنَّهُمَا حين أتيا أهل القرية لَمْ يَأْتِيَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِنَّمَا أَتَيَا بَعْضَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ اسْتَطْعَما احْتَمَلَ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعِمَا إِلَّا ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي أَتَيَاهُ فَجِيءَ بِلَفْظِ أَهْلِهَا لِيَعُمَّ جَمِيعَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُتْبِعُونَهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا بِالِاسْتِطْعَامِ، وَلَوْ كَانَ التركيب استطعماهم لَكَانَ عَائِدًا عَلَى الْبَعْضِ الْمَأْتِيِّ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضَيِّفُوهُما بِالتَّشْدِيدِ مِنْ ضَيَّفَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو رَزِينٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ وَأَبَانَ بِكَسْرِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ مِنْ أَضَافَ، كَمَا تَقُولُ مَيَّلَ وَأَمَالَ، وَإِسْنَادُ الْإِرَادَةِ إِلَى الْجِدَارِ مِنَ الْمَجَازِ الْبَلِيغِ وَالِاسْتِعَارَةِ الْبَارِعَةِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِسْنَادُ أَشْيَاءَ تَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ إِلَى مَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَإِلَى الْجَمَادِ، أَوِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَكَانَ الْعَاقِلِ لَكَانَ صَادِرًا مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ. وَقَدْ أَكْثَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْ لَهُ أَدْنَى مُطَالَعَةٍ لِكَلَامِ الْعَرَبِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرِّفِينَ لِكَلَامِ اللَّهِ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ كَانَ يَجْعَلُ الضَّمِيرَ لِلْخَضِرِ لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ آفَةِ الْجَهْلِ وَسُقْمِ الْفَهْمِ أَرَاهُ أَعْلَى الْكَلَامَ طَبَقَةً أَدْنَاهُ مَنْزِلَةً، فَتَمَحَّلَ لِيَرُدَّهُ إِلَى مَا هُوَ عِنْدَهُ أَصَحُّ وَأَفْصَحُ، وَعِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الْمَجَازِ أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُنْكِرُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ الْأُدَبَاءِ الشُّعَرَاءِ الْفُحُولِ الْمُجِيدِينَ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْقَضَّ أَيْ يَسْقُطُ مِنِ انْقِضَاضِ الطَّائِرِ، وَوَزْنُهُ انْفَعَلَ نَحْوُ انْجَرَّ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: مِنَ الْقَضَّةِ وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ، وَمِنْهُ طَعَامٌ قَضَضٌ إِذَا كَانَ فِيهِ حَصًى، فَعَلَى هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أَيْ يَتَفَتَّتُ فَيَصِيرُ حَصَاةً انْتَهَى. وَقِيلَ: وَزْنُهُ افْعَلَّ مِنَ النَّقْضِ كَاحْمَرَّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ يَنْقَضَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ نَقَضْتُهُ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ يُرِيدُ لِيَنْقَضَّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِأَنِ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ اللَّامِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو شَيْخٍ خَيْوَانُ بْنُ خَالِدٍ الْهُنَائِيٌّ وَخُلَيْدُ بْنُ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ يَنْقَاصُ بِالصَّادِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ مَعَ الْأَلِفِ ، وَوَزْنُهُ يَنْفَعِلُ اللَّازِمُ مِنْ قَاصَ يَقِيصُ إِذَا كَسَرْتَهُ تَقُولُ: قَصَيْتُهُ فَانْقَاصَ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَتَقُولُ الْعَرَبُ انْقَاصَتِ السِّنُّ إِذَا انْشَقَّتْ طُولًا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: مُنْقَاصٌ وَمُنْكَثِبُ. وَقِيلَ: إِذَا تَصَدَّعَتْ كَيْفَ كَانَ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: فراق كقص السَّنِّ فَالصَّبْرَ إِنَّهُ ... لِكُلِّ أناس عشرة وحبور وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: يَنْقَاضُ بِأَلِفٍ وضاد معجمة وهو مِنْ قَوْلِهِمْ: قُضْتُهُ مُعْجَمَةً فَانْقَاضَ أَيْ هَدَمْتُهُ فَانْهَدَمَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْمَشْهُورُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِصَادٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ.

فَأَقامَهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَهْدِمْهُ وَبَنَاهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ هَدَمَهُ وَقَعَدَ يَبْنِيهِ. وَوَقَعَ هَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وأيد بقوله لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لِأَنَّ بِنَاءَهُ بَعْدَ هَدْمِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ فَقَامَ. وَقِيلَ: أَقَامَهُ بِعَمُودٍ عَمَدَهُ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَوَّاهُ بِالشِّيدِ أَيْ لَبَّسَهُ بِهِ وَهُوَ الْجَيَّارُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دَفَعَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ وَهَذَا أَلْيَقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَتِ الْحَالُ حَالَ اضْطِرَارٍ وَافْتِقَارٍ إِلَى المطعم وقد لزتهما الْحَاجَةُ إِلَى آخَرِ كَسْبِ الْمَرْءِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ فَلَمْ يَجِدَا مُوَاسِيًا، فَلَمَّا أَقَامَ الْجِدَارَ لَمْ يَتَمَالَكْ مُوسَى لِمَا رَأَى مِنَ الْحِرْمَانِ وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ أَنْ قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وَطَلَبْتَ عَلَى عَمَلِكَ جُعْلًا حَتَّى تَنْتَعِشَ بِهِ وَتَسْتَدْفِعَ الضَّرُورَةَ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلِهِ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُؤَالًا فَفِي ضِمْنِهِ الْإِنْكَارُ لِفِعْلِهِ، وَالْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ أَخْذِ الْأَجْرِ وَفِي ذَلِكَ تَخْطِئَةُ تَرْكِ الْأَجْرِ انْتَهَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ بحرية ولتخذت بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ، يُقَالُ تَخِذَ وَاتَّخَذَ نَحْوُ تَبِعَ وَاتَّبَعَ، افْتَعَلَ مِنْ تَخِذَ وَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي التَّاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسِيفًا كَأُفْحُوصِ الْقَطَاةِ الْمُطَرَّقِ وَالتَّاءُ أَصْلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَلَيْسَ مِنَ الْأَخْذِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الِاتِّخَاذُ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا التَّاءَ أَصْلِيَّةً فَقَالُوا فِي الثُّلَاثِيِّ تَخِذَ كَمَا قَالُوا تَقِيَ مِنِ اتَّقَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ لَوْ شِئْتَ أَيْ هَذَا الْإِعْرَاضُ سَبَبُ الْفِرَاقِ بَيْنِي وَبَيْنِكَ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ مِنْ مِيعَادِهِ. أَنَّهُ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُؤَالًا فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُهُ، إِذِ الْمَعْنَى أَلَمْ تَكُنْ تَتَّخِذُ عَلَيْهِ أَجْرًا لِاحْتِيَاجِنَا إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ تُصُوِّرَ فِرَاقٌ بَيْنَهُمَا عِنْدَ حُلُولِ مِيعَادِهِ عَلَى مَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَأَشَارَ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُبْتَدَأً وَأَخْبَرَ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ: هَذَا أَخُوكَ فَلَا يَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ الْأَخِ انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ فِراقُ بَيْنِي بِالتَّنْوِينِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِضَافَةِ. وَالْبَيْنُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّلَاحُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُصْطَحِبَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ مُسْتَعَارٌ فِيهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ وَمُسْتَعْمَلٌ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، وَتَكْرِيرُهُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وَعُدُولُهُ عَنْ بَيْنِنَا لِمَعْنَى التَّأْكِيدِ. سَأُنَبِّئُكَ أَيْ سَأُخْبِرُكَ بِتَأْوِيلِ مَا رَأَيْتَ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ، أَيْ بِمَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ فِيمَا كَانَ ظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ سَأُنْبِيكَ بِإِخْلَاصِ الْيَاءِ مِنْ

[سورة الكهف (18) : الآيات 79 إلى 82]

غَيْرِ هَمْزٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْلُ مُوسَى فِي السَّفِينَةِ وَفِي الْغُلَامِ لِلَّهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ فِي الْجِدَارِ لِنَفْسِهِ لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَكَانَ سَبَبَ الْفِرَاقِ. وَقَالَ أَرْبَابُ الْمَعَانِي: هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِمُوسَى مَعَ الْخَضِرِ حُجَّةٌ عَلَى مُوسَى وَإِعْجَالِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ خَرْقَ السَّفِينَةِ نُودِيَ: يَا مُوسَى أَيْنَ كَانَ تَدْبِيرُكَ هَذَا وَأَنْتَ فِي التَّابُوتِ مَطْرُوحًا فِي الْيَمِّ؟ فَلَمَّا أَنْكَرَ قَتْلَ الْغُلَامِ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ إِنْكَارُكَ هَذَا مِنْ وَكْزِ الْقِبْطِيِّ وَقَضَائِكَ عَلَيْهِ؟ فَلَمَّا أَنْكَرَ إِقَامَةَ الْجِدَارِ نُودِيَ أَيْنَ هَذَا مِنْ رَفْعِكَ الْحَجَرَ لِبَنَاتِ شُعَيْبٍ دُونَ أُجْرَةٍ؟ سَأُنَبِّئُكَ فِي مَعَانِي هَذَا مَعَكَ وَلَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أُوَضِّحَ لَكَ ما استبهم عليك. [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَزَمَ الْخَضِرُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ أَخَذَ بِثِيَابِهِ، وَقَالَ: لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي بم أَبَاحَ لَكَ فِعْلَ مَا فَعَلْتَ، فَلَمَّا الْتَمَسَ ذَلِكَ مِنْهُ أَخَذَ فِي الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَبَدَأَ بِقِصَّةِ مَا وَقَعَ لَهُ أَوَّلًا. قِيلَ: كَانَتْ لِعَشَرَةِ إِخْوَةٍ، خَمْسَةٌ زَمْنَى وَخَمْسَةٌ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: كَانُوا أُجَرَاءَ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِمْ لِلِاخْتِصَاصِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَسَاكِينَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ جَمْعُ مِسْكِينٍ. وَقَرَأَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِتَشْدِيدِ السِّينِ جَمْعُ مَسَّاكٍ جَمْعُ تَصْحِيحٍ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى مَلَّاحِينَ، وَالْمَسَّاكُ الَّذِي يُمْسِكُ رَجُلَ السَّفِينَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَسَّاكُونَ دَبَغَةُ الْمُسُوكِ وَهِيَ الْجُلُودُ وَاحِدُهَا مَسْكٌ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّفِينَةَ كَانَتْ لِقَوْمٍ ضُعَفَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَاحْتُجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَهُ بُلْغَةٌ مِنَ الْعَيْشِ كَالسَّفِينَةِ لِهَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ أَصْلَحُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ. وَقَوْلُهُ فَأَرَدْتُ فِيهِ إِسْنَادُ إِرَادَةِ الْعَيْبِ إِلَيْهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا لِمَا فِي ذِكْرِ الْعَيْبِ مَا فِيهِ فَلَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى اللَّهِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْخَيْرِ أَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مُسَبَّبٌ عَنْ خَوْفِ الْغَصْبِ عَلَيْهَا فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ السَّبَبِ فَلِمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِلْعِنَايَةِ وَلِأَنَّ خَوْفَ الْغَصْبِ لَيْسَ هُوَ السَّبَبَ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ مَعَ كَوْنِهَا لِمَساكِينَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ ظَنِّي مُقِيمٌ. وَقِيلَ فِي قراءة أبي وعبد الله كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ انْتَهَى. وَمَعْنَى أَنْ أَعِيبَها بِخَرْقِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَراءَهُمْ وَهُوَ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْفِ وَعَلَى الْأَمَامِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا أَمَامَهُمْ. وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَكَوْنُ وَراءَهُمْ بِمَعْنَى أَمَامَهُمْ قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالزَّجَّاجِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ وَرَاءَ يَجُوزُ بِمَعْنَى قُدَّامَ، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَالشِّعْرِ قَالَ تَعَالَى مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ «1» وَقَالَ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ «2» وَقَالَ وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «3» . وَقَالَ لَبِيدٌ: أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومُ الْعَصَا يُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ وَقَالَ سَوَّارُ بْنُ الْمُضَرِّبِ السَّعْدِيُّ: أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا وَقَالَ آخَرُ: أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ أَدُبَّ عَلَى الْعَصَا ... فَتَأْمَنَ أَعْدَاءٌ وَتَسْأَمُنِي أَهْلِي وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ وَراءَهُمْ عِنْدِي هُوَ عَلَى بَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا تَجِيءُ يُرَاعَى بِهَا الزَّمَنُ، وَالَّذِي يَأْتِي بَعْدُ هُوَ الْوَرَاءُ وَهُوَ مَا خُلِّفَ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي مَوَاضِعِهَا حَيْثُ وَرَدَتْ تَجِدُهَا تَطَّرِدُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ وَعَمَلَهُمْ وَسَعْيَهُمْ يَأْتِي بَعْدَهُ فِي الزَّمَنِ غَصْبُ هَذَا الْمَلِكِ، وَمَنْ قَرَأَ أَمَامَهُمْ أَرَادَ فِي الْمَكَانِ أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ إِلَى بَلَدِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. إِنَّهَا بَيْنَ يَدَيِ الْقُرْآنِ، مُطَّرِدٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي الزَّمَنِ. وَقَوْلُهُ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ «4» مُطَّرِدٌ كَمَا قُلْنَا مِنْ مُرَاعَاةِ الزَّمَنِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ» يُرِيدُ فِي الْمَكَانِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ أَمَامَ الصَّلَاةِ فِي الزَّمَنِ. وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَإِنَّهَا مُرِيحَةٌ من شغب هذه الْأَلْفَاظِ وَوَقَعَ لِقَتَادَةَ فِي كُتُبِ الطَّبَرِيِّ وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ. قَالَ قَتَادَةُ: أَمَامَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 16. (2) سورة إبراهيم: 14/ 17. (3) سورة المؤمنون: 23/ 100. (4) سورة الجاثية: 45/ 10.

مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَهِيَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَهَذِهِ هي العجة الَّتِي كَانَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ يَضِجُّ مِنْهَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَيَجُوزُ إِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ عَلَى الْغَاصِبِ فَكَانَ وَرَاءَهُمْ حَقِيقَةً انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ تَكْثِيرٌ وَكَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ بَيْنَ يَدَيْكَ هُوَ وَرَاءَكَ، إِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَالدَّهْرِ تَقُولُ: وَرَاءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جَازَ الْوَجْهَانِ لِأَنَّ الْبَرْدَ إِذَا لَحِقَكَ صَارَ مِنْ وَرَائِكَ، وَكَأَنَّكَ إِذَا بَلَغْتَهُ صَارَ بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: إِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي اللُّغَةِ لِأَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَمَا قُدَّامَكَ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ فَقَدْ صَارَ وَرَاءَكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّمَا جَازَ اسْتِعْمَالُ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ عَلَى الِاتِّسَاعِ لِأَنَّهَا جِهَةٌ مُقَابِلَةٌ لِجِهَةٍ فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ وَرَاءَ الْأُخْرَى إِذَا لَمْ يَرِدْ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرَامِ الَّتِي لَا وَجْهَ لَهَا مِثْلُ حَجَرَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَرَاءَ الْآخَرِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ وَرَاءَ مِنَ الْأَضْدَادِ انْتَهَى. قِيلَ: وَاسْمُ هَذَا الْمَلِكِ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وَكَانَ كَافِرًا. وَقِيلَ: الْجُلَنْدَى مَلِكُ غَسَّانَ، وَقَوْلُهُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فِي هَذَا حَذْفٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى وَكَانَ كَافِرًا وَكَذَا وُجِدَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ وَنَصَّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مَطْبُوعًا عَلَى الْكُفْرِ ، وَيُرَادُ بِأَبَوَيْهِ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ثُنِّيَ تَغْلِيبًا مِنْ بَابِ الْقَمَرَيْنِ فِي الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ لَا تَنْقَاسُ. وَقَرَأَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَانِ، فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ لِكَانَ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ لِكَانَ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنَانِ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَيَكُونَ مَنْصُوبًا، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الْغُلَامِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ. فَخَشِينا أَيْ خِفْنَا أَنْ يُغْشِي الْوَالِدَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ طُغْياناً عَلَيْهِمَا وَكُفْراً لِنِعْمَتِهِمَا بِعُقُوقِهِ وَسُوءِ صَنِيعِهِ، وَيُلْحِقَ بِهِمَا شَرًّا وَبَلَاءً، أَوْ يُقْرَنَ بِإِيمَانِهِمَا طُغْيَانُهُ وَكُفْرُهُ، فَيَجْتَمِعَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُؤْمِنَانِ، وَطَاغٍ كَافِرٌ أَوْ يُعْدِيَهُمَا بِدَائِهِ وَيَضِلَّهُمَا بِضَلَالِهِ فَيَرْتَدَّا بِسَبَبِهِ وَيَطْغَيَا وَيَكْفُرَا بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَإِنَّمَا خَشِيَ الْخَضِرُ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا أَعْلَمَهُ بِحَالِهِ وَأَطْلَعَهُ عَلَى سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ كَاخْتِرَامِهِ لِمَفْسَدَةٍ عَرَفَهَا فِي حَيَاتِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَخَافَ رَبُّكَ، وَالْمَعْنَى فَكَرِهَ رَبُّكَ كَرَاهَةَ مَنْ خَافَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَغَيَّرَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ

فَخَشِينا حِكَايَةً لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَعْنَى فَكَرِهْنَا كَقَوْلِهِ لِأَهَبَ لَكِ «1» قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِي قَوْلِهِ كَاخْتِرَامِهِ لِمَفْسَدَةٍ عَرَفَهَا فِي حَيَاتِهِ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْأَجَلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ إِسْنَادُ فِعْلِ الْخَشْيَةِ فِي خَشِينَا إِلَى ضَمِيرِ الْخَضِرِ وَأَصْحَابِهِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ أَهَمَّهُمُ الْأَمْرُ وَتَكَلَّمُوا. وَقِيلَ: هُوَ فِي جِهَةِ اللَّهِ وَعَنْهُ عَبَّرَ الْخَضِرُ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. قَالَ الطبري: ومعناه وقال: معناه فكر هُنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي تَوْجِيهِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُدَافِعُهُ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ أَيْ عَلَى ظَنِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْمُخَاطَبُ لَوْ عَلِمُوا حَالَهُ لَوَقَعَتْ مِنْهُمْ خَشْيَةُ الرَّهَقِ لِلْوَالِدَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَخَافَ رَبُّكَ، وَهَذَا بَيِّنُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ لَعَلَّ وَعَسَى فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ تَرَجٍّ وَتَوَقُّعٍ وَخَوْفٍ وَخَشْيَةٍ إِنَّمَا هُوَ بِحَسْبِكُمْ أَيُّهَا المخاطبون. ويُرْهِقَهُما مَعْنَاهُ يُجَشِّمُهُمَا وَيُكَلِّفُهُمَا بِشِدَّةٍ، وَالْمَعْنَى أَنْ يُلْقِيَهُمَا حُبُّهُ فِي اتِّبَاعِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ جَرِيرٍ أَنْ يُبْدِلَهُما بِالتَّشْدِيدِ هُنَا وَفِي التَّحْرِيمِ وَالْقَلَمِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَالزَّكَاةُ هُنَا الطَّهَارَةُ وَالنَّقَاءُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ شَرَفِ الْخُلُقِ وَالسَّكِينَةِ، وَالرُّحْمُ وَالرَّحْمَةُ الْعَطْفُ مَصْدَرَانِ كَالْكُثْرِ وَالْكَثْرَةِ، وَأَفْعَلُ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَقْرَبَ رُحْماً أَيْ رَحْمَةَ وَالِدَيْهِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَرْحَمَانِهِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ عَلَى إِدْرِيسَا ... وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْلِيسَا وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو حَاتِمٍ رُحْماً بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رُحْماً بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ. وَقِيلَ الرُّحْمُ مِنَ الرَّحِمِ والقرابة أي أو صل لِلرَّحِمِ. قِيلَ: وَلَدَتْ غُلَامًا مُسْلِمًا. وَقِيلَ: جَارِيَةً تَزَوَّجَهَا نَبِيٌّ فَوَلَدَتْ نَبِيًّا هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ. وَقِيلَ: وَلَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَلَا تُعْرَفُ كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمُ انْتَهَى. وَوَصْفُ الْغُلَامَيْنِ بِالْيُتْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا صَغِيرَيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ» أَيْ كَانَا يَتِيمَيْنِ عَلَى مَعْنَى الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا. قِيلَ: وَاسْمُهُمَا أَصْرَمُ وَصُرَيْمٌ، وَاسْمُ أَبِيهِمَا كَاشِحٌ وَاسْمُ أُمِّهِمَا دَهْنَا، وَالظَّاهِرُ فِي الْكَنْزِ أَنَّهُ مَالٌ مَدْفُونٌ جَسِيمٌ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ عِلْمًا في مصحف مَدْفُونَةٍ: وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ ذهب

_ (1) سورة مريم: 19/ 19. [.....]

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 110]

فِيهِ كَلِمَاتُ حِكْمَةٍ وَذِكْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ وَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَاهُمَا هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِمَا الَّذِي وَلَدَهُمَا دَنِيَّةً. وَقِيلَ: السَّابِعُ. وَقِيلَ: الْعَاشِرُ وَحِفْظُ هَذَانِ الْغُلَامَانِ بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ فِي ذُرِّيَّتِهِ» . وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِأَرَادَ قَالَ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى رَحِمَهُمَا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ وَكِلَاهُمَا مُتَكَلَّفٌ. وَما فَعَلْتُهُ أَيْ وَمَا فَعَلْتُ مَا رَأَيْتَ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنِّي وَرَأْيٍ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ أوحي إليه. وتَسْطِعْ مُضَارِعُ اسْطَاعَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ مَا أَسْتَطِيعُ وَمَا أَسْطِيعُ وَمَا أَسْتَتِيعُ وَأَسْتِيعُ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، وَأَصْلُ اسْطَاعَ اسْتَطَاعَ عَلَى وَزْنِ اسْتَفْعَلَ، فَالْمَحْذُوفُ فِي اسْطَاعَ تَاءُ الِافْتِعَالِ لِوُجُودِ الطَّاءِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هِيَ الطَّاءُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ، ثُمَّ أَبْدَلُوا مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ طَاءً، وَأَمَّا أَسْتَتِيعُ فَفِيهِ أَنَّهُمْ أَبْدَلُوا مِنَ الطَّاءِ تَاءً، وَيَنْبَغِي فِي تَسْتِيعُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ تَاءَ الِافْتِعَالِ كَمَا فِي تَسْطِيعُ. وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ مَا نَصُّهُ: تَعَلَّقَ بَعْضُ الْجُهَّالِ بِمَا جَرَى لِمُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَطَرَدُوا الْحُكْمَ، وَقَالُوا: قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْ آحَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ أَبِي يَزِيدَ خُضْتُ بَحْرًا وَقَفَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى سَاحِلِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الرُّعُونَةِ وَالظِّنَّةِ بِالنَّفْسِ انْتَهَى. وَهَكَذَا سَمِعْنَا مَنْ يَحْكِي هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ بَعْضِ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ وَهُوَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الطَّائِيُّ الْحَاتِمِيُّ صَاحِبُ الْفُتُوحِ الْمَكِّيَّةِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى بِالْقُبُوحِ الْهَلَكِيَّةِ وَأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَلِيَّ خَيْرٌ مِنَ النَّبِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةٍ عَنِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ قَاعِدٌ فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّبِيُّ مُرْسَلٌ إِلَى قَوْمٍ، وَمَنْ كَانَ فِي الْحَضْرَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يُرْسِلُهُ صَاحِبُ الْحَضْرَةِ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذِهِ الْكُفْرِيَّاتِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَقَدْ كَثُرَ مُعَظِّمُو هَذَا الرَّجُلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ غُلَاةِ الزَّنَادِقَةِ الْقَائِلَةِ بِالْوَحْدَةِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَ في أدياننا وأبداننا. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

السَّدُّ الْحَاجِزُ وَالْحَائِلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَيُقَالُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ. الرَّدْمُ: السَّدُّ. وَقِيلَ: الرَّدْمُ أَكْبَرُ مِنَ السَّدِّ لِأَنَّ الرَّدْمَ مَا جُعِلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، يُقَالُ: ثَوْبٌ مُرَدَّمٌ إِذَا كَانَ قَدْ رُقِّعَ رُقْعَةً فَوْقَ رُقْعَةٍ. وَقِيلَ: سَدَّ الْخَلَلَ، قَالَ عَنْتَرَةُ: هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ أَيْ خَلَلٌ فِي الْمَعَانِي فَيَسُدُّ رَدْمًا. الزُّبْرَةُ: الْقِطْعَةُ وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ، وَمِنْهُ زُبْرَةُ الْأَسَدِ لِمَا اجْتَمَعَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنَ الشَّعْرِ، وَزَبَرْتُ الْكِتَابَ جَمَعْتُ حُرُوفَهُ. الصَّدَفَانِ جَانِبَا الْجَبَلِ إِذَا تَحَاذَيَا لِتَقَارُبِهِمَا أَوْ لِتَلَاقِيهِمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَيُقَالُ: صُدُفٌ بِضَمِّهِمَا وَبِفَتْحِهِمَا وَبِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَعَكْسِهِ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: وَفَتْحُهُمَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَضَمُّهُمَا لُغَةُ حِمْيَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّدَفُ كُلُّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ. الْقِطْرُ النُّحَاسُ الْمُذَابُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: الْحَدِيدُ الْمُذَابُ. وَقِيلَ: الرَّصَاصُ الْمُذَابُ. النَّقْبُ مَصْدَرُ نَقَبَ أَيْ حَفَرَ وَقَطَعَ. الْغِطَاءُ مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ أَغْطِيَةٌ، وَهُوَ مِنْ غَطَّى إِذَا سَتَرَ. الْفِرْدَوْسُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ الْكَرْمُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: كُلُّ بُسْتَانٍ يُحَوَّطُ عليه فهو فردوس. وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً. الضَّمِيرُ فِي وَيَسْئَلُونَكَ عَائِدٌ عَلَى قُرَيْشٍ أَوْ عَلَى الْيَهُودِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ السَّائِلِينَ قُرَيْشٌ حِينَ دَسَّتْهَا الْيَهُودُ عَلَى سُؤَالِهِ عَنِ الرُّوحِ، وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَفِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ لِيَقَعَ امْتِحَانُهُ بِذَلِكَ. وَذُو الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ الْيُونَانِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ وَهْبٌ: هُوَ رُومِيٌّ وَهَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ صَالِحٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا غَرِيبٌ. قِيلَ: مَلَكَ الدُّنْيَا مُؤْمِنَانِ سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَكَافِرَانِ نُمْرُوذُ وَبُخْتُ نَصَّرَ، وَكَانَ بَعْدَ نُمْرُوذَ. وَعَنْ عَلِيٍّ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا لَيْسَ بِمَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ ضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْمَنِ فَمَاتَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْسَرِ فَمَاتَ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَقِيلَ: طَافَ قَرْنَيِ الدُّنْيَا يَعْنِي جَانِبَيْهَا شَرْقَهَا وَغَرْبَهَا. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ أَيْ ضَفِيرَتَانِ.

وَقِيلَ: انْقَرَضَ فِي وَقْتِهِ قَرْنَانِ مِنَ النَّاسِ. وَعَنْ وَهْبٍ لِأَنَّهُ مَلَكَ الرُّومَ وَفَارِسَ وَرُوِيَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَعَنْهُ كَانَتْ صَفِيحَتَا رَأْسِهِ مِنْ نُحَاسٍ. وَقِيلَ: كَانَ لِتَاجِهِ قَرْنَانِ. وَقِيلَ: كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مَا يُشْبِهُ الْقَرْنَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ كَمَا يُسَمَّى الشُّجَاعُ كَبْشًا كَأَنَّهُ يَنْطَحُ أَقْرَانَهُ، وَكَانَ مِنَ الرُّومِ وَلَدٌ عَجُوزٌ لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ انْتَهَى. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي تَسْمِيَتِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ. وَقَالَ أبو الريحان البيروتي الْمُنَجِّمُ صَاحِبُ كِتَابِ الْآثَارِ الْبَاقِيَةِ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ: هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سُمَيِّ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ إِفْرِيقِسَ الْحِمْيَرِيُّ، بَلَغَ مُلْكُهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَهُوَ الَّذِي افْتَخَرَ بِهِ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ مِنْ حِمْيَرَ حَيْثُ قَالَ: قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِيَ مُسْلِمًا ... مَلِكًا عَلَا فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُبَعَّدِ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ مُلْكٍ مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدِ قَالَ أَبُو الرَّيْحَانِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبَ لِأَنَّ الْأَذْوَاءَ كَانُوا مِنَ الْيَمَنِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا تَخْلُو أَسْمَاؤُهُمْ مِنْ ذِي كَذِي الْمَنَارِ، وَذِي يَوَاسَ انْتَهَى. وَالشِّعْرُ الَّذِي أَنْشَدَهُ نُسِبَ أَيْضًا إِلَى تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيِّ وَهُوَ: قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ جَدِّي مُسْلِمًا وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ. وَعَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَيَّاشٌ. وَعَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ هُوَ الصَّعْبُ بْنُ جَابِرِ بْنِ الْقَلَمَّسِ. وَقِيلَ: مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْزَبَةَ الْيُونَانِيُّ مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ. وَعَنْ عَلِيٍّ هُوَ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَ بَعْدَ ثَمُودٍ وَكَانَ عُمْرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وَسِتَّمِائَةٍ. وَعَنْ وَهْبٍ: كَانَ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ. وَالْخِطَابُ فِي عَلَيْكُمْ لِلسَّائِلِينَ إِمَّا الْيَهُودُ وَإِمَّا قُرَيْشٌ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ فِي السَّائِلِينَ. وَقَوْلُهُ ذِكْراً يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ قُرْآنًا وَأَنْ يُرِيدَ حَدِيثًا وَخَيْرًا، وَالتَّمْكِينُ الَّذِي لَهُ فِي الْأَرْضِ كَوْنُهُ مَلَكَ الدُّنْيَا وَدَانَتْ لَهُ الْمُلُوكُ كُلُّهَا. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ بَلَغَ مُلْكُهُ إِلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ وَإِلَى أَقْصَى الْمَشْرِقِ وَإِلَى أَقْصَى الشَّمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَوْمٌ مِنَ التُّرْكِ يَسْكُنُونَ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ، وَهَذَا الَّذِي بَلَغَهُ مُلْكُ هَذَا الرَّجُلِ هُوَ نِهَايَةُ الْمَعْمُورِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَلِكِ الْبَسِيطِ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ

يَبْقَى ذِكْرُهُ مُخَلَّدًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَفِيًا، وَالْمَلِكُ الَّذِي اسْمُهُ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ أَنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَيْسَ إِلَّا الْإِسْكَنْدَرَ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ جَمَعَ مُلْكَ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعَ طَوَائِفَ ثُمَّ قَصَدَ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَقَهَرَهُمْ وَأَمْعَنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ وَبَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَسَمَّاهَا بِاسْمِ نَفْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ وَقَصَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَرَدَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَذَبَّحَ فِي مَذْبَحِهِ ثُمَّ عَطَفَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ وَدَانَ لَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ، ثُمَّ نَحْوِ دَارِ ابْنِ دَارَا وَهَزَمَهُ مَرَّاتٍ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ صَاحِبُ حَرْبِهِ، وَاسْتَوْلَى الْإِسْكَنْدَرُ عَلَى مَمَالِكِ الْفُرْسِ وَقَصَدَ الْهِنْدَ وَالصِّينَ وَغَزَا الْأُمَمَ الْبَعِيدَةَ وَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ وَبَنَى الْمُدُنَ الْكَثِيرَةَ وَرَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ وَمَرِضَ بشهر زور وَمَاتَ بِهَا. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الَّذِينَ مَلَكُوا الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ مُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَثَبَتَ فِي عِلْمِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مَا كَانَ إِلَّا الْإِسْكَنْدَرَ فَوَجَبَ الْقَطْعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فَيْلَفُوسَ الْيُونَانِيُّ. وَقِيلَ تَمْكِينُهُ فِي الْأَرْضِ بِالنُّبُوَّةِ وَإِجْرَاءِ الْمُعْجِزَاتِ. وَقِيلَ: تَمْكِينُهُ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ وَحَمَلَهُ عَلَيْهَا وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ فَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءً. وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَجُنُودِهِ وَالْهَيْبَةِ وَالْوَقَارِ وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي أَعْدَائِهِ وَتَسْهِيلِ السَّيْرِ عَلَيْهِ وَتَعْرِيفِهِ فِجَاجَ الْأَرْضِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى بَرِّهَا وَبَحْرِهَا. وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْوُصُولِ إِلَى أَغْرَاضِهِ سَبَباً أَيْ طَرِيقًا مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَالسَّبَبُ مَا يتوصل به إني الْمَقْصُودِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ آلَةٍ، فَأَرَادَ بُلُوغَ الْمَغْرِبِ فَأَتْبَعَ سَبَباً يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ، وَكَذَلِكَ أَرَادَ الْمَشْرِقَ فَأَتْبَعَ سَبَباً وَأَرَادَ بُلُوغَ السَّدَّيْنِ فَأَتْبَعَ سَبَباً وَأَصْلُ السَّبَبِ الْحَبْلُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَلَاغًا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ فَأَتْبَعَ ثَلَاثَتُهَا بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ وَأَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُجِدِّ الْمُسْرِعِ الْحَثِيثِ الطَّلَبِ، وَبِوَصْلِهَا إِنَّمَا يَتَضَمَّنُ الِاقْتِفَاءَ دُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ بن عبيد الله وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ حَامِيَةٍ بِالْيَاءِ أَيْ حَارَّةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَيَعْقُوبُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ حَمِئَةٍ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَالزُّهْرِيُّ يُلَيِّنُهَا، يُقَالُ حَمِئَتِ الْبِئْرُ تَحْمَأُ حَمَأً فَهِيَ حَمِئَةٌ، وَحَمَأْتُهَا

نَزَعْتُ حَمْأَتَهَا وَأَحْمَأْتُهَا أَبْقَيْتُ فِيهَا الْحَمْأَةَ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْحَامِيَةِ وَالْحَمِئَةِ إِذْ تَكُونُ الْعَيْنُ جَامِعَةً لِلْوَصْفَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَقَدْ تُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَامِيَةٌ مَهْمُوزَةً بِمَعْنَى ذَاتِ حَمْأَةٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ يَعْنِي أَنَّهُ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَفِي التَّوْرَاةِ تَغْرُبُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ. وَقَالَ تُبَّعٌ: فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ مَآبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خِلْبٍ وَثَاطٍ حَرْمَدِ أَيْ فِي عَيْنِ مَاءٍ ذِي طِينٍ وَحُمٍّ أَسْوَدَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا فَقَالَ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ يَا أَبَا ذَرٍّ؟» فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: «إِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَظَاهِرُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي عَيْنٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَغْرُبُ لَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ فِيهَا أَيْ هِيَ آخِرُ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ أَيْ فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ لَا أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ كَمَا نُشَاهِدُهَا فِي الْأَرْضِ الْمَلْسَاءِ كَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعَيْنُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ تَغِيبُ وَرَاءَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ فِي بِمَعْنَى عِنْدَ أَيْ تَغْرُبُ عِنْدَ عَيْنٍ. وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أَيْ عِنْدَ تِلْكَ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَفَرَةٌ لِبَاسُهُمْ جُلُودُ السِّبَاعِ وَطَعَامُهُمْ مَا أَحْرَقَتْهُ الشَّمْسُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَمَا لَفِظَتْهُ الْعَيْنُ مِنَ الْحُوتِ إِذَا غَرَبَتْ. وَقَالَ وَهْبٌ: انْطَلَقَ يَؤُمُّ الْمَغْرِبَ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى بَاسَكَ فَوَجَدَ جَمْعًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَضَرَبَ حَوْلَهُمْ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ حَتَّى جَمَعَهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي النُّورِ وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: هُمْ أَهْلُ حَابُوسَ وَيُقَالُ لَهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ جِرْجِيسَا يَسْكُنُهَا قَوْمٌ مِنْ نَسْلِ ثَمُودَ. بَقِيَّتُهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ قُلْنا أَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ مَلِكٍ. وَقِيلَ: كَلَّمَهُ كِفَاحًا مِنْ غَيْرِ رَسُولٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ نَبِيًّا وَيَبْعُدُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُ إِلْهَامٌ وَإِلْقَاءٌ فِي رَوْعِهِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّخْيِيرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ إِذِ التَّكَالِيفُ وَإِزْهَاقُ النُّفُوسِ لَا تَتَحَقَّقُ بِالْإِلْهَامِ إِلَّا بِالْإِعْلَامِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الْمَعْنَى قُلْنا يَا محمد قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ثُمَّ حُذِفَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَيُخَاطِبَهُ اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي قَالُوا. الْمَحْذُوفَةِ يَعُودُ عَلَى جُنْدِهِ وَعَسْكَرِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ.

وَقَوْلُهُ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بِالْقَتْلِ عَلَى الْكُفْرِ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أَيْ بِالْحَمْلِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهُدَى، إِمَّا أَنْ تَكْفُرَ فَتُعَذَّبَ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ فَتُحْسِنَ فَعُبِّرَ فِي التَّخْيِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: اتِّخَاذُ الْحُسْنِ هُوَ أَسْرُهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُ خُيِّرَ مَعَ كُفْرِهِمْ بَيْنَ قَتْلِهِمْ وَبَيْنَ أَسْرِهِمْ، وَتَفْصِيلُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ وأَمَّا مَنْ آمَنَ يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ وَلَمَّا خَيَّرَهُ تَعَالَى بَيْنَ تَعْذِيبِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ اخْتَارَ الدَّعْوَةَ وَالِاجْتِهَادَ فِي اسْتِمَالَتِهِمْ. فَقَالَ: أَمَّا مَنْ دَعْوَتَهُ فَأَبَى إِلَّا الْبَقَاءَ عَلَى الظُّلْمِ وَهُوَ الْكُفْرُ هُنَا بِلَا خِلَافٍ فَذَلِكَ هُوَ الْمُعَذَّبُ فِي الدَّارَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى. وَأَتَى بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ فِي فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ لِمَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَ إِظْهَارِهِ كُفْرَهُ وَبَيْنَ تَعْذِيبِهِ مِنْ دُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَأَبِّيهِ عَنْهُ، فَهُوَ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْقَتْلِ عَلَى ظُلْمِهِمْ بَلْ يَدْعُوهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ فَإِنْ رَجَعُوا وَإِلَّا فَالْقَتْلُ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَتَى بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي نُعَذِّبُهُ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ فَعَلْنَا. وَقَوْلُهُ إِلى رَبِّهِ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَيْكَ فَتُعَذِّبُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّخْيِيرُ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونُ قَدْ أَعْلَمَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِذَلِكَ أَتْبَاعَهُ ثُمَّ فَصَّلَ مُخَاطِبًا لِأَتْبَاعِهِ لَا لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَمَا أَحْسَنَ مَجِيءُ هَذِهِ الْجُمَلِ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ظُلْمٍ بَدَأَ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ لَهُمْ وَمَحْسُوسٌ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا يَلْحَقُهُ آخِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ تَعْذِيبُ اللَّهِ إِيَّاهُ الْعَذَابَ النُّكُرَ وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْوَاقِعَ هُوَ كَذَا وَلَمَّا ذكر ما يستحقه مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ذَكَرَ جَزَاءَ اللَّهِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحُسْنى أَيِ الْجَنَّةُ لِأَنَّ طَمَعَ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ وَرَجَاءَهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى أَنْ آمَنَ لِأَجْلِ جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِإِحْسَانِهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أَيْ لَا نَقُولُ لَهُ مَا يَتَكَلَّفُهُ مِمَّا هُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِ أَيْ قَوْلًا ذَا يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ كَمَا قَالَ قَوْلًا مَيْسُورًا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحُسْنَى جَزَاءً لَمْ يُنَاسِبْ أَنْ يَذْكُرَ جَزَاءَهُ بِالْفِعْلِ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِ فِعْلًا وَقَوْلًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فَلَهُ جَزاءً بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُجَازًى كَقَوْلِكَ فِي الدَّارِ قَائِمًا زَيْدٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: هَذَا لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَكَلَّمُ بِهِ

مُقَدَّمًا إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ يَجْزِي جَزاءً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ وَالْمُرَادُ بِالْحُسْنَى عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ الْجَنَّةُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ جَزاءً الْحُسْنى بِرَفْعِ جَزاءً مُضَافًا إِلَى الْحُسْنى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ جَزَاءُ الْخِلَالِ الْحَسَنَةِ الَّتِي أَتَاهَا وَعَمِلَهَا أَوْ يُرَادُ بِالْحُسْنَى الْحَسَنَةُ وَالْجَنَّةُ هِيَ الْجَزَاءُ، وَأَضَافَ كَمَا قَالَ دَارَ الآخرة وجَزاءً مُبْتَدَأٌ وَلَهُ خَبَرُهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي إِسْحَاقَ فَلَهُ جَزاءً مَرْفُوعٌ وهو مبتدأ وخبر والْحُسْنى بَدَلٌ مِنْ جَزاءً. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ جَزاءً نُصِبَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ الْحُسْنى بِالْإِضَافَةِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ فَلَهُ الْجَزَاءُ جَزاءً الْحُسْنى وَخَرَّجَهُ الْمَهْدَوِيُّ عَلَى حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يُسْراً بِضَمِّ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أَيْ طَرِيقًا إِلَى مَقْصِدِهِ الَّذِي يُسِّرَ لَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مَطْلِعَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مكة وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا وَهُوَ سَمَاعٌ فِي أَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ، وَقِيَاسُ كَسْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِعُ تَطْلِعُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: هَذِهِ لُغَةٌ مَاتَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، يَعْنِي ذَهَبَ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْعَرَبِ تَطْلِعُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَبَقِيَ مَطْلِعَ بِكَسْرِهَا فِي اسْمِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَالْقَوْمُ هُنَا الزِّنْجُ. وَقَالَ قَتَادَةُ هُمُ الْهُنُودُ وَمَا وَرَاءَهُمْ. وَالسِّتْرُ الْبُنْيَانُ أَوِ الثِّيَابُ أَوِ الشَّجَرُ وَالْجِبَالُ أَقْوَالٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ لَهُمْ يَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: تَنْفُذُ الشَّمْسُ سُقُوفَهُمْ وَثِيَابَهُمْ فَتَصِلُ إِلَى أَجْسَامِهِمْ. فَقِيلَ: إِذَا طَلَعَتْ نَزَلُوا الْمَاءَ حَتَّى يَنْكَسِرَ حَرُّهَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: يَدْخُلُونَ أَسْرَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السُّودَانُ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ عَنْ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْهُمْ، وَفِعْلُهَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ فِيهِمْ وَنَيْلُهَا مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ أَسْرَابٌ لَكَانَ سِتْرًا كَثِيفًا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ: بِالزِّنْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الْأَجْسَادَا ... حَتَّى كسى جُلُودَهَا سَوَادَا وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قُوَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ عِنْدَهُمْ وَاسْتِمْرَارِهَا. كَذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْبُلُوغِ أَيْ كَمَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ بَلَغَ مَطْلَعَهَا. وَقِيلَ أَتْبَعَ سَبَباً كَمَا أَتْبَعَ سَبَباً. وَقِيلَ: كَمَا وَجَدَ أُولَئِكَ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَحَكَمَ فِيهِمْ كَذَلِكَ وَجَدَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَحَكَمَ فِيهِمْ. وَقِيلَ: كَذَلِكَ أَمَرَهُمْ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: تَطْلُعُ طُلُوعُهَا مِثْلُ غُرُوبِهَا. وَقِيلَ:

لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً كَذلِكَ أَيْ مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَجَدَهُمْ فِي مَغْرِبِ الشَّمْسِ كَفَرَةٌ مِثْلُهُمْ، وَحُكْمُهُمْ مِثْلُ حُكْمِهِمْ فِي التَّعْذِيبِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِحْسَانِ لِمَنْ آمَنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذلِكَ أَيْ أَمْرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا وَصَفْنَاهُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ. وَقِيلَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً مِثْلَ ذَلِكَ السِّتْرِ الَّذِي جَعَلْنَا لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ وَالْحُصُونِ وَالْأَبْنِيَةِ وَالْأَكْنَانِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَالثِّيَابِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَذلِكَ مَعْنَاهُ فَعَلَ مَعَهُمْ كَفِعْلِهِ مَعَ الْأَوَّلِينَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ كَذلِكَ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ مَا لَدَى ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذلِكَ اسْتِئْنَافَ قَوْلٍ وَلَا يَكُونُ رَاجِعًا عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى فَتَأَمَّلْهُ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ انتهى. وَإِذَا كَانَ مُسْتَأْنَفًا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ يُتِمُّ بِهِ كَلَامًا. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا. سَبَباً أَيْ طَرِيقًا أَوْ مَسِيرًا مُوَصِّلًا إِلَى الشَّمَالِ فَإِنَّ السَّدَّيْنِ هُنَاكَ. قَالَ وَهْبٌ: السَّدَّانِ جَبَلَانِ مَنِيفَانِ فِي السَّمَاءِ مِنْ وَرَائِهِمَا وَمِنْ أَمَامِهِمَا الْبُلْدَانُ، وَهُمَا بِمُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُمَا جَبَلَانِ مِنْ وَرَاءِ بِلَادِ التُّرْكِ. وَقِيلَ: هُمَا جَبَلَانِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ لَيِّنَانِ أَمْلَسَانِ، يُزْلَقُ عَلَيْهِمَا كُلُّ شَيْءٍ، وَسُمِّيَ الْجَبَلَانِ سَدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَدَّ فِجَاجَ الْأَرْضِ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا فَجْوَةٌ كَانَ يَدْخُلُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَحَفْصٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بَيْنَ السَّدَّيْنِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: بِالضَّمِّ الِاسْمُ وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَا كَانَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمْ يُشَارِكْ فِيهِ أَحَدٌ فَهُوَ بِالضَّمِّ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ فَبِالْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي

إِسْحَاقَ مَا رَأَتْ عَيْنَاكَ فَبِالضَّمِّ، وَمَا لَا يُرَى فَبِالْفَتْحِ. وَانْتَصَبَ بَيْنَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ يبلغ كَمَا ارْتَفَعَ فِي لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» وَانْجَرَّ بِالْإِضَافَةِ فِي هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «2» وبين مِنَ الظُّرُوفِ الْمُتَصَرِّفَةِ مَا لَمْ تُرَكَّبْ مَعَ أُخْرَى مِثْلِهَا، نَحْوُ قَوْلِهِمْ هَمْزَةٌ بَيْنَ بَيْنَ. مِنْ دُونِهِما من دون السدين وقَوْماً يَعْنِي مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمُ التُّرْكُ انْتَهَى. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ جَانٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا الْمَكَانُ فِي مُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَنَفَى مُقَارَنَةَ فِقْهِهِمْ قَوْلًا وَتَضَمَّنَ نَفْيَ فِقْهِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَكَادُونَ يَفْهَمُونَهُ إِلَّا بِجُهْدٍ وَمَشَقَّةٍ كَأَنَّهُ فَهْمٌ مِنْ نَفْيٍ يَكَادُ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُمُ الْفَهْمُ بَعْدَ عُسْرٍ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِهِمْ إِنَّ نَفْيَهَا إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتَهَا نَفْيٌ، وَلَيْسَ بِالْمُخْتَارِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَخَلَفٌ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَفْقَهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ يُفْهِمُونَ السَّامِعَ كَلَامَهُمْ، وَلَا يُبَيِّنُونَهُ لِأَنَّ لُغَتَهُمْ غَرِيبَةٌ مَجْهُولَةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ شَكَوْا مَا يَلْقَوْنَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِذْ رَجَوْا عِنْدَهُ مَا يَنْفَعُهُمْ لِكَوْنِهِ مَلَكَ الْأَرْضَ وَدَوَّخَ الْمُلُوكَ وَبَلَغَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ يَبْلُغْ أَرْضَهُمْ ملك قبله، ويَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبِيلَتَانِ. وَقِيلَ: هُمَا مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ: يَأْجُوجَ مِنَ التُّرْكِ وَمَأْجُوجَ مِنَ الْجِيلِ وَالدَّيْلَمِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: التُّرْكُ شر ذمة مِنْهُمْ خَرَجَتْ تُغِيرُ، فَجَاءَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَضَرَبَ السَّدَّ فَبَقِيَتْ فِي هَذَا الْجَانِبِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: بُنِيَ السد على أحد وَعِشْرِينَ قَبِيلَةً، وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ قَبِيلَةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ السَّدِّ فَهُمُ التُّرْكُ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَهُمَا مَمْنُوعَا الصَّرْفِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا أَعْجَمِيَّانِ فَلِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا عَرَبِيَّانِ فَلِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ لِأَنَّهُمَا اسْمَا قَبِيلَتَيْنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنْ جَعَلْنَا أَلِفَهُمَا أَصْلِيَّةً فَيَأْجُوجُ يَفْعُولُ وَمَأْجُوجُ مَفْعُولُ، كَأَنَّهُ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهُمَا جَعَلَهَا زَائِدَةً فَيَأْجُوجُ مِنْ يَجَجَتْ، وَمَأْجُوجُ مِنْ مَجَجَتْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ فِي غَيْرِ الْهَمْزِ مَأْجُوجُ فَاعُولُ مِنَ الْمَجِّ، وَيَأْجُوجُ فَاعُولُ مِنْ يَجَّ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّخَاوِيُّ أَحَدُ شُيُوخِنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ، وَتَرْكُ الْهَمْزِ عَلَى التَّخْفِيفِ وَهُوَ إِمَّا مِنَ الْأَجَّةِ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 94. (2) سورة الكهف: 18/ 78.

فِي بَعْضٍ «1» أَوْ مِنَ الْأَجِّ وَهُوَ سُرْعَةُ الْعَدْوِ، قَالَ تَعَالَى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «2» وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَؤُجُّ كَمَا أَجَّ الظَّلِيمُ الْمُنَفِّرُ أَوْ مِنَ الْأَجَّةِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ، أَوْ مِنْ أَجَّ الْمَاءُ يَئِجُّ أُجُوجًا إِذَا كَانَ مِلْحًا مُرًّا انْتَهَى. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ بِالْهَمْزِ وَفِي يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَكَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ وَفِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. قِيلَ: وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا اللُّغَةُ الغربية الْمَحْكِيَّةُ عَنِ الْعَجَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَهْمِزُ الْعَأْلَمَ وَالْخَأْتَمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِأَلِفٍ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ وَهِيَ لُغَةُ كُلِّ الْعَرَبِ غَيْرَ بَنِي أَسَدٍ. وَقَرَأَ الْعَجَّاجُ وَرُؤْبَةُ ابْنُهُ: آجُوجُ بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْيَاءِ. وَإِفْسَادُهُمُ الظَّاهِرُ تَحَقُّقُ الْإِفْسَادِ مِنْهُمْ لَا تَوَقُّعُهُ لأنها شكت من ضررنا لها. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِفْسَادُهُمْ أَكْلُ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: هُوَ الظُّلْمُ وَالْقَتْلُ وَوُجُوهُ الْإِفْسَادِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَخْرُجُونَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ فَلَا يَتْرُكُونَ شَيْئًا أَخْضَرَ إِلَّا أَكَلُوهُ، وَلَا يَابِسًا إِلَّا احْتَمَلُوهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَلْفِ ذَكَرٍ مِنْ صُلْبِهِ كُلٌّ قَدْ حَمَلَ السِّلَاحَ. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً اسْتِدْعَاءٌ مِنْهُمْ قَبُولَ مَا يَبْذُلُونَهُ مِمَّا يُعِينُهُ عَلَى مَا طَلَبُوا عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ إِذْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ كَقَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ «3» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وخلف وابن سعدان وابن عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَمِنَ السَّبْعَةِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَرَاجًا بِأَلِفٍ هُنَا، وَفِي حَرْفَيْ قَدْ أَفْلَحَ وَسَكَّنَ ابْنُ عَامِرٍ الرَّاءَ فِيهَا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ خَرْجاً فِيهِمَا بِسُكُونِ الرَّاءِ فَخَرَاجٌ بِالْأَلِفِ وَالْخَرْجُ وَالْخَرَاجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالنَّوْلِ وَالنَّوَالِ، وَالْمَعْنَى جُعْلًا نُخْرِجُهُ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَكُلُّ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ ضَرِيبَةٍ وَجِزْيَةٍ وَغَلَّةٍ فَهُوَ خَرَاجٌ وَخَرْجٌ. وَقِيلَ: الْخَرْجُ الْمَصْدَرُ أُطْلِقَ عَلَى الْخَرَاجِ، وَالْخَرَاجُ الِاسْمُ لِمَا يُخْرَجُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الخرج على الرؤوس يُقَالُ: أَدِّ خَرْجَ رَأْسِكَ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْخَرْجُ أَخَصُّ وَالْخَرَاجُ أَعَمُّ. وَقِيلَ: الْخَرْجُ الْمَالُ يُخْرَجُ مَرَّةً وَالْخَرَاجُ الْمُجْبَى الْمُتَكَرِّرُ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ أَمْوَالًا يُقِيمُ بِهَا أَمْرَ السَّدِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَرَاجًا أَجْرًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ سَدًّا بِضَمِّ السِّينِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَبَاقِي السبعة بفتحها

_ (1) سورة الكهف: 18/ 99. (2) سورة الأنبياء: 21/ 96. (3) سورة الكهف: 88/ 66.

قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أَيْ مَا بَسَطَ اللَّهُ لِي مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ خَيْرٌ مِنْ خَرْجِكُمْ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَيْ بِمَا أَتَقَوَّى بِهِ مِنْ فَعَلَةٍ وَصُنَّاعٍ يُحْسِنُونَ الْعَمَلَ وَالْبِنَاءَ قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَبِالْآلَاتِ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ رَدْماً حَاجِزًا حَصِينًا مُوَثَّقًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدٌ: مَا مَكَّنَنِي بِنُونَيْنِ مُتَحَرِّكَتَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِدْغَامِ نُونِ مَكَّنَ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. ثُمَّ فُسِّرَ الْإِعَانَةُ بِالْقُوَّةِ فَقَالَ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أَيْ أَعْطُونِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْعَاءُ مُنَاوَلَةٍ لَا اسْتِدْعَاءُ عَطِيَّةٍ وَهِبَةٍ لِأَنَّهُ قَدِ ارْتَبَطَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمُ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اسْتِدْعَاءُ الْمُنَاوَلَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتُونِي. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ ائْتُونِي أَيْ جِيئُونِي. وَانْتَصَبَ زُبَرَ بائتوني عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ جِيئُونِي بِزُبَرِ الْحَدِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زُبَرَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْحَسَنُ بِضَمِّهَا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَتَوْهُ أَوْ فَآتَوْهُ بِهَا فَأَمَرَ بِرَصِّ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ حَتَّى إِذا سَاوَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَاوَى وَقَتَادَةُ سَوَّى، وَابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ سُووِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَحُكِيَ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ قَاسَ مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ مِنْ حَفْرِ الْأَسَاسِ حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ ثُمَّ جَعَلَ حَشْوَهُ الصَّخْرَ وَطِينَهُ النحاس مذاب، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ وَالْبُنْيَانُ مِنْ زُبَرِ الْحَدِيدِ بَيْنَهُمَا الْحَطَبُ وَالْفَحْمُ حَتَّى سَدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى أَعْلَاهُمَا، ثُمَّ وَضَعَ الْمَنَافِخَ حَتَّى إِذَا صَارَتْ كَالنَّارِ صَبَّ النُّحَاسَ الْمُذَابَ عَلَى الْحَدِيدِ الْمُحْمَى فَاخْتَلَطَ وَالْتَصَقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَصَارَ جَبَلًا صَلْدًا. وَقِيلَ: طُولُ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ مِائَةُ فَرْسَخٍ وَعَرْضُهُ خَمْسُونَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَقَالَ: «كَيْفَ رَأَيْتَهُ» ؟ فَقَالَ: كَالْبَرْدِ الْمُحَبَّرِ طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، قَالَ: «قَدْ رَأَيْتَهُ» . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الصَّدَفَيْنِ بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ الدَّالَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ بِفَتْحِهِمَا، وَابْنُ جُنْدُبٍ بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ، وَرُوِيَتْ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَرَأَ الْمَاجُشُونُ بِالْفَتْحِ وَضَمِّ الدَّالِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الدَّالِ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَنَفَخُوا حَتَّى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَالَ آتُونِي أَيْ أَعْطُونِي. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ قَالَ: ائْتُونِي أي جيئوني وقِطْراً مَنْصُوبٌ بِأُفْرِغَ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي، وَمَفْعُولُ آتُونِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.

فَمَا اسْطاعُوا أَيْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَنْ يَظْهَرُوهُ أَيْ يَصِلُوا عَلَيْهِ لِبُعْدِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَامِّلَاسِهِ، وَلَا أَنْ يَنْقُبُوهُ لِصَلَابَتِهِ وَثَخَانَتِهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى مُجَاوَزَتِهِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ: إِمَّا ارْتِقَاءٍ وَإِمَّا نَقْبٍ وَقَدْ سَلَبَ قُدْرَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَمَا اسْطاعُوا بِحَذْفِ التَّاءِ تَخْفِيفًا لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَطَلْحَةُ بِإِدْغَامِهَا فِي الطَّاءِ وَهُوَ إِدْغَامٌ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ هِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ: فَمَا اصْطَاعُوا بِالْإِبْدَالِ مِنَ السِّينِ صَادًا لِأَجْلِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَمَا اسْتَطَاعُوا بِالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ. قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الرَّدْمِ وَالْقُوَّةِ عَلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى السَّدِّ أَيْ هَذَا السَّدُّ نِعْمَةٌ مِنَ الله ورَحْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ هَذَا الْإِقْدَارُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ تَسْوِيَتِهِ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَلَمَّا أَكْمَلَ بِنَاءَ السَّدِّ وَاسْتَوَى وَاسْتَحْكَمَ قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ هَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي بِتَأْنِيثِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْوَعْدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتُ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِذَا دَنَا مَجِيءُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشَارَفَ أَنْ يَأْتِيَ جَعَلَ السَّدَّ دَكًّا أَيْ مَدْكُوكًا مُنْبَسِطًا مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا انْبَسَطَ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ فَقَدِ انْدَكَّ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: دَكَّاءَ بِالْمَدِّ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ دَكًّا مُنَوَّنَةً مَصْدَرُ دَكَكْتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَعَلَهُ بِمَعْنَى صَيَّرَهُ فدك مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَيُنْصَبُ فدكا عَلَى الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ السَّدَّ إِذْ ذَاكَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ وَلَا يُخْلَقُ الْمَخْلُوقُ لَكِنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ بَعْضِ هَيْئَاتِهِ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى، وَوَعْدٌ بِمَعْنَى مَوْعُودٍ لَا مَصْدَرٍ. وَالْمَعْنَى فَإِذا جاءَ مَوْعُودُ رَبِّي لَا يُرِيدُ الْمَصْدَرَ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ سَبَقَ وتَرَكْنا هَذَا الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرُ فِي بَعْضَهُمْ عَائِدٌ عَلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَالْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ بَعْدُ إِذِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا التَّنْوِينُ مُقَدَّرَةٌ بِإِذْ جَاءَ الْوَعْدُ وَهُوَ خُرُوجُهُمْ وَانْتِشَارُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ مُقَدَّرَةٌ بِإِذْ حَجَزَ السَّدُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يُفْسِدُونَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ مُتَعَجِّبُونَ مِنَ السَّدِّ فَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي بَعْضَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْخَلْقِ أَيْ يَوْمَ إِذْ جَاءَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْجَمْعِ وَعَرْضِ جَهَنَّمَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّفْخِ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الأنعام. وجَمْعاً

مَصْدَرٌ كَمَوْعِدٍ وَعَرَضْنا أَيْ أَبْرَزْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ إِذْ جَمَعْنَاهُمْ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ: فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَقْلُوبٌ. وَالتَّقْدِيرُ وَعَرَضْنَا الْكَافِرِينَ عَلَى جَهَنَّمَ عَرْضاً وَتَخْصِيصُهُ بِالْكَافِرِينَ بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. والَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ صِفَةُ ذَمٍّ فِي غِطاءٍ اسْتَعَارَ الْغِطَاءَ لِأَعْيُنِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ آيَاتِي الَّتِي يُنْظَرُ إِلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ بِهَا، وَاذْكُرْ بِالتَّعْظِيمِ وَهَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ عن آيَاتِ ذِكْرِي. وَقِيلَ عَنْ ذِكْرِي عَنِ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَعْيُنِ هُنَا الْبَصَائِرَ لَا الْجَوَارِحَ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ لَا نِسْبَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً مُبَالَغَةً فِي انْتِفَاءِ السَّمْعِ إِذْ نُفِيَتِ الِاسْتِطَاعَةُ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا صُمًّا لِأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطِيعُ السَّمْعَ إِذَا صِيحَ بِهِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ أُصِمَّتْ أَسْمَاعُهُمْ فَلَا اسْتِطَاعَةَ بِهِمْ لِلسَّمْعِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ مَنْ عَبَدَ الملائكة وعزيزا وَالْمَسِيحَ وَاتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ وَلَايَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ شَيْءٌ، وَلَا يَجِدُونَ عِنْدَهُمْ مُنْتَفَعًا وَيَظْهَرُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ فَيُجْدِي ذَلِكَ وَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ الِاتِّخَاذِ. وَقِيلَ: الْعِبَادُ هُنَا الشَّيَاطِينُ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْأَصْنَامُ لِأَنَّهَا خَلْقُهُ وَمِلْكُهُ، وَالْأَظْهَرُ تَفْسِيرُ الْعِبَادِ بِمَا قُلْنَاهُ لِإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَحَسِبَ هُنَا بِمَعْنَى ظَنَّ وَبِهِ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ أَفَظَنَّ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وزيد بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو حَيْوَةَ والشافعي ومسعود بن صاح أَفَحَسِبَ بِإِسْكَانِ السِّينِ وَضَمِّ الْبَاءِ مُضَافًا إِلَى الَّذِينَ أَيْ أَفَكَافِيهِمْ وَمَحْسِبُهُمْ وَمُنْتَهَى عَرَضِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا حَسِبُوا. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ قَالَ سَهْلٌ: يَعْنِي أَبَا حَاتِمٍ مَعْنَاهُ: أَفَحَسْبُهُمْ وَحَظُّهُمْ إِلَّا أَنَّ أَفَحَسِبَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ غَايَةَ مُرَادِهِمُ انْتَهَى. وَارْتَفَعَ حَسْبُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ أَنْ يَتَّخِذُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى الْهَمْزَةِ سَاوَى الْفِعْلَ فِي الْعَمَلِ كَقَوْلِكَ: أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُحْكَمَةٌ جَيِّدَةٌ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْإِعْرَابَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَسْبًا لَيْسَ بَاسِمِ فَاعِلٍ فَتَعْمَلَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ شَيْءٍ

بِشَيْءٍ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَشْيَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأَسْمَاءِ وَأَنَّ الْوَجْهَ فِيهَا الرَّفْعُ. ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ خَيْرٌ مِنْهُ أَبَوْهُ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ عَلَيْهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَبٌ لَهُ صَاحِبُهُ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسْبِكَ مِنْ رَجُلٍ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَيُّمَا رَجُلٍ هُوَ انْتَهَى. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ بِهِ الظَّاهِرُ فَقَدْ أَجَازُوا فِي مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَبِي عَشَرَةٍ أَبُوهُ ارْتِفَاعُ أَبُوهُ بِأَبِي عَشَرَةٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى وَالِدِ عَشَرَةٍ. إِنَّا أَعْتَدْنا أَيْ أَعْدَدْنَا وَيَسَّرْنَا وَالنُّزُلُ مَوْضِعُ النُّزُولِ وَالنُّزُلُ أَيْضًا مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ وَيُهَيَّأُ لَهُ وَلِلْقَادِمِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالنُّزُلُ هُنَا يَحْتَمِلُ التَّفْسِيرَيْنِ وَكَوْنُهُ مَوْضِعَ النُّزُولِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ هنا، وما هيىء مِنَ الطَّعَامِ لِلنَّزِيلِ قَوْلُ الْقُتَبِيِّ. وَقِيلَ: جَمْعُ نَازِلٍ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ نَحْوُ شَارِفٍ وَشَرَفٍ، فَإِنْ كَانَ مَا تُقَدِّمُ لِلضَّيْفِ وَلِلْقَادِمِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ نُزُلًا بِسُكُونِ الزَّايِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً. أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِينَ هَلْ نُخْبِرُكُمُ الْآيَةَ فَإِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ فَقُلْ لَهُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا عَنْ عَلِيٍّ هُمُ الرُّهْبَانُ كَقَوْلِهِ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «2» . وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُمُ الصَّابِئُونَ. وَسَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا عَنْهُمْ فَقَالَ: مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ عَلَى الْحَصْرِ إِذِ الْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا هُمْ كُلُّ مَنْ دَانَ بِدِينٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، أَوْ رَاءَى بِعَمَلِهِ، أَوْ أقام على بدعة تؤول بِهِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْأَخْسَرُ مَنْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فَأَدَّى تَعَبُهُ بِهِ إِلَى النَّارِ. وَانْتَصَبَ أَعْمالًا عَلَى التَّمْيِيزِ وَجُمِعَ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ فِي الضَّلَالِ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسُوا مُشْتَرِكِينَ في عمل واحد والَّذِينَ يَصِحُّ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ وَخَبَرُهُ عَلَى الْوَصْفِ أَوِ الْبَدَلِ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أَيْ هَلَكَ وَبَطَلَ وذهب ويَحْسَبُونَ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 21 وغيرها. (2) سورة الغاشية: 88/ 3.

ويُحْسِنُونَ مِنْ تَجْنِيسِ التَّصْحِيفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّقْطُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي عُبَادَةَ الْبُحْتُرِيِّ: وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى ... لِيُعْجِزَ وَالْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طَالِبُهْ وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا النوع من التجنيس. قول الشَّاعِرُ: سَقَيْنَنِي رَبِّي وَغَنَيْنَنِي ... بُحْتُ بِحُبِّي حِينَ بِنَّ الْخُرَّدُ صُحِّفَ بِقَوْلِهِ سَقَيْتَنِي رَبِّي وَغَنَيْتَنِي بِحُبِّ يَحْيَى بْنِ الْجُرَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو السَّمَّالِ فَحَبِطَتْ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا نُقِيمُ بِالنُّونِ وَزْناً بِالنَّصْبِ وَمُجَاهِدٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ فَلَا يُقِيمُ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَنْ عُبَيْدٍ أَيْضًا يَقُومُ بِفَتْحِ الْيَاءِ كَأَنَّهُ جَعَلَ قَامَ مُتَعَدِّيًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبَ بِخِلَافٍ عَنْهُمْ: فَلَا يَقُومُ مُضَارِعُ قَامَ وَزْنٌ مَرْفُوعٌ بِهِ. وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ فَلا نُقِيمُ إِلَّا بِهِ أَنَّهُمْ لَا حَسَنَةَ لَهُمْ تُوزَنُ فِي مَوَازِينِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ الْمَجَازَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا قَدْرَ لَهُمْ عِنْدَنَا يَوْمَئِذٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «يُؤْتَى بِالْأَكُولِ الشَّرُوبِ الطَّوِيلِ فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» ثُمَّ قَرَأَ فَلا نُقِيمُ الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «يَأْتِي نَاسٌ بِأَعْمَالٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هِيَ عِنْدَهُمْ فِي الْعِظَمِ كَجِبَالِ تِهَامَةَ فَإِذَا وَزَنُوهَا لَمْ تَزِنْ شَيْئًا» . ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وجَهَنَّمُ بدل وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ إِقَامَةِ الْوَزْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا إِلَى الْجَمْعِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى أُولَئِكَ وَيَكُونُ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: ذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ مُبْتَدَأً وجَزاؤُهُمْ مبتدأ ثان وجَهَنَّمُ خَبَرُهُ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ جَزَاؤُهُ انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ هَذَا التَّوْجِيهُ إِلَى نَظَرٍ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ مُبْتَدَأً وجَزاؤُهُمْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وجَهَنَّمُ الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَهَنَّمُ بَدَلًا مِنْ جَزَاءٍ أَوْ خَبَرٌ لِابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، أي هو جهنم وبِما كَفَرُوا خَبَرُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بجزاؤهم للفصل بينهما واتَّخَذُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَفَرُوا وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا انْتَهَى. وَالْآيَاتُ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّحُفُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ ذكر ما أعد للمؤمنين وَفِي الصَّحِيحِ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا. وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ الْفِرْدَوْسِ أَعْلَاهَا يعني أعلا الْجَنَّةِ. قَالَ قَتَادَةُ وَرَبْوَتُهَا وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَبَلٌ تَتَفَجَّرُ مِنْهُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْفِرْدَوْسِ سُرَّةُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْفِرْدَوْسِ الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالضَّحَّاكُ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْنَابُ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ إِنَّهُ جَنَّاتُ الْكُرُومِ وَالْأَعْنَابِ خَاصَّةً مِنَ الثِّمَارِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفِرْدَوْسِ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْعِنَبُ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّهُ الأدوية الَّتِي تُنْبِتُ ضُرُوبًا مِنَ النبت، وَهَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ أَعْجَمِيٌّ قَوْلَانِ؟ وَإِذَا قُلْنَا أَعْجَمِيٌّ فَهَلْ هُوَ فَارِسِيٌّ أَوْ رُومِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ؟ أَقْوَالٌ. وَقَالَ حَسَّانُ: وَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ ... جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ فِيهَا يُخَلَّدُ قِيلَ: وَلَمْ يُسْمَعْ بِالْفِرْدَوْسِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا فِي هَذَا الْبَيْتِ بَيْتِ حَسَّانَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَقَدْ قَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً ... فيها الفردوس ثُمَّ الْفُومُ وَالْبَصَلُ الْفَرَادِيسُ جَمْعُ فِرْدَوْسٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ بَسَاتِينُ حَوْلَ الْفِرْدَوْسِ وَلِذَلِكَ أَضَافَ الْجَنَّاتِ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ: كَرْمٌ مُفَرْدَسٌ أَيْ مُعَرَّشٌ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتِ الرَّوْضَةُ الَّتِي دُونَ الْيَمَامَةِ فِرْدَوْسًا لِاجْتِمَاعِ نَخْلِهَا وَتَعْرِيشِهَا عَلَى أَرْضِهَا. وَفِي دِمَشْقَ بَابُ الْفَرَادِيسِ يُخْرَجُ منه إلى البساتين. ونُزُلًا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ نُزُلًا الْمُتَقَدِّمُ. وَمَعْنَى حِوَلًا أَيْ مُحَوَّلًا إِلَى غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ عِيسَى: هُوَ مَصْدَرٌ كَالْعِوَجِ وَالصِّغَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ حَالَ عَنْ مَكَانِهِ حِوَلًا كَقَوْلِهِ: عَادَنِي حُبُّهَا عِوَدًا يَعْنِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا حَتَّى تُنَازِعَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى أَجْمَعَ لِأَغْرَاضِهِمْ وَأَمَانِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةُ

الْوَصْفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا فِي أَيِّ نَعِيمٍ كَانَ فَهُوَ طَامِحُ الطَّرْفِ إِلَى أَرْفَعَ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ التَّحَوُّلِ وَتَأْكِيدُ الْخُلُودِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحِوَلُ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ. قَالَ مُجَاهِدٌ مُتَحَوَّلًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: لِكُلِّ دَوْلَةٍ أَجَلْ ... ثُمَّ يُتَاحُ لَهَا حِوَلْ وَكَأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ وَكَانَ وَاحِدُهُ حِوَالَةُ وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ عَنْ قَوْمٍ: هِيَ بِمَعْنَى الْحِيلَةِ فِي التَّنَقُّلِ وَهَذَا ضَعِيفٌ مُتَكَلَّفٌ. قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ. قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيُّ الْأُمَمِ كُلِّهَا وَمَبْعُوثٌ إِلَيْهَا، وَأَنَّكَ أُعْطِيتَ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ وَأَنْتَ مُقَصِّرٌ قَدْ سُئِلْتَ عَنِ الرُّوحِ فَلَمْ تُجِبْ فِيهِ؟ فَنَزَلَتْ مُعْلِمَةً بِاتِّسَاعِ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَأَنَّ الْوُقُوفَ دُونَهَا لَيْسَ بِبِدْعٍ وَلَا نُكْرٍ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِتَمْثِيلِ مَا يَسْتَكْثِرُونَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ. وَقِيلَ قَالَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي كِتَابِكُمْ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «1» ثُمَّ تَقْرَءُونَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» فَنَزَلَتْ يَعْنِي إِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِ كَلِمَاتِ اللَّهِ قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أَيْ مَاءُ الْبَحْرِ مِداداً وَهُوَ مَا يُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ مِنَ الْحِبْرِ، وَمَا يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ مِنَ السَّلِيطِ. وَيُقَالُ: السَّمَاءُ مِدَادُ الْأَرْضِ لِكَلِماتِ رَبِّي أَيْ مَعَدُّ الْكُتُبِ كَلِمَاتُ رَبِّي وَهُوَ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ الْمِدَادِ لَنَفِدَ الْبَحْرُ أَيْ فَنِيَ مَاؤُهُ الَّذِي هُوَ الْمِدَادُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الْكَلِمَاتُ لِأَنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ نَفَادُهَا لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاهَى وَالْبَحْرُ يَنْفَدُ لِأَنَّهُ مُتَنَاهٍ ضَرُورَةً، وَلَيْسَ بِبِدْعٍ أَنْ أَجْهَلَ شَيْئًا مِنْ مَعْلُومَاتِهِ وإِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لَمْ أَعْلَمْ إِلَّا مَا أُوحِيَ إِلَيَّ بِهِ وَأُعْلِمْتُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْمَشُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ وَالْحَسَنُ وَالْمِنْقَرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَدَدا لِكَلِمَاتِ رَبِّي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْفَدَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَنْ تَنْفَدَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى تَفَعَّلَ عَلَى الْمُضِيِّ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو فَهُوَ مُطَاوِعٌ مِنْ نَفَّدَ مُشَدَّدًا نَحْوَ كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ. وَفِي قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مُطَاوِعٌ لَأَنْفَدَ وجواب لو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 269. (2) سورة الإسراء: 17/ 85.

مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ لَنَفِدَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمِثْلِهِ مَدَدًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالدَّالِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْأَعْرَجُ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَانْتَصَبَ مَدَداً عَلَى التَّمْيِيزِ عَنْ مِثْلِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْهَوَى يَكْفِيكَهُ مِثْلُهُ صَبْرًا وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ وَالتَّيْمِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَحَفْصٌ فِي رِوَايَةٍ بِمِثْلِهِ مِدَادًا بِأَلِفٍ بَيْنِ الدَّالَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى وَلَوْ أَمْدَدْنَاهُ بِمِثْلِهِ إِمْدَادًا ثُمَّ نَابَ الْمَدَدُ مَنَابَ الْإِمْدَادِ مِثْلُ أَنْبَتَكُمْ نَبَاتًا. وَفِي قَوْلِهِ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِعْلَامٌ بِالْبَشَرِيَّةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي ذَلِكَ لَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ يُوحى إِلَيَّ أَيْ عَلَيَّ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَنَدٌ إِلَى وَحْيِ رَبِّي، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ حَضَّ عَلَى ما فيه النجاة ويَرْجُوا بمعنى يطمع ولِقاءَ رَبِّهِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ حُسْنَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وقيل يَرْجُوا أَيْ يَخَافُ سُوءَ لِقاءَ رَبِّهِ أَيْ لِقَاءَ جَزَاءِ رَبِّهِ، وَحَمْلُ الرَّجَاءِ عَلَى بَابِهِ أَجْوَدُ لِبَسْطِ النَّفْسِ إِلَى إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَهَى عَنِ الْإِشْرَاكِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَا يُرَائِي فِي عَمَلِهِ فَلَا يَبْتَغِي إِلَّا وَجْهَ رَبِّهِ خَالِصًا لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيْرَهُ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «لَكَ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا يُشْرِكْ بِيَاءِ الْغَائِبِ كَالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيَعْمَلْ «1» . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الْجُعْفَيِّ عَنْهُ: وَلَا تُشْرِكُ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلسَّامِعِ وَالْتِفَاتًا مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ بِرَبِّهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِرَبِّكَ إِيذَانًا بِأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَنْ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا.

_ (1) سورة الكهف: 18/ 110 وغيرها.

سورة مريم

سورة مريم ترتيبها 19 سورة مريم آياتها 98 [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 33] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

اشتغال النَّارِ تَفَرُّقُهَا فِي الْتِهَابِهَا فَصَارَتْ شُعَلًا. وَقِيلَ: شُعَاعُ النَّارِ. الشَّيْبُ مَعْرُوفٌ، شَابَ شعره ابيضّ بعد ما كَانَ بِلَوْنٍ غَيْرِهِ. الْمَخَاضُ اشْتِدَادُ وَجَعِ الْوِلَادَةِ وَالطَّلْقِ. الْجِذْعُ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرَةُ مِنْهَا وَبَيْنَ مُتَشَعَّبِ الْأَغْصَانِ، وَيُقَالُ للغضن أَيْضًا جِذْعٌ وَجَمْعُهُ أَجْذَاعٌ فِي الْقِلَّةِ، وَجُذُوعٌ فِي الْكَثْرَةِ. السَّرِيُّ الْمُرْتَفِعُ الْقَدْرِ، يُقَالُ سَرُوَ يَسْرُوُ، وَيُجْمَعُ عَلَى سَرَاةٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُرَوَاءَ وَهُمَا شَاذَّانِ فِيهِ، وَقِيَاسُهُ أَفْعِلَاءُ. وَالسَّرِيُّ النَّهْرُ الصَّغِيرُ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْرِي فِيهِ وَلَامُهُ يَاءٌ كَمَا أَنَّ لَامَ ذَلِكَ وَاوٌ. وَقَالَ لَبِيدٌ: فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السرى فصدّعا ... مسجورة متحاورا قُلَّامُهَا أَيْ جَدْوَلًا. الْهَزُّ التَّحْرِيكُ. الرُّطَبُ مَعْرُوفٌ وَاحِدُهُ رُطْبَةٌ، وَجُمِعَ شَاذًّا عَلَى أَرْطَابٍ كَرُبْعٍ وَأَرْبَاعٍ وَهُوَ مَا قُطِعَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ وَيَيْبَسَ. الْجَنِيُّ مَا طَابَ وَصَلُحَ لِلِاجْتِنَاءِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لَمْ يَجِفَّ وَلَمْ يَيْبَسْ. وَقِيلَ: الْجَنِيُّ مَا تَرَطَّبَ مِنَ الْبُسْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:

الْجَنِيُّ وَالْمَجْنِيُّ وَاحِدٌ، وَعَنْهُ الْجَنِيُّ الْمَقْطُوعُ. قُرَّةُ الْعَيْنِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرِّ، يُقَالُ: دمع الفرح اللَّمْسِ وَدَمْعُ الْحُزْنِ سُخْنُ اللَّمْسِ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ وقريش يقول: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا، وَقَرَرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرُّ وَأَهْلُ نَجْدٍ قَرِرْتُ بِهِ عَيْنًا بِالْكَسْرِ. الْفَرِيُّ الْعَظِيمُ مِنَ الْأَمْرِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَفِي الشَّرِّ، وَمِنْهُ فِي وَصْفِ عُمَرَ: فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ، وَالْفَرِيُّ الْقَطْعُ وَفِي الْمَثَلِ: جَاءَ يَفْرِي الْفَرِيَّ أَيْ يَعْمَلُ عَظِيمًا مِنَ الْعَمَلِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَرِيُّ الْبَدِيعُ وَهُوَ مِنْ فَرْيِ الْجِلْدِ. الْإِشَارَةُ مَعْرُوفَةٌ تَكُونُ بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالثَّوْبِ وَالرَّأْسِ وَالْفَمِ، وَأَشَارَ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ يُقَالُ: تَشَايَرْنَا الْهِلَالَ لِلْمُفَاعَلَةِ. وَقَالَ كَثِيرٌ: فَقُلْتُ وَفِي الْأَحْشَاءِ دَاءٌ مُخَامِرٌ ... أَلَا حَبَّذَا يَا عِزَّ ذَاكَ التَّشَايُرُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كَالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا آيَةَ السَّجْدَةِ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ مُهَاجَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّنَ السُّورَةَ قَبْلَهَا قَصَصًا عَجَبًا كَقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ قَصَصًا عَجَبًا مِنْ وِلَادَةِ يَحْيَى بَيْنَ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ، وَوِلَادَةِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا فِي هَذَا الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ نَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ تِلْكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ بِمَا يوقف عليه هناك وذِكْرُ خبر مبتدأ محذوف أي هَذَا الْمَتْلُوُّ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ ذِكْرُ. وَقِيلَ ذِكْرُ خَبَرٌ

لِقَوْلِهِ كهيعص وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. قِيلَ: وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُبْتَدَأُ فِي الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ، وَلَا فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مَعْنَاهَا. وَقِيلَ: ذِكْرُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فِيمَا يُتْلَى ذِكْرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَافْ بِإِسْكَانِ الْفَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ضَمُّهَا، وَأَمَالَ نَافِعٌ هَاءً وَيَاءً بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَأَظْهَرَ دَالَ صَادٍ عِنْدَ ذَاكَ. ذِكْرُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَعَنْهُ أَيْضًا ضَمُّ الْيَاءِ وَكَسْرُ الْهَاءِ، وَعَنْ عَاصِمٍ ضَمُّ الْيَاءِ وَعَنْهُ كَسْرُهُمَا وَعَنْ حَمْزَةَ فَتْحُ الْهَاءِ وَكَسْرُ الْيَاءِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: مَعْنَى الضَّمِّ فِي الْهَاءِ وَالْيَاءِ إِشْبَاعُ التَّفْخِيمِ وَلَيْسَ بِالضَّمِّ الْخَالِصِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَلْبَ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِي الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ خَارِجَةُ عَنِ الْحَسَنِ: كَافْ بِضَمِّ الْكَافِ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى الْعَتَكِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ بِالضَّمِّ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مُتَرْجَمٌ عَلَيْهَا بِالضَّمِّ وَلَسْنَ مَضْمُومَاتِ الْمَحَالِّ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَلْبُ مَا بَعْدَهُنَّ مِنَ الْأَلِفَاتِ وَاوَاتٍ بَلْ نُحِّيَتْ هَذِهِ الْأَلِفَاتُ نَحْوَ الْوَاوِ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَلِفَ التَّفْخِيمِ بِضِدِّ الْأَلِفِ الْمُمَالَةِ فَأَشْبَهَتِ الْفَتَحَاتِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ مِنْهُنَّ الضَّمَّاتُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا تَرْجَمُوا عَنِ الْفَتْحَةِ الْمُمَالَةِ الْمُقَرَّبَةِ مِنَ الْكَسْرَةِ بِكَسْرَةٍ لِتَقْرِيبِ الْأَلِفِ بَعْدَهَا مِنَ الْيَاءِ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَقْطِيعِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَخْلِيصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ائْتَلَفَ مِنَ الْحُرُوفِ، فَيَصِيرُ أَجْزَاءَ الْكَلِمِ فَاقْتَضَيْنَ إِسْكَانَ آخِرِهِنَّ، وَأَظْهَرَ الْأَكْثَرُونَ دَالَ صَادٍ عِنْدَ ذَالِ ذِكْرُ وَأَدْغَمَهَا أَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَفِرْقَةٌ بِإِظْهَارِ النُّونِ مِنْ عَيْنٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِخْفَائِهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ ذِكْرُ فعلا ماضيا رَحْمَتِ بِالنَّصْبِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْفَتْحِ وَذَكَرُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أي هذا المتلو من القرآن ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ وَذَكَرَ الدَّانِيُّ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ ذِكْرُ فِعْلُ أمر من التذكير رَحْمَتِ بالنصب وعَبْدَهُ نُصِبَ بِالرَّحْمَةِ أَيْ ذِكْرُ أن رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنَّ ذِكْرُ بِالتَّشْدِيدِ مَاضِيًا عَنِ الْحَسَنِ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَتْلُوَّ أَيِ الْقُرْآنَ ذَكَّرَ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ فَلَمَّا نُزِعَ الْبَاءُ انْتَصَبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَّرَ النَّاسَ تَذْكِيرًا أَنْ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدَهُ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ عَامِلًا فِي عَبْدَهُ زَكَرِيَّا لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِمَا نَسُوهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَتَجَدَّدَ

عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ وَنُزُولِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ عَلَى الْمُضِيِّ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ ذِكْرُ عَلَى الْمُضِيِّ خَفِيفًا مِنَ الذِّكْرِ رَحْمَةِ رَبِّكَ بِنَصْبِ التَّاءِ عَبْدَهُ بِالرَّفْعِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ يَحْيَى بْنُ يعمر وذِكْرُ عَلَى الْأَمْرِ عَنْهُ أَيْضًا انتهى. وإِذْ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ قَالَ الْحَوْفَيُّ: ذِكْرُ وَقَالَ أَبُو البقاء: وإِذْ ظرف لرحمة أو لذكر انْتَهَى. وَوَصْفُ نِدَاءٍ بِالْخَفِيِّ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِئَلَّا يُخَالِطَهُ رِيَاءٌ. مُقَاتِلٌ: لِئَلَّا يُعَابَ بِطَلَبِ الْوَلَدِ فِي الْكِبَرِ. قَتَادَةُ: لِأَنَّ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ عِنْدَهُ تَعَالَى سَوَاءٌ. وَقِيلَ: أَسَرَّهُ مِنْ مَوَالِيهِ الَّذِينَ خَافَهُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَمْرٌ دُنْيَاوِيٌّ فَأَخْفَاهُ لِأَنَّهُ إِنْ أُجِيبَ فَذَاكَ بُغْيَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: لِإِخْلَاصِهِ فِيهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: لِضَعْفِ صَوْتِهِ بِسَبَبِ كِبَرِهِ، كَمَا قِيلَ: الشَّيْخُ صَوْتُهُ خُفَاتٌ وَسَمْعُهُ تَارَاتٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْجَهْرُ بِهِ يُعَدُّ مِنَ الِاعْتِدَاءِ. وَفِي التَّنْزِيلِ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «1» . وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» . قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هَذِهِ كَيْفِيَّةُ دُعَائِهِ وَتَفْسِيرُ نِدَائِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَهَنَ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بكسرها. وقرىء بِضَمِّهَا لُغَاتٌ ثَلَاثٌ، وَمَعْنَاهُ ضَعْفٌ وَأُسْنِدَ الْوَهَنُ إِلَى الْعَظْمِ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ، فَإِذَا وَهَنَ تَدَاعَى مَا وَرَاءَهُ وَتَسَاقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ فَإِذَا وَهَنَ كَانَ مَا وَرَاءَهُ أَوْهَنَ وَوَحَّدَ الْعَظْمُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، وَقَصَدَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ وَالْقِوَامُ، وَأَشَدُّ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُ الْجَسَدُ قَدْ أَصَابَهُ الْوَهَنُ وَلَوْ جُمِعَ لَكَانَ قَصْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَهِنْ مِنْهُ بَعْضُ عِظَامِهِ وَلَكِنْ كُلُّهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اشْتَكَى سُقُوطَ الْأَضْرَاسِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَكَانَ لَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَمَانُونَ. وَقِيلَ: سِتُّونَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ. وَشُبِّهَ الشَّيْبُ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشَّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيَّزًا وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأَسُ زَكَرِيَّاءَ فَمِنْ ثَمَّ فَصَحَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَإِلَى هَذَا نَظَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ. فَقَالَ:

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 55.

وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ ... مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَ شَيْباً مَصْدَرًا قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَابَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَاشْتِعَالُ الرَّأْسِ اسْتِعَارَةُ الْمَحْسُوسِ لِلْمَحْسُوسِ إِذِ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ النَّارُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِانْبِسَاطُ وَالِانْتِشَارُ وَلَمْ أَكُنْ نَفْيٌ فِيمَا مَضَى أَيْ مَا كُنْتُ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا بَلْ كُنْتُ سَعِيدًا مُوَفَّقًا إِذْ كُنْتَ تُجِيبُ دُعَائِي فَأَسْعَدُ بِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا الْكَافُ مَفْعُولٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِدُعائِكَ إِلَى الْإِيمَانِ شَقِيًّا بَلْ كُنْتُ مِمَّنْ أَطَاعَكَ وَعَبَدَكَ مُخْلِصًا. فَالْكَافُ عَلَى هَذَا فَاعِلٌ وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا سَلَفَ إِلَيْهِ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ، أَيْ قَدْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فِيمَا سَلَفَ وَسَعِدْتُ بِدُعَائِي إِيَّاكَ فَالْإِنْعَامُ يَقْتَضِي أَنْ تجيبني آخر كَمَا أَجَبْتَنِي أَوَّلًا. وَرُوِيَ أَنَّ حَاتِمًا الطَّائِيَّ أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ فَقَالَ: أَنَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَقْتَ كَذَا، فَقَالَ حَاتِمٌ: مَرْحَبًا بِالَّذِي تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا وَقَضَى حَاجَتَهُ. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي الْمَوالِيَ بَنُو الْعَمِّ وَالْقَرَابَةِ الَّذِينَ يَلُونَ بِالنَّسَبِ. قَالَ الشَّاعِرِ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا وَقَالَ لَبِيدٌ: وَمَوْلًى قَدْ دَفَعْتُ الضَّيْمَ عَنْهُ ... وَقَدْ أَمْسَى بِمَنْزِلَةِ الْمَضِيمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ الْمَوالِيَ هُنَا الْكَلَالَةُ خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ وَأَنْ يَرِثَهُ الْكَلَالَةُ. وَرَوَى قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَرِثُ مَالَهُ» . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا كَانَ مَوَالِيهِ مُهْمِلِينَ الدِّينَ فَخَافَ بِمَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ إِذْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ» وَالظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصُومٌ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْوَلَدَ لِأَجْلِ مَا يُخْلِفُهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا خَافَ أَنْ تَنْقَطِعَ النُّبُوَّةُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى عُصْبَتِهِ لِأَنَّ تِلْكَ إِنَّمَا يَضَعُهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى اللَّهِ فِيمَنْ شَاءَهُ وَاصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ مَوَالِيهِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ إِخْوَتُهُ وَبَنُو عَمِّهِ شِرَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَافَهُمْ عَلَى الدِّينِ أَنْ يُغَيِّرُوهُ وَأَنْ لَا يُحْسِنُوا الْخِلَافَةَ عَلَى أُمَّتِهِ، فَطَلَبَ عَقِبًا صَالِحًا مِنْ صُلْبِهِ يَقْتَدِي بِهِ فِي إِحْيَاءِ الدِّينِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي وَابْنُ يَعْمُرَ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَوَلَدُهُ مُحَمَّدٌ وَزَيْدٌ وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ لِأَبِي عَامِرٍ خَفَّتِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْفَاءِ مُشَدَّدَةً وَكَسْرِ تَاءِ التَّأْنِيثِ الْمَوالِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى انْقَطَعَ مَوَالِيَّ وَمَاتُوا فَإِنَّمَا أَطْلُبُ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ الْمَوالِيَ بسكون التاء عَلَى قِرَاءَةِ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ يَكُونُ مِنْ وَرائِي أَيْ بَعْدَ مَوْتِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ خِفْتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يتعلق مِنْ وَرائِي بخفت وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَفُّوا قُدَّامَهُ أَيْ دَرَجُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ تَقَوٍّ وَاعْتِضَادٌ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَوَالِي أَيْ قَلُّوا وَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ. ووَرائِي بِمَعْنَى خَلْفِي وَمَنْ بَعْدِي، فَسَأَلَ رَبَّهُ تَقْوِيَتَهُمْ وَمُظَاهَرَتَهُمْ بِوَلِيٍّ يَرْزُقُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ وَرَايَ مَقْصُورًا كَعَصَايَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْعَاقِرِ فِي آلِ عِمْرَانَ وَقَوْلُهُ مِنْ لَدُنْكَ تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا مَرْضِيًّا بِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ وَصَادِرًا مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ أَرَادَ اخْتِرَاعًا مِنْكَ بِلَا سَبَبٍ لِأَنِّي وَامْرَأَتِي لَا نَصْلُحُ لِلْوِلَادَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ يَهَبَهُ وَلِيًّا وَلَمْ يُصَرِّحْ بأن يكون ولد البعد ذَلِكَ عِنْدَهُ لِكِبَرِهِ وَكَوْنِ امْرَأَتِهِ عَاقِرًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ الْوَلَدَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَرِثُنِي وَيَرِثُ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ صِفَةً لِلْوَلِيِّ فَإِنْ كَانَ طَلَبَ الْوَلَدَ فَوَصْفُهُ بِأَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى يَرِثَهُ لِئَلَّا تَكُونَ الْإِجَابَةُ فِي الْوَلَدِ لَكِنْ يُحْرَمُهُ فَلَا يَحْصُلُ مَا قَصَدَهُ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَقَتَادَةُ بِجَزْمِهِمَا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَرْبِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو نَهِيكٍ يَرِثُنِي بِالرَّفْعِ وَالْيَاءِ وَأَرِثُ جَعَلُوهُ فِعْلًا مُضَارِعًا مِنْ وَرِثَ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَفِيهِ تَقْدِيمٌ فَمَعْنَاهُ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يَرِثُنِي إِنْ مِتُّ قَبْلَهُ أَيْ نُبُوَّتِي وَأَرِثُهُ إِنْ مَاتَ قَبْلِي أَيْ مَالَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَحْدَرِيُّ يَرِثُنِي وَأَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ التَّقْدِيرُ يَرِثُنِي مِنْهُ وَأَرِثُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَرِثُ أَيْ يَرِثُنِي بِهِ وَأَرِثُ وَيُسَمَّى التَّجْرِيدُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرْثِ إِرْثُ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرِّثُ الْمَالَ. وَقِيلَ: يَرِثُنِي الْحُبُورَةَ وَكَانَ حَبْرًا وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْمُلْكَ يُقَالُ: وَرِثْتُهُ وَوَرِثْتُ مِنْهُ لُغَتَانِ. وَقِيلَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ آلِ يَعْقُوبَ لَيْسُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ وَلَا عُلَمَاءَ.

وقرأ مجاهد أو يرث مِنْ آلِ يَعْقُوبَ عَلَى التصغير، وأصله وو يرث فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً عَلَى اللُّزُومِ لِاجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ وَهُوَ تَصْغِيرُ وَارِثٍ أَيْ غُلَيْمٌ صَغِيرٌ. وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ وَارِثٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَعْنِي بِهِ الْإِمَالَةَ الْمَحْضَةَ لَا الْكَسْرَ الْخَالِصَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَعْقُوبَ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ أَخُو زَكَرِيَّاءَ. وَقِيلَ: يَعْقُوبُ هَذَا وَعِمْرَانُ أَبُو مَرْيَمَ أَخَوَانِ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ومرضيا بمعنى مرضي. يا زَكَرِيَّا أَيْ قِيلَ لَهُ بِإِثْرِ الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: رَزَقَهُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ دُعَائِهِ. وَقِيلَ: بَعْدَ سِتِّينَ وَالْمُنَادِي وَالْمُبَشِّرُ زَكَرِيَّاءَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «1» الْآيَةَ وَالْغُلَامُ الْوَلَدُ الذَّكَرُ، وقد يقال للأثني غُلَامَةٌ كَمَا قَالَ: تُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَحْيى لَيْسَ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُمْ أَنْ يُسَمُّوا بِأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَكُونُ مَنْعُهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَيَكُونُ مُسَمًّى بِالْفِعْلِ كَيَعْمُرُ ويعيش قد سَمَّوْا بِيَمُوتَ وَهُوَ يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ ابْنُ أُخْتِ الْجَاحِظِ. وَعَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ. فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْيَى بِالْحِكْمَةِ وَالْعِفَّةِ. وَقِيلَ: يحيي بهدايته وإشادة خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُسْتَشْهَدُ وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُعَمَّرُ زَمَنًا طَوِيلًا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَيِيَ بَيْنَ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَأُمٍّ عَاقِرٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَيِيَ بِهِ عُقْرُ أُمِّهِ وَكَانَتْ لَا تَلِدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ: لَمْ نُسَمِّ قَبْلَهُ أَحَدًا بِيَحْيَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَسَامِيَ الشُّنُعَ جَدِيرَةٌ بِالْأَثَرَةِ وَإِيَّاهَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُنَحِّي فِي التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهَا أَنْبَهَ وَأَنْوَهَ وَأَنْزَهَ عَنِ النَّفْرِ، حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ فِي مَدْحِ قَوْمٍ: شُنُعِ الْأَسَامِي مُسْبِلِي أُزُرٍ ... حُمْرٍ تَمَسُّ الْأَرْضَ بِالْهُدُبِ وَقَالَ رُؤْبَةُ لِلنَّسَّابَةِ الْبَكْرِيِّ: وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ نَسَبِهِ أَنَا ابْنُ الْعَجَّاجِ فَقَالَ: قَصَّرْتَ وَعَرَّفْتَ انْتَهَى. وَقِيلَ لِلصَّلْتِ بْنِ عَطَاءٍ: كَيْفَ تَقَدَّمْتَ عِنْدَ الْبَرَامِكَةِ وَعِنْدَهُمْ مَنْ هُوَ آدَبُ مِنْكَ، فَقَالَ: كَنْتُ غَرِيبَ الدَّارِ غَرِيبَ الِاسْمِ خَفِيفَ الْحَزْمِ شَحِيحًا بِالْأَشْلَاءِ. فَذَكَرَ مِمَّا قَدَّمَهُ كَوْنُهُ غَرِيبَ الِاسْمِ إِذْ كَانَ اسْمُهُ الصَّلْتَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ سَمِيًّا أَيْ مَثَلًا وَنَظِيرًا وَكَأَنَّهُ مِنَ الْمُسَامَاةِ وَالسُّمُوِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ مِثْلَهُ.

_ (1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 39.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمَثَلِ سَمِيٌّ لِأَنَّ كُلَّ مُتَشَاكِلَيْنِ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْمِثْلِ وَالشَّبِيهِ وَالشَّكْلِ وَالنَّظِيرِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَمِيٌّ لِصَاحِبِهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ، وَأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ وَأَنَّهُ كَانَ حَصُورًا انْتَهَى. وأَنَّى بِمَعْنَى كَيْفَ: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ «1» فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْعِتِيُّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْكِبَرِ. وَيُبْسِ الْعُودِ. وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عِتِيًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَصَادِ صَلِيًّا جَعَلَهُمَا مَصْدَرَيْنِ كَالْعَجِيجِ وَالرَّحِيلِ، وَفِي الضَّمِّ هُمَا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا عَلَى فُعُولٍ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ عُسُيًّا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالسِّينِ كَمُسُوَّرَةٍ. وَحَكَاهَا الدَّانِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أُبَيٍّ وَمُجَاهِدٍ يُقَالُ عَتَّا الْعُودُ وَعَسَّا يَبِسَ وَجَسَّا. قالَ: كَذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ تَصْدِيقٌ لَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ قالَ رَبُّكَ فَالْكَافُ رَفْعٌ أَوْ نَصْبٌ بقال، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَنَحْوُهُ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ «2» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وهو عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلَا يَخْرُجُ هَذَا إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيِ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُ، وَهُوَ عَلَيَّ ذَلِكَ يَهُونُ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ لَا إِلَى قَوْلِ زَكَرِيَّاءَ وَقَالَ: مَحْذُوفٌ فِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ أَيْ قَالَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُنَوِّهْ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُخَاطِبُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَوَعَدَهُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ قالَ كَذلِكَ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى قَالَ لَهُ الْمَلَكُ كَذلِكَ فَلْيَكُنِ الْوُجُودُ كَمَا قِيلَ لَكَ قالَ رَبُّكَ خَلْقُ الْغُلَامِ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ غَيْرُ بِدْعٍ وَكَمَا خَلَقْتُكَ قَبْلُ وَأَخْرَجْتُكَ مِنْ عَدَمٍ إِلَى وُجُودٍ كَذَلِكَ أَفْعَلُ الْآنَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ كَذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ أَنَّ اللَّذَانِ ذَكَرْتَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ وَالْكِبَرِ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ قالَ رَبُّكَ وَالْمَعْنَى عِنْدِي قَالَ الْمَلَكُ كَذلِكَ أَيْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ انْتَهَى. وقرأ الحسن هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَدْ أَنْشَدُوا قَوْلَ النَّابِغَةِ: عَلَيِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... لوالده ليست بذات عقارب بِكَسْرِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَكَسْرُهَا شَبِيهٌ بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ «3» بِكَسْرِ الْيَاءِ. وقرأ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 40. (2) سورة الحجر: 15/ 66. [.....] (3) سورة إبراهيم: 14/ 22.

الْجُمْهُورُ وَقَدْ خَلَقْتُكَ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَلَقْنَاكَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أَيْ شَيْئًا مَوْجُودًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَيْئاً لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: عَجِبْتُ مِنْ لَا شَيْءَ إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا. قالَ أَيْ زَكَرِيَّا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وُقُوعَ مَا بُشِّرْتُ بِهِ وَطَلَبَ ذَلِكَ لِيَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» لَا لِتَوَقُّفٍ مِنْهُ عَلَى صِدْقِ مَا وُعِدَ بِهِ، وَلَا لِتَوَهُّمِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ مُطْلَقَةً فَلَمْ يَعْرِفِ الْوَقْتَ فَطَلَبَ الْآيَةَ لِيَعْرِفَ وَقْتَ الْوُقُوعِ. قالَ آيَتُكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ زَوْجَتُهُ بِيَحْيَى أَصْبَحَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَيَذْكُرُ اللَّهَ، فَإِذَا أَرَادَ مُنَادَاةَ أَحَدٍ لم يطقه. وسَوِيًّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ أَيْ لَا تُكَلِّمْ فِي حَالِ صِحَّتِكَ لَيْسَ بِكَ خَرَسٌ وَلَا عِلَّةٌ قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَوِيًّا عَائِدٌ عَلَى اللَّيَالِي أَيْ كَامِلَاتٍ مُسْتَوَيَاتٍ فَتَكُونُ صِفَةً لِثَلَاثٍ، وَدَلَّ ذِكْرُ اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّامِ فِي آلِ عِمْرَانَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْكَلَامِ اسْتَمَرَّ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بن علي أَلَّا تُكَلِّمَ بِرَفْعِ الْمِيمِ جَعَلَهَا أن المخففة من الثقيلة التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِهَا جَعَلُوا أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أَيْ وَهُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ، وَمِحْرَابُهُ مَوْضِعُ مُصَلَّاهُ، وَالْمِحْرَابُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آلِ عِمْرَانَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَيْ أَشَارَ. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ مُنَبِّهٍ وَالْكَلْبِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَشَارَ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: وَيَشْهَدُ لَهُ إِلَّا رَمْزًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَتَبَ لَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلْ كَتَبَ لَهُمْ فِي التُّرَابِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ وَحْيٌ انْتَهَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِتَابَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ وَقَالَ عَنْتَرَةُ: كَوَحْيِ صَحَائِفٍ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ... فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِىِّ وَقَالَ جَرِيرٌ: كَأَنَّ أَخَا الْيَهُودِ يَخُطُّ وَحْيًا ... بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا ولام

_ (1) سورة البقرة: 2/ 260.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ سَبِّحُوا صَلُّوا. وَقِيلَ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّسْبِيحِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْمِهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ إِشَارَةً. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ وَعِنْدِي فِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّ بِالتَّسْبِيحِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى أَمْرًا عَجِبَ مِنْهُ أَوْ رَأَى فِيهِ بَدِيعَ صَنْعَةٍ أَوْ غَرِيبَ حِكْمَةٍ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ الْخَالِقِ، فَلَمَّا رَأَى حُصُولَ الْوَلَدِ مِنْ شَيْخٍ وَعَاقِرٍ عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ فَسَبَّحَ وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وأَنْ مُفَسِّرَةٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ أَنْ سَبِّحُوا أَنْ نصب بأوحى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَنْ سَبِّحُوهُ بِهَاءِ الضَّمِيرِ عَائِدَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى ابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ أَنْ سَبِّحُنَّ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ أَلْحَقَ فِعْلَ الْأَمْرِ نُونَ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدِ. يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَلَمَّا وُلِدَ يَحْيَى وَكَبُرَ وَبَلَغَ السِّنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ قَالَ اللَّهُ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ وَأَبْعَدَ التَّبْرِيزِيُّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْمُنَادِيَ لَهُ أَبُوهُ حِينَ تَرَعْرَعَ وَنَشَأَ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ لِقَوْلِهِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا والْكِتابَ هُوَ التَّوْرَاةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ عِيسَى وَلَمْ يَكُنِ الْإِنْجِيلُ مَوْجُودًا انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ قِيلَ لَهُ كِتَابٌ خُصَّ بِهِ كَمَا خُصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْكِتابَ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ أَيِ اتْلُ كُتُبَ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْكِتابَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي فِي حَالِ طُفُولِيَّتِهِ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِقُوَّةٍ بِجِدٍّ وَاسْتِظْهَارٍ وَعَمَلٍ بِمَا فِيهِ وَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ أَوْ حُكْمُ الْكِتَابِ أَوِ الْحِكْمَةُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ أَوِ اللُّبُّ وَهُوَ الْعَقْلُ، أَوْ آدَابُ الْخِدْمَةِ أَوِ الْفِرَاسَةُ الصَّادِقَةُ أَقْوَالٌ صَبِيًّا أَيْ شَابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْكُهُولَةِ. وَقِيلَ: ابْنُ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: ابْنُ ثَلَاثٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» وَحَناناً مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمِ وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ ... فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ مُثَنًّى كَمَا قَالَ: حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى وَجَعَلْنَاهُ حَناناً لِأَهْلِ زَمَانِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَتَعَطُّفًا مِنْ رَبِّهِ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَيِّنًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: مَحَبَّةً، وَعَنْ عَطَاءٍ تَعْظِيمًا.

وَقَوْلُهُ وَزَكاةً عَنِ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ عَمَلًا صَالِحًا. وَعَنِ ابْنِ السَّائِبِ: صَدَقَةً تُصُدِّقَ بِهَا عَلَى أَبَوَيْهِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ تَطْهِيرًا. وَعَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ زِيَادَةً فِي الْخَيْرِ. وَقِيلَ ثَنَاءً كَمَا يُزَكَّي الشُّهُودُ. وَكانَ تَقِيًّا. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَهُمَّ قَطُّ بِكَبِيرَةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ مُتَّقِيًّا لَهُ لَا يَعْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ طَعَامُهُ الْعُشْبَ الْمُبَاحَ وَكَانَ لِلدَّمْعِ فِي خَدَّيْهِ مَجَارٍ بَائِنَةٌ وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أَيْ كَثِيرُ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَبَرًّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ وَذَا بِرٍّ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً أَيْ مُتَكَبِّرًا عَصِيًّا أَيْ عَاصِيًا كَثِيرَ الْعِصْيَانِ، وَأَصْلُهُ عَصُويٌ فَعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ. وَسَلامٌ عَلَيْهِ . قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ أَمَانٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عِيسَى وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْتَقَيَا وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، فَقَالَ يَحْيَى لِعِيسَى: ادْعُ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: بَلْ أَنْتَ ادْعُ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَنَا سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَوْمَ وُلِدَ أَيْ أَمَانٌ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يتاله الشَّيْطَانُ وَيَوْمَ يَمُوتُ أَيْ أَمَانٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ لِقَوْلِهِ بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» وَهَذَا السَّلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 169.

مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَطَلَبَهُ الْوَلَدَ وَإِجَابَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ فَوُلِدَ لَهُ مِنْ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ لَهُ عَاقِرٍ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، أَرْدَفَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الْغَرَابَةِ وَالْعَجَبِ وَهُوَ وُجُودُ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَيْضًا فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا سَأَلُوهُ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِمْ مَا سَأَلُوهُ أَيْضًا وَهُوَ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَصًا لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهَا وَفِيهَا غَرَابَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ مُوجَزَةً، ثُمَّ بِقِصَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ لِيَسْتَقِرَّ فِي أَذْهَانِهِمْ أَنَّهُ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى مَا سَأَلُوهُ وَعَلَى مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْيُهُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ مِنْ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَا رَحَلَ وَلَا خَالَطَ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَلَا عَنَى بجمع سير. والْكِتابِ الْقُرْآنُ. ومَرْيَمَ هِيَ ابْنَةُ عمران أم عيسى، وإِذِ قِيلَ ظَرْفُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ باذكر، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَا يَقَعُ فِي الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذِ بَدَلٌ مِنْ مَرْيَمَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الْأَحْيَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا وَقْتُهُ، إِذِ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ مَرْيَمَ ذِكْرُ وَقْتِهَا هَذَا لِوُقُوعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ فِيهَا انتهى. ونصب إِذِ باذكر عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِيَّةِ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ فِي إِذِ وَهِيَ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَمْ يُتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا بِإِضَافَةِ ظَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهَا. فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إِذِ وَتَبْقَى عَلَى ظَرْفِيَّتِهَا وَعَدَمِ تَصَرُّفِهَا، وَهُوَ أَنْ تُقَدَّرَ مَرْيَمُ وَمَا جَرَى لَهَا إِذِ انْتَبَذَتْ وَاسْتَبْعَدَ أَبُو الْبَقَاءِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الزَّمَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَالًا عَنِ الْجُثَّةِ وَلَا خَبَرًا عَنْهَا وَلَا وَصْفًا لَهَا لَمْ يَكُنْ بَدَلًا مِنْهَا انْتَهَى. وَاسْتِبْعَادُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الْمُلَازَمَةِ. قَالَ: وَقِيلَ التَّقْدِيرُ خَبَرُ مَرْيَمَ فَإِذْ مَنْصُوبَةٌ لِخَبَرٍ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ هَذَا الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ: إِذِ بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ كَقَوْلِكَ: أُكْرِمُكَ إِذْ لَمْ تُكْرِمْنِي أَيْ إِنْ لَمْ تُكْرِمْنِي. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ أَيْ وَاذْكُرْ مَرْيَمَ انتباذها انتهى. وانْتَبَذَتْ افْتَعَلَ مِنْ نَبَذَ، وَمَعْنَاهُ ارْتَمَتْ وَتَنَحَّتْ وَانْفَرَدَتْ. قَالَ السُّدِّيُّ انْتَبَذَتْ لِتَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: لِتَعْبُدَ اللَّهَ وَكَانَتْ وَقْفًا عَلَى سَدَانَةِ الْمُتَعَبِّدِ وَخِدْمَتِهِ وَالْعِبَادَةِ فَتَنَحَّتْ مِنَ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَانْتَصَبَ مَكاناً عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَكَانٍ، وَوُصِفَ بِشَرْقِيٍّ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا يَلِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوْ مِنْ دَارِهَا، وَسَبَبُ كَوْنِهِ فِي الشَّرْقِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ جِهَةَ الشَّرْقِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِمِيلَادِ

عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: قَعَدَتْ فِي مَشْرَقَةٍ لِلِاغْتِسَالِ مِنَ الْحَيْضِ مُحْتَجِبَةً بِحَائِطٍ أَيْ شَيْءٍ يَسْتُرُهَا، وَكَانَ مَوْضِعُهَا الْمَسْجِدَ فَبَيْنَا هِيَ فِي مُغْتَسَلِهَا أَتَاهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءِ الْوَجْهِ جَعْدِ الشَّعْرِ سَوِيِّ الْخَلْقِ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنَ الصُّورَةِ الْآدَمِيَّةِ شَيْئًا أَوْ حَسَنُ الصُّورَةِ مُسْتَوِي الْخَلْقِ. وَقَالَ قَتَادَةُ شَرْقِيًّا شَاسِعًا بَعِيدًا انْتَهَى. وَالْحِجَابُ الَّذِي اتَّخَذَتْهُ لِتَسْتَتِرَ بِهِ عَنِ النَّاسِ لِعِبَادَةِ رَبِّهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مِنْ جُدْرَانَ. وَقِيلَ: مِنْ ثِيَابٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَلَتِ الْجَبَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِجاباً وَظَاهِرُ الْإِرْسَالِ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهَا وَمُحَاوَرَةُ الْمَلَكِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَبِيَّةٌ. وَقِيلَ: لَمْ تُنَبَّأْ وَإِنَّمَا كَلَّمَهَا مِثَالُ بَشَرٍ وَرُؤْيَتُهَا لِلْمَلَكِ كَمَا رُئِيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ دِحْيَةَ. وَفِي سُؤَالِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّوحَ جِبْرِيلُ لِأَنَّ الدين يحيا به ويوحيه أَوْ سَمَّاهُ رُوحَهُ عَلَى الْمَجَازِ مَحَبَّةً لَهُ وَتَقْرِيبًا كَمَا تَقُولُ لِحَبِيبِكَ: أَنْتَ رُوحِي. وَقِيلَ عِيسَى كَمَا قَالَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَتَمَثَّلَ أَيِ الْمَلَكُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَسَهْلٌ رُوحَنا بِفَتْحِ الرَّاءِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمَا فِيهِ رَوْحُ الْعِبَادِ وَإِصَابَةُ الرَّوْحِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عُدَّةُ الْمُقَرَّبِينَ فِي قَوْلِهِ فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «1» أَوْ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَهُمُ الْمَوْعُودُونَ بِالرَّوْحِ أَيْ مُقَرَّبَنَا وَذَا رَوْحِنَا. وَذَكَرَ النقاش أنه قرىء رُوحَنا بِتَشْدِيدِ النُّونِ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَانْتَصَبَ بَشَراً سَوِيًّا عَلَى الْحَالِ لِقَوْلِهِ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا. قِيلَ: وَإِنَّمَا مُثِّلَ لَهَا فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لِتَسْتَأْنِسَ بِكَلَامِهِ وَلَا تَنْفِرَ عَنْهُ، وَلَوْ بَدَا لَهَا فِي الصُّورَةِ الْمَلَكِيَّةِ لَنَفَرَتْ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، وَدَلَّ عَلَى عَفَافِهَا وَوَرَعِهَا أَنَّهَا تَعَوَّذَتْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ الْفَائِقَةِ الْحُسْنِ وَكَانَ تَمْثِيلُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ابْتِلَاءً لَهَا وَسَبْرًا لِعِفَّتِهَا. وَقِيلَ: كَانَتْ فِي مَنْزِلِ زَوْجِ أُخْتِهَا زَكَرِيَّا وَلَهَا مِحْرَابٌ عَلَى حِدَةٍ تَسْكُنُهُ، وَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا خَرَجَ أَغْلَقَ عَلَيْهَا فَتَمَنَّتْ أَنْ تَجِدَ خَلْوَةً فِي الْجَبَلِ لِتُفَلِّيَ رَأْسَهَا فَانْفَرَجَ السَّقْفُ لَهَا فَخَرَجَتْ فَجَلَسَتْ فِي الْمَشْرَقَةِ وَرَاءَ الْجَبَلِ فَأَتَاهَا الْمَلَكُ. وَقِيلَ: قَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا فِي صُورَةِ تِرْبٍ لَهَا اسْمُهُ يُوسُفُ مِنْ خَدَمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَتَعْلِيقُهَا الِاسْتِعَاذَةِ عَلَى شَرْطِ تَقْوَاهُ لِأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ الِاسْتِعَاذَةُ وَلَا تُجْدِي إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ أَيْ إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ وَتَخْشَاهُ وتحفل الاستعاذة بِهِ فَإِنِّي عَائِذَةٌ بِهِ مِنْكَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ فَإِنِّي أَعُوذُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَسَتَتَّعِظُ بِتَعْوِيذِي بِاللَّهِ مِنْكَ. وَقِيلَ: فَاخْرُجْ عَنِّي. وَقِيلَ: فَلَا تَتَعَرَّضْ لِي وَقَوْلُ مَنْ قَالَ تَقِيٌّ اسْمُ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ رَجُلٍ فَاسِدٍ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 89.

كُنْتَ تَقِيًّا أَيْ بِدُخُولِكَ عَلَيَّ وَنَظَرِكَ إِلَيَّ، وَلِيَاذُهَا بِاللَّهِ وَعِيَاذُهَا بِهِ وَقْتَ التَّمْثِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلَ مَا تَمَثَّلَ لَهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْ غَيْرِ جَرْيِ كَلَامٍ بَيْنَهُمَا. قالَ أَيْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ النَّاظِرُ فِي مَصْلَحَتِكِ وَالْمَالِكُ لِأَمْرِكِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَذْتِ بِهِ وَقَوْلُهُ لَهَا ذَلِكَ تَطْمِينٌ لَهَا وَإِنِّي لَسْتُ مِمَّنْ تُظَنُّ بِهِ رِيبَةٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ لِيَهَبَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَالْيَزِيدِيُّ وَمِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وأبو عمر: وليهب أَيْ لِيَهَبَ رَبُّكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ لِأَهَبَ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَسْنَدَ الْهِبَةَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَهَبَ لَكِ لِأَكُونَ سَبَبًا فِي هِبَةِ الْغُلَامِ بِالنَّفْخِ فِي الرَّوْعِ. وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ أَمَرَنِي أَنْ أَهَبَ لَكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَالَ لِأَهَبَ وَالْغُلَامُ اسْمُ الصَّبِيِّ أَوَّلَ مَا يُولَدُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ. وَفُسِّرَتِ الزَّكَاةُ هُنَا بِالصَّلَاحِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ وَعَلِمَتْ بِمَا أُلْقِيَ فِي رَوْعِهَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُؤَالِهَا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ فِي آلِ عِمْرَانَ فِي قِصَّتِهَا وَفِي قَوْلِهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَكُونُ بِنِكَاحٍ وَبِسِفَاحٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الْمَسُّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «1» أو لمستم النِّسَاءَ وَالزِّنَا لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ فَجَرَ بِهَا وَخَبُثَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِقَمِنٍ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْكِنَايَاتُ وَالْآدَابُ انْتَهَى. وَالْبَغِيُّ الْمُجَاهِرَةُ الْمُشْتَهِرَةُ فِي الزِّنَا، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ اجْتَمَعَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِأَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كُسِرَتْ فِي عِصِيٍّ وَدِلِيٍّ. قِيلَ: وَلَوْ كَانَ فَعِيلًا لَحِقَتْهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ فَيُقَالُ بَغِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ التَّمَامِ: هِيَ فَعِيلٌ، وَلَوْ كَانَتْ فَعُولًا لَقِيلَ بَغُوٌّ كَمَا قِيلَ فُلَانٌ نَهُوٌّ عَنِ الْمُنْكَرِ انْتَهَى. قِيلَ: وَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ خَاصًّا بِالْمُؤَنَّثِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فَصَارَ كَحَائِضٍ وَطَالِقٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ بَاغٍ. وَقِيلَ: بَغِيٌّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَعَيْنٍ كَحِيلٍ أَيْ مبغية بطلبها أَمْثَالُهَا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَلِنَجْعَلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ أَوْ مَحْذُوفٍ مُتَأَخِّرٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَلِنَجْعَلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْغُلَامِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 237، وسورة الأحزاب: 33/ 49.

وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَكانَ أَيْ وَكَانَ وُجُودُهُ أَمْراً مَفْرُوغًا مِنْهُ، وَكَوْنُهُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ طَرِيقَ هُدًى لِعَالَمٍ كَثِيرٍ فَيَنَالُونَ الرَّحْمَةَ بِذَلِكَ. وَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا أَوْ فِيهِ وَفِي كُمِّهَا وَقَالَ: أَيْ دَخَلَ الرُّوحُ الْمَنْفُوخُ مِنْ فَمِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ النَّفْخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ فَنَفَخْنا «1» وَيَحْتَمِلُ مَا قَالُوا: فَحَمَلَتْهُ أَيْ فِي بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى فَحَمَلَتْ بِهِ. قِيلَ: وَكَانَتْ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: بَنَتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَالَهُ وَهْبٌ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: بَنَتَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: اثْنَتَى عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: عَشْرِ سِنِينَ. قِيلَ: بَعْدَ أَنْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْصَمِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَاضَتْ بَعْدُ. وَقِيلَ: لَمْ تَحُضْ قَطُّ مَرْيَمُ وَهِيَ مطهرة من الحيض، فلما أَحَسَّتْ وَخَافَتْ مَلَامَةَ النَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فَارْتَمَتْ بِهِ إِلَى مَكَانٍ قَصِيٍّ حَيَاءً وَفِرَارًا. رُوِيَ أَنَّهَا فَرَّتْ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ أَوْ نَحْوِهَا قَالَهُ وَهْبٌ. وَقِيلَ: إِلَى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِبَيْتِ لَحْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيلِيَا أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَقِيلَ: بَعِيدًا مِنْ أَهْلِهَا وَرَاءَ الْجَبَلِ. وَقِيلَ: أَقْصَى الدَّارِ. وَقِيلَ: كَانَتْ سُمِّيَتْ لِابْنِ عَمٍّ لَهَا اسْمُهُ يُوسُفُ فَلَمَّا قِيلَ حَمَلَتْ مِنَ الزِّنَا خَافَ عَلَيْهَا قَتْلَ الْمَلِكِ هَرَبَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَنْ يَقْتُلَهَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ فَلَا تَقْتُلْهَا فَتَرَكَهَا حَمَلَتْهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَمَا حَمَلَتْهُ نَبَذَتْهُ عَنِ ابْنٍ. وَقِيلَ: كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ. وَقِيلَ: حُمِلَ فِي سَاعَةٍ وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي سَاعَةٍ. وَقِيلَ: سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ: سَبْعَةِ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٍ وَلَمْ يَعِشْ مَوْلُودٌ وُضِعَ لِثَمَانِيَةٍ إِلَّا عِيسَى وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضْرَبَ عَنْهَا صَفْحًا إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ وَسَوَّدُوا بِهَا الْوَرَقَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلْحَالِ أَيْ مَصْحُوبَةٌ بِهِ أَيِ اعْتَزَلَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا أَيْ تَدُوسُ الْجَمَاجِمَ وَنَحْنُ عَلَى ظُهُورِهَا. وَمَعْنَى فَأَجاءَهَا أَيْ جَاءَ بِهَا تَارَةً فَعُدِّيَ جَاءَ بِالْبَاءِ وَتَارَةً بِالْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ اسْتِعْمَالَهُ قَدْ يُغَيَّرُ بَعْدَ النَّقْلِ إلى معنى الإلجاء الإتراك، لَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ وَأَجَاءَنِيهِ زَيْدٌ كَمَا تَقُولُ: بَلَغْتُهُ وَأَبْلَغَنِيهِ، وَنَظِيرُهُ آتَى حَيْثُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا فِي الْإِعْطَاءِ وَلَمْ يَقُلْ آتَيْتُ الْمَكَانَ وَآتَانِيهِ فُلَانٌ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَقَوْلُ غَيْرِهِ إِنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَيَّرَهُ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ المستقرءين ذَلِكَ عَنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، والإجاءة تدل على

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 91 وسورة التحريم: 66/ 12.

الْمُطْلَقِ فَتَصْلُحُ لِمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِلْجَاءِ وَلِمَا هُوَ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ كَمَا لَوْ قُلْتَ: أَقَمْتُ زَيْدًا فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَارًا لِذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ قَدْ قَسَرْتَهُ عَلَى الْقِيَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الإتراك لَا تَقُولُ إِلَى آخِرِهِ فَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّعْدِيَةَ بالهمزة قياس أجاز لك وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْ وَمَنْ لَا يَرَاهُ قِيَاسًا فَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ فِي جَاءَ حَيْثُ قَالُوا: أَجَاءَ فَيُجِيزُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ ذَلِكَ بآتي فَهُوَ تَنْظِيرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَأَنَّ أَصْلَهُ أَتَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ آتَى مِمَّا بُنِيَ عَلَى أَفْعَلَ وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ أَتَى بِمَعْنَى جَاءَ، إِذْ لَوْ كَانَ مَنْقُولًا مِنْ أَتَى الْمُتَعَدِّيَةِ لِوَاحِدٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَالْفَاعِلُ هُوَ الْأَوَّلَ إِذَا عَدَّيْتَهُ بِالْهَمْزَةِ تَقُولُ: أَتَى الْمَالُ زَيْدًا، وآتى عمرا زَيْدًا الْمَالَ، فَيَخْتَلِفُ التَّرْكِيبُ بِالتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ زَيْدًا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالْمَالَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ يَكُونُ الْعَكْسَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَهُ. وَأَيْضًا فَآتَى مُرَادِفٌ لِأَعْطَى فَهُوَ مُخَالِفٌ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ فِي الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَقُلْ أَتَيْتُ الْمَكَانَ وَآتَانِيهِ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ يُقَالُ: أَتَيْتُ الْمَكَانَ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُمْ ... فَقَالُوا الْجِنَّ قُلْتُ عِمُوا ظَلَامَا وَمَنْ رَأَى النَّقْلَ بِالْهَمْزَةِ قِيَاسًا قَالَ: أَتَانِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَجاءَهَا أَيْ سَاقَهَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَجَارٍ سَارَ مَعْتَمِدًا إِلَيْكُمْ ... أجاءته المخافة والرجاء وأما فَتَحَةَ الْجِيمِ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ. وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ عَاصِمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ فَاجَأَهَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ شُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ: فَاجَأَهَا. فَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُفَاجَأَةِ بِوَزْنِ فَاعِلِهَا فَبُدِّلَتْ هَمْزَتُهَا بِأَلِفِ تَخْفِيفٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةً بَيْنَ بَيْنَ غَيْرَ مَقْلُوبَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ كَقِرَاءَةِ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ الْمَخاضُ بِكَسْرِ الْمِيمِ يُقَالُ مَخَضَتِ الْحَامِلُ مَخَاضًا وَمِخَاضًا وَتَمَخَّضَ الولد في بطنها: وإِلى تتعلق بفاجأها، وَمَنْ قَرَأَ فَاجَأَهَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ مُسْتَنِدَةٌ أَيْ فِي حَالِ اسْتِنَادِهَا إِلَى النَّخْلَةِ، وَالْمُسْتَفِيضُ الْمَشْهُورُ أَنَّ مِيلَادَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَيْتَ لَحْمٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا هَرَبَتْ وَخَافَتْ عَلَيْهِ أَسْرَعَتْ بِهِ وَجَاءَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْخَفَضَتِ الصَّخْرَةُ لَهُ وَصَارَتْ كَالْمَهْدِ وَهِيَ الْآنَ مَوْجُودَةٌ تُزَارُ بِحَرَمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ إِلَى بَحْرِ الْأُرْدُنِّ فَعَمَّدَتْهُ فِيهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي

يَتَّخِذُهُ النَّصَارَى وَيُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْغِطَاسِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْمِيَاهَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّسَتْ فَلِذَلِكَ يَغْطِسُونَ فِي كُلِّ مَاءٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ بِمِصْرَ قَالَ: بِكُورَةِ أَهْنَاسَ. قِيلَ: وَنَخْلَةُ مَرْيَمَ قَائِمَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّخْلَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ مَجِيءِ مَرْيَمَ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ لَهَا نَخْلَةً تَعَلَّقَتْ بِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهَا بَلَغَتْ إِلَى مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ جِذْعُ نَخْلَةٍ يَابِسٌ بَالٍ أَصْلُهُ مُدَوِّدٌ لَا رَأْسَ لَهُ وَلَا ثَمَرَ وَلَا خُضْرَةَ ، وَأَلْ إِمَّا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَأَنَّ تِلْكَ الصَّحْرَاءَ كَانَ بِهَا جِذْعُ نَخْلَةٍ مَعْرُوفٌ فَإِذَا قِيلَ جِذْعِ النَّخْلَةِ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَرْشَدَهَا تَعَالَى إِلَى النَّخْلَةِ لِيُطْعِمَهَا مِنْهَا الرُّطَبَ الَّذِي هُوَ خُرْسَةُ النُّفَسَاءِ الْمُوَافِقَةُ لَهَا وَلِظُهُورِ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْهَا فَتَسْتَقِرُّ نَفْسُهَا وَتَقَرُّ عَيْنُهَا، فَاشْتَدَّ بِهَا الْأَمْرُ هُنَالِكَ وَاحْتَضَنَتْ الْجِذْعَ لِشِدَّةِ الْوَجَعِ وَوَلَدَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَتْ عِنْدَ وِلَادَتِهَا لِمَا رَأَتْهُ مِنَ الْآلَامِ وَالتَّغَرُّبِ وَإِنْكَارِ قَوْمِهَا وَصُعُوبَةِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ مَا وَجْهٍ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَتَمَنَّتْ مَرْيَمُ الْمَوْتَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ إِذْ خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فِي دِينِهَا وَتُعَيَّرَ فَيَغْبَنَهَا ذَلِكَ، وَهَذَا مُبَاحٌ وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ تَمَنَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِالْبَدَنِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ مِنَ الْقُرَّاءِ فِي كَسْرِ الْمِيمِ مِنْ مِتُّ وَضَمِّهَا فِي آلِ عِمْرَانَ، وَالنَّسْيُ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْسَى فَلَا يُتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ كَالْوَتَدِ وَالْحَبْلِ لِلْمُسَافِرِ وَخِرْقَةِ الطَّمْثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالذَّبْحِ وَهُوَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْبَحَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: نِسْأً بِكَسْرِ النُّونِ وَالْهَمْزِ مَكَانَ الْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ نون الْأَعْرَابِيِّ. وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ أَيْضًا نَسَأً بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إِذَا صَبَبْتَ عَلَيْهِ مَاءً، فَاسْتُهْلِكَ اللَّبَنُ فِيهِ لِقِلَّتِهِ فَكَأَنَّهَا تَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ اللَّبَنِ الَّذِي لَا يُرَى وَلَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ نَسًا بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ بَنَاهُ عَلَى فَعَلٍ كَالْقَبَضِ وَالنَّفَضِ. قَالَ الْفَرَّاءُ نَسْيٌ وَنِسْيٌ لُغَتَانِ كَالْوِتْرِ وَالْوَتْرِ وَالْفَتْحُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْكَسْرُ أَعْلَى اللُّغَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ كَسَرَ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُنْسَى كَالنِّقْضِ اسْمٌ لما ينقض، ومنه فَتَحَ فَمَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ اسْمٍ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ دَنَفٌ وَدَنِفٌ وَالْمَكْسُورُ هُوَ الْوَصْفُ الصَّحِيحُ وَالْمَفْتُوحُ مَصْدَرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْوَصْفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا لِمَعْنًى كَالرِّطْلِ وَالرَّطْلِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْحَمْلِ.

وَقِيلَ: قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ أَوْ قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي جَرَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ مَنْسِيًّا بِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ السِّينِ كَمَا قَالُوا مُنْتِنٌ بِإِتْبَاعِ حَرَكَةِ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ التَّاءِ. وَقِيلَ: تَمَنَّتْ ذَلِكَ لِمَا لَحِقَهَا مِنْ فَرْطِ الْحَيَاءِ عَلَى حُكْمِ الْعَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا كَرَاهَةً لِحُكْمِ اللَّهِ أَوْ لِشِدَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهَا إِذَا بَهَتُوهَا وَهِيَ عَارِفَةٌ بِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ، وبضد ما قربت مِنِ اخْتِصَاصِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِغَايَةِ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ لِأَنَّهُ مَقَامُ دَحْضٍ قَلَّمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ، أَوْ لِحُزْنِهَا على الناس أن يَأْثَمُ النَّاسُ بِسَبَبِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهَا سَمِعَتْ نِدَاءً اخْرُجْ يَا مَنْ يُعْبَدُ مِنْ دون الله فحزنت وقالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ. وَقَالَ وَهْبٌ: أَنْسَاهَا كَرْبُ الْوِلَادَةَ وَمَا سَمِعَتْ مِنَ النَّاسِ بِشَارَةَ الْمَلَائِكَةِ بِعِيسَى. وَقَرَأَ زِرٌّ وَعَلْقَمَةُ فَخَاطَبَهَا مَكَانَ فَناداها وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لَا قراءة لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْمُنَادَى الظَّاهِرُ أَنَّهُ عِيسَى أَيْ فَوَلَدَتْهُ فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ وَنَادَاهَا أَيْ حَالَةَ الْوَضْعِ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ وَكَانَ فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَخْفَضَ مِنَ الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ. قِيلَ: وَكَانَ يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَالْقَابِلَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَناداها مَلَكٌ مِنْ تَحْتِها. وَقَرَأَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالضَّحَّاكُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ مِنْ حَرْفُ جَرٍّ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَالْأَبَوَانِ وَعَاصِمٌ وَزِرٌّ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَنْهُمَا مِنْ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الَّذِي وتَحْتِها ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ صِلَةٌ لِمَنْ، وَهُوَ عِيسَى أَيْ نَادَاهَا الْمَوْلُودُ قَالَهُ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وأن حَرْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ لَّا تَحْزَنِي وَالسَّرِيُّ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ الْجَدْوَلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ عَظِيمًا مِنَ الرِّجَالِ لَهُ شَأْنٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ فَسَّرَ الْآيَةَ فَقَالَ: أَجَلْ لَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَرِيًّا كَرِيمًا فَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّمَا يَعْنِي بِالسَّرِيِّ الْجَدْوَلَ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِهَذِهِ وَأَشْبَاهِهَا أُحِبُّ قُرْبَكِ، وَلَكِنْ غَلَبَنَا الْأُمَرَاءُ. ثُمَّ أَمَرَهَا بِهَزِّ الْجِذْعِ الْيَابِسِ لِتَرَى آيَةً أُخْرَى فِي إِحْيَاءِ مَوَاتِ الْجِذْعِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كَانَتِ النَّخْلَةُ مُطَعَّمَةً رُطَبًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْجِذْعُ مَقْطُوعًا وَأُجْرِيَ تَحْتَهُ النَّهْرُ لِجَنْبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُكَلِّمَ هُوَ عِيسَى وَأَنَّ الْجِذْعَ كَانَ يَابِسًا وَعَلَى هَذَا ظَهَرَتْ لَهَا آيَاتٌ تَسْكُنُ إِلَيْهَا وَحُزْنُهَا لَمْ يَكُنْ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى تَتَسَلَّى بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَكِنْ لِمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِقَوْمِهَا أَنَّ وِلَادَتَهَا مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْ شَأْنِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ جِذْعًا نَخِرًا فَلَمَّا هَزَّتْ إِذِ السَّعَفُ قَدْ طَلَعَ ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى الطَّلْعِ يَخْرُجُ مِنْ

بَيْنِ السَّعَفِ، ثُمَّ اخْضَرَّ فَصَارَ بَلَحًا، ثُمَّ احْمَرَّ فَصَارَ زَهْوًا ثُمَّ رُطَبًا كُلُّ ذَلِكَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَجَعَلَ الرُّطَبُ يَقَعُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا لَا يتسرح منه شيء. وإلى حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَهُزِّي وَهَذَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَقَدْ رُفِعَ الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ ظَنَّ وَلَا فَقَدَ وَلَا عَلِمَ وَهُمَا لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ لَا يُقَالُ: ضَرَبْتُكَ وَلَا زَيْدٌ ضَرَبَهُ أَيْ ضَرَبَ نَفْسَهُ وَلَا ضَرَبَنِي إِنَّمَا يُؤْتَى فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّرَاكِيبِ بِالنَّفْسِ فَتَقُولُ: ضَرَبْتَ نَفْسَكَ وَزَيْدٌ ضَرَبَ نَفْسَهُ وَضَرَبْتُ نَفْسِي وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عِنْدَهُمْ كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فَلَا تَقُولُ: هَزَزْتُ إِلَيْكَ وَلَا زَيْدٌ هَزَّ إِلَيْهِ وَلَا هَزَزْتَ إِلَيَّ وَلِهَذَا زَعَمُوا فِي قَوْلِ الشاعر: دع عنك نهيا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ ... وَلَكِنْ حديثا ما حدثت الرَّوَاحِلِ وَفِي قَوْلِ الْآخَرِ: وَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْأُمُو ... رَ بِكَفِّ الْإِلَهِ مَقَادِيرُهَا إِنَّ عَنْ وَعَلَى لَيْسَا حَرْفَيْنِ وَإِنَّمَا هُمَا اسْمَانِ ظَرْفَانِ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ عَنْ وَعَلَى قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُمَا اسْمَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَنْ يَمِينِ الْحُبَيَّا نَظْرَةٌ قَبَلُ وَفِي قَوْلِهِ: غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بعد ما تَمَّ ظِمْؤُهَا وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّ عَلَى لَا تَكُونُ حَرْفًا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهَا اسْمٌ فِي كُلِّ مَوَارِدِهَا وَنُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ إِلَى تَكُونُ اسْمًا لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى حَرْفِيَّتِهَا كَمَا قُلْنَا. وَنَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَهُزِّي إِلَيْكِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ «1» وَعَلَى تَقْرِيرِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ يَنْبَغِي تَأْوِيلُ هَذَيْنِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَيْكِ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِهُزِّي وَلَا بِاضْمُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَعْنِي إِلَيْكِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «2» وَمَا أَشْبَهَهُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ. وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «3» . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ كَمَا يُقَالُ: أَلْقَى بِيَدِهِ أَيْ ألقى يده. وكقوله:

_ (1) سورة القصص: 28/ 32. (2) سورة الأعراف: 7/ 21. (3) سورة البقرة: 2/ 195.

سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ أَيْ لَا يَقْرَأْنَ السور. وأنشد الطبري: فؤاد يمان ينبت السدر صدره ... وأسفله بالمرخ والسهان وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى مَعْنَى افْعَلِي الْهَزَّ بِهِ. كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي قَالُوا: التَّمْرُ لِلنُّفَسَاءِ عَادَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ التَّحْنِيكُ، وَقَالُوا: كَانَ مِنَ الْعَجْوَةِ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: مَا لِلنُّفَسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ. وَقِيلَ: إِذَا عَسُرَ وِلَادُهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُساقِطْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالسِّينِ وَشَدِّهَا بَعْدَ أَلِفٍ وَفَتْحِ الْقَافِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَمَسْرُوقٌ وَحَمْزَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ خَفَّفُوا السِّينَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ تُساقِطْ مُضَارِعُ سَاقَطَتْ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ تَتَسَاقَطُ بِتَاءَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ يَسَّاقَطْ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتِ مُضَارِعِ اسَّاقَطَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمَسْرُوقٌ. تسقط بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْقَافِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَعَنْهُ تَسْقُطْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةً وَضَمِّ الْقَافِ، وَعَنْهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قِرَاءَةِ أَبِي حَيْوَةَ هَذِهِ أَنَّهُ قَرَأَ رُطَبٌ جَنِيٌّ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَإِنْ قَرَأَ بِفِعْلٍ مُتَعَدٍّ نَصَبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ بِفِعْلٍ لَازِمٍ فَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجِذْعِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَمُسْنَدٌ إِلَى النَّخْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى الْجِذْعِ عَلَى حَدِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «1» وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَلْتَقِطْهُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ فِي قَوْلِهِ رُطَباً أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ وَهُزِّي أَيْ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ رُطَبًا تُسَاقِطْ عَلَيْكِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي أَجَازَهُ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَعْمُولُ تُساقِطْ فَمَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ فَظَاهِرٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الأعمال، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَلَا لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِ هُزِّي إِذْ ذَاكَ وَالْفِعْلُ اللَّازِمُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ جَنِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ النُّونِ وَالرِّزْقُ فَإِنْ كَانَ مَفْرُوغًا مِنْهُ فَقَدْ وُكِّلَ ابْنُ آدَمَ إِلَى سَعْيِ مَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَتْ مَرْيَمُ بِهَزِّ الْجِذْعِ وَعَلَى هَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ وَلَيْسَ ذلك بمناف للتوكل.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 10.

وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ عِيسَى لَهَا لَا تَحْزَنِي، فَقَالَتْ: كَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةً أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جَمَعْنَا لَكِ فِي السَّرِيِّ وَالرُّطَبِ فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَالثَّانِيَةُ سَلْوَةُ الصَّدْرِ لِكَوْنِهِمَا مُعْجِزَتَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أَيْ وَطِيبِي نَفْسًا وَلَا تَغْتَمِّي وَارْفُضِي عَنْكِ مَا أَحْزَنَكِ وَأَهَمَّكِ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ تَقْدِيمَ الْأَكْلِ عَلَى الشُّرْبِ تَقَدَّمَ فِي الآية والمجاورة قَوْلِهِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا وَلَمَّا كَانَ الْمَحْزُونُ قَدْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ قَالَ: وَقَرِّي عَيْناً أَيْ لَا تَحْزَنِي، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهَا مَا تَقُولُ إِنْ رَأَتْ أحدا. وقرىء وَقَرِّي بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةٌ نَجْدِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي مَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ رُومِيٍّ تَرَئِنَّ بِالْإِبْدَالِ مِنَ الْيَاءِ هَمْزَةً وَرُوِيَ عَنْهُ لَتَرَؤُنَّ بِالْهَمْزِ أَيْضًا بَدَلَ الْوَاوِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ لَحْنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ لُغَةِ مَنْ يَقُولُ لتأت بِالْحَجِّ وَحَلَأْتُ السَّوِيقَ وَذَلِكَ لِتَآخٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحُرُوفِ اللِّينِ فِي الْإِبْدَالِ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ تَرَيِنَّ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهِيَ شَاذَّةٌ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرِ الْجَازِمُ فَيَحْذِفَ النُّونَ. كَمَا قَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ: أَمَا تَرَى رَأْسِي أَزْرَى بِهِ ... مَآسُ زَمَانٍ ذِي انْتِكَاسٍ مؤوس وَالْآمِرُ لَهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَذَلِكَ الْقَوْلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُهَا. وَقِيلَ جِبْرِيلُ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُبِيحَ لَهَا أَنْ تَقُولَ مَا أُمِرَتْ بِقَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى فَقُولِي أَيْ بِالْإِشَارَةِ لَا بِالْكَلَامِ وَإِلَّا فَكَانَ التَّنَاقُضُ يُنَافِي قَوْلَهَا انْتَهَى. وَلَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا بعد فَقُولِي هَذَا وَبَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً وَسَأَلَكِ أَوْ حَاوَرَكِ الْكَلَامَ فَقُولِي. وقرأ يد بْنُ عَلِيٍّ صِيَامًا وَفَسَّرَ صَوْماً بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْكَلَامِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ صَمْتًا. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ سُنَّةُ الصِّيَامِ عِنْدَهُمُ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ انْتَهَى. وَالصَّمْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ نَذْرُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ» . وَقَدْ أَمَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ وَأُمِرَتْ بِنَذْرِ الصَّوْمِ لِأَنَّ عِيسَى بِمَا يُظْهِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ يَكْفِيهَا أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ وَمُجَادَلَةِ السُّفَهَاءِ. وَقَوْلُهُ إِنْسِيًّا لِأَنَّهَا كَانَتْ تُكَلِّمُ الملائكة دون الإنس.

أَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قِيلَ إِتْيَانُهَا كَانَ مِنْ ذَاتِهَا. قِيلَ: طَهُرَتْ مِنَ النِّفَاسِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَاهَا آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ، وَكَلَّمَهَا عيسى ابنها وَحَنَّتْ إِلَى الْوَطَنِ وَعَلِمَتْ أَنَّ عِيسَى سَيَكْفِيهَا مَنْ يُكَلِّمُهَا فَعَادَتْ إِلَى قَوْمِهَا. وَقِيلَ: أَرْسَلُوا إِلَيْهَا لَتَحْضُرِي إِلَيْنَا بِوَلَدِكِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَخْبَرَ قَوْمَهَا بِوِلَادَتِهَا وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ فَلَمَّا رَأَوْهَا وَابْنَهَا قالُوا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْفَرِيُّ الْعَظِيمُ الشَّنِيعُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَرِيًّا بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَفِيمَا نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فَرْئًا بِالْهَمْزِ. وهارُونَ شَقِيقُهَا أَوْ أَخُوهَا مِنْ أُمِّهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْثَلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ هارُونَ أَخُو مُوسَى إِذْ كَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شُبِّهَتْ بِهِ، أَوْ رَجُلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَشَبَّهُوهَا بِهِ أَقْوَالٌ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ أَخُوهَا الْأَقْرَبُ. وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ حِينَ خَصَمَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي قوله تعالى يا أُخْتَ هارُونَ وَالْمُدَّةَ بَيْنَهُمَا طَوِيلَةٌ جِدًّا فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» . وَأَنْكَرُوا عَلَيْهَا مَا جَاءَتْ بِهِ وَأَنَّ أَبَوَيْهَا كَانَا صَالِحَيْنِ، فَكَيْفَ صَدَرَتْ مِنْكِ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرُوعَ غَالِبًا تَكُونُ زَاكِيَةً إِذَا زَكَتِ الْأُصُولُ، وَيُنْكَرُ عَلَيْهَا إِذَا جَاءَتْ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ لَجَأٍ التَّيْمِيُّ الشَّاعِرُ الَّذِي كَانَ يُهَاجِي جَرِيرًا مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ لجعل الْخَبَرَ الْمَعْرِفَةَ وَالِاسْمَ النَّكِرَةَ وَحَسَّنَ ذَلِكَ قَلِيلًا كَوْنُهَا فيها مسوع جَوَازِ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْإِضَافَةُ، وَلَمَّا اتَّهَمُوهَا بِمَا اتَّهَمُوهَا نَفَوْا عَنْ أَبَوَيْهَا السُّوءَ لِمُنَاسَبَةِ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ نَفْيُ السُّوءِ يُوجِبُ الصَّلَاحَ وَنَفْيُ الْبِغَاءِ يُوجِبُ الْعِفَّةَ لِأَنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا نَقِيضَانِ. رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَى قَوْمِهَا وَهُمْ أَهْلُ بَيْتٍ صَالِحُونَ تَبَاكَوْا وَقَالُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: هَمُّوا بِرَجْمِهَا حَتَّى تَكَلَّمَ عِيسَى فَتَرَكُوهَا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يُجِيبُكُمْ إِذَا نَاطَقْتُمُوهُ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْتَنْطِقُ لِعِيسَى زَكَرِيَّا. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارُوا إِلَى الطِّفْلِ قَالُوا: اسْتِخْفَافُهَا بِنَا أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا، ثُمَّ قَالُوا لَهَا عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّهَكُّمِ بِهَا أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ يُرَبَّى لَا يُكَلَّمُ، وَإِنَّمَا

أَشَارَتْ إِلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ لَهَا مِنْ وَعْدِهِ أَنَّهُ يُجِيبُهُمْ عَنْهَا وَيُغْنِيهَا عَنِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بِوَحْيٍ مِنَ الله إليها. وكانَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: تَامَّةٌ وَيَنْتَصِبُ صَبِيًّا عَلَى الْحَالِ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ فَتَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ أَوْ تَبْقَى عَلَى مَدْلُولِهَا مِنِ اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِطَاعِ كَمَا لَمْ يَدُلَّ فِي قَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» وَفِي قوله وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «2» وَالْمَعْنَى كانَ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا كَانَ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ كانَ هَذِهِ بِأَنَّهَا تُرَادِفُ لَمْ يَزَلْ وَمَا رَدَّ بِهِ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ كَوْنَهَا زَائِدَةً مِنْ أَنَّ الزَّائِدَةُ لَا خَبَرَ لَهَا، وَهَذِهِ نَصَبَتْ صَبِيًّا خَبَرًا لَهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ لِإِيقَاعِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ مُبْهَمٍ يَصْلُحُ لِقَرِيبِهِ وَبِعِيدِهِ وَهُوَ هَاهُنَا لِقَرِيبِهِ خَاصَّةً وَالدَّالُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَأَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّعَجُّبِ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ نُكَلِّمُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ أَيْ كَيْفَ عُهِدَ قَبْلَ عِيسَى أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسُ صَبِيًّا. فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فِيمَا سَلَفَ مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى نُكَلِّمَ هَذَا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَفْعُولٌ بِنُكَلِّمُ. وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ أَنَّ مَنْ شرطية وكانَ فِي مَعْنَى يَكُنْ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَكَيْفَ نُكَلِّمُ وَهُوَ قَوْلٌ بِعِيدٌ جِدًّا. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمَهْدِ حِجْرُ أُمِّهِ. وَقِيلَ: سَرِيرُهُ. وَقِيلَ: الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَامَ مُتَّكِئًا عَلَى يَسَارِهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِسَبَّابَتِهِ الْيُمْنَى ، وَأَنْطَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِقَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ رَدًّا لِلْوَهْمِ الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى. وفي قوله عَبْدُ اللَّهِ وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى بَرَاءَةِ أُمِّهِ مِمَّا اتُّهِمَتْ بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَصُّ بِوَلَدٍ مَوْصُوفٍ بِالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ إِلَّا مبرأة مصطفاة والْكِتابَ الْإِنْجِيلُ أَوِ التَّوْرَاةُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا أَقْوَالٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّأَهُ حَالَ طُفُولِيَّتِهِ أَكْمَلَ اللَّهُ عَقَلَهُ وَاسْتَنْبَأَهُ طِفْلًا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي قَضَائِهِ وَسَابِقِ حُكْمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ الْآتِي لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً قَالَ مُجَاهِدٌ: نَفَّاعًا. وَقَالَ سُفْيَانُ: مُعَلِّمُ خَيْرٍ. وَقِيلَ: آمِرًا بِمَعْرُوفٍ، نَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ. وَعَنِ الضحاك: قضاء للحوائج وأَيْنَ مَا كُنْتُ شَرْطٌ وَجَزَاؤُهُ محذوف تقديره جَعَلَنِي مُبارَكاً وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَجَعَلَنِي السَّابِقِ لِأَنَّ أَيْنَ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْتِفْهَامًا أَوْ شَرْطًا لَا جائز

_ (1) سورة النساء: 4/ 96. (2) سورة الإسراء: 17/ 32.

أَنْ يَكُونَ هُنَا اسْتِفْهَامًا، فَتَعَيَّنَتِ الشَّرْطِيَّةُ وَاسْمُ الشَّرْطِ لَا يَنْصِبُهُ فِعْلٌ قَبْلَهُ إِنَّمَا هُوَ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَى مَا شُرِعَ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ. وقيل: الزَّكاةِ زكاة الرؤوس فِي الْفِطَرِ. وَقِيلَ الصَّلَاةُ الدعاء، والزَّكاةِ التطهر. وما فِي مَا دُمْتُ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ دُمْتُ بِضَمِّ الدَّالِ عَاصِمٌ وَجَمَاعَةٌ. وَقَرَأَ دِمْتُ بِكَسْرِ الدَّالِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو انْتَهَى. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ الْقُرَّاءَ السَّبْعَةَ قرؤوا دُمْتُ حَيًّا بِضَمِّ الدَّالِّ، وَقَدْ طَالَعْنَا جُمْلَةً مِنَ الشَّوَاذِّ فَلَمْ نَجِدْهَا لَا فِي شَوَاذِّ السَّبْعَةِ وَلَا فِي شَوَاذِّ غَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ تَقُولُ دُمْتُ تَدَامُ كَمَا قَالُوا مِتُّ تمات، وسبق أنه قرىء وَبِرًّا بِكَسْرِ الْبَاءِ فَإِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَذَا بِرٍّ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ جَعَلَ ذَاتَهُ مِنْ فَرْطِ بِرِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْمَرَ فِعْلٌ فِي مَعْنَى أَوْصَانِي وَهُوَ كَلَّفَنِي لِأَنَّ أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَكَلَّفَنِيهَا وَاحِدٌ، وَمَنْ قَرَأَ وَبَرًّا بِفَتْحِ الْبَاءِ، فَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُبارَكاً وَفِيهِ بُعْدٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ أَوْصانِي وَمُتَعَلِّقِهَا، وَالْأَوْلَى إِضْمَارُ فِعْلٍ أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنَّهُ قرىء وَبِرٍّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالرَّاءِ عَطْفًا عَلَى بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ. وَقَوْلُهُ: بِوالِدَتِي بَيَانُ مَحَلِّ الْبِرِّ وَأَنَّهُ لَا وَالِدَ لَهُ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ بَرَّأَهَا قَوْمُهَا. وَالْجَبَّارُ كَمَا تَقَدَّمَ الْمُتَعَاظِمُ وَكَانَ فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ يَأْكُلُ الشَّجَرَ وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ حَيْثُ جَنَّهُ اللَّيْلُ لَا مَسْكَنَ لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ صَغِيرٌ فِي نَفْسِي ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي وَالسَّلامُ لِلْجِنْسِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا التَّعْرِيفُ تَعْرِيضٌ بِلَعْنَةِ مُتَّهِمِي مَرْيَمَ وَأَعْدَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ فَإِذَا قَالَ: وَجِنْسُ السَّلَامِ عَلَيَّ خَاصَّةً فَقَدْ عَرَّضَ بِأَنَّ ضِدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَنَظِيرُهُ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «1» يَعْنِي إِنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ مُنَاكَرَةٍ وَعِنَادٍ فَهُوَ مَئِنَّةٌ لِنَحْوِ هَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ. وَقِيلَ: أَلْ لِتَعْرِيفِ الْمُنَكَّرِ فِي قِصَّةٍ يَحْيَى فِي قَوْلِهِ وَسَلامٌ نَحْوُ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا «2» فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ أَيْ وَذَلِكَ السَّلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى يَحْيَى فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ مُوَجَّهٌ إِلَيَّ. وَسَبَقَ الْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ وُلِدْتُ أَيْ يَوْمَ وَلَدْتَنِي جَعَلَهُ مَاضِيًا لَحِقَتْهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ ورجح

_ (1) سورة طه: 20/ 47. (2) سورة المزمل: 73/ 15. [.....]

[سورة مريم (19) : الآيات 34 إلى 40]

وَسَلَامٌ عَلَيَّ وَالسَّلَامُ لِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: سَلَامُ عِيسَى أَرْجَحُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ فَسَلَّمَ نائبا عن الله. [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَوْلُودِ الَّذِي وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ الْمُتَّصِفُ بِتِلْكَ الأوصاف الجميلة، وذلِكَ مبتدأ وعِيسَى خبره وابْنُ مَرْيَمَ صِفَةٌ لِعِيسَى أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلٌ، وَالْمَقْصُودُ ثُبُوتُ بُنُوَّتِهِ مِنْ مَرْيَمَ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَلَيْسَ بِابْنٍ لَهُ كَمَا يَزْعُمُ النَّصَارَى وَلَا لِغَيْرِ رِشْدَةٍ كَمَا يَزْعُمُ الْيَهُودُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ قَوْلَ الْحَقِّ بِنَصْبِ اللَّامِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ أَيْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ ثَابِتٌ صِدْقٌ لَيْسَ مَنْسُوبًا لِغَيْرِهَا، أَيْ إِنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ مَسِّ بَشَرٍ كَمَا تَقُولُ هَذَا عَبْدُ الله الحق لَا الْبَاطِلَ، أَيْ أَقُولُ الْحَقِّ وَأَقُولُ قَوْلَ الْحَقِّ فَيَكُونُ الْحَقِّ هُنَا الصِّدْقُ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ أَيِ الْقَوْلُ الْحَقِّ كَمَا قَالَ وَعْدَ الصِّدْقِ «1» أَيْ الْوَعْدُ الصِّدْقُ وَإِنْ عَنَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ الْقَوْلُ مُرَادًا بِهِ الْكَلِمَةُ كَمَا قَالُوا كَلِمَةُ اللَّهِ كَانَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الَّذِي صِفَةً لِلْقَوْلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الَّذِي صِفَةً لِلْحَقِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَ بِرَفْعِ اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ قَالُ بِأَلِفٍ وَرَفْعِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ بِضَمِّ الْقَافِ وَرَفْعِ اللَّامِ وَهِيَ مَصَادِرُ كَالرَّهَبِ وَالرَّهْبِ وَالرُّهْبِ وارتفاعه عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ أَيْ نِسْبَتُهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَطْ قَوْلَ الْحَقِّ فَتَتَّفِقُ إِذْ ذَاكَ قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ فِي الْمَعْنَى.

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 16.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلٌ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمَجَازِ فِي قَوْلٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَلِمَةُ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَكُونُ الذَّاتَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ زَائِدَةٍ قَالَ: بِأَلِفٍ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا الْحَقِّ بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ اللَّهُ ذلِكَ النَّاطِقُ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ والَّذِي عَلَى هَذَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ الَّذِي. وَقَرَأَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَالسُّلَمِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ تَمْتَرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَامْتَرَى افْتَعَلَ إِمَّا مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَإِمَّا مِنَ الْمِرَاءِ وَهُوَ الْمُجَادَلَةُ وَالْمُلَاحَاةُ، وَكِلَاهُمَا مَقُولٌ هُنَا قَالَتِ الْيَهُودُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَقَالَتِ النَّصَارَى ابْنُ اللَّهِ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهُوَ اللَّهُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ هَذَا تَكْذِيبٌ لِلنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَإِذَا اسْتَحَالَتِ الْبُنُوَّةُ فَاسْتِحَالَةُ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَقِلَّةٌ أَوْ بِالتَّثْلِيثِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِحَالَةِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مَعْنَاهُ الِانْتِفَاءُ فَتَارَةً يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الزَّجْرِ مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ «1» وَتَارَةً عَلَى التَّعْجِيزِ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «2» وَتَارَةً عَلَى التَّنْزِيهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ أَيْ تَنَزَّهَ عَنِ الْوَلَدِ إِذْ هُوَ مِمَّا لَا يُتَأَتَّى وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْقُولِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ لِاسْتِحَالَتِهِ، إِذْ هُوَ تَعَالَى مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِإِيجَادِ شيء أو جده فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَالُدِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ إِذا قَضى أَمْراً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِالْكَسْرِ دُونَ وَاوٍ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَإِنَّ بِالْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ هَذَا قَوْلَ الْحَقِّ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي كَذَلِكَ. وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ كَقَوْلِهِ وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «3» انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ أَيْضًا، وَبِأَنَّ اللَّهَ بِالْوَاوِ وَبَاءِ الْجَرِّ أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ في وَإِنَّ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ مَعْطُوفًا عَلَى وَالزَّكَاةِ، أَيْ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ «4» وَبِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ انْتَهَى. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِلْفَصْلِ الْكَثِيرِ، وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 120. (2) سورة النمل: 27/ 60. (3) سورة الجن: 73/ 18. (4) سورة مريم: 19/ 31.

وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، وَقَضَى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ أَمْراً مِنْ قَوْلِهِ إِذا قَضى أَمْراً وَالْمَعْنَى إِذا قَضى أَمْراً وَقَضَى إِنَّ اللَّهَ انْتَهَى. وَهَذَا تَخْبِيطٌ فِي الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى أَمْراً كَانَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَبَّنَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَهَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فَإِنَّهُ مِنَ الْجَلَالَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يُوَازِنَهُ أَحَدٌ مَعَ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ فَهْمِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ يُضَعَّفُ فِي النَّحْوِ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِ وَرَبُّكُمْ قِيلَ لِمُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْكَلَامَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلَّذِينِ خَاطَبَهُمْ عِيسَى بِقَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ «1» الْآيَةَ وَإِنَّ اللَّهَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ وَهْبٌ عَهَدَ عِيسَى إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَمَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَحْكِيًّا. يُقَالُ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلِهِ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ- إِلَى- وَإِنَّ اللَّهَ حمل اعْتِرَاضٍ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَيِ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ، هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي يُفْضِي بِقَائِلِهِ وَمُعْتَقِدِهِ إِلَى النَّجَاةِ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِلرَّسُولِ بِتَفَرُّقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، وَمَعْنَى مِنْ بَيْنِهِمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ بَلْ كَانُوا هُمُ الْمُخْتَلِفِينَ لَمْ يَقَعِ الِاخْتِلَافُ سَبَبُهُ غَيْرُهُمْ. والْأَحْزابُ قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ عِيسَى اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ انْتَهَى. فَالضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمْ عَلَى هَذَا لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْأَحْزابُ. وَقِيلَ: الْأَحْزابُ هُنَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: هُمُ النَّصَارَى فَقَطْ. وَعَنْ قَتَادَةَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمَعُوا أَرْبَعَةً مِنْ أَحْبَارِهِمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ وَأَحْيَا مَنْ أَحْيَا وَأَمَاتَ مَنْ أَمَاتَ، فَكَذَّبَهُ الثَّلَاثَةُ وَاتَّبَعَتْهُ الْيَعْقُوبِيَّةُ. ثُمَّ قَالَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَكَذَّبَهُ الِاثْنَانِ وَاتَّبَعَتْهُ النُّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ: عِيسَى أَحَدُ ثَلَاثَةٍ اللَّهُ إِلَهٌ، وَمَرْيَمُ إِلَهٌ، وَعِيسَى إِلَهٌ فَكَذَّبَهُ الرَّابِعُ وَاتَّبَعَتْهُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ. وَقَالَ الرَّابِعُ: عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَاتَّبَعَتْهُ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ اقْتَتَلَ الْأَرْبَعَةُ، فَغُلِبَ الْمُؤْمِنُونَ وَظَهَرَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ عَلَى الْجَمِيعِ فَرُوِيَ أَنَّ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ «2» آيَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَالْأَرْبَعَةُ يَعْقُوبُ وَنُسْطُورُ وَمَلْكَا وإسرائيل.

_ (1) سورة مريم: 19/ 30. (2) سورة آل عمران: 3/ 21.

وبين هُنَا أَصْلُهُ ظَرْفٌ اسْتُعْمِلَ اسْمًا بِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ الْبَيْنُ هُنَا الْبُعْدُ أَيِ اخْتَلَفُوا فِيهِ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الحق. ومَشْهَدِ مَفْعَلِ مِنَ الشُّهُودِ وَهُوَ الْحُضُورُ أَوْ مِنَ الشَّهَادَةِ وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَمَكَانًا وَزَمَانًا، فَمِنَ الشُّهُودِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ شُهُودِ هَوْلِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانِ الشُّهُودِ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْقِفُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الشُّهُودِ وَمِنَ الشَّهَادَةِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ شَهَادَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَأَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِالْكُفْرِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانِ الشَّهَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ عَلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: هُوَ يَوْمُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ وَقِيلَ مَا قَالُوهُ وَشَهِدُوا بِهِ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ يَوْمَ اخْتِلَافِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعَجُّبِ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ «1» وَأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّعَجُّبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَئِنْ كَانُوا صُمًّا وَبُكْمًا عَنِ الْحَقِّ فَمَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ وَلَا الْبَصَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُمْ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ أَيْ سَوْفَ يَسْمَعُونَ مَا يَخْلَعُ قُلُوبَهُمْ، وَيُبْصِرُونَ مَا يُسَوِّدُ وُجُوهَهُمْ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: إِنَّهُ أَمْرُ حَقِيقَةٍ لِلرَّسُولِ أَيْ أَسْمِعْ الناس اليوم وأبصرهم بِهِمْ وَبِحَدِيثِهِمْ مَاذَا يُصْنَعُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا أَتَوْا مَحْشُورِينَ مَغْلُولِينَ لكِنِ الظَّالِمُونَ عُمُومٌ يَنْدَرِجُ فِيهِ هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين، والْيَوْمَ أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْقَعَ الظَّاهِرَ أَعْنِي الظَّالِمِينَ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ إِشْعَارًا بِأَنْ لَا ظُلْمَ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِهِمْ حَيْثُ أَغْفَلُوا الِاسْتِمَاعَ وَالنَّظَرَ حِينَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ وَيُسْعِدُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْمُبِينِ إِغْفَالُ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ انْتَهَى. وَأَنْذِرْهُمْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالضَّمِيرُ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الظَّالِمِينَ. ويَوْمَ الْحَسْرَةِ يَوْمَ ذَبْحِ الْمَوْتِ وَفِيهِ حَدِيثٌ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: حِينَ يَصْدُرُ الْفَرِيقَانِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: حِينَ يَرَى الْكُفَّارُ مَقَاعِدَهُمُ الَّتِي فَاتَتْهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ اسْمَ جِنْسٍ لِأَنَّ هَذِهِ حَسَرَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي مَوَاطِنَ عِدَّةٍ، وَمِنْهَا يَوْمُ الْمَوْتِ، وَمِنْهَا وَقْتُ أَخْذِ الْكِتَابِ بِالشَّمَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 175.

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 98]

وإِذْ بد مِنْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قُضِيَ الْأَمْرُ ذُبِحَ الْمَوْتُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قُضِيَ الْعَذَابُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْمَعْنَى إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُكُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا بَرَزَتْ جَهَنَّمُ وَرَمَتْ بِالشَّرَرِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا: إِذَا فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. وَقِيلَ إِذَا قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «1» . وَقِيلَ: إِذَا يُقَالُ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ «2» وَقِيلَ: إِذَا قُضِيَ سَدُّ بَابِ التَّوْبَةِ وَذَلِكَ حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَنْذِرْهُمْ إِعْرَاضٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَنْذِرْهُمْ أَيْ وَأَنْذِرْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ غَافِلِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ يُرِيدُ فِي الدُّنْيَا الْآنَ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ وَأَنْذِرْهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُشْتَغِلُونَ بِأُمُورِ دُنْيَاهُمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وقُضِيَ الْأَمْرُ أَمْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها تَجُوزُ وَعِبَارَةٌ عَنْ فَنَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَقَاءِ الْخَالِقِ فَكَأَنَّهَا وِرَاثَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُرْجَعُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَعْرَجُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَحَكَى عَنْهُمُ الداني بالتاء. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 98] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 108. (2) سورة يس: 36/ 59.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا

لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا. وَاذْكُرْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ وَذَاكِرُهُ وَمُورِدُهُ فِي التَّنْزِيلِ هُوَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى وَاخْتِلَافَ الْأَحْزَابِ فِيهِمَا وَعِبَادَتَهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ قَامَتْ بِهِمَا الْحَيَاةُ ذَكَرَ الْفَرِيقَ الضَّالَّ الَّذِي عَبَدَ جَمَادًا وَالْفَرِيقَانِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّلَالِ، وَالْفَرِيقُ الْعَابِدُ الْجَمَادَ أَضَلُّ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَذْكِيرًا لِلْعَرَبِ بِمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَبْيِينَ أَنَّهُمْ سَالِكُو غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَفِيهِ صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَلَقًّى بِالْوَحْيِ وَالصِّدِّيقُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ مِنَ الثُّلَاثِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرُ الصِّدْقِ، وَالصِّدْقُ عُرْفُهُ فِي اللِّسَانِ وَيُقَابِلُهُ الْكَذِبُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْخُلُقِ وَفِيمَا لَا يَعْقِلُ يُقَالُ: صَدَقَنِي الطَّعَامَ كَذَا وَكَذَا قَفِيزًا، وُعُودٌ صِدْقٌ لِلصُّلْبِ الْجَيِّدِ فَوُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالصِّدْقِ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالصِّدِّيقِيَّةُ مَرَاتِبُ أَلَا تَرَى إِلَى وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا فِي قَوْلِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «1» وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَنَّ فِعِّيلًا إِذَا كَانَ مِنْ مُتَعَدٍّ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فَتَقُولُ هَذَا شِرِّيبٌ مُسْكِرٌ كَمَا أَعْمَلُوا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَعُولًا وَفَعَّالًا وَمِفْعَالًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ فَرْطُ صِدْقِهِ وَكَثْرَةُ مَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ غُيُوبِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَكُتُبِهِ ورسوله، وَكَانَ الرُّجْحَانُ وَالْغَلَبَةُ فِي هَذَا التَّصْدِيقِ لِلْكُتُبِ وَالرُّسُلِ أَيْ كَانَ مُصَدِّقًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَكُتُبِهِمْ وَكَانَ نَبِيًّا فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ «2» وَكَانَ بَلِيغًا فِي الصِّدْقِ لِأَنَّ مِلَاكَ أَمْرِ النُّبُوَّةِ الصِّدْقُ وَمُصَدِّقَ اللَّهِ بِآيَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ حَرِيٌّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَبَدَلِهِ أَعْنِي إِبْراهِيمَ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 69. (2) سورة الصافات: 37/ 37.

وإِذْ قالَ نَحْوُ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَنِعْمَ الرَّجُلُ أَخَاكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ إِذْ بَكَانَ أَوْ بِ صِدِّيقاً نَبِيًّا أَيْ كَانَ جَامِعًا لِخَصَائِصِ الصِّدِّيقِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ حِينَ خَاطَبَ أَبَاهُ تِلْكَ الْمُخَاطَبَاتِ انْتَهَى. فَالتَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي تَصَرُّفَ إِذْ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّهَا لَا تَتَصَرَّفُ، وَالتَّخْرِيجُ الثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كَانَ النَّاقِصَةَ وَأَخَوَاتَهَا تَعْمَلُ فِي الظُّرُوفِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ. وَالتَّخْرِيجُ الثَّالِثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُنْسَبُ إِلَّا إِلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، أَمَّا أَنْ يُنْسَبَ إِلَى مُرَكَّبٍ مِنْ مَجْمُوعِ لَفْظَيْنِ فَلَا، وَجَائِزٌ أن يكون معمولا لصديقا لِأَنَّهُ نَعْتٌ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوَفِيِّينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون معمولا لنبيا أَيْ مُنَبَّأً فِي وَقْتِ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ مَا قَالَ، وَأَنَّ التَّنْبِئَةَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَرَأَ أَبُو الْبِرِّ هُثَيْمٍ إِنَّهُ كَانَ صَادِقًا. وَفِي قوله يا أَبَتِ تَلَطُّفٌ وَاسْتِدْعَاءٌ بِالنَّسَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَا أَبَتِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَقَدْ لَحَّنَ هَارُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَا أَبَتِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَا أَبَتِ بِوَاوٍ بَدَلَ يَاءٍ، وَاسْتَفْهَمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّبَبِ الْحَامِلِ لأبيه على عبادة الضم وَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْهُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ شَيْئًا تَنْبِيهًا عَلَى شُنْعَةِ الرَّأْيِ وَقُبْحِهِ وَفَسَادِهِ فِي عِبَادَةِ مَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ. وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: انْظُرْ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ أَبَاهُ وَيَعِظَهُ فِيمَا كَانَ مُتَوَرِّطًا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ وَالِارْتِكَابِ الشَّنِيعِ الَّذِي عَصَى فِيهِ أَمْرَ الْعَقْلِ وَانْسَلَخَ عَنْ قَضِيَّةِ التَّمْيِيزِ كَيْفَ رَتَّبَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي أَحْسَنِ اتِّسَاقٍ وَسَاقَهُ أَرْشَقَ مَسَاقٍ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْمُجَامَلَةِ وَاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالْأَدَبِ الْجَمِيلِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ مُنْتَصِحًا فِي ذَلِكَ نَصِيحَةَ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا. حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه لسلام إِنَّكَ خَلِيلِي حَسِّنْ خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ، تَدْخُلْ مَدَاخِلَ الْأَبْرَارِ» ، كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ أُظِلُّهُ تَحْتَ عَرْشِي وَأُسْكِنُهُ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، وَأُدْنِيهِ مِنْ جِوَارِي. وَسَرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ هَذَا كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ نَوْعِ الخطابة تركناه. وما لَا يَسْمَعُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً وَمَعْمُولُ يَسْمَعُ ويُبْصِرُ مَنْسِيٌّ وَلَا يَنْوِي أَيْ مَا لَيْسَ بِهِ اسْتِمَاعٌ وَلَا إِبْصَارٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ دُونَ تقييد بمتعلق. وشَيْئاً . إِمَّا مَصْدَرٍ أَوْ مَفْعُولٍ بِهِ، وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْعِلَّةِ فِي عِبَادَةِ الصَّنَمِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ جَوَابًا، انْتَقَلَ مَعَهُ إِلَى إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا

لَمْ يَأْتِهِ وَلَمْ يَصِفْ أَبَاهُ بِالْجَهْلِ إِذْ يُغْنِي عَنْهُ السُّؤَالُ السَّابِقُ. وَقَالَ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْعِيضِ أَيْ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَ مَعَكَ، وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بعد ما نبىء، إِذْ فِي لَفْظِ جاءَنِي تَجَدُّدُ الْعِلْمِ، وَالَّذِي جَاءَهُ الْوَحْيُ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمَلَكُ أَوِ الْعِلْمُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا وَعِقَابِهَا أَوْ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ فَاتَّبِعْنِي عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وارفض الأصنام يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ. وَانْتَقَلَ مَنْ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِهِ إِلَى نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَتُهُ كَوْنُهُ يُطِيعُهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ثُمَّ نَفَّرَهُ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ كَانَ عَصِيًّا لِلرَّحْمَنِ، حَيْثُ اسْتَعْصَى حِينَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى، فَهُوَ عَدُوٌّ لَكَ وَلِأَبِيكَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ. وَكَانَ لَفْظُ الرَّحْمَنِ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ، وَأَنَّ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يُعْصَى، وَإِعْلَامًا بِشَقَاوَةِ الشَّيْطَانِ حَيْثُ عَصَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَارْتَكَبَ مِنْ ذَلِكَ مَا طَرَدَهُ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا لِنَفْسِهِ عِصْيَانَ رَبِّهِ لَا يَخْتَارُ لِذُرِّيَّتِهِ مَنْ عَصَى لِأَجْلِهِ إِلَّا مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ من عصيانهم. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالطَّبَرِيُّ أَخافُ أَعْلَمُ كَمَا قَالَ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما «1» أَيْ تَيَقَّنَّا، وَالْأَوْلَى حَمْلُ أَخافُ عَلَى مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ آيِسًا مِنْ إِيمَانِهِ بَلْ كَانَ رَاجِيًا لَهُ وَخَائِفًا أَنْ لَا يُؤْمِنَ وَأَنْ يَتَمَادَى عَلَى الْكُفْرِ فَيَمَسَّهُ الْعَذَابُ، وَخَوَّفَهُ إِبْرَاهِيمُ سُوءَ الْعَاقِبَةِ وَتَأَدَّبَ مَعَهُ إِذْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلُحُوقِ الْعَذَابِ بِهِ بَلْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخَائِفِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الْمَسِّ الَّذِي هُوَ أَلْطَفُ مِنَ الْمُعَاقَبَةِ وَنَكَّرَ الْعَذَابَ، وَرَتَّبَ عَلَى مَسِّ الْعَذَابِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَهُوَ وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «2» أَيْ مِنَ النَّعِيمِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ، وَصَدَّرَ كُلَّ نَصِيحَةٍ بِقَوْلِهِ يَا أَبَتِ توسلا إِلَيْهِ وَاسْتِعْطَافًا. وَقِيلَ: الْوِلَايَةُ هُنَا كَوْنُهُ مَقْرُونًا مَعَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ تَبَاغَضَا وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمَا مِنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ وَلِيًّا فِي الدُّنْيَا لِلشَّيْطَانِ فَيَمَسَّكَ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ. وَقَوْلُهُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْعَذَابَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَذَابُ عَلَى الْخِذْلَانِ مِنَ اللَّهِ فَيَصِيرَ مُوَالِيًا لِلشَّيْطَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَسُّ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُبْتَلَى عَلَى كُفْرِهِ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونَ ذَلِكَ الْعَذَابُ سَبَبًا لِتَمَادِيهِ عَلَى الْكُفْرِ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى أَنْ يُوَافَى عَلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» وَهَذِهِ الْمُنَاصَحَاتُ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 80. (2) سورة التوبة: 9/ 72. [.....] (3) سورة الأعراف: 7/ 168.

تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمُعَالَجَةِ أَبِيهِ، وَالطَّمَاعِيَةِ فِي هِدَايَتِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ وَإِرْشَادًا إِلَى الْهُدَى «لأن يهدي الله بك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» . قالَ أَيْ أَبُوهُ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، وَالرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ تَرْكُهُ عَمْدًا وَآلِهَتُهُ أَصْنَامُهُ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ وَنَادَاهُ بِاسْمِهِ وَلَمْ يُقَابِلْ يَا أَبَتِ بِيَا بُنِيَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي لِأَنَّهُ كَانَ أَهَمَّ عِنْدَهُ وَهُوَ عِنْدَهُ أَعْنِي وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ لِرَغْبَتِهِ عَنْ آلِهَتِهِ، وَإِنَّ آلِهَتَهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْغَبَ عَنْهَا أَحَدٌ. وَفِي هَذَا سُلْوَانٌ وَثَلْجٌ لِصَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا كَانَ يَلْقَى مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ كُفَّارِ قَوْمِهِ انْتَهَى. وَالْمُخْتَارُ فِي إِعْرَابِ أَراغِبٌ أَنْتَ أَنْ يَكُونَ رَاغِبٌ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى أداة الاستفهام، وأَنْتَ فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْإِعْرَابُ عَلَى مَا أَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ كون أَراغِبٌ خبرا وأَنْتَ مُبْتَدَأٌ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ إِذْ رُتْبَةُ الْخَبَرِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ أَراغِبٌ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ الَّذِي هُوَ عَنْ آلِهَتِي بِمَا لَيْسَ بِمَعْمُولٍ لِلْعَامِلِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ هُوَ عَامِلًا فِي الْمُبْتَدَأِ بِخِلَافِ كَوْنِ أَنْتَ فَاعِلًا فإن مَعْمُولُ أَراغِبٌ فَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ أَراغِبٌ وَبَيْنَ عَنْ آلِهَتِي بِأَجْنَبِيٍّ إِنَّمَا فُصِلَ بِمَعْمُولٍ لَهُ. وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَغْبَتَهُ عَنْ آلِهَتِهِ تَوَعَّدَهُ مُقْسِمًا عَلَى إِنْفَاذِ مَا تَوَعَّدَهُ بِهِ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ وَمُتَعَلِّقُ تَنْتَهِ مَحْذُوفٌ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُخَاطَبَتِي بِمَا خَاطَبْتَنِي بِهِ وَدَعَوْتَنِي إِلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنِ الرَّغْبَةِ عَنْ آلِهَتِي لَأَرْجُمَنَّكَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ لَئِنْ. قَالَ الْحَسَنُ: بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ: لَأَقْتُلَنَّكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: لَأَشْتُمَنَّكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ وَاهْجُرْنِي؟ قُلْتُ: عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَأَرْجُمَنَّكَ أَيْ فَاحْذَرْنِي وَاهْجُرْنِي لِأَنَّ لَأَرْجُمَنَّكَ تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى حَذْفٍ لِيُنَاسِبَ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بَلْ يَجُوزُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ. فَقَوْلُهُ وَاهْجُرْنِي مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَكِلَاهُمَا مَعْمُولٌ لِلْقَوْلِ. وَانْتَصَبَ مَلِيًّا عَلَى الظَّرْفِ أَيْ دَهْرًا طَوِيلًا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا،

وَمِنْهُ الْمَلَوَانُ وَهُمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالْمُلَاوَةُ بِتَثْلِيثِ حَرَكَةِ الْمِيمِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَيْتُ لِفُلَانٍ فِي الْأَمْرِ إِذَا أَطَلْتُ لَهُ. وقال الشاعر: فعسنا بِهَا مِنَ الشَّبَابِ مُلَاوَةً ... فالحج آيَاتُ الرَّسُولِ الْمُحَبَّبِ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: سِيرَ عَلَيْهِ مَلِيٌّ مِنَ الدَّهْرِ أَيْ زَمَانٌ طَوِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: مَلِيًّا معناه سالما سَوِيًّا فَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ وَاهْجُرْنِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَلْخِيصُ هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ مُسْتَنِدًا بِحَالِكَ غَنِيًّا عَنِّي مَلِيًّا بِالِاكْتِفَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ أَبَدًا. وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلٍ: فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرْمِلَاتُ مَلِيًّا وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: دَهْرًا، وَأَصْلُ الْحَرْفِ الْمُكْثُ يُقَالُ: تَمَلَّيْتُ حِينًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مَلِيًّا بِالذَّهَابِ عَنِّي وَالْهِجْرَانِ قَبْلَ أَنْ أُثْخِنَكَ بِالضَّرْبِ حَتَّى لَا تَقْدِرَ أن تبرخ فُلَانٌ مَلِيٌّ بِكَذَا إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ مُضْطَلِعًا بِهِ انْتَهَى. قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ. قَرَأَ أَبُو الْبِرِّ هُثَيْمٌ: سَلَامًا بِالنَّصْبِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا بِمَعْنَى الْمُسَالَمَةِ لَا بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، أَيْ أَمَنَةً مِنِّي لَكَ وَهَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ ابْتِدَاءَ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ حَلِيمٌ: خَاطَبَ سَفِيهًا كَقَوْلِهِ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «1» . وَقِيلَ: هِيَ تَحِيَّةُ مُفَارِقٍ، وَجَوَّزَ قَائِلُ هَذَا تَحِيَّةَ الْكَافِرِ وَأَنْ يُبْدَأَ بِالسَّلَامِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ «2» الْآيَةَ وَبِقَوْلِهِ قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ «3» الآية. وقالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ سَلامٌ عَلَيْكَ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُتَأَوَّلٌ، وَمَذْهَبُهُمْ مَحْجُوجٌ بِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ» وَرَفْعُ سَلامٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ سَلَّمْتُ سَلَامًا دُعَاءً لَهُ بِالسَّلَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمَالَةِ، ثُمَّ وَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِشَرْطِ حُصُولِ مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاسْتِغْفَارُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَهَذَا كَمَا يَرِدُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا يَصِحُّ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ. وَمَعْنَى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ أَدْعُو اللَّهَ فِي هِدَايَتِكَ فَيَغْفِرُ لَكَ بِالْإِيمَانِ وَلَا يُتَأَوَّلُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ عليه

_ (1) سورة الفرقان: 35/ 63. (2) سورة الممتحنة: 60/ 8. (3) سورة الممتحنة: 60/ 4.

السَّلَامُ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُوحِيَ إِلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِنَّمَا طَرِيقُهَا السَّمْعُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْهُ لِأَبِيهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي أَبِيهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا رُوِيَ، وَإِمَّا أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ الْحَتْمُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ إِنَّمَا هُوَ السَّمْعُ، فَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَلَا تَأْبَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْوَفَاءُ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ بِنَاءً عَلَى قَضِيَّةِ الْعَقْلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «1» فَلَوْ كَانَ شَارِطًا لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَرًا ومستثنى عما وجب فِيهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ لِأَنَّهُ وَعَدَهُ أَنْ يُؤْمِنَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «2» فَجَعَلَ الْوَاعِدَ آزَرَ وَالْمَوْعُودَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِاعْتِقَابِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَعْدَ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الجافي في قَوْلِهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ الْآيَةَ. فَكَيْفَ يَكُونُ وَعْدُهُ بِالْإِيمَانِ؟ وَلِأَنَّ الْوَاعِدَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ وَعَدَهَا إِيَّاهُ. وَالْحَفِيُّ الْمُكْرِمُ الْمُحْتَفِلُ الْكَثِيرُ الْبِرِّ وَالْأَلْطَافِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ لُغَةً فِي قَوْلِهِ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها «3» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحِيمًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَلِيمًا. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: بَارًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَفِيُّكَ مَنْ يَهُمُّهُ أَمْرُكَ، وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ لَأَرْجُمَنَّكَ فَظَاظَةٌ وَقَسَاوَةُ قَلْبٍ قَابَلَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِالسَّلَامِ وَالْأَمْنِ وَوَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ إِغْلَاظٌ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِهَجْرِهِ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يَتَمَثَّلُ أَمْرَهُ وَيَعْتَزِلُهُ وَقَوْمَهُ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ قِيلَ أَوْ إِلَى حَرَّانَ وَكَانُوا بِأَرْضِ كَوْثَاءَ، وَفِي هِجْرَتِهِ هَذِهِ تَزَوَّجَ سَارَةَ وَلَقِيَ الْجَبَّارَ الَّذِي أَخْدَمَ سَارَةَ هَاجَرَ، وَالْأَظْهَرُ أن قوله وَأَدْعُوا رَبِّي مَعْنَاهُ وَأَعْبُدُ رَبِّي كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ الْعِبَادَةُ» لِقَوْلِهِ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الدُّعَاءُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً «4» إِلَى آخِرِهِ، وَعَرَّضَ بِشَقَاوَتِهِمْ بِدُعَاءِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا مَعَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ فِي كَلِمَةِ عَسى وَمَا فِيهِ مِنْ هَضْمِ النَّفْسِ. وَفِي عَسى تَرَجٍّ فِي ضِمْنِهِ خَوْفٌ شَدِيدٌ، وَلَمَّا فَارَقَ الْكُفَّارَ وَأَرْضَهُمْ أَبْدَلَهُ مِنْهُمْ أَوْلَادًا أَنْبِيَاءَ، وَالْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فَكَانَ فِيهَا وَيَتَرَدَّدُ إِلَى مَكَّةَ فَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَابْنُهُ يَعْقُوبُ تَسْلِيَةً لَهُ وَشَدًّا لِعَضُدِهِ، وَإِسْحَاقُ أَصْغَرُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمَّا حَمَلَتْ هَاجَرُ بِإِسْمَاعِيلَ غَارَتْ سَارَةُ ثُمَّ حَمَلَتْ بإسحاق.

_ (1) سورة الممتحنة: 60/ 4. (2) سورة التوبة: 9/ 114. (3) سورة الأعراف: 7/ 187. (4) سورة الشعراء: 26/ 83.

وَقَوْلُهُ مِنْ رَحْمَتِنا قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النُّبُوَّةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرَ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْبَاقِي عَلَيْهِمْ آخِرَ الْأَبَدِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبَّرَ بِاللِّسَانِ كَمَا عَبَّرَ بِالْيَدِ عَمَّا يُطْلَقُ بِالْيَدِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرِّسَالَةُ الرَّائِعَةُ كَانَتْ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسَرُّ بِهَا وَقَالَ آخَرُ: نَدِمْتُ عَلَى لِسَانٍ كَانَ مِنِّي وَلِسَانُ الْعَرَبِ لُغَتُهُمْ وَكَلَامُهُمْ. اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فَصَيَّرَهُ قُدْوَةً حَتَّى عَظَّمَهُ أَهْلُ الْأَدْيَانِ كُلُّهُمْ وَادَّعَوْهُ. وَقَالَ تَعَالَى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «1» ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «2» ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «3» وَأَعْطَى ذَلِكَ ذُرِّيَّتَهُ فَأَعْلَى ذِكْرَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، كَمَا أَعْلَى ذِكْرَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ كَمَا أَعْلَى ذكره وأثنى عليه. جَثَا: قَعَدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَهِيَ قِعْدَةُ الْخَائِفِ الذَّلِيلِ يَجْثُو وَيَجْثِي جُثُوًّا وَجِثَايَةً. حَتَمَ الْأَمْرَ: أَوْجَبَهُ. النَّدِيُّ وَالنَّادِي: الْمَجْلِسُ الَّذِي يُجْتَمَعُ فِيهِ لِحَادِثَةٍ أَوْ مَشُورَةٍ. وَقِيلَ: مَجْلِسُ أَهْلِ النَّدَى وَهُوَ الْكَرَمُ. وَقِيلَ: الْمَجْلِسُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ. قَالَ حَاتِمٌ: فَدُعِيتُ فِي أُولِي النَّدِيِّ ... وَلَمْ يُنْظَرْ إِلَيَّ بِأَعْيُنٍ خُزْرٍ الرِّيُّ: مَصْدَرُ رَوَيْتُ مِنَ الْمَاءِ، وَاسْمُ مَفْعُولٍ أَيْ مَرْوِيٌّ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. الزِّيُّ: مَحَاسِنُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الزِّيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ. كَلَّا: حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَالْمُبَرِّدِ وَعَامَّةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَنَصْرُ بْنُ يُوسُفَ وَابْنُ وَاصِلٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى حَقًّا، وَذَهَبَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ إِلَى أَنَّهَا حَرْفُ تَصْدِيقٍ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ مَعَ الْقَسَمِ. وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ الْبَاهِلِيُّ إِلَى أَنَّ كَلَّا رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَمَا بَعْدَهَا اسْتِئْنَافٌ، وَتَكُونُ أَيْضًا صِلَةً لِلْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ أَيْ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الضِّدُّ: الْعَوْنُ يُقَالُ: مِنْ أَضْدَادِكُمْ أَيْ أَعْوَانِكُمْ، وَكَأَنَّ الْعَوْنَ سُمِّيَ ضِدًّا لأنه يضاد

_ (1) سورة النساء: 4/ 125. (2) سورة الأنعام: 6/ 161. (3) سورة النحل: 16/ 123.

عَدُوَّكَ وَيُنَافِيهِ بِإِعَانَتِهِ لَكَ عَلَيْهِ: الْأَزُّ وَالْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ أَخَوَاتٌ، وَمَعْنَاهَا التَّهْيِيجُ وَشِدَّةُ الْإِزْعَاجِ، وَمِنْهُ أَزِيزُ الْمِرْجَلِ وَهُوَ غَلَيَانُهُ وَحَرَكَتُهُ. وَفَدَ يَفِدُ وَفْدًا وَوُفُودًا وَوِفَادَةً: قَدِمَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرُمَةِ، الْأَدُّ وَالْإِدُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا الْعَجَبُ. وَقِيلَ: الْعَظِيمُ الْمُنْكَرُ وَالْإِدَّةُ الشِّدَّةُ، وَأَدَّنِي الْأَمْرُ وَآدَنِي أَثْقَلَنِي وَعَظُمَ عَلَيَّ أَدًّا. الْهَدُّ: قَالَ الجوهري هدّا الْبِنَاءَ هَدًّا كَسَرَهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ سُقُوطٌ بِصَوْتٍ شَدِيدٍ، وَالْهَدَّةُ صَوْتُ وَقْعِ الحائط ونحوه يقال: هديهد بِالْكَسْرِ هَدِيدًا. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْهَدُّ الْهَدْمُ الشَّدِيدُ. الرِّكْزُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَّزَ الرُّمْحَ غَيَّبَ طَرَفَهُ فِي الْأَرْضِ، وَالرِّكَازُ الْمَالُ الْمَدْفُونُ. وَقِيلَ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ دُونَ نُطْقٍ بِحُرُوفٍ وَلَا فَمٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا ... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سِقَامُهَا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا. قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مُخْلَصاً بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي رَزِينٍ وَيَحْيَى وَقَتَادَةَ، أَيْ أَخْلَصَهُ اللَّهُ لِلْعِبَادَةِ وَالنُّبُوَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «1» . وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ عَنِ الشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ، أَوْ أَخْلَصَ نَفْسَهُ وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. وَنِدَاؤُهُ إِيَّاهُ هُوَ تكليمه تعالى إياه. والطُّورِ الْجَبَلُ الْمَشْهُورُ بِالشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْمَنِ صِفَةٌ لِلْجَانِبِ لِقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ «2» بِنَصْبِ الْأَيْمَنَ نَعْتًا لِجَانِبِ الطُّورِ، وَالْجَبَلُ نَفْسُهُ لَا يُمْنَةَ لَهُ وَلَا يُسْرَةَ وَلَكِنْ كَانَ عَلَى يَمِينِ مُوسَى بِحَسْبِ وُقُوفِهِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْيَمَنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْجَانِبِ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِيُوَافِقَ ذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلطُّورِ إِذْ مَعْنَاهُ الْأَسْعَدُ الْمُبَارَكُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَنادَيْناهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ مَدْيَنَ وَرَأَى النَّارَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ يُرِيدُ مَنْ يَهْدِيهِ إِلَى طَرِيقِ مِصْرَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ

_ (1) سورة ص: 38/ 46. (2) سورة مريم: 19/ 52 وسورة طه: 20/ 80.

الْجَبَلِ. وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قَالَ الْجُمْهُورُ: تَقْرِيبُ التَّشْرِيفِ وَالْكَلَامِ وَالْيَوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَدْنَى مُوسَى مِنَ الْمَلَكُوتِ وَرُفِعَتْ لَهُ الْحُجُبُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمَيْسَرَةُ. وَقَالَ سعيد: أردفه جبريل على السَّلَامُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ بِمَنْ قَرَّبَهُ بَعْضُ الْعُظَمَاءِ لِلْمُنَاجَاةِ حَيْثُ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ انْتَهَى. وَنَجِيٌّ فَعِيلٌ مِنَ الْمُنَاجَاةِ بِمَعْنَى مُنَاجٍ كَالْجَلِيسِ، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمُنَاجَاةِ وَهِيَ الْمُسَارَّةُ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى نَجَّاهُ صدقه ومن فِي مِنْ رَحِمَتِنَا لِلسَّبَبِ أَيْ مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِنَا لَهُ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ بَعْضَ رَحْمَتِنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأَخاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَدَلٌ وهارُونَ عَطْفُ بَيَانٍ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَاكَ زَيْدًا انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَخَاهُ مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ وَوَهَبْنا وَلَا تُرَادِفُ مِنْ بَعْضًا فَتُبْدَلَ مِنْهَا، وَكَانَ هَارُونُ أَسَنَّ مِنْ مُوسَى طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَشُدَّ أَزْرَهُ بنبوته ومعونته فأجابه وإِسْماعِيلَ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْعَرَبِ يَمَنِيِّهَا وَمُضَرِيِّهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حِزْقِيلٍ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَشَجُّوا جلدة رأسه فخيره الله فِيمَا شَاءَ مِنْ عَذَابِهِمْ فَاسْتَعْفَاهُ وَرَضِيَ بِثَوَابِهِ وَفَوَّضَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ فِي عَفْوِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَصِدْقُ وَعْدِهِ أَنَّهُ كَانَتْ مِنْهُ مَوَاعِيدُ لِلَّهِ وَلِلنَّاسِ فَوَفَّى بِالْجَمِيعِ، فَلِذَلِكَ خُصَّ بِصِدْقِ الْوَعْدِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمْ يَعِدْ رَبَّهُ مَوْعِدَةً إِلَّا أَنْجَزَهَا، فَمِنْ مَوَاعِيدِهِ الصَّبْرُ وَتَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ، وَوَعَدَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَ لَهُ بِمَكَانٍ فَغَابَ عَنْهُ مُدَّةً. قِيلَ: سَنَةً. وَقِيلَ: اثَّنَى عَشَرَ يَوْمًا فَجَاءَهُ، فَقَالَ: بَرِحْتَ مِنْ مَكَانِكَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا كُنْتُ لِأُخْلِفَ مَوْعِدِي. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: قَوْمَهُ وَأُمَّتَهُ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ يَبْدَأُ بِأَهْلِهِ فِي الْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ لِيَجْعَلَهُمْ قُدْوَةً لِمَنْ وَرَاءَهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ «2» قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا «3» أَيْ تَرَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْسَانِ الدِّينِيِّ أَوْلَى. وَقِيلَ: أَهْلَهُ أُمَّتَهُ كُلَّهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ أُمَمَ النَّبِيِّينَ فِي عِدَادِ أَهَالِيهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ حَقَّ الصَّالِحِ أَنْ لَا يَأْلُوَ نُصْحًا لِلْأَجَانِبِ فَضْلًا عَنِ الأقارب والمتصلين، وأن يخطيهم بِالْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يُفَرِّطَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا ذُكِرَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَشْرِيفًا لَهُ وَإِكْرَامًا كَالتَّلْقِيبِ نَحْوِ الْحَلِيمِ الأواه وَالصِّدِّيقِ، وَلِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ الْمُتَوَاصَفُ من خصاله.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 214. [.....] (2) سورة طه: 20/ 132. (3) سورة التحريم: 66/ 6.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَرْضِيًّا وَهُوَ اسم مفعول أي مرضو وفاعل بِقَلْبِ وَاوِهِ يَاءً لِأَنَّهَا طَرَفٌ بَعْدَ وَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَالسَّاكِنُ لَيْسَ بِحَاجِزٍ حَصِينٍ فَكَأَنَّهَا وَلِيَتْ حَرَكَةً، وَلَوْ بُنِيَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ مَفْعُلًا لَصَارَ مَفْعِلًا لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَكُونُ طَرَفًا وَقَبْلَهَا مُتَحَرِّكٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ غَيْرِ الْمُتَقَيِّدَةِ بِالْإِضَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ حِينَ سموا بيغزو الْغَازِيَ مِنَ الضَّمِيرِ قَالُوا: بغز حِينَ صَارَ اسْمًا، وَهَذَا الْإِعْلَالُ أَرْجَحُ مِنَ التَّصْحِيحِ، وَلِأَنَّهُ اعْتَلَّ فِي رَضِيٍّ وفي رضيان تثنية رضي. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَرْضُوًا مُصَحَّحًا. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ وَمَسْنُوَّةٌ، وَهِيَ التي تسقى بالسواني. وإِدْرِيسَ هُوَ جِدُّ أَبِي نُوحٍ وَهُوَ أَخْنُوخُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَظَرَ فِي النُّجُومِ وَالْحِسَابِ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَخَاطَ الثِّيَابَ وَلَبِسَ الْمَخِيطَ، وَكَانَ خَيَّاطًا وَكَانُوا قَبْلُ يَلْبَسُونَ الْجُلُودَ، وَأَوَّلُ مُرْسَلٍ بَعْدَ آدَمَ وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْمَوَازِينَ وَالْمَكَايِيلَ وَالْأَسْلِحَةَ فَقَاتَلَ بَنِي قَابِيلَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ إِلْيَاسُ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَعْمَلُوا مَا شاؤوا فأبوا وأهلكوا. وإِدْرِيسَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ إِفْعِيلًا مِنَ الدَّرْسِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ صَرْفُهُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَلَمِيَّةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِدْرِيسَ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنَ مَعْنَى الدَّرْسِ، فَحَسِبَهُ الْقَائِلُ مُشْتَقًّا مِنَ الدَّرْسِ. وَالْمَكَانُ الْعَلِيُّ شَرَفُ النُّبُوَّةِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً انْتَهَى. وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ رَفْعُ النُّبُوَّةِ وَالتَّشْرِيفِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي السَّمَاءِ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: بَلْ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ كَمَا رُفِعَ عِيسَى كَانَ لَهُ خَلِيلٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَمَلَهُ عَلَى جَنَاحِهِ وَصَعِدَ بِهِ حَتَّى بَلَغَ السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَلَقِيَ هُنَالِكَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قِيلَ لِيَ اهْبِطْ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاقْبِضْ فِيهَا رُوحَ إِدْرِيسَ وَإِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ الصَّاعِدُ: هَذَا إِدْرِيسُ مَعِي فَقَبَضَ رُوحَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ هِيَ رُتْبَتُهُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: إِلَى الْجَنَّةِ لَا شَيْءَ أَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْبُدُ اللَّهَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَتَارَةً يُرْفَعُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مَيِّتٌ فِي السَّمَاءِ. أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ الأنبياء ومِنَ فِي

مِنَ النَّبِيِّينَ لِلْبَيَانِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ ومِنَ الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، وَكَانَ إِدْرِيسُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ لِقُرْبِهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَدُّ أَبِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ، لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَعْقُوبُ وَإِسْرَائِيلُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَمُوسَى وَهَارُونُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ عِيسَى لِأَنَّ مَرْيَمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَمِمَّنْ هَدَيْنا يَحْتَمِلُ الْعَطْفُ عَلَى مِنَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ خَبَرٌ لِأُولَئِكَ. وإِذا تُتْلى كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صِفَةً لِأُولَئِكَ وَالْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ خَبَرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُتْلى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْعِجْلِيُّ عَنْ حَمْزَةَ وَقُتَيْبَةُ فِي رِوَايَةٍ وَوَرْشٌ فِي رِوَايَةِ النَّحَّاسِ، وَابْنُ ذَكْوَانَ في روايد التَّغْلِبِيِّ بِالْيَاءِ. وَانْتَصَبَ سُجَّداً عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ لِأَنَّهُ حَالَ خُرُورِهِ لَا يَكُونُ سَاجِدًا، وَالْبُكِيُّ جَمْعُ بَاكٍ كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ، وَلَا يُحْفَظُ فِيهِ جَمْعُهُ الْمَقِيسُ وَهُوَ فُعَلَةٌ كَرَامٍ وَرُمَاةٍ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بُكِيًّا بِضَمِّ الْبَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْكَافِ كَعِصِيٍّ وَدِلِيٍّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ جَمَعَ لِمُنَاسَبَةِ الْجَمْعِ قَبْلَهُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ البكا بمعنى بكاء، وأصله بكو وكجلس جُلُوسًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وبُكِيًّا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ إِتْبَاعَ حَرَكَةِ الْكَافِ لَا تُعَيِّنُ الْمَصْدَرِيَّةَ، أَلَا تراهم قرؤوا جِثِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ جَاثٍ، وَقَالُوا عِصِيٌّ فَأَتْبَعُوا. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا. نَزَلَ فَخَلَفَ فِي الْيَهُودِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ، وَفِيهِمْ وَفِي النَّصَارَى عَنِ السُّدِّيِّ، وَفِي قَوْمٍ مِنْ أُمَّةِ الرَّسُولِ يَأْتُونَ عِنْدَ ذَهَابِ صَالِحِيهَا يَتَبَارَزُونَ بِالزِّنَا يَنْزُو فِي الْأَزِقَّةِ بَعْضُهُمْ

عَلَى بَعْضٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ. وَعَنْ وَهْبٍ: هُمْ شُرَّابُو الْقَهْوَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خَلْفٌ فِي الْأَعْرَافِ، وَإِضَاعَةُ الصَّلَاةِ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: إِضَاعَتُهَا الْإِخْلَالُ بِشُرُوطِهَا. وَقِيلَ: إِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ الْجَمَاعَاتِ. وَقِيلَ: عَدَمُ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا. وَقِيلَ: تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالُ بِالصَّنَائِعِ. والأسباب، والشَّهَواتِ عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْتَهًى يَشْغَلُ عَنِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ مَنْ بَنَى الشَّدِيدَ وَرَكِبَ الْمَنْظُورَ وَلَبِسَ الْمَشْهُورَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ مِقْسَمٍ الصَّلَوَاتِ جَمْعًا. وَالْغَيُّ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ شَرٍّ، وَالرَّشَادُ كُلُّ خَيْرٍ. قَالَ الشَّاعِرِ: فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ جَزَاءَ غَيٍّ كَقَوْلِهِ يَلْقَ أَثاماً «1» أَيْ مُجَازَاةَ آثَامٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْغَيُّ الْخُسْرَانُ وَالْحُصُولُ فِي الْوَرَطَاتِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ مَسْعُودٍ وَكَعْبٌ: غَيٌّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ضَلَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ غَيًّا عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ: آبَارٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا الصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ. وَقِيلَ: هَلَاكٌ. وَقِيلَ: شَرٌّ. وقرىء فِيمَا حَكَى الْأَخْفَشُ يَلْقَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَشَدِّ الْقَافِ. إِلَّا مَنْ تابَ اسْتِثْنَاءٌ ظَاهِرُهُ الِاتِّصَالُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُنْقَطِعٌ وَآمَنَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْإِضَاعَةَ كُفْرٌ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ يَدْخُلُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ يَدْخُلُونَ. وَقَرَأَ كَذَلِكَ هُنَا الزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَابْنُ سَعْدَانَ. وَقَرَأَ ابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ: سَيَدْخُلُونَ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَنَّاتِ نَصْبًا جَمْعًا بَدَلًا مِنَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً اعْتِرَاضٌ أَوْ حَالٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ وَأَحْمَدُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو جَنَّاتِ رَفْعًا جَمْعًا أَيْ تِلْكَ جَنَّاتُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ انْتَهَى يَعْنِي وَالْخَبَرُ الَّتِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَعَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ جَنَّةَ عَدْنٍ نَصْبًا مُفْرَدًا وَرُوِيَتْ عَنِ الْأَعْمَشِ وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ حَمْزَةَ جَنَّةُ رَفْعًا مُفْرَدًا وعَدْنٍ إِنْ كَانَ عَلَمًا شَخْصِيًّا كَانَ الَّتِي نَعْتًا لِمَا أُضِيفَ إِلَى عَدْنٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى إِقَامَةً كَانَ الَّتِي بدلا.

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 68.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَدْنٍ مَعْرِفَةٌ عَلَمٌ لِمَعْنَى الْعَدْنِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، كَمَا جَعَلُوا فَيْنَةَ وَسَحَرَ وَأَمْسِ فِي مَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ أَعْلَامًا لِمَعَانِي الْفَيْنَةِ وَالسَّحَرِ وَالْأَمْسِ، فَجَرَى الْعَدْنُ كَذَلِكَ. أَوْ هُوَ علم الأرض الجنة لكونه مَكَانَ إِقَامَةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ الْإِبْدَالُ لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تُبْدَلُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا مَوْصُوفَةً، وَلَمَا سَاغَ وَصْفُهَا بِالَّتِي انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مُتَعَقَّبٌ. أَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ عَدْنًا عَلَمٌ لِمَعْنَى الْعَدْنِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ وَسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَذَا دَعْوَى الْعَلَمِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ مَوْصُوفَةً فَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ جَوَازُ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْصُوفَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ وَهُمْ محجوجون بالسماع علم مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا فِي النَّحْوِ، فَمُلَازَمَتُهُ فَاسِدَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمَا سَاغَ وَصْفُهَا بِالَّتِي فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُ الَّتِي صِفَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْرَابُهُ بدلا وبِالْغَيْبِ حَالٌ أَيْ وَعَدَهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ عَنْهُمْ أَوْ وَهُمْ غَائِبُونَ عَنْهَا لَا يُشَاهِدُونَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ بِتَصْدِيقِ الْغَيْبِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ الَّذِينَ يَكُونُونَ عِبَادًا بِالْغَيْبِ أَيْ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ فِي السِّرِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَعْدُهُ مَصْدَرٌ. فَقِيلَ: مَأْتِيًّا بِمَعْنَى آتِيًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ الْمَفْعُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَأْتِيًّا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَالْوَجْهُ أَنَّ الْوَعْدَ هُوَ الْجَنَّةُ وَهُمْ يَأْتُونَهَا، أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِكَ أَتَى إِلَيْهِ إِحْسَانًا أَيْ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا مُنْجَزًا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْوَجْهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: وَعْدُهُ هُنَا مَوْعُودُهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ، ومَأْتِيًّا يَأْتِيهِ أَوْلِيَاؤُهُ انْتَهَى. إِلَّا سَلاماً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ «1» . وَقِيلَ: يُسَلِّمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهَا. وَمَعْنَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا يَأْتِيهِمْ طَعَامُهُمْ مَرَّتَيْنِ فِي مِقْدَارِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنَ الزَّمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا بُكْرَةَ وَلَا عَشِيَّ وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى مَا كَانُوا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَهُ قَتَادَةُ أَنْ تَكُونَ مُخَاطَبَةً بِمَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ فِي رَفَاهَةِ الْعَيْشِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خُوطِبُوا عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْلَمُ مِنْ أَفْضَلِ الْعَيْشِ، وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ إِنَّمَا كَانَ يَجِدُ الطَّعَامَ الْمَرَّةَ فِي الْيَوْمِ، وَكَانَ عَيْشُ أَكْثَرِهِمْ مِنْ شَجَرِ الْبَرِّيَّةِ وَمِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اللَّغْوُ فُضُولُ الْكَلَامِ وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى وُجُوبِ تَجَنُّبِ اللَّغْوِ وَاتِّقَائِهِ حَيْثُ نَزَّهَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّارَ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ فِيهَا. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 24.

وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً «1» وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «2» الْآيَةَ أَيْ إِنْ كَانَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ لَغْواً فَلَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا إِلَّا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ وَادِي قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ أَوْ لَا يَسْمَعُونَ فِيها إِلَّا قَوْلًا يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْعَيْبِ وَالنَّقِيصَةِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى السَّلَامِ هُوَ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ، وَدَارُ السَّلَامِ هِيَ دَارُ السَّلَامَةِ وَأَهْلُهَا عَنِ الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ أَغْنِيَاءُ. فَكَانَ ظَاهِرُهُ مِنْ بَابِ اللَّغْوِ وَفُضُولِ الْحَدِيثِ لَوْلَا مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْكَلَامِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَلَا يَكُونُ ثَمَّ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ وَلَكِنْ عَلَى التَّقْدِيرِ. وَلِأَنَّ الْمُتَنَعَّمَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَعَشَاءً. وَقِيلَ: أَرَادَ دَوَامَ الرِّزْقِ وَدَرُورَهُ كَمَا تَقُولُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَلَا يَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُورِثُ مُضَارِعُ أَوْرَثَ، وَالْأَعْمَشُ نُورِثُهَا بِإِبْرَازِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَرُوَيْسٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ. وَالتَّوْرِيثُ اسْتِعَارَةٌ أَيْ تَبْقَى عَلَيْهِ الْجَنَّةُ كَمَا يَبْقَى عَلَى الْوَارِثِ مَالُ الْمَوْرُوثِ، وَالْأَتْقِيَاءُ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ قَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ وَثَمَرَتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كَمَا يُوَرَّثُ الْوَارِثُ الْمَالَ مِنَ الْمُتَوَفَّى. وَقِيلَ: أُورِثُوا مِنَ الْجَنَّةِ الْمَسَاكِنَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ النَّارِ لَوْ أَطَاعُوا. وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَنِ الرَّسُولِ مَرَّةً، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ قَدِ اشْتَقْتُ إِلَيْكَ أَفَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا» ؟ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: سَبَبُهَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَأَخَّرَ فِي السُّؤَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَهِيَ كَالَّتِي فِي الضُّحَى، وَتَنَزَّلَ تَفَعَّلَ وَهِيَ لِلْمُطَاوَعَةِ وَهِيَ أَحَدُ مَعَانِي تَفَعَّلَ، تَقُولُ: نَزَّلْتُهُ فَتَنَزَّلَ فَتَكُونُ لِمُوَاصَلَةِ الْعَمَلِ فِي مُهْلَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ لَا يُلْحَظُ فِيهِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشَّيْءَ وَعَدَّاهُ وَلَا يَكُونُ مُطَاوِعًا فَيَكُونَ تَنَزَّلَ فِي مَعْنَى نَزَلَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّبُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّنَزُّلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: مَعْنَى النُّزُولِ عَلَى مَهَلٍ، ومعنى النزول على

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 72. (2) سورة القصص: 28/ 55.

الْإِطْلَاقِ. كَقَوْلِهِ: فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ الْبَيْتَ لِأَنَّهُ مُطَاوِعُ نَزَّلَ وَنَزَّلَ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنْزَلَ وَبِمَعْنَى التَّدْرِيجِ وَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ النُّزُولُ عَلَى مَهَلٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ نُزُولَنَا فِي الْأَحَايِينِ وَقْتًا غِبَّ وَقْتٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْوَاوُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ وَما نَتَنَزَّلُ هِيَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى أُخْرَى وَاصِلَةٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَا نَتَنَزَّلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا «1» وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَنْعَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ «2» وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَفَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ خَلْفٌ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يُقَالُ فِيهِمْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ إِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ شَرِيعَةٌ فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الصَّلَاةُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ الْيَهُودُ هُمْ سَبَبَ سُؤَالِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ، وَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَنْهُ فَفَرِحَتْ بِذَلِكَ قُرَيْشٌ وَالْيَهُودُ وَكَانَ ذَلِكَ مِنِ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ، هَذَا وَهُمْ عَالِمُونَ بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَما نَتَنَزَّلُ تَنْبِيهًا عَلَى قِصَّةِ قُرَيْشٍ وَالْيَهُودِ، وَأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْقِصَّةِ إِنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ أُولَئِكَ الْخَلَفِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَخَتْمًا لِقِصَصِ أُولَئِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ لِمُخَاطَبَةِ أَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِعْذَارًا مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلرَّسُولِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِبْطَاءَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِذْ لَا يَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْطَاءُ الْوَحْيِ سَبَبُهُ قِصَّةُ السُّؤَالِ وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْرِنْ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِالْمَشِيئَةِ، وَكَانَ السُّؤَالُ مُتَسَبِّبًا عَنِ اتِّبَاعِ الْيَهُودِ شَهَوَاتِهِمْ وَخَفِيَّاتِ خُبْثِهِمُ اكْتَفَى بِذِكْرِ النَّتِيجَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ ذِكْرِ مَا آثَرَتْهُ شَهَوَاتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَخُبْثُهُمْ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا بَيْنَ الْأَيْدِي الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَمَا خَلْفَ ذَلِكَ الْآخِرَةُ مِنْ وَقْتِ الْبَعْثِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي بَنِي آدَمَ، وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ هِيَ لِلْمَلَائِكَةِ فَتَأَمَّلْهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَا بَيْنَ الْأَيْدِي هُوَ مَا مَرَّ مِنَ الزَّمَانِ قَبْلَ الْإِيجَادِ، وَمَا خَلْفَ هُوَ مَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْآخِرَةِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ هُوَ مُدَّةُ الْحَيَاةِ. وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ مَا بَيْنَ أَيْدِينا الْآخِرَةُ وَما خَلْفَنا

_ (1) سورة مريم: 19/ 19. (2) سورة مريم: 19/ 58.

الدُّنْيَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَسُفْيَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَكْسَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَا بَيْنَ أَيْدِينا قَبْلَ أَنْ نُخْلَقَ وَما خَلْفَنا بَعْدَ الْفَنَاءِ وَما بَيْنَ ذلِكَ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حِينَ كَوْنِنَا. وَقَالَ صاحب الغينان: مَا بَيْنَ أَيْدِينا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَما خَلْفَنا مِنَ الْأَرْضِ وَما بَيْنَ ذلِكَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قال ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ثُمَّ قَالَ: حَصَرَ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ أَنَّ كُلَّهَا لِلَّهِ هُوَ مُنْشِئُهَا وَمُدَبِّرُ أَمْرِهَا عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ تَقْدِيمِ إِنْزَالٍ وَتَأْخِيرِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَتَصَرُّفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا الْقَصْدُ الْإِشْعَارُ بِمُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ، وَأَنَّ قَلِيلَ تَصَرُّفِهِمْ وَكَثِيرَهُ إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِهِ وَانْتِقَالَهُمْ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِنَّمَا هُوَ بِحِكْمَتِهِ إِذِ الْأَمْكِنَةُ لَهُ وَهُمْ لَهُ، فَلَوْ ذَهَبَ بِالْآيَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَمَا خَلْفَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي فِيهَا تَصَرُّفُهُمْ وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ ذَلِكَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ لَكَانَ وَجْهًا كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ مُقَيَّدُونَ بِالْقُدْرَةِ لَا نَنْتَقِلُ وَلَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ لَهُ إِلَى آخِرِهِ ذَهَبَ إِلَى نَحْوِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ لَهُ: مَا قُدَّامَنَا وَمَا خَلْفَنَا مِنَ الْجِهَاتِ وَالْأَمَاكِنِ. وَمَا نَحْنُ فِيهَا، فَلَا نَتَمَالَكُ أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَمَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا بِأَمْرِ الْمَلِيكِ وَمَشِيئَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَكَيْفَ نُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ نُحْدِثُهُ إِلَّا صَادِرًا عَمَّا تُوجِبُهُ حِكْمَتُهُ وَيَأْمُرُنَا وَيَأْذَنُ لَنَا فِيهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْبَغْوَيُّ: لَهُ عِلْمُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَابْنُ بَحْرٍ: وَما نَتَنَزَّلُ الْآيَةَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِذَا دَخَلُوهَا وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْآيَةِ الْأُولَى إِلَى قَوْلِهِ وَما بَيْنَ ذلِكَ أَيْ مَا نَنْزِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا أَيْ فِي الْجَنَّةِ مُسْتَقْبَلًا وَما خَلْفَنا مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَمَا بَيْنَهُمَا أَيْ مَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: وَقِيلَ هِيَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُتَّقِينَ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْ وَمَا نَنْزِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْنَا بِثَوَابِ أَعْمَالِنَا وَأَمْرِنَا بِدُخُولِهَا وَهُوَ الْمَالِكُ لِرِقَابِ الْأُمُورِ كُلِّهَا السَّالِفَةِ وَالْمُتَرَقَّبَةِ وَالْحَاضِرَةِ، اللَّاطِفُ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْمُوَفِّقُ لَهَا وَالْمُجَازِي عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى تَقْرِيرًا لَهُمْ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا لِأَعْمَالِ الْعَامِلِينَ غَافِلًا عَمَّا يَجِبُ أَنْ يُثَابُوا بِهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ النِّسْيَانُ وَالْغَفْلَةُ عَلَى ذِي مَلَكُوتِ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ وُجُوهٍ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِقَوْلِهِ بِأَمْرِ رَبِّكَ فَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِحَالِ التَّكْلِيفِ أَلْيَقُ. وَثَانِيهَا: خِطَابٌ مِنْ جَمَاعَةٍ لِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْجَنَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا فِي مَسَاقِهِ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما لَا يَلِيقُ بِحَالِ التَّكْلِيفِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّسُولُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَما نَتَنَزَّلُ بِالنُّونِ عَنَى جِبْرِيلُ نَفْسَهُ وَالْمَلَائِكَةَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ. قِيلَ: وَالضَّمِيرُ فِي يَتَنَزَّلُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّهُ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ مَعَهُ وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ جِبْرِيلَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ جِبْرِيلَ، وَالضَّمِيرُ لِلْوَحْيِ انْتَهَى. وَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْقَوْلُ عَلَى إِضْمَارٍ أَيْ وَمَا يَتَنَزَّلُ جِبْرِيلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ قَائِلًا لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْذَارِ فِي الْبُطْءِ عَنْكَ بِأَنَّ رَبَّكَ مُتَصَرِّفٌ فِينَا لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، وَإِخْبَارٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِنَاسِيكَ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْكَ الْوَحْيُ. وَارْتَفَعَ رَبُّ السَّماواتِ عَلَى الْبَدَلِ أَوْ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هَلْ تَعْلَمُ بِإِظْهَارِ اللَّامِ عِنْدَ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَهِشَامٌ وَعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ وَهَارُونُ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ وَعِيسَى وَابْنِ مُحَيْصِنٍ بِالْإِدْغَامِ فِيهِمَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُمَا لُغَتَانِ وَعَلَى الْإِدْغَامِ أَنْشَدُوا بَيْتَ مُزَاحِمٍ الْعُقَيْلِيِّ: فَذَرْ ذَا وَلَكِنْ هَلْ تُعِينُ مُتَيَّمًا ... عَلَى ضَوْءِ بَرْقٍ آخِرَ اللَّيْلِ نَاصِبِ وَعُدِّيَ فَاصْطَبِرْ بِاللَّامِ عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ أَيْ اثْبُتْ بِالصَّبْرِ لِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تُورِدُ شَدَائِدَ، فَاثْبُتْ لَهَا وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ بِعَلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «1» وَالسَّمِيُّ مَنْ تُوَافِقُ فِي الِاسْمِ تَقُولُ: هَذَا سَمِيُّكَ أَيِ اسْمُهُ مِثْلُ اسْمِكَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِلَفْظِ اللَّهِ شَيْءٌ قَطُّ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ أَصْنَامَهُمْ آلِهَةً وَالْعُزَّى إِلَهٌ وَأَمَّا لَفْظُ اللَّهِ فَلَمْ يُطْلِقُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُسَمَّى أَحَدٌ الرَّحْمَنَ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ هَلْ تَعْلَمُ مَنْ يُسَمَّى أَوْ يُوصَفُ بِهَذَا

_ (1) سورة طه: 20/ 132.

الْوَصْفِ، أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ يُسَمِّي شَيْئًا بِهَذَا الِاسْمِ سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ سَمِيًّا مَثَلًا وَشَبِيهًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ السَّمِيُّ بِمَعْنَى الْمُسَامِي وَالْمُضَاهِي فَهُوَ مِنَ السُّمُوِّ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَلَا يَحْسُنُ فِي ذِكْرِ يَحْيَى انْتَهَى. يَعْنِي لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ فُلَانٌ سَمِيُّ فُلَانٍ إِذَا شَارَكَهُ فِي اللَّفْظِ، وَسَمِيُّهُ إِذَا كَانَ مُمَاثِلًا لَهُ فِي صِفَاتِهِ الْجَمِيلَةِ وَمَنَاقِبِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَنْتَ سَمِيٌّ لِلزُّبَيْرِ وَلَسْتَ لِلزُّبَيْرِ ... سَمِيًّا إِذْ غَدَا مَا لَهُ مِثْلُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ خَالِقٌ وَقَادِرٌ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَلَدًا رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ وَلَدَ اللَّهُ. وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً. قِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ قِيلَ هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ جَاءَ بِعَظْمِ رُفَاتٍ فَنَفَخَ فِيهِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: أَيُبْعَثُ هَذَا؟ وَكَذَّبَ وَسَخِرَ ، وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِلْجِنْسِ بِمَا صَدَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ. كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ... نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ أُسْنِدَ الضَّرْبُ إِلَى بَنِي عَبْسٍ مَعَ قَوْلِهِ نَبَا بِيَدَيْ، وَرْقَاءَ وَهُوَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيُّ، أَوْ لِلْجِنْسِ الْكَافِرِ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ أَوِ الْمَعْنِيُّ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، أو المعاصي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ أَبُو جَهْلٍ، أَوِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِذا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَتْ فَرِقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ ذَكْوَانَ بِخِلَافٍ عَنْهُ إِذَا بِدُونِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَسَوْفَ بِاللَّامِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ سَأُخْرَجُ بِغَيْرِ لَامٍ وَسِينِ الِاسْتِقْبَالِ عِوَضُ سَوْفَ، فَعَلَى قِرَاءَتِهِ تَكُونُ إِذَا مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ سَأُخْرَجُ لِأَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْفِعْلِ فِيمَا قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا وَصَاحِبُهُ مَحْجُوجٌ بِالسَّمَاعِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَمَّا رَأَتْهُ آمِنًا هَانَ وَجْدُهَا ... وَقَالَتْ أَبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ فَهَكَذَا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ وَهُوَ بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ قَرَأَ لَسَأُخْرَجُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَمَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قِرَاءَةِ طَلْحَةَ فَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ فَلَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، فَيُقَدَّرُ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا مِنْ مَعْنَى لَسَوْفَ أُخْرَجُ تَقْدِيرُهُ إِذَا مَا مِتُّ أُبْعَثُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لَامُ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضَارِعِ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، فَكَيْفَ جَامَعَتْ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ؟ قُلْتُ: لَمْ تُجَامِعْهَا إِلَّا مُخْلَصَةً لِلتَّوْكِيدِ كَمَا أُخْلِصَتِ الْهَمْزَةُ فِي يَا أَللَّهُ لِلتَّعْوِيضِ، وَاضْمَحَلَّ عَنْهَا مَعْنَى التَّعْرِيفِ انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ مِنَ أَنَّ اللَّامَ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ مُخَالَفٌ فِيهِ، فَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ يَسْقُطُ السُّؤَالُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ كَمَا أُخْلِصَتِ الْهَمْزَةُ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ إِلَهٌ، وَأَمَّا مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَصْلَهُ لَاهٍ فَلَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْوِيضِ إِذْ لَمْ يُحْذَفْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّ أَصْلَهُ إِلَهٌ وَحُذِفَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ فِي النِّدَاءِ لِلتَّعْوِيضِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعِوَضِ مِنَ الْمَحْذُوفِ لَثَبَتَتْ دَائِمًا فِي النِّدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَا جَازَ حَذْفُهَا فِي النِّدَاءِ قَالُوا: يَا اللَّهُ بِحَذْفِهَا وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَطْعَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي النِّدَاءِ شَاذٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَسَوْفَ مَجْلُوبَةٌ عَلَى الْحِكَايَةِ لِكَلَامٍ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لِلْكَافِرِ: إِذَا مِتَّ يَا فُلَانُ لَسَوْفَ تُخْرَجُ حَيًّا، فَقَرَّرَ الْكَلَامَ عَلَى الْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِبْعَادِ، وَكَرَّرَ اللَّامَ حِكَايَةً لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَلَا أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلٍ تَقَدَّمَ، بَلْ هَذَا مِنَ الْكَافِرِ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ، وَمَنْ قَرَأَ إِذَا مَا أَنْ تَكُونَ حُذِفَتِ الْهَمْزَةَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ مُطَابَقَةَ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُخْرَجُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِيلَاؤُهُ أَيْ وَإِيلَاءُ الظَّرْفِ حَرْفُ الْإِنْكَارِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ وَقْتُ كَوْنِ الْحَيَاةِ مُنْكَرَةً، وَمِنْهُ جَاءَ إِنْكَارُهُمْ فَهُوَ كَقَوْلِكَ لِلْمُسِيءِ إِلَى الْمُحْسِنِ أَحِينَ تَمَّتْ عَلَيْكَ نِعْمَةُ فُلَانٍ أَسَأْتَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَمِنَ السَّبْعَةِ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ أَوَلا يَذْكُرُ خَفِيفًا مُضَارِعُ ذَكَرَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْكَافِ وَتَشْدِيدِهِمَا أَصْلُهُ يَتَذَكَّرُ أُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ يَتَذَكَّرُ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ

الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لَا يَذْكُرُ عَلَى يَقُولُ، وَوُسِّطَتْ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ بَيْنَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَحَرْفُ الْعَطْفِ انْتَهَى. وَهَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ إِذَا تَقَدَّمَتْهُ الْهَمْزَةُ فَإِنَّمَا عُطِفَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ يُقَدَّرَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْحَرْفِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَ الْوَاوِ فَيُقِرَّ الْهَمْزَةَ عَلَى حَالِهَا، وَلَيْسَتْ مُقَدَّمَةً مِنْ تَأْخِيرٍ وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ أَنْشَأْنَاهُ وَاخْتَرَعْنَاهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الِاحْتِجَاجَ النَّظَرِيَّ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الِاحْتِجَاجُ فِي الْقُرْآنِ: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَمِ الصِّرْفِ وَانْتِفَاءُ الشَّيْئِيَّةِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُسَمَّى شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً موجود أو هي نزعة اعْتِزَالِيَّةٌ وَالْمَحْذُوفُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ فِي التَّقْدِيرِ قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبْلُ بَعْثِهِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَبْلُ الْحَالَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَهِيَ حَالَةُ بَقَائِهِ انْتَهَى. وَلَمَّا أَقَامَ تَعَالَى الْحُجَّةَ الدَّامِغَةَ عَلَى حَقِّيَّةِ الْبَعْثِ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ بِاسْمِهِ مُضَافًا إِلَى رَسُولِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَفْخِيمًا، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْقَسَمُ فِي الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِ وَرَفْعًا مِنْهُ كَمَا رَفَعَ مِنْ شَأْنِ السماء والأرض بقوله فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ «1» وَالْوَاوُ فِي وَالشَّياطِينَ لِلْعَطْفِ أَوْ بِمَعْنَى مَعَ يُحْشَرُونَ مَعَ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ أَغْوَوْهُمْ، يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانٍ فِي سِلْسِلَةٍ وَهَذَا إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي لَنَحْشُرَنَّهُمْ لِلْكَفَرَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَمَا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ وَبَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ كَمَا فَرَّقَ فِي الْجَزَاءِ، وَأُحْضِرُوا جَمِيعًا وَأُورِدُوا النَّارَ لِيُعَايِنَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَهْوَالَ الَّتِي نَجَوْا مِنْهَا فَيُسَرُّوا بِذَلِكَ وَيَشْمَتُوا بِأَعْدَائِهِمُ الْكُفَّارِ، وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَامًّا فَالْمَعْنَى يَتَجَاثَوْنَ عند موافاة شاطىء جَهَنَّمَ كَمَا كَانُوا فِي الْمَوْقِفِ مُتَجَاثِينَ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ التَّوَافُقِ لِلْحِسَابِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَالَةِ الْمَوْقِفِ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا «2» وجِثِيًّا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُعُودًا، وَعَنْهُ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ جَمْعُ جَثْوَةٍ وَهُوَ الْمَجْمُوعُ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ: عَلَى الرُّكَبِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ قِيَامًا عَلَى الرُّكَبِ لِضِيقِ المكان بهم.

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 23. (2) سورة الجاثية: 45/ 28.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ جِثِيًّا وعِتِيًّا وصِلِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ وَالصَّادِ وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ أَيْ لَنُخْرِجَنَّ كَقَوْلِهِ وَنَزَعَ يَدَهُ «1» . وَقِيلَ: لَنَرْمِيَنَّ مِنْ نَزَعَ الْقَوْسَ وَهُوَ الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، وَالشِّيعَةُ الْجَمَاعَةُ الْمُرْتَبِطَةُ بِمَذْهَبٍ. قَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: يَبْدَأُ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَمْتَازُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ أَعَصَاهُمْ فَأَعْصَاهُمْ وَأَعْتَاهُمْ فَأَعْتَاهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا طَرَحْنَاهُمْ فِي النَّارِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَقُدِّمَ أَوْلَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَأَوْلَاهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي أَيُّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَحْشُورِينَ الْمُحْضَرِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيُّهُمْ بِالرَّفْعِ وَهِيَ حَرَكَةُ بِنَاءٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، فَأَيُّهُمْ مَفْعُولٌ بننزعن وهي موصولة: وأَشَدُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةٌ لِأَيِّهِمْ وَحَرَكَةُ إِعْرَابٍ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ وَيُونُسَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي التَّخْرِيجِ. وأَيُّهُمْ أَشَدُّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَحْكِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ أَيِ الَّذِينَ يُقَالُ فِيهِمْ أَيُّهُمْ أَشَدُّ. وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ فَيُعَلَّقُ عَنْهُ لَنَنْزِعَنَّ عَلَى مَذْهَبِ يُونُسَ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّزْعُ وَاقِعًا عَلَى مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ كَقَوْلِهِ وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا «2» أَيْ لَنَنْزِعَنَّ بَعْضَ كُلِّ شِيعَةٍ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ إِنَّهُمْ أَشَدُّ عِتِيًّا انْتَهَى. فَتَكُونُ أَيُّهُمْ مَوْصُولَةً خبر مبتدأ محذوف، وهذا تَكَلُّفٌ وَادِّعَاءُ إِضْمَارٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَجَعْلُ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ جُمْلَتَيْنِ، وَقَرَنَ الْخَلِيلُ تَخْرِيجَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ ... فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ أَيْ فَأَبِيتُ يُقَالُ فِيَّ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ، وَرَجَّحَ الزَّجَّاجُ قَوْلَ الْخَلِيلِ وَذَكَرَ عَنْهُ النَّحَّاسُ أَنَّهُ غَلَّطَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَجُوزَ اضْرِبِ السَّارِقَ الْخَبِيثَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قِيلَ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حَيْثُ هَذِهِ أَسْمَاءٌ مُفْرَدَةٌ وَالْآيَةُ جُمْلَةٌ وَتَسَلُّطُ الْفِعْلِ عَلَى الْمُفْرَدِ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّ معنى لَنَنْزِعَنَّ لنناذين فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُ فَلَمْ تَعْمَلْ فِي أَيُّ انْتَهَى. وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَنَادَى تَعَلَّقَ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ جُمْلَةُ نَصْبٍ فَتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى وَلَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيُّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِشِيعَةٍ، فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ وَالْمَعْنَى مِنَ الَّذِينَ تَشَايَعُوا أَيُّهُمْ أَشَدُّ كَأَنَّهُمْ يَتَبَادَرُونَ إِلَى هَذَا، وَيَلْزَمُ أَنْ يُقَدِّرَ مَفْعُولًا لَنَنْزِعَنَّ مَحْذُوفًا وَقَدَّرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الَّذِينَ تَشَايَعُوا أَيُّهُمْ أَيْ مِنَ الَّذِينَ تَعَاوَنُوا فَنَظَرُوا أَيُّهُمْ أَشَدُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَدْ حَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ التَّشَايُعَ هو التعاون.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 108 وسورة الشعراء: 26/ 33. (2) سورة مريم: 19/ 50.

وَحَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ شُقَيْرٍ أَنَّ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: فِي أَيُّهُمْ مَعْنَى الشَّرْطِ، تَقُولُ: ضَرَبْتُ الْقَوْمَ أَيُّهُمْ غَضِبَ، وَالْمَعْنَى إِنْ غَضِبُوا أَوْ لَمْ يَغْضَبُوا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ إِنِ اشْتَدَّ عُتُوُّهُمْ أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَمُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهَرَّاءُ أُسْتَاذُ الْفَرَّاءِ وَزَائِدَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ أَيُّهُمْ بالنصب مفعولا بلننزعنّ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ فِيهَا الْبِنَاءُ إِذَا أُضِيفَتْ وَحُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ تَحَتُّمُ الْبِنَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِ الْبَنَّاءُ وَالْإِعْرَابُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْجَرْمِيُّ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ أَسْمَعْ مُنْذُ فَارَقْتُ الْخَنْدَقَ إِلَى مَكَّةَ أَحَدًا يَقُولُ لَأَضْرِبَنَّ أَيُّهُمْ قَائِمٌ بِالضَّمِّ بَلْ بِنَصْبِهَا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا وَقَدْ خَطَّأَ سِيبَوَيْهِ، وَسَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَعْنِي الزَّجَّاجَ يَقُولُ: مَا تَبَيَّنَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ غَلِطَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا. قَالَ: وَقَدْ أَعْرَبَ سِيبَوَيْهِ أَيًّا وَهِيَ مُفْرَدَةٌ لِأَنَّهَا تُضَافُ فَكَيْفَ يَبْنِيهَا وَهِيَ مضافة؟. وعَلَى الرَّحْمنِ متعلق بأشد. وعِتِيًّا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ أَيُّهُمْ هُوَ عُتُوُّهُ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَيُلْقِيهِ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، أَوْ فَيَبْدَأُ بِعَذَابِهِ ثُمَّ بِمَنْ دُونَهُ إِلَى آخِرِهِمْ عَذَابًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُ تَبْدُو عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَتَقُولُ: إِنِّي أُمِرْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فَتَلْتَقِطُهُمْ» . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: «يَحْضُرُونَ جَمِيعًا حَوْلَ جَهَنَّمَ مُسَلْسَلِينَ مَغْلُولِينَ ثُمَّ يُقَدَّمُ الْأَكْفَرُ فَالْأَكْفَرُ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِتِيًّا جَرَاءَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُجْرًا. وَقِيلَ: افْتِرَاءً بِلُغَةِ تَمِيمٍ. وَقِيلَ: عِتِيًّا جَمْعُ عَاتٍ فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ أَيْ نَحْنُ فِي ذَلِكَ النَّزْعِ لَا نَضَعُ شَيْئًا غَيْرَ مَوْضِعِهِ، لِأَنَّا قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِكُلِّ وَاحِدٍ فَأَوْلَى بِصِلِيِّ النَّارِ نَعْلَمُهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَوْلَى بِالْخُلُودِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: صِلِيًّا دُخُولًا. وَقِيلَ: لُزُومًا. وَقِيلَ: جَمْعُ صَالٍ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَبِهَا مُتَعَلِّقٌ بِأَوْلَى. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ مِنْكُمْ لِلْعَطْفِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَسَمٌ وَالْوَاوُ تَقْتَضِيهِ، وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» . انْتَهَى. وَذَهَلَ عَنْ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنِ الْقَسَمِ بِالْجَوَابِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى إِلَّا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ بِاللَّامِ أَوْ بِأَنْ، وَالْجَوَابُ هُنَا جَاءَ عَلَى زَعْمِهِ بِأَنِ النَّافِيَةِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْقَسَمِ عَلَى مَا نَصُّوا. وَقَوْلُهُ وَالْوَاوُ تَقْتَضِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُ وَاوُ الْقَسَمِ، وَلَا يَذْهَبُ نَحْوِيٌّ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْوَاوِ وَاوُ قَسَمٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْمَجْرُورِ وَإِبْقَاءُ الْجَارِّ، وَلَا يَجُوزُ

ذَلِكَ إِلَّا إِنْ وَقَعَ فِي شِعْرٍ أَوْ نَادِرِ كَلَامٍ بِشَرْطِ أَنْ تَقُومَ صِفَةُ الْمَحْذُوفِ مَقَامَهُ كَمَا أَوَّلُوا فِي قَوْلِهِمْ: نِعْمَ السَّيْرُ عَلَى بِئْسَ الْعِيرِ، أَيْ عَلَى عِيرٍ بِئْسَ الْعِيرُ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَاللَّهِ مَا زِيدٌ بِنَامٍ صَاحِبُهُ أَيْ بِرَجُلٍ نَامٍ صَاحِبُهُ. وَهَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ إِذْ لَمْ يُحْذَفِ الْمُقْسَمُ بِهِ وَقَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْكُمْ بِكَافِ الْخِطَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْوُرُودُ الدُّخُولَ لِجَمِيعِهِمْ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ هُوَ الْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ لِأَنَّ الصِّرَاطَ مَمْدُودٌ عَلَيْهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ يَرِدُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَدْخُلْهُ كَقَوْلِهِ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «1» وَوَرَدَتِ الْقَافِلَةُ الْبَلَدَ وَلَمْ تَدْخُلْهُ، وَلَكِنْ قَرُبَتْ مِنْهُ أَوْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: وَرَدْنَا مَاءَ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي كَلْبٍ إِذَا حَضَرُوهُمْ وَدَخَلُوا بِلَادَهُمْ، وَلَيْسَ يُرَادُ بِهِ الْمَاءُ بِعَيْنِهِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَيَكُونُ الْوُرُودُ فِي حَقِّهِمُ الدُّخُولَ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْخِطَابُ عَامٌّ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَكِنْ لَا تَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرُوا كَيْفِيَّةَ دُخُولِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ بِمَا لَا يُعْجِبُنِي نَقْلُهُ فِي كِتَابِي هَذَا لِشَنَاعَةِ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَإِنْ لَمْ تَضُرَّهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ وَإِنْ مِنْهُمْ بِالْهَاءِ لِلْغَيْبَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الضَّمَائِرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوُرُودِ جَثْوُهُمْ حَوْلَهَا وَإِنْ أُرِيدَ الْكُفَّارُ خَاصَّةً فَالْمَعْنَى بَيِّنٌ، وَاسْمُ كانَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْوُرُودِ أَيْ كَانَ وُرُودُهُمْ حَتْمًا أَيْ وَاجِبًا قُضِيَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ عَامٌّ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عباس وَأُبَيٌّ وَعَلِيٌّ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَيَعْقُوبُ ثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ أَيْ هُنَاكَ، وَوَقَفَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ثَمَّهْ بِهَاءِ السَّكْتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَجِّي بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ يَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ نُجِّيَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ: نُنَحِّي بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُضَارِعُ نَحَّى ، وَمَفْعُولُ اتَّقَوْا مَحْذُوفٌ أَيِ الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ هنا ظلم الكفر.

_ (1) سورة القصص: 28/ 23. [.....]

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَصْحَابِهِ، كَانَ فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ فِي خُشُونَةِ عَيْشٍ وَرَثَاثَةِ سِرْبَالٍ وَالْمُشْرِكُونَ يدهنون رؤوسهم وَيُرَجِّلُونَ شُعُورَهُمْ وَيَلْبَسُونَ الْحَرِيرَ وَفَاخِرَ الْمَلَابِسِ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً أَيْ مَنْزِلًا وَسَكَنًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَلَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَأَتْبَعَهُ بِمَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَارَضُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ الدَّامِغَةَ بِحُسْنِ شَارَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ يَدُلُّ عَلَى كَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يُتْلَى بِالْيَاءِ وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ كَانَ الْمُؤْمِنُ يَتْلُو عَلَى الْكَافِرِ الْقُرْآنَ وَيُنَوِّهُ بِآيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ الْكَافِرُ: إِنَّمَا يُحْسِنُ اللَّهُ لِأَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَيُنْعِمُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، وَنَحْنُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْنَا دُونَكُمْ فَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَأَنْتُمْ فُقَرَاءُ، وَنَحْنُ أَحْسَنُ مَجْلِسًا وَأَجْمَلُ شَارَةً. وَمَعْنَى بَيِّناتٍ مُرَتَّلَاتِ الْأَلْفَاظِ مُلَخَّصَاتِ الْمَعَانِي أَوْ ظَاهِرَاتِ الْإِعْجَازِ أَوْ حُجَجًا وبراهين. وبَيِّناتٍ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ آيَاتِهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ إِلَّا بِهَذَا الْوَصْفِ دَائِمًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَقاماً بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْجُعْفِيُّ وَأَبُو حاتم عن أبي عمر وبضم الْمِيمِ وَاحْتَمَلَ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ مَوْضِعَ قِيَامٍ أَوْ إِقَامَةٍ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مِمَّنْ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُهُمْ وَيَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهِمْ وَاتِّعَاظًا لَهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَّعِظُ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ حُسْنِ الْأَثَاثِ وَالرِّيِّ، وَيَعْنِي إِهْلَاكَ تَكْذِيبٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. ومِنْ قَرْنٍ تبيين لكم وكَمْ مَفْعُولٌ بِأَهْلَكْنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهُمْ أَحْسَنُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صفة لكم. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ تَرَكْتَ هُمْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بُدٌّ مِنْ نَصْبِ أَحْسَنُ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ انْتَهَى. وَتَابَعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّ هُمْ أَحْسَنُ صِفَةٌ لِكَمْ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ كَمْ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ وَالْخَبَرِيَّةَ لَا تُوصَفُ وَلَا يُوصَفُ بِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ أَحْسَنُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَرْنٍ، وَجُمِعَ لِأَنَّ الْقَرْنَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ فَرُوعِيَ مَعْنَاهُ، وَلَوْ أُفْرِدَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ عَرَبِيًّا فَصَارَ كَلَفْظِ جَمِيعٍ. قَالَ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «1» وَقَالَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَوَصَفَهُ بِالْجَمْعِ وَبِالْمُفْرَدِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَثَاثِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وقرأ الجمهور وَرِءْياً بالهمزة مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالطِّحْنِ وَالسِّقْيِ.

_ (1) سورة يس: 36/ 32.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّئْيُ الْمَنْظَرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ صُوَرًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ فِي رِوَايَةِ الْهَمْدَانِيِّ وَأَيُّوبُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَقَالُونُ وَرِيًّا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَهْمُوزَ الْأَصْلِ مِنَ الرِّوَاءِ وَالْمَنْظَرِ سُهِّلَتْ هَمْزَتُهُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّيِّ ضِدِّ الْعَطَشِ لِأَنَّ الرَّيَّانَ مِنَ الْمَاءِ لَهُ مِنَ الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ مَا يُسْتَحَبُّ ويستحن، كماله مَنْظَرٌ حَسَنٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِمَّا يُرَى وَيُقَابَلُ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَاصِمٍ وحميد وَرِءْياً بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَهُوَ عَلَى الْقَلْبِ وَوَزْنُهُ فِلْعًا، وَكَأَنَّهُ مِنْ رَاءَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُلُّ خَلِيلٍ رَآنِي فَهُوَ قَائِلٌ ... مِنْ أجل هَذَا هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غد وقرىء وَرِيَاءً بِيَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، حَكَاهَا الْيَزِيدِيُّ وَأَصْلُهُ وَرِئَاءً مِنَ الْمُرَاءَاةِ أَيْ يُرِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا حُسْنَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ طَلْحَةُ وَرِيًا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا تَشْدِيدٍ، فَتَجَاسَرَ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ هِيَ لَحْنٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهَا تَوْجِيهٌ بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الرواء، وقلب فصار وَرِءْياً ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الْيَاءِ وَحُذِفَتْ، أَوْ بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الرِّيِّ وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ تَخْفِيفًا كَمَا حُذِفَتْ فِي لَا سِيَّمَا، وَالْمَحْذُوفَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا لَامُ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ النَّقْلَ إِنَّمَا حَصَلَ لِلْكَلِمَةِ بِانْضِمَامِهَا إِلَى الْأُولَى فَهِيَ أَوْلَى بِالْحَذْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ وَيَزِيدُ الْبَرْبَرِيُّ وَالْأَعْسَمُ الْمَكِّيُّ وَزِيًّا بِالزَّايِ مُشَدِّدَ الْيَاءِ وَهِيَ الْبِزَّةُ الْحَسَنَةُ، وَالْآلَاتُ الْمُجْتَمِعَةُ الْمُسْتَحْسَنَةُ. قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا. فَلْيَمْدُدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الطَّلَبِ وَيَكُونُ دُعَاءً، وَكَانَ الْمَعْنَى الْأَضَلُّ مِنَّا وَمِنْكُمْ مَدَّ اللَّهُ لَهُ، أَيْ أَمْلَى لَهُ حَتَّى يؤول إِلَى عَذَابِهِ. وَكَان الدُّعَاءُ عَلَى صِيغَةِ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا فِي الْمَعْنَى وَصُورَتُهُ صُورَةُ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَ ضَالًّا مِنَ الْأُمَمِ فَعَادَةُ اللَّهِ لَهُ أَنَّهُ يَمْدُدُ لَهُ وَلَا يُعَاجِلُهُ حَتَّى يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى عَذَابِهِ فِي

الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُخْرِجَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ إِيذَانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ مَفْعُولٌ لَا مَحَالَةَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُمْتَثَلِ لِيَقْطَعَ مَعَاذِيرَ الضَّالِّ، وَيُقَالَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «1» أَوْ كَقَوْلِهِ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ لِقَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ وَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ فِي الضَّلَالَةِ مَمْدُودٌ لَهُمْ فِيهَا إِلَى أَنْ يُعَايِنُوا الْعَذَابَ بِنُصْرَةِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَوِ السَّاعَةَ وَمُقَدِّمَاتِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالْآيَةِ الَّتِي هِيَ رَابِعَتُهَا، وَالْآيَتَانِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَهُمَا أَيْ قَالُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا «3» حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ أَيْ لَا يَبْرَحُونَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَتَوَلَّعُونَ بِهِ لَا يَتَكَافُّونَ عَنْهُ إِلَى أَنْ يُشَاهِدُوا الْمَوْعُودَ رَأْيَ عَيْنٍ إِمَّا الْعَذابَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ غَلَبَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَتَعْذِيبُهُمْ إِيَّاهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَإِظْهَارُ اللَّهِ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَإِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُونَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى عَكْسِ مَا قَدَّرُوهُ، وَأَنَّهُمْ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً لَا خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِمُ. انْتَهَى هَذَا الْوَجْهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ قَوْلِهِ قَالُوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ وَبَيْنَ الْغَايَةِ وَفِيهِ الْفَصْلُ بِجُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي أَنَّ يَتَّصِلَ بِمَا يَلِيهَا فَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَقَابَلَ قَوْلَهُمْ خير مكانا بقوله شَرٌّ مَكاناً وقوله وَأَحْسَنُ نَدِيًّا بِقَوْلِهِ وَأَضْعَفُ جُنْداً لِأَنَّ النَّدِيَّ هُوَ الْمَجْلِسُ الْجَامِعُ لِوُجُوهِ الْقَوْمِ وَالْأَعْوَانِ، وَالْأَنْصَارِ وَالْجُنْدُ هُمُ الأعوان، والأنصار وإِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ بَدَلٌ من ما المفعولة برأوا. ومَنْ مَوْصُولَةٌ مَفْعُولَةٌ بِقَوْلِهِ فَسَيَعْلَمُونَ وَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْفِعْلُ قَبْلَهَا مُعَلَّقٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِمْدَادَ الضَّالِّ فِي ضَلَالَتِهِ وَارْتِبَاكَهُ فِي الِافْتِخَارِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا عَقَّبَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ هُدًى لِلْمُهْتَدِي وَبِذِكْرِ الْباقِياتُ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ تَنَعُّمِهِمْ فِي الدُّنْيَا الَّذِي يَضْمَحِلُّ وَلَا يَثْبُتُ. ومَرَدًّا مَعْنَاهُ مَرْجِعًا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ فِي الْكَهْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَزِيدُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ فَلْيَمْدُدْ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقَعَ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ مَدًّا وَيَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ وَيَزِيدُ أَيْ يَزِيدُ فِي ضَلَالِ الضال بخذلانه، ويزيد

_ (1) سورة فاطر: 35/ 37. (2) سورة آل عمران: 3/ 178. (3) سورة مريم: 19/ 73.

الْمُهْتَدِينَ هِدَايَةً بِتَوْفِيقِهِ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَيَزِيدُ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ فَلْيَمْدُدْ سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءً أَمْ خَبَرًا بِصُورَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ إِنْ كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً أَوْ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ إِنْ كَانَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً عَارِيَةٌ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى مَنْ يَرْبِطُ جُمْلَةَ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ أَوْ جُمْلَةَ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ فَلْيَمْدُدْ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَالْمَعْطُوفَ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ جَزَاءٌ، وَإِذَا كَانَتْ أَدَاةُ الشَّرْطِ اسْمًا لَا ظَرْفًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ ضَمِيرُهُ أَوْ ما يقول مَقَامَهُ، وَكَذَا فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ خَيْرٌ ثَواباً مِنْ مُفَاخَرَاتِ الْكُفَّارِ وَخَيْرٌ مَرَدًّا أَيْ وَخَيْرٌ مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً أَوْ مَنْفَعَةً مِنْ قَوْلِهِمْ لَيْسَ لِهَذَا الْأَمْرِ مَرَدٌّ وَهَلْ يَرِدُ مَكَانِي زَيْدًا. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قِيلَ خَيْرٌ ثَوَابًا كَانَ لِمُفَاخَرَاتِهِمْ ثوابا حَتَّى يُجْعَلَ ثَوَابُ الصَّالِحَاتِ خَيْرًا مِنْهُ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُ قِيلَ ثَوَابُهُمُ النَّارُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ. وقوله: شجعاء جربها الذَّمِيلُ تَلُوكُهُ ... أُصُلًا إِذَا رَاحَ الْمَطِيُّ غِرَاثَا وَقَوْلِهِ: تحية بينهم ضرب وجيع ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ خَيْرٌ ثَوَابًا وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ الَّذِي هُوَ أَغْيَظُ لِلْمُتَهَدِّدِ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ عِقَابُكَ النَّارُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ التَّفْضِيلِ فِي الْخَبَرِ كَانَ لِمَفَاخِرِهِمْ شُرَكَاءُ فِيهِ؟ قُلْتُ: هَذَا مِنْ وَجِيزِ كَلَامِهِمْ يَقُولُونَ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ أَيْ أَبْلَغُ فِي حَرِّهِ مِنَ الشِّتَاءِ فِي بَرْدِهِ انْتَهَى. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ عَمِلَ لَهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ عَمَلًا وَكَانَ قَيْنًا، فَاجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَهُ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لَا أُنْصِفُكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقَالَ خَبَّابٌ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ وَيَبْعَثَكَ. فَقَالَ الْعَاصِي: أو مبعوث أَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ فَقَالَ خباب: نعم، قال: فائت إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ أَقْضِيكَ دَيْنَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَدْ كَانَتْ لِلْوَلِيدِ أَيْضًا أَقْوَالٌ تُشْبِهُ هَذَا الْغَرَضَ، وَلَمَّا كَانَتْ رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ سَبِيلًا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهَا وَصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهَا اسْتَعْمَلُوا أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ أَفَادَتِ التَّعْقِيبَ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخْبَرَ أَيْضًا بِقِصَّةِ هَذَا الْكَافِرِ عَقِيبَ قِصَّةِ أُولَئِكَ، وَالْآيَاتُ: الْقُرْآنُ وَالدَّلَالَاتُ عَلَى الْبَعْثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَداً أَرْبَعَتُهُنَّ

هُنَا، وَفِي الزُّخْرُفِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْوَاوِ وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي نُوحٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ بِضَمِّ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الْجِنْسِ لَا مَلْحُوظًا فِيهِ الْإِفْرَادُ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدَ اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ هُوَ جَمْعٌ كَأَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَاحْتَجَّ قَائِلُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرَا ... قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدَا وَقِيلَ: هُوَ مُرَادِفٌ لِلْوَلَدِ بِالْفَتْحَتَيْنِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وَلَدَ حِمَارِ وَقَرَأَ عَبْدِ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةُ فِي أَطَّلَعَ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَلِذَلِكَ عادلتها أَمِ. وقرىء بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِدَلَالَةِ أَمِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يُرِيدُ أَبِسَبْعٍ، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ فِي أَرَأَيْتَ عَلَى الْوَضْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّهَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ تَنْصِبُهُ، وَيَكُونُ الثَّانِي اسْتِفْهَامًا فأطلع وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتَ، وَمَا جَاءَ مِنْ تَرْكِيبِ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي عَلَى خِلَافِ هَذَا فِي الظَّاهِرِ يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ إِلَى هَذَا بِالتَّأْوِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَطَّلَعَ الْجَبَلَ إِذَا ارْتَقَى إِلَى أَعْلَاهُ وَاطَّلَعَ الثَّنْيَةَ. قَالَ جَرِيرٌ: لَاقَيْتُ مُطَّلَعَ الْجِبَالِ وُعُورًا وَتَقُولُ: مُرْ مُطَّلِعًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَيْ عَالِيًا لَهُ مَالِكًا لَهُ، وَلِاخْتِيَارِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَأْنٌ تَقُولُ: أو قد بَلَغَ مِنْ عَظَمَةِ شَأْنِهِ أَنِ ارْتَقَى إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي تَوَحَّدَ بِهِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا ادَّعَى أَنْ يُؤْتَاهُ وَتَأَلَّى عَلَيْهِ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، إِمَّا عِلْمِ الْغَيْبِ، وَإِمَّا عَهْدٍ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ فَبِأَيِّهِمَا تَوَصَّلَ إِلَى ذَلِكَ. وَالْعَهْدُ. قِيلَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَلْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ قَدَّمَهُ فَهُوَ يَرْجُو بِذَلِكَ مَا يَقُولُ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: هَلْ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يؤتيه ذلك. وكَلَّا رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ مُخْطِئٌ فِيمَا تَصَوَّرَهُ لِنَفْسِهِ وَيَتَمَنَّاهُ فَلْيَرْتَدِعْ عَنْهُ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ كَلَّا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا

هُنَا وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ كَلَّ السَّيْفُ كَلًّا إِذَا نَبَا عَنِ الضَّرِيبَةِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ وَتَقْدِيرُهُ كَلُوا كَلَّا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ عَنِ الْحَقِّ. وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَنَّى بِالْكِتَابَةِ عَنْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ. فلذلك دلت السِّينُ الَّتِي لِلِاسْتِقْبَالِ أَيْ سنجازيه على ما يقوله. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: سَيَظْهَرُ لَهُ وَنُعْلِمُهُ أَنَّا كَتَبْنَا قَوْلَهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أَيْ تَبَيَّنَ وَعَلِمَ بِالِانْتِسَابِ أَنِّي لَسْتُ ابْنَ لَئِيمَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجَانِي سَوْفَ أَنْتَقِمُ مِنْكَ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَبْخَلُ بِالِانْتِصَارِ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ، وَاسْتَأْخَرَ فَجَرَّدَهَا هُنَا لِمَعْنَى الْوَعِيدِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنَكْتُبُ بِالنُّونِ وَالْأَعْمَشُ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَالتَّاءُ مَفْتُوحَةٌ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَذُكِرَتْ عَنْ عَاصِمٍ وَنَمُدُّ أَيْ نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذابِ الَّذِي يعذب به المستهزءون أَوْ نَزِيدُهُ مِنَ الْعَذَابِ وَنُضَاعِفُ لَهُ الْمَدَدَ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وَنَمُدُّ لَهُ يُقَالُ مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ بِمَعْنًى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ نَسْلُبُهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فَنَكُونُ كَالْوَارِثِ لَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَجْعَلُ مَا يَتَمَنَّى مِنَ الْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: نَحْرِمُهُ مَا يَتَمَنَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَنَجْعَلُهُ لِغَيْرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَدْ تَمَنَّى وَطَمِعَ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مَالًا وَوَلَدًا، وَبَلَغَتْ بِهِ أَشْعَبِيَّتُهُ أَنْ تَأَلَّى عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ لَأُوتَيَنَّ لِأَنَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، وَمَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبْهُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَعَلَا: هَبْ أَنَّا أَعْطَيْنَاهُ مَا اشْتَهَاهُ إِمَّا نَرِثُهُ مِنْهُ فِي الْعَاقِبَةِ وَيَأْتِينا فَرْداً غَدًا بِلَا مَالٍ وَلَا وَلَدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «1» الْآيَةَ فَمَا يُجْدِي عَلَيْهِ تَمَنِّيهِ وَتَأَلِّيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَقُولُهُ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا قَبَضْنَاهُ حُلْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ وَيَأْتِينا رَافِضًا لَهُ مُنْفَرِدًا عَنْهُ غَيْرَ قَائِلٍ لَهُ انْتَهَى. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ مَعْنَاهُ نَحْفَظُهُ عَلَيْهِ لِلْعَاقِبَةِ وَمِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ حَفَظَةُ ما قالوه انتهى. وفَرْداً تَتَضَمَّنُ ذِلَّتَهُ وَعَدَمَ أَنْصَارِهِ، ويَقُولُ صِلَةُ مَا مُضَارِعٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْمَاضِي أَيْ مَا قَالَ. وَالضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذُوا لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ وَهُمُ الظَّالِمُونَ فِي قَوْلِهِ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ «2» فَكُلُّ ضَمِيرٍ جُمِعَ ما بعده

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 94. (2) سورة مريم: 19/ 72.

عَائِدٌ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عَوْدُهُ عَلَيْهِ، وَاللَّامُ فِي لِيَكُونُوا لَامُ كَيْ أَيْ لِيَكُونُوا أَيِ الْآلِهَةُ لَهُمْ عِزًّا يَتَعَزَّزُونَ بِهَا فِي النُّصْرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الْعَذَابِ. كَلَّا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا رَدْعٌ لَهُمْ وَإِنْكَارٌ لِتَعَزُّزِهِمْ بِالْآلِهَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ نَهِيكٍ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أَيْ سَيَجْحَدُونَ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ مَرَرْتُ بِغُلَامِهِ وَفِي مُحْتَسَبِ ابْنِ جِنِّي كَلَّا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ كَلَّ هَذَا الرَّأْيِ وَالِاعْتِقَادِ كَلًّا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَهِيَ كَلَّا الَّتِي لِلرَّدْعِ قَلَبَ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَلِفَهَا نُونًا كَمَا فِي قَوَارِيرَا انْتَهَى. فَقَوْلُهُ وَقَرَأَ ابْنُ نَهِيكٍ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو نَهِيكٍ بِالْكُنْيَةِ وَهُوَ الَّذِي يُحْكَى عَنْهُ الْقِرَاءَةُ فِي الشَّوَاذِّ وَأَنَّهُ قَرَأَ كَلَّا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو الْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ يَعْنِي كَلَّا نَعْتٌ لِلْآلِهَةِ قَالَ: وَحَكَى عَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي نَهِيكٍ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ كَلَّا بِضَمِّ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سَيَكْفُرُونَ تَقْدِيرُهُ يَرْفُضُونَ أَوْ يَتْرُكُونَ أَوْ يَجْحَدُونَ أَوْ نَحْوُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا الَّتِي لِلرَّدْعِ، وَالَّتِي لِلرَّدْعِ حَرْفٌ وَلَا وَجْهَ لِقَلْبِ أَلِفَهَا نُونًا وَتَشْبِيهُهُ بِقَوَارِيرَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ قَوَارِيرَا اسْمٌ رَجَعَ بِهِ إِلَى أَصْلِهِ، فَالتَّنْوِينُ لَيْسَ بَدَلًا مِنْ أَلِفٍ بَلْ هُوَ تَنْوِينُ الصَّرْفِ. وَهَذَا الْجَمْعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيَتَحَتَّمُ مَنْعُ صَرْفِهِ أَمْ يَجُوزُ؟ قَوْلَانِ، وَمَنْقُولٌ أَيْضًا أَنَّ لُغَةً لِلْعَرَبِ يَصْرِفُونَ مَا لَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَهَذَا التَّنْوِينُ إِمَّا عَلَى قَوْلُ مَنْ لَا يَرَى بِالتَّحَتُّمِ أَوْ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي نَهِيكٍ أَنَّهُ قَرَأَ كُلٌّ بِضَمِّ الْكَافِ وَرَفْعِ اللَّامِ وَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَتَقَدَّمَ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْآلِهَةُ وَتَلَاهُ ضَمِيرٌ فِي قَوْلِهِ لِيَكُونُوا فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَيَكْفُرُونَ عَائِدٌ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ مُحْدَثٍ عَنْهُ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْآلِهَةَ سَيَجْحَدُونَ عِبَادَةَ هَؤُلَاءِ إِيَّاهُمْ كَمَا قَالَ: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ وَفِي آخِرِهَا فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ «1» وَتَكُونُ آلِهَةً هُنَا مَخْصُوصًا بِمَنْ يَعْقِلُ، أَوْ يَجْعَلُ اللَّهُ لِلْآلِهَةِ غَيْرِ الْعَاقِلَةِ إِدْرَاكًا تُنْكِرُ بِهِ عِبَادَةَ عَابِدِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ لِسُوءِ الْعَاقِبَةِ أَنْ يَكُونُوا كَمَا قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» لَكِنَّ قَوْلَهُ وَيَكُونُونَ يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الأول لا تساق الضَّمَائِرِ لِوَاحِدٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَخْتَلِفُ الضَّمَائِرُ إِذْ يَكُونُ فِي سَيَكْفُرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وفي يَكُونُونَ للآلهة.

_ (1) سورة النحل: 16/ 86. (2) سورة الأنعام: 6/ 23.

وَمَعْنَى ضِدًّا أَعْوَانًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضحاك: أَعْدَاءً. وَقَالَ قَتَادَةُ: قُرَنَاءَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَلَاءً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ يَجِيئُهُمْ مِنْهُ خِلَافُ مَا كانوا أمّلوه فيؤول بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى ذِلَّةٍ ضِدِّ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْعِزِّ، فَالضِّدُّ هُنَا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الْجَمْعُ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضِّدُّ الْعَوْنُ وُحِّدَ توحيد وهم يد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لفرط تضامنهم وَتَوَافُقِهِمْ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ عَوْنًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ وَحَصَبُ جَهَنَّمَ وَلِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا بِسَبَبِ عِبَادَتِهِمْ. أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً. أَرْسَلْنَا مَعْنَاهُ سَلَّطْنَا أَوْ لَمْ نَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً «1» وَتَعْدِيَتُهُ بِعَلَى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَسْلِيطٌ وتَؤُزُّهُمْ تُحَرِّكُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُزْعِجُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تُشْلِيهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُغْرِيهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَتُهَيِّجُهُمْ لَهَا بِالْوَسَاوِسِ وَالتَّسْوِيلَاتِ، وَالْمَعْنَى خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَلَمْ نَمْنَعْهُمْ وَلَوْ شَاءَ لَمَنَعَهُمْ، وَالْمُرَادُ تَعْجِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْعُتَاةُ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَقَاوِيلُهُمْ. عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا إِذَا اسْتَعْجَلْتُهُ مِنْهُ أَيْ لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلَكُوا فَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تَطْلُبُ مِنْ هَلَاكِهِمْ إِلَّا أَيَّامٌ مَحْصُورَةٌ وَأَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ كَأَنَّهَا فِي سُرْعَةٍ تَقَضِّيهَا السَّاعَةُ الَّتِي تُعَدُّ فِيهَا لَوْ عُدَّتْ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «2» انْتَهَى. وَقِيلَ نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ لِنُجَازِيَهُمْ. وَقِيلَ: آجَالَهُمْ فَإِذَا جَاءَ أَحْلَلْنَا الْعُقُوبَةَ بِهِمْ. وَقِيلَ: أَيَّامَهُمُ الَّتِي سَبَقَ قَضَاؤُنَا أَنْ نُمْهِلَهُمْ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: أَنْفَاسَهُمْ، وَانْتَصَبَ يَوْمَ بِاذْكُرْ أَوِ احْذَرْ مُضْمَرَةً أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تقديره

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 36. (2) سورة الأحقاف: 46/ 35.

مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ بِيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَوْ مَعْنَى بُعْدًا، وَتَضَمَّنَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ، أَوْ يَوْمَ نَحْشُرُ وَنَسُوقُ نَفْعَلُ بِالْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ أَوْ بِلَا يَمْلِكُونَ، وَكُلُّهَا مَقُولٌ فِي نَصْبِ يَوْمَ وَالْأَوْجَهُ الْأَخِيرُ. وَعُدِّيَ نَحْشُرُ بإلى الرَّحْمنِ تَعْظِيمًا لَهُمْ وَتَشْرِيفًا. وَذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَانِيَّةِ الَّتِي خَصَّهُمْ بِهَا كَرَامَةً إِذْ لَفْظُ الْحَشْرِ فِيهِ جَمْعٌ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَقْطَارٍ شَاسِعَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، فَجَاءَتْ لَفْظَةُ الرَّحْمنِ مُؤْذِنَةً بِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى مَنْ يَرْحَمُهُمْ، وَلَفْظُ السَّوْقِ فِيهِ إِزْعَاجٌ وَهُوَ إِنْ عُدِّيَ بإلى جَهَنَّمَ تَفْظِيعًا لَهُمْ وَتَبْشِيعًا لِحَالِ مُقِرِّهِمْ. وَلَفْظَةُ الْوَفْدِ مُشْعِرَةٌ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ كَمَا يَفِدُ الْوُفَّادُ عَلَى الْمُلُوكِ مُنْتَظِرِينَ لِلْكَرَامَةِ عِنْدَهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ: عَلَى نُوقٍ رِحَالُهَا ذَهَبٌ، وَعَلَى نَجَائِبَ سَرْجُهَا يَاقُوتٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ رُكْبَانًا عَلَى النُّوقِ الْمُحَلَّاةِ بِحِلْيَةِ الْجَنَّةِ خَطْمُهَا مِنْ يَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ أَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ عَلَى تَمَاثِيلَ من أعمالهم الصالحة هِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، رُوِيَ أَنَّهُ يَرْكَبُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَا أَحَبَّ مِنْ إِبِلٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ سُفُنٍ تَجِيءُ عَائِمَةً بِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوِفَادَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحِسَابِ وَأَنَّهَا النُّهُوضُ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «1» وَشَبَّهُوا بِالْوُفُودِ لِأَنَّهُمْ سَرَاةُ النَّاسِ وَأَحْسَنُهُمْ شَكْلًا وَلَيْسَتْ وِفَادَةً حَقِيقِيَّةً لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الِانْصِرَافَ مِنَ الْمَوْفُودِ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ مُقِيمُونَ أَبَدًا فِي ثَوَابِ رَبِّهِمْ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالْوِرْدُ الْعِطَاشُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ، وَالْوِرْدُ مَصْدَرُ وَرَدَ أَيْ سَارَ إِلَى الْمَاءِ. قَالَ الرَّاجِزُ: رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا ... كُدْرِيَّةٍ أَعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَاءِ وَلَمَّا كَانَ مَنْ يَرِدُ الْمَاءَ لَا يَرِدُهُ إِلَّا لِعَطَشٍ، أُطْلِقَ الْوِرْدُ عَلَى الْعِطَاشِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِسَبَبِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ يُحْشَرُ الْمُتَّقُونَ وَيُسَاقُ الْمُجْرِمُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ الدَّالِّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْمُتَّقِينَ وَالْمُجْرِمِينَ إِذْ هُمْ قِسْمَاهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ ومَنِ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ أَوْ نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَمْلِكُونَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا يَمْلِكُونَ وَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى غَيْرَ مَالِكِينَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُمْ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. وقيل: عائد

_ (1) سورة القمر: 54/ 55.

عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَاتِّخَاذُ الْعَهْدِ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فِي حَيِّزِ مَنْ يَشْفَعُ. وَتَظَافَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَشْفَعُونَ فَيُشَفَّعُونَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي رَجُلًا يُدْخِلُ اللَّهُ بِشَفَاعَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ» . وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الشَّهِيدَ يَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْمُتَّقِينَ: الْمَعْنَى لَا يَمْلِكُ الْمُتَّقُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا لِهَذَا الصِّنْفِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ اتَّخَذَ الْمَشْفُوعَ فِيهِمْ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَنِ اتَّخَذَ الشَّافِعِينَ فَالتَّقْدِيرُ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا قَالَ: فَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرَا. أَيْ لَمْ يَنْجُ شَيْءٌ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْوَاوُ ضَمِيرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ يَعْنِي الْوَاوَ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَلَامَةً لِلْجَمْعِ كَالَّتِي فِي أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَالْفَاعِلُ مَنِ اتَّخَذَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ مَعَ وُضُوحِ جَعْلِ الْوَاوِ ضَمِيرًا. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ أَنَّهَا لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ. وَأَيْضًا قَالُوا: وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ الَّتِي تَكُونُ عَلَامَاتٍ لَا ضَمَائِرَ لَا يُحْفَظُ مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا فَاعِلًا إِلَّا بِصَرِيحِ الْجَمْعِ وَصَرِيحِ التَّثْنِيَةِ أَوِ الْعَطْفِ، إِمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ يُطْلَقُ عَلَى جَمْعٍ أَوْ عَلَى مُثَنًّى فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَى نَقْلٍ، وَإِمَّا عَوْدُ الضَّمَائِرِ مُثَنَّاةً وَمَجْمُوعَةً عَلَى مُفْرَدٍ فِي اللَّفْظِ يُرَادُ بِهِ الْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعُ فَمَسْمُوعٌ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ قِيَاسُ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ عَلَى تِلْكَ الضَّمَائِرِ، وَلَكِنَّ الْأَحْفَظَ أَنْ لَا يُقَالَ ذَلِكَ إِلَّا بِسَمَاعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ يَعْنِي مَنِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ إِلَّا شَفَاعَةَ مَنِ اتَّخَذَ. وَالْعَهْدُ هُنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْعَهْدُ الطَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَفِظَ كِتَابَ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَهْدُ اللَّهِ إِذْنُهُ لِمَنْ شَاءَ فِي الشَّفَاعَةِ مِنْ عَهِدَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ أَمَرَهُ بِهِ أَيْ لَا يَشْفَعُ إِلَّا الْمَأْمُورُ بِالشَّفَاعَةِ الْمَأْذُونُ لَهُ فِيهَا. وَيُؤَيِّدُهُ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ «1» يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «2» . لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ

_ (1) سورة سبأ: 34/ 23. (2) سورة طه: 20/ 109.

يَشاءُ وَيَرْضى «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون الْمُجْرِمُونَ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ وَالْعُصَاةَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا الْعُصَاةُ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ سَيُشْفَعُ فِيهِمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَزَالُ أَشْفَعُ حَتَّى أَقُولَ يَا رَبِّ شَفَّعْنِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ وَلَكِنَّهَا لِي» انْتَهَى. وَحَمْلُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ بِعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بمن اتَّخَذَ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِالشَّفَاعَةِ الْخَاصَّةِ لِمُحَمَّدٍ الْعَامَّةَ لِلنَّاسِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» وَالضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الضَّمِيرُ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى بَعْضِ الْيَهُودِ حَيْثُ قالوا عزيز ابْنُ اللَّهِ، وَبَعْضِ النَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَبَعْضُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمْ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ جِئْتُمْ أَوْ يَكُونُ الْتِفَاتًا خَرَجَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ زِيَادَةُ تَسْجِيلٍ عَلَيْهِمْ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعَرُّضِ لِسُخْطِهِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ مَا قَالُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِدًّا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِفَتْحِهَا أَيْ شَيْئًا إِدًّا حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمَصْدَرُ مَقَامَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ يَكَادُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ وَكَذَا فِي الشُّورَى وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ ينفطرن مضارع انفطر وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنُ عَامِرٍ هُنَا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَحْرِيَّةَ وَالزُّهْرِيِّ وَطَلْحَةَ وَحُمَيْدٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَيَعْقُوبَ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ يَتَفَطَّرْنَ مُضَارِعُ تَفَطَّرَ وَالَّتِي فِي الشُّورَى قَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَصَدَّعْنَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، ولرواية الثقات عَنْهُ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ تَكادُ تُرِيدُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَكادُ أُخْفِيها «3» وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَكَادَتْ وَكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ ... لَوْ عَادَ مِنْ زَمَنِ الصَّبَابَةِ مَا مَضَى وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْكَيْدُودَةَ مُقَارَبَةُ الشَّيْءِ وَهَذِهِ الْجُمَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ لِبَشَاعَةِ هَذَا الْقَوْلِ، أَيْ هَذَا حَقُّهُ لَوْ فَهِمَتِ الْجَمَادَاتُ قَدْرَهُ وَهَذَا مَهْيَعٌ لِلْعَرَبِ. قَالَ جرير:

_ (1) سورة النجم: 53/ 26. [.....] (2) سورة الإسراء: 17/ 79. (3) سورة طه: 20/ 15.

لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ وَقَالَ آخَرُ: أَلَمْ تَرَ صَدْعًا فِي السَّمَاءِ مُبَيَّنًا ... عَلَى ابْنٍ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ وَقَالَ الآخر: فَأَصْبَحَ بَطْنُ مَكَّةَ مُقْشَعِرًّا ... كَأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَ بِهَا هِشَامُ وَقَالَ آخَرُ: بَكَى حَارِثُ الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وَحَوْرَانُ مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ حَارِثُ الْجَوْلَانِ: مَوْضِعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما معنى انفطار السموات وَانْشِقَاقِ الْأَرْضِ وَخُرُورِ الْجِبَالِ، وَمِنْ أَيْنَ تُؤْثَرُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْجَمَادَاتِ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أن اللَّهَ يَقُولُ: كِدْتُ أَفْعَلُ هذه بالسماوات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ غَضَبًا مِنِّي عَلَى مَنْ تَفَوَّهَ بِهَا لَوْلَا حِلْمِي وَوَقَارِي، وَإِنِّي لَا أُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ كَمَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «1» الْآيَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِعْظَامًا لِلْكَلِمَةِ، وَتَهْوِيلًا مِنْ فَظَاعَتِهَا، وَتَصْوِيرًا لِأَثَرِهَا فِي الدِّينِ وَهَدْمِهَا لِأَرْكَانِهِ. وَقَوَاعِدِهِ، وَأَنَّ مِثَالَ ذَلِكَ الْأَثَرِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ أَنْ يُصِيبَ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْعَالَمِ مَا تَنْفَطِرُ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ وَتَخِرُّ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ هذا الكلام فزعت منه السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ وَكِدْنَ أَنْ يَزُلْنَ مِنْهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَادَتِ الْقِيَامَةُ أَنْ تَقُومَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ حَقِيقَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أَيْ تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أَيْ تُخْسَفُ بِهِمْ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَيْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: تَكَادُ تَفْعَلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ تَعْقِلُ مِنْ غِلَظِ هَذَا الْقَوْلِ، وَانْتَصَبَ هَدًّا عِنْدَ النَّحَّاسِ عَلَى الْمَصْدَرِ قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى تَخِرُّ تَنْهَدُّ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ هَدًّا مَصْدَرًا لِهَدَّ الْحَائِطُ يَهِدُّ بِالْكَسْرِ هَدِيدًا وَهَدًّا وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ. وَقِيلَ هَدًّا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مَهْدُودَةً، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ هَدًّا مَصْدَرُ هَدَّ الْحَائِطَ إِذَا هَدَمَهُ وَهُوَ فِعْلٌ متعد،

_ (1) سورة فاطر: 35/ 41.

وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِأَنَّهَا تُهَدُّ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَنْ دَعَوْا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. قَالَ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ فِي مِنْهُ كَقَوْلِهِ: عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِمًا ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمُ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ لِجُمْلَتَيْنِ، قَالَ: وَمَنْصُوبًا بِتَقْدِيرِ سُقُوطِ اللَّامِ وَإِفْضَاءِ الْفِعْلِ أَيْ هَدًّا لِأَنَّ دَعَوْا عَلَّلَ الْخُرُورَ بِالْهَدِّ، وَالْهَدُّ بِدُعَاءِ الْوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَدًّا لَا يَكُونُ مَفْعُولًا بَلْ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى وَتَخِرُّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قَالَ: وَمَرْفُوعًا بِأَنَّهُ فَاعِلُ هَدًّا أَيْ هَدَّهَا دُعَاءُ الْوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَدًّا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا تَوْكِيدِيًّا، وَالْمَصْدَرُ التَّوْكِيدِيُّ لَا يَعْمَلُ وَلَوْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ تَوْكِيدٍ لَمْ يَعْمَلْ بِقِيَاسٍ إِلَّا إِنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ مُسْتَفْهَمًا عَنْهُ، نَحْوَ ضَرْبًا زَيْدًا، وَاضْرِبَا زَيْدًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ خَبَرًا كَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ هَدَّهَا دُعَاءُ الرَّحْمَنِ فَلَا يَنْقَاسُ بَلْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ نَادِرٌ كَقَوْلِهِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ أَيْ وَقَفَ صَحْبِي. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ دَعَوْا فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ لَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنَا الْعَامِلَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْضًا: هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ، قَالَ: وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ دُعَاؤُهُمْ، وَمَعْنَى دَعَوْا سَمَّوْا وَهِيَ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ حُذِفَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، وَالتَّقْدِيرُ سَمَّوْا مَعْبُودَهُمْ وَلَدًا لِلرَّحْمَنِ أَيْ بِوَلَدٍ لِأَنَّ دَعَا هَذِهِ تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الثَّانِي تَقُولُ: دَعَوْتُ وَلَدِي بِزَيْدٍ، أَوْ دَعَوْتُ وَلَدِي زَيْدًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو وَلَمْ أكن ... أخاها ولم أرضع لَهَا بِلِبَانِ وَقَالَ آخَرُ: أَلَا رُبَّ مَنْ يَدَّعِي نَصِيحًا وَإِنْ يَغِبْ ... تَجِدْهُ بِغَيْبٍ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ الثَّانِي طَلَبًا لِلْعُمُومِ وَالْإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَا دَعَا لَهُ وَلَدًا، قَالَ أَوْ مِنْ دَعَا بِمَعْنَى نَسَبَ الَّذِي مُطَاوِعُهُ مَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ» . وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لِأَبٍ

أَيْ لَا نَنْتَسِبُ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَكَوْنُ دَعَوْا هُنَا بِمَعْنَى سَمَّوْا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: دَعَوْا بِمَعْنَى جعلوا. ويَنْبَغِي مُطَاوِعٌ لِبَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ، أَيْ وَمَا يَتَأَتَّى لَهُ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ لِأَنَّ التَّوَالُدَ مُسْتَحِيلٌ وَالتَّبَنِّي لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُتَبَنَّى، وَلَيْسَ لَهُ تعالى جنس ويَنْبَغِي لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ بَلْ سُمِعَ لَهَا الْمَاضِي قَالُوا: انْبَغَى وَقَدْ عَدَّهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ وَهُوَ غلط ومَنْ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ مَا كُلُّ الَّذِي فِي السموات وكل تَدْخُلُ عَلَى الَّذِي لِأَنَّهَا تَأْتِي لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ «1» وَنَحْوُ: وَكُلُّ الَّذِي حَمَّلْتَنِي أَتَحَمَّلُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ مَوْصُوفَةٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ كُلُّ نَكِرَةً وُقُوعَهَا بَعْدَ رُبَّ في قوله: رَبِّ مَنْ أَنْضَجْتَ غَيْظًا صَدْرَهُ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى جَعْلُهَا مَوْصُولَةً لِأَنَّ كَوْنَهَا مَوْصُوفَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْصُولَةِ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَيَعْقُوبُ إِلَّا آتٍ بِالتَّنْوِينِ الرَّحْمنِ بالنصب والجمهور بالإضافة وآتِي خَبَرُ كُلُّ وَانْتَصَبَ عَبْداً عَلَى الْحَالِ. وَتَكَرَّرَ لَفْظُ الرَّحْمنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ غَيْرُهُ، إِذْ أُصُولُ النِّعَمِ وَفُرُوعُهَا مِنْهُ وَمَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَنِ اتَّخَذُوهُ مَعْبُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرًا بِحُكْمِ ادِّعَائِهِمْ صِحَّةَ التَّوَالُدِ أَوْ بِحُكْمِ زَعْمِهِمْ ذَلِكَ فَأَشْرَكُوهُمْ فِي الْعِبَادَةِ إِذْ خِدْمَةُ الْأَبْنَاءِ خِدْمَةُ الْآبَاءِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَا مِنْ مَعْبُودٍ لَهُمْ في السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا يَأْتِي الرَّحْمَنَ عَبْدًا مُنْقَادًا لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَحْصاهُمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ وَحَصَرَهُمْ بِالْعَدَدِ، فَلَمْ يَفُتْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَانْتَصَبَ فَرْداً عَلَى الْحَالِ أَيْ مُنْفَرِدًا لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ جَعَلُوهُ شَرِيكًا، وَخَبَرُ كُلُّهُمْ آتِيهِ فَرْداً وَكُلُّ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ مَلْفُوظٍ بِهَا نَحْوِ كُلِّهِمْ وَكُلِّ النَّاسِ فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا عَلَى لَفْظِ كُلِّ، فَتَقُولُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ جَمْعًا مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى فَتَقُولُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبُونَ. وَحَكَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ أصبغ في كتاب رؤوس الْمَسَائِلِ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى الْجَمْعِ جَاءَ لَفْظُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي

_ (1) سُورَةِ الزمر: 39/ 33.

الْكَشَّافِ وَكُلُّهُمْ مُتَقَلِّبُونَ فِي مَلَكُوتِهِ مَقْهُورُونَ بِقَهْرِهِ، وَقَدْ خَدَشَ فِي ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ فَقَالَ: كُلٌّ إذا ابتدأت وَكَانَتْ مُضَافَةً لَفْظًا يَعْنِي إِلَى مَعْرِفَةٍ فَلَا يَحْسُنُ إِلَّا إِفْرَادُ الْخَبَرِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، تَقُولُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ذَاهِبٌ، هَكَذَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ الْفَصِيحِ فَإِنْ قُلْتَ: فِي قَوْلِهِ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ إِنَّمَا هُوَ حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ قُلْنَا: بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ وَاسْمُ الْجَمْعِ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ بِإِفْرَادٍ، تَقُولُ: الْقَوْمُ ذَاهِبُونَ، وَلَا تَقُولُ: الْقَوْمُ ذَاهِبٌ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْقَوْمِ كَلَفْظِ الْمُفْرَدِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ذَاهِبٌ فَكَانَ الْإِفْرَادُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ كُلُّكُمْ ذَاهِبُونَ بِالْجَمْعِ وَنَحْوِهِ إِلَى سَمَاعٍ وَنَقْلٍ عَنِ الْعَرَبِ، أَمَّا إِنْ حُذِفَ الْمُضَافُ الْمَعْرِفَةُ فَالْمَسْمُوعُ مِنَ الْعَرَبِ الْوَجْهَانِ. وَالسِّينُ فِي سَيَجْعَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَعْلُ فِي الدُّنْيَا، وَجِيءَ بِأَدَاةِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ المؤمنين كانوا بمكة حَالَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَانُوا مَمْقُوتِينَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَفَشَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ. قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي الْأَرْضِ» قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ إِتْيَانِ كل من في السموات وَالْأَرْضِ فِي حَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ، أَنَّسَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وُدًّا وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِنَّمَا هِيَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَمَارَاتِ غُفْرَانِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَبِّبُهُمْ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَيَنْشُرُ مِنْ دِيوَانِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالْمَعْنَى سَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوَدَّةً وَيَزْرَعُهَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَوَدُّدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَرُّضٍ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا النَّاسُ مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ مِنْ قُرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوِ اصْطِنَاعِ مَبَرَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِرَاعٌ مِنْهُ ابْتِدَاءً اخْتِصَاصًا مِنْهُ لِأَوْلِيَائِهِ بِكَرَامَةٍ خَاصَّةٍ، كَمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْهَيْبَةَ إعظاما لهم وَإِجْلَالًا لِمَكَانِهِمْ انْتَهَى. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ سَيُدْخِلُهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ وَيَجْعَلُ لَهُمْ وُدًّا بِسَبَبِ نَزْعِ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي النَّارِ أَيْضًا يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وُدًّا بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَ أَبُو الْحَارِثِ الْحَنَفِيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ وُدًّا بِكَسْرِ الْوَاوِ. قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقُونَ يُحِبُّونَهُ، وَكَانَ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ اسْتَوْحَشَ بِالْمَدِينَةِ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَلْقَى اللَّهُ لَهُمْ وُدًّا فِي قَلْبِ النَّجَاشِيِّ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا تَجِدُ مُؤْمِنًا إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ عَلِيًّا وَأَهْلَ بَيْتِهِ انْتَهَى. وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا مَا أَنْشَدَنَا الْإِمَامُ اللُّغَوِيُّ رَضِيُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الْأَنْصَارِيُّ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى لزبينا بن إسحاق النصراني الرسغي: عَدِيٌّ وَتَيْمٌ لَا أُحَاوِلُ ذِكْرَهُمْ ... بِسُوءٍ وَلَكِنِّي مُحِبٌّ لِهَاشِمِ وَمَا تَعْتَرِينِي فِي عَلِيٍّ وَرَهْطِهِ ... إِذَا ذُكِرُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ يَقُولُونَ مَا بَالُ النَّصَارَى تُحِبُّهُمْ ... وَأَهْلُ النُّهَى مِنْ أَعْرُبٍ وَأَعَاجِمِ فَقُلْتُ لَهُمْ إِنِّي لَأَحْسَبُ حُبَّهُمْ ... سَرَى فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ حَتَّى الْبَهَائِمِ وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ أَنَّ بُغْضَ عَلِيٍّ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَالضَّمِيرُ فِي يَسَّرْناهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مُيَسَّرًا سَهْلًا بِلِسانِكَ أَيْ بِلُغَتِكَ وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ. لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أَيْ تُخْبِرُهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَبِمَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى تَقْوَاهُمْ وَاللُّدُّ جَمْعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لُدًّا ظُلْمَةً، وَمُجَاهِدٌ فُجَّارًا، وَالْحَسَنُ صُمًّا، وَأَبُو صَالِحٍ عِوَجًا عَنِ الْحَقِّ، وَقَتَادَةُ ذَوِي جَدَلٍ بِالْبَاطِلِ آخِذِينَ فِي كُلِّ لَدِيدٍ بِالْمِرَاءِ أَيْ فِي كُلِّ جَانِبٍ لِفَرْطِ لُجَاجِهِمْ يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ. وَكَمْ أَهْلَكْنا تَخْوِيفٌ لَهُمْ وَإِنْذَارٌ بِالْإِهْلَاكِ بِالْعَذَابِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى قَوْماً لُدًّا وهَلْ تُحِسُّ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ لَا تُحِسُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَلْ تُحِسُّ مُضَارِعُ أَحَسَّ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ تُحِسُّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الحاء. وقرىء تُحِسُّ مِنْ حَسَّهُ إِذَا شَعَرَ بِهِ وَمِنْهُ الْحَوَاسُّ وَالْمَحْسُوسَاتُ. وَقَرَأَ حَنْظَلَةُ أَوْ تَسْمَعُ مُضَارِعُ أُسْمِعَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّكْزُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْحِسُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا أَتَاهُمْ عَذَابُنَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَخْصٌ يُرَى وَلَا صَوْتٌ يُسْمَعُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَاتُوا وَنُسِيَ ذِكْرُهُمْ فَلَا يُخْبِرُ عَنْهُمْ مخبر.

سورة طه

سورة طه [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

الثَّرَى: التُّرَابُ النَّدِيُّ وَيُثَنَّى ثَرَيَانِ، وَيُقَالُ ثَرَّيْتُ التُّرْبَةَ بَلَلْتُهَا، وَثَرِيَتِ الْأَرْضُ تَثْرَى ثري فهي تربة ابْتَلَّ تُرَابُهَا بَعْدَ الْجُدُوبَةِ، وَأَثْرَتْ فَهِيَ مُثْرِيَةٌ كَثُرَ تُرَابُهَا، وَأَرْضٌ ثَرًى ذَاتُ ثَرًى. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ فُلَانٌ قَرِيبُ الثَّرَى بَعِيدُ النَّبْطِ لِلَّذِي يَعِدُ وَلَا يَفِي، وَيُقَالُ: إِنِّي لَأَرَى ثَرَى الْغَضَبِ فِي وَجْهِ فُلَانٍ أَيْ أَثَرَهُ، وَيُقَالُ الثَّرَى بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ إِذَا انْقَطَعَ مَا بَيْنَكُمَا. وَقَالَ جَرِيرٌ: فَلَا تَنْبِشُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الثَّرَى ... فَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ مُثْرِي آنَسَ: وَجَدَ، تَقُولُ العرب: هل آنست فلان أَيْ وَجَدْتَهُ. وَقِيلَ: أَحَسَّ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ وَجَدَ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: آنَسْتُ نَبْأَةً وَرَوَّعَهَا الْقَنَّاصُ ... عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ الْقَبَسُ جَذْوَةٌ مِنَ النَّارِ تَكُونُ عَلَى رَأْسِ عُودٍ أَوْ قَصَبَةٍ أَوْ نَحْوِهِ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَبْضِ وَالنَّفْضِ، وَيُقَالُ: قَبَسْتُ مِنْهُ نَارًا أَقْبِسُ فَأَقْبَسَنِي أَعْطَانِي مِنْهُ قَبَسًا، وَمِنْهُ الْمُقْبَسَةُ لِمَا يُقْتَبَسُ فِيهِ مِنْ شَقْفَةِ وَغَيْرِهَا، وَاقْتَبَسْتُ مِنْهُ نَارًا. وَعِلْمًا أَيِ اسْتَفَدْتُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَقَبَسْتُ الرَّجُلَ علم وَقَبَسْتُهُ نَارًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَقَبَسْتُهُ نَارًا وَعِلْمًا وَقَبَسْتُهُ أَيْضًا فِيهِمَا. الْخَلْعُ وَالنَّعْلُ مَعْرُوفَانِ وَهُوَ إِزَالَتُهَا مِنَ الرِّجْلِ. وَقِيلَ: النَّعْلُ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ. طُوًى: اسْمُ مَوْضِعٍ. السَّعْيُ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ. رَدِيَ يَرْدَى رَدًى هَلَكَ، وَأَرْدَاهُ أَهْلَكَهُ. قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:

تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الْخَيْلُ فَارِسًا ... فَقُلْتُ أَعِيذُ اللَّهَ ذَلِكُمُ الرَّدَى تَوَكَّأَ عَلَى الشَّيْءِ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَشْيِ وَالْوُقُوفِ، وَمِنْهُ الِاتِّكَاءُ. تَوَكَّأْتُ وَاتَّكَأْتُ بِمَعْنًى. وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ مُتَّكَأً «1» وَشُرِحَتْ هُنَا لِاخْتِلَافِ الْوَزْنَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا. هَشَّ عَلَى الْغَنَمِ يَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ خَبَطَ أَوْرَاقَ الشَّجَرِ لِتَسْقُطَ، وَهَشَّ إِلَى الرَّجُلِ يَهِشُّ بِالْكَسْرِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ إِذَا بَشَّ وَأَظْهَرَ الْفَرَحَ بِهِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ الرَّخَاوَةُ يُقَالُ: رَجُلٌ هَشٌّ. الْغَنَمُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ مُؤَنَّثٌ. الْمَأْرُبَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا الْحَاجَةُ وَتُجْمَعُ عَلَى مَآرِبَ، وَالْإِرْبَةُ أَيْضًا الْحَاجَةُ. الحية الحنش يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَتَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ وَكُرِّرَتْ هُنَا لِخُصُوصِيَّةِ الْمَدْلُولِ. وَقَوْلُهُمْ حَوَّاءُ لِلَّذِي يَصِيدُ الْحَيَّاتِ من باب قوة فَالْمَادَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ كَسِبْطٍ وَسِبَطْرٍ. الْأَزْرُ: الظَّهْرُ قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَآزَرَهُ قَوَّاهُ، وَالْأَزْرُ أَيْضًا الْقُوَّةُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الضَّالَّ نَبْتُهَا ... مَجَرِّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ الْقَذْفُ الرَّمْيُ والإلقاء. الساحل شاطىء الْبَحْرِ وَهُوَ جَانِبُهُ الْخَالِي مِنَ الْمَاءِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْحَلُهُ أَيْ يُقَشِّرُهُ فَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ سَاحِلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ يَقُومُ عَلَى رِجْلٍ فَنَزَلَتْ قَالَهُ عَلِيٌّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَأَطَالَ الْقِيَامَ لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِلَّا لِيَشْقَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ وَالْمُطْعِمُ: إِنَّكَ لَتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَيْسِيرَ الْقُرْآنِ بِلِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ بِلُغَتِهِ وَكَانَ فِيمَا عُلِّلَ بِهِ قَوْلُهُ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «2» أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 31. (2) سورة مريم: 19/ 97.

يَخْشى وَالتَّذْكِرَةُ هِيَ الْبِشَارَةُ وَالنَّذَارَةُ، وَإِنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِنْزَالِهِ لِلشَّقَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا نَزَلَ تَذْكِرَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ طه مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ نَحْوُ: يس وَالر وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ: مَعْنَى طه يَا رَجُلُ. فَقِيلَ بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقِيلَ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقِيلَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ. وَقِيلَ لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ فِي عَكٍّ. وَقِيلَ فِي عُكْلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَوْ قُلْتَ فِي عَكٍّ يَا رَجُلُ لَمْ يُجِبْ حَتَّى تَقُولَ طه. وَقَالَ السُّدِّيُّ مَعْنَى طه يَا فُلَانُ. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ فِي مَعْنَى يَا رَجُلُ فِي لُغَةِ عَكٍّ قَوْلَ شَاعِرِهِمْ: دَعَوْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا وَقَوْلَ الْآخَرِ: إِنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ مِنْ خَلَائِقِكُمْ ... لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَعَلَّ عَكًّا تَصَرَّفُوا فِي يَا هَذَا كَأَنَّهُمْ فِي لُغَتِهِمْ قَالِبُونَ الْيَاءَ طَاءً فَقَالُوا فِي يَا طَأْ وَاخْتَصَرُوا هَذَا فَاقْتَصَرُوا عَلَى هَا، وَأَثَرُ الصَّنْعَةِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى فِي الْبَيْتِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ: إِنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلَائِقِكُمْ ... لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَخْلَاقَ الْمَلَاعِينِ انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّ طَاهًا فِي لُغَةِ عَكٍّ فِي مَعْنَى يَا رَجُلُ، ثُمَّ تَخَرَّصَ وَحَزَّرَ عَلَى عَكٍّ بِمَا لَا يَقُولُهُ نَحْوِيٌّ هُوَ أَنَّهُمْ قَلَبُوا الْيَاءَ طَاءً وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَلْبُ يَا الَّتِي لِلنِّدَاءِ طَاءً، وَكَذَلِكَ حَذْفُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي النِّدَاءِ وَإِقْرَارُهَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ. وَقِيلَ: طَا فِعْلُ أَمْرٍ وَأَصْلُهُ طَأْ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا وَهَا مَفْعُولٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الْأَرْضِ، أَيْ طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ وَلَا تُرَاوِحْ إِذْ كَانَ يُرَاوِحُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَوَرْشٌ فِي اخْتِيَارِهِ طه. قِيلَ: وَأَصْلُهُ طَأْ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ بِنَاءً عَلَى قَلْبِهَا فِي يَطَأُ عَلَى حَدِّ لَا هُنَاكَ الْمَرْتَعُ بُنِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَأُدْخِلَتْ هَاءُ السَّكْتِ وَأُجْرِي الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، أَوْ أَصْلُهُ طَأْ وَأُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ هَاءً فَقِيلَ طه. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: طَاوِي. وَقَرَأَ طَلْحَةُ مَا نُزِّلَ عَلَيْكَ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَزَايٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْقُرْآنَ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وَمَعْنَى لِتَشْقى لِتَتْعَبَ بِفَرْطِ

تَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا كقوله فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» وَالشَّقَاءُ يَجِيءُ فِي مَعْنَى التَّعَبِ وَمِنْهُ الْمَثَلُ: أَتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ. وَأَشْقَى مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَ وَتُذَكِّرَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَا مَحَالَةَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تُفَرِّطْ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: أُرِيدَ رَدُّ مَا قَالَهُ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ النزول. ولِتَشْقى وتَذْكِرَةً عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ مَا أَنْزَلْنا وَتَعَدَّى فِي لِتَشْقى بِاللَّامِ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ إِذْ ضَمِيرُ مَا أَنْزَلْنا هُوَ لِلَّهِ، وَضَمِيرُ لِتَشْقى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا اتَّحَدَ الْفَاعِلُ فِي أَنْزَلْنا وتَذْكِرَةً إِذْ هُوَ مَصْدَرُ ذَكَّرَ، وَالْمُذَكِّرُ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الْمُنَزِّلُ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ فَنُصِبَ عَلَى أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْفَاعِلِ خِلَافًا وَالْجُمْهُورُ يَشْتَرِطُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَمَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أَنْ تَشْقَى كَقَوْلِهِ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ «2» قُلْتُ: بَلَى وَلَكِنَّهَا نَصْبَةٌ طَارِئَةٌ كَالنَّصْبَةِ فِي وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «3» وَأَمَّا النَّصْبَةُ فِي تَذْكِرَةً فَهِيَ كَالَّتِي في ضربت زيد لِأَنَّهُ أَحَدُ الْمَفَاعِيلِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ أُصُولٌ وَقَوَانِينُ لِغَيْرِهَا انْتَهَى. وَلَيْسَ كَوْنُ أَنْ تَشْقَى إِذَا حُذِفَ الْجَارُّ مَنْصُوبًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. أَهْوَ مَنْصُوبٌ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْحَرْفِ أَوْ مَجْرُورٌ بِإِسْقَاطِ الْجَارِّ وَإِبْقَاءِ عَمَلِهِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِلَّا تَذْكِرَةً يَصِحُّ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ لِتَشْقى وَيَصِحُّ أَنْ يُنْصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً انْتَهَى. وَقَدْ رَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ تَخْرِيجَ ابْنِ عَطِيَّةَ الْأَوَّلِ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً بَدَلًا مِنْ مَحَلِّ لِتَشْقى؟ قُلْتُ: لَا لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ وَلَكِنَّهَا نَصْبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ الَّذِي إِلَّا فِيهِ بِمَعْنَى لَكِنْ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ أَنَّ نَصْبَ تَذْكِرَةً نَصْبَةٌ صَحِيحَةٌ لَيْسَتْ بِعَارِضَةٍ وَالنَّصْبَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي لِتَشْقى بَعْدَ نَزْعِ الْخَافِضِ نَصِبَةٌ عَارِضَةٌ وَالَّذِي نَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ أَلْبَتَّةَ فَيُتَوَهَّمَ الْبَدَلُ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَحَمُّلِ مَتَاعِبِ التَّبْلِيغِ وَمُقَاوَلَةِ الْعُتَاةِ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَمُقَاتَلَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ المشاق وتكاليف النبوة وما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ هَذَا الْمُتْعِبَ الشَّاقَّ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً وعلى هذا

_ (1) سورة الكهف: 18/ 6. (2) سورة الحجرات: 49/ 2. (3) سورة الأعراف: 7/ 155.

الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً حَالًا وَمَفْعُولًا لَهُ لِمَنْ يَخْشى لمن يؤول أَمْرُهُ إِلَى الْخَشْيَةِ انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنًى مُتَكَلَّفٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَكَوْنُ إِلَّا تَذْكِرَةً بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ لِتَشْقى هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً بَدَلًا مِنَ الْقُرْآنَ وَيَكُونَ الْقُرْآنَ هُوَ التَّذْكِرَةِ وَأَجَازَ هُوَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ لَكِنْ ذَكَّرْنَا بِهِ تَذْكِرَةً. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ لِأَنْزَلْنَا الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ لِتَشْقى وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ انْتَهَى. وَالْخَشْيَةُ بَاعِثَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَانْتَصَبَ تَنْزِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ نُزِّلَ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي نَصْبِ تَنْزِيلًا وُجُوهٌ أن يكون بدلا من تَذْكِرَةً إِذَا جُعِلَ حَالًا لَا إِذَا كَانَ مَفْعُولًا لَهُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَلَّلُ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُنْصَبَ بِنَزَلَ مُضْمَرًا، وَأَنْ يُنْصَبَ بِأَنْزَلْنَا لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَا إِلَّا تَذْكِرَةً أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً، وَأَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَأَنْ يُنْصَبَ بِيَخْشَى مَفْعُولًا بِهِ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلَ اللَّهِ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَإِعْرَابٌ بَيِّنٌ انْتَهَى. وَالْأَحْسَنُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزَلَ مُضْمَرَةً. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ نَصْبِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مُتَكَلَّفٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ جَعْلُ تَذْكِرَةً وتَنْزِيلًا حَالَيْنِ وَهُمَا مَصْدَرَانِ، وَجَعْلُ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَنْقَاسُ، وَأَيْضًا فَمَدْلُولُ تَذْكِرَةً لَيْسَ مَدْلُولَ تَنْزِيلًا وَلَا تَنْزِيلًا بَعْضُ تَذْكِرَةً فَإِنْ كَانَ بَدَلًا فَيَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الثَّانِي مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّنْزِيلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِرَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَصْرِ يُفَوَّتُ فِي قَوْلِهِ أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً، وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى الْمَدْحِ فَبَعِيدٌ، وَأَمَّا نَصْبُهُ بِمَنْ يَخْشَى فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ يَخْشَى رَأْسُ آيَةٍ وَفَاصِلٌ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ مَفْعُولًا بِيَخْشَى وَقَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَإِعْرَابٌ بَيِّنٌ عُجْمَةٌ وَبُعْدٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْفَصَاحَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ تَنْزِيلٌ رَفْعًا عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَدُلُّ عَلَى عدم تعلق يخشى بتنزيل وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِمَّا قَبْلَهُ فَنَصْبُهُ عَلَى إِضْمَارٍ نُزِّلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِتَنْزِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَفِي قَوْلِهِ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْخِيمٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْقُرْآنِ إِذْ هُوَ مَنْسُوبٌ تَنْزِيلُهُ إِلَى مَنْ هَذِهِ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ، وَتَحْقِيرٌ لِمَعْبُودَاتِهِمْ وَتَعْرِيضٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَكَانَ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ خَلَقَ الْتِفَاتٌ إِذْ فِيهَا الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ فِي مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَى الْغَيْبَةِ وَفِيهِ عَادَةُ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مِمَّا

يحسن إذا لَا يَبْقَى عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ وَجَرَيَانُ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ وَالتَّفْخِيمُ بِإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاحِدِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، ثُمَّ إِسْنَادُهُ إِلَى مَنِ اخْتُصَّ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ الَّتِي لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ فَحَصَلَ التَّعْظِيمُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلْنا حِكَايَةً لِكَلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَلَائِكَةِ النَّازِلِينَ مَعَهُ انْتَهَى. وَهَذَا تَجْوِيزٌ بَعِيدٌ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن نفسه. والْعُلى جَمْعُ الْعُلْيَا وَوَصْفُ السَّماواتِ بِالْعُلَى دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ مَنِ اخْتَرَعَهَا إِذْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ مِثْلِهَا فِي عُلُوِّهَا مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَالظَّاهِرُ رَفْعُ الرَّحْمنُ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الرَّحْمنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي خَلَقَ انْتَهَى. وَأَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، والرَّحْمنُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ مَحَلَّ الضَّمِيرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ وخَلَقَ صِلَةٌ، وَالرَّابِطُ هُوَ الضَّمِيرُ فَلَا يَحُلُّ مَحَلَّهُ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ الرَّابِطِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الرَّحْمنُ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَالَ يَكُونُ مُبْتَدَأً مُشَارًا بِلَامِهِ إِلَى مَنْ خَلَقَ. وَرَوَى جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ الرَّحْمَنِ بِالْكَسْرِ. قال الزمخشري: صفة لمن خَلَقَ يَعْنِي لِمَنِ الْمَوْصُولَةِ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ النَّوَاقِصَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِصِلَاتِهَا نَحْوَ مَنْ وَمَا لَا يَجُوزُ نَعْتُهَا إِلَّا الَّذِي وَالَّتِي فَيَجُوزُ نَعْتُهُمَا، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمنُ صِفَةً لِمَنْ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمنُ بَدَلًا مِنْ مَنْ، وَقَدْ جَرَى الرَّحْمنُ فِي الْقُرْآنِ مَجْرَى الْعَلَمِ فِي وِلَايَتِهِ الْعَوَامِلَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ يَكُونُ التَّقْدِيرُ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ إِنْ كَانَ بَدَلًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ فَكَذَلِكَ أَوْ مُبْتَدَأً كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَفِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ الرَّحْمنُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرَيْنِ عَنْ هُوَ الْمُضْمَرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْأَعْرَافِ. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ يَقْرَأُ اسْتَوى لَهُ مَا فِي السَّماواتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِاسْتَوَى لَا يَصِحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أنه اخترع السموات وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ مَا حوت السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أَيْ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: هُوَ الصَّخْرَةُ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: ما تَحْتَ الثَّرى مَا هُوَ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَوْكِيدًا لِقَوْلِهِ

وَما فِي الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ كَانَ الْمُرَادُ بِفِي الْأَرْضِ مَا هُوَ عَلَيْهَا فَلَا يَكُونُ تَوْكِيدًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُنْشِئُهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ لَهُ عِلْمُ مَا فِي السَّماواتِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تعالى أولا إنشاء السموات وَالْأَرْضِ وَذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَمَا فِيهِمَا مُلْكُهُ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ الْعِلْمِ وَأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ لِلرَّسُولِ ظَاهِرٌ أَوِ الْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَلَمَّا كَانَ خِطَابُ النَّاسِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْجَهْرِ بِالْكَلَامِ جَاءَ الشَّرْطُ بِالْجَهْرِ وَعَلَّقَ عَلَى الْجَهْرِ عِلْمَهُ بِالسِّرِّ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالسِّرِّ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِالْجَهْرِ، أَيْ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ السِّرَّ فَأَحْرَى أَنْ يَعْلَمَ الْجَهْرَ وَالسِّرُّ مُقَابِلٌ لِلْجَهْرِ كَمَا قَالَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَخْفى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ وَأَخْفى مِنَ السِّرِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السِّرَّ مَا تُسِرُّهُ إِلَى غَيْرِكَ، وَالْأَخْفَى مَا تُخْفِيهِ فِي نَفْسِكَ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا السِّرَّ مَا أَسَرَّهُ فِي نَفْسِهِ، وَالْأَخْفَى مَا خَفِيَ عَنْهُ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ. وَعَنْ قتادة: قريب من؟؟؟ مُجَاهِدٌ: السِّرَّ مَا تُخْفِيهِ مِنَ النَّاسِ وَأَخْفى مِنْهُ الْوَسْوَسَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ السِّرَّ؟؟؟ لخلائق وَأَخْفى مِنْهُ سِرُّهُ تَعَالَى وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: السِّرَّ الْعَزِيمَةُ وَأَخْفى مِنْهُ مَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقَلْبِ، وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَأَخْفى هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ لَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ وَأَخْفى عَنْهُمْ مَا يَعْلَمُهُ هُوَ كَقَوْلِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ «2» وَقَوْلِهِ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «3» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ الْجَزَاءُ الشَّرْطَ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ إِنْ تَجْهَرْ بِذِكْرِ اللَّهِ مِنْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ جَهْرِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ الْجَهْرِ كَقَوْلِهِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ «4» وَإِمَّا تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ أَنَّ الْجَهْرَ لَيْسَ لِإِسْمَاعِ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِغَرَضٍ آخَرَ انتهى. والجلالة مبتدأ وَلَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْخَبَرُ ولَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى خَبَرٌ ثَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ ذَا الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؟ فَقِيلَ: هُوَ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 3. (2) سورة البقرة: 2/ 255. (3) سورة طه: 20/ 110. (4) سورة الأعراف: 7/ 205.

اللَّهُ والْحُسْنى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ وَصِفَةُ الْمُؤَنَّثَةِ الْمُفْرَدَةِ تَجْرِي عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهَا وَقَعَتْ فَاصِلَةً وَالْأَحْسَنِيَّةُ كَوْنُهَا تَضَمَّنَتِ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنْ التَّقْدِيسِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأَفْعَالَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ صُدُورُهَا إِلَّا مِنْهُ، وَذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْماءُ هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَذَكَرَهَا التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدَةً. وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى قالَ أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. وَلِمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَعْظِيمَ كِتَابِهِ وَتَضَمَّنَ تَعْظِيمَ رَسُولِهِ أَتْبَعَهُ بِقِصَّةِ مُوسَى لِيُتَأَسَّى بِهِ فِي تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَتَكَالِيفِ الرِّسَالَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «1» فَقَالَ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى. هذا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ يَحُثُّ عَلَى الْإِصْغَاءِ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَعَلَى التَّأَسِّي. وَقِيلَ: هَلْ بِمَعْنَى قَدْ أَيْ قَدْ أَتاكَ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ هَذَا لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَهُ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى قَبْلَ هَذَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ مَا أَخْبَرْنَاكَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ بِقِصَّةِ مُوسَى، وَنَحْنُ الْآنَ قَاصُّونَ قِصَّتَهُ لِتَتَسَلَّى وَتَتَأَسَّى وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَضَى أَكْمَلَ الْأَجَلَيْنِ اسْتَأْذَنَ شُعَيْبًا فِي الرُّجُوعِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ لِزِيَارَةِ وَالِدَتِهِ وَأُخْتِهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَدْ طَالَتْ مُدَّةُ جِنَايَتِهِ بِمِصْرَ وَرَجَا خَفَاءَ أَمْرِهِ، فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَكَانَ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ وَأَخَذَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ مُلُوكِ الشَّامِ، وَامْرَأَتُهُ حَامِلٌ فَلَا يَدْرِي أَلَيْلًا تَضَعُ أَمْ نَهَارًا، فَسَارَ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا يَعْرِفُ طُرُقَهَا، فَأَلْجَأَهُ الْمَسِيرُ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْغَرْبِيِّ الْأَيْمَنِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مُثَلَّجَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ فَقَدَحَ زَنْدَهُ فَلَمْ يُورِ. قِيلَ: كَانَ رَجُلًا غَيُورًا يَصْحَبُ الرُّفْقَةَ لَيْلًا وَيُفَارِقُهُمْ نَهَارًا لِئَلَّا تُرَى امْرَأَتُهُ، فَأَضَلَّ الطريق.

_ (1) سورة هود: 11/ 120. [.....]

قَالَ وَهْبٌ: وُلِدَ لَهُ ابْنٌ فِي الطَّرِيقِ وَلَمًّا صَلَدَ زَنْدُهُ رَأى نَارًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لِلْحَدِيثِ لِأَنَّهُ حَدَّثَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِمُضْمَرٍ أَيْ نَارًا كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا لِأَذْكُرَ امْكُثُوا أَيْ أَقِيمُوا فِي مَكَانِكُمْ، وَخَاطَبَ امْرَأَتَهُ وَوَلَدَيْهِ وَالْخَادِمَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَذَا فِي الْقَصَصِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا إِنِّي آنَسْتُ أَيْ أَحْسَسْتُ، وَالنَّارُ عَلَى بُعْدٍ لَا تُحَسُّ إِلَّا بِالْبَصَرِ فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِرَأَيْتُ، وَالْإِينَاسُ أَعَمُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّكَ تَقُولُ آنَسْتُ مِنْ فُلَانٍ خَيْرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِينَاسُ الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَمِنْهُ إِنْسَانُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْإِنْسُ لِظُهُورِهِمْ كَمَا قِيلَ الْجِنُّ لِاسْتِتَارِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ إِبْصَارُ مَا يُؤْنَسُ بِهِ لِمَا وُجِدَ مِنْهُ الْإِينَاسُ فَكَانَ مَقْطُوعًا مُتَيَقَّنًا حَقَّقَهُ لَهُمْ بِكَلِمَةِ إِنَّ لِيُوَطِّنَ أَنْفُسَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْقَبَسِ وَوُجُودُ الْهُدَى مُتَرَقَّبَيْنِ مُتَوَقَّعَيْنِ بَنَى الْأَمْرَ فِيهِمَا عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، وَقَالَ: لَعَلَّ وَلَمْ يَقْطَعْ فَيَقُولَ إِنِّي آتِيكُمْ لِئَلَّا يَعِدَ مَا لَيْسَ يَسْتَيْقِنُ الْوَفَاءَ بِهِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى نُورًا حَقِيقَةً. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَتْ عِنْدَ مُوسَى نَارًا وَكَانَتْ عِنْدَ اللَّهِ نُورًا. قِيلَ: وَخُيِّلَ لَهُ أَنَّهُ نَارٌ. قِيلَ: وَلَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِغَيْرِ الْمُطَابِقِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَفْظَةُ عَلَى هَاهُنَا عَلَى بَابِهَا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَعْلُونَ الْمَكَانَ الْقَرِيبَ مِنْهَا، أَوْ لِأَنَّ الْمُصْطَلِينَ بِهَا وَالْمُسْتَمْتِعِينَ إِذَا تَكَنَّفُوهَا قِيَامًا وَقُعُودًا كَانُوا مُشْرِفِينَ عَلَيْهَا ومنه قول الأعشى: ويأت عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ وَبِمَعْنَى مَعَ وَبِمَعْنَى الْبَاءِ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُ ضَلَّ عَنِ الْمَاءِ فَتَرَجَّى أَنْ يَلْقَى مَنْ يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ أَوْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَاءِ، وَانْتَصَبَ هُدىً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ ذَا هُدىً أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْهَادِي فَقَدْ وُجِدَ الْهُدَى هُدَى الطَّرِيقِ. وَقِيلَ: هُدىً فِي الدِّينِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ طَلَبَ مَنْ يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ فَقَدْ وَجَدَ الْهُدَى عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالضَّمِيرُ فِي أَتاها عَائِدٌ عَلَى النَّارِ أَتَاهَا فَإِذَا هِيَ مُضْطَرِمَةٌ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ يَانِعَةٍ عُنَّابٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: سَمُرَةٌ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَوْسَجٌ قَالَهُ وَهْبٌ. وَقِيلَ: عُلَّيْقَةٌ عَنْ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَكَانَ كُلَّمَا قَرُبَ مِنْهَا تَبَاعَدَتْ فَإِذَا أَدْبَرَ اتَّبَعَتْهُ، فَأَيْقَنَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ

مِنْ أُمُورِ اللَّهِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، وَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا وَسَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ وألقيت عليه السكينة ونُودِيَ وَهُوَ تَكْلِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَعَلَى مُعَامَلَةِ النِّدَاءِ مُعَامَلَةَ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الكوفيين. وأَنَا مُبْتَدَأٌ أَوْ فَصْلٌ أَوْ تَوْكِيدٌ لِضَمِيرِ النَّصْبِ، وَفِي هَذِهِ الْأَعَارِيبِ حَصَلَ التَّرْكِيبُ لِتَحْقِيقِ الْمَعْرِفَةِ وَإِمَاطَةِ الشُّبْهَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر: وأني بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِأَنِّي أَنَا رَبُّكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى مَعْنَى لِأَجْلِ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ونُودِيَ قَدْ تُوصَلُ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيٍّ: نَادَيْتُ بِاسْمِ رَبِيعَةَ بْنِ مُكَدَّمٍ ... إِنَّ الْمُنَوَّهَ بِاسْمِهِ الْمَوْثُوقُ انْتَهَى. وَعِلْمُهُ بِأَنَّ الَّذِي نَادَاهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ بِالضَّرُورَةِ خَلْقًا مِنْهُ تَعَالَى فِيهِ أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْمُعْجِزَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُعْجِزِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَيَّنَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْرِفَ مَا ذَلِكَ الْمُعْجِزَ قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّكْلِيفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ لِعِظَمِ الْحَالِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا كَمَا يُخْلَعُ عِنْدَ الْمُلُوكِ غَايَةً فِي التَّوَاضُعِ. وَقِيلَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَأُمِرَ بِطَرْحِهِمَا لِنَجَاسَتِهِمَا. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ عَلَى مُوسَى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ كِسَاءٌ صُوفٌ وَجُبَّةٌ صُوفٌ وَكُمَّةٌ صُوفٌ وَسَرَاوِيلُ صُوفٌ، وَكَانَتْ نَعْلَاهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ» . قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالَكُمَّةُ الْقَلَنْسُوَّةُ الصَّغِيرَةُ وَكَوْنُهُمَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ بَقَرَةٍ ذَكِيٍّ لَكِنْ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا لِبَيَانِ بَرَكَةِ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، وَتَمَسُّ قَدَمَاهُ تُرْبَتَهُ وَرُوِيَ أنه خلق نَعْلَيْهِ وَأَلْقَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ الوادي. والْمُقَدَّسِ المطهر وطُوىً اسْمُ عَلَمٍ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو السَّمَّالِ وَابْنُ محيصن بِكَسْرِ الطَّاءِ مُنَوَّنًا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّهَا مُنَوَّنًا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّهَا غَيْرَ مُنَوَّنٍ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِكَسْرِهَا غَيْرَ مُنَوَّنٍ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالضَّحَّاكُ طَاوِي اذْهَبْ فَمَنْ نَوَّنَ فَعَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْ وَضَمَّ الطَّاءَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُولًا عَنْ فِعْلٍ نَحْوِ زُفَرَ وَقُثَمَ، أَوْ أَعْجَمِيًّا أَوْ عَلَى مَعْنَى الْبُقْعَةِ، وَمَنْ كَسَرَ وَلَمْ يُنَوِّنْ فَمَنَعَ الصَّرْفَ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: طُوىً بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالتَّنْوِينِ مَصْدَرٌ ثُنِّيَتْ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَالتَّقْدِيسُ مَرَّتَيْنِ فَهُوَ بِوَزْنِ الثَّنَاءِ وَبِمَعْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الثِّنَا بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ الشَّيْءُ الَّذِي تُكَرِّرُهُ، فَكَذَلِكَ الطُّوَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ طُوىً مِنَ اللَّيْلِ أَيْ سَاعَةً أَيْ قُدِّسَ لَكَ

فِي سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ نُودِيَ بِاللَّيْلِ، فَلَحِقَ الْوَادِي تَقْدِيسٌ مُحَدَّدٌ أَيْ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ لَيْلًا. قَرَأَ طَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ وَأَمَّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ النُّونِ اخْتَرْنَاكَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْأَعْمَشُ فِي رواية وَأَنَا بكسر الهمزة والألف بغير النون بلفظ الجمع دون معناه لأنه من خطاب الملوك اخترناك بالنون وَالْأَلِفُ عَطْفًا عَلَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ لِأَنَّهُمْ كَسَرُوا ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُفْرَدِ غَيْرِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَأَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ اخْتَرْتُكَ بِتَاءٍ عَطْفًا عَلَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وَمَفْعُولُ اخْتَرْتُكَ الثَّانِي الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ بِمِنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَوْمِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِما يُوحى مِنْ صِلَةِ اسْتَمِعْ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: لِما يُوحى لِلَّذِي يُوحَى أَوْ لِلْوَحْيِ، فَعَلَّقَ اللَّامَ بِاسْتَمِعْ أَوْ بِاخْتَرْتُكَ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِاخْتَرْتُكَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ فَيَجِبُ أَوْ يُخْتَارُ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ مَعَ الثَّانِي، فَكَانَ يَكُونُ فَاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِعْمَالُ الثَّانِي. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ: لَمَّا قِيلَ لِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ اسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى وَقَفَ عَلَى حَجَرٍ وَاسْتَنَدَ إِلَى حَجَرٍ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ وَأَلْقَى ذَقْنَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَوَقَفَ لِيَسْتَمِعَ وَكَانَ كُلُّ لِبَاسِهِ صُوفًا. وَقَالَ وَهْبٌ: أَدَبُ الِاسْتِمَاعِ سُكُونُ الْجَوَارِحِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَالْإِصْغَاءُ بِالسَّمْعِ وَحُضُورُ الْعَقْلِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِمَاعُ لِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي يُوحى لِلْعِلْمِ بِهِ وَيُحَسِّنُهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةً، فَلَوْ كَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ لَمْ يَكُنْ فَاصِلَةً وَالْمُوحَى قَوْلُهُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ إِلَى آخِرِهِ مَعْنَاهُ وَحِّدْنِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» إِلَى آخِرِ الْجُمَلِ جَاءَ ذَلِكَ تَبْيِينًا وَتَفْسِيرًا لِلْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ لِما يُوحى. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فَاعْبُدْنِي هُنَا وَحِّدْنِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَعْنَاهُ لِيُوَحِّدُونِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فَاعْبُدْنِي لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ مَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ قَدْ يَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ فَبَدَأَ بالصلاة إِذْ هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَنْفَعُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَالذِّكْرُ مصدر يحتمل أن يضاف إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ لِيَذْكُرَنِي فَإِنَّ ذِكْرِي أَنْ أُعْبَدَ وَيُصَلَّى لِي أَوْ لِيَذْكُرَنِي فِيهَا لِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَذْكَارِ أَوْ لِأَنِّي ذَكَرْتُهَا فِي الْكُتُبِ وَأَمَرْتُ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ لِأَنْ أَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَأَجْعَلَ لَكَ لِسَانَ صِدْقٍ، أَوْ لِأَنْ تَذْكُرَنِي خَاصَّةً لَا تَشُوبُهُ بِذِكْرِ غَيْرِي أَوْ خَلَاصُ ذكري وطلب

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 56.

وَجْهِي لَا تُرَائِي بِهَا وَلَا تَقْصِدُ بِهَا غَرَضًا آخَرَ، أَوْ لِتَكُونَ لِي ذَاكِرًا غَيْرَ نَاسٍ فِعْلَ الْمُخْلِصِينَ فِي جَعْلِهِمْ ذِكْرَ رَبِّهِمْ عَلَى بَالٍ مِنْهُمْ وَتَوْكِيلِ هِمَمِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ بِهِ كَمَا قَالَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «1» أَوْ لِأَوْقَاتِ ذِكْرِي وَهِيَ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «2» وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «3» وَقَدْ حُمِلَ عَلَى ذِكْرِ الصَّلَاةِ بَعْدَ نِسْيَانِهَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: «من نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ حَقُّ الْعِبَادَةِ أَنْ يُقَالَ لِذِكْرِهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذكرها» . ومن يتحمل لَهُ يَقُولُ: إِذَا ذَكَرَ الصَّلَاةَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ، أَوْ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ لِذِكْرِ صَلَاتِي أَوْ لِأَنَّ الذِّكْرَ وَالنِّسْيَانَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَقِيقَةِ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: «فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» قَوْلُهُ «إِذْ لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ثُمَّ قَرَأَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ: لِلذِّكْرَى بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَأَلِفِ التَّأْنِيثِ، فَالذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذْكِرَةِ أَيْ لِتَذْكِيرِي إِيَّاكَ إِذَا ذَكَّرْتُكَ بَعْدَ نِسْيَانِكَ فَأَقِمْهَا. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ لِذِكْرَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ بِغَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: لِلذِّكْرِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ذَكَرَ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْمَعَادُ لِلْجَزَاءِ فَقَالَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَهِيَ الَّتِي يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا عَمِلَهُ الْإِنْسَانُ وَجَزَاءُ ذَلِكَ إِمَّا ثَوَابًا وَإِمَّا عِقَابًا. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ أَخْفِيهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَاصِمٍ بِمَعْنَى أُظْهِرُهَا أَيْ إِنَّهَا مِنْ صِحَّةِ وُقُوعِهَا وَتَيَقُّنِ كَوْنِهَا تَكَادُ تَظْهَرُ، وَلَكِنْ تَأَخَّرَتْ إِلَى الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ أَيْ أَظْهَرْتُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: خَفَاهُنَّ مِنْ إِيقَانِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلَّبِ وَقَالَ آخَرُ: فَإِنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ ... وَإِنْ تُوقِدُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ وَلَامُ لِتُجْزى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأُخْفِيهَا أَيْ أُظْهِرُهَا لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُخْفِيها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُوَ مُضَارِعُ أَخْفَى بِمَعْنَى سَتَرَ، وَالْهَمْزَةُ هُنَا لِلْإِزَالَةِ أَيْ أَزَلْتُ الْخَفَاءَ وَهُوَ الظُّهُورُ، وَإِذَا أَزَلْتَ الظُّهُورَ صَارَ لِلسِّتْرِ كَقَوْلِكَ: أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ أزلت

_ (1) سورة النور: 24/ 37. (2) سورة النساء: 4/ 103. (3) سورة الإسراء: 17/ 78.

عَنْهُ الْعُجْمَةَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا مِنْ بَابِ السَّلْبِ وَمَعْنَاهُ، أُزِيلُ عَنْهَا خَفَاءَهَا وَهُوَ سِتْرُهَا، وَاللَّامُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ مُتَعَلِّقَةٌ بِآتِيَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لنجزي انْتَهَى، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا قَدَّرْنَا أَكادُ أُخْفِيها جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً، فَإِنْ جَعَلْتَهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لآتية فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مَعْمُولِهِ. وَقِيلَ: أُخْفِيها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أُظْهِرُهَا فَتَتَّحِدُ الْقِرَاءَتَانِ، وَأَخْفَى مِنَ الْأَضْدَادِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ وَبِمَعْنَى السِّتْرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَفِيَتْ وَأُخْفِيَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ اللُّغَةِ لَا شك في صدقه وأَكادُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَكِنَّهَا مَجَازٌ هُنَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ عِبَارَةً عَنْ شِدَّةِ إِخْفَاءِ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَوَقْتِهَا وَكَانَ الْقَطْعُ بِإِتْيَانِهَا مَعَ جَهْلِ الْوَقْتِ أَهْيَبَ عَلَى النُّفُوسِ بَالَغَ فِي إِبْهَامِ وَقْتِهَا فَقَالَ أَكادُ أُخْفِيها حَتَّى لَا تَظْهَرَ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أَكادُ بِمَعْنَى أُرِيدُ، فَالْمَعْنَى أُرِيدُ إِخْفَاءَهَا وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبُو مُسْلِمٍ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ: وَلَا أَكَادُ أَيْ لَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: خَبَرُ كَادَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَكادُ أَتَى بِهَا لِقُرْبِهَا وَصِحَّةِ وُقُوعِهَا كَمَا حُذِفَ في قول صابىء الْبُرْجُمِيِّ: هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهُ أَيْ وَكِدْتُ أَفْعَلُ. وَتَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ يُخْفِيهَا وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ غُمُوضِهَا عَنِ الْمَخْلُوقِينَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا رَأَى بَعْضُهُمْ قَلَقَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ مَعْنًى مِنْ نَفْسِي: مِنْ تِلْقَائِي وَمِنْ عِنْدِي. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أَكادُ زَائِدَةٌ لَا دُخُولَ لَهَا فِي الْمَعْنَى بَلِ الْإِخْبَارُ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُخْفِي وَقْتَ إِتْيَانِهَا، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى زِيَادَةِ كَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَمْ يَكَدْ يَراها «1» وَبِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ زَيْدُ الْخَيْلِ: سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكِ سِلَاحِهِ ... فَمَا أَنْ يَكَادُ قَرْنُهُ يَتَنَفَّسُ وَبِقَوْلِ الْآخَرِ: وَأَنْ لَا أَلُومَ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي ... وَأَنْ لَا أَكَادَ بِالَّذِي نِلْتُ أَنْجَحُ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَكادُ أُخْفِيها فَلَا أَقُولُ هِيَ آتِيَةٌ لفرط

_ (1) سورة النور: 24/ 40.

إِرَادَتِي إِخْفَاءَهَا، وَلَوْلَا مَا فِي الْإِخْبَارِ بِإِتْيَانِهَا مَعَ تَعْمِيَةِ وَقْتِهَا مِنَ اللُّطْفِ لَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي وَلَا دَلِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، وَمَحْذُوفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مطرح. والذي غزهم مِنْهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُظْهِرُكُمْ عَلَيْهَا انْتَهَى. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا عَنْ أُبَيٍّ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ يَعْلَمُهَا مَخْلُوقٌ. وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَكَيْفَ أُظْهِرُهَا لَكُمْ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا بَالَغَ فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ قَالَ: كِدْتُ أُخْفِيهِ مِنْ نَفْسِي، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ قَالَ مَعْنَاهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا ... مَا كِدْتُ أَكْتُمُهُ عَنِّي مِنَ الْخَبَرِ وَكَيْفَ يَكْتُمُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ نَحْوِ هَذَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي أُخْفِيها عَائِدٌ عَلَى السَّاعَةَ والسَّاعَةَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالسَّعْيُ هُنَا الْعَمَلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَنْها وبِها عَائِدٌ عَلَى السَّاعَةِ. وَقِيلَ: عَلَى الصَّلَاةِ. وَقِيلَ عَنْها عن الصلاة وبِها أَيْ بِالسَّاعَةِ، وَأَبْعَدَ جِدًّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَنْها يَعُودُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كلمة لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي فَلا يَصُدَّنَّكَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَلِلسَّامِعِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُمْكِنُ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا وَلِأُمَّتِهِ مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْعِبَارَةُ أَنْهَى مَنْ لَا يُؤْمِنُ عَنْ صَدِّ مُوسَى، وَالْمَقْصُودُ نَهْيُ مُوسَى عَنِ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ أَوْ أَمْرِهِ بِالتَّصْدِيقِ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا سَبَبٌ لِلتَّكْذِيبِ، فَذَكَرَ السَّبَبَ لِيَدُلَّ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ مُسَبَّبٌ عَنْ رَخَاوَةِ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ وَلِينِ شَكِيمَتِهِ، فَذَكَرَ الْمُسَبَّبَ لِيَدُلَّ عَلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِمْ لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا. الْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ وَالْكَوْنُ بِحَضْرَتِهِ وَذَلِكَ سَبَبُ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ، فَكَانَ ذِكْرُ الْمُسَبَّبِ دَلِيلًا عَلَى السَّبَبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُنْ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ صَلْبَ الْمُعْجَمِ حَتَّى لَا يَتَلَوَّحَ مِنْكَ لِمَنْ يَكْفُرُ بِالْبَعْثِ أَنَّهُ يَطْمَعُ فِي صَدِّكَ عَمَّا أَنْتَ

عَلَيْهِ فَتَرْدى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جَوَازِ النَّهْيِ وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَيْ فَأَنْتَ تَرَدَّى. وَقَرَأَ يَحْيَى فَتِرْدَى بِكَسْرِ التَّاءِ. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى هُوَ تَقْرِيرٌ مُضَمَّنُهُ التَّنْبِيهُ، وَجَمَعَ النَّفْسَ لِمَا يُورَدُ عَلَيْهَا وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ مَا هِيَ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ لِيُرِيَهُ عِظَمَ مَا يَخْتَرِعُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْخَشَبَةِ الْيَابِسَةِ مِنْ قَلْبِهَا حَيَّةً نَضْنَاضَةً، وَيَتَقَرَّرُ فِي نَفْسِهِ الْمُبَايَنَةُ الْبَعِيدَةُ بَيْنَ الْمَقْلُوبِ عَنْهُ وَالْمَقْلُوبِ إِلَيْهِ، وَيُنَبِّهُهُ عَلَى قدرته الباهرة وما استفهام مبتدأ وتِلْكَ خبره وبِيَمِينِكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً «1» وَالْعَامِلُ اسْمُ الْإِشَارَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ اسْمًا مَوْصُولًا صِلَتُهُ بِيَمِينِكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلْبَصْرِيِّينَ وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ، قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَوْصُولًا حَيْثُ يَتَقَدَّرُ بِالْمَوْصُولِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا الَّتِي بِيَمِينِكَ؟ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي الْمَجْرُورِ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا الَّتِي اسْتَقَرَّتْ بِيَمِينِكَ؟ وَفِي هَذَا السُّؤَالِ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ خِطَابِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِئْنَاسٌ عَظِيمٌ وَتَشْرِيفٌ كَرِيمٌ. قالَ هِيَ عَصايَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ عَصَيَّ بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ عَصَايِ بِكَسْرِ الياء وهي مروية عن ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا وَأَبِي عَمْرٍو مَعًا، وَهَذِهِ الْكَسْرَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيِّ عَصَايْ بسكون الياء. أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أَيْ أَتَحَامَلُ عَلَيْهَا فِي الْمَشْيِ وَالْوُقُوفِ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الْجَوَابِ كَمَا جَاءَ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . فِي جَوَابِ من سأل أيتوضأ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ وَكَمَا جَاءَ فِي جَوَابِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَكَ أَجْرٌ» . وَحِكْمَةُ زِيَادَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَغْبَتُهُ فِي مُطَاوَلَةِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَازْدِيَادُ لَذَاذَتِهِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَمْلَى عِتَابًا يُسْتَطَابُ فَلَيْتَنِي ... أَطَلْتُ ذُنُوبًا كَيْ يَطُولَ عِتَابُهُ وَتَعْدَادُهُ نِعَمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمَا جَعَلَ لَهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وتضمنت هذه الزيادة تفضيلا في قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَإِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. وقيل: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها جَوَابٌ لِسُؤَالٍ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هِيَ عَصايَ قَالَ لَهُ تَعَالَى فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قال: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها الْآيَةَ. وَقِيلَ: سَأَلَهُ تَعَالَى عَنْ شَيْئَيْنِ عَنِ الْعَصَا بِقَوْلِهِ وَما تِلْكَ وَبِقَوْلِهِ بِيَمِينِكَ عَمَّا يَمْلِكُهُ، فَأَجَابَهُ عَنْ وَما تِلْكَ؟ بِقَوْلِهِ هِيَ عَصايَ وَعَنْ

_ (1) سورة هود: 11/ 72.

قوله بِيَمِينِكَ بقوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ إِلَى آخِرِهِ انْتَهَى. وَفِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ قَوْلُهُ بِيَمِينِكَ بِسُؤَالٍ وَقَدَّمَ فِي الْجَوَابِ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ في قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثُمَّ ثَنَّى بِمَصْلَحَةِ رَعِيَّتِهِ فِي قَوْلِهِ وَأَهُشُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالنَّخَعِيُّ بِكَسْرِهَا كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَضْمُومَةِ الْهَاءِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْوَرِقُ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ: وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَشَّ يَهُشُّ هَشَاشَةً إِذَا مَالَ، أَيْ أَمِيلُ بِهَا عَلَى غَنَمِي بِمَا أُصْلِحُهَا مِنَ السَّوْقِ وَتَكْسِيرِ الْعَلَفِ وَنَحْوِهِمَا، يُقَالُ مِنْهُ: هَشَّ الْوَرَقُ وَالْكَلَأُ وَالنَّبَاتُ إِذَا جَفَّ وَلَانَ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: وَأَهُسُّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَالسِّينِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ، وَالْهَسُّ السَّوْقُ وَمِنْ ذَلِكَ الْهَسُّ وَالْهَسَّاسُ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ فِي الصِّفَاتِ. وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ وَأَهُسُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنْ أَهَسَّ رُبَاعِيًّا وَذَكَرَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعَامَّةِ لَكِنْ فَرَّ مِنْ قِرَاءَتِهِ مِنَ التَّضْعِيفِ لِأَنَّ الشِّينَ فِيهِ تَفَشٍّ فَاسْتَثْقَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ التَّضْعِيفِ وَالتَّفَشِّي. فَيَكُونُ كَتَخْفِيفِ ظَلْتَ وَنَحْوِهِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ وَأَهُشُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ أَهَشَّ رُبَاعِيًّا قَالَ: وَكِلَاهُمَا مِنْ هَشَّ الْخُبْزُ يَهِشُّ إِذَا كَانَ يَتَكَسَّرُ لِهَشَاشَتِهِ. ذَكَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ الْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْعَصَا كَأَنَّهُ أَحَسَّ بِمَا يَعْقُبُ هَذَا السُّؤَالَ مِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ مَا هِيَ إِلَّا عَصًا لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَنَافِعَ بَنَاتِ جِنْسِهَا كَمَا يَنْفَعُ الْعِيدَانُ لِيَكُونَ جَوَابُهُ مُطَابِقًا لِلْغَرَضِ الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ رَبِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعَدِّدَ الْمَرَافِقَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي عَلَّقَهَا بِالْعَصَا وَيَسْتَكْثِرُهَا وَيَسْتَعْظِمُهَا ثُمَّ يُرِيَهُ عَلَى عَقِبِ ذَلِكَ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْعُظْمَى وَالْمَأْرَبَةِ الْكُبْرَى الْمَنْسِيَّةُ عِنْدَهَا كُلُّ مَنْفَعَةٍ وَمَأْرَبَةٍ. كُنْتَ تَعْتَدُّ بِهَا وَتَحْتَفِلُ بِشَأْنِهَا وَقَالُوا اسْمُ الْعَصَا نَبْعَةٌ انْتَهَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ غَنَمِي بِسُكُونِ النُّونِ وَفِرْقَةٌ عَلَى غَنَمِي بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَى الْغَنَمِ. وَالْمَآرِبُ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ وَمِحْجَنٍ فَإِذَا طَالَ الْغُصْنُ حَنَاهُ بِالْمِحْجَنِ، وَإِذَا طَلَبَ كَسْرَهُ لَوَاهُ بِالشُّعْبَتَيْنِ، وَإِذَا سَارَ أَلْقَاهَا عَلَى عَاتِقِهِ فَعَلَّقَ بِهَا أَدَوَاتِهِ مِنَ الْقَوْسِ وَالْكِنَانَةِ وَالْحِلَابِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ رَكَّزَهَا وَعَرَّضَ الزَّنْدَيْنِ عَلَى شُعْبَتَيْهَا وَأَلْقَى عَلَيْهَا الْكِسَاءَ وَاسْتَظَلَّ، وَإِذَا قَصُرَ رِشَاؤُهُ وَصَلَ بِهَا وَكَانَ يُقَاتِلُ بِهَا السِّبَاعَ عَنْ غَنَمِهِ.

وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقِي بِهَا فَتَطُولُ بِطُولِ الْبِئْرِ وَتَصِيرُ شُعْبَتَاهَا دَلْوًا وَتَكُونَانِ شَمْعَتَيْنِ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ حَارَبَتْ عَنْهُ، وَإِذَا اشْتَهَى ثَمَرَةً رَكَّزَهَا فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَسِقَاءَهُ فَجَعَلَتْ تُمَاشِيهِ وَيُرَكِّزُهَا فَيَنْبُعُ الْمَاءُ فَإِذَا رَفَعَهَا نَضَبَ. وَكَانَتْ تَقِيهِ الْهَوَامَّ وَيَرُدُّ بِهَا غَنَمَهُ وَإِنْ بَعَدُوا وَهَذِهِ الْعَصَا أَخَذَهَا مِنْ بَيْتِ عِصِيِّ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ شُعَيْبٍ حِينَ اتَّفَقَا عَلَى الرَّعِيَّةِ هَبَطَ بِهَا آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَطُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَقِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ بِذِرَاعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَامَلَ الْمَآرِبَ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فَأَتْبَعَهَا صِفَتَهَا فِي قَوْلِهِ أُخْرَى وَلَمْ يَقُلْ آخَرُ رَعْيًا لِلْفَوَاصِلِ وَهِيَ جَائِزٌ فِي غَيْرِ الْفَوَاصِلِ. وَكَانَ أَجْوَدَ وَأَحْسَنَ فِي الْفَوَاصِلِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَشَيْبَةُ: مَارِبُ بِغَيْرِ هَمْزٍ كَذَا قَالَ الْأَهْوَازِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْنَاعِ فِي الْقِرَاءَاتِ وَيَعْنِي وَاللَّهُ أعلم بغير هم مُحَقَّقٍ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُمَا سَهَّلَاهَا بَيْنَ بَيْنَ. قالَ أَلْقِها الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ الْمَلَكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَعْنَى أَلْقِها اطراحها عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى وَإِذَا هِيَ الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ، وَالْحَيَّةُ تَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْجَانِّ الرَّقِيقِ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ مِنْهَا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَشْبِيهِهَا بِالْجَانِّ فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ «1» وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثُعْبَانًا لِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْجَانِّ هُوَ فِي أَوَّلِ حَالِهَا ثُمَّ تَزَيَّدَتْ حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا أَوْ شُبِّهَتْ بِالْجَانِّ وَهِيَ ثُعْبَانٌ فِي سُرْعَةِ حَرَكَتِهَا وَاهْتِزَازِهَا مَعَ عِظَمِ خَلْقِهَا. قِيلَ: كَانَ لَهَا عُرْفٌ كَعُرْفِ الْفَرَسِ وَصَارَتْ شُعْبَتَا الْعَصَا لَهَا فَمًا وَبَيْنَ لِحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا تَبْتَلِعُ الصَّخْرَ وَالشَّجَرَ وَالْمِحْجَنُ عُنُقًا وَعَيْنَاهَا تَتَّقِدَانِ، فَلَمَّا رَأَى هَذَا الْأَمْرَ الْعَجِيبَ الْهَائِلَ لَحِقَهُ مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَهْوَالِ وَالْمَخَاوِفِ لَا سِيَّمَا هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي يُذْهِلُ الْعُقُولَ. وَمَعْنَى تَسْعى تَنْتَقِلُ وَتَمْشِي بِسُرْعَةٍ، وَحِكْمَةُ انْقِلَابِهَا وَقْتَ مُنَاجَاتِهِ تَأْنِيسُهُ بِهَذَا الْمُعْجِزِ الْهَائِلِ حَتَّى يُلْقِيَهَا لِفِرْعَوْنَ فَلَا يَلْحَقُهُ ذُعْرٌ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِذْ قَدْ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ وَتَدْرِيبُهُ فِي تَلَقِّي تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ وَمَشَاقِّ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْإِقْدَامِ عَلَى أَخْذِهَا وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَخَافَ مِنْهَا وَذَلِكَ حِينَ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا خَافَهَا لِأَنَّهُ عَرَفَ مَا لَقِيَ آدَمُ مِنْهَا. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ لَهُ اللَّهُ لَا تَخَفْ بلغ من

_ (1) سورة النمل: 27/ 10 وسورة القصص: 28/ 31.

ذَهَابِ خَوْفِهِ وَطَمَأْنِينَةِ نَفْسِهِ أَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فَمِهَا وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهَا وَيَبْعُدُ مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ خُذْ مَرَّةً وَثَانِيَةً حَتَّى قِيلَ لَهُ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى فَأَخَذَهَا فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ لَا يَلِيقُ أَنْ يَأْمُرَهُ رَبُّهُ مَرَّةً وَثَانِيَةً فَلَا يَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَحِينَ أَخَذَهَا بِيَدِهِ صَارَتْ عَصًا وَالسِّيرَةُ مِنَ السَّيْرِ كَالرِّكْبَةِ وَالْجِلْسَةِ، يُقَالُ: سَارَ فُلَانٌ سِيرَةً حَسَنَةً ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهَا فَنُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْمَذْهَبِ وَالطَّرِيقَةِ. وَقِيلَ: سَيْرُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا تَغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ سِيرَتَهَا فَقَالَ الْحَوْفِيُّ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِسَنُعِيدُهَا عَلَى حَذْفِ الْجَارِّ مِثْلُ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «1» يَعْنِي إِلَى سِيرَتَهَا قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَفْعُولِ سَنُعِيدُها. وَقَالَ هَذَا الثَّانِي أَبُو الْبَقَاءِ قَالَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ صِفَتُهَا وَطَرِيقَتُهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ سَنُعِيدُها فِي طَرِيقَتِهَا الْأُولَى أَيْ فِي حَالِ مَا كَانَتْ عَصًا انْتَهَى. وسِيرَتَهَا وَطَرِيقَتُهَا ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ عَلَى طَرِيقَةِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ، فِي وَلَا يَجُوزُ الْحَذْفُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ أَوْ فِيمَا شَذَّتْ فِيهِ الْعَرَبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ عَادَهُ بِمَعْنَى عَادَ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ بَيْتُ زُهَيْرٍ: وَعَادَكَ أَنْ تَلَاقِيَهَا عَدَاءٌ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَوْفِيُّ. قَالَ: وَوَجْهٌ ثَالِثٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَنُعِيدُها مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِسِيرَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهَا أُنْشِئَتْ أَوَّلَ مَا أُنْشِئَتْ عَصًا ثُمَّ ذَهَبَتْ وَبَطَلَتْ بِالْقَلْبِ حَيَّةً، فَسَنُعِيدُهَا بَعْدَ الذَّهَابِ كَمَا أَنْشَأْنَاهَا أَوَّلًا وَنَصْبُ سِيرَتَهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ تَسِيرُ سِيرَتَهَا الْأُولى يَعْنِي سَنُعِيدُها سَائِرَةً سِيرَتَهَا الْأُولى حَيْثُ كُنْتَ تَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، وَلَكَ فِيهَا الْمَآرِبُ الَّتِي عَرَفْتَهَا انْتَهَى. وَالْجَنَاحُ حَقِيقَةً فِي الطَّائِرِ وَالْمَلَكِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى الْعَضُدِ وَعَلَى جَنْبِ الرَّجُلِ. وَقِيلَ لِمَجْنَبَتَيِ الْعَسْكَرِ جَنَاحَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَسُمِّيَ جَنَاحُ الطَّائِرِ لِأَنَّهُ يَجْنَحُ بِهِ عِنْدَ الطيران، ولما كان المرغوب مِنْ ظُلْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِذَا ضَمَّ يَدَهُ إِلَى جناحه فتر رغبة وَرَبَطَ جَأْشُهُ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَضُمَّ يَدَهُ إِلَى جَنَاحِهِ لِيَقْوَى جَأْشُهُ وَلِتَظْهَرَ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْيَدِ. وَالْمُرَادُ إِلَى جَنْبِكَ تَحْتَ الْعَضُدِ. وَلِهَذَا قَالَ تَخْرُجْ فَلَوْ لَمْ يكن

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 155.

دُخُولٌ لَمْ يَكُنْ خُرُوجٌ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ «1» وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ الْخُرُوجُ عَلَى الضَّمِّ وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِخْرَاجِ وَالتَّقْدِيرُ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَنْضَمَّ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَبْقَى مُقَابِلَهُ، وَمِنَ الثَّانِي وَأَبْقَى مُقَابِلَهُ وَهُوَ اضْمُمْ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَدْخِلْ كَمَا يُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ قِيلَ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ تَشِفُّ وَتُضِيءُ كَأَنَّهَا شَمْسٌ، وَكَانَ آدَمَ اللَّوْنِ وَانْتَصَبَ بَيْضاءَ عَلَى الْحَالِ وَالسُّوءُ الرَّدَاءَةُ وَالْقُبْحُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْبَرَصِ كَمَا كنى عن العورة بالسوأة، وَكَمَا كَنَّوْا عَنْ جَذِيمَةَ وَكَانَ أَبْرَصَ بِالْأَبْرَصِ وَالْبَرَصُ أَبْغَضُ شَيْءٍ إِلَى الْعَرَبِ وَطِبَاعُهُمْ تَنْفِرُ مِنْهُ وَأَسْمَاعُهُمْ تَمُجُّ ذِكْرَهُ فَكَنَّى عَنْهُ. وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ متعلق بيضاء كَأَنَّهُ قَالَ ابْيَضَّتْ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِبَيْضَاءَ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الِاسْتِقْرَارُ انْتَهَى. وَيُقَالُ لَهُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَيَانِ الِاحْتِرَاسُ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْضاءَ لَأَوْهَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَصٍ أَوْ بَهَقٍ. وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْحَالِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ خُذْ وَدُونَكَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ كَذَا قَالَ، فَأَمَّا تَقْدِيرُ خُذْ فَسَائِغٌ وَأَمَّا دُونَكَ فَلَا يَسُوغُ لِأَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ النَّائِبُ وَالْمَنُوبُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْرِ مَجْرَاهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ وَالْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ آيَةً بَدَلًا مِنْ بَيْضاءَ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي بَيْضاءَ أَيْ تَبْيَضُّ آيَةً. وَقِيلَ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ جَعَلْنَاهَا آيَةً أَوْ آتَيْنَاكَ آيَةً. وَاللَّامُ فِي لِنُرِيَكَ قَالَ الْحَوْفِيُّ مُتَعَلِّقَةٌ بِاضْمُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِتَخْرُجْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ يَعْنِي الْمُقَدَّرَ جَعَلْنَاهَا أَوْ آتَيْنَاكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ آيَةً أَيْ دَلَّلْنَا بِهَا لِنُرِيَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِنُرِيَكَ أَيْ خُذْ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا بَعْدَ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لِنُرِيَكَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَعْضَ آياتِنَا الْكُبْرى أَوْ لِنُرِيَكَ بِهِمَا الْكُبْرى مِنْ آياتِنَا أَوْ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَنَعْنِي أَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ لِنُرِيَكَ الثَّانِي الْكُبْرى أَوْ يَكُونَ مِنْ آياتِنَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَتَكُونُ الْكُبْرى صِفَةً لِآيَاتِنَا عَلَى حَدِّ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2» ومَآرِبُ أُخْرى

_ (1) سورة النمل: 27/ 12. (2) سورة الأعراف: 7/ 180.

بِجَرَيَانِ مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ مَجْرَى الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَأَجَازَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آياتِنَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، والْكُبْرى صِفَةً لِآيَاتِنَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ تَعَالَى كُلُّهَا هِيَ الْكُبَرَ لِأَنَّ مَا كَانَ بَعْضَ الْآيَاتِ الْكُبَرِ صَدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ الْكُبْرى. وَإِذَا جَعَلْتَ الْكُبْرى مَفْعُولًا لَمْ تَتَّصِفِ الْآيَاتُ بِالْكُبَرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُتَّصِفَةُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَأَيْضًا إِذَا جَعَلْتَ الْكُبْرى مَفْعُولًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْعَصَا وَالْيَدِ مَعًا لِأَنَّهُمَا كَانَ يَلْزَمُ التَّثْنِيَةُ فِي وَصْفَيْهِمَا فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ الْكُبْرَيَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ. وَيَبْعُدُ مَا قَالَ الْحَسَنُ مِنْ أَنَّ الْيَدَ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ مِنَ الْعَصَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَقِيبَ الْيَدِ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى لِأَنَّهُ جَعَلَ الْكُبْرى مَفْعُولًا ثَانِيًا لِنُرِيَكَ وَجَعَلَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْآيَةِ الْقَرِيبَةِ وَهِيَ إِخْرَاجُ الْيَدِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَقَدْ ضَعُفَ قَوْلُهُ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا تَغْيِيرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا الْعَصَا فَفِيهَا تَغْيِيرُ اللَّوْنِ وَخَلْقُ الزِّيَادَةِ فِي الْجِسْمِ وَخَلْقُ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَابْتِلَاعِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ، ثُمَّ عَادَتْ عَصًا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ التَّغْيِيرُ مِرَارًا فَكَانَتْ أَعْظَمَ مِنَ الْيَدِ. وَلَمَّا أَرَاهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَا يُلَابِسُهُ وَهُوَ الْعَصَا أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَعَلَّلَ حِكْمَةَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ طَغى وَخَصَّ فِرْعَوْنَ وَإِنْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْكُفْرِ وَمُدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَقَوْمُهُ تُبَّاعُهُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْمَعْ كَلَامِي وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي وَانْطَلِقْ بِرِسَالَتِي أَرْعَاكَ بِعَيْنِي وَسَمْعِي، وَإِنَّ مَعَكَ يَدِي وَنَصْرِي، وَأُلْبِسُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي تَسْتَكْمِلُ بِهَا الْعِزَّةَ فِي أَمْرِي أَبْعَثُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْحُجَّةُ وَالْقَدَرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ، وَلَكِنْ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي فَبَلِّغْهُ رِسَالَتِي وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَحَذِّرْهُ نِقْمَتِي. وَقُلْ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي لَا يَطْرِفُ وَلَا يَتَنَفَّسُ إِلَّا بِعِلْمِي فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. قَالَ: فَسَكَتَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرَ فَجَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ أَنْفِذْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى

إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. لَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ عَرَفَ أَنَّهُ كُلِّفَ أَمْرًا عَظِيمًا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى احْتِمَالِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا ذُو جَأْشٍ رَابِطٍ وَصَدْرٍ فَسِيحٍ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَرَغِبَ فِي أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِيَحْتَمِلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّدَائِدِ الَّتِي يَضِيقُ لَهَا الصَّدْرُ، وَأَنْ يُسَهِّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ لَلَّذِي هُوَ خِلَافَةِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ مُزَاوَلَةِ جَلَائِلِ الْخُطُوبِ، وَقَدْ عَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ مِنَ الْجَبَرُوتِ وَالتَّمَرُّدِ وَالتَّسَلُّطِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَاهُ وَسِّعْ لِي صَدْرِي لِأَعِيَ عَنْكَ مَا تُودِعُهُ مِنْ وَحْيِكَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَسِّعْ قَلْبِي وَلَيِّنْهُ لِفَهْمِ خِطَابِكَ وَأَدَاءِ رِسَالَتِكَ. وَالْقِيَامِ بِمَا كَلَّفْتَنِيهِ مِنْ أَعْبَائِهَا، وَالْعُقْدَةُ اسْتِعَارَةٌ لِثِقَلٍ كَانَ فِي لِسَانِهِ خِلْقَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ مِنَ الْجَمْرَةِ الَّتِي أَدْخَلَهَا فَاهُ وَكَانَتْ آسِيَةُ قَدْ أَلْقَى اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِهَا وَسَأَلَتْ فِرْعَوْنَ أَنْ لَا يَذْبَحَهُ، فَبَيْنَا هِيَ تُرَقِّصُهُ يَوْمًا أَخَذَهُ فِرْعَوْنُ فِي حِجْرِهِ فَأَخَذَ خَصْلَةً مِنْ لِحْيَتِهِ. وَقِيلَ: لَطَمَهُ. وَقِيلَ: ضَرَبَهُ بِقَضِيبٍ كَانَ فِي يَدِهِ فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ فَدَعَا بِالسَّيَّافِ فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْيَاقُوتِ وَالْجَمْرِ. فاحضرا وأراد أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى الْيَاقُوتِ فَحَوَّلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ فَأَخَذَهَا وَوَضَعَهَا فِي فِيهِ فَاحْتَرَقَ لِسَانُهُ انْتَهَى. وَإِحْرَاقُ النَّارِ وَتَأْثِيرُهَا فِي لِسَانِهِ لَا فِي يَدِهِ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالطَّبِيعَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ رَتَّةٌ. وَقِيلَ: حَدَثَتِ الْعُقْدَةُ بَعْدَ الْمُنَاجَاةِ حَتَّى لَا يُكَلِّمَ أَحَدًا بَعْدَهَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: كَانَتْ فِيهِ مُسْكَةٌ عَنِ الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْعُقْدَةُ كَالتَّمْتَمَةِ وَالْفَأْفَأَةِ. وَطَلَبُ مُوسَى مِنْ حَلِّ الْعُقْدَةِ قَدْرَ مَا يُفْقَهُ قَوْلُهُ، قِيلَ: وَبَقِيَ بَعْضُهَا لِقَوْلِهِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مني لسان وَقَوْلِهِ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ. وَقِيلَ: زَالَتْ لِقَوْلِهِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، قِيلَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَاحْلُلِ الْعُقْدَةَ بَلْ قَالَ عُقْدَةً فَإِذَا حَلَّ عُقْدَةً فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ سُؤْلَهُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَأْتِي بِبَيَانٍ وَحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِرْعَوْنُ تَمْوِيهًا وَقَدْ خَاطَبَهُ وَقَوْمَهُ وَكَانُوا يَفْهَمُونَ عَنْهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ نَفْيُ الْبَيَانِ أَوْ مُقَارَبَتُهُ؟. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِي فِي قَوْلِهِ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي مَا جدواه والكلام بدون مُسْتَتِبٌّ؟ قُلْتُ: قَدْ أَبْهَمَ الْكَلَامَ أَوَّلًا فَقَالَ اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي

فَعَلِمَ أَنَّ ثَمَّ مَشْرُوحًا وَمُيَسَّرًا ثُمَّ بَيَّنَ وَرَفَعَ الْإِبْهَامَ فَذَكَرَهُمَا فَكَانَ آكَدَ لِطَلَبِ الشَّرْحِ وَالتَّيْسِيرِ لِصَدْرِهِ، وَأَمَرَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ اشْرَحْ صَدْرِي وَيَسِّرْ أَمْرِي عَلَى الْإِيضَاحِ الشَّارِحِ لِأَنَّهُ تَكْرِيرٌ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقَيِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَفِي تَنْكِيرِ الْعُقْدَةِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ وَاحْلُلْ عُقْدَةً لِسانِي أَنَّهُ طَلَبَ حَلَّ بَعْضِهَا إِرَادَةَ أَنْ يُفْهَمَ عَنْهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَلَمْ يَطْلُبِ الْفَصَاحَةَ الْكَامِلَةَ، ومِنْ لِسانِي صِفَةٌ لِلْعُقْدَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ عُقْدَةً مِنْ عُقَدِ لِسانِي انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّ مِنْ لِسانِي مُتَعَلِّقٌ بِاحْلُلْ لِأَنَّ مَوْضِعَ الصِّفَةِ لِعُقْدَةٍ وَكَذَا قَالَ الْحَوْفِيُّ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ الْوَجْهَيْنِ وَالْوَزِيرُ الْمُعِينُ الْقَائِمُ بِوِزْرِ الْأُمُورِ أَيْ بِثِقَلِهَا فَوَزِيرُ الْمَلِكِ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَوْزَارَهُ وَمُؤَنَهُ. وَقِيلَ: مِنَ الْوَزَرِ وَهُوَ الملجأ يلتجىء إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مِنَ السِّبَاعِ الضَّوَارِي دُونَهُ وَزَرُ ... وَالنَّاسُ شَرُّهُمْ مَا دُونَهُ وَزَرُ كَمْ مَعْشَرٍ سَلِمُوا لَمْ يُؤْذِهِمْ سَبْعُ ... وَمَا نَرَى بَشَرًا لَمْ يُؤْذِهِمْ بَشَرُ فَالْمَلِكُ يَعْتَصِمُ برأيه ويلتجىء إِلَيْهِ فِي أُمُورِهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ مِنَ الْمُؤَازَرَةِ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ وَالْمُسَاعَدَةُ، وَالْقِيَاسُ أَزِيرٌ وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ وكان القياس أزير فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ إِلَى الْوَاوِ وَوَجْهُ قَلْبِهَا أَنَّ فَعِيلًا جَاءَ فِي مَعْنَى مُفَاعِلٍ مجيئا صَالِحًا كَعَشِيرٍ وَجَلِيسٍ وَقَعِيدٍ وَخَلِيلٍ وَصَدِيقٍ وَنَدِيمٍ، فَلَمَّا قُلِبَ فِي أَخِيهِ قُلِبَتْ فِيهِ، وَحَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ. وَنَظَرًا إِلَى يُوَازِرُ وَأَخَوَاتِهِ وَإِلَى الْمُوَازَرَةِ انْتَهَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ قَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا لِأَنَّ لَنَا اشْتِقَاقًا وَاضِحًا وَهُوَ الْوِزْرُ، وَأَمَّا قَلْبُهَا فِي يُؤَازِرُ فَلِأَجْلِ ضَمَّةِ مَا قَبْلَ الْوَاوِ وَهُوَ أَيْضًا إِبْدَالٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ لِي وَزِيراً مفعولين لا جعل وهارُونَ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَإِنْ يكون وَزِيراً وهارُونَ مَفْعُولَيْهِ، وَقَدَّمَ الثَّانِيَ اعْتِنَاءً بأمر الوزارة وأَخِي بَدَلٌ مِنْ هارُونَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ جُعِلَ عَطْفَ بَيَانٍ آخَرَ جَازَ وَحَسُنَ انْتَهَى. وَيَبْعُدُ فِيهِ عَطْفُ الْبَيَانِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ دُونَهُ فِي الشُّهْرَةِ، وَالْأَمْرُ هُنَا بِالْعَكْسِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هما المفعولان ولِي مِثْلُ قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» يَعْنُونَ أَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ الْمَعْنَى. وهارُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَنْتَصِبَ هارُونَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيِ اضْمُمْ إِلَيَّ هَارُونَ وَهَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَامٌّ بدون هذا المحذوف.

_ (1) سورة الإخلاص: 112/ 4.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَامِرٍ اشْدُدْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأَشْرِكْهُ بِضَمِّهَا فِعْلًا مُضَارِعًا مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَشْرِكْهُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ أُشْدِدْ بِهِ مُضَارِعُ شَدَّدَ لِلتَّكْثِيرِ، وَالتَّكْرِيرِ أَيْ كُلَّمَا حَزَنَنِي أَمْرٌ شَدَدْتُ بِهِ أَزْرِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اشْدُدْ وَأَشْرِكْهُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ فِي شَدِّ الْأَزْرِ وَتَشْرِيكِ هَارُونَ فِي النُّبُوَّةِ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ لَا يُرِيدُ بِهِ النُّبُوَّةَ بَلْ يُرِيدُ تَدْبِيرَهُ وَمُسَاعَدَتَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمُوسَى أَنْ يُشْرِكَ فِي النُّبُوَّةِ أَحَدًا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ أَخِي وَاشْدُدْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِيمَنْ قَرَأَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ أَنْ يَجْعَلَ أَخِي مَرْفُوعًا عَلَى الابتداء واشْدُدْ بِهِ خَبَرُهُ وَيُوقَفُ عَلَى هارُونَ انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ، وَجَعَلَ مُوسَى مَا رَغِبَ فِيهِ وَطَلَبَهُ مِنْ نِعَمٍ سَبَبًا تَلْزَمُ مِنْهُ الْعِبَادَةُ وَالِاجْتِهَادُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالتَّظَافُرُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّعَاوُنُ فِيهَا مُثِيرٌ لِلرَّغْبَةِ وَالتَّزَيُّدِ مِنَ الْخَيْرِ. كَيْ نُسَبِّحَكَ نُنَزِّهَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ وَنَذْكُرَكَ بِالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْكَ وَقُدِّمَ التَّسْبِيحُ لِأَنَّهُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَبَرَاءَتُهُ عَنِ النَّقَائِصِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ الْقَلْبُ وَالذِّكْرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَحَلُّهُ اللِّسَانُ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ مَا مَحَلُّهُ الْقَلْبُ عَلَى مَا مَحَلُّهُ اللسان. وكَثِيراً نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ نُسَبِّحُكَ التَّسْبِيحَ فِي حَالِ كَثْرَتِهِمْ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عَالِمًا بِأَحْوَالِنَا. وَالسُّؤْلُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَسْئُولِ كَالْخُبْزِ وَالْأَكْلِ بِمَعْنَى الْمَخْبُوزِ وَالْمَأْكُولِ، وَالْمَعْنَى أُعْطِيتَ طِلْبَتَكَ وَمَا سَأَلْتَهُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ وَتَيَسُّرِ الْأَمْرِ وَحَلِّ الْعُقْدَةِ، وَجَعْلِ أَخِيكَ وَزِيرًا وَذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَّرَهُ تَعَالَى تَقْدِيمَ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيفِ لِيَعْظُمَ اجْتِهَادُهُ وَتَقْوَى بصيرته ومَرَّةً معناه منة وأُخْرى تَأْنِيثُ آخَرَ بِمَعْنَى غَيْرَ أَيْ مِنَّةً غَيْرَ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَلَيْسَتْ أُخْرى هُنَا بِمَعْنَى آخِرَةً فَتَكُونَ مُقَابِلَةً لِلْأُولَى، وَتَخَيَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: سَمَّاهَا أُخْرى وَهِيَ أُولَى لِأَنَّهَا أُخْرى فِي الذَّكَرِ وَالْأُخْرَى لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَكُونُ تَأْنِيثُ الْآخَرِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَأْنِيثُ الْآخَرِ بِمَعْنَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ يُلْحَظُ فِيهَا مَعْنَى التَّأَخُّرِ. وَالْمَعْنَى أَنِّي قَدْ حَفِظْتُكَ وَأَنْتَ طِفْلٌ رَضِيعٌ فَكَيْفَ لَا أَحْفَظُكَ وَقَدْ أَهَّلْتُكَ لِلرِّسَالَةِ. وَفِي قَوْلِهِ مَرَّةً أُخْرى إِجْمَالٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ وَحْيُ إِلْهَامٍ كَقَوْلِهِ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «1» . وَقِيلَ: وَحْيُ إِعْلَامٍ إِمَّا بِإِرَاءَةِ ذَلِكَ فِي مَنَامٍ، وَإِمَّا بِبَعْثِ مَلَكٍ إِلَيْهَا

_ (1) سورة النحل: 16/ 68.

لَا عَلَى جِهَةِ النُّبُوَّةِ كَمَا بُعِثَ إِلَى مَرْيَمَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَلِظَاهِرِ آيَةِ الْقَصَصِ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «1» وَيَبْعُدُ مَا صَدَّرَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: مِنْ يَرُدُّ يَدَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ فِي وَقْتِهَا كَقَوْلِهِ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ «2» لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ فِي زَمَنِ الْحَوَارِيِّينَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى. وَفِي قَوْلِهِ مَا يُوحى إِبْهَامٌ وَإِجْمَالٌ كَقَوْلِهِ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى «3» فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «4» وَفِيهِ تَهْوِيلٌ وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا بِقَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأَنِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأَنِ فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ بَدَلٌ مِنْ مَا يَعْنِي أَنَّ أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ فَلِذَلِكَ كَانَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَالْوَجْهَانِ سَائِغَانِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّابُوتِ كَانَ مِنْ خَشَبٍ. وَقِيلَ: مِنْ بَرْدِيِّ شَجَرِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ سَدَّتْ خُرُوقَهُ وَفَرَشَتْ فِيهِ نِطْعًا. وَقِيلَ: قُطْنًا مَحْلُوجًا وَسَدَّتْ فَمَهُ وَجَصَّصَتْهُ وَقَيَّرَتْهُ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ وَهُوَ اسْمٌ لِلْبَحْرِ الْعَذْبِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلنِّيلِ خَاصَّةً وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ كَقَوْلِهِ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ «5» وَلَمْ يُغْرَقُوا فِي النِّيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرَانِ بَعْدَهُ إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ لَا التَّابُوتِ إِنَّمَا ذُكِرَ التَّابُوتِ عَلَى سَبِيلِ الْوِعَاءِ وَالْفَضْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ فِي اقْذِفِيهِ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَفِي الثَّانِي عَائِدٌ عَلَى التَّابُوتِ وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ تَنَافُرِ النَّظْمِ فَإِنْ قُلْتَ: الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ قلت: ما ضرك لو قُلْتَ الْمَقْذُوفُ وَالْمُلْقَى هُوَ مُوسَى فِي جَوْفِ التَّابُوتِ حَتَّى لَا تَتَفَرَّقَ الضَّمَائِرُ فَيَتَنَافَرَ عَلَيْكَ النَّظْمُ الَّذِي هُوَ أُمُّ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَالْقَانُونُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَدِّي وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ انْتَهَى. ولقائل أن يقول إن الضَّمِيرَ إِذَا كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَعُودَ عَلَى الْأَقْرَبِ وَعَلَى الْأَبْعَدِ كَانَ عُودُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ رَاجِحًا، وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى هَذَا فَعَوْدُهُ عَلَى التَّابُوتِ فِي قَوْلِهِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ رَاجِحٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا هو المحدث عنه

_ (1) سورة القصص: 28/ 7. (2) سورة المائدة: 5/ 111. [.....] (3) سورة النجم: 53/ 16. (4) سورة طه: 20/ 78. (5) سورة الأعراف: 7/ 136.

وَالْآخَرُ فَضْلَةً كَانَ عَوْدُهُ عَلَى الْمُحَدَّثِ عَنْهُ أَرْجَحَ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْقُرْبِ وَلِهَذَا رَدَدْنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «1» عَائِدٌ عَلَى خِنْزِيرٍ لَا عَلَى لَحْمٍ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ، فَيَحْرُمُ بِذَلِكَ شَحْمُهُ وَغُضْرُوفُهُ وَعَظْمُهُ وَجِلْدُهُ بِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ هُوَ لَحْمُ خِنْزِيرٍ لا خنزير. وفَلْيُلْقِهِ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مُبَالَغَةً إِذِ الْأَمْرُ أَقْطَعُ الْأَفْعَالِ وَأَوْجَبُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا فَلْأُصَلِّ لَكُمْ» . أَخْرَجَ الْخَبَرِ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ لِنَفْسِهِ مُبَالَغَةً، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجَ الْفِعْلُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ حَسُنَ جَوَابُهُ كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ يَأْخُذْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَإِرَادَتُهُ أن لا يخطىء جَرْيَةُ مَاءِ الْيَمِّ الْوُصُولَ بِهِ إِلَى السَّاحِلِ وَإِلْقَاءَهُ إِلَيْهِ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سُبُلَ الْمَجَازِ، وَجَعَلَ الْيَمَّ كَأَنَّهُ ذُو تَمْيِيزٍ أَمَرَ بِذَلِكَ لِيُطِيعَ الْأَمْرَ وَيَمْتَثِلَ رَسْمَهُ فَقِيلَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ انْتَهَى. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لِسَابِقِ عِلْمِهِ بِوُقُوعِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، فَكَأَنَّ الْبَحْرَ مَأْمُورٌ مُمْتَثِلٌ لِلْأَمْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أَمْرٌ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ أَيِ اقْذِفِيهِ يُلْقِهِ الْيَمُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَاهُ بِالسَّاحِلِ فَالْتَقَطَهُ مِنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشْرَبُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ النِّيلِ إِذْ رَأَى التَّابُوتَ فَأَمَرَ بِهِ فَسِيقَ إِلَيْهِ وَامْرَأَتُهُ مَعَهُ فَفَتَحَ فَرَأَوْهُ فَرَحِمَتْهُ امْرَأَتُهُ وَطَلَبَتْهُ لِتَتَّخِذَهُ ابْنًا فَأَبَاحَ لَهَا ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ التَّابُوتَ جَاءَ فِي الْمَاءِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ الَّتِي كَانَتْ جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَسْتَقِينَ مِنْهَا الْمَاءَ. فَأَخَذَتِ التَّابُوتَ وَجَلَبَتْهُ إِلَيْهَا فَأَخْرَجَتْهُ وَأَعْلَمَتْهُ فِرْعَوْنَ وَالْعَدُوُّ الَّذِي لِلَّهِ وَلِمُوسَى هُوَ فِرْعَوْنُ، وَأُخْبِرَتْ بِهِ أُمُّ مُوسَى عَلَى طَرِيقِ الْإِلْهَامِ وَلِذَلِكَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ «2» وَهِيَ لَا تَدْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّ. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. قِيلَ: مَحَبَّةَ آسِيَةَ وَفِرْعَوْنَ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ أَحَبَّهُ حُبًّا شَدِيدًا حَتَّى لَا يَتَمَالَكَ أَنْ يَصْبِرَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَبَّهُ اللَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: جُعِلَتْ عَلَيْهِ مَسْحَةٌ مِنْ جَمَالٍ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ فِي عَيْنَيْهِ مَلَاحَةٌ مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ أَنَّهُ الْقَبُولُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنِّي لا يخلو أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَلْقَيْتُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَحْبَبْتُكَ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ أَحَبَّتْهُ الْقُلُوبُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِمَحَبَّةٍ أَيْ مَحَبَّةً خَالِصَةً أَوْ وَاقِعَةً مِنِّي قَدْ رَكَّزْتُهَا أَنَا فِيهَا فِي الْقُلُوبِ وَزَرَعْتُهَا فِيهَا، فَلِذَلِكَ أَحَبَّكَ فِرْعَوْنُ وكل من أبصرك.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 145. (2) سورة القصص: 28/ 11.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِتُصْنَعَ بِكَسْرِ لَامِ كَيْ وَضَمِّ التَّاءِ وَنَصْبِ الْفِعْلِ أَيْ وَلِتُرَبَّى وَيُحْسَنَ إِلَيْكَ. وَأَنَا مُرَاعِيكَ وَرَاقِبُكَ كَمَا يُرَاعِي الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِعَيْنَيْهِ إِذَا اعْتَنَى بِهِ. قَالَ قَرِيبًا مِنْهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ صَنَعْتُ الْفَرَسَ إِذَا أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةِ مَحْذُوفٍ أَيْ لِيَتَلَطَّفَ بِكَ وَلِتُصْنَعَ أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُتَأَخِّرٍ تَقْدِيرُهُ فَعَلْتُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو نَهِيكٍ بِفَتْحِ التَّاءِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ لِتَكُونَ حَرَكَتُكَ وَتَصَرُّفُكَ عَلَى عَيْنٍ مِنِّي. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ فِعْلُ أَمْرٍ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ اللَّامَ. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ قِيلَ اسْمُهَا مَرْيَمُ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ آسِيَةَ عَرَّضَتْهُ لِلرَّضَاعِ فَلَمْ يَقْبَلِ امْرَأَةً، فَجَعَلَتْ تُنَادِي عَلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ وَيُطَافُ بِهِ وَيُعْرَضُ لِلْمَرَاضِعِ فَيَأْبَى، وَبَقِيَتْ أُمُّهُ بَعْدَ قَذْفِهِ فِي الْيَمِّ مَغْمُومَةً فَأَمَرَتْ أُخْتَهُ بِالتَّفْتِيشِ فِي الْمَدِينَةِ لَعَلَّهَا تَقَعُ عَلَى خَبَرِهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ في طوافها فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ «1» فَتَعَلَّقُوا بِهَا وَقَالُوا: أَنْتِ تَعْرِفِينَ هَذَا الصَّبِيَّ؟ فَقَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الْحِرْصَ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى الْمَلِكَةِ وَالْجَدِّ فِي خِدْمَتِهَا وَرِضَاهَا، فَتَرَكُوهَا وَسَأَلُوهَا الدَّلَّالَةَ فَجَاءَتْ بِأُمِّ مُوسَى فَلَمَّا قَرَّبَتْهُ شَرِبَ ثَدْيَهَا فَسُرَّتْ آسِيَةُ وقالت لها: كوني معي فِي الْقَصْرِ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي وَلَكِنَّهُ يَكُونُ عِنْدِي قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَحْسَنَتْ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ وَاعْتَزَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَذَا الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ مِنَ الْمَلِكَةِ، وَلَمَّا كَمُلَ رِضَاعُهُ أَرْسَلَتْ آسِيَةُ إِلَيْهَا أَنْ جِيئِينِي بِوَلَدِي لِيَوْمِ كَذَا، وَأَمَرَتْ خَدَمَهَا وَمَنْ لَهَا أَنْ يَلْقَيْنَهُ بِالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا وَاللِّبَاسِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ بِخَيْرِ حَالٍ وَأَجْمَلِ شَبَابٍ، فَسُرَّتْ بِهِ وَدَخَلَتْ بِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ لِيَرَاهُ وَلِيَهِبَهُ فَأَعْجَبَهُ وَقَرَّبَهُ، فَأَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَةِ فِرْعَوْنَ وَتَقَدَّمَ مَا جَرَى لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْعُقْدَةِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَمَنَنَّا إِذْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْعَامِلُ فِي إِذْ تَمْشِي أَلْقَيْتُ أَوْ تُصْنَعَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ إِذْ أَوْحَيْنا فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْبَدَلُ وَالْوَقْتَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَاعِدَانِ؟ قُلْتُ: كَمَا يَصِحُّ وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَتَبَاعَدَ طَرَفَاهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّجُلُ لَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا، فَتَقُولُ: وَأَنَا لَقِيتُهُ إِذْ ذَاكَ. وَرُبَّمَا لَقِيَهُ هُوَ فِي أَوَّلِهَا وَأَنْتَ فِي آخِرِهَا انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لِأَنَّ السَّنَةَ تَقْبَلُ الِاتِّسَاعَ فَإِذَا وَقَعَ لُقِيُّهُمَا فِيهَا بِخِلَافِ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَيِّقٌ لَيْسَ بِمُتَّسِعٍ لِتَخْصِيصِهِمَا بِمَا أُضِيفَا إِلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الثَّانِي فِي الطَّرَفِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَوَّلُ، إِذِ الْأَوَّلُ لَيْسَ مُتَّسِعًا لِوُقُوعِ

_ (1) سورة طه: 20/ 40.

الْوَحْيِ فِيهِ وَوُقُوعِ مَشْيِ الْأُخْتِ فَلَيْسَ وَقْتُ وُقُوعِ الْوَحْيِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَجْزَاءٍ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا الْمَشْيُ بِخِلَافِ السَّنَةِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِذْ متعلقة بتصنع، وَلَكَ أَنْ تَنْصِبَ إِذْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْ تَقَرَّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ فِي قَوْلِهِ وَقَرِّي عَيْناً «1» . وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَتَلْتَ نَفْساً هُوَ الْقِبْطِيُّ الَّذِي اسْتَغَاثَهُ عَلَيْهِ الْإِسْرَائِيلِيُّ قَتَلَهُ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاغْتَمَّ بِسَبَبِ الْقَتْلِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَمِنِ اقْتِصَاصِ فِرْعَوْنَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِاسْتِغْفَارِهِ حِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي «2» وَنَجَّاهُ مِنْ فِرْعَوْنَ حِينَ هَاجَرَ بِهِ إِلَى مَدْيَنَ وَالْغَمُّ مَا يَغُمُّ عَلَى الْقَلْبِ بِسَبَبِ خَوْفٍ أَوْ فَوَاتِ مَقْصُودٍ، وَالْغَمُّ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْقَتْلُ، وَقِيلَ: مِنْ غَمَّ التَّابُوتُ. وَقِيلَ: مِنْ غَمَّ الْبَحْرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ غَمَّ الْقَتْلُ حِينَ ذَهَبْنَا بِكَ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ. وَالْفُتُونُ مَصْدَرٌ جَمْعُ فِتَنٍ أَوْ فِتْنَةٍ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِالتَّاءِ كَحُجُوزٍ وَبُدُورٍ فِي حُجْزَةٍ وَبُدْرَةٍ أَيْ فَتَنَّاكَ ضُرُوبًا مِنَ الْفِتَنِ، وَالْفِتْنَةُ الْمِحْنَةُ وَمَا يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَلَّصْنَاكَ مِنْ مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ. وُلِدَ فِي عَامٍ كَانَ يُقْتَلُ فِيهِ الْوِلْدَانُ، وَأَلْقَتْهُ أُمُّهُ فِي الْبَحْرِ وَهَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ، وَقَتَلَ قِبْطِيًّا وَآجَرَ نَفْسَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَضَلَّ الطَّرِيقَ وَتَفَرَّقَتْ غَنَمُهُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْفُتُونُ اخْتَبَرَهُ بِهَا وَخَلَّصَهُ حَتَّى صَلُحَ لِلنُّبُوَّةِ وَسَلِمَ لَهَا وَالسُّنُونُ الَّتِي لَبِثَهَا فِي مَدْيَنَ عَشْرُ سِنِينَ. وَقَالَ وَهْبٌ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْهَا مَهْرُ ابْنَتِهِ وَبَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ ثَمَانِ مَرَاحِلَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَخَرَجْتَ خَائِفًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ وَكَانَ عُمْرُهُ حِينَ ذَهَبَ إِلَى مَدْيَنَ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا وَأَقَامَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ فِي رَعْيِ غَنَمِ شُعَيْبٍ، ثُمَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا بَعْدَ بِنَائِهِ بِامْرَأَتِهِ بِنْتِ شُعَيْبٍ، وَوُلِدَ لَهُ فِيهَا فَكَمُلَ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي عَادَةُ اللَّهِ إِرْسَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى رَأْسِهَا. ثُمَّ جِئْتَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي نَاجَيْتُكَ فِيهِ وَكَلَّمْتُكَ وَاسْتَنْبَأْتُكَ. عَلى قَدَرٍ أَيْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ قَدَّرْتُهُ لَمْ تَتَقَدَّمْهُ وَلَمْ تَتَأَخَّرْ عَنْهُ. وَقِيلَ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ يُوحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيهِ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

_ (1) سورة مريم: 19/ 26. (2) سورة القصص: 28/ 16.

[سورة طه (20) : الآيات 42 إلى 64]

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أَيْ جَعَلْتُكَ مَوْضِعَ الصَّنِيعَةِ وَمَقَرَّ الْإِكْمَالِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَخْلَصْتُكَ بِالْأَلْطَافِ وَاخْتَرْتُكَ لِمَحَبَّتِي يُقَالُ: اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا اتَّخَذَهُ صَنِيعَةً وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الصُّنْعِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الشَّخْصِ حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ فَيُقَالَ هَذَا صَنِيعُ فُلَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا تَمْثِيلٌ لِمَا خَوَّلَهُ مِنْ مَنْزِلَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ الْمُلُوكُ بِجَمِيعِ خِصَالٍ فِيهِ وَخَصَائِصَ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ وَأَلْطَفَ مَحَلًّا فَيَصْطَنِعُهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْأَثَرَةِ وَيَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِهِ انْتَهَى. وَمَعْنَى لِنَفْسِي أَيْ لِأَوَامِرِي وَإِقَامَةِ حُجَجِي وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِي، فَحَرَكَاتُكَ وَسَكَنَاتُكَ لِي لَا لِنَفْسِكَ وَلَا لِأَحَدٍ غيرك. [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 64] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)

الْوَنْيُ: الْفُتُورُ، يُقَالُ: وَنِيَ يَنِي وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ، وَإِذَا عُدِّيَ فَبِعَنْ وَبِفِي وَزَعَمَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ يَأْتِي فِعْلًا نَاقِصًا مِنْ أَخَوَاتِ مَا زَالَ وَبِمَعْنَاهَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَنْشَدَ: لا يني الْخِبُّ شِيمَةَ الْحُبِّ ... مَا دَامَ فَلَا تَحْسَبَنَّهُ ذَا ارْعِوَاءِ وَقَالُوا: امْرَأَةٌ أَنْآةٌ أَيْ فَاتِرَةٌ عَنِ النُّهُوضِ، أَبْدَلُوا مِنْ وَاوِهَا هَمْزَةً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا أَنَا بِالْوَانِي وَلَا الضَّرَعِ الْغُمْرِ شَتَّ الْأَمْرُ شَتًّا وَشَتَاتًا تَفَرَّقَ، وَأَمْرٌ شَتٌّ مُتَفَرِّقٌ وَشَتَّى فَعْلَى مَنِ الشَّتِّ وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ جَمْعُ شَتِيتٍ كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى، وَمَعْنَاهُ مُتَفَرِّقَةٌ، وَشَتَّانَ اسْمُ فَاعِلٍ سَحَتَ: لُغَةُ الْحِجَازِ وَأَسْحَتَ لُغَةُ نَجْدٍ وَتَمِيمٍ، وَأَصْلُهُ اسْتِقْصَاءُ الْحَلْقِ لِلشِّعْرِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ وَهُوَ تميمي: وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَكُ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ أَوْ محلق ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْإِهْلَاكِ وَالْإِذْهَابِ. الْخَيْبَةُ: عَدَمُ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ. الصَّفُّ: مَوْضِعُ الْمَجْمَعِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَسُمِّيَ الْمُصَلَّى الصَّفَّ وَعَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ آتِيَ الصَّفَّ أَيِ الْمُصَلَّى، وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا ويقال جاؤوا صَفًّا أَيْ مُصْطَفِّينَ. التَّخْيِيلُ: إِبْدَاءُ أَمْرٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِنْهُ الْخَيَالُ وَهُوَ الطَّيْفُ الطَّارِقُ فِي النَّوْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلْخَيَالِ الْمُشَوِّقِ ... وَلِلدَّارِ تَنْأَى بِالْحَبِيبِ وَنَلْتَقِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ

كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى. أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ وَطَلَبَ مِنْهُ أَشْيَاءَ كَانَ فِيهَا أَنْ يُشْرِكَ أَخَاهُ هَارُونَ فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ آتَاهُ سُؤْلَهُ وَكَانَ مِنْهُ إِشْرَاكُ أَخِيهِ، فَأَمَرَهُ هنا وأخاه بالذهاب وأَخُوكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ «1» فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَوْلُ بَعْضِ النُّحَاةِ، أَنَّ وَرَبُّكَ مَرْفُوعٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ وَلْيَذْهَبْ رَبُّكَ وَذَلِكَ الْبَحْثُ جَارٍ هُنَا. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى هَارُونَ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى. وَقِيلَ: سَمِعَ بِمَقْدَمِهِ. وَقِيلَ: أُلْهِمَ ذَلِكَ وَظَاهِرُ بِآياتِي الْجَمْعُ. فَقِيلَ: هِيَ الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَعُقْدَةُ لِسَانِهِ. وَقِيلَ: الْيَدُ، وَالْعَصَا. وَقَدْ يُطْلَقُ الْجَمْعُ عَلَى الْمُثَنَّى وَهُمَا اللَّتَانِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ: فائت بِآيَةٍ أَلْقَى الْعَصَا وَنَزَعَ الْيَدَ، وَقَالَ: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ. وَقِيلَ الْعَصَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى آيَاتِ انْقِلَابِهَا حَيَوَانًا، ثُمَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَتْ صَغِيرَةً ثُمَّ عَظُمَتْ حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا، ثُمَّ إِدْخَالُ مُوسَى يَدَهُ فِي فَمِهَا فَلَا تَضُرُّهُ. وَقِيلَ: مَا أُعْطِيَ مِنْ مُعْجِزَةٍ وَوَحْيٍ. وَلا تَنِيا أَيْ لَا تَضْعُفَا وَلَا تَقْصُرَا. وَقِيلَ: تَنْسِيَانِي وَلَا أَزَالُ مِنْكُمَا عَلَى ذِكْرٍ حَيْثُمَا تَقَلَّبْتُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالذِّكْرِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الذِّكْرَ يَقَعُ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَتَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ مِنْ أَجَلِّهَا وَأَعْظَمِهَا، فَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: وَلَا تِنِيَا بِكَسْرِ التَّاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ النُّونِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا تَهِنَا أَيْ وَلَا تَلِنَا مِنْ قَوْلِهِمْ هَيِّنٌ لَيِّنٌ، وَلَمَّا حَذَفَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الْأَمْرِ قَبْلَهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي. فَقِيلَ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ أَيْ بِالرِّسَالَةِ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا أُمِرَا بِالذَّهَابِ أَوَّلًا إِلَى النَّاسِ وَثَانِيًا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالذَّهَابِ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، وَنَبَّهَ عَلَى سَبَبِ الذَّهَابِ إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ طَغى أَيْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْفَسَادِ وَدَعَوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ هُوَ مِثْلُ مَا فِي النَّازِعَاتِ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى «2» وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْكَلَامِ إِذْ أَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَشُورَةِ وَالْعَرْضِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوْزِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ: عَدَّاهُ شَبَابًا لَا يَهْرَمُ بَعْدَهُ وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ وَأَنْ يَبْقَى لَهُ لَذَّةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَقِيلَ: لَا تُجِبْهَاهُ بِمَا يَكْرَهُ وَأَلْطِفَا لَهُ فِي الْقَوْلِ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ تَرْبِيَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: كَنَّيَاهُ وَهُوَ ذُو الْكُنَى الْأَرْبَعِ أَبُو مرة، وأبو

_ (1) سورة المائدة: 5/ 24. (2) سورة النازعات: 79/ 18.

مُصْعَبٍ، وَأَبُو الْوَلِيدِ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِينُهَا خِفَّتُهَا عَلَى اللِّسَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ قَوْلُهُمَا إِنَّ لَكَ رَبًّا وَإِنَّ لَكَ مَعَادًا وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا فَآمِنْ بالله يدخلك الجنة يقك عَذَابَ النَّارِ. وَقِيلَ: أَمَرَهُمَا تَعَالَى أَنْ يُقَدِّمَا الْمَوَاعِيدَ عَلَى الْوَعِيدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَقْدِمْ بِالْوَعْدِ قَبْلَ الْوَعِيدِ ... لِيَنْهَى الْقَبَائِلَ جُهَّالُهَا وَقِيلَ: حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَا عَرَضَا شَاوَرَ آسِيَةَ فَقَالَتْ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنَّ يَرُدَّ هَذَا فَشَاوَرَ هَامَانَ وَكَانَ لَا يَبُتُّ أَمْرًا دُونَ رَأْيِهِ، فَقَالَ لَهُ: كُنْتُ أَعْتَقِدُ أَنَّكَ ذُو عَقْلٍ تَكُونُ مَالِكًا فَتَصِيرُ مَمْلُوكًا وَرَبًّا فَتَصِيرُ مَرْبُوبًا فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ مُوسَى، وَالتَّرَجِّي بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا إِذْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ وُقُوعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيِ اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا وَبَاشِرَا الْأَمْرَ مُبَاشَرَةَ مَنْ يَرْجُو وَيَطْمَعُ أَنْ يُثْمِرَ عَمَلُهُ وَلَا يَخِيبَ سَعْيُهُ، وَفَائِدَةُ إِرْسَالِهِمَا مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَإِزَالَةُ الْمَعْذِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ هُنَا وَهُوَ فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ- إِلَى قوله- وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: قَوْلًا لَيِّناً وَقَالَ الْفَرَّاءُ لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى كَيْ أَيْ كَيْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى كَمَا تَقُولُ: اعْمَلْ لَعَلَّكَ تَأْخُذُ أَجْرَكَ، أَيْ كَيْ تَأْخُذَ أَجْرَكَ. وَقِيلَ: لَعَلَّ هُنَا اسْتِفْهَامٌ أَيْ هَلْ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّرَجِّي وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَشَرِ وَفِي قَوْلِهِ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي اللَّهِ. وَقِيلَ: يَتَذَكَّرُ حَالَهُ حِينَ احْتُبِسَ النِّيلُ فَسَارَ إِلَى شَاطِئِهِ وَأَبْعَدَ وَخَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ رَاغِبًا أَنْ لَا يُخْجِلَهُ ثُمَّ رَكِبَ فَأَخَذَ النِّيلُ يَتْبَعُ حَافِرَ فَرَسِهِ فَرَجَا أَنْ يَتَذَكَّرَ حِلْمَ اللَّهِ وَكَرَمَهُ وَأَنْ يَحْذَرَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ يَتَذَكَّرُ وَيَتَأَمَّلُ فَيَبْذُلُ النَّصَفَةَ مِنْ نَفْسِهِ وَالْإِذْعَانَ لِلْحَقِّ أَوْ يَخْشى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا يَصِفَانِ فَيَجُرُّهُ إِنْكَارُهُ إِلَى الْهَلَكَةِ. فَرَطَ سَبَقَ وَتَقَدَّمَ وَمِنْهُ الْفَارِطُ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ وَفَرَسٌ فَرْطٌ تَسْبِقُ الْخَيْلَ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... كَمَا تَقَدَّمَ فَارِطُ الْوُرَّادِ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» . أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ وَسَابِقُكُمْ، وَالْمَعْنَى إِنَّنَا

_ (1) سورة طه: 20/ 134.

نَخَافُ أَنْ يُعَجَّلَ عَلَيْنَا بِالْعُقُوبَةِ وَيُبَادِرَنَا بِهَا. وَقَرَأَ يَحْيَى وَأَبُو نَوْفَلٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ فِي رِوَايَتِهِ أَنْ يَفْرُطَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُسْبَقَ فِي الْعُقُوبَةِ وَيُسْرَعَ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِفْرَاطِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْعُقُوبَةِ خَافَا أَنْ يَحْمِلَهُ حَامِلٌ عَلَى الْمُعَاجَلَةِ بِالْعَذَابِ مِنْ شَيْطَانٍ، أَوْ مِنْ جَبَرُوتِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ وَادِّعَائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ، أَوْ مِنْ حُبِّهِ الرِّيَاسَةَ، أَوْ مِنْ قَوْمِهِ الْقِبْطِ الْمُتَمَرِّدِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ «1» وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ «2» . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَالزَّعْفَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ يَفْرُطَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي الْأَذِيَّةِ أَوْ أَنْ يَطْغى فِي التَّخَطِّي إِلَى أَنْ يَقُولَ فِيكَ مَا لَا يَنْبَغِي تَجْرِئَةً عَلَيْكَ وَقَسْوَةَ قَلْبِهِ، وَفِي الْمَجِيءِ بِهِ هَكَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ وَالرَّمْزِ بَابٌ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَالتَّجَافِي عَنِ التَّفَوُّهِ بِالْعَظِيمَةِ. وَالْمَعِيَّةُ هُنَا بِالنُّصْرَةِ وَالْعَوْنِ أَسْمَعُ أَقْوَالَكُمَا وَأَرَى أَفْعَالَكُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْمَعُ جَوَابَهُ لَكُمَا وأَرى مَا يَفْعَلُ بِكُمَا وَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعِلْمِ فَأْتِياهُ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالْإِتْيَانِ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وَخَاطَبَاهُ بِقَوْلِهِمَا رَبِّكَ تَحْقِيرًا لَهُ وَإِعْلَامًا أَنَّهُ مَرْبُوبٌ مَمْلُوكٌ إِذْ كَانَ هُوَ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ. وَأُمِرَا بِدَعْوَتِهِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ ذُلِّ خِدْمَةِ الْقِبْطِ وَكَانُوا يُعَذِّبُونَهُمْ بِتَكْلِيفِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ مِنَ الْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ وَنَقْلِ الْحِجَارَةِ وَالسُّخْرَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعَ قَتْلِ الْوِلْدَانِ وَاسْتِخْدَامِ النِّسَاءِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ دُعَاؤُهُ إِلَى الْإِيمَانِ فَجُمْلَةُ ما دعا إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ الْإِيمَانُ وَإِرْسَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ ذَكَرَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمَا فِي إِرْسَالِهِمَا إِلَيْهِ فَقَالَا قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَتَكَرَّرَ أَيْضًا قَوْلُهُمَا مِنْ رَبِّكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ مَقْهُورٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَحَالَا عَلَيْهَا هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَلَمَّا كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الرِّسَالَةِ صَحَّ نِسْبَةُ الْمَجِيءِ بِالْآيَةِ إِلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَتْ صَادِرَةً مِنْ أَحَدِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ جَارِيَةٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، لِأَنَّ دَعْوَى الرِّسَالَةِ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِبَيِّنَتِهَا الَّتِي هِيَ الْمَجِيءُ بِالْآيَةِ، وَإِنَّمَا وَحَّدَ بِآيَةٍ وَلَمْ يُثَنِّ وَمَعَهُ آيَتَانِ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَثْبِيتُ الدَّعْوَى بِبُرْهَانِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ جِئْنَاكَ بِمُعْجِزَةٍ وَبُرْهَانٍ وَحُجَّةٍ عَلَى مَا ادَّعَيْنَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَكَذَلِكَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «3» فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «4»

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 109 و 127. (2) سورة المؤمنون: 23/ 33. (3) سورة الأعراف: 7/ 105. [.....] (4) سورة الشعراء: 26/ 154.

أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ «1» انْتَهَى. وَقِيلَ: الْآيَةُ الْيَدُ. وَقِيلَ: الْعَصَا، وَالْمَعْنَى بِآيَةٍ تَشْهَدُ لَنَا بِأَنَّا رَسُولَا رَبِّكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى فَصْلٌ لِلْكَلَامِ، فَالسَّلَامُ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ رَغِبَا بِهِ عَنْهُ وَجَرَيَا عَلَى الْعَادَةِ فِي التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقَوْلِ، فَسَلَّمَا عَلَى مُتَّبِعِي الْهُدَى وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لَهُ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى اسْتَعْمَلَ النَّاسُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَمُحَاوَرَاتِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مُدْرَجٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ خَبَرًا بِسَلَامَةِ الْمُهْتَدِينَ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ عَلى بِمَعْنَى اللَّامِ أي والسلامة ل مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَلَامُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ عَلَى الْمُهْتَدِينَ، وَتَوْبِيخُ خَزَنَةِ النَّارِ وَالْعَذَابِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ يُقَالُ: السَّلَامُ هُنَا السَّلَامَةُ مِنَ الْعَذَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَبُنِيَ أُوحِيَ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُوحَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَتْ لَهُ بَادِرَةٌ فَرُبَّمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمُوحِي مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى مَنْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءَ وَتَوَلَّى عَنِ الْأَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَا كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَلَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَتَيَا فِرْعَوْنَ وَقَالَا لَهُ مَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يُبَلِّغَاهُ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى خَاطَبَهُمَا مَعًا وَأَفْرَدَ بِالنِّدَاءِ مُوسَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذْ كَانَ صَاحِبَ عِظَمِ الرِّسَالَةِ وَكَرِيمِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَهَارُونُ وَزِيرُهُ وَتَابِعُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْمِلَهُ خُبْثُهُ وَذَعَارَتُهُ عَلَى اسْتِدْعَاءِ كَلَامِ مُوسَى دُونَ كَلَامِ أَخِيهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ فَصَاحَةِ هَارُونَ وَالرُّتَّةِ فِي لِسَانِ مُوسَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ «2» انْتَهَى. وَاسْتَبَدَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَوَابِ فِرْعَوْنَ مِنْ حَيْثُ خَصَّهُ بِالسُّؤَالِ وَالنِّدَاءِ مَعًا ثُمَّ أَعْلَمَهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالصِّفَةِ الَّتِي لَا شِرْكَ لفرعون فيها ولا حَيْثُ خَصَّهُ بِالسُّؤَالِ وَالنِّدَاءِ مَعًا ثُمَّ أَعْلَمَهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالصِّفَةِ الَّتِي لَا شِرْكَ لِفِرْعَوْنَ فِيهَا وَلَا بِوَجْهِ مَجَازٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْجَوَابِ مَا أَخْصَرَهُ وَمَا أَجْمَعَهُ وَمَا أَبَيْنَهُ لِمَنْ أَلْقَى الذِّهْنَ وَنَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ وَكَانَ طَالِبًا لِلْحَقِّ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَعْطَى كُلَّ مَا خَلَقَ خِلْقَتَهُ

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 30. (2) سورة الزخرف: 43/ 52.

وَصُورَتَهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْإِتْقَانِ لَمْ يَجْعَلْ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فِي خَلْقِ الْبَهَائِمِ، وَلَا خَلْقَ الْبَهَائِمِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَلَكِنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خِلْقَةٌ ... وَكَذَلِكَ اللَّهُ مَا شَاءَ فَعَلْ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطِيَّةَ وَمُقَاتِلٍ وَقَالَ الضَّحَّاكُ خَلْقَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الْمَنُوطَةِ بِهِ الْمُطَابِقَةِ لَهُ ثُمَّ هَدى أَيْ يَسَّرَ كُلَّ شَيْءٍ لِمَنَافِعِهِ وَمَرَافِقِهِ، فَأَعْطَى الْعَيْنَ الْهَيْئَةَ الَّتِي تُطَابِقُ الْإِبْصَارَ، وَالْأُذُنَ الشَّكْلَ الَّذِي يُوَافِقُ الِاسْتِمَاعَ، وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ وَاللِّسَانُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُطَابِقٌ لِمَا عُلِّقَ بِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ غَيْرُ نَابٍ عَنْهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْخَلْقُ الْمَخْلُوقُ لِأَنَّ الْبَطْشَ وَالْمَشْيَ وَالرُّؤْيَةَ وَالنُّطْقَ مَعَانٍ مَخْلُوقَةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ لِلْأَعْضَاءِ، وَعَلَى هَذَا مَفْعُولُ أَعْطى الْأَوَّلُ كُلَّ شَيْءٍ وَالثَّانِي خَلْقَهُ وَكَذَا فِي قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَيْ كُلَّ حَيَوَانٍ ذَكَرٍ نَظِيرَهُ أُنْثَى فِي الصُّورَةِ. فَلَمْ يُزَاوِجْ مِنْهُمَا غَيْرَ جِنْسِهِ ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَنْكَحِهِ وَمَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَسْكَنِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ هَدَاهُ إِلَى إِلْفِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ وَالْمُنَاكَحَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ وَهَدَاهُ لِمَا يُصْلِحُهُ. وَقِيلَ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الثاني لأعطى وخَلْقَهُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ أَيْ أَعْطى خَلِيقَتَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو نَهِيكٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَنُصَيْرٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَابْنُ نُوحٍ عَنْ قُتَيْبَةَ وَسَلَّامٌ خَلْقَهُ بِفَتْحِ اللَّامِ فِعْلًا مَاضِيًا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ أَوْ لِشَيْءٍ، وَمَفْعُولُ أَعْطى الثَّانِي حُذِفَ اقْتِصَارًا أَيْ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ لَمْ يُخْلِهِ مِنْ عَطَائِهِ وَإِنْعَامِهِ ثُمَّ هَدى أَيْ عَرَفَ كَيْفَ يَرْتَفِقُ بِمَا أَعْطَى وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: حُذِفَ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ كَمَالَهُ أَوْ مَصْلَحَتَهُ. قالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لَمَّا أَجَابَهُ مُوسَى بِجَوَابٍ مُسْكِتٍ، وَلَمْ يَقْدِرْ فِرْعَوْنُ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فِيهِ انْتَقَلَ إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ وَهُوَ مَا حَالُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْقُرُونِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الرَّوَغَانِ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِمَا قَالَ مُوسَى وَمَا أَجَابَهُ بِهِ، وَالْحَيْدَةِ وَالْمُغَالَطَةِ. قِيلَ: سَأَلَهُ عَنْ أَخْبَارِهَا وَأَحَادِيثِهَا لِيَخْتَبِرَ أَهُمَا نَبِيَّانِ أَوْ هُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْقُصَّاصِ الَّذِينَ دَارَسُوا قِصَصَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمٌ بِالتَّوْرَاةِ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ فَقَالَ

عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي. وَقِيلَ: مُرَادُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهَا لِمَ عَبَدْتَ الْأَصْنَامَ وَلَمْ تَعْبُدِ اللَّهَ إِنْ كَانَ الْحَقُّ مَا وَصَفْتَ؟ وَقِيلَ: مُرَادُهُ مَا لَهَا لَا تَبْعَثُ وَلَا تُحَاسِبُ وَلَا تُجَازِي فَقَالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فَأَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْغَيْبِ وَقَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِنَّمَا سَأَلَ لَمَّا سَمِعَ وَعْظَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ «1» الْآيَةَ فَرَدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ لَمَّا قَالَ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فِرْعَوْنُ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا. وَقِيلَ: لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ قَالَ فِرْعَوْنُ: إِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى نَسَوْهُ وَتَرَكُوهُ، فَلَوْ كَانَتِ الدَّلَالَةُ وَاضِحَةً وَجَبَ عَلَى الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا. فَعَارَضَ الْحُجَّةَ النَّقْلِيَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ قَدْ نَازَعَهُ فِي إِحَاطَةِ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَتَبَيُّنِهِ لِكُلِّ مَعْلُومٍ فَتَعَنَّتَ وَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي سَوَالِفِ الْقُرُونِ وَتَمَادِي كَثْرَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَطْرَافِ عَدَدِهِمْ، كَيْفَ أَحَاطَ بِهِمْ وَبِأَجْزَائِهِمْ وَجَوَاهِرِهِمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مُحِيطٌ بِهِ عِلْمُهُ وَهُوَ مُثْبَتٌ عِنْدَهُ فِي كِتابٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الذَّلِيلُ وَالْبَشَرُ الضَّئِيلُ، أَيْ لَا يَضِلُّ كَمَا تَضِلُّ أَنْتَ وَلا يَنْسى كَمَا تَنْسَى يَا مُدَّعِي الرُّبُوبِيَّةِ بِالْجَهْلِ وَالْوَقَاحَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي عِلْمُها إِلَى الْقُرُونِ الْأُولى أَيْ مَكْتُوبٌ عِنْدَ رَبِّي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يخطىء شَيْئًا أَوْ يَنْسَاهُ، يُقَالُ: ضَلَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخْطَأْتُهُ فِي مَكَانِهِ، وَضَلِلْتُهُ لُغَتَانِ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ كَقَوْلِكَ: ضَلَلْتُ الطَّرِيقَ وَالْمَنْزِلَ وَلَا يُقَالُ أَضْلَلْتُهُ إِلَّا إِذَا ضَاعَ مِنْكَ كَالدَّابَّةِ إِذَا انْفَلَتَتْ وَشِبْهِهَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ضَلَلْتُهُ أَضِلُّهُ إِذَا جَعَلْتَهُ فِي مَكَانٍ وَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ، وَأَضْلَلْتُهُ وَالْكِتَابُ هُنَا اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ فِي كِتابٍ فِيمَا كَتَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عِلْمُها عَائِدٌ عَلَى الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ بَعْثِ الْأُمَمِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ لَا يَضِلُّ لَا يَغْفُلُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى لَا يَضِلُّ لَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ تَقُولُ الْعَرَبُ ضَلَّ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَفِي الْحَيَوَانِ أَضَلَّ بَعِيرَهُ بِالْأَلَفِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَا يَضِلُّ رَبِّي الْكِتَابَ وَلا يَنْسى مَا فِيهِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ لَا يَضِلُّ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ فَيُحِيطُ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَلا يَنْسى إِشَارَةٌ إِلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَبَدَ الْآبَادِ عَلَى حَالِهِ لَا يَتَغَيَّرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لا يخطىء وَقْتَ الْبَعْثِ وَلَا يَنْسَاهُ.

_ (1) سورة غافر: 40/ 30.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِضُ فِي عِلْمِهِ مَا يُغَيِّرُهُ. وَقَالَ ابن جرير: لا يخطىء فِي التَّدْبِيرِ فَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِ الصَّوَابِ صَوَابًا وَإِذَا عَرَفَهُ لَا يَنْسَاهُ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: عِلْمُ اللَّهِ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَا تَكُونُ حَاصِلَةً فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْقَلُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ بَقَاءَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِي عِلْمِهِ كَبَقَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي الْكِتَابِ، فَالْغَرَضُ التَّوْكِيدُ بِأَنَّ أَسْرَارَهَا مَعْلُومَةٌ لَهُ لَا يَزُولُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ زِيَادَةً لَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ مُنَزَّهٌ عَنِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ لَا يُضِلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ لَا يَضِلُّ اللَّهُ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَيَضِيعَ وَلا يَنْسى مَا أَثْبَتَهُ فِيهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يُنْسَى مَبْنِيَّتَيْنِ لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ اسْتِئْنَافٌ وَإِخْبَارٌ عَنْهُ تَعَالَى بِانْتِفَاءِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُمَا فِي مَوْضِعِ وَصْفٍ لِقَوْلِهِ فِي كِتابٍ وَالضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُوفِ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا يَضِلُّهُ رَبِّي وَلَا يَنْسَاهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلا يَنْسى عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى كِتابٍ أَيْ لَا يَدَعُ شَيْئًا فَالنِّسْيَانُ اسْتِعَارَةٌ كَمَا قَالَ إِلَّا أَحْصاها «1» فَأَسْنَدَ الْإِحْصَاءَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْحَصْرُ فِيهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَتْرُكُ مَنْ كَفَرَ بِهِ حَتَّى يَنْتَقِمَ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكُ مَنْ وَحَّدَهُ حَتَّى يُجَازِيَهُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.

_ (1) سورة الكهف: 18/ 49.

وَلَمَّا ذَكَرَ مُوسَى دَلَالَتَهُ عَلَى رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَمَّ كَلَامُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا يَنْسى «1» ذَكَرَ تَعَالَى مَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ، فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي صَنَعَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَخْرَجْنا وَقَوْلِهِ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ وَقَوْلِهِ وَلَقَدْ أَرَيْناهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فَأَخْرَجْنا وأَرَيْناهُ الْتِفَاتًا مِنَ الضَّمِيرِ الْغَائِبِ فِي جَعَلَ وَسَلَكَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وَلَا يَكُونُ الِالْتِفَاتُ مِنْ قَائِلِينَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الَّذِي نَعْتٌ لِقَوْلِهِ رَبِّي فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ وَقَالَهُمَا الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ لِكَوْنِهِ كَانَ يَكُونُ كَلَامُ مُوسَى فَلَا يَتَأَتَّى الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ فَأَخْرَجْنا وَلَقَدْ أَرَيْناهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَأَخْرَجْنا مِنْ كَلَامِ مُوسَى حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَقْدِيرِ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَخْرَجْنا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ مُوسَى تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً ثُمَّ وَصَلَ اللَّهُ كَلَامَ مُوسَى بِإِخْبَارِهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي لَكُمُ الْخَلْقُ أَجْمَعُ نَبَّهَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَهْداً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مِهَادًا وَكَذَا فِي الزُّخْرُفِ فَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَصْدَرَانِ مَهَّدَ مَهْدًا وَمِهَادًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مِهَادٌ اسْمٌ، وَمَهْدٌ الْفِعْلُ يَعْنِي الْمَصْدَرَ. وَقَالَ آخَرُ مَهْداً مُفْرَدٌ وَمِهَادٌ جَمْعُهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا لَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَنَهَجَ لَكُمْ فِيهَا طُرُقًا لِمَقَاصِدِكُمْ حَتَّى لَا تَتَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ مَصَالِحُكُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ أَيْ بِسَبَبِهِ. أَزْواجاً أَيْ أَصْنَافًا وَهَذَا الِالْتِفَاتُ فِي أَخْرَجْنَا كَهُوَ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا «2» أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا «3» وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ «4» وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ تَخْصِيصٌ أَيْضًا بِأَنَّا نَحْنُ نَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ أَحَدٍ وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ شَتَّى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِقَوْلِهِ أَزْواجاً لِأَنَّهَا الْمُحَدَّثُ عَنْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ النَّابِتُ كَمَا سُمِّيَ بِالنَّبْتِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، يَعْنِي أَنَّهَا شَتَّى مُخْتَلِفَةُ النَّفْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالشَّكْلِ، بَعْضُهَا يَصْلُحُ للناس وبعضها للبهائم.

_ (1) سورة طه: 32/ 52. (2) سورة فاطر: 35/ 25. (3) سورة النمل: 27/ 60. (4) سورة الأنعام: 6/ 99.

قَالُوا: مِنْ نِعْمَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ أَرْزَاقَ الْعِبَادِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِعَمَلِ الْأَنْعَامِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَفَهَا مِمَّا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَكْلِهِ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ مَعْمُولٌ لِحَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ فَأَخْرَجْنا قَائِلِينَ أَيْ آذِنِينَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، مُبِيحِينَ أَنْ تَأْكُلُوا بَعْضَهَا وَتَعْلِفُوا بَعْضَهَا، عُدِّيَ هُنَا وَارْعَوْا وَرَعَى يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا تَقُولُ: رَعَتِ الدَّابَّةُ رَعْيًا، وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا رِعَايَةً إِذَا سَامَهَا وَسَرَّحَهَا وَأَرَاحَهَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ جَعْلِ الْأَرْضِ مَهْدًا وَسَلْكِ سُبُلِهَا وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ. وَقَالُوا النُّهى جَمْعُ نُهْيَةٍ وَهُوَ الْعَقْلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْقَبَائِحِ، وَأَجَازَ أَبُو عَلَى أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْهُدَى. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَرَادَ خَلْقَ أَصْلِهِمْ آدَمَ. وَقِيلَ: يَنْطَلِقُ الْمَلَكُ إِلَى تُرْبَةِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ مَنْ يُخْلَقُ فَيُبَدِّدُهَا عَلَى النُّطْفَةِ فَيُخْلَقُ مِنَ التُّرَابِ وَالنُّطْفَةِ مَعًا قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا تَوَلَّدَتْ مِنْهَا الْأَخْلَاطُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ فَهُوَ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمَجَازِ وَفِيها نُعِيدُكُمْ أَيْ بِالدَّفْنِ بِهَا أَوْ بِالتَّمْزِيقِ عَلَيْهَا وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً بِالْبَعْثِ تارَةً مَرَّةً أُخْرى يُؤَلِّفُ أَجَزَاءَهُمُ الْمُتَفَرِّقَةَ وَيَرُدُّهُمْ كَمَا كَانُوا أَحْيَاءً. وَقَوْلُهُ أُخْرى أَيْ إِخْرَاجَةً أُخْرَى لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْها خَلَقْناكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ. وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَأَخْرَجْنا إِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَيْناهُ آياتِنا هِيَ الْمَنْقُولَةُ مِنْ رَأَى الْبَصْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ بِهَمْزَةِ النقل وآياتِنا لَيْسَ عَامًّا إِذْ لَمْ يُرِهِ تَعَالَى جَمِيعَ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى آيَاتُنَا الَّتِي رَآهَا، فَكَانَتِ الْإِضَافَةُ تُفِيدُ مَا تُفِيدُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنَ الْعَهْدِ. وَإِنَّمَا رَأَى الْعَصَا وَالْيَدَ وَالطَّمْسَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا رَآهُ فَجَاءَ التَّوْكِيدُ بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمَعْهُودَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى آيَاتٌ بِكَمَالِهَا وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ التَّشْرِيفِ كَأَنَّهُ قَالَ آيَاتٍ لَنَا. وَقِيلَ: يَكُونُ مُوسَى قَدْ أَرَاهُ آيَاتِهِ وَعَدَّدَ عَلَيْهِ مَا أُوتِيَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ آيَاتِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ، وَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا يُشَاهِدُ بِهِ فَكَذَّبَ بها جَمِيعًا وَأَبى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْهَا انْتَهَى. وَقَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ لَا يُسَمَّى رُؤْيَةً إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَقِيلَ: أَرَيْناهُ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ لَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ أَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا الْعَصَا وَالْيَدَ البيضاء أي ولقد أعلمنا آياتِنا كُلَّها هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْآيَاتِ آيَاتِ تَوْحِيدِهِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَنَا في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ

فَيَكُونُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأُبَيٌّ: يَقْتَضِي كَسْبَ فِرْعَوْنَ وَهَذَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَمُتَعَلِّقُ التَّكْذِيبِ مَحْذُوفٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْآيَاتُ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَكَذَّبَ مُوسَى وَأَبى أَنْ يَقْبَلَ مَا أَلْقَاهُ إِلَيْهِ مِنْ رِسَالَتِهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ وَكَذَّبَ أَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَقَالَ: مِنْ سِحْرٍ، وَلِهَذَا قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «1» وَقَوْلُهُ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «2» فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَذَّبَ لِظُلْمِهِ لَا أَنَّهُ الْتَبَسَ عَلَيْهِ أَنَّهَا آيَاتُ سِحْرٍ. وَفِي قَوْلِهِ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا وَهَنٌ ظَهَرَ مِنْهُ كَثِيرٌ وَاضْطِرَابٌ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ غَالِبُهُ عَلَى مُلْكِهِ لَا مَحَالَةَ، وَذَكَرَ عِلَّةَ الْمَجِيءِ وَهِيَ إِخْرَاجُهُمْ وَأَلْقَاهَا فِي مَسَامِعِ قَوْمِهِ لِيَصِيرُوا مُبْغِضِينَ لَهُ جِدًّا إِذِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمَوْطِنِ مِمَّا يَشُقُّ وَجَعَلَهُ اللَّهُ مُسَاوِيًا لِلْقَتْلِ فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ «3» وَقَوْلُهُ بِسِحْرِكَ تَعَلُّلٌ وَتَحَيُّرٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ سَاحِرًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يُخْرِجَ مَلِكًا مِثْلَهُ مِنْ أَرْضِهِ وَيَغْلِبَهُ عَلَى مِلْكِهِ بِالسِّحْرِ، وَأَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشُّبْهَةِ الطَّاعِنَةِ فِي النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ الْمُعْجِزَ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ السِّحْرِ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مِمَّا تَتَعَذَّرُ مُعَارَضَتُهُ فَقَالَ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ قَوِيَ وَكَثُرَ مَنَعَتُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَقَعَ أَمْرُهُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، إِذْ هِيَ مَقَالَةُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْحُجَّةِ لَا مَنْ يَصْدَعُ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَأَرْضُهُمْ هِيَ أَرْضُ مِصْرَ وَخَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ بِسِحْرِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مَعَهُ وَالْعَصَا وَالْيَدُ إِنَّمَا ظَهَرَتَا مِنْ قِبَلِهِ فَلَنَأْتِيَنَّكَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَوْهَمَ النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَأَنَّ عِنْدَهُ مَنْ يُقَاوِمُهُ فِي ذَلِكَ، فَطَلَبَ ضَرْبَ مَوْعِدٍ لِلْمُنَاظَرَةِ بِالسِّحْرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْعِداً هُنَا هُوَ زَمَانٌ أَيْ فَعَيِّنْ لَنَا وَقْتَ اجْتِمَاعٍ وَلِذَلِكَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَمَعْنَى لَا نُخْلِفُهُ أَيْ لَا نُخْلِفُ ذَلِكَ الْوَقْتَ فِي الِاجْتِمَاعِ فِيهِ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ مَكَانًا معلوم وَيَنْبُوعُهُ قَوْلُهُ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلِذَلِكَ قَالَ لَا نُخْلِفُهُ أَيْ ذَلِكَ الْمَوْعِدَ وَالْإِخْلَافُ أَنْ يَعِدَ شَيْئًا وَلَا يُنْجِزُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ جَعَلْتَهُ زَمَانًا نَظَرًا فِي قَوْلِهِ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مُطَابِقٌ لَهُ لزمك شيئان أن نجعل الزَّمَانَ مُخْلَفًا وَأَنْ يَعْضُلَ عَلَيْكَ نَاصِبُ مَكاناً وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَكَانًا لِقَوْلِهِ مَكاناً سُوىً لَزِمَكَ أَيْضًا أَنْ يقع الإخلاف على

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 102. (2) سورة النمل: 27/ 14. (3) سورة النساء: 4/ 66.

الْمَكَانِ وَأَنْ لَا يُطَابِقَ قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لَهُ مَكاناً جَمِيعًا لِأَنَّهُ قَرَأَ يَوْمُ الزِّينَةِ بِالنَّصْبِ فَبَقِيَ أَنْ يُجْعَلَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ أَيْ مَكَانَ مَوْعِدٍ. وَيُجْعَلَ الضَّمِيرُ فِي نُخْلِفُهُ ومَكاناً بَدَلٌ مِنَ الْمَكَانِ الْمَحْذُوفِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقْتَهُ قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَجْعَلَهُ زَمَانًا وَالسُّؤَالُ وَاقِعٌ عَنِ الْمَكَانِ لَا عَنِ الزَّمَانِ؟ قُلْتُ: هُوَ مُطَابِقٌ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لَفْظًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمَ الزِّينَةِ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ مُشْتَهِرًا بِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَبِذِكْرِ الزَّمَانِ عُلِمَ الْمَكَانُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ فَالْمَوْعِدُ فِيهَا مَصْدَرٌ لَا غَيْرُ، وَالْمَعْنَى إِنْجَازُ وَعْدِكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ وَطَابَقَ هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ وَيَكُونُ الْمَعْنَى اجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ وَعْدًا لَا نُخْلِفُهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَبِمَ يَنْتَصِبُ مَكاناً؟ قُلْتُ: بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُطَابِقُهُ الْجَوَابُ؟ قُلْتُ: أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ وَعْدُكُمْ وَعْدُ يَوْمِ الزِّينَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ أَنْ يَكُونَ مَوْعِدُكُمْ مُبْتَدَأً بمعنى الوقت وضُحًى خَبَرُهُ عَلَى نِيَّةِ التَّعْرِيفِ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ لَا نُخْلِفُهُ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَالْمَصْدَرُ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ الْعَمَلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عندهم. وقوله وضُحًى خَبَرُهُ عَلَى نِيَّةِ التَّعْرِيفِ فِيهِ، لِأَنَّهُ ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ، هُوَ وَإِنْ كَانَ ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ لَيْسَ عَلَى نِيَّةِ التَّعْرِيفِ بَلْ هُوَ نَكِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْدُولًا عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ كَسِحْرٍ وَلَا هُوَ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ. وَلَوْ قُلْتَ: جِئْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُكْرًا لَمْ نَدَّعِ أَنَّ بُكْرًا مَعْرِفَةٌ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ لَا نُخْلِفْهُ بِجَزْمِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِهَا صِفَةً لِمَوْعِدٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ مَوْعِداً مَفْعُولُ اجْعَلْ مَكاناً ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ اجْعَلْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَوْعِداً مفعول أولا لاجعل ومَكاناً مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَكاناً مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ مَوْعِداً لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْعَامِلَةُ عَمَلَ الْفِعْلِ إِذَا نُعِتَتْ أَوْ عُطِفَ عَلَيْهَا أَوْ أَخْبَرَ عَنْهَا أَوْ صُغِّرَتْ أَوْ جُمِعَتْ وَتَوَغَّلَتْ فِي الْأَسْمَاءِ كَمِثْلِ هَذَا لَمْ تَعْمَلْ وَلَا يُعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ هُوَ مِنْهَا، وَقَدْ يُتَوَسَّعُ فِي الظُّرُوفِ فَيُعَلَّقُ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ «1» فَقَوْلُهُ

_ (1) سورة غافر: 40/ 10.

إِذْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَمَقْتُ. وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الظُّرُوفِ خَاصَّةً وَمَنَعَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ مَكاناً نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِنُخْلِفُهُ، وَجَوَّزَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّحَاةِ وَوَجْهُهُ أَنْ يَتَّسِعَ فِي أن يحلف الْمَوْعِدَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ إِذَا نعت هَذَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَامِلٍ عَمَلِ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى اسْمَ الْفَاعِلِ الْعَارِي عَنْ أَلْ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ الْعَمَلِ فِي إِعْمَالِهِ خِلَافٌ الْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ وَالْكُوفِيُّونَ يُجَوِّزُونَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا صُغِّرَ فِي إِعْمَالِهِ خِلَافٌ، وَأَمَّا إِذَا جُمِعَ فَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي جَوَازِ إِعْمَالِهِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ إِذَا جُمِعَ فَفِي جَوَازِ إِعْمَالِهِ خِلَافٌ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْمَعْمُولَاتِ الظُّرُوفِ فَغَيْرُهُ يَذْهَبُ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ مُطْلَقًا فِي الْمَصْدَرِ، وَيَنْصُبُ إِذْ بِفِعْلٍ يُقَدَّرُ بِمَا قَبْلَهُ أَيْ مَقَتَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ. وَلا أَنْتَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي نُخْلِفُهُ الْمُؤَكَّدُ بِقَوْلِهِ نَحْنُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ سُوىً بِضَمِّ السِّينِ مُنَوَّنًا فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا مُنَوَّنًا فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا سُوىً بِضَمِّ السِّينِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ فِي الْحَالَيْنِ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ لَا أَنَّهُ مَنَعَهُ الصَّرْفَ لِأَنَّ فِعْلًا مِنَ الصِّفَاتِ مُتَصَرِّفٌ كَحَطُمَ وَلَبَدَ. وَقَرَأَ عِيسَى سِوَى بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ فِي الْحَالَيْنِ أَجْرَى الْوَصْلَ أَيْضًا مَجْرَى الْوَقْفِ، وَمَعْنَى سُوىً أَيْ عَدْلًا وَنَصَفَةً. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَأَنَّهُ قَالَ قُرْبُهُ مِنْكُمْ قُرْبُهُ مِنَّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ حَالَنَا فِيهِ مُسْتَوِيَةٌ فَيَعُمُّ ذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَنَازِلُ فِيهِ وَاحِدَةً فِي تَعَاطِي الْحَقِّ لَا تَعْتَرِضُكُمْ فِيهِ الرِّئَاسَةُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْحُجَّةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَهُوَ مِنَ الِاسْتِوَاءِ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ مِنَ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفَيْنِ مُسْتَوِيَةٌ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا، وَهَذَا مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ قُرْبُهُ مِنْكُمْ قُرْبُهُ مِنَّا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سُوىً مَقْصُورٌ إِنْ كَسَرْتَ سِينَهُ أَوْ ضَمَمْتَ، وَمَمْدُودٌ إِنْ فَتَحْتَهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ وَيَكُونُ فِيهَا جَمِيعًا بِمَعْنَى غَيْرِ وَبِمَعْنَى عَدْلٍ، وَوَسَطٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حِلٌّ بِأَهْلِهِ سِوًى ... بَيْنَ قيس قيس عيلان وَالْفِزْرِ قَالَ: وَتَقُولُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سِوَاكَ وَسُوَاكَ وَسَوَاكَ أَيْ غَيْرَكَ، وَيَكُونُ لِلْجَمِيعِ وَأَعْلَى هَذِهِ اللُّغَاتِ الْكَسْرُ قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى مَكاناً سُوىً مُسْتَوِيًا مِنَ الْأَرْضِ أَيْ لَا وَعْرَ فِيهِ، وَلَا جَبَلَ، وَلَا أَكَمَةَ، وَلَا مُطْمَئِنَّ مِنَ الْأَرْضِ بِحَيْثُ يَسِيرُ نَاظِرَ أَحَدٍ فَلَا يَرَى مَكَانَ مُوسَى وَالسَّحَرَةِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُمَا، قَالَ ذَلِكَ وَاثِقًا مِنْ غَلَبَةِ السَّحَرَةِ لِمُوسَى فَإِذَا شَاهَدُوا غَلَبَهُمْ إِيَّاهُ رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا اعْتَقَدُوا فِيهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ مَكَانًا سِوَى: مَكَانِنَا

هَذَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ سِوًى إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى غَيْرِ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافَةً لَفْظًا وَلَا تُقْطَعُ عَنِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَهُبَيْرَةُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ يَوْمَ الزِّينَةِ بِنَصْبِ الْمِيمِ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَرُوِيَ أَنَّ يَوْمُ الزِّينَةِ كَانَ عِيدًا لَهُمْ وَيَوْمًا مَشْهُودًا وَصَادَفَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَكَانَ يَوْمَ سَبْتٍ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ كَسْرِ الْخَلِيجِ الْبَاقِي إِلَى الْيَوْمِ. وَقِيلَ: يَوْمُ النَّيْرُوزِ وَكَانَ رَأْسَ سَنَتِهِمْ. وَقِيلَ: يَوْمُ السَّبْتِ فَإِنَّهُ يَوْمُ رَاحَةٍ وَدَعَةٍ وَقِيلَ: يَوْمُ سُوقٍ لَهُمْ. وَقِيلَ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَأَبُو نَهِيكٍ وعمرو بن فائد وَأَنْ تُحْشَرَ بِتَاءِ الْخِطَابِ أَيْ يَا فِرْعَوْنُ وَرُوِيَ عَنْهُمْ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، والناس نُصِبَ فِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ وَأَنْ يُحْشَرَ الْحَاشِرُ النَّاسُ ضُحًى فَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى. وَحَذْفُ الْفَاعِلِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ وَأَنْ يُحْشَرَ الْقَوْمُ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ فِرْعَوْنَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ، إِمَّا عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي تُخَاطَبُ بِهَا الْمُلُوكُ أَوْ خَاطَبَ الْقَوْمَ لِقَوْلِهِ مَوْعِدُكُمْ وَجَعَلَ يُحْشَرَ لِفِرْعَوْنَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ يُحْشَرَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الزِّينَةِ وَانْتَصَبَ ضُحًى عَلَى الظَّرْفِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ، وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ وَالضَّحَاءُ بِفَتْحِ الضَّادِ مَمْدُودٌ مُذَكَّرُ وَهُوَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا وَاعَدَهُمْ مُوسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ لِيَكُونَ عُلُوُّ كَلِمَةِ اللَّهِ وَظُهُورُ دِينِهِ وَكَبْتُ الْكَافِرِ وزهوق الباطل على رؤوس الْأَشْهَادِ، وَفِي الْمَجْمَعِ الْغَاصِّ لِتَقْوَى رَغْبَةُ مَنْ رَغِبَ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيَكِلَّ حَدُّ الْمُبْطِلِينَ وَأَشْيَاعِهِمْ وَيَكْثُرُ الْمُحَدِّثُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَلَمِ فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، وَيَشِيعُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْيَوْمِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُحِقِّ الَّذِي يُعْرَفُ الْيَدُ لَهُ لَا الْمُبْطِلُ الَّذِي يُعْرَفُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا التَّلْبِيسُ. وَلِقَوْلِهِ مَوْعِدُكُمْ وَهُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أَيْ مُعْرِضًا عَنْ قَبُولِ الحق أو فَتَوَلَّى ذَلِكَ الْأَمْرَ بِنَفْسِهِ أَوْ فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ لِاسْتِعْدَادِ مكائده، أَوْ أَدْبَرَ عَلَى عَادَةِ الْمُتَوَاعِدِينَ أَنْ يُوَلِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ظَهْرَهُ إِذَا افْتَرَقَا. أَقْوَالٌ فَجَمَعَ كَيْدَهُ أَيْ ذَوِي كَيْدِهِ وَهُمُ السَّحَرَةُ. وَكَانُوا عِصَابَةً لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ أَسْحَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَتى لِلْمَوْعِدِ الَّذِي كَانُوا تَوَاعَدُوهُ. وَأَتَى مُوسَى أَيْضًا بِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي

إِسْرَائِيلَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَتَقَدَّمُ تَفْسِيرُ وَيْلٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، خَاطَبَهُمْ خِطَابَ مُحَذِّرٍ وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَوْلِ الْحَقِّ إِذَا رَأَوْهُ وَأَنْ لَا يُبَاهِتُوا بِكَذِبٍ. وَعَنْ وَهْبٍ لَمَّا قَالَ لِلسَّحَرَةِ وَيْلَكُمْ قَالُوا مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ فَيُسْحِتَكُمْ يُهْلِكَكُمْ وَيَسْتَأْصِلَكُمْ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الِافْتِرَاءِ وَأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ هَلَاكُ الِاسْتِئْصَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِالْبُغْيَةِ وَلَا يَنْجَحُ طَلَبُهُ مَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَلَمَّا سَمِعَ السَّحَرَةُ مِنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هَالَهُمْ ذَلِكَ وَوَقَعَتْ فِي نُفُوسِهِمْ مَهَابَتُهُ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ تَجَاذَبُوهُ وَالتَّنَازُعُ يَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ والأعمش وطلحة وَابْنُ جَرِيرٍ فَيُسْحِتَكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ من أَسْحَتَ رُبَاعِيًّا. وَقَرَأَ بَاقِي السبعة ورويس وابن عباعي بِفَتْحِهِمَا مِنْ سَحَتَ ثُلَاثِيًّا. وَإِسْرَارُهُمُ النَّجْوَى خِيفَةً مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِمْ ضَعْفًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى غَلَبَةِ مُوسَى بَلْ كَانَ ظَنًّا مِنْ بَعْضِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَجْوَاهُمْ إِنْ غَلَبَنَا مُوسَى اتَّبَعْنَاهُ، وَعَنْ قَتَادَةَ إِنْ كَانَ سَاحِرًا فَسَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَهُ أَمْرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَشَاوَرُوا فِي السِّرِّ وَتَجَاذَبُوا أَهْدَابَ الْقَوْلِ، ثُمَّ قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فَكَانَتْ نَجْوَاهُمْ فِي تَلْفِيقِ هَذَا الْكَلَامِ وَتَزْوِيرِهِ خَوْفًا مِنْ غَلَبَتِهِمَا وَتَثْبِيطًا لِلنَّاسِ مِنِ اتِّبَاعِهِمَا انْتَهَى. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ فِرْقَةٍ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ تَنَاجِيهِمْ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذَا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تِلْكَ قِيلَتْ عَلَانِيَةً، وَلَوْ كَانَ تَنَاجِيهِمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَنَازُعٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَحُمَيْدٌ وَأَيُّوبُ وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَالْأَخَوَانِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ السَّبْعَةِ إِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ هذانِ بِأَلِفٍ وَنُونٍ خَفِيفَةٍ لَساحِرانِ وَاخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. فَقَالَ الْقُدَمَاءُ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّهُ عَلَى حَذْفِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّهُ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، وَخَبَرُ إِنْ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ هذانِ لَساحِرانِ وَاللَّامُ فِي لَساحِرانِ دَاخِلَةٌ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ لَا يَجِيءُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَبِأَنَّ دُخُولَ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ شَاذٌّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّامُ لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الْخَبَرِ بَلِ التَّقْدِيرُ لَهُمَا سَاحِرَانِ فَدَخَلَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ شَيْخُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: هَا ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَلَيْسَ مَحْذُوفًا، وَكَانَ يُنَاسِبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً فِي الْخَطِّ فَكَانَتْ كِتَابَتُهَا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَضُعِّفَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ

مُخَالَفَتِهِ خَطَّ الْمُصْحَفِ. وَقِيلَ إِنْ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ فَتُحْمَلُ الآية عليه وهذانِ لَساحِرانِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَاللَّامُ فِي لَساحِرانِ عَلَى ذَيْنَكِ التَّقْدِيرَيْنِ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ، وَالتَّخْرِيجُ الَّذِي قَبْلَهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُبَرِّدُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ مِنْ إِجْرَاءِ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ دَائِمًا وَهِيَ لُغَةٌ لِكِنَانَةَ حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَلِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَخَثْعَمٍ وَزُبَيْدٍ وَأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَلِبَنِي الْعَنْبَرِ وَبَنِي الْهُجَيْمِ وَمُرَادٍ وَعُذْرَةَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقْلِبُ كُلَّ يَاءٍ يَنْفَتِحُ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا. وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ سَعْدَانَ وَحَفْصٌ وَابْنُ كَثِيرٍ إِنْ بِتَخْفِيفِ النُّونِ هَذَا بِالْأَلِفِ وَشَدَّدَ نُونَ هذانِ ابْنُ كَثِيرٍ، وَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ وَهُوَ عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثقيلة وهذانِ مبتدأ ولَساحِرانِ الْخَبَرُ وَاللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ وَإِنِ الْمُخَفِّفَةِ من الثقيلة وهذانِ مبتدأ ولَساحِرانِ الْخَبَرُ وَاللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ وَإِنِ الْمُخَفِّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَلَى رَأْيِ البصريين والكوفيين، يَزْعُمُونَ أَنَّ إِنْ نَافِيَةً وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ إِنْ ذَانِ لَسَاحِرَانِ وَتَخْرِيجُهَا كَتَخْرِيجِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ عُبَيْدٍ وَأَبُو عَمْرٍو إِنَّ هَذَيْنِ بِتَشْدِيدِ نُونِ إِنَّ وَبِالْيَاءِ فِي هَذَيْنِ بَدَلَ الْأَلِفِ، وَإِعْرَابُ هَذَا وَاضِحٌ إِذْ جَاءَ عَلَى الْمَهْيَعِ الْمَعْرُوفِ فِي التَّثْنِيَةِ لِقَوْلِهِ فَذانِكَ بُرْهانانِ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ «1» بِالْأَلِفِ رَفْعًا وَالْيَاءِ نَصْبًا وَجَرًّا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أُجِيزُ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو لِأَنَّهَا خِلَافُ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: رَأَيْتُهَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ هَذَنِ لَيْسَ فِيهَا أَلِفٌ، وَهَكَذَا رَأَيْتُ رَفْعَ الِاثْنَيْنِ فِي ذَلِكَ الْمُصْحَفِ بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ، وَإِذَا كَتَبُوا النَّصْبَ وَالْخَفْضَ كَتَبُوهُ بِالْيَاءِ وَلَا يُسْقِطُونَهَا، وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَأَبُو عَمْرٍو: هَذَا مِمَّا لَحَنَ الْكَاتِبُ فِيهِ وَأُقِيمَ بِالصَّوَابِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ ذَانِ إِلَّا سَاحِرَانِ قَالَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَعَزَاهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِأُبَيٍّ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ هَذَانِ سَاحِرَانِ بِفَتْحِ أَنْ وَبِغَيْرِ لَامٍ بَدَلٌ مِنَ النَّجْوى انْتَهَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مَا هَذَا إِلَّا سَاحِرَانِ وَقَوْلُهُمْ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما تَبِعُوا فِيهِ مَقَالَةَ فِرْعَوْنَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ وَنَسَبُوا السِّحْرَ أَيْضًا لِهَارُونَ لَمَّا كَانَ مَشْتَرِكًا مَعَهُ فِي الرِّسَالَةِ وَسَالِكًا طَرِيقَتَهُ، وَعَلَّقُوا الْحُكْمَ عَلَى الْإِرَادَةِ وَهُمْ لَا اطِّلَاعَ لَهُمْ عَلَيْهَا تَنْقِيصًا لَهُمَا وَحَطًّا مِنْ قَدْرِهِمَا، وَقَدْ كَانَ ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْيَدِ وَالْعَصَا مَا يدل على

_ (1) سورة القصص: 28/ 32. [.....]

صِدْقِهِمَا، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ السَّاحِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى السَّحَرَةِ خَاطَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: خَاطَبُوا فِرْعَوْنَ مُخَاطَبَةَ التَّعْظِيمِ، وَالطَّرِيقَةُ السِّيرَةُ وَالْمَمْلَكَةُ وَالْحَالُ الَّتِي هم عليها. والْمُثْلى تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ أَيِ الْفُضْلَى الْحُسْنَى. وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ السِّيرَةِ بِالطَّرِيقَةِ وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْعَقْلِ وَالسِّنِّ وَالْحِجَى، وَحَكَوْا أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فُلَانٌ طَرِيقَةُ قَوْمِهِ أَيْ سَيِّدُهُمْ، وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوُ ذَلِكَ قَالَ: وَتَصَرُّفَاتُ وُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِمَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَيَذْهَبا بِأَهْلِ طَرِيقَتِكُمْ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِ موسى فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ بالغوا في التنفير عنهما بِنِسْبَتِهِمَا إِلَى السِّحْرِ، وَبِالطَّبْعِ يُنْفَرُ عَنِ السِّحْرِ وَعَنْ رُؤْيَةِ السَّاحِرِ ثُمَّ بِإِرَادَةِ الْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ ثُمَّ بِتَغْيِيرِ حَالَتِهِمْ مِنَ الْمَنَاصِبِ وَالرُّتَبِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا. وَحَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ فِي مُتَابَعَةِ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ فَجَمَعَ كَيْدَهُ قَوْلَهُ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ السَّحَرَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَجْمِعُوا بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَجْمَعَ رُبَاعِيًّا أَيِ اعْزِمُوا وَاجْعَلُوهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا تَخْتَلِفُوا وَلَا يَتَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْكُمْ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو حَاتِمٍ بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ «1» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَمَعَ وَأَجْمَعَ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَتَدَاعَوْا إِلَى الْإِتْيَانِ صَفًّا لِأَنَّهُ أَهْيَبُ فِي عُيُونِ الرَّائِينَ، وَأَظْهَرُ فِي التَّمْوِيهِ وَانْتَصَبَ صَفًّا عَلَى الْحَالِ أَيْ مُصْطَفِّينَ أَوْ مَفْعُولًا بِهِ إِذْ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِعِيدِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ. وَقَرَأَ شِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ عَنْهُ ثُمِّ ايْتُوا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً تَخْفِيفًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَهَذَا غَلَطٌ وَلَا وَجْهَ لِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ ثُمِّ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَذَلِكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا كَانَتِ الْفَتْحَةُ فِي الْعَامَّةِ كَذَلِكَ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ أَيْ ظَفِرَ وَفَازَ بِبُغْيَتِهِ مَنْ طَلَبَ الْعُلُوَّ فِي أَمْرِهِ وَسَعَى سَعْيَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ السَّحَرَةِ اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا جِدًّا فَأَقَلُّ مَا قِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ عِصِيٌّ وَحِبَالٌ، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ تِسْعُمِائَةِ أَلْفٍ.

_ (1) سورة طه: 20/ 60.

[سورة طه (20) : الآيات 65 إلى 89]

[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 89] قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)

قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى. قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى. فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فجاؤوا مُصْطَفِّينَ إِلَى مَكَانِ الْمَوْعِدِ، وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَصًا وَحَبْلٌ، وَجَاءَ مُوسَى وَأَخُوهُ وَمَعَهُ عَصَاهُ فَوَقَفُوا وقالُوا: يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَذَكَرُوا الْإِلْقَاءَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ آيَةَ مُوسَى فِي إِلْقَاءِ الْعَصَا. قِيلَ: خَيَّرُوهُ ثِقَةً مِنْهُمْ بِالْغَلَبِ لِمُوسَى، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُقَاوِمُهُمْ فِي السِّحْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا التَّخْيِيرُ مِنْهُمُ اسْتِعْمَالُ أَدَبٍ حَسَنٍ مَعَهُ وَتَوَاضُعٌ لَهُ وَخَفْضُ جَنَاحٍ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى إِعْطَائِهِمُ النَّصَفَةَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلْهَمَهُمْ ذَلِكَ وَعَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتِيَارَ إِلْقَائِهِمْ أَوَّلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْأَدَبِ بِأَدَبٍ حَتَّى يُبْرِزُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ مَكَائِدِ السِّحْرِ وَيَسْتَنْفِذُوا أَقْصَى طُرُقِهِمْ وَمَجْهُودِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا أَظْهَرَ اللَّهُ سُلْطَانَهُ وَقَذَفَ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَدَمَغَهُ وَسَلَّطَ الْمُعْجِزَةَ عَلَى السِّحْرِ فَمَحَقَتْهُ، وَكَانَتْ آيَةً بَيِّنَةً لِلنَّاظِرِينَ بَيِّنَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَخَطَابَةٌ وَإِنَّ مَا بَعْدَهُ يَنْسَبِكُ بِمَصْدَرٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَخْتَارُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الرَّفْعَ الْأَمْرُ إِلْقَاؤُكَ أَوْ إِلْقَاؤُنَا فَجَعَلَهُ خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ، وَاخْتَارَ

أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِلْقَاؤُكَ أَوَّلُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى فَتَحْسُنُ الْمُقَابَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ لَمْ تَحْصُلِ الْمُقَابَلَةُ لِأَنَّا قَدَّرْنَا إِلْقَاؤُكَ أَوَّلُ، وَمُقَابَلَةُ كَوْنِهِمْ يَكُونُونَ أَوَّلَ مَنْ يُلْقِي لَكِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِلْقَاؤُهُمْ أَوَّلَ فَهِيَ مُقَابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ. وَفِي تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْأَمْرُ إِلْقَاؤُكَ لَا مُقَابَلَةَ فِيهِ. وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّصْبَ اخْتَرْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إعراب، وَتَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ إِمَّا نَخْتَارُ أَنْ تُلْقِيَ وَتَقَدَّمَ نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْأَعْرَافِ. قالَ بَلْ أَلْقُوا لَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْإِلْقَاءِ مِنْ بَابِ تَجْوِيزِ السِّحْرِ وَالْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي ذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ إِلْقَائِهِمْ وَالْمُعْجِزَةِ، وَتَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى كَشْفِ الشُّبْهَةِ إِذِ الْأَمْرُ مَقْرُونٌ بِشَرْطٍ أَيْ أَلْقُوا إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ لِقَوْلِهِ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «1» ثُمَّ قَالَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَلْقَوْا فَإِذَا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَإِذا حِبالُهُمْ الْفَاءُ جَوَابُ مَا حُذِفَ وَتَقْدِيرُهُ فَأَلْقَوْا وَإِذَا فِي هَذَا ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ أَلْقَوْا انْتَهَى. فَقَوْلُهُ فَإِذا الْفَاءُ جَوَابُ مَا حُذِفَ وَتَقْدِيرُهُ فَأَلْقَوْا لَيْسَتْ هَذِهِ فَاءَ جَوَابٍ لِأَنَّ فَأَلْقَوْا لَا تُجَابُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَطْفِ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. وَقَوْلُهُ وَإِذَا فِي هَذَا ظَرْفُ مَكَانٍ يَعْنِي أَنَّ إِذَا الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَقَوْلِهِ: وَالْعَامِلُ فِيهِ أَلْقَوْا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ وَلِأَنَّ إِذَا هَذِهِ إِنَّمَا هِيَ مَعْمُولَةٌ لِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ إِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا هِيَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ يُخَيَّلُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذَا وَيُخَيَّلُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذَا نَظِيرُ: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ رَابِضٌ وَرَابِضًا فَإِذَا رَفَعْنَا رَابِضًا كَانَتْ إِذَا مَعْمُولَةً، وَالتَّقْدِيرُ فَبِالْحَضْرَةِ الْأَسَدُ رَابِضٌ أَوْ فِي الْمَكَانِ، وَإِذَا نصبتا كَانَتْ إِذَا خَبَرًا وَلِذَلِكَ تَكْتَفِي بِهَا، وَبِالْمَرْفُوعِ بَعْدَهَا كَلَامًا نَحْوِ خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ فِي إِذَا هَذِهِ إِذَا الْمُفَاجَأَةُ وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا أَنَّهَا إِذَا الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الطَّالِبَةُ نَاصِبًا لَهَا وَجُمْلَةٌ تُضَافُ إِلَيْهَا خُصَّتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ يَكُونَ ناصبها فعلا مخصوصا وهو فِعْلُ الْمُفَاجَأَةِ، وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا غَيْرُ فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ فَفَاجَأَ مُوسَى وَقْتَ تَخْيِيلِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَالْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَتِهِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُخَيِّلَةً إِلَيْهِ السَّعْيَ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا إِذَا كَانَتِ الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 23 وغيرها.

الْوَقْتِ هَذَا مَذْهَبُ الرِّيَاشِيِّ أَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةَ ظَرْفُ زَمَانٍ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ، وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهَا حَرْفٌ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ أَيْضًا وَقَوْلُهُ الطَّالِبَةُ نَاصِبًا لَهَا صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ: وَجُمْلَةٌ تُضَافُ إِلَيْهَا هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ وَإِمَّا مَعْمُولَةً لِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ بعض لجملة أَوْ مَعْمُولَةً لِبَعْضِهَا، فَلَا تُمْكِنُ الْإِضَافَةُ. وَقَوْلُهُ خُصَّتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ يكون ناصبها فعلا مخصوصا وَهُوَ فِعْلُ الْمُفَاجَأَةِ قَدْ بَيَّنَّا النَّاصِبَ لَهَا، وَقَوْلُهُ وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا غَيْرُ هَذَا الْحَصْرُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَخْفَشُ فِي الْأَوْسَطِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَصْحُوبَةَ بِقَدْ تَلِيهَا وَهِيَ فِعْلِيَّةٌ تَقُولُ: خَرَجْتُ فَإِذَا قَدْ ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةَ الِاشْتِغَالِ خَرَجْتُ فَإِذَا زِيدٌ قَدْ ضَرَبَهُ عَمْرٌو، بِرَفْعِ زَيْدٍ وَنَصْبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَتِهِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُخَيِّلَةً إِلَيْهِ السَّعْيَ فَهَذَا بِعَكْسِ مَا قُدِّرَ بَلِ الْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَةِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ إِيَّاهُ. فَإِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ فَإِذَا السَّبْعُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَاجَأَنِي السَّبْعُ وَهَجَمَ ظُهُورُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى عُصِيَّهُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ حَيْثُ كَانَ وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْكَسْرَ إِتْبَاعٌ لِحَرَكَةِ الصَّادِ وَحَرَكَةُ الصَّادِ لِأَجْلِ الْيَاءِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ الْحَسَنُ وَعُصْيُهُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَعَ الرَّفْعِ فَهُوَ أَيْضًا جَمْعٌ كَالْعَامَّةِ لَكِنَّهُ عَلَى فُعْلٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَأَبُو حَيْوَةَ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَرَوْحٌ وَالْوَلِيدَانِ وَابْنُ ذَكْوَانَ تُخَيَّلُ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَفِيهِ ضَمِيرُ الحبال والعصي وأَنَّها تَسْعى بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ تَخَيَّلُ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَتَخَيَّلُ وَفِيهَا أَيْضًا ضمير ما ذكر وأَنَّها تَسْعى بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَكِنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حُبَارَةَ الْهُذَلِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِ الْكَامِلِ مِنْ تَأْلِيفِهِ عَنْ أَبِي السَّمَّاكِ أَنَّهُ قَرَأَ تُخَيَّلُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَالضَّمِيرُ فيه فاعل، وأَنَّها تَسْعى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَى الْحَسَنِ وَالثَّقَفِيِّ يَعْنِي عِيسَى، وَمَنْ بَنَى تُخَيَّلُ لِلْمَفْعُولِ فَالْمُخَيِّلُ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ لِلْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ نُخَيِّلُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْيَاءِ، فَالْمُخَيِّلُ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مُوسَى لِقَوْلِهِ قَبْلُ قالَ بَلْ أَلْقُوا وَلِقَوْلِهِ بَعْدُ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْقَصَصِ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ كَانَتْ تَتَحَرَّكُ وَتَنْتَقِلُ الِانْتِقَالَ الَّذِي يُشْبِهُ انْتِقَالَ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السَّعْيَ وَهُوَ وَصْفُ مَنْ يَمْشِي مِنَ الْحَيَوَانِ، فَرُوِيَ أَنَّهُمْ جعلوا في الحبال زِئْبَقًا وَأَلْقَوْهَا

فِي الشَّمْسِ فَأَصَابَ الزِّئْبَقُ حَرَارَةَ الشَّمْسِ فَتَحَرَّكَ فَتَحَرَّكَتِ الْعِصِيُّ وَالْحِبَالُ مَعَهُ. وَقِيلَ: حَفَرُوا الْأَرْضَ وَجَعَلُوا تَحْتَهَا نَارًا وَكَانَتِ الْعِصِيُّ وَالْحِبَالُ مَمْلُوءَةً بِزِئْبَقٍ، فَلَمَّا أَصَابَتْهَا حَرَارَةُ الْأَرْضِ تَحَرَّكَتْ وَكَانَ هذا من باب الدّرك. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تَتَحَرَّكْ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سِحْرِ الْعُيُونِ وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا فَقَالُوا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ «1» فَكَانَ النَّاظِرُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ أَوْجَسَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ ذَلِكَ لِطَبْعِ الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْ مِثْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: كَانَ خَوْفُهُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتَتِنُوا لِهَوْلِ مَا رَأَى قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَالْإِيجَاسُ هُوَ مِنَ الْهَاجِسِ الَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَلَيْسَ يتمكن وخِيفَةً أَصْلُهُ خَوْفَةً قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَوْفَةً بِفَتْحِ الْخَاءِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ كُسِرَتِ الْخَاءُ لِلتَّنَاسُبِ. إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى تَقْرِيرٌ لِغَلَبَتِهِ وَقَهْرِهِ وَتَوْكِيدٌ بِالِاسْتِئْنَافِ وَبِكَلِمَةِ التَّوْكِيدِ وَبِتَكْرِيرِ الضَّمِيرِ وَبِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَبِالْأَعْلَوِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّفْضِيلِ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ لَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَأَلْقِ عَصَاكَ لِمَا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ مِنْ مَعْنَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ مَا فِي يَمِينِكَ وَلَمْ يَقُلْ عَصَاكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرًا لَهَا أَيْ لَا تُبَالِ بِكَثْرَةِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَأَلْقِ الْعُوَيْدَ الْفَرْدَ الصَّغِيرَ الْجِرْمِ الَّذِي فِي يَمِينِكَ فَإِنَّهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ يَتَلَقَّفُهَا عَلَى حِدَّتِهِ وَكَثْرَتِهَا وَصِغَرِهِ وَعِظَمِهَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لَهَا أَيْ لَا تَحْتَفِلُ بِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الْكَبِيرَةِ الْكَثِيرَةِ فَإِنَّ فِي يَمِينِكَ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْهَا كُلِّهَا وَهَذِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَقَلُّ شَيْءٍ وَأَنْزَرُهُ عِنْدَهَا، فَأَلْقِهِ تَتَلَقَّفْهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَمْحَقْهَا انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَخِطَابُهُ لَا طَائِلَ فِي ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ تَلْقَفْ جمل عَلَى مَعْنَى مَا لَا عَلَى لَفْظِهَا إِذْ أُطْلِقَتْ مَا عَلَى الْعَصَا وَالْعَصَا مُؤَنَّثَةٌ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ كَذَلِكَ وَبِرَفْعِ الْفَاءِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُلْقَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَفْصٌ وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ تَلْقَفْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَعَنْ قُنْبُلٍ أَنَّهُ كَانَ يُشَدِّدُ مِنْ تَلَقَّفْ يُرِيدُ يَتَلَقَّفْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْدُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ إن صَنَعْتُمْ كَيْدٌ، وَمَعْنَى صَنَعُوا هُنَا زَوَّرُوا وَافْتَعَلُوا كَقَوْلِهِ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ «2» . وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَيْدُ سَحِرٍ بِالنَّصْبِ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 116. (2) سورة الأعراف: 7/ 117.

مَفْعُولًا لِصَنَعُوا وَمَا مُهَيِّئَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سِحْرٍ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ بِمَعْنَى ذِي سِحْرٍ أَوْ ذَوِي سِحْرٍ، أَوْ هُمْ لِتَوَغُّلِهِمْ فِي سِحْرِهِمْ كَأَنَّهُمُ السِّحْرُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِذَاتِهِ، أَوْ بَيِّنُ الْكَيْدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ سِحْرًا وَغَيْرَ سِحْرٍ كَمَا تَبِينُ الْمِائَةُ بِدِرْهَمٍ وَنَحْوُهُ عِلْمُ فِقْهٍ وَعِلْمُ نَحْوٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَاحِرٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَحَرَ، وَأُفْرِدَ سَاحِرٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ فِعْلَ الْجَمِيعِ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنَ السِّحْرِ، وَذَلِكَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ فَكَأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ سَاحِرٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَى مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ لَا إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ، فَلَوْ جُمِعَ لَخُيِّلَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَدَدُ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أَيْ هَذَا الْجِنْسُ انْتَهَى. وَعَرَّفَ فِي قَوْلِهِ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ لِأَنَّهُ عَادَ عَلَى سَاحِرٍ النَّكِرَةِ قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا نُكِّرَ يَعْنِي أَوَّلًا مِنْ أَجْلِ تَنْكِيرِ الْمُضَافِ لَا مِنْ أَجْلِ تَنْكِيرِهِ فِي نَفْسِهِ كَقَوْلِ الْعَجَّاجِ: فِي سَعْيِ دُنْيَا طَالَ مَا قَدْ مُدَّتِ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا فِي أَمْرِ دُنْيَا وَلَا فِي أَمْرِ آخِرَةٍ الْمُرَادُ تَنْكِيرُ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدٌ سِحْرِيٌّ وَفِي سَعْيٍ دُنْيَاوِيٍّ وَأَمْرٍ دُنْيَاوِيٍّ وَأُخْرَاوِيٍّ انْتَهَى. وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ: فِي سَعْيِ دُنْيَا، مَحْمُولٌ عَلَى الضَّرُورَةِ إِذْ دُنْيَا تَأْنِيثُ الْأَدْنَى، وَلَا يُسْتَعْمَلُ تَأْنِيثُهُ إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَحْرِيفِ الرُّوَاةِ. وَمَعْنَى وَلا يُفْلِحُ لَا يَظْفَرُ بِبُغْيَتِهِ حَيْثُ أَتى أَيْ حَيْثُ تَوَجَّهَ وَسَلَكَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مَعْنَاهُ أن الساحر بقتل حيث تقف وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ عُدِمَ الْفَلَاحَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَيْنَ أَتَى وَبَعْدَ هَذَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَزَالَ إِيجَاسُ الْخِيفَةِ وَأَلْقَى مَا فِي يَمِينِهِ وَتَلَقَّفَتْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ثُمَّ انْقَلَبَتْ عَصًا، وَفَقَدُوا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُعْجِزٌ لَيْسَ فِي طَوْقِ الْبَشَرِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً وَجَاءَ التَّرْكِيبُ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ وَلَمْ يَأْتِ فَسَجَدُوا كَأَنَّهُ جَاءَهُمْ أَمْرٌ وَأَزْعَجَهُمْ وَأَخَذَهُمْ فَصَنَعَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سُرْعَةِ مَا تَأَثَّرُوا لِذَلِكَ الْخَارِقِ الْعَظِيمِ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ وَقَعُوا سَاجِدِينَ. وَقَدَّمَ مُوسَى فِي الْأَعْرَافِ وَأَخَّرَ هَارُونَ

_ (1) سورة المزمل: 73/ 16.

لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ وَلِكَوْنِ مُوسَى هُوَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ الْعَصَا الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا مَا ظَهَرَ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَأَخَّرَ مُوسَى لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى «1» وأزواجا مِنْ نَبَاتٍ إِذَا كَانَ شَتَّى صِفَةً لِقَوْلِهِ أَزْوَاجًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَقَامَ عَمْرٌو وزيد إذا لو أولا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ مِنْ قَائِلَيْنِ نَطَقَتْ طَائِفَةٌ بِقَوْلِهِمْ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، وَطَائِفَةٌ بِقَوْلِهِمْ: رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى وَلَمَّا اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْنَى صَحَّ نِسْبَةُ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِلَى الْجَمِيعِ. وَقِيلَ: قَدَّمَ هارُونَ هُنَا لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ مُوسى. وَقِيلَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ رَبَّى مُوسَى فبدؤوا بِهَارُونَ لِيَزُولَ تَمْوِيهُ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَبَّى مُوسَى فَيَقُولُ أَنَا رَبَّيْتُهُ. وَقَالُوا: رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى وَلَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِهِمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَبِّ هَذَيْنِ وَكَانَ فِيمَا قَبْلُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ آمَنْتُمْ وفي لأقطعن ولأصلبن فِي الْأَعْرَافِ. وَتَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهَا وَجَاءَ هناك آمنتم به وَهُنَا لَهُ، وَآمَنَ يُوصَلُ بِالْبَاءِ إِذَا كَانَ بِاللَّهِ وَبِاللَّامِ لِغَيْرِهِ فِي الْأَكْثَرِ نَحْوَ فَما آمَنَ لِمُوسى «2» لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ «3» وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «4» فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ «5» وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ فِي بِهِ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الرَّبِّ، وَأَرَادَ بِالتَّقْطِيعِ وَالتَّصْلِيبِ فِي الْجُذُوعِ التَّمْثِيلَ بِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْجِذْعُ مَقَرًّا لِلْمَصْلُوبِ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ اشْتِمَالَ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ عدّي الفعل بفي الَّتِي لِلْوِعَاءِ. وَقِيلَ فِي بِمَعْنَى عَلَى. وَقِيلَ: نَقَرَ فِرْعَوْنُ الْخَشَبَ وَصَلَبَهُمْ فِي دَاخِلِهِ فَصَارَ ظَرْفًا لَهُمْ حَقِيقَةً حَتَّى يَمُوتُوا فِيهِ جُوعًا وَعَطَشًا وَمِنْ تَعْدِيَةِ صلب بفي قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَهُمْ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا وَفِرْعَوْنُ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ، وَأَقْسَمَ فِرْعَوْنُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ وَعَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أي أبي وَأَيَّ مَنْ آمَنْتُمْ بِهِ. وقيل: أبي وَأَيَّ مُوسَى، وَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّعْذِيبِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ آمَنْتُمْ لَهُ وَاللَّامُ مَعَ الْإِيمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «6» وَفِيهِ نَفَاحَةٌ بِاقْتِدَارِهِ وَقَهْرِهِ وَمَا أَلِفَهُ وَضَرِيَ بِهِ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ بأنواع العذاب، وتوضيح لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتِضْعَافٍ مَعَ الْهُزْءِ بِهِ انْتَهَى. وهو قول الطبري

_ (1) سورة طه: 20/ 129. (2) سورة يونس: 10/ 83. (3) سورة البقرة: 2/ 55. (4) سورة يوسف: 12/ 17. (5) سورة العنكبوت: 29/ 26. (6) سورة التوبة: 9/ 61.

قَالَ: يُرِيدُ نَفْسَهُ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَذْهَبُ مَعَ مَخْرَقَةِ فِرْعَوْنَ وَلَتَعْلَمُنَّ هنا معلق وأَيُّنا أَشَدُّ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِقَوْلِهِ وَلَتَعْلَمُنَّ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ أَوْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِنْ كان لَتَعْلَمُنَّ مُعَدًّى تَعْدِيَةَ عَرَفَ، وَيَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ أَيُّنا مفعولا لَتَعْلَمُنَّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِ سيبويه وأَشَدُّ خبر مبتدأ محذوف، وأَيُّنا مَوْصُولَةٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِلَةٌ والتقدير ولَتَعْلَمُنَّ مَنْ هُوَ أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى. قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ أَيْ لَنْ نَخْتَارَ اتِّبَاعَكَ وَكَوْنَنَا مِنْ حِزْبِكَ وَسَلَامَتَنَا مِنْ عَذَابِكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي أَتَتْنَا وَعَلِمْنَا صِحَّتَهَا. وَفِي قَوْلِهِمْ هَذَا تَوْهِينٌ لَهُ وَاسْتِصْغَارٌ لَمَّا هَدَّدَهُمْ بِهِ وَعَدَمُ اكْتِرَاثٍ بِقَوْلِهِ. وَفِي نِسْبَةِ الْمَجِيءِ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَاتُ جَاءَتْ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِالسِّحْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيْسَ بِسِحْرٍ فَكَانُوا عَلَى جَلِيَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُعْجِزِ، وَغَيْرُهُمْ يُقَلِّدُهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَيْضًا فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ النَّفْعُ بِهَا فَكَانَتْ بَيِّنَاتٍ وَاضِحَةً فِي حَقِّهِمْ. وَالْوَاوُ فِي وَالَّذِي فَطَرَنا وَاوُ عَطْفٍ عَلَى مَا جاءَنا أَيْ وعلى الَّذِي فَطَرَنا لَمَّا لَاحَتْ لَهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي الْمُعْجِزَةِ بدؤوا بِهَا ثُمَّ تَرَقَّوْا إِلَى الْقَادِرِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرُوا وَصْفَ الِاخْتِرَاعِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ الَّذِي فَطَرَنا تَبْيِينًا لِعَجْزِ فِرْعَوْنَ وَتَكْذِيبِهِ فِي ادِّعَاءِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَاهِيَّتِهِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ صَرْفِ ذُبَابَةٍ فَضْلًا عَنِ اخْتِرَاعِهَا. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْقَسَمِ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، وَلَا يَكُونُ لَنْ نُؤْثِرَكَ جَوَابًا لِأَنَّهُ لَا يُجَابُ فِي النَّفْيِ بلن إِلَّا فِي شَاذٍّ مِنَ الشعر وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَصِلَتُهُ أَنْتَ قاضٍ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا أَنْتَ قَاضِيهِ. قِيلَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً لِأَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ تُوصَلُ بِالْأَفْعَالِ، وَهَذِهِ مَوْصُولَةٌ بِابْتِدَاءٍ وَخَبَرٍ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَلْ قَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ مِنَ النُّحَاةِ إِلَى أَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ تُوصَلُ بِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ. وَانْتَصَبَ هذِهِ الْحَياةَ عَلَى الظَّرْفِ وَمَا مُهَيِّئَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ إِنَّ قَضَاءَكَ كَائِنٌ فِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا لَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ فِي الْآخِرَةِ لَنَا النَّعِيمُ وَلَكَ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَقْضِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ تُقْضَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ هَذِهِ الْحَيَاةُ بِالرَّفْعِ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ فَأَجْرَى مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ، ثُمَّ بُنِيَ الْفِعْلُ لِذَلِكَ وَرُفِعَ بِهِ كَمَا تَقُولُ: صِيمَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَوُلِدَ لَهُ سِتُّونَ عَامًا. وَلَمْ يُصَرَّحْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَنْفَذَ فِيهِمْ وَعِيدَهُ وَلَا أَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى

سَلَّمَهُمْ مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «1» وَقِيلَ: أَنْفَذَ فِيهِمْ وَعِيدَهُ وَصَلَبَهُمْ عَلَى الْجُذُوعِ وَإِكْرَاهُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى السِّحْرِ. قِيلَ: حَمَلَهُمْ عَلَى مُعَارَضَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: كَانَ يَأْخُذُ وِلْدَانَ النَّاسِ وَيُجَرِّبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَشَارَتِ السَّحَرَةُ إِلَى ذَلِكَ قَالَهُ الْحَسَنُ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أَيْ وَثَوَابُ اللَّهِ وَمَا أَعَّدَهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَرِنَا مُوسَى نائما ففعل فوجده ويحرسه عَصَاهُ، فَقَالُوا: مَا هَذَا بِسِحْرٍ السَّاحِرُ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعَارِضُوهُ وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا عَدَمُ الْإِكْرَاهِ. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ- إِلَى- مَنْ تَزَكَّى قِيلَ هُوَ حِكَايَةٌ لَهُمْ عِظَةٌ لِفِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ تَنْبِيهًا عَلَى قُبْحِ مَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَحُسْنِ مَا فَعَلَ السَّحَرَةُ مَوْعِظَةً وَتَحْذِيرًا، وَالْمُجْرِمُ هُنَا الْكَافِرُ لِذِكْرِ مُقَابِلِهِ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً وَلِقَوْلِهِ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أَيْ يُعَذَّبُ عَذَابًا يَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْمَوْتِ ثُمَّ لَا يُجْهَزُ عَلَيْهِ فَيَسْتَرِيحُ، بَلْ يُعَادُ جِلْدُهُ وَيُجَدَّدُ عَذَابُهُ فَهُوَ لَا يَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَدْخُلُ النَّارَ فَهُمْ يُقَارِبُونَ الْمَوْتَ وَلَا يُجْهَزُ عَلَيْهِمْ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّهُمْ يَمُاتُونَ إِمَاتَةً» وَهَذَا هُوَ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يموت في الآخرة وتَزَكَّى تَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى. هَذَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقَالِ السَّحَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ، حَدَثَ فِيهَا لِمُوسَى وَفِرْعَوْنَ حَوَادِثُ، وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا انْقَضَى أَمْرُ السَّحَرَةِ وَغَلَبَ مُوسَى وَقَوِيَ أَمْرُهُ وَعَدَهُ فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَقَامَ مُوسَى عَلَى وَعْدِهِ حَتَّى غَدَرَهُ فِرْعَوْنُ وَنَكَثَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُهُمْ مَعَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ حِينَئِذٍ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ إِلَى آخِرِهَا كُلَّمَا جَاءَتْ آيَةٌ وَعَدَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ انْكِشَافِ الْعَذَابِ، فَإِذَا انْكَشَفَ نَكَثَ حَتَّى تَأْتِيَ أُخْرَى فلما كملت

_ (1) سورة القصص: 28/ 35.

الْآيَاتُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اللَّيْلِ سَارِيًا وَالسُّرَى مَسِيرُ اللَّيْلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تَكُونُ مُفَسِّرَةً وَأَنْ تَكُونَ الناصبة للمضارع وبِعِبادِي إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِقَوْلِهِ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيحَاءَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَبِأَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ كَانَ مُتَقَدِّمًا بِمِصْرَ عَلَى وَقْتِ اتِّبَاعِ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَقَوْمَهُ بِجُنُودِهِ. وَقِيلَ: كَانَ الْوَحْيُ بِالضَّرْبِ حِينَ قَارَبَ فِرْعَوْنُ لَحَاقَهُ وَقَوِيَ فَزَعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَضَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَسَارَ بِهِمْ مِنْ مِصْرَ يُرِيدُ بَحْرَ الْقُلْزُمِ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ فِرْعَوْنَ فَجَمَعَ جُنُودَهُ وَحَشَرَهُمْ وَنَهَضَ وَرَاءَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنْ يَقْصِدَ الْبَحْرَ فَجَزَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَرَأَوْا أَنَّ الْعَدُوَّ مِنْ وَرَائِهِمْ وَالْبَحْرَ مِنْ أَمَامِهِمْ وَمُوسَى يَثِقُ بِصُنْعِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ فِرْعَوْنُ قَدْ نَهَضُوا نَحْوَ الْبَحْرِ طَمِعَ فِيهِمْ وَكَانَ مَقْصِدُهُمْ إِلَى مَوْضِعٍ يَنْقَطِعُ فِيهِ الْفُحُوصُ وَالطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ. قِيلَ: وَكَانَ فِي خَيْلِ فِرْعَوْنَ سَبْعُونَ أَلْفَ أَدْهَمَ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَلْوَانِ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَضَرَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَحْرَ فَانْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً طُرُقًا وَاسِعَةً بَيْنَهَا حِيطَانُ الْمَاءِ وَاقِفَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ طَرِيقٌ وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً انْتَهَى. وَقَدْ يُرَادُ بِقَوْلِهِ طَرِيقاً الْجِنْسُ فَدَخَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحَ الصَّبَا فَجَفَّفَتْ تِلْكَ الطُّرُقَ حَتَّى يَبِسَتْ وَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَصَلَ فِرْعَوْنُ إِلَى الْمَدْخَلِ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ فِي الْبَحْرِ فَرَأَى الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَجَزَعَ قَوْمُهُ وَاسْتَعْظَمُوا الْأَمْرَ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّمَا انْفَلَقَ مِنْ هَيْبَتِي وَتَقَدَّمَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ اضْرِبْ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ مَسِّ الْعَصَا البحر بِقُوَّةٍ، وَتَحَامُلٍ عَلَى الْعَصَا وَيُوَضِّحُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «2» فَالْمَعْنَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ لِيَنْفَلِقَ لَهُمْ فَيَصِيرَ طَرِيقًا فَتَعَدَّى إِلَى الطَّرِيقِ بِدُخُولِ هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا كَانَ الطَّرِيقُ مُتَسَبِّبًا عَنِ الضَّرْبِ جُعِلَ كَأَنَّهُ الْمَضْرُوبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فَاجْعَلْ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ لَهُ فِي مَالِهِ سَهْمًا، وَضَرَبَ اللَّبَنَ عَمِلَهُ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» . وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرِ الْمَضْرُوبَ حَقِيقَةً وَهُوَ الْبَحْرُ، وَلَوْ كَانَ صَرَّحَ بِالْمَضْرُوبِ حَقِيقَةً لَكَانَ التَّرْكِيبُ طَرِيقًا

_ (1) سورة الحجر: 15/ 29 وسورة ص: 38/ 72. (2) سورة الشعراء: 26/ 36. [.....]

فِيهِ، فَكَانَ يَعُودُ عَلَى البحر المضروب ويَبَساً مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الطَّرِيقُ وَصَفَهُ بِمَا آلَ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ حَالَةَ الضَّرْبِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْيُبْسِ بَلْ مَرَّتْ عَلَيْهِ الصَّبَا فَجَفَّفَتْهُ كَمَا رُوِيَ، وَيُقَالُ: يَبَسَ يُبْسًا وَيَبَسًا كَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ وَمِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا وُصِفَ بِهِ الْمُؤَنَّثُ قَالُوا: شَاةٌ يَبَسٌ وَنَاقَةٌ يَبَسٌ إِذَا جَفَّ لَبَنُهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ يَبْسًا بِسُكُونِ الْبَاءِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا كَالْعَامَّةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِسْكَانِ الْمَصْدَرَ وَبِالْفَتْحِ الِاسْمَ كَالنَّفْضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَخْلُو الْيَبَسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا عَنِ الْيَبْسِ أَوْ صِفَةً عَلَى فُعْلٍ أَوْ جَمْعَ يَابِسٍ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وُصِفَ بِهِ الْوَاحِدُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَمَعًا جِيَاعًا جَعَلَهُ لِفَرْطِ جُوعِهِ كَجَمَاعَةِ جِيَاعٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: يَابِسًا اسْمَ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَخَافُ وَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فَاضْرِبْ وَقِيلَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلطَّرِيقِ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ أَيْ لَا تَخَافُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَحَمْزَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تَخَفْ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَوْ عَلَى نَهْيٍ مُسْتَأْنَفٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ دَرْكًا بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا، وَالدَّرْكُ وَالدَّرَكُ اسْمَانِ مِنَ الْإِدْرَاكِ أَيْ لَا يُدْرِكُكَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَلَا يَلْحَقُونَكَ وَلا تَخْشى أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ غَرَقًا وَعَطْفُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَا تَخَافُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجَزْمِ فَخُرِّجَ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ جِيءَ بِهَا لِأَجْلِ أَوَاخِرِ الْآيِ فَاصِلَةً نَحْوَ قَوْلِهِ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «1» وَعَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ وَأَنْتَ لَا تَخْشى وَعَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... وَلَا تَرضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَتْبَعَهُمْ بِسُكُونِ التَّاءِ، وَأَتْبَعَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى تَبِعَ فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ «2» وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فَتَكُونُ التَّاءُ زَائِدَةً أَيْ جُنُودُهُ، أَوْ تَكُونُ لِلْحَالِ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ أَيْ رُؤَسَاؤُهُ وَحَشَمُهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ فَاتَّبَعَهُمْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَذَا عَنِ الْحَسَنِ فِي جَمِيعِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «3» وَالْبَاءُ فِي بِجُنُودِهِ فِي مَوْضِعِ الحال كَمَا تَقُولُ: خَرَجَ زَيْدٌ بِسِلَاحِهِ أَوِ الْبَاءِ لِلتَّعَدِّي لِمَفْعُولٍ ثَانٍ بِحَرْفِ جَرٍّ، إِذْ لَا يَتَعَدَّى اتَّبَعَ بِنَفْسِهِ إِلَّا إِلَى حَرْفٍ واحد.

_ (1) سورة الأحزاب: 133/ 67. (2) سورة الأعراف: 6/ 175. (3) سورة الصافات: 37/ 10.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ فَغَشَّاهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشَّاهُمْ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ فَالْفَاعِلُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَا وَفِي الثَّانِيَةِ الْفَاعِلُ اللَّهُ أَيْ فَغَشَّاهُمُ اللَّهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَّطَ جُنُودَهُ وَتَسَبَّبَ لِهَلَاكِهِمْ. وَقَالَ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ بَابِ الِاخْتِصَارِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي تَسْتَقِلُّ مَعَ قِلَّتِهَا بِالْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، أَيْ غَشِيَهُمْ مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا غَشِيَهُمْ إِبْهَامٌ أَهَوَلُ مِنَ النَّصِّ عَلَى قَدْرِ مَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي غَشِيَهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَالثَّانِي عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَقْدِيرُهُ فَنَجَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وقرىء وَجُنُودُهُ عَطْفًا عَلَى فِرْعَوْنَ. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أَيْ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ إِلَى هَذِهِ النِّهَايَةِ وَيَعْنِي الضَّلَالَ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: أَضَلَّهُمْ فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُمْ غَرِقُوا فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي عَلَى مَذْهَبِهِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الضَّلَالُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ بَلْ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَضَلَّهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقًا لِلْكُفْرِ لِأَنَّ مَنْ ذَمَّ غَيْرَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَذْمُومُ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِلَّا اسْتَحَقَّ الذَّامُّ الذَّمَّ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَما هَدى أَيْ مَا هَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ، أَوْ مَا نَجَا مِنَ الْغَرَقِ، أَوْ مَا اهْتَدَى فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ هَدى قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى اهتدى. يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ نِعَمِهِ وَبَدَأَ بِإِزَالَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ مِنَ الْإِذْلَالِ وَالْخَرَاجِ وَالذَّبْحِ وَهِيَ آكَدُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأَنَّ إِزَالَةَ الضَّرَرِ أَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ مِنْ إِيصَالِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَنْفَعَةِ الدِّينِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ إِذْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى كِتَابًا فِيهِ بَيَانُ دِينِهِمْ وَشَرْحُ شَرِيعَتِهِمْ، ثُمَّ يَذْكُرُ الْمَنْفَعَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ نَجَا مَعَ مُوسَى بَعْدَ إِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِرَاضًا فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى تَوْبِيخًا لَهُمْ إِذْ لَمْ يَصْبِرْ سَلَفُهُمْ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَنْجَيْنَا آبَاءَكُمْ مِنْ تَعْذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَخَاطَبَ الجميع

_ (1) سورة النجم: 53/ 16.

بِوَاعَدْنَاكُمْ وَإِنْ كَانَ الْمَوْعُودُونَ هُمُ السَبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ سَمَاعَ أُولَئِكَ السَبْعِينَ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ إِذْ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ وَتَسْكُنُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَعَلَى وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى «1» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ: قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ وَوَاعَدْتُكُمْ مَا رَزَقَتْكُمْ بِتَاءِ الضَّمِيرِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَحُمَيدٌ نَجَّيْنَاكُمْ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ قَبْلَهَا وَبِنُونَ الْعَظَمَةِ وَتَقَدَّمَ خِلَافُ أَبِي عَمْرٍو وَفِي وَاعَدَ فِي الْبَقَرَةِ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا الْحَلَالُ اللَّذِيذُ لأنه جمع الوصفين. وقرىء الْأَيْمَنَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ نَحْوَ جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ انْتَهَى. وَهَذَا مِنَ الشُّذُوذِ وَالْقِلَّةِ بِحَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُخَرَّجَ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَعْتٌ لِلطُّورِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْيُمْنِ وَأَمَّا لِكَوْنِهِ عَلَى يَمِينِ مَنْ يَسْتَقْبِلُ الْجَبَلَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ فِيمَا رَزَقَهُمْ وَهُوَ أَنْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِيهَا بِأَنْ يَكْفُرُوهَا وَيَشْغَلَهُمُ اللَّهْوُ وَالنِّعَمُ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، وَأَنْ يُنْفِقُوهَا فِي الْمَعَاصِي وَيَمْنَعُوا الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ فِيهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَلَا تَطْغُوا فِيهِ بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ لَا يَظْلِمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ يَعْنِي بِغَيْرِ حَقٍّ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ: لَا تُجَاوِزُوا حَدَّ الْإِبَاحَةِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ أَيْ لَا تَسْتَعِينُوا بِنِعْمَتِي عَلَى مُخَالَفَتِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَحِلَّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَمَنْ يَحْلِلْ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ فَيَجِبُ وَيَلْحَقُ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَلَامِ يَحْلُلْ أَيْ يَنْزِلُ وَهِيَ قِرَاءَةُ قَتَادَةَ وَأَبِي حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ وَوَافَقَ ابْنُ عُتَيْبَةَ فِي يَحْلُلُ فَضَمَّ، وَفِي الْإِقْنَاعِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ مَا نَصَّهُ ابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ لَا يَحِلَّنَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بِلَامٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا لِلطُّغْيَانِ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي مِنْ بَابِ لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ قَتَادَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَابْنُ وَثَّابِ وَالْأَعْمَشُ فَيُحِلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الْإِحْلَالِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ مِنْ حَلَّ بِنَفْسِهِ، وَالْفَاعِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ تُرِكَ لِشُهْرَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ فَيَحِلُّ بِهِ طُغْيَانُكُمْ غَضَبِي عَلَيْكُمْ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَلا تَطْغَوْا فَيَصِيرُ غَضَبِي فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى غَضَبِي فَيَصِيرُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِفِعْلِهِ، وَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ الْمَفْعُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَذَابُ أَوْ نَحْوُهُ انْتَهَى. فَقَدْ هَوى كَنَّى بِهِ عَنِ الهلاك،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 57.

وَأَصْلُهُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ جَبَلٍ فَيَهْلِكَ يُقَالُ هَوَى الرَّجُلُ أَيْ سَقَطَ، وَيُشْبِهُ الَّذِي يَقَعُ فِي وَرْطَةٍ بعد أن بِنَجْوَةٍ مِنْهَا بِالسَّاقِطِ، أَوْ هَوى فِي جَهَنَّمَ وَفِي سُخْطِ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ عُقُوبَاتُهُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالنُّزُولِ. وَلَمَّا حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ الطُّغْيَانِ فِيمَا رَزَقَ وَحَذَّرَ مِنْ حُلُولِ غَضَبِهِ فَتَحَ بَابَ الرَّجَاءِ لِلتَّائِبِينَ وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ أَيْ وَحَّدَ اللَّهَ وَعَمِلَ صالِحاً أَدَّى الْفَرَائِضَ ثُمَّ اهْتَدى لَزِمَ الْهِدَايَةَ وَأَدَامَهَا إِلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يَشُكَّ فِي إِيمَانِهِ. وَقِيلَ: ثُمَّ اسْتَقَامَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَقْوَى فِي مَعْنَى ثُمَّ اهْتَدى أَنْ يَكُونَ ثُمَّ حَفِظَ مُعْتَقَدَاتِهِ مِنْ أَنْ يُخَالِفَ الْحَقَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ الِاهْتِدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَغَيْرُ الْعَمَلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاهْتِدَاءُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْهُدَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ التَّوْبَةُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَنَحْوُهُ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «1» وَكَلِمَةُ التَّرَاخِي دَلَّتْ عَلَى تَبَايُنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ دَلَالَتَهَا عَلَى تَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عُمَرُ، وَأَعْنِي أَنَّ مَنْزِلَةَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْخَبَرِ مُبَايِنَةٌ لِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا أَعْلَى مِنْهُ وَأَفْضَلُ. وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. لَمَّا نَهَضَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ حَيْثُ كَانَ الْمَوْعِدُ أَنْ يُكَلِّمَ اللَّهُ مُوسَى بِمَا فِيهِ شَرَفُ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، رَأَى عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يُقْدِمَ وَحْدَهُ مُبَادِرًا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَحِرْصًا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ وَشَوْقًا إِلَى مُنَاجَاتِهِ، وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: تَسِيرُونَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ فَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَاجَى رَبَّهُ، زَادَهُ فِي الْأَجَلِ عَشْرًا وَحِينَئِذٍ وَقَفَهُ عَلَى اسْتِعْجَالِهِ دُونَ الْقَوْمِ لِيُخْبِرَهُ مُوسَى أَنَّهُمْ عَلَى الْأَثَرِ فَيَقَعُ الْإِعْلَامُ لَهُ بِمَا صَنَعُوا وَما اسْتِفْهَامٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ عَجَّلَ بِكَ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 30، وسورة الأحقاف: 46/ 13.

عَنْهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ قَدْ مَضَى مَعَ النُّقَبَاءِ إِلَى الطُّورِ عَلَى الْمَوْعِدِ الْمَضْرُوبِ ثُمَّ تَقَدَّمَهُمْ شَوْقًا إِلَى كَلَامِ رَبِّهِ وَيُنْجِزُ مَا وَعَدَ بِهِ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى رِضَا اللَّهِ، وَزَالَ عَنْهُ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَقَّتَ أَفْعَالَهُ إِلَّا نَظَرًا إِلَى دَوَاعِي الْحِكْمَةِ وَعِلْمًا بِالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكُلِّ وَقْتٍ، فَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ النُّقَبَاءُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ قَوْمِكَ يُرِيدُ بِهِ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ لَا السَبْعِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ يَقُولُ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ قَوْمِهِ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ فَارَقَهُمْ قَبْلَ الْمِيعَادِ وَجْهٌ صَحِيحٌ مَا يَأْبَاهُ قَوْلُهُ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي انْتَهَى. وَما أَعْجَلَكَ سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ وَأَجَابَ بِقَوْلِهِ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما أَعْجَلَكَ تَضَمَّنَ تَأَخُّرَ قَوْمِهِ عَنْهُ، فَأَجَابَ مُشِيرًا إِلَيْهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ إِنَّهُمْ عَلَى أَثَرِهِ جَائِينَ لِلْمَوْعِدِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَجِيئُوا لِلْمَوْعِدِ. ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الْعَجَلَةِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى مِنْ طَلَبِهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِي السَّبْقِ إِلَى مَا وَعَدَهُ رَبُّهُ وَمَعْنَى إِلَيْكَ إِلَى مَكَانِ وعدك ولِتَرْضى أَيْ لِيَدُومَ رِضَاكَ وَيَسْتَمِرَّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَنْهُ رَاضِيًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما أَعْجَلَكَ سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ، فَكَانَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: طَلَبَ زِيَادَةَ رِضَاكَ وَالشَّوْقِ إِلَى كَلَامِكَ وَيُنْجِزُ مَوْعِدَكَ وَقَوْلُهُ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي كَمَا تَرَى غَيْرُ مُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ تَضَمَّنَ مَا وَاجَهَهُ بِهِ رَبُّ الْعِزَّةِ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إِنْكَارُ الْعَجَلَةِ فِي نَفْسِهَا، وَالثَّانِي السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ الْمُسْتَنْكَرِ وَالْحَامِلِ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَهَمُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَى مُوسَى بَسْطَ الْعُذْرِ وَتَمْهِيدَ الْعِلَّةِ فِي نَفْسِ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَاعْتَلَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنِّي إِلَّا تَقَدُّمٌ يَسِيرٌ مِثْلُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ سَبَقْتُهُ إِلَّا مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ يَتَقَدَّمُ بِمِثْلِهَا الْوَفْدُ رَأَسُهُمْ وَمُقَدَّمُهُمْ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِجَوَابِ السُّؤَالِ عَنِ السَّبَبِ فَقَالَ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَارَ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ التَّهَيُّبِ لِعِتَابِ اللَّهِ فَأَذْهَلَهُ ذَلِكَ عَنِ الْجَوَابِ الْمُنْطَبِقِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى حُدُودِ الْكَلَامِ انْتَهَى. وَفِيهِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أُولَائِي بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَعِيسَى فِي رِوَايَةٍ أُولاءِ بِالْقَصْرِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أُولَايَ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ. وَقَرَأَ عِيسَى وَيَعْقُوبُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ إِثْرِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أُثْرِي بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَتُرْوَى عَنْ عِيسَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُولاءِ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ عَلَى أَثَرِي

بفتح الهمز والثاء وعَلى أَثَرِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ بِمَا فَعَلَ السَّامِرِيُّ أَوْ أَلْقَيْنَاهُمْ فِي فِتْنَةٍ أَيْ مَيْلٍ مَعَ الشَّهَوَاتِ وَوُقُوعٍ فِي اخْتِلَافٍ مِنْ بَعْدِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ فِرَاقِكَ لَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ بِالْقَوْمِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مَعَ هَارُونَ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ مَا نَجَا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فَإِنْ قُلْتَ: فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَحَسَبُوا أَرْبَعِينَ مَعَ أَيَّامِهَا، وَقَالُوا قَدْ أَكْمَلْنَا الْعِدَّةَ ثُمَّ كَانَ أَمْرُ الْعِجْلِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عِنْدَ مَقْدَمِهِ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قُلْتُ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْفِتْنَةِ الْمُتَرَقِّبَةِ بِلَفْظِ الْمَوْجُودَةِ الْكَائِنَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَافْتَرَضَ السَّامِرِيُّ غَيْبَتَهُ فَعَزَمَ عَلَى إِضْلَالِهِمْ غَبَّ انْطِلَاقِهِ. وَأَخَذَ فِي تَدْبِيرِ ذَلِكَ فَكَانَ بَدْءُ الْفِتْنَةِ مَوْجُودًا انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَضَلَّهُمُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ أَبُو مُعَاذٍ وَفِرْقَةٌ وَأَضَلُّهُمْ بِرَفْعِ اللَّامِ مُبْتَدَأٌ وَالسَّامِرِيُّ خَبَرُهُ وَكَانَ أَشَدَّهُمْ ضَلَالًا لِأَنَّهُ ضَالٌّ في نفسه مصل غَيْرَهُ. وَفِي الْقِرَاءَةِ الشُّهْرَى أَسْنَدَ الضَّلَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي ضَلَالِهِمْ، وَأَسْنَدَ الْفِتْنَةَ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خلقها في قلوبهم. والسَّامِرِيُّ قِيلَ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظُفَرَ. وَقِيلَ: مَنْجَا وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ مُوسَى أَوِ ابْنُ عَمِّهِ أَوْ عَظِيمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسَّامِرَةِ، أَوْ عِلْجٌ مِنْ كِرْمَانَ، أَوْ مِنْ بَاجِرْمَا أَوْ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ مِنَ الْقِبْطِ آمَنَ بِمُوسَى وَخَرَجَ مَعَهُ، وَكَانَ جَارَهُ أَوْ مِنْ عُبَّادِ الْبَقَرِ وَقَعَ فِي مِصْرَ فَدَخَلَ فِي بَنِي اسْرَائِيلَ بِظَاهِرِهِ وَفِي قَلْبِهِ عبادة البقر أقوال. وتقدم فِي الْأَعْرَافِ كَيْفِيَّةُ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ وَقَبْلَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ وذلك بعد ما اسْتَوْفَى الْأَرْبَعِينَ وَانْتَصَبَ غَضْبانَ أَسِفاً عَلَى الْحَالِ، وَالْأَسَفُ أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَقِيلَ: الْحُزْنُ وَغَضَبُهُ مِنْ حَيْثُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَغْيِيرِ مُنَكَرِهِمْ، وَأَسَفُهُ وَهُوَ حُزْنُهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْضِعُ عُقُوبَةٍ لَا يَدَ لَهُ بدفعها وَلَا بُدَّ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَسَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَتَى كَانَ مِنْ ذِي قُدْرَةٍ عَلَى مَنْ دُونَهُ فَهُوَ غَضَبٌ، وَمَتَى كَانَ مِنَ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَقْوَى فَهُوَ حُزْنٌ، وَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مُطَّرِدٌ، ثُمَّ أَخَذَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُوَبِّخُهُمْ عَلَى إِضْلَالِهِمْ وَالْوَعْدِ الْحَسَنِ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفُتُوحِ فِي الْأَرْضِ وَالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَدَهَمُ اللَّهُ بعد ما اسْتَوْفَى الْأَرْبَعِينَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ التَّوْرَاةَ الَّتِي فِيهَا

هُدًى وَنُورٌ، وَلَا وَعْدٌ أَحْسَنُ مِنْ ذَاكَ وَأَجْمَلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَعْدُ الْحَسَنُ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: أَنْ يُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ وَالْعَهْدُ الزَّمَانُ، يُرِيدُ مُفَارَقَتَهُ لَهُمْ يُقَالُ طَالَ عَهْدِي بِكَذَا أَيْ طَالَ زَمَانِي بِسَبَبِ مُفَارَقَتِكَ، وَعَدُوهُ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى أَمْرِهِ وَمَا تَرَكَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ فَأَخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِيَعِدُكُمْ مَحْذُوفٌ أَوْ أَطْلَقَ الْوَعْدَ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْعُودُ فَيَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ وَفِي قَوْلِهِ أَفَطالَ إِلَى آخِرِهِ تَوْقِيفٌ عَلَى أَعْذَارٍ لَمْ تَكُنْ وَلَا تَصِحُّ لَهُمْ وَهُوَ طُولُ الْعَهْدِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ خُلْفٌ فِي الْمَوْعِدِ وَإِرَادَةُ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّهُمْ عَمِلُوا عَمَلَ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ. وَسُمِّيَ الْعَذَابُ غَضَبًا مِنْ حيث هو ناشىء عَنِ الْغَضَبِ فَإِنْ جُعِلَ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ فَصِفَةُ ذَاتٍ أَوْ عَنْ ظُهُورِ النِّقْمَةِ والعذاب فصفة فعل. ومَوْعِدِي مصدر يحتمل أن يضاف إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ أَوَجَدْتُمُونِي أَخْلَفْتُ مَا وَعَدْتُكُمْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ أَخْلَفَ وَعْدَ فُلَانٍ إِذَا وَجَدَهُ وَقْعُ فِيهِ الْخُلْفُ قَالَهُ الْمُفَضَّلُ، وَأَنْ يُضَافَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَكَانُوا وَعَدُوهُ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ وَسُنَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يُخَالِفُوا أَمْرَ اللَّهِ أَبَدًا فَأَخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَعْنَبٌ بِمُلْكِنَا بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ سَعْدَانَ بِفَتْحِهَا وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَلَكِنِا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَحَقِيقَتُهُ بِسُلْطَانِنَا، فَالْمَلْكُ وَالْمُلْكُ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ وَالنُّقْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لُغَاتٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَفَرَّقَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ مَعَانِيهَا فَمَعْنَى الضَّمِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مُلْكٌ فَنُخْلِفَ مَوْعِدَكَ بِسُلْطَانِهِ وَإِنَّمَا أَخْلَفْنَاهُ بِنَظَرٍ أَدَّى إِلَيْهِ مَا فَعَلَ السَّامِرِيُّ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ لَهُمْ مُلْكًا وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: لَا يَشْتَكِي سَقْطٌ مِنْهَا وَقَدْ رَقَصَتْ ... بِهَا الْمَفَاوِزُ حَتَّى ظَهْرُهَا حَدِبُ أَيْ لَا يَكُونُ مِنْهَا سَقْطَةٌ فَتَشْتَكِيَ، وَفَتْحُ الْمِيمِ مَصْدَرٌ مِنْ مَلَكَ وَالْمَعْنَى مَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَنَّا مَلَكْنَا الصَّوَابَ وَلَا وَقَفْنَا لَهُ، بَلْ غَلَبَتْنَا أَنْفُسُنَا وَكَسْرُ الْمِيمِ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا تَحُوزُهُ الْيَدُ وَلَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُبْرِمُهَا الْإِنْسَانُ وَمَعْنَاهَا كَمَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَصْدَرُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أي بِمَلْكِنا الصَّوَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِأَنْ مَلَكْنَا أَمْرَنَا أَيْ لَوْ مَلَكْنَا أَمَرْنَا وَخَلَّيْنَا وَرَأَيْنَا لَمَا أَخْلَفْنَاهُ، وَلَكِنْ غُلِبْنَا مِنْ جِهَةِ السَّامِرِيِّ وَكَيْدِهِ.

وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ وَأَبُو رَجَاءٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَحُمَيدٌ وَيَعْقُوبُ غَيْرَ رَوْحٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا الْمِيمَ، وَالْأَوْزَارُ الْأَثْقَالُ أَطْلَقَ عَلَى مَا كَانُوا اسْتَعَارُوا مِنْ لَقِيطٍ بِرَسْمِ التَّزَيُّنِ أَوْزَارًا لِثِقَلِهَا، أَوْ لِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَثِمُوا فِي ذَلِكَ فَسُمِّيَتْ أَوْزَارًا لَمَّا حَصَلَتِ الْأَوْزَارُ الَّتِي هِيَ الْآثَامُ بِسَبَبِهَا. وَالْقَوْمُ هُنَا الْقِبْطُ. وَقِيلَ: أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ مِمَّا كَانَ عَلَى الَّذِينَ غَرِقُوا. وَقِيلَ: الْأَوْزَارُ الَّتِي هِيَ الْآثَامُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، وَمَعْنَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْآثَامَ وَقَذَفُوهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ كَمَا جَاؤُهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ. وقيل معنى فَقَذَفْناها أَيِ الْحُلِيَّ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا. وَقِيلَ فَقَذَفْناها فِي النَّارِ أَيْ ذَلِكَ الْحُلِيَّ، وَكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ السَّامِرِيُّ فَحُفِرَتْ حُفْرَةً وَسُجِّرَتْ فِيهَا النَّارُ وَقَذَفَ كُلُّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقَذَفَ السَّامِرِيُّ مَا مَعَهُ. وَمَعْنَى فَكَذلِكَ أَيْ مِثْلُ قَذْفِنَا إِيَّاهَا أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا كَانَ مَعَهُ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ الْعِجْلَ لَمْ يَصْنَعْهُ السَّامِرِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أَرَاهُمْ أَنَّهُ يُلْقِي حُلِيًّا فِي يَدِهِ مِثْلَ مَا أَلْقَوْا وَإِنَّمَا أَلْقَى التُّرْبَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ موطىء حَيْزُومِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْحَى إِلَيْهِ وَلَيُّهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهَا إِذَا خَالَطَتْ مَوَاتًا صَارَ حَيَوَانًا فَأَخْرَجَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ مِنَ الْحُفْرَةِ عِجْلًا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُلِيِّ الَّتِي سَبَكَتْهَا النَّارُ تَخُورُ كَخَوْرِ الْعَجَاجِيلِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ هُوَ خَلْقُ الْعِجْلِ لِلِامْتِحَانِ أَيِ امْتَحَنَّاهُمْ بِخَلْقِ الْعِجْلِ وَحَمَلَهُمُ السَّامِرِيُّ عَلَى الضَّلَالِ وَأَوْقَعَهُمْ فِيهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى انْتَهَى. وَقِيلَ: مَعْنَى جَسَداً شَخْصًا. وَقِيلَ: لَا يَتَغَذَّى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ لَهُ خُوارٌ فِي الْأَعْرَافِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَقالُوا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ ضَلُّوا حِينَ قَالَ كِبَارُهُمْ لصغارهم وهذا إِشَارَةٌ إِلَى الْعِجْلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَقالُوا عَائِدٌ عَلَى السَّامِرِيِّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لِجُرْمِهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ وَعَلَى تَابِعِيهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فَنَسِي بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَنَسِيَ عَائِدٌ عَلَى السَّامِرِيِّ أَيْ فَنَسِيَ إِسْلَامَهُ وَإِيمَانَهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ فَتَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ قَالَهُ مَكْحُولٌ، وَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ فَنَسِيَ أَنَّ الْعِجْلَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وفَنَسِيَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَحُلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحُلُّ فِيهِ شَيْءٌ وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ فَنَسِيَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ عَنْ السَّامِرِيِّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ

[سورة طه (20) : الآيات 90 إلى 135]

السَّلَامُ أَيْ فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَذْكُرَ لَكُمْ أَنَّ هَذَا إِلَهُكُمْ أَوْ فَنَسِيَ الطَّرِيقَ إِلَى رَبِّهِ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ فَنَسِيَ مُوسَى إِلَهَهُ عِنْدَكُمْ وَخَالَفَهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ السَّامِرِيِّ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ اعْتِقَادِهِمْ بِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ لَا تَصْلُحُ لِمَنْ سُلِبَتْ عَنْهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ فَقَالَ: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَهَذَا كَقَوْلِ إبراهيم لِأَبِيهِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ «1» وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهَا أَنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ كَمَا جَاءَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ «2» بِأَنَّ الثَّقِيلَةَ وَبِرَفْعِ يَرْجِعُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ أَلَّا يَرْجِعُ بِنَصْبِ الْعَيْنِ قَالَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَفِي الْكَامِلِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى نَصْبِ وَلا يَمْلِكُ الزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ صُبَيْحٍ وَأَبَانُ وَالشَّافِعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْإِمَامُ الْمُطَّلِبِيُّ جَعَلُوهَا أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ مِنَ الإبصار. [سورة طه (20) : الآيات 90 الى 135] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (106) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)

_ (1) سورة مريم: 19/ 43. (2) سورة الأعراف: 7/ 148.

اللِّحْيَةُ مَعْرُوفَةٌ وَتُجْمَعُ عَلَى لِحًى بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّهَا. نَسَفَ يَنْسِفُ: بِكَسْرِ سِينِ الْمُضَارِعِ وَضَمِّهَا نَسْفًا فَرَّقَ وَذَرَى. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: قَلَعَ مِنَ الْأَصْلِ. الزُّرْقَةُ: لَوْنٌ مَعْرُوفٌ، يُقَالُ: زَرَقَتْ عَيْنُهُ وَازْرَقَّتْ وَازْرَاقَتْ، الْقَاعُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا بِنَاءَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ: لَيَكُونَنَّ بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ ... فَقُعَّةُ الْقَاعِ فِي أَكُفِّ الْإِمَاءِ وَالْجَمْعُ أَقْوُعٌ وَأَقْوَاعٌ وَقِيعَانٌ. وَحَكَى مَكِّيٌّ أَنَّ الْقَاعَ فِي اللُّغَةِ الْمَكَانُ الْمُنْكَشِفُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْقَاعُ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ. الصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِي الْأَمْلَسُ. وَقِيلَ: الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَهُوَ مُضَاعَفٌ كَالسَّبْسَبِ. الْأَمْتُ: التَّلُّ. وَالْعِوَجُ: التَّعَوُّجُ فِي الْفِجَاجِ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. الْهَمْسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: وَطْءُ الْأَقْدَامِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا

وَيُقَالُ لِلْأَسَدِ الْهَمُوسُ لِخَفَاءِ وَطْئِهِ، وَيُقَالُ هَمْسُ الطَّعَامِ مَضْغُهُ. عَنَا يَعْنُو: ذَلَّ وَخَضَعَ، وَأَعَنَاهُ غَيْرُهُ أَذَلَّهُ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ الْهَضْمُ: النَّقْصُ تَقُولُ الْعَرَبُ: هَضَمْتُ لَكَ حَقِّي أَيْ حَطَطْتُ مِنْهُ، وَمِنْهُ هَضِيمُ الْكَشْحَيْنِ أَيْ ضَامِرْهُمَا وَفِي الصِّحَاحِ: رَجُلٌ هَضِيمٌ وَمُتَهَضِّمٌ مَظْلُومٌ وَتَهَضَّمُهُ وَاهْتَضَمَهُ ظَلَمَهُ. وَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ: إِنَّ الْأَذِلَّةَ وَاللِّئَامَ لمعشر ... مولاهم المتهضم الْمَظْلُومُ عَرَى يَعْرَى لَمْ يَكُنْ عَلَى جِلْدِهِ شَيْءٌ يَقِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَنْ يَعْرَيْنَ إِنْ كُسِيَ الْجَوَارِي ... فَتَنْبُو الْعَيْنُ عَنْ كَرَمٍ عِجَافِ ضَحَى يَضْحَى: بَرَزَ لِلشَّمْسِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: رَأَتْ رَجُلًا أيما إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَحْضُرُ الضَّنْكُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، ضَنُكَ عِيشَةً يَضْنُكُ ضَنَاكَةً وَضَنْكًا، وَامْرَأَةٌ ضَنَاكٌ كَثِيرَةُ اللَّحْمِ صَارَ جِلْدُهَا بِهِ. زَهْرَةَ: بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا نَحْوَ نَهْرٍ وَنَهَرٍ مَا يَرُوقُ مِنَ النَّوْرِ، وَسِرَاجٌ زَاهِرٌ لَهُ بَرِيقٌ، وَالْأَنْجُمُ الزَّهْرُ الْمُضِيئَةُ، وَأَزْهَرَ الشَّجَرُ بَدَا زَهْرُهُ وَهُوَ النَّوْرُ. وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً. أَشْفَقَ هَارُونُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِمْ وَبَذَلَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ إِنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ إِذْ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْ

أَخِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي «1» الْآيَةَ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ أَخِيهِ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى يُوشَعٍ إِنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِكَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَقَالَ: يَا رَبِّ فَمَا بَالُ الْأَخْيَارِ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ لم تغضبوا لِغَضَبِي ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَقْطُوعُ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ مَا قَالَ، كَأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ أَبْصَارُهُمْ حِينَ طَلَعَ مِنَ الْحُفْرَةِ افْتَتَنُوا بِهِ وَاسْتَحْسَنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ السَّامِرِيُّ بَادَرَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ هَارُونَ قَدْ كَانَ قَالَ لَهُمْ فِي أَوَّلِ حَالِ الْعِجْلِ إِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ وَبَلَاءٌ وَتَمْوِيهٌ مِنَ السَّامِرِيِّ، وَإِنَّمَا رَبُّكُمُ الرَّحْمَنُ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ فَاتَّبِعُونِي إِلَى الطُّورِ الَّذِي وَاعَدَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَأَطِيعُوا أَمْرِي فِيمَا ذَكَرْتُهُ لَكُمْ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْعِجْلِ، زَجَرَهُمْ أَوَّلًا هَارُونُ عَنِ الْبَاطِلِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَذَكَرَ وَصْفَ الرَّحْمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ مَتَى تَابُوا قَبِلَهُمْ وَتَذْكِيرًا لِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ زَمَانَ لَمْ يُوجَدِ الْعِجْلُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ وَيُطَاعَ أَمْرُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَأَنَّ رَبَّكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهَا فِي مَوْضِعِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره والأمر إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَقَدَّرَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَلِأَنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَنَمَا وَأَنَّ رَبَّكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ وَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى لُغَةِ سُلَيْمٍ حَيْثُ يَفْتَحُونَ أَنَّ بَعْدَ الْقَوْلِ مُطْلَقًا. وَلَمَّا وَعَظَهُمْ هَارُونُ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مَا فِيهِ رُشْدُهُمُ اتَّبَعُوا سَبِيلَ الْغَيِّ وقالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَى عِبَادَتِهِ مُقِيمِينَ مُلَازِمِينَ لَهُ، وَغَيُّوا ذَلِكَ بِرُجُوعِ مُوسَى وَفِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ رُجُوعِهِمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَأَخَذَ بِتَقْلِيدِهِمُ السَّامِرِيُّ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَنْ لَا تقتضي التأبيد خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ مَوْضُوعِهَا التَّأْبِيدُ لَمَا جَازَتِ التَّغْيِيَةُ بِحَتَّى لِأَنَّ التَّغْيِيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الشَّيْءُ مُحْتَمَلًا فَيُزِيلُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ بِالتَّغْيِيَةِ. وَقَبْلَ قَوْلِهِ قالَ يا هارُونُ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَرَجَعَ مُوسَى وَوَجَدَهُمْ عَاكِفِينَ عَلَى عبادة العجل قالَ يا هارُونُ وَكَانَ ظُهُورُ الْعِجْلِ فِي سَادِسِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَعَبَدُوهُ وجاءهم

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 142.

مُوسَى بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ، فَعَتَبَ مُوسَى عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِهِ لَمَّا رَآهُمْ قَدْ ضلوا وَلَا زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى دَخَلَتْ لَا هُنَا لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي، وَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي يُرِيدُ قَوْلَهُ اخْلُفْنِي «2» الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتَّبِعَنِي فِي الْغَضَبِ لِلَّهِ وَشِدَّةِ الزَّجْرِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَهَلَّا قَاتَلَتْ مَنْ كفر بمن آمن وما لك لَمْ تُبَاشِرِ الْأَمْرَ كَمَا كُنْتُ أُبَاشِرُهُ أَنَا لَوْ كنت شاهدا، أو ما لك لَمْ تَلْحَقْنِي. وَفِي ذَلِكَ تَحْمِيلٌ لِلَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَتَكْثِيرٌ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ تَتَّبِعَنِي لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُهُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي إِلَى جَبَلِ الطُّورِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَجِيءُ اعتذار هارون بقوله نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ كَانَ لَا يَتَّبِعُهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ وَيَبْقَى عُبَّادُ الْعِجْلِ عَاكِفِينَ عَلَيْهِ كَمَا قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَتَّبِعَنِي تَسِيرُ بِسَيْرِي فِي الْإِصْلَاحِ وَالتَّسْدِيدِ، فَيَجِيءُ اعْتِذَارُهُ أَنَّ الْأَمْرَ تَفَاقَمَ فَلَوْ تَقَوَّيْتُ عَلَيْهِ تَقَاتَلُوا وَاخْتَلَفُوا فَكَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا لا ينت جُهْدِي. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْحِجَازِيُّ بِلَحْيَتِي بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَدِيدَ الْغَضَبِ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ، وَلَمَّا رَأَى قَوْمَهُ عَبَدُوا عِجْلًا مِنْ دُونِ اللَّهِ بَعْدَ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ أَقْبَلَ عَلَى أَخِيهِ قَابِضًا عَلَى شَعْرِ رَأْسِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ وَعَلَى شَعْرِ وَجْهِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ فَأَبْدَى عُذْرَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَاتَلَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَتّفَرَّقُوا وَتَفَانَوْا، فَانْتَظَرَتُكَ لِتَكُونَ المتدارك لَهُمْ، وَخَشِيتُ عِتَابَكَ عَلَى اطِّرَاحِ مَا وَصَّيْتَنِي بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ابْنَ أُمَّ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ أبو جعفر ولم ترقب بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ مُضَارِعُ أَرْقُبُ. وَلَمَّا اعْتَذَرَ لَهُ أَخُوهُ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي الضَّلَالِ وَهُوَ السَّامِرِيُّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْخَطْبِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَما خَطْبُكَ كَمَا تَقُولُ مَا شَأْنُكَ وَمَا أَمْرُكَ، لَكِنَّ لَفْظَةَ الْخَطْبِ تَقْتَضِي انْتِهَارًا لِأَنَّ الْخَطْبَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَكَارِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا نَحْسُكَ وَمَا شُؤْمُكَ، وَمَا هَذَا الْخَطْبُ الَّذِي جَاءَ مِنْ قِبَلَكَ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ قَالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ «3» وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لِمَلَائِكَةِ اللَّهِ فَلَيْسَ هَذَا يَقْتَضِي انْتِهَارًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَطْبٌ مَصْدَرُ خَطَبَ الأمر إذا طلبه،

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 12. (2) سورة الأعراف: 7/ 142. (3) سورة الحجر: 15/ 57.

فَإِذَا قِيلَ لِمَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مَا خَطْبُكَ، فَمَعْنَاهُ مَا طَلَبُكَ لَهُ انْتَهَى. وَمِنْهُ خِطْبَةُ النِّكَاحِ وَهُوَ طَلَبُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخِطَابِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ خَاطَبْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا خَاطَبْتَ وَفَعَلْتَ مَعَهُمْ مَا فَعَلْتَ قالَ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَلِمْتُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَصُرَ بِالشَّيْءِ إِذَا عَلِمَهُ وَأَبْصَرَ إِذَا نَظَرَ. وَقِيلَ: بَصَرَ بِهِ وَأَبْصَرَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو السَّمَّاكِ: بَصِرْتُ بِكَسْرِ الصاد بما لم تبصروا بِفَتْحِ الصَّادِ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بُصُرْتُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ بِمَا لَمْ تُبْصِرُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَصُرْتُ بِضَمِّ الصَّادِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَابْنُ سَعْدَانَ وَقَعْنَبٌ تَبْصُرُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ لِمُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ يَبْصُرُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فِيهِمَا أَيْ أَخَذْتُ بِكَفِّي مَعَ الْأَصَابِعِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأُبَيٌّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَحُمَيدٌ وَالْحَسَنُ بِالصَّادِ فِيهِمَا، وَهُوَ الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَقَتَادَةُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَأَدْغَمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ الضَّادَ الْمَنْقُوطَةَ فِي تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَبْقَى الْإِطْبَاقَ مَعَ تَشْدِيدِ التَّاءِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ الرَّسُولِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَقْدِيرُهُ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ وَكَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَثَرُ التُّرَابُ الَّذِي تَحْتَ حَافِرِهِ فَنَبَذْتُها أَيْ أَلْقَيْتُهَا عَلَى الْحُلِيِّ الَّذِي تَصَوَّرَ مِنْهُ الْعِجْلُ فَكَانَ مِنْهَا مَا رَأَيْتُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ رَأَى السَّامِرِيُّ جِبْرِيلَ يَوْمَ فُلِقَ الْبَحْرُ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَآهُ حِينَ ذَهَبَ مُوسَى إِلَى الطُّورِ وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَأَبْصَرَهُ دُونَ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سَمَّاهُ الرَّسُولِ دُونَ جِبْرِيلَ وَرُوحِ الْقُدُسِ؟ قُلْتُ: حِينَ حَلَّ مِيعَادُ الذِّهَابِ إِلَى الطُّورِ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى مُوسَى جِبْرِيلَ رَاكِبَ حَيْزُومَ فَرَسِ الْحَيَاةِ لِيَذْهَبَ بِهِ، فَأَبْصَرَهُ السَّامِرِيُّ فَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا فَقَبَضَ الْقَبْضَةَ مِنْ تُرْبَةِ مَوْطِئِهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ مُوسَى عَنْ قِصَّتِهِ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْكَ يَوْمَ حُلُولِ الْمِيعَادِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ جِبْرِيلُ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ مَعَ زِيَادَةٍ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَصْرِيحٌ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُنَا وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَثَرُهُ سُنَّتُهُ وَرَسْمُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: فُلَانٌ يَقْفُو أَثَرَ فُلَانٍ وَيَقْتَصُّ أَثَرَهُ إِذَا كَانَ يَمْتَثِلُ رَسْمَهُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ بِاللَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى إِضْلَالِ الْقَوْلِ فِي الْعِجْلِ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أَيْ عَرَفْتُ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَقَدْ كُنْتُ

قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَيْ شَيْئًا مِنْ دِينِكَ فَنَبَذْتُها أَيْ طَرَحْتُهَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ أُعْلِمَ مُوسَى بِمَا لَهُ مِنَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ لَفْظَ الْإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِرَئِيسِهِ وَهُوَ مُوَاجِهٌ لَهُ: مَا يَقُولُ الْأَمِيرُ فِي كَذَا أَوْ بِمَاذَا يَأْمُرُ الْأَمِيرُ، وَتَسْمِيَتُهُ رَسُولًا مَعَ جَحْدِهِ وَكُفْرِهِ، فَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ حَكَى اللَّهُ عنه قوله يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «1» فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْإِنْزَالِ قِيلَ: وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ الْمُفَسِّرِينَ. قِيلَ: وَيَبْعُدُ مَا قَالُوهُ أَنَّ جِبْرِيلَ لَيْسَ مَعْهُودًا بِاسْمِ رَسُولٍ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرٌ حَتَّى تَكُونَ اللَّامُ فِي الرَّسُولِ لِسَابِقٍ فِي الذِّكْرِ، وَلِأَنَّ مَا قَالُوهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ أَيْ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ السَّامِرِيِّ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ يَبْعُدُ جَدًّا، وَكَيْفَ عَرَفَ أَنَّ حَافِرَ فَرَسِهِ يُؤَثِّرُ هَذَا الْأَثَرَ الْغَرِيبَ الْعَجِيبَ مِنْ إِحْيَاءِ الْجَمَادِ بِهِ وَصَيْرُورَتِهِ لَحْمًا وَدَمًا؟ وَكَيْفَ عَرَفَ جِبْرِيلُ يَتَرَدَّدُ إِلَى نَبِيٍّ وَقَدْ عَرَفَ نُبُوَّتَهُ وَصَحَّتْ عِنْدَهُ فحاول الإضلال؟ ويكف اطَّلَعَ كَافِرٌ عَلَى تُرَابٍ هَذَا شَأْنُهُ؟ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّ مُوسَى اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ يُشْبِهُ هَذَا فَلِأَجْلِهِ أَتَى بِالْمُعْجِزَاتِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ قَادِحًا فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ انْتَهَى. مَا رُجِّحَ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أَيْ كَمَا حَدَثَ وَوَقَعَ قَرَّبَتْ لِي نفسي وجعلته لي سولا وَإِرْبًا حَتَّى فَعَلْتُهُ، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْتُلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا فِي حَدٍّ أَوْ وَحْيٍ، فَعَاقَبَهُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ بِأَنْ أَبْعَدَهُ وَنَحَّاهُ عَنِ النَّاسِ وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاجْتِنَابِهِ وَاجْتِنَابِ قَبِيلَتِهِ وَأَنْ لَا يُوَاكَلُوا وَلَا يُنَاكَحُوا، وَجَعَلَ لَهُ أَنْ يَقُولَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ لَا مِساسَ أَيْ لا مماسّة ولا إذاية. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عُوقِبَ فِي الدُّنْيَا بِعُقُوبَةٍ لَا شَيْءَ أَطَمُّ مِنْهَا وَأَوْحَشُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ مَنْعًا كُلِّيًّا، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مُلَاقَاتُهُ وَمُكَالَمَتُهُ وَمُبَايَعَتُهُ وَمُوَاجَهَتُهُ وَكُلُّ مَا يُعَايِشُ بِهِ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ يُمَاسَّ أَحَدًا رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً حُمَّ الْمَاسُّ وَالْمَمْسُوسُ فَتَحَامَى النَّاسُ وَتَحَامَوْهُ، وَكَانَ يَصِيحُ لَا مِساسَ وَيُقَالُ إِنَّ قَوْمَهُ بَاقٍ فِيهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ انْتَهَى. وَكَوْنُ الْحُمَّى تَأْخُذُ الْمَاسَّ وَالْمَمْسُوسَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْأَمْرُ بِالذِّهَابِ حَقِيقَةٌ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ إِثْرَ الْمُحَاوَرَةِ وَطَرْدِهِ بِلَا مُهْلَةٍ زَمَانِيَّةٍ، وَعَبَّرَ بِالْمُمَاسَّةِ عَنِ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّهَا أَدْنَى أَسْبَابِ الْمُخَالَطَةِ فَنَبَّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَالْمَعْنَى لَا مُخَالَطَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ فَنَفَرَ مِنَ النَّاسِ وَلَزِمَ الْبَرِّيَّةَ وَهَجَرَ الْبَرِيَّةَ وَبَقِيَ مَعَ الْوُحُوشِ إِلَى أَنِ اسْتَوْحَشَ وَصَارَ إِذَا رَأَى أحدا

_ (1) سورة الحجر: 15/ 6.

يَقُولُ لَا مِساسَ أَيْ لا تمسني ولا أمسك. وَقِيلَ: ابْتُلِيَ بِعَذَابٍ قِيلَ لَهُ لَا مِساسَ بِالْوَسْوَاسِ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: فَأَصْبَحَ ذَلِكَ كَالسَّامِرِيِّ ... إِذْ قَالَ مُوسَى لَهُ لَا مِسَاسَا وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: حَتَّى تَقُولَ الْأَزْدُ لَا مِسَاسَا وَقِيلَ: أَرَادَ مُوسَى قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ شَيْخًا. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فِي شَرْعِنَا فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خَلَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يُكَلَّمُوا وَلَا يُخَالَطُوا وَأَنْ يَعْتَزِلُوا نِسَاءَهُمْ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا مِساسَ بِفَتْحِ السين والميم المكسورة ومِساسَ مَصْدَرُ مَاسَّ كَقِتَالٍ مِنْ قَاتَلَ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِلَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَهُوَ نَفْيٌ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ أَيْ لَا تَمَسَّنِي وَلَا أَمَسَّكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَقُعْنَبٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ. فَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هُوَ عَلَى صُورَةِ نِزَالِ وَنِظِارِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ بِمَعْنَى انْزِلْ وَانْظُرْ، فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَعَارِفُ وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا لا النَّافِيَةُ الَّتِي تَنْصِبُ النَّكِرَاتِ نَحْوَ لَا مَالَ لَكَ، لَكِنَّهُ فِيهِ نَفْيُ الْفِعْلِ فَتَقْدِيرُهُ لَا يَكُونُ مِنْكَ مِسَاسٌ، وَلَا أَقُولُ مِسَاسَ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تَمَسَّنِي انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مِسَاسَ اسْمُ فِعْلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا مِساسَ بِوَزْنِ فِجَارٍ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ فِي الظِّبَاءِ: إِنْ وَرَدْنَ الْمَاءَ فَلَا عُبَابَ ... وَإِنْ فَقَدْنَهُ فَلَا إِبَابَ وَهِيَ أَعْلَامٌ لِلْمَسَّةِ وَالْعَبَّةِ وَالْأَبَّةِ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْأَبِّ وَهُوَ الطَّلَبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا مِساسَ هُوَ مَعْدُولٌ عَنِ الْمَصْدَرِ كَفِجَارٍ وَنَحْوِهِ، وَشَبَّهَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ بِنِزَالِ وَدِرَاكِ وَنَحْوِهِ، والشبه صحح مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْدُولَاتٌ، وَفَارَقَهُ فِي أَنَّ هَذِهِ عُدِلَتْ عَنِ الْأَمْرِ وَمِسَاسُ وَفِجَارُ عُدِلَتْ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَمِيمٌ كَرَهْطِ السَّامِرِيِّ وَقَوْلِهِ ... أَلَا لَا يُرِيدُ السَّامِرِيُّ مِسَاسَ انْتَهَى. فَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِسَاسَ مَعْدُولٌ عَنِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْمَسَّةُ، كَفِجَارِ مَعْدُولًا عَنِ الْفَجَرَةِ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنْ تُخْلَفَهُ بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى لَنْ يَقَعَ فِيهِ خُلْفٌ بَلْ يُنْجِزُهُ لَكَ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الشرك والفساد بعد ما عَاقَبَكَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ أَخْلَفْتُ الْمَوْعِدَ إِذَا وَجَدْتَهُ خُلْفًا. قَالَ الْأَعْشَى:

أَثْوَى وَقَصَّرَ لَيْلَهُ لِيُزَوِّدَا ... فَمَضَى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تَسْتَطِيعَ الرَّوَغَانَ عَنْهُ وَالْحَيْدَةَ فَتَزُولَ عَنْ مَوْعِدِ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ: لَنْ تَخْلُفَهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ هَكَذَا بِالتَّاءِ مَنْقُوطَةً مِنْ فَوْقُ عَنْ أَبِي نَهِيكٍ فِي نَقْلِ ابْنِ خَالَوَيْهِ. وَفِي اللَّوَامِحِ أَبُو نَهِيكٍ لَنْ يَخْلُفَهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَهُوَ مِنْ خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ إِذَا جَاءَ بَعْدَهُ أَيِ الْمَوْعِدُ الَّذِي لَكَ لَا يَدْفَعُ قَوْلَكَ الَّذِي تَقُولُهُ فِيمَا بَعْدُ لَا مِساسَ بِالْفِعْلِ فَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَى الْمَوْعِدِ أَوِ الْمَوْعِدُ لَنْ يَخْتَلِفَ مَا قُدِّرَ لَكَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ سَهْلٌ: يَعْنِي أَبَا حَاتِمٍ لَا يُعْرَفُ لِقِرَاءَةِ أبي نهيك مذهبا انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ نَخْلِفُهُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ لَا نَنْقُصُ مِمَّا وَعَدْنَا لَكَ مِنَ الزَّمَانِ شَيْئًا. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي لَنْ يصادفه مخلفا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنْ يَخْلِفَهُ اللَّهُ. حَكَى قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا مَرَّ فِي لِأَهَبَ لَكِ «1» انْتَهَى. ثُمَّ وَبَّخَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّامِرِيَّ بِمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ بِالْعِجْلِ الَّذِي اتَّخَذَهُ إِلَهًا مِنَ الِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِ بِتَغْيِيرِ هَيْئَتِهِ، فَوَاجَهَهُ بِقَوْلِهِ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ وَخَاطَبَهُ وَحْدَهُ إِذْ كَانَ هُوَ رَأْسَ الضَّلَالِ وَهُوَ يَنْظُرُ لِقَوْلِهِمْ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ وَأَقْسَمَ لَنُحَرِّقَنَّهُ وَهُوَ أَعْظَمُ فَسَادِ الصُّورَةِ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ حَتَّى تَتَفَرَّقَ أَجْزَاؤُهُ فَلَا يَجْتَمِعَ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ أَخَذَ السَّامِرِيُّ الْقَبْضَةَ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ وَهُوَ دَاخِلٌ الْبَحْرَ حَالَةَ تَقَدُّمِ فِرْعَوْنَ وَتَبِعَهُ فِرْعَوْنُ فِي الدُّخُولِ نَاسَبَ أَنْ يُنْسَفَ ذَلِكَ الْعِجْلُ الَّذِي صَاغَهُ السَّامِرِيُّ مِنَ الْحُلِيِّ الَّذِي كَانَ أَصْلُهُ لِلْقِبْطِ. وَأَلْقَى فِيهِ الْقَبْضَةَ فِي الْبَحْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ بِهِ قِيَامُ الْحَيَاةِ آلَ إِلَى الْعَدَمِ. وَأُلْقِيَ فِي مَحَلِّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَإِنَّ أَمْوَالَ الْقِبْطِ قَذَفَهَا اللَّهُ فِي الْبَحْرِ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا كَمَا قَذَفَ اللَّهُ أَشْخَاصَ مَالِكِيهَا فِي الْبَحْرِ وَغَرَّقَهُمْ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ لِابْنِ يَعْمَرَ ظَلْتَ بِظَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ يَعْمَرَ بِخِلَافٍ عَنْهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الظَّاءَ، وَعَنِ ابْنِ يَعْمَرَ ضَمُّهَا وَعَنْ أُبَيٍّ وَالْأَعْمَشِ ظَلِلْتَ بِلَامَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، فَأَمَّا حَذْفُ اللَّامِ فَقَدْ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الشُّذُوذِ يَعْنِي شُذُوذَ الْقِيَاسِ لَا شُذُوذَ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ مَسَّتْ وَأَصْلُهُ مَسِسْتُ وَأَحَسَّتْ أَصْلُهُ أَحْسَسْتُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَمَّتْ وَأَصْلُهُ هَمَمْتُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا سُكِّنَ آخِرُ الْفِعْلِ نَحْوَ ظَلَّتْ إِذْ أَصْلُهُ ظللت. وذكر

_ (1) سورة مريم: 19/ 19. [.....]

بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مُنْقَاسٌ فِي كُلِّ مُضَاعَفِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ فِي لُغَةِ بَنِي سُلَيْمٍ حَيْثُ تسكن آخِرُ الْفِعْلِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ مِنْ تَأْلِيفِنَا، فَأَمَّا مَنْ كَسَرَ الظَّاءِ فَلِأَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ اللَّامِ إِلَى الظَّاءِ بَعْدَ نَزْعِ حَرَكْتِهَا تَقْدِيرًا ثُمَّ حَذَفَ اللَّامَ، وَأَمَّا مَنْ ضَمَّهَا فَيَكُونُ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ عَلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ فِيهِمَا، وَنُقِلَتْ ضَمَّةُ اللَّامِ إِلَى الظَّاءِ كَمَا نُقِلَتْ فِي حَالَةِ الْكَسْرِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنُحَرِّقَنَّهُ مُشَدَّدًا مُضَارِعُ حَرَّقَ مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْكَلْبِيُّ مُخَفَّفًا مَنْ أَحْرَقَ رُبَاعِيًّا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُمَيدٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَرَّقَ وَأَحْرَقَ هُوَ بِالنَّارِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ فَمَعْنَاهَا لَنُبْرِدَنَّهُ بِالْمِبْرَدِ يُقَالُ حَرَقَ يَحْرُقُ وَيَحْرِقُ بِضَمِّ رَاءِ الْمُضَارِعِ وَكَسْرِهَا. وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّ التَّشْدِيدَ قَدْ يَكُونُ مُبَالَغَةً فِي حَرَّقَ إِذَا بُرِدَ بِالْمِبْرَدِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ وَتُوَافِقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا ذَا رُوحٍ، وَيَتَرَتَّبُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ عَلَى هَذَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ جَمَادًا مَصُوغًا مِنَ الْحُلِيِّ فَيَتَرَتَّبُ بَرْدُهُ لَا إِحْرَاقُهُ إِلَّا إِنْ عَنَى بِهِ إِذَابَتُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُمِرَ مُوسَى بِذَبْحِ الْعِجْلِ فَذُبِحَ وَسَالَ مِنْهُ الدَّمُ ثُمَّ أُحْرِقَ وَنُسِفَ رَمَادُهُ. وَقِيلَ: بُرِدَتْ عِظَامَهُ بِالْمِبْرَدِ حَتَّى صَارَتْ بِحَيْثُ يُمْكِنُ نَسْفُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنَنْسِفَنَّهُ بكسر السين. وقرت فِرْقَةٌ مِنْهُمْ عِيسَى بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ: لَنُنَسِّفَنَّهُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ. وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مُوسَى تَعَجَّلَ وَحْدَهُ فَوَقَعَ أَمْرُ الْعِجْلِ، ثُمَّ جَاءَ مُوسَى وَصَنَعَ بِالْعِجْلِ مَا صَنَعَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسَبْعِينَ عَلَى مَعْنَى الشَّفَاعَةِ فِي ذَنْبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ يُطْلِعَهُمْ أَيْضًا عَلَى أَمْرِ الْمُنَاجَاةِ، فَكَانَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهْضَتَانِ. وَأَسْنَدَ مَكِّيٌّ خِلَافَ هَذَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَ السَبْعِينَ فِي الْمُنَاجَاةِ وَحِينَئِذٍ وَقَعَ أَمْرُ الْعِجْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ مُوسَى بِذَلِكَ فَكَتَمَهُ عَنْهُمْ وَجَاءَ بِهِمْ حَتَّى سَمِعُوا لَغَطَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَوْلَ الْعِجْلِ، فَحِينَئِذٍ أعلمهم مُوسَى انْتَهَى. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ إِبْطَالِ مَا عَمِلَهُ السَّامِرِيُّ عَادَ إِلَى بَيَانِ الدِّينِ الْحَقِّ فَقَالَ إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَسِعَ فَانْتَصَبَ عِلْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْأَنْعَامِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَسَّعَ بِفَتْحِ السِّينِ مُشَدَّدَةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجْهُهُ أَنَّ وَسِعَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَمَّا عِلْماً فَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى فَاعِلٌ، فَلَمَّا ثُقِّلَ نُقِلَ إِلَى التَّعْدِيَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَنَصَبَهُمَا مَعًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُمَيَّزَ فَاعِلٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا تَقُولُ: خَافَ زَيْدٌ

عَمْرًا خَوَّفْتُ زَيْدًا عَمْرًا، فَتَرِدُ بِالنَّقْلِ مَا كَانَ فَاعِلًا مَفْعُولًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَسِعَ بِمَعْنَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَكَثْرِهَا بِالِاخْتِرَاعِ فَوَسِعَهَا مَوْجُودَاتٍ انْتَهَى. كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً. خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى نَبَأِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِرْعَوْنَ أَيْ كَقَصِّنَا هَذَا النَّبَأَ الْغَرِيبَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَهَذَا فِيهِ ذِكْرُ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ الْإِعْلَامُ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ لِيَتَسَلَّى بِذَلِكَ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ وَمَا قَاسَتِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُنَا الْقُرْآنُ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ الذِّكْرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالِّ ذَلِكَ عَلَى مُعْجِزَاتٍ أُوتِيَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ذِكْراً بَيَانًا. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ: شَرَفًا وَذِكْرًا فِي النَّاسِ. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَتَّبِعْ مَا فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَحْمِلُ مُضَارِعُ حَمَلَ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ دَاوُدُ بْنُ رُفَيْعٍ: يُحَمَّلُ مُشَدَّدُ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ يُكَلَّفُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ يَحْمِلُهُ طوعا ووِزْراً مفعول ثان ووِزْراً ثِقَلًا بَاهِظًا يُؤَدِّهِ حَمْلُهُ وَهُوَ ثِقَلُ الْعَذَابِ. وَقَالَ مُجَاهِد: إِثْمًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ شِرْكًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْعُقُوبَةِ بِالْوِزْرِ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا وَلِذَلِكَ قَالَ خالِدِينَ فِيهِ أَيْ فِي الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ وَجَمَعَ خَالِدِينَ، وَالضَّمِيرَ فِي لَهُمْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى لَفْظِهَا فِي أَعْرَضَ وَفِي فَإِنَّهُ يَحْمِلُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ وِزْرَهُمْ ولَهُمْ لِلْبَيَانِ كَهِيَ فِي هَيْتَ لَكَ «1» لَا مُتَعَلِّقَةٌ بِسَاءٍ وَساءَ هُنَا هِيَ الَّتِي جَرَتْ مَجْرَى بِئْسَ لَا سَاءَ الَّتِي بِمَعْنَى أَحْزَنَ وأهم لفساد المعنى.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 23.

وَيَوْمُ نَنْفُخُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَنَحْشُرُ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيدٌ: نَنْفُخُ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمرية، وَالنَّافِخُ هُوَ إِسْرَافِيلُ وَلِكَرَامَتِهِ أَسْنَدَ مَا يَتَوَلَّاهُ إِلَى ذاته المقدسة والصُّورِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي الأنعام. وقرىء يَنْفُخُ وَيَحْشُرُ بِالْيَاءِ فِيهِمَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عِيَاضٍ فِي جَمَاعَةٍ فِي الصُّورِ عَلَى وَزْنِ دُرَرٍ وَالْحَسَنُ: يُحْشَرُ، بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَيَحْشُرُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِالْيَاءِ أَيْ وَيَحْشُرُ اللَّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزُّرْقِ زُرْقَةُ الْعُيُونِ، وَالزُّرْقَةُ أَبْغَضُ أَلْوَانِ الْعُيُونِ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّ الرُّومَ أَعْدَاؤُهُمْ وَهُمْ زُرْقُ الْعُيُونِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي صِفَةِ الْعَدُوِّ: أَسْوَدُ الْكَبِدِ، أَصْهَبُ السِّبَالِ، أَزْرَقُ الْعَيْنِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُ ... بِكَفِّي سَبَنَتَى أَزْرَقِ الْعَيْنِ مُطْرِقِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ سُودَ الْوُجُوهِ، فَالْمَعْنَى تَشْوِيهُ الصُّورَةِ مِنْ سَوَادِ الْوَجْهِ وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ وَأَيْضًا فَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِالزُّرْقَةِ. قال الشاعر: لقد زرقت عَيْنَاكَ يَا ابْنَ مُكَعْبَرٍ ... ألا كل عليسى مِنَ اللُّؤْمِ أَزْرَقُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى عُمْيًا لِأَنَّ الْعَيْنَ إِذَا ذَهَبَ نُورُهَا ازْرَقَّ نَاظِرُهَا، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ زُرْقاً في هذه الآية وعُمْياً «1» فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: زَرُقَ أَلْوَانُ أَبْدَانِهِمْ، وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي التَّشْوِيهِ إِذْ يجيؤن كَلَوْنِ الرَّمَادِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُسَمَّى هَذَا اللَّوْنُ أَزْرَقَ، وَلَا تَزْرَقُّ الْجُلُودُ إِلَّا مِنْ مُكَابَدَةِ الشَّدَائِدِ وَجُفُوفِ رُطُوبَتِهَا. وَقِيلَ: زُرْقاً عِطَاشًا وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ يَرُدُّ سَوَادَ الْعَيْنِ إِلَى الْبَيَاضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ سِنَانٌ أَزْرَقُ وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ أَيِ ابْيَضَّ، وَذُكِرَتِ الْآيَتَانِ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ حَالَاتٌ فَحَالَةٌ يَكُونُونَ فِيهَا زُرْقًا وَحَالَةٌ يَكُونُونَ عُمْيًا. يَتَخافَتُونَ يَتَسَارُّونَ لِهَوْلِ الْمَطْلَعِ وَشِدَّةِ ذَهَابِ أَذْهَانِهِمْ قَدْ عَزَبَ عَنْهُمْ قَدْرَ الْمُدَّةَ الَّتِي لَبِثُوا فِيهَا إِنْ لَبِثْتُمْ أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ أَوْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ فِي الصُّورِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَوَصْفُ مَا لَبِثُوا فِيهِ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهَا لِمَا يُعَايِنُونَ مِنَ الشَّدَائِدِ كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيَّامُ سُرُورٍ، وَأَيَّامُ السُّرُورِ قِصَارٌ أَوْ لِذِهَابِهَا عَنْهُمْ وَتَقَضِّيهَا، وَالذَّاهِبُ وَإِنْ طَالَتْ مدته قصير

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 97.

بِالِانْتِهَاءِ، أَوْ لاسْتِطَالَتِهِمُ الْآخِرَةَ وَأَنَّهَا أَبَدٌ سَرْمَدٌ يُسْتَقْصَرُ إِلَيْهَا عُمْرُ الدُّنْيَا، وَيُقَالُ لَبِثَ أَهْلُهَا فِيهَا بِالْقِيَاسِ إِلَى لُبْثِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وإِذْ معمولة لأعلم. وأَمْثَلُهُمْ أعدلهم. وطَرِيقَةً مَنْصُوبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ. إِلَّا يَوْماً إِشَارَةٌ لِقِصَرِ مُدَّةِ لبثهم. وإِلَّا عَشْراً يُحْتَمَلُ عَشْرُ لَيَالٍ أَوْ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، لِأَنَّ الْمُذَكَّرَ إِذَا حُذِفَ وَأُبْقِيَ عَدَدُهُ قَدْ لَا يَأْتِي بِالتَّاءِ. حَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ: صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا، وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، يُرِيدُ سِتَّةَ أَيَّامٍ وَحَسَّنَ الْحَذْفَ هُنَا كَوْنُ ذَلِكَ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ ذُكِرَ أَوَّلًا مُنْتَهَى أَقَلِّ الْعَدَدِ وَهُوَ الْعَشْرُ، وَذَكَرَ أَعْدَلُهُمْ طَرِيقَةً أَقَلَّ الْعَدَدِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ وَدَلَّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ إِلَّا يَوْماً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ عَشْراً عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ في وَيَسْئَلُونَكَ عَائِدٌ عَلَى قُرَيْشٍ مُنْكِرِي الْبَعْثِ أَوْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ وُجُودُ السُّؤَالِ وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ سُؤَالٌ بَلِ الْمَعْنَى أَنْ يَسْأَلُوكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ فَضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِالْفَاءِ وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ على الجبال ريحا فيدكدكها حَتَّى تَكُونَ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، ثُمَّ يَتَوَالَى عَلَيْهَا حَتَّى يُعِيدَهَا كَالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ فَذَلِكَ هُوَ النَّسْفُ ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَيَذَرُها عَلَى الْجِبَالِ أَيْ بَعْدَ النَّسْفِ تَبْقَى قَاعًا أَيْ مُسْتَوِيًا مِنَ الْأَرْضِ مُعْتَدِلًا. وَقِيلَ فَيَذْرُ مَقَارَّهَا وَمَرَاكِزَهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ الْجِبَالِ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِوَجاً مَيْلًا وَلا أَمْتاً أَثَرًا مِثْلَ الشِّرَاكِ. وَعَنْهُ أَيْضًا عِوَجاً وَادِيًا وَلا أَمْتاً رَابِيَةً. وَعَنْهُ أَيْضًا الْأَمْتُ الِارْتِفَاعُ. وَقَالَ قَتَادَةُ عِوَجاً صَدْعًا وَلا أَمْتاً أَكَمَةً. وَقِيلَ: الْأَمْتُ الشُّقُوقُ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: غِلَظُ مَكَانٍ فِي الفضاء والجبل ويرق فِي مَكَانٍ حَكَاهُ الصُّولِيُّ. وَقِيلَ: كَانَ الْأَمْتُ فِي الْآيَةِ الْعِوَجَ فِي السَّمَاءِ تُجَاهَ الْهَوَاءِ، وَالْعِوَجُ فِي الْأَرْضِ مُخْتَصٌّ بِالْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قد فَرَّقُوا بَيْنَ الْعِوَجِ وَالْعَوَجِ فَقَالُوا: الْعِوَجُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي، وَالْعَوَجُ بِالْفَتْحِ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَرْضِ، فَكَيْفَ صَحَّ فِيهَا الْمَكْسُورُ الْعَيْنِ؟ قُلْتُ: اخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ لَهُ مَوْقِعٌ حَسَنٌ بَدِيعٌ فِي وَصْفِ الْأَرْضِ بِالِاسْتِوَاءِ وَالْمَلَاسَةِ وَنَفْيُ الِاعْوِجَاجِ عَنْهَا عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ، وَذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ عَمَدْتَ إِلَى قِطْعَةِ أَرْضٍ فَسَوَّيْتَهَا وَبَالَغْتَ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى عَيْنِكَ وَعُيُونِ الْبُصَرَاءِ مِنَ الْفِلَاحَةِ، وَاتَّفَقْتُمْ عَلَى أَنْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ قَطُّ ثُمَّ اسْتَطْلَعْتَ رَأْيَ الْمُهَنْدِسِ فِيهَا وَأَمَرْتَهُ أَنْ يَعْرِضَ اسْتِوَاءَهَا عَلَى الْمَقَايِيسِ الْهَنْدَسِيَّةِ لَعَثَرَ فِيهَا

عَلَى عِوَجٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَا يُدْرَكُ بِذَلِكَ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَلَكِنْ بِالْقِيَاسِ الْهَنْدَسِيِّ فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ الْعِوَجَ الَّذِي دَقَّ وَلَطَفَ عَنِ الْإِدْرَاكِ اللَّهُمَّ إِلَّا بِالْقِيَاسِ الَّذِي يَعْرِفُهُ صَاحِبُ التَّقْدِيرِ وَالْهَنْدَسَةِ، وَذَلِكَ الِاعْوِجَاجُ لَمَّا لَمْ يُدْرَكُ إِلَّا بِالْقِيَاسِ دُونَ الْإِحْسَاسِ لَحِقَ بِالْمَعَانِي فَقِيلَ فيه عوج بالكسر. الأمت النتوء الْيَسِيرُ، يُقَالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتَّى مَا فِيهِ أَمْتٌ انْتَهَى. يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ إِذْ يَنْسِفُ اللَّهُ الْجِبَالَ يَتَّبِعُونَ أَيِ الْخَلَائِقُ الدَّاعِيَ دَاعِيَ اللَّهِ إِلَى الْمَحْشَرِ نَحْوَ قَوْلِهِ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ «1» وَهُوَ إِسْرَافِيلُ يَقُومُ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَدْعُو النَّاسَ فَيُقْبِلُونَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَضَعُ الصُّوَرَ فِي فِيهِ، وَيَقُولُ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْجُلُودُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَفَرِّقَةُ هَلُمَّ إِلَى الْعَرْضِ عَلَى الرَّحْمَنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يُجْمَعُونَ فِي ظُلْمَةٍ قَدْ طُوِيَتِ السَّمَاءُ وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ فَيُنَادِي مُنَادٍ فَيَمُوتُونَ مَوْتَةً. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الدَّاعِيَ هُنَا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ فَيَعُوجُونَ عَلَى الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَيَمِيلُونَ عَنْهُ مَيْلًا عَظِيمًا، فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُمُ اتِّبَاعُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الدَّاعِيَ نَفَى عَنْهُ الْعِوَجَ أَيْ لَا عِوَجَ لدعائه يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْقَلْبِ أَيْ لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْهُ بَلْ يَأْتُونَ مُقْبِلِينَ إِلَيْهِ مُتَّبِعِينَ لِصَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لَا يُعْوَجُّ لَهُ مَدْعُوٌّ بَلْ يَسْتَوُونَ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَقِيلَ لَا عِوَجَ لَهُ فِي مَوْضِعِ وَصْفٍ لِمَنْعُوتٍ مَحْذُوفٍ أَيِ اتِّبَاعًا لَا عِوَجَ لَهُ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدًا عَلَى ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارَ أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا يُخَالِفُ وُجُودَهُ خَبَرُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَالْمَشْيِ نَحْوَ صَوْتِهِ وَالْخُشُوعُ التَّطَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ وَهُوَ فِي الْأَصْوَاتِ اسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى الْخَفَاءِ، وَالِاسْتِسْرَارُ لِلرَّحْمَنِ أَيْ لِهَيْبَةِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ مُطَّلِعٌ قُدْرَتُهُ. وَقِيلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَخَشَعَ أَهْلُ الْأَصْوَاتِ وَالْهَمْسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ الْخَافِتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْهَمْسِ الْمَسْمُوعِ تَخَافُتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَكَلَامُهُمُ السِّرُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ صَوْتَ الْأَقْدَامِ وَأَنَّ أَصْوَاتَ النُّطْقِ سَاكِنَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا هَمْساً وَهُوَ الرَّكْزُ الْخَفِيُّ وَمِنْهُ الْحُرُوفُ الْمَهْمُوسَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ هَمْسِ الْإِبِلِ وَهُوَ صَوْتُ أَخْفَافِهَا إِذَا مَشَتْ، أَيْ لَا يُسْمَعُ إِلَّا خَفْقُ الْأَقْدَامِ وَنَقْلُهَا إِلَى الْمَحْشَرِ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْهَمْسُ وَطْءُ الْأَقْدَامِ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا تَحْرِيكُ الشِّفَاهِ بِغَيْرِ نُطْقٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْكَلَامُ الخفي ويؤيده

_ (1) سورة الملك: 67/ 27 .

قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا هَمْساً وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ يَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ يَوْمَ إِذْ يَتَّبِعُونَ وَيَكُونُ مَنْصُوبًا بلا تنفع ومَنْ مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ لَا تَنْفَعُ. ولَهُ مَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ وَكَذَا فِي وَرَضِيَ لَهُ أَيْ لِأَجْلِهِ، وَيَكُونُ مَنْ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ أَوْ بَدَلٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ إِلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، أَوِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فَنُصِبَ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، وَرُفِعَ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَيَكُونُ مَنْ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ لِلشَّافِعِ وَالْقَوْلُ الْمَرْضِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ الْمَحْشُورِينَ وَهُمْ مُتَّبِعُو الدَّاعِي. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: عَلَى النَّاسِ لَا بِقَيْدِ الْحَشْرِ وَالِاتِّبَاعِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ فِي الْبَقَرَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا أَيْ وَلا يُحِيطُونَ بِمَعْلُومَاتِهِ عِلْماً وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْوُجُوهُ أَيْ وُجُوهِ الْخَلَائِقِ، وَخَصَّ الْوُجُوهُ لِأَنَّ آثَارَ الذُّلِّ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي أَوَّلِ الْوُجُوهُ. وَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: الْمُرَادُ سُجُودُ النَّاسِ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْآرَابِ السَّبْعَةِ، فَإِنْ كَانَ رَوَى أَنَّ هَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ إِخْبَارًا عَنْهُ، وَاسْتَقَامَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ أَرَادَ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُلَائِمٍ لِلْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوُجُودِ وُجُوهُ الْعُصَاةِ وَأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْخَيْبَةَ وَالشِّقْوَةَ وَسُوءَ الْحِسَابِ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ عَانِيَةً أَيْ ذَلِيلَةً خَاضِعَةً مِثْلَ وُجُوهِ الْعُنَاةِ وَهُمُ الْأَسَارَى وَنَحْوُهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ «2» والْقَيُّومِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَدْ خابَ أَيْ لَمْ يَنْجَحْ وَلَا ظَفَرَ بِمَطْلُوبِهِ، وَالظُّلْمُ يَعُمُّ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ وَخَيْبَةَ كُلِّ حَامِلٍ بِقَدْرِ مَا حَمَلَ مِنَ الظُّلْمِ، فَخَيْبَةُ الْمُشْرِكِ دَائِمًا وَخَيْبَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي مُقَيَّدَةٌ بِوَقْتٍ فِي الْعُقُوبَةِ إِنْ عُوقِبَ. وَلَمَّا خَصَّ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوُجُوهَ بِوُجُوهِ الْعُصَاةِ قَالَ فِي قَوْلِهِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ كَقَوْلِكَ: خَابُوا وَخَسِرُوا حَتَّى تَكُونَ الْجُمْلَةُ دَخَلَتْ بَيْنَ الْعُصَاةِ وَبَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، فَهَذَا عِنْدَهُ قَسِيمٌ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ. وَأَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَجَعَلَ قَوْلَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ- إِلَى- هَضْماً مُعَادِلًا لِقَوْلِهِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً لِأَنَّهُ جَعَلَ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ عَامَّةً فِي وُجُوهِ الْخَلَائِقِ. ومِنَ الصَّالِحاتِ بِيَسِيرٍ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالظُّلْمُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي عِظَمِ سَيِّئَاتِهِ، وَالْهَضْمُ نَقْصٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الظُّلْمُ أَنْ يُزَادَ مِنْ ذَنْبِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الظُّلْمُ أن لا يجزى

_ (1) سورة الملك: 67/ 27. (2) سورة القيامة: 75/ 24.

بِعَمَلِهِ. وَقِيلَ: الظُّلْمُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ فَوْقَ حَقِّهِ، وَالْهَضْمُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يُوَفِّيَهُ لَهُ كَصِفَةِ الْمُطَفِّفِينَ يَسْتَرْجِحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إِذَا اكْتَالُوا وَيُخْسِرُونَ إذَا كَالُوا انْتَهَى. وَالظُّلْمُ وَالْهَضْمُ مُتَقَارِبَانِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الظُّلْمَ مَنْعُ الْحَقِّ كُلِّهِ وَالْهَضْمُ مَنْعُ بَعْضِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا يَخافُ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ فَهُوَ لَا يَخَافُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيدٌ فَلَا يَخَفْ عَلَى النَّهْيِ وَكَذلِكَ عَطَفَ عَلَى كَذَلِكَ نَقُصُّ أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ أَوْ كَمَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُضَمَّنَةَ الْوَعِيدَ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَلَى هَذِهِ الْوَتِيرَةِ مُكَرِّرِينَ فِيهِ آيَاتِ الْوَعِيدِ لِيَكُونُوا بِحَيْثُ يُرَادُ مِنْهُمْ تَرْكُ الْمَعَاصِي أَوْ فِعْلُ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَالذِّكْرُ يُطْلَقُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: كَمَا قَدَّرْنَا هَذِهِ الْأُمُورَ وَجَعَلْنَاهَا حَقِيقَةً بِالْمِرْصَادِ لِلْعِبَادِ كَذَلِكَ حَذَّرْنَا هَؤُلَاءِ أمرها وأَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَتَوَعَّدْنَا فِيهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ بِحَسَبِ تَوَقُّعِ الشَّرِّ وَتَرَجِّيهِمْ يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَخْشَوْنَ عِقَابَهُ فَيُؤْمِنُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ نِعَمَهُ عِنْدَهُمْ، وَمَا حَذَّرَهُمْ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ هَذَا تَأْوِيلُ فِرْقَةٍ فِي قَوْلِهِ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ أَوْ يُكْسِبُهُمْ شَرَفًا وَيُبْقِي عَلَيْهِمْ إِيمَانَهُمْ ذِكْرًا صالحا فِي الْغَابِرِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا رَغَّبْنَا أَهْلَ الْإِيمَانِ بِالْوَعْدِ حَذَّرْنَا أَهْلَ الشِّرْكِ بِالْوَعِيدِ وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كَالطُّوفَانِ وَالصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ وَالْمَسْخِ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْوَعْدُ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّهْدِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ لِيَكُونُوا عَلَى رَجَاءٍ مِنْ أَنْ يُوقِعَ فِي قُلُوبِهِمُ الِاتِّقَاءَ أَوْ يَتَّقُونَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ أَيْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أَيْ عِظَةً وَفِكْرًا وَاعْتِبَارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَرَعًا. وَقِيلَ: أَنْزَلَ الْقُرْآنَ ليصيروا محترزين عمالا يَنْبَغِي أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَأَسْنَدَ تَرَجِّيَ التَّقْوَى إِلَيْهِمْ وَتَرَجِّيَ إِحْدَاثِ الذِّكْرِ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ اسْتِمْرَارٌ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَلَمْ يُسْنِدِ الْقُرْآنَ وَأَسْنَدَ إِحْدَاثَ الذِّكْرِ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ هُنَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. قِيلَ: أَوْ كَهِيَ في جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ أَيْ لَا تَكُنْ خَالِيًا مِنْهُمَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَوْ يُحْدِثُ سَاكِنَةَ الثَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَسَلَامٌ، أَوْ نُحْدِثْ بِالنُّونِ وَجَزْمِ الثَّاءِ، وَذَلِكَ حَمْلُ وَصْلٍ عَلَى وَقْفٍ أَوْ تَسْكِينُ حَرْفِ الْإِعْرَابِ اسْتِثْقَالًا لِحَرَكَتِهِ نَحْوَ قَوْلِ جَرِيرٍ: أَوْ نَهْرُ تِيرَيْ فَلَا تَعْرِفُكُمُ الْعَرَبُ وَلَمَّا كَانَ فِيمَا سَبَقَ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً «3» وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا

_ (3) سورة طه: 20/ 99.

ذَكَرَ عَظَمَةَ مَنْزِلِهِ تَعَالَى ثُمَّ ذَكَرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَهِيَ صِفَةُ الْمَلِكُ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الْقَهْرَ، وَالسَّلْطَنَةَ وَالْحَقَّ وَهِيَ الصِّفَةُ الثَّابِتَةُ لَهُ إِذْ كُلُّ مَنْ يَدَّعِي إِلَهًا دُونَهُ بَاطِلٌ لَا سِيَّمَا الْإِلَهُ الَّذِي صَاغُوهُ مِنَ الْحُلِيِّ وَمُضْمَحِلُّ مُلْكُهُ وَمُسْتَعَارٌ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا صِفَةُ سُلْطَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِظَمُ قُدْرَتِهِ وَذِلَّةُ عَبِيدِهِ وَحُسْنُ تَلَطُّفِهِ بِهِمْ، فَنَاسَبَ تَعَالِيَهُ وَوَصْفَهُ بِالصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَلِمَا ذَكَرَ الْقُرْآنُ وَإِنْزَالُهُ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ طَالِبًا مِنْهُ التَّأَنِّيَ فِي تَحَفُّظِ الْقُرْآنِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ تَأَنَّ حَتَّى يَفْرَغَ الْمُلْقِي إِلَيْكَ الْوَحْيَ وَلَا تُسَاوِقْ فِي قِرَاءَتِكَ قِرَاءَتَهُ وَإِلْقَاءَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُبَلِّغْ مَا كَانَ مِنْهُ مُجْمَلًا حَتَّى يَأْتِيَكَ الْبَيَانُ. وَقِيلَ: سَبَبُ الْآيَةِ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أَنَّ زَوْجَهَا لَطَمَهَا، فَقَالَ لَهَا «بَيْنَكُمَا الْقِصَاصُ» ثُمَّ نَزَلَتْ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2» وَنَزَلَتْ هَذِهِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّثَبُّتِ فِي الْحُكْمِ بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَمْرَ بِكَتْبِهِ لِلْحِينِ، فَأَمَرَ أَنْ يتأنى حَتَّى يُفَسَّرَ لَهُ الْمَعَانِي وَيَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَا تَسْأَلْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الْوَحْيُ إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَأَسْقُفَ نَجْرَانَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ كَذَا وَقَدْ ضَرَبْنَا لَكَ أَجَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ، وَفَشَتِ الْمَقَالَةُ بَيْنَ الْيَهُودِ قَدْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ فَنَزَلَتْ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أَيْ بِنُزُولِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَلا تَعْجَلْ بِقِرَاءَتِهِ فِي نَفْسِكَ أَوْ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى غَيْرِكَ أَوْ فِي اعْتِقَادِ ظَاهِرِهِ أَوْ فِي تَعْرِيفِ غَيْرِكَ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ احْتِمَالَاتٌ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ تَمَامُهُ أَوْ بَيَانُهُ احْتِمَالَاتٌ، فَالْمُرَادُ إِذًا أَنْ لَا يُنَصِّبَ نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِالْوَحْيِ تَمَامُهُ أَوْ بَيَانُهُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي الْمَعْنَى لِمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عَقِيبَهُ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخَصَّصَاتِ، وَهَذِهِ الْعَجَلَةُ لَعَلَّهُ فَعَلَهَا باجتهاده عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُقْضى إِلَيْكَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحْيُهُ مَرْفُوعٌ بِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَعْقُوبُ وَسَلَامٌ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ نَقْضِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ مَفْتُوحَ الْيَاءِ وَحْيَهُ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاءَ مِنْ يَقْضِي. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ لَا يَرَى فَتْحَ الْيَاءِ بِحَالٍ إِذَا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا وَحَلَّتْ طَرَفًا انْتَهَى. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً قَالَ مُقَاتِلٌ أَيْ قُرْآنًا. وَقِيلَ: فَهْمًا. وَقِيلَ: حِفْظًا وَهَذَا الْقَوْلُ

_ (1) سورة القيامة: 75/ 16. (2) سورة النساء: 4/ 34.

مُتَضَمِّنٌ لِلتَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَالشُّكْرِ لَهُ عِنْدَ مَا عُلِمَ مِنْ تَرْتِيبِ التَّعَلُّمِ أَيْ عَلَّمْتَنِي مَآرِبَ لَطِيفَةً فِي بَابِ التَّعَلُّمِ وَأَدَبًا جَمِيلًا مَا كَانَ عِنْدِي، فَزِدْنِي عِلْمًا. وَقِيلَ: مَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى. تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ آدَمَ فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ وَالْحِجْرِ وَالْكَهْفِ، ثم ذكر هاهنا لِمَا تَقَدَّمَ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ «1» كَانَ مِنْ هَذَا الْإِنْبَاءِ قِصَّةُ آدَمَ لِيَتَحَفَّظَ بَنُوهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَيَتَنَبَّهُوا عَلَى غَوَائِلِهِ، وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ مِنْهُمْ ذُكِّرَ بِمَا جَرَى لِأَبِيهِ آدَمَ مَعَهُ وَأَنَّهُ أُوضِحَتْ لَهُ عَدَاوَتُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ نَسِيَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ رَبُّهُ وَأَيْضًا لَمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «2» كَانَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ قِصَّةِ آدَمَ وَذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فِيهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَزِيدُ عِلْمٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْعَهْدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْوَصِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفَ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صُرِفَ لَهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَهُمُ النَّاقِضُو عَهْدِ اللَّهِ وَالتَّارِكُو الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ قَبْلِ الرَّسُولُ وَالْقُرْآنُ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنْ يُعْرِضَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ عَنْ آيَاتِي وَيُخَالِفُوا رُسُلِي وَيُطِيعُوا إِبْلِيسَ، فَقِدَمًا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُوهُمْ آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ آدَمَ مِثَالًا لِلْكُفَّارِ الْجَاحِدِينَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا عَصَى بِتَأْوِيلٍ فَفِي هَذَا غَضَاضَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ قِصَصٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا

_ (1) سورة طه: 20/ 99. (2) سورة طه: 20/ 114.

قَبْلَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ تَعَلُّقَهُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا عُهِدَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ لَا يَعْجَلَ بِالْقُرْآنِ مَثَّلَ لَهُ بِنَبِيٍّ قَبْلَهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ فَعَرَفَ لِيَكُونَ أَشَدَّ فِي التَّحْذِيرِ وَأَبْلَغَ فِي الْعَهْدِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ فِي أَوَامِرِ الْمُلُوكِ وَوَصَايَاهُمْ: تَقَدَّمَ الْمَلِكُ إِلَى فُلَانٍ وَأَوْغَرَ عَلَيْهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَعَهِدَ إِلَيْهِ، عَطَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ عَلَى قَوْلِهِ وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ «1» وَالْمَعْنَى وَأُقْسِمُ قَسَمًا لَقَدْ أَمَرْنَا أَبَاهُمْ آدَمَ وَوَصَّيْنَاهُ أَنْ لَا يَقْرَبَ الشَّجَرَةَ، وَتَوَعَّدْنَاهُ بِالدُّخُولِ فِي جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ إِنْ قَرَبَهَا وَذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وجودهم ومِنْ قَبْلُ أَنْ نَتَوَعَّدَهُمْ فَخَالَفَ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَتَوَعَّدَ فِي ارْتِكَابِهِ مُخَالَفَتَهُمْ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْوَعِيدِ كَمَا لَا يَلْتَفِتُونَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ أَسَاسَ أَمْرِ بَنِي آدَمَ عَلَى ذَلِكَ وَعِرْقُهُمْ رَاسِخٌ فِيهِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّسْيَانَ هُنَا التَّرْكُ إِنْ تَرَكَ مَا وُصِّيَ بِهِ مِنَ الِاحْتِرَاسِ عَنِ الشَّجَرَةِ وَأَكْلِ ثَمَرَتِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الذِّكْرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِالْوَصِيَّةِ الْعِنَايَةَ الصَّادِقَةَ وَلَمْ يَسْتَوْثِقْ مِنْهَا بِعَقْدِ الْقَلْبِ عَلَيْهَا وَضَبْطِ النَّفْسِ حَتَّى تَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ النِّسْيَانُ انْتَهَى. وَقَالَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنِسْيَانُ الذُّهُولِ لَا يُمْكِنُ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاسِي عِقَابٌ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَالْأَعْمَشُ فَنُسِّيَ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ أَيْ نَسَّاهُ الشَّيْطَانُ، وَالْعَزْمُ التَّصْمِيمُ وَالْمُضِيُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ وَأَنْ يَتَصَلَّبَ فِي ذَلِكَ تَصَلُّبًا يُؤَيِّسُ الشَّيْطَانَ مِنَ التَّسْوِيلِ لَهُ، وَالْوُجُودُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَمَفْعُولَاهُ لَهُ عَزْماً وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ كَأَنَّهُ قَالَ وَعْدٌ مِنَّا لَهُ عَزْماً انْتَهَى. وَقِيلَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ فَعَلَ نِسْيَانًا. وَقِيلَ: حِفْظًا لِمَا أُمِرَ بِهِ. وَقِيلَ: صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ. وَقِيلَ عَزْماً فِي الِاحْتِيَاطِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاجْتِهَادِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلُهُ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وأَبى جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ السُّجُودِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ إِبَاءٍ مِنْهُ وَامْتِنَاعٍ، وَالظَّاهِرُ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ أَبى وَأَنَّهُ يُقَدَّرُ هُنَا مَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ «2» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَبى جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ جَوَابُ قَائِلٍ قَالَ: لِمَ لَمْ يَسْجُدْ؟ وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ لَهُ مَفْعُولٌ وَهُوَ السُّجُودُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ اسْجُدُوا وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَظْهَرَ الْإِبَاءَ وتوقف وتثبط انتهى.

_ (1) سورة طه: 20/ 113. (2) سورة الحجر: 15/ 31.

وهذا إشارة إلى إبليس وعَدُوٌّ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، عَرَّفَ تَعَالَى آدَمَ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ لِيَحْذَرَاهِ فَلَنْ يُغْنِيَ الْحَذَرُ عَنِ الْقَدَرِ، وَسَبَبُ الْعَدَاوَةِ فِيمَا قِيلَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ حَسُودًا فَلَمَّا رَأَى آثَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى آدَمَ حَسَدَهُ وَعَادَاهُ. وَقِيلَ: الْعَدَاوَةُ حَصَلَتْ مِنْ تَنَافِي أَصْلَيْهِمَا إِذْ إِبْلِيسُ مِنَ النَّارِ وَآدَمُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَلا يُخْرِجَنَّكُما النَّهْيُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ أَيْ لَا يَقَعُ مِنْكُمَا طَاعَةٌ لَهُ فِي إِغْوَائِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ خُرُوجِكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَسْنَدَ الْإِخْرَاجَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ هُوَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ بِوَسْوَسَتِهِ هُوَ الَّذِي فَعَلَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ فَتَشْقى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ فَأَنْتَ تَشْقَى. وَأَسْنَدَ الشَّقَاءَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِ مَعَ زَوْجِهِ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ حَيْثُ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبَ أَوَّلًا وَالْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ وَلِأَنَّ فِي ضِمْنِ شَقَاءِ الرَّجُلِ شَقَاءَ أَهْلِهِ، وَفِي سَعَادَتِهِ سَعَادَتَهَا فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ دُونَهَا مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالشَّقَاءِ التَّعَبَ فِي طَلَبِ الْقُوتِ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الرَّجُلِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: أُهْبِطَ لَهُ ثَوْرٌ أَحْمَرُ يَحْرُثُ عَلَيْهِ فَيَأْكُلُ بِكَدِّ يَمِينِهِ وَعَرَقِ جَبِينِهِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ وَابْنُ سعدان وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا بِكَسْرِ هَمْزَةٍ وَإِنَّكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا فَالْكَسْرُ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ لَكَ، وَالْفَتْحُ عَطْفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ أَنْ لَا تَجُوعَ، أَيْ أَنَّ لَكَ انْتِفَاءَ جَوْعِكَ وَانْتِفَاءَ ظَمَئِكَ، وَجَازَ عَطْفُ أَنَّكَ عَلَى أَنَّ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَصْدَرِ، وَلَوْ بَاشَرَتْهَا إِنَّ الْمَكْسُورَةُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى تَقْدِيرِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَهُوَ أَنْ لَا تَجُوعَ لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَطْفِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمُبَاشَرَةِ، وَلَمَّا كَانَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ وَالْكُسْوَةُ وَالسَّكَنُ هِيَ الْأُمُورَ الَّتِي هِيَ ضَرُورِيَّةٌ لِلْإِنْسَانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا كَافِيَةً لَهُ. وَفِي الْجَنَّةِ ضُرُوبٌ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَالرَّاحَةِ مَا هَذِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالْعَدَمِ فَمِنْهَا الْأَمْنُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُكَدِّرٌ لِكُلِّ لَذَّةٍ، وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرِضَاهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِهَا، وَأَنْ لَا سَقَمَ وَلَا حُزْنَ وَلَا أَلَمَ وَلَا كِبَرَ وَلَا هَرَمَ وَلَا غِلَّ وَلَا غَضَبَ وَلَا حَدَثَ وَلَا مَقَاذِيرَ وَلَا تَكْلِيفَ وَلَا حُزْنَ وَلَا خَوْفَ وَلَا مَلَلَ، وَذُكِرَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ بِلَفْظِ النَّفْيِ لِإِثْبَاتِ أَضْدَادِهَا وَهُوَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ وَالْكُسْوَةُ وَالسَّكَنُ، وَكَانَتْ نَقَائِضُهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ وَهُوَ الْجُوعُ وَالْعُرْيُ وَالظَّمَأُ وَالضَّحْوُ لِيُطْرَقَ سَمْعُهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا حَتَّى يَتَحَامَى السَّبَبَ الْمُوقِعَ فِيهَا كَرَاهَةً لَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ عُرْفَ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ الْجُوعُ مَعَ الظَّمَأِ وَالْعُرْيُ مَعَ الضِّحَاءِ

لِأَنَّهَا تَتَضَادُّ إِذِ الْعُرْيُ نَفْسُهُ الْبَرْدُ فَيُؤْذِي وَالْحَرُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالضَّاحِي، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَهْيَعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقْرِنَ النَّسَبَ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَّذَّةِ ... وَلِمَ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خِلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَأِ الرِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْتَيِ امْرِئِ الْقَيْسِ كَافْطَانِي لِلنَّسَبِ، وَأَنَّ رُكُوبَ الْخَيْلِ لِلصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَاذِّ يُنَاسِبُ تَبَطُّنَ الْكَاعِبِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَدْرِ السُّؤَالِ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ آدَمَ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ قَالَ: إِلَهِي أَلِيَ فِيهَا مَا آكُلُ؟ أَلِيَ فِيهَا مَا أَلْبَسُ؟ أَلِيَ فِيهَا مَا أَشْرَبُ؟ أَلِيَ فِيهَا مَا أَسْتَظِلُّ بِهِ؟ وَقِيلَ: هِيَ مُقَابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فَالْجُوعُ خُلُوُّ الْبَاطِنِ، وَالتَّعَرِّي خُلُوُّ الظَّاهِرِ، وَالظَّمَأُ إِحْرَاقُ الْبَاطِنِ، وَالضَّحْوُ إِحْرَاقُ الظَّاهِرِ فَقَابَلَ الْخُلُوَّ بالخلو وَالْإِحْرَاقَ بِالْإِحْرَاقِ. وَقِيلَ: جَمَعَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي بَيْتَيْهِ بَيْنَ رُكُوبِ الْخَيْلِ لِلَّذَّةِ وَالنُّزْهَةِ، وَبَيْنَ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ لِلَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ فِيهِمَا، وَجَمَعَ بَيْنَ سِبَاءِ الرِّقِّ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِخَيْلِهِ كَرِّي لِمَا فِيهِمَا مِنَ الشَّجَاعَةِ وَلِمَا عِيبَ عَلَى أَبِي الطِّيبِ قَوْلَهُ: وَقَفَتْ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِمُ تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ هَزْمَى كَلِيمَةً ... وَوَجْهُكُ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكُ بَاسِمُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَقَدْ أَخْطَأَ امْرُؤُ الْقَيْسِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَوَسْوَسَ وَالْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّتِهَا فِي الْأَعْرَافِ، وَتَعَدَّى وَسْوَسَ هُنَا بِإِلَى وَفِي الْأَعْرَافِ بِاللَّامِ، فَالتَّعَدِّي بِإِلَى مَعْنَاهُ أَنْهَى الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِ وَالتَّعَدِّيَ بِلَامِ الْجَرِّ، قِيلَ مَعْنَاهُ: لِأَجْلِهِ وَلَمَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِ نَادَاهُ بِاسْمِهِ لِيَكُونَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَأَمْكَنَ لِلِاسْتِمَاعِ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى بِقَوْلِهِ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يُشْعِرُ بِالنَّضْحِ. وَيُؤْثِرُ قَبُولَ مَنْ يُخَاطِبُهُ كَقَوْلِ مُوسَى هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «1» وَهُوَ عَرْضٌ فِيهِ مُنَاصَحَةٌ، وَكَانَ آدَمُ قَدْ رَغَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ وَانْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ فَلا يُخْرِجَنَّكُما الْآيَةَ وَرَغَّبَهُ إِبْلِيسُ فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي رَغَّبَهُ اللَّهُ فِيهَا. وَفِي الْأَعْرَافِ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ «2» الآية. وَهُنَا هَلْ أَدُلُّكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ هَلْ أَدُلُّكَ يَكُونُ سَابِقًا عَلَى قَوْلِهِ مَا نَهاكُما لَمَّا رَأَى إِصْغَاءَهُ وَمَيْلَهُ إِلَى مَا عَرَضَ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إلى الإخبار والحصر.

_ (1) سورة النازعات: 79/ 18. (2) سورة الأعراف: 7/ 20. [.....]

وَمَعْنَى عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أَيِ الشَّجَرَةِ الَّتِي مَنَ أَكَلَ مِنْهَا خُلِّدَ وَحَصَلَ لَهُ مُلْكٌ لَا يَخْلَقُ، وَهَذَا يَدُلُّ لِقِرَاءَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَعْرَافِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْتَثِلْ مَا رَسَمَ اللَّهُ لَهُ وَتَخَطَّى فِيهِ سَاحَةَ الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْعِصْيَانُ. وَلَمَّا عَصَى خَرَجَ فِعْلُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رُشْدًا وَخَيْرًا فَكَانَ غَيًّا لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْغَيَّ خِلَافُ الرُّشْدِ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى بِهَذَا الْإِطْلَاقِ وَهَذَا التَّصْرِيحِ، وَحَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَزَلَّ آدَمُ وَأَخْطَأَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَالْفُرُطَاتِ فِيهِ لُطْفٌ بِالْمُكَلَّفِينَ وَمَزْجَرَةٌ بَلِيغَةٌ وَمَوْعِظَةٌ كَافَّةٌ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمُ: انْظُرُوا وَاعْتَبِرُوا كَيْفَ نَعْتِبُ عَلَى النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ حَبِيبِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ اقْتِرَافُ الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُنَفِّرَةِ زَلَّتُهُ بِهَذِهِ الْغِلْظَةِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ الشَّنِيعِ، فَلَا تَتَهَاوَنُوا بِمَا يُفَرِّطُ مِنْكُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَالصَّغَائِرِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَجْسُرُوا عَنِ التَّوَرُّطِ فِي الْكَبَائِرِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ فَغَوى فَسَئِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يقلب الياء المسكور مَا قَبْلَهَا أَلِفًا فَيَقُولُ فِي فَنَى وَبَقَى فَنَا وبقا، وهم بنو طيىء تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدِنَا الْيَوْمَ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا إِذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِمَّا أن يبتدىء ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبائنا الأولين إِلَيْنَا الْمُمَاثِلِينَ لَنَا، فَكَيْفَ فَفِي أَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ الْأَكْرَمِ النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ الَّذِي اجْتَبَاهُ اللَّهُ وَتَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ وَالْإِخْبَارُ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُصْبُعِ وَالْجَنْبِ وَالنُّزُولِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «1» فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقِهِ قَطَعْتُ يَدَهُ وَكَذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ يُقْطَعُ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ. ثُمَّ اجْتَباهُ أَيِ اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ وَهَدى أَيْ هَدَاهُ لِلنُّبُوَّةِ أَوْ إِلَى كَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ، أَوْ هَدَاهُ رُشْدَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى النَّدَمِ. وَالضَّمِيرُ فِي اهْبِطا ضَمِيرُ تَثْنِيَةٍ وَهُوَ أَمْرٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ جَعَلَ هُبُوطَهُمَا عقوبتهما وجَمِيعاً حَالٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 64.

أَخْبَرَهُمَا بِقَوْلِهِ جَمِيعاً أَنَّ إِبْلِيسَ وَالْحَيَّةَ مُهْبَطَانِ مَعَهُمَا، وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْسَالِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ جَمِيعاً أَنَّ إِبْلِيسَ وَالْحَيَّةَ يَهْبِطَانِ مَعَهُمَا لِأَنَّ جَمِيعاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الِاثْنَيْنِ أَيْ مُجْتَمِعِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ضَمِيرُ جَمْعٍ. قِيلَ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَبَنِيهِ وَآدَمَ وَبَنِيهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، فَالْعَدَاوَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَهُمْ وَالْبَغْضَاءُ لِاخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ وَتَشَتُّتِ الْآرَاءِ. وَقِيلَ: آدَمُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: الْخِطَابُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِكَوْنِهِمَا جِنْسَيْنِ صَحَّ قَوْلُهُ اهْبِطا وَلِأَجْلِ اشْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْكَثْرَةِ صَحَّ قَوْلِهِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَصْلَيِ الْبَشَرِ والسببين اللذين منهما نشؤوا وَتَفَرَّعُوا جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْبَشَرُ فِي أَنْفُسِهِمَا فَخُوطِبَا مُخَاطَبَتَهُمْ، فَقِيلَ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ عَلَى لَفْظِ الْجَمَاعَةِ، وَنَظِيرُهُ إِسْنَادُهُمُ الْفِعْلَ إِلَى السَّبَبِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُسَبِّبِ انْتَهَى. وهُدىً شَرِيعَةُ اللَّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ تَلَا فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى «1» وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّقَاءَ فِي الْآخِرَةِ هُوَ عِقَابُ مَنْ ضَلَّ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَرِيقِ الدِّينِ، فَمَنِ اتَّبَعَ كِتَابَ اللَّهِ وَامْتَثَلَ أَوَامِرُهُ وَانْتَهَى عَنْ نَوَاهِيهِ نَجَا مِنَ الضَّلَالِ وَمِنْ عِقَابِهِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ مِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ وَوَقَاهُ سُوءَ الْحِسَابِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى اتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ وَاتِّبَاعُهَا لَا يَتَكَامَلُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَا، وَبِأَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ فَقَدْ ضَمِنَ تَعَالَى أَنْ لَا يضل ولا يشقى في الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى في الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: الْمُنْعِمُ بِهُدَى اللَّهِ قَدْ يَلْحَقُهُ الشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا. قُلْنَا: الْمُرَادُ لَا يَضِلُّ فِي الدِّينِ وَلَا يَشْقَى بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَإِنْ حَصَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى من اتَّبَعَ الْهُدَى أَتْبَعَهُ بِوَعِيدِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَالذِّكْرُ يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَضَنْكٌ: مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ، وَالْمَعْنَى النَّكَدُ الشَّاقُّ مِنَ الْعَيْشِ وَالْمَنَازِلِ وَمَوَاطِنِ الحرب ربحوها. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلِي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ المنزل

_ (1) سورة طه: 20/ 123.

وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيِّ، وَالْمُرَادُ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ تَخْتَلِفُ فِيهِ أَضْلَاعُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ الضَّيِّقُ فِي الْآخِرَةِ فِي جَهَنَّمَ فَإِنَّ طَعَامَهُمْ فِيهَا الضَّرِيعُ وَالزَّقُّومُ وَشَرَابَهُمُ الْحَمِيمُ وَالْغِسْلِينُ، وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ مَعِيشَةُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوقِنٍ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يُسْلَبُ الْقَنَاعَةَ حَتَّى لَا يَشْبَعَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ مُتَّسِعَ الْحَالِ وَالْمَالِ فَمَعَهُ مِنَ الْحِرْصِ وَالْأَمَلِ وَالتَّعْذِيبِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ وَامْتِنَاعِ صَفَاءِ الْعَيْشِ لِذَلِكَ مَا تَصِيرُ مَعِيشَتُهُ ضَنْكًا وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ضَنْكاً بِأَكْلِ الْحَرَامِ. وَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى وَقَوْلُهُ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى «1» فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى، وَحَسَّنَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَعَ الدِّينِ التَّسْلِيمَ وَالْقَنَاعَةَ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى قِسْمَتِهِ، فَصَاحِبُهُ يُنْفِقُ مَا رَزَقَهُ بِسَمَاحٍ وَسُهُولَةٍ فَيَعِيشُ عَيْشًا طَيِّبًا كَمَا قَالَ تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «2» وَالْمُعْرِضُ عَنِ الدِّينِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ الْحِرْصُ الَّذِي لَا يَزَالُ يُطِيحُ بِهِ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الدُّنْيَا مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ الشُّحُّ الَّذِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَعَيْشُهُ ضَنْكٌ وَحَالُهُ مُظْلِمَةٌ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ ضَنْكِي بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ وَلَا تَنْوِينَ وَبِالْإِمَالَةِ بِنَاؤُهُ صِفَةٌ عَلَى فَعَلَى مَنِ الضَّنْكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضَنْكاً بِالتَّنْوِينِ وَفَتْحَةُ الْكَافِ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنَحْشُرُهُ بِالنُّونِ، وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ بِسُكُونِ الرَّاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْفِيفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزْمًا بِالْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي تَكُنْ لَهُ مَعِيشَةٌ ضَنْكٌ وَنَحْشُرُهُ وَمِثْلُهُ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ «3» فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ وَيَذَرْهُمْ. وَقَرَأَتْ فرقة ويحشره بالياء. وقرىء وَيَحْشُرُهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ عَلَى لَفْظِ الْوَقْفِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ وَالْأَحْسَنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى لُغَةِ بَنِي كِلَابٍ وَعُقَيْلٍ فَإِنَّهُمْ يُسَكِّنُونَ مِثْلَ هَذِهِ الهاء. وقرىء لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «4» وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَعْمى الْمُرَادُ بِهِ عمى البصر كما

_ (1) سورة طه: 20/ 127. (2) سورة النحل: 16/ 97. (3) سورة الأعراف: 17/ 186. (4) سورة العاديات: 100/ 6.

قَالَ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «1» وَقِيلَ: أَعْمَى الْبَصِيرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ هَذَا لَمْ يُحِسَّ الْكَافِرُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَاتَ أَعْمَى الْبَصِيرَةِ وَيُحْشَرُ كَذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَعْمى عَنْ حُجَّتِهِ لَا حُجَّةَ لَهُ يَهْتَدِي بِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْشَرُ بَصِيرًا ثُمَّ إِذَا اسْتَوَى إِلَى الْمَحْشَرِ أَعْمى. وَقِيلَ: أَعْمى عَنِ الْحِيلَةِ فِي دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا حِيلَةَ لَهُ فِيمَا لَا يَرَاهُ. وَقِيلَ أَعْمى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنْ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الْجَبَائِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ حَشْرِهِ أَعْمى لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ فَذَمَّهُ فَإِنَّمَا يُرِيدُ عَمَى الْقَلْبِ قَالَ تَعَالَى فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَى لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى أَيْ لَا حُجَّةَ لِي وَقَدْ كُنْتُ عَالِمًا بِحُجَّتِي بَصِيرًا بِهَا أُحَاجُّ عَنْ نَفْسِي فِي الدُّنْيَا انْتَهَى. سَأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ أَنْ يُحْشَرَ أَعْمَى لِأَنَّهُ جَهِلَهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ فَقَالَ لَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ أَنْتَ، ثُمَّ فَسَّرَ بِأَنَّ آيَاتِنَا أَتَتْكَ وَاضِحَةً مُسْتَنِيرَةً فَلَمْ تَنْظُرْ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْمُعْتَبِرِ، وَلَمْ تَتَبَصَّرْ وَتَرَكْتَهَا وَعَمِيتَ عَنْهَا فَكَذَلِكَ الْيَوْمَ نَتْرُكُكَ عَلَى عَمَاكَ وَلَا نُزِيلُ غِطَاءَهُ عَنْ عَيْنَيْكَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالنِّسْيَانُ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ لَا بِمَعْنَى الذُّهُولِ، وَمَعْنَى تُنْسى تُتْرَكُ فِي الْعَذَابِ وَكَذلِكَ نَجْزِي أَيْ مِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ أَيْ مَنْ جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ أَيْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَبْقى أَيْ مِنْهُ لِأَنَّهُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ وَعَذَابُ الدُّنْيَا مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْحَشْرُ عَلَى الْعَمَى الَّذِي لَا يزوال أَبَدًا أَشَدُّ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ الْمُنْقَضِي، أَوْ أَرَادَ وَلَتَرْكُنَا إِيَّاهُ فِي الْعَمَى أَشَدُّ وَأَبْقى مِنْ تَرْكِهِ لِآيَاتِنَا. أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 97.

أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى. قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى. قرأ الجمهور يَهْدِ الياء. وَقَرَأَ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ بِالنُّونِ، وَبَّخَهُمْ تَعَالَى وَذَكَّرَهُمُ الْعِبَرَ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْقُرُونِ، وَيَعْنِي بِالْإِهْلَاكِ الْإِهْلَاكَ النَّاشِئَ عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَالْفَاعِلُ لِيَهْدِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ نَهْدِ بِالنُّونِ وَمَعْنَاهُ نُبَيِّنُ وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ الْهُدَى وَالْآرَاءُ وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدِي انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ إِذْ فِيهِ حَذْفُ الْفَاعِلِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَتَحْسِينُهُ أَنْ يُقَالَ الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ يَهْدِ هُوَ أَيِ الْهُدَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْفَاعِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَهْلَكْنا وَالْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ. قَالَ الْحَوْفِيُّ كَمْ أَهْلَكْنا قَدْ دَلَّ عَلَى هَلَاكِ الْقُرُونِ، فَالتَّقْدِيرُ أَفَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ هَلَاكَ مَنْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ وَمَحْوِ آثَارِهِمْ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ. وَقَالَ الزمخشري: فاعل فَلَمْ يَهْدِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ يُرِيدُ أَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ هَذَا بِمَعْنَاهُ وَمَضْمُونِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ «1» أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ اللَّهِ أَوِ الرَّسُولِ انْتَهَى. وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ فَاعِلًا هُوَ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ وتنظيره بقوله تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ فَإِنَّ تَرْكَنَا عَلَيْهِ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقَوْلِ فَحُكِيَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَقُلْنَا عَلَيْهِ، وَأَطْلَقْنَا عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظَ وَالْجُمْلَةُ تُحْكَى بِمَعْنَى الْقَوْلِ كَمَا تُحْكَى بِلَفْظِهِ، وَأَحْسَنُ التَّخَارِيجِ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى اللَّهِ كَأَنَّهُ قَالَ أَفَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ وَمَفْعُولُ يُبَيِّنُ مَحْذُوفٌ، أَيْ الْعِبَرَ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ السَّابِقَةِ ثُمَّ قَالَ كَمْ أَهْلَكْنا أَيْ كَثِيرًا أَهْلَكْنَا، فَكَمْ مَفْعُولُهُ بِأَهْلَكْنَا وَالْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِلْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ لِيَهْدِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فَاعِلِ يَهْدِ وَأُنْكِرَ هَذَا عَلَى قَائِلِهِ لِأَنَّ كَمِ اسْتِفْهَامٌ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا انْتَهَى. وَلَيْسَتْ كَمْ هُنَا اسْتِفْهَامًا بَلْ هِيَ خَبَرِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَهْدِ لَهُمْ فِي فَاعِلِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ أَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ لَهُمْ وَعَلَّقَ يَهْدِ هُنَا إِذْ كَانَتْ بِمَعْنَى يَعْلَمُ كَمَا عُلِّقَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ «2» انتهى.

_ (1) سورة الصافات: 37/ 87. (2) سورة إبراهيم: 14/ 45.

وكَمْ هُنَا خَبَرِيَّةٌ وَالْخَبَرِيَّةُ لَا تعلق الْعَامِلُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا تُعَلَّقُ عَنْهُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: يمشّون بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ المشي يَخْلُقُ خُطْوَةً بِخُطْوَةٍ وَحَرَكَةً بِحَرَكَةٍ وَسُكُونًا بِسُكُونٍ، فَنَاسَبَ الْبِنَاءَ لِلْمَفْعُولِ وَالضَّمِيرُ فِي يَمْشُونَ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ لَهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ الْمُوَبَّخُونَ يُرِيدُ قُرَيْشًا، وَالْعَرَبُ يَتَقَلَّبُونَ فِي بِلَادِ عَادٍ وَثَمُودَ وَالطَّوَائِفِ الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهَا إِلَى الشَّامِ وَغَيْرِهِ، وَيُعَايِنُونَ آثار هلاكهم ويَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ وَالْعَامِلُ يَهْدِ أَيْ أَلَمْ نُبَيِّنْ لِلْمُشْرِكِينَ فِي حَالِ مَشْيِهِمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ أَهْلَكْنا أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ غَارِّينَ آمِنِينَ مُتَصَرِّفِينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنِ التَّمَتُّعِ وَالتَّصَرُّفِ مَانِعٌ مِنْ مَرَضٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَجَاءَهُمُ الْإِهْلَاكُ بَغْتَةً عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُمْ بِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ أَيَ فِي ذَلِكَ التَّبْيِينِ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أَيِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يُتْرَكُ الْعَذَابُ مُعَجَّلًا عَلَى مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ هِيَ الْمُعِدَّةُ بِتَأْخِيرِ جَزَائِهِمْ فِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «1» تَقُولُ: لَوْلَا هَذِهِ الْعِدَةُ لَكَانَ مِثْلَ إِهْلَاكِنَا عادا وثمودا لَازِمًا هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ، وَاللِّزَامُ إِمَّا مَصْدَرُ لَازَمَ وُصِفَ بِهِ وَإِمَّا فِعَالٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ أَيْ مُلْزِمٌ كَأَنَّهُ آلَةٌ لِلُّزُومِ، وَلَفْظُ لُزُومِهِ كَمَا قَالُوا لِزَازُ خَصْمٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْكَلِمَةَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَتَهُ وَكُتُبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَذَّبُوا يُؤَخَّرُونَ وَلَا يُفْعَلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ انْتَهَى. وَالْأَجَلُ أَجَلُ حَيَاتِهِمْ أَوْ أَجَلُ إِهْلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَقْوَالٌ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْعَذَابُ مَا يَلْقَى فِي قَبْرِهِ وَمَا بَعْدَهُ. وَعَلَى الثَّانِي: قَتْلُهُمْ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَلَى الثَّالِثِ: هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ هُوَ اللِّزَامُ وَهُوَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى» وَالظَّاهِرُ عَطَفَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عَلَى كَلِمَةٍ وَأَخَّرَ الْمَعْطُوفَ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِجَوَابِ لَوْلا لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ وَرُؤُوسِ الْآيِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَأَجَلٌ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي كَانَ قَالَ أَيْ لَكانَ الْأَخْذُ الْعَاجِلُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَازِمَيْنِ لَهُ كَمَا كَانَا لَازِمَيْنِ لِعَادٍ وَثَمُودَ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى دُونَ الْأَخْذِ الْعَاجِلِ انتهى.

_ (1) سورة القمر: 54/ 46.

ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وَهُمُ الَّذِينَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ فِي أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَشْيَاءَ قَبِيحَةً مِمَّا نَصَّ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ وَالِاحْتِمَالِ لِمَا يَصْدُرُ مِنْ سُوءِ أَخْلَاقِهِمْ، وَأَمَرَهُ بالتسبيح والحمد لله وبِحَمْدِ رَبِّكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَأَنْتَ حَامِدٌ لِرَبِّكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ مَقْرُونًا بِالْحَمْدِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ اللَّفْظُ أَيْ قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ أُرِيدُ الْمَعْنَى وَهُوَ التَّنْزِيهُ وَالتَّبْرِئَةُ مِنَ السُّوءِ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْإِجْلَالِ، وَالْمَعْنَى اشْتَغَلَ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ صَبَّرَهُ أَوَّلًا عَلى مَا يَقُولُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَمِنْ إِظْهَارِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ مُظْهِرًا لِذَلِكَ وَدَاعِيًا، وَلِذَلِكَ مَا جَمَعَ كُلَّ الْأَوْقَاتِ أَوْ يُرَادُ الْمَجَازُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الصَّلَاةَ فَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ الْمَغْرِبُ وَالْعَتَمَةُ وَأَطْرافَ النَّهارِ الظُّهْرُ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ أَنْ يُرَادَ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى رَكْعَتَيِ الضُّحَى وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَبَّحَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَبْعِينَ تَسْبِيحَةً غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ» انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَبْلَ غُرُوبِها يَعْنِي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ لِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ النَّهَارِ بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، وَتَعَمُّدُ آناءِ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَّهارِ مُخْتَصًّا لَهَا بِصَلَاتِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ مَا كَانَ بِاللَّيْلِ لِاجْتِمَاعِ الْقَلْبِ وَهُدُوِّ الرِّجْلِ وَالْخُلُوِّ بِالرَّبِّ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ «1» وقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ «2» الْآيَتَيْنِ. وَلِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ السُّكُونِ وَالرَّاحَةِ فَإِذَا صُرِفَ إِلَى الْعِبَادَةِ كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَشَدَّ وَأَشَقَّ وَلِلْبَدَنِ أَتْعَبَ وَأَنْصَبَ، فَكَانَتْ أَدْخَلَ فِي مَعْنَى التَّكْلِيفِ وَأَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْ تَنَاوَلَ التَّسْبِيحُ فِي آناءِ اللَّيْلِ صلاة العتمة وَفي أَطْرافَ النَّهارِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةَ الْفَجْرِ عَلَى التَّكْرَارِ إِرَادَةَ الِاخْتِصَاصِ كَمَا اخْتَصَّتْ فِي قَوْلِهِ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «3» عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى. وَجَاءَ هُنَا وَأَطْرافَ النَّهارِ وَفِي هُودٍ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ «4» فَقِيلَ: جَاءَ عَلَى حَدِّ قوله: ومهمهين قذفين مَرَّتَيْنِ. ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ الترسين.

_ (1) سورة المزمل: 73/ 6. (2) سورة الزمر: 39/ 9. (3) سورة البقرة: 2/ 238. (4) سورة هود: 11/ 114. [.....]

جَاءَتِ التَّثْنِيَةُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْجَمْعُ لَا مِنَ اللَّبْسِ إِذِ النَّهَارُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا طَرَفَانِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَةِ الْجَمْعِ الْفَجْرُ الطَّرَفُ الْأَوَّلُ، وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي، وَالطَّرَفُ الثَّالِثُ الْمَغْرِبُ وَالْعَشَاءُ. وَقِيلَ: النَّهَارُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَطْرَافٍ عِنْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَعِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ وُقُوفِهَا لِلزَّوَالِ. وَقِيلَ: الظُّهْرُ فِي آخِرِ طَرَفِ النَّهَارِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّلُ طَرَفِ النَّهَارِ الْآخِرِ، فَهِيَ فِي طَرَفَيْنِ مِنْهُ، وَالطَّرَفُ الثَّالِثُ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ. وَقِيلَ: يَجْعَلُ النَّهَارَ لِلْجِنْسِ فَلِكُلِّ يَوْمٍ طَرَفٌ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَطْرَافِ السَّاعَاتُ لِأَنَّ الطَّرَفَ آخِرُ الشَّيْءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَطْرافَ بِنَصْبِ الْفَاءِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عمر وَأَطْرافَ بِخَفْضِ الْفَاءِ عَطْفًا عَلَى آناءِ. لَعَلَّكَ تَرْضى أَيْ تُثَابُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِالثَّوَابِ الَّذِي تَرَاهُ وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ لَا عَلَى الْقَطْعِ. وَقِيلَ: لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبَانُ وَعِصْمَةُ وَأَبُو عُمَارَةَ عَنْ حَفْصٍ وَأَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ تَرْضَى بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ يُرْضِيكَ رَبُّكَ. وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ وَبِالتَّسْبِيحِ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ مَدِّ البصر إلى ما متع بِهِ الْكَفَرَةُ يُقَالُ: مَدَّ البصر إلى ما متع بِهِ الْكُفَّارُ، يُقَالُ: مَدَّ نَظَرَهُ إِلَيْهِ إِذَا أَدَامَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَالْفِكْرَةُ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَلَا تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِمَّا مَتَّعْنَاهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ وَمَنَازِلَ وَمَرَاكِبَ وَمَلَابِسَ وَمَطَاعِمَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ كَالزَّهْرَةِ الَّتِي لَا بَقَاءَ لَهَا وَلَا دَوَامَ، وَإِنَّهَا عَمَّا قَلِيلٍ تَفْنَى وَتَزُولُ. وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فالمراد أمته وهو كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْعَدَ شَيْءٍ عَنِ النَّظَرِ فِي زِينَةِ الدُّنْيَا وَأَعْلَقَ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي الدُّنْيَا «مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» وَكَانَ شَدِيدَ النَّهْيِ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَالنَّظَرِ إِلَى زُخْرُفِهَا وَلا تَمُدَّنَّ أَبْلَغُ مِنْ لَا تَنْظُرْ لِأَنَّ مَدَّ الْبَصَرِ يَقْتَضِي الْإِدَامَةَ وَالِاسْتِحْسَانَ بِخِلَافِ النَّظَرِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَهُ وَالْعَيْنُ لَا تُمَدُّ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ لَا تَمُدَّنَّ نَظَرَ عَيْنَيْكَ وَالنَّظَرُ غَيْرُ الْمُمَدَّدِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَاجَأَ الشَّيْءَ ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ. وَالنَّظَرُ إِلَى الزَّخَارِفِ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبَائِعِ فَمَنْ رَأَى مِنْهَا شَيْئًا أَحَبَّ إِدْمَانَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقَدْ شَدَّدَ الْمُتَّقُونَ فِي غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ أَبْنِيَةِ الظَّلَمَةِ وَعِدَدِ الْفَسَقَةِ مَرْكُوبًا وَمَلْبُوسًا وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّخَذُوهَا لِعُيُونَ النَّظَّارَةِ حَتَّى يَفْتَخِرُوا بِهَا، فَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا مُحَصِّلٌ لِغَرَضِهِمْ وَكَالْمُغْرِي لَهُمْ عَلَى اتِّخَاذِهَا. وَانْتَصَبَ أَزْواجاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَصْنَافًا مِنَ

الكفرة ومِنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَأَزْوَاجًا أَيْ أَصْنَافًا وَأَقْوَامًا مِنَ الْكَفَرَةِ. كَمَا قَالَ: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ «1» . وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ أَزْواجاً عَنِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ ومَتَّعْنا مَفْعُولُهُ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ إِلَى الَّذِي مَتَّعْنَا بِهِ وَهُوَ أَصْنَافُ بَعْضِهِمْ، وَنَاسًا منهم. وزَهْرَةَ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِمَتَّعْنَا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى أَعْطَيْنَا أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ أَزْواجاً عَلَى تَقْدِيرِ ذَوِي زَهْرَةَ، أَوْ جَعْلِهِمْ زَهْرَةَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَتَّعْنا أَيْ جَعَلْنَا لَهُمْ زَهْرَةَ أَوْ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ، أَوْ مَا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْ زَهْرَةَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَخَبَرُ الْحَياةِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا وَكُلُّ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ مَنْقُولٌ وَالْأَخِيرُ اخْتَارَهُ مَكِّيٌّ، وَرَدَّ كَوْنَهُ بَدَلًا مِنْ مَحَلِّ مَا لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بِالْبَدَلِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَهِيَ مَتَّعْنا وَمَعْمُولِهَا وَهُوَ لِنَفْتِنَهُمْ فَالْبَدَلُ وَهُوَ زَهْرَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَهْرَةَ بِسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو البر هيثم وَأَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ وَحُمَيدٌ وَسَلَامٌ وَيَعْقُوبُ وَسَهْلٌ وَعِيسَى وَالزُّهْرِيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ لِنُفْتِنَهُمْ بِضَمِّ النُّونِ مَنْ أَفْتِنُهُ إِذَا جَعَلَ الْفِتْنَةَ وَاقِعَةً فِيهِ، وَالزُّهْرَةُ وَالزَّهْرَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْجَهْرَةِ وَالْجُهْرَةِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي زَهْرَةَ الْمَفْتُوحِ الْهَاءِ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ زَاهِرٍ نَحْوَ كَافِرٍ وَكَفَرَةٍ، وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ زَاهِرٌ وَهَذِهِ الدُّنْيَا الصَّفَاءُ أَلْوَانُهُمْ مِمَّا يَلْهُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ وَتَهَلُّلُ وُجُوهِهِمْ وَبَهَاءُ زِيِّهِمْ وَشَارَّتِهِمْ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالصُّلَحَاءُ مِنْ شُحُوبِ الْأَلْوَانِ وَالتَّقَشُّفِ فِي الثِّيَابِ، وَمَعْنَى لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أَيْ لِنَبْلُوَهُمْ حَتَّى يَسْتَوْجِبُوا الْعَذَابَ لِوُجُودِ الْكُفْرَانِ مِنْهُمْ أَوْ لِنُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِهِ. وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ مَا ذُخِرَ لَهُمْ مِنَ الْمَوَاهِبِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا مُتِّعَ بِهِ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَأَبْقى أَيْ أَدْوَمُ. وَقِيلَ: مَا رَزَقَهُمْ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا خَيْرٌ مِمَّا رُزِقُوا وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْحِلْيَةِ ذَلِكَ وَحُرْمِيَّةَ هَذَا. وَقِيلَ: مَا رُزِقْتَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْغَنَائِمِ. وَقِيلَ: الْقَنَاعَةُ. وَقِيلَ: ثَوَابُ اللَّهِ عَلَى الصَّبْرِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالدُّنْيَا. وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَهَاهُ عَنْ مَدِّ بَصَرِهِ إِلَى مَا مُتِّعَ بِهِ

_ (1) سورة ص: 38/ 58.

الْكُفَّارُ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ آكَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَهُ بِالِاصْطِبَارِ عَلَى مُدَاوَمَتِهَا وَمَشَاقِّهَا وَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ عَنْهَا، وَأَخْبَرَهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَسْأَلَهُ أَنْ يَرْزُقَ نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَيَدْأَبَ فِي ذَلِكَ، بَلْ أَمَرَهُ بِتَفْرِيغِ بَالِهِ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَيَدْخُلُ فِي خِطَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّتُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَرْزُقُكَ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: مِنْهُمُ وابن وَثَّابٍ بِإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ وَجَاءَ ذَلِكَ عَنْ يَعْقُوبَ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَإِنَّمَا امْتَنَعَ أَبُو عَمْرٍو مِنْ إِدْغَامِ مِثْلِهِ بَعْدَ إِدْغَامِهِ نَرْزُقُكُمْ وَنَحْوَهَا لِحُلُولِ الْكَافِ مِنْهُ طَرَفًا وَهُوَ حَرْفُ وَقْفٍ، فَلَوْ حُرِّكَ وَقْفًا لَكَانَ وُقُوفُهُ عَلَى حَرَكَةٍ وَكَانَ خُرُوجًا عَنْ كَلَامِهِمْ. وَلَوْ أَشَارَ إِلَى الْفَتْحِ لَكَانَ الْفَتْحُ أَخَفَّ مِنْ أَنْ يَتَبَعَّضَ بَلْ خُرُوجُ بَعْضِهِ كَخُرُوجِ كُلِّهِ، وَلَوْ سَكَّنَ لَأَجْحَفَ بِحَرْفٍ. وَلَعَلَّ مَنْ أَدْغَمَ ذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ يَقُولُ جَعْفَرٌ وَعَامِرٌ وَتَفَعَّلَ فَيُشَدَّدُ وَقْفًا أَوْ أُدْغِمَ عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يَقِفَ بِحَالٍ فَيَصِيرُ الطَّرَفُ كَالْحَشْوِ انْتَهَى. والْعاقِبَةُ أَيِ الْحَمِيدَةُ أَوْ حُسْنُ الْعَاقِبَةِ لِأَهْلِ التَّقْوَى وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ هَذِهِ عَادَتُهُمْ فِي اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ بِآيَاتٍ، فَاقْتَرَحُوا هُمْ مَا يَخْتَارُونَ عَلَى دَيْدَنِهِمْ فِي التَّعَنُّتِ فَأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى أَيِ القرآن الذي سبق التبشير به وَبِإِيحَائِي مِنَ الرُّسُلِ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ السَّابِقَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ الْآيَاتِ فِي الْإِعْجَازِ وَهِيَ الْآيَةُ الْبَاقِيَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ تَأْتِهِمْ بِالتَّاءِ عَلَى لَفْظِ بَيِّنَةٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مناذر وخلف وأبو عُبَيْدَةَ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ يَأْتِهِمْ بِالْيَاءِ لِمَجَازِ تَأْنِيثِ الْآيَةِ وَالْفَصْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ بَيِّنَةُ إِلَى مَا وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالتَّنْوِينِ وما بَدَلٌ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا نَفْيًا وَأُرِيدَ بِذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ النَّاسِخِ وَالْفَصْلُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِنَصْبِ بَيِّنَةُ والتنوين وما فاعل بتأتهم وبَيِّنَةُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، فَمَنْ قَرَأَ يَأْتِهِمْ بِالْيَاءِ فَعَلَى لَفْظِ مَا وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ رَاعَى الْمَعْنَى لِأَنَّهُ أَشْيَاءُ مُخْتَلِفَةٌ وَعُلُومُ مَنْ مَضَى وَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الصُّحُفِ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَفِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِإِسْكَانِهَا وَالضَّمِيُرُ فِي ضَمِنَ قَبْلَهُ يَعُودُ عَلَى الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرْهَانِ، وَالدَّلِيلُ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ قَبْلَ إِرْسَالِهِ

مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ وَالذُّلُّ وَالْخِزْيِ مُقْتَرِنَانِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ نَذِلَّ في الدنيا ونَخْزى فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الذُّلُّ الْهَوَانُ وَالْخِزْيُ الِافْتِضَاحُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَذِلَّ وَنَخْزى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بن الْحَنَفِيَّةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةِ عَبَّادٍ وَالْعُمَرِيُّ وَدَاوُدُ وَالْفَزَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَيَعْقُوبُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا أَيْ مُنْتَظِرٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ وَأَفْرَدَ الْخَبَرَ وَهُوَ مُتَرَبِّصٌ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ كُلٌّ كَقَوْلِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «1» وَالتَّرَبُّصُ التَّأَنِّي وَالِانْتِظَارُ للمفرج ومَنْ أَصْحابُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ عُلِّقَ عَنْهُ فَسَتَعْلَمُونَ وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي فَتَكُونُ مَفْعُولَةً بفستعلمون وأَصْحابُ خبر مبتدأ محذوف تقديره الَّذِي هُمْ أَصْحَابُ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ إِذْ يُجِيزُونَ حَذْفَ مِثْلَ هَذَا الضَّمِيرِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الصِّلَةِ طُولٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْصُولُ أَيًّا أَمْ غَيْرَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ السَّوِيِّ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أَيِ الْمُسْتَوِي. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ السَّوَاءُ أَيِ الْوَسَطُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ يَعْمَرَ السُّوأَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى أُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الصِّراطِ وَهُوَ مِمَّا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ الْأَسْوَاءِ مِنَ السُّوأَى عَلَى ضِدِّ الِاهْتِدَاءِ قُوبِلَ بِهِ وَمَنِ اهْتَدى عَلَى الضِّدِّ وَمَعْنَاهُ فَسَتَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ مَنْ عَلَى الضَّلَالِ وَمَنْ عَلَى الْهُدَى، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ الصِّرَاطُ السُّوءُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَرَآ السُّوأَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ السُّووَى إِذْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُمَا فَخَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا وَاوًا وَأَدْغَمَ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فُعْلَى مَنِ السَّوَاءِ أُبْدِلَتْ يَاؤُهُ وَاوًا وَأُدْغِمَتِ الواو وفي الْوَاوِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَمَّا بُنِيَ فُعْلَى مَنِ السواء ان يَكُونُ السُّوَيَا فَتَجْتَمِعُ وَاوٌ وَيَاءٌ، وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَتُقْلَبُ الْوَاوُ يَاءً وَتُدْغَمُ فِي الْيَاءِ، فَكَانَ يَكُونُ التركيب السياء. وقرىء السُوَيُّ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَشَدِّ الْيَاءِ تَصْغِيرُ السُّوءِ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ إِذْ لَوْ كَانَ تَصْغِيرَ سُوءٍ لَثَبَتَتْ هَمْزَتُهُ فِي التَّصْغِيرِ، فَكُنْتَ تَقُولَ سُؤْيِي وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرَ سَوَاءٍ كَمَا قَالُوا فِي عَطَاءٍ عُطَيٍّ. وَمَنْ قَرَأَ السُّوأَى أَوِ السُّوءِ كَانَ فِي ذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِقَوْلِهِ وَمَنِ اهْتَدى وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَمْ تُرَاعَ الْمُقَابَلَةُ فِي الِاسْتِفْهَامِ.

_ (1) سُورَةُ الإسراء: 17/ 84.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء ترتيبها 21 سورة الأنبياء آياتها 112 مكية [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 50] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

الْقَصْمُ: كَسْرُ الشَّيْءِ الصُّلْبِ حَتَّى يَبِينَ تَلَاؤُمُ أَجْزَائِهِ. الرَّكْضُ: ضَرْبُ الدَّابَّةِ بِالرِّجْلِ. خَمَدَتِ النَّارُ: طُفِئَتْ. دَمِغَهُ: أَصَابَ دِمَاغَهُ، نَحْوَ كَبِدَهُ وَرَأِسَهُ أَصَابَ كَبِدَهُ وَرَأْسَهُ. رَتَقَ الشَّيْءَ: سَدَّهُ فَارْتَتَقَ وَمِنْهُ الرَّتْقَاءُ لِلْمُنْضَمَّةِ الْفَرْجِ. فَتَقَ: فَصَلَ مَا بَيْنَ الْمُتَّصِلَيْنِ. الْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْمُتَّسِعُ. السَّبْحُ: الْعَوْمُ، كَلَأَهُ: حَفِظَهُ يَكْلَؤُهُ كِلَاءَةً. وَيُقَالُ: اذْهَبْ فِي كِلَاءَةِ اللَّهِ وَاكْتَلَأْتُ مِنْهُ احْتَرَسْتُ. وَقَالَ ابْنُ هَرْمَةَ: إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا النَّفْخَةُ: الْخُطْوَةُ، وَنَفَخَ لَهُ مِنْ عَطَايَاهُ أَجْزَأَهُ نَصِيبًا. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا رُبْدَةٌ مِنْ حَيْثُ مَا نَفَخَتْ لَهُ ... إِيَّاهُ بَرَيَاهَا خَلِيلٌ يُوَاصِلُهُ الْخَرْدَلُ: حَبٌّ مَعْرُوفٌ. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: الْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطه، وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَّلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي أَي مِنْ قَدِيمِ مَا حَفِظْتُ وَكَسَبْتُ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْمَالِ التِّلَادِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا «1» قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ: مُحَمَّدٌ يُهَدِّدُنَا بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنْ صَحَّ فَفِيهِ بُعْدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، واقْتَرَبَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ وَهُوَ قَرُبَ كَمَا تَقُولُ: ارْتَقَبَ وَرَقَبَ. وَقِيلَ: هُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَرُبَ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي فِي الْبِنَاءِ. وَالنَّاسُ مُشْرِكُو مَكَّةَ. وَقِيلَ: عَامٌّ فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَاقْتِرَابُ الْحِسَابِ اقْتِرَابُ وَقْتِهِ وَالْحِسَابُ فِي اللُّغَةِ إِخْرَاجُ الْكَمِّيَّةِ مِنْ مَبْلَغِ الْعَدَدِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَحْسُوبِ وَجَعَلَ ذَلِكَ اقْتِرَابًا لِأَنَّ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ وَإِنْ طَالَ وَقْتُ انْتِظَارِهِ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُوَ الَّذِي انْقَرَضَ أَوْ هُوَ مُقْتَرِبٌ عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «2» أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ أَقْصَرُ وَأَقَلُّ مِمَّا مَضَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» . قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا زَالَ مَنْ يَهْوَاهُ أَقْرَبَ مِنْ غَدِ ... وَمَا زَالَ مَنْ يَخْشَاهُ أَبْعَدَ مِنْ أَمْسِ ولِلنَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِاقْتَرَبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ اللَّامُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ صِلَةً لَاقْتَرَبَ، أَوْ تَأْكِيدًا لِإِضَافَةِ الْحِسَابِ إِلَيْهِمْ كَمَا تَقُولُ أَزُفُّ لِلْحَيِّ رَحِيلَهُمْ، الْأَصْلُ أَزُفُّ رَحِيلَ الْحَيِّ ثُمَّ أَزُفُّ لِلْحَيِّ رَحِيلَهُمْ وَنَحْوُهُ مَا أَوْرَدَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يُثَنَّى فِيهِ الْمُسْتَقِرُّ تَوْكِيدًا عَلَيْكَ زِيدٌ حَرِيصٌ عَلَيْكَ، وَفِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا أَبَا لَكَ لِأَنَّ اللَّامَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَغْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ انْتَهَى يَعْنِي بِقَوْلِهِ صِلَةٌ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِاقْتَرَبَ، وَأَمَّا جَعْلُهُ اللَّامَ تَأْكِيدًا لِإِضَافَةِ الْحِسَابِ إِلَيْهِمْ مَعَ تَقَدُّمِ اللَّامِ وَدُخُولِهَا عَلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَيَحْتَاجُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بحسابهم

_ (1) سورة طه: 20/ 135. (2) سورة الحج: 22/ 47.

لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مَوْصُولٌ وَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَالتَّوْكِيدُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمُؤَكَّدِ وَأَيْضًا فَلَوْ أُخِّرَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ بِمَا أَوْرَدَ سِيبَوَيْهِ فَالْفَرْقُ وَاضِحٌ لِأَنَّ عَلَيْكَ مَعْمُولٌ لِحَرِيصٍ، وَعَلَيْكَ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ تَوْكِيدًا وَكَذَلِكَ فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ يَتَعَلَّقُ فِيكَ بِرَاغِبٍ، وَفِيكَ الثَّانِيَةُ تَوْكِيدٌ، وَإِنَّمَا غَرَّهُ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ تَرْكِيبِ حِسَابِ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ أَزَفَ رَحِيلُ الْحَيِّ فَاعْتَقَدَ إِذَا تَقَدَّمَ الظَّاهِرُ مَجْرُورًا بِاللَّامِ وَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ لِضَمِيرِهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ وَلَيْسَ مثله، وأمّا لا أبالك فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَفِيهَا خِلَافٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّامَ جَاوَرَتِ الْإِضَافَةَ وَلَا يُقَاسُ عَلَى مِثْلِهَا غَيْرُهَا لِشُذُوذِهَا وَخُرُوجِهَا عَنِ الْأَقْيِسَةِ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَالْوَاوُ فِي وَهُمْ وَاوُ الْحَالِ. وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِخِبْرَيْنِ ظَاهِرُهُمَا التَّنَافِي لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنِ الشَّيْءِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ مُتَنَافِيَانِ، لَكِنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَوَّلًا أَنَّهُمْ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِي عَاقِبَةٍ بَلْ هُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ثَانِيًا أَنَّهُمْ إِذَا نَبِهُوا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَذُكِّرُوا بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ، وَالذِّكْرُ هُنَا مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ أَقْوَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الشَّرِيعَةِ وَوَعْظِهِ وَتَذْكِيرِهِ وَوَصْفِهِ بِالْحُدُوثِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ لِنُزُولِهِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ. وَسُئِلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ مُحْدَثُ النُّزُولِ مُحْدَثُ الْمَقُولِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَقَالَ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا «1» وَقَدِ احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى حُدُوثِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ مُحْدَثٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُحْدَثٍ بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِذِكْرٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِذِكْرٍ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ ذِكْرٍ إِذْ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ مِنْ رَبِّهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ رَبِّهِمْ بِيَأْتِيهِمْ. واسْتَمَعُوهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَذُو الْحَالِ الْمَفْعُولُ فِي مَا يَأْتِيهِمْ وَهُمْ يَلْعَبُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ اسْتَمَعُوهُ ولاهِيَةً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَلْعَبُونَ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ اسْتَمَعُوهُ فَيَكُونُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَاللَّاهِيَةُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ لَهِي عَنْهُ إِذَا ذَهَلَ وَغَفَلَ يَلْهَى لَهْيًا وَلِهْيَانًا، أَيْ وَإِنْ فَطِنُوا لَا يُجْدِي ذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ وَعَدَمِ التَّبَصُّرِ بِقُلُوبِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَعِيسَى لاهِيَةً بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لقوله وَهُمْ.

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 10.

والنَّجْوَى مِنَ التَّنَاجِي وَلَا يَكُونُ إِلَّا خُفْيَةٍ فَمَعْنَى وَأَسَرُّوا بَالَغُوا فِي إِخْفَائِهَا أَوْ جَعَلُوهَا بِحَيْثُ لَا يَفْطُنُ أَحَدٌ لِتَنَاجِيهِمْ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُتَنَاجُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيدٍ: أَسَرُّوا هُنَا مِنَ الْأَضْدَادِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخْفَوْا كَلَامِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرُوهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: فَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ ... أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا فِي الْإِخْفَاءِ، وَإِنَّمَا أَسَرُّوا الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّشَاوُرِ، وَعَادَةُ الْمُتَشَاوِرِينَ كِتْمَانُ سِرِّهِمْ عَنْ أَعْدَائِهِمْ، وَأَسَرُّوهَا لِيَقُولُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ إِنْ مَا تَدْعُونَهُ حَقًّا فَأَخْبَرُونَا بِمَا أَسْرَرْنَاهُ وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وُجُوهًا الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ وَالْجَرَّ، فَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ وَأَسَرُّوا إِشْعَارًا أَنَّهُمُ الْمَوْسُومُونَ بِالظُّلْمِ الْفَاحِشِ فِيمَا أَسَرُّوا بِهِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَعَزَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى سِيبَوَيْهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَالْوَاوُ فِي أَسَرُّوا عَلَّامَةٌ لِلْجَمْعِ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمَا. قِيلَ وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ. قِيلَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لُغَةٌ حَسَنَةٌ، وَهِيَ من لغة أزدشنوءة وَخَرَجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ «1» وَقَالَ شَاعِرُهُمْ: يَلُومُونَنِي فِي اشْتِرَاءِ ... النَّخِيلِ أَهْلِي وَكُلُّهُمْ أَلُومُ أَوْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى خَبَرُهُ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ فَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: وَهَؤُلَاءِ أَسَرُّوا النَّجْوَى فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَسْجِيلًا عَلَى فِعْلِهِمْ أَنَّهُ ظَلَمَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ الْقَوْلِ وَحُذِفَ أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْقَوْلُ كَثِيرًا يُضْمَرُ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ بَعْدَهُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ أَسَرَّهَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقِيلَ: الَّذِينَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ وَالنَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَالْجَرُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلنَّاسِ أَوْ بَدَلًا فِي قَوْلِهِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ. هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ أَيْ كَيْفَ خُصَّ بِالنُّبُوَّةِ دُونَكُمْ مَعَ مُمَاثَلَتِهِ لَكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَإِنْكَارُهُمْ وَتَعَجُّبُهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا ملكا. وأَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ والسِّحْرَ عَنَوْا بِهِ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ وَالذِّكْرُ الْمَتْلُوُّ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَفَتُحْضِرُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 71.

تُبْصِرُونَ أَنَّهُ سِحْرٌ وَأَنَّ مَنْ أَتَى بِهِ هُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَكَيْفَ تَقْبَلُونَ مَا أَتَى بِهِ وَهُوَ سِحْرٌ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الرَّسُولَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَلَكًا وَأَنَّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ مِنَ الْبَشَرِ وَجَاءَ بِمُعْجِزَةٍ فَهُوَ سَاحِرٌ وَمُعْجِزَتُهُ سِحْرٌ، وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ الِاسْتِفْهَامِيَّتَانِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَعَلِّقَتَانِ بِقَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى وَأَنَّهُمَا مَحْكِيَّتَانِ بِقَوْلِهِ لِلنَّجْوَى لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْخَفِيِّ، فَهُمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِالنَّجْوَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بَدَلًا مِنَ النَّجْوَى أَيْ وَأَسَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَالُوا مُضْمَرًا انْتَهَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ والأعمش وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَيُّوبُ وَخَلَفٌ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ قالَ رَبِّي عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ عَنْ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قُلْ عَلَى الْأَمْرِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَقْوَالَكُمْ هَذِهِ، وَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا والْقَوْلَ عَامٌّ يَشْمَلُ السِّرَّ وَالْجَهْرَ، فَكَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ الْقَوْلَ عِلْمُ السِّرِّ وَزِيَادَةٌ، وَكَانَ آكَدَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى نَجْوَاهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ الْعَلِيمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُكُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ مَا أَتَى بِهِ سِحْرٌ ذَكَرَ اضْطِرَابَهُمْ فِي مَقَالَاتِهِمْ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَضْرَبُوا عَنْ نسبة السحر إليه وقالُوا مَا يَأْتِي بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عن هذا فقالوا بَلِ افْتَراهُ أَيِ اخْتَلَقَهُ وَلَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ هَذَا فَقَالُوا بَلْ هُوَ شاعِرٌ وَهَكَذَا الْمُبْطِلُ لَا يَثْبُتُ عَلَى قَوْلٍ بَلْ يَبْقَى مُتَحَيِّرًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا صَدَرَتْ مِنْ قَائِلِينَ مُتَّفِقِينَ انْتَقَلُوا مِنْ قَوْلٍ إِلَى قَوْلٍ أَوْ مُخْتَلِفِينَ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَقَالَةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلًا مِنَ اللَّهِ لِأَقْوَالِهِمْ فِي دَرَجِ الْفَسَادِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمُ الثَّانِيَ أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ أَفْسَدُ مِنَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ الرَّابِعُ مِنَ الثَّالِثِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ثُمَّ حَكَى قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ شَاعِرٌ وَهِيَ مَقَالَةُ فِرْقَةٍ عَامِّيَّةٍ لِأَنَّ بَنَاتَ الشِّعْرِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ بِالْبَدِيهَةِ، وَإِنَّ مَبَانِيَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مَبَانِيَ شِعْرٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ وَتَرْتِيبُ كَلَامِهِمْ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا لِلَّهِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ ثَمَّ إِمَّا أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ خَارِجَةٌ عَنْ مِقْدَارِ الْبَشَرِ قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سِحْرًا وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْ عَلَيْهِ فَإِنِ ادَّعَيْنَا كَوْنَهُ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ قُلْنَا إِنَّهُ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَإِنِ

ادَّعَيْنَا أَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الرَّكَاكَةِ وَالْفَصَاحَةِ قُلْنَا إِنَّهُ افْتِرَاءٌ، وَإِنِ ادَّعَيْنَا أَنَّهُ كَلَامٌ فَصِيحٌ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ فَصَاحَةِ سَائِرِ الشِّعْرِ، وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا. وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ تَقْدِيرِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَالُوا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا إِمْهَالَ بَعْدَهَا كَالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «1» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِحَّةُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى كَمَا أَتَى الْأَوَّلُونَ بِالْآيَاتِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِتْيَانِ بِالْآيَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ أَتَى مُحَمَّدٌ بِالْمُعْجِزَةِ، وَأَنْ تَقُولَ: أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ بِالْمُعْجِزَةِ انْتَهَى. وَالْكَافُ فِي كَما أُرْسِلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِآيَةٍ، وَمَا أُرْسِلَ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ وَالْمَعْنَى بِآيَةٍ مِثْلِ آيَةِ إِرْسَالِ الْأَوَّلِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِتْيَانًا مِثْلَ إِرْسَالِ الْأَوَّلِينَ أَيْ مِثْلِ إِتْيَانِهِمْ بِالْآيَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي طَلَبُوهَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ اللَّهُ بِآيَةٍ مُقْتَرَحَةٍ إلا أتى بالعذاب بعدها. وَأَرَادَ تَعَالَى تَأْخِيرَ هَؤُلَاءِ وَفِي قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ. ثُمَّ أَجَابَ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ بِقَوْلِهِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَالْمُرَادُ بِهِمْ قَوْمُ صَالِحٍ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرُهُمَا، وَمَعْنَى أَهْلَكْناها حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا بِمَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ اسْتِبْعَادٌ وَإِنْكَارٌ أَيْ هَؤُلَاءِ أَعْنِي مِنَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمُ الْآيَاتِ وَعَهِدُوا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهَا، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ نَكَثُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَلَوْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ مَا اقْتَرَحُوا لَكَانُوا أَنْكُثَ مِنْ أُولَئِكَ، وَكَانَ يَقَعُ اسْتِئْصَالُهُمْ وَلَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْقَائِهِمْ لِيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ وَيُخْرِجَ مِنْهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عند الله من جِنْسِ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا أَيْ بَشَرًا وَلَمْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً كَمَا اعْتَقَدُوا، ثُمَّ أَحَالَهُمْ عَلَى أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُشَايِعِينَ لِلْكُفَّارِ سَاعِينَ فِي إِخْمَادِ نُورِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ إِرْسَالِ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَكُنْ لَهَا كِتَابٌ سَابِقٌ وَلَا أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَهْلَ الذِّكْرِ هُمْ أَحْبَارُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَشَهَادَتُهُمْ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ فِي إِرْسَالِ اللَّهِ الْبَشَرَ هَذَا مَعَ مُوَافَقَةِ قُرَيْشٍ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهَادَتُهُمْ لَا مَطْعَنَ فِيهَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَنَا مِنْ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 90.

أَهْلِ الذِّكْرِ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ أَهْلَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خُصُومَهُمْ انْتَهَى. وَقِيلَ أَهْلَ الذِّكْرِ هُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ بِالسَّيْرِ وَقِصَصِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْحَصُونَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِذَا كَانَ أَهْلَ الذِّكْرِ أُرِيدَ بِهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ جَازَ أَنْ يُسْأَلُوا وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُمْ كُفَّارًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوحَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَحَفْصٌ نُوحِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الحاء والجسد يَقَعُ عَلَى مَا لَا يَتَغَذَّى مِنَ الْجَمَادِ. وَقِيلَ: يقع على المتغذي وَغَيْرِهِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ النَّفْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى الْجَسَدِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُثْبَتًا، وَالنَّفْيُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى صِفَتِهِ وَوَحَّدَ الْجَسَدَ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ قَالَ: ذَوِي ضَرْبٍ مِنَ الْأَجْسَادِ، وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ تَقْتَضِي الْجِسْمِيَّةَ الْحَيَوَانِيَّةَ، وَهَذِهِ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ مَادَّةٍ تَقُومُ بِهَا، وَقَدْ خَرَجُوا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَلَمَّا أَثْبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَجْسَادًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَآلُهُمْ إِلَى الْفَنَاءِ وَالنَّفَادِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخُلُودَ وَهُوَ الْبَقَاءُ السَّرْمَدِيُّ أَوِ الْبَقَاءُ الْمُدَّةَ الْمُتَطَاوِلَةَ أَيْ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ بَشَرٌ أَجْسَادٌ يُطْعَمُونَ وَيَمُوتُونَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَالَّذِي صَارُوا بِهِ رُسُلًا هُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَعِصْمَتُهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَادِحَةِ فِي التَّبْلِيغِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ ذَكَرَ تَعَالَى سِيرَتَهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ فَكَذَلِكَ يَصْدُقُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ النَّصْرِ وَظُهُورِ الْكَلِمَةِ، فَهَذِهِ عِدَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ووعيد للكافرين وصَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ مِنْ بَابِ اخْتَارَ وَهُوَ مَا يَتَعَدَّى الْفِعْلُ فِيهِ إِلَى وَاحِدٍ وَإِلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ أَيْ فِي الْوَعْدَ وَهُوَ بَابٌ لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ مِنْ ذَلِكَ أَفْعَالٌ قَلِيلَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ وَنَظِيرُ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ قَوْلُهُمْ: صَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ وَصَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ وَصَدَقْتُ زَيْدًا الحديث ومَنْ نَشاءُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمُسْرِفُونَ هُمُ الْكُفَّارُ الْمُفْرِطُونَ فِي غَيِّهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ فَهُوَ مُفَرِّطٌ مُسْرِفٌ وَإِنْجَاؤُهُمْ مِنْ شَرِّ أَعْدَائِهِمْ وَمِنَ الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِأَعْدَائِهِمْ. وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَعْدِهِ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ذِكْرُكُمْ شَرَفُكُمْ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ ذِكْرُ دِينِكُمْ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِيهِ حَدِيثُكُمْ،

وَعَنْ سُفْيَانَ مَكَارِمُ أَخْلَاقِكُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِكُمْ. وَقِيلَ: تَذْكِرَةٌ لِتَحْذَرُوا مَا لَا يَحِلُّ وَتَرْغَبُوا فِيمَا يَجِبُ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ ذِكْرُ مَشَانِئِكُمْ وَمَثَالِبِكُمْ وما عاملتم بِهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ ذَمًّا لَهُمْ وَلَيْسَتْ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى سِيَاقِهِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ إِنْكَارًا عليهم على إهمالهم المتدبر وَالتَّفَكُّرَ الْمُؤَدِّيَيْنِ إِلَى اقْتِضَاءِ الْغَفْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِيهِ شَرَفَكُمْ وَذِكْرَكُمْ آخِرَ الدَّهْرِ كما نذكر عظام الْأُمُورِ، وَفِي هَذَا تَحْرِيضٌ ثُمَّ أَكَّدَ التَّحْرِيضَ بِقَوْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَحَرَّكَهُمْ بِذَلِكَ إِلَى النَّظَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوَهُ قَالَ: ذِكْرُكُمْ شَرَفُكُمْ وَصِيتُكُمْ كَمَا قَالَ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» أَوْ مَوْعِظَتِكُمْ أَوْ فِيهِ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ بِهَا الثَّنَاءَ، وَحُسْنُ الذِّكْرِ كَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالسَّخَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ. لَمَّا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَا قَالُوهُ بَالَغَ تَعَالَى فِي زَجْرِهِمْ بِذِكْرِ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرَى، فَقَالَ: وَكَمْ قَصَمْنا وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا إِذْ لَا تُوصَفُ الْقَرْيَةُ بِالظُّلْمِ كَقَوْلِهِ مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها «2» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أنشأه فنشأ وهو ناشىء وَالْجَمْعُ نُشَّاءٌ كَخَدَمٍ، وَالْقَصْمُ أَفْظَعُ الْكَسْرِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِهْلَاكِ الشَّدِيدِ وَكَمْ تَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، فَالْمَعْنَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا شَدِيدًا مُبَالَغًا فِيهِ. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا حَضُورَاءُ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ أَنَّهُمَا قَرْيَتَانِ بِالْيَمَنِ بَطَرَ أَهْلُهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ كَمْ تَقْتَضِي التَّكْثِيرَ. وَمِنْ حَدِيثِ أَهْلِ حَضُورَاءَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَقَتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ كما

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 44. (2) سورة النساء: 4/ 75.

سَلَّطَهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ بَعَثَ آخَرَ فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ فَهَزَمَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا أَخَذَ الْقَتْلُ فِيهِمْ رَكَضُوا هَارِبِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أَيْ بَاشَرُوهُ بِالْإِحْسَاسِ وَالضَّمِيرُ فِي أَحَسُّوا عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْمَحْذُوفِ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ وَلَا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ قَوْماً آخَرِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ ذَنْبٌ يَرْكُضُونَ مِنْ أَجْلِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى بَأْسَنا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشِّدَّةِ، فَأُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى وَمِنْ عَلَى هَذَا السَّبَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَدْرَكَتْهُمْ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ رَكِبُوا دَوَابَّهُمْ يَرْكُضُونَهَا هَارِبِينَ مُنْهَزِمِينَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ شُبِّهُوا فِي سُرْعَةِ عَدْوِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ بِالرَّاكِبِينَ الرَّاكِضِينَ لِدَوَابِّهِمْ فَهُمْ يَرْكُضُونَ الْأَرْضَ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا قَالَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ «1» وَجَوَابُ لَمَّا إِذا الْفُجَائِيَّةُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهَذَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ لَمَّا فِي هَذَا التَّرْكِيبِ حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: لَا تَرْكُضُوا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ رِجَالِ بُخْتُ نَصَّرَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أنهم خدعوهم واستهزؤا بِهِمْ بِأَنْ قَالُوا لِلْهَارِبِينَ مِنْهُمْ: لَا تَفِرُّوا وَارْجِعُوا إلى منازلكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ صُلْحًا أَوْ جِزْيَةً أَوْ أَمْرًا يُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَمَرَ بُخْتُ نَصَّرَ أَنْ يُنَادَى فِيهِمْ يَا لَثَارَّاتِ النَّبِيِّ الْمَقْتُولِ فَقُتِلُوا بِالسَّيْفِ عَنْ آخِرِهِمْ، هَذَا كُلُّهُ مَرْوِيٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا تَرْكُضُوا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَصَفَ قِصَّةَ كُلِّ قَرْيَةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْيِينَ حَضُورَاءَ وَلَا غَيْرَهَا، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرَى كَانُوا بِاغْتِرَارِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ وَأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ عَذَابٌ أَوْ أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ حَتَّى يَتَخَاصَمُوا وَيُسْأَلُوا عَنْ وَجْهِ تَكْذِيبِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ فَيَحْتَجُّونَ هُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بِحُجَجٍ تَنْفَعُهُمْ فِي ظَنِّهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَ الْعَذَابُ دُونَ هَذَا الَّذِي أَمِلُوهُ وَرَكَضُوا فَارِّينَ نَادَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وَجْهِ الْهُزْءِ بِهِمْ. لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ كَمَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ لِسَفَهِ آرَائِكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي الْقَائِلُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنْ ثَمَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يُجْعَلُونَ خُلَقَاءَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُقَلْ، أَوْ يَقُولَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ وَيُسْمِعَهُ مَلَائِكَتَهُ لِيَنْفَعَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ يُلْهِمَهُمْ ذَلِكَ فَيُحَدِّثُوا بِهِ نُفُوسَهُمْ.

_ (1) سورة ص: 38/ 42.

وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّافِهِ وَالْحَالِ النَّاعِمَةِ، وَالْإِتْرَافُ إِبْطَارُ النِّعْمَةِ وَهِيَ التَّرَفُّهُ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ غَدًا عَمَّا جَرَى عَلَيْكُمْ وَنَزَلَ بِأَمْوَالِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ فَتُجِيبُوا السَّائِلَ عَنْ عِلْمٍ وَمُشَاهَدَةٍ، أَوِ ارْجِعُوا وَاجْلِسُوا كَمَا كُنْتُمْ فِي مَجَالِسِكُمْ وَتَرَتَّبُوا فِي مَرَاتِبِكُمْ حَتَّى يَسْأَلَكُمْ عَبِيدُكُمْ وَحَشَمُكُمْ وَمَنْ تَمْلِكُونَ أَمْرَهُ وَيَنْفُذَ فِيهِ أَمْرُكُمْ وَنَهْيُكُمْ، وَيَقُولُوا لَكُمْ: بِمَ تَأْمُرُونَ وَمَاذَا تَرْسُمُونَ، وَكَيْفَ نَأْتِي وَنَذَرُ كَعَادَةِ الْمُنَعَّمِينَ الْمُخَدَّمِينَ، أَوْ يَسْأَلُكُمُ النَّاسُ فِي أَنْدِيَتِكُمُ الْمُعَاوِنَ فِي نَوَازِلِ الْخُطُوبِ وَيَسْتَشِيرُونَكُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ وَالْعَوَارِضِ وَيَسْتَشِفُّونَ بِتَدَابِيرِكُمْ وَيَسْتَضِيئُونَ بِآرَائِكُمْ أَوْ يَسْأَلُكُمُ الْوَافِدُونَ عَلَيْكُمْ وَالطُّمَّاعُ، وَيَسْتَمْطِرُونَ سَحَائِبَ أَكُفِّكُمْ وَيَمِيرُونَ إِخْلَافَ مَعْرُوفِكُمْ وَأَيَادِيكُمْ إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْخِيَاءَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِيَاءَ النَّاسِ وَطَلَبَ الثَّنَاءِ، أَوْ كَانُوا بُخَلَاءَ فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ تَهَكُّمًا إِلَى تَهَكُّمٍ وَتَوْبِيخًا إِلَى تَوْبِيخٍ انْتَهَى. وَنِدَاءُ الْوَيْلِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا وَيْلُ هَذَا زَمَانُكَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْوَيْلِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالظُّلْمُ هُنَا الْإِشْرَاكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَإِيقَاعُ أَنْفُسِهِمْ فِي الْهَلَاكِ، وَاسْمُ زالَتْ هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَهُوَ تِلْكَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ أَيْ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الدَّعْوَى دَعْواهُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَمَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ كَقَوْلِهِ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» وَالدَّعْوَى مَصْدَرُ دَعَا يُقَالُ: دَعَا دَعْوَى وَدَعْوَةً كَقَوْلِهِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ «2» لِأَنَّ الْمُوَيَّلَ كَأَنَّهُ يَدْعُو الْوَيْلَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: تِلْكَ اسم زالَتْ ودَعْواهُمْ الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَعْواهُمْ اسم زالَتْ وتِلْكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ قَبْلَهُمْ، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ فَاسْمُ كَانَ وَخَبَرُهَا مُشَبَّهٌ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ فِي بَابِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِذَا أُلْبِسَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ الْخَبَرَ وَالْمُتَأَخِّرُ الِاسْمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي بَابِ كَانَ، فَإِذَا قُلْتَ: كَانَ مُوسَى صَدِيقِي لَمْ يَجُزْ فِي مُوسَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمَ كَانَ وَصَدِيقِي الْخَبَرَ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى، فَمُوسَى الْفَاعِلُ وَعِيسَى الْمَفْعُولُ، وَلَمْ يُنَازِعْ فِي هَذَا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إِلَّا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ عُرِفَ بَابْنِ الْحَاجِّ وَهُوَ مِنْ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ أَبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ وَنُبَهَائِهِمْ، فَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الْمَفْعُولَ وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ الْفَاعِلَ وَإِنْ أُلْبِسَ فَعَلَى مَا قَرَّرَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ اسْمَ زالَتْ ودَعْواهُمْ الخبر.

_ (1) سورة غافر: 40/ 85. (2) سورة يونس: 10/ 10.

وَقَوْلُهُ: حَصِيداً أَيْ بِالْعَذَابِ تُرِكُوا كَالْحَصِيدِ خامِدِينَ أَيْ مَوْتَى دُونَ أَرْوَاحٍ مُشَبَّهِينَ بالنار إذا طفئت وحَصِيداً مَفْعُولٌ ثَانٍ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وخامِدِينَ نعت لحصيدا عَلَى أَنْ يَكُونَ حَصِيداً بِمَعْنَى مَحْصُودِينَ يَعْنِي وَضْعَ الْمُفْرَدِ وَيُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ خامِدِينَ حَالًا مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلْناهُمْ مِثْلَ الْحَصِيدِ شَبَّهَهُمْ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ وَاصْطِلَامِهِمْ كَمَا تَقُولُ: جَعَلْنَاهُمْ رَمَادًا أَيْ مِثْلَ الرَّمَادِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ هُوَ الَّذِي كَانَ مُبْتَدَأً وَالْمَنْصُوبَانِ بَعْدَهُ كَانَا خَبَرَينِ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمَا جَعَلَ نَصْبَهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَنْصِبُ جَعَلَ ثَلَاثَةَ مَفَاعِيلَ؟ قُلْتُ: حُكْمُ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ حُكْمُ الْوَاحِدِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: جَعَلْتُهُ حُلْوًا حَامِضًا جَعَلْتُهُ لِلطَّعْمَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى ذَلِكَ جَعَلْناهُمْ جَامِعِينَ لِمُمَاثَلَةِ الْحَصِيدِ وَالْخُمُودِ، وَالْخُمُودُ عُطِفَ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ لَا عَلَى الْحَصِيدِ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَصْمَ تِلْكَ الْقُرَى الظَّالِمَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ وَمُجَازَاةً عَلَى مَا فَعَلُوا وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْشَأَ هَذَا الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ الْمُحْتَوِيَ عَلَى عَجَائِبَ مِنْ صُنْعِهِ وَغَرَائِبَ مِنْ فِعْلِهِ، وَهَذَا الْعَالَمَ السُّفْلِيَّ وَمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْهَوَاءِ وَالسَّحَابِ وَالرِّيَاحِ عَلَى سَبِيلِ اللَّعِبِ بَلْ لِفَوَائِدَ دِينِيَّةٍ تَقْضِي بِسَعَادَةِ الْأَبَدِ أَوْ بِشَقَاوَتِهِ، وَدُنْيَاوِيَّةٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى كَقَوْلِهِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «1» وَقَوْلِهِ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ «2» . قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اللَّعِبُ فِعْلٌ يَدْعُو إِلَيْهِ الْجَهْلُ يَرُوقُ أَوَّلُهُ وَلَا ثَبَاتَ لَهُ، وَإِنَّمَا خَلَقْنَاهُمَا لِنُجِازِيَ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ، وَلِيُسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ انتهى. ولَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أَصْلُ اللَّهْوِ مَا تُسْرِعُ إِلَيْهِ الشَّهْوَةُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ الْهَوَى، وَقَدْ يُكَنَّى بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ، وَأَمَّا هُنَا فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ هُوَ الْوَلَدُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هو الولد بلغة حضر موت. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «3» وَعَنْهُ أَنَّ اللَّهْوَ هُنَا اللَّعِبُ. وَقِيلَ: اللَّهْوُ هُنَا الْمَرْأَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَتَكُونُ رَدًّا عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ لِلَّهِ زَوْجَةً وَمَعْنَى مِنْ لَدُنَّا مِنْ عِنْدِنَا بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ نَقْصٌ فَسَتْرُهُ أَوْلَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ السَّمَاءِ لَا مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِنَا. وَقِيلَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ الْإِنْسِ رَدًّا لولادة المسيح وعزيز. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيَّنَ أَنَّ

_ (1) سورة ص: 38/ 27. (2) سورة الدخان: 44/ 39. [.....] (3) سورة البقرة: 2/ 116.

السَّبَبَ فِي تَرْكِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَانْتِفَائِهِ عَنْ أَفْعَالِي أَنَّ الْحِكْمَةَ صَارِفَةٌ عَنْهُ، وَإِلَّا فَأَنَا قَادِرٌ عَلَى اتِّخَاذِهِ إِنْ كُنْتُ فَاعِلًا لِأَنِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ انْتَهَى. وَلَا يَجِيءُ هَذَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: اللَّهْوُ هُوَ اللَّعِبُ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِالْوَلَدِ وَالْمَرْأَةِ فَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَنْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ لَوْ أَيْ إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ اتَّخَذْنَاهُ إِنْ كُنَّا مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَسْنَا مِمَّنْ يَفْعَلُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَقَتَادَةُ وَجُرَيْجٌ أَنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا كُنَّا فَاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ أَيْ نَرْمِي بِسُرْعَةٍ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ عَلَى الْباطِلِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ كُلُّ ما في القرآن من الْبَاطِلِ فَهُوَ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: بِالْحَقِّ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْبَاطِلِ وَهُوَ شُبَهُهُمْ وَوَصْفَهُمُ اللَّهَ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ مِنَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْحَقُّ عَامٌّ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْبَاطِلُ أَيْضًا عَامٌّ كَذَلِكَ وبَلْ إِضْرَابٌ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَدْحَضُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ وَاسْتَعَارَ لِذَلِكَ الْقَذْفَ وَالدَّمْغَ تَصْوِيرًا لِإِبْطَالِهِ وَإِهْدَارِهِ وَمَحْقِهِ، فَجَعَلَهُ كَأَنَّهُ جُرْمٌ صُلْبٌ كَالصَّخْرَةِ مَثَلًا قَذَفَ بِهِ عَلَى جُرْمٍ رَخْوٍ أَجْوَفَ فَدَمَغَهُ أَيْ أَصَابَ دِمَاغَهُ، وَذَلِكَ مُهْلِكٌ فِي الْبَشَرِ فَكَذَلِكَ الْحَقُّ يُهْلِكُ الْبَاطِلَ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فَيَدْمَغُهُ بِنَصْبِ الْغَيْنِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ فِي ضَعْفِ قَوْلِهِ: سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ ... وَأَلْحَقُ بالحجاز فأستريحا وقرىء فَيَدْمَغُهُ بِضَمِّ الْمِيمِ انْتَهَى. ولَكُمُ الْوَيْلُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ أَيِ الْخِزْيُ وَالْهَمُّ مِمَّا تَصِفُونَ أَيْ تَصِفُونَهُ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى مِنَ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَنِسْبَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ لَكُمُ خِطَابٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَنَسَبَ الْقُرْآنَ إِلَى أَنَّهُ سِحْرٌ وَأَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ مِمَّا تَصِفُونَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ فَانْدَرَجَ فِيهِ مَنْ سَمَّوْهُ بِالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَمَنْ عِنْدَهُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ فَيَكُونُونَ قدر انْدَرَجُوا فِي الْمَلَائِكَةِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لِدُخُولِهِمْ فِي مَنْ وَبِطَرِيقِ الْخُصُوصِ بِالنَّصِّ عَلَى أَنَّهُمْ مَنْ عِنْدَهُ، وَيَكُونُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً مِنْهُمْ أَوِ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ وَمَنْ عِنْدَهُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وعند هُنَا لَا يُرَادُ بِهَا ظَرْفُ الْمَكَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، بَلِ الْمَعْنَى شَرَفُ الْمَكَانَةِ وَعُلُوُّ الْمَنْزِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِأَنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِ مِلْكُهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا لِقَوْلِهِ وَلَكُمُ الْوَيْلُ

مِمَّا تَصِفُونَ كَأَنَّهُ يُقْسِمُ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ أَيْ للمتخلفين هَذِهِ الْمَقَالَةَ الْوَيْلُ، وَلِلَّهِ تعالى من في السموات وَالْأَرْضِ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُكَرَّمُونَ مُنَزَّلُونَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَنْزِلَةَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ وَالْبَيَانِ لِشَرَفِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، وَيُقَالُ: حَسَرَ الْبَعِيرُ وَاسْتَحْسَرَ كَلَّ وَتَعِبَ وَحَسَرْتُهُ أَنَا فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ، وَأَحْسَرْتُهُ أَيْضًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الِاسْتِحْسَارُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحُسُورِ، وَكَانَ الْأَبْلَغُ فِي وَصْفِهِمْ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمْ أَدْنَى الْحُسُورِ قُلْتُ: فِي الِاسْتِحْسَارِ بَيَانُ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ يُوجِبُ غَايَةَ الْحُسُورِ وأقصاه، وأنهم أخفاء لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ الْبَاهِظَةِ بِأَنْ يَسْتَحْسِرُوا فِيمَا يَفْعَلُونَ انْتَهَى. يُسَبِّحُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَصَفَهُمْ بِتَسْبِيحٍ دَائِمٍ. وَعَنْ كَعْبٍ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ التَّسْبِيحَ كَالنَّفَسِ وَطَرْفِ الْعَيْنِ لِلْبَشَرِ يَقَعُ مِنْهُمْ دَائِمًا دُونَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ فِيهِ سَآمَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ رَاحَةٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ. أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَنَّ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ كُلَّهُمْ مِلْكٌ لَهُ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُكَرَّمِينَ هُمْ فِي خِدْمَتِهِ لَا يَفْتُرُونَ عَنْ تَسْبِيحِهِ وَعِبَادَتِهِ، عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ وتسفيه أحلامهم وأَمِ هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة فَفِيهَا إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَاسْتِفْهَامٌ معناه التعجب والإنكار أي اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يَتَّصِفُونَ بِالْإِحْيَاءِ وَيَقْدِرُونَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْإِمَاتَةِ، أَيْ لَمْ يَتَّخِذُوا آلِهَةً بِهَذَا الْوَصْفِ بَلِ اتَّخَذُوا آلِهَةً جَمَادًا لَا يَتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى شَيْءٍ فَهِيَ غَيْرُ آلِهَةٍ لِأَنَّ مِنْ صِفَةِ الْإِلَهِ الْقُدْرَةَ

عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ آلِهَةٍ تُنْشِرُ وَمَا كَانُوا يَدَّعُونَ ذَلِكَ لِآلِهَتِهِمْ، وَهُمْ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُمْ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ الله خالق السموات وَالْأَرْضِ وَبِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا وَعَلَى النَّشْأَةِ الْأُولَى مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَالِ الْخَارِجِ عَنْ قُدْرَةِ الْقَادِرِ فَكَيْفَ يَدَّعُونَهُ لِلْجَمَادِ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ؟ قُلْتُ: الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ وَلَكِنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا لَهَا الْإِنْشَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ إِلَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ، وَالْإِنْشَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْدُورَاتِ وَفِيهِ بَابٌ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا اسْتَبْعَدُوهُ مِنَ اللَّهِ لَا يَصِحُّ اسْتِبْعَادُهُ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ لَمَّا صَحَّتْ صَحَّ مَعَهَا الِاقْتِدَارُ عَلَى الْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ وَنَحْوُ قَوْلِهِ مِنَ الْأَرْضِ قَوْلُكَ: فُلَانٌ مِنْ مَكَّةَ أَوْ من المدينة، تريد مكي أو مدني، وَمَعْنَى نِسْبَتِهَا إِلَى الْأَرْضِ الْإِيذَانُ بِأَنَّهَا الْأَصْنَامُ الَّتِي تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ لَا أَنَّ الْآلِهَةَ أَرْضِيَّةٌ وَسَمَاوِيَّةٌ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْأَمَةِ الَّتِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ رَبُّكِ؟» فَأَشَارَتْ إلى السماء فقال: «إِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ مُرَادَهَا نَفْيُ الْآلِهَةِ الْأَرْضِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْنَامُ لَا إِثْبَاتُ السَّمَاءِ مَكَانًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ آلِهَةٌ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تُنْحَتَ مِنْ بَعْضِ الْحِجَارَةِ أَوْ تُعْمَلَ مِنْ بَعْضِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. فَإِنْ قُلْتَ: لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ فِي قَوْلِهِ هُمْ قُلْتُ: النُّكْتَةُ فِيهِ إِفَادَةُ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِنْشَاءِ إِلَّا هم وحدهم انتهى. واتَّخَذُوا هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهَا صَنَعُوا وَصَوَّرُوا، ومِنَ الْأَرْضِ متعلق باتخذوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَعَلُوا الْآلِهَةَ أَصْنَامًا مِنَ الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً «1» وَقَوْلِهِ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «2» وَفِيهِ مَعْنَى الْاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِيَارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنْشِرُونَ مُضَارِعُ أَنْشَرَ وَمَعْنَاهُ يُحْيُونَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ يَخْلُقُونَ كَقَوْلِهِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «3» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ يُنْشِرُونَ مُضَارِعُ نَشَرَ، وَهُمَا لُغَتَانِ نَشَرَ وَأَنْشَرَ مُتَعَدِّيَانِ، وَنَشَرَ يَأْتِي لَازِمًا تَقُولُ: أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنَشَرُوا أَيْ فَحَيُوا، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِما عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمَا كناية عن العالم. وإِلَّا صفة لآلهة أَيْ آلِهَةٌ غَيْرُ اللَّهُ وَكَوْنُ إِلَّا يُوصَفُ بِهَا مَعْهُودٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ الله:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 74. (2) سورة النساء: 4/ 125. (3) سورة النحل: 16/ 17.

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ لَوْ بِمَنْزِلَةِ إِنَّ فِي أَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُ مُوجَبٌ وَالْبَدَلُ لَا يَسُوغُ إِلَّا فِي الْكَلَامِ غَيْرِ الْمُوجَبِ، كَقَوْلِهِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ «1» وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعَمَّ الْعَامِّ يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلَا يَصِحُّ إِيجَابُهُ، وَالْمَعْنَى لَوْ كَانَ يَتَوَلَّاهُمَا وَيُدَبِّرُ أَمْرَهُمَا آلِهَةٌ شَتَّى غَيْرُ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ فَاطِرُهُمَا لَفَسَدَتا وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُدَبِّرُهُمَا إِلَّا وَاحِدًا، وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ إِلَّا إِيَّاهُ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ وجب الأمر ان قُلْتُ: لِعِلْمِنَا أَنَّ الرَّعِيَّةَ تَفْسُدُ بِتَدْبِيرِ الْمَلِكَيْنِ لِمَا يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّنَاكُرِ وَالِاخْتِلَافِ. وَعَنْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ حِينَ قَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ كَانَ وَاللَّهِ أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْ دَمِ نَاظِرَيَّ وَلَكِنْ لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي شَوْلٍ وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ التَّمَانُعِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِيهَا تَجَادُلٌ وَطِرَادٌ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى تِلْكَ الذَّاتِ الْمُتَمَيِّزَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَتَّى تَثْبُتَ وَتَسْتَقِرَّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَذْهَبُ بِمَا خَلَقَ، وَاقْتِضَابُ الْقَوْلِ فِي هَذَا أَنَّ إِلَهَيْنِ لَوْ فَرَضْنَا بَيْنَهُمَا الِاخْتِلَافَ فِي تَحْرِيكِ جِسْمٍ وَلَا تَحْرِيكِهِ فَمُحَالٌ أَنْ تَتِمَّ الْإِرَادَتَانِ، وَمُحَالٌ أَنْ لَا تَتِمَّ جَمِيعًا، وَإِذَا تَمَّتِ الْوَاحِدَةُ كَانَ صَاحِبُ الْأُخْرَى عَاجِزًا وَهَذَا لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَجَوَازُ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِمَا بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِهِ مِنْهُمَا، وَنَظَرٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَخْرُجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَمُحَالٌ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ قُدْرَتَانِ، فَإِذَا كَانَتْ قُدْرَةُ أَحَدِهِمَا تُوجِدُهُ فَفِي الْآخَرِ فَضْلًا لَا مَعْنَى لَهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ ثُمَّ يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوُجُودِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَازَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَعِيَّتِهِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُشَارِكًا لِلْآخَرِ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى آخَرَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَإِذًا وَاجِبُ الْوُجُودِ لَيْسَ إِلَّا وَاحِدًا فَكُلُّ مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ هَذَا تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّا لَمَّا دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيْنِ أَنْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُمَا وَاجِبًا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْوَاجِبُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْفَسَادُ فِي كُلِّ الْعَالَمِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى قَوْلِكَ لَوْ كانَ فِيهِما

_ (1) سورة هود: 11/ 81.

إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: مَا جَاءَنِي قَوْمُكَ إِلَّا زَيْدٌ عَلَى الْبَدَلِ لَكَانَ الْمَعْنَى جَاءَنِي زَيْدٌ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعُ الْبَدَلُ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ إِيجَابٌ وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْاسْتِثْنَاءِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَوْ جَاءَنِي الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا لَقَتَلْتُهُمْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَتْلَ امْتَنَعَ لِكَوْنِ زَيْدٍ مَعَ الْقَوْمِ، فَلَوْ نُصِبَ فِي الْآيَةِ لكان المعنى فساد السموات وَالْأَرْضِ امْتَنَعَ لِوُجُودِ اللَّهِ مَعَ الْآلِهَةِ، وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ مَعَ اللَّهِ، وَإِذَا رُفِعَتْ عَلَى الْوَصْفِ لَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَوْ كانَ فِيهِما غَيْرُ اللَّهُ لَفَسَدَتا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ آلِهَةٌ هُنَا نَكِرَةٌ، وَالْجَمْعُ إِذَا كَانَ نَكِرَةً لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ انْتَهَى. وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ فِي إِلَّا اللَّهُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا لِأَنَّ مَا بَعْدَ لَوْ غَيْرُ مُوجَبٍ فِي الْمَعْنَى، وَالْبَدَلُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْفِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ فِي مَسْأَلَةِ سِيبَوَيْهِ: لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ إلّا زيد لَغَلَبْنَا أَنَّ الْمَعْنَى لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مَكَانَ زَيْدٍ لَغَلَبْنَا فَإِلَّا بِمَعْنَى غَيْرِ الَّتِي بِمَعْنَى مَكَانٍ. وَقَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّائِغِ: لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى عِنْدِي إِلَّا أَنْ تَكُونَ إِلَّا فِي مَعْنَى غَيْرِ الَّذِي يُرَادُ بِهَا الْبَدَلُ أَيْ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ عِوَضٌ وَاحِدٌ أَيْ بَدَلُ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ لَفَسَدَتا وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ سِيبَوَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا تَوْطِئَةً انْتَهَى. وَلَمَّا أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ أَهْلُ الْجَهْلِ بِقَوْلِهِ فَسُبْحانَ اللَّهِ ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ مَالِكُ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَمِيعُ الْعَالَمِ هُوَ مُتَضَمِّنُهُمْ ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْحُكْمِ فقال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إِذْ لَهُ أَنْ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ، وَفِعْلُهُ عَلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ وَلَا تَعَقُّبَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مَعَ إِمْكَانِ الْخَطَأِ فِيهَا، كَانَ مَلِكُ الْمُلُوكِ أَحَقَّ بِأَنْ لَا يُسْأَلَ هَذَا مَعَ عِلْمِنَا أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْعَارِيَةُ عَنِ الْخَلَلِ وَالتَّعَقُّبِ، وَجَاءَ عَمَّا يَفْعَلُ إِذِ الْفِعْلُ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَهُ كُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ خَلْقٍ وَرِزْقٍ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ فِي قوله لا يُسْئَلُ الْعُمُومُ فِي الْأَزْمَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فِي الْقِيَامَةِ لا يُسْئَلُ عَنْ حُكْمِهِ فِي عِبَادِهِ وَهُمْ يُسْئَلُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَا يُحَاسَبُ وَهُمْ يُحَاسَبُونَ. وَقِيلَ: لَا يُؤَاخَذُ وَهُمْ يُؤَاخَذُونَ انْتَهَى. وَهُمْ يُسْئَلُونَ لِأَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ مُسْتَعْبَدُونَ وَاقِعٌ مِنْهُمُ الْخَطَأُ كَثِيرًا فَهُمْ جَدِيرُونَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ لِمَ فَعَلْتُمْ كَذَا.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَا يُسَلُ وَيُسَلُونَ بِفَتْحِ السِّينِ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى السِّينِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ. ثُمَّ كَرَّرَ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ فَقَالَ: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً اسْتِفْظَاعًا لِشَأْنِهِمْ وَاسْتِعْظَامًا لِكُفْرِهِمْ، وَزَادَ فِي هَذَا التَّوْبِيخِ قَوْلُهُ مِنْ دُونِهِ فَكَأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَا اتَّخَذُوا وَلَا حُجَّةَ تَقُومُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرِيكًا لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، بَلْ كُتُبُ اللَّهِ السَّابِقَةُ شَاهِدَةٌ بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ كَمَا فِي الْوَحْيِ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أَيْ عِظَةٌ لِلَّذِينَ مَعِي وَهُمْ أُمَّتُهُ وَذِكْرُ لِلَّذِينَ مَنْ قَبْلِي وَهُمْ أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَالذِّكْرُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ ذِكْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَذِكْرُ الْآخِرِينَ بِالدَّعْوَةِ وَبَيَانِ الشَّرْعِ لَهُمْ، وَذِكْرُ الْأَوَّلِينَ بِقَصِّ أَخْبَارِهِمْ وَذِكْرِ الْغُيُوبِ فِي أُمُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا عَرْضُ الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الْبُرْهَانِ أَيْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَهَذَا بُرْهَانِي فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِإِضَافَةِ ذِكْرُ إِلَى مِنْ فِيهِمَا عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ «1» . وقرىء بتنوين ذِكْرُ فيهما ومِنْ مَفْعُولٌ مَنْصُوبٌ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً «2» وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَطَلْحَةُ بِتَنْوِينٍ ذِكْرُ فِيهِمَا وَكَسْرِ مِيمِ مِنْ فِيهِمَا، وَمَعْنَى مَعِيَ هُنَا عِنْدِي، وَالْمَعْنَى هَذَا ذِكْرُ مَنْ عِنْدِي ومَنْ قَبْلِي أَيْ أُذَكِّرُكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي عِنْدِي كَمَا ذَكَّرَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي أُمَمَهُمْ، وَدُخُولُ مِنْ عَلَى مَعَ نَادِرٌ، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى الصُّحْبَةِ وَالِاجْتِمَاعِ أُجْرِيَ مَجْرَى الظَّرْفِ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ كَمَا دَخَلَتْ عَلَى قَبْلُ وَبَعْدُ وَعِنْدَ، وَضَعَّفَ أَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِدُخُولِ مِنْ عَلَى مَعَ وَلَمْ يَرَ لَهَا وَجْهًا. وَعَنْ طَلْحَةَ ذِكْرُ مُنَوَّنًا مَعِيَ دُونَ مِنْ وَذِكْرُ مُنَوَّنًا قَبْلِي دُونَ مِنْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَذِكْرُ مَنْ بِالْإِضَافَةِ وَذِكْرُ مُنَوَّنًا مَنْ قَبْلِي بِكَسْرِ مِيمِ مِنْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ وَالظَّاهِرُ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَلَا يَعْلَمُونَ أَيْ أَصْلَ شَرِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ هُوَ الْجَهْلُ وَعَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوبُ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا عَبْدُ الله الحق لا الْبَاطِلُ، فَأَكَّدَ نِسْبَةَ انْتِفَاءِ العلم عنهم،

_ (1) سورة ص: 38: 24. (2) سورة البلد: 90/ 15.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِعْرَاضَ مُتَسَبِّبٌ عَنِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ لَمَّا فَقَدُوا التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِأَنَّ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَلَيْسَ الْمَعْنَى فَهُمْ مُعْرِضُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بَلِ الْمَعْنَى فَهُمْ مُعْرِضُونَ وَلِذَلِكَ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَحُمَيدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ الْحَقَّ بِالرَّفْعِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: ابْتِدَاءٌ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ، أَوْ خَبَرٌ وَالْمُبْتَدَأُ قَبْلَهُ مُضْمَرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقَّ وَالْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى لَا يَعْلَمُونَ. وقال الزمخشري: وقرىء الْحَقَّ بِالرَّفْعِ عَلَى تَوْسِيطِ التَّوْكِيدِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ هُوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ انْتِفَاءَ عِلْمِهِمُ الْحَقَّ وَإِعْرَاضَهُمْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا جَاءَ مُقَرِّرًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ رَسُولٍ عَامًّا لَفْظًا وَمَعْنًى، أُفِرَدَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فَاعْبُدُونِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ فَاعْبُدْنِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا النُّبُوَّاتُ وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَشْيَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْقُطَعِيُّ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَخَلَفٍ وابن سعدان وابن عيسى وَابْنِ جَرِيرٍ نُوحِي بِالنُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ عَاصِمٍ. ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عَمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْوَلَدِ. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى نَحْوَ هَذَا فِي عِيسَى واليهود في عزيز ثُمَّ أَضْرَبَ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ فَقَالَ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ وَيَشْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ الْمَلَائِكَةَ وَعُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمَلَائِكَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ نَزَّهَ ذَاتَهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عِبادٌ وَالْعُبُودِيَّةُ تُنَافِي الْوِلَادَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ مُقَرَّبُونَ عِنْدِي مُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ أَحْوَالٍ وَصِفَاتٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي غَرَّ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ أَوْلَادِي تَعَالَيْتُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا انْتَهَى. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ مُكْرَمُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وقرىء بِضَمِّهَا مِنْ سَابَقَنِي فَسَبَقْتُهُ أَسْبِقُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ قَوْلَهُ وَلَا يَقُولُونَ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَهُ: فَلَا يَسْبِقُ قولهم قوله. وأل فِي بِالْقَوْلِ نَابَتْ مَنَابَ الضَّمِيرِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَيْ بِقَوْلِهِمْ وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ فَأُنِيبَتِ اللَّامُ مَنَابَ الْإِضَافَةِ أَوِ الضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أَيْ بِالْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ.

وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ تَابِعٌ لِقَوْلِهِ كَذَلِكَ فِعْلُهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرِهِ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَغُّلِهِمْ فِي طَاعَتِهِ وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أَيْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَالْحَوَادِثُ الَّتِي لَهَا إِلَيْهِمْ تَسَبُّبٌ وَمَا تَأَخَّرَ وَعَلِمُهُ بِذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ لِطَاعَتِهِمْ لِمَا عَلِمُوهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَالدَّؤُوبِ عَلَى الْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ مَا قَدَّمُوا وَمَا أَخَّرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ نَحْوَهُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: مَا عَمِلُوا وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا بَعْدُ، وَقِيلَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الْآخِرَةُ وَما خَلْفَهُمْ الدُّنْيَا. وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ. وَقِيلَ يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ خَلَقَهُمْ وَمَا كَانَ بَعْدَ خَلْقِهِمْ. وَلَمَّا كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَمْرِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى أَنْ يَشْفَعُوا إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَأَهَّلَهُ لِلشَّفَاعَةِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ مُتَوَقِّعُونَ حَذِرُونِ لَا يَأْمَنُونَ مَكْرَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنِ ارْتَضى هُوَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَشَفَاعَتُهُمُ: الِاسْتِغْفَارُ. وَقَالَ مُجَاهِد: لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ. وَقِيلَ: شَفَاعَتُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبَعْدَ أَنْ وَصَفَ كَرَامَتَهُمْ عَلَيْهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَفْعَالَ السنية فجاء بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَأَنْذَرَ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَقَوْلِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «1» قَصَدَ بِذَلِكَ تَفْظِيعَ أَمْرِ الشِّرْكِ وَتَعْظِيمَ شَأْنِ التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَجْزِيهِ بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي بِضَمِّهَا أَرَادَ نجزئه بالهمز من أجزائي كَذَا كَفَانِي، ثُمَّ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ فَانْقَلَبَتْ يَاءً كَذَلِكَ أَيْ مِثْلِ هَذَا الْجَزَاءِ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَالْوَاضِعُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَأَدَاةُ الشَّرْطِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ نَحْوَ قَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ «2» . أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 88. (2) سورة الزمر: 39/ 65.

وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ. هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ لِمَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، وَدَلَالَةٌ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ، وَتَوْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ، وَرَدٌّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ عَلَى هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَصَرِّفَ فِيهَا التَّصَرُّفَ الْعَجِيبَ، كَيْفَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ حَجَرٍ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَالرُّؤْيَةُ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. وَقِيلَ: مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَذَلِكَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ. وقرأ ابن كثير وحميد وَابْنُ مُحَيْصِنٍ أَلَمْ يَرَ بِغَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْجُمْهُورُ أَوَلَمْ بِالْوَاوِ. كانَتا قَالَ الزجاج: السموات جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ، وَلِهَذَا قَالَ كانَتا رَتْقاً لِأَنَّهُ أَرَادَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَمِنْهُ أَنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السموات وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا جَعَلَ السموات نَوْعًا وَالْأَرَضِينَ نَوْعًا، فَأَخْبَرَ عَنِ النَّوْعَيْنِ كَمَا أَخْبَرَ عَنِ اثْنَيْنِ كَمَا تَقُولُ: أَصْلَحْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَمَرَّ بِنَا غَنَمَانِ أَسْوَدَانِ لِقَطِيعَيْ غَنَمٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: قَالَ كانَتا رَتْقاً والسموات جَمْعٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ الصِّنْفَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ: إِنَّ الْمَنِيَّةَ وَالْحُتُوفَ كِلَاهُمَا ... يُوَفِّي الْمَحَارِمَ يَرْقُبَانِ سَوَادِي لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْجِنْسَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ كانَتا دُونَ كُنَّ لِأَنَّ الْمُرَادَ جَمَاعَةُ السَّماواتِ وَجَمَاعَةُ الْأَرْضَ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ: لَقَاحَانِ سَوْدَاوَانِ إِنْ أَرَادَ جَمَاعَتَانِ فَعَلَ فِي الْمُضْمَرِ مَا فُعِلَ فِي الْمُظْهَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ كانَتا مِنْ حَيْثُ هُمَا نَوْعَانِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُيَيْمٍ: أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ جِبَالَ قَيْسٍ ... وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتِ انْقِطَاعًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: كَانَتَا شَيْئًا وَاحِدًا فَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِالْهَوَاءِ. وَقَالَ كعب: خلق الله السموات وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا بِوَسَطِهَا ففتحها بها وجعل السموات سَبْعًا وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا. وَقَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ: كانت السموات وَالْأَرْضُ مُؤْتَلِفَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً ففتقها فجعلها سبع سموات، وَكَذَلِكَ الْأَرَضُونَ كَانَتْ مُرْتَتِقَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً فَفَتَقَهَا وَجَعَلَهَا سبعا. وقالت فرقة: السموات وَالْأَرْضُ رَتْقٌ بِالظُّلْمَةِ وَفَتَقَهَا اللَّهُ بِالضَّوْءِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: السَّمَاءُ قَبْلَ الْمَطَرِ رَتْقٌ، وَالْأَرْضُ قَبْلَ النَّبَاتِ رَتْقٌ فَفَتَقْناهُما بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ كَمَا قَالَ وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ «1» قَالَ

_ (1) سورة الطارق: 86/ 12.

ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ الْعِبْرَةَ وَتَعْدِيدَ النِّعْمَةِ وَالْحُجَّةَ لِلْمَحْسُوسِ بَيِّنٌ، وَيُنَاسِبُ قَوْلَهُ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَيْ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أَوْجَدَهُ الْفَتْقُ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ مِنَ الْبَصَرِ وَعَلَى مَا قَبْلَهُمَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَجَاءَ تَقْرِيرُهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ فِي نَفْسِهِ فَقَامَ مَقَامَ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ، وَلِأَنَّ تَلَاصُقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَتَبَايُنَهُمَا كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ لِلتَّبَايُنِ دُونَ التَّلَاصُقِ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَتْقاً بِسُكُونِ التَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ كَزَوْرٍ وَعَدْلٍ فَوَقَعَ خَبَرًا لِلْمُثَنَّى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى رَتْقاً بِفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ اسْمُ الْمَرْتُوقِ كَالْقَبْضِ وَالنَّفْضِ، فَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يُبْنَى لِيُطَابِقَ الْخَبَرُ الِاسْمَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ أَيْ كانَتا شَيْئًا رَتْقاً. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ مِنْهُ اسْمًا بِمَعْنَى المفعول والساكن مصدر، أَوْ قَدْ يَكُونَانِ مَصْدَرَيْنِ لَكِنَّ الْمُتَحَرِّكَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ لَكِنَّ هُنَا الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ فَأُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْمَفْعُولَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ كانَتا رَتْقاً فَلَوْ جَعَلْتَ أَحَدَهُمَا اسْمًا لَوَجَبَ أَنْ تُثَنِّيَهُ فَلَمَّا قَالَ رَتْقاً كَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ وَرَجُلَيْنِ عَدْلٍ وَقَوْمٍ عَدْلٍ انْتَهَى. وَجَعَلْنا إِنْ تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ كَانَتْ بِمَعْنَى وَخَلَقْنَا مِنَ الْماءِ كُلَّ حَيَوَانٍ أَيْ مَادَّتُهُ النُّطْفَةُ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَجَمَاعَةٌ أَوْ لَمَّا كَانَ قِوَامُهُ الْمَاءَ الْمَشْرُوبَ وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ جُعِلَ مَخْلُوقًا مِنْهُ كَقَوْلِهِ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «1» قال الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَكُونُ الْحَيَاةُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةً وَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ عَامًّا مَخْصُوصًا إِذْ خَرَجَ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَلَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نُطْفَةٍ وَلَا مُحْتَاجِينَ لِلْمَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ نَامٍ مِنَ الْمَاءِ فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ وَالْمَعْدِنُ، وَتَكُونُ الْحَيَاةُ فِيهِمَا مَجَازًا أَوْ عَبَّرَ بِالْحَيَاةِ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ النُّمُوُّ وَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى هَذَا عَامًّا مَخْصُوصًا، وَإِنْ تَعَدَّتْ جَعَلْنا لِاثْنَيْنِ فَالْمَعْنَى صَيَّرْنَا كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بِسَبَبٍ مِنَ الْمَاءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حَيٍّ بِالْخَفْضِ صِفَةٌ لِشَيْءٍ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ حَيًّا بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِجَعَلْنَا، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لَغْوٌ أَيْ لَيْسَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَجَعَلْنا أَفَلا يُؤْمِنُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ هَذِهِ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 37.

الْأَدِلَّةَ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهَا وَيَتْرُكُوا طَرِيقَةَ الشِّرْكِ، وَأَطْلَقَ الْإِيمَانَ عَلَى سَبَبِهِ وَقَدِ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلَيْنِ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا وَهَذَا دَلِيلٌ رَابِعٌ مِنَ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيها عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الرَّوَاسِي، وَجَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ فِجاجاً عَلَى قَوْلِهِ سُبُلًا وَفِي سُورَةِ نُوحٍ لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً «1» . فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ يَعْنِي فِجاجاً صِفَةٌ وَلَكِنْ جُعِلَتْ حَالًا كَقَوْلِهِ: لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ يَعْنِي أَنَّهَا حَالٌ مِنْ سُبُلٍ وَهِيَ نَكِرَةٌ، فَلَوْ تَأَخَّرَ فِجاجاً لَكَانَ صِفَةً كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَلَكِنْ تَقَدَّمَ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى؟ قُلْتُ: وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا طُرُقًا وَاسِعَةً، وَالثَّانِي بِأَنَّهُ حِينَ خَلَقَهَا خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا أُبْهِمَ ثَمَّةَ انْتَهَى. يَعْنِي بِالْإِبْهَامِ أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ مُتَّصِفًا بِهِ حَالَةَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ قِيَامَهُ بِهِ حَالَةَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: مَرَرْتُ بِوَحْشِيٍّ الْقَاتِلِ حَمْزَةَ، فَحَالَةُ الْمُرُورِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِهِ قَتْلُ حَمْزَةَ، وَأَمَّا الْحَالُ فَهِيَ هَيْئَةُ مَا تُخْبِرُ عَنْهُ حَالَةَ الْإِخْبَارِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فِي مَسَالِكِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ. وَمَا رُفِعَ وَسُمِكَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ سَقْفٌ. قَالَ قَتَادَةُ: حِفْظٌ مِنَ الْبِلَى وَالتَّغَيُّرِ عَلَى طُولِ الدَّهْرِ. وَقِيلَ: حِفْظٌ مِنَ السُّقُوطِ لِإِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ وَلَا عِمَادٍ. وَقِيلَ: حِفْظٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حِفْظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِالرُّجُومِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «إِنَّ السَّمَاءَ سَقْفٌ مَرْفُوعٌ وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي السَّهْمُ مَحْفُوظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ» وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ نَصًّا فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَهُمْ عَنْ آياتِها أَيْ عَنْ مَا وَضَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْعِبَرِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَسَائِرِ النَّيِّرَاتِ وَمَسَايِرِهَا وَطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا عَلَى الْحِسَابِ الْقَوِيمِ وَالتَّرْتِيبِ الْعَجِيبِ الدَّالِّ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَنْ آياتِها بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيدٌ عَنْ آيَتِهَا بِالْإِفْرَادِ، فَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَ الْجَعْلَ أَوِ السَّقْفَ أَوِ الْخَلْقَ أَيْ خَلْقَ السماء آية واحدة

_ (1) سورة نوح: 71/ 20.

تَحْوِي الْآيَاتِ كُلَّهَا، وَيَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْجَمْعَ فَجَعَلَهَا اسْمَ الْجِنْسِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمَعْنَى وَهُمْ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِآيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمْ يَتَفَطَّنُونَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَاوِيَّةِ كَالِاسْتِضَاءَةِ بِقَمَرَيْهَا وَالِاهْتِدَاءِ بِكَوَاكِبِهَا وَحَيَاةِ الْأَرْضِ وَالْحَيَوَانِ بِأَمْطَارِهَا وَهُمْ عَنْ كَوْنِهَا آيَةً بَيِّنَةً عَلَى الْخَالِقِ مُعْرِضُونَ. وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٌّ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْفَلَكُ الْجِسْمُ الدَّائِرُ دَوْرَةَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْفَلَكُ السَّمَاءُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ تَحْتَ السَّمَاءِ تَجْرِي فِيهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَلَكُ اسْتِدَارَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَدُورُ بِالنُّجُومِ مَعَ ثُبُوتِ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْفَلَكُ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ النُّجُومُ وَهُوَ قُطْبُ الشَّمَالِ. وَقِيلَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّيَّارَاتِ فَلَكٌ، وَفَلَكُ الْأَفْلَاكِ يُحَرِّكُهَا حَرَكَةً وَاحِدَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَلَكُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَدَارُ هَذِهِ النُّجُومِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جِسْمٌ وَفِيهِ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا يَسْبَحُ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ. قِيلَ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ فَلَكٌ يَخُصُّهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: كَسَاهُمُ الْأَمِيرُ حُلَّةً أَيْ كَسَى كُلَّ وَاحِدٍ، وَجَاءَ يَسْبَحُونَ بِوَاوِ الْجَمْعِ الْعَاقِلِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ فَقِيلَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ وَهُوَ وَالنُّجُومُ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ لَكَانَ يَسْبَحَانِ مُثَنًّى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جِنْسُ الطَّوَالِعِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ جَعَلُوهَا مُتَكَاثِرَةً لِتَكَاثُرِ مَطَالِعِهَا وَهُوَ السَّبَبُ فِي جَمْعِهَا بِالشُّمُوسِ وَالْأَقْمَارِ، وَإِلَّا فَالشَّمْسُ وَاحِدَةٌ وَالْقَمَرُ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهُ جَاءَ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ يُسَبِّحْنَ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمَّا كَانَتِ السِّبَاحَةُ مِنْ أَفْعَالِ الْآدَمِيِّينَ جَاءَ مَا أُسْنِدَ إليهما مجموعا مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ سِينَا سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا عِنْدَهُ تَعْقِلُ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ فَلَا مَحَلَّ لَهَا، أَوْ مَحَلُّهَا النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَتَّصِفَانِ بِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ فِي فَلَكٍ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَهِنْدًا مُتَبَرِّجَةً وَالسِّبَاحَةُ: الْعَوْمُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هُمَا اللَّذَانِ يَجْرِيَانِ فِي الْفَلَكِ، وَأَنَّ الْفَلَكَ لا يجري.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 4.

وَما جَعَلْنا الْآيَةَ. قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَنْ يَمُوتَ وَإِنَّمَا هُوَ مُخَلَّدٌ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: طَعَنَ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَشَرٌ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمُوتُ فَكَيْفَ يَصِحُّ إِرْسَالُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يُقَدِّرُونَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فَيَشْمَتُونَ بِمَوْتِهِ فَنَفَى اللَّهُ عَنْهُ الشَّمَاتَةَ بِهَذَا أَيْ قَضَى اللَّهُ أَنْ لَا يُخَلِّدَ فِي الدُّنْيَا بَشَرًا فَلَا أَنْتَ وَلَا هُمْ إِلَّا عُرْضَةً لِلْمَوْتِ فَإِنْ مِتَّ أَيَبْقَى هَؤُلَاءِ؟ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى ... تَزَوَّدْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا وَالْفَاءُ في أَفَإِنْ مِتَّ للعطف قُدِّمَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ، دَخَلَتْ عَلَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَلَيْسَتْ مَصَبَّ الِاسْتِفْهَامِ فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ دَاخِلَةً عَلَيْهَا، وَاعْتَرَضَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا فَحُذِفَ جَوَابُهُ هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ هِيَ مَصَبُّ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ يُونُسُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ أَفَإِنْ مِتَّ هُمُ الْخالِدُونَ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَلِلْمَذْهَبَيْنِ تَقْرِيرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَنَبْلُوكُمْ نَخْتَبِرُكُمْ وَقَدَّمَ الشَّرَّ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِهِ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تُقَدِّمُ الْأَقَلَّ وَالْأَرْدَأَ، وَمِنْهُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ هُنَا عَامٌّ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَانِ الْأَخِيرَانِ لَيْسَا دَاخِلَيْنِ فِي هَذَا لِأَنَّ من هدى فليس هذه اخْتِيَارًا وَلَا مَنْ أَطَاعَ. بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ خَيْرُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ هُنَا كُلُّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً وَابْتِلَاءً انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ أَتَصْبِرُونَ عَلَى الشِّدَّةِ وَتَشْكُرُونَ عَلَى الرَّخَاءِ أَمْ لَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ وَالْغِنَى وَالصِّحَّةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ، وَانْتَصَبَ فِتْنَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى نَبْلُوكُمْ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فَنُجَازِيكُمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْكُمْ فِي حَالَةِ الِابْتِلَاءِ مِنَ الصَّبْرِ

وَالشُّكْرِ، وَفِي غَيْرِ الِابْتِلَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِضَمِّ الْيَاءِ لِلْغَيْبَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَرَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا نَبِيُّ عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَسَمِعَهُمَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَبِي جَهْل: «مَا تَنْتَهِي حَتَّى يَنْزِلَ بِكَ مَا نَزَلَ بِعَمِّكِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّمَا قُلْتَ مَا قُلْتَ حَمِيَّةً» فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ يَغُمُّهُمْ ذِكْرُ آلِهَتِهِمْ بِسُوءٍ شَرَعُوا فِي الِاسْتِهْزَاءِ وَتَنْقِيصِ مَنْ يَذْكُرُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وإِنْ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ إِذا هُوَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وَجَوَابُ إِذَا بِإِنِ النَّافِيَةِ لَمْ يَرِدْ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا هَذَا وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً «1» وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ كَمَا لَمْ تَحْتَجْ إِلَيْهِ مَا إِذَا وَقَعَتْ جَوَابًا كَقَوْلِهِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ «2» مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ مُصَدَّرًا بِمَا النَّافِيَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ، نَحْوَ إِنْ تَزُورُنَا فَمَا نُسِيءُ إِلَيْكَ. وَفِي الْجَوَابِ لِإِذَا بِإِنْ وَمَا النَّافِيَتَيْنِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ إِذا لَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِلْجَوَابِ، بَلِ الْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا وَلَيْسَتْ مُضَافَةً لِلْجُمْلَةِ خِلَافًا لِأَكْثَرِ النُّحَاةِ. وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقِيلَ: جَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ وَهُوَ يَقُولُونَ الْمَحْكِيُّ بِهِ قَوْلُهُمْ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَقَوْلُهُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ إِذا وجوابه ويَتَّخِذُونَكَ

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 41. [.....] (2) سورة يونس: 10/ 15.

يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَالثَّانِي هُزُواً أَيْ مَهْزُوأً بِهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ إِنْكَارٌ وتعجيب. وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَبِالشَّرِّ، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلَّقُهُ فَالْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ صَدِيقٍ فَالذِّكْرُ ثَنَاءٌ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَذَمٌّ، وَمِنْهُ سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ «1» أَيْ بِسُوءٍ، وَكَذَلِكَ هُنَا أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ. ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِ إِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِ ذِكْرَ آلِهَتِهِمْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ وَهِيَ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ أَيْ يُنْكِرُونَ وَهَذِهِ حَالُهُمْ يَكْفُرُونَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ على من يغيب آلِهَتَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُولُونَ الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَتَّخِذُونَكَ هُزُوًا وَهُمْ عَلَى حَالٍ هِيَ أَصْلُ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ الْعَامِلَ فِيهَا يَتَّخِذُونَكَ هُزُوًا الْمَحْذُوفَةَ وَكَرَّرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ أَنْكَرُوا لَفْظَةَ الرَّحْمنِ وَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا فِي الْيَمَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَنِ هُنَا اللَّهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ وَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَلَمَّا كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُلْجِئَةَ إِلَى الْإِقْرَارِ وَالْعِلْمِ نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ الِاسْتِعْجَالِ وَقَدَّمَ أَوَّلًا ذَمَّ الْإِنْسانُ عَلَى إِفْرَاطِ الْعَجَلَةِ وَأَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا اسْمُ الْجِنْسِ وَكَوْنُهُ خُلِقَ مِنْ عَجَلٍ وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لَمَّا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُ كَثِيرًا. كَمَا يَقُولُ لِمُكْثِرِ اللَّعِبِ أَنْتَ مِنْ لَعِبٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّا لَمِمَّا يَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ لَمَّا كَانُوا أَهْلَ ضَرْبِ الْهَامِ وَمُلَازَمَةِ الْحَرْبِ قَالَ: إِنَّهُمْ مِنَ الضَّرْبِ، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَتِمُّ مَعْنَى الْآيَةِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَأُرِيكُمْ آياتِي أَيْ آيَاتِ الْوَعِيدِ فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فِي رُؤْيَتِكُمُ الْعَذَابَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، وَمَنْ يَدَّعِي الْقَلْبَ فِيهِ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو وَأَنَّ التَّقْدِيرَ خَلْقُ الْعَجَلِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَكَذَا قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ جُعِلَ طَبِيعَةً من طبائعه وجزأ مِنْ أَخْلَاقِهِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْقَلْبَ الصَّحِيحَ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ وَإِنَّ بَابَهُ الشِّعْرُ. قِيلَ: فَمِمَّا جَاءَ فِي الْكَلَامِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: إِذَا طَلَعَتِ الشِّعْرَى اسْتَوَى الْعُودُ على الحر باء. وَقَالُوا: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ وَفِي الشِّعْرِ قَوْلُهُ:

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 60.

حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّرْبَالِ آخُذُهُ وَقَالَ مُجَاهِد وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ الْإِنْسانُ هُنَا آدَمُ. قَالَ مُجَاهِد: لَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ رَأَى الشَّمْسَ قَارَبَتِ الْغُرُوبَ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَجِّلْ تَمَامَ خَلْقِي قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ. وَقَالَ سَعِيدٌ: لَمَّا بَلَغَتِ الرُّوحُ رُكْبَتَيْهِ كَادَ يَقُومُ فَقَالَ اللَّهُ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَجَلَةٍ فِي خَلْقِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ مِنْ عَجَلٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ عَجَلٍ أَيْ ضَعِيفٍ يَعْنِي النُّطْفَةَ. وَقِيلَ: خُلِقَ بِسُرْعَةٍ وَتَعْجِيلٍ عَلَى غَيْرِ تريب الْآدَمِيِّينَ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ لِقَوْلِ الْأَخْفَشِ. وَقِيلَ: مِنْ عَجَلٍ مِنْ طِينٍ وَالْعَجَلُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ الطِّينُ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِبَعْضِ الْحِمْيَرِيِّينَ: النَّبْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ ... وَالنَّخْلُ مَنْبَتُهُ فِي الْمَاءِ وَالْعَجَلِ وَقِيلَ: الْإِنْسانُ هُنَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَيْهِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ آخِرَهَا. وَالْآيَاتُ هُنَا قِيلَ: الْهَلَاكُ الْمُعَجَّلُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ يَأْتِيكُمْ فِي وَقْتِهِ. وَقِيلَ: أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: آثَارُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بِالشَّامِ وَالْيَمَنِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ أي سيأتي ما يسوؤكم إِذَا دُمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَهَاهُمْ عَنِ الِاسْتِعْجَالِ مَعَ قَوْلِهِ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وَقَوْلِهِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «1» أَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؟ قُلْتُ: هَذَا كَمَا رُكِّبَ فِيهِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْلِبَهَا لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ الْقُدْرَةَ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا قَمْعَ الشَّهْوَةِ وَتَرْكَ الْعَجَلَةِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيدٌ وَابْنُ مِقْسَمٍ خُلِقَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْإِنْسانُ بِالنَّصْبِ أَيْ خُلِقَ اللَّهُ الْإِنْسانُ وَقَوْلُهُ مَتى هذَا الْوَعْدُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَعَّدُونَهُمْ على لسان الشرع ومَتى فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ لِهَذَا فموضعه دفع، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ مَوْضِعَ مَتى نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ يَكُونُ أَوْ يَجِيءُ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَحَذْفُهُ أَبْلَغُ وَأَهْيَبُ مِنَ النَّصِّ عَلَيْهِ فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمَّا اسْتَعْجَلُوا وَنَحْوَهُ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 11.

وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِعْجَالِ. وَقِيلَ: لَعَلِمُوا صِحَّةَ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: لَعَلِمُوا صِحَّةَ الْمَوْعُودِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: لَسَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ السَّاعَةِ وَحِينَ يُرَادُ بِهِ وَقْتُ السَّاعَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تأتيهم بغتة انتهى. وحِينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَفْعُولٌ بِهِ لِيَعْلَمَ أَيْ لَوْ يَعْلَمُونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَهُوَ وَقْتٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ تُحِيطُ بِهِمُ النَّارُ مِنْ وَرَاءُ وَقُدَّامُ، وَلَكِنَّ جَهْلَهُمْ بِهِ هُوَ الَّذِي هَوَّنَهُ عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ مَتْرُوكًا فَلَا تَعْدِيَةَ بِمَعْنَى لَوْ كَانَ مَعَهُمْ عِلْمٌ وَلَمْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ لَمَا كَانُوا مُسْتَعْجِلِينَ، وحِينَ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ أَيْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْبَاطِلِ، وَيَنْتَفِي عَنْهُمْ هَذَا الْجَهْلُ الْعَظِيمُ أَيْ لَا يَكُفُّونَهَا انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَفْعُولَ يَعْلَمُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ أَيْ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَجِيءَ الْمَوْعُودِ الَّذِي سألوا عنه واستنبطوه. وحِينَ مَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مَجِيءٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَأُعْمِلَ الثَّانِي وَالْمَعْنَى لَوْ يَعْلَمُونَ مُبَاشَرَةَ النَّارِ حِينَ لَا يَكُفُّونَهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَذَكَرَ الْوُجُوهَ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا فِي الإنسان وعجل حَوَاسِّهِ، وَالْإِنْسَانُ أَحْرَصُ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا الظُّهُورَ وَالْمُرَادُ عُمُومُ النَّارِ لِجَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَحَدَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أَيْ تَفْجَؤُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَلْ تَأْتِيهِمْ اسْتِدْرَاكٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ نَفْيٌ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الْآيَاتِ لَا تَأْتِي بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَأْتِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى النَّارِ: وَقِيلَ: عَلَى السَّاعَةِ الَّتِي تُصَبِّرُهُمْ إِلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ: عَلَى الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ: فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى النَّارِ أَوْ إِلَى الْوَعْدِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّارِ وَهِيَ الَّتِي وَعَدُوهَا، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْعِدَةِ وَالْمَوْعِدَةِ أَوْ إِلَى الْحِينِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السَّاعَةِ أَوْ إِلَى الْبَعْثَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بَلْ يَأْتِيهِمْ بِالْيَاءِ بَغْتَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ فَيَبْهَتُهُمْ بِالْيَاءِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْوَعْدِ أَوِ الْحِينِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: لَعَلَّهُ جَعَلَ النَّارَ بِمَعْنَى الْعَذَابِ فَذَكَرَ ثُمَّ رَدَّ رَدَّهَا إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ يُؤَخَّرُونَ عَمَّا حَلَّ بِهِمْ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً سَلَّاهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَقَعَ مِنْ أُمَمِهِمُ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَأَنَّ ثَمَرَةَ اسْتِهْزَائِهِمْ جَنَوْهَا هَلَاكًا وَعِقَابًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَذَلِكَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ مَنِ الَّذِي يَحْفَظُكُمْ فِي أَوْقَاتِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أَيْ لَا أَحَدَ

يَحْفَظُكُمْ مِنْهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ. وَفِي آخِرِ الْكَلَامِ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مَانِعٌ وَلَا كالىء، وَعَلَى هَذَا النَّفْيِ تَرْكِيبُ بَلْ فِي قَوْلِهِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ هُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِهِ لَا يُخْطِرُونَهُ بِبَالِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَخَافُوا بَأْسَهُ حَتَّى إِذَا رُزِقُوا الْكِلَاءَةَ مِنْهُ عَرَفُوا مَنِ الْكَالِئُ وَصَلَحُوا لِلسُّؤَالِ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَمَرَ رَسُولَهُ بِسُؤَالِهِمْ عَنِ الْكَالِئِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِذَلِكَ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ ذِكْرِ مَنْ يَكْلَؤُهُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَشَيْبَةُ: يَكْلُوكُمْ بِضَمَّةٍ خَفِيفَةٍ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ يَكْلُوكُمْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ. أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ كَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ أَلَهُمْ آلِهَةٌ فَأَضْرَبَ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ مِنْ دُونِنا مُتَعَلِّقٌ بِتَمْنَعُهُمْ انْتَهَى. قِيلَ: وَالْمَعْنَى أَلْهُمْ آلِهَةٌ تَجْعَلُهُمْ فِي مَنَعَةٍ وَعِزٍّ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا تَمْنَعُهُمْ تَقُولُ: مَنَعْتُ دُونَهُ كَفَفْتُ أَذَاهُ فَمِنْ دُونِنَا هُوَ مِنْ صِلَةٍ آلِهَةٌ أَيْ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ دُونَنَا أَوْ مِنْ صِلَةٍ تَمْنَعُهُمْ أَيْ أَمْ لَهُمْ مَانِعٌ مِنْ سِوَانَا. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِخْبَارَ عَنْ آلِهَتِهِمْ فَبَيَّنَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى نَصْرِ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا وَلَا بِمَصْحُوبٍ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ كَيْفَ يَمْنَعُ غَيْرَهُ وَيَنْصُرُهُ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصْحَبُونَ يُمْنَعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِد: يُنْصُرُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصْحَبُونَ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا ... لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دَوَانِ وَقَالَ مُجَاهِد: يُحْفَظُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَصْحَبُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرَ فِي وَلا هُمْ عَلَى الْأَصْنَامِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: عَلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّحْرِيرِ مَدَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يَعْنِي يُصْحَبُونَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ صَحِبَ يَصْحَبُ، وَالثَّانِي مِنَ الْإِصْحَابِ أَصْحَبَ الرَّجُلَ مَنَعَهُ مِنَ الْآفَاتِ. بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.

هؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ قَبْلُ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنِ اتَّخَذَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَّعَ هؤُلاءِ الْكُفَّارَ وَآباءَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا حَتَّى طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي رَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ، وَتَدَعَّسُوا فِي الضَّلَالَةِ بِإِمْهَالِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ وَتَأْخِيرِهِمْ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَأْخُذُهُمْ فِيهِ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آخِرِ الرَّعْدِ. وَاقْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْقُصُ أَرْضَ الْكُفْرِ وَدَارَ الْحَرْبِ وَنَحْذِفُ أَطْرَافَهَا بِتَسْلِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا وَرَدِّهَا دَارَ إِسْلَامٍ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ نَأْتِي الْأَرْضَ؟ قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ تَصْوِيرُ مَا كَانَ اللَّهُ يُجْرِيهِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عَسَاكِرَهُمْ وَسَرَايَاهُمْ كَانَتْ تَغْزُو أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ وَتَأْتِيهَا غَالِبَةً عَلَيْهَا نَاقِصَةً مِنْ أَطْرَافِهَا انْتَهَى. وَفِي ذَلِكَ تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ وَفِي قَوْلِهِمْ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ إذا الْمَعْنَى أَنَّهُمْ هُمُ الْغَالِبُونَ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ حَيْثُ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَيْ أُعْلِمُكُمْ بِمَا تَخَافُونَ مِنْهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ فَهُوَ الصِّدْقُ الْوَاقِعُ لَا مَحَالَةَ كَمَا رَأَيْتُمْ بِالْعِيَانِ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ مِنْ أَطْرَافِهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ إِنْذَارِهِمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ فَالْإِنْذَارُ لَا يُجْدِي فِيهِمْ إِذْ هُمْ صُمٌّ عَنْ سَمَاعِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْوَحْيُ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ كَانَ ذِكْرُ الصَّمَمِ مُنَاسِبًا والصُّمُّ هم المنذرون، فأل فِيهِ لِلْعَهْدِ وَنَابَ الظَّاهِرُ مَنَابَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِتَصَامِّهِمْ وَسَدِّ أَسْمَاعِهِمْ إِذَا أُنْذِرُوا، وَلَمْ يَكُنِ الضَّمِيرُ لِيُفِيدَ هَذَا الْمَعْنَى وَنَفْيُ السَّمَاعِ هُنَا نَفْيُ جَدْوَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَسْمَعُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمِيمِ الصُّمُّ رفع به والدُّعاءَ نُصِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَابْنُ الصَّلْتِ عَنْ حَفْصٍ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْمِيمِ الصُّمُّ الدُّعاءَ بِنَصْبِهِمَا وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَيْ وَلا يَسْمَعُ الرَّسُولُ وَعَنْهُ أَيْضًا وَلا يَسْمَعُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الصُّمُّ رُفِعَ بِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْيَزِيدِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو يَسْمَعُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الصُّمُّ نَصْبًا الدُّعاءَ رَفَعًا بِيُسْمِعُ، أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الدُّعَاءِ اتِّسَاعًا وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يُسْمَعُ النِّدَاءُ الصُّمَّ شَيْئًا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَمُّوا عَنْ سَمَاعِ مَا أُنْذِرُوا بِهِ إِذَا نَالَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا

أُنْذِرُوا بِهِ، وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا نَادَوْا بِالْهَلَاكِ وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، نُبِّهُوا عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمُ الْعَذَابَ وَهُوَ ظُلْمُ الْكُفْرِ وَذُلُّوا وَأَذْعَنُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَفْحَةٌ طَرَفٌ وَعَنْهُ هُوَ الْجُوعُ الَّذِي نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَفَحَ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ نَفْحَةً إِذَا أَعْطَاهُ نَصِيبًا وَفِي قَوْلِهِ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ ثَلَاثُ مُبَالَغَاتِ لَفْظِ الْمَسِّ، وَمَا فِي مَدْلُولِ النَّفْحِ مِنَ الْقِلَّةِ إِذْ هو الربح الْيَسِيرُ أَوْ مَا يَرْضَخُ مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَبِنَاءُ الْمَرَّةِ مِنْهُ وَلَمْ يَأْتِ نَفْحٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ بِأَدْنَى إِصَابَةٍ مِنْ أَقَلِّ الْعَذَابِ أَذْعَنُوا وَخَضَعُوا وَأَقَرُّوا بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ ظُلْمُهُمُ السَّابِقُ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا أُصِيبُوا بِشَيْءٍ اسْتَطْرَدَ لِمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عَدْلِهِ وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فَقَالَ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَوَازِينِ فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ، وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ هَلْ ثَمَّ مِيزَانٌ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَدْلِ التَّامِّ وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ؟ قَالَا: لَيْسَ ثَمَّ مِيزَانٌ وَلَكِنَّهُ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ مَصْدَرٌ وُصِفَتْ بِهِ الْمَوَازِينُ مُبَالَغَةً كَأَنَّهَا جُعِلَتْ فِي أَنْفُسِهَا الْقِسْطَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أي ذَوَاتِ الْقِسْطَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ أَيْ لأجل الْقِسْطَ. وقرىء الْقِصْطِ بِالصَّادِ. وَاللَّامُ فِي لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: جِئْتُ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ. وَمِنْهُ بَيْتُ النَّابِغَةِ: تَرَسَّمَتْ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ انْتَهَى. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ اللَّامَ تَكُونُ بِمَعْنَى فِي وَوَافَقَهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَابْنُ مَالِكٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أَيْ فِي يَوْمٍ، وَكَذَلِكَ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ أَيْ فِي وَقْتِهَا وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ لِمِسْكِينٍ الدَّارِمِيِّ: أُولَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ ... كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ عَادٌ وَتُبَّعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَكُلُّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ عَمَّرَا مَعًا ... مُقِيمِينَ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ وَقِيلَ اللَّامُ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِحِسَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وشَيْئاً مَفْعُولٌ ثَانٍ أَوْ مَصْدَرٌ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِثْقالَ بِالنَّصْبِ خَبَرُ كانَ أَيْ وَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ أَوْ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ وَكَذَا فِي لُقْمَانَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ مِثْقَالُ بِالرَّفْعِ عَلَى الفاعلية وكانَ تَامَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَتَيْنا مِنَ الْإِتْيَانِ أَيْ جِئْنَا بِهَا، وَكَذَا قَرَأَ أُبَيٌّ أَعْنِي جِئْنَا وَكَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِأَتَيْنَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْعَلَاءُ بْنُ سَيَابَةَ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ شُرَيْحٍ الْأَصْبَهَانِيُّ آتَيْنَا بِمَدِّهِ عَلَى وَزْنِ فَاعَلْنَا مِنَ الْمُوَاتَاةِ وَهِيَ الْمُجَازَاةُ وَالْمُكَافَأَةُ، فَمَعْنَاهُ جَازَيْنَا بِهَا وَلِذَلِكَ تَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى أَفْعَلْنَا مِنَ الْإِيتَاءِ بِالْمَدِّ عَلَى مَا تَوَهَمَّهُ بَعْضُهُمْ لَتَعَدَّى مُطْلَقًا دُونَ جَازٍ قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ وَالْمُكَافَأَةِ لِأَنَّهُمْ أَتَوْهُ بِالْأَعْمَالِ وَأَتَاهُمْ بِالْجَزَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ على معنى: وأَتَيْنا مِنَ الْمُوَاتَاةِ، وَلَوْ كَانَ آتَيْنَا أَعْطَيْنَا لَمَا تَعَدَّتْ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيُوهِنُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّ بَدَلَ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ هَمْزَةٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْمَضْمُومَةِ وَالْمَكْسُورَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ: أَثَبْنَا بِهَا مِنَ الثَّوَابِ وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي بِها وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى مُذَكَّرٍ وَهُوَ مِثْقالَ لِإِضَافَتِهِ إلى مؤنث كَفى بِنا حاسِبِينَ فِيهِ تَوَعُّدٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَبْطِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْحِسَابِ وَهُوَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حاسِبِينَ تَمْيِيزٌ لِقَبُولِهِ مِنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَتَى بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى الله عليه وسلم من الذِّكْرِ وَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَعَهُ، وَقَالَ: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَتْبَعَهُ بِأَنَّهُ عَادَةُ اللَّهِ فِي أَنْبِيَائِهِ فَذَكَرَ مَا آتَى مُوسى وَهارُونَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّتِهِمَا مَعَ قَوْمِهِمَا مَعَ مَا أُوتُوا مِنَ الْفُرْقَانِ وَالضِّيَاءِ وَالذِّكْرِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَا آتَى رَسُولَهُ مِنَ الذِّكْرِ الْمُبَارَكِ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلَى سَبِيلِ الذِّكْرِ عَلَى إِنْكَارِهِمْ ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَا آتَى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وسلّم. والْفُرْقانَ التَّوْرَاةُ وَهُوَ الضِّيَاءُ، وَالذِّكْرُ أَيْ كِتَابًا هُوَ فُرْقَانٌ وَضِيَاءٌ، وَذِكْرٌ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ ضِيَاءً وَذِكْرًا بِغَيْرِ وَاوٍ فِي ضِيَاءٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْقُرْآنُ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ نَصْرِهِ وَظُهُورِ حُجَّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا فَرَّقَ بَيْنَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ فِرْعَوْنَ وَالضِّيَاءُ التَّوْرَاةُ، وَالذِّكْرُ التَّذْكِرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ أَوْ ذِكْرُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ أَوِ الشَّرَفُ وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ يُؤْذِنُ بِالتَّغَايُرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفُرْقانَ الْفَتْحُ لِقَوْلِهِ يَوْمَ الْفُرْقانِ «1» وَعَنِ الضَّحَّاكِ: فلق الْبَحْرِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: الْمُخْرِجُ مِنَ الشُّبَهَاتِ والَّذِينَ صِفَةٌ تَابِعَةٌ أَوْ مَقْطُوعَةٌ بِرَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ أَوْ بدل.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 41.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 112]

وَلَمَّا ذَكَرَ التَّقْوَى ذَكَرَ مَا أَنْتَجَتْهُ وَهُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِشْفَاقُ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالسَّاعَةُ الْقِيَامَةُ وَبِالْغَيْبِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: يَخَافُونَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَخَافُونَ عَذَابَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَخَافُونَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: يَخَافُونَهُ إِذَا غَابُوا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَالْإِشْفَاقُ شِدَّةُ الْخَوْفِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، وَتَكُونُ الصِّلَةُ الْأَوْلَى مُشْعِرَةً بِالتَّجَدُّدِ دَائِمًا كَأَنَّهَا حالتهم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَالصِّلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ عَنْهُ بِالِاسْمِ الْمُشْعِرِ بِثُبُوتِ الْوَصْفِ كَأَنَّهَا حَالَتُهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا آتَى مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَشَارَ إِلَى مَا آتَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَهذا أَيِ الْقُرْآنُ ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَيْ كَثِيرٌ مَنَافِعُهُ غَزِيرٌ خَبَرُهُ، وَجَاءَ هُنَا الْوَصْفُ بِالِاسْمِ ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ جَرْيًا عَلَى الْأَشْهَرِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «1» وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حِكْمَةَ تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ عَلَى الِاسْمِ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى ذِكْرٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا أَنْكَرَ أَسْلَافُ الْيَهُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى موسى عليه السلام. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (112)

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 92.

التِّمْثَالُ: الصُّورَةُ الْمَصْنُوعَةُ مُشَبَّهَةً بِمَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا شَبَّهْتَهُ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ ... بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ الْجَذُّ: الْقَطْعُ. قَالَ الشَّاعِرُ: بَنُو الْمُهَلَّبِ جَذَّ اللَّهُ دَابِرَهُمْ ... أَمْسَوْا رَمَادًا فَلَا أَصْلٌ وَلَا طَرَفُ النَّكْسُ: قَلْبُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ أَعْلَاهُ أَسْفَلُ، وَنَكَّسَ رَأْسَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ طَأْطَأَ حَتَّى صَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلُ. الْبَرْدُ: مَصْدَرُ بَرُدَ، يُقَالُ: بَرَّدَ الْمَاءُ حَرَارَةَ الْجَوْفِ يُبَرِّدُهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَطَّلَ قَلُوصِيِ فِي الرِّكَابِ فَإِنَّهَا ... سَتُبَرِّدُ أَكْبَادًا وَتَبْكِي بَوَاكِيَا

النَّفْشُ: رَعْيُ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ بِغَيْرِ رَاعٍ، وَالْهُمْلُ بِالنَّهَارِ بِلَا رَاعٍ، الْغَوْصُ: الدُّخُولُ تَحْتَ الْمَاءِ لِاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ ... مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ النُّونُ: الْحُوتُ وَيُجْمَعُ عَلَى نِينَانٍ، وَرُوِيَ: النِّينَانُ قَبْلَهُ الْحُمْرُ. الْفَرْجُ: يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّ وَالذَّكَرُ مُقَابِلُ الْحُرِّ وَعَلَى الدُّبُرِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَنْتَ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ شَدَّ فَرْجَهُ ... مُضَافُ فُوَيْقِ الْأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلَ الْحَدَبُ: الْمُسَنَّمُ من الأرض كالجبل والكدية وَالْقَبْرِ وَنَحْوُهُ. النَّسَلَانُ: مُقَارَبَةُ الْخَطْوِ مَعَ الْإِسْرَاعِ قَالَ الشَّاعِرُ: عُسْلَانُ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا ... بَرُدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسِلَ الْحَصَبُ: الْحَطَبُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ إِذَا رَمَى بِهِ فِي النَّارِ قَبْلَ وَقَبْلَ أن يرمي به لا يُسَمَّى حَصَبًا. وَقِيلَ: الْحَصَبُ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ. السِّجِلُّ: الصَّحِيفَةُ. وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. لَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا غَيْرَ مُرَاعًى فِي ذِكْرِهِمُ التَّرْتِيبُ الزَّمَانِيُّ، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا نَالَ كَثِيرًا مِنْهُمْ مِنَ الِابْتِلَاءِ كُلُّ ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُشْدَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِي رُشْدَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَأَضَافَ الرُّشْدَ إِلَى إِبْراهِيمَ بِمَعْنَى أَنَّهُ رُشْدُ مِثْلِهِ وَهُوَ رُشْدُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَهُ شَأْنٌ أَيُّ شَأْنٍ، وَالرُّشْدُ النُّبُوَّةُ وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى وُجُوهِ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَوْ هُمَا دَاخِلَانِ تَحْتَ الرُّشْدِ أَوِ الصُّحُفِ وَالْحِكْمَةِ أَوِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ صَغِيرًا أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ وَلِذَلِكَ بَنَى قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلُ مُوسَى وَهَارُونُ قَالَهُ الضَّحَّاكُ

كَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ «1» أَيْ مِنْ قبل إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ قَبْلُ بُلُوغِهِ أَوْ مِنْ قَبْلُ نُبُوَّتِهِ يَعْنِي حِينَ كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ. وَأَخَذَ مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مِنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا مَحْذُوفَاتٌ لَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهَا دَلِيلٌ بِخِلَافِ مِنْ قَبْلُ مُوسَى وَهَارُونَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرُهُمَا. وَقُرْبُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: عَلَى الرشاء وَعَلَّمَهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ أَحْوَالًا عَجِيبَةً وَأَسْرَارًا بَدِيعَةً فَأَهَّلَهُ لَخُلَّتِهِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَدْحِ وَأَبْلَغِهِ إِذْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُ الرُّشْدَ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا آتَاهُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَفْسِيرِ الرُّشْدِ وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَرَفْضِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ. وإِذْ مَعْمُولَةٌ لِآتَيْنَا أَوْ رُشْدَهُ وعالِمِينَ وَبِمَحْذُوفٍ أَيِ اذْكُرْ مِنْ أَوْقَاتِ رُشْدِهِ هَذَا الْوَقْتَ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ أَبِيهِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ فِي النَّصِيحَةِ وَإِنْقَاذُهُ مِنَ الضَّلَالِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» وَفِي قَوْلِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ تَحْقِيرٌ لَهَا وَتَصْغِيرٌ لِشَأْنِهَا وَتَجَاهُلٌ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا وَبِتَعْظِيمِهِمْ لَهَا. وَفِي خِطَابِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ أَنْتُمْ اسْتِهَانَةٌ بِهِمْ وَتَوْقِيفٌ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَعَكَفَ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ «3» فَقِيلَ لَها هُنَا بِمَعْنَى عَلَيْهَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «4» وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي لَها لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لِتَعْظِيمِهَا، وَصِلَةُ عاكِفُونَ مَحْذُوفَةٌ أَيْ عَلَى عِبَادَتِهَا. وَقِيلَ: ضَمَّنَ عاكِفُونَ مَعْنَى عَابِدِينَ فَعَدَّاهُ بِاللَّامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَنْوِ لِلْعَاكِفِينَ مَحْذُوفًا وَأَجْرَاهُ مَجْرَى مَا لَا يَتَعَدَّى كَقَوْلِهِ فَاعِلُونَ الْعُكُوفَ لَهَا أَوْ وَاقِفُونَ لَهَا انْتَهَى. وَلَمَّا سَأَلَهُمْ أَجَابُوهُ بِالتَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، وَأَنَّهُ فِعْلُ آبَائِهِمُ اقْتَدَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ بُرْهَانٍ، وَمَا أَقْبَحَ هَذَا التَّقْلِيدَ الَّذِي أَدَّى بِهِمْ إِلَى عِبَادَةِ خَشَبٍ وَحَجَرٍ وَمَعْدِنٍ وَلَجَاجَهُمْ فِي ذَلِكَ وَنُصْرَةَ تَقْلِيدِهِمْ وَكَانَ سؤاله إياهم عَنْ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ وَغَايَتِهِ أَنْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً فِي ذَلِكَ فَيُبْطِلُهَا، فَلَمَّا أَجَابُوهُ بِمَا لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِيهِ وَبَدَا ضَلَالُهُمْ قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ لَا الْتِبَاسَ فِيهَا، وَحَكَمَ بِالضَّلَالِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ وَجَعَلَ الضلال مستقرا لهم وأَنْتُمْ تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ كَانَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 84. (2) سورة الشعراء: 26/ 214. (3) سورة الأعراف: 7/ 138. (4) سورة الإسراء: 17/ 7.

وأَنْتُمْ مِنَ التَّأْكِيدِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهِ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى ضَمِيرِ هُوَ فِي حُكْمِ بَعْضِ الْفِعْلِ مُمْتَنِعٌ وَنَحْوُهُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «1» انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ الْكَلَامُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهِ لِأَنَّ الْكُوفِيِّينَ يُجِيزُونَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الْمَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا فَصْلٍ وَتَنْظِيرُهُ ذَلِكَ: بَاسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ فِي اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ وَزَوْجُكُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ بَلْ قَوْلُهُ: وَزَوْجُكَ مُرْتَفِعٌ عَلَى إِضْمَارٍ، وَلِيَسْكُنْ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَقَوْلُهُ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَلَمَّا جَرَى هَذَا السُّؤَالُ وَهَذَا الْجَوَابُ تَعَجَّبُوا مِنْ تَضْلِيلِهِ إِيَّاهُمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ وَجَوَّزُوا أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ لَا الْجِدِّ، فَاسْتَفْهَمُوهُ أَهَذَا جِدٌّ مِنْهُ أَمْ لَعِبٌ وَالضَّمِيرُ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى أبيه وقومه وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ أَجِئْتَنا وَلَمْ يُرِيدُوا حَقِيقَةَ الْمَجِيءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْهُمْ غَائِبًا فَجَاءَهُمْ وَهُوَ نَظِيرُ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ «2» وَالْحَقُّ هُنَا ضِدُّ الْبَاطِلِ وَهُوَ الْجِدُّ، وَلِذَلِكَ قَابَلُوهُ بِاللَّعِبِ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً لِكَوْنِهَا أَثْبَتَ كَأَنَّهُمْ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَاعِبٌ هَازِلٌ فِي مَقَالَتِهِ لَهُمْ وَلِكَوْنِهَا فَاصِلَةً. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنِ الْجِدِّ وَأَنَّ الْمَالِكَ لَهُمْ وَالْمُسْتَحِقَّ الْعِبَادَةَ هُوَ رَبُّهُمْ وَرَبُّ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ الْمُنْدَرِجِ فِيهِ أَنْتُمْ وَمَعْبُودَاتُكُمْ نَبَّهَ عَلَى الْمُوجِبِ للعبادة وهو منشىء هَذَا الْعَالَمِ وَمُخْتَرِعُهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَطَرَهُنَّ عَائِدٌ على السموات وَالْأَرْضِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ السموات وَالْأَرْضُ تَبْلُغُ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْهُ جَاءَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الْقِلَّةِ. وَقِيلَ فِي فَطَرَهُنَّ عَائِدٌ عَلَى التَّمَاثِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَوْنُهُ لِلتَّمَاثِيلِ أَدْخَلَ فِي تَضْلِيلِهِمْ وَأَثْبَتَ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَطَرَهُنَّ عِبَارَةٌ عَنْهَا كَأَنَّهَا تَعْقِلُ، هَذِهِ مِنْ حَيْثُ لَهَا طَاعَةٌ وَانْقِيَادٌ وَقَدْ وُصِفَتْ فِي مَوَاضِعَ بِمَا يُوصَفُ بِهِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ غَيْرُ فَطَرَهُنَّ أَعَادَ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لِمَا صَدَرَ مِنْهُنَّ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ يَعْقِلُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «3» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أطلت السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ» . انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ وَهَذَا الْقَائِلُ تَخَيَّلَا أَنَّ هُنَّ مِنَ الضَّمَائِرِ الَّتِي تَخُصُّ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْمُوعِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلا تَظْلِمُوا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 35. (2) سورة الشعراء: 26/ 30. (3) سورة فصلت: 41/ 11.

فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ «1» وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى وَوَصْفِهِ بِالِاخْتِرَاعِ لِهَذَا العالم ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ أَيِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَثِيرُونَ، وَأَنَا بَعْضٌ مِنْهُمْ أَيْ مَا قُلْتُهُ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ عَلَيْهِ شُهُودٌ كَثِيرُونَ فَهُوَ مَقَالٌ مصحح بالشهود. وعَلى ذلِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَنَا شَاهِدٌ عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَوْ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ أَيْ أَعْنِي عَلى ذلِكُمْ أَوْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ فِي صِلَةِ أل لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ أَقْوَالٌ تَقَدَّمَتْ فِي إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «2» وَبَادَرَهُمْ أَوَّلًا بِالْقَوْلِ الْمُنَبِّهِ عَلَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْقَوْلِ، فَانْتَقَلَ إِلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي مَآلُهُ إِلَى الدَّلَالَةِ التَّامَّةِ عَلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي عِبَارَةِ مَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ بِالْكَسْرِ وَالتَّقْطِيعِ وَهُوَ لَا يَدْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَشْعُرُ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ فَكِّ أَجْزَائِهِ فَقَالَ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَتَاللَّهِ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِاللَّهِ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّاءِ وَالْبَاءِ؟ قُلْتُ: إِنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا، وَإِنَّ التَّاءَ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ، كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مَنْ تَسَهُّلِ الْكَيْدِ عَلَى يَدِهِ وَتَأْتِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مَقْنُوطًا مِنْهُ لِصُعُوبَتِهِ وَتَعَذُّرِهِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ مِثْلَهُ صَعْبٌ مُتَعَذِّرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ خُصُوصًا فِي زمن نمرود مَعَ عُتُوِّهِ وَاسْتِكْبَارِهِ وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَتَهَالُكِهِ عَلَى نَصْرِ دِينِهِ وَلَكِنْ: إِذَا اللَّهُ سَنَى عَقْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرَا انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ الْبَاءُ هِيَ الْأَصْلُ إِنَّمَا كَانَتْ أَصْلًا لِأَنَّهَا أَوْسَعُ حُرُوفِ الْقَسَمِ إِذْ تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمُضْمَرِ وَيُصَرَّحُ بِفِعْلِ الْقَسَمِ مَعَهَا وَتُحْذَفُ وَأَمَّا أَنَّ التَّاءَ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْقَسَمِ الَّذِي أُبْدِلَ مِنْ بَاءِ الْقَسَمِ فَشَيْءٌ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ دليل وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ السُّهَيْلِيُّ وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَصْلًا لِآخَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ التَّاءَ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ فَنُصُوصُ النُّحَاةِ أَنَّ التَّاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا تَعَجُّبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ وَاللَّامُ هِيَ الَّتِي يَلْزَمُهَا التَّعَجُّبُ فِي الْقَسَمِ. وَالْكَيْدُ الِاحْتِيَالُ فِي وُصُولِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَكِيدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَاطَبَ بِهَا أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَأَنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ سِرًّا مَنْ قَوْمِهِ وَسَمِعَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنْ ضَعَفَتِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَسِيرُ فِي آخِرِ الناس يوم

_ (1) سورة التوبة: 9/ 36. (2) سورة الأعراف: 7/ 21. [.....]

خَرَجُوا إِلَى الْعِيدِ وَكَانَتِ الْأَصْنَامُ سَبْعِينَ. وَقِيلَ: اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ مُضَارِعُ وَلَّى. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ تُوَلُّوا فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَهِيَ الثَّانِيَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَالْأَوْلَى عَلَى مَذْهَبِ هِشَامٍ وَهُوَ مُضَارِعُ تَوَلَّى وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ «1» وَمُتَعَلِّقُ تُوَلُّوا مَحْذُوفٌ أَيْ إِلَى عِيدِكُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ آزَرَ خَرَجَ بِهِ فِي يَوْمِ عِيدٍ لَهُمْ فَبَدَؤُوا بِبَيْتِ الْأَصْنَامِ فَدَخَلُوهُ وَسَجَدُوا لَهَا وَوَضَعُوا بَيْنَهَا طَعَامًا خَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، وَقَالُوا: لَنْ تَرْجِعَ بَرَكَةُ الْآلِهَةِ عَلَى طَعَامِنَا فَذَهَبُوا، فَلَمَّا كَانَ فِي الطَّرِيقِ ثَنَى عَزْمَهُ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَهُمْ فَقَعَدَ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ، وَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا إِلَّا مَرِيضًا فَأَتَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ بِالَّذِي هُمْ فِيهِ فَنَظَرَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أَشْتَكِي غَدًا وَأَصْبَحَ مَعْصُوبَ الرَّأْسِ فَخَرَجُوا وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَقَالَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ إِلَى آخِرِهِ وَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَحَفِظَهُ ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ فَانْتَشَرَ انْتَهَى. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَتَوَلَّوْا إِلَى عِيدِهِمْ فَأَتَى إِبْرَاهِيمُ الْأَصْنَامَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُطَامًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَخَذَ مِنْ كُلِّ عُضْوَيْنِ عُضْوًا. وَقِيلَ: وَكَانَتِ الْأَصْنَامُ مُصْطَفَّةً وَصَنَمٌ مِنْهَا عَظِيمٌ مُسْتَقْبِلُ الْبَابِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِي عَيْنَيْهِ دُرَّتَانِ مُضِيئَتَانِ، فَكَسَرَهَا بِفَأْسٍ إِلَّا ذَلِكَ الصَّنَمَ وَعَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ. وَقِيلَ: عَلَّقَهُ فِي يَدِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُذاذاً بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيدٌ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ بِكَسْرِهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو السَّمَّاكِ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَاتٌ أَجْوَدُهَا الضَّمُّ كالحطام وَالرُّفَاتِ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ جُذاذاً بِالضَّمِّ جَمْعُ جُذَاذَةٍ كَزُجَاجٍ وَزُجَاجَةٍ. وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَكَرِيمٍ وَكِرَامٍ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ مَصْدَرٌ كَالْحَصَادِ بِمَعْنَى الْمَحْصُودِ فَالْمَعْنَى مَجْذُوذِينَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ فِي لُغَاتِهِ الثَّلَاثِ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: جُذَذًا بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَجَدِيدٍ وَجُدُدٍ. وَقُرِئَ جذذا بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الذَّالِ مخففا من فعل كسر وفي سُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وَهِيَ لُغَةٌ لِكَلْبٍ، أَوْ جَمْعُ جُذَّةٍ كَقُبَّةٍ وَقُبَبٍ. وَأَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ فَجَعَلَهُمْ إِذْ كَانَتْ تَعْبُدُ وَقَوْلُهُ إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَجَعَلَهُمْ أَيْ فَلَمْ يكسره، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ يُحْتَمَلُ أن يعود

_ (1) سورة الصافات: 37/ 90.

عَلَى الْأَصْنَامِ وَأَنْ يَعُودَ عَلَى عِبَادِهِ، وَالْكِبْرُ هُنَا عِظَمُ الْجُثَّةِ أَوْ كَبِيرًا فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ لِكَوْنِهِمْ صَاغُوهُ مَنْ ذَهَبٍ وَجَعَلُوا فِي عَيْنَيْهِ جَوْهَرَتَيْنِ تُضِيئَانِ بِاللَّيْلِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ تَرَجِّيًا مِنْهُ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ رَجْعُهُ إِلَيْهِ وَإِلَى شَرْعِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَبْقَى الْكَبِيرَ لِأَنَّهُ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَّا إِلَيْهِ لِمَا تَسَامَعُوهُ مِنْ إنكار لِدِينِهِمْ وَسَبِّهِ لِآلِهَتِهِمْ فَيَبْكِتُهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكَبِيرِ الْمَتْرُوكِ وَلَكِنْ يُضْعِفُ ذَلِكَ دُخُولُ التَّرَجِّي فِي الْكَلَامِ انْتَهَى وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى هَذَا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَى الْعَالِمِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ، فَيَقُولُونَ مَا لِهَؤُلَاءِ مَكْسُورَةً وَمَالَكَ صَحِيحًا وَالْفَأْسُ عَلَى عَاتِقِكَ قَالَ: هَذَا بِنَاءٌ عَلَى ظَنِّهِ بِهِمْ لِمَا جَرَّبَ وَذَاقَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ لِعُقُولِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي آلِهَتِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهَا أَوْ قَالَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ وَاسْتِجْهَالًا، وَإِنَّ قِيَاسَ حَالِ مَنْ يُسْجَدُ لَهُ وَيُؤَهَّلُ لِلْعِبَادَةِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلِ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى الصَّنَمِ بِمُكَابَرَتِهِمْ لِعُقُولِهِمْ وَرُسُوخِ الْإِشْرَاكِ فِي أَعْرَاقِهِمْ فَأَيُّ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ فِي رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ غَرَضًا؟ قُلْتُ: إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَاجِزٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَظَهَرَ أَنَّهُمْ فِي عِبَادَتِهِ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ. قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا مَا فُعِلَ بِهَا اسْتَفْهَمُوا عَلَى سَبِيلِ الْبَحْثِ وَالْإِنْكَارِ فَقَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا أَيِ التَّكْسِيرَ وَالتَّحْطِيمَ إِنَّهُ لِظَالِمٌ فِي اجْتِرَائِهِ عَلَى الْآلِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ قالُوا أَيْ قَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَهُ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «2» يَذْكُرُهُمْ أَيْ بِسُوءٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَئِنْ ذَكَّرْتَنِي لَتَنْدَمَنَّ أَيْ بِسُوءٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ بَعْدَ سَمِعْنا فَتًى وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: هُمَا صِفَتَانِ لِفَتًى إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ يَذْكُرُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ لِسَمِعَ لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْدًا وَتَسْكُتُ حَتَّى تَذْكُرَ شَيْئًا مِمَّا يُسْمَعُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 63. (2) سورة الأنبياء: 21/ 57.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُمَا صِفَتَانِ فَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِمَا أَذْكُرُهُ أَمَّا سَمِعَ فَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَسْمُوعٍ أَوْ غَيْرِهِ إِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَسْمُوعٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ نَحْوَ: سَمِعْتُ كَلَامَ زِيدٍ وَمَقَالَةَ خَالِدٍ، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى غَيْرِ مَسْمُوعٍ فَاخْتُلِفَ فِيهَا. فَقِيلَ: أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَارِسِيِّ، وَيَكُونُ الثَّانِي مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صَوْتٍ فَلَا يُقَالُ سَمِعْتُ زَيْدًا يَرْكَبُ، وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ أَنَّ سَمِعَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَالْفِعْلُ بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَعْرِفَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهَا أَوْ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ يُسْتَدَلُّ لَهُمَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْآخَرِ يَتَمَشَّى قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ صِفَةٌ لِفَتًى، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِسَمِعَ. وَأَمَّا يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وَأَتَوْا بِهِ مُنَكَّرًا قِيلَ: مَنْ يُقَالُ لَهُ فَقِيلَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَارْتَفَعَ إِبْراهِيمُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِجُمْلَةٍ تُحْكَى بِقَالَ، إِمَّا عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يُقالُ لَهُ حِينَ يُدْعَى يَا إِبْراهِيمُ وَإِمَّا عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هُوَ إِبْراهِيمُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ مَفْعُولٌ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَيَكُونُ مِنَ الْإِسْنَادِ لِلَّفْظِ لَا لِمَدْلُولِهِ، أَيْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ وَهَذَا الْآخَرُ هُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي إِجَازَتِهِ فَذَهَبَ الزَّجَّاجِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ خَرُوفٍ وَابْنُ مَالِكٍ إِلَى تَجْوِيزِ نَصْبِ الْقَوْلِ لِلْمُفْرَدِ مِمَّا لَا يَكُونُ مُقْتَطَعًا مِنْ جُمْلَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِذَا ذُقْتُ فَاهًا قُلْتُ طَعْمُ مُدَامَةٍ وَلَا مُفْرَدًا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ نَحْوَ قُلْتُ: خُطْبَةً وَلَا مَصْدَرًا نَحْوَ قُلْتُ قَوْلًا، وَلَا صِفَةً لَهُ نَحْوَ: قُلْتُ حَقًّا بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ نَحْوَ قُلْتُ زَيْدًا. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِذْ لَا يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِهِمْ قَالَ: فُلَانٌ زَيْدًا وَلَا قَالَ ضَرَبَ وَلَا قَالَ لَيْتَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْقَوْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِحِكَايَةِ الْجُمَلِ وَذَهَبَ الْأَعْلَمُ إِلَى أَنَّ إِبْراهِيمُ ارْتَفَعَ بِالْإِهْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَامِلٌ يُؤَثِّرُ فِي لَفْظِهِ، إِذِ الْقَوْلُ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الْمُفْرَدِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ فَبَقِيَ مُهْمَلًا وَالْمُهْمَلُ إِذَا ضُمَّ إِلَى غَيْرِهِ ارْتَفَعَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: وَاحِدٌ وَاثْنَانِ إِذَا عَدُّوا وَلَمْ يُدْخِلُوا عَامِلًا لَا فِي اللَّفْظِ وَلَا فِي التَّقْدِيرِ، وَعَطَفُوا بَعْضَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عَلَى بَعْضٍ، وَالْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَعْلَمِ وَإِبْطَالُهُ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. قالُوا فَأْتُوا أَيْ أَحْضِرُوهُ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أَيْ مُعَايَنًا بِمَرْأًى مِنْهُمْ فَعَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ في موضع الحال وعَلى مَعْنَاهَا الِاسْتِعْلَاءِ الْمُجَازِيِ كَأَنَّهُ لِتَحْدِيقِهِمْ إِلَيْهِ وَارْتِفَاعِ

أَبْصَارِهِمْ لِرُؤْيَتِهِ مُسْتَعْلٍ عَلَى أَبْصَارِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِمَا سُمِعَ مِنْهُ أَوْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ تَكْسِيرِ أَصْنَامِهِمْ، أَوْ يَشْهَدُونَ مَا يَحِلُّ بِهِ مِنْ عَذَابِنَا أَوْ غَلَبِنَا لَهُ الْمُؤَدِّي إِلَى عَذَابِهِ. وَقِيلَ: النَّاسِ هُنَا خَوَاصُّ الْمَلِكِ وَأَوْلِيَاؤُهُ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأْتُوا بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ. قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا أَيِ الْكَسْرَ وَالتَّهْشِيمَ بِآلِهَتِنا وَارْتِفَاعُ أَنْتَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ فَعَلْتَ وَلَمَّا حُذِفَ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَإِذَا تَقَدَّمَ الِاسْمُ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ الْفِعْلُ صَادِرًا وَاسْتُفْهِمَ عَنْ فَاعِلِهِ وَهُوَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الْفِعْلُ كَانَ الْفِعْلُ مَشْكُوكًا فِيهِ فَاسْتُفْهِمَ عَنْهُ أَوَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ قَالَ لَمْ أَفْعَلْهُ إِنَّمَا الْفَاعِلُ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى كَبِيرُهُمْ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا فِي كَسْرِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ تَعْظِيمُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ وَلِمَا دُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ كَانَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى تَحْطِيمِهَا وَكَسْرِهَا فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْكَبِيرِ إِذْ كَانَ تَعْظِيمُهُمْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ مَا دُونَهُ، وَقَالَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْكَبِيرِ مُتَقَيِّدًا بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ عَلَى مُمْتَنِعٍ أَيْ فَلَمْ يَكُنْ وَقَعَ أَيْ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ يَنْطِقُونَ وَيُخْبِرُونَ مَنِ الَّذِي صَنَعَ بِهِمْ ذَلِكَ فَالْكَبِيرُ هُوَ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ وَأَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مِنْ تَعَارِيضِ الْكَلَامِ وَلَطَائِفِ هَذَا النَّوْعِ لَا يَتَغَلْغَلُ فِيهَا إِلَّا أَذْهَانُ الرَّاضَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَالْقَوْلُ فِيهِ إِنَّ قَصْدَ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ إِلَى أَنْ يَنْسِبَ الْفِعْلَ الصَّادِرَ عَنْهُ إِلَى الصَّنَمِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَقْرِيرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِثْبَاتَهُ لَهَا عَلَى أُسْلُوبٍ تَعْرِيضِيٍّ يَبْلُغُ فِيهِ غَرَضَهُ مِنْ إِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ وَتَبْكِيتِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ لَكَ صَاحِبُكَ وَقَدْ كَتَبْتَ إِلَيْهِ كِتَابًا بِخَطٍّ رَشِيقٍ وَأَنْتَ شَهِيرٌ بِحُسْنِ الْخَطِّ: أَأَنْتَ كَتَبْتَ هَذَا وَصَاحِبُكَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْخَطَّ أَوْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى خَرْمَشَةٍ فَاسِدَةٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلْ كَتَبْتُهُ أَنْتَ كَانَ قَصْدُكُ بِهَذَا الْجَوَابِ تَقْرِيرَهُ لَكَ مَعَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ لَا نَفْيُهُ عَنْكَ وَلَا إِثْبَاتُهُ لِلْأُمِّيِّ أَوِ الْمُخَرْمِشِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ وَالْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَكُمَا لِلْعَاجِزِ منكما استهزاء وإثبات لِلْقَادِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا يَعُودُ إِلَى تَجْوِيزِهِ مَذْهَبُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: مَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَفْعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فَإِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ يُعْبَدُ وَيُدَّعَى إِلَهًا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى هَذَا وَأَشَدَّ مِنْهُ. وَيُحْكَى أَنَّهُ قَالَ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا غَضَبٌ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا انْتَهَى. وَمَنْ جَعَلَ الْفَاعِلَ بِفِعْلِهِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ فَتًى أَوْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَوْ قَالَ آخَرُ بِغَيْرِ

الْمُطَابِقِ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَوْ وَقَفَ عَلَى بَلْ فَعَلَهُ أَيْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ وَجَعَلَ كَبِيرُهُمْ هَذَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَهُوَ الْكِسَائِيُّ أَوْ أَصْلُهُ فَعَلَهُ بِمَعْنَى لَعَلَّهُ وَخَفَّفَ اللَّامَ وَهُوَ الْفَرَّاءُ مُسْتَدِلًّا بِقِرَاءَةِ ابْنِ السُّمَيْفِعِ فَعَلَهُ بِمَعْنَى لَعَلَّهُ مُشَدَّدُ اللَّامِ فَهُمْ بُعَدَاءٌ عَنْ طَرِيقِ الْفَصَاحَةِ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ إِلَى عُقُولِهِمْ حِينَ ظَهَرَ لَهُمْ مَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي أَهَّلُوهَا لِلْعِبَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُسْأَلَ وَتُسْتَفْسَرَ قَبْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرَجَعُوا أَيْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ فِي سُؤَالِكُمْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ سَأَلْتُمُوهُ وَلَمْ تَسْأَلُوهَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، أَوْ حِينَ عَبَدْتُمْ مَا لَا يَنْطِقُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ حِينَ لَمْ تَحْفَظُوا آلِهَتَكُمْ قَالَهُ وَهْبٌ، أَوْ فِي عِبَادَةِ الْأَصَاغِرِ مَعَ هَذَا الْكَبِيرِ قَالَهُ وَهْبٌ أَيْضًا، أَوْ حِينَ أَبْهَتَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالْفَأْسُ فِي عُنُقِ الْكَبِيرِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَابْنُ إِسْحَاقٍ أَوْ الظَّالِمُونَ حقيقة حيث نسيتم إِبْرَاهِيمَ إِلَى الظُّلْمِ فِي قولكم إنه على الظَّالِمِينَ إِذْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا فُعِلَ بِهَا. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي ارتكبوا فِي ضَلَالِهِمْ وَعَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْطِقُ فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ حِينَ نَبَّهَ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لِلَّذِي يَرْتَطِمُ فِي غَيِّهِ كَأَنَّهُ مَنْكُوسٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهِيَ أَقْبَحُ هَيْئَةٍ للإنسان، فكان عقله منكوس أي مقلوب لِانْقِلَابِ شَكْلِهِ، وَجَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ فَرُجُوعُهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ فِكْرِهِمْ وَنَكْسُهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ كناية عن تطأطئ رؤوسهم وَتَنْكِيسِهَا إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْخَجَلِ وَالِانْكِسَارِ مِمَّا بَهَتَهُمْ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَدَمَغَهُمْ بِهِ فَلَمْ يُطِيقُوا جَوَابًا. وَلَقَدْ عَلِمَتِ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ مَعْمُولٍ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قَائِلِينَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا فَسْئَلُوهُمْ إِنَّمَا قَصَدْتَ بِذَلِكَ تَوْبِيخًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّكْسُ لِلْفِكْرَةِ فِيمَا يُجِيبُونَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِد نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أَيْ رَدَّتِ السَّفِلَةُ عَلَى الرؤساء وعَلِمْتَ هُنَا مُعَلَّقَةٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ عَلِمْتَ إِنْ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ أَوْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِنْ تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَكْرَاوِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ بِتَشْدِيدٍ كَافِ نُكِسُوا وَقَرَأَ رِضْوَانُ بْنُ الْمَعْبُودِ نُكِسُوا بِتَخْفِيفِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ نَكَسُوا أَنْفُسَهُمْ. وَلَمَّا ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَخَذَ يُقَرِّعُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ بِعِبَادِهِ تَمَاثِيلَ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ،

ثُمَّ أَبْدَى لَهُمُ التَّضَجُّرَ مِنْهُمْ وَمِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ أُفٍّ وَاللُّغَاتُ فِيهَا وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لِبَيَانِ الْمُتَأَفَّفِ بِهِ أَيْ لَكُمْ وَلِآلِهَتِكُمْ، هَذَا التَّأَفُّفُ ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يُدْرَكُ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْعَقْلُ فَقَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ قُبْحَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ. قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ. وَلَمَّا نَبَّهَهُمْ عَلَى قَبِيحِ مُرْتَكَبِهِمْ وَغَلَبِهِمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لَاذُوا بِالْإِيذَاءِ لَهُ وَالْغَضَبِ لِآلِهَتِهِمْ وَاخْتَارُوا أَشَدَّ الْعَذَابِ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلْإِعْدَامِ الْمَحْضِ وَالْإِتْلَافِ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَكَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ يعدل إلى المناصبة والإذاية كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَمَغَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا آتَاهُمْ بِهِ عَدَلُوا إِلَى الِانْتِقَامِ وَإِيثَارِ الِاغْتِيَالِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ قالُوا حَرِّقُوهُ أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقِيلَ: أَشَارَ بِإِحْرَاقِهِ نُمْرُوذُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ الْعَجَمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ الْأَكْرَادَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوَى أَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ أَيْ بَادِيَتِهَا فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرُوا لِهَذَا الْقَائِلِ اسْمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى حَقِيقَةٍ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِالشَّكْلِ وَالنُّقَطِ، وَهَكَذَا تَقَعُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ فِي التَّفَاسِيرِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظٍ لِعَدَمِ الشَّكْلِ وَالنُّقَطِ فَيَنْبَغِي إطْرَاحُ نَقْلِهَا.

وَرُوِيَ أَنَّهُمْ حِينَ هَمُّوا بِإِحْرَاقِهِ حَبَسُوهُ ثُمَّ بَنَوْا بَيْتًا كَالْحَظِيرَةِ بِكُوثَى وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ حَبْسِهِ وَفِي عَرْضِ الْحَظِيرَةِ وَطُولِهَا، وَمُدَّةِ جَمْعِ الْحَطَبِ، وَمُدَّةِ الْإِيقَادِ، وَمُدَّةِ سِنِّهِ إِذْ ذَاكَ، وَمُدَّةِ إِقَامَتِهِ فِي النَّارِ وَكَيْفِيَّةِ مَا صَارَتْ أَمَاكِنُ النَّارِ اخْتِلَافًا مُتَعَارِضًا تَرَكْنَا ذِكَرَهُ وَاتَّخَذُوا مَنْجَنِيقًا. قِيلَ: بِتَعْلِيمِ إِبْلِيسَ إِذْ كَانَ لَمْ يُصْنَعْ قَبْلُ فَشُدَّ إِبْرَاهِيمُ رِبَاطًا وَوُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ وَرُمِيَ بِهِ فَوَقَعَ فِي النَّارِ. وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنَ الْوَزَغِ وَالْبَغْلِ وَالْخُطَّافِ وَالضِّفْدِعِ وَالْعُضْرُفُوطُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا نَجَا بِقَوْلِهِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قِيلَ: وَأَطَلَّ نُمْرُوذُ مِنَ الصَّرْحِ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ فِي رَوْضَةٍ وَمَعَهُ جَلِيسٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى آلِهِكَ فَذَبَحَ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ. وَكَفَّ عَنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذْ ذَاكَ ابْنَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي حِكَايَةِ مَا جَرَى لِإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي صَحَّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاماً وَخَرَجَ مِنْهَا سَالِمًا فَكَانَتْ أَعْظَمَ آيَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّ القائل قُلْنا يا نارُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يَقُلْ: وَسَلاماً لَهَلَكَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْبَرْدِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَمَا أَحْرَقَتْ نَارٌ بَعْدَهَا وَلَا اتَّقَدَتْ انْتَهَى. وَمَعْنَى وَسَلاماً سَلَامَةٌ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا هُنَا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ تَحِيَّةً لَكَانَ الرَّفْعُ أَوْلَى بِهَا مِنَ النَّصْبِ. وَالْمَعْنَى ذَاتُ بَرْدٍ وَسَلَامٍ فَبُولِغَ فِي ذلك كان ذاتها برد وسلام، وَلَمَّا كَانَتِ النَّارُ تَنْفَعِلُ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا كَمَا يَنْفَعِلُ مَنْ يَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ لَهَا وَالنِّدَاءِ وَالْأَمْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف بَرُدَتِ النَّارُ وَهِيَ نَارٌ؟ قُلْتُ: نَزَعَ اللَّهُ عَنْهَا طَبْعَهَا الَّذِي طَبَعَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْإِحْرَاقِ وَأَبْقَاهَا عَلَى الْإِضَاءَةِ وَالْإِشْرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ، كَمَا كَانَتْ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بِقُدْرَتِهِ عَنْ جِسْمِ إِبْرَاهِيمَ أَدْنَى حَرِّهَا وَيُذِيقَهُ فِيهَا عَكْسَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُ بِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى إِبْراهِيمَ انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا هِيَ نَارٌ مَسْجُورَةٌ لَا تُحْرِقُ فَرَمَوْا فِيهَا شَيْخًا مِنْهُمْ فَاحْتَرَقَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا. قِيلَ: هُوَ إِلْقَاؤُهُ فِي النَّارِ فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيِ الْمُبَالِغِينَ فِي الْخُسْرَانِ وَهُوَ إِبْطَالُ مَا رَامُوهُ جَادَلُوا إِبْرَاهِيمَ فَجَدَلَهُمْ وَبَكَّتَهُمْ وَأَظْهَرَ لَهُمْ وَأَقَرَّ عُقُولَهُمْ، وَتَقَوَّوْا عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ وَالْإِلْقَاءِ فَخَلَّصَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَحْقَرِ خَلْقِهِ وَأَضْعَفِهِ وَهُوَ الْبَعُوضُ يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَيَشْرَبُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى نُمْرُوذَ بَعُوضَةً وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ إِذَايَتِهَا لَهُ وَفِي مُدَّةِ إِقَامَتِهَا تُؤْذِيهِ إِلَى أَنْ مَاتَ مِنْهَا.

وَالضَّمِيرُ فِي وَنَجَّيْناهُ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَضُمِّنَ مَعْنَى أَخْرَجْنَاهُ بِنَجَاتِنَا إِلَى الْأَرْضِ وَلِذَلِكَ تَعَدَّى نَجَّيْناهُ بِإِلَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أَيْ مُنْتَهِيًا إِلَى الْأَرْضِ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا تَضْمِينَ في وَنَجَّيْناهُ على هذا والْأَرْضِ الَّتِي خَرَجَا مِنْهَا هِيَ كُوثَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا هِيَ أَرْضُ الشَّامِ وَبَرَكَتُهَا مَا فِيهَا مِنَ الْخِصْبِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَبَعْثِ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا. وَقِيلَ: مَكَّةَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا قَالَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ أَرْضُ مِصْرَ وَبَرَكَتُهَا نِيلُهَا وَزَكَاةُ زُرُوعِهَا وَعِمَارَةُ مَوَاضِعِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيم خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ وَمَعَهُ لُوطٌ وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ، فَآمَنَتْ بِهِ سَارَّةٌ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ فَأَخْرَجَهَا مَعَهُ فَارًّا بِدِينِهِ، وَفِي هَذِهِ الْخُرْجَةِ لَقِيَ الْجَبَّارَ الَّذِي رَامَ أَخْذَهَا مِنْهُ فَنَزَلَ حَرَّانَ وَمَكَثَ زَمَانًا بِهَا. وَقِيلَ: سَارَّةُ ابْنَةُ مَلِكِ حَرَّانَ تَزَوَّجَهَا إِبْرَاهِيمُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَبُوهَا أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ابْنَةُ عَمِّهِ هَارَانَ الْأَكْبَرِ، ثُمَّ قَدِمَ مِصْرَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَنَزَلَ لُوطٌ بِالْمُؤْتَفِكَةِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنَ السَّبْعِ أَوْ أَقْرَبَ فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا. وَالنَّافِلَةُ الْعَطِيَّةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ أَوِ الزِّيَادَةُ كَالْمُتَطَوِّعِ بِهِ إِذَا كَانَ إِسْحَاقُ ثَمَرَةَ دُعَائِهِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَعْقُوبَ زِيَادَةً مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ. وَقِيلَ: النَّافِلَةُ وَلَدُ الْوَلَدِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَصْدَرًا كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ وَهَبْنا بَلْ مِنْ مَعْنَاهُ، وَعَلَى الْآخَرِينَ يُرَادُ بِهِ يَعْقُوبَ فينتصب على الحال، وكُلًّا يَشْمَلُ مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يُرْشِدُونَ النَّاسَ إِلَى الدين. وأَئِمَّةً قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ أَيْ خَصَصْنَاهُمْ بِشَرَفِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الْإِيحَاءَ هُوَ التَّنْبِئَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِعْلَ الْخَيْراتِ أَصْلُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ الْخَيْراتِ ثُمَّ فَعَلَا الْخَيِرَاتْ وكذلك إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ انْتَهَى. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا رَأَى أَنَّ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُوحَى إِلَيْهِمْ بَلْ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ مُشْتَرِكُونَ، بَنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى ضَمِيرِ الْمُوحَى، فَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِعْلُهُمُ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامُهُمُ الصَّلَاةَ وَإِيتَاؤُهُمُ الزَّكَاةَ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إِذِ الْفَاعِلُ مَعَ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا مِنْ حَيْثُ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 96.

الْمَعْنَى إِلَى ظَاهِرٍ مَحْذُوفٍ يَشْمَلُ الْمُوحَى إِلَيْهِمْ وَغَيْرَهُمْ، أَيْ فِعْلَ الْمُكَلَّفِينَ الْخَيْرَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِمْ أَيْ أَنْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَاتِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَتْبَاعُهُمْ جَارُونَ مَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ اخْتِصَاصُهُمْ بِهِ ثُمَّ اعْتِقَادُ بِنَاءِ الْمَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ، فَلَيْسَ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُخْتَارًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِقَامُ مَصْدَرٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ انْتَهَى. وَأَيُّ نَظَرٍ فِي هَذَا وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْإِقَامَةَ بِالتَّاءِ وَهُوَ الْمَقِيسُ فِي مَصْدَرِ أَفْعَلَ إِذَا اعْتَلَّتْ عَيْنُهُ وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُ قَابِلٌ وَإِيتاءَ وَهُوَ بِغَيْرِ تَاءٍ فَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ إِقَامَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ عِوَضٌ عَنْهَا انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ زَعَمَ أَنَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ قَدْ تُحْذَفُ لِلْإِضَافَةِ وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى إبراهيم ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ فَارًّا بِدِينِهِ وَهُوَ لُوطٌ ابْنُ أَخِيهِ وَانْتَصَبَ وَلُوطاً عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالْحُكْمُ الَّذِي أُوتِيَهُ النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: حُسْنُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْقَضَاءِ. وَقِيلَ: حِفْظُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْحُكْمَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ بِهِ وهو العلم والْقَرْيَةِ سَدُومُ وَكَانَتْ قُرَاهُمْ سَبْعًا وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْوَاحِدَةِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَكَانَتْ مِنْ كُورَةِ فِلَسْطِينَ إِلَى حَدِّ السَّرَاةِ إِلَى حَدِّ نَجْدٍ بِالْحِجَازِ، قَلَبَ مِنْهَا تَعَالَى سِتًّا وَأَبْقَى مِنْهَا زَغْرَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلَّ لُوطٍ وَأَهْلِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ أَيْ وَنَجَّيْناهُ مِنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَيْ خَلَّصْنَاهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، وَنَسَبَ عَمَلَ الْخَبائِثَ إِلَى الْقَرْيَةِ مَجَازًا وَهُوَ لِأَهْلِهَا وَانْتَصَبَ الْخَبائِثَ عَلَى مَعْنَى تَعْمَلُ الأعمال أَوِ الْفِعْلَاتِ الْخَبِيثَةِ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ مُضَافًا إِلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُ، وَقَوْلُهُ إِنَّهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أَيْ فِي أَهْلِ رَحْمَتِنَا أَوْ فِي الْجَنَّةِ، سَمَّاهَا رَحْمَةً إِذْ كَانَتْ أَثَرَ الرَّحْمَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ وَتَنْجِيَتَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ ذَكَرَ قِصَّةَ أَبِي الْعَالَمِ الْإِنْسِيِّ كُلِّهِمْ وَهُوَ الْأَبُ الثَّانِي لِآدَمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ نَسْلِهِ مِنْ سَامَ وَحَامَ وَيَافِثَ، وَانْتَصَبَ نُوحاً عَلَى إِضْمَارِ اذْكُرْ أَيْ وَاذْكُرْ نُوحاً أَيْ قِصَّتَهُ إِذْ نَادَى وَمَعْنَى نَادَى دَعَا مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ أَنِّي مَغْلُوبٌ «1» فَانْتَصِرْ مُفَصَّلًا بِقَوْلِهِ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» وَالْكَرْبُ أَقْصَى الْغَمِّ وَالْأَخْذُ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ هُنَا الْغَرَقُ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَوَّلِ أَحْوَالِ مَا يَأْخُذُ

_ (1) سورة القمر: 54/ 10. (2) سورة نوح: 71/ 26.

الْغَرِيقَ، وَغَرِقْتُ فِي بَحْرِ النَّيْلِ وَوَصَلْتُ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ وَلَحِقَنِي مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا أَدْرَكْتُ أَنَّ نَفْسِي صَارَتْ أَصْغَرَ مِنَ الْبَعُوضَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَحْوَالِ مَجِيءِ الْمَوْتِ. وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ عَدَّاهُ بِمِنْ لِتَضَمُّنِهِ معنى فَنَجَّيْناهُ بِنَصَرْنَا مِنَ الْقَوْمِ أَوْ عَصَمْنَاهُ وَمَنَعْنَاهُ أَيْ مِنْ مَكْرُوهِ الْقَوْمِ لِقَوْلِهِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ نَصْرُ الَّذِي مُطَاوِعُهُ انْتَصَرَ، وَسَمِعْتُ هُذَلِيًّا يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ مِنْهُ أَيِ اجْعَلْهُمْ مُنْتَصِرِينَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنًى فِي نَصَرَ غَيْرُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ وَنَصَرْناهُ عَلَى الْقَوْمِ فَأَغْرَقْناهُمْ أي أهلكناهم بالغرق. وأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ. وَقَدْ كَثُرَ التَّوْكِيدُ بِأَجْمَعِينَ غَيْرَ تَابِعٍ لِكُلِّهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى ابْنِ مَالِكٍ فِي زَعْمِهِ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِأَجْمَعِينَ قَلِيلٌ، وَأَنَّ الْكَثِيرَ اسْتِعْمَالُهُ تَابِعًا لِكُلِّهِمْ. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ عَطْفٌ عَلَى وَنُوحاً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإِذْ بَدَلٌ مِنْهُمَا انْتَهَى. وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ داوُدَ وَسُلَيْمانَ أَيْ قِصَّتَهُمَا وَحَالَهُمَا إِذْ يَحْكُمانِ وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى قوله وَنُوحاً وَنُوحاً مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ وَلُوطاً فَيَكُونُ ذَلِكَ مُشْتَرِكًا فِي الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ آتَيْنا الْمُقَدَّرَةُ النَّاصِبَةُ لِلُوطٍ الْمُفَسَّرَةُ بِآتَيْنَا فَالتَّقْدِيرُ وَآتَيْنَا نُوحًا وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ أَيْ آتَيْنَاهُمْ حُكْماً وَعِلْماً وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ وَتَقْدِيرُ اذْكُرْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَكَانَ دَاوُدُ مَلِكًا نَبِيًّا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فَوَقَعَتْ هَذِهِ النَّازِلَةُ، وَكَانَ ابْنُهُ إِذْ ذَاكَ قَدْ كَبُرَ وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْخُصُومُ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ إِلَى دَاوُدَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، فَتَخَاصَمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ لَهُ زَرْعٌ وَقِيلَ كَرْمٌ والْحَرْثِ يُقَالُ فِيهِمَا وَهُوَ فِي الزَّرْعِ أَكْثَرُ، وَأَبْعَدُ عَنِ الِاسْتِعَارَةِ دَخَلَتْ حَرْثَهُ غَنَمُ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ، فَرَأَى دَاوُدُ دَفْعَهَا إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ فَعَلَى أَنَّهُ كَرْمٌ رَأَى أَنَّ الْغَنَمَ تُقَاوِمُ ما أَفْسَدَتْ مِنَ الْغَلَّةِ وَعَلَى أَنَّهُ زَرْعٌ رَأَى أَنَّهَا تُقَاوِمُ الْحَرْثَ وَالْغَلَّةَ، فَخَرَجَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَشَكَى صَاحِبُ الْغَنَمِ فَجَاءَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَرَى مَا هُوَ أَرْفَقُ بِالْجَمِيعِ ، أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الْغَنَمِ الْحَرْثَ يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَيَأْخُذَ صَاحِبُ الْحَرْثِ الْغَنَمَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ يَنْتَفِعُ بِمَرَافِقِهَا مِنْ لَبَنٍ وَصُوفٍ وَنَسْلٍ، فَإِذَا عَادَ الْحَرْثُ إِلَى حَالِهِ صُرِفَ كُلُّ مَالِ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ فَرَجَعَتِ الْغَنَمُ إِلَى رَبِّهَا وَالْحَرْثُ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ دَاوُدُ: وُفِّقْتَ يَا بُنَيَّ وَقَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أن كلّا

_ (1) سورة غافر: 40/ 29.

مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حَكَمَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ عِنْدَهُ فَحُكْمُهُمَا بِاجْتِهَادٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ: حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَنُسِخَ حُكْمُ دَاوُدَ بِحُكْمِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّ مَعْنَى فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أَيْ فَهَّمْنَاهُ الْقَضَاءَ الْفَاصِلَ النَّاسِخَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي النَّازِلَةِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَأَفْهَمْنَاهَا عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ كَمَا عُدِّيَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّضْعِيفِ وَالضَّمِيرُ فِي فَفَهَّمْناها لِلْحُكُومَةِ أَوِ الْفَتْوَى. وَالضَّمِيرُ فِي لِحُكْمِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْحَاكِمَيْنِ وَالْمَحْكُومِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ الْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافًا إِلَى فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ، وَلَا هُوَ عَامِلٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ. وَالْفِعْلِ به هُوَ مَثَّلَ لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ وَذِهْنَ ذِهْنِ الْأَذْكِيَاءِ وَكَانَ الْمَعْنَى وَكُنَّا لِلْحُكْمِ الَّذِي صَدَرَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ شاهِدِينَ فَالْمَصْدَرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْعِلَاجُ بَلْ يُرَادُ بِهِ وُجُودُ الْحَقِيقَةِ. وَقَرَأَ لِحُكْمِهِمَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَالضَّمِيرُ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ. وَمَعْنَى شاهِدِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُكُومَتَيْنِ؟ قلت: أمّا وَجْهُ حُكُومَةِ دَاوُدَ فَلِأَنَّ الضَّرَرَ لَمَّا وَقَعَ بِالْغَنَمِ سُلِّمَتْ بِجِنَايَتِهَا إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ إِذَا جَنَى عَلَى النَّفْسِ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبِيعُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَلَعَلَّ قِيمَةَ الْغَنَمِ كَانَتْ عَلَى قَدْرِ النُّقْصَانِ فِي الْحَرْثِ، وَوَجْهُ حُكُومَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ جَعَلَ الِانْتِفَاعَ بِالْغَنَمِ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْحَرْثِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ مُلْكُ الْمَالِكِ عَنِ الْغَنَمِ، وَأَوْجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَرْثِ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ وَالنُّقْصَانُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي شَرِيعَتِنَا مَا حُكْمُهَا؟ قُلْتُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَرَوْنَ فِيهِ ضَمَانًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ، وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الضَّمَانَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا من الحكمين صواب لقولهه وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً. والظهر أَنْ يُسَبِّحْنَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ الْجِبالَ أَيْ مُسَبِّحَاتٍ. وَقِيلَ: اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ سَخَّرَهُنَّ؟ فَقَالَ: يُسَبِّحْنَ قِيلَ: كَانَ يَمُرُّ بِالْجِبَالِ مُسَبِّحًا وَهِيَ تُجَاوِبُهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ تَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُ التَّسْبِيحِ مِنْهَا بِالنُّطْقِ خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الْكَلَامَ كَمَا سَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَكَانَ دَاوُدُ وَحْدَهُ يَسْمَعُهُ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ. قَالَ قَتَادَةُ: يُسَبِّحْنَ يُصَلِّينَ. وَقِيلَ: يَسِرْنَ مِنَ السِّبَاحَةِ. وَقَالَ

الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا خَلَقَهُ يَعْنِي الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ حِينَ كَلَّمَ مُوسَى انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ يَنْفُونَ صِفَةَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِنَّ مَجَازٌ لَمَّا كَانَتْ تَسِيرُ بِتَسْيِيرِ اللَّهِ حَمَلَتْ مَنْ رَآهَا عَلَى التَّسْبِيحِ فَأُسْنِدَ إِلَيْهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَسْبِيحِهِنَّ هُوَ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَانْتَصَبَ وَالطَّيْرَ عَطْفًا عَلَى الْجِبالَ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَطْفِ دُخُولُهُ فِي قَيْدِ التَّسْبِيحِ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ أَيْ يُسَبِّحْنَ مع الطير. وقرىء وَالطَّيْرَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ مُسَخَّرٌ لِدَلَالَةِ سَخَّرْنَا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يُسَبِّحْنَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ توجيه قراءة شادة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتْ الْجِبالَ عَلَى الطَّيْرَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: نَاطِقٌ إِنْ عَنَى بِهِ أَنَّهُ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ إِنْسَانًا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ مُصَوِّتٌ أَي لَهُ صَوْتٌ، وَوَصْفُ الطَّيْرِ بِالنُّطْقِ مَجَازٌ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا نُطْقَ لَهَا. وَقَوْلُهُ وَكُنَّا فاعِلِينَ أَيْ فَاعِلِينَ هَذِهِ الْأَعَاجِيبَ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهِنَّ وَالطَّيْرِ لِمَنْ نَخُصُّهُ بِكَرَامَتِنَا وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللَّبُوسُ الْمَلْبُوسُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ، وَهُوَ الدِّرْعُ هُنَا. وَاللَّبُوسُ مَا يُلْبَسُ. قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ ... سَوَابِغُ بِيضٌ لَا يَخْرِقُهَا النَّبْلُ قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ صَفَائِحَ فَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَقَهَا دَاوُدُ فَجَمَعَتِ الْخِفَّةَ وَالتَّحْصِينَ. وَقِيلَ: اللَّبُوسُ كُلُّ آلَةِ السِّلَاحِ مِنْ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَبَيْضَةٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، وَدَاوُدُ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدُّرُوعَ الَّتِي تُسَمَّى الزَّرَدَ. قِيلَ: نَزَلَ مَلَكَانِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَرَّا بِدَاوُدَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: نِعْمَ الرَّجُلُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَصَنَعَ مِنْهُ الدُّرُوعَ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ حُكْمًا وَعِلْمًا وَتَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَهُ وَتَعْلِيمَ صَنْعَةِ اللَّبُوسِ، وَفِي ذَلِكَ فَضْلُ هَذِهِ الصَّنْعَةِ إِذْ أَسْنَدَ تَعْلِيمَهَا إِيَّاهُ إِلَيْهِ تَعَالَى. ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا بِقَوْلِهِ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أَيْ لِيَكُونَ وِقَايَةً لَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسَبَبَ نَجَاةٍ مِنْ عَدُوِّكُمْ. وقرىء لَبُوسٍ بِضَمِّ اللَّامِ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيُحْصِنَكُمْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ اللَّهُ فَيَكُونُ الْتِفَاتًا إِذْ جَاءَ بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ فِي وَعَلَّمْناهُ وَيَدُلُّ

عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنُّونِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَسْعُودِ بْنِ صَالِحٍ وَرُوَيْسٍ وَالْجُعْفِيِّ وهارون ويونس والمنقري كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو لِيُحْصِنَكُمْ دَاوُدُ، وَاللَّبُوسُ قِيلَ أَوِ التَّعْلِيمُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَالْحَسَنُ وَسَلَامٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالتَّاءِ أَيْ لِتُحْصِنَكُمْ الصَّنْعَةُ أَوِ اللَّبُوسُ عَلَى مَعْنَى الدِّرْعِ وَدِرْعُ الْحَدِيدِ مُؤَنَّثَةٌ وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْفُقَيْمِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ أَبِي حَمَّادٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَالتَّشْدِيدُ وَاللَّامُ فِي لَكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ فَتَتَعَلَّقَ بِعَلَّمْنَاهُ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ وَتَكُونُ لِتُحْصِنَكُمْ فِي مَوْضِعِ بَدَلٍ أُعِيدَ مَعَهُ لَامُ الْجَرِّ إِذِ الْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ فَتَتَقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ أَيْ لَكُمْ لِإِحْصَانِكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ صِفَةً لِلَبُوسٍ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ كَائِنٌ لَكُمْ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِيُحْصِنَكُمْ تَعْلِيلًا لِلتَّعْلِيمِ فَيَتَعَلَّقَ بِعَلَّمْنَاهُ، وَأَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْكَوْنِ الْمَحْذُوفِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ لَكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ أَيِ اشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1» أَيِ انْتَهَوا عَمَّا حَرَّمَ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا خَصَّ بِهِ نَبِيَّهُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ مَا خَصَّ بِهِ ابْنَهُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ وَجَاءَ التَّرْكِيبُ هُنَا حِينَ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ بِاللَّامِ، وَحِينَ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ جَاءَ بِلَفْظِ مَعَ فَقَالَ وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ وَكَذَا جَاءَ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «2» وَقَالَ فَسَخَّرَنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيحِ نَاسَبَ ذِكْرُ مَعَ الدَّالَّةِ عَلَى الِاصْطِحَابِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّيحُ مُسْتَخْدَمَةً لِسُلَيْمَانَ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ لِأَنَّهَا فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ مُفْرَدًا بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ بِالرَّفْعِ مُفْرَدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ الرِّيَاحَ بِالْجَمْعِ وَالنَّصْبِ. وَقَرَأَ بِالْجَمْعِ وَالرَّفْعِ أَبُو حَيْوَةَ فَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ سَخَّرْنَا، والرفع على الابتداء وعاصِفَةً حَالٌ الْعَامِلُ فِيهَا سَخَّرْنَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الرِّيحَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ وَيُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ، وَلُغَةُ أَسَدٍ أَعَصَفَتْ فَهِيَ مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ، وَوُصِفَتْ هَذِهِ الرِّيحُ بِالْعَصْفِ وَبِالرَّخَاءِ وَالْعَصْفُ الشِّدَّةُ فِي السَّيْرِ وَالرَّخَاءُ اللِّينُ. فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ فِيهِ سُلَيْمَانُ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ فلم

_ (1) سورة المائدة: 5/ 91. (2) سورة سبأ: 34/ 100.

يَتَحِدِّ الزَّمَانُ. وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ كَوْنُهَا رَخَاءً فِي نَفْسِهَا طَيِّبَةً كَالنَّسِيمِ عَاصِفَةً فِي عَمَلِهَا تَبْعُدُ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ «1» . وَقِيلَ: الرَّخَاءُ فِي الْبَدَاءَةِ وَالْعَصْفُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّقَوُّلِ عَلَى عَادَةِ الْبَشَرِ فِي الْإِسْرَاعِ إِلَى الْوَطَنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَجَرْيِهَا بِأَمْرِهِ طَاعَتَهَا لَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ، ويأمر. والْأَرْضِ أَرْضُ الشَّامِ وَكَانَتْ مَسْكَنَهُ وَمَقَرَّ مُلْكِهِ. وَقِيلَ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ يَرْكَبُ عَلَيْهَا مِنَ اصْطَخَرَ إِلَى الشَّامِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضِ الَّتِي يَسِيرُ إِلَيْهَا سُلَيْمَانُ كَائِنَةً مَا كَانَتْ وَوُصِفَتْ بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّهُ إذا حَلَّ أَرْضًا أَصْلَحَهَا بِقَتْلِ كُفَّارِهَا وَإِثْبَاتِ الْإِيمَانِ فِيهَا وَبَثِّ الْعَدْلِ، وَلَا بَرَكَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الَّتِي بارَكْنا صِفَةٌ لِلْأَرْضِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: الْكَلَامُ تَامٌّ عِنْدَ قوله إِلى الْأَرْضِ والَّتِي بارَكْنا فِيها صِفَةٌ لِلرِّيحِ فَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ التَّرْكِيبِ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الَّتِي بارَكْنا فِيها عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ. وَعَنْ وَهْبٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَكَانَ لَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ فَيَأْمُرُ بِخَشَبٍ فَيُمَدُّ وَالنَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ وَآلَةُ الْحَرْبِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْعَاصِفَ فَيُقِلُّهُ ثُمَّ يَأْمُرُ الرَّخَاءَ فَتَمُرُّ بِهِ شَهْرًا فِي رَوَاحَهِ وَشَهْرًا فِي غُدُوِّهِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: نَسَجَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ بِسَاطًا ذَهَبَا فِي إِبْرِيسَمٍ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَوَضَعَتْ لَهُ فِي وَسَطِهِ مِنْبَرًا مَنْ ذَهَبٍ يَقْعُدُ عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ كَرَاسِيُّ مَنْ ذَهَبٍ يَقْعُدُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَكَرَاسِيُّ مِنْ فِضَّةٍ يَقْعُدُ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ، وَحَوْلَهُمُ النَّاسُ وَحَوْلَ النَّاسِ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَالطَّيْرُ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَتَرْفَعُ رِيحُ الصَّبَا الْبِسَاطَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ وَمِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الصَّبَاحِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْأَخَبَارِيُّونَ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ إِلَّا عَلَى مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتُ فِي غَايَةِ الْغَرَابَةِ مِنَ الْمَعْهُودِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ يُجْرِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَسْخِيرَ الرِّيحِ لَهُ وَهِيَ جِسْمٌ شَفَّافٌ لَا يُعْقَلُ وَهِيَ لَا تُدْرَكُ بِالْبَصَرِ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ تَعْقِلُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا سُرْعَةُ الِانْتِقَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ «2» وَمِنَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وسخرنا مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ

_ (1) سورة سبأ: 34/ 12. (2) سورة النمل: 27/ 39.

يَغُوصُونَ أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنَ مَوْصُولَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هِيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي يَغُوصُونَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مِنَ وَحَسَّنَ ذَلِكَ تَقَدُّمُ جَمْعٍ قَبْلَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ ... يَهِيجُ الرِّيَاضُ قَبْلَهَا وَتَصُوحُ لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ النِّسْوَانِ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى مِنْ فَأَنَّثَ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ هُوَ رَوْضَةٌ وَالْمَعْنَى يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ لِاسْتِخْرَاجِ اللَّآلِئِ، وَدَلَّ الْغَوْصُ عَلَى الْمُغَاصِ فِيهِ وَعَلَى مَا يُغَاصُ لِاسْتِخْرَاجِهِ وَهُوَ الْجَوْهَرُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ أَوْ قَالَ لَهُ أَيْ لِسُلَيْمَانَ لِأَنَّ الْغَائِصَ قَدْ يَغُوصُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْغَوْصَ لَيْسَ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ سُلَيْمَانَ وَامْتِثَالِهِمْ أَمْرَهُ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْغَوْصِ أَيْ دُونَ الْغَوْصِ مِنْ بِنَاءِ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ كَمَا قَالَ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْحَمَّامُ وَالنَّوْرَةُ وَالطَّاحُونُ وَالْقَوَارِيرُ وَالصَّابُونُ مِنِ اسْتِخْرَاجِهِمْ. وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أَيْ مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ أَوْ يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا أَوْ يُوجَدَ مِنْهُمْ فَسَادٌ فِيمَا هُمْ مُسَخَّرُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: حافِظِينَ أَنْ يُهَيِّجُوا أَحَدًا فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ حافِظِينَ حَتَّى لَا يَهْرُبُوا. قيل: سخر الكفار دون المؤمنين، ويدل عليه إطلاق لفظ الشَّياطِينِ وقوله حافِظِينَ والمؤمن إذا سَخَّرَ فِي أَمْرٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ مَا عَمِلَ، وَتَسْخِيرُ أَكْثَفِ الْأَجْسَامِ لِدَاوُدَ وَهُوَ الْحَجَرُ إِذْ أَنْطَقَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَدِيدُ إِذْ جَعَلَ فِي أَصَابِعِهِ قُوَّةَ النَّارِ حَتَّى لَانَ لَهُ الْحَدِيدُ، وَعَمِلَ مِنْهُ الزَّرَدَ، وَتَسْخِيرُ أَلْطَفِ الْأَجْسَامِ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ الرِّيحُ وَالشَّيَاطِينُ وَهُمْ مِنْ نَارٍ. وَكَانُوا يَغُوصُونَ فِي الماء والماء يطفىء النَّارَ فَلَا يَضُرُّهُمْ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَتِهِ وَإِظْهَارِ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ وَإِمْكَانِ إِحْيَاءِ الْعَظْمِ الرَّمِيمِ، وَجَعْلِ التُّرَابِ الْيَابِسِ حَيَوَانًا فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ وَجَبَ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُ وُجُودِهِ انْتَهَى. وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِ

_ (1) سورة سبأ: 34/ 13.

لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ. طَوَّلَ الْأَخْبَارِيُّونَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ، وَكَانَ أَيُّوبُ رُومِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، اسْتَنْبَأَهُ اللَّهُ وَبَسَطَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَكَثَّرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ بَنِينَ وَسَبْعُ بَنَاتٍ، وَلَهُ أَصْنَافُ الْبَهَائِمِ وَخَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ يَتَّبِعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ وَوَلَدٌ وَنَخِيلٌ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَهَابِ وَلَدِهِ انْهَدَمَ عَلَيْهِمُ الْبَيْتُ فَهَلَكُوا وَبِذَهَابِ مَالِهِ وَبِالْمَرَضِ فِي بَدَنِهِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ دُونَ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ يَوْمًا لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَقَالَ لَهَا: كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ الرَّخَاءِ؟ فَقَالَتْ: ثَمَانِينَ سَنَةً، فَقَالَ: أَنَا أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدْعُوَهُ وَمَا بَلَغَتْ مُدَّةُ بَلَائِي مُدَّةَ رَخَائِي، فَلَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْيَا وَلَدَهُ وَرَزَقَهُ مِثْلَهُمْ وَنَوَافِلَ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ بَعْدُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ابْنًا وَذَكَرُوا كَيْفِيَّةً فِي ذَهَابِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَتَسْلِيطِ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ قَائِلًا أَنِّي وَإِمَّا عَلَى إِجْرَاءِ نَادَى مَجْرَى قَالَ وَكَسْرِ إِنِّي بَعْدَهَا وَهَذَا الثَّانِي مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ والضُّرُّ بِالْفَتْحِ الضَّرَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِالضَّمِّ الضَّرَرُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَرَضٍ وَهُزَالٍ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ لِافْتِرَاقِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ أَلْطَفَ أَيُّوبُ فِي السُّؤَالِ حَيْثُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بِمَا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَ رَبَّهُ بِغَايَةِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَطْلُوبِ وَلَمْ يُعَيِّنِ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَمْثَلُهَا أَنَّهُ نَهَضَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ، فَقَالَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةٍ لَا شَكْوَى لِبَلَائِهِ رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الضُّرُّ لِلْجِنْسِ تَعُمُّ الضُّرُّ فِي الْبَدَنِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَإِيتَاءُ أَهْلِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا كَانَ لَهُ مِنْ أَهْلٍ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَأَحْيَاهُمْ لَهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَآتَاهُ مِثْلَ أَهْلِهِ مَعَ أَهْلِهِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَتْبَاعِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مَثَلَهُمْ عِدَّةً فِي الْآخِرَةِ. وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ لرحمتا إِيَّاهُ وَذِكْرى مِنَّا بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ عِنْدَنَا أَوْ رَحْمَةً مِنَّا لِأَيُّوبَ وَذِكْرى أَيْ مَوْعِظَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَابِدِينَ، لِيَصْبِرُوا كَمَا صَبَرَ حَتَّى يُثَابُوا كَمَا أُثِيبَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ ذُو الْكِفْلِ عَبْدًا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وَقَالَ

الْأَكْثَرُونَ: هُوَ نَبِيٌّ فَقِيلَ: هُوَ إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: زَكَرِيَّا. وَقِيلَ: يُوشَعُ، وَالْكِفْلُ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ أَيْ ذُو الْحَظِّ مِنَ اللَّهِ الْمَحْدُودِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ ضِعْفُ عَمَلِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِ وَضِعْفُ ثَوَابِهِمْ. وَقِيلَ: فِي تَسْمِيَتِهِ ذَا الْكِفْلِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ لَا تَصِحُّ. وَانْتَصَبَ مُغاضِباً عَلَى الْحَالِ. فَقِيلَ: مَعْنَاهُ غَضْبَانُ وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي اشْتِرَاكًا، نَحْوَ: عَاقَبْتُ اللِّصَّ وَسَافَرْتُ. وَقِيلَ مُغاضِباً لِقَوْمِهِ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ وَتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ، وَأَغْضَبُوهُ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ. وَقِيلَ مُغاضِباً لِلْمَلِكِ حِزْقِيَا حِينَ عَيَّنَهُ لِغَزْوِ مَلِكٍ كَانَ قَدْ عَابَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: لا، قال: هاهنا غَيْرِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغاضِباً لِلْمَلِكِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مُغاضِباً لِرَبِّهِ وَحَكَى فِي الْمُغَاضَبَةِ لِرَبِّهِ كَيْفِيَّاتٍ يَجِبُ اطِّرَاحَهُ إِذْ لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَوَّلَ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُغاضِباً لِرَبِّهِ أَيْ لِأَجْلِ رَبِّهِ وَدِينِهِ، وَاللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ لَا اللَّامُ الْمُوَصِّلَةُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو شَرَفٍ مُغْضِبًا اسْمَ مَفْعُولٍ. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَيْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدْرِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْقُدْرَةِ بِمَعْنَى أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ الِابْتِلَاءَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَقْدِرَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو شَرَفٍ وَالْكَلْبِيُّ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ مُخَفَّفًا، وَعِيسَى وَالْحَسَنُ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الدَّالِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْيَمَانِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ مُشَدَّدَةً، وَالزُّهْرِيُّ بِالنُّونِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً. فَنادى فِي الظُّلُماتِ فِي الْكَلَامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ قَدْ أُوضِحَتْ فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ، وَهُنَاكَ نَذْكُرُ قِصَّتَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَمَعَ الظُّلُماتِ لِشِدَّةِ تَكَاثُفِهَا فَكَأَنَّهَا ظُلْمَةٌ مَعَ ظُلْمَةٍ. وَقِيلَ: ظُلُمَاتُ بَطْنِ الْحُوتِ وَالْبَحْرِ وَاللَّيْلِ. وَقِيلَ: ابْتَلَعَ حُوتَهُ حُوتٌ آخَرُ فَصَارَ فِي ظُلْمَتَيْ بَطْنَيْ الْحُوتَيْنِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ. وَرُوِيَ أَنَّ يُونُسَ سَجَدَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ حِينَ سَمِعَ تَسْبِيحَ الْحِيتَانِ فِي قعر البحر، وأَنْ فِي أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُ سَبَقَ فَنادى وَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِأَنَّهُ فَتَكُونُ مُخَفِّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ حَصْرَ الْأُلُوهِيَّةِ فِيهِ تَعَالَى ثُمَّ نَزَّهَهُ عَنْ سِمَاتِ النَّقْصِ ثُمَّ أَقَرَّ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» . والْغَمِّ مَا

كَانَ نَالَهُ حِينَ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَمُدَّةُ بَقَائِهِ فِي بَطْنِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنْجِي مُضَارِعُ أَنْجَى، وَالْجَحْدَرِيُّ مُشَدَّدًا مُضَارِعُ نَجَّى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ نَجَّى بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ الْإِمَامِ وَمَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيدٍ لِمُوَافَقَةِ الْمَصَاحِفِ فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَارِسِيُّ هِيَ لَحْنٌ. وَقِيلَ: هِيَ مُضَارِعٌ أُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْجِيمِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ النُّونِ فِي الْجِيمِ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ كَمَا حُذِفَتْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَنَزَلَ الْمَلَائِكَةُ يُرِيدُ وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ، وَعَلَى هَذَا أَخْرَجَهَا أَبُو الْفَتْحِ. وَقِيلَ: هِيَ فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَسُكِّنَتِ الْيَاءُ كَمَا سَكَّنَهَا مَنْ قرأ وذر وإما بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ أَيْ نَجَّى، هُوَ أَيِ النَّجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ كَقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ لِيَجْزِيَ قَوْماً «1» أَيْ وَلِيَجْزِيَ هُوَ أَيِ الْجَزَاءَ، وَقَدْ أَجَازَ إِقَامَةَ غَيْرِ الْمَفْعُولِ مِنْ مَصْدَرٍ أَوْ ظَرْفِ مَكَانٍ أَوْ ظَرْفِ زَمَانٍ أَوْ مَجْرُورٍ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عُبَيدٍ، وَذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ وَجَاءَ السَّمَاعُ فِي إِقَامَةِ الْمَجْرُورِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أُتِيحَ لِي مِنَ الْعِدَا نَذِيرَا ... بِهِ وُقِيتُ الشَّرَّ مُسْتَطِيرَا وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فِي الْمَسَائِلِ ضَرَبَ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ زَيْدًا، وَضَرَبَ الْيَوْمَانِ زَيْدًا، وَضَرَبَ مَكَانُكَ زَيْدًا وَأَعْطَى إِعْطَاءَ حَسَنٍ أَخَاكَ دِرْهَمًا مَضْرُوبًا عَبْدَهُ زَيْدًا. وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ والْمُؤْمِنِينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وكذلك نَجَّى هُوَ أَيِ النَّجَاءُ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ الْمَفْعُولُ بِهِ لَمْ يُقِمْ غَيْرُهُ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ اللُّبَابِ حَكَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَازَ ذَلِكَ. لَا تَذَرْنِي فَرْداً أَيْ وَحِيدًا بِلَا وَارِثَ، سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا يَرِثُهُ ثُمَّ رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أَيْ إِنْ لَمْ تَرْزُقْنِي مَنْ يَرِثُنِي فَأَنْتَ خَيْرُ وَارِثٍ، وَإِصْلَاحُ زَوْجِهِ بِحُسْنِ خُلُقِهَا، وَكَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ قَالَهُ عَطَاءٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِصْلَاحُهَا لِلْوِلَادَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: إصلاحها رد شبابها إليها، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقُ ذِكْرُهُمْ أَيْ إِنَّ اسْتِجَابَتِنَا لَهُمْ فِي طَلَبَاتِهِمْ كَانَ لِمُبَادَرَتِهِمُ الْخَيْرَ وَلِدُعَائِهِمْ لَنَا. رَغَباً وَرَهَباً أَيْ وَقْتَ الرَّغْبَةِ وَوَقْتَ الرَّهْبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 14.

رَحْمَةَ رَبِّهِ «1» وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى زَكَرِيَّا وزَوْجَهُ وَابْنَهُمَا يَحْيَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ يَدْعُونَا حُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ وَطَلْحَةُ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ أَدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ فِي نَا ضَمِيرِ النَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَوَهْبُ بْنُ عَمْرٍو وَالنَّحْوِيُّ وَهَارُونُ وَأَبُو مَعْمَرٍ وَالْأَصْمَعِيُّ وَاللُّؤْلُؤِيُّ وَيُونُسُ وَأَبُو زَيْدٍ سَبْعَتُهُمْ عَنْ أبي عمر ورَغَباً وَرَهَباً بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَالْأَشْهُرُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ فِرْقَةٌ: بِضَمِّ الراءَيْنِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَالْهَاءِ، وَانْتَصَبَ رَغَباً وَرَهَباً عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها هِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَرْجَ هُنَا حَيَاءُ الْمَرْأَةِ أَحْصَنَتْهُ أَي مَنَعَتْهُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا قَالَتْ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا «2» . وَقِيلَ: الْفَرْجُ هُنَا جَيْبُ قَمِيصِهَا مَنَعَتْهُ مِنْ جِبْرِيلَ لَمَّا قَرُبَ مِنْهَا لِيَنْفُخَ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا كِنَايَةٌ عَنْ إِيجَادِ عِيسَى حَيًّا فِي بَطْنِهَا، وَلَا نَفْخَ هُنَاكَ حَقِيقَةً، وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ. وَقِيلَ: هُنَاكَ نَفْخٌ حَقِيقَةً وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَأَسْنَدَ النَّفْخَ إِلَيْهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِبْرِيلَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا. وَقِيلَ: الرُّوحُ هُنَا جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها «3» وَالْمَعْنَى فَنَفَخْنا فِيها مِنْ جِهَةِ جِبْرِيلَ وَكَانَ جِبْرِيلُ قَدْ نَفَخَ مِنْ جَيْبِ دِرْعِهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى جَوْفِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِحْيَائِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «4» أَيْ أَحْيَيْتُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ وفَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ظَاهِرُ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِحْيَاءِ مَرْيَمَ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ نَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا أَيْ أَحْيَيْنَاهُ فِي جَوْفِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الزَّمَّارُ نَفَخْتُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ أَيْ نَفَخْتُ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَنَفَخْنَا فِي ابْنِهَا مِنْ رُوحِنا وَقَوْلُهُ قُلْتُ مَعْنَاهُ نَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا اسْتَعْمَلَ نَفَخَ مُتَعَدِّيًا، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى فَيَحْتَاجُ فِي تعديه إلى سماع وَغَيْرِ مُتَعَدٍّ اسْتَعْمَلَهُ هُوَ فِي قَوْلِهِ أَيْ نَفَخْتُ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. وَأَفْرَدَ آيَةً لِأَنَّ حَالَهُمَا لِمَجْمُوعِهِمَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ وِلَادَتُهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَرْيَمَ آيَاتٌ وَفِي عِيسَى آيَاتٌ لَكِنَّهُ هُنَا لَحَظَ أَمْرَ الْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَذَلِكَ هُوَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَوْلُهُ لِلْعالَمِينَ أي

_ (1) سورة الزمر: 39/ 9. [.....] (2) سورة مريم: 19/ 20. (3) سورة مريم: 19/ 17. (4) سورة الحجر: 15/ 29.

لِمَنِ اعْتَبَرَ بِهَا مِنْ عَالِمِي زَمَانِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَدَلَّ ذِكْرُ مَرْيَمَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً إِذْ قُرِنَتْ مَعَهُمْ فِي الذِّكْرِ، وَمَنْ مَنَعَ تَنَبُّؤَ النِّسَاءِ قَالَ: ذُكِرَتْ لِأَجْلِ عِيسَى وَنَاسَبَ ذِكْرُهُمَا هُنَا قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَزَوْجِهِ وَيَحْيَى لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ. إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أُمَّتُكُمْ خِطَابٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ إِنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ هِيَ مِلَّتُكُمُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا عَلَيْهَا لَا تَنْحَرِفُونَ عَنْهَا مِلَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هذِهِ إِشَارَةً إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ الْمَذْكُورُونَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ طَرِيقَتُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَى أُمَّةً واحِدَةً مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى مَمْلُوكَةً لَهُ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ النَّاسُ كُلُّهُمْ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا أَيْ وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «1» بِأَنْ بُعِثَ لَهُمْ بِمِلَّةٍ وَكِتَابٍ، وَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أَيْ دَعَا الْجَمِيعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَعِبَادَتِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّتُكُمْ بِالرَّفْعِ خَبَرُ إِنَّ أُمَّةً واحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ أُمَّتُكُمْ بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ. وَقَرَأَ أَيْضًا هُوَ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْجُعْفِيُّ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالزَّعْفَرَانِيِّ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أن أُمَّتُكُمْ وأُمَّةً واحِدَةً خَبَرُ إِنَّ أَوْ أُمَّةً واحِدَةً بَدَلٌ مِنْ أُمَّتُكُمْ بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ أُمَّةً واحِدَةً وَالضَّمِيرُ فِي وَتَقَطَّعُوا عَائِدٌ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ أَيْ وَتَقَطَّعْتُمْ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مَنْ أَقْبَحِ الْمُرْتَكَبَاتِ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ كَأَنَّ هَذَا

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 91.

الْفِعْلَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمُخَاطَبِ لِأَنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ نَعْيًا عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ، وَكَأَنَّهُ يُخْبِرُ غَيْرَهُمْ مَا صَدَرَ مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَيَقُولُ أَلَا تَرَى إِلَى مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ جَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ قِطَعًا كَمَا يَتَوَزَّعُ الْجَمَاعَةُ الشَّيْءَ لِهَذَا نَصِيبٌ وَلِهَذَا نَصِيبٌ، تَمْثِيلًا لِاخْتِلَافِهِمْ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِرُجُوعِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَى جَزَائِهِ. وَقِيلَ: كُلٌّ مِنَ الثَّابِتِ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ وَالزَّائِغِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ زُبُرًا بِفَتْحِ الْبَاءِ جَمْعُ زُبْرَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُحْسِنِ وَأَنَّهُ لَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ وَالْكُفْرَانُ مَثَلٌ فِي حِرْمَانِ الثَّوَابِ كَمَا أَنَّ الشُّكْرَ مَثَلٌ فِي إِعْطَائِهِ إِذَا قِيلَ لِلَّهِ شَكُورٌ وَلَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ، وَالْكِتَابَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي صَحِيفَةِ الْأَعْمَالِ لِيُثَابَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضِيعُ، وَالْكُفْرَانُ مَصْدَرٌ كَالْكُفْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ: رَأَيْتُ أُنَاسًا لَا تَنَامُ جُدُودُهُمْ ... وَجَدِّي وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ نَائِمُ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ لا كفر ولِسَعْيِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَكْفُرُ لِسَعْيِهِ وَلَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِكُفْرَانٍ إِذْ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا به لكان اسم لَا مُطَوَّلًا فَيَلْزَمُ تَنْوِينُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَرامٌ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَحِرْمٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَحَرِمٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ أَيْضًا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَحُرِّمَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَهْلَكْناها بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَقَتَادَةُ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَاسْتُعِيرَ الحرام للمتنع وُجُودُهُ وَمِنْهُ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ «1» وَمَعْنَى أَهْلَكْناها قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْكُفْرِ، فَالْإِهْلَاكُ هُنَا إِهْلَاكٌ عن كفر ولا فِي لَا يَرْجِعُونَ صِلَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيدٍ كَقَوْلِكَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ، أَيْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْنَى وَمُمْتَنِعٌ على أهل قرية قدرنا عَلَيْهِمْ إِهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ رُجُوعَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ، فحينئذ يرجعون ويقولون يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا وَغَيًّا بِمَا قَرُبَ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ وَهُوَ فَتْحُ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 50.

يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وقرى إِنَّهُمْ بِالْكَسْرِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ أَهْلَكْناها وَيُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ تَصِيرُ بِهِ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها جُمْلَةُ أَيْ ذَاكَ، وَتَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمَذْكُورِ فِي قَسِيمِ هَؤُلَاءِ الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَعْنَى وَحَرامٌ عَلى أهل قَرْيَةٍ قدرنا إهلاكهم لكفرهم عمل صالح يَنْجُونَ بِهِ مِنَ الْإِهْلَاكِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فَالْمَحْذُوفُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ وَحَرامٌ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ مُتَقَدِّمًا كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْإِقَالَةُ وَالتَّوْبَةُ حَرَامٌ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْفَتْحِ تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَتَكُونُ لَا نَافِيَةً عَلَى بَابِهَا وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَقِيلَ أَهْلَكْناها أَيْ وَقَعَ إِهْلَاكُنَا إِيَّاهُمْ وَيَكُونُ رُجُوعُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ بَلْ هُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْإِهْلَاكُ بِالطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرُّجُوعُ هُوَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا أَنْ نَتَقَبَّلَ أَعْمَالَهُمْ لِأَنَّهَا لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ قَبْلُ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أَيْ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ حَرامٌ ممتنع وأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ انْتِقَامُ الرُّجُوعِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الِانْتِفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ رُجُوعُهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ إِنْكَارَ قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَتَحْقِيقَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا كُفْرَانَ لِسَعْيِ أَحَدٍ وَأَنَّهُ يُجْزَى عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْحَرَامُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا «1» وَتَرْكُ الشِّرْكِ وَاجِبٌ. وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ: حَرَامٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوِهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ وَأَيْضًا فَمِنَ الِاسْتِعْمَالِ إِطْلَاقُ الضَّمِيرِ عَلَى ضِدِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَنُ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: إِلَى الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ فِي الْآيَةِ مَعْنَى ضِمْنُهُ وَعِيدٌ بَيِّنٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثُمَّ عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ مِنْ كَفْرِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُحْشَرُونَ إِلَى رَبٍّ وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَعَادٍ فَهُمْ يَظُنُّونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عِقَابَ يَنَالُهُمْ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ مُكَذِّبَةً لِظَنِّ هَؤُلَاءِ أَيْ وَمُمْتَنِعٌ عَلَى الْكَفَرَةِ الْمُهْلِكِينَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ بَلْ هُمْ رَاجِعُونَ إِلَى عِقَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، فَيَكُونُ لَا عَلَى بَابِهَا وَالْحَرَامُ عَلَى بَابِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُرُمُ فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 151.

وحَتَّى قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْمَعْنَى بِحَرَامٍ أَيْ يَسْتَمِرُّ الِامْتِنَاعُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ وَلَا عَمَلَ لَهَا فِي إِذا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ حَتَّى غَايَةٌ، وَالْعَمَلُ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ تَأَسُّفِهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ حِينَ فَاتَهُمُ الِاسْتِدْرَاكُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَتْ حَتَّى وَاقِعَةً غَايَةً لَهُ وَأَيَّةُ الثَّلَاثِ هِيَ؟ قُلْتُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَرَامٍ، وَهِيَ غَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ رُجُوعِهِمْ لَا يَزُولُ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ، وَهِيَ حَتَّى الَّتِي تَحْكِي الْكَلَامَ، وَالْكَلَامُ الْمَحْكِيُّ الْجُمْلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَعْنِي إِذَا وَمَا فِي حَيِّزِهَا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَتَقَطَّعُوا وَيُحْتَمَلُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ تُعَلَّقَ بِيَرْجِعُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ وهو الأظهر بسبب إِذا لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَابًا هُوَ الْمَقْصُودُ ذِكْرُهُ انْتَهَى. وَكَوْنُ حَتَّى مُتَعَلِّقَةً فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ الْفَصْلِ لَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى جَيِّدٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ غَيْرَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى دِينِ الْحَقِّ إِلَى قُرْبِ مَجِيءِ السَّاعَةِ، فَإِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ انْقَطَعَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَعَلِمَ الْجَمِيعُ أَنَّ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَأَنَّ الدِّينَ الْمُنَجِّيَ هُوَ كَانَ دِينَ التَّوْحِيدِ. وَجَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ قالوا يا ويلنا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ أَوْ تَقْدِيرُهُ، فَحِينَئِذٍ يُبْعَثُونَ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ. أَوْ مَذْكُورٌ وَهُوَ وَاقْتَرَبَ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَهُمْ يُجِيزُونَ زِيَادَةَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي فَإِذَا هِيَ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا هِيَ الْمُفَاجَأَةُ وَهِيَ تَقَعُ فِي المفاجئات سَادَةً مَسَدَّ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ «1» فَإِذَا جَاءَتِ الْفَاءُ مَعَهَا تَعَاوَنَتَا عَلَى وَصْلِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، فَيَتَأَكَّدُ وَلَوْ قِيلَ إذا هِيَ شَاخِصَةٌ كَانَ سَدِيدًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ رُجُوعُهُمُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ امْتِنَاعَهُ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي فُتِحَتْ فِي الْأَنْعَامِ وَوَافَقَ ابْنَ عَامِرٍ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَكَذَا الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَالْقَمَرِ فِي تَشْدِيدِ التَّاءِ، وَالْجُمْهُورُ على التخفيف فيهن وفُتِحَتْ يَأْجُوجُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سَدُّ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَيْ يَطْلُعُونَ مِنْ كُلِّ ثَنِيَّةٍ وَمُرْتَفَعٍ وَيَعُمُّونَ الْأَرْضَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَالَمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ الله وابن عباس مِنْ كُلِّ جَدَثٍ بِالثَّاءِ المثلثة وهو القبر. وقرىء بِالْفَاءِ الثَّاءِ لِلْحِجَازِ وَالْفَاءِ لِتَمِيمٍ وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الثَّاءِ كَمَا أَبْدَلُوا الثَّاءَ مِنْهَا قَالُوا وَأَصْلُهُ مَغْفُورٌ.

_ (1) سورة الروم: 30/ 36.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْسِلُونَ بِكَسْرِ السِّينِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو السَّمَّالِ بِضَمِّهَا وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أَيِ الْوَعْدُ بِالْبَعْثِ الْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَاقْتَرَبَ قِيلَ: أَبْلَغُ فِي الْقُرْبِ مِنْ قَرُبَ وَضَمِيرُ هِيَ لِلْقِصَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِذَا الْقِصَّةُ وَالْحَادِثَةُ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شاخِصَةٌ وَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ شاخِصَةٌ الْخَبَرَ وأَبْصارُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَجُوزُ ارْتِفَاعُ أَبْصَارٌ شَاخِصَةٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَوِ الْقِصَّةِ جُمْلَةٌ تُفَسِّرُ الضَّمِيرَ مُصَرَّحٌ بِجُزْأَيْهَا، وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ تُوَضِّحُهُ الْأَبْصَارُ وَتُفَسِّرُهُ كَمَا فَسَّرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَسَرُّوا انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْفَرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ ضَمِيرُ الْأَبْصَارِ تَقَدَّمَتْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ وَمَجِيءِ مَا يُفَسِّرُهَا وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَا وَأَبِيهَا لَا تَقُولُ خَلِيلَتِي ... إِلَّا قَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ وَذَكَرَ أَيْضًا الْفَرَّاءُ أَنَّ هِيَ عِمَادٌ يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا هُوَ وَأَنْشَدَ: بِثَوْبٍ وَدِينَارٍ وَشَاةٍ وَدِرْهَمٍ ... فَهَلْ هُوَ مرفوع بما هاهنا رَأَسُ وَهَذَا لَا يَتَمَشَّى إِلَّا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْكِسَائِيِّ فِي إِجَازَتِهِ تَقْدِيمَ الْفَصْلِ مَعَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَجَازَ هُوَ الْقَائِمُ زيد على أن زيد هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالْقَائِمُ خَبَرُهُ، وَهُوَ عِمَادٌ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ زَيْدٌ هُوَ الْقَائِمُ، وَيَقُولُ: أَصْلُهُ هَذِهِ فَإِذَا أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ شاخِصَةٌ فَشَاخِصَةٌ خَبَرٌ عَنْ أَبْصارُ وَتَقَدَّمَ مَعَ الْعِمَادِ، وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ الْعِمَادُ قَبْلَ خَبَرِهِ نَكِرَةً، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْكَلَامَ ثَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ أَيْ بَارِزَةٌ وَاقِعَةٌ يَعْنِي السَّاعَةَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهَذَا وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ مُتَنَافِرُ التَّرْكِيبِ. وَرَوَى حُذَيْفَةُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اقْتَنَى فَلَوْ أَبْعَدَ خُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَمْ يَرْكَبْهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ يَعْنِي فِي مَجِيءِ الساعة إثر خروجهم. يا وَيْلَنا مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جواب فَإِذا وَالشُّخُوصُ إِحْدَادُ النَّظَرِ دُونَ أَنْ يَطْرِفَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا انْتَهَى. أَيْ مِمَّا وَجَدْنَا الْآنَ وَتَبَيَّنَّا مِنَ الْحَقَائِقِ ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ وَأَخْبَرُوا بِمَا قَدْ كَانُوا تَعَمَّدُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالُوا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ مَكَّةَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ هِيَ الْأَصْنَامُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حَصَبُ بِالْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ مَا يُحْصَبُ بِهِ أَيْ يُرْمَى بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وقبل أن يرمي به لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حَصَبٌ إِلَّا مَجَازًا. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَمَحْبُوبٌ وَأَبُو حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِإِسْكَانِ الصَّادِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَصْدَرٌ يُرَادَ بِهِ الْمَفْعُولُ أَيِ الْمَحْصُوبُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَعَنْهُ إِسْكَانُهَا، وَبِذَلِكَ قَرَأَ كُثَيِّرُ عِزَّةَ: وَالْحَضْبُ مَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ، وَالْمِحْضَبِ الْعُودُ أَوِ الْحَدِيدَةُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا تَحَرَّكَ بِهِ النَّارُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا تَكُ فِي حَرْبِنَا مُحْضِبًا ... فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ حَطَبُ بِالطَّاءِ، وَجَمْعُ الْكُفَّارِ مَعَ مَعْبُودَاتِهِمْ فِي النَّارِ لِزِيَادَةِ غَمِّهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ بِرُؤْيَتِهِمْ مَعَهُمْ فِيهَا إِذْ عُذِّبُوا بِسَبَبِهِمْ، وَكَانُوا يَرْجُونَ الْخَيْرَ بِعِبَادَتِهِمْ فَحَصَلَ لَهُمُ الشَّرُّ مِنْ قِبَلِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ صَارُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَرُؤْيَةُ الْعَدُوِّ مِمَّا يَزِيدُ فِي الْعَذَابِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَاحْتِمَالُ الْأَذَى ورؤية جابيه ... غِذَاءٌ تُضْنَى بِهِ الْأَجْسَامُ أَنْتُمْ لَها أَيْ لِلنَّارِ وارِدُونَ الْوُرُودُ هُنَا وُرُودُ دُخُولٍ لَوْ كانَ هؤُلاءِ أي الأصنام التي تبعدونها آلِهَةً مَا وَرَدُوها أَيْ مَا دَخَلُوهَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وُرُودُ دُخُولٍ قَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آلِهَةً بِالنَّصْبِ عَلَى خَبَرِ كانَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِالرَّفْعِ عَلِيٍّ إِنَّ فِي كانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَكُلٌّ فِيها أَيْ كُلٌّ مِنَ الْعَابِدِينَ وَمَعْبُودَاتِهِمْ. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُوَ صَوْتُ نَفَسِ الْمَغْمُومِ يَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّفِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَهُمُ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ مِمَّنْ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ وَكَغُلَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ مِصْرَ مَنْ بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ أَوَّلِ مُلُوكِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي عُبِدَتْ حَيَاةً فَيَكُونُ لَهَا زَفِيرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا كَانُوا هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ فِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّافِرِينَ إِلَّا وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ يُجْعَلُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فَلَا يَسْمَعُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «1» وَفِي سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ رَوْحٌ فَمَنَعَ اللَّهُ الْكُفَّارَ ذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقِيلَ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَسُرُّهُمْ مِنْ كَلَامِ الزَّبَانِيَةِ.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 97.

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ. سَبَبُ نُزُولِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى حِينَ سَمِعَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ خَصِمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَلَيْسَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ، وَبَنُو مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية. وَقِيلَ: لَمَّا اعْتَرَضَ ابْنُ الزِّبَعْرَى قِيلَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ قوما عربا أو ما تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما تَعْبُدُونَ الْعُمُومَ فَلِذَلِكَ نَزَلَ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْآيَةَ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى رَامَ مُغَالَطَةً، فَأُجِيبُ بِأَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ فَبَطَلَ اعْتِرَاضُهُ. والْحُسْنى الْخَصْلَةُ الْمُفَضَّلَةُ فِي الْحُسْنِ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، إِمَّا السَّعَادَةُ وَإِمَّا الْبُشْرَى بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ مُبْعَدُونَ فَمَا بَعْدَهُ أَنَّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى لَا يَدْخُلُ النَّارَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الَّذِي يُحَسُّ مِنْ حَرَكَةِ الْأَجْرَامِ، وَهَذَا الْإِبْعَادُ وَانْتِفَاءُ سَمَاعِ صَوْتِهَا قِيلَ هُوَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: بَعْدَ دُخُولِهِمْ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِيهَا، وَالشَّهْوَةُ طَلَبُ النَّفْسِ اللَّذَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ صِفَةٌ لَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّهُ في

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 98.

الْمَوْقِفِ تَزْفَرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى نَبِيٌّ وَلَا مَلِكٌ إِلَّا جَثَا عَلَى ركبتيه والْفَزَعُ الْأَكْبَرُ عَامٌّ فِي كُلِّ هَوْلٍ يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِجُمْلَتِهِ هُوَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَإِنْ خُصِّصَ بِشَيْءٍ فَيَجِبُ أن يقصد لا عظم هُوَ لَهُ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وُقُوعُ طَبَقِ جَهَنَّمَ عَلَيْهَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِأَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْحَسَنِ. وَقِيلَ: ذَبْحُ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: إذا نودي اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «1» وَقِيلَ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّحْمَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ قَائِلِينَ لَهُمْ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِالْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لَا يَحْزُنُهُمُ مُضَارِعُ أَحْزَنَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَحَزِنَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْعَامِلُ فِي يوم لا يَحْزُنُهُمُ وتَتَلَقَّاهُمُ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ فِي تُوعَدُونَ فَالْعَامِلُ فِيهِ تُوعَدُونَ أَيْ أَيُوعَدُونَهُ أَوْ مَفْعُولًا بِاذْكُرْ أَوْ مَنْصُوبًا بِأَعْنِي. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ الْفَزَعُ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّ الْفَزَعُ مَصْدَرٌ وَقَدْ وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مَعْمُولِهِ فَلَا يَجُوزُ مَا ذُكِرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَطْوِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ يَطْوِي بِيَاءٍ أَيِ اللَّهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَفِرْقَةٌ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْوَاوِ والسَّماءَ رَفْعًا وَالْجُمْهُورُ السِّجِلِّ عَلَى وَزْنِ الطِّمِرِّ. وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَصَاحِبُهُ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ بِضَمَّتَيْنِ وَشَدِّ اللَّامِ، وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَأَبُو السِّمَاكِ السِّجِلِّ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بِكَسْرِهِمَا، وَالْجِيمُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ سَاكِنَةٌ وَاللَّامِ مُخَفَّفَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ. وَقَالَ مُجَاهِد السِّجِلِّ الصَّحِيفَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ مِنَ الصُّحُفِ بِصَحِيفَةِ الْعَهْدِ، وَالْمَعْنَى طَيًّا مِثْلَ طَيِّ السِّجِلِّ، وَطَيٌّ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ لِيُكْتَبَ فِيهِ أَوْ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَالْأَصْلُ كَطَيِّ الطَّاوِي السِّجِلِّ فَحَذَفَ الْفَاعِلَ وَحَذْفُهُ يَجُوزُ مَعَ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ، وَقَدَرَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ كَمَا يُطْوَى السِّجِلُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ السِّجِلِّ مَلَكٌ يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ كَاتِبٌ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ انْتَهَى. وقيل:

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 108.

أَصْلُهُ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ مِنْ السِّجِلِّ وَهُوَ الدَّلْوُ مَلْأَى مَاءً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ رَجُلٌ بِلِسَانِ الْحَبَشِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْكِتَابِ مُفْرَدًا وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ لِلْكُتُبِ جَمْعًا وَسَكَّنَ التَّاءَ الْأَعْمَشُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ نُعِيدُ الَّذِي يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَالْكَافُ مَكْفُوفَةٌ بِمَا، وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأْنَاهُ تَشْبِيهًا لِلْإِعَادَةِ بِالْإِبْدَاءِ فِي تَنَاوُلِ الْقُدْرَةِ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا أَوَّلُ الْخَلْقِ حَتَّى يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ قُلْتُ: أَوَّلُهُ إِيجَادُهُ مِنَ الْعَدَمِ، فَكَمَا أَوْجَدَهُ أَوَّلًا عَنْ عَدَمٍ يُعِيدُهُ ثَانِيًا عَنْ عَدَمٍ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا بَالُ خَلْقٍ مُنْكِرًا؟ قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِكَ: هُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ جَاءَنِي تُرِيدُ أَوَّلَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّكَ وَحَّدْتَهُ وَنَكَّرْتَهُ إِرَادَةَ تَفْصِيلِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا فَكَذَلِكَ مَعْنَى أَوَّلَ خَلْقٍ أَوَّلُ الْخَلَائِقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ نُعِيدُ مِثْلَ الَّذِي بدأناه نُعِيدُهُ وأَوَّلَ خَلْقٍ ظَرْفٌ لِبَدَأْنَاهُ أَيْ أَوَّلَ مَا خَلَقَ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ السَّاقِطِ مِنَ اللَّفْظِ الثَّابِتِ فِي الْمَعْنَى انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ لَيْسَتْ مَكْفُوفَةً كَمَا ذَكَرَ بَلْ هِيَ جَارَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا مَصْدَرِيَّةٌ يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بالكاف. وأَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ بَدَأْنا وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ خَلْقٍ إِعَادَةً مِثْلَ بَدْأَتِنَا لَهُ، أَيْ كَمَا أَبْرَزْنَاهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ نُعِيدُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. فِي مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَهْيِئَةً بَدَأْنا لِأَنْ يَنْصِبَ أَوَّلَ خَلْقٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَطْعُهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَارْتِكَابِ إِضْمَارٍ يُعِيدُ مُفَسَّرًا بِنُعِيدُهُ وَهَذِهِ عُجْمَةٌ فِي كِتَابِ الله، وأما قَوْلُهُ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَافَ اسْمٌ لَا حَرْفٌ، فَلَيْسَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَكَوْنُهَا اسْمًا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِالشِّعْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْبَعْثِ أَيْ كَمَا اخْتَرَعْنَا الْخَلْقَ أَوَّلًا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَذَلِكَ نُنْشِئُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَنَبْعَثُهُمْ مِنَ الْقُبُورِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا إِلَى الدُّنْيَا وَيُؤَيِّدُهُ «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَقَوْلُهُ كَما بَدَأْنا الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ نُعِيدُهُ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَصْدَرٍ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ قَبْلَهُ إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ تَأْكِيدٌ لِتَحَتُّمِ الْخَبَرِ أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نفعل والزَّبُورِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ زَبُورُ دَاوُدَ وَقَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَوْجُودٌ فِي زَبُورِ داود وقرأناه فيه والذِّكْرِ التَّوْرَاةِ قَالَهُ

ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ الزَّبُورِ مَا بَعْدَ التَّوْرَاةِ مِنَ الكتب والذِّكْرِ التَّوْرَاةُ وَقِيلَ الزَّبُورِ يَعُمُّ الكتب المنزلة والذِّكْرِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. الْأَرْضَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرْضُ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ يَرِثُها أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي هَذَا أَيِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوَاعِظِ الْبَالِغَةِ لَبَلَاغًا كِفَايَةً يَبْلُغُ بِهَا إِلَى الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ جُمْلَةً، وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةً لِكَوْنِهِ جَاءَهُمْ بما يسعدهم. لِلْعالَمِينَ قِيلَ خَاصٌّ بِمَنْ آمَنَ بِهِ. وَقِيلَ: عَامٌّ وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكَافِرِ حَيْثُ أَخَّرَ عُقُوبَتَهُ، وَلَمْ يَسْتَأْصِلِ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: عُوفِيَ مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ مَسْخٍ وَخَسْفٍ وَغَرَقٍ وَقَذْفٍ وَأَخَّرَ أَمْرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَما أَرْسَلْناكَ لِلْعَالَمِينَ إِلَّا رَحْمَةً أَيْ هُوَ رَحْمَةٌ فِي نَفْسِهِ وَهُدًى بَيِّنٌ أَخَذَ بِهِ مَنْ أَخَذَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَنْ أَعْرَضَ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْجَارُّ بَعْدَ إِلَّا بِالْفِعْلِ قَبْلَهَا إِلَّا إِنْ كَانَ الْعَامِلُ مُفَرِّغًا لَهُ نَحْوَ مَا مَرَرْتُ إِلَّا بِزَيْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا تُقْصِرُ الْحُكْمَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمٍ كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ وَإِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ وَقَدِ اجْتَمَعَ، الْمَثَلَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ مَعَ فَاعِلِهِ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يقوم زيد وأَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَفَائِدَةُ اجْتِمَاعِهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي إِنَّما إِنَّهَا لِقَصْرِ مَا ذَكَرَ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْحَصْرِ، وَإِنَّمَا مَعَ أَنَّ كَهِيَ مَعَ كَانَ وَمَعَ لَعَلَّ، فَكَمَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فِي التَّشْبِيهِ وَلَا الْحَصْرَ فِي التَّرَجِّي فَكَذَلِكَ لَا تُفِيدُهُ مَعَ أَنَّ وَأَمَّا جَعْلُهُ إِنَّما الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مِثْلَ مَكْسُوَرِتَهَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ، فَلَا نَعْلَمُ الْخِلَافَ إِلَّا فِي إِنَّما بِالْكَسْرِ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فحرف مصدري ينسبك منع مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا لَيْسَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، وَلَوْ كَانَتْ إِنَّمَا دَالَّةٌ عَلَى الْحَصْرِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّوْحِيدُ. وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْحَصْرُ فِيهِ إِذْ قَدْ أَوْحَى لَهُ أَشْيَاءَ غَيْرَ التَّوْحِيدِ وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَظَافُرِ الْمَنْقُولِ لِلْمَعْقُولِ وَأَنَّ النَّقْلَ أَحَدُ طَرِيقَيِ التَّوْحِيدِ، وَيَجُوزُ فِي مَا مِنْ إِنَّما أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى آذَنْتُكُمْ أَعْلَمْتُكُمْ وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّحْذِيرِ وَالنِّذَارَةِ عَلى سَواءٍ لَمْ أَخُصَّ أَحَدًا

دُونَ أَحَدٍ، وَهَذَا الْإِيذَانُ هُوَ إِعْلَامٌ بِمَا يَحِلُّ بِمَنْ تَوَلَّى مِنَ الْعِقَابِ وَغَلَبَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنِّي لَا أَدْرِي مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ وإِنْ نافية وأَدْرِي مُعَلَّقَةٌ وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَدْرِي، وَتَأَخَّرَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً إِذْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ بَعِيدٌ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً وَكَثِيرًا مَا يُرَجَّحُ الْحُكْمُ فِي الشَّيْءِ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةَ آخِرِ آيَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ وَإِنْ أَدْرِي بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ تَشْبِيهًا بِيَاءِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَتْ لَامَ الْفِعْلِ وَلَا تُفْتَحُ إِلَّا بِعَامِلٍ. وَأَنْكَرَ ابْنُ مُجَاهِدٍ فَتْحَ هَذِهِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعْلِمْنِي عِلْمَهُ وَلَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ أَيْ لَعَلَّ تَأْخِيرَ هَذَا الْمَوْعِدِ امْتِحَانٌ لَكُمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَوْ يَمْتَنِعُ لَكُمْ إِلَى حِينٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً وَلِيَقَعَ الْمَوْعِدُ فِي وَقْتٍ هُوَ حِكْمَةٌ، وَلَعَلَّ هُنَا مُعَلَّقَةٌ أَيْضًا وَجُمْلَةُ التَّرَجِّي هِيَ مَصَبُّ الْفِعْلِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجْرُونَ لَعَلَّ مَجْرَى هَلْ، فَكَمَا يَقَعُ التَّعْلِيقُ عَنْ هَلْ كَذَلِكَ عَنْ لَعَلَّ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَعَلَّ مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهَا كَقَوْلِهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «1» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «2» وَقِيلَ إِلى حِينٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ بدر. وقرأ الجمهور قالَ رَبِّ أمرا بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ قَالَ وَأَبُو جَعْفَرٍ رَبُّ بِالضَّمِّ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُفْرَدٌ وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ فِيمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِأَيِّ بَعِيدٍ بَابُهُ الشِّعْرُ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ نِدَاءِ النَّكِرَةِ الْمُقْبِلِ عَلَيْهَا بَلْ هَذَا مِنَ اللُّغَاتِ الْجَائِزَةِ فِي يَا غُلَامِي، وَهِيَ أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى الضَّمِّ وَأَنْتَ تَنْوِي الْإِضَافَةَ لَمَّا قَطَعْتَهُ عَنِ الْإِضَافَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا بَنْيَتَهُ، فَمَعْنَى رَبِّ يَا رَبِّي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ احْكُمْ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ حَكَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ رَبِّي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ أَحْكَمُ جَعَلَهُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ فَرَبِّي أَحْكَمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَحْكَمَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَصِفُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ عَلَى مَا يَصِفُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَرُوِّيتُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وعاصم.

_ (1) سورة الشورى: 42/ 17. (2) سورة عبس: 80/ 3.

سورة الحج

سورة الحج [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

ذَهَلَ عَنِ الشَّيْءِ ذُهُولًا: اشْتَغَلَ عَنْهُ قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: غَفَلَ لِطَرَيَانِ شاغل من أهم أَوْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: مَعَ دَهْشَةٍ. الْمُضْغَةُ: اللَّحْمَةُ الصَّغِيرَةُ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ. الْمُخَلَّقَةُ: الْمُسَوَّاةُ الْمَلْسَاءُ لَا نَقْصَ وَلَا عَيْبَ فِيهَا، يُقَالُ: خَلَقَ السِّوَاكَ وَالْعُودَ سَوَّاهُ

وَمَلَّسَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: صَخْرَةٌ خَلْقَاءُ أَي مَلْسَاءَ. الطِّفْلُ: يُقَالُ مِنْ وَقْتِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ إِلَى الْبُلُوغِ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَحْشِيَّةِ طِفْلٌ، وَيُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا طِفْلٌ وَطِفْلَانِ وَأَطْفَالٌ وَأَطْفَلَتِ الْمَرْأَةُ صَارَتْ ذَا طِفْلٍ، وَالطَّفْلُ بِفَتْحِ الطَّاءِ النَّاعِمُ، وَجَارِيَةٌ طَفْلَةٌ نَاعِمَةٌ، وَبَنَانٌ طَفْلٌ، وَقَدْ طَفَّلَ اللَّيْلُ أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَالطَفَلُ بِالتَّحْرِيكِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذَا طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ، وَالطَّفَلُ أَيْضًا مَطَرٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ اسْمٌ يُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا كَالرِّضَا وَالْعَدْلِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. هَمَدَتِ الْأَرْضُ: يَبَسَتْ وَدَرَسَتْ، وَالثَّوْبُ بَلِيَ انْتَهَى. وَقَالَ الْأَعْشَى: قَالَتْ قَتِيلَةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِبًا ... وَأَرَى ثِيَابَكَ بَالِيَاتٍ هَمَدَا الْبَهِيجُ: الْحَسَنُ السَّارُّ لِلنَّاظِرِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو بَهْجَةٍ أَيْ حُسْنٍ، وَقَدْ بَهُجَ بِالضَّمِّ بَهَاجَةً وَبَهْجَةً فَهُوَ بَهِيجٌ، وَأَبْهَجَنِي: أَعْجَبَنِي بِحُسْنِهِ. الْعَطْفُ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ يَمِينُهُ وَشِمَالُهُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَطْفِ وَهُوَ اللِّينُ، وَيُسَمَّى الرِّدَاءُ الْعِطَافَ. الْمَجُوسُ: قَوْمٌ يَعْبُدُونَ النَّارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَقِيلَ: يَعْبُدُونَ النَّارَ. وَقِيلَ: قَوْمٌ اعْتَزَلُوا النَّصَارَى وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ. وَقِيلَ: قَوْمٌ أَخَذُوا مِنْ دِينِ النَّصَارَى شَيْئًا وَمِنْ دِينِ الْيَهُودِ شَيْئًا وَهُمُ الْقَائِلُونَ الْعَالَمُ أَصْلَانِ نُورٌ وَظُلْمَةٌ. وَقِيلَ: الْمِيمُ فِي الْمَجُوسِ بَدَلٌ مِنَ النُّونِ لِاسْتِعْمَالِهِمُ النَّجَاسَاتِ. صَهَرْتُ الشَّحْمَ بِالنَّارِ أَذَبْتُهُ، وَالصُّهَارَةُ الْإِلْيَةُ الْمُذَابَةُ. وَقِيلَ: يَنْضَجُ قَالَ الشَّاعِرُ: تَصْهَرُهُ الشَّمْسُ وَلَا يَنْصَهُرُ الْمِقْمَعَةُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ الْمِقْرَعَةُ يُقْمَعُ بِهَا الْمَضْرُوبُ. اللُّؤْلُؤُ: الْجَوْهَرُ. وَقِيلَ: صِغَارُهُ وَكِبَارُهُ. الضَّامِرُ: الْمَهْزُولُ. الْعَمِيقُ: الْبَعِيدُ، وَأَصْلُهُ الْبُعْدُ سُفْلًا يُقَالُ: بِئْرٌ عَمِيقٌ أَيْ بَعِيدَةُ الْغَوْرِ، وَالْفِعْلُ عَمُقَ وَعَمَّقَ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا الْخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ ... يُمَدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شاحب ويقال: عميق بَالْغَيْنَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ عَمِيقٌ وَمُعِيقٌ لِتَمِيمٍ، وَأَعْمَقْتُ الْبِئْرَ وَأَمْعَقْتُهَا وَقَدْ عَمُقَتْ وَمَعُقَتْ عَمَاقَةً وَمُعَاقَةً وَهِيَ بَعِيدَةُ الْعُمْقِ وَالْمَعْقُ وَالْأَمْعَاقُ وَالْأَعْمَاقُ أَطْرَافُ الْمَفَازَةِ قَالَ: وَقَائِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرِقِ التَّفَثُ: أَصْلُهُ الْوَسَخُ وَالْقَذَرُ، يُقَالُ لِمَنْ يُسْتَقْذَرُ: مَا تَفَثُكَ. وَعَنْ قُطْرُبٍ: تَفِثَ الرَّجُلُ كَثُرَ

وَسَخُهُ فِي سَفَرِهِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ: التَّفَثُ مَنِ الْتُفَّ وَهُوَ وَسَخُ الْأَظْفَارِ، وَقُلِبَتِ الْفَاءُ ثَاءً كَمَغْثُورٍ. السَّحِيقُ: الْبَعِيدُ. وَجَبَ الشَّيْءُ سَقَطَ، وَوَجَبَتِ الشَّمْسُ جِبَةً قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ: أَلَمْ يَكْسِفِ الشَّمْسَ شَمْسُ النَّهَا ... رِ وَالْبَدْرُ لِلْجَبَلِ الْوَاجِبِ الْقَانِعُ: السَّائِلُ، قَنِعَ قَنُوعًا سَأَلَ وَقَنِعَ قَنَاعَةً تَعَفَّفَ وَاسْتَغْنَى بِبَلْغَتِهِ. قال الشماخ: مفاقرة أَعَفُّ مِنَ الْقَنُوعِ ... لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي الْوَثَنُ: قَالَ شِمْرٌ كُلُّ تِمْثَالٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ وَنَحْوِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَنْصِبُهَا وَتَعْبُدُهَا وَيُطْلَقُ عَلَى الصَّلِيبِ. قَالَ الْأَعْشَى: يَطُوفُ الْعُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ ... كَطَوْفِ النَّصَارَى بِبَابِ الْوَثَنِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ وَقَدْ رَأَى فِي عُنُقِهِ صَلِيبًا: «أَلْقِ الْوَثَنَ عَنْكَ» . وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ وَثَنَ الشَّيْءَ أَقَامَهُ فِي مَكَانِهِ وَثَبَتَ، وَالْوَاثِنُ الْمُقِيمُ الرَّاكِزُ فِي مَكَانِهِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ: عَلَى أَخِلَّاءِ الصَّفَاءِ الْوَثَنُ يَعْنِي الدَّوْمَ عَلَى الْعَهْدِ. الْبُدْنُ: جَمَعُ بَدَنَةٍ كَثُمْرِ جَمْعُ ثَمَرَةٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَبْدُنُ أَيْ تَسْمَنُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْبَدَنَةُ بِالْهَاءِ تَقَعُ عَلَى النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ مِمَّا يَجُوزُ فِي الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الشَّاةِ وَسُمِّيَتْ بَدَنَةً لِعِظَمِهَا. وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ. وَقِيلَ: مَا أَشْعَرَ مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ قَالَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْبَدَنُ مُفْرَدٌ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ الْعَظِيمُ السَّمِينُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَيُقَالُ لِلسَّمِينِ مِنَ الرِّجَالِ. الْمُعْتَرُّ: الْمُتَعَرِّضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عرّه واعترّه وَعَرَّاهُ وَاعْتَرَاهُ أَتَاهُ طَالِبًا لِمَعْرُوفِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: سَلِي الطَّارِقَ الْمُعْتَرَّ يَا أُمَّ مَالِكٍ ... إِذَا مَا اعْتَرَانِي بَيْنَ قَدَرِي وَمَجْزَرِي وَقَالَ الْآخَرُ: لَعَمْرُكَ مَا الْمُعْتَرُّ يَغْشَى بِلَادَنَا ... لِنَمْنَعَهُ بِالضَّائِعِ المتهضم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ

فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا هذانِ خَصْمانِ «1» إِلَى تَمَامِ ثَلَاثِ آيَاتٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا إِنَّهُنَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ إِلَى قَوْلِهِ عَذابَ الْحَرِيقِ «2» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ- إِلَى- عَذابٌ مُهِينٌ «3» . وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مِنْهَا مَكِّيٌّ وَمِنْهَا مَدَنِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَذَكَرَ الْفَزَعَ الْأَكْبَرَ وَهُوَ مَا يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ قَدْ أَنْكَرُوا الْمَعَادَ وَكَذَّبُوهُ بِسَبَبِ تَأَخُّرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَحْذِيرًا لَهُمْ وَتَخْوِيفًا لِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ وَشِدَّةِ هَوْلِهَا، وَذِكْرِ مَا أُعِدَّ لِمُنْكِرِهَا وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى الْبَعْثِ بِتَطْوِيرِهِمْ فِي خَلْقِهِمْ، وَبِهُمُودِ الْأَرْضِ وَاهْتِزَازِهَا بَعْدُ بِالنَّبَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَامٌّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى سَبَبِ اتِّقَائِهِ وَهُوَ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنْ أَهْوَالِ السَّاعَةِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيِ اتَّقُوا عَذَابَ رَبَّكُمْ، وَالزَّلْزَلَةُ الْحَرَكَةُ الْمُزْعِجَةُ وَهِيَ عِنْدُ النَّفْخَةِ الْأُولَى. وَقِيلَ: عِنْدَ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: عِنْدَ قَوْلِ اللَّهِ يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي الدُّنْيَا آخِرُ الزَّمَانِ وَيَتْبَعُهَا طلوع الشمس من مغربها. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ: عِنْدَ طلوح الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَى السَّاعَةِ لِأَنَّهَا مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ فَالْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ الْأَرْضُ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها «4» وَالنَّاسُ وَنِسْبَةُ الزَّلْزَلَةِ إِلَى السَّاعَةِ مَجَازٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاتِّسَاعِ فِي الظَّرْفِ، فَتَكُونُ السَّاعَةِ مَفْعُولًا بِهَا وَعَلَى هَذِهِ التَقَادِيرِ يَكُونُ ثَمَّ زَلْزَلَةَ حَقِيقَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَشَدُّ الزِّلْزَالِ مَا يَكُونُ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: الزلزلة استعارة، والمراد

_ (1) سورة الحج: 22/ 19. (2) سورة الحج: 22/ 22. [.....] (3) سورة الحج: 22/ 52. (4) سورة الزلزلة: 99/ 1.

أَشَدُّ السَّاعَةِ وَأَهْوَالُ يَوْمِ القيامة وشَيْءٌ هُنَا يَدُلُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومِ لِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ، وَمَنْ مَنَعَ إِيقَاعَهُ عَلَى الْمَعْدُومِ قَالَ: جَعَلَ الزَّلْزَلَةَ شَيْئًا لِتَيَقُّنِ وُقُوعِهَا وَصَيْرُورَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ. وَذَكَرَ تَعَالَى أَهْوَلَ الصِّفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَرَوْنَها الْآيَةَ لِيَنْظُرُوا إِلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بِبَصَائِرِهِمْ وَيَتَصَوَّرُوهَا بِعُقُولِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى تَقْوَاهُ تَعَالَى إِذْ لَا نَجَاةَ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ إِلَّا بِالتَّقْوَى. وَرُوِيَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا لَيْلًا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَقَرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السُّرُوجَ عَنِ الدَّوَابِّ وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ وَقْتَ النُّزُولِ وَلَمْ يَطْبُخُوا قِدْرًا، وَكَانُوا مِنْ بَيْنِ حَزِينٍ بَاكٍ وَمُفَكِّرٍ. وَالنَّاصِبُ لِيَوْمَ تَذْهَلُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي تَرَوْنَها عائدا عَلَى الزَّلْزَلَةِ لِأَنَّهَا الْمُحَدَّثُ عَنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ ذُهُولِ الْمُرْضِعَةِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ هَذَا إِذَا أُرِيدَ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْأَصْلُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَعَنِ الْحَسَنِ تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا لِغَيْرِ فِطَامٍ وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى السَّاعَةِ فَيَكُونُ الذُّهُولُ وَالْوَضْعُ عِبَارَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا ذُهُولَ وَلَا وَضْعَ هُنَاكَ كَقَوْلِهِمْ: يَوْمَ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ. وَجَاءَ لَفْظُ مُرْضِعَةٍ دُونَ مُرْضِعٍ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْفِعْلُ لَا النَّسَبُ، بِمَعْنَى ذَاتِ رَضَاعٍ. وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ عَمَّا أَرْضَعَتْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَرْضَعَتْهُ، وَيُقَوِّيهُ تَعَدِّي وَضَعَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْلِهِ حَمْلَها لَا إِلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ عَنْ إِرْضَاعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرْضِعَةُ هِيَ الَّتِي فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ تُلْقِمُ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ، وَالْمُرْضِعُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ. فَقِيلَ مُرْضِعَةٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا نَزَعَتْهُ عَنْ فِيهِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ، وَخَصَّ بَعْضُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ أُمَّ الصَّبِيِّ بِمُرْضِعَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرَةِ بِمُرْضِعٍ وَهَذَا بَاطِلٌ بِقَوْلِ الشَّاعِرُ: كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ الْبَيْتَ فَهَذِهِ مُرْضِعَةٍ بِالتَّاءِ وَلَيْسَتْ أُمًّا لِلَّذِي تُرْضِعُ. وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ إِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْمُؤَنَّثِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّاءِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِلْفَرْقِ مَرْدُودٌ بِقَوْلِ الْعَرَبِ مُرْضِعَةٌ وَحَائِضَةٌ وَطَالِقَةٌ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذْهَلُ كُلُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ كُلُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْيَمَانِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ تَذْهَلُ الزَّلْزَلَةُ أَوِ السَّاعَةُ كُلَّ بِالنَّصْبِ، وَالْحَمْلَ بِالْفَتْحِ مَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَتَرَى بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً خِطَابُ الْمُفْرَدِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ وَتَرَى الزَّلْزَلَةَ أَوِ السَّاعَةَ. وَقَرَأَ الزَّعْفَرَانِيُّ وَعَبَّاسٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَرَفَعَ النَّاسُ وَأَنَّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ وَأَبُو نَهِيكٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ نَصَبُوا النَّاسَ عَدَّى تَرَى إِلَى مَفَاعِيلَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي تَرَى وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ النَّاسَ سُكارى أَثْبَتَ أَنَّهُمْ سُكارى عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ نَفَى عَنْهُمُ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ السُّكْرُ مِنَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَتَخْلِيطِ الْعَقْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُكارى فِيهِمَا عَلَى وَزْنِ فُعَالَى وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي فُعَالَى بِضَمِّ الْفَاءِ أَهُوَ جَمْعٌ أَوِ اسْمُ جَمْعٍ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو نَهِيكٍ وَعِيسَى بِفَتْحِ السِّينِ فِيهِمَا وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَاحِدُهُ سَكْرَانُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ سَعْدَانَ وَمَسْعُودُ بْنُ صَالِحٍ سَكْرَى فِيهِمَا، وَرُوِيَتْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم رَوَاهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ وَحُذَيْفَةَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَوْمٌ يَقُولُونَ سَكْرَى جَعَلُوهُ مِثْلَ مَرْضَى لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ يَدْخُلَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ جَعَلُوا رُوبَى مِثْلَ سَكْرَى وَهُمُ الْمُسْتَثْقَلُونَ نَوْمًا مِنْ شُرْبِ الرَّائِبِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَكِرٍ كَزَمْنَى وَزَمِنٍ، وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: رَجُلٌ سَكِرٌ بِمَعْنَى سَكْرَانَ فَيَجِيءُ سَكْرَى حِينَئِذٍ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ سُكْرَى بِضَمِّ السِّينِ فِيهِمَا. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَالْبُشْرَى وَبِهَذَا أَفْتَانِي أَبُو عَلِيٍّ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: فُعْلَى بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ صِفَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْإِنَاثِ لَكِنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ مِنْ صِفَاتِ النَّاسِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ أُجْرِيَتِ الْجَمَاعَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَنَّثِ الْمُوَحَّدِ انْتَهَى. وَعَنْ أَبِي زُرْعَةَ أَيْضًا سَكْرَى بِفَتْحِ السِّينِ بِسُكْرَى بِضَمِّهَا. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا سَكْرَى بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بِسُكارى بِالضَّمِّ وَالْأَلِفِ. وَعَنِ الحسن أيضا سُكارى بسكرى. وَقَالَ أَوْ لَا تَرَوْنَهَا عَلَى خِطَابِ الْجَمْعِ جُعِلُوا جَمِيعًا رَائِيِينَ لَهَا. ثُمَّ قَالَ وَتَرَى عَلَى خِطَابِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ مُعَلَّقَةٌ بِكَوْنِ النَّاسِ عَلَى حَالِ السُّكْرِ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ رَائِيًا لِسَائِرِهِمْ غَشِيَهُمْ مِنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ مَا أَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَرَدَّهُمْ فِي حَالِ مَنْ يُذْهِبُ السُّكْرُ عَقْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ، وَجَاءَ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ عَذابَ اللَّهِ أَنَّهُ شَدِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مَا هُوَ

بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ كَالْحَالَةِ اللَّيِّنَةِ وَهُوَ الذُّهُولُ وَالْوَضْعُ وَرُؤْيَةُ النَّاسِ أَشْبَاهَ السُّكَارَى، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذِهِ أَحْوَالٌ هَيِّنَةٌ وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ وَلَا لَيِّنٍ لِأَنَّ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ متنافيين بوجه وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أَيْ فِي قُدْرَتِهِ وَصِفَاتِهِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: فِي النَّضْرِ وَكَانَ جَدِلًا يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى إِحْيَاءِ مَنْ بَلِيَ وَصَارَ تُرَابًا وَالْآيَةُ فِي كُلِّ مَنْ تَعَاطَى الْجِدَالِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَا يَرْفَعُ إِلَى عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَلَا نَصَفَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ هُوَ مِنَ الْجِنِّ كَقَوْلِهِ وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً «1» . وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِنْسِ كَقَوْلِهِ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ «2» . لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ مَنْ غَفَلَ عَنِ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَذَّبَ بِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَتَّبِعُ خَفِيفًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَنْ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَفِي أَنَّهُ وتَوَلَّاهُ وَفِي فَأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالْفَاعِلُ يَتَوَلَّى ضَمِيرُ مَنْ وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي يُضِلُّهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمُجَادِلَ لِكَثْرَةِ جِدَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِهِ الشَّيْطَانَ صَارَ إِمَامًا فِي الضَّلَالِ لِمَنْ يَتَوَلَّاهُ، فَشَأْنُهُ أَنْ يُضِلَّ مَنْ يَتَوَلَّاهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ قَالَهُ قَتَادَةُ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ احْتِمَالًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ الْأُولَى لِلشَّيْطَانِ وَالثَّانِيَةِ لِمَنِ الَّذِي هُوَ لِلْمُتَوَلِّي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَتَبَةُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَيْ إِنَّمَا كُتِبَ إِضْلَالَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ عَلَيْهِ وَرَقَمَ بِهِ لِظُهُورِ ذَلِكَ فِي حَالِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُتِبَ مَبْنِيًّا للمفعول. وقرىء كُتِبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَي كَتَبَ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَأَنَّهُ بِفَتْحِهَا أَيْضًا، وَالْفَاءُ جَوَابٌ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ أَوِ الدَّاخِلَةُ فِي خَبَرِ مَنْ إِنْ كَانَتْ موصولة. وفَأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرٍ فَشَأْنُهُ أَنَّهُ يُضِلُّهُ أَيْ إِضْلَالَهُ أَوْ فَلَهُ أَنْ يُضِلَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَنْ فَتَحَ فَلِأَنَّ الأول فاعل كُتِبَ بعني بِهِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ

_ (1) سورة النساء: 4/ 117. (2) سورة الأنعام: 6/ 112.

فَاعِلُهُ، قَالَ: وَالثَّانِي عُطِفَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ فَأَنَّهُ عَطْفًا عَلَى أَنَّهُ بَقِيَتْ بِلَا اسْتِيفَاءِ خَبَرٍ لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُ مَنْ فيه مبتدأة، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا مَوْصُولَةً فَلَا خَبَرَ لَهَا حَتَّى يَسْتَقِلَّ خَبَرًا لِأَنَّهُ وَإِنْ جَعَلْتَهَا شَرْطِيَّةً فَلَا جَوَابَ لَهَا إِذْ جَعَلْتَ فَأَنَّهُ عَطْفًا عَلَى أَنَّهُ وَمِثْلَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ وأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَنَّهُ الثَّانِيَةُ عِطْفٌ عَلَى الْأُولَى مؤكدة مثلها، وخطا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ فَإِنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا انْتَهَى. وَلَيْسَ مَشْهُورًا عَنِ أَبِي عَمْرٍو. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ إِسْنَادِ كُتِبَ إِلَى الْجُمْلَةِ إِسْنَادًا لَفْظِيًّا أَيْ كُتِبَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ كَمَا تَقُولُ: كَتَبَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو عن تقدير قيل أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْكُتُبَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَقِيلَ الْمُقَدَّرَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ الْفَاعِلَ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ جُمْلَةً فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُ لَا تُكْسَرُ إِنَّ بَعْدَ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، بَلْ بَعْدَ الْقَوْلِ صَرِيحَةً، وَمَعْنَى وَيَهْدِيهِ وَيَسُوقُهُ وَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْهِدَايَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يُجَادِلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَ جِدَالُهُمْ فِي الْحَشْرِ وَالْمَعَادِ ذَكَرَ دَلِيلَيْنِ وَاضِحَيْنِ عَلَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَابْتِدَاءِ خَلْقِهِ، وَتَطَوُّرِهِ فِي مَرَاتِبَ سَبْعٍ وَهِيَ التُّرَابُ، وَالنُّطْفَةُ، وَالْعَلَقَةُ، وَالْمُضْغَةُ، وَالْإِخْرَاجُ طِفْلًا، وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ، وَالتَّوَفِّي أَوِ الرَّدُّ إِلَى الْهَرَمِ. وَالثَّانِي فِي الْأَرْضِ الَّتِي تُشَاهِدُونَ تَنَقُّلَهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَإِذَا اعْتَبَرَ الْعَاقِلُ ذَلِكَ ثَبَتَ عِنْدَهُ جَوَازُهُ عَقْلًا فَإِذَا وَرَدَ خَبَرُ الشَّرْعِ بِوُقُوعِهِ وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِهِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِنَ الْبَعْثِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ فِيهِ كَالْحَلْبِ وَالطَّرْدِ فِي الْحَلْبِ وَالطَّرْدِ، وَالْكُوفِيُّونَ إِسْكَانُ الْعَيْنِ عِنْدَهُمْ تَخْفِيفٌ يَقِيسُونَهُ فِيمَا وَسَطُهُ حَرْفُ حَلْقٍ كَالنَّهْرِ وَالنَّهَرِ وَالشَّعْرِ وَالشَّعَرِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَقِيسُونَهُ وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَ فِيهِ لُغَتَانِ. وَالْمَعْنَى إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي الْبَعْثِ فَمُزِيلُ رَيْبِكُمْ أَنْ تَنْظُرُوا فِي بَدْءِ خَلْقِكُمْ مِنْ تُرابٍ أَيْ أَصْلِكُمْ آدَمَ وَسَلَّطَ الْفِعْلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ وَسَائِطِ التَّوَلُّدِ لِأَنَّ الْمَنِيَّ وَدَمَ الطَّمْثِ يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَغْذِيَةُ حَيَوَانٌ وَنَبَاتٌ، وَالْحَيَوَانُ يَعُودُ إِلَى النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالنُّطْفَةُ الْمَنِيُّ. وَقِيلَ نُطْفَةٍ آدَمُ قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَالْعَلَقَةُ قِطْعَةُ

الدَّمِ الْجَامِدَةِ وَمَعْنَى وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أَيْ لَيْسَتْ كَامِلَةً وَلَا مَلْسَاءَ فَالْمُضَغُ مُتَفَاوِتَةٌ لِذَلِكَ تَفَاوَتُوا طُولًا وَقِصَرًا وَتَمَامًا وَنُقْصَانًا. وَقَالَ مُجَاهِد غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ هِيَ الَّتِي تَسْتَسْقِطُ وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ فِيهِ أَعْضَاءٌ مُتَبَايِنَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِخَلْقٍ حَسُنَ تَضْعِيفُ الْفِعْلِ لِأَنَّ فِيهِ خَلْقًا كَثِيرَةً. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مُخَلَّقَةٍ بِالنَّصْبِ وَغَيْرَ بِالنَّصْبِ أَيْضًا نَصْبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ قَلِيلٌ وَقَاسَهُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ الزمخشري: ولِنُبَيِّنَ لَكُمْ بِهَذَا التَّدْرِيجِ قُدْرَتُنَا وَإِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ تُرابٍ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثَانِيًا وَلَا تَنَاسُبَ بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ، وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النُّطْفَةَ عَلَقَةٍ وَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ يَجْعَلَ الْعَلَقَةَ مُضْغَةٍ وَالْمُضْغَةَ عِظَامًا قَدَرَ عَلَى إِعَادَةِ مَا أَبْدَاهُ، بَلْ هَذَا أَدْخَلُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَهْوَنُ فِي الْقِيَاسِ وَوُرُودُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُعَدًّى إِلَى الْمُبَيَّنِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ هَذِهِ يَتَبَيَّنُ بِهَا مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ مَا لَا يَكْتَنِهُهُ الْفِكْرُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ انتهى. ولِنُبَيِّنَ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَقْنَاكُمْ. وَقِيلَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أَمْرَ الْبَعْثُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَعْنِي رُشْدَكُمْ وَضَلَالَكُمْ. وَقِيلَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أَنَّ التَّخْلِيقَ هُوَ اخْتِيَارٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَلَوْلَاهُ مَا صَارَ بَعْضُهُ غَيْرَ مُخَلَّقٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيُقِرَّ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَنُقِرُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِنُبَيِّنَ. وَعَنْ عَاصِمٍ أَيْضًا ثُمَّ يُخْرِجَكُمْ بِنَصْبِ الْجِيمِ عَطْفًا عَلَى وَنُقِرُّ إِذَا نُصِبَ. وَعَنْ يَعْقُوبَ وَنُقِرُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ مَنْ قَرَّ الْمَاءَ صَبَّهُ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيُّ وَيَقِرَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَفِي الْكَلَامِ لِابْنِ حَبَّارٍ لِنُبَيِّنَ وَنُقِرُّ ونُخْرِجُكُمْ بِالنَّصْبِ فِيهِنَّ. الْمُفَضَّلُ وَبِالْيَاءِ فِيهِمَا مَعَ النَّصْبِ، أَبُو حَاتِمٍ وَبِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ انْتَهَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا يَشَاءُ أَنْ يُقِرَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ وَقْتُ الْوَضْعِ وَمَا لَمْ يَشَأْ إِقْرَارَهُ مَجَّتْهُ الْأَرْحَامُ أَوْ أَسْقَطَتْهُ. وَالْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ تَعْلِيلُ مَعْطُوفٍ عَلَى تَعْلِيلٍ وَالْمَعْنَى خَلَقْناكُمْ مُدَرِّجِينَ هَذَا التَّدْرِيجِ لِغَرَضَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ نُبَيِّنَ قُدْرَتَنَا وَالثَّانِي أَنْ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَنْ نُقِرُّ حَتَّى يُولَدُوا

وَيُنْشَؤُوا وَيَبْلُغُوا حَدَّ التَّكْلِيفِ فَأُكَلِّفَهُمْ. وَيُعَضِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ مَا نَشاءُ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِحَسَبِ جَنِينٍ جَنِينٍ فَسَاقِطٌ وَكَامِلٌ أَمْرُهُ خَارِجٌ حَيًّا وَوَحَّدَ طِفْلًا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَالطَّبَرِيُّ، أَوْ لِأَنَّ الْغَرَضَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجِنْسِ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى يُخْرِجُكُمْ كُلَّ وَاحِدٍ كَقَوْلِكَ: الرِّجَالُ يُشْبِعُهُمْ رَغِيفٌ أَيْ يُشْبِعُ كُلَّ وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَشَدُّ كَمَالُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ الَّتِي لَمْ يُسْتَعْمَلُ لَهَا وَاحِدٌ كَالْأَشُدَّةِ وَالْقُيُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَأَنَّهَا مُشَدَّةٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَبُنِيَتْ لِذَلِكَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْأَشُدِّ وَمِقْدَارِهِ مِنَ الزَّمَانِ. وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جَمْعُ شِدَّةٍ كَأَنْعُمٍ جَمْعُ نِعْمَةٍ وَأَمَّا الْقُيُودُ: فَعَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّ وَاحِدَهُ قَيْدٌ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وقرىء يُتَوَفَّى بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يَسْتَوْفِي أَجْلَهُ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ أَيْ بَعْدِ الْأَشُدِّ وَقَبْلَ الْهَرَمِ، وَهُوَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَالْخَرَفِ، فَيَصِيرُ إِلَى حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ سَخِيفَ الْعَقْلِ، وَلَا زَمَانَ لِذَلِكَ مَحْدُودٌ بَلْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ فِي النَّاسِ وَقَدْ نَرَى مَنْ عَلَتْ سِنُّهُ وَقَارَبَ الْمِائَةَ أَوْ بَلَغَهَا فِي غَايَةِ جَوْدَةِ الذِّهْنِ وَالْإِدْرَاكِ مَعَ قُوَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَنَرَى مَنْ هُوَ فِي سِنِّ الِاكْتِهَالِ وَقَدْ ضَعُفَتْ بِنْيَتُهُ أَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْهَائِهِ إِلَى حَالَةِ الْخَرَفِ كَمَا أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَدْرِيجِهِ إِلَى حَالَةِ التَّمَامِ، فَكَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ الَّتِي دَرَجَهَا فِي هَذِهِ الْمَنَاقِلِ وَإِنْشَائِهَا النشأة الثانية. ولِكَيْلا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يُرَدُّ قَالَ الْكَلْبِيُّ لِكَيْلا يَعْقِلَ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا. وَقِيلَ لِكَيْلا يَسْتَفِيدَ عِلْمًا وَيَنْسَى مَا عَلِمَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لِيَصِيرَ نَسَّاءً بِحَيْثُ إِذَا كَسَبَ عِلْمًا فِي شَيْءٍ لَمْ يَنْشَبْ أن ينساه ويزل عَنْهُ عِلْمُهُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُ مِنْ سَاعَتِهِ، يَقُولُ لَكَ مَنْ هَذَا؟ فَتَقُولُ: فُلَانٌ فَمَا يَلْبَثُ لَحْظَةً إِلَّا سَأَلَكَ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ تَسْكِينُ مِيمِ الْعُمُرِ. وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ، وَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ الْآيَةُ، وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ بَعْضَ مَرَاتِبِ الْخِلْقَةِ فِيهِ غَيْرَ مُرَتَّبَيْنِ قَالَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ فَلَمْ يُحَلْ فِي جَمِيعِ رُتَبِهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الثَّانِي مُشَاهَدًا لِلْأَبْصَارِ أَحَالَ ذَلِكَ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَقَالَ وَتَرَى أَيُّهَا السَّامِعُ أَوِ الْمُجَادِلُ الْأَرْضَ هامِدَةً

وَلِظُهُورِهِ تَكَرَّرَ هَذَا الدَّلِيلُ في القرآن والْماءَ مَاءُ الْمَطَرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالسَّوَانِي وَاهْتِزَازُهَا تَخَلْخُلُهَا وَاضْطِرَابُ بَعْضِ أَجْسَامِهَا لِأَجْلِ خُرُوجِ النَّبَاتِ وَرَبَتْ أَيْ زَادَتْ وَانْتَفَخَتْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَرَبَأَتْ بِالْهَمْزِ هُنَا وَفِي فُصِّلَتْ أَيِ ارْتَفَعَتْ وَأَشْرَفَتْ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْبَأُ بِنَفْسِهِ عَنْ كَذَا: أَيْ يَرْتَفِعُ بِهَا عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَجْهُهُا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبَأْتُ الْقَوْمَ إِذَا عَلَوْتُ شَرَفًا مِنَ الْأَرْضِ طَلِيعَةً فَكَانَ الْأَرْضُ بِالْمَاءِ تَتَطَاوَلُ وَتَعْلُو انْتَهَى. وَيُقَالُ رَبِيءٌ وَرَبِيئَةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: بَعَثْنَا ربيئا قبل ذلك مخملا ... كَذِئْبِ الْغَضَا يَمْشِي الضَّرَاءَ وَيَتَّقِي ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ خُلُقِ بَنِي آدَمَ وَتَطَوُّرِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَرَاتِبِ، وَمِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ حَاصِلٌ بِهَذَا وَهُوَ حَقِيقَتُهُ تَعَالَى فه الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَعَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ وَقَدْ وَعَدَ بِالْبَعْثِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ كِيَانِهِ. وَقَوْلُهُ وَأَنَّ السَّاعَةَ إِلَى آخِرِهِ توكيد لقوله وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَيْسَ دَاخِلًا فِي سَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنَّهُ الَّذِي يَلِيهِ، فَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرٍ. وَالْأَمْرُ أَنَّ السَّاعَةَ وَذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَبِأَنَّ الْخَبَرَ. وَقِيلَ ذَلِكَ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُجَادِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ الْمُجَادِلِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيقٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: الْأُولَى فِي الْمُقَلِّدِينَ وَهَذِهِ فِي الْمُقَلِّدِينَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي النَّضْرِ كُرِّرَتْ مُبَالَغَةً فِي الذَّمِّ، وَلِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةٍ لَيْسَتْ فِي الْأُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ

بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَرَّرَ هَذِهِ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَمْثَالُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ وَمِنَ النَّاسِ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُجادِلُ فَكَانَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ، وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْوَاوُ فِيهَا وَاوُ الْعَطْفِ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْآيَةُ عَلَى مَعْنَى الإخبار وهي هاهنا مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْبِيخِ انْتَهَى. وَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ وَاوُ حَالٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا قَبْلَهُ لَوْ كَانَ مُصَرَّحًا بِهَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِإِذْ فَلَا تَكُونُ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَطْفِ قَسَّمَ الْمَخْذُولِينَ إِلَى مُجَادِلٍ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُتَّبِعٍ لِشَيْطَانٍ مُرِيدٍ، وَمُجَادِلٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ إِلَى آخِرِهِ، وَعَابِدٍ رَبَّهُ عَلَى حَرْفٍ وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وَبِالْهُدَى الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ الْوَحْيُ أَيْ يُجادِلُ بِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَانْتَصَبَ ثانِيَ عِطْفِهِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في يُجادِلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَكَبِّرًا، وَمُجَاهِدٌ: لَاوِيًا عُنُقَهُ بِقُبْحٍ، وَالضَّحَّاكُ: شَامِخًا بِأَنْفِهِ وابن جريج: مُجَاهِدٌ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ لِيُضِلَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ أَي لِيُضِلَّ فِي نَفْسِهِ وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا أَيْ لِيُضِلَّ غَيْرَهُ، وَهُوَ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِضْلَالِهِ كَثْرَةُ الْعَذَابِ، إِذْ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ مَآلُ جِدَالِهِ إِلَى الْإِضْلَالِ كَانَ كَأَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْهُدَى مُقْبِلًا عَلَى الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَالْخَارِجِ مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ. وَالْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا مَا لَحِقَهُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ، وَقَدْ أُسِرَ النَّضْرُ. وَقِيلَ: يوم بدر بالصفراء. والْحَرِيقِ قِيلَ طَبَقَةٌ مِنْ طِبَاقِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صفته أَيِ الْعَذَابُ الْحَرِيقُ أَيِ الْمُحْرِقُ كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ فَأُذِيقُهُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْخِزْيِ وَالْإِذَاقَةِ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ ذَلِكَ هَذَا مَا جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. وَتَقَدَّمَ الْمُرَادُ فِي بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أَيْ بِاجْتَرَامِكَ وَبِعَدْلِ اللَّهِ فِيكَ إِذْ عَصَيْتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ اللَّهَ مقتطعا لَيْسَ ذَلِكَ فِي السَّبَبِ والتقدير والأمر أن اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْعَبِيدُ هُنَا ذُكِرُوا فِي مَعْنَى مَسْكَنَتِهِمْ وَقِلَّةِ قُدْرَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ انْتَهَى. وَهُوَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْعِبَادِ وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ تَفْرِقَتَهُ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» وشرحنا هناك قوله بِظَلَّامٍ.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 183.

مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ نَزَلَتْ فِي أَعْرَابٍ مِنْ أَسْلَمَ وَغَطَفَانَ تَبَاطَؤُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَالُوا: نَخَافُ أَنْ لَا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ فَيَنْقَطِعَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ حُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ فَلَا يُقِرُّونَا وَلَا يُؤْوُنَا. وَقِيلَ: فِي أَعْرَابٍ لَا يَقِينَ لَهُمْ يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ فَيَتَّفِقُ تَثْمِيرَ مَالِهِ وَوِلَادَةَ ذَكَرٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ، فَيَقُولُ: هَذَا دِينٌ جَيِّدٌ أَوْ يَنْعَكِسُ حَالُهُ فَيَتَشَاءَمُ وَيَرْتَدُّ كَمَا جَرَى لِلْعُرَنِيِّينَ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ ظُهُورُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ ارْتَدَّ. وَقِيلَ: فِي يَهُودِيٍّ أَسْلَمَ فَأُصِيبَ فَتَشَاءَمَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَأَلَ الرسول إلا قاله فَقَالَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ» فَنَزَلَتْ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْمُنَافِقُ يَعْبُدُهُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: عَلَى ضَعْفِ يَقِينٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلى حَرْفٍ عَلَى شَكٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَرْفٍ عَلَى انْحِرَافِ مِنْهُ عَنِ الْعَقِيدَةِ الْبَيْضَاءِ، أَوْ عَلَى شَفَا مِنْهَا مُعَدًّا لِلزَّهُوقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى حَرْفٍ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الدِّينِ لَا فِي وَسَطِهِ وَقَلْبِهِ، وَهَذَا مَثَلٌ لِكَوْنِهِمْ عَلَى قَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ فِي دِينِهِمْ لَا عَلَى سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ كَالَّذِي يَكُونُ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَإِنْ أَحَسَّ بِظَفَرٍ وَغَنِيمَةٍ قَرَّ وَاطْمَأَنَّ وَإِلَّا فَرَّ وَطَارَ عَلَى وَجْهِهِ انْتَهَى. وَخُسْرَانُهُ الدُّنْيَا إِصَابَتُهُ فِيهَا بِمَا يَسُوؤُهُ مِنْ ذَهَابِ مَالِهِ وَفَقْدِ أَحِبَّائِهِ فَلَمْ يُسَلِّمْ لِلْقَضَاءِ. وَخُسْرَانُ الْآخِرَةِ حَيْثُ حُرِمَ ثَوَابَ مَنْ صَبَرَ فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيدٌ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مِنْ طَرِيقِ الزَّعْفَرَانِيِّ وَقَعْنَبٍ وَالْجَحْدَرِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ خَاسِرَ الدُّنْيَا اسْمُ فَاعِلٍ نَصْبًا عَلَى الحال. وقرىء خَاسِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ وَهُوَ خَاسِرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرَّفْعُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَسِرَ فِعْلًا مَاضِيًا وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَدْ لِأَنَّهُ كَثُرَ وُقُوعُ الْمَاضِي حَالًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِغَيْرٍ قَدْ فَسَاغَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ كَمَا كَانَ يُضَاعَفْ بَدَلًا مِنْ يَلْقَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الضَّلالُ الْبَعِيدُ فِي قَوْلِهِ ضَلالًا بَعِيداً «1» وَنَفَى هُنَا الضُّرَّ وَالنَّفْعَ وَأَثْبَتَهُمَا فِي قَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ مَا لَا يَنْفَعُهُ هُوَ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ، وَلِذَلِكَ أَتَى التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِمَا الَّتِي لَا تَكُونُ لِآحَادِ من يعقل. وقوله يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ هُوَ مَنْ عَبَدَ بِاقْتِضَاءٍ، وَطَلَبَ مِنْ عَابِدِيهِ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْإِلْهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ بني عبيد الذين

_ (1) سورة النساء: 4/ 60 وغيرها.

كَانُوا بِالْمَغْرِبِ ثُمَّ مَلَكُوا مِصْرَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِلْهِيَّةَ وَيُطَافُ بِقَصْرِهِمْ فِي مِصْرَ وَيُنَادَوْنَ بِمَا يُنَادَى بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ نَفْعٌ مَا لِعَابِدِيهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَضَرَرُهُمْ أَعْظَمُ وَأَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمْ، إِذْ هُمْ فِي الدُّنْيَا مَمْلُوكُونَ لِلْكُفَّارِ وَعَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَلِهَذَا كَانَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِمَنِ الَّتِي هِيَ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّنْ يَدْعُو إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الضُّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ قُلْتُ: إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَفَّهَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالَتِهِ أَنَّهُ سَيَنْتَفِعُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قال يَدْعُوا يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ثُمَّ قَالَ لَمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا لَبِئْسَ الْمَوْلى انْتَهَى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَدْعُوَّ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَصْنَامَ وَأَزَالَ التَّعَارُضَ بِاخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ حَالِ الْأَصْنَامِ. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كَلَامِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ضُرًّا بِكَوْنِهِمْ عَبَدُوهُ، وَأَثْبَتُوا نَفْعًا بِكَوْنِهِمُ اعْتَقَدُوهُ شَفِيعًا. فَالنَّافِي هُنَاكَ غَيْرُ الْمُثْبِتِ هُنَا، فَزَالَ التَّعَارُضُ عَلَى زَعْمِهِ وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّ الصَّنَمَ لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقَالَ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ زَعْمِ مَنْ زَعَمَ أن ظاهر الْآيَتَيْنِ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِأَنْفُسِهَا وَلَكِنَّ عِبَادَتَهَا نَسَبُ الضَّرَرِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» أَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا سَبَبَ الضَّلَالِ، فَكَذَا هُنَا نَفْيُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ فَاعِلَةً ثُمَّ أَضَافَهُ إِلَيْهَا لِكَوْنِهَا سَبَبَ الضَّرَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ثُمَّ أَثْبَتَ لَهَا الضُّرَّ وَالنَّفْعَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّسْلِيمِ، أَيْ وَلَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَهَا ضَارَّةً نَافِعَةً لَكَانَ ضُرُّهَا أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهَا، وَتَكَلَّفَ الْمُعْرِبُونَ وُجُوهًا فقالوا يَدْعُوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَوَّلًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَعَلُّقٌ فَوُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِيَدْعُو الْأُولَى، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَعْمُولٌ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَامِلَةً فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ الَّذِي

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 36.

هُوَ ذلِكَ وَجَعَلَ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ إِذْ يُجِيزُونَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ذَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا الِاسْتِفْهَامُ بِمَا أَوْ مَنْ. الثَّالِثُ: أن يكون يَدْعُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَهُوَ فَصْلٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ وَحَذَفَ الضَّمِيرَ مِنْ يَدْعُوا أَيْ يَدْعُوهُ وَقَدَّرَهُ مَدْعُوًّا وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ يَدْعُوهُ لَا يُقَدَّرُ مَدْعُوًّا إِنَّمَا يُقَدَّرُ دَاعِيًا، فَلَوْ كَانَ يُدْعَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لَكَانَ تَقْدِيرُهُ مَدْعُوًّا جَارِيًا عَلَى الْقِيَاسِ. وَقَالَ نَحْوَهُ الزَّجَّاجُ وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ فَوُجُوهٌ. أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ الْأَخْفَشُ وهو أن يَدْعُوا بمعنى يقول ولَمَنْ مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ صِلَتُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ. وَهِيَ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلَهٌ وَإِلَهِيٌّ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَحْكِيَّةٌ بِيَدْعُو الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى يَقُولُ، قِيلَ: هُوَ فَاسِدُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَعْتَقِدْ قَطُّ أَنَّ الْأَوْثَانَ ضَرُّهَا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهَا. وَقِيلَ: فِي هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ لَبِئْسَ مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي الْحِكَايَةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَقُولُونَ عَنْ أَصْنَامِهِمْ لَبِئْسَ الْمَوْلى. الثَّانِي: أَنْ يَدْعُوا بِمَعْنَى يُسَمِّي، وَالْمَحْذُوفُ آخِرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِيُسَمَّى تَقْدِيرُهُ إِلَهًا وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ زِيَادَةِ اللَّامِ أَيْ يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ يَدْعُوَ شُبِّهَ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى يَزْعُمُ وَيُقَدَّرَ لِمَنْ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِيَدْعُوَ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ الْفَارِسِيُّ. الرابع: مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ أَنَّ اللَّامَ دَخَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا والتقدير يدعوا مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مَا كَانَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ. الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ اللام زائدة للتوكيد، ومن مَفْعُولٌ بِيَدْعُو وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ اللَّامِ، لَكِنْ يُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ بِإِسْقَاطِ اللَّامِ، وَأَقْرَبُ التَّوْجِيهَاتِ أَنْ يَكُونَ يَدْعُوا تَوْكِيدًا لِيَدْعُو الْأَوَّلِ وَاللَّامُ فِي لَمَنْ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ قَسَمٌ مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُهُ لَبِئْسَ الْمَوْلى والظاهر أن يَدْعُوا يُرَادُ بِهِ النِّدَاءَ وَالِاسْتِغَاثَةَ. وقيل: معناه بعيد، والْمَوْلى هُنَا النَّاصِرُ وَالْعَشِيرُ الصَّاحِبُ الْمُخَالِطُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَةَ مَنْ يَعْبُدُهُ عَلَى حَرْفٍ وَسَفَّهَ رَأْيَهُ وَتَوَعَّدَهُ بِخُسْرَانِهِ فِي الْآخِرَةِ عَقَّبَهُ

بِذِكْرِ حَالِ مُخَالِفِيهِمْ مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا وَعَدَهُمْ به من الوعد الحسن، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَوْبِيخِ أُولَئِكَ الْأَوَّلِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْعَابِدُونَ عَلَى حَرْفٍ صَحِبَهُمُ الْقَلَقُ وَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَنْصُرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعَهُ، وَنَحْنُ إِنَّمَا أَمَرْنَاهُمْ بِالصَّبْرِ وَانْتِظَارِ وَعْدِنَا، فَمَنْ ظَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ وَيَخْتَلِقْ وَيَنْظُرْ هَلْ يَذْهَبُ بِذَلِكَ غَيْظُهُ، قَالَ هَذَا الْمَعْنَى قَتَادَةُ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ السَّائِرِ قولهم: دونك الحبل فَاخْتَنِقْ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلَّذِي يُرِيدُ مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا يُمْكِنُهُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْهَاءُ فِي يَنْصُرَهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ فَالْمَعْنَى أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ وَالِانْتِقَامِ مِمَّنْ كَذَّبَهُ، وَالرَّسُولُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ فَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَظَانَّ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِشِدَّةِ غَيْظِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، يَسْتَبْطِئُونَ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنَ النَّصْرِ أَوْ أَعْرَابٌ اسْتَبْطَؤُوا ظُهُورُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَتَبَاطَؤُوا عَنِ الْإِسْلَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَنْصُرَهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ، وَحَقُّ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَحَمَلَ بَعْضُ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلَ النَّصْرَ هُنَا عَلَى الرِّزْقِ كَمَا قَالُوا: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ أَيْ مَمْطُورَةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّكَ لَا تُعْطِي امْرَأً فَوْقَ حَقِّهِ ... وَلَا تَمْلِكُ الشِّقَّ الَّذِي أَنْتَ نَاصِرُهُ أَيْ مُعْطِيهِ. وَقَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا سَائِلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ فَقَالَ: مَنْ يَنْصُرُنِي نَصَرَهُ اللَّهُ، فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فَيَعْدِلُ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ لِهَذَا الظَّنِّ كَمَا وَصَفَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ فَلْيَبْلُغْ غَايَةَ الْجَزَعِ وَهُوَ الِاخْتِنَاقُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُهُ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ وَلَا يَجْعَلُهُ مَرْزُوقًا أَكْثَرَ مِمَّا قُسِمَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ النَّصْرُ عَلَى بَابِهِ أَيْ من كان يظن أن لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَغْتَاظُ لِانْتِفَاءِ نَصْرِهِ فَلْيَمْدُدْ، وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ فَيَغْتَاظُ قَوْلُهُ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَتَحَيَّلْ بِأَعْظَمِ الْحِيَلِ فِي نُصْرَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ ثُمَّ لْيَقْطَعِ الْحَبْلَ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وَتَحَيُّلُهُ فِي إِيصَالِ النَّصْرِ إِلَيْهِ الشَّيْءَ الَّذِي يَغِيظُهُ مِنِ انْتِفَاءِ نَصْرِهِ بِتَسَلُّطِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا كَلَامٌ دَخَلَهُ اخْتِصَارٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ نَاصِرُ رَسُولِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَنْ كَانَ يَظُنُّ مِنْ حَاسِدِيهِ وَأَعَادِيهِ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ خِلَافَ ذَلِكَ وَيَطْمَعُ فِيهِ وَيَغِيظُهُ أَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِمَطْلُوبِهِ فَلْيَسْتَقْصِ وُسْعَهُ وَلِيَسْتَفْرِغْ مَجْهُودَهُ فِي إِزَالَةِ مَا يَغِيظُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ

مَنْ بَلَغَ مِنْهُ الْغَيْظُ كُلَّ مَبْلَغٍ حَتَّى مَدَّ حَبْلًا إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ فَاخْتَنَقَ، فَلْيَنْظُرْ وَلِيُصَوِّرْ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يُذْهِبُ نَصْرَ اللَّهِ الَّذِي يَغِيظُهُ، وَسُمِيَّ الِاخْتِنَاقُ قَطْعًا لِأَنَّ الْمُخْتَنِقَ يَقْطَعُ نَفْسَهُ بِحَبْسِ مَجَارِيهِ، وَمِنْهُ قِيلٌ لِلْبَهْرِ الْقَطْعُ وَسُمِّيَ فِعْلُهُ كَيْدًا لِأَنَّهُ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الْكَيْدِ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكِدْ بِهِ مَحْسُودَهُ، إِنَّمَا كَادَ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ لَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا مَا لَيْسَ بِمُذْهَبٍ لِمَا يَغِيظُهُ. وَقِيلَ فَلْيَمْدُدْ بِحَبْلٍ إِلَى السَّماءِ الْمُظِلَّةِ وَلِيَصْعَدْ عَلَيْهِ فَلْيَقْطَعِ الْوَحْيَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يَنْصُرَهُ عَائِدٌ عَلَى الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَبَيْنُ وُجُوهِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا وَيَكُونُ النَّصْرُ الْمَعْرُوفَ وَالْقَطْعُ الِاخْتِنَاقَ وَالسَّمَاءُ الِارْتِفَاعَ فِي الْهَوَاءِ سَقْفٌ أَوْ شَجَرَةٌ أَوْ نَحْوُهُ فَتَأَمَّلْهُ، وَمَا فِي مَا يَغِيظُ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَكَذَلِكَ أي ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ آياتٍ بَيِّناتٍ أَيْ لَا تَفَاوُتَ فِي إِنْزَالِ بَعْضِهِ وَلَا إِنْزَالِ كُلِّهِ وَالْهَاءُ فِي أَنْزَلْناهُ لِلْقُرْآنِ أُضْمِرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» والتقدير والأمر أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أَيْ يَخْلُقُ الْهِدَايَةَ فِي قَلْبِكَ يُرِيدُ هِدَايَتَهُ لَا خَالِقَ لِلْهِدَايَةِ إِلَّا هُوَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ. لَمَّا ذَكَرَ قَبْلُ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ «2» عقب بِبَيَانِ مَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ لَا يَهْدِيهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَا يُرِيدُ هِدَايَتَهُ لَا يَهْدِيهِ يَدُلُّ إِثْبَاتُ الْهِدَايَةِ لِمَنْ يُرِيدُ عَلَى نَفْيِهَا عَمَّنْ لَا يُرِيدُ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَدَخَلَتْ إِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، ونحوه قول جرير:

_ (1) سورة ص: 38/ 32. (2) سورة الحج: 22/ 16.

إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ شَبَّهَ الْبَيْتَ بِالْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَنَهُ الزَّجَّاجُ بِالْآيَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ كَالْآيَةِ لِأَنَّ الْبَيْتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَوْلُهُ: بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ، وَيَكُونُ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبَالَ مُلْكٍ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا بِخِلَافِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ وَحَسَّنَ دُخُولَ إِنَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا طُولُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْمَعَاطِيفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ بِصَيْرُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَافِرِينَ إِلَى النَّارِ، وَنَاسَبَ الختم بقوله شَهِيدٌ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرْقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَصْلُ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ جَمِيعًا فَلَا يُجَازِيهِمْ جَزَاءً وَاحِدًا بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَقْضِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ طَوَاعِيَةِ مَا ذَكَرَ تَعَالَى وَالِانْقِيَادِ لِمَا يُرِيدُهُ تَعَالَى، وَهَذَا مَعْنَى شَمِلَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، وَمَنْ يَسْجُدُ سُجُودَ التَّكْلِيفِ وَمَنْ لَا يَسْجُدُهُ، وَعَطَفَ عَلَى مَا مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَفِي السَّماواتِ الْمَلَائِكَةُ كانت تعبدها «1» والشَّمْسُ عَبَدَتْهَا حِمْيَرُ. وَعَبَدَ الْقَمَرُ كِنَانَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالدَّبَرَانَ تَمِيمٌ. وَالشِّعْرَى لَخْمٌ وقريش. والثريا طيىء وَعُطَارِدًا أَسَدٌ. وَالْمُرْزِمُ رَبِيعَةُ. وفِي الْأَرْضِ مَنْ عُبِدَ مِنَ الْبَشَرِ وَالْأَصْنَامِ الْمَنْحُوتَةِ مِنَ الْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالْبَقَرُ وَمَا عُبِدَ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالدَّوَابُّ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِرَارًا مِنَ التَّضْعِيفِ مِثْلُ ظَلَّتْ وَقَرَنَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ لِعُمُومِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِخُصُوصِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَطْفُ وَكَثِيرٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ الْمَعْطُوفَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ يَسْجُدُ إِذْ يَجُوزُ إِضْمَارُ يَسْجُدُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سُجُودَ عِبَادَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى لَا أَنَّهُ يُفَسِّرُهُ يَسْجُدُ الْأَوَّلُ لِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، وَمَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يُجِيزُ عَطْفَ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ قَبْلَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ السُّجُودُ عِنْدَهُ بِنِسْبَتِهِ لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلِمَنْ يَعْقِلُ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَى مُقَابَلَةِ الَّذِينَ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُثَابٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّاسِ خَبَرًا لَهُ أَيْ مِنَ النَّاسِ الذين

_ (1) بياض بجميع الأصول.

هُمُ النَّاسُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُمُ الصَّالِحُونَ وَالْمُتَّقُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبَالِغَ فِي تَكْثِيرِ الْمَحْقُوقِينَ بِالْعَذَابِ فَعُطِفَتْ كَثِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ ثُمَّ، عَبَّرَ عَنْهُمْ بِحَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ كأنه قال وكثير من الناس حق عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ انْتَهَى. وَهَذَانِ التَّخْرِيجَانِ ضَعِيفَانِ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ وَكَبِيرٌ حَقَّ بِالْبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يَسْجُدُ أَيْ كَرَاهِيَةً وَعَلَى رُغْمِهِ إِمَّا بِظِلِّهِ وَإِمَّا بِخُضُوعِهِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَالَ سجوده بظله. وقرىء وَكَثِيرٌ حَقًّا أَيْ حَقَّ عليهم العذاب حقا. وقرىء حُقَّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَمِنْ مَفْعُولٍ مُقَدَّمٍ بِيُهِنْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ مُكْرِمٍ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مِنْ إِكْرَامٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ كُفْرِهِ أَوْ فِسْقِهِ، فَقَدْ بَقِيَ مُهَانًا لِمَنْ يَجِدُ لَهُ مُكْرِمًا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ، وَلَا يَشَاءُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِينَ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الشَّقَاوَةِ ذَكَرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْخُصُومَةِ فِي دِينِهِ، فَقَالَ هذانِ قَالَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، نَزَلَتْ فِي الْمُتَبَارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بَرَزَ وَالْعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَعَنْ عَلِيٍّ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقْسَمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى هَذَا وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْآيَةَ فِيهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَخَاصُمٌ، قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ أَقْدَمُ دِينًا مِنْكُمْ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِد وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ وَالْكَلْبِيُّ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ، وَخَصْمُ مَصْدَرٌ وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْفَرِيقُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ اخْتَصَمُوا مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى إِذْ تَحْتَ كُلِّ خَصْمٍ أَفْرَادٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ خَصْمانِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَمَعْنَى فِي رَبِّهِمْ فِي دِينِ رَبِّهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ اخْتَصَمَا، رَاعَى لَفْظَ التَّثْنِيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِلْكُفَّارِ. وَقَرَأَ الزَّعْفَرَانِيُّ فِي اخْتِيَارِهِ: قُطِّعَتْ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُقَدِّرُ لَهُمْ نِيرَانًا عَلَى مَقَادِيرَ جُثَثِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَيْهِمْ كَمَا تُقَطَّعُ الثِّيَابُ الْمَلْبُوسَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمُقَطَّعَ لَهُمْ يَكُونُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ثِيابٌ مِنْ نُحَاسٍ مُذَابٍ وَلَيْسَ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْهُ، فَالتَّقْدِيرُ مِنْ نُحَاسٍ مَحْمِيٍّ بِالنَّارِ. وَقِيلَ: الثِّيَابُ مِنَ النَّارِ اسْتِعَارَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ النَّارِ بِهِمْ

كَمَا يُحِيطُ الثَّوْبُ بِلَابِسِهِ. وَقَالَ وَهْبٌ: يُكْسَى أَهْلُ النَّارِ وَالْعُرْيُ خَيْرٌ لَهُمْ، وَيَحْيَوْنَ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ إِذْ يَظْهَرُ فِي الْمَعْرُوفِ أَنَّ الثَّوْبَ إِنَّمَا يُغَطَّى بِهِ الْجَسَدُ دُونَ الرَّأْسِ فَذَكَرَ مَا يُصِيبُ الرَّأْسَ مِنَ الْعَذَابِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ سَقَطَتْ مِنَ الْحَمِيمِ نُقْطَةٌ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَأَذَابَتْهَا وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يُعَذِّبُ بِهِ الْجَسَدَ ظَاهِرَهُ وَمَا يُصَبُّ عَلَى الرَّأْسِ ذَكَرَ مَا يَصِلُ إِلَى بَاطِنِ الْمُعَذَّبِ وَهُوَ الْحَمِيمُ الَّذِي يُذِيبُ مَا فِي الْبَطْنِ مِنَ الْحَشَا وَيَصِلُ ذَلِكَ الذَّوْبُ إِلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الْجِلْدُ فَيُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ تَأْثِيرَهُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «1» وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَفِرْقَةٌ يُصْهَرُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ فَيَسْلِبَ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» . وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَالْجُلُودُ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَأَنَّ الْجُلُودُ تُذَابُ كَمَا تُذَابُ الْأَحْشَاءُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَتَخْرُقُ الْجُلُودُ لِأَنَّ الْجُلُودَ لَا تُذَابُ إِنَّمَا تَجْتَمِعُ عَلَى النَّارِ وَتَنْكَمِشُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَيْ وَسَقَيْتُهَا مَاءً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَلَى أَيٍّ وَعَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ «2» أَيْ وَعَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى وَهُوَ الزَّبَانِيَةُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ: الْمَقَامِعُ الْمَطَارِقُ. وَقِيلَ: سِيَاطٌ مِنْ نَارٍ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ وُضِعَ مَقَمَعٌ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ من الأرض» مِنْ غَمٍّ بَدَلٌ مِنْ مِنْهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أُعِيدَ مَعَهُ الْجَارُّ وَحُذِفَ الضَّمِيرُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى أَيْ مِنْ غَمِّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلسَّبَبِ أَيْ لِأَجْلِ الْغَمِّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ، وَالظَّاهِرُ تَعْلِيقُ الْإِعَادَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ لِلْخُرُوجِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، أَيْ مِنْ أَمَاكِنِهِمُ الْمُعَدَّةِ لِتَعْذِيبِهِمْ أُعِيدُوا فِيها أَيْ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ. وَقِيلَ أُعِيدُوا فِيها بِضَرْبِ الزَّبَانِيَةِ إِيَّاهُمْ بِالْمَقَامِعِ وَذُوقُوا أَيْ وَيُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ذكر ما أعد من الثَّوَابِ لِلْخَصْمِ الْآخَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُحَلَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْلَامِ. وقرىء بضم الياء

_ (1) سورة محمد: 47/ 15. (2) سورة الرعد: 13/ 25.

وَالتَّخْفِيفِ. وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَلَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَلِيَ الرَّجُلُ وَحَلِيَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا صَارَتْ ذَاتَ حُلِيٍّ وَالْمَرْأَةُ ذَاتُ حُلِيٍّ وَالْمَرْأَةُ حَالٌّ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَلِيَ بِعَيْنِي يَحْلَى إِذَا اسْتَحْسَنْتَهُ، قَالَ فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَسْتَحْسِنُونَ فِيهَا الْأَسَاوِرَةَ الْمَلْبُوسَةَ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ حَلِيَ فِعْلًا مُتَعَدِّيًا وَلِذَلِكَ حَكَمَ بِزِيَادَةِ مِنْ فِي الْوَاجِبِ وَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ لَازِمًا فَإِنْ كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ مِنْ لِلسَّبَبِ أَيْ بِلِبَاسِ أَسَاوِرِ الذَّهَبِ يَحْلَوْنَ بِعَيْنِ مَنْ يَرَاهُمْ أَيْ يَحْلَى بَعْضُهُمْ بِعَيْنِ بَعْضٍ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَلَيْتُ بِهِ إِذَا ظَفِرْتُ بِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى يُحَلَّوْنَ فِيها بِأَسَاوِرَ فَتَكُونُ مِنْ بَدَلًا مِنَ الْبَاءِ، وَالْحِلْيَةُ مِنْ ذَلِكَ فَإِمَّا إِذَا أَخَذْتَهُ مِنْ حَلَيْتُ بِهِ فإنه من الْحِلْيَةُ، وَهُوَ مِنَ الْيَاءِ وَإِنْ أَخَذْتَهُ مِنْ حَلِيَ بِعَيْنِي فَإِنَّهُ مِنَ الْحَلَاوَةِ مِنَ الْوَاوِ انْتَهَى. وَمِنْ مَعْنَى الظَّفَرِ قَوْلُهُمْ: لَمْ يَحْلُ فُلَانٌ بِطَائِلٍ، أَيْ لَمْ يَظْفَرْ. وَالظَّاهِرُ إِنَّ مِنْ فِي مِنْ أَساوِرَ لِلتَّبْعِيضِ وَفِي مِنْ ذَهَبٍ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ أُنْشِئَتْ مِنْ ذَهَبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ فِي مِنْ أَساوِرَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْكَهْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَسْوَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَلَا هَاءٍ، وَكَانَ قِيَاسَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ لِأَنَّهُ نَقَصَ بِنَاؤُهُ فَصَارَ كَجَنْدَلٍ لَكِنَّهُ قَدَّرَ الْمَحْذُوفَ مَوْجُودًا فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَنَافِعٌ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَسَلَامٌ وَيَعْقُوبُ وَلُؤْلُؤاً هُنَا وَفِي فَاطِرٍ بِالنَّصْبِ وَحَمَلَهُ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيُؤْتَوْنَ لُؤْلُؤاً وَمَنْ جَعَلَ مِنْ فِي مِنْ أَساوِرَ زَائِدَةً جَازَ أَنْ يَعْطِفَ وَلُؤْلُؤاً عَلَى مَوْضِعِ أَساوِرَ وَقِيلَ يُعْطَفُ عَلَى مَوْضِعِ مِنْ أَساوِرَ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ ويُحَلَّوْنَ حُلِيًّا مِنْ أَساوِرَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ. وَأَهْلُ مَكَّةَ وَلُؤْلُؤٌ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى أَساوِرَ أَوْ عَلَى ذَهَبٍ لِأَنَّ السِّوَارَ يَكُونُ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ، يُجْمَعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ الْجَحْدَرِيُّ: الْأَلِفُ ثَابِتَةٌ بَعْدَ الْوَاوِ فِي الْإِمَامِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَيْسَ فِيهَا أَلِفٌ، وَرَوَى يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ هَمْزَ الْأَخِيرِ وَإِبْدَالَ الْأُولَى. وَرَوَى الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ ضِدَّ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْفَيَّاضُ: وَلُولِيًّا قَلَبَ الْهَمْزَتَيْنِ وَاوًا صَارَتِ الثَّانِيَةُ وَاوًا قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، عَمِلَ فِيهَا مَا عَمِلَ فِي أَدَلَّ مِنْ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً وَالضَّمَّةُ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَيْلِيًّا أَبْدَلَ الْهَمْزَتَيْنِ

وَاوَيْنِ ثُمَّ قَلَبَهُمَا يَاءَيْنِ أتْبَعَ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَلُولٍ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ المهموز. والطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ إِنْ كَانَتِ الْهِدَايَةُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْأَقْوَالُ الطَّيِّبَةُ مِنَ الْأَذْكَارِ وَغَيْرِهَا، وَيَكُونُ الصِّرَاطُ طَرِيقَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا عَمَّا يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ مُحَاوَرَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَكُونُ الصِّرَاطُ الطَّرِيقَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ زَادَ ابْنُ زَيْدٍ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَعَنِ السُّدِّيِّ الْقُرْآنُ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَمِيدِ وَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْحَمِيدِ نَفْسَ الطَّرِيقِ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ عَلَى حَدِّ إِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ: دَارَ الْآخِرَةِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ: الْمُضَارِعُ قَدْ لَا يُلْحَظُ فِيهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مِنْ حَالٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ فَيَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَمِنْهُ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ «1» وَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي عَطْفًا عَلَى كَفَرُوا وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ وَهُمْ يَصُدُّونَ وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ وَالْبادِ خَسِرُوا أَوْ هَلَكُوا وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ الْحَرامِ نُذِيقُهُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ بَعْدَهُ لِأَنَّ الَّذِي صِفَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَوْضِعُ التَّقْدِيرِ هُوَ بَعْدَ وَالْبادِ لَكِنَّ مُقَدَّرَ الزمخشري

_ (1) سورة الرعد: 13/ 28.

أَحْسَنُ مِنْ مُقَدَّرِ ابْنِ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدُ مِنْ جهة اللفظ، وابن عَطِيَّةَ لِحَظَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ مَنْ أُذِيقَ الْعَذَابَ خَسِرَ وَهَلَكَ. وَقِيلَ: الْوَاوُ فِي وَيَصُدُّونَ زَائِدَةٌ وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ انْتَهَى. وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ زِيَادَةَ الْوَاوِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ حِينَ صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ صَدٌّ قَبْلَ ذَلِكَ بِجَمْعٍ إِلَّا أَنْ يُرَادَ صَدُّهُمْ لِأَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْمَبْعَثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ وَمَنْ صُدَّ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَقَدْ صُدَّ عَنْهُ. وَقِيلَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُمْ صَدُّوهُ وَأَهْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَزَلُوا خَارِجًا عَنْهُ لَكِنَّهُ قَصَدَ بِالذِّكْرِ الْمُهِمِّ المقصود مِنَ الْحَرَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَوَاءٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْعاكِفُ والْبادِ هو المبتدأ وسَواءً الْخَبَرُ، وَقَدْ أُجِيزَ الْعَكْسُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ قِبْلَةً أَوْ مُتَعَبِّدًا انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا الْإِعْرَابَ فَيَسُوغُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالْأَعْمَشُ سَواءً بِالنَّصْبِ وَارْتَفَعَ بِهِ الْعاكِفُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى مُسْتَوِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالْعَدَمُ، فَإِنْ كَانَتْ جَعَلَ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَسَوَاءً الثَّانِي أَوْ إِلَى وَاحِدٍ فَسَوَاءً حَالٌ مِنَ الْهَاءِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةِ الْقَطْعِيِّ سَوَاءً بِالنَّصْبِ الْعَاكِفُ فِيهِ بِالْجَرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى النَّاسِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ عَطْفَ الْبَيَانِ والأولى أَنْ يَكُونَ بَدَلَ تَفْصِيلٍ. وقرىء وَالْبَادِي وَصْلًا وَوَقْفًا وَبِتَرْكِهَا فِيهِمَا، وَبِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَحَذْفِهَا وَقْفًا الْعاكِفُ الْمُقِيمُ فِيهِ وَالْبَادِي الطَّارِئُ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَّةَ، فَذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي دَوْسِ مَكَّةَ، وَأَنَّ الْقَادِمَ لَهُ النُّزُولُ حَيْثُ وُجِدَ وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ أَنْ يُؤْوِيَهُ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَقَالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ سَابِطٍ: وَكَانَتْ دُورُهُمْ بِغَيْرِ أَبْوَابٍ حَتَّى كَثُرَتِ السَّرِقَةُ، فَاتَّخَذَ رَجُلٌ بَابًا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: أَتُغْلِقُ بَابًا فِي وَجْهِ حَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ حِفْظَ مَتَاعِهِمْ مِنَ السَّرِقَةِ فَتَرَكَهُ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ الْأَبْوَابَ

وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي فَتْحِ مَكَّةَ أَكَانَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي الْفِقْهِ. وَالْإِلْحَادُ الْمَيْلُ عن القصد. ومفعول بَرَدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ بِإِلْحادٍ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ. قَالَ الْأَعْشَى: ضُمِنَتْ بِرِزْقِ عِيَالِنَا أَرْمَاحُنَا أَيْ رِزْقٌ وَكَذَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ مَنْصُوبًا قَرَأَ وَمَنْ يُرِدْ إِلْحَادَهُ بِظُلْمٍ أَيْ إِلْحَادًا فِيهِ فَتَوَسَّعَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ النَّاسُ بِإِلْحادٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حَالَانِ مُتَرَادِفَتَانِ وَمَفْعُولُ يُرِدْ مَتْرُوكٌ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مُتَنَاوَلٍ، كَأَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مُرَادٌ إمّا عادلا عن الْقَصْدِ ظَالِمًا نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَقِيلَ: الْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ مَنْعُ النَّاسِ عَنْ عِمَارَتِهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الِاحْتِكَارُ. وَعَنْ عَطَاءٍ: قَوْلُ الرَّجُلِ فِي الْمُبَايَعَةِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنَّ تُضَمَّنَ يُرِدْ مَعْنَى يَتَلَبَّسُ فَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَعَلَّقَ الْجَزَاءَ وَهُوَ نُذِقْهُ عَلَى الْإِرَادَةِ، فَلَوْ نَوَى سَيِّئَةً وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُحَاسَبْ بِهَا إِلَّا فِي مَكَّةَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ هُنَا الشِّرْكُ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ اسْتِحْلَالُ الْحَرَامِ. وَقَالَ مجاهد: هو العمل السيّء فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ مِنَ الْإِلْحَادِ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: الْحِكْرُ بِمَكَّةَ مِنَ الْإِلْحَادِ بِالظُّلْمِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ إِذِ الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَمَنْ يُرِدْ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الْوُرُودِ وَحَكَاهَا الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَمَعْنَاهُ وَمَنْ أَتَى بِهِ بِإِلْحادٍ ظَالِمًا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ وَصَدَّهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَوَعَّدَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ذَكَرَ حَالِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى سُلُوكِهِمْ غَيْرَ طَرِيقِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِإِنْفَادِ الْعَالَمِ إِلَيْهِمْ وَإِذْ بَوَّأْنا أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ بَوَّأْنا أَي جَعَلْنَا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ مَبَاءَةً أَيْ مَرْجِعًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ وَالْعِبَادَةِ. قِيلَ: وَاللَّامُ زَائِدَةٌ أَيْ بَوَّأْنَا إِبْرَاهِيمَ مكان البيت أي جعلنا يَبُوءُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «1» وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٌ ... بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا وَقِيلَ: مَفْعُولُ بَوَّأْنا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بَوَّأْنَا النَّاسَ، وَاللَّامُ فِي لِإِبْراهِيمَ لَامُ الْعِلَّةِ أي

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 58. [.....]

لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ كَرَامَةً لَهُ وَعَلَى يَدَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً خِطَابٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَلِيَهَا فِعْلُ تَحْقِيقٍ أَوْ تَرْجِيحٍ كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ مُشَدَّدَةً أَوْ حَرْفُ تَفْسِيرٍ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَشَرْطُهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ وبَوَّأْنا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ تَكُونَ أَنْ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ إِذْ يَلِيهَا الْفِعْلُ الْمُتَصَرِّفُ مِنْ ماض ومضارع وأمر النهي كَالْأَمْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْأَمْرُ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ تَفْسِيرًا لِلتَّبْوِئَةِ؟ قُلْتُ: كَانَتِ التَّبْوِئَةُ مَقْصُودَةً مِنْ أَجْلِ الْعِبَادَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ تَعَبُّدُنَا إِبْرَاهِيمَ قُلْنَا لَهُ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَقْذَارِ أَنْ تُطْرَحَ حَوْلَهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو نَهِيكٍ: أن لا يُشْرِكَ بِالْيَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَقُولَ مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ الْكَافِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى أَنْ لَا تُشْرِكْ. وَالْقَائِمُونَ هُمُ الْمُصَلُّونَ ذَكَرَ مِنْ أَرْكَانِهَا أَعْظَمَهَا وَهُوَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَذِّنْ بِالتَّشْدِيدِ أَي نَادِ. رُوِيَ أَنَّهُ صَعَدَ أَبَا قُبَيْسٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ حُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ قَالَ: أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَآذَنَ بِمَدَّةٍ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَصَحَّفَ هَذَا عَلَى ابْنِ جِنِّي فَإِنَّهُ حَكَى عَنْهُمَا وَأَذِّنْ عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ، وَأُعْرِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى بَوَّأْنا انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَصْحِيفٍ بَلْ قَدْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ مِنْ جَمْعِهِ. وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ بَوَّأْنا فَيَصِيرُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَيَصِيرُ يَأْتُوكَ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَطَهِّرْ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالْحَجِّ بِكَسْرِ الْحَاءِ حَيْثُ وَقَعَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رِجالًا وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَظُؤُارٍ وَرُوِيَ عَنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا رُجَالَى عَلَى وَزْنِ النُّعَامَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ، وَكَذَلِكَ مَعَ تَشْدِيدِ الْجِيمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ حُدَيْرٍ، وَرِجَالٌ جَمْعُ رَاجِلٍ كَتَاجِرٍ وَتُجَّارٍ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَأْتِينَ فَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى كُلِّ ضامِرٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْبِلَادَ الشَّاسِعَةَ لَا يُتَوَصَّلُ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ بِالرُّكُوبِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضمير يشمل رِجالًا وكُلِّ ضامِرٍ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ وَالرِّفَاقِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ يَأْتُونَ غَلَّبَ الْعُقَلَاءَ الذُّكُورَ فِي الْبَدَاءَةِ بِرِجَالٍ تَفْضِيلًا لِلْمُشَاةِ إِلَى الْحَجِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي أَنْ لَا أَكُونَ حَجَجْتُ مَاشِيًا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ يَرْكَبُ الْبَحْرَ وَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ عَلَى بَحْرٍ، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا عَلَى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مَشْيٍ أَوْ رُكُوبٍ، فَذَكَرَ تَعَالَى مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَيْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَجٍّ مَعِيقٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَنَافِعِ التِّجَارَةُ. وَقَالَ الْبَاقِرُ: الْأَجْرُ. وَقَالَ مُجَاهِد وَعَطَاءٌ كِلَاهُمَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَكَّرَ الْمَنَافِعَ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَنَافِعَ مُخْتَصَّةً بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ دِينِيَّةً وَدُنْيَاوِيَّةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ، فَلَمَّا حَجَّ فَضَّلَ الْحَجَّ عَلَى الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لِمَا شَاهَدَ مِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ، وَكَنَّى عَنِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِهِ إِذَا نَحَرُوا أَوْ ذَبَحُوا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ إن يذكر اسمه وَقَدْ حَسَّنَ الْكَلَامَ تَحْسِينًا بَيَّنَّا أَنْ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ ولو قال لِيَنْحَرُوا فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ لَمْ تَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْحُسْنِ وَالرَّوْعَةِ انْتَهَى. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ هُوَ عَلَى الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ لِقَوْلِهِ فِي أَيَّامٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ هُنَا حَمْدُهُ وَتَقْدِيسُهُ شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِهِ فِي الرِّزْقِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وَذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: الْمَعْلُومَاتُ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ، فَيَوْمُ النَّحْرِ مَعْلُومٌ لَا مَعْدُودٌ وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ، وَالرَّابِعُ مَعْدُودٌ لَا مَعْلُومٌ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ عِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عمر وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعِنْدَ النَّخَعِيِّ النَّحْرِ يَوْمَانِ، وَعِنْدَ ابْنِ سِيرِينَ النَّحْرُ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ

يَسَارٍ الْأَضْحَى إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْفَاضِلَةُ كُلُّهَا، وَيَبْقَى أَمْرُ الذَّبْحِ وَأَمْرُ الِاسْتِعْجَالِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْدُودٍ وَلَا مَعْلُومٍ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ مَعْلُوماتٍ وَمَعْدُودَاتِ التَّحْرِيضِ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَلَى اغْتِنَامِ فَضْلِهَا أَيْ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ هِيَ مَخْصُوصَاتٌ فَلْتَغْتَنِمْ انْتَهَى. وَالْبَهِيمَةُ مُبْهَمَةٌ فِي كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَبُيِّنَتْ بِالْأَنْعَامِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مَدْلُولِ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ. وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِهِمَا. وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ ووجوب الإطعام. والْبائِسَ الَّذِي أَصَابَهُ بُؤْسٌ أَيْ شِدَّةٌ. وَالتَّفَثُ: مَا يَصْنَعُهُ الْمُحْرِمُ عِنْدَ حِلِّهِ مِنْ تَقْصِيرِ شَعْرٍ وَحَلْقِهِ وَإِزَالَةِ شَعَثِهِ وَنَحْوِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْخَمْسِ مِنَ الْفِطْرَةِ حَسَبِ الْحَدِيثِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ قَضَاءُ جَمِيعِ مَنَاسِكِهِ إِذْ لَا يَقْضِي التَّفَثَ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّفَثُ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَعَنْهُ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا، وَالنُّذُورُ هُنَا مَا يُنْذِرُونَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِي حِجِّهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُرُوجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ نَذَرُوا أَوْ لَمْ يَنْذُرُوا. وَقَرَأَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَلْيُوفُوا مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ مُخَفَّفًا وَلْيَطَّوَّفُوا هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَبِهِ تَمَامُ التَّحَلُّلِ. وَقِيلَ: هُوَ طَوَافُ الصَّدْرِ وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ بِحَسَبِ التَّرْتِيبِ أَنْ يَكُونَ طَوَافَ الوداع انتهى. والْعَتِيقِ الْقَدِيمُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْمُعْتَقُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَقَتَادَةُ، كَمْ جَبَّارٍ سَارَ إِلَيْهِ فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ قَصَدَهُ تُبَّعٌ لِيَهْدِمَهُ فَأَصَابَهُ الْفَالِجُ، فَأَشَارَ الْأَخْيَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ وَقَالُوا لَهُ: رَبٌّ يَمْنَعُهُ فَتَرَكَهُ وَكَسَاهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ، وَقَصَدَهُ أَبَرْهَةُ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ وَأَمَّا الْحَجَّاجُ فَلَمْ يَقْصِدِ التَّسْلِيطَ عَلَى الْبَيْتِ لَكِنْ تَحَصَّنَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَاحْتَالَ لِإِخْرَاجِهِ ثُمَّ بَنَاهُ أَوِ الْمُحَرَّرُ لَمْ يُمْلَكْ مَوْضِعُهُ قَطُّ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْمُعْتَقُ مِنَ الطُّوفَانِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ، أَوِ الْجَيِّدُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عِتَاقُ الْخَيْلِ وَعِتَاقُ الطَّيْرِ أَوِ الَّذِي يُعْتَقُ فِيهِ رِقَابُ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَرُدُّهُ التَّصْرِيفُ انْتَهَى. وَلَا يَرُدُّهُ التَّصْرِيفُ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ تَفْسِيرَ مَعْنًى، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ فَلِأَنَّ الْعَتِيقِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ أَيْ مُعْتِقٌ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ، وَنَسَبَ الْإِعْتَاقَ إِلَيْهِ مَجَازًا إِذْ بِزِيَارَتِهِ وَالطَّوَافِ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْتَاقُ، وَيَنْشَأُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْتِقًا أَنْ يُقَالَ فِيهِ: يُعْتِقُ فِيهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ. ذلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَرْضُكُمْ ذلِكَ أَوِ الْوَاجِبُ ذلِكَ

وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ الْأَمْرُ أَوِ الشَّأْنُ ذلِكَ قَالَ كَمَا يُقَدِّمُ الْكَاتِبُ جُمْلَةً مِنْ كِتَابِهِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ الْخَوْضَ فِي مَعْنًى آخَرَ قَالَ: هَذَا وَقَدْ كَانَ كَذَا انْتَهَى. وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ ذلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي ذَكَرْتَهُ. وَقِيلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ تَقْدِيرُهُ امْتَثِلُوا ذلِكَ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْبَلِيغَةِ قَوْلُ زُهَيْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ جُمَلٌ فِي وَصْفِ هَرَمٍ: هَذَا وَلَيْسَ كَمَنْ يَعِيَا بِخُطْبَتِهِ ... وَسَطَ النَّدَى إِذَا مَا نَاطِقٌ نَطْقًا وَكَانَ وَصَفَهُ قَبْلَ هَذَا بِالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ بِالْبَلَاغَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا خُلُقُهُ وَلَيْسَ كَمَنْ يَعِيَا بِخُطْبَتِهِ، وَالْحُرُمَاتُ مَا لَا يَحِلُّ هَتْكُهُ وَجَمِيعُ التَّكْلِيفَاتِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا حُرُمُهُ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، وَيُحْتَمَلُ الْخُصُوصُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ قَالَ: مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ جَمِيعُ الْمَنَاهِي فِي الْحَجِّ: فُسُوقٌ وَجِدَالٌ وَجِمَاعٌ وَصَيْدٌ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ هِيَ خَمْسٌ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمُحَرَّمُ حَتَّى يَحِلَّ. وَضَمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ وَمَنْ يُعَظِّمْ أَيْ فَالتَّعْظِيمُ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أَيْ قُرْبَةٌ مِنْهُ وَزِيَادَةٌ فِي طَاعَتِهِ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَيْرًا هُنَا لَيْسَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ. وأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ دَفْعًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ بِرَأْيِهَا كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ مَا نَصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَالْمَعْنَى مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ آيَةَ تَحْرِيمِهِ. وَلَمَّا حَثَّ عَلَى تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَذَكَرَ أَنَّ تَعْظِيمَهَا خَيْرٌ لِمُعَظِّمِهَا عِنْدَ اللَّهِ أَتْبَعَهُ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ وَقَوْلِ الزُّورِ لِأَنَّ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ وَصِدْقَ الْقَوْلِ أَعْظَمُ الْحُرُمَاتِ، وَجُمِعَا فِي قِرَانٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنْ بَابِ الزُّورِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَثَنَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الْأَوْثانِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الزُّورِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ كله. ومَنْ فِي مِنَ الْأَوْثانِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَيُقَدَّرُ بِالْمَوْصُولِ عِنْدَهُمْ أَيِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ مَنْ لِبَيَانِ الجنس جَعَلَ مَنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَكَأَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الرِّجْسِ عَامًا ثُمَّ عَيَّنَ لَهُمْ مَبْدَأَهُ الَّذِي مِنْهُ يَلْحَقُهُمْ إِذْ عِبَادَةُ الْوَثَنِ جَامِعَةٌ لِكُلِّ فَسَادٍ وَرِجْسٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ سَائِرِ الْأَرْجَاسِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ قَالَ أَنَّ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ قَلَبَ مَعْنَى الْآيَةِ فَأَفْسَدَهُ انْتَهَى. وَقَدْ

يُمْكِنُ التَّبْعِيضُ فِيهَا بِأَنْ يَعْنِيَ بِالرِّجْسِ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَاجْتَنِبُوا مِنَ الْأَوْثَانِ الرِّجْسَ وَهُوَ الْعِبَادَةُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْأَوْثَانِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبَادَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ اسْتِعْمَالُ الْوَثَنِ فِي بِنَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمُهُ الشَّرْعُ؟ فَكَأَنَّ لِلْوَثَنِ جِهَاتٍ مِنْهَا عِبَادَتُهَا، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِاجْتِنَابِهِ وَعِبَادَتُهَا بَعْضُ جِهَاتِهَا، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الزُّورِ مُعَادِلًا لِلْكُفْرِ لَمْ يُعْطَفْ عَلَى الرِّجْسِ بَلْ أُفْرِدَ بِأَنْ كَرَّرَ لَهُ الْعَامِلَ اعْتِنَاءً بِاجْتِنَابِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ» . وَلَمَّا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَقَوْلِ الزُّورِ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِ فَقَالَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُرَكَّبِ وَالْمُفَرَّقِ، فَإِنْ كَانَ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِهْلَاكًا لَيْسَ بَعْدَهُ بِأَنْ صَوَّرَ حَالَهُ بِصُورَةِ حَالِ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فتفرق مرعا فِي حَوَاصِلِهَا، وَعَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَارِحِ الْبَعِيدَةِ، وَإِنْ كَانَ مُفَرَّقًا فَقَدْ شَبَّهَ الْإِيمَانَ فِي عُلُوِّهِ بِالسَّمَاءِ وَالَّذِي تَرَكَ الْإِيمَانَ وَأَشْرَكَ بِاللَّهِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْإِهْوَاءُ الَّتِي تُنَازِعُ أَوْكَارَهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ، وَالشَّيْطَانُ الَّذِي يُطَوِّحُ بِهِ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي مِمَّا عَصَفَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَهَاوِي الْمُتْلِفَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ فَتَخْطَفُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْمَشُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَالْخَاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَعَنِ الْحَسَنِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الطَّاءَ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا تَخُطُّهُ بِغَيْرِ فَاءٍ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ: الرَّيَّاحُ. ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ. إِعْرَابُ ذلِكَ كَإِعْرَابِ ذلِكَ الْمُتَقَدِّمِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ شَعائِرَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ

الْمَائِدَةِ، وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ الْبُدْنُ الْهَدَايَا، وَتَعْظِيمُهَا تَسْمِينُهَا وَالِاهْتِبَالُ بِهَا وَالْمُغَالَاةُ فِيهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الشَّعَائِرُ سِتٌّ: الصَّفَا، وَالْمَرْوَةُ، وَالْبُدْنُ، وَالْجِمَارُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَعَرَفَةُ، وَالرُّكْنُ. وَتَعْظِيمُهَا إِتْمَامُ مَا يُفْعَلُ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ: مَوَاضِعُ الْحَجِّ كُلُّهَا وَمَعَالِمُهُ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا نَحْوٌ مَنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقِيلَ: شَرَائِعُ دِينِهِ وَتَعْظِيمُهَا الْتِزَامُهَا وَالْمَنَافِعُ الْأَجْرُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي فِيها مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ عَائِدًا عَلَى الشَّعَائِرِ الَّتِي هِيَ الشَّرَائِعُ أَيْ لَكُمْ فِي التَّمَسُّكُ بِهَا مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُنْقَطِعُ التَّكْلِيفِ ثُمَّ مَحِلُّها بِشَكْلٍ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. فَقِيلَ: الْإِيمَانُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ بِالصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْقَصْدُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَيْ مَحَلِّ مَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِالْإِحْرَامِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ ثُمَّ أَجْرُهَا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قِيلَ: وَلَوْ قِيلَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ الْجَنَّةُ لَمْ يُبْعِدُوا الضَّمِيرَ فِي إِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى الشَّعَائِرِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا أَوْ عَلَى التَّعْظِمَةِ، وَأَضَافَ التَّقْوَى إِلَى الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّقْوَى هاهنا» . وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَهْدَى نَجِيبَةً طُلِبَتْ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أن يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا بُدْنًا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «بَلِ اهْدِهَا» وَأَهْدَى هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسُوقُ الْبُدْنَ مُجَلَّلَةً بِالْقَبَاطِيِّ فَيَتَصَدَّقُ بِلُحُومِهَا وَبِجِلَالِهَا، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا وَإِهْدَائِهَا إِلَى بَيْتِهِ الْمُعَظَّمِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا بُدَّ أَنْ يُقَامَ بِهِ وَيُسَارَعَ فِيهِ، وَذَكَرَ الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ يُظْهِرُ التَّقْوَى وَقَلْبُهُ خَالٍ عَنْهَا، فَلَا يَكُونُ مُجِدًّا فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَالْمُخْلِصُ التَّقْوَى بِاللَّهِ فِي قَلْبِهِ فَيُبَالِغُ فِي أَدَائِهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مَنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِلَّا بِتَقْدِيرِهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَاجِعٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى مَنْ لِيَرْتَبِطَ بِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَرَاكِزُ التَّقْوَى الَّتِي إِذَا ثَبَتَتْ فِيهَا وَتَمَكَّنَتْ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ انْتَهَى. وَمَا قَدَّرَهُ عَارٍ مِنْ رَاجِعٍ إِلَى الْجَزَاءِ إِلَى مَنْ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَنْ يَرْبُطُ جُمْلَةَ الْجَزَاءِ بِجُمْلَةِ الشرط الذي أدانه مَنْ وَإِصْلَاحُ مَا قَالَهُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَأَيُّ تَعْظِيمِهَا مِنْهُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدًا عَلَى مَنْ فَيَرْتَبِطُ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ.

وقرىء الْقُلُوبُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ تَقْوَى وَالضَّمِيرُ فِي فِيها عَائِدٌ عَلَى الْبُدْنَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالْمَنَافِعُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا وَصُوفُهَا وَرُكُوبُ ظَهْرِهَا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَيُوجِبَهَا هَدْيًا فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنَافِعُ الْهَدَايَا بَعْدَ إِيجَابِهَا وَتَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تُرْكَبُ وَيُشْرَبَ لَبَنُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إِلَى أَنْ تُنْحَرَ. وَقِيلَ: إِلَى أَنْ تُشْعَرَ فَلَا تُرْكَبُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَرَوَى أَبُو رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إِلَى الْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ هَذِهِ الشَّعَائِرِ إِلَى غَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْأَجَلُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَى أَنْ تُنْحَرَ وَيُتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا ويؤكل منها. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الْوَقْتِ فَاسْتُعِيرَتْ لِلتَّرَاخِي فِي الْأَفْعَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعَ كَثِيرَةً فِي دُنْيَاكُمْ وَدِينِكُمْ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ اللَّهُ بِالْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ «1» وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْمَنَافِعِ وَأَبْعَدُهَا شَوْطًا فِي النَّفْعِ مَحَلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ أَيْ وُجُوبُ نَحْرِهَا، أَوْ وَقْتَ وُجُوبِ نَحْرِهَا مُنْتَهِيَةً إِلَى الْبَيْتِ كَقَوْلِهِ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «2» وَالْمُرَادُ نَحْرُهَا فِي الْحَرَمِ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْحَرَمَ هُوَ حَرِيمُ الْبَيْتِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الِاتِّسَاعِ قَوْلُكَ: بَلَغْنَا الْبَلَدَ وَإِنَّمَا شَارَفْتُمُوهُ وَاتَّصَلَ مَسِيرُكُمْ بِحُدُودِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِكُ كلها ومَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يَأْبَاهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْهَدْيُ الْمُتَطَوِّعُ بِهِ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ بُلُوغِ مَكَّةَ فَإِنَّ مَحِلَّهُ مَوْضِعُهُ، فَإِذَا بَلَغَ مِنًى فَهِيَ مَحِلُّهُ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَكَرَّرَ ثُمَّ لِتَرْتِيبِ الْجُمَلِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَ هَاتَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَعْنِي مَنْ قَالَ مُجَاهِد وَمَنْ وَافَقَهُ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ عَطَاءٍ ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى مَوْضِعِ النَّحْرِ فَذَكَرَ الْبَيْتَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْحَرَمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْهَدْيِ وَغَيْرِهِ، وَالْأَجْلُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَقَوْلُهُ ثُمَّ مَحِلُّها مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْلَالِ الْمُحْرِمِ مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَخَّرَ هَذَا كُلَّهُ إِلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَالْبَيْتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُرَادٌ بِنَفْسِهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ انْتَهَى. وَالْمَنْسَكُ مَفْعَلٌ مِنْ نَسَكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا لِلنُّسُكِ، أَيْ مَكَانَ نُسُكٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانُ الْعِبَادَةِ مُطْلَقًا أَوِ الْعِبَادَةُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 67. (2) سورة المائدة: 5/ 95.

نُسُكٌ خَاصٌّ أَوْ نُسُكًا خَاصًّا وَهُوَ مَوْضِعُ ذَبْحٍ أَوْ ذَبْحٍ، وَحَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الذَّبْحِ، يُقَالُ: شَرَعَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَنْ يَنَسَكُوا لَهُ أَيْ يَذْبَحُوا لِوَجْهِهِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ، وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ عَلَى الْمَنَاسِكِ انْتَهَى. وَقِيَاسُ بِنَاءِ مَفْعَلٍ مِمَّا مضارعه يفعل يضم الْعَيْنِ مَفْعَلٌ بِفَتْحِهَا فِي الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَبِالْفَتْحِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ بِكَسْرِهَا الْأَخَوَانِ وَابْنُ سَعْدَانَ وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيُونُسَ وَمَحْبُوبٍ وَعَبْدِ الْوَارِثِ إِلَّا الْقَصَبِيَّ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكَسْرُ فِي هَذَا مِنَ الشَّاذِّ وَلَا يُسَوَّغُ فِيهِ الْقِيَاسُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْكِسَائِيُّ سَمِعَهُ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: منسك وَمَنْسَكٌ لُغَتَانِ. وَقَالَ مُجَاهِد: الْمَنْسَكُ الذَّبْحُ، وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ يُقَالُ: نَسَكَ إِذَا ذَبَحَ، وَالذَّبِيحَةُ نَسِيكَةٌ وَجَمْعُهَا نُسُكٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَنْسَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُعْتَادُ فِي خَيْرٍ وَبِرٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مَنْسَكاً أَيْ مَذْهَبًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، يُقَالُ: نَسَكَ نُسُكَ قَوْمِهِ إِذَا سَلَكَ مَذْهَبُهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ مَنْسَكاً عِيدًا وَقَالَ قَتَادَةُ: حَجًّا. لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ عِنْدَ ذَبَائِحِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ لَهُ لِأَنَّهُ رَازِقُ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْحَاضِرِينَ فَقَالَ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أَيِ انْقَادُوا، وَكَمَا أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ يَجِبُ أَنْ يُخْلَصَ لَهُ فِي الذَّبِيحَةِ وَلَا يُشْرَكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْإِخْبَاتِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: الْمُخْبِتُونَ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بِالْخَفْضِ عَلَى الْإِضَافَةِ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِأَجْلِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الصَّلاةِ بِالنَّصْبِ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِأَجْلِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْمُقِيمِينَ بِالنُّونِ الصَّلاةِ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: وَالْمُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَنَاسَبَ تَبْشِيرُ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِخْبَاتِ هُنَا لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ مِنْ نَزْعِ الثِّيَابِ وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الْمَخِيطِ وَكَشْفِ الرَّأْسِ وَالتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْغَبَرَةِ الْمُحَجَّرَةِ، وَالتَّلَبُّسُ بِأَفْعَالٍ شَاقَّةٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى مُؤْذِنٌ بِالِاسْتِسْلَامِ الْمَحْضِ وَالتَّوَاضُعِ الْمُفْرِطِ حَيْثُ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ مَأْلُوفِهِ إِلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْإِخْبَاتِ وَالْوَجِلِ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَاقِّ وَإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاضِعَ لَا يُقِيمُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُصْطَفَوْنَ وَالْإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمْ وَمِنْهَا الْهَدَايَا الَّتِي يُغَالُونَ فِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْبُدْنَ بِإِسْكَانِ الدَّالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَشَيْبَةُ وَعِيسَى بِضَمِّهَا وَهِيَ الْأَصْلُ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَنَافِعٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا بِضَمِّ الْيَاءِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا بُنِيَ عَلَى فُعُلٍّ كَعُتُلٍّ،

وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ التَّشْدِيدُ مِنَ التَّضْعِيفِ الْجَائِزِ فِي الْوَقْفِ، وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَصْبِ وَالْبُدْنَ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ وجعلنا الْبُدْنَ وقرىء بالرفع على الابتداء ولَكُمْ أي لأجلكم ومِنْ شَعائِرِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَمَعْنَى مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ مِنْ أَعْلَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ وَأَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لَهَا لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَفْعٌ فِي الدُّنْيَا، وَأَجْرٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَجْرٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَنِ احْتَاجَ إِلَى ظَهْرِهَا رَكِبَ وَإِلَى لَبَنِهَا شَرِبَ عَلَيْها صَوافَّ أَيْ عَلَى نَحْرِهَا. قَالَ مُجَاهِد: مَعْقُولَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَائِمَةٌ قَدْ صَفَّتْ أَيْدِيهَا بِالْقُيُودِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: مُصْطَفَّةٌ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ النَّحْرِ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ. وَقَرَأَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَشَقِيقٌ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَالْأَعْرَجُ: صَوَافِيُّ جَمْعُ صَافِيَةٍ وَنَوَّنَ الْيَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنْ حَرْفٍ عِنْدَ الْوَقْفِ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ صَرَفَ مَا لَا يَنْصَرِفُ، وَلَا سِيَّمَا الْجَمْعُ الْمُتَنَاهِي، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ وَالصَّرْفُ فِي الْجَمْعِ أَيْ كَثِيرًا حَتَّى ادَّعَى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيرَ أَيْ خَوَالِصُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُشْرِكُ فِيهَا بِشَيْءٍ، كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُشْرِكُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا صَوافَّ مِثْلَ عَوَارَّ وَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فكسرت عار لَحْمِهِ يُرِيدُ عَارِيًا وَقَوْلُهُمْ: اعْطِ الْقَوْسَ بَارِيَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَاقِرُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ صَوَافِنْ بِالنُّونِ، وَالصَّافِنَةُ مِنَ الْبُدْنِ مَا اعْتَمَدَتْ عَلَى طَرَفِ رِجْلٍ بَعْدَ تَمَكُّنِهَا بِثَلَاثِ قَوَائِمَ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْلِ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِهَا إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ نَحْرِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ الْقانِعَ السَّائِلُ وَالْمُعْتَرَّ الْمُعْتَرِضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَعَكَسَتْ فِرْقَةٌ هَذَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقانِعَ الْمُسْتَغْنِيَ بِمَا أُعْطِيَهُ وَالْمُعْتَرَّ الْمُعْتَرِضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ. وَحَكَى عَنْهُ الْقانِعَ الْمُتَعَفِّفُ وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْقانِعَ الْجَارُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَقَالَ قَتَادَةُ الْقانِعَ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْمُعْتَرَّ الْمُعْتَرِضُ لِلسُّؤَالِ. وَقِيلَ الْمُعْتَرَّ الصَّدِيقُ الزَّائِرُ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: الْقَنْعُ بِغَيْرِ أَلِفٍ أَيِ الْقانِعَ فَحَذَفَ الْأَلِفَ كَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْمُعْتَرِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اعْتَرَى. وَقَرَأَ عَمْرٌو وَإِسْمَاعِيلُ وَالْمُعْتَرَّ بِكَسْرِ الرَّاءِ دُونَ يَاءٍ، هَذَا نَقْلُ ابْنُ خَالَوَيْهِ.

[سورة الحج (22) : الآيات 38 إلى 78]

وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ أَبُو رَجَاءٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَابْنُ عُبَيدٍ وَالْمُعْتَرِي عَلَى مُفْتَعَلٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِرِوَايَةِ الْمُقْرِي وَالْمُعْتَرَّ أَرَادَ الْمُعْتَرِي لَكِنَّهُ حَذَفَ الْيَاءَ تَخْفِيفًا وَاسْتِغْنَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْهَدْيُ أثلاث. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أُطْعِمُ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ثُلُثًا، وَالْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُلُثًا، وَأَهْلِي ثُلُثًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لَيْسَ لِصَاحِبِ الْهَدْيِ مِنْهُ إِلَّا الرُّبْعُ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ لَا الْفَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ سَخَّرْناها لَكُمْ تَأْخُذُونَهَا مُنْقَادَةً فَتَعْقِلُونَهَا وَتَحْبِسُونَهَا صَافَّةً قَوَائِمُهَا فَتَطْعَنُونَ فِي لِبَاتِهَا، مَنَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِذَلِكَ وَلَوْلَا تَسْخِيرُ اللَّهِ لَمْ تُطِقْ وَلَمْ تَكُنْ بِأَعْجَزَ مِنْ بَعْضِ الْوُحُوشِ الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ مِنْهَا جُرْمًا وَأَقَلُّ قُوَّةً، وَكَفَى بِمَا يَتَأَبَّدُ مِنَ الْإِبِلِ شَاهِدًا وَعِبْرَةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَا أَمَرْنَاكُمْ فِيهَا بِهَذَا كُلِّهِ سَخَّرَنَا لَكُمْ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا. قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الذَّبْحِ وَتَشْرِيحِ اللَّحْمِ مَنْصُوبًا حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَنَضْحِ الْكَعْبَةِ حَوَالَيْهَا بِالدَّمِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى لَنْ يُصِيبَ رِضَا اللَّهِ اللُّحُومُ الْمُتَصَدَّقُ بِهَا وَلَا الدِّمَاءُ الْمُهْرَاقَةُ بِالنَّحْرِ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُ اللُّحُومِ وَالدِّمَاءِ، وَالْمَعْنَى لَنْ يُرْضِيَ الْمُضَحُّونَ وَالْمُقَرَّبُونَ رَبَّهُمْ إِلَّا بِمُرَاعَاةِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالِاحْتِيَاطِ بِشُرُوطِ التَّقْوَى فِي حَلِّ مَا قَرَّبَ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَافَظَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَوَامِرِ الْوَرَعِ، فَإِذَا لَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمُ التَّضْحِيَةُ وَالتَّقْرِيبُ، وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ تَكْثِيرٌ فِي اللَّفْظِ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ يَعْمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَإِسْحَاقُ الْكُوفِيُّ عَنْ عَاصِمٍ وَالزَّعْفَرَانِيِّ وَيَعْقُوبَ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: تَنَالُهُ التَّقْوَى بِالتَّاءِ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَالْجَحْدَرِيُّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ لحومها ولا دماءها بِالنَّصْبِ وَلكِنْ يَنالُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَرَّرَ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِالتَّسْخِيرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِتَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى هِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ لِإِعْلَامِ دِينِهِ وَمَنَاسِكِ حَجِّهِ بِأَنْ تُكَبِّرُوا وَتُهَلِّلُوا، فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِأَنْ ضَمَّنَ التَّكْبِيرَ مَعْنَى الشُّكْرِ وَعُدِّيَ تَعْدِيَتَهُ انْتَهَى. وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُلَفَاءِ الأربعة. [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 78] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

الْهَدْمُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ نَقْضُ مَا بُنِيَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُلُّ بَيْتٍ وَإِنْ طَالَتْ إِقَامَتُهُ ... عَلَى دَعَائِمِهِ لَا بُدَّ مَهْدُومُ الصَّوْمَعَةُ: مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ وَزْنُهَا فَعْوَلَةٌ، وَهِيَ بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ مُنْفَرِدٌ حَدِيدُ الْأَعْلَى، وَالْأَصْمَعُ مِنَ الرِّجَالِ الْحَدِيدُ الْقَوْلِ، وَكَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُخْتَصَّةً بِرُهْبَانِ النَّصَارَى وَبِعُبَّادِ الصَّابِئِينَ، قَالَهُ قَتَادَةُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مِئْذَنَةِ الْمُسْلِمِينَ. الْبِيَعُ: كَنَائِسُ النَّصَارَى وَاحِدُهَا بَيْعَةٌ. وَقِيلَ: كَنَائِسُ الْيَهُودِ. الْبِئْرُ: مَنْ بَأَرَتْ أَيْ حَفَرَتْ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقَدْ تُذَكَّرُ عَلَى مَعْنَى الْقَلِيبِ. تَعْطِيلُ الشَّيْءِ: إِبْطَالُ مَنَافِعِهِ. الْعُقْمُ: الِامْتِنَاعُ مِنَ الْوِلَادَةِ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ عَقِيمٌ وَرَجُلٌ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ، وَالْجَمْعُ عُقْمٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَطْعِ، وَمِنْهُ الْمَلِكُ عَقِيمٌ أَيْ يَقْطَعُ فِيهِ الْأَرْحَامَ بِالْقَتْلِ، وَالْعَقِيمُ الَّذِي قُطِعَتْ وِلَادَتُهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيدٍ الْعُقْمُ السَّدُّ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ مَعْقُومَةُ الرَّحِمِ أَيْ مَسْدُودَةُ الرَّحِمِ. السَّطْوُ: الْقَهْرُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: السَّطْوَةُ إِظْهَارُ مَا يَهُولُ لِلْإِخَافَةِ. الذُّبَابُ: الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ يُجْمَعُ عَلَى ذُبَابٍ

بِكَسْرِ الذَّالِ وَضَمِّهَا، وَعَلَى ذَبَّ وَالْمِذَبَّةُ مَا يُطْرَدُ بِهِ الذُّبَابُ، وَذُبَابُ السَّيْفِ طَرَفُهُ وَالْعَيْنِ إِنْسَانُهَا، وَأَسْنَانُ الْإِبِلِ. سَلَبْتُ الشَّيْءَ: اخْتَطَفْتُهُ بِسُرْعَةٍ. اسْتَنْقَذَ: اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ أَيْ أَنْقَذَ نَحْوَ أَبَلَّ وَاسْتَبَلَّ. إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. رُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كَثُرُوا بِمَكَّةَ أَذَاهُمُ الْكُفَّارُ وَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، أَرَادَ بَعْضُ مُؤْمِنِي مَكَّةَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ أَمْكَنَهُ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَحْتَالُ وَيَغْدِرُ، فَنَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ كَفُورٍ وَعْدٌ فِيهَا بِالْمُدَافَعَةِ وَنَهَى عَنِ الْخِيَانَةِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ وَالنُّصْرَةِ لَهُمْ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَعْدَاءَهُمُ الْخَائِنِينَ اللَّهَ وَالرَّسُولَ الْكَافِرِينَ نِعَمَهُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْحَجِّ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَآذَوْا مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ مُبَشِّرَةً الْمُؤْمِنِينَ بِدَفْعِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمُشِيرَةً إِلَى نَصْرِهِمْ وَإِذْنِهِ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ وَتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ يردهم إِلَى دِيَارِهِمْ وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ الْأُمُورِ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «1» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ يُدافِعُ وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ يَدْفَعُ وَلَوْلا دَفْعُ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ يُدَافِعُ وَلَوْلا دَفْعُ وَفَاعِلٌ هُنَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ نَحْوَ جَاوَزْتُ وَجُزْتُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: دَفْعُ أَكْثَرُ مِنْ دَافَعَ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّ دِفَاعًا مَصْدَرُ دَفَعَ كَحَسَبَ حِسَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْسُنُ يُدافِعُ لِأَنَّهُ قَدْ عَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَدْفَعُهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ فَتَجِيءُ مُقَاوَمَتُهُ، وَدَفْعُهُ مُدَافَعَةً عَنْهُمْ انْتَهَى. يَعْنِي فَيَكُونُ فاعل لاقتسام الفاعلية

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 128.

وَالْمَفْعُولِيَّةِ لَفْظًا وَالِاشْتِرَاكُ فِيهِمَا مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ يُدافِعُ فَمَعْنَاهُ يُبَالِغُ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ كَمَا يُبَالِغُ مَنْ يُغَالِبُ فِيهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُغَالِبِ يَجِيءُ أَقْوَى وَأَبْلَغَ انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى مَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ لِيَكُونَ أَفْخَمَ وَأَعْظَمَ وَأَعَمَّ وَلَمَّا هَاجَرَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ هَمْزَةِ أُذِنَ وَفَتَحَ بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ يُقَاتَلُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَالْمَأْذُونِ فِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ فِي الْقِتَالِ لِدَلَالَةِ يُقاتَلُونَ عَلَيْهِ وَعَلَّلَ لِلْإِذْنِ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ مَضْرُوبٍ وَمَشْجُوجٍ، فَيَقُولُ لَهُمْ: «اصْبِرُوا فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِالْقِتَالِ» حَتَّى هَاجَرَ وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ أُذِنَ فِيهَا بِالْقِتَالِ بعد مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ آيَةً. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ فَاعْتَرَضَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ. وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وَعْدٌ بِالنَّصْرِ وَالْإِخْبَارِ بِكَوْنِهِ يَدْفَعُ عَنْهُمْ الَّذِينَ أُخْرِجُوا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ نَعْتٌ لِلَّذِينَ، أَوْ بَدَلٌ أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَعْنِي أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إضمارهم. وإِلَّا أَنْ يَقُولُوا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِلَكِنَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ لَمْ يَصِحَّ بِخِلَافِ مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فَتَقُولُ: مَا فِي الدَّارِ إِلَّا حِمَارٌ فَهَذَا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ النَّصْبُ لِلْحِجَازِ وَالرَّفْعُ لِتَمِيمٍ بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا فَالْعَرَبُ مُجْمِعُونَ عَلَى نَصْبِهِ. وَأَجَازَ أَبُو إِسْحَاقَ فِيهِ الْجَرَّ عَلَى الْبَدَلِ وَاتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ أَنْ يَقُولُوا فِي مَحَلِّ الْجَرِّ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ حَقٍّ أَيْ بِغَيْرِ مُوجِبٍ سِوَى التَّوْحِيدِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجَبَ الْإِقْرَارِ وَالتَّمْكِينِ لَا مُوجَبَ الْإِخْرَاجِ وَالتَّبْشِيرِ، وَمِثْلُهُ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا «1» انْتَهَى. وَمَا أَجَازَاهُ مِنَ الْبَدَلِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا سَبَقَهُ نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ أَوِ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، نَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَلَا يَضْرِبُ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَهَلْ يَضْرِبُ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُوجَبًا أَوْ أَمْرًا فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ: لَا يُقَالُ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ عَلَى الْبَدَلِ، وَلَا يَضْرِبُ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ عَلَى الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيْثُ يكون العامل

_ (1) سورة المائدة: 5/ 59.

يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قُلْتَ قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَلْيَضْرِبْ إلّا عمرو لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قُلْتَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ أَخْرَجَ النَّاسَ مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَّا بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا هَذَا إِذَا تَخَيَّلَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنْ غَيْرِ الْمُضَافِ إِلَى حَقٍّ وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ حَقٍّ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ يَكُونَ البدل يلي غيرا فَيَصِيرُ التَّرْكِيبُ بِغَيْرِ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ قُدِّرَتْ إِلَّا بِغَيْرُ كَمَا يُقَّدَرُ فِي النَّفْيِ فِي مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٍ فَتَجْعَلُهُ بَدَلًا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّرْكِيبُ بِغَيْرُ غَيْرَ قَوْلِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَتَكُونُ قَدْ أَضَفْتَ غَيْرًا إِلَى غَيْرٍ وَهِيَ هِيَ فَصَارَ بِغَيْرِ غَيْرٍ، وَيَصِحُّ فِي مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٍ أَنْ تَقُولَ: مَا مَرَرْتُ بِغَيْرِ زَيْدٍ، ثُمَّ إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ حِينَ مَثَّلَ الْبَدَلَ قَدَّرَهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ سِوَى التَّوْحِيدِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلصِّفَةِ جَعَلَ إِلَّا بِمَعْنَى سِوَى، وَيَصِحُّ عَلَى الصِّفَةِ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ بَابُ الصِّفَةِ بِبَابِ الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَرَرْتُ بِالْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ عَلَى الصِّفَةِ لَا عَلَى الْبَدَلِ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الْآيَةُ فِيهَا تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ قَبْلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِذَلِكَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ بِأَنْ يَنْتَظِمَ بِهِ الْأَمْرُ وَتَقُومَ الشَّرَائِعُ وَتُصَانَ الْمُتَعَبَّدَاتُ مِنَ الْهَدْمِ وَأَهْلُهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالشَّتَاتِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قِيلَ: فَلْيُقَاتِلِ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَوْلَا الْقِتَالُ لَتَغَلَّبَ عَلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَانْظُرْ إِلَى مَجِيءِ قوله وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ إِثْرَ قِتَالِ طَالُوتَ لِجَالُوتَ، وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ الدَّفْعُ فَسَدَتِ الْأَرْضُ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الْكُفَّارَ عَنِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَ عَلِيٍّ وَحَسَّنَهُ وَذَيَلَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ إِظْهَارُهُ وَتَسْلِيطُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ بِالْمُجَاهَدَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَوْلَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي أَزْمِنَتِهِمْ وَعَلَى مُتَعَبَّدَاتِهِمْ فَهَدَمُوهَا وَلَمْ يَتْرُكُوا لِلنَّصَارَى بِيَعًا وَلَا لِرُهْبَانِهِمْ صَوَامِعَ، وَلَا لِلْيَهُودِ صَلَوَاتٍ، وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ مَسَاجِدَ، وَلَغَلَبَ الْمُشْرِكُونَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ فِي ذِمَّتِهِمْ، وَهَدَمُوا مُتَعَبَّدَاتِ الْفَرِيقَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ ظُلْمَ قَوْمٍ بِشَهَادَاتِ الْعُدُولِ وَنَحْوِ هَذَا. وَقَالَ قَوْمٌ دَفْعُ ظُلْمَ الظَّلَمَةِ بِعَدْلِ الْوُلَاةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ دَفْعُ الْعَذَابَ بِدُعَاءِ الْأَخْيَارِ. وَقَالَ

قُطْرُبٌ: بِالْقِصَاصِ عَنِ النُّفُوسِ. وَقِيلَ: بِالنَّبِيِّينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا أَمَانُ الْإِسْلَامِ لَخَرِبَتْ مُتَعَبَّدَاتُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمَعْنَى الدَّفْعِ بِالْقِتَالِ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ وَأَمْكَنُ فِي دَفْعِ الْفَسَادِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَيُّوبُ وَقَتَادَةُ وَطَلْحَةُ وَزَائِدَةُ عن الأعمش والزعفراني فهدمت مُخَفَّفًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ مُشَدَّدَةً لَمَّا كَانَتِ الْمَوَاضِعُ كَثِيرَةً نَاسَبَ مَجِيءُ التَّضْعِيفِ لِكَثْرَةِ الْمَوَاضِعِ فَتَكَرَّرَ الْهَدْمُ لِتَكْثِيرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَصَلَواتٌ جَمْعُ صَلَاةٍ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَصَلَواتٌ بِضَمِّ الصَّادِ وَاللَّامِ. وَحَكَى عَنْهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ صَلَواتٌ بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الصَّادِ، وَحُكِيَتْ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ وَالْجَحْدَرِيِّ صَلَواتٌ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَحُكِيَتْ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ اللَّامِ صَلَواتٌ وَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَالْجَحْدَرِيِّ أَيْضًا وَصُلُوتٌ وَهِيَ مَسَاجِدُ النَّصَارَى بِضَمَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَمُجَاهِدٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَصُلُوثٌ بِضَمَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَبِثَاءٍ مَنْقُوطَةٍ بِثَلَاثٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ وَالْجَحْدَرِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بَعْدَ الثَّاءِ أَلِفٌ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: وَصِلْوِيثًا بِكَسْرِ الصَّادِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَوَاوٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ بَعْدَهَا ثَاءٌ مَنْقُوطَةٌ بِثَلَاثٍ بَعْدَهَا ألف، والجحدري أيضا صَلَواتٌ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَوَاوٍ مَفْتُوحَةٌ بَعْدَهَا أَلِفٌ بَعْدَهَا ثَاءٌ مُثَلَّثَةُ النُّقَطِ. وَحَكَى ابْنُ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قرىء كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِكَسْرِ الصَّادِ. وَحَكَى ابْنُ خَالَوَيْهِ وَابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْحَجَّاجِ وَالْجَحْدَرِيِّ صُلُوبٌ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ عَلَى وَزْنِ كُعُوبٍ جَمْعُ صَلِيبٍ كَظَرِيفٍ وَظُرُوفٍ، وَأَسِينَةٍ وَأُسُونٍ وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ أَعْنِي جَمْعَ فَعِيلٍ عَلَى فُعُولٍ فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ قِرَاءَةً وَالَّتِي بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ النُّقَطُ. قِيلَ: هِيَ مَسَاجِدُ اليهود هي بِالسُّرْيَانِيَّةِ مِمَّا دَخَلَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: عِبْرَانِيَّةٌ وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ يُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي الْمِلَلِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِمَّا تَلَاعَبَتْ فِيهِ الْعَرَبُ بِتَحْرِيفٍ وَتَغْيِيرٍ فَيُنْظَرُ مَا مَدْلُولُهُ فِي اللِّسَانِ الَّذِي نُقِلَ مِنْهُ فَيُفَسَّرُ بِهِ. وَرَوَى هَارُونُ عَنْ أَبِي عمرو صَلَواتٌ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُنَوِّنُ التَّاءَ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ اسْمَ مَوْضِعٍ كَالْمَوَاضِعِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَكَأَنَّهُ عَلَمٌ فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ وَكَمُلَتِ الْقِرَاءَاتُ بِهَذِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ قِرَاءَةً وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْدَادِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ مُعْتَقَدَاتِ الْأُمَمِ فَالصَّوَامِعُ لِلرُّهْبَانِ. وَقِيلَ: لِلصَّابِئِينَ، وَالْبِيَعُ لِلنَّصَارَى، وَالصَّلَوَاتُ لِلْيَهُودِ، وَالْمَسَاجِدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَالَهُ خُصَيْفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا الْمُبَالَغَةَ فِي ذِكْرِ الْمُتَعَبَّدَاتِ، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَشْتَرِكُ الْأُمَمُ فِي مُسَمَّيَاتِهَا إِلَّا الْبِيَعَةَ فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالنَّصَارَى فِي

عُرْفِ لُغَةٍ وَمَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ هِيَ فِي الْأُمَمِ الَّتِي لَهُمْ كِتَابٌ عَلَى قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَجُوسَ وَلَا أَهْلَ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُوجِبُ حِمَايَتَهُ وَلَا يُوجَدُ ذِكْرُ اللَّهِ إِلَّا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ يُذْكَرُ فِيهَا عَلَى الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا جَمِيعِهَا وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ، فَيَكُونُ يُذْكَرُ صِفَةٌ لِلْمَسَاجِدِ وَإِذَا حَمَلْنَا الصَّلَوَاتِ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي يُصَلِّيهَا أَهْلُ الشَّرَائِعِ كَانَ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَمَوَاضِعِ صَلَوَاتٍ وَإِمَّا عَلَى تَضْمِينٍ لَهُدِّمَتْ مَعْنَى عُطِّلَتْ فَصَارَ التَّعْطِيلُ قَدْرًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ وَالْأَفْعَالِ، وَتَأْخِيرُ الْمَسَاجِدِ إِمَّا لِأَجْلِ قِدَمِ تِلْكَ وَحُدُوثِ هَذِهِ، وَإِمَّا لِانْتِقَالٍ مِنْ شَرِيفٍ إِلَى أَشْرَفَ. وَأَقْسَمَ تَعَالَى على أنه تنصر مَنْ يَنْصُرُ أَيْ يَنْصُرُ دِينَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَنَصْرُهُ تَعَالَى هو أن يظفر أولياءه بِأَعْدَائِهِمْ جِلَادًا وَجِدَالًا وَفِي ذَلِكَ حَضٌّ عَلَى الْقِتَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى نَصْرِهِمْ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا جَازَ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ أُخْرِجُوا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بَدَلٌ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ، وَالتَّمْكِينُ السَّلْطَنَةُ وَنَفَاذُ الْأَمْرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ وَصْفِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَفِيهِ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ سِيرَتُهُمْ إِنْ مَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَبَسَطَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَكَيْفَ يَقُومُونَ بِأَمْرِ الدِّينِ. وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا وَاللَّهِ ثَنَاءٌ قَبْلَ بَلَاءٍ، يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثُوا مِنَ الْخَيْرِ مَا أَحْدَثُوا، وَقَالُوا: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ أَمْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ التَّمَكُّنَ وَنَفَاذَ الْأَمْرِ مَعَ السِّيرَةِ الْعَادِلَةِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَا حَظَّ فِي ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ وَالطُّلَقَاءِ. وَفِي الْآيَةِ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا رَتَّبَ عَلَى التَّمْكِينِ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ: هُمْ أُمَّتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: هُمْ أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: هُمُ الْوُلَاةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ مَنْ آناه الْمُلْكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالتَّابِعُونَ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ تَوَعُّدٌ لِلْمُخَالِفِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى التَّمْكِينِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ الْآيَةَ فِيهَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ بِتَكْذِيبِ مَنْ سَبْقَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَوَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ الْمُعَذَّبَةِ وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ بِعَلَامَةِ

التَّأْنِيثِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ الْأُمَّةَ وَالْقَبِيلَةَ، وَبَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ فِي وَكُذِّبَ مُوسى أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يُكَذِّبُوهُ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ الْقِبْطُ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أَيْ أَمْهَلْتُ لَهُمْ وَأَخَّرْتُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ مَعَ عِلْمِي بِفِعْلِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ تَرْتِيبُ الْإِمْلَاءِ عَلَى وَصْفِ الْكُفْرِ، فَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ أَمْلَى تَعَالَى لَهُمْ ثُمَّ أَخَذَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَفِي فَتْحِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمَا، وَالْأَخْذُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِقَابِ وَالْإِهْلَاكِ، وَالنَّكِيرُ مَصْدَرٌ كالندير الْمُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَالْمَعْنَى فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ وَتَبْدِيلُ حَالِهِمُ الْحَسَنَةِ بِالسَّيِّئَةِ وَحَيَاتِهِمْ بِالْهَلَاكِ وَمَعْمُورِهِمُ بِالْخَرَابِ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ يَصْحَبُهُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَشَدَّ مَا كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ وَفِي الْجُمْلَةِ إِرْهَابٌ لِقُرَيْشٍ فَكَأَيِّنْ لِلتَّكْثِيرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَجَمَاعَةٌ أَهْلَكْتُهُا بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْجُمْهُورُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَهِيَ ظالِمَةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَحَلُّ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ أَعْنِي وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ قَلْتُ: الْأَوْلَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالثَّانِيَةُ لَا مَحَلَّ لَهَا لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَهْلَكْناها وَهَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فَكَأَيِّنْ الْأَجْوَدُ فِي إِعْرَابِهَا أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ أَهْلَكْناها فَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فَهِيَ خاوِيَةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لَكِنْ يَتَّجِهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى الْوَجْهِ الْقَلِيلِ وَهُوَ إِعْرَابُ فَكَأَيِّنْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ أَهْلَكْناها مُفَسِّرَةً لِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعَلَى هَذَا لَا مَحَلَّ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا لَا مَحَلَّ لَهُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ مُعَطَّلَةٍ مُخَفَّفًا يُقَالُ: عُطِّلَتِ الْبِئْرُ وَأَعْطَلْتُهَا فَعَطَلَتْ، هِيَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَعَطِلَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحُلِيِّ بِكَسْرِ الطَّاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى الْمُعَطَّلَةِ أَنَّهَا عَامِرَةٌ فِيهَا الْمَاءُ وَمَعَهَا آلَاتُ الِاسْتِقَاءِ إِلَّا أَنَّهَا عُطِلَتْ أَيْ تُرِكَتْ لَا يُسْتَقَى مِنْهَا لِهَلَاكِ أَهْلِهَا، وَالْمَشِيدُ الْمُجَصَّصُ أَوِ الْمَرْفُوعُ الْبُنْيَانِ وَالْمَعْنَى كَمْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَا، وكم بئر

_ (1) سورة البقرة: 2/ 259.

عطلنا عن سقاتها وقَصْرٍ مَشِيدٍ أَخْلَيْنَاهُ عَنْ سَاكِنِيهِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ مُعَطَّلَةٍ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَبِئْرٍ وَقَصْرٍ مَعْطُوفَانِ عَلَى مِنْ قَرْيَةٍ ومِنْ قَرْيَةٍ تَمْيِيزٌ لكأين، فَكَأَيِّنْ تَقْتَضِي التَّكْثِيرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِقُرْبِهِ وَبِئْرٍ وَقَصْرٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِهْلَاكُ إِنَّمَا يَقَعُ فِي مُعَيَّنٍ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعِ لَا مِنْ حَيْثُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وينبغي أن يكون بِئْرٍ وَقَصْرٍ مِنْ حَيْثُ عُطِفَا عَلَى مِنْ قَرْيَةٍ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَهْلَكْتُهُمَا كَمَا كَانَ أَهْلَكْتُهَا مُخْبَرًا بِهِ عن فَكَأَيِّنْ الَّذِي هُوَ الْقَرْيَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالْمُرَادُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَالْبِئْرِ وَالْقَصْرِ، وَجَعْلُ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى عُرُوشِها جَهْلٌ بِالْفَصَاحَةِ وَوَصَفَ الْقَصْرَ بِمَشِيدٍ وَلَمْ يُوصَفْ بِمُشَيَّدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «1» لِأَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ نَاسَبَ التَّكْثِيرَ فِيهِ، وَهَذَا مُفْرَدٌ وَأَيْضًا مَشِيدٍ فَاصِلَةُ آيَةٍ. وَقَدْ عَيَّنَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْبِئْرَ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَهْلِ عَدَنَ مِنَ الْيَمَنِ وَهِيَ الرَّسُّ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الْقَصْرَ بَنَاهَ عَادٌ الثَّانِي وَهُوَ مُنْذِرُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ عَادٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ وغيره: أن البئر بحضر موت مَنْ أَرْضَ الشَّحْرِ، وَالْقَصْرُ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ لَا يُرْتَقَى، وَالْبِئْرُ فِي سَفْحِهِ لَا يُقِرُّ الرِّيحُ شَيْئًا يَسْقُطُ فِيهَا. رُوِيَ أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ عَلَيْهَا مَعَ أَرْبَعَةِ آلَافِ نَفَرٍ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ العذاب. وهي بحضر موت، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَالِحًا حِينَ حَضَرَهَا مَاتَ وَثَمَّ بَلْدَةٌ عِنْدَ الْبِئْرِ اسْمُهَا حَاضُورَا بَنَاهَا قَوْمُ صَالِحٍ وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ جَلِيسُ بْنُ جُلَاسٍ، وَأَقَامُوا بِهَا زَمَنًا ثُمَّ كَفَرُوا وَعَبَدُوا صَنَمًا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ شُرَيْحُ بْنُ صَفْوَانَ نَبِيًّا فَقَتَلُوهُ فِي السُّوقِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَنْ آخِرِهِمْ وَعَطَّلَ بِئْرَهُمْ وَخَرَّبَ قَصْرَهُمْ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ صَالِحٍ بِالشَّامِ فِي بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا عَكَّا فَكَيْفَ يَكُونُ بحضر موت. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 78.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَكَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَشْيَاءُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَنْقُلُونَهَا وَهُمْ عَارِفُونَ بِبِلَادِهِمْ وَكَثِيرًا مَا يَمُرُّونَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا قَالَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَثًّا عَلَى السَّفَرِ لِيُشَاهِدُوا مَصَارِعَ الْكُفَّارِ فَيَعْتَبِرُوا، أَوْ يَكُونُوا قَدْ سَافَرُوا وَشَاهَدُوا فَلَمْ يَعْتَبِرُوا فَجُعِلُوا كَأَنْ لَمْ يُسَافِرُوا وَلَمْ يَرَوْا. وَقَرَأَ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: فَيَكُونُ بِالْيَاءِ وَالْجُمْهُورِ بِالتَّاءِ فَتَكُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَعَلَى جَوَابِ التَّقْرِيرِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى جَوَابِ النَّفْيَ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنْ وَيَنْسَبِكُ مِنْهَا وَمِنَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ يُعْطَفُ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الصَّرْفِ إِذْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْخَبَرُ صَرَفُوهُ عَنِ الْجَزْمِ على العطف على يَسِيرُوا، وموردوه إِلَى أَخِي الْجَزْمِ وَهُوَ النَّصْبُ هَذَا مَعْنَى الصَّرْفِ عِنْدَهُمْ، وَمَذْهَبُ الْجَرْمِيِّ أَنَّ النَّصْبَ بِالْفَاءِ نَفْسِهَا وَإِسْنَادُ الْعَقْلِ إِلَى الْقَلْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ لِلدِّمَاغِ بِالْقَلْبِ اتِّصَالًا يَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْلِ إِذَا فَسَدَ الدِّمَاغُ وَمُتَعَلِّقُ يَعْقِلُونَ بِها مَحْذُوفٌ أَيْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ حين كذبوا أنبياءهم ويَعْقِلُونَ مَا يَجِبُ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَكَذَلِكَ مَفْعُولُ يَسْمَعُونَ أَيْ يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ تِلْكَ الْأُمَمِ أَوْ مَا يَجِبُ سَمَاعُهُ مِنَ الْوَحْيِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّها ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَحَسُنَ التَّأْنِيثُ هُنَا وَرَجَّحَهُ كَوْنُ الضَّمِيرِ وَلِيَهُ فِعْلٌ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَهِيَ التَّاءُ فِي لَا تَعْمَى وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ التَّذْكِيرُ وَقَرَأَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا تَعْمَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ الْأَبْصارُ وَفِي تَعْمَى رَاجِعٌ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الَّذِي يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مَحْصُورٌ، وَلَيْسَ هَذَا وَاحِدًا مِنْهَا وَهُوَ فِي بَابِ رُبَّ وَفِي بَابِ نِعْمَ. وَبِئْسَ، وَفِي بَابِ الْأَعْمَالِ، وَفِي بَابِ الْبَدَلِ، وَفِي باب المبتدأ وَالْخَبَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا قَرَّرَ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ. وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ يُفَسِّرُ الضَّمِيرُ فِيهَا الْمُفْرَدَ وَفِي ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَيُفَسَّرُ بِالْجُمْلَةِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَبْصَارَهُمْ سَالِمَةٌ لَا عَمَى بِهَا، وَإِنَّمَا الْعَمَى بِقُلُوبِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَبْصَارَ قَدْ تَعْمَى لَكِنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهَا لَيْسَ الْعَمَى الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا هُوَ ثَمَرَةُ الْبَصَرِ وَهُوَ التَّأْدِيَةُ إِلَى الْفِكْرَةِ فِيمَا يُشَاهِدُ الْبَصَرُ لَكِنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَوُصِفَتْ الْقُلُوبُ بِالَّتِي فِي الصُّدُورِ. قَالَ ابن عطبة مُبَالَغَةٌ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «1» وَكَمَا تَقُولُ نَظَرْتُ إِلَيْهِ بعيني.

_ (1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 167.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي قَدْ تُعُورِفَ وَاعْتُقِدَ أَنَّ الْعَمَى عَلَى الْحَقِيقَةِ مَكَانُ الْبَصَرِ وَهُوَ أَنْ تُصَابَ الْحَدَقَةُ بِمَا يَطْمِسُ نُورَهَا، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْقَلْبِ اسْتِعَارَةٌ وَمَثَلٌ، فلما أريد إِثْبَاتُ مَا هُوَ خِلَافُ الْمُعْتَقَدِ مِنْ نِسْبَةِ الْعَمَى إِلَى الْقُلُوبِ حَقِيقَةً وَنَفْيِهِ عَنِ الْأَبْصَارِ احْتَاجَ هَذَا التَّصْوِيرُ إِلَى زِيَادَةِ تَعْيِينٍ وَفَضْلِ تَعْرِيفٍ لِتَقَرُّرِ أَنَّ مَكَانَ الْعَمَى هُوَ الْقُلُوبُ لَا الْأَبْصَارُ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ الْمَضَاءُ لِلسَّيْفِ وَلَكِنَّهُ لِلِسَانِكَ الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ فَقَوْلُكُ: الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ تَقْرِيرٌ لِمَا ادَّعَيْتَهُ لِلِسَانِهِ، وَتَثْبِيتٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَضَاءِ هُوَ هُوَ لَا غَيْرُ وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا نَفَيْتَ الْمَضَاءَ عَنِ السَّيْفِ وَأَثْبَتَّهُ لِلِسَانِكَ فَلْتَةً وَلَا سَهْوًا مِنِّي وَلَكِنْ تَعَمَّدْتُ بِهِ إِيَّاهُ بِعَيْنِهِ تَعَمُّدًا انْتَهَى. وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ تَعَمَّدْتُ بِهِ إِيَّاهُ بِعَيْنِهِ تَعَمُّدًا فَصْلَ الضَّمِيرِ وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ فَصْلِهِ، وَالصَّوَابُ وَلَكِنْ تَعَمَّدْتُهُ بِهِ كَمَا تَقُولُ السَّيْفُ ضَرَبْتُكَ بِهِ وَلَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ بِهِ إِيَّاكَ، وَفَصْلُهُ فِي مَكَانِ اتِّصَالِهِ عُجْمَةٌ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْقَلْبَ قَدْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنِ الْخَاطِرِ، وَالتَّدْبِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «1» وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ مَحَلَّ الْفِكْرِ هُوَ الدِّمَاغُ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّدْرُ. وَالضَّمِيرُ فِي وَيَسْتَعْجِلُونَكَ لِقُرَيْشٍ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَذِّرُهُمْ نَقَمَاتِ اللَّهِ وَيُوعِدُهُمْ بِذَلِكَ دُنْيَا وَآخِرَةً وَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، فَكَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَإِنْ مَا تَوَعَّدَتْنَا بِهِ لَا يَقَعُ وَإِنَّهُ لَا بَعْثَ وَفِي قوله وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أَيْ إِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ لِوُقُوعِهِ أَجَلٌ لَا يَتَعَدَّاهُ. وَأَضَافَ الْوَعْدَ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الْمُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْكَرَ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْمُتَوَعَّدِ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلِمَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ كَأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْفَوْتَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مِيعَادِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ وَاللَّهُ عَزَّ وَعُلَا لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَمَا وَعَدَهُ لِيُصِيبَهُمْ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ وَهُوَ سُبْحَانُهُ حَلِيمٌ لَا يُعَجَّلُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مِيعَادِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ دَسِيسَةَ الِاعْتِزَالِ. وَقِيلَ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي النَّظْرَةِ وَالْإِمْهَالِ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّشَبُّهِ. فَقِيلَ: فِي الْعَدَدِ أَيِ الْيَوْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ عَدَدِكُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ» فَالْمَعْنَى وَإِنْ طال الإمهال

_ (1) سورة ق: 50/ 37.

فَإِنَّهُ فِي بَعْضِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي الطُّولِ لِلْعَذَابِ فِيهِ، وَالشِّدَّةِ أَيْ وَإِنَّ يَوْماً مِنْ أَيَّامِ عَذَابِ اللَّهِ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ فِيهِ وَطُولِهِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ عَدَدِكُمْ إِذْ أَيَّامُ التَّرِحَةِ مُسْتَطَالَةٌ وَأَيَّامُ الْفَرْحَةِ مُسْتَقْصِرَةٌ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْعَذَابِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا حَالَ الْآخِرَةِ مَا اسْتَعْجَلُوهُ وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَإِنْفَاذِ مَا يُرِيدُ كَأَلْفِ سَنَةٍ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ وَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ عِنْدَهُ كَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْعَدَدِ لِكَوْنِ الْأَلْفِ مُنْتَهَى الْعَدَدِ دُونَ تَكْرَارٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَاسِبُ مَوْرِدَ الْآيَةِ إِلَّا إِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبْعِدُوا إِمْهَالَ يَوْمٍ فَلَا يَسْتَبْعِدُوا أَيْضًا إِمْهَالَ أَلْفِ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْيَوْمِ مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ الله فيها السموات وَالْأَرْضَ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى يُجْمَعُ لَهُمْ عَذَابُ أَلْفِ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلِأَهْلِ الْجَنَّةِ سُرُورُ أَلْفِ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُرِيدَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَيْ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي إِنْزَالِ الْعَذَابِ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ يَوْماً مِنْ أَيَّامِ عَذَابِكُمْ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ تَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَفَضَّلَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْإِمْهَالِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْيَوْمَ عِنْدَ اللَّهِ وَالْأَلْفَ سَوَاءٌ فِي قُدْرَتِهِ بَيْنَ مَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ وَبَيْنَ تَأَخُّرِهِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ يَعُدُّونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَعُطِفَتْ فَكَأَيِّنْ الْأُولَى بِالْفَاءِ وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأُولَى وَقَعَتْ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ وما هَذِهِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ بالواو أعني قوله لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ وتكرر التكثير بكأين فِي الْقُرَى لِإِفَادَةِ مَعْنَى غَيْرِ مَا جَاءَتْ لَهُ الْأُولَى لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا دُونَ إِمْلَاءٍ وَتَأْخِيرٍ، بَلْ أَعْقَبَ الْإِهْلَاكَ التَّذْكِيرُ وَهَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ أَمْهَلَ قُرَيْشًا حَتَّى اسْتَعْجَلَتْ بِالْعَذَابِ جَاءَتْ بِالْإِهْلَاكِ بَعْدَ الْإِمْلَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا وَإِنْ أَمْلَى تَعَالَى لَهُمْ وَأَمْهَلَهُمْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَذَابِهِمْ فَلَا يَفْرَحُوا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لأهل مكة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مُوَضَّحٌ لَكُمْ مَا تَحْذَرُونَ أَوْ مُوَضَّحُ النِّذَارَةِ لَا تَلَجْلُجَ فِيهَا، وَذَكَرَ النِّذَارَةَ دُونَ الْبِشَارَةِ وَإِنْ كَانَ التَّقْسِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْتَضِيهِمَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ مسوق للمشركين، ويا أَيُّهَا النَّاسُ نِدَاءٌ لَهُمْ وَهُمُ الْمَقُولُ فِيهِمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا وَالْمَخْبَرُ عَنْهُمْ بِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمُؤْمِنُونَ هُنَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ لِيُغَاظَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَلِيُحَرِّضَهُمْ عَلَى نَيْلِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الْجَلِيلَةِ

الَّتِي فِيهَا فَوْزُهُمْ، وَحَصَرَ النِّذَارَةَ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ لِي تَعْجِيلُ عَذَابِكُمْ وَلَا تَأْخِيرِهِ عَنْكُمْ وَإِنَّمَا أَنَا مُنْذِرُكُمْ بِهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: التَّقْدِيرُ بَشِيرٌ ونَذِيرٌ فَحُذِفَ وَالتَّقْسِيمُ دَاخِلٌ فِي الْمَقُولِ، وَالسَّعْيُ الطَّلَبُ وَالِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ، وَيُقَالُ: سَعَى فُلَانٌ فِي أَمْرِ فُلَانٍ فَيَكُونُ بِإِصْلَاحٍ وَبِإِفْسَادٍ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، يُقَالُ: فِيهِ سَعَى بِفُلَانٍ سِعَايَةً أَيْ تَحَيَّلَ، وَكَادَ فِي إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِ وَسَعْيِهِمْ بِالْفَسَادِ فِي آيَاتِ اللَّهِ حَيْثُ طَعَنُوا فِيهَا فَسَمُّوهَا سِحْرًا وَشِعْرًا وَأَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَثَبَّطُوا النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو السَّمَّالِ وَالزَّعْفَرَانِيُّ مُعَجِّزِينَ بِالتَّشْدِيدِ هُنَا وَفِي حَرْفَيْ سَبَأٍ زَادَ الْجَحْدَرِيُّ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ أَيْ مُثَبِّطِينَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِأَلِفٍ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُعْجِزِينَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ مَنْ أَعْجَزَنِي إِذَا سَبَقَكَ فَفَاتَكَ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: لَكِنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى مُعَاجِزِينِ أَي ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا، وَذَلِكَ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ. وَقِيلَ: فِي مُعاجِزِينَ مُعَانِدِينَ، وَأَمَّا مُعَجِّزِينِ بِالتَّشْدِيدِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى مُثَبِّطِينَ النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَيُقَالُ: مُثَبِّطِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَاجَزَهُ سَابَقَهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَلَبِ إِعْجَازِ الْآخَرِ عَنِ اللَّحَاقِ بِهِ، فَإِذَا سَبَقَهُ قِيلَ أَعْجَزَهُ وَعَجَّزَهُ، فَالْمَعْنَى سَابِقِينَ أَوْ مُسَابِقِينَ فِي زَعْمِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ، طَامِعِينَ أَنَّ كَيْدَهُمْ لِلْإِسْلَامِ يَتِمُّ لَهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مُعَجِّزِينِ مَعْنَاهُ نَاسِبِينَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَى الْعَجْزِ كَمَا تَقُولُ: فَسَّقْتُ فُلَانًا إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الْفِسْقِ. وَتَقَدَّمَ شَرَحُ أُخْرَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ تَقْسِيمًا. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا

لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يدفع عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِتَالِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَذَكَرَ مَسْلَاةَ رسوله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ إِثْرَ التَّكْذِيبِ وَبَعْدَ الْإِمْهَالِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ النَّاسَ وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ نَذِيرٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْجَلُوا بِالْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَذَابِ وَلَا تَأْخِيرُهُ، ذَكَرَ لَهُ تَعَالَى مَسْلَاةً ثَانِيَةً بِاعْتِبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِمْ مُتَمَنِّينَ لِذَلِكَ مُثَابِرِينَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَكَانَ الشَّيْطَانُ يُرَاغِمُهُ بِتَزْيِينِ الْكُفْرِ لِقَوْمِهِ وَبَثِّ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَإِلْقَائِهِ فِي نُفُوسِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى هُدَى قَوْمِهِ وَكَانَ فِيهِمْ شَيَاطِينُ كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ يُلْقُونَ لِقَوْمِهِ وَلِلْوَافِدِينَ عَلَيْهِ شُبَهًا يُثَبِّطُونَ بِهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ «1» وَسَعْيَهُمْ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ مَنِ اسْتَمَالُوهُ، وَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغْوِي وَالْمُحَرِّكُ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ لِلْإِغْوَاءِ كَمَا قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ «2» وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيْطانُ هُنَا هُوَ جِنْسٌ يُرَادُ بِهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ. وَالضَّمِيرُ فِي أُمْنِيَّتِهِ عَائِدٌ عَلَى الشَّيْطانُ أَيْ فِي أُمْنِيَّةِ نَفْسِهِ، أَيْ بِسَبَبِ أُمْنِيَّةِ نَفْسِهِ. وَمَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الشَّرُّ وَالْكُفْرُ، وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ الرَّسُولِ أَوِ النَّبِيِّ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ يُلْقِي الْخَيْرَ. وَمَعْنَى فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ يُزِيلُ تِلْكَ الشُّبَهَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يُسْلِمَ النَّاسُ، كَمَا قَالَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «3» ويُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ مُعْجِزَاتِهِ يُظْهِرُهَا مُحْكَمَةً لَا لَبْسَ فِيهَا لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ مِنْ تِلْكَ الشُّبَهِ وَزَخَارِفِ الْقَوْلِ فِتْنَةً لِمَرِيضِ الْقَلْبِ وَلِقَاسِيهِ وَلِيَعْلَمَ مَنْ أُوتِيَ الْعِلْمُ أَنَّ مَا تَمَنَّى الرَّسُولُ وَالنَّبِيُّ مِنْ هِدَايَةِ قَوْمِهِ وَإِيمَانِهِمْ هُوَ الْحَقُّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا إِسْنَادُ شَيْءٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ حَالَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ إِذَا تمنوا.

_ (1) سورة الحج: 22/ 51. (2) سورة الحجر: 15/ 39 وسورة ص: 38/ 82. (3) سورة النصر: 10/ 2.

وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فَمَنْ قَبْلَهُمَا وَمَنْ بَعْدَهُمَا مَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمَعْصُومِ صَلَوَاتِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَطَالُوا فِي ذَلِكَ وَفِي تَقْرِيرِهِ سُؤَالًا وَجَوَابًا وَهِيَ قِصَّةٌ سُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ جَامِعُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ رُوَاتَهَا مَطْعُونٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِي التَّصَانِيفِ الحديثة شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ وَلِذَلِكَ نَزَّهْتُ كِتَابِي عَنْ ذِكْرِهِ فِيهِ. وَالْعَجَبُ مِنْ نَقْلِ هَذَا وَهُمْ يَتْلُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لِنَبِيِّهِ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ «2» وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ «3» الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ «4» الْآيَةَ فَالتَّثْبِيتُ وَاقِعٌ وَالْمُقَارَبَةُ مَنْفِيَّةٌ. وَقَالَ تَعَالَى كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «5» وَقَالَ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «6» وَهَذِهِ نُصُوصٌ تَشْهَدُ بِعِصْمَتِهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ يَطْرُقُ إِلَى تَجْوِيزِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرِيعَةِ فَلَا يُؤْمَنُ فِيهَا التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ، وَاسْتِحَالَةُ ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ إِذْ قَدْ قَرَّرْنَا مَا لَاحَ لَنَا فِيهَا مِنَ الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ فِيهِ لِابْتِدَاءِ الغاية ومِنْ فِي مِنْ رَسُولٍ زَائِدَةٌ تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ. وَعَطْفُ وَلا نَبِيٍّ عَلَى مِنْ رَسُولٍ دَلِيلٌ عَلَى الْمُغَايَرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى مَدْلُولَيْهِمَا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَجَاءَ بَعْدَ إِلَّا جُمْلَةٌ ظَاهِرُهَا الشَّرْطُ وَهُوَ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَلِيهَا فِي النَّفْيِ مُضَارِعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطٌ، فَتَقُولُ: مَا زيد إلّا بفعل كَذَا، وَمَا رَأَيْتُ زَيْدًا إِلَّا يَفْعَلُ كَذَا، وَمَاضٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ فِعْلٌ كَقَوْلِهِ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا «7» أَوْ يَكُونُ الْمَاضِي مَصْحُوبًا بِقَدْ نَحْوَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَدْ قَامَ، وَمَا جَاءَ بَعْدَ إِلَّا فِي الْآيَةِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ وَلَمْ يَلِهَا مرض مَصْحُوبٌ بِقَدْ وَلَا عَارٍ مِنْهَا، فَإِنْ صَحَّ مَا نَصُّوا عَلَيْهِ تُؤَوَّلُ عَلَى أَنَّ إِذَا جُرِّدَتْ لِلظَّرْفِيَّةِ وَلَا شَرْطَ فِيهَا وَفُصِلَ بِهَا بَيْنَ إِلَّا وَالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَلْقَى وَهُوَ فَصْلٌ جَائِزٌ فَتَكُونُ إِلَّا قَدْ وَلِيَهَا مَاضٍ فِي التقدير ووجد

_ (1) سورة النجم: 53/ 1- 4. (2) سورة يونس: 10/ 15. (3) سورة الحاقة: 69/ 44. [.....] (4) سورة الإسراء: 17/ 74. (5) سورة الفرقان: 25/ 32. (6) سورة الأعلى: 87/ 6. (7) سورة الحجر: 1/ 11.

شَرَطَهُ وَهُوَ تَقَدُّمُ فِعْلٍ قَبْلَ إِلَّا وَهُوَ وَما أَرْسَلْنا وَعَادَ الضَّمِيرُ فِي تَمَنَّى مُفْرَدًا وَذَكَرُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ عَادَ الضَّمِيرُ مُطَابِقًا لِلْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَهَذَا عَطْفٌ بِالْوَاوِ وَمَا جَاءَ غَيْرَ مُطَابِقٍ أَوَّلُوهُ عَلَى الْحَذْفِ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ هَذَا وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وتَمَنَّى تَفَعَّلَ مِنَ الْمُنْيَةِ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: التَّمَنِّي نِهَايَةُ التَّقْدِيرِ، وَمِنْهُ الْمُنْيَةُ وَفَاةُ الْإِنْسَانِ لِلْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَمَنَّى اللَّهُ لَكَ أَيْ قَدَّرَ. وَقَالَ رُوَاةُ اللُّغَةِ: الْأُمْنِيَّةُ الْقِرَاءَةُ، وَاحْتَجُّوا بِبَيْتِ حَسَّانَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذُكِرَ فَإِنَّ التَّالِيَ مُقَدِّرٌ لِلْحُرُوفِ فَذَكَرَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا انْتَهَى. وَبَيْتُ حَسَّانَ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ وَقَالَ آخَرُ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزبور على الرسل وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ إِذا تَمَنَّى عَلَى تَلَا وفِي أُمْنِيَّتِهِ عَلَى تِلَاوَتِهِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاهُ إِلَّا، وَحَالُهُ هَذِهِ. وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي نَحْوِ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ لَا صِفَةَ لِقَبُولِهَا وَاوَ الْحَالِ، وَاللَّامُ فِي لِيَجْعَلَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَحْكُمُ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِيَنْسَخُ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بِأَلْقَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَقِيلَ: هِيَ لام العاقبة وما فِي مَا يُلْقِي الظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. وَالْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ. وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عَامَّةُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُنَافِقُونَ وَالشَّاكُونَ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ خَوَاصٌّ مِنَ الْكُفَّارِ عُتَاةٌ كَأَبِي جَهْلٍ وَالنَّضْرِ وَعُتْبَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يُرِيدُ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَصْلُهُ وَإِنَّهُمْ فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، قَضَاءً عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ. وَالشِّقَاقُ الْمُشَاقَّةُ أَيْ فِي شَقٍّ غَيْرِ شَقِّ الصَّلَاحِ، وَوَصْفُهُ بِالْبَعِيدِ مُبَالَغَةٌ فِي انْتِهَائِهِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْجُوٍّ رَجْعَتُهُمْ مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي: أَنَّهُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أصحاب رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا فِي الْآيَةِ مَا يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ فَتُخْبِتَ أَيْ تَتَوَاضَعَ وَتَتَطَامَنَ بِخِلَافِ مَنْ فِي قبله مَرَضٌ وَقَسَا قَلْبُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا الإضافة، وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عبلة بتنوين الهاد.

الْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَلَى الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ أَوَّلًا ثُمَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ثَانِيًا عَادَ إِلَى شَرْحِ حَالِ الْكَافِرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قِيلَ: وَالْيَوْمُ الْعَقِيمُ يَوْمُ بَدْرٍ. وَقِيلَ: سَاعَةُ مَوْتِهِمْ أَوْ قَتْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْيَوْمُ الْعَقِيمُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْيَوْمُ الْعَقِيمُ يَوْمُ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا وُصِفَ يَوْمُ الْحَرْبِ بِالْعَقِيمِ لِأَنَّ أَوْلَادَ النِّسَاءِ يُقْتَلُونَ فِيهِ فَيَصِرْنَ كَأَنَّهُنَّ عُقْمٌ لَمْ يَلِدْنَ، أَوْ لِأَنَّ الْمُقَاتِلِينَ يُقَالُ لَهُمْ أَبْنَاءُ الْحَرْبِ فَإِذَا قُتِلُوا وُصِفَ يَوْمُ الْحَرْبِ بِالْعُقْمِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ يُقَالُ: رِيحٌ عَقِيمٌ إِذَا لَمْ تُنْشِئْ مَطَرًا وَلَمْ تُلَقِّحْ شَجَرًا. وَقِيلَ: لَا مَثَلَ لَهُ فِي عِظَمِ أَمْرِهِ لِقِتَالِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: إِنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَةِ مُقَدِّمَاتُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بالساعة ويَوْمٍ عَقِيمٍ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُهَا فَوَضَعَ يَوْمٍ عَقِيمٍ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ الِاسْتِئْصَالِ عَقِيمًا لِأَنَّهُ لَا لَيْلَةَ بَعْدَهُ وَلَا يَوْمَ، وَالْأَيَّامُ كُلُّهَا نَتَائِجُ يَجِيءُ وَاحِدٌ إِثْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ آخِرُ يَوْمٍ قَدْ عَقِمَ وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوَعُّدٌ انْتَهَى. وحَتَّى غَايَةٌ لِاسْتِمْرَارِ مِرْيَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أَوْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فَتَزُولُ مِرْيَتُهُمْ وَيُشَاهِدُونَ الْأَمْرَ عِيَانًا. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ تَنْوِينُ الْعِوَضِ، وَالْجُمْلَةُ الْمُعَوَّضُ مِنْهَا هَذَا التَّنْوِينُ هُوَ الَّذِي حُذِفَ بَعْدَ الْغَايَةِ أَيِ الْمُلْكُ يَوْمُ تَزُولُ مِرْيَتُهُمْ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوَّلًا يَوْمَ يُؤْمِنُونَ وَهُوَ لَازِمٌ لِزَوَالِ الْمِرْيَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا زَالَتِ الْمِرْيَةُ آمَنُوا، وَقُدِّرَ ثَانِيًا كَمَا قَدَّرَنَا وَهُوَ الْأَوْلَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا مُلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «1» وَيُسَاعِدُ هَذَا التَّقْسِيمُ بَعْدَهُ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ وَنَحْوُهُ فَمِنْ حَيْثُ يَنْفُذُ قَضَاءُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَيَبْطُلُ مَا سِوَاهُ وَيَمْضِي حُكْمُهُ فِيمَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُ، وَيَكُونُ التَّقْسِيمُ إِخْبَارًا مُتَرَكِّبًا عَلَى حَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَقِيمِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَأَلْفَاظُ التَّقْسِيمِ وَمَعَانِيهَا وَاضِحَةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. وَقَابَلَ النَّعِيمَ بِالْعَذَابِ وَوَصَفَهُ بِالْمُهِينِ مُبَالَغَةً فِيهِ. وَالَّذِينَ هاجَرُوا الْآيَةَ هَذَا ابْتِدَاءُ مَعْنًى آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: مِنْ قُتِل مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَفْضَلُ مِمَّنْ مَاتَ حتف

_ (1) سورة غافر: 40/ 16.

أَنْفِهِ، فَنَزَلَتْ مُسَوِّيَةً بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُمْ رِزْقاً حَسَناً وَظَاهِرُ وَالَّذِينَ هاجَرُوا الْعُمُومُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي طَوَائِفَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ فَتَبِعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَاتَلُوهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ طَوَائِفَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا قَدْ عَلِمْنَا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَنَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَمَا جَاهَدُوا، فَمَا لَنَا إِنْ مِتْنَا مَعَكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا جَمَعَتْهُمُ الْمُهَاجِرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْمَوْعِدِ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مِثْلَ مَا يُعْطِي مَنْ قُتِلَ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِدَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ وَمَرَاتِبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، حَلِيمٌ عَنْ تَفْرِيطِ الْمُفَرِّطِ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَمَرَاتِبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْوَعْدِ بِالرِّزْقِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلٍ فِي قَدْرِ الْمُعْطَى، وَلَا تَسْوِيَةَ فَإِنْ يَكُنْ تَفْضِيلٌ فَمِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَظَاهِرُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْمَقْتُولَ أَفْضَلُ. وَقِيلَ: الْمَقْتُولُ وَالْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهِيدَانِ. وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ رِزْقُ الشُّهَدَاءِ فِي الْبَرْزَخِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ النَّعِيمُ فِيهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الغنيمة. وقال الأصلم: هُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً «1» وَضُعِّفَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الرِّزْقَ الْحَسَنَ جَزَاءً عَلَى قَتْلِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مَوْتِهِمْ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَالتَّفَاوُتُ أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِأَنْ يَرْزُقَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَبِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ إِنَّمَا يَرْزُقُ بِمَالِهِ مِنَ الرِّزْقِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الرِّزْقَ ذَكَرَ الْمَسْكَنَ فَقَالَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ يَرْضَوْنَهُ يَخْتَارُونَهُ إِذْ فِيهِ رِضَاهُمْ كَمَا قَالَ لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا «2» وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ بِضَمِّ الْمِيمِ أَوْ فَتْحِهَا فِي النِّسَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بِالْمَدْخَلِ مَكَانَ الدُّخُولِ أَوْ مَكَانَ الْإِدْخَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ الْآيَةَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِيَهُمْ كُفَّارٌ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَأَبَى الْمُؤْمِنُونَ مِنْ قِتَالِهِمْ وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا الْقِتَالَ، فَلَمَّا اقْتَتَلُوا جَدَّ الْمُؤْمِنُونَ وَنَصَرَهُمُ اللَّهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ هَاجَرَ وقتل أو

_ (1) سورة هود: 11/ 88. (2) سورة الكهف: 18/ 108.

مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَدَعُ نُصْرَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ بَغَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ وَالتَّقْدِيرُ الْأَمْرُ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَسْمِيَةُ الِابْتِدَاءِ بِالْجَزَاءِ لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَبَبٌ وَذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَنْهُ كَمَا يحملون النَّظِيرَ عَلَى النَّظِيرِ وَالنَّقِيضَ عَلَى النَّقِيضِ لِلْمُلَابَسَةِ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ ذِكْرُ الْعَفُوِّ الْغَفُورِ هَذَا الْمَوْضِعَ؟ قُلْتُ: الْمُعَاقِبُ مَبْعُوثٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْإِخْلَالِ بِالْعِقَابِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْجَانِي عَلَى طَرِيقِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمُسْتَوْجِبٌ عِنْدَ اللَّهِ الْمَدْحَ إِنْ آثَرَ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ وَسَلَكَ سَبِيلَ التَّنْزِيهِ، فَحِينَ لَمْ يُؤْثِرْ ذَلِكَ وَانْتَصَرَ وَعَاقَبَ وَلَمْ يَنْظُرْ فِي قَوْلِ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1» وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «2» وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «3» فإن اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أَيْ لَا يَلُومُهُ عَلَى تَرْكِ مَا بَعَثَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصْرِهِ فِي كَرَّتِهِ الثَّانِيَةِ مِنْ إِخْلَالِهِ بِالْعَفْوِ وَانْتِقَامِهِ مِنَ الْبَاغِي عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ النَّصْرَ عَلَى الْبَاغِي فَيُعْرِضُ مَعَ ذَلِكَ بِمَا كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْعَفْوِ، وَيُلَوِّحُ بِهِ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ أَوْ دَلَّ بِذِكْرِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْعَفْوِ إِلَّا الْقَادِرُ عَلَى حَدِّهِ ذَلِكَ، أَيْ ذَلِكَ النَّصْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَادِرٌ. وَمِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ الْبَالِغَةِ أَنَّهُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ والنَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَوْ بِسَبَبِ أَنَّهُ خَالِقُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمُصَرِّفُهُمَا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي فِيهِمَا عَلَى أَيْدِي عِبَادِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبَغْيِ وَالِانْتِصَارِ. وَأَنَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ بَصِيرٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ آلِ عِمْرَانَ شَرْحُ هَذَا الْإِيلَاجِ. ذلِكَ أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفِ بِخَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْإِحَاطَةِ بِمَا يَجْرِي فِيهِمَا وَإِدْرَاكِ كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ الْحَقُّ الثَّابِتُ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَدَّعِي إِلَهًا دُونَهُ بَاطِلٌ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ شَأْنًا وَأَكْبَرُ سُلْطَانًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ مَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ يَدْعُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ هنا في لُقْمَانَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكِلَاهُمَا الْفِعْلُ فِيهِ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْيَمَانِيُّ وَمُوسَى الْأُسْوَارِيُّ يُدْعُو بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْوَاوُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا وما الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَصْنَامُهُمْ. وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَدْعُوٍّ دُونَ اللَّهِ تعالى.

_ (1) سورة الشورى: 42/ 40. (2) سورة البقرة: 2/ 237. (3) سورة الشورى: 42/ 43.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا دَلَّ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ مِنْ إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَالنَّهَارِ فِي اللَّيْلِ وَهُمَا أَمْرَانِ مُشَاهَدَانَ مَجِيءُ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، ذَكَرَ أَيْضًا مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَهُوَ نُزُولُ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتُ الْأَرْضِ وَإِنْزَالُ الْمَطَرِ وَاخْضِرَارُ الْأَرْضِ مَرْئِيَّانِ، وَنِسْبَةُ الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَاءُ وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا إِلَّا أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ مُنْزِلَهُ مِنَ السَّمَاءِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْعِلْمُ كَانَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ فَأَصْبَحَتْ وَلِمَ صُرِفَ إِلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ؟ قُلْتُ: لِنُكْتَةٍ فِيهِ وَهِيَ إِفَادَةُ بَقَاءِ أَثَرِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ. كَمَا تَقُولُ أَنْعَمَ عَلَيَّ فُلَانٌ عَامَ كَذَا، فَأَرُوحُ وَأَغْدُو شَاكِرًا لَهُ. وَلَوْ قُلْتَ فَرِحْتُ وَغَدَوْتُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَوْقِعَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا بَالُهُ رَفَعَ وَلَمْ يَنْصِبْ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ؟ قُلْتُ: لَوْ نَصَبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ مِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرَ إِنْ نَصَبْتَهُ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٌّ تَفْرِيطَهُ، وَإِنْ رَفَعْتَهُ فَأَنْتُمْ مثبت لِلشُكْرِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَتَوْقِيرِ أَهْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَتَضْحَى أَوْ تَصِيرُ عِبَارَةً عَنِ اسْتِعْجَالِهَا أَثَرَ نُزُولِ الْمَاءِ وَاسْتِمْرَارِهَا كَذَلِكَ عَادَةً وَوَقَعَ قَوْلُهُ فَتُصْبِحُ مِنْ حَيْثُ الْآيَةِ خَبَرًا، وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ وَلَيْسَتْ بِجَوَابٍ لِأَنَّ كَوْنَهَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ فَاسِدُ الْمَعْنَى انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُوَ وَلَا الزَّمَخْشَرِيُّ كَيْفَ يَكُونُ النَّصْبُ نَافِيًا لِلِاخْضِرَارِ، وَلَا كَوْنَ الْمَعْنَى فَاسِدًا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَسَأَلْتُهُ يَعْنِي الْخَلِيلَ عَنْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فَقَالَ: هَذَا وَاجِبٌ وَهُوَ تَنْبِيهٌ. كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَتَسْمَعُ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ هَذَا وَاجِبٌ، وَقَوْلُهُ فَكَانَ كَذَا يُرِيدُ أَنَّهُمَا

مَاضِيَانِ، وَفَسَّرَ الْكَلَامَ بِأَتَسْمَعُ لِيُرِيَكَ أَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بِالِاسْتِفْهَامِ لِضَعْفِ حُكْمِ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ، وَوَقَعَ فِي الشَّرْقِيَّةِ عِوَضُ أَتَسْمَعُ انْتَبِهْ انْتَهَى. وَمَعْنَى فِي الشَّرْقِيَّةِ فِي النُّسْخَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْكِتَابِ فَتُصْبِحُ لَا يُمْكِنُ نَصْبُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ وَاجِبٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فَالْأَرْضُ هَذَا حَالُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَلَمْ تَرَ خَبَرٌ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ كَذَا فَيَكُونُ كَذَا انْتَهَى. وَيَقُولُ إِنَّمَا امْتَنَعَ النَّصْبُ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ هُنَا لِأَنَّ النَّفْيَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي تَقْرِيرًا فِي بَعْضِ الْكَلَامِ هُوَ مُعَامَلٌ مُعَامَلَةَ النَّفْيِ الْمَحْضِ فِي الْجَوَابِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» وَكَذَلِكَ فِي الْجَوَابِ بِالْفَاءِ إِذَا أَجَبْتَ النَّفْيَ كَانَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْتَفِي الْجَوَابُ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا بِالنَّصْبِ، فَالْمَعْنَى مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا إِنَّمَا يَأْتِي وَلَا يُحَدِّثُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّكَ لَا تَأْتِي فَكَيْفَ تُحَدِّثُ، فَالْحَدِيثُ مُنْتَفٍ فِي الْحَالَتَيْنِ وَالتَّقْرِيرُ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ كَالنَّفْيِ الْمَحْضِ فِي الْجَوَابِ يُثْبِتُ مَا دَخَلَتْهُ الْهَمْزَةُ، وَيَنْتَفِي الْجَوَابُ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ إِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ وَانْتِفَاءُ الِاخْضِرَارِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ جَوَابَ الِاسْتِفْهَامِ يَنْعَقِدُ مِنْهُ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ السَّابِقِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ فَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرُكَ الرُّسُومُ يَتَقَدَّرُ أَنْ تَسْأَلَ فَتُخْبِرُكَ الرُّسُومُ، وَهُنَا لَا يَتَقَدَّرُ أَنْ تَرَى إِنْزَالَ الْمَطَرِ تُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً لِأَنَّ اخْضِرَارَهَا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى عِلْمِكَ أَوْ رُؤْيَتِكَ، إِنَّمَا هُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّ فِيهِ تَصْوِيرًا لِلْهَيْئَةِ الَّتِي الْأَرْضُ عَلَيْهَا، وَالْحَالَةِ التي لا بست الْأَرْضَ، وَالْمَاضِي يُفِيدُ انْقِطَاعُ الشَّيْءِ وَهَذَا كَقَوْلِ جَحْدَرِ بْنِ مَعْوَنَةَ الْعُكْلِيِّ، يَصِفُ حَالَهَ مَعَ أَشَدِّ نَازِلَةٍ فِي قِصَّةٍ جَرَتْ لَهُ مَعَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: يسمو بناظرين تَحسَبُ فيهِمَا ... لَمَّا أَجَالَهُمَا شُعَاعَ سِرَاجِ لَمَّا نَزَلْتُ بِحِصْنٍ أَزْبَرَ مُهْصِرٍ ... لِلْقِرْنِ أَرْوُاحَ الْعِدَا مَحْاجِ فَأَكِرُّ أَحْمِلُ وَهُوَ يُقْعِي بِاسْتِهِ ... فَإِذَا يَعُودُ فَرَاجِعْ أَدْرَاجِي وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أَبَيْتُ نِزَالَهُ ... أَنِّي مِنَ الْحَجَّاجِ لَسْتُ بِنَاجِي فَقَوْلُهُ: فَأَكِرُّ تَصْوِيرٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي لَابَسَهَا. وَالظَّاهِرُ تَعَقُّبُ اخْضِرَارِ الْأَرْضِ إنزال المطر وذلك

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 172.

مَوْجُودٌ بِمَكَّةَ وَتِهَامَةَ فَقَطْ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَأَخَذَ تُصْبِحُ عَلَى حَقِيقَتِهَا أَيْ: تُصْبِحُ، مِنْ لَيْلَةِ الْمَطَرِ. وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الِاخْضِرَارَ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَتِهَامَةَ يَتَأَخَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ شَاهَدْتُ هَذَا فِي السُّوسِ الْأَقْصَى نَزَلَ الْمَطَرُ لَيْلًا بَعْدَ قَحْطٍ فَأَصْبَحَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ الرَّمَلَةُ الَّتِي قَدْ نَسَفَتْهَا الرِّيَاحُ قَدِ اخْضَرَّتْ بنبات ضعيف انْتَهَى. وَإِذَا جَعَلْنَا فَتُصْبِحُ بِمَعْنَى فَتَصِيرُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاخْضِرَارُ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، وَإِذَا كَانَ الِاخْضِرَارُ مُتَأَخِّرًا عَنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ فَثَمَّ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ، فَتَهْتَزُّ وَتَرْبُو فَتُصْبِحُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ «1» . وقرىء مُخْضَرَّةً عَلَى وَزْنِ مُفْعِلَةٍ وَمُسْبِعَةً أَي ذَاتَ خُضَرٍ، وَخَصَّ تُصْبِحُ دُونَ سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَبْهَجُ وَأَسَرُّ لِلرَّائِي. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أَيْ بِاسْتِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ خَبِيرٌ بِمَا يَحْدُثُ عَنْ ذَلِكَ النَّبْتِ مِنَ الْحَبِّ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ خَبِيرٌ بِلَطِيفِ التَّدْبِيرِ خَبِيرٌ بِالصُّنْعِ الْكَثِيرِ. وَقِيلَ: خَبِيرٌ بِمَقَادِيرِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فَيَفْعَلُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَطِيفٌ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ خَبِيرٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْقُنُوطِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ لَطِيفٌ بِأَفْعَالِهِ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَطِيفٌ وَاصِلٌ عِلْمُهُ أَوْ فَضْلُهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ خَبِيرٌ بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّطِيفُ الْمُحْكِمُ لِلْأُمُورِ بِرِفْقٍ. مَا فِي الْأَرْضِ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَ وَالْمَعَادِنَ وَالْمَرَافِقَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْفُلْكَ بِالنَّصْبِ وَضَمَّ اللَّامَ ابْنُ مِقْسَمٍ وَالْكِسَائِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، وَانْتَصَبَ عَطْفًا عَلَى مَا وَنَبَّهَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُنْدَرِجَةً فِي عُمُومِ مَا تَنْبِيهًا عَلَى غَرَابَةِ تَسْخِيرِهَا وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَلَالَةِ بِتَقْدِيرِ وَأَنَّ الْفُلْكَ وَهُوَ إِعْرَابٌ بَعِيدٌ عَنِ الفصاحة وتَجْرِي حَالٌ عَلَى الْإِعْرَابِ الظَّاهِرِ. وَفِي مَوْضِعِ الْجَرِّ عَلَى الْإِعْرَابِ الثَّانِي. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَطَلْحَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ بِضَمِّ الْكَافِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَنْ أَجَازَ الْعَطْفَ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ أَجَازَهُ هُنَا فَيَكُونُ تَجْرِي حَالًا. وَالظَّاهِرُ أَنْ أَنْ تَقَعَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ بَدَلٌ اشْتِمَالٍ، أَيْ وَيَمْنَعُ وُقُوعَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ يُقَدِّرُهُ الْبَصْرِيُّونَ كَرَاهَةَ أَنْ تَقَعَ وَالْكُوفِيُّونَ لِأَنْ لَا تَقَعَ. وَقَوْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّ طَيَّ السَّمَاءِ بَعْضَ هذه الهيئة لوقوعها،

_ (1) سورة الحج: 22/ 5 وسورة فصلت: 41/ 39.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَعِيدًا لَهُمْ فِي أَنَّهُ إِنْ أَذِنَ فِي سُقُوطِهَا كِسَفًا عَلَيْكُمْ سَقَطَتْ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كسفا وإِلَّا بِإِذْنِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَنْ تَقَعَ أَيْ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَتَقَعُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ عَلَى الْإِمْسَاكِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَقْتَضِي بِغَيْرِ عَمْدٍ وَنَحْوِهِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِلَّا بإذنه فيه يُمْسِكُهَا انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ بِإِذْنِهِ دُونَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَيْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ بِإِذْنِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أَيْ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ جَمَادًا تُرَابًا وَنُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً وَهِيَ الْمَوْتَةُ الْأُولَى الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «1» والْإِنْسانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَافِرُ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ. لَكَفُورٌ لَجَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ، يَعْبُدُ غَيْرَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ المذكورة وبغيرها. ولِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جِدَالِ الْكُفَّارِ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ وَبِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيَّيْنِ وَغَيْرَهُمَا فِي الذَّبَائِحِ وَقَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ: تَأْكُلُونَ مَا ذَبَحْتُمْ وَهُوَ مِنْ قَتْلِكُمْ، وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ فَنَزَلَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُمْ ناسِكُوهُ يُعْطِي أَنَّ الْمَنْسَكَ الْمَصْدَرُ وَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعَ لَقَالَ هُمْ نَاسِكُونَ فِيهِ انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَ إِذْ قَدْ يَتَّسِعُ فِي مَعْمُولِ اسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا يَتَّسِعُ فِي مَعْمُولِ الْفِعْلِ فَهُوَ مَوْضِعٌ اتَّسَعَ فِيهِ فَأَجْرَى مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى السِّعَةِ، وَمِنَ الِاتِّسَاعِ فِي ظَرْفِ الْمَكَانِ قَوْلُهُ: وَمَشْرَبُ أَشْرَبُهُ رَسِيلُ ... لَا آجِنُ الْمَاءِ وَلَا وَبِيلُ مَشْرَبٌ مَكَانُ الشُّرْبِ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، وَكَانَ أَصْلُهُ أَشْرَبُ فِيهِ فَاتَّسَعَ فِيهِ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِهِ وَمِنَ الِاتِّسَاعِ سِيرَ بزيد فرسخان. وقرىء فَلا يُنازِعُنَّكَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ أَيِ اثْبَتْ عَلَى دِينِكَ ثَبَاتًا لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَجْذِبُوكَ، وَمِثْلُهُ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ «2» وَهَذَا النَّهْيُ لَهُمْ عَنِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ بَابِ لَا أَرَيَنَّكَ هاهنا، وَالْمَعْنَى فَلَا بُدَّ لَهُمْ بِمُنَازَعَتِكِ فَيُنَازِعُوكَ. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ فَلا يُنازِعُنَّكَ مِنَ النَّزْعِ بِمَعْنَى فَلَا يَقْلَعُنَّكَ فَيَحْمِلُونَكَ مِنْ دِينِكَ إِلَى أَدْيَانِهِمْ مِنْ نَزَعْتُهُ مِنْ كذا والْأَمْرِ هُنَا الدِّينُ، وَمَا جِئْتَ بِهِ وَعَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ بِمَعْنَى فِي الذَّبْحِ لَعَلى هُدىً أَيْ إِرْشَادٍ. وَجَاءَ ولِكُلِّ أُمَّةٍ بالواو وهنا لِكُلِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 28. (2) سورة القصص: 28/ 87. [.....]

أُمَّةٍ لِأَنَّ تِلْكَ وَقَعَتْ مع ما يدانها ويناسبها من الآي الواردة فِي أَمْرِ النِّسَائِكِ فَعُطِفَتْ عَلَى أَخَوَاتِهَا، وَأَمَّا هَذِهِ فَوَاقِعَةٌ مَعَ أَبَاعِدَ عَنْ مَعْنَاهَا فَلَمْ تَجِدْ مِعْطَفًا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِنْ جادَلُوكَ آيَةُ مُوَادَعَةٍ نَسَخَتْهَا آيَةُ السيف أي وإن أبو لِلِجَاجِهِمْ إِلَّا الْمُجَادَلَةَ بَعْدَ اجْتِهَادِكَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فَادْفَعَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَعْمَالِكُمْ وَبِقُبْحِهَا وَبِمَا تَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَهَذَا وَعِيدٌ وَإِنْذَارٌ وَلَكِنْ بِرِفْقٍ وَلِينٍ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ أَيْ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَسْلَاةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ يَلْقَى مِنْهُمْ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْقَبَ تَعَالَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فَلَا تخفى عليه أعمالكم وإِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ قِيلَ: هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، كَتَبَ فِيهِ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قِيلَ: إِلَى الْحُكْمِ السَّابِقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى حَصْرِ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْتَ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَحْدُثُ في السموات وَالْأَرْضِ وَقَدْ كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، وَالْإِحَاطَةُ بِذَلِكَ وَإِثْبَاتُهُ وَحِفْظُهُ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لِأَنَّ الْعَالِمَ الذَّاتَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ وَلَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّقٌ بِمَعْلُومٍ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَالِمَ الذَّاتَ فِيهِ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ لِأَنَّ مِنَ مَذْهَبِهِمْ نَفْيَ الصِّفَاتِ فَهُوَ عَالِمٌ لِذَاتِهِ لَا يُعْلَمُ عِنْدَهُمْ. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ حُجَّةً وَبُرْهَانًا سَمَاوِيًّا مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ وَالسَّمْعِ وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أَيْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ ضَرُورِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ. وَما لِلظَّالِمِينَ أَيِ الْمُجَاوَزِينَ الْحَدَّ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يُمْكِنُ عِبَادَتُهُ مِنْ نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَوْ إِذَا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أَيْ يَتْلُوهُ الرَّسُولُ أَوْ غَيْرُهُ آياتُنا الْوَاضِحَةُ فِي رَفْضِ

آلِهَتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ الَّذِينَ سَتَرُوا الْحَقَّ وَغَطُّوهُ وَهُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ وَالْمُنْكَرُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. وَنَبَّهَ عَلَى مُوجِبِ الْمُنْكِرِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَنَابَ الظَّاهِرُ مَنَابَ الْمُضْمَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ لَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِظُهُورِ الْمُنْكَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَالْمُنْكَرُ الْمَسَاءَةُ وَالتَّجَهُّمُ وَالْبُسُورُ وَالْبَطْشُ الدَّالُّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سُوءِ الْمُعْتَقَدِ وَخُبْثِ السَّرِيرَةِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ يَظْهَرُ فِيهِ التَّرَحُ وَالْفَرَحُ اللَّذَانِ مَحَلُّهُمَا الْقَلْبُ. يَكادُونَ يَسْطُونَ أَيْ هُمْ دَهْرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُمْ يُقَارِبُونَ ذَلِكَ طُولَ زَمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ سَطْوٌ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي شَاذٍّ مِنَ الْأَوْقَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْطُونَ يَبْسُطُونَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَقَعُونَ بِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَأْخُذُونَهُمْ أَخْذًا بِالْيَدِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ يُعْرَفُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْمُنْكَرُ وَوَقَعَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ وَعِيدٌ وَتَقْرِيعٌ وَالْإِشَارَةُ إِلَى غَيْظِهِمْ عَلَى التَّالِينَ وَسَطْوِهِمْ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُسُورِ بِسَبَبِ مَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ النَّارُ رَفْعٌا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: النَّارُ، أَيْ نَارُ جَهَنَّمَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ النَّارُ مبتدأ ووَعَدَهَا الْخَبَرَ وَأَنْ يَكُونَ وَعَدَهَا حَالًا عَلَى الْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ، وَأَنْ تَكُونَ جُمْلَةَ إِخْبَارٍ مُسْتَأْنِفَةً وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَذَلِكَ فِي الْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ شَرُّ خَلْقٍ فَقَالَ اللَّهُ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِمَّنْ ذَكَرْتُمْ عَلَى زَعْمِكُمْ أَهْلَ النَّارِ فَهُمْ أَنْتُمْ شَرُّ خَلْقِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ الْأَعْشَى وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ النَّارُ بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَمَنْ أَجَازَ فِي الرَّفْعِ أَنْ تكون النَّارُ مبتدأ ففياسه أَنْ يُجِيزَ فِي النَّصْبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ نُوحٍ عَنْ قُتَيْبَةَ النَّارُ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مَنْ شَرٍّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَعَدَهَا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ النَّارَ بِالْكُفَّارِ أَنْ يُطْعِمَهَا إِيَّاهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهَا هل من مريد، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ والَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ «1» . يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما

_ (1) سورة التوبة: 9/ 68.

قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْبُدُونَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى عِبَادَتِهِ لَا مِنْ سَمْعٍ وَلَا من عقل ويتركوا عِبَادَةَ مَنْ خَلَقَهُمْ، ذَكَرَ مَا عَلَيْهِ مَعْبُودَاتُهُمْ مِنَ انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ بَلْ عَلَى رَدِّ مَا أَخَذَهُ ذَلِكَ الْأَقَلُّ مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَجْهِيلٌ عَظِيمٌ لَهُمْ حَيْثُ عَبَدُوا مَنْ هَذِهِ صَفَتُهُ لِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ خَطَأَ الْكَافِرِينَ فَيَكُونُ تَدْعُونَ خِطَابًا لِغَيْرِهِمُ الْكُفَّارِ عَابِدِي غَيْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ عَامٌّ يَشْمَلُ مَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ قُبْحُ ذَلِكَ. وضُرِبَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَارِبَ الْمَثَلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ضَرَبَ مَثَلًا لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ أَيْ بَيَّنَ شُبَهًا لَكُمْ وَلِمَعْبُودِكُمْ. وَقِيلَ: ضَارِبُ الْمَثَلِ هُمِ الْكُفَّارُ، جَعَلُوا مَثَلًا لِلَّهِ تَعَالَى أَصْنَامَهُمْ وَأَوْثَانَهُمْ أَيْ فَاسْمَعُوا أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لِحَالِ هَذَا الْمَثَلِ وَنَحْوِهِ مَا قَالَ الْأَخْفَشُ قَالَ: ليس هاهنا مَثَلٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى جَعَلَ الْكُفَّارَ لِلَّهِ مَثَلًا. وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ ضُرِبَ مَثَلٌ مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ بِمَنْ يَعْبُدُ مَا لَا يَخْلُقُ ذُبَابًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ بِمَثَلٍ فَكَيْفَ سَمَّاهُ مَثَلًا؟ قُلْتُ: قَدْ سَمَّيْتُ الصِّفَةَ أَوِ الْقِصَّةَ الرَّائِقَةَ الْمُتَلَقَّاةَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالِاسْتِغْرَابِ مَثَلًا تَشْبِيهًا لَهَا بِبَعْضِ الْأَمْثَالِ الْمُسَيَّرَةِ لِكَوْنِهَا مُسْتَحْسَنَةً مُسْتَغْرَبَةً عِنْدَهُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَهَارُونُ وَالْخُفَافُ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالْيَاءِ وَكِلَاهُمَا مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَمُوسَى الْأُسْوَارِيُّ بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَنْ أُخْتُ لَا فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا أَنْ تَنْفِيَهُ نَفْيًا مُؤَكَّدًا، وَتَأْكِيدُهُ هُنَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الذُّبَابِ مِنْهُمْ مُسْتَحِيلٌ مُنَافٍ لِأَحْوَالِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: مُحَالٌ أَنْ يَخْلُقُوا انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ فِي لَنْ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّ لَنْ لِلنَّفْيِ عَلَى التَّأْيِيدِ، أَلَا تَرَاهُ فَسَرَّ ذَلِكَ بِالِاسْتِحَالَةِ وَغَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ يَجْعَلُ لَنْ مِثْلَ لَا فِي النَّفْيِ أَلَا

تَرَى إِلَى قَوْلِهِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «1» كَيْفَ جَاءَ النَّفْيُ بِلَا وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَبَدَأَ تَعَالَى بِنَفْيِ اخْتِرَاعِهِمْ وَخَلْقِهِمْ أَقَلَّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاخْتِرَاعَ صِفَةٌ لَهُ تَعَالَى ثَابِتَةٌ مُخْتَصَّةٌ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَثَنَّى بِالْأَمْرِ الَّذِي بَلَغَ بِهِمْ غَايَةَ التَّعْجِيزِ وَهُوَ أَمْرُ سَلْبِ الذُّبابُ وَعَدَمُ اسْتِنْقَاذِ شَيْءٍ مِمَّا يَسْلُبْهُمُ وَكَانَ الذُّبَابُ كَثِيرًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَكَانُوا يُضَمِّخُونَ أَوْثَانَهُمْ بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ فَكَانَ الذُّبَابُ يَذْهَبُ بِذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَطْلُونَهَا بِالزَّعْفَرَانِ وَرُؤُوسَهَا بِالْعَسَلِ وَيُغْلِقُونَ عَلَيْهَا فَيَدْخُلُ الذُّبَابُ مِنَ الْكُوَى فَيَأْكُلُهُ. وَمَوْضِعُ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ مُسْتَحِيلٌ: أَنْ يَخْلُقُوا الذُّبَابَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمُ اجْتِمَاعُهُمْ جَمِيعًا لِخَلْقِهِ، وَتَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ وَلَوِ هَذِهِ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلْعَطْفِ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ تَقْتَضِي أَنْ يَخْلُقُوا لِأَجْلِ اجْتِمَاعِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي مَقْدُورِهِمْ ذَلِكَ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّنَمُ وَالذُّبَابُ، أَيْ يَنْبَغِي أن يكون الصنم طَالِبًا لِمَا سُلِبَ مِنْ طِيبِهِمْ عَلَى مَعْهُودِ الْأَنَفَةِ فِي الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ الْمَطْلُوبُ الآلهة والطَّالِبُ الذُّبَابُ فَضَعْفُ الْآلِهَةِ أَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَضَعْفُ الذُّبَابِ فِي اسْتِلَابِهِ مَا عَلَى الْآلِهَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ فَضَعْفُ الْعَابِدِ فِي طَلَبِهِمُ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ، وَضَعْفُ الْمَعْبُودِ فِي إِيصَالِ ذَلِكَ لِعَابِدِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ كَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الذُّبَابِ فِي الضَّعْفِ، وَلَوْ حَقَّقْتَ وَجَدْتَ الطَّالِبَ أَضْعَفَ وَأَضْعَفَ لِأَنَّ الذُّبَابَ حَيَوَانٌ وَهُوَ جَمَادٌ وَهُوَ غَالِبٌ، وَذَاكَ مَغْلُوبٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِضَعْفِ الطَّالِبِ والمطلوب. وقيل: معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ حَيْثُ عَبَدُوا مَنْ هُوَ مُنْسَلِخٌ عَنْ صِفَاتِهِ وَسَمَّوْهُ بِاسْمِهِ، وَلَمْ يُؤَهِّلُوا خَالِقَهُمْ لِلْعِبَادَةِ ثُمَّ خَتَمَ بِصِفَتَيْنِ مُنَافِيَتَيْنِ لِصِفَاتِ آلِهَتِهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ اللَّهُ يَصْطَفِي الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْلِ الوليد بن المغيرة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «2» الْآيَةَ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنَ الْبَشَرِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رُسُلَهُ ملائكة

_ (1) سورة النحل: 16/ 17. (2) سورة ص: 38/ 8.

وَبَشَرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُ الْأُمُورِ كُلِّهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ اصْطَفَى رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ إِلَى الْخَلْقِ أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَهُوَ الصَّلَاةُ قِيلَ: كَانَ النَّاسُ أَوَّلَ مَا أَسْلَمُوا يَسْجُدُونَ بِلَا رُكُوعٍ وَيَرْكَعُونَ بِلَا سُجُودٍ، فَأُمِرُوا أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُمْ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ فِي آخِرِ آيَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ «1» وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُسْجَدُ فِيهَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْجَدُ فِيهَا وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وابنه عبد الله وعثمان وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صِلَةُ الْأَرْحَامِ وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَيَظْهَرُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَوَّلًا بِالصَّلَاةِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَثَانِيًا بِالْعِبَادَةِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَثَالِثًا بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ فَبَدَأَ بِخَاصٍّ ثُمَّ بِعَامٍّ ثُمَّ بِأَعَمَّ. وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أَمْرٌ بِالْجِهَادِ فِي دِينِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ يَشْمَلُ جِهَادَ الْكُفَّارِ وَالْمُبْتَدِعَةِ وَجِهَادَ النَّفْسِ. وَقِيلَ: أَمْرٌ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ خَاصَّةً حَقَّ جِهادِهِ أَيِ اسْتَفْرِغُوا جُهْدَكُمْ وَطَاقَتَكُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَضَافَ الْجِهَادَ إِلَيْهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَفْعُولٌ لِوَجْهِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، فَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ: ويوم شهدناه سليما وعامرا انْتَهَى. يَعْنِي بِالظَّرْفِ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ، كَأَنَّهُ كَانَ الْأَصْلُ حَقَّ جِهَادٍ فِيهِ فَاتَّسَعَ بِأَنْ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَأُضِيفَ جِهَادٌ إِلَى الضَّمِيرِ. وحَقَّ جِهادِهِ مِنْ بَابِ هُوَ حَقُّ عَالِمٍ وَجِدُّ عَالِمٍ أَيْ عَالِمٌ حَقًّا وَعَالِمٌ جِدًّا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2» . هُوَ اجْتَباكُمْ أَيْ اخْتَارَكُمْ لِتَحَمُّلِ تَكْلِيفَاتِهِ وَفِي قَوْلِهِ هُوَ تَفْخِيمٌ وَاخْتِصَاصٌ، أَيْ هُوَ لَا غَيْرُهُ. مِنْ حَرَجٍ مِنْ تَضْيِيقٍ بَلْ هِيَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَشْدِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ شُرِعَ فِيهَا التَّوْبَةُ وَالْكَفَّارَاتُ وَالرُّخَصُ. وَانْتَصَبَ مِلَّةَ أَبِيكُمْ بفعل محذوف،

_ (1) سورة الحج: 22/ 18. (2) سورة التغابن: 64/ 16.

وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَهَا مِلَّةَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصَبَ الْمِلَّةَ بِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَيْ أَعْنِي بِالدِّينِ مِلَّةَ أَبِيكُمْ كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدَ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: اتِّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْكَافِ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَلِمَةُ أَبِيكُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَبِيهِ الرَّسُولِ، وَأُمَّةُ الرَّسُولِ فِي حُكْمِ أَوْلَادِهِ فَصَارَ أَبًا لِأُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْوَسَاطَةِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ وَلَدِهِ كَالرَّسُولِ وَرَهْطِهِ وَجَمِيعِ الْعَرَبِ طُلِبَ الْأَكْثَرُ فَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ. وَجَاءَ قَوْلُهُ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بِاعْتِبَارِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ الْمَسُوقُ لَهُ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِاتِّبَاعِ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُوَ سَمَّاكُمُ عَائِدٌ عَلَى إِبْراهِيمَ وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «1» فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَجَعَلَهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ: يَعُودُ هُوَ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة ومجاهد والضحاك. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ فِي كُلِّ الْكُتُبِ وَفِي هَذَا أَيِ الْقُرْآنِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ اللَّهُ سَمَّاكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ يَعْنِي قَوْلَهُ وَفِي هَذَا تَضْعِيفُ قَوْلِ مَنْ قَالَ الضَّمِيرُ لإبراهيم، وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مِنَ الْكَلَامِ مُسْتَأْنَفٍ انْتَهَى. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ وَسُمِّيتُمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْأُمَمِ وَسَمَّاكُمْ بِهَذَا الِاسْمِ. لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ، وَإِذْ قَدْ خَصَّكُمْ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ وَالْأَثَرَةِ فَاعْبُدُوهُ وَثِقُوا بِهِ وَلَا تَطْلُبُوا النُّصْرَةَ وَالْوِلَايَةَ إِلَّا مِنْهُ فَهُوَ خَيْرُ مَوْلًى وَنَاصِرٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مَا لَمْ يُعْطَهُ إِلَّا نَبِيٌّ. قِيلَ لِلنَّبِيِّ: أَنْتَ شَهِيدٌ عَلَى أُمَّتِكَ. وَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ. وَقِيلَ لَهُ: سَلْ تُعْطَ. وَقِيلَ: لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَقِيلَ لَهُمْ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَقِيلَ لَهُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» وَاعْتَصِمُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ يَعْصِمَكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ تَمَسَّكُوا بدين الله.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 128. (2) سورة غافر: 40/ 60.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون ترتيبها 23 سورة المؤمنون آياتها 18 [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 77] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

السُّلَالَةُ: فُعَالَةٌ مِنْ سَلَلْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ مِنْهُ. وَقَالَ أُمَيَّةُ: خَلَقَ الْبَرِيَّةَ مِنْ سُلَالَةِ مُنْتِنٍ ... وَإِلَى السُّلَالَةِ كُلُّهَا سَتَعُودُ وَالْوَلَدُ سُلَالَةُ أَبِيهِ كَأَنَّهُ انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَجَاءَتْ بِهِ عَصْبَ الْأَدِيمِ غَضَنْفَرًا ... سُلَالَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ وَهُوَ بِنَاءٌ يَدُلُّ عَلَى الْقِلَّةِ كَالْقُلَامَةِ وَالنُّحَاتَةِ. سَيْنَاءُ وَسِينُونَ: اسْمَانِ لِبُقْعَةٍ، وَجُمْهُورُ الْعَرَبِ عَلَى فَتْحِ سِينِ سَيْنَاءَ فَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ كَصَحْرَاءَ فَيَمْتَنِعُ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ، وَكِنَانَةُ تَكْسِرُ السِّينَ فَيَمْتَنِعُ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ أَيْضًا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ هَمْزَةَ فَعْلَاءَ تَكُونُ لِلتَّأْنِيثِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ أَوِ الْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّ أَلِفَ فَعْلَاءَ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ لِلتَّأْنِيثِ بَلْ لِلْإِلْحَاقِ كَعِلْبَاءَ وَدَرْحَاءَ. قِيلَ: وَهُوَ جَبَلُ فِلَسْطِينَ. وقيل: بين مصر وأيلة. الدُّهْنُ: عُصَارَةُ الزَّيْتُونِ وَاللَّوْزِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّا فِيهِ دَسَمٌ، وَالدَّهْنُ: بِفَتْحِ الدَّالِ مَسْحُ الشَّيْءِ بِالدُّهْنِ. هَيْهَاتَ: اسْمُ فِعْلٍ يُفِيدُ الِاسْتِبْعَادَ فَمَعْنَاهَا بَعُدَ، وَفِيهَا لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَيَأْتِي منها ما قرىء بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْغُثَاءُ: الزَّبَدُ وَمَا ارْتَفَعَ عَلَى السَّيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْغُثَاءُ وَالْجُفَاءُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا احْتَمَلَهُ السَّيْلُ مِنَ الْقَذَرِ وَالزَّبَدِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَالِي مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ إِذَا جَرَى السَّيْلُ خَالَطَ زَبَدَهُ انْتَهَى. وَتُشَدَّدُ ثَاؤُهُ وَتُخَفَّفُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَغْثَاءٍ شُذُوذًا، وَرَوَى بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ: مِنَ السَّيْلِ والغثاء بالتخفيف والتشديد بالجمع. تَتْرَى وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَبَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُوَاتَرَةُ التَّتَابُعُ بِغَيْرِ مُهْلَةٍ، وَتَاؤُهُ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ أَصْلُهُ الْوَتَرُ كَتَاءِ تَوْلَجَ وَتَيْقُورٌ الْأَصْلُ وولج وو يقور لِأَنَّهُ مِنَ الْوُلُوجِ وَالْوَقَارِ، وَجُمْهُورُ الْعَرَبِ عَلَى عَدَمِ تَنْوِينِهِ فَيَمْتَنِعُ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ وَكِنَانَةُ تُنَوِّنُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ فِيهِ لِلْإِلْحَاقِ كَهِيَ فِي عَلْقًى الْمُنَوَّنِ، وَكَتْبُهُ بِالْيَاءِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّنْوِينَ فِيهِ كَصَبْرًا وَنَصْرًا فَهُوَ مُخْطِئٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَزْنُهُ فَعْلًا وَلَا يُحْفَظُ فِيهِ الْإِعْرَابُ فِي الرَّاءِ، فَتَقُولَ تَتْرٌ فِي الرَّفْعِ وَتَتْرٍ فِي الْجَرِّ لَكِنَّ أَلِفَ الْإِلْحَاقِ فِي الْمَصْدَرِ نَادِرٌ، وَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ النَّظِيرِ. وَقِيلَ: تَتْرَى اسْمُ جَمْعٍ كَأَسْرَى وَشَتَّى. الْمَعِينُ: الْمِيمُ فِيهِ زَائِدَةٌ

وَوَزْنُهُ مَفْعُولٌ كَمَخِيطٍ، وَهُوَ الْمُشَاهَدُ جَرْيُهُ بِالْعَيْنِ تَقُولُ: عَانَهُ أَدْرَكَهُ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِكَ: كَبَدَهُ ضَرَبَ كَبِدَهُ، وَأَدْخَلَهُ الْخَلِيلُ فِي بَابِ ع ي ن. وَقِيلَ: الْمِيمُ أَصْلِيَّةٌ مِنْ بَابِ مَعَنَ الشَّيْءُ مَعَانَةً كَثُرَ فَوَزْنُهُ فَعِيلٌ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ جَرِيرٌ: إِنَّ الَّذِينَ غَدَوْا بِلُبِّكَ غَادَرُوا ... وَشَلًا بِعَيْنِكَ مَا يَزَالُ مَعِينًا الغمرة: الجهالة زجل غَمْرٌ غَافِلٌ لَمْ يُجَرِّبِ الْأُمُورَ وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ الْغَمْرُ لِلْحِقْدِ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْقَلْبَ، وَالْغَمْرُ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْأَرْضَ، وَالْغَمْرَةُ الْمَاءُ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَامَةَ، وَالْغَمَرَاتُ الشَّدَائِدُ وَرَجُلٌ غَامِرٌ إِذَا كَانَ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ، وَدَخَلَ فِي غِمَارِ النَّاسِ أَيْ فِي زَحْمَتِهِمْ. الْجُؤَارُ: مِثْلُ الْخُوَارِ جَأَرَ الثَّوْرُ يَجْأَرُ صَاحَ، وَجَأَرَ الرَّجُلُ إِلَى اللَّهِ تَضَرَّعَ بِالدُّعَاءِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ فَطَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا وَقِيلَ: الْجُؤَارُ الصُّرَاخُ بِاسْتِغَاثَةٍ قَالَ: جَأَرَ سَاعَاتِ النِّيَامِ لِرَبِّهِ. السَّامِرُ: مُفْرَدٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، يُقَالُ: قَوْمٌ سَامِرٌ وَسُمَّرٌ وَمَعْنَاهُ سَهَرُ اللَّيْلِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّمَرِ، وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ وَكَانُوا يَجْلِسُونَ لِلْحَدِيثِ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَالسَّمِيرُ الرَّفِيقُ بِاللَّيْلِ فِي السَّهَرِ وَيُقَالُ لَهُ السَّمَّارُ أَيْضًا، وَيُقَالُ لَا أَفْعَلُهُ مَا أَسْمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ، وَالسَّمِيرُ الدَّهْرُ وَابْنَاهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. نَكَبَ عَنِ الطَّرِيقِ وَنَكَّبَ بِالتَّشْدِيدِ: إِذَا عَدَلَ عَنْهُ. اللَّجَاجُ فِي الشَّيْءِ: التَّمَادِي عَلَيْهِ. قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الصَّحِيحِ لِلْحَاكِمِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ السُّورَةِ قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ارْكَعُوا «1» الْآيَةَ وَفِيهَا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «2» وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجِيَةِ فَنَاسَبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْبَارًا بِحُصُولِ مَا كَانُوا رَجَوْهُ مِنَ الْفَلَاحِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ ادْخُلُوا فِي الْفَلَاحِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَلَحَ لَازِمًا أَوْ يَكُونَ أَفْلَحَ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ وَضَمِّ الْحَاءِ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ يَقْرَأُ قَدْ أَفْلَحُوا الْمُؤْمِنُونَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَلْحَنُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا لَحَنَ أَصْحَابِي انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ مَرْجُوعَهُ فِي الْقِرَاءَةِ إِلَى مَا رُوِيَ وَلَيْسَ بِلَحْنٍ لِأَنَّهُ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى الْإِبْهَامِ وَالتَّفْسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَرْدُودَةٌ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ مَكْتُوبًا بِوَاوٍ بَعْدَ الْحَاءِ، وَفِي اللَّوَامِحِ وَحُذِفَتْ وَاوُ الْجَمْعِ بَعْدَ الْحَاءِ لِالْتِقَائِهِمَا فِي الدَّرَجِ، وَكَانَتِ الْكِتَابَةُ عَلَيْهَا مَحْمُولَةً عَلَى الْوَصْلِ نَحْوَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «3» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَنْهُ أَيْ عَنْ طَلْحَةَ أَفْلَحَ بِضَمَّةٍ بِغَيْرِ وَاوٍ اجْتِزَاءً بِهَا عَنْهَا كَقَوْلِهِ: فَلَوْ أَنَّ الْأَطِبَّاءَ كَانَ حَوْلِي انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي أَفْلَحَ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُنَا حُذِفَتْ لِلضَّرُورَةِ فَلَيْسَتْ مِثْلَهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ تَقْتَضِيهِ لِمَا هِيَ تُثْبِتُ الْمُتَوَقَّعَ وَلِمَا تَنْفِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُتَوَقِّعِينَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِثَبَاتِ الْفَلَاحِ لَهُمْ، فَخُوطِبُوا بِمَا دَلَّ عَلَى ثَبَاتِ مَا تَوَقَّعُوهُ انْتَهَى. وَالْخُشُوعُ لُغَةً الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ هُنَا أَقْوَالٌ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ السُّكُونُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَقَتَادَةُ: تَنْكِيسُ الرَّأْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخَوْفُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ. وَعَنْ عَلِيٍّ: تَرْكُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِعْظَامُ الْمَقَامِ وَإِخْلَاصُ الْمَقَالِ وَالْيَقِينُ التَّامُّ وَجَمْعُ الِاهْتِمَامِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي رَافِعًا بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَمَى بِبَصَرِهِ نَحْوَ مَسْجِدِهِ، وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ الْآدَابُ فَيَتَوَقَّى كَفَّ الثَّوْبِ وَالْعَبَثَ بِجَسَدِهِ وَثِيَابِهِ وَالِالْتِفَاتَ وَالتَّمَطِّيَ وَالتَّثَاؤُبَ وَالتَّغْمِيضَ وَتَغْطِيَةَ الْفَمِ وَالسَّدْلَ وَالْفَرْقَعَةَ وَالتَّشْبِيكَ وَالِاخْتِصَارَ وتقليب الحصى. وفي

_ (1- 2) سورة الحج: 22/ 77. (3) سورة الشورى: 42/ 24.

التَّحْرِيرِ: اخْتُلِفَ فِي الْخُشُوعِ، هَلْ هُوَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ أَوْ مِنْ فَضَائِلِهَا وَمُكَمِّلَاتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَمَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ قَالَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أُضِيفَتِ الصَّلَاةُ إِلَيْهِمْ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالْمُصَلَّى لَهُ، فَالْمُصَلِّي هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا وَحْدَهُ وَهِيَ عُدَّتُهُ وَذَخِيرَتُهُ فَهِيَ صَلَاتُهُ، وَأَمَّا الْمُصَلَّى لَهُ فَغَنِيٌّ مُتَعَالٍ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا. اللَّغْوِ مَا لَا يَعْنِيكَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَاللَّعِبِ وَالْهَزْلِ، وَمَا تُوجِبُ الْمُرُوءَةُ اطِّرَاحَهُ يَعْنِي أَنَّ بِهِمْ مِنَ الْجِدِّ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ الْهَزْلِ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ أَتْبَعَهُمُ الْوَصْفَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِيَجْمَعَ لَهُمُ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ الشَّاقَّيْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ اللَّذَيْنِ هُمَا قَاعِدَتَا بِنَاءِ التَّكْلِيفِ انْتَهَى. وَإِذَا تَقَدَّمَ مَعْمُولُ اسْمِ الْفَاعِلِ جَازَ أَنْ يُقَوَّى تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ كَالْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَأَخَّرَ لَكِنَّهُ مَعَ التَّقْدِيمِ أَكْثَرُ فَلِذَلِكَ جَاءَ لِلزَّكاةِ بِاللَّامِ وَلَوْ جَاءَ مَنْصُوبًا لَكَانَ عَرَبِيًّا وَالزَّكَاةُ إِنْ أُرِيدَ بِهَا التَّزْكِيَةُ صَحَّ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهَا إِذْ كُلُّ مَا يَصْدُرُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ فُعِلَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالزَّكَاةِ قَدْرُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَالِ لِلْفَقِيرِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفٍ أَيْ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ فاعِلُونَ إِذْ لَا يَصِحُّ فِعْلُ الْأَعْيَانِ مِنَ الْمُزَكِّي أَوْ يُضَمَّنُ فَاعِلُونَ مَعْنَى مُؤَدُّونَ، وَبِهِ شَرَحَهُ التَّبْرِيزِيُّ. وَقِيلَ لِلزَّكاةِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ كَقَوْلِهِ خَيْراً مِنْهُ زَكاةً «1» أَيْ عَمَلًا صَالِحًا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: الزَّكَاةُ هُنَا النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَاللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ وَمَعْمُولُ فاعِلُونَ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ فاعِلُونَ الْخَيْرَ. وَقِيلَ: الْمَصْرُوفُ لَا يُسَمَّى زَكَاةً حَتَّى يَحْصُلَ بِيَدِ الْفَقِيرِ. وَقِيلَ: لَا تُسَمَّى الْعَيْنُ الْمُخْرَجَةُ زَكَاةً، فَكَانَ التَّغْيِيرُ بِالْفِعْلِ عَنْ إِخْرَاجِهِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْأَدَاءِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى بَعْضِ زَنَادِقَةِ الْأَعَاجِمِ الْأَجَانِبِ عَنْ ذَوْقِ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَا قَالَ مُؤَدُّونَ، قَالَ فِي التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: وَهَذَا كَمَا قِيلَ لَا عَقْلَ وَلَا نَقْلَ، وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ نَزَلَ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَأَصَحِّهَا بِلَا خِلَافٍ. وَقَدْ قَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزْ ... مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٍ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَلَا طَعَنَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ جَمِيعُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَسْتَشْهِدُونَ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَمْلُ الْبَيْتِ عَلَى هَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهَا فِيهِ مَجْمُوعَةٌ يعني

_ (1) سورة الكهف: 18/ 81.

عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ يُرَادُ بِهَا الْعَيْنُ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِأَدَاءِ الزَّكَوَاتِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِجَمْعِهَا يَعْنِي أَنَّهَا إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْعَيْنُ صَحَّ جَمْعُهَا، وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا التَّزْكِيَةُ لَمْ تُجْمَعْ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُجْمَعُ وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ قَدْ جَاءَ مِنْهَا مَجْمُوعًا أَلْفَاظٌ كَالْعُلُومِ وَالْحُلُومِ وَالْأَشْغَالِ، وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ جَمْعِهَا وَهُنَا اخْتَلَفَتْ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا فَإِخْرَاجُ النَّقْدِ غَيْرُ إِخْرَاجِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرُ إِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَالزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ مِمَّا جَاءَ جَمْعًا مِنَ الْمَصَادِرِ، فَلَا يَتَعَدَّى حَمْلُهُ عَلَى الْمُخْرَجِ لِجَمْعِهِ. وَحَفِظَ لَا يَتَعَدَّى بِعَلَى. فَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى مِنْ أَيْ إِلَّا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ كَمَا اسْتُعْمِلَتْ مِنْ بِمَعْنَى عَلَى فِي قَوْلِهِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «1» أَيْ عَلَى الْقَوْمِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ ضَمَّنَ حافِظُونَ مَعْنَى مُمْسِكُونَ أَوْ قَاصِرُونَ، وَكِلَاهُمَا يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ «2» وَتَكَلَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وُجُوهًا. فَقَالَ عَلى أَزْواجِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ الأوّالين عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ قَوْلِكَ: كَانَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةَ فَمَاتَ عَنْهَا فَخَلَّفَ عَلَيْهَا فُلَانًا، وَنَظِيرُهُ كَانَ زِيَادٌ عَلَى الْبَصْرَةِ أَيْ وَالِيًا عَلَيْهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ تَحْتَ فُلَانٍ وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا أَوْ تَعَلَّقَ عَلَى بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ مَلُومِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُلَامُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَيْ يُلَامُونَ عَلَى كُلِّ مُبَاشَرٍ إِلَّا عَلَى مَا أُطْلِقَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ عَلَيْهِ أَوْ يَجْعَلُهُ صِلَةً لِحَافِظِينَ مِنْ قَوْلِكَ احْفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فَرَسِي عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى النَّفْيِ، كَمَا ضُمِّنَ قَوْلُهُمْ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ إِلَّا فَعَلْتَ بِمَعْنَى مَا طَلَبْتُ مِنْكَ إِلَّا فِعْلَكَ انْتَهَى. يَعْنِي أَنْ يَكُونَ حَافِظُونَ صُورَتُهُ صُورَةُ الْمُثْبَتِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ وَالَّذِينَ هُمْ لَمْ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مُتَعَلِّقًا فِيهِ عَلَى بِمَا قَبْلَهُ كَمَا مَثَّلَ بِنَشَدْتُكَ الَّذِي صُورَتُهُ صُورَةُ مُثْبَتٍ، وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ مَا طَلَبْتُ مِنْكَ. وَهَذِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا وُجُوهٌ مُتَكَلَّفَةٌ ظَاهِرٌ فِيهَا الْعُجْمَةُ. وَقَوْلُهُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أريد بما النَّوْعُ كَقَوْلِهِ فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ «3» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُرِيدَ مِنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَهُمُ الْإِنَاثُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ وَهُمُ الْإِنَاثُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ لَفْظَ هُمْ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَهُوَ الْإِنَاثُ على لفظ ما أوهن الْإِنَاثُ عَلَى مَعْنَى مَا، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ حَدٌّ يَجِبُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَالتَّسَرِّي خَاصٌّ بِالرِّجَالِ وَلَا يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ بِإِجْمَاعٍ، فَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً بِعَبْدٍ فَمَلَكَتْهُ فَأَعْتَقَتْهُ حالة

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 77. (2) سورة الأحزاب: 133/ 37. (3) سورة النساء: 4/ 3.

الْمِلْكِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: يَبْقَيَانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَفِي قوله أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تَعْمِيمِ وَطْءِ مَا مُلِكَ بِالْيَمِينِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنَاثِ بِإِجْمَاعٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ مِنَ النِّسَاءِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْمَمْلُوكَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا خِلَافٌ، وَيُخَصُّ أَيْضًا فِي الْآيَةِ بِتَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَائِضِ وَالْأَمَةِ إِذَا زُوِّجَتْ وَالْمُظَاهِرِ مِنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَيَشْمَلُ قَوْلُهُ وَرَاءَ ذَلِكَ الزِّنَا وَاللِّوَاطَ وَمُوَاقَعَةَ الْبَهَائِمِ وَالِاسْتِمْنَاءَ وَمَعْنَى وَرَاءَ ذَلِكَ وَرَاءَ هَذَا الْحَدِّ الَّذِي حُدَّ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَمَمْلُوكَاتِ النِّسَاءِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِابْتَغَى أَيْ خِلَافَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ وَرَاءَ هُنَا إِلَّا عَلَى حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ وَيُسَمَّى الْخَضْخَضَةَ وَجَلْدَ عُمَيْرَةَ يُكَنُّونَ عَنِ الذَّكَرِ بِعُمَيْرَةَ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُجِيزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَضْلَةٌ فِي الْبَدَنِ فَجَازَ إِخْرَاجُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ، وَسَأَلَ حَرْمَلَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَالِكًا عَنْ ذَلِكَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَكَانَ جَرَى فِي ذَلِكَ كَلَامٌ مَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُطِيعٍ الْقُشَيْرِيِّ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ بِمَا اسْتَدَلَّ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ «1» فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنَ الزِّنَا وَالتَّفَاخُرِ بِذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِيهَا بِحَيْثُ كَانَ فِي بَغَايَاهُمْ صَاحِبَاتُ رَايَاتٍ، وَلَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَأَمَّا جَلْدُ عُمَيْرَةَ فَلَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِيهَا وَلَا ذَكَرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي أَشْعَارِهِمْ فِيمَا عَلِمْنَاهُ فَلَيْسَ بِمُنْدَرِجٍ فِي قَوْلِهِ وَراءَ ذلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَحَلَّ مَا أُبِيحَ وَهُوَ نِسَاؤُهُمْ بِنِكَاحٍ أَوْ تَسَرٍّ فَالَّذِي وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ وَهُوَ النِّسَاءُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْهُنَّ إِلَّا بِنِكَاحٍ أَوْ تَسَرٍّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ لِأَنَّهَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ زَوْجٍ. وَسَأَلَ الزُّهْرِيُّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَتَلَا وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الْآيَةَ وَلَا يَظْهَرُ التَّحْرِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ لِأَمَانَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْأَمَانَاتِ فَيَدْخُلُ فِيهَا مَا ائْتَمَنَ تَعَالَى عَلَيْهِ الْعَبْدَ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَاعْتِقَادٍ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ وَمَا ائْتَمَنَهُ الْإِنْسَانَ قَبْلُ، وَيُحْتَمَلُ الْخُصُوصُ فِي أَمَانَاتِ النَّاسِ. وَالْأَمَانَةُ: هِيَ الشَّيْءُ الْمُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ وَمُرَاعَاتُهَا الْقِيَامُ عَلَيْهَا لِحِفْظِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدَّى، وَالْأَمَانَةُ أَيْضًا الْمَصْدَرُ وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «2»

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 7، وسورة المعارج 70/ 31. [.....] (2) سورة النساء: 4/ 58.

وَالْمُؤَدَّى هُوَ الْعَيْنُ الْمُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ أَوِ الْقَوْلُ إِنْ كَانَ الْمُؤْتَمَنَ عَلَيْهِ لَا الْمَصْدَرُ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ عَلَى صَلَاتِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَمْعِ. وَالْخُشُوعُ وَالْمُحَافَظَةُ مُتَغَايِرَانِ بَدَأَ أَوَّلًا بِالْخُشُوعِ وَهُوَ الْجَامِعُ لِلْمُرَاقَبَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ بِالْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَثَنَّى بِالْمُحَافَظَةِ وَهِيَ تَأْدِيَتُهَا فِي وَقْتِهَا بِشُرُوطِهَا مِنْ طَهَارَةِ الْمُصَلِّي وَمَلْبُوسِهِ وَمَكَانِهِ وَأَدَاءِ أَرْكَانِهَا عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَاتِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ دَأْبَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوُحِّدَتْ أَوَّلًا لِيُفَادَ الْخُشُوعُ فِي جِنْسِ الصَّلَاةِ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ، وَجُمِعَتْ آخِرًا لِتُفَادَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَعْدَادِهَا وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْوِتْرُ وَالسُّنَنُ الْمُرَتَّبَةُ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجِنَازَةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَصَلَاةُ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدِ وَصَلَاةُ التَّسْبِيحِ وَصَلَاةُ الْحَاجَةِ وَغَيْرُهَا مِنَ النَّوَافِلِ. أُولئِكَ أَيِ الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُمُ الْوارِثُونَ الْأَحِقَّاءُ أَنْ يُسَمُّوا وُرَّاثًا دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، ثُمَّ تَرْجَمَ الْوَارِثِينَ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ فَجَاءَ بِفَخَامَةٍ وَجَزَالَةٍ لِإِرْثِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ، وَمَعْنَى الْإِرْثِ مَا مَرَّ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفِرْدَوْسَ فِي آخِرِ الْكَهْفِ. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ الْآيَةَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ هُمْ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْمَعَادَ الْأُخْرَوِيَّ، ذَكَرَ النَّشْأَةَ الْأُولَى لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْوَاوُ فِي أَوَّلِهِ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَإِنْ تَبَايَنَتْ فِي الْمَعَانِي انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَتَبَايَنْ فِي الْمَعَانِي من جميع الجهات. والْإِنْسانَ هُنَا. قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ وَرَوَاهُ عَنْ سَلْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ آدَمُ لِأَنَّهُ انْسَلَّ مِنَ الطِّينِ ثُمَّ جَعَلْناهُ عَائِدٌ عَلَى ابْنِ آدَمَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُذْكَرْ لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَنَظِيرُهُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثُمَّ جَعَلْنَا نَسْلَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ الْإِنْسانَ ابْنُ آدَمَ وسُلالَةٍ مِنْ طِينٍ صَفْوَةُ الْمَاءِ يَعْنِي الْمَنِيَّ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالطِّينُ يُرَادُ بِهِ آدم إذ كانت نشأة مِنَ الطِّينِ كَمَا سُمِّيَ عِرْقَ الثَّرَى أَوْ جُعِلَ مِنَ الطِّينِ لِكَوْنِهِ سُلَالَةً مِنْ أَبَوَيْهِ وَهُمَا مُتَغَذِّيَانِ بِمَا يَكُونُ مِنَ الطِّينِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَلَقَ جَوْهَرَ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا طِينًا ثُمَّ جَعَلَ جَوْهَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ نُطْفَةً انْتَهَى. فَجَعَلَ الْإِنْسَانَ جِنْسًا بِاعْتِبَارِ حَالَتَيْهِ لَا بِاعْتِبَارِ كُلِّ مَرْدُودٍ مِنْهُ ومِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ومِنْ الثَّانِيَةُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلْبَيَانِ كَقَوْلِهِ مِنَ الْأَوْثانِ «2» انْتَهَى. وَلَا تَكُونُ لِلْبَيَانِ إِلَّا على تقدير

_ (1) سورة ص: 38/ 32. (2) سورة الحج: 22/ 30.

أَنْ تَكُونَ السُّلَالَةُ هِيَ الطِّينُ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ مَا انْسَلَّ مِنَ الطِّينِ فَتَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَالْقَرَارُ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ وَالْمُرَادُ هُنَا الرَّحِمُ. وَالْمَكِينُ الْمُتَمَكِّنُ وُصِفَ الْقَرَارُ بِهِ لِتَمَكُّنِهِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِضُ لَهُ اخْتِلَالٌ، أَوْ لِتَمَكُّنِ مَنْ يَحِلُّ فِيهِ فَوُصِفَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ طَرِيقٌ سَائِرٌ لِكَوْنِهِ يُسَارُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ. وقرأ الجمهور عظاما والْعِظامَ الجمع فِيهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي وَيُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَزَيْدِ بن عليّ بالإفراد فيهما. وقرأ السلمي وَقَتَادَةُ أَيْضًا وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِفْرَادِ الْأَوَّلِ وَجَمَعَ الثَّانِي. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا بِجَمْعِ الْأَوَّلِ وَإِفْرَادِ الثَّانِي فَالْإِفْرَادُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. وقال الزمخشري: وضع الواحد مَوْضِعَ الْجَمْعِ لِزَوَالِ اللَّبْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ ذُو عِظَامٍ كَثِيرَةٍ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابِنَا إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ وَأَنْشَدُوا: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُلْبِسُ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ بَطْنٌ وَاحِدٌ وَمَعَ هَذَا خَصُّوا مَجِيئَهُ بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةَ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: خُرُوجُهُ إِلَى الدُّنْيَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَبَاتُ شَعْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَالُ شَبَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا تَصَرُّفُهُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا وَجْهَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُودِ النُّطْقِ وَالْإِدْرَاكِ، وَأَوَّلُ رُتَبِهِ مِنْ كَوْنِهِ آخِرَ نَفْخِ الرُّوحِ وَآخِرُهُ تَحْصِيلُهُ الْمَعْقُولَاتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: خَلْقاً آخَرَ مُبَايِنًا لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مُبَايَنَةً مَا أَبْعَدَهَا حَيْثُ جَعَلَهُ حَيَوَانًا نَاطِقًا سَمِيعًا بَصِيرًا، وَأَوْدَعَ كُلَّ عُضْوٍ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ لَا تُدْرَكُ بِوَصْفٍ وَلَا تُبْلَغُ بِشَرْحٍ، وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ خَلْقاً آخَرَ عَلَى أَنَّ غَاصِبَ بَيْضَةٍ أَفْرَخَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْبَيْضَةَ وَلَا يَرُدُّ الْفَرْخَ. وَقَالَ أَنْشَأْناهُ جَعَلَ إِنْشَاءَ الرُّوحِ فِيهِ وَإِتْمَامَ خَلْقِهِ إِنْشَاءً لَهُ. قِيلَ: وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى النَّظَّامِ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَرَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ شيء لا ينقسم، وتبارك فِعْلٌ مَاضٍ لَا يَتَصَرَّفُ. ومعناه تعالى وتقدس وأَحْسَنُ الْخالِقِينَ أَفْعَلُ

التَّفْضِيلِ وَالْخِلَافُ فِيهَا إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ هَلْ إِضَافَتُهَا مَحْضَةٌ أَمْ غَيْرُ مَحْضَةٍ؟ فَمَنْ قَالَ مَحْضَةٌ أَعْرَبَ أَحْسَنُ صِفَةً، وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَحْضَةٍ أَعْرَبَهُ بَدَلًا. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وَمَعْنَى الْخالِقِينَ الْمُقَدِّرِينَ وَهُوَ وَصْفٌ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي ما خلقت وبع ... ض الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي قَالَ الْأَعْلَمُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ يَعْنِي زُهَيْرًا، وَالْخَالِقُ الَّذِي لَا يُقَدِّرُ الْأَدِيمَ وَيُهَيِّئُهُ لِأَنْ يَقْطَعَهُ وَيَخْرِزَهُ وَالْفَرْيُ الْقَطْعُ. وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا تَهَيَّأْتَ لِأَمْرٍ مَضَيْتَ لَهُ وَأَنْفَذْتَهُ وَلَمْ تَعْجِزْ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ الصَّانِعِينَ يُقَالُ لِمَنْ صَنَعَ شَيْئًا خَلَقَهُ وَأَنْشَدَ بَيْتَ زُهَيْرٍ. قَالَ: وَلَا تُنْفَى هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَنِ الْبَشَرِ فِي مَعْنَى الصُّنْعِ إِنَّمَا هِيَ مَنْفِيَّةٌ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ الْخالِقِينَ لِأَنَّهُ أَذِنَ لِعِيسَى فِي أَنْ يَخْلُقَ وَتَمْيِيزُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْخَالِقِينَ عَلَيْهِ، أَيْ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ خَلْقًا أَيِ الْمُقَدِّرِينَ تَقْدِيرًا. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِلَى آخِرِهِ قَالَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مُعَاذٌ. وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَتْ سَبَبَ ارْتِدَادِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ لَمَائِتُونَ بِالْأَلِفِ يُرِيدُ حُدُوثَ الصِّفَةِ، فَيُقَالُ أَنْتَ مَائِتٌ عَنْ قَلِيلٍ وَمَيِّتٌ وَلَا يُقَالُ مَائِتٌ لِلَّذِي قَدْ مَاتَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا يُقَالُ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَقَطْ وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، وَإِذَا قُصِدَ اسْتِقْبَالُ الْمَصُوغَةِ مِنْ ثُلَاثِيٍّ عَلَى غَيْرِ فَاعِلٍ رُدَّتْ إِلَيْهِ مَا لَمْ يُقَدَّرِ الْوُقُوعُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ مَائِتٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْمَائِتِ أَنَّ الْمَيِّتَ كَالْحَيِّ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ، وَأَمَّا الْمَائِتُ فَيَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ، تَقُولُ: زَيْدٌ مَائِتٌ الْآنَ وَمَائِتٌ غَدًا كَقَوْلِكَ: يَمُوتُ وَنَحْوُهَا ضَيِّقٌ وَضَائِقٌ فِي قَوْلِهِ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ «1» انْتَهَى. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا التَّطْوِيرِ وَالْإِنْشَاءِ خَلْقاً آخَرَ أَيْ وَانْقِضَاءُ مُدَّةِ حَيَاتِكُمْ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِالِاخْتِرَاعِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْإِعْدَامِ ثُمَّ بِالْإِيجَادِ، وَذِكْرُهُ الْمَوْتَ وَالْبَعْثَ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَيَاةِ فِي الْقَبْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ الْإِنْشَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِعَادَةُ فِي الْقَبْرِ مِنْ جِنْسِ الْإِعَادَةِ وَمَعْنَى تُبْعَثُونَ

_ (1) سورة هود: 12/ 11.

لِلْجَزَاءِ فَإِنْ قُلْتَ: الْمَوْتُ مَقْطُوعٌ بِهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْبَعْثُ قَدْ أَنْكَرَتْهُ طَوَائِفُ وَاسْتَبْعَدَتْهُ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لِإِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَجِيءِ السَّمْعِ بِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ فَمَا بَالُ جُمْلَةِ الْمَوْتِ جَاءَتْ مُؤَكَّدَةً بِأَنَّ وَبِاللَّامِ وَلَمْ تُؤَكَّدْ جملة البعث بِإِنَّ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ بُولِغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَلَا يَغْفُلَ عَنْ تَرَقُّبِهِ، فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ أُكِّدَتْ جُمْلَتُهُ ثَلَاثَ مِرَارٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَسْعَى فِيهَا غَايَةَ السَّعْيِ، وَيُؤَكِّدُ وَيَجْمَعُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ فِيهَا فَنُبِّهَ بِذِكْرِ الْمَوْتِ مُؤَكَّدًا مُبَالَغًا فِيهِ لِيُقْصِرَ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ آخِرَهُ إِلَى الْفَنَاءِ فَيَعْمَلَ لِدَارِ الْبَقَاءِ، وَلَمْ تُؤَكَّدْ جملة البعث إلا بإن لِأَنَّهُ أُبْرِزَ فِي صُورَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعُ وَلَا يقبل إنكارا وإنه حَتْمٌ لَا بُدَّ مِنْ كِيَانِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى توكيد ثان، وكنت سئلت لِمَ دَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَمَيِّتُونَ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي تُبْعَثُونَ فَأَجَبْتُ: بِأَنَّ اللام مخلصة المضارع للحال غَالِبًا فَلَا تُجَامِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ إِعْمَالَ تُبْعَثُونَ فِي الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ تُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ فَتَنَافَى الْحَالُ، وَإِنَّمَا قُلْتُ غَالِبًا لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ قَلِيلًا مَعَ الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِقْرَارُ اللام مخلصة المضارع للحال بِأَنْ يُقَدَّرَ عَامِلٌ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى ابْتِدَاءَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَانْتِهَاءَ أَمْرِهِ ذَكَّرَهُ بِنِعَمِهِ وسَبْعَ طَرائِقَ السموات قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ لِتَطَارُقِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ، طَارَقَ النَّعْلَ جَعَلَهُ عَلَى نَعْلٍ، وَطَارَقَ بَيْنَ ثَوْبَيْنِ لَبِسَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ كَقَوْلِهِ طِباقاً «2» . وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْمَلَائِكَةِ فِي الْعُرُوجِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ فِي الْكَوَاكِبِ فِي مَسِيرِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ لِكُلِّ سَمَاءٍ طَرِيقَةً وَهَيْئَةً غَيْرَ هَيْئَةِ الْأُخْرَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الطَّرَائِقُ بِمَعْنَى الْمَبْسُوطَاتِ من طرقت الشيء.

_ (1) سورة النحل: 124/ 16. (2) سورة الملك: 7/ 3، وسورة نوح: 71/ 15.

وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ نَفَى تَعَالَى عَنْهُ الْغَفْلَةَ عَنْ خَلْقِهِ وَهُوَ مَا خَلَقَهُ تَعَالَى فَهُوَ حافظ السموات مِنَ السُّقُوطِ وَحَافِظُ عِبَادِهِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، أَيْ هُمْ بِمَرْأًى مِنَّا نُدَبِّرُهُمْ كَمَا نَشَاءُ بِقَدَرٍ بِتَقْدِيرٍ مِنَّا مَعْلُومٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ بِحَسَبِ حَاجَاتِ الْخَلْقِ وَمَصَالِحِهِمْ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أَيْ جَعَلْنَا مَقَرَّهُ فِي الأرض. وعن ابن عباس: أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ جَيْحُونُ وَسَيْحُونُ وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ. وَفِي قَوْلِهِ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَقَرَّ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْهُ الْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ وَالْآبَارُ وَكَمَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى ذَهابٍ بِهِ مِنْ أَوْقَعِ النَّكِرَاتِ وَأَحَزِّهَا لِلْمَفْصِلِ وَالْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الذَّهَابِ بِهِ وَطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِ انْتَهَى. وذَهابٍ مَصْدَرُ ذَهَبَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مُرَادِفَةٌ لِلْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «1» أَيْ لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ. وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ أَيْ فِي قُدْرَتِنَا إِذْهَابُهُ فَتَهْلِكُونَ بِالْعَطَشِ أَنْتُمْ وَمَوَاشِيكُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْإِيعَادِ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «2» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا وَهُوَ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيَّدَ هَذَا بِالْعَذَابِ وإلّا فالأجاج نابت فِي الْأَرْضِ مَعَ الْقَحْطِ وَالْعَذْبُ يَقِلُّ مَعَ الْقَحْطِ، وَأَيْضًا فَالْأَحَادِيثُ تَقْتَضِي الْمَاءَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ انْتَهَى. وَقِيلَ: مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ أَصْلُهُ مِنَ الْبَحْرِ، رَفَعَهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ وَحُسْنِ تَقْدِيرِهِ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى طَابَ بِذَلِكَ الرَّفْعِ وَالتَّصْعِيدِ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْضِ لِيُنْتَفَعَ بِهِ وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ مَا انْتُفِعَ بِهِ مِنْ مُلُوحَتِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَةَ الْمَاءِ ذَكَرَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ وَخَصَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنَ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ لِأَنَّهَا أَكْرَمُ الشَّجَرِ وَأَجْمَعُهَا لِلْمَنَافِعِ، وَوَصَفَ النَّخْلَ وَالْعِنَبَ بِقَوْلِهِ لَكُمْ فِيها إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ ثَمَرَهُمَا جَامِعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَنَّهُ فَاكِهَةٌ يُتَفَكَّهُ بِهَا، وَطَعَامٌ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا رُطَبًا وَعِنَبًا وَتَمْرًا وَزَبِيبًا، وَالزَّيْتُونَ بِأَنَّ دُهْنَهُ صَالِحٌ لِلِاسْتِصْبَاحِ وَالِاصْطِبَاغِ جَمِيعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ حِرْفَةٍ يَحْتَرِفُهَا، وَمِنْ صَنْعَةٍ يَغْتَلُّهَا، وَمِنْ تِجَارَةٍ يَتَرَبَّحُ بِهَا يَعْنُونَ أَنَّهَا طُعْمَتُهُ وَجِهَتُهُ الَّتِي مِنْهَا يُحِصِّلُ رِزْقَهُ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَهَذِهِ الْجَنَّاتُ وُجُوهُ أَرْزَاقِكُمْ وَمَعَايِشِكُمْ مِنْهَا تَرْتَزِقُونَ وَتَتَعَيَّشُونَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَذَكَرَ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ لأنها ثمرة الحجاز

_ (1) سورة البقرة: 2/ 201. (2) سورة الملك: 67/ 30.

بِالطَّائِفِ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالضَّمِيرُ في لَكُمْ فِيها عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّاتِ وَهُوَ أَعَمُّ لِسَائِرِ الثَّمَرَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَعَطَفَ وَشَجَرَةً عَلَى جَنَّاتٍ وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ بِالشَّامِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ سَيْناءَ اسْمُ الْجَبَلِ كَمَا تَقُولُ: جَبَلُ أُحُدٍ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى سَيْناءَ مُبَارَكٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ الْحَسَنُ وَالْقَوْلَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ الْحَسَنُ بِالْحَبَشَةِ. وَقِيلَ: بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ فِرْقَةٍ: مَعْنَاهُ ذُو شَجَرٍ. وَقِيلَ: سَيْناءَ اسْمُ حِجَارَةٍ بِعَيْنِهَا أُضِيفَ الْجَبَلُ إِلَيْهَا لِوُجُودِهَا عِنْدَهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَسَنُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ لِبَنِي كِنَانَةَ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ وَهِيَ لُغَةُ سَائِرِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ سَيْنَى مَقْصُورًا وَبِفَتْحِ السِّينِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَيْناءَ اسْمُ بُقْعَةٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ مُشْتَقًّا مِنَ السَّنَاءِ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ سَيْنَاءُ عَرَبِيَّ الْوَضْعِ لِأَنَّ نُونَ السَّنَاءِ عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَعَيْنَ سَيْنَاءَ يَاءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْبُتُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَالْبَاءُ فِي بِالدُّهْنِ عَلَى هَذَا بَاءُ الْحَالِ أَيْ تَنْبُتُ مَصْحُوبَةً بِالدُّهْنِ أَيْ وَمَعَهَا الدُّهْنُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وسلام وسهل ورويس والجحدري بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، فَقِيلَ بِالدُّهْنِ مَفْعُولٌ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ التَّقْدِيرُ تُنْبِتُ الدُّهْنَ. وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ تَنْبُتُ جناها وبِالدُّهْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ أَيْ تُنْبِتُ جَنَاهَا وَمَعَهُ الدُّهْنُ. وَقِيلَ: أَنْبَتَ لَازِمٌ كَنَبَتَ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ، وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَتَّهِمُ مَنْ رُوِيَ فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ: قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ بِلَفْظِ أَنْبَتَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ هُرْمُزَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الباء مبنيا للمفعول وبِالدُّهْنِ حَالٌ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الدُّهْنَ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْأَشْهَبُ بِالدِّهَانِ بِالْأَلِفِ، وَمَا رَوَوْا مِنْ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ يَخْرُجُ الدُّهْنُ وَقِرَاءَةِ أُبَيٍّ تُثْمِرُ بِالدُّهْنِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُمَا كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَالصِّبْغُ الْغَمْسُ وَالِائْتِدَامُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الصِّبْغُ الزَّيْتُونُ وَالدُّهْنُ الزَّيْتُ جَعَلَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ تَأَدُّمًا وَدُهْنًا. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الصِّبْغُ غَيْرَ الدُّهْنِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَصِبْغًا بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَصِبَاغٍ بِالْأَلِفِ، فَالنَّصْبُ عَطْفٌ عَلَى

مَوْضِعِ بِالدُّهْنِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَالصِّبَاغُ كَالدَّبْغِ وَالدِّبَاغِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَمَتَاعًا لِلْآكِلِينَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ تَفْسِيرَ الصِّبْغِ. ذَكَرَ تَعَالَى شَرَفَ مَقَرِّ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ فِيهِ نَجِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الدُّهْنِ وَالصِّبْغِ وَوَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ فِي قَوْلِهِ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ «1» قِيلَ: وَهِيَ أَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ بَعْدَ الطُّوفَانِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي النَّحْلِ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ مِنَ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالْحَرْثِ وَالِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا وَأَوْبَارِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى غَزَارَةِ فَوَائِدِهَا وَأَلْزَامِهَا وَهُوَ الشُّرْبُ وَالْأَكْلُ، وَأَدْرَجَ بَاقِيَ الْمَنَافِعِ فِي قَوْلِهِ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَكَادُ تَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْأَنْعَامِ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا وَقَرَنَهَا بِالْفُلْكِ لِأَنَّهَا سَفَائِنُ البر كما أنْ فُلْكِ سَفَائِنُ الْبَحْرُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا يُرِيدُ صَيْدَحَ نَاقَتَهُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ. لَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا بَدْءَ الْإِنْسَانِ وَتَطَوُّرَهُ فِي تِلْكَ الْأَطْوَارِ، وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِمَّا جَعَلَهُ تَعَالَى سَبَبًا لِحَيَاتِهِمْ، وَإِدْرَاكِ مَقَاصِدِهِمْ، ذَكَرَ أَمْثَالًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُنْكِرَةِ لِإِرْسَالِ اللَّهِ رُسُلًا الْمُكَذِّبَةِ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ، فَابْتَدَأَ قِصَّةَ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ الثَّانِي كَمَا ذَكَرَ أَوَّلًا آدَمَ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «2» وَلِقِصَّتِهِ أَيْضًا مُنَاسَبَةٌ بِمَا قَبْلَهَا إذ قبلها عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ «3» فَذَكَرَ قِصَّةَ مَنْ صَنَعَ الْفُلْكَ أَوَّلًا وَأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ نَجَاةِ من

_ (1) سورة النور: 24/ 35. (2) سورة المؤمنون: 23/ 12. (3) سورة المؤمنون: 23/ 22.

آمَنَ وَهَلَكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْفُلْكِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، كُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ يُحَذِّرُ بِهَا قُرَيْشًا نِقَمَ اللَّهِ وَيُذَكِّرُهُمْ نِعَمَهُ. مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ مَنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ... أَفَلا تَتَّقُونَ أَيْ أَفَلَا تَخَافُونَ عُقُوبَتَهُ إِذَا عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ فَقالَ الْمَلَأُ أَيْ كُبَرَاءُ النَّاسِ وَعُظَمَاؤُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ هُمْ أَعْصَى النَّاسِ وَأَبْعَدُهُمْ لِقَبُولِ الْخَيْرِ. مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ مُسَاوِيكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ لَهُ «1» اخْتِصَاصٌ بِالرِّسَالَةِ. يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَطْلُبَ الْفَضْلَ عَلَيْكُمْ وَيَرْأَسَكُمْ كَقَوْلِهِ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ «2» وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْمَلَائِكَةِ وَهَذِهِ شِنْشِنَةُ قُرَيْشٍ وَدَأْبُهَا فِي اسْتِبْعَادِ إِرْسَالِ اللَّهِ الْبَشَرَ، وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْ تَكُونَ إِلَى مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَفْضِ أَصْنَامِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ إِلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ بَشَرٌ، وَأَعْجِبْ بِضَلَالِ هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا رِسَالَةَ الْبَشَرِ وَاعْتَقَدُوا إِلَهِيَّةَ الْحَجَرِ. وَقَوْلُهُمْ مَا سَمِعْنا بِهذا الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُبَاهِتِينَ وَإِلَّا فَنُبُوَّةُ إدريس وآدم لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مُتَطَاوِلَةً بِحَيْثُ تُنْسَى فَدَافَعُوا الْحَقَّ بِمَا أَمْكَنَهُمْ دِفَاعُهُ، وَلِهَذَا قَالُوا إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ وَمَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَتَرَبَّصُوا بِهِ أَيِ انْتَظِرُوا حَالَهُ حَتَّى يُجَلَّى أَمْرُهُ وَعَاقِبَةُ خَبَرِهِ. فَدَعَا رَبَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَنْصُرَهُ وَيُظْفِرَهُ بِهِمْ بِسَبَبِ مَا كَذَّبُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يدل مَا كَذَّبُونِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا بِذَاكَ أَيْ بَدَلُ ذَاكَ وَمَكَانُهُ، وَالْمَعْنَى أَبْدِلْنِي مِنْ غَمِّ تَكْذِيبِهِمْ سَلْوَةَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ أَوِ انْصُرْنِي بِإِنْجَازِ مَا وَعَدْتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ مَا كَذَّبُوهُ فِيهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «3» انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ قالَ رَبِّ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ احْكُمْ «4» بِضَمِّ الْبَاءِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَكْثَرِ تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَنَهَاهُ تَعَالَى أَنْ يُخَاطِبَهُ فِي قَوْمِهِ بِدُعَاءِ نَجَاةٍ أَوْ غَيْرِهِ وَبَيَّنَ عِلَّةَ النَّهْيِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى نَجَاتِهِ وَهَلَاكِهِمْ وَكَانَ الْأَمْرُ لَهُ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ

_ (1) سورة الأنعام: 95/ 6. (2) سورة يونس: 10/ 78. (3) سورة الأعراف: 7/ 59. [.....] (4) سورة الأنبياء: 21/ 112.

الشَّرْطُ قَدْ شَمَلَهُ وَمَنْ مَعَهُ لِأَنَّهُ نَبِيُّهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَهُمْ مُتَّبِعُوهُ فِي ذَلِكَ إِذْ هُوَ قُدْوَتُهُمْ. قَالَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِشْعَارِ بِفَضْلِ النُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِ كِبْرِيَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ رُتْبَةَ تِلْكَ الْمُخَاطَبَةِ لَا يَتَرَقَّى إِلَيْهَا إِلَّا مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ انْتَهَى. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُ بِأَنَّهُ يُنْزِلُهُ مُنْزَلًا مُبارَكاً قِيلَ وَقَالَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ. وَقِيلَ: عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنْزَلًا بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَمَكَانًا أَيْ إِنْزَالًا أَوْ مَوْضِعَ إِنْزَالٍ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبَّانُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ أَيْ مَكَانَ نُزُولٍ إِنَّ فِي ذلِكَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْ إِنَّ فِي مَا جَرَى عَلَى هَذِهِ أُمَّةِ نُوحٍ لِدَلَائِلَ وَعِبَرًا وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أَيْ لَمُصِيبِينَ قَوْمَ نُوحٍ بِبَلَاءٍ عَظِيمٍ أَوْ لَمُخْتَبِرِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عِبَادَنَا لِيَعْتَبِرُوا كَقَوْلِهِ وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «1» . ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَقِيبَ قِصَّةِ نُوحٍ، يُظْهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ قَوْمُ هُودٍ وَالرَّسُولُ هُوَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَالطَّبَرِيُّ: هُمْ ثَمُودُ، وَالرَّسُولُ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلَكُوا بِالصَّيْحَةِ. وَفِي آخِرِ الْقِصَّةِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ قَوْمَ هُودٍ هَلَكُوا بِالصَّيْحَةِ وَقِصَّةُ قَوْمِ هُودٍ جَاءَتْ فِي الْأَعْرَافِ، وَفِي هُودٍ، وَفِي الشُّعَرَاءِ بِإِثْرِ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ. وَقَالَ تَعَالَى وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ «2» وَالْأَصْلُ فِي أَرْسَلَ أَنْ يَتَعَدَّى بِإِلَى كَإِخْوَانِهِ وَجَّهَ، وَأَنْفَذَ وَبَعَثَ وَهُنَا عُدِّيَ بِفِي، جُعِلَتِ الْأُمَّةُ مَوْضِعًا لِلْإِرْسَالِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: أَرْسَلْتَ فِيهَا مصعبا ذا إقحام

_ (1) سورة القمر: 54/ 15. (2) سورة الأعراف: 7/ 69.

وَجَاءَ بَعَثَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ «1» وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً «2» وأَنِ فِي أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونُ مُفَسِّرَةً وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَجَاءَ هُنَا وَقالَ الْمَلَأُ بِالْوَاوِ. وَفِي الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ في قصه بِغَيْرِ وَاوٍ قَصَدَ فِي الْوَاوِ الْعَطْفَ عَلَى مَا قَالَهُ، أَيِ اجْتَمَعَ قَوْلُهُ الَّذِي هُوَ حَقٌّ، وَقَوْلُهُمُ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ كَأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِتَبَايُنِ الْحَالَيْنِ وَالَّتِي بِغَيْرِ وَاوٍ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِئْنَافَ وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ لَهُ قَالَ قَالُوا كَيْتَ وَكَيْتَ بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أَيْ بِلِقَاءِ الْجَزَاءِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِيهَا وَأَتْرَفْناهُمْ أَيْ بَسَطْنَا لَهُمُ الْآمَالَ وَالْأَرْزَاقَ وَنَعَّمْنَاهُمْ، وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، وَكَانَ الْعَطْفُ مُشْعِرًا بِغَلَبَةِ التَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُنَا نَعَّمْنَاهُمْ وَأَحْسَنَّا إِلَيْهِمْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَأَنْ يُقَابِلُوا نِعْمَتَنَا بِالْإِيمَانِ وَتَصْدِيقِ مَنْ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً أَيْ وَقَدْ أَتْرَفْناهُمْ أي كَذَّبُوا في هذه الحال، ويؤول هَذَا الْمَعْنَى إِلَى الْمَعْنَى الأول أي كَذَّبُوا فِي حَالِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفُرُوا وَأَنْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ لِرُسُلِي. وَقَوْلُهُ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ تَحْقِيقٌ لِلْبَشَرِيَّةِ وَحُكْمٌ بِالتَّسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأَنْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ فِي قَوْلِهِ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَأَنَّ الْعَائِدَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرَائِطِ الْحَذْفِ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْمُتَعَلِّقِ وَالْمُتَعَلَّقِ كَقَوْلِهِ: مَرَرْتُ بِالَّذِي مَرَرْتَ، وَحَسَّنَ هَذَا الْحَذْفَ وَرَجَّحَهُ كَوْنُ تَشْرَبُونَ فَاصِلَةً وَلِدَلَالَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَفِي التَّحْرِيرِ وَزَعْمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ عَلَى حَذْفٍ أَيْ مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَلَا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ مَا إِذَا كَانَتْ مَصْدَرًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى عَائِدٍ، فَإِنْ جَعَلْتَهَا بِمَعْنَى الَّذِي حَذَفْتَ الْمَفْعُولَ وَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى إِضْمَارِ مِنْ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مِمَّا تَشْرَبُونَهُ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ ضَمِيرًا مُتَّصِلًا وَشُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا أَنَّهُ يُفَوِّتُ فَصَاحَةَ مُعَادَلَةِ التَّرْكِيبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ فَعَدَّاهُ بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ، فَالْمُعَادَلَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ مِمَّا تَأْكُلُونَهُ لَكَانَ تَقْدِيرُ تَشْرَبُونَهُ هُوَ الرَّاجِحَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُذِفَ الضَّمِيرُ وَالْمَعْنَى مِنْ مَشْرُوبِكُمْ أَوْ حُذِفَ مِنْهُ لِدَلَالَةِ ما قبله

_ (1) سورة النحل: 16/ 84. (2) سورة الفرقان: 25/ 51.

عَلَيْهِ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ حُذِفَ الضَّمِيرُ مَعْنَاهُ مِمَّا تَشْرَبُونَهُ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ مَشْرُوبُكُمْ لِأَنَّ الَّذِي تَشْرَبُونَهُ هُوَ مَشْرُوبُكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِذاً وَاقِعٌ فِي جَزَاءِ الشَّرْطِ وَجَوَابٌ لِلَّذِينِ قَاوَلُوهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، أَيْ تَخْسَرُونَ عُقُولَكُمْ وَتُغْبَنُونَ فِي آبَائِكُمْ انْتَهَى. وَلَيْسَ إِذاً وَاقِعًا فِي جَزَاءِ الشرط بل واقعا بين إِنَّكُمْ والخبر وإِنَّكُمْ وَالْخَبَرُ لَيْسَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ بَلْ ذَلِكَ جُمْلَةُ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ إِنَّ الْمُوَطِّئَةِ، وَلَوْ كَانَتْ إِنَّكُمْ وَالْخَبَرُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَلَزِمَتِ الْفَاءُ فِي إِنَّكُمْ بَلْ لَوْ كَانَ بِالْفَاءِ فِي تَرْكِيبٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّرْكِيبُ جَائِزًا إِلَّا عِنْدَ الْفَرَّاءِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَهُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي تَخْرِيجِ أَنَّكُمْ الثَّانِيَةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنْ أَنَّكُمْ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى وَفِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ، وَخَبَرُ أَنَّكُمْ الْأُولَى مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ إِنَّكُمْ تُبْعَثُونَ إِذا مِتُّمْ وَهَذَا الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْعَامِلَ فِي إِذا وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْجَرْمِيُّ وَالْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّ أَنَّكُمْ الثَّانِيَةَ كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ حَسُنَ التَّكْرَارُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخْرَجُونَ خَبَرَ أَنَّكُمْ الْأُولَى، وَالْعَامِلُ فِي إِذا هُوَ هَذَا الْخَبَرُ، وَكَانَ الْمُبَرِّدُ يَأْبَى الْبَدَلَ لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَقْبَلٍ إِذْ لَمْ يُذْكَرْ خَبَرُ إِنَّ الْأُولَى. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مُقَدَّرٌ بِمَصْدَرٍ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَحْدُثُ إِخْرَاجُكُمْ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرًا لِأَنَّكُمْ، وَيَكُونُ جَوَابُ إِذا ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ هُوَ خَبَرَ أَنَّكُمْ وَيَكُونَ عَامِلًا فِي إِذا. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَ الْمُبَرِّدِ بَادِئًا بِهِ فَقَالَ: ثَنَّى أَنَّكُمْ لِلتَّوْكِيدِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بالظرف ومُخْرَجُونَ خَبَرٌ عَنِ الْأَوَّلِ وَهَذَا قَوْلُ الْمُبَرِّدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ جَعَلَ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ وإِذا مِتُّمْ خَبَرًا عَلَى مَعْنَى إِخْرَاجِكُمْ إِذَا مِتُّمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِالْجُمْلَةِ عَنْ أَنَّكُمْ انْتَهَى. وَهَذَا تَخْرِيجٌ سَهْلٌ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ. قَالَ: أَوْ رَفَعَ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ بِفِعْلٍ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ إِذا مِتُّمْ وَقَعَ إِخْرَاجُكُمْ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ إِلَّا أَنَّهُ حَتَّمَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرًا عَنْ أَنَّكُمْ وَنَحْنُ جَوَّزْنَا فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ هَذَا الْوَجْهَ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرُ أَنَّكُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِذا وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَيَعِدُكُمْ إِذَا مِتُّمْ بِإِسْقَاطِ أَنَّكُمْ الْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هَيْهاتَ هَيْهاتَ بِفَتْحِ التَّاءَيْنِ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ هَارُونُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِهِمَا مُنَوَّنَتَيْنِ ونسبها ابن عطية لخالد بْنِ إِلْيَاسَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِضَمِّهِمَا مِنْ

غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَعَنْهُ عَنِ الْأَحْمَرِ بِالضَّمِّ وَالتَّنْوِينِ وَافَقَهُ أبو السِّمَاكِ فِي الْأَوَّلِ وَخَالَفَهُ فِي الثَّانِي. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِكَسْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عِيسَى وَهِيَ فِي تميم وأسد وَعَنْهُ أَيْضًا، وَعَنْ خَالِدِ بْنِ إِلْيَاسَ بِكَسْرِهِمَا وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْأَعْرَجِ وَعِيسَى أَيْضًا بِإِسْكَانِهِمَا، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَلَاعَبَتْ بِهَا الْعَرَبُ تَلَاعُبًا كَبِيرًا بِالْحَذْفِ وَالْإِبْدَالِ وَالتَّنْوِينِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى أَرْبَعِينَ لُغَةً، فَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهَا إِذَا نُوِّنَتْ وَكُسِرَتْ أَوْ كُسِرَتْ وَلَمْ تُنَوَّنْ لَا تَكُونُ جَمْعًا لِهَيْهَاتٍ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا جَمْعٌ لِهَيْهَاتٍ وَكَانَ حَقُّهَا عِنْدَهُ أَنْ تَكُونَ هَيْهاتَ إِلَّا أَنَّ ضَعْفَهَا لَمْ يَقْتَضِ إِظْهَارَ الباء قَالَ سِيبَوَيْهِ، هِيَ مِثْلُ بَيْضَاتٍ يَعْنِي فِي أَنَّهَا جَمْعٌ، فَظَنَّ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّهُ أَرَادَ فِي اتِّفَاقِ الْمُفْرَدِ، فَقَالَ وَاحِدُ: هَيْهَاتَ هَيْهَةٌ، وَتَحْرِيرُ هَذَا كُلِّهِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَلَا تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ غَالِبًا إِلَّا مُكَرَّرَةً، وَجَاءَتْ غَيْرَ مُكَرَّرَةٍ فِي قَوْلِ جَرِيرٍ: وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُوَاصِلُهْ وَقَوْلِ رُؤْبَةَ: هَيْهَاتَ من متحرق هيهاؤه وهَيْهاتَ اسْمُ فِعْلٍ لَا يَتَعَدَّى بِرَفْعِ الْفَاعِلِ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَهُنَا جَاءَ التَّرْكِيبُ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ لَمْ يَظْهَرِ الْفَاعِلُ فَوَجَبَ ن يُعْتَقَدَ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ أَيْ إِخْرَاجُكُمْ، وَجَاءَتِ اللَّامُ لِلْبَيَانِ أَيْ أَعْنِي لِمَا توعدون كهي بعد بَعْدَ سَقْيًا لَكَ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَبَنَيْتُ الْمُسْتَبْعَدَ مَا هُوَ بَعْدَ اسْمِ الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْبُعْدِ كَمَا جَاءَتْ فِي هَيْتَ لَكَ «1» لِبَيَانِ الْمُهَيَّتِ بِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْبُعْدُ لِما تُوعَدُونَ أَوْ بُعْدٌ لِما تُوعَدُونَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ تفسير معنى لا تفسير إِعْرَابٍ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ مَصْدَرِيَّةُ هَيْهاتَ وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَمَنْ نَوَّنَهُ نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ لَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّهُمْ قَدْ نَوَّنُوا أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ، وَلَا نَقُولُ إِنَّهَا إِذَا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: طَوْرًا تَلِي الْفَاعِلَ دُونَ لَامٍ تَقُولُ هَيْهَاتَ مَجِيءُ زَيْدٍ أَيْ بَعُدَ، وَأَحْيَانًا يَكُونُ الْفَاعِلُ مَحْذُوفًا وَذَلِكَ عِنْدَ اللَّامِ كَهَذِهِ الْآيَةِ التَّقْدِيرُ بَعْدَ الْوُجُودِ لِما تُوعَدُونَ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْفَاعِلِ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ حُذِفَ وَأُبْقِيَ مَعْمُولُهُ وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ مَنْ ضَمَّ وَنَوَّنَ أَنَّهُ اسْمٌ مُعْرَبٌ مُسْتَقِلٌّ، وَخَبَرُهُ لِما تُوعَدُونَ أَيِ الْبُعْدُ لِوَعْدِكُمْ كَمَا تقول: النجح

_ (1) سورة يوسف: 12/ 23.

لِسَعْيِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ هَيْهاتَ فَرَفَعَ وَنَوَّنَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا اسْمَيْنِ مُتَمَكِّنَيْنِ مُرْتَفِعَيْنِ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُمَا خَبَرَهُمَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ بِمَعْنَى الْبُعْدِ لِما تُوعَدُونَ وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا اسْمَيْنِ لِلْفِعْلِ وَالضَّمُّ لِلْبِنَاءِ مِثْلُ حَوْبُ فِي زَجْرِ الْإِبِلِ لَكِنَّهُ نُوِّنَ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ هَيْهاتَ هَيْهاتَ مَا تُوعَدُونَ بِغَيْرِ لَامٍ وَتَكُونُ مَا فَاعِلَةً بِهَيْهَاتَ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةٌ. وَقَالُوا إِنْ هِيَ هَذَا الضَّمِيرُ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ قَبْلُ أَنْكَرُوا الْمَعَادَ فَقَالُوا أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ الْآيَةَ فَاسْتَفْهَمُوا اسْتِفْهَامَ اسْتِبْعَادٍ وَتَوْقِيفٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، فَتَضَمَّنَ أَنْ لَا حَيَاةَ إِلَّا حَيَاتُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا ضَمِيرٌ لَا يُعْلَمُ مَا يُعْنَى بِهِ إِلَّا بِمَا يَتْلُوهُ مِنْ بَيَانِهِ، وَأَصْلُهُ إِنِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيَا ثُمَّ وَضَعَ هِيَ مَوْضِعَ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَيُبَيِّنُهَا، وَمِنْهُ هِيَ النَّفْسُ تَتَحَمَّلُ مَا حُمِّلَتْ وَهِيَ الْعَرَبُ تَقُولُ: مَا شَاءَتْ، وَالْمَعْنَى لَا حَيَاةَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِأَنَّ إِنْ الثَّانِيَةَ دَخَلَتْ عَلَى هِيَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَيَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجِنْسِ فَنَفَتْهَا فَوَازَنَتْ لَا الَّتِي نَفَتْ مَا بَعْدَهَا نَفْيَ الْجِنْسِ. نَمُوتُ وَنَحْيا أَيْ يَمُوتُ بَعْضٌ وَيُولَدُ بَعْضٌ يَنْقَرِضُ قَرْنٌ وَيَأْتِي قَرْنٌ انْتَهَى، ثُمَّ أَكَّدُوا مَا حَصَرُوهُ مِنْ أَنْ لَا حياة إلّا حياتهم وحرموا بِانْتِفَاءِ بَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ لِلْجَزَاءِ وَهَذَا هُوَ كُفْرُ الدَّهْرِيَّةِ، ثُمَّ نَسَبُوهُ إِلَى افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ فِي أَنَّهُ نَبَّأَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَيْنَا وَأَخْبَرَهُ أَنَّا نُبْعَثُ وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ بِمُصَدِّقِينَ، وَلَمَّا أَيِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَرَأَى إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ دَعَا عَلَيْهِمْ وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ قالَ: عَمَّا قَلِيلٍ أَيْ عن زمن قليل، وما توكيد للقلة وقليل صِفَةٌ لِزَمَنٍ مَحْذُوفٍ وَفِي مَعْنَاهُ قَرِيبٌ. قِيلَ: أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ تَصِيرُونَ نَادِمِينَ. وَقِيلَ عَمَّا قَلِيلٍ أَيْ وَقْتُ نُزُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا ظُهُورُ عَلَامَاتِهِ وَالنَّدَامَةِ عَلَى تَرْكِ قَبُولِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الرُّجُوعُ، وَاللَّامُ فِي لَيُصْبِحُنَّ لَامُ الْقَسَمِ وعَمَّا قَلِيلٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَ اللَّامِ إِمَّا بِيُصْبِحُنَّ وَإِمَّا بِنَادِمِينَ، وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَيُتَسَامَحُ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْعُولًا بِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ لَوْ قُلْتَ: لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا لَمْ يَجُزْ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ عَمَّا قَلِيلٍ يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ لَامِ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ لَامَ الْقَسَمِ لَا يَتَقَدَّمُ شَيْءٌ مِنْ مَعْمُولَاتِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا أَوْ غَيْرَهُمَا، فَعَلَى قَوْلٍ هُوَ لَا يَكُونُ عَمَّا قَلِيلٍ يتعلق بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ عَمَّا قَلِيلٍ تُنْصَرُ لِأَنَّ قَبْلَهُ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي. وَذَهَبُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ مَعْمُولِ مَا بَعْدَ هَذِهِ

اللَّامِ عَلَيْهَا مُطْلَقًا. وَفِي اللَّوَامِحِ عَنْ بَعْضِهِمْ لَتُصْبِحُنَّ بِتَاءٍ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ، فَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ يَصِيرَ الْقَوْلُ مِنَ الرَّسُولِ إلى الكفار بعد ما أُجِيبَ دُعَاؤُهُ لَكَانَ جَائِزًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحَ عَلَيْهِمْ فَدَمَّرَهُمْ بِالْحَقِّ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبُوا الْهَلَاكَ أَوْ بِالْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِذَا كَانَ عَادِلًا فِي قَضَايَاهُ شَبَّهَهُمْ بِالْغُثَاءِ فِي دَمَارِهِمْ وَهُوَ حَمِيلُ السَّيْلِ مِمَّا بَلِيَ وَاسْوَدَّ مِنَ الْوَرَقِ وَالْعِيدَانِ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّيْحَةُ الرَّجْفَةُ. وَقِيلَ: هِيَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَالْمَوْتِ. وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْمُصْطَلِمُ. قَالَ الشَّاعِرُ: صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ زَيْدٍ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشَنَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: بِالْحَقِّ بِمَا لا مدفع له كقولك: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ. وَانْتَصَبَ بُعْدًا بِفِعْلٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهُ أَيْ بَعُدُوا بُعْدًا. أَيْ هَلَكُوا، يُقَالُ بَعِدَ بُعْدًا وَبَعَدًا نَحْو رَشُدَ رُشْدًا وَرَشَدًا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ لِلْقَوْمِ مُتَعَلِّقٌ بِبُعْدًا. وَقَالَ الزمخشري: ولِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بَيَانٌ لِمَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ بِالْبُعْدِ نَحْوُ هَيْتَ لَكَ «1» ولِما تُوعَدُونَ انْتَهَى فَلَا تَتَعَلَّقُ بِبُعْدًا بَلْ بِمَحْذُوفٍ. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ. قُرُوناً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: قِصَّةُ لُوطٍ وشعيب وأيوب ويونس صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا تَسْبِقُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْحِجْرِ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أَيْ لِأُمَمٍ آخَرِينَ أَنْشَأْنَاهُمْ بَعْدَ أُولَئِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَقَتَادَةُ وأبو

_ (1) سورة يوسف: 12/ 23.

جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ والشافعي تَتْرا مُنَوَّنًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ مُتَوَاتِرِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَأَضَافَ الرُّسُلَ إِلَيْهِ تَعَالَى وَأَضَافَ رَسُولًا إِلَى ضَمِيرِ الْأُمَّةِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَكُونُ بِالْمُلَابَسَةِ، وَالرَّسُولُ يُلَابِسُ الْمُرْسَلَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ كَانَتِ الْإِضَافَةُ لِتَشْرِيفِ الرُّسُلِ، وَالثَّانِي كَانَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْأُمَّةِ حَيْثُ كَذَّبَتْهُ وَلَمْ يَنْجَحْ فِيهِمْ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِمْ فَنَاسَبَ الْإِضَافَةَ إِلَيْهِمْ. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أَيْ بَعْضَ الْقُرُونِ أَوْ بَعْضَ الْأُمَمِ بَعْضًا فِي الْإِهْلَاكِ النَّاشِئِ عَنِ التَّكْذِيبِ. وأَحادِيثَ جَمْعُ حَدِيثٍ وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، وَجَمْعُ أُحْدُوثَةٍ وَهُوَ جَمْعٌ قِيَاسِيٌّ. وَالظَّاهِرُ أَنِ الْمُرَادَ الثَّانِي أَيْ صَارُوا يُتَحَدَّثُ بِهِمْ وَبِحَالِهِمْ فِي الْإِهْلَاكِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ وَالِاعْتِبَارِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِهِمْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا يُقَالُ هَذَا إِلَّا فِي الشَّرِّ وَلَا يُقَالُ فِي الْخَيْرِ. وقيل: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ حَدِيثٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ إِلَّا الْحَدِيثُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَحَادِيثُ تَكُونُ اسْمَ جَمْعٍ لِلْحَدِيثِ وَمِنْهُ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. وَأَفَاعِيلُ لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ اسْمِ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِيمَا شَذَّ مِنَ الْجُمُوعِ كَقَطِيعٍ وَأَقَاطِيعَ، وَإِذَا كَانَ عَبَادِيدُ قَدْ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَهُوَ لَمْ يُلْفَظْ لَهُ بِوَاحِدٍ فَأَحْرَى أَحادِيثَ وَقَدْ لُفِظَ لَهُ وَهُوَ حَدِيثٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لَا اسْمُ جَمْعٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. بِآياتِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ التِّسْعُ وَهِيَ الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْبَحْرُ، وَالسُّنُونَ، وَنَقْصٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَسُلْطانٍ مُبِينٍ قِيلَ: هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَهُمَا اللَّتَانِ اقْتَرَنَ بِهِمَا التَّحَدِّي وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ سَائِرُ آيَاتِهِمَا كَالْبَحْرِ وَالْمُرْسَلَاتِ السِّتِّ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَحْرِ فَلَيْسَتْ تِلْكَ لِفِرْعَوْنَ بَلْ هي خاصة ببني إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِآياتِنا أَيْ بِدِينِنَا. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ هُوَ الْمُعْجِزُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَاتِ نَفْسُ الْمُعْجِزَاتِ، وَبِسُلْطَانٍ مُبِينٍ كَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهَا لِأَنَّهَا وَإِنْ شَارَكَتْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ فَارَقَتْهَا فِي قُوَّةِ دَلَالَتِهَا عَلَى قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ الْعَصَا لِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ آيَاتِ مُوسَى وَأُولَاهَا، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِهَا مُعْجِزَاتٌ شَتَّى مِنِ انْقِلَابِهَا حَيَّةً وَتَلَقُّفِهَا مَا أَفَكَتْهُ السَّحَرَةُ، وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ، وَانْفِجَارِ الْعُيُونِ مِنَ الْحَجَرِ بِالضَّرْبِ بِهَا، وَكَوْنِهَا حَارِسًا وَشَمْعَةً وَشَجَرَةً خَضْرَاءَ مُثْمِرَةً وَدَلْوًا وَرِشَاءً، جُعِلَتْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بَعْضَ الْآيَاتِ لِمَا اسْتَبَدَّتْ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ

وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ الْآيَاتُ أُنْفُسُهَا أَيْ هِيَ آيَاتٌ وَحُجَّةٌ بَيِّنَةٌ فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الإيمان بموسى وَأَخِيهِ نِفَةً. قَوْماً عالِينَ أَيْ رَفِيعِي الْحَالِ فِي الدُّنْيَا أَيْ مُتَطَاوِلِينَ عَلَى النَّاسِ قَاهِرِينَ بِالظُّلْمِ، أَوْ مُتَكَبِّرِينَ كَقَوْلِهِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «2» أَيْ وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمُ التَّكَبُّرُ. وَالْبَشَرُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً «3» وَلَمَّا أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ جَازَتْ تَثْنِيَتُهُ فَلِذَلِكَ جَاءَ لِبَشَرَيْنِ وَمِثْلُ يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَلَا يُؤَنَّثُ، وَقَدْ يُطَابِقُ تثنية وجمعا وقَوْمُهُما أَيْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَنا عابِدُونَ أَيْ خَاضِعُونَ فتذللون، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ فَادَّعَى النَّاسُ الْعِبَادَةَ، وَأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَهُ عِبَادَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ دَانَ لِلْمَلِكِ عَابِدًا، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْإِهْلَاكُ كَالْمَعْلُولِ لِلتَّكْذِيبِ أَعْقَبَهُ بِالْفَاءِ أَيْ فَكَانُوا مِمَّنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْغَرَقِ إِذْ لَمْ يَحْصُلِ الْغَرَقُ عَقِيبَ التَّكْذِيبِ. مُوسَى الْكِتابَ أَيْ قَوْمَ موسى والْكِتابَ التَّوْرَاةَ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ وَلَا يَصِحُّ عَوْدُ هَذَا الضَّمِيرِ فِي لَعَلَّهُمْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لِأَنَّ الْكِتابَ لَمْ يُؤْتَهُ مُوسَى إِلَّا بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «4» لَعَلَّهُمْ تَرَجٍّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ لِشَرَائِعِهَا وَمَوَاعِظِهَا. وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ أَيْ قِصَّتَهُمَا وَهِيَ آيَةً عُظْمَى بِمَجْمُوعِهَا وَهِيَ آيَاتٌ مَعَ التَّفْصِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ من الأول آيَةٌ لِدَلَالَةِ الثَّانِي أَيْ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ آيَةً وَأُمَّهُ آيَةً. وَالرَّبْوَةُ هُنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْغُوطَةُ بِدِمَشْقَ، وَصِفَتُهَا أَنَّهَا ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ عَلَى الْكَمَالِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: رَمْلَةُ فِلَسْطِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَكَعْبٌ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَزَعَمَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى أَعْلَى الْأَرْضِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَوَهْبٌ: الرَّبْوَةُ بِأَرْضِ مِصْرَ، وَسَبَبُ هَذَا الْإِيوَاءِ أَنَّ مَلِكَ ذَلِكَ الزَّمَانِ عَزَمَ عَلَى قَتْلِ عِيسَى فَفَرَّتْ بِهِ أُمُّهُ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبْوَةٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ بِكَسْرِهَا وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ رُبَاوَةٍ بِضَمِّ الراء

_ (1) سورة البقرة: 2/ 98. (2) سورة القصص: 48/ 4. (3) سورة مريم: 19/ 26. (4) سورة القصص: 28/ 43.

بالألف، وزيد بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالْفَرَزْدَقُ وَالسُّلَمِيُّ فِي نَقْلِ صَاحِبِ اللَّوَامِحِ بِفَتْحِهَا وَبِالْأَلِفِ. وقرىء بِكَسْرِهَا وَبِالْأَلِفِ ذاتِ قَرارٍ أَيْ مُسْتَوِيَةٍ يُمْكِنُ الْقَرَارُ فِيهَا لِلْحَرْثِ وَالْغِرَاسَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنَ الْبِقَاعِ الطَّيِّبَةِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: ذَاتُ ثِمَارٍ وَمَاءٍ، يَعْنِي أَنَّهَا لِأَجْلِ الثِّمَارِ يَسْتَقِرُّ فِيهَا سَاكِنُوهَا. وَنِدَاءُ الرُّسُلُ وَخِطَابُهُمْ بِمَعْنَى نِدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ وَخِطَابِهِ فِي زَمَانِهِ إِذْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَيُنَادَوْنَ وَيُخَاطَبُونَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِصُورَةِ الْجَمْعِ لِيَعْتَقِدَ السَّامِعُ أَنَّ أَمْرًا نُودِيَ لَهُ جَمِيعُ الرُّسُلِ وَوُصُّوا بِهِ حَقِيقٌ أَنْ يُوَحَّدَ بِهِ وَيُعْمَلَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الرُّسُلُ وَقِيلَ: لِيَفْهَمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ كُلِّ رَسُولٍ كَمَا تَقُولُ تُخَاطِبُ تَاجِرًا: يَا تُجَّارُ اتَّقُوا الرِّبَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لعيسى، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ بَقْلِ الْبَرِّيَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ هَذَا الْإِعْلَامُ عِنْدَ إِيوَاءِ عيسى ومريم إِلَى الرَّبْوَةِ فَذُكِرَ عَلَى سبيل الحكاية أي آوَيْناهُما وَقُلْنَا لَهُمَا هَذَا الَّذِي أَعْلَمْنَاهُمَا أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ خُوطِبُوا بِهَذَا وَكُلَا مِمَّا رزقنا كما وَاعْمَلَا صَالِحًا اقْتِدَاءً بِالرُّسُلِ وَالطَّيِّبَاتُ الْحَلَالُ لَذِيذًا كَانَ أَوْ غَيْرَ لَذِيذٍ. وَقِيلَ: مَا يُسْتَطَابُ وَيُسْتَلَذُّ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْفَوَاكِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ وَقَدَّمَ الْأَكْلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَالِحًا إِلَّا مَسْبُوقًا بِأَكْلِ الْحَلَالِ. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَحْذِيرٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْمُرَادُ اتِّبَاعُهُمْ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الْآيَةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهَا فِي أَوَاخِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَإِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ أي ولأن، وابن عَامِرٍ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ لِلرُّسُلِ نُودِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي زَمَانِهِ قَوْلُهُ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ. وَقَوْلُهُ فَتَقَطَّعُوا وَجَاءَ هُنَا وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ فَاعْبُدُونِ «1» لِأَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ عَقِيبَ إِهْلَاكِ طَوَائِفَ كَثِيرِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَفِي الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ أَيْضًا قِصَّةُ نُوحٍ وَمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَاللُّطْفِ التَّامِّ فِي قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فَنَاسَبَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ تَعَالَى وَجَاءَ هُنَا فَتَقَطَّعُوا بِالْفَاءِ إِيذَانًا بأن التقطيع اعتقب

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 56.

الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي عَدَمِ قَبُولِهِمْ وَفِي نِفَارِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ. وَجَاءَ فِي الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَاوِ فَاحْتَمَلَ مَعْنَى الْفَاءِ، وَاحْتَمَلَ تَأَخُّرَ تَقَطُّعِهِمْ عَنِ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، وَفَرَحُ كُلِّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى نِعْمَتِهِ فِي ضَلَالِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ وَكَأَنَّهُ لَا رِيبَةَ عِنْدَهُ فِي أَنَّهُ الْحَقِّ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأُمَمِ وَمَآلِ أَمْرِهِمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ كَانَ ذلك مثالا لقريش، فَخَاطَبَ رَسُولَهُ فِي شَأْنِهِمْ بِقَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ حَيْثُ تَقَطَّعُوا فِي أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَائِلٌ هُوَ شَاعِرٌ، وَقَائِلٌ سَاحِرٌ، وَقَائِلٌ بِهِ جِنَّةٌ كَمَا تَقَطَّعَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ «1» . قَالَ الْكَلْبِيُّ فِي غَمْرَتِهِمْ فِي جَهَالَتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: فِي حَيْرَتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: فِي غَفْلَتِهِمْ. وَقِيلَ: فِي ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ حَتَّى يَنْزِلَ بِهِمُ الْمَوْتُ. وَقِيلَ: حَتَّى يَأْتِيَ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ الجمهور فِي غَمْرَتِهِمْ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالسُّلَمِيُّ فِي غَمَرَاتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ غَمْرَةً، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَغَمْرَةٌ تَعُمُّ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى عَامٍّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَمْرَةُ الْمَاءُ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَامَةَ فَضُرِبَتْ مَثَلًا لِمَا هُمْ مَغْمُورُونَ فِيهِ مِنْ جَهْلِهِمْ وَعَمَايَتِهِمْ، أَوْ شُبِّهُوا بِاللَّاعِبِينَ فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، قَالَ الشاعر: كأني ضَارِبٌ فِي غَمْرَةٍ لَعِبُ سَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِعْجَالِ بِعَذَابِهِمْ وَالْجَزَعِ مِنْ تَأَخُّرِهِ انْتَهَى. ثُمَّ وَقَفَهُمْ تَعَالَى عَلَى خَطَأِ رَأْيِهِمْ فِي أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ وَنَحْوِهِ إِنَّمَا هِيَ لِرِضَاهُ عَنْ حَالِهِمْ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ وَاسْتِدْرَاجٌ إِلَى الْمَعَاصِي وَاسْتِجْرَارٌ إِلَى زِيَادَةِ الْإِثْمِ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ مُسَارَعَةً لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ وَمُعَاجَلَةً بِالْإِحْسَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ إِنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ يُمِدُّهُمْ بِالْيَاءِ، وَمَا فِي أَنَّما إِمَّا بِمَعْنَى الَّذِي أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ كَافَّةٌ مُهَيِّئَةٌ إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي فَصِلَتُهَا مَا بَعْدَهَا، وَخَبَرُ أَنَّ هِيَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ وَالرَّابِطُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَحَسَّنَ حَذْفَهُ اسْتِطَالَةُ الْكَلَامِ مَعَ أَمْنِ اللَّبْسِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ معونة:

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 53.

الضَّرَرُ الرَّابِطُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ فِي الْخَيْراتِ وَكَانَ الْمَعْنَى نُسارِعُ لَهُمْ فِيهِ ثُمَّ أُظْهِرَ فَقَالَ فِي الْخَيْراتِ فَلَا حَذْفَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فِي إِجَازَتِهِ نَحْوَ زَيْدٌ قَامَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِذَا كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كُنْيَةً لِزَيْدٍ، فَالْخَيْرَاتُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هِيَ الَّذِي مُدُّوا بِهِ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ وَإِنْ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً فَالْمَسْبُوكُ مِنْهَا وَمِمَّا بَعْدَهَا هُوَ مَصْدَرُ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ نُسارِعُ عَلَى تَقْدِيرِ مُسَارَعَةٍ فَيَكُونُ الْأَصْلُ أَنْ نُسَارِعَ فَحُذِفَتْ أَنْ وَارْتَفَعَ الْفِعْلُ، وَالتَّقْدِيرُ أَيَحْسَبُونَ أَنَّ إِمْدَادَنَا لَهُمْ بِالْمَالِ وَالْبَنِينَ مُسَارَعَةٌ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. وَإِنْ كَانَتْ مَا كَافَّةً مُهَيِّئَةً فَهُوَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ فِيهَا هُنَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى ضَمِيرٍ وَلَا حَذْفٍ، وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى وَبَنِينَ كَمَا تَقُولُ حَسِبْتُ إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَحَسِبْتُ أَنَّكَ مُنْطَلِقٌ، وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَسِبْتُ قَدِ انْتَظَمَ مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِي ما يقدر مُفْرَدًا لِأَنَّهُ يَنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ يُسَارِعُ بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ فَإِنْ كان فاعل نُسارِعُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ مَا نُمِدُّ فَنُسَارِعُ خَبَرٌ لِأَنَّ وَلَا ضَمِيرَ وَلَا حَذْفَ أَيْ يُسَارِعُ هُوَ أَيِ الَّذِي يُمِدُّ وَيُسَارِعُ، هُوَ أَيْ إِمْدَادُنَا. وَعَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ الْمَذْكُورُ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحُرُّ النَّحْوِيُّ نُسْرِعُ بِالنُّونِ مُضَارِعُ أَسْرَعَ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَيَحْسَبُونَ أَيْ بَلْ هُمْ أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ لَا فِطْنَةَ لَهُمْ وَلَا شُعُورَ فَيَتَأَمَّلُوا وَيَتَفَكَّرُوا أَهُوَ اسْتِدْرَاجٌ أَمْ مُسَارَعَةٌ فِي الْخَيْرِ وَفِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ. لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْكَفَرَةِ وَتَوَعَّدَهَمْ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَعَدَهُمْ وَذَكَرَهُمْ بِأَبْلَغِ صِفَاتِهِمْ، وَالْإِشْفَاقُ أَبْلَغُ التَّوَقُّعِ وَالْخَوْفِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْخَشْيَةَ عَلَى الْعَذَابِ وَالْمَعْنَى وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَهُوَ قَوْلُ الكلبي ومقاتل ومِنْ خَشْيَةِ مُتَعَلِّقٌ

بِمُشْفِقُونَ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومِنْ فِي مِنْ خَشْيَةِ هِيَ لِبَيَانِ جِنْسِ الْإِشْفَاقِ، وَالْإِشْفَاقُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَذَابِ الله، والآيات نعم الْقُرْآنَ وَالْعِبَرَ وَالْمَصْنُوعَاتِ الَّتِي لِلَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ عِبَادَتُهُمْ آلِهَتَهُمُ الَّتِي هِيَ الْأَصْنَامُ، إِذْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنْ تَقُولَ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنُصَدِّقُ بِأَنَّهُ الْمُخْتَرِعُ الْخَالِقُ. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيَ الشِّرْكِ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ الْمُرَادُ نَفْيُ الشِّرْكِ لِلْحَقِّ وَهُوَ أَنْ يُخْلِصُوا فِي الْعِبَادَةِ لَا يُقْدَمُ عَلَيْهَا إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ وَطَلَبِ رِضْوَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا أَيْ يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَيْ خَائِفَةٌ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ لِتَقْصِيرِهِمْ أَنَّهُمْ أَيْ وَجِلَةٌ لِأَجْلِ رُجُوعِهِمْ إِلَى اللَّهِ أَيْ خَائِفَةٌ لِأَجْلِ مَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ لِقَاءِ الْجَزَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مَا بَلَغَهُ جُهْدُهُمْ. وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عباس وقتادة وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا مِنَ الْإِتْيَانِ أَيْ يَفْعَلُونَ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ قَالَ: «لا يا ابنة الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ أَنْ لَا يَقْبَلَ» . قِيلَ: وَجَلُ الْعَارِفِ مِنْ طَاعَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ وَالطَّاعَةَ تُطْلَبُ التَّصْحِيحَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ يَجْمَعُ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَالْمُنَافِقُ يَجْمَعُ إِسَاءَةً وَأَمْنًا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ إِنَّهُمْ بِالْكَسْرِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ تَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ الْمُوجِبِ لِلِاحْتِرَازِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالثَّالِثَةَ عَلَى تَرْكِ الرِّيَاءِ فِي الطَّاعَةِ، وَالرَّابِعَةَ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَجْمِعَ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ مَعَ خَوْفٍ مِنَ التَّقْصِيرِ وَهُوَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ انْتَهَى. أُولئِكَ يُسارِعُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْخَيْراتِ الْمُخَافَتَةُ وَالْإِيمَانُ وَالْكَفُّ عَنِ الشِّرْكِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ فَيُبَادِرُونَهَا، وَالثَّانِي أَنَّهُمْ يَتَعَجَّلُونَ فِي الدُّنْيَا الْمَنَافِعَ، وَوُجُوهَ الْإِكْرَامِ كَمَا قَالَ فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ «1» وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» لِأَنَّهُمْ إِذَا سُورِعَ بِهَا لَهُمْ فقد

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 148. [.....] (2) سورة العنكبوت 29/ 27.

سَارَعُوا فِي نَيْلِهَا وَتَعَجَّلُوهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ طِبَاقًا لِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ مَا نُفِيَ عَنِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحُرُّ النَّحْوِيُّ: يُسْرِعُونَ مُضَارِعُ أَسْرَعَ، يُقَالُ أَسْرَعْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَسَرُعْتُ إِلَيْهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْمُسَارَعَةُ فَالْمُسَابَقَةُ أَيْ يُسَارِعُونَ غَيْرَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ يُسارِعُونَ أَبْلَغُ مَنْ يُسْرِعُونَ انْتَهَى. وَجِهَةُ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ الْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ فَتَقْتَضِي حَثَّ النَّفْسِ عَلَى السَّبْقِ لِأَنَّ مَنْ عَارَضَكَ فِي شَيْءٍ تَشْتَهِي أَنْ تَغْلِبَهُ فِيهِ. وَهُمْ لَها سابِقُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَها عائد عَلَى الْخَيْراتِ أَيْ سَابِقُونَ إِلَيْهَا تَقُولُ: سَبَقْتُ لِكَذَا وَسَبَقْتُ إِلَى كَذَا، وَمَفْعُولُ سابِقُونَ مَحْذُوفٌ أَيْ سَابِقُونَ النَّاسَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِلَّتِي قَبْلَهَا مُفِيدَةً تُجَدُّدَ الْفِعْلِ بِقَوْلِهِ يُسارِعُونَ وَثُبُوتَهَ بِقَوْلِهِ سابِقُونَ وَقِيلَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِهَا سَابِقُونَ النَّاسَ إِلَى رِضَا اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَها سابِقُونَ أَيْ فَاعِلُونَ السَّبْقَ لِأَجْلِهَا، أَوْ سَابِقُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهَا انْتَهَى. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ عِنْدِي وَاحِدٌ. قَالَ أَيْضًا أَوْ إِيَّاهَا سَابِقُونَ أَيْ يَنَالُوهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَيْثُ عُجِّلَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ لَفْظُ لَها سابِقُونَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِأَنَّ سَبْقَ الشَّيْءِ الشَّيْءَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ السَّابِقِ عَلَى الْمَسْبُوقِ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ وَهُمْ يَسْبِقُونَ الْخَيْرَاتِ هَذَا لَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ كون لَها سابِقُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَمَعْنَى وَهُمْ لَهَا كَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتَ لَهَا انْتَهَى. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: الْمَعْنَى سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ فِي الْأَزَلِ فَهُمْ لَهَا، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ اللَّامَ مُتَمَكِّنَةٌ فِي الْمَعْنَى انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَبَاقِيهَا مُتَعَسَّفٌ وَتَحْمِيلٌ لِلَّفْظِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَها عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: عَلَى الْأُمَمِ. وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أَيْ كِتَابٌ فِيهِ إِحْصَاءُ أَعْمَالِ الْخَلْقِ يُشِيرُ إِلَى الصحف التي يقرؤون فِيهَا مَا ثَبَتَ لَهُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ. بَلْ قُلُوبُهُمْ أَيْ قُلُوبُ الْكُفَّارِ فِي ضَلَالٍ قَدْ غَمَرَهَا كَمَا يَغْمُرُ الْمَاءُ مِنْ هَذَا أَيْ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي لَدَيْنَا أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى مِنِ اطِّرَاحِ هَذَا وَتَرْكِهِ أَوْ يُشِيرُ إِلَى الدِّينِ بِجُمْلَتِهِ أَوْ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أَيْ مِنْ دُونِ الْغَمْرَةِ وَالضَّلَالِ الْمُحِيطِ بِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ مُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَهُمْ سِعَايَاتُ فَسَادٍ وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِحَالَتَيْ شَرٍّ قَالَ هَذَا الْمَعْنَى قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وعماهم فِيهِ.

وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ هَذَا وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ الْحَقِّ، أَوْ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّمَا أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ وَلَهُمْ أَعْمالٌ عَمَّا يُسْتَأْنَفُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَيْ أَنَّهُمْ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنَ الْفَسَادِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعْمالٌ سَيِّئَةٌ دُونَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَهُمْ أَعْمالٌ مُتَجَاوِزَةٌ مُتَخَطِّئَةٌ لِذَلِكَ أَيْ لِمَا وُصِفَ به المؤمنون هم لها مُعْتَادُونَ وَبِهَا ضَارُّونَ وَلَا يُفْطَمُونَ عَنْهَا حَتَّى يَأْخُذَهُمُ الله بالعذاب وحَتَّى هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ انْتَهَى. وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بَلْ قُلُوبُهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُشْفِقِينَ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَصْفٌ لَهُمْ بِالْحَيْرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ كَالْمُتَحَيِّرِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ أَهِيَ مَقْبُولَةٌ أَمْ مَرْدُودَةٌ وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دون ذلك أي من النَّوَافِلِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ سِوَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَيُرِيدُ بِالْأَعْمَالِ الْأُوَلِ الْفَرَائِضَ، وَبِالثَّانِي النَّوَافِلَ. حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ رُجُوعٌ إِلَى وَصْفِ الْكُفَّارِ قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ رَدُّ الْكَلَامِ إِلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى مَا بَعْدَهُ خُصُوصًا وَقَدْ رَغَّبَ الْمَرْءَ فِي الْخَيْرِ بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مَحْفُوظَةٌ كَمَا يُحَذِّرُ بِذَلِكَ مِنَ الشَّرِّ، وَأَنْ يُوصَفَ بِشِدَّةِ فِكْرِهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ بِأَنَّ قَلْبَهُ فِي غَمْرَةٍ، وَيُرَادُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْفِكْرُ فِي قَبُولِهِ أَوْ رَدِّهِ وَفِي أَنَّهُ هَلْ أَدَّاهُ كَمَا يَجِبُ أَوْ قَصَّرَ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذَا؟ قُلْنَا: إِشَارَةٌ إِلَى إِشْفَاقِهِمْ وَوَجَلِهِمْ بَيْنَ اسْتِيلَاءِ ذَلِكَ عَلَى قُلُوبِهِمُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي حَتَّى أَنَّهَا الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَأَنَّهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُعْتَادُونَ لَهَا حَتَّى يَأْخُذَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ حَتَّى غَايَةٌ وَهِيَ عَاطِفَةٌ، إِذا ظَرْفٌ يُضَافُ إِلَى مَا بَعْدَهُ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ إِذا الثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ جَوَابِ الْأُولَى، وَمَعْنَى الْكَلَامِ عَامِلٌ فِي إِذا وَالتَّقْدِيرُ جَأَرُوا، فَيَكُونُ جَأَرُوا الْعَامِلَ فِي إِذا الْأُولَى، وَالْعَامِلَ فِي الثَّانِيَةِ أَخَذْنا انْتَهَى وَهُوَ كَلَامُ مُخَبِّطٍ لَيْسَ أَهْلًا أَنْ يَرُدَّ. وقال ابن عطية وحَتَّى حَرْفُ ابْتِدَاءٍ لَا غَيْرُ، وإِذا الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ جَوَابٌ يَمْنَعَانِ مِنْ أَنْ تَكُونَ حَتَّى غَايَةً لِعَامِلُونَ انْتَهَى. وَقَالَ مَكِّيٌّ: أَيْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَعْمَالٌ مِنَ الشَّرِّ دُونَ أَعْمَالِ أَهْلِ الْبِرِّ لَها عامِلُونَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ اللَّهُ أَهْلَ النِّعْمَةِ وَالْبَطَرِ مِنْهُمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَضِجُّونَ وَيَسْتَغِيثُونَ، وَالْمُتْرَفُونَ الْمُنَعَّمُونَ وَالرُّؤَسَاءُ. وَالْعَذَابُ الْقَحْطُ سَبْعَ سِنِينَ وَالْجُوعُ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْكِلَابَ وَالْعِظَامَ

الْمُحْتَرِقَةَ وَالْقَدَّ وَالْأَوْلَادَ. وَقِيلَ: الْعَذَابُ قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِذا هُمْ عَائِدٌ عَلَى مُتْرَفِيهِمْ إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ صَاحُوا حِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْبَاقِينَ بَعْدَ الْمُعَذَّبِينَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُعَذَّبُونَ قَتْلَى بَدْرٍ، وَالَّذِينَ يَجْأَرُونَ أَهْلُ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ نَاحُوا وَاسْتَغَاثُوا. لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ إِمَّا حَقِيقَةً تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ وَإِمَّا مَجَازًا أَيْ لِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ ذَلِكَ هَذَا إِنْ كَانَ الَّذِينَ يَجْأَرُونَ هُمُ الْمُعَذَّبُونَ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَيْسَ الْقَائِلُ الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ يَجْأَرُونَ يَصْرُخُونَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: تَجْأَرُونَ تَجْزَعُونَ، عَبَّرَ بِالصُّرَاخِ بِالْجَزَعِ إِذِ الْجَزَعُ سَبَبُهُ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ أَيْ لَا تُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِنَا أَوْ لَا يَكُونُ لَكُمْ نَصْرٌ مِنْ جِهَتِنَا، فَالْجِوَارُ غَيْرُ نَافِعٍ لَكُمْ وَلَا مُجْدٍ. قَدْ كانَتْ آياتِي هِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ تَنْكِصُونَ تَرْجِعُونَ اسْتِعَارَةٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب تَنْكِصُونَ بِضَمِّ الْكَافِ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَنْكِصُونَ أَيْ بِالنُّكُوصِ وَالتَّبَاعُدِ مِنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ أَوْ عَلَى الْآيَاتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْكِتَابِ، وَضَمَّنَ مُسْتَكْبِرِينَ مَعْنَى مُكَذِّبِينَ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ أَوْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ يَحْدُثُ لَكُمْ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ اسْتِكْبَارٌ وَعُتُوٌّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وَسَوَّغَ هَذَا الْإِضْمَارَ شُهْرَتُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ بِالْبَيْتِ وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مُعْجِزَةٌ إِلَّا أَنَّهُمْ وُلَاتُهُ وَالْقَائِمُونَ بِهِ، وَذَكَرَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ الضَّمِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحَسِّنُهُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تُتْلى عَلَيْكُمْ دَلَالَةً عَلَى التَّالِي وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ تَتَعَلَّقُ فِيهَا بِمُسْتَكْبِرِينَ. وَقِيلَ تَتَعَلَّقُ بِسَامِرًا أَيْ تَسْمُرُونَ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالطَّعْنِ فِيهِ، وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ بِاللَّيْلِ يَسْمُرُونَ، وَكَانَتْ عَامَّةَ سَمَرِهِمْ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا وَشِعْرًا وَسَبُّ مَنْ أَتَى بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سامِراً وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعِكْرِمَةُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ وَسُمَّرًا بِضَمِّ السِّينِ وَشَدِّ الْمِيمِ مَفْتُوحَةً جَمْعُ سَامِرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو نَهِيكٍ كَذَلِكَ، وَبِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَيْنَ الْمِيمِ وَالرَّاءِ جَمَعُ سَامِرٍ أَيْضًا وَهُمَا جَمْعَانِ مَقِيسَانِ فِي مِثْلِ سَامِرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَهْجُرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِالْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَهْجُرُونَ الْحَقَّ وَذِكْرَ اللَّهِ وَتَقْطَعُونَهُ مِنَ الْهَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ

زَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ: مِنْ هَجَرَ الْمَرِيضُ إِذَا هَذَى أَيْ يَقُولُونَ اللَّغْوَ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ وَحُمَيْدٌ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مُضَارِعُ أَهْجَرَ أَيْ يَقُولُونَ الْهُجْرَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْفُحْشُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِشَارَةٌ إِلَى السَّبِّ لِلصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو نَهِيكٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا وَأَبُو حَيْوَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْهَاءَ وَشَدَّدُوا الْجِيمَ وَهُوَ تَضْعِيفٌ مِنْ هَجَّرَ مَاضِي الْهَجَرِ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى مُقَابِلِ الْوَصْلِ أَوِ الْهَذَيَانِ أَوْ مَاضِي الْهُجْرِ وَهُوَ الْفُحْشُ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: لَوْ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّكُمْ مُبَالِغُونَ فِي الْمُجَاهَرَةِ حَتَّى إِنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ سُمَّرًا بِاللَّيْلِ فَكَأَنَّكُمْ تَهْجُرُونَ فِي الْهَاجِرَةِ عَلَى الِافْتِضَاحِ لَكَانَ وَجْهًا. أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. ذَكَرَ تَعَالَى تَوْبِيخَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْقَوْلِ الْقُرْآنِ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَيْ أَفَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ الْمُعْجِزُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ فَيُصَدِّقُوا بِهِ وَبِمَنْ جَاءَ بِهِ، وَبَّخَهُمْ وَوَقَفَهُمْ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَأَنَّهُمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ وَنَظَرِهِمُ الْفَاسِدِ قَالَ بَعْضُهُمْ سِحْرٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ شِعْرٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ الدَّلَائِلِ الْبَاقِيَةِ عَلَى غَابِرِ الدَّهْرِ قَرَّعَهُمْ أَوَّلًا بِتَرْكِ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ ثَانِيًا بِأَنَّ مَا جَاءَهُمْ جَاءَ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَيْسَ بِدْعًا وَلَا مُسْتَغْرَبًا بَلْ جَاءَتِ الرُّسُلُ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ، وَعَرَفُوا ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ وَنَجَاةِ مَنْ آمَنَ وَاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَّبَ وَآبَاؤُهُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَعْقَابُهُ مِنْ عَدْنَانَ وَقَحْطَانَ، وَرُوِيَ: لَا تَسُبُّوا مُضَرَ، وَلَا رَبِيعَةَ، وَلَا الْحَارِثَ بْنَ كَعْبٍ، وَلَا أَسَدَ بْنَ خُزَيْمَةَ، ولا تَمِيمَ بْنَ مُرَّةَ وَلَا قُسًّا وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَأَنَّ تُبَّعًا كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَ عَلَى شُرَطِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَبَّخَهُمْ ثَالِثًا بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةَ نَسَبِهِ وَحُلُولَهُ فِي سِطَةِ هَاشِمٍ وَأَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ وَشَهَامَتَهُ وَعَقْلَهُ وَاتِّسَامَهُ بِأَنَّهُ خَيْرُ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ، وَكَفَى بِخُطْبَةِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ وَأَنَّهَا احْتَوَتْ

على صفات لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم طَرَقَتْ آذَانَ قُرَيْشٍ فَلَمْ تُنْكِرْ مِنْهَا شَيْئًا أَيْ قَدْ سَبَقَتْ مَعْرِفَتُهُمْ لَهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَلَا يُمْكِنُ إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِهِ. ثُمَّ وَبَّخَهُمْ رَابِعًا بِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى الْجِنِّ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ أَرْجَحُهُمْ عَقْلًا وَأَثْقَبُهُمْ ذِهْنًا، وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَبَيْنَ كَلَامِ ذِي الْجِنَّةِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ، وَهَذِهِ التَّوْبِيخَاتُ الْأَرْبَعُ كَانَ يَقْتَضِي مَا وُبِّخُوا بِهِ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِانْقِيَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِمَا جَاءَ بِهِ وَالنَّظَرَ فِي سِيَرِ الْمَاضِينَ وَإِرْسَالَ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَمَعْرِفَةَ الرَّسُولِ ذَاتًا وَأَوْصَافًا وَبَرَاءَتَهُ مِنَ الْجُنُونِ هَادٍ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْهِدَايَةِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْوَائِهِمْ وَلَمْ يُوَافِقْ مَا نشؤوا عَلَيْهِ مِنِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا لَهُ مَدْفَعًا لِأَنَّهُ الْحَقُّ عَامَلُوا بِالْبُهْتِ وَعَوَّلُوا عَلَى الْكَذِبِ مِنَ النِّسْبَةِ إِلَى الْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَالشِّعْرِ. بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمَا بِهِ النَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ وَالسُّؤْدُدُ فِي الدُّنْيَا. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يَكْرَهُ الْحَقَّ وَذَلِكَ مَنْ يَتْرُكُ الْإِيمَانَ أَنَفَةً وَاسْتِكْبَارًا مِنْ تَوْبِيخِ قَوْمِهِ أَنْ يَقُولُوا: صَبَأَ وَتَرَكَ دِينَ آبَائِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ قَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَلَوِ اتَّبَعَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلُ فِي قَوْلِهِمْ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ متبعا أهواءهم لا نقلب شَرًّا وَجَاءَ اللَّهُ بِالْقِيَامَةِ وَأَهْلَكَ الْعَالَمَ وَلَمْ يُؤَخِّرْ قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَعْضَهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: دَلَّ بِهَذَا عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الحق، فَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَانْقَلَبَ بَاطِلًا وَلَذَهَبَ مَا يَقُومُ بِهِ الْعَالَمُ فَلَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَهُ قِوَامٌ. وَقِيلَ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ بِحُكْمِ هَوَى هَؤُلَاءِ مِنِ اتِّخَاذِ شَرِيكٍ لِلَّهِ وَوَلَدٍ وَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ الصِّفَاتُ الْعَلِيَّةُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ الْقُدْرَةُ كَمَا هِيَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ فساد السموات وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْحَقَّ فِي اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ مَعَ اللَّهِ لَكِنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَوَقَعَ الْفَسَادُ في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي دَلِيلِ التَّمَانُعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» وَقِيلَ: كَانَتْ آرَاؤُهُمْ متناقصة فَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْعَالَمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ الْحَقُّ هُنَا اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ وَيَأْمُرُ بِالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي لَمَا كَانَ إِلَهًا وَلَمَا قَدَرَ عَلَى أن يمسك السموات وَالْأَرْضَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ قَالَ إِنَّ الْحَقُ

_ (1) سورة الأنبياء: 22/ 21.

فِي الْآيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ قَدْ حَكَاهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَبِي صَالِحٍ تَشَعَّبَ لَهُ لَفْظَةُ اتَّبَعَ وَصَعُبَ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ الْفَسَادِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الِاتِّبَاعِ إِنَّمَا هِيَ اسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ أَهْوَاؤُهُمْ يُقَرِّرُهَا الْحَقُّ، فَنَحْنُ نَجِدُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَرَّرَ كُفْرَ أُمَمٍ وَأَهْوَاءَهُمْ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ فساد سموات، وَأَمَّا نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ فَلَوْ كَانَ طِبْقَ أَهْوَائِهِمْ لَفَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عمرو وَيُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى أَيْضًا وَأَبُو البر هثيم وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ قُطَيْبٍ وَأَبُو رَجَاءٍ بِتَاءِ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ آتَيْنَاهُمْ بِالْمَدِّ أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ، وَالْجُمْهُورُ بِذِكْرِهِمْ أَيْ بِوَعْظِهِمْ وَالْبَيَانِ لَهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ عِيسَى بِذِكْرَاهُمْ بألف التأنيث، وقتادة نَذْكُرُهُمْ بِالنُّونِ مُضَارِعُ ذَكَرَ وَنِسْبَةُ الْإِتْيَانِ الْحَقِيقِيِّ إِلَى اللَّهِ لَا تَصِحُّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ أَيْ بَلْ آتَاهُمْ كِتَابُنَا أَوْ رَسُولُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِذِكْرِهِمْ أَيْ بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ ذِكْرُهُمْ أي وعظهم أوصيتهم، وَفَخْرُهُمْ أَوْ بِالذِّكْرِ الَّذِي كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ وَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ أَيْضًا الْمَعْنَى بَلْ أَتَسْأَلُهُمْ مَالًا فَغُلِبُوا لِذَلِكَ وَاسْتَثْقَلُوكَ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَحْسَنِ كَلَامٍ فَقَالَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ عَلَى هِدَايَتِكَ لَهُمْ قَلِيلًا مِنْ عَطَاءِ الْخَلْقِ وَالْكَثِيرُ مِنْ عَطَاءِ الْخَالِقِ خَيْرٌ فَقَدْ أَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ وَعِلَلَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ أَمْرُهُ وَحَالُهُ مخبور سره علنه، خَلِيقٌ بِأَنْ يُجْتَبَى مِثْلُهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانِيهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ حَتَّى يَدَّعِيَ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَظِيمَةِ بِبَاطِلٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ سُلَّمًا إِلَى النَّيْلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَاسْتِعْطَاءِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَّا إِلَى دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ إِبْرَازِ الْمَكْنُونِ مِنْ أَدْوَائِهِمْ وَهُوَ إِخْلَالُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَاسْتِهْتَارُهُمْ بِدِينِ الْآبَاءِ الضُّلَّالِ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ، وَتَعَلُّلُهُمْ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ وَثَبَاتِ التَّصْدِيقِ مِنَ اللَّهِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ النَّيِّرَةِ وَكَرَاهَتُهُمْ لِلْحَقِّ وَإِعْرَاضُهُمْ عَمَّا فِيهِ حَظُّهُمْ مِنَ الذِّكْرِ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ خَرْجاً فَخَراجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً «1»

_ (1) سورة الكهف: 18/ 94.

فِي الْكَهْفِ قِرَاءَةً وَمَدْلُولًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى خَرَاجًا فخرج فكلمت بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ، وَفِي الْحَرْفَيْنِ فَخَراجُ رَبِّكَ أَيْ ثَوَابُهُ لِأَنَّهُ الْبَاقِي وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِهِ فَانٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَعَطَاؤُهُ لِأَنَّهُ يُعْطِي لَا لِحَاجَةٍ وَغَيْرُهُ يُعْطِي لِحَاجَةٍ. وَقِيلَ: فَرِزْقُهُ وَيُؤَيِّدُهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ الْجِبَائِيُّ: خَيْرُ الرَّازِقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي الْإِفْضَالِ عَلَى عِبَادِهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ قَدْ يَرْزُقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا انْتَهَى. وَهَذَا مَدْلُولُ خَيْرٌ الَّذِي هُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَمَدْلُولُ الرَّازِقِينَ الَّذِي هُوَ جَمْعٌ أُضِيفَ إِلَيْهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَلَمَّا زَيَّفَ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَنِ أَنْكَرَ الْمَعَادَ نَاكِبٌ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ لِأَنَّهُ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ رَاجِيًا لِلثَّوَابِ خَائِفًا مِنَ الْعِقَابِ وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ مُصَدِّقِينَ بِالْجَزَاءِ فَهُمْ مَائِلُونَ عَنْهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي هُمْ نَاكِبُونَ عَنْهُ هُوَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ نَاكِبُونَ عَنْهُ بِأَخْذِهِمْ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إِلَى النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَناكِبُونَ لَعَادِلُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَارِكُونَ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَائِرُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُعْرِضُونَ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ قِيلَ: هُوَ الْجُوعُ. وَقِيلَ: الْقَتْلُ وَالسَّبْيُ. وَقِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ أَيْ بَلَغُوا مِنَ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا لِشِدَّةِ لَجَاجِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبُعْدِ وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ كَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ اسْتَشْهَدَ عَلَى شِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَلَجَاجِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ بِأَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالسُّيُوفِ أَوَّلًا، وَبِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قَتْلِ صَنَادِيدِهِمْ وَأَسْرِهِمْ فَمَا وُجِدَتْ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِكَانَةٌ وَلَا تَضَرُّعٌ حَتَّى فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابَ الْجُوعِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ فَأُبْلِسُوا وَخَضَعَتْ رِقَابُهُمْ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ هُوَ الْقَحْطُ وَالْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِدُعَاءِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عن بن عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ وَلَحِقَ بِالْيَمَامَةِ مُنِعَ الْمِيرَةَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بعثت الرحمة لِلْعَالَمِينَ؟ فَقَالَ: «بَلَى» فَقَالَ: قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَالْمَعْنَى لَوْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ هذا الضر وهو الهزل وَالْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَهُمْ وَوَجَدُوا الْخِصْبَ لَارْتَدُّوا إِلَى مَا كَانُوا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 إلى 118]

عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ وَعَدَاوَةِ رسول الله وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِفْرَاطِهِمْ فِيهَا. وَقِيلَ: المعنى ولو امْتَحَنَّاهُمْ بِكُلِّ مِحْنَةٍ مِنَ القتل والجوع فما ريء فِيهِمِ اسْتِكَانَةٌ وَلَا انْقِيَادٌ حَتَّى إِذَا عُذِّبُوا بِنَارِ جَهَنَّمَ أُبْلِسُوا، كَقَوْلِهِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ «1» لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ «2» فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْفَتْحُ لِبَابِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ كَانَ فِي الدُّنْيَا. وَوَزْنُ اسْتَكَانَ اسْتَفْعَلَ أَيِ انْتَقَلَ مِنْ كَوْنٍ إِلَى كَوْنٍ كَمَا تَقُولُ: اسْتَحَالَ انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْتَكَانَ افْتَعَلَ مِنَ السُّكُونِ وَأَنَّ الْأَلِفَ إِشْبَاعٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْإِشْبَاعَ بَابُهُ لشعر كَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشائلات عقد الأذناب وَلِأَنَّ الْإِشْبَاعَ لَا يَكُونُ فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَشْبَعَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذَمِّ الزَّمَانِ بِمُنْتَزَاحِ لَا تَقُولُ انْتِزَاحَ يَنْتَزِيحُ فَهُوَ مُنْتَزِيحٌ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اسْتَكَانَ يَسْتَكِينُ فَهُوَ مُسْتَكِينٌ وَمُسْتَكَانٌ وَمَجِيءُ مَصْدَرِهِ اسْتِكَانَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ وَزْنُهُ اسْتَفْعَلَ كَاسْتَقَامَ اسْتِقَامَةً، وَتَخَالَفَ اسْتَكانُوا ويَتَضَرَّعُونَ فِي الصِّيغَةِ فَلَمْ يَكُونَا مَاضِيَيْنِ وَلَا مُضَارِعَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْمَعْنَى مَحَنَّاهُمْ فَمَا وُجِدَتْ مِنْهُمْ عَقِيبَ الْمِحْنَةِ اسْتِكَانَةٌ، وَمَا مِنْ عَادَةِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَسْتَكِينُوا وَيَتَضَرَّعُوا حَتَّى يُفْتَحَ عَلَيْهِمْ باب العذاب الشديد. والملبس: الْآيِسُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي نَالَهُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ مُبْلِسُونَ بفتح اللام. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 118] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

_ (1) سورة الروم: 30/ 12. (2) سورة الزخرف: 43/ 75.

الْهَمْزُ: النَّخْسُ وَالدَّفْعُ بِيَدٍ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ مِهْمَازُ الرَّائِضِ وَهَمْزُ النَّاسِ بِاللِّسَانِ. الْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ. وَقِيلَ: الْحِجَابُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَمْنَعُ أحدهما أن يصلى إِلَى الْآخَرِ. النَّسَبُ: الْقَرَابَةُ مِنْ جِهَةِ الْوِلَادَةِ. اللَّفْحُ: إِصَابَةُ النَّارِ الشَّيْءَ بِوَهَجِهَا وَإِحْرَاقِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّفْحُ أشد من اللقيح تَأْثِيرًا. الْكُلُوحُ: تَشَمُّرُ الشَّفَتَيْنِ عَنِ الْأَسْنَانِ وَمِنْهُ كُلُوحُ كُلُوحُ الْكَلْبِ وَالْأَسَدِ. وَقِيلَ: الْكُلُوحُ بُسُورُ الْوَجْهِ وَهُوَ تَقْطِيبُهُ، وَكَلَحَ الرَّجُلُ كُلُوحًا وَكُلَاحًا وَدَهْرٌ كَالِحٌ وَبَرْدٌ كَالِحٌ شَدِيدٌ. الْعَبَثُ: اللَّعِبُ الْخَالِي عَنْ فَائِدَةٍ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ: مُنَاسَبَةُ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ إِعْرَاضَ الْكُفَّارِ عَنْ سَمَاعِ الْأَدِلَّةِ وَرُؤْيَةِ الْعِبَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي الْحَقَائِقِ خَاطَبَ قِيلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالظَّاهِرُ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يعمل هذه الأعضاء في ما خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَدَبَّرَ مَا أَوْدَعَهُ فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَبَاهِرِ قُدْرَتِهِ فَهُوَ كَعَادِمِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَمِمَّنْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ

سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ «1» فَمَنْ أَنْشَأَ هَذِهِ الْحَوَاسَّ وَأُنْشِئَتْ هِيَ لَهُ وَأَحْيَا وَأَمَاتَ وَتَصَرَّفَ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ. وَخَصَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنَافِعُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ أَعْمَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِفِكْرِ الْقَلْبِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَمَّا كَانَ خَلْقُهَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ عَلَى الْعَبْدِ قَالَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ أَيْ تَشْكُرُونَ قَلِيلًا وما زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَمِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ الْإِقْرَارُ بِالْمُنْعِمِ بِهَا وَنَفْيُ النِّدِّ وَالشَّرِيكِ لَهُ. وذَرَأَكُمْ خَلَقَكُمْ وَبَثَّكُمْ فِيهَا. وَإِلَيْهِ أَيْ وَإِلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَجَزَائِهِ تُحْشَرُونَ يُرِيدُ الْبَعْثَ وَالْجَمْعَ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الدُّنْيَا وَالِاضْمِحْلَالِ. وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَيْ. هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ وَمُتَوَلِّيهِ وَلَهُ الْقُدْرَةُ الَّتِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ عَنْهَا. وَالِاخْتِلَافُ هُنَا التَّعَاقُبُ أَيْ يَخْلُفُ هَذَا هَذَا. أَفَلا تَعْقِلُونَ مَنْ هَذِهِ تَصَرُّفَاتُ قُدْرَتِهِ وَآثَارُ قَهْرِهِ فَتُوَحِّدُونَهُ وَتَنْفُونَ عَنْهُ الشُّرَكَاءَ وَالْأَنْدَادَ، إِذْ هُمْ لَيْسُوا بِقَادِرِينَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: يَعْقِلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. بَلْ قالُوا بَلْ إِضْرَابٌ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَظَرٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ قالُوا وَالضَّمِيرُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ مِثْلَ مَا قَالَ آبَاؤُهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ وَمَنْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. وَلَمَّا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى آلِهَةً وَنَسَبُوا إِلَيْهِ الْوَلَدَ نَبَّهَهُمْ عَلَى فَرْطِ جَهْلِهِمْ بِكَوْنِهِمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَهُ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا مِلْكٌ وَأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَأَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَنْسُبُونَ لَهُ الْوَلَدَ وَيَتَّخِذُونَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو الْأَشْهَبِ وَأَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ سَيَقُولُونَ اللَّهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْكُوفَةِ وَالشَّامِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ لِلَّهِ فِيهَا بِلَامِ الْجَرِّ فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى فِيهَا الْمُطَابَقَةُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَالثَّانِيَةُ جَاءَتْ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْلَكَ: مَنْ رَبُّ هَذَا؟ وَلِمَنْ هَذَا؟ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ بِاللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ الْعَظِيمِ بِرَفْعِ الْمِيمِ نَعْتًا لِلرَّبِّ، وَتَقُولُ أَجَرْتُ فُلَانًا عَلَى فُلَانٍ إِذَا مَنَعْتَهُ مِنْهُ أَيْ وَهُوَ يَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَشَاءُ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْهُ أَحَدًا. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَا يَنْفِي عَنْهُمْ وَبَيْنَ مَا حَكَى عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَا يَنْفِي

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 26.

عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ لِعِلْمِهِمْ، وَخَتَمَ كُلَّ سُؤَالٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ فَخَتَمَ مَلِكُ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا حَقِيقٌ أَنْ لَا يُشْرِكَ بِهِ بَعْضُ خَلْقِهِ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ مَلِكًا لَهُ الرُّبُوبِيَّةُ وَخَتَمَ مَا بَعْدَهَا بِالتَّقْوَى وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ التَّذَكُّرِ وَفِيهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ أَيْ أَفَلَا تَخَافُونَهُ فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ. وَخَتَمَ مَا بَعْدَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ مُبَالَغَةً فِي التَّوْبِيخِ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ وَالْتِزَامِهِمْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِمْ بِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ وَأَنَّى بِمَعْنَى كَيْفَ قَرَّرَ أَنَّهُمْ مَسْحُورُونَ وَسَأَلَهُمْ عَنِ الْهَيْئَةِ الَّتِي سُحِرُوا بِهَا أَيْ كَيْفَ تُخْدَعُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَالسِّحْرُ هُنَا مُسْتَعَارٌ وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّخْلِيطِ وَوَضْعِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ غَيْرَ مَوَاضِعِهَا بِمَا يَقَعُ مِنَ الْمَسْحُورِ عبر عنهم بذلك. وقرىء بَلْ آتَيْتُهُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِيمَا يَنْسُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَمِنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُمْ فِيهِ كَاذِبُونَ. ثُمَّ نَفَى اتِّخَاذَ الْوَلَدِ وَهُوَ نَفْيُ اسْتِحَالَةٍ وَنَفَى الشَّرِيكَ بِقَوْلِهِ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ أَيْ وَمَا كَانَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَاخْتِرَاعِهِمْ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى، فَنَفْيُ الْوَلَدِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَنَفْيُ الشَّرِيكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْ قَالَ: الْأَصْنَامُ آلِهَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِبْطَالُ قَوْلِ النَّصَارَى وَالثَّنَوِيَّةِ ومِنْ وَلَدٍ ومِنْ إِلهٍ نَفْيٌ عَامٌّ يُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ، وَلِهَذَا جَاءَ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِذًا لَذَهَبَ الْإِلَهُ. وَمَعْنَى لَذَهَبَ أي لا نفرد كُلُّ إِلهٍ بِخَلْقِهِ الَّذِي خَلَقَ وَاسْتَبَدَّ بِهِ وَتَمَيَّزَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ وَغَلَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَحَالِ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَإِذًا لَمْ يَقَعِ الِانْفِرَادُ وَالتَّغَالُبُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِلَهٌ واحد وإذا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ فِي اللَّفْظِ شَرْطٌ وَلَا سُؤَالُ سَائِلٍ وَلَا عِدَةٌ قَالُو: فَالشَّرْطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ بَعْدَهَا اللَّامُ كَانَتْ لَوْ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَحْذُوفَةً وَقَدْ قَرَّرْنَا تَخْرِيجًا لَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا «1» فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي بِما خَلَقَ بمعنى الذي وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ تَنْزِيهٌ عَنِ الولد والشريك. وقرىء عَمَّا تَصِفُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عالِمِ بِالْجَرِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ لِلَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اتِّبَاعٌ لِلْمَكْتُوبَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وأبو بحرية بالرفع.

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 73.

قَالَ الْأَخْفَشُ: الْجَرُّ أَجْوَدُ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرَّفْعُ أَنَّ الْكَلَامَ قَدِ انْقَطَعَ، يَعْنِي أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ عالِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالرَّفْعُ عِنْدِي أَبْرَعُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَتَعالى عَاطِفَةٌ فَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى كَمَا تَقُولُ زَيْدٌ شُجَاعٌ فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ أَيْ شَجُعَ فَعَظُمَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَأَقُولُ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ على إخبار مؤتنف. والْغَيْبِ مَا غَابَ عَنِ النَّاسِ والشَّهادَةِ مَا شَاهَدُوهُ انْتَهَى. قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ. لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ مِنِ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ لَهُ، وَكَانَ تَعَالَى قد أعلم نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أَنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ إِذْ ذَاكَ فِي حَيَاتِهِ أَمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَمَرَهُ بِأَنَّهُ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ أَيْ إِنْ تُرِنِي مَا تَعِدُهُمْ وَاقِعًا بِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَجْعَلْنِي مَعَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْصُومٌ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِجَعْلِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وَتَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَاسْتِغْفَارُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وُلِّيتُكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرُهُمْ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَهْضِمُ نَفْسَهُ. وَجَاءَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ الرَّبِّ قَبْلَ الشَّرْطِ وَقَبْلَ: الْجَزَاءِ مُبَالَغَةً فِي الِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّضَرُّعَ، وَلِأَنَّ الرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ النَّاظِرُ فِي مَصَالِحِ الْعَبْدِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وأبو عمر إن الْجَوْنِيُّ تُرِئَنِّي بِالْهَمْزِ بَدَلَ الياء، وهذا كما قرىء فَإِمَّا تَرَئِنَّ وَلَتَرَؤُنَّ بِالْهَمْزِ وَهُوَ إِبْدَالٌ ضَعِيفٌ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ كَمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَكِنَّ تَأْخِيرَهُ لأجل يستوفونه، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا. فَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ.

ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِحُسْنِ الأخلاق والتي هِيَ أَحْسَنُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ والسَّيِّئَةَ الشِّرْكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الصَّفْحُ وَالْإِغْضَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالضِّحَاكُ: السَّلَامُ إِذَا أَفْحَشُوا. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: ادْفَعْ بِالْمَوْعِظَةِ الْمُنْكَرَ وَالْأَجْوَدُ الْعُمُومُ فِي الْحُسْنَى وفيما يسوء وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَسَنَةِ لِلْمُبَالَغَةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَجَاءَ فِي صِلَةِ الَّتِي لِيَدُلَّ عَلَى مَعْرِفَةِ السَّامِعِ بِالْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لِأَنَّ الْمُدَارَاةَ مَحْثُوثٌ عَلَيْهَا مَا لم تؤد إِلَى ثَلْمِ دِينٍ وَإِزْرَاءٍ بِمُرُوءَةٍ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ يقتضي أَنَّهَا آيَةُ مُوَادَعَةٍ، وَالْمَعْنَى بِمَا يَذْكُرُونَ وَيَصِفُونَكَ بِهِ مِمَّا أَنْتَ بِخِلَافِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَعِيذَ من نحسات الشَّيَاطِينِ وَالْهَمْزُ مِنَ الشَّيْطَانِ عِبَارَةٌ عَنْ حَثِّهِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْإِغْرَاءِ بِهِ كَمَا يَهْمِزُ الرَّائِضُ الدَّابَّةَ لِتُسْرِعَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِسَوْرَةِ الْغَضَبِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ فِيهَا نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَمْزُ الشَّيْطَانِ الْجُنُونُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ حُضُورِ الشَّيَاطِينِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَتَّى يَتَعَلَّقُ بِيَصِفُونَ أَيْ لَا يَزَالُونَ عَلَى سُوءِ الذِّكْرِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَالْآيَةُ فَاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّأْكِيدِ لِلْإِغْضَاءِ عَنْهُمْ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَسْتَنْزِلَهُ عَنِ الْحِلْمِ وَيُغْرِيَهُ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَتَّى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَايَةً مُجَرَّدَةً بِتَقْدِيرِ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِهِ الْمَقْصُودُ ذِكْرُهُ انْتَهَى. فَتَوَهَّمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ حَتَّى إِذَا كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ لَا تَكُونُ غَايَةً وَهِيَ إِذَا كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ لَا تُفَارِقُهَا الْغَايَةُ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْكَلَامَ الْمَحْذُوفَ الْمُقَدَّرَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ حَتَّى غَايَةٌ فِي مَعْنَى الْعَطْفِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَبْلَهَا جُمْلَةً مَحْذُوفَةً تَكُونُ حَتَّى غَايَةً لَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا قَبْلَهَا التَّقْدِيرُ: فَلَا أَكُونُ كَالْكُفَّارِ الَّذِينَ تَهْمِزُهُمُ الشَّيَاطِينُ وَيَحْضُرُونَهُمْ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وَنَظِيرُ حَذْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَيَا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تُسُبُّنِي أَيْ يَسُبُّنِي النَّاسُ حَتَّى كُلَيْبٌ، فَدَلَّ مَا بَعْدَ حَتَّى عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ وَفِي الْآيَةِ دَلَّ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهَا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: احْتَجَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ قُدْرَتَهُ ثُمَّ قَالَ: مُصِرُّونَ عَلَى الْإِنْكَارِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ تَيَقَّنَ ضَلَالَتَهُ وَعَايَنَ الْمَلَائِكَةَ نَدِمَ وَلَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ

انْتَهَى. وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي ارْجِعُونِ إِمَّا مُخَاطَبَةً لَهُ تَعَالَى مُخَاطَبَةَ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِنُونِ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَقَالَ آخَرُ: أَلَا فَارْحَمُونِي يَا إِلَهَ مُحَمَّدٍ وَإِمَّا اسْتَغَاثَ أَوَّلًا بِرَبِّهِ وَخَاطَبَ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ وَقَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَحَدَهُمُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ، وَمَسَاقُ الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: من لَمْ يُزَكِّ وَلَمْ يَحُجَّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ. فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ فَقَرَأَ مُسْتَدِلًّا لقوله أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ «1» آيَةَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ مَانِعُ الزَّكَاةِ، وَجَاءَ الْمَوْتُ أَيْ حَضَرَ وَعَايَنَهُ الْإِنْسَانُ فَحِينَئِذٍ يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا عَايَنَ الْمُؤْمِنُ الْمَوْتَ قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: نُرْجِعُكَ فَيَقُولُ إلى دار الهموم والأحزان بَلْ قُدُمًا إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا» . وَمَعْنَى فِيما تَرَكْتُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي تَرَكْتُهُ وَالْمَعْنَى لَعَلِّي آتِي بِمَا تَرَكْتُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَأَعْمَلُ فِيهِ صَالِحًا كَمَا تَقُولُ: لَعَلِّي أَبْنِي عَلَى أُسٍّ، يُرِيدُ أُؤَسِّسُ أُسًّا وَأَبْنِي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: فِيما تَرَكْتُ مِنَ الْمَالِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَّا كَلِمَةُ رَدْعٍ عَنْ طَلَبِ الرَّجْعَةِ وَإِنْكَارٍ وَاسْتِبْعَادٍ. فَقِيلَ: هِيَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ مَنْ عَايَنَ الْمَوْتَ يَقُولُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّحَسُّرِ وَالنَّدَمِ، وَمَعْنَى هُوَ قائِلُها لَا يَسْكُتُ عَنْهَا وَلَا يَنْزِعُ لِاسْتِيلَاءِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَجِدُ لَهَا جَدْوَى وَلَا يُجَابُ لِمَا سَأَلَ وَلَا يُغَاثُ وَمِنْ وَرائِهِمْ أَيِ الْكُفَّارُ بَرْزَخٌ حَاجِزٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّجْعَةِ إِلَى وَقْتِ الْبَعْثِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِقْنَاطٌ كُلِّيٌّ أَنْ لَا رُجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ إِلَى الْآخِرَةِ اسْتُعِيرَ الْبَرْزَخُ لِلْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ وَبَعْثِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنِ عِيَاضٍ فِي الصُّورِ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ، وَأَبُو رَزِينٍ بِكَسْرِ الصَّادِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَكَذَا فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَجَمْعُ فُعْلَةَ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى فِعَلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ شَاذٌّ. فَلا أَنْسابَ نَفْيٌ عَامٌّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى يَمُوتُ النَّاسُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ نَسَبٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ، وَهَذَا القول يزبل هَوْلَ الْحَشْرِ. وَقَالَ ابْنُ

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 10.

مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: عِنْدَ قِيَامِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ فَلِهَوْلِ الْمَطْلَعِ اشْتَغَلَ كُلُّ امْرِئٍ بِنَفْسِهِ فَانْقَطَعَتِ الْوَسَائِلُ وَارْتَفَعَ التَّفَاخُرُ وَالتَّعَاوُنُ بِالْأَنْسَابِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لَيْسَ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِمَّنْ يَعْرِفُ لِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. وَقِيلَ: فَلا أَنْسابَ أَيْ لَا تَوَاصُلَ بَيْنَهُمْ حِينَ افْتِرَاقِهِمْ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَإِنَّمَا التَّوَاصُلُ بِالْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَا يَسَّاءَلُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ إِذْ أَصْلُهُ يَتَساءَلُونَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ انْتِفَاءِ التَّسَاؤُلِ هُنَا وَبَيْنَ إِثْبَاتِهِ فِي قَوْلِهِ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «1» لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوَاطِنُ وَمَوَاقِفُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ التَّسَاؤُلِ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَيَقَعُ التَّسَاؤُلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَوَازِينِ وَثِقَلِهَا وَخِفَّتِهَا فِي أَوَائِلِ الْأَعْرَافِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بَدَلٌ مِنْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَلَا مَحَلَّ لِلْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا مَحَلَّ لَهَا أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِأُولَئِكَ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ انْتَهَى. جَعَلَ فِي جَهَنَّمَ بَدَلًا مِنْ خَسِرُوا وَهَذَا بَدَلٌ غَرِيبٌ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ الْفِعْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي جَهَنَّمَ أَيِ اسْتَقَرُّوا فِي جَهَنَّمَ، وَكَأَنَّهُ مِنْ بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَهُمَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ اسْتَقَرَّ فِي جَهَنَّمَ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ نَعْتًا لِأُولَئِكَ، وَخَبَرُ فَأُولئِكَ فِي جَهَنَّمَ وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأُولَئِكَ لَا نَعْتًا. وَخَصَّ الْوَجْهَ بِاللَّفْحِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ أَحْفَظُ لَهُ مِنَ الْآفَاتِ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، فَإِذَا لُفِحَ الْأَشْرَفُ فَمَا دُونَهُ مَلْفُوحٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِصَابَةَ النَّارِ لِلْوَجْهِ ذَكَرَ الْكُلُوحَ الْمُخْتَصَّ بِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْوَجْهِ وَفِي التِّرْمِذِيِّ تَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ كَلِحُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ. أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 27.

سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي وَهِيَ الْقُرْآنُ، وَلَمَّا سَمِعُوا هَذَا التَّقْرِيرَ أَذْعَنُوا وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا مِنْ قَوْلِهِمْ: غَلَبَنِي فُلَانٌ عَلَى كَذَا إِذَا أَخَذَهُ مِنْكَ وَامْتَلَكَهُ، وَالشَّقَاوَةُ سُوءُ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ: الشِّقْوَةُ الْهَوَى وَقَضَاءُ اللَّذَّاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الشِّقْوَةِ. أَطْلَقَ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ قَالَهُ الْجِبَائِيُّ. وَقِيلَ: مَا كُتِبَ عَلَيْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَسَبَقَ بِهِ عِلْمُكَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وقتادة وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبَانَ وَالزَّعْفَرَانِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ: شَقَاوَتُنَا بِوَزْنِ السَّعَادَةِ وهي لغة فاشية، وقتادة أَيْضًا وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحِجَازِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْشَدَنِي أَبُو ثَرْوَانَ وَكَانَ فَصِيحًا: عُلِّقَ مِنْ عَنَائِهِ وَشِقْوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةَ مِنْ حِجَّتِهْ وَقَرَأَ شِبْلٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ. وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أَيْ عَنِ الْهُدَى، ثُمَّ تَدَرَّجُوا مِنَ الْإِقْرَارِ إِلَى الرَّغْبَةِ وَالتَّضَرُّعِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا وَالْإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ اعْتِذَارٌ، فَقَالُوا رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أَيْ مِنْ جَهَنَّمَ فَإِنْ عُدْنا أَيْ إِلَى التَّكْذِيبِ وَاتِّخَاذِ آلِهَةٍ وَعِبَادَةِ غَيْرِكَ فَإِنَّا ظالِمُونَ أَيْ مُتَجَاوِزُو الْحَدِّ فِي الْعُدْوَانِ حَيْثُ ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا أَوَّلًا ثُمَّ سومحنا فظلمناها ثَانِيًا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ حَدِيثًا طويلا في مقاولة تكوين بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ، ثُمَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ جَلَّ وَعَزَّ وآخرها قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ قَالَ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمُ وَيَقَعُ الْيَأْسُ وَيَبْقُونَ يَنْبَحُ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَصَرْتُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ، لَكِنْ معناه صحيح ومعنى اخْسَؤُا أَيْ ذِلُّوا فِيهَا وَانْزَجِرُوا كَمَا تَنْزَجِرُ الْكِلَابُ إِذَا ازجرت، يُقَالُ: خَسَأْتُ الْكَلْبَ وَخَسَأَ هُوَ بِنَفْسِهِ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا ولازما. ولا تُكَلِّمُونِ أَيْ فِي رَفْعِ الْعَذَابِ أَوْ تَخْفِيفِهِ. قِيلَ: هُوَ آخِرُ كَلَامٍ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ ثُمَّ لَا كَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الشَّهِيقُ وَالزَّفِيرُ وَالْعُوَاءُ كَعُوَاءِ الْكِلَابِ ولا يُفْهِمُونَ.

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. قَرَأَ أُبَيٌّ وَهَارُونُ الْعَتَكِيُّ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ لِأَنَّهُ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَهُوَ مَحْذُوفٌ مَعَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَالْفَرِيقُ هُنَا هُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُقَالُ لِلْكُفَّارِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ، وَنَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ مَعَ صُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَبِلَالٍ وَنُظَرَائِهِمْ، ثُمَّ هِيَ عَامَّةٌ فِيمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ قَدِيمًا وَبَقِيَّةَ الدَّهْرِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَنَافِعٌ سِخْرِيًّا بِضَمِّ السِّينِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْكَسْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَصْدَرُ سَخِرَ كَالسُّخْرِ إِلَّا أَنَّ فِي يَاءِ النَّسَبِ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي الْفِعْلِ، كَمَا قِيلَ: الْخُصُوصِيَّةُ فِي الْخُصُوصِ وَهُمَا بِمَعْنَى الْهُزْءِ فِي قَوْلُ الْخَلِيلِ وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَسِيبَوَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: ضَمُّ السِّينِ مِنَ السُّخْرَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْكَسْرُ مِنَ السَّخْرِ وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لَا أُسِرُّ بِهِ ... مِنْ عُلْوٍ لَا كَذِبٌ فِيهِ وَلَا سَخَرُ وَقَالَ يُونُسُ: إِذَا أُرِيدَ التَّخْدِيمُ فَضَمُّ السِّينِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا أُرِيدَ الْهُزْءُ فَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ أَصْحَابُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ بِضَمِّ السِّينِ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْكَسْرِ إِلَّا الَّتِي فِي الزُّخْرُفِ فَإِنَّهُمَا ضَمَّا السِّينَ كَمَا فَعَلَ النَّاسُ انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَالَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ يَعْنِي الْفَارِسِيَّ أَنَّ قِرَاءَةَ كَسْرِ السِّينِ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَالْكَسْرُ فِيهِ أَكْثَرُ وَهُوَ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ انْتَهَى قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَلَا تَرَى إِلَى إِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّ السِّينِ فِي قَوْلِهِ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «1» لَمَّا تَخَلَّصَ الْأَمْرُ لِلتَّخْدِيمِ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّ السِّينِ فِي الزُّخْرُفِ صَحِيحًا لِأَنَّ ابْنَ مُحَيْصِنٍ وَابْنَ مُسْلِمٍ كَسَرَا فِي الزُّخْرُفِ، ذَكَرَ ذَلِكَ أبو القاسم بْنِ جُبَارَةَ الْهُذَلِيُّ فِي كِتَابِ الْكَامِلِ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أَيْ هُزْأَةً تهزؤون مِنْهُمْ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أَيْ بِتَشَاغُلِكُمْ بِهِمْ فَتَرَكْتُمْ ذِكْرِي أَيْ أَنْ تَذْكُرُونِي فَتَخَافُونِي فِي أَوْلِيَائِي، وَأَسْنَدَ النِّسْيَانَ إِلَى فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ كَانَ سَبَبُهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ إِنَّهُمْ هُمُ بِكَسْرِ الهمزة

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 32.

وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ، وَمَفْعُولُ جَزَيْتُهُمُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الْجَنَّةَ أَوْ رِضْوَانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَنَّهُمْ بِالْفَتْحِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَيِ جَزَيْتُهُمُ فَوْزَهُمْ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ أَيْ جَزَيْتُهُمُ لِأَنَّهُمْ، وَالْكَسْرُ هُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّعْلِيلُ فَيَكُونُ الْكَسْرُ مِثْلَ الْفَتْحِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ لِاضْطِرَارِ المفتوحة إلى عامل. والْفائِزُونَ النَّاجُونَ مِنْ هَلَكَةٍ إِلَى نِعْمَةٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ قُلْ كَمْ وَالْمُخَاطَبُ مَلَكٌ يَسْأَلُهُمْ أَوْ بَعْضُ أَهْلِ النَّارِ، فَلِذَا قَالَ عَبِّرْ عَنِ الْقَوْمِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قَالَ، وَالْقَائِلُ اللَّهُ تَعَالَى أَوِ الْمَأْمُورُ بِسُؤَالِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ فِي مصاحف أهل الكوفة وقالَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي الْمَصَاحِفِ قَالَ فِيهِمَا إِلَّا فِي مُصْحَفِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ فِيهِ قُلْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَتَقَدَّمَ إِدْغَامُ بَابِ لَبِثْتُ فِي الْبَقَرَةِ سَأَلَهُمْ سُؤَالَ تَوْقِيفٍ عَلَى الْمُدَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَدَدَ سِنِينَ على الإضافة وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ وَتَمْيِيزُهَا عَدَدٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ عَدَدًا بِالتَّنْوِينِ. فَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ سِنِينَ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَدَدُ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ فَهُوَ نَعْتٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْعُوتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لَبِثْتُمْ عَدَدْتُمْ فَيَكُونَ نَصَبَ عددا على المصدر وسِنِينَ بَدَلٌ مِنْهُ انْتَهَى. وَكَوْنُ لَبِثْتُمْ بِمَعْنَى عَدَدْتُمْ بِعِيدٌ. وَلَمَّا سُئِلُوا عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَقَامُوا فِيهَا فِي الْأَرْضِ وَيَعْنِي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَنَسُوا لِفَرْطِ هَوْلِ الْعَذَابِ حَتَّى قَالُوا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تَرَدَّدُوا فِيمَا لَبِثُوا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِقَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ فِي جَوْفِ التُّرَابِ أَمْوَاتًا وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَأَوِّلِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الْأَصْوَبُ مِنْ حَيْثُ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَكَانُوا قَوْلُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ مِنَ التُّرَابِ قِيلَ لَهُمْ لَمَّا قَامُوا كَمْ لَبِثْتُمْ وَقَوْلُهُ آخِرًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ يَقْتَضِي مَا قلناه انتهى. فَسْئَلِ الْعادِّينَ خِطَابٌ لِلَّذِي سَأَلَهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْعادِّينَ الْمَلَائِكَةُ أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَيُحْصُونَ عَلَيْهِمْ سَاعَاتِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلُ الْحِسَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَنْ يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَلَائِكَةٌ أَوْ غَيْرُهُمْ لِأَنَّ النَّائِمَ وَالْمَيِّتَ لَا يَعُدُّ فَيَتَقَدَّرُ لَهُ الزَّمَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى لَا نَعْرِفُ مِنْ عَدَدِ تِلْكَ السِّنِينَ إِلَّا أَنَّا نَسْتَقِلُّهُ وَنَحْسَبُهُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا فِينَا أَنْ يعدكم بفي فسئل مَنْ فِيهِ أَنْ يَعُدَّ

وَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِ فِكْرَهُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ الْعادِّينَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيِ الظَّلَمَةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ كَمَا تَقُولُ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَلُغَةٌ أُخْرَى الْعَادِيِّينَ يَعْنِي بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ جَمْعُ عَادِيٍّ يَعْنِي لِلْقُدَمَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء الْعَادِيِّينَ أَيِ الْقُدَمَاءَ الْمُعَمَّرِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَقْصِرُونَهَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ عَلَى الْأَمْرِ، وباقي السبعة وإِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ قَلِيلَ الْقَدْرِ فِي جَنْبِ مَا تُعَذَّبُونَ فِيهِ إِنْ كَانَ اللُّبْثُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُبُورِ فَقُلْتُ إِنَّ كُلَّ آتٍ قَرِيبٌ وَلَكِنَّكُمْ كَذَّبْتُمْ بِهِ إِذْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ لَمْ تَرْغَبُوا فِي الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَانْتَصَبَ عَبَثاً عَلَى الْحَالِ أَيْ عَابِثِينَ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى فِي هَذَا مَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعَبَثِ، وَإِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ لَا تُرْجَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَأَنَّكُمْ عَلَى أَنَّما فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحُسْبَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى عَبَثاً أَيْ لِلْعَبَثِ وَلِتَرْكِكُمْ غَيْرَ مَرْجُوعِينَ انْتَهَى. فَتَعالَى اللَّهُ أَيْ تَعَاظَمَ وَتَنَزَّهَ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ وَالْعَبَثِ وَجَمِيعِ النَّقَائِصِ، بَلْ هُوَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الثَّابِتُ هُوَ وَصِفَاتُهُ الْعُلَى والْكَرِيمِ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ لِتَنَزُّلِ الْخَيْرَاتِ مِنْهُ أَوْ لِنِسْبَتِهِ إِلَى أَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَإِسْمَاعِيلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ الْكَرِيمِ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِرَبِّ الْعَرْشِ أَوِ الْعَرْشِ، وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى معنى المدح. ومَنْ شرطية والجواب فَإِنَّما ولا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَا لِلِاحْتِرَازِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ آخَرُ يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ كَقَوْلِهِ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً اعْتِرَاضٍ إِذْ فِيهَا تَشْدِيدٌ وَتَأْكِيدٌ فَتَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ كَقَوْلِكَ: مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ لَا أحق بالإساءة منه، فأسيء إِلَيْهِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ هُرُوبًا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دَاعٍ لَهُ بُرْهَانٌ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَقَدْ خَرَّجْنَاهُ عَلَى الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ أَوْ عَلَى الِاعْتِرَاضِ وَكِلَاهُمَا تَخْرِيجٌ صحيح.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 38.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ هُوَ فَوُضِعَ الْكافِرُونَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَخَبَرُ حِسابُهُ الظَّرْفُ وإِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ يُفَلَّحُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ، وَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» وَأَوْرَدَ فِي خَاتِمَتِهَا إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فَانْظُرْ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الِافْتِتَاحِ وَالِاخْتِتَامِ. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَدْعُوَ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ رَبُّ بضم الباء.

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 1.

سورة النور

[الجزء الثامن] سورة النّور [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أَيْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَاسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِهِمْ، وَاتِّخَاذِهِمُ الْوَلَدَ وَالشَّرِيكَ، وَإِلَى مَآلِهِمْ فِي النَّارِ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ جَوَارٍ بَغَايَا يَسْتَحْسِنُونَ عَلَيْهِنَّ وَيَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ مِنَ الزِّنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ تَغْلِيظًا فِي أَمْرِ الزِّنَا وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ وَكَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَمُّوا بِنِكَاحِهِنَّ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُورَةٌ بِالرَّفْعِ فَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذِهِ سُورَةٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَوْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً أو الخبر الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى السُّورَةُ الْمُنَزَّلَةُ وَالْمَفْرُوضَةُ كَذَا وَكَذَا إِذِ السُّورَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آيَاتٍ مَسْرُودَةٍ لَهَا بَدْءٌ وَخَتْمٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ أَنَّهُ الْخَبَرُ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ الْخَبَرُ فِي السُّورَةِ كُلِّهَا وَهَذَا بعيد في القياس وأَنْزَلْناها فِي هَذِهِ الْأَعَارِيبِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز وَمُجَاهِدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ الْبَصْرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَأُمِّ الدَّرْدَاءِ سُورَةٌ بِالنَّصْبِ فَخُرِّجَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ أتلو سورة وأَنْزَلْناها صِفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى دُونَكَ سُورَةٌ فَنُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ أَدَاةِ الْإِغْرَاءِ وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ أَيْ أَنْزَلْنَا سُورَةٌ أَنْزَلْناها فَأَنْزَلْنَاهَا مُفَسِّرٌ لَأَنْزَلْنَا الْمُضْمَرَةِ فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ إِلَّا إِنِ اعْتُقِدَ حَذْفُ وَصْفٍ أَيْ سُورَةٌ مُعَظَّمَةٌ أَوْ مُوَضَّحَةٌ أَنْزَلْناها فَيَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُورَةٌ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ وَالْحَالُ مِنَ الْمُكَنَّى يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ انْتَهَى. فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَنْزَلْناها لَيْسَ عَائِدًا عَلَى سُورَةٌ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنْزَلْنَا الْأَحْكَامَ وَفَرَضْناها سُورَةً أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا سُورَةً مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ثَابِتَةً بِالسُّنَّةِ فَقَطْ بَلْ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَفَرَضْناها بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ فَرَضْنَا أَحْكَامَهَا وَجَعَلْنَاهَا وَاجِبَةً مُتَطَوَّعًا بِهَا. وَقِيلَ: وَفَرَضْنَا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيجَابِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِيهَا فَرَائِضَ شَتَّى أَوْ لِكَثْرَةِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وَكُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ فَرْضٌ. وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّنَاتٍ أَمْثَالًا وَمَوَاعِظَ وَأَحْكَامًا لَيْسَ فِيهَا مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بِالرَّفْعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَالزَّانِ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَقَوْلُهُ فَاجْلِدُوا بَيَانٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ فَاجْلِدُوا وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ أَنَّهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ الدَّاخِلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ مَوْصُولًا بِمَا يَقْبَلُ أَدَاةَ الشَّرْطِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ

يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ وَغَيْرُ سِيبَوَيْهِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، وَتَقْرِيرُ الْمَذْهَبَيْنِ وَالتَّرْجِيحُ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو السَّمَّالِ وَرُوَيْسٌ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بِنَصْبِهِمَا عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ وَاجْلِدُوا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وَلِدُخُولِ الْفَاءِ تَقْرِيرٌ ذُكِرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَالنَّصْبُ هُنَا أَحْسَنُ مِنْهُ فِي سُورَةٌ أَنْزَلْناها لِأَجْلِ الْأَمْرِ، وَتَضَمَّنَتِ السُّورَةُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزِّنَا وَنِكَاحِ الزَّوَانِي وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَالتَّلَاعُنِ والحجاب وغير ذلك. فبدىء بالزنا لِقُبْحِهِ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْعَارِ. وَكَانَ قَدْ نَشَأَ فِي الْعَرَبِ وَصَارَ مِنْ إِمَائِهِمْ أَصْحَابُ رَايَاتٍ وَقُدِّمَتِ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي لِأَنَّ دَاعِيَتَهَا أَقْوَى لِقُوَّةِ شَهْوَتِهَا وَنُقْصَانِ عَقْلِهَا، وَلِأَنَّ زِنَاهَا أَفْحَشُ وَأَكْثَرُ عَارًا وَلِلْعُلُوقِ بِوَلَدِ الزِّنَا وَحَالُ النِّسَاءِ الْحَجَبَةُ وَالصِّيَانَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قُدِّمَتِ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي أَوَّلًا ثُمَّ قُدِّمَ عَلَيْهَا ثَانِيًا؟ قُلْتُ: سَبَقَتْ تِلْكَ الْآيَةُ لِعُقُوبَتِهِمَا عَلَى مَا جَنَيَا وَالْمَرْأَةُ عَلَى الْمَادَّةِ الَّتِي مِنْهَا نَشَأَتِ الْجِنَايَةُ، فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُطْمِعِ الرَّجُلَ وَلَمْ تَرْبِضْ لَهُ وَلَمْ تُمَكِّنْهُ لَمْ يَطْمَعْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ، فَلَمَّا كَانَتْ أَصْلًا وَأَوَّلًا فِي ذَلِكَ بدىء بِذِكْرِهَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكَاحِ وَالرَّجُلُ أَصْلٌ فيه لأنه هو الراغب وَالْخَاطِبُ وَمِنْهُ يَبْدَأُ الطَّلَبُ انْتَهَى. وَلَا يَتِمُّ هَذَا الْجَوَابُ فِي الثَّانِيَةِ إِلَّا إِذَا حُمِلَ النِّكَاحُ عَلَى الْعَقْدِ لَا عَلَى الْوَطْءِ. وأل فِي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لِلْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الزُّنَاةِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْبِكْرَيْنِ وَالْجَلْدُ إِصَابَةُ الْجِلْدِ بِالضَّرْبِ كَمَا تَقُولُ: رَأَسَهُ وَبَطَنَهُ وَظَهَرَهُ أَيْ ضَرَبَ رَأْسَهُ وَبَطْنَهُ وَظَهْرَهُ وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ الثُّلَاثِيَّةِ الْعُضْوِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمُحْصَنِ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَهُوَ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْمَجْنُونِ وَلَا الصَّبِيِّ بِإِجْمَاعٍ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ: وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ: يُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ. وَجَلَدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ ثُمَّ رَجَمَهَا وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِ مَرْجُومَةِ أُنَيْسٍ وَالْغَامِدَيَّةِ لَمْ يُنْقَلْ جَلْدُهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَلَا يُنْقَلُ إِلَّا مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ وهو الرجم، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ الرَّجْمُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْجَلْدُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْإِحْصَانِ الْإِسْلَامَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ وَكَذَا الْعَبْدُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يُجْلَدُ الْعَبْدُ مِائَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تُجْلَدُ الْأَمَةُ مِائَةً إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَخَمْسِينَ، وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ الذِّمِّيَّيْنِ فِي الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي فَيُجْلَدَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَإِذَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ

يُرْجَمَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي حَدٌّ غَيْرُ الْجَلْدِ فَقَطْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ، وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَعَمِلَ بِهِ بَعْدَ الرَّسُولِ خُلَفَاءُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ ، وَمِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّغْرِيبِ بِنَفْيِ الْبِكْرِ بَعْدَ الْجَلْدِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ والشافعي بنفي الزَّانِي. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ: يُنْفَى الرَّجُلُ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يُنْفَى الْعَبْدُ نِصْفَ سَنَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَلْدَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَا فَلَوْ وُجِدَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ إِسْحَاقُ يُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُؤَدَّبَانِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ فِي الْأَدَبِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَالْمُكْرَهَةُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَفِي حَدِّ الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ أَنْ يُكْرِهَهُ سُلْطَانٌ فَلَا يُحَدُّ أَوْ غَيْرُهُ فَيُحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَقَوْلُ زُفَرَ يُحَدُّ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي الزِّنَا مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا وَلَا ذَكَرًا وَلَا بَهِيمَةً. وَقِيلَ: يَنْدَرِجُ وَالْمَأْمُورُ بِالْجَلْدِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَنُوَّابُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي إقامة الخارجي المتعلب الْحُدُودَ. فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا وَفِي إِقَامَةِ السَّيِّدِ عَلَى رَقِيقِهِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَفَاطِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: لَهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ، وَالْجَلْدُ كَمَا قُلْنَا ضَرْبُ الْجِلْدِ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِهَيْئَةِ الْجَالِدِ وَلَا هَيْئَةِ الْمَجْلُودِ وَلَا لِمَحَلِّ الْجَلْدِ وَلَا لِصِفَةِ الْآلَةِ الْمَجْلُودِ بِهَا وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا حُكْمُ جَمِيعِ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي أَمْ حُكْمُ بَعْضِهِمْ؟ قُلْتُ: بَلْ هُوَ حُكْمُ مَنْ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُحْصَنَ حُكْمُهُ الرَّجْمُ فَإِنْ قُلْتَ: اللَّفْظُ يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي لِأَنَّ قَوْلَهُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ يَتَنَاوَلُهُ الْمُحْصَنُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ قُلْتُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يَدُلَّانِ عَلَى الْجِنْسَيْنِ الْمُنَافِيَيْنِ لِجِنْسَيِ الْعَفِيفِ وَالْعَفِيفَةِ دَلَالَةً مُطْلَقَةً، وَالْجِنْسِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي الْكُلِّ وَالْبَعْضِ جَمِيعًا فَأَيُّهُمَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ فَلَا عَلَيْهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْجِنْسَيْنِ كَمَا ذَكَرَ دَلَالَةً مُطْلَقَةً لِأَنَّ دَلَالَةَ عُمُومِ الِاسْتِغْرَاقِ مُبَايِنَةٌ لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق، وَلَيْسَتْ كَدَلَالَةِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ هِيَ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَدَلَالَةَ الْمُشْتَرَكِ تَدُلُّ عَلَى فَرْدٍ فَرْدٍ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَعْنِي فِي الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، لكن ما ذكرته هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِي النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَلَا يَأْخُذْكُمْ بِالْيَاءِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّأْفَةِ مَجَازٌ وَحَسَّنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ. وقرأ الجمهور بالتاء الرَّأْفَةِ لَفْظًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَأْفَةٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِهَا وَابْنُ جُرَيْجٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَكُلُّهَا مَصَادِرُ أَشْهَرُهَا الْأَوَّلُ وَالرَّأْفَةُ الْمَنْهِيُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمُتَوَلِّينَ إِقَامَةَ الْحَدِّ. قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: هِيَ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ، أَيْ أَقِيمُوهُ وَلَا يَدْرَأُ هَذَا تَأْوِيلَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا وَالْفِرْيَةِ وَالْخَمْرِ عَلَى نَحْوٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُمَا: الرَّأْفَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ فِي تَخْفِيفِ الضَّرْبِ عَلَى الزُّنَاةِ، وَمِنْ رَأْيِهِمْ أَنْ يُخَفَّفَ ضَرْبُ الْفِرْيَةِ وَالْخَمْرِ وَيُشَدَّدَ ضَرْبُ الزِّنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَصَلَّبُوا فِي دِينِ اللَّهِ وَيَسْتَعْمِلُوا الْجِدَّ وَالْمَتَانَةَ فِيهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمُ اللِّينُ وَالْهَوَادَةُ في استيفاء حُدُودِهِ انْتَهَى. فَهَذَا تَحْسِينُ قَوْلِ أَبِي مِجْلَزٍ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُشَدَّدُ فِي الزِّنَا وَالْفِرْيَةِ وَيُخَفَّفُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلَا تُقِيمُوهَا. وَالنَّهْيُ فِي الظَّاهِرِ لِلرَّأْفَةِ وَالْمُرَادُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الرَّأْفَةُ وَهُوَ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ أَوْ نَقْصُهَا وَمَعْنَى فِي دِينِ اللَّهِ فِي الْإِخْلَالِ بِدِينِ اللَّهِ أَيْ بِشَرْعِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَثْبِيتٌ وَحَضٌّ وَتَهْيِيجٌ لِلْغَضَبِ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ، وَأَمَرَ تَعَالَى بِحُضُورِ جَلْدِهِمَا طَائِفَةً إِغْلَاظًا عَلَى الزُّنَاةِ وَتَوْبِيخًا لَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَسَمَّى الْجَلْدَ عَذَابًا إِذْ فِيهِ إِيلَامٌ وَافْتِضَاحٌ وَهُوَ عُقُوبَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالطَّائِفَةُ الْمَأْمُورُ بِشُهُودِهَا ذَلِكَ يَدُلُّ الِاشْتِقَاقُ عَلَى مَا يَكُونُ يَطُوفُ بِالشَّيْءِ وَأَقَلُّ مَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ لِأَنَّهَا الْجَمَاعَةُ الْحَافَّةُ بِالشَّيْءِ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهَا أَرْبَعَةٌ إِلَى أَرْبَعِينَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: عَشَرَةٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ: ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ: رَجُلَانِ فَصَاعِدًا وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ وَاسْتِعْمَالُ الضَّمِيرِ الَّذِي لِلْجَمْعِ عَائِدًا عَلَى الطَّائِفَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْجَمْعُ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ قُصِدَ بِهِ تَشْنِيعُ الزِّنَا وَأَمْرِهِ، وَمَعْنَى لَا يَنْكِحُ لَا يَطَأُ وَزَادَ الْمُشْرِكَةَ فِي التَّقْسِيمِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ فِي وَقْتِ زِنَاهُ

لَا يُجَامِعُ إِلَّا زَانِيَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَخَسَّ مِنْهَا وَهِيَ الْمُشْرِكَةُ، وَالنِّكَاحُ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ وَلَيْسَ بِقَوْلٍ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَيْنَمَا وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُرَدْ بِهَا إِلَّا مَعْنَى الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: فَسَادُ الْمَعْنَى وَأَدَاؤُهُ إِلَى قَوْلِكَ الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ، وَالزَّانِيَةُ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَخَذَهُ مِنَ الزَّجَّاجِ قَالَ: لَا يُعْرَفُ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَفِي الْقُرْآنِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي فَالْمَقْصُودُ بِهِ تَشْنِيعُ الزِّنَا وَتَشْنِيعُ أَمْرِهِ وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَخَذَهُ مِنَ الضَّحَّاكِ وَحَسَّنَهُ الْفَاسِقُ الْخَبِيثُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الزِّنَا، وَالْخُبْثُ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِ الصَّوَالِحِ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِي فَاسِقِةٍ خَبِيثَةٍ مِنْ شَكْلِهِ، أَوْ فِي مُشْرِكَةٍ. وَالْفَاسِقَةُ الْخَبِيثَةُ الْمُسَافِحَةُ كَذَلِكَ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا الصُّلَحَاءُ مِنَ الرِّجَالِ وَيَنْفِرُونَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ شَكْلِهَا مِنَ الْفَسَقَةِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَنِكَاحُ الْمُؤْمِنِ الْمَمْدُوحِ عِنْدَ اللَّهِ الزَّانِيَةَ وَرَغْبَتُهُ فِيهَا وَانْخِرَاطُهُ بِذَلِكَ فِي سِلْكِ الْفَسَقَةِ الْمُتَّسِمِينَ بِالزِّنَا مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْفُسَّاقِ، وَحُضُورِ مَوْقِعِ التُّهْمَةِ وَالتَّسَبُّبِ لِسُوءِ الْقَالَةِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ وَأَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَمُجَالَسَةُ الْخَطَّائِينَ، كَمْ فِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِاقْتِرَافِ الْآثَامِ فَكَيْفَ بِمُزَاوَجَةِ الزَّوَانِي وَالْقِحَابِ وَإِقْدَامِهِ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ كَانُوا يَزْنُونَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ بِبَغَايَا مَشْهُورَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَسْلَمُوا لَمْ يُمْكِنْهُمُ الزِّنَا فَأَرَادُوا لِفَقْرِهِمْ زَوَاجَ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ إِذْ كُنَّ مِنْ عَادَتِهِنَّ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَنِ ارْتَسَمَ بِزَوَاجِهِنَّ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِنَّ وَالْإِشَارَةُ بِالزَّانِي إِلَى أَحَدِ أُولَئِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَوْلُهُ لَا يَنْكِحُ أَيْ لَا يَتَزَوَّجُ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ تَوْبِيخٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ: الزَّانِي لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلا زانية أو مشركة، أَيْ تَنْزِعُ نُفُوسُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْخَسَائِسِ لِقِلَّةِ انْضِبَاطِهِمْ، وَيَرِدُ عَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مُشْرِكٌ فِي قَوْمِهِ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. أَيْ نِكَاحُ أُولَئِكَ الْبَغَايَا، فَيَزْعُمُ أَهْلُ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّ نِكَاحَهُنَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الزَّانِي الْمَحْدُودُ، وَالزَّانِيَةُ الْمَحْدُودَةُ قَالَ: وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ لِزَانٍ مَحْدُودٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا زَانِيَةً. وَقَدْ رُوِيَ أَنْ مَحْدُودًا تَزَوَّجَ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ فَرَدَّ

علي بن أبي طالب نِكَاحَهَا. وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ الزِّنَا. وَرَوَى الزَّهْرَانِيُّ فِي هَذَا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَحْدُودُ إِلَّا مِثْلَهُ» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَوْلٌ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِدْخَالُ الْمُشْرِكِ فِي الْآيَةِ يَرُدُّهُ وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَأْبَاهُ وَإِنْ قُدِّرَتِ الْمُشْرِكَةُ بِمَعْنَى الْكِتَابِيَّةِ فَلَا حِيلَةَ فِي لَفْظِ الْمُشْرِكِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: هَذَا حُكْمٌ كَانَ فِي الزُّنَاةِ عَامٌّ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ زَانٍ إِلَّا زَانِيَةً، ثُمَّ جَاءَتِ الرُّخْصَةُ وَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «1» وَقَوْلِهِ فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «2» وَرُوِيَ تَرْتِيبُ هَذَا النَّسْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَرَّمَ نِكَاحَ أُولَئِكَ الْبَغَايَا عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذِكْرُ الْإِشْرَاكِ فِي الْآيَةِ يُضْعِفُ هَذِهِ الْمَنَاحِيَ انْتَهَى. وَعَنِ الْجِبَائِيِّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِنْ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ النِّكَاحَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَطْءُ فَالْآيَةُ وَرَدَتْ مُبَالَغَةً فِي تَشْنِيعِ الزِّنَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّزْوِيجُ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ عُمُومٌ فِي الزُّنَاةِ ثُمَّ نُسِخَ، أَوْ عُمُومٌ فِي الْفُسَّاقِ الْخَبِيثِينَ لَا يَرْغَبُونَ إِلَّا فِيمَنْ هُوَ شِكْلٌ لَهُمْ، وَالْفَوَاسِقِ الْخَبَائِثِ لَا يَرْغَبْنَ إِلَّا فِيمَنْ هُوَ شِكْلٌ لَهُنَّ، وَلَا يَجُوزُ التَّزْوِيجُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصٌ فِي قَوْمٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ زُنَاةً بِبَغَايَا فَأَرَادُوا تَزْوِيجَهُنَّ لِفَقْرِهِمْ وَإِيسَارِهِنَّ مَعَ بَقَائِهِنَّ عَلَى الْبِغَاءِ فَلَا يَتَزَوَّجُ عَفِيفَةً، وَلَوْ زَنَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا فَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَطَاوُسٌ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَمَنَعَهُ ابن مسعود والبراء ابن عَازِبٍ وَعَائِشَةُ وَقَالَا: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ مَا اجْتَمَعَا، وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ مَعْرُوفٌ بِالزِّنَا أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْفُسُوقِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْبَقَاءِ مَعَهُ أَوْ فِرَاقِهِ وَهُوَ عَيْبٌ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ الْخِيَارُ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ زَنَى مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَسَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: لَا يَنْفَسِخُ وَيُؤْمَرُ بِطَلَاقِهَا إِذَا زَنَتْ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا أَثِمَ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالزَّانِيَةِ وَلَا مِنَ الزَّانِي فَإِنْ ظَهَرَتِ التَّوْبَةُ جَازَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ؟ قُلْتُ: مَعْنَى الْأُولَى صِفَةُ الزَّانِي بِكَوْنِهِ غَيْرَ رَاغِبٍ فِي الْعَفَائِفِ وَلَكِنْ فِي الْفَوَاجِرِ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ صِفَتُهَا بِكَوْنِهَا غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا لِلْأَعِفَّاءِ وَلَكِنْ لِلزُّنَاةِ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ لَا يَنْكِحُ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ وَالْمَرْفُوعُ فِيهِ مَعْنَى النهي ولكن

_ (1) سورة النور: 24/ 32. (2) سورة النساء: 4/ 3. [.....]

هُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ كَمَا أَنَّ رَحِمَكَ اللَّهُ وَيَرْحَمُكَ اللَّهُ أَبْلَغُ مِنْ لِيَرْحَمْكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ عَادَتَهُمْ جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُدْخِلَ نَفْسَهُ تَحْتَ هَذِهِ الْعَادَةِ وَيَتَصَوَّنَ عَنْهَا انْتَهَى. وقرأ أبو البر هيثم وَحُرِّمَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيِ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُرِّمَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجُمْهُورُ وَحُرِّمَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَالْقَذْفُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الزِّنَا لِاعْتِقَابِهِ إِيَّاهُ وَلِاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَهُوَ مِمَّا يَخُصُّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا إِذْ فِي غَيْرِهِ يَكْفِي شَاهِدَانِ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ قِصَّةِ الْإِفْكِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ الْقَذَفَةِ عَامًّا، وَاسْتُعِيرَ الرَّمْيُ لِلشَّتْمِ لِأَنَّهُ إِذَايَةٌ بِالْقَوْلِ. كَمَا قَالَ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطويّ رماني والْمُحْصَناتِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ النِّسَاءُ الْعَفَائِفُ، وَخَصَّ النِّسَاءَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرِّجَالُ يَشْرَكُونَهُنَّ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِيهِنَّ أَشْنَعُ وَأَنْكَرُ لِلنُّفُوسِ، وَمِنْ حَيْثُ هُنَّ هَوَى الرِّجَالِ فَفِيهِ إِيذَاءٌ لَهُنَّ وَلِأَزْوَاجِهِنَّ وَقَرَابَاتِهِنَّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْفُرُوجُ الْمُحْصَنَاتُ كَمَا قَالَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «1» . وَقِيلَ: الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ وَقَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ: وَحَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اللَّفْظُ شَامِلًا لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «2» وَثَمَّ مَحْذُوفٌ أَيْ بِالزِّنَا، وَخَرَجَ بِالْمُحْصَنَاتِ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهَا أَوْ زِنَاهُ، وَاسْتَلْزَمَ الْوَصْفُ بِالْإِحْصَانِ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، والمراد بالمحصنات غير المتزوجات الرَّامِينَ أَوْ لِمَنْ زَوْجُهُ حُكْمٌ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَالرَّمْيُ بِالزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هو التصريح بِأَنْ يَقُولَ: يَا زَانِيَةُ، أَوْ يَا زَانِي، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِي وَابْنَ الزَّانِيَةِ، يَا وَلَدَ الزِّنَا لَسْتَ لِأَبِيكَ لَسْتَ لِهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الصَّرَائِحِ، فَلَوْ عَرَّضَ كَأَنْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ لَمْ يُحَدَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ، وَيُحَدُّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَثَبَتَ الْحَدُّ فِيهِ عَنْ عُمَرَ بَعْدَ مُشَاوَرَتِهِ النَّاسَ وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ هُوَ قَذْفٌ فِي حَالِ الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَا، فَلَوْ قَذَفَ كِتَابِيًّا إِذَا كَانَ لِلْمَقْذُوفِ وَلَدٌ مُسْلِمٌ. وَقِيلَ: إِذَا قَذَفَ الْكِتَابِيَّةَ تَحْتَ الْمُسْلِمِ حُدَّ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الصَّبِيِّ لَا يُحَدُّ وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُجَامِعُ، واختلفوا في قاذف

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 91. (2) سورة النساء: 4/ 24.

الصَّبِيَّةِ. فَقَالَ مَالِكٌ: يُحَدُّ إِذَا كَانَ مِثْلُهَا يُجَامَعُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَحُدُّ إِذَا كَانَ مِثْلُهَا يُجَامَعُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَحُدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَا يُحَدُّ. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ظَاهِرُهُ الذُّكُورُ وَحُكْمُ الرَّامِيَاتِ حُكْمُهُمْ، وَلَوْ قَذَفَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ زَوْجَتَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَوْ أَخْرَسُ وَلَهُ كِنَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ حُدَّ عِنْدِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ قَذْفُهُ وَلَا لِعَانُهُ وَلَمَّا كَانَتْ مَعْصِيَةُ الزِّنَا كَبِيرَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ وَكَانَ متعاطيها كثيرا ما يتسير بِهَا فَقَلَّمَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَيْهَا، شَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَاذِفِ حَيْثُ شَرَطَ فِيهَا أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَسَتْرًا لَهُمْ وَالْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا الْحُكَّامَ والجمهور على إضافة بِأَرْبَعَةِ إِلَى شُهَداءَ. وَقَرَأَ أَبُو زرعة وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بِأَرْبَعَةِ بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ فَصِيحَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اسْمُ الْعَدَدِ وَالصِّفَةُ كَانَ الْإِتْبَاعُ أَجْوَدَ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَلِذَلِكَ رَجَّحَ ابْنُ جِنِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ حَيْثُ أَخَذَ مُطْلَقَ الصِّفَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ وَبَاشَرَتْهَا الْعَوَامِلُ جَرَتْ فِي الْعَدَدِ وَفِي غَيْرِهِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ شَهِيدٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «1» وَقَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ «2» وَكَذَلِكَ عَبْدٌ فَثَلَاثَةُ شُهَدَاءَ بِالْإِضَافَةِ أَفْصَحُ مِنَ التَّنْوِينِ وَالْإِتْبَاعِ، وَكَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسِيبَوَيْهِ يَرَى أَنَّ تَنْوِينَ الْعَدَدِ وَتَرْكَ إِضَافَتِهِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ إِنَّمَا يَرَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي بَعْدَهُ اسْمٌ نَحْوُ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَأَمَّا فِي الصِّفَةِ فَلَا بَلِ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا نَوَّنْتَ أَرْبَعَةً فَشُهَدَاءُ بَدَلٌ إِذْ هُوَ وَصْفٌ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ أَوْ صِفَةٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَيَضْعُفُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ حَالٌ أَوْ تَمْيِيزٌ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تَكُونُ بِالْمُعَايَنَةِ الْبَلِيغَةِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ شَهَادَتُهُمْ أَنْ تَكُونَ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِمْ بَلْ لَوْ أُتِيَ بِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: شَرْطُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدُوا مُجْتَمِعِينَ، فَلَوْ جاؤوا مُتَفَرِّقِينَ كَانُوا قَذَفَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشُّهُودِ زَوْجَ الْمَقْذُوفَةِ لِانْدِرَاجِهِ فِي أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَلِقَوْلِهِ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ «3» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ فِيهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا أَجْنَبِيِّينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 41. (2) سورة البقرة: 2/ 282. (3) سورة النساء: 4/ 15.

فَاجْلِدُوهُمْ أَمْرٌ لِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ بِالْجَلْدِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْجَلْدِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبِ الْمَقْذُوفُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُحَدُّ إِلَّا بِمُطَالَبَتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُهُ فَيَحُدُّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ شُهُودٌ عُدُولٌ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبِ الْمَقْذُوفُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَبْدَ الْقَاذِفَ حُرًّا إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حُدَّ ثَمَانِينَ لِانْدِرَاجِهِ فِي عُمُومِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وعثمان الْبَتِّيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَفِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ، وَلَوْ قَذَفَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُدَّ حَدًّا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالشَّافِعِيُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنْ كَانَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ نَحْوِ يَا زناة فحدوا حد، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ يَا زَانِي فَلِكُلِّ إِنْسَانٍ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ إِلَّا الْقَاذِفُ وَلَمْ يَأْتِ جَلْدُ الشَّاهِدِ إِذَا لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدُ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ مَنْ جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِلْقَاذِفِ بِقَاذِفٍ وَقَدْ أَجْرَاهُ عُمَرُ مُجْرَى الْقَاذِفِ. وَجَلَدَ أَبَا بَكَرَةَ وَأَخَاهُ نَافِعًا وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيَّ لِتَوَقُّفِ الرَّابِعِ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الشَّهَادَةِ فَلَمْ يُؤَدِّهَا كَامِلَةً، وَلَوْ أُتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فُسَّاقٍ. فَقَالَ زُفَرُ: يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ وَالشُّهُودِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَيُدْرَأُ عَنِ الشُّهُودِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يُحَدُّ الشُّهُودُ وَالْقَاذِفُ. وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَتَابَ، وَهُوَ نَهْيٌ جَاءَ بَعْدَ أَمْرٍ، فَكَمَا أَنَّ حُكْمَهُ الْجَلْدُ كَذَلِكَ حُكْمُهُ رَدُّ شَهَادَتِهِ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالنَّخَعِيُّ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَإِنْ تَابَ، وَتُقْبَلُ شهادته في غير المقذوف إِذَا تَابَ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ إِذَا تَابَ وَبِهِ قال عطاء وطاوس ومجاهد وَالشَّعْبِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي مُطْلَقًا، وَتَوْبَتُهُ بِمَاذَا تُقْبَلُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ فِي الْقَذْف وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بِنَافِعٍ وَشِبْلٍ أَكْذَبَا أَنْفُسَهُمَا فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَصَرَّ أَبُو بَكْرَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ حَتَّى مَاتَ. وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الَّذِينَ يَرْمُونَ،

كَأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَالِ الرَّامِينَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمَوْصُولِ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَمَا تَرَتَّبَ فِي خَبَرِهِ مِنَ الْجَلْدِ وَعَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَبَدًا. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَعْقُبُ جُمَلًا ثَلَاثَةً، جُمْلَةَ الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ وَهُوَ لَوْ تَابَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَجُمْلَةَ النَّهْيِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَبَدًا وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إِذَا تَابُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَجُمْلَةَ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الثَّالِثَةُ وَهِيَ الْحُكْمُ بِفِسْقِهِمْ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا تَعَقَّبَ جُمْلَةً يَصْلُحُ أَنْ يَتَخَصَّصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُجْعَلَ تَخْصِيصًا فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُكُلِّمَ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا مِنَ النُّحَاةِ غَيْرَ الْمَهَابَاذِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ فَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجُمَلِ كُلِّهَا كَالشَّرْطِ، وَاخْتَارَ الْمَهَابَاذِيُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وهو الذي نَخْتَارُهُ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلَ يَعْنِي الشَّافِعِيَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَعَلِّقًا بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَحَقُّ الْمُسْتَثْنَى عنده أن يكون مجرور بَدَلًا مِنْ هُمْ فِي لَهُمْ وَحَقُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ النَّصْبُ لِأَنَّهُ عَنْ مُوجَبٍ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَنَظْمُهَا أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ مَجْمُوعُهُنَّ جَزَاءُ الشَّرْطِ يَعْنِي الْمَوْصُولِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُ وَرُدُّوا شَهَادَتَهُ وَفَسِّقُوهُ أَيِ اجْمَعُوا لَهُ الْحَدَّ وَالرَّدَّ وَالْفِسْقَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عَنِ الْقَذْفِ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَنْقَلِبُونَ غَيْرَ مَحْدُودِينَ وَلَا مَرْدُودِينَ وَلَا مُفَسَّقِينَ انْتَهَى. وَلَيْسَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الْآيَةِ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثِ، بَلِ الظَّاهِرُ هُوَ مَا يعضده كلام العرب وهو الرجوع إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعَ ظُهُورِ اتِّصَالِهِ ضَعِيفٌ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَزْوَاجَ وَغَيْرَهُنَّ وَلِذَلِكَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ عَلَى حَدِّ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ رَمَى زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ غَيْرُ الزَّوْجَاتِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ نَازِلَةَ هِلَالٍ قَبْلَ نَازِلَةِ عُوَيْمِرٍ. وَقِيلَ: نَازِلَةُ عُوَيْمِرٍ قَبْلُ، وَالْمَعْنَى بِالزِّنَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ وَلَمْ يُقَيَّدْ بِعَدَدٍ اكْتِفَاءً بِالتَّقْيِيدِ فِي قَذْفِ غَيْرِ الزَّوْجَاتِ، وَالْمَعْنَى شُهَداءُ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِمْ. وَقُرِئَ وَلَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ.

وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ مُفَرَّغًا لِمَا بَعْدَ إِلَّا وَهُوَ مُؤَنَّثٌ فَالْفَصِيحُ أَنْ يَقُولَ مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَأَمَّا مَا قَامَتْ إِلَّا هِنْدٌ فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّهُ بِالضَّرُورَةِ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قلة. وأَزْواجَهُمْ يَعُمُّ سَائِرَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْإِمَاءِ، فَكُلُّهُنَّ يُلَاعِنَّ الزَّوْجَ لِلِانْتِفَاءِ مِنَ الْعَمَلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِهَا الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، نَحْوَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَقَدْ وطئت وطأ حر إما فِي غَيْرِ مِلْكٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ أَعْمَى أَوْ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ. وَقَالَ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: لَا لِعَانَ إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا أَوْ كَافِرًا، وَيُلَاعِنُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا لِعَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا بَيْنَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَامْرَأَتِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُلَاعِنُ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ. وَعَنْ مَالِكٍ: الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ وَالْحُرَّةُ الْكِتَابِيَّةُ يُلَاعِنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ وَالْعَبْدُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْكِتَابِيَّةَ، وَعَنْهُ: لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ لِعَانٌ إِلَّا لِمَنْ يَقُولُ رَأَيْتُهَا تَزْنِي فَيُلَاعِنُ ظَهَرَ الْحَمْلُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ، وَلَا يُلَاعِنِ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَةَ وَلَا زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ إِلَّا فِي نَفْيِ الْحَمْلِ وَيَتَلَاعَنُ الْمَمْلُوكَانِ الْمُسْلِمَانِ لَا الْكَافِرَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كُلُّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ يُلَاعِنُ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي الرَّامِينَ وَزَوْجَاتِهِمُ الْمُرْمَيَاتِ بِالزِّنَا، وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الرَّمْيِ بِالزِّنَا سَوَاءٌ قَالَ: عَايَنْتُهَا تَزْنِي أَمْ قَالَ زَنَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ مَالِكٌ لَا يُلَاعِنُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُكِ تَزْنِينَ أَوْ يَنْفِي حَمْلًا بِهَا أَوْ وَلَدًا مِنْهَا وَالْأَعْمَى يُلَاعِنُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا يُلَاعِنُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَكُونَ اسْتَبْرَأَهَا، فَيَقُولَ: لَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ فِي اللِّعَانِ إِلَّا لِكَيْفِيَّتِهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ. وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا فِي ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ مِمَّا لَمْ تَتَعَرَّضُ لَهُ الْآيَةُ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَارْتَفَعَ فَشَهادَةُ خَبَرًا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ فَالْحُكْمُ أَوِ الْوَاجِبُ أَوْ مُبْتَدَأً عَلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ مُتَقَدَّمًا أَيْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَوْ مُؤَخَّرًا أَيْ كَافِيهِ أَوْ وَاجِبُهُ. وبِاللَّهِ مِنْ صِلَةِ شَهاداتٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِلَةِ فَشَهادَةُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفَرَّغَ الْحَوْفِيُّ ذَلِكَ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَعَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ وَاخْتِيَارِهِمْ يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَاتٍ، وَعَلَى اخْتِيَارِ الْكُوفِيِّينَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَشَهادَةُ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ

وَحَفْصٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَأَبَانُ وَابْنُ سَعْدَانَ أَرْبَعُ بالرفع خبر للمبتدأ، وهو فَشَهادَةُ وبِاللَّهِ مِنْ صِلَةِ شَهاداتٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا يَجُوزُ أن يتعلق بفشهادة لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْجَرِّ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْخامِسَةُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَخَالِدُ بْنُ إياس ويقال ابن إياس بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالزَّعْفَرَانِيُّ بِنَصْبِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَمَنْ نَصَبَ الْأُولَى فَعَطْفٌ عَلَى أَرْبَعُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ أَرْبَعُ، وَعَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ أَرْبَعُ أَيْ وَتَشْهَدُ الْخامِسَةُ وَمَنْ نَصَبَ الثَّانِيَةَ فَعَطَفَ عَلَى أَرْبَعُ وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فِي الْخامِسَةُ يَكُونُ أَنَّ بَعْدَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أي بأن، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَنَّ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْ الْخامِسَةُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ أَنْ لعنت بتخفيف أن ورفع لعنت وأَنَّ غَضَبَ بتخفيف أَنَّ وغَضَبَ فِعْلٌ مَاضٍ وَالْجَلَالَةُ بَعْدُ مَرْفُوعَةٌ، وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ لَمَّا خُفِّفَتْ حُذِفَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وعيسى وسلام وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَالْأَعْرَجُ ويعقوب بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَالْحَسَنُ أَنْ لَعْنَةُ كقراءة نافع، وأَنَّ غَضَبَ بتخفيف أَنَّ وغَضَبَ مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ بِتَشْدِيدِ أَنَّ وَنَصْبِ مَا بَعْدَهُمَا اسْمًا لها وخبر ما بعد. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأَنَّ الْخَفِيفَةُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فِي قَوْلِهِ أَنَّ غَضَبَ قَدْ وَلِيَهَا الْفِعْلُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْلُ إِلَّا أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِشَيْءٍ نَحْوُ قَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ «1» وَقَوْلِهِ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ «2» وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «3» فَذَلِكَ لِعِلَّةِ تَمَكُّنِ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ «4» فَبُورِكَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ فَلَمْ يَجْرِ دُخُولُ الْفَوَاصِلِ لِئَلَّا يَفْسُدَ الْمَعْنَى انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ وأَنْ بُورِكَ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ دُعَاءً، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَا الْفَارِسِيُّ، وَيَكُونُ غَضِبَ دُعَاءً مَثَّلَ النُّحَاةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ دُعَاءً لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ بِشَيْءٍ، وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ غَضَبَ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مَوْرِدَ الْمُسْتَغْرَبِ.

_ (1) سورة المزمل: 73/ 20. (2) سورة طه: 20/ 89. (3) سورة النجم: 53/ 39. (4) سورة النمل: 27/ 8.

وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَيْ يَدْفَعُ والْعَذابَ قَالَ الْجُمْهُورُ الْحَدُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ وَلَا يُوجِبُهُ عَلَيْهَا قَوْلُ الزَّوْجِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ آخرين أن الْعَذابَ هو الحبس، وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ فِي اللِّعَانِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَمَكَانُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي شَهَادَتِهِ مُطْلَقًا وَفِي شَهَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهَا تَقُولُ عَلَيَّ. فَقَالَ الثوري وأبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ: يَقُولُ بَعْدَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا وَكَذَا بَعْدَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَكَذَا هِيَ بعد من الكاذبين ومِنَ الصَّادِقِينَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَنْفِيهِ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا فِي نَفْيِ الْوَلَدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقُولُ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي رَأَيْتُهَا تَزْنِي وَهِيَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا رَآنِي أَزْنِي، وَالْخَامِسَةُ تقول ذلك أربعا والْخامِسَةُ لَفْظَ الْآيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُولُ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، ويشير إليها إن كان حَاضِرَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقْعُدُ الْإِمَامُ وَيُذَكِّرُهُ اللَّهَ تَعَالَى فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يَمْضِيَ أَمَرَ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَيَقُولُ: إِنَّ قَوْلَكَ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانَةَ مِنَ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَهَا بِأَحَدٍ يُسَمِّيهِ بعينه واحد أَوِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ نَفَى وَلَدَهَا زَادَ وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَا هُوَ مِنِّي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا فَقَذَفَهَا وَوَلَدَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَنَفَى الْوَلَدَ أَنَّهُ يُحَدُّ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا زَوْجَةٌ إِلَّا مَجَازًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ قَذَفَهَا حُدَّ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يُلَاعِنُ. وَعَنِ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ: إِذَا أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَاعَنَ. وَعَنْ مَالِكٍ: إِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ لَاعَنَهَا. وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ أَوْ غيره فقال الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ وَهَذَا هو الظاهر لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ حَالَةَ الْقَذْفِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ وَكَذَلِكَ هِيَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: أَيُّهُمَا نَكَلَ حُدَّ هُوَ لِلْقَذْفِ وَهِيَ لِلزِّنَا. وَعَنِ الْحَسَنِ: إِذَا لَاعَنَ وَأَبَتْ حُبِسَتْ. وَعَنْ مَكْحُولٍ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ: تُرْجَمُ وَمَشْرُوعِيَّةُ اللِّعَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ مِنْ فَاعِلِهِمَا خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ مِنَ الْكَاذِبِ مِنْهُمَا لِاسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ مِنَ اللَّهِ وَالْغَضَبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خُصَّتِ الْمُلَاعِنَةُ بِأَنْ تُخَمِّسَ بِغَضَبِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: تَغْلِيظًا عَلَيْهَا

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 20]

لِأَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الْفُجُورِ وَمُتَّبَعَةٌ بِإِطْمَاعِهَا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي آيَةِ الْجَلْدِ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُوَيْلَةَ: «وَالرَّجْمُ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ» . وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ فَضْلُهُ مِنَّتُهُ وَرَحْمَتُهُ نِعْمَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: فَضْلُهُ الْإِسْلَامُ وَرَحْمَتُهُ الْكِتْمَانُ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الرَّامِي الْمُحْصَنَاتِ وَالْأَزْوَاجِ كَانَ فِي فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ اللِّعَانَ سَبِيلًا إِلَى السَّتْرِ وَإِلَى دَرْءِ الْحَدِّ وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: تَقْدِيرُهُ لَهَلَكْتُمْ أَوْ لَفَضَحَكُمْ أَوْ لَعَاجَلَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ أَوْ لَتَبَيَّنَ الْكَاذِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَكَشَفَ الزُّنَاةَ بِأَيْسَرَ مِنْ هَذَا أَوْ لَأَخَذَهُمْ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يُوجِبُ تَقْدِيرَهَا إِبْهَامُ الجواب. [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَشْهُورٌ مَذْكُورٌ فِي الصَّحِيحِ، وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ. وقيل: هو البهتان لَا تَشْعُرُ بِهِ حَتَّى يَفْجَأَكَ. وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. مِنْكُمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَمِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ

مُنَافِقٌ وَمِنْهُمْ مُسْلِمٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ إِنَّ هُوَ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ومِنْكُمْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ وَقَالَهُ. الحوفي وأبو البقاء. ولا تَحْسَبُوهُ: مُسْتَأْنَفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عُصْبَةٌ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ الضَّمِيرِ فِي جاؤُ وَخَبَرُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ ولا تَحْسَبُوهُ التَّقْدِيرُ إِنَّ فِعْلَ الَّذِينَ وَهَذَا أَنْسَقُ فِي الْمَعْنَى وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ عُصْبَةٌ خَبَرَ إِنَّ انْتَهَى. وَالْعُصْبَةُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ النِّفَاقِ، وَزَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ وَمَنْ سَاعَدَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ اسْمِهِ، ولا تَحْسَبُوهُ خِطَابٌ لِمَنْ سَاءَهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَخُصُوصًا أَصْحَابُ الْقِصَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَا تَحْسَبُوهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِفْكِ، وَعَلَى إِعْرَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرَهُ اسْمَ إِنَّ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَذْفِ وَعَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ من جاؤُ وَعَلَى مَا نَالَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْغَمِّ، وَالْمَعْنَى لَا تَحْسَبُوهُ يَنْزِلُ بِكُمْ مِنْهُ عَارٌ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ وَثَوَابِ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ الْأَذَى وَانْكِشَافِ كَذِبِ الْقَاذِفِينَ. وَقِيلَ: الخطاب بلا تَحْسَبُوهُ لِلْقَاذِفِينَ وَكَيْنُونَةُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ حَيْثُ كَانَ هَذَا الذِّكْرُ عُقُوبَةً مُعَجَّلَةً كَالْكَفَّارَةِ، وَحَيْثُ تَابَ بَعْضُهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أَيْ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبَ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا خَاضَ فِيهِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ ضَحِكَ وَبَعْضَهُمْ سَكَتَ وَبَعْضَهُمْ تَكَلَّمَ، واكْتَسَبَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَآثِمِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِمَالٍ وَقَصْدٍ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّرْتِيبِ وَكَسَبَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْخَيْرِ لِأَنَّ حُصُولَهُ مُغْنٍ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِمَالٍ فِيهِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كَسَبَ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ عَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا أَصَابَ حَسَّانَ مِنْ ذَهَابِ بَصَرِهِ وَشَلِّ يَدِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لِإِمْعَانِهِ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَانْتِهَازِهِ الْفُرَصَ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَلَامٌ قَبِيحٌ فِي ذَلِكَ نَزَّهْتُ كِتَابِي عَنْ ذِكْرِهِ وَقَلَمِي عَنْ كِتَابَتِهِ قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ حَسَّانُ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ عَمَاهُ وَحَدُّهُ وَضَرْبُ صَفْوَانَ لَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ: تَوَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ وَلَكِنَّنِي أَحْمِي حِمَايَ وَأَتَّقِي ... مِنَ الْبَاهِتِ الرَّامِي الْبَرِيءِ الظَّوَاهِرِ وَأَنْشَدَ حَسَّانُ أَبْيَاتًا يُثْنِي فِيهَا عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُظْهِرُ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ وَهِيَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ حَلِيلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِينًا وَمَنْصِبًا ... نَبِيِّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِ

عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِ مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ وَبَاطِلِ فَإِنْ كَانَ مَا بُلِّغْتِ عَنِّيَ قُلْتُهُ ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي وَكَيْفَ وَوِدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِ لَهُ رُتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ فَضْلُهَا ... تَقَاصَرُ عَنْهَا سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حُدَّ حَسَّانُ وَمِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ. قِيلَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ شُعَرَاءِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي شِعْرٍ. وَقِيلَ: لَمْ يُحَدَّ مِسْطَحٌ. وَقِيلَ: لَمْ يُحَدَّ عَبْدُ اللَّهِ. وَقِيلَ: لَمْ يُحَدَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ. فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «1» وَقَابِلْ ذَلِكَ بِقَوْلِ: إِنَّمَا يُقَالُ الْحَدُّ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِإِقَامَتِهِ بِالْإِخْبَارِ كَمَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِقَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كِبْرَهُ بِكَسْرِ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ وَالْأَعْمَشُ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ وَيَعْقُوبُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَسَوْرَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْكِبْرُ وَالْكُبْرُ مَصْدَرَانِ لِكَبُرَ الشَّيْءُ عَظُمَ لَكِنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ الضَّمَّ لَيْسَ فِي السِّنِّ. هَذَا كُبْرُ الْقَوْمِ أَيْ كَبِيرُهُمْ سِنًّا أَوْ مَكَانَةً. وَفِي الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ: «الْكُبْرَ الْكُبْرَ» . وَقِيلَ كِبْرَهُ بِالضَّمِّ مُعْظَمُهُ، وَبِالْكَسْرِ الْبُدَاءَةُ بِالْإِفْكِ. وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ الْإِثْمُ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى ظَنِّ الْخَيْرِ وَزَجْرٌ وَأَدَبٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ حَاشَا مَنْ تَوَلَّى كِبْرَهُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ دُخُولُهُمْ فِي الْخِطَابِ وَفِيهِ عِتَابٌ، أَيْ كَانَ الْإِنْكَارُ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ بَعْدَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَعَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الظَّاهِرِ فَلَمْ يَجِئِ التَّرْكِيبُ ظَنَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ خَيْراً وَقُلْتُمْ لِيُبَالِغَ فِي التَّوْبِيخِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ وَلِيُصَرِّحَ بِلَفْظِ الْإِيمَانِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ مُقْتَضٍ أَنْ لَا يُصَدِّقَ مُؤْمِنٌ عَلَى أَخِيهِ قَوْلَ عَائِبٍ وَلَا طَاعِنٍ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ إِذَا سَمِعَ قَالَةً فِي أَخِيهِ أَنْ يَبْنِيَ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى ظَنِّ الْخَيْرِ، وَأَنْ يَقُولَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ هَكَذَا بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ بِبَرَاءَةِ أَخِيهِ كَمَا يَقُولُ الْمُسْتَيْقِنُ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ. وَهَذَا مِنَ الْأَدَبِ الْحَسَنِ وَمَعْنَى بِأَنْفُسِهِمْ أَيْ كَأَنْ يَقِيسَ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَإِذَا كَانَ ذلك يبعد عليهم

_ (1) سورة النور: 24/ 4.

قَضَوْا بِأَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ أَبْعَدَ. وَقِيلَ: مَعْنَى بِأَنْفُسِهِمْ بِأُمَّهَاتِهِمْ. وَقِيلَ: بِإِخْوَانِهِمْ. وَقِيلَ: بِأَهْلِ دِينِهِمْ، وَقَالَ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ «1» فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَيْ لَا يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ على بعض. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ جَعَلَ اللَّهُ فَصْلًا بَيْنَ الرَّمْيِ الْكَاذِبِ وَالرَّمْيِ الصَّادِقِ ثُبُوتَ أربعة شهداء وانتفاؤها. فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا فَهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ كَاذِبُونَ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ وَتَعْنِيفٌ لِلَّذِينِ سَمِعُوا الْإِفْكَ وَلَمْ يَجِدُّوا فِي دَفْعِهِ وَإِنْكَارِهِ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ فِي الشَّرْعِ مِنْ وُجُوبِ تَكْذِيبِ الْقَاذِفِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَالتَّنْكِيلِ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالنِّعَمِ الَّتِي مِنْهَا الْإِمْهَالُ لِلتَّوْبَةِ وَرَحْمَتُهُ عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ. لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ فِيمَا خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ يُقَالُ: أَفَاضَ فِي الْحَدِيثِ وَانْدَفَعَ وَهَضَبَ وَخَاضَ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ لعامل في إِذْ لَمَسَّكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلَقَّوْنَهُ بِفَتْحِ الثَّلَاثِ وَشَدِّ الْقَافِ وَشَدَّ التَّاءَ الْبَزِّيُّ وَأَدْغَمَ ذَالَ إِذْ فِي التَّاءِ النَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ أَيْ يَأْخُذُهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، يُقَالُ: تَلَقَّى الْقَوْلَ وَتَلَقَّنَهُ وَتَلَقَّفَهُ وَالْأَصْلُ تَتَلَقَّوْنَهُ وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ تَلَقَّوْنَهُ بِضَمِّ التَّاءِ وَالْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ مُضَارِعُ أَلْقَى وَعَنْهُ تَلَقَّوْنَهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ مُضَارِعُ لَقِيَ. وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عباس وعيسى وَابْنُ يَعْمُرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَلَقَ الرَّجُلُ كَذَبَ، حَكَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وقال ابن سيده، جاؤوا بِالْمُتَعَدِّي شَاهِدًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي، وَعِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ يَلْقُونَ فِيهِ فَحُذِفَ الْحَرْفُ وَوُصِلَ الْفِعْلُ لِلضَّمِيرِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلَقِ الذي هو الإسراع بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَعَدَدٍ فِي أَثَرِ عَدَدٍ، وَكَلَامٍ فِي أَثَرِ كَلَامٍ، يُقَالُ: وَلَقَ فِي سَيْرِهِ إِذَا أَسْرَعَ قَالَ: جَاءَتْ بِهِ عيسى مِنَ الشَّامِ يَلِقْ وَقَرَأَ ابْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو جَعْفَرٍ تَأْلِقُونَهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَهَمْزَةٍ ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةِ الْمَازِنِيِّ تِيلَقُونَهُ بِتَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ وَلَامٌ مَفْتُوحَةٌ كَأَنَّهُ مُضَارِعُ وَلِقَ بِكَسْرِ اللَّامِ كَمَا قَالُوا: تِيجَلُ مُضَارِعُ وَجِلْتَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ أُمِّي تَقْرَأُ إِذْ تَثْقَفُونَهُ يَعْنِي مُضَارِعَ ثَقِفَ قَالَ: وَكَانَ أَبُوهَا يَقْرَأُ بِحَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمَعْنَى بِأَفْواهِكُمْ وَتُدِيرُونَهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَعْلُومَ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ اللِّسَانُ، وَهَذَا الْإِفْكُ لَيْسَ مَحَلُّهُ إِلَّا الْأَفْوَاهَ كَمَا قَالَ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «2» .

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 11. (2) سورة آل عمران: 3/ 167.

وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أَيْ ذَنْبًا صَغِيرًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَعَلَّقَ مَسَّ الْعَذَابِ بِثَلَاثَةِ آثَامٍ تَلَقِّي الْإِفْكِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَاسْتِصْغَارِهِ ثُمَّ أَخَذَ يُوَبِّخُهُمْ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِذْ سَمِعُوهُ أَنْ لَا يَفُوهُوا بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ الْفَصْلُ بَيْنَ لَوْلا وقُلْتُمْ؟ قُلْتُ: لِلظُّرُوفِ شَأْنٌ وَهُوَ تَنَزُّلُهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ مَنْزِلَةَ نَفْسِهَا لِوُقُوعِهَا فِيهَا، وَأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا فَلِذَلِكَ يتسع فيها مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَدَوَاتِ التَّحْضِيضِ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالظَّرْفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْفِعْلِ فَتَقُولُ: لَوْلَا زَيْدًا ضَرَبْتَ وَهَلَّا عَمْرًا قَتَلْتَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ حَتَّى أَوْقَعَ فَاصِلًا؟ قُلْتُ: الْفَائِدَةُ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْقَادُوا حَالَ مَا سَمِعُوهُ بِالْإِفْكِ عَنِ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ أَهَمَّ وَجَبَ التَّقْدِيمُ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى يَكُونُ وَالْكَلَامُ بِدُونِهِ مُتْلَئِبٌّ لَوْ قِيلَ مَا لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا قُلْتُ: مَعْنَاهُ مَا يَنْبَغِي وَيَصِحُّ أَيْ مَا يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا وَلَا يَصِحُّ لَنَا وَنَحْوُهُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ وسُبْحانَكَ تَعَجُّبٌ مِنْ عِظَمِ الْأَمْرِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ فِي كَلِمَةِ التَّسْبِيحِ؟ قُلْتُ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَسْبِيحَ اللَّهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْ صَنَائِعِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، أَوْ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ حُرْمَةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ فِيهَا انْتَهَى. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا أَيْ فِي أَنْ تَعُودُوا، تَقُولُ: وَعَظْتُ فُلَانًا فِي كَذَا فَتَرَكَهُ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى الِاتِّعَاظِ وَتَهْيِيجٌ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الاحتراز مِمَّا يَشِينُهُ مِنَ الْقَبَائِحِ. وَقِيلَ: أَنْ تَعُودُوا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَعُودُوا. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ الدَّلَالَاتِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بِمَا يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَيُعَلِّمُكُمْ مِنَ الْآدَابِ، وَيَعِظُكُمْ مِنَ الْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ الْإِشَارَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ. فِي الَّذِينَ آمَنُوا لِعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي الدُّنْيَا الْحَدُّ، وَفِي الْآخِرَةِ النَّارُ. وَالظَّاهِرُ فِي الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ قَاذِفٍ مُنَافِقًا كَانَ أَوْ مُؤْمِنًا، وَتَعْلِيقُ الْوَعِيدِ عَلَى مَحَبَّةِ الشِّيَاعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الْفِسْقِ فِسْقٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَيٌّ الْبَرِيءُ مِنَ الْمُذْنِبِ وَسَرَائِرَ الْأُمُورِ، وَوَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي سَتْرِكُمْ وَالتَّغْلِيظَ فِي الْوَعِيدِ.

[سورة النور (24) : الآيات 21 إلى 26]

وَقَالَ الْحَسَنُ: عَنَى بِهَذَا الْوَعِيدِ وَاللَّعْنِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا وَأَحَبُّوا إِذَايَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَمَلْعُونٌ فَاعِلُهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا عَلَى يَدِ الرَّسُولِ بِالْمُجَاهَدَةِ كَقَوْلِهِ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1» . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ غَيْبٌ. وَجَوَابُ لَوْلا محذوف أي لعاقبكم. أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ بِالتَّبْرِئَةِ رَحِيمٌ بِقَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ مِمَّنْ قَذَفَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخِطَابُ لِحَسَّانَ وَمِسْطَحٍ وَحَمْنَةَ وَالظَّاهِرُ العموم. [سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خُطُواتِ الشَّيْطانِ تَفْسِيرًا وَقِرَاءَةً فِي الْبَقَرَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ فَإِنَّ مُتَّبِعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَهُوَ مَا أَفْرَطَ قُبْحُهُ وَالْمُنْكَرِ وَهُوَ مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ أَيْ يَصِيرُ رَأْسًا فِي الضَّلَالِ بِحَيْثُ يَكُونُ آمِرًا يُطِيعُهُ أَصْحَابُهُ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِالتَّوْبَةِ الْمُمَحِّصَةِ مَا طَهُرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا زَكى بِتَخْفِيفِ الْكَافِ، وَأَمَالَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ وَرُوحٌ بتشديدها، وأماله الأعمش وكبت زَكى الْمُخَفَّفَ بِالْيَاءِ وَهُوَ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 73، وسورة التحريم: 66/ 9.

مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ عَلَى سَبِيلِ الشُّذُوذِ لِأَنَّهُ قَدْ يُمَالُ، أَوْ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ شَدَّ الْكَافَ. وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ، وَكَانَ عَمَلُهُ الصَّالِحُ أَمَارَةً عَلَى سَبْقِهَا أَوْ مَنْ يَشَاءُ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِهِمْ. وَلا يَأْتَلِ هُوَ مُضَارِعُ ائْتَلَى افْتَعَلَ مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْحَلِفُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُقَصِّرُ مِنِ افْتَعَلَ أَلَوْتُ قَصَّرْتُ وَمِنْهُ لَا يَأْلُونَكُمْ «1» . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حَلِفُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِسْطَحٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَافِعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ وَالضَّحَّاكُ: قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنَافِعَهُمْ عَمَّنْ قَالَ فِي الْإِفْكِ، وَقَالُوا: لَا نَصِلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَنَزَلَتْ فِي جَمِيعِهِمْ. وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَأْتَلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ مَوْلَاهُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْحَسَنُ يَتَأَلَّ مُضَارِعُ تَأَلَّى بِمَعْنَى حَلَفَ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَأَلَّى ابْنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّنِي ... إِلَى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَعَائِدُ وَالْفَضْلُ وَالسَّعَةُ يَعْنِي الْمَالَ، وَكَانَ مِسْطَحٌ ابْنَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ دَاعِيًا أَبَا بَكْرٍ أَنْ لَا يُحْسِنَ إِلَيْهِ، فَأُمِرَ هُوَ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَحِينَ سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟ قَالَ: بَلَى، أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي وَرَدَّ إِلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا أَبَدًا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ قُطَيْبٍ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ أَنْ تُؤْتُوا بِالتَّاءِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَيُنَاسِبُهُ أَلا تُحِبُّونَ وأَنْ يُؤْتُوا نَصَبَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْحَلِفِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتُوا وَأَنْ لَا يُؤْتُوا فَحَذَفَ لَا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى يُقَصِّرُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي أَنْ يُؤْتُوا أَوْ عَنْ أَنْ يُؤْتُوا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَسُفْيَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا بِالتَّاءِ أَمْرُ خِطَابٍ لِلْحَاضِرِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ عَامٌّ فِي الرَّامِينَ وَانْدَرَجَ فِيهِ الرَّامِيَانِ تَغْلِيبًا لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. والْمُحْصَناتِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي النِّسَاءِ الْعَفَائِفِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ يَرْمُونَ الْأَنْفُسَ الْمُحْصَناتِ فيدخل فيه

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 118. [.....]

الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ. وَقِيلَ: خَاصٌّ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَكُبْرَاهُنَّ مَنْزِلَةً وَجَلَالَةً تِلْكَ فَعَلَى أَنَّهُ خَاضَ بِهَا جُمِعَتْ إِرَادَةً لَهَا وَلِبَنَاتِهَا مِنْ نِسَاءِ الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَاتِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ الْإِحْصَانِ وَالْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الْخَبِيبِينَ قَدِي يَعْنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وأشياعه. والْغافِلاتِ السَّلِيمَاتُ الصُّدُورِ النَّقِيَّاتُ الْقُلُوبِ اللَّاتِي لَيْسَ فِيهِنَّ دَهَاءٌ وَلَا مَكْرٌ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يُجَرِّبْنَ الْأُمُورَ وَلَا يَفْطَنَّ لما يفطن له المجريات، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطَفْلَةٍ مَيَّالَةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا وَكَذَلِكَ الْبُلْهُ مِنَ الرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ «أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ» . لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ. قِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ بِالتَّوْبَةِ وفي هذه لم يجىء اسْتِثْنَاءٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ خَاضَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ وَتَابَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَأَنَّ مَنْ تَابَ غُفِرَ لَهُ. وَيُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا قِيلَ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا خَرَجَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرَةً قَذَفُوهَا وَقَالُوا: خَرَجَتْ لِتَفَجُرَ قَالَهُ أَبُو حَمْزَةَ الْيَمَانِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَ يَشُكُّ فِي الدِّينِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلِمَ حَيْثُ لا ينفعه. والناصب ليوم تَشْهَدُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَهُوَ وَلَهُمْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْعَامِلُ فِيهِ عَذَابٌ، وَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَابْنُ سَعْدَانَ يَشْهَدُ بِيَاءٍ مِنْ تَحْتُ لِأَنَّهُ تَأْنِيثٌ مَجَازِيٌّ، وَوَقَعَ الْفَصْلُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ، وَلَمَّا كَانَ قَلْبُ الْكَافِرِ لَا يُرِيدُ مَا يَشْهَدُ بِهِ أَنْطَقَ اللَّهُ الْجَوَارِحَ وَالْأَلْسِنَةَ وَالْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ بِمَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا وَأَقْدَرَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ شَرْطًا لِوُجُودِ الْكَلَامِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَخْلُقُ فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ الْكَلَامَ، وَعِنْدَهُمُ الْمُتَكَلِّمُ فَاعِلُ الْكَلَامِ فَتَكُونُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهَا إِلَى الْجَوَارِحِ تَوَسُّعًا. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ تَعَالَى يُنْشِئُ هَذِهِ الْجَوَارِحَ عَلَى خِلَافُ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَيُلْجِئُهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَتُخْبِرَ عَنْهُ بِأَعْمَالِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهَا بِفِعْلِ الشَّهَادَةِ. وانتصب يَوْمَئِذٍ بيوفيهم، وَالتَّنْوِينُ فِي إِذٍ عِوَضٍ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ يَوْمَ إِذْ تَشْهَدُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يُوَفِّيهِمُ مُخَفَّفًا وَالدِّينُ هُنَا الْجَزَاءُ أَيْ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ:

وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعَدِّ ... وَإِنْ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا وَمِنْهُ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ صفة لدينهم. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو رَوْقٍ وَأَبُو حَيْوَةَ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلَّهِ، وَيَجُوزُ الْفَصْلُ بِالْمَفْعُولِ بَيْنَ الْمَوْصُولِ وصفته ويَعْلَمُونَ إِلَى آخِرِهِ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يعلم أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ قَلَبْتَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَفَتَّشْتَ عَمَّا أُوعِدَ بِهِ الْعُصَاةُ لَمْ تَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَلَّظَ فِي شَيْءٍ تَغْلِيظَهُ فِي الْإِفْكِ وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الْآيَاتِ الْقَوَارِعِ الْمَشْحُونَةِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَالْعَذَابِ الْبَلِيغِ، وَالزَّجْرِ الْعَنِيفِ، وَاسْتِعْظَامِ مَا رَكِبَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتِفْظَاعِ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَا نَزَّلَ فِيهِ عَلَى طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَسَالِيبَ مُتْقَنَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَافٍ فِي بَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَ لَكَفَى بِهَا حَيْثُ جَعَلَ الْقَذَفَةَ مَلْعُونِينَ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا أَفَكُوا وَبَهَتُوا بِهِ، وَأَنَّهُ يُوَفِّيهِمُ جَزَاءَ الْحَقِّ الَّذِي هُمْ أَهْلُهُ حَتَّى يَعْلَمُوا عِنْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فَأَوْجَزَ فِي ذَلِكَ وَأَشْبَعَ وَفَصَّلَ وَأَجْمَلَ وَأَكَّدَ وَكَرَّرَ، وَجَاءَ بِمَا لَمْ يَقَعْ فِي وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إِلَّا مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْفَظَاعَةِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ ذُو الْحَقِّ الْمُبِينِ الْعَادِلِ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِي حُكْمِهِ، وَالْمُحِقُّ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِبَاطِلٍ، وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَمْ تَسْقُطْ عِنْدَهُ إِسَاءَةُ مُسِيءٍ وَلَا إِحْسَانُ مُحْسِنٍ، فَحَقُّ مِثْلِهِ أَنْ يُتَّقَى وَتُجْتَنَبَ مَحَارِمُهُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ لَمْ تَسْقُطْ عِنْدَهُ إِسَاءَةُ مُسِيءٍ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبِيثاتُ وَصْفٌ لِلنِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ الطَّيِّباتُ أَيِ النِّسَاءُ الْخَبِيثَاتُ لِلرِّجَالِ لِلْخَبِيثِينَ وَيُرَجِّحُهُ مُقَابَلَتُهُ بِالذُّكُورِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَبِيثاتُ مِنَ النِّسَاءِ يَنْزِعْنَ لِلْخِبَاثِ مِنَ الرِّجَالِ، فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً «1» وَكَذَلِكَ الطَّيِّباتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ عَائِشَةَ حِينَ ذَكَرَتِ التِّسْعَ الَّتِي مَا أُعْطِيَتْهُنَّ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا. وَفِي آخِرِهَا: وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً عِنْدَ طَيِّبٍ، وَلَقَدْ وُعِدْتُ مَغْفِرَةً وَرِزْقًا كَرِيمًا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ نَحَا إِلَيْهِ ابْنُ زَيْدٍ فَهُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَشْبَاهِهِ وَالرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كُلَّ طَيِّبَةٍ وَأُولَئِكَ خَبِيثُونَ فَهُمْ أهل النساء

_ (1) سورة النور: 24/ 3.

الْخَبَائِثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ ومجاهد وقتادة: هِيَ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَلِمَاتُ وَالْفِعْلَاتُ الْخَبِيثَةُ لَا يَقُولُهَا وَلَا يَرْضَاهَا إِلَّا الْخَبِيثُونَ مِنَ النَّاسِ فَهِيَ لَهُمْ وَهُمْ لَهَا بِهَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْكَلِمَاتُ: وَالْفِعْلَاتُ لَا تَلِيقُ وَتَلْصِقُ عِنْدَ رَمْيِ الرَّامِي وَقَذْفِ الْقَاذِفِ إِلَّا بِالْخَبِيثِينَ مِنَ النَّاسِ فَهِيَ لَهُمْ وَهُمْ لَهَا بِهَذَا الْوَجْهِ. أُولئِكَ إِشَارَةٌ لِلطَّيِّبِينَ أَوْ إِشَارَةٌ لَهُمْ وَلِلطَّيِّبَاتِ إِذَا عَنَى بهن النساء. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أَيْ يَقُولُ الْخَبِيثُونَ مِنْ خَبِيثَاتِ الْكَلِمِ أَوِ الْقَاذِفُونَ الرَّامُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَوَعَدَ الطَّيِّبِينَ الْمَغْفِرَةَ عِنْدَ الْحِسَابِ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ فِي الجنة. غَضَّ الْبَصَرَ: أَطْبَقَ الْجَفْنَ عَلَى الْجَفْنِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا الْخُمُرُ: جَمْعُ خِمَارٍ وَهُوَ الْمِقْنَعَةُ الَّتِي تُلْقِي الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا، وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ مَقِيسٌ فِيهِ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَخْمِرَةٍ وَهُوَ مَقِيسٌ فِيهَا أَيْضًا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَتَرَى الشجراء في ريقه ... كرؤوس قُطِّعَتْ فِيهَا الْخُمُرُ الْجَيْبُ: فَتْحٌ يَكُونُ فِي طَوْقِ الْقَمِيصِ يَبْدُو مِنْهُ بَعْضُ الْجَسَدِ. وَالْعَوْرَةُ: مَا احْتُرِزَ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَيَغْلِبُ فِي سَوْأَةِ الرَّجُلِ. وَالْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: كُلُّ ذَكَرٍ لَا أُنْثَى مَعَهُ، وَكُلُّ أُنْثَى لَا ذَكَرَ مَعَهَا وَوَزْنُهُ فَعْيِلٌ كَلَيِّنٍ وَيُقَالُ: آمَتْ تَئِيمُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: كُلُّ امْرِئٍ سَتَئِيمُ مِنْ ... هُـ العرس أو منها يئم أَيْ: سَيَنْفَرِدُ فَيَصِيرُ أَيِّمًا، وَقِيَاسُ جَمْعِهِ أَيَائِمُ كَسَيَائِدَ فِي جَمْعِ سَيِّدٍ وَجَمْعُهُ عَلَى فَعَالَى مَحْفُوظٌ لَا مَقِيسٌ. الْبِغَاءُ: الزِّنَا، يُقَالُ: بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً فَهِيَ بَغِيٌّ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِزِنَا النِّسَاءِ. الْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ حَبَشِيٌّ مُعَرَّبٌ. الزُّجَاجَةُ: جَوْهَرٌ مَصْنُوعٌ مَعْرُوفٌ، وَضَمُّ الزَّايِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَكَسْرُهَا وَفَتْحُهَا لُغَةُ قَيْسٍ. الزَّيْتُ: الدُّهْنُ الْمُعْتَصَرُ مِنْ حَبِّ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: السَّرَابُ بُخَارٌ يَرْتَفِعُ مِنْ قَعُورِ الْقِيعَانِ فَيُكَيِّفُ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ أَشْبَهَ الْمَاءَ مِنْ بَعِيدٍ، فَإِذَا دَنَا مِنْهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَرَهُ كَمَا كَانَ يَرَاهُ بَعِيدًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: السَّرَابُ: مَا لَصِقَ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ: هو الشعاع الَّذِي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ فِي الْبَرِّ، يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ الْمَاءُ السَّارِبُ أَيِ الْجَارِي. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ فِي الْفَلَا مُتَأَلِّقِ

[سورة النور (24) : الآيات 27 إلى 31]

وَقَالَ: أَمَرُّ الطُّولِ لَمَّاعُ السَّرَابِ وَقِيلَ: السَّرَابُ مَا يرقون مِنَ الْهَوَاءِ فِي الْهَجِيرِ فِي فَيَافِي الْأَرْضِ الْمُنْبَسِطَةِ. اللُّجِّيُّ: الْكَثِيرُ الْمَاءِ، وَلُجَّةُ الْبَحْرِ مُعْظَمُهُ، وَكَانَ لُجِّيًّا مسنوب إِلَى اللُّجَّةِ. الْوَدْقُ: الْمَطَرُ شَدِيدُهُ وَضَعِيفُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فلا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا وَقَالَ أَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ: هُوَ الْبَرْقُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الْوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ وَالْوَدْقُ: مَصْدَرُ وَدَقَ السَّحَابُ يَدِقُ وَدْقًا، وَمِنْهُ اسْتَوْدَقْتُ الْفَرَسَ. الْبَرْدُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ قِطَعٌ مُتَجَمِّدَةٌ يَذُوبُ مِنْهُ مَاءٌ بِالْحَرَارَةِ. السَّنَا: مَقْصُورٌ مِنْ ذَوَاتِ الواو وهو الضوء. قَالَ الشَّاعِرُ: يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ يُقَالُ: سَنَا يَسْنُو سَنًا، وَالسَّنَا أَيْضًا نَبْتٌ يُتَدَاوَى بِهِ، وَالسَّنَاءُ بِالْمَدِّ الرِّفْعَةُ وَالْعُلُوُّ قَالَ: وَسَنَ كَسَنَقَ سَنَاءً وسنما أَذْعَنَ لِلشَّيْءِ: انْقَادَ لَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِذْعَانُ: الْإِسْرَاعُ مَعَ الطَّاعَةِ. الْحَيْفُ: الْمَيْلُ فِي الْحُكْمِ، يُقَالُ: حَافَ فِي قَضِيَّتِهِ أَيْ جَارَ. اللِّوَاذُ: الرَّوَغَانُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فِي خُفْيَةٍ. [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 31] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ فِي بَيْتِي عَلَى حَالٍ لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي عَلَيْهَا أَحَدٌ، فَلَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ من أهلي فنزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا الْآيَةَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ نُزُولِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الْخَانَاتِ وَالْمَسَاكِنَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ فَنَزَلَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الْآيَةُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ إِنَّمَا وَجَدُوا السَّبِيلَ إِلَى بُهْتَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ اتَّفَقَتِ الْخَلْوَةُ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا طَرِيقٌ لِلتُّهْمَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَرْءُ بَيْتَ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ، لِأَنَّ فِي الدُّخُولِ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وُقُوعَ التُّهْمَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَرَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا سَلَامٍ لِقَوْلِهِ غَيْرَ بُيُوتِكُمْ وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: لَيْسَ لَهَا خَادِمٌ غَيْرِي أَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْتُ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً» قَالَ الرَّجُلُ: لَا، قَالَ: وَغَيَّا النَّهْيَ عَنِ الدُّخُولِ بِالِاسْتِئْنَاسِ وَالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْبُيُوتِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ هُوَ خِلَافُ الِاسْتِيحَاشِ، لِأَنَّ الَّذِي يَطْرُقُ بَابَ غَيْرِهِ لَا يَدْرِي أَيُؤْذَنُ لَهُ أَمْ لَا، فَهُوَ كَالْمُسْتَوْحِشِ مِنْ جَفَاءِ الْحَالِ إِذَا أُذِنَ لَهُ اسْتَأْنَسَ، فَالْمَعْنَى حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ كَقَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ «1» وَهَذَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَاتِ وَالْإِرْدَافِ، لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ يُرْدَفُ الْإِذْنَ فَوُضِعَ مَوْضِعَ الْإِذْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ تَسْتَأْنِسُوا مَعْنَاهُ تَسْتَأْذِنُوا، وَمَنْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَسْتَأْنِسُوا خَطَأٌ أَوْ وَهْمٌ مِنَ الْكَاتِبِ وَأَنَّهُ قَرَأَ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا فَهُوَ طَاعِنٌ في

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 53.

الْإِسْلَامِ مُلْحِدٌ فِي الدِّينِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بَرِيءٌ مِنْ هذا القول. وتَسْتَأْنِسُوا متمكنة في المعنى بنية الْوَجْهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعُمَرُ وَاقِفٌ عَلَى بَابِ الْغُرْفَةِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ طَلَبَ الْأُنْسَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِعْلَامُ وَالِاسْتِكْشَافُ، واستفعال مِنْ أَنِسَ الشَّيْءَ إِذَا أَبْصَرَهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَسْتَعْلِمُوا وَتَسْتَكْشِفُوا الْحَالَ هَلْ يُرَادُ دُخُولُكُمْ أَمْ لَا، وَمِنْهُ اسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا وَاسْتَأْنَسْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، أَيْ تَعَرَّفْتُ واستعلمت ومنه بيت النابعة: كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... يَوْمَ الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأُنْسِ وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّفَ هَلْ ثَمَّ إِنْسَانٌ. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الِاسْتِئْنَاسُ؟ قَالَ: «يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِالتَّسْبِيحَةِ وَالتَّكْبِيرَةِ يَتَنَحْنَحُ يُؤْذِنُ أَهْلَ الْبَيْتِ وَالتَّسْلِيمُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» . وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ: حُيِّيتُمْ صَبَاحًا وَحُيِّيتُمْ مَسَاءً ثُمَّ يَدْخُلُ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ فَصَدَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَلَّمَ الْأَحْسَنَ الْأَكْمَلَ. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ فِي تَسْتَأْنِسُوا إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى حَتَّى تُؤْنِسُوا أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِالتَّنَحْنُحِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَنَحْوِهِ وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَنْ تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ شُعِرَ بِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنْ آنَسَ انْتَهَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ الِاسْتِئْذَانِ فَيَكْفِي فِيهِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ» يَعْنِي كَمَالَهُ. «فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا فَلْيَرْجِعْ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ إِلَّا أَنْ يُحَقِّقَ أَنَّ مَنْ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَسْمَعْ» . وَالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى السَّلَامِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ وَالْوَاوُ فِي وَتُسَلِّمُوا لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا فَشَرَعَ النِّدَاءَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْإِذْنِ لِمَا فِي السَّلَامِ مِنَ التَّفَاؤُلِ بِالسَّلَامَةِ. ذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا أَيْ ذلِكُمْ الِاسْتِئْنَاسُ وَالتَّسْلِيمُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ شَرَعْنَا ذَلِكَ وَنَبَّهْنَاكُمْ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتُكُمْ مِنَ السَّتْرِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اعْتِنَاءً بِمَصَالِحِكُمْ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أَيْ يَأْذَنُ لَكُمْ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَى الدُّخُولِ فِي مِلْكِ غَيْرِكُمْ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ إِذْ قَدْ يَكُونُ لِرَبِّ الْبَيْتِ فِيهِ مَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا وَهَذَا عَائِدٌ إِلَى مَنِ اسْتَأْذَنَ فِي دُخُولِ بَيْتِ غَيْرِهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ

مَنْ يَأْذَنُ أَمْ لَمْ يَكُنْ، أَيْ لَا تُلِحُّوا فِي طَلَبِ الْإِذْنِ وَلَا فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْبَابِ مُنْتَظِرِينَ. هُوَ أَزْكى أَيِ الرُّجُوعُ أَطْهَرُ لَكُمْ وَأَنْمَى خَيْرًا لِمَا فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرِّيبَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أَيْ بِمَا تَأْتُونَ وَمَا تَذَرُوَنَ مِمَّا خُوطِبْتُمْ بِهِ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ تَوَعُّدٌ لِأَهْلِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ وَطَلَبِ الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ وَالنَّظَرِ لِمَا لَا يَحِلُّ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتَثْنَى مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى دَاخِلِهَا مَا لَيْسَ بِمَسْكُونٍ مِنْهَا نَحْوَ الْفَنَادِقِ وَهِيَ الْخَانَاتُ وَالرُّبُطُ وَحَوَانِيتُ الْبَيَّاعِينَ، وَالْمَتَاعُ الْمَنْفَعَةُ كَالِاسْتِكْنَانِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَإِيوَاءِ الرِّحَالِ وَالسِّلَعِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْبُيُوتِ كَمَا ذَكَرَ هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ، وَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الْبُيُوتِ الْمَسْكُونَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ وَهَذَا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ فِي الْبُيُوتِ الْمُبَاحَةِ، وَقَدْ مَثَّلَ الْعُلَمَاءُ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ أَمْثِلَةً. فَقَالَ محمد بن الْحَنَفِيَّةِ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ فِي الْفَنَادِقِ الَّتِي فِي طُرُقِ الْمُسَافِرِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْكُنُهَا أَحَدٌ بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا كل ابن سبيل. وفِيها مَتاعٌ لَهُمْ أَيِ اسْتِمْتَاعٌ بِمَنْفَعَتِهَا، وَمَثَّلَ عَطَاءٌ بِالْخِرَبِ الَّتِي تُدْخَلُ لِلتَّبَرُّزِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ حَوَانِيتُ الْقَيْسَارِيَةِ وَالسُّوقِ. قَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا: هِيَ دُورُ مَكَّةَ، وَهَذَا لَا يُسَوَّغُ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ دُورَ مَكَّةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، وَأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ وَأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وَعِيدٌ لِلَّذِينِ يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ غَيْرَ الْمَسْكُونَةِ مِنْ أَهْلِ الرِّيَبِ. ومِنْ فِي مِنْ أَبْصارِهِمْ عِنْدَ الْأَخْفَشِ زَائِدَةً أَيْ يَغُضُّوا أَبْصارِهِمْ عَمَّا يَحْرُمُ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لِلتَّبْعِيضِ وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ نَظْرَةٍ لَا يَمْلِكُهَا الْإِنْسَانُ وَإِنَّمَا يَغُضُّ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مُبْهَمٌ فَتَكُونَ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مِنْ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعَاتِهَا أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أَيْ مِنَ الزِّنَا وَمِنَ التَّكَشُّفِ. وَدَخَلَتْ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَبْصارِهِمْ دُونَ الْفَرْجِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّظَرِ أَوْسَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَةَ يَنْظُرُ زَوْجُهَا إِلَى مَحَاسِنِهَا مِنَ الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ الْمُسْتَعْرَضَةُ وَيَنْظُرُ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَأَمَّا أَمْرُ الْفَرْجِ فَمُضَيَّقٌ.

وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ زَيْدٍ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ مِنَ الزِّنَا إِلَّا هَذَا فَهُوَ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ بَلْ حِفْظُ الْفَرْجِ يَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ. ذلِكَ أَيْ غَضُّ الْبَصَرِ وَحِفْظُ الْفَرْجِ أَطْهَرُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ مِنْ إِحَالَةِ النَّظَرِ وَانْكِشَافِ الْعَوْرَاتِ، فَيُجَازِي عَلَى ذَلِكَ. وَقَدَّمَ غَضَّ الْبَصَرِ عَلَى حِفْظِ الْفَرْجِ لِأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الْفُجُورِ وَالْبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ لَا يَكَادُ يقدر على الاحتزاز مِنْهُ، وَهُوَ الْبَابُ الْأَكْبَرُ إِلَى الْقَلْبِ وَأَعْمَرُ طُرُقِ الْحَوَاسِّ إِلَيْهِ وَيَكْثُرُ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: وَمَا الْحُبُّ إِلَّا نَظْرَةٌ إِثْرَ نَظْرَةٍ ... تَزِيدُ نُمُوًّا إِنْ تَزِدْهُ لَجَاجًا ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْمُؤْمِنَاتِ فِي تَسَاوِيهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْغَضِّ مِنَ الْأَبْصَارِ وَفِي الْحِفْظِ لِلْفُرُوجِ. ثُمَّ قَالَ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وَاسْتَثْنَى مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ حُلِيٍّ أَوْ كُحْلٍ أَوْ خِضَابٍ، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْهَا كَالْخَاتَمِ وَالْفَتْخَةِ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ فَلَا بَأْسَ بِإِبْدَائِهِ لِلْأَجَانِبِ، وَمَا خَفِيَ مِنْهَا كَالسُّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالدُّمْلُجِ وَالْقِلَادَةِ وَالْإِكْلِيلِ وَالْوِشَاحِ وَالْقُرْطِ فَلَا تُبْدِيهِ إِلَّا لِمَنِ اسْتُثْنِيَ. وَذَكَرَ الزِّينَةَ دُونَ مَوَاضِعِهَا مُبَالَغَةً فِي الْأَمْرِ بِالتَّصَوُّنِ وَالتَّسَتُّرِ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَنَ وَاقِعَةٌ عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ الحسد لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَهِيَ السَّاقُ وَالْعَضُدُ وَالْعُنُقُ وَالرَّأْسُ وَالصَّدْرُ وَالْآذَانُ، فَنَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّيَنِ نَفْسِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّظَرَ لَا يَحِلُّ إِلَيْهَا لِمُلَابَسَتِهَا تِلْكَ الْمَوَاقِعَ بِدَلِيلِ النَّظَرِ إِلَيْهَا غَيْرَ مُلَابِسَةٍ لَهَا، وَسُومِحَ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ سَتْرَهَا فِيهِ حَرَجٌ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ مُزَاوَلَةِ الْأَشْيَاءِ بِيَدِهَا وَمِنَ الْحَاجَةِ إِلَى كَشْفِ وَجْهِهَا خُصُوصًا فِي الشَّهَادَةِ وَالْمُحَاكَمَةِ وَالنِّكَاحِ، وَتُضْطَرُّ إِلَى الْمَشْيِ فِي الطرقات وظهور قدميها الْفَقِيرَاتُ مِنْهُنَّ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها يَعْنِي إِلَّا مَا جَرَتِ الْعَادَةُ وَالْجِبِلَّةُ عَلَى ظُهُورِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الظُّهُورُ وَسُومِحَ فِي الزِّينَةِ الْخَفِيفَةِ. أُولَئِكَ الْمَذْكُورُونَ لِمَا كَانُوا مُخْتَصِّينَ بِهِ مِنَ الْحَاجَةِ الْمُضْطَرَّةِ إِلَى مُدَاخَلَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ وَلِقِلَّةِ تَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ مِنْ جِهَاتِهِمْ وَلِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنَ النُّفْرَةِ عَنْ مُمَاسَّةِ الْقَرَائِبِ، وَتَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إِلَى صُحْبَتِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ لِلنُّزُولِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا ظَهَرَ مِنْها هُوَ الثِّيَابُ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الثِّيَابُ، وَقَالَ تَعَالَى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «1» وَفُسِّرَتِ الزِّينَةُ بِالثِّيَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي جَمَاعَةٍ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْوَجْهُ وَالْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْخِضَابُ وَالسُّوَارُ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 31.

وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْخَاتَمُ وَالسِّوَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ فَقَطْ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: هُمَا والسوار. وقال الحسن أيضا: الْخَاتَمُ وَالسِّوَارُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الزِّينَةُ تَقَعُ عَلَى مَحَاسِنِ الْخَلْقِ الَّتِي فَعَلَهَا اللَّهُ وَعَلَى مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ فَضْلِ لِبَاسٍ، فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنْ إِبْدَاءِ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَاسْتَثْنَى مَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَالْوَجْهِ وَالْأَطْرَافِ عَلَى غَيْرِ التَّلَذُّذِ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ إِطْلَاقَ الزِّينَةِ عَلَى الْخِلْقَةِ وَالْأَقْرَبُ دُخُولُهُ فِي الزِّينَةِ وَأَيُّ زِينَةٍ أَحْسَنُ مِنْ خَلْقِ الْعُضْوِ فِي غَايَةِ الِاعْتِدَالِ وَالْحُسْنِ. وَفِي قَوْلِهِ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّينَةَ مَا يَعُمُّ الْخِلْقَةَ وَغَيْرَهَا، مَنَعَهُنَّ مِنْ إِظْهَارِ مَحَاسِنِ خَلْقِهِنَّ فَأَوْجَبَ سَتْرَهَا بِالْخِمَارِ. وَقَدْ يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ظُهُورُهَا عَادَةً وَعِبَادَةً فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ حَسُنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا، وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا: وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» . وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: إِذَا كَانَتْ جَمِيلَةً وَخِيفَ مِنْ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا الْفِتْنَةُ فَعَلَيْهَا سَتْرُ ذَلِكَ، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بِالْأَخْمِرَةِ وَيُسْدِلْنَهَا مِنْ وَرَاءِ الظَّهْرِ فَيَبْقَى النَّحْرُ وَالْعُنُقُ وَالْأُذُنَانِ لَا سِتْرَ عَلَيْهِنَّ وَضَمَّنَ وَلْيَضْرِبْنَ مَعْنَى وَلْيُلْقِينَ وَلْيَضَعْنَ، فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى كَمَا تَقُولُ ضَرَبْتُ بِيَدِي عَلَى الْحَائِطِ إِذَا وَضَعْتَهَا عَلَيْهِ. وَقَرَأَ عَيَّاشُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَلْيَضْرِبْنَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَطَلْحَةُ بِخُمُرِهِنَّ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَهِشَامٌ جُيُوبِهِنَّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْجِيمِ. وَبَدَأَ تَعَالَى بِالْأَزْوَاجِ لِأَنَّ اطِّلَاعَهُمْ يَقَعُ عَلَى أَعْظَمَ مِنَ الزِّينَةِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَحَارِمِ وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي إِبْدَاءِ الزِّينَةِ وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُمْ فِي الْحُرْمَةِ بِحَسَبِ مَا فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، فَالْأَبُ وَالْأَخُ لَيْسَ كَابْنِ الزَّوْجِ فَقَدْ يُبْدَى لِلْأَبِ مَا لَا يُبْدَى لِابْنِ الزَّوْجِ. وَلَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى هُنَا الْعَمَّ وَلَا الْخَالَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ قَالَ: لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا الرَّضَاعُ وَهُوَ كَالنَّسَبِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ «1» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْبُعُولَةَ وَذَكَرَهُمْ هُنَا، وَالْإِضَافَةُ فِي نِسائِهِنَّ إِلَى الْمُؤْمِنَاتِ تَقْتَضِي تَعْمِيمَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ مُسْلِمَةٍ وَكَافِرَةٍ كِتَابِيَّةٍ وَمُشْرِكَةٍ مِنَ اللَّوَاتِي يَكُنَّ فِي صُحْبَةِ الْمُؤْمِنَاتِ وَخِدْمَتِهِنَّ، وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ نِسائِهِنَّ مَخْصُوصٌ بِمَنْ كَانَ عَلَى دينهن.

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 55.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَتَجَرَّدَ بَيْنَ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تُبْدِيَ لِلْكَافِرَةِ إِلَّا مَا تُبْدِي لِلْأَجَانِبِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً لِقَوْلِهِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنِ امْنَعْ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ الْمُؤْمِنَاتِ. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ فَيَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا يَنْظُرُ أُولَئِكَ الْمُسْتَثْنَوْنَ وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَحْتَجِبْنَ عَنْ مُكَاتَبِهِنَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَمْتَشِطُ وَعَبْدُهَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلُهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ: لَا يَنْظُرُ الْعَبْدُ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ آيَةُ النُّورِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِمَاءُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَرْأَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْهَا خَصِيًّا كَانَ أَوْ فَحْلًا. وَعَنْ مَيْسُونَ بِنْتِ بَحْدَلٍ الْكِلَابِيَّةِ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَمَعَهُ خَصِيٌّ فَتَقَنَّعَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: هُوَ خَصِيٌّ فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَةُ أَتَرَى الْمُثْلَةَ تُحَلِّلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ إِمْسَاكُ الْخِصْيَانِ وَاسْتِخْدَامُهُمْ وَبَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِمْسَاكُهُمْ انْتَهَى. وَالْإِرْبَةُ الْحَاجَةُ إِلَى الْوَطْءِ لِأَنَّهُمْ بُلْهٌ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، وَيَتَّبِعُونَ لِأَنَّهُمْ يُصِيبُونَ مِنْ فَضْلِ الطَّعَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ وَالْمُخَنَّثُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي وَالزَّمِنُ الْمَوْقُوذُ بِزَمَانَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ وَعَطَفَ أَوِ الطِّفْلِ عَلَى مِنَ الرِّجالِ قَسَّمَ التَّابِعِينَ غَيْرَ أُولِي الْحَاجَةِ لِلْوَطْءِ إِلَى قِسْمَيْنِ رِجَالٌ وَأَطْفَالٌ، وَالْمُفْرَدُ الْمَحْكِيُّ بِأَلْ يَكُونُ لِلْجِنْسِ فَيَعُمُّ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ يُرِيدُ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَوِ الْأَطْفَالِ. والطِّفْلِ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ وَفِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ أَوِ الْأَطْفَالِ جَمْعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَضَعَ الْوَاحِدَ مَوْضِعَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْجِنْسَ وَيُبَيِّنُ مَا بَعْدَهُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ وَنَحْوُهُ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «1» انْتَهَى. وَوَضْعُ الْمُفْرَدِ مَوْضِعَ الْجَمْعِ لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَإِنَّمَا قَوْلُهُ الطِّفْلِ مِنْ بَابِ الْمُفْرَدِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ كَقَوْلِهِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «2» وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ والتلاوة ثم

_ (1) سورة غافر: 40/ 67. (2) سورة العصر: 103/ 2.

يُخْرِجُكُمْ بِثُمَّ لَا بِالْوَاوِ. وَقَوْلُهُ وَنَحْوُهُ لَيْسَ نَحْوَهُ لِأَنَّ هَذَا مُعَرَّفٌ بِلَامِ الجنس وطفلا نَكِرَةٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ طِفْلًا هُنَا عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَقِيسُهُ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ثُمَّ يُخْرِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «1» أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَكَمَا تَقُولُ: بَنُو فُلَانٍ يُشْبِعُهُمْ رَغِيفٌ أَيْ يُشْبِعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَغِيفٌ. وَقَوْلُهُ لَمْ يَظْهَرُوا إِمَّا مِنْ قَوْلِهِمْ ظَهَرَ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ مَا الْعَوْرَةُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَإِمَّا مِنْ ظَهَرَ عَلَى فُلَانٍ إِذَا قَوِيَ عَلَيْهِ وَظَهَرَ عَلَى الْقِرْنِ أَخَذَهُ. وَمِنْهُ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ «2» أَيْ غَالِبِينَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى لَمْ يَبْلُغُوا أَوَانَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَطْءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَوْراتِ بِسُكُونِ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ لَا يُحَرِّكُونَ الْوَاوِ وَالْيَاءِ فِي نَحْوِ هَذَا الْجَمْعِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَحْرِيكُ وَاوِ عَوْراتِ بِالْفَتْحِ. وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ أَنَّ تَحْرِيكَ الْوَاوِ وَالْيَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ هُوَ لُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ. وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشَ قَرَأَ عَوْراتِ بِالْفَتْحِ. قَالَ: وَسَمِعْنَا ابْنَ مُجَاهِدٍ يَقُولُ: هُوَ لَحْنٌ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ لَحْنًا وَخَطَأً مِنْ قِبَلِ الرِّوَايَةِ وَإِلَّا فَلَهُ مَذْهَبٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ بَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: رَوَضَاتٌ وَجُوَرَاتٌ وَعَوَرَاتٌ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ بِالْإِسْكَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ عَلَى تَخْفِيفِ ذَلِكَ إِلَّا هُذَيْلًا فَتُثْقِلُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ. وَأَنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ: أَبُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأَوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلِهَا لِيَتَقَعْقَعَ خَلْخَالُهَا فَيُعْلَمَ أَنَّهَا ذَاتُ خَلْخَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَرْعُ الْخَلْخَالِ بِالْإِجْرَاءِ وَتَحْرِيكُ الْخَلَاخِلِ عِنْدَ الرِّجَالِ. وَزَعَمَ حَضْرَمِيٌّ أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ خَلْخَالًا مِنْ فِضَّةٍ وَاتَّخَذَتْ جَزْعًا فَجَعَلَتْهُ فِي سَاقِهَا، فَمَرَّتْ عَلَى الْقَوْمِ فَضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الْأَرْضَ فَوَقَعَ الْخَلْخَالُ عَلَى الْجَزْعِ فَصَوَّتَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَمَاعُ صَوْتِ ذِي الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنْ إِبْدَائِهَا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُنَّ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَرَّتْ عَلَى الرِّجَالِ قَدْ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا وَلَا يُشْعَرُ بِهَا: وَهِيَ تَكْرَهُ أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ نَبَّهْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ وَذَلِكَ بِحُبِّهِنَّ فِي تَعَلُّقِ الرِّجَالِ بِهِنَّ، وَهَذَا من خفايا

_ (1) سورة يوسف: 12/ 31. (2) سورة الصف: 61/ 14.

[سورة النور (24) : الآيات 32 إلى 34]

الْإِعْلَامِ بِحَالِهِنَّ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ أَكْثَرُ ضَمَائِرَ مِنْ هَذِهِ، جَمَعَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا لِلْمُؤْمِنَاتِ مِنْ مَخْفُوضٍ وَمَرْفُوعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ إِظْهَارِ صَوْتِ الْحُلِيِّ بَعْدَ مَا نَهَى عَنْ إِظْهَارِ الْحُلِيِّ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ مَوَاقِعِ الْحُلِيِّ أَبْلَغُ. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَمَّا سَبَقَتْ أَوَامِرُ مِنْهُ تَعَالَى وَمَنَاهٍ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا دَائِمًا وَإِنْ ضَبَطَ نَفْسَهُ وَاجْتَهَدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْصِيرٍ أَمَرَ بِالتَّوْبَةِ وَبِتَرَجِّي الْفَلَّاحِ إِذَا تَابُوا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تُوبُوا مِمَّا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَعَلَّكُمْ تَسْعَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَرَأَ ابن عامر أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ويا أَيُّهُ السَّاحِرُ يَا أَيُّهُ الثَّقَلَانِ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً لِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْأَلِفِ، فَلَمَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ بِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ اتَّبَعَتْ حَرَكَتُهَا حَرَكَةَ مَا قَبْلَهَا وضمها الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ بَعْدَ أَيٍّ لُغَةٌ لِبَنِي مَالِكٍ رَهْطِ شقيق ابن سَلَمَةَ، وَوَقَفَ بَعْضُهُمْ بِسُكُونِ الْهَاءِ لِأَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِلَا أَلِفٍ بَعْدَهَا ووقف بعضهم بالألف. [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) لَمَّا تَقَدَّمَتْ أَوَامِرُ وَنَوَاهٍ فِي غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَإِخْفَاءِ الزِّينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ الْمُوجِبُ لِلطُّمُوحِ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى النِّسَاءِ وَمِنَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ هُوَ عَدَمَ التَّزَوُّجِ غَالِبًا لِأَنَّ فِي تَكَالِيفِ النِّكَاحِ وَمَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا يَشْغَلُ أَمَرَ تَعَالَى بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى، وَهُمُ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ مِنَ الصِّنْفَيْنِ حَتَّى يَشْتَغِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا يَلْزَمُهُ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ وَأَنْكِحُوا لِلْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ

عَلَى أَنَّهُ هُنَا لِلنَّدْبِ وَلَمْ يَخْلُ عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصَارِ مِنْ وُجُودِ الْأَيامى وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ وَلَا أَمَرَ الْأَوْلِيَاءَ بِالنِّكَاحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَيامى وَالْيَتَامَى أَصْلُهُمَا أَيَائِمُ وَيَتَائِمُ فَقُلِبَا انْتَهَى. وَفِي التَّحْرِيرِ قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَيَامَى مَقْلُوبُ أَيَائِمَ، وَغَيْرُهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَ أَنَّ أَيِّمًا وَيَتِيمًا جُمِعَا عَلَى أَيَامَى وَيَتَامَى شُذُوذًا يُحْفَظُ وَوَزْنُهُ فَعَالَى، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي أَوَاخِرِ هَذَا بَابُ تَكْسِيرِكَ مَا كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ. وَقَالُوا: وَجٍ وَوَجْيَا كَمَا قَالُوا: زَمِنٌ وَزَمْنَى فَأَجْرَوْهُ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا قَالُوا: يَتِيمُ وَيَتَامَى وَأَيِّمٌ وَأَيَامَى فَأَجْرَوْهُ مَجْرَى رَجَاعَى انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ فِي الْمُفْرَدَاتِ الْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَفِي شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ لِأَبِي بَكْرٍ الْخَفَّافِ: الْأَيِّمُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَأَصْلُهُ فِي الَّتِي كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً فَفَقَدَتْ زَوْجَهَا بَرُزْءٍ طَرَأَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنَ الْبَلَايَا، ثُمَّ قِيلَ فِي الْبِكْرِ مَجَازًا لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا انْتَهَى. مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَمَرَ تَعَالَى بِإِنْكَاحِ مَنْ تَأَيَّمَ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ وَمَنْ فِيهِ صَلَاحٌ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَانْدَرَجَ الْمُؤَنَّثُ فِي الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ وَالصَّالِحِينَ وَخَصَّ الصَّالِحِينَ لِيُحَصِّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَيَحْفَظَ عَلَيْهِمْ صَلَاحَهُمْ، وَلِأَنَّ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَرِقَّاءِ هُمُ الَّذِينَ يُشْفِقُ مَوَالِيهِمْ عَلَيْهِمْ وَيُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَوْلَادِ فِي الْأَثَرَةِ وَالْمَوَدَّةِ، فَكَانُوا مَظِنَّةً لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمْ وَتَقَبُّلِ الْوَصِيَّةِ فِيهِمْ، وَالْمُفْسِدُونَ مِنْهُمْ حَالُهُمْ عِنْدَ مَوَالِيهِمْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَالصَّالِحِينَ أَيْ لِلنِّكَاحِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ مِنْ عَبِيدِكُمْ بِالْيَاءِ مَكَانَ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَمَالِيكِ. وإِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هَذَا مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ «1» . وَاللَّهُ واسِعٌ أَيْ ذُو غِنًى وَسَعَةٍ، يَبْسُطُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ عَلِيمٌ بِحَاجَاتِ النَّاسِ، فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا قُدِّرَ مِنَ الرِّزْقِ. وَلْيَسْتَعْفِفِ أَيْ لِيَجْتَهِدْ فِي الْعِفَّةِ وَصَوْنِ النَّفْسِ وَهُوَ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى طَلَبَ الْعِفَّةَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَمَلَهَا عَلَيْهَا، وَجَاءَ الْفَكُّ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ قرأ وليستعف بِالْإِدْغَامِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً. قِيلَ النِّكَاحُ هُنَا اسْمُ مَا يُمْهَرُ وَيُنْفَقُ فِي الزَّوَاجِ كَاللِّحَافِ وَاللِّبَاسِ لِمَا يُلْتَحَفُ بِهِ وَيُلْبَسُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَالْمَأْمُورُ بِالِاسْتِعْفَافِ هُوَ مَنْ عَدِمَ الْمَالَ الَّذِي يَتَزَوَّجُ بِهِ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِيَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ لِقَوْلِهِ قَبْلُ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 28.

وَمَعْنَى لَا يَجِدُونَ نِكاحاً أَيْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِعْفَافِ كُلَّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ وَلَا يَجِدُهُ بِأَيِّ وَجْهِ تَعَذُّرٍ، ثُمَّ أَغْلَبُ الْمَوَانِعِ عَنِ النكاح عدم المال وحَتَّى يُغْنِيَهُمُ تَرْجِئَةٌ لِلْمُسْتَعْفِفِينَ وَتَقْدِمَةٌ لِلْوَعْدِ بِالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ، فَالْمَعْنَى لِيَكُونَ انْتِظَارُ ذَلِكَ وَتَأْمِيلُهُ لُطْفًا فِي اسْتِعْفَافِهِمْ وَرَبْطًا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَمَا أَحْسَنَ مَا تَرَتَّبَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ حَيْثُ أَمَرَ أَوَّلًا بِمَا يَعْصِمُ عَنِ الْفِتْنَةِ وَيُبْعِدُ عَنْ مُوَاقَعَةِ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ غَضُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ بِالنِّكَاحِ الَّذِي يُحَصَّنُ بِهِ الدِّينُ وَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْحَلَالِ عَنِ الْحَرَامِ، ثُمَّ بِالْحَمْلِ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَعَزْفِهَا عَنِ الطُّمُوحِ إِلَى الشَّهْوَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ النِّكَاحِ إِلَى أَنْ يُرْزَقَ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَهُوَ حَسَنٌ، وَلَمَّا بَعَثَ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ رَغَّبَهُمْ فِي أَنْ يُكَاتِبُوهُمْ إِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ لِيَصِيرُوا أَحْرَارًا فَيَتَصَرَّفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أَيِ الْمُكَاتَبَةَ كَالْعِتَابِ وَالْمُعَاتَبَةِ. مِمَّا مَلَكَتْ يَعُمُّ المماليك الذكور والإناث. والَّذِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، وَالْفَاءُ دَخَلَتْ فِي الْخَبَرِ لِمَا تَضَمَّنَ الْمَوْصُولُ مِنْ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ لِأَنَّهُ يَجُوزَ أَنْ تَقُولَ زَيْدًا فَاضْرِبْ، وَزَيْدًا اضْرِبْ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْفَاءُ كَانَ التَّقْدِيرُ بِنِيَّةِ فَاضْرِبْ زَيْدًا فَالْفَاءُ فِي جَوَابِ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ، وَهَذَا يُوَضَّحُ فِي النَّحْوِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ مُكَاتَبَةً لِمَا يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ عَلَى السَّيِّدِ مِنَ الْعِتْقِ إِذَا أَدَّى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، وَمَا يُكْتَبُ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ النُّجُومِ الَّتِي يُؤَدِّيهَا، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْمُكَاتَبَةِ لِقَوْلِهِ فَكاتِبُوهُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ والضحاك وَابْنِ سِيرِينَ وَدَاوُدَ، وَظَاهِرُ قَوْلِ عُمَرَ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَنَسٍ حِينَ سَأَلَ سِيرِينُ الْكِتَابَةَ فَتَلَكَّأَ أَنَسٌ كَاتَبَهُ، أَوْ لَأَضْرِبَنَّكَ بِالدِّرَّةِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ وَصِيغَتُهَا كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا، وَيُعَيِّنُ مَا كَاتَبَهُ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَنْجِيمٌ وَلَا حُلُولٌ بَلْ يَكُونُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا وَمُنَجَّمًا وَغَيْرَ مُنَجَّمٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْجُمٍ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: إِذَا كَاتَبَ عَلَى مَالٍ مُعَجَّلٍ كَانَ عِتْقًا عَلَى مَالٍ وَلَمْ تَكُنْ كِتَابَةً، وَأَجَازَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْكِتَابَةَ الْحَالِيَّةَ وَسَمَّاهَا قِطَاعَةً. وَالْخَيْرُ الْمَالِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ، أَوِ الْحِيلَةُ الَّتِي تَقْتَضِي الْكَسْبَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَوِ الدِّينُ قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ قَالَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، أَوِ الصِّدْقُ وَالْوَفَاءُ وَالْأَمَانَةُ قَالَهُ الْحَسَنُ

وَإِبْرَاهِيمُ أَوْ إِرَادَةُ خَيْرٍ بِالْكِتَابَةِ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَمَانَةُ وَالْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ الدِّينُ يَقُولُ: فُلَانٌ فِيهِ خَيْرٌ فَلَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ إِلَّا الصَّلَاحُ، وَالْأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا لَمْ تَكُنِ الْكِتَابَةُ مَطْلُوبَةً بِقَوْلِهِ فَكاتِبُوهُمْ وَالظَّاهِرُ فِي وَآتُوهُمْ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْمُكَاتِبِينَ وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟ وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثَ الْكِتَابَةِ وَعَلِيٌّ رُبْعَهَا، وقتادة عُشْرَهَا. وَقَالَ عُمَرُ: مِنْ أَوَّلِ نُجُومِهِ مُبَادَرَةً إِلَى الْخَيْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ آخِرِ نَجْمٍ. وَقَالَ بُرَيْدَةُ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْمُقَاتِلَانِ: أَمَرَ النَّاسَ جَمِيعًا بِمُوَاسَاةِ الْمَكَاتَبِ وَإِعَانَتِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْخِطَابُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ حَقَّهُمْ وَهُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ وَفِي الرِّقابِ. وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ الْحَطَّ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ الْعَرَبِيَّةُ ضَعُوا عَنْهُمْ أَوْ قَاصُّوهُمْ، فَلَمَّا قَالَ وَآتُوهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الزَّكَاةِ إِذْ هِيَ مُنَاوَلَةٌ وَإِعْطَاءٌ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِإِعْطَاءٍ وَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ كَانَ سَبِيلَهُ الصَّدَقَةُ. وَقَوْلُهُ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ هُوَ مَا ثَبَتَ مِلْكُهُ لِلْمَالِكِ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بَدَيْنٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ صَحِيحٌ، وَأَيْضًا مَا آتَاهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ فِي يَدِهِ وَيَمْلِكُهُ وَمَا يُسْقِطُهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَا يَحْصُلُ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ الصِّفَةَ بِأَنَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُ. وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ جارية لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا أُمَيْمَةُ كَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَا، فَشَكَيَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ سِتٌّ مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَأَرْوَى وَقُتَيْلَةُ جَاءَتْهُ إِحْدَاهُنَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِدِينَارٍ وَأُخْرَى بِبُرْدٍ، فَقَالَ لَهُمَا ارْجِعَا فَازْنِيَا، فَقَالَتَا: وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَحَرَّمَ الزِّنَا، فَأَتَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَتَا فَنَزَلَتْ وَالْفَتَاةُ الْمَمْلُوكَةُ وَهَذَا خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَيُؤَكِّدُ أَنْ يَكُونَ وَآتُوهُمْ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا مَشْرُوطٌ بِإِرَادَةِ التَّعَفُّفِ مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِكْرَاهُ إِلَّا مَعَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُرِيدَةً لِلزِّنَا فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ. وَكَلِمَةُ إِنْ وَإِيثَارُهَا عَلَى إِذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُسَافِحَاتِ كُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ بِرَغْبَةٍ وَطَوَاعِيَةٍ مِنْهُنَّ، وَأَنَّ مَا وُجِدَ مِنْ مُعَاذَةَ وَمُسَيْكَةَ مِنْ خَبَرِ الشَّاذِّ النَّادِرِ. وَقَدْ

ذَهَبَ هَذَا النَّظَرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنْ أَرَدْنَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَفَصْلٌ كَثِيرٌ، وَأَيْضًا فَالْأَيَامَى يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَكَانَ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ التَّرْكِيبُ: إِنْ أَرَادُوا تَحَصُّنًا فَيُغَلَّبُ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الشَّرْطُ مُلْغًى. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هَذَا شَرْطٌ فِي الظَّاهِرِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَمَعَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ خَيْرًا صَحَّتِ الْكِتَابَةُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: جَاءَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ لِتَفْحِيشِ الْإِكْرَاهِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ فَوَقَعَ النَّهْيُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ انتهى. وعَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا هُوَ مَا يَكْسِبْنَهُ بِالزِّنَا. وَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّقْدِيرَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ لِيَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مِنَ الَّذِينَ هُوَ اسْمُ الشَّرْطِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِالتَّوْبَةِ. وَلَمَّا غَفَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ قَدَّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ أَيْ لِلْمُكْرَهَاتِ، فَعَرِيَتْ جُمْلَةُ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى اسم الشَّرْطِ. وَقَدْ ضَعَّفَ مَا قُلْنَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فَقَالَ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُزِيلُ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ مِنَ الْمُكْرَهِ فِيمَا فَعَلَ، وَالثَّانِي: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلْمُكْرَهِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ لِهَذَا الْإِضْمَارِ. وَعَلَى الثَّانِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَكَلَامُهُمْ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُمْعِنِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ إِكْراهِهِنَّ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ مَعَ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَحْذُوفُ كَالْمَلْفُوظِ وَالتَّقْدِيرُ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِمْ إِيَّاهُنَّ وَالرَّبْطُ يَحْصُلُ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ فَلْتُجِزِ الْمَسْأَلَةَ قُلْتُ: لَمْ يَعُدُّوا فِي الرَّوَابِطِ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ، تَقُولُ: هِنْدٌ عَجِبْتُ مَنْ ضَرْبِهَا زَيْدًا فَتَجُوزُ الْمَسْأَلَةُ، وَلَوْ قُلْتَ هِنْدٌ عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبٍ زَيْدًا لَمْ تَجُزْ. وَلَمَّا قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالا فَإِنْ قُلْتَ: لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيقِ الْمَغْفِرَةِ بِهِنَّ لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ آثِمَةٍ قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ دُونَ مَا اعْتَبَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ إِكْرَاهٍ بِقَتْلٍ أَوْ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ أَوْ ذَهَابُ الْعُضْوِ مِنْ ضَرْبٍ عَنِيفٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنَ الْإِثْمِ، وَرُبَّمَا قَصَّرَتْ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي تُعْذَرُ فِيهِ فَتَكُونُ آثِمَةً انْتَهَى. وَهَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مَبْنِيَّانِ عَلَى تَقْدِيرِ لَهُنَّ. وَقَرَأَ مُبَيِّناتٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ أَيْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأَوْضَحَ آيَاتٍ تَضَمَّنَتْ أَحْكَامًا وَحُدُودًا وَفَرَائِضَ، فَتِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُبَيِّنًا فِيهَا ثُمَّ اتَّسَعَ فَيَكُونُ الْمُبَيِّنُ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَهَا. وَهِيَ ظَرْفٌ لِلْمُبِينِ. وَقَرَأَ

[سورة النور (24) : الآيات 35 إلى 38]

بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ بِكَسْرِ الْيَاءِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً أَيْ مُبَيِّناتٍ غَيْرَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، فَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَيْهَا مَجَازًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَا تَتَعَدَّى أَيْ بَيِّنَاتٌ فِي نَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى مُوَضِّحٍ بَلْ هِيَ وَاضِحَةٌ لِقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ. قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ. أَيْ قَدْ ظَهَرَ وَوَضَحَ. وَقَوْلُهُ وَمَثَلًا مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ قِصَّةً غَرِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ فِي بَرَاءَتِهِمَا لِبَرَاءَةِ مَنْ رُمِيَتْ بِحَدِيثِ الْإِفْكِ لِيَنْظُرُوا قُدْرَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَصُنْعِهِ فِيهِ فَيَعْتَبِرُوا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، فَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ شَبَهًا مِنْ حَالِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ أَيْ بَيَّنَّا لَكُمْ مَا أَحْلَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ لِتَمَرُّدِهِمْ، فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مَثَلًا لَكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِذَا شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أَيْ مَا وَعَظَ فِي الْآيَاتِ وَالْمَثَلِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ «1» ولَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً «2» وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بالموعظة. [سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) النُّورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الضَّوْءُ الْمُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، فَإِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ كَرَمٌ وَجُودٌ وَإِسْنَادُهُ عَلَى اعْتِبَارَيْنِ، إِمَّا عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ منوّر السموات وَالْأَرْضِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَبْدِ العزيز المكي

_ (1) سورة النور: 24/ 2. (2) سورة النور: 24/ 17.

وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَثَابِتِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ وَالْقَوْرَصِيِّ وَمَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ نُورُ فِعْلًا ماضيا والْأَرْضِ بِالنَّصْبِ. وَإِمَّا عَلَى حَذْفٍ أَيْ ذُو نُورٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ مَثَلُ نُورِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ نُورًا عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، كَمَا قَالُوا فُلَانٌ شَمْسُ الْبِلَادِ وَنُورُ الْقَبَائِلِ وَقَمَرُهَا، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبٌ وَقَالَ: قَمَرُ القبائل خالد بن زيد وَقَالَ: إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوَ لَيْلَةً ... فَقَدْ سَارَ مِنْهَا بَدْرُهَا وَجَمَالُهَا وَيُرْوَى نُورُهَا، وَأَضَافَ النُّورَ إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لدلالة عَلَى سِعَةِ إِشْرَاقِهِ وَفُشُوِّ إِضَاءَتِهِ حَتَّى يُضِيءَ لَهُ السموات وَالْأَرْضُ، أَوْ يُرَادُ أَهْلُ السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَضِيئُونَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُورُ السَّماواتِ أَيْ هَادِي أَهْلِ السموات. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُدَبِّرُ أُمُورِ السموات. وقال الحسن: منور السموات. وَقَالَ أُبَيٌّ: اللَّهُ بِهِ نور السموات أو منه نور السموات أَيْ ضِيَاؤُهَا. وَقَالَ أَبُو العالية: مزين السموات بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَمُزَيِّنُ الْأَرْضِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: الْمُنَزِّهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ امْرَأَةً نَوَارِ بَرِيئَةً مِنَ الرِّيبَةِ وَالْفَحْشَاءِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هُوَ الَّذِي يَرَى وَيُرَى بِهِ مَجَازٌ وُصِفَ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّهُ يُرَى وَيَرَى بِسَبَبِهِ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَثَلُ نُورِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ مَا الْمُرَادُ بِالنُّورِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَعَالَى. فَقِيلَ: الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ «1» وَقِيلَ: الْإِيمَانُ الْمَقْذُوفُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: النُّورُ هُنَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: النُّورُ هُنَا الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الضَّمِيرُ في لِنُورِهِ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أي مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أُبَيٌّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَفِي قِرَاءَتِهِ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ. وَرُوِيَ أَيْضًا فِيهَا مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ عَادَ فِيهَا الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَنَقَلْتُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ

_ (1) سورة النور: 24/ 34.

بِالْآيَةِ بِخِلَافِ عَوْدِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ مَكِّيٌّ يُوقَفُ عَلَى وَالْأَرْضِ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَهْوَ تَشْبِيهُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ لَا يُقْصَدُ فِيهَا إِلَى تَشْبِيهِ جُزْءٍ بِجُزْءٍ وَمُقَابَلَةِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ مِمَّا قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ أَيْ مَثَلُ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ هُدَاهُ وَإِتْقَانُهُ صَنْعَةَ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَبَرَاهِينُهُ السَّاطِعَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ كَهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ النُّورِ الَّذِي تَتَّخِذُونَهُ أَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ صِفَاتِ النُّورِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ، أَيْ مَثَلُ نُورِ اللَّهِ فِي الْوُضُوحِ كَهَذَا الَّذِي هُوَ مُنْتَهَاكُمْ أَيُّهَا الْبَشَرُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُفَصَّلِ الْمُقَابَلِ جُزْءًا بِجُزْءٍ، وَقَرَّرُوهُ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَيْ مَثَلُ نُورِهِ فِي مُحَمَّدٍ أَوْ فِي الْمُؤْمِنِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ كَمِشْكاةٍ فَالْمِشْكَاةُ هُوَ الرَّسُولُ أَوْ صَدْرُهُ والْمِصْباحُ هُوَ النُّبُوَّةُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ عِلْمِهِ وَهُدَاهُ والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ. وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ الْوَحْيُ وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَشَبَّهَ الْفَصْلَ بِهِ بِالزَّيْتِ وَهُوَ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ وَالْآيَاتُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْوَحْيُ وَعَلَى قَوْلِ الْمُؤْمِنِ فَالْمِشْكَاةُ صَدْرُهُ والْمِصْباحُ الأيمان والعلم. والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ وَالشَّجَرَةُ الْقُرْآنُ وَزَيْتُهَا هُوَ الْحُجَجُ وَالْحِكْمَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا. قَالَ أُبَيٌّ: فَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ الْحَالِ يَمْشِي فِي النَّاسِ كَالرَّجُلِ الْحَيِّ يَمْشِي فِي قُبُورِ الْأَمْوَاتِ، وَعَلَى قَوْلِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ أَيْ مَثَلُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ كَمِشْكاةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ التَّشْبِيهِ كَالْأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّ الْمِشْكَاةَ لَيْسَتْ تُقَابِلُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أي صفة لِنُورِهِ لَعَجِيبَةُ الشَّأْنِ فِي الْإِضَاءَةِ كَمِشْكاةٍ أَيْ كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ كَمِشْكاةٍ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَثَلُ نُورِهِ مَثَلُ نُورِ مِشْكَاةٍ وَتَقَدَّمَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ الْمِشْكَاةَ هِيَ الْكُوَّةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ عِيَاضٍ وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: الْمِشْكَاةُ الْحَدِيدَةُ وَالرَّصَاصَةُ الَّتِي تَكَوَّنَ فِيهَا الْفَتِيلُ فِي جَوْفِ الزُّجَاجَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمِشْكَاةُ الْعَمُودُ الَّذِي يَكُونُ الْمِصْبَاحُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ أَيْضًا الْحَدَائِدُ الَّتِي تُعَلَّقُ فِيهَا الْقَنَادِيلُ. فِيها مِصْباحٌ أَيْ سِرَاجٌ ضَخْمٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزُّجاجَةُ ظَرْفٌ لِلْمِصْبَاحِ لِقَوْلِهِ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي زُجَاجٍ شَامِيٍّ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَصْفَى الزُّجَاجِ هُوَ الشَّامِيُّ وَلَمْ يُقَيَّدْ فِي الْآيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ بِكَسْرِ الزَّايِ فِيهِمَا، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُجَاهِدٍ بِفَتْحِهَا. كَأَنَّها أَيْ كَأَنَّ الزُّجَاجَةَ لِصَفَاءِ جَوْهَرِهَا وَذَاتِهَا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْإِنَارَةِ، وَلِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ نُورِ الْمِصْبَاحِ.

كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الزُّهَرَةُ شَبَّهَ الزُّجَاجَةَ فِي زُهْرَتِهَا بِأَحَدِ الدَّرَارِيِّ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْمَشَاهِيرِ، وَهِيَ الْمُشْتَرِي، وَالزُّهَرَةُ، وَالْمِرِّيخُ، وَسُهَيْلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَابْنُ كَثِيرٍ دُرِّيٌّ بِضَمِّ الدَّالِّ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ نِسْبَةُ الْكَوْكَبِ إِلَى الدُّرِّ لِبَيَاضِهِ وَصَفَائِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزَ فَأُبْدِلَ وَأُدْغِمَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالضَّحَّاكُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا فَتَحَا الدَّالَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ وَأَبِي رَجَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الدَّالَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ هَمَزَ مِنَ الدَّرْءِ بِمَعْنَى الدَّفْعِ، أَيْ يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَوْ يَدْفَعُ ضوؤها خَفَاءَهَا وَوَزْنُهَا فُعِّيلٌ. قِيلَ: وَلَا يُوجَدُ فُعِّيلٌ إِلَّا قَوْلُهُمْ مُرِّيقٌ لِلْعُصْفُرِ وَدُرِّيءٌ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. قِيلَ: وَسُرِّيَّةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّرُورِ، وَأُبْدِلَ مِنْ أَحَدِ الْمُضَعَّفَاتِ الْيَاءُ فَأُدْغِمَتْ فِيهَا يَاءُ فُعِّيلٍ، وَسُمِعَ أَيْضًا مُرِّيخٌ لِلَّذِي فِي دَاخِلِ الْقَرْنِ الْيَابِسِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا. وَقِيلَ: مِنْهُ عُلِّيَّةٌ. وَقِيلَ: دُرِّيٌّ وَوَزْنُهُ فِي الْأَصْلِ فُعُّولٌ كَسُبُّوحٍ فَاسْتُثْقِلَ الضَّمُّ فَرُدَّ إِلَى الْكَسْرِ، وَكَذَا قِيلَ فِي سُرَّتِهِ وَدُرَّتِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الدَّالَ وَهُوَ بِنَاءٌ كَثِيرٌ فِي الْأَسْمَاءِ نَحْوُ سِكِّينٍ وَفِي الْأَوْصَافِ سِكِّيرٌ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ أَيْضًا وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ وَالْأَعْمَشُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِفَتْحِ الدَّالِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهَذَا عَزِيزٌ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ إِلَّا السَّكِّينَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَشَدِّ الْكَافِ انْتَهَى. وَفِي الْأَبْنِيَةِ حَكَى الْأَخْفَشُ كَوْكَبٌ دَرِّيءٌ مِنْ دَرَأْتُهُ وَدَرِّيَّةٌ وَعَلَيْكَ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ تُوقَدُ بِضَمِّ التَّاءِ أَيِ الزُّجاجَةُ مُضَارِعُ أُوقِدَتْ مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ أَيِ الْمِصْباحُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو تَوَقَّدَ بِفَتْحِ الْأَرْبَعَةِ فِعْلًا مَاضِيًا أَيِ الْمِصْباحُ. وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وقتادة وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَسَلَامٌ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الدَّالِ مُضَارِعُ تَوَقَّدُ وَأَصْلُهُ تَتَوَقَّدُ أَيِ الزُّجاجَةُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وُقِّدَ بِغَيْرِ تَاءٍ وَشَدَّدَ الْقَافَ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا أَيْ وُقِّدَ الْمِصْبَاحُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَقَتَادَةُ وَسَلَامٌ أَيْضًا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَأَصْلُهُ يَتَوَقَّدُ أَيِ الْمِصْباحُ إِلَّا أَنَّ حَذْفَ الْيَاءِ فِي يَتَوَقَّدُ مَقِيسٌ لِدَلَالَةِ مَا أُبْقِيَ عَلَى مَا حُذِفَ. وَفِي يُوقَدُ شَاذٌّ جِدًّا لِأَنَّ الْيَاءَ الْبَاقِيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّاءِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى يَعِدُ إِذْ حُمِلَ يَعِدُ وَتَعِدُ وَأَعِدُ فِي حَذْفِ

الواو كذلك هذ لَمَّا حَذَفُوا مِنْ تَتَوَقَّدُ بِالتَّاءَيْنِ حَذَفُوا التَّاءَ مَعَ الْيَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اجْتِمَاعُ التَّاءِ وَالْيَاءِ مُسْتَثْقَلًا. مِنْ شَجَرَةٍ أَيْ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ، وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ. مُبارَكَةٍ كَثِيرَةِ الْمَنَافِعِ أَوْ لِأَنَّهَا تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: بَارَكَ فِيهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالزَّيْتُونُ مِنْ أَعْظَمِ الشَّجَرِ ثَمَرًا وَنَمَاءً وَاطِّرَادَ أَفْنَانٍ وَنَضَارَةَ أَفْنَانٍ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا ... بُورِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مِنْ شَجَرِ الشَّامِ فَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وَلَا مِنْ غَرْبِهَا، لِأَنَّ شَجَرَ الشَّامِ أَفْضَلُ الشَّجَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ فِي مُنْكَشَفٍ مِنَ الْأَرْضِ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ طُولَ النَّهَارِ تَسْتَدِيرُ عَلَيْهَا، فَلَيْسَتْ خَالِصَةً لِلشَّرْقِ فَتُسَمَّى شَرْقِيَّةٍ، وَلَا لِلْغَرْبِ فَتُسَمَّى غَرْبِيَّةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ وَلَيْسَتْ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا إِذْ لَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا فِي دَرَجَةٍ أَحَاطَتْ بِهَا فَلَيْسَتْ مُنْكَشِفَةً لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَسَدَ جَنَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهَا فِي وَسَطِ الشَّجَرِ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ طَالِعَةً وَلَا غَارِبَةً، بَلْ تُصِيبُهَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الشَّجَرَةُ مَثَلٌ أَيْ إِنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ لَيْسَتْ بِيَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ. وَقِيلَ: مِلَّةُ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِشَدِيدَةٍ وَلَا لَيِّنَةٍ. وَقِيلَ: لَا مَضْحًى وَلَا مَفْيَأَةً، وَلَكِنَّ الشَّمْسَ وَالظِّلَّ يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَجْوَدُ لحملها وأصفى لدهنها. وزَيْتُونَةٍ بَدَلٌ مِنْ شَجَرَةٍ وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَعَارِفِ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ وَتَبِعَهُمُ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي النَّكِرَاتِ. ولا شَرْقِيَّةٍ وَلا عَلَى غَرْبِيَّةٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْخَفْضِ صِفَةً لِزَيْتُونَةٍ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بِالرَّفْعِ أَيْ لَا هِيَ شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ مُبَالَغَةٌ فِي صَفَاءِ الزَّيْتِ وَأَنَّهُ لِإِشْرَاقِهِ وَجَوْدَتِهِ يَكَادُ يُضِيءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ حَالِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُضِيءُ

لِانْتِفَاءِ مَسِّ النَّارِ لَهُ، وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ هَذَا الْعَطْفَ إِنَّمَا يَأْتِي مُرَتَّبًا لِمَا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِامْتِنَاعِ التَّرْتِيبِ فِي الْعَادَةِ وَلِلِاسْتِقْصَاءِ حَتَّى يَدْخُلَ مَا لَا يُقَدَّرُ دُخُولُهُ فِيمَا قَبْلَهُ نَحْوُ: «اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ، رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَمْسَسْهُ بِالتَّاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَحَسَّنَهُ الْفَصْلُ وَأَنَّ تَأْنِيثَ النَّارِ مَجَازِيٌّ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ بِغَيْرِ عَلَامَةٍ. نُورٌ عَلى نُورٍ أَيْ مُتَضَاعِفٌ تَعَاوَنَ عَلَيْهِ الْمِشْكَاةُ وَالزُّجَاجَةُ وَالْمِصْبَاحُ وَالزَّيْتُ، فَلَمْ يَبْقَ مِمَّا يُقَوِّي النُّورَ وَيَزِيدُهُ إِشْرَاقًا شَيْءٌ لِأَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ كَانَ أَجْمَعَ لِنُورِهِ بِخِلَافِ الْمَكَانِ الْمُتَّسِعِ، فَإِنَّهُ يَنْشُرُ النُّورَ، وَالْقِنْدِيلُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى زِيَادَةِ النُّورِ وَكَذَلِكَ الزَّيْتُ وَصَفَاؤُهُ، وَهُنَا تَمَّ الْمِثَالُ. ثُمَّ قَالَ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ لِهُدَاهُ وَالْإِيمَانِ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ وَيَصْطَفِيهِ لَهَا. وَمَنْ فَسَّرَ النُّورَ فِي مَثَلُ نُورِهِ بِالنُّبُوَّةِ قَدَّرَ يَهْدِي اللَّهُ إِلَى نُبُوَّتِهِ. وَقِيلَ: إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لِيَقَعَ لَهُمُ الْعِبْرَةُ وَالنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ فَهُوَ يَضَعُ هُدَاهُ عِنْدَ مَنْ يَشَاءُ. فِي بُيُوتٍ مُتَعَلِّقٌ بَيُوقَدُ قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ كَمِشْكاةٍ أَيْ كَمِشْكَاةٍ فِي بُيُوتٍ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ كَمِشْكاةٍ فِي بَعْضِ بُيُوتِ اللَّهِ وهي المساجد. قال مَثَلُ نُورِهِ كَمَا تَرَى فِي الْمَسْجِدِ نُورَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُ إِلَى آخِرِهِ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمِصْبَاحٍ أَيْ مِصْبَاحٌ فِي بُيُوتٍ قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِزُجَاجَةٍ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ عَلِيمٌ. وَقِيلَ: فِي بُيُوتٍ مُسْتَأْنَفٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ يُسَبِّحُ حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَقَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ تعلقه بكمشكاة قَالَ: أَوْ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ يُسَبِّحُ أَيْ يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ وَفِيهَا تَكْرِيرٌ كَقَوْلِكَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ جَالِسٌ فِيهَا أَوْ بِمَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ فِي تِسْعِ آياتٍ «1» أَيْ سَبَّحُوا فِي بُيُوتٍ انْتَهَى. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ عَلِيمٌ وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي بُيُوتٍ بِقَوْلِهِ يُسَبِّحُ وَإِنَّ ارْتِبَاطَ هَذِهِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَهْدِي لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ذَكَرَ حَالَ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ لِذَلِكَ النُّورِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَشْرَفَ عِبَادَتِهِمُ الْقَلْبِيَّةِ وَهُوَ تَنْزِيهُهُمُ اللَّهَ عَنِ النَّقَائِصِ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ أَوْصَافِهِمْ مِنِ الْتِزَامِ ذِكْرِ الله

_ (1) سورة النمل: 27/ 12.

وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَخَوْفِهِمْ مَا يَكُونُ فِي الْبَعْثِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ مُقَابِلُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَكَأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَتِ الْهِدَايَةُ لِلنُّورِ جَاءَ فِي التَّقْسِيمِ لِقَابِلِ الْهِدَايَةِ وَعَدَمِ قَابِلِهَا، فَبُدِئَ بِالْمُؤْمِنِ وَمَا تَأَثَّرَ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهُدَى ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي بُيُوتٍ أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُهُ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُرِيدَ بِهِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَسُمِّيَ بُيُوتًا مِنْ حَيْثُ فِيهِ مَوَاضِعُ يَتَحَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَيُؤْثَرُ أَنَّ عَادَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَقِيدِهِ فِي غَايَةِ التَّهَمُّمِ وَالزَّيْتُ مَخْتُومٌ عَلَى ظُرُوفِهِ وَقَدْ صُنِعَ صَنْعَةً وَقُدِّسَ حَتَّى لَا يَجْرِيَ الْوَقِيدُ بِغَيْرِهِ، فَكَانَ أَضْوَأَ بُيُوتِ الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي بُيُوتٍ مُطْلَقٌ فَيَصْدُقُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بُيُوتُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تُنَوَّرَ بِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْمَصَابِيحِ. وَقِيلَ: الْكَعْبَةُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ. وَقِيلَ: بُيُوتُ الْأَنْبِيَاءِ. وَيُقَوِّي أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ قَوْلُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَإِذْنُهُ تَعَالَى وَأَمْرُهُ بِأَنْ تُرْفَعَ أَيْ يَعْظُمَ قَدْرُهَا قَالَهُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: تُبْنَى وَتُعَلَّى مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ «2» . وَقِيلَ: تُرْفَعَ تَطْهُرَ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْمَعَاصِي. وَقِيلَ: تُرْفَعَ أَيْ تُرْفَعَ فِيهَا الْحَوَائِجُ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: تُرْفَعَ الْأَصْوَاتُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ظَاهِرُهُ مُطْلَقُ الذِّكْرِ فَيَعُمُّ كُلَّ ذِكْرٍ عُمُومَ الْبَدَلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَوْحِيدُهُ وَهُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَعَنْهُ: يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ. وَقِيلَ: أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى. وَقِيلَ: يُصَلَّى فِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَبِّحُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَبِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو حَيْوَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْبُحْتُرِيُّ عَنْ حَفْصٍ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو والمهال عَنْ يَعْقُوبَ وَالْمُفَضَّلِ وَأَبَانَ بِفَتْحِهَا وَبِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ وَأَحَدُ الْمَجْرُورَاتِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لم يسم فَاعِلُهُ، وَالْأَوْلَى الَّذِي يَلِي الْفِعْلَ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ لِلْمَرْفُوعِ أَقْوَى مِنْ طَلَبِهِ لِلْمَنْصُوبِ الْفَضْلَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: تُسَبِّحُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَفَتْحِ الْبَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهَا أَنْ تُسْنَدَ إِلَى أَوْقَاتِ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ، وَتُجْعَلَ الأوقات مسبحة. والمراد بها كَصِيدَ عَلَيْهِ يَوْمَانِ وَالْمُرَادُ وَحْشُهُمَا انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ

_ (1) سورة النور: 24/ 39. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 127.

يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ضَمِيرَ التَّسْبِيحَةِ الدَّالَّ عَلَيْهِ تُسَبِّحُ أَيْ تُسَبَّحُ لَهُ هِيَ أَيِ التَّسْبِيحَةُ كَمَا قَالُوا لِيَجْزِيَ قَوْماً «1» فِي قِرَاءَةِ مَنْ بَنَاهُ لِلْمَفْعُولِ أَيْ لِيُجْزَى هُوَ أَيِ الْجَزَاءُ. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: وَالْإِيصَالُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ وَارْتَفَعَ رِجالٌ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ يُسَبِّحُ أَوْ يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ. وَاخْتُلِفَ فِي اقْتِيَاسِ هَذَا، فَعَلَى اقْتِيَاسِهِ نَحْوُ ضَرَبَتْ هِنْدَ زَيْدٌ أَيْ ضَرَبَهَا زَيْدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف أي الْمُسَبِّحُ رِجَالٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَالْمُرَادِ بِهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَصْفَ الْمُسَبِّحِينَ بِأَنَّهُمْ لِمُرَاقَبَتِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ وَطَلَبِهِمْ رِضَاهُ لَا يَشْتَغِلُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا تِجَارَةَ لَهُمْ وَلَا بَيْعَ فَيُلْهِيَهُمْ عَنْ ذِكْرِ الله كقوله: على لا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ ذَوُو تِجَارَةٍ وَبَيْعٍ وَلَكِنْ لَا يَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ مُغَايَرَةُ التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، فَأَرَادَ بِالتِّجَارَةِ الشِّرَاءَ وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ يُرَادُ تِجَارَةُ الْجَلَبِ وَيُقَالُ: تَجَرَ فُلَانٌ فِي كَذَا إِذَا جَلَبَهُ وَبِالْبَيْعِ الْبَيْعَ بِالْأَسْوَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلا بَيْعٌ مِنْ ذِكْرِ خَاصٍّ بَعْدَ عَامٍّ، لِأَنَّ التِّجَارَةُ هِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ طَلَبًا لِلرِّبْحِ. وَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْخَاصِّ لِأَنَّهُ فِي الْإِلْهَاءِ أَدْخَلُ مِنْ قِبَلِ أَنِ التَّاجِرَ إِذَا اتَّجَهَتْ لَهُ بَيْعَةٌ رَابِحَةٌ وَهِيَ طِلْبَتُهُ الْكُلِّيَّةُ مِنْ صِنَاعَتِهِ أَلْهَتْهُ مَا لَا يُلْهِيهِ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ فِيهِ الرِّبْحُ لِأَنَّ هذا يقين وذاك مطنون. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّاءُ فِي إِقَامَةٍ عِوَضٌ مِنَ الْعَيْنِ السَّاقِطَةِ لِلْإِعْلَالِ وَالْأَصْلُ إِقْوَامٌ، فَلَمَّا أُضِيفَتْ أُقِيمَتِ الْإِضَافَةُ مُقَامَ حَرْفِ التَّعْوِيضِ فَأُسْقِطَتْ ونحوه: وَأَخْلَفُوكَ عِدَّ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ من أَنَّ التَّاءَ سَقَطَتْ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ التَّاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا لَا تَسْقُطُ لِلْإِضَافَةِ وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى وَإِقامِ الصَّلاةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَصَدْرُ الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَ عَجُزَهُ قَوْلُهُ:

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 14.

[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 40]

إِنَّ الْخَلِيطُ أَجَدُّوا الْبَيْنَ فَانْجَرَدُوا وَقَدْ تَأَوَّلَ خَالِدُ بْنُ كُلْثُومٍ قَوْلَهُ عِدَا الْأَمْرِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ عُدْوَةٍ، وَالْعُدْوَةُ النَّاحِيَةُ كَأَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ نَوَاحِيَ الْأَمْرِ وَجَوَانِبَهُ. يَخافُونَ يَوْماً هُوَ يوم القيامة، والظاهر أن مَعْنَى تَتَقَلَّبُ تَضْطَرِبُ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «1» فَتَقَلُّبُهَا هُوَ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا، فَتَتَقَلَّبُ مِنْ طَمَعٍ فِي النَّجَاةِ إِلَى طَمَعٍ وَمِنْ حَذَرِ هَلَاكٍ إِلَى هَلَاكٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي الْحُرُوبِ كَقَوْلِهِ: بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ تَتَقَلَّبُ عَلَى جَمْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَلْ بَعْدَهُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ تَقَلُّبَهَا ظُهُورُ الْحَقِّ لَهَا أَيْ فَتَتَقَلَّبُ عَنْ مُعْتَقَدَاتِ الضَّلَالِ إِلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِهِ فَتَفْقَهُ الْقُلُوبُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَطْبُوعًا عَلَيْهَا، وَتُبْصِرُ الْأَبْصَارُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عُمْيًا وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي التَّهْوِيلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: تَقَلَّبُ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي التَّاءِ. وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَهُمُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَجْزِيَهُمُ وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِيُسَبِّحُ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى يُسَبِّحُونَ وَيَخَافُونَ لِيَجْزِيَهُمُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ يَخافُونَ صِفَةٌ لِرِجَالٍ كَمَا أَنَّ لَا تُلْهِيهِمْ كَذَلِكَ. أَحْسَنَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثَوَابَ أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا، أَوْ أَحْسَنَ جَزَاءِ مَا عَمِلُوا. وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَعْمَالُهُمْ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ أَبَدًا فِي مَزِيدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَجْزِيَهُمُ ثَوَابَهُمْ مُضَاعَفًا وَيَزِيدَهُمْ عَلَى الثَّوَابِ تَفْضِيلًا وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ الْحُسْنى «2» وَزِيَادَةٌ الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا مِنَ التَّفَضُّلِ وَعَطَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِمَّا تَفَضُّلٌ وَإِمَّا ثَوَابٌ وَإِمَّا عِوَضٌ. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ بِغَيْرِ حِسابٍ فَأَمَّا الثَّوَابُ فَلَهُ حَسَنَاتٌ لِكَوْنِهِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ. [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 10. (2) سورة النساء: 4/ 95 وغيرها.

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَةَ الْإِيمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَنْوِيرَهُ قُلُوبَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي الْآخِرَةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مُقَابِلِهِمُ الْكَفَرَةِ وَأَعْمَالِهِمْ، فَمَثَّلَ لَهُمْ وَلِأَعْمَالِهِمْ مَثَلَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا. وَالثَّانِي يَقْتَضِي حَالَهَا فِي الدُّنْيَا مِنِ ارْتِبَاكِهَا فِي الضَّلَالِ وَالظُّلْمَةِ شَبَّهَ أَوَّلًا أَعْمَالَهُمْ فِي اضْمِحْلَالِهَا وَفُقْدَانِ ثَمَرَتِهَا بِسَرَابٍ فِي مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ ظَنَّهُ الْعَطْشَانُ مَاءً فَقَصَدَهُ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ. حَتَّى إِذا جاءَهُ أَيْ جَاءَ مَوْضِعَهُ الَّذِي تَخَيَّلَهُ. فِيهِ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ فَقَدَهُ لِأَنَّهُ مَعَ الدُّنُوِّ لَا يَرَى شَيْئًا. كَذَلِكَ الْكَافِرُ يَظُنُّ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا نَافِعُهُ حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ بَلْ صَارَ وَبَالًا عَلَيْهِ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: بِقِيعَاتٍ بِتَاءٍ مَمْطُوطَةٍ جَمْعُ قِيعَةٍ كَدِيمَاتٍ وَقِيمَاتٍ فِي دِيمَةٍ وَقِيمَةٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِتَاءٍ شَكْلِ الْهَاءِ وَيَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِيعَةٍ، وَوَقَفَ بِالْهَاءِ عَلَى لغة طيء كَمَا قَالُوا الْبَنَاهُ وَالْأَخَوَاهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ قِيعَةً كَالْعَامَّةِ أَيْ كَالْقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، لَكِنَّهُ أَشْبَعَ الْفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الألف مثل مخر نبق لِيَنْبَاعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ بِقِيعَاتٍ بِتَاءٍ مَمْدُودَةٍ كَرَجُلٍ عِزْهَاةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِثْلَ سَعْلَةٍ وَسَعْلَاةٍ وَلَيْلَةٍ وَلَيْلَاةٍ، وَالْقِيعَةُ مُفْرَدٌ مُرَادِفٌ لِلْقَاعِ أَوْ جَمْعُ قَاعٍ كَنَارٍ وَنِيرَةٍ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ قِيعَاتٍ جَمْعَ صِحَّةٍ تَنَاوَلَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِثْلَ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ وَجِمَالَاتٍ صُفْرٍ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا الظَّمَّانُ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ هُوَ مِنْ صِفَاتِ السَّرَابِ وَلَا يَعْنِي إِلَّا مُطْلَقَ الظَّمْآنُ لَا الْكَافِرَ الظَّمْآنُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَ مَا يَعْمَلُهُ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ الْإِيمَانَ وَلَا يَتَّبِعُ الْحَقَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَحْسَبُهَا أَنْ تَنْفَعَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَتُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَخِيبُ فِي الْعَاقِبَةِ أَمَلُهُ وَيَلْقَى خِلَافَ مَا قَدَّرَ بِسَرَابٍ يَرَاهُ الْكَافِرُ بِالسَّاهِرَةِ وَقَدْ غَلَبَهُ عَطَشُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَحْسَبُهُ مَاءً، فَيَأْتِيهِ فَلَا يَجِدُ مَا رَجَاهُ ويجد ربانية اللَّهِ عِنْدَهُ، يَأْخُذُونَهُ وَيَعْتِلُونَهُ وَيَسْقُونَهُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «1»

_ (1) سورة الغاشية: 88/ 3.

وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «1» وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «2» . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ كَانَ قَدْ تَعَبَّدَ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَالْتَمَسَ الدِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ كَفَرَ فِي الْإِسْلَامِ انْتَهَى. فَجَعَلَ الظَّمْآنُ هُوَ الْكَافِرَ حَتَّى تَطَّرِدَ الضَّمَائِرُ فِي جاءَهُ ولَمْ يَجِدْهُ وَوَجَدَ وعِنْدَهُ وفَوَفَّاهُ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُهُ غَايَرَ بَيْنَ الضَّمَائِرِ فَالضَّمِيرُ فِي جاءَهُ ولَمْ يَجِدْهُ لِلظَّمْآنِ. وَفِي وَوَجَدَ لِلْكَافِرِ الَّذِي ضَرَبَ لَهُ مثلا بالظمئان، أَيْ وَوَجَدَ هَذَا الْكَافِرُ وَعْدَ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ بِالْمِرْصَادِ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ عَمَلَهُ الَّذِي جَازَاهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي وَوَجَدَ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْجَمْعِ حَمْلًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَّارُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي جاءَهُ عَلَى السَّرَابِ. ثُمَّ فِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ كَثِيرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظُنُّ عَمَلَهُ نَافِعًا حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَيَحْتَمِلُ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَعْمالُهُمْ وَيَكُونُ تَمَامُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ مَاءً وَيَسْتَغْنِي الْكَلَامُ عَنْ مَتْرُوكٍ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَكِنْ يَكُونُ فِي الْمَثَلِ إِيجَازٌ وَاقْتِضَابٌ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أَيْ بِالْمُجَازَاةِ، وَالضَّمِيرُ فِي عِنْدَهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَمَلِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ أَعْمَالَهُمْ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا بِسَرَابٍ صِفَتُهُ كَذَا، وَأَنَّ الضَّمَائِرَ فِيمَا بَعْدَ الظَّمْآنُ لَهُ. وَالْمَعْنَى فِي وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أَيْ وَوَجَدَ مَقْدُورَ اللَّهَ عَلَيْهِ مِنْ هَلَاكٍ بِالظَّمَأِ عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ مَوْضِعِ السَّرَابِ فَوَفَّاهُ مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ الْمَحْسُوبُ لَهُ، وَاللَّهُ مُعَجِّلٌ حِسَابَهُ لَا يُؤَخِّرُهُ عَنْهُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُتَنَاسِقًا آخِذًا بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ. وَذَلِكَ بِاتِّصَالِ الضَّمَائِرِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ هَذَا التَّشْبِيهُ مُطَابِقًا لِأَعْمَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوهَا نَافِعَةً فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ وَحَصَلَ لَهُمُ الْهَلَاكُ بِإِثْرِ مَا حُوسِبُوا. وَأَمَّا فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَإِنَّهُ وَإِنْ جَعَلَ الضَّمَائِرَ لِلظَّمْآنِ لَكِنَّهُ جَعَلَ الظَّمْآنُ هُوَ الْكَافِرَ وَهُوَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ. وَشَبَّهَ الْمَاءَ بَعْدَ الْجَهْدِ بِالْمَاءِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ غَيْرِهِ: فَفِيهِ تَفْكِيكُ الْكَلَامِ إِذْ غَايَرَ بَيْنَ الضَّمَائِرِ وَانْقَطَعَ تَرْصِيفُ الْكَلَامِ بِجَعْلِ بَعْضِهِ مُفْلِتًا مِنْ بَعْضٍ. أَوْ كَظُلُماتٍ هَذَا التَّشْبِيهُ الثَّانِي لِأَعْمَالِهِمْ فَالْأَوَّلُ فِيمَا يؤول إِلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الثَّانِي فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ فِي حَالِ الدُّنْيَا. وَبَدَأَ بِالتَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ آكد في الإخبار

_ (1) سورة الكهف: 18/ 104. (2) سورة الفرقان: 25/ 23.

لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ ما يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ. ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِهَذَا التَّمْثِيلِ الَّذِي نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا هِيَ أَعْمَالُهُمْ عَلَيْهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ وَيُفَكِّرُونَ فِي نُورِ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَضَلَالِهِمْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَكَاثِفَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّقْدِيرُ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، قَالَ: وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُضَافِ قَوْلُهُ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ فَالْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، فَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ لِلْكَافِرِ لَا لِلْأَعْمَالِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيُتَخَيَّلُ فِي تَقْرِيرِ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَوْ هُمْ كَذِي ظُلُمَاتٍ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ الْأَوَّلُ لِأَعْمَالِهِمْ. وَالثَّانِي لَهُمْ فِي حَالِ ضَلَالِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فِي التَّقْدِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَوْ كَأَعْمَالِ ذِي ظُلُمَاتٍ، فَيُقَدَّرُ ذِي ظُلُمَاتٍ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ إِلَيْهِ، وَيُقَدَّرُ أَعْمَالٌ لِيَصِحَّ تَشْبِيهُ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِأَعْمَالِ صَاحِبِ الظُّلْمَةِ إِذْ لَا مَعْنَى لِتَشْبِيهِ الْعَمَلِ بِصَاحِبِ الظُّلُمَاتِ. وَالثَّانِي: لَا حَذْفَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بِالظُّلْمَةِ فِي حَيْلُولَتِهَا بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ مَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ، فَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ فَيَعُودُ إِلَى مَذْكُورٍ حُذِفَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ إِذَا أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا يَدَهُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي ذِكْرِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِيَةُ فِي ذِكْرِ كُفْرِهِمْ وَنَسَّقَ الْكُفْرَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَيْضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ التَّمْثِيلُ قَدْ وَقَعَ لِأَعْمَالِهِمْ بكفر الكافر وأَعْمالُهُمْ مِنْهَا كُفْرُهُمْ، فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ أَعْمالُهُمْ بِالظُّلُمَاتِ، وَالْعَطْفُ بِأَوْ هُنَا لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّنْوِيعَ وَالتَّفْصِيلَ لَا أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَوْ لِلتَّخْيِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ شَبِّهْ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ. وَقَرَأَ سُفْيَانَ بْنُ حُسَيْنٍ أَوْ كَظُلُماتٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَعَلَهَا وَاوَ عَطْفٍ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ الَّتِي لِتَقْرِيرِ التَّشْبِيهِ الْخَالِي عَنْ مَحْضِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَغْشاهُ عَائِدٌ عَلَى بَحْرٍ لُجِّيٍّ أَيْ يَغْشَى ذَلِكَ الْبَحْرَ أَيْ يُغَطِّي بَعْضُهُ بَعْضًا، بِمَعْنَى أَنْ تَجِيءَ مَوْجَةٌ تَتْبَعُهَا أُخْرَى فَهُوَ مُتَلَاطِمٌ لَا يَسْكُنُ، وَأَخْوَفُ مَا يَكُونُ إِذَا تَوَالَتْ أَمْوَاجُهُ، وَفَوْقَ هَذَا الْمَوْجِ سَحابٌ وَهُوَ أَعْظَمُ لِلْخَوْفِ لِإِخْفَائِهِ النُّجُومَ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا، وَلِلرِّيحِ وَالْمَطَرِ النَّاشِئَيْنِ مَعَ السَّحَابِ. وَمَنْ قَدَّرَ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي يَغْشاهُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفِ، أَيْ يَغْشَى صَاحِبَ الظُّلُمَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَحابٌ بِالتَّنْوِينِ ظُلُماتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذِهِ أَوْ تِلْكَ ظُلُماتٌ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مبتدأ وبَعْضُها فَوْقَ

بَعْضٍ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرِهِ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ ظُلُماتٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمُسَوِّغِ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ إِلَّا إِنْ قُدِّرَتْ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ ظُلُمَاتٌ كَثِيرَةٌ أَوْ عَظِيمَةٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ سَحابٌ ظُلُماتٌ بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ سَحابٌ بِالتَّنْوِينِ ظُلُماتٌ بِالْجَرِّ بدلا من ظُلُماتٌ وبَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكَظُلُمَاتٍ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ عَلَى رَفْعِ ظُلُماتٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُها بَدَلًا مِنْهَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا ظُلُمَاتٌ، وَأَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ فَوْقَ بَعْضٍ أَيْ هِيَ ظُلُمَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ وَلَيْسَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ بَعْضَ ظُلُمَاتٍ فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ إِخْبَارٍ بِأَنَّ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ السَّابِقَةَ ظُلُمَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَادَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ نَفْيٍ مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالْمَعْنَى هُنَا انْتِفَاءُ مُقَارَبَةِ الرُّؤْيَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ ضَرُورَةً وَقَوْلُ مَنِ اعْتَقَدَ زِيَادَةَ يَكَدْ أَوْ أَنَّهُ يَرَاهَا بَعْدَ عُسْرٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالزِّيَادَةُ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا إِلَّا بَعْدَ الْجَهْدِ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَالْفَرَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ كَادَ مَنْفِيًّا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ نَحْوُ كَادَ زَيْدٌ لَا يَقُومُ، أَوْ مُثْبَتًا دَلَّ عَلَى نَفْيِهِ كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَإِذَا تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَى كَادَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا تَقُولُ: المفلوخ لَا يَكَادُ يَسْكُنُ فَهَذَا تَضَمَّنَ نَفْيَ السُّكُونِ. وَتَقُولُ: رَجُلٌ مُنْصَرِفٌ لَا يَكَادُ يَسْكُنُ فَهَذَا تَضَمَّنَ إِيجَابَ السُّكُونِ بَعْدَ جَهْدٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ الثَّانِيَ هُوَ تَشْبِيهُ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الْمُتَكَاثِفَةِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي المعنى بأجزائه لا جزاء الْمُشَبَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَشَبَّهَهَا يَعْنِي أَعْمَالَهُ فِي ظُلْمَتِهَا وسوادها لكونا بَاطِلَةً، وَفِي خُلُوِّهَا عَنْ نُورِ الْحَقِّ بِظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ مِنْ لُجَجِ الْبَحْرِ وَالْأَمْوَاجِ وَالسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَاحَظَ التَّقَابُلَ فَقَالَ: الظُّلُمَاتُ الْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ وَالْمُعْتَقَدَاتُ الْبَاطِلَةُ. وَالْبَحْرُ اللُّجِّيُّ صَدْرُ الْكَافِرِ وَقَلْبُهُ، وَالْمَوْجُ الضَّلَالُ وَالْجَهَالَةُ الَّتِي غَمَرَتْ قَلْبَهُ وَالْفِكَرُ الْمُعْوَجَّةُ وَالسَّحَابُ شَهْوَتُهُ فِي الْكُفْرِ وَإِعْرَاضُهُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مَثَلٌ لِقَلْبِ الْكَافِرِ أَيْ أَنَّهُ يَعْقِلُ وَلَا يُبْصِرُ. وَقِيلَ الظُّلُمَاتُ أَعْمَالُهُ وَالْبَحْرُ هَوَاهُ. الْقِيعَانُ الْقَرِيبُ الْغَرَقِ فِيهِ الْكَثِيرُ الْخَطَرِ، وَالْمَوْجُ مَا يَغْشَى قلبه من

_ (1) سورة البقرة: 2/ 71.

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 46]

جَهْلٍ وَغَفْلَةٍ، وَالْمَوْجُ الثَّانِي مَا يَغْشَاهُ مِنْ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ، وَالسَّحَابُ مَا يَغْشَاهُ مِنْ شِرْكٍ وَحَيْرَةٍ فَيَمْنَعُهُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي مِثْلِ نُورِ الدِّينِ انْتَهَى. وَالتَّفْسِيرُ بِمُقَابَلَةِ الْأَجْزَاءِ شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَعُدُولٌ عَنْ مَنْهَجِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَلَمَّا شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَرَى الْيَدَ مِنْ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ قَالَ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أَيْ مَنْ لَمْ يُنَوِّرْ قَلْبَهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَيَهْدِهِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ وَلَا نُورَ لَهُ، وَلَا يَهْتَدِي أَبَدًا. وَهَذَا النُّورُ هُوَ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: هُوَ فِي الْآخِرَةِ أَيْ مَنْ لَمْ يُنَوِّرْهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ وَيَرْحَمْهُ بِرَحْمَتِهِ فَلَا رَحْمَةَ لَهُ، وَكَوْنُهُ فِي الدُّنْيَا أَلْيَقُ بِلَفْظِ الْآيَةِ وَأَيْضًا فَذَلِكَ مُتَلَازِمٌ لِأَنَّ نُورَ الْآخِرَةِ هُوَ لِمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ لَمْ يُولِهِ نُورَ تَوْفِيقِهِ وَعِصْمَتِهِ وَلُطْفِهِ فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْبَاطِلِ لَا نُورَ لَهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَجْرَاهُ مَجْرَى الْكِنَايَاتِ لِأَنَّ الْأَلْطَافَ إِنَّمَا تَرْدُفُ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ أَوْ كَوْنُهُمَا مُرْتَقَبَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «1» وَقَوْلِهِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ «2» انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الاعتزال. [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَثَلَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالضَّلَالَ أَمْرُهُمَا رَاجِعٌ إِلَيْهِ أَعْقَبَ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ التَّسْبِيحِ عَلَى حقيقته وتخصيص مَنْ

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 69. (2) سورة إبراهيم: 14/ 27.

فِي قَوْلِهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ بِالْمُطِيعِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الثَّقَلَيْنِ. وَقِيلَ: مَنْ عَامٌّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ غَلَبَ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، فَأُدْرِجُ مَا لَا يَعْقِلُ فِيهِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ دَلَالَتُهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ مَوْصُوفًا بِنُعُوتِ الْكَمَالِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ التَّعْظِيمُ فَمِنْ ذِي الدِّينِ بِالنُّطْقِ وَالصَّلَاةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ مُكَلَّفٍ وَجَمَادٍ بِالدَّلَالَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَهُوَ التَّعْظِيمُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: تَسْبِيحُ كُلِّ شَيْءٍ بِطَاعَتِهِ وَانْقِيَادِهِ. وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أَيْ صَفَّتْ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ لِلطَّيَرَانِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّيْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِذَا طَارَتْ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حَالَةَ طَيَرَانِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالطَّيْرُ مَرْفُوعًا عطفا على مَنْ وصَافَّاتٍ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَالطَّيْرُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ بِرَفْعِهِمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ تَقْدِيرُهُ يُسَبِّحْنَ. قِيلَ: وَتَسْبِيحُ الطَّيْرِ حَقِيقِيٌّ قَالَهُ الْجُمْهُورُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْهِمَ اللَّهُ الطَّيْرَ دُعَاءَهُ وَتَسْبِيحَهُ كَمَا أَلْهَمَهَا سَائِرَ الْعُلُومِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي لَا يَكَادُ الْعُقَلَاءُ يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: هُوَ تَجَوُّزٌ إِنَّمَا تَسْبِيحُهُ ظُهُورُ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَهُوَ لِذَلِكَ يَدْعُو إِلَى التَّسْبِيحِ. كُلٌّ أَيْ كُلٌّ مِمَّنْ ذَكَرَ، فَيَشْمَلُ الطَّيْرَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُسْتَكِنَّ فِي عَلِمَ وَفِي صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ عَائِدٌ عَلَى كُلٌّ وَقَالَهُ الْحَسَنُ قَالَ: فَهُوَ مُثَابِرٌ عَلَيْهِمَا يُؤَدِّيهِمَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الضَّمِيرُ فِي عَلِمَ وفي صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ لكل. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلِمَ لكل وَفِي صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ لِلَّهِ أَيْ صَلَاةَ اللَّهِ وَتَسْبِيحَهُ اللَّذَيْنِ أَمَرَ بِهِمَا وَهَدَى إِلَيْهِمَا، فَهَذِهِ إِضَافَةُ خَلْقٍ إِلَى خَالِقٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّلَاةُ لِلْبَشَرِ وَالتَّسْبِيحُ لِمَا عَدَاهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَسَلَّامٌ وَهَارُونُ عَنْ أَبِي عُمَرَ وَتَفْعَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وفيه وعيد وتخويف. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِخْبَارٌ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْتَ مُلْكِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِمَا يَشَاءُ تَصَرُّفَ الْقَاهِرِ الْغَالِبِ. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيْ إِلَى جَزَائِهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. وَفِي ذَلِكَ تَذْكِيرٌ وَتَخْوِيفٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ انْقِيَادَ من في السموات وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَذَكَرَ مِلْكَهُ لِهَذَا الْعَالَمِ وَصَيْرُورَتَهُمْ إِلَيْهِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ عَجِيبٍ مِنْ أَفْعَالِهِ مُشْعِرٍ بِانْتِقَالٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَكَانَ عَقِبَ قَوْلِهِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فَأَعْلَمَ بِانْتِقَالٍ إِلَى الْمَعَادِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي نَقْلِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمَعْنَى يُزْجِي يَسُوقُ قَلِيلًا قَلِيلًا وَيُسْتَعْمَلُ فِي سَوْقِ الثَّقِيلِ بِرِفْقٍ كَالسَّحَابِ وَالْإِبِلِ، وَالسَّحَابُ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ سَحَابَةٌ، وَالْمَعْنَى يَسُوقُ سَحَابَةً إِلَى

سَحَابَةٍ. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أَيْ بَيْنَ أَجْزَائِهِ لِأَنَّهُ سَحَابَةٌ تَتَّصِلُ بِسَحَابَةٍ فَجَعَلَ ذَلِكَ مُلْتَئِمًا بِتَأْلِيفِ بَعْضٍ إِلَى بَعْضٍ. وَقَرَأَ وَرْشٌ يُوَلِّفُ بِالْوَاوِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ وَهُوَ الْأَصْلُ. فَيَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ مُتَكَاثِفًا يَجْعَلُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَانْعِصَارَهُ بِذَلِكَ مِنْ خِلالِهِ أَيْ فُتُوقِهِ وَمَخَارِجِهِ الَّتِي حَدَثَتْ بِالتَّرَاكُمِ وَالِانْعِصَارِ. وَالْخِلَالُ: قِيلَ مُفْرَدٌ. وَقِيلَ: جَمْعُ خَلَلٍ كَجِبَالٍ وَجَبَلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُعَاذٌ الْعَنْبَرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالزَّعْفَرَانِيِّ مِنْ خَلَلِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ جِبَالًا مِنْ حَجَرٍ. وَقِيلَ: جِبَالٍ مَجَازٌ عَنِ الْكَثْرَةِ لَا أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ جِبَالًا مِنْ ذَهَبٍ، وَعِنْدَهُ جِبَالٌ مِنَ الْعِلْمِ يُرِيدُ الْكَثْرَةَ. قِيلَ: أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ. والسَّماءِ السَّحَابُ أَيْ مِنَ السَّماءِ الَّتِي هِيَ جِبَالٌ أَيْ كَجِبَالٍ كَقَوْلِهِ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا «1» أَيْ كَنَارٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، فَجَعَلَ السَّمَاءَ هُوَ السَّحَابَ الْمُرْتَفِعَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسُمُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْجِسْمُ الْأَزْرَقُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ لِلذِّهْنِ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ الْجِبَالَ فِي الْكَثْرَةِ مَجَازًا قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ: إِذَا مُتُّ عَنْ ذِكْرِ الْقَوَافِي فَلَنْ ... تَرَى لَهَا شاعرا مني أطلب وَأَشْعَرَا وَأَكْثَرَ بَيْتًا شَاعِرًا ضُرِبَتْ لَهُ ... بُطُونُ جِبَالِ الشِّعْرِ حَتَّى تَيَسَّرَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَأَمَّا مِنْ جِبالٍ. فَقَالَ الْحَوْفِيُّ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ السَّماءِ ثُمَّ قَالَ: وَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الغاية في ما دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتِ الثَّانِيَةُ بَدَلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَوْ قُلْتَ: خَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ مِنَ الْكَرْخِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَا مَعًا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي مَوْضِعِ المفعول لينزل. قَالَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِيَةُ لِلْبَيَانِ انْتَهَى. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ جِبَالٍ فِيهَا الَّتِي هِيَ الْبَرَدُ فَالْمُنَزَّلُ بَرَدٌ لِأَنَّ بَعْضَ الْبَرَدِ بَرَدٌ فَمَفْعُولُ يُنَزِّلُ مِنْ جِبالٍ. قَالَ الزمخشري: أو الأولان لِلِابْتِدَاءِ وَالْأَخِيرَةُ لِلتَّبْعِيضِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنَزِّلُ الْبَرَدَ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ جِبالٍ بَدَلًا مِنَ السَّماءِ. وَقِيلَ: مِنْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ زَائِدَتَانِ وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَهُمَا فِي موضع نصب عنده

_ (1) سورة الكهف: 18/ 96.

كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا أَيْ فِي السَّمَاءِ بَرَدًا وَبَرَدًا بَدَلٌ أَيْ بَرَدَ جِبَالٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا زَائِدَتَانِ أَيْ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ لَا حَصَى فِيهَا وَلَا حَجَرٌ، أَيْ يَجْتَمِعُ الْبَرَدُ فَيَصِيرُ كَالْجِبَالِ عَلَى التَّهْوِيلِ فَبَرَدٌ مُبْتَدَأٌ وَفِيهَا خَبَرُهُ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيها عَائِدٌ عَلَى الْجِبَالِ أَوْ فَاعِلٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ بِكَوْنِهِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِجِبَالٍ. وَقِيلَ: مِنْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّالِثَةُ زَائِدَةٌ أَيْ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ السَّمَاءِ بَرَدًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ بَرَدٌ فِيهَا كَمَا تَقُولُ: هَذَا خَاتَمُ فِي يَدِي مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ خَاتَمُ حَدِيدٍ فِي يَدِي، وَإِنَّمَا جِئْتَ فِي هَذَا وَفِي الْآيَةِ بِمِنْ لَمَّا فَرَّقْتَ، وَلِأَنَّكَ إِذَا قلت: هذا خاتم من حَدِيدٍ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ بَرَدٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِجِبَالٍ، كَمَا كَانَ مِنْ فِي مِنْ حَدِيدٍ صِفَةً لِخَاتَمٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَيَكُونُ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ هُوَ مِنْ جِبالٍ وَإِذَا كَانَتِ الْجِبَالُ مِنْ بَرَدٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ بَرَدًا. وَالظَّاهِرُ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ فِي بِهِ عَلَى الْبَرَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ الْوَدْقُ وَالْبَرَدُ وَجَرَى فِي ذَلِكَ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَيُصِيبُ بِذَلِكَ وَالْمَطَرُ هُوَ أَعَمُّ وَأَغْلَبُ فِي الْإِصَابَةِ وَالصَّرْفُ أَبْلَغُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالِامْتِنَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنا مَقْصُورًا بَرْقِهِ مُفْرَدًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ سَنَاءَ مَمْدُودًا بَرْقِهِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ بُرْقَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَهِيَ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ كَالْغُرْفَةِ وَاللُّقْمَةِ، وَعَنْهُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالرَّاءِ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الرَّاءِ لِحَرَكَةِ الْبَاءِ كَمَا أُتْبِعَتْ فِي ظُلُماتٌ وَأَصْلُهَا السُّكُونُ. وَالسَّنَاءُ بِالْمَدِّ ارْتِفَاعُ الشَّأْنِ كَأَنَّهُ شَبَّهَ الْمَحْسُوسَ مِنَ الْبَرْقِ لِارْتِفَاعِهِ فِي الْهَوَاءِ بِغَيْرِ الْمَحْسُوسِ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ صَيِّبٌ لَا يُحِسُّ بِهِ بَصَرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَذْهَبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَذْهَبُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَذَهَبُ الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ إِلَى تَخْطِئَةِ أَبِي جَعْفَرٍ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَالَا: لِأَنَّ الْيَاءَ تُعَاقِبُ الْهَمْزَةَ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَقْرَأَ إِلَّا بِمَا رُوِيَ. وَقَدْ أَخَذَ الْقِرَاءَةَ عَنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ الْآخِذِينَ عَنْ جِلَّةِ الصَّحَابَةِ أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ بَلْ قَرَأَهُ شَيْبَةُ كَذَلِكَ وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ أَيْ يُذْهِبُ الْأَبْصَارَ. وَعَلَى أَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى مِنْ وَالْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يُذْهِبُ النُّورَ مِنَ الْأَبْصَارِ كَمَا قَالَ: شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ يُرِيدُ مِنْ بَرَدٍ. وَتَقْلِيبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَتَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ أَوْ زِيَادَةُ هَذَا وَعَكْسُهُ، أَوْ يُغَيِّرُ النَّهَارَ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ مَرَّةً وَضَوْءِ الشَّمْسِ أُخْرَى، وَيُغَيِّرُ اللَّيْلَ بِاشْتِدَادِ ظُلْمَتِهِ مَرَّةً وَضَوْءِ

الْقَمَرِ أُخْرَى، أَوْ بِاخْتِلَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِمَا مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ وَالشِّدَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْأَمْنِ وَمُقَابِلَاتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنْ تَسْبِيحٍ مِنْ ذِكْرٍ وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ، وَمَا يُحْدِثُهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ أَفْعَالِهِ حَتَّى يُنْزِلَ الْمَطَرَ فَيُقَسِّمَ رَحْمَتَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ وَإِرَاءَتِهِمُ الْبَرْقَ فِي السَّحَابِ الَّذِي يَكَادُ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ وَيُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. لَعِبْرَةً أَيِ اتِّعَاظًا. وَخُصَّ أُولُو الْأَبْصَارِ بِالِاتِّعَاظِ لِأَنَّ الْبَصَرَ وَالْبَصِيرَةَ إِذَا اسْتُعْمِلَا وَصَلَا إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ كقوله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَلَقَ فِعْلًا مَاضِيًا. كُلَّ نَصْبٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ خَالِقُ اسْمُ فَاعِلٍ مُضَافٌ إِلَى كُلَّ. وَالدَّابَّةُ: مَا يُحَرِّكُ أَمَامَهُ قَدَمًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّيْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ: دَبِيبَ قَطَا الْبَطْحَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلِ وَالْحُوتُ وَفِي الْحَدِيثِ: «دَابَّةٌ مِنَ الْبَحْرِ مِثْلُ الظَّرِبِ» . وَانْدَرَجَ فِي كُلَّ دَابَّةٍ الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، فَسَهُلَ التَّفْصِيلُ بِمَنِ الَّتِي لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ إِذَا كَانَ مُنْدَرِجًا فِي الْعَامِّ، فَحَكَمَ لَهُ بِحُكْمِهِ كَأَنَّ الدَّوَابَّ كُلَّهُمْ مُمَيِّزُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ ماءٍ مُتَعَلِّقٌ بخلق. ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيِ ابتداء خَلْقَهَا مِنَ الْمَاءِ. فَقِيلَ: لَمَّا كَانَ غَالِبُ الْحَيَوَانِ مَخْلُوقًا مِنَ الْمَاءِ لِتَوَلُّدِهِ مِنَ النُّطْفَةِ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يَعِيشُ إِلَّا بِالْمَاءِ أَطْلَقَ لَفْظَ كُلَّ تَنْزِيلًا لِلْغَالِبِ مَنْزِلَةَ الْعَامِّ، وَيَخْرُجُ عَمَّا خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَا خُلِقَ مِنْ نُورٍ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَمِنْ نَارٍ وَهُمُ الْجِنُّ، وَمِنْ تُرَابٍ وَهُوَ آدَمُ. وَخُلِقَ عِيسَى مِنَ الرُّوحِ وَكَثِيرُ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ نُطْفَةٍ. وَقِيلَ كُلَّ دَابَّةٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَإِنَّ أَصْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَاءُ، فَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ جَوْهَرَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ النَّارَ وَالْهَوَاءَ وَالنُّورَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَكَانَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَاءَ قَالَ: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ مِنْ ماءٍ مُتَعَلِّقًا بِخَلَقَ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكُلِّ دَابَّةٍ، فَالْمَعْنَى الْإِخْبَارُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْمَاءِ أَيْ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْمَاءِ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى. وَنُكِّرَ الْمَاءُ هُنَا وَعُرِّفَ فِي وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «2» لِأَنَّ الْمَعْنَى هُنَا خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْمَاءِ مُخْتَصٍّ بِهَذِهِ الدَّابَّةِ، أَوْ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 19. (2) سورة الأنبياء: 21/ 30.

[سورة النور (24) : الآيات 47 إلى 57]

مِنْ ماءٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ النُّطْفَةُ، ثُمَّ خَالَفَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النُّطْفَةِ هَوَامَّ وَبَهَائِمَ وَنَاسٍ كَمَا قَالَ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «1» وَهُنَا قَصَدَ أَنَّ أَجْنَاسَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَإِنْ تَخَلَّلَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَسَائِطُ كَمَا قِيلَ: إِنَّ أَصْلَ النُّورِ وَالنَّارِ وَالتُّرَابِ الْمَاءُ. وَسُمِّيَ الزَّحْفُ عَلَى الْبَطْنِ مَشْيًا لِمُشَاكَلَتِهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمَاشِينَ أَوِ اسْتِعَارَةً، كَمَا قَالُوا: قَدْ مَشَى هَذَا الْأَمْرُ وَمَا يَتَمَشَّى لِفُلَانٍ أَمْرٌ، كَمَا اسْتَعَارُوا الْمُشَفَّرَ لِلشَّفَةِ وَالشَّفَةَ لِلْجَحْفَلَةِ. وَالْمَاشِي عَلى بَطْنِهِ الْحَيَّاتُ وَالْحُوتُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الدود وغيره. وعَلى رِجْلَيْنِ الْإِنْسَانُ وَالطَّيْرُ وَالْأَرْبَعُ لِسَائِرِ حَيَوَانِ الْأَرْضِ مِنَ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ. فَقِيلَ: اعْتِمَادُهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَرْبَعٍ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي مَشْيِهِ إِلَى جَمِيعِهَا وَقَدَّمَ مَا هُوَ أَعْرَفُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَعْجَبُ وَهُوَ الْمَاشِي بِغَيْرِ آلَةٍ مَشْيَ مَنْ لَهُ رِجْلٌ وَقَوَائِمُ، ثُمَّ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ثُمَّ الْمَاشِي عَلَى أَرْبَعٍ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ، فَعَمَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ قُرْآنًا وَلَعَلَّهُ مَا أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ قُرْآنٍ بَلْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ كَالْعَنْكَبُوتِ وَالْعَقْرَبِ وَالرُّتَيْلَاءِ وَذِي أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ رِجْلًا وَتُسَمَّى الْأُذُنَ وَهَذَا النَّوْعُ لِنُدُورِهِ لَمْ يُذْكَرْ. يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَةُ خَلْقِهِ أَنْشَأَهُ وَاخْتَرَعَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَثْرَةِ الْحَيَوَانِ وَأَنَّهَا كَمَا اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر. [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 57] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

_ (1) سورة الرعد: 13/ 4. [.....]

نَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فِي الْمُنَافِقِينَ بِسَبَبِ مُنَافِقٍ اسْمُهُ بِشْرٌ، دَعَاهُ يَهُودِيٌّ فِي خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا هُوَ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذَمِّ قَوْمٍ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ دُونَ عَقَائِدِهِمْ. ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ. بَعْدِ ذلِكَ أَيْ بَعْدِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا وَما أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَائِلِينَ فَيَنْتَفِي عَنْ جَمِيعِهِمُ الْإِيمَانُ، أَوْ إِلَى الْفَرِيقِ الْمُتَوَلِّي فَيَكُونُ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ لَيْسَ إِيمَانًا إِنَّمَا كَانَ ادِّعَاءً بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ بِالْقَلْبِ. وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ هُوَ عَنِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ يُرِيدُ كَرَمَ زَيْدٍ وَمِنْهُ: وَمَنْهَلٍ من الفلافي أَوْسَطِهْ ... غَلَّسْتُهُ قَبْلَ الْقَطَا وَفَرَطِهْ أَرَادَ قَبْلَ فَرْطِ الْقَطَا انْتَهَى. أَيْ قَبْلَ تَقَدُّمِ الْقَطَا إِلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لِيَحْكُمَ فِي الموضعين مبنيا للمفعول وإِذا الثَّانِيَةُ لِلْفُجَاءَةِ. جَوَابُ إِذا الْأُولَى الشَّرْطِيَّةِ، وَهَذَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَعْمَلُ فِي إِذَا الشَّرْطِيَّةِ خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ مِنَ النُّحَاةِ، لِأَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا. وَقَدْ أُحْكِمَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِيَأْتُوا. وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِلَيْهِ بِمُذْعِنِينَ قَالَ: لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مُسْرِعِينَ فِي الطَّاعَةِ وَهَذَا أَحْسَنُ لِتَقَدُّمِ صِلَتِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصَ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ وفي ما رَجَّحَ تَهْيِئَةَ الْعَامِلِ لِلْعَمَلِ وَقَطْعَهُ عَنِ الْعَمَلِ

وَهُوَ مِمَّا يَضْعُفُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا الْحَقُّ الْمُرُّ وَالْعَدْلُ الْبَحْتُ يَزْوَرُّونَ عَنِ الْمُحَاكَمَةِ إِلَيْكَ إِذَا رَكِبَهُمُ الْحَقُّ لِئَلَّا تَنْزِعَهُ مِنْهُمْ بِقَضَائِكَ عَلَيْهِمْ لِخُصُومِهِمْ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُمُ الْحَقُّ عَلَى خَصْمٍ أَسْرَعَ إِلَيْكَ كُلُّهُمْ وَلَمْ يَرْضَوْا إِلَّا بِحُكُومَتِكَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَمِ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: بَلِ ارْتَابُوا بَلْ أَيَخَافُونَ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ وَتَوْبِيخٍ، لِيُقِرُّوا بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فِي الْإِقْرَارِ بِهَا مَا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّوْقِيفُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِمَّا يُوَبَّخُ بِهِ وَيُذَمُّ، أَوْ مِمَّا يُمْدَحُ بِهِ وَهُوَ بَلِيغٌ جِدًّا فَمِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ. قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَسْتَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَعَاهَدُوا ... عَلَى اللُّؤْمِ وَالْفَحْشَاءِ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ وَمِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ. قَوْلُ جَرِيرٍ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ وَقَسَّمَ تَعَالَى جِهَاتِ صُدُودِهِمْ عَنْ حُكُومَتِهِ فَقَالَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ نِفَاقٌ وَعَدَمُ إِخْلَاصٍ أَمِ ارْتابُوا أَيْ عَرَضَتْ لَهُمُ الرِّيبَةُ وَالشَّكُّ فِي نُبُوَّتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُخْلِصِينَ أَمْ يَخافُونَ أَيْ يَعْرِضُ لَهُمُ الْخَوْفُ مِنَ الْحَيْفِ فِي الْحُكُومَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُمْ. ثُمَّ اسْتَدْرَكَ بِبَلْ إِنَّهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ. وَقَرَأَ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ إِنَّما كانَ قَوْلَ بِالرَّفْعِ وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالنَّصْبُ أَقْوَى لِأَنَّ أَوْلَى الِاسْمَيْنِ بِكَوْنِهِ اسْمًا لِكَانَ أو غلهما في التعريف وأَنْ يَقُولُوا أو غل لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلتَّنْكِيرِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ كَانَ فِي قَوْلِهِ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «1» مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا «2» انْتَهَى. وَنَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ اسْمَ كَانَ وَخَبَرَهَا إِذَا كَانَتَا مَعْرِفَتَيْنِ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي جَعْلِ مَا شِئْتَ مِنْهُمَا الِاسْمَ وَالْآخَرَ الْخَبَرَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَرْطٍ فِي ذَلِكَ وَلَا اخْتِيَارٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ أَيْ لِيَحْكُمَ هُوَ أَيِ الْحُكْمُ، وَالْمَعْنَى لِيُفْعَلَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَأَلَّفَ بَيْنَهُمَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَحِيلَ بَيْنَهُمْ «3» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «4» فِيمَنْ قَرَأَ بَيْنَكُمْ منصوبا أي

_ (1) سورة مريم: 19/ 35. (2) سورة النور: 24/ 16. (3) سورة سبأ: 34/ 54. (4) سورة الأنعام: 6/ 94.

وَقَعَ التَّقَطُّعُ بَيْنَكُمُ انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ فِي الْآيَةِ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا أَيْ قَوْلَ الرَّسُولِ وَأَطَعْنا أَيْ أَمْرَهُ. وَقُرِئَ وَيَتَّقْهِ بِالْإِشْبَاعِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْإِسْكَانِ. وَقُرِئَ وَيَتَّقْهِ بِسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ أَجْرَى خَبَرَ كَانَ الْمُنْفَصِلَ مُجْرَى الْمُتَّصِلِ، فَكَمَا يُسَكَّنُ عَلِمَ فَيُقَالُ عَلْمَ كَذَلِكَ سُكِّنَ وَيَتَّقْهِ لِأَنَّهُ تَقِهِ كَعَلِمَ وَكَمَا قَالَ السَّالِمُ: قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا يُرِيدُ اشْتَرِ لَنَا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ فِي فَرَائِضِهِ وَرَسُولَهُ فِي سننه ويَخْشَى اللَّهَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ ذُنُوبِهِ وَيَتَّقْهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ آيَةٍ كَافِيَةٍ فَتُلِيَتْ لَهُ هَذِهِ. وَلَمَّا بَلَغَ الْمُنَافِقِينَ مَا أَنْزَلَ تَعَالَى فِيهِمْ أَتَوْا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْسَمُوا إِلَى آخِرِهِ أَيْ لَيَخْرُجُنَ عَنْ ديارهم وأموالهم ونسائهم ولَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بِالْجِهَادِ لَيَخْرُجُنَ إِلَيْهِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي الْأَنْعَامِ. وَنَهَاهُمْ تَعَالَى عَنْ قَسَمِهِمْ لِعِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقًّا. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَيْ مَعْلُومَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا يُرْتَابُ، كَطَاعَةِ الْخُلَّصِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطَابِقِ بَاطِنُهُمْ لِظَاهِرِهِمْ، لَا أَيْمَانٌ تُقْسِمُوا بِهَا بِأَفْوَاهِكُمْ وَقُلُوبُكُمْ عَلَى خِلَافِهَا، أَوْ طَاعَتُكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ، أَوْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَمْثَلُ وَأَوْلَى بِكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ. أَحَدُهَا: النَّهْيُ عَنِ الْقَسَمِ الْكَاذِبِ إِذْ قَدْ عَرَفَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ دَغِلَةٌ رَدِيئَةٌ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُغَالِطُوا فَقَدْ عَرَفَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: لَا تَتَكَلَّفُوا الْقَسَمَ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ أَمْثَلُ وَأَجْدَى عَلَيْكُمْ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ إِبْقَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: لَا تَقْنَعُوا بِالْقَسَمِ طَاعَةٌ تُعْرَفُ مِنْكُمْ وَتَظْهَرُ عَلَيْكُمْ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْكُمْ. وَالرَّابِعُ: لَا تَقْنَعُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِإِرْضَائِنَا بِالْقَسَمَةِ طَاعَةُ اللَّهِ مَعْرُوفَةٌ وَجِهَادُ عَدُوِّهِ مَهْيَعٌ لَائِحٌ انتهى. وطاعَةٌ مبتدأ ومَعْرُوفَةٌ صِفَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَمْثَلُ وَأَوْلَى أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أَمْرُنَا أَوِ الْمَطْلُوبُ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ . وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَلَوْ قُرِئَ بِالنَّصْبِ لَكَانَ

جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ أَطِيعُوا طَاعَةً انْتَهَى. وَقَدَّرَاهُ بِالنَّصْبِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْيَزِيدِيُّ وَتَقْدِيرُ بَعْضِهِمُ الرَّفْعُ عَلَى إِضْمَارِ وَلْتَكُنْ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يُحْذَفُ الْفِعْلُ وَيَبْقَى الْفَاعِلُ، إِلَّا إِذَا كَانَ ثَمَّ مُشْعِرٌ بِهِ نَحْوُ رِجالٌ بَعْدَ يُسَبِّحُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ، أَوْ يُجَابُ بِهِ نَفْيٌ نَحْوُ: بَلَى زَيْدٌ لِمَنْ قَالَ: مَا جَاءَ أَحَدٌ. أَوِ اسْتِفْهَامٌ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَلَا هَلْ أَتَى أُمَّ الْحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ ... بَلَى خَالِدٌ إِنْ لَمْ تَعُقْهُ الْعَوَائِقُ أَيْ أَتَاهَا خَالِدٌ. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِكُمْ فَفَاضِحُكُمْ. وَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي تَبْكِيتِهِمْ. ولما بكتهم بأن مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ تَلَطَّفَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ لِلْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا. فَإِنَّما عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الرَّسُولِ مَا حُمِّلَ وَهُوَ التَّبْلِيغُ وَمُكَافَحَةُ النَّاسِ بِالرِّسَالَةِ وَإِعْمَالُ الْجُهْدِ فِي إِنْذَارِهِمْ. وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَهُوَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَاتِّبَاعُ الْحَقِّ. ثُمَّ عَلَّقَ هِدَايَتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْمَائِدَةِ. رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ شَكَا جُهْدَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ وَأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَ أَسْلِحَتَهُمْ فَنَزَلَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ مَا أَتَى عَلَيْنَا يوم نأمن من فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَا تُغَبِّرُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ مَعَهُ حَدِيدَةٌ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَذَا الْوَعْدُ وَعَدَهُ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالْخِطَابُ فِي مِنْكُمْ لِلرَّسُولِ وأتباعه ومِنْ للبيان أي الذين هم أَنْتُمْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَنْصُرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الْكُفْرِ وَيُورِثَهُمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلَهُمْ خُلَفَاءَ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ هِيَ الْبِلَادُ الَّتِي تُجَاوِرُهُمْ وَهِيَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، ثُمَّ افْتَتَحُوا بِلَادَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَمَزَّقُوا مُلْكَ الْأَكَاسِرَةِ وَمَلَكُوا خَزَائِنَهُمْ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الدُّنْيَا. وَفِي الصَّحِيحِ: «زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي عنها» . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلِذَلِكَ اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ دُونَ اتِّسَاعِهِ فِي الْجَنُوبِ وَالشَّمَالِ. قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا فِي عَصْرِنَا هَذَا بِإِسْلَامِ مُعْظَمِ الْعَالَمِ فِي الْمَشْرِقِ كَقَبَائِلِ التُّرْكِ، وَفِي الْمَغْرِبِ كَبِلَادِ السُّودَانِ التَّكْرُورِ وَالْحَبَشَةِ وَبِلَادِ الْهِنْدِ.

كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَوْرَثَهُمْ مِصْرَ وَالشَّامَ بَعْدَ هَلَاكِ الْجَبَابِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا كَانَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانَ الْغَالِبَ عَلَى الْأَرْضِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقُرِئَ كَمَا اسْتَخْلَفَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَاللَّامُ فِي لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَأَقْسَمَ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أَوْ أَجْرَى وَعْدَ اللَّهِ لِتَحَقُّقِهِ مُجْرَى الْقَسَمِ فَجُووِبَ بِمَا يُجَاوَبُ بِهِ الْقَسَمُ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ حُذِفَ الْقَسَمُ بِكَوْنِ مَعْمُولِ وَعَدَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ اسْتِخْلَافَكُمْ وَتَمْكِينَ دِينِكُمْ. وَدَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصالحات. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ» انْتَهَى. ونيدرج مَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي الْعَدْلِ مَنِ اسْتُخْلِفَ مِنْ قُرَيْشٍ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ، وَالْمُهْتَدِينَ بِاللَّهِ فِي الْعَبَّاسِيِّينَ. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ أَيْ يُثَبِّتُهُ وَيُوَطِّدُهُ بِإِظْهَارِهِ وَإِعْزَازِ أَهْلِهِ وإذلال الشرك وأهله. والَّذِي ارْتَضى لَهُمْ صِفَةُ مَدْحٍ جَلِيلَةٌ وَقَدْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي تَمْكِينِ هَذَا الدِّينِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى مِمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الْفُتُوحِ وَالْعُلُومِ الَّتِي فَاقُوا فِيهَا جَمِيعَ الْعَالَمِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَانِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ بِالتَّشْدِيدِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رسوله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَضَعُوا السِّلَاحَ وَآمَنُوا، ثُمَّ قَبَضَ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانُوا آمِنِينَ كَذَلِكَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ وَكَفَرُوا بِالنِّعْمَةِ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ فَغَيَّرُوا فَغَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ. يَعْبُدُونَنِي الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَهُمْ يُسْتَخْلَفُونَ وَيُؤَمَّنُونَ فَقَالَ يَعْبُدُونَنِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: يَعْبُدُونَنِي فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ هُمْ يَعْبُدُونَنِي وَيَعْنِي بِالِاسْتِئْنَافِ الْجُمْلَةَ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ وَحْدَهُ وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ أَيْ هُمْ يَعْبُدُونَنِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ جَعَلْتَهُ حَالًا عَنْ وَعْدِهِمْ أَيْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فَمَحَلُّهُ النَّصْبُ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ قَبْلَهُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَعْبُدُونَنِي حال من لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ لَا يُشْرِكُونَ بَدَلٌ مِنْ يَعْبُدُونَنِي أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي يَعْبُدُونَنِي مُوَحِّدِينَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ الْكُفْرُ كَانَ مُقَابِلَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَهَبَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا كُفْرٌ بَعْدَ

إِيمَانٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كُفْرَ هَذِهِ النِّعَمِ إِذَا وَقَعَتْ وَيَكُونُ الْفِسْقُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ. قِيلَ: ظَهَرَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ كَفَرَ يُرِيدُ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ كَقَوْلِهِ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ «1» فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي فِسْقِهِمْ حَيْثُ كَفَرُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَقِيمُوا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَيُحَسِّنُهُ الْخِطَابُ فِي مِنْكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَاصِلٌ. وَإِنْ طَالَ لِأَنَّ حَقَّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَكُرِّرَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ تَوْكِيدًا لِوُجُوبِهَا انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَحْسَبَنَّ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالتَّقْدِيرُ، لَا تَحْسَبَنَّ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ وَلَا يَنْدَرِجُ فِيهِ الرَّسُولُ، وَقَالُوا: هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحُسْبَانِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ لِلْغَيْبَةِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ، وَالرَّسُولُ لَا يَنْدَرِجُ فِي حَاسِبٍ وَقَالُوا: يَكُونُ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ لِلرَّسُولِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِرَاءَةِ التَّاءِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَصْرِيًّا وَلَا كُوفِيًّا إِلَّا وَهُوَ يُخَطِّئُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ لَحْنٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِيَحْسَبَنَّ، وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا أَبُو حَاتِمٍ انْتَهَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ ضَعِيفٌ وَأَجَازَهُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ تقديره أنفسهم. ومُعْجِزِينَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ قَالَ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: مُعْجِزِينَ المفعول الأول. وفِي الْأَرْضِ الثَّانِي قِيلَ: وَهُوَ خَطَأٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ فِي الْأَرْضِ تَعَلُّقُهُ بِمُعْجِزِينَ، فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مُتَّبِعًا قَوْلَ الْكُوفِيِّينَ. فَقَالَ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هُمَا الْمَفْعُولَانِ وَالْمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَحَدًا يُعْجِزُ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَطْمَعُوا لَهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنًى قَوِيٌّ جَيِّدٌ انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا: يَكُونُ الْأَصْلُ: لَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَكَانَ الَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَيْنِ لَمَّا كَانَتْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ اقْتَنَعَ بِذِكْرِ اثْنَيْنِ عَنْ ذِكْرِ الثَّالِثِ انْتَهَى. وَقَدْ رَدَدْنَا هَذَا التَّخْرِيجَ فِي آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ

_ (1) سورة النحل: 16/ 112.

[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 61]

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا «1» فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَجَعَلَ الْفَاعِلَ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِنَ الضَّمَائِرِ الَّتِي يُفَسِّرُهَا مَا بَعْدَهَا فَلَا يَتَقَدَّرُ لَا يَحْسَبَنَّهُمْ إِذْ لَا يَجُوزُ ظَنَّهُ زَيْدٌ قَائِمًا عَلَى تَقْدِيرِ رَفْعِ زَيْدٍ بِظَنَّهُ. وَمَأْواهُمُ النَّارُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطَفَ عَلَى لَا تَحْسَبَنَّ كَأَنَّهُ قِيلَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يَفُوتُونَ اللَّهَ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُقْسِمُونَ جَهْدَ أَيْمَانِهِمُ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ النظام لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَمَأْواهُمُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ بَلْ هُمْ مَقْهُورُونَ وَمَأْواهُمُ النَّارُ انْتَهَى. وَاسْتُبْعِدَ الْعَطْفُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَا تَحْسَبَنَّ نَهْيٌ وَمَأْواهُمُ النَّارُ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ فَلَمْ يُنَاسِبْ عِنْدَهُ أَنْ يَعْطِفَ الْجُمْلَةَ الْخَبَرِيَّةَ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ لِتَبَايُنِهِمَا وَهَذَا مَذْهَبُ قَوْمٍ. وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يَفُوتُونَ اللَّهَ فَتَأَوَّلَ جُمْلَةَ النَّهْيِ بِجُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ حَتَّى تَقَعَ الْمُنَاسَبَةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَجُوزُ عَطْفُ الْجُمَلِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ لَمْ تَتَّحِدْ فِي النَّوْعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 61] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 188.

رُوِيَ أَنْ عُمَرَ بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُدْلِجٌ، وَكَانَ نَائِمًا فَدَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ وَدَخَلَ، فَاسْتَيْقَظَ وَجَلَسَ فَانْكَشَفَ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالَ عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ نَهَى أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ. ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الرَّسُولِ فَوَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ نَزَلَتْ فَخَرَّ سَاجِدًا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي مَرْثَدٍ قِيلَ: دَخَلَ عَلَيْهَا غُلَامٌ لَهَا كَبِيرٌ فِي وَقْتٍ كَرِهَتْ دُخُولَهُ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ خَدَمَنَا وَغِلْمَانَنَا يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا حَالًا نَكْرَهُهَا. لِيَسْتَأْذِنْكُمُ أَمْرٌ وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ. وَقِيلَ: بِنَسْخِ ذَلِكَ إِذْ صَارَ لِلْبُيُوتِ أَبْوَابٌ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَآخَرُونَ، الْعَبِيدُ دُونَ الْإِمَاءِ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: الْإِمَاءُ دُونَ الْعَبِيدِ. وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ عَامٌّ فِي الأطفال عبيد كَانُوا أَوْ أَحْرَارًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ وَطَلْحَةُ الْحُلُمَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمٍ. وَقِيلَ مِنْكُمْ أَيْ مِنَ الْأَحْرَارِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَ اسْتِئْذَانَاتٍ لِأَنَّكَ إِذَا ضَرَبْتَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ» وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ مَعْنَى ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثُ أَوْقَاتٍ وَجَعَلُوا مَا بَعْدَهُ مِنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَلْ تَبْقَى ثَلاثَ مَرَّاتٍ عَلَى مَدْلُولِهَا. مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقِيَامِ مِنَ الْمَضَاجِعِ وَطَرْحِ مَا يَنَامُ فِيهِ مِنَ الثِّيَابِ وَلُبْسِ ثِيَابِ الْيَقَظَةِ وَقَدْ يَنْكَشِفُ النَّائِمُ. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ لِأَنَّهُ وَقْتُ وَضْعِ الثِّيَابِ لِلْقَائِلَةِ لِأَنَّ النَّهَارَ إِذْ ذَاكَ يَشْتَدُّ حَرُّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. ومِنْ فِي مِنَ الظَّهِيرَةِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَيْ حِينَ ذَلِكَ هُوَ الظَّهِيرَةُ، قَالَ: أَوْ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ

حر الظهيرة وحِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ مِنْ قَبْلِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّجَرُّدِ مِنْ ثِيَابِ الْيَقَظَةِ وَالِالْتِحَافِ بِثِيَابِ النَّوْمِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ سَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَوْرَةً لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهُمْ وَتَحَفُّظُهُمْ فِيهَا، وَالْعَوْرَةُ الْخَلَلُ وَمِنْهُ أَعْوَرَ الْفَارِسُ وَأَعْوَرَ الْمَكَانُ، وَالْأَعْوَرُ الْمُخْتَلُّ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثَلاثَ بِالنَّصْبِ قَالُوا: بَدَلٌ مِنْ ثَلاثُ عَوْراتٍ وَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَوْقَاتَ ثَلاثُ عَوْراتٍ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا يَصِحُّ يَعْنِي الْبَدَلَ بِتَقْدِيرِ أَوْقَاتِ عَوْراتٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مقامه. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ أَيْ هُنَّ ثَلاثُ عَوْراتٍ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَوْراتٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ وَبَنِي تَمِيمٍ وَعَلَى رَفْعِ ثَلاثَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَكُونُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ الْجُمْلَةَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْوَصْفِ وَالْمَعْنَى هُنَّ ثَلاثُ عَوْراتٍ مَخْصُوصَةٌ بِالِاسْتِئْذَانِ، وَإِذَا نَصَبْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحَلٌّ وَكَانَ كَلَامًا مُقَرِّرًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ خَاصَّةً. بَعْدَهُنَّ أَيْ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِمْ فِيهِنَّ حُذِفَ الْفَاعِلُ وَحَرْفُ الْجَرِّ بِفِي بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِنَّ ثُمَّ حُذِفَ الْمَصْدَرُ وَقِيلَ لَيْسَ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ جُناحٌ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ يمضون ويجيؤون وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُمْ طَوَّافُونَ أَيِ الْمَمَالِيكُ وَالصِّغَارُ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَدْخُلُونَ عَلَيْكُمْ فِي الْمَنَازِلِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً بِغَيْرِ إِذْنٍ إِلَّا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ. وَجَوَّزُوا فِي بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا لَكِنَّ الْجَرَّ قَدَّرُوهُ طَائِفٌ عَلَى بَعْضٍ وَهُوَ كَوْنٌ مَخْصُوصٌ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحُذِفَ لِأَنَّ طَوَّافُونَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يَطُوفُ بَعْضُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْضُكُمْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ طَوَّافُونَ ولا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بَدَلًا مِنْ طَوَّافُونَ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ هُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ. وَإِنْ جَعَلْتَهُ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي طَوَّافُونَ فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا إِنْ قُدِّرَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ غَيْبَةٍ لِتَقْدِيرِ الْمُبْتَدَأِ هُمْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ هُمْ يَطُوفُ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ وَهُوَ لَا يَصِحُّ. فَإِنْ جَعَلْتَ التَّقْدِيرَ أَنْتُمْ يَطُوفُ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ فَيَدْفَعُهُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْكُمْ بَدَلٌ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمَطُوفُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتُمْ طَوَّافُونَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ طَائِفُونَ فَتَعَارَضَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ طَوَّافِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا بَاتَ الرَّجُلُ خَادِمُهُ مَعَهُ فَلَا اسْتِئْذَانَ عَلَيْهِ وَلَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ.

وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ أَيْ مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَأَقْرِبَائِكُمْ فَلْيَسْتَأْذِنُوا أَيْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي ثَلَاثِ الْأَوْقَاتِ. كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي الْبَالِغِينَ. وَقِيلَ: الْكِبَارُ مِنْ أَوْلَادِ الرَّجُلِ وَأَقْرِبَائِهِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِابْنَ وَالْأَخَ الْبَالِغَيْنِ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا هُنَا فِيمَا بِهِ الْبُلُوغُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي الْفِقْهِ. كَذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ اسْتِئْذَانِ الْمَمَالِيكِ وَغَيْرِ الْبُلَّغِ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى النِّسَاءَ بِالتَّحَفُّظِ مِنَ الرِّجَالِ وَمِنَ الْأَطْفَالِ غَيْرِ الْبُلَّغِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ عَوْرَتِهِنَّ اسْتُثْنِيَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي كَبُرْنَ وَقَعَدْنَ عَنِ الْمَيْلِ إِلَيْهِنَّ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ فَقَالَ وَالْقَواعِدُ وَهُوَ جَمْعُ قَاعِدٍ مِنْ صِفَاتِ الْإِنَاثِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: امْرَأَةٌ قَاعِدٌ قَعَدَتْ عَنِ الْحَيْضِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ بَعْدَ الْكِبَرِ يُكْثِرْنَ الْقُعُودَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ لِقُعُودِهِنَّ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فَأَيِسْنَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُنَّ طَمَعٌ فِي الْأَزْوَاجِ. وَقِيلَ قَعَدْنَ عَنِ الحيض والحبل. وثِيابَهُنَّ الْجِلْبَابُ وَالرِّدَاءُ وَالْقِنَاعُ الَّذِي فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْمُلَاءُ الَّذِي فَوْقَ الثِّيَابِ أَوِ الْخُمُرُ أَوِ الرِّدَاءُ وَالْخِمَارُ أَقْوَالٌ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَبُرَتْ امْرَأَةٌ وَاضِعٌ أَيْ وَضَعَتْ خِمَارَهَا. غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أَيْ غَيْرَ مُتَظَاهِرَاتٍ بِالزِّينَةِ لِيُنْظَرَ إِلَيْهِنَّ، وَحَقِيقَةُ التَّبَرُّجِ إِظْهَارُ مَا يَجِبُ إِخْفَاؤُهُ أَوْ غَيْرُ قَاصِدَاتِ التَّبَرُّجِ بِالْوَضْعِ، وَرُبَّ عَجُوزٍ يَبْدُو مِنْهَا الْحِرْصُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ بِهَا جَمَالٌ. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ عَنْ وَضْعِ الثِّيَابِ وَيَتَسَتَّرْنَ كَالشَّبَابِ أَفْضَلُ لَهُنَّ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُ كُلُّ قَائِلٍ عَلِيمٌ بِالْمَقَاصِدِ. وَفِي ذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ تَوَعُّدٌ وَتَحْذِيرٌ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» تَحَرَّجَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُوَاكَلَةِ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ، وَالْأَعْرَجِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَرِيضِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ اسْتِيفَاءَ الطَّعَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ قِيلَ: وَتَحَرَّجُوا عَنْ أَكْلِ طَعَامِ الْقَرَابَاتِ فَنَزَلَتْ مُبِيحَةً جَمِيعَ هَذِهِ الْمَطَاعِمِ وَمُبَيِّنَةً أَنَّ تِلْكَ إِنَّمَا هِيَ فِي التَّعَدِّي وَالْقِمَارِ وَمَا يَأْكُلُهُ الْمُؤْمِنُ مِنْ مَالِ مَنْ يَكْرَهُ أَهْلَهُ أَوْ بِصَفْقَةٍ فَاسِدَةٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ كَانُوا إِذَا نَهَضُوا إِلَى الْغَزْوِ وَخَلَّفُوا أَهْلَ الْعُذْرِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ تَحَرَّجُوا مِنْ أَكْلِ مَالِ الْغَائِبِ فَنَزَلَتْ مُبِيحَةً لَهُمْ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ إِذَا كَانَ الْغَائِبُ قَدْ بَنَى عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا ذَهَبَ بِأَهْلِ الْعُذْرِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 188.

إِلَى بَيْتِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ قَرَابَاتِهِ فَتَحَرَّجَ أَهْلُ الْأَعْذَارِ مِنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْبَعْثِ تَجْتَنِبُ الْأَكْلَ مَعَ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ فَبَعْضُهُمْ تَقَذُّرًا لِمَكَانِ جَوَلَانِ يَدِ الْأَعْمَى، وَلِانْبِسَاطِ الْجِلْسَةِ مَعَ الْأَعْرَجِ، وَلِرَائِحَةِ الْمَرِيضِ وَهِيَ أَخْلَاقٌ جَاهِلِيَّةٌ وَكِبْرٌ. فَنَزَلَتْ وَاسْتُبْعِدَ هَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا السَّبَبَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ أَنْ تَأْكُلُوا مَعَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّ عَلَى في معنى أَيْ فِي مُوَاكَلَةِ الْأَعْمَى وَهَذَا بِعِيدٌ جِدًّا. وَفِي كِتَابِ الزَّهْرَاوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْأَعْذَارِ تَحَرَّجُوا فِي الْأَكْلِ مَعَ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ عُذْرِهِمْ فَنَزَلَتْ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا يَكُونُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ أَهْلِ الْعُذْرِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْمَطَاعِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ الْحَرَجُ الْمَنْفِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعُذْرِ هُوَ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِمَّا رُخِّصَ لَهُمْ فِيهِ، وَالْحَرَجُ الْمَنْفِيُّ عَمَّنْ بَعْدَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ إِذْ مُتَعَلِّقُ الْحَرَجَيْنِ مختلف. وإن كان قَدِ اجْتَمَعَا فِي انْتِفَاءِ الْحَرَجِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَلَمْ يَذْكُرْ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ بُيُوتِكُمْ لِأَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ بَعْضُهُ وَحُكْمُهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَبَيْتُهُ بَيْتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الْمَرْءُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» . وَمَعْنَى مِنْ بُيُوتِكُمْ. مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي فِيهَا أَزْوَاجُكُمْ وَعِيَالُكُمْ، وَالْوَلَدُ أَقْرَبُ مِنْ عَدَدٍ مِنَ الْقَرَابَاتِ فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ هُوَ الْقُرَابَةَ كَانَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ أَوْلَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ إِمَّهَاتِكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ وَكِيلُ الرَّجُلِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ التَّمْرِ وَيَشْرَبَ مِنَ اللَّبَنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْعَبْدُ لِأَنَّ مَالَهُ لَكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: خَزَائِنُ بُيُوتِكُمْ إِذَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِيحَهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الزَّمْنَى مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي سُلِّمَتْ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحُهَا. وَقِيلَ: وَلِيُّ الْيَتِيمِ يَتَنَاوَلُ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ مَا قَالَ تَعَالَى وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «1» وَمَفَاتِحُهُ بِيَدِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَلَكْتُمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ خَفِيفَةً. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً، وَالْجُمْهُورُ مَفاتِحَهُ جَمْعَ مِفْتَحٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ مَفَاتِيحَهُ جَمْعَ مِفْتَاحٍ، وَقَتَادَةُ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مِفْتَاحَهُ مُفْرَدًا. أَوْ صَدِيقِكُمْ قُرِئَ بِكَسْرِ الصَّادِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الدَّالِ حَكَاهُ حُمَيْدٌ الْخَزَّازُ، قَرَنَ اللَّهُ الصَّدِيقَ بِالْقَرَابَةِ الْمَحْضَةِ. قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَنْ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَخُوكَ أَمْ صَدِيقُكَ؟ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ أَخِي إِلَّا إِذَا كَانَ صَدِيقِي. وَقَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِقَتَادَةَ أَلَا أَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْحَبِّ؟ قَالَ: أَنْتَ لِي صَدِيقٌ فَمَا هَذَا الِاسْتِئْذَانُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

_ (1) سورة النساء: 4/ 6.

الصَّدِيقُ أَوْكَدُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَلَا تَرَى اسْتِغَاثَةَ الْجَهَنَّمِيِّينَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «1» وَلَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَمَعْنَى أَوْ صَدِيقِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَصْدِقَائِكُمْ، وَالصَّدِيقُ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَالْخَلِيطِ وَالْقَطِينِ، وَقَدْ أَكَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ مِنْ بَيْتِهِ وَهُوَ غَائِبٌ فَجَاءَ فَسُرَّ بِذَلِكَ وَقَالَ: هَكَذَا وَجَدْنَاهُمْ يَعْنِي كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ صَدِيقِهِ فَيَأْخُذُ مِنْ كِيسِهِ فَيُعْتِقُ جَارِيَتَهُ الَّتِي مَكَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ. وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: مِنْ عِظَمِ حُرْمَةِ الصَّدِيقِ أَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْأُنْسِ وَالثِّقَةِ وَالِانْبِسَاطِ وَتَرْكِ الْحِشْمَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ وَالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: نِلْتُ مَا نِلْتُ حَتَّى الْخِلَافَةَ وَأَعْوَزَنِي صَدِيقٌ لَا أَحْتَشِمُ مِنْهُ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا دَلَّ ظَاهِرُ الْحَالِ عَلَى رِضَا الْمَالِكِ قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْإِذْنِ الصَّرِيحِ. وَانْتَصَبَ جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً عَلَى الْحَالِ أَيْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي حَيٍّ مِنْ كِنَانَةَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ فَرُبَّمَا قَعَدُوا لِطَعَامٍ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَجِدُ مَنْ يُؤَاكِلُهُ حَتَّى يُمْسِيَ فَيُضْطَرُّ إِلَى الْأَكْلِ وَحْدَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ ... أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكِلَهُ وَحْدِي وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا مَعَهُ. وَقِيلَ فِي قَوْمٍ: تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا مَخَافَةَ أَنْ يَزِيدَ أَحَدُهُمْ على الآخرة فِي الْأَكْلِ. وَقِيلَ أَوْ صَدِيقِكُمْ هُوَ إِذَا دَعَاكَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَحَسْبُ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا «2» الْآيَةَ. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيُّ: الْمَسَاجِدُ فَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ قَالَ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: الْبُيُوتُ الْمَسْكُونَةُ وَقَالُوا يَدْخُلُ فِيهَا غَيْرُ الْمَسْكُونَةِ، فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بُيُوتًا خَالِيَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَلى أَنْفُسِكُمْ عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَلَى أَهَالِيكُمْ فِي بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ. وَقِيلَ: بُيُوتُ الْكُفَّارِ

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 100. (2) سورة النور: 24/ 27.

[سورة النور (24) : الآيات 62 إلى 64]

فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ لِتَأْكُلُوا، فابدؤوا بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ فِيهَا مِنْكُمْ دِينًا وقرابة. وتَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ ثَابِتَةً بِأَمْرِهِ مَشْرُوعَةً مِنْ لَدُنْهُ، أَوْ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَالتَّحِيَّةَ طَلَبٌ لِلسَّلَامَةِ وَحَيَاةٌ لِلْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ وَوَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ وَالطِّيبِ لِأَنَّهَا دَعْوَةُ مُؤْمِنٍ لِمُؤْمِنٍ يُرْجَى بِهَا مِنَ الله زيادة الخير وَطِيبُ الرِّزْقِ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مُبَارَكَةً بِالْأَجْرِ. وَقِيلَ: بُورِكَ فِيهَا بِالثَّوَابِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي السَّلَامِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَعَ الرَّحْمَةِ عِشْرُونَ، وَمَعَ الْبَرَكَاتِ ثَلَاثُونَ. وَانْتَصَبَ تَحِيَّةً بِقَوْلِهِ فَسَلِّمُوا لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَحَيُّوا كَقَوْلِكَ: قَعَدْتُ جلوسا. [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) لَمَّا افْتَتَحَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها «1» وَذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالْحُدُودِ مِمَّا أَنْزَلَهُ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَتَمَهَا بِمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ التَّتَابُعِ وَالتَّشَايُعِ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ وَمِنْ طَلَبِ اسْتِئْذَانِهِ إِنْ عَرَضَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَارِضٌ، وَمِنْ تَوْقِيرِهِ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيَهُمْ عَظِيمَ الْجِنَايَةِ فِي ذَهَابِ الذَّاهِبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ فَجَعَلَ تَرْكَ ذَهَابِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ثَالِثَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَهُمَا كَالتَّسْبِيبِ لَهُ وَالنَّشَاطِ لِذِكْرِهِ. وَذَلِكَ مَعَ تَصْدِيرِ الْجُمْلَةِ بِإِنَّمَا وَارْتِفَاعُ الْمُؤْمِنِينَ مُبْتَدَأٌ وَمُخْبَرٌ عَنْهُ بِمَوْصُولٍ أَحَاطَتْ صِلَتُهُ بِذِكْرِ الْإِيمَانَيْنِ، ثُمَّ عقبه

_ (1) سورة النور: 24/ 1.

بِمَا يَزِيدُهُ تَوْكِيدًا وَتَسْدِيدًا بِحَيْثُ أَعَادَهُ عَلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَضَمَّنَهُ شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الِاسْتِئْذَانَ كَالْمِصْدَاقِ لِصِحَّةِ الْإِيمَانَيْنِ، وَعَرَّضَ بِحَالِ الْمَاضِينَ وتسللهم لو إذا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ وَيَأْذَنَ لَهُمْ، أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ عَلَّقَ الْأَمْرَ بَعْدَ وُجُودِ اسْتِئْذَانِهِمْ بِمَشِيئَتِهِ وَإِذْنِهِ لِمَنِ اسْتَصْوَبَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، وَالْأَمْرُ الْجَامِعُ الَّذِي يُجْمَعُ لَهُ النَّاسُ، فَوُصِفَ بِالْجَمْعِ عَلَى الْمَجَازِ وَذَلِكَ نَحْوُ مُقَابَلَةِ عَدُوٍّ وَتَشَاوُرٍ فِي أَمْرِهِمْ أَوْ تَضَامٍّ لِإِرْهَابِ مُخَالِفٍ، أَوْ مَا يَنْتِجُ فِي حِلْفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْأَمْرُ الَّذِي يَعُمُّ بِضَرَرِهِ أَوْ بِنَفْعِهِ وَفِي قَوْلِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أَنَّهُ خَطْبٌ جَلِيلٌ لَا بُدَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مِنْ ذَوِي رَأْيٍ وَقُوَّةٍ يُظَاهِرُونَهُ عَلَيْهِ وَيُعَاوِنُونَهُ وَيَسْتَضِيءُ بِآرَائِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ فِي كَفَاءَتِهِ، فَمُفَارَقَةُ أَحَدِهِمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى قَلْبِهِ وَيُشَعِّثُ عَلَيْهِ رَأْيَهُ. فَمِنْ ثَمَّ غَلَّظَ عَلَيْهِمْ وَضَيَّقَ الْأَمْرَ فِي الِاسْتِئْذَانِ مَعَ الْعُذْرِ الْمَبْسُوطِ وَمَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَاعْتِرَاضِ مَا يُهِمُّهُمْ ويعينهم، وَذَلِكَ قَوْلُهُ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ وَذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُسْتَأْذِنِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يُحَدِّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِالذَّهَابِ وَلَا يَسْتَأْذِنُوا فِيهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَكَانَ قَوْمٌ يَتَسَلَّلُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ وَمُقَدَّمِيهِمْ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ يُظَاهِرُونَهُمْ وَلَا يَخْذُلُونَهُمْ فِي نَازِلَةٍ مِنَ النَّوَازِلِ، وَلَا يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُمْ، وَالْأَمْرُ فِي الْإِذْنِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ أَذِنَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْذَنْ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ رَأْيُهُ انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرٌ حَسَنٌ وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى إِمَامُ الْإِمْرَةِ إِذَا كَانَ النَّاسُ مَعَهُ مُجْتَمِعِينَ لِمُرَاعَاةِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ فَلَا يَذْهَبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الْمَجْمَعِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ إِذْ قَدْ يَكُونُ لَهُ رَأْيٌ فِي حُضُورِ ذَلِكَ الذَّاهِبِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ: الْجُمُعَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَامِعِ، فَإِذَا عَرَضَ لِلْحَاضِرِ مَا يَمْنَعُهُ الْحُضُورَ مِنْ سَبْقِ رُعَافٍ فَلْيَسْتَأْذِنْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَادٌ: مَنْ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ فَلْيَخْرُجْ دُونَ إِذْنٍ وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى إِنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَعَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: هُوَ كُلُّ صَلَاةٍ فِيهَا خُطْبَةٌ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي الْجِهَادِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الِاجْتِمَاعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قِيلَ: فِي قَوْلِهِ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أُرِيدَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٍ. لَا تَجْعَلُوا خِطَابٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ التَّدَاعِي بِالْأَسْمَاءِ عَلَى

عَادَةِ الْبَدَاوَةِ، أُمِرُوا بِتَوْقِيرِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْسَنِ مَا يُدْعَى بِهِ نَحْوَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى بَعْضِ جُفَاةِ مَنْ أَسْلَمَ كَانَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ وَفِي قَوْلِهِ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً إِشَارَةً إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ بَعْضِهِمُ لِبَعْضٍ إِذْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَنْ دَعَاهُ لَا مَنْ دَعَا غَيْرَهُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ يَا مُحَمَّدُ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: نَهَاهُمْ عَنِ الْإِبْطَاءِ وَالتَّأَخُّرِ إِذَا دعاهم، واختارهم الْمُبَرِّدُ وَالْقَفَّالُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِمَسَاقِ الْآيَةِ وَنَظْمِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا احْتَاجَ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عِنْدَهُ لِأَمْرٍ فَدَعَاكُمْ فَلَا تَتَفَرَّقُوا عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَقِيسُوا دُعَاءَهُ عَلَى دُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا وَرُجُوعِكُمْ عَنِ الْمَجْمَعِ بِغَيْرِ إِذْنِ الدَّاعِي انْتَهَى. وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيُحْتَمَلُ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ رَبَّهُ مِثْلَ مَا يَدْعُو صَغِيرُكُمْ كَبِيرَكُمْ وَفَقِيرُكُمْ غَنِيَّكُمْ، يَسْأَلُهُ حَاجَةً فَرُبَّمَا أَجَابَهُ وَرُبَّمَا رَدَّهُ، وَإِنَّ دَعَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْمُوعَةٌ مُسْتَجَابَةٌ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا هُوَ لَا تَحْسَبُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَيْ دُعَاؤُهُ عَلَيْكُمْ مُجَابٌ فَاحْذَرُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدْفَعُ هَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ نَبِيِّكُمْ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَبَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَدَلَ قَوْلِهِ بَيْنَكُمْ ظَرْفًا قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الرَّسُولِ فَإِنَّمَا صَارَ بَدَلًا لِاخْتِلَافِ تَعْرِيفِهِمَا بِاللَّامِ مَعَ الْإِضَافَةِ، يَعْنِي أَنَّ الرَّسُولَ مَعْرِفَةٌ بِاللَّامِ وَنَبِيَّكُمْ مَعْرِفَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الضَّمِيرِ فَهُوَ فِي رُتْبَةِ الْعَلَمِ، فَهُوَ أَكْثَرُ تَعْرِيفًا مِنْ ذِي اللَّامِ فَلَا يَصِحُّ النَّعْتُ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ النَّعْتَ يَكُونُ دُونَ الْمَنْعُوتِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فِي التَّعْرِيفِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِكَوْنِهِمَا مَعْرِفَتَيْنِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا قَرَّرَ مِنِ اخْتِيَارِهِ الْبَدَلَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النَّعْتُ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ كَالْبَيْتِ لِلْكَعْبَةِ إِذْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ لَفْظِ الرَّسُولِ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَسَاوَيَا فِي التَّعْرِيفِ. وَمَعْنَى يَتَسَلَّلُونَ يَنْصَرِفُونَ قَلِيلًا قَلِيلًا عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي خُفْيَةٍ، وَلِوَاذُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ أَيْ هَذَا يَلُوذُ بِهَذَا وَهَذَا بِذَاكَ بِحَيْثُ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ اسْتِتَارًا مِنَ الرَّسُولِ. وَقَالَ الْحَسَنُ لِواذاً فِرَارًا مِنَ الْجِهَادِ. وَقِيلَ: فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ يَنْصَرِفُ الْمُنَافِقُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَيَسْتَأْذِنُ الْمُؤْمِنُونَ إِذَا عَرَضَتْ لَهُمْ حَاجَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ لوذا خِلَافًا. وَقَالَ أَيْضًا يَتَسَلَّلُونَ مِنَ الصَّفِّ فِي الْقِتَالِ وَقِيلَ: يَتَسَلَّلُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى كِتَابِهِ

وَعَلَى ذِكْرِهِ. وَانْتَصَبَ لِواذاً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَلَاوِذِينَ، ولِواذاً مَصْدَرُ لَاوَذَ صَحَّتِ الْعَيْنُ فِي الْفِعْلِ فَصَحَّتْ فِي الْمَصْدَرِ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرَ لَاذَ لَكَانَ لِيَاذًا كَقَامَ قِيَامًا. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ لِواذاً بِفَتْحِ اللَّامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ لَاذَ وَلَمْ يُقْبَلْ لِأَنَّهُ لَا كَسْرَةَ قَبْلَ الْوَاوِ فَهُوَ كَطَافَ طَوَافًا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ لَاوَذَ وَكَانَتْ فَتْحَةُ اللَّامِ لِأَجْلِ فَتْحَةِ الْوَاوِ وَخَالَفَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَقُولُ: خَالَفْتُ أَمْرَ زَيْدٍ وَبِإِلَى تَقُولُ: خَالَفْتُ إِلَى كَذَا فَقَوْلُهُ عَنْ أَمْرِهِ ضَمَّنَ خَالَفَ مَعْنَى صَدَّ وَأَعْرَضَ فَعَدَّاهُ بِعَنْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ يَقَعُ خِلَافُهُمْ بَعْدَ أَمْرِهِ كَمَا تَقُولُ كَانَ الْمَطَرُ عن ريح وعَنْ هِيَ لِمَا عَدَا الشَّيْءَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ عَنْ زَائِدَةٌ أَيْ أَمْرِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَذَرِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَنْ الضَّمِيرَ فِي أَمْرِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ. وَقِيلَ عَلَى الرَّسُولِ. وَقُرِئَ يُخَلِّفُونَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يُخَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ أَمْرِهِ، وَالْفِتْنَةُ الْقَتْلُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَوْ بَلَاءٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ كُفْرٌ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ، أَوِ إِسْبَاغُ النِّعَمِ اسْتِدْرَاجًا قَالَهُ الْجَرَّاحُ، أَوْ قَسْوَةُ الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ قَالَهُ الْجُنَيْدُ، أَوْ طَبْعٌ عَلَى الْقُلُوبِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ وَهِيَ فِي الدُّنْيَا. أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ الْقَتْلُ فِي الدُّنْيَا. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُكَلَّفِ فِيمَا يُعَامِلُهُ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ مِنْ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ. قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَفِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَدْخَلَ قَدْ لِيُؤَكِّدَ عِلْمَهُ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ عَنِ الدِّينِ وَالنِّفَاقِ، وَيَرْجِعُ تَوْكِيدُ الْعِلْمِ إِلَى تَوْكِيدِ الْوَعِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ قَدْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا، فَوَافَقَتْ رُبَّمَا فِي خُرُوجِهَا إِلَى مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: فَإِنْ يُمْسِ مَهْجُورَ الْفِنَاءِ فَرُبَّمَا ... أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودُ وَنَحْوٌ مَنْ ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرٍ: أَخِي ثِقَةٍ لَا يُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ انْتَهَى. وَكَوْنُ قَدْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ أَفَادَتِ التَّكْثِيرَ قَوْلُ بَعْضِ النُّحَاةِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا التَّكْثِيرُ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقَةِ الْكَلَامِ فِي الْمَدْحِ وَالصَّحِيحُ فِي رُبَّ أَنَّهَا لِتَقْلِيلِ الشَّيْءِ أَوْ

تَقْلِيلِ نَظِيرِهِ فَإِنْ فُهِمَ تَكْثِيرٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ رُبَّ. وَلَا قَدْ إِنَّمَا هُوَ مِنْ سِيَاقَةِ الْكَلَامِ، وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُرْجَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَمْرٍو مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالْتَفَتَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي أَنْتُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي يُرْجَعُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ خِطَابًا عَامًّا وَيَكُونَ يُرْجَعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَيَوْمَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَنَصْبُهُ نَصْبُ الْمَفْعُولِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ وَالْعِلْمُ الظَّاهِرُ لَكُمْ أَوْ نَحْوُ هَذَا يَوْمَ فَيَكُونُ النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ. مُفْرَدَاتُ سُورَةِ الْفُرْقَانِ الْهَبَاءُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: مِثْلُ الْغُبَارِ يَدْخُلُ الْكُوَّةَ مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْهَبْوَةُ وَالْهَبَاءُ التُّرَابُ الدَّقِيقُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ يُقَالُ مِنْهُ إِذَا ارْتَفَعَ هَبَا يَهْبُو هَبْوًا، وَأَهْبَيْتُهُ أَنَا إِهْبَاءً. وَقِيلَ: هُوَ الشَّرَرُ الطَّائِرُ مِنَ النَّارِ إِذَا أضرمت. النَّثْرُ: التَّفْرِيقُ. الْعَضُّ: وَقْعُ الْأَسْنَانِ عَلَى الْمَعْضُوضِ بِقُوَّةٍ وَفِعْلُهُ عَلَى وَزْنِ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَضَضْتُ بِفَتْحِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ. فُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ مَنْ يَعْقِلُ. الْجُمْلَةُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ الْمُجْتَمِعُ غَيْرُ الْمُفَرَّقِ. التَّرْتِيلُ سَرْدُ اللَّفْظِ بَعْدَ اللَّفْظِ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ يَسِيرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ أَيْ مُفَلَّجُ الْأَسْنَانِ. السُّبَاتُ: الرَّاحَةُ، وَمِنْهُ يَوْمُ السَّبْتِ لِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ مِنَ الِاسْتِرَاحَةِ فِيهِ وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ إِذَا اسْتَرَاحَ مِنْ تَعَبِ الْعِلَّةِ مَسْبُوتٌ قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السُّبَاتُ الْمَوْتُ وَالْمَسْبُوتُ الْمَيِّتُ لِأَنَّهُ مَقْطُوعُ الْحَيَاةِ. مَرَجَ: قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ خَلَطَ وَمَرَجَ الْأَمْرُ اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ. وَقِيلَ: مَرَجَ وَأَمْرَجَ أَجْرَى، وَمَرَجَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَأَمْرَجَ لُغَةُ نَجْدٍ. الْعَذْبُ: الْحُلْوُ. وَالْفُرَاتُ الْبَالِغُ فِي الْحَلَاوَةِ. الْمِلْحُ: الْمَالِحُ. وَالْأُجَاجُ الْبَالِغُ فِي الْمُلُوحَةِ. وَقِيلَ: الْمُرُّ. وَقِيلَ: الْحَارُّ. الصِّهْرُ، قَالَ الْخَلِيلُ: لَا يُقَالُ لِأَهْلِ بَيْتِ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَصْهَارٌ، وَلِأَهْلِ بَيْتِ الرَّجُلِ إِلَّا أَخْتَانٌ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ أَصْهَارًا كُلَّهُمْ. السِّرَاجُ: الشَّمْسُ. الْهَوْنُ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. الْغُرْفَةُ: الْعُلِّيَّةُ وَكُلُّ بِنَاءٍ عَالٍ فَهُوَ غُرْفَةٌ. عباء مِنَ الْعِبْءِ وَهُوَ الثَّقِيلُ، يُقَالُ: عَبَأْتُ الْجَيْشَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ هَيَّأْتُهُ لِلْقِتَالِ، وَيُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِهِ أَيْ مَا اعْتَدَدْتُ بِهِ كَقَوْلِكَ: مَا اكْتَرَثْتُ بِهِ.

سورة الفرقان

سورة الفرقان [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ وَلا نُشُوراً «2» فَهُوَ مَكِّيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ مُبَايَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلرَّسُولِ وَأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ تَوَقَّفَ انْفِصَالُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى إِذْنِهِ وَحَذَّرَ مَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ غَايَةً فِي التَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ نَاسَبَ أَنْ يَفْتَتِحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ فِي صِفَاتِهِ عَنِ النَّقَائِصِ كَثِيرُ الْخَيْرِ، وَمِنْ خَيْرِهِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلَى رَسُولِهِ مُنْذِرًا لَهُمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ إِطْمَاعٌ فِي خيره وتحذير من عقابه. وتَبارَكَ تَفَاعَلَ مُطَاوِعُ بَارَكَ وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يَجِيءُ مِنْهُ مُضَارِعٌ وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَصْدَرٌ. وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ: تَبَارَكْتَ لَا مُعْطٍ لِشَيْءٍ مَنَعْتَهُ ... وَلَيْسَ لِمَا أَعْطَيْتَ يَا رَبِّ مَانِعُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: تَمَجَّدَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَظَّمَ. وَحَكَى الأصمعي تبارك عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ، أَيْ تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ. فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةُ ذَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هو من البركة وهي التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ، فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَجَاءَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى الَّذِي وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِعْجَازِهِ فَصَارَتِ الصِّلَةُ مَعْلُومَةً بِحَسَبِ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ لِمَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ فُرْقَانًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى عَبْدِهِ وَهُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى عِبَادِهِ أَيِ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ كَمَا قَالَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ «3» وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «4» وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 68- 70. (2) سورة الفرقان: 25/ 3. (3) سورة الأنبياء: 21/ 10. [.....] (4) سورة البقرة: 2/ 136.

الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَبِعَبْدِهِ مَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ فَيَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ كَقَوْلِهِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «1» وَالضَّمِيرُ فِي لِيَكُونَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَائِدٌ عَلَى عَبْدِهِ وَيَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ الْعُمْدَةُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ وَهُوَ مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «2» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَذِيراً بِمَعْنَى مُنْذِرٍ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى لإنذار كَالنَّكِيرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَمِنْهُ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ «3» . ولِلْعالَمِينَ عَامٌّ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، مِمَّنْ عَاصَرَهُ أَوْ جَاءَ بَعْدَهُ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ وَظَوَاهِرِ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْعالَمِينَ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْعالَمِينَ. وَلَمَّا سَبَقَ فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا في السموات وَالْأَرْضِ فَكَانَ إِخْبَارًا بِأَنَّ مَا فِيهِمَا مِلْكٌ لَهُ، أَخْبَرَ هُنَا أَنَّهُ لَهُ مُلْكُهُمَا أَيْ قَهْرُهُمَا وَقَهْرُ مَا فِيهِمَا، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْمِلْكُ وَالْمُلْكُ لَهُمَا. وَلِمَا فيهما، والذي مَقْطُوعٌ لِلْمَدْحِ رَفْعًا أَوْ نَصْبًا أَوْ نَعْتٌ أَوْ بد مِنَ الَّذِي نَزَّلَ وَمَا بَعْدَ نَزَّلَ مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ فَلَا يُعَدُّ فَاصِلًا بَيْنَ النَّعْتِ أَوِ الْبَدَلِ وَمَتْبُوعِهِ. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الظَّاهِرُ نُفْيُ الِاتِّخَاذِ أَيْ لَمْ يُنْزِلْ أَحَدًا مَنْزِلَةَ الْوَلَدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ بِمَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَلِدْ لِأَنَّ التَّوَالُدَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَعَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ النَّاسِبِينَ لِلَّهِ الْوَلَدَ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَامٌّ فِي خَلْقِ الذَّوَاتِ وَأَفْعَالِهَا. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يَصِحُّ خَلْقُهُ لِتَخْرُجَ عَنْهُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ الْقَدِيمَةُ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: أَكْرَمْتُ كُلَّ رَجُلٍ لَا يَدْخُلُ هُوَ فِي الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ذَاتُهُ تَعَالَى وَلَا صِفَاتُهُ الْقَدِيمَةُ. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً إِنْ كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَكَيْفَ جَاءَ فَقَدَّرَهُ إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ يُقَدِّرُهُ تَقْدِيراً. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْدَثَ كُلَّ شَيْءٍ إِحْدَاثًا مُرَاعًى فِيهِ التَّقْدِيرُ وَالتَّسْوِيَةُ فَقَدَّرَهُ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، أَوْ سُمِّيَ إِحْدَاثُ اللَّهِ خَلْقًا لِأَنَّهُ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا لِحِكْمَتِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. فَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ كَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إِحْدَاثِ اللَّهِ وَأَوْجَدَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ فِي إِيجَادِهِ مُتَفَاوِتًا. وَقِيلَ: فَجَعَلَ له

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 34. (2) سورة الدخان: 44/ 3. (3) سورة القمر: 54/ 16.

غَايَةً وَمُنْتَهًى، وَمَعْنَاهُ فَقَدَّرَهُ لِلْبَقَاءِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُ الْأَشْيَاءِ هُوَ حَدُّهَا بِالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمَانِ وَالْمَقَادِيرِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْإِتْقَانِ انْتَهَى. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذُوا عَائِدٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُنْفَ إِلَّا وَقَدْ قِيلَ بِهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْوَاوُ ضَمِيرٌ لِلْكُفَّارِ وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي قَوْلِهِ لِلْعالَمِينَ. وَقِيلَ: لَفْظُ نَذِيراً يُنْبِئُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمُ الْمُنْذَرُونَ وَيَنْدَرِجُ فِي وَاتَّخَذُوا كُلُّ مَنِ ادَّعَى إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادِ الْكَوَاكِبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً عَلَى الْجَمْعِ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّ لِعُبَّادِهَا كَثْرَةً انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ لِأَنَّ وَاتَّخَذُوا جمع وآلِهَةً جَمْعٌ، وَإِذَا قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ تَقَابَلَ الْفَرْدُ بِالْفَرْدِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَابَلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ فَيَنْدَرِجُ مَعْبُودُ النَّصَارَى فِي لَفْظِ آلِهَةً. ثُمَّ وَصَفَ الْآلِهَةَ بِانْتِفَاءِ إِنْشَائِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِشَارَةً إِلَى انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ ذَاتًا أَوْ مَصْنُوعُونَ بِالنَّحْتِ وَالتَّصْوِيرِ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْخَسَاسَةِ وَنِسْبَةُ الْخَلْقِ لِلْبَشَرِ تَجُوزُ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٌ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ ... الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخَلْقُ بِمَعْنَى الِافْتِعَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً «1» وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ آثَرُوا عَلَى عِبَادَتِهِ عِبَادَةَ آلِهَةٍ لَا عَجْزَ أَبْيَنُ مِنْ عَجْزِهِمْ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ وَلَا أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَيْثُ لَا يَفْتَعِلُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُفْتَعَلُونَ لِأَنَّ عَبَدَتَهُمْ يَصْنَعُونَهُمْ بِالنَّحْتِ وَالتَّصْوِيرِ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ دَفْعَ ضَرَرٍ عَنْهَا وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ إِلَيْهَا، وَهُمْ يَسْتَطِيعُونَ وَإِذَا عَجَزُوا عَنِ الِافْتِعَالِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَلْبِ النَّفْعِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ كَانُوا عَنِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالنُّشُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ أَعْجَزَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَتْبَاعُهُ، والإفك أسوأ لكذب. وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ أَلْقَوْا أَخْبَارَ الْأُمَمِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَيَسَارٌ مَوْلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَجَبْرٌ مَوْلَى عَامِرٍ وكانوا كتابيين يقرؤون التَّوْرَاةَ أَسْلَمُوا وَكَانَ الرَّسُولُ يَتَعَهَّدُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 17.

أَشَارُوا إِلَى قَوْمٍ عَبِيدٍ كَانُوا لِلْعَرَبِ مِنَ الْفُرْسِ أَبُو فُكَيْهَةَ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّينَ. وَجَبْرٌ وَيَسَارٌ وَعَدَّاسٌ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنَوْا أَبَا فُكَيْهَةَ الرُّومِيَّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: عَنَوْا بِقَوْمٍ آخَرِينَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ آخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ لَا يَلْزَمُ لِلِاشْتِرَاكِ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْوَصْفِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ «1» فَقَدِ اشْتَرَكَتَا فِي مُطْلَقِ الْفِئَةِ، وَاخْتَلَفَتَا فِي الْوَصْفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَقَدْ جاؤُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَرَدُوا ظُلْمًا كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ فَيَكُونُ جَاءَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ الْجَارُّ أَيْ بِظُلْمٍ وَزُورٍ وَيَصِلَ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا جَاءَ يُسْتَعْمَلُ بِهَذَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ وَظُلْمُهُمْ أَنْ جَعَلُوا الْعَرَبِيَّ يَتَلَقَّنُ مِنَ الْعَجَمِيِّ كَلَامًا عَرَبِيًّا أَعْجَزَ بِفَصَاحَتِهِ جَمِيعَ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَالزُّورُ أَنْ بَهَتُوهُ بِنِسْبَةِ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَقالُوا لِلْكُفَّارِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أَيْ جَمَعَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ كَتَبَ الشَّيْءَ أَيْ جَمَعَهُ أَوْ مِنَ الْكِتَابَةِ أَيْ كَتَبَهَا بِيَدِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ كَذِبِهِمْ عَلَيْهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَيَكُونُ كَاسْتَكَبَّ الْمَاءَ وَاصْطَبَّهُ أَيْ سَكَبَهُ وَصَبَّهُ. وَيَكُونُ لَفْظُ افْتَعَلَ مُشْعِرًا بِالتَّكَلُّفِ وَالِاعْتِمَالِ أَوْ بِمَعْنَى أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ كَقَوْلِهِمُ احْتَجَمَ وَافْتَصَدَ إِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أَيْ تُلْقَى عَلَيْهِ لِيَحْفَظَهَا لِأَنَّ صُورَةَ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْمُتَحَفِّظِ كَصُورَةِ الْإِمْلَاءِ عَلَى الكاتب. وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أَوْ هَذِهِ أَساطِيرُ واكْتَتَبَها خَبَرٌ ثَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون أَساطِيرُ مبتدأ واكْتَتَبَها الْخَبَرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اكْتَتَبَها مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقِرَاءَةُ طَلْحَةَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْمَعْنَى اكْتَتَبَها كَاتِبٌ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ بِيَدِهِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهِ، ثُمَّ حُذِفَتِ اللَّامُ فَأَفْضَى الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ فَصَارَ اكْتَتَبَها إِيَّاهُ كَاتِبٌ كَقَوْلِهِ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «2» ثُمَّ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ إِيَّاهُ فَانْقَلَبَ مَرْفُوعًا مُسْتَتِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ بَارِزًا مَنْصُوبًا وَبَقِيَ ضَمِيرُ الْأَسَاطِيرِ عَلَى حَالِهِ، فَصَارَ اكْتَتَبَها كَمَا تَرَى انْتَهَى. وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ اكْتَتَبَها لَهُ كَاتِبٌ وُصِلَ فِيهِ اكْتَتَبَ لِمَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسَرَّحٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الْأَسَاطِيرِ، وَالْآخَرُ مُقَيَّدٌ وَهُوَ ضَمِيرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ اتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَصَارَ اكْتَتَبَها إِيَّاهُ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 13. (2) سورة الأعراف: 7/ 155.

كَاتِبٌ فَإِذَا بُنِيَ هَذَا الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ إِنَّمَا يَنُوبُ عَنِ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولُ الْمُسَرَّحُ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا لَا الْمُسَرَّحُ لَفْظًا الْمُقَيَّدُ تَقْدِيرًا، فَعَلَى هَذَا كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ اكْتَتَبَتْهُ لَا اكْتَتَبَها وَعَلَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ جَاءَ السَّمَاعُ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذَا النَّوْعِ الَّذِي أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ فِيهِ مُسَرَّحٌ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَالْآخَرُ مُسَرَّحٌ لَفْظًا لَا تَقْدِيرًا. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ: وَمِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً ... وَجُودًا إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزُّعَازِعُ وَلَوْ جَاءَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَجَاءَ التَّرْكِيبُ وَمِنَّا الَّذِي اخُتِيرَهُ الرِّجَالَ لِأَنَّ اخْتَارَ تَعَدَّى إِلَى الرِّجَالِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ إِذْ تَقْدِيرُهُ اخْتِيرَ مِنَ الرِّجَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْكُفَّارِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ سبحانه بكذبهم وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ فَتَحْتَ الْهَمْزَةَ فِي اكْتَتَبَها لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَفْرَحُ إِنْ أُرْزَأَ الْكِرَامُ وَأَنْ ... آخُذَ ذَوْدًا شَصَايِصًا نَبَلَا وَحُقَّ لِلْحَسَنِ أَنْ يَقِفَ عَلَى الأولين. والظهر تَقْيِيدُ الْإِمْلَاءِ بِوَقْتِ انْتِشَارِ النَّاسِ وَحِينِ الْإِيوَاءِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ وَهُمَا الْبُكْرَةُ وَالْأَصِيلُ، أَوْ يَكُونَانِ عِبَارَةً عَنِ الدَّيْمُومَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَعِيسَى فَهِيَ تُتْلَى بِالتَّاءِ بَدَلَ الْمِيمِ. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أَيْ كُلَّ سِرٍّ خَفِيٍّ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا وَهُوَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ لِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يَكُنْ لِيَصْدُرَ إِلَّا مِنْ عَلَّامٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ إِعْجَازِ التَّرْكِيبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنْ أَحَدٍ، وَلَوِ اسْتَعَانَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِمْ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعَلَى أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَاكْتَفَى بِعِلْمِ السِّرِّ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ مِنَ الْكَيْدِ لِرَسُولِهِ مَعَ عِلْمِكُمْ بِبُطْلِ مَا تَقُولُونَ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً إِطْمَاعٌ فِي أَنَّهُمْ إِذَا تَابُوا غَفَرَ لَهُمْ مَا فرط من كفرهم ورخمهم. أَوْ غَفُوراً رَحِيماً فِي كَوْنِهِ أَمْهَلَكُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْكُمْ عَلَى مَا اسْتَوْجَبْتُمُوهُ مِنَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ مُكَابَرَتِكُمْ، أَوْ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ أَعْقَبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَاقِبَ. وَقالُوا الضَّمِيرُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا قَدْ جَمَعَهُمْ وَالرَّسُولَ مَجْلِسٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيَرِ فَقَالَ عُتْبَةُ وَغَيْرُهُ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ الرِّئَاسَةَ وَلَّيْنَاكَ عَلَيْنَا أَوِ الْمَالَ جَمَعْنَا لَكَ، فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِمُ اجْتَمَعُوا عليه فقالوا: مالك وَأَنْتَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَتَقِفُ

بِالْأَسْوَاقِ لِالْتِمَاسِ الرِّزْقِ سَلْ رَبَّكَ أَنْ يُنْزِلَ مَعَكَ مَلَكًا يُنْذِرُ مَعَكَ، أَوْ يُلْقِيَ إِلَيْكَ كَنْزًا تُنْفِقُ مِنْهُ، أَوْ يَرُدَّ لَكَ جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبًا وَتُزَالَ الْجِبَالُ، وَيَكُونَ مَكَانَهَا جَنَّاتٌ تَطَّرِدُ فِيهَا الْمِيَاهُ وَأَشَاعُوا هَذِهِ الْمُحَاجَّةَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ لَامُ الجر مفصولة من لِهذَا ولِهذَا اسْتِفْهَامٌ يَصْحَبُهُ اسْتِهْزَاءٌ أَيْ ما لِهذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولٌ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا هُوَ عَادَةٌ لِلرُّسُلِ كَمَا قَالَ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «1» أَيْ حَالُهُ كَحَالِنَا أَيْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْأَكْلِ وَالتَّعَيُّشِ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَبْ أَنَّهُ بَشَرٌ فَهَلَّا أُرْفِدَ بِمَلَكٍ يُنْذِرُ مَعَهُ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنَ السَّمَاءِ يَسْتَظْهِرُ بِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَاشِ. ثُمَّ اقْتَنَعُوا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ بُسْتَانٌ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَرْتَزِقُ كَالْمَيَاسِيرِ. وَقُرِئَ فَتَكُونُ بِالرَّفْعِ حَكَاهُ أَبُو مُعَاذٍ عَطْفًا عَلَى أُنْزِلَ لِأَنَّ أُنْزِلَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَهُوَ مَاضٍ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُضَارِعِ، أَيْ هَلَّا يَنْزِلُ إِلَيْهِ مَلَكٌ أَوْ هُوَ جَوَابُ التَّحْضِيضِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، أَيْ فَهُوَ يَكُونُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ التخضيض. وَقَوْلُهُ أَوْ يُلْقى أَوْ يَكُونُ عُطِفَ عَلَى أُنْزِلَ أَيْ لَوْلَا يَنْزِلُ فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ أَحَدَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ مَجْمُوعَهَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ، وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ فِي أَوْ يُلْقى وَلَا فِي أَوْ تَكُونُ عَطْفًا عَلَى فَيَكُونَ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّحْضِيضِ لَا فِي حُكْمِ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِ لَوْلا أُنْزِلَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: أَوْ يَكُونُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ. وَقَرَأَ يَأْكُلُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ الرَّسُولُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ بِنُونِ الْجَمْعِ أَيْ يَأْكُلُونَ هُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَمَعَاشِهِمْ. وَقالَ الظَّالِمُونَ أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَرَادَ بِالظَّالِمِينَ إِيَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وضع الظاهر موضع المضمر لِيُسَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ فِيمَا قَالُوهُ انْتَهَى. وَتَرْكِيبُهُ وَأَرَادَ بِالظَّالِمِينَ إِيَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ لَيْسَ تَرْكِيبًا سَائِغًا بَلِ التَّرْكِيبُ الْعَرَبِيُّ أَنْ يَقُولَ: وَأَرَادَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ بِالظَّالِمِينَ مَسْحُوراً غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ السِّحْرُ وَهَذَا أَظْهَرُ، أَوْ ذَا سَحْرٍ وَهُوَ الرِّئَةُ، أَوْ يُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ أَيْ يُغَذَّى، أَوْ أُصِيبَ سَحْرُهُ كَمَا تَقُولُ رَأَسْتُهُ أَصَبْتُ رَأْسَهُ. وَقِيلَ مَسْحُوراً سَاحِرًا عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ لَا مَلَكٌ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْإِسْرَاءِ وَبِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ: وَالْقَائِلُونَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُمْ.

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 20.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أَيْ قَالُوا فِيكَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ وَاخْتَرَعُوا لَكَ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالَ النَّادِرَةَ مِنْ نُبُوَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ إِنْسَانٍ وَمَلَكٍ وَإِلْقَاءِ كَنْزٍ عَلَيْكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَبَقُوا مُتَحَيِّرِينَ ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ قَوْلًا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ، أَيْ فَضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَجِدُونَ طَرِيقًا لَهُ. وَقِيلَ: ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بِالْمَسْحُورِ وَالْكَاهِنِ وَالشَّاعِرِ وَغَيْرِهِ فَضَلُّوا أخطؤوا الطَّرِيقَ فَلَا يَجِدُونَ سَبِيلَ هِدَايَةٍ وَلَا يُطِيقُونَهُ لِالْتِبَاسِهِمْ بِضِدِّهِ مِنَ الضَّلَالِ. وَقِيلَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ عَلَى مَا يَقُولُونَ، فَمَرَّةً يَقُولُونَ هُوَ بَلِيغٌ فَصِيحٌ يَتَقَوَّلُ الْقُرْآنَ مِنْ نَفْسِهِ وَيَفْتَرِيهِ وَمَرَّةً مَجْنُونٌ وَمَرَّةً سَاحِرٌ وَمَرَّةً مَسْحُورٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَبَّهَ لَكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْأَشْبَاهَ بِقَوْلِهِمْ هُوَ مَسْحُورٌ فَضَلُّوا بِذَلِكَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، فَلَا يَجِدُونَ طَرِيقًا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَجِدُونَ مَخْرَجًا يُخْرِجُهُمْ عَنِ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبُوا لَكَ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا لَكَ هَذِهِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى تَكْذِيبِكَ فَضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَعَنْ بُلُوغِ مَا أَرَادُوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ انْظُرْ كَيْفَ اشْتَغَلَ الْقَوْمُ بِضَرْبِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا وَأَرَادُوا الْقَدْحَ فِي نُبُوَّتِكَ، لَمْ يَجِدُوا إِلَى القدح سبيلا إذا لطعن عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقْدَحُ فِي الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَا بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ فِي أَمْرِكَ حِيلَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْنِ. وَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ مَا قَالُوا قِيلَ: فِيمَا يُرْوَى إِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الدُّنْيَا وَمَفَاتِيحَهَا، وَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ أَحَدٌ قَبْلَكَ وَلَا يُعْطَاهُ أَحَدٌ بَعْدَكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَاقِصِكَ فِي الْآخِرَةِ شَيْئًا، وَإِنْ شِئْتَ جَمَعْنَاهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: يُجْمَعُ لِي ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَنَزَلَ تَبارَكَ الَّذِي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: عَرَضَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ: بَلْ شُبْعَةٌ وَثَلَاثُ جَوْعَاتٍ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ لِذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَبارَكَ أَيْ تَكَاثَرَ خَيْرًا الَّذِي إِنْ شاءَ وَهَبَ لَكَ فِي الدُّنْيَا خَيْراً مِمَّا قَالُوا وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ مثل ما وعدك في الْآخِرَةِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ انتهى. والإشارة بذلك الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْكَنْزِ فِي الدُّنْيَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَبْعُدُ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَكْلِهِ الطَّعَامَ وَمَشْيِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ كَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا لَوْ شَاءَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ وَدَخَلَتْ إِنْ عَلَى الْمَشِيئَةِ تَنْبِيهًا أَنَّهُ لَا يُنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ وَأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى مَحْضِ مَشِيئَتِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي تَبْكِيتِ الْكُفَّارِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ كَذَّبُوا

بِالسَّاعَةِ انْتَهَى. وَلَا يَرُدُّهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِهِ مُتَمَكِّنٌ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُمْ يَقُولُ: بَلْ أَتَى بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَجْعَلْ بِالْجَزْمِ قَالُوا عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ جَعَلَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أُدْغِمَتْ لَامُهُ فِي لَامِ لَكَ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَمْرٍو وَالَّذِي قَرَأَ بِالْجَزْمِ مِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ إِدْغَامُ الْمِثْلَيْنِ إِذَا تَحَرَّكَ أَوَّلُهُمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عمر وكما ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالرَّفْعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالِاسْتِئْنَافُ وَوَجْهُهُ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ جَعَلَ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ مَوْضِعُ اسْتِئْنَافٍ. ألا ترى أن الجمل مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ قَدْ تَقَعُ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ؟ وقال الحوفي من رفع جَعَلَهُ مُسْتَأْنَفًا مَنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ وَيَجْعَلْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جَعَلَ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا وَقَعَ مَاضِيًا جَازَ فِي جَوَابِهِ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرَمُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا جَازَ فِي جَوَابِهِ الرَّفْعُ لَيْسَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، إِذْ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَأَنَّ هَذَا الْمُضَارِعَ الْمَرْفُوعَ النِّيَّةُ بِهِ التَّقْدِيمُ، وَلِكَوْنِ الْجَوَابِ مَحْذُوفًا لَا يَكُونُ فِعْلُ الشَّرْطِ إِلَّا بِصِيغَةِ الْمَاضِي. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَالْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْجَوَابُ وَأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ، وَذَهَبَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْجَوَابُ وَلَيْسَ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ وَلَا عَلَى التَّقْدِيمِ، وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ فِي فِعْلِ الشَّرْطِ لِكَوْنِهِ مَاضِيَ اللَّفْظِ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ فِي فِعْلِ الْجَوَابِ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِ، وَبَقِيَ مَرْفُوعًا وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ فَصِيحٌ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ ضَرُورَةٌ إِذْ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيَجْعَلْ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ هِيَ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجِبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ يروى بجرم نَأْخُذُ وَرَفْعِهِ وَنَصْبِهِ. بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى مَا مَنَعَهُمْ مِنَ

الْإِيمَانِ أَكْلُكَ الطَّعَامَ وَلَا مَشْيُكَ فِي السُّوقِ، بَلْ مَنَعَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ شُبْهَةً بَلِ الْحَامِلُ عَلَى تَكْذِيبِكَ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَا يَلِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ فَكَيْفَ يَلْتَفِتُونَ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ، وَكَيْفَ يُصَدِّقُونَ بِتَعْجِيلِ مِثْلِ مَا وَعَدَكَ فِي الْآخِرَةِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ انْتَهَى. وَبَلْ لِتَرْكِ اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِمَعْنَاهُ. وَأَخْذٍ فِي لَفْظٍ آخَرَ وَأَعْتَدْنا جَعَلْنَاهُ مُعَدًّا. سَعِيراً نَارًا كَبِيرَةَ الْإِيقَادِ. وَعَنِ الحسن: اسم من أسماء جَهَنَّمَ. إِذا رَأَتْهُمْ قِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ عَيْنَيْنِ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ فَإِنْ صَحَّ كَانَ هُوَ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ. وَإِلَّا كَانَ مَجَازًا، أَيْ صَارَتْ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا يَرَى الرَّائِي مِنَ الْبُعْدِ كَقَوْلِهِمْ: دُورُهُمْ تَتَرَاءَى أَيْ تَتَنَاظَرُ وَتَتَقَابَلُ، وَمِنْهُ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا. وَقَالَ قَوْمٌ: النَّارُ اسْمٌ لِحَيَوَانٍ نَارِيٍّ يَتَكَلَّمُ وَيَرَى وَيَسْمَعُ وَيَتَغَيَّرُ وَيَزْفِرُ حَكَاهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ رَأَتْهُمْ خَزَنَتُهَا مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، قِيلَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَقِيلَ: مِائَةُ سَنَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةٌ سَمِعُوا لَها صَوْتَ تَغَيُّظٍ لِأَنَّ التَّغَيُّظَ لَا يُسْمَعُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَانَ الْمَعْنَى تَغَيَّظُوا وَزَفَرُوا غَضَبًا عَلَى الْكُفَّارِ وَشَهْوَةً لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ سَمِعُوا صَوْتَ لَهِيبِهَا وَاشْتِعَالِهَا وَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَيَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا وَهَذَا مُخَرَّجٌ عَلَى تَخْرِيجَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحَذْفُ أَيْ وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا. وَالثَّانِي تَضْمِينٌ ضَمَّنَ مُتَقَلِّدًا مَعْنَى مُتَسَلِّحًا فَكَذَلِكَ الْآيَةُ أَيْ سَمِعُوا لَها وَرَأَوْا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَعَادَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ. أَوْ ضَمَّنَ سَمِعُوا مَعْنَى أَدْرَكُوا فَيَشْمَلُ التَّغَيُّظَ وَالزَّفِيرَ. وَانْتَصَبَ مَكاناً عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَضِيقُ عَلَيْهِمْ ضِيقَ الزَّجِّ فِي الرُّمْحِ مُقَرَّنِينَ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ بِالسَّلَاسِلِ. وَقِيلَ: يُقْرَنُ مَعَ كُلِّ كَافِرٍ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْأَصْفَادُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعُبَيْدٌ عَنْ أَبِي عمر وضيقا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أَبُو شَيْبَةَ صَاحِبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مُقَرَّنُونَ بِالْوَاوِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَالْوَجْهُ قِرَاءَةُ النَّاسِ وَنَسَبَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَوَجْهُهَا أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ أُلْقُوا بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ دُعَاءُ الثُّبُورِ وَهِيَ الهلاك فيقولون: وا ثبوراه أَيْ يُقَالُ يَا ثُبُورُ فَهَذَا أَوَانُكَ. وَقِيلَ: الْمَدْعُوُّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ دَعَوْا مَنْ لَا يُجِيبُهُمْ قَائِلِينَ ثُبِرْنَا ثُبُورًا. وَالثُّبُورُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْوَيْلُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْهَلَاكُ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى:

إِذْ يُجَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ يُقَالُ لَهُمْ لَا تَدْعُوا أَوْ هُمْ أَحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ، أَيْ لَا تَقْتَصِرُوا عَلَى حُزْنٍ وَاحِدٍ بَلِ احْزَنُوا حُزْنًا كَثِيرًا وَكَثْرَتُهُ إِمَّا لِدَيْمُومَةِ الْعَذَابِ فَهُوَ متجددا دَائِمًا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَنْوَاعٌ وَكُلُّ نَوْعٍ يَكُونُ مِنْهُ ثُبُورٌ لِشِدَّتِهِ وَفَظَاعَتِهِ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ ثُبُوراً بِفَتْحِ الثَّاءِ فِي ثَلَاثَتِهَا وفعول بفتح الواو فِي الْمَصَادِرِ قَلِيلٌ نَحْوُ الْبَتُولِ. وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مَا صَرَفَكَ. كَأَنَّهُمْ دَعَوْا بِمَا فَعَلُوا فَقَالُوا: وَاصَرْفَاهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ: ووا ندامتاه. رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنَادِي بِذَلِكَ إِبْلِيسُ يَقُولُ: وا ثبوراه حَتَّى يُكْسَى حُلَّةً مِنْ جَهَنَّمَ يَضَعُهَا عَلَى جَبِينِهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يَتْبَعُهُ فِي الْقَوْلِ أَتْبَاعُهُ فَيَقُولُ لَهُمْ خُزَّانُ جَهَنَّمَ لَا تَدْعُوا الْآيَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ خَطَلٍ وَأَصْحَابِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى النَّارِ وَأَحْوَالِ أَهْلِهَا. وَقِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَنْزِ فِي قَوْلِهِمْ. وَقِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْقُصُورِ الْمَجْعُولَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْدِيرِ المشيئة وخَيْرٌ هُنَا لَيْسَتْ تَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ بَلْ هِيَ عَلَى مَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي بَيَانِ فَضْلِ الشَّيْءِ وَخُصُوصِيَّتِهِ بِالْفَضْلِ دُونَ مُقَابِلِهِ كَقَوْلِهِ: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: الشَّقَاءُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ السَّعَادَةُ. وَكَقَوْلِهِ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ «1» وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيفِ وَالتَّوْبِيخِ. قال ابن عطية: ومن حَيْثُ كَانَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا جَازَ فِيهِ مَجِيءُ لَفْظِهِ لِلتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي الْخَيْرِ لِأَنَّ الْمُوقِفَ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُوقِفَ مُحَاوِرَهُ عَلَى مَا شَاءَ لِيَرَى هَلْ يُجِيبُهُ بِالصَّوَابِ أَوْ بِالْخَطَأِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَ اسْتِفْهَامًا فَذَلِكَ سَائِغٌ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ يُخَالِفُهُ قَوْلِهِ: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَقَوْلُهُ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ إِلَّا إِنْ تَقَيَّدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاضِحًا الْحُكْمُ فِيهِ لِلسَّامِعِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِجُ فِي ذِهْنِهِ وَلَا يَتَرَدَّدُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ. وَضَمِيرُ الَّتِي مَحْذُوفٌ أَيْ وعدها وضمير ما يَشاؤُنَ كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤونه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمُرَادَاتِ بِأَسْرِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا فِي

_ (1) سورة يوسف: 12/ 33.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 إلى 24]

الْجَنَّةِ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ جَزاءً وَمَصِيراً الثَّوَابَ وَمَحَلَّهُ كَمَا قَالَ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً «1» وَفِي ضِدِّهِ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً «2» لِأَنَّهُ بِطِيبِ الْمَكَانِ يَتَضَاعَفُ النَّعِيمُ، كَمَا أَنَّهُ بِرَدَاءَتِهِ يَتَضَاعَفُ الْعَذَابُ وَعْداً أَيْ مَوْعُودًا مَسْؤُلًا سَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْلِهِمْ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «3» قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالنَّاسُ فِي قَوْلِهِمْ رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «4» رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً «5» وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَعْداً مَسْؤُلًا أَيْ وَاجِبًا يُقَالُ لَأُعْطِيَنَّكَ ألفا وعدا مسؤولا أَيْ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ. قِيلَ: وَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ مُحَالٌ انْتَهَى. وَلَيْسَ مُحَالًا إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسْأَلَ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدْتَهُ أَوْ بِصَدَدِ أَنْ يُسْأَلَ أَيْ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يكون مسؤولا. وعَلى رَبِّكَ أَيْ بِسَبَبِ الْوَعْدِ صَارَ لَا بُدَّ مْنِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مَوْعُودًا وَاجِبًا عَلَى رَبِّكَ إِنْجَازُهُ حَقِيقًا أَنْ يُسْأَلَ. وَيُطْلَبَ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ وَأَجْرٌ مُسْتَحَقٌّ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 24] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)

_ (1) سورة الكهف: 18/ 31. (2) سورة الكهف: 18/ 29. (3) سورة غافر: 40/ 8. (4) سورة آل عمران: 3/ 194. (5) سورة البقرة: 2/ 201. [.....]

قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ يَحْشُرُهُمْ وفَيَقُولُ بِالْيَاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ فِي نَحْشُرُهُمْ بِالنُّونِ وَفِي فَيَقُولُ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ يَحْشُرُهُمْ بِكَسْرِ الشِّينِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ الثُّلَاثِيَّةِ لِأَنَّ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ فَعُلَ بِضَمِّهَا فِي الْمَاضِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قَلِيلَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ قَوِيَّةٌ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ يفعل بكسر العين الْمُتَعَدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذكر ابل فَعُلَ الْمُتَعَدِّي الصَّحِيحُ جَمِيعُ حُرُوفِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا حَلْقِيَّ عَيْنٍ وَلَا لَامٍ فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى يَفْعَلُ وَيَفْعُلُ كَثِيرًا، فَإِنْ شُهِرَ أَحَدُ الِاسْتِعْمَالَيْنِ اتُّبِعَ وَإِلَّا فَالْخِيَارُ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا خَيَّرَ فِيهِمَا سَمِعَا لِلْكَلِمَةِ أَوْ لَمْ يَسْمَعَا. وَما يَعْبُدُونَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: الْأَصْنَامُ الَّتِي لَا تَعْقِلُ يُقْدِرُهَا اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنَ الْجَوَابِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُحْيِي اللَّهُ الْأَصْنَامَ يَوْمَئِذٍ لِتَكْذِيبِ عَابِدِيهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَنْ عُبِدَ مِمَّنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَتِهِ كَالْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَقَوْلِهِ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا أَنَّهَا لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَجَاءَ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَنْصُوصًا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ «1» أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «2» وَسُؤَالُهُ تَعَالَى وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ لِيُجِيبُوا بِمَا أَجَابُوا بِهِ فَيُبَكِّتَ عَبَدَتَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ فَيَزِيدَ حَسْرَتَهُمْ وَيُسَرُّ الْمُؤْمِنُونَ بِحَالِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ مِنْ فَضِيحَةِ أُولَئِكَ، وَلِيَكُونَ حِكَايَةُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ لُطْفًا لِلْمُكَلَّفِينَ. وَجَاءَ الِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّمًا فِيهِ الِاسْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ أَأَضْلَلْتُمْ وَلَا أَضَلُّوا لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِضْلَالِ وَالضَّلَالِ وَاقِعٌ وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَاعِلِهِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ «3» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ كَسْرٌ بَيِّنٌ لِقَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ عِبَادَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَيْثُ يَقُولُ لِلْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِهِ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ أم ضلوا

_ (1) سورة سبأ: 34/ 40. (2) سورة المائدة: 5/ 116. (3) سورة الأنبياء: 21/ 62.

بأنفسهم فيتبرؤون مِنْ ضَلَالِهِمْ وَيَسْتَعِيذُونَ بِهِ أَنْ يَكُونُوا مُضِلِّينَ وَيَقُولُونَ: بَلْ أَنْتَ تَفَضَّلْتَ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةٍ عَلَى هَؤُلَاءِ وَآبَائِهِمْ تَفَضُّلَ جَوَادٍ كَرِيمٍ، فَجَعَلُوا الرَّحْمَةَ الَّتِي حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبَ الشُّكْرِ سَبَبَ الْكُفْرِ وَنِسْيَانِ الذِّكْرِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ فَإِذَا تَبَرَّأَتِ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ أَنْفُسُهُمْ مِنْ نِسْبَةِ الضَّلَالِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِمْ وَاسْتَعَاذُوا مِنْهُمْ فَهُمْ لِرَبِّهِمِ الْغِنِيِّ الْعَدْلِ أَشَدُّ تَبْرِئَةً وَتَنْزِيهًا مِنْهُ، وَلَقَدْ نَزَّهُوهُ حِينَ أَضَافُوا إِلَيْهِ التَّفَضُّلَ بِالنِّعْمَةِ وَالتَّمْتِيعَ بِهَا. وَأَسْنَدُوا نِسْيَانَ الذِّكْرِ وَالتَّسَبُّبَ بِهِ لِلْبَوَارِ إِلَى الْكَفَرَةِ فشرحا الْإِضْلَالَ الْمَجَازِيَّ الَّذِي أَسْنَدَهُ اللَّهُ إِلَى ذَاتِهِ فِي قَوْلِهِ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «1» وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُضِلَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكَانَ الْجَوَابُ الْعَتِيدُ أَنْ يَقُولُوا بَلْ أنت أضللتم انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالْمَعْنَى أَأَنْتُمْ أَوْقَعْتُمْ هَؤُلَاءِ وَنُسِبْتُمْ لَهُمْ فِي إِضْلَالِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَمْ ضَلُّوا بأنفسهم عنه. ضل أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِعَنْ كَقَوْلِهِ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ «2» ثُمَّ اتُّسِعَ فَحُذِفَ، وَأَضَلَّهُ عَنِ السَّبِيلِ كَمَا أَنَّ هَدَى يَتَعَدَّى بِإِلَى ثُمَّ يُحْذَفُ وَيَضِلُّ مُطَاوِعُ أَضَلَّ كَمَا تَقُولُ: أَقْعَدْتُهُ فقعد. وسُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ أَحَدٌ أَوْ يُفْرَدَ بِعِبَادَةٍ فَأَنَّى لَهُمْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِضْلَالُ أَحَدٍ وَهُمُ الْمُنَزَّهُونَ الْمُقَدَّسُونَ، أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ نِدًّا وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ النِّدِّ وَالنَّظِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُبْحانَكَ تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ مِمَّا قِيلَ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الْإِضْلَالِ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْلِيسَ وَحِزْبِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ مَا يَنْبَغِي بِسُقُوطِ كَانَ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِهَا أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ حَالٍ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَوَقْتُ الْإِخْبَارِ لَا عَمَلَ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو عِيسَى الْأَسْوَدُ الْقَارِيُّ يَنْبَغِي لَنا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ يُنْبَغَى لُغَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ نَتَّخِذَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ومِنْ أَوْلِياءَ مَفْعُولٌ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ وَحَسَّنَ زِيَادَتَهَا انْسِحَابُ النَّفْيِ عَلَى نَتَّخِذَ لِأَنَّهُ معمول لينبغي. وَإِذَا انْتَفَى الِابْتِغَاءُ لَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ اتِّخَاذُ وَلِيٍّ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَنَظِيرُهُ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «3» أَيْ خَيْرٌ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ يَصِحُّ لَنَا وَلَا يَسْتَقِيمُ وَنَحْنُ مَعْصُومُونَ أَنْ نَتَوَلَّى أَحَدًا دُونَكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَحْمِلَ غَيْرَنَا عَلَى أَنْ يَتَوَلَّوْنَا دُونَكَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَكُونَ أَمْثَالَ الشَّيَاطِينِ نريد الكفر فنتولى

_ (1) سورة الرعد: 12/ 27 وغيرها. (2) سورة الأنعام: 6/ 117. (3) سورة البقرة: 2/ 105.

الْكُفَّارَ قَالَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ «1» . وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ الْبَاقِرُ وَمَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَفْصُ بْنُ عُبَيْدٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالسُّلَمِيُّ وَشَيْبَةُ وَأَبُو بِشْرٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ أَنْ يُتَّخَذَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَاتَّخَذَ مِمَّا يَتَعَدَّى تَارَةً لِوَاحِدٍ كَقَوْلِهِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ «2» وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَتَارَةً إِلَى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «3» فَقِيلَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ فَالْأَوَّلُ الضَّمِيرُ فِي نَتَّخِذَ وَالثَّانِي مِنْ أَوْلِياءَ ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ لَا يُتَّخَذُ بَعْضُ أَوْلِيَاءَ وَهَذَا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُضْعِفُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ دُخُولُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَوْلِياءَ اعْتَرَضَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ مِنْ أَوْلِياءَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَدَخَلَتْ مِنْ زِيَادَةً لِمَكَانِ النَّفْيِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا تَقُولُ: مَا اتَّخَذْتُ زَيْدًا مِنْ وَكِيلٍ. وَقِيلَ مِنْ أَوْلِياءَ هُوَ الثَّانِي عَلَى زِيَادَةِ مِنْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ إِنَّمَا يَجُوزُ دُخُولُهَا زَائِدَةً عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ بِشَرْطِهِ. وَقَرَأَ الْحَجَّاجُ أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ فَبَلَغَ عَاصِمًا فَقَالَ: مقت المخدّج أو ما عَلِمَ أَنَّ فِيهَا مِنْ وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أَنَّا لَمْ نُضِلُّهُمْ وَلَمْ نَحْمِلْهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِيمَانِ صَلُحَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ بَلَكِنْ، وَالْمَعْنَى لَكِنْ أَكْثَرْتَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمُ النِّعَمَ وَأَطَلْتَ أَعْمَارَهُمْ وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ شُكْرُهَا وَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قِيلَ: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ كَالرَّمْزِ إِلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ «4» أَيْ أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُمْ مَطَالِبَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى صَارُوا غَرْقَى فِي بَحْرِ الشَّهَوَاتِ فَكَانَ صَارِفًا لَهُمْ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى طَاعَتِكَ وَالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَتِكَ والذِّكْرَ مَا ذُكِّرَ بِهِ النَّاسُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَوِ الْقُرْآنِ. وَالْبُورُ: قِيلَ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَقِيلَ: جَمْعُ بَائِرٍ كَعَائِذٍ وَعُوذٍ. قِيلَ: مَعْنَاهُ هَلْكَى. وَقِيلَ: فَسْدَى وَهِيَ لُغَةُ الْأَزْدِ يَقُولُونَ: أَمْرٌ بَائِرٌ أَيْ فَاسِدٌ، وَبَارَتِ الْبِضَاعَةُ: فَسَدَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْضٌ بُورٌ أَيْ مُعَطَّلَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقِيلَ بُوراً عُمْيًا عَنِ الْحَقِّ. فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ بِلَا خِلَافٍ وَهِيَ مُفَاجَأَةٌ، فَالِاحْتِجَاجُ وَالْإِلْزَامُ حسنة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 257. (2) سورة الأنبياء: 21/ 21. (3) سورة الفرقان: 25/ 43. (4) سورة الأعراف: 7/ 155.

رَابِعَةٌ وَخَاصَّةٌ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا الِالْتِفَاتُ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ يَا أَهْلَ الْكِتابِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ جاءَكُمْ «1» أَيْ فَقُلْنَا قَدْ جَاءَكُمْ. وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا أَيْ فَقُلْنَا قَدْ جِئْنَا وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَقُلْنَا قَدْ كَذَّبُوكُمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُجِيبُ الْأَصْنَامَ فَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ أَيْ قَدْ كَذَّبَتْكُمْ مَعْبُودَاتُكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِمْ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمَعْبُودِينَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ وَعُزَيْرٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لَتَنَاسَقَ الْخِطَابُ مَعَ قَوْلِهِ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ أَيْ كَذَّبَكُمُ الْمَعْبُودُونَ بِما تَقُولُونَ أَيْ بِقَوْلِهِمْ إِنَّكُمْ أَضْلَلْتُمُوهُمْ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَمَنْ قَرَأَ بِما تَقُولُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَالْمَعْنَى فِيمَا تَقُولُونَ أَيْ سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الْعَابِدِينَ أَيْ كَذَّبَكُمُ الْمَعْبُودُونَ بِمَا تَقُولُونَ مِنَ الْجَوَابِ. سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَوْ فِيمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِمْ خُوطِبُوا عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا أَيْ قَدْ كَذَّبَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا فِيمَا تَقُولُونَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَقُولُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ الصَّلْتِ عَنْ قُنْبُلٍ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ فَما تَسْتَطِيعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي كَذَّبُوكُمْ لِلْكُفَّارِ الْعَابِدِينَ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمَا قَرَآ بِمَا يَقُولُونَ فَمَا يَسْتَطِيعُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا أَيْ هُمْ. صَرْفاً أَيْ صَرْفَ الْعَذَابِ أَوْ تَوْبَةً أَوْ حِيلَةً مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَيَتَصَرَّفُ أَيْ يَحْتَالُ، هَذَا إِنْ كَانَ الخطاب في كَذَّبُوكُمْ للكفار فَالتَّاءُ جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْيَاءُ الْتِفَاتٌ وَإِنْ كَانَ لِلْمَعْبُودِينَ فَالتَّاءُ الْتِفَاتٌ. وَالْيَاءُ جَارِيَةٌ عَلَى ضَمِيرِ كَذَّبُوكُمْ الْمَرْفُوعِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمَّةِ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ فالمعنى أنهم شديد والشكيمة فِي التَّكْذِيبِ فَما تَسْتَطِيعُونَ أَنْتُمْ صَرْفَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَبِالْيَاءِ فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً لِأَنْفُسِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. أَوْ مَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفَكُمْ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَلا نَصْراً لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ بِتَكْذِيبِهِمْ. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ. وَقِيلَ: خِطَابٌ للمؤمنين. وقيل: خطاب

_ (1) سورة المائدة: 5/ 15.

لِلْكَافِرِينَ. وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَيُحْتَمَلُ دُخُولُ الْمَعَاصِي غَيْرِ الشِّرْكِ فِي الظُّلْمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَذَابُ الْكَبِيرُ لَاحِقٌ لِكُلِّ مَنْ ظَلَمَ وَالْكَافِرُ ظَالِمٌ لِقَوْلِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» وَالْفَاسِقُ ظَالِمٌ لِقَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «2» انْتَهَى وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقُرِئَ: يُذِقْهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ اللَّهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: هُوَ أَيِ الظُّلْمُ وَهُوَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ يَظْلِمْ أَيْ يُذِقْهُ الظُّلْمُ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ الطَّعْنُ عَلَى الرَّسُولِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهَا عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ وَمَفْعُولُ أَرْسَلْنا عِنْدَ الزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَحَدًا. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ رِجَالًا أَوْ رُسُلًا. وَعَادَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ «3» أَيْ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ وَالْجُمْلَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ صِفَةٌ أَعْنِي قَوْلَهُ إِلَّا إِنَّهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا آكِلِينَ وَمَاشِينَ. وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ مَوْصُولٌ مُقَدَّرٌ بَعْدَ إِلَّا أَيْ إِلَّا مَنْ. إِنَّهُمْ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مِنَ عَلَى مَعْنَاهَا فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَبْلَهُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ إِلَّا قِيلَ إِنَّهُمْ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَرْجُوحَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ إِلَّا وَإِنَّهُمْ يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. قد رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّ مَا بَعْدَ إِلَّا قَدْ يَجِيءُ صِفَةً وَأَمَّا حَذْفُ الْمَوْصُولِ فَضَعِيفٌ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى حِكَايَةِ الْحَالِ أَيْضًا أَبُو الْبَقَاءِ قَالَ: وَقِيلَ لَوْ لَمْ تَكُنِ اللَّامُ لَكُسِرَتْ لَأَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ إِذِ الْمَعْنَى إِلَّا وَهُمْ يَأْكُلُونَ. وَقُرِئَ أَنَّهُمْ بِالْفَتْحِ عَلَى زِيَادَةِ اللَّامِ وَأَنَّ مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ رُسُلًا إِلَى النَّاسِ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ مِثْلَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَمْشُونَ مُضَارِعُ مَشَى خَفِيفًا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَمْشُونَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ، أَيْ يُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ وَالنَّاسُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ قُرِئَ يَمْشُونَ لَكَانَ أَوْجَهَ لَوْلَا الرِّوَايَةُ انْتَهَى. وَقَدْ قَرَأَ كَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مشدد مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ بِمَعْنَى يَمْشُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَشَى بِأَعْطَانِ الْمَبَاءَةِ وَابْتَغَى ... قَلَائِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ الشَّاكِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ، وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَحُكَّامُ الْعَدْلِ. وَقَدْ تَلَا ابن القاسم هذه

_ (1) سورة لقمان: 31/ 13. (2) سورة الحجرات: 49/ 11. (3) سورة الصافات: 37/ 164. [.....]

الْآيَةَ حِينَ رَأَى أَشْهَبَ انْتَهَى. وَرُوِيَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّوْقِيفُ بِأَتَصْبِرُونَ خَاصٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحِقِّينَ فَهُوَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ جَعَلَ إِمْهَالَ الْكُفَّارِ فِتْنَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيِ اخْتِبَارًا ثُمَّ وَقَّفَهُمْ. هَلْ تَصْبِرُونَ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أَعْرَبَ قَوْلَهُ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عَنِ الْوَعْدِ لِلصَّابِرِينَ وَالْوَعِيدِ لِلْعَاصِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِتْنَةً أَيْ مِحْنَةً وَبَلَاءً، وَهَذَا تَصَبُّرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوهُ وَاسْتَبْعَدُوهُ مِنْ أَكْلِهِ الطَّعَامَ وَمَشْيِهِ فِي الأسواق بعد ما احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِسَائِرِ الرُّسُلِ يَقُولُ: جَرَتْ عَادَتِي وَمُوجَبُ حِكْمَتِي عَلَى ابْتِلَاءِ بَعْضِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِبَعْضٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ابْتَلَى الْمُرْسَلِينَ بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَمُنَاصَبَتِهِمْ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَأَقَاوِيلِهِمُ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ الْإِنْصَافِ وَأَنْوَاعِ أَذَاهُمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَنَحْوُهُ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» الْآيَةَ وَمَوْقِعُ أَتَصْبِرُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفِتْنَةِ مَوْقِعُ أَيُّكُمْ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «2» . بَصِيراً عَالِمًا بِالصَّوَابِ فِيمَا يَبْتِلِي بِهِ وَبِغَيْرِهِ فَلَا يَضِيقَنَّ صَدْرُكَ وَلَا تَسْتَخِفَّنَّكَ أَقَاوِيلُهُمْ فَإِنَّ فِي صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ سَعَادَةً، وَفَوْزَكَ فِي الدَّارَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيَةٌ عَمَّا عَيَّرُوهُ بِهِ مِنَ الْفَقْرِ حِينَ قَالُوا أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ «3» وَأَنَّهُ جَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ فِتْنَةً لِلْفُقَرَاءِ لِيَنْظُرَ هَلْ تَصْبِرُونَ وَأَنَّهَا حِكْمَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ. وقيل: جعلنا فِتْنَةً لَهُمْ لِأَنَّكَ لَوْ كُنْتَ غَنِيًّا صَاحِبَ كُنُوزٍ وَجَنَّاتٍ لَكَانَ مَيْلُهُمْ إِلَيْكَ وَطَاعَتُهُمْ لَكَ لِلدُّنْيَا أَوْ مَمْزُوجَةً بِالدُّنْيَا، وَإِنَّمَا بَعَثْنَاكَ فَقِيرًا لِتَكُونَ طَاعَةُ مَنْ يُطِيعُكَ مِنْهُمْ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ طَمَعٍ دُنْيَوِيٍّ. وَقِيلَ: كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ يَقُولُونَ إِنْ أَسْلَمْنَا وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَنَا عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعُوا عَلَيْنَا إِدْلَالًا بِالسَّابِقَةِ فَهُوَ افْتِتَانُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ انْتَهَى. وَفِيهِ تَكْثِيرٌ وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يَشْمَلُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا لِأَنَّ بَيْنَ الْجَمِيعِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ أَتَصْبِرُونَ إِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ اصْبِرُوا، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الرَّجَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ وَالْمَعْنَى لَا يَأْمُلُونَ لِقَاءَنَا بِالْخَيْرِ وَثَوَابَنَا عَلَى الطَّاعَةِ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ لِكُفْرِهِمْ بِمَا جِئْتُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَرْجُونَ نُشُورًا لَا يَخَافُونَ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تِهَامِيَّةٌ وهي أيضا من

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 186. (2) سورة هود: 11/ 7. (3) سورة الفرقان: 25/ 8.

لُغَةِ هُذَيْلٍ إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجَاءِ جَحْدٌ ذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَعْنَى الْخَوْفِ. فَتَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَرْجُو رَبَّهُ يُرِيدُونَ لَا يَخَافُ رَبَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1» أَيْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً وَإِذَا قَالُوا: فُلَانٌ يَرْجُو رَبَّهُ فَهَذَا مَعْنَى الرَّجَاءِ لَا عَلَى الْخَوْفِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلِ وَقَالَ آخَرُ: لا ترجى حين تلاقي الذائذا ... أَسَبْعَةً لَاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا انْتَهَى. وَمِنْ لَازِمِ الرَّجَاءِ لِلثَّوَابِ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْبَعْثِ لَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا يَخَافُ عِقَابًا وَمَنْ تَأَوَّلَ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا عَلَى مَعْنَى لَمْ يَرْجُ دَفْعَهَا وَلَا الِانْفِكَاكَ عَنْهَا. فَهُوَ لِذَلِكَ يُوَطَّنُ عَلَى الصَّبْرِ وَيُجِدُّ فِي شُغْلِهِ فَتَأْوِيلُهُ مُمْكِنٌ لَكِنَّ الْفَرَّاءَ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا ذَلِكَ لُغَةً لِهُذَيْلٍ فِي النَّفْيِ وَالشَّاعِرُ هُذَلِيٌّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَكَلَّفَ لِلتَّأْوِيلِ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى لُغَتِهِ. لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فَتُخْبِرَنَا أَنَّكَ رَسُولٌ حَقًّا أَوْ نَرى رَبَّنا فَيُخْبِرَنَا بِذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ. وَهَذِهِ كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «2» وَكَقَوْلِهِمْ أَعْنِي الْمُشْرِكِينَ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «3» وَهَذَا كُلُّهُ فِي سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَإِلَّا فَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَافٍ لَوْ وُفِّقُوا. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أَيْ تَكَبَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ عَظَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُؤَالِ رُؤْيَةِ اللَّهِ، وَهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لَهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ سُؤَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَا أَضْمَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ الْكَامِنُ فِي قُلُوبِهِمُ الظَّاهِرُ عَنْهُ مَا لَا يَقَعُ لَهُمْ كَمَا قَالَ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ «4» وَاللَّامُ فِي لَقَدِ جَوَابُ قسم محذوف وعَتَوْا تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ وَوَصَفَهُ بِكَبِيرٍ مُبَالَغَةً فِي إِفْرَاطِهِ أَيْ لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعَظِيمِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا غَايَةَ الِاسْتِكْبَارِ وَأَقْصَى الْعُتُوِّ. وَجَاءَ هُنَا عَتَوْا عَلَى الْأَصْلِ وَفِي مَرْيَمَ عِتِيًّا «5» عَلَى اسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ وَالْقَلْبِ لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَتَوْا كَفَرُوا أَشَدَّ الْكُفْرِ وَأَفْحَشُوا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَجَبَّرُوا. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: عَصَوْا. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: أَسْرَفُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُسْنِ اسْتِيفَائِهَا غَايَةٌ فِي أُسْلُوبِهَا. وَنَحْوُهُ قول القائل:

_ (1) سورة نوح: 71/ 13. (2) سورة البقرة: 2/ 55. (3) سورة الإسراء: 17/ 92. (4) سورة غافر: 40/ 56. (5) سورة مريم: 19/ 8.

وَجَارَةِ جَسَّاسٍ أَبَأْنَا بِنَابِهَا ... كُلَيْبًا غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَوَاؤُهَا فِي نَحْوِ هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ تَعَجُّبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَشَدَّ اسْتِكْبَارَهُمْ وَمَا أَكْثَرَ عُتُوَّهُمْ وَمَا أَغْلَى نَابًا بَوَاؤُهَا كُلَيْبٌ. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يَوْمَ مَنْصُوبٌ باذكر وَهُوَ أَقْرَبُ أَوْ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا بُشْرى أَيْ يَمْنَعُونَ الْبُشْرَى وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ لَا بُشْرى لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِلَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَذَا الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ عَامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ، وَدُخُولُ لَا عَلَى بُشْرى لِانْتِفَاءِ أَنْوَاعِ الْبُشْرَى وَهَذَا الْيَوْمُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْرِفُونَ مَا يَكُونُ لَهُمْ إِذَا رَأَوْهُمْ مِنَ الشَّرِّ وَانْتِفَاءِ الْبِشَارَةِ وَحُصُولِ الْخَسَارِ وَالْمَكْرُوهِ. وَاحْتَمَلَ بُشْرى أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا مَعَ لَا وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي نِيَّةِ التَّنْوِينِ مَنْصُوبَ اللَّفْظِ، وَمُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ فَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا مَعَ لَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ يَوْمَئِذٍ ولِلْمُجْرِمِينَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ نَعْتٌ لِبُشْرَى، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ صِفَةً لِبُشْرَى، وَالْخَبَرُ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَجِيءُ خِلَافُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ هَلِ الْخَبَرُ لِنَفْسِ لَا أَوِ الْخَبَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ لا وما بني مَعَهَا؟ وَإِنْ كَانَ فِي نِيَّةِ التَّنْوِينِ وَهُوَ مُعْرَبٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ مَعْمُولًا لِبُشْرَى، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً، وَالْخَبَرُ مِنَ الْخَبَرِ. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ ولِلْمُجْرِمِينَ خَبَرٌ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ خبرا ولِلْمُجْرِمِينَ صِفَةً، وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ الِاسْمَ لَيْسَ مَبْنِيًّا لِنَفْسِ لَا بِإِجْمَاعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَوْمَئِذٍ لِلتَّكْرِيرِ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ التَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ أَمْ أُرِيدَ به البلد، لِأَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَنِ اذْكُرْ أَوْ مِنْ يَعْدَمُونَ الْبُشْرَى وَمَا بَعْدَ لَا الْعَامِلَةِ فِي الِاسْمِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهَا وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَا قَبْلَ إِلَّا وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْمُجْرِمِينَ فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ فِيهِمْ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَيَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى الْقَائِلِينَ لِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ إِذَا رَأَوْهُمْ كَرِهُوا لِقَاءَهُمْ وَفَزِعُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَهُمْ إِلَّا بِمَا يَكْرَهُونَ فَقَالُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَنُزُولِ الشِّدَّةِ وَقَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ قَالَ حِجْراً عَوَاذًا يَسْتَعِيذُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا كَرِهَتْ شَيْئًا قَالُوا حِجْرًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَاتَانِ

اللَّفْظَتَانِ عُوذَةٌ لِلْعَرَبِ يَقُولُهُمَا مَنْ خَافَ آخَرَ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ إِذَا لَقِيَهُ وَبَيْنَهُمَا تِرَةٌ انْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ: حَنَّتْ إِلَى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا ... حِجْرٌ حَرَامٌ أَلَا تِلْكَ الدَّهَالِيسُ أَيْ هَذَا الَّذِي حَنَنْتِ إِلَيْهِ هُوَ مَمْنُوعٌ، وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ حِجْراً فِي الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ: قَالَتْ وَفِيهَا حَيْرَةٌ وَذُعْرُ ... عَوَذٌ يُرَى مِنْكُمْ وَحِجْرُ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ إِضْمَارُ نَاصِبِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أَتَفْعَلُ كَذَا؟ فَيَقُولُ حِجْرًا وَهِيَ مِنْ حَجَرَهُ إِذَا مَنَعَهُ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيذَ طَالِبٌ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَكْرُوهَ لَا يَلْحَقَهُ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ حِجْراً بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَيَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَيْ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُجْرِمِينَ حِجْراً مَحْجُوراً عَلَيْكُمُ البشرى ومَحْجُوراً صفة يؤكد مَعْنَى حِجْراً كَمَا قَالُوا: مَوْتٌ مَائِتٌ، وَذَيْلٌ ذَائِلٌ، وَالْقُدُومُ الْحَقِيقِيُّ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمِهِ بِذَلِكَ وَإِنْفَاذِهِ. قِيلَ: أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ قَدِمَتْ مَلَائِكَتُنَا وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ عَنْ أَمْرِهِ، وَحَسُنَتْ لَفْظَةُ قَدِمْنا لِأَنَّ الْقَادِمَ عَلَى شَيْءٍ مَكْرُوهٍ لَمْ يُقَرِّرْهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ مُغَيِّرٌ لَهُ وَمُذْهِبٌ، فَمَثَّلَتْ حَالَ هَؤُلَاءِ وَأَعْمَالَهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي كُفْرِهِمْ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَقِرَى ضَيْفٍ، وَمَنٍّ عَلَى أَسِيرٍ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِهِمْ بِحَالِ قَوْمٍ خَالَفُوا سُلْطَانَهُمْ فَقَصَدَ إِلَى مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ فَمَزَّقَهَا بِحَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا أَثَرًا، وَفِي أَمْثَالِهِمْ أَقَلُّ مِنَ الهباء ومَنْثُوراً صِفَةٌ لِلْهَبَاءِ شَبَّهَهُ بِالْهَبَاءِ لِقِلَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَنْثُورًا لِأَنَّ الْهَبَاءَ تَرَاهُ مُنْتَظِمًا مَعَ الضَّوْءِ فَإِذَا حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ رَأَيْتَهُ قَدْ تَنَاثَرَ وَذَهَبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ جَعَلَهُ يَعْنِي مَنْثُوراً مَفْعُولًا ثَالِثًا لِجَعَلْنَاهُ أَيْ فَجَعَلْناهُ جَامِعًا لِحَقَارَةِ الْهَبَاءِ وَالتَّنَاثُرِ. كَقَوْلِهِ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «1» أَيِ جَامِعِينَ لِلْمَسْخِ وَالْخَسْءِ انْتَهَى. وَخَالَفَ ابْنُ دُرُسْتُوَيْهِ فَخَالَفَ النَّحْوِيِّينَ فِي مَنْعِهِ أَنْ يَكُونَ لِكَانَ خَبَرَانِ وَأَزْيَدُ. وَقِيَاسُ قَوْلِهِ فِي جَعَلَ أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَبَرٌ ثَالِثٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَبَاءُ الْمَنْثُورُ مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيَاحُ وَتَبُثُّهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْهَبَاءُ الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ وَالْمُسْتَقَرُّ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ. وَالْمَقِيلُ الْمَكَانُ الَّذِي يأوون إليه في

_ (1) سورة البقرة: 2/ 65.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 إلى 34]

الِاسْتِرْوَاحِ إِلَى الْأَزْوَاجِ وَالتَّمَتُّعِ، وَلَا نَوْمَ فِي الْجَنَّةِ فَسُمِّيَ مَكَانُ اسْتِرْوَاحِهِمْ إِلَى الْحُورِ مَقِيلًا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ إِذِ الْمَكَانُ الْمُتَخَيَّرُ لِلْقَيْلُولَةِ يَكُونُ أَطْيَبَ الْمَوَاضِعِ. وَفِي لَفْظِ أَحْسَنُ رَمْزٌ إِلَى مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ مُقِيلُهُمْ مِنْ حُسْنِ الْوُجُوهِ وَمَلَاحَةِ الصُّوَرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التحاسين. وخَيْرٌ قِيلَ: لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا مِنَ اسْتِعْمَالِهَا دَلَالَةً عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي مُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ، وَيُمْكِنُ إِبْقَاؤُهَا عَلَى بَابِهَا وَيَكُونُ التَّفْضِيلُ وَقَعَ بَيْنَ الْمُسْتَقِرِّينَ وَالْمُقِيلِينَ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ الْوَاقِعِ ذَلِكَ فِيهِ. فَالْمَعْنَى خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتْرَفِينَ فِي الدُّنْيَا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا مِنْهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُسْتَقَرٌّ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وُجُودُ مُسْتَقَرٍّ لَهُمْ فِيهِ خَيْرٌ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٍ: إِنَّ الْحِسَابَ يَكْمُلُ فِي مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَيُقِيلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 34] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ تَشَقَّقُ بِإِدْغَامِ التَّاءِ مِنْ تَتَشَقَّقُ فِي الشِّينِ هُنَا. وَفِي ق وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِ تِلْكَ التَّاءِ وَيَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «1» . وقرأ

_ (1) سورة المزمل: 73/ 18.

الْجُمْهُورُ: وَنُزِّلَ مَاضِيًا مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنُزِّلَ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَأَنْزَلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَجَاءَ مَصْدَرُهُ تَنْزِيلًا وَقِيَاسُهُ إِنْزَالًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْنَى أَنْزَلَ وَنَزَّلَ وَاحِدًا جَازَ مَجِيءُ مَصْدَرِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْخِصْبِ كَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى انْطَوَيْتُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأُنْزِلَ مَاضِيًا رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُضَارِعُهُ يُنَزَّلُ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ وَالْخَفَّافِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنُزِّلَ ثُلَاثِيًّا مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَتُنَزَّلُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مُضَارِعَ نَزَّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَبُو مُعَاذٍ وَخَارِجَةُ عن أبي عمرو وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَشَدِّ الزَّايِ، أَسْقَطَ النُّونَ مِنْ وَنُنَزِّلُ وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَنُنَزِّلُ بِالنُّونِ مُضَارِعَ نَزَّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَنَسَبَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ لِابْنِ كَثِيرٍ وَحْدَهُ قَالَ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَعَنْ أُبَيٍّ أيضا وتنزلت. وقرأ أبيّ ونزلت مَاضِيًا مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ الْخَفَّافِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَنُزِّلَ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْمَلائِكَةُ رَفْعًا، فَإِنْ صَحَّتِ الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهُ حُذِفَ مِنْهَا الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ وَتَقْدِيرُهُ: وَنَزَلَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ فَحُذِفَ النُّزُولُ وَنُقِلَ إِعْرَابُهُ إِلَى الْمَلائِكَةُ بمعنى نزول نَازِلُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْمِ، وَهَذَا مِمَّا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي تَرْتِيبِ اللَّازِمِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرِهِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِأَنَّ نُزِّلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ فَيُبْنَى هُنَا لِلْمَلَائِكَةِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ زُكِمَ الرَّجُلُ وَجُنَّ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إِلَّا أَزْكَمَهُ اللَّهُ وَأَجَنَّهُ. وَهَذَا بَابُ سَمَاعٍ لَا قِيَاسٍ انْتَهَى. فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَمَامَ هُوَ السَّحَابُ الْمَعْهُودُ. وَقِيلَ هُوَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «1» . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْغَمَامُ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ فِي الْجَنَّةِ زَعَمُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ: سُتْرَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ تَنْسَخُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لِيُحَاسَبُوا. وَقِيلَ: غَمَامٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ مِثْلُ الضَّبَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِيهِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّماءُ هِيَ الْمُظِلَّةُ لَنَا. وَقِيلَ: تَتَشَقَّقُ سَمَاءً سَمَاءً قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالْبَاءُ بَاءُ الْحَالِ أَيْ مُتَغَيِّمَةً أَوْ بَاءُ السَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِ طُلُوعِ الْغَمَامِ مِنْهُ كَأَنَّهُ الَّذِي تَتَشَقَّقُ بِهِ السَّمَاءُ كَمَا تَقُولُ: شُقَّ السَّنَامُ بِالشَّفْرَةِ وَانْشَقَّ بِهَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 210.

أَوْ بِمَعْنَى عَنْ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَعَنْ أَنَّ انْشَقَّ عَنْ كَذَا تَفَتَّحَ عَنْهُ وَانْشَقَّ بِكَذَا أَنَّهُ هُوَ الشَّاقُّ لَهُ. وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ أَيْ إِلَى الْأَرْضِ لِوُقُوعِ الجزاء والحساب. والْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُلْكِ أَيِ الثَّابِتُ لِأَنَّ كُلَّ مُلْكٍ يَوْمَئِذٍ يَبْطُلُ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا مُلْكُهُ تَعَالَى وَخَبَرُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ. ولِلرَّحْمنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَقِّ أَوْ لِلْبَيَانِ أَعْنِي لِلرَّحْمنِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ لِلرَّحْمنِ ويَوْمَئِذٍ مَعْمُولٌ لِلْمُلْكِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ الْحَقُّ ولِلرَّحْمنِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَوْ لِلْبَيَانِ، وَعَسُرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِدُخُولِهِمُ النَّارَ وَمَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخَاوِفِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ عَلَى الْكافِرِينَ عَلَى تَيْسِيرِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُهَوَّنُ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّاهَا فِي الدُّنْيَا وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الظَّالِمِ إِذِ اللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَالَا: فُلَانٌ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: الظَّالِمُ هُنَا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِذْ كَانَ جَنَحَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ هُوَ الْمَكْنِيُّ عَنْهُ بِفُلَانٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُخَالَّةٌ فَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَبِلَ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. عَكْسُ هَذَا الْقَوْلِ. قِيلَ وَسَبَبُ نُزُولِهَا هُوَ عُقْبَةُ وَأُبَيٌّ. وَقِيلَ: كَانَ عُقْبَةُ خَلِيلًا لِأُمَيَّةَ فَأَسْلَمَ عُقْبَةُ فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ إِنْ بَايَعْتَ مُحَمَّدًا فَكَفَرَ وَارْتَدَّ لِرِضَا أُمَيَّةَ فَنَزَلَتْ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَذَكَرَ مِنْ إِسَاءَةِ عُقْبَةَ عَلَى الرَّسُولِ مَا كَانَ سَبَبَ أَنْ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا أَلْقَاكَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَّا عَلَوْتُ رَأْسَكَ بِالسَّيْفِ» . فَقُتِلَ عُقْبَةُ يَوْمِ بَدْرٍ صَبْرًا أَمَرَ عَلِيًّا فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقُتِلَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُبَارَزَةِ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِتَنَدُّمِ الظَّالِمِ وَتَمَنِّيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَطَاعَ خَلِيلَهُ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُهُ بِالظُّلْمِ وَمَا مِنْ ظَالِمٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْغَالِبِ خَلِيلٌ خَاصٌّ بِهِ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِفُلَانٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظَّالِمَ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ فِعْلَ النَّادِمِ الْمُتَفَجِّعِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَأْكُلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ تَنْبُتُ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ كُلَّمَا أَكَلَهَا نَبَتَتْ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ عُبِّرَ بِهِ عَنِ التَّحَيُّرِ وَالْغَمِّ وَالنَّدَمِ وَالتَّفَجُّعِ وَنَقَلَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُتَأَسِّفَ الْمُتَحَزِّنَ الْمُتَنَدِّمَ يَعَضُّ عَلَى إِبْهَامِهِ نَدَمًا وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَطَمَتْ خَدَّهَا بِحُمْرٍ لِطَافٍ ... نِلْنَ مِنْهَا عَذَابَ بِيضٍ عِذَابِ فَتَشَكَّى الْعُنَّابُ نَوْرَ أَقَاحٍ ... وَاشْتَكَى الْوَرْدُ نَاضِرَ الْعُنَّابِ وَفِي الْمَثَلِ: يَأْكُلُ يَدَيْهِ نَدَمًا وَيُسِيلُ دَمْعَهُ دَمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَضُّ الْأَنَامِلِ وَالْيَدَيْنِ وَالسُّقُوطُ فِي الْيَدِ وَأَكْلُ الْبَنَانِ وَحَرْقُ الْأَسْنَانِ وَالْأَرَمُ وَفُرُوعُهَا كِنَايَاتٌ عَنِ الْغَيْظِ وَالْحَسْرَةِ لِأَنَّهَا مِنْ رَوَادِفِهَا فَتُذْكَرُ الرَّادِفَةُ. وَيُدَلُّ بِهَا عَلَى الْمَرْدُوفِ فَيَرْتَفِعُ الْكَلَامُ بِهِ فِي طَبَقَةِ

الْفَصَاحَةِ، وَيَجِدُ السَّامِعُ عِنْدَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَا لَا يَجِدُ عِنْدَ لَفْظِ الْمُكَنَّى عَنْهُ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي حَرْقِ النَّابِ: أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ يَقُولُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قَائِلًا يَا لَيْتَنِي فَإِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَمَنَّى عُقْبَةُ أَنْ لَوْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَكَ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْجِنْسِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَمَنَّى سُلُوكَ طَرِيقِ الرَّسُولِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ لِلْجِنْسِ لِأَنَّ كُلَّ ظَالِمٍ قَدْ كُلِّفَ اتِّبَاعَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ مِنَ اللَّهِ إِلَى أَنْ جَاءَتِ الْمِلَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَنَسَخَتْ جَمِيعَ الْمِلَلِ، فَلَا يُقْبَلُ بَعْدَ مَجِيئِهِ دِينٌ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِهِ. ثُمَّ يُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالْحَسْرَةِ يَقُولُ يَا وَيْلَتى أَيْ يَا هَلَكَاهُ كَقَوْلِهِ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «1» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ قطيب يا لَيْتَنِي بِكَسْرِ التَّاءِ وَالْيَاءُ يَاءُ الْإِضَافَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُنَادِي وَيْلَتَهُ وَهِيَ هَلَكَتُهُ يَقُولُ لَهَا تَعَالَيْ فَهَذَا أَوَانُكِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْإِمَالَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَتَرْكُ الْإِمَالَةِ أَحْسَنُ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْيَاءُ فَبُدِّلَتِ الْكَسْرَةُ فَتْحَةً وَالْيَاءُ أَلِفًا فِرَارًا مِنَ الْيَاءِ فَمَنْ أَمَالَ رَجَعَ إِلَى الَّذِي عَنْهُ فَرَّ أَوَّلًا. وَفُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَلَمِ وَهُوَ متصرف. وقل كِنَايَةٌ عَنْ نَكِرَةِ الْإِنْسَانِ نَحْوُ: يَا رَجُلُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّدَاءِ، وَفُلَةُ بِمَعْنَى يَا امْرَأَةُ كَذَلِكَ وَلَامُ قل يَاءٌ أَوْ وَاوٌ وَلَيْسَ مُرَخَّمًا مِنْ فُلَانٍ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَوَهَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ وَابْنُ مَالِكٍ وَصَاحِبُ الْبَسِيطِ فِي قَوْلِهِمْ فُلُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَلَمِ كَفُلَانٍ. وَفِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ مَا قُلْنَاهُ بِالنَّقْلِ عَنِ الْعَرَبِ. والذِّكْرِ ذِكْرُ اللَّهِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوِ الْمَوْعِظَةُ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الشَّيْطَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَسْوَسَ إِلَيْهِ فِي مُخَالَّةِ مَنْ أَضَلَّهُ سَمَّاهُ شَيْطَانًا لِأَنَّهُ يُضِلُّ كَمَا يُضِلُّ الشَّيْطَانُ ثُمَّ خَذَلَهُ وَلَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْعَاقِبَةِ. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الظَّالِمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى جِهَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وَجْهِ ضَلَالِهِمْ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي بَلَّغَهُمْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَمْثِيلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ بِالْمِسْكِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ بِنَافِخِ الْكِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ دُعَاءَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ وَإِخْبَارَهُ بِهَجْرِ قَوْمِهِ قُرَيْشٍ الْقُرْآنَ هُوَ مِمَّا جَرَى لَهُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ مُسَلِّيًا مُؤَانِسًا بِقَوْلِهِ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَأَنَّهُ هُوَ الْكَافِي فِي هِدَايَتِهِ وَنَصْرِهِ فَهُوَ وَعْدٌ مِنْهُ بِالنَّصْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الرَّسُولِ وَشِكَايَتُهُ فِيهِ تَخْوِيفٌ لِقَوْمِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ إِنَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي

_ (1) سُورَةِ الزمر: 39/ 56.

الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَهْجُوراً بِمَعْنَى مَتْرُوكًا مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ مُبْعَدًا مَقْصِيًّا مِنَ الْهَجْرِ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَتْبَاعُهُ. وَقِيلَ: مِنَ الْهُجْرِ وَالتَّقْدِيرُ مَهْجُوراً فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوهُ هَجَرُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «2» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْجُورُ بِمَعْنَى الْهَجْرِ كَالْمَلْحُودِ وَالْمَعْقُولِ، وَالْمَعْنَى اتَّخَذُوهُ هَجْرًا وَالْعَدُوُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَجَمْعًا انْتَهَى. وَانْتَصَبَ هادِياً ونَصِيراً عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَالُوا أَيِ الْكُفَّارُ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِرَاحِ وَالِاعْتِرَاضِ الدَّالِّ عَلَى نُفُورِهِمْ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُزِّلَ هَاهُنَا بِمَعْنَى أُنْزِلَ لَا غَيْرُ كَخُبِّرَ بِمَعْنَى أُخْبِرَ وَإِلَّا كَانَ مُتَدَافِعًا انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّ نُزِّلَ بِمَعْنَى أُنْزِلَ لِأَنَّ نُزِّلَ عِنْدَهُ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيقِ، فَلَوْ أَقَرَّهُ عَلَى أَصْلِهِ عِنْدَهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْرِيقِ تَدَافَعَ هُوَ. وَقَوْلُهُ جُمْلَةً واحِدَةً وَقَدْ قررنا أنا نُزِّلَ لَا تَقْتَضِي التَّفْرِيقَ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ عِنْدَنَا مُرَادِفٌ لِلْهَمْزَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ وَقَائِلُ ذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَنَزَلَ جُمْلَةً كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقِيلَ: قَائِلُو ذَلِكَ الْيَهُودُ وَهَذَا قَوْلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِأَنَّ أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْإِعْجَازِ لَا يَخْتَلِفُ بِنُزُولِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْ مُفَرَّقًا بَلِ الْإِعْجَازُ فِي نُزُولِهِ مُفَرَّقًا أَظْهَرُ إِذْ يُطَالَبُونَ بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، فَلَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَطُولِبُوا بِمُعَارَضَتِهِ مِثْلَ مَا نَزَلْ لَكَانُوا أَعْجَزَ مِنْهُمْ حِينَ طُولِبُوا بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ فَعَجَزُوا وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ. فَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَأَشَارُوا إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَيْ تَنْزِيلًا مِثْلَ تَنْزِيلِ تِلْكَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَيَبْقَى لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ تَعْلِيلًا لِمَحْذُوفٍ أَيْ فَرَّقْنَاهُ فِي أَوْقَاتٍ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَمَّا تَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ مَعْنَى لِمَ أُنْزِلَ مُفَرَّقًا أُشِيرَ بِقَوْلِهِ كَذَلِكَ إِلَى التَّفْرِيقِ أَيْ كَذلِكَ أُنْزِلَ مُفَرَّقًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ نُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ حَتَّى تَعِيَهُ وَتَحْفَظَهُ لِأَنَّ الْمُتَلَقِّنَ إِنَّمَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ شيئا بعد شيء، وجزأ عَقِيبَ جُزْءٍ، وَلَوْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَكَانَ يَعْيَا فِي حِفْظِهِ وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَارَقَتْ حَالُهُ حَالَ دَاوُدَ وَمُوسَى وَعِيسَى

_ (1) سورة النساء: 4/ 41. (2) سورة فصلت: 41/ 26. [.....]

عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَيْثُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَهُمْ كَانُوا قَارِئِينَ كَاتِبِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ التَّلَقُّنِ وَالتَّحَفُّظِ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَيْضًا فَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ وَجَوَابِ السَّائِلِينَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهُ مَنْسُوخٌ وَبَعْضَهُ نَاسِخٌ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا انْتَهَى. وَاللَّامُ فِي لِنُثَبِّتَ بِهِ لَامُ الْعِلَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهِ لَيُثَبِّتَنَّ فَحُذِفَتِ النُّونُ وَكُسِرَتِ اللَّامُ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَكَانَ يَنْحُو إِلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ يُتَلَقَّى بِلَامِ كَيْ وَجُعِلَ مِنْهُ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ لِيُثَبِّتَ بِالْيَاءِ أَيْ لِيُثَبِّتَ اللَّهُ وَرَتَّلْناهُ أَيْ فَصَّلْنَاهُ. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ. وَقِيلَ: فَسَّرْنَاهُ. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يَضْرِبُونَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ مِنْهُمْ كَتَمْثِيلِهِمْ فِي هَذِهِ بالتوراة والإنجيل الإحاء الْقُرْآنُ بِالْحَقِّ فِي ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ أَوْضَحُ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ بِسُؤَالٍ عَجِيبٍ مِنْ سُؤَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ كَأَنَّهُ مَثَلٌ فِي الْبُطْلَانِ إِلَّا أَتَيْنَاكَ نَحْنُ بِالْجَوَابِ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مَعْنًى وَمُؤَدًّى مِنْ سُؤَالِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ التَّفْسِيرُ هُوَ الْكَشْفَ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وُضِعَ مَوْضِعَ مَعْنَاهُ فَقَالُوا: تَفْسِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَيْتَ وَكَيْتَ، كَمَا قِيلَ مَعْنَاهُ كَذَا أَوْ وَلا يَأْتُونَكَ بِحَالٍ وَصِفَةٍ عَجِيبَةٍ يَقُولُونَ هَلَّا كَانَتْ هَذِهِ صَفَتَكَ وَحَالَكَ نَحْوَ أَنْ يُقْرَنَ بِكَ مَلَكٌ يُنْذِرُ مَعَكَ أَوْ يُلْقَى إِلَيْكَ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أَوْ يَنْزِلُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً إِلَّا أَعْطَيْنَاكَ مَا يَحِقُّ لَكَ فِي حِكْمَتِنَا وَمَشِيئَتِنَا أَنْ تُعْطَاهُ وَمَا هُوَ أَحْسَنُ تَكْشِيفًا لِمَا بُعِثْتَ عَلَيْهِ وَدَلَالَةً عَلَى صِحَّتِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَلا يَأْتُونَكَ بِشُبْهَةٍ فِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْحَضُ شُبْهَةَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَيُبْطِلُ كَلَامَ أَهْلِ الزَّيْغِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ أَيْ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً مِنْ مَثَلِهِمْ وَمَثَلُهُمْ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. والَّذِينَ يُحْشَرُونَ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ الْآيَةَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَضُوا فِي حَدِيثِ الْقُرْآنِ وَإِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا كَانَ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ ذَوُو رُشْدٍ وَخَيْرٍ، وَأَنَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ وَلِذَلِكَ اعْتَرَضُوا فَأَخْبَرَ تعالى بحالهم وما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِكَوْنِهِمْ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ بِأَنْ يُسْحَبَ عَلَى وَجْهِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ أَنْ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 44]

يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ لِلذِّلَّةِ الْمُفْرِطَةِ وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مَرَّ فُلَانٌ عَلَى وَجْهِهِ إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ. وَيُقَالُ: مَضَى عَلَى وَجْهِهِ إِذَا أسرع متوجها لقصده وشَرٌّ وأَضَلُّ ليسيا عَلَى بَابِهِمَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْضِيلِ. وَقَوْلُهُ شَرٌّ مَكاناً أَيْ مُسْتَقَرًّا وَهُوَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَكَانِ الْمَكَانَةُ وَالشَّرَفُ لَا الْمُسْتَقَرُّ. وَأَعْرَبُوا الَّذِينَ مُبْتَدَأً وَالْجُمْلَةَ مِنْ أُوْلئِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَمَا قَالُوا قَالَ إِبْعَادًا لَهُمْ وَتَسْمِيعًا بِمَا يؤول إِلَيْهِ حَالُهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ إِخْبَارًا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فَقَالَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) لَمَّا تَقَدَّمَ تَكْذِيبُ قُرَيْشٍ وَالْكَفَّارِ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ تَعَالَى مَا فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ وَإِرْهَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ مِنْ هَلَاكِ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَنَاسَبَ أَنْ ذَكَرَ أَوَّلًا مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَمَعَ ذَلِكَ

كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِهِ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دُفْعَةً لَكَذَّبُوا وَكَفَرُوا كَمَا كَذَّبَ قَوْمُ مُوسَى. والْكِتابَ هنا التوراة وهارُونَ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلْنَا. وَأَنْ يَكُونَ وَزِيراً وَالْوِزَارَةُ لَا تُنَافِي النُّبُوَّةَ فَقَدْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ أَنْبِيَاءُ يوازر بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمَذْهُوبُ إِلَيْهِمُ الْقِبْطُ وَفِرْعَوْنُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ فَذَهَبَا وَأَدَّيَا الرِّسَالَةَ فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْناهُمْ وَالتَّدْمِيرُ أَشَدُّ الْإِهْلَاكِ وَأَصْلُهُ كَسْرُ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ. وَقِصَّةُ مُوسَى وَمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ذُكِرَتْ مُنْتَهِيَةً فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ وَهُنَا اخْتُصِرَتْ فَأَوْجَزَ بِذِكْرِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُلْزِمُ الْحُجَّةَ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَاسْتِحْقَاقَ التَّدْمِيرِ بِتَكْذِيبِهِمْ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: فَدَمِّرَاهُمْ عَلَى الْأَمْرِ لِمُوسَى وَهَارُونَ ، وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الشَّدِيدَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا فَدَمِّرَا أَمْرًا لَهُمَا بِهِمْ بِبَاءِ الْجَرِّ، وَمَعْنَى الْأَمْرِ كُونَا سَبَبَ تَدْمِيرِهِمْ. وَانْتَصَبَ وَقَوْمَ نُوحٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ وَكَانَ النَّصْبُ أَرْجَحَ لِتَقَدُّمِ الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ لَمَّا فِي هَذَا الْإِعْرَابِ ظَرْفًا عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَغْرَقْناهُمْ جَوَابُ لَمَّا فَلَا يُفَسَّرُ ناصبا لقوم فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَفْعُولِ فِي فَدَمَّرْناهُمْ أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَقَدْ جَوَّزَ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْحَوْفِيُّ. لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ كَذَّبُوا نُوحًا وَمَنْ قَبْلَهُ أَوْ جَعَلَ تَكْذِيبَهُمْ لِنُوحٍ تَكْذِيبًا لِلْجَمِيعِ، أَوْ لَمْ يَرَوْا بَعْثَةَ الرُّسُلِ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَعاداً عَلَى وقَوْمَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا على لِلظَّالِمِينَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ وَعَدْنَا الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ وَوَعَدْنَا عَادًا وَثَمُودَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَمْرِو بْنُ مَيْمُونٍ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَثَمُودَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ. وَأَصْحابَ الرَّسِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ ثَمُودَ وَيُبَعِّدُهُ عَطْفُهُ عَلَى ثَمُودَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنَ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهَا الرَّسُّ وَالْفَلَجُ. قِيلَ: قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ فَهَلَكُوا وَهُمْ بَقِيَّةُ ثَمُودَ وَقَوْمِ صَالِحٍ. وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ بِئْرٌ بِأَنْطَاكِيَةِ الشَّامِ قُتِلَ فِيهَا صَاحِبُ يَاسِينَ وَهُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ. وَقِيلَ: قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ وَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ أَيْ دَسُّوهُ فِيهِ.

وَقَالَ وَهْبٌ وَالْكَلْبِيُّ أَصْحابَ الرَّسِّ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ قَوْمَانِ أُرْسِلَ إِلَيْهِمَا شُعَيْبٌ أُرْسِلَ إِلَى أَصْحَابِ الرَّسِّ وَكَانُوا قَوْمًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَأَصْحَابَ آبَارٍ وَمَوَاشٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَمَادَوْا فِي طُغْيَانِهِمْ وَفِي إِيذَائِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَ الرَّسِّ وَهِيَ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ انْهَارَتْ بِهِمْ فَخُسِفَ بِهِمْ وَبِدَارِهِمْ. وَقَالَ عَلِيٌّ فِيمَا نَقَلَهُ الثَّعْلَبِيُّ: قَوْمٌ عَبَدُوا شَجَرَةَ صَنَوْبَرٍ يُقَالُ لَهَا شَاهْ دَرَخْتَ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي بِئْرٍ حَفَرُوهُ لَهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حنظلة بن صفوان كَانُوا مُبْتَلَيْنَ بِالْعَنْقَاءِ وَهِيَ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِطُولِ عُنُقِهَا وَكَانَتْ تَسْكُنُ جَبَلَهُمُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فَجٌّ وَهِيَ تَنْقَضُّ عَلَى صِبْيَانِهِمْ فَتَخْطِفُهُمْ إِنْ أَعْوَزَهَا الصَّيْدُ فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَةُ فَأَصَابَتْهَا الصَّاعِقَةُ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَتَلُوا حَنْظَلَةَ فَأُهْلِكُوا. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالرَّسُّ هُوَ الْأُخْدُودُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّسُّ بِئْرُ أَذْرَبِيجَانَ. وَقِيلَ: الرَّسُّ مَا بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى الْيَمَنِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. وَقِيلَ: قَوْمٌ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ فَقَتَلُوهُمْ وَرَسُّوا عِظَامَهُمْ فِي بِئْرٍ. وَقِيلَ: قَوْمٌ بُعِثَ إِلَيْهِمْ نَبِيٌّ فَأَكَلُوهُ. وَقِيلَ: قَوْمٌ نِسَاؤُهُمْ سَوَاحِقُ. وَقِيلَ: الرَّسُّ مَاءٌ وَنَخْلٌ لِبَنِي أَسَدٍ. وَقِيلَ: الرَّسُّ نَهْرٌ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا مِنْ أَوْلَادِ يَهُوذَا بن يَعْقُوبَ فَكَذَّبُوهُ فَلَبِثَ فِيهِمْ زَمَانًا فَشَكَا إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا وَأَرْسَلُوهُ فِيهَا، وَقَالُوا: نَرْجُو أَنْ يَرْضَى عَنَّا إِلَهُنَا فَكَانُوا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ يَسْمَعُونَ أَنِينَ نَبِيِّهِمْ، فَدَعَا بِتَعْجِيلِ قبض روحه فمات وأضلتهم سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ أَذَابَتْهُمْ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ أَهْلَ الرَّسِّ أَخَذُوا نَبِيَّهُمْ فَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ وَأَطْبَقُوا عَلَيْهِ صَخْرَةً فَكَانَ عَبْدٌ أَسْوَدُ آمَنَ بِهِ يَجِيءُ بِطَعَامٍ إِلَى تِلْكَ الْبِئْرِ فَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ فيقلها فَيُعْطِيهِ مَا يُغَذِّيهِ بِهِ. ثُمَّ يَرُدُّ الصَّخْرَةَ، إِلَى أَنْ ضَرَبَ اللَّهُ يَوْمًا عَلَى أُذُنِ ذَلِكَ الْأَسْوَدِ بِالنَّوْمِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَخْرَجَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ نَبِيَّهُمْ فَآمَنُوا بِهِ» . فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَكَرَهُمُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْحَابِ الرَّسِّ، فَلَوْ صَحَّ مَا نَقَلَهُ عِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ كَانَ هُوَ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ خِلَافُهُ وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِتَكْذِيبِ مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ هَذَا إِبْهَامٌ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ ذلك إلّا الله وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِي الذِّكْرِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ دُخُولُ بَيْنَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قِيلَ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ وَقَدْ يَذْكُرُ الذَّاكِرُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً. ثُمَّ يُشِيرُ إِلَيْهَا. وَانْتَصَبَ كُلًّا الْأَوَّلُ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ وَأَنْذَرْنَا كُلًّا أَوْ حَذَّرْنَا كُلًّا وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِتَبَّرْنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مَفْعُولًا

وَهَذَا مِنْ وَاضِحِ الْإِعْرَابِ. وَمَعْنَى ضَرَبَ الْأَمْثَالَ أَيْ بَيَّنَ لَهُمُ الْقِصَصَ الْعَجِيبَةَ مِنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَوَصَفْنَا لَهُمْ مَا أَدَّى إِلَيْهِ تَكْذِيبُهُمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَتَدْمِيرِهِ إِيَّاهُمْ لِيَهْتَدُوا بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ فَلَمْ يَهْتَدُوا وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي لَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالْمَعْنَى وَكُلَّ الْأَمْثَالِ ضَرَبْنَا لِلرَّسُولِ وَعَلَى هَذَا وكُلًّا منصوب بضربنا والْأَمْثالَ بَدَلٌ مِنْ كُلًّا. وَالضَّمِيرُ فِي وَلَقَدْ أَتَوْا لِقُرَيْشٍ كَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى سَدُومَ مِنْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ فِي مَتَاجِرِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَتْ قُرًى خَمْسَةً أَهْلَكَ اللَّهُ مِنْهَا أَرْبَعًا وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ زُغَرُ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ومَطَرَ السَّوْءِ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ فَهَلَكُوا. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنَادِي نَصِيحَةً لَكُمْ: يَا سَدُومُ يَوْمٌ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْهَاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لِلْعُقُوبَةِ مِنَ اللَّهِ ، وَمَعْنَى أَتَوْا مَرُّوا فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى. وَأَفْرَدَ لَفْظَ الْقَرْيَةِ وَإِنْ كَانَتْ قُرًى لِأَنَّ سَدُومَ هِيَ أُمُّ تِلْكَ الْقُرَى وَأَعْظَمُهَا. وَقَالَ مَكِّيٌّ: الضَّمِيرُ فِي أَتَوْا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا انْتَهَى. وَهُمْ قُرَيْشٌ وَانْتَصَبَ مَطَرَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَأُمْطِرَتْ عَلَى مَعْنَى أُولِيَتْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَحْذُوفُ الزَّوَائِدِ أَيْ إِمْطَارَ السَّوْءِ. أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا حَلَّ بِهَا مِنَ النِّقَمِ كَمَا قَالَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ «1» . وَقَالَ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ «2» وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِرُؤْيَتِهَا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، بَلْ كَانُوا كَفَرَةً لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَتَوَقَّعُوا عَذَابَ الْآخِرَةِ وَضَعَ الرَّجَاءَ مَوْضِعَ التوقع لأنه إنما بتوقع الْعَاقِبَةَ مَنْ يُؤْمِنُ، فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَنْظُرُوا وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وَمَرُّوا بِهَا كَمَا مَرَّتْ رِكَابُهُمْ، أَوْ لَا يَأْمُلُونَ نُشُوراً كَمَا يَأْمُلُهُ الْمُؤْمِنُونَ لِطَمَعِهِمْ إِلَى ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ أَوْ لَا يَخَافُونَ عَلَى اللُّغَةِ التِّهَامِيَّةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مصرت ثلاثي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَمَطَرَ مُتَعَدٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَمَنْ بَوَادِيهِ بَعْدَ الْمَحْلِ مَمْطُورِ وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ مَطَرَ السَّوْءِ بِضَمِّ السِّينِ. وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لَمْ يَقْتَصِرِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ، بَلْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالِاحْتِقَارِ. حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وإِنْ نَافِيَةٌ جَوَابُ إِذا وَانْفَرَدَتْ إِذا

_ (1) سورة الصافات: 37/ 137. (2) سورة الحجر: 15/ 79.

بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَوَابُهَا مَنْفِيًّا بِمَا أَوْ بِلَا لَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ غَيْرِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ مَعَ مَا وَمَعَ لَا إِذَا ارْتَفَعَ الْمُضَارِعُ، فَلَوْ وَقَعَتْ إِنِ النَّافِيَةُ فِي جَوَابِ غَيْرِ إِذَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ كَمَا النَّافِيَةِ ومعنى هُزُواً مَوْضِعَ هُزْءٍ أَوْ مَهْزُوًّا بِهِ أَهذَا قَبْلَهُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ يَقُولُونَ وَقَالَ: جَوَابُ إِذا مَا أُضْمِرُ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ وَإِذا رَأَوْكَ قَالُوا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وإِنْ يَتَّخِذُونَكَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ إِذا وَجَوَابِهَا. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ كَانَ إِذَا رَأَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟ وَأَخْبَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لِقُبْحِ صُنْعِهِ أَوْ لِكَوْنِ جَمَاعَةٍ مَعَهُ قَالُوا ذَلِكَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ اسْتِصْغَارٌ وَاحْتِقَارٌ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهُ بِقَوْلِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا فِي مَعْرِضِ التَّسْلِيمِ وَالْإِقْرَارِ وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ سُخْرِيَةً وَاسْتِهْزَاءً، وَلَوْ لَمْ يَسْتَهْزِئُوا لَقَالُوا هَذَا زَعَمَ أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَسُولًا. وَقَوْلُهُمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا دَلِيلٌ عَلَى فَرْطِ مُجَاهَدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَبَذْلِهِ قُصَارَى الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي اسْتِعْطَافِهِمْ مَعَ عَرْضِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ حَتَّى شَارَفُوا بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لَوْلَا فَرْطُ لَجَاجِهِمْ وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بعبادة آلهتهم. ولَوْلا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حيث اللفظ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الِاسْتِهْزَاءُ إِمَّا بِالصُّورَةِ فَكَانَ أَحْسَنَ مِنْهُمْ خِلْقَةً أَوْ بِالصِّفَةِ فَلَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا عَنْهُمْ ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ دُونَهُمْ، وَمَا قَدَرُوا عَلَى الْقَدْحِ فِي حُجَّتِهِ فَفِي الْحَقِيقَةِ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُهْزَأَ بِهِمْ ثُمَّ لِوَقَاحَتِهِمْ قلبوا القصة واستهزؤوا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى. قِيلَ: وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ صَارُوا فِي ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ كَالْمَجَانِينِ اسْتَهْزَءُوا بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ إِنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ مَذْهَبِنَا لَوْلا أَنَّا قَابَلْنَاهُ بِالْجُمُودِ وَالْإِصْرَارِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَلَّمُوا لَهُ قُوَّةَ الْحُجَّةِ وَكَمَالَ الْعَقْلِ، فَكَوْنُهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الاستهزاء به وَبَيْنَ هَذِهِ الْكَيْدُودَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَالْمُتَحَيِّرِينَ فِي أَمْرِهِ تَارَةً يَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ وَتَارَةً يَصِفُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعَالِمِ الْكَامِلِ. وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَعِيدٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الْإِمْهَالِ فَلَا بُدَّ لِلْوَعِيدِ أَنْ يَلْحَقَهُمْ فَلَا يَغُرَّنَّهُمُ التَّأْخِيرُ، وَلَمَّا قَالُوا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا جَاءَ قَوْلُهُ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ سَيَظْهَرُ لَهُمْ مَنِ الْمُضِلُّ وَمَنِ الضَّالُّ بِمُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ الَّذِي لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ إِنْ كَانَتْ

مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْنِ إِنْ كَانَتْ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ موصولة مفعولة بيعلمون وأَضَلُّ خبر مبتدأ محذوف أي هُوَ أَضَلُّ، وَصَارَ حَذْفُ هَذَا الْمُضْمَرِ لِلِاسْتِطَالَةِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ مَا أَنَا بِالَّذِي قَائِلٌ لَكَ سَوَاءٌ. أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ هَذَا يَأْسٌ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَتَأَسَّفَ عَلَيْهِمْ، وَإِعْلَامٌ أَنَّهُمْ فِي الْجَهْلِ بِالْمَنَافِعِ وَقِلَّةِ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ مِثْلُ الْبَهَائِمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ مِنْ حَيْثُ لَهُمْ فَهْمٌ وَتَرَكُوا اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْأَنْعَامُ لَا سَبِيلَ لَهَا إلى فهم المصالح. وأَ رَأَيْتَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ جَهْلِ من هذه حاله وإِلهَهُ المفعول الأول لاتخذ، وهَواهُ الثَّانِي أَيْ أَقَامَ مُقَامَ الْإِلَهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ هَوَاهُ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَكُونُ فِي هَواهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ إِلَهًا إِلَّا هَوَاهُ وَادِّعَاءُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِذْ يُقَدِّرُهُ مَنِ اتَّخَذَ هَوَاهُ إِلَهَهُ وَالْبَيْتُ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ وَنَادِرِ الْكَلَامِ فَيُنَزَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ كَانَ الرَّجُلُ يَعْبُدُ الصَّنَمَ فَإِذَا رَأَى أَحْسَنَ مِنْهُ رَمَاهُ وَأَخَذَ الْأَحْسَنَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، كَانَ إِذَا هَوِيَ شَيْئًا عَبَدَهُ، وَالْهَوَى مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ أَفَأَنْتَ تُجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ هَوَاهُ، أَوْ أَفَأَنْتَ تَحْفَظُهُ مِنْ عَظِيمِ جَهْلِهِ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنِ اتَّخَذَ آلِهَةً مُنَوَّنَةً عَلَى الْجَمْعِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ جَعَلَ هَوَاهُ أَنْوَاعًا أَسْمَاءً لِأَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَجَعَلَ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَوَاهُ إِلَهًا آخَرَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: إِلَاهَةً عَلَى وَزْنِ فِعَالَةٍ وَفِيهِ أَيْضًا تَقْدِيمٌ أَيْ هَوَاهُ إِلَاهَةً بِمَعْنَى مَعْبُودٍ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَأْلُوهَةِ. فَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ. وَقِيلَ: بَلِ الْإِلَاهَةُ الشَّمْسُ وَيُقَالُ لَهَا أُلَاهَةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ غَيْرُ مَصْرُوفَةٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِمَّا يَدْخُلُهَا لَامُ الْمَعْرِفَةِ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ فِيهِ اللَّامُ ثُمَّ نُزِعَتْ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النُّعُوتِ فَتَنَكَّرَتْ قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الْأَوَّلُ هُوَ مَنِ وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتَ فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ وَمَعْنَى وَكِيلًا أَيْ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى الْهُدَى فَتَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَتُجْبِرَهُ على الإسلام. وأَمْ منقطعة تَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَتَحْسَبُ كَأَنَّ هَذِهِ الْمَذَمَّةَ أَشَدُّ مِنَ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا حَتَّى حُفَّتْ بِالْإِضْرَابِ عَنْهَا إِلَيْهَا وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَسْلُوبِي الْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ لِأَنَّهُمْ لَا يُلْقُونَ إِلَى استماع الحق أذنا إِلَى تَدَبُّرِهِ عَقْلًا، وَمُشَبَّهِينَ بِالْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْغَفْلَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَنُفِيَ ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ فَأَسْلَمَ، وَجُعِلُوا أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا تَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا وَتَعْرِفُ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهَا مِمَّنْ يُسِيءُ إِلَيْهَا وَتَطْلُبُ مَنْفَعَتَهَا وَتَتَجَنَّبُ مَضَرَّتَهَا وَتَهْتَدِي إِلَى

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 إلى 60]

مَرَاعِيهَا وَمَشَارِبِهَا، وَهُمْ لَا يَنْقَادُونَ لِرَبِّهِمْ وَلَا يَعْرِفُونَ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَرْغَبُونَ فِي الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَنَافِعِ وَلَا يَتَّقُونَ الْعِقَابَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْمَضَارِّ وَلَا يَهْتَدُونَ لِلْحَقِّ [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 60] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى جَهْلَ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى دَلَائِلِ الصَّانِعِ وَفَسَادِ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ لَعَلَّهُمْ يَتَدَبَّرُونَهَا وَيُؤْمِنُونَ بِمَنْ هَذِهِ قُدْرَتُهُ وَتَصَرُّفُهُ فِي عَالَمِهِ، فَبَدَأَ بِحَالِ الظِّلِّ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ وَتَغَيُّرِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَأَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَلَمْ تَرَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلى صنع رَبِّكَ وقدرته. وكَيْفَ سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ

بِمَدَّ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مُتَعَلِّقِ أَلَمْ تَرَ لِأَنَّ تَرَ مُعَلِّقَةٌ وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الَّتِي هِيَ مُعَلَّقٌ عَنْهَا فعل القلب ليس باقي عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ. فَالْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى مَدِّ رَبِّكَ الظِّلَّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الظِّلَّ هُنَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِثْلُ ظِلِّ الْجَنَّةِ ظِلٌّ مَمْدُودٌ لَا شَمْسَ فِيهِ وَلَا ظُلْمَةَ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ فِي غَيْرِ النَّهَارِ بَلْ فِي بَقَايَا اللَّيْلِ وَلَا يُسَمَّى ظِلًّا. وَقِيلَ: الظِّلَّ اللَّيْلُ لَا ظِلُّ الْأَرْضِ وَهُوَ يَغْمُرُ الدُّنْيَا كُلَّهَا. وَقِيلَ: مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَكِنْ أَوْرَدَهُ كَذَا. وَقِيلَ: ظِلَالُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا كَقَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ «1» . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الظِّلَّ بِالْغَدَاةِ وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الظِّلَّ مَا نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ وَالْفَيْءُ مَا نَسَخَ الشَّمْسَ. وَقِيلَ: مَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ظِلٌّ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَزَالَتْ فَيْءٌ. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: كَظِلِّ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا شَمْسَ تُذْهِبُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَلَا تَزُولُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْ شاءَ لَتَرَكَهُ ظِلًّا كَمَا هُوَ. وَقِيلَ: لَأَدَامَهُ أَبَدًا بِمَنْعِ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَلَّتْ عَلَى زَوَالِ الظِّلِّ وَبَدَا فِيهِ النُّقْصَانُ فَبِطُلُوعِ الشَّمْسِ يَبْدُو النُّقْصَانُ فِي الظِّلِّ، وَبِغُرُوبِهَا تَبْدُو الزِّيَادَةُ فِي الظِّلِّ فَبِالشَّمْسِ اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى الظِّلِّ وَزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، وَكُلَّمَا عَلَتِ الشَّمْسُ نَقَصَ الظِّلُّ، وَكُلَّمَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ زَادَ وَهُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً «2» يَعْنِي فِي وَقْتِ عُلُوِّ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ يَنْقُصُ الظِّلُّ نُقْصَانًا يَسِيرًا بَعْدَ يَسِيرٍ وَكَذَلِكَ زِيَادَتُهُ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ يَزِيدُ يَسِيرًا بَعْدَ يَسِيرٍ حَتَّى يَعُمَّ الْأَرْضَ. كُلَّهَا فَأَمَّا زَوَالُ الظِّلِّ كُلِّهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْبُلْدَانِ الْمُتَوَسِّطَةِ فِي وَقْتٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى مَدَّ الظِّلَّ أَنْ جَعَلَهُ يَمْتَدُّ وَيَنْبَسِطُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ لَاصِقًا بِأَصْلِ كُلِّ مُظِلٍّ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرَ مُنْبَسِطٍ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ، سُمِّيَ انْبِسَاطُ الظل وامتداده تحركا منه وَعَدَمُ ذَلِكَ سُكُونًا وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّمْسِ دَلِيلًا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَدِلُّونَ بِالشَّمْسِ وَبِأَحْوَالِهَا فِي مَسِيرِهَا عَلَى أَحْوَالِ الظِّلِّ مِنْ كَوْنِهِ ثَابِتًا فِي مَكَانٍ وَزَائِلًا وَمُتَّسِعًا وَمُتَقَلِّصًا فَيَبْنُونَ حَاجَتَهُمْ إِلَى الظِّلِّ وَاسْتِغْنَاءَهُمْ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. وَقَبْضُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَنْسَخَهُ بِظِلِّ الشَّمْسِ يَسِيراً أَيْ عَلَى مَهَلٍ وَفِي هَذَا الْقَبْضِ الْيَسِيرِ شيئا

_ (1) سورة النحل: 16/ 48. (2) سورة الفرقان: 25/ 46.

بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَلَوْ قُبِضَ دُفْعَةً لَتَعَطَّلَتْ أَكْثَرُ مَرَافِقِ النَّاسِ بِالظِّلِّ وَالشَّمْسِ جَمِيعًا فَإِنْ قُلْتَ: ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ كَيْفَ مَوْقِعُهَا؟ قُلْتُ: موقعها البيان تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ كَأَنَّ الثَّانِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ أَعْظَمُ مِنَ الثَّانِي تَشْبِيهًا لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ بِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الْحَوَادِثِ فِي الْوَقْتِ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ بَنَى الظِّلَّ حِينَ بَنَى السَّمَاءَ كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَدَحَا الْأَرْضَ تَحْتَهَا فَأَلْقَتِ الْقُبَّةُ ظِلَّهَا عَلَى الْأَرْضِ لِعَدَمِ النَّيِّرِ. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُسْتَقِرًّا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ وَجَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الظِّلِّ سَلَّطَهَا عَلَيْهِ وَجَعَلَهَا دَلِيلًا مَتْبُوعًا لَهُمْ كَمَا يُتْبَعُ الدَّلِيلُ فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ وَيَمْتَدُّ وَيَقْلِصُ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِهَا قَبَضَهُ قَبْضًا سَهْلًا يَسِيرًا غَيْرَ عَسِيرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ قَبْضَهُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ وَهِيَ الْأَجْرَامُ الَّتِي تُلْقِي الظِّلَّ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ إِعْدَامَهُ بِإِعْدَامِ أَسْبَابِهِ، كَمَا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ بِإِنْشَاءِ أَسْبَابِهِ وَقَوْلُهُ قَبَضْناهُ إِلَيْنا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ يَسِيراً كَمَا قَالَ ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ «1» انْتَهَى وَقَوْلُهُ: سَمَّى انبساط الظل وامتداده تحركا مِنْهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَقَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ قَبْضَهُ عِنْدَ قيامه السَّاعَةِ فَهَذَا يَبْعُدُ احْتِمَالُهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ آثَارَ صَنْعَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِتُشَاهَدَ ثُمَّ قَالَ مَدَّ الظِّلَّ وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَاضِيًا مِثْلَهُ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثُمَّ قبضه عند قيام الساعة مَعَ ظُهُورِ كَوْنِهِ مَاضِيًا مُسْتَدَامًا أَمْثَالُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ ثَابِتًا غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ وَلَا مَنْسُوخٍ، لَكِنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَنَسْخَهَا إِيَّاهُ بِطَرْدِهَا لَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِوُجُودِهِ وَلِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ لَوْلَا الشَّمْسُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الظِّلَّ شَيْءٌ إِذِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسِيراً مُعَجَّلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَطِيفًا أَيْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ سَهْلًا قَرِيبَ التَّنَاوُلِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُرْفَعُ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَى وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الظِّلَّ لَا ضَوْءٌ خَالِصٌ وَلَا ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ الْكَيْفِيَّاتُ الْحَاصِلَةُ دَاخِلَ السَّقْفِ وَأَبْنِيَةِ الْجِدَارَاتِ، وَهِيَ أَطْيَبُ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ وَالضَّوْءَ الْخَالِصَ يُحَيِّرُ الْحِسَّ البصري

_ (1) سورة ق: 50/ 44.

وَيُحْدِثُ السُّخُونَةَ الْقَوِيَّةَ وَهِيَ مُؤْذِيَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْجَنَّةِ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «1» وَالنَّاظِرُ إِلَى الْجِسْمِ الْمُلَوَّنِ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُ بِالظِّلِّ شَيْئًا سِوَى الْجِسْمِ وَسِوَى اللَّوْنِ وَالظِّلُّ لَيْسَ أَمْرًا ثَالِثًا وَلَا معرفة به إلّا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَوَقَعَ ضَوْءُهَا عَلَى الْجِسْمِ ثُمَّ مَالَ عُرِفَ لِلظِّلِّ وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ، وَلَوْلَاهَا مَا عُرِفَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُدْرَكُ بِأَضْدَادِهَا، فَظَهَرَ لِلْعَقْلِ أَنَّ الظِّلَّ كَيْفِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِسْمِ وَاللَّوْنِ وَلِذَلِكَ قَالَ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أَيْ جَعَلْنَا الظِّلَّ أَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ، ثُمَّ هَدَيْنَا الْعُقُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ بِأَنْ أَطْلَعْنَا الشَّمْسَ فَكَانَتْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الظِّلِّ. ثُمَّ قَبَضْناهُ أَيْ أَزَلْنَاهُ لَا دُفْعَةً بَلْ يَسِيراً يَسِيرًا كُلَّمَا ازْدَادَ ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ ازْدَادَ نُقْصَانُ الظِّلِّ مِنْ جَانِبِ الْمَغْرِبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَكَاتُ الْمَكَانِيَّةُ لَا تُوجَدُ دُفْعَةً بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا كَانَ زَوَالُ الْأَظْلَالِ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ السماء والأرض وقع السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فَجَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا لِأَنَّهُ بِحَسَبِ حَرَكَاتِ الْأَضْوَاءِ تَتَحَرَّكُ الْأَظْلَالُ فَهُمَا مُتَعَاقِبَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، فَبِمِقْدَارِ مَا يَزْدَادُ أَحَدُهُمَا يَنْقُصُ الْآخَرُ، فَكَمَا أَنَّ الْمُهْتَدِيَ يَقْتَدِي بِالْهَادِي وَالدَّلِيلِ وَيُلَازِمُهُ فَكَذَلِكَ الْأَظْلَالُ مُلَازِمَةٌ لِلْأَضْوَاءِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَيْهِ انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُحَسَّنٌ بَعْضَ تَحْسِينٍ. وَالْآيَةُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّكْثِيرِ. وَقَالَ أَيْضًا: الظِّلَّ لَيْسَ عَدَمًا مَحْضًا بَلْ هُوَ أَضْوَاءٌ مَخْلُوطَةٌ بِظَلَامٍ، فَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَفِي تَحْقِيقِهِ دَقِيقٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ انْتَهَى. وَالْآيَةُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّكْثِيرِ وَقَدْ تَرَكْتُ أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ مِمَّا لَا تَمَسُّ إليه الحاجة. جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تَشْبِيهًا بِالثَّوْبِ الَّذِي يُغَطِّي الْبَدَنَ وَيَسْتُرُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّيْلُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ. وَالسُّبَاتُ: ضَرْبٌ مِنَ الْإِغْمَاءِ يَعْتَرِي الْيَقْظَانَ مَرَضًا فَشَبَّهَ النَّوْمَ بِهِ، وَالسَّبْتُ الْإِقَامَةُ فِي الْمَكَانِ فَكَانَ السُّبَاتُ سُكُونًا تَامًّا وَالنُّشُورُ هُنَا الْإِحْيَاءُ شَبَّهَ الْيَقَظَةَ بِهِ لِيَتَطَابَقَ الْإِحْيَاءُ مَعَ الْإِمَاتَةِ اللَّذَيْنِ يَتَضَمَّنُهُمَا النَّوْمُ وَالسُّبَاتُ انْتَهَى. ومن كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَقَالَ غَيْرُهُ: السُّبَاتُ الرَّاحَةُ جُعِلَ النَّوْمَ سُباتاً أَيْ سَبَبَ رَاحَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السُّبَاتُ الْمَوْتُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «2» فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا فَسَّرْتَهُ بِالرَّاحَةِ؟ قُلْتُ: النُّشُورُ فِي مُقَابَلَتِهِ يَأْبَاهُ انْتَهَى. وَلَا يَأْبَاهُ إِلَّا لَوْ تَعَيَّنَ تَفْسِيرُ

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 30. (2) سورة الأنعام: 6/ 60.

النُّشُورِ بِالْحَيَاةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ نُشُوراً هُوَ بِمَعْنَى الِانْتِشَارِ وَالْحَرَكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يريد بِالنُّشُورِ وَقْتَ انْتِشَارٍ وَتَفَرُّقٍ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَابْتِغَاءِ فَضْلِ الله. والنَّهارَ نُشُوراً وَمَا قَبْلَهُ مِنْ بَابِ لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ دَلَالَتِهَا عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ فِيهَا إِظْهَارٌ لِنِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّ الِاحْتِجَابَ بِسِتْرِ اللَّيْلِ كَمْ فِيهِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَوَائِدُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وَالنَّوْمُ وَالْيَقَظَةُ وَشَبَّهَهُمَا بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَيْ عِبْرَةٌ فِيهِمَا لِمَنِ اعْتَبَرَ. وَعَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ كَمَا تَنَامُ فَتُوقَظُ فَكَذَلِكَ تَمُوتُ فَتُنْشَرُ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الرِّيحِ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ فِي الْبَقَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ الْجَمْعِ أَوْجَهُ لِأَنَّ عُرْفَ الرِّيحِ مَتَى وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدَةً فَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَذَابِ، وَمَتَّى كَانَتْ لِلْمَطَرِ وَالرَّحْمَةِ فَإِنَّمَا هِيَ رِيَاحٌ لِأَنَّ رِيحَ الْمَطَرِ تَتَشَعَّبُ وَتَتَدَاءَبُ وَتَتَفَرَّقُ وَتَأْتِي لَيِّنَةً وَمِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَشَيْئًا إِثْرَ شَيْءٍ، وَرِيحَ الْعَذَابِ خَرَجَتْ لَا تَتَدَاءَبُ وَإِنَّمَا تَأْتِي جَسَدًا وَاحِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَطِّمُ مَا تَجِدُ وَتَهْدِمُهُ. قَالَ الرُّمَّانِيُّ: جُمِعَتْ رِيَاحُ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا ثَلَاثَةُ لَوَاقِحَ: الْجَنُوبُ، وَالصَّبَا، وَالشَّمَالُ. وَأُفْرِدَتْ رِيحُ الْعَذَابِ لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ لَا تُلْقِحُ وَهِيَ الدَّبُورُ. قَالَ- أَيِ ابْنُ عَطِيَّةَ-: يَرُدُّ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» انْتَهَى. وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَوَاتِرٌ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الرِّيحِ لِلْجِنْسِ فَتَعُمُّ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الرُّمَّانِيِّ يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ فَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رِيَاحًا» . الثَّلَاثَةَ اللَّوَاقِحَ وَبِقَوْلِهِ «وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» الدَّبُورَ. فَيَكُونُ مَا قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ مُطَابِقًا لِلْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ نَشْراً وَفِي مَدْلُولِهِ فِي الْأَعْرَافِ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ أَيْ قُدَّامَ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ يَجِيءُ مُعْلَمًا بِهِ. وَالطَّهُورُ فَعُولٌ إما للمبالغة كنؤوم فَهُوَ مَعْدُولٌ عَنْ طَاهِرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَا يُتَطَهَّرُ بِهِ كَالسَّحُورِ وَالْفَطُورِ، وَإِمَّا مَصْدَرٌ لِتَطَهَّرَ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ مَاءً طَهُوراً أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي طَهَارَتِهِ وَجِهَةُ الْمُبَالَغَةِ كَوْنُهُ لَمْ يَشُبْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا نَبَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ تَشُوبُهُ أَجْزَاءٌ أَرْضِيَّةٌ مِنْ مَقَرِّهِ أَوْ مَمَرِّهِ أَوْ مِمَّا يُطْرَحُ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالِاسْمِ وَبِالْمَصْدَرِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ شَرْحًا لِمُبَالَغَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ

كَانَ سَدِيدًا وَيُعَضِّدُهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» وَإِلَّا فَفَعُولٌ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى مُفَعِّلٍ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ طَهُورٍ لِلْمُبَالَغَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «2» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِلَى رُجَّحِ الْأَكْفَالِ غِيدٍ مِنَ الظِّبَا ... عِذَابِ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ وَقَرَأَ عِيسَى وَأَبُو جَعْفَرٍ مَيْتاً بِالتَّشْدِيدِ وَوَصَفَ بَلَدَةً بِصِفَةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ الْبَلْدَةَ تَكُونُ فِي مَعْنَى الْبَلَدِ فِي قَوْلِهِ فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ «3» وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ يُمَاثِلُ فَعْلًا مِنَ الْمَصَادِرِ، فَكَمَا وُصِفَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ بِالْمَصْدَرِ فَكَذَلِكَ بِمَا أَشْبَهَهُ بِخِلَافِ الْمُشَدَّدِ فَإِنَّهُ يُمَاثِلُ فَاعِلًا مِنْ حَيْثُ قَبُولُهُ لِلثَّاءِ إِلَّا فِيمَا خَصَّ الْمُؤَنَّثَ نَحْوَ طَامِثٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا وَنُسْقِيَهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَرُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ وَأَناسِيَّ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. وَرُوِيَتْ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَأَناسِيَّ جَمْعُ إِنْسَانٍ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَجَمْعُ إِنْسِيٍّ فِي مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، وَالْقِيَاسُ أَنَاسِيَةٌ كَمَا قَالُوا فِي مُهَلَّبِيٍّ مَهَالِبَةٌ. وَحُكِيَ أَنَاسِينُ فِي جَمْعِ إِنْسَانٍ كَسِرْحَانٍ وَسَرَاحِينَ، وَوَصَفَ الْمَاءَ بِالطَّهَارَةِ وَعَلَّلَ إِنْزَالَهُ بِالْإِحْيَاءِ وَالسَّقْيِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَنَاسِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُنْزِلَ لَهُ الْمَاءُ وُصِفَ بِالطَّهُورِ وَإِكْرَامًا لَهُ وَتَتْمِيمًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: حَمَلَنِي الْأَمِيرُ عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ لِأَصِيدَ عَلَيْهِ الْوَحْشَ. وَقَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ وَسَقْيَ الْأَنْعَامِ عَلَى سَقْيِ الْأَنَاسِيِّ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ بِحَيَاةِ أَرْضِهِمْ وَحَيَاةِ أَنْعَامِهِمْ، فَقَدَّمَ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُمْ إِذَا وَجَدُوا مَا يَسْقِي أَرْضَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَجَدُوا سُقْيَاهُمْ. وَنُكِّرَ الْأَنْعَامُ وَالْأَنَاسِيُّ وَوُصِفَا بِالْكَثْرَةِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَا يُعَيِّشُهُمْ إِلَّا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً يُرِيدُ بَعْضَ بِلَادِ هَؤُلَاءِ الْمُتَبَاعِدِينَ عَنْ مَظَانِّ الْمَاءِ بِخِلَافِ سُكَّانِ الْمُدُنِ فَإِنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فَهُمْ غَنِيُّونَ غَالِبًا عَنْ سَقْيِ مَاءِ الْمَطَرِ، وَخَصَّ الْأَنْعَامَ مِنْ بَيْنِ مَا خَلَقَ مِنَ الْحَيَوَانِ الشَّارِبِ لِأَنَّ الطُّيُورَ وَالْوَحْشَ تَبْعُدُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ فَلَا يُعْوِزُهَا الشُّرْبُ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهَا قِنْيَةُ الْأَنَاسِيِّ وَمَنَافِعُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا فَكَانَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِسَقْيِ أَنْعَامِهِمْ كَالْإِنْعَامِ بِسِقْيِهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي صَرَّفْناهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ جَعَلْنَا إِنْزَالَ الْمَاءِ تَذْكِرَةً بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ فِي كُلِّ عَامٍ بِمِقْدَارٍ واحد قاله الجمهور

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 11. (2) سورة الإنسان: 76/ 21. (3) سورة فاطر: 35/ 9.

مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَّا كُفُوراً هُوَ قَوْلُهُمْ بِالْأَنْوَاءِ وَالْكَوَاكِبِ قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ كُفُوراً عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمَّا تَرَكُوا التَّذَكُّرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ وَيُعَضِّدُهُ وَجاهِدْهُمْ بِهِ «1» لِتَوَافُقِ الضَّمَائِرِ، وَعَلَى أَنَّهُ لِلْمَطَرِ يَكُونُ بِهِ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: رَاجِعٌ إِلَى الْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَرَّفْنَا هَذَا الْقَوْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ وَالصُّحُفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى الرُّسُلِ، وَهُوَ ذِكْرُ إِنْشَاءِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ لِيَتَفَكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَعْرِفُوا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَيَشْكُرُوا، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا كُفْرَانَ النِّعْمَةِ وَجُحُودَهَا وَقِلَّةَ الِاكْتِرَاثِ بِهَا. وَقِيلَ: صَرَّفْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمُتَغَايِرَةِ وَعَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِنْ وَابِلٍ وَطَلٍّ وَجُودٍ وَرَذَاذٍ وَدِيمَةٍ وَرِهَامٍ فَأَبَوْا إِلَّا الْكُفُورَ. وَأَنْ يَقُولُوا مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَلَا يَذْكُرُوا رَحْمَتَهُ وَصَنْعَتَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ عَامٍ أَقَلُّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَيُرْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْمَطَرِ وَمِقْدَارَهُ فِي كُلِّ عَامٍ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ فِي الْبِلَادِ وَيُنْتَزَعُ مِنْ هَاهُنَا جَوَابٌ فِي تَنْكِيرِ الْبَلْدَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ كَأَنَّهُ قَالَ: لِيُحْيِيَ بِهِ بَعْضَ الْبِلَادِ الْمَيِّتَةِ، وَنُسْقِيَهُ بَعْضَ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ وَذَلِكَ الْبَعْضُ كَثِيرٌ انْتَهَى. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ صَرَّفْناهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً لَمَّا عَلِمَ تَعَالَى مَا كَابَدَهُ الرَّسُولُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ لَبَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَيُخَفِّفَ عَنْكَ الْأَمْرَ وَلَكِنَّهُ أَعْظَمَ أَجْرَكَ وَأَجَلَّكَ إِذْ جَعَلَ إِنْذَارَكَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَخَصَّكَ بِذَلِكَ لِيَكْثُرَ ثَوَابُكَ لِأَنَّهُ عَلَى كَثْرَةِ الْمُجَاهَدَةِ يَكُونُ الثَّوَابُ، وَلِيَجْمَعَ لَكَ حَسَنَاتِ مَنْ آمَنَ بِكَ إِذْ أَنْتَ مُؤَسِّسُهَا. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا اسْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَرَغِبُوا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ وَيُمَلِّكُونَهُ عَلَيْهِمْ وَيَجْمَعُونَ لَهُ مَالًا عَظِيمًا فَنَهَاهُ تَعَالَى عَنْ طَاعَتِهِمْ حَتَّى يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ رَغْبَتَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَجاهِدْهُمْ بِهِ أَيِ الْقُرْآنِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالسَّيْفِ أو بترك طاعتهم وجِهاداً مصدر وصف بكبيرا لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجَاهَدَةُ جَمِيعِ الْعَالَمِ فَهُوَ جهاد كبير. ومَرَجَ خَلَطَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَفَاضَ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ أَوْ أَجْرَاهُمَا أَقْوَالٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْعَذْبُ وَالْمَاءُ الْكَثِيرُ الْمِلْحُ. وَقِيلَ: بَحْرَانِ مُعَيَّنَانِ. فَقِيلَ: بحر

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 52.

فَارِسَ، وَبَحْرُ الرُّومِ. وَقِيلَ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٌّ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِيَاهُ الْأَنْهَارِ الْوَاقِعَةُ فِي الْبَحْرِ الْأُجَاجِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْصِدُ بِالْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِتْقَانِ خَلْقِهِ لِلْأَشْيَاءِ فِي أَنْ بَثَّ فِي الْأَرْضِ مِيَاهًا عَذْبَةً كَثِيرَةً مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَجَعَلَهَا خِلَالَ الْأُجَاجِ، وَجَعَلَ الْأُجَاجَ خِلَالَهَا فَتَرَى الْبَحْرَ قَدِ اكْتَنَفَتْهُ الْمِيَاهُ الْعَذْبَةُ فِي ضَفَّتَيْهِ وَيُلْقَى الْمَاءُ الْبَحْرُ فِي الْجَزَائِرِ وَنَحْوِهَا قَدِ اكْتَنَفَهُ الْمَاءُ الْأُجَاجُ، وَالْبَرْزَخُ وَالْحِجْرُ مَا حَجَزَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّدِّ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَيَتَمَشَّى هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ مَرَجَ بِمَعْنَى أَجْرَى. وَقِيلَ: الْبَرْزَخُ الْبِلَادُ وَالْقِفَارُ فَلَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا بِزَوَالِ الْحَاجِزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْحَاجِزُ مَانِعٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَهُمَا مُخْتَلِطَانِ فِي مَرَائِي الْعَيْنِ مُنْفَصِلَانِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَسَوَادُ الْبَصْرَةِ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْهُ فِي دِجْلَةَ نَحْوَ الْبَحْرِ، وَيَأْتِي الْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ فَيَلْتَقِيَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاطٍ فَمَاءُ الْبَحْرِ إِلَى الْخُضْرَةِ الشَّدِيدَةِ، وَمَاءُ دِجْلَةَ إِلَى الْحُمْرَةِ، فَالْمُسْتَقِي يَغْرِفُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ عِنْدَنَا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ وَنِيلُ مِصْرَ فِي فَيْضِهِ يَشُقُّ الْبَحْرَ الْمَالِحَ شَقًّا بِحَيْثُ يَبْقَى نَهْرًا جَارِيًا أَحْمَرَ فِي وَسَطِ الْمَالِحِ لِيَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْهُ، وَتُرَى الْمِيَاهُ قِطَعًا فِي وَسَطِ الْبَحْرِ الْمَالِحِ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَاءٌ ثَلِجٌ فَيَسْقُونَ مِنْهُ مِنْ وَسَطِ الْبَحْرِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ مِلْحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَكَذَا فِي فَاطِرٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ أَرَادَ مَالِحًا وَحَذَفَ الْأَلِفَ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ بَرَدٍ أَيْ بَارِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ: هِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ قَلِيلَةٌ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَالِحٌ فَقَصَرَهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ فَالْمَالِحُ جَائِزٌ فِي صِفَةِ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ يُوجَدُ فِي الضِّفْيَانِ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوحًا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَمَالِحًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يُقَالَ: مَاءٌ مِلْحٌ مَوْصُوفٌ بِالْمَصْدَرِ أَيْ مَاءٌ ذُو مِلْحٍ، فَالْوَصْفُ بِذَلِكَ مِثْلُ حِلْفٍ وَنِضْوٍ مِنَ الصِّفَاتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: حِجْراً مَحْجُوراً مَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يَقُولُهَا الْمُتَعَوِّذُ وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا وَهِيَ هَاهُنَا وَاقِعَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ مُتَعَوِّذٌ مِنْ صَاحِبِهِ وَيَقُولُ لَهُ حِجْراً مَحْجُوراً كَمَا قَالَ لَا يَبْغِيانِ «1» أَيْ لَا ينبغي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمُمَازَجَةِ، فَانْتِفَاءُ الْبَغْيِ ثَمَّ كَالتَّعَوُّذِ هَاهُنَا جَعَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صُورَةِ الْبَاغِي عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَاتِ وَأَشْهَدِهَا عَلَى الْبَلَاغَةِ انتهى.

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 20.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِجْراً مَحْجُوراً مَعْطُوفٌ عَلَى بَرْزَخاً عَطْفَ الْمَفْعُولِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَكَذَا أَعْرَبَهُ الْحَوْفِيُّ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ الْمَجَازِيِّ أَيْ، وَيَقُولَانِ أَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حِجْراً مَحْجُوراً. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْبَشَرِ وَهُمْ بَنُو آدَمَ وَالْبَشَرُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّسَبِ آدَمُ وَبِالصِّهْرِ حَوَّاءُ. وَقِيلَ: النَّسَبُ البنون والصهر البنات ومِنَ الْماءِ إِمَّا النُّطْفَةُ، وَإِمَّا أَنَّهُ أَصْلُ خِلْقَةِ كُلِّ حَيٍّ، وَالنَّسَبُ وَالصِّهْرُ يَعُمَّانِ كُلَّ قُرْبَى بَيْنَ آدَمِيَّيْنِ، فَالنَّسَبُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ آخَرَ فِي أَبٍ وَأُمٍّ قَرُبَ ذَلِكَ أَوْ بَعُدَ، وَالصِّهْرُ هُوَ نَوَاشِجُ الْمُنَاكَحَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ النَّسَبُ مَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَالصِّهْرُ قَرَابَةُ الرَّضَاعِ. وَعَنْ طَاوُسٍ: الرَّضَاعَةُ مِنَ الصِّهْرِ. وَعَنْ عَلِيٍّ: الصِّهْرُ مَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَالنَّسَبُ مَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصِّهْرُ قَرَابَةُ الرَّضَاعِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ لِأَنَّهُ جَمَعَهُ مَعَهُ نَسَبٌ وَصِهْرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَاجْتِمَاعُهُمَا وَكَادَةُ حُرْمَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الْوَاحِدَةِ بَشَرًا نَوْعَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَلَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ قُدْرَتِهِ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَرَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِنَفْعِهِ وَضُرِّهِ بَيْنَ فَسَادِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكافِرُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَعُمُّ. وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْكافِرُ هَنَا إِبْلِيسُ وَالظَّهِيرُ وَالْمَظَاهِرُ كَالْمُعِينِ وَالْمُعَاوِنِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ كَثِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكافِرُ يُعَاوِنُ الشَّيْطَانَ عَلَى رَبِّهِ بِالْعَدَاوَةِ وَالشَّرِيكِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَكَانَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ وَهُوَ عِبَادَةُ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ عَلَى رَبِّهِ هَيِّنًا مَهِينًا مِنْ قَوْلِهِمْ: ظَهَرْتُ بِهِ إِذَا خَلَّفْتَهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ «1» الْآيَةَ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: عَلى رَبِّهِ أَيْ مُعِينًا عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مُعِينًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ لَا يُوَحَّدَ اللَّهُ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً سَلَّى نَبِيَّهُ بِذَلِكَ أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِهِمْ وَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ تُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَتُنْذِرُ الْكَفَرَةَ بِالنَّارِ، وَلَسْتَ بِمَطْلُوبٍ بِإِيمَانِهِمْ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ مُزِيلًا لِوُجُوهِ التُّهَمِ بِقَوْلِهِ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ لَا أَطْلُبُ مَالًا وَلَا نَفْعًا يَخْتَصُّ بِي. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 77.

عَلَى التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ، أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ عَلَى إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ أَقْوَالٌ. وَالظَّاهِرُ فِي إِلَّا مَنْ شاءَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَقَالَهُ الْجُمْهُورُ. فَعَلَى هَذَا قِيلَ بِعِبَادِهِ لَكِنْ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فَلْيَفْعَلْ. وَقِيلَ: لَكِنْ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَائِهِ فَهُوَ مسؤولي. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا أَجْرَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيْ إِلَّا أَجْرَ مَنْ آمَنَ أَيِ الْأَجْرَ الْحَاصِلَ لِي عَلَى دُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَقَبُولِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَأْجُرُنِي عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَّا أَجْرَ من آمن من يعني بالأجرة الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا إِلَّا الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَجَعَلَ الْإِنْفَاقَ أَجْرًا. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ فَطَمَ نَفْسَهُ عَنْ سُؤَالِهِمْ شَيْئًا أَمَرَهُ تَعَالَى تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَيْهِ وَثِقَتَهُ بِهِ وَاعْتِمَادَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِنَصْرِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ. وَوَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّوَكُّلَ فِي قَوْلِهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى دُونَ كُلِّ حَيٍّ كَمَا قَالَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «1» . وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ لِذِي عَقْلٍ أَنْ يَثِقَ بَعْدَهَا بِمَخْلُوقٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِتَنْزِيهِهِ وَتَمْجِيدِهِ مَقْرُونًا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّنْزِيهَ مَحَلُّهُ اعْتِقَادُ الْقَلْبِ وَالْمَدْحَ مَحَلُّهُ اللِّسَانُ الْمُوَافِقُ لِلِاعْتِقَادِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ. وَهِيَ الْكَلِمَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ الثَّقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ» . وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ عِبَادِهِ شَيْءٌ آمَنُوا أَمْ كَفَرُوا، وَأَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ كَافٍ فِي جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ وَوَعِيدٌ لِلْكَافِرِ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ كَفَى بِكَ ظَفَرًا أَنْ يَكُونَ عَدُوُّكَ عَاصِيًا وَهِيَ كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ تَقُولُ: كَفَى بِالْعِلْمِ جَمَالًا. وَكَفَى بِالْأَدَبِ مَالًا، أَيْ حَسْبُكَ لَا تَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ قَادِرٌ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّسْبِيحِ وَذَكَرَ صِفَةَ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَهُوَ إِيجَادُ هَذَا الْعَالَمِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا الْكَلَامِ وَاحْتَمَلَ الَّذِي أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ الرَّحْمنُ بِالْجَرِّ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الرَّحْمنُ بِالرَّفْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صِفَةً للحي والرَّحْمنُ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي مُبْتَدَأً والرَّحْمنُ خَبَرَهُ. وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي

_ (1) سورة القصص: 28/ 88. [.....]

خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والرَّحْمنُ صِفَةً لَهُ. أَوْ يَكُونَ الَّذِي مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي وَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَنَّ يَكُونَ الرَّحْمنُ مبتدأ. وفَسْئَلْ خَبَرَهُ تَخْرِيجُهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ وَجَوَّزُوا أَيْضًا فِي الرَّحْمنُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي اسْتَوى. وَالظَّاهِرُ تَعَلَّقَ به بقوله فَسْئَلْ وَبَقَاءُ الْبَاءِ غَيْرَ مُضَمَّنَةٍ معنى عن. وخَبِيراً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ بِزَيْدٍ أَسَدًا وَلَقِيتُ بِزَيْدٍ الْبَحْرَ، تُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ الْأَسَدُ شَجَاعَةً، وَالْبَحْرُ كَرَمًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى اللَّطِيفُ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ والمعنى فَسْئَلْ اللَّهَ الْخَبِيرَ بِالْأَشْيَاءِ الْعَالِمَ بِحَقَائِقِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وخَبِيراً عَلَى هَذَا مَنْصُوبٌ إِمَّا بِوُقُوعِ السُّؤَالِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ. كَمَا قَالَ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» وَلَيْسَتْ هذه الحال منتقلة إذا الصِّفَةُ الْعَلِيَّةُ لَا تَتَغَيَّرُ انْتَهَى. وَبُنِيَ هَذَا الْإِعْرَابُ عَلَى أَنَّهُ كَمَا تَقُولُ: لَوْ لَقِيتَ فُلَانًا لَلَقِيتَ بِهِ الْبَحْرَ كَرَمًا أَيْ لقيت منه. والمعنى فسئل اللَّهَ عَنْ كُلِّ أَمْرِ وَكَوْنُهُ مَنْصُوبًا على الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَصِحُّ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بمعنى عن، أي فَسْئَلْ عَنْهُ خَبِيراً كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ. وَيَكُونَ خَبِيراً لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ هُنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: اسْأَلْ عَنِ الرَّحْمَنِ الْخُبَرَاءَ جِبْرِيلَ وَالْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَإِنْ جَعَلْتَ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِخَبِيرًا كان المعنى فَسْئَلْ عَنِ اللَّهِ الْخُبَرَاءَ بِهِ. وقال الكلبي معناه فَسْئَلْ خبيرا به وبِهِ يَعُودُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَذَلِكَ الْخَبِيرُ هُوَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ عَلَى كَيْفِيَّةِ خَلْقِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخَبِيرُ جِبْرِيلُ وَقُدِّمَ لرؤوس الْآيِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْبَاءُ فِي بِهِ صِلَةُ سَلْ كَقَوْلِهِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ «2» كَمَا يَكُونُ عَنْ صِلَتَهُ في نحو ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «3» أَوْ صِلَةُ خَبِيراً بِهِ فَتَجْعَلُ خَبِيراً مَفْعُولًا أَيْ، فَسَلْ عَنْهُ رَجُلًا عَارِفًا يُخْبِرْكَ بِرَحْمَتِهِ، أَوْ فَسَلْ رَجُلًا خبيرا به

_ (1) سورة البقرة: 2/ 91. (2) سورة المعارج: 70/ 1. (3) سورة التكاثر: 102/ 8.

وَبِرَحْمَتِهِ، أَوْ فَسَلْ بِسُؤَالِهِ خَبِيرًا. كَقَوْلِكَ، رَأَيْتُ بِهِ أَسَدًا أَيْ رَأَيْتُ بِرُؤْيَتِهِ، وَالْمَعْنَى إِنْ سَأَلْتَهُ وَجَدْتَهُ خَبِيرًا بِجَعْلِهِ حَالًا عَنْ بِهِ تُرِيدُ فَسَلْ عَنْهُ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: الرَّحْمنُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ. فَقِيلَ: فَسَلْ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يُخْبِرُكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْرَفَ مَنْ يُنْكِرُهُ وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا الَّذِي فِي الْيَمَامَةِ يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَحْمَنُ الْيَمَامَةِ انْتَهَى. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَعْرِفُ هَذَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ غَالَطَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُنَا بِعِبَادَةِ رَحْمَنِ الْيَمَامَةِ نَزَلَتْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ومَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَجْهُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ الْمُسَمَّى بِهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِهِمْ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الرَّحِيمُ وَالرَّحُومُ وَالرَّاحِمُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى اللَّهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ فَذُكِرَتِ الصِّفَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْكَلِمَةُ عَرَبِيَّةٌ لَا يُنْكَرُ وَضْعُهَا، أَظْهَرُوا التَّجَاهُلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي لِلَّهِ مُغَالَطَةً مِنْهُمْ وَوَقَاحَةً فَقَالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ وَهُمْ عَارِفُونَ بِهِ وَبِصِفَتِهِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «1» حِينَ قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاكَرَةِ وَهُوَ عَالِمٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. كَمَا قَالَ مُوسَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «3» فَكَذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ اسْتَفْهَمُوا عَنِ الرَّحْمنُ اسْتِفْهَامَ مَنْ يَجْهَلُهُ وَهُمْ عَالِمُونَ بِهِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الرَّحْمنُ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ لَا يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ. فَالْمَعْنَى أَنَسْجَدُ لِمُسَيْلِمَةَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يَعْرِفُونَ الرَّحْمنُ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمَعْنَى أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِبَيَانِهِ. وَالْقَائِلُ اسْجُدُوا الرَّسُولُ أَوِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَأْمُرُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَيْ يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ، وَالْكِنَايَةُ عَنْهُ أَوِ الْمُسَمَّى الرَّحْمنُ وَلَا نَعْرِفُهُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ. وَمَفْعُولُ تَأْمُرُنا الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ يَأْمُرُنَا سُجُودَهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أمرتك الخير.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 23. (2) سورة الأعراف: 7/ 104. (3) سورة الإسراء: 17/ 102.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 إلى 77]

وَزادَهُمْ أَيْ هَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لِلرَّحْمَنِ زادَهُمْ ضَلَالًا يَخْتَصُّ بِهِ مَعَ ضَلَالِهِمُ السَّابِقِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا على فعلي السُّجُودِ وَالْقَبُولِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بْنُ مظعون وعمرو بن غَلَسَةَ، فَرَآهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَخَذُوا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَزادَهُمْ نُفُوراً وَمَعْنَى نُفُوراً فِرَارًا [سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 77] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

لَمَّا جَعَلَتْ قُرَيْشٌ سُؤَالَهَا عَنِ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ سُؤَالًا عَنْ مَجْهُولٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُصَرِّحَةً بِصِفَاتِهِ الَّتِي تُعَرِّفُ بِهِ وَتُوجِبُ الْإِقْرَارَ بِأُلُوهِيَّتِهِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّحْمَنِ، وَسَأَلُوا هُمْ فِيهِ عَمَّا وَضَعَ فِي السَّمَاءِ مِنَ النَّيِّرَاتِ وَمَا صَرَّفَ مِنْ حَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَبَادَرُوا بِالسُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ لِلرَّحْمَنِ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا لَهُمْ بِهِ اعْتِنَاءٌ تَامٌّ مِنْ رَصْدِ الْكَوَاكِبِ وَأَحْوَالِهَا وَوَضْعِ أَسْمَاءٍ لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُرُوجِ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهِيَ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَهِيَ الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشَبَهِهَا بِمَا شُبِّهَتْ بِهِ. وَسُمِّيَتْ بِالْبُرُوجِ الَّتِي هِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ لِأَنَّهَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ لِسُكَّانِهَا وَاشْتِقَاقُ الْبُرْجِ مِنَ التَّبَرُّجِ لِظُهُورِهِ. وَقِيلَ: الْبُرُوجُ هُنَا الْقُصُورُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْأَعْمَشُ. وَكَانَ أَصْحَابُ عبد الله يقرؤونها فِي السَّماءِ قُصُورًا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْبُرُوجُ هُنَا الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ تَحُطُّ مِنْ غَرَضِ الْآيَةِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَشْيَاءَ مُدْرَكَاتٍ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَى كُلِّ مُنْكِرٍ لِلَّهِ أَوْ جَاهِلٍ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيها الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى السَّماءِ. وَقِيلَ: عَلَى الْبُرُوجِ، فَالْمَعْنَى وَجَعَلَ فِي جُمْلَتِهَا سِراجاً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِراجاً عَلَى الْإِفْرَادِ وَهُوَ الشَّمْسُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَخَوَانِ سُرُجًا بِالْجَمْعِ مَضْمُومَ الرَّاءِ وَهُوَ يَجْمَعُ الْأَنْوَارَ، فَيَكُونُ خَصَّ الْقَمَرَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ كَذَلِكَ بِسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ وَعِصْمَةُ عَنْ عاصم وَقَمَراً بضم إلقاء وَسُكُونِ الْمِيمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لُغَةٌ فِي الْقَمَرِ كَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ وَالْعُرْبِ وَالْعَرَبِ. وَقِيلَ: جَمَعُ قَمْرَاءَ أَيْ لَيْلَةٌ قَمْرَاءُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَذَا قَمَرٍ مُنِيرٍ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَكُونُ قَمْرَاءَ بِالْقَمَرِ، فَأَضَافَهُ إِلَيْهَا وَنَظِيرُهُ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الْمُضَافِ بَعْدَ سُقُوطِهِ وَقِيَامِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ قَوْلُ حَسَّانَ: بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ يُرِيدُ مَاءَ بَرَدَى. فَمُنِيرًا وَصْفٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ كَمَا قَالَ يُصَفِّقُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَلَوْ لَمْ يُرَاعِ الْمُضَافَ لَقَالَ: تُصَفِّقُ بِالتَّاءِ وَقَالَ مُنِيراً أَيْ مُضِيئًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ سِراجاً كَالشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَا تَوَقُّدَ لَهُ. وَانْتَصَبَ خِلْفَةً عَلَى الْحَالِ. فَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ خَلَفَ خِلْفَةً. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ هَيْئَةٍ

كَالرِّكْبَةِ وَوَقَعَ حَالًا اسْمُ الْهَيْئَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِمَاءٍ قَعْدَةَ رَجُلٍ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَخْلُفُ عَلَيْهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ. وَالْمَعْنَى جَعَلَهُمَا ذَوَيْ خِلْفَةٍ أَيْ ذَوَيْ عُقْبَةٍ يَعْقُبُ هَذَا ذَاكَ وَذَاكَ هَذَا، وَيُقَالُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَخْتَلِفَانِ كَمَا يُقَالُ يَعْتَقِبَانِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» وَيُقَالُ: بِفُلَانٍ خِلْفَةٌ وَاخْتِلَافٌ إِذَا اخْتَلَفَ كَثِيرًا إِلَى مُتَبَرَّزِهِ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زُهَيْرٍ: بِهَا الْعِيسُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَصِفُ امْرَأَةً تَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى مَنْزِلٍ فِي الصَّيْفِ دَأَبًا: وَلَهَا بالماطرون طرون إِذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلِّقٍ بِيَعَا فِي بُيُوتٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا وَقِيلَ خِلْفَةً فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْكِسَائِيُّ: هَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا طَوِيلٌ وَهَذَا قَصِيرٌ. لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. قَالَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ مَا فَاتَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَسْتَدْرِكَهُ فِي الَّذِي يَلِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَيْ يَعْتَبِرَ بِالْمَصْنُوعَاتِ وَيَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالْفَهْمِ. وقال الزمخشري: وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَتَذَكَّرُ وَالْمَعْنَى. لِيَنْظُرَ فِي اخْتِلَافِهِمَا النَّاظِرُ فَيَعْلَمَ أَنْ لَا بُدَّ لِانْتِقَالِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وتغيرهما من نافل وَمُغَيِّرٍ، وَيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ وَيَشْكُرَ الشَّاكِرُ عَلَى النِّعْمَةِ مِنَ السُّكُونِ بِاللَّيْلِ وَالتَّصَرُّفِ بِالنَّهَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «2» وَلِيَكُونَا وَقْتَيْنِ لِلْمُتَذَكِّرِ وَالشَّاكِرِ مَنْ فَاتَهُ فِي أَحَدِهِمَا وِرْدُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ أَتَى بِهِ فِي الْآخَرِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ تَذْكُرَ مُضَارِعُ ذَكَرَ خَفِيفًا. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَذَمُّهُمْ جَاءَ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَذَكِّرِينَ الشَّاكِرِينَ فَقَالَ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ وَهَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَفَضُّلٍ، وَهُوَ جَمْعُ عَبْدٍ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: جَمْعُ عَابِدٍ كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَتَاجِرٍ وَتِجَارٍ، وَرَاجِلٍ وَرِجَالٍ، أَيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَعِبادُ مبتدأ والَّذِينَ يَمْشُونَ الخبر.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 164 وغيرها. (2) سورة القصص: 28/ 73.

وقيل: أولئك الخبر والَّذِينَ صِفَةٌ، وَقَوْمٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ يُسَمَّوْنَ الْعِبَادَ لِأَنَّ كِسْرَى مَلَكَهُمْ دُونَ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ تَأَلَّهُوا مَعَ نَصَارَى الْحِيرَةِ فَصَارُوا عِبَادَ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: وَعُبَّادُ جَمْعَ عَابِدٍ كَضَارِبٍ وَضُرَّابٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَعُبُدُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْيَمَانِيُّ يَمْشُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا. وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَانْتَصَبَ هَوْناً عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوف أي مَشْيًا هَوْنًا أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ يَمْشُونَ هَيِّنِينَ فِي تُؤَدَةٍ وَسَكِينَةٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ لَا يَضْرِبُونَ بِأَقْدَامِهِمْ وَلَا يَخْفُقُونَ بِنِعَالِهِمْ أَشَرًا وَبَطَرًا، وَلِذَلِكَ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الرُّكُوبَ فِي الْأَسْوَاقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالطَّاعَةِ وَالْعَفَافِ وَالتَّوَاضُعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حُلَمَاءُ إِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجْهَلُوا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَوْناً عِبَارَةٌ عَنْ عَيْشِهِمْ وَمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، فَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْظَمَ لَا سِيَّمَا وَفِي الِانْتِقَالِ فِي الْأَرْضِ هِيَ مُعَاشَرَةُ النَّاسِ وَخِلْطَتُهُمْ ثُمَّ قَالَ هَوْناً بمعنى أمره هَوْنٌ أَيْ لَيْسَ بِخَشِنٍ، وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إِلَى أَنَّ هَوْناً مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ أَنَّ الْمَشْيَ هُوَ الْهَوْنُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَتَأَوَّلَ هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخْلَاقُ ذَلِكَ الْمَاشِي هَوْناً مُنَاسِبَةً لِمَشْيِهِ فَيَرْجِعَ الْقَوْلُ إِلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةَ الْمَشْيِ وَحْدَهُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ رُبَّ مَاشٍ هَوْناً رُوَيْدًا وَهُوَ ذَنَبُ أَطْلَسَ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَفَّأُ فِي مَشْيِهِ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ. وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الصَّدْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ مَشَى مِنْكُمْ فِي طَمَعٍ فَلْيَمْشِ رُوَيْدًا» . أَرَادَ فِي عمر نَفْسِهِ وَلَمْ يُرِدِ الْمَشْيَ وَحْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ المبطلين المتحلين بِالدِّينِ تَمَسَّكُوا بِصُورَةِ الْمَشْيِ فَقَطْ حَتَّى قَالَ فِيهِمُ الشَّاعِرُ: كُلُّهُمْ يَمْشِي رُوَيْدَا ... كُلُّهُمْ يَطْلُبُ صَيْدَا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سُرْعَةُ الْمَشْيِ تَذْهَبُ بِبَهَاءِ الْوَجْهِ، يُرِيدُ الْإِسْرَاعَ الْخَفِيفَ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْوَقَارِ وَالْخَيْرُ فِي التَّوَسُّطِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ مَنْ فَسَّرَ لَهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ عِيَاضُ بْنُ مُوسَى: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْفَعُ فِي مَشْيِهِ رِجْلَيْهِ بِسُرْعَةٍ وَعَدْوُ خَطْوِهِ خِلَافُ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ، وَيُقْصَدُ سَمْتُهُ وَكُلُّ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتَثَبُّتٍ دُونَ عَجَلَةٍ كَمَا قَالَ: «إِنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ» . وَكَانَ عُمَرُ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أَيْ مِمَّا لَا يَسُوغُ الْخِطَابُ بِهِ قالُوا سَلاماً أَيْ سَلَامَ تَوْدِيعٍ لَا تَحِيَّةٍ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ سَلامٌ عَلَيْكَ «1» قَالَهُ الأصم. وقال

_ (1) سورة مريم: 19/ 47.

مُجَاهِدٌ: قَوْلًا سَدِيدًا فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِقَالُوا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ سَلَّمْنَا سَلاماً فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُهُ إِنَّ قالُوا هُوَ الْعَامِلُ فِي سَلاماً لِأَنَّ الْمَعْنَى قَالُوا هَذَا اللَّفْظَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَسَلُّمًا مِنْكُمْ فَأُقِيمَ السَّلَامُ مُقَامَ التَّسْلِيمِ. وَقِيلَ: قَالُوا سَدَادًا مِنَ الْقَوْلِ يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى وَالْإِثْمِ وَالْمُرَادُ بِالْجَهْلِ السَّفَهُ وَقِلَّةُ الْأَدَبِ وَسُوءُ الرَّغْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا انْتَهَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ قَبْلَ آيَةِ السَّيْفِ فَنُسِخَ مِنْهَا مَا يَخُصُّ الْكَفَرَةَ وَبَقِيَ حُكْمُهَا فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ وَمَا تَكَلَّمَ عَلَى نَسْخٍ سواه. ورجح به أنه الْمُرَادَ السَّلَامَةُ لَا التَّسْلِيمُ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا قَطُّ بِالسَّلَامِ عَلَى الْكَفَرَةِ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ فَنَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. وَفِي التَّارِيخِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب فَرَآهُ فِي النَّوْمِ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى عُبُورِ قَنْطَرَةٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ بِامْرَأَةٍ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ، وَكَانَ حَكَى ذَلِكَ لِلْمَأْمُونِ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ لَهُ بَلَاغَةً فِي الْجَوَابِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: فَمَا أَجَابَكَ بِهِ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ لِي سَلَامًا سَلَامًا، فَنَبَّهَهُ الْمَأْمُونُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: يَا عَمِّ قَدْ أَجَابَكَ بِأَبْلَغِ جَوَابٍ. فَخُزِيَ إِبْرَاهِيمُ وَاسْتَحْيَا، وَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَحْفَظِ الْآيَةَ أَوْ ذَهَبَ عَنْهُ حَالَةَ الْحِكَايَةِ. وَالْبَيْتُوتَةُ هُوَ أن يدرك اللَّيْلُ نِمْتَ أَوْ لَمْ تَنَمْ، وَهُوَ خِلَافُ الظُّلُولِ وَبَجِيلَةُ وَأَزْدُ السَّرَاةِ يَقُولُونَ: بَيَاتٌ وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: يَبِيتُ، وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ بِالنَّهَارِ بِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ أَحْسَنَ تَصَرُّفٍ ذَكَرَ حَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي إِحْيَاءَ اللَّيْلِ بِالصَّلَاةِ أَوْ أَكْثَرِهِ. وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ فِي صَلَاةٍ فَقَدْ بَاتَ سَاجِدًا وَقَائِمًا. وَقِيلَ: هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَالرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَشَاءِ. وَقِيلَ: مَنْ شَفَعَ وَأَوْتَرَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حَضٌّ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدَّمَ السُّجُودَ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْفِعْلِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ، وَلِفَضْلِ السُّجُودِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو الْبَرَهْسَمِ: سُجُودًا عَلَى وَزْنِ قُعُودًا. وَمَدَحَهُمْ تَعَالَى بِدُعَائِهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَفِيهِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَراماً فَظِيعًا وَجِيعًا. وَقَالَ الْخُدْرِيُّ: لَازِمًا مُلِحًّا دَائِمًا. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ غَرِيمٍ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ إِلَّا غَرِيمَ جَهَنَّمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: شَدِيدًا. وَأَنْشَدُوا عَلَى أَنَّ غَراماً لازما قوله الشَّاعِرِ وَهُوَ بِشْرُ بْنُ أبي حاتم:

وَيَوْمُ الْيَسَارِ وَيَوْمُ الْجِفَارِ ... كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَامَا وَقَالَ الْأَعْشَى: إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا ... وَإِنْ يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي وَصَفَهُمْ بِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ سَاجِدِينَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ دُعَائِهِمْ هَذَا إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ مَعَ اجْتِهَادِهِمْ خَائِفُونَ يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ فِي صَرْفِ الْعَذَابِ عنهم. وساءَتْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى بِئْسَتْ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ وَفِي ساءَتْ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً تمييز. وَالتَّقْدِيرُ ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً هِيَ وَهَذَا الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ رَابِطُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأَنَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ساءَتْ بِمَعْنَى أَحْزَنَتْ فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا أَيْ سَاءَتْهُمْ. وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ جَهَنَّمَ وَجَازَ فِي مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أَنْ يَكُونَا تَمْيِيزَيْنِ وَأَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ قَدْ عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنِ التَّعْلِيلَيْنِ غَيْرُ مُتَرَادِفَيْنِ ذَكَرَ أَوَّلًا لُزُومَ عَذَابِهَا، وَثَانِيًا مَسَاءَةَ مَكَانِهَا وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ لُزُومِ الْعَذَابِ فِي مكان دم ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَقِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الدَّاعِينَ وَحِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمُقاماً مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ وَالْإِقَامَةَ كَأَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ لِلْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَقِرُّونَ فِيهَا وَلَا يُقِيمُونَ، وَالْإِقَامَةُ لِلْكُفَّارِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَمُقاماً بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَكَانَ قِيَامٍ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ أَيْ مَكَانَ إِقَامَةٍ. لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجِيلِيُّ: الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ إِسْرَافٌ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ طَاعَةٍ إِقْتَارٌ. وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَسَمِعَ رَجُلٌ رَجُلًا يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي الْإِسْرَافِ فَقَالَ: لَا إِسْرَافَ فِي الْخَيْرِ. وَقَالَ عَوْنُ بن عبد الله بن عُتْبَةَ: الْإِسْرَافُ أَنْ تُنْفِقَ مَالَ غَيْرِكَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يُجِيعُ وَلَا يُعَرِّي وَلَا يُنْفِقُ نَفَقَةً يَقُولُ: النَّاسُ قَدْ أَسْرَفَ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ لِلْجَمَالِ وَلَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا لِلَّذَّةِ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ: مَا نَفَقَتُكَ؟ قَالَ لَهُ عُمَرُ: الْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ. ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ. وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ وَالْقَتْرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْإِسْرَافِ. وَعَنْ أَنَسٍ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ مَا اشْتَهَيْتَهُ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ

وَقَالَ آخَرُ: إِذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ ... وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إِلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إِلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِالَّذِي ... دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَقَالَ حَاتِمٌ: إِذَا أَنْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ ... وفرج نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ: يَقْتُرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ مُشَدَّدَةً وَكُلُّهَا لُغَاتٌ فِي التَّضْيِيقِ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ لُغَةَ أَقْتَرَ رُبَاعِيًّا هُنَا. وَقَالَ أَقْتَرَ إِذَا افْتَقَرَ. وَمِنْهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ «1» وَغَابَ عَنْهُ مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَقْتَرَ بِمَعْنَى ضَيَّقَ، وَالْقَوَامُ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ. وَقَرَأَ حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَواماً بِالْكَسْرِ. فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ مَا يُقَامُ بِهِ الشَّيْءُ يُقَالُ: أَنْتَ قِوَامُنَا بِمَعْنَى مَا تُقَامُ بِهِ الْحَاجَةُ لَا يَفْضُلُ عَنْهَا وَلَا يَنْقُصُ. وَقِيلَ: قَواماً بِالْكَسْرِ مَبْلَغًا وَسَدَادًا وَمِلَاكَ حَالٍ، وبَيْنَ ذلِكَ وقَواماً يَصِحُّ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ خَبَرِ كانَ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ هو الخبر وقَواماً حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَواماً خبرا وبَيْنَ ذلِكَ إِمَّا مَعْمُولٌ لِكَانَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ كَانَ النَّاقِصَةَ تَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ قَواماً لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنَّ يَكُونَ بَيْنَ ذلِكَ اسْمَ كانَ وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ كَقَوْلِهِ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ «2» فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ الميم وقَواماً الْخَبَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ قَوَامٌ لَا مَحَالَةَ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ مُعْتَمَدُ الْفَائِدَةِ فَائِدَةٌ انْتَهَى. وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِالْقَصْدِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبِمِثْلِهِ خُوطِبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً «3» الْآيَةَ. وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ الْآيَةَ سَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» . قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» . قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ الْآيَةَ. وَقِيلَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكُونَ قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَقَالُوا: إن الذين تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، أو تخبرنا أن لما علمنا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 251. (2) سورة هود: 11/ 66. (3) سورة الإسراء: 17/ 29.

كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ إِلَى غَفُوراً رَحِيماً. وقيل: نُزُولِهَا قِصَّةُ وَحْشِيٍّ فِي إِسْلَامِهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفَى هَذِهِ التَّقْبِيحَاتِ الْعِظَامَ عَنِ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْخِلَالِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ لِلتَّعْرِيضِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّذِينَ بَرَّأَهُمُ اللَّهُ وَطَهَّرَهُمْ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْرَاجٌ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ صِفَاتِ الْكَفَرَةِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ وَقَتْلِهِمُ النَّفْسَ بِوَأْدِ الْبَنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاغْتِيَالِ وَالْغَارَاتِ وَبِالزِّنَا الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مُبَاحًا انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «1» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقُرِئَ يَلْقَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ مُشَدَّدَةً وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ يَلْقَى بِأَلِفٍ، كَأَنْ نَوَى حَذْفَ الضَّمَّةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى الْأَلِفِ فَأَقَرَّ الْأَلِفَ. وَالْأَثَامُ فِي اللُّغَةِ الْعِقَابُ وَهُوَ جَزَاءُ الْإِثْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ: جَزَى اللَّهُ ابْنَ عروة حيث أمسى ... عقوق وَالْعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ أَيْ حَدٌّ وَعُقُوبَةٌ وَبِهِ فَسَّرَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَثَامٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ هَذَا اسْمُهُ جَعَلَهُ اللَّهُ عِقَابًا لِلْكَفَرَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْأَثَامُ الْإِثْمُ، وَمَعْنَاهُ يَلْقَ جَزَاءَ أَثَامٍ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلَى جَزَائِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَثَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: بِئْرٌ فِيهَا. وَقِيلَ: جَبَلٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَلْقَ أَيَّامًا جَمْعَ يَوْمٍ يَعْنِي شَدَائِدَ. يُقَالُ: يَوْمٌ ذُو أَيَّامٍ لِلْيَوْمِ الْعَصِيبِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ دُعَاءِ إِلَهٍ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالزِّنَا، فَيَكُونُ التَّضْعِيفُ مُرَتَّبًا عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَعَاصِي، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ التَّضْعِيفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَبِأَلِفٍ وَيَخْلُدْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا الْعَيْنَ وَطَرَحُوا الْأَلِفَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ نُضَعِّفْ بِالنُّونِ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْعَيْنِ مُشَدَّدَةً الْعَذابُ نَصْبٌ. وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ يُضاعَفْ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْعَذابُ نصبا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَتَخْلُدُ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مَرْفُوعًا أَيْ وَتَخْلُدُ أَيُّهَا الْكَافِرُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَيَخْلُدْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ اللَّامِ مَجْزُومًا. وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَنْهُ كَذَلِكَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ بالرفع

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 151.

عَنْهُمَا وَكَذَا ابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا مُخَفَّفًا. وَالْأَعْمَشُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا مُخَفَّفًا. وَالْأَعْمَشُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا مَرْفُوعًا فَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوِ الْحَالِ وَالْجَزْمُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ يَلْقَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ: مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَوْبَةَ الْمُسْلِمِ الْقَاتِلِ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ مَقْبُولَةٌ خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَتَبْدِيلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ هُوَ جَعْلُ أَعْمَالِهِمْ بَدَلَ مَعَاصِيهِمُ الْأُوَلِ طَاعَةً وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَرَدُّوا عَلَى مَنْ قَالَ هُوَ فِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السَّيِّئَةُ بِعَيْنِهَا لَا تَصِيرُ حَسَنَةً، وَلَكِنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحَى بِالتَّوْبَةِ وَتُكْتَبُ الْحَسَنَةُ مَعَ التَّوْبَةِ، وَالْكَافِرُ يُحْبَطُ عَمَلُهُ وَتُثْبَتُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ. وَتَأَوَّلَ ابْنُ مُسَيَّبٍ وَمَكْحُولٌ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ بِمَعْنَى كَرَمِ الْعَفْوِ. وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ إِنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ بَدَلَ سَيِّئَاتٍ حَسَنَاتٍ. وَقَالَا تُمْحَى السَّيِّئَةُ وَيُثْبَتُ بَدَلَهَا حَسَنَةٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي: يُبَدَّلُ الْعِقَابُ بِالثَّوَابِ فَذَكَرَهُمَا وَأَرَادَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِمَا. إِلَّا مَنْ تابَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنَ الْجِنْسِ، وَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَلَا يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ التَّضْعِيفِ انْتِفَاءُ الْعَذَابِ غَيْرِ الْمُضَعَّفِ فَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا أَيْ لَكِنْ مَنْ تَابَ وآمن عمل صَالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْقَى عَذَابًا البتة وسَيِّئاتِهِمْ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَهُوَ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِحَرْفِ الْجَرِّ أَيْ بِسَيِّئَاتِهِمْ. وحَسَناتٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ المسرح كَمَا قَالَ تَعَالَى وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذَاتِ النحيين ... أبدلك لله بِلَوْنٍ لَوْنَيْنِ سَوَادَ وَجْهٍ وَبَيَاضَ عَيْنَيْنِ الظَّاهِرُ أَنَّ وَمَنْ تابَ أَيْ أَنْشَأَ التوبة فإنه يتوب إلى اللَّهِ أَيْ يَرْجِعُ إِلَى ثَوَابِهِ وَإِحْسَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَنْ تابَ فَإِنَّهُ قَدْ تَمَسَّكَ بِأَمْرٍ وَثِيقٍ. كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُسْتَحْسَنُ قوله في أمر:

_ (1) سورة سبأ: 34/ 16. [.....]

لَقَدْ قُلْتَ يَا فُلَانُ قَوْلًا فَكَذَلِكَ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مَدْحُ الْمَتَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُ يَجِدُ الْفَرَجَ وَالْمَغْفِرَةَ عَظِيمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يَتْرُكِ الْمَعَاصِيَ وَيَنْدَمْ عَلَيْهَا وَيَدْخُلْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ الَّذِي يَعْرِفُ حَقَّ التَّائِبِينَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُونَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وَقِيلَ: مَنْ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فَلْيُبَادِرْ إِلَيْهَا وَيَتَوَجَّهْ بِهَا إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ مَنْ تابَ مِنْ ذُنُوبِهِ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى مَنْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَقِيلَ: وَمَنْ تابَ اسْتَقَامَ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أَيْ فَهُوَ التَّائِبُ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ. وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ عَادَ إِلَى ذِكْرِ أَوْصَافِ عِبادُ الرَّحْمنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَالْبَاقِرُ فَهُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَحْضُرُونَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ وَالزُّورُ الشِّرْكُ وَالصَّنَمُ أَوِ الْكَذِبُ أَوْ آلَةُ الْغِنَاءِ أَوْ أَعْيَادُ النَّصَارَى. أَوْ لُعْبَةٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ النَّوْحُ أَوْ مَجَالِسُ يُعَابُ فِيهَا الصَّالِحُونَ، أَقْوَالٌ. فَالشِّرْكُ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْغِنَاءُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْكَذِبُ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَفِي الْكَشَّافِ عَنْ قَتَادَةَ مَجَالِسُ الْبَاطِلِ. وَعَن ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ. وَعَنْ مجاهد: أعياد المشركين وبِاللَّغْوِ كُلُّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْغَى وَيُطْرَحَ. وَالْمَعْنَى وَإِذا مَرُّوا بِأَهْلِ اللَّغْوِ مَرُّوا مُعْرِضِينَ عَنْهُمْ مُكَرِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ التَّوَقُّفِ عَلَيْهِمْ. وَالْخَوْضِ مَعَهُمْ لِقَوْلِهِ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «1» انْتَهَى. بِآياتِ رَبِّهِمْ هِيَ الْقُرْآنُ. لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً النَّفْيُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ الَّذِي هُوَ صُمٌّ وَعُمْيَانٌ لَا لِلْخُرُورِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ النَّفْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْقَيْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَكَبُّوا عَلَيْهَا حِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمُذَكِّرِ بِهَا بِآذَانٍ وَاعِيَةٍ وَأَعْيُنٍ رَاعِيَةٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا كَانُوا مُكِبِّينَ عَلَيْهَا مُقْبِلِينَ عَلَى مَنْ يُذَكِّرُ بِهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَكَانُوا صُمًّا وَعُمْياناً حَيْثُ لَا يَعُونَهَا وَلَا يَتَبَصَّرُونَ مَا فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَلْ يَكُونُ خُرُورُهُمْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا كَمَا تَقُولُ: لَمْ يَخْرُجْ زَيْدٌ إِلَى الْحَرْبِ جَزِعًا أَيْ إِنَّمَا خَرَجَ جَرِيئًا مُعْدِمًا، وَكَانَ الْمَسْمَعُ الْمُذَكَّرُ قَائِمَ الْقَنَاةِ قَوِيمَ الْأَمْرِ فَإِذَا أَعْرَضَ كَانَ ذَلِكَ خُرُورًا وَهُوَ السُّقُوطُ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَتَرْتِيبٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْبَهَ الَّذِي يَخِرُّ سَاجِدًا لَكِنَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ انْتَهَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ لَمْ يَخِرُّوا صُمًّا وَعُمْياناً هِيَ صِفَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إعراضهم

_ (1) سورة القصص: 28/ 15.

وَجَهْدِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَرَنَ ذَلِكَ بِقَوْلِكَ: قَعَدَ فُلَانٌ يَتَمَنَّى، وَقَامَ فُلَانٌ يَبْكِي، وَأَنْتَ لَمْ تَقْصِدِ الْإِخْبَارَ بِقُعُودٍ وَلَا قِيَامٍ وَإِنَّمَا هِيَ تَوْطِئَاتٌ فِي الْكَلَامِ وَالْعِبَارَةِ. قُرَّةَ أَعْيُنٍ كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ. يُقَالُ: دَمْعُ السُّرُورِ بَارِدٌ، وَدَمْعُ الْحُزْنِ سُخْنٌ، وَيُقَالُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، وَأَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَ الْعَدُوِّ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرَارِ أَيْ يَقَرُّ النَّظَرُ بِهِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَقُرَّةُ الْعَيْنِ النَّوْمُ أَيْ آمِنَّا لِأَنَّ الْأَمْنَ لَا يَأْتِي مَعَ الْخَوْفِ حَكَاهُ الْقَفَّالُ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ فِيمَنْ ذَكَرُوا رُؤْيَتَهُمْ مُطِيعِينَ لِلَّهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَحَضْرَمِيٌّ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَهْتَدِي الْأَبُ وَالِابْنُ كَافِرٌ وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ كَافِرَةٌ، وَكَانَتْ قُرَّةُ عُيُونِهِمْ فِي إِيمَانِ أَحْبَابِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُرَّةُ عين الولدان تَرَاهُ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ دَعَوْا بِذَلِكَ لِيُجَابُوا فِي الدُّنْيَا فَيُسَرُّوا بِهِمْ. وَقِيلَ: سَأَلُوا أَنْ يُلْحِقَ اللَّهُ بِهِمْ أُولَئِكَ فِي الْجَنَّةِ لِيَتِمَّ لَهُمْ سُرُورُهُمْ انْتَهَى. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ هَبْ لَنا مِنْ جهتهم ما تقربه عُيُونَنَا مِنْ طَاعَةٍ وَصَلَاحٍ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ لِلْبَيَانِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ هَبْ لَنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ثُمَّ بُيِّنَتِ الْقُرَّةُ وَفُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ لَهُمْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ مِنْ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا أَيْ أَنْتَ أَسَدٌ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِنْ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا بُدَّ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْمُبَيَّنَ. ثُمَّ يَأْتِيَ بِمِنَ الْبَيَانِيَّةِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّهَا تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِثَابِتٍ لِمِنْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْحَرَمِيَّانِ وَحَفْصٌ وَذُرِّيَّاتِنَا عَلَى الْجَمْعِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَطَلْحَةُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ قُرَّاتِ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَنُكِّرَتِ الْقُرَّةُ لِتَنْكِيرِ الْأَعْيُنِ كَأَنَّهُ قَالَ هَبْ لَنَا مِنْهُمْ سُرُورًا وَفَرَحًا وَجَاءَ أَعْيُنٍ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ دُونَ عُيُونٍ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَعْيُنُ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ قَلِيلَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُيُونِ غَيْرِهِمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ أَعْيُنٍ تَنْطَلِقُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهُ مِنَ الْجَمْعِ، وَالْمُتَّقُونَ لَيْسَتْ أَعْيُنُهُمْ عَشَرَةً بَلْ هِيَ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَتْ عُيُونُهُمْ قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُيُونِ غَيْرِهِمْ فَهِيَ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ تَفُوتُ الْعَدَّ. وَأَفْرَدَ إِماماً إِمَّا اكْتِفَاءً بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمْعِ، وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةً وَيَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَلَا لَبْسَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَعْنَى

وَاجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ إِماماً وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ آمٍّ كَحَالٍّ وَحِلَالٍ، وَإِمَّا لِاتِّحَادِهِمْ وَاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ قَالُوا: وَاجْعَلْنَا إِمَامًا وَاحِدًا دَعَوُا اللَّهَ أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً فِي الدِّينِ وَلَمْ يَطْلُبُوا الرِّئَاسَةَ قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّئَاسَةَ فِي الدِّينِ يَجِبُ أَنْ تُطْلَبَ. وَنَزَلَتْ فِي الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ. أُوْلئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَشَرَةِ. والْغُرْفَةَ اسْمٌ مُعَرَّفٌ بِأَلْ فَيَعُمُّ أَيِ الْغُرَفَ كَمَا جَاءَ وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «1» وَهِيَ الْعَلَالِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ بُيُوتٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ. وَقِيلَ الْغُرْفَةَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: السَّمَاءُ السَّابِعَةُ غُرْفَةٌ. وَقِيلَ: هِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْعُلُوُّ فِي الدَّرَجَاتِ وَالْبَاءُ فِي بِما صَبَرُوا لِلسَّبَبِ. وَقِيلَ: لِلْبَدَلِ أَيْ بَدَلَ صَبْرِهِمْ كَمَا قَالَ: فَلَيْتَ لِي بِهِمْ قَوْمًا إِذَا رَكِبُوا أَيْ فَلَيْتَ لِي بَدَلَهُمْ قَوْمًا وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ مُخَصَّصًا لِيَعُمَّ جَمِيعَ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَيُلَقَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَمُحَمَّدٌ الْيَمَانِيُّ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ. وَالتَّحِيَّةُ دُعَاءٌ بِالتَّعْمِيرِ وَالسَّلَامُ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ، أَيْ تُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: يُحَيَّوْنَ بِالتُّحَفِ جَمَعَ لَهُمْ بينهم الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ فِي جَهَنَّمَ ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً. وَلَمَّا وَصَفَ عِبَادَهُ الْعُبَّادَ وَعَدَّدَ مَا لَهُمْ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَرِّحَ لِلنَّاسِ بِأَنْ لَا اكْتِرَاثَ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّمَا هُوَ الْعِبَادَةُ وَالدُّعَاءُ فِي قَوْلِهِ لَوْلا دُعاؤُكُمْ هُوَ الْعِبَادَةُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَفْيٌ أَيْ ليس يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ أَيْ، أَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، ودُعاؤُكُمْ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ لَوْلَا عِبَادَتُكُمْ إِيَّاهُ أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ وَتَضَرُّعُكُمْ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَعْبَأُ بِتَعْذِيبِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً. وَقِيلَ: أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ خِطَابٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الْقَائِلِينَ نَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أَيْ لَا يَحْفِلُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا تَضَرُّعُكُمْ إِلَيْهِ وَاسْتِغَاثَتُكُمْ إِيَّاهُ فِي الشَّدَائِدِ. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ فَسَوْفَ يَكُونُ العقاب

_ (1) سورة سبأ: 34/ 37.

وَهُوَ مَا أَنْتَجَهُ تَكْذِيبُكُمْ وَنَفَّسَ لَهُمْ فِي حُلُولِهِ بِلَفْظَةِ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أَيْ لَازِمًا لَهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَا قُرْآنٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ اللِّزَامَ هُنَا هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ. وَقِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْمَوْتُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَوْتِ الْمُعْتَادِ بَلِ الْقَتْلِ بِبَدْرٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَسَوْفَ يَكُونُ هُوَ أَيِ الْعَذَابُ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ مَنْ قَرَأَ فَسَوْفَ يَكُونُ الْعَذَابُ لِزاماً وَالْوَجْهُ أَنْ يُتْرَكَ اسْمُ كَانَ غَيْرَ مَنْطُوقٍ به بعد ما عُلِمَ أَنَّهُ مِمَّا تُوُعِّدَ بِهِ لِأَجْلِ الْإِبْهَامِ وَتَنَاوُلِ مَا لَا يَكْتَنِهُهُ الْوَصْفُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَوْفَ يَكُونُ هُوَ أَيِ التَّكْذِيبُ لِزاماً أَيْ لَازِمًا لَكُمْ لَا تُعْطَوْنَ تَوْبَةً ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْخِطَابُ إِلَى النَّاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ عَابِدُونَ وَمُكَذِّبُونَ عَاصُونَ، فَخُوطِبُوا بِمَا وُجِدَ فِي جِنْسِهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّكْذِيبِ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ يَقُولُ إِذَا أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّ حُكْمِي أَنِّي لَا أَعْتَدُّ إِلَّا بِعِبَادَتِهِمْ، فَقَدْ خَالَفْتُمْ بِتَكْذِيبِكُمْ حُكْمِي فَسَوْفَ يَلْزَمُكُمْ أَثَرُ تَكْذِيبِكُمْ حَتَّى يَكُبَّكُمْ فِي النَّارِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ الْمَلِكُ لِمَنْ عَصَى عَلَيْهِ: إِنَّ مِنْ عَادَتِي أَنْ أُحْسِنَ إِلَى مَنْ يُطِيعُنِي وَيَتَّبِعُ أَمْرِي، فَقَدْ عَصَيْتَ فَسَوْفَ تَرَى مَا أُحِلُّ بِكَ بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَسَوْفَ تَكُونُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ أَيْ فَسَوْفَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِزاماً بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْمِنْهَالُ وَأَبَانُ بن ثعلب وأبو السماك بِفَتْحِهَا مَصْدَرٌ يَقُولُ لَزِمَ لُزُومًا وَلِزَامًا، مِثْلُ ثَبَتَ ثُبُوتًا وَثَبَاتًا. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى كَسْرِ اللَّامِ لصخر الغي: فأما ينج مِنْ حَتْفِ أَرْضٍ ... فَقَدْ لَقِيَا حُتُوفَهُمَا لِزَامَا وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ أَبِي السَّمَّاكِ أَنَّهُ قَرَأَ لَزَامِ عَلَى وَزْنِ حَذَامِ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مَعْدُولًا عَنِ اللَّزَمَةِ كَفُجَّارٍ مَعْدُولٍ عَنِ الْفَجَرَةِ.

سورة الشعراء

سورة الشعراء [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 104] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

الشِّرْذِمَةُ: الْجَمْعُ الْقَلِيلُ الْمُحْتَقَرُ، وَشِرْذِمَةُ كُلِّ شَيْءٍ: بَقِيَّتُهُ الْخَسِيسَةُ: وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي شَرَاذِمِ الْبِغَالِ وَقَالَ آخَرُ: جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلَاقْ شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ

وَقَالَ الجوهري: الشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَثَوْبٌ شَرَاذِمُ: أَيْ قِطَعٌ. انْتَهَى. وَقِيلَ: السَّفِلَةُ مِنَ النَّاسِ. كَبْكَبَهُ: قَلَبَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَحُرُوفُهُ كُلُّهَا أُصُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَبْكَبَةُ: تَكْرِيرُ الْكَبِّ، جُعِلَ التَّكْرِيرُ فِي اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى التَّكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَبْكَبَ مُضَاعَفٌ مِنْ كَبَّ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالتَّضْعِيفُ فِي الْفِعْلِ نَحْوَ: صَرَّ وَصَرْصَرَ. انْتَهَى. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ هُوَ قَوْلُ الزُّجَّاجِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ نَحْوَ كَبْكَبَهُ مِمَّا يُفْهَمُ الْمَعْنَى بِسُقُوطِ ثَالِثِهِ، هُوَ مِمَّا ضُوعِفَ فِيهِ الْبَاءُ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الثَّالِثَ بَدَلٌ مِنْ مِثْلِ الثَّانِي، فَكَانَ أَصْلُهُ كَبَبَ، فَأُبْدِلُ مِنَ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ كَافٌ، الْحَمِيمُ: الْوَلِيُّ الْقَرِيبُ، وَحَامَّةُ الرَّجُلِ: خَاصَّتُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَمِيمُ مِنْ الِاحْتِمَامِ، وَهُوَ الِاهْتِمَامُ، وَهُوَ الَّذِي يُهِمُّهُ مَا أَهَمَّكَ أَوْ مِنَ الْحَامَّةِ بِمَعْنَى الْخَاصَّةِ، وَهُوَ الصَّدِيقُ الْخَالِصُ. طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ، وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ، فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ. هَذِهِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً، الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً «1» ذَكَرَ تَلَهُّفَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَكَوْنِهِمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، لَمَّا جَاءَهُمْ. وَلَمَّا أَوْعَدَهُمْ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً، أَوْعَدَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ فَقَالَ فِي إِثْرِ إِخْبَارِهِ بِتَكْذِيبِهِمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ، أَوْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَأَمَالَ فَتْحَةَ الطَّاءِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ وَبَاقِي السبعة: بالفتح وحمزة بِإِظْهَارِ نُونِ سِينْ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِدْغَامِهَا وَعِيسَى بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ طسم هُنَا

_ (1) سورة الفرقان: آية 25/ 77.

وَفِي الْقَصَصِ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ ط س م مَقْطُوعٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ. وَتَكَلَّمُوا عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ بِمَا يُشْبِهُ اللُّغْزَ وَالْأَحَاجِيِّ، فَتَرَكْتُ نَقْلَهُ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَالُوهُ. والْكِتابِ الْمُبِينِ: هُوَ الْقُرْآنُ، هُوَ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ وَمُبِينٌ غَيْرَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَسَائِرِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، أَوْ مُبِينٌ إِعْجَازُهُ وَصِحَّةُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ باخِعٌ نَفْسَكَ فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ. أَلَّا يَكُونُوا: أَيْ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا، أَوْ خِيفَةَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بَاخِعُ نَفْسِكَ عَلَى الْإِضَافَةِ. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ دَخَلَتْ إِنْ عَلَى نَشَأْ وَإِنْ لِلْمُمْكِنِ، أَوِ المحقق المبهم زَمَانُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا فِي الشَّرْطِ مِنَ الْإِبْهَامِ هُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَيِّزِنَا، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ آيَةَ اضْطِرَارٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ مُعَرَّضَةً لِلنَّظَرِ وَالْفِكْرِ، لِيَهْتَدِيَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ هُدَاهُ، وَيَضِلَّ مَنْ سَبَقَ ضَلَالُهُ، وَلِيَكُونَ لِلنَّظْرَةِ كَسْبٌ بِهِ يَتَعَلَّقُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَآيَةُ الِاضْطِرَارِ تَدْفَعُ جَمِيعَ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَتْ. انْتَهَى. وَمَعْنَى آيَةً: أَيْ مُلْجِئَةً إِلَى الْإِيمَانِ يَقْهَرُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هرون عَنْهُ: إِنْ يَشَأْ يُنَزَّلْ عَلَى الْغَيْبَةِ، أَيْ إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُنَزِّلْ، وَفِي بعض الْمَصَاحِفِ: لَوْ شِئْنَا لَأَنْزَلْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَظَلَّتْ، مَاضِيًّا بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يُنَزِّلْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: فَتُظَلَّلْ، وَأَعْنَاقُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ خَاضِعِينَ خَبَرًا عَنِ الْأَعْنَاقِ؟ قُلْتُ: أَصْلُ الْكَلَامِ: فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، فَأُقْحِمَتِ الْأَعْنَاقُ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْخُشُوعِ، وَتُرِكَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ كَقَوْلِهِمْ: ذَهَبْتُ أَهْلَ الْيَمَامَةِ، كَانَ الْأَهْلُ غَيْرَ مَذْكُورٍ. انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْأَخْفَشُ: جَمَاعَاتُهُمْ، يُقَالُ: جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَمَاعَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا وَقِيلَ: أَعْنَاقُ النَّاسِ: رُؤَسَاؤُهُمْ، وَمُقَدِّمُوهُمْ شُبِّهُوا بِالْأَعْنَاقِ، كَمَا قيل: لهم الرؤوس وَالنَّوَاصِي وَالصُّدُورُ قَالَ الشَّاعِرُ: في مجفل مِنْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مَشْهُودِ وَقِيلَ: أُرِيدَ الْجَارِحَةُ. فَقَالَ ابْنُ عِيسَى: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَصْحَابُ الْأَعْنَاقِ. وَرُوعِيَ هَذَا الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: خاضِعِينَ، حَيْثُ جَاءَ جَمْعًا لِلْمُذَكَّرِ

العاقل، أولا حَذْفَ، وَلَكِنَّهُ اكْتَسَى مِنْ إِضَافَتِهِ لِلْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ وَصْفَهُ، فَأُخْبِرَ عَنْهُ إِخْبَارَهُ، كَمَا يَكْتَسِي الْمُذَكَّرُ التَّأْنِيثَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ فِي نَحْوِ: كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم أولا حَذْفَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا وُضِعَتْ لِفِعْلٍ لَا يَكُونُ إِلَّا مَقْصُودًا لِلْعَاقِلِ وَهُوَ الْخُضُوعُ، جُمِعَتْ جَمْعَهُ كَمَا جَاءَ: أَتَيْنا طائِعِينَ «1» . وَقَرَأَ عِيسَى، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: خَاضِعَةً. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا وَفِي بَنِي أُمَيَّةَ، سَتَكُونُ لَنَا عَلَيْهِمُ الدَّوْلَةُ، فَتَذِلُّ أَعْنَاقُهُمْ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ، وَيَلْحَقُهُمْ هَوَانٌ بَعْدَ عِزٍّ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ. إِلَّا كانُوا: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ إِلَّا يَكُونُوا عَنْهَا. وَكَانَ يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّ دَيْدَنَهُمْ وَعَادَتَهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ خُولِفَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ؟ قُلْتُ: كَانَ قَبْلَ حِينٍ أَعْرَضُوا عَنِ الذِّكْرِ، فَقَدْ كَذَّبُوا بِهِ، وَحِينَ كَذَّبُوا بِهِ، فَقَدْ خَفَّ عَلَيْهِمْ قَدْرُهُ وَصَارَ عُرْضَةَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالسُّخْرِيَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَابِلًا لِلْحَقِّ مُقْبِلًا عَلَيْهِ، كَانَ مُصَدِّقًا بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُظَنَّ بِهِ التَّكْذِيبُ. وَمَنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِهِ، كَانَ مُوَقِّرًا لَهُ. انْتَهَى. فَسَيَأْتِيهِمْ: وَعِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَلَمَّا كَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي صَانِعِ الْوُجُودِ، وَتَكْذِيبُ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُنْشِئُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ؟ وَالزَّوْجُ: النَّوْعُ. وَقِيلَ: الشَّيْءُ وَشَكْلُهُ. وَقِيلَ: أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ وَأَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَحُلْوٌ وَحَامِضٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الزَّوْجُ: اللَّوْنُ. وَالْكَرِيمُ: الْحَسَنُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ. وَقِيلَ: الْكَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ. وَقِيلَ: الْكَرِيمُ صِفَةً لِكُلِّ مَا يُرْضَى وَيُحْمَدُ. وَجْهٌ كَرِيمٌ: مَرْضِيٌّ فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ وَكِتَابٌ كَرِيمٌ: مَرْضِيٌّ فِي مَعَانِيهِ وَفَوَائِدِهِ. وَقَالَ: حَتَّى يَشُقَّ الصُّفُوفَ مِنْ كَرَمِهِ، أَيْ مِنْ كَوْنِهِ مَرْضِيًّا فِي شَجَاعَتِهِ وَبَأْسِهِ، وَيُرَادُ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْأُمُورِ، وَالْأَغْذِيَةُ وَالنَّبَاتَاتُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَيَوَانُ لِأَنَّهُ عَنِ اثْنَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «2» . قَالَ الشَّعْبِيُّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ صَارَ إِلَى النَّارِ فَبِضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ كم وكل؟ ولو قيل:

_ (1) سورة فصلت: آية 41/ 11. (2) سورة نوح: آية 71/ 97.

أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ قُلْتُ: دَلَّ كُلِّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وكم عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُحِيطَ مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطُ الْكَثْرَةِ، فَهَذَا مَعْنَى الْجَمْعِ، وَبِهِ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ. انْتَهَى. وَأَفْرَدَ لَآيَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مَا دَلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ فِي الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ كَمْ، وَعَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْعُمُومِ فِي الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِنْبَاتُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مُتَعَلَّقَاتُهُ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ تِلْكَ الْأَزْوَاجِ لَآيَةً. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: تَسْجِيلٌ عَلَى أَكْثَرِهِمْ بِالْكُفْرِ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ: أَيِ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ. وَلَمَّا كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ بَيَانِ الْقُدْرَةِ، قَدَّمَ صِفَةَ الْعِزَّةِ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ. فَالرَّحْمَةُ إِذَا كَانَتْ عَنْ قُدْرَةٍ، كَانَتْ أَعْظَمَ وَقْعًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَزَّ فِي نِقْمَتِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَرَحِمَ مُؤْمِنِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ، ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا قَاسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَسْلَاةً لِمَا كَانَ يَلْقَاهُ عَلَيْهِ لصلاة وَالسَّلَامُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. إذ، كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ اتَّخَذَتْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ قَدِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا، وَكَانَ أَتْبَاعُ مِلَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمُ الْمُجَاوِرُونَ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، بَدَأَ بِقِصَّةِ مُوسَى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ مِنَ الْقَصَصِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ، قَالَ الزُّجَاجُ، اتْلُ مُضْمَرَةٌ، أَيِ اتْلُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِيمَا يَتْلُو إِذْ نَادَى، وَدَلِيلُ ذَلِكَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «1» إِذْ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ اذْكُرْ، وَهُوَ مِثْلُ وَاتْلُ، وَمَعْنَى نَادَى: دَعَا. وَقِيلَ: أَمْرٌ. وَأَنْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ، لِظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَظُلْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالِاسْتِعْبَادِ، وَذَبْحِ الأولاد، وقَوْمَ فِرْعَوْنَ، وقيل: بَدَلٌ مِنْ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ لِأَنَّهُمَا عِبَارَتَانِ يَعْتَقِبَانِ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ عَطَفَ الْبَيَانَ، وَسَوَّغَهُ مُسْتَقِلٌّ بِالْإِسْنَادِ. وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ، أَتَى عَطْفُ الْبَيَانِ بِإِزَالَتِهِ، إِذْ هُوَ أَشْهَرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلَا يَتَّقُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسلم بْنِ يَسَارٍ، وَشَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو قِلَابَةَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ إِنْكَارًا وَغَضَبًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ، لِأَنَّهُ مُبَلِّغُهُمْ ذَلِكَ وَمُكَافِحُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ قُلْ لَهُمْ، فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْمَعَانِي نَفْيَ التَّقْوَى عَنْهُمْ وَأَمْرَهُمْ بِالتَّقْوَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: أَلا يَتَّقُونَ؟ قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ مستأنف

_ (1) سورة الشعراء: آية 26/ 69.

أَتْبَعَهُ عَزَّ وَجَلَّ إِرْسَالَهُ إِلَيْهِمْ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ تَعْجِيبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي سَعَتْ فِي الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ، وَمِنْ أَمْنِهِمُ الْعَوَاقِبَ وَقِلَّةِ خَوْفِهِمْ وَحَذَرِهِمْ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَلَا يَتَّقُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّالِمِينَ، أَيْ يَظْلِمُونَ غَيْرَ مُتَّقِينَ اللَّهَ وَعِقَابَهُ، فَأُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّهُ جَعْلِهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّالِمِينَ، وَقَدْ أَعْرَبَ هُوَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ عَطْفَ بَيَانٍ، فَصَارَ فيه الْفَصْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: ائْتِ وَالَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَالٌ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ الظَّالِمِينَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لَوْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: قَوْمَ فِرْعَوْنَ. لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَهَا. وَقَوْلُكَ: جِئْتَ أَمُسْرِعًا؟ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَمُسْرِعًا حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي جِئْتَ لَا يَجُوزُ، فَلَوْ أَضْمَرْتَ عَامِلًا بعد الهمزة جاز. وقرىء: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا، التَّقْدِيرُ: أَفَلَا يَتَّقُونَنِي؟ فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَاءُ الْمُتَكَلِّمِ اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي أَلَا يَتَّقُونِ بِالْيَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يكون الْمَعْنَى: أَلَا يَا نَاسُ اتَّقُونِ، كَقَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا «1» . انْتَهَى. يَعْنِي: وَحُذِفَ أَلِفُ يَا خَطًّا وَنُطْقًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ بَعِيدٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَلَا لِلْعَرْضِ الْمُضَمَّنِ الْحَضَّ عَلَى التَّقْوَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لِلتَّنْبِيهِ لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهَا لِلنَّفْيِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ. وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ عَظِيمَ النَّخْوَةِ حَتَّى ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ، كَثِيرَ الْمَهَابَةِ، قَدْ أُشْرِبَتِ الْقُلُوبُ الْخَوْفَ مِنْهُ خُصُوصًا مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى أَخَافُ. فَالْمَعْنَى: إِنَّهُ يُفِيدُ ثَلَاثَ عِلَلٍ: خَوْفَ التَّكْذِيبِ، وَضِيقَ الصَّدْرِ، وَامْتِنَاعَ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَزَائِدَةُ، عَنِ الِأَعْمَشِ، وَيَعْقُوبُ: بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى يُكَذِّبُونِ، فَيَكُونُ التَّكْذِيبُ وَمَا بَعْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَوْفِ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، عَنْ الْأَعْرَجِ: أَنَّهُ قَرَأَ بِنَصْبِ: وَيَضِيقَ، وَرَفْعِ: وَلَا يَنْطَلِقُ، وَعَدَمُ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ هُوَ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَوْفِ وَضِيقِ الصَّدْرِ، لِأَنَّ اللِّسَانَ إِذْ ذَاكَ يَتَلَجْلَجُ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ عَنْ مَقْصُودِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ بِالْقَوْلِ لِغُمُوضِ الْمَعَانِي الَّتِي تُطْلَبُ لَهَا أَلْفَاظٌ مُحَرَّرَةٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَقْتِ ضِيقِ الصَّدْرِ، لم ينطلق اللسان.

_ (1) سورة النمل: 27/ 25.

فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: مَعْنَاهُ يُعِينُنِي وَيُؤَازِرُنِي، وَكَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصِيحًا وَاسِعَ الصَّدْرِ، فَحُذِفَ بَعْضُ الْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ، إِذْ بَاقِيهِ دَالٌّ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: أَرْسِلْ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاجْعَلْهُ نَبِيًّا، وَأْزُرْنِي بِهِ، وَاشْدُدْ بِهِ عَضُدِي وَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ أَحْسَنَ فِي الِاخْتِصَارِ حَيْثُ قَالَ: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ، فَجَاءَ بِمَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ إِلَى آخِرِهِ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لَيْسَ تَوَقُّفًا فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَضِّدَهُ بِأَخِيهِ، حَتَّى يَتَعَاوَنَا عَلَى إِنْفَاذِ أَمْرِهِ تَعَالَى، وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، مَهَّدَ قَبْلَ طَلَبِ ذَلِكَ عُذْرَهُ ثُمَّ طَلَبَ. وَطَلَبُ الْعَوْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَبُولِ لَا عَلَى التَّوَقُّفِ وَالتَّعَلُّلِ، وَمَفْعُولُ أَرْسِلْ مَحْذُوفٌ. فَقِيلَ جِبْرِيلُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى هَارُونَ، وَكَانَ هَارُونُ بِمِصْرَ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى نَبِيًّا بِالشَّامِ. قَالَ السُّدِّيُّ: سَارَ بِأَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ، فَالْتَقَى بِهَارُونَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى، فَتَعَارَفَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَنْطَلِقَا إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَصَاحَتْ أُمُّهُمَا لِخَوْفِهَا عَلَيْهِمَا، فَذَهَبَا إِلَيْهِ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ: أَيْ قِبَلِي قَوَدُ ذَنْبٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، وَهُوَ قَتْلُهُ الْقِبْطِيَّ الْكَافِرَ خَبَّازَ فِرْعَوْنَ بِالْوَكْزَةِ الَّتِي وَكَزَهَا، أَوْ سَمَّى تَبِعَةَ الذَّنْبِ ذَنْبًا، كَمَا سَمَّى جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً. وَلَيْسَ قَوْلُ مُوسَى ذَلِكَ تَلَكُّأً فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ قَالَ ذَلِكَ اسْتِدْفَاعًا لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَخَافَ أَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَلَّا، وَهِيَ كَلِمَةُ الرَّدْعِ، ثُمَّ وَعَدَهُ تَعَالَى بِالْكَلَاءَةِ وَالدَّفْعِ. وَكَلَّا رَدٌّ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ، أَيْ لَا تَخَفْ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَضَيْتُ بِنَصْرِكَ وَظُهُورِكَ. وَقَوْلُهُ: فَاذْهَبا، أَمْرٌ لَهُمَا بِخِطَابٍ لِمُوسَى فَقَطْ، لِأَنَّ هَارُونَ لَيْسَ بِمُكَلَّمٍ بِإِجْمَاعٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمْعَ اللَّهُ لَهُ الِاسْتِجَابَتَيْنِ مَعًا فِي قَوْلِهِ: كَلَّا فَاذْهَبا، لِأَنَّهُ اسْتَدْفَعَهُ بَلَاءَهُمْ، فَوَعَدَهُ الدَّفْعَ بِرَدْعِهِ عَنِ الْخَوْفِ، والتمس الموازرة بِأَخِيهِ، فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ، أَيِ اذْهَبْ أَنْتَ وَالَّذِي طَلَبْتَهُ هَارُونَ. فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ قَوْلَهُ اذْهَبَا؟ قُلْتُ: عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: ارْتَدِعْ يَا مُوسَى عَمَّا تَظُنُّ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَهَارُونُ بِآيَاتِنَا، يَعُمُّ جَمِيعَ مَا بَعَثَهُمَا اللَّهُ بِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ الْعَصَا، وَبِهَا وَقَعَ الْعَجْزُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي حَمَّلَهُ اللَّهُ أَمْرَ النُّبُوَّةِ وَكَلَّفَهَا، وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا مُعِينًا لَهُ وَوَزِيرًا. انْتَهَى. وَمَعَكُمْ، قِيلَ: مِنْ وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْمُثَنَّى، أَيْ مَعَكُمَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْجَمْعِ، والمراد

_ (1) سورة طه: 20/ 42.

مُوسَى وَهَارُونُ وَمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِصُورَةِ الْجَمْعِ الْمُثَنَّى، وَالْخِطَابُ لِمُوسَى وَهَارُونَ فَقَطْ، قَالَ: لِأَنَّ لَفْظَهُ مَعَ تَبَايُنِ مَنْ يَكُونُ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ اللَّهُ مَعَهُ. وَعَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ، حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَأَنَّهُمَا لِشَرَفِهِمَا عِنْدَ اللَّهِ، عَامَلَهُمَا فِي الْخِطَابِ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْوَاحِدُ لِشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُسْتَمِعُونَ اهْتِبَالًا، لَيْسَ فِي صِيغَةِ سَامِعُونَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِطَلَبِ الِاسْتِمَاعِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ إِظْهَارُ التَّهَمُّمِ لِيَعْظُمَ أُنْسُ مُوسَى، أَوْ يَكُونُ الْمَلَائِكَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهَا تَسْتَمِعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ مِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ، يُرِيدُ أَنَا لَكُمَا ولعدو كما كَالنَّاصِرِ الظَّهِيرِ لَكُمَا عَلَيْهِ إِذَا حَضَرَ وَاسْتَمَعَ مَا يَجْرِي بَيْنَكُمَا وَبَيْنَهُ، فَأَظْهَرَكُمَا وَغَلَّبَكُمَا وَكَسَرَ شَوْكَتَهُ عَنْكُمَا وَنَكَّسَهُ. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ معه متعلقا بمستمعون، وأن يكون خبرا، ومستمعون خَبَرٌ ثَانٍ. وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِصْغَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ السَّمَاعُ، تَقُولُ: أَسْمَعَ إِلَيْهِ، فَمَا سَمِعَ وَاسْتَمَعَ إِلَيْهِ، فَسَمِعَ كَمَا قَالَ: اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا «1» ، وَأَفْرَدَ رَسُولَ هُنَا وَلَمْ يُثَنِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ «2» ، إِمَّا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ مُفْرَدًا خَبَرَ الْمُفْرِدِ فَمَا فَوْقَهُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِمَا ذَوِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُمَا رَسُولٌ وَاحِدٌ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: أَنَا أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولٌ. وسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ رَدٌّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى، بَادَهَهُ بِنَقْضِ مَا كَانَ أَبْرَمَهُ مِنَ ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ فَقَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَالْمَعْنَى إِلَيْكَ، وأَنْ أَرْسِلْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِمَا فِي رَسُولٍ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَرْسَلَ بِمَعْنَى أَطْلَقَ وَسَرَّحَ، كَمَا تَقُولُ: أَرْسَلْتُ الْحَجَرَ مِنْ يَدِي، وَأَرْسَلْتُ الصَّقْرَ. وَكَانَ مُوسَى مَبْعُوثًا إِلَى فِرْعَوْنَ فِي أَمْرَيْنِ: إِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَزُولَ عَنْهُمُ الْعُبُودِيَّةُ، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبُعِثَ بِالْعِبَادَاتِ وَالشَّرْعِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِرْسَالُهُمْ مَعَهُمَا كَانَ إِلَى فِلَسْطِينَ، وَكَانَتْ مَسْكَنَ مُوسَى وَهَارُونَ. قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي

_ (1) سورة الجن: 72/ 1. (2) سورة طه: 20/ 47.

رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ، قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. وَيُرْوَى أَنَّهُمَا انْطَلَقَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا سَنَةً، حَتَّى قَالَ الْبَوَّابُ: إِنَّ هُنَا إِنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ: ائْذَنْ لَهُ لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ. فَأَدَّيَا إِلَيْهِ الرِّسَالَةَ، فَعَرَفَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً؟ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَأَتَيَا فِرْعَوْنَ، فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ. وَلَمَّا بَادَهَهُ مُوسَى بِأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَرَهُ بِإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، أَخَذَ يَسْتَحْقِرُهُ وَيَضْرِبُ عَنِ الْمُرْسَلِ وَعَمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُذَكِّرُهُ بِحَالَةِ الصِّغَرِ وَالْمَنِّ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ. وَالْوَلِيدُ الصَّبِيُّ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الْوِلَادَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: مِنْ عُمْرِكَ، بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي كَمِّيَّةِ هَذِهِ السِّنِينَ فِي طه. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعْلَتَكَ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، إِذْ كَانَتْ وَكْزَةً وَاحِدَةً، وَالشَّعْبِيُّ: بِكَسْرِ الْفَاءِ، يُرِيدُ الْهَيْئَةَ، لِأَنَّ الْوَكْزَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ. عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعْمَةَ التَّرْبِيَةِ وَمَبْلَغَهُ عِنْدَهُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، حَيْثُ كَانَ يَقْتُلُ نُظَرَاءَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَّرَهُ مَا جَرَى عَلَى يَدِهِ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، وَعَظَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ، لِأَنَّ هَذَا الْإِبْهَامَ، بِكَوْنِهِ لَمْ يُصَرِّحْ أَنَّهَا الْقَتْلُ، تَهْوِيلٌ لِلْوَاقِعَةِ وَتَعْظِيمُ شَأْنٍ. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ قَتَلْتَهُ وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَافْتَرَى فِرْعَوْنُ بِنِسْبَةِ هَذِهِ الْحَالِ إِلَيْهِ إِذْ ذَاكَ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ فِرْعَوْنَ، حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِي فِي أَنَّنِي إِلَهُكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مِنْ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ لِأَنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُهُ الْآنَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. قالَ فَعَلْتُها إِذاً: إِجَابَةُ مُوسَى عَنْ كَلَامِهِ الْأَخِيرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْقَتْلِ، إِذْ كَانَ الِاعْتِذَارُ فِيهِ أَهَمَّ مِنَ الْجَوَابِ فِي ذِكْرِ النِّعْمَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، لِأَنَّهُ فِيهِ إِزْهَاقُ النَّفْسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَنْ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ وَكَأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَئِذٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِصِلَةٍ، بَلْ هِيَ حَرْفُ مَعْنًى. وَقَوْلُهُ وَكَأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَئِذٍ، يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ تَفْسِيرَ مَعْنًى، إِذْ لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ إِلَى أَنَّ إِذَنْ

تُرَادِفُ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابَ حِينَئِذٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ مَعًا، وَالْكَلَامُ وَقَعَ جَوَابًا لِفِرْعَوْنَ، فَكَيْفَ وَقَعَ جَزَاءً؟ قُلْتُ: قَوْلُ فِرْعَوْنَ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ فِيهِ مَعْنَى: إِنَّكَ جَازَيْتَ نِعْمَتِي بِمَا فَعَلْتَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: نَعَمْ فَعَلْتُهَا، مُجَازِيًا لَكَ تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّ نِعْمَتَهُ كَانَتْ عِنْدَهُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُجَازَى بِنَحْوِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ مَعًا، هُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، لَكِنَّ الشُّرَّاحَ فَهِمُوا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَوَابًا وَجَزَاءً مَعًا، وَقَدْ تَكُونُ جَوَابًا فَقَطْ دُونَ جَزَاءٍ. فَالْمَعْنَى اللَّازِمُ لَهَا هُوَ الْجَوَابُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ جَزَاءً. وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: فَعَلْتُها إِذاً مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جاءت فيها جوابا لآخر، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَئِمَّتِنَا تَكَلَّفَ هُنَا كَوْنَهَا جَزَاءً وَجَوَابًا، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّرٌ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي إِذَنْ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ هُوَ الصَّحِيحَ، وَلَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ مِنَ الْجَاهِلِينَ، بِأَنَّ وَكْزَتِي إِيَّاهُ تَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ النَّاسِينَ، وَنَزَعَ لِقَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «1» . وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلضَّالِّينَ، لَا قِرَاءَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْفَاعِلِينَ فِعْلَ أُولِي الْجَهْلِ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ «2» أَوِ الْمُخْلِصِينَ، كَمَنْ يَقْتُلُ خَطَأً مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِلْقَتْلِ، أَوِ الذَّاهِبِينَ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنَ الضَّالِّينَ، يَعْنِي عَنِ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَأْتِنِي عَنِ اللَّهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ عَلَيَّ فِيمَا فَعَلْتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَوْبِيخٌ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا شُرِحَ بِهِ أَنَّ مَعْنَى وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ مِنَ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ، وَمَا قَتَلْتُ الْقِبْطِيَّ إِلَّا غَيْرَةً لِلَّهِ. قِيلَ: وَالضَّلَالُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَحَبَّةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «3» ، أَيْ فِي مَحَبَّتِكَ الْقَدِيمَةِ. وَجُمِعَ ضَمِيرُ الخطاب في منكم وخفتكم بِأَنْ كَانَ قَدْ أُفْرِدَ في: تمنها وعبدت، لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالْفِرَارَ لَمْ يَكُونَا مِنْهُ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا منه ومن ملئه الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَأْتَمِرُونَ لِقَتْلِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ «4» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَظَرْفًا بِمَعْنَى حِينَ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ: لِمَا بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، أَيْ يخوفكم. وَقَرَأَ عِيسَى: حُكُمًا بِضَمِّ الْكَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْإِسْكَانِ. وَالْحُكْمُ: النبوة.

_ (1) سورة البقرة 2/ 282. (2) سورة يوسف: 12/ 89. (3) سورة يوسف: 12/ 95. (4) سورة يوسف: 12/ 89. [.....]

وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ: دَرَجَةٌ ثَانِيَةٌ لِلنُّبُوَّةِ، فَرُبَّ نَبِيٍّ لَيْسَ بِرَسُولٍ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ: الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ: وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَذَكَّرَ بِهَذَا آخِرًا عَلَى مَا بَدَأَ بِهِ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِقْرَارٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّعْمَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَتَرْبِيَتُكَ لِي نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِنْ حَيْثُ عَبَّدْتَ غَيْرِي وَتَرَكْتَنِي وَاتَّخَذْتَنِي وَلَدًا، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ رِسَالَتِي. وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ السُّدِّيُّ وَالطَّبَرَيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ نِعْمَةً، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أو يصح لَكَ أَنْ تَعْتَدَّ عَلَيَّ نِعْمَةَ تَرْكِ قَتْلِي مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ ظَلَمْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلْتَهُمْ؟ أَيْ لَيْسَتْ بِنِعْمَةٍ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَنْ لَا تَقْتُلَنِي وَلَا تَقْتُلَهُمْ وَلَا تَسْتَعْبِدَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْخِدْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ مَا لَكَ أَنْ تَمُنَّهَا، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ تُؤَيَّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِفِرْعَوْنَ وَنَقْضُ كَلَامِهِ كُلِّهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِيهِ إِنْصَافٌ وَاعْتِرَافٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَالْفَرَّاءُ: قَبْلَ الْوَاوِ هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ يُرَادُ بِهِ الْإِنْكَارُ، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّهَا لَا تُحْذَفُ، لِأَنَّهَا حَرْفٌ يَحْدُثُ مَعَهَا مَعْنًى، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ أَمْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا شَيْئًا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُهَا مَعَ أَفْعَالِ الشَّكِّ، وَحَكَى: تَرَى زَيْدًا مُنْطَلِقًا، بِمَعْنَى: أَلَا تَرَى؟ وَكَانَ الْأَخْفَشُ الْأَصْغَرُ يَقُولُ: أَخَذَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّبْكِيتِ يَكُونُ بِاسْتِفْهَامٍ وَبِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَالْمَعْنَى: لَوْ لَمْ يُقَتِّلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَرَبَّانِي أَبَوَايَ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ لَكَ عَلَيَّ فَأَنْتَ تَمُنُّ عَلَيَّ بِمَا لَا يَجِبُ أَنْ تَمُنَّ بِهِ. وَقِيلَ: اتِّخَاذُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدًا أَحْبَطَ نِعْمَتَكَ الَّتِي تَمُنُّ بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَبَى، يَعْنِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يُسَمِّيَ نِعْمَتَهُ أَنْ لَا نِعْمَةَ، حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ حَقِيقَةَ إِنْعَامِهِ تَعَبُّدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ تَعَبُّدَهُمْ وَقَصْدَهُمْ بِذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِهِ عِنْدَهُ وَتَرْبِيَتِهِ، فَكَأَنَّهُ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِتَعْبِيدِ قَوْمِهِ إِذَا حَقَّقْتَ. وَتَعْبِيدُهُمْ: تَذْلِيلُهُمْ وَاتِّخَاذُهُمْ عَبِيدًا، يُقَالُ: عَبَّدْتُ الرَّجُلَ وَأَعْبَدْتُهُ، إِذَا اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا، قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَامَ يُعْبِدُنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ ... فِيهِمْ أَبَاعِرُ مَا شَاءُوا وَعُبْدَانُ فَإِنْ قُلْتَ: وَتِلْكَ إشارة إلى ماذا؟ وأن عَبَّدْتَ مَا مَحَلُّهَا مِنَ الْإِعْرَابِ؟ قُلْتُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى خَصْلَةٍ شَنْعَاءَ مُبْهَمَةٍ، لَا يُدْرَى مَا هِيَ إِلَّا بِتَفْسِيرِهَا وَمَحَلُّ أَنْ عَبَّدْتَ الرَّفْعُ، عَطْفُ بَيَانٍ لِتِلْكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ

مُصْبِحِينَ «1» ، وَالْمَعْنَى: تَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَةٌ تَمَنُّهَا عَلَيَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، الْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ نِعْمَةً عَلَيَّ، لِأَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَكَفَلَنِي أَهْلِي وَلَمْ يُلْقُونِي فِي الْيَمِّ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: بَدَلٌ، وَلَمَّا أَخْبَرَ مُوسَى فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَسْأَلْ إِذْ ذَاكَ فَيَقُولُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ بَلْ أَخَذَ فِي الْمُدَاهَاةِ وَتَذْكَارِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّقْبِيحِ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ. فَلَمَّا أَجَابَهُ عَنْ ذَلِكَ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالْقَتْلِ، وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: سُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ دُعَاءٌ إِلَى الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَإِلَى طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِ، فَأَخَذَ فِرْعَوْنُ يَسْتَفْهِمُ عَنِ الَّذِي ذَكَرَ مُوسَى أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَهُ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاهَتَةِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْمُرَادَّةِ، وَكَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «2» ، وَلَكِنَّهُ تَعَامَى عَنْ ذَلِكَ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ وَدَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ، وَاسْتَفْهَمَ بِمَا اسْتِفْهَامًا عَنْ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ مَكِّيٌّ: كَمَا يُسْتَفْهَمُ عَنِ الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ وَرَدَ لَهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَنْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَيُشْبِهُ أَنَّهَا مَوَاطِنُ. انْتَهَى. وَالْمَوْضِعُ الْآخَرُ قَوْلُهُ: فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى؟ «3» وَلَمَّا سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ، وَكَانَ السُّؤَالُ بما التي هي سُؤَالٍ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَوَابُ بِالْمَاهِيَّةِ، أَجَابَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ لِفِرْعَوْنَ فيها، وهي ربوبية السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي شُوهِدَتْ وَعُرِفَتْ أَجْنَاسُهَا، فَأَجَابَ بِمَا يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ، لِيُعَرِّفَهُ أنه ليس مما شوهد وَعَرَفَ مِنَ الْأَجْرَامِ وَالْأَعْرَاضِ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ شَيْءٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ تَفْتِيشًا عَنْ حَقِيقَةِ الْخَاصَّةِ مَا هِيَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ لَيْسَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، وَهُوَ الْكَافِي فِي مَعْرِفَتِهِ مَعْرِفَةُ بَيَانِهِ بِصِفَاتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا التَّفْتِيشُ عَنْ حَقِيقَةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ فِطَرِ الْعُقُولِ، فَتَفْتِيشٌ عَمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَالسَّائِلُ عَنْهُ مُتَعَنِّتٌ غَيْرُ طَالِبٍ لِلْحَقِّ. وَالَّذِي يَلِيقُ بِحَالِ فِرْعَوْنَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَنَّ كَوْنَ سُؤَالِهِ إِنْكَارًا لِأَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِينَ رَبٌّ سِوَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْلَمُ حُدُوثَهُ بَعْدَ الْعَدَمِ؟ وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْحَوَادِثِ؟ وَأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا فِي مَحَلِّ مُلْكِهِ مِصْرَ؟ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَلِكَ الْأَرْضِ؟ بَلْ كَانَ فِيهَا مُلُوكٌ غَيْرُهُ، وَأَنْبِيَاءُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ كَشُعَيْبٍ عَلَيْهِ

_ (1) سورة الحجر: 15/ 66. (2) سورة الإسراء: 17/ 101. (3) سورة طه: 20/ 49.

السَّلَامُ؟ وَأَنَّهُ كَانَ مُقِرًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ؟ وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَما بَيْنَهُمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مَجْمُوعٌ اعْتِبَارًا لِلْجِنْسَيْنِ: جِنْسِ السَّمَاءِ، وَجِنْسِ الْأَرْضِ كَمَا ثَنَّى الْمَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ اعْتِبَارًا لِلْجِنْسَيْنِ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُ قَالَ مَا قَالَ طَلَبًا لِلْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ الْآيَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَأَنَّ حَرَكَاتِهَا أَسْبَابٌ لِحُصُولِ الْحَوَادِثِ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِلَهٍ لِأَهْلِ إِقْلِيمِهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَعْبَدَهُمْ وَمَلَكَ زِمَامَ أَمْرِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ ذَاتَ الْإِلَهِ تُقَرَّرُ بِجَسَدِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَكُونَ الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ بِمَنْزِلَةِ رُوحِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَسَدِهِ، وَبِهَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ كَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ إِلَهًا. انْتَهَى. وَمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ: إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْكُمُ الْإِيقَانُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ، نَفَعَكُمْ هَذَا الْجَوَابُ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفَعْكُمْ أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِشَيْءٍ قَطُّ، فَهَذَا أَوْلَى مَا تُوقِنُونَ بِهِ لِظُهُورِهِ وَإِنَارَةِ دَلِيلِهِ. وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ مِنْ فِرْعَوْنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: هُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ. قِيلَ: كَانُوا خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِمُ الْأَسَاوِرُ، وَكَانَتْ لِلْمُلُوكِ خَاصَّةً. أَلا تَسْتَمِعُونَ: أَيْ أَلَا تُصْغُونَ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِغْرَاءً بِهِ وَتَعَجُّبًا، إِذْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَبُّهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْفَرَاعِنَةُ قَبْلَهُ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ ضَلَالَةٌ مِنْهَا فِي مِصْرَ وَدِيَارِنَا إِلَى الْيَوْمِ بَقِيَّةٌ. انْتَهَى. يُشِيرُ إِلَى مَا أَدْرَكَهُ فِي عَصْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الْعُبَيْدِيِّينَ الَّذِينَ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ تَدَّعِي فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، وَأَقَامُوا مُلُوكًا بِمِصْرَ، مِنْ زَمَانِ الْمُعِزِّ إِلَى زَمَانِ الْعَاضِدِ، إِلَى أَنْ مَحَى اللَّهُ دَوْلَتَهُمْ بِظُهُورِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَارِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَقَدْ كَانَتْ لَهُ مَآثِرُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهَا: فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ سَوَاحِلِ الشَّامِ، كَانَ النَّصَارَى مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا، فَاسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ: نَبَّهَهُمْ على منشئهم ومنشىء آبَائِهِمْ، وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: الْأَوَّلِينَ، دَلَالَةٌ عَلَى إِمَاتَتِهِمْ بَعْدَ إِيجَادِهِمْ. وَانْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَامِّ إِلَى مَا يَخُصُّهُمْ، لِيَكُونَ أَوْضَحَ لَهُمْ فِي بَيَانِ بُطْلِ دَعْوَى فِرْعَوْنَ الْإِلَهِيَّةَ، إِذْ كَانَ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ تَقَدَّمُوا فِرْعَوْنَ فِي الْوُجُودِ، فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ فِي الْعَدَمِ إِلَهًا لَهُمْ.

قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: التَّعْرِيفُ بِهَذَا الْأَثَرِ أَظْهَرُ، فَلِهَذَا عَدَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَاقِلُ فِي نَفْسِهِ وَفِي آبَائِهِ كَوْنَهُمْ وَاجِبِي الْوُجُودِ لِذَوَاتِهِمْ، لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِهِمْ بَعْدَ عَدَمِهِمْ، وَعَدَمِهِمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ فِرْعَوْنُ: مَا قَالَ يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ سُؤَالِ مَا طَلَبْتَ الْمَاهِيَّةُ وَخُصُوصِيَّةُ الْحَقِيقَةِ. وَالتَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الْآثَارِ الْخَارِجِيَّةِ لَا تُفِيدُ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةَ، فَهَذَا الَّذِي يَدَّعِي الرِّسَالَةَ مَجْنُونٌ لَا يَفْهَمُ السُّؤَالَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ: فَعَدَلَ إِلَى طَرِيقٍ أَوْضَحَ مِنَ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَشْرِقِ: طُلُوعَ الشَّمْسِ وَظُهُورَ النَّهَارِ، وَأَرَادَ بِالْمَغْرِبِ: غُرُوبَ الشَّمْسِ وَزَوَالَ النَّهَارِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى الْوَجْهِ الْعَجِيبِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ نُمْرُوذَ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَا بِقَوْلِهِ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَأَجَابَهُ نُمْرُوذُ بِقَوْلِهِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «1» وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَا بِقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ، عَرَفْتُمْ أَنْ لَا جَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ إِلَّا مَا ذَكَرْتُ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: زَادَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيَانِ الصِّفَاتِ الَّتِي تُظْهِرُ نَقْصَ فِرْعَوْنَ، وَتُبَيِّنُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ رُبُوبِيَّةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ إِلَّا مُلْكُ مِصْرُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى أَسْوَانَ وَأَرْضُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيدٌ، وَالْأَعْرَجُ: أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، أَيْ أَرْسَلَهُ رَبُّهُ إِلَيْكُمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَعْمَشُ: رَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، عَلَى الْجَمْعِ فِيهِمَا. وَلَمَّا انْقَطَعَ فِرْعَوْنُ فِي بَابِ الِاحْتِجَاجِ، رَجَعَ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالْغَلَبِ، وَهَذَا أَبْيَنُ عَلَامَاتِ الِانْقِطَاعِ، فَتَوَعَّدَ مُوسَى بِالسِّجْنِ حِينَ أَعْيَاهُ خِطَابُهُ: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا أَجَابَ مُوسَى بِمَا أَجَابَ، عَجِبَ قَوْمُهُ مِنْ جَوَابِهِ، حَيْثُ نَسَبَ الرُّبُوبِيَّةَ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا ثَنَّى بِتَقْرِيرِ قَوْلِهِ، جَنَّنَّهُ إِلَى قَوْمِهِ وَظَنَنَّ بِهِ، حَيْثُ سَمَّاهُ رَسُولَهُمْ، فَلَمَّا ثَلَّثَ احْتَدَّ وَاحْتَدَمَ، وَقَالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: أَوَّلًا: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، وَآخِرًا: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟

_ (1) سورة البقرة: 2/ 258.

قُلْتُ: لَايَنَ أَوَّلًا، فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ الشَّكِيمَةِ فِي الْعِنَادِ وَقِلَّةِ الْإِصْغَاءِ إِلَى عَرْضِ الْحُجَجِ، خَاشَنَ وَعَارَضَ إِنَّ رَسُولَكُمْ لَمَجْنُونٌ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. فَإِنْ قُلْتَ: أَلَمْ يَكُنْ لَأَسْجُنَنَّكَ أَخْصَرَ مِنْ لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وَمُؤَدِّيًا مُؤَدَّاهُ؟ قُلْتُ: أَمَّا أَخْصَرُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا مُؤَدِّيًا مُؤَدَّاهُ فَلَا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَأَجْعَلَنَّكَ وَاحِدًا مِمَّنْ عَرَفْتَ حَالَهُمْ فِي سُجُونِي. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ يُرِيدُ سَجْنَهُ فَيَطْرَحَهُ فِي هُوَّةٍ ذَاهِبَةٍ فِي الْأَرْضِ بَعِيدَةِ الْعُمْقِ فَرْدًا، لَا يُبْصِرُ فِيهَا وَلَا يَسْمَعُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ أَمْرِ فِرْعَوْنَ مَا لَا يَرُوعُهُ مَعَهُ تَوَعُّدُ فِرْعَوْنَ، قَالَ لَهُ عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ بِهِ وَالطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، أَيْ يُوَضِّحُ لَكَ صِدْقِي، أَفَكُنْتَ تَسْجُنُنِي؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو لو جِئْتُكَ، وَاوُ الْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، مَعْنَاهُ: أَتَفْعَلُ بِي ذَلِكَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْوَاوِ، وَالدَّاخِلَةُ عَلَى لَوْ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ «1» ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَاوُ الْعَطْفِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمَعْنَى: أَتَسْجُنُنِي حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ أَنْ أُسْجَنَ وَأَنَا مُتَلَبِّسٌ بِهَا؟. وَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا مِنْ مُوسَى طَمِعَ أن يجده مَوْضِعَ مُعَارِضَةٍ فَقَالَ لَهُ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، أَنَّ لَكَ رَبًّا بَعَثَكَ رَسُولًا إِلَيْنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْمُعْجِزَةِ إِلَّا الصَّادِقُ فِي دَعْوَاهُ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَصْدِيقٌ مِنَ اللَّهِ لِمُدَّعِي النُّبُوَّةِ، وَالْحَكِيمُ لَا يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ مِثْلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا، وَخَفِيَ عَلَى نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، حَيْثُ جَوَّزُوا الْقَبِيحَ عَلَى اللَّهِ حَتَّى لَزِمَهُمْ تَصْدِيقُ الْكَاذِبِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأْتِ بِهِ، حُذِفَ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْيَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاكَ أَتَيْتَ بِهِ. جَعَلَ الْجَوَابَ الْمَحْذُوفَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَلَا يُقَدَّرُ إِلَّا من جنس الدليل بقولهم: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، تَقْدِيرُهُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِنْ حَرْفُ شَرْطٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَجَازَ تَقْدِيمُ الْجَوَابِ، لِأَنَّ حَذْفَ الشَّرْطِ لَمْ يَعْمَلْ فِي اللَّفْظِ شَيْئًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ فَأْتِ بِهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: حَتَّى لَزِمَهُمْ تَصْدِيقُ الْكَاذِبِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ، إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى إِثْبَاتِهَا. وَالْمُعْجِزُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا كَانَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا لنبي أو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 170.

فِي زَمَانِ نَبِيٍّ، إِنْ جَرَى عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَتَكُونُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْهَاصِ لنبي. فَأَلْقى عَصاهُ: أي رَمَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثُّعْبَانُ: أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَمَعْنَى مُبِينٌ: ظَاهِرُ الثُّعْبَانِيَّةِ، لَيْسَتْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزَوَّرُ بِالشَّعْبَذَةِ وَالسِّحْرِ. وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَإِذا هِيَ تَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الشَّمْسِ. وَمَعْنَى لِلنَّاظِرِينَ: أَيْ بَيَاضُهَا يَجْتَمِعُ النَّظَّارَةُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَادَةِ، وَكَانَ بَيَاضًا نُورَانِيًّا. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَبْصَرَ أَمْرَ الْعَصَا قَالَ: فَهَلْ غَيْرُهَا؟ فَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: يَدُكَ، فَأَدْخَلَهَا فِي إِبِطِهِ ثُمَّ نَزَعَهَا وَلَهَا شُعَاعٌ يَكَادُ يُغْشِي الْأَبْصَارَ وَيَسُدُّ الْأُفُقَ. قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ، قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ، فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ، قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَانْتَصَبَ حَوْلَهُ عَلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَائِنِينَ حَوْلَهُ، فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْحَالُ حَقِيقَةً وَالنَّاصِبُ لَهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الْعَامِلُ فِي ذِي الْحَالِ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْجَرِّ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِهِنْدٍ ضَاحِكَةً. وَالْكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَ الْمَلَأَ مَوْصُولًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قَالَ لِلَّذِي حَوْلَهُ، فَلَا مَوْضِعَ لِلْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ صِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْعَامِلُ فِي حَوْلَهُ؟ قُلْتُ: هُوَ مَنْصُوبٌ نَصْبَيْنِ: نَصْبٌ فِي اللَّفْظِ، وَنَصْبٌ فِي الْمَحَلِّ. فَالْعَامِلُ فِي النَّصْبِ اللَّفْظِيِّ مَا يُقَدَّرُ فِي الظَّرْفِ، وَذَلِكَ اسْتَقَرُّوا حَوْلَهُ، وَهَذَا يُقَدَّرُ فِي جَمِيعِ الظُّرُوفِ، وَالْعَامِلُ فِي النَّصْبِ الْمَحَلِّيِّ، وَهُوَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَشَقْشَقَةُ كَلَامٍ فِي أَمْرٍ وَاضِحٍ مِنْ أَوَائِلِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.

وَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ أَمْرَ الْعَصَا وَالْيَدِ، وَمَا ظَهَرَ فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ، هَالَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مَدْفَعٌ فَزِعَ إِلَى رَمْيِهِ بِالسِّحْرِ. وَطَمِعَ لِغَلَبَةِ عِلْمِ السِّحْرِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ يُقَاوِمُهُ، أَوْ كَانَ عَلِمَ صِحَّةَ الْمُعْجِزَةِ. وَعَمَّى تِلْكَ الْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، بِرَمْيِهِ بِالسِّحْرِ، وَبِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، لِيَقْوَى تَنْفِيرُهُمْ عَنْهُ، وَابْتِغَاؤُهُمُ الْغَوَائِلَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَقْبَلُوا قَوْلَهُ إِذْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ عَلَى النُّفُوسِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّذِي نشأوا فِيهِ، ثُمَّ اسْتَأْمَرَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ مَعَهُ، وَذَلِكَ لِمَا حَلَّ بِهِ مِنَ التَّحَيُّرِ وَالدَّهَشِ وَانْحِطَاطِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ أُلُوهِيَّتِهِ إِلَى أَنْ صَارَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي أَمْرِهِ، فَيَأْمُرُونَهُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ فِيهِ، فَصَارَ مَأْمُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَ آمِرًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ في فَماذا تَأْمُرُونَ وَفِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَافَقَتْ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَلَمَّا قَالَ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، عَارَضُوا بِقَوْلِهِ: بِكُلِّ سَحَّارٍ، فَجَاءُوا بِكَلِمَةِ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْبِنَاءِ الَّذِي لِلْمُبَالَغَةِ، لِيُنَفِّسُوا عَنْهُ بَعْضَ مَا لَحِقَهُ مِنَ الْكَرْبِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: بِكُلِّ سَاحِرٍ. وَالْيَوْمُ الْمَعْلُومُ: يَوْمُ الزِّينَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ طه. وَقَوْلُهُ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، اسْتِبْطَاءٌ لَهُمْ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِعْجَالُهُمْ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغُلَامِهِ: هَلْ أَنْتَ مُنْطَلِقٌ؟ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَ مِنْهُ وَيَحُثَّهُ عَلَى الِانْطِلَاقِ، كَمَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ قَدِ انْطَلَقُوا وَهُوَ وَاقِفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: هَلْ أَنْتَ بَاعِثٌ دِينَارًا لِحَاجَتِنَا ... أو عند رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ يُرِيدُ: ابْعَثْهُ إِلَيْنَا سَرِيعًا وَلَا تُبْطِئُ بِهِ. وَتَرَجَّوُا اتِّبَاعَ السَّحَرَةِ، أَيْ فِي دِينِهِمْ، إِنْ غَلَبُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَتَّبِعُونَ مُوسَى فِي دِينِهِ. وَسَاقُوا الْكَلَامَ سِيَاقَ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اتَّبَعُوهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَخَلَتْ إِذَا هُنَا بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، وَهِيَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ. وبِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلْقَسَمِ، وَالَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ مَحْذُوفٌ، وَعَدَلُوا عَنِ الْخِطَابِ إِلَى اسْمِ الْغَيْبَةِ تَعْظِيمًا، كَمَا يُقَالُ لِلْمُلُوكِ: أَمَرُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِكَذَا، فَيُخْبِرُ عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ، وَهَذَا مِنْ نَوْعِ إِيمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ سَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِيمَانِ مَا هُوَ أَشْنَعُ مِنْ إِيمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَرْضَوْنَ بِالْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَلَا يَعْتَدُّونَ بِهِ حَتَّى يَحْلِفَ أَحَدُهُمْ بِنِعْمَةِ السُّلْطَانِ وَبِرَأْسِ الْمُحَلِّفِ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَوْثَقُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَسَمٌ قَالَ: وَالْأَجْرُ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ، إِذْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ كَمَا تَقُولُ إِذَا ابْتَدَأْتَ بِعَمَلِ شَيْءٍ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَنَحْوَ هَذَا. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قالَ لَهُمْ مُوسى، وَقَوْلُهُ: لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، كَلَامٌ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الْأَعْرَافِ مِنْ تَخْيِيرِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْبَدَاءَةِ مَنْ يُلْقِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَاعِلُ الْإِلْقَاءِ مَا هُوَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ؟

قُلْتُ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بِمَا خَوَّلَهُمْ مِنَ التَّوْفِيقِ وَإِيمَانِهِمْ، أَوْ بِمَا عَايَنُوا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَكَ أَنْ لَا تُقَدِّرَ فَاعِلًا، لِأَنَّ أَلْقَوْا بِمَعْنَى خَرُّوا وَسَقَطُوا. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ إِلَّا وَقَدْ حُذِفَ الْفَاعِلُ فَنَابَ ذَلِكَ عَنْهُ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يُقَدَّرُ فَاعِلٌ، فَقَوْلٌ ذَاهِبٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأَ الْبَزِّيُّ، وَابْنُ فُلَيْحٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِشَدِّ التَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَشَدِّ الْقَافِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذَا ابْتَدَأَ أَنْ يَحْذِفَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ، وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ، كَمَا لَا تَدْخُلُ عَلَى أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ. انْتَهَى. كَأَنَّهُ يُخَيَّلُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِالْكَلِمَةِ إِلَّا بِاجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الْوَصْلُ مُخَالِفًا لِلْوَقْفِ، وَالْوَقْفُ مُخَالِفًا لِلْوَصْلِ، وَمَنْ لَهُ تَمَرُّنٌ في القراآت عَرَفَ ذَلِكَ. قالُوا: لَا ضَيْرَ: أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِي وُقُوعِ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالتَّصْلِيبِ، بَلْ لَنَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ التَّامَّةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. يُقَالُ: ضَارَهُ يَضِيرُهُ ضَيْرًا، وَضَارَهُ يَضُورُهُ ضَوْرًا. إِنَّا إِلى رَبِّنا: أَيْ إِلَى عَظِيمِ ثَوَابِهِ، أَوْ: لَا ضَيْرَ عَلَيْنَا، إِذِ انْقِلَابُنَا إِلَى اللَّهِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَالْقَتْلُ أَهْوَنُ أَسْبَابِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا آمَنُوا بِأَجْمَعِهِمْ، لَمْ يَأْمَنْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَقُولَ قَوْمُهُ لَمْ تُؤْمِنِ السَّحَرَةُ عَلَى كَثْرَتِهِمْ إِلَّا عَنْ مَعْرِفَةٍ بِصِحَّةِ أَمْرِ مُوسَى فَيُؤْمِنُونَ، فَبَالَغَ فِي التَّنْفِيرِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ مُوهِمًا أَنَّ مُسَارَعَتَهُمْ لِلْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى مَيْلِهِمْ إِلَيْهِ قَبْلُ. وَبِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ، صَرَّحَ بِمَا رَمَزَهُ أَوَّلًا مِنْ مُوَاطَأَتِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ لِيَظْهَرَ أَمْرُ كَبِيرِهِمْ، وَبِقَوْلِهِ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، حَيْثُ أَوْعَدَهُمْ وَعِيدًا مُطْلَقًا، وَبِتَصْرِيحِهِ بِمَا هَدَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَأَجَابُوا بِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ وَقَعَ، لَنْ يُضِيرَ، وَفِي قولهم: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، نُكْتَةٌ شَرِيفَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا لَا رَغْبَةً وَلَا رَهْبَةً، إِنَّمَا قَصَدُوا مَحْضَ الْوُصُولِ إِلَى مِرْضَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَدْفَعُ هَذَا الْأَخِيرَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا نَطْمَعُ إِلَى آخِرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا من خَوْفِ تَبِعَاتِ الْخَطَايَا. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ الطَّمَعِ عَلَى بَابِهِ كَقَوْلِهِ: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ «1» . وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ الْيَقِينُ. قِيلَ: كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ «2» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ كُنَّا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِيهِ الْجَزْمُ بِإِيمَانِهِمْ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، وَأَبُو مُعَاذٍ: إِنْ كُنَّا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى الشَّرْطِ: وَجَازَ حَذْفُ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 84. (2) سورة الشعراء: 26/ 82.

الْفَاءِ مِنَ الْجَوَابِ، لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّا نَطْمَعُ، وَحَسُنَ الشَّرْطُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَحَقَّقُوا مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ قَبُولِ الْإِيمَانِ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبِي زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدِ، حَيْثُ يُجِيزُونَ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَجَوَابُ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِنْ الشَّرْطِ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ الْمَدْلُولُ بِأَمْرِهِ الْمُتَحَقِّقِ لِصِحَّتِهِ، وَهُمْ كَانُوا مُتَحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْعَامِلِ لِمَنْ يُؤَخِّرُ. جُعْلَهُ إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ فَوَفِّنِي حَقِّي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي «1» ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَعْنَى: أَنَّ طَمَعَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِهَذَا الشَّرْطِ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَجَازَ حَذْفُ اللَّامِ الْفَارِقَةِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَلَا يُحْتَمَلُ النَّفْيُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنَّا لَأَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْعَسَلَ» ، أَيْ لَيُحِبُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَنَحْنُ أُبَاةُ الضَّيْمِ مِنْ آلِ مالك ... وإن مالك كانت كِرَامَ الْمَعَادِنِ أَيْ: وَإِنَّ مَالِكَ لَكَانَتْ كِرَامَ الْمَعَادِنِ، وأول يَعْنِي أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْقِبْطِ، أَوْ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَاضِرِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانُوا أَوَّلَ جَمَاعَةٍ مُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ إِيمَانِ السَّحَرَةِ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ، فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ، فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَسْرِ، وأنه قرىء بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَبِقَطْعِهَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: أَنْ سِرْ، أَمْرٌ مِنْ سَارَ يَسِيرُ. أَمَرَ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ إِلَى تُجَاهِ الْبَحْرِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ سَيُتَّبَعُونَ. فَخَرَجَ سَحَرًا، جَاعِلًا طَرِيقَ الشَّامِ عَلَى يَسَارِهِ، وَتَوَجَّهَ نحو

_ (1) سورة الممتحنة: 60/ 1.

الْبَحْرِ، فَيُقَالُ لَهُ فِي تَرْكِ الطَّرِيقِ، فَيَقُولُ: هَكَذَا أُمِرْتُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ، عَلِمَ فِرْعَوْنُ بِسُرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى مَدَائِنِ مِصْرَ ليحلقه الْعَسَاكِرُ. وَذَكَرُوا أَعْدَادًا فِي أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ: أَيْ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ وَصَفَهُمْ بِالْقِلَّةِ، ثُمَّ جَمَعَ الْقَلِيلَ فَجَعَلَ كُلَّ حِزْبٍ قَلِيلًا، جَمْعَ السَّلَامَةِ الَّذِي هُوَ لِلْقِلَّةِ، وَقَدْ يُجْمَعُ الْقَلِيلُ عَلَى أَقِلَّةٍ وَقِلَلٍ، وَالظَّاهِرُ تَقْلِيلُ الْعَدَدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْقِلَّةِ: الذِّلَّةَ وَالْقَمَاءَةَ، وَلَا يُرِيدُ قِلَّةَ الْعَدَدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِقِلَّتِهِمْ لَا يُبَالِي بِهِمْ وَلَا تُتَوَقَّعُ غَفْلَتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ أَفْعَالًا تَغِيظُنَا وَتَضِيقُ صُدُورُنَا، وَنَحْنُ قَوْمٌ مِنْ عَادَتِنَا التَّيَقُّظُ وَالْحَذَرُ وَاسْتِعْمَالُ الْحَزْمِ فِي الْأُمُورِ، فَإِذَا خَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ سَارَعْنَا إِلَى حَسْمِ يَسَارِهِ، وَهَذِهِ مَعَاذِيرُ اعْتَذَرَ بِهَا إِلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ، لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ مَا يَكْسِرُ مِنْ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. انْتَهَى. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَقَرَأَ مَنْ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ: لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مَوْقُوفَةً. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى أَحَدٍ رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: لَغائِظُونَ: أَيْ بِخِلَافِهِمْ وَأَخْذِهِمُ الْأَمْوَالَ حِينَ اسْتَعَارُوهَا وَلَمْ يَرُدُّوهَا، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: حاذِرُونَ، بِالْأَلِفِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ أَخَذَ يَحْذَرُ وَيُجَدِّدُ حَذَرَهُ، وَحَذَرَ مُتَعَدٍّ. قَالَ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ «1» . وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: وَإِنِّيَ حَاذِرٌ أُنْمِي سِلَاحِي ... إِلَى أَوْصَالِ ذَيَّالٍ صَنِيعِ وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُوَ الْمُتَيَقِّظُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُؤَدُّونَ، أَيْ ذَوُو أَدَوَاتٍ وَسِلَاحٍ، أَيْ مُتَسَلِّحِينَ. وَقِيلَ: حَذِرُونَ فِي الْحَالِ، وَحَاذِرُونَ فِي الْمَآلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَاذِرُ: الْخَائِفُ مَا يَرَى، وَالْحَذِرُ: الْمَخْلُوقُ حَذَرًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَجُلٌ حَذِرٌ وَحَذُرٌ وَحَاذِرٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ حَذِرًا يَكُونُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَنَّهُ يَعْمَلُ كَمَا يَعْمَلُ حَاذِرٌ، فَيَنْصِبُ الْمَفْعُولَ بِهِ، وَأَنْشَدَ: حَذِرٌ أُمُورًا لَا تُضِيرُ وَآمِنٌ ... مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الْأَقْدَارِ وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَالْكِسَائِيِّ: رَجُلٌ حَذِرٌ، إِذَا كَانَ الْحَذَرُ فِي خِلْقَتِهِ، فَهُوَ مُتَيَقِّظٌ مُنْتَبِهٌ. وَقَرَأَ سُمَيْطُ بْنُ عَجْلَانَ، وَابْنُ أبي

_ (1) سورة الزمر: 39/ 9.

عَمَّارٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: حَادِرُونَ، بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَيْنٌ حَدِرَةٌ، أَيْ عَظِيمَةٌ، وَالْحَادِرُ: الْمُتَوَرِّمُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْمَعْنَى مُمْتَلِئُونَ غَيْظًا وَأَنَفَةً. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْحَادِرُ: السَّمِينُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ، يُقَالُ غُلَامٌ حَدِرٌ بَدِرٌ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: حَدِرَ الرَّجُلُ: قَوِيَ بَأْسُهُ، يُقَالُ: مِنْهُ رَجُلٌ حَدِرٌ بَدِرٌ، إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْبَأْسِ فِي الْحَرْبِ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ حَدُرٌ، بِضَمِّ الدَّالِ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلَ يَقُظٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أُحِبُّ الصَّبِيَّ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّهِ ... وَأُبْغِضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهُوَ حَادِرُ أَيْ سَمِينٌ قَوِيٌّ. وَقِيلَ: مُدَجَّجُونَ في السلام. فَأَخْرَجْناهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقِبْطُ. مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ: بِحَافَّتَيِ النِّيلِ مِنْ أَسْوَانَ إِلَى رَشِيدَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهَا عُيُونُ الْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ عُيُونُ الذَّهَبِ. وَكُنُوزٍ: هِيَ الْأَمْوَالُ الَّتِي خَرَّبُوهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهَا كُنُوزًا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ قَطُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْكُنُوزُ: الْأَنْهَارُ. قَالَ صَاحِبُ التَّحْبِيرِ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعُيُونَ تَشْمَلُهُمَا. وَقِيلَ: هِيَ كُنُوزُ الْمُقَطَّمِ وَمَطَالِبُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ. انْتَهَى. وَأَهْلُ مِصْرَ فِي زَمَانِنَا فِي غَايَةِ الطَّلَبِ لِهَذِهِ الْكُنُوزِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا مَدْفُونَةٌ فِي الْمُقَطَّمِ، فَيُنْفِقُونَ عَلَى حَفْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي الْمُقَطَّمِ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَيَبْلُغُونَ فِي الْعُمْقِ إِلَى أَقْصَى غَايَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ إِلَّا التُّرَابُ أَوْ حَجَرُ الْكَذَّانِ الَّذِي الْمُقَطَّمُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ، وَأَيُّ مَغْرِبِيٍّ يَرِدُ عَلَيْهِمْ سَأَلُوهُ عَنْ عِلْمِ الْمَطَالِبِ. فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَضَعُ فِي ذَلِكَ أَوْرَاقًا لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْمِصْرِيِّينَ بِالْبَاطِلِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَذْهَبُ مَالُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَفْتَقِرَ، وَهُوَ لَا يَزْدَادُ إِلَّا طَلَبًا لِذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَدْ أَقَمْتُ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ إِلَى حِينِ كِتَابَةِ هَذِهِ الْأَسْطُرِ، نَحْوًا مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا، فَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ حَصَلَ عَلَى شَيْءٍ غَيْرَ الْفَقْرِ وَكَذَلِكَ رَأْيُهُمْ فِي تَغْوِيرِ الْمَاءِ. يَزْعُمُونَ أَنَّ ثَمَّ آبَارًا، وَأَنَّهُ يُكْتَبُ أَسْمَاءٌ فِي شَقْفَةٍ، فَتُلْقَى فِي الْبِئْرِ، فَيَغُورُ الْمَاءُ وَيَنْزِلُ إِلَى بَابٍ فِي الْبِئْرِ، يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى قَاعَةٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَجَوْهَرًا وَيَاقُوتًا. فَهُمْ دَائِمًا يَسْأَلُونَ مَنْ يَرِدُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ عَمَّنْ يَحْفَظُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تُكْتَبُ فِي الشَّقْفَةِ، فَيَأْخُذُ شَيَاطِينُ الْمَغَارِبَةِ مِنْهُمْ مَالًا جَزِيلًا، وَيَسْتَأْكِلُونَهُمْ، وَلَا يَحْصُلُونَ عَلَى شَيْءٍ غَيْرَ ذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُمْ أَشْيَاءُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ، يَرْكَنُونَ إِلَيْهَا وَيَقُولُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ لِمَنْ يَعْقِلُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَقامٍ كَرِيمٍ. قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: هُوَ الْفَيُّومُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والضحاك: هُوَ الْمَنَابِرُ لِلْخُطَبَاءِ. وَقِيلَ: الْأَسِرَّةُ فِي الْكَلَلِ. وَقِيلَ: مَجَالِسُ الْأُمَرَاءِ

وَالْأَشْرَافِ وَالْحُكَّامِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْمَسَاكِنُ الْحِسَانُ. وَقِيلَ: مَرَابِطُ الْخَيْلِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ: وَمُقَامٍ، بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَقَامَ كَذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: النَّصْبَ عَلَى أَخْرَجْنَاهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَالْجَرَّ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَقَامٍ، أَيْ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. انْتَهَى. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ لَا يسوغ، لأنه يؤول إِلَى تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي، لِأَنَّ المقام الذي كان لهم هُوَ الْمَقَامُ الْكَرِيمُ، وَلَا يُشَبَّهُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ، أَنَّهُمْ مَلَكُوا دِيَارَ مِصْرَ بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّهُ اعْتَقَبَ قَوْلَهُ: وَأَوْرَثْناها: قوله: وفَأَخْرَجْناهُمْ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ قَالَ: كَمَا عَبَرُوا النَّهْرَ، رَجَعُوا وَوَرِثُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَقِيلَ: ذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ وَمَلَكُوا مِصْرَ زَمَنَ سُلَيْمَانَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَتْبَعُوهُمْ: أَيْ فَلَحِقُوهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالذِّمَارِيُّ: فَاتَّبَعُوهُمْ، بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَشَدِّ التَّاءِ. مُشْرِقِينَ: دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ، مِنْ شَرَقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا، إِذَا طَلَعَتْ، كَأَصْبَحَ: دَخَلَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، وَأَمْسَى: دَخَلَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَاتَّبَعُوهُمْ نَحْوَ الشَّرْقِ، كَأَنْجَدَ: إِذَا قَصَدَ نَحْوَ نَجْدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُشْرِقِينَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ. وَقِيلَ: مُشْرِقِينَ: أَيْ فِي ضِيَاءٍ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي ضَبَابٍ وَظُلْمَةٍ، تَحَيَّرُوا فِيهَا حَتَّى جَاوَزَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُشْرِقِينَ حَالًا من المفعول. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ: أَيْ رَأَى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ: أَيْ مُلْحَقُونَ، قَالُوا ذَلِكَ حِينَ رَأَوُا الْعَدُوَّ الْقَوِيَّ وَرَاءَهُمْ وَالْبَحْرَ أَمَامَهُمْ، وَسَاءَتْ ظُنُونُهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَابْنُ وَثَّابٍ: تَرَايَ الْجَمْعَانِ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، عَلَى مَذْهَبِ التَّخْفِيفِ بَيْنَ بَيْنَ، وَلَا يَصِحُّ الْقَلْبُ لِوُقُوعِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ أَلِفَيْنِ، إِحْدَاهُمَا أَلِفُ تَفَاعَلَ الزَّائِدَةُ بَعْدَ الْفَاءِ، وَالثَّانِيَةُ اللَّامُ الْمُعْتَلَّةُ مِنَ الْفِعْلِ. فَلَوْ خُفِّفَتْ بِالْقَلْبِ لَاجْتَمَعَ ثَلَاثُ أَلِفَاتٍ مُتَّسِقَةٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَبَدًا، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ حَمْزَةُ: تَرِيءَ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَمُدُّ ثُمَّ يَهْمِزُ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مفتوحا ممدود، أو الجمهور يقرؤونه مِثْلَ تَرَاعَى، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّهُ تَفَاعَلَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ هَذَا الْحَرْفَ مُحَالٌ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ وثاب والأعمش خَطَأٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ ابْنُ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ الْأَنْصَارِيُّ،

هُوَ ابْنُ الْبَاذِشِ، فِي كِتَابِ الْإِقْنَاعِ مِنْ تَأْلِيفِهِ: تَرَاءَى الْجَمْعَانِ فِي الشُّعَرَاءِ. إِذَا وَقَفَ عَلَيْهَا حَمْزَةُ والكسائي، أما لا الْأَلِفَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنْ لَامِ الْفِعْلِ، وَحَمْزَةُ يُمِيلُ أَلِفَ تَفَاعَلَ وَصْلًا وَوَقْفًا لِإِمَالَةِ الْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ فَفِي قِرَاءَتِهِ إِمَالَةُ الْإِمَالَةِ. وَفِي هَذَا الْفِعْلِ، وَفِي رَاءَى، إِذَا اسْتَقْبَلَهُ أَلِفُ وَصْلٍ لِمَنْ أَمَالَ لِلْإِمَالَةِ، حَذْفُ السَّبَبِ وَإِبْقَاءُ الْمُسَبَّبِ، كَمَا قَالُوا: صَعْقِيٌّ فِي النَّسَبِ إِلَى الصَّعْقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمُدْرَكُونَ، بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَالْأَعْرَجُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: بِفَتْحِ الدَّالِ مُشَدِّدَةً وَكَسْرِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ مُفْتَعِلُونَ، وَهُوَ لَازِمٌ، بِمَعْنَى الْفَنَاءِ وَالِاضْمِحْلَالِ. يُقَالُ: مِنْهُ ادَّرَكَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ، إِذَا فَنِيَ تَتَابُعًا، وَلِذَلِكَ كُسِرَتِ الرَّاءُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، نَصَّ عَلَى كَسْرِهَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّوَامِحِ) ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي (كَشَّافِهِ) وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَقَدْ يَكُونُ ادَّرَكَ عَلَى افْتَعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ مُتَعَدِّيًا، فَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مِنْ ذَلِكَ، لَوَجَبَ فَتْحُ الرَّاءِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمَا، يَعْنِي عَنِ الْأَعْرَجِ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى إِنَّا لَمُتَتَابِعُونَ فِي الْهَلَاكِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ: أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا ... أَرْجَى الْحَيَاةَ أَمْ مِنَ الْمَوْتِ أَجْزَعُ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ: زَجَرَهُمْ وَرَدَعَهُمْ بِحَرْفِ الرَّدْعِ وَهُوَ كَلَّا، وَالْمَعْنَى: لَنْ يُدْرِكُوكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْخَلَاصِ مِنْهُمْ، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ عَنْ قَرِيبٍ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ وَيُعَرِّفُنِيهِ. وَقِيلَ: سَيَكْفِينِي أَمْرَهُمْ. وَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى الْبَحْرِ، قَالَ لَهُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْ مُوسَى: أَيْنَ أُمِرْتَ، وَهَذَا الْبَحْرُ أمامك وقد غشيتك آلُ فِرْعَوْنَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِالْبَحْرِ، وَلَا يَدْرِي مُوسَى مَا يَصْنَعُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ عَنْ يُوشَعَ، قَالَهَا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَخَاضَ يُوشَعُ الْمَاءَ. وَضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ، فَصَارَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ. أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةً بِمُوسَى وَمُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ إِذْ ضَرْبُ الْبَحْرِ بِالْعَصَا لَا يُوجِبُ انْفِلَاقَ الْبَحْرِ بِذَاتِهِ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لَفَلَقَهُ دُونَ ضَرْبِهِ بِالْعَصَا، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مَكَانِ هَذَا الْبَحْرِ. فَانْفَلَقَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَزَعَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ ضَرْبٌ، وَفَاءُ انْفَلَقَ. وَالْفَاءُ فِي انْفَلَقَ هِيَ فَاءُ ضَرَبَ، فَأُبْقِيَ مِنْ كُلٍّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، أُبْقِيَتِ الْفَاءُ مِنْ فَضَرَبَ وَاتَّصَلَتْ بِانْفَلَقَ، لِيَدُلَّ عَلَى ضَرَبَ الْمَحْذُوفَةِ، وَأُبْقِيَ انْفَلَقَ لِيَدُلَّ عَلَى الْفَاءِ الْمَحْذُوفَةِ مِنْهُ. وَهَذَا قَوْلٌ شَبِيهٌ بِقَوْلِ صَاحِبِ

الْبِرْسَامِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى وَحْيٍ بسفر عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِذَا نَظَرْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ جُمَلًا كَثِيرَةً مَحْذُوفَةً، وَفِيهَا الْفَاءُ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ «1» ، أَيْ فَأَرْسَلُوهُ، فَقَالَ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، والفرق الجزء المنفصل. وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ الْعَظِيمُ الْمُنْطَادُ فِي السَّمَاءِ. وَحَكَى يَعْقُوبُ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ، أَنَّهُ قَرَأَ كُلُّ فَلْقٍ بِاللَّامِ عِوَضَ الرَّاءِ. وَأَزْلَفْنا: أَيْ قَرَّبْنَا، ثَمَّ: أَيْ هُنَاكَ، وَثَمَّ ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبُعْدِ. الْآخَرِينَ: أَيْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، أَيْ قَرَّبْنَاهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ قُرِّبُوا مِنْهُ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَرَّبْنَاهُمْ حَيْثُ انْفَلَقَ الْبَحْرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ قَرَّبْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَنْجُوَ أَحَدٌ، أَوْ قَرَّبْنَاهُمْ مِنَ الْبَحْرِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: وَزَلَّفْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ: وَأَزْلَقْنَا بِالْقَافِ عِوَضَ الْفَاءِ، أَيْ أَزَلَلْنَا، قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. قِيلَ: مَنْ قَرَأَ بِالْقَافِ صَارَ الْآخَرِينَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْعَامَّةِ يَعْنِي بِالْقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، فَالْآخَرُونَ هُمْ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ، أَيْ جَمَعْنَا شَمْلَهُمْ وَقَرَّبْنَاهُمْ بِالنَّجَاةِ. انْتَهَى، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَدَخَلَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ وَأَنْجَيْنَا. قِيلَ: دَخَلُوا الْبَحْرَ بِالطُّولِ، وَخَرَجُوا في الصفة الَّتِي دَخَلُوا مِنْهَا بَعْدَ مَسَافَةٍ، وَكَانَ بَيْنَ مَوْضِعِ الدُّخُولِ وَمَوْضِعِ الْخُرُوجِ أَوْعَارٌ وَجِبَالٌ لَا تُسْلَكُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً: أَيْ لَعَلَامَةً وَاضِحَةً عَايَنَهَا النَّاسُ وَشَاعَ أَمْرُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: أَيْ مَا تَنَبَّهَ أَكْثَرُهُمْ عَلَيْهَا وَلَا آمَنُوا. وَبَنُو إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ مُوسَى الْمَخْصُوصِينَ بِالْإِنْجَاءِ، قَدْ سَأَلُوهُ بَقَرَةً يَعْبُدُونَهَا، وَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ، وَطَلَبُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: أَيْ أَكْثَرُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُمُ الْقِبْطُ، إِذْ قَدْ آمَنَ السَّحَرَةُ، وَآمَنَتْ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَعَجُوزٌ اسْمُهَا مَرْيَمُ، دَلَّتْ مُوسَى عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتَخْرَجُوهُ وَحَمَلُوهُ مَعَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ، قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ، قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 45- 46.

يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ، فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. لَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ لَهَا خُصُوصِيَّةٌ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمْ قَصَصَهُ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ. وَلَمْ يَأْتِ فِي قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتِلَاوَةِ قِصَّةٍ إِلَّا فِي هَذِهِ، وَإِذِ: الْعَامِلُ فِيهِ. قَالَ الْحَوْفَيُّ: اتْلُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مَا قَالَ إِلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَجَعْلِهِ بَدَلًا مِنْ نَبَأَ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ وَاحِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِي إِذْ نَبَأَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَقَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: عَلَى أَبِيهِ، أَيْ وَقَوْمِ أَبِيهِ، كَمَا قَالَ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» . وَمَا: اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّحْقِيرِ وَالتَّقْرِيرِ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ، وَلَكِنْ سَأَلَهُمْ لِيُرِيَهُمْ أَنَّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى جَوَابِهِمْ مِنْ أَوْصَافِ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي هِيَ مُنَافِيَةٌ لِلْعِبَادَةِ. وَلِمَا سَأَلَهُمْ عَنِ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذِكْرِهِ فَقَطْ، بَلْ أَجَابُوا بِالْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ تَمَامِ صِفَتِهِمْ مَعَ مَعْبُودِهِمْ، فَقَالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ: عَلَى سَبِيلِ الِابْتِهَاجِ وَالِافْتِخَارِ، فَأَتَوْا بِقِصَّتِهِمْ مَعَهُمْ كَامِلَةً، وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنْ يُجِيبُوا بِقَوْلِهِمْ: أَصْنَامًا، كَمَا جَاءَ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً «2» ، وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «3» ، وَلِذَلِكَ عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ قَوْلَهُمْ: فَنَظَلُّ. قَالَ: كَمَا تَقُولُ لِرَئِيسٍ: مَا تَلْبَسُ؟ فَقَالَ: أَلْبَسُ مُطْرَفَ الْخَزِّ فَأَجُرُّ ذُيُولَهُ، يُرِيدُ الْجَوَابَ: وَحَالُهُ مَعَ مَلْبُوسِهِ. وقالوا: فنظل، لأنهم كانو يَعْبُدُونَهُمْ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. وَلَمَّا أَجَابُوا إِبْرَاهِيمَ، أَخَذَ يُوقِفَهُمْ عَلَى قِلَّةِ عُقُولِهِمْ، بِاسْتِفْهَامِهِ عَنْ أَوْصَافٍ مَسْلُوبَةٍ عَنْهُمْ لَا يَكُونُ ثُبُوتُهَا إلا لله تعالى.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 74. (2) سورة النحل: 16/ 30. (3) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 219.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْمَعُونَكُمْ، مِنْ سَمِعَ وَسَمِعَ إِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَسْمُوعٍ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ، نَحْوُ: سَمِعْتُ كَلَامَ زِيدٍ، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى غَيْرِ مسموع، فمذهب الْفَارِسِيُّ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَشَرْطُ الثَّانِي مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُسْمَعُ، نَحْوَ: سَمِعْتُ زَيْدًا يَقْرَأُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ الْفِعْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَهُنَا لَمْ تَدْخُلْ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ، فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ، تَدْعُونَ؟ وَقِيلَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ بِمَعْنَى: يُجِيبُونَكُمْ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَسْمَعَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْجَوَابَ، أَوِ الْكَلَامَ. وَإِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى، فَإِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ فِيهِ فَيَكُونَ بِمَعْنَى إِذَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي الْمُضَارِعِ فَيَكُونَ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَلْ سَمِعُوكُمْ إِذْ دَعَوْتُمْ؟ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ مِنْ قَرَائِنِ صَرْفِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي إِضَافَةَ إِذْ إِلَى جُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِالْمُضَارِعِ، وَمَثَّلُوا بِقَوْلِهِ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ «1» ، أَيْ وَإِذْ قُلْتَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَاءَ مُضَارِعًا مَعَ إِيقَاعِهِ فِي إِذْ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَدَّعُونَهَا فِيهَا، وَقُولُوا: هَلْ سَمِعُوا، أَوِ أَسْمَعُوا قَطُّ؟ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّبْكِيتِ. انتهى. وقرىء: بِإِظْهَارِ ذَالِ إِذْ وَبِإِدْغَامِهَا فِي تَاءِ تَدْعُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ فِيهِ قِيَاسٌ مُذَكَّرٌ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِهِ، إِذْ ددعون. فَالَّذِي مَنَعَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اتِّصَالُ الدَّالِ الْأَصْلِيَّةِ فِي الْفِعْلِ، فَكَثْرَةُ الْمُتَمَاثِلَاتِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ قِيَاسٌ مُذَكَّرٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِبْدَالَ، وَهُوَ إِبْدَالُ التَّاءِ دَالًا، لَا يَكُونُ إِلَّا فِي افْتَعَلَ، مِمَّا فَاؤُهُ ذَالٌ أَوْ زَايٌ أَوْ دَالٌ، نَحْوَ: اذْدَكَرَ، وَازْدَجَرَ، وَادَّهَنَ، أَصْلُهُ: اذْتَكَرَ، وَازْتَجَرَ، وَادْتَهَنَ أَوْ جِيمٌ شذوذ، قالوا: أجد مع فِي اجْتَمَعَ، وَمِنْ تَاءِ الضَّمِيرِ بَعْدَ الزَّايِ وَالدَّالِ، وَمَثَّلُوا بِتَاءِ الضَّمِيرِ لِلْمُتَكَلِّمِ فَقَالُوا فِي فُزْتُ: فُزْدُ، وَفِي جَلَدْتُ: جَلَدُّ، وَمِنْ تَاءِ تُولِجُ شُذُوذًا قَالُوا: دُولِجُ، وَتَاءُ الْمُضَارَعَةِ لَيْسَتْ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَا تُبْدَلُ تَاؤُهُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي مَنَعَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى آخِرِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ إِبْدَالُ تَاءِ، الْمُضَارَعَةِ دَالًا وَإِدْغَامُ الذَّالِ فيها، فكنت تقول: إذ تخرج: ادَّخْرَجَ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، بَلْ إِذَا أُدْغِمَ مِثْلُ هَذَا أُبْدِلَ مِنَ الذَّالِ تَاءٌ وَأُدْغِمَ فِي التَّاءِ، فَتَقُولُ: اتَّخْرَجَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بِتَقَرُّبِكُمْ إِلَيْهِمْ وَدُعَائِكُمْ إِيَّاهُمْ. أَوْ يَضُرُّونَ بِتَرْكِ عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُمْ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَعُوا وَلَمْ يَضُرُّوا، فَمَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمْ لَهَا؟ قالُوا بَلْ وَجَدْنا هَذِهِ حَيْدَةٌ عن جواب

_ (1) سورة المنافقون: 63/ 4. [.....]

الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: يَسْمَعُونَنَا وَيَنْفَعُونَنَا وَيَضُرُّونَنَا، فَضَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكَذِبِ الَّذِي لَا يُمْتَرَى فِيهِ، وَلَوْ قَالُوا: يَسْمَعُونَنَا وَلَا يَضُرُّونَنَا، أَسْجَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْخَطَأِ الْمَحْضِ، فعدلوا إلى التقليد البحث لِآبَائِهِمْ فِي عِبَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيفعلون، أَيْ يَفْعَلُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ تِلْكَ الْأَصْنَامَ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ، وَهُوَ عِبَادَتُهُمْ وَالْحَيْدَةُ عَنِ الْجَوَابِ مِنْ عَلَامَاتِ انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ. وَبَلْ هُنَا إِضْرَابٌ عَنْ جَوَابِهِ لَمَّا سَأَلَ وَأَخَذَ فِي شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْهُ انْقِطَاعًا وَإِقْرَارًا بِالْعَجْزِ. وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ: وَصَفَهُمْ بالأقدمين دلالة على ما تَقَادُمِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فِيهِمْ، وَإِذْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوهَا فِي زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَزَمَانِ مَنْ بَعْدَهُ؟ وَعَدُوٌّ: يَكُونُ لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، كَمَا قَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، قِيلَ: شُبِّهَ بِالْمَصْدَرِ، كَالْقَبُولِ وَالْوَلُوعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ: عَدُوٌّ لِي، تَصَوُّرًا لِلْمَسْأَلَةِ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى: أَيْ فَكَّرْتُ فِي أَمْرِي، فَرَأَيْتُ عِبَادَتِي لَهَا عِبَادَةً لِلْعَدُوِّ، فَاجْتَنَبْتُهَا وَآثَرْتُ عِبَادَةً مَنِ الْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْهُ، وَأَرَاهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهَا نَصِيحَةٌ نَصَحَ بِهَا نَفْسَهُ أَوَّلًا، وَبَنَى عَلَيْهَا تَدْبِيرَ أَمْرِهِ، لِيَنْظُرُوا وَيَقُولُوا: مَا نَصَحَنَا إِبْرَاهِيمُ إِلَّا بِمَا نَصَحَ بِهِ نَفْسَهُ، وَمَا أَرَادَ لَنَا إِلَّا مَا أَرَادَ لِرُوحِهِ، لِيَكُونَ أَدْنَى لَهُمْ إِلَى الْقَبُولِ، وَأَبْعَثَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ: فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لَكُمْ، لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي بَابٍ مِنَ التَّعْرِيضِ، وَقَدْ يُبْلِغُ التَّعْرِيضُ لِلْمَنْصُوحِ. مَا لَا يُبْلِغُ التَّصْرِيحُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَأَمَّلُ فِيهِ، فَرُبَّمَا قَادَهُ التَّأْمِيلُ إِلَى التَّقَبُّلِ. وَمِنْهُ مَا يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا وَاجَهَهُ بِشَيْءٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ بِحَيْثُ أَنْتَ لَاحْتَجْتُ إِلَى أَدَبٍ وَسَمِعَ رَجُلٌ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنِ الْحِجْرِ فَقَالَ: مَا هُوَ بَيْتِي وَلَا بَيْتُكُمْ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ تَكْثِيرٌ عَلَى عَادَتِهِ، وَذَهَابُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي، مِنَ الْمَقْلُوبِ وَالْأَصْلُ: فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُعَادِي لِكَوْنِهَا جَمَادًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَادَاهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، فَهَذَا مَعْنَى الْعَدَاوَةِ، وَلِأَنَّ الْمُغْرِيَ عَلَى عَدَاوَتِهَا عَدُوُّ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى يُحْيِي مَا عَبَدُوهُ مِنَ الْأَصْنَامِ حَتَّى يبترؤوا مِنْ عَبَدَتِهِمْ وَيُوَبِّخُوهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ، أَيْ: فَإِنَّ عُبَّادَهُمْ عَدُوٌّ لِي. وَالظَّاهِرُ إِقْرَارُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: تَقْدِيرُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي، وَإِلَّا: بِمَعْنَى دُونَ وَسِوَى. انْتَهَى. فَجَعَلَهُ مُسْتَثْنًى مِمَّا بَعْدَ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِصِحَّةِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي. وَجَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمِ الْفَرَّاءُ،

وَاتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنَّهُمُ الْأَصْنَامُ. وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْأَصْنَامَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَأَجَازُوا فِي الَّذِي خَلَقَنِي النَّصْبَ عَلَى الصِّفَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ بِإِضْمَارِ، أَعْنِي: وَالرَّفْعُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الَّذِي. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي خَلَقَنِي رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ، فَهُوَ يَهْدِينِ: ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ الَّذِي، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ الَّذِي هُنَا فِيهِ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ خَاصٌّ، وَلَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ الْعُمُومُ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَأَيْضًا لَيْسَ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ خَلَقَ لَا يُمْكِنُ فِيهِ تَحَدُّدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَتَابَعَ أَبُو الْبَقَاءِ الْحَوْفِيُّ فِي إِعْرَابِهِ هَذَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فِي نَحْوِ: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ الَّذِي خَلَقَنِي بِقُدْرَتِهِ فَهُوَ يَهْدِينِ إِلَى طَاعَتِهِ. وَقِيلَ: إِلَى جَنَّتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ يَهْدِينِ، يُرِيدُ أَنَّهُ حِينَ أَتَمَّ خَلْقَهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَقَّبَ هِدَايَتَهُ الْمُتَّصِلَةَ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ إِلَى مَا يُصْلِحُهُ وَيُعِينُهُ، وَإِلَّا فَمَنْ هَدَاهُ إِلَى أَنْ يَغْتَذِيَ بِالدَّمِ فِي الْبَطْنِ امْتِصَاصًا؟ وَمَنْ هَدَاهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الثَّدْيِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ؟ وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَكَانِهِ؟ وَمَنْ هَدَاهُ لِكَيْفِيَّةِ الِارْتِضَاعِ؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ هِدَايَاتِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ: الطَّعَامُ الْمَعْرُوفُ الْمَعْهُودُ، وَالسَّقْيُ الْمَعْهُودُ، وَفِيهِ تَعْدِيدُ نِعْمَةِ الرِّزْقِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: يُطْعِمُنِي بِلَا طَعَامٍ، وَيَسْقِينِي بِلَا شَرَابٍ، كَمَا جَاءَ إِنِّي أَبَيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدٌ لَمْ يُؤَكِّدْ فِيهِ بِهُوَ، فَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ الَّذِي هُوَ خَلَقَنِي، وَلَمَّا كَانَتِ الْهِدَايَةُ قَدْ يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهَا. وَالْإِطْعَامُ وَالسَّقْيُ كَذَلِكَ أَكَّدَ بِهُوَ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي، وَذَكَرَ بَعْدَ نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ مَا تَدُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَيَسْتَمِرُّ بِهِ نِظَامُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْغِذَاءُ وَالشُّرْبِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَلَبَةِ إِحْدَى الْكَيْفِيَّاتِ عَلَى الْأُخْرَى بِزِيَادَةِ الْغِذَاءِ أَوْ نُقْصَانِهِ، فَيَحْدُثُ بِذَلِكَ مَرَضٌ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ، بِإِزَالَةِ مَا حَدَثَ مِنَ السَّقَمِ، وَأَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَّدَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَالشِّفَاءُ مَحْبُوبٌ وَالْمَرَضُ مَكْرُوهٌ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ مِنْهَا، لَمْ يُضِفْهُ إِلَى اللَّهِ. وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ: وَإِذَا مَرِضْتُ بِالذُّنُوبِ شَفَانِي بِالتَّوْبَةِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ: مَرِضْتُ دُونَ أَمْرَضَنِي، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرَضِ يَحْدُثُ بِتَفْرِيطٍ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي مَطَاعِمِهِ وَمَشَارِبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحُكَمَاءُ: لَوْ قِيلَ لَأَكْثَرِ الْمَوْتَى: مَا سَبَبُ آجَالِكُمْ؟ لَقَالُوا: الْتُخَمُ، وَلَمَّا كَانَ الشِّفَاءُ قَدْ يُعْزَى إِلَى الطيب، وَإِلَى الدَّوَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا قَالَ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «1» ، أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ يَشْفِينِ: أَيِ الَّذِي هُوَ يَهْدِينِ وَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ. وَلَمَّا كَانَتِ الْإِمَاتَةُ بَعْدَ الْبَعْثِ، لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهَا إِلَّا إِلَى اللَّهِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْكِيدٍ وَدَعْوَى نُمْرُوذَ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ هِيَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَخْرَفَةِ وَالْقِحَةِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ فِي: وَالَّذِي أَطْمَعُ. وَأَثْبَتَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ فِي يَهْدِينِي وَمَا بَعْدَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ. وَالطَّمَعُ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّجَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَازِمًا بِالْمَغْفِرَةِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَجْزِمِ الْقَوْلَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِأُمَمِهِمْ، وَلِيَكُونَ لُطْفًا بِهِمْ فِي اجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَالْحَذَرِ مِنْهَا، وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِمَّا يَفْرُطُ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ قَالَ: لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ، وَنَطَقَ بِكَلِمَةٍ لَا أَذْكُرُهَا، وَبَعْدَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَرَادَ بِهِ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَطْمَعُونَ وَلَا يَقْطَعُونَ. وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ بِأَنْ جَعَلَ كَلَامَ الْوَاحِدِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، مِمَّا يُبْطِلُ نَظْمَ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِالطَّمَعِ الْيَقِينُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا، حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَإِنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْقَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسَهُ عَلَى الطَّمَعِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ خَوْفِهِ مَعَ مَنْزِلَتِهِ وَخَلَّتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَطِيئَتِي عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْحَسَنُ: خَطَايَايَ عَلَى الْجَمْعِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ «2» ، وبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «3» ، وهي أُخْتِي فِي سَارَّةَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ بِالْخَطِيئَةِ اسْمَ الْجِنْسِ، قَدَّرَهَا فِي كُلِّ أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي، لِأَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَ قَدْ خَرَّجَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَعَارِيضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ مَا يَنْدُرُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ مُخْتَارُونَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَهِيَ قَوْلُهُ وَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ وَمَا هِيَ إِلَّا مَعَارِيضُ، كَلَامٌ وَتَخَيُّلَاتٌ لِلْكَفَرَةِ، وَلَيْسَتْ بِخَطَايَا يُطْلَبُ لَهَا الِاسْتِغْفَارُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا لَمْ يندر منهم

_ (1) سورة النحل: 16/ 69. (2) سورة الصافات: 39/ 87. (3) سورة الأنبياء: 21/ 63.

إِلَّا الصَّغَائِرُ، وَهِيَ تَقَعُ مُكَفَّرَةً، فَمَا لَهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ خَطِيئَةً أَوْ خَطَايَا، وَطَمِعَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ؟ قُلْتُ: الْجَوَابُ مَا سَبَقَ، أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاضُعٌ مِنْهُمْ لِرَبِّهِمْ وَهَضْمٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَطْمَعُ، وَلَمْ يَجْزِمِ الْقَوْلَ. انْتَهَى. ويَوْمَ الدِّينِ: ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يَغْفِرُ، وَالْغُفْرَانُ، وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَأَثَرُهُ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَضَعَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ حَمْلَ الْخَطِيئَةِ عَلَى تِلْكَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ نِسْبَةَ مَا لَا يُطَابِقُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَحَمَلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ طَابَقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ رَجَعَ حَاصِلُ الْجَوَابِ إِلَى إِلْحَاقِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ، لِأَجْلِ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. قَالَ: وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، وَقَدْ يُسَمَّى خَطَأً. فَإِنَّ مَنْ بَاعَ جَوْهَرَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِدِينَارٍ، قِيلَ: أَخْطَأَ، وَتَرْكُ الْأَوْلَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ جَائِزٌ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَتَبْدِيلِ أَلْفَاظٍ لِلْأَدَبِ بِمَا يُنَاسِبُ مَقَامَ النُّبُوَّةِ. وَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَهُ بِالْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ بَيْنَ يَدَيْ طَلِبَتِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ تَعَالَى فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ وَالنُّبُوَّةُ، لأنها حاصلة تلو طَلَبَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ذُو حِكْمَةٍ وَذُو حُكْمٍ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ بِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ، فَلَوْ طَلَبَ النُّبُوَّةَ لَكَانَتْ مَطْلُوبَةً، إِمَّا عَيْنُ الْحَاصِلَةِ أَوْ غَيْرُهَا. وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَالثَّانِي مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ نَبِيًّا مَرَّتَيْنِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ مَا هُوَ كَمَالُ النُّبُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ فَسَّرَ الْحُكْمَ بِالْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ، قَالَ: وَدُعَاؤُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ فِي التَّثَبُّتِ وَالدَّوَامِ. وَإِلْحَاقُهُ بِالصَّالِحِينَ: تَوْفِيقُهُ لِعَمَلٍ يَنْتَظِمُهُ فِي جُمْلَتِهِمْ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَجَابَهُ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «1» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَإِنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَهُ: هَبْ لِي حُكْماً عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، لِأَنَّ الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَعَكْسُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ الرُّوحِ، وَالْعَمَلَ صِفَةُ الْبَدَنِ، وَكَمَا أَنَّ الرُّوحَ أَشْرَفُ مِنَ الْبَدَنِ، كَذَلِكَ الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِصْلَاحِ. انْتَهَى. وَلِسَانُ الصِّدْقِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ الثَّنَاءُ وَتَخْلِيدُ الْمَكَانَةِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَكَذَلِكَ أَجَابَ اللَّهُ دعوته، فكل

_ (1) سورة البقرة: 2/ 130.

مِلَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ، وَهُوَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَقِيلَ مَعْنَى سُؤَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ، فَأُجِيبَتِ الدَّعْوَةُ فِي مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا بِتَحَكُّمٍ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى. وَلَمَّا طَلَبَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا، طَلَبَ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، وَهِيَ جَنَّةُ النَّعِيمِ، وَشَبَّهَهَا بِمَا يُوَرَّثُ، لِأَنَّهُ الَّذِي يُقَسَّمُ فِي الدُّنْيَا شَبَّهَ غَنِيمَةَ الدُّنْيَا بِغَنِيمَةِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «1» . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِنَفْسِهِ، طَلَبَ لِأَشَدِّ النَّاسِ الْتِصَاقًا بِهِ، وَهُوَ أَصْلُهُ الَّذِي كَانَ نَاشِئًا عَنْهُ، وَهُوَ أَبُوهُ، فَقَالَ: وَاغْفِرْ لِأَبِي، وَطَلَبُهُ الْمَغْفِرَةَ مَشْرُوطٌ بِالْإِسْلَامِ، وَطَلَبُ الْمَشْرُوطِ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الشَّرْطِ، فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ دَعَا بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَ وَعْدُهُ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ «2» ، أَيِ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَقِيلَ: كَانَ قَالَ لَهُ إِنَّهُ عَلَى دِينِهِ بَاطِنًا وَعَلَى دِينِ نُمْرُوذَ ظَاهِرًا، تَقِيَّةً وَخَوْفًا، فَدَعَا لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي دُعَائِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. فَلَوْلَا اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِضَالٍّ مَا قَالَ ذَلِكَ. وَلا تُخْزِنِي: إِمَّا مِنَ الْخِزْيِ، وَهُوَ الْهَوَانُ، وَإِمَّا مِنَ الْخِزَايَةِ، وَهِيَ الْحَيَاءُ. وَالضَّمِيرُ فِي يُبْعَثُونَ ضَمِيرُ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، أَوْ ضَمِيرُ الضَّالِّينَ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: يَوْمَ يُبْعَثُ الضَّالُّونَ. وَأَتَى فِيهِمْ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بَدَلٌ مِنْ: يَوْمَ يُبْعَثُونَ. مالٌ وَلا بَنُونَ: أَيْ كَمَا يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا يَفْدِيهِ مَالُهُ وَيَذُبُّ عَنْهُ بَنُوهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَنِينَ جَمِيعُ الْأَعْوَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَوْمَ لَا يَنْفَعُ إِعْلَاقٌ بِالدُّنْيَا وَمَحَاسِنِهَا، فَقَصَدَ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرَ الْعَظِيمَ وَالْأَكْثَرَ، لِأَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ هِيَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَنْفَعُهُ سَلَامَةُ قَلْبِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا، وَلَا بُدَّ لَكَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَهُوَ الْحَالُ الْمُرَادُ بِهَا السَّلَامَةُ، وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ والبنين حتى يؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ لَا يَنْفَعَانِ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرِ الْمُضَافُ لَمْ يَتَحَصَّلْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى. انْتَهَى. وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَمَا ذُكِرَ، إِذْ قَدَّرْنَاهُ، لَكِنْ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الزمخشري في أول توجيهه مُتَّصِلًا بِتَأْوِيلٍ قَالَ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ: إِلَّا حَالَ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَهُوَ مِنْ قوله:

_ (1) سورة مريم: 19/ 63. (2) سورة التوبة: 9/ 114.

تحية بينهم ضرب وجيع وما ثوابه إلى السَّيْفُ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ: هَلْ لِزَيْدٍ مَالٌ وَبَنُونَ؟ فَيَقُولُ: مَالُهُ وَبَنُوهُ سَلَامَةُ قَلْبِهِ، تُرِيدُ نَفْيَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَنْهُ، وَإِثْبَاتَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لَهُ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ حَمَلْتَ الْكَلَامَ عَلَى الْمَعْنَى، وَجَعَلْتَ الْمَالَ وَالْبَنِينَ فِي مَعْنَى الْغِنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ غِنًى إِلَّا غِنَى مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، لِأَنَّ غِنَى الرَّجُلِ فِي دِينِهِ بِسَلَامَةِ قَلْبِهِ، كَمَا أَنَّ غِنَاهُ فِي دُنْيَاهُ بِمَالِهِ وَبَنِيهِ. انْتَهَى. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا، فَمَنْ مَفْعُولٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ مَالُهُ الْمَصْرُوفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَبَنُوهُ الصُّلَحَاءُ، إِذْ كَانَ أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَرْشَدَ بَنِيهِ إِلَى الدِّينِ، وَعَلَّمَهُمُ الشَّرَائِعَ وَسَلَامَةَ الْقَلْبِ، خُلُوصَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَعِلَقِ الدُّنْيَا الْمَتْرُوكَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً كَالْمَالِ وَالْبَنِينَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ الَّذِي يَلْقَى رَبَّهُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي عُمُومَهُ اللَّفْظُ، وَلَكِنَّ السَّلِيمَ مِنَ الشِّرْكِ هُوَ الْأَعَمُّ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: بِقَلْبٍ لَدِيغٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَالسَّلِيمُ: اللَّدِيغُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ وَصَدَقَ. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ: قُرِّبَتْ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهَا وَيَغْتَبِطُوا بِحَشْرِهِمْ إِلَيْهَا. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ: أُظْهِرَتْ وَكُشِفَتْ بِحَيْثُ كَانَتْ بِمَرْأًى مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ. هَلْ يَنْفَعُونَكُمْ بِنَصْرِهِمْ إِيَّاكُمْ، أَوْ يَنْتَصِرُونَ هُمْ فَيَنْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحِمَايَتِهَا، إِذْ هُمْ وَأَنْتُمْ وَقُودُ النَّارِ؟ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَبُرِّزَتْ بِالْفَاءِ، جَعَلَ تَبْرِيزَ الْجَحِيمِ بَعْدَ تَقْرِيبِ الْجَنَّةِ يَعْقُبُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُهُورُهُ قَبْلَ الْآخَرِ، وَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّحْمَةِ عَلَى العذاب، وهو حسن، لولا أَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: وَبُرِّزَتِ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ الْجَحِيمُ بِالرَّفْعِ، بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا اتِّسَاعًا. وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ وَقَرَّعَهُمْ، أَخْبَرَ عَنْ حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجِيءَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي فِي أَتَى وَأُزْلِفَتْ وَبُرِّزَتْ. وَقِيلَ: فَكُبْكِبُوا، لِتَحَقُّقِ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ. وَالضَّمِيرُ فِي: فَكُبْكِبُوا عَائِدٌ عَلَى الْأَصْنَامِ، أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَكُبْكِبُوا: قُذِفُوا فِيهَا. وَقِيلَ: جُمِعُوا. وَقِيلَ: هُدِرُوا. وَقِيلَ: نكسوا على رؤوسهم يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَقِيلَ: أُلْقُوا فِي جَهَنَّمَ يَنْكَبُّونَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَسْتَقِرُّوا فِي قَعْرِهَا. وَالْغاوُونَ: هُمُ الْكَفَرَةُ الَّذِينَ

_ (1) سورة الملك: 67/ 27.

شَمِلَتْهُمُ الْغَوَايَةُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالْغَاوُونَ: الشَّيَاطِينُ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ: قَبِيلَةٌ، وَكُلُّ مَنْ تَبِعَهُ فَهُوَ جُنْدٌ لَهُ وَعَوْنٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَالْغَاوُونَ: سَائِرُ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: هُمُ الْقَادَةُ وَالسَّفِلَةُ، قَالُوا: أَيْ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ حَالٌ، وَالْمَقُولُ جُمْلَةُ الْقَسَمِ وَمُتَعَلَّقُهُ، وَالْخِطَابُ فِي نُسَوِّيكُمْ لِلْأَصْنَامِ عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ إِنْ كُنَّا إِلَّا ضَالِّينَ فِي أَنْ نَعْبُدَكُمْ وَنَجْعَلَكُمْ سَوَاءً مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنَّا إِلَّا ضَالِّينَ، إِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إِنْ هُنَا نَافِيَةٌ، وَاللَّامَ فِي لَفِي بِمَعْنَى إِلَّا، فَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَنَّ اللَّامَ هِيَ الدَّاخِلَةُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ وَإِنِ الَّتِي هِيَ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ: أَيْ أَصْحَابُ الْجَرَائِمِ وَالْمَعَاصِي الْعِظَامِ وَالْجُرْأَةِ، وَهُمْ سَادَاتُهُمْ ذَوُو الْمَكَانَةِ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِتْبَاعِ كَقَوْلِهِمْ: أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «1» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُجْرِمُونَ: الشَّيَاطِينُ، وَقِيلَ: مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ وَأَنْوَاعَ الْمَعَاصِي. وَحِينَ رَأَوْا شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ نَافِعَةً فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَشَفَاعَةَ الصَّدِيقِ فِي صَدِيقِهِ خَاصَّةً، قَالُوا عَلَى جِهَةِ التَّلَهُّفِ وَالتَّأَسُّفِ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: شَافِعِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَصَدِيقٍ مِنَ النَّاسِ. وَلَفْظَةُ الشَّفِيعِ تَقْتَضِي رِفْعَةَ مَكَانَةٍ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ، وَلَفْظَةُ الصَّدِيقِ تَقْتَضِي شِدَّةَ مُسَاهَمَةٍ وَنُصْرَةٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ صَدَقَ الْوِدَّ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ وَنَفْيُ الشُّفَعَاءِ. وَالصَّدِيقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِوُجُودِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَهُمْ مَوْجُودُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَتَتَصَادَقُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ، أَوْ ذَلِكَ عَلَى حَسْبِ اعْتِقَادِهِمْ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ لَهُمْ أَصْدِقَاءَ مِنَ الْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ، فَقَصَدُوا بِنَفْيِهِمْ نَفْيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ النَّفْعِ، لِأَنَّ مَا لَا يَنْفَعُ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَعْدُومِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: فَمَا لَنَا مَنْ نَفْعِ مَنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ وَأَصْدِقَاءُ، وَجَمَعَ الشُّفَعَاءَ لِكَثْرَتِهِمْ فِي الْعَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَشْفَعُ فِيمَنْ وَقَعَ فِي وَرْطَةٍ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأُفْرِدُ الصَّدِيقُ لِقِلَّتِهِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ؟ إِذْ يُقَالُ: هُمْ صَدِيقٌ، أي أصدقاء، كما

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 67.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 إلى 227]

يُقَالُ: هُمْ عَدُوٌّ، أَيْ أَعْدَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَوْ هُنَا أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وفنكون الْجَوَابُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا لَيْتَ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ. وَقِيلَ: هِيَ الْخَالِصَةُ لِلدَّلَالَةِ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَنَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَرَّةً، أَيْ فكونا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَكَانَ لَنَا شُفَعَاءُ وَأَصْدِقَاءُ، أَوْ لَخَلَصْنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْوَالِ يوم القيامة، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ حَالِ قَوْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ هِيَ عِنْدِي مُنْقَطِعَةٌ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ أَخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَعَلَّقَ بِصِفَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي وَقَفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُ فِي دُعَائِهِ أَنْ لَا يُخْزَى فِيهِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ قَدْ أَعْرَبَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بدلا من يَوْمَ يُبْعَثُونَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَأَتَّى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَفْكِيكِ الْكَلَامِ، وَجَعْلِ بَعْضِهِ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِعْلٌ آخَرُ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْأَوَّلُ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَاوَرَتِهِ لِقَوْمِهِ. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ: أَيْ أَكْثَرُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ قَوْمِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي ذَلِكَ مَسْلَاةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ السلام. [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 227] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

الْمَشْحُونُ: الْمَمْلُوءُ بِمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ قَدْرِ مَا يُحْمَلُ، يُقَالُ: شَحَنَهَا عَلَيْهِمْ خَيْلًا وَرِجَالًا، الرِّيعُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا: جَمْعُ رِيعَةٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: طِرَاقُ الْخَوَافِي مشرق فوق ريعه ... بذي لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّيعُ: الطَّرِيقُ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ عِلْسٍ يَصِفُ ظُعُنًا: فِي الْآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرْفَعُهَا ... رِيعٌ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ الطَّلْعُ: الْكُفُرَّى، وَهُوَ عُنْقُودُ التَّمْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْكِمِّ فِي أَوَّلِ نَبَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الطَّلْعَةُ: هِيَ الَّتِي تَطْلَعُ مِنَ النَّخْلَةِ، كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي جَوْفِهِ. شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَالْقِنْوُ: اسْمٌ لِلْخَارِجِ مِنَ الْجِذْعِ، كَمَا هُوَ بِعُرْجُونِهِ. الْفَرَاهَةُ: جَوْدَةُ مَنْظَرِ الشَّيْءِ وَقُوَّتُهُ وَكَمَالُهُ فِي نَوْعِهِ. وَقِيلَ: الْكَيْسُ وَالنَّشَاطُ. الْقَالِي: الْمُبْغِضُ، قَلَى يَقْلِي وَيَقْلَى، وَمَجِيئُهُ عَلَى يَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ شَاذٌّ. الْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ الْمُتَجَسِّدُ الْغَلِيظُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَبَلِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهِ وَيُقَالُ: بِسُكُونِ الْبَاءِ مُثَلَّثُ الْجِيمِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجَبْلُ وَالْجِبْلُ وَالْجُبْلُ، لُغَاتٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ مِنَ النَّاسِ. انْتَهَى. هَامَ: ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: حَادَ عَنِ الْقَصْدِ.

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الْقَوْمُ: مُؤَنَّثٌ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ، وَيُصَغَّرُ قُوَيْمَةٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ. وَلَمَّا كَانَ مَدْلُولُهُ أَفْرَادًا ذُكُورًا عُقَلَاءَ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى جَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مُذَكَّرٌ، وَأُنِّثَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا فِي الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «1» ، وَإِخْوَةُ نُوحٍ قِيلَ: فِي النَّسَبِ. وَقِيلَ: فِي الْمُجَانَسَةِ، كَقَوْلِهِ: يَا أَخَا تَمِيمٍ تُرِيدُ يَا وَاحِدَ أُمَّتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا وَمُتَعَلِّقُ التَّقْوَى مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: أَلَا تَتَّقُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ عَلَى شِرْكِكُمْ؟ وَقِيلَ: أَلَا تَتَّقُونَ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَكُمْ لِلْأَصْنَامِ وَأَمَانَتُهُ، كَوْنُهُ مَشْهُورًا فِي قَوْمِهِ بِذَلِكَ، أَوْ مُؤْتَمَنًا عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ؟ وَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِمْ بِرِفْقٍ تَقْوَى اللَّهِ فَقَالَ: أَلا تَتَّقُونَ، انْتَقَلَ مِنَ الْعَرْضِ إِلَى الْأَمْرِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فِي نُصْحِي لَكُمْ، وَفِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بالعبادة. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى دُعَائِي إِلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ يَعُودُ عَلَى النُّصْحِ، أَوْ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ. وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَلَى الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ سَبَبٌ لِطَاعَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، لِيُؤَكِّدَ عَلَيْهِمْ وَيُقَرِّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّعْلِيلُ، جُعِلَ الْأَوَّلُ مَعْلُولًا لِأَمَانَتِهِ، وَالثَّانِي لِانْتِفَاءِ أَخْذِ الْأَجْرِ. ثُمَّ لَمْ يَنْظُرُوا فِي أَمْرِ رِسَالَتِهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ ونشؤوا مِنْ حُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَهِيَ التي

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 37.

تُطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَشَرَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي تَنْقِيصِ مُتَّبِعِيهِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ لَهُ، كَوْنُهُ اتَّبَعَهُ الْأَرْذَلُونَ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ كَيْفَ نُؤْمِنُ وَقَدِ اتَّبَعَكَ أَرَاذِلُنَا، فَنَتَسَاوَى مَعَهُمْ فِي اتِّبَاعِكَ؟ وَكَذَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِي شَأْنِ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ. وَالضُّعَفَاءُ أَكْثَرُ اسْتِجَابَةً مِنَ الرُّؤَسَاءِ، لِأَنَّ أَذْهَانَهُمْ لَيْسَتْ مَمْلُوءَةً بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا، فَهُمْ أَدْرَكُ لِلْحَقِّ وَأَقْبَلُ لَهُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاتَّبَعَكَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ: وَاتْبَاعُكَ جَمْعُ تَابِعٍ، كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ تَبِيعٍ، كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ تَبَعٍ، كَبَرَمٍ وَأَبْرَامٍ، وَالْوَاوُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْحَالِ. وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بلك، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَعَنِ الْيَمَانِيِّ: وَاتْبَاعِكَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي لَكَ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَقَاسَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَالْأَرْذَلُونَ: رُفِعَ بِإِضْمَارِهِمْ. قِيلَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بنوه ونساؤه وكنانة وَبَنُو بَنِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الرَّذَالَةُ دَنَاءَةَ الْمَكَاسِبِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الرَّذَالَةِ فِي هُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1» ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ تَنْقِيصَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ضُعَفَاءَ النَّاسِ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ. وَهَذَا الَّذِي أَجَابُوا بِهِ فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَا شَرَفِ الْمَكَاسِبِ وَدَنَاءَتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مُرَادَ قَوْمِ نُوحٍ نِسْبَةُ الرَّذِيلَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، بِتَهْجِينِ أَفْعَالِهِمْ لَا النَّظَرِ إِلَى صَنَائِعِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ: وَما عِلْمِي الْآيَةَ، لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لَيْسَ فِي نَظَرِي، وَعِلْمِي بِأَعْمَالِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ فَائِدَةٌ، فَإِنَّمَا أَقْنَعُ بِظَاهِرِهِمْ وَأَجْتَزِئُ بِهِ، ثُمَّ حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا نَحْوُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا أَطْلُبُ الْعِلْمَ بِمَا عَمِلُوهُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَدْعُوَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا عِلْمِي، وَأَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي، وَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ عِلْمِهِ بِإِخْلَاصِ أَعْمَالِهِمْ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُمْ قَدْ طَعَنُوا فِي اسْتِرْذَالِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا عَنْ نَظَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَإِنَّمَا آمَنُوا هَوًى وَبَدِيهَةً، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادىء الرَّأْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَالَى لهم نوح

_ (1) سُورَةِ هُودٍ: 11/ 27.

عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُفَسَّرُ قَوْلُهُمْ: الْأَرْذَلُونَ، بِمَا هُوَ الرُّذَالَةُ عِنْدَهُ مِنْ سُوءِ الْأَعْمَالِ وَفَسَادِ الْعَقَائِدِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا هُوَ الرُّذَالَةُ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ بَنَى جَوَابَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَا عَلَيَّ إِلَّا اعْتِبَارُ الظَّوَاهِرِ، دُونَ التَّفْتِيشِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَالشَّقِّ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ، فَاللَّهُ مُحَاسِبُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ، وَمَا أَنَا إِلَّا مُنْذِرٌ لَا مُحَاسِبٌ، وَلَا مُجَازٍ، لَوْ تَشْعُرُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ، فَتَنْسَاقُونَ مَعَ الْجَهْلِ حَيْثُ سَيَّرَكُمُ. وَقُصِدَ بِذَلِكَ رَدُّ اعْتِقَادِكُمْ، وَإِنْكَارُ أَنْ يُسَمَّى الْمُؤْمِنُ رَذْلًا، وَإِنْ كَانَ أَفْقَرَ النَّاسِ وَأَوْضَعَهُمْ نَسَبًا. فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى الدِّينِ، وَالنَّسَبَ نَسَبُ التَّقْوَى. انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمَا علمي، ما نافية، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعِلْمِي. انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْرِيجُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ خَبَرٍ حَتَّى تَصِيرَ جُمْلَةً وَلَمَّا كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحِسَابِ وَلَا بِالْبَعْثِ، أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: لَوْ تَشْعُرُونَ، أَيْ بِأَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ، وَالْحِسَابَ حَقٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَشْعُرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ: هَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا طَلَبَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ مَنْ آمَنُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «1» الْآيَةَ، أَيْ لَا أَطْرُدُهُمْ عَنِّي لِاتِّبَاعِ شَهَوَاتِكُمْ وَالطَّمَعِ فِي إِيمَانِكُمْ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، مَا جِئْتَ بِهِ بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَلَمَّا اعْتَلُّوا فِي تَرْكِ إِيمَانِهِمْ بِإِيمَانِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ تَثْلُجَ صُدُورُهُمْ لِلْإِيمَانِ، إِذِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ لَا يَأْنَفُ مِنْهُ أَحَدٌ لِوُجُودِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، أَخَذُوا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عَنْ تَقْبِيحِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَادِّعَائِكَ الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ، لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، أَيْ بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ: بِالشَّتْمِ. وَأَيِسَ إِذْ ذَاكَ مِنْ فَلَاحِهِمْ، فَنَادَى رَبَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ: إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَدُعَائِي لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آذَوْنِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ دِينِكَ. فَافْتَحْ، أَيْ فَاحْكُمْ. وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ بِالنَّجَاةِ، وَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِحُلُولِ الْعَذَابِ بِقَوْمِهِ، أَيْ: وَنَجِّنِي مِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ. وَقِيلَ: وَنَجِّنِي مِنْ عَمَلِهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ. وَالْفُلْكُ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ، وَغَالِبُ اسْتِعْمَالِهِ جَمْعًا لِقَوْلِهِ: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ «2» ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ «3» ، فَحَيْثُ أَتَى فِي غَيْرِ فَاصِلَةٍ، اسْتُعْمِلَ جَمْعًا، وَحَيْثُ كَانَ فَاصِلَةً، اسْتُعْمِلَ مُفْرَدًا لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، كَهَذَا الْمَوْضِعِ. وَالَّذِي فِي سُورَةِ يس، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ إِذَا كَانَ مَدْلُولُهُ جَمْعًا، أَهْوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، أَمِ اسْمُ جَمْعٍ؟ وَالْمَشْحُونُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُوقَرُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُثْقَلُ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ: أَيْ بَعْدَ نَجَاةِ نُوحٍ وَالْمُؤْمِنِينَ.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 52. (2) سورة النحل: 16/ 14. (3) سورة البقرة: 2/ 164. تفسير البحر المحيط ج 8 م 12

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. كَانَ أَخَاهُمْ مِنَ النَّسَبِ، وَكَانَ تَاجِرًا جَمِيلًا، أَشْبَهَ الْخَلْقِ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاشَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةً وَأَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَمُودَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَكَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ مَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. أَمْرَعَ الْبِلَادِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ مَفَاوِزَ وَرِمَالًا. أَمَرَهُمْ أَوَّلًا أَمَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ، ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ فَقَالَ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَأْسُ الزُّقَاقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَجٌّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عُيُونٌ فِيهَا الْمَاءُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: جَبَلٌ. وَقِيلَ: الثَّنِيَّةُ الصَّغِيرَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِيعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَةً: عَلَمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَبْرَاجَ الْحَمَامِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: الْقُصُورَ الطِّوَالَ. وَقِيلَ: بَيْتَ عِشَارٍ. وَقِيلَ: نَادِيًا لِلتَّصَلُّفِ. وَقِيلَ: أَعْلَامًا طِوَالًا لِيَهْتَدُوا بِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، عَبَثُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ بِالنُّجُومِ. وَقِيلَ: عَلَامَةً يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا مَنْ يَعْبَثُ بِالْمَارِّ فِي الطَّرِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ إِنْكَارٌ لِلْبِنَاءِ عَلَى صُورَةِ الْعَبَثِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتْرَفُونَ فِي الدُّنْيَا. وَالْمَصَانِعُ: جَمْعُ مَصْنَعَةٍ. قِيلَ: وَهِيَ الْبِنَاءُ عَلَى الْمَاءِ. وَقِيلَ: الْقُصُورُ الْمَشِيدَةُ الْمُحْكَمَةُ. وَقِيلَ: الْحُصُونُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِرَكُ الْمَاءِ. وَقِيلَ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقِيلَ: الْمَنَازِلُ. وَاتَّخَذَ هُنَا بِمَعْنَى عَمِلَ، أَيْ وَيَعْمَلُونَ مَصَانِعَ، أَيْ تَبْنُونَ. وَقَالَ لَبِيدٌ: وَتَبْقَى جِبَالٌ بَعْدَنَا وَمَصَانِعُ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ لَعَلَّ عَلَى بَابِهَا مِنَ الرَّجَاءِ، وَكَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْبِنَاءِ وَالِاتِّخَاذِ، أَيِ الْحَامِلُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الرَّجَاءُ لِلْخُلُودِ وَلَا خُلُودَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: كَيْ تَخْلُدُونَ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى يُشْبِهُ حَالُكُمْ حَالَ مَنْ يَخْلُدُ، فَلِذَلِكَ بَنَيْتُمْ وَاتَّخَذْتُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالْهَزْءِ بِهِمْ، أَيْ هَلْ أَنْتُمْ تَخْلُدُونَ: وَكَوْنُ لَعَلَّ لِلِاسْتِفْهَامِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى كَأَنَّكُمْ خَالِدُونَ، وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ: كأنكم تخلدون. وقرىء: كأنكم خالدون. وقرأ الجمهور: تخلدون، مبنيا للفاعل

وقتادة: مبنيا للمفعول. ويقال: خلد الشيء وأخلده: غيره. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الْهُمُومِ مَا يَبِيتُ بِأَوْجَالِ وَإِذا بَطَشْتُمْ: أَيْ أَرَدْتُمُ الْبَطْشَ، وَحُمِلَ عَلَى الْإِرَادَةِ لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ، كَقَوْلِهِ: مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً أَيْ مَتَى أَرَدْتُمْ بَعْثَهَا. قَالَ الْحَسَنُ: بَادَرُوا تَعْذِيبَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا فِكْرٍ فِي الْعَوَاقِبِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُفَّارُ الْغَضَبِ، لَكُمُ السَّطَوَاتُ الْمُفْرِطَةُ وَالْبَوَادِرُ. فَبِنَاءُ الْأَبْنِيَةِ الْعَالِيَةِ تَدُلُّ عَلَى حُبِّ الْعُلُوِّ، وَاتِّخَاذُ الْمَصَانِعِ رَجَاءَ الْخُلُودِ يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ، وَالْجَبَّارِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى التَّفَرُّدِ بِالْعُلُوِّ، وَهَذِهِ صِفَاتُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةُ الْحُصُولِ لِلْعَبْدِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ خَرَجُوا عَنْ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ. وَلَمَّا نَبَّهَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَالِثًا بِالتَّقْوَى تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَأَبْرَزَ صِلَةَ الَّذِي مُتَعَلِّقَةً بِعِلْمِهِمْ، تَنْبِيهًا لَهُمْ وَتَحْرِيضًا عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، إِذْ شُكْرُ الْمُحْسِنِ وَاجِبٌ، وَطَاعَتُهُ مُتَعَيِّنَةٌ، وَمُشِيرًا إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَنْ أَمَدَّ بِالْإِحْسَانِ هُوَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ، وَعَلَى تَعْذِيبِ مَنْ لَمْ يَتَّقِهِ، إِذْ هَذَا الْإِمْدَادُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَفَضُّلِهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ أَتْبَعَكُمْ إِحْسَانَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَلَمَّا أَتَى بِذِكْرِ مَا أَمَدَّهُمْ بِهِ مُجْمَلًا مُحَالًا عَلَى عِلْمِهِمْ، أَتَى بِهِ مُفَصَّلًا. فَبَدَأَ بِالْأَنْعَامِ، وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الرِّئَاسَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْقُوَّةُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ، وَالْغِنَى هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الذُّرِّيَّةِ غَالِبًا لِوَجْدِهِ. وَبِحُصُولِ الْقُوَّةِ أَيْضًا بِالْبَنِينَ، فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِهِمْ فِي حِفْظِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْبَسَاتِينِ وَالْمِيَاهِ الْمُطَّرِدَةِ، إِذِ الْإِمْدَادُ بِذَلِكَ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ. وبِأَنْعامٍ: ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قوله: بِما تَعْلَمُونَ، وَأُعِيدَ الْعَامِلُ كَقَوْلِهِ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ «1» . وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَجْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا بَدَلًا وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ تَكْرَارِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، وَيُسَمَّى التَّتْبِيعَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ عِنْدَهُمُ الْعَامِلُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ بِأَخِيكَ،

_ (1) سورة يس: 36/ 20- 21. [.....]

ثُمَّ حَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْخَوْفِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، إِذْ كَانَ رَاجِيًا لِإِيمَانِهِمْ، فَكَانَ مِنْ جَوَابِهِمْ أَنْ قَالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا وَعْظُكَ وَعَدَمُهُ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ وَعْظًا، إِذْ لَمْ يَعْتَقِدُوا صحة ما جاء به، وَأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا خَوَّفَهُمْ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَعَظْتَ، بِإِظْهَارِ الظَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ، وَعَاصِمٍ: إِدْغَامُ الظَّاءِ فِي التَّاءِ. وَبِالْإِدْغَامِ، قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَعْمَشُ إِلَّا أَنَّ الْأَعْمَشَ زَادَ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ فَقَرَأَ: أَوَعَظْتَنَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِخْفَاءً، لِأَنَّ الظَّاءَ مَجْهُورَةٌ مُطْبِقَةٌ، وَالتَّاءُ مَهْمُوسَةٌ مُنْفَتِحَةٌ، فَالظَّاءُ أَقْوَى مِنَ التَّاءِ، وَالْإِدْغَامُ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ، أَوْ فِي الْمُتَقَارِبَيْنِ، إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ أَنْقَصَ مِنَ الثَّانِي. وَأَمَّا إِدْغَامُ الْأَقْوَى فِي الْأَضْعَفِ، فَلَا يَحْسُنُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِنَقْلِ الثِّقَاتِ، فَوَجَبَ قَبُولُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا هُوَ أَفْصَحُ وَأَقْيَسُ. وَعَادَلَ أَوَعَظْتَ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَادِلُهُ: أَمْ لَمْ تَعِظْ. كَمَا قَالَ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «1» لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، كَمَا عَادَلَتْ فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «2» ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ أَمْ صَمَتُّمْ، وَكَثِيرًا مَا يَحْسُنُ مَعَ الْفَوَاصِلِ مَا لَا يَحْسُنُ دُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، يَعْنِي بَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ وَهِيَ: أَمْ لَمْ تَعِظْ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْوَعْظُ أَمْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مِنْ أَهْلِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي قِلَّةِ اعْتِدَادِهِمْ بِوَعْظِهِ مِنْ قَوْلِكَ: أَمْ لَمْ تَعِظْ. وَلَمَّا لَمْ يُبَالُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَبِمَا ذَكَّرَهُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَتَخْوِيفِهِ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ، أَجَابُوهُ بِأَنْ قَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: خَلْقُ، بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، فَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ وَتَدَّعِيهِ إِلَّا اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْكَذَبَةِ قَبْلَكَ، فَأَنْتَ عَلَى مَنَاهِجِهِمْ. وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ الْأَوَّلِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ما هي الْبِنْيَةُ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا إِلَّا الْبِنْيَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَوَّلُونَ، حَيَاةٌ وَمَوْتٌ وَلَا بَعْثَ وَلَا تَعْذِيبَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: خُلُقُ، بِضَمَّتَيْنِ وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ذَيْنِكَ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي خُلُقُ. كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ،

_ (1) سورة ابراهيم: 14/ 21. (2) سورة الأعراف: 7/ 193.

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. أَتُتْرَكُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا لِأَنْ يُتْرَكُوا مُخَلَّدِينَ فِي نَعِيمِهِمْ لَا يَزُولُونَ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ فِي تَخْلِيَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمَا يَتَنَعَّمُونَ فِيهِ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الْأَمْنِ وَالدَّعَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: تَخْوِيفٌ لَهُمْ، بِمَعْنَى: أَتَطْمَعُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي النِّعَمِ عَلَى مَعَاصِيكُمْ؟ وَقِيلَ: أَتُتْرَكُونَ؟ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى التَّوْبِيخِ، أي أيترككم ربكم؟ فِي ما هاهُنا: أَيْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا آمِنِينَ: لَا تَخَافُونَ بَطْشَهُ. انْتَهَى. وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَهَاهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، أَيْ فِي الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي مَكَانِكُمْ هَذَا مِنَ النَّعِيمِ. وفِي جَنَّاتٍ بَدَلٌ مِنْ مَا هَاهُنَا أَجْمَلَ، ثُمَّ فَصَّلَ، كَمَا أَجْمَلَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، ثُمَّ فَصَّلَ فِي قَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَكَانَتْ أَرْضُ ثَمُودَ كَثِيرَةَ الْبَسَاتِينِ وَالْمَاءِ وَالنَّخْلِ. وَالْهَضِيمُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَيْنَعَ وَبَلَغَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الرَّخْصُ اللَّطِيفُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي رُطَبُهُ بِغَيْرِ نَوًى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُنَضَّدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: الرُّطَبُ الْمُذَنَّبُ. وَقِيلَ: النَّضِيجُ مِنَ الرُّطَبِ. وَقِيلَ: الرُّطَبُ الْمُتَفَتِّتُ. وَقِيلَ: الْحُمَّاضُ الطَّلْعُ، وَيُقَارِبُ قِشْرَتَهُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَصْرٌ هَضِيمٌ. وَقِيلَ: الْعِذْقُ الْمُتَدَلِّي. وَقِيلَ: الْجُمَّارُ الرِّخْوُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَنَخْلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ، وَأَنْ كَانَتِ الْجَنَّةُ تَتَنَاوَلُ النَّخْلَ أَوَّلَ شَيْءٍ، وَيُطْلِقُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهَا إِلَّا النَّخْلَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا أَرَادَ هُنَا النَّخْلَ. وَالسُّحُقُ جَمْعُ سَحُوقٍ، وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ بِجَرْدَتِهَا صَعَدًا فَطَالَتْ. فَأَفْرَدَ وَنَخْلٍ بِالذِّكْرِ بَعْدَ انْدِرَاجِهِ فِي لَفْظِ جَنَّاتٍ، تَنْبِيهًا عَلَى انْفِرَادِهِ عَنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ بِفَضْلِهِ. أَوْ أَرَادَ بِجَنَّاتٍ غَيْرَ النَّخْلِ مِنَ الشَّجَرِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِهَذِهِ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَنَخْلٍ، ذكرهم تعالى نعمه فِي أَنْ وَهَبَ لَهُمْ أَجْوَدَ النَّخْلِ وَأَيْنَعَهُ، لِأَنَّ الْإِنَاثَ وَلَّادَةٌ التَّمْرَ، وَطَلْعُهَا فِيهِ لُطْفٌ، وَالْهَضِيمُ: اللَّطِيفُ الضَّامِرُ، وَالْبَرْنِيُّ أَلْطَفُ مِنْ طَلْعِ اللَّوْنِ. وَيَحْتَمِلُ

اللُّطْفَ فِي الطَّلْعِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْحِمْلِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَثُرَ لَطُفَ فَكَانَ هَضِيمًا، وَإِذَا قَلَّ الْحِمْلُ جَاءَ التَّمْرُ فَاخِرًا. وَلَمَّا كَانَتْ مَنَابِتُ النَّخْلِ جَيِّدَةً، وَكَانَ السَّقْيُ لَهَا كَثِيرًا، وَسَلِمَتْ مِنَ الْعَاهَةِ، كَبِرُ الْحِمْلِ بِلُطْفِ الْحَبِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَنْحِتُونَ، بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَعَنْهُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ إِشْبَاعًا. وَعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ، عَنْ أَبِيهِ: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَكَسَرَ الْحَاءِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ، وَالْحَسَنِ أَيْضًا: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَتَحَ الْحَاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَارِهِينَ بِأَلِفٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ وَمُجَاهِدٌ: مُتَفَرِّهِينَ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَفَرَّهَ، وَالْمَعْنَى: نَشِطِينَ مُهْتَمِّينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مجاهد: شَرِهِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوِيَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَشِرِينَ بَطِرِينَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: بِمَعْنَى مُسْتَفْرِهِينَ، أَيْ مُبَالِغِينَ فِي اسْتِجَادَةِ الْمَغَارَاتِ لِيَحْفَظُوا أَمْوَالَهُمْ فِيهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: آمِنِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَ خُصَيْفٌ: مُعْجَبِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَاعِمِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَيِّسِينَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَاذِقِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: قَادِرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَرِحِينَ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قَوْمِ هُودٍ: اللَّذَّاتُ الْخَيَالِيَّةُ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْبَقَاءِ وَالتَّفَرُّدِ وَالتَّجَبُّرِ، وَعَلَى قَوْمِ صَالِحٍ: اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبُ وَالْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ. وَلا تُطِيعُوا: خِطَابُ الْجُمْهُورِ قَوْمِهِ. وَالْمُسْرِفُونَ: هُمْ كُبَرَاؤُهُمْ وَأَعْلَامُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْإِضْلَالِ، وَكَانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ: أَيْ أَرْضِ ثَمُودَ. وَقِيلَ: فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، لِأَنَّ بِمَعَاصِيهِمُ امْتِنَاعَ الْغَيْثِ. وَلَمَّا كَانُوا يُفْسِدُونَ دَلَالَتُهُ دَلَالَةُ الْمُطْلَقِ، أَتَى بِقَوْلِهِ: وَلا يُصْلِحُونَ، فَنَفَى عَنْهُمُ الصَّلَاحَ، وَهُوَ نَفْيٌ لِمُطْلَقِ الصَّلَاحِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الصَّلَاحِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ صَلَاحٌ أَلْبَتَّةَ. وَالْمُسَحَّرُ: الَّذِي سُحِرَ كَثِيرًا حَتَّى غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ. وَقِيلَ: مِنَ السَّحْرِ، وَهُوَ الرِّئَةُ، أَيْ أَنْتَ بَشَرٌ لَا تَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ. وَيُضْعِفُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُمْ بَعْدُ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، إِذْ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا، وَالْأَصْلُ التَّأْسِيسُ. وَمَثَّلْنَا: أَيْ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، فَلَا اخْتِصَاصَ لَكَ بِالرِّسَالَةِ. فَأْتِ بِآيَةٍ: أَيْ بِعَلَامَةٍ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاكَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: قَالَ آتِي بِهَا، قَالُوا: مَا هِيَ؟ قالَ هذِهِ ناقَةٌ. رُوِيَ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ نَاقَةً عُشَرَاءَ تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ تَلِدُ سَقْبًا. فَقَعَدَ صَالِحٌ يَتَفَكَّرُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَسَلْ

رَبَّكَ النَّاقَةَ، فَفَعَلَ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ وَبَرَكَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَنُتِجَتْ سَقْبًا مِثْلَهَا فِي الْعِظَمِ. وَتَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ وَالنَّاقَةِ، وَالشِّرْبُ النَّصِيبُ الْمَشْرُوبُ مِنَ الْمَاءِ نَحْوُ السَّقْيِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: شُرْبٌ، بِضَمِّ الشِّينِ فِيهِمَا، وَظَاهِرُ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَا وَقَعَ ووصف بِالْعِظَمِ لِحُلُولِ الْعَذَابِ فِيهِ، وَوَصْفُهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ بِهِ، لِأَنَّ الْوَقْتَ إِذَا عَظُمَ بِسَبَبِ الْعَذَابِ، كَانَ مَوْقِعُ الْعَذَابِ مِنَ الْعِظَمِ أَشَدَّ. وَنُسِبَ الْعَقْرُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ رَاضِينَ بِذَلِكَ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُمُ اسْتَرْضَوُا الْمَرْأَةَ فِي خِدْرِهَا وَالصِّبْيَانَ، فَرَضُوا جَمِيعًا. فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، لَا نَدَمَ تَوْبَةٍ، بَلْ نَدَمَ خَوْفٍ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا، وَذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ فِي غَيْرِ وَقْتِ التَّوْبَةِ. أَصْبَحُوا وَقَدْ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ حَسْبَمَا كَانَ أَخْبَرَهُمْ بِهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ الْعَذَابُ صَيْحَةً خَمَدَتْ لَهَا أَبْدَانُهُمْ، وَانْشَقَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَصُبَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ خِلَالَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: كَانَتْ نَدَامَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ عَقْرِ الْوَلَدِ، وَهُوَ قول بعيد. وأل فِي: فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ لِلْعَهْدِ فِي الْعَذَابِ السَّابِقِ، عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ. كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. أَتَأْتُونَ: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ والذُّكْرانَ: جَمْعُ ذَكَرٍ، مُقَابِلُ الْأُنْثَى. وَالْإِتْيَانُ: كِنَايَةٌ عَنْ وَطْءِ الرِّجَالِ، وَقَدْ سَمَّاهُ تَعَالَى بِالْفَاحِشَةِ فَقَالَ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ «1» ، هُوَ مَخْصُوصٌ بِذُكْرَانِ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِالْغُرَبَاءِ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ: ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ، إِمَّا الْبَتَّةَ، وَإِمَّا غَلَبَةً. مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ: يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِشَرْطِهَا. مِنْ أَزْواجِكُمْ: أَيْ مِنَ الإناث. ومن إما

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 80.

لِلتَّبْيِينِ لِقَوْلِهِ: مَا خَلَقَ، وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ: أَيِ الْعُضْوُ الْمَخْلُوقُ لِلْوَطْءِ، وَهُوَ الْفَرْجُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَتَذَرُونَ إِتْيَانَ. فَإِنْ كَانَ مَا خَلَقَ لَا يُرَادُ بِهِ الْعُضْوُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ آخَرَ، أَيْ وَتَذَرُونَ إِتْيَانَ فَرُوجِ مَا خَلَقَ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ: أَيْ مُتَجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ، وَهُوَ إِضْرَابٌ بِمَعْنَى الِانْتِقَالُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، لَا أَنَّهُ إِبْطَالٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ إِمَّا فِي الْمَعَاصِي الَّتِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ ارْتِكَابُ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الشَّنِيعَةِ. وَجَاءَ تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ تَعْظِيمًا لِقُبْحِ فِعْلِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ فَعَلْتَ كَذَا، أَيْ لَا غَيْرُكَ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ تَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ، وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ، أَيْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنِ دَعْوَاكَ النُّبُوَّةَ، وَعَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا فِيمَا نَأْتِيهِ مِنَ الذُّكْرَانِ، لَنَنْفِيَنَّكَ كَمَا نَفَيْنَا مَنْ نَهَانَا قَبْلَكَ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: مِنَ الْمُخْرَجِينَ عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَنَفَوْهُ بِسَبَبِ النَّهْيِ، أَوْ مِنَ الْمُخْرَجِينَ بِسَبَبٍ غَيْرِ هَذَا السَّبَبِ، كَأَنَّهُ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ نَفَوْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِلَافُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْخَاصِّ، أَمْ فِي غَيْرِهِ. قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ: أَيْ لِلْفَاحِشَةِ الَّتِي أَنْتُمْ تَعْمَلُونَهَا. ولعملكم يَتَعَلَّقُ إِمَّا بِالْقَالِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أل، لِأَنَّهُ يَسُوغُ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفِ مَا لَا يَسُوغُ فِي غَيْرِهَا، لِاتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِهَا، حَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ غَيْرُهَا وَإِمَّا بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْقَالِينَ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي قَالٍ لِعَمَلِكُمْ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ، أَيْ لِعَمَلِكُمْ، أَعْنِي مِنَ الْقَالِينَ. وَكَوْنُهُ بَعْضَ الْقَالِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبْغِضُ هَذَا الْفِعْلَ نَاسٌ غَيْرُهُ هُوَ بَعْضُهُمْ، وَنَبَّهَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُوجِبٌ لِلْبُغْضِ حَتَّى يُبْغِضَهُ النَّاسُ. وَمِنَ الْقَالِينَ أَبْلَغُ مِنْ قَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّاسَ يُبْغِضُونَهُ، وَلِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ مَعْدُودٌ مِمَّنْ يُبْغِضُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَبْلَغُ مِنْ: زَيْدٌ عَالِمٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ مَعْدُودٌ فِي زُمْرَتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْقَلْيُ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، كَأَنَّهُ بَغَضَ فَقَلَى الْفُؤَادَ وَالْكَبِدَ. انْتَهَى. وَلَا يَكُونُ قَلَى بِمَعْنَى أَبْغَضَ. وَقَلَا مِنَ الطَّبْخِ والشيء مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ لِاخْتِلَافِ التَّرْكِيبِ. فَمَادَّةُ قَلَا مِنَ الشّيء مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَتَقُولُ: قَلَوْتُ اللَّحْمَ فَهُوَ مَقْلُوٌّ. وَمَادَّةُ قَلَى مِنَ الْبُغْضِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، قَلَيْتُ الرَّجُلَ، فَهُوَ مَقْلِيٌّ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَسْتُ بِمُقْلِي الْخِلَالِ وَلَا قَالِ وَلَمَّا تَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ، أَخْبَرَهُمْ بِبُغْضِ عَمَلِهِمْ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ: أَيْ مِنْ عُقُوبَةِ مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْمَعَاصِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لِأَهْلِهِ

بِالْعِصْمَةِ مِنْ أَنْ يَقَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ فِعْلِ قَوْمِهِ. وَدَلَّ دُعَاؤُهُ بِالتَّنْجِيَةِ لِأَهْلِهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَتْ زَوْجَتُهُ مُنْدَرِجَةً فِي الْأَهْلِ، وَكَانَ ظَاهِرُ دُعَائِهِ دُخُولَهَا فِي التَّنْجِيَةِ، وَكَانَتْ كَافِرَةً اسْتُثْنِيَتْ فِي قَوْلِهِ: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: عَجُوزًا، عَلَى أَنَّهَا قَدْ عَسِيَتْ فِي الْكُفْرِ وَدَامَتْ فِيهِ إِلَى أَنْ صَارَتْ عَجُوزًا. وَمِنَ الْغَابِرِينَ صِفَةٌ، أَيْ مِنَ الْبَاقِينَ مِنْ لِدَاتِهَا وَأَهْلِ بَيْتِهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي غَبَرَ، وَأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَقِيَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَبِمَعْنَى مَضَى. وَنَجَاتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالرِّحْلَةِ لَيْلًا، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ كَافِرَةً تُعِينُ عَلَيْهِ قَوْمَهُ، فَأَصَابَهَا حَجَرٌ، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَى شُذَّاذِ الْقَوْمِ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَتْبَعَ الِائْتِفَاكَ مَطَرًا مِنَ الْحِجَارَةِ. وَسَاءَ: بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَطَرُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَسَفَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَأَرْسَلَ الْحِجَارَةَ إِلَى مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ القرية، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُؤْمِنٌ إِلَّا بَيْتُ لُوطٍ. كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ: لَيْكَةَ هُنَا، وَفِي ص بِغَيْرِ لَامٍ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ الْأَيْكَةِ، بِلَامِ التَّعْرِيفِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجَدْنَا في بعض التفسيران: لَيْكَةَ: اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ، وَالْأَيْكَةُ: الْبِلَادُ كُلُّهَا، كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ، وَرَأَيْتُهَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ في الحجر وق: الأيكة، وفي الشعراء وص: لَيْكَةَ، وَاجْتَمَعَتْ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ كُلِّهَا بَعْدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَلِفْ. انْتَهَى. وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَالنَّحَّاسُ، وَتَبِعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَوَهَّمُوا الْقُرَّاءَ وَقَالُوا: حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ الَّذِي كَتَبَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اللَّفْظِ فِي مِنْ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ وَأَسْقَطَ الْهَمْزَةَ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ اللَّامَ مِنْ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ فَفَتَحَ الْيَاءَ، وَكَانَ

الصَّوَابُ أَنْ يُجِيزَ، ثُمَّ مَادَّةُ ل ي ك لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا تَرْكِيبٌ، فَهِيَ مَادَّةٌ مُهْمَلَةٌ. كَمَا أَهْمَلُوا مَادَّةَ خ ذ ج مَنْقُوطًا، وَهَذِهِ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ بَعْضَ الْقِرَاءَةِ بِالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهَا، وَيَقْرُبُ إِنْكَارُهَا مِنَ الرِّدَّةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. أَمَّا نَافِعٌ، فَقَرَأَ عَلَى سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ، ثُمَّ هي قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَاطِبَةً. وَأَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ، فَقَرَأَ عَلَى سَادَةِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ، كَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ إِمَامُ الْبَصْرَةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَقَرَأْتَ عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، خَتَمْتُ عَلَى ابن كثير بعد ما خَتَمْتُ عَلَى مُجَاهِدٍ، وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ أَعْلَمَ مِنْ مُجَاهِدٍ بِاللُّغَةِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَبِيرٌ يَعْنِي خِلَافًا. وَأَمَّا ابْنُ عَامِرٍ فَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ قُحٌّ، قَدْ سَبَقَ اللَّحْنَ، أَخَذَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِمَا. فَهَذِهِ أَمْصَارٌ ثَلَاثَةٌ اجْتَمَعَتْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالشَّامُ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَادَّةِ مَفْقُودَةً فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَتِ الْكَلِمَةُ عَجَمِيَّةً، وَمَوَادُّ كَلَامِ الْعَجَمِ مُخَالِفَةٌ فِي كَثِيرٍ مَوَادَّ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَنْعِ صَرْفِهَا الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ وَالتَّأْنِيثُ. وَتَقَدَّمَ مَدْلُولُ الْأَيْكَةِ فِي الْحِجْرِ، وَكَانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، فَلِذَلِكَ جَاءَ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً «1» . وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْأَيْكَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ. وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هُمْ أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَعَنْ غَيْرِهِ، أَنَّ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هُمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَأَصْحَابَ مَدْيَنَ هُمُ الْحَاضِرَةُ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ شُعَيْبًا أَخَا مَدْيَنَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْإِخْسَارِ، وَهُوَ التَّطْفِيفُ، وَلَمْ يَذْكِرِ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاجِبِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَشِحُّ بِذَلِكَ فَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَا حَرَجَ» . وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِسْطَاسِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَجُعِلَتِ الْعَيْنُ مُكَرَّرَةً، فَوَزْنُهُ فِعْلَاءُ، وَإِلَّا فَهُوَ رُبَاعِيٌّ. انْتَهَى. وَلَوْ تَكَرَّرَ مَا يُمَاثِلُ الْعَيْنَ فِي النُّطْقِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا رُبَاعِيًّا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْقِسْطِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَزِنُوا، هُوَ أَمْرٌ بِالْوَزْنِ، إِذْ عَادَلَ قَوْلَهُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ، فَشَمِلَ مَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ فِيهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ عَدِّلُوا أُمُورَكُمْ كُلَّهَا بِمِيزَانِ الْعَدْلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ: الْجُمْلَةُ وَالَّتِي تَلِيهَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليهما. ولما تقدم

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 85، وسورة هود: 11/ 84، وسورة العنكبوت: 29/ 36.

أَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَقْوَى مَنْ أَوَجَدَهُمْ وَأَوْجَدَ مَنْ قَبْلَهُمْ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْجَدَهُمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَيُهْلِكَهُمْ. وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ وَالْجِبِلَّةَ إِيذَانًا بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يُصَيِّرُكُمْ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أَوَّلُوكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَصِيرُونَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْجِبِلَّةَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَشَدِّ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو حَصِينٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِضَمِّهَا وَالشَّدِّ لِلَّامِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: وَالْجِبْلَةَ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُ: فَتْحُ الْجِيمِ وَسُكُونُ الْبَاءِ، وَهِيَ مِنْ جُبِلُوا عَلَى كَذَا، أَيْ خُلِقُوا. قِيلَ: وَتَشْدِيدُ اللَّامِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ فِي بِنَاءَيْنِ لِلْمُبَالِغَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجِبِلَّةُ: عَشَرَةُ آلَافٍ. وَما أَنْتَ: جَاءَ هُنَا بِالْوَاوِ، وَفِي قِصَّةِ هُودٍ: مَا أَنْتَ، بِغَيْرِ وَاوٍ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا دَخَلَتِ الْوَاوُ فَقَدْ قُصِدَ مَعْنَيَانِ، كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلرِّسَالَةِ عِنْدَهُمْ، التَّسْحِيرُ وَالْبَشَرِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَحَّرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا، وَإِذَا تُرِكَتِ الْوَاوُ فَلَمْ يُقْصَدْ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسَحَّرًا، ثُمَّ قَرَّرَ بِكَوْنِهِ بَشَرًا. انْتَهَى. وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ: إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ هِيَ الْفَارِقَةُ، خِلَافًا للكوفيين، فَإِنْ عِنْدَهُمْ نَافِيَةً وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «1» فِي الْبَقَرَةِ. ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ إِسْقَاطَ كِسَفٍ، مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ صادقا، فادع الَّذِي أَرْسَلَكَ أَنْ يُسْقِطَ عَلَيْنَا كِسَفًا، أَيْ قِطْعَةً، أَوْ قِطَعًا عَلَى حَسَبِ التَّسْكِينِ وَالتَّحْرِيكِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكِلَاهُمَا جَمْعُ كِسْفَةٍ، نَحْوَ: قِطَعٍ وَشِذَرٍ. وَقِيلَ: الْكِسَفُ وَالْكِسْفَةُ، كَالرِّيعِ وَالرِّيعَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ وَكِسْفَةٌ: قِطْعَةٌ، وَالسَّمَاءُ: السَّحَابُ أَوِ الْمِظَلَّةُ. وَدَلَّ طَلَبُهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّصْمِيمِ عَلَى الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ. وَلَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ مَا طَلَبُوا، أَحَالَ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَعْمَالِكُمْ، وَبِمَا تَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهَا مِنَ الْعِقَابِ، فَهُوَ يُعَاقِبُكُمْ بِمَا شَاءَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهُوَ نَحْوٌ مِمَّا اقْتَرَحُوا. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ كَيْفِيَّةَ عَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، حَتَّى إن ابن عباس قال: مَنْ حَدَّثَكَ مَا عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَقَدْ كَذَبَ، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِهَا تَطْوِيلَاتٍ. فَرَوَى أَنَّهُ حَبَسَ عَنْهُمُ الرِّيحَ سَبْعًا، فَابْتُلُوا بِحَرٍّ عَظِيمٍ يَأْخُذُ بِأَنْفَاسِهِمْ، لَا يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ، فَاضْطُرُّوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ وَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَنَسِيمًا، فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ. وَكَرَّرَ مَا كَرَّرَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ الْقَصَصِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَرِيقَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَهِيَ الدُّعَاءُ إلى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143.

تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَرَفْضِ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَرِكُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ، وَتِلْكَ عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْأَلْفَاظُ فِي دُعَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، إِذْ كَانَ الْإِيمَانُ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ مَعْنًى وَاحِدًا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ كَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ قِصَّةٍ وَآخِرِهَا مَا كَرَّرَ؟ قُلْتُ: كُلُّ قِصَّةٍ مِنْهَا كَتَنْزِيلٍ بِرَأْسِهِ، وَفِيهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ مِثْلُ مَا فِي غَيْرِهَا. فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُدْلِي بِحَقٍّ، إِلَى أَنْ يفتتح بِمِثْلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ صَاحِبَتُهَا، وَأَنْ تُخْتَتَمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُتِمَتْ بِهِ. وَلِأَنَّ التَّكْرِيرَ تَقْرِيرٌ لِلْمَعَانِي فِي النُّفُوسِ، وَتَثْبِيتٌ لَهَا فِي الصُّدُورِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ طُرِقَتْ بِهَذَا آذَانٌ، وقرعن الْإِنْصَاتِ لِلْحَقِّ، وَقُلُوبٌ غُلْفٌ عَنْ تَدَبُّرِهِ، فَأُوثِرَتْ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَرُوجِعَتْ بِالتَّرْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ. وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ، وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ. الضَّمِيرُ فِي: وَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ بِكَهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ عَادَ أَيْضًا إِلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ السُّورَةَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا يَأْتِيهِمْ مِنَ الذِّكْرِ، لِيَتَنَاسَبَ الْمُفْتَتَحُ وَالْمُخْتَتَمُ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وحفص: نَزَلَ مخففا، والرُّوحُ الْأَمِينُ: مَرْفُوعَانِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّشْدِيدِ وَنَصْبِهِمَا. وَالرُّوحُ هُنَا: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ لِمَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الرُّوحُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ «1» . انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ عَلى قَلْبِكَ ولِتَكُونَ بنزل، وَخَصَّ الْقَلْبَ وَالْمَعْنَى عَلَيْكَ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْوَعْيِ وَالتَّثْبِيتِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَى قَلْبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَحْفُوظٌ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَلَا التَّغْيِيرُ، وَلِيَكُونَ عِلَّةً فِي التَّنْزِيلِ أَوِ النُّزُولِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَزْجَرُ لِلسَّامِعِ، وَإِنْ كَانَ القرآن نزل

_ (1) سورة المائدة: 5/ 61.

لِلْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ بِلِسانٍ بنزل، فَكَانَ يَسْمَعُ مِنْ جِبْرِيلَ حُرُوفًا عَرَبِيَّةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ: وَتَكُونُ صَلْصَلَةُ الْجَرَسِ صِفَةً لِشِدَّةِ الصَّوْتِ وَتَدَاخُلِ حُرُوفِهِ وَعِجْلَةِ مَوْرِدِهِ وَإِغْلَاظِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لِتَكُونَ، وَتَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَسْمَعُ أَحْيَانًا مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، يَتَفَهَّمُ لَهُ مِنْهُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِلِسانٍ، إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُنْذِرِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أَنْذَرُوا بِهَذَا اللِّسَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ: هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بنزل، فَيَكُونَ الْمَعْنَى: نَزَّلَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ لِتُنْذِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَّلَهُ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ، لَتَجَافَوْا عَنْهُ أَصْلًا وَقَالُوا: مَا نَصْنَعُ بِمَا لَا نَفْهَمُهُ؟ فَيَتَعَذَّرُ الْإِنْذَارُ بِهِ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ، إِنَّ تَنْزِيلَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِسَانُكَ وَلِسَانُ قَوْمِكَ، تَنْزِيلٌ لَهُ عَلَى قَلْبِكَ، لِأَنَّكَ تَفْهَمُهُ وَيَفْهَمُهُ قَوْمُكَ. وَلَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا، لَكَانَ نَازلًا عَلَى سَمْعِكَ دُونَ قَلْبِكَ، لِأَنَّكَ تَسْمَعُ أَجْرَاسَ حُرُوفٍ لَا تَفْهَمُ مَعَانِيَهَا وَلَا تَعِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَارِفًا بِعِدَّةِ لُغَاتٍ، فَإِذَا كُلِّمَ بِلُغَتِهَا الَّتِي لُقِّنَهَا أَوَّلًا وَنَشَأَ عَلَيْهَا وَتَطَبَّعَ بِهَا، لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ إِلَّا إِلَى مَعَانِي تِلْكَ الْكَلِمِ يَتَلَقَّاهَا بِقَلْبِهِ، وَلَا يَكَادُ يَفْطَنُ لِلْأَلْفَاظِ كَيْفَ جَرَتْ. وَإِنْ كُلِّمَ بِغَيْرِ تِلْكَ اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ مَاهِرًا بِمَعْرِفَتِهَا، كَانَ نَظَرُهُ أَوَّلًا فِي أَلْفَاظِهَا، ثُمَّ فِي مَعَانِيهَا. فَهَذَا تَقْرِيرٌ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ لِنُزُولِهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ تَطْوِيلٌ. وَإِنَّهُ، أَيِ الْقُرْآنَ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ: أَيْ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْقَدِيمَةِ، مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ مُشَارٌ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعَانِيَهُ فِيهَا، وَبِهِ يُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ قُرْآنٌ إِذَا تُرْجِمَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، حَيْثُ قِيلَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، لِكَوْنِ مَعَانِيهِ فِيهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِنَّ ذِكْرَهُ ورسالته في الكتاب الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَكُونُ الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ إِلَى ضَمِيرِ الغيبة، وكذلك قبل فِي أَنْ يُعْلِمَهُ، أَيْ أَنْ يُعْلِمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَوْضَحُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَفِي زُبْرِ، بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَالْأَصْلُ الضَّمُّ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَحِّحَ عِنْدَهُمْ أَمْرَهُ، كَوْنُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَهُ، أَيْ أو لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَامَةٌ عَلَى صحة عِلْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهِ؟ إِذْ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَرْجِعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْهَا وَيَقُولُونَ: هُمْ أَصْحَابُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَدْ تَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ وَتَنَصَّرَ كَثِيرٌ، لِاعْتِقَادِهِمْ فِي صِحَّةِ دِينِهِمْ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ بَعَثُوا إِلَى أَحْبَارِ يَثْرِبَ يَسْأَلُونَهُمْ عَنِ

النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: هَذَا زَمَانُهُ، وَوَصَفُوا نَعْتَهُ، وَخَلَطُوا فِي أمر محمد عليه السلام، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا كَوْنُ الْآيَةِ مَكِّيَّةً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مدنية. وعُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَنَحْوُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ أَسْلَمُوا وَنَصُّوا عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ فِيهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: عُلَمَاؤُهُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ. وَقِيلَ: أَنْبِيَاؤُهُمْ، حَيْثُ نَبَّهُوا عَلَيْهِ وَأَخْبَرُوا بِصِفَتِهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوَلَمْ يَكُنْ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، آيَةً: بِالنَّصْبِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةُ الْإِعْرَابِ تَوَسَّطَ خَبَرُ يكن، وأَنْ يَعْلَمَهُ: هُوَ الِاسْمُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ: تَكُنْ بالتاء من فوق، آية: بِالرَّفْعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَتْ آيَةٌ اسْمًا، وَأَنْ يَعْلَمَهُ خَبَرًا، وَلَيْسَتْ كَالْأُولَى لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ اسْمًا وَالْمَعْرِفَةِ خَبَرًا، وَقَدْ خُرِّجَ لَهَا وَجْهٌ آخَرُ لِيُتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: فِي تَكُنْ ضَمِيرُ القصة، وآية أَنْ يَعْلَمَهُ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ آية جملة الشأن، وأن يَعْلَمَهُ بَدَلًا مِنْ آيَةً. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكُنْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، آيَةً بِالنَّصْبِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قرأ: لم ثم تَكُنْ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، فِتْنَتُهُمْ بِالنَّصْبِ، إِلَّا أَنْ قالُوا «2» ، وَكَقَوْلِ لَبِيَدٍ: فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا وَدَلَّ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى تَأْنِيثِ الِاسْمِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَإِمَّا لِتَأْوِيلِ أَنْ يَعْلَمَهُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَتَأْوِيلِ إِلَّا أَنْ قالُوا بِالْمَقَالَةِ، وَتَأْوِيلِ الْإِقْدَامِ بِالْإِقْدَامَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: أَنْ تَعْلَمَهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ ... يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضِرَارًا لِأَقْوَامِ وكتب في المصحف: علموا بِوَاوٍ بَيْنَ الْمِيمِ وَالْأَلِفِ. قِيلَ: عَلَى لُغَةِ مَنْ يميل ألف علموا إِلَى الْوَاوِ، كَمَا كَتَبُوا الصلاة وَالزَّكَوةَ وَالرِّبَوا عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَعْجَمِي الَّذِي لَا يُفْصِحُ، وَفِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَاسْتِعْجَامٌ، وَالْأَعْجَمِيُّ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّ فِيهِ لِزِيَادَةِ يَاءِ النِّسْبَةِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَعْجَمُونَ جَمْعُ أَعْجَمَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ النَّسَبِ يُقَالُ لَهُ أَعْجَمُ، وَذَلِكَ يُقَالُ لِلْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» . وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ قَالَ، حِينَ قَرَأَ هَذِهِ الآية

_ (1) سورة القصص: 28/ 53. (2) سورة الأنعام: 6/ 23.

وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ: «جَمَلِي هَذَا أَعْجَمُ، فَلَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ» . وَالْعَجَمِيُّ هُوَ الَّذِي نِسْبَتُهُ فِي الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ. انْتَهَى. وَفِي التَّحْرِيرِ: الْأَعْجَمِينَ: جَمْعُ أَعْجَمَ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ جَمْعَ سَلَامَةٍ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ عَلَى رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ فَقَرَأَهُ عَلَى الْعَرَبِ، لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، حَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوهُ، وَاسْتَنْكَفُوا مِنَ اتِّبَاعِهِ. وَقِيلَ: وَلَوْ نَزَّلْنَا الْقُرْآنَ عَلَى بَعْضِ الْعَجَمِ مِنَ الدَّوَابِّ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُؤْمِنُوا، لِعِنَادِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ «1» الْآيَةَ، وَجُمِعَ جَمْعَ السَّلَامَةِ، لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالْإِنْزَالِ عَلَيْهِ وَالْقِرَاءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ الْعُقَلَاءِ. وَقِيلَ: وَلَوْ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ تُؤْمِنِ الْبَهَائِمُ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا «2» انْتَهَى. وَلَمَّا بَيَّنَ بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ في ذلك دليلين عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الدَّلَائِلُ. أَلَا تَرَى نُزُولَهُ عَلَى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ، وَسَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ وَأَدْرَكُوا إِعْجَازَهُ وَتَصْدِيقَ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ جَحَدُوا وَسَمَّوْهُ تَارَةً شِعْرًا وَتَارَةً سِحْرًا؟ وَلَوْ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الْأَعَاجِمِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، لَكَفَرُوا بِهِ وَتَمَحَّلُوا بِجُحُودِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَعْجَمِينَ جَمْعُ أَعْجَمَ أَوْ أَعْجَمِيٍّ، عَلَى حَذْفِ ياء النسب، كما قالوا: الْأَشْعَرِينَ، وَوَاحِدُهُمْ أَشْعَرِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَهْمِ: قَالَ الْكُمَيْتُ: وَلَوْ جَهَّزْتُ قَافِيَةً شَرُودًا ... لَقَدْ دَخَلَتْ بُيُوتَ الْأَشْعَرَيْنَا انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: الْأَعْجَمِيِّينَ، بِيَاءِ النَّسَبِ: جَمْعُ أَعْجَمِيٍّ. وَالضَّمِيرُ فِي سَلَكْناهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ. قِيلَ: وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَهُ الرُّمَّانِيُّ. وَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ، وَهُوَ الْإِدْخَالُ وَالتَّمْكِينُ وَالتَّفْهِيمُ لِمَعَانِيهِ. سَلَكْناهُ: أَدْخَلْنَاهُ وَمَكَّنَّاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ السَّلْكِ مِنْ كَوْنِهِمْ فَهِمُوهُ وَأَدْرَكُوهُ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا عِنَادًا وَجُحُودًا وَكُفْرًا بِهِ، أَيْ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَالتَّكْذِيبِ لَهُ، كَمَا وَضَعْنَاهُ فِيهَا. فَكَيْفَ مَا يُرَامُ إِيمَانُهُمْ بِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ؟ وَأَعْمَاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ «3» الْآيَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَدْخَلْنَاهُ فِيهَا، فَعَرَفُوا مَعَانِيَهُ، وَعَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 110. (2) سورة الفرقان: 25/ 44. (3) سورة الأنعام: 6/ 7.

بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: الضَّمِيرُ فِي سَلَكْنَاهُ يَعُودُ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ. انْتَهَى. وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ. انْتَهَى. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَلَكْنَاهُ، أَيِ الْقَسْوَةَ، وَأَسْنَدَ السَّلْكَ تَعَالَى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ هُوَ مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الْهَادِي وَخَالِقُ الضَّلَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَسْنَدَ السَّلْكَ بِصِفَةِ التَّكْذِيبِ إِلَى ذَاتِهِ؟ قُلْتُ: أَرَادَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى تَمَكُّنِهِ مُكَذَّبًا فِي قُلُوبِهِمْ أَشَدَّ التَّمْكِينِ وَأَثْبَتَهُ، فَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ قَدْ جُبِلُوا عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ مَجْبُولٌ عَلَى الشُّحِّ؟ يُرِيدُونَ تَمَكُّنَ الشُّحِّ فِيهِ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الْخِلْقِيَّةَ أَثْبَتُ مِنَ الْعَارِضَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسْنَدَ تَرْكَ الْإِيمَانِ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى عَقِبِهِ، وَهُوَ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَالتَّشْبِيهِ بَيْنَ السَّلْكَيْنِ، يَقْتَضِي تَغَايُرَ مَنْ حَلَّ بِهِ. وَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ فِي قُلُوبِ قُرَيْشٍ، سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ مَنْ أَجْرَمَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ السَّلْكِ وَهُوَ الْإِجْرَامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ بِهِمْ مُجْرِمِي كُلِّ أُمَّةٍ، أَيْ إِنَّ هَذِهِ عَادَةُ اللَّهِ فِيهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ، فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ تَلَبُّسِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ لِقُرَيْشٍ، أَيْ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، وَكَشْفُ الْغَيْبِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَوْقِعُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ؟ قُلْتُ: مَوْقِعُهُ مِنْهُ مَوْقِعُ الْمُوَضِّحِ وَالْمُلَخِّصِ، لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِثَبَاتِهِ مُكَذَّبًا مَجْحُودًا فِي قُلُوبِهِمْ، فَأُتْبِعَ بِمَا يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَجُحُودِهِ حَتَّى يُعَايِنُوا الوعيد، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ سَلَكْنَاهُ فِيهَا غَيْرَ مُؤْمَنٍ بِهِ. انْتَهَى. وَرُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ، قِيلَ: فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَأْتِيَهُمْ، بِيَاءٍ، أَيِ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ الْعُقُوبَةُ، أَيْ فَتَأْتِيَهُمُ الْعُقُوبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: أَتَتْهُ كِتَابِي، فَلَمَّا سُئِلَ قَالَ: أَوْ لَيْسَ بِصَحِيفَةٍ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَأْتِيَهُمْ بِالتَّاءِ، يَعْنِي السَّاعَةَ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: أَنَّثَ الْعَذَابَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى السَّاعَةِ، فَاكْتَسَى مِنْهَا التَّأْنِيثَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَذَابَ الْقِيَامَةِ تَكْذِيبًا بِهَا، فَلِذَلِكَ أُنِّثَ. وَلَا يَكْتَسِي الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ تَأْنِيثًا إِلَّا إِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ نَحْوَ: اجْتَمَعَتْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ، وَقُطِعَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ، وَشَرَقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بَغَتَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ، فَتَأْتِيَهِمْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، يَعْنِي السَّاعَةَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى التَّعْقِيبِ فِي قوله: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً قُلْتُ: لَيْسَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَمُفَاجَأَتِهِ وَسُؤَالِ النَّظِرَةِ فِيهِ الْوُجُودُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى تَرَتُّبُهَا فِي الشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ حَتَّى تَكُونَ رُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، وَهُوَ لُحُوقُهُ بِهِمْ مُفَاجَأَةً مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ سُؤَالُهُمُ النَّظِرَةَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَسَأْتَ مَقَتَكَ الصَّالِحُونَ، فَمَقَتَكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ لَا تَقْصِدُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ مَقْتَ اللَّهِ يُوجَدُ عَقِيبَ مَقْتِ الصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا قَصْدُكَ إِلَى تَرْتِيبِ شِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسِيءِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ مَقْتُ الصَّالِحِينَ. فَمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَقْتِهِمْ؟ وَهُوَ مَقْتُ اللَّهِ. وَيُرَى، ثُمَّ يَقَعُ هَذَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ، فَيَحِلُّ مَوْقِعَهُ. انْتَهَى. فَيَقُولُوا، أَيْ كُلُّ أُمَّةٍ مُعَذَّبَةٍ: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ: أَيْ مُؤَخَّرُونَ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ التَّمَنِّي مِنْهُمْ وَالرَّغْبَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ الرَّغْبَةُ. ثُمَّ رَجَعَ لَفْظُ الْآيَةِ إِلَى تَوْبِيخِ قُرَيْشٍ عَلَى اسْتِعْجَالِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي طَلَبِهِمْ سُقُوطَ السَّمَاءِ كِسَفًا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ: أَيْنَ مَا تَعِدُنَا بِهِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، تَبْكِيتٌ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ وَتَهَكُّمٌ، وَمَعْنَاهُ: كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ الْعَذَابَ مَنْ هُوَ مُعَرَّضٌ لِعَذَابٍ يَسْأَلُ فِيهِ مِنْ جِنْسِ، مَا هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ مِنَ النَّظِرَةِ وَالْإِمْهَالِ؟ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَا يُجَابُ إِلَيْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حِكَايَةَ تَوْبِيخٍ، يُوَبَّخُونَ بِهِ عِنْدَ اسْتِنْظَارِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَيَسْتَعْجِلُونَ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ، حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَوَجْهٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْعَذَابِ إِمَّا كَانَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ وَلَا لَاحِقٍ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُمَتَّعُونَ بِأَعْمَارٍ طَوَالٍ فِي سَلَامَةٍ وَأَمْنٍ. فَقَالَ عَزَّ وَعَلَا: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أَشَرًا وَبَطَرًا وَاسْتِهْزَاءً وَاتَّكَالًا عَلَىَ الْأَمَلِ الطَّوِيلِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ تَمَتُّعِهِمْ وَتَعْمِيرِهِمْ، فَإِذَا لَحِقَهُمُ الْوَعِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ، مَا يَنْفَعُهُمْ حِينَئِذٍ مَا مَضَى مِنْ طُولِ أَعْمَارِهِمْ وَطِيبِ مَعَايِشِهِمْ؟ انْتَهَى. وَقِيلَ: أَتْبَعَ قَوْلَهُ: فَتَأْتِيَهِمْ بَغْتَةً بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَسْرَةِ. فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، كَمَا يَسْتَغِيثُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْخَلَاصِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنْ لَا مَلْجَأَ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ اسْتِرْوَاحًا. وَقِيلَ: يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ حِين يَبْغَتُهُمْ عَذَابُ السَّاعَةِ، فَلَا يُجَابُونَ إِلَيْهَا. أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ: خِطَابٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فِي أَنَّ مُدَّةَ الْإِرْجَاءِ وَالْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لَا تُغْنِي إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بَعْدَهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سِنِينَ، عُمَرُ الدُّنْيَا. انْتَهَى. وَتَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ وَالْآخِرُ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. فِي الْغَالِبِ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا

مَا صَنَعَ؟ وَمَا جَاءَ مِمَّا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ أُوِّلَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَتَقُولُ هُنَا مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ تَنَازَعَ عَلَى مَا يُوعِدُونَ أَرَأَيْتَ وَجَاءَهُمْ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِجَاءَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِأَرَأَيْتَ عَلَى إِعْمَالِ الْأَوَّلِ، وَأُضْمِرَ الْفَاعِلُ فِي جَاءَهُمْ. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ تَمَتُّعُهُمْ فِي تِلْكَ السِّنِينَ الَّتِي مُتِّعُوهَا؟ وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ يَتَضَمَّنُ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ تَمَتُّعُهُمْ حِينَ حَلَّ، أَيِ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَهُوَ الْعَذَابُ؟ وَظَاهِرُ مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ مَا أَغْنَى: أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، وَالِاسْتِفْهَامُ قَدْ يَأْتِي مُضَمَّنًا مَعْنَى النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ «1» ؟ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكُمْ «2» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، أَيْ مَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي مَا أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا ونافية. وقرىء: يُمَتَّعُونَ، بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ التَّاءِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى إِلَّا وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهَا مَنْ يُنْذِرُهَا عَذَابَ اللَّهِ، إِنْ هِيَ عَصَتْ وَلَمْ تُؤْمِنْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «3» . وَجَمَعَ مُنْذِرُونَ، لِأَنَّ مِنْ قَرْيَةٍ عَامٌّ فِي الْقُرَى الظَّالِمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَهْلَكْنَا الْقُرَى الظَّالِمَةَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَها مُنْذِرُونَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَرْيَةٍ، وَالْإِعْرَابُ أَنْ تَكُونَ لَهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَارْتَفَعَ مُنْذِرُونَ بِالْمَجْرُورِ إِلَّا كَائِنًا لَهَا مُنْذِرُونَ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ الْحَالِ مُفْرَدًا لَا جُمْلَةً، وَمَجِيءُ الْحَالِ من المنفي كقول: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، فَصِيحٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ عُزِلَتِ الْوَاوُ عَنِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ إِلَّا، وَلَمْ تُعْزَلْ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ؟ «4» قُلْتُ: الْأَصْلُ عَزْلُ الْوَاوِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَإِذَا زِيدَتْ فَلِتَأْكِيدِ وَصْلِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «5» . انْتَهَى. وَلَوْ قَدَّرَنَا لَهَا مُنْذِرُونَ جُمْلَةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَجِيءَ صِفَةً بَعْدَ إِلَّا. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، أَنَّهُ لَا تَجِيءُ الصِّفَةُ بَعْدَ إِلَّا مُعْتَمِدَةً عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا رَاكِبٌ. وَإِذَا سُمِعَ مِثْلُ هَذَا، خَرَّجُوهُ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ: إِلَّا رَجُلٌ رَاكِبٌ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، وَلَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِهَا: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمٌ. فَلَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلنَّكِرَةِ، لَوَرَدَ الْمُفْرَدُ بَعْدَ إلا صفة

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 47. (2) سورة الأنعام: 6/ 47. (3) سورة الإسراء: 17/ 15. [.....] (4) سورة الحجر: 15/ 4. (5) سورة الأعراف: 7/ 22.

لَهَا. فَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ غَيْرَ مُعْتَمِدَةٍ عَلَى أَدَاةٍ، جَاءَتِ الصِّفَةُ بَعْدَ إِلَّا نَحْوَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلا زيد خير من عَمْرٍو، التَّقْدِيرُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرٍو إِلَّا زَيْدٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الْوَاوِ تُزَادُ لِتَأْكِيدِ وَصْلِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، فَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ. لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَعَاقِلٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ وَعَاقِلٌ صِفَةً لِرَجُلٍ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْوَاوُ فِي الصِّفَاتِ جَوَازًا إِذَا عَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَتَغَايَرَ مَدْلُولُهَا نَحْوَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْكَرِيمِ وَالشُّجَاعِ وَالشَّاعِرِ. وَأَمَّا وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ. ذِكْرى: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ، وَعَلَى الْمَصْدَرِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ. فَعَلَى الْحَالِ، إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ذَوِي ذِكْرَى، أَوْ مُذَكِّرِينَ. وَعَلَى الْمَصْدَرِ، فَالْعَامِلُ مُنْذِرُونَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُذَكِّرُونَ ذِكْرَى، أَيْ تَذْكِرَةً. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذِكْرَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، قَالَ: عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُنْذَرُونَ لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً صِفَةً بِمَعْنَى مُنْذِرُونَ ذَوُو ذِكْرَى، أَوْ جُعَلُوا ذِكْرَى لِإِمْعَانِهِمْ فِي التَّذْكِرَةِ وَإِطْنَابِهِمْ فِيهَا. وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِمَعْنَى هَذِهِ ذِكْرَى، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى مُتَعَلِّقَةً بِأَهْلَكْنَا مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمِينَ إِلَّا بعد ما أَلْزَمْنَاهُمُ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الْمُنْذِرِينَ إِلَيْهِمْ، لِتَكُونَ تَذْكِرَةً وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، فَلَا يَعْصُوا مِثْلَ عِصْيَانِهِمْ. وَما كُنَّا ظالِمِينَ، فَنُهْلِكُ قَوْمًا غَيْرَ ظَالِمِينَ، وَهَذَا الْوَجْهُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، أَوْ تَابِعًا لَهُ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَى الْأَدَاةِ نَحْوِ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زيد خَيْرٍ مِنْ عَمْرٍو. وَالْمَفْعُولُ لَهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَهْلَكْنَا. وَيَتَخَرَّجُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ بِخُصُوصِيَّتِهِ. وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ، فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا

لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَقُولُونَ: إِنَّ لِمُحَمَّدٍ تَابِعًا مِنَ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ كَمَا يُخْبَرُ الْكَهَنَةُ، فَنَزَلَتْ ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، بَلْ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الشَّيَاطُونَ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ رَدَّهَا أَبُو حَاتِمٍ والقراءة قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ، ظَنَّ أَنَّهَا النُّونُ الَّتِي عَلَى هَجَائِنَ. فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَنَّ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْعَجَّاجِ وَرُؤْبَةَ، فَهَلَّا جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَصَاحِبِهِ، يُرِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ السَّمَيْفَعِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا وَقَدْ سَمِعَا فِيهِ؟ وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: دَخَلْتُ بَسَاتِينَ مِنْ وَرَائِهَا بَسَاتُونَ، فَقُلْتُ: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِقِرَاءَةِ الْحَسَنِ. انْتَهَى. وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ آخِرُهُ كَآخِرِ يَبْرِينَ وَفِلَسْطِينَ، فَكَمَا أُجْرِيَ إِعْرَابُ هَذَا عَلَى النُّونِ تَارَةً وَعَلَى مَا قَبْلَهُ تَارَةً فَقَالُوا: يَبْرِينَ وَيَبْرُونَ وَفِلَسْطِينَ وَفِلَسْطُونَ أُجْرِيَ ذَلِكَ فِي الشَّيَاطِينِ تَشْبِيهًا بِهِ فَقَالُوا: الشَّيَاطِينَ وَالشَّيَاطُونَ. وَقَالَ أَبُو فَيْدٍ مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ: إِنْ كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ شَاطَ، أَيِ احْتَرَقَ، يَشِيطُ شَوْطَةً، كَانَ لِقِرَاءَتِهِمَا وَجْهٌ. قِيلَ: وَوَجْهُهَا أَنَّ بِنَاءَ الْمُبَالِغَةِ مِنْهُ شَيَّاطٌ، وَجَمْعُهُ الشَّيَّاطُونَ، فَخَفَّفَا الْيَاءَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا التَّشْدِيدُ، وَقَرَأَ بِهِ غَيْرُهُمَا. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الشَّيَاطُونَ، كَمَا قَرَأَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ نَقَلَةِ الْقُرْآنِ، قرأوا ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ غَلِطُوا، لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ بِمَكَانٍ. وَمَا أَحْسَنَ مَا تَرَتَّبَ نَفْيُ هَذِهِ الْجُمَلِ نَفَى أَوَّلًا تَنْزِيلَ الشَّيَاطِينِ بِهِ، وَالنَّفْيُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ، وَإِنْ كَانَ هُنَا لَا يُمْكِنُ مِنَ الشَّيَاطِينِ التَّنَزُّلُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ نَفَى انْبِغَاءَ ذَلِكَ وَالصَّلَاحِيَةَ، أَيْ وَلَوْ فُرِضَ الْإِمْكَانُ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهُ، ثُمَّ نَفَى قُدْرَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِمُ التَّنَزُّلُ بِهِ، فَارْتَقَى مِنْ نَفْيِ الْإِمْكَانِ إِلَى نَفْيِ الصَّلَاحِيَةِ إِلَى نَفْيِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ فِي نَفْيِ تَنْزِيلِهِمْ بِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ عَنِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ أَهْلِ السَّمَاءِ مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ: وَالْخِطَابُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلسَّامِعِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَفَرَ: لَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، وَالْعَشِيرَةُ تَحْتَ الْفَخِذِ وَفَوْقَ الْفَصِيلَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعَشِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِإِنْذَارِ النَّاسِ كَافَّةً. كَمَا

قَالَ: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «1» ، لِأَنَّ فِي إِنْذَارِهِمْ، وَهُمْ عَشِيرَتُهُ، عَدَمُ مُحَابَاةٍ وَلُطْفٍ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ وَاحِدٌ فِي التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ. فَإِذَا كَانَتِ الْقَرَابَةُ قَدْ خُوِّفُوا وَأُنْذِرُوا مَعَ مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الرَّأْفَةِ، كَانَ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْكَدَ وَأَدْخَلَ، أَوْ لِأَنَّ الْبَدَاءَةَ تَكُونُ بِمَنْ يَلِيهِ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «2» . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ: «كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، فَأَوَّلُ مَا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ، إِذِ الْعَشِيرَةُ مَظِنَّةُ الطَّوَاعِيَةِ، وَيُمْكِنُهُ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ لَهُ أَشَدُّ احْتِمَالًا» . وَامْتَثَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، فَنَادَى الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ فَخِذًا. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ فِي آخِرِ الْحِجْرِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ... فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا نَهَاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ بَعْدَ التَّوَاضُعِ. وَالْأَجْدَلُ: الصقر، ومن الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي عَشِيرَتِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمَّا الطَّاعَةُ وَإِمَّا الْعِصْيَانُ، جَاءَ التَّقْسِيمُ عَلَيْهِمَا، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مُؤْمِنًا، فَتَوَاضَعْ لَهُ فَلِذَلِكَ جَاءَ قَسِيمُهُ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَفِي هَذَا موادعة نسختها آية السيف. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي عَصَوْكَ، عَلَى أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِإِنْذَارِهِمْ، وَهُمُ العشيرة، والذي برىء مِنْهُ هُوَ عِبَادَتُهُمُ الْأَصْنَامَ وَاتِّخَاذُهُمْ إِلَهًا آخَرَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فَإِنْ عَصَوْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَحْكَامِ وَفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ تَصْدِيقِكَ وَالْإِيمَانِ بِكَ، فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، لَا مِنْكُمْ، أَيْ أَظْهِرْ عَدَمَ رِضَاكَ بِعَمَلِهِمْ وَإِنْكَارَكَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، مَا بَقِيَ بَعْدَ هَذَا شَفِيعًا لِلْعُصَاةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: فَتَوَكَّلْ بِالْفَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْوَاوِ. وَنَاسَبَ الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، وَبِالرَّحِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُكَ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُمَا اللَّتَانِ جَاءَتَا فِي أَوَاخِرِ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَالتَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ هُوَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ كَافِيهِ شر من بعضه مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَهُوَ يَقْهَرُ أَعْدَاءَكَ بِعِزَّتِهِ، وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ. وَالتَّوَكُّلُ هُوَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ الْأَمْرَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ وُصِفَ بِأَنَّهُ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُ بِمَرْأًى، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ أَنْ أهلك لعبادته،

_ (1) سورة يونس: 10/ 2. (2) سورة التوبة: 9/ 123.

وَمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَهَجُّدِكَ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَقَلُّبَكَ مَصْدَرُ تَقَلَّبَ، وَعُطِفَ عَلَى الْكَافِ فِي يَراكَ . وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وَتَقَلُّبَكَ مُضَارِعُ قَلَّبَ مُشَدَّدًا، عَطْفًا عَلَى يَراكَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي السَّاجِدِينَ: فِي الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي أَصْلَابِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى خَرَجْتَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَرَاكَ قَائِمًا وَسَاجِدًا. وَقِيلَ: مَعْنَى تَقُومُ : تَخْلُو بِنَفْسِكَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْمُرَادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، كَمَا قَالَ: «أَتِمُّوا الركوع والسجود فو الله إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي» . وَفِي الْوَجِيزِ لِابْنِ عَطِيَّةَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ قِيَامَ الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَفِي السَّاجِدِينَ: أَيْ صَلَاتَكَ مَعَ الْمُصَلِّينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ: أَرَادَ وَتَقَلُّبَكَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالسَّاجِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَرَادَ الْأَنْبِيَاءَ، أَيْ تَقَلُّبَكَ كَمَا تَقَلَّبَ غَيْرُكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ قِيَامِهِ لِلتَّهَجُّدِ، وَتَقَلُّبِهِ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمُتَهَجِّدِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، لِيَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَسْتَبْطِنَ سَرَائِرَهُمْ وَكَيْفَ يَعْمَلُونَ لِآخِرَتِهِمْ. كَمَا يُحْكَى أَنَّهُ حِينَ نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِ اللَّيْلِ، طَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِبُيُوتِ أَصْحَابِهِ لِيَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ، بِحِرْصِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَا يُوجَدُ مِنْهُمْ مِنْ فَعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَكْثِيرِ الْحَسَنَاتِ، فَوَجَدَهَا كَبُيُوتِ الزَّنَابِيرِ، لِمَا سَمِعَ مِنْ دَنْدَنَتِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتِّلَاوَةِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّاجِدِينَ: الْمُصَلُّونَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ جَمَاعَةً، وَتَقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ: تَصَرُّفُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِقِيَامِهِ وَرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَقُعُودِهِ إِذَا أَمَّهُمْ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَخْفَى عَلَيَّ حَالُكَ كُلَّمَا قُمْتَ وَتَقَلَّبْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي كِفَايَةِ أُمُورِ الدِّينِ. انْتَهَى. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُهُ، الْعَلِيمُ بما تنوبه وَتَعْمَلُهُ، وَذَهَبَتِ الرَّافِضَةُ إِلَى أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالُوا: فَاحْتَمَلَ الْوُجُوهَ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ رُوحَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ، كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ. فَإِذَا احْتَمَلَ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ ضَرُورَةً، لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ وَلَا رُجْحَانَ. وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا

الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » «1» فَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ «2» ، فَلَفْظُ الْأَبِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمِّ، كَمَا قَالُوا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ لَهُ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3» ،. سَمَّوْا إِسْمَاعِيلَ أَبًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا لَهُ. قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ وَتَقْرِيرٍ. وَعَلَى مَنْ مُتَعَلِّقٌ بتنزل، وَالْجُمْلَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأُنَبِّئُكُمْ، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أُعْلِمُكُمْ، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا مُتَعَدِّيَةً لِاثْنَيْنِ، كَانَتْ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِنْ قَدَّرْتَهَا مُتَعَدِّيَةً لِثَلَاثَةٍ، كَانَتْ سَادَّةً مَسَدَّ الِاثْنَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا عُلِّقَ عَنْهُ الْعَامِلُ، لَا يَبْقَى عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ وهو الاستعلام، بل يؤول مَعْنَاهُ إِلَى الْخَبَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: عَلِمْتُ أَزْيَدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو، كَانَ الْمَعْنَى: عَلِمْتَ أَحَدَهُمَا فِي الدَّارِ؟ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ عِلْمٌ، ثُمَّ اسْتَعْلَمَ الْمُخَاطَبَ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ فِي الدَّارِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَالْمَعْنَى هُنَا: هَلْ أُعْلِمُكُمْ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِ؟ لَا أَنَّهُ اسْتَعْلَمَ الْمُخَاطَبِينَ عَنِ الشَّخْصِ الَّذِي تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هَذَا، جَاءَ الْإِخْبَارُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِكَذَا؟ قِيلَ لَهُ: أَخْبِرْ، فَقَالَ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْكَذِبُ، أَثِيمٌ: كَثِيرُ الْإِثْمِ. فَأَفَّاكٌ أَثِيمٌ: صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَالْمُرَادُ الْكَهَنَةُ. وَالضَّمِيرُ فِي يُلْقُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الشَّيَاطِينِ، أَيْ يُنْصِتُونَ وَيُصْغُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ، لِيَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِمَّا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى يَنْزِلُوا بِهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، أَوْ: يُلْقُونَ السَّمْعَ: أَيِ الْمَسْمُوعَ إِلَى مَنْ يَتَنَزَّلُونَ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُهُمْ: أَيْ وَأَكْثَرُ الشَّيَاطِينِ الْمُلْقِينَ كاذِبُونَ. فَعَلَى مَعْنَى الْإِنْصَاتِ يَكُونُ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَعَلَى إِلْقَاءِ الْمَسْمُوعِ إِلَى الْكَهَنَةِ احْتَمَلَ الِاسْتِئْنَافَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ مُلْقِينَ مَا سَمِعُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي يُلْقُونَ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ، لِأَنَّ كُلَّ أَفَّاكٍ فِيهِ عُمُومٌ وَتَحْتَهُ أَفْرَادٌ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يُلْقُونَ سَمْعَهُمْ إِلَى الشَّيَاطِينِ، لِيَنْقُلُوا عَنْهُمْ مَا يُقَرِّرُونَهُ فِي أَسْمَاعِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ يُلْقُونَ السَّمْعَ، أَيِ الْمَسْمُوعَ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، أَيْ أَكْثَرُ الْكَهَنَةِ كَاذِبُونَ. كَمَا جَاءَ أَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كذبة. فإذا صدقت

_ (1) سورة التوبة: 9/ 28. (2) سورة الأنعام: 6/ 74. (3) سورة البقرة: 2/ 133.

تِلْكَ الْكَلِمَةُ، - كَانَتْ سَبَبَ ضَلَالَةٍ لِمَنْ سَمِعَهَا. وَعَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ يُلْقُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنِ الْأَفَّاكِينَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ أَفَّاكٍ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: كُلِّ أَفَّاكٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، لِأَنَّ الْأَفَّاكَ هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ الْكَذِبَ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِالْإِفْكِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَفَّاكِينَ مَنْ صَدَقَ مِنْهُمْ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الْجِنِّيِّ، فَأَكْثَرُهُمْ مُغْتَرٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، لِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَخْوَانِ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُنَّ بِآيَاتٍ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُنَّ، لِيُرْجَعَ إِلَى الْمَجِيءِ بِهِنَّ، وَيُطْرِيهِ ذِكْرُ مَا فِيهِنَّ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، فَيَدُلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نُزِّلْنَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي أَسْنَدَتْ كَرَاهَةَ الله لها، وَمِثَالُهُ: أَنْ يُحَدِّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ، وَفِي صَدْرِهِ اهْتِمَامٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَفَضْلُ عِنَايَةٍ، فَتَرَاهُ يُعِيدُ ذِكْرَهُ وَلَا يَنْفَكُّ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ الْكَهَنَةَ بِإِفْكِهِمُ الْكَثِيرِ وَحَالِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ، نَفْيَ كَلَامِ الْقُرْآنِ، إِذْ كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ قَالَ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ شِعْرٌ، كَمَا قَالُوا فِي الرَّسُولِ: إِنَّهُ كَاهِنٌ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَهَانَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ «1» ، وَقَالَ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ «2» . فَقَالَ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. قِيلَ: هِيَ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبِي عَزَّةَ، وَمُسَافِعٍ الْجُمَحِيِّ، وَهُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَابْنِ الزِّبَعْرَى. وَقَدْ أَسْلَمَ ابْنُ الزِّبَعْرَى وَأَبُو سُفْيَانَ. وَالشُّعَرَاءُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَاعِرٍ، وَالْمَذْمُومُ مَنْ يَهْجُو وَيَمْدَحُ شَهْوَةً مُحَرَّمَةً، وَيَقْذِفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَيَقُولُ الزُّورَ وَمَا لَا يَسُوغُ شَرْعًا. وَقَرَأَ عِيسَى: وَالشُّعَرَاءَ: نَصْبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالْجُمْهُورُ: رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَنَافِعٌ يَتْبَعُهُمْ مُخَفَّفًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُشَدَّدًا وَسَكَّنَ الْعَيْنَ: الْحَسَنُ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَرَوَى هَارُونُ: نَصْبَهَا عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ مُشْكِلٌ. وَالْغاوُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّوَاةُ، وَقَالَ أَيْضًا: الْمُسْتَحْسِنُونَ لِأَشْعَارِهِمْ، الْمُصَاحِبُونَ لَهُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّعَاعُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّاعِرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: الشَّيَاطِينُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: السُّفَهَاءُ الْمُشْرِكُونَ يَتَّبِعُونَ شُعَرَاءَهُمْ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ: تَمْثِيلٌ لِذَهَابِهِمْ فِي كُلِّ شِعْبٍ من القول،

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 69. (2) سورة الحاقة: 69/ 41.

وَاعْتِسَافِهِمْ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِالْغُلُوِّ فِي الْمَنْطِقِ، وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْقَصْدِ فِيهِ، حَتَّى يُفَضِّلُوا أَجْبَنَ النَّاسِ عَلَى عَنْتَرَةَ، وَأَشَحَّهُمْ عَلَى حَاتِمٍ، وَيُبْهِتُوا الْبَرِيءَ، وَيُفَسِّقُوا التَّقِيَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تَقْبِيحُهُمِ الْحَسَنَ، وَتَحْسِينُهُمُ الْقَبِيحَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَذَلِكَ لِغُلُوِّهِمْ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ، وَلَهْجِهِمْ بِالْفَصَاحَةِ وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ، قَدْ يَنْسُبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ما لا يقع منهم. وَقَدْ دَرَأَ الْحَدَّ فِي الْخَمْرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، عن النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيٍّ، فِي شِعْرٍ قَالَهُ لِزَوْجَتِهِ حِينَ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ قَدِ وَلَّاهُ بِيسَانَ، فَعَزَلَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَحُدَّهُ والفرزدق، سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: فَبِتْنَ كَأَنَّهُنَّ مُصَرَّعَاتٍ ... وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: لَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ: لَقَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الشُّعَرَاءِ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ حَالَ النُّبُوَّةِ، إِذْ أَمْرُهُمْ، كَمَا ذَكَرَ، مِنَ اتِّبَاعِ الْغُوَاةِ لَهُمْ، وَسُلُوكِهِمْ أَفَانِينَ الْكَلَامِ مِنْ مَدْحِ الشَّيْءِ وَذَمِّهِ، وَنِسْبَةِ مَا لَا يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهَا طَرِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا يتبعها إلا الراشدون. دعوة الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ وَالصِّدْقِ. هَذَا مَعَ أَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ. وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ ذَمًّا لِلشُّعَرَاءِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّعْرِ وَإِذَا نَظَمُوا شِعْرًا كَانَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى رسوله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَصَحْبِهِ، وَالْمَوْعِظَةِ وَالزُّهْدِ وَالْآدَابِ الْحَسَنَةِ وَتَسْهِيلِ عِلْمٍ، وَكُلِّ مَا يَسُوغُ الْقَوْلُ فِيهِ شَرْعًا فَلَا يَتَلَطَّخُونَ فِي قَوْلِهِ بِذَنْبٍ وَلَا مَنْقَصَةٍ. وَالشِّعْرُ بَابٌ مِنَ الْكَلَامِ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ. وَقَالَ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ صَدْرِيَ لِيَجِيشُ بِالشِّعْرِ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ فِيمَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَثْنِينَ: حَسَّانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَعْبُ بْنُ زهير، ومن كان ينافخ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَعْبِ بْنِ مالك: «اهجهم فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبْلِ» . وَقَالَ لِحَسَّانَ: «قُلْ وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَانْتَصَرُوا: أَيْ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ ظَلَمَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا ذَمَّ الشُّعَرَاءَ بِقَوْلِهِ: وَالشُّعَراءُ الْآيَةَ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَّانَ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَدِينَةِ، وَخَصَّ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلَهُ: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، فَقَالَ: أَيْ فِي شِعْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ

خُلُقًا لَهُمْ وَعَادَةٌ، كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ، حِينَ طُلِبَ مِنْهُ شِعْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَنِي بِالشِّعْرِ الْقُرْآنَ خَيْرًا مِنْهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، تَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ هَذَا التَّوَعُّدَ الْعَظِيمَ الْهَائِلَ الصَّادِعَ لِلْأَكْبَادِ وَأَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. وَلَمَّا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، تَلَا عَلَيْهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاعَظُونَ بِهَا. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمْ الْكُفَّارُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ تَعْلِيلٌ، وَكَانَ ذَكَرَ قَبْلُ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مُطْلَقٌ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ أَرْقَمَ، عَنِ الْحَسَنِ: أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ، بِفَاءٍ وَتَاءَيْنِ، مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَنْفَلِتُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَسَيَعْلَمُونَ أَنْ لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الِانْفِلَاتِ، وَهُوَ النَّجَاةُ. وَسَيَعْلَمُ هُنَا مُعَلَّقَةٌ، وَأَيَّ مُنْقَلَبٍ: اسْتِفْهَامٌ، وَالنَّاصِبُ لَهُ يَنْقَلِبُونَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لسيعلم. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ مُنْقَلَبٍ مَصْدَرٌ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْعَامِلُ يَنْقَلِبُونَ انْقِلَابًا، أَيَّ مُنْقَلَبٍ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ يَعْلَمُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا تَخْلِيطٌ، لأن أيا، إِذَا وُصِفَ بِهَا، لَمْ تَكُنِ اسْتِفْهَامًا، بَلْ أَيُّ الْمَوْصُوفِ بِهَا قَسَمٌ لِأَيِّ الْمُسْتَفْهَمِ بِهَا، لَا قَسَمٌ. فَأَيُّ تَكُونُ شَرْطِيَّةً وَاسْتِفْهَامِيَّةً وَمَوْصُولَةً، وَوَصْفًا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ مَوْصُوفَةً بِنَكِرَةٍ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِأَيٍّ مُعَجِّبٍ لَكَ، وَتَكُونُ مُنَادَاةً وَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ. وَالْأَخْفَشُ يَزْعُمُ أَنَّ الَّتِي فِي النِّدَاءِ مَوْصُولَةٌ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا قَسَمٌ بِرَأْسِهِ، وَالصِّفَةِ تَقَعُ حَالًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ أَيٍّ فَإِذَا قُلْتَ: قَدْ عَلِمْتَ أَيَّ ضَرْبٍ تَضْرِبُ، فَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، لَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ محذوف.

سورة النمل

سورة النّمل [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 44] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

الْوَزْعُ: أَصْلُهُ الْكَفُّ وَالْمَنْعُ، يُقَالُ: وَزَعَهُ يَزَعُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ» ، وقول احسن: لَا بُدَّ لِلْقَاضِي مِنْ وَزَعَةٍ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وَحَيَاؤُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازِعُ النَّمْلُ: جِنْسٌ، وَاحِدُهُ نَمْلَةٌ، وَيُقَالُ بِضَمِّ الْمِيمِ فِيهِمَا، وَبِضَمِّ النُّونِ مَعَ ضَمِّ الْمِيمِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَنَمُّلِهِ، وَهُوَ حَرَكَتُهُ. الْحَطْمُ: الْكَسْرُ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. التَّبَسُّمُ: ابْتِدَاءُ الضَّحِكِ، وَتَفَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ بَسَمَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّرًا ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دعص له ند وَقَالَ آخَرُ: أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ التَّفَقُّدُ: طَلَبُ مَا فَقَدْتَهُ وَغَابَ عَنْكَ. الْهُدْهُدُ: طَائِرٌ مَعْرُوفٌ، وَتَصْغِيرُهُ عَلَى الْقِيَاسِ هُدَيْهِدٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ يَاءَهُ أُبْدِلَتْ أَلِفًا فِي التَّصْغِيرِ، فَقِيلَ: هُدَاهِدُ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَهُدَاهِدٍ كَسَرَ الرُّمَاةُ جَنَاحَهُ كَمَا قَالُوا: دُوَابَّةٌ وَشُوَابَّةٌ، يُرِيدُونَ: دُوَيْبَّةً وَشُوَيْبَّةً. سَبَأٌ: هُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَهُوَ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ إِذَا صَارَ اسْمًا لِلْحَيِّ وَالْقَبِيلَةِ، أَوِ الْبُقْعَةِ الَّتِي تُسَمَّى مَأْرِبَ

سُمِّيَتْ بِاسْمِ الرَّجُلِ. الْخَبْءُ: الشَّيْءُ الْمَخْبُوءُ، مِنْ خَبَأْتُ الشَّيْءَ خَبْأً: سَتَرْتُهُ، وَسُمِّيَ الْمَفْعُولَ بِالْمَصْدَرِ. الْهَدِيَّةُ: مَا سِيقَ إِلَى الْإِنْسَانِ مِمَّا يُتْحَفُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التكرمة. العفريت والعفر والعفرتة والعفارتة مِنَ الرِّجَالِ: الْخَبِيثُ الْمُنْكَرُ الَّذِي يُعَفِّرُ أَقْرَانَهُ، وَمِنَ الشَّيَاطِينِ: الْخَبِيثُ الْمَارِدُ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مُصَوَّبٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ الصَّرْحُ: الْقَصْرُ، أَوْ صَحْنُ الدَّارِ، أَوْ سَاحَتُهَا، أَوِ الْبِرْكَةُ، أَوِ الْبَلَاطُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْقَوَارِيرِ، أَقْوَالٌ تَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ. السَّاقُ: مَعْرُوفٌ، يُجْمَعُ عَلَى أَسْوُقٍ فِي الْقِلَّةِ، وَعَلَى سُوُوقٍ وَسُوقٍ فِي الْكَثْرَةِ، وَهَمْزُهُ لُغَةٌ: الْمُمَرَّدُ: الْمُمَلَّسُ، وَمِنْهُ الْأَمْرَدُ، وَشَجَرَةٌ مَرْدَاءُ: لَا وَرَقَ عَلَيْهَا. الْقَوَارِيرُ: جَمْعُ قَارُورَةٍ. طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ، هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ، أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ، وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ، فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَقَبْلَهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَقَالَ هُنَا: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ: أَيِ الَّذِي هُوَ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى الْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لَهَا وَالتَّعْظِيمِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَى الْعَظِيمِ عَظِيمٌ. وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ، إِمَّا اللَّوْحُ، وَإِبَانَتُهُ أَنْ قَدْ خُطَّ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ فَهُوَ يُبَيِّنُهُ لِلنَّاظِرِينَ، وَإِمَّا السُّورَةُ، وَإِمَّا الْقُرْآنُ، وَإِبَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا يُبَيِّنَانِ مَا أُودِعَاهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ وَالشَّرَائِعِ. وَأَنَّ إِعْجَازَهُمَا

ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ وَنُكِّرَ. وَكِتابٍ مُبِينٍ، لِيُبْهَمَ بِالتَّنْكِيرِ، فَيَكُونَ أَفْخَمَ لَهُ كَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «1» . وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطَفَ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، لِتَغَايُرِهِمَا فِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالصِّفَةِ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَدْلُولَ الْقُرْآنِ الِاجْتِمَاعُ، وَمَدْلُولَ كِتَابٍ الْكِتَابَةُ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وَالْكِتَابُ اسْمَانِ عَلَمَانِ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَيْثُ جَاءَ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ، فَهُوَ الْعَلَمُ، وَحَيْثُ جَاءَ بِوَصْفِ النَّكِرَةِ، فَهُوَ الْوَصْفُ، وَقِيلَ: هُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْعَبَّاسِ، وَعَبَّاسٍ فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ اسْمُ الْعَلَمِ. انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ، إِذْ لَوْ كَانَ حَالُهُ نُزِعَ مِنْهُ عَلَمًا، مَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِالنَّكِرَةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَكِتابٍ مُبِينٍ، وَقُرْآنٍ مُبِينٍ «2» ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِعَبَّاسٍ قَائِمٍ، تُرِيدُ بِهِ الْوَصْفَ؟ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وكتاب مُبِينٌ، بِرَفْعِهِمَا، التَّقْدِيرُ: وَآيَاتُ كِتَابٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَأُعْرِبَ بِإِعْرَابِهِ. وَهُنَا تَقَدَّمَ الْقُرْآنُ عَلَى الْكِتَابِ، وَفِي الْحِجْرِ عَكْسُهُ، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ، وَهَذَا كَالْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي نَحْوِ: مَا جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. فَتَارَةٌ يَظْهَرُ تَرْجِيحٌ كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ «3» ، وَتَارَةً لَا يَظْهَرُ كَقَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً «4» . قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: هُدىً إِلَى الْجَنَّةِ، وَبُشْرى بِالثَّوَابِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُدًى مِنَ الضَّلَالِ، وَبُشْرَى بِالْجَنَّةِ، وَهُدًى وَبُشْرَى مَقْصُورَانِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَا مَنْصُوبَيْنِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ هَادِيَةً وَمُبَشِّرَةً. قِيلَ: وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ، وَاحْتَمَلَا الرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. أَيْ هِيَ هُدًى وَبُشْرَى أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ آيَاتٍ أَوْ عَلَى خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ جَمَعَتْ بَيْنَ كَوْنِهَا آيَاتٍ وَهُدًى وَبُشْرَى. وَمَعْنَى كَوْنِهَا هَدًى لِلْمُؤْمِنِينَ: زِيَادَةُ هُدَاهُمْ. قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «5» . وَقِيلَ: هُدًى لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَيَكُونُ الْهُدَى بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّبْيِينِ، لَا بِمَعْنَى تَحْصِيلِ الْهُدَى الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الضَّلَالِ. وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ: تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ. وَلَمَّا كَانَ: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ وَلَا يَسْتَغْرِقُ الْأَزْمَانَ، جَاءَتِ

_ (1) سورة القمر: 54/ 55. (2) سورة الحجر: 15/ 1. (3) سورة آل عمران: 3/ 18. (4) سورة الأعراف: 7/ 161. (5) سورة التوبة: 9/ 124. [.....]

الصِّلَةُ فِعْلًا. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ مُسْتَقِرُّ الدَّيْمُومَةِ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، وَأَكَّدَتِ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فِيهَا بِتَكْرَارِهِ، فَقِيلَ: هُمْ يُوقِنُونَ وَجَاءَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فِعْلًا لِيَدُلَّ عَلَى الدَّيْمُومَةِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتِمَّ الصِّلَةُ عِنْدَهُ، أَيْ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُمْ، قَالَ: وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ هُمُ الْمُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَقَدَ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً وَكَرَّرَ فِيهَا الْمُبْتَدَأُ الَّذِي هُوَ هُمْ، حَتَّى صَارَ مَعْنَاهَا: وَمَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ حَقَّ الْإِيقَانِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْعَاقِبَةِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً، هُوَ عَلَى غَيْرِ اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ فِي الْجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ، كَوُقُوعِهَا بَيْنَ صِلَةِ وموصولة، وَبَيْنَ جُزْأَيْ إِسْنَادٍ، وَبَيْنَ شَرْطٍ وَجَزَائِهِ، وَبَيْنَ نَعْتٍ وَمَنْعُوتٍ، وَبَيْنَ قَسَمٍ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ، وَهُنَا لَيْسَتْ وَاقِعَةً بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِمَّا ذُكِرَ وَقَوْلُهُ إِلْخَ. حَتَّى صَارَ مَعْنَاهَا فِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالزَّكَاةُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمَفْرُوضَةِ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَفْرُوضَةَ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ. وَقِيلَ: الزَّكَاةُ هُنَا بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ مِنَ النَّقَائِصِ وَمُلَازِمَةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ بِالْبَعْثِ، ذَكَرَ الْمُنْكِرِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَالْأَعْمَالُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالَ الْخَيْرِ وَالتَّوْحِيدِ الَّتِي كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالَهُمْ، فَعَمُوا عَنْهَا وَتَرَدَّدُوا وَتَحَيَّرُوا، وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَوْ أَعْمَالَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ حَبَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَزَيَّنَهُ بِأَنْ خَلَقَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَرَأَوْا تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ حَسَنَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف أسند تزين أَعْمَالِهِمْ إِلَى ذَاتِهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ «1» ؟ قُلْتُ: بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ فَرْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ حَقِيقَةٌ، وَإِسْنَادَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، وَلَهُ طَرِيقَانِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَجَازُ الَّذِي يُسَمَّى الِاسْتِعَارَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَجَازِ الْمَحْكِيِّ. فَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا مَتَّعَهُمْ بِطُولِ الْعُمْرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَجَعَلُوا إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ ذَرِيعَةً إِلَى اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ وَبَطَرِهِمْ وَإِيثَارِهِمُ التَّرَفُّهَ وَنِفَارِهِمْ عَمَّا يَلْزَمُهُمْ فِيهِ التَّكَالِيفُ الصَّعْبَةُ وَالْمَشَاقُّ الْمُتْعِبَةُ، فَكَأَنَّهُ زَيَّنَ لَهُمْ بِذَلِكَ أَعْمَالَهُمْ، وَإِلَيْهِ إِشَارَةُ

_ (1) سورة النمل: 27/ 24، وسورة العنكبوت: 29/ 38.

الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِمْ: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ «1» . وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ إِمْهَالَهُ الشَّيْطَانَ وَتَخْلِيَتَهُ حَتَّى يُزَيِّنَ لَهُمْ مُلَابَسَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلتَّزْيِينِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْمُخْتَارُ الْمَحْكِيُّ بِبَعْضِ الْمُلَابَسَاتِ. انْتَهَى، وَهُوَ تَأْوِيلٌ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. أُوْلئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى منكري البعث، وسُوءُ الْعَذابِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالدُّنْيَا، بَلْ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي الدُّنْيَا، وَفُسِّرَ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ. وَقِيلَ: مَا يَنَالُونَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَسُوءُ الْعَذَابِ: شِدَّتُهُ وَعِظَمُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَخْسَرُونَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ خُسْرَانًا، إِذْ مَآلُهُ إِلَى عِقَابٍ دَائِمٍ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا أَصَابَهُ بَلَاءٌ، فَقَدْ يَزُولُ عَنْهُ وَيَنْكَشِفُ. فَكَثْرَةُ الْخُسْرَانِ وَزِيَادَتُهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تُرَتَّبُ الْأَكْثَرِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ وَاحِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، أَوِ الْهَيْئَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَفْعَلُ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِلشَّرِكَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ خُسْرَانٌ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُشْرِكَهُ فِيهِ الْكَافِرُ وَيَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ الِاشْتِرَاكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَخْسَرُونَ جَمْعُ أَخْسَرَ، لِأَنَّ أَفْعَلَ صِفَةٌ لَا يُجْمَعُ إِلَّا أَنَّ يُضَافَ، فَتَقْوَى رُتْبَتُهُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. انْتَهَى. وَلَا نَظَرَ فِي كَوْنِهِ يُجْمَعُ جَمْعَ سَلَامَةٍ وَجَمْعَ تَكْسِيرٍ. إذا كان بأل، بَلْ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا ذَلِكَ، إِذَا كَانَ قَبْلَهُ مَا يُطَابِقُهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ فَيَقُولُ: الزَّيْدُونَ هُمُ الْأَفْضَلُونَ، وَالْأَفَاضِلُ، وَالْهِنْدَاتُ هُنَّ الْفُضْلَيَاتُ وَالْفُضْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لا يجمع إلا أن يُضَافَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ جَمْعُهُ، بَلْ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ فَلَا يَجُوزُ جَمْعُهُ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ جَازَ فِيهِ الْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ عَلَى مَا قُرِّرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ، خَاطَبَ نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ، أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي تَلَقَّيْتَهُ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، لَا كَمَا ادَّعَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّهُ إِفْكٌ وَأَسَاطِيرُ وَكَهَانَةٌ وَشِعْرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَقَوُّلَاتِهِمْ. وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «2» . وَلَقَّى يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، فَيُعَدَّى بِهِ إِلَى اثْنَيْنِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ فَلَقِيَهُ فَتَلَقَّاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهُ يُعْطَى، كَمَا قَالَ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «3» .

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 18. (2) سورة الشعراء: 26/ 193. (3) سورة فصلت: 41/ 35.

وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى وَإِنَّكَ لَتُقَبَّلُ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تُلَقَّنُ. وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ عَمَلِيًّا وَنَظَرِيًّا، وَكَمَالُ الْعِلْمِ: تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَبَقَاؤُهُ مَصُونًا عَنْ كُلِّ التَّغَيُّرَاتِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدٌ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ وَبَيَانُ قَصَصِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَلَقِّيهِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، وَإِعْلَامِهِ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ دَقِيقَ عِلْمِهِ تَعَالَى. قِيلَ: وَانْتَصَبَ إِذْ بِاذْكُرْ مُضْمَرَةً، أَوْ بعليم وليس انتصابه بعليم وَاضِحًا، إِذْ يَصِيرُ الْوَصْفُ مُقَيَّدًا بِالْمَعْمُولِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رِحْلَتِهِ بِأَهْلِهِ مِنْ مَدْيَنَ: فِي سُورَةِ طه، وَظَاهِرُ أَهْلِهِ جمع لقوله: سَآتِيكُمْ وتَصْطَلُونَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُ امْرَأَتِهِ. وَقِيلَ: كَانَتْ وَلَدَتْ لَهُ، وَهُوَ عِنْدَ شُعَيْبٍ، وَلَدًا، فَكَانَ مَعَ أُمِّهِ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ، كَانَ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ. وَكَانَ الطَّرِيقُ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَالْوَقْتُ بَارِدٌ، وَالسَّيْرُ فِي لَيْلٍ، فَتَشَوَّقَتْ نَفْسُهُ، إِذْ رَأَى النَّارَ إِلَى زَوَالِ مَا لَحِقَ مِنْ إِضْلَالِ الطَّرِيقِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ فَقَالَ: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ: أَيْ مِنْ مَوْقِدِهَا بِخَبَرٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ: أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُخْبِرُ، فَإِنِّي أَسَتَصْحِبُ مَا تدفؤون بِهِ مِنْهَا. وَهَذَا التَّرْدِيدُ بأو ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ كَانَ مَطْلُوبُهُ أَوَّلًا أَنْ يَلْقَى عَلَى النَّارِ مَنْ يُخْبِرُهُ بِالطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ مُسَافِرٌ لَيْسَ بِمُقِيمٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ، فَهُوَ مُقِيمٌ، فَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْبَرْدِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا يَصْطَلُونَ، فَلَيْسَ مُحْتَاجًا لِلشَّيْئَيْنِ مَعًا، بَلْ لِأَحَدِهِمَا الْخَبَرُ إِنْ وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ فَيَرْحَلُ، أَوْ الِاصْطِلَاءُ إِنْ لَمْ يَجِدْ وَأَقَامَ. فَمَقْصُودُهُ إِمَّا هِدَايَةُ الطَّرِيقِ، وَإِمَّا اقْتِبَاسُ النَّارِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً «1» . وَجَاءَ هُنَا: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ، وَهُوَ خَبَرٌ، وَفِي طه: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ «2» ، وَفِي الْقَصَصِ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ «3» ، وَهُوَ تَرَجٍّ، وَمَعْنَى التَّرَجِّي مُخَالِفٌ لِمَعْنَى الْخَبَرِ. وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ إِذَا قَوِيَ، جَازَ لِلرَّاجِي أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْخَيْبَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ. وَأَتَى بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ، إِمَّا لِأَنَّ الْمَسَافَةَ كَانَتْ بَعِيدَةً، وَإِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ يمكن أن يبطىء لِمَا قُدَّرَ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُبْطِئُهُ. وَالشِّهَابُ: الشُّعْلَةُ، وَالْقَبَسُ: النَّارُ الْمَقْبُوسَةُ، فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ النَّارِ فِي عُودٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي طه. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِشِهَابٍ مُنَوَّنًا، فَقَبَسٌ بَدَلٌ أَوْ صِفَةٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَقْبُوسِ. وَقَرَأَ باقي

_ (1) سورة طه: 20/ 10. (2) سورة طه: 20/ 10. (3) سورة القصص: 28/ 29.

السَّبْعَةِ: بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَضَافَ الشِّهَابَ إِلَى الْقَبَسِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَبَسًا وَغَيْرَ قَبَسٍ، وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ أَبَا الْحَسَنِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: الْإِضَافَةُ أَجْوَدُ وَأَكْثَرُ فِي الْقِرَاءَةِ، كَمَا تَقُولُ: دَارُ آجُرٍّ، وَسَوَارُ ذَهَبٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي جاءَها عَائِدٌ عَلَى النَّارِ، وَقِيلَ: عَلَى الشَّجَرَةِ، وَكَانَ قَدْ رَآهَا فِي شَجَرَةِ سَمُرٍ خضراء. وَقِيلَ: عَلِيقٍ، وَهِيَ لَا تُحْرِقُهَا، كُلَّمَا قَرُبَ مِنْهَا بعدت. ونُودِيَ المفعول الذي لم يسم فَاعِلُهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السلام. وأَنْ عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِوُجُودِ شَرْطِ الْمُفَسِّرَةِ فِيهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. أَمَّا الثُّنَائِيَّةَ الَّتِي تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ، وَبُورِكَ صِلَةٌ لَهَا، وَالْأَصْلُ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِأَنَّ بُورِكَ، وَبُورِكَ خَبَرٌ. وَأَمَّا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَأَصْلُهَا حَرْفُ الْجَرِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَتَقْدِيرُهُ بِأَنَّهُ بُورِكَ، وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ؟ قُلْتُ: لَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَدْ. فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى إِضْمَارِهَا؟ قُلْتُ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ وَلَا تُحْذَفُ. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَبُورِكَ فِعْلُ دُعَاءٍ، كَمَا تَقُولُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ. وَإِذَا كَانَ دُعَاءً، لَمْ يَجُزْ دُخُولُ قَدْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها «1» فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: إِمَّا أَنْ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَإِمَّا أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكَ، وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنْ بُورِكَ خَبَرٌ لَا دُعَاءٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَنْ تَكُونَ أَنْ بُورِكَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ نودي بأن بُورِكَ، كَمَا تَقُولُ: نُودِيَ بِالرُّخَصِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ الثُّنَائِيَّةَ، أَوِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، فَيَكُونُ بُورِكَ دُعَاءً. وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ ضَمِيرُ النِّدَاءِ، أَيْ نُودِيَ هُوَ، أَيِ النِّدَاءَ، ثُمَّ فُسِّرَ بِمَا بَعْدَهُ. وَبُورِكَ مَعْنَاهُ: قُدِّسَ وَطُهِّرَ وَزِيدَ خَيْرُهُ، وَيُقَالُ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَبَارَكَ لَكَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وَبُورِكْتَ نَاشِئًا ... وَبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيْبِ إِذْ أَنْتَ أَشِيبُ وَقَالَ آخَرُ: بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا ... بُورِكَ نَبْعُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَبُورِكَ فِي بَنِيكَ وَفِي بَنِيهِمْ ... إِذَا ذُكِرُوا ونحن لك الفداء

_ (1) سورة النور: 24/ 9.

ومَنْ: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا لِمَنْ يُعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: أَرَادَ تَعَالَى بِمَنْ فِي النَّارِ ذَاتَهُ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِعِبَارَاتٍ شَنِيعَةٍ مَرْدُودَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذَكَرَ أَوَّلَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ بُورِكَ مَنْ قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي النَّارِ. وَقِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَيْ بُورِكَ مَنْ فِي الْمَكَانِ أَوِ الْجِهَةِ الَّتِي لَاحَ لَهُ فِيهَا النَّارُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَنْ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا. وَقِيلَ: مَنْ تَقَعُ هُنَا عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ النُّورَ. وَقِيلَ: الشَّجَرَةَ الَّتِي تَتَّقِدُ فِيهَا النَّارُ. وَقِيلَ: وَالظَّاهِرُ فِي وَمَنْ حَوْلَها أَنَّهُ لِمَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَ يَا مُوسى، وَفُسِّرَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فِيمَا نَقَلَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي: وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتُحْمَلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَفُسِّرَ أَيْضًا بِمُوسَى وَالْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعًا. وَقِيلَ: تَكُونُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَفُسِّرَ بِالْأَمْكِنَةِ الَّتِي حَوْلَ النَّارِ وَجَدِيرٌ أَنْ يُبَارَكَ مَنْ فِيهَا ومن حواليها إذا حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ تَكْلِيمُ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَنْبِيئُهُ وَبَدْؤُهُ بِالنِّدَاءِ بِالْبَرَكَةِ تَبْشِيرٌ لِمُوسَى وَتَأْنِيسٌ لَهُ وَمُقَدِّمَةٌ لِمُنَاجَاتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: نُودِيَ. لَمَّا نُودِيَ بِبَرَكَةِ مَنْ ذُكِرَ، نُودِيَ أَيْضًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثِينَ مِمَّا عَسَى أَنْ يَخْطُرَ بِبَالٍ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ حُمِلَ مَنْ فِي النَّارِ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى التَّحَيُّزِ، فَأَتَى بِمَا يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى، لَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ قَالَ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ: وَبُورِكَ مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ. وَقِيلَ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خِطَابٌ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّنْزِيهُ. وَلَمَّا آنَسَهُ تَعَالَى، نَادَاهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فقال: يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَأَنَا اللَّهُ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: صِفَتَانِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ رَاجِعًا إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، يَعْنِي: إِنَّ مُكَلَّمَكَ أَنَا، وَاللَّهُ بيان لأنا، والعزيز الْحَكِيمُ صِفَتَانِ لِلْبَيَانِ. انْتَهَى. وَإِذَا حُذِفَ الْفَاعِلُ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، إِذْ قَدْ غُيِّرَ الْفِعْلُ عَنْ بِنَائِهِ لَهُ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُحْدَثًا عَنْهُ. فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ، إِذْ يَصِيرُ مَقْصُودًا مُعْتَنًى بِهِ، وَهَذَا النِّدَاءُ وَالْإِقْبَالُ وَالْمُخَاطَبَةُ تَمْهِيدٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى

أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْمُعْجِزِ، أَيْ أَنَا الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَبْعِدَ فِي الْأَوْهَامِ، الْفَاعِلُ مَا أَفْعَلُهُ بِالْحِكْمَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَلْقِ عَصاكَ؟ قُلْتُ: عَلَى بُورِكَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ. وَقِيلَ لَهُ: أَلْقِ عَصَاكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ «1» ، بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «2» ، عَلَى تَكْرِيرِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ، كَمَا تَقُولُ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَنْ حُجَّ وَاعْتَمِرْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ حُجَّ وَأَنِ اعْتَمِرْ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ، مَعْطُوفٌ عَلَى بُورِكَ مُنَافٍ لِتَقْدِيرِهِ. وَقِيلَ لَهُ: أَلْقِ عَصَاكَ، لِأَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى بُورِكَ، وَلَيْسَ جُزْؤُهَا الَّذِي هُوَ. وَقِيلَ: مَعْطُوفًا عَلَى بُورِكَ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ. وَقِيلَ لَهُ: أَلْقِ عَصَاكَ، لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً مُنَاسِبَةً لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ يَرَى فِي الْعَطْفِ تَنَاسُبَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ: وَأَلْقِ عَصاكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، عَطَفَ جُمْلَةَ الْأَمْرِ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ. وَقَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ: جَاءَ زَيْدٌ وَمَنْ عَمْرٌو. فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: جَأْنٌ، بِهَمْزَةٍ مَكَانَ الْأَلِفِ، كَأَنَّهُ فَرَّ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ، بِالْهَمْزِ فِي قِرَاءَةِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ. وَجَاءَ: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ «3» ، فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «4» ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِانْقِلَابِهَا وَتَغْيِيرِ أَوْصَافِهَا وَأَعْرَاضِهَا، وَلَيْسَ إِعْدَامًا لِذَاتِهَا وَخَلْقِهَا لِحْيَةٍ وَثُعْبَانٍ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ تَغْيِيرِ الصِّفَاتِ لَا تَغْيِيرِ الذَّاتِ. وَهُنَا شَبَّهَهَا حَالَةَ اهْتِزَازِهَا بِالْجَانِّ، فَقِيلَ: وَهُوَ صِغَارُ الْحَيَّاتِ، شَبَّهَهَا بِهَا فِي سُرْعَةِ اضْطِرَابِهَا وَحَرَكَتِهَا، مَعَ عِظَمِ جُثَّتِهَا. وَلَمَّا رَأَى مُوسَى هَذَا الْأَمْرَ الْهَائِلَ، وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَمْ يَرْجِعْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ يَمْكُثْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَمْ يَلْتَفِتْ، يُقَالُ: عَقَّبَ الرَّجُلُ: تَوَجَّهَ إِلَى شَيْءٍ كَانَ وَلَّى عَنْهُ، كَأَنَّهُ انْصَرَفَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُ: عَقَّبَ الْمُقَاتِلُ، إِذَا كَرَّ بَعْدَ الْفِرَارِ. قال الشاعر: فما عقبوا إِذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ ... وَلَا نَزَلُوا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ مَنْزِلًا وَلَحِقَهُ مَا لَحِقَ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ أَمْرًا هَائِلًا جِدًّا، وَهُوَ رُؤْيَةُ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً تَسْعَى، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ فِي ذَلِكَ تَطْمِينٌ إِلَيْهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا رَغِبَ لِظَنِّهِ أن

_ (1) سورة القصص: 28/ 31. (2) سورة القصص: 28/ 30. (3) سورة طه: 20/ 19. (4) سورة الأعراف: 7/ 107، وسورة الشعراء: 26/ 32.

ذَلِكَ لِأَمْرٍ أُرِيدَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْنِسًا وَمُقَوِّيًا عَلَى الْأَمْرِ: يَا مُوسى لَا تَخَفْ، فَإِنَّ رُسُلِي الذين اصطفيتم لِلنُّبُوَّةِ لَا يَخَافُونَ غَيْرِي. فَأَخَذَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَيَّةَ، فَرَجَعَتْ عَصًا، ثُمَّ صَارَتْ لَهُ عَادَةً. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخَافُ الْمُرْسَلُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُوحَى إِلَيْهِ فِيهِ، وَهُمْ أَخْوَفُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِذَا أَمَرْتُهُمْ بِإِظْهَارِ مُعْجِزٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ، فَالْمُرْسَلُ يَخَافُ اللَّهَ لَا مَحَالَةَ. انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ غَيْرُهُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ، إِذِ الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْ وُقُوعِ الظُّلْمِ الْوَاقِعِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّمَا يَخَافُ غَيْرُهُمْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ. وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ وَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَحْذُوفٍ مُحَالٌ، لَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ لَا يَضْرِبَ الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، بِمَعْنَى: وَإِنَّمَا أَضْرِبُ غَيْرَهُمْ إِلَّا زَيْدًا، وَهَذَا ضِدُّ الْبَيَانِ وَالْمَجِيءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا مَنْ ظَلَمَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَعْنَى إِلَّا مُبَايِنٌ لِمَعْنَى الْوَاوِ مُبَايَنَةً كَثِيرَةً، إِذِ الْوَاوُ لِلْإِدْخَالِ، وَإِلَّا لِلْإِخْرَاجِ، فَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُ أَحَدِهِمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَمُقَاتِلٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالضَّحَّاكِ، مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي هِيَ رَذَائِلُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا عَدَاهَا، فَعَسَى أَنْ يُشِيرَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ إِلَى مَا عَدَا ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ نَفْيَ الْخَوْفِ عَنِ الْمُرْسَلِ كَانَ ذلك مظنة لطرو الشبهة فَاسْتَدْرَكَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: وَلَكِنْ مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، أَيْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ صَغِيرَةٌ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَالَّذِي فَرَطَ مِنْ آدَمَ وَيُونُسَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ، وَمِنْ مُوسَى، بِوَكْزَةِ الْقِبْطِيِّ. وَيُوشِكُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَذَا التَّعْرِيضِ مَا وُجِدَ مِنْ مُوسَى، وَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضَاتِ الَّتِي يَلْطُفُ مَأْخَذُهَا، وَسَمَّاهُ ظُلْمًا كَمَا قَالَ مُوسَى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي «1» . انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَلَا مَنْ ظَلَمَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ. وَمَنْ: شَرْطِيَّةٌ. وَالْحُسْنُ: حُسْنُ التَّوْبَةِ، وَالسُّوءُ: الظُّلْمُ الَّذِي ارْتَكَبَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُسْنًا، بِضَمِّ الحاء وإسكان السين

_ (1) سورة القصص: 28/ 16.

مُنَوَّنًا. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَوَّنْ، جَعَلَهُ فُعْلَى، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَالسِّينِ مُنَوَّنًا. وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عمرو في رواية الْجُعْفِيِّ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَعِصْمَةُ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، وَهَارُونُ، وَعِيَاشٌ: بِفَتْحِهِمَا مُنَوَّنًا. وَأَدْخِلْ: أَمْرٌ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ، لَمَّا أَظْهَرَ لَهُ مُعْجِزًا فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَصَا، أَظْهَرَ لَهُ مُعْجِزًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَلَأْلُؤُ يَدِهِ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ نُورٍ، إِذَا فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَجَوَابُ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ تَخْرُجْ، لِأَنَّ خُرُوجَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى إِدْخَالِهَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَدْخُلْ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ، فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الثَّانِي، وَمِنَ الثَّانِي مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأَوَّلِ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي جَيْبِكَ: قَمِيصِكَ، كَانَتْ لَهُ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ لَا كُمَّيْنِ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: كَانَ كُمُّهَا إِلَى بَعْضِ يَدِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي جَيْبِكَ: أَيْ تَحْتَ إِبِطِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْهَبْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً، وَهَذَا الْحَذْفُ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُمْ ... فَقَالُوا الْجِنَّ قُلْتُ عِمُوا ظَلَامًا وَقُلْتُ إِلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... فَرِيقٌ يَحْسُدُ الْإِنْسُ الطَّعَامَا التَّقْدِيرُ: هَلُمُّوا إِلَى الطَّعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَلْقِ عَصَاكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ، فِي تِسْعِ آياتٍ، أَيْ فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَتِ الْآيَاتُ إِحْدَى عَشْرَةَ، ثَنَتَانِ مِنْهَا: الْيَدُ وَالْعَصَا، وَالتِّسْعُ: الْفَلْقُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالطَّمْسَةُ، والجذب فِي بَوَادِيهِمْ، وَالنُّقْصَانُ مِنْ مَزَارِعِهِمْ. انْتَهَى. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْعَصَا وَالْيَدُ دَاخِلَتَيْنِ فِي التِّسْعِ، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونَ فِي بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ تِسْعِ آيَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي تِسْعِ آياتٍ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أَلْقِ، وأَدْخِلْ، وَفِيهِ اقْتِضَابٌ وَحَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: تُمَهَّدْ ذَلِكَ وَتُيَسَّرْ لَكَ فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ وَهِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالطَّمْسُ، وَالْحَجَرُ وَفِي هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اخْتِلَافٌ، وَالْمَعْنَى: يَجِيءُ بِهِنَّ إِلَى فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي تِسْعِ آيَاتٍ، أَيْ مِنْ تِسْعِ آيَاتٍ، كَمَا تَقُولُ: خُذْ لِي عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا فَحْلَانِ، أَيْ مِنْهَا إِلَى فِرْعَوْنَ، أَيْ مُرْسَلًا إِلَى فِرْعَوْنَ. انْتَهَى. وَانْتُصِبَ مُبْصِرَةً عَلَى الْحَالِ، أَيْ بَيِّنَةٍ

وَاضِحَةٍ، وَنُسِبَ الْإِبْصَارَ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لَمَّا كَانَ يُبَصِّرُ بِهَا جُعِلَتْ مُبْصِرَةً، أَوْ لَمَّا كَانَ مَعَهَا الْإِبْصَارُ وَالْوُضُوحُ. وَقِيلَ: لجعلهم بصراء، من قول: أَبْصَرْتُهُ الْمُتَعَدِّيَةُ بِهَمْزَةِ النَّقْلِ مِنْ بَصَرَ. وَقِيلَ: فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَمَاءٍ دَافِقٍ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: مَبْصَرَةً، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِّ ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، كَمَا تَقُولُ: الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ، وَأُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَانْتَصَبَ أَيْضًا عَلَى الْحَالِ، وَكَثُرَ هَذَا الْوَزْنُ فِي صِفَاتِ الْأَمَاكِنِ نَحْوُ: أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ، وَمَكَانٌ مضية. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَكَانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ. انْتَهَى. وَالْأَبْلَغُ فِي: وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ، أَيْ كَفَرُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا فِي الظَّاهِرِ، وَقَدِ اسْتَيْقَنَتْ أَنْفُسُهُمْ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهَا آيَاتٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَابَرُوا وَسَمَّوْهَا سِحْرًا. وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ مُوسَى فِي مُحَاوَرَتِهِ لِفِرْعَوْنَ: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «1» . ظُلْماً: مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ، وَعُلُوًّا: ارْتِفَاعًا وَتَكَبُّرًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَانْتَصَبَا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ ظَالِمِينَ عَالِينَ أَوْ مَفْعُولَانِ مِنْ أَجْلِهِمَا، أَيْ لِظُلْمِهِمْ وَعُلُوِّهِمْ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ، مَعَ اسْتِيقَانِ أَنَّهَا آيَاتٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ الظُّلْمُ وَالْعُلُوُّ. وَاسْتَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى تَفَعَّلَ نَحْوَ: اسْتَكْبَرَ فِي مَعْنَى تَكَبَّرَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، وَعِلِيًّا: بِقَلْبِ الْوَاوِ يَاءً، وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ ، وَأَصْلُهُ فُعُولٌ، لَكِنَّهُمْ كَسَرُوا الْعَيْنَ إِتْبَاعًا وَرُوِيَ ضَمُّهَا عَنِ ابْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي كُفْرِ الْعِنَادِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ أَمْ لَا؟ وَالْعَاقِبَةُ: مَا آلَ إِلَيْهِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ، وَفِي هَذَا تَمْثِيلٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، إِذْ كَانُوا مُفْسِدِينَ مستعلين، وتحذير لهم أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ، وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ. هَذَا ابْتِدَاءُ قَصَصٍ وَأَخْبَارٍ بِمُغَيَّبَاتٍ وَعِبَرٍ وَنُكِّرَ. عِلْماً لِأَنَّهُ طَائِفَةٌ من العلم. وقال

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 102. [.....]

قَتَادَةُ: عِلْمًا: فَهْمًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عِلْمًا بِالْقَضَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: عِلْمًا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عِلْمًا سَنِيًّا عَزِيزًا. وَقالا قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ هذا موضوع الْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ، كَقَوْلِكَ: أَعْطَيْتُهُ فَشَكَرَ وَمَنَعْتُهُ فَصَبَرَ؟ قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنَّ عَطْفَهُ بِالْوَاوِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا قَالَاهُ بَعْضُ مَا أُحْدِثَ فِيهِمَا إِيتَاءُ الْعِلْمِ وَشَيْءٍ مِنْ مَوَاجِبِهِ، فَأُضْمِرَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ التَّحْمِيدُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا عِلْمًا، فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ، وَعَرَفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةَ، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْكَثِيرُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يُؤْتَ عِلْمًا، أَوْ من لم يُؤْتَ مِثْلَ عِلْمِهِمَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ. انْتَهَى. وَالْمَوْرُوثُ: الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ، بِمَعْنَى: صَارَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَسُمِّيَ مِيرَاثًا تَجَوُّزًا، كَمَا قِيلَ: الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَحَقِيقَةُ الْمِيرَاثِ فِي الْمَالِ والأنبياء لا نورث مَالًا، وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عشر ولدا ذكرا، فنبىء سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَمُلِّكَ. وقيل: ولاه على بين إِسْرَائِيلَ فِي حَيَاتِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَوْلَادِهِ، فَكَانَتِ الْوِلَايَةُ فِي مَعْنَى الْوِرَاثَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَرِثَ الْمَالَ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا تُوَرَّثُ. وَقِيلَ: الْمُلْكُ وَالسِّيَاسَةُ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ فَقَطْ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَيُؤَيِّدُهُ قوله: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُلْكِ، وَكَانَ هَذَا شَرْحًا لِلْمِيرَاثِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يُقَوِّي ذَلِكَ، وَلَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وِرَاثَةُ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَشْهِيرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَتَنْوِيهٌ بِهَا وَاعْتِرَافٌ بِمَكَانِهَا، وَدُعَاءُ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ بِذِكْرِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي هِيَ عِلْمُ مَنْطِقِ الطَّيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُوتِيَهُ من عظائم الأمور. ومَنْطِقَ الطَّيْرِ: اسْتِعَارَةٌ لِمَا يُسْمَعُ مِنْهَا مِنَ الْأَصْوَاتِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَنِي آدَمَ، لَمَّا كَانَ سُلَيْمَانُ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَنِي آدَمَ، كَمَا يَفْهَمُ بَعْضُ الطَّيْرِ مِنْ بَعْضٍ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ مَنْطِقَ. وَقِيلَ: كَانَتِ الطَّيْرُ تُكَلِّمُهُ مُعْجِزَةً لَهُ، كَقِصَّةِ الْهُدْهُدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عُلِّمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَعُمُومِ الطَّيْرِ. وَقِيلَ: عُلِّمَ مَنْطِقَ الْحَيَوَانِ. قِيلَ: وَالنَّبَاتِ، حَتَّى كَانَ يَمُرُّ عَلَى الشَّجَرَةِ فَتَذْكُرُ لَهُ مَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الطَّيْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ جُنْدًا مِنْ جُنُودِهِ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي التَّظْلِيلِ مِنَ الشَّمْسِ، وَفِي الْبَعْثِ فِي الْأُمُورِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَالشَّعْبِيُّ: وَكَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ النَّمْلَةُ الْقَائِلَةُ ذَاتَ جَنَاحَيْنِ. وَأَوْرَدَ المفسرون مما ذكروا: أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيْرِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ، تَقْدِيسٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَعِظَاتٌ، وَعِبَرٌ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ

يَصْلُحُ لَنَا وَنَتَمَنَّاهُ، وَأُرِيدَ بِهِ كَثْرَةُ مَا أُوتِيَ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَقْصِدُهُ كُلُّ أَحَدٍ، يُرِيدُ كَثْرَةَ قُصَّادِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بِلْقِيسَ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «1» وَبُنِيَ علمنا وأوتينا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَا مُسْنَدَيْنِ لِنُونِ الْعَظَمَةِ لَا لِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ أَرَادَ نَفْسَهُ وَأَبَاهُ، أَوْ لَمَّا كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا خَاطَبَ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَمَمْلَكَتِهِ بِحَالِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاظُمِ وَالتَّكَبُّرِ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ: إِقْرَارٌ بِالنِّعْمَةِ وَشُكْرٌ لَهَا وَمَحْمَدَةٌ. رُوِيَ أَنَّ مُعَسْكَرَهُ كَانَ مِائَةَ فَرْسَخٍ فِي مِائَةٍ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْجِنِّ، وَمِثْلُهَا لِلْإِنْسِ، وَمِثْلُهَا لِلطَّيْرِ، وَمِثْلُهَا لِلْوَحْشِ، وَأَلْفُ بَيْتٍ مِنْ قَوَارِيرَ عَلَى الْخَشَبِ، فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ مَنْكُوحَةٍ، وَسَبْعُمِائَةِ سِرِّيَّةٍ، وَقَدْ نَسَجَتْ لَهُ الْجِنُّ بِسَاطًا مِنْ ذَهَبٍ وَإِبْرِيسَمْ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَمِنْبَرُهُ فِي وَسَطِهِ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، تَقْعُدُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الْفِضَّةِ، وَحَوْلَهُمُ النَّاسُ، وَحَوْلَ النَّاسِ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى لَا تَقَعَ عَلَيْهِ الشَّمْسِ، وَتَرْفَعُ رِيحُ الصَّبَا الْبِسَاطَ، فَتَسِيرُ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ، وَكَانَ مُلْكُهُ عَظِيمًا، مَلَأَ الْأَرْضَ، وَانْقَادَ لَهُ أَهْلُ الْمَعْمُورِ مِنْهَا. وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِأَسْرِهَا أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَكَافِرَانِ: بُخْتُنَصَّرَ وَنُمْرُوذُ. وَحَشْرُ الْجُنُودِ يَقْتَضِي سَفَرًا وَفُسِّرَ الْجُنُودُ أَنَّهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْوَحْشَ رَابِعًا. فَهُمْ يُوزَعُونَ: يُحْشَرُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، أَيْ يُوقَفُ مُتَقَدِّمُو الْعَسْكَرِ حَتَّى يَأْتِيَ آخِرُهُمْ فَيَجْتَمِعُونَ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَذَلِكَ لِلْكَثْرَةِ الْعَظِيمَةِ، أَوْ يَكُفُّونَ عَنِ الْمُسَيَّرِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا. وَقِيلَ: يَجْتَمِعُونَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَقِيلَ: يُسَاقُونَ. وَقِيلَ: يُدْفَعُونَ. وَقِيلَ: يُحْبَسُونَ. كَانَتِ الْجُيُوشُ تَسِيرُ مَعَهُ إذا سار، وينزل إِذَا نَزَلَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا: هَذِهِ غَايَةٌ لِشَيْءٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ وَسَارُوا حَتَّى إِذَا أَتَوْا، أَوْ يُضَمَّنُ يُوزَعُونَ مَعْنَى فِعْلٍ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ حَتَّى غَايَةً لَهُ، أَيْ فَهُمْ يَسِيرُونَ مَكْنُوفًا بَعْضُهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ بَعْضٍ. وَعُدِّيَ أَتَوْا بِعَلَى، إِمَّا لِأَنَّ إِتْيَانَهُمْ كَانَ مِنْ فَوْقُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ قَطْعُ الْوَادِي وَبُلُوغُ آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَتَى عَلَى الشَّيْءِ، إِذَا أَتَى عَلَى آخِرِهِ وَأَنْفَذَهُ، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلُوا عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي، لِأَنَّهُمْ مَا دَامَتِ الرِّيحُ تَحْمِلُهُمْ لَا يُخَافُ حَطْمُهُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

_ (1) سورة النمل: 27/ 23.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَجُنُودَهُ كَانُوا مُشَاةً فِي الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ يَتَهَيَّأُ حَطْمُ النَّمْلِ بِنُزُولِهِمْ فِي وَادِي النَّمْلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْكُرْسِيِّ الْمَحْمُولِ بِالرِّيحِ، فَأَحَسَّتِ النَّمْلُ بِنُزُولِهِمْ فِي وَادِي النَّمْلِ، وَوَادِي النَّمْلُ قِيلَ بِالشَّامِ. وَقِيلَ: بِأَقْصَى الْيَمَنِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ مَذْكُورٌ فِي أَشْعَارِهَا. وَقَالَ كَعْبٌ: وَادِي السِّدْرِ مِنَ الطَّائِفِ. وَالظَّاهِرُ صُدُورُ الْقَوْلِ مِنَ النَّمْلَةِ، وَفَهْمُ سُلَيْمَانَ كَلَامَهَا، كَمَا فَهِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بَلَّغَتْهُ: الرِّيحُ كَلَامَهَا. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: نَطَقَتْ بِالصَّوْتِ مُعْجِزَةً لِسُلَيْمَانَ، كَكَلَامِ الضَّبِّ وَالذِّرَاعِ لِلرَّسُولِ. وَقِيلَ: فَهِمَهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ، كَمَا فَهِمَهُ جِنْسُ النَّمْلِ، لَا أَنَّهُ سَمِعَ قَوْلًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَخْبَرَهُ مَلَكٌ بِذَلِكَ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ كُنْتُ أُوتِيتُ كَلَامَ الْحُكْلِ ... عِلْمَ سُلَيْمَانَ كَلَامَ النَّمْلِ وَالْحُكْلُ: مَا لَا يُسْمَعُ صَوْتُهُ. وَذَكَرُوا اخْتِلَافًا فِي صِغَرِ النَّمْلَةِ وَكِبَرِهَا، وَفِي اسْمِهَا الْعَلَمِ مَا لَفْظُهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي، مَنِ الَّذِي وَضَعَ لَهَا لَفْظًا يَخُصُّهَا، أَبَنُو آدَمَ أَمِ النَّمْلُ؟ وَقَالُوا: كَانَتْ نَمْلَةً عَرْجَاءَ، وَلُحُوقُ التَّاءِ فِي قَالَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّمْلَةَ مُؤَنَّثٌ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْمُذَكَّرِ: قَالَتْ نَمْلَةٌ، لِأَنَّ نَمْلَةً، وَإِنْ كَانَ بِالتَّاءِ، هُوَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ، كَالنَّمْلَةِ وَالْقَمْلَةِ، مِمَّا بَيْنَهُ فِي الْجَمْعِ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ تَاءُ التَّأْنِيثِ، فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُ أَخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ، وَلَا يَدُلُّ كَوْنُهُ يُخْبِرُ عَنْهُ أَخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، لِأَنَّ التَّاءَ دَخَلَتْ فِيهِ لِلْفَرْقِ، لَا دَالَّةً عَلَى التَّأْنِيثِ الْحَقِيقِيِّ، بَلْ دَالَّةً عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حَاضِرًا، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ، فَقَالَ: سَلُوهُ عَنْ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، أَكَانَتْ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى: فَسَأَلُوهُ فَأُفْحِمَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَانَتْ أُنْثَى. فَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَتْ نَمْلَةٌ، وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا لَقَالَ قَالَ نَمْلَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّمْلَةَ مِثْلُ الْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا بِعَلَامَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى، وَهُوَ وَهِيَ. انْتَهَى. وَكَانَ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةِ السُّدُوسَيِّ بَصِيرًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَوْنُهُ أُفْحِمَ، يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِاللِّسَانِ، إِذْ عَلِمَ أَنَّ النَّمْلَةَ يُخْبِرَ عَنْهَا إِخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ، وَإِنْ كَانَتْ تَنْطَلِقُ عَلَى الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ، إِذْ هُوَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ أَحَدُ هَذَيْنِ، فَتَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ إِلْحَاقِ الْعَلَامَةِ لِلْفِعْلِ فَتَوَقَّفَ، إِذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ. وَأَمَّا اسْتِنْبَاطُ تَأْنِيثِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: قالَتْ نَمْلَةٌ، وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا

لَقَالَ: قَالَ نَمْلَةٌ، وَكَلَامُ النُّحَاةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ إِلَّا إِخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى. وَأَمَّا تَشْبِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ النَّمْلَةَ بِالْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ، فَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وهو إطلاقهما على الذكر وَالْمُؤَنَّثِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَمَامَةَ وَالشَّاةَ يَتَمَيَّزُ فِيهِمَا الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَقُولَ: حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى، فَتَمَيَّزُ بِالصِّفَةِ. وَأَمَّا تَمْيِيزُهُ بَهُوَ وَهِيَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. لَا تَقُولُ: هُوَ الْحَمَامَةُ، وَلَا هُوَ الشَّاةُ وَأَمَّا النملة والقملة فلا يتيمز فِيهِ الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ فِي الْإِخْبَارِ إِلَّا التَّأْنِيثُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤَنَّثِ بِالتَّاءِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْعَاقِلِ نَحْوَ: الْمَرْأَةِ، أَوْ غَيْرِ الْعَاقِلِ كَالدَّابَّةِ، إِلَّا إِنْ وَقَعَ فَصْلٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَ الْعَلَّامَةُ الْفِعْلَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَلْحَقَ، عَلَى مَا قُرِّرَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُؤَنَّثِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَطَلْحَةُ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ: نَمُلَةٌ، بِضَمِّ الْمِيمِ كَسَمُرَةٍ، وَكَذَلِكَ النَّمُلُ، كالرجلة والرجل لعتان. وَعَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: نَمْلٌ وَنُمُلٌ بِضَمِّ النُّونِ وَالْمِيمِ، وَجَاءَ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ، كَخِطَابِ مَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا وَمَا بَعْدَهُ، لِأَنَّهَا أَمَرَتِ النَّمْلَ كَأَمْرِ مَنْ يَعْقِلُ، وَصَدَرَ مِنَ النَّمْلِ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِهَا. وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: مَسْكَنَكُمْ، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَعَنْ أُبَيٍّ: ادْخُلْنَ مساكنكن لا يَحْطِمَنَكُمْ: مُخَفَّفَةَ النُّونِ الَّتِي قَبْلَ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ، الْكُوفِيُّ، وَنُوحٌ الْقَاضِي: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ الطَّاءِ وَالنُّونِ، مُضَارِعُ حَطَّمَ مُشَدَّدًا. وَعَنِ الْحَسَنِ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَشَدِّ الطَّاءِ، وَعَنْهُ كَذَلِكَ مَعَ كَسْرِ الْحَاءِ، وَأَصْلُهُ: لَا يَحْتَطِمَنَّكُمْ مِنَ الِاحْتِطَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عُبَيْدٍ: كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا نُونَ التَّوْكِيدِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِحَذْفِ النُّونِ وَجَزْمِ الْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ، بِالنُّونِ خَفِيفَةً أَوْ شَدِيدَةً، نَهْيٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَهُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، نَهَتْ غَيْرَ النَّمْلِ، وَالْمُرَادُ النَّمْلُ، أَيْ لَا تَظْهَرُوا بِأَرْضِ الْوَادِي فَيَحْطِمَكُمْ، وَلَا تَكُنْ هُنَا فَأَرَاكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لا يَحْطِمَنَّكُمْ مَا هُوَ؟ قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَأَنْ يَكُونَ هُنَا بَدَلًا مِنَ الْأَمْرِ، وَالَّذِي جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى لَا تَكُونُوا حَيْثُ أَنْتُمْ فَيَحْطِمَنَّكُمْ عَلَى طَرِيقَةِ لَا أرينك هاهنا، أرادت لا يَحْطِمَنَّكُمْ جُنُودُ سُلَيْمَانَ، فَجَاءَتْ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ وَنَحْوُهُ: عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا. انْتَهَى. وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ، إِذْ هُوَ مَجْزُومٌ، مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ نَفْيٍ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ نُونِ التَّوْكِيدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا إِنْ كَانَ فِي الشِّعْرِ.

وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَكَوْنُهُ جَوَابَ الْأَمْرِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ، وَمِثَالُ مَجِيءِ نُونِ التَّوْكِيدِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَبَتُّمْ نَبَاتَ الْخَيْزُرَانَةِ فِي الثَّرَى ... حَدِيثًا مَتَى يَأْتِكَ الْخَيْرُ يَنْفَعًا وَقَوْلُ الْآخَرِ: مَهْمَا تَشَا مِنْهُ فَزَارَةُ يُعْطَهُ ... وَمَهْمَا تَشَا مِنْهُ فَزَارَةُ يَمْنَعًا قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الشِّعْرِ، شَبَّهُوهُ بِالنَّفْيِ حَيْثُ كَانَ مَجْزُومًا غَيْرَ وَاجِبٍ. انْتَهَى. وَقَدْ تَنَبَّهَ أَبُو الْبَقَاءِ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا قَالَ: وَقِيلَ هُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَا يُؤَكَّدُ بِالنُّونِ فِي الِاخْتِيَارِ. وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى الْبَدَلِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مدلول لا يَحْطِمَنَّكُمْ مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ ادْخُلُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى لَا تَكُونُوا حَيْثُ أَنْتُمْ فَيَحْطِمَنَّكُمْ، فَهَذَا تَفْسِيرُ معنى لا تفسير إعراب، وَالْبَدَلُ مِنْ صِفَةِ الْأَلْفَاظِ. نَعَمْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ الْقُرْآنِيُّ لَا تَكُونُوا حَيْثُ أنتم لا يَحْطِمَنَّكُمْ لَتُخُيِّلَ فِيهِ الْبَدَلُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ الْمَسَاكِنِ. نَهْيٌ عَنْ كَوْنِهِمْ فِي ظَاهِرِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أنه أراد لا يَحْطِمَنَّكُمْ جُنُودُ سُلَيْمَانَ إِلَى آخره، فَيُسَوِّغُ زِيَادَةَ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، بَلِ الظَّاهِرُ إِسْنَادُ الْحَطْمِ إِلَيْهِ وَإِلَى جُنُودِهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ خَيْلُ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ إِنْ وَقَعَ حَطْمٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَعَمُّدٍ مِنْهُمْ، إِنَّمَا يَقَعُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحَطْمِنَا، كَقَوْلِهِ: فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» ، وَهَذَا الْتِفَاتٌ حَسَنٌ، أَيْ مِنْ عَدْلِ سُلَيْمَانَ وَأَتْبَاعِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِفْقِهِ أَنْ لَا يَحْطِمَ نَمْلَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ شُعُورٌ بِذَلِكَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا أَتَتْ بِهِ هَذِهِ النَّمْلَةُ فِي قَوْلِهَا وأغربه وَأَفْصَحَهُ وَأَجْمَعَهُ لِلْمَعَانِي، أَدْرَكَتْ فَخَامَةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، فَنَادَتْ وَأَمَرَتْ وَأَنْذَرَتْ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ مُحَاوَرَاتٌ، وَأَهْدَتْ لَهُ نَبْقَةً، وَأَنْشَدُوا أَبْيَاتًا فِي حَقَارَةِ مَا يُهْدَى إِلَى الْعَظِيمِ، وَالِاسْتِعْذَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَدُعَاءِ سُلَيْمَانَ لِلنَّمْلِ بِالْبِرْكَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَوِ افْتِعَالِهِ. وَالنَّمْلُ حَيَوَانٌ قَوِيُّ الْحِسِّ شَمَّامٌ جِدًّا، يَدَّخِرُ الْقُوتَ، وَيَشُقُّ الْحَبَّةَ قِطْعَتَيْنِ لِئَلَّا تُنْبِتَ، وَالْكُزْبَرَةُ بِأَرْبَعٍ، لِأَنَّهَا إِذَا قُطِعَتْ قِطْعَتَيْنِ أَنْبَتَتْ، وَتَأْكُلُ فِي عَامِهَا بَعْضَ مَا تَجْمَعُ، وَتَدَّخِرُ الباقي عدة. وفي

_ (1) سورة الفتح: 48/ 25.

الْحَدِيثِ: «النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ وَالنَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ» ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَتَبَسَّمَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِمَّا لِلْعَجَبِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهَا: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَهُوَ إِدْرَاكُهَا رَحْمَتَهُ وَشَفَقَتَهُ وَرَحْمَةَ عَسْكَرِهِ، وَإِمَّا لِلسُّرُورِ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِمَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا، وَهُوَ إِدْرَاكُهُ قَوْلَ مَا هُمِسَ بِهِ، الَّذِي هُوَ مَثَلٌ فِي الصِّغَرِ، وَلِذَلِكَ دَعَا أَنْ يُوزِعَهُ اللَّهُ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ. وَانْتَصَبَ ضَاحِكًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ شَارِعًا فِي الضَّحِكِ وَمُتَجَاوِزًا حَدَّ التَّبَسُّمِ إِلَى الضَّحِكِ، وَلَمَّا كَانَ التَّبَسُّمُ يَكُونُ لِلِاسْتِهْزَاءِ وَلِلْغَضَبِ، كَمَا يَقُولُونَ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ، وَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُسْتَهْزِئِ، وَكَانَ الضَّحِكُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلسُّرُورِ وَالْفَرَحِ، أَتَى بِقَوْلِهِ: ضاحِكاً. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: ضَحِكًا، جَعَلَهُ مَصْدَرًا، لِأَنَّ تَبَسَّمَ فِي مَعْنَى ضَحِكَ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، كَقِرَاءَةِ ضَاحِكًا. وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي: أَيِ اجْعَلْنِي أَزَعُ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَآلَفُهُ وَأَرْتَبِطُهُ، حَتَّى لَا يَنْفَلِتَ عَنِّي، حَتَّى لَا أَنْفَكَّ شَاكِرًا لَكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أَشْكُرُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَرِّضْنِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْلِعْنِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: امْنَعْنِي عَنِ الْكُفْرَانِ. وَقِيلَ: أَلْهِمْنِي الشُّكْرَ، وَأَدْرَجَ ذِكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى وَالِدَيْهِ فِي أَنْ يَشْكُرَهُمَا، كَمَا يَشْكُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ، لِمَا يَجِبُ لِلْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الدُّعَاءِ لَهُمَا وَالْبِرِّ بِهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَلَدُ تَقِيًّا لِلَّهِ صَالِحًا، فَإِنَّ وَالِدَيْهِ يَنْتَفِعَانِ بِدُعَائِهِ وَبِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمَا بِسَبَبِهِ، كَقَوْلِهِمْ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ خَلَّفَكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْكَ. وَلَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ شَيْئًا خَاصًّا، وَهُوَ شُكْرُ النِّعْمَةِ، سَأَلَ شَيْئًا عَامًّا، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَانْدَرَجَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَةِ، فَكَأَنَّهُ سَأَلَ إِيزَاعَ الشُّكْرِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا أَنْ يُلْحَقَ بِالصَّالِحِينَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَا عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَطْلُبُوا جَعْلَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «1» . وَقَالَ تَعَالَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» . قِيلَ: لِأَنَّ كَمَالَ الصَّلَاحِ أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَهِمَّ بِمَعْصِيَةٍ، وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ. وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ،

_ (1) سورة يوسف: 12/ 101. (2) سورة البقرة: 2/ 130.

وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ، اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفَقَّدَ جَمِيعَ الطَّيْرِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْعِنَايَةُ بِأُمُورِ الْمُلْكِ وَالِاهْتِمَامِ بِالرَّعَايَا. قِيلَ: وَكَانَ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَرَ الْهُدْهُدَ. وَقِيلَ: كَانَتِ الطَّيْرُ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَسْتُرُ مَكَانَهُ الْأَيْمَنَ، فَمَسَّتْهُ الشَّمْسُ، فَنَظَرَ إِلَى مَكَانِ الْهُدْهُدِ، فَلَمْ يَرَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِمَفَازَةٍ لَا مَاءَ فِيهَا، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَرَى ظَاهِرَ الْأَرْضِ وَبَاطِنَهَا، وَكَانَ يُخْبِرُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ، فَكَانَتِ الْجِنُّ تُخْرِجُهُ فِي سَاعَةٍ تَسْلُخُ الْأَرْضَ كَمَا تُسْلَخُ الشَّاةُ، فَسَأَلَ عَنْهُ حِينَ حَلُّوا تِلْكَ الْمَفَازَةَ، لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ دَلَالَةٌ عَلَى تَفَقُّدِ الْإِمَامِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً عَلَى شاطىء الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَسُئِلَ عَنْهَا عُمَرُ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَقَدَ الْهُدْهُدَ حِينَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ، مَقْصِدُ الْكَلَامِ الْهُدْهُدُ، غَابَ وَلَكِنَّهُ أَخَذَ اللَّازِمَ عَنْ مَغِيبِهِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرَاهُ، فَاسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ عَنِ اللَّازِمِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ وَالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا لِيَ، نَابَ مَنَابَ الْأَلِفِ التي تحتلجها أَمْ. انْتَهَى. فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَمْ مُتَّصِلَةٌ، وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا لِيَ، نَابَ مَنَابَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ: أَغَابَ عَنِّي الْآنَ فَلَمْ أَرَهُ حَالَةَ التَّفَقُّدِ؟ أَمْ كَانَ مِمَّنْ غَابَ قَبْلُ وَلَمْ أَشْعُرْ بِغَيْبَتِهِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، نَظَرَ إِلَى مَكَانِ الْهُدْهُدِ فَلَمْ يُبْصِرْهُ فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ؟ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرَاهُ، وَهُوَ حَاضِرٌ، لِسَاتِرٍ سَتَرَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ غَائِبٌ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَقُولُ: أَهْوَ غَائِبٌ؟ كَأَنَّهُ سَأَلَ صِحَّةَ مَا لَاحَ لَهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ؟ انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَمْ فِي هَذَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْمُتَّصِلَةِ تَقَدُّمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَلَوْ تَقَدَّمَهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ الْهَمْزَةِ، كَانَتْ أَمْ مُنْقَطِعَةً، وَهُنَا تَقَدَّمَ مَا، فَفَاتَ شَرْطُ الْمُتَّصِلَةِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمَقْلُوبِ وَتَقْدِيرُهُ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ؟ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْقَلْبِ. وَفِي الْكَشَّافِ، أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَمَّ لَهُ بِنَاءُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تَجَهَّزَ لِلْحَجِّ، فَوَافَى الْحَرَمَ وَأَقَامَ بِهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْيَمَنِ، فَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ صَبَاحًا يَؤُمُّ سُهَيْلًا، فَوَافَى صَنْعَاءَ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَرَأَى أَرْضًا حَسْنَاءَ أَعْجَبَتْهُ خُضْرَتُهَا، فنزل ليتغدى

وَيُصَلِّيَ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَأْتِيهِ، وَكَانَ يَرَى الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ الْجِنُّ يَسْلُخُونَ الْأَرْضَ حَتَّى يَظْهَرَ الْمَاءُ. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً: أَبْهَمَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ، وَفِي تَعْيِينِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُجْعَلَ أَمْثِلَةً. فَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَتَفَ رِيشَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رِيشَهُ كُلَّهُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: جَنَاحَهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: نَصِفَهُ وَيُبْقَي نِصْفَهُ. وَقِيلَ: يُزَادُ مَعَ نَتْفِهِ تَرْكُهُ لِلشَّمْسِ. وَقِيلَ: يُحْبَسُ فِي الْقَفَصِ. وَقِيلَ: يُطْلَى بِالْقَطِرَانِ وَيُشَمَّسُ. وَقِيلَ: يُنْتَفُ وَيُلْقَى لِلنَّمْلِ. وَقِيلَ: يُجْمَعُ مَعَ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَقِيلَ: يُبْعَدُ مِنْ خِدْمَةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْفِهِ. وَقِيلَ: يُلْزَمُ خِدْمَةَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ سُلَيْمَانَ غَضَبًا لِلَّهِ، حَيْثُ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَطَلَبَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَا أباح ذبح الْبَهَائِمَ وَالطُّيُورَ لِلْأَكْلِ، وَكَمَا سَخَّرَ لَهُ الطَّيْرَ، فَلَهُ أن يؤذّيه إِذَا لَمْ يَأْتِ مَا سُخِّرَ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي، بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا نُونُ الْوِقَايَةِ بَعْدَ الْيَاءِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْحُجَّةُ وَالْعُذْرُ، وفيه دليل على الإغلاط عَلَى الْعَاصِينَ وَعِقَابِهِمْ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِأَخَفِّ الْعِقَابَيْنِ، وَهُوَ التَّعْذِيبُ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأَشَدِّ، وَهُوَ إِذْهَابُ الْمُهْجَةِ بِالذَّبْحِ، وَأَقْسَمَ عَلَى هَذَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ فِعْلِهِ، وَأَقْسَمَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالسُّلْطَانِ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. لَمَّا نَظَمَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحُكْمِ بِأَوْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَتَى بِالسُّلْطَانِ، لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبٌ وَلَا ذَبْحٌ، وَإِلَّا كَانَ أَحَدُهُمَا. وَلَا يَدُلُّ قَسَمُهُ عَلَى الْإِتْيَانِ عَلَى ادِّعَاءِ دِرَايَةٍ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَ حَلِفُهُ بِالْفِعْلَيْنِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ بِسُلْطَانٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ عَنْ دِرَايَةٍ وَإِيقَانٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَمَكَثَ، بِضَمِّ الْكَافِ وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْجُعْفِيِّ، وَسَهْلٌ، وَرَوْحٌ: بِضَمِّهَا. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَيَمْكُثُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: فَيَمْكُثُ، فَقَالَ: وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ، لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُمَا بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَمَكَثَ عَائِدٌ عَلَى الْهُدْهُدِ، أَيْ غَيْرَ زَمَنٍ بَعِيدٍ، أَيْ عَنْ قُرْبٍ. وَوُصِفَ مُكْثُهُ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِهِ، خَوْفًا مِنْ سُلَيْمَانَ، وَلِيُعْلَمَ كَيْفَ كَانَ الطَّيْرُ مُسَخَّرًا لَهُ، وَلِبَيَانِ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَعَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: وَقَفَ مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَكَأَنَّهُ فِيمَا رُوِيَ، حِينَ نَزَلَ سُلَيْمَانُ حَلَّقَ الْهُدْهُدُ،

فَرَأَى هُدْهُدًا، فَانْحَطَّ عَلَيْهِ وَوَصَفَ لَهُ مُلْكَ سُلَيْمَانَ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ لَهُ صَاحِبُهُ مُلْكَ بَلْقِيسَ وَعَظَّمَ مِنْهُ، وَذَهَبَ مَعَهُ لِيَنْظُرَ، فَمَا رَجَعَ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَمَكَثَ لِسُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِسُلَيْمَانَ وَلِلْهُدْهُدِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ زَمَانًا، فَالتَّقْدِيرُ: فَجَاءَ سُلَيْمَانُ، فَسَأَلَهُ: مَا غَيَّبَكَ؟ فَقَالَ: أَحَطْتُ وَإِنْ كَانَ مَكَانًا، فَالتَّقْدِيرُ: فَجَاءَ فَوَقَفَ مَكَانًا قَرِيبًا مِنْ سُلَيْمَانَ، فَسَأَلَهُ: مَا غَيَّبَكَ؟ وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ قَدْ عَلِمَ بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ، فَبَادَرَ إِلَى جَوَابِهِ بِمَا يُسَكِّنُ غَيْظَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ غَيْبَتَهُ كَانَتْ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ عَرَضَ لَهُ، فَقَالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَفِي هَذَا جَسَارَةُ مَنْ لَدَيْهِ عِلْمٌ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ غيره، وتبجحه بذلك، وإبهام حَتَّى تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمُبْهَمِ مَا هُوَ. وَمَعْنَى الْإِحَاطَةِ هُنَا: أَنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلْهَمَ اللَّهُ الْهُدْهُدَ، فَكَافَحَ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْكَلَامَ، عَلَى مَا أُوتِيَ مِنْ فَضْلِ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ والعلوم الجملة وَالْإِحَاطَةِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْكَثِيرَةِ، ابْتِلَاءً لَهُ فِي عِلْمِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي أَدْنَى خَلْقِهِ وَأَضْعَفِهِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ سُلَيْمَانُ، لِتَتَحَاقَرَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيَصْغُرَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ، وَيَكُونَ لُطْفًا لَهُ فِي تَرْكِ الْإِعْجَابِ الَّذِي هُوَ فِتْنَةُ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْظِمْ بِهَا فِتْنَةً، وَالْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ عِلْمًا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، لَا يَخْفَى مِنْهُ مَعْلُومٌ، قَالُوا: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ إِنَّ الْإِمَامَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَكُونُ فِي زَمَانِهِ أَعْلَمُ مِنْهُ. انْتَهَى. وَلَمَّا أَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ: بِما لَمْ تُحِطْ، انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ إِبْهَامًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِذْ فِيهِ إِخْبَارٌ بِالْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَهُ عِلْمٌ بِخَبَرٍ مُسْتَيْقِنٍ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ سَبَأٍ، مَصْرُوفًا، هَذَا وَفِي: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ «1» ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، غَيْرَ مَصْرُوفٍ فِيهِمَا، وَقُنْبُلٌ مِنْ طَرِيقِ النَّبَّالِ: بِإِسْكَانِهَا فِيهِمَا. فَمَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ أَوِ الْمَوْضِعِ أَوْ لِلْأَبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ. وَالسِّتَّةُ: حِمْيَرٌ، وَكِنْدَةُ، وَالْأَزْدُ، وَأَشْعَرُ، وَخَثْعَمٌ، وَبَجِيلَةُ وَالْأَرْبَعَةُ: لَخْمٌ، وَجُذَامٌ، وَعَامِلَةُ، وَغَسَّانُ. وَكَانَ سَبَأٌ رَجُلًا مِنْ قَحْطَانَ اسْمُهُ عَبْدُ شَمْسٍ. وَقِيلَ: عَامِرٌ، وَسُمِّيَ سَبَأً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَا، وَمَنْ مَنَعَهُ الصَّرْفَ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ أَوِ الْبُقْعَةِ، وَأَنْشَدُوا على الصرف:

_ (1) سورة سبأ: 34/ 15.

الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ وَمَنْ سَكَّنَ الْهَمْزَةَ، فَلِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ فِيمَنْ مَنَعَ الصَّرْفَ، وَإِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: الْإِسْكَانُ فِي الْوَصْلِ بَعِيدٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ وَلَا قَوِيٍّ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مِنْ سَبَأِ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَبْعُدُ تَوْجِيهُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: مِنْ سَبًا، بِتَنْوِينِ الْبَاءِ عَلَى وَزْنِ رَحًى، جَعَلَهُ مَقْصُورًا مَصْرُوفًا. وَذَكَرَ أَبُو مُعَاذٍ أَنَّهُ قَرَأَ مِنْ سَبْأَ: بِسُكُونِ الْبَاءِ وَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ، بَنَاهُ عَلَى فَعْلَى، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ الْيَزِيدِيِّ: مِنْ سَبَأْ، بِأَلِفٍ سَاكِنَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِنَبَا، بِأَلِفٍ عِوَضَ الْهَمْزَةِ، وَكَأَنَّهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: لسبا، بِالْأَلِفِ، لِتَتَوَازَنَ الْكَلِمَتَانِ، كَمَا تَوَازَنَتْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قرأهما بالهمزة الْمَكْسُورِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَالَ فِي التَّحْرِيرِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعُ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى بِالتَّرْدِيدِ، وَفِي كِتَابِ التَّفْرِيعِ بِفُنُونِ الْبَدِيعِ. إِنَّ التَّرْدِيدَ رَدُّ أَعْجَازِ الْبُيُوتِ عَلَى صُدُورِهَا، أَوْ رَدُّ كَلِمَةٍ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ إِلَى النِّصْفِ الثَّانِي، وَيُسَمَّى أَيْضًا التَّصْدِيرُ، فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ الْعَمِّ يَجْبُرُ كَسْرَهُ ... وَلَيْسَ إِلَى دَاعِي الْخَنَا بِسَرِيعِ وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ: وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالُ ... وَاللَّيَالِي إِذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ وَذَكَرَ أَنَّ مِثْلَ: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ، يُسَمَّى تَجْنِيسَ التَّصْرِيفِ، قَالَ: وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ، وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا ... تِلْكَ الْمَعَاجِرُ وَالْمَحَاجِرُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ، مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُحَدِّثُونَ الْبَدِيعَ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ، بِشَرْطِ أَنْ يَجِيءَ مَطْبُوعًا، أَوْ بِصِيغَةِ عَالِمٍ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ، يُحْفَظُ مَعَهُ صِحَّةُ الْمَعْنَى وَسَدَادُهُ. وَلَقَدْ جَاءَ هَاهُنَا زَائِدًا عَلَى الصِّحَّةِ، فَحَسُنَ وَبَدُعَ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَلَا تَرَى لَوْ وُضِعَ مَكَانَ بِنَبَأٍ بِخَبَرٍ لَكَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا؟ وَهُوَ كَمَا جَاءَ أَصَحُّ، لِمَا فِي النَّبَأِ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي يُطَابِقُهَا وَصْفُ الْحَالِ. انْتَهَى. وَالزِّيَادَةُ الَّتِي أَشَارَ

إِلَيْهَا هِيَ أَنَّ النَّبَأَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْخَبَرَ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ مُطْلَقٌ، يَنْطَلِقُ عَلَى ما له شَأْنٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ شَأْنٌ. وَلَمَّا أَبْهَمَ الْهُدْهُدُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَبْهَمَ ثَانِيًا دُونَ ذَلِكَ الْإِبْهَامِ، صَرَّحَ بِمَا كَانَ أَبْهَمَهُ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ. وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: تَمْلِكُهُمْ عَلَى جَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ بِلْقِيسَ، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» . وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ، لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا أَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَسْطُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةً مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّحَكُّمِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَمَعْنَى وَجَدْتُ هُنَا: أَصَبْتُ، وَالضَّمِيرُ فِي تَمْلِكُهُمْ عَائِدٌ عَلَى سَبَأٍ، إِنْ كَانَ أُرِيدَ الْقَبِيلَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ الْمَوْضِعُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ وَجِئْتُكَ مِنْ أَهْلِ سَبَأٍ. وَالْمَرْأَةُ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكَ الْيَمَنِ كُلِّهَا، وَقَدْ ولد له أَرْبَعُونَ مَلِكًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا، فَغَلَبَتْ عَلَى الْمُلْكِ، وَكَانَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا. قِيلَ: وَكَانَتْ أُمُّهَا جِنِّيَّةً تُسَمَّى رَيْحَانَةَ بِنْتَ السَّكَنِ، تَزَوَّجَهَا أَبُوهَا، إِذْ كَانَ مِنْ عِظَمِهِ لَمْ يَرَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ مُلُوكِ زَمَانِهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسُ، وَقَدْ طَوَّلُوا فِي قَصَصِهَا بِمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُرْآنُ، وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَبَدَأَ الْهُدْهُدُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ مُلْكِهَا، وَأَنَّهَا أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي أَرْضِهَا. وَبَيْنَ قَوْلِ الْهُدْهُدِ ذَلِكَ، وَبَيْنَ قَوْلِ سُلَيْمَانَ: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَرْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ، فَيَرْجِعُ أَوَّلًا إِلَى مَا أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَأَسْبَابِ الدِّينِ، ثُمَّ إِلَى الْمُلْكِ وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَعَطَفَ الْهُدْهُدُ عَلَى الْمُلْكِ، فَلَمْ يُرِدْ إِلَّا مَا أُوتِيَتْ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا اللَّائِقَةِ بِحَالِهَا. وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَجْلِسُهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ كُرْسِيُّهَا، وَكَانَ مُرَصَّعًا بِالْجَوَاهِرِ، وَعَلَيْهِ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ. وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ عَرْشِهَا أَشْيَاءَ، اللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، وَاسْتِعْظَامُ الْهُدْهُدِ عَرْشَهَا، إِمَّا لِاسْتِصْغَارِ حَالِهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلُ هَذَا الْعَرْشِ، وَإِمَّا لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمَمْلَكَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ لِبَعْضِ أُمَرَاءِ الْأَطْرَافِ شَيْءٌ لَا يَكُونُ لِلْمَلِكِ الَّذِي هُوَ تَحْتَ طَاعَتِهِ.

وَلَمَّا كَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ آتَاهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ، أَخْبَرَهُ بِهَذَا النَّبَأِ الْعَظِيمِ، حَيْثُ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ يُشَارِكُهُ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَلْتَفِتْ سُلَيْمَانُ لِذَلِكَ، إِذْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. فَانْتَقَلَ الْهُدْهُدُ إِلَى الْإِخْبَارِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ، وَمَا أَحْسَنَ انْتِقَالَاتِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بَعْدَ تَهَدُّدِ الْهُدْهُدِ وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ، أَخْبَرَ أَوَّلًا بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ، تَحَصُّنًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، بِزِينَةِ الْعِلْمِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، فَتَشَوَّفَ السَّامِعُ إِلَى علم ذلك. ثم أخبر ثانيا يتعلق ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ سَبَأٍ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ لَا شَكَّ فِيهِ، فَزَادَ تَشَوُّفُ السَّامِعِ إِلَى سَمَاعِ ذَلِكَ النَّبَأِ. ثُمَّ أَخْبَرَ ثَالِثًا عَنِ الْمُلْكِ الَّذِي أُوتِيَتْهُ امْرَأَةٌ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ رَابِعًا مَا ظَاهِرُهُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا وَلَا شَأْنِ النِّسَاءِ أَنْ تَمْلِكَ فُحُولَ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ لَهُ بِسَاطٌ قَدْ صُنِعَ لَهُ، وَكَانَ عَظِيمًا. وَلَمَّا لَمْ يَتَأَثَّرْ سُلَيْمَانُ لِلْإِخْبَارِ بِهَذَا كُلِّهِ، إِذْ هُوَ أَمْرٌ دُنْيَاوِيٌّ، أَخْبَرَهُ خَامِسًا بِمَا يَهُزُّهُ لِطَلَبِ هَذِهِ الْمَلِكَةِ، ودعائها إلى الإيمان، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ فَقَالَ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ: إِنَّهُمْ كَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الْأَنْوَارَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: كَانُوا زَنَادِقَةً. وَهَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ مِنَ الْهُدْهُدِ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ عَنْ غَيْبَتِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَعَرَفَ أَنَّ مَقْصِدَ سُلَيْمَانَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا وَاضِحًا أَزَالَ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي كَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ تَوَعَّدَهُ بِهَا. وَقَامَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ مَقَامَ الْإِيقَانِ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ، إِذْ كَانَ فِي غَيْبَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِإِعْلَامِ سُلَيْمَانَ بِمَا كَانَ خَافِيًا عَنْهُ، وَمَآلُهُ إِلَى إِيمَانِ الْمَلِكَةِ وَقَوْمِهَا. وَخَفِيَ مُلْكُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَمَكَانُهَا عَلَى سُلَيْمَانَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا قَرِيبَةً، كَمَا خَفِيَ مُلْكُ يُوسُفَ عَلَى يَعْقُوبَ، وَذَلِكَ لِأَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ نَوْكَى الْقُصَّاصِ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا يُرِيدُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، أَنْ وَجَدْتُهَا فَرَّ مِنَ اسْتِعْظَامِ الْهُدْهُدِ عَرْشَهَا، فَوَقَعَ فِي عَظِيمَةٍ وَهِيَ نسخ كِتَابِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ لِلْهُدْهُدِ الْهُدَى إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَوُجُوبِ السُّجُودِ لَهُ، وَإِنْكَارِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ؟ قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْهِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، كَمَا أَلْهَمَهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَعَارِفَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لَا تَكَادُ الْعُقَلَاءُ يَهْتَدُونَ لَهَا. وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْرَاءَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْحَيَوَانِ خُصُوصًا فِي زَمَانِ نَبِيٍّ سُخِّرَتْ لَهُ الطُّيُورُ وَعُلِّمَ مَنْطِقَهَا، وَجُعِلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ. انْتَهَى.

وَأُسْنِدَ التَّزْيِينُ إِلَى الشَّيْطَانِ، إِذْ كَانَ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، أَيِ الشَّيْطَانُ، أَوْ تَزْيِينُهُ عَنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ. فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَيْ إِلَى الْحَقِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَحُمَيْدٌ، وَالْكِسَائِيُّ: أَلَا، بِتَخْفِيفِ لَامِ الْأَلِفِ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَى: فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، ويبتدىء عَلَى: أَلَّا يَسْجُدُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ على ألا يا، ثُمَّ ابْتَدَأَ اسْجُدُوا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَشْدِيدِهَا، وَعَلَى هَذَا يَصِلُ قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ: هَلَّا وَهَلَا، بِقَلْبِ الْهَمْزَتَيْنِ هَاءً، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: هَلَا يَسْجُدُونَ، بِمَعْنَى: أَلَا تَسْجُدُونَ، عَلَى الْخِطَابِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: أَلَا تَسْجُدُونَ لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: هَلَّا يَسْجُدُونَ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: أَلَا هَلْ تَسْجُدُونَ، بِالتَّاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: أَلَا تَسْجُدُونَ، بِالتَّاءِ أَيْضًا فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ أَثْبَتَ النُّونَ فِي يَسْجُدُونَ، وَقَرَأَ بِالتَّاءِ أَوِ الْيَاءِ، فَتَخْرِيجُهَا وَاضِحٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ فَخَرَجَتْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: أَعْمالَهُمْ، أَيْ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنْ لَا يَسْجُدُوا. وَمَا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ مُعْتَرِضٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ السَّبِيلِ، أَيْ نصدهم عَنْ أَنْ لَا يَسْجُدُوا. وَعَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ تَكُونُ لَا زَائِدَةً، أَيْ فَصَدَّهُمْ عَنْ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، وَيَكُونُ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا يَسْجُدُوا. وَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ إِمَّا بِزَيَّنَ، وَإِمَّا بِقَصْدِهِمْ، وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنْ دَاخِلَةٌ عَلَى مَفْعُولٍ لَهُ، أَيْ عِلَّةُ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ، أَوْ صَدِّهِمْ عَنِ السَّبِيلِ، هِيَ انْتِفَاءُ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، أَوْ لِخَوْفِهِ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَا مَزِيدَةً، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى أَنْ يَسْجُدُوا. انْتَهَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَخَرَجَتْ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَلَا حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ، وَيَا حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَاسْجُدُوا فِعْلُ أَمْرٍ، وَسَقَطَتْ أَلِفُ يَا الَّتِي لِلنِّدَاءِ، وَأَلِفُ الْوَصْلِ فِي اسْجُدُوا، إِذْ رَسْمُ الْمُصْحَفِ يَسْجُدُوا بِغَيْرِ أَلِفَيْنِ لَمَّا سَقَطَا لَفْظًا سَقَطَا خَطًّا. وَمَجِيءُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا يَا اسْلَمِي ذَاتَ الدَّمَالِجِ وَالْعِقْدِ وَقَالَ: أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ

وَقَالَ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلى الْبِلَى وَقَالَ: أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ حَبْلِ أَبِي بكر وقال: فَقَالَتْ أَلَا يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بِخُطْبَةٍ ... فَقُلْتُ سَمِعْنَا فَانْطِقِي وَأَصِيبِي وَقَالَ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَدْرِ ... وَإِنْ كَانَ جَبَانًا عَدَا آخِرَ الدَّهْرِ وَسُمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَلَا يَا ارْحَمُونَا أَلَا تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا وَوَقَفَ الْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى يا، ثم يبتدىء اسْجُدُوا، وَهُوَ وَقْفُ اخْتِيَارٍ لَا اخْتِبَارٍ، وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ الْوَارِدِ عَنِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ يَا فِيهِ لِلنِّدَاءِ، وَحُذِفَ الْمُنَادَى، لِأَنَّ الْمُنَادَى عِنْدِي لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، لأنه قد حذف الفعل الْعَامِلُ فِي النِّدَاءِ، وَانْحَذَفَ فَاعِلُهُ لِحَذْفِهِ. وَلَوْ حَذَفْنَا الْمُنَادَى، لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَذْفَ جُمْلَةِ النِّدَاءِ، وَحَذْفَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمُنَادَى، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْلَالًا كَبِيرًا. وَإِذَا أَبْقَيْنَا الْمُنَادَى وَلَمْ نَحْذِفْهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّدَاءِ. وَلَيْسَ حَرْفُ النِّدَاءِ حَرْفَ جَوَابٍ، كَنَعَمْ، وَلَا، وَبَلَى، وَأَجَلْ فَيَجُوزُ حَذْفُ الْجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْجُمَلِ المحذوفة. فيا عِنْدِي فِي تِلْكَ التَّرَاكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ أُكِّدَ بِهِ أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ، وَلِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وُجِدَ التَّأْكِيدُ فِي اجْتِمَاعِ الْحَرْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيِ اللَّفْظِ الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ وَالْمُتَّفِقَيِ اللَّفْظِ الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا لِلِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ وَجَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَدُّوهُ ضَرُورَةً أَوْ قَلِيلًا، فَاجْتِمَاعُ غَيْرِ الْعَامِلَيْنِ، وَهُمَا مُخْتَلِفَا اللَّفْظِ، يَكُونُ جَائِزًا، وَلَيْسَ يَا فِي قَوْلِهِ:

يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ حَرْفَ نِدَاءٍ عِنْدِي، بَلْ حَرْفُ تَنْبِيهٍ جَاءَ بَعْدَهُ الْمُبْتَدَأُ، وَلَيْسَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُنَادَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةٌ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؟ قُلْتُ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِيهِمَا، وَإِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ، وَالْأُخْرَى ذَمٌّ لِلتَّارِكِ وَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ فَغَيْرُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ، انْتَهَى. وَالْخَبْءُ: مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَخْبُوءِ، وَهُوَ الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا خَبَّأَهُ تَعَالَى مِنْ غُيُوبِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْخَبْءُ، بِسُكُونِ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعِيسَى: بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الْبَاءِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: بِأَلِفٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، فَلَزِمَ فَتْحُ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ. وَيَخْرُجُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَقْفِ: هَذَا الْخَبْوُ، وَمَرَرْتُ بِالْخَبْيِ، وَرَأَيْتُ الْخَبَا، وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَقُولَ فِي المرأة والكمأة: المراة والكماة، فَيُبْدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، فَتُفْتَحُ مَا قَبْلَهَا، فَعَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبْأُ مِنْهُ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَإِجْرَاءُ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ أَيْضًا نَادِرٌ قَلِيلٌ، فَيُعَادِلُ التَّخْرِيجَانِ. وَنَقْلُ الْحَرَكَةِ إِلَى الْبَاءِ، وَحَذْفُ الْهَمْزَةِ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي أَسَدٍ. وَقِرَاءَةُ الْخَبَا بِالْأَلِفِ، طَعَنَ فِيهَا أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ حَذَفَ الْهَمْزَةَ أَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْبَاءِ فَقَالَ: الْخَبَ، وَإِنْ حَوَّلَهَا قَالَ: الْخَبْيَ، بِسُكُونِ الْبَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ أَبُو حَاتِمٍ دُونَ أَصْحَابِهِ فِي النَّحْوِ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلْدَتِهِمْ لَمْ يُلْقَ أَعْلَمُ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبْءِ، أَيِ الْمَخْبُوءَ في السموات. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي وَمَنْ يَتَعَاقَبَانِ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: لَأَسْتَخْرِجَنَّ الْعِلْمَ فِيكُمْ، يُرِيدُ مِنْكُمْ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِيَخْرُجَ، أَيْ مِنْ فِي السموات. وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ قَدْ أُوتِيَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ، وَأَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، كَانَ وَصْفُهُ رَبَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ، إِذْ كُلٌّ مُخْتَصٌّ بِوَصْفٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَخَايِلُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي رُوَائِهِ وَمَنْطِقِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَلِذَلِكَ ما وَرَدَ: «مَا عَمِلَ عَبْدٌ عَمَلًا إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ رِدَاءَ عَمَلِهِ» . وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْجُمْهُورُ: مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَوْمِهَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْحَاضِرِينَ مَعَهُ، إِذْ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مُحَاوَرَةُ الْهُدْهُدِ لِسُلَيْمَانَ، وَهُمَا لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ. وَكَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِقَوْلِهِ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، جَازَ أَنْ يُخَاطِبَهُ وَالْحَاضِرِينَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ:

مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ، بَلْ خِطَابُهُ بِهَذَا لَيْسَ فِيهِ ظُهُورُ شُغُوفٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْخِطَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا إِلَى الْعَظِيمِ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقِرَاءَةُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ تُعْطِي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، وَبِتَاءِ الْخِطَابِ تُعْطِي أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: لَمَّا ذَكَرَ الْهُدْهُدُ عَرْشَ بِلْقِيسَ وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ، رَدَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنَّ عَرْشَهُ تَعَالَى هُوَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَرْشٌ دُونَهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْعَظَمَةِ. وَقِيلَ: أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، كَأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ وَرَدَّ الْعَظَمَةَ مِنْ عَرْشِ بِلْقِيسَ إِلَى عَرْشِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ سَوَّى الْهُدْهُدُ بَيْنَ عَرْشِ بِلْقِيسَ وَعَرْشِ اللَّهِ فِي الْوَصْفِ بِالْعِظَمِ؟ قُلْتُ: بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ فَرْقٌ، لِأَنَّ وَصْفَ عَرْشِهَا بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُرُوشِ أَبْنَاءِ جِنْسِهَا مِنَ الْمُلُوكِ، وَوَصْفَ عَرْشِ اللَّهِ بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ مَا خَلَقَ مِنَ السموات وَالْأَرْضِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَجَمَاعَةٌ: الْعَظِيمُ بِالرَّفْعِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وَقُطِعَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، فَتَسْتَوِي قِرَاءَتُهُ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي الْمَعْنَى. وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ، وَخَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا عَدَاهُ فِي ضِمْنِهِ. وَلَمَّا فَرَغَ الْهُدْهُدُ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَبْدَى عُذْرَهُ فِي غَيْبَتِهِ، أَخَّرَ سُلَيْمَانُ أَمْرَهُ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ فَقَالَ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ فِي إِخْبَارِكَ أَمْ كَذَبْتَ. وَالنَّظَرُ هنا: التأمل والتصفح، وأصدقت: جُمْلَةٌ مُعَلَّقٌ عَنْهَا سَنَنْظُرُ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ نَظَرَ، بِمَعْنَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ فِي. وَعَادَلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِأَمْ، وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ أَمْ كَذَبْتَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَبْلَغُ فِي نِسْبَةِ الْكَذِبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، سَابِقٌ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ لَهُ الْوَصْفُ بِالْكَذِبِ، كَانَ مُتَّهَمًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، بِخِلَافِ مَنْ يُظَنُّ ابْتِدَاءً كَذِبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَمَرَ بِكِتَابَةِ كِتَابٍ إِلَيْهِمْ، وَبِذَهَابِ الْهُدْهُدِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا: أَيِ الْحَاضِرِ الْمَكْتُوبِ الْآنَ. فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ: أَيْ تَنَحَّ عَنْهُمْ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ، بِحَيْثُ تَسْمَعُ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ وَمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الْقَوْلِ. وَفِي قَوْلِهِ: اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِرْسَالِ الْكُتُبِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ

مِنَ الْإِمَامِ، يُبَلِّغُهُمُ الدَّعْوَةَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا مُلُوكِ الْعَرَبِ. وَقَالَ وَهْبٌ: أَمْرُهُ بِالتَّوَلِّي حُسْنُ أَدَبٍ لِيَتَنَحَّى حَسَبَ مَا يَتَأَدَّبُ بِهِ الْمُلُوكُ، بِمَعْنَى: وَكُنْ قَرِيبًا بِحَيْثُ تَسْمَعُ مُرَاجَعَاتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَهُ بِالتَّوَلِّي بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، أَيْ أَلْقِهِ وَارْجِعْ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ فِي مَعْنَى التَّقْدِيمِ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ. انْتَهَى. وَقَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ النَّظَرَ مُعْتَقِبٌ التَّوَلِّيَ عَنْهُمْ. وقرىء فِي السَّبْعَةِ: فَأَلْقِهِ، بِكَسْرِ الْهَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَبِاخْتِلَاسِ الْكَسْرَةِ وَبِسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَاوٍ بَعْدَهَا، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِمْ الْهُدْهُدُ قَالَ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها. وَفِي الْكِتَابِ أَيْضًا ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى «1» ، وَالْكِتَابُ كَانَ فِيهِ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ لِبِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا. وَمَعْنَى: فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ: أَيْ تَأَمَّلْ وَاسْتَحْضِرْهُ فِي ذِهْنِكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَانْتَظِرْ. مَاذَا: إِنْ كَانَ مَعْنَى فَانْظُرْ مَعْنَى التَّأَمُّلِ بِالْفِكْرِ، كَانَ انْظُرْ مُعَلَّقًا، وَمَاذَا: إِمَّا كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا وَذَا مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ يَرْجِعُونَ خَبَرًا عَنْ مَاذَا، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ ذَا هو الخبر ويرجعون صِلَةَ ذَا. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى فَانْظُرْ: فَانْتَظِرْ، فَلَيْسَ فِعْلُ قَلْبٍ فَيُعَلَّقُ، بَلْ يَكُونُ مَاذَا كُلُّهُ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ فَانْتَظِرِ الَّذِي يَرْجِعُونَ، وَالْمَعْنَى: فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ حَتَّى تَرُدَّ إِلَيَّ مَا يَرْجِعُونَ مِنَ القول. قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ، قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ. فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَخَذَ الْهُدْهُدُ الْكِتَابَ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَهُ سُلَيْمَانُ. فَقِيلَ: أَخَذَهُ بِمِنْقَارِهِ. وَقِيلَ: عَلَّقَهُ فِي عُنُقِهِ، فَجَاءَهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهَا، وَحَوْلَهَا جُنُودُهَا، فَرَفْرَفَ بِجَنَاحَيْهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى رَفَعَتْ رَأْسَهَا،

_ (1) سورة النمل: 27/ 31.

فَأَلْقَى الْكِتَابَ فِي حَجْرِهَا. وَقِيلَ: كَانَتْ فِي قَصْرِهَا قَدْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَاسْتَلْقَتْ عَلَى فِرَاشِهَا نَائِمَةً، فَأَلْقَى الْكِتَابَ عَلَى نَحْرِهَا. وَقِيلَ: كَانَتْ فِي الْبَيْتِ كُوَّةٌ تَقَعُ الشَّمْسُ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهَا سَجَدَتْ، فَجَاءَ الْهُدْهُدُ فَسَدَّهَا بِجَنَاحِهِ، فَرَأَتْ ذَلِكَ وَقَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَلْقَى الْكِتَابَ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ قَارِئَةً عَرَبِيَّةً مِنْ قَوْمِ تُبَّعٍ. وَقِيلَ: أَلْقَاهُ مِنْ كُوَّةٍ وَتَوَارَى فِيهَا. فَأَخَذَتِ الْكِتَابَ وَنَادَتْ أَشْرَافَ قَوْمِهَا: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ. وَكُرِّمَ الْكِتَابُ لِطَبْعِهِ بِالْخَاتَمِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «كَرَمُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ» أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَكَانَتْ عَالِمَةً بِمُلْكِهِ، أَوْ لِكَوْنِ الرَّسُولِ بِهِ الطَّيْرَ، فَظَنَّتْهُ كِتَابًا سَمَاوِيًّا أَوْ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ لُطْفًا وَلِينًا، لَا سَبًّا وَلَا مَا يُغَيِّرُ النَّفْسَ، أَوْ لِبَدَاءَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ، أَقْوَالٌ. ثُمَّ أَخْبَرَتْهُمْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، كَأَنَّهَا قِيلَ لَهَا: مِمَّنِ الْكِتَابُ وَمَا هُوَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ كَيْتَ وَكَيْتَ. أَبْهَمَتْ أَوَّلًا ثُمَّ فَسَّرَتْ، وَفِي بِنَائِهَا أُلْقِيَ لِلْمَفْعُولِ دَلَالَةٌ عَلَى جَهْلِهَا بِالْمُلْقِي، حَيْثُ حَذَفَتْهُ، أَوْ تَحْقِيرًا لَهُ، حَيْثُ كَانَ طَائِرًا، إِنْ كَانَتْ شَاهَدَتْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَدَاءَةَ الْكِتَابِ مِنْ سُلَيْمَانَ بَاسِمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى آخَرِ مَا قَصَّ اللَّهُ مِنْهُ خَاصَّةً، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُلَيْمَانَ مُقَدَّمًا عَلَى بِسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدَّمَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْدُرَ مِنْهَا مَا لَا يَلِيقُ، إِذْ كَانَتْ كَافِرَةً، فَيَكُونُ اسْمُهُ وِقَايَةً لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. أَوْ كَانَ عُنْوَانًا فِي ظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَبَاطِنُهُ فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا فِي الْكِتَابَةِ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ، وَإِنِ ابْتَدَأَ الْكِتَابُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَحِينَ قَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ قِرَاءَتِهَا لَهُ فِي نَفْسِهَا، قَدَّمَتْهُ فِي الْحِكَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّمًا فِي الْكِتَابَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَتْ رُسُلُ الْمُتَقَدِّمِينَ إذا كتبوا كتابا بدأوا بِأَنْفُسِهِمْ، مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْإِشَارَةُ. وَعَنْ أَنَسٍ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ كِتَابًا بدأوا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي (كِتَابِ الْبُسْتَانِ) لَهُ: وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ جَازَ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ وَفَعَلُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَإِنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ، بِزِيَادَةِ وَاوٍ عَطْفًا عَلَى إِنِّي أُلْقِيَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهِمَا، وَخَرَجَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كِتَابٍ، أَيْ أُلْقِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهُ كَأَنَّهَا. عَلَّلَتْ كَرَمَ الْكِتَابِ لِكَوْنِهِ مِنْ سُلَيْمَانَ وَتَصْدِيرِهِ بِبِسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَنْ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَنْ بِسْمِ اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ، فَخَرَّجَ عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتْ جملة فيها معنى القول، وَعَلَى أَنَّهَا أَنْ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَحُذِفَتِ الْهَاءُ وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اسْتِفْتَاحٌ

شَرِيفٌ بَارِعُ الْمَعْنَى مَبْدُوءٌ بِهِ فِي الْكُتُبِ فِي كُلِّ لُغَةٍ وَكُلِّ شَرْعٍ. وأن فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْلُوا، قِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى البدل من كِتَابِ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَعْنَى بِأَنْ لَا تَعْلُوا، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ تَكُونُ أَنْ نَاصِبَةً للفعل. وقال الزمخشري: وأن في أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى مُفَسِّرَةٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لَا فِي لَا تَعْلُوا لِلنَّهْيِ، وَهُوَ حَسَنٌ لِمُشَاكَلَةِ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هُوَ أَنْ لَا تَعْلُوا، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَمَعْنَى لَا تَعْلُوا: لَا تَتَكَبَّرُوا، كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَالْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيِّ: أَنْ لَا تَغْلُوا، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ أَلَّا تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ، وَهُوَ مِنَ الْغُلُوِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ وَقَدْ أَسْلَمُوا، وَتَرَكُوا الْكُفْرَ وَعِبَادَةَ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُذْعِنِينَ مُسْتَسْلِمِينَ مِنْ الِانْقِيَادِ وَالدُّخُولِ فِي الطَّاعَةِ، وَمَا كَتَبَهُ سُلَيْمَانُ فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَطْ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيِّ، إِذِ الْمُلُوكُ يَكُونُ عِنْدَهُمْ مَنْ يُتَرْجِمُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ، فَكَتَبَ بِالْخَطِّ الْعَرَبِيِّ وَاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّهَا كَانَتْ عَرَبِيَّةً مِنْ نَسْلِ تُبَّعِ بْنِ شَرَاحِيلَ الْحِمْيَرِيِّ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَكَانَ عِنْدَهَا مَنْ يُتَرْجِمُ لَهَا، إِذْ كَانَتْ هِيَ عَارِفَةً بِذَلِكَ اللِّسَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ نُسْخَةَ الْكِتَابِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ إِلَى بِلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَلَا تَعْلُوا عَلَيَّ وَائْتَوِنِي مُسْلِمِينَ. وَكَانَتْ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ جُمَلًا لَا يُطِيلُونَ وَلَا يُكْثِرُونَ، وَطُبِعَ الْكِتَابُ بِالْمِسْكِ، وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ أَحَدٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سُلَيْمَانَ، وَلَمَّا قَرَأَتْ عَلَى الْمَلَأِ الْكِتَابَ، وَرَأَتْ مَا فِيهِ مِنْ الِانْتِقَالِ إِلَى سُلَيْمَانَ، اسْتِشَارَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ أُولُو مَشُورَتِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ، وَعَنْهُ: وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضِ مَأْرِبَ مِنْ صَنْعَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذُكِرَ عَنْ عَسْكَرِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفَتْوَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَالْمُرَادُ هُنَا: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِمَا عِنْدَكُمْ فِي مَا حَدَثَ لَهَا مِنَ الرَّأْيِ السَّدِيدِ وَالتَّدْبِيرِ. وَقَصَدَتْ بِإِشَارَتِهِمْ: اسْتِطْلَاعَ آرَائِهِمْ وَاسْتِعْطَافَهُمْ وَتَطْيِيبَ أَنْفُسِهِمْ لِيُمَالِئُوهَا وَيَقُومُوا. مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً: أَيْ مُبْرِمَةً وَفَاصِلَةً أَمْرًا، حَتَّى تَشْهَدُونِ: أَيْ تَحْضُرُوا عِنْدِي، فَلَا أَسْتَبِدُّ بِأَمْرٍ، بَلْ تَكُونُونَ حَاضِرِينَ مَعِي. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كُنْتُ قَاضِيَةً أَمْرًا، أَيْ لَا أَبُتُّ إِلَّا وَأَنْتُمْ حَاضِرُونَ مَعِي. وَمَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا، عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ، أَيْ إِذَا

كَانَتْ عَادَتِي هَذِهِ مَعَكُمْ، فَكَيْفَ لَا أَسْتَشِيرُكُمْ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ الْخُرُوجُ مِنَ الْمُلْكِ وَالِانْسِلَاكُ فِي طَاعَةِ غَيْرِي وَالصَّيْرُورَةُ تَبَعًا؟ فَرَاجَعَهَا الْمَلَأُ بِمَا أَقَرَّ عَيْنَهَا مِنْ قولهم: إنهم أُولُوا قُوَّةٍ، أَيْ قُوَّةٍ بِالْعَدَدِ والعدد، وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ: أَيْ أَصْحَابُ شَجَاعَةٍ وَنَجْدَةٍ. أَظْهَرُوا الْقُوَّةَ الْعَرْضِيَّةَ، ثُمَّ الْقُوَّةَ الذَّاتِيَّةَ، أي نحن متهيؤون لِلْحَرْبِ وَدَفْعِ هَذَا الْحَادِثِ. ثُمَّ قَالُوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ مُحَاوَرَتِهِمْ، إِذْ وَكَّلُوا الْأَمْرَ إِلَيْهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الطَّاعَةِ الْمُفْرِطَةِ، أَيْ نَحْنُ ذَكَرْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ مَوْكُولٌ إِلَيْكِ، كَأَنَّهُمْ أَشَارُوا أَوَّلًا عَلَيْهَا بِالْحَرْبِ، أَوْ أَرَادُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ الْحَرْبِ لَا أَبْنَاءُ الِاسْتِشَارَةِ، وَأَنْتِ ذَاتُ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ الْحَسَنِ. فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ بِهِ، نَرْجِعُ إِلَيْكِ وَنَتَّبِعُ رأيك، وفانظري مِنَ التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَمَاذَا هو المفعول الثاني لتأمرين، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ تَأْمُرِينَنَا. وَالْجُمْلَةُ مُعَلَّقٌ عَنْهَا انْظُرِي، فَهِيَ في موضع مفعول لأنظري بَعْدَ إِسْقَاطِ الْحَرْفِ مِنِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ. وَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا كِتَابُ سُلَيْمَانَ، لَا عَلَى يَدِ رَجُلٍ بَلْ عَلَى طَائِرٍ، اسْتَعْظَمَتْ مُلْكَ سُلَيْمَانَ، وَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ سُخِّرَ لَهُ الطَّيْرُ حَتَّى يُرْسِلَهُ بِأَمْرٍ خَاصٍّ إِلَى شَخْصٍ خَاصٍّ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ الْأَبْوَابُ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ تَدْوِيخُ الْأَرْضِ وَمُلُوكِهَا، فَأَخْبَرَتْ بِحَالِ الْمُلُوكِ وَمَالَتْ إِلَى الْمُهَادَاةِ وَالصُّلْحِ فَقَالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً: أَيْ تَغَلَّبُوا عَلَيْهَا، أَفْسَدُوها: أَيْ خَرَّبُوهَا بِالْهَدْمِ وَالْحَرْقِ وَالْقَطْعِ، وَأَذَلُّوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْأَسْرِ، وَقَوْلُهَا فِيهِ تَزْيِيفٌ لِآرَائِهِمْ فِي الْحَرْبِ، وَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَحِيَاطَةٌ لَهُمْ، وَاسْتِعْظَامٌ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ هُوَ مِنْ قَوْلِهَا، أَيْ عَادَةُ الْمُلُوكِ الْمُسْتَمِرَّةُ تِلْكَ مِنَ الْإِفْسَادِ وَالتَّذْلِيلِ، وَكَانَتْ نَاشِئَةً فِي بَيْتِ الْمُلْكِ، فَرَأَتْ ذَلِكَ وَسَمِعَتْ. ذَكَرَتْ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَالِ الْمُلُوكِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ إِعْلَامًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَتَصْدِيقًا لِإِخْبَارِهَا عَنِ الْمُلُوكِ إِذَا تَغَلَّبُوا. وَلَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ قَبُولَ الْهَدَايَا، وَأَنَّ قَبُولَهَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالْأُلْفَةِ، قَالَتْ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ إِلَى سُلَيْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ، رُسُلًا بِهَدِيَّةٍ، وَجَاءَ لَفْظُ الْهَدِيَّةِ مُبْهَمًا. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْيِينِهَا أَقْوَالًا مُضْطَرِبَةً مُتَعَارِضَةً، وَذَكَرُوا مِنْ حِيَلِهَا وَمِنْ حَالِ سُلَيْمَانَ حِينَ وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْهَدِيَّةُ، وَكَلَامِهِ مَعَ رُسُلِهَا مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وفَناظِرَةٌ معطوف على مُرْسِلَةٌ. وبِمَ متعلق بيرجع. وَوَقَعَ لِلْحَوْفِيِّ أَنَّ الْبَاءَ متعلقة بناظرة، وَهُوَ وَهْمٌ فَاحِشٌ، وَالنَّظَرُ هُنَا مُعَلَّقٌ أَيْضًا. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ بِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَثِقْ بِقَبُولِ

الْهَدِيَّةِ، بَلْ جَوَّزَتِ الرَّدَّ، وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَنْكَشِفَ لَهَا غَرَضُ سُلَيْمَانَ. وَالْهَدِيَّةُ: اسْمٌ لِمَا يُهْدَى، كَالْعَطِيَّةِ هِيَ اسْمٌ لِمَا يُعْطَى. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ لِقَوْمِهَا: إِنْ كَانَ مَلِكًا دُنْيَاوِيًّا، أَرْضَاهُ الْمَالُ وَعَمِلْنَا مَعَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا، لَمْ يُرْضِهِ الْمَالُ وَيَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَرْسَلَتِ الْهَدِيَّةَ، فَلَمَّا جَاءَ، أَيِ الرَّسُولُ سُلَيْمَانَ، وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ الْجِنْسُ لَا حَقِيقَةَ الْمُفْرَدِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ في ارجع والرسول يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الله: فلما جاءوا، وقرأ: ارْجِعُوا، جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى قوله: الْمُرْسَلُونَ. وأَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَاسْتِقْلَالٍ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عُزُوفِهِ عَنِ الدُّنْيَا، وَعَدَمِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَسِعَةِ الْمُلْكِ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِمَا يُهْدَى إِلَيْكُمْ تَفْرَحُونَ بِحُبِّكُمُ الدُّنْيَا، وَالْهَدِيَّةُ تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُهْدِي وَإِلَى الْمَهْدَى إِلَيْهِ، وَهِيَ هُنَا مُضَافَةٌ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إِلَى الْمُهْدِي، أَيْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ هَذِهِ الَّتِي أَهْدَيْتُمُوهَا تَفْرَحُونَ فَرَحَ افْتِخَارٍ عَلَى الْمُلُوكِ، فَإِنَّكُمْ قَدَرْتُمْ عَلَى إِهْدَاءِ مِثْلِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الرَّدِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا هَدِيَّتَكُمْ وَتَفْرَحُوا بِهَا. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: أَتُمِدُّونَنِي، بِنُونَيْنِ، وَأَثْبَتَ بَعْضٌ الْيَاءَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَإِثْبَاتِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْمُسَيَّبِيُّ، عَنْ نَافِعٍ: بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ وَأَنَا أَغْنَى مِنْكُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ بِالْفَاءِ؟ قُلْتُ: إِذَا قُلْتُهُ بِالْوَاوِ، فَقَدْ جَعَلْتُ مُخَاطِبِي عَالِمًا بِزِيَادَتِي عَلَيْهِ فِي الْغِنَى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَمُدُّنِي بِالْمَالِ، وَإِذَا قَلَتُهُ بِالْفَاءِ، فَقَدْ جَعَلْتُهُ مِمَّنْ خَفِيَتْ عَنْهُ حَالِي، وَأَنَا أُخْبِرُهُ السَّاعَةَ بِمَا لَا أَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى إِمْدَادِهِ، كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: أُنْكِرُ عَلَيْكَ مَا فَعَلْتَ، فَإِنِّي غَنِيٌّ عَنْهُ. وَعَلَيْهِ وَرَدَ قَوْلُهُ: فَما آتانِيَ اللَّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ الْإِضْرَابِ؟ قُلْتُ: لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْإِمْدَادَ وَعَلَّلَ إِنْكَارَهُ، أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ سَبَبَ رِضًا وَلَا فَرَحٍ إِلَّا أَنْ يُهْدَى إِلَيْهِمْ حَظٌّ مِنَ الدُّنْيَا الَّتِي لَا يَعْلَمُونَ غَيْرَهَا. انْتَهَى. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِالْهَدِيَّةِ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو أَمِيرُ الْوَفْدِ، وَالْمَعْنَى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّتِهِمْ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: ارْجِعُوا إِلَيْهِمْ، وَارْجِعُوا هُنَا لَا تَتَعَدَّى، أَيِ انْقَلِبُوا وَانْصَرِفُوا إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: ارْجِعْ، لِلْهُدْهُدِ مُحَمَّلًا كِتَابًا آخَرَ. ثُمَّ أَقْسَمَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ، مُتَوَعِّدًا لَهُمْ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَيْ إِنْ

لَمْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. وَدَلَّ هَذَا التَّوَعُّدُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا بَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ إِذْ ذَاكَ. وَالضَّمِيرُ فِي بِها عَائِدٌ عَلَى الْجُنُودِ، وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: الرِّجَالُ وَأَعْضَادُهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بِهِمْ. وَمَعْنَى لَا قِبَلَ: لَا طَاقَةَ، وَحَقِيقَةُ الْقِبَلِ الْمُقَاوَمَةُ وَالْمُقَابَلَةُ، أَيْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تُقَابِلُوهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى سَبَأٍ، وَهِيَ أَرْضُ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا. وَانْتَصَبَ أَذِلَّةً عَلَى الْحَالِ. وَهُمْ صاغِرُونَ: حَالٌ أُخْرَى. وَالذُّلُّ: ذَهَابُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعِزِّ، وَالصَّغَارُ: وُقُوعُهُمْ فِي أَسْرٍ وَاسْتِعْبَادٍ، وَلَا يَقْتِصَرُ بِهِمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا سُوقَةً بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُلُوكًا. وَفِي مَجِيءِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقْضِيَ الْعَامِلُ حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الثَّانِيَةَ هُنَا جَاءَتْ تَوْكِيدًا لِقَوْلِهِ: أَذِلَّةً، فَكَأَنَّهُمَا حَالٌ وَاحِدَةٌ. قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهَا بِالْهَدِيَّةِ، وَأَخْبَرَهَا بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ، فَتَجَهَّزَتْ لِلْمَسِيرِ إِلَيْهِ، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَا طَاقَةَ لَهَا بِقِتَالِ نَبِيٍّ. فَرُوِيَ أَنَّهَا أَمَرَتْ عِنْدَ خُرُوجِهَا إِلَى سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ عَرْشَهَا فِي آخِرِ سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ، بَعْضُهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ، فِي آخِرِ قَصْرٍ مِنْ قُصُورِهَا، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَوَكَّلَتْ بِهِ حُرَّاسًا يَحْفَظُونَهُ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي أقيالها وَأَتْبَاعِهِمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: فَلَمَّا كَانَتْ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ مَهِيبًا، لَا يُبْتَدَأُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْهُ. فَنَظَرَ ذَاتَ يَوْمٍ رَهْجًا قَرِيبًا مِنْهُ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: بِلْقِيسُ، فَقَالَ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا

فِي قَصْدِ سُلَيْمَانَ اسْتِدْعَاءَ عَرْشِهَا. فَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا وُصِفَ لَهُ عِظَمُ عَرْشِهَا وَجَوْدَتُهُ، أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْصِمُهَا وَقَوْمَهَا الْإِسْلَامُ وَيَمْنَعُ أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ، وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْ نَبِيٍّ أُوتِيَ مُلْكًا لَمْ يُؤْتَهُ غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: اسْتَدْعَاهُ لِيُرِيَهَا الْقُدْرَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِيُغْرِبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا الِاسْتِسْلَامِ. وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِقَوْلٍ فَقَالَ: وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاسْتِيثَاقِهَا مِنْ عَرْشِهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُغْرِبَ عَلَيْهَا وَيُرِيَهَا بِذَلِكَ بَعْضَ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ إِجْرَاءِ الْعَجَائِبِ عَلَى يَدِهِ، مَعَ اطِّلَاعِهَا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى مَا يَشْهَدُ لِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ وَيُصَدِّقُهَا. انْتَهَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ الْهُدْهُدِ فِي قَوْلِهِ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِي حَمْلِ الْكِتَابِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى حَمْلِهِ مِنْ مَشُورَةِ بِلْقِيسَ قَوْمَهَا وَبَعْثِهَا بِالْهَدِيَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ، فَيُنَكَّرَ وَيُغَيَّرَ، ثُمَّ يَنْظُرَ أَتُثْبِتُهُ أَمْ تُنْكِرُهُ، اخْتِبَارًا لِعَقْلِهَا. وَالظَّاهِرُ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى حَسْبِ مَا وَقَعَتْ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؟ حِينَ ابْتَدَأَ النَّظَرَ فِي صِدْقِ الْهُدْهُدِ مِنْ كَذِبِهِ لِمَا قَالَ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. فَفِي تَرْتِيبِ الْقَصَصِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَفِي قَوْلِهِ: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِبَعْضِ الْأَتْبَاعِ فِي مَقَاصِدِ الْمُلُوكِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُخَصُّ بَعْضُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ، وَدَلِيلٌ عَلَى مبادرة من طلبه مِنْهُ الْمُلُوكُ قَضَاءَ حَاجَةٍ، وَبَدَاءَةِ الشَّيَاطِينِ فِي التَّسْخِيرِ عَلَى الْإِنْسِ، وَقُدْرَتِهِمْ بِأَقْدَارِ اللَّهِ عَلَى مَا يَبْعُدُ فِعْلُهُ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عِفْرِيتٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو السَّمَّاكِ، وَعِيسَى، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: عِفْرِيَةٌ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا يَاءٌ مَفْتُوحَةٍ، بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مُصَوَّبٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُقْتَضِبُ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: عِفْرٌ، بِلَا يَاءٍ وَلَا تَاءٍ، وَيُقَالُ فِي لغة طيىء وَتَمِيمٍ: عِفْرَاةٌ بِالْأَلِفِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَفِيهِ لُغَةٌ سَادِسَةٌ عُفَارِيَةٌ، وَيُوصَفُ بِهَا الرَّجُلُ، وَلَمَّا كَانَ قَدْ يُوصَفُ بِهِ الْإِنْسُ خُصَّ بِقَوْلِهِ مِنَ الْجِنِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْمُهُ صَخْرٌ. وَقِيلَ: كوري. وقيل: ذكران. وآتِيكَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا وَاسْمَ فَاعِلٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَوَهْبٌ: مِنْ مَقامِكَ: أَيْ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَكَانَ يَجْلِسُ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الظَّهْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ تَسْتَوِيَ مِنْ جُلُوسِكَ قَائِمًا. وَإِنِّي عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ لَقَوِيٌّ عَلَى حَمْلِهِ

أَمِينٌ: لَا أَخْتَلِسُ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ كَافِرًا، لَكِنَّهُ كَانَ مُسَخَّرًا، وَالْعِفْرِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ، قِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَالْكِتَابُ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَوْ كِتَابُ سُلَيْمَانَ إِلَى بِلْقِيسَ. وَقِيلَ: مَلَكٌ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ الْإِنْسِ، وَاسْمُهُ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا، كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ صِدِّيقًا عَالِمًا قَالَهُ الجمهور. أو اسطوم، أَوْ هُودٌ، أَوْ مَلِيخَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ أَسْطُورُسُ، أَوِ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: هُوَ ضَبَّةُ بْنُ ادجد بَنِي ضَبَّةَ، مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ فَاضِلًا يَخْدُمُ سُلَيْمَانَ، كَانَ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ خَيْلِهِ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَقَدْ أَبْهَمَ اللَّهُ اسْمَهُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُهُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ نَبِيٌّ. وَمِنْ أَغْرَبِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، أَوْ يَكُونُ خَاطَبَ بِذَلِكَ الْعِفْرِيتَ، حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، كَأَنَّهُ اسْتَبْطَأَ مَا قَالَ الْعِفْرِيتَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ عَلَى تَحْقِيرِ الْعِفْرِيتِ. وَالْكِتَابُ: هُوَ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، قَوْلَانِ. وَالْعِلْمُ الَّذِي أُوتِيَهُ، قِيلَ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. وَقِيلَ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقِيلَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ: أهيا شراهيا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ ثُمَّ الرَّحْمَنُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ارْتِدَادَ الطَّرْفِ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ أَقْصَرُ فِي الْمُدَّةِ مِنْ مُدَّةِ الْعِفْرِيتِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ حِينَ أَجَابَهُ الْعِفْرِيتُ ، وَلَمَّا كَانَ النَّاظِرُ مَوْصُوفًا بِإِرْسَالِ الْبَصَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ وُصِفَ بِرَدِّ الطَّرْفِ، وَوُصِفَ الطَّرْفُ بِالِارْتِدَادِ. فَالْمَعْنَى أَنَّكَ تُرْسِلُ طَرْفَكَ، فَقَبْلَ أَنْ تَرُدَّهُ أَتَيْتُكَ بِهِ، وَصَارَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَرُوِيَ أَنَّ آصَفَ قَالَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُدَّ عَيْنَيْكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ طَرْفُكَ، فَمَدَّ طَرْفَهُ فَنَظَرَ نَحْوَ الْيَمَنِ، فَدَعَا آصَفُ فَغَابَ الْعَرْشُ فِي مَكَانِهِ بِمَأْرِبَ، ثُمَّ نَبَعَ عِنْدَ مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ بِالشَّامِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ طَرْفَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ مَنْ يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ فِي أَبْعَدِ مَا تَرَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَبْلَ أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى التَّغْمِيضِ، أَيْ مُدَّةَ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَمُدَّ بَصَرَكَ دُونَ تَغْمِيضٍ، وَذَلِكَ ارْتِدَادُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُقَابِلَانِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقِيَامَ هُوَ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقِيَامَ هُوَ مِنَ الْجُلُوسِ، فَيَقُولُ فِي ارْتِدَادِ الطَّرْفِ هُوَ أَنْ تَطْرِفَ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تُغْمِضَ عَيْنَيْكَ وَتَفْتَحَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الثَّانِيَ يُعْطِي الْأَقْصَرَ فِي الْمُدَّةِ وَلَا بُدَّ. انْتَهَى. وَقِيلَ: طَرْفُكَ

مَطْرُوفُكَ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْكَ مَنْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مُنْتَهَى بَصَرِكَ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمُ، لِأَنَّ مَنْ يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ هُوَ مَطْرُوفُكَ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَبْلَ أَنْ يَنْقَبِضَ إِلَيْكَ طَرْفُكَ بِالْمَوْتِ، فَخَبَّرَهُ أَنَّهُ سَيَأْتِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، بَلِ الْمَعْنَى آتِيكَ بِهِ سَرِيعًا. وَقِيلَ: ارْتِدَادُ الطَّرْفِ مَجَازٌ هُنَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ مُجَازِ التَّمْثِيلِ، وَالْمُرَادُ اسْتِقْصَارُ مُدَّةِ الْإِتْيَانِ بِهِ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: افْعَلْ كَذَا فِي لَحْظَةٍ، وَفِي رَدَّةِ طَرْفٍ، وَفِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، تُرِيدُ بِهِ السُّرْعَةَ، أَيْ آتِيكَ بِهِ فِي مُدَّةٍ أَسْرَعَ مِنْ مُدَّةِ الْعِفْرِيتِ. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَدَعَا اللَّهَ فَأَتَاهُ بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ: أَيْ عَرْشَ بِلْقِيسَ. قِيلَ: نَزَلَ عَلَى سُلَيْمَانَ مِنَ الْهَوَاءِ. وَقِيلَ: نَبَعَ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنَ تَحْتِ عَرْشِ سُلَيْمَانَ، وَانْتَصَبَ مستقرا على الحال، وعنده مَعْمُولٌ لَهُ. وَالظَّرْفُ إِذَا وَقَعَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ وَاجِبَ الْحَذْفِ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَهَرَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مِنْ قَوْلِهِ: مُسْتَقِرًّا، وَهَذَا هُوَ الْمُقَدَّرُ أَبَدًا فِي كُلِّ ظَرْفٍ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَمُسْتَقِرًّا، أَيْ ثَابِتًا غَيْرَ مُتَقَلْقِلٍ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى الْحُضُورِ الْمُطْلَقِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ. انْتَهَى. فَأَخَذَ فِي مُسْتَقِرًّا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الِاسْتِقْرَارِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَقَلْقِلٍ، حَتَّى يَكُونَ مَدْلُولُهُ غَيْرَ مَدْلُولِ الْعِنْدِيَّةِ، وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ لِذِكْرِ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الْوَاقِعِ حَالًا وَقَدْ قُدِّرَ ذِكْرُ الْعَامِلِ فِي مَا وَقَعَ خَبَرًا مِنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ التَّامِّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: لَكَ العزان مولاك عزوان يَهُنْ ... فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي: أَيْ هَذَا الْإِتْيَانُ بِعَرْشِهَا، وَتَحْصِيلُ مَا أَرَدْتُ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ مِنْ فَضْلِ رَبِّي عَلَيَّ وَإِحْسَانِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَأَشْكُرُ عَلَى السَّرِيرِ وَسَوْقِهِ أَمْ أَكْفُرُ؟ إِذْ رَأَيْتُ مَنْ هُوَ دُونِي فِي الدُّنْيَا أَعْلَمُ مِنِّي. انْتَهَى. وَتَلَقِّي سُلَيْمَانُ النِّعْمَةَ وَفَضْلَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ، إِذْ ذَاكَ نِعْمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، والشكر قيد للنعم. وأ أشكر أَمْ أَكْفُرُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِيَبْلُوَنِي، وَهُوَ مُعَلَّقٌ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّمْيِيزِ، وَالتَّمْيِيزُ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ، وَكَثِيرٌ التَّعْلِيقُ فِي هَذَا الْفِعْلِ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرَادِفًا لَهُ، لِأَنَّ مَدْلُولَهُ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الِاخْتِبَارُ. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ: أَيْ ذَلِكَ الشُّكْرُ عَائِدٌ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ قَدْ صَانَ نَفْسَهُ عَنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَفَعَلَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَفَرَ: أَيْ فَضْلَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ، لَا يَعُودُ مَنْفَعَتُهَا إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ الْكَرِيمُ بِالْإِنْعَامِ عَلَى مَنْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ أُضْمِرَ فَاءٌ فِي قَوْلِهِ:

غَنِيٌّ، أَيْ عَنْ شُكْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَسِيمِهِ، أَيْ وَمَنْ كَفَرَ فَلِنَفْسِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْكُفْرُ عَائِدٌ عِقَابُهُ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ. قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها. رُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ أَحَسَّتْ مِنْ سُلَيْمَانَ، أَوْ ظَنَّتْ بِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَرَمَوْهَا عِنْدَهُ بِأَنَّهَا غَيْرُ عَاقِلَةٍ وَلَا مُمَيَّزَةٍ، وَأَنَّ رِجْلَهَا كَحَافِرِ دَابَّةٍ، فَجَرَّبَ عَقْلَهَا وَمَيَّزَهَا بِتَنْكِيرِ الْعَرْشِ، وَرِجْلَهَا بِالصَّرْحِ، لِتَكْشِفَ عَنْ سَاقَيْهَا عِنْدَهُ. وَتَنْكِيرُ عَرْشِهَا ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: بِأَنَّ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ. وَقِيلَ: بِنَزْعِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْفُصُوصِ وَالْجَوَاهِرِ. وَقِيلَ: بِجَعْلِ أَسْفَلِهِ أَعْلَاهُ وَمُقَدَّمِهِ مُؤَخَّرَهُ. وَالتَّنْكِيرُ: جَعْلُهُ مُتَنَكِّرًا مُتَغَيِّرًا عَنْ شَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ، كَمَا يَتَنَكَّرُ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ حَتَّى لَا يَعْرِفُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَنْظُرْ: بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. أَمْرٌ بِالتَّنْكِيرِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَنْظُرُ، وَمُتَعَلِّقُ أَتَهْتَدِي مَحْذُوفٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَتَهْتَدِي لِمَعْرِفَةِ عَرْشِهَا وَلَا يُجْعَلُ تَنْكِيرُهُ قَادِحًا فِي مَعْرِفَتِهَا لَهُ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ فَرْطُ عَقْلِهَا وَأَنَّهَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ حَالُ عَرْشِهَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ رَامُوا الْإِخْفَاءَ أَوْ أَتَهْتَدِي لِلْجَوَابِ الْمُصِيبِ إِذَا سُئِلَتْ عَنْهُ، أَوْ أَتَهْتَدِي لِلْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا رَأَتْ هَذَا الْمُعْجِزَ مِنْ نَقْلِ عَرْشِهَا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي تَرَكَتْهُ فِيهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ عَلَيْهِ وَجَعَلَتْ لَهُ حُرَّاسًا. فَلَمَّا جاءَتْ، فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَنَكَّرُوا عَرْشَهَا وَنَظَرُوا مَا جَوَابُهَا إِذَا سُئِلَتْ عَنْهُ. فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ: أَيْ مِثْلُ هَذَا الْعَرْشِ الَّذِي أَنْتِ رَأَيْتِيهِ عَرْشُكِ الَّذِي تَرَكْتِيهِ بِبِلَادِكِ؟ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: أَهَذَا عَرْشُكِ؟ جَاءَ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ تَلْقِينًا لَهَا. وَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تَعْرِفُهَا فِيهِ، وَتَمَيَّزَتْ فِيهِ أَشْيَاءَ مِنْ عَرْشِهَا، لَمْ تَجْزِمْ بِأَنَّهُ هُوَ، وَلَا نَفَتْهُ النَّفْيَ الْبَالِغَ، بَلْ أَبْرَزَتْ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ تَشْبِيهِيَّةٍ فَقَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ، وَذَلِكَ مِنْ جَوْدَةِ ذِهْنِهَا، حَيْثُ لَمْ تَجْزِمْ فِي الصُّورَةِ الْمُحْتَمَلَةِ بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ مِنْ كَوْنِهِ إِيَّاهُ أَوْ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ إِيَّاهُ، وَقَابَلَتْ تَشْبِيهَهُمْ بِتَشْبِيهِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهَا. فَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ قَوْمِ سُلَيْمَانَ وَأَتْبَاعِهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ فَقِيلَ: الْعِلْمُ هُنَا مَخْصُوصٌ، أَيْ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِإِسْلَامِهَا وَمَجِيئِهَا طَائِعَةً. مِنْ قَبْلِها أَيْ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا. وَكُنَّا مُسْلِمِينَ: مُوَحِّدِينَ خَاضِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها الْآيَةَ، قَالَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا

قَالَ ذَلِكَ بِمَا عَلِمَتْ هِيَ وَفَهِمَتْ، ذَكَرَ هُوَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ كلام سليمان وملائه، فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ هَذَا الْكَلَامَ وَبِمَا اتَّصَلَ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ الْمَقَامُ الَّذِي سُئِلَتْ فِيهِ عَنْ عَرْشِهَا، وَأَجَابَتْ بِمَا أَجَابَتْ بِهِ مَقَامًا، أَجْرَى فِيهِ سُلَيْمَانُ وَمَلَأُهُ مَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُمْ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ، نَحْوَ أَنْ يَقُولُوا عِنْدَ قَوْلِهَا: كَأَنَّهُ هُوَ، قَدْ أَصَابَتْ فِي جَوَابِهَا، فَطَبَّقَتِ الْمُفَصَّلَ، وَهِيَ عَاقِلَةٌ لَبِيبَةٌ، وَقَدْ رُزِقَتِ الْإِسْلَامَ وَعَلِمَتْ قُدْرَةَ اللَّهِ وَصِحَّةَ النُّبُوَّةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عِنْدَ وَفْدَةِ الْمُنْذِرِ. وَبِهَذِهِ الْآيَةِ الْعَجِيبَةِ مِنْ أَمْرِ عَرْشِهَا عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: وَأُوتِينَا نَحْنُ الْعِلْمَ بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَبِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ عِلْمِهَا، وَلَمْ نَزَلْ نَحْنُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، شَكَرُوا اللَّهَ عَلَى فَضْلِهِمْ عَلَيْهَا وَسَبْقِهِمْ إِلَى الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَالْإِسْلَامِ قَبْلَهَا وَصَدَّهَا عَنِ التَّقَدُّمِ إِلَى الْإِسْلَامِ عِبَادَةُ الشَّمْسِ وَنَشْؤُهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْكَفَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ مَوْصُولًا بِقَوْلِهَا كَأَنَّهُ هُوَ، وَالْمَعْنَى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَبِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، أَوْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ، يَعْنِي مَا تَبَيَّنْتَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ وَفْدَةِ الْمُنْذِرِ وَدَخَلْنَا فِي الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَصَدَّها قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّا دَخَلَتْ فِيهِ ضَلَالُهَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَقِيلَ: وَصَدَّهَا اللَّهُ أَوْ سُلَيْمَانُ عَمَّا كَانَتْ تَعْبُدُ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْجَارِّ وَاتِّصَالِ الْفِعْلِ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلَهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ، فَهُوَ قَوْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ لَا الْجَوَازِ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَمْرِ الْهُدْهُدِ وَالرُّسُلِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، يَعْنِي إِحْضَارَ الْعَرْشِ. وَكُنَّا مُسْلِمِينَ مُطِيعِينَ لِأَمْرِكَ مُنْقَادِينَ لَكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بِصَدِّهَا هُوَ قَوْلُهُ: مَا كانَتْ تَعْبُدُ، وَكَوْنُهُ اللَّهَ أَوْ سليمان، وما مَفْعُولُ صَدَّهَا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا أَيْ عَنِ الدِّيَارِ، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَإِذَا كَانَ الْفَاعِلُ هُوَ مَا كَانَتْ بِالْمَصْدُودِ عَنْهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: التَّقْدِيرُ التَّفَطُّنُ لِلْعَرْشِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقِظٌ وَالْكَافِرَ خَبِيثٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَصَدَّها مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأُوتِينَا، إِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ سُلَيْمَانَ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَلِأُمَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ وَأُوتِينَا مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ. وَالْوَاوُ في صدها لِلْحَالِ، وَقَدْ مُضْمَرَةٌ

مَرْغُوبٌ عَنْهُ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ لَا يُذْهَبُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهَا، فَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ لِأَنَّهَا، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ: لَمَّا وَصَلَتْ بِلْقِيسُ، أَمَرَ سُلَيْمَانُ الْجِنَّ فَصَنَعَتْ لَهُ صَرْحًا، وَهُوَ السَّطْحُ فِي الصَّحْنِ مِنْ غَيْرِ سَقْفٍ، وَجَعَلَتْهُ مبنيا كالصهريج ومليء مَاءً، وَبُثَّ فِيهِ السَّمَكُ وَالضَّفَادِعُ، وَجُعِلَ لِسُلَيْمَانَ فِي وَسَطِهِ كُرْسِيٌّ. فَلَمَّا وَصَلَتْهُ بلقيس، يلَ لَهَا: ادْخُلِي إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرَأَتِ اللُّجَّةَ وَفَزِعَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فكشفت عن ساقها، فَرَأَى سُلَيْمَانُ سَاقَيْهَا سَلِيمَتَيْنِ مِمَّا قَالَتِ الْجِنُّ. فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذَا الْحَدَّ، قَالَ لها سليمان: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَسْلَمَتْ بِلْقِيسُ وَأَذْعَنَتْ وَأَسْلَمَتْ وَأَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالظُّلْمِ. وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ زِيَادَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ وَضَعَ سَرِيرَهُ فِي صَدْرِهِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَزِيدَهَا اسْتِعْظَامًا لِأَمْرِهِ وَتَحَقُّقًا لِنُبُوَّتِهِ وَثَبَاتًا عَلَى الدِّينِ. انْتَهَى. وَالصَّرْحُ: كُلُّ بِنَاءٍ عَالٍ، وَمِنْهُ: ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ «1» ، وَهُوَ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ الْإِعْلَانُ الْبَالِغُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّرْحُ هُنَا: الْبِرْكَةُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الصَّحْنُ، وَصَرْحَةُ الدَّارِ: سَاحَتُهَا. وَقِيلَ: الصَّرْحُ هُنَا: الْقَصْرُ مِنَ الزُّجَاجِ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَدَخَلَتْهُ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ. وَاللُّجَّةُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ. وَكَشْفُ سَاقَيْهَا عَادَةُ مَنْ كَانَ لَابِسًا وَأَرَادَ أَنْ يَخُوضَ الْمَاءَ إِلَى مَقْصِدٍ لَهُ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّرْحِ إِلَّا تَهْوِيلَ الْأَمْرِ، وَحَصَلَ كَشْفُ السَّاقِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، إِلَّا أَنْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْجِنِّ أَنَّ سَاقَهَا سَاقُ دَابَّةٍ بِحَافِرٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْلَامُ ذَلِكَ مَقْصُودًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: قِيلَ فِي رِوَايَةِ الْإِخْرِيطِ وَهْبِ بْنِ وَاضِحٍ عَنْ سَأْقِيهَا بِالْهَمْزِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ قُنْبُلٍ: يُكْشَفُ عَنْ سَأْقٍ، وَأَمَّا هَمْزُ السُّؤْقِ وَعَلَى سُؤْقِهِ فَلُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَمْزِ الْوَاوِ الَّتِي قَبْلَهَا ضَمَّةٌ. حَكَى أَبُو عَلِيٍّ أَنَّ أَبَا حَيَّةَ النُّمَيْرِيَّ كَانَ يَهْمِزُ كُلَّ وَاوٍ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، وَأَنْشَدَ: أَحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَيَّ مُوسَى وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ يُقَالُ هُوَ سُلَيْمَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهَا بِدُخُولِ الصَّرْحِ. وَظُلْمُهَا نَفْسَهَا، قِيلَ: بِالْكُفْرِ، وَقِيلَ: بِحُسْبَانِهَا أَنَّ سُلَيْمَانَ أَرَادَ أَنْ يعرفها. وقال

_ (1) سورة غافر: 40/ 36.

[سورة النمل (27) : الآيات 45 إلى 93]

ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعَ، ظَرْفٌ بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ، وَأَمَّا إِذَا أُسْكِنَتِ الْعَيْنُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى. انْتَهَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ظَرْفٌ، فُتِحْتِ الْعَيْنُ أَوْ سُكِّنَتْ، وَلَيْسَ التَّسْكِينُ مَخْصُوصًا بِالشِّعْرِ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، بَلْ ذَلِكَ لُغَةً لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَالظَّرْفِيَّةُ فِيهَا مُجَازٌ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمٌ يَدُلُّ على معنى الصحبة. [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 93] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

الحديقة: الْبُسْتَانُ، كَانَ عَلَيْهِ جِدَارٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. الْحَاجِزُ: الْفَاصِلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. الْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ. الْجُمُودُ: سُكُونُ الشَّيْءِ وَعَدَمُ حَرَكَتِهِ. الْإِتْقَانُ: الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْإِحْكَامِ فِي الْخَلْقِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: تَقِنُوا أَرْضَهُمْ إِذَا أَرْسَلُوا فِيهَا الْمَاءَ الْخَاثِرَ بِالتُّرَابِ فَتَجُودُ، وَالتِّقْنِ: مَا رُمِيَ بِهِ الْمَاءُ فِي الْغَدِيرِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ الْمَاءُ مِنَ الْخُثُورَةِ. كَبَبْتُ الرَّجُلَ: أَلْقَيْتَهُ لِوَجْهِهِ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ، قالَ: يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ، وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ، وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَانْظُرْ

كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. ثَمُودُ هِيَ عَادٌ الْأُولَى، وَصَالِحٌ أَخُوهُمْ فِي النَّسَبِ. للما ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ذَكَرَ قِصَّةَ مَنْ هُوَ مِنَ الْعَرَبِ، يُذَكِّرُ بِهَا قُرَيْشًا وَالْعَرَبَ، وَيُنَبِّهُهُمْ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ يَدْعُو إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّ شَأْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ هُوَ الدُّعَاءُ إلى عبادة الله، وَأَنْ فِي: أَنِ اعْبُدُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، لِأَنَّ أَرْسَلْنا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ بِأَنْ اعْبُدُوا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَعَلَى الثَّانِي فَفِي مَوْضِعِهَا خِلَافٌ، أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَإِذا هُمْ عَائِدٌ عَلَى ثَمُودَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ انْقَسَمُوا فَرِيقَيْنِ: مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُرِيدَ بِالْفَرِيقَيْنِ: صَالِحٌ وَقَوْمُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. انْتَهَى. فَجَعَلَ الْفَرِيقَ الْوَاحِدَ هُوَ صَالِحٌ، وَالْفَرِيقَ الْآخَرَ قَوْمَهُ، وَإِذَا هُنَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَعَطَفَ بِالْفَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ لَا الْمُهْلَةَ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالِاخْتِصَامِ، مُتَعَقِّبًا دُعَاءَ صَالِحٍ إِيَّاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. وَجَاءَ يَخْتَصِمُونَ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ جَمْعٌ، فَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَفَرَ، فَالْجَمْعِيَّةُ حَاصِلَةٌ فِي كُلِّ فَرِيقٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرِيقَ الْمُؤْمِنِ جَمْعٌ قَوْلُهُ: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «2» فَقَالَ: آمَنْتُمْ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ. وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقُ الْمُؤْمِنُ هُوَ صَالِحٌ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ قَدِ انْضَمَّ إِلَى قَوْمِهِ، وَالْمَجْمُوعُ جَمْعٌ، وَأُوثِرَ يَخْتَصِمُونَ عَلَى يَخْتَصِمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ التَّثْنِيَةِ جَائِزًا فَصِيحًا، لِأَنَّهُ مَقْطَعُ فَصْلٍ، واختصامهم دَعْوَى كُلِّ فَرِيقٍ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَخَاصُمَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. ثُمَّ تَلَطَّفَ صَالِحٌ بِقَوْمِهِ وَرَفَقَ بِهِمْ فِي الْخِطَابِ فَقَالَ مُنَادِيًا لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّحَنُّنِ عَلَيْهِمْ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ، أَيْ بوقوع ما يسوؤكم قَبْلَ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ، وَهِيَ رَحْمَةُ اللَّهِ. وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهُمْ فِي حَدِيثِ النَّاقَةِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» فَقَالُوا لَهُ: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ «4» . وَقِيلَ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِوُقُوعِ الْمَعَاصِي مِنْكُمْ قَبْلَ الطَّاعَةِ؟

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 75. (2) سورة الأعراف: 7/ 76. (3) سورة الأعراف: 7/ 73. (4) سورة العنكبوت: 29/ 29.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى اسْتِعْجَالِهِمْ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتَا مُتَوَقَّعَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى؟ قُلْتُ: كَانُوا يَقُولُونَ بِجَهْلِهِمْ: إِنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي يَعِدُنَا صَالِحٌ، إِنْ وَقَعَتْ عَلَى زَعْمِهِ، تُبْنَا حِينَئِذٍ وَاسْتَغْفَرْنَا، مُقَدِّرِينَ أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّ لم تَقَعْ، فَنَحْنُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَخَاطَبَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ. انْتَهَى. ثُمَّ حَضَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ دَرْءُ السَّيِّئَةِ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَاسْتِغْفَارُ اللَّهِ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْكُفْرِ، وَنَاطَ ذَلِكَ بِتَرَجِّي الرَّحْمَةِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ. وَكَانَ فِي التَّحْضِيضِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْخَطَأِ مِنْهُمْ فِي اسْتِعْجَالِ الْعُقُوبَةِ، وَتَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَلَمَّا لَاطَفَهُمْ فِي الْخِطَابِ أَغْلَظُوا لَهُ وَقَالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ: أَيْ تَشَاءَمْنَا بِكَ وَبِالَّذِينِ آمَنُوا مَعَكَ. وَدَلَّ هَذَا الْعَطْفُ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ لِقَوْلِهِ: وَبِمَنْ مَعَكَ، وَكَانُوا قَدْ قَحِطُوا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى التَّطَيُّرِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، جَعَلُوا سَبَبَ قَحْطِهِمْ هُوَ ذَاتُ صَالِحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ: أَيْ حَظُّكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَبِقَضَائِهِ، إِنْ شَاءَ رَزَقَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ حَرَمَكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ عَمَلُكُمْ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَمِنْهُ نَزَلَ بِكُمْ مَا نَزَلَ عُقُوبَةً لَكُمْ وَفِتْنَةً، وَمِنْهُ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ، وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عنقه. وقرىء: تَطَيَّرْنَا بِكَ عَلَى الْأَصْلِ، وَمَعْنَى تَطَيَّرَ بِهِ: تَشَاءَمَ بِهِ، وَتَطَيَّرَ مِنْهُ: نَفَرَ عَنْهُ. انْتَهَى. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِحَالِهِمْ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ، أَيْ تُخْتَبَرُونَ، أَوْ تُعَذَّبُونَ، أَوْ يَفْتِنُكُمُ الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ إِلَيْكُمُ الطِّيَرَةَ، أَوْ تُفْتَنُونَ بِشَهَوَاتِهِ: أَيْ تَشْفَعُونَ بِهَا، كَمَا يُقَالُ: فُتِنَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: دَاءٌ قَدِيمٌ فِي بَنِي آدَمَ ... فِتْنَةٌ إِنْسَانٍ بِإِنْسَانِ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ تُفْتَنُونَ، وَجَاءَ تُفْتَنُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى مُرَاعَاةِ أَنْتُمْ، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَيَجُوزُ يُفْتَنُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى مُرَاعَاةِ لَفْظِ قَوْمٌ، وَهُوَ قَلِيلٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْتَ رَجُلٌ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَالْمَدِينَةُ مُجْتَمَعُ ثَمُودَ وَقَرْيَتُهُمْ، وَهِيَ الْحِجْرُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَسْمَاءَ التِّسْعَةِ، وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ، وَرَأْسُهُمْ: قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، وَأَسْمَاؤُهُمْ لَا تَنْضَبِطُ بِشَكْلٍ وَلَا تَتَعَيَّنُ، فَلِذَلِكَ ضَرَبْنَا صَفْحًا عَنْ ذِكْرِهَا، وَكَانُوا عُظَمَاءَ الْقَرْيَةِ وَأَغْنِيَاءَهَا وَفُسَّاقَهَا. وَالرَّهْطُ: مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَالنَّفَرُ: مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: تِسْعَةُ رِجَالٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا جَازَ

تَمْيِيزُ التِّسْعَةِ بِالرَّهْطِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تِسْعَةُ أَنْفُسٍ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُ غَيْرِهِ: تِسْعَةُ رِجَالٍ هُوَ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَضَافَ إِلَى أَنْفُسٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: تِسْعُ أَنْفُسٍ، عَلَى تَأْنِيثِ النَّفْسِ، إِذِ الْفَصِيحُ فِيهَا التَّأْنِيثُ. أَلَا تَرَاهُمْ عَدُّوا مِنَ الشُّذُوذِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ فَأَدْخَلَ التَّاءَ فِي ثَلَاثَةٍ وَكَانَ الْفَصِيحُ أَنْ يَقُولَ: ثَلَاثُ أَنْفُسٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تِسْعَةَ جَمْعٍ، إِذِ الظَّاهِرُ مِنَ الرَّهْطِ الْجَمَاعَةُ لَا الْوَاحِدُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبَائِلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَدَدِ، لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، لَا لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ. انْتَهَى. قِيلَ: وَالرَّهْطُ اسْمُ الْجَمَاعَةِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا رُؤَسَاءَ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَهْطٌ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنَ التَّرْهِيطِ، وَهُوَ تَعْظِيمُ اللُّقَمِ وَشِدَّةُ الْأَكْلِ. انْتَهَى. وَرَهْطٌ: اسْمُ جَمْعٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فَصْلَهُ بِمِنْ هُوَ الْفَصِيحُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ «1» . وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ. وَقَدْ صَرَّحَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ: ثَلَاثُ غَنَمٍ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَنْقَاسُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ، وَفَصَلَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَمْعِ لِلْقَلِيلِ، كَرَهْطٍ وَنَفَرٍ وَذَوْدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، أَوْ لِلتَّكْثِيرِ، أَوْ يُسْتَعْمَلُ لَهُمَا، فَلَا تَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ، وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) . ويُفْسِدُونَ: صِفَةٌ لِتِسْعَةِ رَهْطٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ الْفَسَادَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا يُصْلِحُونَ، لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ إِفْسَادٌ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ إِصْلَاحٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَقَاسَمُوا، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَقَسَّمُوا، بِغَيْرِ أَلِفٍ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْقَسَمِ وَالتَّقَاسُمِ وَالتَّقْسِيمِ، كَالتَّظَاهُرِ وَالتَّظْهِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَقاسَمُوا فِعْلُ أَمْرٍ مَحْكِيٌّ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَشَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْحَلِفِ عَلَى تَبْيِيتِ صَالِحٍ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ تَقَاسَمُوا فِعْلًا مَاضِيًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ قَالُوا مُتَقَاسِمِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقَاسَمُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَخَبَرًا عَلَى مَحَلِّ الْحَالِ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ قَالُوا: مُتَقَاسِمِينَ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَخَبَرًا، فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْكَلَامِ، إِذْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى الْخَبَرِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 260.

وَالْإِنْشَاءِ، وَجَمِيعُ مَعَانِيهِ إِذَا حَقَّقْتَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وقرىء لَنُبَيِّتَنَّهُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ، فَتَقَاسَمُوا مَعَ النُّونِ وَالتَّاءِ يَصِحُّ فِيهِ الْوَجْهَانِ، يَعْنِي فِيهِ: أَيْ فِي تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ، وَالْوَجْهَانِ هُمَا الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ عِنْدَهُ. قَالَ: وَمَعَ الْيَاءِ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ يَكُونَ خَبَرًا. انْتَهَى. وَالتَّقْيِيدُ بِالْحَالِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ بَابِ نِسْبَةِ التَّقْيِيدِ، لَا مِنْ نِسْبَةِ الْكَلَامِ الَّتِي هِيَ الْإِسْنَادُ، فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، كَانَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ حَالًا لجاز أن تستعمل خبرا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَهُ صِلَةً أَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ هُوَ مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صِلَةً، لَجَازَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ خَبَرًا، وَهَذَا شَيْءٌ فِيهِ غُمُوضٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ، فَقَدْ كَثُرَ وُقُوعُ الْمَاضِي حَالًا بِغَيْرِ قَدْ كَثْرَةً يَنْبَغِي الْقِيَاسُ عَلَيْهَا. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ بِاللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِتَقَاسَمُوا الَّذِي هُوَ حَالٌ، فَهُوَ مِنْ صِلَتِهِ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ. وَالْمَقُولِ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَمَا بَعْدَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَقُولَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَالْحَسَنُ، وحمزة، وَالْكِسَائِيُّ: بِتَاءِ خِطَابِ الْجَمْعِ وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالْفِعْلَانِ مُسْنَدَانِ لِلْجَمْعِ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِي الْأَوَّلِ مُسْنَدًا لِلْجَمْعِ، أَيْ لَيُبَيِّتُنَّهُ، أَيْ قَوْمٌ مِنَّا، وَبِالنُّونِ فِي الثَّانِي، أَيْ جميعنا يَقُولُ لِوَلِيِّهِ، وَالْبَيَاتُ: مُبَاغِتَةُ الْعَدُوِّ. وَعَنِ الْإِسْكَنْدَرِ أَنَّهُ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِالْبَيَاتِ فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُلُوكِ اسْتِرَاقُ الظَّفَرِ، وَوَلِيُّهُ طَالِبُ ثَأْرِهِ إِذَا قُتِلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُهْلَكَ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ مِنْ أَهْلَكَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: مَهْلِكَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِفَتْحِهِمَا. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَتَحْتَمِلُ الْمَصْدَرَ وَالزَّمَانَ والمكان، أي ما شهدنا إِهْلَاكَ أَهْلِهِ، أَوْ زَمَانَ إِهْلَاكِهِمْ، أَوْ مَكَانَ إِهْلَاكِهِمْ. وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَشْهَدُوا الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ أَنْ لَا يَشْهَدُوا الْإِهْلَاكَ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، أَيْ مَا شَهِدْنَا زَمَانَ هَلَاكِهِمْ وَلَا مَكَانَهُ. وَالثَّالِثَةُ: تَقْتَضِي الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ مَا شَهِدْنَا هَلَاكَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ ذَكَرُوا القراءات. الثلاث، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ الْمَصْدَرُ وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مَعْطُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَمَهْلِكَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَهْلِهِ، وَحَذْفُ مِثْلِ هَذَا الْمَعْطُوفِ جَائِزٌ فِي الْفَصِيحِ، كَقَوْلِهِ: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، أَيْ وَالْبَرْدَ، وَقَالَ الشَّاعِرِ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أبو حجر إلا لَيَالٍ قَلَائِلُ

أَيْ بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَصادِقُونَ كَذِبًا فِي الْإِخْبَارِ، أَوْهَمُوا قَوْمَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا قَتَلُوهُ وَأَهْلَهُ سِرًّا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ أَحَدٌ، وَقَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ، أَنَّهُمْ صَادِقُونَ وَهُمْ كَاذِبُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُونَ صَادِقِينَ وَقَدْ جَحَدُوا مَا فَعَلُوا فَأَتَوْا بِالْخَبَرِ عَلَى خِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا إِذَا بَيَّتُوا صَالِحًا وَبَيَّتُوا أَهْلَهُ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْبَيَاتَيْنِ، ثُمَّ قَالُوا: مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، فَذَكَرُوا أَحَدَهُمَا كَانُوا صَادِقِينَ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا الْبَيَاتَيْنِ جَمِيعًا لَا أَحَدَهُمَا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ عِنْدَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الشَّرْعَ وَنَوَاهِيَهُ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا قَتْلَ نَبِيِّ اللَّهِ، وَلَمْ يَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ حَتَّى سَوَّوْا الصِّدْقَ فِي أَنْفُسِهِمْ حِيلَةً يَنْقُصُونَ بِهَا عَنِ الْكَذِبِ؟ انْتَهَى. وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَيْفَ يتخيل هَذِهِ الْحِيَلَ فِي جَعْلِ إِخْبَارِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ إِخْبَارًا بِالصِّدْقِ؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا، وَعَقَرُوا النَّاقَةَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ، وَأَقْدَمُوا عَلَى قَتْلِ نَبِيٍّ وَأَهْلِهِ؟ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَهُوَ يَتْلُو فِي كِتَابِ اللَّهِ كَذِبَهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. وَنَصَّ اللَّهُ ذَلِكَ، وَكَذِبُهُمْ عَلَى مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ «1» ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ، وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «3» ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى يَنْصُرَ مَذْهَبَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ عِنْدَ الْكَفَرَةِ، وَيَتَحَيَّلُ لَهُمْ هَذَا التَّحَيُّلَ حَتَّى يَجْعَلَهُمْ صَادِقِينَ فِي إِخْبَارِهِمْ. وَهَذَا الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ أُوتِيَ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ، أَوْفَرَ حَظٍّ، وَجَمَعَ بَيْنَ اخْتِرَاعِ الْمَعْنَى وَبَرَاعَةِ اللَّفْظِ. فَفِي كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَشْيَاءَ مُنْتَقَدَةٌ، وَكُنْتُ قَرِيبًا مِنْ تَسْطِيرِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ قَدْ نَظَمْتُ قَصِيدًا فِي شَغْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتَطْرَدْتُ إِلَى مَدْحِ كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ مَحَاسِنِهِ، ثُمَّ نَبَّهْتُ عَلَى مَا فِيهِ مِمَّا يَجِبُ تَجَنُّبُهُ، وَرَأَيْتُ إِثْبَاتَ ذَلِكَ هُنَا لِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ مَنْ يَقِفُ عَلَى كِتَابِي هَذَا وَيَتَنَبَّهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْقَبَائِحِ، فَقُلْتُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا مَدَحْتُهُ بِهِ: وَلَكِنَّهُ فِيهِ مَجَالٌ لِنَاقِدٍ ... وَزَلَّاتُ سُوءٍ قَدْ أَخَذْنَ الْمَخَانِقَا فَيُثْبِتُ مَوْضُوعَ الْأَحَادِيثِ جَاهِلًا ... وَيَعْزُو إِلَى المعصوم ما ليس لائقا ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوا المضايقا

_ (1) سورة الطارق: 86/ 9. (2) سورة الأنعام: 6/ 23. [.....] (3) سورة الأنعام: 6/ 24.

وَيُسْهِبُ فِي الْمَعْنَى الْوَجِيزِ دَلَالَةً ... بِتَكْثِيرِ أَلْفَاظٍ تُسَمَّى الشق اشقا يُقَوِّلُ فِيهَا اللَّهَ مَا لَيْسَ قَائِلًا ... وَكَانَ مُحِبًّا في الخطابة وامقا ويخطىء فِي تَرْكِيبِهِ لِكَلَامِهِ ... فَلَيْسَ لما قد ركبوه مو افقا وَيَنْسُبُ إِبْدَاءَ الْمَعَانِي لِنَفْسِهِ ... لِيُوهِمَ أَغْمَارًا وَإِنْ كَانَ س ارقا ويخطىء فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ ... يُجَوِّزُ إِعْرَابًا أَبَى أَنْ يط ابقا وَكَمْ بَيْنَ مَنْ يُؤْتَى الْبَيَانَ سَلِيقَةً ... وَآخَرَ عَانَاهُ فَمَا هُوَ لَاحِقَا وَيَحْتَالُ لِلْأَلْفَاظِ حَتَّى يُدِيرَهَا ... لِمَذْهَبِ سوء فيه أصبح م ارقا فَيَا خُسْرَهُ شَيْخًا تَخَرَّقَ صِيتُهُ ... مَغَارِبَ تَخْرِيقِ الصَّبَا ومش ارقا لَئِنْ لَمْ تَدَارَكْهُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ ... لَسَوْفَ يُرَى لِلْكَافِرِينَ مُرَافِقَا وَمَكْرُهُمْ: مَا أَخْفَوْهُ مِنْ تَدْبِيرِ الْفَتْكِ بِصَالِحٍ وَأَهْلِهِ. وَمَكْرُ اللَّهِ: إِهْلَاكُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، شُبِّهَ بِمَكْرِ الْمَاكِرِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَمَكْرُهُمْ: أنهاهم أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ وَاخْتِفَاؤُهُمْ فِي غَارٍ. قِيلَ: أَوْ شِعْبٍ، أَوْ عَزْمُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَهْلِهِ، وَحَلِفِهِمْ أَنَّهُمْ مَا حَضَرُوا ذَلِكَ. وَمَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ: إِطْبَاقُ صَخْرَةٍ عَلَى فَمِ الْغَارِ وَالشِّعْبِ وَإِهْلَاكُهُمْ فِيهِ، أَوْ رَمْيُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ بِالْحِجَارَةِ، يَرَوْنَهَا وَلَا يَرَوْنَ الرَّامِيَ حِينَ شَهَرُوا أَسْيَافَهُمْ بِاللَّيْلِ لِيَقْتُلُوهُ، قَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ صَالِحًا بِمَكْرِهِمْ فَيَخْرُجُ عَنْهُ، فَذَلِكَ مَكْرُ اللَّهِ فِي حَقِّهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ صَالِحًا، بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ، أَخْبَرَهُمْ بِمَجِيءِ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةُ عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ وَأَهْلِهِ لَيْلًا وَقَالُوا: إِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي وَعِيدِهِ، كُنَّا قَدْ أَوْقَعْنَا بِهِ مَا يَسْتَحِقُّ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، كُنَّا قَدْ عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا وَشَفَيْنَا نُفُوسَنَا. وَاخْتَفَوْا فِي غَارٍ، وَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَهْلَكَ قَوْمَهُمْ، وَلَمْ يَشْعُرْ كُلُّ فَرِيقٍ بِهَلَاكِ الْآخَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَيْفَ خَبَرُ كَانَ، وعاقبة الِاسْمِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِانْظُرْ، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، والكوفيون: بفتحها، فأنا بَدَلٌ مِنْ عَاقِبَةُ، أَوْ خَبَرٌ لِكَانَ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ، أَيِ الْعَاقِبَةُ تَدْمِيرُهُمْ. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِأَنَّا وَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كانَ تامة وعاقِبَةُ فَاعِلٌ بِهَا، وَأَنْ تَكُونَ زَائِدَةً وَعَاقِبَةُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ كَيْفَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَنْ دَمَّرْنَاهُمْ، وَهِيَ أَنِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ الْمُضَارِعَ، وَيَجُوزَ فِيهَا الْأَوْجُهُ الْجَائِزَةُ فِي أَنَّا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَازَ فِي أَنَّا دَمَّرْناهُمْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ

فَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ كَيْفَ، قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ يَلْزَمُ فِيهِ إِعَادَةُ حَرْفِهِ، كَقَوْلِهِ: كَيْفَ زِيدٌ، أَصَحِيحٌ أَمْ مَرِيضٌ؟ وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِيمَا جَرَى لَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ فِي أَنْفُسِهِمْ، بَيَّنَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَكَيْفَ خَلَتْ مِنْهُمْ، وَخَرَابُ الْبُيُوتِ وَخُلُوُّهَا مِنْ أَهْلِهَا، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّا يُعَاقَبُ بِهِ الظَّلَمَةُ، إِذْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ. وَفِي التَّوْرَاةِ: ابْنُ آدَمَ لَا تَظْلِمْ يُخْرَبْ بَيْتُكَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى هَلَاكِ الظَّالِمِ، إِذْ خَرَابُ بَيْتِهِ مُتَعَقِّبٌ هَلَاكَهُ، وَهَذِهِ الْبُيُوتُ هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ، عَامَ تَبُوكَ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» ، الْحَدِيثَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَاوِيَةً، بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَمِلَ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ تِلْكَ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: خَاوِيَةٌ، بِالرَّفْعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ هِيَ خَاوِيَةٌ، قَالَ: أَوْ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ تِلْكَ، وَبُيُوتُهُمْ بَدَلٌ، أَوْ على خبر ثان، وخاوية خَبَرِيَّةٌ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَهُوَ الْكُفْرُ، وَهُوَ مِنْ خُلُوِّ الْبَطْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَاوِيَةٌ، أَيْ سَاقِطٌ أَعْلَاهَا عَلَى أَسْفَلِهَا. إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي فِعْلِنَا بِثَمُودَ، وَهُوَ اسْتِئْصَالُنَا لَهُمْ بِالتَّدْمِيرِ، وَخَلَاءِ مَسَاكِنِهِمْ مِنْهُمْ، وَبُيُوتُهُمْ هِيَ بَوَادِي الْقُرَى بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ بِصَالِحٍ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِالْكُفَّارِ، وَكَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، خَرَجَ بِهِمْ صَالِحٌ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، وَسُمِّيَتْ حَضْرَمَوْتَ لِأَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَهَا مَاتَ بِهَا، وَبَنَى الْمُؤْمِنُونَ بِهَا مَدِينَةً يُقَالُ لَهَا: حَاضُورَا. وَأَمَّا الْهَالِكُونَ فَخَرَجَ بِأَبْدَانِهِمْ خُرَاجٌ مِثْلُ الْحِمَّصِ، احْمَرَّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اصْفَرَّ فِي الثَّانِي، ثُمَّ اسْوَدَّ فِي الثَّالِثِ، وَكَانَ عَقْرُ النَّاقَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَهَلَكُوا يَوْمَ الْأَحَدِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: تَفَتَّقَتْ تِلْكَ الْخُرَاجَاتُ، وَصَاحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمْ صَيْحَةً فَخَمَدُوا. وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. وَلُوطاً: عَطْفٌ عَلَى صالِحاً، أَيْ وَأَرْسَلْنَا لوطا، أو الَّذِينَ على آمَنُوا، أَيْ وَأَنْجَيْنَا لُوطًا، أو باذكر مُضْمَرَةٍ، وَإِذْ بَدَلٌ مِنْهُ، أقوال. وأَ تَأْتُونَ: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ،

وَأُبْهِمَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: الْفاحِشَةَ، ثُمَّ عَيَّنَهَا فِي قوله: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ: أَيْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ هَذَا الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَحْدَثْتُمُوهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا، وَالْعِلْمُ بِقُبْحِ الشَّيْءِ مَعَ إِتْيَانِهِ أَعْظَمُ فِي الذَّنْبِ، أَوْ آثَارَ الْعُصَاةِ قَبْلَكُمْ، أَوْ يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ لَا يَسْتَتِرُ وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ مَجَانَةً وَعَدَمَ اكْتِرَاثٍ بِالْمَعْصِيَةِ الشَّنْعَاءِ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَانْتَصَبَ شَهْوَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أجله، وتَجْهَلُونَ غَلَبَ فِيهِ الْخِطَابُ، كَمَا غَلَبَ فِي بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ. وَمَعْنَى: تَجْهَلُونَ، أَيْ عَاقِبَةَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَوْ تَفْعَلُونَ فِعْلَ السُّفَهَاءِ الْمُجَّانِ، أَوْ فِعْلَ مَنْ جَهِلَ أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ مَعَ الْعِلْمِ أَقْوَالٌ. وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَنَسَبَ إِلَى الْجَهْلِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ فِيمَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، عَدَلُوا إِلَى الْمُغَالَبَةِ وَالْإِيذَاءِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى يَتَطَهَّرُونَ فِي الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَوابَ بِالنَّصْبِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بِالرَّفْعِ، وَالْجُمْهُورُ: قَدَّرْناها، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَأَبُو بَكْرٍ بِتَخْفِيفِهَا، وَبَاقِي الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي الْأَعْرَافِ. وَسَاءَ: بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَطَرُهُمْ. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِحَمْدِهِ تَعَالَى وَالسَّلَامِ عَلَى الْمُصْطَفَيْنَ، وَأَخَذَ فِي مُبَايَنَةِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، اللَّهِ تَعَالَى، وَمُبَايِنَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَدْيَانِ الَّتِي أَشْرَكُوهَا مَعَ اللَّهِ وَعَبَدُوهَا. وَابْتَدَأَ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ لِقُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ بِالْحَمْدَلَةِ، وَكَأَنَّهَا صَدْرُ خُطْبَةٍ لِمَا يُلْقِي مِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَقَدِ اقْتَدَى بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فِي تَصَانِيفَ كُتُبِهِمْ وَخُطَبِهِمْ وَوَعْظِهِمْ، فَافْتَتَحُوا بِتَحْمِيدِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبِعَهُمُ الْمُتَرَسِّلُونَ فِي أَوَائِلِ كُتُبِ الْفُتُوحِ وَالتَّهَانِي وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَهَا شَأْنٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ عَلَى هَلَاكِ الْهَالِكِينَ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ، وَالسَّلَامِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمُ النَّاجِينَ. وَقِيلَ: قُلِ، خِطَابٌ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى هَلَاكِ كُفَّارِ قَوْمِهِ، وَيُسَلِّمُ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلْفَرَّاءِ، وَقَالَ: هَذِهِ عُجْمَةٌ مِنَ الْفَرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَكَذَا: قُلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرَيْكُمْ، بِفَتْحِ اللَّامِ، وَعِبَادُهُ الْمُصْطَفَوْنَ، يَعُمُّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعِبَادُ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اصْطَفَاهُمْ لِنَبِيِّهِ، وَفِي اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ تَوْبِيخٌ لِلْمُعَاصِرِينَ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَهُمُ اسْتُؤْصِلَ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُرْتَفِعٌ عَنْ أُمَّةِ الرَّسُولِ، أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ عَلَى مَا خَصَّهُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَتَسْلِيمِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَشَاقِّ الرِّسَالَةِ. انْتَهَى، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ. وَقَوْلُهُ: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ: اسْتِفْهَامٌ فِيهِ تَبْكِيتٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَهَكُّمٌ بِحَالِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ التَّبَايُنِ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْأَوْثَانِ، إِذْ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الْخَيْرِيَّةِ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَهُمْ، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ حَيْثُ يُعْلَمُ وَيُتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِيهَا وَإِنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ إِلْزَامِ الْخَصْمِ وَتَنْبِيهِهِ عَلَى خَطَأِ مُرْتَكِبِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ هُوَ عن خيرية الذَّوَاتِ، فَقِيلَ: جَاءَ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ اعْتَقَدُوا فِي آلِهَتِهِمْ خَيْرًا بِوَجْهٍ مَا، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ فِي مَوْضِعَيْنِ، التَّقْدِيرُ: أَتَوْحِيدُ اللَّهِ خَيْرٌ أَمْ عِبَادَةُ مَا يُشْرِكُونَ؟ فَمَا فِي أَمْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْحَذْفُ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ أَتَوْحِيدُ اللَّهِ خَيْرٌ أَمْ شِرْكُكُمْ؟ وَقِيلَ: خَيْرٌ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، فَهِيَ كَمَا تَقُولُ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ، يَعْنِي خَيْرًا مِنَ الْخُيُورِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ ذُو خَيْرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَيْرًا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي نَحْوِ هَذَا يَجِيءُ لِبَيَانِ فَسَادِ مَا عَلَيْهِ الْخَصْمُ، وَتَنْبِيهِهِ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِلْزَامِهِ الْإِقْرَارَ بِحَصْرِ التَّفْضِيلِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَانْتِفَائِهِ عَنِ الْآخَرِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُشْرِكُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَأَمْ فِي أَمْ مَا مُتَّصِلَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَيُّهُمَا خَيْرٌ؟ وفي أَمَّنْ خَلَقَ وَمَا بَعْدَهُ مُنْفَصِلَةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ خَيْرًا، عَدَّدَ سُبْحَانَهُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعَ الَّتِي هِيَ آثَارُ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا عَدَّدَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، تَوْقِيفًا لَهُمْ عَلَى مَا أَبْدَعَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنَ الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَّنْ خَلَقَ، وَفِي الْأَرْبَعَةِ بَعْدَهَا بِشَدِّ الْمِيمِ، وَهِيَ مِيمُ أَمْ أُدْغِمَتْ فِي مِيمِ مَنْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِتَخْفِيفِهَا جَعَلَهَا همزة الاستفهام، أدخلت على مَنْ، وَمَنْ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ: يَكْفُرُ بِنِعْمَتِهِ وَيَشُكُّ بِهِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْمَعْنَى. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، فَقَدَّرَ مَا أُثْبِتَ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ بَدَأَ أَوَّلًا فِي الِاسْتِفْهَامِ بِاسْمِ الذَّاتِ، ثُمَّ انْتَقَلَ فِيهِ إِلَى الصِّفَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّوَامِحِ) لَهُ: وَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ جُمْلَةٍ مُعَادِلَةٍ، وَصَارَ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ لِدَلَالَةِ الْفَحْوَى عَلَيْهِ. وَتَقْدِيرُ تِلْكَ الجملة: أمن خلق السموات كَمَنْ لَمْ يَخْلُقْ، وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا، وَقَدْ أَظْهَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا أَضْمَرَ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «1» . انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ هَذَا الْمُقَدَّرِ جُمْلَةً، إِنْ أَرَادَ بِهَا جُمْلَةً مِنَ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْجُمْلَةَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهَا فِي النَّحْوِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُضْمَرٌ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ. وَبَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ إِنْشَاءِ مَقَرِّ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَإِنْزَالِ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَقَالَ: لَكُمْ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: فَأَنْبَتْنا، وَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ دَالًّا عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْبِتْ تِلْكَ الْحَدَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ الْأَصْنَافِ وَالْأَلْوَانِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وَقَدْ رُشِّحَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها. وَلَمَّا كان خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، لَا شُبْهَةَ لِلْعَاقِلِ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، وَكَانَ الْإِنْبَاتُ مِمَّا قَدْ يَتَسَبَّبُ فِيهِ الْإِنْسَانُ بِالْبَذْرِ وَالسَّقْيِ وَالتَّهْيِئَةِ، وَيَسُوغُ لِفَاعِلِ السَّبَبِ نِسْبَةُ فِعْلِ الْمُسَبَّبِ إِلَيْهِ، بَيَّنَ تَعَالَى اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَتَأْكِيدِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ قَدْ لَا يَأْتِي عَلَى وَفْقِ مُرَادِهِ؟ وَلَوْ أَتَى فَهُوَ جَاهِلٌ بِطَبْعِهِ وَمِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلًا لَهَا؟ وَالْبَهْجَةُ: الْجَمَالُ وَالنُّضْرَةُ وَالْحُسْنُ، لِأَنَّ النَّاظِرَ فِيهَا يَبْتَهِجُ، أَيْ يُسَرُّ وَيَفْرَحُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذاتَ، بِالْإِفْرَادِ، بَهْجَةٍ، بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ يَجْرِي فِي الْوَصْفِ مَجْرَى الْوَاحِدَةِ، كَقَوْلِهِ: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «2» ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى جَمَاعَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، ذَوَاتِ، بِالْجَمْعِ، بَهَجَةٍ بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ بِالْفَتْحِ. مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَفْيَ مِثْلِ هَذِهِ الْكَيْنُونَةِ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ كَهَذَا، أَوْ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِهِ شَرْعًا، أَوْ لِنَفْيِ الْأَوْلَوِيَّةِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ إنبات

_ (1) سورة النمل: 16/ 17. (2) سورة البقرة: 2/ 25، وسورة النساء: 4/ 57.

ذَلِكَ مِنْكُمْ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِبْرَازُ شَيْءٍ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا ذَكَرَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ، خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ ذَمَّهُمْ، عَدَلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَقَالَ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، إِمَّا الْتِفَاتًا، وَإِمَّا إِخْبَارًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِهِمْ، أَيْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ، أَيْ يَجْعَلُونَ له عديلا ومثيلا. وقرىء: إِلَهًا، بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى: أَتَدْعُونَ أو أتشركون؟ وقرىء: أَإِلَهٌ، بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَتَيْنِ وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِأَلِفٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ منشىء السموات وَالْأَرْضِ، ذَكَرَ شَيْئًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنْبَاتُ الْحَدَائِقِ بِالْأَرْضِ، ذَكَرَ شَيْئًا مُخْتَصًّا بِالْأَرْضِ، وَهُوَ جَعْلُهَا قَرَارًا، أَيْ مُسْتَقَرًّا لَكُمْ، بِحَيْثُ يُمْكِنُكُمُ الْإِقَامَةُ بِهَا وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا، وَلَا يُدِيرُهَا الْفَلَكُ، قِيلَ: لِأَنَّهَا مُضْمَحِلَّةٌ فِي جَنْبِ الْفَلَكِ، كَالنُّقْطَةِ فِي الرَّحَى. وَجَعَلَ خِلالَها: أَيْ بَيْنَ أَمَاكِنِهَا، فِي شِعَابِهَا وَأَوْدِيَتِهَا، أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ: أَيْ جِبَالًا ثَوَابِتَ حَتَّى لَا تتكففا بِكُمْ وَتَمِيدَ. وَالْبَحْرَانِ: الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ، وَالْحَاجِزُ: الْفَاصِلُ، مِنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْحَاجِزُ مِنَ الْهَوَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَحْرُ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بَحْرُ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَالْحَاجِزُ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُخْتَارًا لِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَاجِزِ: هُوَ مَا جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَوَاجِزِ الْأَرْضِ وَمَوَانِعِهَا، عَلَى رِقَّتِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَطَافَتِهَا الَّتِي لَوْلَا قُدْرَتُهُ لَبَلَعَ الْمِلْحُ الْعَذْبَ. وَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ الْبَحْرَينِ: الْعَذْبُ بِجُمْلَتِهِ، وَالْمَاءُ الْأُجَاجُ بِجُمْلَتِهِ وَلَمَّا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ عَظِيمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، تَكَرَّرَ فِيهَا الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ، فَكَانَتْ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ الْمُسْتَقِلِّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالِامْتِنَانِ، وَلَمْ يُشْرَكْ فِي عَامِلٍ وَاحِدٌ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الِامْتِنَانَاتِ الْأَرْبَعِ كَلَامٌ مِنْ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ، وَالْحُكَمَاءِ عَلَى زَعْمِهِ، خَارِجٌ عَنْ مَذَاهِبِ الْعَرَبِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَالْمُضْطَرُّ: اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهُوَ الَّذِي أَحْوَجَهُ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ حَادِثٌ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ إِلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، فَيَدْعُوهُ لِكَشْفِ مَا اعْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِزَالَتِهِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمَجْهُودُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الَّذِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُذْنِبُ إِذَا اسْتَغْفَرَ، وَإِجَابَتُهُ إِيَّاهُ مَقْرُونَةٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ كُلُّ مُضْطَرٍّ دَعَا يُجِيبُهُ اللَّهُ فِي كَشْفِ مَا بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِجَابَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ بِهِ مَصْلَحَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْسُنُ الدُّعَاءُ إِلَّا شَارِطًا فِيهِ الْمَصْلَحَةَ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ فِي مُرَاعَاةِ الْمُصْلِحَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَيَكْشِفُ السُّوءَ: هُوَ كُلُّ مَا يَسُوءُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ ضُرٍّ انْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ الْمُضْطَرِّ، وَهُوَ خَاصٌّ إِلَى أَعَمَّ، وَهُوَ مَا يَسُوءُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَكْشُوفُ عَنْهُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا. وَخُلَفَاءَ: أَيِ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ، أَوْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ خُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ خُلَفَاءَ الْكُفَّارِ فِي أَرْضِهِمْ، أَوِ الْمُلْكِ وَالتَّسَلُّطِ، أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ: وَنَجْعَلُكُمْ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ، كَأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ وَوَعْدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ: انْتِقَالٌ مِنْ حَالَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى رُتْبَةٍ مُغَايِرَةٍ لِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَهِيَ حَالَةُ الْخِلَافَةِ، فَهُمَا ظَرْفَانِ. وَكَمْ رَأَيْنَا فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ بَلَغَ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ ثُمَّ صَارَ مَلِكًا مُتَسَلِّطًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَذَكَّرُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالذَّالُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مُشَدِّدَةٌ لِإِدْغَامِ التَّاءِ فِيهَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: تَتَذَكَّرُونَ، بِتَاءَيْنِ. وَظُلْمَةُ الْبَرِّ هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ، وَتَنْطَلِقُ مَجَازًا عَلَى الْجَهْلِ وَعَلَى انْبِهَامِ الْأَمْرِ فَيُقَالُ: أَظْلَمَ عَلَيَّ الْأَمْرُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَجَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنِ الصِّبَا أَيْ جَهَالَاتِ الصِّبَا وَهِدَايَةُ الْبَرِّ تَكُونُ بِالْعَلَامَاتِ، وَهِدَايَةُ الْبَحْرِ بِالنُّجُومِ. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الجملة. وقرىء: عَمَّا تُشْرِكُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ. أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ، وَبَدْؤُهُ: اخْتِرَاعُهُ وَإِنْشَاؤُهُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مَنْ يُعِيدُهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَكِ، لَا عُمُومَ الْمَخْلُوقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ بَنُو آدَمَ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ الْإِعَادَةِ، وَالْإِعَادَةُ الْبَعْثُ مِنَ الْقُبُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْخَلْقِ مَصْدَرَ خَلَقَ، وَيَكُونُ يَبْدَأُ وَيُعِيدُ اسْتِعَارَةً لِلْإِتْقَانِ وَالْإِحْسَانِ، كَمَا تقول: فلان يبدىء وَيُعِيدُ فِي أَمْرِ كَذَا إِذَا كَانَ يُتْقِنُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ لَهُمْ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُمْ مُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ؟ قُلْتُ: قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي الْإِنْكَارِ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ إِيجَادُ بَنِي آدَمَ إِنْعَامًا إِلَيْهِمْ وَإِحْسَانًا، وَلَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ إِلَّا بِالرِّزْقِ قَالَ: وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ: أَيْ أَحْضِرُوا حُجَّتَكُمْ وَدَلِيلَكُمْ عَلَى مَا تَدَّعُونَ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي أَنَّ

مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. فَأَيْنَ دَلِيلُكُمْ عَلَيْهِ؟ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَمِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي جِيءَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، وَنَاسَبَ خَتْمَ كُلِّ اسْتِفْهَامٍ بِمَا تَقَدَّمَهُ. لَمَّا ذَكَرَ إِيجَادَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الْحَدَائِقِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا مُوجِدُ الْعَالَمِ وَالْمُمْتَنُّ بِمَا بِهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ، فَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَيْ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَخْلُوقٌ مُخْتَرَعٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ جَعْلَ الْأَرْضِ مُسْتَقَرًّا، وَتَفْجِيرَ الْأَنْهَارِ، وَإِرْسَاءَ الْجِبَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى تَعَقُّلِ ذَلِكَ وَالْفِكْرِ فِيهِ، خَتَمَ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِذْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُ وَيُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِجَابَةَ دُعَاءِ الْمُضْطَرِّ، وَكَشْفَ السُّوءِ، وَاسْتِخْلَافَهُمْ فِي الْأَرْضِ، نَاسَبَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ الْإِنْسَانُ دَائِمًا هَذِهِ الْمِنَّةَ، فَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، إِشَارَةً إِلَى تَوَالِي النِّسْيَانِ إِذَا صَارَ فِي خَيْرٍ وَزَالَ اضْطِرَارُهُ وَكَشْفِ السُّوءِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ «1» . وَلَمَّا ذَكَرَ الْهِدَايَةَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَإِرْسَالَ الرِّيَاحِ نُشُرًا، وَمَعْبُودَاتُهُمْ لَا تَهْدِي وَلَا تُرْسِلُ، وَهُمْ يُشْرِكُونَ بِهَا اللَّهَ، قَالَ تَعَالَى: عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَاعْتَقَبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ قَوْلَهُ: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. قِيلَ: سَأَلَ الْكُفَّارَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، الْآيَةَ. وَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ من فاعل بيعلم، والغيب مفعول، وإلا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِعَدَمِ انْدِرَاجِهِ فِي مَدْلُولِ لَفْظِ مَنْ، وَجَاءَ مَرْفُوعًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ. وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي مَدْلُولِ من، فيكون في السموات إشارة إلى ظَرْفًا حَقِيقِيًّا لِلْمَخْلُوقِينَ فِيهِمَا، وَمَجَازِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، أَيْ هُوَ فِيهَا بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنْكَارُهُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَيَصِحُّ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَارْتَفَعَ عَلَى الْبَدَلِ أَوِ الصِّفَةِ، وَالرَّفْعُ أَفْصَحُ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْغَيْبِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ غيب الساعة.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 8.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الدَّاعِي إِلَى اخْتِيَارِ الْمَذْهَبِ التَّمِيمِيِّ عَلَى الْحِجَازِيِّ؟ يَعْنِي فِي كَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، إِذْ لَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ مَنْ، وَلَمْ أَخْتَرِ الرَّفْعَ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَلَمْ نَخْتَرِ النَّصْبَ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، قَالَ: قُلْتُ: دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ نُكْتَةٌ سِرِّيَّةٌ، حَيْثُ أَخْرَجَ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجَ قَوْلِهِ: إِلَّا الْيَعَافِيرُ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لَيْسَ بِهَا أنيس، ليؤول الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِكَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ مِمَّنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، يَعْنِي أَنَّ عِلْمَهُمُ الْغَيْبَ فِي اسْتِحَالَتِهِ كَاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مِنْهُمْ. كَمَا أَنَّ مَعْنَى: مَا فِي الْبَيْتِ إِنْ كَانَتِ الْيَعَافِيرُ أَنِيسًا، فَفِيهَا أَنِيسٌ بِنَاءً لِلْقَوْلِ بِخُلُوِّهَا عَنِ الْأَنِيسِ. انْتَهَى. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَدْ قَدَّمَ قَوْلَهُ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أَرْفَعُ اسْمَ اللَّهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ ممن في السموات وَالْأَرْضِ؟ قُلْتُ: جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ، حَيْثُ يَقُولُونَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، كَأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُذْكَرْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمَّمُ وَقَوْلُهُ: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، وَمَا أَعَانَهُ إِخْوَانُكُمْ إِلَّا إِخْوَانُهُ. انْتَهَى. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ نُصِبَ لَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِذَا رُفِعَ كَانَ بَدَلًا، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، فَصَارَ الْعَامِلُ كَأَنَّهُ مُفَرِّغٌ لَهُ، لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَوْ أَعْرَبَ مَنْ مفعولا، والغيب بَدَلٌ مِنْهُ، وَإِلَّا اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ، أَيْ لَا يَعْلَمُ غَيْبَ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ الْأَشْيَاءَ الْغَائِبَةَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحُدُوثِهَا، أَيْ لَا يَسْبِقُ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ، لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَخْصُوصُ بِسَابِقِ عِلْمِهِ فِيمَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ. وَأَيَّانَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ هُنَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى مَتَى، وَهِيَ مَعْمُولَةٌ ليبعثون ويشعرون مُعَلَّقٌ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: إِيَّانَ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَبِيلَتِهِ بَنِي سُلَيْمٍ. وَلَمَّا نَفَى عِلْمَ الْغَيْبِ عَنْهُمْ عَلَى الْعُمُومِ، نَفَى عَنْهُمْ هَذَا الْغَيْبَ الْمَخْصُوصَ، وَهُوَ وَقْتُ السَّاعَةِ وَالْبَعْثِ، فَصَارَ مُنْتَفِيًا مَرَّتَيْنِ، إِذْ هُوَ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ الْغَيْبِ وَمَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلِ ادَّارَكَ، أَصْلُهُ تَدَارَكَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الدَّالِ فَسُكِّنَتْ، فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَمْ تَدَارَكَ، عَلَى الْأَصْلِ، وَجَعَلَ أَمْ بَدَلَ. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخُوهُ: بَلِ ادَّرَكَ، بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ، وَشَدِّ الدَّالِ بِنَاءً عَلَى أَنْ وَزَنَهُ افْتَعَلَ، فَأَدْغَمَ الدَّالَ، وَهِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فِي التَّاءِ بَعْدَ قَلْبِهَا دَالًا، فَصَارَ قَلْبُ الثَّانِي

لِلْأَوَّلِ لِقَوْلِهِمْ: اثَّرَدَ، وَأَصْلُهُ اثْتَرَدَ مِنَ الثَّرْدِ، وَالْهَمْزَةُ الْمَحْذُوفَةُ الْمَنْقُولُ حَرَكَتُهَا إِلَى اللَّامِ هِيَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، أُدْخِلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ فَانْحَذَفَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ، ثُمَّ انْحَذَفَتْ هِيَ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى لَامِ بَلْ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَطَلْحَةُ، وَتَوْبَةُ الْعَنْبَرِيُّ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا لَامَ بَلْ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَاصِمٍ، وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ: بَلِ ادَّرَكَ، عَلَى وَزْنِ افَّعَلَ، بِمَعْنَى تَفَاعَلَ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِي رِوَايَةٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بَلْ آدْرَكَ، بِمَدَّةٍ بَعْدِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَأَصْلُهُ أَأَدْرَكَ، فَقَلَبَ الثَّانِيَةَ أَلِفًا تَخْفِيفًا، كَرَاهَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ، وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَوَجْهَهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ بَلْ، لِأَنَّ بَلْ إِيجَابٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْكَارٌ بِمَعْنَى: لَمْ يَكُنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «1» ، أَيْ لَمْ يَشْهَدُوا، فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهُمَا مَعًا لِلتَّنَافِي الَّذِي بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْإِنْكَارِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الِاسْتِفْهَامَ بَعْدَ بَلْ، وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: أَخُبْزًا أَكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ؟ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْذِ فِي الثَّانِي. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: أَمِ ادَّرَكَ، جَعَلَ أَمْ بَدَلَ بَلْ، وَادَّرَكَ عَلَى وَزْنِ افَّعَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بَلْ آدَّارَكَ، بِهَمْزَةٍ دَاخِلَةٍ عَلَى ادَّارَكَ، فَيُسْقِطُ هَمْزَةَ الْوَصْلِ الْمُجْتَلَبَةَ، لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ وَالنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: بَلْ أَأَدَّرَكَ، بِهَمْزَتَيْنِ، هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهَمْزَةِ أَفَّعَلَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَالْأَعْرَجُ: بَلْ أَدَّرَكَ، بِهَمْزَةٍ وَإِدْغَامِ فَاءِ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ الدَّالُ فِي تَاءِ افْتَعَلَ، بَعْدَ صَيْرُورَةِ التَّاءِ دَالًا. وَقَرَأَ وَرْشٌ فِي رِوَايَةٍ: بَلِ ادَّرَكَ، بِحَذْفِ هَمْزَةِ ادَّرَكَ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بَلَى ادَّرَكَ، بِحَرْفِ الْإِيجَابِ الَّذِي يُوجَبُ بِهِ الْمُسْتَفْهَمُ الْمَنْفِيُّ. وقرىء: بَلْ آأَدَّرَكَ، بِأَلِفٍ بَيْنِ الْهَمْزَتَيْنِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ لِلتَّقْرِيعِ بِمَعْنَى لَمْ يُدْرِكْ عِلْمَهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِإِدْرَاكِ عِلْمِهِمْ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: أَمِ ادَّرَكَ، وَأَمْ تَدَارَكَ، لِأَنَّهَا أَمِ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الْهُزْءِ بِالْكَفَرَةِ وَالتَّقْرِيرِ لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْهُمْ، أَيْ أَعَلِمُوا أَمْرَ الْآخِرَةِ وَأَدْرَكَهَا عِلْمُهُمْ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى: بَلْ تَدَارَكَ عِلْمُهُمْ مَا جَهِلُوهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ عَلِمُوهُ فِي الْآخِرَةِ، بِمَعْنَى: تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ كُلَّ مَا وُعِدُوا بِهِ حَقٌّ، وَهَذَا حَقِيقَةُ إِثْبَاتِ العلم لهم،

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 19.

لِمُشَاهَدَتِهِمْ عَيَانًا فِي الْآخِرَةِ مَا وُعِدُوا بِهِ غَيْبًا فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِهِ صِدْقٌ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَنَاهِي عِلْمِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: أَدْرَكَ النَّبَاتُ وَغَيْرُهُ، أَيْ تَنَاهَى وَتَتَابَعَ عِلْمُهُمْ بِالْآخِرَةِ إِلَى أَنْ يَعْرِفُوا لَهَا مِقْدَارًا فَيُؤْمِنُوا، وَإِنَّمَا لَهُمْ ظُنُونٌ كَاذِبَةٌ أَوْ إِلَى أَنْ لَا يَعْرِفُوا لَهَا وَقْتًا، وَتَكُونُ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ مُتَعَلِّقَةً بِعِلْمِهِمْ، وَقَدْ تَعَدَّى الْعِلْمُ بِالْبَاءِ، كَمَا تَقُولُ: عِلْمِي بِزَيْدٍ كَذَا، وَيَسُوغُ حَمْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَعْنَى التَّوْقِيفِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَجَاءَ إِنْكَارًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا شَيْئًا نَافِعًا. وَالثَّانِي: أَنَّ أَدْرَكَ: بِمَعْنَى يُدْرِكُ، أَيْ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُدْرَكُ وَقْتَ الْقِيَامَةِ، وَيَرَوْنَ الْعَذَابَ وَالْحَقَائِقَ الَّتِي كَذَّبُوا بِهَا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا. وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَحَا إِلَيْهِ الزجاج، وفي عَلَى بَابِهَا مِنَ الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَدَارَكَ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَزِيَادَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ أَسْبَابَ اسْتِحْكَامِ الْعِلْمِ وَتَكَامُلِهِ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ وَمُكِّنُوا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَهُمْ شَاكُّونَ جَاهِلُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ، يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا فِي جُمْلَتِهِمْ نَسَبَ فِعْلَهُمْ إِلَى الْجَمِيعِ، كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ فَعَلُوا كَذَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِاسْتِحْكَامِهِ وَتَكَامُلِهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، كَمَا تَقُولُ لِأَجْهَلِ النَّاسِ: مَا أَعْلَمَكَ، عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِ، وَذَلِكَ حَيْثُ شَكُّوا وَعَمُوا عَنْ إِتْيَانِهِ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إِلَى عِلْمٍ مَشْكُوكٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفُوا وَقْتَ كَوْنِهِ الَّذِي لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَفِي ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ وَادَّارَكَ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ادَّرَكَ بِمَعْنَى انْتَهَى وَفَنِيَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ادَّرَكَتِ الثَّمَرَةُ، لِأَنَّ تِلْكَ غَايَتُهَا الَّتِي عِنْدَهَا تُعْدَمُ. وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ بِاضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ وَتَدَارَكَ، مِنْ تَدَارَكَ بَنُو فُلَانٍ إِذَا تَتَابَعُوا فِي الْهَلَاكِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْقَوْلِ، أَيْ تَتَابَعَ مِنْهُمُ الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَثُرَ مِنْهُمُ الْخَوْضُ فِيهَا، فَنَفَاهَا بَعْضُهُمْ، وَشَكَّ فِيهَا بَعْضُهُمْ، وَاسْتَبْعَدَهَا بَعْضُهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بَلِ ادَّرَكَ، فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا حُدُوثَهَا وَكَوْنَهَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، فَصَارَتْ فِي فِي الْكَلَامِ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ لَمْ يُدْرِكْ عِلْمُهُمْ بِالْآخِرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: أَدَّرَكَ، بِالِاسْتِفْهَامِ. انْتَهَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بَلَى بِحَرْفِ الْجَوَابِ بَدَلَ بَلْ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنْ كَانَ بَلَى جَوَابًا لِكَلَامٍ تَقَدَّمَ، جَازَ أَنْ يُسْتَفْهَمَ بِهِ، كَأَنَّ قَوْمًا أَنْكَرُوا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقُدْرَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: بَلَى إِيجَابًا لَمَّا نَفَوْا، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ بَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامُ وَعُودِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ فِي

شَكٍّ مِنْها ، بِمَعْنَى: أَمْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا، لِأَنَّ حُرُوفَ الْعَطْفِ قَدْ تَتَنَاوَبُ، وَكَفَّ عَنِ الْجُمْلَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى: أَدَّرَكَ عِلْمُهُمْ بالآخرة أم شكوا؟ فبل بِمَعْنَى أَمْ، عُودِلَ بِهَا الْهَمْزَةُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ بَلْ بِمَعْنَى أَمْ وَتُعَادِلُ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَنْ قَرَأَ بَلَى ادَّرَكَ؟ قُلْتُ: لَمَّا جَاءَ بِبَلَى بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ، كَانَ مَعْنَاهُ: بَلَى يَشْعُرُونَ، ثُمَّ فُسِّرَ الشُّعُورُ بِقَوْلِهِ: ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: شُعُورُهُمْ بِوَقْتِ الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهَا، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الشُّعُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: بَلَى أَدَّرَكَ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ: يَشْعُرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ، ثُمَّ أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِهَا، وَإِذَا أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِهَا، لَمْ يَتَحَصَّلْ لَهُمْ شُعُورٌ بِوَقْتِ كَوْنِهَا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوَقْتِ الْكَائِنِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِكَوْنِ الْكَائِنِ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذِهِ الْإِضْرَابَاتُ الثَّلَاثُ مَا معناها؟ قُلْتُ: مَا هِيَ إِلَّا تَنْزِيلٌ لِأَحْوَالِهِمْ، وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَقْتَ الْبَعْثِ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ يَخْبِطُونَ فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ فَلَا يُزِيلُونَهُ، وَالْإِزَالَةُ مُسْتَطَاعَةٌ، وَقَدْ جَعَلَ الْآخِرَةَ مَبْدَأَ عَمَاهُمْ وَمَنْشَأَهُ، فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِمَنْ دُونَ عَنْ، لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالْجَزَاءَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَالْبَهَائِمِ لَا يَتَدَبَّرُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ. انْتَهَى. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ، لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ، وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ. لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنْفَرِدٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا وَقْتُ السَّاعَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا شُعُورَ

لَهُمْ بِوَقْتِهَا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ فِي شَكٍّ مِنْهَا عَمُونَ، نَاسَبَ ذِكْرُ مَقَالَاتِهِمْ فِي اسْتِبْعَادِهَا، وَأَنَّ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ مَا سَطَرَ الْأَوَّلُونَ مِنْ غَيْرِ إِخْبَارٍ بِذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عمرو: أَإِذا، أَإِنَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ وَقَلْبِ الثَّانِيَةِ يَاءً، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِأَلِفٍ أَبُو عَمْرٍو، وَقَرَأَهُمَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: بِهَمْزَتَيْنِ، وَنَافِعٌ: إِذَا بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، آيِنَّا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَلْبِ الثَّانِيَةِ يَاءً، وَبَيْنَهُمَا مَدَّةٌ، وَالْبَاقُونَ: آئِذَا، بِاسْتِفْهَامٍ مَمْدُودٍ، إِنَّنَا: بِنُونَيْنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تَقْدِيرُهُ: يَخْرُجُ وَيَمْتَنِعُ إِعْمَالُ لَمُخْرَجُونَ فِيهِ، لِأَنَّ كلّا من إن ولام الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِفْهَامِ يَمْنَعُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، إِلَّا اللَّامَ الْوَاقِعَةَ فِي خَبَرِ إِنَّ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الْخَبَرِ عَلَيْهَا وَعَلَى الْخَبَرِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَآباؤُنا: مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ كان، وحسن ذلك الفضل بِخَبَرِ كَانَ. وَالْإِخْرَاجُ هُنَا مِنَ الْقُبُورِ أَحْيَاءً، مَرْدُودًا أَرْوَاحُهُمْ إِلَى الْأَجْسَادِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي إِذَا وَفِي إِنَّا إِنْكَارٌ عَلَى إِنْكَارٍ، وَمُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، وَالضَّمِيرُ في إننا لَهُمْ وَلِآبَائِهِمْ، لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُمْ تُرَابًا، شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ. ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ وُعِدُوا ذَلِكَ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ، فَلَمْ يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَوْعُودِ، ثُمَّ جَزَمُوا وَحَصَرُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكَاذِيبِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَجَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَهُوَ هَذَا، وَتَأَخَّرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ. فَحَيْثُ تَأَكَّدَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْآخِرَةِ، عَمَدُوا إِلَيْهَا بِالتَّقْدِيمِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِنَاءِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، عَمَدُوا إِلَى إِنْكَارِ إِيجَادِ الْمَبْعُوثِ، فَقَدَّمُوهُ وَأَخَّرُوا الْمَوْعُودَ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ. وَأَرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ: الْكَافِرِينَ، ثُمَّ سَلَّى نَبِيَّهُ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ: أَيْ فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ يُذْعِنُوا إِلَى مَا جِئْتَ بِهِ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ: أَيْ فِي حَرَجٍ وَأَمْرٍ شَاقٍّ عَلَيْكَ مِمَّا يَمْكُرُونَ، فَإِنَّ مَكْرَهُمْ لَاحِقٌ بِهِمْ، لَا بِكَ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْهُمْ. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ ضِيقٍ، بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَكَرِهَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ الْمَفْتُوحُ الضَّادَ، أَصْلُهُ ضَيِّقٌ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فَخُفِّفَ، كَلَيْنٍ فِي لَيِّنٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَلَيْسَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ بِاطِّرَادٍ. وَأَجَازَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ. وَلَمَّا اسْتَعْجَلَتْ قُرَيْشٌ بِأَمْرِ السَّاعَةِ، أَوْ بِالْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ هُمْ، وَسَأَلُوا عَنْ وَقْتِ

الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، قِيلَ لَهُ: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ ردفكم بَعْضُهُ: أَيْ تَبِعَكُمْ عَنْ قُرْبٍ وَصَارَ كَالرَّدِيفِ التَّابِعِ لَكُمْ بَعْضُ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، وَهُوَ كَانَ عَذَابَ يوم بدر. وقيل: عذاب الْقَبْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَدِفَ، بِكَسْرِ الدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ: بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَأَصْلُهُ التَّعَدِّي بِمَعْنَى تَبِعَ وَلَحِقَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنَى اللَّازِمِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ بِأَزِفَ وَقَرُبَ لَمَّا كَانَ يَجِيءُ بَعْدَ الشَّيْءِ قَرِيبًا مِنْهُ ضِمْنَ مَعْنَاهُ، أَوْ مَزِيدًا اللَّامُ فِي مَفْعُولِهِ لِتَأْكِيدِ وَصُولِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ، كَمَا زِيدَتِ الْبَاءُ فِي: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ «1» ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ عُدِّيَ بِمَنْ عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ لِمَا يَتَعَدَّى بِهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا رَدِفْنَا مِنْ عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ ... تَوَلَّوْا سِرَاعًا وَالْمَنِيَّةُ تعنق أَيْ دَنَوْا مِنْ عُمَيْرٍ. وَقِيلَ: رَدِفَهُ وَرَدِفَ لَهُ، لُغَتَانِ. وَقِيلَ: الْفِعْلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ الرَّادِفَةُ لكم. وبعض عَلَى تَقْدِيرِ رِدَافَةِ بَعْضِ مَا تَسْتَعْجِلُونَ، وَهَذَا فِيهِ تَكَلُّفٌ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لَكُمْ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رَدِفَ الْخَلْقَ لِأَجْلِكُمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ بِرَدِفَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْوَعْدِ، ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ بَعْضُ مَا تَسْتَعْجِلُونَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَهَذَا فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. لَذُو فَضْلٍ: أَيْ أَفْضَالٍ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَمُتَعَلِّقُ يَشْكُرُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا يَشْكُرُونَ نِعَمَهُ عِنْدَهُمْ، أَوْ لَا يَشْكُرُونَ بِمَعْنَى: لَا يَعْرِفُونَ حَقَّ النِّعْمَةِ، عَبَّرَ عَنِ انْتِفَاءِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالنِّعْمَةِ، بِانْتِفَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا، وَهُوَ الشُّكْرُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِسَعَةِ عِلْمِهِ، فَبَدَأَ بِمَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ، ثُمَّ عَمَّ كُلَّ غَائِبَةٍ وَعَبَّرَ بِالصُّدُورِ، وَهِيَ مَحَلُّ الْقُلُوبِ الَّتِي لَهَا الْفِكْرُ وَالتَّعَقُّلُ، كَمَا قَالَ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2» عَنِ الْحَالِ فِيهَا، وَهِيَ الْقُلُوبُ، وَأَسْنَدَ الْإِعْلَانَ إِلَى ذَوَاتِهِمْ، لِأَنَّ الْإِعْلَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُضْمَرُ فِي الصَّدْرِ هُوَ الدَّاعِي لِمَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالسَّبَبُ فِي إِظْهَارِهِ قِدَمُ الإكنان على الإعلان. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تُكِنُّ، مَنْ أَكَنَّ الشَّيْءَ: أَخْفَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، مِنْ كَنَّ الشَّيْءَ: سَتَرَهُ، وَالْمَعْنَى: مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَمَكَايِدِهِمْ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: مِنْ غائِبَةٍ، أَيْ مَا مِنْ شَيْءٍ فِي غَايَةِ الْغَيْبُوبَةِ وَالْخَفَاءِ إلا في كتاب

_ (1) سورة البقرة: 2/ 195. (2) سورة الحج: 22/ 46.

عِنْدَ اللَّهِ وَمَكْنُونِ عِلْمِهِ. وَقِيلَ: مَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالُهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالْكِتَابُ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: أَعْمَالُ الْعِبَادِ أُثْبِتَتْ لِيُجَازَيَ عَلَيْهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: أَيْ حَادِثَةٍ غَائِبَةٍ، أَوْ نَازِلَةٍ وَاقِعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَا مِنْ شَيْءٍ سرّ في السموات وَالْأَرْضِ وَعَلَانِيَةٍ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السِّرِّ عَنْ مُقَابِلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَغِيبُ وَيَخْفَى غَائِبَةً وَخَافِيَةً، فَكَانَتِ التَّاءُ فِيهِمَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَنَظِيرُهُمَا: النَّطِيحَةُ وَالذَّبِيحَةُ وَالرَّمِيَّةُ فِي أَنَّهَا أَسْمَاءٌ غَيْرُ صِفَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صِفَتَيْنِ وَتَاؤُهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ، كَالرِّوايَةِ فِي قَوْلِهِمْ: وَيْلٌ لِلشَّاعِرِ مِنْ رِوَايَةِ السُّوءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا مِنْ شَيْءٍ شَدِيدِ الْغَيْبُوبَةِ وَالْخَفَاءِ، إِلَّا وَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وَأَحَاطَ بِهِ وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمُبِينِ الظَّاهِرِ لِمَنْ يَنْظُرُ فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ، وَكَانَ الْمُعْتَمَدُ الْكَبِيرُ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْقُرْآنُ. وَمِنْ جُمْلَةِ إِعْجَازِهِ إِخْبَارُهُ بِمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْقَصَصِ، الْمُوَافِقِ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يُخَالِطِ الْعُلَمَاءَ وَلَا اشْتَغَلَ بِالتَّعْلِيمِ. وَبَنُو إِسْرَائِيلَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَصَّ فِيهِ أَكْثَرَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَبَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَوْ أنصفوا وأسلموا. وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَمْرُ الْمَسِيحِ، تَحَزَّبُوا فِيهِ، فَمِنْ قَائِلٍ هُوَ اللَّهُ، وَمِنْ قَائِلٍ ابْنُ اللَّهِ، وَمِنْ قَائِلٍ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَمِنْ قَائِلٍ هُوَ نَبِيٌّ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ عَقَدُوا لَهُمُ اجْتِمَاعَاتٍ، وَتَبَايَنُوا فِي الْعَقَائِدِ، وَتَنَاكَرُوا فِي أَشْيَاءَ حَتَّى لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ لِمَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعَدْلُ، أَيْ بِعَدْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ، وَقِيلَ: المراد بحكمته والحكم. قِيلَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِحِكَمِهِ، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ، جَمْعُ حِكْمَةٍ، وَهُوَ جَنَاحُ بْنُ حبيش. وَلَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ يَقْتَضِي تَنْفِيذَ مَا يَقْضِي بِهِ، وَالْعِلْمَ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، جَاءَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ عَقِبَهُ، وَهُوَ الْعِزَّةُ: أَيِ الْغَلَبَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِلتَّوَكُّلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَثِقَ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ وَمَا قَصَّ اللَّهُ فِيهِ لَا يَكَادُ يُجْدِي عِنْدَهُمْ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَوْتَى الْقُلُوبِ، أَوْ شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى، وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءً صِحَاحَ الْأَبْصَارِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ لَا تَعِيهِ آذَانُهُمْ، فَكَانَتْ حَالُهُمْ لِانْتِفَاءِ جَدْوَى السَّمَاعِ كَحَالِ الْمَوْتَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ هُنَا، وَفِي الرُّومِ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، الصُّمُّ بِالرَّفْعِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَيِّتُ لَا يُمْكِنُ

أَنْ يَسْمَعَ، لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، بَلْ نَفَى الْإِسْمَاعَ، أَيْ لَا يَقَعُ مِنْكَ إِسْمَاعٌ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ لِعَدَمِ الْقَابِلِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَصَمُّ فَقَدْ يَكُونُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ إِسْمَاعُهُ وَسَمَاعُهُ، فَأَتَى بِمُتَعَلِّقِ الْفِعْلِ وَهُوَ الدُّعَاءُ. وإذا معمولة لتسمع، وَقَيَّدَ نَفْيَ الْإِسْمَاعِ أَوِ السَّمَاعِ بِهَذَا الطَّرَفِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لِحَالِ الْأَصَمِّ، لِأَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَ عَنِ الدَّاعِي بِأَنْ يُوَلِّيَ مُدْبِرًا، كَانَ أَبْعَدَ عَنْ إِدْرَاكِ صَوْتِهِ. شَبَّهَهُمْ أَوَّلًا بِالْمَوْتَى، ثُمَّ بِالصُّمِّ فِي حَالَةٍ، ثُمَّ بِالْعَمَى، فَقَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ حَيْثُ يَضِلُّونَ الطَّرِيقَ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْزِعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَيُحَوِّلَهُمْ هُدَاةً بُصَرَاءَ إِلَّا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِهَادِي الْعُمْيِ، اسْمُ فَاعِلٍ مُضَافٌ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِهَادٍ، مُنَوَّنًا الْعُمْيَ وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَحَمْزَةُ: تَهْدِي، مُضَارِعُ هَدَى، الْعُمْيَ بِالنَّصْبِ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَا أَنْتَ تَهْتَدِي، بِزِيَادَةِ أَنْ بَعْدَ مَا، وَيَهْتَدِي مُضَارِعُ اهْتَدَى، وَالْعُمْيُ بِالرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ فِي وُسْعِكَ إِدْخَالُ الْهُدَى فِي قَلْبِ مَنْ عَمِيَ عَنِ الْحَقِّ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ بِعَيْنِ قَلْبِهِ. إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا، وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِآيَاتِهِ. فَهُمْ مُسْلِمُونَ: مُنْقَادُونَ لِلْحَقِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ، مِنْ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «1» ، بِمَعْنَى جَعَلَهُ سَالِمًا لِلَّهِ خَالِصًا. انْتَهَى. وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ: أَيْ إِذَا انْتَجَزَ وَعْدُ عَذَابِهِمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْقَوْلُ الْأَزَلِيُّ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ «2» ، فَالْمَعْنَى: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُنْفِذَ فِي الْكَافِرِينَ سَابِقَ عِلْمِهِ فِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، أَخْرَجَ لَهُمْ دَابَّةً تَنْفُذُ مِنَ الْأَرْضِ. وَوَقَعَ: عِبَارَةٌ عَنِ الثُّبُوتِ وَاللُّزُومِ والقول، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مَضْمُونُ الْقَوْلِ، وَإِمَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ عَلَى الْمَقُولِ، لَمَّا كَانَ الْمَقُولُ مُؤَدًّى بِالْقَوْلِ، وَهُوَ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَالْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يَكُونُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَابِ الْعِلْمِ، وَرَفْعِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّ خُرُوجَهَا حِينَ يَنْقَطِعُ الْخَيْرُ، وَلَا يُؤْمَرُ بِمَعْرُوفٍ، وَلَا يُنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، وَلَا يَبْقَى مُنِيبٌ ولا نائب. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ مِنْ أَوَّلِ الْأَشْرَاطِ» ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْأَوَّلَ، وَكَذَلِكَ الدَّجَّالُ وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ آخِرُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي تَخْرُجُ هِيَ وَاحِدَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ بَلَدٍ دَابَّةٌ مِمَّا هُوَ مَثْبُوتٌ نَوْعُهَا فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَتْ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: دَابَّةً اسْمَ جِنْسٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّتِهَا،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 112. (2) سورة الزمر: 39/ 71.

وَشَكْلِهَا، وَمَحَلِّ خُرُوجِهَا، وَعَدَدِ خُرُوجِهَا، وَمِقْدَارِ مَا تَخْرُجُ مِنْهَا، وَمَا تَفْعَلُ بِالنَّاسِ، وَمَا الَّذِي تَخْرُجُ بِهِ، اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُعَارِضًا بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَاطَّرَحْنَا ذِكْرَهُ، لِأَنَّ نَقْلَهُ تَسْوِيدٌ لِلْوَرَقِ بِمَا لَا يَصِحُّ، وَتَضْيِيعٌ لِزَمَانِ نَقْلِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: تُكَلِّمُهُمْ، بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، مِنَ الْكَلَامِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: تُنَبِّئُهُمْ، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: تُحَدِّثُهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: بِأَنَّ النَّاسَ. قَالَ السُّدِّيُّ: تُكَلِّمُهُمْ بِبُطْلَانِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ سِوَى الْإِسْلَامِ. وقيل: نخاطبهم، فَتَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ: هَذَا مُؤْمِنٌ، وَلِلْكَافِرِ: هَذَا كَافِرٌ. وَقِيلَ مَعْنَى تُكَلِّمُهُمْ: تَجْرَحُهُمْ مِنَ الْكَلْمِ، وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَالْجَحْدَرَيِّ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تَكْلِمُهُمْ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ مُخَفَّفَ اللَّامِ، وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: تَجْرَحُهُمْ مَكَانَ تَكْلِمُهُمْ. وَسَأَلَ أَبُو الْحَوْرَاءِ ابْنَ عَبَّاسٍ: تُكَلِّمُ أَوْ تَكْلِمُ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ تَفْعَلُ، تُكَلِّمُ الْمُؤْمِنَ وَتَكْلِمُ الْكَافِرَ. انْتَهَى. وَرُوِيَ: أَنَّهَا تَسِمُ الْكَافِرَ فِي جَبْهَتِهِ وَتُرْبِدُهُ، وَتَمْسَحُ عَلَى وَجْهِ الْمُؤْمِنِ فَتُبَيِّضُهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أَنَّ النَّاسَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: بِأَنَّ وَتَقَدَّمَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: إِنَّ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَاحْتُمِلَ الْكَسْرُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: بِآياتِنا، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الدَّابَّةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُسِرَتْ إِنَّ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ، إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ تُكَلِّمُهُمْ إِجْرَاءَ تَقُولُ لَهُمْ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِآياتِنا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ لِاخْتِصَاصِهَا بِاللَّهِ كَمَا تَقُولُ بَعْضُ خَوَاصِّ الْمَلِكِ: خَيْلُنَا وَبِلَادُنَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ، فَالتَّقْدِيرُ بِأَنَّ كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ متعلق بتكلمهم، أَيْ تُخَاطِبُهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمَنْطُوقُ بِهَا أَوِ الْمُقَدَّرَةُ سَبَبِيَّةً، أَيْ تُخَاطِبُهُمْ أَوْ تَجْرَحُهُمْ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ إِيقَانِهِمْ بِآيَاتِنَا. وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ، وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ، مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ

رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ، وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُ، وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ عَلَى عُنْفٍ. مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ: أَيْ مِنَ الْأُمَمِ، وَمِنْ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ. فَوْجاً: أَيْ جَمَاعَةً كَثِيرَةً. مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا: مِنْ لِلْبَيَانِ، أَيِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ. وَالْآيَاتُ: الْأَنْبِيَاءُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوِ الدَّلَائِلُ، أَقْوَالٌ. فَهُمْ يُوزَعُونَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: بَيْنَ يَدَيْ أهل مكة، ولذلك يُحْشَرُ قَادَةُ سَائِرِ الْأُمَمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى النَّارِ. حَتَّى إِذا جاؤُ: أَيْ إِلَى الْمَوْقِفِ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَإِهَانَةٍ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ، أَيْ أَوَقَعَ تَكْذِيبُكُمْ بِهَا غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ لَهَا وَلَا مُحِيطِينَ عِلْمًا بِكُنْهِهَا؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، أَيْ أَجَحَدْتُمُوهَا؟ وَمَعَ جُحُودِهَا لَمْ تُلْقُوا أَذْهَانَكُمْ لِتَحَقُّقِهَا وَتَبَصُّرِهَا، فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ قَدْ يَجْحَدُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابَ مِنْ عِنْدِ مَنْ كَتَبَهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَدَعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُحِيطَ بِمَعَانِيهِ عِلْمًا. وَقِيلَ: وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً، أَيْ بِبُطْلَانِهَا حَتَّى تُعْرِضُوا عَنْهَا، بَلْ كَذَّبْتُمْ جَاهِلِينَ غَيْرَ مُسْتَدِلِّينَ. وأم هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّرَ بِبَلْ وَحْدَهَا. انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّوْبِيخَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْ عَمَلِهِمْ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ، أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ لَكُمْ عَمَلٌ أَوْ حُجَّةٌ فَهَاتُوا، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا حُجَّةٌ فِيمَا عَمِلُوهُ إِلَّا الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ. وَمَاذَا بِجُمْلَتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا مَنْصُوبًا بِخَبَرِ كَانَ، وَهُوَ تَعْمَلُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مَا هُوَ الِاسْتِفْهَامَ، وَذَا مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، فَيَكُونَانِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَكَانَ صِلَةٌ لِذَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تَعْمَلُونَهُ. وَقَرَأَ أَبُو حيوة: أما ذا، بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، أَدْخَلَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَوَقَعَ الْقَوْلُ: أَيِ الْعَذَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللَّهِ. فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ: أَيْ بِحُجَّةٍ وَلَا عُذْرٍ لِمَا شَغَلَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَلَا يَنْطِقُونَ، وَانْتِفَاءُ نُطْقِهِمْ يَكُونُ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، أَوْ مِنْ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَجٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِيَرْتَدِعَ بِسَمَاعِهَا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِدَاعَهُ، نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَالنُّبُوَّةِ بِمَا هُمْ يُشَاهِدُونَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ، وَهُوَ

تَقْلِيبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نُورٍ إِلَى ظُلْمَةٍ، وَمِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى نُورٍ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ. وَفِي هَذَا التَّقْلِيبِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ حَيَاةٍ إِلَى مَوْتٍ، وَمِنْ مَوْتٍ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ هَذَا التَّقْلِيبَ هُوَ لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلِهَذَا عَلَّلَ ذَلِكَ الْجَعْلَ بِقَوْلِهِ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «1» ، وَبَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لِتَحْصِيلِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ وَأَضَافَ الْأَبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لَمَّا كَانَ يَقَعُ فِيهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: لَيْلُكَ نَائِمٌ، وَعَلَّلَ جَعْلَ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ لِأَنْ يَقَعَ سُكُونُهُمْ فِيهِ مِمَّا يَلْحَقُهُمْ مِنَ التَّعَبِ فِي النَّهَارِ وَاسْتِرَاحَةُ نُفُوسِهِمْ. قَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ: النَّوْمُ رَاحَةُ الْقُوَى الْحِسِّيَّةِ ... مِنْ حَرَكَاتٍ وَالْقُوَى النَّفْسِيَّةِ وَلَمْ يَقَعِ التَّقَابُلُ فِي جَعْلِ النَّهَارِ بِالنَّصِّ عَلَى عِلَّتِهِ، فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ: وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ، بَلْ أَتَى بِقَوْلِهِ: مُبْصِراً، قَيْدًا فِي جَعْلِ النَّهَارِ، لَا عِلَّةً لِلْجَعْلِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهَكَذَا النَّظْمُ الْمَطْبُوعُ غَيْرُ الْمُتَكَلَّفِ، لِأَنَّ مَعْنَى مُبْصِرًا: لِتُبْصِرُوا فِيهِ طَرِيقَ التَّقَلُّبِ فِي الْمَكَاسِبِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ مَا حُذِفَ مِنْ أَوَّلِهِ مَا أُثْبِتَ فِي مُقَابِلِهِ، وحذف من آخر مَا أُثْبِتَ فِي أَوَّلِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: جَعَلْنَا اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا لتتصرفوا فِيهِ فَالْإِظْلَامُ يَنْشَأُ عَنْهُ السُّكُونُ، وَالْإِبْصَارُ يَنْشَأُ عَنْهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَصَالِحِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «2» ؟ فَالسُّكُونُ عِلَّةٌ لِجَعْلِ اللَّيْلِ مُظْلِمًا، وَالتَّصَرُّفُ عِلَّةٌ لِجَعْلِ النَّهَارِ مُبْصِرًا وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَيْنِ الْحَذْفَيْنِ مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «3» . إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي هَذَا الْجَعْلِ، لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: لَمَّا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْفِكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، خُصُّوا بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتْ آيَاتٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ. وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ نَفْخَةُ الْفَزَعِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَلَكَ لَهُ فِي الصُّوَرِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَهُوَ فَزَعُ حَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَنَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَنَفْخَةُ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: نَفْخَتَانِ، جَعَلُوا الْفَزَعَ وَالصَّعْقَ نَفْخَةً وَاحِدَةً، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى «4» ، ويأتي

_ (1) سورة يونس: 10/ 67، وسورة القصص: 28/ 73، وسورة غافر: 40/ 61. (2) سورة الإسراء: 17/ 12. (3) البقرة: 2/ 17. (4) الزمر: 39/ 68.

الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لِلْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ وَالْحَشْرِ، وَعُبِّرَ هُنَا بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: فَفَزِعَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ إِشْعَارًا بِصِحَّةِ وُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ وَضْعِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «1» ، بَعْدَ قَوْلِهِ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «2» . إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ: أَيْ فَلَا يَنَالُهُمْ هَذَا الْفَزَعُ لِتَثْبِيتِ اللَّهِ قَلْبَهُ. فَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِذَا كَانَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ لَا يَنَالُهُمْ، فَهُمْ حَرِيُّونَ أَنْ لَا يَنَالَهُمْ هَذَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحُورُ الْعِينُ، وَخَزَنَةُ النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ. وَعَنْ جَابِرٍ: مِنْهُمْ مُوسَى، لِأَنَّهُ صَعِقَ مَرَّةً. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثًا، وَهُوَ: «أَنَّهُمْ هُمُ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُو السُّيُوفِ حَوْلَ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهِمْ خَبَرٌ صَحِيحٌ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، فَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي التَّعْيِينِ، وَغَيْرُهُ اجْتِهَادٌ. وَهَذَا النَّفْخُ هُوَ حَقِيقَةٌ، إِمَّا فِي الْقَرْنِ، وَإِمَّا فِي الصُّوَرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِدُعَاءِ الْمَوْتَى، فَإِنَّ خُرُوجَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ كَخُرُوجِ الْجَيْشِ عِنْدَ سَمَاعِ الصَّوْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَجَازًا. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ الصَّوَابُ، لِكَثْرَةِ وُرُودِ النَّفْخِ فِي الصُّورِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: فَفَزِعَ، لَيْسَ مِنَ الْفَزَعِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَجَابَ وَأَسْرَعَ إِلَى الْبَقَاءِ. وَكُلٌّ أَتَوْهُ: الْمُضَافُ إِلَيْهِ كُلٌّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَكُلُّهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آتُوهُ، اسْمُ فَاعِلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: أَتَوْهُ، فِعْلًا مَاضِيًا، وَفِي الْقِرَاءَتَيْنِ رُوعِيَ مَعْنَى كُلٍّ مِنَ الْجَمْعِ، وَقَتَادَةُ: أَتَاهُ، فِعْلًا ماضيا مسندا الضمير كُلٌّ عَلَى لَفْظِهَا، وَجَمَعَ داخِرِينَ عَلَى مَعْنَاهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ: دَخِرِينَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ. قِيلَ: وَمَعْنَى آتُوهُ: حَاضِرُونَ الْمَوْقِفَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ رُجُوعُهُمْ إِلَى أَمْرِهِ وَانْقِيَادُهُمْ لَهُ. وَتَرَى الْجِبالَ: هُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ تَحْسَبُهَا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تَرَى، أو من الجبال. وجامدة، مَنْ جَمَدَ مَكَانَهُ إِذَا لَمْ يَبْرَحْ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْحَالُ لِلْجِبَالِ عَقِيبَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَهِيَ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْجِبَالِ، تَمُوجُ وَتَسِيرُ، ثُمَّ يَنْسِفُهَا اللَّهُ فَتَصِيرُ كَالْعِهْنِ، ثُمَّ تَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا فِي آخِرِ الْأَمْرِ.

_ (1) سورة هود: 11/ 98. [.....] (2) سورة هود: 11/ 98.

وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ تَحْسَبُهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ ثَابِتَةً مُقِيمَةً فِي أَمَاكِنِهَا وَهِيَ سَائِرَةٌ، وَتَشْبِيهُ مُرُورِهَا بِمَرِّ السَّحَابِ. قِيلَ: فِي كَوْنِهَا تَمُرُّ مَرًّا حَثِيثًا، كَمَا مَرَّ السَّحَابُ، وَهَكَذَا الْأَجْرَامُ الْعِظَامُ الْمُتَكَاثِرَةُ الْعَدَدِ، إِذَا تَحَرَّكَتْ لَا تَكَادُ تَبِينُ حَرَكَتُهَا، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ فِي صِفَةِ جَيْشٍ: نَارٌ عَنْ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أَنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ وَقِيلَ: شَبَّهَ مُرُورَهَا بِمَرِّ السَّحَابِ فِي كَوْنِهَا تَسِيرُ سَيْرًا وَسَطًا، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مر السحابة لا ريث وَلَا عَجَلُ وَحُسْبَانُ الرَّائِي الْجِبَالَ جَامِدَةً مَعَ مُرُورِهَا، قِيلَ: لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَيْسَ لَهُ ثُبُوتُ ذِهْنٍ فِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُهَا لَيْسَتْ بِجَامِدَةٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْوَجْهُ فِي حُسْبَانِهِمْ أَنَّهَا جَامِدَةٌ، أَنَّ الْأَجْسَامَ الْكِبَارَ إِذَا تَحَرَّكَتْ حَرَكَةً سَرِيعَةً عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي السَّمْتِ، ظَنَّ النَّاظِرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا وَاقِفَةٌ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرًّا حَثِيثًا. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَصَفَ تَعَالَى الْجِبَالَ بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، تَرْجِعُ إِلَى تَفْرِيغٍ الْأَرْضِ مِنْهَا وَإِبْرَازِ مَا كَانَتْ تُوَارِيهِ. فَأَوَّلُ الصِّفَاتِ: ارْتِجَاجُهَا، ثُمَّ صَيْرُورَتُهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، ثُمَّ كَالْهَبَاءِ بِأَنْ تَتَقَطَّعَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَالْعِهْنِ، ثُمَّ نَسْفُهَا، وَهِيَ مَعَ الْأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَارَّةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، وَالْأَرْضُ غَيْرُ بَارِزَةٍ، وَبِالنَّسْفِ بَرَزَتْ، وَنَسْفُهَا بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَطْيِيرِهَا بِالرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهَا غُبَارٌ، ثُمَّ كَوْنُهَا سَرَابًا، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَوَاضِعِهَا لَمْ تَجِدْ فِيهَا مِنْهَا شَيْئًا كَالسَّرَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ فَتُسَوَّى بِهَا. وَانْتَصَبَ صُنْعَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَالْعَامِلُ فِيهِ مُضْمَرٌ مِنْ لَفْظِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صُنْعَ اللَّهِ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمُؤَكِّدَةِ كقوله: وَعَدَ اللَّهُ «1» وصِبْغَةَ اللَّهِ «2» ، إِلَّا أَنَّ مُؤَكِّدَهُ محذوف، وهو الناصب ليوم يُنْفَخُ، وَالْمَعْنَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَكَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَثَابَ اللَّهُ الْمُحْسِنِينَ، وَعَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ قَالَ: صُنْعَ اللَّهِ، يُرِيدُ بِهِ الْإِثَابَةَ وَالْمُعَاقَبَةَ، وَجُعِلَ هَذَا الصُّنْعُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَتْقَنَهَا وَأَتَى بِهَا عَلَى الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، حَيْثُ قَالَ: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، يَعْنِي: أَنَّ مُقَابَلَتَهُ الْحَسَنَةَ بِالثَّوَابِ، وَالسَّيِّئَةَ بِالْعِقَابِ، مِنْ جُمْلَةِ إِحْكَامِهِ لِلْأَشْيَاءِ وَإِتْقَانِهِ لَهَا وَإِجْرَائِهِ لَهَا عَلَى قَضَايَا الْحِكْمَةِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُ الْعِبَادُ، وَبِمَا يَسْتَوْجِبُونَ عليه، فيكافئهم

_ (1) سورة النساء: 4/ 122. (2) سورة البقرة: 2/ 138.

عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. ثُمَّ لَخَّصَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ، إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. فَانْظُرْ إِلَى بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ، وَحُسْنِ نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَمَكَانَةِ إِضْمَادِهِ، وَرَصَانَةِ تَفْسِيرِهِ، وَأَخْذِ بَعْضِهِ بِحُجْزَةِ بَعْضٍ، كَأَنَّمَا أُفْرِغَ إفراغا واحدا، وما لِأَمْرٍ أَعْجَزَ الْقُوَى وَأَخْرَسَ الشَّقَاشِقَ، وَنَحْوُ هَذَا الْمَصْدَرِ، إِذَا جَاءَ عَقِيبَ كَلَامٍ، جَاءَ كَالشَّاهِدِ لِصِحَّتِهِ، وَالْمُنَادِي عَلَى سَدَادِهِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَمَا كَانَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: صُنْعَ اللَّهِ، وصِبْغَةَ اللَّهِ «1» ، ووَعَدَ اللَّهُ «2» ، وفِطْرَتَ اللَّهِ «3» ؟ بعد ما رَسَمَهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ تَسْمِيَةَ التَّعْظِيمِ، كَيْفَ تَلَاهَا بِقَوْلِهِ: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً «4» ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «5» ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ «6» ؟ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ مِنْ شَقَاشِقِهِ وَتَكْثِيرِهِ فِي الْكَلَامِ، وَاحْتِيَالِهِ فِي إِدَارَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ لِمَا عَلَيْهِ، مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ صُنْعَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ جُمْلَةُ الْحَالِ، أَيْ صَنَعَ اللَّهُ بِهَا ذَلِكَ، وَهُوَ قَلْعُهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَمَرُّهَا مَرًّا مِثْلَ مَرِّ السَّحَابِ. وأما قوله: إلا أن مُؤَكِّدَهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ النَّاصِبُ ليوم يُنْفَخُ إِلَى قَوْلِهِ صُنْعَ اللَّهِ، يُرِيدُ بِهِ الْإِثَابَةَ وَالْمُعَاقَبَةَ، فَذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ حَذْفُ جُمْلَتِهِ، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ، فَيَجْتَمِعُ حَذْفُ الْفِعْلِ النَّاصِبِ وَحَذْفُ الْجُمْلَةِ الَّتِي أُكِّدَ مَضْمُونُهَا بِالْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ حَذْفٌ كَثِيرٌ مُخِلٌّ. وَمَنْ تَتَبَّعَ مَسَاقَ هَذِهِ الْمَصَادِرِ الَّتِي تُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ، وَجَدَ الْجُمَلَ مُصَرَّحًا بِهَا، لَمْ يَرِدِ الْحَذْفُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، إِذِ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُحْذَفَ الْمُؤَكِّدُ، إِذِ الْحَذْفُ يُنَافِي التَّوْكِيدِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُكِّدَ مُعْتَنًى بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ حُذِفَ غَيْرُ مُعْتَنًى بِهِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ صُنْعَ اللَّهِ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى، انْظُرُوا صُنْعَ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: يَفْعَلُونَ بِالْيَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَلَمَّا ذَكَرَ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُكَلَّفِينَ بَعْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَالْحَسَنَةُ: الْأَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَرَتَّبَ عَلَى مَجِيءِ الْمُكَلَّفِ بِالْحَسَنَةِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَهُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَيَظْهَرُ أَنَّ خَيْرًا لَيْسَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيِ لَهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ مَبْدَؤُهُ وَنَشْؤُهُ مِنْهَا، أَيْ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الْحَسَنَةِ، وَالْخَيْرُ هُنَا: الثَّوَابُ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وعكرمة. قال

_ (1) سورة البقرة: 2/ 138. (2) سورة النساء: 4/ 122. (3) سورة الروم: 30/ 30. (4) سورة البقرة: 2/ 138. (5) آل عمران: 3/ 9. (6) الروم: 30/ 130.

عِكْرِمَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ. وَقِيلَ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها، يُرِيدُ الْإِضْعَافَ، وَأَنَّ الْعَمَلَ يَنْقَضِي وَالثَّوَابَ يَدُومُ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلِ السَّيِّدِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلِ السَّيِّدِ، تَرْكِيبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَنَعَهُ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ، وَيَكُونَ فِي قَوْلِهِ: مِنْها، حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: خَيْرٌ مِنْ قَدْرِهَا وَاسْتِحْقَاقِهَا، بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِ فَوْقَ مَا تَسْتَحِقُّ حَسَنَتُهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُعْطَى بِالْوَاحِدَةِ عَشْرًا، وَالدَّاعِيَةُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْحَسَنَةَ لَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّوَابِ تَفْضِيلٌ. انْتَهَى. وَقِيلَ: ثَوَابُ الْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْمَعْرِفَةُ الضَّرُورِيَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَذَّةُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ. وَقَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ السِّعَادَاتِ هِيَ هَذِهِ اللَّذَّةُ، وَلَوْ لَمْ تُحْمَلِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ خَيْرًا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: مِنْ فَزَعٍ، بالتنوين، وَيَوْمَئِذٍ، مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ مَعْمُولٌ لقوله: آمِنُونَ، أو لفزع. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لَهُ قِرَاءَةُ مَنْ أَضَافَهُ إِلَيْهِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لفزع، أَيْ كَائِنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى يَوْمَئِذٍ فَكَسَرَ الْمِيمَ الْعَرَبِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَفَتَحَهَا، بِنَاءً لِإِضَافَتِهِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ نَافِعٌ، فِي غَيْرِ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ تَنْوِينُ الْعِوَضِ، حُذِفَتِ الْجُمْلَةُ وَعُوِّضَ مِنْهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ مَا قَرُبَ مِنَ الظَّرْفِ، أَيْ يَوْمَ، إِذْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذْ تَرَى الْجِبَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذْ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا فُسِّرَ بِأَنَّهُ نَفْخُ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ لِلْحِسَابِ، وَيَكُونُ الْفَزَعُ إِذْ ذَاكَ وَاحِدًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَا مَعْنَاهُ: مِنْ فَزَعٍ، بِالتَّنْوِينِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فَزَعٌ وَاحِدٌ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. فَإِنْ أُرِيدَ الْكَثْرَةُ، شَمِلَ كُلَّ فَزَعٍ يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْوَاحِدُ، فَهُوَ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَزَعَيْنِ؟ قُلْتُ: الْفَزَعُ الْأَوَّلُ: مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ أَحَدٌ عِنْدَ الإحساس بشدة نفع، وَهُوَ يَفْجَأُ مِنْ رُعْبٍ وَهَيْبَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُحْسِنُ يَأْمَنُ لَحَاقَ الضَّرَرِ بِهِ. وَالثَّانِي: الْخَوْفُ مِنَ الْعَذَابِ. انْتَهَى. وَالسَّيِّئَةُ: الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي ممن حتم اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَشِيئَةِ بِدُخُولِ النَّارِ. وَخُصَّتِ الْوُجُوهُ، إِذْ كَانَتْ أَشْرَفَ الأعضاء،

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 103.

وَيَلْزَمُ مِنْ كَبِّهَا فِي النَّارِ كَبُّ الْجَمِيعِ، أَوْ عُبِّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ جُمْلَةِ الْإِنْسَانِ، كَمَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ، كَمَا قَالَ: فَكُبْكِبُوا فِيها «1» ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُبُّوا فِي النَّارِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ كُبَّتْ، أَنَّهُمْ يُلْقَوْنَ فِي النَّارِ مَنْكُوسِينَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَعْلَاهُمْ قَبْلَ أَسْفَلِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ طَرْحِهِمْ فِي النَّارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. هَلْ تُجْزَوْنَ: خِطَابٌ لَهُمْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ وَقْتَ الْكَبِّ: هَلْ تُجْزَوْنَ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّما أُمِرْتُ، وَالْآمِرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، أَوْ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. أَنْ أَعْبُدَ: أَيْ أُفْرِدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَا أَتَّخِذَ مَعَهُ شَرِيكًا، كَمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، وَهَذِهِ إِشَارَةُ تَعْظِيمٍ كَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ «2» ، هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْطِنُ نَبِيِّهِ وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ. وَالْبَلْدَةُ: مَكَّةُ، وَأُسْنِدَ التَّحْرِيمُ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَاخْتِصَاصًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: الَّذِي حَرَّمَها، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ» ، لِأَنَّ إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ بِقَضَائِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ، وَإِسْنَادَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ حَيْثُ كَانَ ظُهُورُ ذَلِكَ بِدُعَائِهِ وَرَغْبَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ لِأُمَّتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: حَرَّمَها، تَنْبِيهٌ بِنِعْمَتِهِ عَلَى قُرَيْشٍ، إِذْ جَعَلَ بَلْدَتَهُمْ آمِنَةً مِنَ الْغَارَاتِ وَالْفِتَنِ الَّتِي تَكُونُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَهْلَكَ مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الَّذِي: صِفَةً لِلرَّبِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: الَّتِي حَرَّمَهَا: صِفَةً لِلْبَلْدَةِ، وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ مَالِكُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ فَقَالَ: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، أَيْ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ دَاخِلَةٌ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، فَشَرُفَتِ الْبَلْدَةُ بِذِكْرِ انْدِرَاجِهَا تَحْتَ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى جِهَةِ الْخُصُوصِ، وَعَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَيْ مِنَ الْمُسْتَسْلِمِينَ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَعْبُدُهُ كَمَا أَمَرَنِي، أَوْ مِنَ الْحُنَفَاءِ الثَّابِتِينَ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «3» ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ، إِمَّا مِنَ التِّلَاوَةِ، أَيْ: وَأَنْ أَتْلُوَ عَلَيْكُمُ الْقُرْآنَ، وَهَذَا الظَّاهِرُ، إِذْ بَعْدَهُ التَّقْسِيمُ الْمُنَاسِبُ لِلتِّلَاوَةِ، وَإِمَّا مِنَ الْمَتْلُوِّ، أَيْ: وَأَنْ أَتَّبِعَ الْقُرْآنَ، كَقَوْلِهِ: وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ «4» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنْ أَتْلُوَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَأَنِ اتْلُ، بِغَيْرِ وَاوٍ، أَمْرًا مِنْ تَلَا، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ أَنْ مَصْدَرِيَّةً وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً عَلَى إِضْمَارِ: وَأُمِرْتُ أَنِ أَتْلُ، أَيِ اتْلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَاتْلُ هَذَا الْقُرْآنَ، جَعَلَهُ أَمْرًا دُونَ أَنْ. فَمَنِ اهْتَدى، بِهِ وَوَحَّدَ اللَّهَ وَنَبِيَّهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَثَمَرَةُ هِدَايَتِهِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ. وَمَنْ ضَلَّ، فَوَبَالُ إِضْلَالِهِ مُخْتَصٌّ به،

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 94. (2) سورة الأنعام: 6/ 93. (3) سورة الحج: 22/ 78. (4) سورة يونس: 10/ 109. [.....]

وَحُذِفَ جَوَابُ مَنْ ضَلَّ لِدَلَالَةِ جَوَابِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ، أَوْ يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ضَمِيرٌ حَتَّى يُرْبَطَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ، إِذْ أَدَاةُ الشَّرْطِ اسْمٌ وَلَيْسَ ظَرْفًا، فَلَا بُدَّ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مِنْ ذِكْرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ مَلْفُوظٍ بِهِ أَوْ مُقَدَّرٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَيُقَدَّرُ الضَّمِيرُ مِنَ الْمُنْذِرِينَ لَهُ، لَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا إِنْذَارُهُ، وَأَمَّا هِدَايَتُهُ فَإِلَى اللَّهِ. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ: أُمِرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فَيَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ رَفِيعِ الْمَنْزِلَةِ. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ: تَهْدِيدٌ لِأَعْدَائِهِ بِمَا يُرِيهِمُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالْإِقْرَارِ أَنَّهَا آيَاتُ اللَّهِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى لَا تَنْفَعَهُمُ الْمَعْرِفَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الدُّخَانُ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ نَقَمَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وَقِيلَ: خُرُوجُ الدَّابَّةِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. وَقِيلَ: آيَاتُهُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي سَائِرِ مَا خَلَقَ مِثْلُ قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ «1» . وَقِيلَ: مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ، وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ مُجْرِيهَا عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ، وَمُظْهِرُهَا مِنْ جِهَتِهِ. فَتَعْرِفُونَها: أَيْ حَقِيقَتَهَا، وَلَا يَسَعُكُمْ جُحُودُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَّا يَعْمَلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، الْتِفَاتًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: سَيُرِيكُمْ. وَلَمَّا قَسَّمَهُمْ إِلَى مُهْتَدٍ وَضَالٍّ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، غير غافل عنها.

_ (1) سورة فصلت: 41/ 53.

سورة القصص

سورة القصص [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 88] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْك

الْوَكْزُ: الضَّرْبُ بِالْيَدِ مَجْمُوعًا كَعَقْدِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ: بِجُمْعِ كَفِّهِ. وَقِيلَ: الْوَكْزُ وَالنَّكْزُ وَاللَّهْزُ وَاللَّكْزُ: الدَّفْعُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. وَقِيلَ: الْوَكْزُ عَلَى الْقَلْبِ، وَاللَّكْزُ عَلَى اللِّحَى. وَقِيلَ: الْوَكْزُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. ذَادَ: طَرَدَ وَدَفَعَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَبَسَ جَذَوْتُ الشَّيْءَ جَذْوًا: قَطَعْتُهُ، وَالْجَذْوَةُ: عُودٌ فِيهِ نَارٌ بِلَا لَهَبٍ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا ... جَزْلَ الْجَذَا غَيْرَ خَوَّارٍ وَلَا ذَعِرِ الْخَوَّارُ: الَّذِي يَتَقَصَّفُ، وَالذَّعِرُ الَّذِي فِيهِ تَعَبٌ. وَقَالَ آخَرُ: وَأَلْقَى عَلَى قَبَسٍ مِنَ النَّارِ جَذْوَةً ... عليها حمثها وَالْتِهَابُهَا وَقِيلَ: الْجَذْوَةُ مُثَلَّثُ الْجِيمِ، الْعُودُ الْغَلِيظُ، كَانَتْ فِي رَأْسِهِ نَارٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ يَصِفُ الصَّلَى: حَمَى حُبُّ هَذِي النَّارِ حُبَّ خَلِيلَتِي ... وَحُبَّ الْغَوَانِي فَهُوَ دُونَ الْحَبَائِبِ وَبُدِّلْتُ بَعْدَ الْمِسْكِ والبان شقوة ... ذخان الجذا في رَأْسَ أَشْمَطَ شَاحِبِ الشَّاطِئُ وَالشَّطُّ: حَفَّةُ الْوَادِي. الْفَصَاحَةُ: بَسْطُ اللِّسَانِ فِي إِيضَاحِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَمُقَابِلُهُ: اللَّكْنُ. الرِّدْءُ: الْمُعِينُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ فِي الْأَمْرِ، فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُعَانُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الدِّفْءُ اسْمٌ لِمَا يُدَّفَأُ بِهِ. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ: وَرِدْءُ كُلِّ أَبْيَضَ مُشْرِفِيٍّ ... شَحِيذِ الْحَدِّ عَضْبٍ ذِي فُلُولِ وَيُقَالُ: رَدَأْتُ الْحَائِطَ أَرْدَؤُهُ، إِذَا دَعَمْتَهُ بِخَشَبَةٍ لِئَلَّا يَسْقُطَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَوْنُ، وَيُقَالُ: رَدَأْتُهُ عَلَى عَدُوِّهِ: أَعَنْتُهُ. الْمَقْبُوحُ: الْمَطْرُودُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا قَبَّحَ اللَّهُ الْبَرَاجِمَ كُلَّهَا ... وَجَدَّعَ يَرْبُوعًا وَعَفَّرَ دَارِمَا ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءٌ: أَقَامَ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ ... تَقَضَّى لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ

وَقَالَ الْعَجَّاجُ: فَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ. أَيِ الضَّيْفُ الْمُقِيمُ. الْبَطَرُ: الطُّغْيَانُ. السَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْجُحْفَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْجُحْفَةِ، فِي خُرُوجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْهِجْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: نَزَلَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، بِالْجُحْفَةِ، وَقْتَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ السُّورَةِ قَبْلَهَا أَنَّهُ أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ «1» . وَكَانَ مِمَّا فَسَّرَ بِهِ آيَاتِهِ تَعَالَى مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ أَضَافَهَا تَعَالَى إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ هُوَ الْمُخْبِرُ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ فَقَالَ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، إِذْ كَانَ الْكِتَابُ هُو أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ وَأَكْبَرُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. نَتْلُوا: أَيْ نَقْرَأُ عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ، أَوْ نَقُصُّ. وَمَفْعُولُ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ: أَيْ بَعْضَ نبأ، وبالحق متعلق بنتلو، أَيْ مُحِقِّينَ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَبَأِ، أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالتِّلَاوَةِ. عَلا فِي الْأَرْضِ: أَيْ تَجَبَّرَ وَاسْتَكْبَرَ حَتَّى ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ. وَالْأَرْضُ: أَرْضُ مِصْرَ، وَالشِّيَعُ: الْفِرَقُ. مَلَكَ الْقِبْطَ وَاسْتَعْبَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ يُشَيِّعُونَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، أَوْ يُشَيِّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي طَاعَتِهِ، أَوْ نَاسًا فِي بِنَاءٍ وَنَاسًا فِي حَفْرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِرَفِ الْمُمْتَهَنَةِ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَخْدِمْهُ، ضَرَبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، أَوْ أَغْرَى بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَكُونُوا لَهُ أَطْوَعَ، وَالطَّائِفَةُ الْمُسْتَضْعَفَةُ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَسْتَضْعِفُ اسْتِئْنَافٌ يُبَيِّنُ حَالَ بَعْضِ الشِّيَعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ، وَجَعَلَ وأن تكون صفة

_ (1) سورة النمل: 27/ 93.

لشيعا، وَيُذَبِّحُ تَبْيِينٌ لِلِاسْتِضْعَافِ، وَتَفْسِيرٌ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَسْتَضْعِفُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِطَائِفَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُذَبِّحُ، مُضَعَّفًا وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الذَّالِ. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ: عِلَّةٌ لِتَجَبُّرِهِ وَلِتَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الْفَسَادِ. وَنُرِيدُ: حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَفْسِيرٌ لِلْبِنَاءِ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَضْعِفُ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَنَحْنُ نُرِيدُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِذَا كَانَتْ حَالًا، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ اسْتِضْعَافُ فِرْعَوْنَ وَإِرَادَةُ الْمِنَّةِ مِنَ اللَّهِ وَلَا يُمْكِنُ الِاقْتِرَانُ؟ فَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْمِنَّةُ بِخَلَاصِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ قَرِينَةَ الْوُقُوعِ، جُعِلَتْ إِرَادَةُ وُقُوعِهَا كأنها مقارنة لاستضعافهم. وأَنْ نَمُنَّ: أَيْ بِخَلَاصِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَإِغْرَاقِهِ. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً: أَيْ مُقْتَدًى بِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وُلَاةً، كَقَوْلِهِمْ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَنْبِيَاءَ. وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ: أَيْ يَرِثُونَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، مُلْكَهُمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ. وَعَنْ عَلِيٍّ، الْوَارِثُونَ هُمْ: يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَلَدُهُ ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: وَرِثُوا أَرْضَ مِصْرَ وَالشَّامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنُمَكِّنَ، عَطْفًا عَلَى نَمُنَّ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلِنُمَكِّنَ، بِلَامِ كَيْ، أَيْ وَأَرَدْنَا ذَلِكَ لِنُمَكِّنَ، أَوْ وَلِنُمَكِّنَ فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَالتَّمْكِينُ: التَّوْطِئَةُ فِي الْأَرْضِ، هِيَ أَرْضُ مِصْرَ وَالشَّامِ، بِحَيْثُ يَنْفُذُ أَمْرُهُمْ وَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنُرِيَ، مُضَارِعُ أَرَيْنَا، وَنُصِبَ مَا بَعْدَهُ. وَعَبْدُ الله، وحمزة، والكسائي: ونرى، مُضَارِعُ رَأَى، وَرُفِعَ مَا بَعْدَهُ. وَهامانَ: وَزِيرُ فِرْعَوْنَ وَأَحَدُ رِجَالِهِ، وَذُكِرَ لِنَبَاهَتِهِ فِي قَوْمِهِ وَمَحَلِّهِ مِنَ الْكُفْرِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ لَهُ: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً «1» ؟ وَيَحْذَرُونَ أَيْ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَإِهْلَاكَهُمْ عَلَى يَدَيْ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ، وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. إِيحَاءُ اللَّهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى: إِلْهَامٌ وَقَذْفٌ فِي الْقَلْبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ أَوْ منام،

_ (1) سورة غافر: 40/ 36.

قَالَهُ قَوْمٌ أَوْ إِرْسَالُ مَلَكٍ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَقَوْمٌ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، فَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ بِإِرْسَالِ مَلَكٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَهُوَ كَإِرْسَالِهِ لِلْأَقْرَعِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَعْمَى، وَكَمَا رُوِيَ مِنْ تَكْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ لِلنَّاسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِيحَاءَ هُوَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ وَوَضَعَتْ مُوسَى أُمُّهُ فِي زَمَنِ الذَّبْحِ وَخَافَتْ عَلَيْهِ. وَأَوْحَيْنا، وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَقِيلَ: كَانَ الْوَحْيُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنِ ارْضِعِيهِ، بِكَسْرِ النُّونِ بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ الْفَتْحَةُ، إِلَى النُّونِ، كَقِرَاءَةِ وَرْشٍ. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ مِنْ جَوَاسِيسِ فِرْعَوْنَ وَنُقَبَائِهِ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْأَوْلَادَ، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. قَالَ الْجُنَيْدُ: إِذَا خِفْتِ حِفْظَهُ بِوَاسِطَةٍ، فَسَلِّمِيهِ إِلَيْنَا بِإِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ، وَاقْطَعِي عَنْكِ شَفَقَتَكِ وَتَدْبِيرَكِ. وَزَمَانُ إِرْضَاعِهِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَةٌ، أَوْ ثَمَانِيَةٌ، أَقْوَالٌ. وَالْيَمُّ هُنَا: نِيلُ مِصْرَ. وَلا تَخافِي: أَيْ مِنْ غَرَقِهِ وَضَيَاعِهِ، وَمِنِ الْتِقَاطِهِ، فَيُقْتَلُ، وَلا تَحْزَنِي لِمُفَارَقَتِكِ إِيَّاهُ، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَعْدٌ صَادِقٌ يُسَكِّنُ قَلْبَهَا وَيُبَشِّرُهَا بِحَيَاتِهِ وَجَعْلِهِ رَسُولًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ التَّابُوتِ وَرَمْيِهِ فِي الْيَمِّ وَكَيْفِيَّةِ الْتِقَاطِهِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَاسْتَفْصَحَ الْأَصْمَعِيُّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ أَنْشَدَتْ شِعْرًا فَقَالَتْ: أَبَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى الْآيَةَ، فَصَاحَةٌ؟ وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَخَبَرَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَفَعَلَتْ مَا أَمَرْتُ بِهِ مِنَ إِرْضَاعِهِ وَمِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ. وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ، لَمَّا كَانَ مَآلُ الْتِقَاطِهِ وَتَرْبِيَتِهِ إِلَى كَوْنِهِ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَناً، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْتَقِطُوهُ إِلَّا لِلتَّبَنِّي، وَكَوْنُهُ يَكُونُ حَبِيبًا لَهُمْ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ اللَّامِ بِلَامِ الْعَاقِبَةِ وَبِلَامِ الصَّيْرُورَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحَزَنًا، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ سَعْدَانَ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ. وَالْخَاطِئُ: الْمُتَعَمِّدُ الْخَطَأِ، وَالْمُخْطِئُ: الَّذِي لَا يَتَعَمَّدُهُ. واحتمل أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ فَكَانَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، أَيْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَاطِئِينَ، لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِ، وَتَعَمَّدُوا الْجَرَائِمَ وَالْكُفْرَ بِاللَّهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: خَاطِئِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْتِقَاطِهِ. وَقِيلَ: بِقَتْلِ أَوْلَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: فِي تَرْبِيَةِ عَدُوِّهِمْ. وَأُضِيفَ الْجُنْدُ هُنَا وَفِيمَا قَبْلُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، وَإِنْ كَانَ هَامَانُ لَا جُنُودَ لَهُ، لِأَنَّ أَمْرَ الْجُنُودِ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِالْمَلِكِ وَالْوَزِيرِ، إِذْ بِالْوَزِيرِ تُحَصَّلُ الْأَمْوَالُ، وَبِالْمَلِكِ وَقَهْرِهِ يُتَوَصَّلُ

إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَلَا يَكُونُ قِوَامُ الْجُنْدِ إِلَّا بِالْأَمْوَالِ. وقرىء: خَاطِيِينَ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزَ. وَحُذِفَتْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: مِنْ خَطَا يَخْطُو، أَيْ خاطين الصَّوَابَ. وَلَمَّا الْتَقَطُوهُ، هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودَ الَّذِي يَحْذَرُونَ زَوَالَ مُلْكِهِمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَلْقَى اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِ آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَنَقَلُوا أَنَّهَا رَأَتْ نُورًا فِي التَّابُوتِ، وَتَسَهَّلَ عَلَيْهَا فَتْحُهُ بَعْدَ تَعَسُّرِ فَتْحِهِ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهَا، وَأَنَّ بِنْتَ فِرْعَوْنَ أَحَبَّتْهُ أَيْضًا لِبُرْئِهَا مِنْ دَائِهَا الَّذِي كَانَ بِهَا، وَهُوَ الْبَرَصُ، بِإِخْبَارِ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُبْرِئُهَا إِلَّا رِيقُ إِنْسَانٍ يُوجَدُ فِي تَابُوتٍ فِي الْبَحْرِ. وَقُرَّةُ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ قُرَّةُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ لَا تَقْتُلُوهُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قُرَّةُ فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ. وَذُكِرَ أَنَّهَا لَمَّا قالت لفرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، قَالَ: لَكِ لَا لِي. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: لَعَلَّهُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَتْبَعَتِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهِ بِرَجَائِهَا أَنْ يَنْفَعَهُمْ لِظُهُورِ مَخَايِلِ الْخَيْرِ فِيهِ مِنَ النُّورِ الذي رأته، ومن برإ الْبَرَصِ، أَوْ يَتَّخِذُوهُ وَلَدًا، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ الَّذِي يَفْسُدُ مُلْكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَوْ أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ أَنِّي أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ لَا مَا يُرِيدُونَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، أَيْ قَالَتْ ذَلِكَ لِفِرْعَوْنَ، وَالَّذِينَ أَشَارُوا بِقَتْلِهِ لَا يَشْعُرُونَ بِمَقَالَتِهَا لَهُ وَاسْتِعْطَافِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يُغْرُوهُ بِقَتْلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، وقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ كَذَا، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ عَلَى خَطَأٍ عَظِيمٍ فِي الْتِقَاطِهِ وَرَجَاءِ النَّفْعِ مِنْهُ وَتَبَنِّيهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِرْعَوْنَ الْآيَةَ، جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَاقِعَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى خَطَئِهِمْ. انْتَهَى. وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ كَانَ أحسن. أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ، فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .

وَأَصْبَحَ: أَيْ صَارَ فَارِغًا مِنَ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ، فَدَهَمَهَا أَمْرٌ مِثْلُهُ لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْعَقْلُ، لَا سِيَّمَا عَقْلُ امْرَأَةٍ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا حَتَّى طَرَحَتْهُ فِي الْيَمِّ، رَجَاءَ نَجَاتِهِ مِنَ الذَّبْحِ هَذَا مَعَ الْوَحْيِ إِلَيْهَا أَنَّ اللَّهَ يَرُدُّهُ إِلَيْهَا وَيَجْعَلُهُ رَسُولًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَطَاشَ لُبُّهَا وَغَلَبَ عَلَيْهَا مَا يَغْلِبُ عَلَى الْبَشَرِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ الْخَطْبِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ اسْتَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَوْعُودِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي عَمْرٍو فُوَادُ: بِالْوَاوِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فَارِغًا مِنَ الصَّبْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَارِغًا مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ إِلَيْهَا، تَنَاسَتْهُ مِنَ الْهَمِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ، إِذْ لَمْ يَغْرَقْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَتُبْعِدُهُ الْقِرَاءَاتُ الشَّوَاذُّ الَّتِي فِي اللَّفْظَةِ. وَقَرَأَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَيَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: فَزِعًا، بِالزَّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، مِنَ الْفَزَعِ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: قَرِعًا، بِالْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا، مِنْ قَرَعَ رَأْسُهُ، إِذَا انْحَسَرَ شَعْرُهُ، كَأَنَّهُ خَلَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَقِيلَ: قَرْعًا، بِالسُّكُونِ، مَصْدَرٌ، أَيْ يَقْرَعُ قَرْعًا مِنَ الْقَارِعَةِ، وَهِيَ الْهَمُّ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: فِزْغًا، بِالْفَاءِ مَكْسُورَةٍ وَسُكُونِ الزَّايِ وَالْغَيْنِ الْمَنْقُوطَةِ، وَمَعْنَاهُ: ذَاهِبًا هَدَرًا تَالِفًا مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ. وَمِنْهُ قَوْلُ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ فِي أَخِيهِ حِبَالٍ: فَإِنْ يَكُ قَتْلَى قَدْ أُصِيبَتْ نُفُوسُهُمْ ... فَلَنْ تَذْهَبُوا فِزْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ أَيْ: بِقَتْلِ حِبَالٍ فِزْغًا، أَيْ هَدَرًا لَا يُطْلَبُ لَهُ بِثَأْرٍ وَلَا يُؤْخَذُ. وَقَرَأَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: فُرُغًا، بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ: هِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ. وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَهَذَا قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وَالْإِبْدَاءُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي به عَائِدٌ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: لَتُظْهِرُهُ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ تُبْدِي مَحْذُوفٌ، أَيْ لَتُبْدِي الْقَوْلَ بِهِ، أَيْ بِسَبَبِهِ وَأَنَّهُ وَلَدُهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ لِلْوَحْيِ، أَيْ لَتُبْدِي بِالْوَحْيِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَادَتْ تَصِيحُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ وَا ابْنَاهُ. وَقِيلَ: عِنْدَ رُؤْيَتِهَا تَلَاطُمَ الْأَمْوَاجِ بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها. قَالَ قَتَادَةُ: بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْعِصْمَةِ. وَقَالَ الصَّادِقُ: بِالْيَقِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: بِالْوَحْيِ، ولِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَلْنَا ذَلِكَ، أَيِ الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ كِنَايَةٌ عَنْ قَرَارِهِ وَاطْمِئْنَانِهِ، شُبِّهَ بِمَا يُرْبَطُ مَخَافَةَ الِانْفِلَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ: وَأَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا مِنَ الْهَمِّ حِينَ سَمِعَتْ أَنَّ فِرْعَوْنَ

عَطَفَ عَلَيْهِ وَتَبَنَّاهُ. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِأَنَّهُ وَلَدُهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا فَرَحًا وَسُرُورًا بِمَا سَمِعَتْ، لولا أنا ظلمنا قَلْبَهَا وَسَكَّنَّا قَلَقَهُ الَّذِي حَدَثَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ. لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاثِقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ، لَا بِتَبَنِّي فِرْعَوْنَ وَتَعَطُّفِهِ. انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَجْوِيزِ كَوْنِهِ فَارِغًا مِنَ الْهَمِّ إِلَى آخِرِهِ، خِلَافُ مَا فَهِمَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْآيَةِ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَكَادَتْ تُبْدِي بِهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ «1» . وَقالَتْ لِأُخْتِهِ، طَمَعًا مِنْهَا فِي التَّعَرُّفِ بِحَالِهِ. قُصِّيهِ: أَيِ اتَّبِعِي أَثَرَهُ وَتَتَبَّعِي خَبَرَهُ. فَرُوِيَ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ مُخْتَفِيَةً، فَرَأَتْهُ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ حَاشِيَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَتَطَلَّبُونَ لَهُ امْرَأَةً تُرْضِعُهُ، حِينَ لَمْ يَقْبَلِ الْمَرَاضِعَ، وَاسْمُ أُخْتِهِ مَرْيَمُ ، وَقِيلَ: كَلْثَمَةُ، وَقِيلَ: كُلْثُومٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَقَصَّتْ أَثَرَهُ. فَبَصُرَتْ بِهِ: أَيْ أَبْصَرَتْهُ عَنْ جُنُبٍ، أَيْ عَنْ بُعْدٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِتَطَلُّبِهَا لَهُ وَلَا بِإِبْصَارِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى عَنْ جُنُبٍ: عَنْ شَوْقٍ إِلَيْهِ، حَكَاهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَقَالَ: هِيَ لُغَةُ جُذَامٍ، يَقُولُونَ: جَنَبْتُ إِلَيْكَ: اشْتَقْتُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جُنُبٍ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ عَنْ مَكَانٍ جنب، يريد بعيد. وَقِيلَ: عَنْ جَانِبٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي عَلَى الشَّطِّ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا تَقُصُّ. وَقِيلَ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا أُخْتُهُ. وَقِيلَ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَنْ جُنُبٍ، بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: فَبَصَرَتْ، بِفَتْحِ الصَّادِ وَعِيسَى: بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: جَنْبٍ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: بِفَتْحِهِمَا أَيْضًا. وَعَنِ الْحَسَنِ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ النُّونِ. وَقَرَأَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: عَنْ جَانِبٍ، وَالْجَنْبُ وَالْجَانِبُ وَالْجَنَابَةُ وَالْجَنَابُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى عَنْ جُنُبٍ: أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ كَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ. وَالتَّحْرِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَنْعِ، أَيْ مَنَعْنَاهُ أَنْ يَرْضَعَ ثَدْيَ امْرَأَةٍ وَالْمَرَاضِعُ جَمْعُ مُرْضِعٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تُرْضِعُ أَوْ جَمْعُ مَرْضَعٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الرَّضَاعِ، وَهُوَ الثَّدْيُ، أَوِ الْإِرْضَاعُ. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ قَصِّهَا أَثَرَهُ وَإِتْيَانِهِ عَلَى مَنْ هُوَ عِنْدَهُ. فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ: أَيْ أُرْشِدُكُمْ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ، لِكَوْنِهِمْ فِيهِمْ شَفَقَةٌ وَرَحْمَةٌ لِمَنْ يَكْفُلُونَهُ وَحُسْنُ تَرْبِيَةٍ. وَدَلَّ قوله:

_ (1) سورة يوسف: آية 24.

وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ، أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ الطِّفْلُ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ مِنْ جُمْلَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَأَوَّلَ الْقَوْمُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلطِّفْلِ فَقَالُوا لَهَا: إِنَّكِ قَدْ عَرَفْتِيهِ، فَأَخْبِرِينَا مَنْ هُوَ؟ فَقَالَتْ: مَا أَرَدْتُ، إِلَّا أَنَّهُمْ نَاصِحُونَ لِلْمَلِكِ، فَتَخَلَّصَتْ مِنْهُمْ بِهَذَا التَّأْوِيلِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَمَرَّتْ بِهِمْ إِلَى أُمِّهِ، فَكَلَّمُوهَا فِي إِرْضَاعِهِ أَوْ فَجَاءَتْ بِأُمِّهِ إِلَيْهِمْ، فَكَلَّمُوهَا فِي شَأْنِهِ، فَأَرْضَعَتْهُ، فَالْتَقَمَ ثَدْيَهَا. وَيُرْوَى أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهَا: مَا سَبَبُ قَبُولِ هَذَا الطِّفْلِ ثَدْيَكِ، وَقَدْ أَبَى كُلَّ ثَدْيٍ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ طَيِّبَةُ الرِّيحِ، طَيِّبَةُ اللَّبَنِ، لَا أُوتَى بِصَبِيٍّ إِلَّا قَبِلَنِي، فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا، وَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا، وَأَجْرَى لَهَا كُلَّ يَوْمٍ دِينَارًا. وَجَازَ لَهَا أَخْذُهُ لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ، فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أُجْرَةَ رَضَاعٍ. فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَدَمْعُ الْفَرَحِ بَارِدٌ، وَعَيْنُ الْمَهْمُومِ حَرَّى سخنة، وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ لَمَّا أَنْجَزَ تَعَالَى وَعْدَهُ فِي الرَّدِّ، ثَبَتَ عِنْدَهَا أَنَّهُ سَيَكُونُ نَبِيًّا رَسُولًا. وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَلَا يَعْلَمُونَ، أَيْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَهُمْ مُرْتَابُونَ فِيهِ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا كَانَ لِعِلْمِهَا بِصِدْقِ وَعْدِ اللَّهِ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ لِذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ دَلَالَةٌ عَلَى ضَعْفِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِيحَاءَ إِلَيْهَا كَانَ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَعْدٌ. وَقَوْلُهُ: وَلِتَعْلَمَ وُقُوعَ ذَلِكَ فَهُوَ عِلْمُ مُشَاهَدَةٍ، إِذْ كَانَتْ عَالِمَةً أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، وَأَكْثَرُهُمْ هُمُ الْقِبْطُ، وَلَا يَعْلَمُونَ سِرَّ الْقَضَاءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَعْلَمُونَ مَصَالِحَهُمْ وَصَلَاحَ عَوَاقِبِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا، وَمُقَاتِلٌ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهَا رَدَّهُ إِلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إِلَى الْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، وَجاءَ

رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. الْمَدِينَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْفُ. رَكِبَ فِرْعَوْنُ يَوْمًا وَسَارَ إِلَيْهَا، فَعَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرُكُوبِهِ، فَلَحِقَ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ، وَعَنْهُ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْمَدِينَةُ مِصْرُ بِنَفْسِهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ بَدَتْ مِنْهُ مُجَاهَرَةٌ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِمَا يَكْرَهُونَ، فَاخْتَفَى وَخَافَ، فَدَخَلَهَا مُتَنَكِّرًا حَذِرًا مُتَغَفِّلًا لِلنَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَغَابَ عَنْهَا سِنِينَ، فَنَسِيَ، فَجَاءَ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ بِنِسْيَانِهِمْ لَهُ وَبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِهِ. وَقِيلَ: كَانَ يَوْمَ عِيدٍ، وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِلَهْوِهِمْ. وَقِيلَ: خَرَجَ مِنْ قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَدَخَلَ مِصْرَ. وَقِيلَ: الْمَدِينَةُ عَيْنُ شَمْسٍ. وَقِيلَ: قَرْيَةٌ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْرَ يُقَالُ لَهَا حَابِينَ. وَقِيلَ: الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ. وَقَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْقَارِئُ: عَلى حِينِ، بِنَصْبِ نُونِ حِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَى الْمَصْدَرَ مَجْرَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى حِينَ غَفَلَ أَهْلُهَا، فَبَنَاهُ كَمَا بَنَاهُ حِينَ أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِفِعْلٍ مَاضٍ، كَقَوْلِهِ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: يَقَتِّلَانِ. بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي التَّاءِ وَنَقْلِ فَتْحَتِهَا إِلَى الْقَافِ. قِيلَ: كَانَا يَقْتَتِلَانِ فِي الدِّينِ، إِذْ أَحَدُهُمَا إِسْرَائِيلِيٌّ مُؤْمِنٌ وَالْآخَرُ قِبْطِيٌّ. وَقِيلَ: يَقْتَتِلَانِ، فِي أَنْ كُلِّفَ الْقِبْطِيُّ حَمْلَ الْحَطَبِ إِلَى مَطْبَخِ فِرْعَوْنَ على ظهر الإسرائيلي، ويقتتلان صفة لرجلين. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَقْتَتِلَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. انْتَهَى. وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ أَجَازَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ: أَيْ مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَهُوَ الْإِسْرَائِيلِيُّ. قِيلَ: وَهُوَ السَّامِرِيُّ، وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ، أَيْ مِنَ الْقِبْطِ. وَقِيلَ: اسْمُهُ فَاتُونُ، وَهَذَا حِكَايَةُ حَالٍ، وَقَدْ كَانَا حَاضِرَيْنِ حالة وجد أن مُوسَى لَهُمَا، أَوْ لِحِكَايَةِ الْحَالِ، عُبِّرَ عَنْ غَائِبٍ مَاضٍ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْحَاضِرِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْعَرَبُ تُشِيرُ بِهَذَا إِلَى الْغَائِبِ. قَالَ جَرِيرٌ: هَذَا ابْنُ عَمِّي فِي دِمَشْقَ خَلِيفَةٌ ... لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِلَيَّ قَطِينَا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاسْتَغاثَهُ، أَيْ طَلَبِ غَوْثَهُ وَنَصْرَهُ عَلَى الْقِبْطِيِّ. وَقَرَأَ سِيبَوَيْهِ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ بَدَلَ الثَّاءِ، أَيْ طَلَبِ مِنْهُ الْإِعَانَةَ عَلَى الْقِبْطِيِّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُف بْنِ عَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ: وَالِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ ابْنِ مِقْسَمٍ، لِأَنَّ الْإِعَانَةَ أَوْلَى فِي

هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَهَا الْأَخْفَشُ، وَهِيَ تَصْحِيفٌ لَا قِرَاءَةٌ. انْتَهَى. وَلَيْسَتْ تَصْحِيفًا، فَقَدْ نَقَلَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَابْنُ جُبَارَةَ عَنِ ابْنِ مِقْسَمٍ وَالزَّعْفَرَانِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ التَّنَاكُرُ بَيْنَهُمَا قَالَ الْقِبْطِيُّ لِمُوسَى: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْمِلَهُ عَلَيْكَ، يَعْنِي الْحَطَبَ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ مُوسَى، وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ قُوَّةً، فَوَكَزَهُ، فَمَاتَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَكَزَهُ، بِاللَّامِ، وَعَنْهُ: فَنَكَزَهُ، بِالنُّونِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصَاهُ وَغَيْرُهُ قَالَ: بِجُمْعِ كَفِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاعِلَ فَقَضى ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ فَقَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ. ويحتمل أن يعود عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ وَكَزَهُ، أَيْ فَقَضَى الْوَكْزُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُوسَى لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ، وَلَكِنْ وَافَقَتْ وَكْزَتُهُ الْأَجَلَ، فَنَدِمَ مُوسَى. وَرُوِيَ أَنَّهُ دَفَنَهُ فِي الرَّمْلِ وَقَالَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، وَهُوَ مَا لَحِقَهُ مِنَ الْغَضَبِ حَتَّى أَدَّى إِلَى الْوَكْزَةِ الَّتِي قَضَتْ عَلَى الْقِبْطِيِّ، وَجَعَلَهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَسَمَّاهُ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى إِلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي قَتْلِهِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: لَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ مُوسَى إِذْ ذَاكَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ خَطَأً، فَإِنَّ الْوَكْزَةَ فِي الْغَالِبِ لَا تَقْتُلُ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَدِ انْتَهَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهْجَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «1» . وَالْبَاءُ فِي بِما أَنْعَمْتَ لِلْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ بِمَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أي لأتوين، فَلَنْ أَكُونَ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اعْصِمْنِي بِحَقِّ مَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ، فَلَنْ أَكُونَ إِنْ عَصَمْتَنِي ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ. وَقِيلَ: فَلَنْ أَكُونَ دُعَاءٌ لَا خَبَرٌ، وَلَنْ بِمَعْنَى لَا فِي الدُّعَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَنْ لَا تَكُونُ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ لَنْ تَكُونُ فِي الدُّعَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَنْ تَزَالُوا كَذَاكُمْ ثُمَّ مَا زِلْ ... تَ لَهُمْ خَالِدًا خُلُودَ الْجِبَالِ وَالْمُظَاهَرَةُ، إِمَّا بِصُحْبَتِهِ لِفِرْعَوْنَ وَانْتِظَامِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَكْثِيرِ سَوَادِهِ حَيْثُ كَانَ يَرْكَبُ بِرُكُوبِهِ كَالْوَلَدِ مَعَ الْوَالِدِ، وَكَانَ يُسَمَّى ابْنَ فِرْعَوْنَ، وَإِمَّا أَنَّهُ أَدَّتِ الْمُظَاهَرَةُ إِلَى الْقَتْلِ الَّذِي جَرَى عَلَى يَدِهِ. وَقِيلَ: بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَنْ أَسْتَعْمِلَهَا إِلَّا فِي مُظَاهَرَةِ أَوْلِيَائِكَ، وَلَا أَدَعُ قِبْطِيًّا يَغْلِبُ إِسْرَائِيلِيًّا. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ مَعُونَةِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَخِدْمَتِهِمْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ رَجُلٌ لِعَطَاءٍ: إِنَّ أَخِي يَضْرِبُ بِعِلْمِهِ وَلَا يَعْدُو رِزْقَهُ، قَالَ: فَمَنِ الرَّأْسُ، يَعْنِي مَنْ يَكْتُبْ لَهُ؟ قَالَ: خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 23.

الْقَسْرِيُّ، قَالَ: فَأَيْنَ قَوْلُ مُوسَى؟ وَتَلَا الْآيَةَ: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً مِنْ قبل الْقِبْطِيِّ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، يَتَرَقَّبُ وُقُوعَ الْمَكْرُوهِ بِهِ، أَوِ الْإِخْبَارَ هَلْ وَقَفُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ؟ وقيل: خَائِفًا مِنْ أَنَّهُ يَتَرَقَّبُ الْمَغْفِرَةَ. وَقِيلَ: خَائِفًا يَتَرَقَّبُ نُصْرَةَ رَبِّهِ، أَوْ يَتَرَقَّبُ هِدَايَةَ قَوْمِهِ، أَوْ يَنْتَظِرُ أَنْ يُسْلِمَهُ قَوْمُهُ. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ: أَيِ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي كَانَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ بِسَبَبِهِ. وَإِذَا هُنَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَبِالْأَمْسِ يَعْنِي الْيَوْمَ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِ الِاسْتِصْرَاخِ، وَهُوَ مُعْرَبٌ، فَحَرَكَةُ سِينِهِ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّهُ دَخَلَتْهُ أَلْ، بِخِلَافِ حَالِهِ إِذَا عري منها، فالحجاز تنبيه إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، وَتَمِيمٌ تَمْنَعُهُ الصَّرْفَ حَالَةَ الرَّفْعِ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ الصَّرْفَ مُطْلَقًا، وَقَدْ يُبْنَى مَعَ أَلْ عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي حَسِبْتُ الْيَوْمَ وَالْأَمْسَ قَبْلَهُ ... إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ يَسْتَصْرِخُهُ: يَصِيحُ بِهِ مُسْتَغِيثًا مِنْ قِبْطِيٍّ آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعُ الطَّنَابِيبِ قَالَ لَهُ مُوسَى: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ لِكَوْنِكَ كُنْتَ سَبَبًا فِي قَتْلِ الْقِبْطِيِّ بِالْأَمْسِ، قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعِتَابِ وَالتَّأْنِيبِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ، وَالْخِطَابُ لِلْقِبْطِيِّ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَسْتَصْرِخُهُ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْإِسْرَائِيلِيُّ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْقِبْطِيِّ. فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَرَادَ وَيَبْطِشُ هُوَ لِمُوسَى. بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما: أَيْ لِلْمُسْتَصْرِخِ وَمُوسَى وَهُوَ الْقِبْطِيُّ يُوهِمُ الْإِسْرَائِيلِيَّ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ هُوَ عَلَى سَبِيلِ إِرَادَةِ السُّوءِ بِهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَسْطُو عَلَيْهِ. قَالَ، أَيِ الْإِسْرَائِيلِيُّ: يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ، دَفْعًا لِمَا ظَنَّهُ مِنْ سَطْوِ مُوسَى عليه، وكان تعيين القائل الْقِبْطِيِّ قَدْ خَفِيَ عَلَى النَّاسِ، فَانْتَشَرَ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّ قَاتِلَ الْقِبْطِيِّ هُوَ مُوسَى، وَنَمَى ذَلِكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ مُوسَى. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَرَادَ ويبطش لِلْإِسْرَائِيلِيِّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى، وَخَاطَبَهُ بِمَا يَقْبُحُ، وَأَنَّ بَعْدَ لَمَّا يَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا. وَقِيلَ: لَوْ إِذَا سَبَقَ قَسَمٌ كَقَوْلِهِ: فَأُقْسِمُ أَنْ لَوِ الْتَقَيْنَا وَأَنْتُمْ ... لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَبْطِشَ، بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّهَا. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ: وَشَأْنُ الْجَبَّارِ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فَهُوَ جَبَّارٌ، يَعْنِي بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَمَّا أَثْبَتَ لَهُ الْجَبَرُوتِيَّةَ نَفَى عَنْهُ الصَّلَاحَ. وَجاءَ رَجُلٌ

مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ، قِيلَ: هُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَاسْمُهُ جِبْرِيلُ بْنُ شَمْعُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَمْعُونُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ. يَسْعى: يَشْتَدُّ فِي مَشْيِهِ. وَلَمَّا أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ، خَرَجَ الْجَلَاوِزَةُ مِنَ الشَّارِعِ الْأَعْظَمِ لِطَلَبِهِ، فَسَلَكَ هَذَا الرَّجُلُ طَرِيقًا أَقْرَبَ إلى موسى. ومن أقصى المدينة، ويسعى: صِفَتَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَسْعَى حَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ أقصى بجاء. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا جَعَلَ، يَعْنِي، مِنْ أَقْصَى حَالًا، لجاء لَمْ يَجُزْ فِي يَسْعَى إِلَّا الْوَصْفُ. انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّ رَجُلًا يَكُونُ نَكِرَةً لَمْ تُوصَفْ، فَلَا يَجُوزُ مِنْهَا الْحَالِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ. قَالَ: إِنَّ الْمَلَأَ، وَهُمْ وُجُوهُ أَهْلِ دَوْلَةِ فِرْعَوْنَ، يَأْتَمِرُونَ: يَتَشَاوَرُونَ، قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ: أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً ... وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَوْلِهِ، مِنْ قوله تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ «1» . فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. وَلَكَ: مُتَعَلِّقٌ إِمَّا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَاصِحٌ لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ، أَيْ لَكَ أَعْنِي، أَوْ بِالنَّاصِحِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي صِلَةِ أَلْ، لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهِمَا. وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّحْوِيِّينَ فِيمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَامْتَثَلَ مُوسَى مَا أَمَرَهُ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَعَلِمَ صِدْقَهُ وَنُصْحَهُ، وَخَرَجَ وَقَدْ أَفْلَتَ طَالِبِيهِ فَلَمْ يَجِدُوهُ. وَكَانَ مُوسَى لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَصْحَبْ أَحَدًا، فَسَلَكَ مَجْهَلًا، وَاثِقًا بِاللَّهِ تَعَالَى، دَاعِيًا رَاغِبًا إِلَى رَبِّهِ فِي تَنْجِيَتِهِ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 6.

أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. تَوَجَّهَ: رَدَّ وجهه. وتِلْقاءَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي يُونُسَ، أَيْ نَاحِيَةَ وَجْهِهِ. اسْتُعْمِلَ الْمَصْدَرُ اسْتِعْمَالَ الظَّرْفِ، وَكَانَ هُنَاكَ ثَلَاثُ طُرُقٍ، فَأَخَذَ مُوسَى أَوْسَطَهَا، وَأَخَذَ طَالِبُوهُ فِي الْآخَرَيْنِ وَقَالُوا: الْمُرِيبُ لَا يَأْخُذُ فِي أَعْظَمِ الطُّرُقِ وَلَا يَسْلُكُ إِلَّا بُنَيَّاتِهَا. فَبَقِيَ فِي الطَّرِيقِ ثَمَانِيَ لَيَالٍ وَهُوَ حَافٍ، لَا يَطْعَمُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أَقْصَدَ الطَّرِيقِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ، إِذْ لَوْ سَلَكَ مَا لَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ لَتَاهَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَصَدَ مَدْيَنَ وَأَخَذَ يَمْشِي مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ، فَأَوْصَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَدْيَنَ. وَقِيلَ: هَدَاهُ جِبْرِيلُ إِلَى مَدْيَنَ. وَقِيلَ: مَلَكٌ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: أَخَذَ طَرِيقًا يَأْمَنُ فِيهِ، فَاتَّفَقَ ذَهَابُهُ إِلَى مَدْيَنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: وَسَطُ الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ إِلَى مَكَانِ مَأْمَنِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَوَاءَ السَّبِيلِ: طَرِيقُ مَدْيَنَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ سَبِيلُ الْهُدَى، فَمَشَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ فِرْعَوْنَ. وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ: أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَالْوُرُودُ بِمَعْنَى الْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ، وَبِمَعْنَى الدُّخُولِ فِيهِ. قِيلَ: وَكَانَ هَذَا الْمَاءُ بِئْرًا. وَالْأُمَّةُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، وَمَعْنَى عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى شَفِيرِهِ وَحَاشِيَتِهِ. يَسْقُونَ: يَعْنِي مَوَاشِيَهُمْ. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ: أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْأُمَّةِ، فَهُمَا مِنْ دُونِهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِهِمْ. تَذُودانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَذُودَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنَ السُّقَاةِ الْأَقْوِيَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَذُودَانِ النَّاسَ عَنْ غَنَمِهِمَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَأَنَّهُمَا تَكْرَهَانِ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الْمَاءِ. وَقِيلَ: لِئَلَّا تَخْتَلِطَ غَنَمُهُمَا بِأَغْنَامِهِمْ. وَقِيلَ: تَذُودَانِ عَنْ وُجُوهِهِمَا نَظَرَ النَّاظِرِ لِتَسَتُّرِهِمَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَحْبِسَانِهَا عَنْ أَنْ تَتَفَرَّقَ، وَاسْمُ الصغرى عبرا، واسم الكبر صَبُورَا. وَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِفَتَيْنِ لَا تَتَقَدَّمَانِ لِلسَّقْيِ، سَأَلَهُمَا فَقَالَ: مَا خَطْبُكُما؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالسُّؤَالُ بِالْخَطْبِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُصَابٍ، أَوْ مُضْطَهَدٍ، أَوْ مَنْ يُشْفَقُ عَلَيْهِ، أَوْ يَأْتِي بِمُنْكَرٍ مِنَ الْأَمْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقِيقَتُهُ: مَا مَخْطُوبُكُمَا؟ أَيْ مَا مَطْلُوبُكُمَا مِنَ الذِّيَادِ؟ سُمِّيَ الْمَخْطُوبُ خَطْبًا، كَمَا سمى الشؤون شَأْنًا فِي قَوْلِكَ:

مَا شَأْنُكَ؟ يُقَالُ: شَأَنْتُ شَأْنَهُ، أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَهُ. انْتَهَى. وَفِي سُؤَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُكَالَمَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِيمَا يَعُنُّ وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِمَا أَجِيرٌ، فَكَانَتَا تَسُوقَانِ الْغَنَمَ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمَا قُوَّةُ الِاسْتِقَاءِ، وَكَانَ الرُّعَاةُ يَسْتَقُونَ مِنَ الْبِئْرِ فَيَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَإِذَا صَدَرُوا، فَإِنْ بَقِيَ فِي الْحَوْضِ شَيْءٌ سَقَتَا. فَوَافَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهُمَا يَمْنَعَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الْمَاءِ، فَرَقَّ عَلَيْهِمَا وَقَالَ: مَا خَطْبُكُما؟ وَقَرَأَ شِمْرٌ: بِكَسْرِ الْخَاءِ، أَيْ مَنْ زَوْجُكُمَا؟ وَلِمَ لَا يَسْقِي هُوَ؟ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ نَادِرَةٌ. قالَتا لَا نَسْقِي. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: لَا نُسْقِيَ، بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْعَرَبِيَّانِ: يَصْدُرَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الدَّالِ، أَيْ يَصْدُرُونَ بِأَغْنَامِهِمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ يُصْدِرُونَ أَغْنَامَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّعَاءُ، بِكَسْرِ الرَّاءِ: جَمْعَ تَكْسِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا الرِّعَاءُ بِالْكَسْرِ فَقِيَاسٌ، كَصِيَامٍ وَقِيَامٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، لِأَنَّهُ جَمْعُ رَاعٍ وَقِيَاسُ فَاعِلِ الصِّفَةِ الَّتِي لِلْعَاقِلِ أَنْ تُكْسَرَ عَلَى فُعَلَةٍ، كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ، وَمَا سِوَى جَمْعِهِ هَذَا فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. وقرىء: الرُّعَاءُ، بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهُوَ اسم جمع، كالرخال وَالثَّنَاءِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَقَرَأَ عَيَّاشُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الرَّعَاءُ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ، فَاسْتَوَى لَفْظُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ الْمُضَافُ. وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ: اعْتِذَارٌ لِمُوسَى عَنْ مُبَاشَرَتِهِمَا السَّقْيَ بِأَنْفُسِهِمَا، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَبَاهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّقْيِ لِشَيَخِهِ وَكِبَرِهِ، وَاسْتِعْطَافٌ لِمُوسَى فِي إِعَانَتِهِمَا. فَسَقى لَهُما: أَيْ سَقَى غَنَمَهُمَا لِأَجْلِهِمَا. وَرُوِيَ أَنَّ الرُّعَاةَ كَانُوا يَضَعُونَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ حَجَرًا لَا يُقِلُّهُ إِلَّا عَدَدٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَاضْطَرَبَ النَّقْلُ فِي الْعَدَدِ، فَأَقَلُّ مَا قَالُوا سَبْعَةٌ، وَأَكْثَرُهُ مِائَةٌ، فَأَقَلَّهُ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُمْ دَلْوٌ لَا يَنْزِعُ بِهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ، فَنَزَعَ بِهَا وَحْدَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ زَاحَمَهُمْ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى سَقَى لَهُمَا ، كُلُّ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ عَلَى مَا كَانَ بِهِ مِنْ نَصَبِ السَّفَرِ وَكَثْرَةِ الْجُوعِ، حَتَّى كَانَتْ تَظْهَرُ الْخُضْرَةُ فِي بَطْنِهِ مِنَ الْبَقْلِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَشَى حَتَّى سَقَطَ أَصْلُهُ، وَهُوَ بَاطِنُ الْقَدَمِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَغَاثَهُمَا وَكَفَاهُمَا أَمْرَ السَّقْيِ. وَقَدْ طَابَقَ جَوَابُهُمَا لِسُؤَالِهِ. سَأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِ الذَّوْدِ، فَأَجَابَاهُ: بِأَنَّا امْرَأَتَانِ ضَعِيفَتَانِ مَسْتُورَتَانِ، لَا نَقْدِرُ عَلَى مُزَاحَمَةِ الرِّجَالِ، فَنُؤَخِّرُ السَّقْيَ إِلَى فَرَاغِهِمْ. وَمُبَاشَرَتُهُمَا ذَلِكَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبَدْوِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ عَادَةِ أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْأَعَاجِمِ، لَا سِيَّمَا إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظِلُّ شَجَرَةٍ. قِيلَ: كَانَتْ سَمُرَةً. وَقِيلَ:

إِلَى ظِلِّ جِدَارٍ لَا سَقْفَ لَهُ. وَقِيلَ: جَعَلَ ظَهْرَهُ يَلِي مَا كَانَ يَلِي وَجْهَهُ مِنَ الشَّمْسِ. فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَعَرَّضَ لِمَا يَطْعَمَهُ، لِمَا نَالَهُ مِنَ الْجُوعِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بالسؤال وأنزلت هُنَا بِمَعْنَى تُنَزِّلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعُدِّيَ بِاللَّامِ فَقِيرٌ، لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى سَائِلٍ وَطَالِبٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ، أَيْ فَقِيرٌ مِنَ الدُّنْيَا لِأَجْلِ مَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرِ الدِّينِ، وَهُوَ النَّجَاةُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي مُلْكٍ وَثَرْوَةٍ، قَالَ ذَلِكَ رِضًا بِالْبَدَلِ السَّنِيِّ وَفَرَحًا بِهِ وَشُكْرًا لَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا مِنْ غَيْرِ إِبْطَاءٍ فِي السَّقْيِ، وَقَصَّتَا عَلَيْهِ أَمْرَ الَّذِي سَقَى لَهُمَا، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ لَهُ. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما. قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: فَجَاءَتْهُ احْدَاهُمَا، بِحَذْفِ الْهَمْزَةَ، تَخْفِيفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، مِثْلُ: وَيْلُ امِّهِ فِي وَيْلِ أمه، ويا با فُلَانٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُجْعَلَ بين بين، وإحداهما مُبْهَمٌ. فَقِيلَ: الْكُبْرَى، وَقِيلَ: كَانَتَا تَوْأَمَتَيْنِ، وُلِدَتِ الْأُولَى قَبْلَ الْأُخْرَى بِنِصْفِ نَهَارٍ. وَعَلَى اسْتِحْيَاءٍ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُسْتَحْيِيَةً مُتَحَفِّزَةً. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قَدْ سَتَرَتْ وَجْهَهَا بِكُمِّ دِرْعِهَا وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ أَبَاهُمَا هُوَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمَا ابْنَتَاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ، وَاسْمُهُ مَرْوَانُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَارُونُ. وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ ليس من شعيب ينسب. وَقِيلَ: كَانَ عَمَّهُمَا صَاحِبَ الْغَنَمِ، وَهُوَ الْمُزَوِّجُ، عَبَّرَتْ عَنْهُ بِالْأَبِ، إِذْ كَانَ بِمَثَابَتِهِ. لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا، فِي ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ شُعَيْبٌ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْمُكَافَأَةِ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ عَمَلًا، وَإِنْ لم يقصد العالم الْمُكَافَأَةَ. فَلَمَّا جاءَهُ: أَيْ فَذَهَبَ مَعَهُمَا إِلَى أَبِيهِمَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِمَادِ أَخْبَارِ الْمَرْأَةِ، إِذْ ذَهَبَ مَعَهَا مُوسَى، كَمَا يُعْتَمَدُ عَلَى أَخْبَارِهَا فِي بَابِ الرِّوَايَةِ. وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ: أَيْ مَا جَرَى لَهُ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ مِصْرَ، وَسَبَبَ ذَلِكَ. قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: أَيْ قَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَكَ فِي قَوْلِكَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِنَجَاتِهِ مِنْهُمْ، فَأَنَّسَهُ بِقَوْلِهِ: لَا تَخَفْ، وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ، لَا نَبِيعُ دِينَنَا بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَيْسَ هَذَا عِوَضَ السَّقْيِ، وَلَكِنَّ عَادَتِي وَعَادَةَ آبَائِي قِرَى الضَّيْفِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ فَحِينَئِذٍ أَكَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قالَتْ إِحْداهُما: أَبْهَمَ الْقَائِلَةَ، وَهِيَ الذَّاهِبَةُ وَالْقَائِلَةُ وَالْمُتَزَوِّجَةُ، يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ: أَيْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ وَسَقْيِهَا. وَوَصَفَتْهُ بِالْقُوَّةِ: لِكَوْنِهِ رَفَعَ الصَّخْرَةَ عَنِ الْبِئْرِ وَحْدَهُ،

وَانْتَزَعَ بِتِلْكَ الدَّلْوِ، وَزَاحَمَهُمْ حَتَّى غَلَبَهُمْ عَلَى الْمَاءِ وَبِالْأَمَانَةِ: لِأَنَّهَا حِينَ قَامَ يَتْبَعُهَا، هَبَّتِ الرِّيحُ فَلَفَّتْ ثِيَابَهَا فَوَصَفَتْهَا، فَقَالَ: ارْجِعِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ. وَقَوْلُهَا كَلَامٌ حَكِيمٌ جَامِعٌ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْكِفَايَةُ وَالْأَمَانَةُ فِي الْقَائِمِ بِأَمْرٍ، فَقَدْ تَمَّ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ كَلَامٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَصَارَ مَطْرُوقًا لِلنَّاسِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِلِاسْتِئْجَارِ، وَكَأَنَّهَا قَالَتِ: اسْتَأْجِرْهُ لِأَمَانَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَصَارَ الْوَصْفَانِ مُنَبِّهَيْنِ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَهَالِكًا ... أَسِيرُ ثَقِيفٍ عِنْدَهُمْ فِي السَّلَاسِلِ جَعَلَ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الِاسْمَ، اعْتِنَاءً بِهِ. وَحَكَمَتْ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ. وَلَمَّا وَصَفَتْهُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْتِ هَذَا؟ فَذَكَرَتْ إِقْلَالَهُ الْحَجَرَ وَحْدَهُ، وَتَحَرُّجَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا حِينَ وَصَفَتْهَا الرِّيحُ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: قَالَ لَهَا مُوسَى ابْتِدَاءً: كُونِي وَرَائِي، فَإِنِّي رَجُلٌ لَا أَنْظُرُ إِلَى أَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: بِنْتُ شُعَيْبٍ وَصَاحِبُ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا «1» ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي عُمَرَ. وَفِي قَوْلِهَا: اسْتَأْجِرْهُ، دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجَارَةِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا كَانَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ ضَرُورَةُ النَّاسِ وَمَصْلَحَةُ الْخِلْطَةِ، خِلَافًا لِابْنِ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمِّ، حَيْثُ كَانَا لَا يُجِيزَانِهَا وَهَذَا مِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَخِلَافُهُمَا خَرَقٌ. قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ: رَغِبَ شُعَيْبٌ فِي مُصَاهَرَتِهِ، لِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ، وَلِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ عُزُوفِهِ عَنِ الدُّنْيَا وَتَعَلُّقِهِ بِاللَّهِ وَفِرَارِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أُنْكِحَكَ احْدَى، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَنْ أُنْكِحَكَ، أَنَّ الْإِنْكَاحَ إِلَى الْوَلِيِّ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ، بِأَنْ تَكُونَ بَالِغَةً عَالِمَةً بِمَصَالِحِ نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا تَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهَا بِمَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَرْضِ الْوَلِيِّ وَلِيَّتَهُ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَدَلِيلٌ عَلَى تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَتِ الْبِكْرُ، فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا. قِيلَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ، أَوِ الْإِنْكَاحِ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وداود. وإحدى ابْنَتَيَّ: مُبْهَمٌ، وَهَذَا عَرْضٌ لَا عَقْدٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي أُرِيدُ؟ وَحِينَ الْعَقْدِ يُعَيِّنُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَمْ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 21.

يَحُدَّ أَوَّلَ أَمَدِ الْإِجَارَةِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ النِّكَاحِ بِالْإِجَارَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هاتَيْنِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ غَيْرُهُمَا. انْتَهَى. وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا كَانَتَا هُمَا اللَّتَيْنِ رَآهُمَا تَذُودَانِ، وَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ غَيْرَهُمَا. عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ ضَمِيرِ أُنْكِحَكَ، إِمَّا الْفَاعِلُ، وإما المفعول. وتأجرني، مِنْ أَجَرْتُهُ: كُنْتُ لَهُ أَجِيرًا، كَقَوْلِكَ: أَبَوْتُهُ: كُنْتُ لَهُ أَبًا، وَمَفْعُولُ تَأْجُرُنِي الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ نَفْسَكَ. وثَمانِيَ حِجَجٍ: ظَرْفٌ، وَقَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حِجَجٌ: مَفْعُولٌ بِهِ، وَمَعْنَاهُ: رَعْيُهُ ثَمَانِيَ حِجَجٍ. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ: أَيْ هُوَ تَبَرُّعٌ وَتَفَضُّلٌ لَا اشْتِرَاطٌ. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أيّم الْأَجَلَيْنِ، وَلَا فِي الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُنَاقَشَةِ فِي مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ، وَتَكْلِيفُ الرُّعَاةِ أَشْيَاءً مِنَ الْخِدَمِ خَارِجَةً عَنِ الشَّرْطِ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ: وَعْدٌ صَادِقٌ مَقْرُونٌ بِالْمَشِيئَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَوَطَاءَةِ الْخُلُقِ، أَوْ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ حَسَنُ الْمُعَامَلَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ شُعَيْبٌ مِمَّا حَاوَرَ بِهِ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ وَالتَّوَثُّقِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي ثماني حجج. وذلك مبتدأ أخبره بَيْنِي وَبَيْنَكَ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا عَاهَدَهُ عَلَيْهِ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي عَاهَدْتَنِي وَشَارَطْتَنِي قَائِمٌ بَيْنَنَا جَمِيعًا لَا نَخْرُجُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ، أَيِ الثَّمَانِيَ أَوِ الْعَشْرَ؟ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ: أَيْ لَا يُعْتَدَى عَلَيَّ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ، وأي شَرْطٌ، وَمَا زَائِدَةٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْعَبَّاسُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَيَّمَا، بِحَذْفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَنَظَّرَتْ نَصْرًا وَالسِّمَاكَيْنِ أَيَّمَا ... عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُهُ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْتُ، بِزِيَادَةِ مَا بَيْنَ الْأَجَلَيْنِ وَقَضَيْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مُوقِعِ مَا الْمَزِيدَةِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ؟ قُلْتُ: وَقَعَتْ فِي المستفيضة مؤكدة لإبهام، أَيْ زَائِدَةً فِي شِيَاعِهَا وَفِي الشَّاذِّ، تَأْكِيدًا لِلْقَضَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ صَمَّمْتُ عَلَى قَضَائِهِ وَجَرَّدْتُ عَزِيمَتِي لَهُ؟ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ قُطَيْبٍ: فَلَا عِدْوَانَ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا عُدْوَانَ عَلَيْهِ فِي أَتَمِّهِمَا، وَلَكِنْ جَمَعَهُمَا، لِيَجْعَلَ الْأَوَّلَ كَالْأَتَمِّ فِي الْوَفَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَصَوُّرُ الْعُدْوَانِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَحَدِ الْأَجَلَيْنِ الَّذِي هُوَ أَقْصَرُ، وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِتَتِمَّةِ الْعَشْرِ، فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقِ الْعُدْوَانِ بِهِمَا جَمِيعًا؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ: كَمَا أَنِّي إِنْ طُولِبْتُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشْرِ، كَانَ عُدْوَانًا لَا شَكَّ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِنْ طُولِبْتُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى

الثَّمَانِي. أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْرِيرَ الْخِيَارِ، وَأَنَّهُ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، وَأَنَّ الْأَجَلَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، إِمَّا هَذَا، وَإِمَّا هَذَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ. وَأَمَّا التَّتِمَّةُ فَمَوْكُولَةٌ إِلَى رَأْيِي، إِنْ شِئْتُ أَتَيْتُ بِهَا وَإِلَّا لَمْ أُجْبَرْ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلَا أَكُونُ مُتَعَدِّيًا، وَهُوَ فِي نَفْيِ الْعُدْوَانِ عَنْ نَفْسِهِ، كَقَوْلِكَ: لَا إِثْمَ عَلَيَّ وَلَا تَبِعَةَ. انْتَهَى، وَجَوَابُهُ الْأَوَّلُ فِيهِ تَكْثِيرٌ. وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ: أَيْ عَلَى مَا تَعَاهَدْنَا عَلَيْهِ وَتَوَاثَقْنَا، وَكِيلٌ: أَيْ شَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَفِيظٌ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: رَقِيبٌ، وَالْوَكِيلُ الَّذِي وُكِلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى شَاهِدٍ وَنَحْوِهِ عُدِّيَ بِعَلَى. فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ: جاء عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَفَّى أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ الْعَشْرُ. وعن مجاهد: وفي عشر أَوْ عَشْرًا بَعْدَهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَسارَ بِأَهْلِهِ: أَيْ نَحْوَ مِصْرَ بَلَدِهِ وَبَلَدِ قَوْمِهِ. وَالْخِلَافُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ، الْكُبْرَى أَمِ الصُّغْرَى، وَكَذَلِكَ فِي اسْمِهَا. وَتَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَسِيرِهِ، وَإِينَاسُهُ النَّارَ فِي سُورَةِ طه وَغَيْرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جِذْوَةٍ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحَمْزَةُ: بِضَمِّهَا وَعَاصِمٌ، غَيْرَ الْجُعْفِيِّ: بِفَتْحِهَا. لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ: أَيْ تَتَسَخَّنُونَ بِهَا، إِذْ كَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً، وَقَدْ أَضَلُّوا الطَّرِيقَ. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ، قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ. مِنْ، فِي: من شاطىء، لابتداء الغاية، ومن الشَّجَرَةِ كَذَلِكَ، إِذْ هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، أَيْ من قبل الشجرة. والأيمن: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً للشاطىء وَلِلْوَادِي، عَلَى مَعْنَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، أَوِ الْأَيْمَنِ: يُرِيدُ الْمُعَادِلَ لِلْعُضْوِ الْأَيْسَرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُوسَى، لا للشاطىء، وَلَا لِلْوَادِي، أَيْ أَيْمَنَ مُوسَى فِي اسْتِقْبَالِهِ حَتَّى يَهْبِطَ الْوَادِيَ، أَوْ بِعَكْسِ ذَلِكَ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الْأَيْمَنِ مَقُولٌ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، وَمَسْلَمَةُ: فِي الْبَقْعَةِ، بِفَتْحِ الْبَاءِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ: هَذِهِ بَقْعَةٌ طَيِّبَةٌ، بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَوُصِفَتِ الْبُقْعَةُ بِالْبَرَكَةِ، لِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَأَنْوَارِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوِ لِمَا حَوَتْ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالثِّمَارِ الطَّيِّبَةِ. وَيَتَعَلَّقُ في البقعة بنودي، أَوْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من شاطىء.

وَالشَّجَرَةُ عُنَّابٌ، أَوْ عُلَّيْقٌ، أَوْ سَمُرَةٌ، أَوْ عَوْسَجٌ، أقوال. وَأَنْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ تَفْسِيرٍ، وَأَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: إِنِّي أَنَا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي إِعْرَابِهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِنْ، إِنْ كَانَتْ تَفْسِيرِيَّةً، فَيَنْبَغِي كَسْرُ إِنِّي، وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً، تَتَقَدَّرُ بِالْمُفْرَدِ، وَالْمُفْرَدُ لَا يَكُونُ خَبَرًا لضمير الشَّأْنُ، فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، وَإِنِّي مَعْمُولٌ لِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي يَا مُوسَى أَعْلَمُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ. وَجَاءَ فِي طه: نُودِيَ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ «1» ، وَفِي النَّمْلِ: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ «2» ، وَهُنَا: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ، وَلَا مُنَافَاةَ، إِذْ حَكَى فِي كُلِّ سُورَةٍ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ النِّدَاءُ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَلَمَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَادَاهُ نِدَاءَ الْوَحْيِ، لَا نِدَاءَ الْكَلَامِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَقَالَ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ، وَهُوَ فَتْحُ الْجُبَّةِ مِنْ حَيْثُ تَخْرُجُ الرَّأْسُ، وَكَانَ كُمُّ الْجُبَّةِ فِي غَايَةِ الضِّيقِ. وَتَقَدَّمُ الْكَلَامُ عَلَى: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَفُسِّرَ الْجَنَاحُ هُنَا بِالْيَدِ وَبِالْعَضُدِ وَبِالْعِطَافِ، وَبِمَا أَسْفَلَ مِنَ الْعَضُدِ إِلَى الرُّسْغِ، وَبِجَيْبِ مِدْرَعَتِهِ. وَالرَّهْبُ: الْخَوْفُ، وَتَأْتِي الْقِرَاءَاتُ فِيهِ. وَقِيلَ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ: الْكُمُّ، بِلُغَةِ بَنِي حَنِيفَةَ وَحِمْيَرَ، وَسَمِعَ الْأَصْمَعِيُّ قَائِلًا يَقُولُ: أَعْطِنِي مَا فِي رَهْبِكَ، أَيْ فِي كُمِّكَ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: خَافَ مُوسَى أَنْ يَكُونَ حَدَثَ بِهِ سُوءٌ، فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعِيدَ يَدَهُ إِلَى جَيْبِهِ لِتَعُودَ عَلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، فَيَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سُوءًا بَلْ آيَةً مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَهُ بِضَمِّ عَضُدِهِ وَذِرَاعِهِ، وَهُوَ الْجَنَاحُ، إِلَى جَنْبِهِ، ليخفف بِذَلِكَ فَزَعُهُ. وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ فَزَعِهِ أَنْ يَقْوَى قَلْبُهُ. وَقِيلَ: لَمَّا انْقَلَبَتِ الْعَصَا حَيَّةً، فَزِعَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ، فَاتَّقَاهَا بِيَدِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْخَائِفُ مِنَ الشَّيْءِ، فَقِيلَ لَهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ تَحْتَ عَضُدِكَ مَكَانَ اتِّقَائِكَ بِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ لِتَظْهَرَ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَسَطَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ كَالتَّكْرَارِ لِقَوْلِهِ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَقَدْ قَالَ هُوَ وَالْجَنَاحُ هُنَا الْيَدُ، قَالَ: لِأَنَّ يَدَيِ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحَيِ الطَّائِرِ، وَإِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ عَضُدِهِ الْيُسْرَى، فَقَدْ ضَمَّ جَنَاحَهُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا هَالَكَ أَمْرٌ لِمَا يَغْلِبُ مِنْ شُعَاعِهَا، فَاضْمُمْهَا إِلَيْكَ تَسْكُنْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مُجَازٌ أَمَرَهُ بِالْعَزْمِ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أشدد

_ (1) سورة طه: 20/ 11- 12. (2) سورة النمل: 27/ 8.

حَيَازِيمَكَ وَارْبُطْ جَأْشَكَ، أَيْ شِمِّرْ فِي أَمْرِكَ وَدَعِ الرَّهْبَ، وَذَلِكَ لَمَّا كَثُرَ تَخَوُّفُهُ وَفَزَعُهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَكَأَنَّهُ طَيَّرَهُ الْفَزَعُ، وَآلَةُ الطَّيَرَانِ الْجَنَاحُ. فَقِيلَ لَهُ: اسْكُنْ وَلَا تَخَفْ، وَضُمَّ مَنْشُورَ جَنَاحِكَ مِنَ الْخَوْفِ إِلَيْكَ، وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِضَمِّ جَنَاحِهِ إِلَيْهِ: تَجَلُّدُهُ وَضَبْطُهُ نَفْسَهُ وَتَشَدُّدُهُ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ وَلَا يَرْهَبَ، اسْتِعَارَةً مِنْ فِعْلِ الطَّائِرِ، لِأَنَّهُ إِذَا خَافَ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ وَأَرْخَاهُمَا، وَإِلَّا فَجَنَاحَاهُ مَضْمُومَانِ إِلَيْهِ مُشَمَّرَانِ. وَمَعْنَى مِنَ الرَّهْبِ: مِنْ أَجْلِ الرَّهْبِ، أَيْ إِذَا أَصَابَكَ الرَّهْبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْحَيَّةِ، فَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ. جَعَلَ الرَّهْبَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُ سَبَبًا وَعِلَّةً فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ضَمِّ جَنَاحِهِ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وَقَوْلُهُ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ خُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَإِنَّمَا كُرِّرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ فِي أَحَدِهِمَا خُرُوجُ الْيَدِ بَيْضَاءَ، وَفِي الثَّانِي إِخْفَاءُ الرَّهْبِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جُعِلَ الْجَنَاحُ، وَهُوَ الْيَدُ، فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مَضْمُومًا وَفِي الْآخَرِ مَضْمُومًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ «1» ، فَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْجَنَاحِ الْمَضْمُومِ هُوَ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَبِالْمَضْمُومِ إِلَيْهِ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ يُمْنَى الْيَدَيْنِ وَيُسْرَاهُمَا جَنَاحٌ. وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الرَّهْبَ: الْكُمُّ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَعْطِنِي مَا فِي رَهْبِكَ وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ صِحَّتُهُ فِي اللُّغَةِ؟ وَهَلْ سُمِعَ مِنَ الْأَثْبَاتِ الثِّقَاتِ الَّتِي تُرْضَى عَرَبِيَّتُهُمْ؟ ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ مَوْقِعُهُ فِي الْآيَةِ؟ وَكَيْفَ يُعْطِيهِ الْفَصْلُ كَسَائِرِ كَلِمَاتِ التَّنْزِيلِ؟ عَلَى أَنَّ مُوسَى، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مَا كَانَ عَلَيْهِ ليلة المناجاة إلّا زرماتقة مِنْ صُوفٍ، لَا كُمَّيْنِ لَهَا. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وهل سمع من الأثبات؟ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَيْفَ مَوْقِعُهُ مِنَ الْآيَةِ؟ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَخْرِجْ يَدَكَ مِنْ كُمِّكَ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الْعَصَا بِالْكُمِّ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: مِنَ الرَّهَبِ، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ وَحَفْصٌ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِضَمِّهِمَا. فَذانِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا وَالْيَدِ، وَهُمَا مُؤَنَّثَتَانِ، وَلَكِنْ ذُكِّرَا لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُؤَنَّثُ الْمُذَكَّرُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا، بِالْيَاءِ فِي تَكُنْ. بُرْهانانِ: حُجَّتَانِ نَيِّرَتَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: فَذَانِّكَ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِيسَى، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَشِبْلٌ:

_ (1) سورة طه: 20/ 22.

فَذَانِيكَ، بِيَاءٍ بَعْدَ النُّونِ الْمَكْسُورَةِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ. وَقِيلَ: بَلْ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَرَوَاهَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: فَذَانَيْكَ، بِفَتْحِ النُّونِ قَبْلَ الْيَاءِ، عَلَى لُغَةِ مَنْ فَتَحَ نُونَ التَّثْنِيَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً بَعْدَهَا يَاءٌ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: بَلْ لُغَتُهُمْ تخفيفها. وإِلى فِرْعَوْنَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ. قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً: هُوَ الْقِبْطِيُّ الَّذِي وَكَزَهُ فَمَاتَ، فَطَلَبَ مِنْ رَبِّهِ مَا يَزْدَادُ بِهِ قُوَّةً، وَذَكَرَ أَخَاهُ وَالْعِلَّةَ الَّتِي تَكُونُ لَهُ زِيَادَةُ التَّبْلِيغِ. وأَفْصَحُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ فَصَاحَةً، وَلَكِنْ أَخُوهُ أَفْصَحُ. فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً: أَيْ مُعِينًا يُصَدِّقُنِي، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ لِي: صَدَقْتَ، إِذْ يَسْتَوِي فِي قَوْلِ هَذَا اللَّفْظِ الْعَيِيُّ وَالْفَصِيحُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ لِزِيَادَةِ فَصَاحَتِهِ يُبَالِغُ فِي التِّبْيَانِ، وَفِي الْإِجَابَةِ عَنِ الشُّبَهَاتِ، وَفِي جِدَالِهِ الْكُفَّارَ. وَقَرَأَ الجمهور: ردأ، بِالْهَمْزَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَنَافِعٌ، وَالْمَدَنِّيَانِ: بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الدَّالِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بِالنَّقْلِ، وَلَا هَمْزَ وَلَا تَنْوِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: يُصَدِّقُنِي، بِضَمِّ الْقَافِ، فاحتمل الصفة لردأ، وَالْحَالُ احْتَمَلَ الِاسْتِئْنَافَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْإِسْكَانِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُصَدِّقُونِي، وَالضَّمِيرُ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: هَذَا شَاهِدٌ لِمَنْ جَزَمَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَفْعًا لَقَالَ: يُصَدِّقُونَنِي. انْتَهَى، وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَالْمَعْنَى فِي يُصَدِّقُونِي: أَرْجُو تَصْدِيقَهُمْ إِيَّايَ، فَأَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى طِلْبَتِهِ وَقَالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ: عُضُدَكَ، بِضَمَّتَيْنِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهِمَا، قَرَأَ بِهِ عِيسَى، وَيُقَالُ فِيهِ: عَضْدٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الضَّادِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهِ. وَالْعَضُدُ: الْعُضْوُ الْمَعْرُوفُ، وَهِيَ قِوَامُ الْيَدِ، وَبِشِدَّتِهَا يَشْتَدُّ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ وَالْمَعْنَى فِيهِ: سَنُقَوِّيكَ بِأَخِيكَ. وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ: شَدَّ اللَّهُ عَضُدَكَ، وَفِي الشَّرِّ: فَتَّ اللَّهُ فِي عَضُدِكَ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْغَلَبَةُ وَالتَّسْلِيطُ. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما: أَيْ بِسُوءٍ، أَوْ إِلَى إِذَايَتِكُمَا. وَيُحْتَمَلُ بِآياتِنا أن يتعلق بقوله: ويجعل، أو بيصلون، أو بالغالبون، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الظَّرْفُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ عَلَى صِلَةِ أل، وَإِنْ

كَانَ عِنْدَهُ مَوْصُولًا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْهَبَا بِآيَاتِنَا. كَمَا عَلَّقَ فِي تِسْعِ آيات باذهب، أَوْ عَلَى الْبَيَانِ، فَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مَنْقُولَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا جَوَابُهُ فَلا يَصِلُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ لَغْوِ الْقَسَمِ. انْتَهَى. أَمَّا إِنَّهُ قَسَمٌ جَوَابُهُ فَلا يَصِلُونَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ لَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ مِنْ لَغْوِ الْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ جواب، بل حذف لدلالة عَلَيْهِ، أَيْ بِآيَاتِنَا لَتَغْلِبُنَّ. فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. بِآياتِنا: هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ. بَيِّناتٍ: أَيْ وَاضِحَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَارِقٌ مُعْجِزٌ، كَفُّوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَمُعَارَضَتِهِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْبُهْتِ وَالْكَذِبِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ سِحْرٌ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّيْءَ عَلَى حَالَةٍ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، فَزَعَمُوا أَنَّهُ سِحْرٌ يَفْتَعِلُهُ مُوسَى وَيَفْتَرِيهِ عَلَى اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ. ثُمَّ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ سِحْرٌ مُفْتَرًى، وَكَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، أَرَادُوا فِي الْكَذِبِ أَنَّهُمْ مَا سَمِعُوا بِهَذَا فِي آبَائِهِمْ، أَيْ فِي زَمَانِ آبَائِهِمْ وَأَيَّامِهِمْ. وَفِي آبَائِنَا: حَالٌ، أَيْ بِهَذَا، أَيْ بِمِثْلِ هَذَا كَائِنًا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا. وَإِذَا نَفَوُا السَّمَاعَ لِمِثْلِ هَذَا فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ، ثَبَتَ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُوسَى هُوَ بِدْعٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ، وطرق سمعهم أَخْبَارَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مُوسَى فِي الزَّمَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ «1» ؟

_ (1) سورة غافر: 40/ 34.

وَلَمَّا رَأَى مُوسَى مَا قَابَلُوهُ بِهِ مِنْ كَوْنِ مَا أَتَى بِهِ سِحْرًا، وَانْتِفَاءَ سَمَاعِ مِثْلِهِ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ، قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، حَيْثُ أَهَّلَهُ لِلرِّسَالَةِ، وَبَعَثَهُ بِالْهُدَى، وَوَعَدَهُ حُسْنَ الْعُقْبَى، وَيَعْنِي بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُونَ لَمْ يُرْسِلْهُ. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِعَدَمِ الْفَلَاحِ، وَهِيَ الظُّلْمُ. وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، حَيْثُ دُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَأُتُوا بِالْمُعْجِزَاتِ، فَادَّعَوُا الْإِلَهِيَّةَ، وَنَسَبُوا ذَلِكَ الْمُعْجِزَ إِلَى السِّحْرِ. وَعَاقِبَةُ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِلْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ، فَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَحْمُودَةِ، فَإِنْ لَمْ تُقَيَّدْ، حُمِلَتْ عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ «1» ؟ وَقَالَ: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ «2» وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ مُوسَى، بِغَيْرِ وَاوٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْوَاوِ. وَمُنَاسَبَةُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقَالَ مُوسَى: كَيْتَ وَكَيْتَ فَيَتَمَيَّزُ النَّاظِرُ فَصْلَ مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادَ أَحَدِهِمَا، إِذْ قَدْ تَقَابَلَا، فَيَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ قَوْلَ مُوسَى هُوَ الْحَقُّ وَالْهُدَى. وَمُنَاسَبَةُ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، أَنَّهُ مَوْضِعُ قِرَاءَةٍ لَمَّا قَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ مُوسَى: كَيْتَ وَكَيْتَ. وَنَفَى فِرْعَوْنُ عِلْمَهُ بِإِلَهٍ غَيْرِهِ لِلْمَلَأِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْيَ وَجُودِهِ، أَيْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ إِلَهٌ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ مَظْنُونٌ، فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَهُوَ الْكَاذِبُ فِي انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِإِلَهٍ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ حَالَةَ غَرَقِهِ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ «3» ؟ وَاسْتَمَرَّ فِرْعَوْنُ فِي مَخْرَقَتِهِ، وَنَادَى وَزِيرَهُ هَامَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوقِدَ النَّارَ عَلَى الطِّينِ. قِيلَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْآجُرَّ، وَلَمْ يَقُلِ: اطْبُخِ الْآجُرَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِهَامَانَ عِلْمٌ بِذَلِكَ، فَفِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ مَا يَصْنَعُ. فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً: أَيِ ابن لي، لعل أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى. أَوْهَمَ قَوْمَهُ أَنَّ إِلَهَ مُوسَى يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَالِمٌ مُتَيَقَّنٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ لَهُ وَقَوْمُهُ لِغَبَاوَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَإِفْرَاطِ عَمَايَتِهِمْ، يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَنَفْسُ إِقْلِيمِ مِصْرَ يَقْتَضِي لِأَهْلِهِ تَصْدِيقَهُمْ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ وَتَأَثُّرَهُمْ لِلْمُوهِمَاتِ وَالْخَيَالَاتِ، وَلَا يُشَكُّ إِنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمٍ فِرْعَوْنَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ مَخَافَةَ سَطْوِهِ وَاعْتِدَائِهِ. كَمَا رَأَيْنَاهُ يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ، إِذَا حَدَّثَ رَئِيسٌ بِحَضْرَتِهِ بِحَدِيثٍ مُسْتَحِيلٍ، يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ. وَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ الصَّرْحِ عَلَى أَنَّهُ بُنِيَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: بَنَاهُ، وَذَكَرَ مَنْ وَصَفَهُ بِمَا

_ (1) سورة الرعد: 13/ 22- 23. (2) سورة الرعد: 13/ 42. (3) سورة يونس: 10/ 90. [.....]

اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَقِيلَ: لَمْ يُبْنَ. وَاطَّلَعَ فِي معنى: اطلع، يُقَالُ: طَلَعَ إِلَى الْجَبَلِ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ صَعِدَ، فَافْتَعَلَ فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ وَبِغَيْرِ الْحَقِّ، إِذْ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَهُمْ مُبْطِلُونَ فِي اسْتِكْبَارِهِمْ، حَيْثُ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْكِبْرِيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَنَافِعٌ: لا يرجون، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَالْأَرْضِ هُنَا أَرْضُ مِصْرَ. فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ: كِنَايَةٌ عَنْ إِدْخَالِهِمْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى غَرِقُوا، شُبِّهُوا بِحَصَيَاتٍ. قَذَفَهَا الرَّامِي مِنْ يَدِهِ، وَمِنْهُ نَبْذُ النَّوَاةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: نَظَرْتُ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلًا مِنْ نِعَالِكَ بَالِيًا وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ وَفِرْعَوْنُ، وَإِنْ سَارُوا إِلَى الْبَحْرِ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ مَا ضَمَّهُمْ مِنَ الْقَدْرِ السَّابِقِ، وَإِغْرَاقِهِمْ فِي الْبَحْرِ، هُوَ نَبْذُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى: صَيَّرَ، أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ أَئِمَّةً قُدْوَةً لِلْكُفَّارِ يَقْتَدُونَ بِهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ لِلْخَيْرِ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ، اشْتَهَرُوا بِذَلِكَ وَبَقِيَ حَدِيثُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلْنَاهُمْ: دَعَوْنَاهُمْ، أَئِمَّةً: دُعَاةً إِلَى النَّارِ، وَقُلْنَا: إِنَّهُمْ أئمة دعاة إلى النار، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جَعَلَهُ بَخِيلًا وَفَاسِقًا إِذَا دَعَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ بَخِيلٌ وَفَاسِقٌ. وَيَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ فِسْقِهِ وَبُخْلِهِ: جَعَلَهُ بَخِيلًا وَفَاسِقًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1» . وَمَعْنَى دَعَوْتِهِمْ إِلَى النَّارِ: دَعْوَتُهُمْ إِلَى مُوجِبَاتِهَا مِنَ الْكُفْرِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا فَسَّرَ جَعَلْنَاهُمْ بِمَعْنَى دَعَوْنَاهُمْ، لَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَاهُمْ، جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ مِنَ الِاعْتِزَالِ، لِأَنَّ فِي تَصْيِيرِهِمْ أَئِمَّةً، خَلْقُ ذَلِكَ لَهُمْ. وَعَلَى مذهب المعتزلة، لا يجوّزون ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ خَذَلْنَاهُمْ حَتَّى كَانُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، وَمَعْنَى الْخِذْلَانِ: مَنْعُ الْأَلْطَافِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُهَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِيهِ، وَهُوَ الْمُصَمِّمُ عَلَى الْكُفْرِ، الَّذِي لَا تُغْنِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ أَيْضًا. لَعْنَةً: أَيْ طَرْدًا وَإِبْعَادًا، وَعُطِفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى: فِي هذِهِ الدُّنْيا. مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الْهَالِكِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ الْمُشَوَّهِينَ الْخِلْقَةِ، لِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُبْعَدِينَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا آلَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَإِغْرَاقِهِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَهُوَ أَوَّلُ كِتَابٍ أنزلت فيه الفرائض وَالْأَحْكَامُ. مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى: قَوْمُ نوح وهود

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 19.

وَصَالِحٍ وَلُوطٍ، وَيُقَالُ: لَمْ تَهْلِكْ قَرْيَةٌ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ غَيْرُ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخَ أَهْلُهَا قِرَدَةً. وَانْتَصَبَ بَصَائِرَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ طَرَائِقَ هُدًى يُسْتَبْصَرُ بِهَا. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ، قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لَمَّا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْبَاءِ مُوسَى وَغَرَائِبِ مَا جَرَى لَهُ مِنْ الْحَمْلِ بِهِ فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، وَرَمْيِهِ فِي الْبَحْرِ فِي تَابُوتٍ، وَرَدِّهِ إِلَى أُمِّهِ، وَتَبَنِّي فِرْعَوْنَ لَهُ، وَإِيتَائِهِ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ، وَقَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ، وَخُرُوجِهِ مِنْ مَنْشَئِهِ فَارًّا، وَتَصَاهُرِهِ مَعَ شُعَيْبٍ، وَرَعْيِهِ لِغَنَمِهِ السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ، وَعَوْدِهِ إِلَى مِصْرَ، وَإِضْلَالِهِ الطَّرِيقَ، وَمُنَاجَاةِ اللَّهِ لَهُ، وَإِظْهَارِ تَيْنِكَ الْمُعْجِزَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ عَلَى يَدَيْهِ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَأَمْرِهِ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَمُحَاوَرَتِهِ مَعَهُ، وَتَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ وَإِهْلَاكِهِ وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَالِامْتِنَانِ عَلَى مُوسَى بِإِيتَائِهِ التَّوْرَاةَ وَأَوْحَى تَعَالَى بِجَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَهُ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَبِمَا خَصَّهُ مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي كَانَ لَا يَعْلَمُهَا لَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ فَقَالَ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ. وَالْأَمْرُ، قِيلَ: النُّبُوَّةُ وَالْحُكْمُ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ مُوسَى. وَقِيلَ: الْأَمْرُ: أَمْرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَلْتَئِمُ مَعَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً. وَقِيلَ: الْأَمْرُ: هَلَاكُ فِرْعَوْنَ بِالْمَاءِ، وَيُحْمَلُ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى الْيَمِّ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِنَفْيِ شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ وَقْتَ قَضَاءِ اللَّهِ لِمُوسَى الْأَمْرَ، ثُمَّ ثَنَّى بِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنَ الشَّاهِدِينَ بِجَمِيعِ مَا أَعْلَمْنَاكَ بِهِ، فَهُوَ نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ جَمِيعَ مَا جَرَى لِمُوسَى، فَكَانَ عُمُومًا بَعْدَ خُصُوصٍ. وَبِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ: مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَمِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ عِنْدَ قَوْمٍ. فَعَلَى

الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَصِلُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَعَلَى الثَّانِي أَصْلُهُ بِجَانِبِ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَالْغَرْبِيُّ، قَالَ قَتَادَةُ: غَرْبِيُّ الْجَبَلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى بِالْغَرْبِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: حَيْثُ تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ. وَقِيلَ: هُنَا جَبَلٌ غَرْبِيٌّ. وَقِيلَ: الْغَرْبِيُّ مِنَ الْوَادِي، وَقِيلَ: مِنَ الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى: لَمْ تَحْضُرْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الْغُيُوبَ الَّتِي تُخْبَرُ بِهَا، وَلَكِنَّهَا صَارَتْ إِلَيْكَ بِوَحْيِنَا، أَيْ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُسَارَعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ، وَلَكِنْ تَطَاوَلَ الْأَمْرُ عَلَى الْقُرُونِ الَّتِي أَنْشَأْنَاهَا زَمَنًا زَمَنًا، فَعَزَبَتْ حُلُومُهُمْ، وَاسْتَحْكَمَتْ جَهَالَتُهُمْ وَضَلَالَتُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَرْبُ: الْمَكَانُ الْوَاقِعُ فِي شِقِّ الْغَرْبِ، وَهُوَ الْمَكَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِيقَاتُ مُوسَى مِنَ الطَّوْرِ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ. وَالْأَمْرُ الْمَقْضِيُّ إِلَى مُوسَى: الْوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: وَمَا كُنْتَ حَاضِرًا الْمَكَانَ الَّذِي أَوْحَيْنَا فِيهِ إِلَى مُوسَى، وَلَا كُنْتَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّاهِدِينَ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْوَحْيِ إِلَيْهِ، وَهُمْ نُقَبَاؤُهُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لِلْمِيقَاتِ، حَتَّى نَقِفَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ مُوسَى فِي مِيقَاتِهِ، وَكَتْبِ التَّوْرَاةِ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً بِهَذَا الْكَلَامِ، وَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَكُونُ اسْتِدْرَاكًا؟ قُلْتُ: اتِّصَالُهُ بِهِ وَكَوْنُهُ اسْتِدْرَاكًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا بَعْدَ عَهْدِ الْوَحْيِ إِلَى عَهْدِكَ قُرُونًا كَثِيرَةً، فَتَطَاوَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِمْ. الْعُمُرُ: أَيْ أَمَدُ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَانْدَرَسَتِ الْعُلُومُ، فَوَجَبَ إِرْسَالُكَ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلْنَاكَ وَكَسَّبْنَاكَ الْعِلْمَ بِقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَقِصَّةِ مُوسَى، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا كُنْتَ شَاهِدًا لِمُوسَى وَمَا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، فَذَكَرَ سَبَبَ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ إِطَالَةُ النَّظِرَةِ، وَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمُسَبَّبِ عَلَى عَادَةِ اللَّهِ فِي اخْتِصَارِهِ. فَإِذَنْ، هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ شَبِيهٌ لِلِاسْتِدْرَاكَيْنِ بَعْدَهُ. وَما كُنْتَ ثاوِياً: أَيْ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، هُمْ شُعَيْبٌ وَالْمُؤْمِنُونَ. تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا: تَقْرَأُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمًا مِنْهُمْ، يُرِيدُ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا قِصَّةُ شُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ. وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاكَ وَأَخْبَرْنَاكَ بِهَا وَعَلَّمْنَاكَهَا. إِذْ نادَيْنا، يُرِيدُ مُنَادَاةَ مُوسَى لَيْلَةَ الْمُنَاجَاةِ وَتَكْلِيمِهِ، وَلَكِنْ عَلَّمْنَاكَ. وَقِيلَ: فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، وَفَتَرَتِ النُّبُوَّةُ، وَدَرَسَتِ الشَّرَائِعُ، وَحُرِّفَ كَثِيرٌ مِنْهَا وَتَمَامُ الْكَلَامِ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَرْسَلْنَاكَ مُجَدِّدًا لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ، مُمَيِّزًا لِلْحَقِّ بِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْهَا، رَحْمَةً مِنَّا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المعنى: وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُوسَى قُرُونٌ تَطَاوَلَتْ أَعْمَارُهُمْ، وَأَنْتَ تُخْبِرُ الْآنَ عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ إِخْبَارَ مُشَاهَدَةٍ وَعَيَانٍ بِإِيحَائِنَا، مُعْجِزَةً لَكَ. وَقِيلَ: تَتْلُو حَالٌ، وَقِيلَ: مُسْتَأْنِفٌ، أَيْ أَنْتَ الْآنَ تَتْلُو قِصَّةَ

شُعَيْبٍ، وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاكَ رَسُولًا، وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِيهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمَنْسِيَّةُ تَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَاكَ مَا أَخْبَرْتُهُمْ بِمَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ مَعَ مُوسَى، فَتَرَاهُ وَتَسْمَعُ كَلَامَهُ، وها أنت تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا: أَيْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ. انْتَهَى. قِيلَ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَمَا مَعْنَى: وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّقْدِيرُ: لَمْ تَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَلَوْ حَضَرْتَ، فَمَا شَاهَدْتَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ: وَلَا يَشْهَدُ وَلَا يَرَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يَشْهَدْ أَهْلَ مَدْيَنَ فَيَقْرَأُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ، وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَلِمْتَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَكُنِ الرَّسُولَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرُكَ، وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ رَسُولًا، فَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ شُعَيْبًا، وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَى الْعَرَبِ لِتَكُونَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ. انْتَهَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِذْ نادَيْنا بأن: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «1» الآية. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ نُودِيَ مِنَ السَّمَاءِ حِينَئِذٍ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ اسْتَجَبْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، فَحِينَئِذٍ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. فَالْمَعْنَى: إِذْ نَادَيْنَا بِأَمْرِكَ، وَأَخْبَرْنَاكَ بِنُبُوَّتِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَحْمَةً، بِالنَّصْبِ، فَقُدِّرَ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاكَ رَحْمَةً، وَقُدِّرَ أَعْلَمْنَاكَ وَنَبَّأْنَاكَ رحمة. وقرأ عيسى، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِالرَّفْعِ، وَقَدَّرَ: وَلَكِنْ هُوَ رَحْمَةٌ، أَوْ هُوَ رَحْمَةٌ، أَوْ أَنْتَ رَحْمَةٌ. لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ: أَيْ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِيسَى، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ عَامًا وَنَحْوُهُ. وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ. وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ، إِذْ عُوقِبُوا بِمَا قَدَّمُوا مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا؟ مُحْتَجِّينَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ: أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ إِزَالَةً لِهَذَا الْعُذْرِ، كَمَا قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «2» ، أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ «3» . وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ: لَعَاجَلْنَاهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ. وَالْمُصِيبَةُ: الْعَذَابُ. وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِالْأَيْدِي، عُبِّرَ عَنْ كُلِّ عَمَلٍ بِاجْتِرَاحِ الْأَيْدِي، حَتَّى أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، اتِّسَاعًا فِي الْكَلَامِ، وَتَصْيِيرَ الْأَقَلِّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ، وَتَغْلِيبَ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ. وَالْفَاءُ فِي فَيَقُولُوا لِلْعَطْفِ على نصيبهم، ولولا الثانية للتحضيض. وفنتبع: الْفَاءُ فِيهِ جَوَابٌ لِلتَّحْضِيضِ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 157. (2) سورة النساء: 4/ 165. (3) سُورَةِ الْمَائِدَةِ: 5/ 19.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اسْتَقَامَ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ جُعِلَتِ الْعُقُوبَةُ هِيَ السَّبَبُ فِي الْإِرْسَالِ لَا الْقَوْلُ لِدُخُولِ حَرْفِ الِامْتِنَاعِ عَلَيْهَا دُونَهُ؟ قُلْتُ: الْقَوْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَلَكِنَّ الْعُقُوبَةَ، لِمَا كَانَتْ هِيَ السَّبَبَ لِلْقَوْلِ، فَكَانَ وُجُودُهُ بِوُجُودِهَا، جُعِلَتِ الْعُقُوبَةُ كَأَنَّهَا سَبَبُ الْإِرْسَالِ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ، فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهَا لَوْلَا، وَجِيءَ بِالْقَوْلِ مَعْطُوفًا عَلَيْهَا بِالْفَاءِ الْمُعْطِيَةِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهَا إِلَى قَوْلِكَ: وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ هَذَا، إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ «1» لَمَا أَرْسَلْنَا، وَلَكِنِ اخْتِيرَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ لِنُكْتَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُعَاقَبُوا مَثَلًا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَقَدْ عَايَنُوا مَا أُلْجِئُوا بِهِ إِلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِ. لَمْ يقولو: لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا هُوَ الْعِقَابُ لَا غَيْرَ، لَا التَّأَسُّفُ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِخَالِقِهِمْ. وَفِي هَذَا مِنَ الشَّهَادَةِ الْقَوِيَّةِ عَلَى اسْتِحْكَامِ كُفْرِهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِيهِ مَا لَا يَخْفَى، كَقَوْلِهِمْ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «2» . انتهى. الْحَقُّ: هُوَ الرَّسُولُ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَ بِالْكِتَابِ الْمُعْجِزِ الَّذِي قَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلُ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَانْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً، وَفَلْقَ الْبَحْرِ، وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ. اقْتَرَحُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ، كَمَا قَالُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمُقْتَرَحَاتِ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَالُوهَا هِيَ مِنْ تَعْلِيمِ الْيَهُودِ لِقُرَيْشٍ، قَالُوا لَهُمْ. أَلَا يَأْتِيَ بِآيَةٍ بَاهِرَةٍ كَآيَاتِ مُوسَى، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ فِي آيَاتِ مُوسَى مَا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي آيَاتِ الرَّسُولِ. فَالضَّمِيرُ فِي: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا لِلْيَهُودِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الْعَرَبُ بِالتَّعْلِيمِ، كَمَا قُلْنَا. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَيَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا أُوتِيَ: أي محمد، بِما أُوتِيَ مُوسى، وَذَلِكَ أَنَّ تكذبيهم لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْذِيبٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنِسْبَتُهُمُ السِّحْرَ لِلرَّسُولِ نِسْبَةُ السِّحْرِ لِمُوسَى، إِذِ الْأَنْبِيَاءُ هُمْ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. فَمَنْ نَسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَا يَلِيقُ، كَانَ نَاسِبًا ذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَتَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا فِي هَذَا، فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنَ الْقَوْلِ أَنَّهُ النُّطْقُ اللِّسَانِيُّ، فَقَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنْكَارُ النُّبُوَّاتِ، مُعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا، يَعْنِي آبَاءَ جِنْسِهِمْ، وَمَنْ مَذْهَبُهُمْ مَذْهَبُهُمْ، وَعِنَادُهُمْ عِنَادُهُمْ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ فِي زَمَنِ مُوسَى بِما أُوتِيَ مُوسى. وَعَنِ الْحَسَنِ: قَدْ كَانَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 156، وسورة النساء: 4/ 62. (2) سورة الأنعام: 6/ 28.

لِلْعَرَبِ أَصْلٌ فِي أَيَّامِ مُوسَى، فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا: أو لم يَكْفُرْ آبَاؤُهُمْ؟ قَالُوا فِي موسى وهارون: سِحْرانِ تَظاهَرا، أَيْ تَعَاوَنَا. انْتَهَى. ومن قيل: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ يَكْفُرُوا، وبِما أُوتِيَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَاحِرَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مُوسَى وَهَارُونُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُوسَى وَعِيسَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْكُوفِيُّونَ: سِحْرَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، أَوْ مُوسَى وَهَارُونُ جُعِلَا سِحْرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. تَظاهَرا: تَعَاوَنَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَظَاهَرَا: فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: اظَّاهَرَا، بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَشَدِّ الظَّاءِ، وَكَذَا هِيَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَصْلُهُ تَظَاهَرَا، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الظَّاءِ، فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِأَجْلِ سُكُونِ التَّاءِ الْمُدْغَمَةِ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو خَلَّادٍ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: تَظَاهَرَا بِالتَّاءِ، وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَتَشْدِيدُهُ لَحْنٌ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَإِنَّمَا يُشَدِّدُ فِي الْمُضَارِعِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ فِي الْقِرَاءَاتِ: وَلَا مَعْنَى لَهُ. انْتَهَى. وَلَهُ تَخْرِيجٌ فِي اللِّسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُضَارِعٌ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونَ، وَقَدْ جَاءَ حَذْفُهَا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ وَفِي الشِّعْرِ، وَسَاحِرَانِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمَا سَاحِرَانِ تَتَظَاهَرَانِ ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ وَحُذِفَتِ النُّونُ، وَرُوعِيَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ. ولو قرىء: يَظَّاهَرَا، بِالْيَاءِ، حَمْلًا عَلَى مُرَاعَاةِ سَاحِرَانِ، لَكَانَ لَهُ وجه، أو على تقدير هما سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا. وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ: أَيْ بِكُلٍّ مِنَ السَّاحِرَيْنِ أَوِ السِّحْرَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَصْدَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا: أَيْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، بِهَذِهِ الْكُتُبِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَنَهَتْ عَنِ الْكُفْرِ وَالنَّقَائِصِ، وَوَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ. إِنْ كَانَ تَكْذِيبُكُمْ لِمَعْنًى فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَهْدِي أَكْثَرَ مِنْ هُدَى هَذِهِ، أَتَّبِعْهُ مَعَكُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، وَعَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَتَعْلِيقُ إِتْيَانِهِمْ بِشَرْطِ الصِّدْقِ أَمْرٌ مُتَحَقِّقٌ مُتَيَقَّنٌ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَا يُمْكِنُ صِدْقُهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَكُونُ أَهْدَى مِنَ الْكِتَابَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّرْطِ التَّهَكُّمُ بِهِمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أتبعه، برفع العين الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ أَنَا أَتَّبِعُهُ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ هُوَ أَفْضَلُ، وَالِاسْتِجَابَةُ تَقْتَضِي دُعَاءً، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو دَائِمًا إِلَى

الْإِيمَانِ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ بَعْدَ مَا وَضَحَ لَهُمْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُكَ الَّذِي أُنْزِلَ، أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِكِتابٍ، هُوَ الدُّعَاءَ إِذْ هُوَ طَلَبٌ مِنْهُمْ وَدُعَاءٌ لَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا اتِّبَاعُ هَوًى مُجَرَّدٍ، لَا اتِّبَاعَ دَلِيلٍ. وَاسْتَجَابَ: بِمَعْنَى أَجَابَ، وَيُعَدَّى لِلدَّاعِي بِاللَّامِ وَدُونِهَا، كَمَا قَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ «1» ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى «2» ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ «3» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبٌ فَعَدَّاهُ بِغَيْرِ لَامٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا الْفِعْلُ يَتَعَدَّى إِلَى الدُّعَاءِ وَإِلَى الدَّاعِي بِاللَّامِ، وَيُحْذَفُ الدُّعَاءُ إِذَا عُدِّيَ إِلَى الدَّاعِي فِي الْغَالِبِ، فَيُقَالُ: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَاسْتَجَابَ لَهُ، فَلَا يَكَادُ يُقَالُ اسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ. وَأَمَّا الْبَيْتُ فَمَعْنَاهُ: فَلَمْ يَسْتَجِبْ دُعَاءً، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. انْتَهَى. وَمَنْ أَضَلُّ: أَيْ لَا أحد أضل، وبِغَيْرِ هُدىً: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذَا الْحَالُ قَيْدٌ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّبِعُ الْإِنْسَانُ مَا يَهْوَاهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي يَهْوَاهُ فِيهِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْأَهْوَاءَ كُلَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ فِيهِ هُدًى وَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ هُدًى، فَلِذَلِكَ قُيِّدَ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي مَخْذُولًا مُخْلًى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَوَاهُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصَّلْنا، مُشَدَّدُ الصَّادِ وَالْحَسَنُ: بِتَخْفِيفِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ لِقُرَيْشٍ. وَقَالَ رِفَاعَةُ الْقُرَظِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، أَنَا أَحَدُهُمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَصَّلْنَا: تَابَعْنَا الْقُرْآنَ مَوْصُولًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْمَوَاعِظِ وَالزَّجْرِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الإسلام. وقال

_ (1) سورة يوسف: 12/ 34. (2) سورة الأنبياء: 21/ 90. (3) سورة هود: 11/ 14.

الْحَسَنُ: وَفِي ذِكْرِ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلْنَاهُ أَوْصَالًا مِنْ حَيْثُ كَانَ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَصَّلْنَا لَهُمْ خَبَرَ الْآخِرَةِ بِخَبَرِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَايَنُوا الْآخِرَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَتْمَمْنَا لِوَصْلِكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، وَأَصْلُ التَّوَصُّلِ فِي الْحَبْلِ، يُوَصَّلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ مَا بَالُ ذِمَّتِي ... بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ لَا يَزَالُ يُوَصَّلُ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَعْنَاهَا: تَوْصِيلُ الْمَعَانِي فِيهِ بِهَا إِلَيْهِمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: التَّوْصِيلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَلْفَاظِ، أَيْ وَصَّلْنَا لَهُمْ قَوْلًا مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى نُبُوَّتِكَ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمَتْ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يُؤْذُونَهُمْ. أَوْ بَحِيرَا الرَّاهِبُ، أَوِ النَّجَاشِيُّ، أَوْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَابْنُ سَلَامٍ، وَأَبُو رَفَاعَةَ، وَابْنُهُ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا. أَوْ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ أَقْبَلُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَثَمَانِيَةٌ قَدِمُوا مِنَ الشَّامِ: بَحِيرَا، وَأَبْرَهَةُ، وَأَشْرَفُ، وَأَرْبَدُ، وَتَمَّامٌ، وإدريس، ونافع، وتميم وقيل ابْنُ سَلَامٍ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَالْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، وَسَلْمَانُ، سَبْعَةُ أَقْوَالٍ آخِرُهَا لِقَتَادَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَمْثِلَةٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَقَالَ أَيْضًا: إِنْ عَادَ عَلَى الْقُرْآنِ، كَانَ صَوَابًا، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا. انْتَهَى. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا: تَعْلِيلٌ لِلْإِيمَانِ بِهِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ حَقِيقٌ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِهِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ: بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِهِ، أَيْ إِيمَانُنَا بِهِ مُتَقَادِمٌ، إِذْ كَانَ الْآبَاءُ الْأَقْدَمُونَ إِلَى آبائنا قرأوا مَا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَأَعْلَمُوا بِذَلِكَ الْأَبْنَاءَ، فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ وَتِلَاوَتِهِ عَلَيْنَا، وَالْإِسْلَامُ صِفَةُ كُلِّ مُوَحِّدٍ مُصَدِّقٍ بِالْوَحْيِ. وَإِيتَاءُ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ، لِكَوْنِهِ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَبِالْقُرْآنِ وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِصَبْرِهِمْ: أَيْ عَلَى تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ السَّابِقَةِ لَهُمْ، وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ وَمَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتِيهِمُ اللَّهُ أَجَرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكتاب آمن بنبيه وآمن بي» ، الحديث. وَيَدْرَؤُنَ: يَدْفَعُونَ، بِالْحَسَنَةِ: بِالطَّاعَةِ، السَّيِّئَةَ: الْمَعْصِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، أَوْ بِالْحِلْمِ الْأَذَى، وَذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَدْفَعُونَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الشِّرْكِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِالْمَعْرُوفِ الْمُنْكَرَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِالْخَيْرِ الشَّرَّ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: بِالْعِلْمِ الْجَهْلَ، وَبِالْكَظْمِ الْغَيْظَ. وَفِي وَصِيَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمُعَاذٍ: «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حسن» . واللَّغْوَ: سَقْطُ الْقَوْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَذَى وَالسَّبُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الشِّرْكُ. وَقَالَ ابْنُ

زَيْدٍ: مَا غَيَّرَتْهُ الْيَهُودُ مِنْ وَصْفِ الرَّسُولِ، سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَأَعْرَضُوا. وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ: خِطَابٌ لِقَائِلِ اللَّغْوِ الْمَفْهُومِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: سَلَامُ متاركة لإسلام تَحِيَّةٍ. لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ: أَيْ لَا نَطْلُبُ مُخَالَطَتَهُمْ. إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ: أَيْ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْهِدَايَةِ فِيهِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» ، لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا: وَإِنَّكَ لَتُرْشِدُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَحَدِيثُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَالَةَ أَنْ مَاتَ، مَشْهُورٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَقْدِرُ أَنْ تُدْخِلَ فِي الْإِسْلَامِ كُلَّ مَنْ أَحْبَبْتَ، لِأَنَّكَ لَا تَعْلَمُ الْمَطْبُوعَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الَّذِي عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَطْبُوعٍ عَلَى قَلْبِهِ، وَأَنَّ الْأَلْطَافَ تَنْفَعُ فِيهِ، فَتُقَرِّبُ بِهِ أَلْطَافُهُ حَتَّى يَدْعُوهُ إِلَى الْقَبُولِ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ: بِالْقَابِلِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي أَمْرِ الْأَلْطَافِ. وَقَالُوا: الضَّمِيرُ فِي وَقَالُوا لِقُرَيْشٍ. وَقِيلَ، القائل الحارث بْنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ، وَلَكِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ وَخَالَفْنَا الْعَرَبَ، فَذَلِكَ وَإِنَّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ، أَيْ قَلِيلُونَ أَنْ يَتَخَطَّفُونَا مِنْ أَرْضِنَا. وَقَوْلُهُمْ: الْهُدى مَعَكَ: أَيْ عَلَى زعمك، فقطع الله حجتهمم، إِذْ كَانُوا، وَهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ، عُبَّادَ أَصْنَامٍ قَدْ أَمِنُوا فِي حَرَمِهِمْ، وَالنَّاسُ فِي غَيْرِهِ يَتَقَاتَلُونَ، وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي بَلَدٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، يَجِيءُ إِلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ مِنَ الْأَقْوَاتِ، فَكَيْفَ إِذَا آمَنُوا وَاهْتَدَوْا؟ فَهُوَ تَعَالَى يُمَهِّدُ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَيُمَلِّكُهُمُ الْأَرْضَ، كَمَا وَعَدَهُمْ تَعَالَى، وَوَقَعَ مَا وَعَدَ بِهِ وَوَصْفُ الْحَرَمِ بِالْأَمْنِ مَجَازٌ، إِذِ الْآمِنُونَ فيه هم ساكنوه. وثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ: عَامٌّ مَخْصُوصٌ، يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ. وَقَرَأَ الْمِنْقَرِيُّ: يُتَخَطَّفُ، بِرَفْعِ الْفَاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ «2» ، بِرَفْعِ الْكَافِ، أَيْ فَيُدْرِكُكُمْ، أَيْ فَهُوَ يُدْرِكُكُمْ. وَقَوْلُهُ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا: أَيْ فَيُتَخَطَّفُ، وَفَاللَّهُ يَشْكُرُهَا، وَهُوَ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَجَمَاعَةٌ، عَنْ يَعْقُوبَ وَأَبُو حَاتِمٍ، عَنْ عَاصِمٍ: تُجْبَى، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَرَاتُ، بِفَتْحَتَيْنِ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: بِضَمَّتَيْنِ وَبَعْضُهُمْ: بِفَتْحِ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ. وَانْتَصَبَ رِزْقًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلِهِ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ: أَيْ بِرِزْقِ ثَمَرَاتٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَفَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ مَحْذُوفٌ، أَيْ نَسُوقُ إِلَيْهِ ثمرات كل

_ (1) سورة الشورى: 42/ 52. (2) سورة النساء: 4/ 78.

شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ لَيْسَ مَصْدَرًا، بَلْ بِمَعْنَى الْمَرْزُوقِ، جَازِ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ ثَمَرَاتٍ، وَيَحْسُنُ ذلك تخصيصا بالإضافة. وأَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: أَيْ جَهَلَةٌ، بِأَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ هُوَ مِنْ عِنْدِنَا. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ، وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ، وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. هَذَا تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ قَوْمٍ كَانُوا فِي مِثْلِ حَالِهِمْ مِنْ إِنْعَامِ اللَّهِ عليم بِالرُّقُودِ فِي ظِلَالِ الْأَمْنِ وخفض العيش، فعظموا النِّعْمَةَ، وَقَابَلُوهَا بِالْأَشَرِ وَالْبَطَرِ، فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ. ومَعِيشَتَها مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَوْ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ، عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِهِمْ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى تَضْمِينِ بَطِرَتْ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، أَيْ خَسِرَتْ مَعِيشَتَهَا، عَلَى مَذْهَبِ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ فِي، أَي فِي مَعِيشَتِهَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَوْ عَلَى الظَّرْفِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَيَّامَ مَعِيشَتِهَا، كَقَوْلِكَ: جِئْتُ خَفُوقَ النَّجْمِ، عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ: أَشَارَ إِلَيْهَا، أَيْ تَرَوْنَهَا خَرَابًا، تَمُرُّونَ عَلَيْهَا كَحِجْرِ ثَمُودَ، هَلَكُوا وَفَنَوْا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَسَاكِنِ. وتُسْكَنْ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَسَاكِنِ، أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهَا سُكِنَ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ تُسْكَنْ: أَيْ إِلَّا سُكْنَى قَلِيلًا، أَيْ لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُ وَمَارُّ الطَّرِيقِ. وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ: أَيْ لِتِلْكَ الْمَسَاكِنِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ «1» ، خَلَتْ مِنْ سَاكِنِيهَا فَخَرِبَتْ. تَتَخَلَّفُ الْآثَارُ عَنْ أَصْحَابِهَا ... حِينًا وَيُدْرِكُهَا الْفَنَاءُ فَتَتْبَعُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرَى عَامَّةٌ فِي الْقُرَى الَّتِي هَلَكَتْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ. حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّ تِلْكَ الْقُرَى، أَيْ كَبِيرَتِهَا، الَّتِي تَرْجِعُ تِلْكَ الْقُرَى إِلَيْهَا، وَمِنْهَا يَمْتَارُونَ، وَفِيهَا عَظِيمُهُمُ الْحَاكِمُ عَلَى تِلْكَ الْقُرَى. حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا، لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرَى: الْقُرَى الَّتِي فِي عَصْرِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ أم

_ (1) سورة مريم: 19/ 40.

الْقُرَى: مَكَّةَ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَظُلْمُ أَهْلِهَا: هُوَ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ: أَيْ حَسَنٍ يَسُرُّكُمْ وَتَفْخَرُونَ بِهِ، فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها: تُمَتَّعُونَ أَيَّامًا قَلَائِلَ، وَما عِنْدَ اللَّهِ: مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ الْبَاقِي الْمُعَدِّ لِلْمُؤْمِنِينَ، خَيْرٌ. مِنْ مَتَاعِكُمْ، أَفَلا تَعْقِلُونَ: تَوْبِيخٌ لَهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يَعْقِلُونَ، بِالْيَاءِ، إِعْرَاضٌ عَنْ خِطَابِهِمْ وَخِطَابٌ لِغَيْرِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، عَلَى خِطَابِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ، فِي كَوْنِهِمْ أَهْمَلُوا الْعَقْلَ فِي الْعَاقِبَةِ. وَنَسَبَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ إلى أبو عَمْرٍو وَحْدَهُ، وَفِي التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ بَيْنَ الْيَاءِ وَالتَّاءِ، عن أبي عمرو. وقرىء: مَتَاعًا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، أَيْ يُمَتَّعُونَ مَتَاعًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَانْتَصَبَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّرْفِ. أَفَمَنْ وَعَدْناهُ: يَذْكُرُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مَنْ وُعِدَ، وَعْداً حَسَناً، وَهُوَ الثَّوَابُ، فَلَاقَاهُ، وَمَنْ مُتِّعَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُحْضِرَ إِلَى النَّارِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي عَلِيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي عَمَّارٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَغَلَبَ لَفْظُ الْمُحْضَرِ فِي الْمُحْضَرِ إِلَى النَّارِ كَقَوْلِهِ: لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ «1» ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ «2» . وَالْفَاءُ فِي: أَفَمَنْ، لِلْعَطْفِ، لَمَّا ذَكَرَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ مَا أُوتُوا مِنَ الْمَتَاعِ وَالزِّينَةِ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ، قَالَ: أَفَبَعْدَ هَذَا التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِ يُسَوَّى بَيْنَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا؟ وَالْفَاءُ فِي: فَهُوَ لاقِيهِ، لِلتَّسْبِيبِ، لِأَنَّ لِقَاءَ الْمَوْعُودِ مُسَبَّبٌ عَنِ الْوَعْدِ الَّذِي هُوَ الضَّمَانُ فِي الْخَبَرِ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي حَالَ الْإِحْضَارِ عَنْ حَالِ التَّمَتُّعِ بِتَرَاخِي وَقْتِهِ عَنْ وَقْتِهِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: أَمَنْ وَعَدْنَاهُ، بِغَيْرِ فَاءٍ. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ، وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ، وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ، فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 57. (2) سورة الصافات: 37/ 127. [.....]

جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْمُمَتَّعِينَ فِي الدُّنْيَا يُحْضَرُونَ إِلَى النَّارِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ وَاذْكُرْ حَالَهُمْ يَوْمَ يُنَادِيهِمُ اللَّهُ، وَنِدَاؤُهُ إِيَّاهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ؟ أَيْ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَالشُّرَكَاءُ هُمْ مَنْ عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مِنْ مَلَكٍ، أَوْ جِنٍّ، أَوْ إِنْسٍ، أَوْ كَوْكَبٍ، أَوْ صَنَمٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ، أَحَدُهُمَا الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَالتَّقْدِيرُ: تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مُسْكِتًا لَهُمْ، إِذْ تلك الشركاء التي عمدوها مَفْقُودُونَ، هُمْ أُوجِدُوا هُمْ فِي الْآخِرَةِ حَادُوا عَنِ الْجَوَابِ إِلَى كَلَامٍ لَا يُجْدِي. قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: أَيِ الشَّيَاطِينُ، وأئمة الكفر ورؤوسه وحق: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، أَيْ مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «1» . وهؤُلاءِ: مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا: هم صفة، وأَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا: الخبر، وكَما غَوَيْنا: صِفَةٌ لِمُطَاوِعِ أَغْوَيْنَاهُمْ، أَيْ فَغَوَوْا كَمَا غَوَيْنَا، أَيْ تَسَبَّبْنَا لَهُمْ فِي الْغَيِّ فَقَبِلُوا مِنَّا. وَهَذَا الْإِعْرَابُ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَا يَجُوزُ هَذَا الْوَجْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي صِفَةِ الْمُبْتَدَإِ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ وُصِلَتْ بِقَوْلِهِ: كَما غَوَيْنا، وَفِيهِ زِيَادَةٌ. قِيلَ: الزِّيَادَةُ بِالظَّرْفِ لَا تُصَيِّرُهُ أَصْلًا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الظُّرُوفَ صِلَاتٌ، وَقَالَ هُوَ: الَّذِينَ أَغْوَيْنا هو الخبر، وأَغْوَيْناهُمْ: مُسْتَأْنَفٌ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عَلِيٍّ: لَا يَمْتَنِعُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْفَضَلَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَلْزَمُ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ عَمْرٌو قَائِمٌ فِي دَارِهِ. انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ أَتْبَاعُنَا آثَرُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا آثَرْنَاهُ نَحْنُ، وَنَحْنُ كُنَّا السَّبَبَ فِي كُفْرِهِمْ، فَقَبِلُوا مِنَّا. وَقَرَأَ أَبَانٌ، عَنْ عَاصِمٍ وَبَعْضُ الشَّامِيِّينَ: كَمَا غَوِينَا، بِكَسْرِ الْوَاوِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَارًا، لِأَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ: غَوَيْتُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَغَوِيتَ مِنَ الْبَشَمِ. ثُمَّ قَالُوا: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ، مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَنَا، إنما عبدوا غيرنا، وإِيَّانا: مَفْعُولُ يَعْبُدُونَ، لَمَّا تَقَدَّمَ الفصل، وانفصاله لكون

_ (1) سورة هود: 11/ 119، وسورة السجدة: 32/ 13.

يَعْبُدُونَ فَاصِلَةً، وَلَوِ اتَّصَلَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيُطِيعُونَ شَهَوَاتِهِمْ وَإِخْلَاءُ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْعَاطِفِ، لكونهما مقرونين لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى. انْتَهَى. وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ: لَمَّا سُئِلُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ وَأَجَابُوا بِغَيْرِ جَوَابٍ، سُئِلُوا ثَانِيًا فَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، وَأَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ، أَيِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ، هَذَا لِسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ أَيْضًا، إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يُجِيبُهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي وَرَأَوُا. قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ لِلتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَدَّرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِيهِ، أَيْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، مَا رَأَوُا الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ، لَدَفَعُوا بِهِ الْعَذَابَ. وَقِيلَ: لَعَلِمُوا أَنَّ الْعَذَابَ حَقٌّ. وَقِيلَ: لَتَحَيَّرُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِنْ فَظَاعَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبُوا بِهِ، وَقِيلَ: مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا عَابِدِينَ الْأَصْنَامَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مَحْذُوفٍ، وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ إِذَا خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، اشْتَدَّ خَوْفُهُمْ وَلَحِقَهُمْ شَيْءٌ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا، لَاَ جَرَمَ مَا رَأَوُا الْعَذَابَ. وَثَانِيهَا: لَمَّا ذَكَرَ الشُّرَكَاءَ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ، قَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَرَأَوُا الْعَذابَ، لَوْ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ الْمُهْتَدِينَ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَا جَرَمَ مَا رَأَتِ الْعَذَابَ. وَالضَّمِيرُ فِي رَأَوُا، وَإِنْ كَانَ لِلْعُقَلَاءِ، فَقَدْ قَالَ: وَدَعَوْهُمْ وَهُمْ لِلْعُقَلَاءِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَأَوُا عَائِدٌ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ، قَالَ: وَهُمُ الْأَصْنَامُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الدَّاعِينَ، كَقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ «1» ، وَلِأَنَّ حَمْلَ مُهْتَدِينَ عَلَى الْأَحْيَاءِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ مَا قَدَّرَهُ هُوَ جَوَابٌ، وَلَا يُشْعَرُ بِهِ أَنَّهُ جَوَابٌ، إِذْ صَارَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: لَوْ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ رَأَوُا الْعَذَابَ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَلَا تَرَى الْعَذَابَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَلَا جَرَمَ مَا رَأَتِ الْعَذَابَ؟ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ: هَذَا النِّدَاءُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. حَكَى أَوَّلًا مَا يُوَبِّخُهُمْ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ لَهُ شُرَكَاءَ، ثُمَّ مَا يقوله رؤوس الْكُفْرِ عِنْدَ تَوْبِيخِهِمْ، ثُمَّ اسْتِعَانَتِهِمْ بِشُرَكَائِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ لَهُمْ وَعَجْزِهِمْ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، ثُمَّ مَا يُبَكَّتُونَ بِهِ مِنْ الاحتجاج

_ (1) سورة البقرة: 2/ 166.

عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِزَالَةِ الْعِلَلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعَمِيَتْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَجَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَظَلَمَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُخْبِرُوا بِمَا فِيهِ نَجَاةٌ لَهُمْ، وَأَتَى بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ: يَسَّاءَلُونَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ: أَيْ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا يتحاجون به، إذا أَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ، فَهُمْ فِي عَمًى وَعَجْزٍ عَنِ الْجَوَابِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّبَأِ: الْخَبَرُ عَمَّا أَجَابَ بِهِ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ رَسُولَهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْوَالَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِيهِ، أَخْبَرَ بِأَنَّ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَإِنَّهُ مَرْجُوٌّ لَهُ الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ لِلْكَافِرِ فِي الْإِسْلَامِ، وَضَمَانٌ لَهُ لِلْفَلَاحِ. وَيُقَالُ: إِنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنَ اسْتِغْرَابِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» ، وَقَائِلُ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ وَاخْتَارُوهُمْ لِلشَّفَاعَةِ، أَيْ الِاخْتِيَارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الشُّفَعَاءِ، لَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: هُوَ جَوَابٌ لِلْيَهُودِ، إِذْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الرَّسُولُ إِلَى مُحَمَّدٍ غَيْرَ جِبْرِيلَ، لَآمَنَّا بِهِ، وَنَصَّ الزَّجَّاجُ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَالنَّحَّاسُ: عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَخْتارُ تَامٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ مَا موصولة منصوبة بيختار، أَيْ وَيَخْتَارُ مِنَ الرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ مَا كَانَ خِيَرَةً لِلنَّاسِ، كَمَا لَا يَخْتَارُونَ هُمْ مَا لَيْسَ إِلَيْهِمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ. وَأُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، لِئَلَّا يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمُ الْخِيرَةُ فِيمَا مَضَى، وَهِيَ لَهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ كَلَامٌ يَنْفِي. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ، وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ تَقَدُّمُ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ الْخِيَرَةُ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «2» ، يَعْنِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهِ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَأَنْشَدَ الْقَاسِمُ ابْنُ مَعْنٍ بَيْتَ عَنْتَرَةَ: أَمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ الْعَيْنِ تَذْرِيفُ ... لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ الْيَوْمِ مَعْرُوفُ وَقَرَنَ الْآيَةَ بِهَذَا الْبَيْتِ. وَالرِّوَايَةُ فِي الْبَيْتِ: لَوْ أَنَّ ذَا، وَلَكِنْ عَلَى مَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ يَتَّجِهُ فِي

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 31. (2) سورة الشورى: 42/ 43.

بَيْتِ عَنْتَرَةَ أَنْ يَكُونَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. فَأَمَّا فِي الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَفْسِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ لَا يَكُونُ بِجُمْلَةٍ فِيهَا مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مَا مَفْعُولَةً، إِذَا قَدَّرْنَا كَانَ تَامَّةً، أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْتَارُ كُلَّ كَائِنٍ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُ: لَهُمُ الْخِيَرَةُ: جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْنَاهَا: تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِي اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُمْ، لَوْ قَبِلُوا وَفَهِمُوا. انْتَهَى. يَعْنِي: وَاللَّهُ أَعْلَمُ خِيرَةُ اللَّهِ لَهُمْ، أَيْ لِمَصْلَحَتِهِمْ. وَالْخِيرَةُ مِنَ التَّخَيُّرِ، كَالطِّيَرَةِ مِنَ التَّطَيُّرِ، يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ هَذَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا. وَالْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ قَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «1» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «2» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» ، وَالتَّحْمِيدُ هُنَالِكَ عَلَى سَبِيلِ اللَّذَّةِ، لَا التَّكْلِيفِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ» . وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: مَا تَكُنُّ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ. وَلَهُ الْحُكْمُ: أَيِ الْقَضَاءُ بين عباده والفصل. وأَ رَأَيْتُمْ: بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَقَدْ يُسَلَّطُ على الليل أَرَأَيْتُمْ وجَعَلَ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِيهِ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي. وَجُمْلَةُ أَرَأَيْتُمْ الثَّانِيَةُ هِيَ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْعَائِدُ عَلَى اللَّيْلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ بَعْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُ فِي بَابِ التَّنَازُعِ أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُتَنَازِعَانِ فِي جِهَةِ التَّعَدِّي مُطْلَقًا، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ الطَّلَبُ، فَيَطْلُبُهُ هَذَا عَلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِيَّةِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الظَّرْفِ. وَكَذَلِكَ أَرَأَيْتُمْ ثَانِي مَفْعُولَيْهِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ غَالِبًا، وَثَانِي جَعَلَ إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرَ لَا يَكُونُ اسْتِفْهَامًا، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ وَأَوْجَدَ وَانْتَصَبَ مَا بَعْدَ مَفْعُولِهَا، كَانَ ذَلِكَ المنتصب حالا. وسَرْمَداً، قِيلَ: مِنَ السَّرْمَدِ، فَمِيمُهُ زَائِدَةٌ، وَوَزْنُهُ فَعْمَلُ، وَلَا يُزَادُ وَسَطًا وَلَا آخِرًا بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَلْفَاظٌ تُحْفَظُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَأَتَى بِضِياءٍ، وَهُوَ نور الشمس، ولم يجيء التَّرْكِيبُ بِنَهَارٍ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، كَمَا جَاءَ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ الضِّيَاءِ مُتَكَاثِرَةٌ، لَيْسَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَعَاشِ وَحْدَهُ، وَالظَّلَامُ لَيْسَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قُرِنَ بِالضِّيَاءِ. أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ لِأَنَّ السَّمْعَ يُدْرِكُ مَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنْ ذِكْرِ مَنَافِعِهِ وَوَصْفِ فَوَائِدِهِ، وَقُرِنَ بِاللَّيْلِ. أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ لِأَنَّ غَيْرَكَ يُبْصِرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الظَّلَامِ مَا تُبْصِرُهُ أَنْتَ مِنَ السُّكُونِ وَنَحْوِهِ، قَالَ الزمخشري. ومِنْ رَحْمَتِهِ، مِنْ هُنَا لِلسَّبَبِ، أَيْ وَبِسَبَبِ رَحْمَتِهِ إِيَّاكُمْ، جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، ثم علل

_ (1) سورة فاطر: 35/ 34. (2) سورة الزمر: 39/ 74. (3) سورة الفاتحة: 1/ 2.

جعل كل واحد منهما، فَبَدَأَ بِعِلَّةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ اللَّيْلُ، وَهُوَ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، ثُمَّ بِعِلَّةِ الثَّانِي وَهُوَ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ بِمَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ لِجَعْلِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَيْ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَالنِّعْمَةَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّفْسِيرَ، وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ تُفَسِّرَهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ جُيُوشٍ: وَمُقَرْطَقٌ يُغْنِي النَّدِيمَ بِوَجْهِهِ ... عَنْ كَأْسِهِ الْمَلْأَى وَعَنْ إِبْرِيقِهِ فِعْلُ الْمُدَامِ وَلَوْنُهَا وَمَذَاقُهَا ... فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلِ، وَفِي فَضْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيهِ، أَيْ فِي النَّهَارِ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَلِدَلَالَةِ لَفْظِ فِيهِ السَّابِقِ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّهَارِ، أَيْ مِنْ فَضْلِ النَّهَارِ، وَيَكُونُ أَضَافَهُ إِلَى ضَمِير النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. لَمَّا كَانَ الْفَضْلُ حَاصِلًا فِيهِ، أُضِيفَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» . وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ، إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ، فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ: وَكُرِّرَ هُنَا عَلَى جِهَةِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّأْكِيدِ. وَنَزَعْنا: أَيْ مَيَّزْنَا وَأَخْرَجْنَا بِسُرْعَةٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ. شَهِيداً: وَهُوَ نبي تلك

_ (1) سورة سبأ: 34/ 33.

الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ هُوَ الشَّهِيدُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا؟ وَقِيلَ: عَدُولًا وَخِيَارًا. وَالشَّهِيدُ عَلَى هَذَا اسْمُ الْجِنْسِ، وَالشَّهِيدُ يَشْهَدُ عَلَى تِلْكَ الْأُمَّةِ بِمَا صَدَرَ مِنْهَا، وَمَا أَجَابَتْ بِهِ لَمَّا دُعِيَتْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ. فَقُلْنا: أَيْ لِلْمَلَأِ، هاتُوا بُرْهانَكُمْ: أَيْ حُجَّتَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَمُخَالَفَةِ هَذَا الشَّهِيدِ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، لَا لِأَصْنَامِهِمْ وَمَا عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَضَلَّ عَنْهُمْ: أَيْ وَغَابَ عَنْهُمْ غَيْبَةَ الشَّيْءِ الضَّائِعِ، مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ. وَقَارُونُ أَعْجَمِيٌّ: مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقِيلَ: وَمَعْنَى كَانَ مِنْ قَوْمِهِ: أَيْ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ إِسْرَائِيلِيٌّ بِإِجْمَاعٍ. انْتَهَى. وَاخْتُلِفَ فِي قَرَابَتِهِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُتَكَاذِبًا، وَأَوْلَاهَا: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ابْنُ عمه، وهو قارون ابن يَصْهُرَ بْنِ قَاهِثَ، جَدِّ مُوسَى، لِأَنَّ النَّسَّابِينَ ذَكَرُوا نَسَبَهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صُورَتِهِ، وَكَانَ أَحْفَظَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّوْرَاةِ وَأَقْرَأَهُمْ، فَنَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ. فَبَغى عَلَيْهِمْ: ذَكَرُوا مِنْ أَنْوَاعِ بَغْيِهِ الْكُفْرَ وَالْكِبْرَ، وَحَسَدَهُ لِمُوسَى عَلَى النُّبُوَّةِ، وَلِهَارُونَ عَلَى الذَّبْحِ وَالْقُرْبَانِ، وَظُلْمَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ مَلَّكَهُ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِمْ، وَدَسَّهُ بَغِيًّا تَكْذِبُ عَلَى مُوسَى أَنَّهُ تَعَرَّضَ لَهَا، وَتَفْضَحُهُ بِذَلِكَ فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنِ تَكَبُّرِهِ أَنْ زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا. وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ، قِيلَ: أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِكَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ أَمْوَالُهُ كُنُوزًا، إِذْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ عَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ عَدَاوَتِهِ. وما مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا إِنَّ وَمَعْمُولَاهَا. وَقَالَ النَّحَاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ، يَعْنِي الْأَخْفَشَ الصَّغِيرَ، يَقُولُ: مَا أَقْبَحَ مَا يَقُولُهُ الْكُوفِيُّونَ فِي الصِّلَاتِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِلَةُ الَّذِي أَنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، وَفِي الْقُرْآنِ: مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَفَاتِحَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَالُوا هُنَا: مَقَالِيدُ خَزَائِنِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الْخَزَائِنُ نَفْسُهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ظُرُوفُهُ وَأَوْعِيَتُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَفَاتِيحَهُ، بِيَاءٍ، جَمْعُ مِفْتَاحٍ، وَذَكَرُوا مِنْ كَثْرَةِ مَفَاتِحِهِ مَا هُوَ كَذِبٌ، أَوْ يُقَارِبُ الْكَذِبَ، فَلَمْ أَكْتُبْهُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: نُؤْتُ بِالْعَمَلِ إِذَا نَهَضْتَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا وَجَدْنَا خَلْفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ وَيَقُولُ: نَاءَ يَنُوءُ، إِذَا نَهَضَ بِثِقَلٍ. قَالَ الشاعر: تنوء بأحراها فلأيا قيامها ... وتمشي الهوينا عَنْ قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَقْلُوبٌ وَأَصْلُهُ: لَتَنُوءُ بِهَا الْعُصْبَةُ، أَيْ تَنْهَضُ، وَالْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَابُهُ الشِّعْرُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ لَتُنِيءُ الْعُصْبَةَ، كَمَا تَقُولُ: ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُهُ، وَجِئْتُ بِهِ وَأَجَأْتُهُ. وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالسُّدِّيِّ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: نَاءَ الْحِمْلُ بِالْبَعِيرِ إِذَا أَثْقَلَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْنَدَ تَنُوءُ إِلَى الْمَفَاتِحِ، لِأَنَّهَا تَنْهَضُ بِتَحَامُلٍ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بِهَا، وَذَا مُطَّرِدٌ فِي نَاءَ الْحِمْلُ بِالْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ: لَيَنُوءُ، بِالْيَاءِ، وَتَذْكِيرِهِ رَاعَى الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ، التَّقْدِيرُ: مَا إِنَّ حَمْلَ مَفَاتِحِهِ، أَوْ مِقْدَارِهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمَفَاتِحُ بِالْخَزَائِنِ، وَيُعْطِيَهَا حُكْمَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَالْإِيصَالِ، كَقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّهُ اكْتَسَبَ الْمَفَاتِحُ التَّذْكِيرَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي لِقَارُونَ، كَمَا اكْتَسَبَ أَهْلٌ التَّأْنِيثَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَقِيلَ فِيهِ، ذَهَبَتْ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنَّ بُدَيْلَ بْنَ مَيْسَرَةَ قَرَأَ: مَا إِنَّ مِفْتَاحَهُ، عَلَى الْإِفْرَادِ، فَلَا تَحْتَاجُ قِرَاءَتُهُ لَيَنُوءُ بِالْيَاءِ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعُصْبَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَتَقَدَّمَ قَبْلَ تَفْسِيرِ الْمَفَاتِحِ، أَهِيَ الْمَقَالِيدُ، أَوِ الْخَزَائِنُ نَفْسُهَا، أَوِ الظُّرُوفُ وَالْأَوْعِيَةُ؟ وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ: أَنَّ الْمَفَاتِحَ هِيَ الْأَمْوَالُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَزَائِنُهُ تَحْمِلُهَا أَرْبَعُونَ أَقْوِيَاءُ، وَكَانَتْ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ، يَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَشَرَةَ آلَافٍ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَفَاتِحِ: الْعِلْمُ وَالْإِحَاطَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ «1» ، وَالْمُرَادُ: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ، مَا إِنَّ حِفْظَهَا وَالِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَيَثْقُلُ عَلَى الْعُصْبَةِ، أَيْ هَذِهِ الْكُنُوزُ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، يُتْعِبُ حِفْظُهَا الْقَائِمِينَ عَلَى حِفْظِهَا. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ: نَهَوْهُ عَنِ الْفَرَحِ الْمُطْغِي الَّذِي هُوَ انْهِمَاكٌ وَانْحِلَالُ نَفْسٍ وَأَشَرٌ وَإِعْجَابٌ، وَإِنَّمَا يَفْرَحُ بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا وَغَفَلَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ جَعَلَ أَنَّهُ مُفَارِقُ زَهْرَةِ الدُّنْيَا عَنْ قَرِيبٍ، فَلَا يَفْرَحُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَحَلٌّ إِذْ منصوب بتنوء. انْتَهَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ إِثْقَالَ الْمَفَاتِحِ الْعُصْبَةَ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِوَقْتِ قَوْلِ قَوْمِهِ لَهُ: لَا تَفْرَحْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَبَغى عَلَيْهِمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ بَغْيَهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا بذلك الوقت.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 59.

وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: النَّاصِبُ لَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِذْ قالَ لَهُ ظرف لآتيناه، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ بَغَى عَلَيْهِمْ، إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ. انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: فَأَظْهَرَ التَّفَاخُرَ وَالْفَرَحَ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْكُنُوزِ، إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «1» ، وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ بِتَرْكِ الْفَرَحِ عِنْدَ إِقْبَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إِذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي ... وَلَا جَازِعٍ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَحَوِّلِ وَقَالَ الآخر: إن تلاق منفسا لا تلقنا ... فرح الخير ولا نكبوا الضر وقرىء: الْفَارِحِينَ، حَكَاهُ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْحِجَازِيُّ. ولا يُحِبُّ: صِفَةُ فِعْلٍ، لَا صِفَةُ ذَاتٍ، بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، لِأَنَّ الْفَرَحَ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ، فَالْمَعْنَى: لَا يُظْهِرُ عَلَيْهِمْ بَرَكَتَهُ، وَلَا يَعُمُّهُمْ رَحْمَتُهُ. وَلَمَّا نَهَوْهُ عَنِ الْفَرَحِ الْمُطْغِي، أَمَرُوهُ بِأَنْ يَطْلُبَ، فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكُنُوزِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، ثَوَابَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، بِأَنْ يَفْعَلَ فِيهِ أَفْعَالَ الْبِرِّ، وَتَجْعَلَهُ زَادَكَ إِلَى الْآخِرَةَ. وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ: وَلَا تُضَيِّعْ عُمُرَكَ فِي أَنْ لَا تَعْمَلَ صَالِحًا فِي دُنْيَاكَ، إِذِ الْآخِرَةُ إِنَّمَا يُعْمَلُ لَهَا فِي الدُّنْيَا، فَنَصِيبُ الْإِنْسَانِ عُمُرُهُ وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ فِيهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ عِظَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ: لَا تُضَيِّعْ حَظَّكَ مِنَ الدُّنْيَا فِي تَمَتُّعِكَ بالحلال وطلبك إِيَّاهُ وَنَظَرِكَ لِعَاقِبَةِ دُنْيَاكَ، وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ بَعْضُ رِفْقٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ: قَدِّمِ الْفَضْلَ وَأَمْسِكْ مَا تَبْلُغُ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِلَا سَرَفٍ. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِنَصِيبِهِ الْكَفَنَ، وَهَذَا وَعْظٌ مُتَّصِلٌ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: تَتْرُكُ جَمِيعَ مَالِكَ، لَا يَكُونُ نَصِيبُكَ مِنْهُ إِلَّا الْكَفَنَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءَانِ تَأْوِي فِيهِمَا وَحَنُوطُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَكْفِيكَ وَيُصْلِحُكَ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ: وَأَحْسِنْ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ، أَوْ بِشُكْرِكَ وَطَاعَتِكَ لِلَّهِ. كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ بِتِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي خَوَّلَكَهَا، وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ مُمَاثَلَةَ إِحْسَانِ الْعَبْدِ لِإِحْسَانِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ، فَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الْإِحْسَانِ، أو تكون

_ (1) سورة الحديث: 57/ 23.

الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَحْسِنْ لِأَجْلِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ: أَيْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ. عَلى عِلْمٍ، عِلْمٍ: مَصْدَرٌ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ وَمُضَافًا إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: ادَّعَى أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا اسْتَوْجَبَ بِهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ تِلْكَ الْكُنُوزِ. فَقِيلَ: عِلْمُ التَّوْرَاةِ وَحِفْظُهَا، وَكَانَ أَحَدَ السَبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ، وَكَانَتْ هَذِهِ مُغَالَطَةً. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّانِيُّ: أَيْ عِلْمُ التِّجَارَةِ وَوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ، أَيْ أُوتِيتُهُ بِإِدْرَاكِي وَسَعْيِي. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ الْكِيمْيَاءَ، وَهِيَ جَعْلُ الرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ ذَهَبًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى علم الصنعة الذَّهَبِ ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْهُ وَلَا عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ وَقَالَ: بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا تُولَعُ أَهْلُ مِصْرَ بِطَلَبِ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْخُرَافَاتِ مِنْ ذَلِكَ: تَغْوِيرُ الْمَاءِ، وَخِدْمَةُ الصُّوَرِ الْمُمَثَّلَةِ فِي الْجُدُرِ خُطُوطًا، وادعائهم أَنَّ تِلْكَ الْخُطُوطَ تَتَحَرَّكُ إِذَا خُدِمَتْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْخَدَمِ لَهُمْ، وَالْكِيمْيَاءِ حَتَّى أَنَّ مَشَايِخَ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ، الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ بِصُورَةِ الْوِلَايَةِ، يَتَطَلَّبُ ذَلِكَ مِنْ أَجْهَلِ وَارِدٍ مِنَ الْمَغَارِبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ وَتَخْصِيصٍ مِنْ لَدُنْهُ قَصَدَنِي بِهِ، أَيْ فَلَا يَلْزَمُنِي فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا قُلْتُمْ، ثُمَّ جَعَلَ قَوْلَهُ: عِنْدِي، كَمَا يَقُولُ: فِي مُعْتَقَدِي وَعَلَى مَا أَرَاهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلى عِلْمٍ، أَيْ عَلَى خَيْرٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عِنْدِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ، تَقْرِيرٌ لِعِلْمِهِ ذَلِكَ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى خَطَئِهِ فِي اغْتِرَارِهِ أَيْ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الله قد أهلك من الْقُرُونِ قَبْلَهُ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَغْنَى، لِأَنَّهُ قَدْ قَرَأَهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَخْبَرَ بِهِ مُوسَى، وَسَمِعَهُ فِي التَّوَارِيخِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أو لم يَعْلَمْ فِي جُمْلَةِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ؟ هَذَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ مَالِهِ وَقُوَّتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي، فَتَنَفَّحَ بِالْعِلْمِ وَتَعَظَّمَ بِهِ، قِيلَ: أَعِنْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي ادَّعَاهُ؟ وَأُرِيَ نَفْسَهُ بِهِ مُسْتَوْجِبَةً لِكُلِّ نِعْمَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْعِلْمَ النَّافِعَ حَتَّى يَقِيَ نَفْسَهُ مَصَارِعَ الْهَالِكِينَ. انْتَهَى. وَأَكْثَرُ جَمْعاً، إِمَّا لِلْمَالِ، أَوْ جَمَاعَةٍ يَحُوطُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ، يرجح أَنَّ قَارُونَ تَشَبَّعَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ عَلَى زَعْمِهِ. وَقَرَأَ الجمهور: وَلا يُسْئَلُ، مبنيا للمفعول والْمُجْرِمُونَ: رُفِعَ بِهِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَالضَّمِيرُ فِي ذُنُوبِهِمُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْقُرُونِ، أَيْ لَا يُسْأَلُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ أَجْرَمَ، وَلَا مِمَّنْ لَمْ يُجْرِمْ، عَمَّنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ، بَلْ: كُلُّ نَفْسٍ بِما

كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «1» . وَقِيلَ: أَهْلَكَ من أهلك من القرون، عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَسْأَلَتِهِمْ عَنْهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ عَنْ حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ لِظُهُورِهَا وَكَثْرَتِهَا، لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ: لَا تَسْأَلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنَ السَّوَادِ وَالتَّشْوِيهِ، كَقَوْلِهِ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ «2» . وَقِيلَ: لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ توبيخ وتفريع. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَلَا تَسْأَلْ، بِالتَّاءِ وَالْجَزْمِ، الْمُجْرِمِينَ: نُصِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: كَذَلِكَ فِي وَلَا تَسْأَلْ عَلَى النَّهْيِ لِلْمُخَاطَبِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا إن يَكُونَ الْمُجْرِمِينَ بِالْيَاءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي نَصْبِ الْمُجْرِمِينَ شَيْءٌ، فَإِنْ تَرَكَاهُ عَلَى رَفْعِهِ، فَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي عَنْ ذُنُوبِهِمُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ من الْقُرُونِ، وَارْتِفَاعُ الْمُجْرِمِينَ بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ، وَتَقْدِيرُهُ: هُمُ الْمُجْرِمُونَ، أَوْ أُولَئِكَ الْمُجْرِمُونَ، وَمِثْلُهُ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «3» فِي التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَصْلِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ أَصْلَهَا الرَّفْعُ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فَعَلَى ذَلِكَ الْمُجْرِمُونَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَصْلِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَنَا مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً «4» بِالْجَرِّ، عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ أَصْلِ الْمَثَلِ، وما زَائِدَةٌ فِيهِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَا يَسْتَحِي بِضَرْبِ مَثَلِ بَعُوضَةٍ، أَيْ بِضَرْبِ بَعُوضَةٍ. فِي ذَلِكَ فَسَّرَ أَنَّ مَعَ الْفَصْلِ بِالْمَصْدَرِ نَاصِبٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ الْبَعُوضَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَعْرِفَ فِيهَا أَثَرًا لِحَالٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَذُنُوبٌ جَمْعٌ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ مَصْدَرٍ، فَفِي إِعْمَالِهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَنَا مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ، وَلَا نَعْرِفُ فِيهَا أَثَرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْعَلَهَا قِرَاءَةً. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَارُونَ وَنَعَتَهُ، وَمَا آتَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ، وَفَرَحَهُ بِذَلِكَ فَرَحَ الْبَطِرِينَ، وَادِّعَاءَهُ أَنَّ مَا أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أُوتِيَهُ عَلَى عِلْمٍ، ذَكَرَ ما هو ناشىء عَنِ التَّكَبُّرِ وَالسُّرُورِ بِمَا أُوتِيَ فَقَالَ: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ: أَيْ أَظْهَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا. قال جابر، مجاهد: فِي ثِيَابٍ حُمْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ وَحَشَمُهُ فِي ثِيَابٍ مُعَصْفَرَةٍ. وَقِيلَ: فِي ثِيَابِ الْأُرْجُوَانِ. وَقِيلَ: عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا

_ (1) سورة المدثر: 74/ 38. (2) سورة الرحمن: 55/ 41. (3) سورة التوبة: 9/ 112. (4) سورة البقرة: 2/ 26. [.....]

الْأُرْجُوَانُ، وَعَلَيْهَا سَرْجٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ عَلَى زِيِّهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِمْ وَعَلَى خُيُولِهِمُ الدِّيبَاجُ الْأَحْمَرُ، وَعَلَى يَمِينِهِ ثَلَاثُمِائَةِ غُلَامٍ، وَعَلَى يَسَارِهِ ثَلَاثُمِائَةِ جَارِيَةٍ بِيضٍ عَلَيْهِمُ الْحُلِيُّ وَالدِّيبَاجُ. وَقِيلَ: فِي تِسْعِينَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ رُؤِيَ فِيهِ الْمُعَصْفَرُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ. قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قِيلَ: كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّوْهُ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: رَغْبَةً فِي الْيَسَارَةِ والثروة. وقيل: كانوا كفارة، وَتَمَنَّوْا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا زَوَالَ نِعْمَتِهِ، وَهَذَا مِنَ الْغِبْطَةِ. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ: أَيْ دَرَجَةٍ عَظِيمَةٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: نَصِيبٍ كَثِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا وَالْحَظُّ الْبَخْتُ وَالسَّعْدُ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو حَظٍّ وَحَظِيظٌ وَمَحْظُوظٌ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، مِنْهُمْ: يُوشَعُ، وَالْعِلْمُ: مَعْرِفَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَوِ التَّوَكُّلُ، أَوِ الْإِخْبَارُ، أَقْوَالٌ. وَيْلَكُمْ: دُعَاءٌ بِالشَّرِّ. ثَوابُ اللَّهِ: وَهُوَ مَا أَعَدَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِمَّا أُوتِيَ قَارُونُ. وَلا يُلَقَّاها: أَيْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ ثَوَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا. وَقِيلَ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، وَبَّخَهُمْ بِهَا. إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَلَى قَمْعِ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ. تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ خَبَرِ قَارُونَ وَحَسَدِهِ لِمُوسَى. وَمِنْ حَسَدِهِ أَنَّهُ جَعَلَ لِبَغِيٍّ جُعْلًا، عَلَى أَنْ تَرْمِيَ مُوسَى بِطَلَبِهَا وَبِزِنَائِهَا، وَأَنَّهَا تَابَتْ إِلَى اللَّهِ، وَأَقَرَّتْ أَنَّ قَارُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى رَمْيِ مُوسَى بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَهُ، فَقَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِ وَأَتْبَاعَهُ، فَخُسِفَ بِهِمْ فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا. وَلَمَّا خُسِفَ بِقَارُونَ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا دَعَا مُوسَى عَلَى قَارُونَ لِيَسْتَبِدَّ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ، فَدَعَا اللَّهَ حَتَّى خسف بداره وأمواله. ومن زَائِدَةٌ، أَيْ مِنْ جَمَاعَةٍ تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْفِئَاتِ. وَإِذَا انْتَفَتِ الْجُمْلَةُ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَصْرِهِ، فَانْتِفَاءُ الْوَاحِدِ عَنْ نُصْرَتِهِ أَبْلَغُ. وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ: أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ: بَدَلٌ، وَأَصْبَحَ، إِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَنَّ الْخَسْفَ بِهِ وَبِدَارِهِ كَانَ لَيْلًا، وَهُوَ أَفْظَعُ الْعَذَابِ، إِذِ اللَّيْلُ مَقَرُّ الرَّاحَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْأَمْسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا قَبْلَ يَوْمِ الْخَسْفِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّمَنِّي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي قَوْلِهِ: فَخَسَفْنا، فَيَكُونُ فِيهِ اعْتِقَابُ الْعَذَابِ خُرُوجُهُ فِي زِينَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْجِيلُ الْعَذَابِ. وَمَكَانَهُ: مَنْزِلَتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ

الثَّرْوَةِ وَالْحَشَمِ وَالْأَتْبَاعِ. وَ: وَيْ، عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: اسْمُ فِعْلٍ مِثْلُ: صَهْ وَمَهْ، وَمَعْنَاهَا: أَعْجَبُ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ نَدِمُوا فَقَالُوا، مُتَنَدِّمِينَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ: وَيْ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ فَأَظْهَرَ نَدَامَتَهُ قَالَ: وَيْ. وَكَأَنَّ: هِيَ كَافُ التَّشْبِيهِ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنَّ، وَكُتِبَتْ مُتَّصِلَةً بِكَافِ التَّشْبِيهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: وَيْ كَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يح ... سب وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ وَالْبَيْتُ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَيْنَ ابْنُكَ؟ فَقَالَ: وَيْكَأَنَّهُ وَرَاءَ الْبَيْتِ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى وَيْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ وَيْكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْكَافُ حَرْفَ خِطَابٍ، وَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ وَيْكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَلَقَدْ شَفَا نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الْفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَأَنَّ عِنْدَهُ مَفْتُوحٌ بِتَقْدِيرِ الْعِلْمِ، أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا وَيْكَ الْمَضَرَّةَ لَا تَدُومُ ... وَلَا يُبْقِي عَلَى الْبُؤْسِ النَّعِيمُ وَذَهَبُ الْكِسَائِيُّ وَيُونُسُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ وَيْلَكَ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْإِضَافَةِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ قِيلَ: تَكُونُ الْكَافُ خَالِيَةً مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، كَمَا قِيلَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «1» . وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي، فَالْمَعْنَى: أَعْجَبُ لِأَنَّ اللَّهَ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ تَكُونُ وَيْلَكَ كَلِمَةَ تَحَزُّنٍ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا: لِأَنَّ اللَّهَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَفِرْقَةٌ مَعَهُ: وَيْكَأَنَّ، حَرْفٌ وَاحِدٌ بِجُمْلَتِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ. وَبِمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَيْكَ، فِي كلام العرب، كقوله الرَّجُلِ: أَمَا تَرَى إِلَى صُنْعِ اللَّهِ؟ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى وَيْكَ: رَحْمَةً لَكَ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَلَمَّا صَدَرَ مِنْهُمْ تَمَنِّي حَالِ قَارُونَ، وَشَاهَدُوا الْخَسْفَ، كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَدَاعِيًا إِلَى الرِّضَا بِقَدَرِ اللَّهِ، فَتَنَبَّهُوا لِخَطَئِهِمْ فَقَالُوا: وَيْ، ثُمَّ قَالُوا: كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لَا لِهَوَانِهِ، بَلْ لِحِكْمَتِهِ وَقَضَائِهِ ابْتِلَاءً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَوْلَا مَنَّ اللَّهُ، بِحَذْفِ أَنْ، وَهِيَ مُزَادَةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ: مَنُّ اللَّهِ، بِرَفْعِ النُّونِ وَالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الجمهور: لخسف مبنيا

_ (1) سورة الشورى: 42/ 11.

لِلْمَفْعُولِ وَحَفْصٌ، وَعِصْمَةُ، وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَابْنِ أَبِي حَمَّادٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وطلحة، والأعمش: لا نخسف بِنَا، كَقَوْلِكَ: انْقَطَعَ بِنَا، كَأَنَّهُ فِعْلٌ مُطَاوِعٌ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَاعِلِ هُوَ بِنا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرَ: أي لا نخسف الِانْخِسَافُ، وَمُطَاوِعُ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ، فلذلك بني إما لبنا وَإِمَّا لِلْمَصْدَرِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: لَتُخُسِّفَ، بِتَاءٍ وَشَدِّ السِّينِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ، ذَكَرَ مَحَلَّ الثَّوَابِ، وَهُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَالْمَعْنَى: تِلْكَ الَّتِي سَمِعْتَ بِذِكْرِهَا، وَبَلَغَكَ وَصْفُهَا. الدَّارُ الْآخِرَةُ: أَيْ نَعِيمُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَالْبَقَاءُ فِيهَا سَرْمَدًا، وَعَلَّقَ حُصُولَهَا عَلَى مجرد الإرادة، فكيف يمن بَاشَرَ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ؟ ثُمَّ جَاءَ التَّرْكِيبُ بِلَا فِي قَوْلِهِ: وَلا فَساداً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ مَقْصُودٌ، لَا مَجْمُوعَهُمَا. قَالَ الْحَسَنُ: الْعُلُوُّ: الْعِزُّ وَالشَّرَفُ، إِنْ جَرَّ الْبَغْيَ الضَّحَّاكُ، الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الشَّرِّ. وَعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ أَنْ يَكُونَ شِرَاكُ نَعْلِهِ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِ صَاحِبِهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا. وَعَنِ الْفُضَيْلِ، أَنَّهُ قَرَأَهَا ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَتِ الْأَمَانِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز: أَنَّهُ كَانَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى قُبِضَ. فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاحِدَ الْخُيُورِ، أَيْ فَلَهُ خَيْرٌ بِسَبَبِ فِعْلِهَا، وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، تَهْجِينًا لِحَالِهِمْ وَتَبْغِيضًا لِلسَّيِّئَةِ إِلَى قُلُوبِ السَّامِعِينَ، فَفِيهِ بِتَكْرَارِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ لَوْ كَانَ: فَلَا يُجْزَوْنَ بِالصَّهْرِ، وَمَا كَانُوا عَلَى حَذْفِ مِثْلَ، أَيْ إِلَّا مِثْلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، قَالَ عَطَاءٌ: الْعَمَلَ بِهِ وَمُجَاهِدٌ: أَعْطَاكَهُ وَمُقَاتِلٌ: أَنْزَلَهُ عَلَيْكَ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْجَبَ عَلَيْكَ تِلَاوَتَهُ

وَتَبْلِيغَهُ وَالْعَمَلَ بِمَا فِيهِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي حَمَّلَكَ صُعُوبَةَ هَذَا التَّكْلِيفِ لَيُثِيبُكَ عَلَيْهَا ثَوَابًا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ. وَالْمَعَادُ، قَالَ الْجُمْهُورُ: فِي الْآخِرَةِ، أَيْ بَاعِثُكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَفِيهِ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ وَالْإِعْلَامِ بِوُقُوعِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: الْمَعَادُ: الْمَوْتُ. وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ: الْمَعَادُ: مَكَّةُ، أَرَادَ رَدَّهُ إِلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَنَكَّرَهُ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْظِيمُ، أَيْ مَعَادٍ أَيِّ مَعَادٍ، أَيْ لَهُ شَأْنٌ لغلبة الرسول عَلَيْهَا وَقَهْرِهِ لِأَهْلِهَا، وَلِظُهُورِ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْهَا وَيَعُودُ إِلَيْهَا ظَافِرًا ظَاهِرًا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ حِينَ بَلَغَ الْجُحْفَةَ فِي مُهَاجَرِهِ، وَقَدِ اشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَتَشْتَاقُ إِلَيْهَا؟ قَالَ: نعم، فأوحاها إليه. ومن مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ أَفْعَلُ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، وَأَجَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَنْصِبَ بِهِ، جَازَ أَنْ يَنْتَصِبَ بِهِ، إِذْ يُؤَوِّلُهُ بِمَعْنَى عَالِمٍ، وَيُعْطِيهِ حُكْمَهُ مِنَ الْعَمَلِ. وَلَمَّا وَعَدَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَرُدُّهُ إِلَى مَعَادٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، أَيْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَنْ جَاءَ بالهدى، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وَبِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي مَعَادِهِ، وَهَذَا إِذَا عَنَى بِالْمَعَادِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُبَلِّغَهُمْ ذَلِكَ، هُوَ عَالِمٌ بِهِمْ، وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعِقَابِ فِي مَعَادِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مُتَارَكَةٌ لِلْكُفَّارِ وتوبيخ. وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ: هَذَا تَذْكِيرٌ لِنِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى رَحِمَهُ رَحْمَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا رَجَاؤُهُ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَأَنْتَ بِحَالِ مَنْ لَا يَرْجُو ذَلِكَ، وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ سَبَقَتْ، فَأَلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أُلْقِيَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. انْتَهَى. فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، إِمَّا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِمَّا مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصُدُّنَّكَ، مُضَارِعُ صَدَّ وَشَدُّوا النُّونَ، وَيَعْقُوبُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَهَا. وقرىء: يُصِدُّنَّكَ، مُضَارِعَ أَصَدَّ، بِمَعْنَى صَدَّ، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ كَلْبٍ قَالَ: وَهِيَ لُغَةُ قَوْمِهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ ... صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوفِ الْحَوَائِمِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ: أَيْ بَعْدَ وَقْتِ إِنْزَالِهَا، وإذ تُضَافُ إِلَيْهَا أَسْمَاءُ الزَّمَانِ كَقَوْلِهِ: بَعْدَ

إِذْ هَدَيْتَنا «1» ، وَيَوْمَئِذٍ، وَحِينَئِذٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَذَلِكَ حِينَ دَعَوْهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ، أَيْ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا تَرْكَنْ إِلَى قَوْلِهِمْ، فَيَصُدُّونَكَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ: أَيْ دِينِ رَبِّكَ، وَهَذِهِ الْمَنَاهِي كُلُّهَا ظَاهِرُهَا أَنَّهَا لِلرَّسُولِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَتْبَاعِهِ، وَالْهَلَاكُ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ كُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ. وَبِإِزَاءِ نَفْيِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، إِمَّا لِلْإِمَاتَةِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً يُقَالُ: هَلَكَ الثَّوْبُ، لَا يُرِيدُونَ فَنَاءَ أَجْزَائِهِ، وَلَكِنْ خُرُوجَهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَمَعْنَى: إِلَّا وَجْهَهُ: إِلَّا إِيَّاهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: هَالِكٌ بِالْمَوْتِ إِلَّا الْعُلَمَاءَ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بَاقٍ. انْتَهَى. وَيُرِيدُونَ إِلَّا مَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ بَاقٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعَرْشَ، وَالْجَنَّةَ، وَالنَّارَ. وَقِيلَ: مُلْكَهُ، وَمِنْهُ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «2» . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ: جَاهُهُ الَّذِي جَعَلَهُ فِي النَّاسِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَّا وَجْهَهُ، مَا عُمِلَ لِذَاتِهِ، وَمِنْ طَاعَتِهِ، وَتُوُجِّهَ بِهِ نَحْوَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رَبُّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ وَقَوْلُهُ: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. لَهُ الْحُكْمُ: أَيْ فَصْلُ الْقَضَاءِ. إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: أَيْ إِلَى جَزَائِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى: تَرْجِعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 8. (2) سورة غافر: 40/ 16.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 69] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَ

الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ، مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَهُ جَابِرٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ، وَنَزَلَ أَوَائِلُهَا فِي مُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ كَرِهُوا الْجِهَادَ حِينَ فُرِضَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوْ فِي عَمَّارٍ وَنُظَرَائِهِ مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ أَوْ فِي مُسْلِمِينَ كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يُؤْذُونَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ فِي مِهْجَعٍ مَوْلَى عُمَرَ، قُتِلَ بِبَدْرٍ فَجَزِعَ أَبَوَاهُ وَامْرَأَتُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مِهْجَعٌ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ» أَوْ فِي عَيَّاشٍ أَخِي أَبِي جَهْلٍ، غَدَرَ فارتد. والنَّاسُ: فُسِّرَ بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّاسُ هُنَا الْمُنَافِقُونَ، أَيْ أَنْ يُتْرَكُوا لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا. وحسب يَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ. فَقَالَ الْحَوْفِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: سَدَّتْ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا من معمولها مسد القولين، وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَقُولُوا بَدَلًا مِنْ أَنْ يُتْرَكُوا. وَأَنْ يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَقَدَّرُوهُ بِأَنْ يَقُولُوا وَلِأَنْ يَقُولُوا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: وَإِذَا قُدِّرَتِ الْبَاءُ كَانَ حَالًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى فِي الْبَاءِ وَاللَّامِ مُخْتَلِفٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْبَاءِ كَمَا تَقُولُ: تَرَكْتُ زَيْدًا بِحَالِهِ، وَهِيَ فِي اللَّامِ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ، أَيْ حَسِبُوا أَنَّ إِيمَانَهُمْ عِلَّةً لِلتَّرْكِ تَفْسِيرُ مَعْنَى، إِذْ تَفْسِيرُ الْأَعْرَابِ حُسْبَانُهُمْ أَنَّ التَّرْكَ لِأَجْلِ تَلَفُّظِهِمْ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ؟ قُلْتُ: هُوَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ حَسِبُوا تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا، فَالتَّرْكُ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ حَسِبَ، وَلِقَوْلِهِمْ آمَنَّا هُوَ الْخَبَرُ، وَأَمَّا غَيْرُ مَفْتُونِينَ فَتَتِمَّةٌ لِلتَّرْكِ، لِأَنَّهُ مِنَ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، كَقَوْلِهِ: فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ قَبْلَ الْمَجِيءِ بِالْحُسْبَانِ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ: تَرَكْتُهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ، لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا، عَلَى تَقْدِيرِ حَاصِلٍ وَمُسْتَقِرٍّ قَبْلَ اللَّامِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: أَنْ يَقُولُوا هُوَ عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ؟ قُلْتُ: كَمَا تَقُولُ: خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ وَضَرْبُهُ لِلتَّأْدِيبِ، وَقَدْ كَانَ التَّأْدِيبُ وَالْمَخَافَةُ فِي قَوْلِهِ: خَرَجْتُ مَخَافَةَ الشَّرِّ وَضَرَبْتُهُ تَأْدِيبًا، تَعْلِيلَيْنِ. وَتَقُولُ أَيْضًا: حَسِبْتُ خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ وَظَنَنْتُ ضَرْبَهُ لِلتَّأْدِيبِ، فَتَجْعَلُهَا مَفْعُولَيْنِ كَمَا جَعَلْتَهُمَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ. ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ تَقْدِيرَهُ غَيْرَ مَفْتُونِينَ تَتِمَّةٌ، يَعْنِي أَنَّهُ حَالٌ، لِأَنَّهُ سَبَكَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:

وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنْ يُتْرَكُوا هُنَا مِنَ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ مِنَ التَّصْيِيرِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مَفْعُولَ صَيَّرَ الثَّانِي لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِمْ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنْ يَصِيرُوا لِقَوْلِهِمْ: وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا مَا مُثِّلَ بِهِ مِنَ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَأَنْ يَكُونَ جَزَرَ السِّبَاعِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَرَكَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، بِخِلَافِ مَا قُدِّرَ فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا، عَلَى تَقْدِيرِ حَاصِلٍ وَمُسْتَقِرٍّ قَبْلَ اللَّامِ، فَلَا يَصِحُّ إِذْ كَانَ تَرْكُهُمْ بِمَعْنَى تَصْيِيرِهِمْ، كَانَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ حَالًا، إِذْ لَا يَنْعَقِدُ مِنْ تَرْكِهِمْ، بِمَعْنَى تَصْيِيرِهِمْ، وَتَقَوُّلِهِمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ لِاحْتِيَاجِ تَرْكِهِمْ، بِمَعْنَى تَصْيِيرِهِمْ، إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ، لِأَنَّ غَيْرَ مَفْتُونِينَ عنده حال، لا معفول ثَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْتَ أَنْ يَقُولُوا إِلَى آخِرِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى فَضْلَةِ فَهْمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يَقُولُوا هُوَ عِلَّةُ تَرْكِهِمْ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِلَّةً لَهُ لَكَانَ مُتَعَلِّقًا، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ مُسْتَقِرٌّ، أَوْ كَائِنٌ، وَالْخَبَرُ غَيْرُ الْمُبْتَدَأِ. وَلَوْ كَانَ لِقَوْلِهِمْ عِلَّةٌ لِلتَّرْكِ، لَكَانَ مِنْ تَمَامِهِ، فَكَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خبر. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا تَقُولُ خروجه لمخافة الشر، فلمخافة لَيْسَ عِلَّةً لِلْخُرُوجِ، بَلْ لِلْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ مُسْتَقِرٌّ، أَوْ كَائِنٌ. وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْفِتْنَةُ هُنَا مَا كَلِفَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي لَمْ يُتْرَكُوا دُونَهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مِثَالُ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يتبتلون في أنفسهم وأموالهم. والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: الْمُؤْمِنُونَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، أَصَابَهُمْ مِنَ الْمِحَنِ مَا فُرِقَ بِهِ الْمُؤْمِنُ بِالْمِنْشَارِ فِرْقَتَيْنِ، وَتُمُشِّطَ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، وَلَا يَرْجِعُ عَنْ دِينِهِ. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ، بِالِامْتِحَانِ، الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فِيهِ مِنْ عَلَّمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى واحد فِيهِمَا، وَيَسْتَحِيلُ حُدُوثُ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى. فَالْمَعْنَى: وَلَيَتَعَلَّقْنَ عِلْمُهُ بِهِ مَوْجُودًا بِهِ كَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ حِينَ كَانَ مَعْدُومًا. وَالْمَعْنَى: وَلَيُمَيَّزَنَّ الصَّادِقَ مِنْهُمْ مِنَ الْكَاذِبِ، أَوْ عَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْجَزَاءِ، أَيْ وَلِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقَ وَلِيُعَذِّبَنَّ الْكَاذِبَ. وَمَعْنَى صَدَقُوا فِي أَيْمَانِهِمْ يُطَابِقُ قَوْلُهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ أَفْعَالَهُمْ، وَالْكَاذِبِينَ ضِدُّ ذَلِكَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَلَيُعْلِمَنَّ، مُضَارِعَ الْمَنْقُولَةِ بِهَمْزَةِ التَّعَدِّي مِنْ عَلَّمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى وَاحِدٍ ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ منازلهم

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 65.

فِي الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ أَوِ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَلَيَعْلَمَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ صَدَقُوا، أَيْ يَشْهَرُهُمْ هَؤُلَاءِ فِي الْخَيْرِ، وَهَؤُلَاءِ فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ مِنَ الْعَلَامَةِ فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، أَيْ يَسِمُهُمْ بِعَلَامَةٍ تَصْلُحُ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: «مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا» . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: الْأُولَى كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، وَالثَّانِيَةَ كَقِرَاءَةِ عَلِيٍّ. أَمْ حَسِبَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمْ مُعَادِلَةٌ لِلْأَلِفِ فِي قَوْلِهِ: أَحَسِبَ، وَكَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَرَّرَ الْفَرِيقَيْنِ: قَرَّرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَقَرَّرَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ فِي تَعْذِيبِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَسْبِقُونَ نَقَمَاتِ اللَّهِ وَيُعْجِزُونَهُ. انْتَهَى. وَلَيْسَتْ أَمْ هُنَا مُعَادِلَةً لِلْأَلِفِ فِي أَحَسِبَ، كَمَا ذُكِرَ، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَكُونُ مُتَّصِلَةً، وَلَهَا شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا لَفْظُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهَذَا الشَّرْطُ هُنَا مَوْجُودٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا مُفْرَدٌ، أَوْ مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ. مِثَالُ الْمُفْرَدِ: أَزَيْدٌ قَائِمٌ أَمْ عَمْرٌو؟ وَمِثَالُ مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ؟ وَجَوَابُهَا: تَعْيِينُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، إِنْ كَانَ التَّعَادُلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، إِنْ كَانَ بَيْنَ أَكْثَرِ مِنْ شَيْئَيْنِ. وَهُنَا بَعْدَ أَمْ جُمْلَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ هُنَا بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، بَلْ أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، بِمَعْنَى بَلْ الَّتِي لِلْإِضْرَابِ، بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَى قَضِيَّةٍ، لَا بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، فَلَا يَقْتَضِي جَوَابًا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: كَيْفَ وقع حسبان ذلك؟ والَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهْلٍ، وَالْأَسْوَدَ، وَالْعَاصِيَ بْنَ هِشَامٍ، وَشَيْبَةَ، وَعُتْبَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَحَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْعَاصِي بْنَ وَائِلٍ، وَأَنْظَارَهُمْ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ. انْتَهَى. وَالْآيَةُ، وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ، فَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ مِنْ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ يَسْبِقُونا: أَيْ يُعْجِزُونَا، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَقِيلَ: أَنْ يُعْجِلُونَا مَحْتُومَ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: أَنْ يَهْرُبُوا مِنَّا وَيَفُوتُونَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ يَسْبِقُونا: أَنْ يَفُوتُونَا، يَعْنِي أَنَّ الْجَزَاءَ يَلْحَقُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَهُمْ لَمْ يَطْمَعُوا فِي الْفَوْتِ، وَلَمْ يُحَدِّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لِغَفْلَتِهِمْ وَقِلَّةِ فِكْرَتِهِمْ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي فِي صُورَةِ مَنْ يُقَدِّمُ ذَلِكَ وَيَطْمَعُ فِيهِ وَنَظِيرُهُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ «1» ، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ «2» . فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ مَفْعُولَا حَسِبَ؟ قُلْتُ: اشْتِمَالُ صِلَةِ أَنْ عَلَى

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 22، وسورة الشورى: 42/ 31. (2) سورة الأنفال: 8/ 59.

مُسْنَدٍ وَمُسْنَدٍ إِلَيْهِ سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ «1» . وَيَجُوزُ أَنْ تُضَمَّنَ حَسِبَ مَعْنَى قَدَّرَ، وَأَمْ مُنْقَطِعَةً. وَمَعْنَى الْإِضْرَابِ فِيهَا أَنَّ هَذَا الْحُسْبَانُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَدِّرُ أَنْ لَا يُمْتَحَنَ لِإِيمَانِهِ، وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُجَازَى بِمَسَاوِيهِ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ لَمْ يَطْمَعُوا فِي الْفَوْتِ، إِلَى آخِرِ قَوْلِهِ: وَيَطْمَعُ فِيهِ، فَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنْ لَا بَعْثٌ وَلَا جَزَاءَ، وَلَا سِيَّمَا السِّرِّيَّةُ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَا ذَكَرَهُ، كَمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، هُوَ عَلَى اعْتِقَادِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِ، وَلَكِنْ طَمِعَ فِي عَفْوِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: اشْتِمَالُ صِلَةِ أَنْ، إِلَى آخِرِهِ، فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُتْرَكُوا، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ مَا لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ تُضَمَّنَ حَسِبَ مَعْنَى قَدَّرَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَالتَّضْمِينُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. ساءَ مَا يَحْكُمُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ ويَحْكُمُونَ صِلَتُهَا، أَوْ تَمْيِيزٌ بِمَعْنَى شيء، ويحكمون صِفَةٌ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، فَالتَّقْدِيرُ: أَيْ حُكْمُهُمْ. انْتَهَى. وَفِي كَوْنِ مَا مَوْصُولَةً مرفوعة بساء، أَوْ مَنْصُوبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، فَتَقْدِيرُهُ: بِئْسَ حُكْمُهُمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّمْيِيزُ مَحْذُوفًا، أَيْ سَاءَ حكما حكمهم. وساء هُنَا بِمَعْنَى: بِئْسَ، وَتَقَدَّمَ حُكْمُ بِئْسَ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا مَا، وَالْفِعْلُ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «2» مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ. وَجَاءَ بِالْمُضَارِعِ، وَهُوَ يَحْكُمُونَ، قِيلَ: إِشْعَارًا بِأَنَّ حُكْمَهُمْ مَذْمُومٌ حَالًا وَاسْتِقْبَالًا، وَقِيلَ: لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ وَقَعَ الْمُضَارِعُ مَوْقِعَ الْمَاضِي اتِّسَاعًا. وَالظَّاهِرُ أن يَرْجُوا عَلَى بَابِهَا، وَمَعْنَى لِقاءَ اللَّهِ: الْوُصُولُ إِلَى عَاقِبَةِ الْأَمْرِ مِنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مُثِّلَتْ حَالُهُ بِحَالَةِ عَبْدٍ قَدِمَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ، وَقَدِ اطَّلَعَ مَوْلَاهُ عَلَى مَا عَمِلَ فِي غَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ خَيْرًا، تَلَقَّاهُ بِإِحْسَانٍ أَوْ شَرًّا، فَبِضِدِّ الْإِحْسَانِ. فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ: وَهُوَ مَا أَجَّلَهُ وَجَعَلَ لَهُ أَجَلًا، لَا نَفْسُهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيُبَادِرْ لِمَا يُصَدِّقُ رَجَاءَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَرْجُو: يَخَافُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ، فَلْيُبَادِرْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُحَقِّقُ رَجَاءَهُ، فَإِنَّ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ لِقَاءِ جَزَائِهِ لَآتٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ جاهَدَ، مَعْنَاهُ: وَمَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى

_ (1) سورة البقرة: 2/ 214. (2) سورة البقر: 2/ 102.

الطَّاعَاتِ، فَثَمَرَةُ جِهَادِهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ الْمُعَدُّ لَهُ، إِنَّمَا هُوَ لَهُ، لَا لِلَّهِ، والله تعالى عني عَنْهُ وَعَنِ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمْ مَا كَلَّفَهُمْ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ. لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ: يشمل مَنْ كَانَ كَافِرًا فَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَأَسْقَطَ عَنْهُ عِقَابَ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِيمَانِ مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَمَنْ نَشَأَ مُؤْمِنًا عَامِلًا لِلصَّالِحَاتِ وَأَسَاءَ فِي بَعْضِ أَعْمَالِهِ، فَكَفَّرَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ سَيِّئَاتُهُ مَغْمُورَةً بِحَسَنَاتِهِ. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي: أَيْ أَحْسَنَ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِيهِ حَذْفٌ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: ثَوَابُ أَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَسُوغُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ ثَوَابَ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا ثَوَابُ حَسَنِهَا فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُمْ يُجْزَوْنَ ثَوَابَ الْأَحْسَنِ وَالْحَسَنِ، إِلَّا إِنْ أُخْرِجَتْ أَحْسَنَ عَنْ بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى حَسَنَ، فَإِنَّهُ يَسُوغُ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَبْلَهُ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَجْزِيٌّ أَحْسَنَ جَزَاءِ الْعَمَلِ، فَعَمَلُهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَةُ بِمِثْلِهَا، فَجُوزِيَ أَحْسَنَ جَزَائِهَا، وَهِيَ أَنْ جُعِلَتْ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَحْرِيكٌ وهزا لمن تخلف عن الجهرة أَنْ يُبَادِرَ إِلَى اسْتِدْرَاكِ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْهَا، وَثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَادَرُوا إِلَى الْهِجْرَةِ، وَتَنْوِيهٌ بِقَدْرِهِمْ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ، فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، آلَتْ أُمُّهُ أَنْ لا يَطْعَمَ وَلَا يَشْرَبَ حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ يَكْفُرَ. وَقِيلَ: فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَسْلَمَ وَهَاجَرَ مَعَ عُمَرَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ شَدِيدَةَ الْحُبِّ لَهُ، وَحَلَفَتْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَتَحَيَّلَ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ، فَشَدَّاهُ وَثَاقًا حِينَ خَرَجَ مَعَهُمَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أُمِّهِ قَصْدًا لِيَرَاهَا، وَجَلَدَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَرَدَّاهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ: لَا يَزَالُ فِي عَذَابٍ حَتَّى يَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذُكِرَ فِي السِّيَرِ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ: أَيْ أَمَرْنَاهُ بِتَعَهُّدِهِمَا وَمُرَاعَاتِهِمَا. وَانْتَصَبَ حُسْناً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وُصِفَ بِهِ مَصْدَرُ وَصَّيْنَا، أَيْ إِيصَاءً حُسْنًا، أَيْ ذَا حُسْنٍ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ هُوَ فِي ذَاتِهِ حسن. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَفِي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا لِمَعَانٍ. كَمَا تَقُولُ: وَصَّيْتُكَ خَيْرًا، وَأَوْصَيْتُكَ شَرًّا وَعَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ جُمْلَةِ مَا قُلْتُ لَهُ، وَيَحْسُنُ ذَلِكَ دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ، كَوْنَ حَرْفُ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: بِوالِدَيْهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِالْحُسْنِ فِي قَوْلِهِ مَعَ وَالِدِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا ... وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا انْتَهَى. مِثْلُهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ يُوصِي ابْنَتَهُ بَرَّةَ: وَصَّيْتُ مِنْ بَرَّةَ قَلْبًا حُرَّا ... بِالْكَلْبِ خَيْرًا وَالْحَمَاةِ شَرَّا

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْأَصْلُ بِخَيْرٍ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَالْبَاءُ فِي بِوَالِدَيْهِ وفي بالحماة وبالكلب ظَرْفِيَّةٌ بِمَعْنَى فِي، أَيْ وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَمْرِ وَالِدَيْهِ بِخَيْرٍ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: بِوالِدَيْهِ، وَيَنْتَصِبَ حُسْناً بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: يَحْسُنُ حُسْنًا، وَيَنْتَصِبُ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ. وَفِي التَّحْرِيرِ: حُسْنًا نُصِبَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى التَّكْرِيرِ، أَيْ وَصَّيْنَاهُ حُسْنًا، وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ، تَقْدِيرُهُ: وَوَصَّيْنَا بِالْحُسْنِ، كَمَا تَقُولُ: وَصَّيْتُهُ خَيْرًا، أَيْ بِالْخَيْرِ، وَيَعْنِي بِالْقَطْعِ عَنْ حَرْفِ الْجَرِّ، فَانْتَصَبَ. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ حُسْنًا، فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ حَذْفُ أَنْ وَصِلَتِهَا وَإِبْقَاءُ الْمَعْمُولِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَّيْنَاهُ بِإِيتَاءِ وَالِدَيْهِ حُسْنًا، أَوْ نَائِلًا وَالِدَيْهِ حُسْنًا، أَيْ فِعْلًا ذَا حُسْنٍ، وَمَا هو في ذاته حسن لِفَرْطِ حُسْنِهِ، كَقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1» . انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْدِيرُ فِيهِ إِعْمَالُ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفًا وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حُسْنًا مِنْ بَابِ قَوْلِكَ: زَيْدًا، بِإِضْمَارِ اضْرِبْ إِذَا رَأَيْتَهُ مُتَهَيَّأً لِلضَّرْبِ، فَتَنْصِبُهُ بِإِضْمَارِ أَوَّلِهِمَا، أَوِ افْعَلْ بِهِمَا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهِمَا دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَمَا بَعْدَهُ مُطَابِقٌ لَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا أَوْلِهِمَا مَعْرُوفًا. وَقَرَأَ عِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ: حَسَنًا، بِفَتْحَتَيْنِ وَالْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ، وَهُمَا كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ دُونَ التَّوْصِيَةِ الْمُقَدَّمَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ أَخَذَتْ مَفْعُولَيْهَا مَعًا مُطْلَقًا وَمَجْرُورًا، فَالْحُسْنُ هُنَا صِفَةٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ بِمَعْنَى: أَمْرٌ حُسْنٌ. انْتَهَى، أَيْ أَمْرًا حُسْنًا، حُذِفَ أَمْرًا وَأُقِيمَ حُسْنٌ مَقَامَهُ. وَقَوْلُهُ: مُطْلَقًا، عَنَى بِهِ الْإِنْسَانَ، وَفِيهِ تَسَامُحٌ، بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ وَالْمُطْلَقُ إِنَّمَا هُوَ الْمَصْدَرُ، لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُقَيَّدْ مِنْ حَيْثُ التَّفْسِيرِ بِأَدَاةِ جَرٍّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَفَاعِيلِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: مَفْعُولٌ بِهِ، وَمَفْعُولٌ فِيهِ، وَمَفْعُولٌ مَعَهُ، وَمَفْعُولٌ لَهُ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: إِحْسَانًا. وَإِنْ جاهَداكَ: أَيْ وَقُلْنَا: إِنْ جَاهَدَاكَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: أَيْ بِإِلَهِيَّتِهِ، فَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ نَفْيُ الْمَعْلُومِ، أَيْ لِتُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا وَلَا يَسْتَقِيمُ، فَلا تُطِعْهُما فِيمَا جَاهَدَاكَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ: شَامِلٌ لِلْمُوصِي وَالْمُوصَى وَالْمُجَاهِدِ وَالْمُجَاهَدِ، فَأُنَبِّئُكُمْ: فَأُجَازِيكُمْ، بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: مِنْ بِرٍّ، أَوْ عُقُوقٍ، أَوْ طَاعَةٍ، أَوْ عِصْيَانٍ. وَكَرَّرَ تَعَالَى مَا رَتَّبَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الصَّالِحِينَ، لِيُحَرِّكَ النُّفُوسَ إِلَى نَيْلِ مَرَاتِبِهِمْ. وَمَعْنَى فِي الصَّالِحِينَ: في جملتهم،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 83.

وَمَرْتَبَةُ الصَّلَاحِ شَرِيفَةٌ، أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسَأَلَهَا سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ مِنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فِي ثَوَابِ الصَّالِحِينَ، وَهِيَ الْجَنَّةُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ نَاسًا آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِذَا آذَاهُمُ الْكُفَّارُ، جَعَلُوا ذَلِكَ الْأَذَى، وَهُوَ فِتْنَةُ النَّاسِ، صَارِفًا لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ صَارِفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْكُفْرِ وَكَوْنُهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِينَ، قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَزِعَ كَمَا يُجْزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِيمَنْ هَاجَرَ، فَرَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَّةَ. وَقِيلَ: فِي مُؤْمِنِينَ أَخْرَجَهُمْ إلى بدر المشركون قارتدوا، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «1» . وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ: أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيَقُولُنَّ: أَيِ الْقَائِلُونَ أُوذِينَا فِي اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ: أَيْ مُتَابِعُونَ لَكُمْ فِي دِينِكُمْ، أَوْ مُقَاتِلُونَ مَعَكُمْ نَاصِرُونَ لَكُمْ، قَاسِمُونَا فِيمَا حَصَلَ لَكُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا مُظْهِرَةٌ مُغَالَطَتَهُمْ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ صَحِيحًا، لَصَبَرُوا عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيمَنْ هَاجَرَ، وَكَانُوا يَحْتَالُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَرَكِبُوا كُلَّ هَوْلٍ فِي هجرتهم. وقرىء: لَيَقُولَنَّ، بِفَتْحِ اللَّامِ، ذَكَرَهُ أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَأَعْلَمَ: أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، أَيْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَبِمَا فِي صُدُورِهِمْ: أَيْ بِمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ مِنْ إِيمَانٍ وَنِفَاقٍ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، أَيْ قَدْ عَلِمَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ: ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ ابْنُ زيد، وعلمه بالمؤمن، وعدله بِالثَّوَابِ، وَبِالْمُنَافِقِ وَعِيدٌ لَهُ بِالْعِقَابِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، ذَكَرَ مَقَالَةَ الْكَافِرِينَ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا، وَهُمْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كانوا يقولن لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: لَا نُبْعَثُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، قال لعمران: كَانَ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى دِينِ الْآبَاءِ إِثْمٌ، فَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَنْكَ، وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: وَلْنَحْمِلْ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ خَطَايَاهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ بِالنَّقْلِ، لَكِنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهَا أَوْجَبُ وَأَشَدُّ تَأْكِيدًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنَ الْمُجَازَاةِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

_ (1) سورة النساء: 4/ 97.

فَقُلْتُ ادْعِي وَأَدْعُو فَإِنَّ أَنْدَى ... لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ وَلِكَوْنِهِ خَبَرًا حَسُنَ تَكْذِيبُهُمْ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَرُوهُمْ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِهِمْ، وَهِيَ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي دِينِهِمْ، وَأَمَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِحَمْلِ خَطَايَاهُمْ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَرَادُوا، لِيَجْتَمِعْ هَذَانِ الْأَمْرَانِ فِي الْحُصُولِ، أَنْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَأَنْ نَحْمِلَ خَطَايَاكُمْ. وَالْمَعْنَى: تَعْلِيقُ الْحَمْلِ بِالِاتِّبَاعِ، وَهَذَا قَوْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: لَا نُبْعَثُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، فَإِنْ عَسَى، كَانَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَتَحَمَّلُ عَنْكُمُ الْإِثْمَ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ عَسَى، كَانَ تَرْكِيبٌ أَعْجَمِيٌّ لَا عَرَبِيٌّ، لِأَنَّ إِنِ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى عَسَى، لِأَنَّهُ فِعْلٌ جَامِدٌ، وَلَا تَدْخُلُ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ عَلَى الْفِعْلِ الْجَامِدِ وَأَيْضًا فَإِنَّ عَسَى لَا يَلِيهَا كَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَسَى بِغَيْرِ اسْمٍ وَلَا خَبَرٍ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا تَامَّةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَنُوحٌ الْقَارِئُ: وَلِنَحْمِلْ، بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ ، وَهِيَ لُغَةُ الْحَسَنِ، فِي لَامِ الْأَمْرِ. وَالْحَمْلُ هُنَا مُجَازٌ، شَبَّهَ الْقِيَامَ بِمَا يَتَحَصَّلُ مِنْ عَوَاقِبِ الْإِثْمِ بِالْحَمْلِ عَلَى الظَّهْرِ، وَالْخَطَايَا بِالْمَحْمُولِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَحْمِلُ هُنَا مِنَ الْحِمَالَةِ، لَا مِنَ الْحَمْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ خَطاياهُمْ. وَقَرَأَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، فِيمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: مِنْ خَطِيئَتِهِمْ، عَلَى التَّوْحِيدِ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ الْجِنْسِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ اتِّصَافُهُ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَأَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ أَنَّ دَاوُدَ هَذَا قَرَأَ: من خطيآتهم، بِجَمْعِ خَطِيئَةٍ جَمْعَ السَّلَامَةِ، بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: مِنْ خَطَئِهِمْ، بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَسْرُ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا هَمْزَةٌ سُهِّلَتْ بَيْنَ بَيْنَ، فَأَشْبَهَتِ الْيَاءَ، لِأَنَّ قِيَاسَ تَسْهِيلِهَا هُوَ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ سَمَّاهُمْ كَاذِبِينَ؟ وَإِنَّمَا ضَمِنُوا شَيْئًا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَمِنْ ضَمِنَ شَيْئًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، لَا يُسَمَّى كَاذِبًا، لَا حِينَ ضَمِنَ، وَلَا حِينَ عَجَزَ، لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ عَدِّ الْكَاذِبِينَ، وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ، لَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: شَبَّهَ اللَّهُ حَالَهُمْ، حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ مَا ضَمِنُوهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَفُوا بِهِ، فَكَانَ ضَمَانُهُمْ عِنْدَهُ، لَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمَضْمُونُ بِالْكَاذِبِينَ الَّذِينَ خَبَرَهُمْ، لَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إِنَّهُمْ كَاذِبُونَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَقُلُوبُهُمْ عَلَى خِلَافِهِ، كَالْكَاذِبِينَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ الشَّيْءَ، وَفِي قُلُوبِهِمْ فِيهِ الْخُلْفُ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ مِنْ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَلْنَحْمِلْ خَبَرٌ، يَعْنِي أَمْرًا، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ منزلان مَنْزِلَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، إِذِ الْمَعْنَى: أَنْ تَتَّبِعُوا سَبِيلَنَا، وَلَحِقَكُمْ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ عَلَى مَا تَزْعُمُونَ، فَنَحْنُ

نَحْمِلُ خَطَايَاكُمْ. وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا، كَانَ إِخْبَارًا فِي الْجَزَاءِ بِمَا لَا يُطَابَقُ، وَكَانَ كَذِبًا. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ: أَثْقَالَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَأَثْقالًا أَيْ أُخَرَ، وَهِيَ أَثْقَالُ الَّذِينَ أَغْرَوْهُمْ، فَكَانُوا سَبَبًا فِي كُفْرِهِمْ. وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُ، فَأَمْكَنَ انْدِرَاجُ أَثْقَالِ الْمَظْلُومِ بِحَمْلِهَا لِلظَّالِمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الظَّالِمِ لِلْمَظْلُومِ بِأَنْ يُعْطَى مِنْ حَسَنَاتِ ظَالِمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِلظَّالِمِ حَسَنَةٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَطُرِحَ عَلَيْهِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا مَعْنَاهُ: أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا وَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، فَعَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِمَّنِ اتَّبَعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوزارهم شيئا. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَيْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ، وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لِمَا كَانَ يَلْقَى مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ. فَذَكَرَ مَا لَقِيَ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَهُوَ نُوحٌ، مِنْ أَذَى قَوْمِهِ، الْمُدَدَ الْمُتَطَاوِلَةَ، تَسْلِيَةً لِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالْوَاوُ فِي وَلَقَدْ وَاوُ عَطْفٍ، عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَسَمُ فِيهَا بِعِيدٌ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ قَدْ حُذِفَ وَبَقِيَ حَرْفُهُ وَجَوَابُهُ، وَفِيهِ حَذْفُ الْمَجْرُورِ وَإِبْقَاءُ حَرْفِ الْجَارِّ، وَحَرْفُ الْجَرِّ لَا يُعَلَّقُ عَنْ عَمَلِهِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذِكْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَقَامَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يحتمل أن تكون الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ فِي قَوْمِهِ، مِنْ لَدُنْ مَوْلِدِهِ إِلَى غَرَقِ قَوْمِهِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ عِنْدِي مُحْتَمَلًا، لِأَنَّ اللُّبْثَ مُتَعَقِّبٌ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ، حِينَ كَانَ

بُعِثَ وَحِينَ مَاتَ، اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُتَكَاذِبًا، تَرَكْنَا حِكَايَتَهُ فِي كِتَابِنَا، وَهُوَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَلْفِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْعَدَدِ، وَفِي كَوْنِهِ ثَابِتًا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، وَقَدْ عَمِلَ الْفُقَهَاءُ الْمَسَائِلَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَغَايَرَ بَيْنَ تَمْيِيزِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَتَمْيِيزِ الْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ التَّكْرَارَ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ مُجْتَنَبٌ فِي الْبَلَاغَةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مِنْ تَفْخِيمٍ، أَوْ تَهْوِيلٍ، أَوْ تَنْوِيهٍ. وَلِأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا عُبِّرَ بِهِ، لِأَنَّ ذِكْرَ رَأْسِ الْعَدَدِ الَّذِي لَا رَأْسَ أَكْبَرُ مِنْهُ أَوْقَعُ وَأَوْصَلُ إِلَى الْغَرَضِ مِنَ اسْتِطَالَةِ السَّامِعِ مُدَّةَ صَبْرِهِ، وَلِإِزَالَةِ التَّوَهُّمِ الَّذِي يَجِيءُ مَعَ قَوْلِهِ: تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ عَامًا، بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لَا التَّمَامِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ الْمَجَازِيَّ. وَتَقَدَّمَتْ وَقْعَةُ نُوحٍ بِأَكْمَلِ مِمَّا هُنَا، وَالْخِلَافُ فِي عَدَدِ مَنْ آمَنَ وَدَخَلَ السَّفِينَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي وَجَعَلْناها يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى السَّفِينَةِ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْحَادِثَةِ وَالْقِصَّةِ، وَأَفْرَدَ آيَةً وَجَاءَ بِالْفَاصِلَةِ لِلْعالَمِينَ، لِأَنَّ إِنْجَاءَ السُّفُنِ أَمْرٌ مَعْهُودٌ. فَالْآيَةُ إِنْجَاؤُهُ تَعَالَى أَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّهَا بَقِيَتْ أَعْوَامًا حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا النَّاسُ وَرَأَوْهَا، فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا لَهُمْ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: لِلْعالَمِينَ، وَانْتَصَبَ إِبْراهِيمَ عَطْفًا عَلَى نُوحاً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ فِي فَأَنْجَيْناهُ. وَقَالَ هُوَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَقْدِيرِ اذْكُرُوا بَدَلٍ مِنْهُ، إِذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ، لِأَنَّ الْأَحْيَانَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لَا يَتَطَرَّفُ، فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَقَدْ كَثُرَ تَمْثِيلُ الْمُعْرِبِينَ، إِذْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا اذْكُرْ، وَإِذَا كَانَتْ ظَرْفًا لِمَا مَضَى، فَهُوَ لَوْ كَانَ مُنْصَرِفًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ معمولا لأذكر، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَقَعُ فِي الْمَاضِي، لَا يَجُوزُ ثُمَّ أَمْسِ، فَإِنْ كَانَ خُلِعَ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَاضِيَةِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ وَمَعْمُولًا لأذكر. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ: بِالرَّفْعِ، أَيْ: وَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِبْرَاهِيمُ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَمْثِيلٌ لِقُرَيْشٍ، وَتَذْكِيرٌ لِحَالِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ رَفْضِ الْأَصْنَامِ، وَالدَّعْوَى إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ نَمْرُوذُ وَأَهْلُ مَدِينَتِهِ عُبَّادَ أَصْنَامٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَخْلُقُونَ، مُضَارِعَ خَلَقَ، إِفْكاً، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ، وَعُبَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْخَاءِ وَاللَّامِ مُشَدَّدَةً. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَصْلُهُ: تَتَخَلَّقُونَ، بِتَاءَيْنِ، فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْمَحْذُوفَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أَيْضًا، فِيمَا ذَكَرَ الْأَهْوَازِيُّ: تُخَلِّقُونَ، مِنْ خَلَّقَ الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَفُضَيْلُ بْنُ زُرْقَانَ: أَفِكًا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْكَذِبِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً، هُوَ نَحْتُ الْأَصْنَامِ وَخَلْقُهَا، سَمَّاهَا إِفْكًا تَوَسُّعًا مِنْ حَيْثُ يَفْتَرُونَ بِهَا الْإِفْكَ فِي أَنَّهَا آلِهَةٌ. وقال مجاهد: هو اختلاف الْكَذِبِ فِي أَمْرِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِفْكًا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا نَحْوَ: كِذْبٍ وَلِعْبٍ، وَالْإِفْكُ مُخَفَّفٌ مِنْهُ، كَالْكِذْبِ وَاللِّعْبِ مِنْ أَصْلِهِمَا، وَأَنْ تَكُونَ صِفَةً عَلَى فِعْلٍ، أَيْ خَلْقًا إِفْكًا، ذَا إِفْكٍ وَبَاطِلٍ، واختلافهم الْإِفْكَ تَسْمِيَةُ الْأَوْثَانِ آلِهَةً وَشُرَكَاءَ لِلَّهِ وَشُفَعَاءَ إِلَيْهِ، أَوْ سَمَّى الْأَصْنَامَ إِفْكًا، وَعَمَلَهُمْ لَهَا وَنَحْتَهُمْ خَلْقًا لِلْإِفْكِ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّرْدِيدُ مِنْهُ فِي نَحْوِ: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً، قَوْلَانِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا نَقْلُهُمَا عَنْهُمَا وَنَفْيُهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً عَلَى جِهَةِ الِاحْتِجَاجِ بِأَمْرٍ يَفْهَمُهُ عَامَّتُهُمْ وَخَاصَّتُهُمْ، فَقَرَّرَ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُرْزَقُ، وَالرِّزْقُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرَ: لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَرْزُقُوكُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ الْمَرْزُوقِ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ إِيتَاءَ رِزْقٍ وَلَا تَحْصِيلَهُ، وَخُصَّ الرِّزْقُ لِمَكَانَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِمَّنْ هُوَ يَمْلِكُهُ وَيُؤْتِيهِ، وَذَكَرَ الرِّزْقَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَعَرَّفَهُ بَعْدُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ الْأَرْزَاقُ كُلُّهَا. وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى نِعَمِهِ السَّابِغَةِ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ. وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: أَيْ إِلَى جَزَائِهِ، أَخْبَرَ بِالْمَعَادِ وَالْحَشْرِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا: أَيْ لَيْسَ هَذَا مُبْتَكَرًا مِنْكُمْ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ مِنْ أُمَمِ الرُّسُلِ، قِيلَ: قَوْمُ شِيثَ وَإِدْرِيسَ وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاشَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، فَآمَنَ بِهِ أَلْفُ إنسان على عدد سنيه، وَبَاقِيهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، بِخِلَافٍ عَنْهُ: تَرَوْا، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ. والجمهور: يبدىء، مُضَارِعَ أَبْدَأَ وَالزُّبَيْرُ. وَعِيسَى، وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُ: يَبْدَأُ، مُضَارِعَ بَدَأَ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا، فَذَهَبَتْ فِي الْوَصْلِ، وَهُوَ تَخْفِيفٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَارْعِي فَزَارَةَ لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ وَقِيَاسُ تَخْفِيفِ هَذَا التَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ، وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ بَدْءِ الْخَلْقِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا، وَفِي: فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، إِنَّمَا هُوَ لِمُشَاهَدَتِهِمْ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَإِخْرَاجَ أَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ، لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ الرُّؤْيَةِ وَلَا تَحْتَ النَّظَرِ، فَلَيْسَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مَعْطُوفًا عَلَى يُبْدِئُ،

وَلَا ثُمَّ يُنْشِئُ دَاخِلًا تَحْتَ كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ فِي الْبَدْءِ، بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ، إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقُدِّمَ مَا قَبْلَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ الصَّادِقُ بِوُقُوعِهِ، صَارَ وَاجِبًا مَقْطُوعًا بعلمه، وَلَا شَكَّ فِيهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَوَلَمْ يَرَوْا، بِالدَّلَائِلِ وَالنَّظَرِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ الْأَجْسَامَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ الْمَعْنَى: كَيْفَ يَبْدَأُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى أَحْوَالٍ أُخَرَ، حَتَّى إِلَى التُّرَابِ؟ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَلْقُ هُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: النَّشَاءَةُ هُنَا، وَفِي النَّجْمِ وَالْوَاقِعَةِ عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: النَّشْأَةُ، عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ، وَهُمَا كَالرَّآفَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْقَصْرُ أَشْهَرُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، إِمَّا عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ قَامَ مَقَامَ الْإِنْشَاءِ، وَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلِهِ، أَيْ فَتُنَشَّئُونَ النَّشْأَةَ. وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى صَرَّحَ بِاسْمِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ، ثُمَّ أُضْمِرَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُنَا عَكَسَ أُضْمِرُ فِي بَدَأَ، ثُمَّ أَبْرَزَهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ، حَتَّى لَا تَخْلُوَ الْجُمْلَتَانِ مِنْ صَرِيحِ اسْمِهِ. وَدَلَّ إِبْرَازُهُ هُنَا عَلَى تَفْخِيمِ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهَا وَتَقْرِيرِ وَجُودِهَا، إِذْ كَانَ نِزَاعُ الْكُفَّارِ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي بَدَأَ الْخَلْقَ هُوَ الَّذِي يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ أَفْخَمَ فِي إِسْنَادِ النَّشْأَةِ إِلَيْهِ. وَالْآخِرَةُ صِفَةٌ لِلنَّشْأَةِ، فَهُمَا نَشْأَتَانِ: نَشْأَةُ اخْتِرَاعٍ مِنَ الْعَدَمِ، وَنَشْأَةُ إِعَادَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الصِّفَةَ الَّتِي النَّشْأَةُ هِيَ بَعْضُ مَقْدُورَاتِهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، أَيْ تَعْذِيبَهُ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رَحْمَتَهُ، وَبَدَأَ بِالْعَذَابِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ مَعَ الْكُفَّارِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ: أَيْ تُرَدُّونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمُتَعَلَّقُ الْمَشِيئَتَيْنِ مُفَسَّرٌ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُهُمَا مِنَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ إِذَا لَمْ يَتُوبَا، وَمِنَ الْمَعْصُومِ وَالتَّائِبِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ: أَيْ فَائِتِينَ مَا أَرَادَ اللَّهُ لَكُمْ. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، إِنْ حُمِلَ السَّمَاءِ عَلَى الْعُلُوِّ فَجَائِزٌ، أَيْ فِي الْبُرُوجِ وَالْقِلَاعِ الذَّاهِبَةِ فِي الْعُلُوِّ، وَيَكُونُ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ عَلَى الْمِظَلَّةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ، أَيْ لَوْ صِرْتُمْ فِيهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَرُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ ليعتورنك الْقَوْلُ حَتَّى تَهُزَّهُ ... وَتَعْلَمَ أَنِّي فِيكَ لَسْتُ بمجرم وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» ، عَلَى تَقْدِيرِ

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 33.

الْحُكْمِ لَوْ كُنْتُمْ فِيهَا، وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَالْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ: وَلَا مَنْ فِي السَّمَاءِ، أَيْ يَعْجِزُ إِنْ عَصَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَهَذَا مِنْ غَوَامِضِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ حَسَّانَ: فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ أَيْ: وَمَنْ يَنْصُرُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَوْصُولِ وَإِبْقَاءَ صِلَتِهِ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ مَنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَا مَنْ فِي السَّمَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَيْفَ تُعْجِزُونَ اللَّهَ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَئِسُوا، بِالْهَمْزِ وَالذِّمَارِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِغَيْرِ هَمْزٍ، بَلْ بِيَاءٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ وَعِيدٌ، أَيْ ييأسون يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مِنْ رَحْمَتِي. وَقِيلَ: مِنْ دِينِي، فَلَا أَهْدِيهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ وَصْفٌ بِحَالِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَكُونُ دَائِمًا رَاجِيًا خَائِفًا، وَالْكَافِرَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ذَلِكَ. شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي انْتِفَاءِ رَحْمَتِهِ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يَئِسَ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا، مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ، إِلَى قَوْلِهِ: عَذابٌ أَلِيمٌ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ اعْتِرَاضٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَيْنَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَالْإِخْبَارُ عَنْ جَوَابِ قَوْمِهِ، أَيْ وَإِنْ تُكَذِّبُوا مُحَمَّدًا، فَتَقْدِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضًا يَرُدُّ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ لَا يَكُونُ جُمْلَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّهُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَ قَدِ ابْتُلِيَ بِمِثْلِ مَا كَانَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ قَدِ ابْتُلِيَ، مِنْ شِرْكِ قَوْمِهِ وَعِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَمُحَاوَلَتِهِمْ قَتْلَهُ. وَجَاءَتِ الْآيَاتُ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ مُقَرِّرَةً لِمَا جَاءَ به الرسول مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ وَذِكْرِ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَالْمَعَادِ. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ، وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ، قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ، وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً

سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ، إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. لَمَّا أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَبَيَّنَ سَفَهَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَظَهَرَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ، رَجَعُوا إِلَى الْغَلَبَةِ، فَجَعَلُوا الْقَائِمَ مَقَامَ جَوَابِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ قَوْلَهُمْ: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ. وَالْآمِرُونَ بِذَلِكَ، إِمَّا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، أَوْ كُبَرَاؤُهُمْ قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمُ: اقْتُلُوهُ، فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ عَاجِلًا، أَوْ حَرِّقُوهُ بِالنَّارِ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِكُمْ، إِذَا أَمْضَتْهُ النَّارُ وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ بِهَا، إِنْ أَصَرَّ عَلَى قَوْلِهِ وَدِينِهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ حَرِّقُوهُ فِي النَّارِ، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي تَحْرِيقِهِ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «1» . وَجَمَعَ هُنَا فَقَالَ: الْآيَاتِ، لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنَ النَّارِ، وَجَعْلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا، وَأَنَّهَا فِي الْحَبْلِ الَّذِي كَانُوا أَوْثَقُوهُ بِهِ دُونَ الْجِسْمِ، وَإِنْ صَحَّ مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ مَكَانَهَا، حَالَةَ الرَّمْيِ، صَارَ بُسْتَانًا يَانِعًا، هُوَ مَجْمُوعُ آيَاتٍ، فَنَاسَبَ الْجَمْعَ، بِخِلَافِ الْإِنْجَاءِ مِنَ السَّفِينَةِ، فَإِنَّهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِيمَا قَالَ كَعْبٌ: لَمْ يَحْتَرِقْ بِالنَّارِ إِلَّا الْحَبْلُ الَّذِي أَوْثَقُوهُ بِهِ. وَجَاءَ هُنَا التَّرْدِيدُ بَيْنَ قَتْلِهِ وَإِحْرَاقِهِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَائِلِينَ: نَاسٌ أَشَارُوا بِالْقَتْلِ، وَنَاسٌ أَشَارُوا بِالْإِحْرَاقِ. وَفِي اقْتَرَبَ قَالُوا: حَرِّقُوهُ «2» اقْتَصَرُوا عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي فَعَلُوهُ، رَمَوْهُ فِي النَّارِ وَلَمْ يَقْتُلُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَوابَ، بِالنَّصْبِ وَالْحَسَنُ، وَسَالِمٌ الْأَفْطَسُ: بِالرَّفْعِ، اسْمًا لكان. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الْأَصْمَعِيِّ، وَالْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: مودة بالرفع، وبينكم بِالنَّصْبِ. فَالرَّفْعُ عَلَى خَبَرِ إن، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ إِنَّ الْأَوْثَانَ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا مَوْدُودًا، أَوْ سَبَبَ مَوَدَّةٍ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ إِنَّ اتِّخَاذَكُمْ أَوْثَانًا مَوَدَّةً، أَوْ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ، وَمَا إِذْ ذَاكَ مُهَيِّئَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: مَوَدَّةُ، بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وبينكم بِالْفَتْحِ، أَيْ بِفَتْحِ النُّونِ، جَعَلَهُ مَبْنِيًّا لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ، وَهُوَ مَوْضِعُ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّنْوِينُ مِنْ مَوَدَّةُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَضَ نُونَ بَيْنِكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ: بِنَصْبِ مَوَدَّةً مُنَوَّنًا وَنَصْبِ بَيْنَكُمْ وَحَمْزَةُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَضَافَ مَوَدَّةً إِلَى بَيْنَكُمْ وَخَفَضَ، كَمَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ مودّة مهيئة. واتخذ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، وَالثَّانِي هُوَ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 1. (2) سورة الأنبياء: 21/ 68.

مَوَدَّةَ، أَيِ اتَّخَذْتُمُ الْأَوْثَانَ بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَكُمْ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَوِ اتَّخَذْتُمُوهَا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ، كَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ «1» ، أَوْ مِمَّا تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ، وَانْتَصَبَ مَوَدَّةَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لِيَتَوَادُّوا وَيَتَوَاصَلُوا وَيَجْتَمِعُوا عَلَى عِبَادَتِهَا، كَمَا يَجْتَمِعُ نَاسٌ عَلَى مَذْهَبٍ، فَيَقَعُ التَّحَابُّ بَيْنَهُمْ. وَذَكَرُوا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قِرَاءَةً شَاذَّةً تُخَالِفُ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَفِيضِ، فَلِذَلِكَ لَمْ أَذْكُرْ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَقَعُ بَيْنَكُمُ التَّلَاعُنُ، أَيْ فَيُلَاعِنُ الْعَبَدَةُ وَالْمَعْبُودَاتُ الْأَصْنَامَ، كقوله: ويَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «2» . وبَيْنِكُمْ، وفِي الْحَياةِ: يَجُوزُ تَعْلِيقُهُمَا بِلَفْظِ مَوَدَّةَ وَعَمِلَ فِي ظَرْفَيْنِ لِاخْتِلَافِهِمَا، إِذْ هُمَا ظَرْفَا مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَا بِمَحْذُوفَيْنِ، فَيَكُونَانِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ كَائِنَةً بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي بَيْنِكُمْ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الْحَياةِ. باتخذتم عَلَى جَعْلِ مَا كَافَّةً وَنَصْبِ مَوَدَّةَ، لَا عَلَى جَعْلِ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ مَصْدَرِيَّةً وَرَفْعِ مَوَدَّةَ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَمَا فِي الصِّلَةِ بِالْخَبَرِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الْحَياةِ بمودة، وَأَنْ يَكُونَ بَيْنِكُمْ صِفَةً لمودة، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مُتَعَلِّقَاتِهِ لَا يَعْمَلُ، وَشُبْهَتُهُمْ فِي هَذَا أَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي الظَّرْفِ، بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ بَيْنِكُمْ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَاهُ: اجْتِمَاعُكُمْ أَوْ وَصْلُكُمْ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَهُ حَالًا مِنَ بَيْنِكُمْ، قَالَ: لِتَعَرُّفِهِ بِالْإِضَافَةِ. انْتَهَى، وَهُمَا إِعْرَابَانِ لَا يَتَعَقَّلَانِ. فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ: لَمْ يُؤْمِنْ بِإِبْرَاهِيمَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ رَأَى النَّارَ لَمْ تُحْرِقْهُ، وَكَانَ ابْنُ أَخِي سَارَّةَ، أَوْ كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ. وَالضَّمِيرُ فِي وَقالَ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِيَتَنَاسَقَ مَعَ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَعُودُ عَلَى لُوطٍ، وَهَاجَرَ، وَإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مِنْ قَرْيَتِهِمَا كُوثَى، وَهِيَ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ، مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، إِلَى فِلَسْطِينَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ فِي اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَاجَرَ إِلَى حَرَّانَ، ثُمَّ إِلَى الشَّامِ، وَفِي هِجْرَتِهِ هَذِهِ كَانَتْ مَعَهُ سَارَّةُ. وَالْمُهَاجِرُ: الْفَارِغُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ: مَنْ تَرَكَ وَطَنَهُ رَغْبَةً فِي رِضَا اللَّهِ. وَعُرِفَ بِهَذَا الِاسْمِ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُهَاجِرُونَ، قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. إِلى رَبِّي، أَيْ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَمَرَنِي رَبِّي بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 165. [.....] (2) سورة مريم: 19/ 82.

وَقِيلَ: إِلَى حَيْثُ لَا أُمْنَعُ عِبَادَةَ رَبِّي. وَقِيلَ: مُهَاجِرًا مَنْ خَالَفَنِي مِنْ قَوْمِي، مُتَقَرِّبًا إِلَى رَبِّي. وَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ قَرْيَةً مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَتَرَكَ لُوطًا فِي سَدُومَ، وَهِيَ الْمُؤْتَفِكَةُ، عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ قَرْيَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُذَلُّ مَنْ عَبَدَهُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَالضَّمِيرُ فِي ذُرِّيَّتِهِ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. النُّبُوَّةَ: إِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُهُمْ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَالْكِتابَ: اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ فِيهِ التَّوْرَاةُ، وَالزَّبُورُ، وَالْإِنْجِيلُ، وَالْفُرْقَانُ. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا: أَيْ فِي حَيَاتِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: نَجَاتُهُ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ، بِحَيْثُ يَتَوَلَّاهُ كُلُّ أُمَّةٍ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَالْوَلَدُ الَّذِي قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ رَأَى مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ: مَا وُفِّقَ لَهُ مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: بَقَاءُ ضِيَافَتِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِنَبِيٍّ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ وَالْحِكْمَةُ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. وَانْتَصَبَ لُوطًا بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فِي أَئِنَّكُمْ معا. وقرىء: أَنَّكُمْ عَلَى الْخَبَرِ، وَالثَّانِي عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجَدْتُهُ فِي الْإِمَامِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَرَأَيْتُ الثَّانِيَ بِحَرْفَيْنِ، الْيَاءِ وَالنُّونِ. وَلَمْ يَأْتِ فِي قِصَّةِ لُوطٍ أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَقِصَّةِ شُعَيْبٍ، لِأَنَّ لُوطًا كَانَ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي زَمَانِهِ، وَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الدُّعَاءِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْخَلْقِ، فَذَكَرَ لُوطٌ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ الْمَنْعِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَشُعَيْبٌ فَجَاءَا بَعْدَ انْقِرَاضِ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَلِذَلِكَ دَعَوَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا سَبَقَكُمْ بِها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِفَاحِشَةِ تِلْكَ الْفَعْلَةِ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ كَانَتْ فَاحِشَةً؟ فَقِيلَ: لِأَنَّ أَحَدًا قَبْلَهُمْ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهَا اشْمِئْزَازًا مِنْهَا فِي طِبَاعِهِمْ لِإِفْرَاطِ قُبْحِهَا، حَتَّى قَدَمَ عَلَيْهَا قَوْمُ لُوطٍ لِخُبْثِ طِينَتِهِمْ، قَالُوا: لَمْ يَنْزُ ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ. انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّ مَا سَبَقَكُمْ بِها جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مُبْتَدِعِينَ لَهَا غَيْرَ مَسْبُوقِينَ بِهَا؟ وَاسْتَفْهَمَ أَوَّلًا وَثَانِيًا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، وَبَيَّنَ مَا تِلْكَ الْفَاحِشَةُ الْمُبْهَمَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً أَنَّهَا إِتْيَانُ الذُّكُورِ فِي الْأَدْبَارِ بِقَوْلِهِ: مَا سَبَقَكُمْ بِها، فقال: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ: يَعْنِي فِي الْأَدْبَارِ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ: الْوَلَدَ، بِتَعْطِيلِ الْفَرْجِ وَوَطْءِ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، أَوْ بِإِمْسَاكِ الْغُرَبَاءِ

لِذَلِكَ الْفِعْلِ حَتَّى انْقَطَعَتِ الطُّرُقُ، أَوْ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ، أَوْ بِقُبْحِ الْأُحْدُوثَةِ حَتَّى تَنْقَطِعَ سُبُلُ النَّاسِ فِي التِّجَارَاتِ. وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ: أَيْ فِي مَجْلِسِكُمُ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، إِذْ أَنْدِيَتُهُمْ فِي مَدَائِنِهِمْ كَثِيرَةٌ، وَلَا يُسَمَّى نَادِيًا إِلَّا مَا دَامَ فِيهِ أَهْلُهُ، فَإِذَا قَامُوا عَنْهُ، لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ نَادٍ إِلَّا مَجَازًا. والْمُنْكَرَ: مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَالشَّرَائِعُ وَالْمُرُوءَاتُ، حَذْفُ النَّاسِ بِالْحَصْبَاءِ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْغَرِيبِ الْخَاطِرِ، وروت أم هانىء، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ إِتْيَانُ الرِّجَالِ فِي مَجَالِسِهِمْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَهُ مَنْصُورٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَتَادَةُ بْنُ زَيْدٍ أَوْ تَضَارُطُهُمْ أَوْ تَصَافُعُهُمْ فِيهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أو لَعِبُ الْحَمَامِ أَوْ تَطْرِيفُ الْأَصَابِعِ بِالْحِنَّاءِ، وَالصَّفِيرُ، وَالْحَذْفُ، وَنَبْذُ الْحَيَاءِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، أَوْ الْحَذْفُ بِالْحَصَى، وَالرَّمْيُ بِالْبَنَادِقِ، وَالْفَرْقَعَةُ، وَمَضْغُ الْعَلَكِ، وَالسِّوَاكُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَلُّ الْأَزْرَارِ، وَالسِّبَابَةُ، وَالْفُحْشُ فِي الْمِزَاحِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَعَ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ. كَانَتْ فِيهِمْ ذُنُوبٌ غَيْرُ الْفَاحِشَةِ، تَظَالُمٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبَشَاعَةٌ، وَمَضَارِيطُ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَحَذْفٌ، وَلَعِبٌ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ، وَلُبْسُ الْمُصَبَّغَاتِ، وَلِبَاسُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ، وَالْمُكُوسُ عَلَى كُلِّ عَابِرٍ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ لَاطَ وَمَنْ سَاحَقَ. وَلَمَّا وَقَّفَهُمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى هَذِهِ الْقَبَائِحِ، أَصَرُّوا عَلَى اللِّجَاجِ فِي التَّكْذِيبِ، فَكَانَ جَوَابُهُمْ لَهُ: أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فِيمَا تَعِدُنَا بِهِ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، قَالُوا ذَلِكَ وَهُمْ مُصَمِّمُونَ عَلَى اعْتِقَادِ كَذِبِهِ فِيمَا وَعَدَهُمْ بِهِ. وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ، الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ أَوَّلًا قَالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ، ثُمَّ أَنَّهُ كَثُرَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ نَهْيًا وَوَعْظًا وَوَعِيدًا، قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ. وَلَمَّا كَانَ إِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ بِتَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ مِنْ قَبِيحِ الْمَعَاصِي، وَيَعِدُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحَرِّمْ هَذَا وَلَا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَيُعَذِّبُ عَلَيْهِ، قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ، فَكَانُوا أَلْطَفَ فِي الْجَوَابِ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِمْ: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَذُمُّ آلِهَتَهُمْ، وَعَهِدَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ فَكَسَرَهَا، فَكَانَ فِعْلُهُ هَذَا مَعَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ قَوْلِ لُوطٍ لِقَوْمِهِ، فَكَانَ جَوَابُهُمْ لَهُ: أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ. ثُمَّ اسْتَنْصَرَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبُعِثَ مَلَائِكَةٌ لِعَذَابِهِمْ، وَرَجْمِهِمْ بِالْحَاصِبِ، وَإِفْسَادِهِمْ بِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي طَوْعًا وَكَرْهًا، وَخُصُوصًا تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ الْمُبْتَدَعَةَ. بِالْبُشْرى: هِيَ بِشَارَتُهُ بِوَلَدِهِ إِسْحَاقَ، وَبِنَافِلَتِهِ يَعْقُوبَ، وَبِنَصْرِ لُوطٍ

على قومه وإهلاكهم، والْقَرْيَةِ: سَدُومُ، وَفِيهَا قِيلَ: أَجْوَرُ مِنْ قَاضِي سَدُومَ. كانُوا ظالِمِينَ: أَيْ قَدْ سَبَقَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ. وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْأَيَّامِ السَّالِفَةِ وَهُمْ مُصِرُّونَ، وَظُلْمُهُمْ: كُفْرُهُمْ وَأَنْوَاعُ مَعَاصِيهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرُوا لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ، أَشْفَقَ عَلَى لُوطٍ فَقَالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً. وَلَمَّا عَلَّلُوا الْإِهْلَاكَ بِالظُّلْمِ، قَالَ لَهُمْ: فِيهَا مَنْ هُوَ بَرِيءٌ مِنَ الظُّلْمِ، قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها: أَيْ مِنْكَ، وَأُخْبِرَ بِحَالِهِ. ثُمَّ أَخْبَرُوهُ بِإِنْجَائِهِمْ إِيَّاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: لَنُنَجِّيَنَّهُ، مُضَارِعَ أَنْجَى وَبَاقِي السَّبْعَةِ: مُضَارِعَ نَجَّى وَالْجُمْهُورُ: بِشَدِّ النُّونِ وَفِرْقَةٌ: بِتَخْفِيفِهَا. وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا زِيدَتْ، أَنْ بَعْدَ لَمَّا، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ صِلَةٌ أَكَّدَتْ وُجُودَ الْفِعْلَيْنِ مُتَرَتِّبًا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي وَقْتَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ لَا فَاصِلَ بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُمَا وُجِدَا فِي جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا أَحَسَّ بِمَجِيئِهِمْ، فَاجَأَتِ الْمَسَاءَةُ مِنْ غَيْرِ وَقْتٍ خِيفَةً عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي التَّرْتِيبِ هُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، إِذْ مَذْهَبُهُ. أَنَّ لَمَّا: حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، خِلَافًا لِلْفَارِسِيِّ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَنَافِعٌ، وَحَفْصٌ: مُنَجُّوكَ، مُشَدَّدًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: مُخَفَّفًا، وَالْكَافُ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. وَأَهْلَكَ: مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ وَنُنَجِّي أَهْلَكَ. وَمَنْ رَاعَى هَذَا الْمَوْضِعَ، عَطَفَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ، وَالْكَافُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَهِشَامٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وأهلك مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ النُّونَ كَالتَّنْوِينِ، وَهُمَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا يُحْذَفَانِ لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ وَشِدَّةِ طَلَبِهِ الِاتِّصَالَ بِمَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِيءَ، بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمَّهَا نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَطَلْحَةُ: سُوءَ، بِضَمِّهَا، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي هُذَيْلٍ. وَبَنِي وُبَيْرٍ يَقُولُونَ فِي قِيلَ وَبِيعَ وَنَحْوِهِمَا: قُولَ وبوع. وقرىء: مُنْزِلُونَ، مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: رُجْزًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشُ: بِكَسْرِ سِينِ يَفْسُقُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنَازِلُهُمُ الْخَرِبَةُ. وَحَكَى أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَنَّ الْآيَةَ فِي قَرْيَتِهِمْ، إِلَّا أَنَّ أَسَاسَهَا أَعْلَاهَا، وَسُقُوفَهَا أَسْفَلُهَا إِلَى الْآنَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى تَرَكْنَاهَا آيَةً، يَقُولُ: إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَآيَةً، يُرِيدُ أَنَّهَا آيَةٌ. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَتَّجِهُ إِلَّا عَلَى زِيَادَةَ مِنْ فِي الْوَاجِبِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَمْهَرْتُ مِنْهَا جُبَّةً وَتَيْسًا، يُرِيدُ: أَمْهَرْتُهَا وَكَذَلِكَ: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً، وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي مِنْهَا عَائِدَةٌ عَلَى الْفِعْلَةِ الَّتِي فُعِلَتْ بِهِمْ، فَقِيلَ: الْآيَةُ: الْحِجَارَةُ الَّتِي أَدْرَكَتْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَقِيلَ: الْمَاءُ الْأَسْوَدُ

عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقِيلَ: أَنْجَزَ مَا صنع بهم. ولِقَوْمٍ: متعلق بتركنا، أَوْ بَيِّنَةً. وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ، وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ، فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ، خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. وَإِلى مَدْيَنَ: أَيْ وَإِلَى مَدْيَنَ أَرْسَلْنَا، أَوْ بَعَثْنَا، مِمَّا يَتَعَدَّى بِإِلَى. أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْأَمْرُ بِالرَّجَاءِ، أَمْرٌ بِفِعْلِ مَا يَتَرَتَّبُ الرَّجَاءُ عَلَيْهِ، أَقَامَ الْمُسَبِّبَ مَقَامَ السَّبَبِ. وَالْمَعْنَى: وَافْعَلُوا مَا تَرْجُونَ بِهِ الثَّوَابَ مِنَ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ أَمْرًا بِالرَّجَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ تَحْصِيلِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَارْجُوا: خَافُوا جَزَاءَ الْيَوْمِ الْآخِرِ مِنَ انْتِقَامِ اللَّهِ مِنْكُمْ إِنْ لَمْ تَعْبُدُوهُ. وَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَالرَّجَاءِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ كَذَلِكَ جَاءَ: فَكَذَّبُوهُ، وَجَاءَتْ ثَمَرَةُ التَّكْذِيبِ، وَهِيَ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ. وَانْتَصَبَ وَعاداً وَثَمُودَ بِإِضْمَارِ أَهْلَكْنَا، لِدَلَالَةِ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: بِالْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ فِي فَأَخَذَتْهُمْ، وَأَبْعَدَ الْكِسَائِيُّ فِي عَطْفِهِ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقَرَأَ: ثَمُودَ، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ حَمْزَةُ، وَشَيْبَةُ، وَالْحَسَنُ، وَحَفْصٌ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: وَعَادٍ وَثَمُودٍ، بِالْخَفْضِ فِيهِمَا، وَالتَّنْوِينِ عَطْفًا عَلَى مَدْيَنَ، أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ: أَيْ ذَلِكَ، أَيْ مَا وُصِفَ لَكُمْ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ مِنْ جِهَةِ مَسَاكِنِهِمْ، إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَيْهَا عِنْدَ مُرُورِكُمْ لَهَا، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَسَاكِنُهُمْ، بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ مِنْ، فَيَكُونُ فَاعِلًا بتبين.

وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ: أَيْ بِوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ، أَعْمالَهُمْ الْقَبِيحَةَ. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَهِيَ طَرِيقُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ: أَيْ فِي كُفْرِهِمْ لَهُمْ بِهِ بَصَرٌ وَإِعْجَابٌ قَالَهُ، ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: عُقَلَاءُ، يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّسَالَةَ وَالْآيَاتِ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا، وَجَحَدُوا بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ. وَقارُونَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ. فَاسْتَكْبَرُوا: أَيْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ وَعِبَادَتِهِ في الأرض، إشارة إلى قِلَّةِ عُقُولِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَشْعُرُ بِالضَّعْفِ، وَمَنْ فِي السَّمَاءِ يَشْعُرُ بِالْقُوَّةِ، وَمَنْ فِي السَّمَاءِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، فَكَيْفَ مَنْ فِي الْأَرْضِ؟ وَما كانُوا سابِقِينَ الْأُمَمَ إِلَى الْكُفْرِ، أَيْ تِلْكَ عَادَةَ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمُ. وَالْحَاصِبُ لِقَوْمِ لُوطٍ، وَهِيَ رِيحٌ عَاصِفٌ فِيهَا حصا، وَقِيلَ: مَلَكٌ كَانَ يَرْمِيهِمْ. وَالصَّيْحَةُ لِمَدْيَنَ وَثَمُودَ، وَالْخَسْفُ لِقَارُونَ، وَالْغَرَقُ لِقَوْمِ نُوحٍ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَدْخُلَ قَوْمُ عَادٍ فِي الْحَاصِبِ، لِأَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ لَا بُدَّ كَانَتْ تَحْصُبُهُمْ بِأُمُورٍ مُؤْذِيَةٍ، وَالْحَاصِبُ: هُوَ الْعَارِضُ مِنْ رِيحٍ أَوْ سَحَابٍ إِذَا رُمِيَ بِشَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقُ: مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ تَضْرِبُهُمْ ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: تَرْمِي الْعِضَاةَ بِحَاصِبٍ من بلحها ... حَتَّى تَبِيتَ عَلَى الْعِضَاهِ حفالا الْعَنْكَبُوتِ: حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ، وَوَزْنُهُ فَعْلَلُوتٌ، وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، فَمِنْ تَذْكِيرِهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَلَى هَطَّالِهِمْ مِنْهُمْ بُيُوتٌ ... كَأَنَّ الْعَنْكَبُوتَ هُوَ ابْتَنَاهَا وَيُجْمَعُ عَنَاكِبُ، وَيُصَغَّرُ عُنَيْكِيبٌ. يُشَبِّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَبِنَائِهِمْ أُمُورَهُمْ عَلَيْهَا بِالْعَنْكَبُوتِ الَّتِي تَبْنِي وَتَجْتَهِدُ، وَأَمْرُهَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ، مَتَى مَسَّتْهُ أَدْنَى هَامَةٍ أَوْ هَامَّةٍ أَذْهَبَتْهُ، فَكَذَلِكَ أَمْرُ أُولَئِكَ، وَسَعْيُهُمْ مُضْمَحِلٌّ، لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا مُعْتَمَدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَرَضُ تَشْبِيهُ مَا اتَّخَذُوهُ مُتَّكَلًا وَمُعْتَمَدًا فِي دِينِهِمْ، وَتَوَلَّوْهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مِمَّا هُوَ مَثَلٌ عِنْدِ النَّاسِ فِي الْوَهْنِ وَضَعْفِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ. أَلَا تَرَى إِلَى مَقْطَعِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ؟ انْتَهَى. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى إِلَى مَقْطَعِ التَّشْبِيهِ بِمَا ذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْغَرَضَ تَشْبِيهُ الْمُتَّخِذِ بِالْبَيْتِ، لَا تَشْبِيهُ الْمُتَّخِذِ بِالْعَنْكَبُوتِ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ، هُوَ تَشْبِيهُ الْمُتَّخِذِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، بِالْعَنْكَبُوتِ الْمُتَّخِذَةِ بَيْتًا، أَيْ فَلَا اعْتِمَادَ لِلْمُتَّخِذِ عَلَى وَلِيِّهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ الْعَنْكَبُوتَ لَا اعتماد لها عَلَى بَيْتِهَا فِي

اسْتِظْلَالٍ وَسُكْنَى، بَلْ لَوْ دَخَلَتْ فِيهِ خَرَقَتْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ بَيْتِهَا، وَأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْوَهْنِ، بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تُجْدِي شَيْئًا الْبَتَّةَ، وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، لَيْسَ مَرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مَثَلُهُمْ، وَأَنَّ أَمْرَ دِينِهِمْ بَالِغٌ مِنَ الْوَهْنِ هَذِهِ الْغَايَةَ لَأَقْلَعُوا عَنْهُ، وَمَا اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا صَحَّ تَشْبِيهُ مَا اعْتَمَدُوهُ فِي دِينِهِمْ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ دِينَهُمْ أَوْهَنَ الْأَدْيَانِ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَوْ أُخْرِجَ الْكَلَامُ بَعْدَ تَصْحِيحِ التَّشْبِيهِ مَخْرَجَ الْمَجَازِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّ أَوْهَنَ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي يَعْبُدُ الْوَثَنَ، بِالْقِيَاسِ إِلَى الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ، مَثَلُ عَنْكَبُوتٍ يَتَّخِذُ بَيْتًا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا بِآجُرٍّ وَجِصٍّ أَوْ نَحَتَهُ مِنْ صَخْرٍ. فَكَمَا أَنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ، إذا استقريتها بيتا بَيْتًا، بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، كَذَلِكَ أَضْعَفُ الْأَدْيَانِ، إِذَا اسْتَقْرَيْتَهَا دينا دِينًا، عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِلَخْ. لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْمِيلٌ لِلَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، كَعَادَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَسَلَامٌ: يَعْلَمُ مَا، بِالْإِدْغَامِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْفَكِّ وَالْجُمْهُورُ: تَدْعُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ: بِخِلَافٍ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَجَوَّزُوا فِي مَا أَنْ يَكُونَ مفعولا بيدعون، أَيْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، أَيْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ. وَأَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، أَيْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا لَهُ بَالٌ وَلَا قَدْرٌ، فَيَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى شَيْئًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا، كَأَنَّهُ قُدِّرَ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى هَذَا الْمَعْبُودِ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَهِيَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُقْتَطَعَةٌ مِنْ يَعْلَمُ، وَاعْتِرَاضٌ بَيْنَ يَعْلَمُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَجَوَّزَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ مَا استفهاما منصوبا بيدعون، ويعلم مُعَلَّقَةٌ فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَوْثَانًا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، أَمْ غَيْرَهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَالْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلْمَثَلِ، وَإِذَا كَانَتْ مَا نَافِيَةً، كَانَ فِي الْجُمْلَةِ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَثَلِ، حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ تَعَالَى مَا يَدْعُونَهُ شَيْئًا. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: فِيهِ تَجْهِيلٌ لَهُمْ، حَيْثُ عَبَدُوا مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ جَمَادٌ لَيْسَ مَعَهُ مُصَحَّحُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ أَصْلًا، وَتَرَكُوا عِبَادَةَ الْقَادِرِ الْقَاهِرِ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا لِحِكْمَةٍ. وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ: أَيْ لَا يَعْقِلُ صِحَّتَهَا وَحُسْنَهَا وَفَائِدَتَهَا.

وَكَانَ جَهَلَةُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ: إِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ يَضْرِبُ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَيَضْحَكُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الْأَمْثَالَ وَالتَّشْبِيهَاتِ طُرُقٌ إِلَى الْمَعَانِي الْمُحْتَجَبَةِ، فَتُبْرِزُهَا وَتُصَوِّرُهَا لِلْفَهْمِ، كَمَا صَوَّرَ هَذَا التَّشْبِيهُ الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِ وَحَالِ الْمُوَحِّدِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ إِلَى هَذَا الْمَثَلِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي السُّوَرِ. وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «الْعَالِمُ مَنْ عَقِلَ عَنِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبَ سُخْطَهُ» . خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى صِغَرِ قَدْرِ الْأَوْثَانِ الَّتِي عَبَدُوهَا. وَمَعْنَى بِالْحَقِّ: بِالْوَاجِبِ الثَّابِتِ، لَا بِالْعَبَثِ وَاللَّعِبِ، إِذْ جَعَلَهَا مَسَاكِنَ عِبَادِهِ، وَعِبْرَةً وَدَلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْمَعْهُودَةُ، وَالْمَعْنَى: مِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا إِذَا أُدِّيَتْ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ فُرُوضِهَا وَسُنَنِهَا وَالْخُشُوعِ فِيهَا، وَالتَّدَبُّرِ لِمَا يَتْلُو فِيهَا، وَتَقْدِيرُ الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، أَنْ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: تَنْهَى مَا دَامَ الْمُصَلِّي فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الصَّلَاةُ هُنَا الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الصَّلَاةُ: الدُّعَاءُ، أَيْ أَقِمِ الدُّعَاءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا مَنْ تَرَاهُ مِنَ الْمُصَلِّينَ يَتَعَاطَى الْمَعَاصِيَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تِلْكَ لَيْسَتْ بِالْوَصْفِ الَّذِي تَقَدَّمَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدَعُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالسَّرِقَةِ إِلَّا ارْتَكَبَهُ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فقال: «إن صلاتها تَنْهَاهُ» . فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَابَ وَصَلُحَتْ حَالُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ تَنْهَى، بَلِ الْمَعْنَى، أَنَّهُ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهَا، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْعُمُومِ. كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَعْرُوفٍ يَأْمُرُ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَكْبَرُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَسَلْمَانُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو قُرَّةَ: مَعْنَاهُ وَلَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَقِيلَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، أَيْ أَكْبَرُ ثَوَابًا وَقِيلَ: أَكْبَرُ مِنْ سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ نَهْيُهُ أَكْبَرُ مِنْ نَهْيِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ: أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ الْعِبَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالْجُزْءُ الَّذِي مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ يَنْهَى، كَمَا يَنْهَى فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذَاكِرِ اللَّهِ مُرَاقِبِهِ، وَثَوَابُ ذَلِكَ الذَّاكِرِ أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ فِي مَلَأٍ خير من ملائه، وَالْحَرَكَاتُ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي النَّهْيِ، وَالذِّكْرُ النَّافِعُ هُوَ مَعَ الْعِلْمِ وَإِقْبَالِ الْقَلْبِ

وَتَفَرُّغِهِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ. وَأَمَّا مَا لَا يُجَاوِزُ اللسان ففي ركبة رُتْبَةٍ أُخْرَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ وَالصَّلَاةُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَسَمَّاهَا بِذِكْرِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1» ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ، لِتَسْتَقِلَّ بِالتَّعْلِيلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالصَّلَاةُ أَكْبَرُ، لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ مِمَّا تَصْنَعُونَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيُجَازِيكُمْ، وَفِيهِ وَعِيدٌ وَحَثٌّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ. وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ، وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ، وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وأَهْلَ الْكِتابِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: مِنَ الْمُلَاطَفَةِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى آيَاتِهِ. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا: مِمَّنْ لَمْ يُؤَدِّ جِزْيَةً وَنَصَبَ الْحَرْبَ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا، أَوْ يَدَهُ مَغْلُولَةٌ فَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ فِي مُهَادَنَةِ مَنْ لَمْ يُحَارِبْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمُؤْمِنُو أَهْلَ الْكِتَابِ. إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: أَيْ بِالْمُوَافَقَةِ فِيمَا حَدَّثُوكُمْ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ أَوَائِلِهِمْ. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، وَعْدٌ لِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ. وَقِيلَ: إِلَّا الَّذِينَ آذَوْا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ «2» الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا، حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا، حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَاسْتِفْتَاحٍ، وَتَقْدِيرُهُ: أَلَا جَادِلُوهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقُولُوا آمَنَّا: هَذَا مِنَ الْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ. بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ والزبور والإنجيل.

_ (1) سورة الجمعة: 62/ 9. (2) سورة التوبة: 9/ 29.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ أَهْلُ الكتاب يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» . وَكَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ الَّذِي لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ، أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ: أَيِ الْقُرْآنَ. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. وَمِنْ هؤُلاءِ: أَيْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ: أَيِ الَّذِينَ تقدموا عهد الرسول، يُؤْمِنُونَ بِهِ: أَيْ بِالْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ هؤُلاءِ: أَيْ مِمَّنْ فِي عَهْدِهِ مِنْهُمْ. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا، مَعَ ظُهُورِهَا وَزَوَالِ الشُّبْهَةِ عَنْهَا، إِلَّا الْكافِرُونَ: أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ أَهْلُ الكتاب يقرأون فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَخُطُّ وَلَا يَقْرَأُ كِتَابًا، فَنَزَلَتْ : وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ: أَيْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ عَلَيْكَ، مِنْ كِتابٍ: أي كتابا، ومن زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا فِي مُتَعَلَّقِ النَّفْيِ، وَلا تَخُطُّهُ: أَيْ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، بِيَمِينِكَ: وَهِيَ الْجَارِحَةُ الَّتِي يُكْتَبُ بِهَا، وَذِكْرُهَا زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِمَا نُفِيَ عَنْهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ، مُتَضَمَّنًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَالْأُمُورِ الْمَغِيبَةِ مَا أَعْجَزَ الْبَشَرَ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. أَخَذَ يُحَقِّقُ، كَوْنُهُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِأَنَّهُ ظَهَرَ عَنْ رَجُلٍ أُمِّيٌّ، لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَلَا يُخَالِطُ أَهْلَ الْعِلْمِ. وَظُهُورُ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ قَطُّ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِالنَّظَرِ فِي كِتَابٍ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَتَبَ وَأَسْنَدَ النِّقَاشَ. حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قرأ صحيفة لعيينة ابن حِصْنٍ وَأَخْبَرَ بِمَعْنَاهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ كَتَبَ مُبَاشَرَةً ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَاشْتَدَّ نَكِيرُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ بِلَادِنَا عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَسُبُّهُ وَيَطْعَنُ فِيهِ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَتَأَوَّلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، كَمَا تَقُولُ: كَتَبَ السُّلْطَانُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ أَمَرَ بِالْكَتْبِ. إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ: أَيْ لَوْ كَانَ يَقْرَأُ كُتُبًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، أَوْ يَكْتُبُ، لَحَصَلَتِ الريبة للمبطلين، إذ كَانُوا يَقُولُونَ: حَصَلَ ذَلِكَ الَّذِي يَتْلُوهُ مِمَّا قَرَأَهُ، قِيلَ: وَخَطَّهُ وَاسْتَحْفَظَهُ فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ فِي ارْتِيَابِهِمْ تَعَلُّقٌ بِبَعْضِ شُبْهَةٍ، وَأَمَّا

ارْتِيَابُهُمْ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فَظَاهِرٌ فَسَادُهُ. وَالْمُبْطِلُونَ: أَهْلُ الْكِتَابِ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَوْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَسُمُّوا مُبْطِلِينَ، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ، وَهُوَ أُمِّيٌّ بَعِيدٌ مِنَ الرِّيَبِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَلَا كَاتِبًا، كَانَ ارْتِيَابُهُمْ لَا وَجْهَ لَهُ. بَلْ هُوَ: أَيِ الْقُرْآنُ: آياتٌ بَيِّناتٌ: وَاضِحَاتُ الْإِعْجَازِ، فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: أَيْ مُسْتَقِرَّةٌ، مُؤْمَنٌ بِهَا، مَحْفُوظَةٌ فِي صُدُورِهِمْ، يَتْلُوهَا أَكْثَرُ الْأُمَّةِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ، وَلَا يُقْرَأُ إِلَّا مِنَ الصُّحُفِ. وَجَاءَ فِي صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: صُدُورُهُمْ أَنَاجِيلُهُمْ، وَكَوْنُهُ الْقُرْآنَ، يُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، بَلْ هِيَ آيَاتٌ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ، أي النبي وَأُمُورُهُ، آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَرَأَ: بَلْ هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وقيل: بل هو، أي كَوْنُهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ. وَيُقَالُ: جَحَدْتَهُ وَجَحَدْتَ بِهِ، وَكَفَرْتَهُ وَكَفَرْتَ بِهِ، قِيلَ: وَالْجُحُودُ الْأَوَّلُ مُعَلَّقٌ بالواحدنية، وَالثَّانِي مُعَلَّقٌ بِالنُّبُوَّةِ، وَخُتِمَتْ تِلْكَ بِالْكَافِرِ. وَلِأَنَّهُ قَسِيمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ، وَهَذِهِ بِالظَّالِمِينَ، لِأَنَّهُ جَحَدَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ على كونه الرسول صَدَرَ مِنْهُ الْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، فَهُمُ الظَّالِمُونَ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ. وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ: أَيْ قُرَيْشٌ، وَبَعْضُ الْيَهُودِ كَانُوا يُعَلِّمُونَ قُرَيْشًا مِثْلَ هَذَا الِاقْتِرَاحِ يَقُولُونَ لَهُ: أَلَا يَأْتِيكُمْ بِآيَةٍ مِثْلِ آيَاتِ مُوسَى مِنَ الْعَصَا وَغَيْرِهَا؟ وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَنَافِعٌ، وَحَفْصٌ: آيَاتٌ، عَلَى الْجَمْعِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: عَلَى التَّوْحِيدِ. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، يُنْزِلُ أَيَّتَهَا شَاءَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُنْزِلَ مَا يَقْتَرِحُونَهُ لَفَعَلَ. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ بِمَا أُعْطِيتُ مِنَ الْآيَاتِ. وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِكُتُبٍ قَدْ كَتَبُوا فِيهَا بَعْضَ مَا يَقُولُ الْيَهُودُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا ألقاها وقال: «كفر بها جماعة قَوْمٍ أَوْ ضَلَالَةَ قَوْمٍ أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُ نَبِيِّهِمْ» ، فَنَزَلَتْ : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ: أي أو لم يَكْفِهِمْ آيَةً مُغْنِيَةً عَنْ سَائِرِ الْآيَاتِ، إِنْ كَانُوا طَالِبِينَ لِلْحَقِّ، غَيْرَ مُتَعَنِّتِينَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي تَدُومُ تِلَاوَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ؟ فَلَا تَزَالُ مَعَهُمْ آيَةٌ ثَابِتَةٌ لَا تَزُولُ وَلَا تَضْمَحِلُّ، كَمَا تَزُولُ كُلُّ آيَةٍ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَيَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ لَرَحْمَةٌ لَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُنْكَرُ وَتُذْكَرُ. وَقِيلَ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ: يَعْنِي الْيَهُودَ، أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ بِتَحْقِيقِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ نَعْتِكَ وَنَعْتِ دِينِكَ، وَرُوِيَ

أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! مَنْ يَشْهَدُ بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ : قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً: أَيْ قَدْ بَلَّغْتُ وَأَنْذَرْتُ، وَأَنَّكُمْ جَحَدْتُمْ وَكَذَّبْتُمْ، وَهُوَ الْعَالِمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فَيَعْلَمُ أَمْرِي وَأَمْرَكُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: بِالصَّنَمِ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ: أَيْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: ائْتِنا بِما تَعِدُنا «1» ، وَقَوْلِ النَّضْرِ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «2» ، وَهُوَ اسْتِعْجَالٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْجِيزِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ الرسول. وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: مَا سَمَّاهُ اللَّهُ وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ لِعَذَابِهِمْ، وَأَوْجَبَتِ الْحِكْمَةُ تَأْخِيرَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: أَجَلُ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً: أَيْ فَجْأَةً، وَهُوَ مَا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي السِّنِينَ السَّبْعِ. ثُمَّ كَرَّرَ فِعْلَهُمْ وَقَبَّحَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ وَرَاءَهُمْ جَهَنَّمَ، تُحِيطُ بِهِمْ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ يَغْشاهُمُ بمحيطة. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَنَافِعٌ: وَيَقُولُ: أَيِ اللَّهِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنُّونِ، نُونِ الْعَظَمَةِ، أَوْ نُونِ جَمَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأَبُو البرهسم: بِالتَّاءِ، أَيْ جَهَنَّمُ كَمَا نُسِبَ الْقَوْلُ إِلَيْهَا فِي: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ «3» . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَيُقَالُ، مَبْنِيًّا للمفعول. يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 77. (2) سورة الأنفال: 8/ 32. (3) سورة ق: 50/ 30.

أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ، وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: يَا عِبادِيَ الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ عَنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، أَيْ جَانِبُوا أَهْلَ الشِّرْكِ، وَاطْلُبُوا أَهْلَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَافِرُوَا لِطَلَبِ أَوْلِيَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الظُّلْمُ وَالْمُنْكَرُ تَتَرَتَّبُ فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَيَلْزَمُ الْهِجْرَةُ عَنْهَا إِلَى بَلَدٍ حَقٍّ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ عِدَةٌ بِسَعَةِ الرِّزْقِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ وَاسِعَةٌ أُعْطِيكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَافِرُوا لِجِهَادِ أَعْدَائِهِ. فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ، مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ: أَيْ فَإِيَّايَ اعْبُدُوا فَاعْبُدُونِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الْفَاءِ فِي فَاعْبُدُونِ، وَتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ؟ قُلْتُ: الْفَاءُ جَوَابَ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ أَرْضِي وَاسِعَةٌ، فَإِنْ لَمْ تُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ فِي أَرْضٍ، فَاخْلِصُوهَا فِي غَيْرِهَا. ثُمَّ حُذِفَ الشَّرْطُ وَعُوِّضَ مِنْ حَذْفِهِ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ، مَعَ إِفَادَةِ تَقْدِيمِهِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَالْإِخْلَاصِ. انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ هَذَا الْجَوَابُ إِلَى تَأَمُّلٍ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى بِسِعَةِ أَرْضِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْهِجْرَةِ، وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ، فَكَانَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا لِأَجْلِ مَنْ حَلَّهَا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ فِيهَا مَا كَانَ يَسْتَقِيمُ لَهُ فِي أَرْضِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى هَلَاكِهِ. أَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَهَا أَجَلٌ تَبْلُغُهُ، وَتَمُوتُ فِي أَيِّ مَكَانٍ حَلَّ، وَأَنَّ رُجُوعَ الْجَمْعِ إِلَى أَجْزَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْجُمْهُورُ: مبينا لِلْمَفْعُولِ، بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: ذائِقَةُ، بِالتَّنْوِينِ الْمَوْتِ: بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ، مِنَ الْمَبَاءَةِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالرَّبِيعُ بْنِ خَيْثَمٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: مِنَ الثَّوَاءِ وَبَوَّأَ يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ «1» ، وَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا بِاللَّامِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ «2» ، وَالْمَعْنَى: لَيَجْعَلَنَّ لَهُمْ مَكَانَ مَبَاءَةٍ، أَيْ مَرْجِعًا يَأْوُونَ إِلَيْهِ. غُرَفاً: أَيْ عَلَالِيَ، وَأَمَّا ثَوَى فَمَعْنَاهُ: أَقَامَ، وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ فَصَارَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَقَدْ قرىء مُشَدَّدًا عَدَّى بِالتَّضْعِيفِ، فَانْتَصَبَ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 21/ 1. (2) سورة الحج: 22/ 26.

غُرَفًا، إِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ فِي غُرَفٍ، ثُمَّ اتَّسَعَ فَحُذِفَ، وَإِمَّا عَلَى تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى التَّبْوِئَةِ، فَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، أَوْ شِبْهِ الظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ الْمُخْتَصِّ بِالْمُبْهَمِ يُوَصِّلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: غُرُفًا، بِضَمِّ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: فَنَعْمَ، بِالْفَاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِغَيْرِ فَاءٍ. الَّذِينَ صَبَرُوا: أَيْ عَلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ وَالْهِجْرَةِ وَجَمِيعِ الْمَشَاقِّ، مِنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنَاهِي. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ: هَذَانِ جِمَاعُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، الصَّبْرُ وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ بِالْهِجْرَةِ، خَافُوا الْفَقْرَ فَقَالُوا: غُرْبَةٌ فِي بِلَادٍ لَا دَارَ لَنَا، وَلَا فِيهِ عَقَارٌ، وَلَا مَنْ يُطْعِمُ. فَمَثَّلَ لَهُمْ بِأَكْثَرِ الدَّوَابِّ الَّتِي تَتَقَوَّتُ وَلَا تَدَّخِرُ، وَلَا تَرَوَّى فِي رِزْقِهَا، وَلَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، مِنَ الْحَمْلِ: أَيْ لَا تَنْقُلُ، وَلَا تَنْظُرُ فِي ادِّخَارٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْأَقْمَرِ. وَالِادِّخَارُ جَاءَ فِي حَدِيثِ: «كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ حُثَالَةِ النَّاسِ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ لِضَعْفِ الْيَقِينِ؟» قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَمَالَةِ الَّتِي لَا تَتَكَفَّلُ لِنَفْسِهَا وَلَا تَرَوَّى. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا: لَا تَدَّخِرُ، إِنَّمَا تُصْبِحُ فَيَرْزُقُهَا اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَدَّخِرُ إِلَّا الْآدَمِيُّ وَالنَّمْلُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْعَقُ، وَقِيلَ: الْبُلْبُلُ يَحْتَكِرُ فِي حِضْنَيْهِ، وَيُقَالُ: لِلْعَقْعَقِ مَخَابِئُ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْسَاهَا. وَانْتِفَاءُ حَمْلِهَا لِرِزْقِهَا، إِمَّا لِضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا خُلِقَتْ لَا عَقْلَ لَهَا، فَيُفَكِّرُ فِيمَا يُخَبِّؤُهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ: أَيْ يَرْزُقُهَا عَلَى ضَعْفِهَا. وَإِيَّاكُمْ: أَيْ عَلَى قُدْرَتِكُمْ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَعَلَى التَّحَيُّلِ فِي تَحْصِيلِ الْمَعِيشَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَرَازِقُكُمْ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ السَّمِيعُ لِقَوْلِكُمْ: نَخْشَى الْفَقْرَ، الْعَلِيمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُكُمْ. ثُمَّ أَعْقَبَ تَعَالَى ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ مُبْدِعَ الْعَالَمِ وَمُسَخِّرَ النَّيِّرَيْنِ هُوَ اللَّهُ. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَسْطِ الرِّزْقِ وَضِيقِهِ، فَقَالَ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَبْسُطَهُ، وَيَقْدِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَقْدِرَهُ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ ظَاهِرُهُ الْعَوْدُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَاحِدُ يُبْسَطُ لَهُ فِي وَقْتٍ، وَيُقْدَرُ فِي وَقْتٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ، وَالْمُرَادُ لِمَنْ يَشَاءُ آخَرَ، فَصَارَ نَظِيرَ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ «1» : أَيْ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ. وَقَوْلُهُمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ: أَيْ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْمَبْسُوطُ لَهُ الرِّزْقُ غَيْرَ الْمُضَيَّقِ عَلَيْهِ الرِّزْقُ. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ الْحِمْصِيُّ: وَيُقَدِّرُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَشَدِّ الدَّالِ، عَلِيمٌ: يَعْلَمُ مَا يُصْلِحُ الْعِبَادَ وَمَا يُفْسِدُهُمْ.

_ (1) سورة فاطر: 35/ 11.

وَلَمَّا أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ مُوجِدَ الْعَالَمِ، وَمُسَخِّرَ النَّيِّرَيْنِ، وَمُحْيِيَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا هُوَ اللَّهُ، كَانَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ مُلْزِمًا لَهُمْ أَنَّ رَازِقَ الْعِبَادِ إِنَّمَا اللَّهُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِهِ. وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى، لِأَنَّ فِي إِقْرَارِهِمْ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالْإِبْدَاعِ وَنَفْيَ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ أَسْنَدُوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، حَيْثُ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ الرَّازِقِ الْمُحْيِي، وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا: الْإِشَارَةُ بِهَذِهِ ازْدِرَاءٌ لِلدُّنْيَا وَتَصْغِيرٌ لِأَمْرِهَا، وَكَيْفَ لَا؟ وَهِيَ لَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، أَيْ مَا هِيَ فِي سُرْعَةِ زَوَالِهَا عَنْ أَهْلِهَا وَمَوْتِهِمْ عَنْهَا، إِلَّا كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ سَاعَةً ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ. وَالْحَيَوَانُ، وَالْحَيَاةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ مَصْدَرُ حَيِيَ، وَالْمَعْنَى: لَهِيَ دَارُ الْحَيَاةِ، أَيِ الْمُسْتَمِرَّةُ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا مَوْتَ فِيهَا. وَقِيلَ: الْحَيَوَانُ: الْحَيُّ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الْحَيِّ اسْمَ الْمَصْدَرِ. وَجُعِلَتِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيًّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِالْوَصْفِ بِالْحَيَاةِ، وَظُهُورُ الْوَاوِ فِي الْحَيَوَانِ وَفِي حَيْوَةَ، عَلَمٌ لِرَجُلٍ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاوِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ تُبْدَلُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، نَحْوُ: شَقِيَ مِنَ الشِّقْوَةِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَامَ الْكَلِمَةِ لَامُهَا يَاءٌ، زَعَمَ أَنَّ ظُهُورَ الْوَاوِ فِي حَيَوَانٍ وَحَيْوَةَ بَدَلٌ مِنْ يَاءٍ شُذُوذًا، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَمْ يُؤْثِرُوا دَارَ الفناء عليها. وجاء بنا مصدر حي عَلَى فَعَلَانٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ، كَالْغَلَيَانِ، وَالنَّزَوَانِ، وَاللَّهَيَانِ، وَالْجَوَلَانِ، وَالطَّوَفَانِ. وَالْحَيُّ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ، فَهَذَا الْبِنَاءُ فِيهِ لِكَثْرَةِ الْحَرَكَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِاللَّهِ إِذَا سُئِلُوا: مَنْ خَلَقَ الْعَالَمَ؟ ومَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً؟ ذَكَرَ أَيْضًا حَالَةً أُخْرَى يَرْجِعُونَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِمَا يُرِيدُ، وَذَلِكَ حِينَ رُكُوبِ الْبَحْرِ وَاضْطِرَابِ أَمْوَاجِهِ وَاخْتِلَافِ رِيَاحِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ؟ قُلْتُ: بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ، وَشَرَحَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَعْنَاهُ عَلَى مَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ. فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: كَائِنِينَ فِي صُورَةِ مَنْ يُخْلِصُ الدِّينَ لِلَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حَيْثُ لَا يَذْكُرُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ آخَرَ. وَفِي الْمُخْلِصِينَ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ، وإِذا هُمْ يُشْرِكُونَ: جَوَابُ لَمَّا، أَيْ فَاجَأَ السَّجِيَّةَ إِشْرَاكُهُمْ بِاللَّهِ، أَيْ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهَا وَلَا وَقْتًا. وَالظَّاهِرُ فِي لِيَكْفُرُوا أَنَّهَا لَامُ كَيْ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلِيَتَمَتَّعُوا فِي قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ اللَّامَ وَهُمُ: الْعَرَبِيَّانِ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ، وَالْمَعْنَى: عَادُوا إِلَى شِرْكِهِمْ. لِيَكْفُرُوا: أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ هُوَ

كُفْرُهُمْ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَلَذُّذُهُمْ بِمَا مُتِّعُوا بِهِ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا نَجَوْا مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الشِّدَّةِ، كَانَ ذَلِكَ جَالِبَ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَاعَةً لَهُ مُزْدَادَةً. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي: لِيَكْفُرُوا، وَلِيَتَمَتَّعُوا، لَامُ الْأَمْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ سَكَّنَ لَامَ وَلِيَتَمَتَّعُوا وَهُمُ: ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَهَذَا الْأَمْرُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكُفْرِ، وَبِأَنْ يَعْمَلَ الْعُصَاةُ ما شاؤا، وَهُوَ نَاهٍ عَنْ ذَلِكَ وَمُتَوَعِّدٌ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: هُوَ مجاز عن الخذلان والتحلية، وَأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مُسْخِطٌ إلى غاية. انتهى. والتحلية وَالْخِذْلَانُ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، بِالتَّاءِ فِيهِمَا: أَيْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ أَبُو العالية: فيتمتعوا، بالياء، مبنيا لِلْمَفْعُولِ. وَمَنْ قَرَأَ: وَلْيَتَمَتَّعُوا، بِسُكُونِ اللَّامِ، وَكَانَ عِنْدَهُ اللَّامُ فِي: لِيَكْفُرُوا، لَامَ كَيْ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ كَلَامًا عَلَى كَلَامٍ، لَا عَاطِفَةٌ فعل عَلَى فِعْلٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، بِاللَّامِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعَمِهِ، حَيْثُ أَسْكَنَهُمْ بَلْدَةً أَمِنُوا فِيهَا، لَا يَغْزُوهُمْ أَحَدٌ وَلَا يَسْتَلِبُ مِنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ قَلِيلِي الْعَدَدِ، قَارِّينَ فِي مَكَانٍ لَا زَرْعَ فِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعْمَةِ الَّتِي كَفَرُوهَا، وَهِيَ نِعْمَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ، ويَكْفُرُونَ، بِالْيَاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ: بِتَاءِ الْخِطَابِ فِيهِمَا. وَافْتِرَاؤُهُمُ الْكَذِبَ: زَعْمُهُمْ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، وَتَكْذِيبُهُمْ بِالْحَقِّ: كُفْرُهُمْ بِالرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُ: إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَقَّفُوا فِي تَكْذِيبِهِ وَقْتَ مَجِيءِ الْحَقِّ لَهُمْ، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ، فَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَهُ خَبَرٌ، نَظَرَ فِيهِ وَفَكَّرَ حَتَّى يَبِينَ لَهُ أَصِدْقٌ هُوَ أَمْ كذب. وأليس تَقْرِيرٌ لِمُقَامِهِمْ فِي جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ ركب المطايا ولِلْكافِرِينَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ: أَيْ مَثْوَاهُمْ. وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا: أَطْلَقَ الْمُجَاهَدَةَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِمُتَعَلِّقٍ، لِيَتَنَاوَلَ الْمُجَاهَدَةَ فِي النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَالشَّيْطَانِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، فَالْمَقْصُودُ بِهَا الْمِثَالُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاهَدُوا أَهْوَاءَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَشُكْرِ آلَائِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ. لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا: لَنَزِيدَنَّهُمْ هِدَايَةً إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ «2» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَاهَدُوا فِينَا بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا إلى الجنة.

_ (1) سورة فصلت: 41/ 40. (2) سورة محمد: 47/ 17.

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: جَاهَدُوا فِيمَا عَلِمُوا، لَنَهْدِيَنَّهُمْ إِلَى مَا لَمْ يَعْلَمُوا. وَقِيلَ: جَاهَدُوا فِي الْغَزْوِ، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الشَّهَادَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحْسِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُجَاهِدُونَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مَنِ اعْتَاصَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ، فَلْيَسْأَلْ أَهْلَ الثُّغُورِ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. وَالَّذِينَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، وَجَوَابِهِ: وَهُوَ لَنَهْدِيَنَّهُمْ وَبِهَذَا، وَنَظِيرِهِ رُدَّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ فِي مَنْعِهِ أَنْ تَقَعَ جُمْلَةُ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَنَظِيرُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ.

سورة الروم

سورة الرّوم [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 60] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ

يَتَفَرَّقُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا قَوْلَهُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ كِسْرَى بَعَثَ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، وَاخْتَلَفَ النَّقَلَةُ فِي اسْمِهِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِأَهْلِ فَارِسَ، وَظَفِرَ وَقَتَلَ وَخَرَّبَ وَقَطَعَ زَيْتُونَهُمْ، وَكَانَ الْتِقَاؤُهُمْ بِأَذْرِعَاتٍ وَبُصْرَى، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ قَيْصَرُ رَجُلًا أَمِيرًا عَلَى الرُّومِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْتَقَتْ بِالْجَزِيرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِأَرْضِ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَوْنِهِمْ مَعَ الرُّومِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ لِكَوْنِهِمْ مَعَ الْمَجُوسِ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ. وَأَخْبَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. وَنَزَلَتْ أَوَائِلُ الرُّومِ، فَصَاحَ أَبُو بَكْرٍ بِهَا فِي نَوَاحِي مَكَّةَ: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسًا فِي بِضْعِ سِنِينَ، أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ. فَاتَّفَقُوا أَنْ جَعَلُوا بِضْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَ قَلَائِصَ، وَأَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ رَسُولَ اللَّهِ بِذَلِكَ فَقَالَ: «هَلَّا اخْتَطَبْتَ؟ فَارْجِعْ فَزِدْهُمْ فِي الْأَجَلِ وَالرِّهَانِ» . فَجَعَلُوا الْقَلَائِصَ مِائَةً، وَالْأَجْلَ تِسْعَةَ أَعْوَامٍ. فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ رَاهَنَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. فَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ الْهِجْرَةَ، طَلَبَ مِنْهُ أُبَيٌّ كَفِيلًا بِالْخَطَرِ إِنْ غَلَبَتْ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَلَمَّا أَرَادَ أُبَيٌّ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ، طَلَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالْكَفِيلِ، فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا وَمَاتَ أُبَيٌّ مِنْ جُرْحٍ جَرَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَظَهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ. وَقِيلَ: كَانَ النَّصْرُ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطَرَ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُبَيٍّ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «تَصَدَّقْ بِهِ» . وَسَبَبُ ظُهُورِ الرُّومِ، أَنَّ كِسْرَى بَعَثَ إِلَى شَهْرَيَزَانَ، وَهُوَ الَّذِي وَلَّاهُ عَلَى مُحَارَبَةِ الرُّومِ، أَنِ اقْتُلْ أَخَاكَ فَرْخَانَ لِمَقَالَةٍ قَالَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي جَالِسًا عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى، فَلَمْ يَقْتُلْهُ. فَبَعَثَ إِلَى فَارِسَ أَنِّي عَزَلْتُ شَهْرَيَزَانَ وَوَلَّيْتُ أَخَاهُ فَرْخَانَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِذَا وَلِيَ، أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ شَهْرَيَزَانَ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَأَخْرَجَ لَهُ شَهْرَيَزَانَ ثَلَاثَ صَحَائِفَ مِنْ كِسْرَى يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ فَرْخَانَ. قَالَ: وَرَاجَعْتُهُ فِي أَمْرِكَ مِرَارًا، ثُمَّ تَقْتُلُنِي بِكِتَابٍ وَاحِدٍ؟ فَرَدَّ الْمُلْكَ إِلَى أَخِيهِ. وَكَتَبَ شَهْرَيَزَانَ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَتَعَاوَنَا عَلَى كِسْرَى، فَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ،

وَجَاءَ الْخَبَرُ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الشَّاهِدَةِ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّهَا إِيتَاءٌ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وَالْحَسَنُ: غُلِبَتِ الرُّومُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، سَيَغْلِبُونَ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، سَيَغْلِبُونَ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلَى مَا فَسَّرَهُ ابْنُ عِمْرَانَ: الرُّومُ غَلَبَتْ عَلَى أَدْنَى رِيفِ الشَّأْمِ، يَعْنِي: بِالرِّيفِ السَّوَادَ. وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَتَأَوَّلَهُ أَبُو حَاتِمٍ عَلَى أَنَّ الرُّومَ غَلَبَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَعَزَّ ذَلِكَ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَسُرَّ الْمُؤْمِنُونَ، وَبَشَّرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِأَنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. انْتَهَى. فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ الرُّومِ بِأَنَّهُمْ قَدْ غُلِبُوا، وَبِأَنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ، فَيَكُونُ غَلَبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقِرَاءَةُ بِضَمِّ الْغَيْنِ أَصَحُّ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى سَيَغْلِبُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، يُرَادُ بِهِ الرُّومُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ سَيُغْلِبُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَلْبُ الْمَعْنَى الَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَأَجْمَعُوا، لَيْسَ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أن الذين قرأوا غَلَبَتْ بِفَتْحِ الْغَيْنِ هُمُ الذين قرأوا سَيُغْلَبُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مَخْصُوصَةً بِابْنِ عُمَرَ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غَلَبِهِمْ، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَاللَّامِ: وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: بِإِسْكَانِهَا وَالْقِيَاسُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: وَغِلَابِهِمْ، عَلَى وَزْنِ كِتَابٍ. وَالرُّومُ: طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى، وَأَدْنَى الأرض: أقربهما: فَإِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ فِي أَذْرِعَاتٍ، فَهِيَ أَدْنَى الْأَرْضِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ: تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرُعَاتَ وَأَهْلُهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالٍ وَإِنْ كَانَتْ بِالْجَزِيرَةِ، فَهِيَ أَدْنَى بِالنَّظَرِ إِلَى أَرْضِ كِسْرَى. فَإِنْ كَانَتْ بِالْأُرْدُنِّ، فَهِيَ أَدْنَى بِالنَّظَرِ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ. وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَدْلُولِ الْبِضْعِ بِاعْتِبَارِ الْقِرَاءَتَيْنِ. فَفِي غُلِبَتْ، بِضَمِّ الْغَيْنِ، يَكُونُ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ وَبِالْفَتْحِ، يَكُونُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: سَيَغْلِبُهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، عِنْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ أَقْصَى مَدْلُولِ الْبِضْعِ. أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ فِي جِهَادِ الرُّومِ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ بُرْجَانَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ إِلَى قَوْلِهِ: فِي بِضْعِ سِنِينَ، افْتِتَاحَ الْمُسْلِمِينَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، مُعَيِّنًا زَمَانَهُ وَيَوْمَهُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّصَارَى، وَأَنَّ ابْنَ بُرْجَانَ مَاتَ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ عَيَّنَهُ لِلْفَتْحِ،

وَأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِزَمَانٍ افْتَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ أَبُو الْحَكَمِ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْتَقِدُ فِي أَبِي الْحَكَمِ هَذَا، أَنَّهُ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ يَسْتَخْرِجُهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. لِلَّهِ الْأَمْرُ: أَيْ إِنْفَاذُ الْأَحْكَامِ وَتَصْرِيفُهَا عَلَى مَا يُرِيدُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، بِضَمِّهِمَا: أَيْ مِنْ قَبْلِ غَلَبَةِ الرُّومِ وَمِنْ بَعْدِهَا. وَلَمَّا كَانَا مُضَافَيْنِ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَحُذِفَتْ بُنِيَا عَلَى الضَّمِّ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ: من قبل ومن بعد، بِالْكَسْرِ وَالتَّنْوِينِ فِيهِمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْجَرِّ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَيْهِ وَاقْتِطَاعِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قَبْلًا وَبَعْدًا، بِمَعْنَى أَوَّلًا وَآخِرًا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: من قبل ومن بعد، بِالْخَفْضِ وَالتَّنْوِينِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ تَرْكُ التَّنْوِينِ، فَيَبْقَى كَمَا هُوَ فِي الْإِضَافَةِ، وَإِنْ حُذِفَ الْمُضَافُ. انْتَهَى. وَأَنْكَرَ النَّحَّاسُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَرَدَّهُ، وَقَالَ لِلْفَرَّاءِ فِي كِتَابِهِ (فِي الْقُرْآنِ) أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْغَلَطِ، مِنْهَا: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ عَلَى أَنَّهُمَا نَكِرَتَانِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ مُتَقَدِّمٍ وَمِنْ مُتَأَخِّرٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلٍ وَمِنْ بَعْدُ الْأَوَّلُ مَخْفُوضٌ مُنَوَّنٌ، وَالثَّانِي مَضْمُومٌ بِلَا تَنْوِينٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَقِيلَ: وَيَوْمَئِذٍ عَطْفٌ عَلَى: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، كَأَنَّهُ حَصَرَ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ: الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ وَالْحَالَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْإِخْبَارَ بِفَرَحِ المؤمنين بالنصر. وبِنَصْرِ اللَّهِ: أَيِ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، أَوِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، أَوْ فِي أَنَّ صِدْقَ مَا قَالَ الرَّسُولُ مِنْ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ، أَوْ فِي أَنْ يُسَلِّطَ بَعْضَ الظَّالِمِينَ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَفَانَوْا وَتَنَاكَصُوا، احْتِمَالَاتٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَارِسُ نَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ، ثُمَّ لَا فَارِسَ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَالرُّومُ ذَاتُ الْقُرُونِ، كُلَّمَا ذَهَبَ قَرْنٌ خَلَفَ قَرْنٌ إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمَ بَدْرٍ كَانَتْ هَزِيمَةُ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَةِ النِّيرَانِ، وَقَالَ مَعْنَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَقِيلَ: وَرَدَ الْخَبَرُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِوَفَاةِ كِسْرَى، فَسُّرَ الْمُسْلِمُونَ بِحَرْبِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِمَوْتِ عَدُوٍّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مُتَمَكِّنٍ. وَهُوَ الْعَزِيزُ بِانْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، الرَّحِيمُ لِأَوْلِيَائِهِ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سَيَغْلِبُونَ، وَقَوْلُهُ: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ الْكُفَّارَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، لَا يَعْلَمُونَ: نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ النَّافِعَ لِلْآخِرَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمُ

الْعِلْمَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا. قِيلَ: وَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأُمُورَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ وَعْدَهُ لَا يُخْلِفُهُ، وَأَنَّ مَا يُورِدُهُ بِعَيْنِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَقٌّ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً: أَيْ بَيِّنًا، أَيْ مَا أَدَّتْهُ إِلَيْهِمْ حَوَاسُّهُمْ، فَكَأَنَّ عُلُومَهُمْ إِنَّمَا هِيَ عُلُومُ الْبَهَائِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ مَا فِيهِ الظُّهُورُ وَالْعُلُوُّ فِي الدُّنْيَا مِنِ اتَّقَانِ الصِّنَاعَاتِ وَالْمَبَانِي وَمَظَانِّ كَسْبِ الْمَالِ وَالْفِلَاحَاتِ، وَنَحْوِ هَذَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ ذَاهِبًا زَائِلًا، أَيْ يَعْلَمُونَ أُمُورَ الدُّنْيَا الَّتِي لَا بَقَاءَ لَهَا وَلَا عَاقِبَةَ. وَقَالَ الْهُذَلِيُّ: وَعَيَّرَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا ... وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا أَيْ: زَائِلٌ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ظاهِراً، أَيْ يَعْلَمُونَ مِنْ قِبَلِ الْكَهَنَةِ مِمَّا يَسْتَرِقُهُ الشَّيَاطِينُ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: كُلُّ مَا يَعْلَمُ بِأَوَائِلَ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَا يُعْلَمُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فَهُوَ الْبَاطِنُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْلَمُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِ: لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي هَذَا الْإِبْدَالِ مِنَ النُّكْتَةِ أَنَّهُ أَبْدَلَهُ مِنْهُ، وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، لِنُعْلِمَكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْجَهْلُ، وَبَيْنَ وُجُودِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا: يُفِيدُ أَنَّ لِلدُّنْيَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَظَاهِرُهَا مَا يَعْرِفُهُ الْجُهَّالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَخَارِفِهَا وَالتَّنَعُّمِ بِمَلَاذِّهَا، وَبَاطِنُهَا وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا مَجَازٌ لِلْآخِرَةِ، يُتَزَوَّدُ إِلَيْهَا مِنْهَا بِالطَّاعَةِ والأعمال الصالحة وهم الثانية توكيد لهم الْأُولَى، أَوْ مُبْتَدَأٌ. وَفِي إِظْهَارِهِمْ عَلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ، كَانَتْ تَنْبِيهٌ عَلَى غَفْلَتِهِمُ الَّتِي صَارُوا مُلْتَبَسِينَ بِهَا، لا ينفكون عنها. وفِي أَنْفُسِهِمْ: معمول ليتفكروا، إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ لِيَخْرُجُوا مِنَ الْغَفْلَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَيَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلَى الْخَالِقِ الْمُخْتَرِعِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَقِبَ هَذَا بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ السَّبَبُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ظَرْفًا للفكرة فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَيَكُونُ فِي أَنْفُسِهِمْ توكيدا لقوله: يَتَفَكَّرُوا، كَمَا تَقُولُ: أَبْصِرْ بِعَيْنِكَ وَاسْمَعْ بِأُذُنِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي هَذَا الْوَجْهِ كَأَنَّهُ قال: أو لم يُحَدِّثُوا التَّفَكُّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ؟ أَيْ فِي قُلُوبِهِمُ الْفَارِغَةِ مِنَ الْفِكْرِ. وَالْفِكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُ زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِحَالِ الْمُتَفَكِّرِينَ، كَقَوْلِكَ: اعْتَقِدْهُ فِي قَلْبِكَ وَأَضْمِرْهُ فِي نَفْسِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: يَكُونُ صِلَةَ الْمُتَفَكِّرِ، كَقَوْلِكَ: تَفَكَّرَ فِي الأمر وأجال فكره. وما خَلَقَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ المحذوف، معناه: أو لم يَتَفَكَّرُوا، فَيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ؟ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَيَعْلَمُوا، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَالدَّلِيلُ هُوَ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا. وَقِيلَ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ: ثُمَّ يَتَفَكَّرُوا

مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ «1» ، وَمَثْلُهُ: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ «2» ، فَيَكُونُ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، ثُمَّ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ، كَأَنَّهُ قال: أو لم يَتَفَكَّرُوا بِقُلُوبِهِمْ فَيَعْلَمُوا. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفَكَّرُوا هُنَا مُعَلَّقَةً، وَمُتَعَلِّقُهَا الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ إلى آخرها. وفِي أَنْفُسِهِمْ: ظَرْفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، لِأَنَّ الْفِكْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تكون إلا باليد. وبِالْحَقِّ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَهِيَ مُلْتَبِسَةٌ بِالْحَقِّ مُقْتَرِنَةٌ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَجَلٍ مُسَمًّى لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ: قِيَامُ السَّاعَةِ، وَوَقْتُ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ «3» . كَيْفَ سَمَّى تَرْكَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ عَبَثًا؟ وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ رَبِّهِمُ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ بِسَبَبِ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ وَاجِبٌ، يُرِيدُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ دُونَ فُتُورٍ، وَالِانْتِصَارِ لِلْعِبْرَةِ وَمَنَافِعِ الْإِرْفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَجَلٍ عَطْفٌ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ وَبِأَجَلٍ مُسَمًّى، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَفَسَادِ بِنْيَةِ هَذَا الْعَالَمِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ الْمَعْنَى، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِلِقَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ لِقَاءَ اللَّهِ هُوَ عَظِيمُ الْأَمْرِ، فِيهِ النَّجَاةُ وَالْهَلَكَةُ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: قَدَّمَ هُنَا دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ عَلَى دَلَائِلِ الْآفَاقِ، وَفِي: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ «4» دَلَائِلَ الْآفَاقِ عَلَى دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفِيدَ يَذْكُرُ الْفَائِدَةَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَارُهَا، فَإِنْ فُهِمَتْ، وَإِلَّا انْتَقَلَ إِلَى الْأَبْيَنِ. وَالْمُسْتَفِيدُ يَفْهَمُ أَوَّلًا الْأَبْيَنَ، ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى الْأَخْفَى. وَفِي أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى السَّامِعِ، فَبَدَأَ بِمَا يَفْهَمُ أَوَّلًا، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَيْهِ ثَانِيًا. وَفِي سَنُرِيهِمْ «5» أَسْنَدَ إِلَى الْمُفِيدِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا الْآفَاقَ، فَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا، فَالْأَنْفُسُ، إِذْ لَا ذُهُولَ لِلْإِنْسَانِ عَنْ دَلَائِلِهَا، بِخِلَافِ دَلَائِلِ الْآفَاقِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُذْهَلُ عَنْهَا، وَهَذَا مُرَاعًى فِي الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «6» الْآيَةَ. بَدَأَ بِأَحْوَالِ الْأَنْفُسِ، ثُمَّ بِدَلَائِلِ الْآفَاقِ. وَقَالَ أَيْضًا هُنَا: وَإِنَّ كَثِيراً، وقَبْلُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ هُنَا ذَكَرَ كَثِيرًا بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَهُمَا: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وما خَلَقَ اللَّهُ. وَالْإِيمَانُ بَعْدَ الدَّلَائِلِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِيمَانِ قَبْلَهَا، فَبَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ، لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْأَكْثَرِ جَمْعٌ، فَلَا يَبْقَى الْأَكْثَرُ. انْتَهَى، وفيه تلخيص. ولا

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 184. (2) سورة فصلت: 41/ 48. (3) سورة المؤمنون: 23/ 115. [.....] (4) سورة فصلت: 41/ 53. (5) سورة فصلت: 41/ 53. (6) سورة آل عمران: 3/ 191.

يَتِمُّ كَلَامُهُ الْأَوَّلُ إِلَّا إِذَا جَعَلَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَحَلًّا لِلتَّفَكُّرِ، وَجَعَلَ مَا خَلَقَ أَيْضًا مَحَلًّا ثَانِيًا. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ: هَذَا تَقْرِيرُ تَوْبِيخٍ، أَيْ قَدْ سَارُوا وَنَظَرُوا إِلَى مَا حُمِلَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَإِثَارَةِ الْأَرْضِ وَعِمَارَتِهَا، وَأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَثارُوا الْأَرْضَ: حَرَثُوهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَلَبُوهَا لِلزِّرَاعَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: قَلَّبُوا وَجْهَ الْأَرْضِ لِاسْتِنْبَاطِ الْمِيَاهِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ، وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِيهَا لِلزِّرَاعَةِ وَالْإِثَارَةُ: تَحْرِيكُ الشَّيْءِ حَتَّى يَرْتَفِعَ تُرَابُهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَآثَارُوا الْأَرْضَ، بِمَدَّةٍ بَعْدِ الْهَمْزَةِ. وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى الْإِشْبَاعِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ ذَمَّ الزَّمَانَ بِمُنْتَزَاحٍ وَقَالَ: مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَلَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَآثَرُوا مِنَ الْأَثَرَةِ، وَهُوَ الِاسْتِبْدَادُ بِالشَّيْءِ. وقرىء: وَأَثْرُوا الْأَرْضَ: أَيْ أَبْقَوْا عَنْهَا آثَارًا. وَعَمَرُوها: مِنَ الْعِمَارَةِ، أَيْ بَقَاؤُهُمْ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ بَقَاءِ هَؤُلَاءِ، أَوْ مِنَ الْعُمْرَانِ: أَيْ سَكَنُوا فِيهَا، أَوْ مِنَ الْعِمَارَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها: مِنْ عِمَارَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ أَهْلُ وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، مَا لَهُمْ إِثَارَةُ الْأَرْضِ أَصْلًا، وَلَا عِمَارَةَ لَهُمْ رَأْسًا، فَمَا هُوَ إِلَّا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَضْعِيفُ حَالِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا يَسْتَظْهِرُ بِهِ أَهْلُ الدُّنْيَا وَيَتَبَاهَوْنَ بِهِ أَمْرُ الدَّهْقَنَةِ، وَهُمْ أَيْضًا ضِعَافُ الْقُوَى. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ: قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَكَذَّبُوهُمْ فَأُهْلِكُوا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ بِالرَّفْعِ اسْمًا لكان، وخبرها السُّواى، أَوْ هُوَ تَأْنِيثُ الْأَسْوَأِ، افْعَلْ مِنَ السُّوءِ. أَنْ كَذَّبُوا: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ متعلق بالخبر، لا بأساء، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ وَمُتَعَلِّقِهَا بِالْخَبَرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتَهُمْ، فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ. السُّواى: أَيِ الْعُقُوبَةُ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ الْعُقُوبَاتِ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ جَهَنَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ السُّواى مصدرا على وزن فعلى، كَالرُّجْعَى، وَتَكُونُ خَبَرًا أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا بأساء بِمَعْنَى اقْتَرَفُوا، وَصِفَةَ مَصْدَرٍ محذوف، أي الإساءة السوأى، وَيَكُونُ خَبَرُ كَانَ أَنْ كَذَّبُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ: السُّوَّى، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَإِدْغَامِ الْوَاوِ فِيهَا، كَقِرَاءَةِ من قرأ: بِالسُّوءِ «1» ،

_ (1) سورة يوسف: 12/ 53.

بِالْإِدْغَامِ فِي يُوسُفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السُّوءَ، بِالتَّذْكِيرِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: عاقِبَةَ، بِالنَّصْبِ، خَبَرَ كَانَ، والاسم السوأى، أو السوء مفعول، وكذبوا الِاسْمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ بِمَعْنَى: أَيْ تَفْسِيرُ الْإِسَاءَةِ التَّكْذِيبُ وَالِاسْتِهْزَاءُ، كَانَتْ فِي بِمَعْنَى الْقَوْلِ، نَحْوُ: نَادَى وَكَتَبَ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَساؤُا السُّواى بِمَعْنَى: اقْتَرَفُوا الْخَطِيئَةَ الَّتِي هي أسوأ الخطايات، وأَنْ كَذَّبُوا عطف بيان لها، وَخَبَرُ كَانَ مَحْذُوفٌ، كَمَا يُحْذَفُ جَوَابُ لَمَّا وَلَوْ إِرَادَةَ الْإِبْهَامِ. انْتَهَى. وَكَوْنُ أَنْ هُنَا حَرْفَ تَفْسِيرٍ مُتَكَلِّفٌ جِدًّا. وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَايَاتِ فَكَذَا هُوَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي طَالَعْنَاهَا، جُمِعَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةُ التَّاءِ فِي الْخَطَايَاتِ مِنَ النَّاسِخِ. وَأَمَّا قوله: أَنْ كَذَّبُوا عطف بيان لها، أي للسوأى، وَخَبَرُ كَانَ مَحْذُوفٌ إِلَخْ. فَهَذَا فَهْمٌ أَعْجَمِيٌّ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَقِلٌّ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ بِلَا حَذْفٍ، فَيَتَكَلَّفُ له محذوفا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَأَصْحَابُنَا لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا، لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا، إِلَّا إِنْ وَرَدَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَا يَنْقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ: يبدىء، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا وَالْأَبَوَانِ: يُرْجَعُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، أَيْ إِلَى ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ وَالْجُمْهُورُ: يُبْلِسُ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَعَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِهَا، مِنْ أَبْلَسَهُ إِذَا أَسْكَتَهُ وَالْجُمْهُورُ: وَلَمْ يَكُنْ، بِالْيَاءِ وَخَارِجَةُ وَالْأَرِيسُ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، وَابْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَالْأَنْطَاكِيُّ عَنْ شَيْبَةَ: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ. مِنْ شُرَكائِهِمْ: مِنَ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ، وَأُضِيفُوا إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا بِزَعْمِهِمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ شُفَعَاءُ لِلَّهِ، كَمَا زَعَمُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» . وَكانُوا مَعْنَاهُ: وَيَكُونُ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ وَفَسَادَ حَالِ الْأَصْنَامِ عَبَّرَ بِالْمَاضِي، لِتَيَقُّنِ الْأَمْرِ وَصِحَّةِ وقوعه. وكتب السوأى بِالْأَلِفِ قَبْلَ الْيَاءِ، كَمَا كَتَبُوا عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِوَاوٍ قَبْلَ الْأَلِفِ وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ، تَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، أَيْ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، يَوْمَ إِذْ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ. وَالضَّمِيرُ فِي يَتَفَرَّقُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، إذ قبله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ فُرْقَةٌ، لَا اجتماع بعدها.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 3.

فِي رَوْضَةٍ، الرَّوْضَةُ، الْأَرْضُ ذَاتُ النَّبَاتِ وَالْمَاءِ، وَفِي الْمَثَلِ: أَحْسَنُ مِنْ بَيْضَةٍ، يُرِيدُونَ: بَيْضَ النَّعَامَةِ، وَالرَّوْضَةُ مِمَّا تُعْجِبُ الْعَرَبَ، وَقَدْ أَكْثَرُوا مِنْ مَدْحِهَا فِي أَشْعَارِهِمْ. يُحْبَرُونَ: يُسَرُّونَ. حَبَرَهُ: سَرَّهُ سُرُورًا، وَتَهَلَّلَ لَهُ وَجْهُهُ وَظَهَرَ لَهُ أَثَرُهُ. يَحْبُرُ بِالضَّمِّ، حَبْرًا وَحَبْرَةً وَحُبُورًا، وَفِي الْمَثَلِ: امْتَلَأَتْ بُيُوتُهُمْ حَبْرَةً فَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْعَبْرَةَ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: حَبَرْتُهُ: أَكْرَمْتُهُ وَنَعَّمْتُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَلَى أَسْنَانِهِ حَبْرَةٌ، أَيْ أَثَرٌ، أَيْ يَسِيرُ عَلَيْهِمْ أَثَرُ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: مِنَ التَّحْبِيرِ، وَهُوَ التَّحْسِينُ، أَيْ يُحْسِنُونَ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الْحَبْرِ وَالسَّبْرِ، بِالْفَتْحِ، إِذَا كَانَ جَمِيلًا حَسَنَ الْهَيْئَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ: يُكْرَمُونَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَوَكِيعٌ: يَسْمَعُونَ الْأَغَانِيَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ عباس: يتوجون على رؤوسهم. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يُحَلَّوْنَ. وَمَعْنَى مُحْضَرُونَ: مَجْمُوعُونَ لَهُ، لَا يَغِيبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها «1» ، وَجَاءَ فِي رَوْضَةٍ مُنَكَّرًا وَفِي الْعَذَابِ مُعَرَّفًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّنْكِيرُ لإبهام أَمْرِهَا وَتَفْخِيمِهِ، وَجَاءَ يُحْبَرُونَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِعْمَالِهِ لِلتَّجَدُّدِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّ سَاعَةٍ يَأْتِيهِمْ مَا يُسَرُّونَ بِهِ مِنْ مُتَجَدِّدَاتِ الْمَلَاذِ وَأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ. وَجَاءَ مُحْضَرُونَ بَاسِمِ الْفَاعِلِ لِاسْتِعْمَالِهِ لِلثُّبُوتِ، فَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْعَذَابَ يَبْقُونَ فِيهِ محضرين، فهو وصف لا ذم لَهُمْ. فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ، وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ. لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى عَظِيمَ قدرته فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ، وَهُوَ حَالَةُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ، وَفِي مَصِيرِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهِيَ حَالَةُ الِانْتِهَاءِ، أَمَرَ تَعَالَى بتنزيهه من كل

_ (1) سورة المائدة: 5/ 37.

سُوءٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ عِبَادَهُ بِتَنْزِيهِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، لِمَا يَتَجَدَّدُ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ اسْتِغْرَاقِ زَمَانِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا رَبَّهُ، وَاصِفَهُ بِمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، أَتْبَعَهُ ذِكْرَ مَا يُوصِلُ إِلَى الْوَعْدِ وَيُنْجِي مِنَ الْوَعِيدِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ وَالْعَصْرُ وَالظُّهْرُ، وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَفِي قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ «1» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخَمْسُ، وَجَعَلَ حِينَ تُمْسُونَ شَامِلًا لِلْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْحَمْدَ وَاجِبٌ عَلَى أهل السموات وَأَهْلِ الْأَرْضِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فُرِضَتِ الْخَمْسُ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ وَفِي التَّحْرِيرِ، اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَ دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا ذُكِرَتِ الْخَمْسُ إِلَّا فِيهَا، وَقَدَّمَ الْإِمْسَاءَ عَلَى الْإِصْبَاحِ، كما قدم ف قول يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ «2» ، وَالظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ، وَقَابَلَ بِالْعَشِيِّ الْإِمْسَاءَ. وَبِالْإِظْهَارِ الْإِصْبَاحَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعْقَبُ بِمَا يُقَابِلُهُ، فَالْعَشِيُّ يَعْقُبُهُ الْإِمْسَاءُ، وَالْإِصْبَاحُ يَعْقُبُهُ الْإِظْهَارُ. وَلَمَّا لَمْ يَتَصَرَّفْ مِنَ الْعَشِيِّ فِعْلٌ، لَا يُقَالُ أَعْشَى، كَمَا يُقَالُ أَمْسَى وَأَصْبَحَ وَأَظْهَرَ، جَاءَ التَّرْكِيبُ وَعَشِيًّا: وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: حِينًا تُمْسُونَ وَحِينًا تُصْبِحُونَ، بِتَنْوِينِ حِينٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْعَائِدُ تَقْدِيرُهُ: تُمْسُونَ فِيهِ وَتُصْبِحُونَ فِيهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْإِبْدَاءَ وَالْإِعَادَةَ، نَاسَبَ ذِكْرَهُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَكَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ، وَالْمَعْنَى: تَسَاوَى الْإِبْدَاءُ وَالْإِعَادَةُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ، بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ: بِفَتْحِ تَاءِ الْخِطَابِ وَضَمِّ الرَّاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى آيَاتِهِ مِنْ بَدْءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، آيَةً آيَةً، إِلَى حِينِ بَعْثِهِ مِنَ الْقَبْرِ فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ: جَعَلَ خَلْقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ، حَيْثُ كَانَ خَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ من تراب. وتَنْتَشِرُونَ: تتصرفون في أغراضكم بثم الْمُقْتَضِيَةِ الْمُهْلَةَ وَالتَّرَاخِيَ. وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ دَرَجَةِ الْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهُ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَالْحَيَاةُ بِالْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَكَذَا الرُّوحُ نَيِّرٌ وَثَقِيلٌ، وَالرُّوحُ خَفِيفٌ وَسَاكِنٌ، وَالْحَيَوَانُ مُتَحَرِّكٌ إِلَى الْجِهَاتِ السِّتِّ، فَالتُّرَابُ أَبْعَدُ مِنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ.

_ (1) سورة هود: 11/ 114. (2) سورة آل عمران: 3/ 27، وسورة الحج: 22/ 61.

مِنْ أَنْفُسِكُمْ: فيها قولا وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها «1» . إِمَّا كَوْنُ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، وَإِمَّا مِنْ جِنْسِكُمْ وَنَوْعِكُمْ. وَعَلَّلَ خَلْقَ الْأَزْوَاجِ بِالسُّكُونِ إِلَيْهَا، وَهُوَ الْإِلْفُ. فَمَتَى كَانَ مِنَ الْجِنْسِ، كَانَ بَيْنَهُمَا تَأَلُّفٌ، بِخِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا التَّنَافُرُ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي بَعْثِ الرُّسُلِ مِنْ جِنْسِ بَنِي آدَمَ. وَيُقَالُ: سَكَنَ إِلَيْهِ: مَالَ، وَمِنْهُ السَّكَنُ: فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. مَوَدَّةً وَرَحْمَةً: أَيْ بِالْأَزْوَاجِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَابِقَةُ تَعَارُفٍ يُوجِبُ التَّوَادَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: الْمَوَدَّةُ: النِّكَاحُ، وَالرَّحْمَةُ: الْوَلَدُ، كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُمَا. وَقِيلَ: مَوَدَّةً لِلشَّابَّةِ، وَرَحْمَةً لِلْعَجُوزِ. وَقِيلَ: مَوَدَّةً لِلْكَبِيرِ، وَرَحْمَةً لِلصَّغِيرِ. وَقِيلَ: هَمَّا اشْتِبَاكُ الرَّحِمِ. وَقِيلَ: الْمَوَدَّةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْبُغْضُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ: أَيْ لُغَاتِكُمْ، فَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى لُغَاتٍ رَأَى مِنَ اخْتِلَافِ تَرَاكِيبِهَا أَوْ قَوَانِينِهَا، مَعَ اتِّحَادِ الْمَدْلُولِ، عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ. وَعَنْ وَهْبٍ: أَنَّ الْأَلْسِنَةَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ لِسَانًا، فِي وَلَدِ حَامٍ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَفِي وَلَدِ سَامٍ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَفِي وَلَدِ يَافِثٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِاللُّغَاتِ: الْأَصْوَاتُ وَالنَّغَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَلْسِنَةُ: اللَّذَّاتُ وَأَجْنَاسُ النُّطَفِ وَأَشْكَالُهُ. خَالَفَ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَا تَكَادَ تَسْمَعُ مَنْطِقَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ فِي هَمْسٍ وَاحِدٍ، وَلَا جَهَارَةٍ، وَلَا حِدَّةٍ، وَلَا رَخَاوَةٍ، وَلَا فَصَاحَةٍ، وَلَا لُكْنَةٍ، وَلَا نَظْمٍ، وَلَا أُسْلُوبٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ وَأَحْوَالِهِ. انْتَهَى. وَأَلْوانِكُمْ: السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَغَيْرُهُمَا، وَالْأَنْوَاعُ وَالضُّرُوبُ بِتَخْطِيطِ الصُّوَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، لَوَقَعَ الِالْتِبَاسُ وَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا. وَفِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ، حَيْثُ فَرَّعُوا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَتَبَايَنُوا فِي الْأَشْكَالِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْعالِمِينَ، بِفَتْحِ اللَّامِ، لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا آيَةٌ مَنْصُوبَةٌ لِلْعَالَمِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلْقَمَةُ عَنْ عَاصِمٍ، وَيُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِكَسْرِ اللَّامِ، إِذِ الْمُنْتَفِعُ بِهَا إِنَّمَا هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ متعلق ب مَنامُكُمْ، فَامْتَنَّ تَعَالَى بِذَلِكَ، لِأَنَّ النَّهَارَ قَدْ يُقَامُ فِيهِ، وخصوص مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا فِي حَوَائِجِهِ بِاللَّيْلِ. وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ: أَيْ فِيهِمَا، أَيْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعًا، لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَبْتَغِي الْفِعْلَ بِاللَّيْلِ، كَالْمُسَافِرِينَ وَالْحُرَّاسِ بِاللَّيْلِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ، وَتَرْتِيبُهُ: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ، وَلِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِالْقَرِينَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّهُمَا زمانان، والزمان

_ (1) سورة النساء: 4/. (2) سورة العنكبوت: 29/ 43.

وَالْوَاقِعُ فِيهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ إِعَانَةِ اللَّفِّ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَنامُكُمْ فِي الزَّمَانَيْنِ، وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فِيهِمَا. وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِتَكَرُّرِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَسَدُّ الْمَعَانِي مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ تَرَتُّبَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَالِابْتِغَاءَ لِلنَّهَارِ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يُعْطِي ذَلِكَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً: إِمَّا أَنْ يتعلق من آياته بيريكم، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَوْ يَكُونُ يُرِيكُمْ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ، كَمَا قَالَ: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحَضُرَ الْوَغَى بِرَفْعِ أَحْضُرُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ أَحْضُرَ، فلما حذف أن، ارتفع الْفِعْلُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ مِنْهَا أَنْ قِيَاسًا، أَوْ عَلَى إِنْزَالِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ مَا يَسْبِكُهُ لَهُ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ فِي قَوْلٍ: أُرِيدُ لِأَنْسَى حُبَّهَا أَيْ أَرَادَنِي لِأَنْسَى حُبَّهَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: وَمِنْ آيَاتِهِ إِرَاءَتُهُ إِيَّاكُمُ الْبَرْقَ، فَمِنْ آيَاتِهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ بِهَا، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مِنْ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ أَيْ: فَمِنْهُمَا تَارَةً أَمُوتُ، وَمِنْ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ لِلتَّبْعِيضِ. وَانْتَصَبَ خَوْفاً وَطَمَعاً عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الحال، أي خَائِفِينَ وَطَامِعِينَ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ إِرَادَةِ خَوْفٍ وَطَمَعٍ، فَيَتَّحِدُ الْفَاعِلُ فِي الْعَامِلِ وَالْمَحْذُوفِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ يُرِيكُمْ، لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ فِي الْعَامِلِ وَالْمَصْدَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَفْعُولُونَ فَاعِلُونَ فِي المعنى، لأنهم راؤون مَكَانَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَجَعَلَكُمْ رَائِينَ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا. انْتَهَى. وَكَوْنُهُ فَاعِلًا، قِيلَ: هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ لَا تُثْبِتُ لَهُ حُكْمَهُ بَعْدَهَا، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا خِلَافٌ. مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْفَاعِلِ، وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهُ. وَلَوْ قِيلَ: عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُهُ. أَنَّ التَّقْدِيرَ: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ فَتَرَوْنَهُ خَوْفًا وَطَمَعًا، فَحُذِفَ الْعَامِلُ لِلدَّلَالَةِ، لَكَانَ إِعْرَابًا سَائِغًا وَاتَّحَدَ فِيهَا الْفَاعِلُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَوْفًا مِنْ صَوَاعِقِهِ، وَطَمَعًا فِي مَطَرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ. وَقِيلَ: خَوْفًا أَنْ يَكُونَ خُلَّبًا، وَطَمَعًا أَنْ يَكُونَ مَاطِرًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

لَا يَكُنْ بَرْقُكَ بَرْقًا خُلَّبًا ... إِنَّ خَيْرَ الْبَرْقِ مَا الْغَيْثُ مَعَهْ وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: خَوْفًا مِنَ الْبَرْدِ أَنْ يُهْلِكَ الزَّرْعَ، وَطَمَعًا فِي الْمَطَرِ أَنْ يُحْيِيَهُ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ: أَنْ تَثْبُتَ وَتُمْسَكَ، مِثْلُ: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا: أَيْ ثَبَتُوا بِأَمْرِهِ، أَيْ بِإِرَادَتِهِ. وَإِذَا الْأُولَى لِلشَّرْطِ، وَالثَّانِيَةُ لِلْمُفَاجَأَةِ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ خُرُوجُكُمْ عَنْ دُعَائِهِ، كَمَا يُجِيبُ الداعي المطيع مَدْعُوَّهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: دَعَوْتُ كُلَيْبًا دَعْوَةً فَكَأَنَّمَا ... دَعَوْتُ قَرِينَ الطَّوْدِ أَوْ هُوَ أَسْرَعُ قَرِينَ الطَّوْدِ: الصدا، أو الحجران أيد هذا. وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ. وَالدَّعْوَةُ: الْبَعْثُ من القبور، ومِنَ الْأَرْضِ يتعلق بدعاكم، ودَعْوَةً: أَيْ مَرَّةً، فَلَا يَحْتَاجُ إلى تكرير دعاءكم لِسُرْعَةِ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَرْضِ صفة لدعوة. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ عِنْدِي هُنَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، كَمَا يَقُولُ: دَعْوَتُكَ مِنَ الْجَبَلِ إِذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ فِي الْجَبَلِ. انْتَهَى. وَكَوْنُ مِنْ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ قَوْلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَعَنْ نَافِعٍ وَيَعْقُوبَ: أَنَّهُمَا وَقَفَا عَلَى دَعْوَةٍ، وَابْتَدَآ مِنَ الْأَرْضِ. إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ علقا من الأرض بتخرجون، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، بِالْوَقْفِ عَلَى دَعْوَةً فِيهِ إِعْمَالُ مَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: إِذا دَعاكُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: يُرِيكُمُ فِي إِيقَاعِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: ومن آياته قيام السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ إِذَا دَعَاهُمْ دَعْوَةً وَاحِدَةً: يَا أَهْلَ الْقُبُورِ اخْرُجُوا، وَإِنَّمَا عَطَفَ هذا على قيام السموات والأرض بثم، بَيَانًا لِعَظِيمِ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَاقْتِدَارِهِ عَلَى مِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: يَا أَهْلَ الْقُبُورِ قُومُوا، فَلَا تَبْقَى نَسَمَةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا قَامَتْ تَنْظُرُ. انْتَهَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَخْرُجُونَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ. وَبَدَأَ أَوَّلًا مِنَ الْآيَاتِ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى، وَهِيَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ كَوْنُهُ بَشَرًا مُنْتَشِرًا، وَهُوَ خَلْقٌ حَيٌّ مِنْ جَمَادٍ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِأَنْ خَلَقَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ زَوْجًا، وَجُعِلَ بَيْنَهُمَا تَوَادٌّ، وَذَلِكَ خَلْقٌ حَيٌّ مِنْ عُضْوٍ حَيٍّ. وَقَالَ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْفِكْرِ فِي تَأْلِيفٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَعَارُفٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لِلْعَالَمِ كلهم، وهو خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْوَانِ، وَالِاخْتِلَافُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ لَا يُفَارِقُهُ. وَقَالَ: لِلْعالِمِينَ، لِأَنَّهَا آيَةٌ مَكْشُوفَةٌ لِلْعَالَمِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْمَنَامِ وَالِابْتِغَاءِ، وَهُمَا مِنَ الْأُمُورِ

الْمُفَارَقَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ. وَقَالَ: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى مُرْشِدٍ، فَنَبَّهَ عَلَى السَّمَاعِ، وَجَعَلَ الْبَالَ مِنْ كَلَامِ الْمُرْشِدِ. وَلَمَّا ذَكَرَ عَرَضِيَّاتِ الْأَنْفُسِ اللَّازِمَةَ وَالْمُفَارِقَةَ، ذَكَرَ عَرَضِيَّاتِ الْآفَاقِ الْمُفَارِقَةَ مِنْ إِرَاءَةِ الْبَرْقِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَقَدَّمَهَا عَلَى مَا هُوَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ وَالْإِحْيَاءُ، كما قدم السموات عَلَى الْأَرْضِ، وَقَدَّمَ الْبَرْقَ عَلَى الْإِنْزَالِ، لِأَنَّهُ كَالْمُبَشِّرِ يَجِيءُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَادِمِ. وَالْأَعْرَابُ لَا يَعْلَمُونَ الْبِلَادَ الْمُعْشِبَةَ، إِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوُا الْبُرُوقَ اللَّائِحَةَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. وَقَالَ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، لِأَنَّ الْبَرْقَ وَالْإِنْزَالَ لَيْسَ أَمْرًا عَادِيًّا فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ طَبِيعَةٌ، إِذْ يَقَعُ ذَلِكَ بِبَلْدَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَوَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَقَوِيًّا وَضَعِيفًا، فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ: هُوَ آيَةٌ لِمَنْ عَقَلَ بِأَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ تَفَكُّرًا تَامًّا. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَاتِ بقيام السموات الأرض، وَذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ اللَّازِمَةِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَكَانِهِ، فَيُتَعَجَّبُ مِنْ وُقُوفِ الْأَرْضِ وَعَدَمِ نُزُولِهَا، وَمِنْ عُلُوِّ السَّمَاءِ وَثَبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَكَرَ تَعَالَى مِنْ كُلِّ بَابٍ أَمْرَيْنِ: مِنَ الْأَنْفُسِ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ لَكُمْ، وَمِنَ الْآفَاقِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَمِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ اخْتِلَافَ الْأَلْسِنَةِ وَاخْتِلَافَ الْأَلْوَانِ، وَمِنْ خَوَاصِّهِ الْمَنَامَ وَالِابْتِغَاءَ، وَمِنْ عَوَارِضِ الْآفَاقِ الْبَرْقَ وَالْمَطَرَ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ قِيَامَ السَّمَاءِ وَقِيَامَ الْأَرْضِ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: عَامٌّ فِي كَوْنِهِمْ تَحْتَ مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: قانِتُونَ: قَائِمُونَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٍ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُطِيعُونَ، أَيْ فِي تَصْرِيفِهِ، لَا يَمْتَنِعُ عَنْهُ شَيْءٌ يُرِيدُ فِعْلَهُ بِهِمْ، مِنْ حَيَاةٍ وَمَوْتٍ وَصِحَّةٍ وَمَرَضٍ، فَهِيَ طَاعَةُ الْإِرَادَةِ لَا طَاعَةَ الْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: قَائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَإِذَا حُمِلَ الْقُنُوتُ عَلَى الْإِخْلَاصِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ، أَوْ قَانِتُونَ مِنْ مَلَكٍ وَمُؤْمِنٍ، لِأَنَّ كُلَّ عَامٍّ مَخْصُوصٌ. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ: أَيْ وَالْعَوْدُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ أَهْوَنُ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، لِأَنَّهُ تَفَاوُتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي النَّشْأَتَيْنِ: الْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ خيثم عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى هَيِّنٍ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: أَهْوَنُ لِلتَّفْضِيلِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ الْبَشَرِ وَمَا يُعْطِيهِمُ النَّظَرُ فِي الْمَشَاهِدِ مِنْ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدَاءَةِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الرَّوِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْبَدَاءَةِ وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ الِاثْنَانِ عِنْدَهُ تَعَالَى مِنَ الْيُسْرِ فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ، أَيْ وَالْعَوْدُ أَهْوَنُ عَلَى الْخَلْقِ: بِمَعْنَى أَسْرَعُ، لِأَنَّ الْبَدَاءَةَ فيها تدريج مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ إِلَى أَنْ يَصِيرَ إِنْسَانًا، وَالْإِعَادَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ التَّدْرِيجَاتِ فِي الْأَطْوَارِ، إِنَّمَا يَدْعُوهُ اللَّهُ فَيَخْرُجُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ، أَيْ أَقْصَرُ مُدَّةً وَأَقَلُّ انْتِقَالًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ يُعِيدُ شَيْئًا بَعْدَ إِنْشَائِهِ، فَهَذَا عُرْفُ الْمَخْلُوقِينَ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ أَنْتُمُ الْإِعَادَةَ فِي جَانِبِ الْخَالِقِ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى، كَمَا جَاءَ بِلَفْظٍ فِيهِ اسْتِعَاذَةٌ وَاسْتِشْهَادٌ بِالْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ، وَتَشْبِيهٌ بِمَا يَعْهَدُهُ النَّاسُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، خَلُصَ جَانِبُ الْعَظَمَةِ، بِأَنْ جَعَلَ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِهِ، فَكَيْفَ وَلَا تِمْثَالَ مَعَ شَيْءٍ؟ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أُخِّرَتِ الصِّلَةُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَقُدِّمَتْ فِي قَوْلِهِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ «1» ؟ قُلْتُ: هُنَالِكَ قُصِدَ الِاخْتِصَاصُ، وَهُوَ تَجَبُّرُهُ، فَقِيلَ: وَهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَصْعَبًا عِنْدَكَ، وَإِنْ تَوَلَّدَ بَيْنَ هَرَمٍ وعاقر. وأما هنا فلا مَعْنَى لِلِاخْتِصَاصِ، كَيْفَ وَالْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَعْقِلُونَ مِنْ أَنَّ الْإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الِابْتِدَاءِ؟ فَلَوْ قُدِّمَتِ الصِّلَةُ لَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَمَبْنَى كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ نُسَلِّمْهُ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «2» . وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى، قِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهُوَ أَهْوَنُ قَدْ ضَرَبَهُ لَكُمْ مَثَلًا فِيمَا يَسْهُلُ أَوْ يَصْعُبُ. وَقِيلَ: بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ:

_ (1) سورة مريم: 19/ 9. (2) سورة الفاتحة: 1/ 5.

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ. وَقِيلَ: الْمَثَلُ: الْوَصْفُ الْأَرْفَعُ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ إِنْشَاءٍ وَإِعَادَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهُوَ الْعَزِيزُ: أَيِ الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْحَكِيمُ الَّذِي أَفْعَالُهُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: المثل الأعلى قوله: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَهُ الْوَصْفُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ضَرَبَ لَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَ الْأَصْنَامِ وَفَسَادَ مُعْتَقَدِ مَنْ يُشْرِكُهَا بِاللَّهِ، بِضَرْبِهِ هَذَا الْمَثَلَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا كَانَ لَكُمْ عَبِيدٌ تَمْلِكُونَهُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تُشْرِكُونَهُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَمُهِمِّ أُمُورِكُمْ، وَلَا فِي شَيْءٍ عَلَى جِهَةِ اسْتِوَاءِ الْمَنْزِلَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِكُمْ أَنْ تَخَافُوهُمْ فِي أَنْ يَرِثُوا أَمْوَالَكُمْ، أَوْ يُقَاسِمُونَكُمْ إِيَّاهَا فِي حَيَاتِكُمْ، كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيكُمْ، فَكَيْفَ تَقُولُونَ: إِنَّ مِنْ عَبِيدِهِ وَمُلْكِهِ شُرَكَاءَ فِي سُلْطَانِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَتُثْبِتُونَ فِي جَانِبِهِ مَا لَا يَلِيقُ عِنْدَكُمْ بِجَوَانِبِكُمْ؟ وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالتَّقْرِيرِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا يُوَرِّثُونَ آلِهَتَهُمْ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ، قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَمْ يجوز لربكم» ؟ ومن فِي: مِنْ أَنْفُسِكُمْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَخَذَ مثلا، وافترى مِنْ أَقْرَبِ شَيْءٍ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَنْفُسُكُمْ، وَلَا يَبْعُدُ. ومن فِي: مِمَّا مَلَكَتْ لِلتَّبْعِيضِ، ومن فِي: مِنْ شُرَكاءَ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِفْهَامِ الْجَارِي مَجْرَى النَّفْيِ. يَقُولُ: لَيْسَ يَرْضَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يُشْرِكَهُ عَبْدُهُ فِي مَالِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَهُ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ شَرِيكًا لِلَّهِ، وَهُوَ رَبُّ الْأَرْبَابِ وَمَالِكُ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ؟ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَبَيْنَ الْمَثَلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ مُشَابَهَةٌ وَمُخَالَفَةٌ. فَالْمُشَابَهَةُ مَعْلُومَةٌ، وَالْمُخَالَفَةُ مِنْ وُجُوهٍ: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ: أَيْ مِنْ نَسْلِكُمْ، مَعَ حَقَارَةِ الْأَنْفُسِ وَنَقْصِهَا وَعَجْزِهَا، وَقَاسَ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ مَعَ عَظْمَتِهَا وَجَلَالَتِهَا وَقُدْرَتِهَا. وَقَوْلُهُ: مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ: أَيْ عَبِيدِكُمْ، وَالْمِلْكُ مَا قَبَلَ النَّقْلَ بِالْبَيْعِ، وَالزَّوَالَ بِالْعِتْقِ، وَمَمْلُوكُهُ تَعَالَى لَا خُرُوجَ لَهُ عَنِ الْمِلْكِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرَكَكُمْ مَمْلُوكُكُمْ، وَهُوَ مِثْلُكُمْ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَمِثْلُكُمْ فِي الْآدَمِيَّةِ، حَالَةَ الرِّقِّ، فَكَيْفَ يَشْرَكُ اللَّهَ مَمْلُوكُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُبَايِنَ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ؟ وقوله: فِي ما رَزَقْناكُمْ: يَعْنِي أَنَّ الْمُيَسِّرَ لَكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ وَمِنْ رِزْقِهِ حَقِيقَةً، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرِكَكُمْ فِيمَا هُوَ لَكُمْ مِنْ حَيْثُ الِاسْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ تَعَالَى

شَرِيكٌ فِيمَا لَهُ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ؟ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وشُرَكاءَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وفِي ما رَزَقْناكُمْ متعلق به، ولَكُمْ الخبر، ومِنْ ما مَلَكَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَالْوَاقِعُ خَبَرًا، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بَعْدَ الْمُبْتَدَأِ. وما فِي رَزَقْناكُمْ وَاقِعَةٌ عَلَى النَّوْعِ، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ شُرَكَاءُ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ كَائِنُونَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي مَلَكَتْهُ أَيْمَانُكُمْ كَائِنُونَ لَكُمْ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق لكم بشركاء، وَيَكُونُ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، كَمَا تَقُولُ: لِزَيْدٍ فِي الْمَدِينَةِ مُبْغِضٌ، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ، وفي المدينة الخبر، وفَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى النَّفْيِ، وَفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بسواء، وتَخافُونَهُمْ خبر ثان لأنتم، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْتُمْ مُسْتَوُونَ مَعَهُمْ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ، تَخَافُونَهُمْ كَمَا يَخَافُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُّهَا السَّادَةُ. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الشَّرِكَةِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْخَوْفِ، وَلَيْسَ النَّفْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الْجَوَابِ وَمَا بَعْدَهُ فَقَطْ، كَأَحَدِ وَجْهَيْ ما تأتينا فتحدثنا، أي مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، بَلْ هُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، أَيْ مَا تَأْتِينَا فَكَيْفَ تُحَدِّثُنَا؟ أَيْ لَيْسَ مِنْكَ إِتْيَانٌ فَلَا يَكُونُ حَدِيثٌ. وَكَذَلِكَ هَذَا لَيْسَ لَهُمْ شَرِيكٌ، فَلَا اسْتِوَاءَ وَلَا خوف. وقرأ الجمهور: أنفسكم، بِالنَّصْبِ، أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ وَابْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ: بِالرَّفْعِ، أُضِيفَ الْمَصْدَرُ لِلْمَفْعُولِ، وَهُمَا وَجْهَانِ حَسَنَانِ، وَلَا قُبْحَ فِي إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاعِلِ. كَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ، نُفَصِّلُ الْآياتِ: أَيْ نُبَيِّنُهَا، لِأَنَّ التَّمْثِيلَ مِمَّا يَكْشِفُ الْمَعَانِيَ وَيُوَضِّحُهَا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْوِيرِ وَالتَّشْكِيلِ لَهَا. أَلَا تَرَى كَيْفَ صَوَّرَ الشِّرْكَ بِالصُّورَةِ الْمُشَوَّهَةِ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُفَصِّلُ، بِالنُّونِ، حَمْلًا عَلَى رَزَقْنَاكُمْ وَعَبَّاسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: بِيَاءِ الغيبة، رعيا لضرب، إِذْ هُوَ مُسْنَدٌ لِلْغَائِبِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، لِافْتِقَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْمُمْتَنِعُ وَالْمُسْتَقْبَحُ شَرِكَةُ الْعَبِيدِ لِسَادَاتِهِمْ أَمَّا شَرِكَةُ السَّادَاتِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وَلَا يستقبح. والإضراب ببل فِي قَوْلِهِ: بَلِ اتَّبَعَ جَاءَ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ، إِذِ الْمَعْنَى: لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ وَلَا مَعْذِرَةٌ فِيمَا فَعَلُوا مِنْ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ هَوًى بِغَيْرِ عِلْمٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هَوًى لِلْإِنْسَانِ، وهو يعلم. والَّذِينَ ظَلَمُوا: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ جَاهِلِينَ هَائِمِينَ عَلَى أَوْجُهِهِمْ، لَا يُرْغِمُهُمْ عَنْ هَوَاهُمْ عِلْمٌ، إِذْ هُمْ خَالُونَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي قَدْ يَرْدَعُ مُتَّبِعَ الْهَوَى. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: أَيْ لَا أَحَدَ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، أَيْ

هَؤُلَاءِ مِمَّنْ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ، فَلَا هَادِيَ لَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَلْطُفْ بِهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا لُطْفَ لَهُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ مِثْلِهِ. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضْلَالِ الْخِذْلَانُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ: فَقَوِّمْ وجهك له وعدله غَيْرَ مُلْتَفِتٍ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِإِقْبَالِهِ عَلَى الدِّينِ وَاسْتِقَامَتِهِ عَلَيْهِ وَثَبَاتِهِ وَاهْتِمَامِهِ بِأَسْبَابِهِ. فَإِنَّ مَنِ اهْتَمَّ بِالشَّيْءِ، عَقَدَ عَلَيْهِ طَرْفَهُ وَقَوَّمَ لَهُ وَجْهَهُ مُقْبِلًا بِهِ عَلَيْهِ، وَالدِّينُ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ الْوَجْهَ، لِأَنَّهُ جَامِعُ حواس الإنسان وأشرفه. وحَنِيفاً: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَقِمْ، أَوْ مِنَ الْوَجْهِ، أَوْ مِنَ الدِّينِ، وَمَعْنَاهُ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ المنسوخة. فِطْرَتَ اللَّهِ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ «1» ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: الْتَزِمْ فِطْرَةَ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْزَمُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، أَوْ عَلَيْكُمْ فِطْرَةَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا أُضْمِرَتْ عَلَى خِطَابِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، ومنيبين حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْزَمُوا. وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا، وَلا تَكُونُوا، مَعْطُوفٌ عَلَى هَذَا الْمُضْمَرِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ، الْمُرَادُ بِهِ: فَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ، وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِالرَّسُولِ وَحْدَهُ، وَكَأَنَّهُ خِطَابٌ لِمُفْرَدٍ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، أَيْ: فَأَقِمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ مُخَاطَبٌ وَاحِدٌ. فَإِذَا كَانَ هَذَا، فَقَوْلُهُ: مُنِيبِينَ، وَأَقِيمُوا، وَلا تَكُونُوا مَلْحُوظٌ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَوْ عَلَيْكُمْ فِطْرَةَ اللَّهِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ كَلِمَةِ الْإِغْرَاءِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ حَذَفَ الْفِعْلَ وَعَوَّضَ عَلَيْكَ مِنْهُ. فلو جاز حَذْفُهُ لَكَانَ إِجْحَافًا، إِذْ فِيهِ حَذْفُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ مِنْهُ. وَالْفِطْرَةُ، قِيلَ: دِينُ الإسلام، والناس مَخْصُوصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُمْ نَسَمًا مِنْ ظَهْرِهِ وَرَجَّحَ الْحُذَّاقُ. أَنَّهَا الْقَابِلِيَّةُ الَّتِي فِي الطِّفْلِ لِلنَّظَرِ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مُوجِدِهِ، فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيَتَّبِعُ شَرَائِعَهُ، لَكِنْ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ عَوَارِضُ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ، كَتَهْوِيدِ أَبَوَيْهِ لَهُ، وَتَنْصِيرِهِمَا، وَإِغْوَاءِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: أَيْ لَا تَبْدِيلَ لِهَذِهِ الْقَابِلِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْخَالِقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: لَا تَبْدِيلَ لِدِينِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: لِمُعْتَقَدَاتِ الْأَدْيَانِ، إِذْ هِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَا يَنْبَغِي أَنْ تُبَدَّلَ تِلْكَ الْفِطْرَةُ أَوْ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 138.

تُغَيَّرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَبْدِيلَ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِسَعَادَتِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ نَفْيُ مَعْنَاهُ: النَّهْيُ، أَيْ لَا تُبَدِّلُوا ذَلِكَ الدِّينَ. وَقِيلَ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ بِمَعْنَى: الْوَحْدَانِيَّةُ مُتَرَشِّحَةٌ فِيهِ، لَا تَغَيُّرَ لَهَا، حَتَّى لَوْ سَأَلْتَهُ: مَنْ خلق السموات والأرض؟ تقول: اللَّهُ. وَيُسْتَغْرَبُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: النَّهْيُ عَنْ خِصَاءِ الْفُحُولِ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَلْجَأُ عَلَى الْكَفَرَةِ، اعْتُرِضَ بِهِ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُمُ الكفر، ولا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: أَيْ أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ ذَلِكَ الَّذِي أُمِرْتَ بِإِقَامَةِ وَجْهِكَ لَهُ، هُوَ الدِّينُ الْمُبَالِغُ فِي الِاسْتِقَامَةِ. وَالْقَيِّمُ: بِيَاءِ مُبَالَغَةٍ، مِنَ الْقِيَامِ، بِمَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ، وَوَزْنُهُ فَعِيلٌ، أَصْلُهُ قَيْوِمٌ كَيَدٍ، اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ، وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِيهَا، وَهُوَ بِنَاءٌ مُخْتَصٌّ بِالْمُعْتَلِّ الْعَيْنِ، لَمْ يجىء مِنْهُ فِي الصَّحِيحِ إِلَّا بَيْئِسٌ وَصَيْقِلٌ عَلَمٌ لِامْرَأَةٍ. مُنِيبِينَ: حَالٌ مِنَ النَّاسَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ بِالنَّاسِ: الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي: الْزَمُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، وَهُوَ تَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي: فَأَقِمْ، إِذِ الْمَقْصُودُ: الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ، وَكَأَنَّهُ حُذِفَ مَعْطُوفٌ، أَيْ فَأَقِمْ وَجْهَكَ وَأُمَّتَكَ. وَكَذَا زَعَمَ الزَّجَّاجُ فِي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ «1» : أَيْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ وَالنَّاسُ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَجِيءُ الْحَالِ فِي مُنِيبِينَ جَمْعًا، وَفِي إِذا طَلَّقْتُمُ جَاءَ الْخِطَابُ فِيهِ وَفِي مَا بَعْدَهُ. جَمْعًا، أَوْ عَلَى خَبَرُ كَانَ مُضْمَرَةً، أَيْ كُونُوا مُنِيبِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ وَلا تَكُونُوا، وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مَنْقُولَةٌ كُلُّهَا. مِنَ الْمُشْرِكِينَ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْيَهُودُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، وَلَفْظَةُ الْإِشْرَاكِ عَلَى هَذَا تَجُوزُ بِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي دِينِهِمْ فِرَقًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ: كُلٌّ مَنْ أَشْرَكَ، فَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَهْلُ الكتاب وغيرهم. ومِنَ الَّذِينَ: بَدَلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَرَّقُوا دِينَهُمْ: أَيْ دِينَ الْإِسْلَامِ وَجَعَلُوهُ أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً لِاخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ. وَكانُوا شِيَعاً: كُلُّ فِرْقَةٍ تُشَايِعُ إِمَامَهَا الَّذِي كَانَ سَبَبَ ضَلَالِهَا. كُلُّ حِزْبٍ: أَيْ مِنْهُمْ فَرِحٌ بِمَذْهَبِهِ مَفْتُونٌ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلُّ حِزْبٍ مبتدأ وفَرِحُونَ الْخَبَرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَمَعْنَاهُ: مِنَ الْمُفَارِقِينَ دِينَهُمْ. كُلُّ حِزْبٍ فَرِحِينَ بِمَا لَدَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ رَفَعَ فَرِحُونَ عَلَى الوصف لكل، كقوله:

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 1. [.....]

وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ انْتَهَى. قُدِّرَ أَوَّلًا فَرِحِينَ مَجْرُورَةً صِفَةً لِحِزْبٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنَّهُ رُفِعَ على الوصف لكل، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مِنْ قَوْمِكَ كُلُّ رَجُلٍ صَالِحٍ، جَازَ فِي صَالِحٍ الْخَفْضُ نعتا لرجل، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، كَقَوْلِهِ: جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ترة ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ وجاز الرفع نعتا لكل، كَقَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ هَبَّتْ كُلُّ مُعْصِفَةٍ ... هَوْجَاءَ لَيْسَ لِلُبِّهَا دبر برفع هوجاء صفة لكل. وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ، وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ. الضُّرُّ: الشِّدَّةُ، مِنْ فَقْرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ قَحْطٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالرَّحْمَةُ: الْخَلَاصُ مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ. دَعَوْا رَبَّهُمْ: أَفْرَدُوهُ بِالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ لِيَنْجُوا مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ، وَتَرَكُوا أَصْنَامَهُمْ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِنَابَةٌ وَخُضُوعٌ، وَإِذَا خَلَّصَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ، أَشْرَكَ فَرِيقٌ ممن خلص، وَهَذَا الْفَرِيقُ هُمْ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَلْحَقُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ شَيْءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ جَاءَهُمْ فَرَجٌ بَعْدَ شِدَّةٍ، عَلَّقُوا ذَلِكَ بِمَخْلُوقِينَ، أَوْ بِحِذْقِ آرَائِهِمْ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِيهِ قِلَّةُ شُكْرِ اللَّهِ، وَيُسَمَّى مَجَازًا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَقُولُ: تَخَلَّصْتُ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْكَوْكَبِ الْفُلَانِيِّ وَسَبَبِ الصَّنَمِ الْفُلَانِيِّ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَخْلُصُ بِسَبَبِ فُلَانٍ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ شِرْكٌ خَفِيٌّ. انْتَهَى. وإِذا فَرِيقٌ: جَوَابُ إِذا أَذاقَهُمْ، الْأُولَى شَرْطِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ لِلْمُفَاجَأَةِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ، وَجَاءَ هُنَا فَرِيقٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَا يُشْرِكُ إِلَّا الكافر.

وضر هَنَا مُطْلَقٌ، وَفِي آخِرِ الْعَنْكَبُوتِ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «1» لِأَنَّهُ فِي مَخْصُوصِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، وَالضُّرُّ هُنَاكَ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ مَا يُتَخَوَّفُ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ. إِذا هُمْ: أَيْ رُكَّابُ الْبَحْرِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا لَامُ كَيْ، أَوْ لَامُ الْأَمْرِ لِلتَّهْدِيدِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي آخِرِ الْعَنْكَبُوتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، بِالتَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ أبو العالية: فيتمتعوا، بالياء، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَكْفُرُوا. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ: بِالْيَاءِ، عَلَى التَّهْدِيدِ لَهُمْ. وَعَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ: فَيَتَمَتَّعُوا، بِيَاءٍ قَبْلَ التَّاءِ، عَطْفٌ أَيْضًا عَلَى لِيَكْفُرُوا، أَيْ لِتَطُولَ أَعْمَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَعَنْهُ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: فَلْيَتَمَتَّعُوا. وَقَالَ هَارُونُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: يمتعوا. أَمْ أَنْزَلْنا، أَمْ: بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْحُجَّةِ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ. وَالسُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ، مِنْ كِتَابٍ أَوْ نَحْوِهِ. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ: أَيْ يُظْهِرُ مَذْهَبَهُمْ وَيَنْطِقُ بِشِرْكِهِمْ، وَالتَّكَلُّمُ مَجَازٌ لِقَوْلِهِ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «2» . وهو يَتَكَلَّمُ: جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ أَمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا، أَيْ بُرْهَانًا شَاهِدًا لَكُمْ بِالشِّرْكِ، فَهُوَ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَإِنْ قُدِّرَ ذَا سُلْطَانٍ، أَيْ مَلَكًا ذَا بُرْهَانٍ، كَانَ التَّكَلُّمُ حَقِيقَةً. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً: أَيْ نِعْمَةً، مِنْ مَطَرٍ، أَوْ سِعَةٍ، أَوْ صِحَّةٍ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ: أَيْ بَلَاءٌ، مِنْ حَدَثٍ، أَوْ ضِيقٍ، أَوْ مَرَضٍ. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ «3» ، فَفِي إِصَابَةِ الرَّحْمَةِ فَرِحُوا وَذَهَلُوا عَنْ شُكْرِ مَنْ أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ، وَفِي إِصَابَةِ الْبَلَاءِ قَنِطُوا وَيَئِسُوا وَذَهَلُوا عَنِ الصَّبْرِ، وَنَسُوا مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ إِصَابَةِ البلاء. وأَذاهُمْ جَوَابُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ، يَقُومُ مَقَامَ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ. وَحِينَ ذَكَرَ إِذَاقَةَ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهَا، وَهُوَ زِيَادَةُ الْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ. وَحِينَ ذَكَرَ إِصَابَةَ السَّيِّئَةِ، ذَكَرَ سَبَبَهَا، وَهُوَ الْعِصْيَانُ، لِيَتَحَقَّقَ بَدَلُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْأَمْرَ الَّذِي مَنِ اعْتَبَرَهُ لم ييأس مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْبَاسِطُ الْقَابِضُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْنِطَ، وَأَنْ يَتَلَقَّى مَا يَرِدُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالصَّبْرِ فِي الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرِ فِي النَّعْمَاءِ، وَأَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ السَّيِّئَةُ بِسَبَبِهَا، حَتَّى تَعُودَ إليه رحمة ربه.

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 65. (2) سورة الجاثية: 45/ 29. (3) سورة الرعد: 13/ 11.

وَمُنَاسَبَةُ فَآتِ ذَا الْقُرْبى لِمَا قَبْلَهُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْبَاسِطُ الْقَابِضُ، وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِ، ثُمَّ نَبَّهَ بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ بِهِ فَاقَةٌ وَاحْتِيَاجٌ، لِأَنَّ مِنَ الْإِيمَانِ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَخَاطَبَ مَنْ بَسَطَ لَهُ الرِّزْقَ بِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ مِنَ الْمَالِ، وَصَرْفِهِ إِلَى مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ حَجٍّ، وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ مِسْكِينٍ وَابْنِ سَبِيلٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ سَامِعٍ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. وَقِيلَ: لِلرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذُو الْقُرْبَى: بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، يُعْطَوْنَ حُقُوقَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَقُّ الْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمُسَمَّاةِ لَهُمَا. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْمَحَارِمِ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ عَاجِزِينَ عَنِ الْكَسْبِ. أَثْبَتَ تَعَالَى لِذِي الْقُرْبَى حَقًّا، وَلِلْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَقَّهُمَا. وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ الزَّكَاةَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَقًّا بِجِهَةِ الْإِحْسَانِ وَالْمُوَاسَاةِ. وَلِلِاهْتِمَامِ بِذِي الْقُرْبَى، قُدِّمَ عَلَى الْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ بِرَّهُ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. ذلِكَ: أَيِ الْإِيتَاءُ، خَيْرٌ: أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْأَجْرُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْمُو ما لهم فِي الدُّنْيَا لِوَجْهِ اللَّهِ، أَيِ التَّقَرُّبُ إِلَى رِضَا اللَّهِ لَا يَضُرُّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الْمَرْضِيَّةِ فَقَالَ: وَما آتَيْتُمْ أكلة الربو، لِيَزِيدَ وَيَزْكُوَ فِي الْمَالِ، فَلَا يَزْكُو عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُبَارَكُ فِيهِ لِقَوْلِهِ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «1» . قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي رِبَا ثَقِيفٍ، كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالرِّبَا، وَيَعْمَلُهُ فِيهِمْ قُرَيْشٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ: هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هِبَاتٍ، لِلثَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا مِمَّا يُصْنَعُ لِلْمُجَازَاةِ، كَالسِّلْمِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا إِثْمَ فِيهِ، فَلَا أَجْرَ فِيهِ وَلَا زِيَادَةَ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالنَّخَعِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يُعْطُونَ قَرَابَاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ عَلَى مَعْنَى نَفْعِهِمْ وَتَمْوِيلِهِمْ وَالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ، وَلِيَزِيدُوا فِي أَمْوَالِهِمْ عَلَى جِهَةِ النَّفْعِ بِهِ، فَذَلِكَ النَّفْعُ لَهُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا وَهُوَ: أَنَّ مَا خَدَمَ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ انْتَفَعَ بِهِ، فَذَلِكَ النَّفْعُ لَهُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا وَهُوَ: أَنَّ لَا يَرْبُوَ عِنْدَ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الرِّبَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما آتَيْتُمْ، الْأَوَّلُ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ، أَيْ وَمَا أَعْطَيْتُمْ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِقَصْرِهَا، أَيْ وَمَا جِئْتُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَرْبُوَ، بِالْيَاءِ وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الرِّبَا وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً، وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ: لِيُرْبُوَهَا، بضمير المؤنث.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 276.

وَالْمُضَعَّفُ: ذُو أَضْعَافٍ فِي الْأَجْرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمْ أَصْحَابُ الْمُضَاعَفَةِ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ مُسَمَّنٌ، أَيْ صَاحِبُ إِبِلٍ سِمَانٍ، وَمُعَطَّشٌ: أَيْ صَاحِبُ إِبِلٍ عَطْشَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: الْمُضْعِفُونَ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، اسْمَ مَفْعُولٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ، الْتِفَاتٌ حَسَنٌ، كَأَنَّهُ قَالَ لِمَلَائِكَتِهِ وَخَوَاصِّ خَلْقِهِ: فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ بِصَدَقَاتِهِمْ هُمُ الْمُضْعِفُونَ، وَالْمَعْنَى: الْمُضْعِفُونَ بِهِ بِدَلَالَةِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ، وَالْحَذْفُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَسْهَلُ مَأْخَذًا، وَالْأَوَّلُ أَمْلَأُ بِالْفَائِدَةِ: انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ مَا قُدِّرَ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَيْسَ بِظَرْفٍ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ يَتِمُّ بِهِ الرَّبْطُ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ، مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. كَرَّرَ تَعَالَى خِطَابَ الْكُفَّارِ فِي أَمْرِ أَوْثَانِهِمْ، فَذَكَرَ أَفْعَالَهُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْعَى لَهُ فِيهَا شَرِيكٌ، وَهِيَ الْخَلْقُ وَالرِّزْقُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ، ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ لَهُمْ وَالتَّوْبِيخِ، ثُمَّ نَزَّهَ نفسه عن مقالتهم. واللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي خَلَقَكُمْ صِفَةً لِلْمُبْتَدَأِ، وَالْخَبَرُ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ وَقَوْلُهُ: مِنْ ذلِكُمْ هُوَ الَّذِي رَبَطَ الْجُمْلَةَ بِالْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: مِنْ أَفْعَالِهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَكُونُ رَابِطًا إِذَا كَانَ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ. وَأَمَّا ذلِكُمْ هُنَا فَلَيْسَ إِشَارَةً إِلَى الْمُبْتَدَأِ، لَكِنَّهُ شَبِيهٌ بِمَا أَجَازَهُ الْفَرَّاءُ مِنَ الرَّبْطِ بِالْمَعْنَى، وَخَالَفَهُ النَّاسُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ «1» ، قَالَ: التَّقْدِيرُ يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجَهُمْ، فَقَدَّرَ الضَّمِيرَ بِمُضَافٍ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ، فَحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ، كَذَلِكَ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ ذلِكُمْ: مِنْ أَفْعَالِهِ الْمُضَافِ إِلَى الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَنْدَادًا لَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا قَطُّ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، حَتَّى يَصِحَّ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ؟ فَاسْتَعْمَلَ قَطُّ فِي غير موضعها،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 234.

لِأَنَّهَا ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، وَهُنَا جعلها معمولة ليفعل. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: وَمِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَقْبِلَةٍ تَأْكِيدٌ لِتَعْجِيزِ شُرَكَائِهِمْ وتجهيل عبدتهم فمن الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خبر المبتدأ ومن يفعل هو المبتدأ، ومن الثَّانِيَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ ومن الثَّالِثَةُ زَائِدَةٌ لِانْسِحَابِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ النَّفْيُ عَلَى الْكَلَامِ، التَّقْدِيرُ: مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكُمْ، أَيْ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُشْرِكُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالظَّاهِرُ مُرَادُ ظَاهِرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَظُهُورُ الْفَسَادِ فِيهِمَا بِارْتِفَاعِ الْبَرَكَاتِ، وَنُزُولِ رَزَايَا، وَحُدُوثِ فِتَنٍ، وَتَقَلُّبِ عَدُوٍّ كَافِرٍ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُوجَدُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَسادُ فِي الْبَرِّ، الْقُطَّاعُ فَتَسُدُّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الْبَرِّ، بِقَتْلِ أَحَدِ بَنِي آدَمَ لِأَخِيهِ، وَفِي الْبَحْرِ: بِأَخْذِ السُّفُنِ غَصْبًا، وَعَنْهُ أَيْضًا: الْبَرُّ: الْبِلَادُ الْبَعِيدَةُ مِنَ الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ: السَّوَاحِلُ وَالْجُزُرُ الَّتِي عَلَى ضَفَّةِ الْبَحْرِ وَالْأَنْهَارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَرُّ: الْفَيَافِي وَمَوَاضِعُ الْقَبَائِلِ وَأَهْلُ الصَّحَارِي وَالْعُمُورِ، وَالْبَحْرُ: الْمُدُنُ، جَمْعُ بَحْرَةٍ، وَمِنْهُ: وَلَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ لِيُتَوِّجُوهُ، يَعْنِي قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبيّ ابن سَلُولٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ عِكْرِمَةَ. وَالْبُحُورِ بِالْجَمْعِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ الْفَسَادُ بَرًّا وَبَحْرًا وَقْتَ بَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الظُّلْمُ عَمَّ الْأَرْضَ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَزَالَ الْفَسَادَ، وَأَخْمَدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: ظَهَرَ الْجَدْبُ فِي الْبَرِّ فِي الْبَوَادِي وَقَرَأَهَا وَالْبَحْرِ، أَيْ فِي مُدُنِ البحر، مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» أَيْ ظَهَرَ قِلَّةُ الْعُشْبِ، وَغَلَا السِّعْرُ. وَالثَّانِي: ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي مِنْ قَطْعِ السَّبِيلِ وَالظُّلْمِ، فَهَذَا هُوَ الْفَسَادُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ، وَقِيلَ: إِذَا قَلَّ الْمَطَرُ قَلَّ الْغَوْصُ، وَأُحْنِقَ الصَّيَّادُ وَعَمِيَتْ دَوَابُّ الْبَحْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا مَطَرَتْ تَفَتَّحَتِ الْأَصْدَافُ فِي الْبَحْرِ، فَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ السَّمَاءِ فَهُوَ لُؤْلُؤٌ. بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ: أَيْ بِسَبَبِ مَعَاصِيهِمْ وَذُنُوبِهِمْ. لِيُذِيقَهُمْ: أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَفْسَدَ أَسْبَابَ دُنْيَاهُمْ وَمَحَقَهُمْ، لِيُذِيقَهُمْ وَبَالَ بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، قَبْلَ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِهَا جَمِيعًا فِي الْآخِرَةِ. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِما كَسَبَتْ: جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق الباء بظهر، أَيْ بِكَسْبِهِمُ الْمَعَاصِيَ فِي البر والبحر، وهو

_ (1) سورة يوسف: 12/ 82.

نَفْسُ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَسَلَامٌ، وَسَهْلٌ، وَرَوْحٌ، وَابْنُ حَسَّانَ، وَقُنْبُلٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ الصَّبَاحِ، وَأَبُو الْفَضْلِ الْوَاسِطِيُّ عَنْهُ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: لِنُذِيقَهُمْ، بِالنُّونِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ أَهْلَكَ الْأُمَمَ بِسَبَبِ مَعَاصِيهِمْ وَإِشْرَاكِهِمْ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِقُرَيْشٍ وَأَمْرٌ لَهُمْ بِالِاعْتِبَارِ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ، قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرُهُمْ. كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ: أَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ بسبب الشرك، وقوم بِسَبَبِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُ بِالْمَعَاصِي، كَمَا يُهْلِكُ بِالشِّرْكِ، كَأَصْحَابِ السَّبْتِ. أَوْ أَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ، الْمُشْرِكَ وَالْمُؤْمِنَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» ، وَأَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَأَكْثَرُهُمْ مُشْرِكُونَ، وَبَعْضُهُمْ مُعَطِّلٌ. وَحِينَ ذَكَرَ امتنانه قاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ، فَذَكَرَ الْوُجُودَ ثُمَّ الْبَقَاءَ بِسَبَبِ الرِّزْقِ. وَحِينَ ذَكَرَ خِذْلَانَهُمْ بِالطُّغْيَانِ، بِسَبَبِ الْبَقَاءِ بِإِظْهَارِ الْفَسَادِ، ثُمَّ بِسَبَبِ الْوُجُودِ بِالْإِهْلَاكِ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ تَحْذِيرٌ يَعُمُّ النَّاسَ، لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ، الْمَرَدُّ: مصدر رد، ومن اللَّهِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بيأتي، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ اللَّهِ يَوْمٌ لَا يَرُدُّهُ أَحَدٌ حَتَّى لَا يَأْتِيَ لِقَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها «2» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ يدل عليه مَرَدَّ، أَيْ لَا يَرُدُّهُ هُوَ بَعْدَ أَنْ يَجِيءَ بِهِ، وَلَا رَدَّ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ. يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ إِذْ يَأْتِي ذَلِكَ الْيَوْمُ. يَصَّدَّعُونَ: يَتَفَرَّقُونَ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. يُقَالُ: تَصَدَّعَ الْقَوْمُ إِذَا تَفَرَّقُوا، وَمِنْهُ الصُّدَاعُ، لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ شَعْبَ الرَّأْسِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا ثُمَّ ذَكَرَ حَالَتَيِ الْمُتَفَرِّقِينَ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ: أَيْ جَزَاءُ كُفْرِهِ، وَعَبَّرَ عن حالة الكافر بعليه، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ وَالْمَشَقَّةِ، وَعَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِ بِقَوْلِهِ: فَلِأَنْفُسِهِمْ، بِاللَّامِ الَّتِي هي لام الملك. ويَمْهَدُونَ: يُوَطِّئُونَ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مِنَ الْفَرْشِ، وَعِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ يَفْعَلُونَ فِي الدُّنْيَا مَا يَلْقُونَ بِهِ، مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَتُسَرُّ بِهِ أَنْفُسُهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ التَّمْهِيدُ لِلْقَبْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِدَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْكُفْرِ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَى الْكَافِرِ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَمَنْفَعَةُ الْأَيْمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ تَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ لَا تَتَجَاوَزُهُ. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ يَدُلُّ

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 25. (2) سورة الأنبياء: 21/ 40.

عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَيَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَأَمَّا مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ فَمَفْهُومٌ مِنْ آيٍ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» . وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: متعلق بيمهدون، تَعْلِيلٌ لَهُ وَتَكْرِيرُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَرْكُ الضَّمِيرِ إِلَى الصَّرِيحِ لِتَقْدِيرِهِ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ عِنْدَهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ، تَقْرِيرٌ بَعْدَ تَقْرِيرٍ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ. وَقَالَ ابْنُ عطية: ليجزي متعلق بيصدعون، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ لِيَجْزِيَ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَفَرَ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً. انتهى. ويكون قسم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْكَافِرُونَ بعدله، وَدَلَّ عَلَى حَذْفِ هَذَا الْقَسِيمِ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وَمَعْنَى نَفْيِ الْحُبِّ هُنَا: أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ أَمَارَاتُ رَحْمَتِهِ، وَلَا يَرْضَى الْكُفْرَ لَهُمْ دِينًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ فَضْلِهِ: بِمَا تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ تَوْفِيَةِ الْوَاجِبِ مِنَ الثَّوَابِ، وَهَذَا يُشْبِهُ الْكِنَايَةَ، لِأَنَّ الْفَضْلَ تَبَعٌ لِلثَّوَابِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ، أَوْ أَرَادَ مِنْ عَطَائِهِ، وَهُوَ ثَوَابُهُ، لِأَنَّ الْفُضُولَ وَالْفَوَاضِلَ هِيَ الْأَعْطِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ، فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ، فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى ظُهُورَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ بِسَبَبِ الشِّرْكِ، ذَكَرَ ظُهُورَ الصَّلَاحِ. وَالْكَرِيمُ لَا يَذْكُرُ لِإِحْسَانِهِ عِوَضًا، وَيَذْكُرُ لِعِقَابِهِ سَبَبًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِهِ الظُّلْمُ فَذَكَرَ مِنْ إِعْلَامِ قُدْرَةِ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ مُبَشِّرَاتٍ بِالْمَطَرِ، لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ. وَالْمُبَشِّرَاتُ: رِيَاحُ الرَّحْمَةِ، الْجَنُوبُ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 164.

وَالشَّمَالُ وَالصَّبَا، وَأَمَّا الدَّبُّورُ، فَرِيحُ الْعَذَابِ، وَلَيْسَ تَبْشِيرُهَا مُقْتَصَرًا بِهِ عَلَى الْمَطَرِ، بَلْ لَهَا تَبْشِيرَاتٌ بِسَبَبِ السُّفُنِ وَالسَّيْرِ بِهَا إِلَى مَقَاصِدِ أَهْلِهَا، وَكَأَنَّهُ بَدَأَ أَوَّلًا بِشَيْءٍ عَامٍّ، وَهُوَ التَّبْشِيرُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الرِّيحُ، مُفْرَدًا، وَأَرَادَ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ: مُبَشِّراتٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَعْظَمِ تَبَاشِيرِهَا إِذَاقَةَ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ نُزُولُ الْمَطَرِ، وَيَتْبَعُهُ حُصُولُ الْخِصْبِ، وَالرِّيحُ الَّذِي مَعَهُ الْهَبُوبُ، وَإِزَالَةُ الْعُفُونَةِ مِنَ الْهَوَاءِ، وَتَذْرِيَةُ الْحُبُوبِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلِيُذِيقَكُمْ: عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى مُبَشِّراتٍ، فَالْعَامِلُ أَنْ يُرْسِلَ، وَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيُبَشِّرُوكُمْ، وَالْحَالُ وَالصِّفَةُ قَدْ يَجِيئَانِ، وَفِيهِمَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ. تَقُولُ: أُهِنْ زيد أسيأ وَأُكْرِمْ زَيْدًا الْعَالِمَ، تُرِيدُ لِإِسَاءَتِهِ وَلِعِلْمِهِ. وَقِيلَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاهَا. وَقِيلَ: الْوَاوُ فِي وَلِيُذِيقَكُمْ زَائِدَةٌ. وبِأَمْرِهِ: أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ، يَعْنِي أَنَّ جَرَيَانَهَا، لَمَّا كَانَ مُسْنَدًا إِلَيْهَا، أَخْبَرَ أَنَّهُ بِأَمْرِهِ تَعَالَى. مِنْ فَضْلِهِ: مما يهيء لَكُمْ مِنَ الرِّيحِ فِي التِّجَارَاتِ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ غَنَائِمِ أَهْلِ الشِّرْكِ. ثُمَّ بَيَّنَ لِرَسُولِهِ بِأَنْ ضَرَبَ لَهُ مَثَلُ مَنْ أَرْسَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى بَيَّنَ الْأَصْلَيْنِ: الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، بَيَّنَ ذِكْرَ الْأَصْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَآمَنَ بِهِ بَعْضٌ وَكَذَّبَ بَعْضٌ، انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا. وَفِي قوله: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ : تَبْشِيرٌ لِلرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، إِذْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ نُصِرُوا، وَفِي لَفْظِ حَقًّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّحَتُّمِ، وَتَكْرِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِظْهَارٌ لِفَضِيلَةِ سَابِقَةِ الْإِيمَانِ، حَيْثُ جَعَلَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ النَّصْرَ والظفر. والظاهر أن قًّا خبر كان، وصْرُ الْمُؤْمِنِينَ الِاسْمُ، وَأُخِّرَ لِكَوْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ فَاصِلَةً لِلِاهْتِمَامِ بِالْجَزَاءِ، إِذْ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَفَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عَلَى حَقًّا وَجَعَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ جملة من قوله: لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْرِ قَدْرَ مَا عَرَضَهُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقد يوقف على قًّا ، وَمَعْنَاهُ: وَكَانَ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ حقا، ثم يبتدأ عليناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، انْتَهَى. وَفِي الْوَقْفِ على كانَ حَقًّا بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الِانْتِقَامُ ظُلْمًا، بَلْ عَدْلًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ كَوْنِ بَقَائِهِمْ غَيْرَ مُفِيدٍ إِلَّا زِيَادَةُ الْإِثْمِ وَوِلَادَةُ الْفَاجِرِ الْكَافِرِ، فَكَانَ عُدْمُهُمْ خَيْرًا مِنْ وُجُودِهِمُ الْخَبِيثِ. اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، جَاءَتْ تَأْنِيسًا لِلرَّسُولِ وَتَسْلِيَةً وَوَعْدًا بِالنَّصْرِ وَوَعِيدًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ، وَفِي إِرْسَالِهَا قُدْرَةٌ وَحِكْمَةٌ. أَمَّا الْقُدْرَةُ، فَإِنَّ الْهَوَاءَ اللَّطِيفَ الَّذِي يَسْبِقُهُ

الْبَرْقُ بِحَيْثُ يَقْلَعُ الشَّجَرَ وَيَهْدِمُ الْبِنَاءَ، وَهُوَ لَيْسَ بِذَاتِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ بِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ، فَفِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ نَفْسُ الْهُبُوبِ مِنْ إِثَارَةِ السُّحُبِ، وَإِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنْهُ، وَإِنْبَاتِ الزَّرْعِ، وَدَرِّ الضَّرْعِ، وَاخْتِصَاصِهِ بِنَاسٍ دُونَ نَاسٍ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِثَارَةِ، تَحْرِيكُهَا وَتَسْيِيرُهَا. وَالْبَسْطُ: نَشْرُهَا فِي الْآفَاقِ، وَالْكِسَفُ: الْقِطَعُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي كِسَفاً وَحَالُهُ مِنْ جِهَةِ الْقُرَّاءِ. وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْ خِلالِهِ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى السَّحَابِ، إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَذُكِّرَ الضَّمِيرُ لِأَنَّ السَّحَابَ اسْمُ جِنْسٍ يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى كِسَفاً فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ الْعَيْنَ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ: سَمَتِ السَّمَاءُ، كَقَوْلِهِ: وَفَرْعُها فِي السَّماءِ «1» . فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ: أَيْ أَرْضَ مَنْ يَشَاءُ إِصَابَتُهَا، فَاجَأَهُمُ الِاسْتِبْشَارُ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ سُرُورُهُمْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ قَبْلِهِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَفَادَ الْإِعْلَامَ بِسُرْعَةِ تَقَلُّبِ قُلُوبِ الْبَشَرِ مِنَ الْإِبْلَاسِ إِلَى الِاسْتِبْشَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ يَحْتَمِلُ الْفُسْحَةَ فِي الزَّمَانِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ بِكَثِيرٍ، كَالْأَيَّامِ وَنَحْوِهِ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ بِمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِالْمَطَرِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ مُقَيَّدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِمَعْنَى التَّوْكِيدِ، فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَهْدَهُمْ بِالْمَطَرِ قَدْ تَطَاوَلَ وَبَعُدَ، فَاسْتَحْكَمَ يَأْسُهُمْ وَتَمَادَى إِبْلَاسُهُمْ، فَكَانَ الِاسْتِبْشَارُ عَلَى قَدْرِ اهْتِمَامِهِمْ بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ فَائِدَةِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ ذِكْرِهِ لِمُجَرَّدِ التَّوْكِيدِ، وَيُفِيدُ رَفْعَ الْمَجَازِ فَقَطْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ التَّنْزِيلِ، مِنْ قَبْلِ الْمَطَرِ. انْتَهَى. وَصَارَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ: مِنْ قَبْلِ الْمَطَرِ، وَهَذَا تَرْكِيبٌ لَا يَسُوغُ فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ، فَضْلًا عَنِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ الْغَيْثِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرَعُوا، وَدَلَّ الْمَطَرُ عَلَى الزَّرْعِ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِسَبَبِ الْمَطَرِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، يَعْنِي الزَّرْعَ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ، لِأَنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَمُبْلِسِينَ. وَلَا يُمْكِنُ مِنْ قَبْلِ الزَّرْعِ أن يتعلق بمبلسين، لِأَنَّ حَرْفَيْ جَرٍّ لَا يَتَعَلَّقَانِ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ إِلَّا إِنْ كَانَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ. وَلَيْسَ التَّرْكِيبُ هُنَا وَمِنْ قَبْلِهِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْبَدَلُ، إِذْ إِنْزَالُ الْغَيْثِ لَيْسَ هُوَ الزَّرْعَ، وَلَا الزَّرْعُ بَعْضَهُ. وَقَدْ يُتَخَيَّلُ فِيهِ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ بِتَكَلُّفٍ. إِمَّا لاشتمال

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 24.

الْإِنْزَالِ عَلَى الزَّرْعِ، بِمَعْنَى أَنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ نَاشِئًا عَنِ الْإِنْزَالِ، فَكَأَنَّ الْإِنْزَالَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: الْأَوَّلُ يَشْتَمِلُ عَلَى الثَّانِي. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الثَّانِي السَّحَابُ، وَيَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى حَرْفِ عَطْفٍ حَتَّى يُمْكِنَ تَعَلُّقُ الْحَرْفَيْنِ بمبلسين. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: مِنْ قَبْلِ الْإِرْسَالِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مِنْ قَبْلُ الِاسْتِبْشَارِ، لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْإِبْلَاسِ، وَلِأَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِبْشَارِ. انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ قَوْلُهُ وَقَوْلُ ابْنِ عِيسَى إِلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، فَإِنِ ادَّعَى فِي قَوْلِهِ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ إِنْزَالِ الْغَيْثِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مَحْذُوفٌ، أَمْكَنَ، لَكِنْ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ خِلَافٌ، أَيَنْقَاسُ أَمْ لَا يَنْقَاسُ؟ أَمَّا حَذْفُهُ مَعَ الْجُمَلِ فَجَائِزٌ، وَأَمَّا وَحْدَهُ فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: إِلَى أَثَرِ، بِالْإِفْرَادِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْجَمْعِ وَسَلَامٌ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ. وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وَأَبُو حَيْوَةَ: تُحْيِي، بِالتَّاءِ لِلتَّأْنِيثِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرَّحْمَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَإِنَّمَا أَنَّثَ الْأَثَرَ لِاتِّصَالِهِ بِالرَّحْمَةِ إِضَافَةً إِلَيْهَا، فَاكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنْهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُضَافُ بِمَعْنَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ سَبَبِهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نُحْيِي، بِنُونِ الْعَظْمَةِ وَالْجُمْهُورُ: يُحْيِ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ آثارِ بِالْجَمْعِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَثَرِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَفْرَدَ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: كَيْفَ يُحْيِ جُمْلَةٌ مَنْصُوبَةُ الْمَوْضِعِ عَلَى الْحَالِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: مُحْيِيًا، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. إِنَّ ذلِكَ: أَيِ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، هُوَ الَّذِي يُحْيِي النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ عَلَى جِهَةِ الْقِيَاسِ فِي الْبَعْثِ، وَالْبَعْثُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا تَعَالَى. وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ تَقَلُّبِ ابْنِ آدَمَ، أَنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِبْشَارِ بِالْمَطَرِ، بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا، فَاصْفَرَّ بِهَا النَّبَاتُ. لَظَلُّوا يَكْفُرُونَ قَلَقًا مِنْهُمْ، وَالرِّيحُ الَّتِي تُصَفِّرُ النَّبَاتَ صِرٌّ حَرُورٌ، وَهُمَا مِمَّا يُصْبِحُ بِهِ النَّبَاتُ هَشِيمًا، وَالْحَرُورُ جَنْبُ الشَّمَالِ إِذَا عَصَفَتْ. وَالضَّمِيرُ فِي فَرَأَوْهُ عَائِدٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَهُوَ النَّبَاتُ. وَقِيلَ: إِلَى الْأَثَرِ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ هِيَ الْغَيْثُ، وَأَثَرُهَا هُوَ النَّبَاتُ. وَمَنْ قَرَأَ: آثَارِ، بِالْجَمْعِ، رَجَّعَ الضَّمِيرَ إِلَى آثَارِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ النَّبَاتُ، وَاسْمُ النَّبَاتِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يَنْبُتُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الضَّمِيرُ فِي فَرَأَوْهُ عَائِدٌ عَلَى السَّحَابِ، لِأَنَّ السَّحَابَ إِذَا اصْفَرَّ لَمْ يُمْطِرْ وَقِيلَ: عَلَى الرِّيحِ، وَهَذَانِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ. وَقَرَأَ صَبَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: مِصْفَارًّا، بِأَلِفٍ

بَعْدِ الْفَاءِ. وَاللَّامُ فِي وَلَئِنْ مُؤْذِنَةٌ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَجَوَابُهُ لَظَلُّوا، وَهُوَ مِمَّا وُضِعَ فِيهِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ اتِّسَاعًا تَقْدِيرُهُ: لَيَظَلُّنَّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ «1» : أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ ذَمَّهُمْ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ فَقَنِطُوا، وَإِنْ شَكَرُوا نِعْمَتَهُ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ، وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى بَلَائِهِ كَفَرُوا. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ عَلَى الِاصْفِرَارِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ اصْفِرَارِ النَّبَاتِ تَجْحَدُونَ نِعْمَتَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي أَوَاخِرِ النَّمْلِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا الرَّبْطَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ. لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، وَجَعَلَ الْخَلْقَ مِنْ ضَعْفٍ، لِكَثْرَةِ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ أَوَّلَ نَشْأَتِهِ وَطُفُولِيَّتِهِ، كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «2» . وَالْقُوَّةُ الَّتِي تَلَتِ الضَّعْفَ، هِيَ رَعْرَعَتُهُ وَنَمَاؤُهُ وَقُوَّتُهُ إِلَى فَصْلِ الِاكْتِهَالِ. وَالضَّعْفُ الَّذِي بَعْدَ الْقُوَّةِ هُوَ حَالُ الشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ. وَقِيلَ: مِنْ ضَعْفٍ: مِنَ النُّطْفَةِ، كَقَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «3» . وَالتَّرْدَادُ فِي هَذِهِ الْهَيْئَاتِ شَاهِدٌ بِقُدْرَةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الضَّادِ فِي ضُعْفٍ مَعًا وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: بِفَتْحِهَا فِيهِمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ رجاء. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْجَحْدَرِيِّ وَالضَّحَّاكِ: الضَّمُّ وَالْفَتْحُ فِي الثَّانِي. وَقَرَأَ عِيسَى: بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّعْفَ وَالْقُوَّةَ هُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْبَدَنِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ الضَّمَّ وَالْفَتْحَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي ضَعْفٍ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ: الضَّمُّ فِي الْبَدَنِ، وَالْفَتْحُ فِي الْعَقْلِ. مَا لَبِثُوا: هُوَ جَوَابٌ، وَهُوَ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ لَوْ حَكَى قَوْلَهُمْ، كَانَ يكون

_ (1) سورة البقرة: 2/ 145. (2) سورة الأنبياء: 21/ 37. (3) سورة السجدة: 32/ 8، وسورة المرسلات: 77/ 20.

التَّرْكِيبُ: مَا لَبِثْنَا غَيْرَ سَاعَةٍ، أَيْ مَا أَقَامُوا تَحْتَ التُّرَابِ غَيْرَ سَاعَةٍ، وَمَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا: اسْتَقَلُّوهَا لِمَا عَايَنُوا مِنَ الْآخِرَةِ، أَوْ فِيمَا بَيْنَ فَنَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْبَعْثِ، وَإِخْبَارُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّسَوُّرِ وَالتَّقَوُّلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ عَلَى جِهَةِ النِّسْيَانِ، أَوِ الْكَذِبِ. يُؤْفَكُونَ: أَيْ يُصْرَفُونَ عَنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَالنُّطْقِ بِالصِّدْقِ. الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ. فِي كِتابِ اللَّهِ: فِيمَا وَعَدَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْعِلْمِ يَعُمُّ الْإِيمَانَ وَغَيْرَهُ، وَلَكِنْ نَصَّ عَلَى هَذَا الْخَاصِّ تَشْرِيفًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَحَلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: فِي كِتابِ اللَّهِ: اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: فِي عِلْمِهِ، وَقِيلَ: فِي حُكْمِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الْبَعَثِ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِيهِمَا، وَقُرِئَ: بِكَسْرِهَا، وَهُوَ اسْمٌ، وَالْمَفْتُوحُ مَصْدَرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، تَقْدِيرُهُ: أُوتُوا الْعِلْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ. لَقَدْ لَبِثْتُمْ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيِ الْعِلْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ عَنْ قَتَادَةَ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْكِيكًا لِلنَّظْمِ لَا يَسُوغُ فِي كَلَامٍ غَيْرِ فَصِيحٍ، فَكَيْفَ يَسُوغُ فِي كَلَامِ اللَّهِ؟ وَكَانَ قَتَادَةُ مَوْصُوفًا بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ. وَالْفَاءُ فِي: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ عَاطِفَةٌ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ، اعْتَقَبَهَا فِي الذِّكْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا هَذِهِ الْفَاءُ، وَمَا حَقِيقَتُهَا؟ قُلْتُ: هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا جَوَابُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ صَحَّ مَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا قُلْنَا الْقُفُولَ: قَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا، وَإِذَا أَمْكَنَ جَعْلُ الْفَاءِ عَاطِفَةً، لَمْ يُتَكَلَّفْ إِضْمَارُ شَرْطٍ، وَجَعْلُ الْفَاءِ جَوَابًا لِذَلِكَ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ، لَا تَعْلَمُونَ لِتَفْرِيطِكُمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ. وَقِيلَ: لَا تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَلَا تُعَرَّفُونَ بِهِ، فَصَارَ مَصِيرُكُمْ إِلَى النَّارِ، فَتَطْلُبُونَ التَّأْخِيرَ. فَيَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ إِذْ، يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ إِقْسَامِ الْكُفَّارِ وَقَوْلِ أُولِي الْعِلْمِ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَنْفَعُ، بِالْيَاءِ هُنَا وَفِي الطُّوَلِ، وَوَافَقَهُمْ نَافِعٌ فِي الطُّوَلِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِكَ: اسْتَعْتَبَنِي فُلَانٌ فَأَعْتَبْتُهُ: أَيِ اسْتَرْضَانِي فَأَرْضَيْتُهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ جَانِيًا عَلَيْهِ، وَحَقِيقَتُهُ: أَعْتَبْتَهُ: أَزَلْتُ عَتَبَهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ يَقَتَّلَ عامر ... يوم النثار فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ

كَيْفَ جَعَلَهُمْ غِضَابًا. ثُمَّ قَالَ: فَأُعْتِبُوا: أَيْ أُزِيلَ غَضَبُهُمْ، وَالْغَضَبُ فِي مَعْنَى الْعَتَبِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُقَالُ لَهُمُ ارْضُوا رَبَّكُمْ بِتَوْبَةٍ وَطَاعَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ «1» . فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جُعِلُوا غَيْرَ مُسْتَعْتَبِينَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، وَغَيْرَ مُعْتَبِينَ فِي بَعْضِهَا؟ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ «2» ؟ قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُهُمْ غَيْرَ مُسْتَعْتَبِينَ، فَهَذَا مَعْنَاهُ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ غَيْرَ مُعْتَبِينَ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ رَاضِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ فَشَبَّهَتْ حَالَهُمْ بِحَالِ قَوْمٍ جُنِيَ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ عَاتِبُونَ عَلَى الْجَانِي، غَيْرُ رَاضِينَ مِنْهُ. فَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا اللَّهَ: أَيْ يَسْأَلُوهُ إِزَالَةَ مَا هُمْ فِيهِ، فَمَا هُمْ مِنَ الْمُجَابِينَ إِلَى إِزَالَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشِدَّةِ أَحْوَالِهِ عَلَى الْكَفَرَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُهُمُ الِاعْتِذَارُ، وَلَا يُعْطُونَ عُتْبَى، وَهُوَ الرِّضَا. ويستعتبون بِمَعْنَى: يَعْتِبُونَ، كَمَا تَقُولُ: يَمْلِكُ وَيُسْتَمْلَكُ. وَالْبَابُ فِي اسْتَفْعَلَ أَنَّهُ طَلَبُ الشَّيْءِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَفْسُدُ إِذَا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ عُتْبَى. انْتَهَى. فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ فِي هَذَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ عَتَبَ، أَيْ هُمْ مِنَ الْإِهْمَالِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُؤَهَّلُ لِلْعَتَبِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يُعَاتَبُونَ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، بَلْ يُعَاقَبُونَ. وَقِيلَ: لَا يَطْلُبُ لَهُمُ الْعُتْبَى. وَقِيلَ: لَا يُلْتَمَسُ مِنْهُمْ عَمَلٌ وَطَاعَةٌ، وَلَكِنْ ضَرْبَنَا إِشَارَةً إِلَى إِزَالَةِ الْأَعْذَارِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ مِنَ الْإِنْذَارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَفْنَا لَهُمْ كُلَّ صِفَةٍ كَأَنَّهَا مَثَلٌ فِي غَرَابَتِهَا، وَقَصَصْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ قِصَّةٍ عَجِيبَةِ الشَّأْنِ، كَصِفَةِ الْمَبْعُوثِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يُقَالُ لَهُمْ، وَمَا لَا يَقَعُ مِنِ اعْتِذَارِهِمْ، وَلَا يُسْمَعُ مِنِ اسْتِعْتَابِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَمَجِّ أَسْمَاعِهِمْ حَدِيثَ الْآخِرَةِ، إِذَا جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ قَالُوا: أَجِئْتَنَا بِزُورٍ باطل؟ انتهى. وأَنْتُمْ: خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: تُبْطِلُونَ فِي دَعْوَاكُمُ الْحَشْرَ وَالْجَزَاءَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَفِي تَوْحِيدِ الخطاب بقوله: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجَاوِبُوهُ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ كُلُّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ الرِّسَالَةَ مُبْطِلُونَ. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ: أَيْ مِثْلَ هَذَا الطَّبْعِ يَطْبَعُ اللَّهُ، أَيْ يَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِ الْجَهَلَةِ الَّذِينَ قَدْ خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْكُفْرَ فِي الْأَزَلِ، وَأَسْنَدَ الطَّبْعَ إِلَى ذَاتِهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ فَاعِلُ ذَلِكَ وَمُقَدِّرُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى طَبَعَ اللَّهُ: صَنَعَ الْأَلْطَافَ الَّتِي يَشْرَحُ لَهَا الصُّدُورَ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ، ثُمَّ قَالَ: فَكَأَنَّهُ كَذَلِكَ تَصْدَأُ الْقُلُوبُ وَتَقْسُو قُلُوبُ الْجَهَلَةِ حَتَّى يُسَمُّوا المحقين

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 35. [.....] (2) سورة فصلت: 41/ 24.

مُبْطِلِينَ، وَهُمْ أَعْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ، وَقَوَّاهُ بِتَحَقُّقِ الْوَعْدِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِنْجَازِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، وَنَهَاهُ عَنِ الِاهْتِزَازِ بِكَلَامِهِمْ وَالتَّحَرُّكِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقِينَ لَهُمْ وَلَا بَصِيرَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبُ: وَلَا يَسْتَحِقَّنَّكَ: بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَقَافٍ، مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْجُمْهُورُ: بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ، مِنَ الِاسْتِخْفَافِ وَسَكَّنَ النُّونَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَيَعْقُوبُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَفْتِنُنَّكَ وَيَكُونُوا أَحَقَّ بِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

سورة لقمان

سورة لقمان [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 34] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

لُقْمَانُ: اسْمُ عَلَمٍ، فَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَمَنْعُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ اللَّقْمِ مُرْتَجَلًا، إِذْ لَا يُعْلَمُ لَهُ وَضْعٌ فِي النَّكِرَاتِ. صَعَّرَ: مُشَدَّدُ الْعَيْنِ، لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ شَاعِرُهُمْ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ من ميله فيقوم فيقوم: أَمْرٌ بِالِاسْتِقَامَةِ لِلْقَوَافِي فِي الْمَخْفُوضَةِ، أَيْ فَيَقُومُ إِنْ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَإِنْشَادُ الطَّبَرِيِّ فَيُقَوَّمَا فِعْلًا مَاضِيًا خَطَأٌ، وَتَصَاعَرَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَيُقَالُ: يُصَعِّرُ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّهِ الْمُتَصَعِّرِ وَيُقَالُ: أَصْعَرَ خَدَّهُ. قَالَ الْفَضْلُ: هُوَ الْمَيْلُ، وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: هُوَ التَّشَدُّقُ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ هَذَا مِنَ الصَّعَرِ، دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ في رؤوسها وَأَعْنَاقِهَا، فَتَلْتَوِي مِنْهُ أَعْنَاقُهَا. الْقَلَمُ: مَعْرُوفٌ. الْخَتَّارُ: شَدِيدُ الْغَدْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّكَ لَا تَمُدُّ إِلَيْنَا شِبْرًا مِنْ غَدْرِ ... إِلَّا مَدَدْنَا لَكَ بَاعًا مِنْ خَتْرِ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ: وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ ... مَلَأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ وَقَالَ الأعشى: فالأيلق الْفَرْدُ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ ... حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ ختار الم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ

الْمُفْلِحُونَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ، أَوَّلُهُنَّ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا آيَتَيْنِ، أَوَّلُهُمَا: وَلَوْ أَنَّ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلَتْ عَنْ قِصَّةِ لُقْمَانَ مَعَ ابْنِهِ، وَعَنْ بِرِّ وَالِدَيْهِ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ إلا الآيات الثلاثة: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِنَّ، لَمَّا نَزَلَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «1» . وَقَوْلُ الْيَهُودِ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَخَلَفَهَا فِينَا ومعنا، فقال الرسول: «التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَنْبَاءِ قَلِيلٌ فِي عِلْمِ الله» ، فنزل: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ «2» ، فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وَكَانَ فِي آخِرِ تِلْكَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ «3» ، وَهُنَا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعِيدِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبُعْدِ غَايَتِهِ وَعُلُوِّ شأنه. وآياتُ الْكِتابِ: القرآن واللوح المحفوظ. وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْحَكِيمِ، إِمَّا لِتَضَمُّنِهِ لِلْحِكْمَةِ، قِيلَ: أَوْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ، وَهَذَا يَقِلُّ أَنْ يَكُونَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَمِنْهُ عَقَّدْتُ الْعَسَلَ فَهُوَ عَقِيدٌ، أَيْ مُعْقَدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمٌ بِمَعْنَى حَاكِمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَكِيمُ: ذُو الْحِكْمَةِ أَوْ وَصْفٌ لِصِفَةِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْحَكِيمُ قَابِلُهُ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَبِانْقِلَابُهُ مَرْفُوعًا بَعْدَ الْجَرِّ اسْتَكَنَّ فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هُدىً وَرَحْمَةً، بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْآيَاتِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَقُنْبُلٌ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْفَضْلِ الْوَاسِطِيِّ: بِالرَّفْعِ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ خبر بعد خبر،

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 85. (2) سورة الروم: 30/ 58. (3) سورة الروم: 30/ 58.

عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذلك. لِلْمُحْسِنِينَ: الذين يَعْمَلُونَ الْحَسَنَاتِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا. كَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَوْسٍ: الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ ال ... ظَّنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا حُكِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَلْمَعِيِّ فَأَنْشَدَهُ وَلَمْ يَزِدْ، وَخُصَّ الْمُحْسِنُونَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهِ وَنَظَرُوهُ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالْحَسَنِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَخُصَّ منهم القائمون بهذه الثلاثة، لِفَضْلِ الِاعْتِدَادِ بِهَا. وَمِنْ صِفَةِ الْإِحْسَانِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْإِحْسَانَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» . وَقِيلَ: الْمُحْسِنُونَ: الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: هُمُ السُّعَدَاءُ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: هُمُ الْمُنْجِحُونَ. وَقِيلَ: النَّاجُونَ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ قَدْرِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ الْحِكْمَةَ، وَأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةً، وَأَنَّ مُتَّبِعَهُ فَائِزٌ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ يَطْلُبُ مَنْ بَدَّلَ الْحِكْمَةَ بِاللَّهْوِ، وَذَكَرَ مُبَالَغَتَهُ فِي ارْتِكَابِهِ حَتَّى جَعَلَهُ مُشْتَرِيًا لَهُ وَبَاذِلًا فِيهِ رَأْسَ عَقْلِهِ، وَذَكَرَ عِلَّتَهُ وَأَنَّهَا الْإِضْلَالُ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ يَتَّجِرُ إِلَى فَارِسَ، وَيَشْتَرِي كُتُبَ الأعاجم، فيحدث قريشان بِحَدِيثِ رُسْتُمَ وَاسْفِنْدَارَ وَيَقُولُ: أَنَا أَحْسَنُ حَدِيثًا. وَقِيلَ: فِي ابْنِ خَطَلٍ، اشْتَرَى جَارِيَةً تُغَنِّي بِالسَّبِّ، وَبِهَذَا فُسِّرَ لَهْوَ الْحَدِيثِ: الْمَعَازِفَ وَالْغِنَاءَ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «شِرَاءُ الْمُغَنِّيَاتِ وَبَيْعُهُمْ حَرَامٌ» ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَهْوَ الْحَدِيثِ: الشِّرْكُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: الطَّبْلُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ آلَةِ الْغِنَاءِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: التُّرَّهَاتُ. وَقِيلَ: السِّحْرُ. وَقِيلَ: مَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ السِّبَابِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا شَغَلَكَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَذِكْرِهِ مِنَ السِّحْرِ. وَالْأَضَاحِيكِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْغِنَاءِ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْجِدَالُ فِي الدِّينِ وَالْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشِّرَاءَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ اخْتِيَارِ الشَّيْءِ، وَصَرْفِ عَقْلِهِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ، كَالْجَوَارِي الْمُغَنِّيَاتِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَكَكُتُبِ الْأَعَاجِمِ الَّتِي اشْتَرَاهَا النَّضْرُ فَالشِّرَاءُ حَقِيقَةٌ وَيَكُونُ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ مَنْ يَشْتَرِي ذَاتَ لَهْوِ الْحَدِيثِ. وَإِضَافَةُ لَهْوَ إِلَى الْحَدِيثِ هِيَ لِمَعْنَى مِنْ، لِأَنَّ اللَّهْوَ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثٍ، فَهُوَ كَبَابٍ سَاجٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: الْحَدِيثُ الْمُنْكَرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي بَعْضَ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ اللَّهْوُ مِنْهُ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: لِيَضِلَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّهَا. قَالَ

الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ بَيِّنَةٌ، لِأَنَّ النَّضْرَ كَانَ غَرَضُهُ بِاشْتِرَاءِ اللَّهْوِ أَنْ يَصُدَّ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيُضِلُّهُمْ عَنْهُ، فَمَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالْفَتْحِ؟ قُلْتُ: مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا: لِيَثْبُتَ عَلَى ضَلَالِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَصْدِفُ عَنْهُ، وَيَزِيدُ فِيهِ وَيَمُدُّهُ بِأَنَّ الْمَخْذُولَ كَانَ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ فِي عَدَاوَةِ الدِّينِ وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوضَعَ لِيُضِلَّ مَوْضِعَ لِيَضِلَّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مِنَ أَضَلَّ كَانَ ضَالًّا لَا مَحَالَةَ، فَدَلَّ بِالرَّدِيفِ عَلَى الْمَرْدُوفِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا جَعَلَهُ مُشْتَرِيًا لَهْوَ الْحَدِيثِ بِالْقُرْآنِ قَالَ: يَشْتَرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ بِالتِّجَارَةِ وَبِغَيْرِ بَصِيرَةٍ بِهَا، حَيْثُ يَسْتَبْدِلُ الضَّلَالَ بِالْهُدَى وَالْبَاطِلَ بِالْحَقِّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «1» ، أَيْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ لِلتِّجَارَةِ وَبُصَرَاءُ بِهَا. انتهى. وسَبِيلِ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ أَوِ الْقُرْآنُ، قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي لَهْوِ الْحَدِيثِ مُضَافًا إِلَى الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ اشْتَدَّتْ أَلْفَاظُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: لِيُضِلَّ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: وَيَتَّخِذَها، بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِيُضِلَّ، تَشْرِيكًا فِي الصِّلَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالرَّفْعِ، عَطْفًا عَلَى يَشْتَرِي، تَشْرِيكًا فِي الصِّلَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ ضَمِيرِ وَيَتَّخِذَها عَلَى السَّبِيلِ، كَقَوْلِهِ: وَيَبْغُونَها عِوَجاً «2» . قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى آياتُ الْكِتابِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً «3» . قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ على الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَرَادَ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ: مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْوِيَةِ دِينِهِمْ، وَالْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرِ صفة الرسول، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ، يَقْصِدُونَ صَدَّ أَتْبَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِمْ يَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ الرِّشَا وَالْجَعَائِلَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: أَيْ دِينِهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ حَذْفٍ وَتَلْخِيصٍ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ: بَدَأَ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، فَأَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشْتَرِي، ولِيُضِلَّ، ويَتَّخِذَها، ثُمَّ جَمَعَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى اللَّفْظِ فَأَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى إلى آخره. ومن فِي: مَنْ يَشْتَرِي مَوْصُولَةٌ، وَنَظِيرُهُ فِي مَنِ الشَّرْطِيَّةِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ «4» ، فَمَا بَعْدَهُ أُفْرِدَ ثُمَّ قَالَ: خالِدِينَ، فَجَمَعَ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً «5» ، فَأَفْرَدَ، وَلَا نَعْلَمُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 16. (2) سورة الأعراف: 7/ 45، وسورة هود: 11/ 19. (3) سورة البقرة: 2/ 231. (4) سورة التغابن: 64/ 9- 11. (5) سورة الطلاق: 65/ 11.

مَا حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ، غَيْرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَالنَّحْوِيُّونَ يُذَكِّرُونَ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ الْآيَةَ فَقَطْ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ جَارٍ فِي مَنِ الْمَوْصُولَةِ وَنَظِيرِهَا مِمَّا لَمْ يُثَنَّ وَلَمْ يُجْمَعْ مِنَ الْمَوْصُولَاتِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَمَّ الْمُشْتَرِي مِنْ وُجُوهِ التَّوْلِيَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ الِاسْتِكْبَارِ، ثُمَّ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى سَمَاعِهَا، كَأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْهَا، ثُمَّ الْإِيغَالِ فِي الْإِعْرَاضِ بِكَوْنِ أُذُنَيْهِ كَأَنَّ فِيهِمَا صَمَمًا يَصُدُّهُ عَنِ السَّمَاعِ. وكَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُسْتَكْبِراً، أَيْ مُشَبِّهًا حَالَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، لِكَوْنِهِ لَا يَجْعَلُ لَهَا بَالًا وَلَا يَلْتَفِتُ إليها وكأن هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَاجِبُ الحذف. وكَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً: حَالٌ مِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا اسْتِئْنَافَيْنِ. انْتَهَى، يَعْنِي الْجُمْلَتَيْنِ التَّشْبِيهِيَّتَيْنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا وَعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، ذَكَرَ مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خَالِدُونَ، بِالْوَاوِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لنفسه، وحَقًّا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مُتَغَايِرٌ، فوعد اللَّهِ مَنْصُوبٌ، أَيْ يُوعِدُ الله وعده، وحقا منصوب بأحق ذَلِكَ حَقًّا. خَلَقَ السَّماواتِ إِلَى فَأَنْبَتْنا فِيها، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْنَى كَرِيمٍ: مِدْحَتُهُ بِكَرَمِ جَوْهَرِهِ وَنَفَاسَتِهِ وَحُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَمَا تَقْضِي لَهُ النُّفُوسُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى اسْتَحَقَّ الْكَرَمَ، فَيَخُصُّ لَفْظُ الْأَزْوَاجِ مَا كَانَ نَفِيسًا مُسْتَحْسَنًا مِنْ جِهَةٍ، أَوْ مِدْحَتُهُ بِإِتْقَانِ صِفَتِهِ وَظُهُورِ حُسْنِ الرُّتْبَةِ وَالتَّحَكُّمِ لِلصُّنْعِ فِيهِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ الْأَنْوَاعُ. هَذَا خَلْقُ اللَّهِ : إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَبَّخَ بِذَلِكَ الْكُفَّارَ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ. وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، كَقَوْلِهِمْ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ مَضْرُوبُهُ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ أَنْ يُورِدَهُ. وَأَمَّا خِلْقَتُهُ آلِهَتِهِمْ لَمَّا ذَكَرَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَكَيْفَ عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ؟ وَيَجُوزُ فِي مَاذَا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وتكون مفعولا ثانيا لأروني. وَاسْتِعْمَالُ مَاذَا كُلِّهَا مَوْصُولًا قَلِيلٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الابتداء، وذا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بأروني، وأروني مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ لَفْظًا لِأَجْلِ الِاسْتِفْهَامِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ وَتَبْكِيتِهِمْ إِلَى التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ لِمَنْ يَتَدَبَّرُ، لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ صَنَمًا وَتَرَكَ خَالِقَهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ فِي حَيْرَةٍ وَتِيهٍ لَا يُقْلِعُ عَنْهُ.

وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ. اخْتُلِفَ فِي لُقْمَانَ، أَكَانَ حُرًّا أَمْ عَبْدًا؟ فَإِذَا قُلْنَا: كَانَ حُرًّا، فَقِيلَ: هُوَ ابْنُ بَاعُورَا. قَالَ وَهْبٌ: ابْنُ أُخْتِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ابْنُ خَالَتِهِ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْ أَوْلَادِ آزَرَ، وَعَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَدْرَكَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعِلْمَ، وَكَانَ يُفْتِي قَبْلَ مَبْعَثِ دَاوُدَ، فَلَمَّا بُعِثَ دَاوُدُ، قَطَعَ الْفَتْوَى، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ: أَلَا أَكْتَفِي إِذَا كُفِيتُ؟ وَكَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَزَمَانُهُ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ: كَانَ نَبِيًّا. وَإِذَا قُلْنَا: كَانَ عَبْدًا، اخْتُلِفَ فِي جِنْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ: كَانَ نُوبِيًّا مُشَقَّقَ الرِّجْلَيْنِ ذَا مَشَافِرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: كَانَ حَبَشِيًّا مَجْدُوعَ الْأَنْفِ ذَا مِشْفَرٍ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا كَانَ يُعَانِيهِ مِنَ الْأَشْغَالِ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الرَّبِيعِ: كَانَ نَجَّارًا، وَفِي مَعَانِي الزَّجَّاجِ: كَانَ نَجَّادًا، بِالدَّالِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ خَيَّاطًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَاعِيًا. وَقِيلَ: كَانَ يَحْتَطِبُ لِمَوْلَاهُ كُلَّ يَوْمٍ حُزْمَةً. وَهَذَا الِاضْطِرَابُ فِي كَوْنِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَفِي جِنْسِهِ، وَفِيمَا كَانَ يُعَانِيهِ، يُوجِبُ أَنْ لَا يُكْتَبَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَلَ. لَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ مُولَعُونَ بِنَقْلِ الْمُضْطَرِبَاتِ حَشْوًا وَتَكْثِيرًا، وَالصَّوَابُ تَرْكُهُ. وَحِكْمَةُ لُقْمَانَ مَأْثُورَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: قِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مُسِيئًا. وَقَالَ لَهُ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَوْمًا: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ فِي يَدِ غَيْرِي، فَتَفَكَّرَ دَاوُدُ فِيهِ، فَصُعِقَ صَعْقَةً. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي حِكَمِ لُقْمَانَ أَكْثَرَ من عشرة آلاف. والْحِكْمَةَ: الْمَنْطِقُ الَّذِي يَتَّعِظُ بِهِ وَيَتَنَبَّهُ بِهِ، وَيَتَنَاقَلُهُ النَّاسُ لِذَلِكَ. أَنِ اشْكُرْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقَدْ نَبَّهَ

سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْأَصْلِيَّةَ وَالْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْعَمَلُ بِهِمَا، أَوْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَالشُّكْرُ لَهُ، حَيْثُ فَسَّرَ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ بِالْبَعْثِ عَلَى الشَّكِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ لِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ، فَجَعَلَهَا مَصْدَرِيَّةً، لَا تَفْسِيرِيَّةً. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ. فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ: أَيْ ثَوَابَ الشُّكْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلشَّاكِرِينَ، إِذْ هُوَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الشُّكْرِ، فَشُكْرُ الشَّاكِرِ لَا يَنْفَعُهُ، وَكُفْرُ مَنْ كفر لا يضره. وحَمِيدٌ: مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَإِذْ قالَ: أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ، إِذْ قَالَ، وَاخْتُصِرَ لِدَلَالَةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وَابْنُهُ بَارٌّ، أَيْ: أَوْ أَنْعِمْ، أَوِ اشْكُرْ، أَوْ شَاكِرٌ، أَقْوَالٌ. وَهُوَ يَعِظُهُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قِيلَ: كَانَ ابْنُهُ وَامْرَأَتُهُ كَافِرَيْنِ، فَمَا زَالَ يَعِظُهُمَا حَتَّى أَسْلَمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ، مُنْقَطِعٌ عَنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، مُتَّصِلٌ بِهِ فِي تَأْكِيدِ الْمَعْنَى وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ: يَا بُنَيَّ، بِالسُّكُونِ، ويا بُنَيَّ إِنَّها: بكسر الياء، ويا بُنَيَّ أَقِمِ: بِفَتْحِهَا. وَقِيلَ: بِالسُّكُونِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْكَسْرِ فِي الْوُسْطَى وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: بِالْفَتْحِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى تَقْدِيرِ يَا بنيا، وَالِاجْتِزَاءِ بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْكَسْرِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ: لَمَّا بَيَّنَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ وَنَهَاهُ عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ حَثًّا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الطَّاعَةَ تَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ، وَبَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ مِمَّا وَصَّى بِهِ ابْنَهُ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، قَالَهُ لِلُقْمَانَ، أَيْ قُلْنَا لَهُ اشْكُرْ. وَقُلْنَا لَهُ: وَوَصَّيْنَا. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ اعْتِرَاضٌ بَيِّنٌ أَثْنَاءَ وَصِيَّتِهِ لِلُقْمَانَ، وَفِيهَا تَشْدِيدٌ وَتَوْكِيدٌ لِاتِّبَاعِ الْوَلَدِ وَالِدَهُ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَآيَةَ الْعَنْكَبُوتِ نَزَلَتَا فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَمَّا خَصَّ الْأُمَّ بِالْمَشَقَّاتِ مِنَ الْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَالرِّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ، نَبَّهَ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْإِيصَاءِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِبِرِّ الْأُمِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ ، فَجَعَلَ لَهُ مَرَّةً الرُّبْعَ مِنَ الْمَبَرَّةِ. وَهْناً عَلى وَهْنٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَخَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا بَعْدَ ضَعْفٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ، يَعْنِي: ضَعْفَ الْحَمْلِ، وَضَعْفَ الطَّلْقِ، وَضَعْفَ النِّفَاسِ، وَانْتَصَبَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: وَهْناً

عَلى وَهْنٍ : نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، إِلَى آخِرِ النَّشْأَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي حَمْلَتْهُ، وَهُوَ الْوَلَدُ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، بِفَتْحِ الْهَاءِ فِيهِمَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَالشَّعْرِ وَالشَّعَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ وَهِنَ بِكَسْرِ الْهَاءِ يَوْهَنُ وَهَنًا، بِفَتْحِهَا فِي الْمَصْدَرِ قِيَاسًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بسكون الهاء فيهما. وقرأوا: وَفِصالُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَيَعْقُوبُ: وَفَصْلَهُ، وَمَعْنَاهُ الْفِطَامُ، أَيْ فِي تَمَامِ عَامَيْنِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِنِهَايَتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِ الْعَامَيْنِ فِي مُدَّةِ الرِّضَاعِ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ وَالنَّفَقَاتِ، وَأَمَّا فِي تَحْرِيمِ اللَّبَنِ فِي الرِّضَاعِ فَخِلَافٌ مذكور في الفقه. وأَنِ اشْكُرْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً. لِي: أَيْ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ. وَلِوالِدَيْكَ: عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ إِلَيَّ الْمَصِيرُ: تَوَعَّدَ أَثْنَاءَ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ جاهَداكَ إِلَى: فَلا تُطِعْهُما: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا عَلَى، وَهُنَاكَ لِتُشْرِكَ بِلَامِ الْعِلَّةِ. وَانْتَصَبَ مَعْرُوفاً عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صَحَّابًا، أَوْ مُصَاحِبًا مَعْرُوفًا وَعِشْرَةً جَمِيلَةً، وَهُوَ إِطْعَامُهُمَا وَكِسْوَتُهُمَا وَعَدَمُ جَفَائِهِمَا وَانْتِهَارِهِمَا، وَعِيَادَتُهُمَا إِذَا مَرِضَا، وَمُوَارَاتُهُمَا إِذَا مَاتَا. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ: أَيْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وهو سبيل الرسول لَا سَبِيلُهُمَا. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ: أَيْ مَرْجِعُكَ وَمَرْجِعُهُمَا، فَأُجَازِي كُلًّا مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ. وَلَمَّا نَهَى لُقْمَانُ ابْنَهُ عَنِ الشِّرْكِ، نَبَّهَهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ مقدوره شيء فقال: يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهَا ضَمِيرُ الْقِصَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: مِثْقَالُ، بِالرَّفْعِ عَلَى إِنْ تَكُ تَامَّةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَأَخْبَرَ عَنْ مِثْقَالٍ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، إِخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ، لِإِضَافَتِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَكُ زِنَةَ حَبَّةٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنَّصْبِ عَلَى إِنْ تَكُ نَاقِصَةً، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ: هِيَ، أَيِ الَّتِي سَأَلْتُ عَنْهَا. وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ قَدْ سَأَلَ لُقْمَانُ ابْنَهُ: أَرَأَيْتَ الْحَبَّةَ تَقَعُ فِي مَغَاصِ الْبَحْرِ؟ أَيَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ جَوْهَرٍ لَا ضَمِيرَ عَرَضٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ: فَتَكِنَّ، بِكَسْرِ الْكَافِ وَشَدِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَقِرَاءَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي فَجَّةَ الْبَعْلَبَكِّيِّ: فَتُكَنَّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: فَتَكِنْ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ النُّونِ، مِنْ وَكَنَ يَكِنُ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ أَيْضًا: أَيْ تَسْتَقِرُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ عَرَضٍ، أَيْ تِلْكَ الْفِعْلَةُ مِنَ الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ. وَعَلَى مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ مِثْقَالٍ، يَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهَا ضَمِيرَ الْفِعْلَةِ، لَا ضَمِيرَ الْقِصَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَنْ نَصَبَ يَعْنِي مِثْقَالَ، كَانَ الضَّمِيرُ لِلْهَيْئَةِ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ، أَيْ كَانَتْ مَثَلًا فِي الصِّغَرِ وَالْقَمَاءَةِ، كَحَبَّةِ الْخَرْدَلِ، فَكَانَتْ مَعَ صِغَرِهَا فِي أَخْفَى مَوْضِعٍ وَأَحْرَزِهِ، كَجَوْفِ الصَّخْرَةِ، أَوْ حَيْثُ كَانَتْ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَوِ السُّفْلِيِّ. يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُحَاسِبُ عَلَيْهَا. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ، يَتَوَصَّلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ خَفِيٍّ. خَبِيرٌ: عَالِمٌ بِكُنْهِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِهَا، خَبِيرٌ بِمُسْتَقَرِّهَا. وَبَدَأَ لَهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَوَّلًا، وَهُوَ كَيْنُونَةُ الشَّيْءِ. فِي صَخْرَةٍ: وَهُوَ مَا صُلِبَ مِنَ الْحَجَرِ وَعَسُرَ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَهُوَ أَغْرَبُ لِلسَّامِعِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا يَكُونُ مَقَرَّ الْأَشْيَاءِ لِلشَّاهِدِ، وَهُوَ الأرض. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، أَنَّ هَذِهِ الصَّخْرَةَ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ تَحْتَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ، يُكْتَبُ فِيهَا أَعْمَالُ الْفُجَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ: أَرَادَ الصَّخْرَةَ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ وَالْحُوتُ وَالْمَاءُ، وَهِيَ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ. وَقِيلَ: هِيَ صَخْرَةٌ فِي الرِّيحِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ سَنَدُهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: المبالغة والانتهاء في التفهيم، أَيْ إِنَّ قُدْرَتَهُ تَنَالُ مَا يَكُونُ فِي تَضَاعِيفِ صَخْرَةٍ، وَمَا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. انْتَهَى. قِيلَ: وَخَفَاءُ الشَّيْءِ يُعْرَفُ بِصِغَرِهِ عَادَةً، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الرَّائِي. وَبِكَوْنِهِ فِي ظُلْمَةٍ وَبِاحْتِجَابِهِ، فَفِي صَخْرَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الحجاب، وفي السموات إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ، وَفِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلْمَةِ، فَإِنَّ جَوْفَ الْأَرْضِ أَظْلَمُ الْأَمَاكِنِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: يُحِيطُ بِهَا عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ. وَلَمَّا نَهَاهُ أَوَّلًا عَنِ الشِّرْكِ، وَأَخْبَرَهُ ثَانِيًا بِعِلْمِهِ تَعَالَى وَبَاهِرِ قُدْرَتِهِ، أَمَرَهُ بِمَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، فَبَدَأَ بِأَشْرَفِهَا، وَهُوَ الصَّلَاةُ، حَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْمِحَنِ جَمِيعِهَا، أَوْ عَلَى مَا يُصِيبُهُ بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّنْ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِمَّنْ يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ، فَكَثِيرًا مَا يُؤْذَى فَاعِلُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَمْثُلَ هُوَ فِي نَفْسِهِ فَيَأْتِيَ بِالْمَعْرُوفِ. أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ وَأَمَرَهُ بِهِ. وَالْعَزْمُ مَصْدَرٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيِ مِنْ مَعْزُومِ الْأُمُورِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَاعِلُ، أَيْ عَازِمِ الْأُمُورِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «1» . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مِمَّا عَزَمَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ وَقِيلَ: مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعَزَائِمِ أَهْلِ الْحَزْمِ السَّالِكِينَ طَرِيقَ النَّجَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ لَازِمَاتِ الْأُمُورِ الواجبة، لأن الإشارة

_ (1) سورة محمد: 47/ 21.

بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَهَذِهِ الطَّاعَاتُ يَدُلُّ إِيصَاءُ لُقْمَانَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا فِي سَائِرِ الْمِلَلِ. وَالْعَزْمُ: ضَبْطُ الْأَمْرِ وَمُرَاعَاةُ إِصْلَاحِهِ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: الْعَزْمُ: الْحَزْمُ، بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَالْحَزْمُ وَالْعَزْمُ أَصْلَانِ، وَمَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ مِنْ أَنَّ الْعَيْنَ قُلِبَتْ حَاءً لَيْسَ بشيء، لا طراد تَصَارِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ: أَيْ لَا تُوَلِّهِمْ شِقَّ وَجْهِكَ، كَفِعْلِ الْمُتَكَبِّرِ، وَأَقْبِلْ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِكَ مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَلَا إِعْجَابٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَمَاعَةُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: نَهَى أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَأَوْرَدَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ احْتِمَالًا فَقَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: وَلَا سُؤَالًا وَلَا ضَرَاعَةً بِالْفَقْرِ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ، يَعْنِي تَأْوِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجَمَاعَةِ، أَظْهَرُ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الِاخْتِيَالِ وَالْعَجْزِ بَعْدَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلا تُصَعِّرْ، أَرَادَ بِهِ الْإِعْرَاضَ، كَهَجْرِهِ بِسَبِّ أَخِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تُصَعِّرْ، بِفَتْحِ الصَّادِ وَشَدِّ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِأَلِفٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: يُصَعِّرُ مُضَارِعَ أَصْعَرَ. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النِّسَاءِ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً «1» . وَلَمَّا وَصَّى ابْنَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِذْ صَارَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُمْتَثِلًا لِلْمَعْرُوفِ مُزْدَجَرًا عَنِ الْمُنْكَرِ، أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ وَنَاهِيًا عَنْهُ غَيْرَهُ، نَهَاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِعْجَابِ وَالْمَشْيِ مَرَحًا، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ، وَهُوَ الْمُتَكَبِّرُ، وَلَا الْفَخُورَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ الَّذِي يُعَدِّدُ مَا أَعْطَى، وَلَا يَشْكُرُ اللَّهَ. وَيَدْخُلُ فِي الْفَخُورِ: الْفَخْرُ بِالْأَنْسَابِ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ: وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الْخُلُقِ الذَّمِيمِ، أَمَرَهُ بِالْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ الْقَصْدُ فِي المشي، بحيث لا يبطىء، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَنَامِسُونَ وَالْمُتَعَاجِبُونَ، يتباطؤون فِي نَقْلِ خُطُوَاتِهِمُ الْمُتَنَامِسِينَ لِلرِّيَاءِ وَالْمُتَعَاجِبُ لِلتَّرَفُّعِ، وَلَا يُسْرِعُ، كَمَا يَفْعَلُ الْخَرِقُ الْمُتَهَوِّرُ. وَنَظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَقَالَ: كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدًا، كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدًا، غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ خَبَبِ الْيَهُودِ وَدَبِيبِ النَّصَارَى، وَلَكِنَّ مَشْيًا بَيْنَ ذَلِكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: اجْعَلْ بَصَرَكَ مَوْضِعَ قدمك. وقرىء: وَأَقْصِدْ، بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ: أَيْ سَدِّدْ فِي مَشْيِكَ مِنْ أَقْصَدَهُ الرَّامِي إِذَا سَدَّدَ سَهْمَهُ نَحْوَ الرَّمِيَّةِ، وَنَسَبَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ لِلْحِجَازِ. وَالْغَضُّ مِنَ الصَّوْتِ: التَّنْقِيصُ مِنْ

_ (1) سورة النساء: 4/ 36.

رَفْعِهِ وَجَهَارَتِهِ، وَالْغَضُّ: رَدُّ طُمُوحِ الشَّيْءِ، كَالصَّوْتِ وَالنَّظَرِ وَالزِّمَامِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِجَهَارَةِ الصَّوْتِ، وَتَمْدَحُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: جَهِيرُ الْكَلَامِ جَهِيرُ الْعُطَاسِ ... جَهِيرُ الرُّوَاءِ جَهِيرُ النعيم وَيَخْطُو عَلَى الْأَيْنِ خَطْوَ الظَّلِيمِ ... وَيَعْلُو الرِّجَالَ بِخَلْقٍ عميم وَغَضُّ الصَّوْتِ أَوْفَرُ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَأَبْسَطُ لِنَفْسِ السَّامِعِ وَفَهْمِهِ. وأنكر: أَفْعَلُ، إِنْ بُنِيَ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِمْ: أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْنِ وَبِنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ شَاذٌّ. وَالْأَصْوَاتُ: أَصْوَاتُ الْحَيَوَانِ كُلُّهَا. وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ لِلْمَذَامِّ اللَّاحِقَةَ لِلْأَصْوَاتِ، وَالْحِمَارُ مَثَلٌ فِي الذَّمِّ الْبَلِيغِ وَالشَّتِيمَةِ. شُبِّهَ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْحَمِيرِ، وَأَصْوَاتُهُمْ بِالنُّهَاقِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ، بَلْ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، وَهَذِهِ أَقْصَى مُبَالَغَةٍ فِي الذَّمِّ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ. وَلَمَّا كَانَ صَوْتُ الْحَمِيرِ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ، لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ فِي الْفَظَاعَةِ، أُفْرِدَ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ. وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ فَغَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ جِدًّا، جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ، فَالْمَعْنَى: أَنْكَرَ أَصْوَاتِ الْحَمِيرِ، بِالْجَمْعِ بِغَيْرِ لَامٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَفَاخَرُونَ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَيْرًا، فُضِّلَ بِهِ الْحَمِيرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، تَنْفِيرٌ لَهُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، وَمُمَاثَلَةُ الْحَمِيرِ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَرَغَتْ وَصِيَّةُ لُقْمَانَ فِي قَوْلِهِ: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ رَدًّا لِلَّهِ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِجَهَارَةِ الصَّوْتِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ يُؤْذِي السَّامِعَ وَيَقْرَعُ الصِّمَاخَ بِقُوَّةٍ، وَرُبَّمَا يَخْرُجُ الْغِشَاءُ الَّذِي هُوَ دَاخِلُ الْأُذُنِ. وَقِيلَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْأَفْعَالِ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْأَقْوَالِ، فَنَبَّهَ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي الْأَفْعَالِ، وَعَلَى الْإِقْلَالِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ. أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. سَخَّرَ لَكُمْ: تَنْبِيهٌ عَلَى الصَّنْعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ تَسْخِيرِ مَا فِي السَّماواتِ: مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالسَّحَابِ وَما فِي الْأَرْضِ: مَنْ الْحَيَوَانِ، وَالنَّبَاتِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْبِحَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُسَخَّرٍ مِنْ مَالِكٍ مُتَصَرِّفٍ كَمَا يَشَاءُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ: وَأَصْبَغَ بِالصَّادِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَنِي كَلْبٍ، يُبَدِّلُونَهَا مِنَ السِّينِ، إِذَا جَامَعَتِ الْغَيْنُ أَوِ الْخَاءُ أَوِ الْقَافُ صَادًا وَبَاقِي الْقُرَّاءِ: بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: نِعَمَهُ جَمْعًا مُضَافًا لِلضَّمِيرِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نِعْمَةً، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِالنِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ: الْإِسْلَامُ، وَالْبَاطِنَةِ: السِّتْرُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ، الظَّاهِرَةُ: حُسْنُ الصُّورَةِ وَامْتِدَادُ الْقَامَةِ وَتَسْوِيَةُ الْأَعْضَاءِ، وَالْبَاطِنَةُ: الْمَعْرِفَةُ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَاللِّسَانُ وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ، وَالْبَاطِنَةُ: الْقَلْبُ وَالْعَقْلُ وَالْفَهْمُ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الظَّاهِرَةَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْمُشَاهِدَةِ، وَالْبَاطِنَةَ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَوْ لَا يُعْلَمُ أَصْلًا. فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ لَا يَعْلَمُهَا، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الْعِلْمِ بِهَا؟ وَانْتَصَبَ ظاهِرَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ نِعَمَهُ، الْجَمْعُ عَلَى الصِّفَةِ، وَمِنْ نِعْمَةٍ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: وَمِنَ النَّاسِ إِلَى: مُنِيرٍ، فِي الْحَجِّ، وَعَلَى مَا بَعْدَهُ إِلَى: آباءَنا، فِي نَظِيرِهِ فِي الْبَقَرَةِ. أَوَلَوْ: كَانَ تَقْدِيرُهُ: أَيَتْبَعُونَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ؟ وَفِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَّبَعَ فِيهَا الْآبَاءُ؟ لِأَنَّهَا حَالُ تَلَفٍ وَعَذَابٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي فِيهِ وَلَوْ، أَنَّمَا يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ، نَحْوَ: اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ، رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «1» . وَكَذَلِكَ هَذَا، كَانَ يَنْبَغِي مَنْ دَعَا إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ أَنْ لَا يَتْبَعَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ يُسْلِمْ، مُضَارِعُ أَسْلَمَ وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ: بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، مُضَارِعَ سَلَّمَ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ: التَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ: مُثِّلَتْ حَالُ الْمُتَوَكِّلِ بِحَالِ مَنْ تَدَلَّى مِنْ شَاهِقٍ، فَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِأَنِ اسْتَمْسَكَ بِأَوْثَقِ عُرْوَةٍ مِنْ حَبْلٍ مَتِينٍ مَأْمُونٌ انْقِطَاعُهُ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 17.

الْمُجَادِلِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُسْلِمِ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ مُنْتَهَى الْأُمُورِ صَائِرَةٌ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْعُرْوَةُ: مَوْضِعُ التَّعْلِيقِ، فَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْعُرْوَةِ. وَسَلَّى رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ، إِلَى آخِرِهِ، وَشَبَّهَ إِلْزَامَ الْعَذَابِ وَإِرْهَاقَهُمْ إِلَيْهِ بِاضْطِرَارِ مَنْ يُضْطَرُّ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، وَلَا الِانْفِكَاكُ مِنْهُ. وَالْغِلَظُ يَكُونُ فِي الْإِجْرَامِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ: الشِّدَّةُ. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ: أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ، وَيَدْعُونَ مَعَ ذَلِكَ إِلَهًا غَيْرَهُ. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: إِضْرَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: لَيْسَ دَعْوَاهُمْ، نَحْوَ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ ادِّعَاءِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ ذُو عِلْمٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، فَلَا افْتِقَارَ لَهُ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ. الْحَمِيدُ: الْمُسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى مَا أَنْشَأَ وَأَنْعَمَ. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ: تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاهِيًا، بَيَّنَ أَنَّ فِي قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ عَجَائِبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ لَوْ وَقَعَ أَوْ ثَبَتَ عَلَى رَأْيِ الْمُبَرِّدِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ الْخَبَرِ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ، وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. ومِنْ شَجَرَةٍ: تبيين لما، وَهُوَ فِي التَّقْرِيرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْمُنْتَقِلِ مِنَ الْعَامِلِ فِيهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الْأَرْضِ كَائِنًا مِنْ شَجَرَةٍ وَأَقْلَامٍ خَبَرٌ لأن، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى الزَّمَخْشَرِيِّ وَبَعْضِ الْعَجَمِ مِمَّنْ يَنْصُرُ قَوْلَهُ: إِنَّ خَبَرَ أَنَّ الْجَائِيَةِ بَعْدَ لولا يَكُونُ اسْمًا جَامِدًا وَلَا اسْمًا مُشْتَقًّا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ طافع بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَوْ أَنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُهَا ... مسومة تدعو عبيدا وأيما وَقَالَ الْآخَرُ: مَا أَطْيَبَ الْعَيْشَ لَوْ أَنَّ الْفَتَى حَجَرٌ ... تَنْبُو الْحَوَادِثُ عَنْهُ وَهُوَ مَلْمُومُ وَقَالَ آخَرُ: وَلَوْ أَنَّ حَيًّا فَائِتُ الْمَوْتِ فَاتَهُ ... أَخُو الْحَرْبِ فوق القارح القدوان وَهُوَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَحْرُ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ، وَهُمُ

الْجُمْهُورُ، وَاوُ الْحَالِ وَالْبَحْرُ مبتدأ، ويَمُدُّهُ الْخَبَرُ، أَيْ حَالُ كَوْنِ الْبَحْرِ مَمْدُودًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى مَحِلِّ إِنَّ وَمَعْمُولِهَا عَلَى وَلَوْ، ثَبَتَ كَوْنُ الْأَشْجَارِ أَقْلَامًا، وَثَبَتَ أَنَّ الْبَحْرَ مَمْدُودًا بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْمُبَرِّدِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ أَنَّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى أَنْ، لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلَوْلَا يَلِيهَا الْمُبْتَدَأُ اسْمًا صَرِيحًا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، نَحْوُ قَوْلِهِ: لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي فَإِذَا عَطَفْتَ وَالْبَحْرُ عَلَى أَنَّ وَمَعْمُولَيْهَا، وَهُمَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ يَلِيهَا الِاسْمُ مُبْتَدَأً، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَوِ الْبَحْرُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَحْوُ: رُبَّ رَجُلٍ وَأَخِيهِ يَقُولَانِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَبَحْرٌ يَمُدُّهُ، بِالتَّنْكِيرِ بِالرَّفْعِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ، كَانَ بَحْرٌ، وَهُوَ نَكِرَةٌ، مُبْتَدَأً، وَذَكَرُوا فِي مُسَوِّغَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ أَنْ تَكُونَ وَاوُ الْحَالِ تَقَدَّمَتْهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَقَدْ بَدَا ... مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَمُدُّهُ بِالْيَاءِ، مِنْ مَدَّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، مِنْ مَدَّ أَيْضًا وَعَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ مُطَرِّفٍ، وَابْنُ هُرْمُزَ: بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتَ، مِنْ أَمَدَّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَالْبَحْرُ مِدَادُهُ ، أَيْ يُكْتَبُ بِهِ مِنَ السَّوَادِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَصْدَرٌ. انْتَهَى. مِنْ بَعْدِهِ: أَيْ مِنْ بَعْدِ نَفَادِ مَا فِيهِ، سَبْعَةُ أَبْحُرٍ: لَا يُرَادُ بِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، بَلْ جِيءَ به لِلْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءَ، لَا يُرَادُ بِهِ الْعَدَدُ، بَلْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ سَبْعَةُ لَيْسَ مَوْضُوعًا فِي الْأَصْلِ لِلتَّكْثِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادًا بِهِ التَّكْثِيرُ، جَاءَ مُمَيِّزُهُ بِلَفْظِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ أَبْحُرٍ، وَلَمْ يَقُلْ بُحُورٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرَادُ بِهِ أَيْضًا إِلَّا التَّكْثِيرُ، لِيُنَاسِبَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. فَكَمَا يَجُوزُ فِي سَبْعَةُ، وَاسْتُعْمِلَ لِلتَّكْثِيرِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ فِي أَبْحُرٍ، وَاسْتُعْمِلَ لِلتَّكْثِيرِ. وَفِي الْكَلَامِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَكَتَبَ بِهَا الْكُتَّابُ كَلِمَاتِ اللَّهِ. مَا نَفِدَتْ، وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَنَّ أَشْجَارَ الْأَرْضِ أَقْلَامٌ، وَالْبَحْرُ مَمْدُودٌ بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ، وَكُتِبَتْ بِتِلْكَ الْأَقْلَامِ وَبِذَلِكَ الْمِدَادِ كَلِمَاتِ اللَّهِ، مَا نَفِدَتْ، وَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ وَالْمِدَادُ

الَّذِي فِي الْبَحْرِ وَمَا يَمُدُّهُ، كَمَا قَالَ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «1» الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: زَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ، حَالٌ فِي أَحَدِ وَجْهَيِ الرَّفْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى ذِي الْحَالِ، قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِهِ: وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكْنَاتِهَا وَجِئْتُ وَالْجَيْشُ مُصْطَفٌّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي حُكْمُهَا حُكْمُ الظُّرُوفِ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَبَحْرُهَا، وَالضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي جَعَلَهُ سُؤَالًا وَجَوَابًا مِنْ وَاضِحِ النَّحْوِ الَّذِي لا يجهله المبتدءون فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ إِذَا كانت حالا بِالْوَاوِ، لَا يُحْتَاجُ إِلَى ضَمِيرٍ يَرْبُطُ، وَاكْتُفِيَ بِالْوَاوِ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي حُكْمُهَا حُكْمُ الظُّرُوفِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الظَّرْفَ إِذَا وَقَعَ حَالًا، فَفِي الْعَامِلِ فِيهِ ضَمِيرٌ يَنْتَقِلُ إِلَى الظَّرْفِ. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ إِذَا كَانَتْ حَالًا بِالْوَاوِ، فَلَيْسَ فِيهَا ضَمِيرٌ مُنْتَقِلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ يَجْعَلُونَ أَلْ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: مِنْ شَجَرَةٍ، عَلَى التَّوْحِيدِ دُونَ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ شَجَرٌ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ تَفْصِيلُ الشَّجَرِ وَنَقْضُهَا شَجَرَةً شَجَرَةً، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ جِنْسِ الشَّجَرِ وَاحِدَةٌ إِلَّا قَدْ بُرِيَتْ أَقْلَامًا. انْتَهَى. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مِمَّا أُوقِعَ فِيهِ الْمُفْرَدُ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، وَالنَّكِرَةُ مَوْقِعَ الْمَعْرِفَةِ، وَنَظِيرُهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «2» ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «3» ، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ «4» وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: هُوَ أَوَّلُ فَارِسٍ، وَهَذَا أَفْضَلُ عَالِمٍ، يُرِيدُ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنَ الرَّحَمَاتِ وَمِنَ الدَّوَابِّ، وَأَوَّلُ الْفُرْسَانِ. أَخْبَرُوا بِالْمُفْرَدِ وَالنَّكِرَةِ، وَأَرَادُوا بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِأَلْ، وَهُوَ مَهْيَعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ. وَكَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ هَذَا مِنَ الشَّجَرَاتِ، أَوْ مِنَ الْأَشْجَارِ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَكْثِيرِ الْأَقْلَامِ وَالْمِدَادِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْجَارَ مُشْتَمِلٌ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى الْأَغْصَانِ الْكَثِيرَةِ، وَتِلْكَ الْأَغْصَانُ كُلُّ غُصْنٍ مِنْهَا يُقْطَعُ عَلَى قَدْرِ الْقَلَمِ، فَيَبْلُغُ عَدَدُ الْأَقْلَامِ فِي التَّنَاهِي إِلَى مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَلَا يُحِيطُ إِلَّا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَلِمَةُ اللَّهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَا نَفِدَ، بِغَيْرِ تَاءٍ، كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مَا فِي الْمَعْدُومِ دُونَ مَا خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقَالَتْ فرقة:

_ (1) سورة الكهف: 18/ 109. (2) سورة البقرة: 2/ 106. [.....] (3) سورة فاطر: 35/ 2. (4) سورة النحل: 16/ 49.

الْمُرَادُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ: مَعْلُومَاتُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْكَلِمَاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَالْمَوَاضِعُ مَوَاضِعُ التَّكْثِيرِ لَا التَّقْلِيلِ، فَهَلَّا قِيلَ: كَلِمُ اللَّهِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا تَفِي بِكَتْبِهَا الْبِحَارُ، فَكَيْفَ بِكَلِمَهِ؟ انْتَهَى. وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ كَلِمَاتٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، فَجُمُوعُ الْقِلَّةِ إِذَا تَعَرَّفَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ غَيْرِ الْعَهْدِيَّةِ، أَوْ أُضِيفَتْ، عَمَّتْ وَصَارَتْ لَا تَخُصُّ الْقَلِيلَ، وَالْعَامُّ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: كَامِلُ الْقُدْرَةِ، فَمَقْدُورَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا. حَكِيمٌ: كَامِلُ الْعِلْمِ، فَمَعْلُومَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، ذَكَرَ مَا يُبْطِلُ اسْتِبْعَادَهُمْ لِلْحَشْرِ. إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ: إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا، وَمَنْ لَا نَفَادَ لِكَلِمَاتِهِ يَقُولُ لِلْمَوْتَى: كُونُوا فَيَكُونُونَ، فَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، لَا يُتَفَاوَتُ فِي قُدْرَتِهِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَأَبِي الْأَسَدِ، وَنُبَيْهٍ وَمُنَبَّهِ ابْنَيِ الْحَجَّاجِ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ: إِنَّا نَرَى الطِّفْلَ يُخْلَقُ بِتَدْرِيجٍ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اللَّهُ يُعِيدُنَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَنَزَلَتْ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ: سَمِيعٌ كُلَّ صَوْتٍ، بَصِيرٌ كُلَّ مُبْصِرٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَشْغَلُهُ إِدْرَاكُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَكَذَلِكَ الْخَلْقُ وَالْبَعْثُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. يُولِجُ اللَّيْلَ: الْجُمْلَتَيْنِ شَرَحْتُ فِي آلِ عِمْرَانَ وَهُنَا. إِلى أَجَلٍ، وَيَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ، أَيْ: يَبْلُغُهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَفِي الزُّمَرِ: لِأَجَلٍ «1» ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِجَعْلِ الْجَرْيِ مُخْتَصًّا بِإِدْرَاكِ أَجَلٍ مُسَمًّى، وَجَرْيُ الشَّمْسِ مُخْتَصٌّ بِآخِرِ السَّنَةِ، وَجَرْيُ الْقَمَرِ بِآخِرِ الشَّهْرِ فَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَنَاسِبٌ لِجَرْيِهِمَا، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِهِمَا. وَقَرَأَ عَيَّاشُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِمَا يَعْمَلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ الْآيَةَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي الحج وهنا.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 5.

وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَفِي الْحَجِّ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ «1» ، بِزِيَادَةِ هُوَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَسْخِيرَ النَّيِّرَيْنِ وَامْتِنَانَهُ بِذَلِكَ عَلَيْنَا، ذَكَرَ أَيْضًا مَنْ سَخَّرَ الْفُلْكَ مِنَ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْجَرَيَانِ. وقرأ الجمهور: بِنِعْمَتِ اللَّهِ عَلَى الْإِفْرَادِ اللَّفْظِيِّ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ يَعْمُرَ: بِنِعْمَاتِ اللَّهِ، بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ جَمْعًا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ وَالْبَاءِ، وَتَحْتَمِلُ السَّبَبِيَّةَ، أَيْ تَجْرِي بِسَبَبِ الرِّيحِ وَتَسْخِيرِ اللَّهِ، وَتَحْتَمِلُ الْحَالِيَّةَ، أَيْ مَصْحُوبَةً بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَهِيَ مَا تَحْمِلُهُ السُّفُنُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْأَرْزَاقِ وَالتِّجَارَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ مُوسَى بْنُ الزُّبَيْرِ: الْفُلْكَ، بِضَمِّ اللَّامِ. وصَبَّارٍ شَكُورٍ: بِنْيَتَا مُبَالَغَةٍ، وَفَعَّالٌ أَبْلَغُ لِزِيَادَةِ حُرُوفِهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ جَرْيِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَى رَاكِبِهِ مِنَ الْخَوْفِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ، نَاسَبَ الْخَتْمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُحْذَرُ، وَبِالشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ تَعَالَى، وَشَبَّهَ الْمَوْجَ فِي ارْتِفَاعِهِ وَاسْوِدَادِهِ وَاضْطِرَابِهِ بِالظُّلَلِ، وَهُوَ السَّحَابُ. وَقِيلَ: كَالظُّلَلِ: كَالْجِبَالِ، أُطْلِقَ عَلَى الْجَبَلِ ظُلَّةٌ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: كَالظِّلَالِ، وَهُمَا جُمَعُ ظُلَّةٍ، نَحْوَ: قُلَّةٍ وَقُلَلٍ وَقِلَالٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا غَشِيَهُمْ، فِيهِ الْتِفَاتٌ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي لِيُرِيَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الغيبة في غَشِيَهُمْ. ومَوْجٌ: اسْمُ جِنْسٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ شَبَّهَهُ بِالْجَمْعِ. فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ مُؤْمِنٌ يَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي هَذِهِ النِّعَمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُقْتَصِدٌ عَلَى كُفْرِهِ: أَيْ يُسْلِمُ لِلَّهِ وَيَفْهَمُ أَنَّ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ ضَلَّ فِي الْأَصْنَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُعَظِّمُهَا. قِيلَ: أَوْ مُقْتَصِدٌ فِي الْإِخْلَاصِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْلَاصَ الْحَادِثَ عِنْدَ الْخَوْفِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ قَطُّ. انْتَهَى. وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَطُّ ظَرْفًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ غَيْرُ مَاضٍ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ. فقبل حُذِفَ مُقَابِلُ فَمِنْهُمْ مُؤْمِنٌ مُقْتَصِدٌ تَقْدِيرُهُ: وَمِنْهُمْ جَاحِدٌ وَدَلَّ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مُقْتَصِدٌ مَعْنَاهُ: مُؤْمِنٌ مُقْتَصِدٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، مُوَفٍّ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ، وَخَتَمَ هُنَا بِبِنْيَتَيْ مُبَالَغَةٍ، وَهُمَا: خَتَّارٍ، وكَفُورٍ. فَالصَّبَّارُ الشَّكُورُ مُعْتَرِفٌ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالْخَتَّارُ الْكَفُورُ يَجْحَدُ بِهَا. وَتَوَازَنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا لَفْظًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنًى فَالْخَتَّارُ هو الغدار، والغدر

_ (1) سورة الحج: 22/ 62.

لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ الصَّبَّارَ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْغَدَّارُ فَيَعْهَدُ وَيَغْدِرُ، فَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْعَهْدِ وَأَمَّا الْكَفُورُ فَمُقَابَلَتُهُ مَعْنًى لِلشَّكُورِ وَاضِحَةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَشْرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، أَمَرَ بِالتَّقْوَى عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِهَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ. لَا يَجْزِي: لَا يَقْضِي، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُتَقَاضِي: الْمُتَجَازِي، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُ أَكْثَرَ شَفَقَةً عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ، بَدَأَ بِهِ أَوَّلًا، وَأَتَى فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْوَالِدِ بِالْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّجَدُّدِ، لِأَنَّ شَفَقَتَهُ مُتَجَدِّدَةٌ عَلَى الْوَلَدِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَتَى فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْوَلَدِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَالثُّبُوتُ يَصْدُقُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ لَا يَجْزِي صِفَةٌ لِيَوْمٍ، وَالضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ بِرُمَّتِهِ، وَإِمَّا عَلَى التَّدْرِيجِ حُذِفَ الْخَبَرُ، فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ فَحُذِفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجْزِي مُضَارِعَ جَزَى وَعِكْرِمَةُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَأَبُو السِّمَاكِ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو السَّوَّارِ: لا يجزىء، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مَهْمُوزًا، وَمَعْنَاهُ: لَا يُغْنِي يُقَالُ: أَجْزَأْتُ عَنْكَ جَزَاءَ فُلَانٍ: أَيْ أَغْنَيْتُ. وَيَجُوزُ فِي وَلا مَوْلُودٌ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَالِدٍ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ جازٍ، صِفَةُ لمولود. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وهو مبتدأ ثان، وجاز خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْأَوَّلِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ لِوُجُودِ مُسَوِّغِ ذَلِكَ، وَهُوَ النَّفْيُ. وَذُهِلَ الْمَهْدَوِيُّ فَقَالَ: لَا يَكُونُ مَوْلُودٌ مُبْتَدَأً، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ وَمَا بَعْدَهُ صِفَةٌ، فَيَبْقَى بِلَا خبر وشَيْئاً منصوب بجاز، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، لِأَنَّهُ يَطْلُبُهُ لَا يَجْزِي وَيَطْلُبُهُ جازٍ، فَجَعَلْنَاهُ مِنْ أَعْمَالِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَيَعْقُوبُ: نغرنكم، بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَقَرَأَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: الْغُرُورُ بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَالْجُمْهُورُ: بِالْفَتْحِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكُ بِالشَّيْطَانِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ قِرَاءَةِ الضَّمِّ عَلَيْهِ جُعِلَ الشَّيْطَانُ نَفْسَ الْغُرُورِ مُبَالَغَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ قَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً هُوَ وَارِدٌ عَلَى طَرِيقٍ مِنَ التَّوْكِيدِ، لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ آكَدُ مِنَ الْفِعْلِيَّةِ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: هُوَ، وَقَوْلُهُ: مَوْلُودٌ، وَالسَّبَبُ فِي مَجِيئِهِ هَذَا السَّنَنَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَغَالِبُهُمْ قُبِضَ آبَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الدِّينِ الْجَاهِلِيِّ، فَأُرِيدَ حَسْمُ أَطْمَاعِهِمْ وَأَطْمَاعِ النَّاسِ أَنْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَشْفَعُوا

لَهُمْ، وَأَنْ يُغْنُوا عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوْكَدِ. وَمَعْنَى التَّوْكِيدِ فِي لَفْظِ الْمَوْلُودِ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ شَفَعَ لِلْوَالِدِ الْأَدْنَى الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ فَضْلًا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ فَوْقَهُ مِنْ أَجْدَادِهِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَقَعُ عَلَى الْوَلَدِ، وَوَلَدِ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ، فَإِنَّهُ لِمَنْ وُلِدَ مِنْكَ. إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ: يُرْوَى أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عُمَارَةَ الْمُحَارِبِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ مَتَى قِيَامُهَا؟ وَإِنِّي لَقَدْ أَلْقَيْتُ حُبَاتِي فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ أَبْطَأَتْ عَنِّي السَّمَاءُ، مَتَى تُمْطِرُ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنِ امْرَأَتِي، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ وَعَلِمْتُ ما علمت أَمْسِ، فَمَا أَعْمَلُ غَدًا؟ وَهَذَا مَوْلِدِي قَدْ عَرَفْتُهُ، فَأَيْنَ أَمُوتُ؟ فَنَزَلَتْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، وَتَلَا هَذِهِ الآية. وعلم: مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى السَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى: عِلْمُ يَقِينٍ، وَفِيهَا: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ فِي آيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. مَا فِي الْأَرْحامِ مِنْ ذَكَرٍ أَمْ أُنْثَى، تَامٍّ أَوْ نَاقِصٍ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ، بَرَّةٌ أَوْ فَاجِرَةٌ. مَاذَا تَكْسِبُ غَداً مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَرُبَّمَا عَزَمَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا فعلمت ضِدَّهُ. بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ: وَرُبَّمَا أَقَامَتْ بِمَكَانٍ نَاوِيَةً أَنْ لَا تُفَارِقَهُ إِلَى أَنْ تُدْفَنَ بِهِ، ثُمَّ تُدْفَنَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَخْطُرْ لَهَا بِبَالٍ قَطُّ. وَأَسْنَدَ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، وَالدِّرَايَةَ لِلنَّفْسِ، لِمَا فِي الدِّرَايَةِ مِنْ مَعْنَى الْخَتْلِ وَالْحِيلَةِ وَلِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِالْعَالِمِ، وَلَا يُوصَفُ بِالدَّارِي. وأما قوله: لا هم لَا أَدْرِي وَأَنْتِ الدَّارِي فَقَوْلُ عَرَبِيٍّ جِلْفٍ جَاهِلِيٍّ، جَاهِلٍ بِمَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا يَمْتَنِعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِأَيِّ أَرْضٍ. وَقَرَأَ مُوسَى الْأَسْوَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِأَيَّةِ أَرْضٍ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْمَوْتِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِيهِمَا. كَمَا أَنَّ كُلًّا إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مُؤَنَّثٍ قَدْ تُؤَنَّثُ، تَقُولُ: كُلُّهُنَّ فَعَلْنَ ذَلِكَ، وَتَدْرِي مُعَلَّقَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَاذَا تَكْسِبُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ تَدْرِي، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا موصولا منصوبا بتدري، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ الشَّيْءَ الَّتِي تَكْسِبُ غدا. وبأي متعلق بتموت، وَالْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: فِي أَيِّ أَرْضٍ؟ فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بتدري. وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ هَذِهِ الْخَمْسَ، لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِسَائِلٍ سَأَلَ، وَهُوَ يَسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ أَشْيَاءَ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا هُوَ، وَهَذِهِ الْخَمْسِ.

سورة السجدة

سورة السّجدة [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ

مِمَّا تَعُدُّونَ، ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ، وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قِيلَ: إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ: تَتَجافى إِلَى تُكَذِّبُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيِّ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً. قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ مُحَمَّدًا إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَ بِهِ اخْتِلَاقٌ مِنْهُ، فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى، فِيمَا قَبْلَهَا، دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَعَادَ وَالْحَشْرَ، وَهُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي، وَخَتَمَ بِهِ السُّورَةَ، ذَكَرَ فِي بَدْءِ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَصْلَ الثَّالِثَ، وَهُوَ تَبْيِينُ الرسالة. والْكِتابِ: الْقُرْآنِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: تَنْزِيلُ مُبْتَدَأٌ، وَلَا رَيْبَ خَبَرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هَذَا الْمَتْلُوُّ تَنْزِيلٌ، أَوْ هَذِهِ الحروف تنزيل، والم بَدَلٌ عَلَى الْحُرُوفِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الم مُبْتَدَأٌ، وتَنْزِيلُ خبره بمعنى المنزل، ولا رَيْبَ فِيهِ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ تَنْزِيلُ، ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلق بتنزيل أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي فِيهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الظَّرْفُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلُ مبتدأ، ولا رَيْبَ فِيهِ الخبر، ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بتنزيل، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ أُخْبِرَ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، ولا رَيْبَ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. انْتَهَى. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ يَكُونَ تَنْزِيلُ مُبْتَدَأً، ولا رَيْبَ اعتراض، ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الْخَبَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلق بتنزيل، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَا رَيْبَ، أَيْ لَا شَكَّ، مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ وَقَعَ شَكُّ الْكَفَرَةِ، فَذَلِكَ لَا يُرَاعَى. وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، وَكَذَا هُوَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، إِلَّا قَوْلَهُ: رَيْبَ الْمَنُونِ «1» . انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ تَنْزِيلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ مَا افْتَقَرَ إلى

_ (1) سورة الطور: 52/ 30.

غَيْرِهِ وَبَيْنَهُ، لَمْ نَقُلْ فِيهِ: إِنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، بَلْ لَوْ تَأَخَّرَ لَمْ يَكُنِ اعْتِرَاضًا. وَأَمَّا كونه متعلقا بلا رَيْبَ، فَلَيْسَ بِالْجَيِّدِ، لِأَنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ عَنْهُ مُطْلَقًا هُوَ الْمَقْصُودُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا مَدْخَلَ لِلرَّيْبِ فِيهِ، أَنَّهُ تَنْزِيلُ اللَّهِ، لِأَنَّ مُوجِبَ نَفْيِ الرَّيْبِ عَنْهُ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَهُوَ الْإِعْجَازُ، فَهُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الرَّيْبِ. وَقَوْلُهُمُ: افْتَراهُ، كَلَامُ جَاهِلٍ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ، أَوْ جَاحِدٍ مُسْتَيْقِنٍ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَالَ ذَلِكَ حَسَدًا، أَوْ حُكْمًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ، أَيْ فِي كَوْنِهِ مُنْزَلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَيَشْهَدُ لِوَجَاهَتِهِ قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُفْتَرًى إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ صَحِيحٌ مُحْكَمٌ، أَثْبَتَ أَوَّلًا أَنَّ تَنْزِيلَهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَا لَا رَيْبَ فِيهِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، لِأَنَّ أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ إِنْكَارًا لِقَوْلِهِمْ وَتَعَجُّبًا مِنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ فِي عَجْزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ مِثْلِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنِ الْإِنْكَارِ إِلَى الْإِثْبَاتِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ يَكُونُ مَعْنَاهُ: بَلْ يَقُولُونَ، فَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ ومن رَبِّكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَائِنًا مِنْ عِنْدِ ربك، وبه متعلق بلتنذر، أَوْ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ. وَالْقَوْمُ هُنَا قُرَيْشٌ والعرب، وما نافية، ومن نذير: من زائدة، ونذير فَاعِلُ أَتَاهُمْ. أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِخُصُوصِيَّتِهِمْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا لَهُمْ وَلَا لِآبَائِهِمْ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَمَا زَالُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ غَيَّرَ ذَلِكَ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ، وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَعَمَّ ذَلِكَ، فَهُمْ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» ، أَيْ شَرِيعَتُهُ وَدِينُهُ وَالنَّذِيرُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِمَنْ بَاشَرَ، بَلْ يَكُونُ نَذِيرًا لِمَنْ بَاشَرَهُ، وَلِغَيْرِ مَنْ بَاشَرَهُ بِالْقُرْبِ مِمَّنْ سَبَقَ لَهَا نَذِيرٌ، وَلَمْ يُبَاشِرْهُمْ نَذِيرٌ غَيْرُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى لَمْ يَأْتِهِمْ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، كَقَوْلِهِ: مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ «2» ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم. فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ، لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ. قُلْتُ: أَمَّا قِيَامُ الْحُجَّةِ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي لَا يُدْرَكُ عِلْمُهَا إِلَّا بالرسل فلا،

_ (1) سورة فاطر: 35/ 24. (2) سورة يس: 36/ 6.

وَأَمَّا قِيَامُهَا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَحِكْمَتِهِ فَنَعَمْ، لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ الْمُوصِلَةَ إِلَى ذَلِكَ مَعَهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ. انْتَهَى. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَتاهُمْ، وما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وَعِنْدِي أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَالْمَعْنَى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الْعِقَابَ الَّذِي أَتَاهُمْ. مِنْ نَذِيرٍ: متعلق بأتاهم، أَيْ أَتَاهُمْ عَلَى لِسَانِ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ. وَكَذَلِكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ «1» : أَيِ الْعِقَابَ الَّذِي أنذره آباؤهم، فما مفعولة في الموضعين، وأنذر يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً «2» ، وَهَذَا الْقَوْلُ جَارٍ عَلَى ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «3» ، وأَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ «4» ، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «5» ، وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا «6» . وَلَمَّا حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَاهُ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ، اقْتَصَرَ فِي ذِكْرِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى الْإِنْذَارِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ لَهُ وَلِلتَّبْشِيرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ رَدْعًا لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الْإِنْذَارَ، صَارَ عِنْدَ الْعَاقِلِ فِكْرٌ فِيمَا أُنْذِرَ بِهِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ الْفِكْرَ يَكُونُ سببا لهدايته. ولَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ: تَرْجِيَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «7» ، مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ يُسْتَعَارَ لَفْظُ التَّرَجِّي لِلْإِرَادَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْإِرَادَةِ بِلَفْظِ التَّرَجِّي، وَمَعْنَاهُ: إرادة اهتدائهم، وهذه نزغة اعْتِزَالِيَّةٌ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُرِيدَ هِدَايَةَ الْعَبْدِ، فَلَا يَقَعُ مَا يُرِيدُ، وَيَقَعُ مَا يُرِيدُ الْعَبْدُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَ الرِّسَالَةِ، ذَكَرَ مَا عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ بِذِكْرِ مَبْدَأِ الْعَالَمِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي الْأَعْرَافِ. مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ: أَيْ إِذَا جَاوَزْتُمُوهُ إِلَى سِوَاهُ فَاتَّخَذْتُمُوهُ نَاصِرًا وَشَفِيعًا. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ مُوجِدَ هَذَا الْعَالَمَ، فَتَعْبُدُوهُ وَتَرْفُضُوا مَا سِوَاهُ؟ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، الْأَمْرُ: وَاحِدُ الْأُمُورِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: يُنَفِّذُ اللَّهُ قَضَاءَهُ بِجَمِيعِ مَا يَشَاؤُهُ. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ: أَيْ يصعد، خبر ذلك

_ (1) سورة يس: 36/ 6. (2) سورة فصلت: 41/ 13. (3) سورة فاطر: 35/ 24. (4) سورة المائدة: 5/ 19. (5) سورة الإسراء: 17/ 15. (6) سورة القصص: 28/ 59. (7) سورة طه: 20/ 44. [.....]

فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، مِقْدارُهُ: أَنْ لَوْ سِيرَ فِيهِ السَّيْرَ الْمَعْرُوفَ مِنَ الْبَشَرِ أَلْفَ سَنَةٍ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الضَّمِيرُ فِي مِقْدَارُهُ عَائِدٌ عَلَى التَّدْبِيرِ، أَيْ كَانَ مِقْدَارُ التَّدْبِيرِ الْمُنْقَضِي فِي يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ لَوْ دَبَّرَهُ الْبَشَرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: يُدَبِّرُ وَيُلْقِي إِلَى الْمَلَائِكَةِ أُمُورَ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ عِنْدِنَا، وَهُوَ الْيَوْمُ عِنْدَهُ، فَإِذَا فَرَغَتْ أَلْقَى إِلَيْهِمْ مِثْلَهَا. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمُورَ تُنَفَّذُ عَنْهُ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَتَصِيرُ إِلَيْهِ آخِرًا، لِأَنَّ عَاقِبَةَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُدَبِّرُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَيَنْزِلُ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، ثُمَّ تَعْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِقْدَارُهُ مَا ذُكِرَ لِيَحْكُمَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَيْثُ يَنْقَطِعُ أَمْرُ الْأُمَرَاءِ، أَوْ أَحْكَامُ الْحُكَّامِ، وَيَنْفَرِدُ بِالْأَمْرِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ بِأَلْفِ سَنَةٍ، وَهُوَ على الكفار قدر خمسين أَلْفِ سَنَةٍ حَسْبَمَا فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ، وَتَأْتِي الْأَقْوَالُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَنْزِلُ الْوَحْيُ مَعَ جِبْرِيلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ قَبُولِ الْوَحْيِ أَوْ رَبِّهِ مَعَ جِبْرِيلَ، وَذَلِكَ فِي وَقْتٍ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَلْفُ سَنَةٍ، لِأَنَّ الْمَسَافَةَ مَسِيرَةُ أَلْفِ سَنَةٍ فِي الْهُبُوطِ وَالصُّعُودِ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَهُوَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِكُمْ لِسُرْعَةِ جِبْرِيلَ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِدَايَةُ الْأَمْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، يُنْزِلُهُ مُدَبَّرًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ خَالِصًا كَمَا يُرِيدُهُ وَيَرْتَضِيهِ، إِلَّا فِي مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، لِقِلَّةِ الْأَعْمَالِ لِلَّهِ وَالْخُلُوصِ مِنْ عِبَادِهِ، وَقِلَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّاعِدَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالصُّعُودِ إِلَّا الْخَالِصُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى أَثَرِهِ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ. انْتَهَى. وَقِيلَ: يُدَبِّرُ أَمْرَ الشَّمْسِ فِي طُلُوعِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ وَغُرُوبِهَا فِي الْمَغْرِبِ، وَمَدَارِهَا فِي الْعَالَمِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ، وَتَرْجِعَ إِلَى مَوْضِعِهَا مِنَ الطُّلُوعِ فِي يَوْمٍ مِقْدَارُهُ فِي الْمَسَافَةِ أَلْفُ سَنَةٍ. وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّهَا تُذَكَّرُ وَقِيلَ: إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَابِطٍ: يُدَبِّرُ أَمْرَ الدُّنْيَا أَرْبَعَةٌ: جِبْرِيلُ لِلرِّيَاحِ وَالْجُنُودُ، وَمِيكَائِيلُ لِلْقَطْرِ وَالْمَاءِ، وَمَلَكُ الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل لِنُزُولِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ مَوْضِعُ التَّدْبِيرِ، وَمَا دُونَهُ مَوْضِعُ التَّفْصِيلِ، وَمَا دون السموات مَوْضِعُ التَّعْرِيفِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَمْرُ: الْوَحْيُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْقَضَاءُ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: أَمْرُ الدُّنْيَا. قَالَ الزَّجَّاجَ: تَقُولُ عَرَّجْتُ فِي السُّلَّمِ أَعْرُجُ، وَعَرَجَ الرَّجُلُ يَعْرُجُ إِذَا صَارَ أَعْرَجَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: يَعْرُجُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَالَمَ الْأَجْسَامِ وَالْخَلْقَ، وَأَشَارَ

إِلَى عَظَمَةِ الْمُلْكِ وَذَكَرَ هُنَا عَالَمَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَالرُّوحُ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «1» ، وَأَشَارَ إِلَى دَوَامِهِ بِلَفْظٍ يُوهِمُ الزَّمَانَ. وَالْمُرَادُ دَوَامُ النَّفَادِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: طَالَ زَمَانُ فُلَانٍ، وَالزَّمَانُ يَمْتَدُّ فَيُوجَدُ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ. فَأَشَارَ إِلَى عَظَمَةِ الْمُلْكِ بِالْمَكَانِ، وَأَشَارَ إِلَى دَوَامِهِ هُنَا بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ خَلْقِهِ وَمُلْكِهِ، وَالزَّمَانُ بِحُكْمِهِ وَأَمْرِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى فَهْمِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِمَّا تَعُدُّونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ السملي، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْحَسَنُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، بِخِلَافٍ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: ثُمَّ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ، بِزِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَعَلَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِسُقُوطِهِ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ. ذلِكَ: أَيْ ذَلِكَ الْمَوْصُوفُ بِالْخَلْقِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالتَّدْبِيرِ، عالِمُ الْغَيْبِ: وَالْغَيْبُ الْآخِرَةُ، وَالشَّهادَةِ: الدُّنْيَا، أَوِ الْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالشَّهَادَةُ: مَا شُوهِدَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، قَوْلَانِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ: بِخَفْضِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَأَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيُّ: بِخَفْضِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهَا أَخْبَارٌ لِذَلِكَ، أَوِ الْأَوَّلَ خَبَرٌ وَالِاثْنَانِ وَصْفَانِ، وَوَجْهُ الْخَفْضِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الأمر، وهو فاعل بيعرج، أَيْ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ذَلِكَ، أَيِ الْأَمْرُ الْمُدَبَّرُ، وَيَكُونُ عَالِمِ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي إِلَيْهِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ زَيْدٍ يَكُونُ ذَلِكَ عَالِمُ مبتدأ وخبر، والعزيز الرَّحِيمِ بِالْخَفْضِ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلْقَهُ، بِفَتْحِ اللَّامِ، فِعْلًا ماضيا صفة لكل أَوْ لِشَيْءٍ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: بِسُكُونِ اللَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ كُلَّ، أَيْ أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ، فَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُ عَائِدٌ عَلَى كُلَّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، فَيَكُونُ انْتِصَابُهُ نَصَبَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ «2» ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، أَيْ خَلَقَهُ خَلْقًا. وَرَجَّحَ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ بِأَنَّ فِيهِ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَبِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ، كَانَ أَبْلَغَ مِنْ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحْسِنُ الْخَلْقَ، وَهُوَ الْمَجَازُ لَهُ، وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا. فَإِذَا قَالَ: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ، اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنٌ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي خَلَقَهُ عَلَى اللَّهِ، يَكُونَ بَدَلًا مِنْ كُلٍّ

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 85. (2) سورة البقرة: 2/ 138.

شَيْءٍ، بَدَلِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ. وَمَعْنَى أَحْسَنَ: حَسَّنَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءِ خَلَقَهُ إِلَّا وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا تَقْضِيهِ الْحِكْمَةُ. فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْحُسْنِ، وَحُسْنُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَقْصِدِ الَّذِي أُرِيدَ بِهَا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتِ الْقِرَدَةُ بِحَسَنَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُتْقَنَةٌ مُحْكَمَةٌ. وَعَلَى قراءة من سكن لام خَلَقَهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَى كُلَّ جِنْسٍ شَكْلَهُ، وَالْمَعْنَى: خَلَقَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى شَكْلِهِ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَلْهَمَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَدَأَ بِالْهَمْزِ وَالزُّهْرِيُّ: بِالْأَلِفِ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ أَنْ يَقُولَ فِي هَدَأَ: هَدَا، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، بَلْ قِيَاسُ هَذِهِ الْهَمْزَةِ التَّسْهِيلُ بَيْنَ بَيْنَ عَلَى أَنَّ الْأَخْفَشَ حَكَى فِي قَرَأْتُ: قَرَيْتُ وَنَظَائِرَهُ. وَقِيلَ: وَهِيَ لُغَيَّةٌ وَالْأَنْصَارُ تَقُولُ فِي بَدَأَ: بَدِيَ، بِكَسْرِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ وَيَاءٍ بعدها، وهي لغة لطي. يَقُولُونَ فِي فَعِلَ هَذَا نَحْوُ بَقِيَ: بَقَأَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ أَصْلُهُ بَدِيَ، ثُمَّ صَارَ بَدَأَ، أَوْ عَلَى لُغَةِ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: بِاسْمِ الْإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا ... وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ: هُوَ آدَمُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ: أَيْ ذُرِّيَّتَهُ. نَسَلَ مِنَ الشَّيْءِ: انْفَصَلَ مِنْهُ. ثُمَّ سَوَّاهُ: قَوَّمَهُ وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَى ذَاتِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ خَلْقٌ عَجِيبٌ، لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا هُوَ، وَهِيَ إِضَافَةُ مُلْكٍ إِلَى مَالِكٍ وَخَلْقٍ إِلَى خَالِقٍ تَعَالَى. وَجَعَلَ لَكُمُ: الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ مُفْرَدٍ غَائِبٍ إِلَى جَمْعٍ مُخَاطَبٍ، وَتَعْدِيدٌ لِلنِّعَمِ، وَهِيَ شَامِلَةٌ لِآدَمَ كَمَا أَنَّ التَّسْوِيَةَ وَنَفْخَ الرُّوحِ شَامِلٌ لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَقالُوا الضَّمِيرُ لِجَمْعٍ، وَقِيلَ: الْقَائِلُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَأُسْنِدَ إِلَى الْجَمْعِ لِرِضَاهُمْ بِهِ، وَالنَّاصِبُ لِلظَّرْفِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَإِنَّا وَمَا بَعْدَهَا تَقْدِيرُهُ انْبَعَثَ. أَإِذا ضَلَلْنا، وَمَنْ قَرَأَ إِذَا بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، فَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ نُبْعَثُ، وَيَكُونُ إِخْبَارًا مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ: إِنَّا عَلَى الْخَبَرِ، أَكَّدُوا ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءَ بِاسْتِهْزَاءٍ آخَرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ اللَّامِ، وَالْمُضَارِعُ يَضِلُّ بِكَسْرِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الشَّهِيرَةُ الْفَصِيحَةُ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هَلَكْنَا، وَكُلُّ شَيْءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى تَلَفَ وَخَفِيَ فَقَدْ هَلَكَ، وَأَصْلُهُ مِنْ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ، إِذَا ذَهَبَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: ضَلَلْنَا: غِبْنَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنْشَدَ قول النابغة الذبياني:

_ (1) سورة طه: 20/ 50.

فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَينِ جَلِيَّةٍ ... وَغودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَطَلْحَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْمُضَارِعُ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةُ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: ضُلِّلْنَا، بِالضَّادِ الْمَنْقُوطَةِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً، وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: صَلَلْنَا، بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ ، وَمَعْنَاهُ: أَنْتَنَّا. وَعَنِ الْحَسَنِ: صَلِلْنَا، بِكَسْرِ اللَّامِ، يُقَالُ: صَلَّ يَصِلُّ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ وَصَلَّ يَصَلُّ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ وَأَصَلَّ يَصِلُّ، بِالْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ. قَالَ الشَّاعِرُ: تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أبيض ... أَصَلَّتْ فَهْيَ تَحْتَ الْكَشْحِ دَاءُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ صِرْنَا بَيْنَ الصَّلَّةِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ الصُّلْبَةُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَا نَعْرِفُ فِي اللُّغَةِ صَلَلْنَا، وَلَكِنْ يُقَالُ: أَصَلَّ اللَّحْمُ وَصَلَّ، وَأَخَمَّ وَخَمَّ إِذَا أَنْتَنَ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ. بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ: جَاحِدُونَ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَالصَّيْرُورَةِ إِلَى جَزَائِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِجُمْلَةِ الْحَالِ غَيْرِ مُفَصَّلَةٍ، مِنْ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، ثُمَّ عَوْدِهِمْ إِلَى جَزَاءِ ربهم بالبعث. ومَلَكُ الْمَوْتِ: اسْمُهُ عِزْرَائِيلُ، وَمَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَلَوْ تَرى: الظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَقِيلَ: لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، أَيْ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَأَيْتَ الْعَجَبَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْمَعْنَى يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِلْمُجْرِمِ. وَلَوْ تَرى: رَأَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يَتَوَفَّاكُمْ، دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُلْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْهُ خِطَابًا لِلرَّسُولِ. والظاهر أن لو هنا لَمْ تَشْرَبْ مَعْنَى التَّمَنِّي، بَلْ هِيَ الَّتِي لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَرَأَيْتُ أَسْوَأَ حَالٍ يُرَى. وَلَوْ تَعْلِيقٌ فِي الْمَاضِي، وَإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، فَلِتَحَقُّقِ الْأَخْبَارِ وَوُقُوعِهِ قَطْعًا أَتَى بِهِمَا تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خطابا لرسول الله، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ به التمني، كأنه قِيلَ: وَلَيْتَكَ تَرَى، وَالتَّمَنِّي لَهُ، كَمَا كَانَ التَّرَجِّي لَهُ فِي: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، لِأَنَّهُ تَجَرَّعَ مِنْهُمُ الْغُصَصَ وَمِنْ عَدَاوَتِهِمْ وَضِرَارِهِمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ، تَمَنِّيَ أَنْ يَرَاهُمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْفَظِيعَةِ مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخِزْيِ وَالْغَمِّ لِيَشْمَتَ بِهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ لَوِ امْتِنَاعِيَّةً، وَقَدْ حُذِفَ جَوَابُهَا، وَهُوَ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ لَئِيمٌ إِنْ

أَكْرَمْتَهُ أَهَانَكَ، وَإِنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَلَا يُرِيدُ بِهِ مُخَاطَبًا بِعَيْنِهِ، وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: إِنْ أُكْرِمَ وَإِنْ أُحْسِنَ إِلَيْهِ. انْتَهَى. والتمني بلو فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعِيدٌ، وَتَسْمِيَةُ لَوِ امْتِنَاعِيَّةً لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلِ الْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ لَوْ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَهِيَ عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ، وَقَوْلُهُ قَدْ حُذِفَ جَوَابُهَا وَتَقْدِيرُهُ: وَلَيْتَكَ تَرَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ إِذًا لِلتَّمَنِّي لَا جَوَابَ لَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إِذَا أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي، يَكُونُ لَهَا جَوَابٌ كَحَالِهَا إِذَا لَمْ تَشْرَبْهُ. قَالَ الشَّاعِرِ: فَلَوْ نُبِشَ الْمَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَيُخْبِرُ بِالذَّنَائِبِ أي زير بيوم الشعشمين لَقَرَّ عَيْنًا ... وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ تَجِيءُ لَوْ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي، كَقَوْلِكَ: لَوْ تَأْتِينِي فَتُحَدِّثُنِي، كَمَا تَقُولُ: لَيْتَكَ تَأْتِينِي فَتُحَدِّثُنِي. فَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنْ أَرَادَ بِهِ الْحَذْفَ، أَيْ وَدِدْتُ لَوْ تَأْتِينِي فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلتَّمَنِّي فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لَهُ، مَا جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِ التَّمَنِّي. لَا يُقَالُ: تَمَنَّيْتُ لَيْتَكَ تَفْعَلُ، وَيَجُوزُ: تَمَنَّيْتُ لَوْ تَقُومُ. وَكَذَلِكَ امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَ لَعَلَّ وَالتَّرَجِّي، وَبَيْنَ إلا واستثنى. انتهى. ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ: مُطْرِقُوهَا، مِنَ الذُّلِّ وَالْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالذَّمِّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نَكَّسُوا رؤوسهم، فِعْلًا مَاضِيًا وَمَفْعُولًا وَالْجُمْهُورُ: اسْمُ فَاعِلٍ مُضَافٌ. عِنْدَ رَبِّهِمْ: أَيْ عِنْدَ مُجَازَاتِهِ، وَهُوَ مَكَانُ شِدَّةِ الْخَجَلِ، لِأَنَّ الْمَرْبُوبَ إِذَا أَسَاءَ وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ كَانَ فِي غَايَةِ الْخَجَلِ. رَبَّنا: عَلَى إِضْمَارِ يَقُولُونَ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَسْتَغِيثُونَ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَسَمِعْنا: مَا كُنَّا نُنْكِرُ وَأَبْصَرْنَا صِدْقَ وَعْدِكَ وَوَعِيدِكَ، وَسَمْعِنَا تَصْدِيقَ رُسُلِكَ، وَكُنَّا عُمْيًا وَصُمًّا فَأَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، فَارْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا. إِنَّا مُوقِنُونَ: أَيْ بِالْبَعْثِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ وَقِيلَ: مُصَدِّقُونَ بالذي قال الرسول، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وموقنون: مُشْعِرٌ بِالِالْتِبَاسِ فِي الْحَالِ، أَيْ حِينَ أَبْصَرُوا وَسَمِعُوا. وَقِيلَ: مُوقِنُونَ: زَالَتِ الْآنَ عَنَّا الشُّكُوكُ، وَلَمْ نَكُنْ فِي الدُّنْيَا نَتَدَبَّرُ، وَكُنَّا كَمَنْ لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ. وَقِيلَ: لَكَ الْحُجَّةُ، رَبَّنَا قَدْ أَبْصَرْنَا رُسُلَكَ وَعَجَائِبَ فِي الدُّنْيَا، وَسَمِعْنَا كَلَامَهُمْ فَلَا حُجَّةَ لَنَا، وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ. وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ. لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها: أَيِ اخْتَرَعْنَا الْإِيمَانَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً «1» ، ولَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «2» ، ولَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً «3» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنَّا بَنَيْنَا الْأَمْرَ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الِاضْطِرَارِ، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَحَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِ الْعَمَى دُونَ أَهْلِ الْبَصَرِ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا عَقَّبَهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ؟ فَجَعَلَ ذَوْقَ الْعَذَابِ نَتِيجَةَ فِعْلِهِمْ مِنْ نِسْيَانِ الْعَاقِبَةِ وَقِلَّةِ الْفِكْرِ فِيهَا، وَتَرْكِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ: خِلَافُ التَّذَكُّرِ، يَعْنِي: أَنَّ الِانْهِمَاكَ فِي الشَّهَوَاتِ أَنْهَكَكُمْ وَأَلْهَاكُمْ عَنْ تَذَكُّرِ الْعَاقِبَةِ، وَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ نِسْيَانَهَا. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا نَسِيناكُمْ عَلَى الْمُقَابَلَةِ: أَيْ جَازَيْنَاكُمْ جَزَاءَ نِسْيَانِكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، أَيْ تَرَكْتُمُ الْفِكْرَ فِي الْعَاقِبَةِ، فَتَرَكْنَاكُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هُدَاهَا إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا، لَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْهُ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ، فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ هِدَايَةُ الْكُلِّ إِلَيْهَا. قَالُوا: بَلِ الْوَاجِبُ هِدَايَةُ الْمَعْصُومِينَ فَأَمَّا مَنْ لَهُ ذَنْبٌ، فَجَائِزٌ هِدَايَتُهُ إِلَى النَّارِ جَزَاءً عَلَى أَفْعَالِهِ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ مَنْعٌ لِقَطْعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هَدَاهَا إِلَى الإيمان. انتهى. وهذا: صفة ليومكم، وَمَفْعُولُ فَذُوقُوا مَحْذُوفٌ، أَوْ مَفْعُولُ فَذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ بِسَبَبِ نِسْيَانِكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَهُوَ مَا أَنْتُمْ فيه من نكس الرؤوس وَالْخِزْيِ وَالْغَمِّ أَوْ ذُوقُوا الْعَذَابَ الْمُخَلَّدَ فِي جَهَنَّمَ. وَفِي اسْتِئْنَافِ قَوْلِهِ: إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَبِنَاءِ الْفِعْلِ عَلَى إِنَّ وَاسْمِهَا تَشْدِيدٌ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا: أَثْنَى تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي وَصْفِهِمْ بِالصِّفَةِ الحسنى، من

_ (1) سورة الرعد: 13/ 31. (2) سورة الأنعام: 6/ 35. (3) سورة هود: 11/ 118.

سُجُودِهِمْ عِنْدَ التَّذْكِيرِ، وَتَسْبِيحِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِكْبَارِهِمْ بِخِلَافِ مَا يَصْنَعُ الْكَفَرَةُ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِيرِ، وَقَوْلِ الْهَجْرِ، وَإِظْهَارِ التَّكَبُّرِ وَهَذِهِ السَّجْدَةُ مِنْ عَزَائِمِ سُجُودِ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السُّجُودُ هُنَا بِمَعْنَى الرُّكُوعِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: الْمَسْجِدُ مَكَانُ الرُّكُوعِ، يَقْصِدُ مِنْ هَذَا وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً وَمِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَارِئَ لِلسَّجْدَةِ يَرْكَعُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «1» . تَتَجافى جُنُوبُهُمْ: أَيْ تَرْتَفِعُ وَتَتَنَحَّى، يُقَالُ: جَفَا الرَّجُلُ الْمَوْضِعَ: تَرَكَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: نَبِيٌّ تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين الْمَضَاجِعُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالرُّمَّانِيُّ: التَّجَافِي: التَّنَحِّي إِلَى جِهَةِ فَوْقَ. وَالْمَضَاجِعُ: أَمَاكِنُ الِاتِّكَاءِ لِلنَّوْمِ، الْوَاحِدُ مَضْجَعٌ، أَيْ هُمْ مُنْتَبِهُونَ لَا يَعْرِفُونَ نَوْمًا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهَذَا التَّجَافِي صَلَاةُ النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ، ذَكَرَ قِيَامَ اللَّيْلِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِالْآيَةِ، يَعْنِي الرَّسُولَ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: تَجَافِي الْجَنْبِ: هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ التَّهَجُّدُ وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ وَعَطَاءٌ: هُوَ الْعَتَمَةُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: نَزَلَتْ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُدْعَى الْعَتَمَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ: التَّنَفُّلُ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، يَدْعُونَ: حَالٌ، أَوْ مُسْتَأْنَفٌ خَوْفًا وَطَمَعًا، مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ: الِابْتِهَالُ إِلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا أُخْفِيَ لَهُمْ، فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحَمْزَةُ، والأعمش، ويعقوب: بسكون لياء، فِعْلًا مُضَارِعًا لِلْمُتَكَلِّمِ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَا نُخْفِي، بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا: أَخْفَيْتُ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مَا أَخْفَى، فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ قُرَّةِ، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَوْفٌ الْعُقَيْلِيُّ: مِنْ قُرَّاتِ، عَلَى الْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ والأعمش وما أُخْفِيَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، فَيَكُونُ تَعْلَمُ مُتَعَلِّقُهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، إِنْ كَانَ تَعْلَمُ مِمَّا عُدِّيَ لِوَاحِدٍ وَفِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ إِنْ كَانَتْ تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وتقدم تفسيره في قُرَّتُ عَيْنٍ «2» في الفرقان. وَفِي الْحَدِيثِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ على قلب

_ (1) سورة ص: 38/ 24. (2) سورة الفرقان: 25/ 74.

بشر، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ إِلَى آخره. وفَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ: نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الأنفس مما ادّخرا لله تَعَالَى لِأُولَئِكَ، وَأَخْفَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلَائِقِهِ مِمَّا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، وَهَذِهِ عِدَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَبْلُغُ الْأَفْهَامَ كُنْهَهَا، بَلْ وَلَا تَفَاصِيلَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخْفَوُا الْيَوْمَ أَعْمَالًا فِي الدُّنْيَا، فَأَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَهُوَ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَحَسَمَ أَطْمَاعَ الْمُتَمَنِّينَ. انْتَهَى، وَهَذِهِ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَالْوَلِيدِ بْنِ عقبة. تلاحيا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: أَنَا أَذْلَقُ مِنْكَ لِسَانًا، وَأَحَدُّ سِنَانًا، وَأَرَدُّ لِلْكَتِيبَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اسْكُتْ، فَإِنَّكَ فَاسِقٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَنَزَلَتْ عَامَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْفَاسِقِينَ، فَتَنَاوَلَتْهُمَا وَكُلَّ مَنْ فِي مِثْلِ حَالِهِمَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَالنَّحَّاسُ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَكِّيَّةً، لِأَنَّ عُقْبَةَ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا قُتِلَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، مُنْصَرَفَ بَدْرٍ. وَالْجَمْعُ فِي لَا يَسْتَوُونَ، وَالتَّقْسِيمُ بَعْدَهُ، حُمِلَ عَلَى مَعْنَى مِنْ. وَقِيلَ: لَا يَسْتَوُونَ لِاثْنَيْنِ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْفَاسِقُ، وَالتَّثْنِيَةُ جَمْعٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَنُزُولُ الْآيَةِ فِي عَلِيٍّ وَالْوَلِيدِ، ثُمَّ بَيَّنَ انْتِفَاءَ الِاسْتِوَاءِ بِمَقَرِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِفْرَادِ. وَالْجُمْهُورُ: جَنَّاتُ بِالْجَمْعِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَأْوِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ. وَقِيلَ: هِيَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُزُلًا بِضَمِّ الزَّايِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِإِسْكَانِهَا. وَالنُّزُلُ: عَطَاءُ النَّازِلِ، ثُمَّ صَارَ عَامًّا فِيمَا يُعَدُّ لِلضَّيْفِ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا: أَيْ بِالْكُفْرِ، فَمَأْواهُمُ النَّارُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: فَجَنَّةُ مَأْوَاهُمُ النَّارُ، أَيِ النَّارُ لَهُمْ مَكَانُ جَنَّةِ الْمَأْوَى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . انْتَهَى وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَإِنَّمَا يُذْهَبُ إِلَى مِثْلِ فَبَشِّرْهُمْ إِذَا كَانَ مُصَرَّحًا بِهِ فَيَقُولُ: قَامَ مَقَامَ التَّبْشِيرِ الْعَذَابُ، وَكَذَلِكَ قَامَ مَقَامَ التَّحِيَّةِ ضَرْبٌ وَجِيعٌ. أَمَّا أَنْ تُضْمِرَ شَيْئًا لِكَلَامٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ جَارٍ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى إِضْمَارٍ، فَلَيْسَ بجيد. والْعَذابِ الْأَدْنى، قَالَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَصَائِبُ الدُّنْيَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: هُوَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ، نَحْوَ يَوْمِ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 34.

بَدْرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَتْلُ وَالْجُوعُ لِقُرَيْشٍ، وَعَنْهُ: إِنَّهُ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: هُوَ السُّنُونُ الَّتِي أَجَاعَهُمُ اللَّهِ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ الْحُدُودُ. وَقَالَ أُبَيٌّ أَيْضًا: هُوَ الْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَالدُّخَانُ. والْعَذابِ الْأَكْبَرِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَفِي التَّحْرِيرِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ الْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَالْأَسْرُ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ خُرُوجُ الْمَهْدِيِّ بِالسَّيْفِ. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَعَلَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ يَتُوبُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ الرُّجُوعَ وَيَطْلُبُونَهُ لِقَوْلِهِ: فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً. وَسُمِّيَتْ إِرَادَةُ الرُّجُوعِ رُجُوعًا، كَمَا سُمِّيَتْ إِرَادَةُ الْقِيَامِ قِيَامًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «1» . انْتَهَى. وَيُقَابِلُ الْأَدْنَى: الْأَبْعَدُ، وَالْأَكْبَرَ: الْأَصْغَرُ. لَكِنَّ الْأَدْنَى يَتَضَمَّنُ الْأَصْغَرَ، لِأَنَّهُ مُنْقَضٍ بِمَوْتِ الْمُعَذَّبِ وَالتَّخْوِيفِ، إِنَّمَا يَصْلُحُ بِمَا هُوَ قَرِيبٌ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْعَاجِلُ. وَالْأَكْبَرُ يَتَضَمَّنُ الْأَبْعَدَ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّخْوِيفُ بِالْبَعِيدِ إِنَّمَا يَصْلُحُ بِذِكْرِ عِظَمِهِ وَشِدَّتِهِ، فَحَصَلَتِ الْمُقَابَلَةُ مِنْ حَيْثُ التَّضَمُّنِ، وَخَرَجَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ آكَدُ فِي التَّخْوِيفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ صَحَّ تَفْسِيرُ الرُّجُوعِ بِالتَّوْبَةِ؟ وَلَعَلَّ مِنَ اللَّهِ إِرَادَةً، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ شَيْئًا كَانَ وَلَمْ يَمْتَنِعْ، وَتَوْبَتُهُمْ مِمَّا لَا يَكُونُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا يَكُونُ لَمْ يَكُونُوا ذَائِقِينَ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ؟ قُلْتُ: إِرَادَةُ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِ وَأَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ كَانَ، وَلَمْ يَمْنَعْ لِلِاقْتِدَارِ وَخُلُوصِ الدَّاعِي وَأَمَّا أَفْعَالُ عِبَادِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَهَا وَهُمْ مُخْتَارُونَ لَهَا وَمُضْطَرُّونَ إِلَيْهَا بِقَسْرِهِ وَإِلْجَائِهِ، فَإِنْ أَرَادَهَا وَقَدَّرَهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ أَفْعَالِهِ، وَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى أَنْ يَخْتَارُوهَا وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَارُونَهَا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي اقْتِدَارِهِ، كَمَا لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِدَارِكَ إِرَادَتُكَ أَنْ يَخْتَارَ عَبْدُكَ طَاعَتَكَ، وَهُوَ لَا يَخْتَارُهَا، لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِكَ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ دَالًّا عَلَى عَجْزِكَ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا. ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ لِلِاسْتِبْعَادِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ مِثْلِ آيَاتِ اللَّهِ فِي وُضُوحِهَا وَإِنَارَتِهَا وَإِرْشَادِهَا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَالْفَوْزَ بِالسَّعَادَةِ الْعُظْمَى بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِهَا مُسْتَبْعَدٌ فِي العقل

_ (1) سورة المائدة: 5/ 6.

وَالْعَادَةِ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: وَجَدْتَ مِثْلَ تِلْكَ الْفُرْصَةِ، ثُمَّ لَمْ تَنْتَهِزْهَا اسْتِبْعَادًا لِتَرْكِهِ الِانْتِهَازَ، وَمِنْهُ ثُمَّ فِي بَيْتِ الشَّاعِرِ: وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا اسْتَبْعَدَ أَنْ يَزُورَ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ بَعْدَ أَنْ رَآهَا وَاسْتَيْقَنَهَا وَاطَّلَعَ عَلَى شِدَّتِهَا. انْتَهَى. مِنَ الْمُجْرِمِينَ: عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ أَجْرَمَ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ بِجِهَةِ الْأَوْلَوِيَّةِ مَنْ كَانَ أَظْلَمَ ظَالِمٍ وَالْإِجْرَامُ هُنَا هُوَ: الْكُفْرُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُفَيْعٍ: هِيَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ، وَقَرَأَ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إِلَى قَوْلِهِ: بِقَدَرٍ «1» . وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ أَجْرَمَ: مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، وَمَنْ نَصَرَ ظَالِمًا» . وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ. لَمَّا قَرَّرَ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ: الرِّسَالَةَ، وَبَدْءَ الْخَلْقِ، وَالْمَعَادَ، عَادَ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِدْعًا فِي الرِّسَالَةِ، إِذْ قَدْ سَبَقَ قَبْلَكَ رُسُلٌ. وَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقُرْبِ زَمَانِهِ، وَإِلْزَامًا لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى، لِأَنَّ مُعْظَمَ شَرِيعَتِهِ مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلِأَنَّ أَتْبَاعَ مُوسَى لَا يُوَافِقُونَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَتْبَاعَ عِيسَى مُتَّفِقُونَ عَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى. والْكِتابَ: التَّوْرَاةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فِي مُرْيَةٍ، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى، مُضَافًا إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ ضمير الرسول، أَيْ مِنْ لِقَائِكَ مُوسَى، أَيْ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، أَيْ شَاهَدْتَهُ حَقِيقَةً، وَهُوَ النبي الَّذِي أُوتِيَ التَّوْرَاةَ، وَقَدْ وصفه الرسول فَقَالَ: «آدَمُ طُوَالٌ جَعْدٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ حِينَ رَآهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ» ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: حِينَ امْتُحِنَ الزَّجَّاجُ بهذه المسألة.

_ (1) سورة القمر: 54/ 47- 49.

وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ، فَإِمَّا مُضَافٌ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنْ لِقَاءِ الْكِتَابِ مُوسَى وَوُصُولِهِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا بِالْعَكْسِ، أَيْ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى الْكِتَابِ وَتَلَقِّيهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ، أَيْ مِنْ لِقَاءِ مِثْلِهِ، أَيْ: إِنَّا آتَيْنَاكَ مِثْلَ مَا آتَيْنَا مُوسَى، وَلَقَّنَّاكَ بِمِثْلِ مَا لُقِّنَ مِنَ الْوَحْيِ، فَلَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ أَنَّكَ لُقِّنْتَ مِثْلَهُ وَلَقِيتَ نَظِيرَهُ، وَنَحْوُهُ مِنْ لِقَائِهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ «1» . وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعُودُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْقَوْلُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ الَّتِي لَقِيَ مُوسَى، وَذَلِكَ أَنَّ إِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى هَذَا الْعِبْءَ الَّذِي أَنْتَ بِسَبِيلِهِ، فَلَا تَمْتَرِ أَنَّكَ تُلَقَّى مَا لَقِيَ هُوَ مِنَ الْمِحْنَةِ بِالنَّاسِ. انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا، مَنْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ: أَيْ مِنْ لِقَاءِ الْبَعْثِ، وَهَذِهِ أَنْقَالٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُنَا عَنْ نَقْلِهَا، وَلَكِنْ نَقَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ، فَاتَّبَعْنَاهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي وَجَعَلْناهُ لِمُوسَى، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: لِلْكِتَابِ، جَعَلَهُ هَادِيًا مِنَ الضَّلَالَةِ وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَبَّدْ بِمَا فِيهَا وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ: أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَئِمَّةً: قَادَةً يُقْتَدَى بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا صَبَرُوا، بِفَتْحِ اللَّامِ وَشَدِّ الْمِيمِ. وَعَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَرُوَيْسٌ: بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَكانُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صَبَرُوا، فَيَكُونَ دَاخِلًا فِي التَّعْلِيقِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى وَجَعَلْنا مِنْهُمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا: بِمَا صَبَرُوا، بِبَاءِ الْجَرِّ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ ظَاهِرُهُ يُعُودُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْفَصْلُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعُمُّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ إِعْرَابًا وَقِرَاءَةً وَتَفْسِيرًا فِي طه، إِلَّا أَنَّ هُنَا: مِنْ قَبْلِهِمْ ويَسْمَعُونَ، وهناك: قَبْلِهِمْ، ولِأُولِي النُّهى «2» . وَيَسْمَعُونَ، وَالنُّهَى مِنَ الْفَوَاصِلِ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ: أَقَامَ تَعَالَى الْحُجَّةَ عَلَى الْكَفَرَةِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُهْلِكُوا، ثُمَّ أَقَامَهَا عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى الْبَعْثِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجُرُزِ فِي الكهف، وكل أرض جزر دَاخِلَةٌ فِي هَذَا، فَلَا تَخْصِيصَ لَهَا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَرْضُ أَبْيَنَ مِنَ الْيَمَنِ، وَهِيَ أَرْضٌ تُشْرَبُ بِسُيُولٍ لا تمطر. وقرىء:

_ (1) سورة النمل: 27/ 6. (2) سورة طه: 20/ 128.

الْجُرْزِ، بِسُكُونِ الرَّاءِ. فَنُخْرِجُ بِهِ: أَيْ بِالْمَاءِ، وَخَصَّ الزَّرْعَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَالْعُشْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فِي الطِّبِّ وَغَيْرِهِ، تَشْرِيفًا لِلزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُقْصَدُ مِنَ النَّبَاتِ، وَأَوْقَعَ الزَّرْعَ مَوْقِعَ النَّبَاتِ. وَقُدِّمَتِ الْأَنْعَامُ، لِأَنَّ مَا يَنْبُتُ يَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ أَوَّلَ فَأَوَّلَ، مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْكُلَ بنو آدَمَ الْحَبَّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَصِيلَ، وَهُوَ شَعِيرٌ يُزْرَعُ، تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ قَبْلَ أَنْ يُسْبِلَ وَالْبِرْسِيمُ وَالْفِصْفِصَةُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ تُبَادِرُهُ الْأَنْعَامُ بِالْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ بَنُو آدَمَ حَبَّ الزَّرْعِ، أَوْ لِأَنَّهُ غِذَاءُ الدَّوَابِّ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَتَغَذَّى بِغَيْرِهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ بَدَأَ بِالْأَدْنَى ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الْأَشْرَفِ، وَهُمْ بَنُو آدَمَ؟ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو بكر في رواية: يَأْكُلُ، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُبْصِرُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَابْنُ مَسْعُودٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَجَاءَتِ الْفَاصِلَةُ: أَفَلا يُبْصِرُونَ، لِأَنَّ مَا سَبَقَ مَرْئِيٌّ، وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهُ مَسْمُوعٌ، فَنَاسَبَ: أَفَلا يَسْمَعُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الْكَفَرَةِ، بِاسْتِعْجَالِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بينهم وبين الرسول عَلَى مَعْنَى الْهُزْءِ وَالتَّكْذِيبِ. والْفَتْحُ: الْحُكْمُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَخْ، وَيَضْعُفُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: فَتْحُ مَكَّةَ، لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِمَا بَعْدَهُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، إِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ: أَيْ لَا يُؤَخَّرُونَ عَنِ الْعَذَابِ. وَلَمَّا عَرَفَ غَرَضَهُمْ فِي سُؤَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ، وَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَسْتَعْجِلُوا به ولا تستهزؤا، فَكَأَنْ قَدْ حَصَلْتُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَآمَنْتُمْ، فَلَمْ يَنْفَعْكُمُ الْإِيمَانُ، وَاسْتَنْظَرْتُمْ فِي حُلُولِ الْعَذَابِ، فَلَمْ تُنْظَرُوا، فيوم منصوب بلا يَنْفَعُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَانْتِظَارِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ. إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ لِلْغَلَبَةِ عَلَيْكُمْ لِقَوْلِهِ: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «1» ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الْعَذَابَ، أَيْ هَذَا حُكْمُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَشْعُرُونَ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: مُنْتَظَرُونَ، بِفَتْحِ الظَّاءِ، اسْمَ مَفْعُولٍ وَالْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا، اسْمَ فَاعِلٍ، أَيْ مُنْتَظِرٌ هَلَاكَهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَحِقَّاءُ أَنْ يُنْتَظَرَ هَلَاكُهُمْ، يَعْنِي: إِنَّهُمْ هَالِكُونَ لَا مَحَالَةَ، أَوْ: وَانْتَظِرْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي السماء ينتظرونه.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 52. [.....]

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 73] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبا

الْجَوْفُ: مَعْرُوفُ، وَجَمْعُهُ أَجْوَافٌ. يَثْرِبُ: مَدِينَةُ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: أَرْضُ الْمَدِينَةِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا. الْحَنْجَرَةُ: رَأْسُ الْغَلْصَمَةِ، وَهِيَ مُنْتَهَى الْحُلْقُومِ وَالْحُلْقُومُ: مَدْخَلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. الْأَقْطَارُ: النَّوَاحِي، وَاحِدُهَا قُطْرٌ، وَيُقَالُ: قُتْرٌ بِالتَّاءِ، لُغَةٌ فِيهِ. عُوِّقَ عَنْ كَذَا: تُثُبِّطَ عَنْهُ. سَلَقَهُ: اجْتَرَأَ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ، وَيُقَالُ: صَلَقَهُ بِالصَّادِ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَصَلَقْنَا فِي مُرَادٍ صَلْقَةً وصداء لحقتهم بِالثَّلَلْ وَقِيلَ: سَلَقَهُ: خَاطَبَهُ مُخَاطَبَةً بَلِيغَةً، وَمِنْهُ خَطِيبٌ سَلَّاقٌ وَمِسْلَاقٌ، وَلِسَانٌ سَلَّاقٌ ومسلاق. السحب: النُّذُرُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْتَقِدُ الْوَفَاءَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: عَشِيَّةَ فر الحارثون بعيد ما ... قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القوم هزبر

وَقَالَ جَرِيرٌ: بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ أَيْ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ الْتُزِمَ الْقِيَامُ بِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمَوْتُ نَحْبًا. الصَّيَاصِي: الْحُصُونُ، وَاحِدُهَا صِيصَيَةٌ، وَهِيَ كُلُّ مَا يُمْتَنَعُ بِهِ. وَيُقَالُ لقرن الصور وَالظَّبْيِ، وَلِشَوْكَةِ الدِّيكِ، وَهِيَ مِخْلَبُهُ الَّذِي فِي سَاقِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَصَّنُ بِهِ. وَالصَّيَاصِي أَيْضًا: شَوْكُ الْحَاكَةِ، وَيُتَّخَذُ مِنْ حَدِيدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: كَوَقْعِ الصَّيَاصِي فِي النَّسِيجِ الْمُمَدَّدِ الْأُسْوَةُ: الْقُدْوَةُ، وَتُضَمُّ هَمْزَتُهُ وَتُكْسَرُ، وَيَتَأَسَّى بِفُلَانٍ: يَقْتَدِي بِهِ وَالْأُسْوَةُ مِنَ الِائْتِسَاءِ، كَالْقُدْوَةِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ: اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ. التَّبَرُّجُ، قَالَ اللَّيْثُ: تَبَرَّجَتْ: أَبْدَتْ مَحَاسِنَهَا مِنْ وَجْهِهَا وَجَسَدِهَا، وَيُرَى مَعَ ذَلِكَ مِنْ عَيْنِهَا حُسْنُ نَظَرٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تُخْرِجُ مَحَاسِنَهَا مِمَّا تَسْتَدْعِي بِهِ شَهْوَةَ الرِّجَالِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَرَجِ فِي عَيْنِهِ وَفِي أَسْنَانِهِ، بَرَجٌ: أَيْ سِعَةٌ. الْوَطَرُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَالْأَرَبِ، وَأَنْشَدَ لِلرَّبِيعِ بْنِ أَصْبُغُ: وَدَّعْنَا قَبْلَ أَنْ نُوَدِّعَهُ ... لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْوَطَرُ: الشَّهْوَةُ وَالْمَحَبَّةُ، يُقَالُ: مَا قَضَيْتُ مِنْ لِقَائِكَ وَطَرًا، أَيْ مَا اسْتَمْتَعْتُ بِكَ حَتَّى تَشْتَهِيَ نَفْسِي وَأَنْشَدَ: وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ الْجِلْبَابُ: ثَوْبٌ أَكْبَرُ مِنَ الْخِمَارِ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً، وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً،

وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً، لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ نِدَاءَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ «1» ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِمَةِ وَالتَّنْوِيهِ بِمَحَلِّهِ وَفَضِيلَتِهِ، وَجَاءَ نِدَاءُ غَيْرِهِ باسمه، كقوله: يا آدَمُ «2» ، يا نُوحُ «3» ، يا إِبْراهِيمُ «4» ، يا مُوسى «5» ، يا داوُدُ «6» ، يا عِيسى «7» . وَحَيْثُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَسُولُهُ، صَرَّحَ بِاسْمِهِ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «8» ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ «9» ، أَعْلَمَ أَنَّهُ رَسُولُهُ، وَلَقَّنَهُمْ أَنْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ. وَحَيْثُ لَمْ يَقْصِدِ الْإِعْلَامَ بِذَلِكَ، جَاءَ اسْمُهُ كَمَا جَاءَ فِي النِّدَاءِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «10» ، وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ «11» ، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ «12» ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَأَمَرَهُ بِالتَّقْوَى لِلْمُتَلَبِّسِ بِهَا، أَمَرَ بِالدَّيْمُومَةِ عَلَيْهَا وَالِازْدِيَادِ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ، وَإِذَا كَانَ هُوَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِالْأَمْرِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُ لَفْظًا، وَهُوَ لِأُمَّتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ يُحِبُّ إِسْلَامَ الْيَهُودِ، فَبَايَعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ عَلَى النِّفَاقِ، وَكَانَ يَلِينُ لَهُمْ جَانِبُهُ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ النَّصَائِحَ فِي طُرُقِ الْمُخَادَعَةِ، وَلِحَلِفِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى ائْتِلَافِهِمْ رُبَّمَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ، فَنَزَلَتْ تَحْذِيرًا لَهُ مِنْهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ قَدِمُوا فِي الْمُوَادَعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بن أبي، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بْنُ قَيْسٍ فَقَالُوا لَهُ: ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَقُلْ: إِنَّهَا تَشْفَعُ وَتَنْفَعُ، وَنَدَعُكَ وَرَبَّكَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَنَاسَبَ أَنْ نَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ، وَهُمُ الْمُتَظَاهِرُونَ بِهِ، وَعَنْ طَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبَطِّنُونَ الْكُفْرَ. فَالسَّبَبَانِ حَاوِيَانِ الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فِيمَا طَلَبُوا إِلَيْكَ. وَرُوِيَ أَنَّ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 41- 67. (2) سورة البقرة: 2/ 33. (3) سورة هود: 11/ 32. (4) سورة هود: 11/ 76. (5) سورة البقرة: 2/ 55. (6) سورة ص: 38/ 26. (7) سورة آل عمران: 3/ 55. (8) سورة الفتح: 48/ 29. (9) سورة آل عمران: 3/ 144. (10) سورة التوبة: 9/ 128. (11) سورة الفرقان: 25/ 30. (12) سورة الأحزاب: 33/ 6.

أَهْلَ مَكَّةَ دَعَوْهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِهِمْ، وَيُعْطُوهُ شَطْرَ أَمْوَالِهِمْ، وَيُزَوِّجَهُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ بِنْتَهُ وَخَوَّفَهُ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْفَتْحَ، وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمْ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ، فَأَمَرَهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَنَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا أَرَادُوا بِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً: عَلِيمًا بِالصَّوَابِ مِنَ الْخَطَأِ، وَالْمَصْلَحَةِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ حَكِيمًا لَا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مَوَاضِعَهَا مَنُوطَةً بِالْحِكْمَةِ أَوْ عَلِيمًا حَيْثُ أَمَرَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنَّهَا تَكُونُ عَنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ، حَكِيمًا حَيْثُ نَهَى عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ، أَيْ عَلِيمًا بِمَنْ يَتَّقِي، حَكِيمًا فِي هَدْيِ مَنْ شَاءَ وَإِضْلَالِ مَنْ شَاءَ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَتَرْكِ مَرَاسِيمِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِمَا يَعْمَلُونَ، الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَجَازَ فِي الْأُولَى أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِتَفْوِيضِ أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَفى بِاللَّهِ فِي أَوَّلِ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي فِهْرٍ رَجُلٌ فِيهِمْ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَعْمَرٍ جَمِيلُ بْنُ أَسَدٍ، وَقِيلَ: حُمَيْدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ جُمَحَ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: وَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بعد ما ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ، وَيُقَالُ لَهُ: ذُو الْقَلْبَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أَذْكَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَفْهَمُ فَلَمَّا بَلَغَتْهُ هَزِيمَةُ بَدْرٍ طَاشَ لُبُّهُ وَحَدَّثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِحَدِيثٍ كَالْمُخْتَلِّ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ جَمَاعَةٌ، يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: نَفْسٌ تَأْمُرُنِي وَنَفْسٌ تَنْهَانِي. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَهُ قَلْبَانِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي شَيْءٍ، فَنَزَعَ فِي غَيْرِهِ نَزْعَةً ثُمَّ عَادَ إِلَى شَأْنِهِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ كُلِّ أَحَدٍ. قِيلَ: وَجْهُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالتَّقْوَى، كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ تَقْوَى غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ لَيْسَ لَهُ قَلْبَانِ يَتَّقِي بِأَحَدِهِمَا اللَّهَ وَبِالْآخَرِ غَيْرَهُ، وَهُوَ لَا يَتَّقِي غَيْرَهُ إِلَّا بِصَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ جِهَةِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ. انْتَهَى، مُلَخَّصًا. وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ قَلْبَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الْآخَرُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَحَدِهِمَا، أَوْ غَيْرَهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى اتِّصَافِ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ مُرِيدًا كَارِهًا عَالِمًا ظَانًّا شَاكًّا مُوقِنًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَذُكِرَ الْجَوْفُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجَوْفِ، زِيَادَةً

لِلتَّصْوِيرِ وَالتَّجَلِّي لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «1» . فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ، صَوَّرَ لِنَفْسِهِ جَوْفًا يَشْتَمِلُ عَلَى قَلْبَيْنِ يُسْرِعُ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ: لَمْ يَجْعَلْ تَعَالَى الزَّوْجَةَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أُمًّا، لِأَنَّ الْأُمَّ مَخْدُومَةٌ مَخْفُوضٌ لَهَا جَنَاحُ الذُّلِّ، وَالزَّوْجَةَ مُسْتَخْدَمَةٌ مُتَصَرَّفٌ فِيهَا بِالِاسْتِفْرَاشِ وَغَيْرِهِ كَالْمَمْلُوكِ، وَهُمَا حَالَتَانِ مُتَنَافِيَتَانِ. وَقَرَأَ قَالُونُ وَقُنْبُلٌ: اللَّائِي هُنَا، وَفِي الْمُجَادِلَةِ والطلاق: بالهمز مِنْ غَيْرِ يَاءٍ وَوَرْشٌ: بِيَاءٍ مُخْتَلِسَةِ الْكَسْرَةِ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ بَدَلٌ مَسْمُوعٌ لَا مَقِيسٌ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْهَمْزِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تُظاهِرُونَ بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ، وَفِي الْمُجَادِلَةِ: بِالْيَاءِ لِلْغَيْبَةِ، مُضَارِعَ ظَاهَرَ وَبِشَدِّ الظَّاءِ وَالْهَاءِ: الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَبِشَدِّ الظَّاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا: ابْنُ عَامِرٍ وَبِتَخْفِيفِهَا وَالْأَلِفِ: حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَوَافَقَ ابْنُ عَامِرٍ الْآخَرِينَ فِي الْمُجَادِلَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ فِيهَا بِشَدِّهَا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الظَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، مُضَارِعَ أَظْهَرَ وَفِيمَا حَكَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْهُ: بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، لِحَذْفِهِمْ تَاءَ الْمُطَاوَعَةِ وَشَدِّ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُظْهِرُونَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَشَدِّ الْهَاءِ، مُضَارِعَ ظَهَّرَ، مُشَدَّدِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ هَارُونُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: تُظْهِرُونَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ وَسُكُونِ الظَّاءِ، مُضَارِعَ ظَهَرَ، مُخَفَّفِ الْهَاءِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: تَتَظَهَّرُونَ، بِتَاءَيْنِ. فَتِلْكَ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ، وَالْمَعْنَى: قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَتِلْكَ الْأَفْعَالُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: لَبَّى الْمُحْرِمُ إِذَا قَالَ لَبَّيْكَ، وَأَفَّفَ إِذَا قَالَ أُفٍّ. وَعُدِّيَ الْفِعْلُ بِمِنْ، لِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَتَجَنَّبُونَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا، كَمَا يَتَجَنَّبُونَ الْمُطَلَّقَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَبَاعَدَ مِنْهَا بِجِهَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ، أَيْ مِنِ امْرَأَتِهِ. لَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّبَاعُدِ، عُدِّيَ بِمِنْ، وَكَنَّوْا عَنِ الْبَطْنِ بِالظَّهْرِ إِبْعَادًا لِمَا يُقَارِبُ الْفَرْجَ، وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ: يَحْرُمُ إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ وَظَهْرُهَا لِلسَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: يَجِيءُ الْوَلَدُ إِذْ ذَاكَ أَحْوَلَ، فَبَالَغُوا فِي التَّغْلِيظِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَشَبَّهَهَا بِالظَّهْرِ، ثُمَّ بَالَغَ فَجَعَلَهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ. وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنْ كَلْبٍ سُبِيَ صَغِيرًا، فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ، فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ بِفِدَائِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ بعثة رسول الله، فَأَعْتَقَهُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ الْآيَةَ: وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الإسلام إذا تبنى

_ (1) سورة الحج: 22/ 46.

الرَّجُلُ وَلَدَ غَيْرِهِ صَارَ يَرِثُهُ. وَأَدْعِيَاءُ: جَمْعُ دَعِيٍّ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، جَاءَ شَاذًّا، وَقِيَاسُهُ فَعْلَى، كَجَرِيحٍ وَجَرْحَى، وَإِنَّمَا هَذَا الْجَمْعُ قِيَاسُ فَعِيلٍ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، نَحْوُ: تَقِيٍّ وَأَتْقِيَاءَ. شَبَّهُوا أَدْعِيَاءَ بِتَقِيٍّ، فَجَمَعُوهُ جَمْعَهُ شُذُوذًا، كَمَا شَذُّوا فِي جَمْعِ أَسِيرٍ وَقَتِيلٍ فَقَالُوا: أُسَرَاءَ وَقُتَلَاءَ، وَقَدْ سُمِعَ الْمَقِيسُ فِيهِمَا فَقَالُوا: أَسْرَى وَقَتْلَى. وَالْبُنُوَّةُ تَقْتَضِي التَّأَصُّلَ فِي النَّسَبِ، وَالدَّعْوَةُ إِلْصَاقَ عَارِضٍ بِالتَّسْمِيَةِ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ أَصِيلًا غَيْرَ أَصِيلٍ. ذلِكُمْ: أَيْ دُعَاؤُهُمْ أَبْنَاءَ مُجَرَّدُ قَوْلٍ لَا حَقِيقَةَ لِمَدْلُولِهِ، إِذْ لَا يُوَاطِئُ اللَّفْظُ الِاعْتِقَادَ، إِذْ يُعْلَمُ حَقِيقَةً أَنَّهُ لَيْسَ ابْنَهُ. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ: أَيْ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ: أَيْ سَبِيلَ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، أَوْ سَبِيلَ الشَّرْعِ وَالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَهْدِي مُضَارِعَ هَدَى وَقَتَادَةُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَشَدِّ الدَّالِ. وأَقْسَطُ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَاخِرِ الْبَقَرَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَعْدَلُ. وَلَمَّا أَمَرَ بِأَنْ يُدْعَى الْمُتَبَنَّى لِأَبِيهِ إِنْ عُلِمَ قَالُوا: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمَوالِيكُمْ وَلِذَلِكَ قَالُوا: سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ، فَأَنَا أَخُوكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوْلَاكُمْ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَلَوْ عَلِمَ وَاللَّهِ أَبَاهُ حِمَارًا لَانْتَمَى إِلَيْهِ، وَرِجَالُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ فِيهِ: نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ مُتَعَمِّدًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، قِيلَ: رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِيمَا كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَطَأِ مَا كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ. وَقِيلَ: فِيمَا سَبَقَ إِلَيْهِ اللِّسَانُ. إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْغَلَطِ، إِنْ كَانَ سَبَقَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ النَّهْيِ، فَجَرَى ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ غَلَطًا، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّحَنُّنِ وَالشَّفَقَةِ، إِذْ كَثِيرًا مَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِلصَّغِيرِ: يَا بُنَيَّ، كَمَا يَقُولُ لِلْكَبِيرِ: يَا أَبِي، عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ. وما عَطْفٌ عَلَى مَا أَخْطَأْتُمْ، أَيْ وَلَكِنَّ الْجُنَاحَ فِيمَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فِيهِ الْجُنَاحَ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لِلْعَامِدِ إِذَا تَابَ، رَحِيماً حَيْثُ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُخْطِئِ. وَكَوْنُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: أَيْ أَرْأَفُ بِهِمْ وَأَعْطَفُ عَلَيْهِمْ، إِذْ هُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّجَاةِ، وَأَنْفُسُهُمْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا تَقَحُّمَ الْفَرَاشِ» . وَمِنْ حَيْثُ يَنْزِلُ لَهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَبِ. وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، يَعْنِي فِي الدِّينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ نَبِيٍّ أَبُو أُمَّتِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ لُوطٍ عَلَيْهِ

السَّلَامُ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي، إِنَّهُ أَرَادَ الْمُؤْمِنَاتِ، أَيْ بَنَاتُهُ فِي الدِّينِ وَلِذَلِكَ جَاءَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» ، أَيْ فِي الدِّينِ. وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ هَلَكَ وَتَرَكَ مَالًا، فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَإِلَيَّ» . قِيلَ: وَأَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ: أَيْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يُقَيِّدْ. فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحُكْمُهُ أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِهَا، وَحُقُوقُهُ آثَرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي حَقِّهِ. انْتَهَى. وَلَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: الْمُؤْمِنُونَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ: أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ فِي التَّوْقِيرِ وَالِاحْتِرَامِ. وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَيْنَ فِيهِ مَجْرَى الْأَجَانِبِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ: كُلُّ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَنْ طَلَّقَهَا وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ لِمُطَلَّقَةٍ. وَقِيلَ: مَنْ دَخَلَ بِهَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا قَطْعًا. وَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَكَحَتْ بَعْدَهُ، فَقَالَتْ لَهُ: وَلِمَ هَذَا، وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ حِجَابًا، وَلَا سُمِّيتُ لِلْمُسْلِمِينَ أُمًّا؟ فَكَفَّ عَنْهَا. كَانَ أَوَّلًا بِالْمَدِينَةِ، تَوَارُثٌ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَبِالْهِجْرَةِ، ثُمَّ حَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ أَحَقُّ بِالتَّوَارُثِ مِنَ الْأَخِ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ بِالْهِجْرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ، أَيْ أَوْلَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ مِنْ هُنَا كَهِيَ فِي: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِأُولِي الْأَرْحَامِ، أَيِ الْأَقْرِبَاءُ مِنْ هَؤُلَاءِ، بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَرِثَ بَعْضًا مِنَ الْأَجَانِبِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: إِلى أَوْلِيائِكُمْ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِهِ، مِنْ قَرِيبٍ وَأَجْنَبِيٍّ، مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، يُحْسِنُ إِلَيْهِ وَيَصِلُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَيُوصِي لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالرُّمَّانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِلى أَوْلِيائِكُمْ، مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَسِيَاقُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُؤْمِنِينَ يُعَضِّدُ هَذَا، لَكِنَّ وِلَايَةَ النَّسَبِ لَا تُدْفَعُ فِي الْكَافِرِ، إِنَّمَا تُدْفَعُ فِي أَنْ تُلْقِيَ إِلَيْهِ بِالْمَوَدَّةِ، كَوَلِيِّ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا هُوَ مِمَّا يُفْهَمُ مِنَ الكلام، أي: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي النَّفْعِ بِمِيرَاثٍ وَغَيْرِهِ. وعدى بإلى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تُوصِلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ، كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا في

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 10. [.....]

الْآيَتَيْنِ. فِي الْكِتابِ: إِمَّا اللَّوْحُ، وَإِمَّا الْقُرْآنُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. مَسْطُوراً: أَيْ مُثْبَتًا بِالْأَسْطَارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْخَاتِمَةِ، لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ أَحْكَامٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فِيهَا أَشْيَاءُ مِمَّا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَشْيَاءُ فِي الْإِسْلَامِ نسخت. أتبعه بقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ: أَيْ فِي تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَلَسْتُ بِدْعًا فِي تَبْلِيغِكَ عَنِ اللَّهِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسْطُورًا، أَيْ مَسْطُورًا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَحِينَ أَخَذْنَا. وَقِيلَ: الْعَامِلُ: وَاذْكُرْ حِينَ أَخَذْنَا، وَهَذَا الْمِيثَاقُ هُوَ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، لَا مِنْ خَوْفٍ وَلَا طَمَعٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أُخِذَ مِيثَاقُهُمْ بِالتَّبْلِيغِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِتَصْدِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالْإِعْلَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِعْلَانِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَقْتَ اسْتِخْرَاجِ الْبَشَرِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَالذَّرِّ، قَالُوا: فَأَخَذَ اللَّهُ حِينَئِذٍ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ بِالتَّبْلِيغِ وَتَصْدِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَبِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ النُّبُوَّةُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَخُصَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي جُمْلَةِ النَّبِيِّينَ. وَقِيلَ: هُمْ أُولُو الْعَزْمِ لِشَرَفِهِمْ وَفَضْلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقُدِّمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا. وَقُدِّمَ نُوحٌ فِي آيَةِ الشُّورَى فِي قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً «1» الْآيَةَ، لِأَنَّ إِيرَادَهُ عَلَى خِلَافِ. الْإِيرَادِ، فَهُنَاكَ أَوْرَدَهُ عَلَى طَرِيقِ وَصْفِ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأَصَالَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: شَرَعَ لَكُمُ الدِّينَ الْأَصِيلَ الَّذِي بُعِثَ عَلَيْهِ نُوحٌ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَبُعِثَ عَلَيْهِ محمد خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعَهْدِ الْحَدِيثِ، وَبُعِثَ عَلَيْهِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَشَاهِيرِ. وَالْمِيثَاقُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَكُرِّرَ لِأَجْلِ صِفَتِهِ. وَالْغِلَظُ: مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ، وَاسْتُعِيرَ لِلْمَعْنَى مُبَالَغًا فِي حُرْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَثِقَلِ فَرْطِ تَحَمُّلِهِ. وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ: الْيَمِينُ بِاللَّهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا حَمَلَهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَسْئَلَ، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، أَيْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِيَصِيرَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ، أَيْ بَعَثْنَا الرُّسُلَ وَأَخَذْنَا عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ فِي التَّبْلِيغِ، لِكَيْ يَجْعَلَ اللَّهُ خَلْقَهُ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً يَسْأَلُهَا عَنْ صِدْقِهَا عَلَى مَعْنَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَتُجِيبُ بِأَنَّهَا قَدْ صَدَقَتِ اللَّهَ فِي إِيمَانِهَا وَجَمِيعِ أَفْعَالِهَا، فَيُثِيبُهَا عَلَى ذَلِكَ وَفِرْقَةً كَفَرَتْ، فَيَنَالُهَا مَا أَعَدَّ لَهَا مِنَ الْعَذَابِ. فَالصَّادِقُونَ عَلَى هَذَا الْمَسْئُولُونَ هُمُ: الْمُؤْمِنُونَ. وَالْهَاءُ فِي صِدْقِهِمْ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَفْعُولُ صِدْقِهِمْ محذوف

_ (1) سورة الشورى: 42/ 13.

تَقْدِيرُهُ: عَنْ صِدْقِهِمْ عَهْدَهُ. أَوْ يَكُونُ صِدْقِهِمْ فِي مَعْنَى: تَصْدِيقِهِمْ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَنْ تَصْدِيقِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِلصَّادِقِ صَدَقْتَ، كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ. أَوْ لِيَسْأَلَ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِي أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمَهُمْ، حَكَاهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَوْ لِيَسْأَلَ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ أَوْ لِيَسْأَلَ الْأَنْبِيَاءَ عَنْ تَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ، أَيْ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُسْأَلُونَ، فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُمْ؟ وقال مجاهد أيضا: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ، أَرَادَ الْمُؤَدِّينَ عَنِ الرُّسُلِ. انْتَهَى. وَسُؤَالُ الرُّسُلِ تَبْكِيتٌ لِلْكَافِرِينَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» ، وَقَالَ تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «2» . وَأَعَدَّ: مَعْطُوفٌ عَلَى أَخَذْنا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَكَّدَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الدُّعَاءَ إِلَى دِينِهِ لِأَجْلِ إِثَابَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً، أَوْ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَثَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ مَا أُثِيبَ بِهِ الصَّادِقُونَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَذُكِرَتِ الْعِلَّةُ وَحُذِفَ مِنَ الثَّانِي الْعِلَّةُ، وَذُكِرَ مَا عُوقِبُوا بِهِ. وَكَانَ التَّقْدِيرُ: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، فَأَثَابَهُمْ وَيَسْأَلَ الْكَافِرِينَ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ «3» ، وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «4» ، فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الثَّانِي، وَمِنَ الثَّانِي مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ بَلِيغَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «5» ، وَأَمْعَنَّا الْكَلَامَ هُنَاكَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً، وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 116. (2) سورة الأعراف: 7/ 6. (3) سورة القصص: 28/ 65- 66. (4) سورة الإنسان: 76/ 31. (5) سورة البقرة: 2/ 171.

لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً، يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ أَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَدِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ أَهِلُ السِّيَرِ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْآيَاتِ التي نفسرها. وإذ معمولة لنعمة، أَيْ إِنْعَامَهُ عَلَيْكُمْ وَقْتَ مَجِيءِ الْجُنُودِ، وَالْجُنُودُ كَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ، قُرَيْشٌ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْأَحَابِيشِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ يَقُودُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَبَنُو أَسَدٍ يَقُودُهُمْ طُلَيْحَةُ، وَغَطَفَانُ يَقُودُهُمْ عُيَيْنَةُ، وَبَنُو عَامِرٍ يَقُودُهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَسُلَيْمٌ يَقُودُهُمْ أَبُو الْأَعْوَرِ، وَالْيَهُودُ النَّضِيرُ رُؤَسَاؤُهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَابْنَا أَبِي الْحُقَيْقِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ سَيِّدُهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرسول عَهْدٌ، فَنَبَذَهُ بِسَعْيِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. وَقِيلَ: فَاجْتَمَعُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَهُمُ الْأَحْزَابُ، وَنَزَلُوا الْمَدِينَةَ، فَحَفَرُوا الخندق بإشارة سليمان، وظهرت للرسول بِهِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ كَسْرِ الصَّخْرَةِ الَّتِي أَعْوَزَتِ الصَّحَابَةَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، ظَهَرَتْ مَعَ كُلِّ فِرْقَةٍ بُرْقَةٌ، أَرَاهُ اللَّهُ مِنْهَا مَدَائِنَ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنَ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنَ الْحَبَشَةِ وَمَا حَوْلَهَا وَبُشِّرَ بِفَتْحِ ذَلِكَ، وَأَقَامَ الذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ بِالْآطَامِ، وَخَرَجَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَنَزَلُوا بِظَهْرِ سَلْعٍ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ خَمْسٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ مَالِكٌ: سَنَةَ أَرْبَعٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَجُنُودًا، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ. بَعَثَ اللَّهُ الصَّبَا لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ، فَأَضَرَّتْ بِهِمْ هَدَمَتْ بُيُوتَهُمْ، وَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ، وَقَطَعَتْ حِبَالَهُمْ، وَأَكْفَأَتْ قُدُورَهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مَعَهَا قَرَارٌ. وَبَعَثَ اللَّهُ مَعَ الصَّبَا مَلَائِكَةٌ تُشَدِّدُ الرِّيحَ وَتَفْعَلُ نَحْوَ فِعْلِهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَمْ يَرَوْهَا، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْجُمْهُورُ: بِتَاءِ الْخِطَابِ. مِنْ فَوْقِكُمْ: مِنْ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ قِبَلِ مَشْرِقِ غَطَفَانَ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ: من أسفل الوادي منه قِبَلِ الْمَغْرِبِ، وَقُرَيْشٌ تَحَزَّبُوا وَقَالُوا: نَكُونُ جُمْلَةً حَتَّى

نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ فَوْقِكُمْ، يُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ مَعَ عُيَيْنَةَ بْنِ حصن، ومِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، يُرِيدُ مَكَّةَ وَسَائِرَ تِهَامَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يُرَادُ مَا يَخْتَصُّ بِبُقْعَةِ الْمَدِينَةِ، أَيْ نَزَلَتْ طَائِفَةٌ فِي أَعْلَى الْمَدِينَةِ، وَطَائِفَةٌ فِي أَسْفَلِهَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، أَيْ جَاءُوكُمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذْ جَاءُوكُمْ مُحِيطِينَ بِكُمْ، كَقَوْلِهِ: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «1» ، الْمَعْنَى: يَغْشَاهُمْ مُحِيطًا بِجَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ. وَزَيْغُ الْأَبْصَارِ: مَيْلُهَا عَنْ مُسْتَوَى نَظَرِهَا، فِعْلُ الْوَالِهِ الْجَزِعِ. وَقَالَ الفراء: زاغت عن كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَّا إِلَى عَدُوِّهَا. وَبُلُوغُ القلوب الْحَنَاجِرَ: مُبَالَغَةٌ فِي اضْطِرَابِهَا وَوَجِيبِهَا، دُونَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ مَقَرِّهَا إِلَى الْحَنْجَرَةِ. وَقِيلَ: بَحَّتِ الْقُلُوبُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ، فَيَتَّصِلُ وَجِيبُهَا بِالْحَنْجَرَةِ، فَكَأَنَّهَا بَلَغَتْهَا. وَقِيلَ: يَجِدُ خُشُونَةً وَقَلْبُهُ يَصْعَدُ عُلُوًّا لِيَنْفَصِلَ، فَالْبُلُوغُ لَيْسَ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: الْقَلْبُ عِنْدَ الْغَضَبِ يَنْدَفِعُ، وَعِنْدَ الْخَوْفِ يَجْتَمِعُ فَيَتَقَلَّصُ بِالْحَنْجَرَةِ. وَقِيلَ: يُفْضِي إِلَى أَنْ يَسُدَّ مَخْرَجَ النَّفَسِ، فَلَا يَقْدِرُ الْمَرْءُ أَنْ يَتَنَفَّسَ، وَيَمُوتُ خَوْفًا، وَمِثْلُهُ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ «2» . وَقِيلَ: إِذَا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالْغَضَبِ، أَوِ الْغَمِّ الشَّدِيدِ، رَبَتْ وَارْتَفَعَ الْقَلْبُ بِارْتِفَاعِهَا إِلَى رَأْسِ الْحَنْجَرَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لِلْجَبَانِ، انْتَفَخَ سَحْرُهُ. وَالظُّنُونُ: جَمْعٌ لِمَا اخْتَلَفَتْ مُتَعَلِّقَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ مَنْ جَمَعَ الْمَصْدَرَ إِذَا اخْتَلَفَتْ مُتَعَلِّقَاتُهُ، وَيَنْقَاسُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَاءَ الظُّنُونُ جَمْعًا فِي أَشْعَارِهِمْ، أَنْشَدَ أَبُو عَمْرٍو فِي كِتَابِ الْأَلْحَانِ: إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا فَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ حَقٌّ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَظْهِرُونَ وَظَنَّ الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ مُضْطَرِبُهُ، وَالْمُنَافِقُونَ أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ سَيُغْلَبُونَ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَشْمَلُهُمُ الضَّمِيرُ فِي وَتَظُنُّونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ظَنُّوا ظُنُونًا مُخْتَلِفَةً، ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُسْتَأْصَلُونَ، وَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ يُبْتَلُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ يَكَادُونَ يَضْطَرِبُونَ، وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا الْخُلْفُ لِلْوَعْدِ؟ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ خَوَاطِرَ خَطَرَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَا يُمْكِنُ الْبَشَرَ دَفْعُهَا. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَعَجَّلُوا وَنَطَقُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الثُّبْتُ الْقُلُوبِ بِاللَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ وَيَفْتِنَهُمْ، فَخَافُوا الزَّلَلَ وَضَعْفَ الِاحْتِمَالِ وَالضِّعَافُ الْقُلُوبِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى حَرْفٍ وَالْمُنَافِقُونَ ظَنُّوا بِاللَّهِ مَا حَكَى عنهم، وكتب: الظنونا والرسولا والسبيلا فِي الْمُصْحَفِ بِالْأَلِفِ، فَحَذَفَهَا حَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَقْفًا ووصلا وابن كثير،

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 55. (2) سورة غافر: 40/ 18.

وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: بِحَذْفِهَا وَصْلًا خَاصَّةً وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْحُذَّاقُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِالْأَلِفِ، وَلَا يُوصَلَ، فَيُحْذَفُ أَوْ يُثْبَتُ، لِأَنَّ حَذْفَهَا مُخَالِفٌ لِمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مَصَاحِفُ الأمصار، ولأن إثباتها في الْوَصْلَ مَعْدُومٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، نَظْمِهِمْ وَنَثْرِهِمْ، لَا فِي اضْطِرَارٍ وَلَا غَيْرِهِ. أَمَّا إِثْبَاتُهَا فِي الْوَقْفِ فَفِيهِ اتِّبَاعُ الرَّسْمِ وَمُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ مَذَاهِبِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْأَلِفَ فِي قَوَافِي أَشْعَارِهِمْ وَفِي تَصَارِيفِهَا، وَالْفَوَاصِلُ فِي الْكَلَامِ كَالْمَصَارِعِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هِيَ رؤوس الْآيِ، تُشَبَّهُ بِالْقَوَافِي مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَقَاطِعَ، كَمَا كانت القوافي مقاطع. وهُنالِكَ: ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ هَذَا أَصْلُهُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْحِصَارُ وَالْقِتَالُ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْعَامِلُ فِيهِ ابْتُلِيَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنالِكَ ظَرْفُ زَمَانٍ قَالَ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ وَتَظُنُّونَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِالْقَوِيِّ، لِأَنَّ الْبَدَاءَةَ لَيْسَتْ مُتَمَكِّنَةً. وَابْتِلَاؤُهُمْ، قَالَ الضَّحَّاكُ: بِالْجُوعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْحِصَارِ. وَقِيلَ: بِالصَّبْرِ عَلَى الْإِيمَانِ. وَزُلْزِلُوا، قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: حُرِّكُوا بِالْخَوْفِ. وَقِيلَ زُلْزِلُوا، فَثَبَتُوا وَصَبَرُوا حَتَّى نُصِرُوا. وَقِيلَ: حُرِّكُوا إِلَى الْفِتْنَةِ فَعُصِمُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَزُلْزِلُوا، بِضَمِّ الزَّايِ. وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى اللُّؤْلُؤِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِكَسْرِ الزَّايِ، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: إِشْمَامُ زَايِ زُلْزِلُوا. انْتَهَى، كَأَنَّهُ يَعْنِي: إِشْمَامَهَا الْكَسْرَ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الزَّايِ الْأُولَى بِحَرَكَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّاكِنِ، كَمَا يَعْتَدُّ بِهِ مَنْ قَالَ: مِنْتِنٌ، بِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ التَّاءِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَنْتَنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زِلْزالًا، بِكَسْرِ الزَّايِ وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى: بِفَتْحِهَا، وَكَذَا: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَمَصْدَرُ فَعْلَلَ مِنَ الْمُضَاعَفِ يَجُوزُ فِيهِ الْكَسْرُ وَالْفَتْحُ نَحْوُ: قَلْقَلَ قَلْقَالًا. وَقَدْ يُرَادُ بِالْمَفْتُوحِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، فَصَلْصَالٌ بِمَعْنَى مُصَلْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضَاعَفٍ، فَمَا سُمِعَ مِنْهُ عَلَى فِعْلَانٍ، مَكْسُورِ الْفَاءِ نَحْوُ: سَرْهَفَهُ سِرْهَافًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ: وَهُمُ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِيمَانِ الْمُبْطِنُونَ الْكُفْرَ. وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: هُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ عَلَى حَرْفٍ، وَالْعَطْفُ دَالٌّ عَلَى التَّغَايُرِ، نُبِّهَ عَلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ. لَمَّا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّخْرَةَ، وَبَرَقَتْ تِلْكَ الْبَوَارِقُ، وَبَشَّرَ بِفَتْحِ فَارِسَ وَالرُّومِ وَالْيَمَنِ وَالْحَبَشَةِ، قَالَ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أَنْ نَفْتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَكَّةَ، وَنَحْنُ لَا يَقْدِرُ أَحَدُنَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى

الْغَائِطِ، مَا يَعِدُنَا إِلَّا غُرُورًا، أَيْ أَمْرًا يَغُرُّنَا وَيُوقِعُنَا فِيمَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَحْوَ ذَلِكَ. وقولهم: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ، إِذْ لَوِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ رَسُولٌ حَقِيقَةً مَا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَالْمَعْنَى: وَرَسُولُهُ عَلَى زَعْمِكُمْ وَزَعْمِهِ، وَفِي مُعَتِّبٍ وَنُظَرَائِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، لَا مُقامَ لَكُمْ فِي حَوْمَةِ الْقِتَالِ وَالْمُمَانَعَةِ، فَارْجِعُوا إِلَى بُيُوتِكُمْ وَمَنَازِلِكُمْ، أَمَرُوهُمْ بِالْهَرَبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فَارْجِعُوا كُفَّارًا إِلَى دِينِكُمُ الْأَوَّلِ وَأَسْلِمُوهُ إِلَى أَعْدَائِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَالْقَائِلُ لِذَلِكَ عبد الله بن أبي ابْنِ سَلُولَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَنُو مَسْلَمَةَ. وَقَالَ أَوْسُ بْنُ رُومَانَ: أَوْسُ بن قبطي وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَنُو حَارِثَةَ. وَيُمْكِنُ صِحَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُنَافِقًا. لَا مُقامَ لَكُمْ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَالْيَمَانِيُّ وَحَفْصٌ: بِضَمِّ الْمِيمِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا، أَيْ لَا مَكَانَ إِقَامَةٍ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ لَا إِقَامَةَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ، وَطَلْحَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، وَاحْتَمَلَ أَيْضًا الْمَكَانَ، أَيْ لامكان قِيَامٍ، وَاحْتَمَلَ الْمَصْدَرَ، أَيْ لَا قِيَامَ لَكُمْ. وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ: هُوَ أوس بن قبطي، اسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ. يَقُولُونَ: حَالٌ، أَيْ قَائِلِينَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ: أَيْ مُنْكَشِفَةٌ لِلْعَدُوِّ، وَقِيلَ: خَالِيَةٌ لِلسُّرَّاقِ، يُقَالُ: أَعْوَرَ الْمَنْزِلُ: انْكَشَفَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَهُ الشِّدَّةُ الْأُولَى إِذَا الْقَرْنُ أَعْوَرَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرِيقُ بَنُو حَارِثَةَ، وَهُمْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ، اعْتَذَرُوا بِأَنَّ بُيُوتَهُمْ مُعَرَّضَةٌ لِلْعَدُوِّ، مُمْكَنَةٌ لِلسُّرَّاقِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْرَزَةٍ وَلَا مُحَصَّنَةٍ، فَاسْتَأْذَنُوهُ لِيُحَصِّنُوهَا ثُمَّ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْفِرَارَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو طَالُوتَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: عورة وبعوزة، بِكَسْرِ الْوَاوِ فِيهِمَا وَالْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْفِيفُ عَوْرَةٌ وَبِالْكَسْرِ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: صِحَّةُ الْوَاوِ فِي هَذَا إِشَارَةٌ لِأَنَّهَا مُتَحَرِّكَةٌ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ. انْتَهَى. فَيَعْنِي أَنَّهَا تَنْقَلِبُ أَلِفًا، فَيُقَالُ: عَارَةٌ، كَمَا يَقُولُ: رَجُلٌ مَالٌ، أَيْ مُمَوَّلٌ. وَإِذَا كَانَ عَوْرَةٌ اسْمَ فَاعِلٍ، فَهُوَ مِنْ عَوِرَ الَّذِي صَحَّتْ عَيْنُهُ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ كَذَلِكَ تَصِحُّ عَيْنُهُ، فَلَا تَكُونُ صِحَّةُ الْعَيْنِ عَلَى هَذَا شُذُوذًا. وَقِيلَ: السُّكُونُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَالْبَيْتُ الْعَوِرُ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ الْمُعَرَّضُ

لِمَنْ أَرَادَ سُوءًا. وَقَالَ الزَّجَّاجَ: عَوِرَ الْمَكَانُ يَعْوَرُ عَوَرًا وَعَوْرَةً فَهُوَ عَوِرٌ، وَبُيُوتٌ عَوْرَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَعْوَرَ الْمَنْزِلُ: بَدَا مِنْهُ عَوْرَةٌ، وَأَعْوَرَ الْفَارِسُ: كَانَ فِيهِ مَوْضِعُ خَلَلٍ لِلضَّرْبِ وَالطَّعْنِ. قَالَ الشَّاعِرُ: مَتَّى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي الْبَيْتِ مُعْوِرًا ... وَلَا الضَّيْفَ مَسْحُورًا وَلَا الْجَارَ مُرْسِلَا قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَوْرَةٌ: خَالِيَةٌ مِنَ الرِّجَالِ ضَائِعَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَاصِيَةٌ، يُخْشَى عَلَيْهَا الْعَدُوُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَصِيرَةُ الْحِيطَانِ، يُخَافُ عَلَيْهَا السُّرَّاقُ. وقال الليث: العورة: سوءة الْإِنْسَانِ، وَكُلُّ أَمْرٍ يُسْتَحَيَا مِنْهُ فَهُوَ عَوْرَةٌ، يُقَالُ: عَوْرَةٌ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَالْجَمْعُ كَالْمَصْدَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعَبْدِ الله ابن أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا الَّذِي يَحْمِلُكُمْ عَلَى قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ بِيَدِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ؟ فَارْجِعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً: مِنَ الدِّينِ، وَقِيلَ: مِنَ الْقَتْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَرَجَعَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالضَّمِيرُ فِي: دُخِلَتْ، الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى الْبُيُوتِ، إِذْ هُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. قِيلَ: أَوْ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَيْ وَلَوْ دَخَلَهَا الْأَحْزَابُ الَّذِينَ يَفِرُّونَ خَوْفًا مِنْهَا وَالثَّالِثُ عَلَى أَهَالِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ. ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ: أَيِ الرِّدَّةَ وَالرُّجُوعَ إِلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ وَمُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ. لَآتَوْها: أَيْ لَجَاءُوا إِلَيْهَا وَفَعَلُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْقَصْرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: لَآتَوْهَا بِالْمَدِّ، أَيْ لَأَعْطَوْهَا. وَما تَلَبَّثُوا بِها: وَمَا لَبِثُوا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ارْتِدَادِهِمْ إِلَّا يَسِيراً، فَإِنَّ اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ دُخِلَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَاشْتَدَّ الْحَرْبُ الْحَقِيقِيُّ، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وَالْحَرْبَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَطَارُوا إِلَيْهَا وَأَتَوْهَا مُجِيبِينَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَلَبَّثُوا فِي بُيُوتِهِمْ لِحِفْظِهَا إِلَّا يَسِيرًا، قِيلَ: قَدْرُ مَا يَأْخُذُونَ سِلَاحَهُمْ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سئلوا، وقرأ الحسن: سولوا، بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ الْمَضْمُومَةِ، قَالُوا: وَهِيَ مِنْ سال يسال، كخاف يَخَافُ، لُغَةٌ مِنْ سَأَلَ الْمَهْمُوزِ الْعَيْنِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: هُمَا يَتَسَاوَلَانِ. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا الهمز، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سولوا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ فِي ضَرَبَ ضَرْبَ، ثُمَّ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا وَاوًا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي بُؤْسٍ بُوسٌ، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْأَعْمَشِ: سِيلُوا، بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، نَحْوُ: قِيلَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: سُوئِلُوا، بِوَاوٍ بَعْدَ السِّينِ الْمَضْمُومَةِ وَيَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ: أَيِ الْقِتَالَ فِي الْعَصَبِيَّةِ، لَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ

الْحَسَنُ: الْفِتْنَةُ، الشِّرْكُ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ بِهَا عَلَى الْفِتْنَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى المدينة. وعاهَدُوا: أُجْرِيَ مَجْرَى الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ يَتَلَقَّى بِقَوْلِهِ: لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ. وَجَوَابُ هَذَا الْقَسَمِ جَاءَ عَلَى الْغَيْبَةِ عَنْهُمْ عَلَى الْمَعْنَى: وَلَوْ جَاءَ كَمَا لَفَظُوا بِهِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: لَا نُوَلِّي الْأَدْبَارَ. وَالَّذِينَ عَاهَدُوا: بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو مَسْلَمَةَ، وَهُمَا الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ هَمَّا بِالْفَشَلِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَوَقَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ ذَلِكَ الِاسْتِئْذَانُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاهَدُوا بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَنْ يمنعوه مما يمنعون منهم أَنْفُسَهُمْ. وَقِيلَ: نَاسٌ غَابُوا عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالُوا: لَئِنْ أَشْهَدَنَا اللَّهُ قِتَالًا لَنُقَاتِلَنَّ مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ: كِنَايَةً عَنِ الْفِرَارِ وَالِانْهِزَامِ، سُئِلُوا مَطْلُوبًا مُقْتَضًى حَتَّى يُوَفَّى بِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ: خِطَابُ تَوْبِيخٍ وَإِعْلَامٍ أَنَّ الْفِرَارَ لَا يُنْجِي مِنَ الْقَدَرِ، وَأَنَّهُ تَنْقَطِعُ أَعْمَارُهُمْ فِي يسير مِنَ الْمُدَّةِ، وَالْيَسِيرُ: مُدَّةُ الْآجَالِ، قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خيثم: وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ، أَوِ الْقَتْلِ، لَا يَنْفَعُكُمُ الْفِرَارُ، لِأَنَّ مَجِيءَ الْأَجَلِ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَإِذَا هُنَا تَقَدَّمَهَا حَرْفُ عَطْفٍ، فَلَا يَتَحَتَّمُ إِعْمَالُهَا، بَلْ يَجُوزُ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: وإذا لا يلبثوا خلفك «1» فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، بِحَذْفِ النون. ومعنى خلفك: أَيْ بَعْدَ فِرَاقِهِمْ إِيَّاكَ. وقَلِيلًا: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، أَوْ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا. وَمَرَّ بَعْضُ الْمَرْوَانِيَّةِ عَلَى حَائِطٍ مَائِلٍ فَأَسْرَعَ، فَتُلِيَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: ذَلِكَ الْقَلِيلُ نَطْلُبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تُمَتَّعُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَقُرِئَ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. ومَنْ ذَا: اسْتِفْهَامٌ، رُكِّبَتْ ذَا مَعَ مَنْ وَفِيهِ مَعْنَى النَّفْيُ، أَيْ لَا أَحَدَ يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جُعِلَتِ الرَّحْمَةُ قَرِينَةَ السُّوءِ فِي الْعِصْمَةِ، وَلَا عِصْمَةَ إِلَّا مِنَ السُّوءِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَوْ يُصِيبُكُمْ بِسُوءٍ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ وَأُجْرِيَ مَجْرَى قَوْلِهِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا أَوْ حَمْلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِمَا فِي الْعِصْمَةِ مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ. انْتَهَى. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ حَذْفُ جُمْلَةٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى حَذْفِهَا، وَالثَّانِي هُوَ الْوَجْهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا قُدِّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ مُرَادِ الله. والقائلين لإخوانهم كانوا، أي

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 76: وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ ... الآية.

الْمُنَافِقُونَ، يُثَبِّطُونَ إِخْوَانَهُمْ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْصَارِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ: مَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا أَكَلَةَ رَأْسٍ، وَلَوْ كَانُوا لَحْمًا لَالْتَهَمَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَخَلُّوهُمْ. وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، كَانُوا يَقُولُونَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: تَعَالَوْا إِلَيْنَا وَكُونُوا مَعَنَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: انْصَرَفَ رَجُلٌ من عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَوَجَدَ شَقِيقُهُ عِنْدَهُ سَوِيقٌ وَنَبِيذٌ، فَقَالَ: أَنْتَ هَاهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ؟ فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَيْهِ، فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ وَبِصَاحِبِكَ. وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَا يَسْتَقْبِلُهَا مُحَمَّدٌ أَبَدًا، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، وَلَأُخْبِرَنَّهُ بِأَمْرِكَ. فَذَهَبَ لِيُخْبِرَهُ، فَوَجَدَ جِبْرِيلُ قَدْ نَزَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: هِيَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي، ومعتب بن قشير، وَمَنْ رَجَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْخَنْدَقِ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَإِذَا جَاءَهُمُ الْمُنَافِقُ قَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ اجْلِسْ وَلَا تَخْرُجْ، وَيَكْتُبُونَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ فِي الْعَسْكَرِ أَنِ ائْتُونَا فَإِنَّا نَنْتَظِرُكُمْ. وَكَانُوا لَا يَأْتُونَ الْعَسْكَرَ إِلَّا أَنْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ إِتْيَانِهِ، فَيَأْتُونَ لِيَرَى النَّاسُ وُجُوهَهُمْ، فَإِذَا غُفِلَ عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَتْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَلُمَّ «1» فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَلُمُّوا إِلَيْنَا، أَيْ قَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: وَهُوَ صَوْتٌ سُمِّيَ بِهِ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ مِثْلُ: احْضُرْ وَاقْرُبْ. انْتَهَى. وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ هَلُمَّ لَيْسَ صَوْتًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مُخْتَلَفٌ فِي أَصْلِ تَرْكِيبِهِ فَقِيلَ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَلُمَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: مِنْ هَلْ وَأَمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: سُمِّيَ بِهِ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ قُدِّرَ هَلُمَّ إِلَيْنا: أَيْ قَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَيْنَا وَالنَّحْوِيُّونَ: أَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ فَالْمُتَعَدِّي كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ «2» : أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ، وَاللَّازِمُ كَقَوْلِهِ: هَلُمَّ إِلَيْنا، وَأَقْبِلُوا إِلَيْنَا. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ: أَيِ الْقِتَالَ، إِلَّا قَلِيلًا. يَخْرُجُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، يُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَلَا نَرَاهُمْ يُقَاتِلُونَ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. وَقِلَّتُهُ إِمَّا لِقِصَرِ زَمَانِهِ، وَإِمَّا لِقِلَّةِ عِقَابِهِ، وَإِنَّهُ رِيَاءٌ وَتَلْمِيعٌ لَا تَحْقِيقٌ. أَشِحَّةً: جَمْعُ شَحِيحٍ، وَهُوَ الْبَخِيلُ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا يَنْقَاسُ، وَقِيَاسُهُ فِي الصِّفَةِ الْمُضَعَّفَةِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ فُعَلَاءُ نَحْوَ: خَلِيلٍ وَأَخِلَّاءٍ فَالْقِيَاسُ أَشِحَّاءٌ، وَهُوَ مَسْمُوعٌ أَيْضًا، وَمُتَعَلِّقُ الشُّحِّ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِأَحْوَالِهِمْ، أَوْ بِأَمْوَالِهِمْ فِي النَّفَقَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ بِالْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْقَسْمِ، أَقْوَالٌ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يَعُمَّ شُحُّهُمْ كُلَّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ، أَضِنَّاءَ بِكُمْ، يَتَرَفْرَفُونَ عَلَيْكُمْ، كَمَا يَفْعَلُ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 150. (2) سورة الأنعام: 6/ 150.

الرجال بِالذَّابِّ عَنِ الْمُنَاضِلِ دُونَهُ عِنْدَ الْخَوْفِ. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا يَنْظُرُ الْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَالَجَةِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، حَذَرًا وَخَوَرًا وَلَوَاذًا، فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ وَحِيزَتِ الْغَنَائِمُ وَوَقَعَتِ الْقِسْمَةُ، نَقَلُوا ذَلِكَ الشُّحَّ وَتِلْكَ الضِّنَّةَ وَالرَّفْرَفَةَ عَلَيْكُمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمَالُ وَالْغَنِيمَةُ وَسُوءُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْأَوْلَى، وَاجْتَرَءُوا عَلَيْكُمْ وَضَرَبُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَقَالُوا: وَفِّرُوا قِسْمَتَنَا، فَإِنَّا قَدْ شَاهَدْنَاكُمْ وَقَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَبِمَكَانِنَا غَلَبْتُمْ عَدُوَّكُمْ، وَبِنَا نُصِرْتُمْ عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَتَحْمِيلٌ لِلَفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَعَادَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَشِحَّةً، بِالنَّصْبِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَى الذَّمِّ، وَأَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يُعَوِّقُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: حَالٌ مِنْ هَلُمَّ إِلَيْنا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَالٌ مِنْ وَلا يَأْتُونَ وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ الْمُعَوِّقِينَ وَقِيلَ: مِنَ الْقائِلِينَ، وَرَدَ الْقَوْلَانِ بِأَنَّ فِيهِمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَمَا هُوَ مِنْ تَمَامِ صِلَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَشِحَّةً، بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُمْ أَشِحَّةٌ. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَتُوُقِّعَ أَنْ يُسْتَأْصَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، لَاذَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ بِكَ يَنْظُرُونَ نَظَرَ الْهَلُوعِ الْمُخْتَلِطِ النَّظَرِ، الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. وتَدُورُ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ دَائِرَةٌ أَعْيُنُهُمْ. كَالَّذِي: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُشَبَّهٌ، أَيْ دَوَرَانًا كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ. فَبَعْدَ الْكَافِ مَحْذُوفَانِ وَهُمَا: دَوْرَانٌ وَعَيْنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مِنْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، نَظَرًا كَنَظَرِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِذَا جَاءَ الْخَوْفُ مِنَ الْقِتَالِ، وَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في رؤوسهم، وَتَجُولُ وَتَضْطَرِبُ رَجَاءَ أَنْ يَلُوحَ لَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: فِي أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَسَبِّهِمْ وَتَنْقِيصِ الشَّرْعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي طَلَبِ الْعَطَاءِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقِيلَ: السَّلْقُ فِي مُخَادَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُرْضِيهِمْ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى جِهَةِ الْمُصَانَعَةِ وَالْمُجَامَلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَلَقُوكُمْ، بِالسِّينِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالصَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَشِحَّةً بِالرَّفْعِ، أَيْ هُمْ أَشِحَّةٌ وَالْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ سَلَقُوكُمْ، وَعَلَى الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الشُّحِّ فِي قَوْلِهِ أَوَّلًا: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: فِي هَذَا: أَشِحَّةً عَلَى مَالِ الْغَنَائِمِ. وَقِيلَ: عَلَى مَالِهِمُ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ. وَقِيلَ: عَلَى الرسول بِظَفَرِهِ. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، إِشَارَةٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ: أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَطُّ إِيمَانٌ. وَالْإِحْبَاطُ: عَدَمُ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ، فَكَانَتْ كَالْمُحْبَطَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَثْبُتُ لِلْمُنَافِقِ عَمَلٌ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ الْإِحْبَاطُ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ تَعْلِيمٌ لِمَنْ عَسَى يَظُنُّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ

إِيمَانٌ، وَإِنْ لَمْ يُوَاطِئْهُ الْقَلْبُ وَأَنَّ مَا يَعْمَلُهُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْأَعْمَالِ يُجْزَى عَلَيْهِ. فَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يُوجَدُ مِنْهُ بَاطِلٌ. انْتَهَى، وَفِي كَلَامِهِ اسْتِعْمَالُ عَسَى صِلَةً لِمَنْ، وَهُوَ لَا يَجُوزَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنِ أَبِيهِ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ بَدْرِيٍّ، نَافَقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي، فَأَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ، أَيِ الْإِحْبَاطُ، أَوْ حَالُهُمْ مِنْ شُحِّهِمْ وَنَظَرِهِمْ، يَسِيرًا لَا يُبَالَى بِهِ، وَلَا لَهُ أَثَرٌ فِي دَفْعِ خَيْرٍ، وَلَا عَلَيْهِ شَرٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى اللَّهِ يَسِيراً، مَعْنَاهُ: أَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَقِيقَةٌ بِالْإِحْبَاطِ، تَدْعُو إِلَيْهِ الدَّوَاعِي، وَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ صَارِفٌ. انْتَهَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ. يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْحَلُوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كَرَّةً ثَانِيَةً، تَمَنَّوْا لِخَوْفِهِمْ بِمَا مُنُوا بِهِ عِنْدَ الْكَرَّةِ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ فِي الْبَدْوِ مَعَ الْأَعْرَابِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَمُودِ، يَرْحَلُونَ مَنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، يَسْأَلُونَ مَنْ قَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَمَّا جَرَى عَلَيْكُمْ مِنْ قِتَالِ الْأَحْزَابِ، يَتَعَرَّفُونَ أَحْوَالَكُمْ بِالِاسْتِخْبَارِ، لَا بِالْمُشَاهَدَةِ، فَرَقًا وَجُبْنًا، وَغَرَضُهُمْ مِنَ الْبَدَاوَةِ أَنْ يَكُونُوا سَالِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قِتَالٌ لَمْ يُقَاتِلُوا إِلَّا قَلِيلًا، لِعِلَّةٍ وَرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ. قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: رَمْيًا بِالْحِجَارَةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بادُونَ، جمع سلامة لباد. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَطَلْحَةُ: بُدًّى عَلَى وَزْنِ فُعَّلٍ، كفاز وَغُزًّى، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ فِي مُعْتَلِّ اللَّامِ، بَلْ شُبِّهَ بِضَارِبٍ، وَقِيَاسُهُ فُعَلَةٌ، كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَدَا فِعْلًا مَاضِيًا وَفِي رِوَايَةِ صَاحِبِ الْإِقْلِيدِ: بَدِيٌّ بِوَزْنِ عَدِيٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْئَلُونَ، مُضَارِعَ سَأَلَ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو وعاصما والأعمش قرأوا: يَسَالُونَ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، نَحْوُ قَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ «1» ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي شَاذِّهِمَا وَنَقَلَهُمَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَيَعْقُوبُ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا: يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا سَمِعْتَ وَمَاذَا بَلَغَكَ؟ أَوْ يَتَسَاءَلُونَ الْأَعْرَابَ، كَمَا تَقُولُ: تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ. ثُمَّ سَلَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْهُمْ وَحَقَّرَ شَأْنَهُمْ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَوْ حَضَرُوا مَا أَغْنَوْا وَمَا قَاتَلُوا إِلَّا قِتَالًا قَلِيلًا. قَالَ: هُوَ قَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ رِيَاءٌ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 211.

كَثِيراً، وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ، لِقَوْلِهِ قَبْلُ: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ، وَقَوْلِهِ بَعْدُ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكُمْ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ. فَكَمَا نَصَرَكُمْ وَوَازَرَكُمْ حَتَّى قَاتَلَ بِنَفْسِهِ عَدُوَّكُمْ، فَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ الْكَرِيمَةُ، وَشُجَّ وَجْهُهُ الْكَرِيمُ، وَقُتِلَ عَمُّهُ، وَأُوذِيَ ضُرُوبًا مِنَ الْإِيذَاءِ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْصُرُوهُ وَتُوَازِرُوهُ، وَلَا تَرْغَبُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ مَكَانٍ هُوَ فِيهِ، وَتَبْذُلُوا أَنْفُسَكُمْ دُونَهُ فَمَا حَصَلَ لَكُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا تَفْعَلُونَهُ معه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ النُّصْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إن خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ. وَالْيَوْمَ الْآخِرَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: يَوْمَ السياق. وأُسْوَةٌ: اسم كان، ولَكُمْ: الْخَبَرُ، وَيَتَعَلَّقُ فِي رَسُولِ اللَّهِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكُمْ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ نعتا لأسوة، أو يتعلق بكان عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ فِي كَانَ وَأَخَوَاتِهَا النَّاقِصَةِ أَنْ تَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ الْخَبَرُ، ولكم تَبْيِينٌ، أَيْ لَكُمْ، أَعْنِي: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ مِنْ لَكُمْ، كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «1» . انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، اسْمٌ ظَاهِرٌ فِي بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَخْفَشُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وَأَمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلًا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِسْوَةٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَعَاصِمٌ بِضَمِّهَا. وَالرَّجَاءُ: بِمَعْنَى الْأَمَلِ أَوِ الْخَوْفِ. وَقَرَنَ الرَّجَاءَ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُؤْتَسِي بِرَسُولِ اللَّهِ، هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَاجِيًا ذَاكِرًا. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 75.

الْمُنَافِقِينَ وَقَوْلَهُمْ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلَهُمْ صدّ مَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ. وَكَانَ اللَّهُ وَعَدَهُمْ أَنْ يُزَلْزِلَهُمْ حَتَّى يَسْتَنْصِرُوهُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ «1» الْآيَةَ. فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَابُ، وَنَهَضَ بِهِمْ لِلْقِتَالِ، وَاضْطَرَبُوا، قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَيْقَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّصْرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّ الْأَحْزَابَ سَائِرُونَ إِلَيْكُمْ تِسْعًا أَوْ عَشْرًا» ، أَيْ فِي آخِرِ تِسْعِ لَيَالٍ أَوْ عَشْرٍ. فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قَدْ أَقْبَلُوا لِلْمِيعَادِ قَالُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْوَعْدُ هُوَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ مِمَّا وُعِدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَمَرَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُحْضَرُونَ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ سَيُنْصَرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَوُا الْأَحْزَابَ قَالُوا ذَلِكَ، فَسَلَّمُوا لِأَوَّلِ الْأَمْرِ، وَانْتَظَرُوا آخِرَهُ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْخَطْبِ، إِيمَانًا بِاللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ، كَقَوْلِكَ: فَتْحَ مَكَّةَ وَفَارِسَ وَالرُّومِ، فَالزِّيَادَةُ فِيمَا يُؤْمَنُ، لَا فِي نَفْسِ الْإِيمَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَمَا زَادُوهُمْ، بِالْوَاوِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ يَعُودُ عَلَى الْأَحْزَابِ، وَتَقُولُ: صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، وَصَدَقْتُ زَيْدًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ عُدَّتْ صَدَقَ هَذِهِ فِي مَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَأَصْلُهُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُتَّسَعُ فِيهِ فَيُحْذَفُ الْحَرْفُ وَيَصِلُ الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: صَدَقَنِي سن بكره، أي في سِنِّ بَكْرِهِ. فَمَا عَاهَدُوا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ فِيمَا عَاهَدُوا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: صَدَقُوا اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَقَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، كَمَا تَقُولُ: صَدَقَنِي أَخُوكَ إِذَا قَالَ لَكَ الصِّدْقَ، وَكَذَبَكَ أَخُوكَ إِذَا قَالَ لَكَ الْكَذِبَ. وَكَانَ الْمُعَاهَدُ عَلَيْهِ مَصْدُوقًا مَجَازًا، كَأَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُعَاهَدِ عَلَيْهِ: سَنَفِي لَكَ، وَهُمْ وَافُونَ بِهِ، فَقَدْ صَدَقُوهُ، وَلَوْ كَانُوا نَاكِثِينَ لَكَذَّبُوهُ، وَكَانَ مَكْذُوبًا. وَهَؤُلَاءِ الرِّجَالُ، قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ الْعَقَبَةِ السَّبْعُونَ، أَهْلُ الْبَيْعَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، فَعَاهَدُوا أَنْ لَا يَتَأَخَّرُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَفَوْا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ رُومَانَ: بَنُو حَارِثَةَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَهَذَا تَجَوُّزٌ، لِأَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ بِالْإِنْسَانِ، فَسُمِّيَ نَحْبًا لِذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَضَى نَحْبَهُ: أَيْ عَهْدَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَذْرَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، يَحْتَمِلُ مَوْتَهُ شَهِيدًا، وَيَحْتَمِلُ وَفَاءَهُ بِنَذْرِهِ مِنَ الثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَوْصُوفُونَ بِقَضَاءِ النَّحْبِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وفوا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 214. [.....]

بِعُهُودِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّمَامِ. فَالشُّهَدَاءُ مِنْهُمْ، وَالْعَشَرَةُ الَّذِينَ شهد لهم الرسول بِالْجَنَّةِ، مِنْهُمْ مَنْ حَصَّلَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بِمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، وَيُصَحِّحُ هذا القول رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ سُئِلَ مَنِ الَّذِي قَضَى نَحْبَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ؟ فَدَخَلَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ: إِذَا فُسِّرَ قَضَاءُ النَّحْبِ بِالشَّهَادَةِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشَّهَادَةَ وَإِذَا فُسِّرَ بِالْوَفَاءِ لِعُهُودِ الْإِسْلَامِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْحُصُولَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَنْتَظِرُ يَوْمًا فِيهِ جِهَادٌ، فَيَقْضِي نَحْبَهُ. وَما بَدَّلُوا: لَا الْمُسْتَشْهِدُونَ، وَلَا مَنْ يَنْتَظِرُ. وَقَدْ ثَبَتَ طَلْحَةُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أُصِيبَتْ يَدُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْجَبَ طَلْحَةُ» ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِمَنْ بَدَّلَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ حِينَ وَلَّوُا الْأَدْبَارَ، وَكَانُوا عَاهَدُوا لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ: أَيِ الَّذِينَ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، بِصِدْقِهِمْ: أَيْ بِسَبَبِ صِدْقِهِمْ. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ، وَعَذَابُهُمْ مُتَحَتَّمٌ. فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَهُوَ قَدْ شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ إِذَا وَفَوْا عَلَى النِّفَاقِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَعْذِيبُ الْمُنَافِقِينَ ثَمَرَتُهُ إِدَامَتُهُمُ الْإِقَامَةَ عَلَى النِّفَاقِ إِلَى مَوْتِهِمْ، وَالتَّوْبَةُ مُوَازِيَةٌ لِتِلْكَ الْإِقَامَةِ، وَثَمَرَةُ التَّوْبَةِ تَرْكُهُمْ دُونَ عَذَابٍ. فَهُمَا دَرَجَتَانِ: إِقَامَةٌ عَلَى نِفَاقٍ، أَوْ تَوْبَةٌ مِنْهُ. وَعَنْهُمَا ثَمَرَتَانِ: تَعْذِيبٌ، أَوْ رَحْمَةٌ. فَذَكَرَ تَعَالَى، عَلَى جِهَةِ الْإِيجَازِ، وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ، وَوَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ. وَدَلَّ مَا ذَكَرَ عَلَى مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ، وَيَدُلُّكَ عَلَى أن معنى قوله: وَيُعَذِّبَ، أَيْ: لِيُدِيمَ عَلَى النِّفَاقِ، قَوْلُهُ: إِنْ شاءَ، وَمُعَادَلَتُهُ بِالتَّوْبَةِ، وَحَذْفُ أَوِ. انْتَهَى. وَكَانَ مَا ذُكِرَ يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: لِيُقِيمُوا عَلَى النِّفَاقِ، فَيَمُوتُوا عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ فَيُعَذِّبُهُمْ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فَيَرْحَمَهُمْ. فَحُذِفَ سَبَبُ التَّعْذِيبِ، وَأُثْبِتَ الْمُسَبِّبُ، وَهُوَ التَّعْذِيبُ. وَأُثْبِتَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَحُذِفَ الْمُسَبِّبُ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالْغُفْرَانُ، وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُعَذِّبُهُمْ إِنْ شَاءَ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا، وَيَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِذَا تَابُوا. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ عَذَابِهِمْ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ شَاءَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ حَتْمًا لَا مَحَالَةَ. وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ، قِيلَ: لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَقِيلَ: لَامُ التَّعْلِيلِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الْمُنَافِقُونَ كَأَنَّهُمْ قَصَدُوا عَاقِبَةَ السُّوءِ وَأَرَادُوهَا بِتَبْدِيلِهِمْ، كَمَا قَصَدَ الصَّادِقُونَ عَاقِبَةَ الصِّدْقِ بِوَفَائِهِمْ، لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَسُوقٌ إِلَى عَاقِبَةٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكَأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي طَلَبِهِمَا وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهِمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى: إِنْ شَاءَ يُمِيتُهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ بِتَقَبُّلِهِمُ الْإِيمَانَ.

وَقِيلَ: يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْ شَاءَ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً: غفورا للحوية، رَحِيمًا بِقَبُولِ التَّوْبَةِ. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْأَحْزَابَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ. بِغَيْظِهِمْ: فَهُوَ حَالٌ، والباء للمصاحبة ولَمْ يَنالُوا: حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِغَيْظِهِمْ، فَيَكُونُ حَالًا مُتَدَاخِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ بَيَانًا لِلْأُولَى، أَوِ اسْتِئْنَافًا. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا بَيَانًا لِلْأُولَى، وَلَا لِلِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّهَا تَبْقَى كَالْمُفْلَتَةِ مِمَّا قَبْلَهَا. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، بِإِرْسَالِ الرِّيحِ وَالْجُنُودِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ، بَرَزُوا لِلْقِتَالِ وَدَعَوْا إِلَيْهِ. وَقَتَلَ عَلِيٌّ مِنَ الْكُفَّارِ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ مُبَارَزَةً، حِينَ طَلَبَ عَمْرٌو الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أُوثِرُ قَتْلَكَ لِصُحْبَتِي لِأَبِيكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَأَنَا أُوثِرُ قَتْلَكَ، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ مُبَارَزَةً. وَاقْتَحَمَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ، مِنْ قُرَيْشٍ، الْخَنْدَقَ بِفَرَسِهِ، فَقُتِلَ فِيهِ. وَقُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْضًا: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعُبَيْدُ بْنُ السَّبَّاقِ. وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ: مُعَاذٌ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَهُمَا مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي ذُبْيَانَ بْنِ النَّجَّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ. وَلَمْ تَغْزُ قُرَيْشٌ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَكَفَى اللَّهُ مُدَاوَمَةَ الْقِتَالِ وَعَوْدَتَهُ بِأَنْ هَزَمَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِقُوَّتِهِ وَعِزَّتِهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَمْ نُصَلِّ الظُّهْرَ، وَلَا الْعَصْرَ، وَلَا الْمَغْرِبَ، وَلَا الْعِشَاءَ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ، كُفِينَا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلَالًا، فَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ فَأَحْسَنَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ كُلُّ صَلَاةٍ بِإِقَامَةٍ. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ: أَيْ أَعَانُوا قُرَيْشًا وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَحْزَابِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، هُمْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: بَنُو النَّضِيرِ. وَقَذْفُ الرُّعْبِ سَبَبٌ لِإِنْزَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ الْمُسَبِّبَ، لَمَّا كَانَ السُّرُورُ بِإِنْزَالِهِمْ أَكْثَرَ وَالْإِخْبَارُ بِهِ أَهَمَّ قُدِّمَ. وَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهَا قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بُعِثَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ» . وَلَمَّا رَجَعَتِ الْأَحْزَابُ، جَاءَ جِبْرِيلُ وَقْتَ الظُّهْرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَنَادَى فِي النَّاسِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا، فَمُصَلٍّ فِي الطَّرِيقِ ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّأْكِيدِ وَالِاسْتِعْجَالِ

وَمُصَلٍّ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكُلٌّ مُصِيبٌ. فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ. فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَوْسِيِّ، لِحِلْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، رَجَوْا حُنُوَّهُ عَلَيْهِمْ، فَحَكَمَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَيُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالْعِيَالُ وَالْأَمْوَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالثِّمَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَتْ لَهُ الْأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَمْوَالٌ كَمَا لَكُمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرفعة» ، ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُمْ، وَخَنْدَقَ لَهُمْ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، وَقَدَّمَهُمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَهُمْ مِنْ بَيْنِ ثَمَانِمِائَةٍ إِلَى تِسْعِمِائَةٍ. وَقِيلَ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ مُقَاتِلٍ وسبعمائة أسير. وجيء يحيي بْنِ أَخْطَبَ النَّضِيرِيِّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُمْ فِي الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فَدَخَلَ عِنْدَهُمْ وَفَاءً لَهُمْ، فَتُرِكَ فِيمَنْ تُرِكَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ. فَلَمَّا قَرُبَ، وَعَلَيْهِ حُلَّتَانِ تُفَّاحِيَّتَانِ، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، أَبْصَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّ من يخذل الله يخذل. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا بَأْسَ أَمْرُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ، وَمِحْنَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَقَالَ فِيهِ بَعْضُ بَنِي ثَعْلَبَةَ: لَعَمْرُكَ مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّهُ مَنْ يخذل الله يخذل لا جهد حَتَّى أَبْلَغَ النَّفْسَ عُذْرَهَا ... وقلقل يبغي الغد كُلَّ مُقَلْقَلِ وَقَتَلَ مِنْ نِسَائِهِمُ امْرَأَةً، وَهِيَ لُبَابَةُ امْرَأَةُ الْحَكَمِ الْقُرَظِيِّ، كَانَتْ قَدْ طَرَحَتِ الرَّحَى عَلَى خَلَّادِ بْنِ سُوَيْدٍ فَقُتِلَ وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ فِي حِصَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ غَيْرُهُ. وَمَاتَ فِي الْحِصَارِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ مِحْصَنٍ، أَخُو عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، وَكَانَ فَتْحُ قُرَيْظَةَ فِي آخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَأْسِرُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَسْرِ السِّينِ وأبو حيوة: بضمها وَالْيَمَانِيُّ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَابْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِي: تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ. وَأَوْرَثَكُمْ: فِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أُولَئِكَ الْمَقْتُولِينَ وَمَنْ نَقَلَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَقُدِّمَتْ لِكَثْرَةِ الْمَنْفَعَةِ بِهَا من النخل وَالزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُمْ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهَا ثَانِيًا وَأَمْوَالَهُمْ لِيُسْتَعَانَ بِهَا فِي قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْجِهَادِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي بُيُوتِهِمْ، فَوَقَعَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا ثَالِثًا. وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها: وَعْدٌ صَادِقٌ فِي فَتْحِ الْبِلَادِ، كَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَمَكَّةَ، وَسَائِرِ فُتُوحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَخْبَرَ تَعَالَى أَنْ قَدْ قَضَى بِذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ الرُّومَ وَفَارِسَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهَا مَكَّةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ خَيْبَرُ وَقِيلَ: الْيَمَنُ وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ، وَمِنْ بِدَعِ

التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ أَرَادَ نِسَاءَهُمْ. وقرأ الجمهور: تطؤوها، بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا وَاوٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَمْ تَطُوهَا، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، أَبْدَلَ هَمْزَةَ تَطَأُ أَلِفًا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا ... وَالنَّاسُ لَا يُهْتَدَى مِنْ شَرِّهِمْ أَبَدَا فَالْتَقَتْ سَاكِنَةٌ مَعَ الْوَاوِ فَحُذِفَتْ، كَقَوْلِكَ: لَمْ تَرَوْهَا. وَخَتَمَ تَعَالَى: هَذِهِ الْآيَةَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْفُتُوحَ الْكَثِيرَةَ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ، فَكَمَا مَلَّكَهُمْ هَذِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهُمْ غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً، يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً، يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أزواجه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَغَايَرْنَ وَأَرَدْنَ زِيَادَةً فِي كِسْوَةٍ وَنَفَقَةٍ، فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَفَرَّقَ عَنْهُ الْأَحْزَابَ وَفَتَحَ عَلَيْهِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، ظَنَّ أَزْوَاجُهُ أَنَّهُ اخْتُصَّ بِنَفَائِسِ الْيَهُودِ وَذَخَائِرِهِمْ، فَقَعَدْنَ حَوْلَهُ وَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَنَاتُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِي الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَالْإِمَاءِ وَالْخَوَلِ، وَنَحْنُ عَلَى مَا تَرَاهُ مِنَ الْفَاقَةِ وَالضِّيقِ. وَآلَمْنَ قَلْبَهُ بِمُطَالَبَتِهِنَّ لَهُ بِتَوْسِعَةِ الْحَالِ، وَأَنْ يُعَامِلَهُنَّ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ أَزْوَاجَهُمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِنَّ مَا نَزَلَ فِي أَمْرِهِنَّ وَأَزْوَاجُهُ إِذْ ذَاكَ تِسْعٌ: عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زمعة، وأم سملة بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ. وَمِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيَّةُ.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْرَفِيُّ: لَمَّا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ مُلْكِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَأَمَرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ لِيَظْهَرَ صِدْقُ مُوَافَقَتِهِنَّ، وَكَانَ تَحْتَهُ عَشْرُ نِسَاءٍ، زَادَ الْحِمْيَرِيَّةَ، فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَّا الْحِمْيَرِيَّةَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ، وَبَدَأَ بِهَا، وَكَانَتْ أَحَبَّهُنَّ إِلَيْهِ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» . ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ، فَقَالَتْ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا بَعَثَنِي اللَّهُ مُبَلِّغًا وَلَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا» . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُنَّ إِذَا اخْتَرْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، مَتَّعَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ وَطَلَّقَهُنَّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ الْفِرَاقُ دُونَ أَنْ يُوقِعَهُ هُوَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هِيَ آيَةُ تَخْيِيرٍ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا. وَعَنْ عَلِيٍّ: تَكُونُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَثَلَاثٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي التَّخْيِيرِ وَالطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ. وَأَمَّا أَمْرُ الطَّلَاقِ فَمُرْجَأٌ، فَإِنِ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ، نَظَرَ هُوَ كَيْفَ يُسَرِّحُهُنَّ، وَلَيْسَ فِيهَا تَخْيِيرٌ فِي الطَّلَاقِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ قَدْ قَالَ: وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَلَيْسَ مَعَ بَتِّ الطَّلَاقِ سَرَاحٌ جَمِيلٌ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَى إِرَادَتِهِنَّ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وُقُوعَ التَّمْتِيعِ وَالتَّسْرِيحِ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ عَظِيمُ هَمِّكُنَّ وَمَطْلَبِكُنَّ التَّعَمُّقَ فِي الدُّنْيَا وَنَيْلَ نَعِيمِهَا وَزِينَتِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي: فَتَعالَيْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ «1» فِي آلِ عِمْرَانَ. أُمَتِّعْكُنَّ، قِيلَ: الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الطَّلَاقِ وَقِيلَ: مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ «2» يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَفِي تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالتَّسْرِيحُ الْجَمِيلُ إِمَّا فِي دُونِ الْبَيْتِ، أَوْ جَمِيلِ الثَّنَاءِ، وَالْمُعْتَقَدِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ إِنْ كَانَ تَامًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُمَتِّعْكُنَّ، بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَتَّعَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَمْتَعَ. وَمَعْنَى أَعَدَّ: هَيَّأَ وَيَسَّرَ، وَأَوْقَعَ الظَّاهِرَ مَوْقِعَ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 61. (2) سورة البقرة: 236.

الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي تَرَتَّبَ لَهُنَّ بِهِ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ، كأنه قال: أعدلكن، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ مُحْسِنًا. وَقِرَاءَةُ حُمَيْدٍ الْخَرَّازِ: أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، أَوْ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَيَكُونُ فَتَعالَيْنَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ، وَلَا يَضُرُّ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا ثُمَّ نَادَى نساء النبي، لِيَجْعَلْنَ بَالَهُنَّ مِمَّا يُخَاطَبْنَ بِهِ، إِذَا كَانَ أَمْرًا يُجْعَلُ لَهُ الْبَالُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ الْأَسْوَارِيُّ، وَيَعْقُوبُ: تَأْتِ، بِتَاءِ التَّأْنِيثُ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: كَبِيرَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَا يتوهم أنها الزنا، لِعِصْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالتَّبْيِينِ والزنا مِمَّا يُتَسَتَّرُ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْفَاحِشَةُ عَلَى عُقُوقِ الزَّوْجِ وَفَسَادِ عِشْرَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ مَكَانُهُنَّ مَهْبِطَ الْوَحْيِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، لَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَكَوْنِهِنَّ تحت الرسول أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ وَالْعَذَابُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ: يُضاعَفْ، بِأَلِفٍ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ والجحدري، وابن كثير، وأبو عَامِرٍ: بِالنُّونِ وَشَدِّ الْعَيْنِ مَكْسُورَةً وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَخَارِجَةُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ وَالْكَسْرِ وَفِرْقَةٌ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْأَلِفِ وَالْكَسْرِ. وَمَنْ فَتَحَ الْعَيْنَ رَفَعَ الْعَذابُ، وَمَنْ كَسَرَهَا نَصَبَهُ. ضِعْفَيْنِ: أَيْ عَذَابَيْنِ، فَيُضَافُ إِلَى عَذَابِ سَائِرِ النَّاسِ عَذَابٌ آخَرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو عَمْرٍو فِيمَا حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْهُمَا: إِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْعَذَابِ عَذَابَانِ، فَتَكُونُ ثَلَاثَةً. وَكَوْنُ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْعَذَابَ فِي الْفَاحِشَةِ بِإِزَاءِ الْأَجْرِ فِي الطَّاعَةِ. وَكانَ ذلِكَ: أَيْ تَضْعِيفُ الْعَذَابِ عَلَيْهِنَّ، عَلَى اللَّهِ يَسِيراً: أَيِ سَهْلًا، وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ كَوْنَهُنَّ نِسَاءً، مَعَ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ، لَا يُغْنِي عَنْهُنَّ شَيْئًا، وَهُوَ يُغْنِي عَنْهُنَّ، وَهُوَ سَبَبُ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ. وَمَنْ يَقْنُتْ: أَيْ يُطِعْ وَيَخْضَعْ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَبِالْمُوَافَقَةِ لِرَسُولِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ يَقْنُتْ بِالْمُذَكَّرِ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ، وَتَعْمَلُ بِالتَّاءِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. نُؤْتِها: بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَسْوَارِيُّ، وَيَعْقُوبُ، فِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ تَقْنُتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَبِهَا قَرَأَ ابْنِ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ، وَرَوَاهَا أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَنَافِعٍ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: مَا سَمِعْتُ أَنَّ أَحَدًا قَرَأَ: وَمَنْ يَقْنُتْ، إِلَّا بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ،

وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِيَاءٍ مِنْ تَحْتُ فِي ثَلَاثَتِهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ: وَمَنْ يَقْنُتْ بِالْيَاءِ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَيَعْمَلُ بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ قَالَ فَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ التَّذْكِيرَ أَصْلٌ لَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلتَّأْنِيثِ، وَمَا عَلَّلُوهُ بِهِ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا «1» . انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خالِصَةٌ فِي الْأَنْعَامِ. وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ وَعْدٌ دُنْيَاوِيٌّ، أَيْ أَنَّ أَرْزَاقَهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ كَرِيمٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَلَالٌ وَقَصْدٌ، وَبِرِضًا مِنَ اللَّهِ فِي نَيْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْعَذَابُ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ ضِعْفَيْنِ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، ثُمَّ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ الْأَجْرُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا ضُوعِفَ أَجْرُهُنَّ لِطَلَبِهِنَّ رِضَا رَسُولِ الله، بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَطِيبِ الْمُعَاشَرَةِ والقناعة والتوقر عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ: أَيْ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ مِنْ نِسَاءِ عَصْرِكَ. وَلَيْسَ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَى التَّشْبِيهِ فِي كَوْنِهِنَّ نِسْوَةً. تَقُولُ: لَيْسَ زَيْدٌ كَآحَادِ النَّاسِ، لَا تُرِيدُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عَنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، بَلْ فِي وَصْفٍ أَخَصَّ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا، أَوْ عَامِلًا، أَوْ مُصَلِّيًا. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ فِيكُنَّ مِنَ التَّمْيِيزِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِكُنَّ، وَهُوَ كَوْنُكُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجَاتِ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ. وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِيكُنَّ، فَكَمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ كَأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ» ، كَذَلِكَ زَوْجَاتُهُ اللَّاتِي تَشَرَّفْنَ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَحَدٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى وَحَدٍ، وَهُوَ الْوَاحِدُ ثُمَّ وُضِعَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مُسْتَوِيًا فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَمَا وَرَاءَهُ، وَالْمَعْنَى: لَسْتُنَّ كَجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَمَاعَاتِ النِّسَاءِ، أَيْ إِذَا تَقَصَّيْتَ أُمَّةَ النِّسَاءِ جَمَاعَةً جَمَاعَةً، لَمْ يُوجَدْ مِنْهُنَّ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ تُسَاوِيكُنَّ فِي الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «2» ، يُرِيدُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ، تَسْوِيَةً بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِي أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَحَدٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى: وَحَدٍ، وَهُوَ الْوَاحِدُ فَصَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ وَضَعَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا وَرَاءَهُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَدْلُولُهُ غَيْرُ مَدْلُولِ واحدا، لأن واحد يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اتصف بالوحدة، وأحد الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَعْقِلُ. وَذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ مَادَّتَهُ هَمْزَةٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ، وَمَادَّةُ أَحَدٍ بِمَعْنَى وَحَدٍ أَصْلُهُ وَاوٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَا مادة ومدلولا.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 139. (2) سورة النساء: 4/ 152.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَسْتُنَّ كَجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ لَسْتُنَّ مَعْنَاهُ: لَيْسَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ، لَيْسَ حُكْمًا عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ. وَقُلْنَا: إِنَّ مَعْنَى كَأَحَدٍ: كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَأَبْقَيْنَا أَحَدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَلَمْ نَتَأَوَّلْهُ بِجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «1» ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لِلنَّفْيِ الْعَامِّ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَعَمَّ وَصَلُحَتِ الْبَيْنِيَّةُ لِلْعُمُومِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَعْطُوفٌ، أَيْ بَيْنَ وَاحِدٍ وَوَاحِدٍ مِنْ رُسُلِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جا سالما ... أبو حجر إلا لَيَالٍ قَلَائِلُ أَيْ: لَسْتُنَّ مِثْلَهُنَّ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ، وَذَلِكَ لَمَّا انْضَافَ مَعَ تَقْوَى اللَّهِ مِنْ صُحْبَةِ الرسول وَعَظِيمِ الْمَحَلِّ مِنْهُ، وَنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي بَيْتِهِنَّ وَفِي حَقِّهِنَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ: إِنْ أَرَدْتُنَّ التَّقْوَى، وَإِنْ كُنَّ مُتَّقِيَاتٍ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ: فَلَا تُجِبْنَ بِقَوْلِكُنَّ خَاضِعًا، أَيْ لَيِّنًا خَنِثًا، مِثْلَ كَلَامِ الْمُرِيبَاتِ وَالْمُومِسَاتِ. فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ: أَيْ رِيبَةً وَفُجُورًا. انْتَهَى. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ قَيْدًا فِي كَوْنِهِنَّ لَسْنَ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا. وَعَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، يَكُونُ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ابْتِدَاءَ شَرْطٍ، وَجَوَابُهُ فَلا تَخْضَعْنَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا حُمِلَ. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاسْتِعْمَالِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: إِنِ اسْتَقْبَلْتُنَّ أَحَدًا، فَلا تَخْضَعْنَ. وَاتَّقَى بِمَعْنَى: اسْتَقْبَلَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ النَّابِغَةُ: سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فتناولته واتقتنا باليد أي: اسْتَقْبَلَتْنَا بِالْيَدِ، وَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى أَبْلَغَ فِي مَدْحِهِنَّ، إِذْ لَمْ يُعَلِّقْ فَضِيلَتَهُنَّ عَلَى التَّقْوَى، وَلَا عَلَّقَ نَهْيَهُنَّ عَنِ الْخُضُوعِ بِهَا، إِذْ هُنَّ مُتَّقِيَاتٌ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِهِنَّ، وَالتَّعْلِيقُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُنَّ لَسْنَ مُتَحَلِّيَاتٍ بِالتَّقْوَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُرَخِّصْنَ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَكَلَّمْنَ بِالرَّفَثِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَكَلَّمْنَ بِمَا يَهْوَى الْمُرِيبُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْخُضُوعُ بِالْقَوْلِ مَا يُدْخِلُ فِي الْقَلْبِ الْغَزَلَ. وَقِيلَ: لَا تُلِنَّ لِلرِّجَالِ الْقَوْلَ. أَمَرَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خَيْرًا، لَا عَلَى وَجْهٍ يُظْهِرُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّينِ، كما كان

_ (1) سورة النساء: 4/ 152.

الْحَالُ عَلَيْهِ فِي نِسَاءِ الْعَرَبِ مِنْ مُكَالَمَةِ الرِّجَالِ بِرَخِيمِ الصَّوْتِ وَلَيِّنِهِ، مِثْلَ كَلَامِ الْمُومِسَاتِ، فَنَهَاهُنَّ عَنْ ذلك، وقال الشاعر: يتكلم لو تستطيع كلامه ... لانت له أروى الهضاب الصخر وَقَالَ آخَرُ: لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَطَ رَاهِبٍ ... عَبَدَ الإله ضرورة المتعبد لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا ... ولحالها رُشْدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَطْمَعَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَنَصْبِ الْعَيْنِ، جَوَابًا لِلنَّهْيِ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَابْنُ هُرْمُزَ: بِالْجَزْمِ، فَكُسِرَتِ الْعَيْنُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، نُهِينَ عَنِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ، وَنُهِيَ مَرِيضُ الْقَلْبِ عَنِ الطَّمَعِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَخْضَعْ فَلَا تَطْمَعْ. وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ أَبْلَغُ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْخُضُوعَ بِسَبَبِ الطَّمَعِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: قَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعِيسَى: فَيَطْمِعَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَنَقَلَهَا ابْنُ خالويه عن أبي السماء، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَعْرَجَ، وَهُوَ ابْنُ هُرْمُزَ، قَرَأَ: فَيُطْمِعَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتَحَ الْعَيْنَ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ فَيَطْمَعُ هُوَ، أَيِ الخضوع بالقول والذي مَفْعُولٌ، أَوِ الَّذِي فَاعِلٌ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَيَطْمَعُ نَفْسُهُ. وَالْمَرَضُ، قَالَ قَتَادَةُ: النِّفَاقُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْفِسْقُ وَالْغَزَلُ. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً: وَالْمُحَرَّمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ وَلَا الْعُقُولُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَرْأَةُ تَنْدُبُ إِذَا خَالَطَتِ الْأَجَانِبَ، عَلَيْهَا بِالْمُصَاهَرَةِ إِلَى الْغِلْظَةِ فِي الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْرُوفًا صَحِيحًا، بِلَا هَجَرٍ وَلَا تَمْرِيضٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِيفًا وَقِيلَ: خَشِنًا حَسَنًا وَقِيلَ: مَعْرُوفًا، أَيْ قَوْلًا أُذِنَ لَكُمْ فِيهِ وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقِرْنَ، بِكَسْرِ الْقَافِ، مِنْ وَقَرَ يَقِرُ إِذَا سَكَنَ وَأَصْلُهُ، أَوْقِرْنَ، مِثْلُ عِدْنَ مِنْ وَعَدَ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ الْهَمْدَانِيُّ، فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ، وَجْهًا آخَرَ قَالَ: قَارَّ يَقَارُّ، إِذَا اجْتَمَعَ، وَمِنْهُ الْقَارَّةُ لِاجْتِمَاعِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ عُضَلَ وَالدِّيشِ: اجْتَمِعُوا فَكُونُوا قَارَّةً؟ فَالْمَعْنَى: اجْمَعْنَ أَنْفُسَكُنَّ فِي بُيُوتِكُنَّ. وَقَرْنَ: أَمْرٌ مِنْ قَارَ، كَمَا تَقُولُ: خِفْنَ مِنْ خَافَ أَوْ مِنَ الْقَرَارِ، تَقُولُ: قَرَرْتُ بالمكان، وأصله: وأقررت، حُذِفَتِ الرَّاءُ الثَّانِيَةُ تَخْفِيفًا، كَمَا حَذَفُوا لَامَ ظَلِلْتُ، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْقَافِ فَذَهَبَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أُبْدِلَتِ الرَّاءُ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْقَافِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ لسكوتها وَسُكُونِ الرَّاءِ

بَعْدَهَا. انْتَهَى، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحْمِيلِ كَعَادَتِهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَنَافِعٌ: بِفَتْحِ الْقَافِ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: قَرِرْتُ بِالْمَكَانِ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِ الْقَافِ، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَأَنْكَرَهَا قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْمَازِنِيُّ، وَقَالُوا: بِكَسْرِ الرَّاءِ، مِنْ قَرَّتِ الْعَيْنُ، وَبِفَتْحِهَا مِنَ الْقَرَارِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَاقْرِرْنَ، بِأَلِفِ الْوَصْلِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى قَرِرْتُ، وَأَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مِنَ الْقَرَارِ وَمِنَ الْقِرَّةِ. أَمَرَهُنَّ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ، وَنَهَاهُنَّ عَنِ التَّبَرُّجِ، وَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ فِعْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ بَكَتْ حَتَّى تَبُلَّ خِمَارَهَا، تَتَذَكَّرُ خُرُوجَهَا أَيَّامَ الْجَمَلِ تَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ. وَقِيلَ لِسَوْدَةَ: لِمَ لَا تَحُجِّينَ وَتَعْتَمِرِينَ كَمَا يَفْعَلُ إِخْوَانُكِ؟ فَقَالَتْ: قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ وَأَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَقِرَّ فِي بَيْتِي، فَمَا خَرَجَتْ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهَا حَتَّى أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهَا. وَلا تَبَرَّجْنَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: التَّبَرُّجُ: التَّبَخْتُرُ وَالتَّغَنُّجُ وَالتَّكَسُّرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَا تَشُدُّهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تُبْدِي مِنْ مَحَاسِنِهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا ستره. والْجاهِلِيَّةِ الْأُولى: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ وَأُخْرَى مُتَأَخِّرَةٌ. فَقِيلَ: هُمَا ابْنَانِ لِآدَمَ، سَكَنَ أَحَدُهُمَا الْجَبَلَ، فَذُكُورُ أَوْلَادِهِ صِبَاحٌ وَإِنَاثُهُمْ قِبَاحٌ وَالْآخَرُ السَّهْلَ، وَأَوْلَادُهُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. فَسَوَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ عِيدًا يَجْتَمِعُ جَمِيعُهُمْ فِيهِ، فَمَالَ ذُكُورُ الْجَبَلِ إِلَى إِنَاثِ السَّهْلِ وَبِالْعَكْسِ، فَكَثُرَتِ الْفَاحِشَةُ، فَهُوَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَهِيَ ثَمَانُمِائَةِ سَنَةٍ، كَانَ الرِّجَالُ صِبَاحًا وَالنِّسَاءُ قِبَاحًا، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى نَفْسِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى مَا بَيْنَ إِدْرِيسَ وَنُوحٍ، كَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ، تَجْمَعُ الْمَرْأَةُ بَيْنَ زَوْجٍ وَعَشِيقٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: زَمَنَ نُمْرُوذَ، بَغَايَا يَلْبَسْنَ أَرَقَّ الدُّرُوعِ وَيَمْشِينَ فِي الطُّرُقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى هِيَ الْقَدِيمَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ، وَهِيَ الزَّمَانُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ. كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْبَسُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فَتَمْشِي وَسَطَ الطَّرِيقِ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى الرِّجَالِ. وقال أبو العالية: زمن دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، كَانَ لِلْمَرْأَةِ قَمِيصٌ مِنَ الدُّرِّ غَيْرُ مَخِيطِ الْجَانِبَيْنِ، يَظْهَرُ مِنْهُ الْأَكْعَابُ وَالسَّوْأَتَانِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجْمَعُ بَيْنَ زوجها وحلمها، للزوج نصفها الأسفل، وللحلم نِصْفُهَا، يَتَمَتَّعُ بِهِ فِي التَّقْبِيلِ وَالتَّرَشُّفِ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ والسلام. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْأُولَى زَمَنُ إِبْرَاهِيمَ، وَالثَّانِيَةُ زَمَنَ مُحَمَّدٍ، عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَشْبَهُ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْمَعْرُوفُونَ، كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْبَغَايَا.

وَإِنَّمَا قِيلَ الْأُولَى، لِأَنَّهُ يُقَالُ لِكُلِّ مُتَقَدِّمٍ وَمُتَقَدِّمَةٍ أَوَّلُ وَأُولَى، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ تَقَدَّمُوا عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أُولَى، وَهُمْ أَوَّلُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَهَلْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ إِلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَلْ كَانَتِ الْأُولَى إِلَّا وَلَهَا آخِرَةٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى جَاهِلِيَّةَ الْكُفْرِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى جَاهِلِيَّةَ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَلَا يَجِدُكُنَّ بِالتَّبَرُّجِ جَاهِلِيَّةً فِي الْإِسْلَامِ يَتَشَبَّهْنَ بِهَا بِأَهْلِ جَاهِلِيَّةِ الْكُفْرِ. وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: «إِنَّ فِيكَ جَاهِلِيَّةً» ، قَالَ: جَاهِلِيَّةُ كُفْرٍ أَمْ إِسْلَامٍ؟ فَقَالَ: «بَلْ جَاهِلِيَّةُ كُفْرٍ» . انْتَهَى. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا قَالَ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» ، لِأَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي يَخُصُّهَا، فَأُمِرْنَ بِالنُّقْلَةِ مِنْ سِيرَتِهِنَّ فِيهَا، وَهِيَ مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ سِيرَةِ الْكُفْرِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا غَيْرَةَ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ أَمْرُ النِّسَاءِ دُونَ حَجَبَةٍ، وَجَعَلَهَا أَوْلَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّةٌ أُخْرَى. وَقَدْ مَرَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: جَاهِلِيٌّ فِي الشُّعَرَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ: سَمِعْتُ، أَيْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى غَيْرِ هَذَا. انْتَهَى. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ: أَمَرَهُنَّ أَمْرًا خَاصًّا بِالصَّلَاةِ والزكاة، إذ هما عمودا الطَّاعَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِمَا فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَهْيَهُنَّ وَأَمْرَهُنَّ وَوَعْظَهُنَّ إِنَّمَا هُوَ لِإِذْهَابِ الْمَأْثَمِ عَنْهُنَّ وَتَصَوُّنِهُنَّ بِالتَّقْوَى. وَاسْتَعَارَ الرِّجْسَ لِلذُّنُوبِ، وَالطُّهْرَ لِلتَّقْوَى، لِأَنَّ عِرْضَ الْمُقْتَرِفِ لِلْمَعَاصِي يَتَدَنَّسُ بِهَا وَيَتَلَوَّثُ، كَمَا يَتَلَوَّثُ بَدَنُهُ بِالْأَرْجَاسِ. وَأَمَّا الطَّاعَاتُ، فَالْعِرْضُ مَعَهَا نَقِيٌّ مَصُونٌ كَالثَّوْبِ الطَّاهِرِ، وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَنْفِيرٌ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَرْغِيبٌ فِيمَا أَمَرَ بِهِ. وَالرِّجْسُ يَقَعُ عَلَى الْإِثْمِ، وَعَلَى الْعَذَابِ، وَعَلَى النَّجَاسَةِ، وَعَلَى النَّقَائِصِ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ جَمِيعَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الرِّجْسُ هُنَا: الشِّرْكُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْإِثْمُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْفِسْقُ وَقِيلَ: الْمَعَاصِي كُلُّهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: الشَّكُّ وَقِيلَ: الْبُخْلُ والطبع وَقِيلَ: الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ. وَانْتَصَبَ أَهْلٌ عَلَى النِّدَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ:

بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الْفَضْلَ وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ فِي الْمُتَكَلِّمِ، وَقَوْلُهُ: نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ يَشْمَلُهُنَّ وَآبَاءَهُنَّ، غَلَبَ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ فِي الْخِطَابِ فِي: عَنْكُمُ، وَيُطَهِّرَكُمْ. وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ السَّائِبِ: أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِزَوْجَاتِهِ عليه لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: عَنْكُنَّ وَيُطَهِّرُكُنَّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: هُوَ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَن وَالْحُسَيْنِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ أَهْلُهُ وَأَزْوَاجُهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَالثَّعْلَبِيُّ: بَنُو هَاشِمٍ الَّذِينَ يُحْرَمُونَ الصَّدَقَةَ آلُ عَبَّاسٍ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ زَوْجَاتُهُ وَأَهْلُهُ، فَلَا تَخْرُجُ الزَّوْجَاتُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّهُنَّ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ لِمُلَازَمَتِهِنَّ بَيْتَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ زَوْجَاتِهِ لَا يَخْرُجْنَ عَنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَأَهْلُ الْبَيْتِ: زَوْجَاتُهُ وَبِنْتُهُ وَبَنُوهَا وَزَوْجُهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ النبي مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُنَّ أَنَّ بُيُوتَهُنَّ مَهَابِطُ الْوَحْيِ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ لَا يَنْسَيْنَ مَا يُتْلَى فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ الْجَامِعِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: وَهُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ بِنَظْمِهِ، وَهُوَ حِكْمَةٌ وَعُلُومٌ وَشَرَائِعُ. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً، حِينَ عَلِمَ مَا يَنْفَعُكُمْ وَيُصْلِحُكُمْ فِي دِينِكُمْ فَأَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ، أَوْ عَلِمَ مَنْ يَصْلُحُ لِنُبُوَّتِهِ وَمَنْ يَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونُوا أَهْلَ بَيْتِهِ، أَوْ حَيْثُ جُعِلَ الْكَلَامُ جَامِعًا بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ. انْتَهَى. وَاتِّصَالُ وَاذْكُرْنَ بِمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ مِنَ الْبَيْتِ، وَمَنْ لَمْ يُدْخِلْهُنَّ قَالَ: هِيَ ابْتِدَاءُ مُخَاطَبَةٍ. وَاذْكُرْنَ، إِمَّا بِمَعْنَى احْفَظْنَ وَتَذَكَّرْنَهُ، وَإِمَّا اذْكُرْنَهُ لِغَيْرِكُنَّ وَارْوِينَهُ حَتَّى يُنْقَلَ. ومِنْ آياتِ اللَّهِ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةِ: هِيَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلْآيَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَطِيفاً، تَلْيِينٌ، وَفِي خَبِيراً، تَحْذِيرٌ مَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَا تُتْلَى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ. وَرُوِيَ أَنَّ نِسَاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْنَا وَقِيلَ: السَّائِلَةُ أُمُّ سَلَمَةَ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ فِي نِسَائِهِ مَا نَزَلَ، قَالَ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ: فَمَا نَزَلَ فِينَا شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الْعَشَرَةُ

تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ بِالتَّصْدِيقِ، ثُمَّ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي بَعْدَهُمَا تَنْدَرِجُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ، وَفِي الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِخُلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيرًا. وَلَمْ يَذْكُرْ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مُتَعَلِّقًا إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً، نَصَّ عَلَى مُتَعَلِّقِ الْحِفْظِ لِكَوْنِهِ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ وَمَرْكَبَ الشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ، وَعَلَى مُتَعَلِّقِ الذِّكْرِ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ لَفْظُ اللَّهِ، إِذْ هُوَ الْعَلَمُ الْمُحْتَوِي عَلَى جَمِيعِ أَوْصَافِهِ، لِيَتَذَكَّرَ الْمُسْلِمُ مَنْ تَذَكَّرَهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ مِنَ الْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرَاتِ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْحَافِظَاتِهَا وَالذَّاكِرَاتِهِ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ: غَلَّبَ الذُّكُورَ، فَجَمَعَ الْإِنَاثَ مَعَهُمْ وَأَدْرَجَهُمْ فِي الضَّمِيرِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ لَهُمْ وَلَهُنَّ. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً، وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً، مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. قَالَ الْجُمْهُورُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ: خَطَبَ الرَّسُولُ لِزَيْدٍ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَةٍ، فَقَالَ: «بَلَى فَأَنْكِحِيهِ فَقَدْ رَضِيتُهُ لَكِ» ، فَأَبَتْ، فَنَزَلَتْ. وَذَكَرَ أَنَّهَا وَأَخَاهَا عَبْدَ اللَّهِ كَرِهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ رَضِيَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَبَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أَوَّلُ امرأة وهبت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم نَفْسَهَا، فَقَالَ: «قَدْ قَبِلْتُكِ وَزَوَّجْتُكِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ» ، فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا، قَالَا: إِنَّمَا أَرَدْنَاهُ فَزَوَّجَنَا عَبْدَهُ، فَنَزَلَتْ ، وَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تِلْكَ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ مِنَ

الْإِسْلَامِ فَمَا بَعْدَهُ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا صَدَرَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ أَشَارَ الرسول بِأَمْرٍ وَقَعَ مِنْهُمُ الْإِبَاءُ لَهُ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، إِذْ طَاعَتُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَمْرُهُ مِنْ أمره. والْخِيَرَةُ: مَصْدَرٌ مِنْ تَخَيَّرَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَالطِّيَرَةِ مِنْ تَطَيَّرَ. وَقُرِئَ: بِسُكُونِ الْيَاءِ، ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعِيسَى: أَنْ تَكُونَ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالْكُوفِيُّونَ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالسُّلَمِيُّ: بِالْيَاءِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ، يَعُمُّ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، جَاءَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ، مُغَلَّبًا فِيهِ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مِنَ حَقِّ الضَّمِيرِ أَنْ يُوَحَّدَ، كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا. انْتَهَى. لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ هَذَا عَطْفٌ بِالْوَاوِ، فَلَا يَجُوزُ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ الْحَذْفِ، أَيْ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ إِلَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا، وَتَقُولُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو إِلَّا ضَرَبَا خَالِدًا، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا ضَرَبَ إِلَّا عَلَى الْحَذْفِ، كَمَا قُلْنَا. وَإِذْ تَقُولُ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَجَلُّ النِّعَمِ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي كان الرسول تَبَنَّاهُ. وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: وَهُوَ عِتْقُهُ، وَتَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّتِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ: وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَتَقَدَّمَ أن الرسول كَانَ خَطَبَهَا لَهُ. وَقِيلَ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِصُحْبَتِكَ وَمَوَدَّتِكَ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِتَبَنِّيهِ. فَجَاءَ زَيْدٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُفَارِقَ صَاحِبَتِي، فَقَالَ: «أَرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّهَا تَعْظُمُ عَلَيَّ لِشَرَفِهَا وَتُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا، فَقَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» ، أَيْ لَا تُطَلِّقْهَا، وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ، «وَاتَّقِ اللَّهَ فِي مُعَاشَرَتِهَا» . فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. وَعَلَّلَ تَزْوِيجَهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَنْ يَتَزَوَّجُوا زَوْجَاتِ مَنْ كَانُوا تَبَنَّوْهُ إِذَا فَارِقُوهُنَّ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّوْجَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَاتٍ فِيمَا حَرَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ «1» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: كَانَ قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُهَا، وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا بِتَزْوِيجِ اللَّهِ إِيَّاهَا. فَلَمَّا شَكَا زَيْدٌ خُلُقَهَا، وَأَنَّهَا لَا تُطِيعُهُ، وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ طَلَاقَهَا، قَالَ لَهُ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ» ، عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ وَالْوَصِيَّةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْفَى فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالطَّلَاقِ. وَلَمَّا عَلِمَ مِنْ أنه سيطلقها،

_ (1) سورة النساء: 4/ 23.

وخشي رسول الله أَنْ يَلْحَقَهُ قَوْلٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَ زَيْدٍ، وَهُوَ مَوْلَاهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي شَيْءٍ قَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ بِأَنْ قَالَ: أَمْسِكْ، مع علمه أن يُطَلِّقُ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْخَشْيَةِ، أَيْ فِي كُلِّ حَالٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، كَالزُّهْرِيِّ، وَبَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ، وَالْقُشَيْرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ، إِنَّمَا هُوَ إِرْجَافُ الْمُنَافِقِينَ فِي تزويج نساء الأبناء، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ. وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ كَلَامٌ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي النَّقْصَ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، ضَرَبْنَا عَنْهُ صَفْحًا. وَقِيلَ قَوْلُهُ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ: خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ، فَإِنَّهُ أَخْفَى الْمَيْلَ إِلَيْهَا، وَأَظْهَرَ الرَّغْبَةَ عَنْهَا، لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ مِنْ نِسَائِهِ. انْتَهَى. وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، وَبَعْضُهُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِمَا فِيهِ غَيْرُ صَوَابٍ مِمَّا جَرَى فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَرْتُ مِنْهُ مَا أَنِصُّهُ. قَالَ: كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ وَيَسْتَحْيِي مِنْ إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ مُتَّسِعٌ وَحَلَالٌ مُطْلَقٌ، لَا مَقَالَ فِيهِ وَلَا عَيْبَ عِنْدَ اللَّهِ. وَرُبَّمَا كَانَ الدُّخُولُ فِي ذَلِكَ الْمُبَاحِ سُلَّمًا إِلَى حُصُولِ وَاجِبَاتٍ، لِعِظَمِ أَثَرِهَا فِي الدِّينِ، وَيَجِلُّ ثَوَابُهَا، وَلَوْ لَمْ يُتَحَفَّظْ مِنْهُ، لَأَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِيهِ أَلْسِنَتَهُمْ، إِلَّا مَنْ أُوتِيَ فَضْلًا وَعِلْمًا وَدِينًا وَنَظَرًا فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلُبَابِهَا دُونَ قُشُورِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا طَمِعُوا فِي بُيُوتِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَقَوْا مُرْتَكِزِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ لَا يُدِيمُونَ مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِيهِ قُعُودُهُمْ، وَيُضِيقُ صَدْرَهُ حَدِيثُهُمْ، وَالْحَيَاءُ يَصُدُّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِانْتِشَارِ حَتَّى نَزَلَتْ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. وَلَوْ أَبْرَزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْنُونَ ضَمِيرِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَشِرُوا، لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَلَكَانَ بَعْضُ الْمَقَالَةِ. فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، لِأَنَّ طُمُوحَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَعْضِ مُشْتَهِيَاتِهِ، مِنَ امْرَأَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْقُبْحِ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ. وَتَنَاوُلُ الْمُبَاحِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ بِقَبِيحٍ أَيْضًا، وَهُوَ خِطْبَةُ زَيْنَبَ وَنِكَاحُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِنْزَالِ زَيْدٍ عَنْهَا، وَلَا طَلَبٍ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْزِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَنِ امْرَأَتِهِ لِصَدِيقِهِ، وَلَا مُسْتَهْجَنًا إِذَا نَزَلَ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا الْآخَرُ. فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ دَخَلُوا المدينة، استهم الْأَنْصَارُ بِكُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ نَزَلَ عَنْ إِحْدَاهُمَا وَأَنْكَحَهَا الْمُهَاجِرَ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُبَاحًا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْقُبْحِ، وَلَا

مَفْسَدَةٌ وَلَا مَضَرَّةٌ بِزَيْدٍ وَلَا بِأَحَدٍ، بَلْ كَانَ مُسْتَجِرًّا مَصَالِحَ نَاهِيكَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَنَّ بِنْتَ عَمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أمنت الأئمة وَالضَّيْعَةَ وَنَالَتِ الشَّرَفَ وَعَادَتْ أُمًّا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ: لِكَيْ لَا يَكُونَ الْآيَةَ. انْتَهَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ فِيهِ وُصُولُ الْفِعْلِ الرَّافِعِ الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلِ إِلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ وَهُمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ ودع عنك نهيا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ وَذَكَرُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أن على وعن اسْمَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَرْفَيْنِ، لِامْتِنَاعِ فَكَّرَ فِيكَ، وَأَعْنِي بِكَ، بَلْ هَذَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ النَّفْسُ، أَيْ فَكِّرْ فِي نَفْسِكَ، وَأَعْنِي بِنَفْسِكَ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ «1» ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ «2» . وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ: مُسْتَأْنَفٌ، وَتَخْشَى: مَعْطُوفٌ عَلَى وَتُخْفِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاوُ الْحَالِ، أَيْ تَقُولُ لِزَيْدٍ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، مُخْفِيًا فِي نَفْسِكَ إِرَادَةَ أَنْ لَا يُمْسِكَهَا، وَتُخْفِي خَاشِيًا قَالَةَ النَّاسِ، أَوْ وَاوُ الْعَطْفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ قَوْلِكَ: أَمْسِكْ، وَإِخْفَاءِ قَالَةِ، وَخَشْيَةِ النَّاسِ. انْتَهَى. وَلَا يَكُونُ وَتُخْفِي حَالًا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَأَنْتَ تُخْفِي، لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْوَاوُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْإِضْمَارِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ نَادِرٌ، لَا يُبْنَى عَلَى مِثْلِهِ الْقَوَاعِدُ وَمِنْهُ قَوْلِهِمْ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ، أَيْ وَأَنَا أَصُكُّ عَيْنَهُ. وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ: تَقَدَّمَ إِعْرَابُ نَظِيرِهِ فِي التَّوْبَةِ «3» . فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً: أَيْ حَاجَةً، قِيلَ: وَهُوَ الْجِمَاعُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَرَوَى أَبُو عِصْمَةَ: نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، بِإِسْنَادٍ رَفَعَهُ إِلَى زَيْنَبَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا كُنْتُ أَمْتَنِعُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي مِنْهُ. وقيل: إنه مد تَزَوَّجَهَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَرَّمُ ذَلِكَ مِنْهُ حين يريد أن يقربها. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَطَرُ هُنَا: الطَّلَاقُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زَوَّجْناكَها، بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَخَوَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَأَبُوهُمْ عَلِيٌّ: زَوَّجْتُكَهَا، بِتَاءِ الضَّمِيرِ لِلْمُتَكَلِّمِ. وَنَفَى تَعَالَى الْحَرَجَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِجْرَاءِ أَزْوَاجِ المتبنين مجرى أزواج البنين فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ عَلَائِقِ الزَّوَاجِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ: أَيْ مُقْتَضَى أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ مُضَمَّنُ أَمْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِلَّا فَالْأَمْرُ

_ (1) سورة مريم: 19/ 25. (2) سورة القصص: 28/ 32. (3) سورة التوبة: 9/ 13.

قَدِيمٌ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَيَحْتَمِلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَاحِدَ الْأُمُورِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُفْعَلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَهُ، مَفْعُولًا: مَكُونًا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ مِنْ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ الْمَكُونُ، لِأَنَّهُ مَفْعُولُ يكن. وَلَمَّا نَفَى الْحَرَجَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا ذَكَرَ، وَانْدَرَجَ الرسول فِيهِمْ، إِذْ هُوَ سَيِّدُ الْمُؤْمِنِينَ، نَفَى عَنْهُ الْحَرَجَ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، وَنَفَى الْحَرَجَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا بِالِانْدِرَاجِ فِي الْعُمُومِ، وَالْأُخْرَى بِالْخُصُوصِ. فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، قَالَ الْحَسَنُ: فِيمَا خُصَّ بِهِ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا صَدَاقٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِيمَا أَحَلَّ لَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ عَابُوهُ بِكَثْرَةِ النِّكَاحِ وَكَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ: أَيْ فِي الْأَنْبِيَاءِ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ، حَتَّى كَانَ لِسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثلاثمائة حرة وسبعماية سُرِّيَّةٍ، وَكَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ وَثَلَاثُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْنَبَ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ دَاوُدَ وَبَيْنَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: الْزَمْ أَوْ نَحْوُهُ، أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيْهِ سُنَّةَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ عَامِلَ الِاسْمِ فِي الْإِغْرَاءِ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَأَيْضًا فَتَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ سُنَّةَ اللَّهِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْإِغْرَاءِ، إِذْ لَا يُغْرَى غَائِبٌ. وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَلَيْهِ رَجُلًا، لَيْسَنِي لَهُ تَأْوِيلٌ، وَهُوَ مَعَ ذلك نادر. والَّذِينَ خَلَوْا: الْأَنْبِيَاءُ، بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ: أَيْ مَأْمُورَاتُهُ، وَالْكَائِنَاتُ مِنْ أَمْرِهِ، فَهِيَ مَقْدُورَةٌ. وَقَوْلُهُ: قَدَراً: أَيْ ذَا قَدَرٍ، أَوْ عَنْ قَدَرٍ، أَوْ قَضَاءً مَقْضِيًّا وَحُكْمًا مثبوتا. والَّذِينَ: صفة للذين خَلَوْا، أَوْ مَرْفُوعٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِهِمْ، أَوْ عَلَى أَمْدَحُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: الَّذِينَ بَلَّغُوا، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: رِسَالَةَ اللَّهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْجُمْهُورُ: يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ جَمْعًا. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً: أَيْ مُحَاسِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَالْعَقَائِدِ، أَوْ مُحْسِبًا: أَيْ كَافِيًا. ثُمَّ نَفَى تَعَالَى كَوْنَ رَسُولِهِ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَبَنَّاهُ مِنْ حُرْمَةِ الصِّهَارَةِ وَالنِّكَاحِ مَا يَثْبُتُ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ. هَذَا مَقْصُودُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاحْتِجَاجِ فِي أَمْرِ بَنِيهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَاتُوا، وَلَا فِي أَمْرِ الْحَسَنِ

وَالْحُسَيْنِ بِأَنَّهُمَا كَانَا طِفْلَيْنِ. وَإِضَافَةُ رِجَالِكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِيهِ، لِأَنَّهُمْ رِجَالُهُ، لَا رِجَالُ الْمُخَاطِبِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلكِنْ رَسُولَ، بِتَخْفِيفِ لَكِنْ وَنَصْبِ رَسُولَ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ، لِدَلَالَةِ كَانَ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ قِيلَ: أَوْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى أَبا أَحَدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَكِنَّ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ هُوَ، أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَذْفُ خَبَرِ لَكِنَّ وَأَخَوَاتِهَا جَائِزٌ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَمِمَّا جَاءَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِنَّ زَنْجِيًّا عَظِيمَ الْمَشَافِرِ أَيْ: أَنْتَ لَا تَعْرِفُ قَرَابَتِي. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بالتخفيف، ورفع ورسوله وخاتم، أَيْ وَلَكِنْ هُوَ رَسُولٌ الله، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَسْتُ الشَّاعِرَ السَّقَّافَ فِيهِمْ ... وَلَكِنْ مَدَرَةَ الْحَرْبِ الْعَوَالِ أَيْ: لَكِنْ أَنَا مَدَرَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خاتَمَ، بِكَسْرِ التَّاءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَتَمَهُمْ، أَيْ جَاءَ آخِرَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا خَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ ، وَعَنْهُ: أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فِي حَدِيثِ وَاللَّبِنَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلْفَاظٌ تَقْتَضِي نَصًّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمَعْنَى أَنْ لَا يَتَنَبَّأَ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَلَا يَرِدُ نُزُولُ عِيسَى آخِرَ الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ نُبِّئَ قَبْلَهُ، وَيَنْزِلُ عَامِلًا عَلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مُصَلِّيًا إِلَى قِبْلَتِهِ كَأَنَّهُ بَعْضُ أُمَّتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْهِدَايَةِ، مِنْ تَجْوِيزِ الِاحْتِمَالِ فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِالِاقْتِصَادِ، وَتَطَرَّقَ إِلَى تَرْكِ تَشْوِيشِ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي خَتْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْهُ، وَاللَّهُ الْهَادِي بِرَحْمَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ وَعَاصِمٌ: بِفَتْحِ التَّاءِ بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ بِهِ خُتِمُوا، فَهُوَ كَالْخَاتَمِ وَالطَّابَعِ لَهُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ لَا تَنْقَطِعُ، أَوْ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، فَهُوَ زِنْدِيقٌ يَجِبُ قَتْلُهُ. وَقَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ ناس، فقلهم الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ فِي عَصْرِنَا شَخْصٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بِمَدِينَةِ مالقة، فقتله السلطان بْنُ الْأَحْمَرِ، مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ بِغَرْنَاطَةَ، وَصُلِبَ إِلَى أَنْ تَنَاثَرَ لَحْمُهُ. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً: هَذَا عَامٌّ، وَالْقَصْدُ هُنَا عِلْمُهُ تَعَالَى بِمَا رَآهُ الْأَصْلَحَ لِرَسُولِهِ، وَبِمَا قَدَّرَهُ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَقْدِيسِهِ،

وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَالذِّكْرُ الْكَثِيرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ لَا يَنْسَاهُ أَبَدًا، أَوِ التَّسْبِيحُ مُنْدَرِجٌ فِي الذِّكْرِ، لَكِنَّهُ خُصَّ بِأَنَّهُ يُنَزِّهُهُ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، أَوْ مِنْ أَفْضَلِ الْأَذْكَارِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: قُولُوا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ يَقُولُهَا الطَّاهِرُ وَالْجُنُبُ. وبُكْرَةً وَأَصِيلًا: يقتضيهما اذكروا وسبحوا، وَالنَّصْبُ بِالثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ، وَالْوَقْتَانِ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الزَّمَانِ، ذِكْرُ الطَّرَفَيْنِ إِشْعَارٌ بِالِاسْتِغْرَاقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ صَلُّوا صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْعِشَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِشَارَةُ بِهَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ إِلَى صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ وإكثاره تكثير الطاعات وَالْإِقْبَالِ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ وَكُلَّ خَيْرٍ مِنْ جُمْلَةِ الذِّكْرِ. ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَهِيَ الصَّلَاةُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهَا، تَفْضُلُ الصَّلَاةُ غَيْرَهَا، أَوْ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، لِأَنَّ أَدَاءَهُمَا أَشَقُّ. وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ، ذَكَرَ إِحْسَانَهُ تَعَالَى بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: يُصَلِّي عَلَيْكُمْ: يَرْحَمُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَغْفِرُ لَكُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ يُثْنِي عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: يَتَرَأَّفُ بِكُمْ. وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «1» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الدُّعَاءُ، وَالْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي يَتَرَحَّمُ عَلَيْكُمْ، حَيْثُ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِإِكْثَارِ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى نُورِ الطَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْبَعْثِ. وَمَلائِكَتُهُ: مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَكِنِ فِي يُصَلِّي، فَأَغْنَى الْفَصْلُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَنِ التَّأْكِيدِ، وَصَلَاةُ اللَّهِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَيْفَ اشْتَرَكَا فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ؟ وَهُوَ إِرَادَةُ وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ. فَاللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ بِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، وَمَلَائِكَتُهُ يُرِيدُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلُوا لِكَوْنِهِمْ مُسْتَجَابِي الدَّعْوَةِ، كَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ الرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: حَيَّاكَ اللَّهُ: أَيْ أَحْيَاكَ وَأَبْقَاكَ، وَحَيَّيْتُكَ: أَيْ دَعَوْتُ لَكَ بِأَنْ يُحْيِيَكَ اللَّهُ، لِأَنَّكَ لا تكالك عَلَى إِجَابَةِ دَعْوَتِكَ كَأَنَّكَ تُبْقِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ عَمَّرَكَ اللَّهُ وَعَمَّرْتُكَ، وَسَقَاكَ اللَّهُ وَسَقَيْتُكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ: أَيِ ادْعُوا لَهُ بِأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً: دليل

_ (1) سورة غافر: 40/ 7.

عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الرَّحْمَةُ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ، كَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ اشْتَرَكَتَا فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ أَوْلَى. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. سَلامٌ: أَيْ تَحِيَّةُ اللَّهِ لَهُمْ. يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، مَرْحَبًا بِعِبَادِي الَّذِينَ أَرْضَوْنِي بِاتِّبَاعِ أَمْرِي، قَالَهُ الرَّقَاشِيُّ. وَقِيلَ: يُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَا يَقْبِضُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِقَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ قَالَ: رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلَامَ، قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: يَلْقَوْنَهُ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَقِيلَ: سَلَامُ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَوْمَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ، أَيْ سَلِمْنَا وَسَلِمْتَ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ. وَقِيلَ: تُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ. وَقِيلَ: هُوَ سَلَامُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةِ مَعَهُ عَلَيْهِمْ، وَبِشَارَتُهُمْ بِالْجَنَّةِ. وَالتَّحِيَّةُ مَصْدَرٌ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ، إِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمُحَيِّي وَالْمُحَيَّا، لَا عَلَى جِهَةِ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَاعِلًا مَفْعُولًا، وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِهِ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «1» : أَيْ لِلْحُكْمِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ، وَلِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ التَّحِيَّةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمْ هِيَ سَلَامٌ. وَفَرَّقَ الْمُبَرِّدُ بَيْنَ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ فَقَالَ: التَّحِيَّةُ يَكُونُ ذَلِكَ دُعَاءً، وَالسَّلَامُ مَخْصُوصٌ، وَمِنْهُ: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً «2» . وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ: الْجَنَّةُ، شاهِداً عَلَى مَنْ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ، أَيْ مَفْعُولًا قَوْلُكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَشَاهِدًا بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ، وَبِتَبْلِيغِ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلَكَ. وَانْتَصَبَ شاهِداً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، إِذَا كَانَ قَوْلُكَ عِنْدَ اللَّهِ وَقْتَ الْإِرْسَالِ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ شَاهِدًا عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ أَدَائِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ زَمَانِ الْبَعْثَةِ، وَإِيمَانُ مَنْ آمَنَ وَتَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَ كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: إِلَى الطَّاعَةِ. بِإِذْنِهِ: أَيْ بِتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ الْإِذْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ دَاعِيًا أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الدُّعَاءِ. وَلَمَّا كَانَ دُعَاءُ الْمُشْرِكِ إِلَى التَّوْحِيدِ صَعْبًا جِدًّا، قِيلَ: بِإِذْنِهِ، أَيْ بتسهيله تعالى. وسِراجاً مُنِيراً: جَلَّى مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ، وَاهْتَدَى بِهِ الضَّالُّونَ، كَمَا يُجَلَّى ظَلَامُ اللَّيْلِ بِالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ. وَيُهْتَدَى بِهِ إِذَا مَدَّ اللَّهُ بِنُورِ نبوته نور

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 78. (2) سورة الفرقان: 25/ 75.

الْبَصَائِرِ، كَمَا يَمُدُّ بِنُورِ السِّرَاجِ نُورَ الْأَبْصَارِ. وَوَصَفَهُ بِالْإِنَارَةِ، لِأَنَّ مِنَ السِّرَاجِ مَا لَا يُضِيءُ إِذَا قَلَّ سَلِيطُهُ وَدَقَّتْ فَتِيلَتُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شاهِداً، أَيْ وَذَا سِرَاجٍ مُنِيرٍ، أَيْ كِتَابٍ نَيِّرٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ كَانَ نَصْبًا عَلَى مَعْنَى: وَتَالِيًا سِرَاجًا مُنِيرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى كَافِ أَرْسَلْناكَ. انْتَهَى. وَلَا يَتَّضِحُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا ذَا سِرَاجٍ مُنِيرٍ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَلَا يُوصَفُ بِالْإِرْسَالِ الْقُرْآنُ، إِنَّمَا يُوصَفُ بِالْإِنْزَالِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ: وَتَالِيًا، يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا تَالِيًا سِرَاجًا مُنِيرًا، فَفِيهِ عَطْفُ الصِّفَةِ الَّتِي لِلذَّاتِ عَلَى الذَّاتِ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَالْعَالِمَ. إِذَا كَانَ الْعَالِمُ صِفَةً لِزَيْدٍ، وَالْعَطْفُ مُشْعِرٌ بِالتَّغَايُرِ، لَا يَحْسُنُ مِثْلُ هَذَا التَّخْرِيجِ فِي كَلَامِ اللَّهِ، وَثُمَّ حُمِلَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ شاهِداً إِلَى آخِرِهِ، تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاشْهَدْ وَبَشِّرْ وَأَنْذِرْ وَادْعُ وَانْهَ، ثُمَّ قَالَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ الثَّوَابُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لِلْعَطَايَا فُضُولٌ وَفَوَاضِلُ، أَوِ الْمَزِيدُ عَلَى الثَّوَابِ. وَإِذَا ذُكِرَ الْمُتَفَضَّلُ بِهِ وَكِبَرُهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالثَّوَابِ؟ أَوْ مَا فُضِّلُوا بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، أَوِ الْجَنَّةِ وَمَا أُوتُوا فِيهَا، وَيُفَسِّرُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ «1» . وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ: نَهْيٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّمَاعِ مِنْهُمْ فِي أَشْيَاءَ كَانُوا يَطْلُبُونَهَا مِمَّا لَا يَجِبُ، وَفِي أَشْيَاءَ يَنْتَصِحُونَ بِهَا وَهِيَ غِشٌّ. وَدَعْ أَذاهُمْ: الظَّاهِرُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ. لَمَّا نَهَى عَنْ طَاعَتِهِمْ، أَمَرَ بِتَرْكِهِ إِذَايَتَهُمْ وَعُقُوبَتَهُمْ، وَنُسِخَ مِنْهُ مَا يَخُصُّ الْكَافِرِينَ بِآيَةِ السَّيْفُ. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُكَ وَيَخْذُلُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، أَيْ وَدَعْ إِذَايَتَهُمْ إِيَّاكَ، أَيْ مُجَازَاةَ الْإِذَايَةِ مِنْ عِقَابٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى تُؤْمَرَ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي

_ (1) سورة الشورى: 42/ 22.

أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً، لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ وَتَطْلِيقَهُ إِيَّاهَا، وَكَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَاعْتَدَّتْ، وَخَطَبَهَا الرَّسُولُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعْدَ انْقِضَاءٍ عِدَّتِهَا، بَيَّنَ حَالَ مَنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَأَنَّهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى نَكَحْتُمُ: عَقَدْتُمْ عَلَيْهِنَّ. وَسُمِّيَ الْعَقْدُ نِكَاحًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ إِلَيْهِ، كَمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ إِثْمًا لِأَنَّهَا سَبَبٌ لَهُ. قَالُوا: وَلَفْظُ النكاح في كتاب الله لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ مِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ كَمَا كَنَّى عَنِ الْوَطْءِ بِالْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْقُرْبَانِ وَالتَّغَشِّي وَالْإِتْيَانِ، قِيلَ: إِلَّا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «1» ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْكِتَابِيَّاتُ، وَإِنْ شَارَكَتِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَتَخْصِيصُ الْمُؤْمِنَاتِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطْفَتِهِ إِلَّا الْمُؤْمِنَةَ. وَفَائِدَةُ الْمَجِيءِ بِثُمَّ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا، إِنْ تَزَوَّجَتْ وَطُلِّقَتْ عَلَى الْفَوْرِ، وَلِمَنْ تَأَخَّرَ طَلَاقُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفَى التَّوَهُّمَ عَمَّنْ عَسَى يَتَوَهَّمُ تَفَاوُتَ الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ مِنَ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْعُدَ عَهْدُهَا بِالنِّكَاحِ، وَتَتَرَاخَى بِهَا الْمُدَّةُ فِي حِيَالَةِ الزَّوْجِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا. انْتَهَى. وَاسْتَعْمَلَ صِلَةً لِمَنْ عَسَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، أَوْ لُوحِظَ فِي ذَلِكَ الْغَالِبُ. فَإِنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ عَلَى امْرَأَةٍ، إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِرَغْبَةٍ، فَيَبْعُدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الرَّغْبَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالطَّلَاقِ مُهْلَةٌ يَظْهَرُ فِيهَا لِلزَّوْجِ نَأْيُهُ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَا يَصِحُّ طَلَاقُ مَنْ لَمْ يُعْقَدْ عَلَيْهَا عَيْنَهَا أَوْ قَبِيلَتَهَا أَوِ الْبَلَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ، مِنْهُمْ مَالِكٌ: يَصِحُّ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسِيسَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَأَنَّهُ إِذَا خَلَا بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، لَا يَعْقِدُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: حُكْمُ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ حُكْمُ الْمَسِيسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيَّةً، إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، لَا تَتِمُّ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، وَلَا تَسْتَقْبِلُ عِدَّةً، لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وبه

_ (1) سورة البقرة: 2/ 230. [.....]

قَالَ دَاوُدُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: تَمْضِي فِي عِدَّتِهَا عَنْ طَلَاقِهَا الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الثَّانِيَ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ جُمْهُورِ الْأَمْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَائِنًا غَيْرَ مَبْتُوتَةٍ، فَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، كَالرَّجْعِيَّةِ فِي قَوْلِ دَاوُدَ، لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، لَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَا اسْتِئْنَافُ عِدَّةِ الثَّانِي، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَزُفَرُ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَتُتِمُّ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ الْأُولَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُونُسَ: لَهَا مَهْرٌ كَامِلٌ لِلنِّكَاحِ الثَّانِي، وَعِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ، جَعَلُوهَا فِي حُكْمِ الْمَدْخُولِ بِهَا، لِاعْتِدَادِهَا مِنْ مِائَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْتَدُّونَها، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ: افْتَعَلَ مِنَ الْعَدِّ، أَيْ تَسْتَوْفُونَ عَدَدَهَا، مِنْ قَوْلِكَ: عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا، أَيِ اسْتَوْفَى عَدَدَهَا نَحْوَ قَوْلِكَ: كِلْتُهُ وَاكْتَالَهُ، وَزِنْتُهُ فَاتَّزَنْتُهُ. وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَنَقَلَهَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. وَقَالَ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَرَوِيَ عَنِ أَبِي بَرْزَةَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِتَخْفِيفِ الدَّالِ مِنَ الْعُدْوَانِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا لَكُمْ عِدَّةٌ تَلْزَمُونَهَا عُدْوَانًا وَظُلْمًا لَهُنَّ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَشْهَرُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَتَخْفِيفُ الدَّالِ وَهْمٌ مِنْ أَبِي بَرْزَةَ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِوَهْمٍ، إِذْ قَدْ نَقَلَهَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ) ، وَنَقَلَهَا الرَّازِيُّ الْمَذْكُورُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ: هُوَ مِنَ الِاعْتِدَادِ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا التَّضْعِيفَ فَخَفَّفُوهُ. فَإِنْ جُعِلَتْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ ضُعِّفَ، لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ يَتَعَدَّى بِعَلَى. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ يَتَعَدَّى بِعَلَى، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَحْذِفَ عَلَى، وَيَصِلُ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ ... وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلَا الْأَسَى لَقَضَانِي أَيْ: لَقَضَى عَلَيَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ: تَعْتَدُونَهَا مُخَفَّفًا، أَيْ تَعْتَدُونَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ. وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِدَاءِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا. انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّهُ اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ لَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَصَّلَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ الْعِدَّةِ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا أَيْ: شَهِدْنَا فِيهِ. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَلَى، فَالْمَعْنَى: تَعْتَدُونَ عَلَيْهِنَّ فِيهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:

بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ كَغَيْرِهِ، وَتَشْدِيدِ الدَّالِ جَمْعًا بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ. وَقَوْلُهُ: فَما لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فِيهَا غَالِبٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَهَا الْمُتْعَةُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْدُودَةً أَمْ مَفْرُوضًا لَهَا. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِمَنْ لَا مُسَمًّى لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي فَمَتِّعُوهُنَّ لِلْوُجُوبِ، وَقِيلَ: لِلنَّدْبِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُشَبَّعًا فِي الْمُتْعَةِ فِي الْبَقَرَةِ. والسراج الْجَمِيلُ: هُوَ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ دُونَ أَذًى وَلَا مَنْعِ وَاجِبٍ. وَقِيلَ: أَنْ لَا يُطَالِبَهَا بِمَا آتَاهَا. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى بَعْضَ أَحْكَامِ أَنْكِحَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأُجُورُ: الْمُهُورُ، لِأَنَّهُ أَجْرٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالْبِضْعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ. وَفِي وَصْفِهِنَّ بِ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْمَهْرِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ، لِيَتَفَصَّى الزَّوْجُ عَنْ عُهْدَةِ الدِّينِ وَشَغْلِ ذِمَّتِهِ بِهِ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مَجَّانًا دُونَ عِوَضٍ تَسَلَّمَتْهُ، وَالتَّعْجِيلُ كَانَ سُنَّةَ السَّلَفِ، لَا يُعْرَفُ مِنْهُمْ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ حِينَ شَكَا حَالَةَ التَّزَوُّجِ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةَ» ؟ وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ بِقَوْلِهِ: مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَسْبِيَّةً، فَمَلَكَهَا مِمَّا غَنَّمَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ أَحَلَّ وَأَطْيَبَ مِمَّا تُشْتَرَى مِنَ الْجَلَبِ. فَمَا سُبِيَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قِيلَ فِيهِ سَبْيٌ طَيِّبَةٌ، وَمِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ قِيلَ فِيهِ سَبْيٌ خَبِيثَةٌ، وَفَيْءُ اللَّهِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ، مَخْصُوصُ لَفْظَةِ أَزْوَاجِكَ بِمَنْ كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ، كَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ مَنْ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ، وَجَمِيعُ النِّسَاءِ حَتَّى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ مَمْهُورَةٍ وَرَقِيقَةٍ وَوَاهِبَةٍ نَفْسَهَا مَخْصُوصَةٌ بِهِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ: أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، ثُمَّ الضَّمِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُمُّ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، فَيَنْقَطِعُ مِنَ الْأَوَّلِ وَيَعُودُ عَلَى أَزْوَاجِهِ التِّسْعِ فَقَطْ، وَفِي التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ تَضْيِيقٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّجُ أَيَّ النِّسَاءِ شَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى نِسَائِهِ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاءُ، إِلَّا مَنْ سُمِّيَ سُرَّ نِسَاؤُهُ بِذَلِكَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ إِنَّمَا يُعَلِّقُهُ فِي النَّادِرِ، وَبَنَاتُ الْعَمِّ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ يَسِيرٌ. وَمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ مَحْصُورٌ عِنْدَ نِسَائِهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِنَ بِشَرْطِ الْهِجْرَةِ، وَالْوَاجِبُ أَيْضًا مِنَ النِّسَاءِ قَلِيلٌ، فَلِذَلِكَ سُرَّ بِانْحِصَارِ الْأَمْرِ. ثُمَّ مَجِيءُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ مَجِيءُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ،

إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي تَقَدَّمَ النَّصُّ عَلَيْهِنَّ بِالتَّحْلِيلِ، فَيَأْتِي الْكَلَامُ مُثْبَتًا مُطَّرِدًا أَكْثَرَ مِنَ اطِّرَادِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ. وَبَناتِ عَمِّكَ، قالت أم هانىء، بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ: خَطَبَنِي رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ فَعَذَرَنِي، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَحَرَّمَتْنِي عَلَيْهِ، لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ. وَالتَّخْصِيصُ بِ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، لِأَنَّ مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ مِنْ قَرَابَتِهِ غَيْرِ الْمَحَارِمِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرَاتِ. وَقِيلَ: شَرْطُ الْهِجْرَةِ فِي التَّحْلِيلِ مَنْسُوخٌ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهِجْرَةَ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ قَرَابَاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا: الِاشْتِرَاكُ فِي الْهِجْرَةِ لَا فِي الصُّحْبَةِ فِيهَا، فَيُقَالُ: دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي وَخَرَجَ مَعِي، أَيْ كَانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنَا فِي الزَّمَانِ. وَلَوْ قُلْتَ: فَرَجَعْنَا مَعًا، اقْتَضَى الْمَعْنَيَانِ الِاشْتِرَاكَ فِي الْفِعْلِ، وَالِاقْتِرَانُ فِي الزَّمَانِ. وَأَفْرَدَ الْعَمَّ وَالْخَالَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ كَذَلِكَ، وَهَذَا حَرْفٌ لُغَوِيٌّ قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَاضِي. وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: هِيَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ، وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، أُمُّ الْمَسَاكِينَ، امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ مِنْهُنَّ بِالْهِبَةِ. وَقِيلَ: الْمُوهِبَاتُ أَرْبَعٌ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا قَبْلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَامْرَأَتَ، بِالنَّصْبِ إِنْ وَهَبَتْ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ: أَيْ أَحْلَلْنَاهَا لَكَ. إِنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرادَ، فَهُنَا شَرْطَانِ، وَالثَّانِي فِي مَعْنَى الْحَالِ، شَرْطٌ فِي الْإِحْلَالِ هِبَتُهَا نَفْسَهَا، وَفِي الْهِبَةِ إِرَادَةُ اسْتِنْكَاحِ النَّبِيِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْلَلْنَاهَا لَكَ إِنْ وَهَبَتْ لَكَ نَفْسَهَا، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَسْتَنْكِحَهَا، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ هِيَ قَبُولُهُ الْهِبَةَ وَمَا بِهِ تَتِمُّ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ نَظِيرُ الشَّرْطَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ «1» . وَإِذَا اجْتَمَعَ شَرْطَانِ، فَالثَّانِي شَرْطٌ فِي الْأَوَّلِ، مُتَأَخِّرٌ فِي اللَّفْظِ، مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُقُوعِ، مَا لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ، نَحْوَ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ أَوْ طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ. وَاجْتِمَاعُ الشَّرْطَيْنِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) ، فِي بَابِ الجوازم. وقرأ أبو

_ (1) سورة هود: 11/ 34.

حَيْوَةَ: وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ: أَيْ أَحْلَلْنَاهَا لَكَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِيسَى، وَسَلَامٌ: أَنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: لِأَنْ وَهَبَتْ، وَذَلِكَ حُكْمٌ فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، فَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَقِرَاءَةُ الْكَسْرِ اسْتِقْبَالٌ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَهَبُ نَفْسَهَا دُونَ وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِذْ وَهَبَتْ، إِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى، فَهُوَ فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا. وَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي النَّبِيِّ، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ مِمَّا خُصَّ بِهِ وَأُوثِرَ. وَمَجِيئُهُ عَلَى لَفْظِ النَّبِيِّ، لِدَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ تَكْرِمَةٌ لَهُ لِأَجْلِ النُّبُوَّةِ، وَتَكْرِيرُهُ تَفْخِيمٌ لَهُ وَتَقْرِيرٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْكَرَامَةَ لِنُبُوَّتِهِ. وَاسْتِنْكَاحُهَا: طَلَبُ نِكَاحِهَا وَالرَّغْبَةُ فِيهِ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ التَّزْوِيجَ لَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَلَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: يَجُوزُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِقَوْلِهِ: اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مُؤَقَّتٌ، وَعَقْدَ النِّكَاحِ مُؤَبَّدٌ، فَتَنَافَيَا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إِذَا وُهِبَتْ، فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَهْرٍ، لِأَنَّ رَسُولَ الله وَأُمَّتَهُ سَوَاءٌ فِي الْأَحْكَامِ، إِلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خُصَّ بِمَعْنَى الْهِبَةِ وَلَفْظُهَا جَمِيعًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ تَابِعٌ لِلْمَعْنَى، وَالْمُدَّعِي لِلِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خالِصَةً، بِالنَّصْبِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، كَ وَعَدَ اللَّهُ «1» ، وصِبْغَةَ اللَّهِ «2» ، أَيْ أَخْلَصَ لَكَ إِخْلَاصًا. أَحْلَلْنا لَكَ، خالِصَةً بِمَعْنَى خُلُوصًا، وَيَجِيءُ الْمَصْدَرُ عَلَى فَاعِلٍ وَعَلَى فَاعِلَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاعِلُ وَالْفَاعِلَةُ فِي الْمَصَادِرِ عَلَى غَيْرِ عَزِيزِينِ، كَالْخَارِجِ وَالْقَاعِدِ وَالْعَاقِبَةِ وَالْكَاذِبَةِ. انْتَهَى، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هُمَا عَزِيزَانِ، وَتَمْثِيلُهُ كَالْخَارِجِ يُشِيرُ إِلَى قول الفرزدق: ولا خارج مِنْ فِيَّ زُورُ كَلَامٍ وَالْقَاعِدُ إِلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أَقَاعِدًا وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ وَالْكَاذِبَةُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «3» . وَقَدْ تُتَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَصَادِرَ. وَقُرِئَ: خَالِصَةٌ، بِالرَّفْعِ، فَمَنْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا، قَدَّرَهُ ذَلِكَ خُلُوصٌ لَكَ، وَخُلُوصٌ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: خالِصَةً لَكَ مِنْ صِفَةِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا لك، فقراءة

_ (1) سورة النساء: 4/ 122. (2) سورة البقرة: 2/ 138. (3) سورة الواقعة: 56/ 2.

النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَةً لَكَ، وَالرَّفْعُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ: أَيْ هِيَ خَالِصَةٌ لَكَ، أَيْ هِبَةُ النِّسَاءِ أَنْفُسَهُنَّ مُخْتَصٌّ بِكَ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَهَبَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِغَيْرِكَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِغَيْرِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامٍ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَصَرُوا عَلَى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي أَثَرِ الْإِحْلَالَاتِ الْأَرْبَعِ مَخْصُوصَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لَهَا قَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ مُتَّصِلٌ بِ خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَزْوَاجِ الْإِمَاءِ، وَعَلَى أَيِّ حَدٍّ وَصَفَهُ يَجِبُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمْ، فَفَرَضَهُ وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اخْتَصَّهُ بِهِ، فَفَعَلَ. وَمَعْنَى لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ: أَيْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ ضِيقٌ فِي دِينِكَ، حَيْثُ اخْتَصَصْنَاكَ بِالتَّنْزِيهِ، وَاخْتِصَاصُ مَا هُوَ أَوْلَى وَأَفْضَلُ فِي دُنْيَاكَ، حَيْثُ أَحْلَلْنَا لَكَ أَجْنَاسَ الْمَنْكُوحَاتِ، وَزِدْنَاكَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا وَمَنْ جَعَلَ خَالِصَةً نَعْتًا لِلْمَرْأَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ خَالِصَةٌ لَكَ مِنْ دُونِهِمْ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِكَيْلا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِكَيْلا يَكُونَ، أَيْ بَيَّنَّا هَذَا الْبَيَانَ وَشَرَحْنَا هَذَا الشَّرْحَ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ، وَيُظَنُّ بِكَ أَنَّكَ قَدْ أَثِمْتَ عِنْدَ رَبِّكَ، ثُمَّ آنَسَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ بِغُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَفُوراً لِلْوَاقِعِ فِي الْحَرَجِ إِذَا تَابَ، رَحِيماً بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى عِبَادِهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ، مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فَرْضُكَ وَحُكْمُكَ مَعَ نِسَائِكَ، وَأَمَّا حُكْمُ أُمَّتِكَ فَعِنْدَنَا عِلْمُهُ، وَسَنُبَيِّنُهُ لَهُمْ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِئَلَّا يَحْمِلَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسَهُ عَلَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ لَهُ فِي النِّكَاحِ وَالتَّسَرِّي خَصَائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ، هُوَ أَنْ لَا يُجَاوِزُوا أَرْبَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ وَالْمَهْرُ. وَقِيلَ: مَا فَرَضْنَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، قِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ سَبْيُهَا. وَقِيلَ: مَا أَبَحْنَا لَهُمْ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ مَعَ الْأَرْبَعِ الْحَرَائِرِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَالْمَعْنَى: قَدْ عَلِمْنَا إِصْلَاحَ كُلٍّ مِنْكَ وَمِنْ أُمَّتِكَ، وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَكَ وَلَهُمْ، فَشَرَعْنَا فِي حَقِّكَ وَحَقِّهِمْ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمْنَا. رُوِيَ أَنَّ أَزْوَاجَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَغَايَرْنَ وَابْتَغَيْنَ زِيَادَةَ النَّفَقَةِ، فَهَجَرَهُنَّ شَهْرًا، وَنَزَلَ

التَّخْيِيرُ، فَأَشْفَقْنَ أَنْ يُطَلَّقْنَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، افْرِضْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ وَمَالِكَ مَا شِئْتَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى تُرْجِي فِي قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ «1» ، فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُنَّ عَائِدٌ عَلَى أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِرْجَاءُ: الْإِيوَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: فِي طَلَاقٍ مِمَّنْ تَشَاءُ مِمَّنْ حَصَلَ فِي عِصْمَتِكَ، وَإِمْسَاكِ مَنْ تَشَاءُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فِي تَزَوُّجِ مَنْ تَشَاءُ مِنَ الْوَاهِبَاتِ، وَتَأْخِيرِ مَنْ تَشَاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: وَتُقَرِّرُ مَنْ شِئْتَ فِي الْقِسْمَةِ لَهَا، وَتُؤَخِّرُ عَنْكَ مَنْ شِئْتَ، وَتُقَلِّلُ لِمَنْ شِئْتَ، وَتُكْثِرُ لِمَنْ شِئْتَ، لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْنَ أَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ، زَالَتِ الْإِحْنَةُ وَالْغَيْرَةُ عَنْهُنَّ وَرَضِينَ وَقَرَّتْ أَعْيُنُهُنَّ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهُ. وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ: أَيْ وَمَنْ طَلَبْتَهَا مِنَ الْمَعْزُولَاتِ وَمِنَ الْمُفْرَدَاتِ، فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فِي رَدِّهَا وَإِيوَائِهَا إِلَيْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ وَمَنْ عَزَلْتَ سَوَاءٌ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ. كَمَا تَقُولُ: مَنْ لَقِيَكَ مِمَّنْ لَمْ يَلْقَكَ، جَمِيعُهُمْ لَكَ شَاكِرٌ، تُرِيدُ مَنْ لَقِيَكَ وَمَنْ لَمْ يَلْقَكَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ حَذْفٌ الْمَعْطُوفِ، وَغَرَابَةٌ فِي الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا التَّرْكِيبِ، وَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وقال الحسن: المعنى: من مَاتَ مِنْ نِسَائِكَ اللَّوَاتِي عِنْدَكَ، أَوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَهَا، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَبْدِلَ عِوَضَهَا مِنَ اللَّاتِي أَحْلَلْتُ لَكَ، فَلَا تَزْدَادُ عَلَى عِدَّةِ نِسَائِكَ اللَّاتِي عِنْدَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى تَتْرُكُ مَضَاجِعَ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُضَاجِعُ مَنْ تَشَاءُ، أَوْ تُطَلِّقُ مَنْ تَشَاءُ وَتُمْسِكُ مَنْ تَشَاءُ، أَوْ لَا تُقَسِّمُ لِأَيَّتِهِنَّ شِئْتَ وَتَقْسِمُ لِمَنْ شِئْتَ، أَوْ تَتْرُكُ مَنْ تَشَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ وَتَتَزَوَّجُ مَنْ شِئْتَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا حَتَّى يَدَعَهَا، وَهَذِهِ قِسْمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا هُوَ الْغَرَضُ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ. فَإِذَا أَمْسَكَ ضَاجَعَ، أَوْ تَرَكَ وَقَسَمَ، أَوْ لَمْ يَقْسِمْ. وَإِذَا طَلَّقَ وَعَزَلَ، فَإِمَّا أَنْ يُخَلِّيَ الْمَعْزُولَةَ لَا يَتْبَعُهَا، أَوْ يَتْبَعُهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَرْجَأَ مِنْهُنَّ: سَوْدَةَ، وَجُوَيْرِيَّةَ، وَصَفِيَّةَ، وَمَيْمُونَةَ، وَأُمَّ حَبِيبَةَ. فَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ كَمَا شَاءَ، وَكَانَتْ مِمَّنْ أَوَى إِلَيْهِ: عائشة، وحفصة، وأم سملة، وَزَيْنَبُ، أَرْجَأَ خَمْسًا وَأَوَى أَرْبَعًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ مَعَ مَا أُطْلِقَ لَهُ وَخُيِّرَ فِيهِ إِلَّا سَوْدَةَ، فَإِنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِعَائِشَةَ وَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي حَتَّى أُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ نِسَائِكَ. انْتَهَى. ذَلِكَ التَّفْوِيضُ إِلَى مَشِيئَتِكَ أَدْنَى إِلَى قُرَّةِ عُيُونِهِنَّ وَانْتِفَاءِ حزنهن ووجود رضاهن،

_ (1) سورة براءة (التوبة) : 9/ 106.

إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْوِيضَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَحَالَةُ كُلٍّ مِنْهُنَّ كَحَالَةِ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ قَرَّتِ الْعَيْنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يُقِرَّ مِنْ أَقَرَّ أَعْيُنَهُنَّ بِالنَّصْبِ، وَفَاعِلُ تُقِرَّ ضَمِيرُ الْخِطَابِ، أَيْ أَنْتَ. وَقُرِئَ: تُقَرَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَأَعْيُنُهُنَّ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُلُّهُنَّ بِالرَّفْعِ، تَأْكِيدًا لِنُونِ يَرْضَيْنَ وَأَبُو إياس حوبة بن عائد: بِالنَّصْبِ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّصْبِ فِي آتَيْتَهُنَّ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ: عَامٌّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ به هاهنا إِلَى مَا فِي قَلْبِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَحَبَّةِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعُبَيْدَةُ: مَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُنَّ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَوَّضَ إِلَى مَشِيئَةِ رَسُولِهِ، وَبَعَثَ عَلَى تَوَاطُؤِ قُلُوبِهِنَّ، وَالتَّصَافِي بَيْنَهُنَّ، وَالتَّوَافُقِ عَلَى طَلَبِ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا فِيهِ طِيبُ نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، حَلِيماً: يَصْفَحُ عَمَّا يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْمَسْئُولِ، إِذْ هِيَ مِمَّا لَا يَمْلِكُ غَالِبًا. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَهُنَّ فِي الْقِسْمَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ شَيْئًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ، ضَبْطًا لِنَفْسِهِ وَأَخْذًا بِالْفَضْلِ، غَيْرَ مَا جَرَى لِسَوْدَةَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. ومن بَعْدُ الْمَحْذُوفُ مِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَالَ أُبَيٌّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: وَمِنْ بَعْدِ اللَّوَاتِي أَحْلَلْنَا لَكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ. فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لَا تَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ النِّسَاءِ اللَّاتِي نُصَّ عَلَيْهِنَّ أَنَّهُنَّ يَحْلِلْنَ لَكَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: لَا أَعْرَابِيَّةً، وَلَا عَرَبِيَّةً، وَلَا كِتَابِيَّةً، وَلَا أَمَةً بِنِكَاحٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: مِنْ بَعْدُ، لِأَنَّ التِّسْعَ نصاب رسول الله مِنَ الْأَزْوَاجِ، كَمَا أَنَّ الْأَرْبَعَ نِصَابُ أُمَّتِهِ مِنْهُنَّ. قَالَ: لَمَّا خُيِّرْنَ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، جَازَاهُنَّ اللَّهُ أَنْ حَظَرَ عَلَيْهِ النِّسَاءَ غَيْرَهُنَّ وَتَبْدِيلَهُنَّ، وَنَسَخَ بِذَلِكَ مَا أَبَاحَهُ لَهُ قَبْلُ مِنَ التَّوْسِعَةِ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: مِنْ بَعْدُ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِبَاحَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَا تَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ غَيْرُ الْمُسْلِمَاتِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ. وَكَذَلِكَ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ: أَيْ بِالْمُسْلِمَاتِ مِنْ أَزْوَاجٍ يَهُودِيَّاتٍ وَنَصْرَانِيَّاتٍ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ، هُوَ مِنَ الْبَدَلِ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. كَانَ يَقُولُ الرَّجُلُ: بَادِلْنِي بِامْرَأَتِكَ وَأُبَادِلُكَ بِامْرَأَتِي، فَيَنْزِلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ امْرَأَتِهِ لِلْآخَرِ. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَمَا فَعَلَتِ الْعَرَبُ قَطُّ هَذَا. وَمَا

رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ. مَنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءُ؟ فَقَالَ: «عَائِشَةُ» ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ شِئْتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَرَبِ جَمَالًا وَنَسَبًا ، فَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ، وَلَا أَرَادَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا احْتَقَرَ عَائِشَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ صَبِيَّةً. وَمِنْ فِي مِنْ أَزْواجٍ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَفَائِدَتُهُ اسْتِغْرَاقُ جِنْسِ الْأَزْوَاجِ بِالتَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي النَّاسِخِ فَقِيلَ: بِالسُّنَّةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا مَاتَ حَتَّى حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ ، وَقِيلَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الْآيَةَ. قَالَ هِبَةُ اللَّهِ الضَّرِيرُ: فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَاسِخٌ تَقَدَّمَ الْمَنْسُوخَ سِوَى هَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَلَامُهُ يَضْعُفُ مِنْ جِهَاتٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ: قَوْلُهُ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الْآيَةَ، فَتَرْتِيبُ النُّزُولِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، قِيلَ: مِنْهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ، امْرَأَةُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَالْجُمْلَةُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي تَبَدَّلَ، لَا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَزْواجٍ، لِأَنَّهُ مُوغِلٌ فِي التَّنْكِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ: مَفْرُوضًا إِعْجَابُكَ لَهُنَّ وَتَقَدَّمَ لَنَا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّبَدُّلَ، وَهِيَ حَالَةُ الْإِعْجَابِ بِالْحُسْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا اللَّفْظِ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ زَوَاجَهَا. انْتَهَى. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ: أَيْ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَكَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً وَاقِعَةً عَلَى الْجِنْسِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ، يُخْتَارُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ النِّسَاءُ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً، فَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مِلْكُ الْيَمِينِ، وَمِلْكُ بِمَعْنَى: مَمْلُوكٍ، فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْمَصْدَرِ، فَيَكُونُ الرَّفْعُ هُوَ أَرْجَحُ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يَتَحَتَّمُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً، بَلِ الْحِجَازُ تَنْصِبُ وَتَمِيمٌ تُبْدِلُ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى، يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ النَّصْبُ مُتَحَتِّمًا حَيْثُ كَانَ الْمُسْتَثْنَى لَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ

عَلَيْهِ نَحْوُ: مَا زَادَ الْمَالَ إِلَّا النَّقْصُ، فَلَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّقْصِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ فَنَاقَضَ. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً: أَيْ رَاقِبًا، أَوْ مُرَاقِبًا، وَمَعْنَاهُ: حَافِظٌ وَشَاهِدٌ وَمُطَّلِعٌ، وَهُوَ تَحْذِيرٌ عَنْ مُجَاوَزَةِ حُدُودِهِ وَتَخَطِّي حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً، إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، وَقَامَ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلَاثَةٌ، فَجَاءَ فَدَخَلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، فَرَجَعَ وَأَنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا، وَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، وَذَهَبْتُ أَدْخُلُ، فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ نَاسٌ يَتَحَيَّنُونَ طَعَامَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ، وَكَانَ يَتَأَذَّى بِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَأَمَّا سَبَبُ الْحِجَابِ، فَعُمَرُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَارُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَعِمَ مَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَمَعَهُمْ عَائِشَةُ، فَمَسَّتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَ عَائِشَةَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ كَانَ عَنْ إِذْنٍ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، بل لَا يَجُوزُ دُخُولُ بُيُوتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا بِإِذْنٍ، سَوَاءٌ كَانَ لِطَعَامٍ أَمْ لِغَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ إِلَّا بِإِذْنٍ إِلَى طَعَامٍ، وَهُوَ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِجِهَةِ الْأَوْلَى. وبُيُوتَ: جَمْعٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ فِي

بَيْتٍ وَاحِدٍ خَاصٍّ يَعُمُّ جميع بيوته. وإِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ تَقْدِيرُهُ: وَقْتَ أن يؤذن لكم، وغَيْرَ ناظِرِينَ: حَالٌ مِنْ لَا تَدْخُلُوا، أَوْقَعَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْوَقْتِ وَالْحَالِ مَعًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا وَقْتَ الْإِذْنِ، وَلَا تَدْخُلُوهَا إِلَّا غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ وَتَقْدِيرُهُ: وَقْتَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَأَنَّهُ أَوْقَعَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْوَقْتِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ لَا تَكُونُ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ. تَقُولُ: أَجِيئُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ وَقُدُومَ الْحَاجِّ، وَلَا يَجُوزُ: أَجِيئُكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ وَلَا أَنْ يَقْدِمَ الْحَاجُّ. وَإِمَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ عَلَى الْوَقْتِ وَالْحَالِ مَعًا، فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَقَعُ بَعْدُ إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا الْمُسْتَثْنَى، أَوِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ صِفَةُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ: وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، أَجَازَا: مَا ذَهَبَ الْقَوْمُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمْعَةِ رَاحِلِينَ عَنَّا، فَيَجُوزُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْحَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا بِأَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «1» ، أَوْ لِلْحَالِ، أَيْ مَصْحُوبِينَ بِالْإِذْنِ. وَأَمَّا غَيْرَ ناظِرِينَ، كَمَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «2» . أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، دَلَّ عَلَيْهِ لَا تَدْخُلُوا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَرْسَلْنَاهُمْ قَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا. وَمَعْنَى غَيْرَ ناظِرِينَ فَحَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ادْخُلُوا بِالْإِذْنِ غَيْرَ نَاظِرِينَ. كَمَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ، أَيْ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ وَقْتَهُ، أَيْ وَقْتَ اسْتِوَائِهِ وَتَهْيِئَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غَيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْكَسْرِ، صِفَةً لِطَعَامٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ، لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ، فَمِنْ حَقِّ ضَمِيرِ مَا هُوَ لَهُ أن يبرز من إِلَى اللَّفْظِ، فَيُقَالُ: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ أَنْتُمْ، كَقَوْلِهِ: هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارَبَتْهُ هِيَ. انْتَهَى. وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ جائز عند الْكُوفِيِّينَ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ وَأَنَى الطَّعَامِ إِدْرَاكُهُ، يُقَالُ: أَنَى الطَّعَامُ أَنًى، كَقَوْلِهِ: قَلَاهُ قَلًى، وَقِيلَ: وَقْتُهُ، أَيْ غَيْرَ نَاظِرِينَ سَاعَةَ أَكْلِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَاهُ مفردا والأعمش: إناءه، بِمَدَّةٍ بَعْدَ النُّونِ. وَرَتَّبَ تَعَالَى الدُّخُولَ عَلَى أَنْ يُدْعَوْا، فَلَا يُقَدِّمُونَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ حِينَ يُدْعَوْا، ثُمَّ أَمَرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذَا طَعِمُوا. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ: مَعْطُوفٌ عَلَى ناظِرِينَ، فَهُوَ مَجْرُورٌ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى غَيْرَ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ، أَيْ لَا تَدْخُلُوهَا لَا نَاظِرِينَ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ. وَقِيلَ: ثَمَّ حَالٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ لَا تَدْخُلُوهَا أَجْمَعِينَ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ، فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ. وَاللَّامُ فِي لِحَدِيثٍ إِمَّا لَامُ الْعِلَّةِ، نُهُوا أَنْ يُطِيلُوا الْجُلُوسَ يَسْتَأْنِسُ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 57. (2) سورة آل عمران: 3/ 184، وسورة النحل: 16/ 44.

بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِأَجْلِ حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ، بِهِ أَوِ اللَّامُ الْمُقَوِّيَةُ لِطَلَبِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ، فَنُهُوا أَنْ يَسْتَأْنِسُوا حَدِيثَ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَاسْتِئْنَاسُهُ: تَسَمُّعُهُ وَتَوَحُّشُهُ. إِنَّ ذلِكُمْ: أَيِ انْتِظَارَكُمْ وَاسْتِئْنَاسَكُمْ، يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ: أَيْ مِنْ إِنْهَاضِكُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، أَوْ مِنْ إِخْرَاجِكُمْ مِنْهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ: يَعْنِي أَنَّ إِخْرَاجَكُمْ حَقٌّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْحَيَاءُ مِمَّا يمنع الحي مِنْ بَعْضِ الْأَفْعَالِ، قِيلَ: لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بِمَعْنَى: لَا يَمْتَنِعُ، وَجَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ. وَعَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: حَسْبُكَ فِي الثُّقَلَاءِ، أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْتَمِلْهُمْ. وَقُرِئَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ يَدَيْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ فَقَالَ: هُنَا أَدَبٌ أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ الثُّقَلَاءَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فيستحيي بكسر الحاء، مضارع استحا، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. وَاخْتَلَفُوا مَا الْمَحْذُوفُ، أَعَيْنُ الْكَلِمَةِ أَمْ لَامُهَا؟ فَإِنْ كَانَ الْعَيْنَ فَوَزْنُهَا يَسْتَفِلُ، وَإِنْ كَانَ اللَّامَ فَوَزْنُهَا يَسْتَفِعُ، وَالتَّرْجِيحُ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِيَاءَيْنِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، وَالْمَتَاعُ عَامٌّ فِي مَا يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَبَ عَلَى عُرْفِ السُّكْنَى وَالْمُجَاوَرَةِ مِنَ الْمَوَاعِينِ وَسَائِرِ الْمَرَافِقِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا. ذلِكُمْ، أَيِ السُّؤَالُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، أَطْهَرُ: يُرِيدُ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَخْطُرُ لِلرِّجَالِ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ فِي أَمْرِ الرِّجَالِ، إِذِ الرُّؤْيَةُ سَبَبُ التَّعَلُّقِ وَالْفِتْنَةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذاعين يُقَلِّبُهَا ... فِي أَعْيُنِ الْعِينِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا سَاءَ مُهْجَتَهُ ... لَا مَرْحَبًا بِانْتِفَاعٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: أَنُنْهَى أَنْ نُكَلِّمَ بَنَاتِ عَمِّنَا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ؟ لَئِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ لَأَتَزَوَّجَنَّ فُلَانَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ: وَفُلَانَةُ عَائِشَةُ. وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَلَى طَلْحَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنْهُ. وَفِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ طَلْحَةُ، فَنَزَلَتْ: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، فَتَابَ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً، وَحَمَلَ عَلَى عَشَرَةِ أَبْعِرَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَحَجَّ مَاشِيًا. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: حِينَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُمَّ سَلَمَةَ بَعْدَهُ، أَيْ بَعْدَ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ بَعْدَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا بَالُ مُحَمَّدٍ يَتَزَوَّجُ نِسَاءَنَا؟ وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ لَأَجَلْنَا السِّهَامَ عَلَى نِسَائِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ ثُمَّ رَجَعَتْ، تَزَوَّجَ عكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ قُتَيْلَةَ بِنْتَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا. فَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَلِقَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مهلا يا خليفة يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ

نِسَائِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَرْخَى عَلَيْهَا حِجَابًا، وَقَدْ أَبَانَتْهَا مِنْهُ رِدَّتُهَا مَعَ قَوْمِهَا. فَسَكَنَ أَبُو بَكْرٍ، وَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ جِنَازَةَ زَيْنَبَ إِلَّا ذُو مَحْرَمٍ عَنْهَا، مُرَاعَاةً لِلْحِجَابِ، فَدَلَّتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ عَلَى سَتْرِهَا فِي النَّعْشِ فِي الْقُبَّةِ، وَأَعْلَمَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ، وَمَنَعَهُ عُمَرُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صُنِعَ ذَلِكَ فِي جِنَازَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ: عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُتَأَذَّى بِهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا: خَاصٌّ بَعْدَ عَامٍّ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَعْظَمَ الْأَذَى، فَحَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَ أَزْوَاجِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. إِنَّ ذلِكُمْ: أَيْ إِذَايَتَهُ وَنِكَاحَ أَزْوَاجِهِ، كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً: وَهَذَا مِنْ إِعْلَامِ تَعْظِيمِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، وَإِيجَابِهِ حُرْمَتَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِعْلَامِهِ بِذَلِكَ مِمَّا طَيَّبَ بِهِ نَفْسَهُ، فَإِنَّ نَحْوَ هَذَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تُفْرِطُ غَيْرَتُهُ عَلَى حُرْمَتِهِ حَتَّى يَتَمَنَّى لَهَا الْمَوْتَ، لِئَلَّا تُنْكَحَ مِنْ بَعْدِهِ، وَخُصُوصًا الْعَرَبَ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ غَيْرَةً. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أن بعض الفتيان قبّل جَارِيَةً كَانَ يُحِبُّهَا فِي حِكَايَةٍ قَالَ: تَصَوُّرًا لِمَا عَسَى أَنْ يَتَّفِقَ مِنْ بَقَائِهَا بَعْدَهُ، وَحُصُولِهَا تَحْتَ يَدِ غَيْرِهِ. انْتَهَى. فَقَالَ لِمَا عَسَى، فَجَعَلَ عَسَى صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، وَقَدْ كَثُرَ مِنْهُ هَذَا وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَعَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ فِي هَدِيرِ الثُّلُثِ يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ، فَعَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَلًا يُلَاحِظُ ذَلِكَ. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ: وَعِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ التَّعَرُّضُ بِهِ فِي الْآيَةِ مِمَّنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ أَطْهَرُ، وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا، فَقِيلَ: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ، أَوْ تُخْفُوهُ فِي صُدُورِكُمْ، مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ، فَاللَّهُ يَعْلَمُهُ، فَيُجَازِي عَلَيْهِ. وَقَالَ: شَيْئاً، لِيَدْخُلَ فِيهِ مَا يُؤْذِيهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ نِكَاحِهِنَّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ صَالِحٌ لِكُلِّ بَادٍ وَخَافٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ قَالَ: الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ والأقارب، أو نحن يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْضًا، نُكَلِّمُهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَنَزَلَتْ : لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ: أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِنَّ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي تَرْكِ الْحِجَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي وَضْعِ الْجِلْبَابِ وَإِبْدَاءِ الزِّينَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَذْكُرِ الْعَمَّ وَالْخَالَ، وَإِنْ كَانَا مِنَ الْمَحَارِمِ، لِئَلَّا يَصِفَا لِلْأَبْنَاءِ، وَلَيْسُوا مِنَ الْمَحَارِمِ. وَقَدْ كَرِهَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ أَنْ تَضَعَ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ عَمِّهَا أَوْ خَالِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَالِدَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ تَسْمِيَةُ الْعَمِّ أَبًا. وَذُكِرَ هُنَا بَعْضُ الْمَحَارِمِ، وَالْجَمِيعُ فِي سُورَةِ النُّورِ. وَدَخَلَ فِي: وَلا نِسائِهِنَّ، الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَسَائِرُ الْقُرُبَاتِ، وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِنَّ مِنَ الْمُتَطَرِّفَاتِ لَهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ جَمِيعَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَتَخْصِيصُ الْإِضَافَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَيْمَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَهْلِ دِينِهِنَّ، وَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ. وَالظَّاهِرُ

مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، دُخُولُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ دُونَ مَا مِلْكِ غَيْرِهِنَّ. وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِالْإِمَاءِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْعَبِيدِ مِمَّنْ فِي مُلْكِهِنَّ أَوْ مُلْكِ غَيْرِهِنَّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُبَاحُ لِعَبْدِهَا النَّظَرُ إِلَى مَا يُوَارِيهِ الدِّرْعُ مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهَا، وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ الْمَكَاتَبِ مَا يُؤَدِّي، فَقَدْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ الْحِجَابِ دُونَهُ، وَفَعَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ مَعَ مُكَاتَبِهَا نَبْهَانَ. وَاتَّقِينَ اللَّهَ: أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَخُرُوجٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، أَيْ وَاتَّقِينَ اللَّهَ فِيمَا أُمِرْتُنَّ بِهِ مِنَ الِاحْتِجَابِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ الْوَحْيَ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ جُمْلَةً حُذِفَتْ تَقْدِيرُهُ: اقْتَصِرْنَ عَلَى هَذَا، وَاتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِ أَنْ تَتَعَدَّيْنَهُ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً، مِنَ السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَظَاهِرِ الْحِجَابِ وَبَاطِنِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. شَهِيداً: لَا تَتَفَاوَتُ الْأَحْوَالُ فِي عِلْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَلائِكَتَهُ نَصْبًا وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: رَفْعًا. فَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ غَيْرَ الْفَرَّاءِ هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ، وَالْفَرَّاءُ يَشْتَرِطُ خَفَاءَ إِعْرَابِ اسْمِ إِنَّ. وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، أَيْ يُصَلِّي عَلَى النبي، وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَيْفِيَّةِ اجْتِمَاعِ الصَّلَاتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ. فَالضَّمِيرُ فِي يُصَلُّونَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ يُصَلِّي وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، فِرَارًا مِنَ اشْتِرَاكِ الضَّمِيرِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سنة. وإذا كَانَتِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً فَقِيلَ: كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ قِيلَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّةً. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ، كَمَا رَحِمْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ في الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَيْهِ حِينَ اتَّخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجًا. انْتَهَى. وَالطَّعْنُ فِي تَأْمِيرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ إِيذَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِيذَاءَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَإِنْكَارُ النُّبُوَّةِ وَمُخَالَفَةُ الشَّرْعِ، وَمَا يُصِيبُونَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى. وَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَذَى حَقِيقَةً فِي حَقِّ اللَّهِ، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ، وَقِيلَ: فِي أَذَى

اللَّهِ، هُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «1» ، وثالِثُ ثَلاثَةٍ «2» ، والْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «3» ، والملائكة بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْأَصْنَامُ شُرَكَاؤُهُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: فِعْلُ أَصْحَابِ التَّصَاوِيرِ الَّذِينَ يُزَوِّرُونَ خَلْقًا مِثْلَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقِيلَ: فِي أَذَى رَسُولِ اللَّهِ قَوْلُهُمْ: سَاحِرٌ شَاعِرٌ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ، وَقِيلَ: كَسْرُ رَبَاعِيَتِهِ وَشَجُّ وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَأَطْلَقَ إِيذَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، لِأَنَّ إِيذَاءَهُمَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ، بِخِلَافِ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِ، فَقَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ. وَمَعْنَى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا: بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَاسْتِحْقَاقِ أَذًى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُؤْذُونَ عَلِيًّا، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَيُسْمِعُونَهُ وَقِيلَ: فِي الَّذِينَ أَفِكُوا عَلَى عَائِشَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: فِي زُنَاةٍ كَانُوا يَتْبَعُونَ النِّسَاءَ وَهُنَّ كَارِهَاتٌ وَقِيلَ: فِي عُمَرَ، رَأَى مِنَ الرِّيبَةِ عَلَى جَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ مَا كَرِهَ، فَضَرَبَهَا، فأذوي أَهْلُ عُمَرَ بِاللِّسَانِ، فَنَزَلَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا لِأُبَيٍّ: قَرَأْتُ الْبَارِحَةَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ فَفَزِعْتُ مِنْهَا، وَإِنِّي لَأَضْرِبُهُمْ وَأَنْهَرُهُمْ، فَقَالَ لَهُ: لَسْتَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ وَمُقَوِّمٌ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً، إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا، وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها

_ (1) سورة المائدة: 5/ 64. (2) سورة المائدة: 5/ 73. (3) سورة التوبة: 9/ 30.

وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. كَانَ دَأْبُ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَخْرُجَ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ مَكْشُوفَتَيِ الْوَجْهِ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ، وَكَانَ الزُّنَاةُ يَتَعَرَّضُونَ إِذَا خَرَجْنَ بِاللَّيْلِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ فِي النَّخِيلِ وَالْغِيطَانِ لِلْإِمَاءِ، وَرُبَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْحُرَّةِ بِعِلَّةِ الْأَمَةِ، يَقُولُونَ: حَسِبْنَاهَا أَمَةً، فَأُمِرْنَ أَنْ يُخَالِفْنَ بِزِيِّهِنَّ عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، بِلُبْسِ الْأَرْدِيَةِ والملاحف، وستر الرؤوس وَالْوُجُوهِ، لِيَحْتَشِمْنَ وَيُهَبْنَ، فَلَا يُطْمَعُ فِيهِنَّ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ قَوْمٌ يَجْلِسُونَ عَلَى الصُّعُدَاتِ لِرُؤْيَةِ النِّسَاءِ وَمُعَارَضَتِهِنَّ وَمُرَاوَدَتِهِنَّ، فَنَزَلَتْ. قِيلَ: وَالْجَلَابِيبُ: الْأَرْدِيَةُ الَّتِي تَسْتُرُ مِنْ فَوْقَ إِلَى أَسْفَلَ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَقَانِعُ وَقِيلَ: الْمَلَاحِفُ، وَقِيلَ: الْجِلْبَابُ: كُلُّ ثَوْبٍ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثِيَابِهَا، وَقِيلَ: كُلُّ مَا تَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ كِسَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَجَلْبَبْتُ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ جِلْبَابًا وَقِيلَ: الْجِلْبَابُ أَكْبَرُ مِنَ الْخِمَارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُلْقِي جَانِبَ الْجِلْبَابِ عَلَى غَيْرِهَا ولا يرى. وقال أبو عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، حِينَ سُئِلَ عن ذلك فقال: أن تَضَعَ رِدَاءَهَا فَوْقَ الْحَاجِبِ، ثُمَّ تُدِيرُهُ حَتَّى تَضَعَهُ عَلَى أَنْفِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تُغَطِّي إِحْدَى عَيْنَيْهَا وَجَبْهَتَهَا وَالشِّقَّ الْآخَرَ إِلَّا الْعَيْنَ. انْتَهَى. وَكَذَا عَادَةُ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، لَا يَظْهَرُ مِنَ الْمَرْأَةِ إِلَّا عَيْنُهَا الْوَاحِدَةُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَتَقَنَّعْنَ بِمَلَاحِفِهِنَّ مُنْضَمَّةً عَلَيْهِنَّ، أَرَادَ بِالِانْضِمَامِ مَعْنَى: الْإِدْنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنْ تَلْوِيَهُ فَوْقَ الْجَبِينِ وَتَشُدَّهُ، ثُمَّ تَعْطِفَهُ عَلَى الْأَنْفِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ عَيْنَاهَا، لَكِنَّهُ يَسْتُرُ الصَّدْرَ وَمُعْظَمَ الْوَجْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْمَلُ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ، وَالْفِتْنَةُ بِالْإِمَاءِ أَكْثَرُ، لِكَثْرَةِ تَصَرُّفِهِنَّ بِخِلَافِ الْحَرَائِرِ، فَيَحْتَاجُ إِخْرَاجُهُنَّ مِنْ عُمُومِ النِّسَاءِ إلى دليل واضح. ومن فِي: مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ لِلتَّبْعِيضِ، وعَلَيْهِنَّ: شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْسَادِهِنَّ، أَوْ عَلَيْهِنَّ: عَلَى وُجُوهِهِنَّ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَبْدُو مِنْهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ: لِتَسَتُّرِهِنَّ بِالْعِفَّةِ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُنَّ، وَلَا يُلْقَيْنَ بِمَا يَكْرَهْنَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ التَّسَتُّرِ وَالِانْضِمَامِ، لَمْ يُقْدَمْ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْمُتَبَرِّجَةِ، فَإِنَّهَا مَطْمُوعٌ فِيهَا. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً: تَأْنِيسٌ لِلنِّسَاءِ فِي تَرْكِ الِاسْتِتَارِ قَبْلَ أَنْ يؤمر بِذَلِكَ.

وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْمُجَاهِرَ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُسِرِّ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُظْهِرُ الْحَقَّ وَيُضْمِرُ النِّفَاقَ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْذُونَ ثَلَاثَةً، بِاعْتِبَارِ إِذَايَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةً: مُنَافِقٌ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَمُرْجِفٌ. فَالْمُنَافِقُ يُؤْذِي سِرًّا، وَالثَّانِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ بِاتِّبَاعِ نِسَائِهِ، وَالثَّالِثُ يُرْجِفُ بِالرَّسُولِ، يَقُولُ: غُلِبَ، سَيُخْرَجُ مِنَ الْمَدِينَةِ، سَيُؤْخَذُ، هُزِمَتْ سَرَايَاهُ. وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ بِالشَّخْصِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ عَنْ عَدَاوَتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَالْفَسَقَةُ عَنْ فُجُورِهِمْ، وَالْمُرْجِفُونَ عَمَّا يَقُولُونَ مِنْ أَخْبَارِ السُّوءِ وَيُشِيعُونَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّغَايُرُ بِالْوَصْفِ، فَيَكُونُ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ ثَلَاثَةً بِالْوَصْفِ. كَمَا جَاءَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، فَذَكَرَ أَوْصَافًا عَشَرَةً، وَالْمَوْصُوفُ بِهَا وَاحِدٌ، وَنَصَّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِمَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، هو العزل وحب الزنا، وَمِنْهُ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَرَضُ: النِّفَاقُ، وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ آذَوْا عُمَرَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرْجِفُونَ: مُلْتَمِسُو الْفِتَنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ يُؤْذُونَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيهَامِ الْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ. لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَنَحْرُسُنَّكَ بِهِمْ. ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها: أَيْ فِي الْمَدِينَةِ، وثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَنُغْرِيَنَّكَ، وَلَمْ يَكُنِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الْإِغْرَاءِ، بَلْ كَوْنُهُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ أبلغ. وكان العطف بثم، لِأَنَّ الْجَلَاءَ عَنِ الْوَطَنِ كَانَ أَعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا أُصِيبُوا بِهِ، فَتَرَاخَتْ حَالَةُ الْجَلَاءِ عَنْ حَالَةِ الْإِغْرَاءِ. إِلَّا قَلِيلًا: أَيْ جِوَارًا قَلِيلًا، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا، وَهَذَا الْأَخِيرُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَنْطُوقِ، وَهُوَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي يُجاوِرُونَكَ، أَوْ يَنْتَصِبُ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ إِلَّا قَلِيلِينَ، وَالْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يُجاوِرُونَكَ، وَالثَّانِي مِنَ الزَّمَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يُجاوِرُونَكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُضْطَرُّونَ إِلَى طَلَبِ الْجَلَاءِ عَنِ الْمَدِينَةِ خَوْفَ الْقَتْلِ. وَانْتَصَبَ مَلْعُونِينَ عَلَى الذَّمِّ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، قَالَ: هُوَ مِنْ إِقْلَاءِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ وَأَجَازَ هُوَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُجاوِرُونَكَ، قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: يَنْتَفُونَ من المدينة ملعونين، فَلَا يُقَدِّرُ لَا يُجاوِرُونَكَ، فَقَدَّرَ يَنْتَفُونَ حَسَنٌ هَذَا. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْحَوْفِيُّ، وَتَبِعَهُمَا أَبُو الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي

لَا يُجاوِرُونَكَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا نَصُّهُ مَلْعُونِينَ، نُصِبَ عَلَى الشَّتْمِ أَوِ الْحَالِ، أَيْ لَا يُجَاوِرُونَكَ، إِلَّا مَلْعُونِينَ. دَخَلَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الظَّرْفِ وَالْحَالِ مَعًا، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ مِنْ أُخِذُوا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي مَجِيءِ الْحَالِ مِمَّا قبل إلا مذكورة بعد ما اسْتَثْنَى بِإِلَّا، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَبًّا عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ جُمْهُورَ الْبَصْرِيِّينَ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، فَالْبَدَلُ بِالْمُشْتَقِّ قَلِيلٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، فَلَيْسَ هَذَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ شَيْئَانِ: فِعْلُ الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ. فَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ، فَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَى الْكَلِمَةِ، أَجَازَ زَيْدٌ أَنْ يَضْرِبَ اضْرِبْهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ فَقَدْ أَجَازَ أَيْضًا تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ نَحْوُ: إِنْ يُقِمْ زَيْدٌ عَمْرًا يُضْرَبْ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى: أَيْنَما ثُقِفُوا: أُخِذُوا مَلْعُونِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَلْعُونِينَ صِفَةً لِقَلِيلٍ، أَيْ إِلَّا قَلِيلِينَ مَلْعُونِينَ، وَيَكُونُ قَلِيلًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْوَاوِ فِي لَا يُجَاوِرُونَكَ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةٌ أَيْضًا، أَيْ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى ثُقِفُوا: حُصِرُوا وَظَفِرَ بِهِمْ، وَمَعْنَى أُخِذُوا: أُسِرُوا، وَالْأَخِيذُ: الْأَسِيرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُتِّلُوا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَفِرْقَةٌ: بِتَخْفِيفِهَا، فَيَكُونُ تَقْتِيلًا مَصْدَرًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْمَصْدَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ انْتَهَوْا عَمَّا كَانُوا يُؤْذُونَ بِهِ الرسول وَالْمُؤْمِنِينَ، وَتَسَتَّرَ جَمِيعُهُمْ، وَكَفُّوا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ مَا وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِغْرَاءُ وَالْجَلَاءُ وَالْأَخْذُ وَالْقَتْلُ. وَقِيلَ: لَمْ يَمْتَثِلُوا لِلِانْتِهَاءِ جُمْلَةً، وَلَا نُفِّذَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ كَامِلًا. أَلَا تَرَى إِلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ؟ وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْتَهِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ، وَلَمْ يُنَفِّذِ اللَّهُ الْوَعِيدَ عَلَيْهِمْ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ مَفْرُوضًا وَمَشْرُوطًا بِالْمَشِيئَةِ. سُنَّةَ اللَّهِ: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيْ سَنَّ اللَّهُ فِي الَّذِينَ يُنَافِقُونَ الْأَنْبِيَاءَ أَنْ يُقْتَلُوا حَيْثُمَا ظُفِرَ بِهِمْ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: كَمَا قُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ وَأُسِرُوا، فَالَّذِينَ خَلَوْا يَشْمَلُ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَافَقُوا، وَمَنْ قتل يوم بدر. يَسْئَلُكَ النَّاسُ: أَيِ الْمُشْرِكُونَ، عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، اسْتِعْجَالًا عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ، وَالْيَهُودُ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ، إِذْ كَانَتْ مُعَمًّى وَقْتُهَا فِي التَّوْرَاةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِأَنْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، إِذْ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلَكًا وَلَا نَبِيًّا. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ مُهَانُونَ مَقْتُولُونَ، بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَما يُدْرِيكَ:

مَا اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُدْرِيكَ بِهَا؟ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ مَا يُدْرِيكَ بِهَا أَحَدٌ. لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً: بَيَّنَ قُرْبَ السَّاعَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُمْتَحَنِ، وَتَهْدِيدٌ لِلْمُسْتَعْجِلِ. وَانْتَصَبَ قَرِيبًا عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، إِذِ اسْتِعْمَالُهُ ظَرْفًا كَثِيرٌ، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا غَيْرَ ظَرْفٍ، تَقُولُ: أَنَّ قَرِيبًا مِنْكَ زَيْدٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ شَيْئًا قَرِيبًا، أَوْ تَكُونَ السَّاعَةُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، فَذَكَّرَ قَرِيبًا عَلَى الْمَعْنَى. أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَعَلَّ قِيَامَ السَّاعَةِ، فَلُوحِظَ السَّاعَةُ فِي تَكُونُ فَأُنِّثَ، وَلُوحِظَ الْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ قِيَامُ فِي قَرِيبًا فَذُكِّرَ. يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ يَوْمَ بِقَوْلِهِ: لَا يَجِدُونَ، وَيَكُونُ يَقُولُونَ اسْتِئْنَافٌ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، أَوْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِمْ: وَلا نَصِيراً. وَيَنْتَصِبُ يَوْمَ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أي اذكر ويقولون حَالٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُقَلَّبُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وأبو جعفر الرواسي: بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ تَتَقَلَّبُ وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ: نُقَلِّبُ بِالنُّونِ، وُجُوهَهُمْ بِالنَّصْبِ. وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ أَيْضًا وَخَارِجَةَ. زَادَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عِيسَى الْبَصْرِيِّ. وَقَرَأَ عِيسَى الْكُوفِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ بَدَلَ النُّونِ تَاءٌ، وَفَاعِلُ تُقَلَّبُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى سَعِيراً، وَعَلَى جَهَنَّمَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمَا اتِّسَاعًا. وَقِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ: تَتَقَلَّبُ بِتَاءَيْنِ، وَتَقْلِيبُ الْوُجُوهِ فِي النَّارِ: تَحَرُّكُهَا فِي الْجِهَاتِ، أَوْ تَغَيُّرُهَا عَنْ هَيْئَاتِهَا، أَوْ إِلْقَاؤُهَا فِي النَّارِ مَنْكُوسَةً. وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْوَجْهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، فَإِذَا قُلِّبَ فِي النَّارِ كَانَ تَقْلِيبُ مَا سِوَاهُ أَوْلَى. وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَتَمَنِّيهُمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ، وَتَشَكِّيهِمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ لَا يُجْدِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سادَتَنا، جَمْعًا عَلَى وَزْنِ فَعَلَاتٍ، أَصْلُهُ سُوَدَةٌ، وَهُوَ شَاذٌّ فِي جَمْعِ فَيْعِلٍ، فَإِنْ جُعِلَتْ جَمْعَ سَائِدٍ قَرُبَ مِنَ الْقِيَاسِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّلَمِيُّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْعَامَّةُ فِي الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ: سَادَاتِنَا عَلَى الْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، كَسُوقَاتِ وَمُوَالِيَاتِ بَنِي هَاشِمٍ وَسَادَتُهُمْ، رُؤَسَاءُ الْكُفْرِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمُ الْكُفْرَ وَزَيَّنُوهُ لَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: سَادَتُنَا: رُؤَسَاؤُنَا. وَقَالَ طَاوُسٌ: أَشْرَافُنَا وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: أُمَرَاؤُنَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَسَلْسَلَ قَوْمٌ سَادَةٌ ثُمَّ زَادَةٌ ... يُبْدُونَ أَهْلَ الْجَمْعِ يَوْمَ الْمُحَصَّبِ وَيُقَالُ: ضَلَّ السَّبِيلَ، وَضَلَّ عَنِ السَّبِيلِ. فَإِذَا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى لِاثْنَيْنِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ في الرسولا والسبيلا فِي قَوْلِهِ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.

وَلَمَّا لَمْ يُجْدِ تَمَنِّيهِمُ الْإِيمَانَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا قَامَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَشَكِّيهِمْ مِمَّنْ أَضَلَّهُمْ، دَعَوْا عَلَى سَادَاتِهِمْ. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ: ضِعْفًا عَلَى ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَضِعْفًا عَلَى إِضْلَالِ مَنْ أَضَلُّوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَثِيرًا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَقَرَأَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْبَاءِ. كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ، وَمَا سُمِعَ فِيهِ مِنْ قَالَةِ بَعْضِ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَدِيثُ الْإِفْكِ عَلَى أَنَّهُ مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتَ. وَفِي حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لِقَسْمٍ قسمه رسول الله: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَغَضِبَ وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَخِي مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ. وَإِذَايَةُ مُوسَى قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ أَبْرَصُ وَآدَرُ، وَأَنَّهُ حَسَدَ أَخَاهُ هَارُونَ وَقَتَلَهُ. أَوْ حَدِيثُ الْمُومِسَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنْ تَقُولَ: إِنَّ مُوسَى زَنَى بِهَا، أَوْ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَالْجُنُونِ، أَقْوَالٌ. مِمَّا قالُوا: أَيْ مِنْ وَصْمِ مَا قَالُوا، وما مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ: الظرف معمول لوجيها، أَيْ ذَا وَجْهٍ وَمَنْزِلَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، تُمِيطُ عَنْهُ الْأَذَى وَتَدْفَعُ التُّهَمَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: عَبْدٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، لِلَّهِ جَرٌّ بِلَامِ الجر، وعبدا خبر كان، ووجيها صِفَةً لَهُ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنَ شَنَبُوذَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَجِيهاً: مَقْبُولًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، مَا سَأَلَ شَيْئًا إِلَّا أُعْطِيَ، إِلَّا الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: رَفِيعَ الْقَدْرِ وَقِيلَ: وَجَاهَتُهُ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَلَقَّبَهُ كَلِيمَ اللَّهِ. وَالسَّدِيدُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُنَا صَوَابًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَقَتَادَةُ: سَدِيدًا فِي شَأْنِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ وَالرَّسُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: مَا يُوَافِقُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ وَقِيلَ: مَا هُوَ إِصْلَاحٌ مِنْ تَسْدِيدِ السَّهْمِ لِيُصِيبَ الْغَرَضَ وَقِيلَ: السَّدِيدُ يَعُمُّ الْخَيْرَاتِ. وَرُتِّبَ عَلَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ: صَلَاحُ الْأَعْمَالِ وَغُفْرَانُ الذُّنُوبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا. بُنِيَتْ تِلْكَ عَلَى النَّهْيِ عما يؤدي به رسول الله وَهَذِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ، لِيَتَرَادَفَ عَلَيْهِمُ النَّهْيُ وَالْأَمْرُ، مَعَ إِتْبَاعِ النَّهْيِ مَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى، وَإِتْبَاعِ الْأَمْرِ الْوَعْدَ الْبَلِيغَ، فَيَقْوَى الصَّارِفُ عَنِ الْأَذَى وَالدَّاعِي إِلَى تَرْكِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ: لَمَّا أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا أَرْشَدَ مِنْ تَرْكِ الْأَذَى وَاتِّقَاءِ اللَّهِ وَسَدَادِ الْقَوْلِ، وَرَتَّبَ عَلَى الطَّاعَةِ مَا رَتَّبَ، بَيَّنَ أَنَّ مَا كُلِّفَهُ الْإِنْسَانُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: إِنَّا

«عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ، تعظيما الأمر التَّكْلِيفِ وَالْأَمَانَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا كُلُّ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَشَأْنِ دِينٍ وَدُنْيَا. وَالشَّرْعُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، ولذلك قال أبي زين كَعْبٍ: مِنَ الْأَمَانَةِ أَنِ اؤْتُمِنَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: غُسْلُ الْجَنَابَةِ أَمَانَةٌ، وَالظَّاهِرُ عَرْضُ الْأَمَانَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعِظَامِ، وَهِيَ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، فَتُثَابُ إِنْ أَحْسَنَتْ، وَتُعَاقَبُ إِنْ أَسَاءَتْ، فَأَبَتْ وَأَشْفَقَتْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِدْرَاكِ خِلْقَةِ اللَّهِ فِيهَا، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، إِذْ قَدْ سَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَحَنَّ الْجِذْعُ إِلَيْهِ، وَكَلَّمَتْهُ الذِّرَاعُ، فَيَكُونُ هَذَا الْعَرْضُ وَالْإِبَاءُ حَقِيقَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُعْطِيَتِ الْجَمَادَاتُ فَهْمًا وَتَمْيِيزًا، فَخُيِّرَتْ فِي الْحَمْلِ، وَذَكَرَ الْجِبَالَ، مع أنها من الْأَرْضِ، لِزِيَادَةِ قُوَّتِهَا وَصَلَابَتِهَا، تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عُرِضَتْ بِمَسْمَعٍ مِنْ آدم، عليه الصلاة والسلام، وَأُسْمِعَ مِنَ الْجَمَادَاتِ الْإِبَاءَ لِيَتَحَقَّقَ الْعَرْضُ عَلَيْهِ، فَيَتَجَاسَرَ عَلَى الْحَمْلِ غَيْرُهُ، وَيَظْهَرَ فَضْلُهُ عَلَى الْخَلَائِقِ، حِرْصًا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ، وَتَشْرِيفًا عَلَى الْبَرِيَّةِ بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ، فَقِيلَ: مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَيْ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وقيل: سن بَابِ التَّمْثِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أن ما كلفه الإنسان بَلَغَ مِنْ عِظَمِهِ وَثِقَلِ مَحْمَلِهِ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى أَعْظَمِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَأَقْوَاهُ وَأَشَدِّهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ وَيَسْتَقِلَّ بِهِ، فَأَبَى مَحْمَلَهُ وَالِاسْتِقْلَالَ بِهِ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ضَعْفِهِ وَرَخَاوَةِ قُوَّتِهِ. إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا، حَيْثُ حَمَلَ الْأَمَانَةَ، ثُمَّ لَمْ يَفِ بِهَا. وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى طُرُقِهِمْ وَأَسَالِيبِهِمْ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَوْ قِيلَ لِلشَّحْمِ أَيْنَ تَذْهَبُ لَقِيلَ: أُسَوِّي الْعِوَجَ. وَكَمْ لَهُمْ مِنْ أَمْثَالٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ! وَتَصَوُّرُ مَقَالَةِ الشَّحْمِ مُحَالٌ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ السِّمَنَ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا يَحْسُنُ قُبْحُهُ، كَمَا أَنَّ الْعَجَفَ مِمَّا يَقْبَحُ حُسْنُهُ فَصَوَّرَ أَثَرَ السِّمَنِ فِيهِ تَصْوِيرًا هُوَ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَهِيَ بِهِ آنَسُ، وَلَهُ أَقْبَلُ، وَعَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْقَفُ وَكَذَلِكَ تَصْوِيرُ عِظَمِ الْأَمَانَةِ وَصُعُوبَةِ أَمْرِهَا وَثِقَلِ مَحْمَلِهَا وَالْوَفَاءِ بِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ عُلِمَ وَجْهُ التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِمْ لِلَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ: أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، لِأَنَّهُ مَثَّلَتْ حَالَ تَمَيُّلِهِ وَتَرَجُّحِهِ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ، وَتَرْكُهُ الْمُضِيَّ عَلَى إِحْدَاهُمَا بِحَالِ مَنْ يَتَرَدَّى فِي ذَهَابِهِ، فَلَا يَجْمَعُ رِجْلَيْهِ لِلْمُضِيِّ فِي وَجْهِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُمَثِّلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ شَيْءٌ مُسْتَقِيمٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الصِّحَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا فِي الْآيَةِ. فَإِنَّ عَرْضَ الْأَمَانَةِ عَلَى الْجَمَادِ، وَإِبَاءَهُ وَإِشْفَاقَهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَكَيْفَ صَحَّ

بِهَا التَّمْثِيلُ عَلَى الْمُحَالِ؟ وَمَا مِثَالُ هَذَا إِلَّا أَنْ تُشَبِّهَ شَيْئًا، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ. قُلْتُ: الْمُمَثَّلُ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: لَوْ قِيلَ لِلشَّحْمِ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَفِي نَظَائِرِهِ مَفْرُوضٌ، وَالْمَفْرُوضُ أَنْ يَتَخَيَّلَ فِي الذِّهْنِ. كَمَا أَنَّ الْمُحَقِّقَاتِ مَثَّلَتْ حَالَ التَّكْلِيفِ فِي صُعُوبَتِهِ وَثِقَلِ مَحْمَلِهِ بِحَالِ الْمَفْرُوضِ، لَوْ عرضت على السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها. انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعِظَامَ قَدِ انْقَادَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ انْقِيَادَ مِثْلِهَا، وَهُوَ مَا تَأْتِي مِنَ الْجَمَادَاتِ، حَيْثُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى مَشِيئَتِهِ إِيجَادًا وَتَكْوِينًا وَتَسْوِيَةً عَلَى هَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُتَنَوِّعَةٍ. كَمَا قَالَ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «1» . وَأَمَّا الْإِنْسَانُ، فَلَمْ يَكُنْ حَالُهُ فِيمَا يَصِحُّ مِنْهُ مِنَ الِانْقِيَادِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَهُوَ حَيَوَانٌ صَالِحٌ لِلتَّكْلِيفِ، مِثْلَ حَالِ تِلْكَ الْجَمَادَاتِ فِيمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَلِيقُ بِهَا مِنَ الِانْقِيَادِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ: الطَّاعَةُ، لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْوُجُودِ. كَمَا أَنَّ الْأَمَانَةَ لَازِمَةٌ لِلْأَدَاءِ، وَعَرْضُهَا عَلَى الْجَمَادَاتِ وَإِبَاؤُهَا وَإِشْفَاقُهَا مَجَازٌ. وَحَمْلُ الْأَمَانَةِ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ حَامِلٌ لِلْأَمَانَةِ وَمُحْتَمِلٌ لَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّيهَا إِلَى صَاحِبِهَا حَتَّى تَزُولَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَتِهَا، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ كَأَنَّهَا رَاكِبَةٌ لِلْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهَا، وَهُوَ حَامِلٌ لَهَا. أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ؟ وَلِي عَلَيْهِ حَقٌّ؟ فَأَبَيْنَ أَنْ لَا يُؤَدُّونَهَا، وَأَبَى الْإِنْسَانُ أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَمِلًا لَهَا لَا يُؤَدِّيهَا. ثُمَّ وَصَفَهُ بِالظُّلْمِ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَبِالْجَهْلِ لِخَطَئِهِ مَا يُسْعِدُهُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاؤُهَا. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ حَذْفٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مِنَ الْمَجَازِ، أَيْ إِذَا قَايَسْنَا ثقل الأمانة بقوة السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، رَأَيْتُهُمَا أَنَّهُمَا لَا تُطِيقُهَا، وَأَنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ، لَأَبَتْهَا وَأَشْفَقَتْ عَنْهَا فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِنَّا عَرَضْنَا الْآيَةَ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: «عَرَضْتُ الْحِمْلَ عَلَى الْبَعِيرِ فَأَبَاهُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ بِذَلِكَ مُقَارَنَةَ قُوَّتِهِ بِثِقَلِ الْحِمْلِ، فَرَأَيْتُهَا تُقَصِّرُ عَنْهُ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ بَحْرٍ» مَعْنَى عَرَضْنَا: عَارَضْنَاهَا وَقَابَلْنَاهَا بِهَا. فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها: أَيْ قَصَّرْنَ وَنَقَصْنَ عَنْهَا، كَمَا تَقُولُ: أَبَتِ الصَّنْجَةُ أَنْ تَحْمِلَ مَا قَابَلَهَا. وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْتَزَمَ الْقِيَامَ بِحَقِّهَا، وَالْإِنْسَانُ آدَمُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ ظَلُومٌ نَفْسَهُ، جَهُولٌ بِقَدْرِ مَا دَخَلَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَمَّ لَهُ يَوْمٌ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ: وَحَمَلَهَا مَعْنَاهُ: خَانَ فِيهَا، وَالْإِنْسَانُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ وَالْعَاصِي عَلَى قَدْرِهِ. وقال ابن مسعود،

_ (1) سورة فصلت: 41/ 11.

وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: ابْنُ آدَمَ قَابِيلُ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ، وَكَانَ قَدْ تَحَمَّلَ لِأَبِيهِ أَمَانَةً أَنْ يَحْفَظَ الْأَهْلَ بَعْدَهُ، وَكَانَ آدَمُ مُسَافِرًا عَنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَرْضُ الْأَمَانَةِ: وَضْعُ شَوَاهِدِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْمَصْنُوعَاتِ: وَالْحَمْلُ: الْخِيَانَةُ، كَمَا تَقُولُ: حَمَلَ خُفِّي وَاحْتَمَلَهُ، أَيْ ذَهَبَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدِّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أخرجتك الْوَدَائِعُ انْتَهَى. وَلَيْسَ وَتَحْمِلُ أُخْرَى نَصًّا فِي الذَّهَابِ بِهَا، بَلْ يَحْتَمِلُ لِأَنَّكَ تَتَحَمَّلُ أُخْرَى، فَتُؤَدِّي وَاحِدَةً وَتَتَحَمَّلُ أُخْرَى، فَلَا تَزَالُ دَائِمًا ذَا أَمَانَاتٍ، فَتَخْرُجُ إِذْ ذَاكَ. وَاللَّامُ فِي لِيُعَذِّبَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهَا لِأَنْ يُعَذَّبَ، لَكِنَّهُ حَمَلَهَا فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ نَافَقَ وَأَشْرَكَ، وَيَتُوبَ عَلَى مَنْ آمَنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ نَتِيجَةَ حَمْلِ الْأَمَانَةِ الْعَذَابُ، كَمَا أَنَّ التَّأْدِيبَ فِي: ضَرَبْتُهُ لِلتَّأْدِيبِ، نَتِيجَةَ الضَّرْبِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَيَتُوبُ، يَعْنِي بِالرَّفْعِ، بِجَعْلِ الْعِلَّةِ قَاصِرَةً عَلَى فِعْلِ الحامل، ويبتدىء وَيَتُوبُ. وَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ حَامِلَ الْأَمَانَةِ وَيَتُوبَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْمِلْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي وَكَانَ ذَلِكَ نَوْعَانِ مِنْ عَذَابِ الْقِتَالِ. انْتَهَى. وَذَهَبَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ وَيَتُوبُ بِالرَّفْعِ.

سورة سبأ

سورة سبأ [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 54] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

الْمَزْقُ: خَرْقُ الشيء، يقال: مِنْهُ ثَوْبٌ مَمْزُوقٌ وَمَزِيقٌ وَمُتَمَزِّقٌ وَمُمَزَّقٌ، إِذَا صَارَ قِطَعًا بَالِيًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبْدِيِّ: فَإِنْ كُنْتَ مَأْكُولًا فَكُنْ خَيْرَ آكِلٍ ... وَإِلَّا فَأَدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ السَّابِغَاتُ: الدُّرُوعُ، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ بِالسُّبُوغِ، وَهُوَ التَّمَامُ وَالْكَمَالُ، وَغَلَبَ عَلَى الدُّرُوعِ فَصَارَ كَالْأَبْطَحِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ ... سَوَابِغُ بِيضٌ لَا يُخَرِّقُهَا النَّبْلُ

السَّرْدُ: إِتْبَاعُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ، قَالَ الشَّمَّاخُ: فَظَنَّ تِبَاعًا خَيْلُنَا فِي بُيُوتِكُمْ ... كَمَا تَابَعَتْ سَرْدَ الضأن الخوارز ويقال للدرع: مَسْرُودَةٌ، لِأَنَّهُ تُوبِعَ فِيهَا الْحَلْقَ بِالْحَلْقِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنِعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ وَيُقَالُ لِصَانِعِ ذَلِكَ: سَرَّادٌ وَزَرَّادٌ، تُبْدَلُ مِنَ السِّينِ الزَّايُ كَمَا قَالُوا: سِرَاطٌ وَزِرَاطٌ. وَيُقَالُ لِلْأَشْفَى: مَسْرَدٌ وَمَسْرَادٌ وَسَرَدَ الْقُرْآنَ، إِذَا حَدَرَ فِيهِ وَالْكَلَامُ إِذَا تَابَعَهُ مُسْتَعْجِلًا فِيهِ. سَالَ، مِنْ سَالَ الْوَادِي وَالدَّمْعُ: جَرَى لِسُرْعَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ وَالدَّمْعِ. الْقِطْرُ: النُّحَاسُ، وَقِيلَ: الْفِلِزُّ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. الْجِفَانُ: جَمْعُ جَفْنَةٍ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. الْجَوَابِي: الْحِيَاضُ الْعِظَامُ، وَاحِدُهَا جَابِيَةٌ، لِأَنَّهُ يُجْبَى فِيهَا الْمَاءُ، أَيْ يُجْمَعُ. قَالَ الشَّاعِرُ: بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِينَا ... مِنْ سَدِيفٍ حِينَ قَدْ هَاجَ الضَّبَرُ كَالْجَوَابِي لَا تَفِي مُتْرَعَةً ... لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لِلْمُحْتَظِرِ وَقَالَ الْأَعْشَى: نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ الْمُحَلِّقِ جَفْنَةٌ ... كَجَابِيَةِ السَّيْحِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ وَقَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ: وَقُدُورٌ كَالرُّبَا رَاسِيَاتٌ ... وَجِفَانٌ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَةْ الْقِدْرُ: إِنَاءٌ يُطْبَخُ فِيهِ مِنْ فَخَّارٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ. الْمِنْسَأَةُ: الْعَصَى تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ، وَوَزْنُهَا مِفْعَلَةٌ، مِنْ نَسَأْتُ: أَيْ أَخَّرْتُ وَطَرَدْتُ وَيُقَالُ: مِنْسَاءَةٌ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ عَلَى وَزْنِ مِفْعَالَةٍ، كَمَا قَالُوا: مِيضَاءَةٌ وَمِيضَاةٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: ضَرَبْنَا بِمِنْسَاءَةٍ وَجْهَهُ ... فَصَارَ بِذَاكَ مَهِينًا ذَلِيلَا وَقَالَ آخَرُ إِذَا دَبَبْتَ عَلَى الْمِنْسَاةِ مِنْ هَرَمٍ ... فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ وَقِيَاسُ تَخْفِيفِ هَمْزَتِهَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ بَيْنَ، وَأَمَّا إِبْدَالُهَا أَلِفًا أَوْ حَذْفُهَا فَغَيْرُ قِيَاسٍ. الْعَرِمُ: إِمَّا صِفَةٌ لِلسَّيْلِ أُضِيفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ إِلَى صِفَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَإِمَّا اسْمٌ لِشَيْءٍ، وَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَكَّبَاتِ. الْخَمْطُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَجَرَةٍ مُرَّةٍ ذَاتِ شَوْكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَمْطُ ثَمَرُ شَجَرَةٍ عَلَى صُورَةِ الْخَشْخَاشِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: يُقَالُ لِلْحُمَّاضَةِ خَمْطَةُ اللَّبَنِ. إِذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الرِّيحِ فَهُوَ خَامِطٌ وَخَمِيطٌ وَتَخَمَّطَ الْفَحْلُ:

هَدَرَ، وَالرَّجُلُ: تَعَصَّبَ وَتَكَسَّرَ، والخمر: أخذت ريح الأراك كَرَائِحَةِ التُّفَّاحِ وَلَمْ تُدْرَكْ بَعْدُ. وَيُقَالُ: هِيَ الْخَامِطَةُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. الْأَثْلُ: شَجَرٌ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الطَّرْفَاءِ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ اللُّغَوِيُّ فِي كِتَابِ النَّبَاتِ لَهُ، وَيَأْتِي مَا قَالَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ. السِّدْرُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ السَّرْوُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السِّدْرُ سِدْرَانِ: سِدْرٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَا يَصْلُحُ وَرَقُهُ لِلْغَسُولِ، وَلَهُ ثَمَرَةٌ عَفِصَةٌ لَا تُؤْكَلُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الضَّالَّ وَسِدْرٌ يَنْبُتُ عَلَى الْمَاءِ، وَثَمَرُهُ النَّبْقُ، وَرَقُهُ غَسُولٌ يُشْبِهُ وَرَقَ شَجَرِ الْعُنَّابِ. التَّنَاوُشُ: تَنَاوُلٌ سَهْلٌ لِشَيْءٍ قَرِيبٍ، يُقَالُ: نَاشَهُ يَنُوشُهُ وَتَنَاوَشَهُ الْقَوْمُ وَتَنَاوَشُوا فِي الْحَرْبِ: نَاشَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ. وَقَالَ الرَّاجِزُ: فَهِيَ تَنُوشُ الحوض نوشا من غلا ... نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الفلا وأما بالهمز، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ نَاشَتْ: أَيْ تَأَخَّرَتْ. قَالَ الشَّاعِرُ: تمنى نئيش أَنْ يَكُونَ أَطَاعَنِي ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْأُمُورِ أُمُورُ وَقَالَ آخَرُ: وَجِئْتُ نَئِيشًا بعد ما ... فاتك الخبز نئيشا أخيرا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ، أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. هَذِهِ السُّورَةُ، قَالَ فِي التَّحْرِيرِ، مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَدَنِيَّةٌ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَشْبَاهِهِ. انْتَهَى. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، لَمَّا سَمِعُوا

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ «1» : إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَوَعَّدُنَا بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ، وَيُخَوِّفُنَا بِالْبَعْثِ، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أَبَدًا، وَلَا نُبْعَثُ. فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ «2» ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَبَاقِي السُّورَةِ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَخْوِيفٌ. وَمَنْ ذَكَرَ هَذَا السَّبَبَ، ظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا. الْحَمْدُ لِلَّهِ: مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِغْرَاقُ. وَلَمَّا كَانَتْ نِعْمَةُ الْآخِرَةِ مُخْبَرًا بِهَا، غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ لَنَا فِي الدُّنْيَا، ذَكَرَهَا لِيُقَاسَ نِعَمُهَا بِنِعَمِ الدُّنْيَا، قِيَاسَ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْفَضِيلَةِ وَالدَّيْمُومَةِ. وَقِيلَ: أَلْ لِلْعَهْدِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ «3» ، أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «4» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ وُجُوبُ الْحَمْدِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ عَلَى نِعَمِهِ مُتَفَضِّلٌ بِهَا، وَهُوَ الطَّرِيقُ إِلَى تَحْصِيلِ نِعْمَةِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الثَّوَابُ. وَحَمْدُ الْآخِرَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّهُ عَلَى نِعْمَةٍ وَاجِبَةِ الِاتِّصَالُ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، إِنَّمَا هُوَ تَتِمَّةُ سُرُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْمِلَةُ اغْتِبَاطِهِمْ يَلْتَذُّونَ بِهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ، مِنَ الْمِيَاهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالدَّفَائِنِ. وَما يَخْرُجُ مِنْها، مِنَ النَّبَاتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْ جَوَاهِرِ الْمَعَادِنِ. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، مِنَ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالصَّاعِقَةِ وَالرِّزْقِ وَالْمَلَكِ. وَما يَعْرُجُ فِيها، من أَعْمَالِ الْخَلْقِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَا يَنْزِلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَقْضِيَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْعَطَاءِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ: وَمَا يُنْزَلُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَشَدِّ الزَّايِ ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى. وبلى جَوَابٌ لِلنَّفْيِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، أَيْ بَلَى لَتَأْتِيَنَّكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَتَأْتِيَنَّكُمْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أَيِ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْكَرْتُمْ مَجِيئُهَا. وَقَرَأَ طَلْقٌ عَنْ أَشْيَاخِهِ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ لَيَأْتِيَنَّكُمُ الْبَعْثُ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُهُمْ مِنْ نَفْيِ السَّاعَةِ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى مَعْنَى السَّاعَةِ، أَيِ الْيَوْمَ، أَوْ عَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَعْنَى لَيَأْتِيَنَّكُمْ أَمْرُ عَالِمِ الْغَيْبِ كَقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ «5» ، أَيْ أَمْرُهُ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ السَّاعَةِ، لِأَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ مَذْهَبَ التَّذْكِيرِ، لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 73. (2) سورة التغابن: 64/ 7. (3) سورة يونس: 10/ 10. [.....] (4) سورة الزمر: 39/ 74. (5) سورة الأنعام: 6/ 158.

ثُمَّ أَكَّدَ الْجَوَابَ بِالْقَسَمِ عَلَى الْبَعْثِ، وَأَتْبَعَ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: عالِمِ الْغَيْبِ وَمَا بَعْدَهُ، لِيُعْلَمَ أَنَّ إِنْبَاتَهَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ تَعَالَى. وَجَاءَ الْقَسَمُ بِقَوْلِهِ: وَرَبِّي مُضَافًا إِلَى الرسول، لِيَدُلَّ عَلَى شِدَّةِ الْقَسَمِ، إِذْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ السَّاعَةَ، وَهُوَ لَفْظُ اللَّهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَرُوَيْسٌ، وَسَلَامٌ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَقَعْنَبٌ: عالِمِ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ لَا يَعْزُبُ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَوْ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَالِمُ الْغَيْبِ هُوَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: عَالِمِ بِالْجَرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: وَذَلِكَ عَلَى الْبَدَلِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ صِفَةً، وَيَعْنِي أَنَّ عَالِمَ الْغَيْبِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَرَّفَ، وَكَذَا كُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ مِمَّا كَانَ لَا يَتَعَرَّفُ بِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ، إِلَّا الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ فَلَا تَتَعَرَّفُ بِإِضَافَةٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: عَلَّامِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْخَفْضِ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ يَعْزُبُ فِي يُونُسَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ، بِرَفْعِ الرَّاءَيْنِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مِثْقالُ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تَوْكِيدًا لِمَا تَضَمَّنَ النَّفْيَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَعْزُبُ، وَتَقْدِيرُهُ: لَكِنَّهُ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ ضَبْطِ الشَّيْءِ وَالتَّحَفُّظِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ فِي كِتَابٍ، وَلَيْسَ ثَمَّ كِتَابٌ حَقِيقَةً. وَعَلَى التَّخْرِيجِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ الْكِتَابُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَقَتَادَةُ: بِفَتْحِ الرَّاءَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى ذَرَّةٍ. وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَعَزَاهَا أَيْضًا إِلَى نَافِعٍ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَ، بَلْ تَكُونُ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، أَعْنِي مَجْمُوعَ لَا وَمَا بُنِيَ مَعَهَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، لَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ قَالَ: هَلْ جَازَ عَطْفُ وَلا أَصْغَرُ عَلَى مِثْقالُ، وَعَطْفُ وَلا أَصْغَرُ عَلَى ذَرَّةٍ؟ قُلْتُ: يَأْبَى ذَلِكَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ، إِلَّا إِذَا جَعَلْتَ الضَّمِيرَ فِي عَنْهُ لِلْغَيْبِ، وَجَعَلْتَ الْغَيْبَ اسْمًا لِلْخَفِيَّاتِ قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ فِي اللَّوْحِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَهَا فِي اللَّوْحِ نَوْعٌ مِنَ الْبُرُوزِ عَنِ الْحِجَابِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنِ الْغَيْبِ شَيْءٌ وَلَا يَزُولُ عَنْهُ إِلَّا مَسْطُورًا فِي اللَّوْحِ. انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِذَا جَعَلْنَا الْكِتَابَ الْمُبِينَ لَيْسَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ، بِخَفْضِ الرَّاءَيْنِ بِالْكَسْرَةِ، كَأَنَّهُ نَوَى مُضَافًا إِلَيْهِ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: وَلَا أَصْغَرِهِ وَلَا أَكْبَرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ

لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِأَفْعَلَ، بَلْ هُوَ بِتَبْيِينٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ أَبْهَمَ لَفْظًا فَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ ذلِكَ، أَيْ عَنَى مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَتْ مِنْ مَعَ كَوْنِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُضَافًا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: تحن نفوس الورى وأعلمنا ... بنا يركض الْجِيَادِ فِي السَّدَفِ وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ عِلْمٌ بِنَا، فَأَضَافَ نَاوِيًا طَرْحَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَاحْتَمَلَتْ قِرَاءَةُ زَيْدٍ هَذَا التَّوْجِيهَ الْآخَرَ: أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ أَصْغَرَ وَأَكْبَرَ عَلَى إِعْرَابِهِمَا حَالَةَ الْإِضَافَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ، وَنَاسَبَ وَصْفَهُ تَعَالَى بِعَالِمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُ عِلْمُهُ شَيْءٌ مِنَ الْخَفِيَّاتِ، فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ وَقْتُ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَصَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَجُزْئِهَا، وَكَانَتْ قُدْرَتُهُ ثَابِتَةً، كَانَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ مَا فَنِيَ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَشْبَاحِ. قِيلَ: وَقَوْلُهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ، إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَرْوَاحِ، وَلا فِي الْأَرْضِ، إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ. وَكَمَا أَبْرَزَهُمَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَوَّلًا، فَكَذَلِكَ يُعِيدُهُمَا ثَانِيًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ مُصَحِّحَةً لِمَا أَنْكَرُوهُ؟ قُلْتُ: هَذَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْيَمِينِ وَلَمْ يُتْبِعْهَا بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ، فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ فِي الْعُقُولِ وَرَكَّبَ فِي الْغَرَائِزِ وُجُوبَ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ الْمُحْسِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ثَوَابٍ، وَالْمُسِيءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِقَابٍ: انْتَهَى، وَفِي السُّؤَالِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِيَجْزِيَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَعْزُبُ، وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ لَتَأْتِيَنَّكُمْ، وَقِيلَ: بِالْعَامِلِ فِي كِتابٍ مُبِينٍ: أَيْ إِلَّا مُسْتَقِرًّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُعْجِزِينَ مُخَفَّفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو السِّمَاكِ: مُثَقَّلًا وَتَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ، أَيْ مُعَجِّزِينَ قُدْرَةَ اللَّهِ فِي زَعْمِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَعْنَاهُ مُثَبِّطِينَ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ أَرَادَهُ، مُدْخِلِينَ عَلَيْهِ الْعَجْزَ فِي نَشَاطِهِ، وَهَذَا هُوَ سَعْيُهُمْ فِي الْآيَاتِ، أَيْ فِي شَأْنِ الْآيَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُسَابِقِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُرَاغِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُجَاهِدِينَ فِي إِبْطَالِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَلِيمٌ هُنَا، وَفِي الْجَاثِيَةِ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلْعَذَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَرِّ صِفَةً لِلرِّجْزِ، وَالرِّجْزُ: العذاب السيء. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ سَعَوْا مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أُولئِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ وَلِيَجْزِيَ الَّذِينَ سَعَوْا. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ الْمُصَدَّرَتَانِ بأولئك هُمَا نَفْسَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَا مُسْتَأْنَفَتَيْنِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَا تَضَمَّنَتَا مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ، كَرِضَا اللَّهِ عَنِ الْمُؤْمِنِ دَائِمًا، وَسُخْطِهِ عَلَى الْفَاسِقِ دَائِمًا. قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَرَى اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ،

يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ. وَقِيلَ: وَيَرَى مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى لِيَجْزِيَ، وَقَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَلِيَعْلَمَ أُولُو الْعِلْمِ عِنْدَ مَجِيءِ السَّاعَةِ أَنَّهُ الْحَقُّ عِلْمًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي الِاتِّفَاقِ، وَيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَتَوَلَّوْا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: وَلِيَعْلَمَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، فَيَزْدَادَ حَسْرَةً وَغَمًّا. انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ: عِنْدَ مَجِيءِ السَّاعَةِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ لِيَجْزِيَ بِقَوْلِهِ: لَتَأْتِيَنَّكُمْ، فَبَنَى التَّخْرِيجَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحَقَّ بِالنَّصْبِ، مَفْعُولًا ثَانِيًا ليرى، وَهُوَ فَصْلٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ جَعَلَ هُوَ مبتدأ والحق خبره، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي ليرى، وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ، يَجْعَلُونَ مَا هُوَ فَصْلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مُبْتَدَأً، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الفاعل ليهدي هُوَ ضَمِيرُ الَّذِي أُنْزِلَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى إِضْمَارِ، وَهُوَ يَهْدِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَقَّ، عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، كَقَوْلِهِ: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ «1» ، أَيْ قَابِضَاتٍ، كَمَا عُطِفَ الِاسْمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: فألفيته يوما يبير عدوه ... وبحر عطاء يستحق الْمَعَابِرَا عُطِفَ وَبَحْرَ عَلَى يبير، وقيل: الفاعل بيهدي ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هُمْ قُرَيْشٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُعَجِّبَهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى قِصَّةٍ غَرِيبَةٍ نَادِرَةٍ؟ لَمَّا كَانَ الْبَعْثُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُحَالِ، جَعَلُوا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَأَتَوْا بِاسْمِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَكِرَةً فِي قَوْلِهِ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ؟ وَكَانَ اسْمُهُ أَشْهَرَ عَلَمٍ فِي قُرَيْشٍ، بَلْ فِي الدُّنْيَا، وَإِخْبَارُهُ بِالْبَعْثِ أَشْهَرُ خَبَرٍ، لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوا ذَلِكَ مَخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّحَلِّي بِبَعْضِ الْأَحَاجِيِّ الْمَعْمُولَةِ لِلتَّلَهِّي وَالتَّعْمِيَةِ، فَلِذَلِكَ نَكَّرُوا اسْمَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنَبِّئُكُمْ بِالْهَمْزِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً مَحْضَةً. وَحَكَى عَنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُنْبِئُكُمْ، بالهمز من أنبأ، وإذا جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُبْعَثُونَ، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعَامِلُ إِذَا، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَالنَّحَّاسُ: الْعَامِلُ مُزِّقْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ خطأ وإفساد للمعنى. انتهى. وَلَيْسَ بِخَطَأٍ وَلَا إِفْسَادٍ لِلْمَعْنَى، وَإِذَا الشَّرْطِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِي الْعَامِلِ فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا كَتَبْنَاهُ فِي (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) أَنَّ الصَّحِيحَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا فِعْلُ الشَّرْطِ، كَسَائِرِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ. وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لينبئكم، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى يَقُولُ

_ (1) سورة الملك: 67/ 19.

لَكُمْ: إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ معمولا لينبئكم، يُنَبِّئُكُمْ مُتَعَلِّقٌ، وَلَوْلَا اللَّامُ فِي خَبَرِ إِنَّ لَكَانَتْ مَفْتُوحَةً، فَالْجُمْلَةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ اعْتِرَاضٌ، وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ التَّعْلِيقَ فِي بَابِ اعْلَمْ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَذَارِ فَقَدْ نبئت أنك للذي ... ستنجزى بِمَا تَسْعَى فَتَسْعَدُ أَوْ تشقى وممزق مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، عَلَى الْقِيَاسِ فِي اسْمِ الْمَصْدَرِ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ زَائِدٍ عَلَى الثَّلَاثَةِ، كَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي ... فلا عيابهن وَلَا اجْتِلَابَا أَيْ: تَسْرِيحِي الْقَوَافِيَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ مَكَانٍ، أَيْ إِذَا مُزِّقْتُمْ فِي مَكَانٍ مِنَ الْقُبُورِ وَبُطُونِ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، وَمَا ذَهَبَتْ بِهِ السُّيُولُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَمَا نَسَفَتْهُ الرِّيَاحُ فَطَرَحَتْهُ كُلَّ مطرح. انتهى. وجَدِيدٍ، عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، بِمَعْنَى فَاعِلٍ، تَقُولُ: جَدَّ فَهُوَ جَادٌّ وَجَدِيدٌ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ مِنْ جَدَّهُ إِذَا قَطَعَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَفْتَرى مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ هُوَ مُفْتَرٍ، عَلَى اللَّهِ كَذِباً فِيمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ، أَمْ بِهِ جُنُونٌ يُوهِمُهُ ذَلِكَ وَيُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِهِ. عَادَلُوا بَيْنَ الِافْتِرَاءِ وَالْجُنُونِ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ خِلَافَ مَا أُتِيَ بِهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ السَّامِعِ الْمُجِيبِ لِمَنْ قَالَ: هَلْ نَدُلُّكُمْ، رَدَّدَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَحَدِهِمَا، حَيْثُ جَوَّزَ هَذَا وَجَوَّزَ هَذَا، وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّهُ افْتِرَاءٌ مَحْضٌ، احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَنْسُبَ الْكَذِبَ لِعَاقِلٍ نِسْبَةً قَطْعِيَّةً، إِذِ الْعَاقِلُ حَتَّى الْكَافِرِ لَا يَرْضَى بِالْكَذِبِ، لَا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَضْرَبَ تَعَالَى عَنْ مَقَالَتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لِلرَّسُولِ كَمَا نَسَبْتُمُ الْبَتَّةَ، بَلْ أَنْتُمْ فِي عَذَابِ النَّارِ، أَوْ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا بِمَا تُكَابِدُونَهُ مِنْ إِبْطَالِ الشَّرْعِ وَهُوَ بِحَقٍّ، وَإِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ وَهُوَ مُتِمٌّ. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي الْبَعْثِ قَالَ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، فَرَتَّبَ الْعَذَابَ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ الضَّلَالِ بِالْبُعْدِ، وَهُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَحَالِّ اسْتُعِيرَ لِلْمَعْنَى، وَمَعْنَى بَعْدَهُ: أَنَّهُ لَا يَنْقَضِي خَبَرُهُ الْمُتَلَبَّسُ بِهِ. أَفَلَمْ يَرَوْا: أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: أَيْ حَيْثُ مَا تَصَرَّفُوا، فَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ قَدْ أَحَاطَتَا بِهِمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِهِمَا، وَلَا يَخْرُجُوا عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ

فِيهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُعْمُوا فَلَمْ يَنْظُرُوا، جَعَلَ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْهَمْزَةِ فِعْلًا يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ مِنْ أَنَّهُ لَا مَحْذُوفَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْفَاءَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فَأَلَمْ، لَكِنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ لَمَّا كَانَ لَهَا الصَّدْرُ قُدِّمَتْ، وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ هَذَا الْمَذْهَبَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) . وَقَّفَهُمْ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، وَحَذَّرَهُمْ إِحَاطَتَهَا بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِهْلَاكِ لَهُمْ، وَكَانَ ثَمَّ حَالٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ أَفَلَا يَرَوْنَ إِلَى مَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ مَقْهُورٍ تَحْتَ قُدْرَتِنَا نَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا نُرِيدُ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، كَمَا فَعَلْنَا بِقَارُونَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ، كَمَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الظُّلَّةِ، أَوْ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مُحِيطًا بِهِمْ، وَهُمْ مَقْهُورُونَ تَحْتَ قُدْرَتِنَا؟ إِنَّ فِي ذلِكَ النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِكْرِ فِيهِمَا، وَمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، لَآيَةً: لَعَلَامَةً وَدَلَالَةً، لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ: رَاجِعٍ إِلَى رَبِّهِ، مُطِيعٍ لَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مُخْبِتٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُسْتَقِيمٍ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: مُخْلِصٍ فِي التَّوْحِيدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُقْبِلٍ إِلَى رَبِّهِ بِقَلْبِهِ، لِأَنَّ الْمُنِيبَ لَا يَخْلُو مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعْثِ وَمِنْ عِقَابِهِ مَنْ يُكْفَرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ وَنُسْقِطْ بِالنُّونِ فِي الثَّلَاثَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعِيسَى، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُطَرِّفٍ: بِالْيَاءِ فِيهِنَّ وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ الْفَاءَ فِي الْبَاءِ فِي نَخْسِفْ بِهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْبَاءَ أَضْعَفُ فِي الصَّوْتِ مِنَ الْفَاءِ، فَلَا تُدْغَمُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ تُدْغَمُ فِي الْفَاءِ، نَحْوُ: اضرب فُلَانًا، وَهَذَا مَا تُدْغَمُ الْبَاءُ فِي الْمِيمِ، كَقَوْلِكَ: اضْرِبْ مَالِكًا، وَلَا تُدْغَمُ الْمِيمُ فِي الْبَاءِ، كَقَوْلِكَ: اصمم بِكَ، لِأَنَّ الْبَاءَ انْحَطَّتْ عَنِ الْمِيمِ بِفَقْدِ الْغُنَّةِ الَّتِي فِي الْمِيمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ نَخْسِفْ بِهِمْ، بِالْإِدْغَامِ، وَلَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ. انْتَهَى. وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَيُوجَدُ فِيهَا الْفَصِيحُ وَالْأَفْصَحُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِهِ تَعَالَى الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ وَلَا الزَّمَخْشَرِيِّ. وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ

الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ. مُنَاسَبَةُ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لِمَا قَبْلَهَا، هِيَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ لِاسْتِحَالَتِهِ عِنْدَهُمْ، فَأُخْبِرُوا بِوُقُوعِ مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَادَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهُ، إِذْ طَفَحَتْ بِبَعْضِهِ أَخْبَارُهُمْ وَشُعَرَاؤُهُمْ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْ تَأْوِيبِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ، وَإِلَانَةِ الْحَدِيدِ، وَهُوَ الْجُرْمُ الْمُسْتَعْصِي، وَتَسْخِيرِ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ، وَإِسَالَةِ النُّحَاسِ لَهُ، كَمَا أَلَانَ الْحَدِيدَ لِأَبِيهِ، وَتَسْخِيرِ الْجِنِّ فِيمَا شَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَقِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ مَنْ يُنِيبُ مِنْ عِبَادِهِ، ذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ دَاوُدَ، كَمَا قَالَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «1» ، وَبَيَّنَ مَا آتَاهُ اللَّهُ عَلَى إِنَابَتِهِ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا، وَقِيلَ: ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، احْتِجَاجًا عَلَى مَا مَنَحَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ لَا تَسْتَبْعِدُوا هَذَا، فَقَدْ تَفَضَّلْنَا عَلَى عَبِيدِنَا قَدِيمًا بِكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا فَرَغَ التَّمْثِيلُ لِمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَجَعَ التَّمْثِيلُ لَهُمْ بِسَبَأٍ، وَمَا كَانَ مِنْ هَلَاكِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ. انْتَهَى. وَالْفَضْلُ الَّذِي أُوتِيَ دَاوُدُ: الزَّبُورُ، وَالْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ، وَالثِّقَةُ بِاللَّهِ، وَتَسْخِيرُ الْجِبَالِ، وَالطَّيْرِ، وَتَلْيِينُ الحديد، أقوال. يا جِبالُ: هو إضمار القول، إما مصدر، أي قولنا يا جِبالُ، فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ فَضْلًا، وَإِمَّا فِعْلًا، أَيْ قُلْنَا، فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ آتَيْنا، وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ قلنا يا جِبالُ، وَجَعَلَ الْجِبَالَ بِمَنْزِلَةِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ إِذَا أَمَرَهُمْ أَطَاعُوا وَأَذْعَنُوا، وَإِذَا دَعَاهُمْ سَمِعُوا وَأَجَابُوا، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مَا مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَنَاطِقٍ وَصَامِتٍ إِلَّا وَهُوَ مُنْقَادٌ لِمَشِيئَتِهِ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَدَلَالَةً عَلَى عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَكِبْرِيَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، حَيْثُ نَادَى الْجِبَالَ وَأَمَرَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوِّبِي، مُضَاعَفُ آبَ يؤب، وَمَعْنَاهُ: سَبِّحِي مَعَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ: أَوِّبِي: سَبِّحِي، بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، أَيْ يُسَبِّحُ هُوَ وَتُرَجِّعُ هِيَ مَعَهُ التَّسْبِيحَ، أَيْ تُرَدِّدُ بِالذِّكْرِ، وَضُعِّفَ الْفِعْلُ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَظْهَرُ أَنَّ التَّضْعِيفَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُبَالَغَةِ، إِذْ أَصْلُهُ آبَ، وَهُوَ لَازِمٌ بِمَعْنَى: رَجَعَ اللَّازِمِ فَعُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ، إِذْ شَرَحُوهُ بِقَوْلِهِمْ: رَجِّعِي مَعَهُ التَّسْبِيحَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى تَسْبِيحِ الْجِبَالِ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهَا تَسْبِيحًا، كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ، فَيُسْمَعُ مِنْهَا مَا يُسْمَعُ مِنَ الْمُسَبِّحِ، مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ. قِيلَ: كَانَ ينوح على ذنبه

_ (1) سورة ص: 38/ 24.

بِتَرْجِيعٍ وَتَحْزِينٍ، وَكَانَتِ الْجِبَالُ تُسَاعِدُهُ عَلَى نَوْحِهِ بِأَصْدَائِهَا وَالطَّيْرُ بِأَصْوَاتِهَا. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ، يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ مُوسَى هُوَ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الشَّجَرَةِ مِنَ الْكَلَامِ، لَا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُسَاعِدُهُ الْجِبَالُ عَلَى نَوْحِهِ بِأَصْدَائِهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الصَّدَى لَيْسَ بِصَوْتِ الْجِبَالِ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى نَادَى الْجِبَالَ وَأَمَرَهَا بِأَنْ تُؤَوِّبَ مَعَهُ، وَالصَّدَى لَا تُؤْمَرُ الْجِبَالُ بِأَنْ تَفْعَلَهُ، إِذْ لَيْسَ فِعْلًا لَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ صَوْتِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى أَوِّبِي مَعَهُ: سِيرِي مَعَهُ أَيْنَ سَارَ، وَالتَّأْوِيبُ: سَيْرُ النَّهَارِ. كَانَ الْإِنْسَانُ يَسِيرُ اللَّيْلَ ثُمَّ يَرْجِعُ لِلسَّيْرِ بِالنَّهَارِ، أَيْ يُرَدِّدُهُ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ: لَحِقْنَا بِحَيٍّ أَوَّبُوا السَّيْرَ بعد ما ... رَفَعْنَا شُعَاعَ الشَّمْسِ وَالطَّرْفُ تَجْنَحُ وَقَالَ آخَرُ: يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ وَقِيلَ: أَوِّبِي: تَصَرَّفِي مَعَهُ عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ. فَكَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ، صَوَّتَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ، فَكَأَنَّهَا فَعَلَتْ مَا فَعَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: أُوبِي، أَمْرٌ مِنْ أَوَبَ: أَيْ رَجِّعِي مَعَهُ فِي التَّسْبِيحِ، أَوْ فِي السَّيْرِ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَأَمْرُ الْجِبَالِ كَأَمْرِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، لِأَنَّ جَمْعَ مَا لَا يَعْقِلُ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَمِنْهُ: يَا رَبِّ أُخْرَى، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَكْنَا الْخَيْلَ وَالنَّعَمَ الْمُفَدَّى ... وَقُلْنَا لِلنِّسَاءِ بِهَا أَقِيمِي لَكِنْ هَذَا قَلِيلٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالطَّيْرَ، بِالنَّصْبِ عطفا على موضع يا جِبالُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: عَطْفًا عَلَى فَضْلًا، أَيْ وَتَسْبِيحَ الطَّيْرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ مَعَهُ، وَلَا يَقْتَضِي الْفِعْلُ اثْنَيْنِ مِنَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ إِلَّا عَلَى الْبَدَلِ أَوِ الْعَطْفِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ: جَاءَ زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو مَعَ زَيْنَبَ إِلَّا بِالْعَطْفِ، كَذَلِكَ هَذَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَأَبُو يَحْيَى، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: وَالطَّيْرُ، بِالرَّفْعِ، عَطْفًا على لفظ يا جِبالُ وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَوِّبِي، وَسَوَّغَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بِالظَّرْفِ وَقِيلَ: رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَالطَّيْرُ تُؤَوِّبُ. وَإِلَانَةُ الْحَدِيدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: صَارَ كَالشَّمْعِ. وَقَالَ

الْحَسَنُ: كَالْعَجِينِ، وَكَانَ يَعْمَلُهُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَالطِّينِ الْمَبْلُولِ وَالْعَجِينِ وَالشَّمْعِ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبِ مِطْرَقَةٍ. وَقِيلَ: أُعْطِيَ قُوَّةً يَلِينُ بِهَا الْحَدِيدُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَكَانَ يَفْرَغُ مِنَ الدِّرْعِ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ ثَمَنُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَكَانَ دَاوُدُ يَتَنَكَّرُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ حَالِهِ، فَعَرَضَ لَهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ لَوْلَا خَلَّةٌ فِيهِ، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: يَرْتَزِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ تَمَّتْ فَضَائِلُهُ، فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُعَلِّمَهُ صَنْعَةً وَيُسَهِّلَهَا عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَأَثْرَى، وَكَانَ يُنْفِقُ ثُلُثَ الْمَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ فِي أَنِ اعْمَلْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ أَلَنَّاهُ لِعَمَلِ سابِغاتٍ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، وَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا مَعْنَى الْقَوْلِ، وَأَنْ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ قَبْلَهَا فِعْلًا مَحْذُوفًا حَتَّى يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَمَرْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ، أَيِ اعْمَلْ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ. وقرىء: صَابِغَاتٍ، بِالصَّادِّ بَدَلًا مِنَ السِّينِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ فِي قَدْرِ الْحَلْقَةِ، أَيْ لَا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفَ، فَلَا يَقْوَى الدِّرْعُ عَلَى الدِّفَاعِ، وَلَا كَبِيرَةً فَيُنَالَ لَابِسُهَا مِنْ خِلَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ فِي الْمِسْمَارِ، لَا يَرِقُّ فَيَنْكَسِرُ، وَلَا يَغْلُظُ فَيَفْصِمُ، بِالْفَاءِ وَبِالْقَافِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الدُّرُوعَ كَانَتْ قَبْلُ صَفَائِحَ كَانَتْ ثِقَالًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدِّرْعَ حِلَقًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ لِآلِ دَاوُدَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِدَاوُدَ شَرَّفَهُ اللَّهُ بِأَنْ خَاطَبَهُ خِطَابَ الْجَمْعِ. وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، قَالَ الْحَسَنُ: عَقَرَ سُلَيْمَانُ الْخَيْلَ عَلَى مَا فَوَّتَتْهُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، وَأَسْرَعَ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّيحَ بِالنَّصْبِ، أَيْ ولسليمان سَخَّرْنَا الرِّيحَ وَأَبُو بَكْرٍ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي الْمَجْرُورِ، وَيَكُونُ الرِّيحُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ تَسْخِيرُ الرِّيحِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ، أَيِ الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ: الرِّيَاحُ، بِالرَّفْعِ جَمْعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تَقْطَعُ فِي الْغُدُوِّ إِلَى قُرْبِ الزَّوَالِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَفِي الرَّوَاحِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَخَرَجَ مِنْ مُسْتَقَرِّهِ بِالشَّامِ يُرِيدُ تَدْمُرَ الَّتِي بَنَتْهَا الْجِنُّ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ، فَيُقِيلُ فِي إِصْطَخْرَ وَيَرُوحُ مِنْهَا فَيَبِيتُ فِي كَابِلَ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ. وَالْغُدُوُّ لَيْسَ الشَّهْرُ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جَرَى غُدُوُّهَا، أَيْ جَرْيُهَا فِي الْغُدُوِّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجَرَى رَوَاحُهَا، أَيْ جَرْيُهَا فِي الرَّوَاحِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَأَخْبَرَ هُنَا فِي الْغُدُوِّ عَنِ الرَّوَاحِ بِالزَّمَانِ وَهُوَ شَهْرٌ، وَيَعْنِي

شَهْرًا وَاحِدًا كَامِلًا، وَنَصْبُ شَهْرٍ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ فِيمَا أَعْلَمُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: غَدْوَتُهَا وَرَوْحَتُهَا عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ، وَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ غَدَا وَرَاحَ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ مُسْتَقَرُّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِتَدْمُرَ، وَكَانَتِ الْجِنُّ قَدْ بَنَتْهَا لَهُ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ وَالرُّخَامِ الْأَبْيَضِ وَالْأَشْقَرِ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّابِغَةُ: إِلَا سُلَيْمَانَ قَدْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ ... قُمْ فِي البرية فاصددها عن العبد وَجَيْشُ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ وَوَجَدْتُ أَبْيَاتًا مَنْقُورَةً فِي صَخْرَةٍ بِأَرْضِ يَشْكُرَ شَاهِدَةً لِبَعْضِ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ: وَنَحْنُ وَلَا حَوْلَ سِوَى حَوْلِ رَبِّنَا ... نَرُوحُ مِنَ الْأَوْطَانِ مِنْ أَرْضِ تَدْمُرِ إِذَا نَحْنُ رُحْنَا كَانَ رَيْثُ رَوَاحِنَا ... مَسِيرَةَ شَهْرٍ والغدو لآخر أُنَاسٌ أَعَزَّ اللَّهُ طَوْعًا نُفُوسَهُمْ ... بِنَصْرِ ابْنِ دَاوُدَ النَّبِيِّ الْمُطَهَّرِ لَهُمْ فِي مَعَانِي الدِّينِ فَضْلٌ وَرِفْعَةٌ ... وَإِنْ نُسِبُوا يَوْمًا فَمِنْ خَيْرِ مَعْشَرِ وَإِنْ رَكِبُوا الرِّيحَ الْمُطِيعَةَ أَسْرَعَتْ ... مُبَادِرَةً عَنْ يُسْرِهَا لَمْ تُقَصِّرِ تُظِلُّهُمْ طَيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمْ ... مَتَّى رَفْرَفَتْ مِنْ فَوْقِهِمْ لَمْ تُنْشَرِ انْتَهَى مَا حَكَى وَهْبٌ. وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَهُ لَهُ فِي مَعْدِنِهِ عَيْنًا تَسِيلُ كَعُيُونِ الْمَاءِ، دَلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا يُرِيدُ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: أُجْرِيَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ، وَكَانَتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: سَالَتْ مِنْ صَنْعَاءَ، وَلَمْ يَذُبِ النُّحَاسُ فِيمَا رُوِيَ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَكَانَ لَا يَذُوبُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَذَبْنَا لَهُ النُّحَاسَ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ الْحَدِيدُ يَلِينُ لِدَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: وَكَانَتِ الْأَعْمَالُ تَتَأَتَّى مِنْهُ، وَهُوَ بَارِدٌ دُونَ نَارٍ، وعين بِمَعْنَى الذَّاتِ. وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ أَوَّلًا ذَابَ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ بِهَا مَعْدِنَ النُّحَاسِ نَبْعًا لَهُ، كَمَا أَلَانَ الْحَدِيدَ لِدَاوُدَ، فَنَبَعَ كَمَا يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ عَيْنَ الْقِطْرِ بِاسْمِ مَا آلَ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً «1» . وَيَحْتَمِلُ مَنْ يَعْمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ وَسَخَّرْنَا مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَزِغْ مُضَارِعُ زَاغَ، أَيْ ومن

_ (1) سورة يوسف: 12/ 36.

يَعْدِلْ عَنْ أَمْرِنَا الَّذِي أَمَرْنَاهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ سليمان. وقرىء: يُزِغْ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَزَاغَ: أَيْ وَمَنْ يَمِلْ وَيَصْرِفْ نَفْسَهُ عَنْ أَمْرِنَا. وعَذابِ السَّعِيرِ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَعَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ سَوْطٌ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا اسْتَعْصَى عَلَيْهِ ضَرَبَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْجِنِّيُّ. وَلِبَعْضِ الْبَاطِنِيَّةِ، أَوْ مَنْ يُشْبِهُهُمْ، تَحْرِيفٌ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ. إِنَّ تَسْبِيحَ الجبال هو نَوْعِ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» ، وَإِنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ هُوَ أَنَّهُ رَاضَ الْخَيْلَ وَهِيَ كَالرِّيحِ، وَإِنَّ غُدُوُّها شَهْرٌ يَكُونُ فَرْسَخًا، لِأَنَّ مَنْ يَخْرُجُ لِلتَّفَرُّجِ لَا يَسِيرُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ أَشَدَّ مِنْ فَرْسَخٍ. وَإِلَانَةُ الْحَدِيدِ وَإِسَالَةُ الْقِطْرِ هُوَ اسْتِخْرَاجُ ذَوْبِهِمَا بِالنَّارِ وَاسْتِعْمَالُ الْآلَاتِ مِنْهُمَا. وَمِنَ الْجِنِّ: هُمْ نَاسٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَقْوِيَاءُ شُبِّهُوا بِهِمْ فِي قُوَاهُمْ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَخُرُوجٌ بِالْجُمْلَةِ عَمَّا يَقُولُهُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي الْآيَةِ، وَتَعْجِيزٌ لِلْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَحَارِيبُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَشَاهِدُ، سُمِّيَتْ بِاسْمِ بَعْضِهَا تَجَوُّزًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقُصُورُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كِلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَسَاكِنُ. وَقِيلَ: مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِالدَّرَجِ، كَالْغُرَفِ. وَالتَّمَاثِيلُ: الصُّوَرُ، وَكَانَتْ لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ تَمَاثِيلُ حَيَوَانٍ، وَكَانَ عَمَلُهَا جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالصَّالِحِينَ، كَانَتْ تُعْمَلُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ نُحَاسٍ وَصُفْرٍ وَزُجَاجٍ وَرُخَامٍ، لِيَرَاهَا النَّاسُ، فَيَعْبُدُوا نَحْوَ عِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ الشَّرَائِعُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقَبَّحَاتِ الْفِعْلِ، كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَمْ يَكُنِ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ إِذْ ذَاكَ مُحَرَّمًا، أَوْ صُوَرًا مَحْذُوفَةَ الرؤوس. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ حَذْفٍ. وَقِيلَ: التَّمَاثِيلُ طَلْسَمَاتٌ، فَيَعْمَلُ تِمْثَالًا لِلتِّمْسَاحِ، أَوْ لِلذُّبَابِ، أَوْ لِلْبَعُوضِ، وَيَأْمُرُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمُمَثَّلَ بِهِ مَا دَامَ ذَلِكَ التمثال والتصوير حرام فِي شَرِيعَتِنَا. وَقَدْ وَرَدَ تَشْدِيدُ الْوَعِيدِ عَلَى الْمُصَوِّرِينَ، وَلِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ اسْتِثْنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُصَوِّرِينَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَحَكَى مَكِّيٌّ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ قَوْمًا أَجَازُوا التَّصْوِيرَ، وَحَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنْ قَوْمٍ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: وَتَماثِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَمَا أَحْفَظُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ مَنْ يُجَوِّزُهُ. وقرىء: كَالْجَوابِ بِلَا يَاءٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ، اجْتِزَاءٌ بِالْكَسْرَةِ، وَإِجْرَاءٌ الألف وَاللَّامِ مُجْرَى مَا عَاقَبَهَا، وَهُوَ التَّنْوِينُ، وَكَمَا يُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ يُحْذَفُ مَعَ مَا عَاقَبَهُ، وَهُوَ أَلْ. والراسيات: الثَّابِتَاتُ عَلَى الْأَثَافِيِّ، فَلَا تُنْقَلُ وَلَا تُحْمَلُ لِعِظَمِهَا. وقدمت المحاريب

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 44.

عَلَى التَّمَاثِيلِ، لِأَنَّ النُّقُوشَ تَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ. وَقُدِّمَ الْجِفَانُ عَلَى الْقُدُورِ، لِأَنَّ الْقُدُورَ آلَةُ الطَّبْخِ، وَالْجِفَانُ آلَةُ الْأَكْلِ، وَالطَّبْخُ قَبْلَ الْأَكْلِ، لِمَا بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ الْمَلَكِيَّةِ. وَأَرَادَ بَيَانَ عَظَمَةِ السِّمَاطِ الَّذِي يُمَدُّ فِي تِلْكَ الدُّورِ، وَأَشَارَ إِلَى الْجِفَانِ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِيهَا، وَالْقُدُورُ لَا تَكُونُ فِيهَا وَلَا تُحَضَّرُ هُنَاكَ، وَلِهَذَا قَالَ: راسِياتٍ. وَلَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْجِفَانِ، سَرَى الذِّهْنُ إِلَى عَظَمَةِ مَا يُطْبَخُ فِيهِ، فَذَكَرَ الْقُدُورَ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَذَكَرَ فِي حَقِّ دَاوُدَ اشْتِغَالَهُ بِآلَةِ الْحَرْبِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَفِي حَقِّ سُلَيْمَانَ الْمَحَارِيبَ وَالتَّمَاثِيلَ، لِأَنَّهُ كَانَ مَلِكًا ابْنَ مَلِكٍ، قَدْ وَطَّدَ لَهُ أَبُوهُ الْمُلْكَ، فَكَانَتْ حَالُهُ حَالَةَ سِلْمٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى مُحَارَبَتِهِ. وَقَالَ عَقِبَ: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ، واعْمَلُوا صالِحاً، وَعَقِبَ مَا يَعْمَلُهُ الْجِنُّ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَغْرِقُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى زَخَارِفِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ صَالِحًا، اعْمَلُوا آلَ داوُدَ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ اعْمَلُوا مَحْذُوفٌ، أَيِ اعْمَلُوا الطَّاعَاتِ وَوَاظِبُوا عَلَيْهَا شُكْرًا لِرَبِّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَقِيلَ: انْتَصَبَ شُكْرًا عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ لَهُ بِاعْمَلُوا، أَيِ اعْمَلُوا عَمَلًا هُوَ الشُّكْرُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فِي أَنْفُسِهَا هِيَ الشُّكْرُ إِذَا سَدَّتْ مَسَدَّةً، وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ لِتَضْمِينِهِ اعْمَلُوا اشْكُرُوا بِالْعَمَلِ لِلَّهِ شُكْرًا. رُوِيَ أَنَّ مُصَلَّى آلِ دَاوُدَ لَمْ يَخْلُ قَطُّ مِنْ قَائِمٍ يُصَلِّي لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَانُوا يَتَنَاوَبُونَهُ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَأْكُلُ الشَّعِيرَ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُشْكَارَ، وَالْمَسَاكِينَ الدَّرْمَكَ، وَمَا شَبِعَ قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أنس الجياع. والشَّكُورُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّكُورُ: مَنْ يَشْكُرُ عَلَى أَحْوَالِهِ كُلِّهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَنْ يَشْكُرُ عَلَى الشُّكْرِ. وَقِيلَ: مَنْ يَرَى عَجْزَهُ عَنِ الشُّكْرِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِآلِ دَاوُدَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَأَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الشُّكْرِ. فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ: أَيْ أَنْفَذْنَا عَلَيْهِ مَا قَضَيْنَا عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَخْرَجْنَاهُ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ. وَجَوَابُ لَمَّا النَّفْيُ الْمُوجَبُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمَّا حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ظَرْفًا لَكَانَ الْجَوَابُ هُوَ الْعَامِلُ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ نَافِيَةٌ، وَلَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا، وَقَدْ مَضَى لَنَا نَظِيرُ هَذَا فِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «1» .

_ (1) سورة يوسف: 12/ 68.

فَالضَّمِيرُ فِي دَلَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ الْجِنَّ بِبَنَاءِ صَرْحٍ لَهُ، فَبَنَوْهُ لَهُ. وَدَخَلَهُ مُخْتَلِيًا لِيَصْفُوَ لَهُ يَوْمٌ مِنَ الدَّهْرِ مِنَ الْكَدَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَابٌّ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ دَخَلْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ إِذَنٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا دَخَلْتُ بِإِذْنٍ، قَالَ: وَمَنْ أَذِنَ لَكَ؟ قَالَ: رَبُّ هَذَا الصَّرْحِ. فَعَلِمَ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ أَتَى بِقَبْضِ رُوحِهِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي طَلَبْتُ فِيهِ الصَّفَا، فَقَالَ لَهُ: طَلَبْتَ مَا لَمْ يُخْلَقْ، فَاسْتَوْثَقَ مِنَ الِاتِّكَاءِ عَلَى الْعَصَا، فَقَبَضَ رُوحَهُ، وَبَقِيَتِ الْجِنُّ تَعْمَلُ عَلَى عَادَتِهَا. وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَصَدَ تَعْمِيَةَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ بَقِيَ مِنْ تَمَامِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَمَلُ سَنَةٍ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَمَامَهَا عَلَى يَدِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَكَانَ يَخْلُو بِنَفْسِهِ الشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَتَحَنَّثُ. وَقِيلَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ بَقِيَ مِنْ حَيَاتِهِ سَاعَةٌ، فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا لَهُ الصَّرْحَ، وَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ، فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهَا. وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ مِحْرَابِهِ، فَلَا يَنْظُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ إِلَّا احْتَرَقَ، فَمَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ، فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَّ مَيِّتًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. مَلَكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَهُوَ ابن ثلاث عشرة سنة، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ أَسَّسَ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعَ بِسَاطِ مُوسَى، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ، وَوَصَّى بِهِ ابْنَهُ، فَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ بِإِتْمَامِهِ، وَمَاتَ قبل تمامه. ودَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ: هِيَ سُوسَةُ الْخَشَبِ، وَهِيَ الْأَرَضَةُ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ سُوسَةَ الْخَشَبِ، لِأَنَّ السُّوسَةَ لَيْسَتْ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ، بَلْ هَذِهِ حَيَوَانٌ مِنَ الْأَرْضِ شَأْنُهُ أَنْ يَأْكُلَ الْخَشَبَ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ، مِنْهَا أَبُو حَاتِمٍ: الْأَرْضُ هُنَا مَصْدَرُ أَرَضَتِ الْأَبْوَابُ، وَالْخَشَبُ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَابَّةُ الْأَكْلِ الَّذِي هُوَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ. وَإِذَا كَانَ الْأَرَضُ مَصْدَرًا، كَانَ فِعْلُهُ أَرَضَتِ الدَّابَّةُ الْخَشَبَ تَأْرُضُهُ أَرَضًا فَأَرِضَ بِكَسْرِ الرَّاءِ نَحْوُ: جَدَعْتُ أَنْفَهُ فَجَدِعَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَفْتُوحِ الْعَيْنِ، قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ: الْأَرَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، لِأَنَّ مَصْدَرَ فَعَلَ الْمُطَاوِعِ لِفِعْلٍ يَكُونُ عَلَى فَعَلٍ نَحْوِ: جَدَعَ أَنْفُهُ جَدَعًا وَأَكَلَتِ الْأَسْنَانُ أَكَلًا، مُطَاوِعُ أَكَلْتُ. وَقِيلَ: الْأَرَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ أَرَضَةٍ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ أَعَمُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِسُكُونِ الرَّاءِ، فَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا الْأَرْضُ الْمَعْرُوفَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مَصْدَرٌ لِأَرَضَتِ الدَّابَّةُ الْخَشَبَ. وَتَأْكُلُ: حَالٌ، أَيْ أَكَلَتْ مِنْسَأَتَهُ، وَهِيَ حَالٌ مُصَاحِبَةٌ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمِنْسَأَةَ هِيَ الْعَصَا، وَكَانَتْ فِيمَا رُوِيَ مِنْ خُرْنُوبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَتَنْبُتُ لَهُ فِي مِحْرَابِهِ كُلَّ سَنَةٍ شَجَرَةٌ تُخْبِرُهُ بِمَنَافِعِهَا فَيَأْمُرُ فَتُقْلَعُ، وَيَتَصَرَّفُ فِي مَنَافِعِهَا، وَتُغْرَسُ لِتَتَنَاسَلَ. فَلَمَّا قَرُبَ مَوْتُهُ، نَبَتَتْ شَجَرَةٌ وَسَأَلَهَا

فَقَالَتْ: أَنَا الْخُرْنُوبُ، خَرَجْتُ لِخَرَابِ مُلْكِكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ حَضَرَ أَجَلُهُ، فَاسْتَعَدَّ وَاتَّخَذَ مِنْهَا عَصًا وَاسْتَدْعَى بِزَادِ سَنَةٍ، وَالْجِنُّ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَتَغَذَّى بِاللَّيْلِ. وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ فِي قُبَّةٍ، وَأَوْصَى بَعْضَ أَهْلِهِ بِكِتْمَانِ مَوْتِهِ عَنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ سَنَةً لِيَتِمَّ الْبِنَاءُ الَّذِي بدىء فِي زَمَنِ دَاوُدَ، فَلَمَّا مَضَى لِمَوْتِهِ سَنَةٌ، خَرَّ عَنِ الْعَصَا وَنُظِرَ إِلَى مِقْدَارِ مَا تَأْكُلُهُ الْأَرَضَةُ يَوْمًا وَقِيسَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا أَكَلَتِ الْعَصَا مِنْهُ سَنَةً. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَجَمَاعَةٌ: مَنْسَاتُهُ بِأَلِفٍ، وَأَصْلُهُ مِنْسَأَتُهُ، أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا بَدَلًا غَيْرَ قِيَاسِيٍّ. وقال أبو عمرو: أنا لَا أَهْمِزُهَا لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ لَهَا اشْتِقَاقًا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُهْمَزُ، فَقَدِ احْتَطْتُ، وَإِنْ كَانَتْ تُهْمَزُ، فَقَدْ يَجُوزُ لِي تَرْكُ الْهَمْزَةِ فِيمَا يُهْمَزُ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَجَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ بَكَّارٌ وَالْوَلِيدَانِ بْنُ عُتْبَةَ وَابْنُ مُسْلِمٍ: مِنْسَأْتُهُ، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ مِنْ تَسْكِينِ التَّحْرِيكِ تَخْفِيفًا، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَضَعَّفَ النُّحَاةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ التَّأْنِيثِ سَاكِنًا غَيْرَ الْفَاءِ. وَقِيلَ: قِيَاسُهَا التَّخْفِيفُ بَيْنَ بَيْنَ، وَالرَّاوِي لَمْ يَضْبُطْ، وَأَنْشَدَ هَارُونُ بْنُ مُوسَى الْأَخْفَشُ الدِّمَشْقِيُّ شَاهِدًا عَلَى سُكُونِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلَ الرَّاجِزِ: صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأَتِهِ ... كَقَوْمَةِ الشَّيْخِ إِلَى مِنْسَأْتِهِ وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ مفتوحة، وقرىء بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ قَلْبًا وَحَذْفًا، وَعَلَى وَزْنِ مَفْعَالَةٍ: مَنْسَاءَةٌ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: مَفْصُولَةً حَرْفَ جَرٍّ وَسَأَتِهِ بِجَرِّ التَّاءِ، قِيلَ: وَمَعْنَاهُ مِنْ عَصَاهُ، يُقَالُ لَهَا: سَاةُ الْقَوْسِ وَسَيْتُهَا مَعًا، وَهِيَ يَدُهَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، سُمِّيَتِ الْعَصَا سَاةَ الْقَوْسِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ صَحَّ النَّقْلُ أَنَّهُ اتَّخَذَهَا مِنْ شَجَرِ الْخَرُّوبِ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ حِينَ اتَّكَأَ عَلَيْهَا، وَهِيَ كَمَا قُطِعَتْ مِنْ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، قَدِ اعْوَجَّتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْقَوْسِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا اتَّكَأْتَ عَلَى غُصْنٍ أَخْضَرَ كَيْفَ يَعْوَجُّ حَتَّى يَكَادَ يَلْتَقِي طَرَفَاهُ؟ فِيهَا لُغَتَانِ: سَاةٌ وَسِيَةٌ، كَمَا يُقَالُ: قِحَةٌ وَقَحَاةٌ، وَالْمَحْذُوفُ مِنْ سَاةٍ وَسِيَةٍ. فَلَمَّا خَرَّ: أَيْ سَقَطَ عَنِ الْعَصَا مَيِّتًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي خَرَّ عَائِدٌ عَلَى سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ إِلَى أَنْ وُجِدَ فِي سَفَرٍ مُضْطَجِعًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ فِي بَيْتٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ، وَأَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَتَبَةَ الْبَابِ حَتَّى خَرَّ الْبَابُ، فَعُلِمَ مَوْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاتَ فِي مُتَعَبَّدِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَدْ أَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَكَلَتِ الْأَرَضَةُ الْمِنْسَأَةَ، أَيْ عَتَبَةَ الْبَابِ، فَلَمَّا خَرَّ، أَيِ الْبَابُ. انْتَهَى، وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمِنْسَأَةُ هِيَ الْعَتَبَةُ، وَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: فَلَمَّا خَرَّتْ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَلَا يَجِيءُ حَذْفُ مِثْلِ هَذِهِ التَّاءِ

إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَلَا يَكُونُ مِنْ ذِكْرِ الْمَعْنَى عَلَى مَعْنَى الْعَوْدِ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبَيَّنَتْ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَبَيَّنَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَهَرَتِ الْجِنُّ، وَالْجِنُّ فَاعِلٌ، وَأَنْ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنَ الْجِنِّ. كَمَا تَقُولُ: تَبَيَّنَ زَيْدٌ جَهْلَهُ، أَيْ ظَهَرَ جَهْلُ زِيدٍ، فَالْمَعْنَى: ظَهَرَ لِلنَّاسِ جَهْلُ الْجِنِّ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ تَبَيَّنَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَأَدْرَكَ، وَالْجِنُّ هُنَا خَدَمُ الْجِنِّ، وَضَعَفَتُهُمْ أَنْ لَوْ كانُوا: أَيْ لَوْ كَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلِمَ الْمُدَّعُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْهُمْ عَجْزَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ بِحَالِهِمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِمُ التَّهَكُّمُ كَمَا يُتَهَكَّمُ بِمُدَّعِي الْبَاطِلِ إِذَا دُحِضَتْ حُجَّتُهُ وَظَهَرَ إِبْطَالُهُ، كَقَوْلِكَ: هَلْ تَبَيَّنْتَ أَنَّكَ مُبْطِلٌ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ لذلك متبينا؟ انتهى. ويجىء تَبَيَّنَ بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ لَازِمًا، وَبِمَعْنَى عَلِمَ مُتَعَدِّيًا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... وَأَنَّ أَعِزَّاءَ الرِّجَالِ طِيَالُهَا وَقَالَ آخَرُ: أَفَاطِمُ إِنِّي مَيِّتٌ فتبيني ... ولا تجزعي على الأنام بموت أَيْ: فَتَبَيَّنِي ذَلِكَ، أَيِ اعْلَمِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ أَنْ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، إِنَّمَا هِيَ مَوْزُونَةٌ، نَحْوُ: أَنَّ مَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَسَمِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّحْقِيقُ وَالْيَقِينُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي هِيَ تَحَقَّقَتْ وَتَيَقَّنَتْ وَعَلِمَتْ وَنَحْوُهَا تَحِلُّ مَحَلَّ الْقَسَمِ. فَمَا لَبِثُوا: جَوَابُ الْقَسَمِ، لَا جَوَابُ لَوْ. وَعَلَى الْأَقْوَالِ، الْأَوَّلُ جَوَابُ لَوْ. وَفِي كِتَابِ النَّحَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ، بِنَصْبِ الْجِنِّ، أَيْ تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ الْجِنَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ الْغَيْبَ مَا خَفَى عَلَيْهَا مَوْتُهُ، أَيْ مَوْتُ سُلَيْمَانَ. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهَا بِدَوَامِهَا فِي الْخِدْمَةِ وَالضِّعَةِ وَهُوَ مَيِّتٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَيَعْقُوبُ بِخِلَافٍ عَنْهُ: تُبَيِّنَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٍّ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ قِرَاءَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُخَالِفَةً لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُمْ، ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، أُضْرِبُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا عَلَى عَادَتِنَا فِي تَرْكِ نَقْلِ الشَّاذِّ الَّذِي يُخَالِفُ لِلسَّوَادِ مُخَالَفَةً كَثِيرَةً. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ

وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ، فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ . لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِأَنْعُمِهِ بِقِصَّةِ سَبَأٍ، مَوْعِظَةً لِقُرَيْشٍ وَتَحْذِيرًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا جَرَى لِمَنْ كَفَرَ أَنْعُمَ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَبَأٍ فِي النَّمْلِ. وَلَمَّا مَلَكَتْ بِلْقِيسُ، اقْتَتَلَ قَوْمُهَا عَلَى مَاءِ وَادِيهِمْ، فَتَرَكَتْ مُلْكَهَا وَسَكَنَتْ قَصْرَهَا، وَرَاوَدُوهَا عَلَى أَنْ تَرْجِعَ فَأَبَتْ فَقَالُوا: لَتَرْجِعِنَّ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: لَا عُقُولَ لَكُمْ وَلَا تُطِيعُونِي، فَقَالُوا: نُطِيعُكِ، فَرَجَعَتْ إِلَى وَادِيهِمْ، وَكَانُوا إِذَا مُطِرُوا، أَتَاهُمُ السَّيْلُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَسُدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِمَسَاءَةٍ بِالصَّخْرِ وَالْقَارِ، وَحَبَسَتِ الْمَاءَ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ، وَجَعَلَتْ لَهُ أَبْوَابًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَبَنَتْ مِنْ دُونِهِ بِرْكَةً فِيهَا اثْنَا عَشَرَ مَخْرَجًا عَلَى عَدَدِ أَنْهَارِهِمْ، وَكَانَ الْمَاءُ يَخْرُجُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا مَعَ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقِيلَ: الَّذِي بَنَى لَهُمُ السَّدَّ هُوَ حِمْيَرُ أَبُو الْقَبَائِلِ الْيَمَنِيَّةِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: كَانُوا فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: وَكَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ يُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ، وَكَانَ فِي الْفَتْرَةِ، فَمَاتَ وَلَدُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَبَزَقَ وَكَفَرَ، فَلِذَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَكْفَرُ مِنْ حِمَارٍ، وَيُقَالُ: بِرْكَةُ جَوْفِ حِمَارٍ، أَيْ كَوَادِي حِمَارٍ، لَمَّا حَالَ بِهِمُ السَّيْلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي مَسَاكِنِهِمْ، جَمْعًا وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: مُفْرَدًا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْكِسَائِيُّ: مُفْرَدًا بِكَسْرِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَعَلْقَمَةَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: كَسْرُ الْكَافِ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، وَهِيَ لُغَةُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَالْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْيَوْمَ قَلِيلَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ فَصِيحَةٌ، فَمَنْ قَرَأَ الْجَمْعَ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ مَسْكَنٌ، وَمَنْ أَفْرَدَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ فِي سُكْنَاهُمْ، حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْرَدًا يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ يَرَى ذَلِكَ ضَرُورَةً نَحْوَ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعْفُوا، يُرِيدُ بُطُونَكُمْ. وَقَوْلُهُ: قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ أَيْ جُلُودُ.

آيَةٌ: أَيْ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَوُجُوبِ شُكْرِهِ، أَوْ جَعَلَ قِصَّتَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ آيَةً، إِذْ أَعْرَضَ أَهْلُهَا عَنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَخَرَّبَهُمْ وَأَبْدَلَهُمْ عَنْهَا الْخَمْطَ وَالْأَثْلَ ثمرة لهم وجَنَّتانِ: خبر مبتدأ محذوف، أي هِيَ جَنَّتَانِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ بَدَلٌ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ: رَفْعٌ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِآيَةٍ. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ جِهَةَ تَضْعِيفِهِ. وَقَالَ: جَنَّتانِ ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ لَا مُسَوِّغَ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا، إِلَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ جَنَّتَانِ لَهُمْ، أَوْ عَظِيمَتَانِ لَهُمْ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ يَبْقَى الْكَلَامُ مُفَلَّتًا مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: جَنَّتَيْنِ بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنَّ آيَةٌ اسْمُ كَانَ، وَجَنَّتَيْنِ الْخَبَرُ. قِيلَ: وَوَجْهُ كَوْنِ الْجَنَّتَيْنِ آيَةٌ نَبَاتُ الْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ مَكَانَ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ بَسَاتِينُهُمْ ذَاتَ أَشْجَارٍ وَثِمَارٍ تَسُرُّ النَّاسَ بِظِلَالِهَا، وَلَمْ يُرِدْ جَنَّتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، بَلْ أَرَادَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ يُمْنَةً وَيُسْرَةً. انْتَهَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ جَمَاعَةً مِنَ الْبَسَاتِينِ عَنْ يَمِينِ بَلْدَتِهِمْ، وَأُخْرَى عَنْ شِمَالِهَا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَمَاعَتَيْنِ فِي تَقَارُبِهَا وَتَضَامِّهَا كَأَنَّهَا جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا يَكُونُ بِلَادُ الرِّيفِ الْعَامِرَةُ وَبَسَاتِينُهَا، أَوْ أَرَادَ بُسْتَانِيُّ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ يَمِينِ مَسْكَنِهِ وَشِمَالِهِ، كَمَا قَالَ: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ «1» . انْتَهَى. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا يُوجَدُ فِيهَا بُرْغُوثٌ، وَلَا بَعُوضٌ، وَلَا عَقْرَبٌ، وَلَا تُقَمَّلُ ثِيَابُهُمْ، وَلَا تَعْيَا دَوَابُّهُمْ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْشِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ، وَعَلَى رَأْسِهَا الْمِكْتَلُ، فيمتلىء ثِمَارًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَنَاوَلَ بِيَدِهَا شَيْئًا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ: قَوْلُ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، أَوْ قَوْلُ لِسَانِ الْحَالِ لَهُمْ، كَمَا رَأَوْا نِعَمًا كَثِيرَةً وَأَرْزَاقًا مَبْسُوطَةً، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ أَكْلِ ثِمَارِهَا خَوْفٌ وَلَا مَرَضٌ. وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ: أَيْ كَرِيمَةُ التُّرْبَةِ، حَسَنَةُ الْهَوَاءِ، رَغْدَةُ النِّعَمِ، سَلِيمَةٌ مِنَ الْهَوَامِّ وَالْمَضَارِّ، وَرَبٌّ غَفُورٌ، لَا عِقَابَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِنِعَمِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا عَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ لَذَّةٌ كَامِلَةٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْمَآلِيَّةِ. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ: بِنَصْبِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: اسْكُنُوا بَلْدَةً طَيِّبَةً وَاعْبُدُوا رَبًّا غَفُورًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِمْ فِي مُقَابَلَتِهِ فَقَالَ: فَأَعْرَضُوا: أَيْ عَمَّا جَاءَ بِهِ إِلَيْهِمْ أنبياؤهم،

_ (1) سورة الكهف: 18/ 32.

وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا، دَعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَّرُوهُمْ نِعَمَهُ، فَكَذَّبُوهُمْ وَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ لِلَّهِ نِعْمَةً، فَبَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها «1» ، إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ «2» ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجُرَذَ فَأْرًا أَعْمَى تَوَالَدَ فِيهِ، وَيُسَمَّى الْخُلْدُ، وَخَرَقَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَأَرْسَلَ سَيْلًا فِي ذَلِكَ الْوَادِي، فَحَمَلَ ذَلِكَ السَّدَّ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعِظَمِ، وَكَثُرَ بِهِ الْمَاءُ بِحَيْثُ مَلَأَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَحَمَلَ الْجَنَّاتِ وَكَثِيرًا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ يُمْكِنُهُ الْفِرَارُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا خَرَقَ السَّدَّ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ يَبْسِ الْجَنَّاتِ، فَهَلَكَتْ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ: الْعَرِمُ فِي لُغَةِ الْيَمَنِ جَمْعُ عَرِمَةٍ وَهِيَ: كُلُّ مَا بُنِيَ أَوْ سُنِمَ لِيُمْسِكَ الْمَاءَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْعَرِمُ: الْمُسَنَّاةُ، بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ عَرَبِيٌّ، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْبِنَاءِ بِلُغَةِ الْحِجَازِ الْمُسَنَّاةُ، كَأَنَّهَا الْجُسُورُ وَالسِّدَادُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْأَعْشَى: وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ ... مَآرِبُ عَفَى عَلَيْهَا العرم رجام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ ... إِذَا جَاشَ دِفَاعُهُ لَمْ يَرِمْ فَأَرْوَى الزُّرُوعَ وَأَشْجَارَهَا ... عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُ إِذْ قُسِمْ فَصَارُوا أَيَادِيَ لَا يَقْدِرُو ... نَ مِنْهُ عَلَى شِرْبِ طِفْلٍ فَطِمْ وَقَالَ آخَرُ: وَمِنْ سَبَأٍ لِلْحَاضِرِينَ مَآرِبُ ... إِذَا بَنَوْا مِنْ دُونِهِ سَيْلَ الْعَرِمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: الْعِرَمُ اسْمٌ، وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَ السَّدُّ بُنِيَ بِهِ. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى الْوَادِي بِذَلِكَ الْبِنَاءِ لِمُجَاوَرَتِهِ لَهُ، فَصَارَ عَلَمًا عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْعَرِمُ: الشَّدِيدُ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلسَّيْلِ أُضِيفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ إِلَى صِفَتِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: السَّيْلُ الْعَرِمُ، أَوْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ سَيْلُ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ الَّذِي كَانَ عَنْهُ السَّيْلُ، أَوْ سَيْلُ الْجُرَذِ الْعَرِمِ، فَالْعَرِمُ صِفَةٌ لِلْجُرَذِ. وَقِيلَ: الْعَرِمُ اسْمٌ لِلْجُرَذِ، وَأُضِيفَ السَّيْلُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ كَانَ السَّبَبَ فِي خَرَابِ السَّدِّ الَّذِي حَمَلَهُ السَّيْلُ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَقَرَأَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ فِيمَا حَكَى ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْعَرْمُ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ تَخْفِيفُ الْعَرِمِ، كَقَوْلِهِمْ: فِي الْكَبِدِ الْكَبْدُ. وَلَمَّا غَرِقَ مَنْ غَرِقَ، وَنَجَا مَنْ نَجَا، تَفَرَّقُوا وَتَحَرَّفُوا حَتَّى ضَرَبَتِ العرب بهم المثل

_ (1) سورة الكهف: 18/ 57. (2) سورة السجدة: 32/ 22.

فَقَالُوا: تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَأٍ وَأَيَادِي سَبَأٍ، قِيلَ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ مِنْهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ سَيْلُ ذَلِكَ الْوَادِي يَصِلُ إِلَى مَكَّةَ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَكَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ فِي مِلْكِ ذِي الْأَذْعَارِ بْنِ حَسَّانَ، فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَدَخَلَتِ الْبَاءُ فِي بِجَنَّتَيْهِمْ عَلَى الزَّائِلِ، وَانْتُصِبَ مَا كَانَ بَدَلًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: جَنَّتَيْنِ عَلَى الْمَعْهُودُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لِمَنْ يَنْتَمِي لِلْعِلْمِ يَفْهَمُ الْعَكْسَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَوْ أَبْدَلَ ضَادًا بِظَاءٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَهُوَ خَطَأٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَوْ أَبْدَلَ ظَاءً بِضَادٍ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ «1» . وَسَمَّى هَذَا الْمُعَوَّضَ جَنَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ خَمْطٌ وَأَثْلٌ وَسِدْرٌ لَا يُسَمَّى جَنَّةً، لِأَنَّهَا أَشْجَارٌ لَا يَكَادُ يَنْتَفِعُ بِهَا. وَجَاءَتْ تَثْنِيَةُ ذَاتٍ عَلَى الْأَصَحِّ فِي رَدِّ عَيْنِهَا فِي التَّثْنِيَةِ فَقَالَ: ذَواتَيْ أُكُلٍ، كَمَا جَاءَ ذَواتا أَفْنانٍ «2» . وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَرُدَّ فَتَقُولَ: ذَاتَا كَذَا عَلَى لَفْظِ ذَاتٍ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ضَمِّ كَافِ أُكُلٍ وَسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُكُلٍ مُنَوَّنًا، وَالْأُكُلُ: الثَّمَرُ الْمَأْكُولُ، فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أُكُلِ خَمْطٍ قَالَ أَوْ وُصِفَ الْأُكُلُ بِالْخَمْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ ذَوَاتِي أُكُلٍ شَبَعٍ. انْتَهَى. وَالْوَصْفُ بِالْأَسْمَاءِ لَا يَطَّرِدُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِقَاعٍ عَرْفَجٍ كُلِّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْبَدَلُ فِي هَذَا لَا يَحْسُنُ، لِأَنَّ الْخَمْطَ لَيْسَ بِالْأَكْلِ نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّ الْبَدَلَ حَقِيقَةٌ هُوَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ، فَلَمَّا حُذِفَ أُعْرِبَ مَا قَامَ مَقَامَهُ بِإِعْرَابِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالصِّفَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ، يُرِيدُ لَا بِجَنَّتَيْنِ، لِأَنَّ الْخَمْطَ اسْمٌ لَا صِفَةٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ عَطْفُ الْبَيَانِ، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْأُكُلَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ وَمِنْهَا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، إِذْ شَرْطُ عَطْفِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، وَمَا قَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِي النَّكِرَةِ مِنَ النَّكِرَةِ إِلَّا الكوفيون، فأبو علي أخذ بِقَوْلِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: أُكُلِ خَمْطٍ بِالْإِضَافَةِ: أَيْ ثَمَرِ خمط. وقرىء: وَأَثْلًا وَشَيْئًا بِالنَّصْبِ، حَكَاهُ الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَطْفًا عَلَى جَنَّتَيْنِ. وَقَلِيلٍ صِفَةٌ لِسِدْرٍ، وَقَلَّلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ أَشْجَارِهِ وَأَكْرَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَجْرَاهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَخْرِيبِ بِلَادِهِمْ، وَإِغْرَاقِ أَكْثَرِهِمْ، وَتَمْزِيقِهِمْ فِي الْبِلَادِ، وَإِبْدَالِهِمْ بِالْأَشْجَارِ الْكَثِيرَةِ الْفَوَاكِهِ الطَّيِّبَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ، الْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَإِنْكَارُ نِعَمِهِ. وَهَلْ نُجازِي بِذَلِكَ الْعِقَابِ إِلَّا الْكَفُورَ: أَيِ الْمَبَالِغَ فِي الْكُفْرِ، يُجَازَى بِمِثْلِ فِعْلِهِ قَدْرًا بِقَدْرٍ، وأما المؤمن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 108. (2) سورة الرحمن: 55/ 48.

فجزاؤه بتفضل وَتَضْعِيفٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ، الْكَفُورُ رَفْعًا وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ، الْكَفُورَ نَصْبًا. وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: يجزي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، الْكَفُورُ رَفْعًا، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْجَزَاءُ فِي الْخَيْرِ، وَالْمُجَازَاةُ فِي الشر، لكن في تقييدهما قَدْ يَقَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً: جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَبَدَّلْناهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ جَنَّتَيْهِمْ، وَذَكَرَ تَبْدِيلَهَا بِالْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ، ذَكَرَ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّصَالِ قُرَاهُمْ، وَذَكَرَ تَبْدِيلَهَا بِالْمَفَاوِزِ وَالْبَرَارِي. وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا، وَصَفَ تَعَالَى حَالَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ السَّيْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ وَالنِّعْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، كَانَ قَدْ أَصْلَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ الْمُتَّصِلَةَ بِهِمْ وَعَمَّرَهَا وَجَعَلَهُمِ أَرْبَابَهَا، وَقَدَّرَ السَّيْرَ بِأَنْ قَرَّبَ الْقُرَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَتَّى كَانَ الْمُسَافِرُ مِنْ مَأْرِبَ إِلَى الشَّامِ يَبِيتُ فِي قَرْيَةٍ وَيَقِيلُ فِي أُخْرَى، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ زَادٍ. وَالْقُرَى: الْمُدُنُ، وَيُقَالُ لِلْجَمْعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا قَرْيَةٌ. وَالْقُرَى الَّتِي بُورِكَ فِيهَا بِلَادُ الشَّامِ، بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْقُرَى الظَّاهِرَةُ هِيَ الَّتِي بَيْنَ الشَّامِ وَمَأْرِبَ، وَهِيَ الصِّغَارُ الَّتِي هِيَ الْبَوَادِي. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقُرَى الَّتِي بُورِكَ فِيهَا هِيَ قُرَى الشَّامِ بِإِجْمَاعٍ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ السَّرَاوَى. وَقَالَ وَهْبٌ: قُرَى صَنْعَاءَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: قُرَى مَأْرِبَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُرَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَبَرَكَتُهَا: كَثْرَةُ أَشْجَارِهَا أَوْ ثِمَارِهَا. وَوَصَفَ قُرًى بِظَاهِرَةً، قَالَ قَتَادَةُ: مُتَّصِلَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ، يَغْدُونَ فَيَقِيلُونَ فِي قَرْيَةٍ، وَيَرُوحُونَ فَيَبِيتُونَ فِي قَرْيَةٍ. قِيلَ: كَانَ كُلُّ مِيلٍ قَرْيَةً بِسُوقٍ، وَهُوَ سَبَبُ أَمْنِ الطَّرِيقِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ظَاهِرَةً: مُرْتَفِعَةً، أَيْ فِي الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْقُرَى. وَقِيلَ: ظَاهِرَةً، إِذَا خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ ظَهَرَتْ لَكَ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: ظَاهِرَةً: مَعْرُوفَةً، يُقَالُ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ: أَيْ مَعْرُوفٌ، وَقِيلَ: ظَاهِرَةً: عَامِرَةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ معنى ظاهر: خَارِجَةً عَنِ الْمُدَّةِ، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرَى الصِّغَارِ الَّتِي هِيَ فِي ظَوَاهِرِ الْمُدُنِ، كَأَنَّهُ فَصَلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَيْنَ الْقُرَى الصِّغَارِ وَبَيْنَ الْقُرَى الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ الْمُدُنُ. وَظَوَاهِرُ الْمُدُنِ: مَا خَرَجَ عَنْهَا فِي الْفَيَافِي وَالْفُحُوصِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَزَلْنَا بِظَاهِرِ فَلَاةٍ أَيْ خَارِجًا عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: ظاهِرَةً: تَظْهَرُ، تُسَمِّيهِ النَّاسُ إِيَّاهَا بِالْبَادِيَةِ وَالضَّاحِيَةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَوْ شَهَدَتْنِي مِنْ قُرَيْشٍ عِصَابَةٌ ... قُرَيْشُ الْبِطَاحُ لَا قُرَيْشُ الظَّوَاهِرُ يَعْنِي: الْخَارِجِينَ مِنْ بَطْحَاءِ مَكَّةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَجَاءَ أَهْلُ الضَّوَاحِي يَسْكُنُونَ الْغُرَفَ» .

وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ: قَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْغَادِيَ يَقِيلُ فِي قَرْيَةٍ، وَالرَّائِحَ فِي أُخْرَى، إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَقْصُودِهِ آمِنًا مِنْ عَدُوٍ وَجُوعٍ وَعَطَشٍ وَآفَاتِ الْمُسَافِرِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَقَادِيرُ الْمَرَاحِلِ كَانَتِ الْقُرَى عَلَى مَقَادِيرِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَقَادِيرُ الْمَقِيلِ وَالْمَبِيتِ، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: بَيْنَ كُلِّ قَرْيَةٍ وَقَرْيَةٍ مِقْدَارٌ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ، وَقِيلَ: بَيْنَ كُلِّ قَرْيَتَيْنِ نِصْفُ يَوْمٍ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سِيرُوا، أَمْرٌ حَقِيقَةً عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا قَوْلَ ثَمَّ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا مُكِّنُوا مِنَ السَّيْرِ، وَسُوِّيَتْ لَهُمْ أَسْبَابُهُ، فَكَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَلِكَ وَأُذِنَ لَهُمْ فِيهِ. انْتَهَى. وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَكَأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ، وَالصَّوَابُ كَأَنَّهُمْ لِأَنَّهُ خَبَرُ لَكِنَّهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَسِيرُونَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي أَمَانٍ، وَلَوْ وَجَدَ الرَّجُلُ قَاتِلَ ابْنِهِ لَمْ يُهِجْهُ، وَكَانَ الْمُسَافِرُ لَا يَأْخُذُ زَادًا وَلَا سِقَاءً مِمَّا بَسَطَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سِيرُوا فِيها، إِنْ شِئْتُمْ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ شِئْتُمْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ فِيهَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ أَوْ سِيرُوا فِيهَا آمِنِينَ وَلَا تَخَافُونَ، وَإِنْ تَطَاوَلَتْ مُدَّةُ أَسْفَارِكُمْ فِيهَا وَامْتَدَّتْ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ أَوْ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَكُمْ وَأَيَّامَكُمْ مُدَّةَ أَعْمَارِكُمْ، فَإِنَّكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ لَا تُلْقُونَ فِيهَا إِلَّا آمَنِينَ. انْتَهَى. وَقَدَّمَ اللَّيَالِيَ، لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِمَنْ قَالَ: وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ، حَتَّى يُسَاوِيَ اللَّيْلُ النَّهَارَ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا طَالَتْ بِهِمْ مُدَّةُ النِّعْمَةِ بَطَرُوا وَمَلُّوا الْعَافِيَةَ، وَطَلَبُوا اسْتِبْدَالَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، كَمَا فَعَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ جَنْيُ ثِمَارِنَا أَبْعَدَ لَكَانَ أَشْهَى وَأَغْلَى قِيمَةً، فَتَمَنَّوْا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ مَفَاوِزَ لِيُرَكِّبُوا الرَّوَاحِلَ فِيهَا وَيَتَزَوَّدُوا الْأَزْوَادَ فَقَالُوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: رَبَّنَا بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ، بَاعِدْ: طَلَبٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهِشَامٌ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا الْعَيْنَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: رَبُّنَا رَفْعًا، بَعَدَ فِعْلًا مَاضِيًا مُشَدَّدَ الْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا وَأَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَسَلَّامٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِأَلِفٍ بَيْنِ الْبَاءِ وَالْعَيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ أَخِي الْحُسَيْنِ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: رَبَّنَا بِالنَّصْبِ، بَعُدَ بِضَمِّ الْعَيْنِ فِعْلًا مَاضِيًا بَيْنَ بِالنَّصْبِ، إِلَّا سَعِيدًا مِنْهُمْ، فَضَمَّ نُونَ بَيْنَ جَعَلَهُ فَاعِلًا، وَمَنْ نَصَبَ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى السَّيْرِ، أَيْ أَبْعِدِ السَّيْرَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا، فَمَنْ نَصَبَ رَبَّنَا جَعَلَهُ نِدَاءً، فَإِنْ جَاءَ بَعْدَهُ طَلَبٌ كَانَ ذَلِكَ أَشَرًا مِنْهُمْ وَبَطَرًا وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ فِعْلًا مَاضِيًا كَانَ ذَلِكَ شَكْوَى مِمَّا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ بُعْدِ

الْأَسْفَارِ الَّتِي طَلَبُوهَا أَوَّلًا، وَمَنْ رَفَعَ رَبَّنَا فَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ إِلَّا مَاضِيًا، وَهِيَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ فِيهَا شَكْوَى بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنَ بُعْدِ الْأَسْفَارِ. وَمَنْ قَرَأَ باعد، أو بعد بِالْأَلِفِ وَالتَّشْدِيدِ، فَبَيْنَ مَفْعُولٌ بِهِ، لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مُتَعَدِّيَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَ ظَرْفًا. أَلَا تَرَى إِلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَهُ كَيْفَ جَعَلَهُ اسْمًا؟ فَكَذلِكَ إذا نصب وقرىء بُعِدَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ: بَيْنَ سَفَرِنَا مُفْرَدًا وَالْجُمْهُورُ: بِالْجَمْعِ. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: عَطْفٌ عَلَى فَقالُوا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ حَالٌ، أَيْ وَقَدْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ: أَيْ عِظَاةً وَعِبَرًا يُتَحَدَّثُ بِهِمْ وَيُتَمَثَّلُ. وَقِيلَ: لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدِيثُ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لَمْ يَكُونُوا أَحَادِيثَ. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ: أَيْ تَفْرِيقًا، اتَّخَذَهُ النَّاسُ مَثَلًا مَضْرُوبًا، فقال كثير: أيادي سبايا عَزَّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُمْ ... فَلَمْ يَحْلُ لِلْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ وَقَالَ قَتَادَةُ: فَرَّقْنَاهُمْ بِالتَّبَاعُدِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: جَعَلْنَاهُمْ تُرَابًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَسَّانُ بِالشَّامِ، وَأَنْمَارٌ بِيَثْرِبَ، وَجُذَامٌ بِتِهَامَةَ، وَالْأَزْدُ بِعُمَانَ وَفِي التَّحْرِيرِ وَقَعَ مِنْهُمْ قُضَاعَةُ بِمَكَّةَ، وَأَسَدٌ بِالْبَحْرَيْنِ، وَخُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَأَ أَبُو عَشَرَةِ قَبَائِلَ، فَلَمَّا جَاءَ السَّيْلُ عَلَى مَأْرِبٍ، وَهُوَ اسْمُ بَلَدِهِمْ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةُ قَبَائِلَ، أَيْ تَبَدَّدَتْ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ: كِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالسِّفْرُ وَمُذْحِجُ وَأَنْمَارُ، الَّتِي مِنْهَا بَجِيلَةُ وَخَثْعَمٌ، وَطَائِفَةٌ قِيلَ لَهَا حُجَيْرٌ بَقِيَ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَبِ الْأَوَّلِ وَتَشَاءَمَتْ أَرْبَعَةٌ: لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَغَسَّانُ وَخُزَاعَةُ، وَمِنْ هَذِهِ الْمُتَشَائِمَةِ أَوْلَادُ قُتَيْلَةَ، وَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَمِنْهَا عَامِلَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ: أَيْ فِي قَصَصِ هَؤُلَاءِ لَآيَةً: أَيْ عَلَامَةً. لِكُلِّ صَبَّارٍ، عَنِ الْمَعَاصِي وَعَلَى الطَّاعَاتِ. شَكُورٍ، لِلنِّعَمِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ أَهْلِ سَبَأٍ، وَقِيلَ: هُوَ لِبَنِي آدَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْكُوفِيُّونَ: صَدَّقَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَانْتَصَبَ ظَنَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِصَدَّقَ، وَالْمَعْنَى: وَجَدَ ظَنَّهُ صَادِقًا، أَيْ ظَنَّ شَيْئًا فَوَقَعَ مَا ظَنَّ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّخْفِيفِ، فَانْتَصَبَ ظَنَّهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ يَظُنُّ ظَنًّا، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ فِي ظَنِّهِ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: أَخْطَأْتُ ظَنِّي، وَأَصَبْتُ ظَنِّي، وَظَنَّهُ هَذَا كَانَ حِينَ قال: لَأُضِلَّنَّهُمْ «1» ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ «2» ، وَهَذَا مِمَّا قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ، فَصَدَقَ هَذَا الظن.

_ (1) سورة النساء: 4/ 119. (2) سورة الحجر: 15/ 39. [.....]

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو الْجَهْجَاهِ الْأَعْرَابِيُّ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بَرْزَةَ: بِنَصْبِ إِبْلِيسَ وَرَفْعِ ظَنَّهُ. أَسْنَدَ الْفِعْلَ إلى ظنه، لأنه ظنا فَصَارَ ظَنُّهُ فِي النَّاسِ صَادِقًا، كَأَنَّهُ صَدَقَهُ ظَنَّهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: إبليس ظَنُّهُ، بِرَفْعِهِمَا، فَظَنُّهُ بَدَلٌ مِنْ إِبْلِيسُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. فَاتَّبَعُوهُ: أَيْ فِي الْكُفْرِ. إِلَّا فَرِيقاً: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَمِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ، أَنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اتَّبَعُوا إِبْلِيسَ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا فَرِيقاً، تَقْلِيلٌ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْكُفَّارِ قَلِيلٌ، كَمَا قَالَ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. وَما كانَ لَهُ: أَيْ لِإِبْلِيسَ، عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ: أَيْ مِنْ تَسَلُّطٍ وَاسْتِيلَاءٍ بِالْوَسْوَسَةِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَلَا حُجَّةٍ إِلَّا الْحِكْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَمَيُّزِ الْمُؤْمِنِ بِالْآخِرَةِ مِنَ الشَّاكِّ فِيهَا. وَعَلَّلَ التَّسَلُّطَ بِالْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَوْجُودًا، لِأَنَّ الْعِلْمَ مُتَقَدِّمٌ أَوَّلًا. انْتَهَى. وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: لِنَعْلَمَ حَادِثًا كَمَا عَلِمْنَاهُ قَبْلَ حُدُوثِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ عَامًّا ظَاهِرًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ وَالثَّوَابَ وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُنَا وَحِزْبُنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ لَهُ سَوْطٌ وَلَا سَيْفٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَمَالَهُمْ فَمَالُوا بِتَزْيِينِهِ. انْتَهَى. كَمَا قال تعالى عنه: ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «1» . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: إِلَّا لِيُعْلَمَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: إِلَّا لِيُعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْيَاءِ. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ، إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ عَدَلَ إِلَيْهَا عَنْ حَافِظٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مُحَافِظٍ، كَجَلِيسٍ وَخَلِيلٍ. وَالْحِفْظُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ، لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ الشَّيْءَ وَعَجَزَ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ. قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ، قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا

_ (1) سورة يوسف: 14/ 22.

الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ. لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الشَّاكِرِينَ وَحَالَ الْكَافِرِينَ، وَذَكَرَ قُرَيْشًا وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَنْ مَضَى، عَادَ إِلَى خِطَابِهِمْ فَقَالَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ضُرِبَ لَهُمُ الْمَثَلُ بِقِصَّةِ سَبَأٍ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ بِالنَّقْلِ فِي أَخْبَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، وَهُمْ مَعْبُودَاتُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَمْرٌ بِدُعَاءٍ هُوَ تَعْجِيزٌ وَإِقَامَةٌ لِلْحُجَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ عِنْدَ الْجُوعِ الَّذِي أَصَابَ قُرَيْشًا، أَيِ ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُوا عَنْكُمْ مَا حَلَّ بِكُمْ، وَالْجَئُوا إِلَيْهِمْ فِيمَا يَعِنُّ لَكُمْ. وَزَعَمَ: مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ إِذَا كَانَتْ اعْتِقَادِيَّةً، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ أَيْضًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَنَابَتْ صِفَتُهُ مَنَابَهُ، التَّقْدِيرُ: الَّذِي زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ وَحَسَّنَ حَذْفَ الثَّانِي قِيَامُ صِفَتِهِ مَقَامَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا حَسُنَ، إِذْ فِي حَذْفِ إِحْدَى مَفْعُولَيْ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا اخْتِصَارًا خِلَافٌ، مَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ مَلَكُوتٍ، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مِنْ دُونِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ كَلَامًا. لَوْ قُلْتُ: هُمْ مَنْ دُونِهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَا الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ مَزْعُومَةً لَهُمْ لَكَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالْحَقِّ قَائِلِينَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَوْحِيدًا مِنْهُمْ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا بِاعْتِرَافِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ آلِهَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَهُوَ أَحْقَرُ الْأَشْيَاءِ، وَإِذَا انْتَفَى مِلْكُ الْأَحْقَرِ عَنْهُمْ، فَمِلْكُ الْأَعْظَمِ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ مَقَرَّ ذَلِكَ الْمِثْقَالِ، وهو السموات وَالْأَرْضُ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ ما لهم في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شِرْكَةٍ، فَنَفَى نَوْعَيِ الْمُلْكِ مِنَ الِاسْتِبْدَادِ وَالشِّرْكَةِ. ثُمَّ نَفَى الْإِعَانَةَ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْشَأَ بِقَوْلِهِ: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، فَبَيَّنَ عَجْزَ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ. وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ لِتَشْفَعَ لَهُ، نَفَى أَنَّ شَفَاعَتَهُمْ تَنْفَعُ، وَالنَّفْيُ مُنْسَحِبٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ، أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ فَتَنْفَعُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ، وَلَا تَنْفَعُ

شَفَاعَتُهُمْ، أَيْ لَا يَقَعُ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ شَفَاعَةٌ أَصْلًا. وَلِأَنَّ عَابِدِيهِمْ كُفَّارٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْبُودُونَ أَصْنَامًا أَوْ كُفَّارًا، كَفِرْعَوْنَ، فَسَلْبُ الشَّفَاعَةِ عَنْهُمْ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانُوا مَلَائِكَةً أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ عُبِدَ، كَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَشَفَاعَتُهُمْ إِذَا وُجِدَتْ تَكُونُ لمؤمن. وإِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ: استثناء مُفَرَّغٌ، فَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مَشْفُوعًا لَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، أَيِ الْمَشْفُوعِ، أَذِنَ لِأَجْلِهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ وَالشَّافِعُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَافِعًا، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ بِمَعْنَى: إِلَّا لِشَافِعٍ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ، وَالْمَشْفُوعُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، إِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَكُونُ اللَّامُ فِي أَذِنَ لَهُ لَامَ التَّبْلِيغِ، لَا لَامَ الْعِلَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَقُولُ: الشَّفَاعَةُ لِزَيْدٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ الشَّافِعُ، كَمَا يَقُولُ: الْكَرَمُ لِزَيْدٍ، وَعَلَى مَعْنَى أَنَّهُ الْمَشْفُوعُ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: الْقِيَامُ لِزَيْدٍ، فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنَ الشَّافِعِينَ وَمُطْلَقَةً لَهُ، أَوْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا كَائِنَةً لمن أذن له، أي لِشَفِيعِهِ، أَوْ هِيَ اللَّامُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِكَ: أَذِنَ لِزَيْدٍ لِعَمْرٍو، أَيْ لِأَجْلِهِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا لِمَنْ وَقَعَ الْإِذْنُ لِلشَّفِيعِ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ لَطِيفٌ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1» . انْتَهَى. فَجَعَلَ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ: إِلَّا كَائِنَةً، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الذَّوَاتِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَذَاهِبُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الشِّرْكِ أَرْبَعَةٌ: قَائِلٌ: إِنَّ الله خلق السموات وَجَعَلَ الْأَرْضَ وَالْأَرْضِيَّاتِ فِي حُكْمِهَا، وَنَحْنُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِيَّاتِ، فَنَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْمَلَائِكَةَ السَّمَاوِيَّةَ، وَهُمْ إِلَهُنَا، وَاللَّهُ إِلَهُهُمْ، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ، فِي السَّماواتِ، كَمَا اعْتَرَفْتُمْ، وَلا فِي الْأَرْضِ، خِلَافَ مَا زَعَمْتُمْ. وَقَائِلٌ: السموات مِنَ اللَّهِ اسْتِبْدَادًا، وَالْأَرْضِيَّاتُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْكَوَاكِبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَنَاصِرَ وَالتَّرْكِيبَاتِ الَّتِي فِيهَا بِالِاتِّصَالَاتِ وَحَرَكَاتٍ وَطَوَالِعَ، فَجَعَلُوا مَعَ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَوَّلُونَ جَعَلُوا الْأَرْضَ لِغَيْرِهِ، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ، أَيِ الْأَرْضُ، كَالسَّمَاءِ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِمَا نَصِيبٌ. وَقَائِلٌ: التَّرْكِيبَاتُ وَالْحَوَادِثُ مِنَ اللَّهِ، لَكِنْ فَوَّضَ إِلَى الْكَوَاكِبِ، وَفِعْلُ الْمَأْذُونِ يُنْسَبُ إِلَى الْآذِنِ، وَيُسَلَبُ عَنِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهِ، جَعَلُوا السموات

_ (1) سورة يونس: 10/ 18.

مُعَيَّنَةً لِلَّهِ، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَقَائِلٌ: نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ لِيَشْفَعُوا لَنَا، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ، الْجُمْلَةُ، وأل فِي الشَّفَاعَةِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْعُمُومِ، أَيْ شَفَاعَةُ جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: لِلْعَهْدِ، أَيْ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي زَعَمُوهَا شُرَكَاءَ وَشُفَعَاءَ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: اللَّامُ فِي لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالشَّفَاعَةِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَشْفَعْتُ لَهُ، وَأَنْتَ تَعَلَّقَ بتنفع. انْتَهَى، وَهَذَا فِيهِ قِلَّةٌ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ مُتَأَخِّرٌ، فَدُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: أُذِنَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، أَيْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قُلُوبِهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الَّتِي لِلْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ، وفي ما لَهُمْ، وما لَهُ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ آلِهَةً وَشُفَعَاءَ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ منهم. وحَتَّى: تَدُلُّ عَلَى الْغَايَةِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عَائِدٌ عَلَى أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ لَهُ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا هُمْ شُفَعَاءُ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ، بَلْ هُمْ عَبْدَةٌ أَوْ مُسْلِمُونَ أَبَدًا، يَعْنِي مُنْقَادُونَ، حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالَ: وَتَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمَلَائِكَةِ إِذَا سَمِعَتِ الْوَحْيَ، أَيْ جِبْرِيلَ ، وَبِالْأَمْرِ يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ سَمِعَتْ، كَجَرِّ سِلْسِلَةِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَتَفْزَعُ عِنْدَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا وَهَيْبَةً. وَقِيلَ: خَوْفٌ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِذَا فُزِّعَ ذَلِكَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، أَيْ أُطِيرَ الْفَزَعُ عَنْهَا وَكُشِفَ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لبعض ولجبريل: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ المسؤلون: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ فِي صَدْرِ الْآيَاتِ تَتَّسِقُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْأُولَى، وَمَنْ لَمْ يَشْعُرْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُشَارٌ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ لَمْ تَتَّصِلْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، فَلِذَلِكَ اضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِهَا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْكُفَّارِ، بَعْدَ حُلُولِ الْمَوْتِ: فَفُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بِفَقْدِ الْحَيَاةِ، فَرَأَوُا الْحَقِيقَةَ، وَزَالَ فَزَعُهُمْ مِمَّا يُقَالُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: قَالَ الْحَقَّ، يُقِرُّونَ حِينَ لَا ينفعهم الْإِقْرَارُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْآيَةُ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى، يُرِيدُ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فِي الْمَلَائِكَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ، وَهَذَا بِعِيدٌ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي عَنْ قُلُوبِهِمْ لَا يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، كَانَ عَائِدًا عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدًا عَلَى جَمِيعِ

الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ حَتَّى غَايَةً لِقَوْلِهِ: فَاتَّبَعُوهُ، وَيَكُونُ التَّفْزِيعُ حَالَةَ مُفَارَقَةِ الْحَيَاةِ، أَوْ يُجْعَلُ اتِّبَاعُهُمْ إِيَّاهُ مُسْتَصْحِبًا لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَجَازًا. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمُغَيَّا وَالْغَايَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقَرُّوا بِاللَّهِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ، فَالْمَعْنَى: فَزَّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ مَا كَانَ يَطْلُبُهُمْ بِهِ، قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُ. وَقِيلَ: حَتَّى غَايَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: زَعَمْتُمْ، أَيْ زَعَمْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى غَايَةِ التَّفْزِيعِ، ثُمَّ تَرَكْتُمْ مَا زَعَمْتُمْ وَقُلْتُمْ: قَالَ الْحَقَّ. انْتَهَى. فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ التفاوت مِنْ خِطَابٍ فِي زَعَمْتُمْ إِلَى غَيْبَةٍ فِي فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَإِذَا أُذِّنَ فَزِعَ وَدَامَ فَزَعُهُ حَتَّى إِذَا أُزِيلَ التَّفْزِيعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ فِي قَبُولِ شَفَاعَتِنَا؟ فَيُجِيبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَالَ أَيِ اللَّهُ الْحَقَّ، أَيِ الْقَوْلَ الْحَقَّ، وَهُوَ قبول شفاعتهم، إذ كَانَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَأْذَنُ إِلَّا وَهُوَ مُرِيدٌ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ؟ وَلَا شَيْءَ وَقَعَتْ حَتَّى غَايَةً لَهُ. قُلْتُ: بِمَا فُهِمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انْتِظَارَ الْإِذْنِ وَتَوَقُّفًا وَتَمَهُّلًا وَفَزَعًا مِنَ الرَّاجِينَ لِلشَّفَاعَةِ وَالشُّفَعَاءِ، هَلْ يُؤْذَنُ لَهُمْ أَوْ لَا يُؤْذَنُ؟ وَأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ الْإِذْنُ إِلَّا بَعْدَ مَلِيٍّ مِنَ الزَّمَانِ وَطُولٍ مِنَ التَّرَبُّصِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «1» ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَتَرَبَّصُونَ وَيَتَوَقَّفُونَ مَلِيًّا فَزِعِينَ وَهِلِينَ. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ: أَيْ كُشِفَ الْفَزَعُ مِنْ قُلُوبِ الشَّافِعِينَ وَالْمَشْفُوعِ لَهُمْ بِكَلِمَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا رَبُّ الْعِزَّةِ فِي إِطْلَاقِ الْإِذِنِ. تَبَاشَرُوا بِذَلِكَ وَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ الْحَقَّ، أَيِ الْقَوْلَ الْحَقَّ، وَهُوَ الْإِذْنُ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنِ ارْتَضَى. انْتَهَى. وَتُلَخِّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ حَتَّى غَائِيَّةٌ إِمَّا لِمَنْطُوقٍ وَهُوَ زَعَمْتُمْ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي عَنْ قُلُوبِهِمْ الْتِفَاتًا، وَهُوَ لِلْكُفَّارِ، أَوْ هُوَ فَاتَّبَعُوهُ، وَفِيهِ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِغَائِبٍ. وَالْفَصْلُ بِالِاعْتِرَاضِ وَالضَّمِيرُ أَيْضًا لِلْكُفَّارِ، وَالضَّمِيرُ فِي قالُوا لِلْمَلَائِكَةِ، وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي رَبُّكُمْ، وَالْغَائِبِ فِي قالُوا الثَّانِيَةِ لِلْكُفَّارِ. وَإِمَّا لِمَحْذُوفٍ، فَمَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُغَيَّا،

_ (1) سورة النبأ: 78/ 37- 38.

لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُمْ عَبْدَةٌ مُنْقَادُونَ دَائِمًا لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذَلِكَ، لَا إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَلَا إِذَا لَمْ يُفَزَّعْ، وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ حَالَ الْوَحْيِ لَا يُنَاسِبُ الْآيَةَ، وَكَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قِصَّةِ الْوَحْيِ قَالَ: «فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ حَالَةَ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْوَحْيِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ مَاذَا قَالَ رَبُّكَ؟ قَالَ فَيَقُولُ الْحَقَّ، فَيُنَادُونَ الْحَقَّ» . وَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يُحْتَمَلُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالَّذِينَ عَبَدُوهُمْ مَلَائِكَةٌ وَغَيْرُهُمْ. وَتَخْصِيصَ مَنْ أَذِنَ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ أَيْضًا، وَالْمَأْذُونُ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ الْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا حَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي «الشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ؟» «1» . وَقُرِئَ: فُزِّعَ مُشَدَّدًا، مِنَ الْفَزَعِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أُطِيرَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَفُعِّلَ تَأْتِي لِمَعَانٍ مِنْهَا: الْإِزَالَةُ، وَهَذَا مِنْهُ نَحْوُهُ: قَرَّدْتُ الْبَعِيرَ، أَيْ أَزَلْتُ الْقُرَادَ عَنْهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَابْنُ عَامِرٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ الْفَزَعِ أَيْضًا، وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي فَزَعَ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي عَنْ قُلُوبِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْكُفَّارِ، فَالضَّمِيرُ لِمُغْوِيهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فُزِّعَ مِنَ الْفَزَعِ، بِتَخْفِيفِ الزَّايِ، مَبْنِيًّا للمفعول، وعَنْ قُلُوبِهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِهِ، كَقَوْلِكَ: انْطَلَقَ يَزِيدُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ: فَزَّعَ مُشَدَّدًا، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ الْفَزَعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الزاء. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَأَبُو مِجْلَزٍ: فُرِّغَ مِنَ الْفَرَاغِ، مُشَدَّدَ الرَّاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِيسَى افْرَنْقَعَ: عَنْ قُلُوبِهِمْ، بِمَعْنَى انْكَشَفَ عَنْهَا، وَقِيلَ: تَفَرَّقَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُفَارَقَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْعَيْنِ، كَمَا رُكِّبَ قَمْطَرَ مِنْ حُرُوفِ الْقَمْطِ مَعَ زِيَادَةِ الرَّاءِ. انْتَهَى. فَإِنْ عَنِيَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْعَيْنَ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الرَّاءُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعَيْنَ وَالرَّاءَ لَيْسَتَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ عَنَى أَنَّ الْكَلِمَةَ فِيهَا حُرُوفٌ، وَمَا ذَكَرُوا زَائِدًا إِلَى ذَلِكَ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ كَمَادَّةِ فَرْقَعَ وَقَمْطَرَ، فَهُوَ صَحِيحٌ لَوْلَا إِيهَامُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَمْ أَذْكُرْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لمخالفتها

_ (1) بياض بجميع الأصول.

سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَقَالُوا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ أَقْوَالًا غَيْرَ مَا سَبَقَ. قَالَ كَعْبٌ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِلَا كَيْفٍ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا وَخَرَّتْ فَزَعًا، قالوا فيما بينم: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ. وَقِيلَ: إِذَا دَعَاهُمْ إِسْرَافِيلُ مِنْ قُبُورِهِمْ، قَالُوا مُجِيبِينَ مَاذَا، وَهُوَ مِنَ الْفَزَعِ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِصْرَاخُ، كَمَا قَالَهُ زُهَيْرٌ: إِذَا فَزِعُوا طَارُوا إِلَى مُسْتَغِيثِهِمْ ... طِوَالَ الرِّمَاحِ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ وَقِيلَ: هُوَ فَزَعُ مَلَائِكَةِ أَدْنَى السموات عِنْدَ نُزُولِ الْمُدَبِّرَاتِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، أَنْزَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ بِالْوَحْيِ، فَظَنَّتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَصَعِقُوا لِذَلِكَ، فَجُعِلَ جِبْرِيلُ يَمُرُّ بِكُلِّ سَمَاءٍ وَيَكْشِفُ عَنْهُمُ الْفَزَعَ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ الْوَحْيُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ السَّائِبِ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُعَقِّبَاتُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ إِذَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ فَانْحَدَرُوا، سُمِعَ لَهُمْ صَوْتٌ شَدِيدٌ، فَيَحْسَبُ الَّذِينَ هُمْ أَسْفَلُ مِنْهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا يُصْعَقُونَ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالَّتِي قَبْلَهَا لَا تَكَادُ تُلَائِمُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ، فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَرْزُقَنَا فَهْمَ كِتَابِهِ، وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قُلُوبِهِمْ عَائِدًا عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ اتَّبَعُوهُ وَعَلَيْهِمْ، وَمِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِرَاضًا. وَقَوْلُهُ: قالُوا، أَيِ الْمَلَائِكَةُ، لِأُولَئِكَ الْمُتَّبِعِينَ الشَّاكِينَ يَسْأَلُونَهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ، عَلَى لِسَانِ مَنْ بُعِثَ إِلَيْكُمْ بَعْدَ أَنْ كُشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَيُقِرُّونَ إِذْ ذَاكَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ، وَجَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ، لَا الْبَاطِلُ الَّذِي كُنَّا فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ. وَشَكِّنَا فِي الْبَعْثِ مَاذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَنْصُوبَةً بِقَالَ، أَيْ أَيَّ شَيْءٍ قَالَ رَبُّكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّ ذَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ مَا الَّذِي قَالَ رَبُّكُمْ، وَذَا خَبَرُهُ، وَمَعْمُولُ قَالَ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: قَالُوا الْحَقُّ، بِرَفْعِ الْحَقِّ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ مَقُولُهُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، تَنْزِيهٌ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى وَتَمْجِيدٌ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ فَسَأَلَهُمْ عَمَّنْ يَرْزُقُهُمْ، مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَازِقَهُمْ هُوَ اللَّهُ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ آلِهَتَهُمْ تَرْزُقُهُمْ وَتَسْأَلُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَوَلَّى الْإِجَابَةَ وَالْإِقْرَارَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ قَدْ لَا يُجِيبُونَ حُبًّا فِي الْعِنَادِ وَإِيثَارًا لِلشِّرْكِ. وَمَعْلُومٌ أنه لا جواب لم وَلَا لِأَحَدٍ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ هُوَ اللَّهُ. وَإِنَّا: أَيِ الْمُوَحِّدِينَ الرَّازِقَ الْعَابِدِينَ، أَوْ إِيَّاكُمْ: الْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ الْأَصْنَامَ وَالْجَمَادَاتِ. لَعَلى هُدىً: أَيْ

طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، أَوْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ بَيِّنَةٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَّا وَمِنْكُمْ لَعَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، أُخْرِجَ الْكَلَامُ مُخْرَجَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ هُوَ عَلَى الْهُدَى، وَأَنَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ مِنْ جَمَادٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي ضَلَالٍ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتِ الْإِنْصَافَ وَاللُّطْفَ فِي الدَّعْوَى إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ مَنْ سَمِعَهَا أنه جُمْلَةُ اتِّصَافٍ، وَالرَّدُّ بِالتَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ أَبْلَغُ مِنَ الرَّدِّ بِالتَّصْرِيحِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَخْزَى اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنِّي وَمِنْكَ، يَقُولُ ذَاكَ مَنْ يَتَيَقَّنُ أَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الكاذب، ونظيره قوله الشاعر: فأني ماوأيك كَانَ شَرًّا ... فَسِيقَ إِلَى الْمَقَادَةِ فِي هَوَانِ وَقَالَ حَسَّانُ: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكفؤ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْبَيَانِ: اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ. يَذْكُرُ لَهُ أَمْرًا يُسَلِّمُهُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ حَتَّى يُصْغِيَ إِلَيْهِ إِلَى مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ بَدَأَ بِهِ بِمَا يَكْرَهُ لَمْ يُصْغِ، وَلَا يَزَالُ يَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَيَقْبَلَهُ. وَهُنَا لَمَّا سَمِعُوا التَّرْدَادَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ جَازِمٍ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ: إِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تَمْلِكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَتَحَقَّقَ أَنَّ الرَّازِقَ لَهُمْ وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْجُمْلَةِ اسْتِنْقَاصُ الْمُشْرِكِينَ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَرْزُقُهُمْ شَيْئًا وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَأَرَادَ اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوَبِّخَهُمْ وَيَسْتَنْقِصَهُمْ وَيُكَذِّبَهُمْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مَكْشُوفٍ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي اسْتِنْقَاصِهِمْ، كَقَوْلِكَ: إِنَّ أَحَدَنَا لَكَاذِبٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ خَاطَبْتَهُ هُوَ الْكَاذِبُ، وَلَكِنَّكَ وَبَّخْتَهُ بِلَفْظٍ غَيْرِ مكشوف. وأو هَنَا عَلَى مَوْضُوعِهَا لِكَوْنِهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أَوِ الْأَشْيَاءِ. وَخَبَرُ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ هُوَ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَنَا لَفِي أَحَدِ هَذَيْنِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فِي الْقَصْرِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، لَا يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، إِذْ مَعْنَاهُ: أَحَدُ هَذَيْنِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: خَبَرُ لَا وَلَهَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّا لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الْمُثْبَتُ خَبَرٌ عَنْهُ، أَوْ إِيَّاكُمْ، إِذْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ إِنَّا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا حُذِفَتِ اتَّصَلَ الضَّمِيرُ، وَقِيلَ: خَبَرُ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ هَذَا الْمُثْبَتُ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَلَا حَاجَةَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ مِنَ الْحَذْفِ لَوْ كَانَ مَا بَعْدَ أَوْ غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِهَا، نَحْوُ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَائِمٌ،

كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنَّ مَعَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأَنَّ اسْمَهَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِأَوْ، وَالْخَبَرُ مَعْطُوفٌ بِأَوْ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّا لَعَلَى هُدًى، وَإِيَّاكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَأَخْبَرَ عَنْ كُلٍّ بِمَا نَاسَبَهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِخْرَاجِ أَوْ عَنْ مَوْضُوعِهَا. وَجَاءَ فِي الْهُدَى بِعَلَى، لِأَنَّ صَاحِبَهُ ذُو اسْتِعْلَاءٍ، وَتَمَكُّنٍ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ، يَتَصَرَّفُ حَيْثُ شَاءَ. وَجَاءَ فِي الضَّلَالِ بِعَنْ لِأَنَّهُ مُنْغَمِسٌ فِي حَيْرَةٍ مُرْتَبِكٌ فِيهَا لَا يَدْرِي أَيْنَ يتوجه. قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا هَذَا أَدْخَلُ فِي الْإِنْصَافِ وَأَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَكْثَرُ تَلَطُّفًا وَاسْتِدْرَاجًا، حَيْثُ سَمَّى فِعْلَهُ جُرْمًا، كَمَا يَزْعُمُونَ، مَعَ أَنَّهُ مُثَابٌ مَشْكُورٌ. وَسَمَّى فِعْلَهُمْ عَمَلًا، مَعَ أَنَّهُ مَزْجُورٌ عَنْهُ مَحْظُورٌ. وَقَدْ يُرَادُ بِأَجْرَمْنَا نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ مَا لَا يَكَادُ يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْهُ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَالَّذِي تَعْمَلُونَ هُوَ الْكُفْرُ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَفْتَحُ: أَيْ يَحْكُمُ، بِالْحَقِّ: بِالْعَدْلِ، فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَالْكُفَّارَ النَّارَ. وَهُوَ الْفَتَّاحُ: الْحَاكِمُ الْفَاصِلُ، الْعَلِيمُ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَالْفَتَّاحُ وَالْعَلِيمُ صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهَذَا فِيهِ تَهْدِيدٌ وَتَوْبِيخٌ. تَقُولُ لِمَنْ نَصَحْتَهُ وَخَوَّفْتَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ: سَتَرَى سُوءَ عَاقِبَةِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ عِيسَى: الْفَاتِحُ اسْمُ فَاعِلٍ، وَالْجُمْهُورُ: الْفَتَّاحُ. قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ: الظَّاهِرُ أَنْ أَرَى هُنَا بِمَعْنَى أَعْلَمَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ: الضَّمِيرُ لِلْمُتَكَلِّمِ هُوَ الْأَوَّلُ، والذين الثاني، وشركاء الثَّالِثُ، أَيْ أَرُونِي بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ كَيْفَ وَجْهُ الشِّرْكَةِ، وَهَلْ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ يَرْزُقُونَكُمْ؟ وَقِيلَ: هِيَ رؤية بصر، وشركاء نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي أَلْحَقْتُمْ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِهِ فِي حَالِ تَوَهُّمِهِ شُرَكَاءَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِي هَذَا لَا غِنَاءَ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَرُونِي، وَكَانَ يَرَاهُمْ وَيَعْرِفُهُمْ؟ قُلْتُ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُرِيَهُمُ الْخَطَأَ الْعَظِيمَ فِي إِلْحَاقِ الشُّرَكَاءِ بِاللَّهِ، وَأَنْ يُقَايِسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْنَامِهِمْ، لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى حَالَةِ الْقِيَاسِ إليه والإشراك به. وكَلَّا: رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ مَذْهَبِهِمْ بَعْدَ مَا كَسَرَهُ بِإِبْطَالِ الْمُقَايَسَةِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» ، بَعْدَ مَا حَجَّهُمْ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى تَفَاحُشِ غَلَطِهِمْ، وَأَنْ يُقَدِّرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بِقَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيِ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ وَهُوَ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 67.

رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، أَوْ هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» . انْتَهَى. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ، لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِي هَذَا لَا غِنَاءَ لَهُ، أَيْ لَا نَفْعَ لَهُ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ فِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ، وَلَا يُرِيدُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، بَلِ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ هُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ عَلَى زَعْمِكُمْ، هُمْ مِمَّنْ إِنْ أَرَيْتُمُوهُمُ افْتَضَحْتُمْ، لِأَنَّهُمْ خَشَبٌ وَحَجَرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْجَمَادِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الْخَسِيسِ الْأَصْلِ: اذْكُرْ لِي أَبَاكَ الَّذِي قَايَسْتَ بِهِ فُلَانًا الشَّرِيفَ وَلَا تُرِيدُ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ تَبْكِيتَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ ذكر أباه افتضح. وكَافَّةً: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَفَّ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِلَّا ذَا كَافَّةٍ، أَيْ ذَا كَفٍّ لِلنَّاسِ، أَيْ مَنْعٍ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، أَوْ ذَا مَنْعٍ مِنْ أَنْ يَشِذُّوا عَنْ تَبْلِيغِكَ. وَإِذَا كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: هُوَ حَالٌ مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا جَامِعًا لِلنَّاسِ فِي الْإِبْلَاغِ، وَالْكَافَّةُ بِمَعْنَى الْجَامِعِ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَهِيَ فِي عَلَّامَةٍ وَرَاوِيَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا إِرْسَالَةً عَامَّةً لَهُمْ مُحِيطَةً بِهِمْ، لِأَنَّهَا إِذَا شَمِلَتْهُمْ فَقَدْ كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، قَالَ: وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ حَالِ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ فِي الْأَصَالَةِ بِمَنْزِلَةِ تَقَدُّمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْجَارِّ، وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذَا الْخَطَأَ ثُمَّ لَا يَقْنَعُ بِهِ حَتَّى يَضُمَّ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي لَهُ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالْخَطَأِ الثَّانِي، فَلَا بُدَّ مِنَ ارْتِكَابِ الْخَطَأَيْنِ. انْتَهَى. أَمَّا كَافَّةً بِمَعْنَى عَامَّةً، فَالْمَنْقُولُ عَنِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا حَالًا، وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَجَعْلُهَا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، خُرُوجٌ عَمَّا نَقَلُوا، وَلَا يحفظ أيضا استعمله صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ: إِنَّ كَافَّةً بِمَعْنَى جَامِعًا، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ كَفَّ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ أَنَّ مَعْنَاهُ جَمَعَ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا إِلَى آخِرِهِ، فَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُ كَيْسَانَ وَابْنُ بُرْهَانَ وَمِنْ مُعَاصِرِينَا ابْنُ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ أَبِي عَلِيٍّ زَيْدٌ: خَيْرُ مَا يَكُونُ خَيْرٌ مِنْكَ، التَّقْدِيرُ: زِيدٌ خَيْرٌ مِنْكَ خَيْرُ مَا يكون، فجعل خير مَا يَكُونُ حَالًا مِنَ الْكَافِ فِي مِنْكَ، وَقَدَّمَهَا عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ الْمُرُوءَةُ نَاشِئًا ... فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ شَدِيدُ وَقَالَ آخَرُ: تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرِكُمْ حتى كأنكم عندي

_ (1) سورة الإخلاص: 112/ 1.

أَيْ: تَسَلَّيْتُ عَنْكُمْ طُرًّا، أَيْ جَمِيعًا. وَقَدْ جَاءَ تَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ وَعَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شَغَفَتْ وَإِنَّمَا ... حَتَمَ الْفِرَاقُ فَمَا إِلَيْكَ سَبِيلُ وَقَالَ آخر: غَافِلًا تَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلْمَرْ ... ءِ فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِ أَيْ: شَغَفَتْ بِكَ مَشْغُوفَةً، وَتَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ غَافِلًا. وَإِذَا جَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْمَجْرُورِ وَالْعَامِلِ، فَتَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ دُونَ الْعَامِلِ أَجْوَزُ، وَعَلَى أَنَّ كَافَّةً حَالٌ مِنَ النَّاسِ، حَمَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ: قُدِّمَتْ لِلِاهْتِمَامِ وَالْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: أَيْ إِلَى الْعَرَبِ والعجم وسائر الأمم، وتقدير إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. انْتَهَى. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذَا الْخَطَأَ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، شَنِيعٌ. لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَتَأَوَّلَ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، لِأَنَّ أَرْسَلَ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَيَتَعَدَّى بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا «1» . وَلَوْ تَأَوَّلَ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَطَأً، لِأَنَّ اللَّامَ قَدْ جَاءَتْ بِمَعْنَى إِلَى، وَإِلَى قَدْ جَاءَتْ بِمَعْنَى اللَّامِ، وَأَرْسَلَ مِمَّا جَاءَ مُتَعَدِّيًا بِهِمَا إِلَى الْمَجْرُورِ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى مَقَالَتَهُمْ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِالْبَعْثِ، وَاسْتِعْجَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يُجَابُوا بِتَعْيِينِ الزَّمَانِ، إِذْ ذَاكَ مِمَّا انْفَرَدَ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، بَلْ أُجِيبُوا بِأَنَّ مَا وُعِدُوا بِهِ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَهُوَ مِيعَادُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ عَمَّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَاسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمِيعَادُ بِمَعْنَى. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْوَعْدُ فِي الْخَيْرِ، وَالْوَعِيدُ فِي الشَّرِّ، وَالْمِيعَادُ يَقَعُ لِهَذَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِيعَادَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ مِفْعَالٍ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ قُلْ لَكُمْ وُقُوعُ وَعْدِ يَوْمٍ وَتَنْجِيزُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمِيعَادُ ظَرْفُ الْوَعْدِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ، وَهُوَ هَاهُنَا الزَّمَانُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مِيعَادَ يَوْمٍ فَأُبْدِلَ مِنْهُ الْيَوْمُ. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَ، إِذْ يَكُونُ بَدَلًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ، فَلَمَّا حُذِفَ أُعْرِبَ مَا قَامَ مَقَامَهُ بِإِعْرَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِيعادُ يَوْمٍ بِالْإِضَافَةِ. وَلَمَّا جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمِيعَادَ ظَرْفَ زَمَانٍ قَالَ: أما الإضافة فإضافة تَبْيِينٌ، كَمَا تَقُولُ: سَحْقُ ثَوْبٍ وَبَعِيرُ سَانِيَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْيَزِيدِيُّ: مِيعَادٌ يَوْمًا بِتَنْوِينِهِمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا نَصْبُ الْيَوْمِ فعلى التعظيم بإضمار

_ (1) سورة النساء: 4/ 79.

فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ لَكُمْ مِيعَادٌ، أَعْنِي يَوْمًا، وَأُرِيدُ يَوْمًا مِنْ صِفَتِهِ، أَعْنِي كَيْتَ وَكَيْتَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّفْعُ عَلَى هَذَا لِلتَّعْظِيمِ. انْتَهَى. لَمَّا جُعِلَ الْمِيعَادُ ظَرْفَ زَمَانٍ، خَرَجَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِنْجَازُ وَعْدِ يَوْمٍ مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَقَرَأَ عِيسَى: مِيعَادٌ مُنَوَّنًا، وَيَوْمَ بِالنَّصْبِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ، فَاحْتَمَلَ تَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَاحْتَمَلَ تَخْرِيجًا عَلَى الظَّرْفِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِنْجَازُ وَعْدِ يَوْمِ كَذَا. وَجَاءَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ مُطَابِقًا لِمَجِيءِ السُّؤَالِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَنُّتِ، وَأَنَّهُمْ مَرْصُدُونَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، يُفَاجِئُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَأَخُّرًا عَنْهُ وَلَا تَقَدُّمًا عَلَيْهِ. وَالْيَوْمُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ السَّابِقُ إِلَى الذِّهْنِ، أَوْ يَوْمُ مَجِيءِ أَجَلِهِمْ عِنْدَ حُضُورِ مَنِيَّتِهِمْ، أَوْ يوم بدر، أقوال. ولَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ: يَعْنِي الَّذِي تَضَمَّنَ التَّوْحِيدَ وَالرِّسَالَةَ وَالْبَعْثَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فِيهِ. وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هُوَ مَا نَزَلَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُبَشِّرَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ. يُرْوَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ سَأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي كُتُبِهِمْ، وَأَغْضَبَهُمْ ذَلِكَ، وَقَرَنُوا إِلَى الْقُرْآنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فِي الْكُفْرِ ، وَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكُتُبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وقالت فرقة: بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هِيَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، قَائِلُهُ لَمْ يَفْهَمْ أَمْرَ بَيْنِ الْيَدِ فِي اللُّغَةِ، وَأَنَّهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الزَّمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. انْتَهَى. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ: أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي صِفَةِ التَّعَجُّبِ مِنْهَا، وَتَرَى فِي مَعْنَى رَأَيْتَ لِإِعْمَالِهَا فِي الظَّرْفِ الْمَاضِي، وَمَفْعُولُ تَرَى مَحْذُوفٌ، أَيْ حَالَ الظَّالِمِينَ، إِذْ هُمْ مَوْقُوفُونَ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَرَأَيْتَ لَهُمْ حَالًا مُنْكَرَةً مِنْ ذُلِّهِمْ وَتَخَاذُلِهِمْ وَتَحَاوُرِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ وَالْجَدَلَ بِأَنَّ الْأَتْبَاعَ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، قَالُوا لِرُؤَسَائِهِمْ عَلَى جِهَةِ التَّذْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ وَرَدِّ اللَّائِمَةِ عَلَيْهِمْ: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ: أَيْ أَنْتُمْ أَغْوَيْتُمُونَا وَأَمَرْتُمُونَا بِالْكُفْرِ. وَأَتَى الضَّمِيرُ بَعْدَ لَوْلَا ضَمِيرُ رَفْعٍ عَلَى الْأَفْصَحِ. وَحَكَى الْأَئِمَّةُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ وَغَيْرُهُمَا مَجِيئَهُ بِضَمِيرِ الْجَرِّ نَحْوُ: لَوْلَاكُمْ، وَإِنْكَارُ الْمُبَرِّدِ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ مَقَامًا، اسْتَوَى فيه المرءوس وَالرَّئِيسُ. بَدَأَ الْأَتْبَاعُ بِتَوْبِيخِ مُضِلِّيهِمْ، إِذْ زَالَتْ عَنْهُمْ رِئَاسَتُهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا أَنَّهُمْ

مَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ، بَلْ هُمْ مُقِرُّونَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْمَتْبُوعِينَ: بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ فَالْجَمْعُ الْمُقِرُّونَ بِأَنَّ الذِّكْرَ قَدْ جَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ، فَأَتَوْا بِالِاسْمِ بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارًا، لِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ صَدُّوهُمْ. صُدِدْتُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ وَبِاخْتِيَارِكُمْ بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَخْبَرْنَاكُمْ وَحُلْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ هَمَمْتُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ، بَلْ أَنْتُمْ مَنَعْتُمْ أَنْفُسَكُمْ حَظَّهَا وَآثَرْتُمُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، فَكُنْتُمْ مُجْرِمِينَ كَافِرِينَ بِاخْتِيَارِكُمْ، لَا لِقَوْلِنَا وَتَسْوِيلِنَا. وَلَمَّا أَنْكَرَ رُؤَسَاؤُهُمْ أَنَّهُمُ السَّبَبُ فِي كُفْرِهِمْ، وَأَثْبَتُوا بِقَوْلِهِمْ: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، قَابَلُوا إِضْرَابًا بِإِضْرَابٍ، فَقَالَ الْأَتْبَاعُ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ: أَيْ مَا كَانَ إِجْرَامُنَا مِنْ جِهَتِنَا، بَلْ مَكْرُكُمْ لَنَا دَائِمًا وَمُخَادَعَتُكُمْ لَنَا لَيْلًا وَنَهَارًا، إِذْ تَأْمُرُونَنَا وَنَحْنُ أَتْبَاعٌ لَا نَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ، مُطِيعُونَ لَكُمْ لِاسْتِيلَائِكُمْ عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ. وَأُضِيفَ الْمَكْرُ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفَيْنِ، فَهُمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى السِّعَةِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ نَائِمٌ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَرْتَفِعَ مَكْرُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ بَلْ صَدَّنَا مَكْرُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنَا ضَرَبْتُ زَيْدًا بَلْ ضَرَبَهُ عَمْرٌو، فَيَقُولُ: بَلْ ضَرَبَهُ غُلَامُكَ، وَالْأَحْسَنُ فِي التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ضَرَبَهُ غُلَامُكَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، أَيْ سَبَبُ كُفْرِنَا. وَقَرَأَ قتادة، ويحيى بن يعمر: بَلْ مَكْرٌ بِالتَّنْوِينِ، اللَّيْلَ وَالنَّهَارُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ الرَّاءِ مَرْفُوعَةً مُضَافَةً، وَمَعْنَاهُ: كَدَوْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافِهِمَا، وَمَعْنَاهَا: الْإِحَالَةُ عَلَى طُولِ الْأَمَلِ، وَالِاغْتِرَارِ بِالْأَيَّامِ مَعَ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَطَلْحَةُ، وَرَاشِدٌ هَذَا مِنَ التَّابِعِينَ مِمَّنْ صَحَّحَ الْمَصَاحِفَ بِأَمْرِ الْحَجَّاجِ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ نَصَبُوا الرَّاءَ عَلَى الظَّرْفِ، وَنَاصِبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، أَيْ صَدَدْتُمُونَا مَكْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيْ فِي مَكْرِهِمَا، وَمَعْنَاهُ دَائِمًا. وَقَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِإِذْ تَأْمُرُونَنَا مَكْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِذْ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ يَكُونُ الْإِغْرَاءُ مَكْرًا دَائِمًا لَا يَفْتَرُونَ عَنْهُ. انْتَهَى. وَجَاءَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِكَلَامِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَاسْتُؤْنِفَ، وَعُطِفَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي وَأَسَرُّوا لِلْجَمِيعِ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ، وَهُمْ الظَّالِمُونَ الْمَوْقُوفُونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَالنَّدَامَةُ مِنَ الْمَعَانِي الْقَلْبِيَّةِ، فَلَا

تَظْهَرُ، إِنَّمَا يَظْهَرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ فِي لُغَةٍ أَنَّ أَسَرَّ مِنَ الْأَضْدَادِ وَنَدَامَةُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَلَى ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَنَدَامَةُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمُ الْمُضِلِّينَ. وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْتَكْبِرُونَ وَالْمُسْتَضْعَفُونَ، لِأَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ اتِّبَاعُ مُرَاجَعَةِ الْقَوْلِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ أَيْضًا تَابِعًا لِرَئِيسٍ لَهُ كَافِرٍ، كَالْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ. وَقِيلَ: الَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ مِنْهُمُ الْمُحَاوَرَةُ، وَجَعَلَ الْأَغْلَالَ إِشَارَةً إِلَى كَيْفِيَّةِ الْعَذَابِ قَطَعُوا بِأَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِيهِ فَتَرَكُوا التَّنَدُّمَ. هَلْ يُجْزَوْنَ: مَعْنَاهُ النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا بَعْدَ النَّفْيِ. وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ، وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ، قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ، فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَما أَرْسَلْنا الْآيَةَ: هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا مُنِيَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ قُرَيْشٍ، مِنَ الْكُفْرِ وَالِافْتِخَارِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَأَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ هُوَ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ أمرهم. ومِنْ نَذِيرٍ: عَامٌّ، أَيْ تُنْذِرُهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ يوحدوه. وقالَ مُتْرَفُوها: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَنَصَّ عَلَى الْمُتْرَفِينَ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، لِمَا شُغِلُوا بِهِ مِنْ زَخْرَفَةِ الدُّنْيَا وَمَا غَلَبَ عَلَى عُقُولِهِمْ مِنْهَا، فَقُلُوبُهُمْ أَبَدًا مَشْغُولَةٌ مُنْهَمِكَةٌ بِخِلَافِ الْفُقَرَاءِ. فَإِنَّهُمْ خَالُونَ مِنْ مُسْتَلِذَّاتِ الدُّنْيَا، فَقُلُوبُهُمْ أَقْبَلُ لِلْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ. وَبِمَا مُتَعَلِّقٌ بِكَافِرُونَ، وَبِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأُرْسِلْتُمْ، وَمَا عَامَّةٌ فِي مَا جَاءَتْ بِهِ النُّذُرُ مِنْ طَلَبِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ رُسُلُهُ إِلَيْهِمْ، وَالْبَعْثِ

وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَقالُوا عَائِدٌ عَلَى الْمُتْرَفِينَ وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى قُرَيْشٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ، لِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُتْرَفِينَ الْهَالِكِينَ لَا يُخَاطَبُونَ، فَلَا يَقُولُ إِلَّا الْمَوْجُودُونَ، وَقَوْلُهُ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ وَاحْتَجُّوا عَلَى رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ بِإِحْسَانِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَتَكَرَّمْ عليهم ما بوسع عَلَيْنَا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِهَوَانِكُمْ عَلَيْهِ حَرَمَكُمْ أَيُّهَا التَّابِعُونَ للرسل. ثم نقول: إن يُعَذَّبُوا نَفْيًا عَامًّا، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ يُنْذِرُونَ بِعَذَابٍ عَاجِلٍ فِي الدُّنْيَا، أَوْ آجِلٍ فِي الْآخِرَةِ، فَنَفَوْا هُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لِلْآخِرَةِ، فَقَدْ نَفَوْا تَعْذِيبَهُمْ فِيهَا، لأنها إذا لَمْ تَكُنْ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا عَذَابٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِهَا حَقِيقَةً، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، فَيَقُولُونَ: كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا فِي الدُّنْيَا، يُنْعِمُ عَلَيْنَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَالَةِ الدُّنْيَا قِيَاسًا فَاسِدًا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنَّ الرِّزْقَ فَضْلٌ مِنْهُ يُقَسَّمُ عَلَيْنَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَالَةِ الدُّنْيَا، كَمَا شَاءَ. لِمَنْ يَشاءُ، فَقَدْ يُوَسِّعُ عَلَى الْعَاصِي وَيُضَيِّقُ عَلَى الطَّائِعِ، وَقَدْ يُوَسِّعُ عَلَيْهِمَا، وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَلَا تُقَاسُ التَّوْسِعَةُ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيُقَدِّرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ: مُخَفَّفًا، وَمَعْنَاهُ: وَيُضَيِّقُ مُقَابِلُ يَبْسُطُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ: مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّزْقَ مَصْرُوفٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمُ الَّتِي افْتَخَرُوا بِهَا لَيْسَتْ بِمُقَرِّبَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُقَرِّبُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالَّتِي، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّتِي هِيَ التَّقْوَى، وَهِيَ الْمُقَرِّبَةُ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى وَحْدَهَا، أَيْ لَيْسَتْ أَمْوَالُكُمْ تِلْكَ الْمَوْضُوعَةَ لِلتَّقْرِيبِ. انْتَهَى. فَجَعَلَ الَّتِي نَعْتًا لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهِيَ التَّقْوَى. انْتَهَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَوْصُوفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّتِي رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ أَيْضًا، هُوَ وَالزَّجَّاجُ: حذف من الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الَّتِي لِمَجْمُوعِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِاللَّاتِي جُمْعًا، وَهُوَ أَيْضًا رَاجِعٌ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَقُرِئَ بِالَّذِي، وَزُلْفَى مَصْدَرٌ، كَالْقُرْبَى، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مِنَ الْمَعْنَى، أَيْ يُقَرِّبُكُمْ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: زُلَفًا بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَنْوِينِ الْفَاءِ، جَمْعُ زُلْفَةٍ، وَهِيَ الْقُرْبَةُ. إِلَّا مَنْ آمَنَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَكِنْ

مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَإِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ يُقَرِّبَانِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي تُقَرِّبُكُمْ، وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ لِلْمُخَاطَبِ، فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ: رَأَيْتُكَ زَيْدًا وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ هذا هو قَوْلُ الْفَرَّاءِ. انْتَهَى. وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكَلِّمِ، لَكِنَّ الْبَدَلَ فِي الْآيَةِ لَا يَصِحُّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يصح تفريغ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ صِلَةً لِمَا بَعْدَ إِلَّا؟ لَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ بِالَّذِي يَضْرِبُ إِلَّا خَالِدًا، لَمْ يَصِحَّ. وَتَخَيَّلَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الصِّلَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَنْفِيَّةً، أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَدَلُ، وَلَيْسَ بِجَائِزٍ إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ التَّفْرِيغُ لَهُ. وَقَدِ اتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: إِلَّا مَنْ آمَنَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كُمْ فِي تُقَرِّبُكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا الْمُؤْمِنَ الصَّالِحَ الَّذِي يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَوْلَادَ لَا تُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا مَنْ عَلَّمَهُمُ الْخَيْرَ وَفَّقَهُمْ فِي الدِّينِ وَرَشَّحَهُمْ لِلصَّلَاحِ وَالطَّاعَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. كَمَا ذَكَرْنَا، لَا يَجُوزُ: مَا زِيدٌ بِالَّذِي يَخْرُجُ إِلَّا أُخُوَّةً، وَلَا مَا زَيْدٌ بِالَّذِي يَضْرِبُ إِلَّا عَمْرًا، وَلَا مَا زِيدٌ بِالَّذِي يَمُرُّ إِلَّا بِبَكْرٍ. وَالتَّرْكِيبُ الَّذِي رَكَّبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا الْمُؤْمِنَ، غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْقُرْآنِ فَفِي الَّذِي رَكَّبَهُ يَجُوزُ مَا قَالَ، وَفِي لَفْظِ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ مَا هُوَ الْمُقَرَّبُ إِلَّا مَنْ آمَنَ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ كَلَامٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ مَعْنًى، كَأَنَّهُ كَانَ نَائِمًا حِينَ قَالَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَزاءُ الضِّعْفِ عَلَى الْإِضَافَةِ، أُضِيفَ فِيهِ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَدَرَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَقَالَ: أَنْ يجاوز الضِّعْفَ، وَالْمَصْدَرُ فِي كَوْنِهِ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، وَيُقَدَّرُ هُنَا أَنْ يُجَاوِزَ اللَّهُ بِهِمُ الضِّعْفَ، أَيْ يُضَاعِفُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ، الْحَسُنَّةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَبِأَكْثَرَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ لِمَنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: جَزَاءٌ الضِّعْفُ بِرَفْعِهِمَا فَالضِّعْفُ بَدَلٌ، وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ بِنَصْبِ جَزَاءً وَرَفْعِ الضِّعْفُ، وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الدَّانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَانْتُصِبَ جَزَاءً عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِكَ: فِي الدَّارِ قَائِمًا زَيْدٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي الْغُرُفاتِ جَمْعًا مَضْمُومُ الرَّاءِ وَالْحَسَنُ، وَعَاصِمٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَالْأَعْمَشُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِإِسْكَانِهَا وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: بفتحها وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ: وَأَطْلَقَ فِي اخْتِيَارِهِ فِي الْغُرْفَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَابْنُ وَثَّابٍ أَيْضًا: بِفَتْحِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ. وَلَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ آمَنَ، ذَكَرَ عِقَابَ مَنْ كفر، ليظهر تباين الجزأين، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَلَمَّا كَانَ افْتِخَارُهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، أُخْبِرُوا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ كَبُرَ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى تَأْكِيدٌ

أَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لَا التَّكْرُمَةِ، وَلَا الْهَوَانِ. وَمَعْنَى فَهُوَ يُخْلِفُهُ: أَيْ يَأْتِي بِالْخَلَفِ وَالْعِوَضِ مِنْهُ، وَكَانَ لَفْظُ مِنْ عِبَادِهِ مُشْعِرَةً بِالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ فِي وَما أَنْفَقْتُمْ: يَقْصِدُ هَنَا رِزْقَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مَسَاقُ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ: مَسَاقَ مَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ، بَلْ مَسَاقَ الْوَعْظِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَضِّ عَلَى النَّفَقَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِخْلَافِ مَا أَنْفَقَ، إِمَّا مُنْجَزًا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا مُؤَجَّلًا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِقَصْدِ وَجْهِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ مَا يُقِيمُهُ فليقتصد، وَأَنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ، وَلَعَلَّ مَا قُسِّمَ لَهُ قَلِيلٌ، وَهُوَ يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُوَسَّعِ عَلَيْهِ، فَيُنْفِقُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَبْقَى طُولَ عُمْرِهِ فِي فَقْرٍ وَلَا يَتَأَتَّى. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ: فِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا كَانَ مِنْ خَلَفٍ فَهُوَ مِنْهُ. وَجَاءَ الرَّازِقِينَ جَمْعًا، وَإِنْ كَانَ الرَّازِقُ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: الرَّجُلُ يَرْزُقُ عِيَالَهُ، وَالْأَمِيرُ جُنْدَهُ، وَالسَّيِّدُ عَبْدَهُ، وَالرَّازِقُونَ جُمِعَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لَكِنْ أُولَئِكَ يُرْزَقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَمَلَّكَهُمْ فيه التصرف، ولله تَعَالَى يَرْزُقُ مِنْ خَزَائِنَ لَا تَفْنَى، وَمِنْ إِخْرَاجٍ مِنْ عَدَمٍ إِلَى وُجُودٍ. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً: أَيِ الْمُكَذِّبِينَ، مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ تَأَخَّرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَحْشُرُهُمْ، نَقُولُ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْأَنْعَامِ «1» . وَخِطَابُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُنَزَّهُونَ بَرَاءٌ مِمَّا وُجِّهَ عَلَيْهِمْ مِنَ السُّؤَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ تَوْقِيفِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ عُلِمَ سُوءُ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ عَبَدُوهُ مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ. وهؤُلاءِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ كانُوا يَعْبُدُونَ، وإِيَّاكُمْ مَفْعُولُ يَعْبُدُونَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ انْفَصَلَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْخِطَابِ، وَلِكَوْنِ يَعْبُدُونَ فَاصِلَةً. فَلَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ مُنْفَصِلًا، كَانَ التَّرْكِيبُ يَعْبُدُونَكُمْ، وَلَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً. وَاسْتُدِلَّ بِتَقْدِيمِ هَذَا الْمَعْمُولِ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ خَبَرِ كَانَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ جُمْلَةً، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، أَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ السَّرَّاجِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَكَذَلِكَ مَنَعُوا تَوَسُّطَهُ إذا كان جملة. قال ابْنُ السَّرَّاجِ: الْقِيَاسُ جَوَازُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُسْمَعْ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مُؤْذِنٌ بِتَقْدِيمِ الْعَامِلِ، فَكَمَا جَازَ تَقْدِيمُ إِيَّاكُمْ، جَازَ تَقْدِيمُ يَعْبُدُونَ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً، وَالْأَوْلَى مَنْعُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِهِ سَمَاعٌ مِنَ الْعَرَبِ. وَلَمَّا أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته مِنْ كُلِّ سُوءٍ، كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سُبْحانَكَ، ثُمَّ انْتَسَبُوا إِلَى مُوَالَاتِهِ دُونَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ، أَيْ أَنْتَ وَلِيُّنا، إِذْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 128.

وَفِي قَوْلِهِمْ: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، إِشْعَارٌ لَهُمْ بِمَا عَبَدُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ. لَكِنَّ الْإِضْرَابَ بِبَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لأن المعبود إذا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِعِبَادَةِ عَابِدِهِ مُرِيَدًا لَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْعَابِدُ عَابِدًا لَهُ حَقِيقَةً، فَلِذَلِكَ قَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، لِأَنَّ أَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ وَمُرَادَاتِهِمْ عَابِدُونَ لَهُمْ حَقِيقَةً، فَلِذَلِكَ قَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، إِذِ الشَّيَاطِينُ رَاضُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ. وَقِيلَ: صَوَّرَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ صُوَرَ قَوْمٍ مِنَ الْجِنِّ، وَقَالُوا: هَذِهِ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ فَاعْبُدُوهَا. وَقِيلَ: كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي أَجْوَافِ الْأَصْنَامِ إِذَا عُبِدَتْ، فَيَعْبُدُونَ بِعِبَادَتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ تَنْفِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادَةَ الْبَشَرِ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ مُشَارَكَةٌ. وَعِبَادَةُ الْبَشَرِ الْجِنَّ هِيَ فِيمَا يُقِرُّونَ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَسَمَاعِهِمْ مِنْ وَسْوَسَتِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ مَنْ عَبَدَ الْجِنَّ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ يَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّ الْجِنَّ عُبِدَتْ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا. انْتَهَى. وَإِذَا هُمْ قَدْ عَبَدُوا الْجِنَّ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِمْ: أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَقُولُوا جَمِيعُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا الْإِحَاطَةَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْكُفَّارِ مَنْ لَمْ يَطَّلِعِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ، أو أنهم حلموا عَلَى الْأَكْثَرِ بِإِيمَانِهِمْ بِالْجِنِّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الِاطِّلَاعَ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى مُؤْمِنُونَ: مُصَدِّقُونَ أَنَّهُمْ مَعْبُودُوهُمْ، وَقِيلَ: مُصَدِّقُونَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «1» . وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ. فَالْيَوْمَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْخِطَابُ فِي بَعْضُكُمْ، قِيلَ: لِلْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي قَوْلِهِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَبْكِيتًا لِلْكُفَّارِ حِينَ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ عَبَدُوهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَيُؤَيِّدُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» ، وَلِأَنَّ بَعْدَهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، وَلَوْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ فَذُوقُوا. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى حُضُورِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَقُولُ، تَأْكِيدًا لبيان حالهم في الظل. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ عُبِدَ وَمَنْ عَبَدَ. وَقَوْلُهُ: نَفْعاً، قِيلَ: بِالشَّفَاعَةِ، وَلا ضَرًّا بِالتَّعْذِيبِ. وَقِيلَ هُنَا: الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، وَفِي السَّجْدَةِ: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «3» كُلٌّ مِنْهُمَا، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَمِنَ النَّارِ، لِأَنَّهُمْ هُنَا لَمْ يَكُونُوا مُلْتَبِسِينَ بالعذاب،

_ (1) سورة الصافات: 37/ 158. (2) سورة الأنبياء: 21/ 28. (3) سورة السجدة: 32/ 20.

بل ذلك أول مارأوا النَّارَ، إِذْ جَاءَ عَقِيبَ الْحَشْرِ، فَوُصِفَتْ لَهُمُ النَّارُ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهَا. وَأَمَّا الَّذِي فِي السَّجْدَةِ، فَهُمْ مُلَابِسُو الْعَذَابِ، مُتَرَدِّدُونَ فِيهِ لِقَوْلِهِ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها «1» ، فَوُصِفَ لَهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي هُمْ مُبَاشِرُوهُ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُؤَبَّدُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ، إِلَى تَالِي الْآيَاتِ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَكَى تَعَالَى مَطَاعِنَهُمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ القرآن عليهم، فبدأوا أَوَّلًا: بِالطَّعْنِ فِي التَّالِي، فَإِنَّهُ يَقْدَحُ فِي مَعْبُودَاتِ آلِهَتِكُمْ. ثَانِيًا: فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَثَالِثًا: بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ سِحْرٌ وَاضِحٌ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا يُوجِبُ الِاسْتِمَالَةَ وَتَأْثِيرَ النُّفُوسِ لَهُ وَإِجَابَتَهُ. وَطَعَنُوا فِي الرَّسُولِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ، وَفِي وَصْفِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا قَالَهَا قَوْمٌ غَيْرُ مَنْ قَالَ الْجُمْلَةَ الْأُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حِينَ جَاءَهُمْ لَمْ يُفَكِّرُوا فِيهِ، بَلْ بَادَرُوهُ بِالْإِنْكَارِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى السِّحْرِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِهِمْ، إِنَّهُ سِحْرٌ حَتَّى وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ وَاضِحٌ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهُ. وَقِيلَ: إِنْكَارُ الْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَةِ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ، عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ. وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ، وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ، قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ، قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ، وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ. وَما آتَيْناهُمْ: أَهْلَ مَكَّةَ، مِنْ كُتُبٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ عِنْدِنَا، فَيَعْلَمُوا بِدِرَاسَتِهَا بُطْلَانَ مَا جِئْتَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَنَقَضُوا أَنَّ الشِّرْكَ جَائِزٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ

_ (1) سورة السجدة: 32/ 20.

سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ «1» . وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ كِتَابًا قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ كَذَّبُوا، وَلَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ، وَلَا نَذِيرٌ بِذَلِكَ؟ وَقِيلَ: وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قوم آمنون، أَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا مِلَّةَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ وَلَا بِعْثَةِ رَسُولٍ. كَمَا قَالَ: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ «2» ، فَلَيْسَ لِتَكْذِيبِهِمْ وَجْهٌ مُثْبَتٌ، وَلَا شُبْهَةُ تَعَلُّقٍ. كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا مُبْطِلِينَ: نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالشَّرَائِعِ، وَمُسْتَنِدُونَ إِلَى رُسُلٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمُ افْتِرَاءٌ، وَلَا يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إِلَى أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَلَا إِلَى خَبَرِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ. فَإِنَّا آتَيْنَاهُمْ كُتُبًا يَدْرُسُونَهَا، وَلَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَلَا نَذِيرًا فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوَا، أَنَّ أَقْوَالَهُمْ تَسْتَنِدُ إِلَى أَمْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدْرُسُونَها، مُضَارِعُ دَرَسَ مخففا وأبو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَشَدِّهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ، مُضَارِعُ ادَّرَسَ، افْتَعَلَ مِنَ الدَّرْسِ، وَمَعْنَاهُ: تَتَدَارَسُونَهَا. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ أَيْضًا: يُدَرَّسُونَهَا، مِنَ التَّدْرِيسِ، وَهُوَ تَكْرِيرُ الدَّرْسِ، أَوْ مِنْ دُرِسَ الْكِتَابُ مُخَفَّفًا، وَدُرِّسَ الْكِتَابُ مُشَدَّدًا التَّضْعِيفُ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ. وَمَعْنَى قَبْلَكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ نَذِيرٍ يُشَافِهُهُمْ بِشَيْءٍ، وَلَا يُبَاشِرُ أَهْلَ عَصْرِهِمْ، وَلَا مِنْ قُرْبٍ مِنْ آبَائِهِمْ. وَقَدْ كَانَتِ النِّذَارَةُ فِي الْعَالَمِ، وَفِي الْعَرَبِ مَعَ شُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَهُودٍ. وَدَعْوَةُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ قَائِمٌ لَمْ تَخْلُ الْأَرْضُ مِنْ دَاعٍ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: مِنْ نَذِيرٍ يَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَقِيَتْ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِنْ نِذَارَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا «3» ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ لِلنِّذَارَةِ، وَقَاتَلَ عَلَيْهَا، إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: تَوَعُّدٌ لَهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، وَتَسْلِيَةٌ لِرَسُولِهِ بِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ عَادَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَسَيَحِلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. وَأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي: بَلَغُوا وَفِي: مَا آتَيْناهُمْ عَائِدَانِ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لِيَتَنَاسَقَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا، أَيْ مَا بَلَغُوا فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ وَجَزَاءِ الْمِنَّةِ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: الضَّمِيرُ فِي بَلَغُوا لِقُرَيْشٍ، وَفِي مَا آتَيْناهُمْ لِلْأُمَمِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَمَا بَلَغَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ مَا آتَيْنَا أُولَئِكَ مِنْ طُولِ الْأَعْمَارِ وَقُوَّةِ الْأَجْسَامِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ، وحيث كذبوا رسلي

_ (1) سورة الروم: 30/ 35. (2) سورة الزخرف: 43/ 21. [.....] (3) سورة مريم: 19/ 54.

جَاءَهُمْ إِنْكَارِي بِالتَّدْمِيرِ وَالِاسْتِئْصَالِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ، فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ إِذَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَالْهَلَاكُ؟ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَلَغُوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفِي آتَيْناهُمْ عَلَى قُرَيْشٍ، وَمَا بَلَغَ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا قُرَيْشًا مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالنُّورِ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ. وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ احْتِمَالَاتٍ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ ذَكَرَ الثَّانِيَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ اخْتَارَ الثَّالِثَ، قَالَ: أَيِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا قَوْمَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كِتَابَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَكْمَلُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَوْضَحُ، وَمُحَمَّدٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَأَفْصَحُ، وَبُرْهَانُهُ أَوْفَى، وَبَيَانُهُ أَشْفَى، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا، وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها تُغْنِي عَنِ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْتَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ الْكِتَابُ، حُمِلَ الْإِيتَاءُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى إِيتَاءِ الْكِتَابِ، وَكَانَ أَوْلَى. انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَيْسَ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلَا كِتَابٌ أَبْيَنَ مِنْ كِتَابِهِ. وَالْمِعْشَارُ مِفْعَالٌ مِنَ الْعُشْرِ، وَلَمْ يُبْنَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَدَدِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْمِرْبَاعِ، وَمَعْنَاهُمَا: الْعُشْرُ وَالرُّبْعُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمِعْشَارُ عُشْرُ الْعُشْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَالْعُشْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ عُشْرُ الْمُعْشَرَاتِ، فَيَكُونُ جزءا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْلِيلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى فَكَذَّبُوا رُسُلِي، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ التَّكْذِيبَ، وَأَقْدَمُوا عَلَيْهِ، جُعِلَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ مُسَبَّبًا عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَقْدَمَ فُلَانٌ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا بَلَغُوا، كَقَوْلِكَ: مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عَمْرٍو، فَيُفَضَّلَ عَلَيْهِ. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ: لِلْمُكَذِّبِينَ الأوّلين، فليحذروا من مثله. انتهى. وفكيف: تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ، وَلَيْسَتِ اسْتِفْهَامًا مُجَرَّدًا، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ، أَيْ أَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِنَكِيرٍ مِثْلِهِ، وَالنَّكِيرُ مَصْدَرٌ كَالْإِنْكَارِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، وَالْفِعْلُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، كَالنَّذِيرِ وَالْعَذِيرِ مِنْ أَنْذَرَ وأعذر، وحذفت إلى مِنْ نَكِيرِ تَخْفِيفًا لِأَنَّهَا أَجْزَأَتْهُ. قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ، قَالَ: هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَنْ تَقُومُوا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَنْ تَقُومُوا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِواحِدَةٍ: بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: أَنْ تَقُومُوا على أن عَطْفُ بَيَانٍ لَهَا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ بِوَاحِدَةٍ نَكِرَةٌ، وَأَنْ تَقُومُوا

مَعْرِفَةٌ لِتَقْدِيرِهِ قِيَامُكُمْ لِلَّهِ. وَعَطْفُ الْبَيَانِ فِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً مِنْ مَعْرِفَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَأَمَّا التَّخَالُفُ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ ذَاهِبٌ، وَإِنَّمَا هُوَ وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ. وَقَدْ رَدَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَقامُ إِبْراهِيمَ «1» عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ قَوْلِهِ: آياتٌ بَيِّناتٌ «2» ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ التَّحَالُفِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَامَ هُنَا هُوَ الِانْتِصَابُ فِي الْأَمْرِ، وَالنُّهُوضُ فِيهِ بِالْهِمَّةِ، لَا الْقِيَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمَقُولُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْقِيَامِ عَنْ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرُّقِهِمْ عَنْ مُجْتَمَعِهِمْ عِنْدَهُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ فِيهَا إِصَابَتُكُمُ الْحَقَّ وَخَلَاصُكُمْ، وَهِيَ أَنْ تَقُومُوا لِوَجْهِ اللَّهِ مُتَفَرِّقِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَوَاحِدًا وَاحِدًا، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ بِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ: مَثْنى وَفُرادى، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ تَشْوِيشُ الْخَاطِرِ وَالْمَنْعُ مِنَ التَّفَكُّرِ، وَتَخْلِيطُ الْكَلَامِ، وَالتَّعَصُّبُ لِلْمَذَاهِبِ، وَقِلَّةُ الْإِنْصَافِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الدُّرُوسِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ، فَلَا يُوقَفُ فِيهَا عَلَى تَحْقِيقٍ. وَأَمَّا الِاثْنَانِ، إِذَا نَظَرَا نَظَرَ إِنْصَافٍ، وَعَرَضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مَا ظَهَرَ لَهُ، فَلَا يَكَادُ الْحَقُّ أَنْ يَعْدُوهُمَا. وَأَمَّا الْوَاحِدُ، إِذَا كَانَ جَيِّدَ الْفِكْرِ، صَحِيحَ النَّظَرِ، عَارِيًا عَنِ التَّعَصُّبِ، طَالِبًا لِلْحَقِّ، فَبَعِيدٌ أَنْ يَعْدُوهُ. وَانْتُصِبَ مَثْنى وَفُرادى عَلَى الْحَالِ، وَقُدِّمَ مَثْنَى، لِأَنَّ طَلَبَ الْحَقَائِقِ مِنْ مُتَعَاضِدَيْنِ فِي النَّظَرِ أَجْدَى مِنْ فِكْرَةٍ وَاحِدَةٍ، إِذَا انْقَدَحَ الْحَقُّ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، فَكَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَزِيدُ بَصِيرَةً. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا اجْتَمَعُوا جَاءُوا بِكُلِّ غَرِيبَةٍ ... فَيَزْدَادُ بَعْضُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْضِهِمْ عِلْمَا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا: عَطْفٌ عَلَى أَنْ تَقُومُوا، فَالْفِكْرَةُ هُنَا فِي حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْفِكْرَةَ تَهْدِي غَالِبًا إِلَى الصَّوَابِ إِذَا عُرِّيَ صَاحِبُهَا عَمَّا يُشَوِّشُ النَّظَرَ، وَالْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، نَفْيٌ مُسْتَأْنَفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ جَوَابُ مَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَسَمِ، لِأَنَّ تَفَكَّرَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُعْطِي التَّمْيِيزَ كَتَبَيَّنَ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا فِي آيَاتِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. انْتَهَى. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَتَفَكَّرُوا مُعَلَّقًا، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهُوَ مَحَطُّ التَّفَكُّرِ، أَيْ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِي انْتِفَاءِ الْجِنَّةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم. فَإِنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مَنْ كَانَ أَرْجَحَ قُرَيْشٍ عَقْلًا، وَأَثْبَتَهُمْ ذِهْنًا، وَأَصْدَقَهُمْ قَوْلًا، وَأَنْزَهَهُمْ نَفْسًا، وَمَنْ ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ، فَيَعْلَمُونَ بِالْفِكْرَةِ أَنَّ نِسْبَتَهُ لِلْجُنُونِ لَا يُمْكِنُ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ عَاقِلٌ، وَأَنَّ مَنْ

_ (1 و 2) سورة آل عمران: 3/ 97.

نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا لِلنَّفْيِ، كَمَا شَرَحْنَا. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لَا يُرَادُ بِهِ حقيقته، بل يؤول مَعْنَاهُ إِلَى النَّفْيِ، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ بِصَاحِبِكُمْ مِنَ الْجُنُونِ، أَيْ لَيْسَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا نَفَى تَعَالَى عَنْهُ الْجِنَّةَ أَثْبَتَ أَنَّهُ نَذِيرٌ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ: أَيْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الزَّمَانِ عَلَى الْعَذَابِ الَّذِي تُوُعِّدُوا به، وبين يَدَيْ يُشْعِرُ بِقُرْبِ الْعَذَابِ. قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ الْآيَةُ: فِي التَّبَرِّي مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا، وَطَلَبِ الْأَجْرِ عَلَى النُّورِ الَّذِي أَتَى بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيهِ. وَاحْتَمَلَتْ مَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً، وَالْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ تقديره: سألتكموه، وفَهُوَ لَكُمْ الْخَبَرُ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَاحْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً مَفَعُولَةً بِسَأَلْتُكُمْ، وَفَهُوَ لَكُمْ جُمْلَةٌ هِيَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ مَسْأَلَةٍ لِلْأَجْرِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي شَيْئًا فَخُذْهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْبَتَّ لِتَعْلِيقِهِ الْأَخْذَ بما لم يمكن، وَيُؤَيِّدُهُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِالْأَجْرِ مَا فِي قوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «1» ، وَفِي قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «2» ، لِأَنَّ اتِّخَاذَ السبيل إلى الله نصيبهم مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمَوَدَّةُ فِي الْقَرَابَةِ، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ قَدِ انْتَظَمَتْ وَإِيَّاهُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَجْرُ: الْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَهُوَ لَكُمْ، أَيْ ثَمَرَتُهُ وَثَوَابُهُ، لِأَنِّي سَأَلْتُكُمْ صِلَةَ الرَّحِمِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَرَكْتُهُ لَكُمْ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: مُطَّلِعٌ حَافِظٌ، يَعْلَمُ أَنِّي لَا أَطْلُبُ أَجْرًا عَلَى نُصْحِكُمْ وَدُعَائِكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا أَطْمَعُ مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ. وَالْقَذْفُ: الرَّمْيُ بِدَفْعٍ وَاعْتِمَادٍ، وَيُسْتَعَارُ لِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ لِقَوْلِهِ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ «3» ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «4» . قَالَ قَتَادَةُ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ: يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ وَيُظْهِرُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ بِحَيْثُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَأَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِمَا يُقْذَفُ إِلَيَّ مِنَ الْحَقِّ. وَأَصْلُ الْقَذْفِ: الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، أَوِ الحصا وَالْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقْذِفُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِالْحَقِّ هُوَ الْمَفْعُولُ، فَالْحَقُّ هُوَ الْمَقْذُوفُ مَحْذُوفًا، أَيْ يَقْذِفُ، أَيْ يُلْقِي مَا يُلْقِي إِلَى أَنْبِيَائِهِ من الوحي والشرع

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 57. (2) سورة الشورى: 42/ 23. (3) سورة طه: 20/ 39. (4) سورة الأحزاب: 33/ 26.

بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ إِمَّا لِلْمُصَاحَبَةِ، وَإِمَّا لِلسَّبَبِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ كَوْنُ قَذَفَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، فَإِذَا جَعَلْتَ بِالْحَقِّ هُوَ الْمَفْعُولَ، كَانَتِ الْبَاءُ زَائِدَةً فِي مَوْضِعٍ لَا تَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلَّامُ بِالرَّفْعِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّجَّاجِ، قَالَ: هُوَ رَفْعٌ، لأن تأويل قُلْ رَبِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَفْعٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، أَوْ عَلَى الْمُسْتَكِنِّ فِي يَقْذِفُ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. انْتَهَى. أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا فَهُوَ غَيْرُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى الْمُسْتَكِنِّ فِي يَقْذِفُ، فَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ حَمْلِهِ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ يَقْذِفُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ نَعْتٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ نَعْتِ الْمُضْمَرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحَرْبٌ عَنْ طَلْحَةَ: عَلَّامَ بِالنَّصْبِ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ لِرَبِّي. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بَدَلٌ أَوْ صِفَةٌ وَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقُرِئَ: الْغُيُوبِ بِالْجَرِّ، أَمَّا الضَّمُّ فَجَمْعُ غَيْبٍ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَكَذَلِكَ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّتَيْنِ وَالْوَاوَ فَكُسِرَ، وَالتَّنَاسُبُ الْكَسْرُ مَعَ الْيَاءِ وَالضَّمَّةُ الَّتِي عَلَى الْيَاءِ مَعَ الْوَاوِ وَأَمَّا الْفَتْحُ فَمَفْعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالصَّبُورِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي غَابَ وَخَفِيَ جِدًّا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، أَخْبَرَ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ جَاءَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْوَحْيُ، وَبَطَلَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَدْيَانِ، فَلَمْ يَبْقَ لِغَيْرِ الْإِسْلَامِ ثَبَاتٌ، لَا فِي بَدْءٍ وَلَا فِي عَاقِبَةٍ، فَلَا يُخَافُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَا يُبْطِلُهُ، كَمَا قَالَ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «1» . وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَاطِلُ: الشَّيْطَانُ، لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا يَبْعَثُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَصْنَامُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لَا يَبْتَدِئُ الصَّنَمُ مِنْ عِنْدِهِ كَلَامًا فَيُجَابُ، وَلَا يَرُدُّ مَا جَاءَ مِنَ الْحَقِّ بِحُجَّةٍ. وَقِيلَ: الْبَاطِلُ: الَّذِي يُضَادُّ الْحَقَّ، فَالْمَعْنَى: ذَهَبَ الْبَاطِلُ بِمَجِيءِ الْحَقِّ، فلم يبق مِنْهُ بَقِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَائِيَ إِذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِبْدَاءٌ وَلَا إِعَادَةٌ، فَصَارَ قَوْلُهُمْ: لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ، مَثَلًا فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَفْقَرُ مِنْ أُهَيْلِهِ عَبِيدٌ ... فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَفْيٌ، وَقِيلَ: اسْتِفْهَامٌ وَمَآلُهُ إِلَى النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يُبْدِئُ الْبَاطِلَ، أَيْ إِبْلِيسُ، وَيُعِيدُهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَفِرْقَةٌ مَعَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَا يُبْدِئُ، أي

_ (1) سورة فصلت: 41/ 42.

إِبْلِيسُ، لِأَهْلِهِ خَيْرًا، وَلَا يُعِيدُهُ: أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الشَّيْطَانُ: الْبَاطِلُ، لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ هَالِكٌ، كَمَا قِيلَ لَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ شَاطَ إِذَا هَلَكَ. وَقِيلَ: الْحَقُّ: السَّيْفُ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودِ نَبْقَةٍ وَيَقُولُ: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «1» ، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ، بِفَتْحِ اللَّامِ، فَإِنَّما أَضِلُّ، بِكَسْرِ الضَّادِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيُّ: بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الضَّادِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكَسَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَمْزَةَ أَضِلُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لُغَتَانِ نَحْوُ: ضَلَلْتُ أَضِلُّ، وَظَلَلْتُ أَظِلُّ. وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ فَبِوَحْيِ رَبِّي. وَالتَّقَابُلُ اللَّفْظِيُّ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَإِنَّمَا أَهْتَدِي لَهَا، كَمَا قَالَ: وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها «2» ، مُقَابِلُ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ «3» ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «4» ، مُقَابِلُ: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ «5» ، أَوْ يُقَالُ: فَإِنَّمَا أَضِلُّ بِنَفْسِي. وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَالتَّقَابُلُ مَعْنَوِيٌّ، لِأَنَّ النَّفْسَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا فَهُوَ لَهَا، أَيْ كُلُّ وَبَالٍ عَلَيْهَا فَهُوَ بِسَبَبِهَا. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «6» وَمَا لَهَا مِمَّا يَنْفَعُهَا فَبِهِدَايَةِ رَبِّهَا وَتَوْفِيقِهِ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ. وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُسْنِدَهُ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ تَحْتَهُ مَعَ جَلَالَةِ مَحَلِّهِ وَسِرِّ طَرِيقَتِهِ كَمَا غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، يُدْرِكُ قَوْلَ كُلِّ ضَالٍّ وَمُهْتَدٍ وَفِعْلَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا، أَنَّهُ وَقْتُ الْبَعْثِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَثِيرًا جَاءَ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «7» ، وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «8» ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَبَّرَ بِفَزِعُوا، وَأُخِذُوا، وَقَالُوا وَحِيَلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْكُفَّارِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَالسُّدِّيُّ: فِي أَهْلِ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا فِرَارًا مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا رُجُوعًا إِلَى التَّوْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي أَبْزَى: فِي جَيْشٍ لِغَزْوِ الْكَعْبَةِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ فِي بَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا يَنْجُو إِلَّا رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا نَالَهُ، قَالُوا، وله قيل:

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 81. (2 و 3) سورة فصلت: 41/ 46، وسورة الجاثية: 45/ 15. (4 و 5) سورة الزمر: 39/ 41. (6) سورة يوسف: 12/ 53. (7) سورة الأنعام: 6/ 27. (8) سورة السجدة: 32/ 12.

وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ. وَرُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ مُطَوَّلٌ عَنْ حُذَيْفَةَ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، مَكْذُوبٌ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْجَرَّاحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي خَسْفِ الْبَيْدَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَمَانِينَ أَلْفًا يَغْزُونَ الْكَعْبَةَ لِيُخْرِبُوهَا، فَإِذَا دَخَلُوا الْبَيْدَاءَ خُسِفَ بِهِمْ. وَذُكِرَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَكُونُ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَ السُّفْيَانِيُّ مِنَ الْوَادِي الْيَابِسِ فِي فَوْرِهِ، ذَلِكَ حِينَ يَنْزِلُ دِمَشْقَ، فَيَبْعَثُ جَيْشًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَنْتَهِبُونَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِلَى مَكَّةَ فَيَأْتِيهِمْ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَضْرِبُهَا، أَيِ الْأَرْضَ، بِرِجْلِهِ ضَرْبَةً، فَيَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ فِي بَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا يَنْجُو إِلَّا رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا نَالَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا فَوْتَ، وَلَا يَتَفَلَّتُ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَلِذَلِكَ جَرَى الْمَثَلُ: «وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ» ، اسْمُ أَحَدِهِمَا بَشِيرٌ، يُبَشِّرُ أَهْلَ مَكَّةَ، وَالْآخَرِ نَذِيرٌ، يَنْقَلِبُ بِخَبَرِ السُّفْيَانِيِّ. وَقِيلَ: لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ يُسَمَّى نَاجِيَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ، يَنْقَلِبُ وَجْهُهُ إِلَى قَفَاهُ. وَمَفْعُولُ تَرَى مَحْذُوفٌ، أَيْ وَلَوْ تَرَى الْكُفَّارَ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ، أَيْ لَا يَفُوتُونَ اللَّهَ، وَلَا يَهْرُبُ لَهُمْ عَنْمَا يُرِيدُ بِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَلَا فَوْتَ مِنْ صَيْحَةِ النُّشُورِ، وَأُخِذُوا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى ظَهْرِهَا. انْتَهَى. أَوْ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى النَّارِ إِذَا بُعِثُوا، أَوْ مِنْ ظَهْرِ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا إِذَا مَاتُوا، أَوْ مِنْ صَحْرَاءِ بَدْرٍ إِلَى الْقَلِيبِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ إِذَا خُسِفَ بِهِمْ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي فَزِعُوا. وَوَصْفُ الْمَكَانِ بِالْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَحَيْثُ مَا كَانُوا هُوَ قَرِيبٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا فَوْتَ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَأُخِذُوا: فِعْلًا مَاضِيًا، وَالظَّاهِرُ عَطْفُهُ عَلَى فَزِعُوا، وَقِيلَ: عَلَى فَلا فَوْتَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَلَا يُفَوَّتُوا وَأُخِذُوا. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَطَلْحَةُ فَلَا فَوْتٌ، وَأَخْذٌ مَصْدَرَيْنِ مُنَوَّنَيْنِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَلَا فَوْتَ مَبْنِيًّا، وَأَخْذٌ مَصْدَرًا مُنَوَّنًا، وَمَنْ رَفَعَ وَأَخْذٌ فَخَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَحَالُهُمَا أَخْذٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وَهُنَاكَ أَخْذٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ: وَأَخْذٌ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ فَلَا فَوْتَ، وَمَعْنَاهُ: فَلَا فَوْتَ هُنَاكَ، وَهُنَاكَ أَخْذٌ. انْتَهَى. كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا فَوْتَ مَجْمُوعٌ لَا، وَالْمَبْنِيِّ مَعَهَا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، وَخَبَرُهُ هُنَاكَ، فَكَذَلِكَ وَأَخْذٌ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ هُنَاكَ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا تَضَمَّنَتِ النَّفْيَ وَالْأُخْرَى تَضَمَّنَتِ الْإِيجَابَ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَيْ يقولون ذلك عند ما يَرَوْنَ الْعَذَابَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَى الْبَعْثِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ:

عَلَى الرَّسُولِ، لِمُرُورِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّنَاوُشُ: الرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَمَنَّى أن تؤوب إِلَيَّ مَيُّ ... وَلَيْسَ إِلَى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ أَيْ: تَتَمَنَّى، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِطَلَبِهِمْ مَا لَا يَكُونُ، وَهُوَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانُهُمْ فِي الدُّنْيَا. مُثِّلَ حَالُهُمْ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الشَّيْءَ مِنْ بُعْدٍ، كَمَا يَتَنَاوَلُهُ الْآخَرُ مِنْ قُرْبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: التَّنَاوُشُ بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ. وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْهَمْزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَادَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا النُّونُ والواو والشين، والأخرى النون وَالْهَمْزَةُ وَالشِّينُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْهَمْزَةِ الْوَاوَ، عَلَى مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ وَاوٍ مَضْمُومَةٍ ضَمَّةً لَازِمَةً، فَأَنْتَ فِيهَا بِالْخِيَارِ، إِنْ شِئْتَ تُثْبِتُ هَمْزَتَهَا، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَ هَمْزَتَهَا. تَقُولُ: ثَلَاثُ أَدْوُرٍ بِلَا هَمْزٍ، وَأَدْؤُرٍ بِالْهَمْزِ. قَالَ: وَالْمَعْنَى: مِنْ أَنَّى لَهُمْ تَنَاوَلُ مَا طَلَبُوهُ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُقْبَلُ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا فَصَارَتْ عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمِزَتِ الْوَاوُ الْمَضْمُومَةُ كَمَا هُمِزَتْ فِي أُجُوهٍ وَأُدُورٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا التَّنَاؤُشُ بِالْهَمْزِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّنَاوُشِ، وَهُمِزَتِ الْوَاوُ لَمَّا كَانَتْ مَضْمُومَةً ضَمَّةً لَازِمَةً، كَمَا قَالُوا: أَفْتَيْتُ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمَنْ هَمَزَ احْتَمَلَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّاشِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ فِي إِبْطَاءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَاشَ يَنُوشُ، هُمِزَتِ الْوَاوُ لِانْضِمَامِهَا، كَمَا هُمِزَتِ أَفْتَيْتُ وَأَدْوُرُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيُقْرَأُ بِالْهَمْزِ من أجل ضمة الْوَاوِ، وَقِيلَ: هِيَ أَصْلٌ مِنْ نَاشَهُ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ أَنَّ الْوَاوَ إِذَا كَانَتْ مَضْمُومَةً ضَمَّةً لَازِمَةً يَجُوزُ أَنْ تُبْدَلَ هَمْزَةً، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُتَوَسِّطَةِ إِذَا كَانَ مُدْغَمَةً فِيهَا، وَنَحْوُ يَعُودُ ويقوم مَصْدَرَيْنِ وَلَا إِذَا صَحَّتْ فِي الْفِعْلِ نَحْوُ: تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكًا، وَتَعَاوَنَ تَعَاوُنًا، وَلَمْ يَسْمَعْ هَمْزَتَيْنِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ. وَالتَّنَاوُشُ مِثْلُ التَّعَاوُنِ، فَلَا يَجُوزُ هَمْزُهُ، لِأَنَّ وَاوَهُ قَدْ صَحَّتْ فِي الْفِعْلِ، إِذْ يَقُولُ: تَنَاوَشَ. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ آمَنَّا بِهِ عَلَى الْأَقْوَالِ، والجملة حالية، ومِنْ قَبْلُ نُزُولِ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَقْذِفُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، حِكَايَةَ حَالٍ مُتَقَدِّمَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: قَوْلُهُمْ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَزَادَ قَتَادَةُ: وَلَا بَعْثَ وَلَا نَارَ. وَقَالَ

ابْنُ زَيْدٍ: طَاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِمْ: شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ وَكَاهِنٌ. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ: أَيْ فِي جِهَةٍ بَعِيدَةٍ، لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَكَلُّمٌ بِالْغَيْبِ وَالْأَمْرِ الْخَفِيِّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا مِنْهُ سِحْرًا وَلَا شِعْرًا وَلَا كَذِبًا، وَقَدْ أَتَوْا بِهَذَا الْغَيْبِ مِنْ جِهَةٍ بَعِيدَةٍ مِنْ حَالِهِ، لِأَنَّ أَبْعَدَ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الشِّعْرُ وَالسِّحْرُ، وَأَبْعَدُ شَيْءٍ مِنْ عَادَتِهِ الَّتِي عُرِفَتْ بَيْنَهُمْ وَجُرِّبَتِ الْكَذِبُ وَالزُّورُ. انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ يَتَلَفَّظُونَ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسَهَا إِيمَانُهَا، فَمُثِّلَتْ حَالَهُمْ فِي طَلَبِهِمْ تَحْصِيلِ مَا عَطَّلُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مَطْلَبٌ مُسْتَبْعَدٌ مِمَّنْ يَقْذِفُ شَيْئًا مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِي لُحُوقِهِ، حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ لِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْهُ بَعِيدًا. وَالْغَيْبُ: الشَّيْءُ الْغَائِبُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَيُقْذَفُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَرْجُمُهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: يُرْمُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَمَعْنَاهُ: يُجَازَوْنَ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِمَا أَتَاهُ، إِمَّا فِي حَالِ تَعَذُّرِ التَّوْبَةِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ يَأْتِيهِمْ بِهِ، يَعْنِي بِالْغَيْبِ، شَيَاطِينُهُمْ وَيُلَقِّنُونَهُمْ إِيَّاهُمْ، وَقِيلَ: يُرْمُونَ فِي النَّارِ وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ، لِأَنَّ مَنْ يُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَسْمَعُ، أَيْ هُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ، قَالَ الْحَوْفِيُّ: الظَّرْفُ قَائِمٌ مَقَامَ اسْمِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرَ، لَكَانَ مَرْفُوعًا بينهم، كفراءة مَنْ قَرَأَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «2» ، فِي أحد المعنيين، لَا يُقَالُ لِمَا أُضِيفَ إِلَى مَبْنِيٍّ وَهُوَ الضَّمِيرُ بَنَى، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ مَا مَثَّلَهُمْ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا، لِأَنَّهُ قَوْلٌ فَاسِدٌ. يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَرَرْتُ بِغُلَامَكَ، وَقَامَ غُلَامَكَ بِالْفَتْحِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَالْبِنَاءُ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَبْنِيِّ لَيْسَ مُطْلَقًا، بَلْ لَهُ مَوَاضِعُ أُحْكِمَتْ فِي النَّحْوِ، وَمَا يَقُولُ قَائِلٌ ذَلِكَ في قول الشَّاعِرُ: وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعِيرِ وَالنَّزَوَانِ فَإِنَّهُ نَصَبَ بَيْنَ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى مُعْرَبٍ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مَا وَرَدَ مِنْ نَحْوِ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ هُوَ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الدَّالُّ عَلَيْهِ، وَحِيلَ هُوَ، أَيِ الْحَوْلُ، وَلِكَوْنِهِ أُضْمِرَ لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا، فَجَازَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَخْرُجُ قول الشاعر:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 25 وغيرها من السور. [.....] (2) سورة الأنعام: 6/ 94.

وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ ... بِسُوءٍ وَإِنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرُبِ أَيْ: وَيَعْتَلِلُ هُوَ، أَيِ الِاعْتِلَالُ. وَالَّذِي يَشْتَهُونَ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أو الْأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْوَلَدُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوْ بَيْنَ الْجَيْشِ وَتَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ، أَوْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بَيْنَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ بَيْنَ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ، مِنْ كَفَرَةِ الْأُمَمِ، أَيْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مشتهياتهم. ومِنْ قَبْلُ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَشْياعِهِمْ، أَيْ مَنِ اتصف بصفتهم مِنْ قَبْلُ، أَيْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ. وَيَتَرَجَّحُ بِأَنَّ مَا يُفْعَلُ بِجَمِيعِهِمْ إِنَّمَا هُوَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ إِذَا كَانَتِ الْحَيْلُولَةُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَشْيَاعُهُمْ أَصْحَابُ الْفِيلِ، يَعْنِي أَشْيَاعَ قُرَيْشٍ، وَكَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مُخْرَجَ التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ، فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ: يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، وَمُرِيبٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَرَابَ الرَّجُلُ: أَتَى بِرِيبَةٍ وَدَخَلَ فِيهَا، وَأَرَبْتُ الرَّجُلَ: أَوْقَعْتَهُ فِي رِيبَةٍ، وَنِسْبَةُ الْإِرَابَةِ إِلَى الشَّكِّ مَجَازٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُرِيبَ مِنَ الْمُتَعَدِّي مَنْقُولٌ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرِيبًا مِنَ الْأَعْيَانِ إِلَى الْمَعْنَى، وَمِنَ اللَّازِمِ مَنْقُولٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّكِّ إِلَى الشَّكِّ، كَمَا تَقُولُ: شِعْرُ شَاعِرٍ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَبْيِينٍ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْدَفَهُ عَلَى الشَّكِّ، وَهُمَا بِمَعْنًى لِتَنَاسُقِ آخِرِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، كَمَا تَقُولُ: عَجَبٌ عجيب، وشتاشات، وَلَيْلَةٌ لَيْلَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشَّكُّ الْمُرِيبُ أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الشَّكِّ وأشده إظلاما.

سورة فاطر

[الجزء التاسع] سورة فاطر [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 45] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

القمطير: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْقِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي عَلَى نَوَى التَّمْرَةِ، وَيَأْتِي مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. الْجُدَدُ: جَمْعُ جُدَّةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ تَكُونُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْجَبَلِ، كَالْقِطْعَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَّصِلَةِ طُولًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُدَدُ: الْخُطَطُ وَالطَّرَائِقُ. وَقَالَ لَبِيدٌ: أَوْ مَذْهَبُ جُدَدٌ عَلَى الْوَاحِدِ، وَيُقَالُ: جُدَّةُ الْحِمَارِ لِلْخَطَّةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلظَّبْيِ جُدَّتَانِ مِسْكِيَّتَانِ تَفْصِلَانِ بَيْنَ لَوْنَيْ ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ مَبَرَّاتٍ وجدة ظهره ... كساءين يَجْرِي بَيْنَهُنَّ دَلِيصُ الْجُدَّةُ: الْخَطُّ الَّذِي فِي وَسَطِ ظَهْرِهِ، يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ. الغريب: الشَّدِيدُ السَّوَادِ. لَغِبَ يَلْغَبُ لُغُوبًا: أَعْيَا. الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ، الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا هَلَاكَ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَ الْعَذَابِ، تَعَيَّنَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَمْدُهُ تَعَالَى وَشُكْرُهُ لِنَعْمَائِهِ وَوَصْفُهُ بِعَظِيمِ آلَائِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» . وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَالزَّهْرِيُّ: فَطَرَ، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا وَنَصَبَ مَا بَعْدَهُ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: فَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الَّذِي فَيَكُونُ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ قَدْ فِيمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا الْحَالُ فَيَكُونُ حَالًا مَحْكِيَّةً، وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي هُوَ فَطَرَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى خَالِقُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، والسموات وَالْأَرْضُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَالَمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْحَمْدُ يَكُونُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، ونعم الله عاجلة، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «2» ، إشارة إلى أن النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ وَدَلِيلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا «3» ، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «4» ، إِشَارَةٌ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَهِيَ الِاتِّقَاءُ، فَإِنَّ الِاتِّقَاءَ وَالصَّلَاحَ بِالشَّرْعِ وَالْكِتَابِ. وَالْحَمْدُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْحَشْرِ، وَدَلِيلُهُ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها «5» مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ «6» ، وَهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ البقاء في الآخرة، دليله: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «7» . ففاطر السموات وَالْأَرْضِ شَاقُّهُمَا لِنُزُولِ الْأَرْوَاحِ مِنَ السَّمَاءِ، وَخُرُوجِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْأَرْضِ دَلِيلُهُ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ: أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ مَا مَضَى، لِأَنَّ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بَيَانٌ لِانْقِطَاعِ رَجَاءِ مَنْ كَانَ فِي شَكٍّ مُرِيبٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَبَشَّرَهُ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ، وَأَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: جَاعِلٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ جَاعِلٌ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَجَاعِلُ رَفْعًا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، الْمَلَائِكَةَ نَصْبًا، حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ يعمر،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 45. (2) سورة الأنعام: 6/ 1. (3) سورة الأنعام: 6/ 2. (4) سورة الكهف: 18/ 1. (5) سورة سبأ: 34/ 2، وسورة الحديد: 57/ 4. (6) سورة سبأ: 34/ 3. (7) سورة الأنبياء: 21/ 103.

وَخُلَيْدُ بْنُ نَشِيطٍ: جَعَلَ فِعْلًا مَاضِيًا، الْمَلَائِكَةَ نَصْبًا، وَذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ فَاطِرِ بِأَلِفٍ، وَالْجَرِّ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً «1» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: رُسْلًا بِإِسْكَانِ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمَ. وَقَالَ الزمخشري: وقرىء الذي فطر السموات وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ. فَمَنْ قَرَأَ: فَطَرَ وَجَعَلَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمَلُ إِخْبَارًا مِنَ الْعَبْدِ إِلَى مَا أَسْدَاهُ إِلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ، كَمَا تَقُولُ: الْفَضْلُ لِزَيْدٍ أَحْسَنَ إِلَيْنَا بِكَذَا خَوَّلَنَا كَذَا، يَكُونُ ذَلِكَ جِهَةَ بَيَانٍ لِفِعْلِهِ الْجَمِيلِ، كَذَلِكَ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: فَطَرَ، جَعَلَ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نِعَمًا لَا تُحْصَى. وَمَنْ قَرَأَ: وَجَاعِلِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا اسْمَا فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، فَيُكُونَانِ صِفَةً لِلَّهِ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي نَصْبِ رُسُلًا. فَمَذْهَبُ السِّيرَافِيِّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمَيْنِ نصب الثاني. وَمَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا مَنْ نَصَبَ الْمَلَائِكَةَ فَيَتَخَرَّجُ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٍ فِي جَوَازِ إِعْمَالِ الْمَاضِي النَّصْبَ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ إِعْرَابُهُ بَدَلًا. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَقْبَلٌ تَقْدِيرُهُ: يَجْعَلُ الْمَلَائِكَةَ رُسُلًا، وَيَكُونُ أَيْضًا إِعْرَابُهُ بَدَلًا. وَمَعْنَى رُسُلًا بِالْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَوَامِرِهِ، وَلَا يُرِيدُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلُّهُمْ رُسُلًا. فَمِنَ الرُّسُلِ: جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، وَالْمَلَائِكَةُ الْمُتَعَاقِبُونَ، وَالْمَلَائِكَةُ الْمُسَدِّدُونَ حُكَّامُ الْعَدْلِ وَغَيْرُهُمْ، كَالْمَلَكِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَعْمَى والأبرص والأقرع. وأَجْنِحَةٍ جَمْعُ جَنَاحٍ، صِيغَةُ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَقِيَاسُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ فِيهِ جَنَحَ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسْمَعْ كَانَ أَجْنِحَةٍ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَتَقَدَّمَ الكلام عَلَى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ مُشْبَعًا، وَلَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ تَعَرَّضُوا لِكَلَامٍ فِيهِ هُنَا، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ صِفَاتُ الْأَجْنِحَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَنْصَرِفْ لِتَكْرَارِ الْعَدْلِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا عُدِلَتْ عَنْ أَلْفَاظِ الْأَعْدَادِ مِنْ صِيَغٍ إِلَى صِيَغٍ أُخَرَ، كَمَا عُدِلَ عُمَرُ عَنْ عَامِرٍ، وَحَذَامِ عَنْ حَاذِمَةٍ، وَعَنْ تَكْرِيرٍ إِلَى غَيْرِ تَكْرِيرٍ. وَأَمَّا بِالْوَصْفِيَّةِ، فَلَا تَقْتَرِنُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ الْمَعْدُولَةِ وَالْمَعْدُولِ عَنْهَا. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ بِنِسْوَةٍ أَرْبَعٍ وَبِرِجَالٍ ثَلَاثَةٍ فَلَا يُعَرَّجُ عَلَيْهَا؟ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْمَانِعَ لِلصَّرْفِ هُوَ تَكْرَارُ الْعَدْلِ فِيهَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنَ الصَّرْفِ لِلصِّفَةِ وَالْعَدْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلَا تَرَاكَ، فَإِنَّهُ قَاسَ الصِّفَةَ فِي هَذَا الْمَعْدُولِ عَلَى الصِّفَةِ فِي أَفْعَلَ وَفِي ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الصِّفَةِ لَمْ يَعُدُّوهُ عِلَّةً، بَلِ اشْتَرَطُوا فِيهِ. فَلَيْسَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا فِي أَرْبَعٍ، لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ تَاءَ التَّأْنِيثِ. وَلَيْسَ شَرْطُهُ فِي ثَلَاثَةٍ مَوْجُودًا، لِأَنَّهُ لَمْ يجعل علة

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 96.

مَعَ التَّأْنِيثِ. فَقِيَاسُ الزَّمَخْشَرِيِّ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، إِذْ غَفَلَ عَنْ شَرْطِ كَوْنِ الصِّفَةِ عِلَّةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عُدِلَتْ عَنْ حَالِ التَّنْكِيرِ، فَتَعَرَّفَتْ بِالْعَدْلِ، فَهِيَ لَا تَنْصَرِفُ لِلْعَدْلِ وَالتَّعْرِيفِ، وَقِيلَ: لِلْعَدْلِ وَالصِّفَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَشْهُورُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ مِنْ صِنْفٍ لَهُ جَنَاحَانِ، وَآخَرَ ثَلَاثَةٌ، وَآخَرَ أَرْبَعَةٌ، وَآخَرَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا روي أن لجبريل سِتَّمِائَةِ جَنَاحٍ، مِنْهَا اثْنَانِ يَبْلُغُ بِهِمَا الْمَشْرِقَ إِلَى الْمَغْرِبِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَتَكَلَّمُ عَلَى كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْأَجْنِحَةِ، وَعَلَى صُورَةِ الثَّلَاثَةِ بِمَا لَا يُجْدِي قَائِلًا: يُطَالِعُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْمَلَكِ جَنَاحَانِ، وَلِبَعْضِهِمْ ثَلَاثَةٌ، وَلِبَعْضِهِمْ أَرْبَعَةٌ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةً لِوَاحِدٍ، لَمَا اعْتَدَلَتْ فِي مُعْتَادٍ مَا رَأَيْنَا نَحْنُ مِنَ الْأَجْنِحَةِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ ثَلَاثَةٌ لِوَاحِدٍ، كَمَا يُوجَدُ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَجْنِحَةِ مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يُزِيلُ بَحْثَهُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَيْنَا عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، أَقَلُّ مَا يَكُونُ لِذِي الْجَنَاحِ، إِشَارَةً إِلَى الْجِهَةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَهُمْ وَجْهٌ إِلَى اللَّهِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ نِعَمَهُ وَيُعْطُونَ مَنْ دُونَهُمْ مِمَّا أَخَذُوهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «1» ، وَقَوْلُهُ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «2» ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً «3» ، فَهُمَا جَنَاحَانِ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ بِوَاسِطَةٍ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُهُ لَا بِوَاسِطَةٍ. فَالْفَاعِلُ بِوَاسِطَةٍ فِيهِمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثُ جِهَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ جِهَاتٍ وَأَكْثَرُ. انْتَهَى. وَبَحْثُهُ فِي هَذِهِ، وَفِي فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَحْثٌ عَجِيبٌ، وَلَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ فَهْمِ الْعَرَبِ مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي حَمَّلَهَا مَا حَمَّلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَثْنَى وَمَا بَعْدَهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْنِحَةِ، وَقِيلَ: أُولِي أَجْنِحَةٍ مُعْتَرِضٌ، ومَثْنى حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُسُلًا، أَيْ يُرْسَلُونَ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. قِيلَ: وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أُولِي أَجْنِحَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ رُسُلًا، جَعَلَ لَهُمْ أَجْنِحَةً لِيَكُونَ أَسْرَعَ لِنَفَادِ الْأَمْرِ وَسُرْعَةِ إِنْفَاذِ الْقَضَاءِ. فَإِنَّ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا تُقْطَعُ بِالْأَقْدَامِ إِلَّا فِي سِنِينَ، فَجُعِلَتْ لَهُمُ الْأَجْنِحَةُ حَتَّى يَنَالُوا الْمَكَانَ الْبَعِيدَ فِي الْوَقْتِ الْقَرِيبِ كالطير.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 193- 194. (2) سورة النجم: 53/ 5. (3) سورة النازعات: 79/ 5.

يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ: تَقْرِيرٌ لِمَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِغْرَابِ مِنْ خَبَرِ الْمَلَائِكَةِ أُولِي أَجْنِحَةٍ، أَيْ لَيْسَ هَذَا بِبِدْعٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْخَلْقِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا فِي الْأَجْنِحَةِ الَّتِي لِلْمَلَائِكَةِ، أَيْ يَزِيدُ فِي خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ الْأَجْنِحَةَ. وَقَالُوا: فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْخَلْقُ الْحَسَنُ، أَوْ حُسْنُ الصَّوْتِ، أَوْ حُسْنُ الْخَطِّ، أَوْ لِمَلَاحَةٍ فِي الْعَيْنَيْنِ أَوِ الْأَنْفِ، أَوْ خِفَّةُ الرُّوحِ، أَوِ الْحُسْنُ، أَوْ جُعُودَةُ الشَّعْرِ، أَوِ الْعَقْلُ، أَوِ الْعِلْمُ، أَوِ الصَّنْعَةُ، أَوِ الْعِفَّةُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْحَلَاوَةُ فِي الْفَمِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ. وَالْآيَةُ مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ زِيَادَةٍ فِي الْخَلْقِ، وَقَدْ شَرَحُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَمَا يَشَاءُ عَامٌّ لَا يَخُصُّ مُسْتَحْسَنًا دُونَ غَيْرِهِ. وَخَتَمَ الْآيَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْفَتْحُ وَالْإِرْسَالُ اسْتِعَارَةٌ لِلْإِطْلَاقِ، فَلا مُرْسِلَ لَهُ مَكَانَ لَا فَاتِحَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شيء يطلق اللَّهُ. مِنْ رَحْمَةٍ: أَيْ نِعْمَةٍ وَرِزْقٍ، أَوْ مَطَرٍ، أَوْ صِحَّةٍ، أَوْ أَمْنٍ، أو غير ذلك من صُنُوفِ نَعْمَائِهِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِعَدَدِهَا. وَمَا رُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ تَفْسِيرِ رَحْمَةٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ عَلَى الْحَصْرِ مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَنْكِيرُ الرَّحْمَةِ لِلْإِشَاعَةِ وَالْإِبْهَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ أَيَّةِ رَحْمَةٍ كَانَتْ سَمَاوِيَّةً أَوْ أَرْضِيَّةً، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَحَبْسِهَا، وَأَيُّ شَيْءٍ يُمْسِكُ اللَّهُ فَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. انْتَهَى. وَالْعُمُومُ مَفْهُومٌ مِنِ اسْمِ الشَّرْطِ وَمِنْ رَحْمَةٍ لِبَيَانِ ذَلِكَ الْعَامِّ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ هُوَ، وَهُوَ مِمَّا اجْتُزِئَ فِيهِ بِالنَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ الْمُطَابِقِ فِي الْعُمُومِ لِاسْمِ الشَّرْطِ، وَتَقْدِيرُهُ: مِنَ الرَّحَمَاتِ، وَمِنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كائنا من الرَّحَمَاتِ، وَلَا يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا يُوصَفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما يُمْسِكْ عَامٌّ فِي الرَّحْمَةِ وَفِي غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ تَبْيِينٌ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يُمْسِكُ. فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ مِنْ رَحْمَةٍ، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِي فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَا، وَأُنِّثَ فِي مُمْسِكَ لَها عَلَى مَعْنَى مَا، لِأَنَّ معناها الرحمة. وقرىء: فَلَا مُرْسِلَ لَهَا، بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفْسِيرَ هُوَ مِنْ رَحْمَةٍ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ رَحْمَةٍ: مِنْ بَابِ تَوْبَةٍ، فَلا مُمْسِكَ لَها: أَيْ يَتُوبُونَ إِنْ شاؤوا وَإِنْ أَبَوْا، وَما يُمْسِكْ: مِنْ بَابٍ، فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَهُمْ لَا يَتُوبُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مِنْ رَحْمَةٍ: مِنْ هِدَايَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ فَسَّرَ الرَّحْمَةَ بِالتَّوْبَةِ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؟ قُلْتُ: أَرَادَ بِالتَّوْبَةِ: الْهِدَايَةَ لَهَا وَالتَّوْفِيقَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ

ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنْ قَالَهُ فَمَقْبُولٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَتُوبَ الْعَاصِي تَابَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَتُبْ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشَاءُ التَّوْبَةَ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشَاءَ بِهَا. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. مِنْ بَعْدِهِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ «1» ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على علم، كقوله: ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «2» ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ بَعْدِ هِدَايَةِ اللَّهِ، وَهُوَ تَقْدِيرٌ فَاسِدٌ لَا يُنَاسِبُ الْآيَةَ، جَرَى فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالْإِمْسَاكِ، الْحَكِيمُ الَّذِي يُرْسِلُ وَيُمْسِكُ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ في إيجادهم. واذْكُرُوا: لَيْسَ أَمْرًا بِذِكْرِ اللِّسَانِ، وَلَكِنْ بِهِ وَبِالْقَلْبِ وَبِحِفْظِ النِّعْمَةِ مِنْ كُفْرَانِهَا وَشُكْرِهَا، كَقَوْلِكَ لِمَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: اذْكُرْ أَيَادِيَّ عِنْدَكَ، تُرِيدُ حِفْظَهَا وَشُكْرَهَا، وَالْجَمِيعُ مَغْمُورُونَ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ. فَالْخِطَابُ عَامُّ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ: أَيْ فَلَا إِلَهَ إِلَّا الْخَالِقُ، مَا تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَشَقِيقٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: غَيْرِ بِالْخَفْضِ، نَعْتًا عَلَى اللَّفْظِ، ومِنْ خالِقٍ مبتدأ. ويَرْزُقُكُمْ: جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَتَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَالْخَبَرُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَكُمْ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: غَيْرُ بِالرَّفْعِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ نَعْتًا عَلَى الْمَوْضِعِ، كَمَا كَانَ الْخَبَرُ نَعْتًا عَلَى اللَّفْظِ، وَهَذَا أَظْهَرُ لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بَاسِمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ خَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَحَسُنَ إِعْمَالُهُ، كَقَوْلِكَ: أَقَائِمٌ زَيْدٌ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ؟ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ وَأَجْرِيَ مُجْرَى الْفِعْلِ، فَرَفَعَ مَا بَعْدَهُ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ مِنَ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ قَائِمٍ الزَّيْدُونَ؟ كَمَا تَقُولُ: هَلْ قَائِمٌ الزَّيْدُونَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. إِلَّا تَرَى أَنَّهُ إِذَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ خِلَافُهُ إِذَا أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ مِنْ، وَلَا أَحْفَظُ مِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى إِجَازَةِ مِثْلِ هَذَا إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؟ وَقَرَأَ الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّحْوِيُّ: غَيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْخَبَرُ إِمَّا يَرْزُقُكُمْ وَإِمَّا مَحْذُوفٌ، وَيَرْزُقُكُمْ مُسْتَأْنَفٌ وَإِذَا كَانَ يَرْزُقُكُمْ مُسْتَأْنِفًا، كَانَ أولى لانتفاء

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 23. (2) سورة الأعراف: 7/ 186. [.....]

صِدْقِ خَالِقٍ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، بِخِلَافِ كَوْنِهِ صِفَةً، فَإِنَّ الصِّفَةَ تُقَيِّدُ، فَيَكُونُ ثَمَّ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرَازِقٍ. وَمَعْنَى مِنَ السَّماءِ: بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضِ: بِالنَّبَاتِ، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ: جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ إِلَى الشِّرْكِ، وَأَنْ يُكَذِّبُوكَ إِلَى الْأُمُورِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ: شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا وَعَدَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وغير ذلك. وقرأ الجمهور: الْغَرُورُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالشَّيْطَانِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو السَّمَّالِ: بِضَمِّهَا جَمْعَ غَارٍ، أَوْ مَصْدَرًا، كَقَوْلِهِ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ «1» ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ لُقْمَانَ. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ: عَدَاوَتُهُ سَبَقَتْ لِأَبِينَا آدَمَ، وَأَيُّ عَدَاوَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي بَنِيهِ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» ، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ «3» ؟ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا: أَيْ بِالْمُقَاطَعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَقْصُودَهُ فِي دُعَاءِ حِزْبِهِ إِنَّمَا هُوَ تَعْذِيبُهُمْ فِي النَّارِ، يَشْتَرِكُ هُوَ وَهُمْ فِي الْعَذَابِ، فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْحِرْصِ حَتَّى يُبَيِّنَ صِدْقَ قَوْلِهِ فِي: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيمَا يَسُوءُ مِمَّا قَدْ يَتَسَلَّى بِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ بِالْعَذَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمَا مِنَ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ. وَبَدَأَ بِالْكُفَّارِ لِمُجَاوِرَةِ قَوْلِهِ: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، فَأَتْبَعَ خَبَرَ الْكَافِرِ بِحَالِهِ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى السَّعِيرِ، إِنَّمَا اتَّفَقَ أَنْ صَارَ أَمْرُهُمْ عَنْ دُعَائِهِ إِلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَنَقُولُ: هُوَ مِمَّا عُبِّرَ فِيهِ عَنِ السَّبَبِ بِمَا تَسَبَّبَ عَنْهُ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَتَسَبَّبَ عنه العذاب. والَّذِينَ كَفَرُوا، وَالَّذِينَ آمَنُوا. مُبْتَدَآنِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ، أَوْ صِفَةً، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ حِزْبَهُ، وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ ضَمِيرِ لِيَكُونُوا، وَهَذَا كُلُّهُ بِمَعْزِلٍ مِنْ فَصَاحَةِ التَّقْسِيمِ وَجَزَالَةِ التَّرْكِيبِ. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً: أَيْ فَرَأَى سُوءَ عَمَلِهِ حَسَنًا، وَمَنْ مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ، كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «4» ، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى «5» ، أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «6» ، ثُمَّ قَالَ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 22. (2) سورة الحجر: 15/ 39. (3) سورة النساء: 4/ 119. (4) سورة محمد: 47/ 14. (5) سورة الرعد: 13/ 19. (6) سورة الأنعام: 6/ 122.

الظُّلُماتِ «1» ، وَقَالَهُ الْكِسَائِيُّ، أَيْ تَقْدِيرُهُ: تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ لِدَلَالَةِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَرَآهُ حَسَنًا، فَأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، فَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الزَّجَّاجُ. وَشَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْ أَنَّ الْإِضْلَالَ هُوَ خذلانه وتخليته وشأنه، وَأَتَى بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَمَنْ زُيِّنَ مبينا لِلْمَفْعُولِ سُوءُ رُفِعَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: زَيَّنَّ لَهُ سُوءَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنَصَبَ سُوءَ وَعَنْهُ أَيْضًا أَسْوَأَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ مَنْصُوبًا وَأَسْوَأُ عَمَلِهِ: هُوَ الشِّرْكُ. وَقِرَاءَةُ طَلْحَةَ: أَمَنْ بِغَيْرِ فَاءٍ، قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: لِلِاسْتِخْبَارِ بِمَعْنَى الْعَامَّةِ لِلتَّقْرِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ، فَحُذِفَ التَّمَامُ كَمَا حُذِفَ مِنَ الْمَشْهُورِ الْجَوَابُ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْجَوَابِ: خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، وَبِالتَّمَامِ: مَا يُؤَدَّى لِأَجْلِهِ، أَيْ تَفَكَّرْ وَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَنْ كُفْرِ قَوْمِهِ، وَوُجُوبُ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ فِي إِضْلَالِهِ مَنْ يَشَاءُ وَهِدَايَةِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ ذَهَبَ، وَنَفْسُكَ فَاعِلٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى، وَالْأَشْهَبُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحُمَيدٌ وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: تُذْهِبْ من أذهب، مسند الضمير الْمُخَاطَبِ، نَفْسُكَ: نُصِبَ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ: وَالْحَسْرَةُ هَمُّ النَّفْسِ عَلَى فَوَاتِ أَمْرٍ. وَانْتُصِبَ حَسَراتٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ فَلَا تَهْلِكْ نَفْسُكَ لِلْحَسَرَاتِ، وعليهم متعلق بتذهب، كَمَا تَقُولُ: هَلَكَ عَلَيْهِ حُبًّا، وَمَاتَ عَلَيْهِ حُزْنًا، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُتَحَسَّرِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَسَرَاتٍ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، كَأَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ حَسَرَاتٍ لِفَرْطِ التَّحَسُّرِ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: مَشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى ... حَتَّى ذَهَبْنَ كَلَاكِلًا وصدروا يريد: رجعن كلا كلا وَصُدُورًا، أَيْ لَمْ يَبْقَ إلا كلا كلها وَصُدُورُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَعَلَى إِثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسِي ... حَسَرَاتٍ وَذِكْرُهُمْ لِي سَقَامُ انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ مِنَ أَنَّ كلا كلا وَصُدُورًا حَالَانِ هُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أي حتى ذهبت كلا كلها وَصُدُورُهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى سُوءِ صُنْعِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ: أَيْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 122.

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ، مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ. لَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ وَإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ، ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الأمور الأرضية: الرياح وإسالها، وَفِي هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ. دَلَّهُمْ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي يُعَايِنُونَهُ، وَهُوَ وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى سِيَّانِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: هَلْ مررت بوادي أُهْلِكَ مَحْلًا، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ» . قِيلَ: أَرْسَلَ فِي مَعْنَى يُرْسِلُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ فَتُثِيرُ. وَقِيلَ: جِيءَ بِالْمُضَارِعِ حِكَايَةَ حَالٍ يَقَعُ فِيهَا إِثَارَةُ الرِّيَاحِ السَّحَابَ، وَيَسْتَحْضِرُ تِلْكَ الصُّورَةَ الْبَدِيعَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَمِنْهُ فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَذَا يَفْعَلُونَ بِكُلِّ فِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزِ خُصُوصِيَّةٍ بِحَالٍ يُسْتَغْرَبُ، أَوْ يُتَّهَمُ الْمُخَاطَبُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا: بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي ... بِشُهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ فَأَضْرِبُهَا بلاد هش فَخَرَّتْ ... صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُصَوِّرَ لِقَوْمِهِ الْحَالَةَ الَّتِي يُشَجِّعُ فِيهَا ابْنَ عَمِّهِ عَلَى ضَرْبِ الْغُولِ، كَأَنَّهُ يُبَصِّرُهُمْ إياهم وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى كُنْهِهَا، مُشَاهَدَةً لِلتَّعَجُّبِ مِنْ جَرَاءَتِهِ عَلَى كُلِّ هَوْلٍ، وَثَبَاتِهِ عِنْدَ كُلِّ شِدَّةٍ. وَكَذَلِكَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ بَعْدَ موتها. لما كانا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَقِيلَ: فَسُقْنَا وَأَحْيَيْنَا، مَعْدُولًا بِهِمَا عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ

إِلَى مَا هُوَ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: أَيْ أَرْسَلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي. لِمَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ وَمَا يَفْعَلُهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: كُنْ، لَا يَبْقَى زَمَانًا وَلَا جُزْءَ زَمَانٍ، فَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِوُجُوبِ وُقُوعِهِ وَسُرْعَةِ كَوْنِهِ، وَلِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ قَدَّرَ الْإِرْسَالَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْلُومَةِ وَإِلَى الْمَوَاضِعِ الْمُعَيَّنَةِ. وَلَمَّا أَسْنَدَ الْإِثَارَةَ إِلَى الرِّيحِ، وَهِيَ تُؤَلَّفُ فِي زَمَانٍ، قَالَ: فَتُثِيرُ، وَأَسْنَدَ أَرْسَلَ إِلَى الْغَائِبِ، وفي فَسُقْناهُ، وفَأَحْيَيْنا إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، ثُمَّ لَمَّا عُرِفَ قَالَ: أَنَا الَّذِي عَرَفْتَنِي سُقْتُ السَّحَابَ فَأَحْيَيْتُ الْأَرْضَ. فَفِي الْأَوَّلِ تَعْرِيفٌ بِالْفِعْلِ الْعَجِيبِ، وَفِي الثَّانِي تَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ. وَفَسُقْنَاهُ وَفَأَحْيَيْنَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ فَتُثِيرُ وَأَرْسَلَ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ منا الْفَرْقِ بَيْنَ أَرْسَلَ وَفَتَثِيرُ لَا يَظْهَرُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً «1» ، وَفِي الْأَعْرَافِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ «2» ، كَيْفَ جَاءَ فِي الْإِرْسَالِ بِالْمُضَارِعِ؟ وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْبَلَاغَةِ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْأَعْرَافِ سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «3» . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا يَفْعَلُهُ تَعَالَى إِلَى آخِرِهِ، وَكُلُّ فِعْلٍ، وَإِنْ كَانَ أُسْنِدَ إِلَى غَيْرِهِ مَجَازًا، فَهُوَ فِعْلُهُ حَقِيقَةً، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُسْنِدُهُ إِلَى ذَاتِهِ، وَبَيْنَ مَا يُسْنِدُ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ هُوَ إِيجَادُهُ وَخَلْقُهُ. وَالنُّشُورُ، مَصْدَرُ نَشَرَ: الْمَيِّتُ إِذَا حَيِيَ، قَالَ الْأَعْشَى: حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ الناشر والنشر: مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَبْلَهُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ، وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ لِجِهَاتٍ لَمَّا قَبِلَتِ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الْحَيَاةَ اللَّائِقَةَ بِهَا، كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ تَقْبَلُ الْحَيَاةَ. أَوْ كَمَا أَنَّ الرِّيحَ يَجْمَعُ قِطَعَ السَّحَابِ، كَذَلِكَ تُجْمَعُ أَجْزَاءُ الْأَعْضَاءِ وَأَبْعَاضُ الْأَشْيَاءِ أَوْ كَمَا يَسُوقُ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ، يَسُوقُ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ إِلَى الْبَدَنِ. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ: أي الْمُغَالَبَةَ، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَالْمُغَالِبُ مَغْلُوبٌ. وَنَحَا إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَقَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «4» . وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ وَطَرِيقَهَا القويم

_ (1) سورة الروم: 30/ 48. (2) سورة الأعراف: 7/ 57. (3) سورة الأعراف: 7/ 57. (4) سورة مريم: 19/ 81.

وَيُحِبُّ نَيْلَهَا، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ بِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ، لَا تُنَالُ عِزَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ عِلْمَ الْعِزَّةِ، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِهَا. وَقِيلَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ: أي لَا يَعْقُبُهَا ذِلَّةٌ، وَيُصَارُ بِهَا لِلذِّلَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ الْكَافِرُونَ يَتَعَزَّزُونَ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «1» . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةِ قُلُوبِهِمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «2» ، فَبَيَّنَ أَنْ لَا عِزَّةَ إِلَّا لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» . انْتَهَى. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «4» ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «5» وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ بِالذَّاتِ، وَلِلرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ. فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَوَّلًا غَيْرُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ثَانِيًا. وَمَنِ اسْمُ شَرْطٍ، وَجُمْلَةُ الْجَوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ. فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: فَهُوَ مَغْلُوبٌ، وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ: فيطلبها مِنَ اللَّهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: فَلْيُنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ: فَهُوَ لَا يَنَالُهَا وَحُذِفَ الْجَوَابُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ قَتَادَةَ: فَلْيَطْلُبْهَا من الْعِزَّةُ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يُرِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «6» ، وَانْتُصِبَ جَمِيعًا عَلَى الْمُرَادِ، وَالْمُرَادُ عِزَّةُ الدُّنْيَا وَعِزَّةُ الْآخِرَةِ. والْكَلِمُ الطَّيِّبُ: التَّوْحِيدُ وَالتَّحْمِيدُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: ثَنَاءٌ بِالْخَيْرِ عَلَى صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ لِسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَدَوِيًّا حَوْلَ الْعَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ بِذِكْرِ صَاحِبِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصْعَدُ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ صَعِدَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ: مَرْفُوعًا، فَالْكَلِمُ جَمْعُ كَلِمَةٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسُّلَمِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ: يُصْعَدُ مِنْ أُصْعِدَ ، الْكَلَامُ الطَّيِّبُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَصْعَدُ مِنْ صَعِدَ الْكَلَامُ: رَقِيَ، وَصُعُودُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ تَعَالَى مَجَازٌ فِي الْفَاعِلِ وَفِي الْمُسَمَّى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي جِهَةٍ، وَلِأَنَّ الْكَلِمَ أَلْفَاظٌ لَا تُوصَفُ بِالصُّعُودِ، لِأَنَّ الصُّعُودَ مِنَ الْأَجْرَامِ يَكُونُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كِنَايَةٌ عن

_ (1) سورة مريم: 19/ 81. (2) سورة النساء: 4/ 139. (3) سورة المنافقون: 63/ 8. [.....] (4) سورة النساء: 4/ 139. (5) سورة فاطر: 35/ 10. (6) سورة آل عمران: 3/ 26.

الْقَبُولِ، وَوَصْفُهُ بِالْكَمَالِ. كَمَا يقال: علا كعبه وارتفاع شَأْنُهُ، وَمِنْهُ تَرَافَعُوا إِلَى الْحَاكِمِ، وَرُفِعَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عُلُوٌّ فِي الْجِهَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُمَا. فَالْعَمَلُ مُبْتَدَأٌ، وَيَرْفَعُهُ الْخَبَرُ، وَفَاعِلُ يَرْفَعُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ يَعُودُ عَلَى الْكَلِمِ، أَيْ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُعْرَضُ الْقَوْلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنْ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ قُبِلَ، وَإِنْ خَالَفَ رُدَّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، قال: إذ اذكر اللَّهَ الْعَبْدُ وَقَالَ كَلَامًا طَيِّبًا وَأَدَّى فَرَائِضَهُ، ارْتَفَعَ قوله مع عمله وإذ قَالَ وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضَهُ، رُدَّ قَوْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَقِيلَ: عَمَلُهُ أَوْلَى بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لِفَرَائِضِهِ إِذْ ذَكَرَ اللَّهَ وَقَالَ كَلَامًا طَيِّبًا، فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ لَهُ مُتَقَبَّلٌ، وَلَهُ حَسَنَاتُهُ وَعَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُ، وَاللَّهُ يَتَقَبَّلُ مِنْ كُلِّ مَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَكْسَ هَذَا الْقَوْلِ: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ يَعُودُ عَلَى الْكَلِمِ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَيْ يَرْفَعُهُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَالْهَاءُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَيْ يَرْفَعُهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، أَيْ يَقْبَلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا أرجع الْأَقْوَالِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ عَامِلَهُ وَيُشَرِّفُهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، أَيْ يَصْعَدَانِ إِلَى اللَّهِ، وَيَرْفَعُهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، أَيْ يَرْفَعُهُمَا اللَّهُ، ووحد الضمير لا شتراكهما فِي الصُّعُودِ، وَالضَّمِيرُ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَكُونُ لَفْظُهُ مُفْرَدًا، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّثْنِيَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ صُعُودُهُمَا مِنْ ذَاتِهِمَا، بَلْ ذَلِكَ بِرَفْعِ اللَّهِ إياهما. وقرأ عيس، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، بِنَصْبِهِمَا عَلَى الِاشْتِغَالِ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْكَلِمِ أَوْ ضَمِيرُ اللَّهِ، وَمَكَرَ لَازِمٌ، وَالسَّيِّئَاتُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ الْمَكِرَاتِ السَّيِّئَاتِ، أَوِ الْمُضَافِ إِلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ أَضَافَ الْمَكْرَ إِلَى السَّيِّئَاتِ، أَوْ ضَمَّنَ يَمْكُرُونَ مَعْنَى، يَكْتَسِبُونَ، فَنَصَبَ السَّيِّئَاتِ مَفْعُولًا بِهِ. وَإِذَا كَانَتِ السَّيِّئَاتِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ، أَوْ لِمُضَافٍ لِمَصْدَرٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنَى بِهِ مَكِرَاتِ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، إِذْ تَذَاكَرُوا إِحْدَى ثَلَاثِ مَكِرَاتٍ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَنْفَالِ: إِثْبَاتُهُ، أَوْ قَتْلُهُ، أَوْ إِخْرَاجُهُ وأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ مَكَرُوا تِلْكَ الْمَكِرَاتِ. يَبُورُ أَيْ يَفْسِدُ وَيَهْلِكُ دُونَ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَكَّةَ وَقَتَلَهُمْ وَأَثْبَتَهُمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مَكِرَاتِهِمْ جَمِيعًا وَحَقَّقَ فِيهِمْ قَوْلَهُ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» ، وقوله:

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 30.

وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، ويبور خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَكْرُ أُولئِكَ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَاصِلَةً، وَيَبُورُ خَبَرٌ، وَمَكْرُ أُولَئِكَ وَالْفَاصِلَةُ لا يَكُونُ مَا بَعْدَهَا فِعْلًا، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ إِلَّا عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ لَهُ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِي كَانَ زَيْدٌ هُوَ يَقُومُ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَصْلًا وَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ: مِنْ حَيْثُ خَلَقَ أَبِينَا آدَمَ. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ: أَيْ بِالتَّنَاسُلِ. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً: أَيْ أَصْنَافًا ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، كَمَا قَالَ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً «2» . وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدَّرَ بَيْنَكُمُ الزَّوْجِيَّةَ، وَزَوَّجَ بَعْضَكُمْ بَعْضًا، وَمِنْ فِي مِنْ مُعَمَّرٍ زَائِدَةٌ، وَسَمَّاهُ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ الْعُمُرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْ عُمُرِهِ عَائِدٌ عَلَى مُعَمَّرٍ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعُودُ عَلَى مُعَمَّرٍ الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمُرَادُ غَيْرُ الَّذِي يُعَمَّرُ، فَالْقَوْلُ تَضَمَّنَ شَخْصَيْنِ: يُعَمَّرُ أَحَدُهُمَا مِائَةَ سَنَةٍ، وَيُنْقَصُ مِنَ الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ: الْمُرَادُ شَخْصٌ وَاحِدٌ، أَيْ يُحْصِي مَا مَضَى مِنْهُ إِذْ مَرَّ حَوْلٌ كَتَبَ ذَلِكَ ثُمَّ حَوْلٌ، فَهَذَا هُوَ النَّقْصُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: حَيَاتُكَ أَنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا ... مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَعْنَى وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ: لَا يَخْتَرِمُ بِسَبَبِهِ قُدَرَةُ اللَّهِ، وَلَوْ شَاءَ لَأَخَّرَ ذَلِكَ السَّبَبَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ، لَمَّا طُعِنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ دَعَا اللَّهَ لَزَادَ فِي أَجَلِهِ، فَأَنْكَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالُوا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «3» ، فَاحْتُجَّ بِهَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قول ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِالْأَجَلَيْنِ، وَبِنَحْوِهِ تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا يُنْقَصُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَسَلَّامٌ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، وَهَارُونُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَلَا يَنْقُصُ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يراد كتاب اللَّهِ عِلْمُ اللَّهِ، أَوْ صَحِيفَةُ الْإِنْسَانِ. انْتَهَى. وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ: هَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهُ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لِصَنَمٍ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ، وَشَرْحُ: وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ في سورة

_ (1) هذه السورة آية رقم 43. (2) سورة الشورى: 42/ 50. (3) سورة الأعراف: 7/ 34.

الْفُرْقَانِ «1» . وَهُنَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ صِفَةٌ لِلْعَرَبِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: سائِغٌ شَرابُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَائِغٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَاغَ. وَقَرَأَ عِيسَى: سَيِّغٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعِلٍ، كَمَيِّتٍ وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ. وَقَرَأَ عِيسَى أَيْضًا: سَيْغٌ مُخَفَّفًا مِنَ الْمُشَدَّدِ، كَمَيْتٍ مُخَفَّفِ مَيِّتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِلْحٌ، وَأَبُو نَهِيكٍ وَطَلْحَةُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا مِنْ مَالِحٍ، فَحُذِفَ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا. وَقَدْ يُقَالُ: مَاءٌ مِلْحٌ فِي الشُّذُوذِ، وَفِي الْمُسْتَعْمَلِ: مَمْلُوحٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضَرَبَ الْبَحْرَيْنِ، الْعَذْبَ وَالْمِلْحَ، مَثَلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. ثُمَّ قَالَ عَلَى صِفَةِ الِاسْتِطْرَادِ فِي صِفَةِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا عُلِّقَ بِهَا: مِنْ نِعْمَتِهِ وَعَطَائِهِ. وَمِنْ كُلٍّ، مِنْ شَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلْفَاظًا مِنَ الْآيَةِ تَكَرَّرَتْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ طَرِيقَةِ الِاسْتِطْرَادِ، وَهُوَ أَنْ يُشَبِّهَ الْجِنْسَيْنِ بِالْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ يُفَضِّلَ الْبَحْرَ الْأُجَاجَ عَلَى الْكَافِرِ، بِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَ الْعَذْبَ فِي مَنَافِعَ مِنَ السَّمَكِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَجَرْيِ الْفُلْكِ فِيهِ. وَلِلْكَافِرِ خُلُوٌّ مِنَ النَّفْعِ، فَهُوَ فِي طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ «2» الْآيَةَ. انْتَهَى. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ: يُرِيدُ التِّجَارَاتِ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ، أَوْ كُلَّ سَفَرٍ لَهُ وَجْهٌ شَرْعِيٌّ. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ: تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمَلِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، مِنْ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ، وَالْإِيجَادِ مِنْ تُرَابٍ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَإِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ هُوَ اللَّهُ فَقَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، وَهِيَ أَخْبَارٌ مُتَرَادِفَةٌ وَالْمُبْتَدَأُ ذلِكُمُ، واللَّهُ رَبُّكُمْ خبران، ولَهُ الْمُلْكُ جُمْلَةُ مُبْتَدَأٍ فِي قِرَانِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي حُكْمِ الْإِعْرَابِ إِيقَاعُ اسْمِ اللَّهِ صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَعَطْفَ بَيَانٍ، وَرَبُّكُمْ خَبَرٌ، لَوْلَا أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ. انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُهُ صِفَةً، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلَمٌ، وَالْعَلَمُ لَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَيْسَ اسم جنس كالرجال، فَتُتَخَيَّلُ فِيهِ الصِّفَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْلَا أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ، فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ المذكورة ربكم، أي مالكم، أَوْ مُصْلِحُكُمْ، وَهَذَا مَعْنًى لَائِقٌ سَائِغٌ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هِيَ الْأَوْثَانُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدْعُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَعِيسَى، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جُبَارَةَ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ، اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَسَلَّامٌ، وَالنَّهَاوَنْدِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ الْجَلَّاءِ عَنْ نُصَيْرٍ، وَابْنُ حبيب

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 53. (2) سورة البقرة: 2/ 74.

وَابْنُ يُونُسَ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَأَبُو عُمَارَةَ عَنْ حَفْصٍ. وَالْقِطْمِيرُ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنْ رِجَالِهِ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْقُمْعُ الَّذِي فِي رَأْسِ التَّمْرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِفَافَةُ النَّوَاةِ وَقِيلَ: الَّذِي بَيْنَ قُمْعِ التَّمْرَةِ وَالنَّوَاةِ وَقِيلَ: قِشْرُ الثَّوْمِ وَأَيًّا مَا كَانَ، فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْقَلِيلِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَأَبُوكَ يُخَفِّفُ نَعْلَهُ مُتَوَرِّكًا ... مَا يَمْلِكُ الْمِسْكِينُ مِنْ قِطْمِيرِ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، لِأَنَّهُمْ جَمَادٌ وَلَوْ سَمِعُوا، هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لَهُمْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ، يتبرؤون مِنْهَا. وَقِيلَ: مَا نَفَعُوكُمْ، وَأَضَافَ الْمَصْدَرَ: فِي شِرْكِكُمْ، أَيْ بِإِشْرَاكِكُمْ لَهُمْ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُمْ كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ «1» ، فَهِيَ إِضَافَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ. وَقَوْلُهُ: يَكْفُرُونَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَا يَظْهَرُ هُنَالِكَ مِنْ جُمُودِهَا وَبُطْئِهَا عِنْدَ حَرَكَةِ نَاطِقٍ، وَمُدَافَعَةِ كُلِّ مُحْتَجٍّ، فَيَجِيءُ هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاطِقٍ ... تُخَاطِبُنِي آثَارُهُ وَأُخَاطِبُهْ وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْخَبِيرُ هُنَا أَرَادَ بِهِ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَهُوَ الْخَبِيرُ الصَّادِقُ الْخَبَرِ، نَبَّأَ بِهَذَا، فَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ مِنْ تَمَامِ ذِكْرِ الْأَصْنَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا يُخْبِرُكَ مِثْلُ مَنْ يُخْبِرُكَ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ لَا يَصْدُقُ فِي تَبَرُّئِهَا مِنْ شِرْكِكُمْ مِنْهَا، فَيُرِيدُ بِالْخَبِيرِ عَلَى هَذَا الْمَثَلِ لَهُمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَهِيَ قَدْ أَخْبَرَتْ عَنْ نَفْسِهَا بِالْكُفْرِ بِهَؤُلَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يُخْبِرُكَ بِالْأَمْرِ مُخْبِرٌ، هُوَ مِثْلُ خَبِيرٍ عَالِمٍ بِهِ، يُرِيدُ أَنَّ الْخَبِيرَ بِالْأَمْرِ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُكَ بِالْحَقِيقَةِ دُونَ سَائِرِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ حَالِ الْأَوْثَانِ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنِّي خَبِيرٌ بِمَا أُخْبِرُ بِهِ. وَقَالَ فِي التَّجْرِيدِ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ لَمَّا أُخْبِرَ بِأَنَّ الْخَشَبَ وَالْحَجَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْطِقُ وَيُكَذِّبُ عَابِدَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ لَوْلَا إِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ بِرَبِّهِمْ يَكْفُرُونَ، أَيْ يَكْفُرُونَ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ كَوْنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ أَمْرًا عَجِيبًا هُوَ كما قال، لأن

_ (1) سورة يونس: 10/ 28.

الْمُخْبِرَ عَنْهُ خَبِيرٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأَحَدٍ، أَيْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُوَ كَمَا ذَكَرَ، لَا يُنَبِّئُكَ أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كُنْتَ مِثْلُ خَبِيرٍ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ، إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ هَذِهِ آيَةُ مَوْعِظَةٍ وَتَذْكِيرٍ، وَأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ مُحْتَاجُونَ إِلَى إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْعَامِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَعَرَّفَ الْفُقَرَاءَ لِيُرِيَهُمْ شَدِيدَ افْتِقَارِهِمْ إِلَيْهِ، إِذْ هُمْ جِنْسُ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ مفتقر إِلَيْهِ، فَلِضَعْفِهِمْ جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ جَمِيعُ هَذَا الْجِنْسِ وَلَوْ نَكَّرَ لَكَانَ الْمَعْنَى: أَنْتُمْ، يَعْنِي الْفُقَرَاءَ، وَقُوبِلَ الْفُقَرَاءُ بِالْغَنِيِّ، وَوُصِفَ بِالْحَمِيدِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ جَوَادٌ مُنْعِمٌ، فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى مَا يُسْدِيهِ مِنَ النِّعَمِ، مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ: أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ يُذْهِبْكُمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ بِإِهْلَاكِهِمْ. وَما ذلِكَ: أَيْ إِذْهَابُكُمْ، وَالْإِتْيَانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بِعَزِيزٍ، أَيْ بِمُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُرِيدُهُ. وَمَعْنَى: بِخَلْقٍ جَدِيدٍ: بَدَلَكُمْ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «1» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَخْلُقُ بَعْدَكُمْ مَنْ يَعْبُدُهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذِكْرِ الْإِذْهَابِ بَعْدَ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْغَنِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ «2» . وَجَاءَ أَيْضًا تَعْلِيقُ الْإِذْهَابِ مَخْتُومًا آخِرَ الْآيَةِ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً «3» .

_ (1) سورة محمد: 47/ 38. (2) سورة الأنعام: 6/ 133. (3) سورة النساء: 4/ 133.

رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَيَّ وِزْرُكُمْ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى، لَا يَحْمِلُهُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ. وَيُقَالُ: وَزَرَ الشَّيْءَ: حَمَلَهُ، وَوَازِرَةٌ: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَفْسٌ وَازِرَةٌ: حَامِلَةٌ، وَذَكَرَ الصِّفَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَا تُرَى إِلَّا حَامِلَةً وِزْرَهَا، لَا وِزْرَ غَيْرِهَا، فَلَا يُؤَاخِذُ نَفْسًا بِذَنْبِ نَفْسٍ، كَمَا يَأْخُذُ جَبَابِرَةُ الدُّنْيَا الْجَارَ بِالْجَارِ، وَالصَّدِيقَ بِالصَّدِيقِ، وَالْقَرِيبَ بِالْقَرِيبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ تَطَرَّفَ مِنَ الْحُكَّامِ إِلَى أَخْذِ قَرِيبٍ بِقَرِيبِهِ في جريمة، كَفِعْلِ زِيَادٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ ظُلْمٌ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ربما أعان المجرم بموازرة وَمُوَاصَلَةٍ، أَوِ اطِّلَاعٍ عَلَى حَالِهِ وَتَقْرِيرٍ لَهَا، فَهُوَ قَدْ أَخَذَ مِنَ الْجُرْمِ بِنَصِيبٍ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ تَأَوَّلَ أَفْعَالَ زِيَادٍ وَمَا فَعَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ قَرِيبَةً مِنْ سِيرَةِ الْحَجَّاجِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي فِي الْعَنْكَبُوتِ، لِأَنَّ تِلْكَ فِي الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ يَحْمِلُونَ أَثْقَالَ إِضْلَالِ النَّاسِ مَعَ أَثْقَالِ ضَلَالِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ أَثْقَالُهُمْ، مَا فِيهَا مِنْ ثِقْلِ غَيْرِهِمْ شَيْءٌ. أَلَا تَرَى: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ «1» ؟ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ: أَيْ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ بِحِمْلِهَا، إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ: أَيْ لَا غِيَاثَ يَوْمَئِذٍ لِمَنِ اسْتَغَاثَ، وَلَا إِعَانَةَ حَتَّى أَنَّ نَفْسًا قَدْ أَثْقَلَتْهَا الْأَوْزَارُ لَوْ دَعَتْ إِلَى أَنْ يُخَفَّفَ بَعْضُ وِزْرِهَا لَمْ تُجَبْ وَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ بَعْضَ قَرَابَتِهَا مِنْ أَبٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ أَخٍ فَالْآيَةُ قَبْلَهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدْلِ اللَّهِ فِي حُكْمِهِ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ نَفْسًا بِغَيْرِ ذَنْبِهَا وَهَذِهِ فِي نَفْيِ الْإِعَانَةِ وَالْحِمْلُ مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ فِي الْأَجْرَامِ فَاسْتُعِيرَ لِلْمَعَانِي كَالذُّنُوبِ وَنَحْوِهَا فَيُجْعَلُ كُلُّ مَحْمُولٍ مُتَّصِلًا بِالظَّهْرِ كَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «2» ، كَمَا جُعِلَ كُلُّ اكْتِسَابٍ مَنْسُوبًا إِلَى الْيَدِ. وَقَرَأَ الجمهور: لا يحمل بالياء، مبينا لِلْمَفْعُولِ وَأَبُو السَّمَّالِ عَنْ طَلْحَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ زَادَانَ عَنِ الْكِسَائِيِّ: بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ فَوْقٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَتَقْتَضِي هَذِهِ الْقِرَاءَةُ نَصْبَ شَيْءٍ، كَمَا اقْتَضَتْ قِرَاءَةُ الجمهور رفعه، والفاعل بيحمل ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى مَفْعُولِ تَدْعُ الْمَحْذُوفِ، أَيْ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ نَفْسًا أُخْرَى إِلَى حَمْلِهَا، لَمْ تَحْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا. وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَدْعُوِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَدْعُ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: وَتُرِكَ الْمَدْعُوُّ لِيَعُمَّ وَيَشْمَلَ كُلَّ مَدْعُوٍّ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ اسْتِفْهَامُ إِضْمَارٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ ذَا قُرْبَى لِلْمُثْقَلِ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنَ الْعُمُومِ الْكَائِنِ عَلَى طريق البلد. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاسْمُ كَانَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ كَانَ. انْتَهَى، أَيْ ولو كان

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 12. [.....] (2) سورة الأنعام: 6/ 31.

الدَّاعِي ذَا قُرْبَى مِنَ الْمَدْعُوِّ، فَإِنَّ الْمَدْعُوَّ لَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا. وَذُكِرَ الضَّمِيرُ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُثْقَلَةٌ، لَا يُرِيدُ بِهِ مُؤَنَّثَ الْمَعْنَى فَقَطْ، بَلْ كُلَّ شَخْصٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ تَدْعُ شخصا مثقلا. وقرىء: وَلَوْ كَانَ ذُو قُرْبَى، عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أي ولو حضر إذا ذَاكَ ذُو قُرْبَى وَدَعَتْهُ، لَمْ يَحْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: قَدْ كَانَ لَبَنٌ، أَيْ حَضَرَ وَحَدَثَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَظْمُ الْكَلَامِ أَحْسَنُ مُلَاءَمَةً لِلنَّاقِصَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: عَلَى أَنَّ الْمُثْقَلَةَ إِذَا دَعَتْ أَحَدًا إِلَى حملها لا يحمل منه، وَإِنْ كَانَ مَدْعُوُّهَا ذَا قُرْبَى، وَهُوَ مَعْنَى صَحِيحٌ مُلْتَئِمٌ. وَلَوْ قُلْتَ: وَلَوْ وُجِدَ ذُو قُرْبَى، لَتَفَكَّكَ وَخَرَجَ عَنِ اتِّسَاقِهِ وَالْتِئَامِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ نَسَقٌ مُلْتَئِمٌ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَتَفْسِيرُهُ كَانَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، يُؤْخَذُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ تَفْسِيرَ مَعْنًى، وَلَيْسَ مُرَادِفًا وَمُرَادِفُهُ، حَدَثَ أَوْ حَضَرَ أَوْ وَقَعَ، هَكَذَا فَسَّرَهُ النُّحَاةُ. وَلَمَّا سَبَقَ مَا تَضَمَّنَ الْوَعِيدَ وَبَعْضَ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، كَانَ ذَلِكَ إِنْذَارًا، فَذَكَرَ أَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يُجْدِي وَيَنْفَعُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. بِالْغَيْبِ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ غَافِلِينَ عَنْ عَذَابِهِ، أَوْ يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ غَائِبًا عَنْهُمْ. وَقِيلَ: بِالْغَيْبِ فِي السِّرِّ، وَقِيلَ: بِالْغَيْبِ، أَيْ وَهُوَ بِحَالِ غَيْبِهِ عَنْهُمْ إِنَّمَا هِيَ رِسَالَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ تَزَكَّى، فِعْلًا مَاضِيًا، فَإِنَّما يَتَزَكَّى: فِعْلًا، مُضَارِعُ تَزَكَّى، أَيْ وَمَنْ تَطَهَّرَ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّمَا ثَمَرَةُ ذَلِكَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِنَّمَا زَكَاتُهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَالتَّزَكِّي شَامِلٌ لِلْخَشْيَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَقَرَأَ الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَمَنْ يَزَّكَّى فَإِنَّمَا يَزَّكَّى، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَشَدِّ الزَّايِ فِيهِمَا، وَهُمَا مُضَارِعَانِ أَصْلُهُمَا وَمَنْ يَتَزَكَّى، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ، كَمَا أُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ فِي قَوْلِهِ: يَذَّكَّرُونَ «1» . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَطَلْحَةُ: وَمَنِ ازَّكَّى، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ. وَاجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَطَلْحَةُ أَيْضًا: فَإِنَّمَا يَزَّكَّى، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ: وَعْدٌ لِمَنْ يَزَّكَّى بِالثَّوَابِ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الْآيَةَ: هِيَ طَعْنٌ عَلَى الْكَفَرَةِ وَتَمْثِيلٌ. فَالْأَعْمَى الْكَافِرُ، وَالْبَصِيرُ الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْأَعْمَى الصَّنَمُ، وَالْبَصِيرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَعْبُودُهُمْ وَمَعْبُودُ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ: تَمْثِيلٌ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، تَمْثِيلٌ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ. وَالْحَرُورُ: شِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْحَرُورُ: السَّمُومُ، إِلَّا أَنَّ السَّمُومَ تَكُونُ بِالنَّهَارِ، وَالْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقِيلَ: بِاللَّيْلِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قال

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 126 وغيرها من السور.

رُؤْبَةُ: الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَالسَّمُومِ بِالنَّهَارِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ كَمَا حَكَى الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ السَّمُومَ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ. وَيُقَالُ: الْحَرُورُ فِي حَرِّ اللَّيْلِ، وَفِي حَرِّ النَّهَارِ. انْتَهَى. وَلَا يُرَدُّ عَلَى رُؤْبَةَ، لِأَنَّهُ مِنْهُ تُؤْخَذُ اللُّغَةُ، فَأَخْبَرَ عَنْ لُغَةِ قَوْمِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الظِّلُّ هُنَا: الْجَنَّةُ، وَالْحَرُورُ: جَهَنَّمُ، وَيَسْتَوِي مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْتَفِي بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ. فَدُخُولُ لَا فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ لِقَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دُخُولُ لَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَيْئَةِ التَّكْرَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ وَلَا النُّورُ وَالظُّلُمَاتُ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَوَائِلِ عَنِ الثَّوَانِي، وَدَلَّ مَذْكُورُ الْكَلَامِ عَلَى مَتْرُوكِهِ. انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى اسْتِوَاءَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَقْدِيرِ نَفْيِ اسْتِوَائِهِمَا ثَانِيًا وَادِّعَاءِ مَحْذُوفَيْنِ؟ وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، فَتُؤَكِّدُ بلا مَعْنَى النَّفْيِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَقَرَأَ زَادَانُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: وَمَا تَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ، وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَنْفِيِّ عَنْهَا الِاسْتِوَاءُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ. وَذَكَرَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ الْبَصِيرُ. وَلَوْ كَانَ حَدِيدَ النَّظَرِ لَا يُبْصِرُ إِلَّا فِي ضَوْءٍ، فَذَكَرَ مَا هُوَ فِيهِ الْكَافِرُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَمَا هُوَ فِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَآلَهُمَا، وَهُوَ الظِّلُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ فِي ظِلٍّ وَرَاحَةٍ، وَالْكَافِرَ بِكُفْرِهِ فِي حَرٍّ وَتَعَبٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلًا آخَرَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَوْقَ حَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، إِذِ الْأَعْمَى قَدْ يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِي إِدْرَاكٍ مَا، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُدْرِكٍ إِدْرَاكًا نَافِعًا، فَهُوَ كَالْمَيِّتِ، وَلِذَلِكَ أَعَادَ الْفِعْلَ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، كَأَنَّهُ جَعَلَ مَقَامَ سُؤَالٍ، وَكَرَّرَ لَا فِيمَا ذَكَرَ لِتَأْكِيدِ الْمُنَافَاةِ. فَالظُّلُمَاتُ تُنَافِي النُّورَ وَتُضَادُهُ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ كَذَلِكَ، وَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ بَصِيرًا. ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الْعَمَى، فَلَا مُنَافَاةَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ. وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ دَائِمَةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظِّلِّ عَدَمُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَافَاةُ أَتَمَّ، أُكِّدَ بِالتَّكْرَارِ. وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ، فَيَصِيرُ مَحَلًّا لِلْمَوْتِ. فَالْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا أَتَمُّ مِنَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ قَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي إِدْرَاكٍ مَا، وَلَا كَذَلِكَ الْحَيُّ. وَالْمَيِّتُ يُخَالِفُ الْحَيَّ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا فِي الْوَصْفِ، عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقُدِّمَ الْأَشْرَفُ فِي مثلين، وهو الظل والحر وَأُخِّرَ فِي مَثَلَيْنِ، وَهُمَا الْبَصِيرُ وَالنُّورُ، وَلَا يُقَالُ لِأَجْلِ السَّجْعِ، لِأَنَّ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَلْ فِيهِ. وَفِي الْمَعْنَى: وَالشَّاعِرُ قَدْ يُقَدِّمُ ويؤخر لأجل

_ (1) سورة فصلت: 41/ 34.

السَّجْعِ وَالْقُرْآنُ. الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَاللَّفْظُ فَصِيحٌ، وَكَانُوا قَبْلَ الْمَبْعَثِ فِي ضَلَالَةٍ، فَكَانُوا كَالْعُمْيِ، وَطَرِيقُهُمُ الظُّلْمَةُ. فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ، وَاهْتَدَى بِهِ قَوْمٌ، صَارُوا بَصِيرِينَ، وَطَرِيقُهُمُ النُّورُ، وَقَدَّمَ مَا كَانَ مُتَقَدِّمًا مِنَ الْمُتَّصِفِ بِالْكُفْرِ، وَطَرِيقَتُهُ عَلَى مَا كَانَ مُتَأَخِّرًا مِنَ الْمُتَّصِفِ بِالْإِيمَانِ وَطَرِيقَتِهِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْمَآلَ وَالْمَرْجِعَ، قَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّحْمَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ، كَمَا جَاءَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَقَدَّمَ الظِّلَّ عَلَى الْحَرُورِ. ثُمَّ إِنَّ الْكَافِرَ الْمُصِرَّ بَعْدَ الْبَعْثَةِ صَارَ أَضَلَّ مِنَ الْأَعْمَى، وَشَابَهَ الْأَمْوَاتَ فِي عَدَمِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ: الَّذِينَ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَا الْأَمْواتُ: الَّذِينَ تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا. وَهَؤُلَاءِ كَانُوا بَعْدَ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ، فَأَخَّرَهُمْ لِوُجُودِ حَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَمَاتِ الْكَافِرِ. وَأَفْرَدَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي أَفْرَادِ الْعُمْيَانِ مَا يُسَاوِي بِهِ بَعْضَ أَفْرَادِ الْبُصَرَاءِ، كَأَعْمًى عِنْدَهُ مِنَ الذَّكَاءِ مَا يُسَاوِي بِهِ الْبَصِيرَ الْبَلِيدَ. فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ مَقْطُوعٌ بِهِ، لَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ. وَجُمِعَتِ الظُّلُمَاتُ، لِأَنَّ طُرُقَ الْكُفْرِ مُتَعَدِّدَةٌ وَأُفْرِدَ النُّورُ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْحَقَّ وَاحِدٌ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ وَبَيْنَ هَذَا الْوَاحِدِ فَقَالَ: الظُّلُمَاتُ لَا تَجِدُ فِيهَا مَا يُسَاوِي هَذَا النُّورَ. وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ، إِذْ مَا مِنْ مَيِّتٍ يُسَاوِي فِي الْإِدْرَاكِ حَيًّا، فَذَكَرَ أَنَّ الْأَحْيَاءَ لَا يُسَاوُونَ الْأَمْوَاتَ، سَوَاءٌ قَابَلْتَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، أَمْ قَابَلْتَ الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ. انْتَهَى. مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. ثُمَّ سَلَّى رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ: أَيْ إِسْمَاعُ هَؤُلَاءِ مَنُوطٌ بِمَشِيئَتِنَا، وَكَنَّى بِالْإِسْمَاعِ عَنِ الَّذِي تَكُونُ عَنْهُ الْإِجَابَةُ لِلْإِيمَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أنه ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، قَالَ: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ: أَيْ هَؤُلَاءِ، مِنْ عَدَمِ إِصْغَائِهِمْ إلى سماع الْحَقِّ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ هُمْ قَدْ مَاتُوا فَأَقَامُوا فِي قُبُورِهِمْ. فَكَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْكَ قَوْلَ الْحَقِّ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتُ الْقُلُوبِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ، وَالْحَسَنُ بِمُسْمِعِ مَنْ، عَلَى الْإِضَافَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّنْوِينِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ: أَيْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَ وَتُنْذِرَ. فَإِنْ كَانَ الْمُنْذَرُ مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ سَمِعَ وَاهْتَدَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ ضَلَالَهُ فَمَا عَلَيْكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَهْدِي وَيُضِلُّ. وبِالْحَقِّ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ مُحِقٌّ. أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ مُحِقًّا، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالًا بِالْحَقِّ، أَيْ مَصْحُوبًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ صِلَةُ بَشِيرٍ وَنَذِيرٍ، فَنَذِيرٌ عَلَى بَشِيرٍ بِالْوَعْدِ الْحَقِّ وَنَذِيرٌ بِالْوَعِيدِ. انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْحَقِّ هَذَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ مَعًا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُهُ

عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ ثَمَّ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: بِالْوَعْدِ الْحَقِّ بَشِيرًا، وَبِالْوَعِيدِ الْحَقِّ نَذِيرًا، فَحَذَفَ الْمُقَابِلَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، الْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ. إِمَّا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ وَمَا يُنْقَلُ إِلَى وَقْتِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا مَا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَعْنَاهُ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ وَلَا آبَاؤُهُمُ الْقَرِيبِينَ، وَإِمَّا أَنَّ النِّذَارَةَ انْقَطَعَتْ فَلَا. ولما شرعت آثار النذرات تَنْدَرِسُ، بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْعَرْضِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ، وَلَا تُوجَدُ أُمَّةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَتِ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وعبارته. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ نَذِيرٌ عَنْ بَشِيرٍ، لِأَنَّهَا مَشْفُوعَةٌ بِهَا فِي قَوْلِهِ: بَشِيراً وَنَذِيراً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ، وَحُذِفَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ: مَسْلَاةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، تَوَعُّدٌ لِقُرَيْشٍ بِمَا جَرَى لِمُكَذِّبِي رُسُلِهِمْ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ. لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ بِأَدِلَّةٍ قَرَّبَهَا وَأَمْثَالٍ ضَرَبَهَا، أَتْبَعَهَا بِأَدِلَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَأَرْضِيَّةٍ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الظَّاهِرِ جِدًّا. وَالْخِطَابُ للسامع، وتر مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، لِأَنَّ إِسْنَادَ إِنْزَالِهِ تَعَالَى لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلنَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مُشَاهَدًا بِالْعَيْنِ، لَكِنَّ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ قَدْ تَكُونُ مُسْنَدَةً لِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَلِغَيْرِهَا. وَخَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَخَامَةِ، إِذْ هُوَ مُسْنَدٌ لِلْمُعَظَّمِ الْمُتَكَلِّمِ. وَلِأَنَّ نِعْمَةَ الْإِخْرَاجِ أَتَمُّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِنْزَالِ لِفَائِدَةِ

الْإِخْرَاجِ، فَأُسْنِدَ الْأَتَمُّ إِلَى ذَاتِهِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَا دُونَهُ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَلْوَانَ، إِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَلْوَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْسَعُ وَأَكْثَرُ مِنَ الْأَلْوَانِ بِمَعْنَى الْأَصْبَاغِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، عَلَى حَدِّ اخْتَلَفَ أَلْوَانُهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُخْتَلِفَةٌ أَلْوَانُهَا، عَلَى حَدِّ اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهَا، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ تَلْحَقَ التَّاءُ، وَأَنْ لَا تَلْحَقَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جُدَدٌ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ، جَمْعُ جُدَّةٍ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: قَطْعٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَدَدْتُ الشَّيْءَ: قَطَعْتُهُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: جَمْعُ جُدَّةٍ، وَهِيَ مَا تُخَالِفُ مِنَ الطَّرِيقِ فِي الْجِبَالِ لَوْنَ مَا يَلِيهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا، بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ: جَمْعُ جَدِيدَةٍ وَجُدُدٍ وَجَدَائِدَ، كَمَا يُقَالُ فِي الِاسْمِ: سَفِينَةٌ وَسُفُنٌ وَسَفَائِنُ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: جَوْنُ السَّرَاةِ أَمْ جَدَائِدُ أَرْبَعُ وَعَنْهُ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ، وَلَمْ يُجِزْهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي الْمَعْنَى، وَلَا صَحَّحَهُ أَثَرًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الْمُبِينُ، وَضَعَهُ مَوْضِعَ الطَّرَائِقِ وَالْخُطُوطِ الْوَاضِحَةِ الْمُنْفَصِلِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ جُدَدٌ فِي جَمْعِ جَدِيدٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِمَعْنَى الْجَدِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: جُدَدٌ جَمْعُ جَدِيدٍ بِمَعْنَى: آثَارٌ جَدِيدَةٌ وَاضِحَةُ الْأَلْوَانِ. انْتَهَى. وَقَالَ: مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا، لِأَنَّ الْبَيَاضَ وَالْحُمْرَةَ تَتَفَاوَتُ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، فَأَبْيَضُ لَا يُشْبِهُ أَبْيَضَ، وَأَحْمَرُ لَا يُشْبِهُ أَحْمَرَ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَغَرابِيبُ عَلَى حُمْرٌ، عَطْفُ ذِي لَوْنٍ عَلَى ذِي لَوْنٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى بِيضٌ أَوْ عَلَى جُدَدٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنَ الْجِبَالِ مُخَطَّطٌ ذُو جُدَدٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ، بِمَعْنَى: ذُو جُدَدٍ بِيضٍ وَحُمْرٍ وَسُودٍ، حَتَّى تَؤُولَ إِلَى قَوْلِكَ: وَمِنِ الْجِبَالِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ، كَمَا قَالَ: ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يَعْنِي: وَمِنْهُمْ بَعْضٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: أَلْوَانُهَا. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْغَرَابِيبَ، وَهُوَ الشَّدِيدُ السَّوَادِ، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَعْلُهُ شَدِيدَ السَّوَادِ، وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي غَايَةِ السَّوَادِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَلْوَانٌ، بَلْ هَذَا لَوْنٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ، فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِيضٌ وَحُمْرٌ لَيْسَا مَجْمُوعَيْنِ بِجُدَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ الْمَعْنَى: جُدَدٌ بِيضٌ، وَجُدَدٌ حُمْرٌ، وَجَدَدٌ غَرَابِيبُ. وَيُقَالُ:

أَسْوَدُ حَلَكُوكٌ، وَأَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، وَمِنْ حَقِّ الْوَاضِحِ الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قُدِّمَ الْوَصْفُ الْأَبْلَغُ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ الْفَصِيحَ يَأْتِي كَثِيرًا عَلَى هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغِرْبِيبُ تَأْكِيدٌ لِلْأَسْوَدِ، وَمِنْ حَقِّ التَّوْكِيدِ أَنْ يَتْبَعَ الْمُؤَكَّدَ، كَقَوْلِكَ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ، وَأَبْيَضُ يَقِقٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَوَجْهُهُ أَنْ يَظْهَرَ الْمُؤَكَّدُ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لِمَا أُضْمِرَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرِ وَإِنَّمَا يُفْعَلُ لِزِيَادَةِ التَّوْكِيدِ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقِ الْإِظْهَارِ وَالْإِضْمَارِ جَمِيعًا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ حَذْفَ الْمُؤَكَّدِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ سُودٌ غَرَابِيبُ. وَقِيلَ: سُودٌ بَدَلٌ مِنْ غَرَابِيبُ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَيُحَسِّنُهُ كَوْنُ غَرَابِيبُ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ تَأْكِيدًا، وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أن الله يبغض الشيخ الغريب» ، يَعْنِي الَّذِي يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: الْعَيْنُ طَامِحَةٌ وَالْيَدُ سَابِحَةٌ ... وَالرِّجْلُ لَائِحَةٌ وَالْوَجْهُ غِرْبِيبُ وَقَالَ آخَرُ: وَمِنْ تَعَاجِيبِ خَلْقِ اللَّهِ غَالِيَةٌ ... الْبَعْضُ مِنْهَا مِلَاحِيٌّ وَغِرْبِيبُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالدَّوَابِّ، مُشَدَّدَ الْبَاءِ وَالزُّهْرِيُّ: بِتَخْفِيفِهَا، كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ، إِذْ فِيهِ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ. كَمَا هَمَزَ بَعْضُهُمْ وَلَا الضَّالِّينَ «1» ، فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَحُذِفَ هُنَا آخِرُ الْمُضَعَّفَيْنِ وَحُرِّكَ أَوَّلُ السَّاكِنِينَ. وَمُخْتَلِفَةٌ، صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ، أَيْ كَاخْتِلَافِ الثَّمَرَاتِ وَالْجِبَالِ فَهَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي يَخْرُجُ مَخْرَجَ السَّبَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَا جَاءَتِ الْقُدْرَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ: أَيِ الْمُخْلِصُونَ لِهَذِهِ الْعِبَرِ، النَّاظِرُونَ فِيهَا. انْتَهَى. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَجْرُورِ قَبْلَهَا، وَلَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ السَّبَبِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: كَذَلِكَ يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ، أَيْ لِذَلِكَ الاعتبار،

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 7.

وَالنَّظَرُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ واختلاف ألوانها يخشى الله. وَلَكِنَّ التَّرْكِيبَ جَاءَ بِإِنَّمَا، وَهِيَ تَقْطَعُ هَذَا الْمَجْرُورَ عَمَّا بَعْدَهَا، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوهُ بِصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، فَعَظَّمُوهُ وَقَدَّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَخَشَوْهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ، وَمَنِ ازْدَادَ بِهِ عِلْمًا ازْدَادَ مِنْهُ خَوْفًا، وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِهِ أَقَلَّ كَانَ آمَنَ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ فِي الْخَشْيَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْخَشْيَةُ حَتَّى عُرِفَتْ فِيهِ. وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ قَالَ: الْمَعْنَى مَا يَخْشَى اللَّهَ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، فَغَيْرُهُمْ لَا يَخْشَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْصِيصُ الْعُلَمَاءِ لَا الْحَصْرُ، وَهِيَ لَفْظَةٌ تَصْلُحُ لِلْحَصْرِ وَتَأْتِي أَيْضًا دُونَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ. انْتَهَى. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ، إِذْ ظَاهِرُهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، حَيْثُ عَدَّدَ آيَاتِهِ وَأَعْلَامَ قُدْرَتِهِ وَآثَارَ صَنْعَتِهِ، وَمَا خَلَقَ مِنَ الْفِطَرِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ، وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى صِفَاتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَخْشَاهُ مِثْلُكَ وَمَنْ عَلَى صِفَتِكَ مِمَّنْ عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ وَرَفْعِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَكْسُ ذَلِكَ، وَتُؤُوِّلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ اسْتِعَارَةٌ لِلتَّعْظِيمِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ وَهَابَ أَجَلَّ وَعَظَّمَ مَنْ خَشِيَهُ وَهَابَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْهُمَا. وَقَدْ رَأَيْنَا كُتُبًا فِي الشَّوَاذِّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَهَا عَنْ أَبِي حَيْوَةَ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ جُبَارَةَ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ: تَعْلِيلٌ لِلْخَشْيَةِ، إِذِ الْعِزَّةُ تَدُلُّ عَلَى عُقُوبَةِ الْعُصَاةِ وَقَهْرِهِمْ، وَالْمَغْفِرَةُ عَلَى إِنَابَةِ الطَّائِعِينَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ: ظَاهِرُهُ يَقْرَأُونَ، كِتابَ اللَّهِ: أَيْ يُدَاوِمُونَ تِلَاوَتَهُ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن الشِّخِّيرِ: هَذِهِ آيَةُ الْقُرَّاءِ، وَيَتَّبِعُونَ كِتَابَ اللَّهِ، فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: يَأْخُذُونَ بِمَا فِيهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضي عنهم وقال: «عطاءهم الْمُؤْمِنُونَ» . وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى وَصْفَهُمْ بِالْخَشْيَةِ، وَهِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَهُوَ عَمَلُ اللِّسَانِ. وَأَقامُوا الصَّلاةَ: وَهُوَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ، وَيُنْفِقُونَ: وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَالِيُّ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقُ: يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. تِجارَةً لَنْ تَبُورَ: لَنْ تَكْسُدَ، وَلَا يَتَعَذَّرَ الرِّبْحُ فِيهَا، بَلْ يُنْفِقُ عِنْدَ اللَّهِ. لِيُوَفِّيَهُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِيَرْجُونَ، أَوْ بِلْنَ تَبُورَ، أَوْ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلُوا ذَلِكَ، أَقْوَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْتَ: يَرْجُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى وَأَنْفَقُوا رَاجِينَ لِيُوَفِّيَهُمْ، أَيْ فَعَلُوا جَمِيعَ ذَلِكَ لِهَذَا الْغَرَضِ. وَخَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ لِأَعْمَالِهِمْ، وَالشُّكْرُ مَجَازٌ عَنِ

الْإِثَابَةِ. انْتَهَى. وَأُجُورُهُمْ هِيَ الَّتِي رَتَّبَهَا تَعَالَى عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَزِيَادَتُهُ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ أَبُو وَائِلٍ: بِتَشْفِيعِهِمْ فِيمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِتَفْسِيحِ الْقُلُوبِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «بِتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِمْ» . وَقِيلَ: بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ. وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَمِنْ: لِلتَّبْيِينِ أَوِ الْجِنْسِ أَوِ التَّبْعِيضِ، تخريجات للزمخشري. ومُصَدِّقاً: حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ وَحْيًا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنِ قَارِئًا كَاتِبًا، وَأَتَى بِبَيَانِ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهُ تَعَالَى. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ: عَالِمٌ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا، بَصِيرٌ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَحَيْثُ أَهَّلَكَ لِوَحْيِهِ، وَاخْتَارَكَ بِرِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ، وَثُمَّ قِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقِيلَ: لِلْمُهْلَةِ، إِمَّا فِي الزَّمَانِ، وَإِمَّا فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْكِتَابُ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ، وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا اسْمُ جِنْسٍ. وَالْمُصْطَفَوْنَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ أَنَّ الْمَعْنَى: الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، أُورِثَتْ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَوْرَثَهُمُ الْإِيمَانَ، فَالْكُتُبُ تَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ، فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا عَامِلُونَ بِمُقْتَضَاهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ مَعْنَى الْمِيرَاثِ: انْتِقَالَ شَيْءٍ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، وَلَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ انْتَقَلَ إِلَيْهَا كِتَابٌ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا قَبْلَهُمْ غَيْرَ أُمَّتِهِ. فَإِذَا قُلْنَا: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، كَانَ الْمَعْنَى: أَوْرَثْنَا كُلَّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ، ذَلِكَ النَّبِيَّ وَأَتْبَاعَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمُصْطَفَوْنَ أُمَّةُ الرَّسُولِ، وَمَعْنَى أَوْرَثْنَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَيْنَا، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَطَاءٌ. ثُمَّ قَسَّمَ الْوَارِثِينَ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ مَكِّيٌّ: فَقِيلَ هم المذكورون فِي الْوَاقِعَةِ. فَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْمُقَرَّبُ، وَالْمُقْتَصِدُ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ يُرْوَى مَعْنَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، قَالُوا: الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْعِبَادِ. فَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي، وَالسَّابِقُ التَّقِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَالُوا: هُوَ نَظِيرُ مَا فِي الْوَاقِعَةِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ هُمْ فِي أُمَّةِ الرَّسُولِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ مُكَذِّبًا ضَالًّا لَا يُورَثُ الْكِتَابَ وَلَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الْوَاقِعَةِ أَصْنَافُ الْخَلْقِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: سَابِقُنَا أَهْلُ جِهَادٍ، وَمُقْتَصِدُنَا أَهْلُ حَضَرِنَا، وَظَالِمُنَا أَهْلُ بَدْوِنَا، لَا يَشْهَدُونَ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً. وَقَالَ مُعَاذٌ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: الَّذِي مَاتَ عَلَى كَبِيرَةٍ لَمْ

يَتُبْ مِنْهَا، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنْ مَاتَ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَمْ يُصِبْ كَبِيرَةً لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَالسَّابِقُ: مَنْ مَاتَ نائبا عَنْ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ أَوْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: الْعَاصِي الْمُسْرِفُ، وَالْمُقْتَصِدُ: مُتَّقِي الْكَبَائِرِ، وَالسَّابِقُ: الْمُتَّقِي عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الظَّالِمُ: مَنْ خَفَّتْ حَسَنَاتُهُ، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنِ اسْتَوَتْ، وَالسَّابِقُ: مَنْ رَجَحَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَسَّمَهُمْ إِلَى ظالم مجرم، وهو المرجأ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمُقْتَصِدٍ، وَهُوَ الَّذِي خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَسَابِقٍ، مِنَ السَّابِقِينَ. انْتَهَى. وَذَكَرَ فِي التَّجْرِيدِ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ قَوْلًا فِي هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عِمْرَانَ الْحَوْفِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ، وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: سَبَّاقٌ وَالْجُمْهُورُ. سَابِقٌ، قِيلَ: وَقُدِّمَ الظَّالِمُ لِأَنَّهُ لَا يَتَّكِلُ إِلَّا عَلَى رَحِمَهُ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْإِيذَانِ بِكَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ مِنْهُمْ وَغَلَبَتِهِمْ، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ، وَالسَّابِقُونَ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ. انْتَهَى. بِإِذْنِ اللَّهِ: بِتَيْسِيرِهِ وَتَمْكِينِهِ، أَيْ أَنَّ سَبْقَهُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى إِيرَاثِ الْكِتَابِ وَاصْطِفَاءِ هذه الأمة. وجَنَّاتُ على هذا مبتدأ، ويَدْخُلُونَها الخبر. وجنات، قرأة الْجُمْهُورِ جَمْعًا بِالرَّفْعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِخْبَارًا بِمِقْدَارِ أُولَئِكَ الْمُصْطَفَيْنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: جَنَّاتُ بَدَلٌ مِنَ الْفَضْلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ جُعِلَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلًا مِنَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ السَّبْقُ بِالْخَيْرَاتِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ السَّبَبَ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ كَأَنَّهُ هُوَ الثَّوَابُ، فَأُبْدِلَتْ عَنْهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ. انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ قِرَاءَةُ الْجَحْدَرِيِّ وَهَارُونَ، عَنْ عَاصِمٍ. جَنَّاتِ، مَنْصُوبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا. وَقَرَأَ رَزِينٌ، وَحُبَيْشٌ، وَالزُّهْرِيُّ: جَنَّةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يُدْخَلُونَهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَالْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي يدخلونها عائدا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ، وَمُحَمَّدِ بن الحنيفة، وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَقَرَأَ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ» . وَمَنْ جَعَلَ ثَلَاثَةَ الْأَصْنَافِ هِيَ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَدْخُلُونَهَا عَائِدٌ عِنْدَهُ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى السَّابِقِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى السَّبْقِ بَعْدَ التَّقْسِيمِ، فَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ. والسكوت عن الآخرين مَا فِيهِ مِنْ

وُجُوبِ الْحَذَرِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُقْتَصِدُ، وَلْيَهْلِكِ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ حَذَرًا، وَعَلَيْهِمَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْمُخَلِّصَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِمَا رَوَاهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ» ، فَإِنَّ شَرْطَ ذَلِكَ صِحَّةُ التَّوْبَةِ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَلَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مَنِ اسْتَقْرَأَهَا اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَلَمْ يُعَلِّلْ نَفْسَهُ بِالْخِدَاعِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُحَلَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ اللَّامِ، مَبْنِيًّا للمفعول. وقرىء: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، مِنْ حَلِيَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ حَالٍ، إِذَا لَبِسَتِ الْحُلِيَّ. وَيُقَالُ: جِيدٌ حَالٍ، إِذَا كَانَ فِيهِ الْحَلْيُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ الْكَلَامُ عَلَى يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحَزَنَ: بفتحتين وقرىء بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ، ذَكَرَهُ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ، وَالْحَزَنُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَحْزَانِ، وَقَدْ خَصَّ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا وَأَكْثَرُوا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: حَزَنٌ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا يُصِيبُ هُنَالِكَ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ. وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: مَعِيشَةُ الدُّنْيَا الْخَيْرُ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَزَنُ الدُّنْيَا فِي الْحَوْفَةِ أَنْ لَا يَتَقَبَّلَ أَعْمَالَهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَزَنُ الِانْتِقَالِ، يَقُولُونَهَا إِذَا اسْتَقَرُّوا فِيهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَوْفُ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَزَنٌ: تَظَالُمُ الْآخِرَةِ، وَالْوُقُوفُ عَنْ قَبُولِ الطَّاعَاتِ وَرَدِّهَا، وَطُولُ الْمُكْثِ عَلَى الصِّرَاطِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَزَنٌ: زَوَالُ الْغَمِّ وَتَقَلُّبُ الْقَلْبِ وَخَوْفُ الْعَاقِبَةِ، وَقَدْ أَكْثَرُوا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: كِرَاءُ الدَّارِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ حَزَنٍ مِنْ أَحْزَانِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا حَتَّى هَذَا. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، لَغَفُورٌ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى دُخُولِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ الْجَنَّةَ، وشكور: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى السَّابِقِ وأنه كثير الحسنات. والمقامة: هِيَ الْإِقَامَةُ أَيِ الْجَنَّةُ، لِأَنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ دَائِمًا لَا يُرْحَلُ عَنْهَا. مِنْ فَضْلِهِ: مِنْ عَطَائِهِ. لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ: أَيْ تَعَبُ بَدَنٍ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ: أَيْ تَعَبُ نَفْسٍ، وَهُوَ لَازِمٌ عَنْ تَعَبِ الْبَدَنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اللُّغُوبُ: الْوَضْعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النَّصَبُ: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ الَّتِي تُصِيبُ الْمُنْتَصِبَ الْمُزَاوِلَ لَهُ، وَأَمَّا اللُّغُوبُ: فَمَا يَلْحَقُهُ من القتور بِسَبَبِ النَّصَبِ. فَالنَّصَبُ نَفْسُ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ، وَاللُّغُوبُ نَتِيجَتُهُ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ مِنَ الْكَلَالِ وَالْفَتْرَةِ. انْتَهَى. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا انْتَفَى السَّبَبُ انْتَفَى مُسَبَّبُهُ، فَمَا حُكْمُهُ إِذَا نُفِيَ السَّبَبُ وَانْتَفَى مُسَبَّبُهُ؟ وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا شَبِعْتُ وَلَا أَكَلْتُ، وَلَا يَحْسُنُ مَا أَكَلْتُ وَلَا شَبِعْتُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ

مِنِ انْتِفَاءِ الْأَكْلِ انْتِفَاءُ الشِّبَعِ، وَلَا يَنْعَكِسُ، فَلَوْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا إِعْيَاءٌ وَلَا مَشَقَّةٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مُخَالَفَةَ الْجَنَّةِ لِدَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَمَاكِنَهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ الْمَشَاقُّ وَالْمَتَاعِبُ كَالْبَرَارِي وَالصَّحَارِي، وَمَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ الْإِعْيَاءُ كَالْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ الَّتِي فِيهَا الصِّغَارُ، فَقَالَ: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَظَانَّ الْمَتَاعِبِ لِدَارِ الدُّنْيَا وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ: أَيْ وَلَا نَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى مَوْضِعِ نَصَبٍ وَنَرْجِعُ إِلَيْهَا فَيَمَسُّنَا فِيهَا الْإِعْيَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لُغُوبٌ، بِضَمِّ اللَّامِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَا يُلْغَبُ بِهِ، كَالْفُطُورِ وَالسَّحُورِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ لُغُوبٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَوْتٌ مَائِتٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقَبُولِ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً لِمُضْمَرٍ، أَيْ أَمْرٌ لُغُوبٌ، وَاللُّغُوبُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا لِلْأَحْمَقِ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّ فُلَانًا لُغُوبٌ جَاءَتْ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا، أَيْ أَحْمَقُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ أَنَّثْتَهُ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ صَحِيفَةً؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ، إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً، قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً. لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَقَرَّهُمْ، ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ هُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ مُقَابِلُوهُمْ، لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ: أَيْ لَا يُجْهَزُ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا بَطَلَتْ حَوَاسُّهُمْ فَاسْتَرَاحُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَمُوتُوا، بِحَذْفِ النُّونِ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّفْيِ، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيِ النَّصْبِ فَالْمَعْنَى انْتَفَى الْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، فَانْتَفَى مُسَبَّبُهُ، أَيْ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَمُوتُونَ، كَقَوْلِكَ: مَا تأتينا فتحدثنا، أي ما يَكُونُ حَدِيثٌ، انْتَفَى الْإِتْيَانُ، فَانْتَفَى الْحَدِيثُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْنَى النَّصْبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا:

لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ مَيِّتِينَ، إِنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَمُوتُونَ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَالْحَسَنُ: فَيَمُوتُونَ، بِالنُّونِ، وَجْهُهَا أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى لَا يُقْضَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: هُوَ عَطْفٌ، أَيْ فَلَا يَمُوتُونَ، لِقَوْلِهِ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1» ، أَيْ فَلَا يَعْتَذِرُونَ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ نَوْعُ عَذَابِهِمْ. وَالنَّوْعُ فِي نَفْسِهِ يَدْخُلُهُ أَنْ يُحْيَوْا وَيُسْعَدُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَلَا يُخَفَّفْ بِإِسْكَانِ الْفَاءِ شَبَّهَ الْمُنْفَصِلَ بِالْمُتَّصِلِ، كَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَجْزِي كُلَّ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنَصَبَ كُلَّ وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ نَافِعٍ: بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كُلُّ بِالرَّفْعِ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ: بُنِيَ مِنَ الصَّرْخِ يَفْتَعِلُ، وَأُبْدِلَتْ مِنَ التَّاءِ طَاءٌ، وَأَصْلُهُ يَصْرِخُونَ، وَالصُّرَاخُ: شِدَّةُ الصِّيَاحِ، قَالَ الشَّاعِرُ: صَرَخَتْ حُبْلَى أَسْلَمَتْهَا قَبِيلُهَا وَاسْتُعْمِلَ فِي الِاسْتِغَاثَةِ لِجِهَةِ الْمُسْتَغِيثِ صَوْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَطُولُ اصْطِرَاخِ الْمَرْءِ فِي بُعْدِ قَعْرِهَا ... وَجُهْدُ شَقِيٍّ طَالَ فِي النَّارِ مَا عَوَى رَبَّنا أَخْرِجْنا: أَيْ قَائِلِينَ رَبَّنَا أخرجنا منها، أي من النَّارِ، وَرُدَّنَا إِلَى الدُّنْيَا. نَعْمَلْ صالِحاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَيْ مِنَ الشِّرْكِ، وَنَمْتَثِلُ أَمْرَ الرُّسُلِ، فَنُؤْمِنُ بَدَلَ الْكُفْرِ، وَنُطِيعُ بَدَلَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. هَلِ اكْتَفَى بِصَالِحًا، كَمَا اكتفى به في فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً «2» ؟ وَمَا فَائِدَةُ زِيَادَةِ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ عَلَى أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ صَالِحًا آخَرَ غَيْرَ الصَّالِحِ الَّذِي عَمِلُوهُ؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ زِيَادَةُ التَّحَسُّرِ عَلَى مَا عَمِلُوهُ مِنْ غَيْرِ الصَّالِحِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِهِ، وَأَمَّا الْوَهْمُ فَزَائِلٌ بِظُهُورِ حَالِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَرُكُوبِ الْمَعَاصِي، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْسِنُونَ صُنْعًا فَقَالُوا: أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَحْسَبُهُ صَالِحًا فَنَعْمَلَهُ. انْتَهَى. رُوِيَ أَنَّهُمْ يُجَابُونَ بَعْدَ مِقْدَارِ الدُّنْيَا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَوْقِيفٍ وَتَقْرِيرٍ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ مُدَّةَ يَذَّكَّرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَا يَذَّكَّرُ فِيهِ، مَنِ اذَّكَّرَ، بِالِادْغَامِ وَاجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ مَلْفُوظًا بِهَا فِي الدَّرْجِ. وَهَذِهِ الْمُدَّةُ، قَالَ الْحَسَنُ: الْبُلُوغُ، يُرِيدُ أَنَّهُ أَوَّلُ حَالِ التَّذَكُّرِ، وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: ثَمَانِ عَشْرَةَ سنة.

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 36. (2) سورة السجدة: 32/ 12.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عِشْرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْبَعُونَ وَقِيلَ: خَمْسُونَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: سِتُّونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَجاءَكُمُ مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: قَدْ عَمَّرْنَاكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «1» ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «2» ، ثُمَّ قَالَ: وَلَبِثْتَ فِينا «3» وَقَالَ وَوَضَعْنا «4» ، لأن المعنى قدر بيناك وَشَرَحْنَا. وَالنَّذِيرُ جِنْسٌ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلُّ نَبِيٍّ نَذِيرُ أمته. وقرىء: النُّذُرُ جَمْعًا، وَقِيلَ: النَّذِيرُ: الشَّيْبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسُفْيَانُ، وَوَكِيعٌ، وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ، وَالْفَرَّاءُ، وَالطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: مَوْتُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَقِيلَ: كَمَالُ السُّفْلِ. فَذُوقُوا: أَيْ عَذَابَ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: عَالِمٌ مُنَوَّنًا، غَيْبَ نَصْبًا وَالْجُمْهُورُ: عَلَى الْإِضَافَةِ. وَمَجِيءُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِيبَ مَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ يُعَذَّبُونَ دَائِمًا مُدَّةَ كُفْرِهِمْ. كَانَتْ مُدَّةً يَسِيرَةً مُنْقَطِعَةً، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تنطوى عليه المصدور مِنَ الْمُضْمَرَاتِ. وَكَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ فِي قَلْبِهِ، بِحَيْثُ لَوْ دَامَ إِلَى الْأَبَدِ مَا آمَنَ بِاللَّهِ وَلَا عَبَدَهُ. وَخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَخُلَفَاءُ: جَمْعُ خَلِيفٍ وَيُقَالُ لِلْمُسْتَخْلَفِ: خَلِيفَةٌ وَخَلِيفٌ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَخْلَفَهُمْ بَدَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَلَمْ يَتَّعِظُوا بِحَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلَا اعْتَبَرُوا بِمَنْ كَفَرَ، وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَنْ تَقَدَّمَ. فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ: أَيْ عِقَابُ كُفْرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ وَقِيلَ: لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَالْمَقْتُ: أَشَدُّ الِاحْتِقَارِ وَالْبُغْضِ وَالْغَضَبِ، وَالْخَسَارُ: خَسَارُ الْعُمُرِ. كَأَنَّ الْعُمُرَ رَأْسُ مَالٍ، فَإِنِ انْقَضَى فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَدْ خَسِرَهُ وَاسْتَعَاضَ بِهِ بَدَلَ الرِّبْحِ بِمَا يَفْعَلُ مِنَ الطَّاعَاتِ سُخْطَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ، بِحَيْثُ صَارُوا إِلَى النَّارِ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ، قَالَ الْحَوْفِيُّ: أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ ذَلِكَ لِلتَّقْرِيرِ، وَفِي التَّحْرِيرِ: أَرَأَيْتُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَخْبِرُونِي، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ. يَقُولُ الْقَائِلُ: أَرَأَيْتَ مَاذَا فَعَلَ زَيْدٌ؟ فَيَقُولُ السَّامِعُ: بَاعَ وَاشْتَرَى، وَلَوْلَا تَضَمُّنُهُ مَعْنَى أَخْبِرُونِي لَكَانَ الْجَوَابُ نَعَمْ أَوْ لَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَأَيْتُمْ يَنْزِلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَنْزِلَةَ أَخْبِرُونِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرُونِي بَدَلٌ مِنْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ مَعْنَى أَرَأَيْتُمْ أَخْبِرُونِي، كَأَنَّهُ قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ وَعَنْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْإِلَهِيَّةَ وَالشِّرْكَةَ، أَرُونِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ اسْتَبَدُّوا بِخَلْقِهِ دُونَ اللَّهِ، أَمْ لَهُمْ مَعَ الله

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 18. (2) سورة الشرح: 94/ 1. (3) سورة الشعراء: 26/ 18. (4) سورة الشرح: 94/ 2.

شركة في خلق السموات؟ أَمْ مَعَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَنْطِقُ بِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ؟ فَهُمْ عَلَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، أَوْ يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي آتَيْناهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً «1» ، أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ «2» . بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ: وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ، بَعْضاً: وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، إِلَّا غُرُوراً وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «3» . انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَرُونِي بَدَلٌ مِنْ أَرَأَيْتُمْ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا أُبْدِلَ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ الْأَدَاةِ عَلَى الْبَدَلِ، وَأَيْضًا فَإِبْدَالُ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِهِمْ، ثُمَّ الْبَدَلُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّهُ لَا عَامِلَ فِي أَرَأَيْتُمْ فَيُتَخَيَّلُ دُخُولُهُ عَلَى أَرُونِي. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي الْأَنْعَامِ عَلَى أَرَأَيْتُمْ كَلَامًا شَافِيًا. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ أَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَهِيَ تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ، وَالْآخَرُ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْتِفْهَامٍ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ؟ فَالْأَوَّلُ هُنَا هُوَ شُرَكاءَكُمُ، وَالثَّانِي مَاذَا خَلَقُوا، وَأَرُونِي جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ فِيهَا تَأْكِيدٌ لِلْكَلَامِ وَتَسْدِيدٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهُ تَوَارَدَ عَلَى مَاذَا خَلَقُوا، أَرَأَيْتُمْ وَأَرُونِي، لِأَنَّ أَرُونِي قَدْ تَعَلَّقَ عَلَى مَفْعُولِهَا فِي قَوْلِهِمْ: أَمَا تَرَى، أَيْ تَرَى هَاهُنَا، وَيَكُونُ قَدْ أُعْمِلَ الثاني على المختار عند الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَأَيْتُمُ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا، وَأَرُونِي أَمْرُ تَعْجِيزٍ لِلتَّبْيِينِ، أي أعملتم هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهَا كَمَا هِيَ وَعَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْعَجْزِ، أَوْ تَتَوَهَّمُونَ فِيهَا قُدْرَةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهَا عَاجِزَةً، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهَا؟ أَوْ تَوَهَّمْتُمْ لَهَا قُدْرَةً، فَأَرُونِي قُدْرَتَهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ هِيَ، أَهِيَ فِي الْأَرْضِ؟ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ آلِهَةٌ فِي الْأَرْضِ. قَالُوا: وَفِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ صُوَرُهَا، أم في السموات؟ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ بِاسْتِعَانَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَالْمَلَائِكَةُ شُرَكَاءُ فِي خَلْقِهَا، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ صُوَرُهَا، أَمْ قُدْرَتُهَا فِي الشَّفَاعَةِ لَكُمْ؟ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا خَلَقُوا شَيْئًا، وَلَكِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، فَنَعْبُدُهُمْ لِتَشْفَعَ لَنَا، فَهَلْ مَعَهُمْ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ فِيهِ إِذْنُهُ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ؟ انْتَهَى. وَأَضَافَ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ جَعَلُوهُمْ شركاء لله، أَيْ لَيْسَ لِلْأَصْنَامِ شِرْكَةٌ بِوَجْهٍ إِلَّا بِقَوْلِهِمْ وَجَعْلِهِمْ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ شُرَكَاءُكُمْ فِي النَّارِ لِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «4» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي آتَيْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ، لِتُنَاسِبَ الضَّمَائِرَ، أي هل مع

_ (1) سورة الروم: 30/ 35. (2) سورة الزخرف: 43/ 21. (3) سورة يونس: 10/ 18. (4) سورة الأنبياء: 21/ 98. [.....]

ما جَعَلَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ أَنَّ لَهُ شَفَاعَةً عِنْدَهُ؟ فَإِنَّهُ لا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَكُونُ الْتِفَاتًا خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ وَتَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ لِلْخِطَابِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ عِبَادَةَ هَؤُلَاءِ إِمَّا بِالْعَقْلِ، وَلَا عَقْلَ لِمَنْ يَعْبُدُ مَا لَا يَخْلُقُ مِنَ الْأَرْضِ جُزْءًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَلَا لَهُ شِرْكٌ فِي السَّمَاءِ وَإِمَّا بِالنَّقْلِ، وَلَمْ نُؤْتِ الْمُشْرِكِينَ كِتَابًا فِيهِ أَمْرٌ بِعِبَادَةِ هَؤُلَاءِ، فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لَا عَقْلِيَّةً وَلَا نَقْلِيَّةً. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ: عَلى بَيِّنَةٍ، بِالْإِفْرَادِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْجَمْعِ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ أَمْرِ الْأَصْنَامِ وَوَقَفَ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِهَا، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِيَتَبَيَّنَ الشَّيْءُ بِضِدِّهِ، وَتَتَأَكَّدَ حَقَارَةُ الْأَصْنَامِ بِذِكْرِ عَظَمَةِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَنْتَقِلَا عن أماكنها وتسقط السموات عَنْ عُلُوِّهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ تَزُولَا عَنِ الدَّوَرَانِ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ الْأَرْضَ لَا تَدُورُ. وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ السَّمَاءَ لَا تَدُورُ، وَإِنَّمَا تَجْرِي فِيهَا الْكَوَاكِبُ. وَقَالَ: كَفَى بِهَا زَوَالًا أَنْ تَدُورَ، وَلَوْ دَارَتْ لَكَانَتْ قَدْ زَالَتْ. وَأَنْ تَزُولَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَقُدِّرَ لِئَلَّا تَزُولَا، وَكَرَاهَةَ أَنْ تَزُولَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُمْسِكُ: يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَزُولَا، فَيَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، أَيْ يَمْنَعُ زَوَالَ السموات وَالْأَرْضِ، بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَلَئِنْ زالَتا: إِنْ تَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى الْمُمْكِنِ، فَإِنْ قَدَّرْنَا دُخُولَهَا عَلَى الْمُمْكِنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عِنْدَ طَيِّ السَّمَاءِ وَنَسْفِ الْجِبَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، ثُمَّ وَاقِعٌ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ، أَيْ وَلَئِنْ جَاءَ وَقْتُ زَوَالِهِمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ وَلَئِنْ فَرَضْنَا زَوَالَهُمَا، فَيَكُونُ مِثْلَ لَوْ فِي الْمَعْنَى. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَوْ زَالَتَا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، وَأَمْسَكَهُمَا فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ قَبْلَ لَامِ التَّوْطِئَةِ فِي لَئِنْ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِدُخُولِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ «1» . أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «2» : أَيْ لَيَظَلُّوا، فَيُقَدَّرُ هَذَا كُلُّهُ مُضَارِعًا لِأَجْلِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَجَوَابُ إِنْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإِنْ أَمْسَكَهُما جَوَابُ الْقَسَمِ فِي وَلَئِنْ زالَتا، سَدَّ مَسَدَّ الْجَوَابَيْنِ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهُ دَلَّ عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَإِنْ أُخِذَ كَلَامُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَوْ سَدَّ مَسَدَّهُمَا لَكَانَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ بِاعْتِبَارِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 145. (2) سورة الروم: 30/ 51.

جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ بِاعْتِبَارِ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا غَيْرَ معمول. ومن فِي مِنْ أَحَدٍ لِتَأْكِيدِ الاستغراق، وَمِنْ فِي مِنْ بَعْدِهِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تَرْكِ إِمْسَاكِهِ. وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ: مَنْ لَقِيتَ؟ قَالَ كَعْبًا، قَالَ: وَمَا سَمِعْتُهُ يقول؟ قال: إن السموات عَلَى مَنْكِبِ مَلَكٍ، قَالَ: كَذَبَ كَعْبٌ، أَمَا تَرَكَ يَهُودِيَّتَهُ بَعْدُ؟ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِجُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ، وَكَانَ رَجِلَ: أَيْ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فِي كَلَامٍ آخِرُهُ مَا تَمَكَّنَتِ الْيَهُودِيَّةُ فِي قَلْبٍ وَكَادَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: اتِّصَافُهُ بِالْحِلْمِ وَالْغُفْرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّمَاءَ كَادَتْ تَزُولُ، وَالْأَرْضَ كَذَلِكَ، لِإِشْرَاكِ الْكَفَرَةِ، فَيُمْسِكُهَا حُكْمًا مِنْهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَتَرَبُّصًا لِيَغْفِرَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةٍ أُخْرَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَلِيماً غَفُوراً، غَيْرَ مُعَاجِلٍ بِالْعُقُوبَةِ، حَيْثُ يُمْسِكُهَا، وَكَانَتَا جَدِيرَتَيْنِ بِأَنْ تُهَدْهِدَ الْعَظْمَ كَلِمَةُ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «2» الْآيَةَ. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً، وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً. الضَّمِيرُ فِي وَأَقْسَمُوا لِقُرَيْشٍ. وَلَمَّا بَيَّنَ إِنْكَارَهُمْ لِلتَّوْحِيدِ، بَيَّنَ تَكْذِيبَهُمْ لِلرُّسُلِ. قِيلَ: وَكَانُوا يَلْعَنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حَيْثُ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَقَالُوا: لَئِنْ أَتَانَا رَسُولٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى من إحدى الْأُمَمِ. فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَّبُوهُ. لَئِنْ جاءَهُمْ: حِكَايَةٌ لِمَعْنَى كَلَامِهِمْ لَا لِلَفْظِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ لَئِنْ جَاءَنَا نَذِيرٌ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، أَيْ مِنْ وَاحِدَةٍ مُهْتَدِيَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، أَوْ مِنَ الْأُمَّةِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا إِحْدَى الْأُمَمِ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، كَمَا قَالُوا: هُوَ أَحَدُ الْأَحَدَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَدِ، يُرِيدُونَ التَّفْضِيلَ فِي الدَّهَاءِ وَالْعَقْلِ بِحَيْثُ لَا نَظِيرَ لَهُ، وقال الشاعر:

_ (1) سورة مريم: 19/ 90. (2) سورة مريم: 19/ 90.

حَتَّى اسْتَشَارُوا فِيَّ أَحَدَ الأحد ... شاهد يرادا سِلَاحَ مَعَدِّ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ. مَا زادَهُمْ: أَيْ مَا زَادَهُمْ هُوَ أَوْ مَجِيئُهُ. إِلَّا نُفُوراً: بُعْدًا مِنَ الْحَقِّ وَهَرَبًا مِنْهُ. وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي أَنْ زَادُوا أَنْفُسَهُمْ نُفُورًا، كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» ، وَصَارُوا أَضَلَّ مِمَّا كَانُوا. وَجَوَابُ لَمَّا: مَا زادَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى حَرْفِيَّةٍ لَمَّا لَا ظَرْفِيَّتِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ ظَرْفًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى عَامِلِهَا الْمَنْفِيِّ بِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ «2» ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ «3» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِكْباراً مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ سَبَبُ النُّفُورِ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْتِكْباراً، فَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْضًا، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الِابْتِعَادِ مِنَ الْحَقِّ هو الاستكبار والْمَكْرُ السَّيِّئُ، وَهُوَ الْخِدَاعُ الَّذِي تَرُومُونَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكَيْدُ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَكْرُ السيء هُوَ الشِّرْكُ. وَقِيلَ: اسْتِكْباراً بَدَلٌ مِنْ نُفُوراً، وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: حَالٌ، يَعْنِي مُسْتَكْبِرِينَ وَمَاكِرِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ومكر السيء مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَمَكْرَ السَّيِّئِ مَعْطُوفًا عَلَى نُفُوراً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ومكر السيء، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: بِإِسْكَانِهَا، فَإِمَّا إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِمَّا إِسْكَانًا لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَإِجْرَاءٍ لِلْمُنْفَصِلِ مُجْرَى الْمُتَّصِلِ، كَقَوْلِهِ: لَنَا إِبِلَانِ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا صَارَ لَحْنًا لِأَنَّهُ حَذَفَ الْإِعْرَابَ مِنْهُ. وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي كَلَامٍ وَلَا شِعْرٍ، لِأَنَّ حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ دَخَلَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعَانِي، وَقَدْ أَعْظَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ بِهَذَا، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَقِفُ عَلَى مَنْ أَدَّى عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الثَّانِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَمَامَ الْكَلَامِ أَعْرَبَهُ، وَالْحَرَكَةُ فِي الثَّانِي أَثْقَلُ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا ضَمَّةٌ بَيْنَ كَسْرَتَيْنِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَمَكْرَ السيء مَوْقُوفًا عِنْدَ الْحُذَّاقِ بِيَاءَيْنِ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ لِلِاضْطِرَارِ. وَأَكْثَرَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ، وَالِاحْتِجَاجِ لِلْإِسْكَانِ مِنْ أَجْلِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَالِاضْطِرَارِ، وَالْوَصْلِ بِنِيَّةِ الْوَقْفِ، قَالَ: فَإِذَا سَاغَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ القراءة

_ (1) سورة التوبة: 9/ 125. (2) سورة سبأ: 34/ 14. (3) سورة يوسف: 12/ 68.

مِنَ التَّأْوِيلِ، لَمْ يَسُغْ أَنْ يُقَالَ لَحْنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوِ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ قرىء بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَازِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَحْنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَعَلَّهُ اخْتَلَسَ فَظُنَّ سُكُونًا، أَوْ وَقَفَ وَقْفَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَلا يَحِيقُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: ومكر السيء، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا مَكْسُورَةٍ، وَهُوَ مقلوب السيء المخفف من السي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا يجزون من حسن بسيّ ... وَلَا يَجْزُونَ مِنْ غِلْظٍ بِلِينِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَكْرًا سَيِّئًا، عَطَفَ نَكِرَةً عَلَى نَكِرَةٍ وَلا يَحِيقُ: أَيْ يُحِيطُ وَيَحُلُّ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَكْرُوهِ. وقرىء: يُحِيقُ بِالضَّمِّ، أَيْ بِضَمِّ الياء المكر السيء: بِالنَّصْبِ، وَلَا يَحِيقُ اللَّهُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَعَاقِبَةُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَثِيرًا نَرَى الْمَاكِرَ يُفِيدُهُ مَكْرُهُ وَيَغْلِبُ خَصْمَهُ بِالْمَكْرِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَكْرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَكْرُ بِالرَّسُولِ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ، وَلَا يَحِيقُ إِلَّا بِهِمْ حَيْثُ قُتِلُوا بِبَدْرٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَامٌّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنِ الْمَكْرِ وَقَالَ: «لَا تَمْكُرُوا وَلَا تُعِينُوا مَاكِرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمَمْكُورُ بِهِ أَهْلًا فَلَا يَزِدْ نَقْصًا» . وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأُمُورَ بِعَوَاقِبِهَا، وَمَنْ مَكَرَ بِهِ غَيْرُهُ وَنَفَّذَ فِيهِ الْمَكْرَ عَاجِلًا فِي الظَّاهِرِ، فَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْفَائِزُ، وَالْمَاكِرُ هُوَ الْهَالِكُ. انْتَهَى. وَقَالَ كَعْبٌ لا بن عَبَّاسٍ فِي التَّوْرَاةِ «مَنْ حَفَرَ حُفْرَةً لِأَخِيهِ وَقَعَ فِيهَا» ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. انْتَهَى. وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ «مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا» . وسُنَّتَ الْأَوَّلِينَ: إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِرُسُلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَجَعَلَ اسْتِقْبَالَهُمْ لِذَلِكَ انتظارا له منهم. وسنة الْأَوَّلِينَ أَضَافَ فِيهِ الْمَصْدَرَ. وفي لِسُنَّتِ اللَّهِ إِضَافَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ، فَأُضِيفَتْ أَوَّلًا إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ بِهِمْ، وَثَانِيًا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَنَّهَا. وَبَيَّنَ تَعَالَى الِانْتِقَامَ مِنْ مكذبي الرُّسُلِ عَادَةً لَا يُبَدِّلُهَا بِغَيْرِهَا وَلَا يُحَوِّلُهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ مِمَّا كَانُوا يُشَاهِدُونَهُ فِي مَسَايِرِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ، فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ، وَعَلَامَاتِ هَلَاكِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، كَدِيَارِ ثَمُودَ وَنَحْوِهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ

الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الرُّومِ. وَهُنَاكَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً «1» : اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَهُنَا: وَكانُوا: أَيْ وَقَدْ كَانُوا، فَالْجُمْلَةُ حَالٌ، فَهُمَا مَقْصِدَانِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ: أَيْ لِيَفُوتَهُ وَيَسْبِقَهُ، مِنْ شَيْءٍ: أي شيء، ومِنْ لِاسْتِغْرَاقِ الْأَشْيَاءِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً: فَبِعِلْمِهِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، وَبِقُدْرَتِهِ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِلْمَهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا: أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي النَّحْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِظُلْمِهِمْ «2» ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّحْلِ، وَهُنَاكَ عَلَيْها «3» ، وَهُنَا عَلَى ظَهْرِها، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَلْفُوظٌ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَتْ حَامِلَةً لِمَنْ عَلَيْهَا، اسْتُعِيرَ لَهَا الظَّهْرُ، كَالدَّابَّةِ الْحَامِلَةِ لِلْأَثْقَالِ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا هُوَ الظَّاهِرُ بِخِلَافِ بَاطِنِهَا. فَإِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً: تَوَعُّدٌ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَيْ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.

_ (1) سورة الروم: 30/ 9. (2) سورة النحل: 16/ 61. (3) سورة النحل: 16/ 61.

سورة يس

سورة يس [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 83] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

قَمَحَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ: رَفَعَهُ أَثَرَ شُرْبِ الْمَاءِ، وَيَأْتِي الكلام فيه مستوفى. الْعُرْجُونُ: عُودُ الْعَذْقِ مِنْ بَيْنِ الشِّمْرَاخِ إِلَى مَنْبَتِهِ مِنَ النَّخْلَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ فُعْلُونٌ مِنَ الِانْعِرَاجِ، وَهُوَ الِانْعِطَافُ. الْجَدَثُ: الْقَبْرُ، وَسُمِعَ فِيهِ جَدَفٌ بِإِبْدَالِ الثَّاءُ فَاءً، كَمَا قَالُوا: فُمَّ فِي ثُمَّ، وَكَمَا أَبْدَلُوا مِنَ الْفَاءِ ثَاءً، قَالُوا فِي مَعْفُورٍ مَعْثُورٌ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْكَمْأَةِ. الْمَسْخُ: تَحْوِيلٌ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ مُنْكَرَةٍ. الرَّمِيمُ: الْبَالِي الْمُفَتَّتُ. يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا أَنَّ فِرْقَةً زَعَمَتْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، وآثارَهُمْ، نزلت فِي بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَ زَعْمًا صَحِيحًا. وَقِيلَ: إِلَّا قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ هُنَا: إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَدَلِيلُهُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ السَّيِّدُ الْحَمَوِيُّ: يَا نَفْسِ لَا تَمْحَضِي بِالْوِدِّ جَاهِدَةً ... عَلَى الْمَوَدَّةِ إِلَّا آلَ يَاسِينَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يَا إِنْسَانُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَعَنْهُ هُوَ في لغة طيء، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِيسَانٌ بِمَعْنَى إِنْسَانٌ، وَيَجْمَعُونَهُ عَلَى أَيَاسِينَ، فَهَذَا مِنْهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَا حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالسِّينُ مُقَامَةٌ مَقَامَ إِنْسَانٍ انْتُزِعَ مِنْهُ حَرْفٌ فَأُقِيمَ مُقَامَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ أَنَّ مَعْنَاهُ يَا إنسان في لغة طيء، فَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ يَا أَنَيْسِينُ، فَكَثُرَ النِّدَاءُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى اقْتَصَرُوا عَلَى شَطْرِهِ، كَمَا قَالُوا فِي الْقَسَمِ: مُ اللَّهِ فِي ايْمُنُ اللَّهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ فِي تَصْغِيرِهِمْ إِنْسَانٍ أُنَيْسِيَانٌ بِيَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أُنَيْسَانٌ، لِأَنَّ التَّصْغِيرَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، وَلَا نَعْلَمُهُمْ قَالُوا فِي تَصْغِيرِهِ أُنَيْسِينٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ بَقِيَّةُ أُنَيْسِينٍ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لَا أَنْ يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ، وَلَا يَبْقَى مَوْقُوفًا، لِأَنَّهُ مُنَادًى مُقْبَلٌ عَلَيْهِ، مَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَحْقِيرٌ، وَيُمْتَنَعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ. وَقَوْلُهُ: كَمَا قَالُوا فِي الْقَسَمِ مُ اللَّهِ فِي ايْمُنُ اللَّهِ، هَذَا قَوْلٌ. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُ حَرْفُ قَسَمٍ وَلَيْسَ مبقى من أيمن. وقرىء: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِمَالَتِهَا مَحْضًا، وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِسُكُونِ النُّونِ مُدْغَمَةً فِي الْوَاوِ وَمِنَ السَّبْعَةِ: الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَوَرْشٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: مُظْهَرَةٌ عِنْدَ بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى: بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يس قَسَمٌ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَقِيَاسُ هَذَا الْقَوْلِ فَتْحُ النُّونِ، كَمَا تَقُولُ: اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصْبُ، كَأَنَّهُ قَالَ: اتْلُ يس، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ. وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ: بِضَمِّ النُّونِ، وَقَالَ هي بلغة طيء: يَا إِنْسَانُ. وَقَرَأَ السَّمَّاكُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا: بِكَسْرِهَا قِيلَ: وَالْحَرَكَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَالْفَتْحُ كَائِنٌ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَالضَّمِّ كَحَيْثُ، وَالْكَسْرُ عَلَى أَصْلِ الْتِقَائِهِمَا. وَإِذَا قِيلَ أَنَّهُ قَسَمٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا بِالنَّصْبِ عَلَى مَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ نَحْوُ: أَمَانَةُ اللَّهِ لَأَقُومَنَّ، وَالْجَرَّ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَالْحَكِيمِ: إِمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، كَمَا تَقُولُ: عقدت العسل فهو عقيد: أَيْ مُعْقَدٌ، وَإِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاكِمٍ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى السَّبَبِ، أَيْ ذِي حِكْمَةٍ. عَلى صِراطٍ: خَبَرُ ثَانٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُرْسَلِينَ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْأَشْهَبُ، وَعِيسَى: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ:

تَنْزِيلَ، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ: بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ تَنْزِيلٌ وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْيَزِيدِيُّ، والقورصي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ بِالْخَفْضِ إِمَّا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. لِتُنْذِرَ: مُتَعَلِّقٌ بِتَنْزِيلَ أَوْ بِأَرْسَلْنَا مُضْمَرَةً. مَا أُنْذِرَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: بِمَعْنَى الَّذِي، أَيِ الشَّيْءُ الَّذِي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَمَا مَفْعُولٌ ثان، كقوله: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً «1» . قَالَ ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، وَالْآبَاءُ عَلَى هَذَا هُمُ الْأَقْدَمُونَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَتِ النذارة فيهم. وفَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَعْنَى فَإِنَّهُمْ، دَخَلَتِ الْفَاءُ لِقَطْعِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِلَةً، فَتَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. لِتُنْذِرَ، كَمَا تَقُولُ: أَرْسَلْتُكَ إِلَى فُلَانٍ لِتُنْذِرَهُ، فَإِنَّهُ غَافِلٌ، أَوْ فَهُوَ غَافِلٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا نَافِيَةٌ، أَيْ أَنَّ آبَاءَهُمْ لَمْ يُنْذَرُوا، فَآبَاؤُهُمْ على هذا هم القربيون مِنْهُمْ، وَمَا أُنْذِرَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ غَيْرُ مُنْذَرٍ آبَاؤُهُمْ، وَفَهُمْ غَافِلُونَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْيِ، أَيْ لَمْ يُنْذَرُوا فَهُمْ غَافِلُونَ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ إِنْذَارِهِمْ هُوَ سَبَبُ غَفْلَتِهِمْ. وَبِاعْتِبَارِ الْآبَاءِ فِي الْقِدَمِ وَالْقُرْبِ يَزُولُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِنْذَارِ وَنَفْيِهِ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» . وَقِيلَ: لَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُجُوبُ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: حَقَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ وَبَانَ بُرْهَانُهُ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الْآيَةَ هُوَ حَقِيقَةٌ لَا اسْتِعَارَةٌ. لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ يُضْعِفُ هَذَا، لِأَنَّ بَصَرَ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا هُوَ حَدِيدٌ يَرَى قُبْحَ حَالِهِ. انْتَهَى، وَلَا يُضَعَّفُ هَذَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «3» ، وَقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى «4» ؟ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «5» ، كِنَايَةٌ عَنْ إِدْرَاكِهِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُبْصِرُهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: اسْتِعَارَةٌ لِحَالَةِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ أَرَادُوا الرَّسُولَ بِسُوءٍ، جَعَلَ اللَّهُ هَذَا لَهُمْ مَثَلًا فِي كَفِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ أَذَاهُ حِينَ بَيَّتُوهُ. وقال

_ (1) سورة النبأ: 78/ 40. (2) سورة هود: 11/ 119. (3) سورة الإسراء: 17/ 97. (4) سورة طه: 20/ 125. [.....] (5) سورة ق: 50/ 22.

الضَّحَّاكُ، وَالْفَرَّاءُ: اسْتِعَارَةٌ لِمَنْعِهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «1» وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ حِينَ أَرَادَ أَبُو جَهْلٍ ضَرْبَهُ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُوَاطِنِ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ حَمَلَ حَجَرًا لِيَدْفَعَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَانْثَنَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ حَتَّى عَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَالْحَجَرُ فِي يَدِهِ قَدْ لَزِقَ، فَمَا فَكُّوهُ إِلَّا بِجُهْدٍ، فَأَخَذَ آخَرَ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الرَّسُولِ، طَمَسَ اللَّهُ بَصَرَهُ فَلَمْ يَرَهُ، فَعَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُبْصِرْهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ ، فَجَعْلُ الْغُلِّ يَكُونُ اسْتِعَارَةً عَنْ مَنْعِ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي جَهْلٍ رَاضِينَ بِمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، فنسب ذلك إلى الجمع. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: اسْتِعَارَةٌ لِمَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَحَوْلِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي الْأَزَلِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَنْعِ وَإِحَاطَةِ الشَّقَاوَةِ مَا حَالُهُمْ مَعَهُ حَالُ الْمَغْلُولِينَ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثَّلَ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى دَعْوَاهُمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ كَالْمَغْلُولِينَ الْمُقْمَحِينَ فِي أَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَا يَعْطِفُونَ أَعْنَاقَهُمْ نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم لَهُ، وَكَالْحَاصِلِينَ بَيْنَ سَدَّيْنِ لَا يُبْصِرُونَ مَا قُدَّامَهُمْ وَلَا مَا خَلْفَهُمْ فِي أَنْ لَا تَأْمُّلَ لَهُمْ وَلَا يُبْصِرُونَ، أَنَّهُمْ مُتَعَامُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ اسْتِعَارَةٌ لِمَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ مَثَّلَ تَصْمِيمَهُمْ وَنِسْبَتُهُ الْأَفْعَالَ الَّتِي يَعْدُهَا إِلَيْهِمْ لَا إِلَى اللَّهِ. وَالْغُلُّ مَا أَحَاطَ بِالْعُنُقِ عَلَى مَعْنَى التَّعْنِيفِ وَالتَّضْيِيقِ وَالتَّعْذِيبِ وَالْأَسْرِ، وَمَعَ الْعُنُقِ الْيَدَانِ أَوِ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَهِيَ إِلَى الْأَغْلَالِ، لِأَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ وَالْمُحَدَّثُ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ عَرِيضَةٌ تَبْلُغُ بِحَرْفِهَا الْأَذْقَانَ، وَالذَّقَنُ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، فَيَضْطَرُّ الْمَغْلُولُ إِلَى رَفْعِ وَجْهِهِ نَحْوُ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِقْمَاحُ، وَهُوَ نَحْوُ الْإِقْنَاعِ فِي الْهَيْئَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَغْلَالُ وَأَصْلُهُ إِلَى الْأَذْقَانِ مَكْزُوزَةٌ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ طَوْقَ الْغُلِّ الَّذِي هُوَ عُنُقُ الْمَغْلُولِ يَكُونُ فِي مُلْتَقَى طَرَفَيْهِ تَحْتَ الذَّقَنِ حَلْقَةٌ فِيهَا رَأْسُ الْعَمُودِ نَادِرًا مِنَ الْحَلْقَةِ إِلَى الذَّقَنِ، فَلَا تُخَلِّيهِ يطاطىء رأسه ويوطىء قَذَالَهُ، فَلَا يَزَالُ مُقْمَحًا. انْتَهَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْقَمْحُ الَّذِي يَغُضُّ بَصَرَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ نَحْوَهُ قَالَ: يُقَالُ قَمَحَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ عَنْ رَيٍّ وَقَمَحَ هُوَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَمَحَ قُمُوحًا: رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ الْحَوْضِ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَالْجَمْعُ قِمَاحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ بِشْرٍ يَصِفُ مَيْتَةَ أحدهم ليدفنها:

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 29.

وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالْإِبِلِ الْقِمَاحِ وَقَالَ اللَّيْثُ: هُوَ رَفْعُ الْبَعِيرِ رَأْسَهُ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ الْكَرِيهَ ثُمَّ يَعُودُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِلْكَانُونَيْنِ شَهْرَا قِمَاحٍ، لِأَنَّ الْإِبِلَ إِذَا وردت الماء ترفع رؤوسها لِشِدَّةِ بَرْدِهِ، وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ بَيْتَ الْهُذَلِيِّ: فَتًى مَا ابْنُ الْأَعَزِّ إِذَا شَتَوْنَا ... وَحُبَّ الزَّادُ فِي شَهْرَيْ قُمَاحِ رَوَاهُ بِضَمِّ الْقَافِ، وَابْنُ السِّكِّيتِ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَسُمِّيَا شَهْرَيْ قِمَاحٍ لِكَرَاهَةِ كُلِّ ذِي كَبِدٍ شُرْبَ الْمَاءِ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَامِحُ: الطَّافِحُ بِبَصَرِهِ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّافِعُ الرَّأْسَ، الْوَاضِحُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي فَهِيَ عَائِدٌ عَلَى الْأَيْدِي، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، لِوُضُوحِ مَكَانِهَا مِنَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْغُلُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُنُقِ مَعَ الْيَدَيْنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْغُلُّ جَامِعَةً لِجَمْعِهِ الْيَدَ وَالْعُنُقَ. وَأَرَى عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، النَّاسَ الْأَقْمَاحَ، فَجَعَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ لِحْيَيْهِ وَأَلْصَقَهُمَا وَرَفَعَ رَأْسَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ الْأَقْمَاحَ نَتِيجَةَ قَوْلِهِ: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ. وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلْأَيْدِي، لَمْ يَكُنْ مَعْنَى التَّسَبُّبِ فِي الْأَقْمَاحِ ظَاهِرًا. عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّعَسُّفِ وَتَرْكِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَدْعُوهُ الْمَعْنَى إِلَى نَفْسِهِ إِلَى الْبَاطِلِ الَّذِي يَجْفُو عَنْهُ تَرْكٌ لِلْحَقِّ الْأَبْلَجِ إِلَى الْبَاطِلِ اللَّجْلَجِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ: سَدًّا بِفَتْحِ السِّينِ فِيهِمَا وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ السَّدِّ فِي الْكَهْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَغْشَيْناهُمْ بَالْغَيْنِ مَنْقُوطَةً وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَيَزِيدُ الْبَرْبَرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِالْعَيْنِ مِنَ الْعَشَاءِ، وَهُوَ ضَعْفُ الْبَصَرِ، جَعَلْنَا عَلَيْهَا غِشَاوَةً. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا تَفْسِيرًا وَإِعْرَابًا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. إِنَّما تُنْذِرُ: تَقَدَّمَ لِتُنْذِرَ قَوْماً، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْتُومًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا حَتَّى قَالَ: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، لَمْ يُجْدِ الْإِنْذَارُ لِانْتِفَاءِ مَنْفَعَتِهِ فَقَالَ: إِنَّما تُنْذِرُ: أَيْ إِنْذَارًا يَنْفَعُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَوِ الْوَعْظُ. وَخَشِيَ الرَّحْمنَ: أَيِ الْمُتَّصِفَ بِالرَّحْمَةِ، مَعَ أَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ تَعُودُ إِلَى الرَّجَاءِ، لكنه مع بِرَحْمَتِهِ هُوَ يَخْشَاهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْلُبَهُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ بِالْغَيْبِ، أي بالخلوة عند معيب

الْإِنْسَانِ عَنْ غُيُوبِ الْبَشَرِ. وَلَمَّا أَحْدَثَ فِيهِ النِّذَارَةَ، بَشَّرَهُ بِمَغْفِرَةٍ لِمَا سَلَفَ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ عَلَى مَا أَسْلَفَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الرِّسَالَةَ، وَهِيَ أَحَدُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْمُكَلَّفُ مُؤْمِنًا، ذَكَرَ الْحَشْرَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. وَالثَّالِثُ هُوَ تَوْحِيدٌ، فقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى: أَيْ بَعْدِ مَمَاتِهِمْ. وَأَبْعَدَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: إِحْيَاؤُهُمْ: إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ: أَيْ وَنُحْصِي، فَعَبَّرَ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِأَعْمَالِهِمْ بِالْكِتَابَةِ الَّتِي تُضْبَطُ بِهَا الْأَشْيَاءُ. وَقَرَأَ زِرٌّ وَمَسْرُوقٌ: وَيُكْتَبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارُهُمْ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَا قَدَّمُوا مِنَ الْأَعْمَالِ. وَآثَارُهُمْ: خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ: السِّيَرُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ. وَقِيلَ: مَا قَدَّمُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ وَآثَارِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ الزمخشري: ونكتب مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ غَيْرَهَا، وَمَا هَلَكُوا عَنْهُ مِنْ أَثَرٍ حَسَنٍ، كَعِلْمٍ عَلَّمُوهُ، وَكِتَابٍ صَنَّفُوهُ، أَوْ حَبِيسٍ أَحَبَسُوهُ، أَوْ بِنَاءٍ بَنَوْهُ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ سيء كَوَظِيفَةٍ وَظَّفَهَا بَعْضُ الظُّلَّامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَسِكَّةٍ أَحْدَثَهَا فِيهَا تَحَيُّرُهُمْ، وَشَيْءٍ أَحْدَثَ فِيهِ صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ أَلْحَانٍ وَمَلَاهٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ، أَوْ سَيِّئَةٍ يُسْتَنُّ بِهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ «1» ، مِنْ آثَارِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلَّ شَيْءٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالْإِمَامُ الْمُبِينُ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ صُحُفَ الْأَعْمَالِ. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ، قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ.

_ (1) سورة القيامة: 85/ 13.

تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اضْرِبْ مَعَ الْمَثَلُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً «1» ، وَالْقَرْيَةُ: أَنْطَاكِيَةُ، فَلَا خِلَافَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ: هُمْ ثَلَاثَةٌ، جَمَعَهُمْ فِي الْمَجِيءِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي زَمَنِ الْمَجِيءِ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ. الظَّاهِرُ مِنْ أَرْسَلْنَا أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ أَرْسَلَهُمُ الله، ويدل عليه قوله الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ: بَعَثَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رُفِعَ وَصُلِبَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ، فَافْتَرَقَ الْحَوَارِيُّونَ فِي الْآفَاقِ، فَقَصَّ اللَّهُ قِصَّةَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ أَهْلُهَا عُبَّادَ أَصْنَامٍ، صَادِقٌ وَصَدُوقٌ، قَالَهُ وَهْبٌ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ بْنُ سَمْعَانَ: وَيُحَنَّا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تُومَانُ وَيُونُسُ. فَكَذَّبُوهُما، أَيْ دَعْوَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَأَخْبَرَا بِأَنَّهُمَا رَسُولَا اللَّهِ، فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ: أَيْ قَوَّيْنَا وَشَدَّدْنَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ: يُقَالُ تَعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَةِ إِذَا صَلُبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ الْمَطَرُ يُعَزِّزُ الْأَرْضَ إِذَا لَبَدَهَا وَشَدَّهَا، وَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الْقُرْآنُ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ الزَّايِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْمُفَضَّلُ، وَأَبَانٌ: بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَغَلَبْنَا. انْتَهَى، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ مَنْ عَزَّنِي، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «2» . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بِالثَّالِثِ، بِأَلِفٍ وَلَامٍ، وَالثَّالِثُ شَمْعُونُ الصَّفَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ كَعْبٌ، وَوَهْبٌ: شَلُومُ وَقِيلَ: يُونُسُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فَعَزَّزْنَا مُشَدَّدًا، أَيْ قَوَّيْنَاهُمَا بِثَالِثٍ مُخَفَّفًا، فَغَلَبْنَاهُمْ: أَيْ بِحُجَّةِ ثَالِثٍ وَمَا يَلْطُفُ بِهِ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى مِنَ الْمَلِكِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِمْ، وَسَتَأْتِي هِيَ أَوْ بَعْضٌ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَجَاءَ أَوَّلًا مُرْسَلُونَ بِغَيْرِ لَامٍ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَوْكِيدٍ بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ. لَمُرْسَلُونَ بِلَامِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ إِنْكَارٍ، وَهَؤُلَاءِ أُمَّةٌ أَنْكَرَتِ النُّبُوَّاتِ بِقَوْلِهَا: وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، وراجعتهم الرُّسُلُ بِأَنْ رَدُّوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ وَقَنَعُوا بِعِلْمِهِ، وَأَعْلَمُوهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَلَيْهِمُ الْبَلَاغُ فَقَطْ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ هُدَاهُمْ وَضَلَالِهِمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. وَوُصِفَ الْبَلَاغُ بِالْمُبِينِ، وَهُوَ الْوَاضِحُ بِالْآيَاتِ الشَّاهِدَةِ بِصِحَّةِ الْإِرْسَالِ، كَمَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ مِنْ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ. قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ: أي تشاء منا. قَالَ مُقَاتِلٌ: احْتَبَسَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَسْرَعَ فِيهِمُ الْجُذَامُ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَطَيُّرَ هَؤُلَاءِ كان

_ (1) سورة البقرة: 2/ 26. (2) سورة ص: 38/ 23.

سَبَبَ مَا دَخَلَ فِيهِمْ مِنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَافْتِتَانِ النَّاسِ، وَهَذَا عَلَى نَحْوِ تَطَيُّرِ قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى نَحْوِ مَا خُوطِبَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَرِهُوا دِينَهُمْ وَنَفَرَتْ مِنْهُ نُفُوسُهُمْ، وَعَادَةُ الْجُهَّالِ أَنْ يَتَمَنَّوْا بِكُلِّ شَيْءٍ مَالُوا إِلَيْهِ واشتهوه وقبلته طباعهم، وتشاءموا بِمَا نَفَرُوا عَنْهُ وَكَرِهُوهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ أَوْ بَلَاءٌ قَالُوا: بِبَرَكَةِ هَذَا وَبِشُؤْمِ هَذَا، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْقِبْطِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ «1» وعن مشركي مَكَّةَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «2» . انْتَهَى. وَعَنْ قَتَادَةَ: إِنْ أَصَابَنَا شَيْءٌ كَانَ مِنْ أجلكم. لَنَرْجُمَنَّكُمْ بِالْحِجَارَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. عَذابٌ أَلِيمٌ: هُوَ الْحَرِيقُ. قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ: أَيْ حَظُّكُمْ وَمَا صَارَ لَكُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مَعَكُمْ، أَيْ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، لَيْسَ هُوَ مِنْ أَجْلِنَا بَلْ بِكُفْرِكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَزَرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: طَيْرُكُمْ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا نَقَلَ: اطَّيُّرْكُمْ مَصْدَرُ اطَّيَّرَ الَّذِي أَصْلُهُ تَطَيَّرَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ فِي الْمَاضِي وَالْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: طَائِرُكُمْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ، الْأُولَى هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالثَّانِيَةُ هَمْزَةُ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، فَخَفَّفَهَا الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ، وَسَهَّلَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ زِرٌّ: بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَطَلْحَةِ، إِلَّا إِنَّهَا الْبِنَاءُ الثَّانِيَةُ بَيْنَ بَيْنَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي تَحْقِيقِهَا: أَإِنْ كُنْتَ دَاوُدَ بْنَ أَحْوَى مَرْحَلَا ... فَلَسْتُ بِدَاعٍ لِابْنِ عَمِّكَ مَحْرَمَا وَالْمَاجِشُونِيُّ، وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَدَنِيُّ: بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَالْحَسَنُ: بِهَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ، وَزِرٌّ أَيْضًا: بِمَدَّةٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ، استثقل اجتماعهما ففضل بَيْنَهُمَا بِأَلِفٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: أَيْنَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَفَتْحِ النُّونِ ظَرْفَ مَكَانٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيِّ أَيْضًا. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى مَعْنَى: إِنْ ذُكِّرْتُمْ تَتَطَيَّرُونَ، بِجَعْلِ الْمَحْذُوفِ مَصَبَّ الِاسْتِفْهَامِ، عَلَى مَذْهَبِ سيبويه، وبجعله لِلشَّرْطِ، عَلَى مَذْهَبِ يُونُسَ فَإِنْ قَدَّرْتَهُ مُضَارِعًا كَانَ مَجْزُومًا. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى مَعْنَى: أَلَإِنْ ذُكِّرْتُمْ تَطَيَّرْتُمْ، فَإِنْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْهَمْزَةُ الْوَاحِدَةُ الْمَفْتُوحَةُ وَالَّتِي بِمَدَّةٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَقِرَاءَةُ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ وَحْدَهَا، فَحَرْفُ شَرْطٍ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، أَيْ إِنْ ذُكِّرْتُمْ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 131. (2) سورة النساء: 4/ 78.

تَطَيَّرْتُمْ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ الْأَخِيرَةُ أَيْنَ فِيهَا ظَرْفُ أَدَاةِ الشَّرْطِ، حُذِفَ جَزَاؤُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ صَحِبَكُمْ طَائِرُكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ. وَمَنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، وَكَانَ أَصْلُهُ: أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ فَطَائِرُكُمْ مَعَكُمْ، فَلَمَّا قُدِّمَ حُذِفَتِ الْفَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُكِّرْتُمْ، بِتَشْدِيدِ الْكَافِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْأَعْمَشُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِتَخْفِيفِهَا. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ: مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي ضَلَالِكُمْ، فَمَنْ ثَمَّ أَتَاكُمُ الشؤم. وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى اسْمُهُ حَبِيبٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ. قِيلَ: وَهُوَ ابْنُ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ قَصَّارًا، وَقِيلَ: إِسْكَافًا، وَقِيلَ: كَانَ يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِهَذِهِ الصَّنَائِعِ. ومِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ: أَيْ مِنْ أَبْعَدِ مَوَاضِعِهَا. فَقِيلَ: كَانَ فِي خَارِجِ الْمَدِينَةِ يُعَانِي زَرْعًا لَهُ. وَقِيلَ: كَانَ فِي غَارٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ. وَقِيلَ: كَانَ مَجْذُومًا، فَمَيَّزَ لَهُ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، عَبَدَ الْأَصْنَامَ سَبْعِينَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ ضُرِّهِ. فَلَمَّا دَعَاهُ الرُّسُلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ قَالَ: هَلْ مِنْ آيَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، نَدْعُو رَبَّنَا الْقَادِرَ يُفَرِّجُ عَنْكَ مَا بِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعَجِيبٌ! لِي سَبْعُونَ سَنَةً أَدْعُو هَذِهِ الْآلِهَةَ فَلَمْ تَسْتَطِعْ، يُفَرِّجُهُ رَبُّكُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَبُّنَا عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، وَهَذِهِ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ، فَآمَنَ. وَدَعَوْا رَبَّهُمْ، فَكَشَفَ اللَّهُ مَا بِهِ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. فَأَقْبَلَ عَلَى التَّكَسُّبِ، فَإِذَا مَشَى، تَصَدَّقَ بِكَسْبِهِ، نِصْفٌ لِعِيَالِهِ، وَنِصْفٌ يُطْعِمُهُ. فلماهم قَوْمُهُ بِقَتْلِ الرُّسُلِ جَاءَهُمْ فَقَالَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. وَحَبِيبٌ هَذَا مِمَّنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَهُمَا سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، كَمَا آمَنَ بِهِ تُبَّعٌ الْأَكْبَرُ، وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِنَبِيٍّ غَيْرِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: سُبَّاقُ الْأُمَمِ ثَلَاثَةٌ، لَمْ يَكْفُرُوا قَطُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَصَاحِبُ يس، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ. وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ كَانَ مَجْذُومًا، عَبَدَ الْأَصْنَامَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُنَا تَقَدَّمَ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَفِي الْقِصَصِ تَأَخَّرَ، وَهُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْبَلَاغَةِ. رَجُلٌ يَسْعى: يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ. قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ إِيمَانِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ. وَقِيلَ: جَاءَ عِيسَى وَسَمِعَ قَوْلَهُمْ وَفَهِمَهُ فِيمَا فَهِمَهُ. رُوِيَ أَنَّهُ تَعَقَّبَ أَمْرَهُمْ وَسَبَرَهُ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: أَتَطْلُبُونَ أَجْرًا عَلَى دَعْوَتِكُمْ هَذِهِ؟ قَالُوا: لَا، فَدَعَا عِنْدَ

ذَلِكَ قَوْمَهُ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ وَالْإِيمَانِ بِهِمْ ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ: أَيْ وهم عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ. أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَاتَّبِعُوهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِجُمَلَةٍ جَامِعَةٍ فِي التَّرْغِيبِ، فِي كَوْنِهِمْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُمْ مِنْ حُطَامِ دُنْيَاهُمْ شَيْءٌ، وَفِي كَوْنِهِمْ يَهْتَدُونَ بِهُدَاهُمْ، فَيَشْتَمِلُونَ عَلَى خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي مَنْ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ، ظَهَرَ فِيهِ الْعَامِلُ كَمَا ظَهَرَ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ «1» . وَالْجُمْهُورُ: لَا يُعْرِبُونَ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْعَامِلِ الرَّافِعِ وَالنَّاصِبِ، بَدَلًا، بَلْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَإِذَا كَانَ الرَّافِعُ وَالنَّاصِبُ، سمعوا ذَلِكَ بِالتَّتْبِيعِ لَا بِالْبَدَلِ. وَفِي قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً، دَلِيلٌ عَلَى نَقْصِ مَنْ يَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرْعِ الَّتِي هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ، كَالصَّلَاةِ. وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ، أَخَذَ يُبْدِي الدَّلِيلَ فِي اتِّبَاعِهِمْ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، فَأَبْرَزَهُ فِي صُورَةِ نُصْحِهِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُرَادُ بِهِمْ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي إِمْحَاضِ النُّصْحِ حَيْثُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ، فَوَضَعَ قَوْلَهُ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، مَوْضِعَ: وَمَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ لَقَالَ: وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ. ثُمَّ أَتْبَعَ الْكَلَامَ كَذَلِكَ مُخَاطِبًا لِنَفْسِهِ فَقَالَ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قَاصِرَةً عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ؟ فَإِنْ أَرَادَكُمُ اللَّهُ بِضُرٍّ، وَشَفَعَتْ لَكُمْ، لَمْ تَنْفَعْ شَفَاعَتُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِنْقَاذِكُمْ فِيهِ، أَوَّلًا بِانْتِفَاءِ الْجَاهِ عَنْ كَوْنِ شَفَاعَتِهِمْ لَا تَنْفَعُ، ثُمَّ ثَانِيًا بِانْتِفَاءِ الْقَدْرِ. فَعَبَّرَ بِانْتِفَاءِ الْإِنْقَاذِ عَنْهُ، إِذْ هُوَ نَتِيجَتُهُ. وَفَتَحَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ فِي يُرِدْنِيَ مَعَ طَلْحَةَ السَّمَّانُ، كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَعِيسَى الهمداني، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو. وقال الزمخشري: وقرىء إِنْ يَرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ بِمَعْنَى: إِنْ يَجْعَلْنِي مُورِدًا لِلضُّرِّ. انْتَهَى. وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ رَأْيٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ، يَرِدْنِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا يَاءُ الْمُضَارَعَةِ، فَجَعَلَ الْفِعْلَ مُتَعَدِّيًا بِالْيَاءِ الْمُعَدِّيَةِ كَالْهَمْزَةِ، فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ هَمْزَةَ التَّعْدِيَةِ، وَنَصَبَ بِهِ اثْنَيْنِ. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْقُرَّاءِ الشَّوَاذِّ أَنَّهَا يَاءُ الْإِضَافَةِ الْمَحْذُوفَةِ خَطًّا وَنُطْقًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ: بِفَتْحِ يَاءِ الْإِضَافَةِ. وَقَالَ فِي اللَّوَامِحِ: إِنْ يَرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ أَصْلُ الْيَاءِ عِنْدَ الْبَصَرِيَّةِ، لَكِنْ هَذِهِ مَحْذُوفَةٌ، يَعْنِي الْبَصَرِيَّةَ، أَيِ الْمُثْبَتَةَ بِالْخَطِّ الْبَرْبَرِيِّ بالبصر،

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 33.

لِكَوْنِهَا مَكْتُوبَةً بِخِلَافِ الْمَحْذُوفَةِ خَطًّا وَلَفْظًا، فَلَا تُرَى بِالْبَصَرِ. إِنِّي إِذاً، إِنْ لَمْ أَعْبُدِ الَّذِي فَطَرَنِي وَاتَّخَذْتُ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، فِي حَيْرَةِ وَاضِحَةٍ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ. ثُمَّ صَرَّحَ بِإِيمَانِهِ وَصَدَعَ بِالْحَقِّ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ: أَيِ الَّذِي كَفَرْتُمْ بِهِ، فَاسْمَعُونِ: أَيِ اسْمَعُوا قَوْلِي وَأَطِيعُونِ، فَقَدْ نَبَّهْتُكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمَنْ مِنْهُ نَشْأَتُكُمْ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ وَبِالْوَاوِ، وَهُوَ لِقَوْمِهِ، وَالْأَمْرُ عَلَى جِهَةِ المبالغة والتنبيه، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ وَوَهْبٌ. وَقِيلَ: خَاطَبَ بِقَوْلِهِ فَاسْمَعُونِ الرُّسُلَ، عَلَى جِهَةِ الِاسْتِشْهَادِ بِهِمْ وَالِاسْتِحْفَاظِ لِلْأَمْرِ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ فِي بِرَبِّكُمْ، وَفِي فَاسْمَعُونِ لِلرُّسُلِ. لَمَّا نَصَحَ قَوْمَهُ أَخَذُوا يَرْجُمُونَهُ، فَأَسْرَعَ نَحْوَ الرُّسُلِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ فَقَالَ ذَلِكَ، أَيِ اسْمَعُوا إِيمَانِي وَاشْهَدُوا لِي بِهِ. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَجَبَتْ لَكَ الْجَنَّةُ، فَهُوَ خَبَرٌ بِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ دُخُولَهَا، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ قُتِلَ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ، رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَمُوتُ إِلَّا بِفَنَاءِ السموات وهلاكه الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَعَادَ اللَّهُ الْجَنَّةَ دَخَلَهَا. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ ذَلِكَ، رَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَطَوَّلَ مَعَهُمُ الْكَلَامَ لِيُشْغِلَهُمْ عَنْ قَتْلِ الرُّسُلِ إِلَى أَنْ صَرَّحَ لَهُمْ بِإِيمَانِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ بِوَطْءِ الْأَرْجُلِ حَتَّى خَرَجَ قَلْبُهُ مِنْ دُبُرِهِ وَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ، وَهِيَ الرَّسُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي» ، حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: رَمَوْهُ فِي حُفْرَةٍ، وَرَدُّوا التُّرَابَ عَلَيْهِ فَمَاتَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: حَرَقُوهُ حَرْقًا، وَعَلَّقُوهُ فِي بَابِ الْمَدِينَةِ، وَقَبْرُهُ فِي سُورِ أَنْطَاكِيَةَ. وَقِيلَ: نَشَرُوهُ بِالْمَنَاشِيرِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ فِيهَا حَيٌّ يُرْزَقُ. أَرَادَ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ «1» : وَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي طَالَعْنَا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَا نَصَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاسْمَعُونَ بِفَتْحِ النُّونِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا خَطَأٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ، فَإِمَّا حَذْفُ النُّونِ، وَإِمَّا كَسْرُهَا عَلَى جِهَةِ الْبِنَاءِ. انْتَهَى، يَعْنِي يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ وَالنُّونُ لِلْوِقَايَةِ. وَقَوْلُهُ: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَهْمٌ فَاحِشٌ، وَلَا يَكُونُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَّا مِنَ النَّاسِخِ بَلِ الْقُرَّاءُ مُجْمِعُونَ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى كَسْرِ النُّونِ، سَبْعَتُهُمْ وَشَوَاذُّهُمْ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عِصْمَةَ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ فَتْحِ النُّونِ، ذَكَرَهُ فِي الْكَامِلِ مُؤَلِّفُ أَبِي الْقَاسِمِ الْهُذَلِيِّ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنْ عِصْمَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا محذوف تواترت به

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 169، 170.

الْأَحَادِيثُ وَالرِّوَايَاتُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بِأَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ مِنْهَا، وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ سَاكِنِيهَا، فَرَأَى مَا أَقَرَّ عَيْنَهُ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ، تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ بِذَلِكَ. انْتَهَى. وقوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِسَائِلٍ عَنْ حَالِهِ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّصَلُّبِ فِي دِينِهِ فَقِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: قِيلَ لَهُ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ الْمُخَاطَبُ، وَتَمَنِّيهِ عِلْمَ قَوْمِهِ بِذَلِكَ هُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ عَنْ مَا وَجَدَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ ذَلِكَ اسْتِيفَاقًا وَنُصْحًا لَهُمْ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَآمَنُوا بِاللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «نَصَحَ قَوْمَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا» . وَقِيلَ: تَمَنَّى ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَطَأٍ فِي أَمْرِهِ، وَهُوَ عَلَى صَوَابٍ، فَيَنْدَمُوا وَيُحْزِنَهُمْ ذَلِكَ وَيُبَشِّرَ بِذَلِكَ. وَمَوْجُودٌ فِي طِبَاعِ النشر أَنَّ مَنْ أَصَابَ خَيْرًا فِي غَيْرِ مَوْطِنِهِ، وَدَّ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ جِيرَانُهُ وَأَتْرَابُهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ. وَبَلَغَنَا أَنَّ الْوَزِيرَ ذِنْكَ الدِّينِ الْمَسِيرِيَّ، وَكَانَ وَزِيرًا لِمَلِكِ مِصْرَ، رَاحَ إِلَى قَرْيَتِهِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا، وَهِيَ مَسِيرُ، وَهِيَ مِنْ أَصْغَرِ قُرَى مِصْرَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَرَانِي عَجَائِزُ مَسِيرٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي أَنَا فِيهَا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَالْعِزُّ مَطْلُوبٌ وَمُلْتَمَسٌ ... وَأَحَبُّهُ مَا نِيلَ فِي الْوَطَنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي مَصْدَرِيَّةٌ، جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِالَّذِي غَفَرَهُ لِي رَبِّي مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ، إِذْ يُؤَوَّلُ إِلَى تَمَنِّي عِلْمِهِمْ بِالذُّنُوبِ الْمُغْفَرَةِ، وَالَّذِي يَحْسُنُ تَمَنِّي عِلْمِهِمْ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَجَعْلِهِ مِنَ الْمُكْرَمِينَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا، يَعْنِي الِاسْتِفْهَامَ، لَقَالَ بِمَ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِمَا بِالْأَلِفِ، وَأَنْشَدَ فِيهِ أَبْيَاتًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، يَعْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ غَفَرَ لِي رَبِّي، يُرِيدُ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَهُمْ مِنَ الْمُصَابَرَةِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ قَوْلَكَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي يُرِيدُ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَهُمْ بِطَرْحِ الْأَلِفِ أَجْوَدُ، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُهَا جَائِزًا فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ بِمَا صَنَعْتُ هَذَا وَبِمَ صَنَعْتُ. انْتَهَى. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ جَرٍّ، مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ وَحَذْفُهَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْكَلَامِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: عَلَى مَ يَقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ كَاهِلِي ... إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعُنْ إِذَا الْخَيْلُ كَرَّتِ

وقرىء: مِنَ الْمُكَرَّمِينَ، مُشَدَّدَ الرَّاءِ مَفْتُوحَ الْكَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ، يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ، سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. أَخْبَرَ تَعَالَى بِإِهْلَاكِ قَوْمِ حَبِيبٍ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ، وَفِي ذَلِكَ تَوَعُّدٌ لِقُرَيْشٍ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، إِذْ هُمُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ الْمَثَلُ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِمْ لِإِهْلَاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّمَاءِ، كَالْحِجَارَةِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانُوا أَهْوَنَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ، يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَلَا عَاتَبَهُمْ بَعْدَ قَتْلِهِ، بَلْ عَاجَلَهُمْ بِالْهَلَاكِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ نَافِيَةٌ، فَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَيْ وَمَا كَانَ يَصِحُّ فِي حُكْمِنَا أَنْ نُنْزِلَ فِي إِهْلَاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى هَلَاكَ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «1» الْآيَةَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَا اسْمٌ مَعْطُوفٌ عَلَى جُنْدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ مِنْ جُنْدٍ وَمِنَ الَّذِي كُنَّا مُنْزِلِينَ عَلَى الْأُمَمِ مِثْلِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ تَقْدِيرٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِنْ فِي مِنْ جُنْدٍ زَائِدَةٌ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرُ الْأَخْفَشِ أَنَّ لِزِيَادَتِهَا شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا نَفْيٌ، أَوْ نَهْيٌ، أَوِ اسْتِفْهَامٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَى النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً. لَا يَجُوزُ: مَا ضَرَبْتُ مِنْ رَجُلٍ وَلَا زَيْدٍ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ:

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 40.

وَلَا مِنْ زَيْدٍ، وَهُوَ قَدَّرَ الْمَعْطُوفَ بِالَّذِي، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ، فَلَا يُعْطَفُ عَلَى النَّكِرَةِ الْمَجْرُورَةِ بِمِنِ الزَّائِدَةِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا زَائِدَةٌ، أَيْ وَقَدْ كُنَّا مُنْزِلِينَ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَرَأَ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً، بِنَصْبِ الصَّيْحَةِ، وَكَانَ نَاقِصَةٌ وَاسْمُهَا مُضْمَرٌ، أَيْ إِنْ كَانَتِ الْأَخْذَةُ أَوِ الْعُقُوبَةُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَارِئُ: صَيْحَةٌ بِالرَّفْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ كَانَتْ تَامَّةٌ، أي ما خدثت أَوْ وَقَعَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُلْحِقُ التَّاءَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ الْمُؤَنَّثِ، لَمْ تَلْحَقِ الْعَلَامَةُ لِلتَّأْنِيثِ فَيَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَلَا يَجُوزُ: مَا قَامَتْ إِلَّا هِنْدٌ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِلَّةٍ. وَمِثْلُهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي رَجَاءٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبِي بَحْرِيَّةَ: لَا تُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ بِالتَّاءِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْيَاءِ، وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: مَا بَرِئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وَذَمٍّ ... فِي حَرْبِنَا إِلَّا بَنَاتُ الْعَمِّ فَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِسَبَبِ لُحُوقِ تَاءِ التَّأْنِيثِ. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ: أَيْ فَاجَأَهُمُ الْخُمُودُ إِثْرَ الصَّيْحَةِ، لَمْ يَتَأَخَّرْ. وَكَنَّى بِالْخُمُودِ عَنْ سُكُوتِهِمْ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ، كَنَارٍ خَمَدَتْ بَعْدَ تَوَقُّدِهَا. وَنِدَاءُ الْحَسْرَةِ عَلَى مَعْنَى هَذَا وَقْتُ حُضُورِكَ وَظُهُورِكَ، هَذَا تَقْدِيرُ نِدَاءٍ، مِثْلِ هَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مُنَادًى مَنْكُورٌ عَلَى قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ ، عَلَى الْإِضَافَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَسْرَةُ مِنْهُمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَسْرَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِمَا فَاتَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ حِينَ أُحْضِرُوا لِلْعَذَابِ وَطِبَاعُ الْبَشَرِ تَتَأَثَّرُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ غَيْرِهِمْ وَتَتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو الزِّنَادِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ الْمَدَنِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ جُنْدُبٍ: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، بِسُكُونِ الْهَاءِ فِي الْحَالَيْنِ حَمَلَ فِيهِ الْوَصْلَ عَلَى الْوَقْفِ، وَوَقَفُوا عَلَى الْهَاءِ مُبَالَغَةً فِي التَّحَسُّرِ، لِمَا فِي الْهَاءِ مِنَ التَّأَهُّهِ كَالتَّأَوُّهِ، ثُمَّ وَصَلُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يا حسرة على العباد بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، انْتَهَى، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ اجْتَزَأَ بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفُ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي النِّدَاءِ، كَمَا

اجْتَزَأَ بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ فيه. وقد قرىء: يَا حَسْرَتَا، بِالْأَلِفِ، أَيْ يَا حَسْرَتِي، وَيَكُونُ مِنَ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ فِي مَعْنَى تَعْظِيمِ مَا جَنَوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفَرْطِ إِنْكَارِهِ وَتَعْجِيبِهِ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِبَادَ هُمْ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ، تَحَسَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: الْمَعْنَى يَا حَسْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى عِبَادِنَا الرُّسُلِ حَتَّى لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: المراد بالعباد الرسل الثَّلَاثَةُ، وَكَانَ هَذَا التَّحَسُّرُ هُوَ مِنَ الْكُفَّارِ، حِينَ رَأَوْا عَذَابَ اللَّهِ تَلَهَّفُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مَا يَأْتِيهِمْ الْآيَةَ يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ. انْتَهَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَسْرَةُ أَمْرٌ يَرْكَبُ الْإِنْسَانَ مِنْ كَثْرَةِ النَّدَمِ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ حَتَّى يَبْقَى حَسِيرًا. وَقِيلَ: الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَانْتُصِبَ حَسْرَةً عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ يَا هَؤُلَاءِ تَحَسَّرُوا حَسْرَةً. وَقِيلَ: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى، لَمَّا وَثَبَ الْقَوْمُ لِقَتْلِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ، قَالُوا ذَلِكَ حِينَ قَتَلُوا ذَلِكَ الرجل وجل بِهِمُ الْعَذَابُ، قَالُوا: يَا حَسْرَةً عَلَى هَؤُلَاءِ، كَأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا قَدْ آمَنُوا. انْتَهَى. فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْعِبَادَ الْمُرَادُ بِهِمُ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ أَوْ مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ وَهُمُ الْهَالِكُونَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِتَعْرِيفِ جِنْسِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمُتَحَسِّرَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْمُؤْمِنُونَ أَوِ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ أَوْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، أَقْوَالٌ. مَا يَأْتِيهِمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: تَمْثِيلٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُمُ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَمْ هُنَا خَبَرِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ بَدَلٌ مِنْهَا، وَالرُّؤْيَةُ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ. انْتَهَى. فَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ خَبَرِيَّةً فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَهْلَكْنَا، وَلَا يَسُوغُ فِيهَا إِلَّا ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، امْتُنِعَ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُمْ بَدَلٌ مِنْهَا، لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، وَلَوْ سُلِّطَتْ أَهْلَكْنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِحَّ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ أَهْلَكْنَا انْتِفَاءَ رُجُوعِهِمْ، أَوْ أَهْلَكْنَا كَوْنَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، لَمْ يَكُنْ كَلَامًا؟ لَكِنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ تَوَهَّمَ أَنَّ يَرَوْا مَفْعُولُهُ كَمْ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ، لِأَنَّهُ يَسُوغُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ فَتَقُولَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ؟ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، لِأَنَّ عَدَمَ الرُّجُوعِ وَالْهَلَاكِ بِمَعْنَى النَّهْيِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّجَّاجُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَدَلًا صِنَاعِيًّا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَلْحَظْ صَنْعَةَ النَّحْوِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كَمْ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ لِيَرَوْا. وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ يَعْمَلُ يَرَوْا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِبْدَالٍ،

وَقَوْلُهُمْ فِي الْجُمْلَتَيْنِ تَجُوزُ، لِأَنَّ أَنَّهُمْ وَمَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ هَذَا الْعَمَلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَمْ يَرَوْا: أَلَمْ يَعْلَمُوا، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي كَمْ، لِأَنَّ كَمْ لَا يَعْمَلُ فِيهَا عَامِلٌ قَبْلَهَا كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ أَوْ لِلْخَبَرِ، لِأَنَّ أَصْلَهَا الِاسْتِفْهَامُ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا نَافِذٌ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا نَفَذَ فِي قَوْلِكَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ؟ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي لفظه. وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ مِنْ أَهْلَكْنا عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَوْنَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِمْ؟ انْتَهَى. فَجَعَلَ يَرَوْا بِمَعْنَى يَعْلَمُوا، وَعَلَّقَهَا عَلَى الْعَمَلِ فِي كَمْ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ كَمْ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ أَوْ لِلْخَبَرِ، وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ أَوِ اسْمًا مُضَافًا جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا، نَحْوُ كَمْ عَلَى: كَمْ جِذْعٍ بَيْتُكَ؟ وَأَيْنَ: كَمْ رَئِيسٍ صَحِبْتَ؟ وَعَلَى: كَمْ فَقِيرٍ تَصَدَّقْتَ؟ أَرْجُو الثَّوَابَ، وَأَيْنَ: كَمْ شَهِيدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ: أَوْ لِلْخَبَرِ الْخَبَرِيَّةُ فِيهَا لُغَتَانِ: الْفَصِيحَةُ كَمَا ذَكَرَ لَا يَتَقَدَّمُهَا عَامِلٌ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَارِ وَاللُّغَةِ الْأُخْرَى، حَكَاهَا الْأَخْفَشُ يَقُولُونَ فِيهَا: مَلَكْتَ كَمْ غُلَامٍ؟ أَيْ مَلَكْتَ كَثِيرًا مِنَ الْغِلْمَانِ. فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعَامِلُ عَلَى كَثِيرٍ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى كَمْ لِأَنَّهَا بِمَعْنَاهَا. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ أَصْلَهَا الِاسْتِفْهَامُ، لَيْسَ أَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَصْلٌ فِي بَابِهَا، لَكِنَّهَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا نَافِذٌ فِي الْجُمْلَةِ، يَعْنِي مَعْنَى يَرَوْا نَافِذٌ فِي الْجُمْلَةِ، لأن جَعَلَهَا مُعَلَّقَةً، وَشَرَحَ يَرَوْا بِيَعْلَمُوا. وَقَوْلُهُ: كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِكَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ؟ فَإِنَّ زيد المنطلق مَعْمُولٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِيَرَوْا، وَلَوْ كَانَ عَامِلًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ، وَكَانَتْ أَنَّ مَفْتُوحَةً، فَأَنَّ وَفِي خَبَرِهَا اللَّامُ مِنَ الْأَدَوَاتِ الَّتِي تُعَلِّقُ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ. وَقَوْلُهُ: وأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، لَا عَلَى اللَّفْظِ وَلَا عَلَى الْمَعْنَى. أَمَّا عَلَى اللَّفْظِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ يَرَوْا مُعَلَّقَةٌ، فَيَكُونُ كَمِ اسْتِفْهَامًا، وَهُوَ مَعْمُولٌ لَأَهْلَكْنَا، وَأَهْلَكْنَا لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَتَقَدَّمَ لَنَا ذَلِكَ. وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى، فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَالَ تَقْدِيرُهُ، أَيْ عَلَى الْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَوْنَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِمْ؟ فَكَوْنُهُمْ غَيْرَ كَذَا لَيْسَ كَثْرَةَ الْإِهْلَاكِ، فَلَا يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كل، وَلَا بَعْضًا مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَلَا يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلَا يَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا أُبْدِلَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ هُنَا. لَا تَقُولُ: أَلَمْ يَرَوُا انْتِفَاءَ رُجُوعِ كَثْرَةِ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ نَحْوُ: أَعْجَبَنِي الْجَارِيَةُ مَلَاحَتُهَا، وَسُرِقَ زَيْدٌ ثَوْبُهُ، يَصِحُّ

أَعْجَبَنِي مَلَاحَةُ الْجَارِيَةِ، وَسُرِقَ ثَوْبُ زِيدٍ، وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ «1» ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أَنَّهُمْ مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهُ: قَضَيْنَا أَوْ حَكَمْنَا أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: إِنَّهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَطْعِ الْجُمْلَةِ عَنْ مَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ مَقْطُوعَةٌ عَنْ مَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ لِتَتَّفِقَ الْقِرَاءَتَانِ وَلَا تَخْتَلِفَا. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى كَمْ، وَهُمُ الْقُرُونُ، وَإِلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ يَرَوْا، وَهُمْ قُرَيْشٌ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَنْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ يَرَوْا، وَفِي إِلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْبَاقِينَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْمُهْلَكِينَ بِنَسَبٍ وَلَا وِلَادَةٍ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ وَقَطَعْنَا نَسْلَهُمْ، وَالْإِهْلَاكُ مَعَ قَطْعِ النَّسْلِ أَتَمُّ وَأَعَمُّ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا، وَأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، رَدٌّ عَلَى القائلين بالرجعة. وقيل لا بن عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ الْقَوْمُ نَحْنُ إِذَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَقَسَّمْنَا مِيرَاثَهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِتَثْقِيلِ لَمَّا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِهَا. فَمَنْ ثَقَّلَهَا كَانَتْ عِنْدَهُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ مَا كَلٌّ، أَيْ كُلُّهُمْ إِلَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا، مُحْضَرُونَ: أَيْ مَحْشُورُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: مُعَذَّبُونَ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِمَنْ مَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَنْ خَفَّفَ لَمَّا جَعَلَ أن المخففة من الثقيلة، وَمَا زَائِدَةً، أَيْ إِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ، فَإِنْ عِنْدَهُمْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَمَا زَائِدَةٌ، وَلَمَّا الْمُشَدَّدَةُ بِمَعْنَى إِلَّا ثَابِتٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بنقل الثقات، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى زَعْمِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِي كَوْنِ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا مَعْنًى مناسب، وَهُوَ أَنَّ لَمَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ جَمِيعًا. وَهُمَا لَمْ وَمَا، فَتَأَكَّدَ النَّفْيُ وَإِلَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ إِنْ وَلَا، فَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. انْتَهَى، وَهَذَا أَخَذَهُ مِنَ قَوْلِ الْفَرَّاءِ فِي إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مَنْ إِنْ وَلَا، إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاءَ جَعَلَ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَا زَائِدَةً، أَيْ إِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ، فَإِنْ عِنْدَهُمْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَمَا زَائِدَةٌ، وَلَمَّا الْمُشَدَّدَةُ بِمَعْنَى إِلَّا ثَابِتٌ حَرْفُ نَفْيٍ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ النُّحَاةِ رَكِيكٌ، وَمَا تَرَكَّبَ منه وزاد تحريفا أَرَكُّ مِنْهُ، وَكُلٌّ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَجَمِيعٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 6.

وَجَمِيعٌ مُحْضَرُونَ هُنَا عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا أُفْرِدَ مُنْتَصِرٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَكِلَاهُمَا بَعْدَ جَمِيعٍ يُرَاعَى فِيهِ الْفَوَاصِلُ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِهْلَاكِ تَبْيِينًا أَنَّهُ تعالى ليس من أهله يُتْرَكُ، بَلْ بَعْدَ إِهْلَاكِهِمْ جَمْعٌ وَحِسَابٌ وَثَوَابٌ وَعِقَابٌ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هَذَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَشْرِ مِنْ قَوْلُهُ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَدَأَ بِالْأَرْضِ، لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّهُمْ، حَرَكَةً وَسُكُونًا، حَيَاةً وَمَوْتًا. وَمَوْتُ الْأَرْضِ جَدْبُهَا، وَإِحْيَاؤُهَا بِالْغَيْثِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ. وأَحْيَيْناها: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِكَوْنِ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ آيَةٌ، وَكَذَلِكَ نَسْلَخُ. وَقِيلَ: أَحْيَيْنَاهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا آيَةٌ بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَيَكُونُ آيَةٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ مُبْتَدَأٌ فالنية بآية التَّأْخِيرُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ آيَةٌ لَهُمْ مُحْيَاةً كَقَوْلِكَ: قَائِمٌ زَيْدٌ مُسْرِعًا، أَيْ زَيْدٌ قَائِمٌ مُسْرِعًا، وَلَهُمْ متعلق بآية، لَا صِفَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْأَرْضُ وَاللَّيْلُ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِمَا الْجِنْسَانِ مُطْلَقَيْنِ لَا أَرْضٌ، وَلَيْلٌ بِإِحْيَائِهِمَا، فَعُومِلَا مُعَامَلَةَ النَّكِرَاتِ فِي وَصْفِهَا بِالْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي انْتَهَى. وَهَذَا هَدْمٌ لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالنَّكِرَةِ، وَالْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا يَسُبُّنِي فَحَالٌ، أي سابا لِي، وَقَدْ تَبِعَ الزَّمَخْشَرِيُّ ابْنَ مَالِكٍ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّسْهِيلِ مِنْ تَأْلِيفِهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ تَعَدُّدٌ نَعَمْ إِحْيَاؤُهَا بِحَيْثُ تَصِيرُ مُخْضَرَّةً تُبْهِجُ النَّفْسَ وَالْعَيْنَ، وَإِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنْهَا حَيْثُ صَارَ مَا يَعِيشُونَ بِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُسْتَقِرُّونَ، لَا فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْهَوَاءِ، وَجَعَلَ الْحَبَّاتِ لِأَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنَ الْحَبِّ، وَرُبَّمَا تَاقَتِ النَّفْسُ إِلَى النَّقْلَةِ، فَالْأَرْضُ يُوجَدُ مِنْهَا الْحَبُّ، وَالشَّجَرُ يُوجَدُ مِنْهُ الثَّمَرُ، وَتَفْجِيرُ الْعُيُونِ يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى تَحْصِيلِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يُدْرَ أَيْنَ يُغْرَسُ وَلَا أَيْنَ يَقَعُ الْمَطَرُ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وَفَجَّرْنا بِالتَّخْفِيفِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ. ومِنْ ثَمَرِهِ بِفَتْحَتَيْنِ وَطَلْحَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِضَمَّتَيْنِ وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالضَّمِيرُ فِي ثَمَرِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ، قِيلَ: لِدَلَالَةِ الْعُيُونِ عَلَيْهِ وَلِكَوْنِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَاءِ الْعُيُونِ وَقِيلَ:

عَلَى النَّخِيلِ، وَاكْتَفَى بِهِ لِلْعِلْمِ فِي اشْتِرَاكِ الْأَعْيَانِ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ النَّخِيلُ مِنْ أَكْلِ ثَمَرِهِ، أَوْ يُرَادُ مِنْ ثَمَرِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْجَنَّاتُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ قُلْتَ بِعُيُونٍ، كَأَنَّهُ وَالَّذِي تَقَدَّمَ خُطُوطٌ؟ فَقَالَ أَرْتٌ: كَانَ ذَاكَ. وَقِيلَ: عَائِدٌ إِلَى التَّفْجِيرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَفَجَّرْنَا الْآيَةَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَعَنَى بِثَمَرَهِ: فَوَائِدَهُ، كَمَا تَقُولُ: ثَمَرَةُ التِّجَارَةِ الرِّبْحُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنْ ثَمَرِنَا، كَمَا قَالَ: وَجَعَلْنا، وَفَجَّرْنا، فَنَقَلَ الْكَلَامَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَالْمَعْنَى: لِيَأْكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرِ، وَمِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَرْسِ وَالسَّقْيِ وَالْآبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَى أَنْ بَلَغَ الثَّمَرُ مُنْتَهَاهُ، وَبَانَ أُكُلُهُ يَعْنِي أَنَّ الثَّمَرَ فِي نَفْسِهِ فِعْلُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ، وَفِيهِ آثَارٌ مِنْ كَدِّ بَنِي آدَمَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ خَلْقُ الله، ولم تعمله أيديه النَّاسِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما عَمِلَتْهُ بِالضَّمِيرِ، فَإِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الثَّمَرِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِغَيْرِ ضَمِيرٍ مَفْعُولُ عَمِلَتْ عَلَى التقديرين محذوفة، وَجُوِّزَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ وَعَمَلِ أَيْدِيهِمْ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْمُولُ، فَيَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْمَوْصُولِ. وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى هَذِهِ النِّعَمَ، حَضَّ عَلَى الشُّكْرِ فَقَالَ أَفَلا يَشْكُرُونَ، ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عن كُلِّ مَا يُلْحِدُ بِهِ مُلْحِدٌ، أَوْ يُشْرِكُ بِهِ مُشْرِكٌ، فَذَكَرَ إِنْشَاءَ الْأَزْوَاجِ، وَهِيَ الْأَنْوَاعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ: مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكُلُّ صِنْفٍ زَوْجٌ مُخْتَلِفٌ لَوْنًا وطمعا وَشَكْلًا وَصِغَرًا وَكِبَرًا، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ: ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ: أَيْ وَأَنْوَاعًا مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، أُعْلِمُوا بِوُجُودِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا هُوَ، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ عِلْمُهُمْ بِمَاهِيَّتِهِ، أَمْرٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا. وَفِي إِعْلَامِهِ بِكَثْرَةِ مَخْلُوقَاتِهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّسَاعِ ملكه وعظم قدرته. ولكا ذَكَرَ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْكُلِّيُّ، ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ الزَّمَانُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ، لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الْجَوَاهِرُ، وَالزَّمَانَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الْأَعْرَاضُ، لِأَنَّ كُلَّ عَرَضٍ فَهُوَ فِي زَمَانٍ، وَمِثْلُهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ:

وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «1» ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً «2» الْآيَةَ. وَبَدَأَ هُنَاكَ بِالزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ «3» الْآيَةَ، ثُمَّ الْحَشْرِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى «4» ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ الْحَشْرُ أَوَّلًا لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِيهَا أَكْثَرُ، وَذِكَرَ التَّوْحِيدِ فِي فُصِّلَتْ أَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ «5» . انْتَهَى، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، وفيه تلخيص. ونَسْلَخُ: مَعْنَاهُ نَكْشِطُ وَنُقَشِّرُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِإِزَالَةِ الضَّوْءِ وَكَشْفِهِ عن مكان الليل. ومُظْلِمُونَ: دَاخِلُونَ فِي الظَّلَامِ، كَمَا تَقُولُ: أَعَتَّمْنَا وَأَسْحَرْنَا: دَخَلْنَا فِي الْعَتَمَةِ وَفِي السَّحَرِ. وَاسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذَا عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ أَصْلٌ وَالنَّهَارَ فَرْعٌ طَارِئٌ عَلَيْهِ، وَمُسْتَقَرُّ الشَّمْسِ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ تَسْجُدُ فِيهِ كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ غُرُوبِهَا. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «وَيُقَالُ لَهَا اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ طَلَعْتِ، فَإِذَا كَانَ طُلُوعُهَا مِنْ مَغْرِبِهَا يُقَالُ لَهَا اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا غَرَبَتْ وَانْتَهَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَتَجَاوَزُهُ، اسْتَوَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِلشَّمْسِ فِي السَّنَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَطْلَعًا، تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَطْلَعًا، ثُمَّ لَا تَنْزِلُ إِلَى الْحَوْلِ، وَهِيَ تَجْرِي فِي فَلَكِ الْمَنَازِلِ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ غَيْبُوبَتِهَا، لِأَنَّهَا تَجْرِي كُلَّ وَقْتٍ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ تَغْرُبُ فِيهِ، أَوْ أَحَدِ مَطَالِعِهَا فِي الْمُنْقَلِبَيْنِ، لِأَنَّهُمَا نِهَايَتَا مَطَالِعِهَا فَإِذَا اسْتَقَرَّ وُصُولُهَا كَرَّتْ رَاجِعَةً، وَإِلَّا فَهِيَ لَا تَسْتَقِرُّ عَنْ حَرَكَتِهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَنَحَا إِلَى هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوْ وُقُوفُهَا عِنْدَ الزَّوَالِ كال يَوْمٍ، وَدَلِيلُ اسْتِقْرَارِهَا وُقُوفُ ذَلِكَ الظَّلَامِ حِينَئِذٍ. وَقَالَ الزمخشري: بمستقر لها: لحدّ لها مُؤَقَّتٌ مُقَدَّرٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ فَلَكِهَا فِي آخِرِ السَّنَةِ. شَبَّهَ بِمُسْتَقَرِّ الْمُسَافِرِ إِذَا قَطَعَ مَسِيرَهُ، أَوْ كَمُنْتَهَى لَهَا مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، لِأَنَّهَا تَتَقَصَّاهَا مَشْرِقًا مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا مَغْرِبًا حَتَّى تَبْلُغَ أَقْصَاهَا ثُمَّ تَرْجِعَ، فَلِذَلِكَ حَدُّهَا وَمُسْتَقَرُّهَا، لِأَنَّهَا لَا تَعْدُوهُ أَوْ لَا يعدلها مِنْ مَسِيرِهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي مَرْأَى عُيُونِنَا وَهُوَ الْمَغْرِبُ. وَقِيلَ: مُسْتَقَرُّهَا: مَحَلُّهَا الَّذِي أَقَرَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا فِي جَرْيِهَا فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ آخِرُ السَّنَةِ. وَقِيلَ: الْوَقْتُ الَّذِي تَسْتَقِرُّ فِيهِ وَيَنْقَطِعُ جَرْيُهَا، وَهُوَ يوم القيامة.

_ (1) سورة فصلت: 41/ 37. (2) سورة فصلت: 41/ 39. (3) سورة فصلت: 41/ 37. [.....] (4) سورة فصلت: 41/ 39. (5) سورة فصلت: 41/ 9.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: فِي الْمُسْتَقَرِّ وُجُوهٌ فِي الزَّمَانِ وَفِي الْمَكَانِ، فَفِي الزَّمَانِ اللَّيْلُ أَوِ السَّنَةُ أَوْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْمَكَانِ غَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَانْخِفَاضِهَا فِي الشِّتَاءِ، وَتَجْرِي إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَتَرْجِعُ، أَوْ غَايَةُ مَشَارِقِهَا، فَلَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشْرِقٌ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعُودُ عَلَى تِلْكَ الْمُقَنْطَرَاتِ وَهَذَا هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي الِارْتِفَاعِ. فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَارِقِ سَبَبُ اخْتِلَافِ الِارْتِفَاعِ، أَوْ وُصُولِهَا إِلَى بَيْتِهَا فِي الْأَسَدِ، أَوِ الدَّائِرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا حَرَكَتُهَا، حَيْثُ لَا تَمِيلُ عَنْ مِنْطَقَةِ الْبُرُوجِ عَلَى مُرُورِ الشَّمْسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تَجْرِي مَجْرَى مُسْتَقَرِّهَا، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ قَالُوا: الشَّمْسُ فِي فَلَكٍ، وَالْفَلَكُ يَدُورُ فَيُدِيرُ الشَّمْسَ، فَالشَّمْسُ تَجْرِي مَجْرَى مستقرها. انتهى. وقرىء: إِلَى مُسْتَقَرِّهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءُ بْنُ رَبَاحٍ، وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَالْبَاقِرُ، وَابْنُهُ الصَّادِقُ، وَابْنُ أَبِي عَبْدَةَ: لَا مستقر لها، نفيا مبينا عَلَى الْفَتْحِ ، فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَ كُلِّ مُسْتَقَرٍّ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ هِيَ تَجْرِي دَائِمًا فِيهَا، لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِرَفْعِ مُسْتَقَرٌّ وَتَنْوِينِهِ عَلَى إِعْمَالِهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَعَزَّ فَلَا شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ بَاقِيَا ... وَلَا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى جَرْيِ الشَّمْسِ: أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَالْحِسَابِ الدَّقِيقِ. تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ: الْغَالِبُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ، الْمُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ مَعْلُومٍ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَالْقَمَرَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وقَدَّرْناهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ قدرنا سيره، ومَنازِلَ: طرف، أَيْ مَنَازِلَهُ وَقِيلَ: قَدَّرْنَا نُورَهُ فِي مَنَازِلَ، فَيَزِيدُ مِقْدَارُ النُّورِ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْمَنَازِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَيَنْقُصُ فِي الْمَنَازِلِ الِاسْتِقْبَالِيَّةِ. وَقِيلَ: قَدَّرْنَاهُ: جَعَلْنَا أَنَّهُ أُجْرِيَ جَرْيُهُ عَكْسَ مَنَازِلِ أَنْوَارِ الشَّمْسِ، وَلَا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ حَرْفِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ جِرْمَ الْقَمَرِ مُظْلِمٌ، يَنْزِلُ فِيهِ النُّورُ لِقَبُولِهِ عَكْسُ ضِيَاءِ الشَّمْسِ، مِثْلُ الْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ إِذَا قُوبِلَ بِهَا الشُّعَاعُ. وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً، يَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، لَا يَتَخَطَّاهُ وَلَا يَتَقَاصَرُ عَنْهُ، عَلَى تَقْدِيرٍ مستولا يتفاوت، يَسِيرُ فِيهَا مِنْ لَيْلَةِ الْمُسْتَهَلِّ إِلَى الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ، ثُمَّ يَسِيرُ لَيْلَتَيْنِ إِذَا نَقَصَ الشَّهْرُ، وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ هِيَ مَوَاقِعُ النُّجُومِ الَّتِي نَسَبَتْ إِلَيْهَا الْعَرَبُ الْأَنْوَاءَ المستمطرة، وهي: الشرطين، الْبَطِينُ، الثُّرَيَّا، الدَّبَرَانِ، الْهَقْعَةُ، الْهَنْعَةُ، الذِّرَاعُ، النَّثْرَةُ، الطَّرْفُ، الْجَبْهَةُ، الدَّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ، الْعَوَّاءُ،

السِّمَاكُ، الْعَفْرُ، الزُّبَانَى، الْإِكْلِيلُ، الْقَلْبُ، الشَّوْلَةُ، النَّعَائِمُ، الْبَلْدَةُ، سَعْدُ الذَّابِحِ، سَعْدُ بُلَعَ، سَعْدُ السُّعُودِ، سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، فَرْعُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمُ، فَرْعُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرُ، بَطْنُ الْحُوتِ، وَيُقَالُ لَهُ الرِّشَاءُ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ مَنَازِلِهِ دَقَّ وَاسْتَقْوَسَ وَاصْفَرَّ، فَشُبِّهَ بِالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ مِنْ ثَلَاثَةٍ الأوجه. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: كَالْعِرْجَوْنِ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْجِيمِ والجمهور: بضمهما، وهما لغتان كالبريون. والْقَدِيمِ: مَا مَرَّ عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ. وَقِيلَ: أَقَلُّ عِدَّةِ الْمَوْصُوفِ بِالْقِدَمِ حَوْلٌ، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي قَدِيمٌ فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ كَتَبَ ذَلِكَ فِي وَصِيَّةٍ، عَتَقَ مِنْهُمْ مَنْ مَضَى لَهُ حَوْلٌ وَأَكْثَرُ. انْتَهَى. وَالْقِدَمُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ سَنَةٌ وَلَا سَنَتَانِ، فَلَا يُقَالُ الْعَالَمُ قَدِيمٌ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ فِي ذَلِكَ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ: يَنْبَغِي لَهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ خِلَافُهُ، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا قُدْرَةً عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الْإِدْرَاكُ الْمُنْبَغِي هُوَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لكل واحد من اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآيَتِيهِمَا قِسْمًا مِنَ الزَّمَانِ، وَضَرَبَ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا، وَدَبَّرَ أَمْرَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ. فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أَنْ لَا يَسْتَهِلَّ لَهَا، وَلَا يَصِحَّ، وَلَا يَسْتَقِيمَ، لِوُقُوعِ التَّدْبِيرِ عَلَى الْعَاقِبَةِ. وَإِنْ جُعِلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّيِّرَيْنِ سُلْطَانٌ، عَلَى حِيَالِهِ أَنْ يُدْرِكَ الْقَمَرَ، فَتَجْتَمِعَ مَعَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَتُدَاخِلَهُ فِي سُلْطَانِهِ، فَتَطْمِسَ نُورَهُ. وَلَا يَسْبِقَ اللَّيْلُ النَّهَارَ، يَعْنِي آيَةَ اللَّيْلِ آيَةَ النَّهَارِ، وَهُمَا النَّيِّرَانِ. وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَى أَنْ يُبْطِلَ اللَّهُ مَا دَبَّرَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُنْقِصَ مَا أَلَّفَ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَتَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والضحاك: إِذَا طَلَعَتْ، لَمْ يَكُنْ لِلْقَمَرِ ضَوْءٌ وَإِذَا طَلَعَ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّمْسِ ضَوْءٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُشْبِهُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِكُلِّ أَحَدٍ حَدٌّ لَا يَعْدُوهُ وَلَا يَقْصُرُ دُونَهُ، إِذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا ذَهَبَ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِذَا اجْتَمَعَا فِي السَّمَاءِ، كَانَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدِيِ الْآخَرِ، فِي مَنَازِلَ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْهِلَالِ خَاصَّةً، أَيْ لَا تَبْقَى الشَّمْسُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَلَكِنْ إِذَا غَرَبَتْ طَلَعَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: لَا تُدْرِكُهُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ يُبَادِرُ بِالْمَغِيبِ قَبْلَ طُلُوعِهَا. وَقِيلَ: لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُدْرِكَهُ فِي سُرْعَتِهِ، لِأَنَّ دَائِرَةَ فَلَكِ الْقَمَرِ دَاخِلَةٌ فِي فَلَكِ عُطَارِدٍ، وَفَلَكُ عُطَارِدٍ دَاخِلٌ فِي فَلَكِ الزُّهْرَةِ، وَفَلَكُ الزُّهْرَةِ دَاخِلٌ فِي فَلَكِ الشَّمْسِ. فَإِذَا كَانَ طَرِيقُ الشَّمْسِ أَبْعَدَ، قَطَعَ الْقَمَرُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ فَلَكِهِ، أَيْ مِنَ الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، فِي زَمَانٍ نقطع الشَّمْسُ فِيهِ بُرْجًا وَاحِدًا مِنْ فَلَكِهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَا قِيلَ فِيهِ، وَأَبَيْنُهُ أَنَّ مَسِيرَ الْقَمَرِ مَسِيرٌ سَرِيعٌ، وَالشَّمْسُ لَا تُدْرِكُهُ فِي السَّيْرِ. انْتَهَى، وَهُوَ مُلَخَّصُ الْقَوْلِ الَّذِي

قَبْلَهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً «1» ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، أَنَّ النَّهَارَ سَابِقٌ أَيْضًا، فَيُوَافِقُ الظَّاهِرَ. وَفَهِمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أَنَّ النَّهَارَ يَطْلُبُ اللَّيْلَ، وَاللَّيْلُ سَابِقُهُ. وَفَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، أَنَّ اللَّيْلَ مَسْبُوقٌ لَا سَابِقٌ، فَأَوْرَدَهُ سُؤَالًا. وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ اللَّيْلُ سَابِقًا مَسْبُوقًا؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّيْلِ هَنَا سُلْطَانُ اللَّيْلِ، وَهُوَ الْقَمَرُ، وَهُوَ لَا يَسْبِقُ الشَّمْسَ بِالْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ السَّرِيعَةِ. وَالْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ هُنَاكَ نَفْسُ اللَّيْلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ لَمَّا كَانَ فِي عَقِبِ الْآخَرِ كَانَ طَالِبَهُ. انْتَهَى. وَعَرَضَ لَهُ هَذَا السُّؤَالُ لِكَوْنِهِ جَعَلَ الضَّمِيرَ الْفَاعِلَ فِي يَطْلُبُهُ عَائِدًا عَلَى النَّهَارِ، وَضَمِيرَ الْمَفْعُولِ عَائِدًا عَلَى اللَّيْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ عَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ اللَّيْلُ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ هَمْزَةِ النَّقْلِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ «2» ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى النَّهَارِ، لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ قَبْلَ النَّقْلِ وَبَعْدَهُ. وَقَرَأَ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلَالِ بْنِ جَرِيرٍ الْخَطَفِيُّ: سَابِقُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، النَّهَارَ: بِالنَّصْبِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَرَدْتُ سَابِقَ النَّهَارِ، فَحَذَفْتُ لِأَنَّهُ أَخَفُّ. انْتَهَى، وَحَذَفَ التَّنْوِينَ فِيهِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ أنه يراد به الأنباء وَمَنْ نَشَأَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: يَنْطَلِقُ عَلَى الْآبَاءِ وَعَلَى الْأَبْنَاءِ، قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَخْلِيطٌ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي اللُّغَةِ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الذُّرِّيَّةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ وَفِي ذُرِّيَّاتِهِمْ عَائِدٌ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَمَلَ ذُرِّيَّاتِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ آبَاؤُهُمُ الْأَقْدَمُونَ، فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ. وَمِنْ مِثْلِهِ: لِلسُّفُنِ الْمَوْجُودَةِ فِي جِنْسِ بَنِي آدَمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ذُرِّيَّاتِهِمْ، حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ ذُرِّيَّاتِ جِنْسِهِمْ، وَأُرِيدَ بِالذُّرِّيَّةِ مَنْ لَا يُطِيقُ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَالضُّعَفَاءِ. فَالْفَلَكُ اسْمُ جِنْسٍ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَكَوْنُ الْفَلَكِ مُرَادًا بِهِ الْجِنْسُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيٌّ، وَمِنْ مِثْلِهِ: الْإِبِلُ وَسَائِرُ مَا يُرْكَبُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ مُخْتَلِفَانِ، أَيْ ذُرِّيَّةُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ آيَةً لِهَؤُلَاءِ، إِذْ هُمْ نَسْلُ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: الذُّرِّيَّةُ: النُّطَفُ، وَالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ: بُطُونُ النِّسَاءِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَهَذَا لَا يصح، لأنه من

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 54. (2) سورة الأعراف: 7/ 54.

نَوْعِ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِجِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الدَّلَالَةِ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ ظَاهِرُ الْفُلْكِ قَوْلُهُ: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ: يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي أَنَّهُ مَرْكُوبٌ مُبَلِّغٌ لِلْأَوْطَانِ فَقَطْ، هَذَا إِذَا كَانَ الْفُلْكُ جِنْسًا. وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ سَفِينَةُ نُوحٍ، فَالْمُمَاثَلَةُ تَكُونُ فِي كَوْنِهَا سُفُنًا مِثْلَهَا، وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي بَنِي آدَمَ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الذُّرِّيَّةُ فِي الْفُلْكِ قَوْمُ نُوحٍ فِي سَفِينَتِهِ، وَالْمِثْلُ الْأَجَلُ: وَمَا يُرْكَبُ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: ذُرِّيَّاتِهِمْ بِالْجَمْعِ وَكَسَرَ زَيْدٌ وَأَبَانٌ الذَّالَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى: بِالْإِفْرَادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُرِّيَّتَهُمْ: أَوْلَادَهُمْ وَمَنْ يُهِمُّهُمْ حَمْلُهُ. وَقِيلَ: اسْمُ الذُّرِّيَّةِ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ مَزَارِعُهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الذَّرَارِي» ، يَعْنِي النِّسَاءَ. مِنْ مِثْلِهِ: مِنْ مِثْلِ الْفُلْكِ، مَا يَرْكَبُونَ: مِنَ الْإِبِلِ، وَهِيَ سَفَائِنُ الْبَرِّ. وَقِيلَ: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ: سَفِينَةُ نُوحٍ. وَمَعْنَى حَمَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِيهَا: أَنَّهُ حُمِلَ فِيهَا آبَاؤُهُمُ الْأَقْدَمُونَ، وَفِيِ أَصْلَابِهِمْ هُمْ وَذُرِّيَّاتُهُمْ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذُرِّيَّاتِهِمْ دُونَهُمْ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، وَأَدْخَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ قُدْرَتِهِ فِي حَمْلِ أَعْقَابِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ في سفينة نوح. ومِنْ مِثْلِهِ: مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْفُلْكِ، مَا يَرْكَبُونَ: مِنَ السُّفُنِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: إِنَّمَا خَصَّ الذُّرِّيَّاتِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودِينَ كَانُوا كُفَّارًا لَا فَائِدَةَ فِي وُجُودِهِمْ، أَيْ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ حَمْلًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمْلًا لِمَا فِي أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: الضَّمِيرُ فِي وَآيَةٌ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْعِبَادِ فِي قَوْلِهِ: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها، وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ: ذُرِّيَّاتِ الْعِبَادِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» ، إِنَّمَا يُرِيدُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فكذلك هَذَا. وَآيَةٌ لَهُمْ: أَيْ آيَةُ كُلِّ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّةَ كُلِّ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ ذُرِّيَّةَ بَعْضٍ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقْنا أَنَّهُ أُرِيدَ الْإِنْشَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ، فَالْمُرَادُ الْإِبِلُ وَمَا يُرْكَبُ، وَتَكُونُ مِنْ لِلْبَيَانِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ خَلْقًا، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ مَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ السُّفُنُ، تَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَهُمُ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ وَآيَةٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُ الْمُحَدِّثَ عَنْهُمْ، وَجَوَّزَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مثله عائد على

_ (1) سورة النساء: 4/ 29.

الْفُلْكِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورِ وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ «1» ، كَمَا قَالُوا: فِي قَوْلِهِ مِنْ ثَمَرِهِ، أَيْ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: نُغَرِّقُهُمْ مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ: مُخَفَّفًا وَالصَّرِيخُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى صَارِخٍ: أَيْ مُسْتَغِيثٍ، وَبِمَعْنَى مُصْرِخٍ: أَيْ مُغِيثٍ، وَهَذَا مَعْنَاهُ هُنَا، أَيْ فَلَا مُغِيثَ لَهُمْ وَلَا مُعِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ: أَيْ فَلَا إِغَاثَةَ لَهُمْ. انْتَهَى. كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مِنْ أَفْعَلَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ أَنَّ صَرِيخًا يَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى صُرَاخٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ: أَيْ لَا مُغِيثَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ إِغْرَاقَهُمْ، وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ: أَيْ يَنْجُونَ مِنَ الْمَوْتِ بِالْغَرَقِ. نَفَى أَوَّلًا الصَّرِيخَ، وَهُوَ خَاصٌّ ثُمَّ نَفَى ثَانِيًا إِنْقَاذَهُمْ بِصَرِيخٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَحْرِ، نَاجِينَ كَانُوا أَوْ مُغْرَقِينَ، فَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا نَجَاةَ لَهُمْ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ مَرْبُوطًا بِالْمُغْرَقِينَ، وَقَدْ يَصِحُّ رَبْطُهُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ فَتَأَمَّلْهُ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِحَسَنٍ وَلَا أَحْسَنَ. وَالْفَاءُ فِي فَلا صَرِيخَ لَهُمْ تُعَلِّقُ الْجُمْلَةَ بِمَا قَبْلَهَا تَعْلِيقًا وَاضِحًا، وَتَرْتَبِطُ بِهِ رَبْطًا لَائِحًا. وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعَذَابِ بِمَا يَدْفَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ، فَنُفِيَ بِقَوْلِهِ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ، وَمَا يَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَنُفِيَ بِقَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. وانتصب رَحْمَةً على الاستثناء الْمُفَرَّغِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِرَحْمَةٍ مِنَّا. وَقَالَ الْكِسَائِيُ، وَالزَّجَّاجُ: إِلى حِينٍ: أَيْ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا لِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَلِيَتَمَتَّعَ بِالْحَيَاةِ إِلَى حِينٍ: أَيْ إِلَى أَجَلٍ يَمُوتُونَ فِيهِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ بَعْدَ النَّجَاةِ مِنْ مَوْتِ الْغَرَقِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ: لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَوْتِ الْغَرَقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَإِنْ نَشَأْ: أَيْ إِغْرَاقَهُمْ، نُغْرِقْهُمْ: فَمَنْ شَاءَ إِغْرَاقَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ بِالْغَرَقِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَحْمَةً، وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يَكُونُ لِلَّذِينِ يُنْقَذُونَ، فَلَا يُفِيدُ الدَّوَامَ، بَلْ يُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لَهُ وَيُمَتِّعُهُ إِلَى حِينٍ ثُمَّ يُمِيتُهُ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْسِيمٌ، إِلَّا رَحْمَةً لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ فَيُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ يَمْنَعُهُ زَمَانًا وَيَزْدَادُ إِثْمًا. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا

_ (1) سورة يس: 36/ 36.

يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. الضَّمِيرُ فِي لَهُمُ لِقُرَيْشٍ، وما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: عَذَابُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، وَما خَلْفَكُمْ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَكْسَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خُوِّفُوا بِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَا يَأْتِي مِنْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، كَقَوْلِ الْحَسَنِ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَمَا تَأَخَّرَ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ أَعْرَضُوا. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ: أَيْ دَأْبُهُمُ الْإِعْرَاضُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ تَأْتِيهِمْ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا: لَمَّا أَسْلَمَ حَوَاشِي الْكُفَّارِ مِنْ أَقْرِبَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، قَطَعُوا عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُوَاسُونَهُمْ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ أَوَّلًا قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْقِتَالِ، فَنَدَبَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى صِلَةِ قُرَابَاتِهِمْ فَقَالُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. وَقِيلَ: سُحِقَ قُرَيْشٌ بِسَبَبِ أَذِيَّةِ الْمَسَاكِينِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَغَيْرِهِ، فَنَدَبَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَقِيلَ: قَالَ فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ: أَعْطُونَا مَا زَعَمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، إِنَّهَا لِلَّهِ، فَحَرَّمُوهُمْ وَقَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بِمَكَّةَ زَنَادِقَةٌ، إِذَا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، أَيُفْقِرُهُ الله ونطمعه نَحْنُ؟ أَوْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّقُونَ الْأَفْعَالَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَغْنَى فُلَانًا، وَلَوْ شَاءَ لَأَعَزَّهُ، وَلَوْ شَاءَ لَكَانَ كَذَا، فَأَخْرَجُوا هَذَا الْجَوَابَ مُخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَبِمَا كَانُوا يَقُولُونَ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالصَّانِعِ، اسْتِهْزَاءً بِالْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، أَيِ الْيَهُودِ، أُمِرُوا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ. وَجَوَابُ لَوْ نَشَاءُ قَوْلُهُ: أَطْعَمَهُمْ، وَوُرُودُ الْمُوجَبِ بِغَيْرِ لَامٍ فَصِيحٌ، وَمِنْهُ: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ «1» ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «2» وَالْأَكْثَرُ مَجِيئُهُ بِاللَّامِ، والتصريخ بِالْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقُولَ لَهُمْ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ حَامِلٌ صَاحِبَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ، إِذْ كُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَرْشَحُ. وَأُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْإِطْعَامِ وَغَيْرِهِ، فَأَجَابُوا بِغَايَةِ الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّ نَفْيَ إِطْعَامِهِمْ يَقْتَضِي نَفْيَ الإنفاق

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 100. (2) سورة الواقعة: 56/ 70.

الْعَامِّ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نُنْفِقُ، وَلَا أَقَلَّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَسْمَحُونَ بِهَا وَيُؤْثِرُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ الَّذِي بِهِ يَفْتَخِرُونَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. كَمَنْ يَقُولُ لِشَخْصٍ: أَعْطِ لِزَيْدٍ دِينَارًا، فَيَقُولُ: لَا أُعْطِيهِ دِرْهَمًا، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ لَا أُعْطِيهِ دِينَارًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْكُفَّارِ يُخَاطِبُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ حَيْثُ طَلَبْتُمْ أَنْ تُطْعِمُوا مَنْ لَا يُرِيدُ اللَّهُ إِطْعَامَهُ، إِذْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ إِطْعَامَهُ لَأَطْعَمَهُ هُوَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قول الله لهم اسْتَأْنَفَ زَجْرَهُمْ بِهِ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ مَا يَقُولُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْجِيلِ: لِمَا تُوعِدُونَ بِهِ؟ أَيْ مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي أَنْتُمْ تُوعِدُونَنَا بِهِ؟ أَوْ مَتَى هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تُهَدِّدُونَنَا بِهِ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى، وَلَا يُتَّقَى إِلَّا مِمَّا يُخَافُ، وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ. سَأَلُوا مَتَى يَقَعُ هَذَا الَّذِي تُخَوِّفُونَا بِهِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ. مَا يَنْظُرُونَ: أي ما ينتطرون. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصَّيْحَةُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ مُنْتَظِرُوهَا، وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى تَأْخُذُهُمْ فَيَهْلِكُونَ، وَهُمْ يَتَخَاصَمُونَ، أَيْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، فِي أَمَاكِنِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ لِتَوْصِيَةٍ، وَلَا رُجُوعٍ إِلَى أَهْلٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلَانِ قَدْ نَشَرَا ثَوْبَهُمَا يَتَبَايَعَانِهِ، فَمَا يَطْوِيَانِهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَالرَّجُلُ يَرْفَعُ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ، فَمَا تَصِلُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ» . وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ قَوْلًا وَقِيلَ: وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أَبَدًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَخْتَصِمُونَ عَلَى الْأَصْلِ وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْرَجُ، وَشِبْلٌ، وَابْنُ فُنْطَنْطِينَ: بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ وَنَقَلَ حَرَكَتِهَا إِلَى الْخَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو أَيْضًا، وَقَالُونُ: يُخَالِفُ بِالِاخْتِلَاسِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَعَنْهُمَا إِسْكَانُ الْخَاءِ وَتَخْفِيفُ الصَّادِ مِنْ خَصَمَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِ الْخَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ وَفُرْقَةٌ: بِكَسْرِ الْيَاءِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْخَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: يُرْجَعُونَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: فِي الصُّوَرِ، بِفَتْحِ الْوَاوِ والجمهور: بإسكانها. وقرىء: مِنَ الْأَجْدَافِ، بِالْفَاءِ بَدَلَ الثَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالثَّاءِ، وَيَنْسِلُونَ، بِكَسْرِ السِّينِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِضَمِّهَا. وَهَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَقُومُ النَّاسُ أَحْيَاءً عَنْهَا. وَلَا تَنَافُرَ بَيْنَ يَنْسِلُونَ وَبَيْنَ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1» ، لِأَنَّهُ لَا يَنْسِلُ إِلَّا قَائِمًا، وَلِأَنَّ تَفَاوُتَ الزَّمَانَيْنِ يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ زَمَانٌ واحد.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 68.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَا وَيْلَتَنَا، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَعَنْهُ أَيْضًا: يَا وَيْلَتَى، بِالتَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ يَا ويلتى. والجمهور: ومَنْ بَعَثَنا: من استفهام، وَبَعَثَ فِعْلٌ مَاضٍ وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو نَهِيكٍ: مِنْ حَرْفُ جَرٍّ، وَبَعْثِنَا مَجْرُورٌ بِهِ. وَالْمَرْقَدُ: اسْتِعَارَةٌ عَنْ مَضْجَعِ الْمَيِّتِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ مِنْ رُقَادِنَا، وَهُوَ أَجْوَدُ. أَوْ يَكُونَ مَكَانًا، فَيَكُونَ الْمُفْرَدُ فِيهِ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، أَيْ مِنْ مَرَاقِدِنَا. وَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ: مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الْحَشْرِ، فَقَالُوا: هُوَ غَيْرُ صَحِيحِ الْإِسْنَادِ. وَقِيلَ: قَالُوا مِنْ مَرْقَدِنَا، لِأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ كَانَ كَالرُّقَادِ فِي جَنْبِ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، فقيل: مِنَ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى إِنْكَارِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ: مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكُفَّارِ، عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ قَوْلِ الْكَفَرَةِ، أَوِ الْبَعْثِ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، قَالُوا ذَلِكَ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَنْ سُؤَالٌ عَنِ الَّذِي بَعَثَهُمْ، وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ، ذِكْرَ الْبَاعِثِ، أَيِ الرَّحْمَنِ الَّذِي وَعَدَكُمُوهُ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى سِمَةِ الْمَوْعُودِ، وَالْمَصْدَرُ فِيهِ بِالْوَعْدِ وَالصِّدْقِ، وَبِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ هَذَا الَّذِي وَعَدَهُ الرَّحْمَنُ. وَالَّذِي صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، أَيْ صَدَقَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، أَيْ صَدَقَهُ فِيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: صدقني سن بكره، أي فِي سِنِّ بِكْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمَرْقَدِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، وَيُضْمَرُ الْخَبَرُ حَقٌّ أَوْ نَحْوُهُ. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا صِفَةً لِلْمَرْقَدِ، وَمَا وَعَدَ خبر مبتدأ محذوف، أي هَذَا وَعْدُ الرَّحْمَنِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أي مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حَقٌّ عَلَيْكُمْ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ إِلَّا صَيْحَةً بِالرَّفْعِ وَتَوْجِيهُهَا. فَالْيَوْمَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَانْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ لَا يَظْلِمُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قِيلَ: وَالصَّيْحَةُ قَوْلُ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْأَوْصَالُ الْمُنْقَطِعَةُ وَالشُّعُورُ الْمُتَمَزِّقَةُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ «1» . إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ، هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ، لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا

_ (1) سورة ق: 50/ 42.

الْمُجْرِمُونَ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ، وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ، وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِحَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ لَنَا بِمَا يَكُونُونَ فِيهِ إِذَا صَارُوا إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةُ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِلْمَوْعُودِ لَهُ فِي النُّفُوسِ، وَتَرْغِيبٌ إِلَى الْحِرْصِ عَلَيْهِ وَفِيمَا يُثْمِرُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشُّغُلَ هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي قَدْ شَغَلَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ. وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ مُجَاهِدٌ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّ هَذَا الشُّغُلَ بِافْتِضَاضِ الْأَبْكَارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَنْهُ أَيْضًا: سَمَاعُ الْأَوْتَارِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: شُغِلُوا عَنْ مَا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: عَنْ أَهَالِيهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لَا يَذْكُرُونَهُمْ لِئَلَّا يتنغصوا. وَعَنِ ابْنِ كَيْسَانَ: الشُّغُلُ: التَّزَاوُرُ. وَقِيلَ: ضِيَافَةُ اللَّهِ، وَأُفِرَدَ الشُّغُلُ مَلْحُوظًا فِيهِ النَّعِيمُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَعِيمٌ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْهُ: بِفَتْحَتَيْنِ وَيَزِيدُ النَّحْوِيُّ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ، فِيمَا نَقَلَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: بِفَتْحِ الشِّينِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فاكِهُونَ، بِالْأَلِفِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَيَحْيَى بْنُ صُبَيْحٍ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: بِغَيْرِ أَلِفٍ وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: فَاكِهِينَ، بِالْأَلِفِ وَبِالْيَاءِ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَفِي شُغُلٍ هُوَ الْخَبَرُ. فَبِالْأَلِفِ أَصْحَابُ فَاكِهَةٍ، كَمَا يُقَالُ لَابِنٍ وَتَامِرٍ وَشَاحِمٍ وَلَاحِمٍ، وَبِغَيْرِ أَلِفٍ مَعْنَاهُ: فَرِحُونَ طَرِبُونَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الفكاهة وهي المزحة، وقرىء: فَكِهِينَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِالْيَاءِ. وقرىء: فَكُهُونَ، بِضَمِّ الْكَافِ. يُقَالُ: رَجُلٌ فَكُهٌ وَفَكِهٌ، نَحْوُ: يَدُسٌ وَيَدِسٌ. وَيَجُوزُ فِي هُمْ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرَهُ في ضلال، وَمُتَّكِئُونَ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ خَبَرُهُ مُتَّكِئُونَ، وَفِي ظِلَالٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَوْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي فَاكِهُونَ، وَفِي ظِلَالٍ حَالٌ، وَمُتَّكِئُونَ خَبَرٌ ثَانٍ لِإِنَّ، أَوْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي شُغُلٍ، الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ مِنَ الْعَامِلِ فِيهِ.

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ الْأَزْوَاجُ قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي التَّفَكُّهِ وَالشُّغُلِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَى الْأَرَائِكِ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَنْطُوقِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ، شَارَكُوهُمْ فِي الظِّلَالِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَى الْأَرَائِكِ مِنْ حَيْثُ الْمَنْطُوقُ، وَهُنَّ قَدْ شَارَكْنَهُمْ فِي التَّفَكُّهِ وَالشُّغُلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظِلالٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ جَمْعُ ظِلٍّ، إِذِ الْجَنَّةُ لَا شَمْسَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هَوَاؤُهَا سَجْسَجٌ، كَوَقْتِ الْأَسْفَارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. انْتَهَى. وَجَمْعُ فُعُلٍ عَلَى فِعَالٍ فِي الْكَثْرَةِ، نَحْوُ: ذِئْبٌ وَذِئَابٌ. وَأَمَّا أَنَّ وَقْتَ الْجَنَّةِ كَوَقْتِ الْأَسْفَارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى حَوْرَاءَ مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ، لَوْ ظَهَرَتْ لَأَضَاءَتْ مِنْهَا الدُّنْيَا ، أَوْ نَحْوٌ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ ظُلَّةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَبُرْمَةٍ وَبِرَامٍ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: جَمْعُ ظِلَّةٍ، بِكَسْرِ الظَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ لُغَةٌ فِي ظُلَّةٍ. انْتَهَى. فَيَكُونَ مِثْلَ لُقْحَةٍ وَلِقَاحٍ، وَفِعَالٌ لَا يَنْقَاسُ فِي فُعْلَةٍ بَلْ يُحْفَظُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فِي ظِلٍّ جَمْعُ ظِلَّةٍ، وَجَمْعُ فِعْلَةٍ عَلَى فِعْلٍ مَقِيسٌ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَلَابِسِ وَالْمَرَاتِبِ مِنَ الْحِجَالِ وَالسُّتُورِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُظِلُّ. وَقَرَأَ عَبْدُ الله: متكئين، نصب عَلَى الْحَالِ وَيَدَّعُونَ مُضَارِعُ ادَّعَى، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ دَعَا، وَمَعْنَاهُ: وَلَهُمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ ادْعُ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، بِمَعْنَى تَمَنَّ عَلَيَّ وَتَقُولُ فُلَانٌ فِي خَبَرٍ مَا تَمَنَّى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيْ مَا يَدْعُونَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَأْتِيهِمْ. وَقِيلَ: يَدْعُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: يَتَدَاعُونَهُ لِقَوْلِهِ ارْتَمُوهُ وَتَرَامُوهُ. وَقَرَأَ الجمهور: سلام بالرفع. وقيل: وَهُوَ صِفَةٌ لِمَا، أَيْ مُسَلَّمٌ لَهُمْ وَخَالِصٌ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ كَانَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، لِأَنَّهَا تَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْرِفَةً. وَسَلَامٌ نَكِرَةٌ، وَلَا تُنْعَتُ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. فَإِنْ كَانَتْ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً جَازَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ، كَحَالِهَا، بِمَعْنَى الَّذِي. وَقِيلَ: سَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَيَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ النَّاصِبَ لِقَوْلِهِ: قَوْلًا، أَيْ سَلَامٌ يُقَالُ، قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، أَوْ يَكُونُ عَلَيْكُمْ مَحْذُوفًا، أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ سَلَامٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَلامٌ قَوْلًا بَدَلٌ مِنْ مَا يَدَّعُونَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَهُمْ سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنْ جِهَةِ رَبٍّ رَحِيمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِمْ، وَذَلِكَ مُتَمَنَّاهُمْ، وَلَهُمْ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ سَلَامٌ بَدَلًا مِنْ مَا يَدَّعُونَ، كان مَا يَدَّعُونَ خُصُوصًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عُمُومٌ فِي

كُلِّ مَا يَدَّعُونَ، وَإِذَا كَانَ عُمُومًا، لَمْ يَكُنْ سَلَامٌ بَدَلًا مِنْهُ. وَقِيلَ: سَلَامٌ خَبَرٌ لِمَا يَدَّعُونَ، وَمَا يَدَّعُونَ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلَامٌ خَالِصٌ لَا شُرْبَ فِيهِ، وَقَوْلًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ: أَيْ عِدَّةٌ مِنْ رَحِيمٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِهِ. انْتَهَى. وَيَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقًا عَلَى هَذَا الإعراب بسلام. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: سِلْمٌ، بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهُ سَلَامٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: مُسَالِمٌ لَهُمْ، أَيْ ذَلِكَ مُسَالِمٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعِيسَى، وَالْقَنَوِيُّ: سَلَامًا، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ لَهُمْ مُرَادُهُمْ خَالِصًا. وَامْتازُوا الْيَوْمَ: أَيِ انْفَرَدُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمَحْشَرَ جَمَعَ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، فَأُمِرَ الْمُجْرِمُونَ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى حِدَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا مَحْذُوفًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، قِيلَ: وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِينَ: امْتازُوا. وَلَمَّا امْتَثَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ؟ وَقَّفَهُمْ عَلَى عَهْدِهِ إِلَيْهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: لِكُلِّ كَافِرٍ بَيْتٌ مِنَ النَّارِ يَكُونُ فِيهِ لَا يَرَى وَلَا يُرَى، فَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ: اعْتَزَلُوا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَالْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ، عَهِدَ إِلَيْهِ إِذَا وَصَّاهُ. وَعَهْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ: مَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنْ أَدِلَّةِ الْعَقْلِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ. وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ: طَاعَتُهُ فِيمَا يُغْوِيهِ وَيُزَيِّنُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَعْهَدْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْهُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْكُوفِيُّ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَقَالَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهَذَا الْكَسْرُ فِي النُّونِ وَالتَّاءِ أَكْثَرُ مِنْ بَيْنِ حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ، يَعْنِي: نِعْهَدْ وَتِعْهَدْ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: أَلَمْ أَحَدْ، لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْهُذَيْلُ بْنُ وثاب: ألم إعهد، بكسر الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَهِيَ عَلَى لُغَةِ مَنْ كَسَرَ أَوَّلَ الْمُضَارِعِ سِوَى الْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وثاب: ألم إعهد، بكسر الْهَاءِ، يُقَالُ: عَهِدَ يَعْهِدُ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ يَعْنِي أَنَّ كَسْرَ الْمِيمِ يَدُلُّ عَلَى كَسْرِ الْهَمْزَةِ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ الَّتِي فِي الْمِيمِ هِيَ حَرَكَةُ نَقْلِ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ حِينَ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْمِيمُ. أَعْهَدْ بِالْهَمْزَةِ الْمَقْطُوعَةِ الْمَكْسُورَةِ لَفْظًا، لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء إِعْهَدْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَبَابُ فَعِلَ كُلُّهُ يَجُوزُ فِي حُرُوفِ مُضَارَعَتِهِ الْكَسْرُ إِلَّا فِي الْيَاءِ وَأَعْهِدُ بِكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَدْ جَوَّزَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ نَعَمَ يَنْعِمُ، وَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَأَحْهَدُ بِالْحَاءِ وَأَحَدُ، وَهِيَ لُغَةُ

تَمِيمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَحَّا مَحَّا. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إِلَّا فِي الْيَاءِ، لُغَةٌ لِبَعْضِ كَلْبٍ أَنَّهُمْ يَكْسِرُونَ أَيْضًا فِي الْيَاءِ، يَقُولُونَ: هَلْ يِعْلَمُ؟ وَقَوْلُهُ: دَحَّا مَحَّا، يُرِيدُونَ دَعْهَا مَعَهَا، أَدْغَمُوا الْعَيْنَ فِي الْحَاءِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَعْصِيَةِ الشَّيْطَانِ وَطَاعَةِ الرَّحْمَنِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ: جِبِلًّا، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ، وَسُهَيْلٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ، وَأَبِي رجاء والحسن: بخلاف عنه. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَالْهُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّهَا وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَفْصُ بْنُ حُمَيْدٍ: بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، وَالْيَمَانِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ: بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَالْأَعْمَشُ: جِبِلًا، بِكَسْرَتَيْنِ وتخفيف اللام. وقرىء: جِبَلًا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، جَمْعُ جِبْلَةٍ، نَحْوُ فِطْرَةٍ وَفِطَرٍ، فهذه سبع لغات قرىء بِهَا. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَبَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ: جِيلًا، بِكَسْرِ الْجِيمِ بَعْدَهَا يَاءُ آخِرِ الْحُرُوفِ ، وَاحِدُ الْأَجْيَالِ وَالْجِبْلُ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلُ الْأُمَّةُ الْعَظِيمَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ آلَافٍ. خَاطَبَ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِمَا فَعَلَ مَعَهُمُ الشَّيْطَانُ تَقْرِيعًا لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَلَمْ تَكُونُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَائِدًا عَلَى جبل. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ وَيُخَاصِمُونَ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جِيرَانُهُمْ وَعَشَائِرُهُمْ وَأَهَالِيهِمْ، فَيَحْلِفُونَ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَحِينَئِذٍ يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «يَقُولُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنِّي لَا أجيز عليّ شاهد إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ فَيُقَالُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فعنكنّ كنت أناضل» . وقرىء: يختم مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ، بِتَاءَيْنِ وقرىء: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الْأَمْرِ وَالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْأَعْضَاءَ بِالْكَلَامِ وَالشَّهَادَةِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلِتُكَلِّمَنَا أَيْدِيهِمْ وَلِتَشْهَدَ، بِلَامِ كَيْ وَالنَّصْبُ عَلَى مَعْنَى: وَكَذَلِكَ يُخْتَمُ عَلَى أَفَوَاهِهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَعْيُنَ هِيَ الْأَعْضَاءُ الْمُبْصِرَةُ، وَالْمَعْنَى: لَأَعْمَيْنَاهُمْ فَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ يَمْشُونَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ مُنَاسَبَةُ الْمَسْخِ، فَهُمْ فِي قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ وَبُرُوجِ الْعَذَابِ إِنْ شَاءَهُ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ عَيْنَ البصائر، والمعنى: لو نَشَاءُ لَخَتَمْتُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فَلَا يَهْتَدِي مِنْهُمْ أَحَدٌ أَبَدًا. وَالطَّمْسُ: إِذْهَابُ الشَّيْءِ وَأَثَرِهِ جُمْلَةً حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ. فَإِنْ

أُرِيدَ بِالْأَعْيُنِ الْحَقِيقَةُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَطْمِسُ بِمَعْنَى يَمْسَخُ حَقِيقَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّمْسُ يُرَادُ بِهِ الْعَمَى مِنْ غَيْرِ إِذْهَابِ الْعُضْوِ وَأَثَرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاسْتَبَقُوا، فِعْلًا مَاضِيًا مَعْطُوفًا عَلَى لَطَمَسْنا، وَهُوَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ. وَالصِّرَاطَ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِلَى حُذِفَتْ وَوُصِلَ الْفِعْلُ، وَالْأَصْلُ فَاسْتَبَقُوا إِلَى الصِّرَاطِ، أَوْ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبَقُوا مَعْنَى تَبَادَرُوا، وَجَعْلِهِ مَسْبُوقًا إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَنْتَصِبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الطَّرِيقُ، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُخْتَصٌّ. لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ إِلَّا بِوَسَاطَةِ فِي إِلَّا فِي شُذُوذٍ، كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: لَدْنٌ بِهَزُّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ وَمَذْهَبُ ابْنِ الطَّرَاوَةِ أَنَّ الصِّرَاطَ وَالطَّرِيقَ وَالْمَخْرِمَ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً، فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَسُوغُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ عِيسَى: فَاسْتَبِقُوا عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمُ اسْتَبِقُوا الصِّرَاطَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ الِاسْتِبَاقُ مَعَ طَمْسِ الْأَعْيُنِ. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ: أَيْ كَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ طُمِسَ عَلَى عَيْنِهِ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْخَ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ تَبْدِيلُ صِوَرِهِمْ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَسَخْناهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ حِجَارَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَجَمَاعَةٌ: لَأَقْعَدْنَاهُمْ وَأَزَمْنَاهُمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَصَرُّفًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: هَذَا التَّوَعُّدُ كُلُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عَلى مَكانَتِهِمْ، بِالْإِفْرَادِ، وَهِيَ الْمَكَانُ، كَالْمَقَامَةِ وَالْمَقَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْجَمْعِ. وَالْجُمْهُورُ: مُضِيًّا، بِضَمِّ الْمِيمِ: وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: بِكَسْرِهَا اتِّبَاعًا لِحَرَكَةِ الضَّادِ، كَالْعِتِبِيِّ وَالْقِتِبِيِّ، وَزْنُهُ فَعُولٌ. الْتَقَتْ وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَيَاءٌ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لتصح الياء. وقرىء: مَضِيًّا، بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعِيلٍ، كَالرَّسِيمِ وَالْوَجِيفِ. وَلِمَا ذَكَرَ تَعَالَى الطَّمْسَ وَالْمَسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُشَبَّهِ، ذَكَرَ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى بَاهِرِ قُدْرَتِهِ فِي تَنْكِيسِ الْمُعَمَّرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وتنكيسه: قبله وَجَعَلَهُ عَلَى عَكْسِ مَا خَلَقَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ عَلَى ضَعْفٍ فِي جَسَدٍ وَخُلُوٍّ مِنْ عَقْلٍ وَعِلْمٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَتَزَايَدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَتُسْتَكْمَلَ قُوَّتُهُ، وَيَعْقِلَ وَيَعْلَمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ. فَإِذَا انْتَهَى نَكَّسَهُ فِي الْخَلْقِ، فَيَتَنَاقَصُ حَتَّى يَرْجِعَ فِي حَالٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِ الصِّبَا فِي ضَعْفِ

جَسَدِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ وَخُلُوِّهِ مِنَ الْفَهْمِ، كَمَا يُنَكَّسُ السَّهْمُ فَيُجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَطْمِسَ وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَكِّسْهُ، مُشَدَّدًا وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَبَّاسٍ: تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَّمْنَاهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ شَاعِرٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْقَائِلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُمْ فِيهِ شَاعِرٌ. أَمَّا مَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ الشِّعْرُ، فَقَوْلُهُ مُكَابَرَةٌ وَإِيهَامٌ لِلْجَاهِلِ بِالشِّعْرِ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ فِي طَبْعِهِ، فَقَوْلُهُ جَهْلٌ مَحْضٌ. وَأَيْنَ هُوَ مِنَ الشِّعْرِ؟ وَالشِّعْرُ إِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَنْتَخِبُهُ الشُّعَرَاءُ مِنْ كَثْرَةِ التَّخْيِيلِ وَتَزْوِيقِ الْكَلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَرَّعُ الْمُتَدَيِّنُ عَنْ إِنْشَادِهِ، فَضْلًا عَنْ إِنْشَائِهِ: وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقُولُ الشِّعْرَ، وَإِذَا أَنْشَدَ بَيْتًا أَحْرَزَ الْمَعْنَى دُونَ وَزْنِهِ، كَمَا أَنْشَدَ: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوَّدْ بِالْأَخْبَارِ وَقِيلَ: مِنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَقَالَ الَّذِي يَقُولُ: أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبْ طِيبَا أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْ ... دِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ وَأَنْشَدَ يَوْمًا: كَفَى بِالْإِسْلَامِ وَالشَّيْبِ نَاهِيَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ، وَرُبَّمَا أَنْشَدَ الْبَيْتَ مُتَّزِنًا فِي النَّادِرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ رَوَاحَةَ: يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين الْمَضَاجِعُ وَلَا يَدُلُّ إِجْرَاءُ الْبَيْتِ عَلَى لِسَانِهِ مُتَّزِنًا أَنَّهُ يَعْلَمُ الشِّعْرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدْخُلُهُ الْوَزْنُ كَقَوْلِهِ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ

وَهُوَ كَلَامٌ مَنْ جِنْسِ كَلَامِهِ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى طَبِيعَتِهِ، مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ فِيهِ وَلَا قَصْدٍ لِوَزْنٍ وَلَا تَكَلُّفٍ. كَمَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مَوْزُونٌ وَلَا يُعَدُّ شِعْرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «1» . وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2» . وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النَّثْرِ الَّذِي تُنْشِئُهُ الْفُصَحَاءُ، وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ شِعْرًا، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُنْشِي وَلَا السَّامِعِ أَنَّهُ شِعْرٌ. وَما يَنْبَغِي لَهُ: أَيْ وَلَا يُمْكِنُ لَهُ وَلَا يَصِحُّ وَلَا يُنَاسَبُ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَرِيقِ جِدٍّ مَحْضٍ، وَالشِّعْرُ أَكْثَرُهُ فِي طَرِيقِ هَزْلٍ، وَتَحْسِينٌ لِمَا لَيْسَ حَسَنًا، وَتَقْبِيحٌ لِمَا لَيْسَ قَبِيحًا وَمُغَالَاةٌ مُفْرِطَةٌ. جَعَلَهُ تَعَالَى لَا يَقْرِضُ الشِّعْرَ، كَمَا جَعَلَهُ أُمِّيًّا لَا يَخُطُّ، لِتَكُونَ الْحُجَّةُ أَثْبَتَ وَالشُّبْهَةُ أَدْحَضَ. وَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى غَضَاضَةِ الشِّعْرِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَنَا بِشَاعِرٍ وَلَا يَنْبَغِي لِي» . وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ اللَّهُ نبيه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِنْ كَانَ حِلْيَةً جَلِيلَةً لِيَجِيءَ الْقُرْآنُ مِنْ قِبَلِهِ أَغْرَبَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ إِدْرَاكُ الشِّعْرِ لَقِيلَ فِي الْقُرْآنِ: هَذَا مِنْ تِلْكَ الْقُوَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدِي كَذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ فِي النَّثْرِ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا، وَلَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُبِينُ بِإِعْجَازِهِ وَيَنْدُرُ بِوَصْفِهِ، وَيُخْرِجُهُ إِحَاطَةُ عِلْمِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ وَإِنَّمَا مَنَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ الشِّعْرِ تَرْفِيعًا لَهُ عَنْ مَا فِي قَوْلِ الشُّعَرَاءِ مِنَ التَّخْيِيلِ وَالتَّزْوِيقِ لِلْقَوْلِ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ ذِكْرٌ بِحَقَائِقَ وَبَرَاهِينَ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، وَهَذَا كَانَ أُسْلُوبُ كَلَامِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قولا وَاحِدًا. انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ لِلرَّسُولِ، أَيْ وَمَا يَنْبَغِي الشِّعْرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أنه عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ وَمَا يَنْبَغِي الشِّعْرُ لِلْقُرْآنِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَيُبَيِّنُهُ عَوْدُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ: أَيْ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ يُقْرَأُ فِي الْمَحَارِيبِ، وَيُنَالُ بِتِلَاوَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مَا فِيهِ فَوْزُ الدَّارَيْنِ. فَكَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشِّعْرِ الَّذِي أَكْثَرُهُ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ؟ وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: لِتُنْذِرَ بِتَاءِ الْخِطَابِ لِلرَّسُولِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ لِلْغَيْبَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الرَّسُولِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: لِيُنْذِرَ، بالياء مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَنَقَلَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ. وَقَالَ عَنْ أَبِي السَّمَّالِ وَالْيَمَانِيِّ أَنَّهُمَا قَرَآ: لِيَنْذَرَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ مُضَارِعُ نَذِرَ بِكَسْرِ الذَّالِ، إِذَا عَلِمَ بِالشَّيْءِ فَاسْتَعَدَّ لَهُ. مَنْ كانَ حَيًّا: أَيْ غَافِلًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، لِأَنَّ الْغَافِلَ كَالْمَيِّتِ ويريد به من حتم عليه بالإيمان،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 92. (2) سورة الكهف: 18/ 29.

وَكَذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ: أَيْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، عَلَى الْكافِرِينَ الْمَحْتُومِ لَهُمْ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ، وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ، لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ، فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. الْإِخْبَارُ وَتَنْبِيهُ الِاسْتِفْهَامِ لِقُرَيْشٍ، وَإِعْرَاضِهَا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَعُكُوفِهَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمَصْنُوعَةُ لَا يُبَاشِرُهَا الْبَشَرُ إِلَّا بِالْيَدِ، عَبَّرَ لَهُمْ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا: أَيْ مِمَّا تُوَلَّيْنَا عَمَلَهُ، وَلَا يُمْكِنُ لِغَيْرِنَا أَنْ يَعْمَلَهُ. فبقدرتنا وإرادتنا بَرَزَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، لَمْ يُشْرِكْنَا فِيهَا أَحَدٌ، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْيَدِ الَّتِي هِيَ الْجَارِحَةُ، وَعَنْ كُلِّ مَا اقْتَضَى التَّشْبِيهَ بِالْمُحْدَثَاتِ. وَذَكَرَ الْأَنْعَامَ لَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ جُلَّ أَمْوَالِهِمْ، وَنَبَّهَ عَلَى مَا يَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ مَنَافِعِهَا. لَها مالِكُونَ: أَيْ مَلَكْنَاهَا إِيَّاهُمْ، فَهُمْ مُتَصَرِّفُونَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، مُخْتَصُّونَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا، أَوْ مالِكُونَ: ضَابِطُونَ لَهَا قَاهِرُونَهَا، مِنْ قَوْلُهُ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا أَيْ: لَا أَضْبُطُهُ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ. فَلَوْلَا تَذْلِيلُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَتَسْخِيرُهُ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى إِلَى مَا ندّ منها لا يكاد يقدر على رَدِّهِ؟ لِذَلِكَ أُمِرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ رَاكِبُهَا، وَشُكْرِهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَكُوبُهُمْ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْحَضُورِ وَالْحَلُوبِ وَالْقَذُوعِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْقَاسُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَائِشَةُ: رَكُوبَتُهُمْ بِالتَّاءِ، وَهِيَ فَعُولَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ. وَقَالَ

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 13.

الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ الرَّكُوبَةُ جَمْعٌ. انْتَهَى، وَيَعْنِي اسْمَ جَمْعٍ، لِأَنَّ فَعُولَةً بِفَتْحِ الْفَاءِ لَيْسَ بِجَمْعِ تَكْسِيرٍ. وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَبْنِيَةَ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا فَعُولَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهَا أَنَّهَا اسْمُ مفرد لا جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَلَا اسْمُ جَمْعٍ، أَيْ مَرْكُوبَتُهُمْ كَالْحَلُوبَةِ بِمَعْنَى الْمَحْلُوبَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ، وَالْأَعْمَشُ: رُكُوبُهُمْ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِغَيْرِ تَاءٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ حُذِفَ مُضَافُهُ، أَيْ ذُو رُكُوبِهِمْ، أَوْ فَحُسْنُ مَنَافِعِهَا رُكُوبُهُمْ، فَيُحْذَفُ ذُو، أَوْ يُحْذَفُ مَنَافِعُ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ: نَاقَةٌ رَكُوبٌ حَلُوبٌ، وَرَكُوبَةٌ حَلُوبَةٌ، وَرَكْبَاةٌ حَلْبَاةٌ، وَرَكْبُوبٌ حَلْبُوبٌ، وَرَكْبِيٌّ حَلْبِيٌّ، وَرَكْبُوتًا حَلْبُوتًا، كُلُّ ذَلِكَ مَحْكِيٌّ، وَأَنْشَدَ: رَكْبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ زُفُوفٌ ... تَخْلِطُ بَيْنَ وَبَرٍ وَصُوفِ وَأَجْمَلُ الْمَنَافِعِ هُنَا، وفصلها فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ «1» الْآيَةَ. وَالْمَشَارِبُ: جَمْعُ مَشْرَبٍ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ، أَيْ شُرْبٌ، أَوْ مَوْضِعُ الشُّرْبِ. ثُمَّ عَنَّفَهُمْ وَاسْتَجْهَلَهُمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً لِطَلَبِ الِاسْتِنْصَارِ. لَا يَسْتَطِيعُونَ: أَيِ الْآلِهَةُ، نَصْرَ مُتَّخِذِيهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. لَمَّا اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً لِلِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ، رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى نَصْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَسْتَطِيعُونَ عائدا لِلْكُفَّارِ، وَفِي نَصْرَهُمْ لِلْأَصْنَامِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي لَا يَسْتَطِيعُونَ، أَيْ وَالْآلِهَةُ لِلْكُفَّارِ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْحِسَابِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالنِّقْمَةِ. وَسَمَّاهُمْ جُنْدًا، إِذْ هُمْ مُعَدُّونَ لِلنِّقْمَةِ مِنْ عَابِدِيهِمْ وَلِلتَّوْبِيخِ، أَوْ مُحْضَرُونَ لِعَذَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُجْعَلُونَ وَقُودًا لِلنَّارِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي وَهُمْ عَائِدًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَفِي لَهُمْ عَائِدًا عَلَى الْأَصْنَامِ، أَيْ وَهُمُ الْأَصْنَامُ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ مُتَعَصِّبُونَ لَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ، يَذُبُّونَ عَنْهُمْ، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ، أَيِ الْكُفَّارُ التَّنَاصُرَ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُرَكَّبٌ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَا يَسْتَطِيعُونَ لِلْكُفَّارِ. ثُمَّ آنَسَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ: أَيْ لَا يَهُمُّكَ تَكْذِيبُهُمْ وَأَذَاهُمْ وَجَفَاؤُهُمْ، وَتَوَعَّدَ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، فَنُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ. أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ: قَبَّحَ تَعَالَى إِنْكَارَ الْكَفَرَةِ الْبَعْثَ، حَيْثُ قَرَّرَ أَنَّ عُنْصُرَهُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ هُوَ نُطْفَةُ مَاءٍ مَهِينٍ خَارِجٍ مِنْ مَخْرَجِ النَّجَاسَةِ. أَفْضَى بِهِ مَهَانَةُ أَصْلِهِ إِلَى أَنْ يُخَاصِمَ الْبَارِي تَعَالَى وَيَقُولَ: مَنْ يحيي الميت بعد ما رُمَّ؟ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُنْشَأٌ مِنْ مَوَاتٍ. وَقَائِلٌ ذلك

_ (1) سورة النحل: 16/ 80. [.....]

الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. وَالْقَوْلُ أَنَّهُ أُمَيَّةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ وَاقِعٌ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ لِأُبَيٍّ مَعَ الرَّسُولِ مُرَاجَعَاتٌ وَمَقَامَاتٌ، جَاءَ بِالْعَظْمِ الرَّمِيمِ بِمَكَّةَ، فَفَتَّتَهُ فِي وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَقَالَ: مَنْ يُحْيِى هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ يُحْيِيهِ وَيُمِيتُكَ وَيُحْيِيكَ وَيُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ» ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأُبَيٌّ هَذَا قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ بِالْحَرْبَةِ، فَخَرَجَتْ مِنْ عُنُقِهِ. وَوَهَمَ مَنْ نَسَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجَائِيَ بِالْعَظْمِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بْنُ سَلُولَ، لِأَنَّ السُّورَةَ وَالْآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَلِأَنَّ عبد الله بن أبي لَمْ يُهَاجِرْ قَطُّ هَذِهِ الْمُهَاجَرَةَ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَبَيْنَ: خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ تَبَيَّنَ أَكْثَرُهَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ «1» ، وَإِنَّمَا أَعْتَقَبَ قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الْوَصْفَ الَّذِي آلَ إِلَيْهِ مِنَ التَّمْيِيزِ وَالْإِدْرَاكِ الَّذِي يَتَأَتَّى مَعَهُ الْخِصَامُ، أي فإذا هو بعد ما كَانَ نُطْفَةً، رَجُلٌ مُمَيِّزٌ مِنْطِيقٌ قَادِرٌ عَلَى الْخِصَامِ، مُبِينٌ مُعْرِبٌ عَمَّا فِي نَفْسِهِ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ: أَيْ نَشْأَتَهُ مِنَ النُّطْفَةِ، فَذَهَلَ عَنْهَا وَتَرَكَ ذِكْرَهَا عَلَى طَرِيقِ اللَّدَدِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالِاسْتِبْعَادِ لِمَا لَا يُسْتَبْعَدُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَسِيَ خَالِقَهُ، اسْمُ فَاعِلٍ وَالْجُمْهُورُ: خَلْقَهُ، أَيْ نَشْأَتَهُ. وَسَمَّى قَوْلَهُ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ قِصَّةٍ عَجِيبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْمَثَلِ، وَهِيَ إِنْكَارُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، كَمَا هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرَّمِيمُ اسْمٌ لِمَا بَلَى مِنَ الْعِظَامِ غَيْرُ صِفَةٍ، كَالرِّمَّةِ وَالرُّفَاةِ، فَلَا يُقَالُ: لِمَ لَمْ يُؤَنَّثْ؟ وَقَدْ وَقَعَ خَبَرًا لِمُؤَنَّثٍ، وَلَا هُوَ فَعِيلٌ أَوْ مَفْعُولٌ. انْتَهَى. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا عَلَى أَنَّ الحياة تحلها، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ظَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَحُلُّهَا، قَالَ: الْمُرَادُ بِإِحْيَاءِ الْعِظَامِ: رَدُّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ غَضَّةً رَطْبَةً فِي بَدَنٍ حَسَنٍ حَسَّاسٍ. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ: يَعْلَمُ كَيْفِيَّاتِ مَا يَخْلُقُ، لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُنْشَآتِ وَالْمُعِدَّاتِ جِنْسًا وَنَوْعًا، دِقَّةً وَجَلَالَةً. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا: ذَكَرَ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَهُوَ إِبْرَازُ الشَّيْءِ مِنْ ضِدِّهِ، وَذَلِكَ أَبْدَعُ شَيْءٍ، وَهُوَ اقْتِدَاحُ النَّارِ مِنَ الشَّيْءِ الْأَخْضَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ يطفىء النَّارَ؟ وَمَعَ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِمَّا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الماء.

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 13.

وَالْأَعْرَابُ تُوَرِي النَّارَ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، وَأَكْثَرِهَا مِنَ الْمَرْخِ وَالْعِفَارِ. وَفِي أَمْثَالِهِمْ: فِي كُلِّ شَيْءٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ. يَقْطَعُ الرَّجُلُ مِنْهُمَا غُصْنَيْنِ مِثْلَ السِّوَاكَيْنِ، وَهُمَا أَخْضَرَانِ يُقَطَّرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ، فَيَسْتَحِقُّ الْمَرْخَ وَهُوَ ذَكَرٌ، وَالْعِفَارَ وَهِيَ أُنْثَى، يَنْقَدِحُ النَّارُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ شَجَرٌ إِلَّا وَفِيهِ نَارٌ إِلَّا الْعَنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْأَخْضَرِ وقرىء: الْخَضْرَاءِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ الْجِنْسَ الْمُمَيَّزَ وَاحِدُهُ بِالتَّاءِ وَأَهْلُ نَجْدٍ يَذْكُرُونَ أَلْفَاظًا، وَاسْتُثْنِيَتْ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَبْدَعُ وَأَغْرَبُ مِنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، وَمِنْ إِعَادَةِ الْمَوْتَى، وَهُوَ إِنْشَاءُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الْغَرِيبَةِ مِنْ صَرْفِ الْعَدَمِ إِلَى الوجود، فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ قرأ الْجُمْهُورُ: بِقَادِرٍ، بِبَاءِ الْجَرِّ دَاخِلَةٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْأَعْرَجُ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: يَقْدِرُ، فِعْلًا مُضَارِعًا، أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ مِنْ عِظَمِ شَأْنِهِمَا، كَانَ عَلَى خَلْقِ الْأُنَاسِ قَادِرًا، وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: عائد على السموات وَالْأَرْضِ، وَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمَا كَضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلَهُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فِي الصِّغَرِ وَالْقَمَاءَةِ بِالْإِضَافَةِ إلى السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ أَنْ يُعِيدَهُمْ، لِأَنَّ الْمَصَادِرَ مِثْلٌ لِلْمُبْتَدَأِ وَلَيْسَ بِهِ. انْتَهَى. وَيَقُولُ: إِنَّ الْمَعَادَ هُوَ عَيْنُ الْمُبْتَدَأِ، وَلَوْ كَانَ مِثْلَهُ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ إِعَادَةٌ، بَلْ يَكُونُ إِنْشَاءً مُسْتَأْنَفًا. وقرأ الجمهور: الْخَلَّاقُ بنسبة الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْخَالِقُ، اسْمُ فَاعِلٍ. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: تَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْخِلَافُ فِي فَيَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْقِرَاءَةِ نَصْبًا وَرَفْعًا. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ: تَنْزِيهٌ عَامٌّ لَهُ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَلَكُوتُ وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: مَلَكَةُ عَلَى وَزْنِ شَجَرَةٍ، وَمَعْنَاهُ: ضَبْطُ كُلِّ شَيْءٍ والقدرة عليه. وقرىء: مَمْلَكَةُ، عَلَى وَزْنِ مَفْعَلَةٍ وقرىء: مَلِكُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ عَلَى مَا أَرَادَ وَقَضَى. وَالْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.

سورة الصافات

سورة الصافات [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 98] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

الزَّجْرُ: الدَّفْعُ عَنِ الشَّيْءِ بِتَسْلِيطٍ وَصِيَاحٍ. وَالزَّجْرَةُ: الصَّيْحَةُ، مِنْ قَوْلِكَ: زَجَرَ الرَّاعِي الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، إِذَا صَاحَ عَلَيْهِمَا فَرَجَعَتْ لِصَوْتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا ... أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ يُرِيدُ تَصْوِيتَهُ بِهَا. الثَّاقِبُ: الشَّدِيدُ النَّفَاذِ. اللَّازِبُ: اللَّازِمُ مَا جَاوَرَهُ وَاللَّاصِقُ بِهِ. اللَّذِيذُ: الْمُسْتَطَابُ، يُقَالُ لَذَّ الشَّيْءُ يَلَذُّ، فَهُوَ لَذِيذٌ وَلَذَّ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، كَطَلَبَ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَلَذُّ بِطَعْمِهِ وَتَخَالُ فِيهِ ... إِذَا نَبَّهَتْهَا بَعْدَ الْمَنَامِ وَقَالَ: وَلَذٍّ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُهُ ... بِأَرْضِ الْعِدَا مِنْ خَشْيَةِ الْحَدَثَانِ يُرِيدُ النَّوْمَ. وَقَالَ: بِحَدِيثِكَ اللَّذِّيِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتَ ... أَسَدَ الْفَلَاةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا الْغَوْلُ: اسْمٌ عَامٌّ فِي الْأَذَى، تَقُولُ: غَالَهُ كَذَا وَكَذَا، إِذَا ضَرَّهُ فِي خَفَاءٍ، وَمِنْهُ: الْغِيلَةُ فِي الْعَقْلِ، وَالْغِيلَةُ فِي الرِّضَاعِ، وَغَالَهُ الشَّيْءُ: أَهْلَكَهُ وَأَفْسَدَهُ، وَمِنْهُ: الْغُولُ الَّتِي فِي أَكَاذِيبِ الْعَرَبِ وَفِي أَمْثَالِهِمْ: الْغَضَبُ غُولُ الْحِلْمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَضَى أَوَّلُونَا نَاعِمِينَ بِعَيْشِهِمْ ... جَمِيعًا وَغَالَتْنِي بِمَكَّةَ غُولُ أَيْ: عَاقَتْنِي عَوَائِقُ، وَقَالَ: وَمَا زَالَتِ الْخَمْرُ تَغْتَالُنَا ... وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ نَزَفَتِ الشَّارِبَ الْخَمْرُ وَأَنْزَفَ هُوَ: ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنَ السُّكْرِ، فَهُوَ نَزِيفٌ وَمُنْزِفٌ، الثُّلَاثِيُّ مُتَعَدٍّ

وَالرُّبَاعِيُّ لَازِمٌ، نَحْوُ: كَبَيْتُ الرجل وأكب، وقشغت الريح السحاب، وقشع هو: أَيْ دَخَلَا فِي الْكَبِّ وَالْقَشْعِ. قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ: لَعَمْرِي لَئِنْ أَنَزَفْتُمْ أَوْ صَحَوْتُمْ ... لَبِئْسَ النَّدَامَى كنتم آل أبجرا وَنَزُفَ الشَّارِبُ، بِضَمِّ الزَّايِ، وَيُقَالُ: نُزِفَ الْمَطْعُونُ: ذَهَبَ دمه كله، مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَنُزِحَتِ الرَّكِيَّةُ حَتَّى نَزْفَتُهَا: لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَاءٌ، وَيُقَالُ: أَنْزَفَ الرَّجُلُ بَعْدَ شَرَابِهِ، فَأَنْزَفَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ سَكِرَ وَنَفِدَ. الْبَيْضُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، الْوَاحِدُ بَيْضَةٌ، وَسُمِّي بِذَلِكَ لِبَيَاضِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى بُيُوضٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحُزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا الزَّقُّومُ: شَجَرَةٌ مَسْمُومَةٌ لَهَا لَبَنٌ، إِنْ مَسَّ جِسْمَ إِنْسَانٍ تَوَرَّمَ وَمَاتَ مِنْهُ فِي أَغْلَبِ الْأَمْرِ، تَنْبُتُ فِي الْبِلَادِ الْمُجْدِبَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلصَّحْرَاءِ. وَالتَّزَقُّمُ: الْبَلْعُ عَلَى شِدَّةٍ وَجَهْدٍ. شَابَ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يَشُوبُهُ شَوْبًا: خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ. رَاغَ يَرُوغُ: مَالَ فِي خُفْيَةٍ مِنْ رَوْغَةِ الثَّعْلَبِ. زَفَّ: أَسْرَعَ، وَأَزَفَّ: دَخَلَ فِي الزَّفِيفِ، فَهَمْزَتُهُ بِهِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَأَزَفَّهُ: حَمَلَهُ عَلَى الزَّفِيفِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ: فجاء فربع الشَّوْلِ قَبْلَ إِفَالِهَا ... يَزِفُّ وَجَاءَتْ خَلْفَهُ وَهِيَ زُفَّفُ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ يس أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَعَادَ وَقُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَأَنَّهُ هُوَ مُنْشِئُهُمْ، وَإِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِشَيْءٍ، كَانَ ذَكَرَ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ، إِذْ لَا يَتِمُّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وُجُودًا وَعَدَمًا إِلَّا بِكَوْنِ الْمُرِيدِ وَاحِدًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» . وَأَقْسَمَ تَعَالَى بِأَشْيَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَقَالَ: وَالصَّافَّاتِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَسْرُوقٌ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، تُصَفُّ فِي السَّمَاءِ فِي الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ صُفُوفًا وَقِيلَ: تَصِفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً مُنْتَظِرَةً لِأَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَنْ يُصَفُّ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 22.

اللَّهِ، أَوْ فِي صَلَاةٍ وَطَاعَةٍ. وَقِيلَ: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٌ. وَالزَّاجِرَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ لِتَضَمُّنِهِ النَّوَاهِيَ الشَّرْعِيَّةَ وَقِيلَ: كُلُّ مَا زُجِرَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. وَالتَّالِيَاتُ: الْقَارِئَاتُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ ذِكْرَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَنُو آدَمَ يَتْلُونَ كَلَامَهُ الْمُنَزَّلَ وَتَسْبِيحَهُ وَتَكْبِيرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ ذِكْرَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِنُفُوسِ الْعُلَمَاءِ الْعُمَّالِ الصَّافَّاتِ أَقْدَامَهَا فِي التَّهَجُّدِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَصُفُوفِ الْجَمَاعَاتِ، فَالزَّاجِرَاتِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالنَّصَائِحِ، فَالتَّالِيَاتِ آيَاتِ اللَّهِ، وَالدَّارِسَاتِ شَرَائِعَهِ أَوْ بِنُفُوسِ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّتِي تَصِفُّ الصُّفُوفَ، وَتَزْجُرُ الْخَيْلَ لِلْجِهَادِ، وَتَتْلُو الذِّكْرَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْغَلُهَا عَنْهُ تِلْكَ الشَّوَاغِلُ. انْتَهَى. وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْفَاءَ الْعَاطِفَةَ فِي الصَّافَّاتِ، إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرَتُّبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصا ... بح، فَالْغَانِمِ، فَالْآيِبِ أَيِ الَّذِي صَبُحَ فَغَنِمَ فَآبَ وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَقَوْلِكَ: خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ وَإِمَّا عَلَى تَرْتِيبِ مَوْصُوفَاتِهَا فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِكَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ. فَإِمَّا هُنَا، فَإِنْ وَحَّدْتَ الْمَوْصُوفَ كَانَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الصَّافَّاتِ فِي التَّفَاضُلِ، فَإِذَا كَانَ الْمُوَحَّدُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَكُونُ الْفَضْلُ لِلصَّفِّ، ثُمَّ الزَّجْرِ، ثُمَّ التِّلَاوَةِ وَإِمَّا عَلَى الْعَكْسِ، وَإِنْ تَلِيَتِ الْمَوْصُوفَ، فَتُرَتَّبُ فِي الْفَضْلِ، فَتَكُونُ الصَّافَّاتُ ذَوَاتَ فَضْلٍ، وَالزَّاجِرَاتُ أَفْضَلَ، وَالتَّالِيَاتُ أَبْهَرَ فَضْلًا، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ. انْتَهَى. وَمَعْنَى الْعَكْسِ فِي الْمَكَانَيْنِ: أَنَّكَ تَرْتَقِي مِنْ أَفْضَلَ إِلَى فَاضِلٍ إِلَى مَفْضُولٍ أَوْ تَبْدَأُ بِالْأَدْنَى، ثُمَّ بِالْفَاضِلِ، ثُمَّ بِالْأَفْضَلِ. وَأَدْغَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وحمزة: التاءات الثلاث. وَالْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَهُ تَعَالَى، أَيْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا الْمُتَفَكِّرُونَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ أَمْدَحُ، أَيْ هُوَ رَبٌّ. وَذَكَرَ الْمَشَارِقَ لِأَنَّهَا مَطَالِعُ الْأَنْوَارِ، وَالْإِبْصَارُ بِهَا أَكْلَفُ، وَذِكْرُهَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْمَغَارِبِ، إِذْ ذَاكَ مَفْهُومٌ مِنَ الْمَشَارِقِ، وَالْمَشَارِقُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَشْرِقًا، وَكَذَلِكَ الْمَغَارِبُ. تُشْرِقُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَشْرِقٍ مِنْهَا وَتَغْرُبُ فِي مَغْرِبٍ، وَلَا تَطْلُعُ وَلَا تَغْرُبُ فِي وَاحِدٍ يَوْمَيْنِ. وَثَنَّيَ فِي رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «1» ، بِاعْتِبَارِ مَشْرِقِيِّ الصَّيْفِ

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 17.

وَالشِّتَاءِ وَمَغْرِبَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ تَعَالَى مَشَارِقَ الشَّمْسِ وَمَغَارِبَهَا، وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ فِي السَّنَةِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ، مِنْ أَطْوَلِ أَيَّامِ السَّنَةِ إِلَى أَقْصَرِهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ بِتَزْيِينِ السَّمَاءِ بِالْكَوَاكِبِ، وَانْتِظَامِ التَّزْيِينِ أَنْ جَعَلَهَا حِفْظًا وَحِذْرًا مِنَ الشَّيْطَانِ. انْتَهَى. وَالزِّينَةُ مَصْدَرٌ كَالسَّنَةِ، وَاسْمٌ لِمَا يُزَانُ بِهِ الشَّيْءُ، كَاللِّيقَةِ اسْمٌ لِمَا يُلَاقِ بِهِ الدَّوَاةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بِالْإِضَافَةِ، فَاحْتَمَلَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، أَيْ بِأَنْ زَانَتِ السَّمَاءَ الْكَوَاكِبُ، وَمُضَافًا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ بِأَنْ زَيَّنَ اللَّهُ الْكَوَاكِبَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَا يُزَانُ بِهِ، وَالْكَوَاكِبُ بَيَانٌ لِلزِّينَةِ، لِأَنَّ الزِّينَةَ مُبْهَمَةٌ فِي الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُزَانُ بِهِ، أَوْ مِمَّا زَيَّنَتِ الْكَوَاكِبُ مِنْ إِضَاءَتِهَا وَثُبُوتِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ: بِزِينَةٍ مُنَوَّنًا، الْكَوَاكِبِ بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ زِينَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَمَسْرُوقٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِزِينَةٍ مُنَوَّنًا، الْكَوَاكِبَ نَصْبًا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِزِينَةٍ مصدرا، والكواكب مفعول بِهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً «1» . وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْكَوَاكِبَ بَدَلًا مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ زَيَّنَّا كَوَاكِبَ السَّمَاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ، وَرَفْعِ الْكَوَاكِبِ عَلَى خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُوَ الْكَوَاكِبُ، أَوْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ بِأَنْ زَيَّنَتِ الْكَوَاكِبُ. وَرَفْعُ الْفَاعِلِ بِالْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ، زَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ، وَأَجَازَ الْبَصْرِيُّونَ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ: بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَشْكَالُهَا الْمُخْتَلِفَةُ، كَشَكْلِ الثُّرَيَّا، وَبَنَاتِ نَعْشٍ، وَالْجَوْزَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَطَالِعُهَا وَمَسَايِرُهَا. وَخَصَّ السَّماءَ الدُّنْيا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ وَالْحِفْظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، إِنَّمَا هُوَ فِيهَا وَحْدَهَا. وَانْتَصَبَ وَحِفْظاً عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، أَوْ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَامِلِ، أَيْ وَلِحِفْظِهَا زَيَّنَاهَا بِالْكَوَاكِبِ، وَحَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَحِفْظًا: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَنْقُولَةٌ، وَالْمَارِدُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قَوْلِهِ: شَيْطاناً مَرِيداً «2» فِي النِّسَاءِ، وَهُنَاكَ جَاءَ مَرِيداً، وَهُنَا مارِدٍ، مُرَاعَاةً لِلْفَوَاصِلِ. لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى: كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ مُبْتَدَأٌ اقْتِصَاصًا لِمَا عَلَيْهِ حَالُ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَمِعُوا أَوْ يَسَّمَّعُوا، وَهُمْ مَقْذُوفُونَ بالشهب مبعدون

_ (1) سورة البلد: 90/ 14. (2) سورة النساء: 4/ 117.

عَنْ ذَلِكَ، إِلَّا مَنْ أُمْهِلَ حَتَّى خَطِفَ الْخَطْفَةَ وَاسْتَرَقَ اسْتِرَاقَةً، فَعِنْدَهَا تُعَاجِلُهُ الْمَلَائِكَةُ بِاتِّبَاعِ الشِّهَابِ الثَّاقِبِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَسَّمَّعُونَ صِفَةً وَلَا اسْتِئْنَافًا جَوَابًا لِسَائِلٍ سَأَلَ لِمَ يُحْفَظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ كَوْنُهُمْ لَا يَسَّمَّعُونَ، أَوِ الْجَوَابُ لَا مَعْنَى لِلْحِفْظِ مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَى تَقْدِيرِهِمَا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى مَعَ الْوَصْفِ: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غَيْرِ سَامِعٍ أَوْ مُسَّمِّعٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ كَوْنِهِ جَوَابًا. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ لِأَنْ لَا يَسَّمَّعُوا، فَحُذِفَتِ اللَّامُ وَإِنْ، فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ، قَوْلٌ مُتَعَسِّفٌ يُصَانُ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسَّمَّعُونَ: نَفَى سَمَاعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا يَسَّمَّعُونَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «1» ، وَعَدَّاهُ بِإِلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِصْغَاءِ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: بِشَدِّ السِّينِ وَالْمِيمِ بِمَعْنَى لَا يَتَسَمَّعُونَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ، وَتَقْتَضِي نَفْيَ التَّسَمُّعِ. وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ يَتَسَمَّعُونَ حَتَّى الْآنَ، لَكِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا لَمْ يُفْلِتْ حَرَسًا وَشُهُبًا مِنْ وقت بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الرَّجْمُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحَقَّ، فَأَمَّا كَانَتْ ثَمَرَةُ التَّسَمُّعِ هُوَ السَّمْعَ، وَقَدِ انْتَفَى السَّمْعُ بِنَفْيِ التَّسَمُّعِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِانْتِفَاءِ ثمرته، وهو السمع. والْمَلَإِ الْأَعْلى يَعُمُّ الْمَلَائِكَةَ، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ هُمُ الْمَلَأُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَشْرَافُ الْمَلَائِكَةِ، وَعَنْهُ كِتَابُهُمْ. وَيُقْذَفُونَ: يُرْمَوْنَ وَيُرْجَمُونَ، مِنْ كُلِّ جانِبٍ: أَيْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ مِنْهَا، وَالْمَرْجُومُ بِهَا هِيَ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ تَنْقُضُ، وَلَيْسَتْ بِالْكَوَاكِبِ الْجَارِيَةِ فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّ تِلْكَ لَا تُرَى حَرَكَتُهَا، وَهَذِهِ الرَّاجِمَةُ تُرَى حَرَكَتُهَا لِقُرْبِهَا مِنَّا، قَالَهُ مَكِّيٌّ وَالنَّقَّاشُ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو: وَيَقْذِفُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَدُحُورًا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَطْرُودِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ ويقذفون لِلطَّرْدِ، أَوْ مَصْدَرٌ لِيُقْذَفُونَ، لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنُ مَعْنَى الطَّرْدِ، أَيْ وَيُدْحَرُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَذْفًا. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ فِي وَيُقْذَفُونَ، وَإِمَّا فِي دُحُورًا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: دَحُورًا، بِنَصْبِ الدَّالِ ، أَيْ قَذْفًا دَحُورًا، بِنَصْبِ الدَّالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، كَالْقَبُولِ وَالْوُلُوغِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ أَلْفَاظٌ ذُكِرَ أَنَّهَا مَحْصُورَةٌ. وَالْوَاصِبُ: الدَّائِمُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَقَدَّمَ في سورة النحل.

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 212.

وَيُقَالُ: وَصَبَ الشَّيْءُ وُصُوبًا: دَامَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُوجِعُ، وَمِنْهُ الْوَصَبُ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَرْجُومُونَ، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ الدَّائِمُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ رَجْمُهُمْ دَائِمًا، وَعَدَمُ بُلُوغِهِمْ مَا يَقْصِدُونَ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ: مَنْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا يَسَّمَّعُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَا يَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ إِلَّا الشَّيْطَانَ الَّذِي خَطِفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَطِفَ ثُلَاثِيًا بِكَسْرِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَيُقَالُ هِيَ لُغَةُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَتَمِيمِ بْنِ مُرَّةَ. وقرىء: خَطِّفَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَنَسَبَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ إِلَى الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعِيسَى، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا التَّخْفِيفُ. وَأَصْلُهُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ اخْتَطَفَ، فَفِي الْأَوَّلِ لَمَّا سُكِّنَتْ لِلْإِدْغَامِ، وَالْخَاءُ سَاكِنَةٌ، كُسِرَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَذَهَبَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ وَكُسِرَتِ الطَّاءُ اتِّبَاعًا لِحَرَكَةِ الْخَاءِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خِطِفَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مُخَفَّفَةً، اتْبَعَ حَرَكَةَ الْخَاءِ لِحَرَكَةِ الطَّاءِ، كَمَا قَالُوا نِعِمْ. وقرىء: فَأَتْبَعَهُ، مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا. وَالثَّاقِبُ، قَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: هُوَ النَّافِذُ بِضَوْئِهِ وَشُعَاعِهِ الْمُنِيرِ. فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ، بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ، وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ، وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ، وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ، وَقالُوا يا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. الِاسْتِفْتَاءُ نَوْعٌ مِنَ السُّؤَالِ، وَالْهَمْزَةُ، وَإِنْ خَرَجَتْ إِلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ، فَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ فَاسْتَخْبِرْهُمْ، وَالضَّمِيرُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الْأَشَدِّ بْنِ كَلَدَةَ، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ بَطْشِهِ وَقُوَّتِهِ. وَعَادَلَ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ فِي الْأَشُدِّيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ خَلَقَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَرَضِينَ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: أَمْ مَنْ عَدَدْنَا، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِمَنْ خَلَقْنَا، أَيْ مَنْ عَدَدْنَا مِنَ الصَّافَّاتِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. وَغُلِّبَ الْعَاقِلُ عَلَى غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ خَلَقْنا، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْفَاعِلِ فِي خَلَقْنا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْخَلْقِ اكْتِفَاءً بِبَيَانِ مَا تَقَدَّمَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أم من خلقنا من غَرَائِبِ الْمَصْنُوعَاتِ وَعَجَائِبِهَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَمَنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ دُونَ أَمْ، جَعَلَهُ اسْتِفْهَامًا ثَانِيًا تَقْرِيرًا أَيْضًا، فَهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ فِي التَّقْرِيرِ، وَمَنْ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ

تَقْدِيرُهُ أَشَدُّ. فَعَلَى أَمْ مَنْ هُوَ تَقْرِيرٌ وَاحِدٌ وَنَظِيرُهُ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَشَدُّ خَلْقًا يَحْتَمِلُ أَقْوَى خَلْقًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَدِيدُ الْخَلْقِ، وَفِي خَلْقِهِ شِدَّةٌ، وَأَصْعَبُ خَلْقًا. وَأَشَدُّ خَلْقًا وَأَشَقُّهُ يَحْتَمِلُ أَقْوَى خَلْقًا مِنْ قَوْلِهِمْ: شَدِيدُ الْخَلْقِ، وَفِي خَلْقِهِ شِدَّةٌ، عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالنَّشْأَةَ الْأُخْرَى. وَإِنَّ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ خَلْقُ هَذِهِ الْخَلَائِقِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِ اخْتِرَاعُهَا، كَانَ خَلْقُ الشر عَلَيْهِ أَهْوَنَ. وَخَلْقُهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، إِمَّا شَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّعْفِ وَالرَّخَاوَةِ، لِأَنَّ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالصَّلَابَةِ وَالْقُوَّةِ أَوِ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الطِّينَ اللَّازِبَ الَّذِي خُلِقُوا مِنْهُ تُرَابٌ. فَمِنْ أَيْنَ اسْتَنْكَرُوا أَنْ يُخْلَقُوا مِنْ تراب مثله؟ قالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، وَهَذَا الْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ مَا يَتْلُوهُ مِنْ ذِكْرِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً «2» ، وَقَوْلِهِ: وكانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً «3» ، وَأَضَافَ: الْخَلْقَ مِنَ الطِّينِ إِلَيْهِمْ، وَالْمَخْلُوقُ مِنْهُ هُوَ أَبُوهُمْ آدَمُ، إِذْ كَانُوا نَسْلَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: خُلِقَ ابْنُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ وَنَارٍ وَهَوَاءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا خُلِطَ صَارَ طِينًا لَازِبًا يَلْزَمُ مَا جَاوَرَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّازِبِ بِالْجَرِّ، أَيِ الْكَرِيمِ الْجَيِّدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ عَجِبْتَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، أَيْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْخَلَائِقِ الْعَظِيمَةِ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْكَ وَمِنْ تَعَجُّبِكَ، وَمِمَّا تُرِيهِمْ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ عَجِبْتَ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ. أَوْ عَجِبْتَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَعَمَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَأَنْ يَكُونُوا كافرين مع ما جئتهم بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وَشَقِيقٍ، وَالْأَعْمَشِ. وَأَنْكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ: اللَّهُ لَا يَعْجَبُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ شُرَيْحٌ مُعْجَبًا بِعِلْمِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ، يَعْنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعَجَبُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ رَوْعَةٌ تَعْتَرِي الْمُتَعَجِّبَ مِنَ الشَّيْءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادُ الْعَجَبِ إِلَى الله تعالى، وتؤول عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ مِنْ تَعْظِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ. فَالْمَعْنَى: بَلْ عَجِبْتُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ وَسُوءِ عَمَلِهِمْ، وَجَعَلْتُهَا لِلنَّاظِرِينَ فِيهَا وَفِيمَا اقْتَرَنَ فِيهَا مِنْ شَرْعِي وَهُدَايَ مُتَعَجَّبًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ بلغ من

_ (1) سورة النازعات: 79/ 27. (2) سورة ق: 50/ 36. (3) سورة فاطر: 35/ 44.

عَظِيمِ آيَاتِي وَكَثْرَةِ خَلَائِقِي أَنِّي عَجِبْتُ مِنْهَا، فَكَيْفَ بِعِبَادِي وَهَؤُلَاءِ، لِجَهْلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، يَسْخَرُونَ مِنْ آيَاتِي؟ أَوْ عَجِبْتُ مِنْ أَنْ يُنْكِرُوا الْبَعْثَ مِمَّنْ هَذِهِ أَفْعَالُهُ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ بِمَنْ يَصِفُ اللَّهَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَيُجَرَّدُ الْعَجَبُ لِمَعْنَى الِاسْتِعْظَامِ، أَوْ يُخَيَّلُ الْعَجَبُ وَيُفْرَضُ. وَقِيلَ: هُوَ ضَمِيرُ الرَّسُولِ، أَيْ قُلْ بَلْ عَجِبْتُ. قَالَ مَكِّيٌّ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْ نُبُوَّتِكَ وَالْحَقِّ الَّذِي عِنْدَكَ. وَإِذا ذُكِّرُوا وَوُعِظُوا، لَا يَذْكُرُونَ، وَلَا يَتَّعِظُونَ. وَذَكَرَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: ذَكَرُوا، بِتَخْفِيفِ الْكَافِ. رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، لَقِيَهُ الرَّسُولُ فِي جَبَلٍ خَالٍ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ، وَكَانَ مِنْ أَقْوَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ: «يَا رُكَانَةُ، أَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَرَعَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ دُعَاءِ شَجَرَةٍ وَإِقْبَالِهَا، فَلَمْ يُؤْمِنْ، وَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، سَاحِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ، فَنَزَلَتْ فِيهِ وَفِي نُظَرَائِهِ: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: يَسْخَرُونَ، يَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ. وَقِيلَ: فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ، أَيْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَسْخَرُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُبَالِغُونَ فِي السُّخْرِيَةِ، أَوْ يَسْتَدْعِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ يَسْخَرَ مِنْهَا. وقرىء: يَسْتَسْحِرُونَ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَا قَالَ ركانة لأسحر الرَّسُولَ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْخَارِقِ الْمُعْجِزِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي كَسْرِ مِيمِ مِتْنا وَضَمِّهَا. ومن قرأ: أَإِذا بِالِاسْتِفْهَامِ، فَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ نُبْعَثُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوْ يُعَرَّى عَنِ الشَّرْطِ وَيَكُونُ ظَرْفًا مَحْضًا، وَيُقَدَّرُ الْعَامِلُ: أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوَآباؤُنَا بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي أَوَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةِ قَالُونَ: بِالسُّكُونِ، فَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ، وَمَنْ فتح فالواو حرف عَطْفٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَآباؤُنَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ فِي مَبْعُوثُونَ. وَالَّذِي جَوَّزَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ الْفَصْلُ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: أَيُبْعَثُ أَيْضًا آبَاؤُنَا؟ عَلَى زِيَادَةِ الِاسْتِبْعَادِ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ أَقْدَمُ، فَبَعْثُهُمْ أَبْعَدُ وَأَبْطَلُ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ خِلَافُهُ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَعَمْرٌو، فِيهِ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ على الضمير في لَمَبْعُوثُونَ إِلَى آخِرِهِ، فَلَا يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى الضَّمِيرِ، لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْجُمَلِ، لَا عَلَى الْمُفْرَدِ، لِأَنَّهُ إِذَا عُطِفَ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَ الْفِعْلُ عَامِلًا فِي الْمُفْرَدِ بِوَسَاطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ

فِيمَا بَعْدَهَا مَا قَبْلَهَا. فَقَوْلُهُ: أَوَآباؤُنَا مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَبْعُوثُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. فَإِذَا قُلْتَ: أَقَامَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، فَعَمْرٌو مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاسْتِفْهَامُهُمْ تَضَمَّنَ إِنْكَارًا وَاسْتِبْعَادًا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بنعم. وَأَنْتُمْ داخِرُونَ: أَيْ صَاغِرُونَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ نَعَمْ تُبْعَثُونَ، وَزَادَهُمْ فِي الْجَوَابِ أَنَّ بَعْثَهُمْ وَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالصَّغَارِ وَالذُّلِّ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: نَعِمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَعْثَةِ، فَإِنَّمَا بَعْثَتُهُمْ زَجْرَةٌ: أَيْ صَيْحَةٌ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. لَمَّا كَانَتْ بَعْثَتُهُمْ نَاشِئَةً عَنِ الزَّجْرَةِ جُعِلَتْ إِيَّاهَا مَجَازًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مُبْهَمَةٌ يُوَضِّحُهَا خَبَرُهَا. انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ هُوَ وَابْنُ مَالِكٍ أَنَّ الضَّمِيرَ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «1» ، وَتَكَلَّمْنَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّمَا جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَتَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ، فَمَا هِيَ إِلَّا زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا تُضَمَّنُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ قَبْلَ فَاءٍ إِذَا سَاغَ، تَقْدِيرُهُ: وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يُحْذَفُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى جَوَابُهُ إِلَّا إِذَا انْجَزَمَ الْفِعْلُ فِي الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، إِمَّا ابْتِدَاءٌ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. ويَنْظُرُونَ: مِنَ النَّظَرِ، أَيْ فَإِذَا هُمْ بُصَرَاءُ يَنْظُرُونَ، أَوْ مِنَ الِانْتِظَارِ، أَيْ فَإِذَا هُمْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ وَمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا وَيْلَنا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْكُفَّارِ لِبَعْضٍ، إِلَى آخِرِ الْجُمْلَتَيْنِ، أَقَرُّوا بِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ يَوْمُ الْفَصْلِ، وَخَاطَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَوَقَفَ أَبُو حَاتِمٍ عَلَى قَوْلِهِ: يَا وَيْلَنا، وَجَعَلَ هَذَا يَوْمُ الدِّينِ إِلَى آخِرِهِ من قول الله لهم أَوِ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ مِنْ كَلَامِ الكفرة، وهذا يَوْمُ الْفَصْلِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى يُقَالُ لَهُمْ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيَوْمُ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ وَالْمُعَاوَضَةِ، وَيَوْمُ الْفَصْلِ: يَوْمُ الْفَرْقِ بَيْنَ فِرَقِ الْهُدَى وَفِرَقِ الضَّلَالِ. وَفِي الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ تَوْبِيخٌ لهم وتقريع. شُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ، قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 37.

مُؤْمِنِينَ، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ، فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ، فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ، وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. احْشُرُوا: خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ، أَوْ خِطَابُ الْمَلَائِكَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيِ اجْمَعُوا الظَّالِمِينَ وَنِسَاءَهُمُ الْكَافِرَاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَجَّحَهُ الرُّمَّانِيُّ. وأنواعهم وضرباؤهم، قَالَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوْ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْعُصَاةِ، وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا، وَأَهْلُ السَّرِقَةِ، أَوْ قُرَنَاؤُهُمُ الشَّيَاطِينُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْحِجَازِيُّ: وَأَزْواجَهُمْ، مَرْفُوعًا عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ ظَلَمُوا، أَيْ وَظَلَمَ أَزْوَاجُهُمْ. فَاهْدُوهُمْ: أَيْ عَرِّفُوهُمْ وَقُودُوهُمْ إِلَى طَرِيقِ النَّارِ حَتَّى يَصْطَلُوهَا، وَالْجَحِيمُ طَبَقَةٌ مِنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ. وَقِفُوهُمْ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «1» ، وَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. وَقَرَأَ عِيسَى: أَنَّهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يُسْأَلُونَ عَنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى طَرِيقِ الْهَزْءِ بِهِمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: يُسْأَلُونَ عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَعَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيُوقَفُونَ عَلَى قُبْحِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ كَيْفَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ مَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى نَحْوِ مَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ، أي إنهم مسؤولون عَنِ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ التَّنَاصُرِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ فِي الِامْتِنَاعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنِ التَّنَاصُرِ بعد ما كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مُتَعَاضِدِينَ مُتَنَاصِرِينَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ، جَوَابُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ قَالَ فِي بَدْرٍ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «2» . وقرىء: لَا تَنَاصَرُونَ، بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَبِتَاءَيْنِ، وَبِإِدْغَامِ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ: أَيْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَخَذَلَهُ عَنْ عَجْزٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَسْلِمٌ غَيْرُ مُنْتَصِرٍ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ جِنٌّ وَإِنْسٌ، وَتَسَاؤُلُهُمْ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيعِ وَالنَّدَمِ وَالسُّخْطِ. قَالُوا: أَيْ قَالَتِ الْإِنْسُ لِلْجِنِّ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَوْ ضَعَفَةُ الْإِنْسِ الْكَفَرَةُ لكبرائهم وقادتهم. والْيَمِينِ:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 27. (2) سورة القمر: 54/ 44.

الْجَارِحَةُ، وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا. فَقِيلَ: اسْتُعِيرَتْ لِجِهَةِ الْخَيْرِ، أَوْ لِلْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، أَوْ لِجِهَةِ الشَّهَوَاتِ، أَوْ لِجِهَةِ التَّمْوِيهِ وَالْإِغْوَاءِ وَإِظْهَارِ أَنَّهَا رُشْدٌ، أَوِ الْحَلِفِ. وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ وَجْهٌ. فَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِجِهَةِ الْخَيْرِ، فَلِأَنَّ الْجَارِحَةَ أَشْرَفُ الْعُضْوَيْنِ وَأَيْمَنُهَا، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ بِهَا حَتَّى فِي السَّانِحِ، وَيُصَافِحُونَ ويماسحون وَيُنَاوِلُونَ وَيُزَاوِلُونَ بِهَا أَكْثَرَ الْأُمُورِ، وَيُبَاشِرُونَ بِهَا أَفَاضِلَ الْأَشْيَاءِ، وَجُعِلَتْ لِكَاتِبِ الْحَسَنَاتِ، وَلِأَخْذِ الْمُؤْمِنِ كِتَابَهُ بِهَا، وَالشِّمَالُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِلْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَإِنَّهَا يَقَعُ بِهَا الْبَطْشُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تُعَرُّونَنَا بِقُوَّتِكُمْ وَتَحْمِلُونَنَا عَلَى طَرِيقِ الضَّلَالِ. وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِجِهَةِ الشَّهَوَاتِ، فَلِأَنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ هِيَ الْجِهَةُ الثَّقِيلَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِيهَا كَبِدُهُ، وَجِهَةُ شِمَالِهِ فِيهَا قَلْبُهُ وَمَكْرُهُ، وَهِيَ أَخَفُّ، وَالْمُنْهَزِمُ يَرْجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، إِذْ هُوَ أَخَفُّ شِقَّيْهِ. وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِجِهَةِ التَّمْوِيهِ وَالْإِغْوَاءِ، فَكَأَنَّهُمْ شَبَّهُوا أَقْوَالَ الْمُغْوِينَ بِالسَّوَانِحِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مَحْمُودَةٌ، كَأَنَّ التَّمْوِيهَ فِي إِغْوَائِهِمْ أَظْهَرُ مَا يَحْمَدُونَهُ. وَأَمَّا الْحَلِفُ، فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ لَهُمْ وَيَأْتُونَهُمْ إِتْيَانَ الْمُقْسِمِينَ عَلَى حُسْنِ مَا يَتْبَعُونَهُمْ فِيهِ. قالُوا، أَيِ الْمُخَاطَبُونَ، إِمَّا الْجِنُّ وَإِمَّا قَادَةُ الْكُفْرِ: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ: أَيْ لَمْ نُقِرَّكُمْ عَلَى الْكُفْرِ، بَلْ أَنْتُمْ مِنْ ذَوَاتِكُمْ أَبَيْتُمُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَعْرَضْتُمْ مَعَ تَمَكُّنِكُمْ وَاخْتِبَارِكُمْ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا عَلَى الْكُفْرِ غَيْرَ مُلْجِئِينَ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ تَسَلُّطٍ نَسْلُبُكُمْ بِهِ تَمَكُّنَكُمْ واختباركم، بل كنتم قوما مُخْتَارِينَ الطُّغْيَانَ. انْتَهَى. وَلَفْظَةُ التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِمْ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا: أَيْ لَزِمَنَا قَوْلُ رَبِّنَا، أَيْ وَعِيدُهُ لَنَا بِالْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا لَذائِقُونَ، إخبار منهم أنهم ذائقون الْعَذَابِ جَمِيعَهُمْ، الرُّؤَسَاءَ، وَالْأَتْبَاعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَزِمْنَا قَوْلَ رَبِّنَا: إِنَّا لَذائِقُونَ، يَعْنِي وَعِيدَ اللَّهِ بِأَنَّا ذَائِقُونَ لِعَذَابِهِ لَا مَحَالَةَ، لِعِلْمِهِ بِحَالِنَا وَاسْتِحْقَاقِنَا بِهَا الْعُقُوبَةَ. وَلَوْ حَكَى الْوَعِيدَ كَمَا هُوَ لَقَالَ: إِنَّكُمْ لَذَائِقُونَ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ بِهِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهُمْ مُتَكَلِّمُونَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَقَدْ زَعَمَتْ هَوَازِنُ قَلَّ مَالِي وَلَوْ حَكَى قَوْلَهَا لَقَالَ: قَلَّ مَالُكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُحَلِّفِ لِلْحَالِفِ. لَأَخْرُجَنَّ، وَلْنَخْرُجَنَّ الْهَمْزَةُ لِحِكَايَةِ لَفْظِ الْحَالِفِ، وَالتَّاءُ لِإِقْبَالِ الْمُحَلِّفِ عَلَى الْحَلِفِ. انْتَهَى. فَأَغْوَيْناكُمْ: دَعَوْنَاكُمْ إِلَى الْغَيِّ، فَكَانَتْ فِيكُمْ قَابِلِيَّةٌ لَهُ فَغَوَيْتُمْ. إِنَّا كُنَّا غاوِينَ: فَأَرَدْنَا أَنْ تُشَارِكُونَا

فِي الْغَيِّ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ: أَيْ يَوْمَ إِذْ تَسَاءَلُوا وَتَرَاجَعُوا فِي الْقَوْلِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا اشْتَرَكُوا فِي الْغَيِّ، اشْتَرَكُوا فِيمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ. إِنَّا كَذلِكَ: أَيْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ بِهَؤُلَاءِ نَفْعَلُ بِكُلِّ مُجْرِمٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِجْرَامِهِ عَذَابُهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَكْبَرِ إِجْرَامِهِمْ، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنْ تَوْحِيدِهِ، وَإِفْرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْهُمْ مَا قَدَحُوا بِهِ فِي الرَّسُولِ، وَهُوَ نِسْبَتُهُ إِلَى الشِّعْرِ وَالْجُنُونِ، وأنهم ليسوا بتاركي آلِهَتِهِمْ لَهُ وَلِمَا جَاءَ بِهِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ إِنْكَارِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْكَارِ الرِّسَالَةِ. وَقَوْلُهُمْ: لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ: تَخْلِيطٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَارْتِبَاكٌ فِي غَيِّهِمْ. فَإِنَّ الشَّاعِرَ هُوَ عِنْدَهُ مِنَ الْفَهْمِ وَالْحِذْقِ وَجَوْدَةِ الْإِدْرَاكِ مَا يَنْظِمُ بِهِ الْمَعَانِيَ الْغَرِيبَةَ وَيَصُوغُهَا فِي قَالَبِ الْأَلْفَاظِ الْبَدِيعَةِ، وَمَنْ كَانَ مَجْنُونًا لَا يَصِلُ إِلَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ أَضْرَبَ تَعَالَى عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَخْبَرَ بِأَنْ جَاءَ الْحَقُّ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ إِضْمِحْلَالٌ، فَلَيْسَ مَا جَاءَ بِهِ شِعْرًا، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَّقَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ هُوَ وَهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي دَعْوَى الْأُمَمِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَصَدَقَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، الْمُرْسَلُونَ بِالْوَاوِ رَفْعًا، أَيْ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فِي التَّبْشِيرِ بِهِ وَفِي أَنَّهُ يَأْتِي آخِرَهُمْ. وقرأ الجمهور: لَذائِقُوا الْعَذابِ، بِحَذْفِ النُّونِ لِلْإِضَافَةِ وَأَبُو السَّمَّالِ، وَأَبَانٌ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: بِحَذْفِهَا لِالْتِقَاءِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَنَصْبِ الْعَذَابِ. كَمَا حَذَفَ بَعْضُهُمُ التَّنْوِينَ لِذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَحَدُ اللَّهُ، وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي السَّمَّالِ أَنَّهُ قَرَأَ: لَذَائِقٌ مُنَوَّنًا، الْعَذَابَ بِالنَّصْبِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ جَمْعٌ، وَإِلَّا لَمْ يَتَطَابَقِ الْمُفْرَدُ وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي إِنَّكُمْ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرُ اللَّهَ إِلَّا قليلا وقرىء: لَذَائِقُونَ بِالنُّونِ، الْعَذَابَ بِالنَّصْبِ، وَمَا تَرَوْنَ إِلَّا جَزَاءً مِثْلَ عَمَلِكُمْ، إِذْ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِكُمْ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ، قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ،

أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَعَذَابِهِمْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَعِيمِهِمْ. والْمُخْلَصِينَ: صِفَةُ مَدْحٍ، لِأَنَّ كَوْنَهُمْ عِبَادَ اللَّهِ، يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ. وَوَصَفَ رِزْقٌ بِمَعْلُومٍ، أَيْ عِنْدَهُمْ. فَقَدْ قَرَّتْ عُيُونُهُمْ بِمَا يُسْتَدَرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَبِأَنَّ شَهَوَاتِهِمْ تَأْتِيهِمْ بِحَسْبِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْلُومٌ بِخَصَائِصٍ خُلِقَ عَلَيْهَا مِنْ طِيبِ طَعْمٍ وَرَائِحَةٍ وَلَذَّةٍ وَحُسْنِ مَنْظَرٍ. وَقِيلَ: مَعْلُومُ الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «1» . وَعَنْ قَتَادَةَ: الرِّزْقُ الْمَعْلُومُ: الْجَنَّةُ. وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يَأْبَاهُ. انْتَهَى. فَواكِهُ بَدَلٌ مِنْ رِزْقٌ، وَهِيَ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ وَلَا يَتَقَوَّتُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ، يَعْنِي أَنَّ رِزْقَهُمْ كُلَّهُ فَوَاكِهُ لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ بِالْأَقْوَاتِ لِأَنَّهُمْ أجسام محكمة مخلوقة نلأبد، فَكُلُّ مَا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّلَذُّذِ. وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ: مُكَرَّمُونَ، بِفَتْحِ الْكَافِ مُشَدَّدِ الرَّاءِ. ذَكَرَ أَوَّلًا الرِّزْقَ، وَهُوَ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ الْأَجْسَامُ. وَثَانِيًا الْإِكْرَامَ، وَهُوَ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ النُّفُوسُ، وَرِزْقٌ بِإِهَانَةِ تَنْكِيدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَحَلَّ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَهُوَ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. ثُمَّ أَشْرَفَ الْمَحَلِّ، وَهُوَ السُّرُرُ. ثُمَّ لَذَّةَ التَّآنُسِ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَابِلُ بَعْضًا، وَهُوَ أَتَمُّ السُّرُورِ وَآنَسُهُ. ثُمَّ الْمَشْرُوبَ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بالكؤوس. ثُمَّ وَصَفَ مَا يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الطِّيبِ وَانْتِفَاءِ الْمَفَاسِدِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَخَتَمَ بِهَا كَمَا بَدَأَ بِاللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ مِنَ الرِّزْقِ، وَهِيَ أَبْلَغُ الْمَلَاذِ، وَهِيَ التَّآنُسُ بِالنِّسَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى سُرُرٍ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَأَبُو السمال: بفتحها، وهي لغة بَعْضِ تَمِيمٍ وَكَلْبٌ يَفْتَحُونَ مَا كَانَ جَمْعًا عَلَى فُعُلٍ مِنَ الْمُضَعَّفِ إِذَا كَانَ اسْمًا. وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي الصِّفَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَاسَهَا عَلَى الِاسْمِ فَفَتَحَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ فِي الِاسْمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالِاسْمِ، وَهُوَ مَوْرِدُ السَّمَاعِ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: التَّقَابُلُ لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى قَفَا بَعْضٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ فِي أَحْيَانٍ تُرْفَعُ عَنْهُمْ سُتُورٌ فَيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْيَانِهِمْ فِيهَا قُصُورُهُمْ» . ويُطافُ: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ، وَهُوَ الْمُثْبَتُ فِي آيَةٍ أخرى في قوله:

_ (1) سورة مريم: 19/ 62.

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ «1» ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ «2» ، وَلَعَلَّهُمْ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ التَّكْلِيفِ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْكَأَسُ: مَا كَانَ مِنَ الزُّجَاجَةِ فِيهِ خَمْرٌ أَوْ نَحْوُهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَلَا يُسَمَّى كَأْسًا إِلَّا وَفِيهِ ذَلِكَ. وَقَدْ سَمَّى الْخَمْرَ نَفْسَهَا كَأْسًا، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَخْفَشُ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَمْرٌ. وَقِيلَ: الْكَأْسُ هَيْئَةٌ مَخْصُوصَةٌ فِي الْأَوَانِي، وَهُوَ كُلُّ مَا اتَّسَعَ فَمُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِقْبَضٌ، وَلَا يُرَاعَى كَوْنُهُ لِخَمْرٍ أَوْ لَا. مِنْ مَعِينٍ: أَيْ مِنْ شَرَابٍ مَعِينٍ، أَوْ مِنْ ثَمْدٍ مَعِينٍ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا يَجْرِي الماء. وبَيْضاءَ: صِفَةٌ لِلْكَأْسِ أَوْ لِلْخَمْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: صَفْرَاءَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُوَلِّدِينَ: صَفْرَاءُ لَا تَنْزِلُ الْأَحْزَانُ سَاحَتَهَا ... لَوْ مَسَّهَا حجر مسته سراء ولَذَّةٍ: صِفَةٌ بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ على حذف، أَيْ ذَاتِ لَذَّةٍ، أَوْ على تأنيث لذ بِمَعْنَى لَذِيذٍ. لَا فِيها غَوْلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: هُوَ صُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: وَجَعٌ فِي الْبَطْنِ. انْتَهَى. وَالِاسْمُ يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْفَسَادِ النَّاشِئَةَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَيَنْتَفِي جَمِيعُهَا مِنْ مَغَصٍ، وَصُدَاعٍ، وَخِمَارٍ، وَعَرْبَدَةٍ، وَلَغْوٍ، وَتَأْثِيمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ السُّكْرُ أَعْظَمَ مَفَاسِدِهَا، أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ هُنَا، وَفِي الْوَاقِعَةِ: وَبِذَهَابِ الْعَقْلِ، فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِهَا فِيهِمَا وَعَاصِمٌ: بِفَتْحِهَا هُنَا وَكَسْرِهَا فِي الْوَاقِعَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَطَلْحَةُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: قاصِراتُ الطَّرْفِ: قَصَرْنَ الطَّرْفَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، لَا يَمْتَدُّ طَرْفُهُنَّ إِلَى أَجْنَبِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عُرُباً «3» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْخَدِّ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَالْعَيْنُ: جَمْعُ عَيْنَاءَ، وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ فِي جَمَالٍ. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ: شَبَّهَهُنَّ،

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 19. [.....] (2) سورة الطور: 52/ 24. (3) سورة الواقعة: 56/ 37.

قَالَ الْجُمْهُورُ: بِبَيْضِ النَّعَامِ الْمَكْنُونِ فِي عُشِّهِ، وَهُوَ الْأُدْحِيَّةُ وَلَوْنُهَا بَيَاضٌ بِهِ صُفْرَةٌ حَسَنَةٌ، وَبِهَا تُشَبَّهَ النِّسَاءُ فَقَالَ: مُضِيئَاتُ الْخُدُودِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا ... تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ كَبِكْرِ مغاناة الْبَيَاضَ بِصُفْرَةٍ ... غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: شَبَّهَ أَلْوَانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ الْبَيْضَةِ الداخل، وهو غرقىء الْبَيْضَةِ، وَهُوَ الْمَكْنُونُ فِي كُنٍّ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: وَأَمَّا خَارِجُ قِشْرِ الْبَيْضَةِ فَلَيْسَ بِمَكْنُونٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْبِيضُ الْمَكْنُونُ: الْجَوْهَرُ الْمَصُونُ، وَاللَّفْظُ يَنْبُو عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ تشبيه عام جملة الْمَرْأَةِ بِجُمْلَةِ الْبَيْضَةِ، أَرَادَ بِذَلِكَ تَنَاسُبَ أَجْزَاءِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا نِسْبَتُهُ فِي الْجَوْدَةِ إِلَى نَوْعِهِ نِسْبَةُ الْآخَرِ مِنْ أَجْزَائِهَا إِلَى نَوْعِهِ فَنِسْبَةُ شَعْرِهَا إِلَى عَيْنِهَا مُسْتَوِيَةٌ، إِذْ هُمَا غَايَةٌ فِي نَوْعِهَا، وَالْبَيْضَةُ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ تَنَاسُبَ أَجْزَاءٍ، لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ حُسْنُهَا فِي النَّظَرِ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الأدباء يتغزل: تناسب الْأَعْضَاءُ فِيهِ فَلَا تَرَى ... بِهِنَّ اخْتِلَافًا بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدْرِ وَتَسَاؤُلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ سُؤَالُ رَاحَةٍ وَتَنَعُّمٍ، يَتَذَاكَرُونَ نَعِيمَهُمْ وَحَالَ الدُّنْيَا والإيمان وثمرته. وفَأَقْبَلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى يُطافُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى: يَشْرَبُونَ فَيَتَحَدَّثُونَ عَلَى الشَّرَابِ، كَعَادَةِ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا ... أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ وَجِيءَ بِهِ مَاضِيًا لِصِدْقِ الْإِخْبَارِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ مَا حَكَى، يَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ نِعَمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، حَيْثُ هَدَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَاعْتِقَادِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُوَ مِثَالٌ لِلتَّحَفُّظِ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ وَالْبُعْدِ مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ هَذَا الْقَائِلُ وَقَرِينُهُ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمَا اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ إِنْسِيًّا وَجِنِّيًا مِنَ الشَّيَاطِينِ الْكَفَرَةِ. وَقَرَأَ الجمهور:

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 28.

لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، بِتَخْفِيفِ الصَّادِ، مِنَ التَّصْدِيقِ وَفِرْقَةٌ: بِشَدِّهَا، مِنَ التصديق. قَالَ قُرَّةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ النَّهْرَانِيُّ: كَانَا شَرِيكَيْنِ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، يَعْبُدُ اللَّهَ أَحَدُهُمَا، وَيُقَصِّرُ فِي التِّجَارَةِ وَالنَّظَرِ وَالْآخَرُ كَانَ مُقْبِلًا عَلَى مَالِهِ، فَانْفَصَلَ مِنْ شَرِيكِهِ لِتَقْصِيرِهِ، فَكُلَّمَا اشْتَرَى دَارًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ بُسْتَانًا وَنَحْوَهُ، عَرَضَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَفَخَرَ عَلَيْهِ، فَيَتَصَدَّقُ الْمُؤْمِنُ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ لِيَشْتَرِيَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا فِي الآخرة ما قصه اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَاحْتَاجَ، فَاسْتَجْدَى بَعْضَ إِخْوَانِهِ، فَقَالَ: وَأَيْنَ مَالُكَ؟ فَقَالَ: تَصَدَّقْتُ بِهِ لِيُعَوِّضَنِي اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ خيرا منه، فقال: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، أَوْ مِنَ الْمُتَصَدِّقِينَ لِطَلَبِ الثَّوَابِ؟ وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكَ شيئا. أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَمُجَازُونَ مُحَاسَبُونَ وَقِيلَ: لَمَسُوسُونَ مَدْيُونُونَ. يُقَالُ: دَانَهُ: سَاسَهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «الْعَاقِلُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قالَ هَلْ أَنْتُمْ عَائِدٌ عَلَى قَائِلٍ فِي قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ لِهَذَا الْقَائِلِ حَاضِرُوهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ قَرِينَكَ هَذَا فِي جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. وَالْخِطَابُ فِي هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِرُفَقَائِهِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِينَ كَانَ هُوَ وَإِيَّاهُمْ يَتَسَاءَلُونَ، أَوْ لِخِدْمَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. لَمَّا كَانَ قَرِينُهُ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، عَلِمَ أَنَّهُ فِي النَّارِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّارِ لِأُرِيَكُمْ ذَلِكَ الْقَرِينَ؟ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى حَذْفٍ، وَلَا لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ قَرِينَكَ فِي جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ. قِيلَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ كِوًى يَنْظُرُ أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: الْقَائِلُ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: بَلْ تُحِبُّونَ أَنْ تَطَّلِعُوا فَتَعْلَمُوا أَيْنَ مَنْزِلَتُكُمْ مِنْ مَنْزِلَةِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُطَّلِعُونَ، بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَفَتْحِ النُّونِ، وَاطَّلَعَ بِشَدِّ الطَّاءِ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ: مُطْلَعُونَ، بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَفَتْحِ النُّونِ، فَأُطْلِعَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج. وقرىء: فَأَطَّلِعُ، مُشَدَّدًا مُضَارِعًا مَنْصُوبًا على جواب الاستفهام. وقرىء: مُطْلِعُونَ، بِالتَّخْفِيفِ، فَأَطْلَعَ مُخَفَّفًا فِعْلًا مَاضِيًا، وَفَأَطْلِعُ مُخَفَّفًا مُضَارِعًا مَنْصُوبًا. وَقَرَأَ أَبُو البرهسم، وعمار بن أبي عمار فِيمَا ذَكَرَهُ خَلَفٌ عَنْ عَمَّارٍ: مُطْلِعُونِ، بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ، فَأُطْلِعَ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَدَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. لِجَمْعِهَا بَيْنَ نُونِ الْجَمْعِ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْوَجْهُ مُطَّلِعِي، كَمَا قَالَ، أَوَ مُخْرِجِيَّ

هُمْ، وَوَجَّهَهَا أَبُو الْفَتْحِ عَلَى تَنْزِيلِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَنْزِلَةَ الْمُضَارِعِ، وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ عَلَى هَذَا قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي كُلُّ ظَنٍّ ... أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ شَرَاحِيلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ مُطَّلِعُونَ إِيَّايَ، فَوَضَعَ الْمُتَّصِلَ مَوْضِعَ الْمُنْفَصِلِ كَقَوْلِهِ: هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ أَوْ شَبَّهَ اسْمَ الْفَاعِلِ فِي ذَلِكَ بِالْمُضَارِعِ لِتَآخٍ بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: تَطَّلِعُونَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. انْتَهَى. وَالتَّخْرِيجُ الثَّانِي تَخْرِيخُ أَبِي الْفَتْحِ، وَتَخْرِيجُهُ الْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ، فَيَكُونُ الْمُتَّصِلُ وُضِعَ مَوْضِعَهُ، لَا يَجُوزُ هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إِيَّاهَا، وَلَا زَيْدٌ ضَارِبٌ إِيَّايَ، وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، فَالْأَوْلَى تَخْرِيجُ أَبِي الْفَتْحِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ: أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي ... وَلَيْسَ حَامِلُنِي إِلَّا ابْنُ خمال وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَيْسَ بِمُعْيِينِي فَهَذِهِ أَبْيَاتٌ ثَبَتَ التَّنْوِينُ فِيهَا مَعَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَكَذَلِكَ ثَبَتَتْ نُونُ الْجَمْعِ معها إجزاء للنون مجرى التنوين، لا لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي السُّقُوطِ لِلْإِضَافَةِ. وَيُقَالُ: طَلَعَ عَلَيْنَا فُلَانٌ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَنْ قَرَأَ: فَأُطْلِعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَضَمِيرُهُ الْقَائِلُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فَاعِلُهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْهَمْزَةِ، إِذْ يَقُولُ: طَلَعَ زَيْدٌ وَأَطْلَعَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: طَلَعَ وَاطَّلَعَ، إِذَا بَدَا وَظَهَرَ وَاطَّلَعَ اطِّلَاعًا، إِذَا أَقْبَلَ وَجَاءَ مَبْنِيًّا، وَمَعْنَى ذَلِكَ: هَلْ أَنْتُمْ مُقْبِلُونَ؟ فَأُقْبِلَ. وَإِنْ أُقِيمَ الْمَصْدَرُ فِيهِ مُقَامَ الْفَاعِلِ بِتَقْدِيرِهِ فَاطَّلَعَ الِاطِّلَاعُ، أَوْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمَحْذُوفِ، أَيْ فاطلع به، لأنه اطَّلَعَ لَازِمٌ، كَمَا أَنَّ أَقْبَلَ كَذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَطَّلَعَ عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ مِنْ طَلَعَ اللَّازِمِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمَحْذُوفِ، أَيْ فَاطَّلَعَ بِهِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ. فَكَمَا أَنَّ

الْفَاعِلَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ دُونَ عَامِلِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ مَمْدُودٌ أَوْ مَغْضُوبٌ، تُرِيدُ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ. وسَواءِ الْجَحِيمِ: وَسَطِهَا، تَقُولُ: تَعِبْتُ حَتَّى انْقَطَعَ سَوَائِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمِّيَ سَوَاءً لِاسْتِوَاءِ الْمَسَافَةِ مِنْهُ إِلَى الْجَوَانِبِ، يَعْنِي سَوَاءَ الْجَحِيمِ. وَقَالَ خَلِيلٌ الْعَصْرِيُّ: رَآهُ: تَبَدَّلَتْ حَالُهُ، فَلَوْلَا مَا عَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ لَمْ يَعْرِفْهُ، قَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ: أَيْ لَتُهْلِكُنِي بِإِغْوَائِكَ. وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، يُلْقَى بِهَا الْقَسَمُ وَتَاللَّهِ قَسَمٌ فِيهِ التَّعَجُّبُ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنْهُ إِذَا كَانَ قَرِينُهُ قَارَبَ أَنْ يُرْدِيَهُ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي: وَهِيَ تَوْفِيقُهُ لِلْإِيمَانِ وَالْبُعْدِ مِنْ قَرِينِ السُّوءِ، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ لِلْعَذَابِ، كَمَا أُحْضِرْتَهُ أَنْتَ. أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِمَائِتِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْقَائِلِ: يُسْمِعُ قَرِينَهُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لَهُ، أَيْ لَسْنَا أَهْلَ الْجَنَّةِ بِمَيِّتِينَ، لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى كَانَتْ لَنَا فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُمْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ يَتَمَنَّوْنَ فِيهَا الْمَوْتَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، كَحَالِ أَهْلِ النَّارِ، بَلْ نَحْنُ مُنَعَّمُونَ دَائِمًا. وَيَكُونُ فِي خِطَابِهِ ذَلِكَ مُنَكِّلًا لَهُ، مُقَرِّعًا مُحْزِنًا لَهُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، مُعَلِّمًا لَهُ بِتَبَايُنِ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ بِحَالِهِ. كَمَا كَانَتَا تَتَبَايَنَانِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ جَزَاءٌ ظَهَرَ لَهُ خِلَافُهُ، يُعَذَّبُ بِكُفْرِهِ بِاللَّهِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنْ الْقَائِلِ لِرُفَقَائِهِ، لَمَّا رَأَى مَا نَزَلَ بِقَرِينِهِ، وَقَّفَهُمْ عَلَى نِعَمِهِ تَعَالَى فِي دَيْمُومَةِ خُلُودِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهِمْ فِيهَا. وَيَتَّصِلُ قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا إِلَى قَوْلِهِ: الْعامِلُونَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، لَا وَاضِحًا خِطَابًا لِرُفَقَائِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمَّ كَلَامُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَتُرْدِينِ، وَيَكُونَ أَفَما نَحْنُ إِلَى بِمُعَذَّبِينَ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ رُفَقَائِهِ، وَكَذَلِكَ إِنَّ هَذَا إِلَى الْعامِلُونَ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقًا لَهُ وَخِطَابًا لِرَسُولِ اللَّهِ وَأُمَّتِهِ، وَيُقَوِّي هَذَا قَوْلُهُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، وَالْآخِرَةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ، وَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ الْعَامِلُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ الْفَاءُ مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ: أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ؟ أَيْ مُنَعَّمُونَ، فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وَلَا مُعَذَّبِينَ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَجَاءَ بَعْدَهَا حَرْفُ الْعَطْفِ بِضَمِيرِ مَا، يَصِحُّ بِهِ إِقْرَارُ الهمزة والحرف في محليهما اللَّذَيْنِ وَقَعَا فِيهِمَا، وَمَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْهَمْزَةَ بَعْدَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْهَمْزَةُ لَهَا صَدَرُ الْكَلَامِ قُدِّمَتْ، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. فَأَمَّا وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ.

أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. لَمَّا انْقَضَتْ قِصَّةُ الْمُؤْمِنِ وَقَرِينُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالرِّزْقِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا فَقَالَ: أَذَلِكَ الرزق خَيْرٌ نُزُلًا؟ والنزول مَا يُعَدُّ لِلْأَضْيَافِ، وَعَادَلَ بَيْنَ ذَلِكَ الرِّزْقِ وَبَيْنَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. فَلِاسْتِوَاءِ الرِّزْقِ الْمَعْلُومِ يَحْصُلُ بِهِ اللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ، وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ يَحْصُلُ بِهَا الْأَلَمُ وَالْغَمُّ، فَلَا اشْتِرَاكَ بَيْنِهِمَا فِي الْخَيْرِيَّةِ. وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ قُرَيْشٍ وَالْكُفَّارٍ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا فَاسِدٌ. وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا حَقِيقَةً لَمْ يَجُزْ، إِذْ لَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ فِي شَجَرَةِ الزَّقُّومِ خَيْرًا حَتَّى يُعَادِلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رِزْقِ الْجَنَّةِ. وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ، لَمَّا اخْتَارَ مَا أَدَّى إِلَى رِزْقِ الْجَنَّةِ، وَالْكَافِرَ اخْتَارَ مَا أَدَّى إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، قِيلَ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِلْكَافِرِينَ وَتَوْقِيفًا عَلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: أَبُو جَهْلٍ وَنُظَرَاؤُهُ، لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ لِلْكُفَّارِ، يُخْبِرُ مُحَمَّدٌ عَنِ النَّارِ أَنَّهَا تُنْبِتُ الْأَشْجَارَ، وَهِيَ تَأْكُلُهَا وَتُذْهِبُهَا، فَفَتَنُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَجُمْلَةَ أَتْبَاعِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّمَا الزَّقُّومُ: التَّمْرُ بِالزُّبْدِ، وَنَحْنُ نَتَزَقَّمُهُ. وَقِيلَ: مَنْبَتُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَأَغْصَانُهَا تَرْتَفِعُ إِلَى دَرَكَاتِهَا. وَاسْتُعِيرَ الطَّلْعُ، وَهِيَ النَّخْلَةُ، لِمَا تَحْمِلُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ، وَشَبَّهَ طَلْعَهَا بِثَمَرِ شَجَرَةٍ مَعْرُوفَةٍ يقال لثمرها رؤوس الشَّيَاطِينِ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا الْأَسْتَنُ، وَذَكَرَهَا النَّابِغَةُ فِي قَوْلِهِ: تُحِيدُ من أَسْتَنٍ سُودٍ أُسَافِلُهُ ... مَشْيَ الْإِمَاءِ الْغَوَادِي تَحْمِلُ الْحُزَمَا وَهُوَ شَجَرٌ خَشِنٌ مُرٌّ مُنْكَرُ الصُّورَةِ، سَمَّتْ ثَمَرَهُ العرب بذلك تشبها برؤوس الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ صَارَ أَصْلًا يُشَبَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الصَّوْمُ، ذَكَرَهَا سَاعِدَةُ بْنُ حَوْبَةَ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ:

مُوَكَّلٌ بِشُدُوفِ الصَّوْمِ يَرْقُبُهَا ... من المناظر مخطوف الحشازرم وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ صِنْفٌ مِنَ الْحَيَّاتِ ذَوَاتُ أَعْرَافٍ، وَمِنْهُ: عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ ... كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحِمَاطِ أَعْرِفُ وَقِيلَ: شُبِّهَ بِمَا اشْتُهِرَ فِي النُّفُوسِ مِنْ كَرَاهَةِ رؤوس الشَّيَاطِينِ وَقُبْحِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غير مرثية، وَلِذَلِكَ يُصَوِّرُونَ الشَّيْطَانَ فِي أَقْبَحِ الصُّوَرِ. وَإِذَا رَأَوْا أَشْعَثَ مُنْتَفِشَ الشَّعْرِ قَالُوا: كَأَنَّهُ وَجْهُ شَيْطَانٍ، وَكَأَنَّ رَأْسَهُ رَأْسُ شَيْطَانٍ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ الْمَلَكِ، يُشَبِّهُونَ بِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةِ. وَكَمَا شَبَّهَ امْرِؤُ الْقَيْسِ الْمَسْنُونَةَ الزُّرْقَ بِأَنْيَابِ الْغُولِ فِي قَوْلِهِ: وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُشَاهِدْ تِلْكَ الْأَنْيَابَ، وَهَذَا كُلُّهُ تَشْبِيهٌ تَخْيِيلِيُّ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا يَعُودُ عَلَى الشَّجَرَةِ، أَيْ مِنْ طَلْعِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَشَوْباً بِفَتْحِ الشِّينِ وَشَيْبَانُ النَّحْوِيُّ: بِضَمِّهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْفَتْحُ لِلْمَصْدَرِ وَالضَّمُّ لِلِاسْمِ، يَعْنِي أَنَّهُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ مَشُوبٍ، كَالنَّقْصِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوصِ. وَفُسِّرَ بِالْخَلْطِ وَالْحَمِيمُ الْمَاءُ السُّخْنَ جِدًّا، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ هُنَا شَرَابُهُمُ الَّذِي هُوَ طِينَةُ الْخَبَالِ صَدِيدُهُمْ وَمَا سَاحَ مِنْهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ أنهم يملأون بُطُونَهُمْ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ لِلْجُوعِ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ، أَوْ لِإِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْأَكْلِ وَمَلْءِ الْبُطُونِ زِيَادَةً فِي عَذَابِهِمْ، ذَكَرَ مَا يُسْقُونَ لِغَلَبَةِ الْعَطَشِ، وَهُوَ مَا يُمْزَجُ لَهُمْ مِنَ الْحَمِيمِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَكْلُ يَعْتَقِبُهُ مَلْءُ الْبَطْنِ، كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ في قوله: فَمالِؤُنَ. وَلَمَّا كَانَ الشُّرْبُ يَكْثُرُ تَرَاخِيهِ عَنِ الْأَكْلِ، أُتِيَ بِلَفْظِ ثُمَّ الْمُقْتَضِيَةِ الْمُهْلَةَ، أَوْ لَمَّا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ مِنْ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَهُوَ حَارٌّ، أَحْرَقَ بُطُونَهُمْ وَعَطَّشَهُمْ، فَأُخِّرَ سَقْيُهُمْ زَمَانًا لِيَزْدَادُوا بِالْعَطَشِ عَذَابًا إِلَى عَذَابِهِمْ، ثُمَّ سُقُوا مَا هُوَ أَحَرُّ وَآلَمُ وَأَكْرَهُ. ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ: لَمَّا ذَهَبَ بِهِمْ مِنْ مَنَازِلِهِمُ الَّتِي أُسْكِنُوهَا فِي النَّارِ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ لِلْأَكْلِ وَالتَّمَلُّؤِ مِنْهَا وَالسَّقْيِ مِنَ الْحَمِيمِ وَنَوَاحِي رُجُوعِهِمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، دَخَلَتْ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالرُّجُوعُ دَلِيلٌ عَلَى الِانْتِقَالِ فِي وَقْتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ مَكَانِهِمَا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَهُمْ فِي تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ. وَالضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّقْلِيدَ كَانَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِهِمْ تِلْكَ الشَّدَائِدَ، أَيْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، مُسْرِعِينَ فِي ذَلِكَ لَا يُثَبِّطُهُمْ شَيْءٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِضَلَالِ أَكْثَرِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، هَذَا وَمَا خَلَتْ أَزْمَانُهُمْ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْذَارِهِمْ عَوَاقِبَ التَّكْذِيبِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَا يَقْتَضِي

إِهْلَاكَهُمْ وَسُوءَ عَاقِبَتِهِمْ، وَاسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْأَقَلُّ الْمُقَابِلُ لِقَوْلِهِ: أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ نَجَوْا. وَلَمَّا ذَكَرَ ضَلَالَ الْأَوَّلِينَ، وَذَكَرَ أَوَّلَهُمْ شُهْرَةً، وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَضَمَّنَ أَشْيَاءَ مِنْهَا: الدُّعَاءُ عَلَى قَوْمِهِ، وَسُؤَالُهُ النَّجَاةَ، وَطَلَبُ النُّصْرَةِ. وَأَجَابَهُ تَعَالَى فِي كُلِّ ذَلِكَ إِجَابَةً بَلَغَ بِهَا مُرَادَهُ. وَاللَّامُ فِي فَلَنِعْمَ جَوَابُ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ: يَمِينًا لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وَجَدْتُمَا وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نَحْنُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِلْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ «1» والْكَرْبِ الْعَظِيمِ، قَالَ السُّدِّيُّ: الْغَرَقُ، وَمِنْهُ تَكْذِيبُ الْكَفَرَةِ وَرُكُوبُ الْمَاءِ، وَهَوْلُهُ، وَهُمْ فَصْلٌ متعين للفصلية لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ فَقَالَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ» . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْعَرَبُ مِنْ أَوْلَادِ سَامٍ، وَالسُّودَانُ مِنْ أَوْلَادِ حَامٍ، وَالتُّرْكُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَبْقَى اللَّهُ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ وَمَدَّ فِي نَسْلِهِ، وَلَيْسَ النَّاسُ مُنْحَصِرِينَ فِي نَسْلِهِ، بَلْ فِي الْأُمَمِ مَنْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ: أَيْ فِي الْبَاقِينَ غَابِرَ الدَّهْرِ وَمَفْعُولُ تَرَكْنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثَنَاءً حَسَنًا جَمِيلًا فِي آخِرِ الدَّهْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وسلام: رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ مُسْتَأْنَفٌ، سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِيَقْتَدِيَ بِذَلِكَ الْبَشَرُ، فَلَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ بِسُوءٍ. سَلَّمَ تَعَالَى عَلَيْهِ جَزَاءً عَلَى مَا صَبَرَ طَوِيلًا، مِنْ أَقْوَالِ الْكَفَرَةِ وَإِذَايَتِهِمْ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ يَعْنِي: يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ تَسْلِيمًا، وَيَدْعُونَ لَهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ، كَقَوْلِكَ: قَرَأْتُ سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا. انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَتْرُوكُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَتَرَكْنَا عَلَى نُوحٍ تَسْلِيمًا يُسَلَّمُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. انْتَهَى. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: سَلَامًا بِالنَّصْبِ، وَمَعْنَى فِي الْعَالَمِينَ: ثُبُوتُ هَذِهِ التَّحِيَّةِ مَثْبُوتَةً فِيهِمْ جَمِيعًا، مُدَامَةٌ عَلَيْهِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالثَّقَلَيْنِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ عَنْ آخِرِهِمْ. ثُمَّ عَلَّلَ هَذِهِ التَّحِيَّةَ بِأَنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا، ثُمَّ عَلَّلَ إِحْسَانَهُ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا، فَدَلَّ عَلَى جَلَالَةِ الْإِيمَانِ ومحله عند الله.

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 23.

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ: أَيْ مَنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ مِنْ قَوْمِهِ، لَمَّا ذَكَرَ تَحِيَّاتِهِ وَنَجَاةَ أَهْلِهِ، إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ هَلَاكَ غَيْرِهِمْ بِالْغَرَقِ. وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ، قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ، قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى نُوحٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، أَيْ مِمَّنْ شَايَعَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمَا، أَوِ اتَّفَقَ أَكْثَرُهُمَا، أَوْ مِمَّنْ شَايَعَهُ فِي التَّصَلُّبِ فِي دِينِ اللَّهِ وَمُصَابَرَةِ الْمُكَذِّبِينَ. وَكَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَلْفَا سَنَةٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هُودٌ وَصَالِحٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمِيرُ فِي مِنْ شِيعَتِهِ يَعُودُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم والأعراف أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ فِي الزَّمَانِ هُوَ شِيعَةٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَجَاءَ عَكْسُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ: وَمَا لِي إِلَّا آل أحمد شيعة ... وما لي إِلَّا مَشْعَبَ الْحَقِّ مَشْعَبُ جَعَلَهُمْ شِيعَةً لِنَفْسِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ الظَّرْفُ؟ قُلْتُ: بِمَا فِي الشِّيعَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُشَايَعَةِ، يَعْنِي: وَإِنَّ مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَتَقْوَاهُ حِينَ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَإِبْرَاهِيمَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ اذْكُرْ. انْتَهَى. أَمَّا التَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَإِبْراهِيمَ، لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ شِيعَتِهِ وَمِنْ إِذْ، وَزَادَ الْمَنْعُ، إِذْ قَدَّرَهُ مِمَّنْ شَايَعَهُ حِينَ جَاءَ لَإِبْرَاهِيمَ. وَأَيْضًا فَلَامُ التَّوْكِيدِ يَمْنَعُ أَنْ يَعْمَلَ مَا قَبْلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا. لَوْ قُلْتَ: إن ضاربا لقادم علينا زيدا، وتقديره: إن ضَارِبًا زَيْدًا لَقَادِمٌ عَلَيْنَا، لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ، فَهُوَ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُعْرِبِينَ. وَمَجِيئُهُ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ: إِخْلَاصُهُ الدِّينَ لِلَّهِ، وَسَلَامَةُ قَلْبِهِ: بَرَاءَتُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ وَالنَّقَائِصِ الَّتِي تَعْتَرِي الْقُلُوبَ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْخُبْثِ وَالْمَكْرِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِهَا. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لم يلعن شَيْئًا قَطُّ. وَقِيلَ: سَلِيمٌ مِنَ الشِّرْكِ وَلَا مَعْنًى لِلتَّخْصِيصِ. وَأَجَازُوا فِي نَصْبِ أَإِفْكاً وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِتُرِيدُونَ، وَالتَّهْدِيدُ لِأُمَّتِهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: فَسَّرَ الْإِفْكَ بِقَوْلِهِ: آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهَا إِفْكٌ فِي

أَنْفُسِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ تُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ إِفْكًا، وَآلِهَةً مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَدَّمَهُ عِنَايَةً بِهِ، وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ الْأَهَمَّ عِنْدَهُ أَنْ يُكَافِحَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إِفْكٍ وَبَاطِلٍ فِي شِرْكِهِمْ، وَبَدَأَ بِهَذَا الْوَجْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ أَتُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ آفَّكِينَ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَعْلُ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَطَّرِدُ إِلَّا مَعَ أَمَّا فِي نَحْوِ: أَمَّا عِلْمًا فَعَالِمٌ. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَحْذِيرٍ وَتَوَعُّدٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّكُمْ بِمَنْ هُوَ يَسْتَحِقُّ لِأَنْ تَعْبُدُوهُ، إِذْ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ وَعَدَلْتُمْ بِهِ الْأَصْنَامَ؟ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّكُمْ بِفِعْلِهِ مَعَكُمْ مِنْ عِقَابِكُمْ، إِذْ قَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟ كَمَا تقول: أسأت آل فُلَانٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ أَنْ يُوقِعَ بِكَ خَيْرًا مَا أَسَأْتَ إِلَيْهِ؟ وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَعَهِدَ إِلَى مَا يَجْعَلُهُ مُنْفَرِدًا بِهَا حَتَّى يَكْسَرَهَا وَيُبَيِّنَ لَهُمْ حَالَهَا وَعَجْزَهَا. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ عِلْمَ الْكَوَاكِبِ، وَمَا يُعْزَى إِلَيْهَا مِنَ التَّأْثِيرَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَظَرَهُ كَانَ فِيهَا، أَيْ فِي عِلْمِهَا، أَوْ فِي كِتَابِهَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى أَحْوَالِهَا وَأَحْكَامِهَا. قِيلَ: وَكَانُوا يُعَانُونَ ذَلِكَ، فَأَتَاهُمْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يُعَانُونَهَا، وَأَوْهَمَهُمْ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَمَارَةٍ فِي عِلْمِ النُّجُومِ أَنَّهُ سَقِيمٌ، أَيْ يُشَارِفُ السُّقْمَ. قِيلَ: وَهُوَ الطَّاعُونُ، وَكَانَ أَغْلَبَ الْأَسْقَامِ عَلَيْهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَخَافُوا الْعَدْوَى وَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَى عِيدِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَرَكُوهُ فِي بَيْتِ الْأَصْنَامِ فَفَعَلَ مَا فَعَلَ. وَقِيلَ: كَانُوا أَهْلَ رِعَايَةٍ وَفِلَاحَةٍ، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِ النُّجُومِ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلِكَهُمْ أَنَّ غَدًا عِيدُنَا، فَاحْضُرْ مَعَنَا، فَنَظَرَ إِلَى نَجْمٍ طَالِعٍ فَقَالَ: إن هذا يَطْلُعْ مَعَ سَقَمِي. وَقِيلَ: مَعْنَى فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، أَيْ فِيمَا نَجَمَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ قَوْمِهِ وَحَالِهِ مَعَهُمْ، وَمَعْنَى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، أَيْ لِكُفْرِهِمْ بِهِ وَاحْتِقَارِهِمْ لَهُ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ، مِنَ الْمَعَارِيضِ، عَرَّضَ أَنَّهُ يَسْقُمُ فِي الْمَآلِ، أَيْ يُشَارِفُ السُّقْمَ. قِيلَ: وَهُوَ الطَّاعُونُ، وَكَانَ أَغْلَبَ، وَفَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِالسُّقْمِ، وَابْنُ آدَمَ لَا بُدَّ أَنْ يَسْقَمَ، وَالْمَثَلُ: كَفَى بِالسَّلَامَةِ دَاءً. قَالَ الشَّاعِرُ: فَدَعَوْتُ رَبِّي بِالسَّلَامَةِ جَاهِدًا ... لِيَصِحَّنِي فَإِذَا السَّلَامَةُ دَاءُ وَمَاتَ رَجُلٌ فَجْأَةً، فَاكْتَنَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالُوا: مَاتَ وَهُوَ صَحِيحٌ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: أَصَحِيحٌ مِنَ الْمَوْتِ فِي عُنُقِهِ؟ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ: أَيْ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي هِيَ فِي زَعْمِهِمْ

آلِهَةٌ، كَقَوْلِهِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ «1» ، وَعَرَضَ الْأَكْلَ عَلَيْهَا. وَاسْتِفْهَامُهَا عَنِ النُّطْقِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ، لِكَوْنِهَا مُنْحَطَّةً عَنْ رُتْبَةِ عَابِدِيهَا، إِذْ هُمْ يَأْكُلُونَ وَيَنْطِقُونَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ عِنْدَهَا طَعَامًا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُصِيبُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ خَدَمَتُهَا. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ: أَيْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مُسْتَخْفِيًا ضَارِبًا، فَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ يَضْرِبُهُمْ ضَرْبًا، فَهُوَ مَصْدَرُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ ضُمِّنَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ مَعْنَى ضَرَبَهُمْ، وَبِالْيَمِينِ: أَيْ يَمِينِ يَدَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَنَّهَا أَقْوَى يَدَيْهِ أَوْ بِقُوَّتِهِ، لِأَنَّهُ قِيلَ: كَانَ يَجْمَعُ يَدَيْهِ فِي الْآلَةِ الَّتِي يَضْرِبُهَا بِهَا وَهِيَ الْفَأْسُ. وَقِيلَ: سَبَبُ الْحَلِفِ الَّذِي هُوَ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «2» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَزِفُّونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، مِنْ زَفَّ: أَسْرَعَ، أَوْ مِنْ زِفَافِ الْعَرُوسِ، وَهُوَ التَّمَهُّلُ فِي الْمِشْيَةِ، إِذْ كَانُوا فِي طُمَأْنِينَةٍ أَنْ يَنَالَ أَصْنَامَهُمْ شَيْءٌ لِعِزَّتِهِمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الْيَاءِ، مِنْ أَزَفَّ: دَخَلَ فِي الزَّفِيفِ، فَهِيَ لِلتَّعَدِّي، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَالضَّحَّاكُ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: يَزِفُّونَ مُضَارِعُ زَفَّ بِمَعْنَى أَسْرَعَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ: لَا نَعْرِفُهَا بِمَعْنَى زَفَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الوزيف: السيلان. وقرىء: يزفون مبنيا للمفعول. وقرىء: يَزْفُونَ بِسُكُونِ الزَّايِ، مِنْ زَفَاهُ إِذَا حَدَاهُ، فَكَانَ بعضهم يزفو بَعْضًا لِتَسَارُعِهِمْ إِلَيْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ وَبَيْنَ سُؤَالِهِمْ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا «3» ، وَإِخْبَارُ مَنْ عَرَضَ بِأَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ كَانَ يَذْكُرُ أَصْنَامَهُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْإِقْبَالَ كَانَ يَقْتَضِي تِلْكَ الْجُمَلَ الْمَحْذُوفَةَ، أَيْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِي كَسْرِ أَصْنَامِهِمْ وَتَأْنِيبِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا الْإِقْبَالُ مِنْ عِنْدِهِمْ، بَلْ بَعْدَ مَجِيئِهِمْ مِنْ عِنْدِهِمْ جَرَتَ تِلْكَ الْمُفَاوَضَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَ. وَاسْتَسْلَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَلَامِهِ أَشْيَاءَ لَمْ تَتَضَمَّنْهَا الْآيَاتُ، صَارَتِ الْآيَاتُ عِنْدَهُ بِهَا كَالْمُتَنَاقِضَةِ. قَالَ، حَيْثُ ذَكَرَ هَاهُنَا: أَنَّهُمْ أَدْبَرُوا عَنْهُ خِيفَةَ الْعَدْوَى، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ يَكْسِرُ أَصْنَامَهُمْ، أَقْبَلُوا إِلَيْهِ مُتَبَادِرِينَ لِيَكُفُّوهُ وَيُوقِعُوا بِهِ. وذكرتم أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْكَاسِرِ حتى قيل:

_ (1) سورة النحل: 16/ 27، وسورة القصص: 28/ 62، و 74، وسورة فصلت: 41/ 47. (2) سورة الأنبياء: 21/ 57. (3) سورة الأنبياء: 21/ 59.

سَمِعْنَا إِبْرَاهِيمَ يَذُمُّهُمْ، فَلَعَلَّهُ هُوَ الْكَاسِرُ. فَفِي إِحْدَاهُمَا أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ يَكْسِرُهَا، وَفِيِ الْأُخْرَى أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِذَمِّهِ عَلَى أَنَّهُ الْكَاسِرُ. انْتَهَى. مَا أَبْدَى مِنَ التَّنَاقُضِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَبْصَرُوهُ يَكْسِرُهُمْ، فَيَكُونُ فِيهِ كَالتَّنَاقُضِ. وَلَمَّا قُرِّرَ أَنَّهُ كَالتَّنَاقُضِ قَالَ: قُلْتُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أَبْصَرُوهُ وَزَفُّوا إِلَيْهِ نَفَرًا مِنْهُمْ دُونَ جُمْهُورِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ الْجُمْهُورُ وَالْعَلِيَّةُ مِنْ عِنْدِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْأَصْنَامِ لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ الَّذِي وَضَعُوهُ عِنْدَهَا لِتَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَرَأَوْهَا مَكْسُورَةً، اشْمَأَزُّوا مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِهَا؟ لَمْ يَنِمَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ نَمِيمَةً صَرِيحَةً، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ لِبَعْضِ الصَّوَارِفِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكْسَرَهَا وَيَذْهَبَ وَلَا يَشْعُرَ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَيَكُونَ إِقْبَالُهُمْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ عِيدِهِمْ، وَسُؤَالِهِمْ عَنِ الْكَاسِرِ، وَقَوْلُهُمْ: قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ «1» . انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذُكِرَ هُوَ الصَّحِيحُ. قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ، كَيْفَ هُمْ يَعْبُدُونَ صِوَرًا صَوَّرُوهَا بِأَيْدِيِهِمْ وَشَكَّلُوهَا عَلَى مَا يُرِيدُونَ مِنَ الْأَشْكَالِ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي مَعْطُوفَةٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي خَلَقَكُمْ، أَيْ أَنْشَأَ ذَوَاتَكُمْ وَذَوَاتَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالْعَمَلُ هُنَا هُوَ التَّصْوِيرُ وَالتَّشْكِيلُ، كَمَا يَقُولُ: عَمِلَ الصَّائِغُ الْخَلْخَالَ، وَعَمِلَ الْحَدَّادُ الْقُفْلَ، وَالنَّجَّارُ الْخِزَانَةَ وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ، بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّنَمِ وَعَابِدِهِ هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعَابِدُ هُوَ الْمُصَوِّرُ ذَلِكَ الْمَعْبُودَ، فَكَيْفَ يَعْبُدُ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقًا؟ وَكِلَاهُمَا خَلَقَ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِنْشَاءِ ذَوَاتِهِمَا. وَالْعَابِدُ مصور الصنم معبوده. و «ما» فِي: وَمَا تَنْحِتُونَ بِمَعْنَى تاذي، فَكَذَلِكَ فِي وَما تَعْمَلُونَ، لِأَنَّ نَحْتَهُمْ هُوَ عَمَلُهُمْ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ قَاعِدَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ. وَقَدْ بَدَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَقَابُلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ فِي عِبَادَتِكُمْ أَصْنَامًا تَنْحِتُونَهَا؟ أَيْ لَا عَمَلَ لَكُمْ يُعْتَبَرُ. وَقِيلَ: مَا نَافِيَةٌ، أَيْ وَمَا أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ شَيْئًا فِي وَقْتِ خَلْقِكُمْ وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ. وَكَوْنُ مَا مَصْدَرِيَّةً وَاسْتِفْهَامِيَّةً وَنَعْتًا، أَقْوَالٌ مُتَعَلِّقَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ طَرِيقِ الْبَلَاغَةِ. وَلَمَّا غَلَبَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالْحُجَّةِ، مَالُوا إِلَى الْغَلَبَةِ بِقُوَّةِ الشَّوْكَةِ وَالْجَمْعِ فَقَالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً، أَيْ فِي مَوْضِعِ إِيقَادِ النار. وقيل: هو

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 61.

[سورة الصافات (37) : الآيات 99 إلى 182]

الْمَنْجَنِيقُ الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، وَجَعَلَهُمُ الْأَخْسَرِينَ الْأَسْفَلِينَ، وَكَذَا عَادَةُ مَنْ غُلِبَ بِالْحُجَّةِ رَجَعَ إِلَى الكيد. [سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 182] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

تَلَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ: صَرَعَهُ عَلَى شِقِّهِ، وَقِيلَ: وَضَعَهُ بِقُوَّةٍ. وَقَالَ سَاعِدَةُ بْنُ حَوْبَةَ: وَتَلَّ. تَلِيلًا لِلْجَبِينِ وَلِلْفَمِ وَالْجَبِينَانِ: مَا اكْتَنَفَ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، وَشَذَّ جَمْعُ الْجَبِينِ عَلَى أَجْبُنٍ، وَقِيَاسُهُ فِي

الْقِلَّةِ أَجْبِنَةٌ، كَكَثِيبٍ وَأَكْثِبَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ: جَبَنَاتٌ وَجُبُنٌ، كَكُثُبَاتٌ وَكُثُبٌ. الذَّبْحُ: اسْمُ مَا يُذْبَحُ، كَالرَّعْيِ اسْمُ مَا يُرْعَى. أَبَقَ: هَرَبَ. سَاهَمَ: قَارَعَ. الْمُدْحَضُ: الْمَقْلُوبُ. الْحُوتُ: مَعْرُوفٌ. أَلَامَ: أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَكَمْ مِنْ مُلِيمٍ لَمْ يُصَبْ بِمُلَامَةٍ ... وَمُتَّبِعٍ بِالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذَنْبُ الْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الْفَيْحَاءُ لَا شَجَرَ فِيهَا وَلَا يُعْلَمُ، قال الشاعر: رفعت رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا ... وَنَبَذْتُ بِالْمِينِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي الْيَقْطِينُ: يَفْعِيلٌ كَالْيَفْصِيدِ، مِنْ قَطَنَ: أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الشَّجَرِ لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ مِنْ عُودٍ، كَشَجَرِ الْبِطِّيخِ وَالْحَنْظَلِ وَالْقِثَّاءِ. السَّاحَةُ: الْفِنَاءُ، وَجَمْعُهَا سُوحٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لَا يَسْرَحُوا نَعَمًا ... أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. لَمَّا سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَمِنَ النَّارِ الَّتِي أَلْقَوْهُ فِيهَا، عَزَمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِمْ، وَعَبَّرَ بِالذَّهَابِ إِلَى رَبِّهِ عَنْ هِجْرَتِهِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. كَمَا قَالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي «1» ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَيَتَضَرَّعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْقَى مَنْ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ، فَهَاجَرَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، مِنْ مَمْلَكَةِ نُمْرُودٍ، إِلَى الشَّامِ. وَقِيلَ: إِلَى أَرْضِ مِصْرَ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَهَابِهِ الْهِجْرَةَ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ لِقَاءُ اللَّهِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ، ظَانًّا مِنْهُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي النَّارِ، فَقَالَهَا قَبْلَ أَنْ يطرح في النار. وسَيَهْدِينِ: أَيْ إِلَى الْجَنَّةِ، نَحَا إِلَى هَذَا قَتَادَةُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ، وَالْمُعْتَقِدُ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي النَّارِ لَا يَدْعُو بِأَنْ يَهِبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا. سَيَهْدِينِ: يُوَفِّقُنِي إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحِي. مِنَ الصَّالِحِينَ: أَيْ وَلَدًا يكون في عداد

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 26.

الصَّالِحِينَ. وَلَفْظُ الْهِبَةِ غَلَبَ فِي الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخِ، كَقَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا «1» . وَاشْتَمَلَتِ الْبِشَارَةُ عَلَى ذُكُورِيَّةِ الْمَوْلُودِ وَبُلُوغِهِ سِنَّ الْحُلُمِ وَوَصْفِهِ بِالْحِلْمِ، وَأَيُّ حِلْمٍ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَبُوهُ الذَّبْحَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ؟ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَوُلِدَ لَهُ وَشَبَّ. فَلَمَّا بَلَغَ: أي بلغ أَنْ يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ فِي أَشْغَالِهِ وَحَوَائِجِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وابن زَيْدٍ: وَالَسَّعْيُ هُنَا: الْعَمَلُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَعُونَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السَّعْيُ عَلَى الْقَدَمِ، يُرِيدُ سَعْيًا مُتَمَكِّنًا، وَفِيهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِبَلَغَ بِهِ بُلُوغُهُمَا مَعًا حَدَّ السَّعْيِ وَلَا بِالسَّعْيِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ بَيَانًا، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، أَيِ الْحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى السَّعْيِ، قِيلَ: مَعَ مَنْ؟ فَقَالَ: مَعَ أَبِيهِ، وَالْمَعْنَى فِي اخْتِصَاصِ الْأَبِّ أَنَّهُ أَرْفَقُ النَّاسِ وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَبِمَا عَنَّفَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ، فَلَا يَحْتَمِلُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْكِمْ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ عَوْدَهُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. انْتَهَى. قالَ يا بُنَيَّ: نِدَاءُ شَفَقَةٍ وَتَرَحُّمٍ. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ: أَيْ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ. وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ كَالْيَقَظَةِ، وَذِكْرُهُ لَهُ الرُّؤْيَا تَجْسِيرٌ عَلَى احْتِمَالِ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ الْعَظِيمَةِ. وَشَاوَرَهُ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَاذَا تَرى، وَإِنْ كَانَ حَتْمًا مِنَ اللَّهِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ مِنْ تَلَقِّي هَذَا الِامْتِحَانِ الْعَظِيمِ، وَيُصَبِّرَهُ إِنْ جَزَعَ، وَيُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى مُلَاقَاةِ هَذَا الْبَلَاءِ، وَتَسْكُنَ نَفْسُهُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، إِذْ مُفَاجَأَةُ الْبَلَاءِ قَبْلَ الشُّعُورِ بِهِ أَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْيَقَظَةِ، كَرُؤْيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ حَالَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ يَقَظَةً وَمَنَامًا سَوَاءٌ فِي الصِّدْقِ مُتَظَافِرَتَانِ عَلَيْهِ. قِيلَ: إِنَّهُ حِينَ بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ قَالَ: هُوَ إِذَنْ ذَبِيحُ اللَّهِ. فَلَمَّا بَلَغَ حَدَّ السَّعْيِ مَعَهُ قِيلَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. قِيلَ: رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ، رَوَّى فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ. أَمِنَ اللَّهِ هَذَا الْحُلْمُ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فلما أمسى، رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ. ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَهَمَّ بِنَحْرِهِ، فسمي يوم النحر.

_ (1) سورة مريم: 19/ 53.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرى، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَمُجَاهِدٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. فَالْأَوَّلُ مِنَ الرَّأْيِ، وَالثَّانِي مَاذَا تَرَيَنِّيهِ وَمَا تُبْدِيهِ لِأَنْظُرَ فِيهِ؟ وَالثَّالِثُ مَا الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْكَ ويوقع في قلبك؟ وانظر مُعَلَّقَةٌ، وَمَاذَا اسْتِفْهَامٌ. فَإِنْ كَانَتْ ذَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، فما مُبْتَدَأٌ، وَالْفِعْلُ بَعْدَ ذَا صِلَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ ذَا مُرَكَّبَةً، فَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ بَعْدَهَا. وَالْجُمْلَةُ، وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي هُوَ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لأنظر. وَلَمَّا كَانَ خِطَابُ الْأَبِّ يَا بُنَيَّ، عَلَى سَبِيلِ التَّرَحُّمِ، قَالَ: هُوَ يَا أَبَتِ، عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ: أَيْ مَا تُؤْمَرُهُ، حَذَفَهُ وَهُوَ مَنْصُوبٌ، وَأَصْلُهُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، فَحُذِفَ الْحَرْفُ، وَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ مَنْصُوبًا، فَجَازَ حَذْفُهُ لِوُجُودِ شَرَائِطِ الْحَذْفِ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَمَرَكَ، عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ هَلْ يُعْتَقَدُ فِي الْمَصْدَرِ الْعَامِلِ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونَ مَا بَعْدَهُ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَمْ يَكُونَ ذَلِكَ؟ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ: كَلَامُ مَنْ أُوتِيَ الْحِلْمَ وَالصَّبْرَ وَالِامْتِثَالَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ. فَلَمَّا أَسْلَما: أَيْ لِأَمْرِ اللَّهِ، ويقال: استسلم وسلم بمعناها. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْلَمَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالثَّوْرِيُّ: سَلَّمَا : أَيْ فَوَّضَا إِلَيْهِ في قضائه وقدره. وقرىء: اسْتَسْلَمَا، ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي أَسْلَمَا: أَسْلَمَ هَذَا ابْنَهُ، وَأَسْلَمَ هَذَا نَفْسَهُ، فَجَعَلَ أَسْلَمَا مُتَعَدِّيًا، وَغَيْرَهُ جَعَلَهُ لَازِمًا بِمَعْنَى: انْقَادَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَخَضَعَا لَهُ. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: أَيْ أَوْقَعَهُ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ فِي الْأَرْضِ مُبَاشِرًا الْأَمْرَ بِصَبْرٍ وَجَلَدٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي بِمِنًى وَعَنِ الْحَسَنِ: فِي الْمَوْضِعِ الْمُشْرِفِ عَلَى مَسْجِدِ مِنًى وَعَنِ الضَّحَّاكِ: فِي الْمَنْحَرِ الَّذِي يُنْحَرُ فِيهِ الْيَوْمَ. وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بَعْدَ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، أَيْ أَجْزَلْنَا أَجْرَهُمَا، قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ بَعْدَ الرُّؤْيا، أَيْ كَانَ مَا كَانَ مِمَّا تنطبق بِهِ الْحَالُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ مِنِ اسْتِبْشَارِهِمَا وَحَمْدِهِمَا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ إِلَى أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابَتِهِ أَوْ قَبْلَ وَتَلَّهُ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْجَوَابُ مُثْبَتٌ، وَهُوَ: وَنادَيْناهُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ

وَتَلَّهُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ، وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فُصُولًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، يُوقِفُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ. وأن مُفَسِّرَةٌ، أَيْ قَدْ صَدَّقْتَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَادَيْنَاهُ قَدْ صَدَّقَتْ، بِحَذْفِ أن وقرىء: صَدَقْتَ، بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَقَرَأَ فَيَّاضٌ: الرِّيَّا، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْإِدْغَامِ وَتَصْدِيقِ الرُّؤْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَذَلَ وِسْعَهُ وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُ الذَّابِحُ مِنْ بَطْحِهِ عَلَى شِقِّهِ وَإِمْرَارِ الشَّفْرَةِ عَلَى حَلْقِهِ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَاءَ بِمَا مَنَعَ الشَّفْرَةَ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي فِعْلِ إِبْرَاهِيمَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا وَلَا مُفَرِّطًا؟ بَلْ يُسَمَّى مُطِيعًا وَمُجْتَهِدًا، كَمَا لَوْ مَضَتْ فِيهِ الشَّفْرَةُ وَفَرَتِ الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَتِ الدَّمَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ وُرُودِ النَّسْخِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَلَا قَبْلَ أَوَانِ الْفِعْلِ فِي شَيْءٍ، كَمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَوْهَامِ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِالْكَلَامِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ صَدَّقْتَ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَلْبِكَ عَلَى مَعْنَى: كَانَتْ عِنْدَكَ رُؤْيَاكَ صَادِقَةً حَقًّا مِنَ اللَّهِ فَعَمِلْتَ بِحَسَبِهَا حِينَ آمَنْتَ بِهَا، وَاعْتَقَدْتَ صِدْقَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: صَدَّقْتَ بِقَلْبِكَ مَا حَصَلَ عَنِ الرُّؤْيَا فِي نَفْسِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ وَفَّيْتَهَا حَقَّهَا مِنَ الْعَمَلِ. انْتَهَى. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: تَعْلِيلٌ لِتَخْوِيلِ مَا خَوَّلَهُمَا اللَّهُ مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ. إِنَّ هَذَا: أَيْ مَا آمُرُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ، لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ: أَيِ الِاخْتِبَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُخْلِصُونَ وَغَيْرُهُمْ، أَوِ الْمِحْنَةُ الْبَيِّنَةُ الصُّعُوبَةِ الَّتِي لَا مِحْنَةَ أَصْعَبُ مِنْهَا. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ هَابِيلُ فَقُبِلَ مِنْهُ، وَكَانَ يَرْعَى فِي الْجَنَّةِ حَتَّى فُدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَالْحَسَنُ: فُدِيَ بِوَعْلٍ أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ سَرْوٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: كَبْشٌ أَبْيَضُ أَقْرَنُ أَقْنَى، وَوُصِفَ بِالْعِظَمِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ يَقِينًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ: لِأَنَّهُ جَرَتِ السُّنَّةُ بِهِ، وَصَارَ دِينًا بَاقِيًا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَسْلٍ، بَلْ عَنِ التَّكْوِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: عَظَمَتُهُ كَوْنُهُ مِنْ كِبَاشِ الْجَنَّةِ، رُعِيَ فِيهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَذْبَحِ ابْنَهُ، وَقَدْ فُدِيَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَقَعَ الذَّبْحُ وَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَذِبٌ صُرَاحٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي مَنَامِهِ الْإِمْرَارَ بِالشَّفْرَةِ فَقَطْ، فَظَنَّ أَنَّهُ ذِبْحٌ مُجَهَّزٌ، فَنَفَّذَ لِذَلِكَ. فَلَمَّا وَقَعَ الَّذِي رَآهُ وَقَعَ النَّسْخُ، قَالَ: وَلَا اخْتِلَافَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِ ابْنِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ. انْتَهَى. وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أنه تَلَّهُ لِلْجَبِينِ فَقَطْ، وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثٍ

صَحِيحٍ أَنَّهُ أَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِ ابْنِهِ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ إِلَى: الْمُؤْمِنِينَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ، قَبْلَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُنَا، وَقَالَ هُنَا كَذَلِكَ دُونَ إِنَّا، اكْتِفَاءً بِذِكْرِ ذَلِكَ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ بِشَارَةٌ غَيْرُ تِلْكَ الْبِشَارَةِ، وَأَنَّ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ الْمُبَشَّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّهُ هُوَ الذَّبِيحُ لَا إِسْحَاقُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ مَنْ التَّابِعِينَ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ، وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ لَهُ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَتَبَسَّمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ، وَأَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ وَقَالُوا لَهُ: افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَفَدَاهُ بِهَا. وَفِيمَا أَوْحَى اللَّهُ لِمُوسَى فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ جَادَ بِدَمِ نَفْسِهِ. وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَهُودِيًا أَسْلَمَ عن ذلك فقال: أن يهوديا ليعلم، ولكنهم يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ، وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ مَنُوطَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ. وَسَأَلَ الْأَصْمَعِيُّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ، أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ؟ وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أَبِيهِ، وَالْمَنْحَرُ بِمَكَّةَ؟ انْتَهَى. وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ «1» ، وَهُوَ صَبْرُهُ عَلَى الذَّبْحِ وَبِصِدْقِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «2» ، لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ، وَيَزْعُمُ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ. وَمِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ، وَوَلَدَ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ. فَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ، لَكَانَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ مُحَالٌ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، مِنْهُمْ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٌّ ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَكَعْبٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَكَانَ أَمْرَ ذَبْحِهِ بِالشَّامِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقِيلَ: بِالْحِجَازِ، جَاءَ مَعَ أَبِيهِ عَلَى الْبُرَاقِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: وَكَانَ أَمْرَ ذَبْحِهِ بِالشَّامِ، كَانَ بِالْمَقَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْبِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ، هِيَ بِشَارَةُ نُبُوَّتِهِ. وَقَالُوا: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ بِأَنَّهُ اسْتَوْهَبَهُ وَلَدًا، ثُمَّ أَتْبَعَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ،

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 85. (2) سورة مريم: 19/ 54.

ثُمَّ ذَكَرَ رُؤْيَاهُ بِذَبْحِ ذَلِكَ الْغُلَامِ الْمُبَشَّرِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابُ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: مِنْ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ اللَّهِ ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابن إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ، جَعَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ بِشَارَةً بِنُبُوَّتِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَشِّرَهُ اللَّهُ بِوِلَادَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ مَعًا، لِأَنَّ الِامْتِحَانَ بِذَبْحِهِ لَا يَصِحُّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ نَبِيًّا. وَمَنْ جَعَلَهُ إِسْمَاعِيلَ، جَعَلَ الْبِشَارَةَ بِوَلَدِهِ إِسْحَاقَ. وَانْتَصَبَ نَبِيًّا عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. فَإِنْ كَانَ إِسْحَاقُ هُوَ الذَّبِيحَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ بِوِلَادَةِ إِسْحَاقَ، فَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مَحَلَّ سُؤَالٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَقَوْلِهِ: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «1» ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدْخُولَ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِ الدُّخُولِ، وَالْخُلُودَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُمَا، فَقَدَّرْتَ مُقَدَّرَيْنِ لِلْخُلُودِ، فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُبَشَّرُ بِهِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وَقْتَ وُجُودِ الْبِشَارَةِ، وَعَدَمُ الْمُبَشَّرِ بِهِ أَوْجَبَ عَدَمَ حَالِهِ، لِأَنَّ الْحَالَ حِلْيَةٌ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْمَحَلِّيِّ. وَهَذَا الْمُبَشَّرُ بِهِ الَّذِي هُوَ إِسْحَاقُ، حِينَ وُجِدَ لَمْ تُوجَدِ النُّبُوَّةُ أَيْضًا بِوُجُودِهِ، بَلْ تَرَاخَتْ عَنْهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَكَيْفَ يُجْعَلُ نَبِيًّا حَالًا مُقَدَّرَةً؟ وَالْحَالُ صِفَةٌ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ أَوْ بِهِ. فَالْخُلُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَتَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَتَقْدِيرُهَا صِفَتُهُمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً وَقْتَ وُجُودِ الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ لِعَدَمِ إِسْحَاقَ. قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ دَقِيقُ السَّلْكِ ضَيِّقُ الْمَسْلَكِ، وَالَّذِي يَحُلُّ الْإِشْكَالَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَبَشَّرْناهُ بِوُجُودِ إِسْحَاقَ نَبِيًّا، أَيْ بِأَنْ يُوجَدَ مُقَدَّرَةً نُبُوَّتُهُ، فَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْوُجُودُ، لَا فِعْلُ الْبِشَارَةِ وَبِذَلِكَ يَرْجِعُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «2» ، مِنَ الصَّالِحِينَ «3» ، حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَوُرُودُهَا عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ وَالتَّقْرِيظِ، لِأَنَّ كُلُّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ. انْتَهَى. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ: أَفَضْنَا عَلَيْهِمَا بَرَكَاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَبِأَنْ أَخْرَجْنَا أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِهِ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ: فِيهِ وَعِيدٌ لِلْيَهُودِ وَمَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَرَّ قَدْ يَلِدُ الْفَاجِرَ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ عَيْبٌ وَلَا مَنْقَصَةٌ. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ

_ (1- 2) سورة الزمر: 39/ 73. (3) سورة آل عمران: 3/ 39 وغيرها من السور. [.....]

الْمُسْتَقِيمَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. الْكَرْبِ الْعَظِيمِ: تَعَبُّدِ الْقِبْطِ لَهُمْ، ثُمَّ خَوْفِهِمْ مِنْ جَيْشِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ الْبَحْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَنَصَرْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ فَقَطْ، تَعْظِيمًا لَهُمَا بِكِنَايَةِ الجماعة. وهُمُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا وَتَوْكِيدًا أَوْ بَدَلًا. والْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: التَّوْرَاةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «1» . والصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: هُوَ الْإِسْلَامُ وَشَرْعُ الله. وإِلْياسَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَنَقَلُوا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَالْمِنْهَالِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَكَمِ بْنِ عتيبة الكوفي أنهم قرأوا: وَإِنَّ إِدْرِيسَ لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عِنْدِي عَلَى تَفْسِيرِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَفِيضُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَإِنَّ إِلْياسَ، وَأَيْضًا تَفْسِيرُهُ إِلْيَاسَ بِأَنَّهُ إِدْرِيسُ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، لِأَنَّ إِدْرِيسَ فِي التَّارِيخِ الْمَنْقُولِ كَانَ قَبْلَ نُوحٍ. وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ذُكِرَ إِلْيَاسُ، وَأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا «2» ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ «3» ، وَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ إِلْيَاسَ، وَقِيلَ: إِلْيَاسُ مِنْ أَوْلَاد هَارُونَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ إلياس بن ياسين ابن فِنْحَاصِ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنَّ إِلْياسَ، بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِوَصْلِ الْأَلِفِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَصَلَ هَمْزَةَ الْقَطْعِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ يَاسَا، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ أَلْ، كَمَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَعَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَمُصْحَفِهِ: وإن إبليس، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، بَعْدَهَا يَاءٌ ساكنة، بعدها لام مكسورة، بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَسِينٌ مفتوحة. وقرىء: وَإِنَّ إِدْرَاسَ، لُغَةً فِي إِدْرِيسَ، كَإِبْرَاهَامَ فِي إِبْرَاهِيمَ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 44. (2) سورة الأنعام: 6/ 84. (3) سورة الأنعام: 6/ 84.

أَتَدْعُونَ بَعْلًا: أَيْ أَتَعْبُدُونَ بَعْلًا، وَهُوَ عَلَمٌ لِصَنَمٍ لَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ. قِيلَ: وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ، طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، فُتِنُوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ حَتَّى أَخَدَمُوهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَادِنٍ وَجَعَلُوهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ بَعْلٍ وَيَتَكَلَّمُ بِشَرِيعَةِ الضَّلَالَةِ، وَالسَّدَنَةُ يَحْفَظُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ، وَهُمْ أَهْلُ بَعْلَبَكَّ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مَدِينَتُهُمْ بَعْلَبَكَّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ: الْبَعْلُ: الرَّبُّ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. وَسَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا بَعْلُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا؟ وَيُقَالُ: مَنْ بَعْلُ هَذِهِ الدَّارِ، أَيْ رَبُّهَا؟ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَتَعْبُدُونَ بَعْضَ الْبُعُولِ وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ؟ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ بَعْلًا اسْمُ امْرَأَةٍ أَتَتْهُمْ بضلالة فاتبعوها. وقرىء: أَتَدْعُونَ بَعْلَاءَ، بِالْمَدِّ عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ، وَيُؤْنِسُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمُ امْرَأَةٍ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ، بِالنَّصْبِ فِي الثَّلَاثَةِ بَدَلًا مِنْ أَحْسَنَ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ إِنْ قُلْنَا إِنَّ إِضَافَةَ التَّفْضِيلِ مَحْضَةٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ اللَّهُ أَوْ يَكُونُ اسْتِئْنَافًا مُبْتَدَأً وَرَبُّكُمْ خَبَرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ إِذَا وُصِلَ نُصِبَ، وَإِذَا قُطِعَ رُفِعَ. فَكَذَّبُوهُ: أَيْ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، إِمَّا فِي قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّكُمْ هذه النسب، أَوْ فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ الصَّنَمِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَمُحْضَرُونَ: مَجْمُوعُونَ لِلْعَذَابِ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ: اسْتِثْنَاءٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مُخَلَصِينَ لَمْ يُكَذِّبُوهُ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ ضَمِيرِ فَكَذَّبُوهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكُونُونَ مُنْدَرِجِينَ فِيمَنْ كَذَّبَ، وَيَكُونُونَ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِ لَا يَحْضُرُونَ لِلْعَذَابِ، وَلَا مَسِيسَ لِهَؤُلَاءِ الْمَمْسُوسِينَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِيهَا قِصَّةُ إِلْيَاسَ هَذِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: عَلَى آلِ يَاسِينَ. وَزَعَمُوا أَنَّ آلَ مَفْصُولَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، وَيَاسِينَ اسْمٌ لِإِلْيَاسَ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِأَبِي إِلْيَاسَ، لِأَنَّهُ إِلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ، وَآلُ يَاسِينَ هُوَ ابْنُهُ إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: يَاسِينُ هُوَ اسْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: عَلى إِلْ ياسِينَ، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، أَيْ إِلِيَاسِينَ، جَمَعَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى إِلْيَاسَ مَعَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ اتَّبَعَهُ عَلَى الدِّينِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ إِلْيَاسُ، فَلَمَّا جُمِعَتْ، خُفِّفَتْ يَاءُ النِّسْبَةِ بِحَذْفِ إِحْدَاهُمَا كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ: الْيَاءُ فِيهِ وَحَرْفُ الْعِلَّةِ الَّذِي لِلْجَمْعِ، فَحُذِفَتْ لِالْتِقَائِهِمَا، كَمَا قَالُوا: الْأَشْعَرُونَ وَالْأَعْجَمُونَ

وَالْخَبِيبُونَ وَالْمُهَلَّبُونَ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو أَنَّ مُنَادِيًا نَادَى يَوْمَ الْكِلَابِ: هَلَكَ الْيَزِيدِيُّونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ كَانَا جَمْعًا، لَعُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ: عَلَى الْيَاسِينَ، بِوَصْلِ الْأَلِفِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ يُرَادُ بِهِ إِلْيَاسُ وَقَوْمُهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَحُذِفَتْ يَاءُ النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا: الْأَشْعَرُونَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، وَاسْمُهُ عَلَى هَذَا يَاسُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَنَّهُ قَرَأَ إِدْرِيسَ: سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: وَإِنَّ إِدْرِيسَ. وَقَرَأَ: عَلِيٌّ إِدْرَسِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عليّ: إبليس، كقراءته وإن إبليس لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِلَّا عَجُوزاً: هِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ، وَكَانَتْ كَافِرَةً، إِمَّا مُسْتَتِرَةً بِالْكُفْرِ، وَإِمَّا مُعْلِنَةً بِهِ. وَكَانَ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ عِنْدَهُمْ جَائِزًا. مُصْبِحِينَ : أَيْ دَاخِلِينَ فِي الْإِصْبَاحِ. وَالْخِطَابُ فِي وَإِنَّكُمْ لِقُرَيْشٍ، وَكَانَتْ مَتَاجِرُهُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ. أَفَلا تَعْقِلُونَ ، فَتَعْتَبِرُونَ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ. وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ، فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. يُونُسُ بْنُ مَتَّى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَرُوِيَ أنه نبىء وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَاهُمْ لِلْإِيمَانِ فَخَالَفُوهُ، فَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِيَوْمِهِ، فَحَدَّدَهُ يُونُسُ لَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ قَوْمَهُ لَمَّا رَأَوْا مَخَايِلَ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهُمْ تَابُوا وَآمَنُوا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَصَرَفَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قِصَّتِهِ، وَأَعَدْنَا طَرَفًا مِنْهَا لِيُفِيدَ مَا بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ. قِيلَ: وَلَحِقَ يُونُسَ غَضَبٌ، فَأَبِقَ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فِرَارًا مِنْ قَوْمِهِ ، وَعَبَّرَ عَنِ الْهُرُوبِ بِالْإِبَاقِ، إِذْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، خَرَجَ فَارًّا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أَبْعَدَتِ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ، وَيُونُسُ فِيهَا، رَكَدَتْ. فَقَالَ أَهْلُهَا: إِنَّ فِيهَا لَمَنْ يَحْبِسُ اللَّهُ السَّفِينَةَ بِسَبَبِهِ، فَلْنَقْتَرِعْ. فَأَخَذُوا لِكُلٍّ سَهْمًا، عَلَى أَنَّ مَنْ طَفَا سَهْمُهُ فَهُوَ، وَمَنْ غَرِقَ سَهْمُهُ فَلَيْسَ إِيَّاهُ، فَطَفَا سَهْمُ يُونُسَ. فَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثًا، تَقَعُ الْقَرْعَةُ عَلَيْهِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَطْرَحُوهُ. فَجَاءَ إِلَى رُكْنٍ مِنْهَا لِيَقَعَ مِنْهَا، فَإِذَا بِدَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ تَرْقُبُهُ وَتَرْصُدُ لَهُ. فَانْتَقَلَ

إِلَى الرُّكْنِ الْآخَرِ، فَوَجَدَهَا حَتَّى اسْتَدَارَ بِالْمَرْكَبِ وَهِيَ لَا تُفَارِقُهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَرَامَى إِلَيْهَا فَالْتَقَمَتْهُ. فَفِي قِصَّةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ ذِكْرِ فِرَارِهِ إِلَى الْفُلْكِ، كَمَا فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً «1» هُوَ مَا بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ «2» ، جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْضًا. وَبِمَجْمُوعِ الْقَصَصِ يَتَبَيَّنُ مَا حُذِفَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ : مِنَ الْمَغْلُوبِينَ، وَحَقِيقَتُهُ مِنَ الْمُزْلَقِينَ عَنْ مَقَامِ الظَّفَرِ في الاستفهام. وقرىء: وَهُوَ مُلِيمٌ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقِيَاسُهُ مَلُومٌ، لِأَنَّهُ مِنْ لُمْتُهُ أَلُومُهُ لَوْمًا، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ عَلَى أَلِيمٍ، كَمَا قَالُوا: مَشِيبٌ وَمَدْعِيٍّ فِي مَشُوبٍ، وَمَدْعُوٍّ بِنَاءً عَلَى شَيَبَ وَدَعَى. مِنَ الْمُسَبِّحِينَ: مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «3» . وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: تَسْبِيحُهُ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاتُهُ فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ تَنْفَعُهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى مِنْبَرِهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، إِنَّ يُونُسَ كَانَ عَبْدًا ذَاكِرًا، فَلَمَّا أَصَابَتْهُ الشِّدَّةُ نَفَعَهُ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَسْبِيحُهُ: صَلَاتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ لَحْمَ الْحُوتِ بِيَدَيْهِ يَقُولُ: لَأَبْنِيَنَّ لَكَ مَسْجِدًا حَيْثُ لَمْ يَبْنَهِ أَحَدٌ قَبْلِي. وَرُوِيَ أَنَّ الْحُوتَ سَافَرَ مَعَ السَّفِينَةِ رَافِعًا رَأْسَهُ لِيَتَنَفَّسَ وَيُونُسُ يُسَبِّحُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَرِّ، فَلَفَظَهُ سَالِمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَسْلَمُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَعَنْ قَتَادَةَ: لَكَانَ بَطْنُ الْحُوتِ لَهُ قَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَذُكِرَ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَقْوَالًا مُتَكَاذِبَةً، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَهُوَ سَقِيمٌ: رُوِيَ أَنَّهُ عَادَ بَدَنُهُ كَبَدَنِ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: الْيَقْطِينُ: الْقَرْعُ خَاصَّةً، قِيلَ: وَهِيَ الَّتِي أَنْبَتَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَجْمَعُ خِصَالًا، بَرَدُ الظِّلِّ، وَنُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، وَعِظَمُ الْوَرَقِ، وَالذُّبَابُ لَا يَقْرَبُهَا. قِيلَ: وَمَاءُ وَرَقِهِ إِذَا رُشَّ بِهِ مَكَانٌ لَمْ يَقْرَبْهُ ذُبَابٌ، وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 87. (2) سورة الأنبياء: 21/ 87. (3) سورة الأنبياء: 21/ 87.

فَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ ... مِنَ اللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ أَلْفَى ضِيَاعِيَا وَفِيمَا رُوِيَ: إِنَّكَ لَتُحِبُّ الْقَرْعَ، قَالَ: أَجَلْ، هِيَ شَجَرَةُ أَخِي يُونُسَ. وَقِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ الْمَوْزِ، تَغَطَّى بِوَرَقِهَا، وَاسْتَظَلَّ بِأَغْصَانِهَا، وَأَفْطَرَ عَلَى ثِمَارِهَا. ومعنى أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ مِنْ عُودٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْبَتَهَا ذَاتَ سَاقٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَبِوَرَقِهَا، خَرْقًا لِلْعَادَةِ، فَنَبَتَ وَصَحَّ وَحَسُنَ وَجْهُهُ، لِأَنَّ وَرَقَ الْقَرْعِ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِمَنْ يَنْسَلِخُ جِلْدُهُ. وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، قَالَ الْجُمْهُورُ: رِسَالَتُهُ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى الَّتِي أَبِقَ بَعْدَهَا، ذَكَرَهَا آخِرَ الْقَصَصِ تَنْبِيهًا عَلَى رِسَالَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ، وَتَمْتِيعُ تِلْكَ الْأُمَّةِ هُوَ الَّذِي أَغْضَبَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: هِيَ رِسَالَةٌ أُخْرَى بَعْدَ أَنْ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ، وَهِيَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ مَا سَبَقَ مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى. وَقِيلَ: هُوَ إِرْسَالٌ ثَانٍ بَعْدَ مَا جَرَى إِلَيْهِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، أَوْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَسْلَمُوا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَأَبَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ إِذَا هَاجَرَ عَنْ قَوْمِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ مُقِيمًا فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ بَاعِثٌ إِلَيْكُمْ نَبِيًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى بَلْ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ وَبِالْوَاوِ، وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: الْمَعْنَى عَلَى نَظَرِ الْبَشَرِ، وَحَزْرِهِمْ أَنَّ مَنْ وَرَاءَهُمْ قَالَ: هُمْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. قَالَ: أَوْ يَزِيدُونَ فِي مَرْأَى النَّاظِرِ، إِذَا رَآهَا الرَّائِي قَالَ: هِيَ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرُ. وَالْغَرَضُ الْوَصْفُ بِالْكَثْرَةِ، وَالزِّيَادَةُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ سَبْعُونَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِشْرُونَ أَلْفًا، رَوَاهُ أُبَيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا صَحَّ بَطَلَ مَا سِوَاهُ. فَآمَنُوا: رُوِيَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِالْأَطْفَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْبَهَائِمِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُمَّهَاتِ، وَنَاحُوا وَضَجُّوا وَأَخْلَصُوا، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالتَّمَتُّعُ هُنَا هُوَ بِالْحَيَاةِ، وَالْحِينُ آجَالُهُمُ السَّابِقَةُ فِي الْأَزَلِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَالضَّمِيرُ فِي فَاسْتَفْتِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى مِثْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ بَيْنَهُمَا الْمَسَافَةُ. أَمَرَ رَسُولَهُ بِاسْتِفْتَاءِ قُرَيْشٍ عَنْ وَجْهِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ مَوْصُولًا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِاسْتِفْتَائِهِمْ عَنْ وَجْهِ الْقِسْمَةِ الضِّيزَى. انْتَهَى. وَيَبْعُدُ مَا قَالَهُ مِنَ الْعَطْفِ. وَإِذَا كَانُوا عَدُّوا الْفَصْلَ بِجُمْلَةٍ مِثْلَ قَوْلِكَ: كُلْ لَحْمًا وَاضْرِبْ زَيْدًا وَخُبْزًا، مِنْ أَقْبَحِ

التَّرْكِيبِ، فَكَيْفَ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ وَقِصَصٍ مُتَبَايِنَةٍ؟ فَالْقَوْلُ بِالْعَطْفِ لَا يَجُوزُ، وَالِاسْتِفْتَاءُ هُنَا سُؤَالٌ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِمُ الْبُهْتَانَ عَلَى اللَّهِ، حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ الْإِنَاثَ فِي قَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لَهُنَّ، وَوَأْدِهِمْ إِيَّاهُنَّ، وَاسْتِنْكَافِهِمْ مَنْ ذَكَرَهُنَّ. وَارْتَكَبُوا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكُفْرِ: التَّجْسِيمُ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَجْسَامِ وَتَفْضِيلُ أَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ نَسَبُوا أَرْفَعَ الْجِنْسَيْنِ لَهُمْ وَغَيْرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتِهَانَتُهُمْ بِمَنْ هُوَ مُكَرَّمٌ عِنْدَ اللَّهِ، حَيْثُ أَنَّثُوهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. بَدَأَ أَوَّلًا بِتَوْبِيخِهِمْ عَلَى تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ، وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: أَلِرَبِّكُمْ، لِمَا فِي تَرْكِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ مِنْ تَحْسِينِهِمْ وَشَرَفِ نَبِيِّهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَثَنَّى بِأَنَّ نِسْبَةَ الْأُنُوثَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ يَقْتَضِي الْمُشَاهَدَةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ: أَيْ خَلَقْنَاهُمْ وَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الْأُخْرَى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «1» وَكَمَا قَالَ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ «2» . ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ثَالِثًا بِأَعْظَمِ الْكُفْرِ، وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ وَلَدَ، فَبَلَغَ إِفْكُهُمْ إِلَى نِسْبَةِ الْوَلَدِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا فَاحِشًا قَالَ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تُخَصَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ، وَيَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: مِنْ إِفْكِهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُمَّ هَذَا الْقَوْلَ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ: وَهُمْ شاهِدُونَ، فَخَصَّ عِلْمَهُمْ بِالْمُشَاهَدَةِ؟ قُلْتُ: مَا هُوَ إِلَّا اسْتِهْزَاءٌ وَتَجْهِيلٌ كَقَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «3» ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَمَا لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، لَمْ يَعْلَمُوهُ بِخَلْقِ اللَّهِ عِلْمَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا بِإِخْبَارٍ صَادِقٍ، لَا بِطْرِيقِ اسْتِدْلَالٍ وَلَا نَظَرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، كَالْقَائِلِ قَوْلًا عَنْ ثَلَجِ صَدْرٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ لِإِفْرَاطِ جَهْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا خَلْقَهُ. وَقُرِأَ: وَلَدَ اللَّهُ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ وَلَدُهُ، وَالْوَلَدُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. تَقُولُ: هَذِهِ وَلَدِي، وَهَؤُلَاءِ وَلَدِي. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَصْطَفَى، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَابْنُ جَمَّازٍ وَجَمَاعَةٌ، وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ. حَكَى اللَّهُ تَعَالَى شَنِيعَ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَفَاهُمْ أَنْ قَالُوا وَلَدَ اللَّهُ، حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ الْوَلَدَ بَنَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى اخْتَارَهُمْ عَلَى الْبَنِينَ. وَقَالَ

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 19. (2) سورة الكهف: 18/ 51. (3) سورة الزخرف: 43/ 19.

الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْمَلَهَا، فَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَالَّذِي أَضْعَفَهَا أَنَّ الْإِنْكَارَ قَدِ اكْتَنَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ جَانِبَيْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فَمَنْ جَعَلَهَا لِلْإِثْبَاتِ فَقَدْ أَوْقَعَهَا دَخِيلَةً بَيْنَ سَبَبَيْنِ، وَلَيْسَتْ دَخِيلَةً بَيْنَ نَسِيبَيْنِ، بَلْ لَهَا مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ مَعَ قَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، فَهِيَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ مَقَالَتَيِّ الْكُفْرِ، جَاءَتْ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّأْكِيدِ فِي كَوْنِ مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ هِيَ مِنْ إِفْكِهِمْ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ: تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَاسْتِفْهَامٌ عَنِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: تَذْكُرُونَ، بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ. أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ: أَيْ حُجَّةٌ نَزَلَتْ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَخَبَرٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ ، الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً «1» ، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ، وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّةَ هُمُ الشَّيَاطِينُ، وَعَنِ الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٌ شَنِيعَةٌ. مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، فَوَلَدَ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَشَافَهَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْكُفَّارِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أَيِ الشَّيَاطِينُ، أَنَّهَا مُحْضَرَةٌ أَمْرَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا فُسِّرَتِ الْجِنَّةُ بِالشَّيَاطِينِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ عَالِمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُهُمُ النَّارَ وَيُعَذِّبُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُنَاسِبِينَ لَهُ، أَوْ شُرَكَاءَ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ، لَمَا عَذَّبَهُمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَجَعَلُوا لِفِرْقَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، وَالْجِنَّةُ: الْمَلَائِكَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِمْ وَخَفَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ وَضْعًا منهم

_ (1) سورة الروم: 30/ 35.

وَتَصْغِيرًا لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُعَظَّمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الْمُنَاسَبَةِ الَّتِي أَضَافُوهَا إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ صِفَتُهُ الِاجْتِنَانُ وَالِاسْتِتَارُ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُنَاسِبَ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ، إِنَّهُمْ: أَيِ الْكَفَرَةُ الْمُدَّعِينَ نِسْبَةً بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، مُحْضَرُونَ النَّارَ، يُعَذَّبُونَ بِمَا يَقُولُونَ. وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ مَنْ نُسِبُوا لِذَلِكَ، مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِ النَّاسِبِينَ. ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عن الْوَصْفِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ. وَأَمَّا مِنَ الْمُحْضَرُونَ، أَيْ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ نَاجُونَ مُدَّةَ الْعَذَابِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ التَّنْزِيهِ اعْتِرَاضًا عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَما تَعْبُدُونَ لِلْعَطْفِ، عَطَفَتْ مَا تَعْبُدُونَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي إِنَّكُمْ، وَأَنَّ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا، وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: وَمَا تَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا أَنْتُمْ وَهُمْ، وَغَلَبَ الْخِطَابُ. كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَخْرُجَانِ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى عِبَادَةِ مَعْبُودِكُمْ. بِفاتِنِينَ: أَيْ بِحَامِلِينَ بِالْفِتْنَةِ عِبَادَهُ، إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَمَا قُلْنَا، أَيْ عَلَى عِبَادَتِهِ. وَضُمِّنَ فَاتِنِينَ معنى: حاملين بالفتنة، ومن مفعولة بفاتنين، فُرِّغَ لَهُ الْعَامِلُ إِذْ لم يكن بفاتنين مَفْعُولًا. وَقِيلَ: عَلَيْهِ بِمَعْنَى: أَيْ مَا أَنْتُمْ بِالَّذِي تعبدون بفاتنين، وبه متعلق بفاتنين، الْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ فَاتِنِينَ بِذَلِكَ الَّذِي عَبَدْتُمُوهُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَدَرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، قَالَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَفْتِنُونَهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: يُفْسِدُونَهُمْ عَلَيْهِ بِإِغْوَائِهِمْ وَاسْتِهْوَائِهِمْ مِنْ قَوْلِكَ: فَتَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ امْرَأَتَهُ، كَمَا تَقُولُ: أَفْسَدَهَا عَلَيْهِ وَخَيَّبَهَا عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَما تَعْبُدُونَ بِمَعْنَى مَعَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ. فَكَمَا جَازَ السُّكُوتُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ، جَازَ أَنْ يُسْكَتَ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما تَعْبُدُونَ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنَّكُمْ مَعَ مَا تَعْبُدُونَ، وَالْمَعْنَى: فَإِنَّكُمْ مَعَ آلِهَتِكُمْ، أَيْ فَإِنَّكُمْ قُرَنَاؤُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ لَا تَبْرَحُونَ تَعْبُدُونَهُمْ. ثُمَّ قَالَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى مَا تَعْبُدُونَ، بِفاتِنِينَ: بِبَاعِثِينَ أَوْ حَامِلِينَ عَلَى طَرِيقِ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ، إِلَّا مَنْ هُوَ ضَالٌّ مِنْكُمْ. انْتَهَى. وَكَوْنُ الْوَاوِ فِي وَما تَعْبُدُونَ وَاوَ مَعَ غَيْرُ مُتَبَادِرٍ إِلَى الذِّهْنِ، وَقَطْعُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ عَنْ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ اتِّصَافَهُ بِهِ هُوَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عبلة: صالو الْجَحِيمَ بِالْوَاوِ، وَهَكَذَا فِي كِتَابِ الْكَامِلِ لِلْهُذَلِيِّ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ عَنْهُمَا: صَالَ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ الحسن: صالو مَكْتُوبًا بِالْوَاوِ وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ وَكِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ: صَالَ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ وَاوٍ. فَمَنْ أَثْبَتَ الْوَاوَ فَهُوَ جَمْعُ سَلَامَةٍ سَقَطَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ. حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فَأُفْرِدَ، ثُمَّ ثَانِيًا عَلَى مَعْنَاهَا فَجُمِعَ، كَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» ، حُمِلَ فِي يَقُولُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَفِي وَمَا هُمْ عَلَى الْمَعْنَى، وَاجْتَمَعَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولِ، كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا وَمَنْ لَمْ يُثْبِتِ الْوَاوَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ خَطَأً، كَمَا حُذِفَتْ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ لَفْظًا لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صَالَ مُفْرَدًا حُذِفَتْ لَامُهُ تَخْفِيفًا، وَجَرَى الْإِعْرَابُ فِي عَيْنِهِ، كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ «3» ، وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ «4» ، بِرَفْعِ النُّونِ وَالْجَوَارِ، وَقَالُوا: مَا بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، أَيْ بَالِيَةً مِنْ بَالَى، كَعَافِيَةٍ مِنْ عَافَى، فَحُذِفَتْ لَامُ بَالَيْتُ وَبَالِيَةٍ. وَقَالُوا بَالَةٌ وَبَالٍ، بِحَذْفِ اللَّامِ فِيهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ وَجَّهَ نَحْوًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَجَعَلَهُمَا أَوَّلًا وَثَالِثًا فَقَالَ: وَالثَّانِي أَنْ يكون أصله صائل عَلَى الْقَلْبِ، ثُمَّ يُقَالُ: صَالٌ فِي صَائِلٍ، كَقَوْلِهِمْ: شَاكٌّ فِي شَائِكٍ. انْتَهَى. وَما مِنَّا: أَيْ أَحَدٌ، إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ: أَيْ مَقَامٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ. كَمَا رُوِيَ: فَمِنْهُمْ رَاكِعٌ لَا يُقِيمُ ظَهْرَهُ، وَسَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْجِنَّةَ هم الملائكة تبرؤوا عَنْ مَا نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْكَفَرَةُ مِنْ كَوْنِهِمْ بَنَاتِ اللَّهِ، وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِ عُبُودِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَيِّ حَالَةٍ هُمْ فِيهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ السَّمَاءَ مَا فِيهَا مَوْضِعٌ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ وَاقِفٌ يُصَلِّي» ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أَوْ قَدَمَاهُ» ، وَحَذْفُ الْمُبْتَدَأِ مَعَ مِنْ جَيِّدٌ فَصِيحٌ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ «5» ، أَيْ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أحد.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 8. (2) سورة البقرة: 2/ 111. (3) سورة الرحمن: 55/ 54. (4) سورة الرحمن: 55/ 24. [.....] (5) سورة النساء: 4/ 159.

وَقَالَ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ، يُرِيدُ: مِنَّا فَرِيقٌ ظَعَنَ وَمِنَّا فَرِيقٌ أَقَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، حَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَأَقَامَ الصِّفَةَ مُقَامَهُ، كَقَوْلِهِ: أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرَمَى الْبَشَرِ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مُقَامَهُ، لِأَنَّ أَحَدًا الْمَحْذُوفَ مُبْتَدَأٌ. وَإِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ خَبَرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ كَلَامٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا مِنَّا أَحَدٌ، فَقَوْلُهُ: إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ. وَإِنْ تَخَيَّلَ أَنَّ إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِلَّا لَا تَكُونُ صِفَةً إِذَا حُذِفَ مَوْصُوفُهَا، وَأَنَّهَا فَارَقَتْ غَيْرَ إِذَا كَانَتْ صِفَةً فِي ذَلِكَ، لِيَتَمَكَنَّ غَيْرُهُ فِي الْوَصْفِ وَقِلَّةِ تَمَكُّنِ إِلَّا فِيهِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَنَا ابْنُ جَلَا، أَيِ ابْنُ رَجُلٍ جَلَا وَبِكَفِّي كَانَ، أَيْ رَجُلٍ كَانَ، وَهَذَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَقْبَحِ الضَّرُورَاتِ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: أَيْ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَجْنِحَتَنَا فِي الْهَوَاءِ، أَوْ حَوْلَ الْعَرْشِ دَاعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: قِيلَ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا اصْطَفُّوا فِي الصَّلَاةِ مُنْذُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا يَصْطَفُّ أَحَدٌ مِنَ الْمِلَلِ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ: أَيِ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ مَا نَسَبَ إِلَيْهِ الْكَفَرَةُ، أَوِ الْمُنَزِّهُونَ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ، أَوِ الْمُصَلُّونَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَتَطَّرِدُ الْجُمَلُ وَتَنْسَاقُ لِقَائِلٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ نَاسِبِي ذَلِكَ لَمُحْضَرُونَ لِلْعَذَابِ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَنُزِّهُوا عَنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَوْا مَنْ أَخْلَصَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَقَالُوا لِلْكَفَرَةِ: فَإِنَّكُمْ وَآلِهَتَكُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَكَيْفَ نَكُونُ مُنَاسِبِيهِ، وَنَحْنُ عَبِيدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِكُلٍّ مِنَّا مَقَامٌ مِنَ الطَّاعَةِ؟ إِلَى مَا وَصَفُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنْ رُتْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ، هُوَ مِنْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ وَمَا مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. ثُمَّ ذَكَرَ أَعْمَالَهُمْ، وَأَنَّهُمُ الْمُصْطَفُّونَ فِي الصَّلَاةِ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ مَا يَقُولُ أَهْلُ الضَّلَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَيَقُولُونَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً: أَيْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، لَأَخْلَصْنَا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَلَمْ نُكَذِّبْ كَمَا كَذَّبُوا. فَكَفَرُوا بِهِ: أَيْ فَجَاءَهُمُ الذِّكْرُ الَّذِي كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَذْكَارِ، لِإِعْجَازِهِ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الِانْتِقَامِ. وَأَكَّدُوا قولهم

بأن الْمُخَفَّفَةِ وَبِاللَّامِ كَوْنُهُمْ كَانُوا جَادِّينَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ وَالنُّفُورُ الْبَلِيغُ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» . وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِفْرَادِ لَمَّا انْتَظَمَتْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ الْمَوْعِدُ بِعُلُوِّهِمْ عَلَى عَدِوِّهِمْ فِي مَقَامَاتِ الْحِجَاجِ وَمَلَاحِمِ الْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا، وَعُلُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا غُلِبَ نَبِيٌّ فِي الْحَرْبِ، وَلَا قُتِلَ فِيهَا. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ: أَيْ إِلَى مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَهِيَ مُدَّةُ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى مَوْتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَبْصِرْهُمْ: أَيِ انْظُرْ إِلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَهَا وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ، أَوْ سَوْفَ يُبْصِرُونَكَ وَمَا يَتِمُّ لَكَ مِنَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ. وَأَمْرُهُ بِإِبْصَارِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْمُنْتَظَرَةِ الْكَائِنَةِ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهَا قَرِيبَةٌ كَأَنَّهَا بَيْنَ نَاظِرَيْهِ بِحَيْثُ هُوَ يُبْصِرُهَا، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ وَتَنْفِيسٌ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ. فَإِذا نَزَلَ هُوَ، أَيِ الْعَذَابُ، مِثْلُ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ بَعْدَ مَا أَنْذَرَهُ، فَأَنْكَرُوهُ بِحَيْثُ أَنْذَرَ بِهُجُومِهِ قَوْمَهُ وَبَعْضَ صُنَّاعِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلى إنذراه، وَلَا أَخَذُوا أُهْبَتَهُ، وَلَا دَبَّرُوا أَمْرَهُمْ تَدْبِيرًا يُنْجِيهِمْ حَتَّى أَنَاخَ بِفَنَائِهِمْ، فَشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَقَطَعَ دَابِرَهُمْ. وَكَانَتْ عَادَةُ مَغَازِيهِمْ أَنْ يُغِيرُوا صَبَاحًا، فَسُمِّيَتِ الْغَارَةُ صَبَاحًا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَمَا فَصَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا كَانَتْ لَهُ الرَّوْعَةُ الَّتِي يَحْسُنُ بِهَا، وَيَرُونُكَ مَوْرِدُهَا عَلَى نَفْسِكِ وَطَبْعِكَ إِلَّا لِمَجِيئِهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَسَاحَتِهِمْ: هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَنَزَلَ سَاحَةَ فُلَانٍ، يُسْتَعْمَلُ فِيمَا وَرَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَسُوءُ الصَّبَاحِ: يُسْتَعْمَلُ فِي حُلُولِ الْغَارَاتِ وَالرَّزَايَاتِ وَمِثْلُ قَوْلِ الصَّارِخِ: يَا صَبَاحَاهُ وَحُكْمُ سَاءَ هَنَا حُكْمُ بِئْسَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ صَبَاحُهُمْ. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ: كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّوَلِّي، تَأْنِيسًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَسْلِيَةً وَتَأْكِيدًا لِوُقُوعِ الْمِيعَادِ وَلَمْ يُقَيِّدْ أَمْرَهُ بِالْإِبْصَارِ، كَمَا قَيَّدَهُ فِي الْأَوَّلِ، إِمَّا لِاكْتِفَائِهِ بِهِ فِي الْأَوَّلِ فَحَذَفَهُ اخْتِصَارًا، وَإِمَّا لِمَا فِي تَرْكِ التَّقْيِيدِ مِنْ جَوَلَانِ الذِّهْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْصَارُ مِنْهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَسَرَّاتِ، وَالْإِبْصَارُ مِنْهُمْ من صنوف المساءات. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَبِالْآخِرَةِ عَذَابُ الْآخِرَةِ.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 89.

وَخَتَمَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ تنزيهه عن ما يصفه به الْمُشْرِكُونَ، وَأَضَافَ الرَّبَّ إِلَى نَبِيِّهِ تَشْرِيفًا لَهُ بِإِضَافَتِهِ وَخِطَابِهِ، ثُمَّ إِلَى الْعِزَّةِ، وَهِيَ الْعِزَّةُ الْمَخْلُوقَةُ الْكَائِنَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ وَغَيْرُهُ: مَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ عِزَّتَهُ الَّتِي خُلِقَتْ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: رَبِّ الْعِزَّةِ، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُضِيفَ الرَّبُّ إِلَى الْعِزَّةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذُو الْعِزَّةِ، كَمَا تَقُولُ: صَاحِبُ صِدْقٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِالصِّدْقِ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِعِزَّةِ اللَّهِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ مَا مِنْ عِزَّةٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا وَهُوَ رَبُّهَا وَمَالِكُهَا، لِقَوْلِهِ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «1» . وَعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ، إِلَى آخِرِ السُّورَةُ.

_ (1) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 26.

سورة ص

سورة ص [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) لَاتَ: هِيَ لَا، أُلْحِقَتْ بِهَا التَّاءُ كَمَا أُلْحِقَتْ فِي ثُمَّ وَرُبَّ، فَقَالُوا: ثُمَّتْ وَرُبَّتْ، وَهِيَ تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَعَمَلَ إِنَّ فِي مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ. فَإِنِ ارْتَفَعَ مَا بَعْدَهَا، فَعَلَى الِابْتِدَاءِ عِنْدَهُ وَلَهَا أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهَا هُنَا عِنْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي فِيهَا. وَالْمَنَاصُ: الْمَنْجَا وَالْغَوْثُ، يُقَالُ نَاصَهُ يَنُوصَهُ: إِذَا فَاتَهُ. قَالَ الفراء: النوص: التأخير، يُقَالُ نَاصَ عَنْ قَرْنِهِ يَنُوصُ نَوْصًا وَمَنَاصًا: أَيْ فر وزاغ، وأنشد لا مرىء القيس:

أم ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ كنوص ... وَاسْتَنَاصَ طَلَبَ الْمَنَاصَ قَالَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ: غَمَرَ الْجِرَاءُ إِذَا قَصَرْتُ عِنَانَهُ ... بِيَدِي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ الْمِسْحَلِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اسْتَنَاصَ: تَأَخَّرَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: نَاصَ يَنُوصُ: تَقَدَّمَ. الْوَتَدُ: مَعْرُوفٌ، وكسر التاء أشهر من فَتْحِهَا. وَيُقَالُ: وَتَدٌ وَاتِدٌ، كَمَا يُقَالُ: شُغْلٌ شَاغِلٌ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَنْشَدَ: لَاقَتْ عَلَى الْمَاءِ جَذِيلًا وَاتِدًا ... وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفْهَا الْمُوَاعِدَا وَقَالُوا: وَدٌ فَأَدْغَمُوهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: تُخْرِجُ الْوَدَّ إِذَا ما أشحذت ... وَتُوَارِيهِ إِذَا مَا تَشْتَكِرُ وَقَالُوا فِيهِ: دَتٌّ، فَأَدْغَمُوا بِإِبْدَالِ الدَّالِ تَاءً، وَفِيهِ قَلْبُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ قَلِيلٌ. ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ، كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ، مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ، جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ «1» ، لَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَتَاهُمُ الذِّكْرُ فَكَفَرُوا بِهِ. بَدَأَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ الذِّكْرُ الَّذِي جَاءَهُمْ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَأَنَّهُمْ فِي تَعَزُّزٍ وَمَشَاقَّةٍ لِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي شَاقَّتِ الرُّسُلَ لِيَتَّعِظُوا. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، جَاءَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 168.

رَأْسِ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ، وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّمَا أُرِيدَ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ بِهَا الْعَجَمُ. قَالَ: وَمَا الْكَلِمَةُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ فَقَامُوا وَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، حَتَّى بَلَغَ، إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ص، بِسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ: صَادِ، بِكَسْرِ الدَّالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُسِرَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَهُوَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ المعجم نحو: ق وَنُونٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَمْرٌ مِنْ صَادَى، أَيْ عَارَضَ، وَمِنْهُ الصَّدَى، وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الصُّلْبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَجْسَامِ، أَيْ عَارِضٌ بِعَمَلِكَ الْقُرْآنَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: صَادَيْتُ: حَادَثْتُ، أَيْ حَادَثَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَفِرْقَةٌ: صَادَ، بِفَتْحِ الدَّالِ، وَكَذَا قَرَأَ: قَافَ وَنُونَ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالنُّونِ، فَقِيلَ: الْفَتْحُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ، حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْقَسَمِ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَللَّهَ لَأَفْعَلَنَّ، وَهُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقَدْ صَرَفَهَا مَنْ قَرَأَ صَادٍ بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ عَلَى تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالتَّنْزِيلِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: صَادٌ، بِضَمِّ الدَّالِ، فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، فَخَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذِهِ ص، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ السَّمَيْفَعِ وَهَارُونَ الْأَعْوَرِ وَقَرَأَ ق وَنُونُ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَالنُّونِ. وَقِيلَ: هُوَ حَرْفٌ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى مِنْ فِعْلٍ أَوْ مِنِ اسْمٍ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَادِقُ الْوَعْدِ صَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَدَقَ مُحَمَّدٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ: ذِي الذِّكْرِ: ذِي الشَّرَفِ الْبَاقِي الْمُخَلَّدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي التَّذْكِرَةِ، لِلنَّاسِ وَالْهِدَايَةِ لَهُمْ. وَقِيلَ: ذِي الذِّكْرِ، لِلْأُمَمِ وَالْقَصَصِ وَالْغُيُوبِ وَالشَّرَائِعِ وَجَوَابُ الْقَسَمِ، قِيلَ: مَذْكُورٌ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ «1» . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا نَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا فِي الْعَرَبِيَّةِ لِتَأَخُّرِهِ جِدًّا عَنْ قَوْلِهِ: وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، وَقَالَ قَوْمٌ: كَمْ أَهْلَكْنا، وَحَذَفَ اللَّامَ أَيْ لَكُمْ، لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ كَمَا حُذِفَتْ فِي وَالشَّمْسِ «2» ، ثُمَّ قَالَ:

_ (1) هذه السورة آية: 64. (2) سورة الشمس: 91/ 1.

قَدْ أَفْلَحَ «1» ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَجِبُ اطِّرَاحُهَا. وَقِيلَ: هُوَ صَادٌ، إِذْ مَعْنَاهُ: صَدَقَ مُحَمَّدٌ وَصَدَقَ اللَّهُ. وَكَوُنُ صَادٍ جَوَابَ الْقَسَمِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَقَدُّمِ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ الصَّادَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، فَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ: لَقَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ وَنَحْوُهُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لَمُعْجِزٌ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: مَا الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ التَّقْدِيرِ. وَنُقِلَ أَنَّ قَتَادَةَ وَالطَّبَرِيَّ قَالَا: هُوَ مَحْذُوفٌ قَبْلَ بَلِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدَّرَهُ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ مَا أُثْبِتَ هُنَا جَوَابًا لِلْقُرْآنِ حِينَ أَقْسَمَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» ، وَيُقَوِّي هَذَا التَّقْدِيرَ ذِكْرُ النِّذَارَةِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ هُنَاكَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً «3» ، فالرسالة تنضمن النِّذَارَةَ وَالْبِشَارَةَ، وَبَلْ لِلِانْتِقَالِ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ وَالْمُقَسَمِ عَلَيْهِ إِلَى حَالَةِ تَعَزُّزِ الْكُفَّارِ وَمَشَاقِّهِمْ فِي قَبُولِ رِسَالَتِكَ وَامْتِثَالِ مَا جِئْتَ بِهِ، وَاعْتِرَافٍ بِالْحَقِّ. وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، وَسَوْرَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَمَيْمُونُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيِّ: فِي غِرَّةٍ، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ، أَيْ فِي غَفْلَةٍ وَمَشَاقَّةٍ. قَبْلِهِمْ: أَيْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ ذَوِي الْمَنَعَةِ الشَّدِيدَةِ وَالشِّقَاقِ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. فَنادَوْا: أَيِ اسْتَغَاثُوا وَنَادَوْا بِالتَّوْبَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا: أَيْ أَرْفَعُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، فَلَمْ يَكُ وَقْتَ نَفْعٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلاتَ حِينَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَنَصْبِ النُّونِ، فَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، عَمِلَتْ عَمَلَ لَيْسَ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَاتَ الْحِينُ حِينَ فَوَاتٍ وَلَا فِرَارٍ. وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ: يَكُونُ حِينَ اسْمَ لَاتَ، عَمِلَتْ عَمَلَ إِنَّ نَصَبَتِ الِاسْمَ وَرَفَعَتِ الْخَبَرَ، وَالْخَبَرُ محذوف تَقْدِيرُهُ: وَلَاتَ أَرَى حِينَ مَنَاصٍ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: وَلَاتُ حِينُ، بِضَمِّ التَّاءِ وَرَفْعِ النُّونِ فَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: حِينَ مَنَاصٍ اسْمُ لَاتَ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ: مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: وَلَاتِ حِينِ، بِكَسْرِ التَّاءِ وَجَرِّ النُّونِ، خَبَرٌ بَعْدَ لَاتَ، وَتَخْرِيجُهُ مُشْكِلٌ، وَقَدْ تَمَحَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَخْرِيجِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ حِينِ أَوَانٍ ... فَأَجَبْنَا أَنْ لَاتَ حِينِ بَقَاءِ قَالَ: شَبَّهَ أَوَانَ بِإِذْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتَ إِذْ صَحِيحٌ فِي أَنَّهُ زَمَانٌ قُطِعَ مِنْهُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَعُوِّضَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ: وَلَاتَ أَوَانَ صُلْحٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُوُلُ فِي حِينَ مَنَاصٍ، وَالْمُضَافُ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 1. (2) سورة يس: 36/ 1- 3. (3) سورة يس: 36/ 6.

إِلَيْهِ قَائِمٌ؟ قُلْتُ: نَزَّلَ قَطْعَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ تَنْوِينَهُ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ، ثُمَّ بَنَى الْحِينَ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ. انْتَهَى. هَذَا التَّمَحُّلُ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وَالْبَيْتِ النَّادِرِ فِي جَرِّ مَا بَعْدَ لَاتَ: أَنَّ الْجَرَّ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مِنْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَاتَ مِنْ حِينِ مَنَاصٍ، وَلَاتَ مِنْ أَوَانِ صُلْحٍ، كَمَا جَرُّوا بِهَا فِي قَوْلِهِمْ: عَلَى كَمْ جِذْعٍ بَيْتُكَ؟ أَيْ مِنْ جِذْعٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَكَمَا قَالُوا: لَا رَجُلٍ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، يُرِيدُونَ: لَا مِنْ رَجُلٍ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ مِنْ حِينِ مَنَاصٍ رَفْعًا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَاتَ بِمَعْنَى لَيْسَ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ قَائِمًا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ أَوِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُخْفِضُ بِلَاتَ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: وَلَتَنْدَمُنَّ وَلَاتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ وَخَرَّجَ الْأَخْفَشُ وَلَاتَ أَوَانٍ عَلَى إِضْمَارِ حِينَ، أَيْ وَلَاتَ حِينَ أَوَانٍ، حَذَفَ حِينَ وَأَبْقَى أَوَانَ عَلَى جَرِّهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلَاتَ أَوَانِنَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْرَبَ، وَكَسَرَهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَخَذَهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ، وَأَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ: وَلَاتَ أَوَانٌ بِالرَّفْعِ. وَعَنْ عِيسَى: وَلَاتَ حِينٌ، بِالرَّفْعِ، مَنَاصَ: بِالْفَتْحِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ بَنَى حِينَ عَلَى الضَّمِّ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَأَجْرَاهُ مُجْرَى قَبْلُ وَبَعْدُ فِي الْغَايَةِ، وَبَنَى مَنَاصَ عَلَى الْفَتْحِ مَعَ لَاتَ، عَلَى تَقْدِيرِ: لَاتَ مَنَاصَ حِينَ، لَكِنْ لَا إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي النَّكِرَاتِ فِي اتِّصَالِهَا بِهِنَّ دُونَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا ظَرْفٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ مَعْنًى لَا أَعْرِفُهُ. انْتَهَى. وَقَرَأَ عِيسَى أَيْضًا: وَلَاتِ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَحِينَ بِنَصْبِ النُّونِ، وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ نَصْبِ حِينَ. وَلَاتَ رُوِيَ فِيهَا فَتْحُ التَّاءِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ وَابْنِ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجِ، وَوَقَفَ الْكِسَائِيُّ وَالْمُبَرِّدُ بِالْهَاءِ، وَقَوْمٌ عَلَى لَا، وَزَعَمُوا أَنَّ التَّاءَ زِيدَتْ فِي حِينَ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَذَكَرَ أنه رَآهُ فِي الْأَمَامِ مَخْلُوطًا تَاؤُهُ بِحِينَ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ، وَلَاتَ أَوَانٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنَاصٌ، أَيْ عَلَيْكُمْ بِالْفِرَارِ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ قَالُوا: مَنَاصٌ، فَقَالَ اللَّهُ: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَنَادَوْا مَنَاصُ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، أَيْ لَيْسَ الْوَقْتُ وَقْتَ نِدَائِكُمْ بِهِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَحَكُّمٍ، إِذْ كُلُّ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْقُرُونِ يَقُولُ مَنَاصٌ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: أَيْ فَنَادَوْا حِينَ لَا مَنَاصَ، أَيْ سَاعَةَ

لَا مَنْجَا وَلَا فَوْتَ. فَلَمَّا قَدَّمَ لَا وَأَخَّرَ حِينَ اقْتَضَى ذَلِكَ الْوَاوَ، كَمَا تَقْتَضِي الْحَالُ إِذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا مِثْلُ: جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا، ثُمَّ تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَحِينَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: فَنادَوْا. انْتَهَى. وَكَوْنُ أَصْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: فَنَادَوْا حِينَ لَا مَنَاصَ، وَأَنَّ حِينَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: فَنادَوْا دَعْوَى أَعْجَمِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى عَلَى نَظْمِهِ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَنَادَوْا وَهُمْ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، أَيْ لَهُمْ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ، أَرْدَفَ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، مِنْ نِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ السِّحْرَ وَالْكَذِبَ. وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الْكافِرُونَ، أَيْ: وَقَالُوا تَنْبِيهًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمُ الْعَجَبَ، حَتَّى نَسَبُوا مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَالتَّوْحِيدِ إِلَى السِّحْرِ وَالْكَذِبِ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ إِلَهٌ وَاحِدٌ يَرْزُقُ الْجَمِيعَ وَيَنْظُرُ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ؟ وَجَعَلَ: بِمَعْنَى صَيَّرَ فِي الْقَوْلِ وَالدَّعْوَى وَالزَّعْمِ، وَذَكَرَ عَجَبَهُمْ مِمَّا لَا يُعْجَبُ مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي وَعَجِبُوا لَهُمْ، أَيِ اسْتَغْرَبُوا مَجِيءَ رَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عُجابٌ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ، كَرَجُلٍ طُوَالٍ وَسُرَاعٍ فِي طَوِيلٍ وَسَرِيعٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعِيسَى، وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِشَدِّ الْجِيمِ ، وَقَالُوا: رَجُلٌ كُرَّامٌ وَطَعَّامٌ طَيَّابٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فُعَالٍ الْمُخَفَّفِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عُجَابٌ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ. وَالَّذِينَ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، وَهُمْ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ: الظَّاهِرُ انْطِلَاقُهُمْ عَنْ مَجْلِسِ أَبِي طَالِبٍ، حِينَ اجْتَمَعُوا هُمْ وَالرَّسُولُ عِنْدَهُ وَشَكَوْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَيَكُونُ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يَتَحَاوَرُونَ. أَنِ امْشُوا، وَتَكُونُ أَنْ مُفَسِّرَةً لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَامْشُوا أَمْرٌ بِالْمَشْيِ، وَهُوَ نَقْلُ الْأَقْدَامِ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ بِمَعْنَى أَيْ، لِأَنَّ الْمُنْطَلِقِينَ عَنْ مَجْلِسِ التَّقَاوُلِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُوا وَيَتَفَاوَضُوا فِيمَا جَرَى لَهُمْ، فَكَانَ انْطِلَاقُهُمْ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ وَالْأَمْرِ بِالْمَشْيِ، أَيْ بَعْضُهُمْ أَمَرَ بَعْضًا. وَقِيلَ: أَمَرَ الْأَشْرَافُ أَتْبَاعَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ وَانْطَلَقُوا بِقَوْلِهِمُ امْشُوا، وَقِيلَ: الِانْطِلَاقُ هُنَا الِانْدِفَاعُ فِي الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، وَأَنْ مُفَسِّرَةٌ عَلَى هَذَا، وَالْأَمْرُ بِالْمَشْيِ لَا يُرَادُ بِهِ نَقْلُ الْخُطَا، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: سِيرُوا على طريقتكم ودوموا عَلَى سِيرَتِكُمْ. وَقِيلَ: امْشُوا دُعَاءٌ بِكَسْبِ الْمَاشِيَةِ، قِيلَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ مَقْطُوعَةً، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: أَمْشَى الرَّجُلُ إِذَا صَارَ صَاحِبَ مَاشِيَةٍ وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ

قَالُوا: امْشُوا، أَيْ أَكْثِرُوا وَاجْتَمِعُوا، مِنْ مَشَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَثُرَتْ وِلَادَتُهَا وَمِنْهُ الْمَاشِيَةُ لِلتَّفَاؤُلِ. انْتَهَى. وَأَمَرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى الْآلِهَةِ، أَيْ عَلَى عِبَادَتِهَا وَالتَّمَسُّكِ بِهَا. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا أَيْ ظُهُورَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُلُوَّهُ بِالنُّبُوَّةِ، لَشَيْءٌ يُرادُ: أَيْ يُرَادُ مِنَّا الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ، أَوْ يُرِيدُهُ اللَّهُ وَيَحْكُمُ بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الصَّبْرُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَيْءٌ مِنْ نَوَائِبِ الدَّهْرِ مُرَادٌ مِنَّا، فَلَا انْفِكَاكَ عَنْهُ، وَأَنَّ دِينَكُمْ لَشَيْءٌ يُرَادُ، أَيْ يُطْلَبُ لِيُؤْخَذَ مِنْكُمْ وَتُغْلَبُوا عْلِيهِ، احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ تقرير لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْنَا، فَيَحْكُمَ فِي أَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا بِمَا يُرِيدُ. مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُقَاتِلٌ: مِلَّةُ النَّصَارَى، لِأَنَّ فِيهَا التَّثْلِيثَ، وَلَا تُوَحِّدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مِلَّةُ الْعَرَبِ: قُرَيْشٌ وَنَجْدَتُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ: مِلَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، أَشْرَكَتِ الْيَهُودُ بِعُزَيْرٍ، وَثَلَّثَ النَّصَارَى. وَقِيلَ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ الَّتِي كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، كَانَ النَّاسُ يَسْتَشْعِرُونَ خُرُوجَ نَبِيٍّ وَحُدُوثِ مِلَّةٍ وَدِينٍ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَحْبَارِ أُولِي الصَّوَامِعِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الْكُهَّانِ شِقٍّ وَسُطَيْحٍ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَعْتَقِدُ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، أَيْ لَمْ نَسْمَعْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْكُهَّانِ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ تَوْحِيدُ اللَّهِ. إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ: أَيِ افْتِعَالٌ وَكَذِبٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا: أَنْكَرُوا أَنْ يَخْتَصَّ بِالشَّرَفِ مِنْ بَيْنِ أَشْرَافِهِمْ وَيَنْزِلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وهذا الإنكار هو ناشىء عَنْ حَسَدٍ عَظِيمٍ انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ فَنَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي: أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي يَرْتَابُونَ فِيهِ، وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ يَقْتَضِي كَذِبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ: أَيْ بَعْدُ، فَإِذَا ذَاقُوهُ عَرَفُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ وَزَالَ عَنْهُمُ الشَّكُّ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ: أَيْ لَيْسُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ، فيعطون ما شاؤوا، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا، وَيَصْطَفُونَ لِلرِّسَالَةِ مَنْ أَرَادُوا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا الْعَزِيزِ: الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْوَهَّابِ: مَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ. لَمَّا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ تَصَرُّفِهِمْ فِي خَزَائِنِ رَحْمَةِ رَبِّكَ، أَتَى بِالْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ بِانْتِفَاءِ مَا هُوَ أَعَمُّ

فَقَالَ: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَيْ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَلْيَرْتَقُوا: أَيْ أَلَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَصْعَدُوا، فِي الْأَسْبابِ، الموصلة إِلَى السَّمَاءِ، وَالْمَعَارِجِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، فَيَضَعُونَ الرِّسَالَةَ فِيمَنِ اخْتَارُوا. ثُمَّ صَغَّرَهُمْ وَحَقَّرَهُمْ، فأخبر بما يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْخَيْبَةِ. قِيلَ: وَمَا زَائِدَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِمْ، أَوِ التحقير، لأن مال الصِّفَةَ تُسْتَعْمَلُ عَلَى هَذَيْنِ المعنيين. وهُنالِكَ: ظَرْفُ مَكَانٍ يُشَارُ بِهِ لِلْبَعِيدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشَارُ بِهِ لِلْمَكَانِ الَّذِي تَفَاوَضُوا فِيهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ مَكَّةُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِخْبَارًا بِالْغَيْبِ عَنْ هَزِيمَتِهِمْ بِمَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مَهْزُومِينَ بِمَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: هُنالِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الِارْتِقَاءِ فِي الْأَسْبَابِ، أَيْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إِنْ رَامُوا ذَلِكَ جُنْدٌ مَهْزُومٌ. وَقِيلَ: أُشِيرُ بِهُنَالِكَ إِلَى جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ وَعَضُدِهَا، أَيْ هُمْ جُنْدٌ مَهْزُومٌ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: الْإِشَارَةُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانَ غَيْبًا، أَعْلَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى حَصْرِ عَامِ الْخَنْدَقِ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُنَالِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى حَيْثُ وَضَعُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الِانْتِدَابِ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْعَظِيمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لِمَنْ يَنْدُبُهُ لِأَمْرٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، لَسْتَ هنالك. انتهى. وهُنالِكَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لجند، أَيْ كَائِنٌ هُنَالِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بمهزوم، وَجُنْدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمْ جُنْدٌ، وَمَهْزُومٌ خَبَرُهُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: جُنْدٌ مُبْتَدَأٌ، وَمَا زَائِدَةٌ، وَهُنَالِكَ نَعْتٌ، وَمَهْزُومٌ الْخَبَرُ. انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ لِفَصْلِهِ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمَعْنَى مِنَ الْأَحْزابِ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَعَصَّبُوا فِي الْبَاطِلِ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ قَبْلَ قُرَيْشٍ قُرُونًا كَثِيرَةً لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، سَرَدَ مِنْهُمْ هُنَا مَنْ له تعلق بعرفانه. وذُو الْأَوْتادِ: أَيْ صَاحِبُ الْأَوْتَادِ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَبَاتِ الْبَيْتِ الْمُطْنَبِ بِأَوْتَادِهِ. قَالَ الْأَفْوَهُ الْعَوْذِيُّ: وَالْبَيْتُ لَا يُبْتَنَى إِلَّا عَلَى عُمُدٍ ... وَلَا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادٌ فَاسْتُعِيرَ لِثَبَاتِ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ: فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ: كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ وَخَشَبٌ يَلْعَبُ بِهَا وَعَلَيْهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَقْتُلُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ، وَيُسَمِّرُهُمْ فِي الْأَرْضِ بِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ الْمَبَانِيَ الْعَظِيمَةَ الثَّابِتَةَ. وَقِيلَ: عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَخْبِيَتِهِ

[سورة ص (38) : الآيات 15 إلى 40]

وَعِظَمِ عَسَاكِرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ يَشُجُّ الْمُعَذَّبَ بَيْنَ أَرْبَعِ سَوَارِي، كُلُّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ إِلَى سَارِيَةٍ مَضْرُوبَةٍ فِيهَا وَتَدٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَيَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: كَانَ يَمُدُّهُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْهِ الْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ. وَقِيلَ: يَشُدُّهُمْ بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَخْرَةً فَتُلْقَى عَلَيْهِ فَتَشْدَخُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: الْأَوْتَادُ: الْجُنُودُ، يَشُدُّونَ مُلْكَهُ، كَمَا يُقَوِّي الْوَتَدُ الشَّيْءَ. وَقِيلَ: بَنَى مَنَارًا يَذْبَحُ عَلَيْهَا النَّاسَ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أُولئِكَ الْأَحْزابُ: أَيِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، كَمَا تَحَزَّبَ قُرَيْشٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِأُولَئِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُمُ قَوْمُ نُوحٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمْ وَإِعْلَاءٌ لَهُمْ عَلَى مَنْ تَحَزَّبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، أَيْ هَؤُلَاءِ الْعُظَمَاءُ لَمَّا كَذَّبُوا عُوقِبُوا، وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ. إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ: فَوَجَبَ عِقَابُهُمْ. كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ، آذَوْا نُوحًا فَأُغْرِقُوا وَقَوْمُ هُودٍ فَأُهْلِكُوا بِالرِّيحِ وَفِرْعَوْنُ فَأُغْرِقَ وَثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ وَقَوْمَ لُوطِ بِالْخَسْفِ وَالْأَيْكَةُ بِعَذَابِ الظُّلَّةِ. وَمَعْنَى إِنْ كُلٌّ: مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَحَقَّ عِقابِ: أَيْ وَجَبَ عِقَابُهُمْ، فَكَذَلِكَ يَحِقُّ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالرَّسُولِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولئِكَ الْأَحْزابُ، قَصَدَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْأَحْزَابَ الَّذِينَ جَعَلَ الْجُنْدَ الْمَهْزُومَ هُمْ هُمْ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ، وَلَقَدْ ذكرت تَكْذِيبَهُمْ أَوَّلًا فِي الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ، فَأَوْضَحَهُ فِيهَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْزَابِ كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَدْ كَذَّبُوا جَمِيعًا، وَفِي تَكْرِيرِ التَّكْذِيبِ وَإِيضَاحِهِ بَعْدَ إِبْهَامِهِ، وَالتَّنْوِيعِ فِي تَكْرِيرِهِ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ أَوَّلًا، وَبِالِاسْتِثْنَاءِ ثَانِيًا، وَمَا فِي الِاسْتِثْنَائِيَّةِ مِنَ الْوَضْعِ عَلَى وَجْهِ التَّوْكِيدِ وَالتَّخْصِيصِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمُسَجَّلَةِ عَلَيْهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَأَبْلَغِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَحَقَّ عِقابِ: أَيْ فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ أُعَاقِبَهُمْ حَقَّ عِقَابِهِمْ. انتهى. [سورة ص (38) : الآيات 15 الى 40] وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

الْفَوَاقُ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا: الزَّمَانُ الَّذِي مَا بَيْنَ حَلْبَتَيِ الْحَالِبِ وَرَضْعَتَيِ الرَّاضِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْعِبَادَةُ قَدْرُ فَوَاقِ النَّاقَةِ» . وَأَفَاقَتِ النَّاقَةُ إِفَاقَةً: اجْتَمَعَتِ الْفِيقَةُ فِي ضَرْعِهَا فَهِيَ مُفِيقٌ وَمُفِيقَةٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَالْفِيقَةُ: اللَّبَنُ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَيُجْمَعُ عَلَى

أَفْوَاقٍ، وَأَفَاوِيقُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَمُؤَرِّجٌ: الْفَوَاقُ، بِالْفَتْحِ: الْإِفَاقَةُ وَالِاسْتِرَاحَةُ. الْقِطُّ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّكِّ: الْقِطُّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: الْقِطُّ: الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ، وَقَالَ الْأَعْشَى: وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتَهُ ... بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ وَيُرْوَى بِإِمَّتِهِ: أَيْ بِنِعْمَتِهِ، وَيَأْفِقُ: يَصْلُحُ، وَهُوَ فِي الْكِتَابِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا. قَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَمَا ... يُجْبَى إِلَيْهِمْ بِهَا وَالْقِطُّ وَالْعِلْمُ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى قِطَطَةَ، وَفِي الْقَلِيلِ قِطٌّ وَأَقْطَاطٌ. تَسَوَّرَ الْحَائِطَ وَالسُّورَ وَتَسَنَّمَهُ وَالْبَعِيرَ: عَلَا أَعْلَاهُ. وَالسُّورُ: حَائِطُ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. الشَّطَطُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَتَخَطِّي الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَطَطْتُ عَلَى فُلَانٍ وَأَشْطَطْتُ: جُرْتُ فِي الْحُكْمِ. التِّسْعُ: رُتْبَةٌ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٌ، وكسر التاء أشهر من الْفَتْحِ. النَّعْجَةُ: الْأُنْثَى مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَمِنَ الضَّأْنِ، وَيُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: هُمَا نَعْجَتَانِ مِنْ نِعَاجِ تِبَالَةٍ ... لِذِي جُؤْذَرَيْنِ أَوْ كَبَعْضٍ لَدَى هَكِرِ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلَاثٌ هُنَّهْ ... رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ وَنَعْجَتِي خَمْسًا تُوَفِّيهُنَّهْ ... إِلَّا فَتًى سَجْحٌ يُغَذِّيهُنَّهْ عَزَّهُ: غَلَبَهُ، يَعِزُّهُ عَزًّا وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، أْى مَنْ غَلَبَ سَلَبَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ ... تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ الصَّافِنُ مِنَ الْخَيْلِ: الَّذِي يَرْفَعُ إِحْدَى يَدَيْهِ وَيَقِفُ عَلَى طَرَفِ سُنْبُكِهِ، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِرِجْلِهِ، وَهِيَ عَلَامَةُ الْفَرَاهَةِ، وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ: أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّافِنُ: الَّذِي يَجْمَعُ يَدَيْهِ وَيُسَوِّيهِمَا، وَأَمَّا الَّذِي يَقِفُ عَلَى طَرَفِ السُّنْبُكِ فَهُوَ الْمُتَخَيِّمُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصَّافِنُ: الْوَاقِفُ فِي الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ لَهُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، أَيْ يَدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ، حَكَاهُ قُطْرُبٌ. وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ: لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفَنَائِهَا ... عِتَاقُ الْمَهَارَى وَالْجِيَادِ الصَّوَافِنِ

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَى هَذَا رَأَيْتُ الْعَرَبَ وَأَشْعَارَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْقِيَامُ خَاصَّةً. جَادَ الْفَرَسُ: صَارَ رَابِضًا، يَجُودُ جُودَةٌ بِالضَّمِّ، فَهُوَ جَوَادٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ خَيْلٍ جِيَادٍ وَأَجْوَادٍ وَأَجَاوِيدَ. وَقِيلَ: الطُّوَالُ الْأَعْنَاقِ مِنَ الْجِيدِ، وَهُوَ الْعُنُقُ، إِذْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ فَرَاهَتِهَا. وَقِيلَ: الْجِيَادُ جَمْعُ جَوْدٍ، كَثَوْبٍ وَثِيَابٍ. الرَّخَاءُ: اللَّيِّنَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الرَّخَاوَةِ. وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ، وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ، اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ، وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. وَما يَنْظُرُ: أَيْ يَنْظُرُ، هؤُلاءِ: إِشَارَةٌ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ مُقَوِّيَةٌ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِأُولَئِكَ هِيَ لِلَّذِينِ يَلُونَهَا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ الْأَحْزَابِ لِاسْتِحْضَارِهِمْ بِالذِّكْرِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَالْحُضُورِ عِنْدَ اللَّهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ، وَهُوَ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى صَدَّقَهُ الْوُجُودُ. وَالصَّيْحَةُ: مَا نَالَهُمْ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَغَلَبَةٍ، كَمَا تَقُولُ صَاحَ فِيهِمُ الدَّهْرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَوَعَّدَهُمْ بِصَيْحَةِ الْقِيَامَةِ وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ. وَقِيلَ: بِصَيْحَةٍ يُمْلَكُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِيهِ الِانْتِظَارُ مِنَ الرَّسُولِ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِيهِمْ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ هُمْ بِمَدْرَجِ عُقُوبَةٍ، وَتَحْتَ أَمْرٍ خَطَرٍ مَا يَنْتَظِرُونَ فِيهِ إِلَّا الْهَلَكَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ فَواقٍ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالسُّلَمِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَطَلْحَةُ: بِضَمِّهَا، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، كَقَصَاصِ الشِّعْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَالسُّدِّيُّ: بِالْفَتْحِ، إِفَاقَةٌ مِنْ أَفَاقَ وَاسْتَرَاحَ، كَجَوَابٍ مِنْ أَجَابَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ فَواقٍ: مِنْ تَرْدَادٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ رُجُوعٍ. عَجِّلْ لَنا قِطَّنا: نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ لِنَتَنَعَّمَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وقال أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ: نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْكَلْبِيُّ: صُحُفَنَا

بِإِيمَانِنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى: أَرِنَا مَنَازِلَنَا مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى نُتَابِعَكَ، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ، فَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَمَعْنَى قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ: أَيِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْعَالَمِ، إِذْ هُمْ كَفَرَةٌ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ. وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ تَقْتَضِي الِاسْتِخْفَافَ، أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَذَكَرَ قَصَصًا لِلْأَنْبِيَاءِ: دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ، وَمَا عَرَضَ لَهُمْ، فَصَبَرُوا حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَصَارَتْ عَاقِبَتُهُمْ أَحْسَنَ عَاقِبَةٍ. فَكَذَلِكَ أَنْتَ تَصْبِرُ، وَيَؤُولُ أَمْرُكَ إِلَى أَحْسَنِ مَآلٍ، وَتَبْلُغُ مَا تُرِيدُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِكَ وَإِمَاتَةِ الضَّلَالِ. وَقِيلَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ، وَعَظِّمْ أَمْرَ مُخَالَفَتِهِمْ لِلَّهِ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَذَكِّرْهُمْ بِقِصَّةِ دَاوُدَ وَمَا عَرَضَ لَهُ، وَهُوَ قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ، فَمَا الظَّنُّ بِكُمْ مَعَ كُفْرِكُمْ وَعِصْيَانِكُمْ؟ انْتَهَى. وَهُوَ مُلْتَقَطٌ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَعَ تَغْيِيرِ بَعْضِ أَلْفَاظِهِ لَا تُنَاسِبُ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: أُمِرَ بِالصَّبْرِ، فَذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ لِيَكُونَ بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَقِيلَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ، وَحَافِظْ عَلَى مَا كُلِّفْتَ بِهِ مِنْ مُصَابِرَتِهِمْ، وَتَحَمُّلِ أَذَاهُمْ، وَاذْكُرْ دَاوُدَ وَكَرَامَتَهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَا عَرَضَ لَهُ، وَمَا لَقِيَ مَنْ عَتَبِ اللَّهِ. ذَا الْأَيْدِ: أَيْ ذَا الْقُوَّةِ فِي الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَالصَّدْعِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وكان مع ذَلِكَ قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ. وَالْآوَّابُ: الرَّجَّاعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُسَبِّحُ. وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ أَوَّابٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَا الْأَيْدِ مَعْنَاهُ: الْقُوَّةُ فِي الدِّينِ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَيْدٍ وَأَيِّدٍ وَذُو أَدٍّ وَأَيَادٍ: كَلٌّ بمعنى ما يتقوى. والْإِشْراقِ: وَقْتَ الْإِشْرَاقِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: شَرِقَتِ الشَّمْسُ، إِذَا طَلَعَتْ وَأَشْرَقَتْ: إِذَا أَضَاءَتْ وَصَفَتْ. وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، صَلَّى صَلَاةَ الضُّحَى وَقَالَ: «يَا أُمَّ هانىء، هَذِهِ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ، وَفِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ كَانَتْ صَلَاةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَتَقَدَّمَ كُلُّ الْكَلَامِ فِي تَسْبِيحِ الْجِبَالِ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ دَلَالَةً عَلَى حُدُوثِ التَّسْبِيحِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ فَكَأَنَّ السَّامِعَ مُحَاضِرٌ تِلْكَ الْجِبَالَ سَمِعَهَا تُسَبِّحُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: لَعَمْرِي لَقَدْ لَاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ ... إِلَى ضَوْءِ نَارٍ فِي بِقَاعٍ تُحَرَّقُ أَيْ: تُحْرَقُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَلَوْ قَالَ مُحْرِقَةٌ، لَمْ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، بِنَصْبِهِمَا، عَطْفًا عَلَى الْجِبَالِ يُسَبِّحْنَ، عَطْفَ مَفْعُولٍ عَلَى مَفْعُولٍ، وَحَالٍ عَلَى حَالٍ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ هِنْدًا مجردة، ودعدا لا بسة. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ، بِرَفْعِهِمَا، مبتدأ وخبر، أو جاء مَحْشُورَةً بِاسْمِ الْمَفْعُولِ،

لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تَحْشِرُ شَيْئًا، إِذْ حَاشِرُهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحَشْرُهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَهُ عَلَى دَاوُدَ، أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَبَلِ وَالطَّيْرِ لِأَجْلِ دَاوُدَ، أَيْ لِأَجْلِ تَسْبِيحِهِ. سَبَّحَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّعُ تَسْبِيحَهُ، وَوُضِعَ الْأَوَّابُ مَوْضِعَ الْمُسَبِّحِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، أَيْ كُلٌّ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ أَوَّابٌ، أَيْ مُسَبِّحٌ مُرْجِعٌ لِلتَّسْبِيحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَشَدَدْنا، مُخَفَّفًا: أَيْ قَوَّيْنَا، كَقَوْلِهِ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «1» . وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّ الدَّالِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ شَامِلَةٌ لِمَا وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قُوَّةٍ وَجُنْدٍ وَنِعْمَةٍ، فَالتَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَظْهَرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْجُنُودِ. قِيلَ: كَانَ يَبِيتُ حَوْلَ مِحْرَابِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مُسْلِمٍ يَحْرُسُونَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ وَقِيلَ: بِهَيْبَةٍ قَذَفَهَا اللَّهُ لَهُ فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ. والْحِكْمَةَ هُنَا: النُّبُوَّةُ، أَوِ الزَّبُورُ، أَوِ الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، أَوْ كُلُّ كَلَامٍ، وَلَقْنُ الْحَقِّ أَقْوَالٌ. وَفَصْلَ الْخِطابِ، قَالَ عَلِيٌّ وَالشَّعْبِيُّ: إِيجَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَإِصَابَتُهُ وَفَهْمُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَلِمَةُ أَمَّا بَعْدُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا وَفَصَلَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِ، فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا بَعْدُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخِطَابِ: الْقَصْدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِصَارٌ مُخِلٌّ، وَلَا إِشْبَاعٌ مُمِلٌّ وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصْلٌ لَا نَذِرٌ وَلَا هَذِرٌ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ كَمَّلَ نَفْسَ نَبِيِّهِ دَاوُدَ بِالْحِكْمَةِ، أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ كَمَالِ خَلْقِهِ فِي النُّطْقِ وَالْعِبَادَةِ فَقَالَ: وَفَصْلَ الْخِطابِ. وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ: لَمَّا أَثْنَى تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا أَثْنَى، ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَذِهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ مِثْلَ قِصَّتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّعْظِيمِ لِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَضَمَّنَتِ اسْتِغْفَارَهُ رَبَّهُ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مَا يُشْعِرُ بِارْتِكَابِ أَمْرٍ يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ، وَمَا زَالَ الِاسْتِغْفَارُ شِعَارَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ. وَمَجِيءُ مِثْلِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَرَابَةِ مَا يَجِيءُ مَعَهُ مِنَ الْقَصَصِ، كَقَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «2» ، فَيَتَهَيَّأُ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَيُصْغِي لِذَلِكَ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى أَلْفَاظِ الْآيَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، فَالْخَبَرُ أصله

_ (1) سورة القصص: 28/ 35. (2) سورة طه: 20/ 9.

مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ تَصْلُحُ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ وَفُرُوعِهِمَا، وَهُنَا جَاءَ لِلْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِذْ تَسَوَّرُوا: إِذْ دَخَلُوا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَخَصْمٍ يُعِدُّونَ الدُّخُولَ كَأَنَّهُمْ ... قُرُومٌ غَيَارَى كَلُّ أَزْهَرَ مُصْعَبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَلِذَلِكَ أَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَحَاكِمَانِ اثْنَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ جَاءَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ عَلَى جِهَةِ الْمُعَاضَدَةِ أَوِ الْمُؤَانَسَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَلَائِكَةً، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ. وَقِيلَ: كَانَا أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَقِيلَ: الْخَصْمُ هُنَا اثْنَانِ، وَتَجَوَّزَ فِي الْعِبَارَةِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا إِخْبَارَ مَا زَادَ عَلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي التَّثْنِيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى خَصْمَانِ: فَرِيقَانِ، فَيَكُونُ تَسَوَّرُوا وَدَخَلُوا عَائِدًا عَلَى الْخَصْمِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ الْفَرِيقَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَصْمَانِ بِمَعْنَى فَرِيقَانِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: بَغَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «1» ، بِمَعْنَى: فَأَمَّا إِنَّ هَذَا أَخِي. وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَيْهِ مَلَكَانِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّحَاكُمَ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْحَبَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَأُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ خَصْمٌ، وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ خَصْمَانِ، لِأَنَّ مَنْ جَاءَ مَعَ مُتَخَاصِمٍ لِمُعَاضَدَةٍ فَهُوَ في سورة خَصْمٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَيْهِ التَّسْمِيَةُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ إِذْ أَتَاكَ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَرَدَ بِأَنَّ إِتْيَانَ النَّبَأِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي عَهْدِهِ، لَا فِي عَهْدِ دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِيهِ نَبَأٌ وَرُدَّ بِمَا رُدَّ بِهِ مَا قَبْلُهُ أَنَّ النَّبَأَ الْوَاقِعَ فِي عَهْدِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّبَأِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ نَاصِبًا. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَهَلْ أَتَاكَ تَخَاصُمُ الْخَصْمِ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْخَصْمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَإِذْ دَخَلُوا بَدَلٌ مِنْ إِذْ الْأُولَى وَقِيلَ: يَنْتَصِبُ بِتَسَوَّرُوا. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ إِنْسَانَيْنِ، فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَاهُ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ، فَمَنَعَهُمَا، فَتَسَوَّرَا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَّأَ زَمَانَهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ: يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ، وَيَوْمًا لِلِاشْتِغَالِ بِخَوَاصِّ أُمُورِهِ، وَيَوْمًا لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَعِظُهُمْ وَيُبْكِيهِمْ. فَجَاءُوهُ فِي غَيْرِ الْقَضَاءِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْقٍ، وَفِي يَوْمِ الِاحْتِجَابِ، وَالْحَرَسُ حَوْلَهُ لَا يَتْرُكُونَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنْ يُؤْذُوهُ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَزَعُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ

_ (1) سورة الحج: 22/ 19.

أهل ملكته قَدِ اسْتَهَانُوهُ حَتَّى تَرَكَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِئْذَانَ، فَيَكُونَ فَزَعُهُ عَلَى فَسَادِ السِّيرَةِ، لَا مِنَ الدَّاخِلِينَ. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: فَزِعَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا آخِذٌ بِرَأْسِ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: فَزِعَ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى مِنْ تَسَوُّرِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ جِدًّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَشْهُرٍ مَعَ أَعْوَانٍ وَكَثْرَةِ عَدَدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَالَا: لَمْ نَتَوَصَّلْ إِلَيْكَ إِلَّا بِالتَّسَوُّرِ لِمَنْعِ الْحِجَابِ، وَخِفْنَا تَفَاقُمَ الْأَمْرِ بَيْنَنَا، فَقَبِلَ دَاوُدُ عُذْرَهُمْ. وَلَمَّا أَدْرَكُوا مِنْهُ الْفَزَعَ قَالُوا: لَا تَخَفْ، أَيْ لَسْنَا مِمَّنْ جَاءَ إِلَّا لِأَجْلِ التَّحَاكُمِ. خَصْمانِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَوْصُولًا بِقَوْلِهِمَا: لَا تَخَفْ، بادرا بِإِخْبَارِ مَا جَاءَا إِلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَهُمْ: مَا أَمْرُكُمْ؟ فَقَالُوا: خَصْمَانِ، أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ. بَغى: أَيْ جَارَ، بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَكِنَّ الْفَتَى حَمْلَ بْنَ بَدْرٍ ... بَغَى وَالْبَغْيُ مَرْتَعُهُ وَخِيَمُ وَقَرَأَ أَبُو يَزِيدَ الْجَرَّادُ، عَنِ الْكِسَائِيِّ: خِصْمَانِ، بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفِي أَمْرِهِمْ لَهُ وَنَهْيِهِمْ بِبَعْضِ فَظَاظَةٍ عَلَى الْحُكَّامِ، حَمَلَ عَلَى ذَلِكَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ، وَاسْتَدْعَوْا عَدْلَهُ مِنْ غَيْرِ ارْتِيَابٍ فِي أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُشْطِطْ، مَفْكُوكًا مِنْ أَشَطَّ رُبَاعِيًّا وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: تَشْطِطْ، مِنْ شَطَّ ثُلَاثِيًّا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ أَيْضًا: تُشِطَّ، مُدْغَمًا مِنْ أَشَطَّ. وَقَرَأَ زِرٌّ: تُشَاطِطْ، بِضَمِّ التَّاءِ وَبِالْأَلِفِ عَلَى وَزْنِ تُفَاعِلْ، مَفْكُوكًا، وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: تَشْطِطْ مِنْ شَطَطَ، وسَواءِ الصِّراطِ: وَسَطَ طَرِيقِ الْحَقِّ، لَا مَيْلَ فِيهِ مِنْ هُنَا وَلَا هُنَا. إِنَّ هَذَا أَخِي: هُوَ قَوْلُ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا، وَأَخِي عَطْفُ بَيَانٍ عِنْدَ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَبَدَلٌ أَوْ خَبَرٌ لَإِنَّ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَالْأُخُوَّةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ، إِذْ هُمَا مَلَكَانِ، لَكِنَّهُمَا لَمَّا ظَهَرَا فِي صُورَةِ إِنْسَانَيْنِ تَكَلَّمَا بِالْأُخُوَّةِ، وَمَجَازُهَا أَنَّهَا إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الصُّحْبَةِ وَالْمُرَافَقَةِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَالْخُلْطَةِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخَوَاتِ تَقْتَضِي مَنْعَ الِاعْتِدَاءِ، وَيُنْدَبُ إِلَى الْعَدْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، بِكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَعْجَةً، بِفَتْحِ النُّونِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ: بِكَسْرِ النُّونِ، وَهِيَ لُغَةٌ لبعض بني تميم. قِيلَ: وَكَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنِ الزَّوْجَةِ. فَقالَ أَكْفِلْنِيها: أَيْ رُدَّهَا فِي كَفَالَتِي. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: اجْعَلْهَا كِفْلِي، أَيْ نَصِيبِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا وَعَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: ضُمَّهَا إِلَيَّ حَتَّى أَكْفُلَهَا. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قَالَ

الضَّحَّاكُ: إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي، وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ أَوْجَهَ مِنِّي وَأَقْوَى، فَإِذَا خَاطَبْتُهُ كَانَ كَلَامُهُ أَقْوَى مِنْ كَلَامِي، وَقُوَّتُهُ أَعْظَمَ مِنْ قُوَّتِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَاءَنِي مِحْجَاجٌ لَمْ أَقْدِرْ أَنْ أُورِدَ عَلَيْهِ مَا أَرُدُّهُ بِهِ. وَأَرَادَ بِالْخِطَابِ: مُخَاطَبَةَ الْمُحَاجِّ الْمُجَادِلِ، أَوْ أَرَادَ خَطِيبَ الْمَرْأَةِ، وَخَطَبَهَا هُوَ فَخَاطَبَنِي خِطَابًا: أَيْ غَالَبَنِي فِي الْخِطْبَةِ، فَغَلَبَنِي حَيْثُ زُوِّجَهَا دُونِي وَقِيلَ: غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ بِبِلَادِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ سَيْرِي بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمْتُهُ فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً، فَقَالَ لِي: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ للحاجة غضب لَهَا؟ فَقُلْتُ: أَمَّا إِذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَطَلْحَةُ: وَعَزَنِي، بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: حَذَفَ الزَّايَ الْوَاحِدَةَ تَخْفِيفًا، كَمَا قَالَ أَبُو زبيد: أحسن به فهز إِلَيْهِ شُوسُ وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَعَازَّنِي، بِأَلِفٍ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ: أَيْ وَغَالَبَنِي. وَالظَّاهِرُ إِبْقَاءُ لَفْظِ النَّعْجَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ كَوْنِهَا أُنْثَى الضَّأْنِ، وَلَا يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ كَانَ صَادِرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، عَلَى سَبِيلِ التَّصْوِيرِ لِلْمَسْأَلَةِ وَالْفَرْضِ لَهَا مَرَّةً غَيْرَ تَلَبُّسٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَمَثَّلُوا بِقِصَّةِ رَجُلٍ لَهُ نَعْجَةٌ، وَلِخَلِيطِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، فَأَرَادَ صَاحِبُهُ تَتِمَّةَ الْمِائَةِ، فَطَمِعَ فِي نَعْجَةِ خَلِيطِهِ، وَأَرَادَ انْتِزَاعَهَا مِنْهُ وَحَاجَّهُ فِي ذَلِكَ مُحَاجَّةَ حَرِيصٍ عَلَى بُلُوغِ مُرَادِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ وَالتَّمْثِيلُ أَبْلَغُ فِي الْمَقْصُودِ وَأَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ. قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ: لَيْسَ هَذَا ابْتِدَاءً مِنْ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِثْرَ فَرَاغِ لَفْظِ الْمُدَّعِي، وَلَا فُتْيَا بِظَاهِرِ كَلَامِهِ قَبْلَ ظُهُورِ مَا يَجِبُ، فَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ، أَيْ لَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُ، لَقَدْ ظَلَمَكَ. وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُحْكَ فِي الْقُرْآنِ اعْتِرَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا، إِذْ لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ إِلَّا بَعْدَ إِجَابَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ مِنْ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُدَّعِي مَخَايِلَ الضَّعْفِ وَالْهَضِيمَةِ، فَحَمَلَ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ مَظْلُومٌ، كَمَا تَقُولُ، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَاسْتَعْجَلَ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ ظَلَمَكَ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الشَّاكِي قَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ؟ فَأَقَرَّ فَقَالَ لَهُ: لَئِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْحَقِّ لَأَكْسِرَنَّ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ، وَقَالَ لِلثَّانِي: لَقَدْ

ظَلَمَكَ فَتَبَسَّمَا عِنْدَ ذَلِكَ وَذَهَبَا، وَلَمْ يَرَهُمَا لِحِينِهِ، وَرَأَى أَنَّهُمَا ذَهَبَا نَحْوَ السَّمَاءِ بِمَرْأًى مِنْهُ. وَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَضَمَّنَ السُّؤَالَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ، أَيْ بِإِضَافَةِ نَعْجَتِكِ عَلَى سَبِيلِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِإِلَى. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ: هَذَا مِنْ كَلَامِ دَاوُدَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَمَانَهُ كَانَ فِيهِ الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ كَثِيرًا. وَالْخُلَطَاءُ: الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ خَلَطُوا أَمْوَالَهُمْ، الْوَاحِدُ خَلِيطٌ. قَصَدَ دَاوُدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ، وَالتَّرْغِيبَ فِي إِيثَارِ عَادَةِ الْخُلَطَاءِ الصُّلَحَاءِ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْقِلَّةِ، وَأَنْ يُكَرِّهَ إِلَيْهِمُ الظُّلْمَ، وَأَنْ يُسَلِّيَ الْمَظْلُومَ عَنْ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ خَلِيطِهِ، وَأَنَّ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْخُلَطَاءِ أُسْوَةً. وقرىء: لَيَبْغِيَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَأَصْلُهُ: لَيَبْغِيَنْ، كَمَا قَالَ: أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا يُرِيدُ: اضْرِبَنْ، وَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ ذَلِكَ القسم، وجوابه خبر لأن. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، يَكُونُ ليبغي خبرا لأن. وقرىء: لَيَبْغِ، بِحَذْفِ الْيَاءِ كَقَوْلِهِ: مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ أَيْ: تَفِدِي عَلَى أحد القولين. وقَلِيلٌ: خبره مقدّم، وما زَائِدَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ، وَهُمْ مُبْتَدَأٌ. وَظَنَّ داوُدُ: لَمَّا كَانَ الظَّنُّ الْغَالِبُ يُقَارِبُ الْعِلْمَ، اسْتُعِيرَ لَهُ، وَمَعْنَاهُ: وَعَلِمَ دَاوُدُ وَأَيْقَنَ أَنَّا ابْتَلَيْنَاهُ بِمُحَاكَمَةِ الْخَصْمَيْنِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَجِيءَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ. وَقَالَ: لَسْنَا نَجِدُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ بَيْنَ مُعْتَقَدَيْنِ غَلَبَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَتُوقِعُهُ الْعَرَبُ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى الْحَوَاسِّ وَدَلَالَةِ الْيَقِينِ التَّامِّ، وَلَكِنْ يَخْلِطُ النَّاسُ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: ظَنَّ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، وَطَوَّلَ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَنَّاهُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو رجاء، والحسن: بخلاف عنه، شَدُّ التَّاءِ وَالنُّونِ مُبَالَغَةً وَالضَّحَّاكُ: أَفْتَنَّاهُ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهِيَ بِالْأَمْسِ أَفْتَنَتْ وَقَتَادَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ يُخَفِّفُ التَّاءَ وَالنُّونَ، وَالْأَلِفُ ضَمِيرُ الْخَصْمَيْنِ. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، رَاكِعًا: حَالٌ، وَالْخُرُورُ: الْهَوَى إِلَى الْأَرْضِ. فَإِمَّا أَنَّهُ عَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ، وَإِمَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَ أَحْوَالِ الْخُرُورِ، أَيْ رَاكِعًا لِيَسْجُدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ سَاجِدًا حَتَّى يَرْكَعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَخَرَّ مِنْ رُكُوعِهِ، أَيْ

سَجَدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاكِعًا. وَقَالَ قَوْمٌ: يُقَالُ خَرَّ لِمَنْ رَكَعَ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَالَّذِي يُذْهَبُ إِلَيْهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الْمُتَسَوِّرِينَ الْمِحْرَابَ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ، دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْمَدْخَلِ، وَفِي غَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّهُ فَزِعَ مِنْهُمْ ظانا أنهم يغتالونه، إذ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي مِحْرَابِهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ. فَلَمَّا اتَّضَحَ لَهُ أَنَّهُمْ جَاءُوا فِي حُكُومَةٍ، وَبَرَزَ مِنْهُمُ اثْنَانِ لِلتَّحَاكُمِ، كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنَّ دُخُولَهُمْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمِنْ تلك الجهة إنقاذ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَغْتَالُوهُ، فَلَمْ يَقَعْ مَا كَانَ ظَنُّهُ، فَاسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ، حَيْثُ أُخْلِفَ وَلَمْ يَكُنْ يَقَعُ مَظْنُونُهُ، وَخَرَّ سَاجِدًا، أَوْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَغَفَرَ لَهُ ذَلِكَ الظَّنَّ وَلِذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ سِوَى قَوْلِهِ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، وَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَايَا، لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ضَرُورَةَ أَنْ لَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَطَلَتِ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ نَثِقْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ يَمُرُّ عَلَى مَا أَرَادَهُ تَعَالَى، وَمَا حَكَى الْقَصَّاصُ مِمَّا فِيهِ غَضٌّ عَنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ طَرَحْنَاهُ، وَنَحْنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَنُؤْثِرُ حُكْمَ الْعَقْلِ فِي كُلِّ شُبْهَةٍ ... إِذَا آثَرَ الْأَخْبَارَ جُلَّاسُ قَصَّاصِ يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ، وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ، وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. جَعْلُهُ تَعَالَى دَاوُدَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى مَكَانَتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَهُ وَاصْطِفَائِهِ، وَيَدْفَعُ فِي صَدْرِ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ. وَاحْتَمَلَ لَفْظُ خَلِيفَةٍ أَنْ

يَكُونَ مَعْنَاهُ: تَخْلُفُ مَنْ تَقَدَّمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَنْ يُعْلِيَ قَدْرَكَ بِجَعْلِكَ مَلِكًا نَافِذَ الْحُكْمِ، وَمِنْهُ قِيلَ: خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. وَاسْتُدِلَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى احْتِيَاجِ الْأَرْضِ إِلَى خَلِيفَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ، بَلْ لُزُومُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَالْإِجْمَاعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُقَالُ خَلِيفَةُ اللَّهِ إِلَّا لِرَسُولٍ. وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَلِيفَةُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمَا يَجِيءُ فِي الشِّعْرِ مِنْ تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمْ خَلِيفَةَ اللَّهِ فَذَلِكَ تَجَوُّزٌ، كَمَا قَالَ قَيْسُ الرُّقَيَّاتِ: خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي بَرِّيَّتِهِ ... حَقَّتْ بِذَاكَ الْأَقْلَامُ وَالْكُتُبُ وَقَالَتِ الصَّحَابَةُ لِأَبِي بَكْرٍ: خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُدْعَى مُدَّتُهُ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالُوا: خَلِيفَةُ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَطَالَ الْأَمْرُ وَزَادَ أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَدَعَوْهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُصِرَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْخُلَفَاءِ. انْتَهَى. فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ: أَمْرٌ بِالدَّيْمُومَةِ، وَتَنْبِيهٌ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ وَلِيَ أُمُورَ النَّاسِ. فَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصُومٌ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، أُمِرَ أَوَّلًا بِالْحُكْمِ وَلَمَّا كَانَ الْهَوَى قَدْ يَعْرِضُ لِغَيْرِ الْمَعْصُومِ، أَمَرَ بِاجْتِنَابِهِ، وَذَكَرَ نَتِيجَةَ اتِّبَاعِهِ، وَهُوَ إِضْلَالُهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وفَيُضِلَّكَ: جَوَابٌ لِلنَّهْيِ، وَالْفَاعِلُ فِي فَيُضِلَّكَ ضَمِيرُ الْهَوى، أَوْ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ وَلا تَتَّبِعِ، أَيْ فَيُضِلَّكَ اتِّبَاعُ الْهَوَى. وَلَمَّا ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ الْإِضْلَالُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ذَكَرَ عِقَابَ الضَّالِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَضِلُّونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَضَلَّهُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى صَارُوا ضَالِّينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَأَبُو حَيْوَةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ لَا يضل إلا ضال فِي نَفْسِهِ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أوضح. وبِما نَسُوا: مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ، وَنَسُوا: تَرَكُوا، ويَوْمَ: يجوز أن يكون منصوب بِنَسُوا، أَوْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ، وَيَكُونَ النِّسْيَانُ عِبَارَةً عَنْ ضَلَالِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَانْتَصَبَ باطِلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُبْطِلِينَ، أَوْ ذَوِي بَاطِلٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. مَعْنًى بَاطِلًا: عَبَثًا. ذلِكَ: أَيْ كَوْنُ خَلْقِهَا بَاطِلًا، ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ مَظْنُونُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينِ بِأَنَّ خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنْكَرُوا الْمَعَادَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ظَانُّونَ أَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ، وَأَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَبَثٌ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ «1» . فَنَبَّهَ عَلَى المعاد

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 115.

وَالرُّجُوعِ إِلَى جَزَائِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ، عَامَلِ الصَّالِحَاتِ، وَالْمُفْسِدِ مِنَ التَّبَايُنِ، وَأَنَّهُمَا لَيْسَا سِيَّيْنِ، وَقَابَلَ الصَّلَاحَ بِالْفَسَادِ، وَالتَّقْوَى بِالْفُجُورِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَقِيلَ فِي قوم من مشركي قُرَيْشٍ قَالُوا: نَحْنُ لَنَا فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا لَنَا فِي الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مُعَيَّنِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلِيًّا وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بن الحارث، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعُتْبَةَ وشيبة والوليد بن عتبة وَوَصَفَ كُلًّا بِمَا نَاسَبَهُ. والاستفهام بأم فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي عِنْدَ اللَّهِ مَنْ أَصْلَحَ وَمَنْ أَفْسَدَ، وَلَا مَنِ اتَّقَى وَمَنْ فَجَرَ، وَكَيْفَ تَكُونُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى؟ إِذَنْ كَانَ يَبْطُلُ الْجَزَاءُ، وَالْجَزَاءُ لَا مَحَالَةَ وَاقِعٌ، وَالتَّسْوِيَةُ مُنْتَفِيَةٌ. وَلَمَّا انْتَفَتِ التَّسْوِيَةُ، بَيْنَ مَا تَصْلُحُ بِهِ لِمُتْبِعَةِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ، وَارْتِفَاعُهُ عَلَى إضمار متبدأ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُبارَكٌ، عَلَى الصِّفَةِ. وقرىء: مُبَارَكًا، عَلَى الْحَالِ اللَّازِمَةِ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الدَّالِ، وَأَصْلُهُ لِيَتَدَبَّرُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ بِهَذَا الْأَصْلِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَالْأَصْلُ: لِتَتَدَبَّرُوا بِتَاءَيْنِ، فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهَا، أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ أَمِ التَّاءُ الَّتِي تَلِيهَا؟ وَاللَّامُ فِي لِيَدَّبَّرُوا لَامُ كَيْ، وَأَسْنَدَ التَّدَبُّرَ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي الْآيَاتِ، وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ. وَأَسْنَدَ التَّذَكُّرَ إِلَى أُولِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ ذَا الْعَقْلِ فِيهِ مَا يَهْدِيهِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ عَقْلُهُ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَا يُذَكِّرُهُ فَيَتَذَكَّرَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ، أَيْ سُلَيْمَانُ. وقرىء: نَعِمْ عَلَى الْأَصْلِ، كَمَا قَالَ: نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْقَوْمِ الشُّطُرُ أَثْنَى تَعَالَى عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، أَوْ لِكَثْرَةِ تَسْبِيحِهِ. إِذْ عُرِضَ، النَّاصِبُ لِإِذْ، قِيلَ: أَوَّابٌ، وَقِيلَ: اذْكُرْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: عُرِضَتْ عَلَيْهِ آلَافٌ مِنَ الْخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ لَهُ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَاحِدٌ، فَأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عَشِيًّا، فَتَشَاغَلَ بِحُسْنِهَا وَجَرْيِهَا وَمَحَبَّتِهَا عَنْ ذِكْرٍ لَهُ، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ. فَطَفِقَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهَا وَعَرَاقِيبَهَا بِالسَّيْفِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ أَسْرَعَ مِنْهَا الرِّيحَ. وَقَالَ قَوْمٌ،

مِنْهُمُ الثَّعْلَبِيُّ: كَانَتْ بِالنَّاسِ مَجَاعَةٌ، وَلُحُومُ الْخَيْلِ لَهُمْ حَلَالٌ، فَعَقَرَهَا لِتُؤْكَلَ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ، وَنَحْرِ الْهَدْيِ عِنْدَنَا. انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَلْفَاظٌ فِيهَا غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ كَفَيْنَا عَنْهُ. وَالْخَيْرُ فِي قَوْلِهِ حُبَّ الْخَيْرِ: أَيْ هَذَا الْقَوْلُ يُرَادُ بِهِ الْخَيْلُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْخَيْلَ الْخَيْرَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ، وَانْتَصَبَ حُبَّ الْخَيْرِ، قِيلَ: عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِتَضَمُّنِ أَحْبَبْتُ مَعْنَى آثَرْتُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ التَّشْبِيهِيِّ، أَيْ أَحْبَبْتُ الْخَيْلَ كَحُبِّ الْخَيْرِ، أَيْ حُبًّا مِثْلَ حُبِّ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: عُدِّيَ بِعَنْ فَضَمِنَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِهَا، أَيْ أَنَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، أَوْ جَعَلْتُ حُبَّ الْخَيْرِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ أَنَّ أَحْبَبْتُ بِمَعْنَى: لَزِمْتُ، مِنْ قَوْلِهِ: مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَحْبَبْتُ: سَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَبَّ الْبَعِيرُ إِذَا أُعْيِيَ وَسَقَطَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَبَّ الْبَعِيرُ: بَرَكَ، وَفُلَانٌ: طَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: بَعِيرٌ مُحِبٌّ، وَقَدْ أَحَبَّ إِحْبَابًا، إِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ كَسْرٌ، فَلَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ لِلْبَعِيرِ الْحَسِيرِ مُحِبٌّ، فَالْمَعْنَى: قَعَدْتُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَحُبَّ الْخَيْرِ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَوارَتْ عَائِدٌ عَلَى الصَّافِناتُ، أَيْ دَخَلَتِ اصْطَبْلَاتِهَا، فَهِيَ الْحِجَابُ. وَقِيلَ: حتى تورات فِي الْمُسَابَقَةِ بِمَا يَحْجُبُهَا عَنِ النَّظَرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ الْعَشِيِّ عَلَيْهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عُرِضَ عَلَى سُلَيْمَانَ الْخَيْلُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِّي فِي صَلَاتِي، فَأَزَالُوهَا عَنْهُ حَتَّى دَخَلَتْ فِي الِاصْطَبْلَاتِ فَقَالَ هُوَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ ذِكْرِ رَبِّي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَشَغَلَنِي ذَلِكَ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَيْلِ حَتَّى أُدْخِلَتِ اصْطَبْلَاتِهَا، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ يَمْسَحُ أَعْرَافَهَا وَسُوقَهَا مَحَبَّةً لَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ: مَسْحُهُ بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ لَمْ يَكُنْ بِالسَّيْفِ بَلْ بِيَدَيْهِ تَكْرِيمًا لَهَا وَمَحَبَّةً، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ غَسْلًا بِالْمَاءِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّ هَذَا الْمَسْحَ كَانَ فِي السُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ بِوَسْمِ حَبْسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ، لَا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِلْجُمْهُورِ، فَإِنَّ فِي قِصَّتِهِ مَا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بالنسبة للأنبياء. وحَتَّى تَوارَتْ: غَايَةٌ، فَالْفِعْلُ يَكُونُ قَبْلَهَا مُتَطَاوِلًا حَتَّى تَصِحَّ الْغَايَةُ، فَأَحْبَبْتُ: مَعْنَاهُ أَرْدْتُ الْمَحَبَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ؟ قُلْتُ:

بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَالَ رُدُّوهَا عَلَيَّ، فَأَضْمَرُوا ضَمِيرَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَمَاذَا قَالَ سُلَيْمَانُ؟ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ مُقْتَضٍ لِلسُّؤَالِ اقْتِضَاءً ظَاهِرًا. ثُمَّ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَفْظًا فِيهِ غَضٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ فَتَرَكْتُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْإِضْمَارِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِذْ الْجُمْلَةُ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ حِكَايَةِ الْقَوْلِ وَهُوَ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَجُمْلَةُ رُدُّوها عَلَيَّ مَحْكِيَّتَانِ بِقَالَ، وَطَفِقَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لِلشُّرُوعِ فِي الفعل، وحذف غيرها لِدَلَالَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ، أَيْ فَطَفِقَ يَمْسَحُ مَسْحًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَسْحاً: وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مِسَاحًا، عَلَى وَزْنِ قِتَالٍ، وَالْبَاءُ فِي بِالسُّوقِ زَائِدَةٌ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ «1» . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ وَرَأْسَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالسُّوقِ، بِغَيْرِ هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ فُعْلٍ، وَهُوَ جَمْعُ سَاقٍ، عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، كَأُسْدٍ وَأَسَدٍ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْهَمْزِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، لَكِنْ وَجْهُهَا فِي الْقِيَاسِ أَنَّ الضَّمَّةَ لَمَّا كَانَتْ تَلِي الْوَاوَ وَقُدِّرَ أَنَّهَا عَلَيْهَا فَهُمِزَتْ، كَمَا يَفْعَلُونَ بِالْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ. وَوَجْهُ هَمْزِ السُّوقِ مِنَ السَّمَاعِ أَنَّ أَبَا حَبَّةَ النُّمَيْرِيَّ كَانَ يَهْمِزُ كُلَّ وَاوٌ سَاكِنَةٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، وَكَانَ يَنْشُدُ: حُبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَى مُؤْسَى انْتَهَى. وَلَيْسَتْ ضَعِيفَةً، لِأَنَّ السَّاقَ فِيهِ الْهَمْزَةُ، وَوَزْنُ فَعْلٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا الْوَاوُ، رَوَاهُمَا بَكَّارٌ عَنْ قُنْبُلٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالسَّاقِ مُفْرَدًا، اكْتَفَى بِهِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَمْنِ اللَّبْسِ. وَمِنْ غَرِيبِ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رُدُّوهَا عَائِدٌ عَلَى الشَّمْسِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَذِهِ الْخَيْلِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَكَاذِبَةٍ، سَوَّدُوا الْوَرَقَ بِذِكْرِهَا. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً: نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَإِلْقَاءِ الْجَسَدِ أَقْوَالًا يَجِبُ بَرَاءَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا، يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِمْ، وَهِيَ مِمَّا لا يحل نقلها، وأما هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ الْيَهُودِ وَالزَّنَادِقَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ الْفِتْنَةَ مَا هِيَ، وَلَا الْجَسَدَ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ كَوْنُهُ لَمْ يَسْتَثْنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمِلْ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَجَاءَتْهُ بِشِقِّ رَجُلٍ» . قال

_ (1) سورة النساء: 4/ 43، وسورة المائدة: 5/ 6. [.....]

رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» . فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هُوَ هَذَا، وَالْجَسَدُ الْمُلْقَى هُوَ الْمَوْلُودُ شِقُّ رَجُلٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَرِضَ سُلَيْمَانُ مَرَضًا كَالْإِغْمَاءِ حَتَّى صَارَ عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا كَأَنَّهُ بِلَا رُوحٍ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُ كَفَّارُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ وَقِصَّةَ سُلَيْمَانَ وَقِصَّةَ أَيُّوبَ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ، وَذَكَرَ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الزُّلْفَى وَالْمَكَانَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَذْكُرَ مَنْ يَتَأَسَّى بِهِ مِمَّنْ نَسَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَيْهِ مَا يَعْظُمُ أَنْ يُتَفَوَّهَ بِهِ وَيَسْتَحِيلَ عَقْلًا وُجُودُ بَعْضِ مَا ذَكَرُوهُ، كَتَمَثُّلِ الشَّيْطَانِ بِصُورَةِ نَبِيٍّ، حَتَّى يَلْتَبِسَ أَمْرُهُ عند الناس، ويعتقدون أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَصَوِّرَ هُوَ النَّبِيُّ، وَلَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ هَذَا، لَمْ يُوثَقْ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ، وَإِنَّمَا هَذِهِ مَقَالَةٌ مُسْتَرَقَةٌ مِنْ زَنَادِقَةِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ سَلَامَةَ أَذْهَانِنَا وَعُقُولِنَا مِنْهَا. ثُمَّ أَنابَ: أَيْ بَعْدِ امْتِحَانِنَا إِيَّاهُ، أَدَامَ الْإِنَابَةَ وَالرُّجُوعَ. قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي: هَذَا أَدَبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وَإِظْهَارًا لِلذِّلَّةِ وَالْخُشُوعِ وَطَلَبًا لِلتَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، وَالِاسْتِغْفَارُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ مَا يَطْلُبُ الْمُسْتَغْفِرُ بِطَلَبِ الْأَهَمِّ فِي دِينِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرُ دُنْيَاهُ، كَقَوْلِ نُوحٍ فِي مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «1» الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ طَلَبَ الْمُلْكِ كَانَ بَعْدَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ أَقَامَ فِي مُلْكِهِ عِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ هَذَا الِابْتِلَاءِ، وَأَقَامَ بَعْدَهَا عِشْرِينَ سَنَةً، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ فِي مُلْكٍ قَبْلَ الْمِحْنَةِ، ثُمَّ سَأَلَ بَعْدَهَا مُلْكًا مُقَيَّدًا بِالْوَصْفِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقَيْدِ، فَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَتَادَةُ: إِلَى مُدَّةِ حَيَاتِي، لَا أَسْلُبُهُ ويصير إلى غيري. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ قَصْدًا جَائِزًا، لِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْغَبَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيمَا لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ، لَا سِيَّمَا بِحَسَبِ الْمَكَانَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي، إِنَّمَا هِيَ لَفْظَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لَيْسَتْ تَقْطَعُ فِي أَنَّهُ لَا يُعْطِي اللَّهُ نَحْوَ ذَلِكَ الْمُلْكِ لِأَحَدٍ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاشِئًا فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ وَوَارِثًا لَهُمَا فَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ مُعْجِزَةً، فَطَلَبَ عَلَى حَسَبِ إِلْفِهِ مُلْكًا زائدا على الممالك

_ (1) سورة نوح: 71/ 10- 11.

زِيَادَةً خَارِقَةً لِلْعَادَةِ بَالِغَةً حَدَّ الْإِعْجَازِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، قَاهِرًا لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ، وَلَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً حَتَّى تَخْرِقَ الْعَادَاتِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. وَقِيلَ: كَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، فَخَافَ أَنْ يُعْطَى مِثْلَهُ أَحَدٌ، فَلَا يُحَافِظُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ فِيهِ، كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ «1» . وَقِيلَ: مُلْكًا لَا أُسْلَبُهُ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرِي مَقَامِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ فِيمَا اخْتَصَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ مَصَالِحَ فِي الدِّينِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ بِأَحْبَابِهِ غَيْرُهُ، وَأَوْجَبَتِ الْحِكْمَةُ اسْتِيهَابَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوْهِبَهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ أَنْ لَا يَضْبُطَهُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ عِبَادِهِ. أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مُلْكًا عَظِيمًا، فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَسَعَتِهِ، كَمَا تَقُولُ لِفُلَانٍ: مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ لِلنَّاسِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّكَ تُرِيدُ تَعْظِيمَ مَا عِنْدَهُ. انْتَهَى. وَلَمَّا بَالَغَ فِي صِفَةِ هَذَا الْمُلْكِ الَّذِي طَلَبَهُ، أَتَى فِي صِفَتِهِ تَعَالَى بِاللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَقَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ: أَيِ الْكَثِيرُ الْهِبَاتِ، لَا يَتَعَاظَمُ عِنْدَهُ هِبَةٌ. وَلَمَّا طَلَبَ الْهِبَةَ الَّتِي اخْتَصَّ بِطَلَبِهَا، وَهَبَهُ وَأَعْطَاهُ مَا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِفْرَادِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: الرِّيَاحُ بِالْجَمْعِ، وَهُوَ أَعَمُّ لِعَظَمِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْرَدُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ. تَجْرِي: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، أَيْ جَارِيَةً، وَأَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِقَوْلِهِ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ. بِأَمْرِهِ أَيْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ جَرْيَهَا. رُخاءً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: مُطِيعَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَيِّبَةً. حَيْثُ أَصابَ: أَيْ حَيْثُ قَصَدَ وَأَرَادَ، حَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْعَرَبِ. أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ: أَيْ قَصَدَ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ: أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فقال: هَذِهِ طَلِبَتُنَا. وَيُقَالُ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، وَأَنْشَدَ الثَّعْلَبِيُّ: أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ... فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِلِ وَقَالَ وَهْبٌ: حَيْثُ أَصَابَ، أَيْ أَرَادَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَابَ دَخَلَتْ فِيهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ مِنْ صَابَ، أَيْ حَيْثُ وَجَّهَ جُنُودَهُ وَجَعَلَهُمْ يَصُوبُونَ صَوْبَ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ، وَقِيلَ:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30.

أَصَابَ: أَرَادَ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِلُغَةِ هَجَرَ. وَالشَّياطِينَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الرِّيحِ وكُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ: بَدَلٌ، وَأَتَى ببنية الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالَ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ «1» الْآيَةَ، وَقَالَ النَّابِغَةُ: أَلَا سُلَيْمَانُ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ ... قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ وَجَيْشُ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْعَامِّ عَامٌّ، فَالتَّقْدِيرُ: وَكُلَّ غَوَّاصٍ، أَيْ فِي الْبَحْرِ يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الْحِلْيَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ الدُّرَّ: وَآخَرِينَ: عُطِفَ عَلَى كُلَّ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْبَدَلِ، إِذْ هُوَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ بَدَلُ التَّفْصِيلِ، أَيْ مِنَ الْجِنِّ، وَهُمُ الْمَرَدَةُ، سَخَّرَهُمْ لَهُ حَتَّى قَرَّنَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ لِكُفْرِهِمْ. وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي ذَلِكَ: فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ ... كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرُّشْدِ وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً ... تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ فِي آخِرِ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَوْصَافٍ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. هَذَا عَطاؤُنا: إِشَارَةٌ لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُلْكِ الضَّخْمِ وَتَسْخِيرِ الرِّيحِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُمْسِكُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ. وَقَّفَهُ عَلَى قَدْرِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ أَبَاحَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا فَعَلَهُ الجن، أي فامنن عَلَى مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَأَطْلِقْهُ مِنْ وَثَاقِهِ، وَسَرِّحْهُ مِنْ خِدْمَتِهِ، وَامْسِكْ أَمْرَهُ كَمَا تُرِيدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَهَبَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَأَقْدَرَهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِمَاعِهِنَّ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ هُنَا ذِكْرُ النِّسَاءِ، وَلَا مَا أُوتِيَ مِنَ الْقُدْرَةِ على ذلك، وبِغَيْرِ حِسابٍ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ عَطاؤُنا، أَيْ هَذَا عَطَاؤُنَا جَمًّا كَثِيرًا لَا تَكَادُ تَقْدِرُ عَلَى حَصْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حِسابٍ مِنْ تَمَامِ فَامْنُنْ. أَوْ أَمْسِكْ: أَيْ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ فِي إِعْطَاءِ مَنْ شِئْتَ أَوْ حِرْمَانِهِ، وَفِي إِطْلَاقِ مَنْ شِئْتَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ إِيثَاقِهِ. وَخَتَمَ تَعَالَى قِصَّتَهُ بِمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ وَالِدِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحُسْنَ مَآبٍ، بالنصب عطفا على الزلفى. وقرأ الحسن،

_ (1) سورة سبأ: 34/ 13.

[سورة ص (38) : الآيات 41 إلى 88]

وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ، وَيَقِفَانِ عَلَى لَزُلْفى، وَيَبْتَدِآنِ وَحُسْنَ مَآبٍ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَحُسْنُ مآب له. [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 88] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

الضِّغْثُ: حُزْمَةٌ صَغِيرَةٌ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ قُضْبَانٍ، وَقِيلَ: الْقَبْضَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْقُضْبَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضغث على إبلة، وَالْإِبَّالَةُ: الْحُزْمَةُ مِنَ الْحَطَبِ، وَالضِّغْثُ: الْقَبْضَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَطَبِ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَسْفَلَ مِنِّي نَهْدَةً قَدْ رَبَطْتُهَا ... وَأَلْقَيْتُ ضِغْثًا مِنْ خَلًى مُتَطَيِّبِ الْحِنْثُ: فِعْلُ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَتَرْكُ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، الْغَسَّاقُ: مَا سَالَ، يُقَالُ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ وَالْجُرْحُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّهُ الْبَارِدُ الْمُنْتِنُ، بِلُغَةِ التُّرْكِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْغَاسِقُ: الْبَارِدُ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْلٌ غَاسِقٌ، لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ. الِاقْتِحَامُ: رُكُوبُ الشِّدَّةِ وَالدُّخُولُ فِيهَا، وَالْقَحْمَةُ: الشِّدَّةُ. وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ، وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ، وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ. لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ، وَذَكَرَ ابْتِلَاءَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا، ذَكَرَ مَنْ كَانَ أَشَدَّ ابْتِلَاءٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّبْرِ، بِحَيْثُ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَأَيُّوبُ: عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ

بَدَلٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَعِيسَى: بِكَسْرِهَا، وَجَاءَ بِضَمِيرِ التَّكَلُّمِ حِكَايَةً لِكَلَامِهِ الَّذِي نَادَاهُ بِسَبَبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَحْكِ لَقَالَ: إِنَّهُ مَسَّهُ، لِأَنَّهُ غَائِبٌ، وَأَسْنَدَ الْمَسَّ إِلَى الشَّيْطَانِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَتْ وَسْوَسَتُهُ إِلَيْهِ وَطَاعَتُهُ لَهُ فِيمَا وَسْوَسَ سَبَبًا فِيمَا مَسَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ، نَسَبَهُ إِلَيْهِ وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهِ، مَعَ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَانَ يُوَسْوِسُ بِهِ إِلَيْهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ تَعْظِيمِ مَا نَزَلَ بِهِ الْبَلَاءِ، فَالْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ، أَوْ بِالتَّوْفِيقِ فِي دَفْعِهِ وَرَدِّهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ. وَذَكَرَ فِي سَبَبِ بَلَائِهِ أَنَّ رَجُلًا اسْتَغَاثَهُ عَلَى ظَالِمٍ، فَلَمْ يُغِثْهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ مَوَاشِيهِ فِي نَاحِيَةِ مَلِكٍ كَافِرٍ، فَدَاهَنَهُ وَلَمْ يَفْدِهِ. وَقِيلَ: أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ. انْتَهَى. وَلَا يُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَتْ مِنْهُ طَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِمَا مَسَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ، وَلَا أَنَّ رَجُلًا اسْتَغَاثَهُ عَلَى ظَالِمٍ فَلَمْ يُغِثْهُ، وَلَا أَنَّهُ دَاهَنَ كَافِرًا، وَلَا أَنَّهُ أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَوْا أَنَّ الشَّيْطَانَ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى أَذْهَبَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَشَرِ إِلَّا بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ الْفَاسِدَةِ لِغَيْرِ الْمَعْصُومِ. وَالَّذِي نَقُولُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَسَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ. وَرَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ أَيُّوبَ بَقِيَ فِي مِحْنَتِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً يَتَسَاقَطُ لَحْمُهُ حَتَّى مَلَّهُ الْعَالَمُ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ إِلَّا امْرَأَتُهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا تَوَالِيَ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِعِلَّتِهِ. وَأَمَّا إِسْنَادُهُ الْمَسَّ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُهُ ثَلَاثٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارْتَدَّ أَحَدُهُمْ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْتَلِي الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ، فَحِينَئِذٍ قَالَ: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ، نَزَّلَ لِشَفَقَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. مَسَّ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ حَتَّى ارْتَدَّ مَنْزِلَةَ مَسِّهِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْخَيِّرَ يَتَأَلَّمُ بِرُجُوعِ الْمُؤْمِنِ الْخَيِّرِ إِلَى الْكُفْرِ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، حَتَّى يَغْتَسِلَ وَيَذْهَبَ عَنْهُ الْبَلَاءُ، فَلَا يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ طُولِ بَلَائِهِ، وَتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْتَلِي الْأَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: أَشَارَ بِقَوْلِهِ: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ إِلَى تَعْرِيضِهِ لِامْرَأَتِهِ، وَطَلَبِهِ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ، وَكَأَنَّهُ بِتَشَكِّي هَذَا الْأَمْرِ كَانَ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ مَرَضِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنُصْبٍ، بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، قِيلَ: جَمْعُ نَصْبٍ، كَوُثْنٍ وَوَثْنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو عُمَارَةَ عَنْ حَفْصٍ، وَالْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو مُعَاذٍ عَنْ نَافِعٍ: بِضَمَّتَيْنِ،

وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَيَعْقُوبُ، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحَتَيْنِ وَأَبُو حَيْوَةَ، وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ: بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النُّصْبُ وَالنَّصْبُ، كَالرُّشْدِ وَالرَّشْدِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَصْلِ الْمَصْدَرِ، وَالنُّصْبُ تَثْقِيلُ نَصَبٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ. وَالْعَذَابُ: الْأَلَمُ، يُرِيدُ مَرَضَهُ وَمَا كَانَ يُقَاسِي فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصَبِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَذَلِكَ كُلٌّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَعْنَاهُ الْمَشَقَّةُ، وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ النُّصْبُ فِي مَشَقَّةِ الْإِعْيَاءِ. وَفَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لُغَاتٌ بِمَعْنًى مِنْ قولهم: أنصبني الأمر، إذ شَقَّ عَلَيَّ انْتَهَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِنُصْبٍ فِي الْجَسَدِ وَعَذَابٍ فِي الْمَالِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَقُلْنَا: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، فَرَكَضَ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فِيهِ شِفَاؤُكَ، فَاغْتَسَلَ فَبَرِأَ، وَوَهَبْنا لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الرَّكْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ: كَانَ ذَلِكَ بِأَرْضِ الْجَابِيَةِ مِنَ الشَّأْمِ. وَمَعْنَى هَذَا مُغْتَسَلٌ: أَيْ مَا يُغْتَسَلُ بِهِ، وَشَرابٌ، أَيْ مَا تَشْرَبُهُ، فَبِاغْتِسَالِكَ يَبْرَأُ ظاهرك، وبشر بك يَبْرَأُ بَاطِنُكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ كَانَ وَاحِدًا، وَالْعَيْنُ الَّتِي نَبَعَتْ لَهُ عَيْنَانِ، شَرِبَ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَاغْتَسَلَ مِنَ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ حَارَّةٌ فَاغْتَسَلَ. وَبِالْيُسْرَى، فَنَبَعَتْ بَارِدَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: مُغْتَسَلٌ بارِدٌ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَاءٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: أُمِرَ بِالرَّكْضِ بِالرِّجْلِ، لِيَتَنَاثَرَ عَنْهُ كُلُّ دَاءٍ بِجَسَدِهِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الْمُغْتَسَلُ: الْمَاءُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، ثُمَّ مَشَى نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، ثُمَّ رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَشَرِبَ مِنْهَا. قِيلَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ رَكَضَ رَكْضَتَيْنِ، فَنَبَعَتْ لَهُ عَيْنَانِ، شَرِبَ مِنْ إِحْدَاهُمَا، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْأُخْرَى. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَا لَهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ، وَعَافَى الْمَرْضَى، وَجَمَعَ عَلَيْهِ مَنْ شُتِّتَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: رَزَقَهُ أَوْلَادًا وَذُرِّيَّةً قَدْرَ ذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ هَلَكُوا، وَلَمْ يَرُدَّ أَهْلَهُ الَّذِينَ هَلَكُوا بِأَعْيَانِهِمْ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْهَيْئَةِ أَنَّهَا فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ ذَلِكَ وَعْدٌ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْهَيْئَةُ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: وَهَبَهُ مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْهُمْ، وَعَافَاهُ مِنَ الْأَسْقَامِ، وَأَرْغَدَ لَهُمُ الْعَيْشَ، فَتَنَاسَلُوا حَتَّى تَضَاعَفَ عددهم وصار مثلهم.

ورَحْمَةً، وَذِكْرى: مَفْعُولَانِ لَهُمَا، أَيْ أَنَّ الْهِبَةَ كَانَتْ لِرَحْمَتِنَا إِيَّاهُ، وَلِيَتَذَكَّرَ أَرْبَابُ الْعُقُولِ، وَمَا يَحْصُلُ لِلصَّابِرِينَ مِنَ الخير، وما يؤول إِلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَكَانَ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ لِسَبَبٍ جَرَى مِنْهَا، وَكَانَتْ مُحْسِنَةً لَهُ، فَجَعَلْنَا لَهُ خَلَاصًا مِنْ يَمِينِهِ بِقَوْلِنَا: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضِّغْثُ: عِثْكَالُ النَّخْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَثْلُ، وَهُوَ نَبْتٌ لَهُ شَوْكٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: حُزْمَةٌ مِنَ الْحَشِيشِ مُخْتَلِفَةٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الشَّجَرُ الرَّطْبُ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي أَوْجَبَ حَلِفَهُ. وَمَحْصُولُ أَقْوَالِهِمْ هُوَ تَمَثُّلُ الشَّيْطَانِ لَهَا فِي صُورَةِ نَاصِحٍ أَوْ مُدَاوٍ. وَعَرَضَ لَهَا شِفَاءَ أَيُّوبَ عَلَى يَدَيْهِ عَلَى شَرْطٍ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي عَرَضَ لَهَا هُوَ الشَّيْطَانُ، وَغَضِبَ لِعَرْضِهَا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ. فَحَلَّلَ اللَّهُ يَمِينَهُ بِأَهْوَنِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، لِحُسْنِ خِدْمَتِهَا إِيَّاهُ وَرِضَاهُ عَنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِي الْإِسْلَامِ. أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخْدَجٍ قَدْ خَبُثَ بِأَمَةٍ فَقَالَ: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً» . وَقَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَيْمَانِ، قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يُصِيبَ الْمَضْرُوبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمِائَةِ، إِمَّا أَطْرَافُهَا قَائِمَةٌ، وَإِمَّا أَعْرَاضُهَا مَبْسُوطَةٌ، مَعَ وُجُودِ صُورَةِ الضَّرْبَةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَرْكِ الْقَوْلِ فِي الْحُدُودِ، وَأَنَّ الْبِرَّ فِي الْأَيْمَانِ لَا يَقَعُ إِلَّا بِإِتْمَامِ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ. وَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ. وَقَدْ قَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ «1» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا تُنَافِي الْوَصْفَ بِالصَّبْرِ. وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ عَلَى أَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الشِّفَاءَ خِيفَةً عَلَى قَوْمِهِ أَنْ يُوَسْوِسَ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يُبْتَلَ، وَتَأَلُّفًا لِقَوْمِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَبَلَغَ أَمْرُهُ فِي الْبَلَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ: إِلَهِي قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ لِسَانِي قَلْبِي، وَلَمْ يَتْبَعْ قَلْبِي بَصَرِي، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مَا مَلَكَتْ يَمِينِي، وَلَمْ آكُلْ إِلَّا وَمَعِي يَتِيمٌ، وَلَمْ أَبِتْ شَبْعَانًا وَلَا كَاسِيًا وَمَعِي جَائِعٌ أَوْ عُرْيَانٌ، فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ مَكَّةَ، عبدنا على الإفراد، وإبراهيم بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَمْعِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُولِي الْأَيْدِي، بِالْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِحْسَانُهُمْ فِي الدِّينِ وَتَقَدُّمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى عَمَلِ صِدْقٍ، فَهِيَ كالأيدي،

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 83.

وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقِيلَ: النِّعَمُ الَّتِي أَسْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمَكَانَةِ. وَقِيلَ الْأَيْدِي: الْجَوَارِحُ الْمُتَصَرِّفَةُ فِي الْخَيْرِ، وَالْأَبْصارِ الثَّاقِبَةُ فِيهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ تُبَاشَرُ بِالْأَيْدِي غَلَبَتْ، فَقِيلَ فِي كُلِّ عَمَلٍ: هَذَا مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَمَلًا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ بِالْأَيْدِي، أَوْ كَانَ الْعُمَّالُ جَذْمًا لَا أَيْدِيَ لَهُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، يُرِيدُ: أُولِي الْأَعْمَالِ وَالْفِكْرِ كَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ، وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي اللَّهِ وَلَا يُفَكِّرُونَ أَفْكَارَ ذَوِي الدِّيَانَاتِ، وَلَا يَسْتَبْصِرُونَ فِي حُكْمِ الزَّمْنَى الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ، وَالْمَسْلُوبِي الْعُقُولِ الَّذِينَ لَا اسْتِبْصَارَ بِهِمْ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكُلِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُمَّالِ اللَّهِ، وَلَا مِنَ الْمُسْتَبْصِرِينَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِهِمُ الْمُجَاهَدَةَ وَالتَّأَمُّلَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْهَا. انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْيَدُ آلَةٌ لِأَكْثَرِ الْأَعْمَالِ، وَالْبَصَرُ آلَةٌ لِأَقْوَى الْإِدْرَاكَاتِ، فَحَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ، وَعَنِ الْإِدْرَاكِ بِالْبَصَرِ. وَالنَّفْسُ النَّاطِقَةُ لَهَا قُوَّتَانِ: عَامِلَةٌ وَعَالِمَةٌ، فَأُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِشَارَةٌ إِلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَالْأَعْمَشُ: الْأَيْدِ بِغَيْرِ يَاءٍ، فَقِيلَ: يُرَادُ الْأَيْدِي حَذَفَ الْيَاءِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ أَلْ تُعَاقِبُ التَّنْوِينَ، حُذِفَتِ الْيَاءُ مَعَهَا، كَمَا حُذِفَتْ مَعَ التَّنْوِينِ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ لَا يُسَوَّغُ، لِأَنَّ حَذْفَ هَذِهِ الْيَاءِ مَعَ وُجُودِ أَلْ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الضَّرَائِرِ. وَقِيلَ: الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْأَبْصَارِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْبَصَائِرِ الَّتِي يُبْصِرُونَ بِهَا الْحَقَائِقَ وَيَنْظُرُونَ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَفْسِيرُ الْأَيْدِي مِنَ التَّأْيِيدِ قَلَقٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ قَلَقًا عِنْدَهُ لِعَطْفِ الْأَبْصَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّقَ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ أُولِي الْأَعْمَالِ وَالْفِكْرِ. وقرىء: الْأَيَادِي، جَمْعُ الْجَمْعِ، كَأَوْطَفٍ وَأَوَاطِفَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَهِشَامٌ: بِخَالِصَةٍ، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، أُضِيفَتْ إِلَى ذِكْرَى. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّنْوِينِ، وذِكْرَى بَدَلٌ مِنْ بِخالِصَةٍ. وَقَرَأَ الأعمش، وطلحة: بخالصتهم، وأَخْلَصْناهُمْ: جعلناهم لنا خالصين وخالصة، يُحْتَمَلُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ عبر بِهِ عَنْ مَزِيَّةٍ أَوْ رُتْبَةٍ أَوْ خَصْلَةٍ خَالِصَةٍ لَا شَوْبَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، كَالْعَاقِبَةِ، فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ الْفَاعِلُ، أَيْ أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَنْ أَخْلَصُوا ذِكْرَى الدَّارِ، فَيَكُونُ ذِكْرَى مَفْعُولًا، أَوْ بِأَنْ أَخْلَصْنَا لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، أَوْ يَكُونُ الْفَاعِلُ ذِكْرَى، أَيْ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، وَالدَّارُ فِي كل وجه في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِذِكْرَى، وَذِكْرَى

مَصْدَرٌ، وَالدَّارُ دَارُ الْآخِرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى بِأَنْ خَلَصَ لَهُمُ التَّذْكِيرُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَلَصَ لَهُمْ ذِكْرُهُمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَخَوْفُهُمْ لَهَا. وَالْعَمَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَبْنَا لَهُمْ أَفْضَلَ مَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَخْلَصْنَاهُمْ بِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالدَّارِ دَارَ الدُّنْيَا، عَلَى مَعْنَى ذِكْرِ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ النَّاسِ، وَالْحَمْدُ الْبَاقِي الَّذِي هُوَ الْخُلْدُ الْمَجَازِيُّ، فَتَجِيءُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لِسانَ صِدْقٍ «1» ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ «2» . انْتَهَى. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلًا فَقَالَ: وَقِيلَ ذِكْرَى الدَّارِ: الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَلِسَانُ الصِّدْقِ. انْتَهَى. وَالْبَاءُ فِي بِخَالِصَةٍ بَاءُ السَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ وَبِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَيُعَضِّدُهُ قراءة بخالصتهم. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ، أَيْ الْمُخْتَارِينَ مِنْ بَيْنِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، الْأَخْيارِ: جَمْعُ خَيِّرٍ، وَخَيِّرٌ كَمَيِّتٍ وَمَيِّتٌ وَأَمْوَاتٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْيَسَعَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَا الْكِفْلِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَعِنْدَنَا ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُصْطَفَيْنَ، أَيْ وَإِنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ عِنْدَنَا، أَوْ مَعْمُولٌ لِلْمُصْطَفَيْنَ، وَإِنْ كَانَ بِأَلْ، لِأَنَّهُمْ يَتَسَمَّحُونَ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَا لَا يَتَسَمَّحُونَ فِي غَيْرِهِمَا، أَوْ عَلَى التَّبْيِينِ، أَيْ أَعْنِي عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَيَعْنِي بِالْعِنْدِيَّةِ: الْمَكَانَةُ، وَلَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ: فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ ثَانٍ لِوُجُودِ اللَّامِ، لَا يَجُوزُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ لَمُنْطَلِقٌ، وَكُلٌّ: أَيْ وَكُلُّهُمْ، مِنَ الْأَخْيَارِ. هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ، مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ، هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ، قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ، قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ، وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ، أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ، إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.

_ (1) سورة مريم: 19/ 50، وسورة الشعراء: 26/ 84. (2) سورة الصافات: 37/ 78 و 108 و 119 و 129.

لَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِهِ، وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِهِمْ، ذكر مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْجَزَاءِ، وَمَقَرُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ مَا يَذْكُرُهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّنْزِيلِ، قَالَ: هَذَا ذِكْرٌ، كَأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَعْقَبَهُ بِذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ قَالَ: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: هَذَا ذِكْرٌ: أَيْ شَرَفٌ تُذْكَرُونَ بِهِ أَبَدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَّاتِ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ بَدَلٌ، فَإِنْ كَانَ عَدْنٍ عَلَمًا، فَبَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكَرَةٍ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، فَبَدَلُ نَكِرَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَنَّاتِ عَدْنٍ مَعْرِفَةٌ لِقَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ «1» ، وَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا عطف بيان بحسن مآب، ومفتحة حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي الْمُتَّقِينَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَفِي مُفَتَّحَةً ضَمِيرُ الْجَنَّاتِ، وَالْأَبْوَابُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ تَقْدِيرُهُ: مُفَتَّحَةً هِيَ الْأَبْوَابُ لِقَوْلِهِمْ: ضُرِبَ زَيْدٌ الْيَدُ وَالرِّجْلُ، وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ مَعْرِفَةً بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي، لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الَّتِي صِفَةٌ لِجَنَّاتِ عَدْنٍ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي بَدَلًا مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي وَالَّتِي وَجُمُوعَهُمَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَتَلِي الْعَوَامِلَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً؟ وَأَمَّا انْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا عَطْفُ بَيَانٍ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَعَارِفِ، فَلَا يَكُونُ عَطْفُ الْبَيَانِ إِلَّا تَابِعًا لِمَعْرِفَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّكِرَاتِ، فَيَكُونُ عَطْفُ الْبَيَانِ تَابِعًا لِنَكِرَةٍ، كَمَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ فِيهِ تَابِعَةً لِمَعْرِفَةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَتَبِعَهُمُ الْفَارِسِيُّ. وَأَمَّا تَخَالُفُهُمَا فِي التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى هَذَا الْمُصَنِّفِ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مَقامِ إِبْراهِيمَ «2» ، فَأَعْرَبَهُ عَطْفَ بَيَانٍ تَابِعًا لِنَكِرَةٍ، وَهُوَ آياتٍ بَيِّناتٍ «3» ، ومَقامِ إِبْراهِيمَ مَعْرِفَةٌ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي مُفَتَّحَةً ضَمِيرُ الْجَنَّاتِ، فَجُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ أَعْرَبُوا الْأَبْوَابَ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَجَاءَ أَبُو عَلِيٍّ فَقَالَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ. مِنَ الْحَالِيَّةِ إِنْ أَعْرَبَ مُفَتَّحَةً حَالًا، أَوْ مِنَ النَّعْتِ إِنْ أَعْرَبَ نعتا لجنات عَدْنٍ، فَقَالَ: فِي مُفَتَّحَةً ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْجَنَّاتِ حَتَّى تَرْتَبِطَ الْحَالُ بِصَاحِبِهَا، أو النعت بمنعوته،

_ (1) سورة مريم: 19/ 61. (2) سورة آل عمران: 3/ 97. (3) سورة آل عمران: 3/ 97.

وَالْأَبْوَابُ بَدَلٌ. وَقَالَ: مَنْ أَعْرَبَ الْأَبْوَابَ مَفْعُولًا، لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْعَائِدُ عَلَى الْجَنَّاتِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْأَبْوَابُ مِنْهَا. وَأَلْزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَدَلَ فِي مِثْلِ هَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الضَّمِيرِ، إِمَّا مَلْفُوظًا بِهِ، أَوْ مُقَدَّرًا. وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُحْتَاجًا إِلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، كَانَ أَوْلَى مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرَيْنِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ، فَالرَّابِطُ عِنْدَهُمْ هُوَ أَلْ لِمَقَامِهِ مَقَامَ الضَّمِيرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مُفَتِّحَةً لَهُمْ أَبْوَابُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، فَإِنْ عَنَى بِقَوْلِهِ: وَهُوَ قَوْلُهُ الْيَدُ وَالرِّجْلُ، فَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. وَإِنْ عَنَى الْأَبْوَابَ، فَقَدْ يَصِحُّ، لِأَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّاتِ لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ الْجَنَّاتِ. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ مَا قَدَّرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: مُفَتَّحَةً هِيَ الْأَبْوَابُ، بِقَوْلِهِمْ: ضُرِبَ زَيْدٌ الْيَدُ وَالرِّجْلُ، فَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَبْوَابَ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ، كَمَا أَنَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ بَدَلٌ مِنَ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُفَتَّحَةً نَعْتٌ لِجَنَّاتِ عَدْنٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مُفَتَّحَةً حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، تَقْدِيرُهُ: يَدْخُلُونَهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُفَيْعٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ مُفَتَّحَةٌ، بِرَفْعِ التَّاءَيْنِ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا خبر مبتدأ محذوف، أي هُوَ جَنَّاتُ عَدْنٍ هِيَ مُفَتَّحَةٌ. وَالِاتِّكَاءُ: مِنْ هَيْئَاتِ أَهْلِ السَّعَادَةِ يَدْعُونَ فِيهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ مَنْ يَسْتَخْدِمُونَهُ فِيمَا يَسْتَدْعُونَ، كَقَوْلِهِ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ «1» . وَلَمَّا كَانَتِ الْفَاكِهَةُ يَتَنَوَّعُ وَصْفُهَا بِالْكَثْرَةِ، وَكَثْرَتُهَا بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَكَثْرَةُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا وَلَمَّا كَانَ الشَّرَابُ نَوْعًا وَاحِدًا وَهُوَ الْخَمْرُ، أُفْرِدَ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، أَتْرابٌ: أَيْ أَمْثَالٌ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ، وَأَصْلُهُ فِي بَنِي آدَمَ لِكَوْنِهِمْ مَسَّ أَجْسَادَهُمُ التُّرَابُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْأَقْرَانُ أَثْبَتُ فِي التَّحَابِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ هُوَ بَيْنَهُنَّ، وَقِيلَ: بَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، أَسْنَانُهُنَّ كَأَسْنَانِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْآدَمِيَّاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: حُورٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: هذا مَا يُوعَدُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، إِذْ قَبْلَهُ وَعِنْدَهُمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَالْمَعْنَى: هَذَا مَا وَقَعَ بِهِ الْوَعْدُ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ. إِنَّ هَذَا: أَيْ مَا ذُكِرَ لِلْمُتَّقِينَ مِمَّا تَقَدَّمَ، لَرِزْقُنا دَائِمًا: أَيْ لَا نَفَادَ لَهُ. هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ الْأَمْرُ هَذَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ، والطاغون هنا:

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 19.

الْكُفَّارُ وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ لَمْ يَكُونُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، الْمَعْنَى: الَّذِينَ طَغَوْا عَلَيَّ وَكَذَّبُوا رُسُلِي لَهُمْ شَرُّ مَآبٍ: أَيْ مَرْجِعٍ وَمَصِيرٍ. فَبِئْسَ الْمِهادُ: أَيْ هِيَ. هَذَا فِي مَوْضِعِ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ خَبَرُهُ جَهَنَّمَ، وَغَسَّاقٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ الْعَذَابُ هَذَا، وَحَمِيمٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ لِيَذُوقُوا. هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُوَ حَمِيمٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ مِنْهُ حَمِيمٌ وَمِنْهُ غَسَّاقٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيُّ وَمَحْصُودُ أَيْ: مِنْهُ مَلْوِيٌّ وَمِنْهُ مَحْصُودٌ، وَهَذِهِ الْأَعَارِيبُ مَقُولَةٌ مَنْقُولَةٌ. وَقِيلَ: هَذَا مُبْتَدَأٌ، وفليذوقوه الْخَبَرُ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فِي إِجَازَتِهِ: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فتاتهم وَالْغَسَّاقُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الزَّمْهَرِيرُ وَعَنْهُ أَيْضًا، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ: مَا يَجْرِي مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَنْ كَعْبٍ: عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ تَسِيلُ إِلَيْهَا حُمَةُ كُلِّ ذِي حُمَةٍ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، يُغْمَسُ فِيهَا فَيَتَسَاقَطُ الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ عَنِ الْعَظْمِ وَعَنِ السُّدِّيِّ: مَا يَسِيلُ مِنْ دُمُوعِهِمْ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْقَيْحُ يَسِيلُ مِنْهُمْ فَيُسْقَوْنَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَالْفَضْلُ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِتَشْدِيدِ السِّينِ. فَإِنْ كَانَ صِفَةً، فَيَكُونُ مِمَّا حُذِفَ مَوْصُوفُهَا، وَإِنْ كَانَ اسْمًا، فَفَعَّالٌ قَلِيلٌ فِي الْأَسْمَاءِ، جَاءَ مِنْهُ: الْكَلَّاءُ، وَالْجَبَّانُ، وَالْفَنَّادُ، وَالْعَقَّارُ، وَالْخَطَّارُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَآخَرُ عَلَى الْإِفْرَادِ، فَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ آخَرُ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَزْواجٌ مبتدأ، ومِنْ شَكْلِهِ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ. وَآخَرُ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ أَزْوَاجٌ، وَمِنْ شَكْلِهِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَجَازَ أَنْ يُخْبَرَ بِالْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَرَجَاتٌ، وَرُتَبٌ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ سَمَّى كُلَّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْآخَرِ بِاسْمِ الْكُلِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَآخَرُ، أَيْ وَعَذَابٌ آخَرُ، أَوْ مَذُوقٌ آخَرُ وَأَزْوَاجٌ صِفَةُ آخَرَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضُرُوبًا أَوْ صِفَةً لِلثَّلَاثَةِ، وَهِيَ: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ إِعْرَابٌ أَخَذَهُ مِنَ الْفَرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعِيسَى، وَأَبُو عَمْرٍو: وَأُخَرُ عَلَى الْجَمْعِ،

وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ شَكْلِهِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ وَأَزْوَاجٌ خَبَرُهُ، أَيْ وَمَذُوقًا آخَرُ مِنْ شَكْلِ هَذَا الْمَذُوقِ مِنْ مِثْلِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْفَظَاعَةِ أَزْواجٌ: أَجْنَاسٌ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: مِنْ شَكْلِهِ، بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَالضَّرْبِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَتْحِ، فَبِكَسْرِ الشِّينِ لَا غَيْرَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، مِنْ قَوْلِ رُؤَسَائِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْفَوْجُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ: أَيِ النَّارَ، وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، ثُمَّ دَعَوْا عليهم بقولهم: مَرْحَباً بِهِمْ، لِأَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا رَأَى الْخَسِيسَ قَدْ قُرِنَ مَعَهُ فِي الْعَذَابِ، سَاءَهُ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ التَّسَاوِي فِي الْعَذَابِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ السَّالِمُ مِنَ الْعَذَابِ وَأَتْبَاعُهُ فِي الْعَذَابِ. ومرحبا مَعْنَاهُ: ائْتِ رَحْبًا وَسَعَةً لَا ضَيِّقًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ يَجِبُ إِضْمَارُهُ، وَلِأَنَّ عُلُوَّهُمْ بَيَانٌ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا فَوْجٌ، مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ خَزَنَةِ النَّارِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْفَوْجِ وَالتَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ، مِنْ كَلَامِهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَالدُّعَاءُ عَلَى الْفَوْجِ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ مِنْ كَلَامِ الرُّؤَسَاءِ الْمَتْبُوعِينَ. قالُوا أَيِ الْفَوْجُ: لَا مَرْحَباً بِكُمْ، رَدٌّ عَلَى الرُّؤَسَاءِ مَا دَعَوْا بِهِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَصَلْيِ النَّارِ، إِنَّمَا هُوَ بِمَا أَلْقَيْتُمْ إِلَيْنَا وَزَيَّنْتُمُوهُ مِنَ الْكُفْرِ، فَكَأَنَّكُمْ قَدَّمْتُمْ لَنَا الْعَذَابَ أَوِ الصَّلْيَ. وَإِذَا كَانَ لَا مَرْحَباً بِهِمْ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ، فَلَمْ يجىء التَّرْكِيبُ: قَالُوا بَلْ هَؤُلَاءِ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ، بَلْ جَاءَ بِخِطَابِ الْأَتْبَاعِ لِلرُّؤَسَاءِ، لِتَكُونَ الْمُوَاجَهَةُ لِمَنْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُوَاجَهَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِقَبِيحٍ أَشَفَى لِصُدُورِهِمْ، حَيْثُ تَسَبَّبُوا فِي كُفْرِهِمْ، وَأَنْكَى لِلرُّؤَسَاءِ. فَبِئْسَ الْقَرارُ: أَيِ النَّارُ وَهَذِهِ الْمُرَادَةُ وَالدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها «1» . وَلَمْ يَكْتَفِ الْأَتْبَاعُ بِرَدِّ الدُّعَاءِ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ، وَلَا بِمُوَاجَهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، حَتَّى سَأَلُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزِيدَ رُؤَسَاءَهُمْ ضِعْفًا مِنَ النَّارِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ حَمَلَنَا عَلَى عَمَلِ السُّوءِ حَتَّى صَارَ جَزَاءُنَا النَّارَ، فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الْأَتْبَاعِ: رَبَّنا آتِهِمْ، أَيْ سَادَاتَهُمْ، ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ «2» ، رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ «3» . وَلَمَّا كَانَ الرُّؤَسَاءُ ضُلَّالًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ، ناسب أن يدعو عليهم بأن

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 38. (2) سورة الأحزاب: 33/ 68. (3) سورة الأعراف: 7/ 38.

يَزِيدَهُمْ ضِعْفًا، كَمَا جَاءَ: فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قالُوا لِلْأَتْبَاعِ، ومن قَدَّمَ: هُمُ الرُّؤَسَاءُ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: قالُوا رَبَّنا إِلَى آخِرِهِ، قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ قَدَّمَ، هُوَ إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الضِّعْفُ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ. وَقالُوا: أَيْ أَشْرَافُ الْكُفَّارِ، مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ: أَيِ الْأَرْذَالِ الَّذِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَلَيْسُوا عَلَى دِينِنَا، كَمَا قَالَ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1» . وَرُوِيَ أَنَّ الْقَائِلِينَ مِنْ كُفَّارُ عَصْرِ الرَّسُولِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وأمية بن خلف، وأصحاب الْقَلِيبِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَرَوْهُمْ: عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَسَلْمَانُ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. قِيلَ: يَسْأَلُونَ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ أَيْنَ صُهَيْبٌ؟ أَيْنَ فُلَانٌ؟ يَعُدُّونَ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَالُ لَهُمْ: أُولَئِكَ فِي الْفِرْدَوْسِ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ، وَحَمْزَةُ: اتَّخَذْنَاهُمْ وَصْلًا، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: صِفَةٌ لِرِجَالٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلُ قَوْلِهِ: كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: حَالٌ، أَيْ وَقَدِ اتَّخَذْنَاهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، لِتَقْرِيرِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى هَذَا، عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لَهَا. وَالْأَسَفِ، أَيِ اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا، وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَصْحَابُهُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: سُخْرِيًّا، بِضَمِّ السِّينِ، وَمَعْنَاهَا: مِنَ السُّخْرَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِ السِّينِ، وَمَعْنَاهَا: الْمَشْهُورُ مِنَ السُّخْرِ، وَهُوَ الْهُزْءُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِنِّي أَتَانِي لِسَانٌ لَا أُسَرُّ بِهَا ... مِنْ عَلْوَ لَا كَذِبَ فِيهَا وَلَا سَخَرُ وَقِيلَ: بِكَسْرِ السِّينِ مِنَ التَّسْخِيرِ. وَأَمْ إِنْ كَانَ اتَّخَذْنَاهُمُ اسْتِفْهَامًا إِمَّا مُصَرَّحًا بِهَمْزَتِهِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ، أَوْ مُؤَوَّلًا بِالِاسْتِفْهَامِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِلدَّلَالَةِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ لِتَقَدُّمِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ الْفِعْلَيْنِ فَعَلْنَا بِهِمْ، الِاسْتِسْخَارُ مِنْهُمْ أَمِ ازْدِرَاؤُهُمْ وَتَحْقِيرُهُمْ؟ وَإِنَّ أَبْصَارَنَا كَانَتْ تَعْلُو عَنْهُمْ وَتَقْتَحِمُ. وَيَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِلِاسْتِسْخَارِ وَالزَّيْغِ جَمِيعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلُوا، اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا، وَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُهُمْ مُحَقِّرَةً لَهُمْ. وَأَنَّ اتَّخَذْنَاهُمْ لَيْسَ اسْتِفْهَامًا، فَأَمْ مُنْقَطِعَةٌ، وَيَجُوزُ أن تكون

_ (1) سورة هود: 11/ 27. [.....]

مُنْقَطِعَةً أَيْضًا مَعَ تَقَدُّمِ الِاسْتِفْهَامِ، يَكُونُ كَقَوْلِكِ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عِنْدَكَ عَمْرٌو؟ وَاسْتَفْهَمْتَ عَنْ زَيْدٍ، ثُمَّ أَضْرَبْتَ عَنْ ذَلِكَ وَاسْتَفْهَمْتَ عَنْ عَمْرٍو، فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَزَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ: مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ أَوَّلًا دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعَهُ، ثُمَّ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ، وَلَكِنَّ أَبْصَارَهُمْ لَمْ تَرَهُمْ. إِنَّ ذلِكَ: أَيِ التَّفَاوُضُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ، لَحَقٌّ: أَيْ ثَابِتٌ وَاقِعٌ لَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَخاصُمُ بِالرَّفْعِ مُضَافًا إِلَى أَهْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ مِنْ لَحَقٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيَّنَ مَا هُوَ فَقَالَ: تَخَاصُمُ مُنَوَّنًا، أَهْلُ رُفِعَا بِالْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ، وَيُجِيزُهُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيُّونَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تَخَاصُمَ أَهْلِ، بِنَصْبِ الْمِيمِ وَجَرِّ أَهْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ تُوصَفُ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ: وَلَوْ نُصِبَ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، لَجَازَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: تَخَاصُمُ: فِعْلًا مَاضِيًا، أَهْلُ: فَاعِلًا، وَسَمَّى تَعَالَى تِلْكَ الْمُفَاوَضَةَ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ وَأَتْبَاعِهِمْ تَخَاصُمًا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَا مَرْحَباً بِهِمْ، وَقَوْلَ الْأَتْبَاعِ: بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ، هُوَ مِنْ بَابِ الْخُصُومَةِ، فَسَمَّى التَّفَاوُضَ كُلَّهُ تَخَاصُمًا لِاسْتِعْمَالِهِ عَلَيْهِ. قُلْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ: أَيْ مُنْذِرُ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا نِدَّ لَهُ وَلَا شَرِيكَ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ مَالِكُ الْعَالَمِ، عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ، الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْغَفَّارُ لِذُنُوبِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَ لِدِينِهِ. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ، قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ، قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.

الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ يَعُودُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا مُنْذِرًا دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ، الْمُتَّصِفُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقَهْرِ وَمُلْكِ الْعَالَمِ وَعِزَّتِهِ وَغُفْرَانِهِ، وَهُوَ خَبَرٌ عَظِيمٌ لَا يُعْرِضُ عَنْ مِثْلِهِ إِلَّا غَافِلٌ شَدِيدُ الْغَفْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبَأُ الْعَظِيمُ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: قَصَصُ آدَمَ وَالْإِنْبَاءُ بِهِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ مِنْ أَحَدٍ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: سِيَاقُ الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ النَّارِ وَمُقَاوَلَةِ الْأَتْبَاعِ مَعَ السَّادَاتِ، لِأَنَّهُ مِنْ أحوال البعث، وقريش كَانْتَ تُنْكِرُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْعِقَابَ، وَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مُعْرِضُونَ. وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ: احْتِجَاجٌ عَلَى قُرَيْشٍ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ. فَإِنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مَا لَهُ عِلْمٌ بِمَنْ فِي السَّمَاءِ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمُ الْمُغَيَّبَاتِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمُهُ بِأَحْوَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَابْتِدَاءِ خَلْقِ آدَمَ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ فَإِخْبَارُهُ بِذَلِكَ هُوَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِقِصَّةِ آدَمَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْبَشَرِ خَلْقًا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَزْمَانٌ مُتَقَادِمَةٌ وَقُرُونٌ سَالِفَةٌ. انْتَهَى، وَفِي آخِرِهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ. ثُمَّ احْتَجَّ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، بِأَنَّ مَا ينبىء بِهِ عَنِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَاخْتِصَامِهِمْ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ مِنْ عِلْمٍ قَطُّ. ثُمَّ عَلِمَهُ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْمُتَعَلِّمُونَ، بَلْ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ من الوحي، وبالملأ متعلق بعلم، وإذ مَنْصُوبٌ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا كان لي من علم بِكَلَامِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَقْتَ اخْتِصَامِهِمْ. وإِذْ قالَ بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ عَلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ قُرَيْشٌ، وَاخْتِصَامُ الْمَلَائِكَةِ فِي أَمْرِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ فِي جَعْلِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «1» . قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقٌ خَلْقًا كُنَّا أَكْرَمَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ. وَقِيلَ: فِي الْكَفَّارَاتِ وَغَفْرِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً اخْتَلَفَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي قَدْرِ ثَوَابِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بِمَا يَشَاءُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ لَهُ رَبُّهُ فِي نَوْمِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِيمَ يَخْتَصِمُونَ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: فِي الْكَفَّارَاتِ وَفِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي السَّرَّاتِ وَنَقْلِ الْخُطَا إِلَى الْجَمَاعَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَتْ مُقَاوَلَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ، وَكَانَ الْمُقَاوِلُ في الحقيقة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 30.

هُوَ الْمَلَكُ الْمُتَوَسِّطُ، فَيَصِحُّ أَنَّ التَّقَاوُلَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَهُمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَالْمُرَادُ بِالِاخْتِصَامِ: التَّقَاوُلُ. وَقِيلَ: الْمَلَأُ الْأَعْلَى: الْمَلَائِكَةُ، وإذ يَخْتَصِمُونَ: الضَّمِيرُ فِيهِ لِلْعَرَبِ الْكَافِرِينَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَبَعْضُهُمْ: آلِهَةٌ تُعْبَدُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ. إِنْ يُوحى إِلَيَّ: أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ، إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ: أَيْ لِلْإِنْذَارِ، حَذَفَ اللَّامَ وَوَصَلَ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، الْمَعْنَى، أَيْ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ هُوَ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَأُقِيمَ إِلِيَّ مَقَامَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فَاعِلُهُ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِلَّا إِنَّمَا، بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّمَا عَلَى الْحِكَايَةِ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ، كَأَنْ قِيلَ لَهُ: أَنْتَ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَحَكَى هُوَ الْمَعْنَى، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَنَا عَالِمٌ، فَيُقَالُ لَهُ: قُلْتَ إِنَّكَ عَالِمٌ، فَيُحْكَى الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء إِنَّمَا بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ، أي إلا هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَلَا أَدَّعِي شَيْئًا آخَرَ. انْتَهَى. فِي تَخْرِيجِهِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَيْ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ، فَظَاهِرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ إِنِّي نَذِيرٌ، فَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَاعِلِ هُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ، وَأَنْ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فَيَتَعَارَضَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ، إِذْ قَالَ بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَخْتَصِمُونَ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْخُصُومَةُ فِي شَأْنِ مَنْ يُسْتَخْلَفُ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ يَكُونُ مَنْصُوبًا بِاذْكُرْ. وَلَمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ، خَالَفُوا الرَّسُولَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ. ذَكَرَ حَالَ إِبْلِيسَ، حَيْثُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّعْنَةِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، لِيَزْدَجِرَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً، وَمَا عَرَفُوا مَا الْبَشَرُ وَلَا عَهِدُوا بِهِ قَبْلُ؟ قُلْتُ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي خَالِقٌ خَلْقًا مِنْ صِفَةِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَلَكِنَّهُ حِينَ حَكَاهُ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ. انْتَهَى. وَالْبَشَرُ هُوَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «1» ، وَفِي الْحِجْرِ: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ «2» ، وَفِي الْأَنْبِيَاءِ: مِنْ عَجَلٍ «3» وَلَا مُنَافَاةَ فِي تِلْكَ الْمَادَّةِ الْبَعِيدَةِ، وَهِيَ التُّرَابُ، ثُمَّ مَا يَلِيهِ وَهُوَ الطِّينُ،

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 59. (2) سورة الحجر: 15/ 26. (3) سورة الأنبياء: 21/ 37.

ثُمَّ مَا يَلِيهِ وَهُوَ الْحَمَأُ الْمَسْنُونُ، ثُمَّ الْمَادَّةُ تَلِي الْحَمَأَ وَهُوَ الصَّلْصَالُ وَأَمَّا مِنْ عَجَلٍ فَمَضَى تَفْسِيرُهُ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْحِجْرِ، وَهُنَا اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَفِي الْبَقَرَةِ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ «1» ، وَفِي الْأَعْرَافِ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ «2» ، وَفِي الْحِجْرِ: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ «3» ، وَفِي الْإِسْرَاءِ: قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «4» ، وَفِي الْكَهْفِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «5» . وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، فَتَارَةً أَكَّدَ بِالنَّفْيِّ الْمَحْضِ، وَتَارَةً ذَكَرَ إِبَايَتَهُ عَنِ السُّجُودِ، وَهِيَ الْأَنَفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَارَةً نَصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ كَانَ سَبَبُهُ الِاسْتِكْبَارَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أُرِيدَ بِهِ كُفْرُهُ ذلك الوقت، وإن لم يَكُنْ قَبْلَهُ كَافِرًا وَعُطِفَ عَلَى اسْتَكْبَرَ، فَقَوِيَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاسْتِكْبَارَ عَنِ السُّجُودِ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ وَقْتَ الْأَمْرُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنْهُ بِسَبْقِ كُفْرِهِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ. قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، وَفِي الْأَعْرَافِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «6» ، فَدَلَّ أَنْ تَسْجُدَ هُنَا، عَلَى أَنَّ لَا فِي أَنْ لَا تسجد زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفْهِمُ إِلَّا عَنِ الْمَانِعِ مِنَ السُّجُودِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ. وَمَا فِي لِما خَلَقْتُ، اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ يُجِيزُ إِطْلَاقَ مَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ، وَأَوَّلَ بِأَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ يُرَادُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، لَا حَقِيقَةُ الْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: لَمَّا بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، عَلَى الْإِفْرَادِ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى التثنية وقرىء بِيَدَيَّ، كَقِرَاءَةِ بِمُصْرِخِيَّ وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «7» بِالْجَمْعِ، وَكُلُّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَعَبَّرَ بِالْيَدِ، إِذْ كَانَ عِنْدَ الْبَشَرِ مُعْتَادًا أَنَّ الْبَطْشَ وَالْقُوَّةَ بِالْيَدِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ إِلَى أَنَّ الْيَدَ صِفَةُ ذَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْتَكْبَرْتَ، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَأَمْ مُتَّصِلَةٌ عَادَلَتِ الْهَمْزَةَ. قال

_ (1) سورة البقرة: 2/ 34. (2) سورة الأعراف: 7/ 11. (3) سورة الحجر: 15/ 31. (4) سورة الإسراء: 17/ 61. (5) سورة الكهف: 18/ 50. (6) سورة الأعراف: 7/ 12. (7) سورة يس: 36/ 71.

ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ أَمْ لَا تَكُونُ مُعَادِلَةً لِلْأَلِفِ مَعَ اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُعَادِلَةً إِذَا دَخَلَتَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِكَ: أَزَيْدٌ قَامَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَقَوْلُكَ: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو؟ فَإِذَا اخْتَلَفَ الْفِعْلَانِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَيْسَتْ مُعَادِلَةً. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَحَدَثَ لَكَ الِاسْتِكْبَارُ الْآنَ، أَمْ كُنْتَ قَدِيمًا مِمَّنْ لَا يَلِيقُ أَنْ تُكَلَّفَ مِثْلَ هَذَا لِعُلُوِّ مَكَانِكَ؟ وَهَذَا عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَذْهَبٌ غَيْرُ صَحِيحٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ أَضْرَبْتَ زَيْدًا أَمْ قَتَلْتَهُ. فَالْبَدْءُ هُنَا بِالْفِعْلِ أَحْسَنُ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا تَسْأَلُ عَنْ أَحَدِهِمَا، لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ، وَلَا تَسْأَلُ عَنْ مَوْضِعِ أَحَدِهِمَا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَيُّ ذَلِكَ كَانَ؟ انْتَهَى. فَعَادَلَ بِأَمِ الْأَلِفَ مَعَ اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ. مِنَ الْعالِينَ: مِمَّنْ عَلَوْتَ وَفُقْتَ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنَ الْعَالِينَ، حَيْثُ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: أَسْتَكْبَرْتَ الْآنَ، أَوْ لَمْ تَزَلْ مُذْ كُنْتَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ؟ وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ: التَّقْرِيرُ. انْتَهَى. وَقَرَأَتْ فَرِقَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ: اسْتَكْبَرْتَ، بِصِلَةِ الْأَلِفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَيْسَتْ فِي مَشْهُورِ ابْنِ كَثِيرٍ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ حُذِفَتْ لِدَلَالَةِ أَمْ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا خَاطَبَهُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ، وَأَمْ تَكُونُ مُنْقَطِعَةً، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ مِنَ الْعَالِينَ عِنْدَ نَفْسِكَ اسْتِخْفَافًا بِهِ. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ. قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها إِلَى قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْحِجْرِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا لَعْنَتِي وَهُنَاكَ اللَّعْنَةُ «1» أَعَمُّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «2» ؟ وَأَمَّا بِالْإِضَافَةِ، فَالْعُمُومُ فِي اللَّعْنَةِ أَعَمُّ، وَاللَّعَنَاتُ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ أن عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ كَانَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةُ كُلِّ لَاعِنٍ، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا بِاللَّفْظِ فَيَقْتَضِي التَّخْصِيصَ. قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ: أَقْسَمَ إِبْلِيسُ هُنَا بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ «3» ، وَفِي الْحِجْرِ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ «4» . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي مَوْضِعِهِمَا، وَإِنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي: بِمَا أَغْوَيْتَنِي، وَفِي: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ. فَإِنْ كَانَتْ بَاءَ الْقَسَمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي موطئين: فَهُنَا: لَأُغْوِيَنَّهُمْ، وَفِي الْأَعْرَافِ: لَأَقْعُدَنَّ، وَفِي الْحِجْرِ: لَأُزَيِّنَنَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ،

_ (1) سورة الحجر: 15/ 35. (2) سورة البقرة: 2/ 159. (3) سورة الأعراف: 7/ 16. [.....] (4) سورة الحجر: 15/ 39.

بِنَصْبِهِمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُقْسَمٌ بِهِ، حُذِفَ مِنْهُ الْحَرْفُ كَقَوْلِهِ: أَمَانَةَ اللَّهِ لَأَقُومَنَّ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لَأَمْلَأَنَّ. وَالْحَقَّ أَقُولُ: اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ: وَلَا أَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ. انْتَهَى، لِأَنَّ عِنْدَهُ تَقُدُّمَ الْمَفْعُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ. وَالْحَقُّ الْمُقْسَمُ بِهِ إِمَّا اسْمُهُ تَعَالَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «1» ، أَوِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: فَالْحَقُّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ فالزموا الحق، وَلَأَمْلَأَنَّ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِكَ: حَقًّا لَا شَكَّ، وَوُجُودُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَطَرْحُهُمَا سَوَاءٌ، أَيْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ حَقًّا. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَصْدَرُ الْجَائِي تَوْكِيدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي جُزْآهَا مَعْرِفَتَانِ جَامِدَتَانِ جُمُودًا مَحْضًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ نَكِرَةً، قَالَ: وَالْمُبْتَدَأُ يَكُونُ ضَمِيرًا نَحْوَ: هُوَ زَيْدٌ مَعْرُوفًا، وهو الحق بيننا، وَأَنَا الْأَمِيرُ مُفْتَخِرًا وَيَكُونُ ظَاهِرًا كَقَوْلِكَ: زِيدٌ أَبُوكَ عَطُوفًا، وَأَخُوكَ زَيْدٌ مَعْرُوفًا. انْتَهَى. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: زَيْدٌ قَائِمٌ غَيْرَ ذِي شَكٍّ، فَجَاءَتِ الْحَالُ بَعْدَ جُمْلَةٍ، وَالْخَبَرُ نَكِرَةً، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَكَأَنَّ الْفَرَّاءَ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ كَوْنِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَعْرُوفَيْنِ جَامِدَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَبَيْنَ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَالْحَقُّ الْحَقُّ، أَيْ أَفْعَلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَعْمَشُ: بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، فَالْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، قِيلَ: تَقْدِيرُهُ فَالْحَقُّ أَنَا، وَقِيلَ: فَالْحَقُّ مِنِّي، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ فَالْحَقُّ قَسَمِي، وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي: لَعَمْرُكَ لَأَقُومَنَّ، وَفِي: يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا، أَيْ لَعَمْرُكَ قَسَمِي وَيَمِينُ اللَّهِ قَسَمِي، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ جُمْلَةُ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ: لَأَمْلَأَنَّ. وَأَمَّا وَالْحَقَّ أَقُولُ فَمُبْتَدَأٌ أَيْضًا، خَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «2» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِمَّا الْأَوَّلُ فَرُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: لَأَمْلَأَنَّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْ أَمْلَأَ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ لَأَمْلَأَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً، فَلَا يَتَقَدَّرُ بِمُفْرَدٍ. وَأَيْضًا لَيْسَ مَصْدَرًا مُقَدَّرًا بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ حَتَّى يَنْحَلَّ إِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَحَّ لَهُ إِسْنَادُ مَا قُدِّرَ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، حُكِمَ أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَرَأَ الحسن، وعيسى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِجَرِّهِمْ، وَيَخْرُجُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَجْرُورٌ بِوَاوِ الْقَسَمِ مَحْذُوفَةً تَقْدِيرُهُ: فَوَالْحَقِّ، وَالْحَقِّ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: والله والله لأقومن، وأقوال اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْحَقَّ أَقُولُ: أَيْ وَلَا أَقُولُ إِلَّا

_ (1) سورة النور: 24/ 25. (2) سورة النساء: 4/ 95.

الْحَقَّ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْمُقْسَمَ بِهِ، وَمَعْنَاهُ التَّوْكِيدُ وَالتَّسْدِيدُ، وَهَذَا الْوَجْهُ جَائِزٌ فِي الْمَنْصُوبِ وَالْمَرْفُوعِ، وَهُوَ وَجْهٌ دَقِيقٌ حَسَنٌ. انْتَهَى. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ أَعْمَلَ الْقَوْلَ فِي لَفْظِ الْمُقْسَمِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ نَصْبًا أَوْ رَفْعًا أَوْ جَرًّا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْمَشُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَأَبَانُ بْنُ تَغْلَبَ، وَطَلْحَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ عَنِ الْمُفَضَّلِ، وَخَلَفٍ، وَالْعَبْسِيِّ: بِرَفْعِ فَالْحَقُّ وَنَصْبِ وَالْحَقَّ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُهُمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِلْمُحَدَّثِ عَنْهُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ضَمِيرُ إِبْلِيسَ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ، أَيْ مِنْكَ وَمِنْ تَابِعِيكِ أَجْمَعِينَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ أَجْمَعِينَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي فِي مِنْهُمْ، مُقَدَّرٌ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِمَّنْ تَبِعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، لَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نَاسٍ وَنَاسٍ بَعْدَ وُجُودِ الْأَتْبَاعِ مِنْهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْوَحْيِ. وَقِيلَ: عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ: أَيِ الْمُتَصَنِّعِينَ الْمُتَحَلِّينَ بِمَا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، فَأَنْتَحَلُ النُّبُوَّةَ وَالْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ. إِنْ هُوَ: أَيِ الْقُرْآنُ، إِلَّا ذِكْرٌ: أَيْ مِنَ اللَّهِ، لِلْعالَمِينَ: الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ: أَيْ عَاقِبَةَ خَبَرِهِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، بَعْدَ حِينٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيَظْهَرَنَّ لكم حقيقة ما أقوال. بَعْدَ حِينٍ: أَيْ فِي الْمُسْتَأْنَفِ، إِذَا أَخَذَتْكُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ السُّدِّيُّ.

سورة الزمر

سورة الزمر [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 31] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

التَّكْوِيرُ: اللَّفُّ وَاللَّيُّ، يُقَالُ: كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَكَوَّرَهَا. خَوَّلَهُ النِّعْمَةَ: أَيْ أَعْطَاهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مُجَازَاةٍ، وَلَا يُقَالُ فِي الجراء خَوَّلَ. قَالَ زُهَيْرٌ: هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلُوا الْمَالَ يُخَوَّلُوا ... وَيُرْوَى يُسْتَخْيَلُوا الْمَالَ يُخَيَّلُوا وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ: أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخِّلْ ... كَوْمَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ الْمَخْوِلِ هَاجَ الزَّرْعُ: ثَارَ مِنْ مَنَابِتِهِ، وَقِيلَ: يَبِسَ. الْحُطَامُ: الْفُتَاتُ بَعْدَ يُبْسِهِ. الْقُشَعْرِيرَةُ: تَقَبُّضُ الْجِلْدِ، يُقَالُ: اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنَ الْخَوْفِ: وَقَفَ شَعْرُهُ، وَهُوَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ. الشِّكَاسَةُ: سُوءُ الْخُلُقِ وَعُسْرُهُ. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ، لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ، خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ

وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وقُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: إِلَّا يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا، وَقَوْلُهُ: يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: إِلَّا يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا، إِلَى قَوْلِهِ: تَشْعُرُونَ، ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: إِلَّا سَبْعَ آيَاتٍ، مِنْ قَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا. ومناسبتها لآخر ما قلبها أَنَّهُ خَتَمَ السُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «1» ، وَبَدَأَ هُنَا: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ والزجاج: تَنْزِيلُ مُبْتَدَأٌ، ومِنَ اللَّهِ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذَا تَنْزِيلُ، وَمِنَ الله متعلق بتنزيل وَأَقُولُ إِنَّهُ خَبَرٌ، وَالْمُبْتَدَأُ هُوَ لِيَعُودَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا الذِّكْرُ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ غَيْرُ صِلَةٍ، يَعْنِي مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا الْكِتَابُ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ، وَهُوَ عَلَى هَذَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا تَنْزِيلُ الْكِتَابِ. هَذَا مِنَ اللَّهِ، أَوْ حَالٌ مِنْ تَنْزِيلُ عَمِلَ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَمِلَ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ، لِأَنَّ مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ لَا تَعْمَلُ إِذَا كَانَ مَا هُوَ فِيهِ مَحْذُوفًا، وَلِذَلِكَ رَدُّوا عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ قَوْلَهُ فِي بَيْتِ الْفَرَزْدَقِ: وَإِذْ مَا مِثْلَهُمْ بَشَرُ أَنَّ مِثْلَهُمْ مَنْصُوبٌ بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ، أَيْ وَأَنَّ مَا فِي الْوُجُودِ فِي حَالِ مُمَاثَلَتِهِمْ بَشَرٌ. وَالْكِتَابُ يَظْهَرُ أَنَّهُ الْقُرْآنُ، وَكُرِّرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَكَوْنُهُ فِي جُمْلَةٍ غَيْرِ السَّابِقَةِ مَلْحُوظًا فِيهِ إِسْنَادُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ وَتَشْرِيفُ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ بِالْخِطَابِ وَتَخْصِيصُهُ بِالْحَقِّ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِيسَى: تَنْزِيلَ بِالنَّصْبِ، أَيْ اقْرَأْ وَالْزَمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَنْزِيلُ الْكِتَابِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا تَنَزَّلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ إِخْبَارًا مُجَرَّدًا أَنَّ الْكُتُبَ الْهَادِيَةَ الشَّارِعَةَ إِنَّمَا تَنْزِيلُهَا مِنَ اللَّهِ، وَجَعَلَ هَذَا الْإِخْبَارَ تَقْدِمَةً وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ، وَالْعَزِيزُ فِي قُدْرَتِهِ، الْحَكِيمُ في ابتداعه.

_ (1) سورة ص: 38/ 87.

وَالْكِتَابُ الثَّانِي هُوَ الْقُرْآنُ، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ الْقُرْآنُ، وَعَلَى الثَّانِي أنه السورة. انتهى. وَبِالْحَقِّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الصِّدْقُ الثَّابِتُ فِيمَا أَوْدَعْنَاهُ مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالتَّكَالِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، أَوْ يَكُونُ بِالْحَقِّ: بِالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ عَجْزُ الْفُصَحَاءِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ مُتَضَمِّنًا الْحَقَّ فِيهِ وَفِي أَحْكَامِهِ وَفِي أَخْبَارِهِ، أَوْ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ وَشُمُولِ الْمَنْفَعَةِ لِلْعَالَمِ فِي هِدَايَتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَمَّا امْتَنَّ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ، وَكَانَ الْحَقُّ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ فَقَالَ: فَاعْبُدِ اللَّهَ، وَكَأَنَّ هذا الأمر ناشىء عَنْ إِنْزَالِ الْكِتَابِ، فَالْفَاءُ فِيهِ لِلرَّبْطِ، كَمَا تَقُولُ: أَحْسَنَ إِلَيْكَ زَيْدٌ فَاشْكُرْهُ. مُخْلِصاً: أَيْ مُمْحِضًا، لَهُ الدِّينَ: مِنَ الشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ وَسَائِرِ مَا يُفْسِدُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الدِّينَ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ فَاعِلًا بِمُخْلِصًا، وَالرَّاجِعُ لِذِي الْحَالِ مَحْذُوفٌ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، أَيْ الدِّينُ مِنْكَ، أَوْ يَكُونُ أَلْ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ دِينُكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقُّ مَنْ رَفَعَهُ أَنْ يَقْرَأَ مُخْلَصًا بِفَتْحِ اللَّامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ «1» ، حَتَّى يُطَابِقَ قَوْلَهُ: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، وَالْخَالِصُ وَالْمُخْلَصُ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنْ يَصِفَ الدِّينَ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، كَقَوْلِهِمْ: شِعْرُ شَاعِرٍ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ مُخْلِصًا حَالًا مِنَ الْعَابِدِ، وله الدِّينُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، فَقَدْ جَاءَ بِإِعْرَابٍ رَجَعَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِكَ: لِلَّهِ الدِّينُ، أَيْ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ. انْتَهَى. وَقَدْ قَدَّمَنَا تَخْرِيجَهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِمُخْلِصًا، وَقَدَّرْنَا مَا يَرْبُطُ الْحَالَ بِصَاحِبِهَا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَهُ الدِّينُ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ الْفَرَّاءُ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ: أَيْ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ وَكَدَرٍ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تُخْلَصَ لَهُ الطَّاعَةُ، لاطاعه عَلَى الْغُيُوبِ وَالْأَسْرَارِ، وَلِخُلُوصِ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِجْرَارِ مَنْفَعَةٍ مِنْهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: الدِّينُ الْخَالِصُ: الْإِسْلَامُ وَقَالَ قَتَادَةُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا: مُبْتَدَأٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَالَ الْمَحْذُوفَ الْمَحْكِيَّ بِهِ قَوْلُهُ: مَا نَعْبُدُهُمْ، أَيْ وَالْمُشْرِكُونَ الْمُتَّخِذُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ قَالُوا: مَا نَعْبُدُ تِلْكَ الْأَوْلِيَاءَ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، وَاحْتَمَلَ أن يكون الخبر:

_ (1) سورة النساء: 4/ 146.

إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ اتَّخَذُوهُمْ قَائِلِينَ مَا نَعْبُدُهُمْ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ، وقالوا: الْمَحْذُوفَةُ بَدَلٌ مِنِ اتَّخَذُوا صِلَةِ الَّذِينَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ، وَبِهِ قَرَأَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا بِمَعْنَى الْمُتَّخَذِينَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَاللَّاتُ وَالْعُزَّى وَنَحْوُهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي اتَّخَذُوا عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ أولياء، وأولياء مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ شَائِعَةٌ فِي الْعَرَبِ، فَقَالَ ذَلِكَ نَاسٌ مِنْهُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ وَنَاسٌ فِي الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ في عزيز، وَقَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى فِي المسيح. وقرىء: مَا نَعْبُدُهُمْ بِضَمِّ النُّونِ، إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْبَاءِ. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ: اقْتَصَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى مُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُتَّخِذِينَ، وَالْمُتَّخَذِينَ وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ هُوَ بِإِدْخَالِ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ مَعَ الْحِجَارَةِ وَالْخَشَبِ الَّتِي نَحَتُوهَا وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، يُعَذِّبُهُمْ بِهَا، حَيْثُ يَجْعَلُهُمْ وَإِيَّاهَا حَصَبَ جَهَنَّمَ. وَاخْتِلَافُهُمْ أَنَّ مَنْ عَبَدُوهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى كَانُوا مُتَبَرِّئِينَ مِنْهُمْ لَاعِنِينَ لَهُمْ مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، إِذَا كَانُوا يَلُومُونَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَيَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، وَالْحُكْمُ إِذْ ذَاكَ هُوَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ: كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، كَفَّارٌ لِأَنْعُمِ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلَ مَكَانَ الشُّكْرِ الْكُفْرَ، وَالْمَعْنَى: لَا يَهْدِي مَنْ خَتَمَ عَلَيْهِ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ عَامٌّ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْخُصُوصِ: فَكَمْ قَدْ هَدَى مَنْ سَبَقَ مِنْهُ الْكَذِبُ وَالْكُفْرُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَهْدِي الْكَاذِبَ الْكَافِرَ فِي حَالِ كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِمَنْعِ الْهِدَايَةِ: مَنْعُ اللُّطْفِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا لُطْفَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْهَالِكِينَ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْجَحْدَرَيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ يَعْمُرَ: كَذَّابٌ كَفَّارٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَذُوبٌ وَكَفُورٌ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ كَذِبِهِمْ دَعْوَى بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَعَبَدُوهَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، تَشْرِيفًا لَهُ وَتَبَنِّيًا، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِالتَّوَالُدِ

الْمَعْرُوفِ، لَاصْطَفى: أَيِ اخْتَارَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يَشَاءُ وَلَدًا عَلَى سَبِيلِ التَّبَنِّي، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «1» ، وَهُوَ عَامٌّ فِي اتِّخَاذِ النَّسْلِ وَاتِّخَاذِ الِاصْطِفَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاتِّخَاذَ هُوَ التَّبَنِّي، وَالِاصْطِفَاءُ قَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ: أَيْ مِنَ الَّتِي أَنْشَأَهَا وَاخْتَرَعَهَا ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ تَنْزِيِهًا مُطْلَقًا فَقَالَ: سُبْحانَهُ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقَهْرِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي لَوْ أَرَادَ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ لا متنع، وَلَمْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ مُحَالًا، وَلَمْ يَتَأَتَّ إِلَّا أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَهُمْ، وَيَخْتَصَّهُمْ وَيُقَرِّبَهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَيُقَرِّبُهُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَلَائِكَةِ، فَافْتَتَنْتُمْ بِهِ وَغَرَّكُمُ اخْتِصَاصُهُ إِيَّاهُمْ، فزعمتم أنه أَوْلَادُهُ جَهْلًا مِنْكُمْ بِهِ وَبِحَقِيقَةِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَرَادَ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا فَعَلَ مِنِ اصْطِفَاءِ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، إلا أنكم لِجَهْلِكُمْ بِهِ، حَسِبْتُمُ اصْطِفَاءَهُمُ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلَادًا، ثُمَّ تَمَادَيْتُمْ فِي جَهْلِكُمْ وَسَفَهِكُمْ، فَجَعَلْتُمُوهُمْ بَنَاتٍ، وَكُنْتُمْ كَذَّابِينَ كَفَّارِينَ مُبَالِغِينَ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكِيبُ لَوْ وَجَوَابِهَا أَنَّهُ كَانَ يَتَرَتَّبُ اصْطِفَاءُ الْوَلَدِ مِمَّا يَخْلُقُ على تقديره اتِّخَاذِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهُ، فَلَا يَصْطَفِيهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ يَعْنِي: لَوْ أَرَادَ إِلَى آخِرِهِ، وَقَوْلِهِ: بَعْدُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَرَادَ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا فَعَلَ مِنِ اصْطِفَاءِ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَلَيْسَ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ. وَلَمَّا نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ وَوَصَفَ ذَاتَهُ بِالْوَحْدَةِ وَالْقَهْرِ، ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنِ اخْتِرَاعِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِالْحَقِّ، وَتَكْوِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَسْخِيرِ النَّيِّرَيْنِ وَجَرْيِهِمَا عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ، وَاتِّسَاقِ أَمْرِهِمَا عَلَى مَا أَرَادَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ تَخْرُبُ بِنْيَةُ هَذَا الْعَالَمِ فَيَزُولُ جَرْيُهُمَا، أَوْ إِلَى وَقْتِ مَغِيبِهِمَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ وَقْتِ قَوَايِسِهَا كُلَّ شَهْرٍ. وَالتَّكْوِيرُ: تَطْوِيلٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَكَأَنَّ الْآخَرَ صَارَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَحْمِلُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُدْخِلُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِهِمَا بِالنُّقْصَانِ مِنَ الْآخَرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُدْخِلُ هَذَا عَلَى هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ أَوْجُهٌ: مِنْهَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةٌ، يَذْهَبُ هَذَا وَيَغْشَى مَكَانَهُ هَذَا وَإِذَا غُشِّيَ مَكَانَهُ فَكَأَنَّمَا أُلْبِسَهُ وَلُفَّ عَلَيْهِ كَمَا يُلَفُّ عَلَى اللَّابِسِ اللِّبَاسُ وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُغِيِّبُ الْآخَرَ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ، فَشُبِّهَ فِي تَغْيِيبِهِ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ ظَاهِرٍ لُفَّ عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنْ مَطَامِحِ الْأَبْصَارِ وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا يَكُرُّ عَلَى هَذَا كرورا

_ (1) سورة مريم: 19/ 92.

مُتَتَابِعًا، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِتَتَابُعِ أَكْوَارِ الْعِمَامَةِ بَعْضِهَا عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ. انْتَهَى. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ: الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْغَفَّارُ لِمَنْ تَابَ، أَوِ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ، سُمِّيَ الْحِلْمُ غُفْرَانًا مَجَازًا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقَهْرِهِ، ذَكَرَ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ الَّذِي كُلِّفَ بِأَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ أَوْجَدَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ حَوَّاءَ عَلَى مَا رُوِيَ خُلِقَتْ مِنْ آدَمَ ، فَقَدْ صَارَ خَلْقًا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِوَسَاطَةِ حَوَّاءَ. وَقِيلَ: أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوَّاءَ ، فَعَلَى هَذَا كَانَ خَلْقًا مِنْ آدَمَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَجَاءَتْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى وَضْعِهَا، ثُمَّ لِلْمُهْلَةِ فِي الزَّمَانِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَظْهَرُ أَنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ كَانَ بَعْدَ خَلْقِنَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَثُمَّ جَاءَ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا، فَلَيْسَ التَّرْتِيبُ فِي زَمَانِ الْجَعْلِ. وَقِيلَ: ثُمَّ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ، أَيْ مِنْ نَفْسٍ وَحَدَتْ، أَيِ انْفَرَدَتْ. ثُمَّ جَعَلَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها، وَمَا تُعْطِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّرَاخِي؟ قُلْتُ: هُمَا آيَتَانِ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي عَدَّدَهَا، دَالًّا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ. تَشَعَّبَ هَذَا الْفَائِتُ لِلْحَصْرِ مِنْ نَفْسِ آدَمَ وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ قُصَيْرَاهُ، إِلَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً، وَالْأُخْرَى لَمْ تَجْرِ بِهَا الْعَادَةُ، وَلَمْ تُخْلَقْ أُنْثَى غَيْرُ حَوَّاءَ من قصيري رَجُلٍ، فَكَانَتْ أَدْخَلَ فِي كَوْنِهَا آيَةً، وَأَجْلَبَ لِعَجَبِ السامع، فعطفها بثم عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى، لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُبَايَنَتِهَا فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَتَرَاخِيهَا عَنْهَا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى زِيَادَةِ كَوْنِهَا آيَةً، فَهُوَ مِنَ التَّرَاخِي فِي الْحَالِ وَالْمَنْزِلَةِ، لَا مِنَ التَّرَاخِي فِي الْوُجُودِ. انْتَهَى. وَأَمَّا ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْجَعْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَوَصْفُ الأنعام بالإنزال مجازا ما، لِأَنَّ قَضَايَاهُ تُوصَفُ بِالنُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ، حَيْثُ كُتِبَ فِي اللَّوْحِ: كُلُّ كَائِنٍ يَكُونُ وَإِمَّا لِعَيْشِهَا بِالنَّبَاتِ والنبات ناشىء عَنِ الْمَطَرِ وَالْمَطَرُ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَسْنِمَةُ الْآبَالِ فِي رَبَابِهْ أَيْ: فِي سَحَابِهِ، وَقَالَ آخَرُ: صَارَ الثَّرِيدُ في رؤوس الْعِيدَانِ وَقِيلَ: خَلَقَهَا فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ أَنْزَلَهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِنْزَالُ أُصُولِهَا حَقِيقَةً. وَالْأَنْعَامُ:

الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ، ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَالزَّوْجُ مَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِذَا انْفَرَدَ فَهُوَ فَرْدٌ وَوِتْرٌ. وَقَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «1» . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ: آخَرَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَظُهُورِ الْآبَاءِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: رُتَبًا خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ عَلَى الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: حَيَوَانًا سَوَيًّا، مِنْ بَعْدِ عِظَامٍ مَكْسُوَّةٍ لَحْمًا، مِنْ بَعْدِ عِظَامٍ عَارِيَةٍ، مِنْ بَعْدِ مُضَغٍ، مِنْ بَعْدِ عَلَقٍ، مِنْ بَعْدِ نُطَفٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ عِيسَى وَطَلْحَةُ: يَخْلُقُكُمْ، بِإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ، وَالظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ: الْبَطْنُ وَالرَّحِمُ وَالْمَشِيمَةُ، وَقِيلَ: الصُّلْبُ وَالرَّحِمُ وَالْبَطْنُ. ذلِكُمُ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مِنْ خلق السموات وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ: أَيْ كَيْفَ تَعْدِلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ؟ إِنْ تَكْفُرُوا، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. وَعِبَادُهُ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، وَهَذَا لِلْكُفَّارِ، فَجَاءَ إِنْ تَكْفُرُوا خِطَابًا لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَعَنْ عِبَادَتِكُمْ، إِذْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ تَعَالَى مَنْفَعَةٌ بِكُمْ وَلَا بِعِبَادَتِكُمْ إِذْ هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَلَفْظُ عِبَادِهِ عَامٌّ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُصُوصُ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمُؤْمِنُو الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالرِّضَا بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، فَعَلَى هذا صِفَةُ ذَاتٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْعُمُومُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَالرِّضَا مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ، عَبَّرَ بِهِ عَنِ الشُّكْرِ وَالْإِثَابَةِ، أَيْ لَا يَشْكُرُهُ لَهُمْ دِينًا وَلَا يُثِيبُهُمْ بِهِ خَيْرًا، فَالرِّضَا عَلَى هَذَا صِفَةُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْقَبُولِ وَالْإِثَابَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَأَمَّلْ الْإِرَادَةَ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا إِنَّمَا هِيَ فِيمَا لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَالرِّضَا حَقِيقَتُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا قَدْ وَقَعَ، وَاعْتَبِرْ هَذَا فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ تَجِدْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ فِي أَشْعَارِهِمْ عَلَى جِهَةِ التَّجَوُّزِ هَذَا بَدَلَ هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الْغُوَاةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ مِنَ الرِّضَا لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَمَا أَرَادَ إِلَّا عِبَادَهُ الَّذِينَ عَنَاهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «2» ، يُرِيدُ الْمَعْصُومِينَ لِقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «3» ، تَعَالَى الله

_ (1) سورة القيامة: 75/ 39. (2) سورة الحجر: 15/ 42، وسورة الإسراء: 17/ 65. (3) سورة الإنسان: 76/ 6.

عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ. انْتَهَى. فَسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ وَأَعْلَامَ أَهْلِ السُّنَّةِ بَعْضَ الْغُوَاةِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الظَّالِمِينَ، وَذَلِكَ مِنْ سَفَهِهِ وَجُرْأَتِهِ، كَمَا قَلْتُ فِي قَصِيدَتَيِ الَّتِي ذَكَرْتُ فِيهَا مَا يُنْقَدُ عَلَيْهِ: وَيَشْتِمُ أَعْلَامَ الأممة ضلة ... ولا سيما إن أَوْلَجُوهُ الْمَضَايِقَا وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُضَاعِفُ لَكُمْ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ ثَوَابَ الشُّكْرِ وَقِيلَ: يَقْبَلُهُ مِنْكُمْ. قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: قُوَّةُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَشْكُرُوا: تُؤْمِنُوا حَتَّى يَصِيرَ بِإِزَاءِ الْكُفْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالطَّاعَاتِ شُكْرًا فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «1» . انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سَبَأٍ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: يَرْضَهُ بِوَصْلِ ضَمَّةِ الْهَاءِ بِوَاوٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: بِضَمَّةٍ فَقَطْ وَأَبُو بَكْرٍ: بِسُكُونِ الْهَاءِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهُوَ غَلَطٌ لَا يَجُوزُ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِغَلَطٍ، بَلْ ذَلِكَ لُغَةٌ لِبَنِي كِلَابٍ وَبَنِي عَقِيلٍ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ إِلَى: بِذاتِ الصُّدُورِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ، أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ، قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُنَا جِنْسُ الْكَافِرِ، وَقِيلَ: مُعَيَّنٌ، كَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَيَدْخُلُ فِي الضُّرِّ جَمِيعُ الْمَكَارِهِ فِي جِسْمٍ أَوْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ. دَعا رَبَّهُ: اسْتَجَارَ رَبَّهُ وَنَادَاهُ، وَلَمْ يُؤَمِّلْ فِي كَشْفِ الضُّرِّ سِوَاهُ، مُنِيباً إِلَيْهِ: أَيْ رَاجِعًا إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي إِزَالَةِ ذلك.

_ (1) سورة سبأ: 34/ 13.

ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ: أَنَالَهُ وَأَعْطَاهُ بَعْدَ كَشْفِ ذَلِكَ الضُّرِّ عَنْهُ. وَحَقِيقَةُ خَوَّلَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ خَائِلُهُ، قَالَ: إِذَا كَانَ مُتَعَهِّدًا حُسْنَ الْقِيَامِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ خَالَ يَخُولُ، إِذَا اخْتَالَ وَافْتَخَرَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: إِنَّ الْغَنِيَّ طَوِيلَ الذَّيْلِ مَيَّاسٌ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا: أَيْ تَرَكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَى كَشْفِهِ. وَقِيلَ: مَا بِمَعْنَى مَنْ، أَيْ نَسِيَ رَبَّهُ الَّذِي كَانَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ وَيَبْتَهِلُ فِي كَشْفِ ضُرِّهِ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ نَسِيَ كَوْنَهُ يَدْعُو. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: نَسِيَ، أَيْ نَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ. وَمَا نَافِيَةٌ، نَفَى أَنْ يَكُونَ دُعَاءَ هَذَا الْكَافِرِ خَالِصًا لِلَّهِ مَقْصُورًا مِنْ قِبَلِ الضَّرَرِ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ تَخْوِيلِ النِّعْمَةِ، وَهُوَ زَمَانُ الضَّرَرِ. وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً: أَيْ أَمْثَالًا يُضَادُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُعَارِضُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنَ الرِّجَالِ يُطِيعُونَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوْثَانًا، وَهَذَا مِنَ سَخْفِ عُقُولِهِمْ. حِينَ مَسَّ الضُّرُّ، دَعَوُا اللَّهَ وَلَمْ يَلْتَجِئُوا فِي كَشْفِهِ إِلَّا إِلَيْهِ وَحِينَ كَشَفَ ذَلِكَ وَخَوَّلَ النِّعْمَةَ أَشْرَكُوا بِهِ، فَاللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ، وَقِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيُضِلَّ، بِضَمِّ الْيَاءِ: أَيْ مَا اكْتَفَى بِضَلَالِ نَفْسِهِ حَتَّى جَعَلَ غَيْرَهُ يَضِلُّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ، وَعِيسَى: بِفَتْحِهَا، ثُمَّ أَتَى بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَقَالَ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا: أَيْ تَلَذَّذْ وَاصْنَعْ مَا شِئْتَ قَلِيلًا، أَيْ عُمْرًا قَلِيلًا، وَالْخِطَابُ لِلْكَافِرِ جَاعِلِ الْأَنْدَادِ لِلَّهِ. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ: أَيْ مِنْ سُكَّانِهَا الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ، أَيْ مِنْ بَابِ الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِذْ قَدْ أَبَيْتَ قَبْلُ مَا أَمَرْتُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَمِنْ حَقِّكِ أَنْ لَا تُؤْمَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَيُؤْمَرُ بِتَرْكِهِ مُبَالَغَةَ في خِذْلَانِهِ وَتَخْلِيَتِهِ وَشَأْنَهُ، لِأَنَّهُ لَا مُبَالَغَةَ فِي الْخِذْلَانِ أَشَدُّ مِنَ أَنْ يُبْعَثَ عَلَى عَكْسِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْمَعْنَى: مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «1» . انْتَهَى. وَلَمَّا شَرَحَ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ الضَّالِّينَ الْمُشْرِكِينَ، أَرْدَفَهُ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُهْتَدِينَ الْمُوَحِّدِينَ فقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَعِيسَى، وَشَيْبَةُ، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ: أَمَنْ، بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهَمْزَةَ لِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ، وَمُقَابِلُهُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: أَهَذَا الْقَانِتُ خَيْرٌ أَمِ الْكَافِرُ الْمُخَاطَبُ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 197.

بِقَوْلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَمِنْ حَذْفِ الْمُقَابِلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا تَقْدِيرُهُ: أَمْ غَيٌّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَمْزَةُ لِلنِّدَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ قُلْ خِطَابًا لَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَجْنَبِيُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَلَا الْتِفَاتَ لِتَضْعِيفِ الْأَخْفَشِ وَأَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّنْ، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَهِيَ أَمْ أُدْغِمَتْ مِيمُهَا فِي مِيمِ مَنْ، فَاحْتَمَلَتْ أَمْ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً وَمُعَادِلُهَا مَحْذُوفٌ قَبْلَهَا تَقْدِيرُهُ: أَهَذَا الْكَافِرُ خَيْرٌ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ؟ قَالَ مَعْنَاهُ الْأَخْفَشُ، وَيَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَى سَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ أَنْ يُحْذَفَ الْمُعَادِلُ الْأَوَّلُ. وَاحْتَمَلَتْ أَمْ أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً تَتَقَدَّرُ بِبَلْ، وَالْهَمْزَةِ وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ صِفَتُهُ كَذَا، كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: أم بمعنى بل، ومن بِمَعْنَى الَّذِي، وَالتَّقْدِيرُ: بَلِ الَّذِي هُوَ قَانِتٌ أَفْضَلُ مِمَّنْ ذُكِرَ قَبْلَهُ. انْتَهَى. وَلَا فَضْلَ لِمَنْ قَبْلَهُ حَتَّى يُجْعَلَ هَذَا أَفْضَلُ، بَلْ يُقَدَّرُ الْخَبَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ. والقانت: المطيع، قال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْقُنُوتِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ساجِداً وَقائِماً، بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَالضَّحَّاكُ: بِرَفْعِهِمَا إِمَّا عَلَى النَّعْتِ لقانت، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ. يَحْذَرُ الْآخِرَةَ: أي عذاب الآخرة، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ: أَيْ حُصُولَهَا، وَقِيلَ: نَعِيمَ الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْمُتَّصِفُ بِالْقُنُوتِ إِلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عُثْمَانُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ قِيَامِ النَّهَارِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَمَلَ ذَكَرَ الْعِلْمَ فَقَالَ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فَدَلَّ أن كما الْإِنْسَانِ مَحْصُورٌ فِي هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ، فَكَمَا لَا يَسْتَوِي هَذَانِ، كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا: مَا أَدَّى إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَنَجَاةِ الْعَبْدِ مِنْ سُخْطِهِ. وَقَرَأَ: يَذَّكَّرُ، بِإِدْغَامِ تَاءِ يَتَذَكَّرُ فِي الذَّالِ. قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ عَزَمُوا عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى

أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَعَدَهُمْ تَعَالَى فَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ. وَالظَّاهِرُ تعلق في هذه بأحسنوا، وَأَنَّ الْمُحْسِنِينَ فِي الدُّنْيَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةٌ، أَيْ حَسَنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَالصِّفَةُ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا لَا يُوعَدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مُطْلَقُ حَسَنَةٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي هَذِهِ مِنْ تَمَامِ حَسَنَةٍ، أَيْ وَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، أَيْ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ لَهُمْ حَسَنَةٌ كَائِنَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْحَسَنَةُ الَّتِي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْعَافِيَةُ وَالظُّهُورُ وَوِلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ حَضَّ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، كَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «1» ، أَيْ لَا عُذْرَ لِلْمُفَرِّطِينَ أَلْبَتَّةَ، حَتَّى لَوِ اعْتَلُّوا بِأَوْطَانِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ فِيهَا مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ بِلَادَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَاسِعَةٌ، فَتَحَوَّلُوا إِلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُمْكِنُكُمْ فِيهَا الطَّاعَاتُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: وَأَرْضُ اللَّهِ: الْمَدِينَةُ لِلْهِجْرَةِ، قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَحْسَنُوا: هَاجَرُوا، وَحَسَنَةٌ: رَاحَةٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرْضُ اللَّهِ هُنَا: الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ تَحَكُّمٌ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوَى ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَنِ اتَّقَى لَهُ فِي الْآخِرَةِ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ لِقَوْلِهِ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ «2» ، وَقَوْلِهِ: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ «3» . وَلَمَّا كَانَتْ رُتْبَةُ الْإِحْسَانِ مُنْتَهَى الرُّتَبِ، كَمَا جَاءَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَكَانَ الصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ، وَخُصُوصًا مَنْ فَارَقَ وَطَنَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَصَبَرَ عَلَى بَلَاءِ الْغُرْبَةِ. ذَكَرَ أَنَّ الصَّابِرِينَ يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ لَا يُحَاسَبُونَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يُحَاسَبُ غَيْرُهُمْ أَوْ يُوَفَّوْنَ مَا لَا يَحْصُرُهُ حِسَابٌ مِنَ الْكَثْرَةِ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ: أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُصْدِعَ الْكُفَّارَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، يُخَلِّصَهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَأُمِرْتُ: أَيْ أُمِرْتُ بِمَا أُمِرْتُ، لِأَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، أَيِ انْقَادَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَعْنِي مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ مِنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّهُ أول من حالف عُبَّادَ الْأَصْنَامِ، أَوْ أَوَّلُ مَنْ دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ إِسْلَامًا، أَوْ أَوَّلُ مَنْ دَعَا نَفْسَهُ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ غَيْرَهُ، لِأَكُونَ مُقْتَدًى بِي قَوْلًا وَفِعْلًا، لَا كَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِمَا لَا يَفْعَلُونَ، أَوْ أَنْ أَفْعَلَ مَا أَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَوَّلِيَّةَ مِنَ أَعْمَالِ السَّابِقَيْنِ دَلَالَةً عَلَى السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف عطف

_ (1) سورة النساء: 4/ 97. (2) سورة الزمر وهذه السورة: آية 74. (3) سورة آل عمران: 3/ 133. [.....]

أُمِرْتُ عَلَى أُمِرْتُ وَهُمَا وَاحِدٌ؟ قُلْتُ: لَيْسَا بِوَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ جِهَتَيْهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِخْلَاصِ وَتَكْلِيفَهُ شَيْءٌ، وَالْأَمْرَ بِهِ لِتُحْرِزَ بِهِ قَصَبَ السَّبْقِ فِي الدِّينِ شَيْءٌ. وَإِذَا اخْتَلَفَ وَجْهَا الشَّيْءِ وَصِفَتَاهُ يُنَزَّلُ بِذَلِكَ مَنْزِلَةَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ مَزِيدَةً مِثْلَهَا فِي أَرَدْتُ، لِأَنَّ أَفْعَلَ لَا تُزَادُ إِلَّا مَعَ أَنْ خَاصَّةً دُونَ الِاسْمِ الصَّرِيحِ، كَأَنَّهَا زِيدَتْ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ إِلَى مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا عَوَّضَ السِّينَ فِي اسْطَاعَ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ أَطْوَعُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَجِيئُهُ بِغَيْرِ لَامٍ فِي قوله: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ «1» . انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ فِي أَنْ أَكُونَ فِي ثَلَاثَةِ الْمَوَاضِعِ أَصْلُهُ لِأَنْ أَكُونُ، فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَتِ اللَّامُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ هُنَا إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَقُولُ الْقَوْلِ في سورة يونس. لما أَمَرَهُ أَوَّلًا أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ أُمِرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، أَمَرَ ثَانِيًا أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ. وَتَقْدِيمُ الْجَلَالَةِ دَالٌّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِمَنْ يُعْبَدُ، وَعِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَ: وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، قَدَّمَ الْمَعْبُودَ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ، وَأَخَّرَهُ فِي الْأَوَّلِ. فَالْكَلَامُ أَوَّلًا وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ وَإِيجَادِهِ، وَثَانِيًا فِيمَنْ يُفْعَلُ الْفِعْلُ لِأَجْلِهِ، وَلِذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْوَارِدِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ: صِيغَةُ أَمْرٍ عَلَى جِهَةِ التَّهْدِيدِ لِقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ «2» . قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ: أَيْ حَقِيقَةُ الْخُسْرَانِ، الَّذِينَ خَسِرُوا: أَيْ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، حَيْثُ صَارُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَهْلِيهِمْ: الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَيْثُ كَانُوا مَعَهُمْ فِي النَّارِ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُوهُمْ قَدْ آمَنُوا، فُخُسْرَانُهُمْ إِيَّاهُمْ كَوْنُهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ بِهِمْ وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَهْلًا فِي الْجَنَّةِ فَخَسِرُوهُمْ، وَقَالَ مَعْنَاهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْحُورُ الْعِينُ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخُسْرَانَ وَبَالَغَ فِيهِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَتَأْكِيدِهِ بِالْفِعْلِ، وَتَعْرِيفِهِ بِأَلْ، وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْمُبِينُ: أَيِ الْوَاضِحُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ خُسْرَانَهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، وَأَنَّهُ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ، فَيُظْهِرُ أَنَّ النَّارَ تغاشهم مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ، وَسَمَّى مَا تَحْتَهُمْ ظُلَلًا

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 14. (2) سورة الزمر: 8.

لِمُقَابَلَةِ مَا فَوْقَهُمْ، كَمَا قَالَ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «1» وَقِيلَ: هِيَ ظُلَلٌ لِلَّذِينِ هُمْ تَحْتَهُمْ، إِذِ النَّارُ طِبَاقٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَحْتُهُمْ يَلْتَهِبُ وَيَتَصَاعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ ظُلَّةً، فَسُمِّيَ ظُلَّةً بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ أَخِيرًا. ذلِكَ: أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ: لِيَعْلَمُوا مَا يُخَلِّصُكُمْ مِنْهُ، ثُمَّ ناداهم وأمرهم فقال: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ: أَيِ اتَّقَوْا عَذَابِي. وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَسَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْإِشَارَةُ بِهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ، سَمِعُوا ذَلِكَ فجاؤوه وَقَالُوا: أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَكَّرَهُمْ بِاللَّهِ، فَآمَنُوا بِأَجْمَعِهِمْ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ، وَهِيَ مُحْكَمَةٌ فِي النَّاسِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالطَّاغُوتُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الطَّوَاغِيتَ جَمْعًا. أَنْ يَعْبُدُوها: أَيْ عِبَادَتَهَا، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. لَهُمُ الْبُشْرى: أَيْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالثَّوَابِ. فَبَشِّرْ عِبادِ: هُمُ الْمُجْتَنِبُونَ الطَّاغُوتَ إِلَى اللَّهِ. وضع الظاهر موضع المضمر لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ، وَلِيَتَرَتَّبَ عَلَى الظَّاهِرِ الْوَصْفُ، وَهُوَ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ: ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِنُفُوذِ بَصَائِرِهِمْ وَتَمْيِيزِهِمُ الْأَحْسَنَ، فَإِذَا سَمِعُوا قَوْلًا تَبَصَّرُوهُ. قِيلَ: وَأَحْسَنُ الْقَوْلِ: الْقُرْآنُ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ: الْقُرْآنُ، وَأَحْسَنُهُ: مَا فِيهِ مِنْ صَفْحٍ وَعَفْوٍ وَاحْتِمَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَحْسَنُ الْقَوْلِ طَاعَةُ اللَّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ مَعَ الْقَوْمِ، فَيَسْمَعُ الْحَدِيثَ فِيهِ مَحَاسِنُ وَمَسَاوٍ، فَيُحَدِّثُ بِأَحْسَنِ مَا سَمِعَ، وَيَكُفُّ عن ما سواه. والَّذِينَ: وصف لعباد. وَقِيلَ: الْوَقْفُ عَلَى عِبَادِ، وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أُولَئِكَ وما بعده.

_ (1) الأعراف: 7/ 41.

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، أَيْ نَفَّذَ عَلَيْهِ الْوَعِيدَ بِالْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أنها جملة مستقلة، ومن مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: يَتَأَسَّفُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَتَخَلَّصُ مِنْهُ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأَنْتَ تُخَلِّصُهُ، قَالَ: حُذِفَ لِدَلَالَةِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ عَلَيْهِ؟ وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ جُمْلَةً حَتَّى تَقَرَّ الْهَمْزَةُ فِي مَكَانِهَا وَالْفَاءُ فِي مَكَانِهَا، فَقَالَ: التَّقْدِيرُ: أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ؟ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلٌ انْفَرَدَ بِهِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ. وَالَّذِي تَقُولُهُ النُّحَاةُ أَنَّ الْفَاءَ لِلْعَطْفِ وَمَوْضِعُهَا التَّقْدِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ، لَكِنِ الْهَمْزَةَ، لَمَّا كَانَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، قُدِّمَتْ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ: فَأَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ، وَقُدِّمَ فِيهِ الضَّمِيرُ إِشْعَارًا بِأَنَّكَ لَسْتَ تَقْدِرُ أَنْ تُنْقِذَهُ مِنَ النَّارِ، بَلْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ، مِنْهُمُ الْحَوْفَيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، إِلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ أَفَأَنْتِ، فَالْفَاءُ فَاءُ الْجَوَابِ دَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَأُعِيدَتِ الْهَمْزَةُ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَوُضِعَ مَنْ فِي النَّارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، إِذْ كَانَ الْأَصْلُ تُنْقِذُهُ، وَإِنَّمَا أُظْهِرَ تَشْهِيرًا لِحَالِهِمْ وَإِظْهَارًا لِخِسَّةِ مَنَازِلِهِمْ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَجِيءَ بِأَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ تَوْكِيدًا، وَلَوْلَا طُولُهُ، لَمْ يَجُزِ الْإِتْيَانُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الِاسْمِ، وَأَلِفٌ أُخْرَى فِي الْجَزَاءِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ؟ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ قَدِ اجْتَمَعَ اسْتِفْهَامٌ وَشَرْطٌ عَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَنَّ الْهَمْزَةَ قَدَّمَتْ مَنْ تَأَخَّرَ، فَيَجِيءُ الْخِلَافُ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَيُونُسَ: هَلِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ لِلْمُسْتَفْهِمِ عَنْهَا أَوْ هِيَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ وَعَلَى تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ: لَمْ تَدْخُلِ الْهَمْزَةُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَجْتَمِعِ اسْتِفْهَامٌ وَشَرْطٌ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عِنْدَهُ دَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ عِنْدَهُ، وَهُوَ: أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ؟ وَفَمَنْ مَعْطُوفٌ عَلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، عُطِفَتْ جُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَنَزَلَ اسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَ، وَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ دُخُولِهِمُ النَّارَ، وَنَزَلَ اجْتِهَادُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ مَنْزِلَةَ انْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَأَنَّ الْخَاسِرِينَ لَهُمْ ظُلَلٌ، ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَاسَبَ الِاسْتِدْرَاكَ هُنَا، إِذْ هُوَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا. فَفِي ذَلِكَ حَضٌّ عَلَى التَّقْوَى، لَهُمْ عَلَالِيُّ مُرْتَفِعَةٌ فَوْقَهَا عَلَالِيُّ مَبْنِيَّةٌ، أَيْ بِنَاءَ الْمَنَازِلِ الَّتِي سُوِّيَتْ عَلَى الْأَرْضِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ تَحْتِهَا عَائِدٌ عَلَى الْجَمْعَيْنِ، أَيْ مِنْ تَحْتِ الْغُرَفِ السُّفْلَى وَالْغُرَفِ الْعُلْيَا، لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَصْدَرِ

الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، إِذْ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الْوَعْدِ. أَلَمْ تَرَ: خِطَابٌ وَتَوْقِيفٌ لِلسَّامِعِ عَلَى مَا يَعْتَبِرُ بِهِ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا واضمحلالها. فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ: أد أَدْخَلَهُ مَسَالِكَ وَعُيُونًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَاءَ الْعُيُونِ هُوَ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، تَحْبِسُهُ الْأَرْضُ وَيَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا. ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً، ذَكَرَ مِنَّتَهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِمَا تَقُومُ بِهِ مَعِيشَتُنَا. مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ: مِنْ أَحْمَرَ وَأَبْيَضَ وَأَصْفَرَ، وَشَمِلَ لَفْظُ الزرع جميع ما يرزع مِنْ مُقْتَاتٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ مُخْتَلِفًا أَصْنَافُهُ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَسِمْسِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ يَهِيجُ: يُقَارِبُ الثِّمَارَ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا: أَيْ زَالَتْ خُضْرَتُهُ وَنَضَارَتُهُ. وَقَرَأَ أَبُو بِشْرٍ: ثُمَّ يَجْعَلَهُ، بِالنَّصْبِ فِي اللَّامِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِخْرَاجِ الزَّرْعِ بِهِ وَتَنَقُّلَاتِهِ إِلَى حَالَةِ، الْحُطَامِيَّةِ، لَذِكْرى: أَيْ لَتَذْكِرَةً وَتَنْبِيهًا عَلَى حِكْمَةِ فَاعِلِ ذَلِكَ وَقُدْرَتِهِ. أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ: نَزَلَتْ فِي حمزة، وعلي، ومن مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ تَقْدِيرُهُ: كَالْقَاسِي الْمُعْرِضِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَبُو لَهَبٍ وَابْنُهُ كَانَا مِنَ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَشَرْحُ الصَّدْرِ اسْتِعَارَةٌ عَنْ قَبُولِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ وَالنُّورِ وَالْهِدَايَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كَيْفَ انْشِرَاحُ الصُّدُورِ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ، قُلْنَا: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالتَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ» . فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ: أَيْ مِنْ أَجْلِ ذِكْرِهِ، أَيْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهُمْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ. أُولئِكَ: أَيِ الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمْ، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ، لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَهَا. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا بِأَحَادِيثَ حِسَانٍ، وَبِأَخْبَارِ الدَّهْرِ، فَنَزَلَ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ الصَّحَابَةَ ملأوا مَكَّةَ، فَقَالُوا لَهُ: حَدِّثْنَا، فَنَزَلَتْ. وَالِابْتِدَاءُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِسْنَادُ نَزَّلَ لِضَمِيرِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِلْمُنَزَّلِ وَرَفْعٌ مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ: الْمَلِكُ أَكْرَمَ فُلَانًا، هُوَ أَفْخَمُ مِنْ: أَكْرَمَ الْمَلِكُ فُلَانًا. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ الْبَدَاءَةُ بِالْأَشْرَفِ مِنْ تَذَكُّرِ مَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1» ، وكِتاباً بَدَلٌ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. انْتَهَى. وَكَانَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ مَعْرِفَةٌ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةٍ. وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، فِيهِ خِلَافٌ. فَقِيلَ: إِضَافَتُهُ مَحْضَةٌ، وقيل: غير محضة. ومُتَشابِهاً: مُطْلَقٌ فِي مُشَابَهَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا. فَمَعَانِيهِ مُتَشَابِهَةٌ، لَا تَنَاقُضَ فِيهَا وَلَا تَعَارُضَ، وَأَلْفَاظُهُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالتَّنَاسُبِ، بِحَيْثُ أَعْجَزَتِ الفصحاء وَالْبُلَغَاءَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَثانِيَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَهِشَامٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بِشْرٍ: بِسُكُونِ الْيَاءِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا، وَسَكَّنَ الْيَاءَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَكِّنُ الْيَاءَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا استثقالا للحركة عليها. ومثاني يَظْهَرُ أَنَّهُ جَمْعُ مَثْنًى، وَمَعْنَاهُ: مَوْضِعُ تَثْنِيَةِ الْقَصَصِ وَالْأَحْكَامِ وَالْعَقَائِدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقِيلَ: يُثَنِّي فِي الصَّلَاةِ بِمَعْنَى: التَّكْرِيرِ وَالْإِعَادَةِ. انْتَهَى. وَوَصَفَ الْمُفْرَدَ بِالْجَمْعِ، لِأَنَّ فِيهِ تَفَاصِيلَ، وَتَفَاصِيلُ الشَّيْءِ جُمْلَتُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: الْقُرْآنُ سُوَرٌ وَآيَاتٌ؟ فَكَذَلِكَ تَقُولُ: أَحْكَامٌ وَمَوَاعِظُ مُكَرَّرَاتٌ، وَأَصْلُهُ كِتَابًا مُتَشَابِهًا فُصُولًا مَثَانِيَ، حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ بُرْمَةٌ أَعْشَارٌ وُثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، وَأَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا عَنْ مُتَشَابِهًا، فَيَكُونُ مَنْقُولًا مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ مُتَشَابِهًا مَثَانِيهِ. كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ رَجُلًا حَسَنًا شَمَائِلَ، وَفَائِدَةُ تَثْنِيَتِهِ وَتَكُرُّرِهِ رُسُوخُهُ فِي النُّفُوسِ، إِذْ هِيَ أَنْفَرُ شَيْءٍ عَنْ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ. وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الْقُشَعْرِيرَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْخَشْيَةِ، مَحْسُوسٌ يُدْرِكُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنَ التَّأَثُّرِ الْقَلْبِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلُ تَصْوِيرٍ لِإِفْرَاطِ خَشْيَتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حِينَ يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى مَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ، عَرَتْهُمْ خَشْيَةٌ تَنْقَبِضُ منها جلودهم.

_ (1) سورة الحج: 22/ 75.

ثم إذا ذكروا لله وَرَحْمَتَهُ لَانَتْ جُلُودُهُمْ، أَيْ زَالَ عَنْهَا ذَلِكَ التَّقَبُّضُ النَّاشِئُ عَنْ خَشْيَةِ الْقُلُوبِ بِزَوَالِ الْخَشْيَةِ عَنْهَا، وَضَمَّنَ تَلِينُ مَعْنَى تَطْمَئِنُّ جُلُودُهُمْ لَيِّنَةً غَيْرَ مُنْقَبِضَةٍ، وَقُلُوبُهُمْ رَاجِيَةٌ غَيْرُ خَاشِيَةٍ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِإِلَى. وَكَانَ فِي ذِكْرِ الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَأَثُّرِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ، فَاكْتَفَى بِقُشَعْرِيرَةِ الْجُلُودِ عَنْ ذِكْرِ خَشْيَةِ الْقُلُوبِ لِقِيَامِ الْمُسَبَّبِ مَقَامَ السَّبَبِ. فَلَمَّا ذَكَرَ اللِّينَ ذَكَرَهُمَا، وَفِي ذِكْرِ اللِّينِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ رَحْمَةُ اللَّهِ، كَمَا كَانَ فِي قَوْلُهُ: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ «1» ، دَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَجِلَتْ عَنْ ذِكْرِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ إِذَا ذُكِرَ وَعِيدُ اللَّهِ وَبَطْشُهُ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا» . وقال ابن عمر: وقدر أي سَاقِطًا مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: إِنَّا لِنَخْشَى اللَّهَ، وَمَا نُسْقِطُ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ فِي جَوْفِ أَحَدِهِمْ. وقالت أسماء بنت أبي بكر: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، قِيلَ لَهَا: إِنَّ قَوْمًا الْيَوْمَ إذا سمعوا الْقُرْآنَ خَرَّ أَحَدُهُمْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ هؤلاء الذين بصرعون عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمْ عَلَى حَائِطٍ بَاسِطًا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، فَإِنْ رَمَى بِنَفْسِهِ فَهُوَ صَادِقٌ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ، أَوْ إِلَى ذَيْنِكَ الْوَصْفَيْنِ مِنَ الِاقْشِعْرَارِ وَاللِّينِ، أَيْ أَثَرُ هُدَى اللَّهِ. أَفَمَنْ يَتَّقِي: أَيْ يَسْتَقْبِلُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ واتقتنا باليد أي: استقبلتنا بِيَدِهَا لِتَقِيَ بِيَدِهَا وَجْهَهَا أَنْ يُرَى. وَالظَّاهِرُ حَمْلُ بِوَجْهِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. لَمَّا كَانَ يُلْقَى فِي النَّارِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى رِجْلَيْهِ مَعَ عُنُقِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَتَّقِي بِهِ النَّارَ إِلَّا وَجْهَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَصْفُ كَثْرَةِ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، يَتَّقِيهِ أَوَّلًا بِجَوَارِحِهِ، فَيَتَزَيَدُ حَتَّى يَتَّقِيَهُ بِوَجْهِهِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ جَوَارِحِهِ، وَفِيهِ جَوَابٌ، وَهُوَ غَايَةُ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدِي أَبْيَنُ بَلَاغَةً. فِي هَذَا الْمِضْمَارِ يَجْرِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَلْقَى السُّيُوفَ بِوَجْهِهِ وَبِنَحْرِهِ ... وَيُقِيمُ هَامَتَهُ مَقَامَ الْمِغْفَرِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ عِظَمَ جُرْأَتِهِ عَلَيْهَا، فَهُوَ يَلْقَاهَا بِكُلِّ مِجَنٍّ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَنْهُ، حَتَّى بوجهه

_ (1) سورة الحج: 22/ 35.

وبنحره. انتهى. وسُوءَ الْعَذابِ: أَشَدَّهُ، وَخَبَرُ مَنْ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَنْ أَمِنَ الْعَذَابَ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: كَالْمُنَعَّمِينَ فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ: أَيْ قَالَ ذَلِكَ خَزَنَةُ النَّارِ، ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ: أَيْ وَبَالَ مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: تمثيل لقريش بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ. فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ: مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ مِنَ قِبَلِهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ الشَّرَّ يَأْتِيهِمْ مِنْهَا. كَانُوا فِي أَمْنٍ وَغِبْطَةٍ وَسُرُورٍ، فَإِذَا هُمْ مُعَذَّبُونَ مَخْزِيُّونَ ذَلِيلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَمْسُوخٍ وَمَقْتُولٍ وَمَأْسُورٍ وَمَنْفِيٍّ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ. وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَرَبِيًّا عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ هو عربيا، وقرآنا تَوْطِئَةٌ لَهُ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَدْحِ، وَنَفَى عَنْهُ العوج، لأنه مستقيم يرى مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: غَيْرُ مُضْطَرِبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مُخْتَلِفٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرُ ذِي لَبْسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذِي لَحْنٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قِيلَ مُسْتَقِيمًا أَوْ غَيْرَ مُعْوَجٍّ؟ قُلْتُ: فِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: نَفَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِوَجٌ قَطُّ، كَمَا قَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً «1» والثانية: أَنَّ لَفْظَ الْعِوَجِ مُخْتَصٌّ بِالْمَعَانِي دُونَ الْأَعْيَانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِوَجِ: الشَّكُّ وَاللَّبْسُ، وَأَنْشَدَ: وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينًا غَيْرُ ذِي عِوَجِ ... مِنَ الْإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ ضَرَبَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ: أَيْ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، ضَرَبَ هُنَا مَثَلًا لِعَابِدِ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَمَثَّلَ بَرْجَلٍ مَمْلُوكٍ اشْتَرَكَ فِيهِ مُلَّاكٌ سَيِّئُو الْأَخْلَاقِ، فَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُوَفِّيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُودَهُ، إِذْ لَا يَتَغَاضَى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لِمُشَاحَتِهِمْ، وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ عَلَى التَّمَامِ، فَلَا يَزَالُ فِي عَنَاءٍ وَتَعَبٍ وَلَوْمٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ. وَرَجُلٌ آخَرُ مَمْلُوكٌ جَمِيعُهُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ مَعْنِيٌّ بِشُغْلِهِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَمَالِكُهُ رَاضٍ عَنْهُ إِنْ قَدْ خَلُصَ لِخِدْمَتِهِ وَبَذَلَ جُهْدَهُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، فَلَا يَلْقَى مِنْ سَيِّدِهِ إِلَّا إِحْسَانًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَصْبِ الْمَثَلِ وَمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ رَجُلًا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ مَثَلًا لِرَجُلٍ، أَوْ فِي رَجُلٍ فِيهِ، أَيْ فِي رِقِّهِ مُشْتَرَكًا، وَفِيهِ صِلَةٌ لِشُرَكَاءَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عباس، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، والحسن:

_ (1) سورة الكهف: 18/ 1.

بِخِلَافٍ عَنْهُ وَالْجَحْدَرَيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: سَالِمًا اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ سَلِمَ، أَيْ خَالِصًا مِنَ الشَّرِكَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: سَلَمًا بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: سِلْمًا بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وهما مصدران وُصِفَ بِهِمَا مُبَالَغَةً فِي الخلوص من الشركة. وقرىء: وَرَجُلٌ سَالِمٌ، بِرَفْعِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَهُنَاكَ رَجُلٌ سَالِمٌ لِرَجُلٍ. انْتَهَى، فَجَعَلَ الْخَبَرَ هُنَاكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَجُلٌ مُبْتَدَأً، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا جَعَلَهُ رجلا ليكون أفظن لِمَا شَقِيَ بِهِ أَوْ سَعِدَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ قَدْ يَغْفَلَانِ عَنْ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلُهُمَا؟ وَاقْتَصَرَ فِي التَّمْيِيزِ عَلَى الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ الْمُقْتَصَرُ عَلَيْهِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، وَلِبَيَانِ الْجِنْسِ. وقرىء: مَثَلَيْنِ، فَطَابَقَ حَالَ الرَّجُلَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِيمَنْ قَرَأَ مَثَلَيْنِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَسْتَوِيَانِ لِلْمَثَلَيْنِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَثَلُ رَجُلٍ، وَالْمَعْنَى: هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَصْفِيَّةِ؟ كَمَا يَقُولُ: كَفَى بِهِمَا رَجُلَيْنِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي يَسْتَوِيَانِ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا جَعَلْتَهُ عَائِدًا إِلَى الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ أَنَّ التَّقْدِيرَ مَثَلَ رَجُلٍ وَرَجُلٍ، فَإِنَّ التَّمْيِيزَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ قَدْ فُهِمَ مِنَ الْمُمَيَّزِ الَّذِي هُوَ الضَّمِيرُ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي الْمَثَلَانِ مَثَلَيْنِ؟ قُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: أَيِ الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَتْ وَحْدَانِيَّتُهُ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحْمَدَ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَيُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ. وَلَفْظَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تُشْعِرُ بِوُقُوعِ الْهَلَاكِ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» . وَلَمَّا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ، أَخْبَرَ الْجَمِيعَ بِأَنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَصَائِرُونَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ اخْتَصَامَكُمْ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، فَيَتَمَيَّزُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَتْبَاعُهُ الْمُحِقُّونَ الْفَائِزُونَ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْكَافِرُونَ هُمُ الْمُبْطِلُونَ. فَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّكَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَتَدْخُلُ مَعَهُ أُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَإِنَّهُمْ عَلَى الْكُفَّارِ، وَغُلِّبَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي إِنَّكَ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي إِنَّهُمْ،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 45.

[سورة الزمر (39) : الآيات 32 إلى 75]

وَلِذَلِكَ جَاءَ تَخْتَصِمُونَ بِالْخِطَابِ، فَتَحْتَجُّ أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَكَذَّبُوا وَاجْتَهَدْتَ فِي الدَّعْوَةِ، وَلَجُّوا فِي الْعِنَادِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، يَخْتَصِمُونَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَظَالِمِهِمْ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخِصَامَ سَبَبُهُ مَا كَانَ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، وَمَا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: يَخْتَصِمُ الْجَمِيعُ، فَالْكُفَّارُ يُخَاصِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يُقَالَ لَهُمْ: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. وَالْمُؤْمِنُونَ يَتَلَقَّوْنَ الْكَافِرِينَ بِالْحُجَجِ، وَأَهْلُ الْقِبْلَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمُ الْخِصَامُ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَعِيسَى، وَالْيَمَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي غَوْثٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِنَّكَ مَائِتٌ وَإِنَّهُمْ مَائِتُونَ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِحُدُوثِ الصِّفَةِ وَالْجُمْهُورُ: مَيِّتٌ وَمَيِّتُونَ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ واللزوم كالحي. [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

اشْمَأَزَّ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: زَعِرَ. قَالَ غَيْرُهُ: تَقَبَّضَ كَرَاهَةً وَنُفُورًا. قَالَ الشَّاعِرُ: إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولته عشوزية زَبُونَا الْمَقَالِيدُ: الْمَفَاتِيحُ، قِيلَ: لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، قَالَهُ التَّبْرِيزِيُّ. وَقِيلَ: وَاحِدُهَا مِقْلِيدٌ، وَقِيلَ: مِقْلَادٌ، وَيُقَالُ: إِقْلِيدٌ وَأَقَالِيدُ، وَالْكَلِمَةُ أَصْلُهَا فَارِسِيَّةٌ. الزُّمَرُ: جَمْعُ زُمْرَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ: جَمَاعَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ. قَالَ: حَتَّى احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ وَيُقَالُ: تَزَمَّرَ. وَالْحُفُوفُ: الْإِحْدَاقُ بِالشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: تَحُفُّهُ جَانِبٌ ضَيْقٌ وَيَتْبَعُهُ ... مِثْلُ الزُّجَاجَةِ لَمْ يُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَفَافِ، وَهُوَ الْجَانِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَهُ لَحَظَاتٌ عَنْ حَفَافِي سَرِيرِهِ ... إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ، وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ، لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ، قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ: هَذَا تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِلَّذِينِ يَكُونُ بَيْنَهُمُ الْخُصُومَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِصَامَ السَّابِقَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالْمَعْنَى: لَا أَجِدُ فِي الْمُكَذِّبِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ، فَنَسَبَ إِلَيْهِ الْوَلَدَ وَالصَّاحِبَةَ وَالشَّرِيكَ، وَحَرَّمَ وَحَلَّلَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ: وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جاءَهُ: أَيْ وَقْتُ

مَجِيئِهِ، فَاجَأَهُ بِالتَّكْذِيبِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا ارْتِيَاءٍ وَلَا نَظَرٍ، بَلْ وَقْتَ مَجِيئِهِ كَذَّبَ بِهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ تَوَعُّدًا فِيهِ احْتِقَارُهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ، وَلِلْكَافِرِينَ مِمَّا قَامَ فِيهِ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، أَيْ مَثْوًى لَهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى علة كذبهم وتكذبيهم، وَهُوَ الْكُفْرُ. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ. وَصَدَّقَ بِهِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ. وَالَّذِي جَنْسٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْفَرِيقُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، فَجَمَعَ. كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ، يُرَادُ بِهِ جَمْعٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: والذي جاؤوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ وَالَّذِينَ، فَحُذِفَتْ مِنْهُ النُّونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ الَّذِينَ بِلَفْظِ الَّذِي وَحُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ، لَكَانَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْحِ دِمَاؤُهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا حُذِفَتِ النُّونُ فِي الْمُثَنَّى كَانَ الضَّمِيرُ مُثَنًّى؟ كَقَوْلِهِ: أَبَنِي كُلَيْبٍ أَنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ... قَتَلَا الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الْأَغْلَالَا وَقِيلَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جِبْرِيلُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْكَلْبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ الرَّسُولُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ: الذي صدق به هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُوَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. جَاءَ بِالصِّدْقِ وَآمَنَ بِهِ، وَأَرَادَ بِهِ إِيَّاهُ وَمَنْ تَبِعَهُ، كَمَا أَرَادَ بِمُوسَى إِيَّاهُ وَقَوْمَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ «1» ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا فِي الصِّفَةِ، وَذَلِكَ فِي الِاسْمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: وَالْفَوْجُ وَالْفَرِيقُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَصَحَابَتُهُ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَأَرَادَ بِهِ إِيَّاهُ وَمَنْ تَبِعَهُ، كَمَا أَرَادَ بِمُوسَى إِيَّاهُ وَقَوْمَهُ. اسْتَعْمَلَ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَّصِلٌ، فَإِصْلَاحُهُ وَأَرَادَهُ بِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، كَمَا أَرَادَهُ بِمُوسَى وَقَوْمِهِ: أَيْ لَعَلَّ قَوْمَهُ يَهْتَدُونَ، إِذْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُهْتَدٍ. فَالْمُتَرَجَّى هِدَايَةُ قَوْمِهِ، لَا هِدَايَتُهُ، إِذْ لَا يُتَرَجَّى إِلَّا مَا كَانَ مَفْقُودًا لَا مَوْجُودًا. وَقَوْلُهُ: وَيَجُوزُ إِلَخْ، فيه توزيع

_ (1) المؤمنون: 23/ 49.

الصِّلَةِ، وَالْفَوْجُ هُوَ الْمَوْصُولُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: جَاءَ الْفَرِيقُ الَّذِي شَرُفَ وَشَرَّفَ. وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ التَّوْزِيعِ، بَلِ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ، صِلَةٌ لِمَنْ لَهُ الصِّلَةُ الْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصَدَّقَ مُشَدَّدًا وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَازَةَ: مُخَفَّفًا. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَعَمِلَ بِهِ. وَقِيلَ: اسْتَحَقَّ بِهِ اسْمَ الصِّدْقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَعَلَى هَذَا إِسْنَادُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَأَنَّ أُمَّتَهُ فِي ضِمْنِ الْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. انْتَهَى وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ صَدَقَ بِهِ النَّاسَ، وَلَمْ يَكْذِبْهُمْ بِهِ، يَعْنِي: أَدَّاهُ إِلَيْهِمْ، كَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَصَارَ صَادِقًا بِهِ، أَيْ بِسَبَبِهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ، وَالْمُعْجِزَةُ تَصْدِيقٌ مِنَ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ لِمَنْ يُجْرِيهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ إِلَّا الصَّادِقُ، فَيَصِيرُ لِذَلِكَ صادقا بالمعجزة. وقرىء: وَصَدَّقَ بِهِ. انْتَهَى، يَعْنِي: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: جَاءَ بِالصِّدْقِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصَدَّقَ بِقَوْلِهِ، أَيْ فِي قَوْلِهِ، أَوْ فِي مَجِيئِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الصِّفَتَانِ مِنَ الصِّدْقِ: مِنْ صِدْقِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَصِدْقِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الْمَدْحِ. انْتَهَى. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ: عَامٌّ فِي كُلِّ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ إرادتهم. ولِيُكَفِّرَ: مُتَعَلِّقٌ بِالْمُحْسِنِينَ، أَيِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِيُكَفِّرَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ يَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ لِيُكَفِّرَ، لِأَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ التَّيْسِيرِ للخير. وأَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا: هُوَ كُفْرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَعَاصِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّكْفِيرُ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْجَزَاءُ بِالْأَحْسَنِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ يَكُونُ إِذَا صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ فِيمَا أَتَوْا بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالْمَسَاوِي، وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ، يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَامَ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ فِي الْمُحْسِنِينَ، أَيْ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ، فَنَبَّهَ بِالظَّاهِرِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَسْوَأَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِذَا كَفَّرَ أَسْوَأَ أَعْمَالِهِمْ، فَتَكْفِيرُ مَا هُوَ دُونَهُ أَحْرَى. وَقِيلَ: أَفْعَلُ لَيْسَ لِلتَّفْضِيلِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: الْأَشَجُّ أَعْدَلُ بَنِي مَرْوَانَ، أَيْ عَادِلٌ، فكذلك هذا، أي سيء الَّذِينَ عَمِلُوا. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ ابْنِ مِقْسَمٍ، وَحَامِدِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: أَسْوَأَ هُنَا وَفِي حم السَّجْدَةِ بِأَلِفٍ بَيْنَ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ جَمْعُ سُوءٍ، وَلَا تَفْضِيلَ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِأَحْسَنِ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ فَقِيلَ: لِيَنْظُرَ إِلَى أَحْسَنِ طَاعَاتِهِ فَيُجْزَى الْبَاقِي فِي الْجَزَاءِ عَلَى قِيَاسِهِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِالتَّقْصِيرِ. وَقِيلَ: بِأَحْسَنِ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: بِأَحْسَنِ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ

بِأَحْسَنِ الَّذِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا التَّفْضِيلُ فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَفْرُطُ مِنْهُمْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالزَّلَّاتِ الْمُكَفَّرَاتِ هُوَ عِنْدَهُمُ الْأَسْوَأُ لِاسْتِعْظَامِهِمُ الْمَعْصِيَةَ، وَالْحَسَنُ الَّذِي يَعْمَلُونَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْأَحْسَنُ لِحُسْنِ إِخْلَاصِهِمْ فِيهِ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ سَيِّئَهُمْ بِالْأَسْوَأِ، وَحَسَنَهُمْ بِالْأَحْسَنِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَكُونُ قَدِ اسْتَعْمَلَ أَسْوَأَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ، وَأَحْسَنَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ تَوْزِيعٌ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ مُحَمَّدٌ عَنْ تَعْيِيبِ آلِهَتِنَا وَتَعْيِيبِنَا، لِنُسَلِّطَهَا عَلَيْهِ فَتُصِيبَهُ بِخَبَلٍ وَتَعْتَرِيَهُ بِسُوءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ: أَيْ شَرَّ مَنْ يُرِيدُهُ بِشَرٍّ، وَالْهَمْزَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى النَّفْيِ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ هُوَ كَافٍ عَبْدَهُ، وَفِي إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِنَبِيِّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَبْدَهُ، وَهُوَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: عِبَادَهُ بِالْجَمْعِ، أَيِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُطِيعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ: وَهِيَ الْأَصْنَامُ. وَلَمَّا بَعَثَ خَالِدًا إِلَى كَسْرِ الْعُزَّى، قَالَ لَهُ سَادِنُهَا: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ مِنْهَا، فَلَهَا قُوَّةٌ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ. فَأَخَذَ خَالِدٌ الْفَأْسَ، فَهَشَّمَ بِهِ وَجْهَهَا ثُمَّ انْصَرَفَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ، تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضَرَرٍ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّخْوِيفِ قَوْلُ قَوْمِ هُودٍ لَهُ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «1» . وقرىء: بِكَافِي عَبْدِهِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَيُكَافِي عِبَادَهُ مُضَارِعُ كَفَى، وَنُصِبَ عِبَادَهُ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مُفَاعَلَةً مِنَ الْكِفَايَةِ، كَقَوْلِكَ: يُجَازِي فِي يَجْزِي، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كَفَى، لِبِنَائِهِ عَلَى لَفْظِ الْمُبَالِغَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «2» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَهْمُوزًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ، وَهِيَ الْمُجَازَاةُ، أَيْ يَجْزِيهِمْ أَجْرَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى كَافِيَ عَبْدِهِ، كَانَ التَّخْوِيفُ بِغَيْرِهِ عَبَثًا بَاطِلًا. وَلَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى مُهْتَدِينَ وَضَالِّينَ، أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ فَاعِلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ: أَيْ غَالِبٍ مَنِيعٍ، ذِي انْتِقامٍ: وَفِيهِ وَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ، وَهُوَ اللَّهُ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي نَبِيِّهِ بِمَا أَرَادَ. فَإِنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَدَّعُونَهَا آلِهَةً مِنْ دُونِهِ لَا تَكْشِفُ ضُرًّا وَلَا تُمْسِكُ رَحْمَةً، أَيْ صِحَّةً وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَرَأَيْتُمْ هُنَا جَارِيَةٌ عَلَى وَضْعِهَا، تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولِهَا الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا يَدْعُونَ. وَجَاءَ الْمَفْعُولُ الثاني جملة

_ (1) سورة هود: 11/ 54. (2) سورة البقرة: 2/ 137.

اسْتِفْهَامِيَّةً، وَفِيهَا الْعَائِدُ عَلَى مَا، وَهُوَ لَفْظُ هُنَّ وأنت تَحْقِيرًا لَهَا وَتَعْجِيزًا وَتَضْعِيفًا. وَكَانَ فِيهَا مَنْ سُمِّي تَسْمِيَةَ الْإِنَاثِ، كَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَاللَّاتَ، وَأَضَافَ إِرَادَةَ اللَّهِ الضُّرَّ إِلَى نَفْسِهِ وَالرَّحْمَةَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ مَضَرَّتَهَا، فَاسْتَسْلَفَ مِنْهُمُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ. ثُمَّ اسْتَخْبَرَهُمْ عَنْ أَصْنَامِهِمْ، هَلْ تَدْفَعُ شَرًّا وَتَجْلِبُ خَيْرًا؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَاشِفَاتُ وَمُمْسِكَاتُ عَلَى الْإِضَافَةِ وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعِيسَى: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ بِتَنْوِينِهِمَا وَنَصْبِ مَا بَعْدَهُمَا. وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ تَعَالَى كَافِيهِ، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، أَمْرَهُ تَعَالَى أنه يَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ حَسْبُهُ، أَيْ كَافِيهِ. وَالْجَوَابُ فِي هَذَا الِاسْتِخْبَارِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَخْبَرَهُمْ فسكتوا. قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا. إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. لَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْظُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، سَلَّاهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، مَصْحُوبًا بِالْحَقِّ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، لِلنَّاسِ: أَيْ لِأَجْلِهِمْ، إِذْ فِيهِ تَكَالِيفُهُمْ. فَمَنِ اهْتَدى: فَثَوَابُ هِدَايَتِهِ إِنَّمَا هُوَ لَهُ، وَمَنْ ضَلَّ: فَعِقَابُ ضَلَالِهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ: أَيْ فتجبرهم على الإيمان. قتال قَتَادَةُ: بِوَكِيلٍ: بِحَفِيظٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلنَّاسِ: لِأَجْلِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، لِيُبَشَّرُوا وَيُنْذَرُوا. فَتَقْوَى دَوَاعِيهِمْ إِلَى اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَا حَاجَةَ لِي إِلَى ذَلِكَ، فَأَنَا الْغَنِيُّ. فَمَنِ اخْتَارَ الْهُدَى، فَقَدْ نَفَعَ نَفْسَهُ وَمَنِ اخْتَارَ الضَّلَالَةَ،

فَقَدْ ضَرَّهَا، وَمَا وُكِّلْتَ عَلَيْهِمْ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الْهُدَى. فَإِنَّ التَّكْلِيفَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِجْبَارِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى رَسُولِهِ بِالْحَقِّ لِلنَّاسِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، لَا يُشْرِكُهُ فِي ذَلِكَ صَنَمٌ ولا غَيْرِهِ، فَقَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالْأَنْفُسُ هِيَ الْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ: النَّفْسُ غَيْرُ الرُّوحِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. فَالرُّوحُ لَهَا تَدْبِيرُ عَالَمِ الْحَيَاةِ، وَالنَّفْسُ لَهَا تَدْبِيرُ عَالَمِ الْإِحْسَاسِ. وَفَرَّقَتْ فِرْقَةٌ بَيْنَ نَفْسِ التَّمْيِيزِ وَنَفْسِ التَّخْيِيلِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَاللُّغَةُ أَنَّ النَّفْسَ وَالرُّوحَ مُتَرَادِفَانِ، وَأَنَّ فِرَاقَ ذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ هُوَ الْمَوْتُ. وَمَعْنَى يَتَوَفَّى النَّفْسَ: يُمِيتُهَا، وَالَّتِي: أَيْ وَالْأَنْفُسُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، أَيْ يَتَوَفَّاهَا حِينَ تَنَامُ، تَشْبِيهًا لِلنُّوَامِ بِالْأَمْوَاتِ. وَمِنْهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «1» . فَبَيْنَ الْمَيِّتِ وَالنَّائِمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ كَوْنُهُمَا لَا يُمَيِّزَانِ وَلَا يَتَصَرَّفَانِ. فَيُمْسِكُ مَنْ قَضَى عليه الْمَوْتَ الْحَقِيقِيَّ، وَلَا يَرُدُّهَا فِي وَقْتِهَا حَيَّةً وَيُرْسِلُ النَّائِمَةَ لِجَسَدِهَا إِلَى أَجَلٍ ضَرَبَهُ لِمَوْتِهَا. وَقِيلَ: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ: يَسْتَوْفِيهَا وَيَقْبِضُهَا، وَهِيَ الْأَنْفُسُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا الْحَيَاةَ وَالْحَرَكَةَ. وَيَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، وَهِيَ أَنْفُسُ التَّمْيِيزِ، قَالُوا: فَالَّتِي تُتَوَفَّى فِي النَّوْمِ هِيَ نَفْسُ التَّمْيِيزِ لَا نَفْسُ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْحَيَاةِ إِذَا زَالَتْ زَالَ مَعَهَا النَّفَسُ. وَالنَّائِمُ يَتَنَفَّسُ، وَكَوْنُ النَّفْسِ تُقْبَضُ، وَالرُّوحُ فِي الْجَسَدِ حَالَةَ النَّوْمِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ وَيَتَنَفَّسُ، هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَدَلَّ عَلَى التَّغَايُرِ وَكَوْنِهَا شَيْئًا وَاحِدًا هُوَ قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَوْضُ فِي هَذَا، وَطَلَبُ إِدْرَاكِ ذَلِكَ عَلَى جَلِيَّتِهِ عَنَاءٌ وَلَا يُوصَلُ إِلَى ذَلِكَ. إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي تَوَفِّي الْأَنْفُسِ مَائِتَةً وَنَائِمَةً، وَإِمْسَاكِهَا وَإِرْسَالِهَا إِلَى أَجَلٍ، لَآياتٍ: لَعَلَامَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، لِقَوْمٍ يُجِيلُونَ فِيهِ أَفْكَارَهُمْ وَيَعْتَبِرُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَضى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، الْمَوْتَ: نَصْبًا وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْمَوْتُ: رَفْعًا. فَأَمْ مُنْقَطِعَةٌ تُقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَنَا، وَالشَّفَاعَةُ إِنَّمَا هِيَ لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَبِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَهَذَا مفقود في آلهتهم. وأولو مَعْنَاهُ: أَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَهُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَذَلِكَ عَامُّ النَّقْصِ، فَكَيْفَ يَشْفَعُ هَؤُلَاءِ؟ وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي أَوَلَوْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَتَى دَخَلَتْ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ أَوْ فَائِهِ أَحْدَثَتْ مَعْنَى التَّقْرِيرِ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانُوا

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 60.

لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَلَوْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا قَطُّ حَتَّى يَمْلِكُوا الشَّفَاعَةَ، وَلَا عَقْلَ لَهُمْ. انْتَهَى. فَأَتَى بِقَوْلِهِ: قَطُّ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ مَاضٍ، وَقَطُّ ظَرْفٌ يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْمَاضِي لَا مَعَ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ لِلزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ، وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً: فَهُوَ مَالِكُهَا، يَأْذَنُ فِيهَا لِمَنْ يَشَاءُ ثُمَّ أَتَى بِعَامٍّ وَهُوَ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فَانْدَرَجَ فِيهِ مِلْكُ الشَّفَاعَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ مِنْ غَيْرِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِذْنِهِ، كَانَتِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا لَهُ. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ له ملك السموات وَالْأَرْضِ، هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ، وَيَخِيبُ سَعْيُكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: معناه له ملك السموات وَالْأَرْضِ الْيَوْمَ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا يكون الملك في اليوم ذَلِكَ إِلَّا لَهُ، فَلَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ: أَيْ مُفْرَدًا بِالذِّكْرِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَ آلِهَتِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا قِيلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ. وَالِاشْمِئْزَازُ وَالِاسْتِبْشَارُ مُتَقَابِلَانِ غَايَةً، لِأَنَّ الِاشْمِئْزَازَ: امْتِلَاءُ الْقَلْبِ غَمًّا وَغَيْظًا، فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ، وَهُوَ الِانْقِبَاضُ فِي الْوَجْهِ، وَالِاسْتِبْشَارُ: امْتِلَاؤُهُ سُرُورًا، فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ، وَهُوَ الِانْبِسَاطُ، وَالتَّهَلُّلُ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْعَامِلُ فِي وَإِذَا ذُكِرَ؟ قُلْتُ: الْعَامِلُ فِي إِذَا الْفُجَائِيَّةِ تَقْدِيرُهُ: وَقْتُ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فَاجَأُوا الِاسْتِبْشَارَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، إِذَا مُضَافَةٌ إِلَى الِابْتِلَاءِ وَالْخَبَرِ، وَإِذَا مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَحُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، فَيَكُونُ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الْعَامِلَ فِي إِذَا، الْمَعْنَى: إِذَا كَانَ ذَلِكَ اسْتَبْشَرُوا. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَلَا أَعْلَمُهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَنْتَمِي لِلنَّحْوِ، وَهُوَ أَنَّ الظَّرْفَيْنِ مَعْمُولَانِ لِعَامِلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ إِذَا الْأُولَى يَنْتَصِبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَوْفِيِّ فَبَعِيدٌ جِدًّا عَنِ الصَّوَابِ، إِذْ جَعَلَ إِذَا مُضَافَةً إِلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَحُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُضَافَةً إِلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ الَّذِي هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ؟ وَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُهُ عَدَمُ الْإِتْقَانِ لِعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّحَدُّثِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي مَوَاضِعِ إِذَا الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ جَوَابًا لِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي كَتَبْنَاهُ أَنَّ إِذَا الشَّرْطِيَّةَ لَيْسَتْ مُضَافَةً إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْمُولَةٍ لِلْجَوَابِ، وَأَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهَا، كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الشَّرْطِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، وَإِذَا الْفُجَائِيَّةُ رَابِطَةً لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ، كَالْفَاءِ وَهِيَ

مَعْمُولَةٌ لِمَا بَعْدَهَا. أَنْ قُلْنَا إِنَّهَا ظَرْفٌ، سَوَاءٌ كَانَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا. وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا حَرْفٌ، فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِذَا الْأُولَى مَعْمُولَةٌ لِذِكْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ مَعْمُولَةٌ لَيَسْتَبْشِرُونَ. وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ سَخَافَةِ عُقُولِهِمْ بِاشْمِئْزَازِهِمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَاسْتِبْشَارِهِمْ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ، أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْعُظْمَى مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَنِسْبَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، إِذْ غَيْرُهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا عِلْمَ تَامَّ وَلَا حُكْمَ، وَفِي ذَلِكَ وَصْفٌ لحالهم السيّء وَوَعِيدٌ لَهُمْ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اللَّهُمَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَشْبِيهِهِ فِي الْعُقُودِ. وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ: أَيْ كَانَتْ ظُنُونُهُمْ فِي الدُّنْيَا مُتَفَرِّقَةً، حَسَبَ ضَلَالَاتِهِمْ وَتَخَيُّلَاتِهِمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ. فَإِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظَهَرَ لَهُمْ خِلَافُ مَا كَانُوا يَظُنُّونَ، وَمَا كَانَ فِي حِسَابِهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الرِّيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا: أَيْ جَزَاءُ مَا كَانُوا وَمَا فيما كَسَبُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ سَيِّئَاتُ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ سَيِّئَاتُ كَسْبِهِمْ. وَالسَّيِّئَاتُ: أَنْوَاعُ، الْعَذَابِ سُمِّيَتْ سَيِّئَاتٌ، كَمَا قَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» . فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَوْنُ الْإِنْسَانِ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ، مَعَ اعْتِقَادِهِمُ الْأَوْثَانَ وَعِبَادَتَهَا. فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٌ، نَبَذُوهَا وَدَعَوْا رب السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِ آرَائِهِمْ وَشَدَّةِ اضْطِرَابِهَا. وَالْإِنْسَانُ جَنْسٌ وَضُرٌّ مُطْلَقٌ، وَالنِّعْمَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا يَسُرُّ، وَمِنْ ذَلِكَ إِزَالَةُ الضُّرِّ. وَقِيلَ: الْإِنْسَانُ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي إنما

_ (1) سورة الشورى: 42/ 40.

كَافَّةٌ مُهَيِّئَةٌ لِدُخُولِ إِنْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَذُكِّرَ الضَّمِيرُ فِي أُوتِيتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى النِّعْمَةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الْأَنْعَامُ أَوِ الْمَالُ، عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَحَ النِّعْمَةَ بِالْمَالِ، أَوِ الْمَعْنَى: شَيْئًا مِنَ النِّعْمَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ، فَغُلِّبَ الْمُذَكَّرُ. وَقِيلَ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا، أَيْ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي، أَيْ بِوَجْهِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَفِيهِ إِعْجَابٌ بِالنَّفْسِ وَتَعَاظُمٌ مُفْرِطٌ. أو على علم من اللَّهِ فِيَّ وَاسْتِحْقَاقِ جَزَائِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي هَذَا احتراز الله وَعَجْزٌ وَمَنٌّ عَلَى اللَّهِ. أَوْ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِأَنِّي سَأُعْطَاهُ لِمَا فِيَّ مِنْ فَضْلٍ وَاسْتِحْقَاقٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ إِضْرَابٌ عَنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أُوتِيَ عَلَى عِلْمٍ، بَلْ تِلْكَ النِّعْمَةُ فِتْنَةٌ وَابْتِلَاءٌ. ذَكَّرَ أَوَّلًا فِي أُوتِيتُهُ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ كَانَتْ مَا مُهَيِّئَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى اللَّفْظِ فَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ بَلْ هِيَ، أَوْ تَكُونُ هِيَ عَادَتْ عَلَى الْإِتْيَانِ، أَيْ بَلْ إِتْيَانُهُ النِّعْمَةَ فِتْنَةٌ. وَكَانَ الْعَطْفُ هُنَا بالفاء في فإذا، وبالواو فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مُسَبَّبَةً عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ، أَيْ يَشْمَئِزُّونَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِذِكْرِ آلِهَتِهِمْ. فَإِذَا مَسَّ أَحَدُهُمْ ضُرٌّ دَعَا مَنِ اشْمَأَزَّ مِنْ ذِكْرِهِ دُونَ مَنِ اسْتَبْشَرَ بِذِكْرِهِ. وَمُنَاسِبَةُ السَّبَبِيَّةِ أَنَّكَ تَقُولُ: زَيْدٌ مُؤْمِنٌ، فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ. فَالسَّبَبُ هَنَا ظَاهِرٌ، وَزَيْدٌ كَافِرٌ، فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، يُقِيمُ كُفْرَهُ مَقَامَ الْإِيمَانِ فِي جَعْلِهِ سَبَبًا لِلِالْتِجَاءِ، يَحْكِي عَكْسَ مَا فِيهِ الْكَافِرُ. يَقْصِدُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارَ وَالتَّعَجُّبَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُتَنَاقِضِ، حَيْثُ كَفَرَ بِاللَّهِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَلَمْ تَقَعْ مُسَبَّبَةً، بَلْ نَاسَبَتْ مَا قَبْلَهَا، فَعُطِفَتْ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ، وَإِذَا كَانَتْ فَإِذَا مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ، كَمَا قُلْنَا، فَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْآيِ اعْتِرَاضٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مَا بَيْنَ الْمُتَّصِلِينَ. فَدُعَاءُ الرَّسُولِ رَبَّهُ بِأَمْرٍ مِنْهُ وَقَوْلُهُ: أَنْتَ تَحْكُمُ، وَتَعْقِيبُهُ الْوَعِيدَ، تَأْكِيدٌ لِاشْمِئْزَازِهِمْ وَاسْتِبْشَارِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ دُونَ آلِهَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يَتَنَاوَلُ لَهُمْ، أَوْ لِكُلِّ ظَالِمٍ، إِنْ جُعِلَ مُطْلَقًا أَوْ إِيَّاهُمْ خَاصَّةً إِنْ عُنُوا بِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ مُلْتَقَطٌ أَكْثَرُهُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ مُتَكَلِّفٌ فِي رَبْطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَوَاصِلِ. وَإِذَا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ لَا يُجِيزُ الِاعْتِرَاضَ بِجُمْلَتَيْنِ، فَكَيْفَ يُجِيزُهُ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الرَّبْطِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا الْآيَةَ، كَانَ ذَلِكَ إِشْعَارًا بِمَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظُلْمِهِ وَبَغْيِهِ، إِذْ كَانَ إِذَا مَسَّهُ دَعَا رَبَّهُ، فَإِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ، لَمْ يُنْسِبْ ذَلِكَ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدُ وَصَفَ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَنَّهَا ابْتِلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، كَمَا بَدَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَظُنُّهُ

صَالِحًا مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، تَرَتُّبَ الْفِتْنَةِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: أَيْ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ وَامْتِحَانٌ. قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: أَيْ قَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ الْمَاضِيَةِ، كَقَارُونَ فِي قَوْلِهِ: قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «1» . وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ قَارُونُ وَقَوْمُهُ، إِذْ رَضُوا بِمَقَالَتِهِ، فَنُسِبَ القول إليهم جميعا. وقرىء: قَدْ قَالَهُ، أَيْ قَالَ الْقَوْلَ أَوِ الْكَلَامَ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَأَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ. مَا كانُوا يَكْسِبُونَ: أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ: إِشَارَةٌ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا: جَاءَ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ تَنْفِيسًا فِي الزَّمَانِ مِنْ سَوْفَ، وَهُوَ خَبَرُ غَيْبٍ، أَبْرَزَهُ الْوُجُودُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ. قَتَلَ رُؤَسَاءَهُمْ، وَحَبَسَ عَنْهُمُ الرِّزْقَ، فَلَمْ يُمْطَرُوا سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ بَسَطَ لَهُمْ، فَمُطِرُوا سَبْعَ سِنِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا قَابِضَ وَلَا بَاسِطَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى؟. قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا: نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ، قَالَهُ عَطَاءٌ أَوْ فِي قَوْمٍ آمَنُوا عَيَّاشِ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَنَفَرٍ مَعَهُمَا، فَفَتَنَتْهُمْ قُرَيْشٌ، فَافْتَتَنُوا وَظَنُّوا أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ، فَكَتَبَ عُمَرُ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَهُ عُمَرُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالُوا: وَمَا يَنْفَعُنَا الْإِسْلَامُ وَقَدْ زَنَيْنَا وَقَتَلْنَا النَّفْسَ وَأَتَيْنَا كُلَّ كَبِيرَةٍ؟ وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَدَّدَ عَلَى الْكُفَّارِ وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَى بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ذَكَرَ مَا فِي إِحْسَانِهِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ إِذَا آمَنَ الْعَبْدُ وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ. وَكَثِيرًا تَأْتِي آيَاتُ الرَّحْمَةِ مَعَ آيَاتِ النِّقْمَةِ لِيَرْجُوَ الْعَبْدُ وَيَخَافَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ يَتُوبُ، وَمُؤْمِنٍ عَاصٍ يَتُوبُ، تَمْحُو الذَّنْبَ تَوْبَتُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَامِرٍ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ لَا تَقْنَطُوا فِي الْحِجْرِ. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً: عَامٌّ يُرَادُ بِهِ مَا سِوَى الشِّرْكِ، فَهُوَ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِالْمُؤْمِنِ الْعَاصِي غَيْرِ التَّائِبِ بِالْمَشِيئَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ، بِإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ وَنِدَائِهِمْ، إقبال وتشريف. وأَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَيْ بِالْمَعَاصِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ضَرَرَ تِلْكَ الذنوب إنما

_ (1) سورة القصص: 28/ 78.

هُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالرَّجَاءِ، وَإِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اللَّهِ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ فِي إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ سِعَةً لِلرَّحْمَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ، لِأَنَّهُ الْعِلْمُ الْمُحْتَوِي عَلَى مَعَانِي جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ. ثُمَّ أَعَادَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِأَنَّ مُبَالَغَةً فِي الْوَعْدِ بِالْغُفْرَانِ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِمَا سَبَقَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ بِصِفَتَيِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَكَّدَ بِلَفْظٍ هُوَ الْمُقْتَضِي عِنْدَ بَعْضِهِمُ الْحَصْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، شَرْطَ التَّوْبَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ ذِكْرًا لَهُ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ التَّنَاقُضُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ لَا يُغْفَرُ لَهُ إِلَّا بِشَرْطِ التَّوْبَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا فُسْحَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْرِفِ، أَتْبَعَهَا بِأَنَّ الْإِنَابَةَ، وَهِيَ الرُّجُوعُ، مَطْلُوبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يَتُبْ بِالْعَذَابِ، حَتَّى لَا يَبْقَى الْمَرْءُ كَالْمُمِلِّ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُتَّكِلِ عَلَى الْغُفْرَانِ دُونَ إِنَابَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِنَابَةَ عَلَى إِثْرِ الْمَغْفِرَةِ، لِئَلَّا يَطْمَعَ طَامِعٌ فِي حُصُولِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا لَازِمٌ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، مِثْلُ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ بَعْضًا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ كُلُّهُ حَسَنٌ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، أَيْ فَجْأَةً، وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ: أَيْ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْ حُلُولِهِ بِكُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ فِي عَذَابِكُمْ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَالِمٌ تَرَكَ عِلْمَهُ وَفَسَقَ، أَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ: تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا ثُمَّ تُبْ، فَأَطَاعَهُ وَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْفُجُورِ. فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي أَلَذِّ مَا كَانَ، فَقَالَ:

يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَذَهَبَ عُمْرِي فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَأَسْخَطْتُ رَبِّي، فَنَدِمَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ خَبَرَهُ. أَنْ تَقُولَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ أَنِيبُوا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَقُولَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ، وَالْحَوْفِيُّ: أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أَنْ تَقُولَ، وَنَكَّرَ نَفْسٌ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا بَعْضُ الْأَنْفُسِ، وَهِيَ نَفْسُ الْكَافِرِ، أَوْ أُرِيدَ الْكَثِيرُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: وَرُبَّ نَفِيعٍ لَوْ هَتَفْتُ لِنَحْوِهِ ... أَتَانِي كريم ينقض الرأسى مُغْضَبَا يُرِيدُ أَفْوَاجًا مِنَ الْكِرَامِ يَنْصُرُونَهُ، لَا كَرِيمًا وَاحِدًا أَوْ أُرِيدَ نَفْسٌ مُتَمَيِّزَةٌ مِنَ الْأَنْفُسِ بِالْفِجَاجِ الشَّدِيدِ فِي الْكُفْرِ، أَوْ بِعَذَابٍ عَظِيمٍ. قَالَ هَذِهِ الْمُحْتَمَلَاتِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَا حَسْرَتَا، بِإِبْدَالِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ أَلِفًا، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يَا حَسْرَتَا، بِيَاءِ الْإِضَافَةِ، وَعَنْهُ: يَا حَسْرَتِي، بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَالْيَاءُ مفتوحة أو سانة. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي تَصْنِيفِهِ (كِتَابُ اللَّوَامِحِ) : وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَثْنِيَةَ الْحَسْرَةِ مِثْلَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا لَبٌّ بَعْدَ لَبٍّ وَسَعْدٌ بَعْدَ سَعْدٍ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحَسْرَةُ بَعْدَ حَسْرَةٍ، لِكَثْرَةِ حَسَرَاتِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَوْ أَرَادَ حسرتين فقط من فوت الْجَنَّةِ لِدُخُولِ النَّارِ، لَكَانَ مَذْهَبًا، وَلَكَانَ أَلِفُ التَّثْنِيَةِ فِي تَقْدِيرِ الْيَاءِ عَلَى لُغَةِ بَلْحَرِثِ بْنِ كَعْبٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْوَقْفِ: يَا حَسْرَتَاهُ، بِهَاءِ السَّكْتِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمَعْنَى نِدَاءِ الْحَسْرَةِ وَالْوَيْلِ: هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضُرِي. وَالْجَنْبُ: الْجَانِبُ، وَمُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ الْجَارِحَةُ، فَإِضَافَةُ الْجَنْبِ إِلَيْهِ مَجَازٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي ذِكْرِهِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ بِهِ. وَقِيلَ: فِي جِهَةِ طَاعَتِهِ، وَالْجَنْبُ: الْجِهَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَفِي جَنْبٍ تُكَنَّى قَطَعَتْنِي مَلَامَةً ... سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلَامَتُهَا ثَنَاءَ وَقَالَ الرَّاجِزُ: النَّاسُ جَنْبٌ وَالَأْمِيرُ جَنْبُ وَيُقَالُ: أَنَا فِي جَنْبِ فُلَانٍ وَجَانِبِهِ وَنَاحِيَتِهِ وَفُلَانٌ لَيِّنُ الْجَنْبِ وَالْجَانِبِ. ثُمَّ قَالُوا: فَرَّطَ فِي جَنْبِهِ، يُرِيدُونَ حَقَّهُ. قَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ: أَمَّا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ ... لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطَّعُ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّكَ إِذَا أَثْبَتَّ الْأَمْرَ فِي مَكَانِ الرَّجُلِ وَحَيِّزِهِ، فَقَدْ أَثْبَتَّهُ فِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:

إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنِّدَّى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ: لِمَكَانِكَ فَعَلْتُ كَذَا، يُرِيدُونَ: لِأَجْلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلْتُ هَذَا مِنْ جِهَتِكَ. وَمَا فِي مَا فَرَّطْتُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِي فِي طاعة الله. إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَةَ اللَّهِ حَتَّى سَخِرَ مِنْ أَهْلِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَحَلُّ وَإِنْ كُنْتَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَرَّطْتُ وَأَنَا سَاخِرٌ، أَيْ فَرَّطْتُ فِي حَالِ سُخْرِيَتِي. انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ نَفْسِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، لَا حَالٌ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي: أَيْ خَلَقَ فِيَّ الْهِدَايَةَ بِالْإِلْجَاءِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْحِكْمَةِ، أَوْ بِالْإِلْطَافِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا فَيُلْطَفُ بِهِ، أَوْ بِالْوَحْيِ، فَقَدْ كَانَ، وَلَكِنَّهُ أَعْرَضَ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ حَتَّى يَهْتَدِيَ. وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا تَحَيُّرًا فِي أَمْرِهِ، وَتَعَلُّلًا بِمَا يُجْدِي عَلَيْهِ. كَمَا حَكَى عَنْهُمُ التَّعَلُّلَ بِإِغْوَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالشَّيَاطِينِ وَنَحْوُهُ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَانْتَصَبَ فَأَكُونَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي الدَّالِّ عَلَيْهِ لَوْ، أَوْ عَلَى كَرَّةً، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَمَا لَكَ مِنْهَا غَيْرُ ذِكْرَى وَحَسْرَةٍ ... وَتَسْأَلُ عَنْ رُكْبَانِهَا أَيْنَ يَمَّمُوا وَقَوْلُ الْآخَرِ: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفَاءَ إِذَا كَانَتْ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي، كَانَتْ أَنَّ وَاجِبَةَ الْإِضْمَارِ، وَكَانَ الْكَوْنُ مُتَرَتِّبًا عَلَى حُصُولِ الْمُتَمَنَّى، لَا مُتَمَنًّى. وَإِذَا كَانَتْ لِلْعَطْفِ عَلَى كَرَّةً، جَازَ إِظْهَارُ أَنَّ وَإِضْمَارُهَا، وَكَانَ الْكَوْنُ مُتَمَنًّى. بَلى: هُوَ حَرْفُ جَوَابٍ لِمَنْفِيٍّ، أَوْ لِدَاخِلٍ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّقْرِيرِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي وَجَوَابُهُ مُتَضَمِّنًا نَفْيَ الْهِدَايَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا هَدَانِي اللَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي مُرْشِدَةً لَكَ، فَكَذَّبْتَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَدٌّ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ: بَلَى قَدْ هُدِيتَ بِالْوَحْيِ. انْتَهَى، جَرْيًا عَلَى قَوَاعِدِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَقُّ بَلَى أَنْ تَجِيءَ بَعْدَ نَفْيٍ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ، وَقَوْلُهُ: بَلى جَوَابٌ لِنَفْيٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ النَّفْسَ قَالَتْ: فَعُمْرِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَتَّسِعْ لِلنَّظَرِ، أَوْ قَالَتْ: فَإِنِّي لَمْ يَتَبَيَّنْ لِيَ الْأَمْرُ فِي الدُّنْيَا وَنَحْوَ هَذَا. انْتَهَى. وَلَيْسَ حَقُّ بَلَى مَا ذُكِرَ، بَلْ حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ جَوَابَ نَفْيٍ. ثُمَّ حُمِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ، وَأَجَابَهُ بِنَعَمْ، وَوَقَعَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ نَفْسِهِ أَنْ أَجَابَ التَّقْرِيرَ بِنَعَمْ اتِّبَاعًا لِبَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا

قَرَنَ الْجَوَابَ بِمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِآيَةٍ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى أُخْرَى الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُنَّ، وَإِمَّا أَنْ تُؤَخَّرَ الْقَرِينَةُ الْوُسْطَى. فَلَمْ يُحْسُنِ الْأَوَّلُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَبْتِيرِ النَّظْمِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَرَائِنِ وَأَمَّا الثَّانِي، فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ التَّحَسُّرُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الطَّاعَةِ، ثُمَّ التَّعَلُّلُ بِفَقْدِ الْهِدَايَةِ. ثُمَّ تَمَنِّي الرَّجْعَةِ، فَكَانَ الصَّوَابُ مَا جَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى أَقْوَالَ النَّفْسِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَنَظْمِهَا، ثُمَّ أَجَابَ مِنْ بَيْنِهَا عَمَّا اقْتَضَى الْجَوَابَ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدْ جاءَتْكَ، بِفَتْحِ الْكَافِ وَفَتْحِ تَاءِ مَا بَعْدَهَا، خِطَابًا لِلْكَافِرِ ذِي النَّفْسِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى فِي اخْتِيَارِهِ وَعَنْ نُصَيْرٍ، وَالْعَبْسِيِّ: بِكَسْرِ الْكَافِ وَالتَّاءِ، خِطَابٌ لِلنَّفْسِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنَتِهِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَرَوَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، والأعرج، والأعمش: جأتك، بِالْهَمْزِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، بِوَزْنِ بِعْتُكَ، وَهُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ جَاءَتْكَ، قُدِّمَتْ لَامُ الْكَلِمَةِ وَأُخِّرَتِ الْعَيْنُ فَسَقَطَتِ الْأَلِفُ، كَمَا سَقَطَتْ فِي رَمَتْ وَعَرَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَقَالَةَ الْكَافِرِ، ذَكَرَ مَا يَعْرِضُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْإِنْذَارِ بِسُوءِ مُنْقَلَبِهِ، وَفِي ضِمْنِهِ وَعِيدٌ لِمُعَاصِرِيهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَكَذِبُهُمْ نِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى الْبَنَاتِ وَالصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَشَرْعُهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُكَذِّبِينَ عَلَى اللَّهِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَبِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ شِئْنَا فَعَلْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَفْعَلْ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ مِنَ الْمُجْبِرَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَكُلِّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا يَجِبُ أَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ، فَالْكُلُّ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فَتَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْمُجْبِرَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ: وَصَفُوهُ بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْهُ، فَأَضَافُوا إِلَيْهِ الْوَلَدَ وَالشَّرِيكَ، وَقَالُوا: شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1» ، وَقَالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ «2» ، وَقَالُوا: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها «3» ، وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ قَوْمٌ يُسَفِّهُونَهُ بِفِعْلِ الْقَبَائِحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا لَا لِغَرَضٍ، وَقَوْلُهُ: لَا لِغَرَضٍ، وَيَظْلِمُونَهُ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، ويجسمونه

_ (1) سورة يونس: 10/ 18. [.....] (2) سورة الزخرف: 43/ 20. (3) سورة الأعراف: 7/ 28.

بِكَوْنِهِ مَرْئِيًّا مُدْرَكًا بِالْحَاسَّةِ، وَيُثْبِتُونَ لَهُ يَدًا وَقَدَمًا وَجَنْبًا مُسْتَتِرِينَ بِالْبَلْكَفَةِ، وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا بِإِثْبَاتِهِمْ مَعَهُ قَدَمًا. انْتَهَى، وَكَلَامُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَأَنَّ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ مِنَ الْجُمْلَةِ الاسمية الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ضَمِيرِ ذِي الحال شَاذٌّ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الفراء، وقد أعرب هو هذه الجملة حالا، فكأنه رجع عن مذهبه ذلك، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ القلب فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْبَصَرِ بِرُؤْيَةِ الْأَجْسَامِ وَأَلْوَانِهَا أَظْهَرُ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ. وقرىء: وجوههم مسودّة بنصبهما، فوجوههما بدل بعض من كل. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أُجُوهُهُمْ، بِإِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْوِدَادَ حَقِيقَةٌ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون فِي الْعِبَارَةِ تَجَوُّزٌ، وَعَبَّرَ بِالسَّوَادِ عَنِ ارْتِدَادِ وُجُوهِهِمْ وَغَالِبِ هَمِّهِمْ وَظَاهِرِ كَآبَتِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُتَّقِينَ، أَيِ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَغَيْرَهُ، مِمَّا يؤول بِصَاحِبِهِ إِلَى اسْوِدَادِ وَجْهِهِ، وَفِي ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْجَلِيلِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى. قَالَ السُّدِّيُّ: بِمَفازَتِهِمْ: بِفَلَاحِهِمْ، يُقَالُ: فَازَ بِكَذَا إِذَا أَفْلَحَ بِهِ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ، وَتَفْسِيرُ الْمَفَازَةِ قَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مَفَازَتُهُمْ؟ قِيلَ: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، أَيْ يُنْجِيهِمْ بِنَفْيِ السُّوءِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، أَوْ بِسَبَبِ مُنْجَاتِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ «2» ، أَيْ بِمَنْجَاةٍ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّجَاةَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَلَاحِ، وَسَبَبُ مَنْجَاتِهِمُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَفَازَةَ: بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَيَجُوزُ بِسَبَبِ فَلَاحِهِمْ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبُ الْفَلَاحِ، وَهُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِنَفْسِهِ مَفَازَةً، لِأَنَّهُ سَبَبُهَا. فَإِنْ قُلْتَ: لَا يَمَسُّهُمُ، مَا مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ؟ قُلْتُ: أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَفَازَتِهِمْ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: عَلَى الْجَمْعِ، مِنْ حَيْثُ النَّجَاةُ أَنْوَاعٌ، وَالْأَسْبَابُ مُخْتَلِفَةٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْمَصَادِرُ تُجْمَعُ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا كَقَوْلِهِ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا «3» . وقال

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 106. (2) سورة آل عمران: 3/ 188. (3) سورة الأحزاب: 33/ 10.

الْفَرَّاءُ: كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ صَوَابٌ، تَقُولُ: قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرُ النَّاسِ وَأُمُورُ النَّاسِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، عَادَ إِلَى دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَدَلَّ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ لِانْدِرَاجِهَا فِي عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ الْأَشْيَاءِ قَائِمٌ لِحِفْظِهَا وَتَدْبِيرِهَا. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَفَاتِيحُ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، كَمَا تَقُولُ: بِيَدِ فُلَانٍ مِفْتَاحُ هَذَا الْأَمْرِ. وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْمَقَالِيدَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير» . وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا: أَنَّ لِلَّهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، يُوَحَّدُ بِهَا وَيُمَجَّدُ، وَهِيَ مَفَاتِيحُ خير السموات وَالْأَرْضِ، مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا مِنَ الْمُتَّقِينَ أَصَابَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ تَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا؟ قُلْتُ: بِقَوْلِهِ: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، والَّذِينَ كَفَرُوا، هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ خَالِقَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهَا وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وُقُوعَ الْفَاصِلِ الْكَثِيرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَعِيدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا: جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا: جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا وُصِفَ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْجَلَالَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَكَوْنُهُ مَالِكًا لمقاليد السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِفَاصِلٍ كَثِيرٍ. وَقَوْلُهُ: وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ، كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ لِسَانَ الْعَرَبِ، وَلَا نَظَرَ فِي أَبْوَابِ الِاشْتِغَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَدْ جُعِلَ مُتَّصِلًا بِمَا يَلِيهِ، عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ في السموات وَالْأَرْضِ فَاللَّهُ خَالِقُهُ وَفَاتِحُ بَابِهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ

شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ. رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُشْرِكُونَ: اسْتَلِمْ بَعْضَ آلِهَتِنَا ونؤمن بإلهك، وغير منصوب بأعبد. قَالَ الْأَخْفَشُ: تَأْمُرُونِّي مُلْغَاةٌ، وَعَنْهُ أَيْضًا: أَفَغَيْرَ نُصِبَ بتأمروني لا بأعبد، لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، إِذِ الْمَوْصُولُ مِنْهُ حُذِفَ فَرُفِعَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَا أَيُّهَا ذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى وَالصِّلَةُ مَعَ الْمَوْصُولِ فِي موضع النصب بدلا مِنْهُ، أَيْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي عِبَادَتَهُ؟ وَالْمَعْنَى: أَتَأْمُرُونَنِي بِعِبَادَةِ غَيْرَ اللَّهِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يُنْصَبُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ قَوْلِهِ: تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَعْبُدُونَ وَتَقُولُونَ لِي: اعبده، وأ فغير اللَّهِ تَقُولُونَ لِي أَعْبُدُ، فَكَذَلِكَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَقُولُونَ لي أن اعبده، وأ فغير اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَعْبُدَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَاتُ مَنْ قَرَأَ أَعْبُدَ بِالنَّصْبِ، يَعْنِي: بِنَصْبِ الدَّالِ بِإِضْمَارِ أَنْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَأْمُرُونِّي، بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتَحَهَا ابْنُ كَثِيرٍ. وقرأ ابن عامر: تأمرونني، بِنُونَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ وَنَافِعٌ: تأمروني، بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَفَتْحِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى حَذْفِ النُّونِ الْوَاحِدَةِ، وَهِيَ الْمُوَطِئَةُ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ النُّونِ الْأُولَى، وَهُوَ لَحْنٌ، لِأَنَّهَا عَلَامَةُ رَفْعِ الْفِعْلِ. انْتَهَى. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَحْذُوفَةُ نُونُ الرَّفْعِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ: نُونُ الْوِقَايَةِ، وَلَيْسَ بِلَحْنٍ، لِأَنَّ التَّرْكِيبَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ جَرَى فِي أَيِّهِمَا حُذِفَ، وَنَخْتَارُ أَنَّهَا نُونُ الرَّفْعِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ غَبِيٍّ جَاهِلٍ، نَادَاهُمْ بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِشْرَاكُ مُسْتَحِيلًا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَجَبَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ، وَمَضَى الْخِطَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَاجِعِ الخطاب للرسول، إفرادا لخطاب فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ، إِذْ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبَ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: لَئِنْ أَشْرَكْتُمَا، فَيَشْمَلُ ضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ، وَيُغَلَّبُ الْخِطَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْمُومَى إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ، فَكَيْفَ قَالَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ عَلَى التَّوْحِيدِ؟ قُلْتُ مَعْنَاهُ: لَئِنْ أُوحِيَ إِلَيْكَ، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مِثْلُهُ، وَأُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَئِنْ أَشْرَكْتَ، كَمَا

تَقُولُ: كَسَانَا حُلَّةً، أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ رُسُلَهُ لَا يُشْرِكُونَ وَلَا يَحْبَطُ أَعْمَالُهُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالْمُحَالَاتِ يَصِحُّ فَرْضُهَا ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَيُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُبُوطِ عَمَلِ الْمُرْتَدِّ مِنْ صَلَاةٍ وغيرها. وأوحى: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْوَحْيَ هُوَ هَذِهِ الْجُمَلُ: مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ إِلَى مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْجُمَلَ لَا تَكُونُ فَاعِلَةً، فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَوْحَى إِلَيْكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالتَّوْحِيدُ مَحْذُوفٌ. ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً. انْتَهَى. فَيَكُونُ الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَهُوَ إِلَيْكَ، وَبِالتَّوْحِيدِ فَضْلَةً يَجُوزُ حَذْفُهَا لِدَلَالَةِ ما قبلها عليه. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيَحْبَطَنَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، عَمَلُكَ: رُفِعَ بِهِ. وقرىء بِالنُّونِ أَيْ: لَنُحْبِطَنَّ عَمَلَكَ بِالنَّصْبِ، وَالْجَلَالَةُ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاعْبُدْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ فَاضْرِبْ، وَلَهُ تَقْرِيرٌ فِي النَّحْوِ وَكَيْفَ دَخَلَتْ هَذِهِ الْفَاءُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ نَصْبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ يُقَدَّرُ: اعْبُدِ اللَّهَ فَاعْبُدْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ، ردّ لِمَا أَمَرُوهُ بِهِ مِنَ اسْتِلَامِ بَعْضِ آلِهَتِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَعْبُدْ مَا أَمَرُوكَ بِعِبَادَتِهِ، بَلْ إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا فَاعْبُدِ اللَّهَ، فَحُذِفَ الشَّرْطُ وَجُعِلَ تَقَدُّمُ الْمَفْعُولِ عِوَضًا مِنْهُ. انْتَهَى. وَلَا يَكُونُ تَقَدُّمُ الْمَفْعُولِ عِوَضًا مِنَ الشَّرْطِ لِجَوَازِ أَنْ يَجِيءَ: زَيْدٌ فَعَمْرًا اضْرِبْ. فَلَوْ كَانَ عِوَضًا، لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِأَنْعُمِهِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْهِدَايَةُ لِدِينِ اللَّهِ. وَقَرَأَ عِيسَى: بَلِ اللَّهُ بِالرَّفْعِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أَيْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا قَدَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ حَقَّ تَقْدِيرِهِ، إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَسَاوَوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: حَقَّ قَدَرِهِ بِفَتْحِ الدَّالِّ وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: وَمَا قَدَرُوا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، حَقَّ قَدَرِهِ: بِفَتْحِ الدَّالِّ، أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقِيقَةَ تَعْظِيمِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَدَرُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مُحَاوَرَةً لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ تَكَلَّمُوا فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، فَأَلْحَدُوا وَجَسَّمُوا وَجَاءُوا بِكُلِّ تَخْلِيطٍ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَنْعَامِ وَفِي الْحَجِّ وَهُنَا. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، نَبَّهَهُمْ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّصْوِيرِ وَالتَّخْيِيلِ فَقَالَ: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَا أَخَذْتَهُ كَمَا هُوَ بِجُمْلَتِهِ وَمَجْمُوعِهِ تَصْوِيرُ عَظَمَتِهِ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهِ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضَةِ وَلَا بِالْيَمِينِ إِلَى جِهَةِ حَقِيقَةٍ أَوْ جِهَةِ مَجَازٍ. انْتَهَى. وَيَعْنِي: أَوْ جِهَةِ مَجَازٍ مُعَيَّنٍ، وَالْإِخْبَارُ: التَّصْوِيرُ، وَالتَّخْيِيلُ هُوَ مِنَ الْمَجَازِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَيْهَا، تَعَيَّنَ صَرْفُهُ إِلَى الْمَجَازِ. فَلَفْظُ الْقَبْضَةِ وَالْيَمِينِ حَقِيقَةٌ فِي الْجَارِحَةِ، وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ قَائِمٌ عَلَى امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ فِي قَبْضَةِ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَتَسْخِيرِهِ، وَمِنْهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «1» ، فَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لَهُمْ، وَهَذِهِ الدَّارُ فِي يَدِ فُلَانٍ، وَقَبَضَ فُلَانٌ كَذَا، وَصَارَ فِي قَبْضَتِهِ، يُرِيدُونَ خُلُوصَ مِلْكِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَجَازٌ مُسْتَفِيضٌ مُسْتَعْمَلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْيَمِينُ هُنَا وَالْقَبْضَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَمَا اخْتَلَجَ فِي الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي، يَعْنِي ابْنُ الطَّيِّبِ، مِنْ أَنَّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى صِفَاتِ الذَّاتِ، قَوْلٌ ضعيف، ويحسب مَا يَخْتَلِجُ فِي النُّفُوسِ الَّتِي لَمْ يُحْصِهَا الْعِلْمُ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ: أَيْ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ الشُّبَهِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَمَا قَدَّرَنِي حَقَّ قَدْرِي، وَأَنَا الَّذِي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، أَيْ لَمَّا عَرَفْتَ أَنَّ حَالِي وَصِفَتِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ، وجب أن لا تخطىء عَنْ قَدْرِي وَمَنْزِلَتِي، وَنَظِيرُهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «2» ، أَيْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَحَالُ مُلْكِهِ؟ فَكَذَا هُنَا، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أَيْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءً، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، مع أن الأرض والسموات فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ. انْتَهَى. وَالْأَرْضُ: أَيْ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً، وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَالسَّماواتُ، وَهُوَ جَمْعٌ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ تَفْخِيمٍ، فَهُوَ مُقْتَضِ الْمُبَالَغَةَ. وَالْقَبْضَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْقَبْضِ، وَبِالضَّمِّ: الْمِقْدَارُ الْمَقْبُوضُ بِالْكَفِّ، وَيُقَالُ فِي الْمِقْدَارِ: قَبْضَتَهُ بِالْفَتْحِ، تَسْمِيَةٌ لَهُ بِالْقَدْرِ، فَاحْتَمَلَ هُنَا هَذَا الْمَعْنَى. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ الْمَصْدَرُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَوَاتُ قَبْضَةٍ، أَيْ يَقْبِضُهُنَّ قَبْضَةً وَاحِدَةً، فَالْأَرْضُونَ مَعَ سِعَتِهَا وَبَسْطَتِهَا لَا يَبْلُغْنَ إِلَّا قَبْضَةَ كَفٍّ، وَانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَبْضَتُهُ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ قَبْضَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَصْدَرًا، أَمْ أُرِيدَ بِهِ الْمِقْدَارُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعَ الْقَصْدِ إِلَى الْجَمْعِ يَعْنِي فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ أريد بها الجمع

_ (1) سورة النساء: 4/ 3. (2) سورة البقرة: 2/ 28.

قَالَ: وَتَأْكِيدُهُ بِالْجَمِيعِ، أَتْبَعَ الْجَمِيعَ مُؤَكِّدَةً قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، لِيُعْلَمَ أَوَّلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي يَرِدُ لَا يَقَعُ عَنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ عَنِ الْأَرَاضِي كُلِّهِنَّ. انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ، ويوم الْقِيَامَةِ مَعْمُولٌ لِقَبْضَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: قَبْضَتُهُ بِالنَّصْبِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: بِتَقْدِيرِ فِي قَبْضَتِهِ، هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَلَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقَالُ: زَيْدٌ دَارًا انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَهَا ظَرْفًا مُشَبِّهًا لِلْوَقْتِ بِالْمُبْهَمِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ: مَطْوِيَّاتٌ بِالنَّصْبِ على الحال، وعطف والسموات عَلَى الْأَرْضُ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ وَالْأَرْضُ، فَالْجَمِيعُ قَبَضْتُهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْأَخْفَشُ عَلَى جَوَازِ: زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، إذ أعرب والسموات مبتدأ، وبيمينه الْخَبَرُ، وَتَقَدَّمَتِ الْحَالُ وَالْمَجْرُورُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إِذْ يكون والسموات مَعْطُوفًا عَلَى وَالْأَرْضُ، كَمَا قلنا، وبيمينه متعلق بمطويات، ومطويات: مِنَ الطَّيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «1» ، وَعَادَةُ طَاوِي السِّجِلِّ أَنْ يَطْوِيَهُ بِيَمِينِهِ. وَقِيلَ: قَبَضَتُهُ مِلْكُهُ بِلَا مُدَافِعٍ وَلَا مُنَازِعٍ، وَبِيَمِينِهِ: وَبِقُدْرَتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ: مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ: مُفْنَيَاتٌ بِقَسَمِهِ، لِأَنَّهُ أَقْسَمَ أَنَّ يُفْنِيَهَا ثُمَّ أَخَذَ يُنَحِّي عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ عَظَمَتَهُ بِمَا سَبَقَ إِرْدَافُهُ أَيْضًا بِمَا يُنَاسِبُ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَ حَالَ الْأَرْضِ والسموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، وَهَلِ النَّفْخُ فِي الصُّورِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَوْ نَفْخَتَانِ؟ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: فَنَفْخَةُ الْفَزَعِ هِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالصَّعْقُ هُنَا الْمَوْتُ، أَيْ فَمَاتَ مَنْ فِي السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصُّورُ هُنَا: الْقَرْنُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ هُنَا غَيْرُ هَذَا. وَمَنْ يَقُولُ: الصُّورُ جَمْعُ صُورَةٍ، فَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ قَوْلُهُ فِي نَفْخَةِ الْبَعْثِ. وَرُوِيَ أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ. انْتَهَى، وَلَمْ يُعَيَّنْ. وَقِرَاءَةُ قَتَادَةَ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ هُنَا: فِي الصُّوَرِ، بِفَتْحِ الْوَاوِ جمع صُورَةٍ، يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هُنَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَرْنُ، بَلْ يَكُونُ هَذَا النَّفْخُ فِي الصُّورِ مَجَازًا عَنْ مُشَارَفَةِ الْمَوْتِ وخروج الروح. وقرىء: فَصَعِقَ بِضَمِّ الصَّادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يُصْعَقْ: أَيْ لَمْ يَمُتْ، والمستثنون: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، أَوْ رَضْوَانُ خَازِنُ الجنة، والحور، ومالك، والزبانية أَوِ الْمُسْتَثْنَى اللَّهُ، أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِلْحَسَنِ، وَمَا قَبْلَهُ لِلضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ الصَّعْقَةِ الْأُولَى، أَيْ يَمُوتُ من في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ سَبَقَ موته، لأنهم

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 104.

كَانُوا قَدْ مَاتُوا، وَهَذَا نَظِيرُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى، وَاحْتَمَلَ أُخْرَى عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ الْجَارُ وَالْمَجْرُورُ، كَمَا أُقِيمَ فِي الْأَوَّلِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ مَقَامًا مَقَامَ الْفَاعِلِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ «2» . فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «3» : أَيْ أَحْيَاءٌ قَدْ أُعِيدَتْ لَهُمُ الْأَبْدَانُ وَالْأَرْوَاحُ، يَنْظُرُونَ: أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَوْ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ، أَوْ يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الْجِهَاتِ نَظَرَ الْمَبْهُوتِ إِذَا فَاجَأَهُ خَطْبٌ عَظِيمٌ. وَالظَّاهِرُ قِيَامُهُمُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُعُودِ لِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ الذِّهْنِ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: قِيَامًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ إِذَا الْفُجَائِيَّةُ، وَهِيَ حَالٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، إِذْ هِيَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، أَيْ فَإِذَا هُمْ مَبْعُوثُونَ، أَيْ مَوْجُودُونَ قِيَامًا. وَإِنْ نَصَبْتَ قِيَامًا عَلَى الْحَالِ، فَالْعَامِلُ فِيهَا ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ. إِنْ قُلْنَا الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْ لَا عَامِلَ، فَالْعَامِلُ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، فإن كَانَ إِذَا ظَرْفَ مَكَانٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ، فَتَقْدِيرُهُ: فَبِالْحَضْرَةِ هُمْ قِيَامًا وَإِنْ كَانَ ظَرْفَ زَمَانٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرِّيَاشَيُّ، فَتَقْدِيرُهُ: فَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي نُفِخَ فِيهِ، هُمْ أَيْ وُجُودُهُمْ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ لِأَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ وَإِنْ كَانَتْ إِذَا حَرْفًا، كَمَا زَعَمَ الْكُوفِيُّونَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْخَبَرِ، إِلَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ يَنْظُرُونَ هُوَ الْخَبَرُ، وَيَكُونُ يَنْظُرُونَ عَامِلًا فِي الْحَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَشْرَقَتِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ أَضَاءَتْ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عمير، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ شَرَقَتْ بِالضَّوْءِ تَشْرُقُ، إِذَا امْتَلَأَتْ بِهِ وَاغْتَصَّتْ وَأَشْرَقَهَا اللَّهُ، كَمَا تَقُولُ: مَلَأَ الْأَرْضَ عَدْلًا وَطَبَّقَهَا عَدْلًا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى، فَهَذَا عَلَى أَنْ يُقَالَ: أَشْرَقَ الْبَيْتُ وَأَشْرَقَهُ السِّرَاجُ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُجَاوِزًا وَغَيْرُ مُجَاوِزٍ، كَرَجَعَ وَرَجَعْتُهُ وَوَقَفَ وَوَقَفْتُهُ. وَالْأَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْأَرْضُ الْمُبَدَّلَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَعْرُوفَةِ، وَمَعْنَى أَشْرَقَتْ: أَضَاءَتْ وَعَظُمَ نُورُهَا. انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِشْرَاقُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْقُولًا مِنْ شرقت الشمس إذا طلعت، فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِالْفِعْلِ بِمَعْنَى: أَذْهَبَتْ ظُلْمَةَ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من أَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ، وَهَذَا قَدْ تَعَدَّى إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا لَمْ يُذْكَرِ الْفَاعِلُ، وَأُقِيمَتِ

_ (1) سورة الدخان: 44/ 56. (2- 3) سورة الحاقة: 69/ 13.

الْأَرْضُ مَقَامَهُ وَهَذَا عَلَى مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لَازِمًا مَعًا عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ بِهَا عَلَمٌ لِأَحَدٍ بِنُورِ رَبِّهَا» . قِيلَ: يَخْلُقُ اللَّهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْبِسُهُ وَجْهَ الْأَرْضِ، فَتُشْرِقُ الْأَرْضُ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّورُ هُنَا لَيْسَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، بَلْ هُوَ نُورٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فَيُضِيءُ الْأَرْضَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ يَوْمَئِذٍ مِنْ فِضَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَشْرَقَتْ بِنُورٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَضَافَهُ إِلَيْهِ إِضَافَةَ الْمُلْكِ إِلَى الْمَلِكِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتَعَارَ اللَّهُ النُّورَ لِلْحَقِّ، وَالْقُرْآنِ وَالْبُرْهَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّنْزِيلِ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِمَا يُقِيمُهُ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبَسْطٍ مِنَ الْقِسْطِ فِي الْحَسَنَاتِ، وَوَزَنِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَيُنَادِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْعَدْلُ، وَإِضَافَةُ اسْمِهِ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يُزَيِّنُهَا حِينَ يَنْشُرُ فِيهَا عَدْلَهُ، وَيَنْصِبُ فِيهَا مَوَازِينَ قِسْطِهِ، وَيَحْكُمُ بِالْحَقِّ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَلَا تَرَى أَزْيَنَ لِلْبِقَاعِ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا أَعْمَرَ لَهَا مِنْهُ، وَيَقُولُونَ لِلْمَلِكِ الْعَادِلِ: أَشْرَقَتِ الْآفَاقُ بِعَدْلِكَ وَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِقِسْطِكَ، كَمَا يَقُولُونَ: أَظْلَمَتِ الْبِلَادُ بِجَوْرِ فُلَانٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَكَمَا فَتَحَ الْآيَةَ بِإِثْبَاتِ الْعَدْلِ، خَتَمَهَا بِنَفْيِ الظُّلْمِ. وَوُضِعَ الْكِتابُ: أَيْ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ وَوُحِّدَ، لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ لَهُ كِتَابٌ عَلَى حِدَةٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْكِتَابُ هُنَا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ ضُعِّفَ بِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ مَقَامَ التَّهْدِيدِ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ لِيَشْهَدُوا عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالشُّهَداءِ، قِيلَ: جَمْعُ شَاهِدٍ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الرُّسُلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْحَفَظَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: النَّبِيُّونَ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْجَوَارِحُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَعُّدٌ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْآيَةِ. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ: أَيْ بَيْنَ الْعَالَمِ، وَلِذَلِكَ قُسِّمُوا بَعْدُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، بِالْحَقِّ: أَيْ بِالْعَدْلِ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ: أَيْ جُوزِيَتْ مُكَمَّلًا. وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ وَلَا شَاهِدٍ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ وَزِيَادَةُ تَهْدِيدٍ. وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها

أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، بَيَّنَ بَعْدُ كَيْفِيَّةَ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَمَا أَفْضَى إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ: وَسِيقَ، وَالسَّوْقُ يَقْتَضِي الْحَثَّ عَلَى الْمَسِيرِ بِعُنْفٍ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهِ. وَجَوَابُ إِذَا: فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْتَحُ إِلَّا إِذَا جَاءَتْ كَسَائِرِ أَبْوَابِ السُّجُونِ، فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ مُغْلَقَةً حَتَّى يَأْتِيَ أَصْحَابُ الْجَرَائِمِ الَّذِينَ يُسْجَنُونَ فِيهَا فَيُفْتَحُ ثُمَّ يُغْلَقُ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فِي فُتِحِتْ وَأَبْوَابُهَا سَبْعَةٌ، كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها، عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ: أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ، تَفْهَمُونَ مَا يُنْبِئُونَكُمْ بِهِ، وَسَهُلَ عَلَيْكُمْ مُرَاجَعَتُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: تَأْتِكُمْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ. يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ: أَيِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ لِلتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا: وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَلْقَى فِيهِ الْمُسَمَّى مِنَ الْعَذَابِ، قالُوا بَلى: أَيْ قَدْ جَاءَتْنَا، وَتَلَوْا وَأَنْذَرُوا، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» . عَلَى الْكافِرِينَ: وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، أَيْ عَلَيْنَا، صَرَّحُوا بِالْوَصْفِ الْمُوجِبِ لَهُمُ الْعِقَابَ. وَلَمَّا فَرَغَتْ مُحَاوَرَتُهُمْ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، أُمِرُوا بِدُخُولِ النَّارِ. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً: عَبَّرَ عَنِ الْإِسْرَاعِ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ مُكَرَّمِينَ بِالسَّوْقِ، وَالْمَسُوقُ دَوَابُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهَا إِلَّا رَاكِبِينَ. وَلِمُقَابَلَةِ قَسِيمِهِمْ سَاغَ لَفْظُ السَّوْقِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظُ وَسِيقَ لَعَبَّرَ بِأَسْرَعَ، وَإِذَا شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَفُتِحَتْ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّهُ فِي صِفَةِ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ، وَحُقُّ مُوَقِّعِهِ ما بعد

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 18.

خَالِدِينَ. انْتَهَى. وَقَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ بَعْدَ خَالِدِينَ سَعِدُوا. وَقِيلَ الْجَوَابُ: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها، عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، قِيلَ: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها. وَمَنْ جَعَلَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا، أَوْ جَعَلَهُ: وَقالَ لَهُمْ، عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: وَفُتِحَتْ جُمْلَةً حَالِيَّةً، أَيْ وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا لِقَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «1» . وَنَاسَبَ كَوْنَهَا حَالًا أَنَّ أَبْوَابَ الْأَفْرَاحِ تَكُونُ مُفَتَّحَةً لانتظار من تجيء إِلَيْهَا، بِخِلَافِ أَبْوَابِ السُّجُونِ. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَحِيَّةً مِنْهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِمْ، وأن كون خَبَرًا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ. طِبْتُمْ: أَيْ أَعَمَالًا وَمُعْتَقَدًا وَمُسْتَقَرًّا وَجَزَاءً. فَادْخُلُوها خالِدِينَ: أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ. وَقالُوا، أَيِ الدَّاخِلُونَ، الْجَنَّةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ: أَيْ مَلَّكَنَاهَا نَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا نَشَاءُ، تَشْبِيهًا بِحَالِ الْوَارِثِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا يَرِثُهُ. وَقِيلَ: وَرِثُوهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَهِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ هِيَ أَرْضُ الدُّنْيَا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ. نَتَبَوَّأُ مِنْهَا، حَيْثُ نَشاءُ: أَيْ نَتَّخِذُ أَمْكِنَةً وَمَسَاكِنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ: أَيْ بِطَاعَةِ اللَّهِ هَذَا الْأَجْرُ مِنْ كَلَامِ الدَّاخِلِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ حَافِّينَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَاحِدُهُمْ حَافٌّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يُفْرَدُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ حَافًّا، إِذِ الْحُفُوفُ: الْإِحْدَاقُ بِالشَّيْءِ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ حَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَقِيلَ: هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، إِذْ ثَوَابُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَعْصُومِينَ، يَكُونُ عَلَى حَسَبِ تُفَاضِلِ مَرَاتِبِهِمْ. فَذَلِكَ هُوَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمْ مِنْ ذَوَاتِ بَيْنَهِمْ الْمُخَاطَبَةُ مِنَ الدَّاخِلِينَ الْجَنَّةَ وَمِنْ خَزَنَتِهَا، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ، إِذْ هُمْ فِي نعم سَرْمَدِيٍّ مَنْجَاةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ، إِمَّا جَمِيعُ الْعِبَادِ، وَإِمَّا الْمَلَائِكَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَلَى إِفْضَالِهِ وَقَضَائِهِ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَأُنْزِلَ كُلٌّ مِنَّا منزلة الَّتِي هِيَ حَقُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خَاتِمَةُ الْمَجَالِسِ الْمُجْتَمِعَاتِ فِي الْعِلْمِ.

_ (1) سورة ص: 38/ 50.

سورة غافر

سورة غافر [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 85] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَل

أَزِفَ الشَّيْءُ: قَرُبَ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ التَّبَابُ: الْخُسْرَانُ، السِّلْسِلَةُ مَعْرُوفَةٌ، السَّحْبُ: الجر، سجرت التنور: ملأنه نَارًا. حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ، وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ. سَبْعُ الْحَوَامِيمِ مَكِّيَّاتٌ، قَالُوا بِإِجْمَاعٍ. وَقِيلَ: فِي بَعْضِ آيَاتِ هَذِهِ السُّوَرِ مَدَنِيٌّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْحَوَامِيمَ دِيبَاجُ الْقُرْآنِ» وَفِيهِ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ مُونِقَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَلْيَقْرَأِ الْحَوَامِيمَ» ، وَفِيهِ: «مَثَلُ الْحَوَامِيمِ فِي الْقُرْآنِ مَثَلُ

الْحَبَرَاتِ فِي الثِّيَابِ وَهَذِهِ الْحَوَامِيمُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَوَاعِظِ وَالزَّجْرِ وَطُرُقِ الْآخِرَةِ وَهِيَ قِصَارٌ لَا تَلْحَقُ فِيهَا سَآمَةٌ» . وَمُنَاسِبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ الزُّمَرِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الْكَافِرِينَ وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ تَعَالَى غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءً لِلْكَافِرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ. وَذَكَرَ شِدَّةَ عِقَابِهِ وَصَيْرُورَةَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فِيهِ لِيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَنَّ رُجُوعَهُ إِلَى رَبِّهِ فَيُجَازِيهِ بِمَا يَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وقرىء: بِفَتْحِ الْحَاءِ، اخْتِيَارُ أَبِي القاسم بن جبارة الهذلي، صَاحِبِ كِتَابِ: (الْكَامِلِ فِي الْقُرْآنِ) ، وَأَبُو السَّمَّالِ: بِكَسْرِهَا عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى: بِفَتْحِهَا، وَخَرَّجَ عَلَى أَنَّهَا حَرَكَةُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَكَانَتْ فَتْحَةً طَلَبًا لِلْخِفَّةِ كَأَيْنَ، وَحَرَكَةُ إِعْرَابٍ عَلَى انْتِصَابِهَا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: اقْرَأْ حم. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حم مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَسْمَاءٌ وَفَوَاتِحُ سُوَرٍ» ، وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيُّ: يُذَكِّرُنِي حَامِيمُ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَقَالَ الكميت: وجدنا لكم في آلِ حَمِيمَ آيَةً ... تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ أَعْرَبَا حَامِيمَ، وَمُنِعَتِ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ، أَوِ الْعَلَمِيَّةِ وَشِبْهِ الْعُجْمَةِ، لِأَنَّ فَاعِيلَ لَيْسَ مِنْ أَوْزَانِ أَبْنِيَةِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْعَجَمِ، نَحْوُ: قَابِيلُ وَهَابِيلُ. وَتَقَدَّمَ فِيمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ جَمْعُ حم عَلَى الْحَوَامِيمِ، كَمَا جُمِعَ طس عَلَى الطَّوَاسِينِ. وَحَكَى صَاحِبُ زَادِ الْمَسِيرِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مِنَ الْخَطَأِ أَنْ تَقُولَ: قَرَأْتُ الْحَوَامِيمَ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْتُ آلَ حم. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِذَا وَقَعْتَ فِي آلِ حَمِيمَ وَقَعْتَ فِي رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ» انْتَهَى. فَإِنْ صَحَّ مِنْ لَفْظِ الرَّسُولِ أَنَّهُ قَالَ: «الْحَوَامِيمُ كَانَ حُجَّةً عَلَى مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ» ، وَإِنْ كَانَ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَحْرِيفِ الْأَعَاجِمِ. أَلَا تَرَى لَفْظَ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِذَا وَقَعْتَ فِي آلِ حَمِيمَ» ، وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ: وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ زَادُوا فِي حَامِيمَ أَقْوَالًا هُنَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ السَّلَفِ، غَنَيْنَا عَنْ ذِكْرِهَا، لِاضْطِرَابِهَا وَعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ حم اسْمًا لِلسُّورَةِ، كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَإِلَّا فَتَنْزِيلُ مُبْتَدَأٌ،

وَمِنَ اللَّهِ الْخَبَرُ، أَوْ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ، أَيْ هَذَا تَنْزِيلُ، وَمِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بتنزيل. والْعَزِيزِ الْعَلِيمِ: صِفَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالْعِلْمِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: غَافِرِ وقابل صفتان، وشديد بَدَلٌ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا جَعَلَ غافر وقابل صِفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَا اسْمَيْ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِمَا التَّجَدُّدُ وَلَا التَّقْيِيدُ بِزَمَانٍ، بَلْ أُرِيدَ بِهِمَا الِاسْتِمْرَارُ وَالثُّبُوتُ وَإِضَافَتُهُمَا مَحْضَةٌ فَيُعْرَفُ، وَصَحَّ أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا الْمَعْرِفَةُ، وَإِنَّمَا أُعْرِبَ شَدِيدِ الْعِقابِ بَدَلًا، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَلَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، جَازَ أَنْ يُنْوَى بِإِضَافَتِهِ التَّمَحُّضُ، فَيَتَعَرَّفُ وَيَنْعَتُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّفُ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمُقْنِعِ عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُمْ أَجَازُوا فِي حُسْنِ الْوَجْهِ وَمَا أَشْبَهَهُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ، قَالَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ حُسْنَ الْوَجْهِ نَكِرَةٌ، وَإِذَا أَرَدْتَ تَعْرِيفَهُ أَدْخَلْتَ فِيهِ أَلْ. وَقَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقْصَدَ بِحُسْنِ الْوَجْهِ التَّعْرِيفُ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ. انْتَهَى، وَهَذَا جُنُوحٌ إِلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ غافِرِ الذَّنْبِ وَمَا بَعْدَهُ أَبْدَالًا، اعْتِبَارًا بِأَنَّهَا لَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ، كأنه لا حظ في غافر وقابل زَمَانَ الِاسْتِقْبَالِ. وَقِيلَ: غَافِرِ وقابل لَا يُرَادُ بِهِمَا الْمُضِيُّ، فَهُمَا يَتَعَرَّفَانِ بِالْإِضَافَةِ وَيَكُونَانِ صِفَتَيْنِ، أَيْ إِنَّ قَضَاءَهُ بِالْغُفْرَانِ وَقَبُولِ التَّوْبِ هُوَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعْلُ الزَّجَّاجِ شَدِيدِ الْعِقابِ وَحْدَهُ بَدَلًا بَيْنَ الصِّفَاتِ فِيهِ نُبُوٌ ظَاهِرٌ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا صُودِفَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَارِفِ هَذِهِ النَّكِرَةُ الْوَاحِدَةُ، فَقَدْ آذَنَتْ بِأَنَّ كُلَّهَا أَبِدَالٌ غَيْرُ أَوْصَافٍ، وَمِثَالُ ذَلِكَ قَصِيدَةٌ جَاءَتْ تَفَاعِيلُهَا كُلُّهَا عَلَى مُسْتَفْعِلُنْ، فَهِيَ مَحْكُومٌ عَلَيْهَا أَنَّهَا مِنَ الرَّجَزِ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا جُزْءٌ وَاحِدٌ عَلَى مُتَفَاعِلُنْ كَانَتْ مِنَ الْكَامِلِ، وَلَا نُبُوَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَرْيَ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي قَدِ اسْتَقَرَّتْ وَصَحَّتْ هُوَ الْأَصْلُ. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ آذَنَتْ بِأَنَّ كُلَّهَا أَبْدَالُ تَرْكِيبٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ، لِأَنَّهُ جَعَلَ فَقَدْ آذَنَتْ جَوَابَ لَمَّا، وَلَيْسَ مِنَ كَلَامِهِمْ: لَمَّا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ قَامَ عَمْرٌو، وَقَوْلُهُ: بِأَنَّ كُلَّهَا أَبْدَالٌ فِيهِ تَكْرَارُ الْأَبْدَالِ، أَمَّا بَدَلُ الْبَدَلِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُ فَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِيهِ الْأَبْدَالُ، وَأَمَّا بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَبَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَبَدَلِ اشْتِمَالٍ، فَلَا نَصَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ أَعْرِفُهُ فِي جَوَازِ التَّكْرَارِ فِيهَا، أَوْ مَنْعِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ لَا يُكَرَّرُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أُرَحِّلُ نَاقَتِي ... عَمْرٍو فَتَبْلُغُ نَاقَتِي أَوْ تَزْحَفُ مَلِكٍ إِذَا نَزَلَ الْوُفُودُ بِبَابِهِ ... عَرَفُوا مَوَارِدَ مُزْنِهِ لَا تَنْزِفُ

قَالَ: فَمَلِكٌ بَدَلٌ مِنْ عَمْرٍو، بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَكُونُ بَدَلًا مِنَ ابْنِ أُمِّ أُنَاسٍ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ قَدْ أَبْدَلَ مِنْهُ عَمْرٌو، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ. انْتَهَى. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ لَا يَتَكَرَّرُ، وَيَتَّحِدُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الْبَدَلِ جَائِزٌ، وَقَوْلُهُ: جَاءَتْ تَفَاعِيلُهَا، هُوَ جَمْعُ تِفْعَالٍ أَوْ تَفْعُولٍ أَوْ تِفْعُولٍ أَوْ تَفْعِيلٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْزَانِ يَكُونُ مَعْدُولًا فِي آخِرِ الْعَرُوضِ، بَلْ أَجْزَاؤُهَا مُنْحَصِرَةٌ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْزَانِ، فَصَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ: جَاءَتْ أَجْزَاؤُهَا كُلُّهَا عَلَى مُسْتَفْعِلُنْ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ أَيْضًا: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هِيَ صِفَاتٌ، وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْأَلِفُ واللام من شديد العقاب لِيُزَاوِجَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لَفْظًا، فَقَدْ غَيَّرُوا كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ عَنْ قَوَانِينِهِ لِأَجْلِ الِازْدِوَاجِ، حَتَّى قَالُوا: مَا يَعْرِفُ سُحادِلَيْهِ من عُنادِلَيْهِ، فَثَنُّوا مَا هُوَ وِتْرٌ لِأَجْلِ مَا هُوَ شَفْعٌ. عَلَى أَنَّ الْخَلِيلَ قَالَ فِي قَوْلِهِمْ: لَا يَحْسُنُ بِالرَّجُلِ مِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَحْسُنَ بِالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ أَنْ يَفْعَلَ، عَلَى نِيَّةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَمَا كَانَ الْجَمَّاءُ الْغَفِيرُ عَلَى نِيَّةِ طَرْحِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَمِمَّا يُسَهِّلُ ذَلِكَ أَمْنُ اللَّبْسِ وَجَهَالَةُ الْمَوْصُوفِ. انْتَهَى. وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى اعْتِقَادِ حَذْفِ الْأَلِفِ واللام من شديد العقاب، وَتَرْكِ مَا هُوَ أَصْلٌ فِي النَّحْوِ، وَتَشْبِيهٍ بِنَادِرٍ مُغَيَّرٍ عَنِ الْقَوَانِينِ مِنْ تَثْنِيَةِ الْوِتْرِ لِلشَّفْعِ، وَيُنَزَّهُ كِتَابُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قَدْ تَعَمَّدَ تَنْكِيرَهُ وَإِبْهَامَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى فَرْطِ الشِّدَّةِ، وَعَلَى مَا لَا شَيْءَ أَدْهَى مِنْهُ، وَأَمْرٌ لِزِيَادَةِ الْإِنْذَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ النُّكْتَةُ هِيَ الدَّاعِيَةُ إِلَى اخْتِيَارِ الْبَدَلِ عَلَى الْوَصْفِ إِذَا سَلَكْتَ طَرِيقَةَ الْإِبْدَالِ. انْتَهَى. وَأَجَازَ مَكِّيٌّ فِي غَافِرِ وقابل الْبَدَلَ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُمَا نَكِرَتَانِ لِاسْتِقْبَالِهِمَا، وَالْوَصْفُ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ لِمُضِيِّهِمَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا نِزَاعَ فِي جعل غافر وقابل صِفَةً، وَإِنَّمَا كَانَا كَذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا يُفِيدَانِ مَعْنَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَكَذَلِكَ شَدِيدِ الْعِقَابِ تُفِيدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ صِفَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، فَمَعْنَاهُ: كَوْنُهُ بِحَيْثُ شَدِيدٌ عِقَابُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ أَبَدًا، لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى عِلْمِ النَّحْوُ، وَلَا نَظَرَ فِيهِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «1» ، وَمَلِيكٌ مُقْتَدِرٌ مِنْ قَوْلِهِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «2» ، مَعَارِفَ لِتَنْزِيهِ صِفَاتِهِ عَنِ الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، وَلِأَنَّهَا صِفَاتٌ لَمْ تَحْصُلْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَيَكُونُ تَعْرِيفُ صِفَاتٍ بِأَلْ وَتَنْكِيرُهَا سَوَاءً، وَهَذَا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مبتدىء فِي عِلْمِ النَّحْوِ، فَضْلًا عَمَّنْ صَنَّفَ فِيهِ، وَقَدِمَ عَلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ.

_ (1) سورة النمل: 27/ 6. (2) سورة القمر: 54/ 55. [.....]

وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُطَوَّلِ أَنَّ غَافِرِ الذَّنْبِ وما عطف عليه وشديد الْعِقَابِ أَوْصَافٌ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْوَصْفِ وَصْفٌ، وَالْجَمِيعُ مَعَارِفُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَوْ أَبِدَالٌّ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْبَدَلِ بَدَلٌ لِتَنْكِيرِ الجميع. أو غافر وقابل وصفان، وشديد بَدَلٌ لِمَعْرِفَةٍ ذَيْنِكَ وَتَنْكِيرِ شَدِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا بَالُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَقابِلِ التَّوْبِ؟ قُلْتُ: فِيهَا نُكْتَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ إِفَادَةُ الْجَمْعِ لِلْمُذْنِبِ التَّائِبِ بَيْنَ رَحْمَتَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُ فَيَكْتُبَهَا لَهُ طَاعَةً مِنَ الطَّاعَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مَحَّاءَةً لِلذُّنُوبِ، كَأَنْ لَمْ يُذْنِبْ، كَأَنَّهُ قَالَ: جَامِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالْقَبُولِ. انْتَهَى. وَمَا أَكْثَرَ تَلَمُّحَ هَذَا الرَّجُلِ وَشَقْشَقَتَهُ، وَالَّذِي أَفَادَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنَ ظَاهِرِ عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: وَإِنَّمَا عَطَفَ لِاجْتِمَاعِهِمَا وَتَلَازُمِهِمَا وَعَدَمِ انْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَقُطِعَ شَدِيدِ الْعِقَابِ عَنْهُمَا فَلَمْ يُعْطَفْ لِانْفِرَادِهِ. انْتَهَى، وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ جَوَازُ غُفْرَانِ اللَّهِ لِلْعَاصِي، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ إِلَّا الشِّرْكَ. وَالتَّوْبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالذَّنْبِ، اسْمُ جِنْسٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ تَوْبَةٍ، كَبَشْرٍ وَبَشْرَةٍ، وَسَاعٍ وَسَاعَةٍ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقابِلِ التَّوْبِ أَنَّ تَوْبَةَ الْعَاصِي بِغَيْرِ الْكُفْرِ، كَتَوْبَةِ الْعَاصِي بِالْكُفْرِ مَقْطُوعٌ بِقَبُولِهَا. وَذَكَرُوا فِي الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَةِ الْعَاصِي قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى شِدَّةَ عِقَابِهِ أَرْدَفَهُ بِمَا يُطْمِعُ فِي رَحْمَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ذِي الطَّوْلِ، فَجَاءَ ذَلِكَ وَعِيدًا اكْتَنَفَهُ وَعْدَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّوْلُ: السَّعَةُ وَالْغِنَى وَقَالَ قَتَادَةُ: النِّعَمُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْقُدْرَةُ، وَقَوْلُهُ: طَوْلُهُ، تَضْعِيفُ حَسَنَاتِ أَوْلِيَائِهِ وَعَفْوُهُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَا الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، ذَكَرَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ، الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْحَشْرِ ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ مَنْ جَادَلَ فِي الْكِتَابِ، وَأَتْبَعَ بِذِكْرِ الطَّائِعِينَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَصَالِحِي عِبَادِهِ فَقَالَ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَجِدَالُهُمْ فِيهَا قَوْلُهُمْ: مَرَّةً سِحْرٌ، وَمَرَّةً شِعْرٌ، وَمَرَّةً أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَمَرَّةً إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، فَهُوَ جِدَالٌ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ «1» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا يُجَادِلُ: أَيْ مَا يُمَارِي. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: مَا يَجْحَدُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، أَحَدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا، وَاسْتِيضَاحِ مَعَانِيهَا، وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالْعَقَائِدِ مِنْهَا، وَمُقَارَعَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِهَا، فَذَلِكَ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ. ثم نهى السامع

_ (1) سورة غافر: 40/ 5.

أَنَّ يَغْتَرَّ بِتَقَلُّبِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي الْبِلَادِ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ فِيهَا، بِمَا أَمْلَيْتُ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالْمَزَارِعِ وَالْمَمَالِكِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، وَكَانَتْ قُرَيْشُ تتجر في الشام والمين فَإِنَّ ذَلِكَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ وَسَبَبٌ فِي إِهْلَاكِهِمْ، كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا يَغْرُرْكَ، بِالْفَكِّ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: فَلَا يَغُرَّكَ، بِالْإِدْغَامِ مَفْتُوحَ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَلَمَّا كَانَ جِدَالُ الْكُفَّارِ نَاشِئًا عَنْ تَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، ذَكَرَ مَنْ كَذَّبَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَمَا صَارَ إِلَيْهِ حَالُهُمْ مِنْ حُلُولِ نَقْمَاتِ اللَّهِ بِهِمْ، لِيَرْتَدِعَ بِهِمْ كَفَّارُ مَنْ بَعَثَ الرَّسُولُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَيْهِمْ فَبَدَأَ بِقَوْمِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ رَسُولٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَطَفَ عَلَى قَوْمِهِ الْأَحْزَابَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الرُّسُلِ. وَلَمْ يَقْبَلُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ: عَادٌ وَثَمُودُ وَفِرْعَوْنُ وَأَتْبَاعُهُ، وَقَدَّمَ الْهَمَّ بِالْأَخْذِ عَلَى الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ، لِأَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ رَجَعُوا إِلَى الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَسُولِهِمْ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بِرَسُولِهَا، عَادَ الضَّمِيرُ إِلَى لَفْظِ أُمَّةٍ. لِيَأْخُذُوهُ: لِيَتَمَكَّنُوا مِنْهُ بِحَبْسٍ أَوْ تَعْذِيبٍ أَوْ قَتْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَأْخُذُوهُ: لِيَمْلِكُوهُ، وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ: فَإِمَّا تَأْخُذُونِي تَقْتُلُونِي ... فَكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلُودِي وَيُقَالُ لِلْقَتِيلِ وَالْأَسِيرِ: أَخِيذٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِيَأْخُذُوهُ: لِيَقْتُلُوهُ، عَبَّرَ عَنِ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ. وَجادَلُوا بِالْباطِلِ: أَيْ بِمَا هُوَ مُضْمَحِلٌّ ذاهب لا ثياب لَهُ. وَقِيلَ: الْبَاطِلُ: الْكُفْرُ. وَقِيلَ: الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِمْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «1» . لِيُدْحِضُوا: لِيُزْلِقُوا، بِهِ الْحَقَّ: أَيِ الثَّابِتَ الصِّدْقِ. فَأَخَذْتُهُمْ: فَأَهْلَكْتُهُمْ. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ إِيَّاهُمْ، اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ مِنَ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَاسْتِعْظَامٍ لِمَا حَلَّ بِهِمْ، وَلَيْسَ اسْتِفْهَامًا عَنْ كَيْفِيَّةِ عِقَابِهِمْ، وَكَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى مَسَاكِنِهِمْ وَيَرَوْنَ آثَارَ نِعْمَةِ اللَّهِ فِيهِمْ وَاجْتَزَأَ بِالْكَسْرِ عَنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ، وَالْأَصْلُ عِقَابِي. وَكَذلِكَ حَقَّتْ: أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْوُجُوبِ مِنْ عِقَابِهِمْ وَجَبَ عَلَى الْكَفَرَةِ، كونهم من أصحاب النار، مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ تأخر. وأَنَّهُمْ: بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهُمْ وَحُذِفَ لَامُ الْعِلَّةِ. وَالْمَعْنَى: كَمَا وَجَبَ إِهْلَاكُ أُولَئِكَ الْأُمَمِ، وَجَبَ إِهْلَاكُ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِإِهْلَاكِهِمْ وَصْفٌ جَامِعٌ لَهُمْ، وَهُوَ كونهم من أصحاب النار. وفي مصحف

_ (1) سورة يس: 36/ 15.

عَبْدِ اللَّهِ: وَكَذَلِكَ سَبَقَتْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لَا قِرَاءَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: كَلِمَاتٌ عَلَى الْجَمْعِ وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: عَلَى الْإِفْرَادِ. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ، رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ، قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. لَمَّا ذَكَرَ جِدَالَ الْكُفَّارِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَعِصْيَانَهُمْ، ذَكَرَ طَاعَةَ هَؤُلَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَمَنْ حَوْلَهُ، وَهُمْ الْحَافُّونَ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ تِلْكَ الجملة وَعِظَمِ خَلْقِهِمْ، وَوَصْفِ الْعَرْشِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ خُلِقَ، وَالْحُجُبِ السَّبْعِينِيَّاتِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، قَالُوا: احْتَجَبَ اللَّهُ عَنِ الْعَرْشِ وَعَنْ حَامِلِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ عَلَى أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى مُحْتَمِلَةٌ لِكُلِّ مَا ذَكَرُوهُ مِمَّا لَا يَقْتَضِي تَجْسِيمًا، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْعَرْشَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَفِرْقَةٌ: بِضَمِّهَا، كَأَنَّهُ جَمْعُ عَرْشٍ، كَسَقْفٍ وَسُقُفٍ، أَوْ يَكُونُ لُغَةً فِي الْعَرْشِ. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ: أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ، بِحَمْدِ رَبِّهِمْ: بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالتَّسْبِيحُ: إِشَارَةٌ إِلَى الْإِجْلَالِ وَالتَّحْمِيدُ: إِشَارَةٌ إِلَى الْإِكْرَامِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «1» ، وَنَظِيرُهُ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ «2» وَقَوْلُهُمْ: وَنَحْنُ نَسَبَّحُ بِحَمْدِكَ. وَيُؤْمِنُونَ: أَيْ وَيُصَدِّقُونَ بِوُجُودِهِ تَعَالَى وَبِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَا، وَتَسْبِيحُهُمْ إِيَّاهُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 78. (2) سورة الزمر: 39/ 75.

الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِهِ مُؤْمِنُونَ؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ إِظْهَارُ شَرَفِ الْإِيمَانِ وَفَضْلِهِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ، كَمَا وَصَفَ الْأَنْبِيَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالصَّلَاحِ لِذَلِكَ، وَكَمَا عَقَّبَ أَعْمَالَهَمُ الْخَيْرَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «1» ، فَأَبَانَ بِذَلِكَ فَضْلَ الْإِيمَانِ. وَفَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ الْمُجَسِّمَةُ، لَكَانَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ مُشَاهِدِينَ مُعَايِنِينَ، وَلَمَا وُصِفُوا بِالْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ الْغَائِبُ. وَلَمَّا وُصِفُوا بِهِ عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، عُلِمَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ وَإِيمَانَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَكُلِّ مَنْ غَابَ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ إِيمَانَ الْجَمِيعِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا غَيْرُ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا هَذَا، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ. وَقَدْ رُوعِيَ التَّنَاسُبُ فِي قَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَيُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ وَصِفَتِهِمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْإِيمَانِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَدْعَى شَيْءٍ إِلَى النَّصِيحَةِ، وَأَبْعَثَهُ عَلَى إِمْحَاضِ الشَّفَقَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْأَجْنَاسُ وَتَبَاعَدَتِ الْأَمَاكِنُ، فَإِنَّهُ لَا تَجَانُسَ بَيْنَ مَلَكٍ وَإِنْسَانٍ، وَلَا بَيْنَ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ قَطُّ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ جَامِعُ الْإِيمَانِ، جَاءَ مَعَهُ التَّجَانُسُ الْكُلِّيُّ وَالتَّنَاسُبُ الْحَقِيقِيُّ، حَتَّى اسْتَغْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْعَرْشِ لِمَنْ فَوْقَ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ «2» . انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ إِيمَانَ الْجَمِيعِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا غَيْرُ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَوْلُهُ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: وَجَدْنَا أَنْصَحَ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ الْمَلَائِكَةَ، وَأَغَشَّ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ الشَّيَاطِينَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَنْصَحُ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ. رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً: أَيْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا وَاحْتَمَلَ هَذَا الْمَحْذُوفُ بَيَانًا لِيَسْتَغْفِرُونِ، فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَكَثِيرًا مَا جَاءَ النِّدَاءُ بِلَفْظِ رَبَّنَا وَرَبِّ، وَفِيهِ اسْتِعْطَافُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ الَّذِي رَبَّاهُ وَقَامَ بِمَصَالِحِهِ مِنْ لَدُنْ نَشْأَتِهِ إِلَى وَقْتِ نِدَائِهِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُنَادِيَهُ إِلَّا بِلَفْظِ الرَّبِّ. وَانْتَصَبَ رَحْمَةً وَعِلْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْأَصْلُ: وَسِعَتْ رَحْمَتُكَ كُلَّ شَيْءٍ، وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ وَأُسْنِدَ الْوُسْعُ إِلَى صَاحِبِهَا مُبَالَغَةً، كَأَنَّ ذَاتَهُ هِيَ الرَّحْمَةُ وَالْعِلْمُ، وَقَدْ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَدَّمَ الرَّحْمَةَ، لِأَنَّهُمْ بِهَا يَسْتَمْطِرُونَ إِحْسَانَهُ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ من سؤال المغفرة.

_ (1) سورة البلد: 90/ 17. (2) سورة الشورى: 42/ 5.

وَلَمَّا حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ كَيْفِيَّةَ ثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ بِاسْتِغْفَارِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ. وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ نَتِيجَةُ الرَّحْمَةِ، وَلِلَّذِينِ تَابُوا يَتَضَمَّنُ أَنَّكَ عَلِمْتَ تَوْبَتَهُمْ، فَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى قَوْلِهِ: رَحْمَةً وَعِلْماً، واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ الَّتِي نَهَجَتْهَا لِعِبَادِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ: الَّذِي لَا تُغَالَبُ، الْحَكِيمُ: الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا الَّتِي تليق بها. ولما طَلَبُ الْغُفْرَانِ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ الْعَذَابِ، أَرْدَفُوهُ بِالتَّضَرُّعِ بِوِقَايَتِهِمُ الْعَذَابَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، فَقَالُوا: وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ، وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَوِقَايَةُ الْعَذَابِ لِلتَّائِبِ الصَّالِحِ، وَقَدْ وَعَدَ بِذَلِكَ الْوَعْدِ الصَّادِقِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَاعَةِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ. وَلَمَّا سَأَلُوا إِزَالَةَ الْعِقَابِ، سَأَلُوا اتِّصَالَ الثواب، وكرر الدعاء بربنا فَقَالُوا: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَّاتِ جَمْعًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْأَعْمَشُ: جَنَّةَ عَدْنٍ بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ «1» فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: صَلُحَ بِضَمِّ اللَّامِ، يُقَالُ: صَلَحَ فَهُوَ صَلِيحٌ وَصَلُحَ فَهُوَ صَالِحٌ. وَقَرَأَ عِيسَى: وَذُرِّيَّتَهُمْ، بِالْإِفْرَادِ وَالْجُمْهُورُ بِالْجَمْعِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ قَرَابَتِهِ فَيَقُولُ: أَيْنَ أَبِي؟ أَيْنَ أُمِّي؟ أَيْنَ ابْنِي؟ أَيْنَ زَوْجَتِي؟ فَيَلْحَقُونَ بِهِ لِصَلَاحِهِ وَلِتَنْبِيهِهِ عَلَيْهِ وَطَلَبِهِ إِيَّاهُمْ، وَهَذِهِ دَعْوَةُ الْمَلَائِكَةِ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي خَيْرٍ، وَمَعَهُ عَشِيرَتُهُ وَأَهْلُهُ، كَانَ أَبْهَجَ عِنْدَهُ وَأَسَرَّ لِقَلْبِهِ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَمَنْ عَلَى الضَّمِيرِ فِي وَأَدْخِلْهُمْ، إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَالْمَسْئُولُ لَهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ: نَصْبُهُ مِنْ مَكَانَيْنِ: إِنْ شِئْتَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي وَأَدْخِلْهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي وَعَدْتَهُمْ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ: أَيِ امْنَعْهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا حَتَّى لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا جَزَاؤُهَا، أَوْ وَقِهِمْ جَزَاءَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اجْتَرَحُوهَا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَلَا تَكْرَارَ فِي هَذَا، وَقَوْلُهُ: وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ لِعَدَمِ تَوَافُقِ الْمَدْعُوِّ لَهُمْ أَنَّ الدُّعَاءَ الْأَوَّلَ لِلَّذِينِ تَابُوا، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَهُمْ وَلِمَنْ صَلُحَ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، أَوْ لِاخْتِلَافِ الدُّعَاءَيْنِ إِذَا أُرِيدَ بِالسَّيِّئَاتِ أنفسها، فَذَلِكَ وِقَايَةُ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَهَذَا وِقَايَةُ الْوُقُوعِ فِي السَّيِّئَاتِ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ تَنْوِينُ الْعِوَضِ، وَالْمَحْذُوفُ جُمْلَةٌ عُوِّضَ مِنْهَا التَّنْوِينُ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ يَكُونُ التَّنْوِينُ عِوَضًا مِنْهَا، كقوله:

_ (1) سورة مريم: 19/ 61.

فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ «1» ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ «2» أَيْ حِينَ إذ بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ يَكُونُ التَّنْوِينُ عِوَضًا مِنْهَا كَقَوْلِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَهِيَ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ: أَيْ جَزَاءَهَا يَوْمَ إِذْ يُؤَاخَذُ بِهَا فَقَدْ رَحِمْتَهُ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِمْ فِي الْآيَةِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي عُوِّضَ مِنْهَا التَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغُفْرَانِ. وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَوِقَايَةُ الْعَذَابِ هُوَ الْفَوْزُ بِالظَّفَرِ الْعَظِيمِ الَّذِي عَظُمَ خَطَرُهُ وَجَلَّ صُنْعُهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ، وَمَا يَجْرِي لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ اعْتِرَافِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ وَسُؤَالِهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا. وَنِدَاؤُهُمْ، قَالَ السُّدِّيُّ: فِي النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُنَادُونَ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَاللَّامُ فِي لَمَقْتُ لَامُ الِابْتِدَاءِ وَلَامُ الْقَسَمِ، وَمَقْتُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، التَّقْدِيرُ: لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، أَوْ لَمَقْتُ اللَّهِ أَنْفُسَكُمْ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْتَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَقَاءِ إِذْ تُدْعَوْنَ، مُفْلَتًا مِنَ الْكَلَامِ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ عَامِلٌ تَقَدَّمَ، وَلَا مُفَسِّرٌ لِعَامِلٍ. فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُ السَّابِقُ فِي الدُّنْيَا، أَمْكَنَ أَنْ يُضْمِرَ لَهُ عَامِلٌ تَقْدِيرُهُ: مَقْتُكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذْ تُدْعَوْنَ مَنْصُوبٌ بِالْمَقْتِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنِ اللَّهَ مَقَتَ أَنْفُسَكُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ وَالْكُفْرِ حِينَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَتَأْبَوْنَ قُبُولَهُ وَتَخْتَارُونَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ، أَشَدُّ مِمَّا تَمْقُتُونَهُنَّ الْيَوْمَ وَأَنْتُمْ فِي النَّارِ، إِذْ أَوْقَعْتُكُمْ فِيهَا بِاتِّبَاعِكُمْ هَوَاهُنَّ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَأَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تُدْعَوْنَ مَنْصُوبٌ بِالْمَقْتِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَقْتَ مَصْدَرٌ، وَمَعْمُولُهُ مِنْ صِلَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ صِلَتَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَهَذَا مِنْ ظَوَاهِرِ عِلْمِ النَّحْوِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَخْفَى عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ، فَضْلًا عَمَّا تَدَّعِي الْعَجَمُ أَنَّهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ شَيْخُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَلَمَّا كَانَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ، لَا يَجُوزُ قدرنا العامل فيه مضمر، أَيْ مَقَتَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ، وَشَبِيهُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ «3» . قَدَّرُوا الْعَامِلَ بِرَجْعِهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ لِلْفَصْلِ بِ لَقادِرٌ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَيَوْمَ. وَاخْتِلَافُ زَمَانَيِ

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 83. (2) سورة الواقعة: 56/ 84. (3) سورة الطارق: 86/ 8- 9.

الْمَقْتَيْنِ الْأَوَّلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْأَكْثَرِينَ، وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَنِ الْحَسَنِ لَمَّا رَأَوْا أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ فَنُودُوا: لَمَقْتُ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمُ الْآنَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «1» ، وإِذْ تُدْعَوْنَ تَعْلِيلٌ. انْتَهَى. وَكَانَ قَوْلُهُ: إِذْ تُدْعَوْنَ تَعْلِيلٌ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِذْ تُدْعَوْنَ مَعْمُولٌ، لأذكر مَحْذُوفَةٍ، وَيَتَّجِهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَقْتُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ، قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالثَّوَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ مَقْتِ أَنْفُسِكُمْ، أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ يَمْقُتُ نَفْسَهُ، أَوْ أَنْ بَعْضَكُمْ يَمْقُتُ بَعْضًا، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْأَتْبَاعَ يَمْقُتُونَ الرُّؤَسَاءَ لِمَا وَرَّطُوهُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالرُّؤَسَاءُ يَمْقُتُونَ الْأَتْبَاعَ، وَقِيلَ: يَمْقُتُونَ أَنْفُسَهُمْ حِينَ قَالَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، وَالْمَقْتُ أَشَدُّ الْبُغْضِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَعْنَاهُ: الْإِنْكَارُ وَالزَّجْرُ. قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، وَعَظَّمَ مَقْتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ هَذَا الْإِنْكَارُ، فَلَمَّا مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ وَرَأَوْا حُزْنًا طَوِيلًا رَجَعُوا إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، فَأَقَرُّوا أَنَّهُ تَعَالَى أَمَاتَهُمُ اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَاهُمُ اثْنَتَيْنِ تَعْظِيمًا لِقُدْرَتِهِ وَتَوَسُّلًا إِلَى رِضَاهُ، ثُمَّ أَطْمَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالِاعْتِرَافِ بِالذُّنُوبِ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا، أَيْ إِنْ رَجَعْنَا إِلَى الدُّنْيَا وَدُعِينَا لِلْإِيمَانِ بَادَرْنَا إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو مَالِكٍ: مَوْتُهُمْ كَوْنُهُمْ مَاءً فِي الْأَصْلَابِ، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ مَوْتُهُمْ فِيهَا، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِحْيَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِمَاتَتُهُمْ فِيهَا، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُمْ فِي الْقَبْرِ لِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، ثُمَّ إِمَاتَتُهُمْ فِيهِ، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُمْ فِي الْحَشْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِحْيَاؤُهُمْ نَسَمًا عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، ثُمَّ إِمَاتَتُهُمْ بَعْدُ، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِمَاتَتُهُمْ، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُمْ، فَعَلَى هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ تَكُونُ ثَلَاثَةَ إِحْيَاءَاتٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْكَافِرُ فِي الدُّنْيَا حَيُّ الْجَسَدِ، مَيِّتُ الْقَلْبِ، فَاعْتُبِرَتِ الْحَالَتَانِ، ثُمَّ إِمَاتَتُهُمْ حَقِيقَةً، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُمْ فِي الْبَعْثِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءَيْنِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً «2» الْآيَةَ، وَكَرَّرْنَا ذَلِكَ هُنَا لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ أَنْ يُسَمِّيَ خَلَقَهُمْ أَمْوَاتًا إِمَاتَةً؟ قُلْتُ: كَمَا صَحَّ أن يقول: سبحان من

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 25. (2) سورة البقرة: 2/ 28.

صَغَّرَ جِسْمَ الْبَعُوضَةِ وَكَبَّرَ جِسْمَ الْفِيلِ، وَقَوْلُكُ لِلْحَفَّارِ ضَيِّقْ فَمَ الرَّكِيَّةِ وَوَسِّعْ أَسْفَلَهَا، وَلَيْسَ ثَمَّ نَقْلٌ مِنْ كِبَرٍ إِلَى صِغَرٍ، وَلَا مِنْ صِغَرٍ إِلَى كِبَرٍ، وَلَا مِنْ ضِيقٍ إِلَى سِعَةٍ، وَلَا مِنْ سِعَةٍ إِلَى ضِيقٍ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ الْإِنْشَاءَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ. وَالسَّبَبُ فِي صِحَّتِهِ أَنَّ الصِّغَرَ وَالْكِبَرَ جَائِزَانِ مَعًا عَلَى الْمَصْنُوعِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ الضِّيقُ وَالسِّعَةُ، فَإِذَا اخْتَارَ الصَّانِعُ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَقَدْ صَرَفَ الْمَصْنُوعَ إِلَى الْجَائِزِ الْآخَرِ، فَجَعَلَ صَرْفَهُ عَنْهُ كَنَقْلِهِ مِنْهُ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ خَلَقَهُمْ أَمْوَاتًا، كَأَنَّهُ نَقْلٌ مِنَ الْحَيَاةِ وَهُوَ الْجَائِزُ الْآخَرُ. وَظَاهِرُ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أَنَّهُ متسبب عن قبولهم. رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَعَرَفْنَا قُدْرَتَكَ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَزَالَ إِنْكَارُنَا لِلْبَعْثِ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا السَّابِقَةِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ. فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ: أَيْ سَرِيعٍ أَوْ بَطِيءٍ مِنَ النَّارِ، مِنْ سَبِيلٍ: وَهَذَا سُؤَالُ مَنْ يَئِسَ مِنَ الْخُرُوجِ، وَلَكِنَّهُ تَعَلَّلٌ وَتَحَيَّرٌ. ذلِكُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَذَابِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، أَوْ إِلَى مَقْتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، أَوْ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ وَالزَّجْرِ وَالْإِهَانَةِ، احْتِمَالَاتٌ. قوله. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِمُحَاضِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ: أَيْ إِذَا أُفْرِدَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَنُفِيَتْ عَنْ سِوَاهُ، كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ: أَيْ ذُكِرَتِ اللَّاتُ والعزى وأمثالها مِنَ الْأَصْنَامِ صَدَّقْتُمْ بِأُلُوهِيَّتِهَا وَسَكَنَتْ نُفُوسُكُمْ إِلَيْهَا. فَالْحُكْمُ بِعَذَابِكُمْ، لِلَّهِ، لَا لِتِلْكَ الأصنام التي أشركتمها مَعَ اللَّهِ، الْعَلِيِّ عَنِ الشِّرْكِ، الْكَبِيرِ: الْعَظِيمِ الْكِبْرِيَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لِأَهْلِ النَّارِ خَمْسُ دَعَوَاتٍ، يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْخَامِسَةُ سَكَتُوا. قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ الْآيَةَ، وَفِي إِبْرَاهِيمَ: رَبَّنا أَخِّرْنا «1» الْآيَةَ، وَفِي السَّجْدَةِ: رَبَّنا أَبْصَرْنا «2» الْآيَةَ، وَفِي فَاطِرٍ: رَبَّنا أَخْرِجْنا «3» الْآيَةَ، وَفِي الْمُؤْمِنُونَ: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا «4» الْآيَةَ، فَرَاجَعَهُمُ اخسؤا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، قَالَ: فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِمْ ذَلِكَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يُوجِبُ التَّهْدِيدَ الشَّدِيدَ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَيَصِيرَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْأَحْجَارِ الْمَنْحُوتَةِ وَالْخُشُبِ الْمَعْبُودَةِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ، أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَشْمَلُ آيَاتِ قُدْرَتِهِ مِنَ الرِّيحِ السحاب وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، وَآيَاتِ كتابه المشتمل

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 44. (2) سورة السجدة: 32/ 12. [.....] (3) سورة فاطر: 35/ 37. (4) سورة المؤمنون: 23/ 106.

عَلَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَآيَاتِ الْإِعْجَازِ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى نُورِ الْعَقْلِ الدَّاعِي إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً، وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ قِوَامِ بِنْيَةِ الْبَدَنِ، فَتِلْكَ الْآيَاتُ لِلْأَدْيَانِ كَهَذَا الرِّزْقِ لِلْأَبْدَانِ. وَما يَتَذَكَّرُ: أَيْ يَتَّعِظُ وَيَعْتَبِرُ، وَجَعَلَهُ تَذَكُّرًا لِأَنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي الْعُقُولِ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ قَدْ يَعْرِضُ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَيَمْنَعُ مِنْ تَجَلِّي نُورِ الْعَقْلِ، فَإِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَذَكَّرَ. فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ، يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ، وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ، وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ. الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ لِلْمُنِيبِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ اعْبُدُوهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مِنَ الشِّرْكِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، حَتَّى فِي حَالِ غَيْظِ أَعْدَائِكُمُ الْمُتَمَالِئِينَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى اسْتِئْصَالِكُمْ. ورفيع: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثَلَاثَةُ أَخْبَارٍ مُتَرَتِّبَةٍ عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِي يُرِيكُمْ «1» ، أَوْ أَخْبَارُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ تَعْرِيفًا وَتَنْكِيرًا. انْتَهَى. أَمَّا تَرَتُّبُهَا عَلَى قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ، فَبَعِيدٌ كَطُولِ الْفَصْلِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا أَخَبَارًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، والمنع اختيار أصحابنا. وقرىء: رَفِيعُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ رَفِيعُ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى فَعِيلٍ مِنْ رَافِعٍ، فَيَكُونُ الدَّرَجَاتُ مَفْعُولَةً، أَيْ رَافِعُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ سَلَامٍ، أَوْ عبر بالدرجات عن السموات، أَرْفَعُهَا سَمَاءً فَوْقَ سَمَاءٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَهُنَّ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ رَفِيعُ فَعِيلًا مِنْ رَفَعَ الشَّيْءَ عَلَا فَهُوَ رَفِيعٌ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَالدَّرَجَاتُ: الْمَصَاعِدُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الْعَرْشَ، أُضِيفَتْ إِلَيْهِ دَلَالَةً عَلَى عِزِّهِ وَسُلْطَانِهِ، أَيْ دَرَجَاتِ مَلَائِكَتِهِ، كَمَا وَصَفَهُ بقوله:

_ (1) سورة الرعد: 13/ 12.

ذِي الْمَعارِجِ «1» ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ رَفْعَةِ شَأْنِهِ وَعُلُوِّ سُلْطَانِهِ. كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: ذُو الْعَرْشِ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِهِ، وَبِنَحْوِهِ فَسَّرَ ابْنُ زَيْدٍ قَالَ: عظيم الصفات. والرُّوحَ: النُّبُوَّةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، كَمَا قَالَ: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «2» وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: الْوَحْيَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُرْآنَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جِبْرِيلُ يُرْسِلُهُ لِمَنْ يَشَاءُ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْعِبَادِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَالْأَوْلَى الْوَحْيُ، اسْتُعِيرَ لَهُ الرُّوحُ لِحَيَاةِ الْأَدْيَانِ الْمَرْضِيَّةِ بِهِ، كَمَا قَالَ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «3» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون إلقاء الروح عامل لِكُلِّ مَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُهْتَدِينَ فِي تَفْهِيمِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْقُولَاتِ الشَّرِيفَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرُّوحُ: كُلُّ مَا بِهِ حَيَاةُ النَّاسِ، وَكُلُّ مُهْتَدٍ حَيٌّ، وَكُلُّ ضَالٍّ مَيِّتٌ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَمْرِهِ: مِنْ قَضَائِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِأَمْرِهِ، وَحَكَى الشَّعْبِيُّ مِنْ قَوْلِهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيُنْذِرَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، يَوْمَ بِالنَّصْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ. وَاحْتَمَلَ يَوْمَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى السَّعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، وَالْمُنْذَرُ بِهِ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَجَمَاعَةٌ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ رَفَعُوا يَوْمَ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مَجَازًا. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ضَمِيرُ الرُّوحِ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ مَنْ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: لِيُنْذَرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، يَوْمُ التَّلَاقِ، بِرَفْعِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْيَمَانِيُّ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لِتُنْذِرَ بِالتَّاءِ، فَقَالُوا: الْفَاعِلُ ضَمِيرُ الرُّوحِ، لِأَنَّهَا تُؤَنَّثُ، أَوْ فِيهِ ضَمِيرُ الْخِطَابِ الْمَوْصُولِ. وقرىء: التَّلَاقِ وَالتَّنَادِ، بِيَاءٍ وَبِغَيْرِ يَاءٍ، وَسُمِّي يَوْمَ التَّلَاقِ لِالْتِقَاءِ الْخَلَائِقِ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: يَلْتَقِي فِيهِ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: يَلْتَقِي فِيهِ الظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: يَلْتَقِي الْمَرْءُ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُلَاقِي أَهْلُ السَّمَاءِ أَهْلَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: يَلْتَقِي الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودُهُمْ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ: أَيْ ظَاهِرُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ مِنْ جَبَلٍ أَوْ أَكَمَةٍ أَوْ بِنَاءٍ، لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذْ ذَاكَ قَاعُ صَفْصَفٍ، وَلَا مِنْ ثِيَابٍ، لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ حفاة عراة. ويوما بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ التَّلَاقِ، وَكِلَاهُمَا ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ. وَالظَّرْفُ الْمُسْتَقْبَلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، لَا يَجُوزُ: أَجِيئُكَ يَوْمَ زَيْدٌ ذَاهِبٌ، إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى إِذَا، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ:

_ (1) سورة المعارج: 70/ 3. (2) سورة الشورى: 42/ 52. (3) سورة الأنعام: 6/ 122.

أَجِيئُكَ إِذَا زَيْدٌ ذَاهِبٌ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ هَذَا. وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، فَيَتَخَرَّجُ قَوْلُهُ: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى قِلَّةٍ، وَالدَّلَائِلُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ: لَا يَخْفى، وَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ لَا حَرَكَةُ بِنَاءٍ، لِأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُبْنَى إِلَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، كَيَوْمَئِذٍ. وَقَالَ الشَّاعِرِ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ على الصِّبَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ «1» . وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالْجُمْلَةُ اسْمٌ مُتَمَكِّنٌ، كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ يَوْمَ زَيْدٌ أَمِيرٌ، فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ قَوْلُهُ: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُبْنَى إِلَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، فَالْبِنَاءُ لَيْسَ مُتَحَتِّمًا، بَلْ يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَالْإِعْرَابُ. وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بيوم يَنْفَعُ، فَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْإِعْرَابُ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَابِ فِيهِ. وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، كَمَّا مَثَّلَ مِنْ قَوْلِهِ: جِئْتُ يَوْمَ زَيْدٌ أَمِيرٌ، فَالنَّقْلُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ تَحَتُّمُ الْإِعْرَابِ، كَمَا ذُكِرَ، وَالنَّقْلُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ الْإِعْرَابِ وَالْبِنَاءِ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِكَثْرَةِ شَوَاهِدِ الْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْبِنَاءُ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَهُوَ وَهْمٌ. لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ: أَيْ مِنْ سَرَائِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا هلك من في السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ بِأَرْضٍ بَيْضَاءَ، كَأَنَّهَا سَبِيكَةُ فِضَّةٍ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فِيهَا قَطُّ، فَأَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَنْ يُنَادِيَ مُنَادٍ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فيجيبوا كُلُّهُمْ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يُقَرِّرُ هَذَا التَّقْرِيرَ وَيَسْكُتُ الْعَالَمُ هَيْبَةً وَجَزَعًا، فَيُجِيبُ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، فَيُجِيبُ النَّاسُ، وَإِنَّمَا خَصَّ التَّقْرِيرَ بِالْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْكُ لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ، لِظُهُورِ ذَلِكَ لِلْكَفَرَةِ وَالْجَهَلَةِ وَوُضُوحِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ مَنْ لَهُ مُسْكَةُ عقل تسخير أهل السموات الْأَرْضِ، وَنُفُوذَ الْقَضَاءِ فِيهِمْ، وَتَيَقَّنَ أَنْ لَا مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَمِنْ نَتَائِجِ مُلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جَزَاءُ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وانتفاء

_ (1) سورة المائدة: 5/ 119.

الظُّلْمِ، وَسُرْعَةُ الْحِسَابِ، أَنَّ حِسَابَهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يَشْغَلُهُ حِسَابٌ عَنْ حِسَابٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُعَلَّقٌ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنْتَصِفُ حَتَّى يُقِيلَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّةِ وَالْكَافِرُونَ فِي النار. ويَوْمَ الْآزِفَةِ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَأْمُرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يُنْذِرَ الْعَالَمَ وَيُحَذِّرَهُمْ مِنْهُ وَمِنْ أَهْوَالِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَالْآزِفَةُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يَوْمَ السَّاعَةِ الْآزِفَةِ، أَوِ الطَّامَّةِ الْآزِفَةِ وَنَحْوُ هَذَا. وَلَمَّا اعْتَقَبَ كُلَّ إِنْذَارٍ نَوْعًا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا، حَسُنَ التَّكْرَارُ فِي الْآزِفَةِ الْقَرِيبَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ مُشَارَفَتُهُمْ دُخُولَ النَّارِ، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ تَزِيغُ الْقُلُوبُ عَنْ مَقَارِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَوْمَ الْآزِفَةِ: يَوْمَ الْمَنِيَّةِ وَحُضُورِ الْأَجَلِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْدِلُ وَصْفَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ يَوْمُ التَّلَاقِ، وَيَوْمُ بُرُوزِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ غَيْرَهُ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، يَوْمُ الْمَوْتِ بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْقُرْبِ، وَأَيْضًا فَالصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَوْمَ الْآزِفَةِ، لَائِقَةٌ بِيَوْمِ حُضُورِ الْمَنِيَّةِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ لِعَظَمِ خَوْفِهِ، يَكَادُ قَلْبُهُ يَبْلُغُ حَنْجَرَتَهُ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ يَرْفَعُ عَنْهُ مَا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ. إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ، قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً، وَيَبْقُونَ أَحْيَاءً مَعَ ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنِ انْتَقَلَ قَلْبُهُ إِلَى حَنْجَرَتِهِ مَاتَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ مَا يَبْلُغُونَ إِلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ، كَمَا تَقُولُ: كَادَتْ نَفْسِي أَنْ تَخْرُجَ، وَانْتَصَبَ كَاظِمِينَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ حَالٌ عَنْ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَعْنَى، إِذِ الْمَعْنَى: إِذْ قُلُوبُهُمْ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ كَاظِمِينَ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا عَنِ الْقُلُوبِ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ كَاظِمَةٌ عَلَى غَمٍّ وَكَرْبٍ فِيهَا، مَعَ بُلُوغِهَا الْحَنَاجِرَ. وَإِنَّمَا جَمَعَ الْكَاظِمَ جَمْعَ السَّلَامَةِ، لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْكَظْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، كَمَا قَالَ: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» . وَقَالَ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: كَاظِمُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَنْ قَوْلِهِ: أَيْ وَأَنْذِرْهُمْ مُقَدِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَاظِمِينَ حَالٌ، مِمَّا أُبْدِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ «2» : أَرَادَ تَشْخَصُ فِيهِ أَبْصَارُهُمْ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: القلوب رفع بالإبتداء، ولدي الْحَنَاجِرِ الْخَبَرُ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَاظِمِينَ حَالٌ مِنَ الْقُلُوبِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَصْحَابُهَا. انْتَهَى. مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ: أي مجب مُشْفِقٍ، وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَفِيعٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي

_ (1) سورة يوسف: 12/ 4. (2) سورة إبراهيم: 14/ 42- 43.

مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَنْسَحِبَ النَّفْيُ عَلَى الْوَصْفِ فَقَطْ، فَيَكُونُ مِنْ شَفِيعٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يُطَاعُ، أَيْ لَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَنْسَحِبَ النَّفْيُ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَصْفَتِهِ: أَيْ لَا شَفِيعَ فَيُطَاعُ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ تَعَالَى، وَلَا تَكُونُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَأَيْضًا فَيَكُونُ فِي زِيَادَةِ التَّفَضُّلِ وَالثَّوَابِ وَلَا يُمْكِنُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: وَاللَّهِ لَا يَكُونُ لَهُمْ شَفِيعٌ أَلْبَتَّةَ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فَاسْقِينَا أَيِ النَّاسَ الْكِرَامَ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ خَائِنَةَ مَصْدَرًا، كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ، أَيْ يَعْلَمُ خِيَانَةَ الْأَعْيُنِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّكَتُّمُ بَدَنِيَّةً، فَأَخْفَاهَا خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ مِنْ كَسْرِ جَفْنٍ وَغَمْزٍ وَنَظَرٍ يُفْهِمُ مَعْنًى وَيُرِيدُ صَاحِبَ مَعْنًى آخَرَ وَقَلْبٍ، وَهُوَ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ، قَسَّمَ ما ينكتم بِهِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّ عِلْمَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا التَّعَلُّقَ التَّامَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَادَ الْخَائِنَةُ مِنَ الْأَعْيُنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلَ الْمَعْنَى إِلَّا الْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْأَعْيُنَ الْخَائِنَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ الْآيَةَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، لَمَّا أَمَرَ بِإِنْكَارِهِ يَوْمَ الْآزِفَةِ، وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ، وَأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَجِدُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا مَنْ يَشْفَعُ لَهُ. ذَكَرَ اطِّلَاعَهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ مُجَازًى بِمَا عَمِلَ، لِيَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِذَا عَلِمَ إِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ، لِأَنَّ سُرْعَةَ حِسَابِهِ لِلْخَلْقِ إِنَّمَا هِيَ بِعِلْمِهِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى رَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ، وَلَا لِشَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُهُ الْمُحَاسِبُونَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَعْلَمُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، يُقَوِّيهِ تَنَاسُبُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَيُضَعِّفُهُ بُعْدُ الْآيَةِ مِنَ الْآيَةِ وَكَثْرَةُ الْحَائِلِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ؟ قُلْتُ: هُوَ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ هُوَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ «1» ، مِثْلَ: يُلْقِي الرُّوحَ، وَلَكِنْ مَنْ يُلْقِي الرُّوحَ قَدْ عَلَّلَ بِقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ، ثم أسقط

_ (1) سورة الرعد: 13/ 12.

وَتَذَكَّرَ أَحْوَالَ يَوْمِ التَّلَاقِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ، فَبَعُدَ لِذَلِكَ عَنْ إِخْوَانِهِ. انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، أَنَا مِرْصَادُ الْهِمَمِ، أَنَا الْعَالِمُ بِحَالِ الْفِكْرِ وَكَسْرِ الْعُيُونِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ: مُسَارَقَةُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ وَمَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ بِالنَّظَرِ الثَّانِي إِلَى حُرْمَةِ غَيْرِ النَّاظِرِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ: هَذَا يُوجِبُ عَظِيمَ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ فِي مَا دَقَّ وَجَلَّ خَافَهُ الْخَلْقُ غَايَةً. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ: هَذَا قَدْحٌ فِي أَصْنَامِهِمْ وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ، لِأَنَّ مَا لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ، لَا يُقَالُ فِيهِ يَقْضِي وَلَا يَقْضِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدْعُونَ بِيَاءِ الْغِيبَةِ لِتَنَاسُبِ الضَّمَائِرِ الْغَائِبَةِ قَبْلُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَهِشَامٌ: تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ: تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ، وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ وَتَعْرِيضٌ بِأَصْنَامِهِمْ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ: أَحَالَ قُرَيْشًا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِالسِّيَرِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فَيَنْظُرُوا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى يَسِيرُوا وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ، كَمَا قَالَ: ألم تسأل فتخبرك الرسوم وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَحَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ فَصْلًا وَلَا يَتَعَيَّنُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمْ تَوْكِيدًا لِضَمِيرِ كَانُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ وَابْنُ عَامِرٍ: مِنْكُمْ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَآثاراً فِي الْأَرْضِ: مَعْطُوفٌ عَلَى قُوَّةً، أَيْ مَبَانِيهِمْ وَحُصُونُهُمْ وَعِدَدُهُمْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَرَادُوا أَكْثَرَ آثَارًا لِقَوْلِهِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا انْتَهَى. أَيْ: وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْحَذْفِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى بِدُونِهِ. مِنْ واقٍ: أَيْ وما كان لهم من عَذَابِ اللَّهِ مِنْ سَاتِرٍ بمنعهم منه. ذلِكَ: أَيْ الْأَخْذُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ ذَلِكَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ، إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 149.

كَذَّابٌ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ، وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ، وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ. ابْتَدَأَ تَعَالَى قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَوَعِيدًا لِقُرَيْشٍ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ نقمات الله، ووعد لِلْمُؤْمِنِينَ بِالظَّفَرِ وَالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ. وَآيَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرَةٌ، وَالَّذِي تَحَدَّى بِهِ مِنَ الْمُعْجِزِ الْعَصَا وَالْيَدُ. وَقَرَأَ عِيسَى: وَسُلُطَانٍ بِضَمِّ اللَّامِ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ الْوَاضِحُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَارُونَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى «1» ، وَهُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُهُ، وَنَصَّ عَلَى هَامَانَ وَقَارُونَ لِمَكَانَتِهِمَا فِي الْكُفْرِ، وَلِأَنَّهُمَا أَشْهَرُ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ. فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ: أَيْ هَذَا سَاحِرٌ، لِمَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً، وَظُهُورِ النُّورِ السَّاطِعِ عَلَى يَدِهِ، كَذَّابٌ لِكَوْنِهِ ادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا: أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالنُّبُوَّةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، قالُوا، أَيْ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ، اقْتُلُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ أَعِيدُوا عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ كَالَّذِي كَانَ أَوَّلًا. انْتَهَى. يُرِيدُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِقَتْلِ أَبْنَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَتَقَوَّى بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ لِلِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَلَمْ يَقَعْ مَا أَمَرُوا بِهِ وَلَا تَمَّ لَهُمْ، وَلَا أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ: أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَتَخَبُّطٍ، لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا أَنْجَحَ سَعْيَهَمْ، وَكَانُوا بَاشَرُوا الْقَتْلَ أَوَّلًا، فَنَفَذَ قَضَاءُ اللَّهِ فِي إِظْهَارِ مَنْ خَافُوا هَلَاكَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ. وَقِيلَ: كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ كَفَّ عَنْ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُوسَى، وَأَحَسَّ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مَا كَانَ يَحْذَرُهُ، أَعَادَ الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ غَيْظًا وَحِنْقًا وَظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَصُدُّهُمْ بِذَلِكَ عَنْ مُظَاهَرَةِ مُوسَى، وَمَا عَلِمَ أَنَّ كَيْدَهُ ضَائِعٌ فِي الْكَرَّتَيْنِ مَعًا. وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ، قال الزمخشري: وبعضه من كلام

_ (1) سورة القصص: 28/ 76.

الْحَسَنِ، كَانَ إِذَا هَمَّ بِقَتْلِهِ كَفُّوهُ بِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ بِالَّذِي تَخَافُهُ، هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَضْعَفُ، وَمَا هُوَ إِلَّا بَعْضُ السَّحَرَةِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَاوِمُهُ إِلَّا سَاحِرٌ مِثْلُهُ، وَيَقُولُونَ: إِنْ قَتَلْتَهُ أَدْخَلْتَ الشُّبْهَةَ عَلَى النَّاسِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّكَ عَجَزْتَ عَنْ مُظَاهَرَتِهِ بِالْحُجَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، كَانَ قَدِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ آيَاتٌ وَمَا هُوَ سِحْرٌ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِيهِ خُبْثٌ وَجَبَرُوتٌ، وَكَانَ قَتَّالًا سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ فِي أَهْوَنِ شَيْءٍ، فَكَيْفَ لَا يقتل من أحسن مِنْهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَثُلُّ عَرْشَهُ، وَيَهْدِمُ مُلْكَهُ؟ وَلَكِنَّهُ يَخَافُ إِنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ أَنْ يُعَاجَلَ بِالْهَلَاكِ. وَقَوْلُهُ: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ: شَاهِدُ صِدْقٍ عَلَى فَرْطِ خَوْفِهِ مِنْهُ وَمِنْ دَعْوَتِهِ رَبَّهُ، كَانَ قَوْلُهُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى تَمْوِيهًا عَلَى قَوْمِهِ وَإِيهَامًا أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَكُفُّونَهُ، وَمَا كَانَ يَكُفُّهُ إِلَّا مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ هَوْلِ الْفَزَعِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ لَمَّا بَهَرَتْ آيَاتُ مُوسَى انْهَدَّ رُكْنُهُ وَاضْطَرَبَتْ مُعْتَقَدَاتُ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَفْقِدْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَاذِبُهُ الْخِلَافَ فِي أَمْرِهِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ فِي قِصَّتِهِمَا، وَفِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ ذَرُونِي، فَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَمَكِّنِينَ مِنْ إِنْفَاذِ أوامرهم. والدليل الثَّانِي: فِي مَقَالَةِ الْمُؤْمِنِ وَمَا صَدَعَ بِهِ، وَأَنَّ مُكَاشَفَتَهُ لِفِرْعَوْنَ خَيْرٌ مِنْ مُسَاتَرَتِهِ، وَحُكْمَهُ بِنُبُوَّةِ مُوسَى أَظْهَرُ مِنْ تَقْرِيبِهِ فِي أَمْرِهِ. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ، فَإِنَّهُ نَحَا إِلَى الْمَخْرَقَةِ وَالِاضْطِرَابِ وَالتَّعَاطِي، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ: أَيْ إِنِّي لَا أُبَالِي مِنْ رَبِّ مُوسَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ يريهم النصحة وَالْخِيَانَةَ لَهُمْ، فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، وَالدِّينُ: السُّلْطَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٌ: لَئِنْ حَلَلْتَ بِجَوٍّ فِي بَنِي أَسَدٍ ... فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ انْتَهَى. وَتَبْدِيلُ دِينِهِمْ هُوَ تَغْيِيرُهُ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُ وَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، كَمَا قَالَ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ «1» . أَوْ أَنْ يظهر الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَذَلِكَ بِالتَّهَارُجِ الَّذِي يَذْهَبُ مَعَهُ الْأَمْنُ، وَتَتَعَطَّلُ الْمَزَارِعُ وَالْمَكَاسِبُ، وَيَهْلَكُ النَّاسُ قَتْلًا وَضَيَاعًا، فَأَخَافُ فَسَادَ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ مَعًا. وَبَدَأَ فِرْعَوْنُ بِخَوْفِهِ تَغْيِيرَ دِينِهِمْ عَلَى تَغْيِيرِ دُنْيَاهُمْ، لِأَنَّ حُبَّهَمْ لِأَدْيَانِهِمْ فَوْقَ حُبِّهِمْ لِأَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: ذَرُونِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَهُ مِنْ قَتْلِهِ، إِمَّا لِكَوْنِ بَعْضِهِمْ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ فَيَتَحَيَّلُ فِي مَنْعِ قَتْلِهِ، وَإِمَّا لِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مِمَّا ذَكَرَ الزمخشري، وإما الشغل قَلْبِ فِرْعَوْنَ بِمُوسَى حَتَّى لَا يَتَفَرَّغَ لَهُمْ، وَيَأْمَنُوا مِنْ شَرِّهِ كَمَا يَفْعَلُونَ مَعَ الْمَلِكِ، إِذَا خَرَجَ عَلَيْهِ خَارِجِيٌّ شَغَلُوهُ بِهِ حَتَّى يَأْمَنُوا مِنْ شَرِّهِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: أَوْ أَنْ، بِتَرْدِيدِ الْخَوْفِ بَيْنَ تَبْدِيلِ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 127.

الدِّينِ أَوْ ظُهُورِ الْفَسَادِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَإِنْ بِانْتِصَابِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمَا مَعًا. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: يُظْهِرَ مِنْ أَظْهَرَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، الْفَسادَ: نَصْبًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعِيسَى: يَظْهَرُ مِنْ ظَهَرَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، الْفَسَادُ: رَفْعًا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: يَظَّهَّرُ بِشَدِّ الظَّاءِ وَالْهَاءِ، الْفَسَادُ: رَفْعًا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُظْهَرُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، الْفَسَادُ: رَفْعًا. وَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى بِمُقَالَةِ فِرْعَوْنَ، اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ مُنْكِرٍ لِلْمَعَادِ. وَقَالَ: وَرَبِّكُمْ: بَعْثًا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَيَعُوذُونَ بِاللَّهِ ويعتصمون به ومن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ يَشْمَلُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ، وَكَانَ أَبْلَغَ. وَالتَّكَبُّرُ: تَعَاظُمُ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ مَعَ حقارته، لأنه يفعل ولا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، أَيْ بِالْجَزَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ آكَدَ فِي جَرَاءَتِهِ، إِذْ حَصَلَ لَهُ التَّعَاظُمُ فِي نَفْسِهِ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِمَا ارْتَكَبَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، والكسائي: عدت بِالْإِدْغَامِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْإِظْهَارِ. وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، قِيلَ: كَانَ قِبْطِيًّا ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ يَجْرِي مَجْرَى وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَمَجْرَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ. وَقِيلَ: كَانَ قِبْطِيًّا لَيْسَ مِنْ قَرَابَتِهِ. وَقِيلَ: قِيلَ فِيهِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى دِينِهِ وَدِينِ أَتْبَاعِهِ. وَقِيلَ: كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَلَيْسَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَجَعَلَ آلَ فِرْعَوْنَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَكْتُمُ إِيمانَهُ، لَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرَجُلٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَتَجَاسَرَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ. وَقَدْ رُدَّ قَوْلُ مَنْ عَلَّقَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بِيَكْتُمُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: كَتَمْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا، إِنَّمَا يُقَالُ: كَتَمْتُ فُلَانًا كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومِينَ سَاهِرًا ... وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وَظَاهِرَا أَحَادِيثَ نَفْسٍ تَشْتَكِي مَا يُرِيبُهَا ... وَوِرْدَ هُمُومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصَادِرَا أَيْ: كَتَمْتُكَ أَحَادِيثَ نَفْسٍ وَهَمَّيْنِ. قِيلَ: وَاسْمُهُ سَمْعَانُ. وَقِيلَ: حَبِيبٌ. وَقِيلَ: حِزْقِيلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَجُلٌ بِضَمِّ الْجِيمِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُقَيْلٍ، وَحَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِسُكُونٍ، وَهِيَ لغة تميم ونجد.

_ (1) سورة النساء: 4/ 42. [.....]

أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: أَيْ لِأَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُ عَظِيمٌ وَتَبْكِيتٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَرْتَكِبُونَ الْفِعْلَةَ الشَّنْعَاءَ الَّتِي هِيَ قَتْلُ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ وَمَا لَكُمْ عَلَيْهِ فِي ارْتِكَابِهَا إِلَّا كَلِمَةُ الْحَقِّ الَّتِي نَطَقَ بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: رَبِّيَ اللَّهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ: أَيْ مِنْ عِنْدِ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وَهُوَ رَبُّكُمْ لَا رَبُّهُ وَحْدَهُ؟ وَهَذَا اسْتِدْرَاجٌ إِلَى الِاعْتِرَافِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ وَقْتَ أَنْ يَقُولَ، وَالْمَعْنَى: أَتَقْتُلُونَهُ سَاعَةَ سَمِعْتُمْ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرٍ فِي أَمْرِهِ؟ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ مِنْ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ وَقْتٌ لَا يَجُوزُ، تَقُولُ: جِئْتُ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَيْ وَقْتَ صِيَاحِ الدِّيكِ، وَلَا أَجِيِءُ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ النُّحَاةُ، فَشَرْطُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُصَرَّحًا بِهِ لَا مُقَدَّرًا، وَأَنْ يَقُولَ لَيْسَ مَصْدَرًا مُصَرَّحًا بِهِ. بِالْبَيِّناتِ: بِالدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي طه وَالشُّعَرَاءِ حَالَةَ مُحَاوَرَتِهِ لَهُ فِي سُؤَالِهِ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا صَرَّحَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، غَالَطَهُمْ بَعْدُ فِي أَنَّ قَسَّمَ أَمْرَهُ إِلَى كَذِبٍ وَصِدْقٍ، وَأَدَّى ذَلِكَ فِي صُورَةِ احْتِمَالٍ وَنَصِيحَةٍ، وَبَدَأَ فِي التَّقْسِيمِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، مُدَارَاةً مِنْهُ وَسَالِكًا طَرِيقَ الْإِنْصَافِ فِي الْقَوْلِ، وَخَوْفًا إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ أَنَّهُ مِمَّنْ يُعَاضِدُهُ وَيُنَاصِرُهُ، فَأَوْهَمَهُمْ بِهَذَا التَّقْسِيمِ وَالْبَدَاءَةِ بِحَالَةِ الْكَذِبِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ شَرِّهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْنَى لِتَسْلِيمِهِمْ. وَمَعْنَى فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ: أَيْ لَا يَتَخَطَّاهُ ضَرَرُهُ. وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ قَطْعًا، لَكِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ بَعْضُ لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ بِأَسْرِهَا فِي الْأَمْرِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ أَنْ يُصِيبَهُمْ كُلُّ مَا يَعِدُهُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الْعَذَابِ الَّذِي يَذْكُرُ، وَذَلِكَ كَانَ فِي هَلَاكِهِمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: يُصِبْكُمُ الْقَسَمُ الْوَاحِدُ مِمَّا يَعِدُ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ بَعْضٌ مِمَّا يَعِدُ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَهُمْ أَنْ آمَنُوا بِالنِّعْمَةِ، وَإِنْ كَفَرُوا بِالنِّقْمَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ عَذَابُ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ بَعْضُ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَيَصِيرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: بَعْضُ بِمَعْنَى كُلُّ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ عَمْرِو بْنِ شَسِيمٍ الْقَطَامِيِّ: قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجَلِ الزَّلَلُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ فَرَضَ صَادِقًا، فَقَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي جَمِيعِ مَا يَعِدُ، وَلَكِنَّهُ أَرْدَفَهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، لِيَهْضِمَهُ بَعْضَ حَقِّهِ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ، فَيُرِيَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ مَنْ أَعْطَاهُ وَافِيًا فَضْلًا أَنْ يَتَعَصَّبَ لَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَسَّمَ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ لَبِيدٍ وَهُوَ:

تَرَّاكُ أَمكِنَةً إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... وَيُرِيكَ مِنْ بَعْضِ النُّفُوسِ حِمَامُهَا قُلْتُ: إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَقَدْ حَقَّ فِي قَوْلِ الْمَازِنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَافِيِ كَانَ أَحْفَى مِنْ أَنْ يَفْقَهَ مَا أَقُولُ لَهُ. انْتَهَى، وَيَعْنِي أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ خَطَّأَهُ النَّاسُ فِي اعْتِقَادِهِ أَنْ بَعْضًا يَكُونُ بِمَعْنَى كُلٍّ، وَأَنْشَدُوا أَيْضًا فِي كَوْنِ بَعْضٍ بِمَعْنَى كُلٍّ قَوْلَ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا الْأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشيوخ فِي بَعْضِهَا خَلَلَا أَيْ: إِذَا رَأَى الْأَحْدَاثَ، وَلِذَلِكَ قَالَ دَبَّرَهَا وَلَمْ يَقُلْ دَبَّرُوهَا، رَاعَى الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فِيهِ: إِشَارَةٌ إِلَى عُلُوِّ شَأْنِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ مَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ إِسْرَافٌ وَلَا كَذِبٌ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِفِرْعَوْنَ، إِذْ هُوَ غَايَةُ الْإِسْرَافِ عَلَى نَفْسِهِ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي غَايَةِ الْكَذِبِ، إِذِ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الصِّدِّيقُونَ ثَلَاثَةٌ: حَبِيبٌ النَّجَّارُ مُؤْمِنُ آلِ يس، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، طَافَ بِالْبَيْتِ، فَحِينَ فَرَغَ أَخَذَ بِمَجَامِعِ رِدَائِهِ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَقَالَ: أَنَا ذَاكَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَالْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ» ، رَافِعًا صَوْتَهُ بِذَلِكَ وَعَيْنَاهُ تَسْفَحَانِ بِالدُّمُوعِ حَتَّى أَرْسَلُوهُ. وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: أَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ قَالَ ذَلِكَ سِرًّا، وَأَبُو بَكْرٍ قَالَهُ ظَاهِرًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُسْرِفٌ بِالْقَتْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُسْرِفٌ بِالْكُفْرِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: هَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْبَيَانِ تُسَمِّيهِ عُلَمَاؤُنَا اسْتِدْرَاجَ الْمُخَاطَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى فِرْعَوْنَ قَدْ عَزَمَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، وَالْقَوْمَ عَلَى تَكْذِيبِهِ، أَرَادَ الِانْتِصَارَ لَهُ بِطَرِيقٍ يُخْفِي عَلَيْهِمْ بِهَا أَنَّهُ مُتَعَصِّبٌ لَهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ، فَجَاءَهُمْ مِنْ طَرِيقِ النُّصْحِ وَالْمُلَاطَفَةِ فَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَهُ، بَلْ قَالَ رَجُلًا يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَتَعَصَّبُ لَهُ، أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَلَمْ يَقُلْ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِاللَّهِ، أَوْ هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ، إِذْ لَوْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَعَلِمُوا أَنَّهُ مُتَعَصِّبٌ. وَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدَّمَ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً، مُوَافَقَةً لِرَأْيِهِمْ فِيهِ. ثُمَّ تَلَاهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ صادِقاً، وَلَوْ قَالَ هُوَ صَادِقٌ وَكَلُّ مَا يَعِدُكُمْ، لَعَلِمُوا أَنَّهُ مُتَعَصِّبٌ، وَأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ يُصَدِّقُهُ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُخِلُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يَقُولُونَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِكَلَامٍ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُصَدِّقٍ، وَهُوَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ: يَا قَوْمِ نِدَاءٌ مُتَلَطِّفٌ فِي مَوْعِظَتِهِمْ. لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ: أَيْ

عَالِمِينَ، فِي الْأَرْضِ: فِي أَرْضِ مِصْرَ، قَدْ غَلَبْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهَا، وَقَهَرْتُمُوهُمْ وَاسْتَعْبَدْتُمُوهُمْ، وَنَادَاهُمْ بِالْمُلْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا وأجهلها، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ شَهَوَاتِهِمْ، وَانْتَصَبَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَذُو الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ لَكُمْ. ثُمَّ حَذَّرَهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ إِنْ جَاءَهُمْ بَأْسُ اللَّهِ لَمْ يَجِدُوا نَاصِرًا لَهُمْ وَلَا دَافِعًا، وَأَدْرَجَ نَفْسَهُ فِي قوله: يَنْصُرُنا، وجاءَنا لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ، وَلِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الَّذِي يَنْصَحُهُمْ بِهِ هُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِيهِ. وَأَقْوَالُ هَذَا الْمُؤْمِنِ تَدُلُّ عَلَى زَوَالِ هَيْبَةِ فرعون من قبله، وَلِذَلِكَ اسْتَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَالَ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى: أَيْ مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِقَتْلِهِ، وَلَا أَسْتَصْوِبُ إِلَّا ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مِنْ لَا تَحَكُّمَ لَهُ، وَأَتَى بِمَا وَإِلَّا لِلْحَصْرِ وَالتَّأْكِيدِ. وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ، لَا مَا تَقُولُونَهُ مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِ وَقَدْ كَذَبَ، بَلْ كَانَ خَائِفًا وَجِلًا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَجَلَّدُ، وَيُرِي ظَاهِرَهُ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ. وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ هُنَا أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَرَأَ الرَّشَّادِ بِشَدِّ الشِّينِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ فِي بِنْيَةِ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ رَشَدَ، فَهُوَ كَعَبَّادٍ مِنْ عَبَدَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مِنْ رَشِدَ، كَعَلَّامٍ مِنْ عَلِمَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ لَحْنٌ، وَتَوَهَّمَهُ مِنَ الْفِعْلِ الرُّبَاعِيِّ، وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، بَلْ هُوَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، عَلَى أَنَّ بَعْضُهُمْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، فَبَنَى فَعَّالَ مِنْ أَفْعَلَ، كَدَرَّاكِ مِنْ أَدْرَكَ، وَسَآرٍ مِنْ أَسْأَرَ، وَجَبَّارٍ مِنْ أَجْبَرَ، وَقَصَّارٍ مِنْ أَقْصَرَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وُجِدَتْ عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ، وَفَعَّالٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ مَقِيسٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُفَسِّرُهَا بِسَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَبْعُدُ عِنْدِي عَلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَلْ كَانَ فِرْعَوْنُ إِلَّا يَدَّعِي أَنَّهُ إِلَهٌ؟ وَتَعَلَّقَ بِنَاءُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَإِيرَادُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ، وَتَرْكِيبُ قَوْلُ مُعَاذٍ عَلَيْهِ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِ: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّوَامِحِ) لَهُ مِنْ شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ مَا نَصَّهُ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ سَبِيلَ الرَّشَادِ، الْحَرْفُ الثَّانِي بِالتَّشْدِيدِ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ، وَهُوَ سَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَوْضَحَ الشَّرَائِعَ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ مُرْشِدٍ، كَدَرَّاكٍ مِنْ مُدْرِكٍ، وَجَبَّارٍ من مجبر، وفصار مِنْ مُقْصِرٍ عَنِ الْأَمْرِ، وَلَهَا نَظَائِرُ مَعْدُودَةٌ، فَأَمَّا قَصَّارٌ فَهُوَ مِنْ قَصَرَ مِنَ الثَّوْبِ قِصَارَةً. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي التَّنَادِ وَفِي صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ مَا نَصُّهُ: سَبِيلُ الرَّشَّادِ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يَعْنِي بِالرَّشَّادِ اللَّهَ تَعَالَى.

انْتَهَى. فَهَذَا لَمْ يَذْكُرِ الْخِلَافَ إِلَّا فِي قَوْلِ الْمُؤْمِنِ: أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، فَذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِ فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ، وَلَمْ يُفَسِّرْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الرَّشَّادَ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا فِي قَوْلِ الْمُؤْمِنِ، لَا فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ التَّأْوِيلُ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ وهم. وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ، الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ، وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ، وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ. الْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ هُوَ الرَّجُلُ الْقَائِلُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا، قَصَّ اللَّهُ أَقَاوِيلَهُ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. لَمَّا رَأَى مَا لَحِقَ فِرْعَوْنَ مِنَ الْخَوَرِ وَالْخَوْفِ، أَتَى بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّهْدِيدِ، وَخَوَّفَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ مِنَ اسْتِئْصَالِ الْهَلَاكِ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ حَتَّى سَرَدَ عَلَيْهِ مَا سَرَدَ، وَلَمْ يَهَبْ فِرْعَوْنَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كَلَامُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ قَدْ تَمَّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى بِالَّذِي آمَنَ بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجُّوا بِقُوَّةِ كَلَامِهِ، وَأَنَّهُ جَنَحَ مَعَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَذَكَرَ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ كلام الأول الاعلانية لَهُمْ، وَأَفْرَدَ الْيَوْمَ، إِمَّا لِأَنَّ الْمَعْنَى مِثْلُ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ، أَوْ أَرَادَ بِهِ الْجَمْعَ، أَيْ مِثْلَ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ حِزْبٍ كَانَ لَهُ يَوْمٌ. والْأَحْزابِ: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا على أنبياء الله. ومِثْلَ دَأْبِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِثْلَ يوم حزب ودأب عَادَتُهُمْ وَدَيْدَنُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ، أَيْ إِنَّ إِهْلَاكَهُ إِيَّاهُمْ كَانَ عَدْلًا مِنْهُ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الظُّلْمِ، حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ. فَإِذَا نَفَاهُ عَنِ الْإِرَادَةِ، كَانَ نَفْيُهُ عَنِ الْوُقُوعِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَلَمَّا خَوَّفَهُمْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا حَلَّ بِالْأَحْزَابِ، خَوَّفَهُمْ أَمْرَ الْآخِرَةِ فَقَالَ، تَعَطُّفًا لَهُمْ بِنِدَائِهِمْ: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ، وَهُوَ

يَوْمُ الْحَشْرِ. وَالتَّنَادِي مَصْدَرُ تَنَادَى الْقَوْمُ: أَيْ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ الشَّاعِرُ: تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الْخَيْلُ فارسا ... فقلت أعند اللَّهَ ذَلِكُمُ الرَّدِي وَسُمِّيَ يَوْمَ التَّنَادِي، إِمَّا لِنِدَاءِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَإِمَّا لِتَنَادِي أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْخَلْقَ يُنَادَوْنَ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَإِمَّا لِنِدَاءِ المؤمن: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «1» ، والكافر: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ «2» . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: التَّنَادْ، بِسُكُونِ الدَّالِ فِي الْوَصْلِ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْوَقْفِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْكَلْبِيُّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: التَّنَادِّ، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ: مِنْ نَدَّ الْبَعِيرُ إِذَا هرب، كما قال: يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ «3» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِي التَّنَادِ، خَفِيفَةُ الدَّالِ: هُوَ التَّنَادِي، أَيْ يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَنَفْخَةِ الْفَزَعِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُمْ يَفِرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لِلْفَزَعِ الَّتِي نَالَهُمْ، وَيُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّذَكُّرُ بِكُلِّ نِدَاءٍ فِي الْقِيَامَةِ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ. انْتَهَى. قَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيهَا إِذْ دَحَاهَا ... فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ لِلنَّاسِ جَوْلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنِدُّونَ» ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَهْرَبًا ثُمَّ تَلَا: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فَارِّينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ فِي فِرَارِكُمْ حَتَّى تُعَذَّبُوا فِي النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَكُمْ فِي الِانْطِلَاقِ إِلَيْهَا مِنْ عَاصِمٍ، أَيْ مَانِعٍ، يَمْنَعُكُمْ مِنْهَا، أَوْ نَاصِرٍ. وَلَمَّا يَئِسَ الْمُؤْمِنُ مِنْ قَبُولِهَا قَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. ثُمَّ أَخَذَ يُوَبِّخُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، بِأَنَّ يُوسُفَ قَدْ جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَفِرْعَوْنُ هُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَمَّرَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: بَلِ الْجَائِي إِلَيْهِمْ هُوَ يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ فِرْعَوْنُ، غير فرعون موسى. وبِالْبَيِّناتِ: بِالْمُعْجِزَاتِ. فَلَمْ يَزَالُوا شَاكِّينَ فِي رِسَالَتِهِ كَافِرِينَ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ، قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا. وَلَيْسَ هَذَا تَصْدِيقًا لِرِسَالَتِهِ، وَكَيْفَ وَمَا زَالُوا فِي شَكٍّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: لَا رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَبْعَثَهُ إِلَى الْخَلْقِ، فَفِيهِ نَفْيُ الرَّسُولِ، ونفي بعثته. وقرىء: أَلَنْ يَبْعَثَ، بِإِدْخَالِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ، كَأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَرِّرُ بَعْضًا

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 19. (2) سورة الحاقة: 69/ 25. (3) سورة عبس: 80/ 34.

عَلَى نَفْيِ الْبَعْثَةِ. كَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، أَيْ حِينَ لَمْ تَقْبَلُوا مِنْ يُوسُفَ، يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ: يَعْنِيهِمْ، إِذْ هُمُ الْمُسْرِفُونَ الْمُرْتَابُونَ فِي رِسَالَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. وَجَوَّزُوا فِي الَّذِينَ يُجادِلُونَ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَنْ، وَبَدَلًا مِنْهُ: أَيْ مَعْنَاهُ جَمْعٌ وَمُبْتَدَأٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جِدَالُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ، حَتَّى يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي كَبُرَ عَائِدًا عَلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، والفاعل بكبر ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْجِدَالِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُجادِلُونَ، أَوْ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ عَلَى لَفْظِهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صِفَةً، أَوْ بَدَلًا أُعِيدَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. ثُمَّ جَمَعَ الَّذِينَ عَلَى مَعْنَى مَنْ، ثُمَّ أَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ: كَبُرَ عَلَى لَفْظِ مَنْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ مبتدأ وبغير سُلْطانٍ أَتاهُمْ خَبَرًا، وَفَاعِلُ كَبُرَ قَوْلُهُ: كَذلِكَ، أَيْ كَبُرَ مَقْتاً مِثْلَ ذَلِكَ الجدال، ويَطْبَعُ اللَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَمَنْ قَالَ كَبُرَ مَقْتاً، عِنْدَ اللَّهِ جِدَالُهُمْ، فَقَدْ حَذَفَ الْفَاعِلَ، وَالْفَاعِلُ لَا يَصِحُّ حَذْفُهُ. انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ اللَّهِ؟ لِأَنَّ فِيهِ تَفْكِيكَ الْكَلَامِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَارْتِكَابُ مَذْهَبِ الصَّحِيحِ خِلَافُهُ. أَمَّا تَفْكِيكُ الْكَلَامِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مُتَعَلِّقٌ بيجادلون، ولا يتعقل جعله خيرا لِلَّذِينِ، لِأَنَّهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ: كائنونن، أَوْ مُسْتَقِرُّونَ، بِغَيْرِ سُلْطانٍ، أَيْ فِي غَيْرِ سُلْطَانٍ، لأن الباء إذ ذَاكَ ظَرْفِيَّةٌ خَبَرٌ عَنِ الْجُثَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ يَطْبَعُ أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ تَفْكِيكُ الْكَلَامِ، لِأَنَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كَذلِكَ يَطْبَعُ، أَوْ نَطْبَعُ، إِنَّمَا جَاءَ مَرْبُوطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَأَمَّا ارْتِكَابُ مَذْهَبِ الصَّحِيحِ خِلَافُهُ، فَجَعَلَ الْكَافَ اسْمًا فَاعِلًا بكبر، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا الْأَخْفَشَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، أَعْنِي نَثْرَهَا: جَاءَنِي كَزَيْدٍ، تُرِيدُ: مِثْلَ زَيْدٍ، فَلَمْ تَثْبُتِ اسْمِيَّتُهَا، فَتَكُونُ فَاعِلَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ قَائِلَ ذَلِكَ وَهُوَ الْحَوْفِيُّ، وَالظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ فَسَّرَ الْمَعْنَى وَلَمْ يُرِدِ الْإِعْرَابَ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ أَنَّ الفاعل بكبر ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْجِدَالِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُجَادِلُونَ، كَمَا قَالُوا: مَنْ كَذَّبَ كَانَ شَرًّا لَهُ، أَيْ كَانَ هُوَ، أَيِ الْكَذِبُ الْمَفْهُومُ مِنْ كَذَبَ. وَالْأَوْلَى فِي إِعْرَابِ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ كَبُرَ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُجَادِلُونَ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةٌ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَيَكُونُ الْوَاعِظُ لَهُمْ قَدْ عَدَلَ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ، لِحُسْنِ مُحَاوَرَتِهِ لَهُمْ وَاسْتِجْلَابِ قُلُوبِهِمْ، وَإِبْرَازِ ذَلِكَ

فِي صُورَةِ تَذْكِيرِهِمْ، وَلَا يفجأهم بِالْخِطَابِ. وَفِي قَوْلِهِ: كَبُرَ مَقْتاً ضَرْبٌ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِعْظَامِ لِجِدَالِهِمْ وَالشَّهَادَةِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ إِشْكَالِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ. كَذلِكَ: أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْمُجَادِلِينَ، يَطْبَعُ اللَّهُ: أي يحتم بِالضَّلَالَةِ وَيَحْجُبُ عَنِ الْهُدَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ ذَكْوَانَ، وَالْأَعْرَجُ، بِخِلَافٍ عَنْهُ: قَلْبٍ بِالتَّنْوِينِ، وَصَفَ الْقَلْبَ بِالتَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ، لِكَوْنِهِ مَرْكَزَهُمَا وَمَنْبَعَهُمَا، كَمَا يَقُولُونَ: رَأَتِ الْعَيْنُ، وَكَمَا قَالَ: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «1» ، وَالْآثِمُ: الْجُمْلَةُ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ عَلَى كُلِّ ذِي قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ، بِجَعْلِ الصِّفَةِ لِصَاحِبِ الْقَلْبِ. انْتَهَى، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى اعْتِقَادِ الْحَذْفِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بِالْإِضَافَةِ، وَالْمُضَافُ فِيهِ الْعَامُّ عَامٌّ، فَلَزِمَ عُمُومُ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُتَكَبِّرُ: الْمُعَانِدُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْجَبَّارُ الْمُسَلَّطُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً، أَقْوَالُ فِرْعَوْنَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى، يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً، حَيْدَةٌ عَنْ مُحَاجَّةِ مُوسَى، وَرُجُوعٌ إِلَى أَشْيَاءَ لَا تَصِحُّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِمَا خَامَرَهُ مِنَ الْجَزَعِ وَالْخَوْفِ وَعَدَمِ الْمُقَاوَمَةِ، وَالتَّعَرُّفِ أَنَّ هَلَاكَهُ وَهَلَاكَ قَوْمِهِ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَإِنْ قُدْرَتَهُ عَجَزَتْ عَنِ التَّأْثِيرِ فِي مُوسَى، هَذَا عَلَى كَثْرَةِ سَفْكِهِ الدِّمَاءَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الصَّرْحِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الْأَسْبَابُ: الطُّرُقُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَبْوَابُ وَقِيلَ: عَنَى لَعَلَّهُ يَجِدُ، مَعَ قُرْبِهِ مِنَ السَّمَاءِ، سَبَبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا أدراك إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ سَبَبٌ، وَأَبْهَمَ أَوَّلًا الْأَسْبَابَ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهَا مَا أَوْضَحَهَا. وَالْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ يُفِيدُ تَفْخِيمَ الشَّيْءِ، إِذْ فِي الْإِبْهَامِ تَشَوُّقٌ لِلْمُرَادِ، وَتَعَجُّبٌ مِنَ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ بِالتَّوْضِيحِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَيَتَعَيَّنُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَطَّلِعُ رَفْعًا، عَطْفًا عَلَى أَبْلُغُ، فَكِلَاهُمَا مُتَرَجًّى. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَحَفْصٌ: فَأَطَّلِعَ، بِنَصْبِ الْعَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جِبَارَةَ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى جَوَابِ التَّرَجِّي، تَشْبِيهًا لِلتَّرَجِّي بِالتَّمَنِّي. انْتَهَى. وَقَدْ فَرَّقَ النُّحَاةُ بَيْنَ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي، فَذَكَرُوا أَنَّ التَّمَنِّيَ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ، وَالتَّرَجِّيَ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ. وَبُلُوغُ أَسْبَابِ السموات غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَكِنَّ فِرْعَوْنَ أَبْرَزَ مَا لَا يُمْكِنُ فِي صُورَةِ الْمُمْكِنِ تَمْوِيهًا عَلَى سَامِعِيهِ. وَأَمَّا النَّصْبُ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ التَّرَجِّي فَشَيْءٌ أَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَاحْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبِقِرَاءَةِ عَاصِمٍ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 283.

فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى فِي سُورَةِ عَبَسَ، إِذْ هُوَ جَوَابُ التَّرَجِّي فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى «1» . وَقَدْ تَأَوَّلْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ، لِأَنَّ خَبَرَ لَعَلَّ كَثِيرًا جَاءَ مَقْرُونًا بِأَنْ فِي النَّظْمِ كَثِيرًا، وَفِي النَّثْرِ قَلِيلًا. فَمَنْ نَصَبَ، تَوَهَّمَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَرْفُوعَ الْوَاقِعَ خَبَرًا كَانَ مَنْصُوبًا بِأَنْ، وَالْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ كَثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَاسُ، لَكِنْ إِنْ وَقَعَ شَيْءٌ وَأَمْكَنَ تَخْرِيجُهُ عَلَيْهِ خَرَجَ، وَأَمَّا هُنَا، فَأَطَّلِعَ، فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ابْنِ لِي صَرْحاً، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَا نَاقُ سِيرِي عُنُقًا فَسِيحًا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا وَلَمَّا قَالَ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، كَانَ ذَلِكَ إِقْرَارًا بِإِلَهِ مُوسَى، فَاسْتَدْرَكَ هَذَا الْإِقْرَارَ بقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً: أَيْ فِي ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا قَالَ فِي الْقَصَصِ: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ «2» . وَكَذلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ فِي إِيهَامِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ يَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى. زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وقرىء: زَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصُدَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ: أَيْ وَصَدَّ فِرْعَوْنُ وَالْكُوفِيُّونَ: بضم الصاد مناسبا لزين مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَابْنُ وَثَّابٍ: بِكَسْرِ الصَّادِ، أَصْلُهُ صَدُدَ، نَقُلَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى الصَّادِ بَعْدَ تَوَهُّمِ حَذْفِهَا وَابْنُ أبي إِسْحَاقَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، بِفَتْحِ الصَّادِ وضم الطاء، مُنَوَّنَةً عَطْفًا عَلَى سُوءُ عَمَلِهِ. وَالتِّبَابُ: الْخُسْرَانُ، خَسِرَ مُلْكَهُ فِي الدُّنْيَا فِيهَا بِالْغَرَقِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِخُلُودِ النَّارِ، وَتَكَرَّرَ وَعْظُ الْمُؤْمِنِ إِثْرَ كَلَامِ فِرْعَوْنَ بِنِدَائِهِ قَوْمَهُ مَرَّتَيْنِ، مُتْبِعًا كُلَّ نِدَاءٍ بِمَا فِيهِ زَجْرٌ وَاتِّعَاظٌ لَوْ وُجِدَ مَنْ يَقْبَلُ، وَأَمَرَ هُنَا بِاتِّبَاعِهِ لِأَنْ يَهْدِيَهُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِشَدِّ الشِّينِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ، وَأَجْمَلَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: سَبِيلَ الرَّشادِ، وَهُوَ سَبِيلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ. ثُمَّ فَسَّرَ، فَافْتَتَحَ بِذَمِّ الدُّنْيَا وَبِصِغَرِ شَأْنِهَا، وَأَنَّهَا مَتَاعٌ زَائِلٌ، هِيَ وَمَنْ تَمَتَّعَ بِهَا، وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ الَّتِي لَا انْفِكَاكَ مِنْهَا، إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْأَخَوَانِ، وَالصَّاحِبَانِ، وَحَفْصٌ: يَدْخُلُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعِيسَى: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ

_ (1) سورة عبس: 80/ 4. (2) سورة القصص: 28/ 38.

بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ، فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ، وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ، قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. بَدَأَ الْمُؤْمِنُ بِذِكْرِ الْمُتَسَبَّبِ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، وَأَبْدَى التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُسَبِّبَيْنِ، ذَكَرَ سَبَبَهُمَا، وَهُوَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَدُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. وَأَتَى بِصِيغَةِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، وَالْغَالِبُ الَّذِي الْعَالَمُ كُلُّهُمْ فِي قَبْضَتِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا يَشَاءُ، الْغَفَّارُ لِذُنُوبِ مَنْ رَجَعَ إِلَيْهِ وَآمَنُ بِهِ، وَأَوْصَلَ سَبَبَ دُعَائِهِمْ بِمُسَبِّبِهِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنَّارُ، وَأَخَّرَ سَبَبَ مُسَبِّبِهِ لِيَكُونَ افْتِتَاحَ كَلَامِهِ وَاخْتِتَامِهِ بِمَا يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، وهو استفهام الْمُتَضَمِّنُ التَّعَجُّبَ مِنْ حَالَتِهِمْ، وَخَتَمَ أَيْضًا بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَوْكِيدِ الْأَخْبَارِ. وَجَاءَ فِي حَقِّهِمْ وَتَدْعُونَنِي بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي تَوْكِيدًا، إِذْ دَعَوْتُهُمْ بَاطِلَةٌ لَا ثُبُوتَ لها، فتؤكد، وما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ هِيَ الْأَوْثَانُ، أَيْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمِي، إِذْ لَيْسَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَلَا لِفِرْعَوْنَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ جَاءَ بِالْوَاوِ فِي النِّدَاءِ الثَّالِثِ دُونَ الثَّانِي؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الثَّانِيَ دَاخِلٌ فِي كَلَامٍ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، فَأَعْطَى الدَّاخِلَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ فِي امْتِنَاعِ دُخُولِ الْوَاوِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَدَاخِلٌ عَلَى كَلَامٍ لَيْسَ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَا جَرَمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا، وَرُوِيَ عَنِ الْعَرَبِ: لَا جُرْمَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، يُرِيدُ لَا بُدَّ، وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أَخَوَانِ، كَرَشَدٍ وَرُشْدٍ، وَعَدَمٍ وَعُدْمٍ. أَنَّما: أَيْ أَنَّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى عِبَادَتِهِ، لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ، أَيْ قَدْرٌ وَحَقٌّ يَجِبُ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْجَمَادَ لَا يَدْعُو، وَالْمَعْبُودُ بِالْحَقِّ يَدْعُو الْعِبَادَ إِلَى طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَدْعُو الْعِبَادَ إِلَيْهَا إِظْهَارًا لِدَعْوَةِ رَبِّهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ اسْتِجَابَةُ دَعْوَةٍ تُوجِبُ

الْأُلُوهِيَّةَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَوْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ جُعِلَتِ الدَّعْوَةُ الَّتِي لَا اسْتِجَابَةَ لَهَا وَلَا مَنْفَعَةَ كَلَا دَعْوَةٍ، أَوْ سُمِّيَتِ الِاسْتِجَابَةُ بِاسْمِ الدَّعْوَةِ، كَمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الْمُجَازَى عَلَيْهِ بِاسْمِ الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَيْسَتْ لَهُ شَفَاعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ أَوَّلًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْبَقَرِ، وَكَانَتْ تُعْبَدُ مَا دَامَتْ شَابَّةً، فَإِذَا هَزُلَتْ أَمَرَ بِذَبْحِهَا وَدَعَا بِأُخْرَى لِتُعْبَدَ. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» . وَلَمَّا ذَكَرَ انْتِفَاءَ دَعْوَةِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَذَكَرَ أَنَّ مَرَدَّ الْجَمِيعِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى جَزَائِهِ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ: وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ، وَالسَّفَّاكُونَ لِلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حِلِّهَا فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: مَنْ غَلَبَ شَرُّهُ خَيْرَهُ هُوَ الْمُسْرِفُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الْجَبَّارُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ. وَخَتَمَ الْمُؤْمِنُ كَلَامَهُ بِخَاتِمَةٍ لَطِيفَةٍ تُوجِبُ التَّخْوِيفَ وَالتَّهْدِيدَ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ: أَيْ إِذَا حَلَّ بِكُمْ عِقَابُ اللَّهِ. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لَا إِلَيْكُمْ وَلَا إِلَى أَصْنَامِكُمْ، وَكَانُوا قَدْ تَوَعَّدُوهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ التَّفْوِيضَ، وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى بَصِيرًا بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَبِمَقَادِيرِ حَاجَاتِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، قَصَدُوا قَتْلَهُ فَهَرَبَ هَذَا الْمُؤْمِنُ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَمَّا أَظْهَرَ إِيمَانَهُ، بَعَثَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِهِ أَلْفَ رَجُلٍ فَمِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَهُ، فَذَبَّ السِّبَاعُ عَنْهُ وَأَكَلَتْهُمُ السِّبَاعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ فِي الْجِبَالِ عَطَشًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ إِلَى فِرْعَوْنَ خَائِبًا، فَاتَّهَمَهُ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ. وَقِيلَ: نَجَا مَعَ مُوسَى فِي الْبَحْرِ، وَفَرَّ فِي جُمْلَةِ مَنْ فَرَّ مَعَهُ. فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا: أَيْ شَدَائِدَ مَكْرِهِمُ الَّتِي تَسُوؤُهُ، وَمَا هَمُّوا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ لِمَنْ خَالَفَهُمْ. وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا حَاقَ بِالْأَلْفِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ أَكْلِ السِّبَاعِ، وَالْمَوْتِ بِالْعَطَشِ، وَالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: سُوءُ الْعَذابِ: هُوَ الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا وَالْحَرْقُ فِي الْآخِرَةِ. النَّارُ بَدَلٌ مِنْ سُوءُ الْعَذابِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا سُوءُ الْعَذَابِ: قِيلَ: النَّارُ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يُعْرَضُونَ، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ مَنْ نَصَبَ، أَيْ تَدْخُلُونَ النَّارَ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَرْضَهُمْ عَلَى النَّارِ مَخْصُوصٌ بِهَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الدَّوَامُ فِي الدُّنْيَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَرْضَ خِلَافُ الْإِحْرَاقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَرْضُهُمْ عَلَيْهَا: إِحْرَاقُهُمْ بِهَا، يُقَالُ: عَرَضَ الْإِمَامُ الْأُسَارَى عَلَى السَّيْفِ إِذَا قتلهم به. انتهى،

_ (1) سورة النازعات: 79/ 24.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَرْضَ هُوَ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْهُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طُيُورٍ سُودٍ، تَرُوحُ بِهِمْ وَتَغْدُو إِلَى النَّارِ. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْأَوْزَاعِيِّ: رَأَيْتُ طُيُورًا بِيضًا تَغْدُو مِنَ الْبَحْرِ، ثُمَّ تَرُوحُ بِالْعَشِيِّ سُودًا مِثْلُهَا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تِلْكَ الَّتِي فِي حَوَاصِلِهَا أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ، يُحْرَقُ رِيَاشُهَا وَتَسْوَدُّ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مَا بَيْنَ الْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ، إِذْ لَا غُدُوَّ وَلَا عَشِيَّ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ بِأَيَّامِ الدُّنْيَا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تُعْرَضُ أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى النَّارِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يُقَالُ: هَذِهِ دَارُكُمْ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدَهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَاسْتَدَلَّ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ بِقَوْلِهِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا: أَيْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ تَمَامُ الْجُمْلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَعَشِيًّا، وَأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا. وَقِيلَ: وَيَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَعَشِيًّا، فَالْعَامِلُ فيه يعرضون، وأدخلوا عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي يَوْمَ أَدْخِلُوا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: أَدْخِلُوا، أَمْرًا لِلْخَزَنَةِ مِنْ أَدْخَلَ. وَعَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَأَبُو بَكْرٍ: أَمْرًا مِنْ دَخَلَ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. قِيلَ: وَهُوَ الْهَاوِيَةُ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ أَلْفَا أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَتَحاجُّونَ لِجَمِيعِ كَفَّارِ الْأُمَمِ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ قَصَصٍ لَا يَخْتَصُّ بِآلِ فِرْعَوْنَ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرُوا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَإِذْ هَذِهِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ، وَهَذَا بَعِيدٌ. انْتَهَى، وَالْمُحَاجَّةُ: التَّحَاوُرُ بِالْحُجَّةِ وَالْخُصُومَةِ. وَالضُّعَفَاءُ: أَيْ فِي الْقَدَرِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي الدُّنْيَا. وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً: أَيْ ذَوِي تَبَعٍ، فَتَبَعٌ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ جَمْعٍ لِتَابِعٍ، كَآيِمٍ وَأَيَمٍ، وَخَادِمِ وَخَدَمٍ، وَغَائِبٍ وَغَيَبٍ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا: أَيْ حَامِلُونَ عَنَّا؟

فَأَجَابُوهُمْ: إِنَّا كُلٌّ فِيها، وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدْ نَفَذَ فِينَا وَفِيكُمْ، إِنَّا مُسْتَمِرُّونَ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ ابن السميفع، وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: كُلًّا بِنَصْبِ كُلٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى التَّوْكِيدِ لِاسْمِ إِنَّ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، يُرِيدُ: إِنَّا كُلُّنَا فِيهَا. انْتَهَى. وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ فِيهَا، وَمَنْ رَفَعَ كُلًّا فَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فِيهَا، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي تَصْنِيفِهِ (تَسْهِيلِ الْفَوَائِدِ) : وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى كُلٌّ، وَلَا يُسْتَغْنَى بِنِيَّةِ إِضَافَتِهِ، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. انْتَهَى، وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَنْقُولٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ رَدَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بِمَا قَرَّرَهُ فِي شَرْحِهِ (التَّسْهِيلِ) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلًّا حَالًا قَدْ عَمِلَ فِيهَا فِيهَا؟ قُلْتُ: لَا، لِأَنَّ الظَّرْفَ لَا يَعْمَلُ، وَالْحَالُ مُتَقَدِّمَةٌ، كَمَا يَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ مُتَقَدِّمًا، تَقُولُ: كُلُّ يَوْمٍ لَكَ ثَوْبٌ، وَلَا تَقُولُ: قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي مَنَعَهُ أَجَازَهُ الْأَخْفَشُ إِذَا تَوَسَّطَتِ الْحَالُ، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، وَزَيْدٌ قَائِمًا عِنْدَكَ، وَالتَّمْثِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ مُطَابِقًا فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقَدَّمَ فِيهَا الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، وَهُوَ اسْمُ إِنَّ، وَتَوَسَّطَتِ الْحَالُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا حَالٌ، وَتَأَخَّرَ الْعَامِلُ فِيهَا، وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُ قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ، تَأَخَّرَ فِيهِ الْمُسْنَدُ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَنْعَ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنَ النُّحَاةِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَالْقَوْلُ الْمَرْضِيُّ عِنْدِي أَنَّ كُلًّا فِي الْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ الْمَنَوِيَّ فِي فِيهَا، وَفِيهَا هُوَ الْعَامِلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْحَالُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ تَصَرُّفِهِ، كَمَا قُدِّمَتْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «1» . وَفِي قَوْلِ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ: رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أَدْرَاعِهِمْ ... فِيهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بْنِ حَذَارِ وَقَالَ بَعْضُ الطَّائِيِّينَ: دَعَا فَأَجَبْنَا وَهُوَ بَادَّيَّ ذِلَّةً ... لَدَيْكُمْ فَكَانَ النَّصْرُ غَيْرَ قَرِيبِ انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ كُلًّا بَدَلٌ مِنِ اسْمِ إِنَّ، لِأَنَّ كُلًّا يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا بِالِابْتِدَاءِ وَنَوَاسِخِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ كُلًّا بَدَلٌ مِنِ اسْمِ إِنَّ، لِأَنَّ كُلًّا فِيهَا: وَإِذَا كَانُوا قَدْ تَأَوَّلُوا حَوْلًا أَكْتَعًا وَيَوْمًا أَجْمَعًا عَلَى الْبَدَلِ، مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَلِيَانِ الْعَوَامِلَ، فَإِنْ يُدَّعَى فِي كُلٌّ الْبَدَلُ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَتَنْكِيرُ كُلٌّ وَنَصْبُهُ حَالًا فِي غَايَةِ الشُّذُوذِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ كُلًّا مَعْرِفَةٌ إِذَا قُطِعَتْ عَنِ الْإِضَافَةِ.

_ (1) سورة الزمر: 39/ 67.

حُكِيَ: مَرَرْتُ بِكُلٍّ قَائِمًا، وَبِبَعْضٍ جَالِسًا فِي الْفَصِيحِ الْكَثِيرِ فِي كَلَامِهِمْ، وَقَدْ شَذَّ نَصْبُ كُلٍّ عَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِهِمْ كُلًّا، أَيْ جَمِيعًا. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَجْعَلُهُ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ؟ قُلْتُ: مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ جَوَازُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ، بَلْ إِذَا كَانَ الْبَدَلُ يُفِيدُ الْإِحَاطَةَ، جَازَ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَضَمِيرَ الْمُخَاطَبِ، لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا «1» ، وَكَقَوْلِكِ: مَرَرْتُ بِكُمْ صَغِيرِكُمْ وَكَبِيرِكُمْ، مَعْنَاهُ: مَرَرْتُ بِكُمْ كُلِّكُمْ، وَتَكُونُ لَنَا عِيدًا كُلِّنَا. فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، فَجَوَازُهُ فِيمَا دَلَّ عَلَى الْإِحَاطَةِ، وَهُوَ كُلٌّ أَوْلَى، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْعِ الْمُبَرِّدِ الْبَدَلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَنَاطُ الْخِلَافِ. وَلَمَّا أَجَابَ الضُّعَفَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ قَالُوا جَمِيعًا: لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، وَأَبْرَزَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الْخَزَنَةُ، وَلَمْ يَأْتِ ضَمِيرًا، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ لِخَزَنَتِهَا، لِمَا فِي ذِكْرِ جَهَنَّمَ مِنَ التَّهْوِيلِ، وَفِيهَا أَطْغَى الْكُفَّارِ وَأَعْتَاهُمْ. وَلَعَلَّ الْكُفَّارَ تَوَهَّمُوا أَنَّ مَلَائِكَةَ جَهَنَّمَ الْمُوَكَّلِينَ بِعَذَابِ تِلْكَ الطُّغَاةِ هُمْ أَقْرَبُ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِبَقِيَّةِ دَرَكَاتِ النَّارِ، فَرَجَوْا أَنْ يُجِيبُوهُمْ وَيَدْعُوا لَهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، فَرَاجَعَتْهُمُ الْخَزَنَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالتَّقْرِيرِ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَأَجَابُوا بِأَنَّهُمْ أَتَتْهُمْ، قالُوا: أَيِ الْخَزَنَةُ، فَادْعُوا أَنْتُمْ عَلَى مَعْنَى الْهُزْءِ بِهِمْ، أَوْ فَادْعُوا أَنْتُمْ، فَإِنَّا لَا نَجْتَرِئُ عَلَى ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ: أَيْ دُعَاؤُكُمْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُجْدِي. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا مِنْهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مُعَبَّرًا عَنْهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي الْوَاقِعِ لِتَيَقُّنِ وُقُوعِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ أَهْلَكَ عَدُوَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَفِيهِ تَبْشِيرٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَصْرِهِ عَلَى قَوْمِهِ، فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، الْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ لَهُمْ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ: وَهُوَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْصُرُهُمْ بِالْغَلَبَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: بِإِفْلَاحِ حُجَّتِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: مَا قَتَلَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيًّا أَوْ قَوْمًا مِنْ دُعَاةِ الْحَقِّ إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ مَنْ يَنْتَقِمُ لَهُمْ، فَصَارُوا مَنْصُورِينَ فِيهَا وَإِنْ قُتِلُوا. انْتَهَى. أَلَا تَرَى إِلَى قتلة

_ (1) سورة المائدة: 5/ 114.

الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَيْفَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُخْتَارَ بْنَ عُبَيْدٍ يَتْبَعُهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى قَتَلَهُمْ؟ ويختنصر تَتَبَعَ الْيَهُودَ حِينَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؟ وَقِيلَ: وَالنَّصْرُ خَاصٌّ بِمَنْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أُمَّتِهِ، كَنُوحٍ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّا نَجِدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ قَتَلَهُ قَوْمُهُ، كَيَحْيَى، وَمَنْ لَمْ يُنْصَرْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْخَبَرُ عَامٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ نُصْرَةَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَاقِعَةٌ وَلَا بُدَّ، إِمَّا فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ الْمَنْصُورِ، كَنُوحٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَإِمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَسْلِيطِ بُخْتُنَصَّرَ حَتَّى انْتَصَرَ لِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَقُومُ بِالْيَاءِ وَابْنُ هُرْمُزَ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَالْمِنْقَرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ. الْجَمَاعَةُ وَالْأَشْهَادُ، جَمْعُ شَهِيدٍ، كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، أَوْ جَمْعُ شَاهِدٍ، كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «1» . وَقَالَ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، بِمَعْنَى الْحُضُورِ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يَقُومُ. وقرىء: تَنْفَعُ بِالتَّاءِ وَبِالْيَاءِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ الرُّومِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ وَلَا تُقْبَلُ مَعْذِرَتُهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ لَا مَعْذِرَةَ لَهُمْ فَتُقْبَلُ. وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَالْإِبْعَادُ مِنَ اللَّهِ. وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ: سُوءُ عَاقِبَةِ الدَّارِ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ، إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ، إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ

_ (1) سورة النساء: 4/ 41. (2) سورة البقرة: 2/ 143.

فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا حَلَّ بِآلِ فِرْعَوْنَ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَا مَنَحَ رسوله موسى عليه السلام فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى تَأْنِيسًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَذْكِيرًا لِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْهُدَى، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلَائِلَ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَنْ يَكُونَ النُّبُوَّةَ، وَأَنْ يَكُونَ التَّوْرَاةَ. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ، تَوَارَثُوهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ أُرِيدَ بِهِ: مَا أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ، كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ، هُدىً وَدَلَالَةً عَلَى الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ، وَذِكْرى لِمَا كَانَ مَنْسِيًّا فَذَكَّرَ بِهِ تَعَالَى فِي كُتُبِهِ. وَانْتَصَبَ هُدىً وَذِكْرى عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَانِ لَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْرِكَ عَلَى أَعْدَائِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، لِأَنَّ آيَةَ هَذِهِ السُّورَةِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةَ سُورَةِ الفتح مدينة مُتَأَخِّرَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ هُوَ بِهَذَا فَغَيْرُهُ أَحْرَى بِامْتِثَالِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَحْمُولٌ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى. وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَحْضُ تَعَبُّدٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «1» ، فَإِنَّ إِيتَاءَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَاجِبٌ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَنَا بِطَلَبِهِ. وَقِيلَ: لِذَنْبِكَ: لِذَنْبِ أُمَّتِكَ فِي حَقِّكَ. قِيلَ: فَأَضَافَ الْمَصْدَرَ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ اللَّذَيْنِ النَّاسُ مُشْتَغِلُونَ فِيهِمَا بِمَصَالِحِهِمُ الْمُهِمَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَائِرُ الْأَوْقَاتِ، وَعَبَّرَ بِالظَّرْفَيْنِ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِذَلِكَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: صلاة الغداة، وصلاة العصر. وَقَالَ الْحَسَنُ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ دَلَائِلُهُ الَّتِي نَصَبَهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَكُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ، وَمَا أَظْهَرَ عَلَى يَدِ أَنْبِيَائِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ، هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ. بِغَيْرِ سُلْطانٍ: أي حجة وبرهان. فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ: أَيْ تَكَبُّرٌ وَتَعَاظُمٌ، وَهُوَ إِرَادَةُ التَّقَدُّمِ وَالرِّيَاسَةِ، وَذَلِكَ هو الحامل

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 194.

عَلَى جِدَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَدَفْعِهِمْ مَا يَجِبُ لَكَ مِنْ تَقَدُّمِكَ عَلَيْهِمْ، لِمَا مَنَحَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَكَلَّفَكَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ. مَا هُمْ بِبالِغِيهِ: أَيْ بِبَالِغِي مُوجِبِ الْكِبْرِ وَمُقْتَضِيهِ مِنْ رِيَاسَتِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَرْأَسُونَ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَا يُؤَمِّلُونَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى على تكذيب إِلَّا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ عَلَيْكَ، وَمَا هُمْ بِبَالِغِي مُقْتَضِي ذَلِكَ الْكِبْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَذَلَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ مُبَالِغِي إِرَادَتِهِمْ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ فِي الْيَهُودِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَظَّمَتِ الْيَهُودُ الدَّجَّالَ وَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبَنَا يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَلَهُ سُلْطَانٌ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّجَّالَ مِنْ آيَاتِهِ، بِغَيْرِ سُلْطانٍ: أَيْ حُجَّةٍ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. وَالْمُرَادُ بخلق النَّاسِ الدَّجَّالُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ الْمُجَادِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يَخْرُجُ صَاحِبُنَا الْمَسِيحُ بْنُ دَاوُدَ، يُرِيدُونَ الدَّجَّالَ، وَيَبْلُغُ سُلْطَانُهُ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ، وَتَسِيرُ مَعَهُ الْأَنْهَارُ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْنَا الْمُلْكُ، فسمى الله تمنيتهم ذَلِكَ كِبْرًا، وَنَفَى أَنْ يَبْلُغُوا مُتَمَنَّاهُمْ. انْتَهَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْيَهُودِ فِي زَمَانِهِ فِي مِصْرَ مُوسَى بْنُ مَيْمُونٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الْقُرْطُبِيُّ قَدْ كَتَبَ رِسَالَتَهُ إِلَى يَهُودِ الْيَمَنِ أَنَّ صَاحِبَهُمْ يَظْهَرُ فِي سَنَةِ كَذَا وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. جَاءَتْ تِلْكَ السَّنَةُ وَسُنُونَ بَعْدَهَا كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِمَّا قَالَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ. وَكَانَ هَذَا الْيَهُودِيُّ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، حَتَّى اسْتَسْلَمَ الْيَهُودُ بَعْضُ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْدَلُسِ. فَيُذْكَرُ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ التَّرَاوِيحَ وَهُمْ عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ فِي رَمَضَانَ، إِذْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ. فَلَمَّا قَدِمَ مِصْرَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي دَوْلَةِ الْعُبَيْدِيِّينَ، وَهُمْ لَا يَتَقَيَّدُونَ بِشَرِيعَةٍ، رَجَعَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَصَنَّفَ لَهُمْ تَصَانِيفَ، وَمِنْهَا: (كِتَابُ دَلَالَةِ الْحَائِرِينَ) ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ مَا اسْتَفَادَ مِنْ مُخَالَطَةِ عُلَمَاءِ الْأَنْدَلُسِ وَتَوَدُّدِهِ لَهُمْ، وَالرِّيَاسَةُ إِلَى الْآنَ بِمِصْرَ لِلْيَهُودِ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ: أَيِ الْتَجِئْ إِلَيْهِ مِنْ كَيْدِ مَنْ يَحْسُدُكَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُ وَيَقُولُونَ، الْبَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُ وَيَعْمَلُونَ، فَهُوَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ وَعَاصِمُكَ مِنْ شَرِّهِمْ. ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَادَلَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا يَتَكَبَّرَ الْإِنْسَانُ بِقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ: أي أن مخلوقاته أَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنْ خَلْقِ الْبَشَرِ، فَمَا لِأَحَدٍ يُجَادِلُ وَيَتَكَبَّرُ عَلَى خَالِقِهِ. وَقَالَ الزمخشري: مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَهُوَ أصل المجادلة ومدارها، فجحدوا بخلق السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُمْ

كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خالقها، وَبِأَنَّهَا خَلْقٌ عَظِيمٌ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَخَلْقُ النَّاسِ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ مهين، فمن قَدَرَ عَلَى خَلْقِهَا مَعَ عِظَمِهَا كَانَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ مَعَ مَهَانَتِهِ أَقْدَرُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِخَلْقِ مِثْلِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ، فَأَعْلَمَ تَعَالَى أن الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ قَوِيٌّ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ النَّاسِ تَارَةً أُخْرَى، فَالْخَلْقُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْمَعْنَى مِمَّا يَخْلُقُ النَّاسُ، إِذْ هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، فَالْخَلْقُ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ: أَيْ لَا يَتَأَمَّلُونَ لِغَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ، وَنَفْيُ الْعِلْمِ عَنِ الْأَكْثَرِ وَتَخْصِيصُهُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ يَعْلَمُ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْجَاهِلِ بِالْأَعْمَى، وَلِلْعَالِمِ بِالْبَصِيرِ، وَانْتِفَاءُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا هُوَ مِنَ الْجِهَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَمَى وَعَلَى الْبَصَرِ، وَإِلَّا فَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ. وَلَمَّا بَعُدَ، قَسَّمَ الَّذِينَ آمَنُوا بِطُولِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ، كَرَّرَ لَا تَوْكِيدًا، وَقَدَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا لِمُجَاوَرَةِ قَوْلِهِ: وَالْبَصِيرُ، وَهُمَا طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجَاوِرَ الْمُنَاسِبَ هَكَذَا، وَالْآخَرُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ مَا يُقَابِلُ الْأَوَّلَ وَيُؤَخَّرُ مَا يُقَابِلُ الْآخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ «1» ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الْمُتَمَاثِلَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ «2» ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَفَنُّنٌ فِي الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ الْكَلَامِ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ صِفَةَ ذَمٍّ نَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ فِي ذِكْرِ التَّسَاوِي بِصِفَةِ الذَّمِّ، فَبَدَأَ بِالْأَعْمَى. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعِيسَى، وَالْكُوفِيُّونَ: تَتَذَكَّرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْجُمْهُورُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَعْثِ مِنْ إِتْيَانِ السَّاعَةِ، وَأَنَّهُ لَا رَيْبَ فِي وُقُوعِهَا، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ الْحِسَابُ وَافْتِرَاقُ الْجَمْعِ إِلَى الْجَنَّةِ طَائِعُهُمْ، وَإِلَى النَّارِ كَافِرُهُمْ وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مِنَ الْعُصَاةِ بِغَيْرِ الْكُفْرِ. وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِجَابَةِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، إِلَّا أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ مُقَيَّدَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: اسْأَلُونِي أُعْطِكُمْ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطِيعُونِي آتِكُمْ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ: ادْعُونِي، اعْبُدُونِي وَأَسْتَجِبْ لَكُمْ، آتِيكُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَكَثِيرًا جَاءَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي. وَمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ، وَقَرَأَ هذه الآية. وقال

_ (1) سورة فاطر: 35/ 20. (2) سورة هود: 11/ 24. [.....]

ابْنُ عَبَّاسٍ: وَحِّدُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ وَقِيلَ لِلثَّوْرِيِّ: ادْعُ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّ تَرْكُ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِلَّذِينِ آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم مِنْ فَضْلِهِ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ» . إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي: أَيْ عَنْ دُعَائِي. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ، وَشَيْبَةُ: سَيَدْخُلُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَاخْتُلِفَ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو. دَاخِرِينَ: ذَلِيلِينِ. اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ. ولَذُو فَضْلٍ: أَبْلَغُ مِنْ: لَمُفَضَّلٍ أَوْ لَمُتَفَضِّلٍ، كَمَا قَالَ: لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ «1» ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «2» ، لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ صَاحِبَهُ وَمُتَمَكِّنًا مِنْهُ، بِخِلَافِ أَنْ يُؤْتَى بِالصِّفَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ بِالِاتِّصَافِ بِهِ فِي وَقْتٍ مَا، لَا دَائِمًا، وَذَكَرَ عُمُومَ فَضْلِهِ وَسَوَّغَهُ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، فَأَتَى بِهِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي هَذَا التَّكْرِيرِ تَخْصِيصٌ لِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ فَضْلَ اللَّهِ وَلَا يَشْكُرُونَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ «3» ، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «4» ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «5» . انْتَهَى. ذلِكُمُ: أَيِ الْمَخْصُوصُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ التميز بِهَا مِنَ اسْتَجَابَتِهِ لِدُعَائِكُمْ، وَمِنْ جَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَمَا ذَكَرَ، وَمِنْ تَفَضُّلِهِ عَلَيْكُمْ. اللَّهُ رَبُّكُمْ: الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَإِنْشَاءِ الْأَشْيَاءِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ. فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ هَذِهِ أَوْصَافُهُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ؟ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خَالِقَ بِنَصْبِ الْقَافِ، وَطَلْحَةُ فِي رِوَايَةٍ: يُؤْفَكُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْقَافِ وَتَاءِ الْخِطَابِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَالِقَ نَصْبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّرْفِ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَ الْجَاحِدِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى طَرِيقِ الْهُدَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ذَكَرَ أَيْضًا مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ جَعْلِ الْأَرْضِ مُسْتَقَرًّا وَالسَّمَاءِ بِنَاءً، أَيْ قُبَّةً، وَمِنْهُ أَبْنِيَةُ الْعَرَبِ لِمَضَارِبِهِمْ، لِأَنَّ السَّمَاءَ فِي مَنْظَرِ الْعَيْنِ كَقُبَّةٍ مَضْرُوبَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صُوَرَكُمْ بِضَمِّ الصَّادِ، وَالْأَعْمَشُ، وأبو

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 7. (2) سورة البقرة: 2/ 105. (3) سورة الحج: 22/ 66. (4) سورة العاديات: 100/ 6. (5) سورة إبراهيم: 14/ 34.

رُزَيْنٍ: بِكَسْرِهَا فِرَارًا مِنَ الضَّمَّةِ قَبْلَ الْوَاوِ اسْتِثْقَالًا، وجمع فعلة بضم الفاء عَلَى فِعَلٍ بِكَسْرِهَا شَاذٌّ، وَقَالُوا قُوَّةٌ وَقِوًى بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَى الشُّذُوذِ أَيْضًا قِيلَ: لَمْ يَخْلُقْ حَيَوَانًا أَحْسَنَ صُورَةً مِنَ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: لَمْ يَخْلُقْهُمْ مَنْكُوسِينَ كَالْبَهَائِمِ، كَقَوْلِهِ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «1» . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: صُورَكُمْ بِضَمِّ الصَّادِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ، عَلَى نَحْوِ بُسْرَةٌ وَبُسْرٌ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ: امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقُومُ بِأَوْدِ صُوَرِهِمْ وَالطَّيِّبَاتُ الْمُسْتَلَذَّاتُ طَعْمًا وَلِبَاسًا وَمَكَاسِبَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلْيَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَقَالَ نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ، ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ، ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ نُهِيَ أَنْ يَعْبُدَ أَصْنَامَهُمْ، لَمَّا جَاءَتْهُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّهِ، فَهَذَا نَهْيٌ بِالسَّمْعِ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا بِدَلَائِلِ الْعَقْلِ، فَتَظَافَرَتْ أَدِلَّةُ السَّمْعِ وَأَدِلَّةُ الْعَقْلِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. فَمِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «2» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَذِكْرُهُ أَنَّهُ نَهْيٌ بِالسَّمْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَنْهِيًّا بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ. وَلَمَّا نُهِيَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَمْرَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الَّتِي أَصْنَامُهُمْ عَارِيَةٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُمَا، بِالِاعْتِبَارِ فِي تَدْرِيجِ ابْنِ آدَمَ بِأَنْ ذَكَرَ مَبْدَأَهُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ مِنْ تُرَابٍ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى التَّنَاسُلِ بِخَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ، وَالطِّفْلُ اسْمُ جِنْسٍ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ طِفْلًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُلُوغِ الْأَشُدِّ. ومِنْ قَبْلُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، إِذَا خَرَجَ سَقْطًا، وَقِيلَ: عِبَارَةٌ بِتَرَدُّدِهِ فِي التَّدْرِيجِ

_ (1) سورة التين: 95/ 4. (2) سورة الصافات: 37/ 95- 96.

الْمَذْكُورِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا قَبْلَ الشَّيْخِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يُخْرَجَ طِفْلًا، وَآخَرُ قَبْلَ الْأَشُدِّ، وَآخَرُ قَبْلَ الشَّيْخِ. وَلِتَبْلُغُوا: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ يُبْقِيكُمْ لِتَبْلُغُوا، أَيْ لِيَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَجَلًا مُسَمًّى لَا يَتَعَدَّاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي مَوْتَ الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبْرَةِ وَالْحُجَجِ، إِذَا نَظَرْتُمْ فِي ذَلِكَ وَتَدَبَّرْتُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ، رُتَبَ الْإِيجَادِ، ذَكَرَ أَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَأَنَّهُ مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِإِيجَادِ شَيْءٍ أَوْجَدَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَخُّرٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَلَا تَعْجَبُ إِلَى الْمُجَادِلِ فِي آيات الله كيف يصرف عن الجدال فيها ويصير إلى الإيمان بها؟ والظاهر أنها في الكفار المجادلين فِي رِسَالَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا، ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَرَوَوْا فِي نَحْوِ هَذَا حَدِيثًا وَقَالُوا: هِيَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَيَلْزَمُ قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا فِي الْكُفَّارِ، وَيَكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَأَمَّا عَلَى الظَّاهِرِ، فَالَّذِينَ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبًا على الذم، وَإِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى، فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ، كَمَا لَا يَقُولُ: سَأَقُومُ أَمْسُ، فَقِيلَ: إِذَا يَقَعُ مَوْقِعَ إِذْ، وَأَنَّ مَوْقِعَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَيَكُونُ إِذْ هُنَا بِمَعْنَى إِذَا، وحسن ذلك تقين وُقُوعِ الْأَمْرِ، وَأُخْرِجَ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِقْبَالِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: لَوْ أَنَّ غُلًّا مِنْ أَغْلَالِ جَهَنَّمَ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ، لَأَرْحَضَهُ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْمَاءِ الْأَسْوَدِ. وَقَرَأَ: وَالسَّلَاسِلُ عَطْفًا عَلَى الْأَغْلَالُ، يُسْحَبُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْمُسِيءُ فِي اخْتِيَارِهِ: وَالسَّلَاسِلَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ، يُسْحَبُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ. وَقَرَأَتْ فَرِقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالسَّلَاسِلِ، بِجَرِّ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى تَقْدِيرِ، إِذْ أَعْنَاقُهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ، فَعَطَفَ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ، إِذْ تَرْتِيبُهُ فِيهِ قَلْبٌ، وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبُ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: وَفِي السَّلَاسِلِ يُسْحَبُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِذْ أَعْنَاقُهُمْ فِي الْأَغْلَالِ، مَكَانَ قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، لَكَانَ صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا. فَلَمَّا كَانَتَا عِبَارَتَيْنِ مُعْتَقِبَتَيْنِ، حُمِلَ قَوْلُهُ: وَالسَّلاسِلُ عَلَى الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلَا ناعب إِلَّا بِبَيْنِ غُرَابِهَا كَأَنَّهُ قيل: بمصلحين. وقرىء: وَبِالسَّلَاسِلِ، انْتَهَى، وَهَذَا يُسَمَّى الْعَطْفَ عَلَى التَّوَهُّمِ، وَلَكِنَّ تَوَهُّمَ إِدْخَالِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى مُصْلِحِينَ أَقْرَبُ مِنْ تَغْيِيرِ تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا، وَالْقِرَاءَةُ مِنْ تَغْيِيرِ تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِأَسْرِهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أحدك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلَبَاتٍ ... وَلَا بَيْدَاءَ نَاجِيَةً زَمُولَا وَلَا مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طِفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشِعِ الْوَادِي حَمُولَا التَّقْدِيرُ: لست براء ولا متدارك. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ سَبَقَهُمَا إِلَيْهِ الْفَرَّاءُ، قَالَ: مَنْ جَرَّ السَّلَاسِلِ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَعْنَاقُهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قَرَأَ بِخَفْضِ وَالسَّلَاسِلِ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: وَفِي السَّلَاسِلِ يُسْحَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْخَفْضُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ جَائِزٍ، لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ تُضْمِرَ فِي فَتَقُولُ: زَيْدٌ الدَّارِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَأْوِيلَ الْفَرَّاءِ، وَخَرَّجَ الْقِرَاءَةَ ثُمَّ قَالَ: كَمَا تَقُولُ: خَاصَمَ عَبْدُ اللَّهِ زَيْدًا الْعَاقِلَيْنِ، بِنَصْبِ الْعَاقِلَيْنِ وَرَفْعِهِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِذَا خَاصَمَهُ صَاحِبُهُ فَقَدْ خَاصَمَهُ الْآخَرُ. انْتَهَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَهِيَ مَنْقُولٌ جَوَازُهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْفَانَ الْكُوفِيِّ، قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فاعل مفعول، وقرىء: وَبِالسَّلَاسِلِ يُسْحَبُونَ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ حَمَلَتِ الزَّجَّاجَ عَلَى أن تأويل الْخَفْضَ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ تَأْوِيلُ شُذُوذٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ وَالسَّلَاسِلَ، وَفَتْحِ يَاءِ يَسْحَبُونَ إِذَا كَانُوا يَجُرُّونَهَا، فَهُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ، يُكَلَّفُونَ ذَلِكَ وَهُمْ لَا يُطِيقُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْجَرُونَ: يُطْرَحُونَ فِيهَا، فَيَكُونُونَ وَقُودًا لَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُسْجَرُونَ: يُحْرَقُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَيْنَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُونَ: ضَلُّوا عَنَّا: أَيْ تَلِفُوا مِنَّا وَغَابُوا وَاضْمَحَلُّوا، ثُمَّ تَضْطَرِبُ أَقْوَالُهُمْ وَيَفْزَعُونَ إِلَى الْكَذِبِ فَيَقُولُونَ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نعبد شَيْئًا، وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ الِاخْتِلَاطِ فِي الذِّهْنِ وَالنَّظَرِ. وَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ شَيْئًا، كَمَا تَقُولُ: حَسِبْتُ أَنَّ فُلَانًا شَيْءٌ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ إِذَا اخْتَبَرْتَهُ، فَلَمْ تَرَ عِنْدَهُ جَزَاءً، وَقَوْلُهُمْ:

ضَلُّوا عَنَّا، مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ تَقْرِيعِهِمْ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ إِذْ ذَاكَ، أَوْ لَمَّا لَمْ يَنْفَعُوهُمْ قَالُوا: ضَلُّوا عَنَّا، وَإِنْ كَانُوا مَعَهُمْ. كَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ، يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مِثْلَ ضَلَالِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ، يُضِلُّهُمْ عَنْ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى لَوْ طَلَبُوا الْآلِهَةَ أَوْ طَلَبَتْهُمُ الْآلِهَةُ لَمْ يَتَصَادَفُوا. ذَلِكُمُ الْإِضْلَالُ بِسَبَبِ مَا كَانَ لَكُمْ مِنَ الْفَرَحِ وَالْمَرَحِ، بِغَيْرِ الْحَقِّ: وهو الشهادة عبادة الْأَوْثَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ. انتهى. وتَمْرَحُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ. انْتَهَى، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا أَيْ إِيمَانًا لَكُمْ هَذَا بِمَا كُنْتُمْ تُظْهِرُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ السُّرُورِ بِالْمَعَاصِي وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْأَتْبَاعِ وَالصِّحَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ، وَالْمَرَحُ: الْعُدْوَانُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَذِخِينَ الْفَرِحِينَ وَيُحِبُّ كل قلب حزين» . وتفرحون وتمرحون مِنْ بَابِ تَجْنِيسِ التَّحْرِيفِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ. ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها: الظَّاهِرُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمُ: ادْخُلُوا بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ السَّابِقَةِ، وَهُمْ قَدْ كَانُوا فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ يُقَيَّدُ بِالْخُلُودِ، وَهُوَ الثَّوَاءُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، فَلَيْسَ أَمْرًا بِمُطْلَقِ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ الَّتِي لِكُلِّ بَابٍ مِنْهَا جُزْءٌ مَقْسُومٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِالدُّخُولِ يُفِيدُ التَّجْزِئَةَ لِكُلِّ بَابٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا مَعْنَاهُ: يُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ادْخُلُوا، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُخَاطَبَةَ إِنَّمَا هِيَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ. وَأَبْوَابُ جَهَنَّمَ: هِيَ السَّبْعَةُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى طَبَقَاتِهَا وَأَدْرَاكِهَا السَّبْعَةِ. انْتَهَى. وخالدين: حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَدَلَّتْ عَلَى الثَّوَاءِ الدَّائِمِ، فَجَاءَ التَّرْكِيبُ: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ: فَبِئْسَ مَدْخَلُ الْمُتَكَبِّرِينَ، لِأَنَّ نَفْسَ الدُّخُولِ لَا يَدُومُ، فَلَمْ يُبَالِغْ فِي ذَمِّهِ، بِخِلَافِ الثَّوَاءِ الدَّائِمِ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ، اللَّهُ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 98.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ. أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ تَأْنِيسًا لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي غَايَةِ الصَّبْرِ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ حَقٌّ. قِيلَ: وَجَوَابُ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ فَيُقِرُّ عَيْنَكَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ جَوَابًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الْمَوْعُودِ فِي حَيَاتِكَ، فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَهُوَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ: أَيْ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ، فَنَنْتَقِمُ مِنْهُمْ وَنُعَذِّبُهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوكَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ «1» ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَا صَرَّحَ بِجَوَابِ الشَّرْطَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نَتَوَفَّيَنَّكَ، وَجَزَاءُ نُرِيَنَّكَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ فَذَاكَ، أَوْ أَنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ، فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنَنْتَقِمُ مِنْهُمْ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلزَّمَخْشَرِيِّ نَحْوُ هَذَا الْبَحْثِ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ «2» ، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أَصْلُهُ فَإِنْ نُرِكَ، وَمَا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ أُلْحِقَتِ النُّونُ بِالْفِعْلِ. أَلَا تَرَاكَ لَا تَقُولُ: إِنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ، وَلَكِنْ أَمَا تُكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ؟ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ تلازم ما لمزيده، وَنُونِ التَّوْكِيدِ بَعْدَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَتَيْتَ بِمَا دُونَ النُّونِ، وَإِنْ شِئْتَ أَتَيْتَ بِالنُّونِ دُونَ مَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ كَمَا أَنَّكَ إِذَا جِئْتَ لَمْ تجىء بِمَا، يَعْنِي لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ مَعَ مَجِيئِكَ بِمَا، ولم تجىء بِمَا مَعَ مَجِيئِكَ بِالنُّونِ. وقرأ الجمهور:

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 41- 42. (2) سورة يونس: 10/ 46.

يُرْجَعُونَ بِيَاءِ الْغَيبَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَطَلْحَةُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ حَسَّانَ: بِفَتْحِ تَاءِ الْخِطَابِ. ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى عَلَى الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِهِمْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ، وَفِي عَدَدِ الرُّسُلِ اخْتِلَافٌ. رُوِيَ أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ من بني إسراءيل، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ: بَعَثَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ نَبِيٍّ ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ: أَيْ مَنْ أَخْبَرْنَاكَ بِهِ، أَمَّا فِي الْقُرْآنِ فَثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيًّا أَسْوَدَ فِي الْحَبَشِ، فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ، لَمَّا اقْتَرَحُوا عَلَى الرُّسُلِ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ لَا تَأْتِي آيَةٌ إِلَّا إِنْ شَاءَ الله، فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ: رَدٌّ وَوَعِيدٌ بِإِثْرِ اقتراحهم الآيات، وأمر الله: القيامة. والمبطلون: المعاندون مقترحون الْآيَاتِ، وَقَدْ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ، فَأَنْكَرُوهَا وَسَمُّوهَا سِحْرًا، أَوْ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ: أَيْ أَرَادَ إِرْسَالَ رَسُولٍ وَبَعْثَةَ نَبِيٍّ، قَضَى ذَلِكَ وَأَنْفَذَهُ بِالْحَقِّ، وَخَسِرَ كُلُّ مُبْطِلٍ، وَحَصَلَ عَلَى فَسَادِ آخِرَتِهِ، أَوْ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ: وَهُوَ الْقَتْلُ بِبَدْرٍ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى آيَاتِ اعْتِبَارٍ وَتَعْدَادِ نِعَمٍ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ الْأَزْوَاجِ، وَيَضْعُفُ قَوْلُ مَنْ أَدْرَجَ فِيهَا الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَقَوْلُ مَنْ خَصَّهَا بِالْإِبِلِ وَهُوَ الزَّجَّاجُ. لِتَرْكَبُوا مِنْها: وَهِيَ الْإِبِلُ، إِذْ لَمْ يُعْهَدْ رُكُوبُ غَيْرِهَا. وَمِنْها تَأْكُلُونَ: عَامٌّ فِي ثَمَانِيَةِ الأزواج، ومن الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ الثَّانِيَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الْجَمَلَ مِنْهَا يُؤْكَلُ. انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ لِلتَّبْعِيضِ وَلِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَلَمَّا كَانَ الرُّكُوبُ مِنْهَا هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً، إِذْ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ. وَذُكِرَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْجَمِيعِ مَنَافِعَ مِنْ شُرْبِ لَبَنٍ وَاتِّخَاذِ دِثَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَكَّدَ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ بِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ مِنْ بُلُوغِ الْأَسْفَارِ الطَّوِيلَةِ، وَحَمْلِ الْأَثْقَالِ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَقَضَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَالْغَزْوِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ الرُّكُوبُ وَبُلُوغُ الْحَاجَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ قَدْ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الِانْتِقَالِ لِأَمْرٍ وَاجِبٍ، أَوْ مَنْدُوبٍ كَالْحَجِّ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، دَخَلَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ عَلَى الرُّكُوبِ وَعَلَى الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ مِنْ بُلُوغِ الْحَاجَاتِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ عِلَّةً لِجَعْلِ الْأَنْعَامِ لَنَا. وَلَمَّا كَانَ الْأَكْلُ وَإِصَابَةُ الْمَنَافِعِ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ، لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عِلَّةً فِي الْجَعْلِ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّ مِنْهَا نَأْكُلُ، وَلَنَا فِيهَا مَنَافِعُ مِنْ شُرْبِ لَبَنٍ وَاتِّخَاذِ دِثَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا

أَدْخَلَ لَامَ التَّعْلِيلِ فِي لِتَرْكَبُوهَا، وَلَمْ يُدْخِلْهَا عَلَى الزِّينَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً «1» . وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ مِنَّةِ الرُّكُوبِ لِلْإِبِلِ فِي الْبَرِّ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ نِعْمَةِ الرُّكُوبِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وَلَمَّا كَانَ الْفُلْكُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: حَمَلَ فِي الْفُلْكِ، كَقَوْلِهِ: احْمِلْ فِيها «2» ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ حَمَلَ عَلَى الْفُلْكِ، اعْتُبِرَ لَفْظُ عَلَى لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَعَلَيْها، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى فِي صحيحا يُرِيكُمْ آياتِهِ : أَيْ حُجَجَهُ وَأَدِلَّتَهُ على وحدانيته. أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ : أَيْ إِنَّهَا كَثِيرَةٌ، فَأَيُّهَا يُنْكَرُ؟ أَيْ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْهَا فِي الْعُقُولِ، أَيَّ آياتِ اللَّهِ منصوب بتنكرون. قال الزمخشري: أَيَّ آياتِ جَاءَتْ عَلَى اللُّغَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَقَوْلُكَ: فَأَيَّةُ آيَاتِ اللَّهِ قَلِيلٌ، لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي الْأَسْمَاءِ غَيْرِ الصِّفَاتِ نَحْوَ: حِمَارٌ وَحِمَارَةٌ غَرِيبٌ، وَهِيَ فِي أَيَّ أَغْرَبُ لِإِبْهَامِهِ. انْتَهَى، وَمِنْ قِلَّةِ تَأْنِيثِ: أَيٍّ قَوْلِهِ: بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ وَقَوْلُهُ: وَهِيَ فِي أَيٍّ أَغْرَبُ، إِنْ عَنَى أَيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ فِي النِّدَاءِ أَنْ يُؤَنَّثَ نِدَاءُ الْمُؤَنَّثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «3» ، وَلَا يُعْلَمُ مَنْ يُذَكِّرُهَا فِيهِ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمَرْأَةُ، إِلَّا صَاحِبُ كِتَابِ الْبَدِيعِ فِي النَّحْوِ. وَإِنْ عَنَى غَيْرَ الْمُنَادَاةِ، فَكَلَامُهُ صَحِيحٌ، فَقَلَّ تَأْنِيثُهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ وَمَوْصُولَةً، وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَما أَغْنى نَافِيَةٌ شَرْطِيَّةٌ وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَمَا فِيمَا كَانُوا مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالضَّمِيرُ فِي جاءَتْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: مِنَ الْعِلْمِ عَلَى جِهَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، أَيْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا عِلْمَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا لَهُمْ خَيَالَاتٌ وَاسْتِبْعَادَاتٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بِنَحْوِ قَوْلِهِمْ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً «4» ، أَوِ اعْتَقَدُوا أَنَّ عِنْدَهُمْ عِلْمًا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا تَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ. وَالدَّهْرِيُّونَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا بِوَحْيِ اللَّهِ، دَفَعُوهُ وَصَغَّرُوا عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عِلْمِهِمْ. وَلَمَّا سَمِعَ سُقْرَاطُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، بِمُوسَى، صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: لَوْ هَاجَرْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: نَحْنُ قَوْمٌ مُهَذَّبُونَ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلى من

_ (1) سورة النحل: 16/ 8. (2) سورة هود: 11/ 40. (3) سورة الفجر: 89/ 27. (4) سورة الكهف: 18/ 36. [.....]

يُهَذِّبُنَا. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الضَّمَائِرُ مُتَنَاسِقَةً عَائِدَةً عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَرِحُوا، وَفِي بِما عِنْدَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، أَيْ فَرِحَتِ الرُّسُلُ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ، وَشَكَرُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، لَمَّا رَأَوْا جَهْلَ مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ وَاسْتِهْزَاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَعَلِمُوا سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَرِحُوا عَائِدٌ عَلَى الْأُمَمِ، وَفِي بِما عِنْدَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، أَيْ فَرِحَ الْكُفَّارُ بِمَا عِنْدَ الرُّسُلِ مِنَ الْعِلْمِ فَرَحَ ضَحِكٍ وَاسْتِهْزَاءٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْهَا، أَيْ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ فَرَحِهِمْ بِالْوَحْيِ الْمُوجِبِ لِأَقْصَى الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي تَهَكُّمٍ بِفَرْطِ جَهْلِهِمْ وَخُلُوِّهِمْ من العلم. انتهى. ولا يعبر بِالْجُمْلَةِ الظَّاهِرِ كَوْنِهَا مُثْبَتَةً عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ إِلَّا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَلَمَّا آلَ أَمْرُهُ إِلَى الْإِيتَاءِ الْمَحْصُورِ جَازَ. وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَى الْقَلِيلِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَخْلِيطًا لِمَعَانِي الْجُمَلِ الْمُتَبَايِنَةِ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ: عِلْمُهُمْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمَعْرِفَتُهُمْ بِتَدْبِيرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «1» ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِعُلُومِ الدِّيَانَاتِ، وَهِيَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِمْ لِبَعْثِهَا عَلَى رَفْضِ الدُّنْيَا وَالظَّلَفِ عَنِ الْمَلَاذِّ وَالشَّهَوَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا، وَصَغَّرُوهَا وَاسْتَهْزَؤُوا بِهَا، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا عِلْمَ أَنْفَعُ وَأَجْلَبُ لِلْفَوَائِدِ مِنْ عِلْمِهِمْ، فَفَرِحُوا بِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ، لَكِنْ فِيهِ إِكْثَارٌ وَشَقْشَقَةٌ. بَأْسَنا: أَيْ عَذَابَنَا الشَّدِيدَ، حَكَى حَالَ مَنْ آمَنَ بَعْدَ تَلْبِيسِ الْعَذَابِ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُ نَافِعًا، وَفِي ذَلِكَ حَضٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَخْوِيفٌ مِنَ التَّأَنِّي. فَأَمَّا قَوْمُ يُونُسَ، فَإِنَّهُمْ رَأَوُا الْعَذَابَ لَمْ يَلْتَبِسْ بِهِمْ، وَتَقَدَّمَتْ قصتهم. وإيمانهم مرفوع بيك اسْمًا لَهَا، أَوْ فَاعِلُ يَنْفَعُهُمْ. وَفِي يَكُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي: كَانَ يَقُومُ زَيْدٌ، وَدَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى الْكَوْنِ، لَا عَلَى النَّفْيِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، أَيْ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَسْتَقِمْ لِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «2» . وَتَرَادُفُ هَذِهِ الْفَاءَاتِ، أَمَّا فِي فَما أَغْنى، فَلِأَنَّهُ كَانَ نَتِيجَةَ قَوْلِهِ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وفَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ، جَارٍ مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ. وفَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تَابِعٌ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَكَفَرُوا بِهِ فَلَمَّا رَأَوْا

_ (1) سورة الروم: 30/ 7. (2) سورة مريم: 19/ 35.

بَأْسَنَا آمَنُوا وَلَمْ يَكُ ينفعهم إيمانهم تابع لإيمانهم لَمَّا رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ، وَانْتَصَبَ سُنَّةَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ أَنَّ مَا فُعِلَ بِهِمْ هِيَ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ مَضَتْ وَسَبَقَتْ فِي عِبَادِهِ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْإِعْزَازِ بِهِمْ، وَتَعْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَاسْتِهَانَتِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ بِالْهَلَاكِ، وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْإِيمَانِ حَالَةَ تَلَبُّسِ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَهُنَالِكَ ظَرْفُ مَكَانٍ اسْتُعِيرَ لِلزَّمَانِ، أَيْ وَخَسِرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْكَافِرُونَ. وَقِيلَ: سُنَّةَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّحْذِيرِ، أَيِ احْذَرُوا سُنَّةَ اللَّهِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فِي إِعْدَادِ الرُّسُلِ.

سورة فصلت

سورة فصلت [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 54] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

الصَّرْصَرُ: الرِّيحُ الْبَارِدَةُ الْمُحْرِقَةُ، كَمَا تُحْرِقُ النَّارُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَيَأْتِي أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ. النَّحْسُ الْمَشْئُومُ: نَقِيضُ السَّعْدِ، قَالَ الشَّاعِرُ: سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتُهُ ... أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بِأَسْعُدِ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: أَبْلِغْ جُذَامًا وَلَخْمًا أَنَّ إِخْوَتَهُمْ ... طَيًّا وَبَهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ التَّقْيِيضُ: تَهْيِئَةُ الشَّيْءِ وَتَيْسِيرُهُ، وَهَذَانِ ثَوْبَانِ قَيِّضَانِ، إِذَا كَانَا مُتَكَافِئَيْنِ فِي الثَّمَنِ، وَقَايِضْنِي بِهَذَا الثَّوْبِ: أَيْ خُذْهُ وَأَعْطِنِي به بدله، والمقايضة: المعاوضة. الْأَكْمَامُ، وَاحِدُهَا كُمٌّ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِكَسْرِ الْكَافِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مَا يُغَطِّي الثَّمَرَةَ لِجَفِّ الطَّلْعَةِ، وَمَنْ قَالَ فِي الْجَمْعِ أَكِمَّةٌ، فَالْوَاحِدُ كِمَامٌ. الْآفَاقُ: النَّوَاحِي، وَاحِدُهَا أُفُقٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ نَالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ ... أُفُقِ السَّمَاءِ لَنَالَتْ كَفُّهُ الْأُفُقَا حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ

أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «1» إِلَى آخِرِهَا، فَضَمَّنَ وَعِيدًا وَتَهْدِيدًا وَتَقْرِيعًا لِقُرَيْشٍ، فَأَتْبَعَ ذَلِكَ التَّقْرِيعَ وَالتَّوْبِيخَ وَالتَّهْدِيدَ بِتَوْبِيخٍ آخَرَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ نَزَّلَ كِتَابًا مُفَصَّلًا آيَاتُهُ، بَشِيرًا لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَنَذِيرًا لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَنَّ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ أَعْرَضُوا عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ قُدْرَةَ الْإِلَهِ عَلَى إِيجَادِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً، فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ مُنَاسِبًا لِآخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ حِينَ الْتَبَسَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ حَلَّ بِصَنَادِيدِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ، وَاسْتِئْصَالِ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَلَّ بِعَادٍ وَثَمُودَ مِنَ اسْتِئْصَالِهِمْ. رُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُعَظِّمَ عَلَيْهِ أَمْرَ مُخَالَفَتِهِ لِقَوْمِهِ، وَلِيُقَبِّحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلِيُبْعِدَ مَا جَاءَ بِهِ. فَلَمَّا تَكَلَّمَ عُتْبَةُ، قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حم، وَمَرَّ فِي صَدْرِهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فَأَرْعَدَ الشَّيْخُ وَوَقَفَ شَعْرُهُ، فَأَمْسَكَ عَلَى فَمِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يُمْسِكَ، وَقَالَ حِينَ فَارَقَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ شَيْئًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسَّحَرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ، وَلَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ صَاعِقَةَ الْعَذَابِ عَلَى رَأْسِي. تَنْزِيلٌ، رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذَا تَنْزِيلٌ عِنْدَ الْفَرَّاءِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ كِتابٌ فُصِّلَتْ، عِنْدَ الزَّجَّاجِ وَالْحَوْفِيِّ، وَخَبَرٌ حم إِذَا كَانَتِ اسما للسورة، وكتاب عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ بَدَلٌ مِنْ تَنْزِيلٌ. قِيلَ: أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. فُصِّلَتْ آياتُهُ، قَالَ السُّدِّيُّ: بُيِّنَتْ آيَاتُهُ، أَيْ فُسِّرَتْ مَعَانِيهِ، فَفُصِلَ بَيْنَ حَرَامِهِ وَحَلَالِهِ، وَزَجْرِهِ وَأَمْرِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَقِيلَ: فُصِّلَتْ فِي التَّنْزِيلِ: أي

_ (1) سورة غافر: 40/ 82.

لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً. قَالَ الْحَسَنُ: بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَيْنَ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَمَنْ خَالَفَهُ. وَقِيلَ: فُصِّلَتْ بِالْمَوَاقِفِ وَأَنْوَاعِ، أَوَاخِرِ الْآيِ، وَلَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ إِلَى قَافِيَةٍ وَلَا نَحْوِهَا، كَالشِّعْرِ وَالسَّجْعِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مُيِّزَتْ آيَاتُهُ، وَجُعِلَ تَفَاصِيلَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَبَعْضُهَا فِي وَصْفِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَرْحِ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ، وَشَرْحِ كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ خَلْقِهِ السموات وَالْكَوَاكِبِ، وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ وَبَعْضُهَا فِي أَحْوَالِ التَّكَالِيفِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْقَلْبِ وَنَحْوَ الْجَوَارِحِ، وَبَعْضُهَا فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَدَرَجَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَدَرَكَاتِ أَهْلِ النَّارِ وَبَعْضُهَا فِي الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَبَعْضُهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَرِيَاضَةِ النَّفْسِ وَبَعْضُهَا فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَتَوَارِيخِ الْمَاضِينَ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَمَنْ أَنْصَفَ، عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ كِتَابٌ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَبَايِنَةِ مِثْلُ مَا في القرآن. انتهى. وقرىء: فَصَلَتْ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالصَّادُ مُخَفَّفَةٌ، أَيْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوْ فَصَلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا، مِنْ قَوْلِهِ: فَصَلَتِ الْعِيرُ «1» : أَيِ انْفَصَلَتْ، وَفَصَلَ مِنَ الْبَلَدِ: أَيِ انْفَصَلَ مِنْهُ، وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ، لِأَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ، أَوْ تَوْطِئَةٌ لِلْحَالِ بَعْدَهُ، وَهِيَ عَرَبِيًّا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ يَقْرَؤُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالْمَدْحِ. وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا فَقِيلَ: ذُو الْحَالِ آيَاتُهُ، وَقِيلَ: كِتَابٌ، لِأَنَّهُ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: فُصِّلَتْ آياتُهُ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: فَصَّلْنَاهُ قُرْآنًا، أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفُصِّلَتْ، أَقْوَالٌ سِتَّةٌ آخرها للأخفش. ولِقَوْمٍ متعلق بفصلت، أَيْ يَعْلَمُونَ الْأَشْيَاءَ، وَيَعْقِلُونَ الدَّلَائِلَ، فَكَأَنَّهُ فُصِّلَ لِهَؤُلَاءِ، إِذْ هُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَخُصُّوا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالتَّفْصِيلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُفَصَّلْ لَهُ وَيَبْعُدُ أن يتعلق بتنزيل لِكَوْنِهِ وُصِفَ فِي أَحَدِ مُتَعَلِّقَيْهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَوْ أُبْدِلَ مِنْهُ كِتَابٌ، أَوْ كَانَ خَبَرَ التَّنْزِيلِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْبَدَلَ مِنَ الْمَوْصُولِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ قَبْلَ أَخْذِهِ مُتَعَلِّقَهُ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: لِقَوْمٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: عَرَبِيًّا، أَيْ كَائِنًا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَلْفَاظَهُ وَيَتَحَقَّقُونَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ نَمَطِ كَلَامِهِمْ، وَكَأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَانْتَصَبَ بَشِيراً وَنَذِيراً على النعت لقرآنا عَرَبِيًّا، وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ آيَاتُهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بشير

_ (1) سورة يوسف: 12/ 94.

وَنَذِيرٌ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الصِّفَةِ لِكِتَابٍ، أَوْ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَبِشَارَتُهُ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ آمَنَ، وَنِذَارَتُهُ بِالنَّارِ لِمَنْ كَفَرَ. فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ: أَيْ أَكْثَرُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، أَيْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ لَمْ يَنْظُرُوا النَّظَرَ التَّامَّ، بَلْ أَعْرَضُوا، فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، أَوْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِالْمَقَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ قُلُوبِهِمْ، وَالنَّاسِ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ وَمِنْ سَمَاعِهِمْ لِمَا يَتْلُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَبَهِ ذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وِقْرٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَهَذِهِ تَمْثِيلَاتٌ لِامْتِنَاعِ قَبُولِ الْحَقِّ، كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ فِي غِلَافٍ، كَمَا قَالُوا: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ «1» ، وَكَأَنَّ أَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ كَلَامِ اللَّهِ بِهَا صَمَمٌ. وَالْحِجَابُ: السِّتْرُ الْمَانِعُ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَهُوَ خِلَافٌ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اسْتَغْشَى عَلَى رَأْسِهِ ثَوْبًا وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ، اسْتِهْزَاءً مِنْهُ. وَقِيلَ: تَمْثِيلٌ بِعَدَمِ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: عبارة عن العداوة. ومن فِي مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَكَذَا فِي وَمِنْ بَيْنِنا. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْحِجَابَ ابْتَدَأَ مِنَّا وَابْتَدَأَ مِنْكَ، فَالْمَسَافَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ لِجِهَتِنَا وَجِهَتِكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالْحِجَابِ، لَا فَرَاغَ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِمِنْ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ حِجَابًا حَاصِلٌ وَسَطَ الْجِهَتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ بِالتَّبَايُنِ الْمُفْرِطِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِمِنْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ: عَلَى قُلُوبِنَا أَكِنَّةٌ، كَمَا قِيلَ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، لِيَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: هُوَ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ قَوْلِكِ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ «2» . وَلَوْ قِيلَ: إِنَّا جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ فِي أَكِنَّةٍ، لَمْ يَخْتَلِفِ الْمَعْنَى، وَتَرَى الْمَطَابِيعَ مِنْهُمْ لَا يُرَاعُونَ الطِّبَاقَ وَالْمُلَاحَظَةَ إِلَّا فِي الْمَعَانِي، وَتَقُولُ: إِنَّ فِي أَبْلَغُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ عَلَى، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا إِفْرَاطَ عَدَمِ الْقَبُولِ، لِحُصُولِ قُلُوبِهِمْ فِي أَكِنَّةٍ احْتَوَتْ عَلَيْهَا احْتِوَاءَ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا شَيْءٌ. كَمَا تَقُولُ: الْمَالُ فِي الْكِيسِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: عَلَى الْمَالِ كِيسٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَعَدَمِ الْحُصُولِ دَلَالَةَ الْوِعَاءِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا، فَهُوَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُبَالَغَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَتَرَى الْمَطَابِيعَ، يَعْنِي مِنَ الْعَرَبِ وَشُعَرَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي شِعْرِ حَبِيبٍ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُهُمْ كَثْرَةَ صَنْعَةِ الْبَدِيعِ فِيهِ قَالُوا: وَأَحْسَنُهُ مَا جَاءَ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 88. (2) سورة الكهف: 18/ 57.

مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي هَلَاكِنَا إِنَّا عَامِلُونَ فِي هَلَاكِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اعْمَلْ لِإِلَهِكَ الَّذِي أَرْسَلَكَ، فَإِنَّنَا عَامِلُونَ لِآلِهَتِنَا الَّتِي نَعْبُدُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اعْمَلْ عَلَى مُقْتَضَى دِينِكَ، وَنَحْنُ نَعْمَلُ عَلَى مُقْتَضَى دِينِنَا، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْمَلْ لِآخِرَتِكَ، فَإِنَّا نَعْمَلُ لِدُنْيَانَا. وَلَمَّا كَانَ الْقَلْبُ مَحَلَّ الْمَعْرِفَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ مُعِينَانِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ، ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَحْجُوبَةٌ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا مِمَّا يُلْقِيهِ الرَّسُولُ شَيْءٌ. وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ، أَيْ تَكُونُ مُتَارَكَةً مَحْضَةً، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِخْفَافًا. قُلْ إِنَّما، يُوحى إِلَيَّ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ عَلَى الْأَمْرِ، وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: قَالَ فعلا ماضي، وَهَذَا صَدْعٌ بِالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ: يُوحِي بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ لَا مَلَكٌ، لَكِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ دُونَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَّمَهُ تَعَالَى التَّوَاضُعَ، وَأَنَّهُ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَرَفْضِ آلِهَتِكُمْ. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ: أَيْ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الدِّينِ وَالْعَمَلِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ: وَاسْأَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ، إذا هِيَ رَأَسُ الْعَمَلِ الَّذِي بِحُصُولِهِ تَزُولُ التَّبِعَاتُ. وَضَمَّنَ اسْتَقِيمُوا مَعْنَى التَّوَجُّهِ، فَلِذَلِكَ تَعَدَّى بِإِلَى، أَيْ وَجِّهُوا اسْتِقَامَتَكُمْ إِلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ نَاطِقًا بِأَنَّ السَّعَادَةَ مَرْبُوطَةٌ بِأَمْرَيْنِ: التَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ، ذَكَرَ أَنَّ الْوَيْلَ وَالثُّبُورَ وَالْحُزْنَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُعَظِّمُوا اللَّهَ فِي تَوْحِيدِهِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ، وَلَمْ يُشْفِقُوا عَلَى خَلْقِهِ بِإِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، وَأَضَافُوا إِلَى ذَلِكَ إِنْكَارَ الْبَعْثِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّكَاةَ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ، قَالَ: كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَلَا يُزَكُّونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَقِيلَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تُطْعِمُ الْحَاجَّ وَتَحْرِمُ مَنْ آمَنْ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: الْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكَاةِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: الزَّكَاةُ هُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ التَّوْحِيدُ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «1» ، ويرجع هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ الْآيَةَ مِنْ أَوَّلِ الْمَكِّيِّ، وَزَكَاةُ الْمَالِ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَإِنَّمَا هَذِهِ زَكَاةُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، أَيْ تَطْهِيرٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الزَّكَاةُ هُنَا النَّفَقَةُ فِي الطَّاعَةِ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتِ الزَّكَاةُ الْمُرَادُ بِهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ، فَإِنَّمَا قُرِنَ بِالْكُفْرِ، لِكَوْنِهَا شَاقَّةً بِإِخْرَاجِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَحْبُوبُ الطِّبَاعِ وَشَقِيقُ الْأَرْوَاحِ حَثًّا عَلَيْهَا. قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: وَقَالُوا شَقِيقُ الرُّوحِ مَالُكُ فَاحْتَفِظْ ... بِهِ فَأَجَبْتُ الْمَالُ خَيْرٌ من الروح

_ (1) سورة النازعات: 79/ 18.

أَرَى حِفْظَهُ يُفْضِي بِتَحْسِينِ حَالَتِي ... وَتَضْيِيعَهُ يُفْضِي لِتَسْآلٍ مَقْبُوحٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى إِذَا عَجَزُوا عَنْ إِكْمَالِ الطَّاعَاتِ، كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ كَأَصَحِّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَالْمَمْنُونُ: الْمَنْقُوصُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ذُو الْأَصْبَغِ الْعَدْوَانِيُّ: إِنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ ... عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَضْلُ الْجَوَادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا ... يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا وَلَا نَزِقَا وَقِيلَ: لَا يُمَنُّ بِهِ لِأَنَّ أُعْطِيَاتِ اللَّهِ تَشْرِيفٌ، وَالْمَنُّ إِنَّمَا يَدْخُلُ أُعْطِيَاتِ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: لا بمن بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا بِمَنِّ التَّفْضِيلِ، فَأَمَّا الْآخَرُ فَحَقٌّ أَدَاؤُهُ، نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَشْنِيعٍ عليهم، يكفر مَنْ أَوْجَدَ الْعَالَمَ سُفْلِيَّهُ وَعُلْوِيَّهُ، وَوَصَفَ صُورَةَ خَلْقِ ذَلِكَ وَمُدَّتَهُ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ فِي مُدَّةٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُوجِدَ ذَلِكَ دُفْعَةً وَاحِدَةً. فَذَكَرَ تَعَالَى إِيجَادَ ذَلِكَ مُرَتَّبًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ مَا ابْتُدِئَ فِيهِ الْخَلْقُ، وَمَا خُلِقَ مَرَتَّبًا. وَمَعْنَى فِي يَوْمَيْنِ: فِي مِقْدَارِ يَوْمَيْنِ. وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً: أَيْ أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْأَصْنَامِ يَعْبُدُونَهَا دُونَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَكْفَاءٌ مِنَ الرِّجَالِ يُطِيعُونَهُمْ، وَتَجْعَلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَتَكْفُرُونَ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقْتَضِي الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ، ذلِكَ أَيْ مُوجِدُ الْأَرْضِ وَمُخْتَرِعُهَا، رَبُّ الْعالَمِينَ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي جَعَلْتُمْ لَهُ وَغَيْرِهِمْ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ: إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَلَيْسَ مِنَ الصِّلَةِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَتَكْفُرُونَ. وَبارَكَ فِيها: أَكْثَرَ فِيهَا خَيْرَهَا. وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها: أَيْ أَرْزَاقَ سَاكِنِيهَا وَمَعَايِشَهُمْ، وَأَضَافَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ هِيَ فِيهَا وَعَنْهَا بَرَزَتْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَقْوَاتَهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالصُّخُورِ وَالْمَعَادِنِ، وَالْأَشْيَاءِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْأَرْضِ وَمَصَالِحُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَقْوَاتَهَا مِنَ الْمَطَرِ وَالْمِيَاهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: خَصَائِصُهَا الَّتِي قَسَّمَهَا فِي الْبِلَادِ مِمَّا خَصَّ بِهِ كُلَّ إِقْلِيمٍ، فَيَحْتَاجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي التفوّت مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَطَاعِمِ وَالنَّبَاتِ. فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ: أَيْ فِي تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِالْيَوْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فذلكة لِمُدَّةِ خَلْقِ

اللَّهِ وَمَا فِيهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَامِلَةٍ مُسْتَوِيَةٍ بِلَا زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، يُرِيدُ بِالتَّتِمَّةِ الْيَوْمَيْنِ. انْتَهَى، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: بَنَيْتُ جِدَارَ بَيْتِي فِي يَوْمٍ، وَأَكْمَلْتُ جَمِيعَهُ فِي يَوْمَيْنِ، أَيْ بِالْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَيُفْقَهُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي أربعة أيام فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي يَوْمَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي يَوْمَيْنِ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ. أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْأَرْضِ وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً، دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ مُسْتَغْرَقَةٌ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ. انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ وَأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةٌ تَقْتَضِي الاستغراق، وكذلك اليومين يَقْتَضِيَانِهِ، وَمَتَى كَانَ الظَّرْفُ مَعْدُودًا، كَانَ الْعَمَلُ فِي جَمِيعِهِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعْمِيمِ، نَحْوَ: سِرْتُ يَوْمَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا، نَحْوَ: تَهَجَّدْتُ لَيْلَتَيْنِ، فَاحْتُمِلَ الِاسْتِغْرَاقُ، وَاحْتُمِلَ فِي بَعْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّيْلَتَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ الْخَلْقُ لِلْأَرْضِ فِي بَعْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يكون اليومين مُسْتَغْرِقَيْنِ لِخَلْقِهَا، فَكَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَحْتِمَلُ الِاسْتِغْرَاقَ، وَأَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبَرَكَةِ وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ وَقَعَ فِي بَعْضِ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَمَا قَالَه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ لَمْ تَظْهَرْ بِهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ: أَيْ هُوَ سَوَاءٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَعِيسَى وَيَعْقُوبُ: بِالْخَفْضِ نَعْتًا لِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ سَوَاءً لِمَنْ سَأَلَ عَنِ الْأَمْرِ وَاسْتَفْهَمَ عَنْ حَقِيقَةِ وُقُوعِهِ وَأَرَادَ الْعِبْرَةَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَجِدُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أَمْرُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنَفْعُهَا لِلْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا مِنَ الْبَشَرِ، فَعَبَّرَ بِالسَّائِلِينَ عَنِ الطَّالِبِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ وَلَا بُدَّ طَلَبُ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، إِذْ هُمْ بِحَالِ حَاجَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: لِلسَّائِلِينَ؟ قُلْتُ: بِمَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ هَذَا الْحَصْرُ لِأَجْلِ مَنْ سَأَلَ فِي كَمْ خُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا، أَوْ يُقَدِّرُ، أَوْ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا لِأَجْلِ الطَّالِبِينَ لَهَا الْمُحْتَاجِينَ الْمُقْتَاتِينَ. انْتَهَى، وَهُوَ رَاجِعٌ لِقَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَلَمَّا شَرَحَ تَخْلِيقَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، أَتْبَعَهُ بِتَخْلِيقِ السَّمَاءِ فَقَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: أَيْ قَصَدَ إِلَيْهَا وَتَوَجَّهَ دُونَ إِرَادَةِ تَأْثِيرٍ فِي غَيْرِهَا، وَالْمَعْنَى: إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا السَّمَاءُ كَانَتْ دُخَانًا. وَفِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي يَزْعُمُ الْيَهُودُ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ إِنَّ عَرْشَهُ تَعَالَى كَانَ عَلَى الماء قبل خلق السموات وَالْأَرْضِ، فَأَحْدَثَ اللَّهُ فِي

ذَلِكَ سُخُونَةً، فَارْتَفَعَ زَبَدٌ وَدُخَانٌ، أَمَّا الزَّبَدُ فَبَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ الْيُبُوسَةَ وَأَحْدَثَ مِنْهُ الْأَرْضَ وَأَمَّا الدُّخَانُ فَارْتَفَعَ وَعَادَ فَخَلَقَ اللَّهُ منه السموات. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُظْلِمَةٍ. انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ جِسْمًا رِخْوًا كَالدُّخَانِ أَوِ الْبُخَارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا لَفْظٌ مَتْرُوكٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَتَقْدِيرُهُ: فَأَوْجَدَهَا وَأَتْقَنَهَا وَأَكْمَلَ أُمُورَهَا، وَحِينَئِذٍ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا. انتهى، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء، وَرُجِّحَ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا نَطَقَتَا نُطْقًا حَقِيقِيًّا، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا حَيَاةً وَإِدْرَاكًا يَقْتَضِي نُطْقَهُمَا، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُمَا عَنِ اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ وَالتَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ، قَالَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَدْفَعُهُ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْقُدْرَةَ فِيهِ أَظْهَرُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَعْنِي أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِالْإِتْيَانِ وَامْتِثَالُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ تَكْوِينَهُمَا، فَلَمْ يَمْتَنِعَا عَلَيْهِ، وَوُجِدَتَا كَمَا أَرَادَهُمَا، وَجَاءَتَا فِي ذَلِكَ كالمأمور المطيع، إذ أورد عَلَيْهِ فِعْلُ الْآمِرِ فِيهِ. عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَقَالَ لَهُمَا: ائْتِيا، شِئْتُمَا ذَلِكَ أَوْ أَبَيْتُمَا، فَقَالَتَا: آتَيْنَا عَلَى الطَّوْعِ لَا عَلَى الْكُرْهِ. وَالْغَرَضُ تَصْوِيرُ أَثَرِ قُدْرَتِهِ فِي الْمَقْدُورَاتِ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَقِّقَ شَيْءٌ مِنَ الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ: لِمَ تَشُقُّنِي؟ قَالَ الْوَتِدُ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي، فَلَمْ يَتْرُكْنِي وَرَاءَ الْحَجَرِ الَّذِي وَرَائِي. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ ذَكَرَ السَّمَاءَ مَعَ الْأَرْضِ وَانْتَظَمَهُمَا فِي الْأَمْرِ بِالْإِتْيَانِ، وَالْأَرْضُ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ السَّمَاءِ بِيَوْمَيْنِ؟ قُلْتُ: قَدْ خَلَقَ جَرْمَ الْأَرْضِ أَوَّلًا غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ دَحَاهَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «1» ، فَالْمَعْنَى: ائْتِيَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَأْتِيَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ وَالْوَصْفِ ائْتِ يَا أَرْضُ مَدْحُوَّةً قَرَارًا وَمِهَادًا لِأَهْلِكِ، وَائْتِ يَا سَمَاءُ مُقَبَّبَةً سَقْفًا لَهُمْ. وَمَعْنَى الْإِتْيَانِ: الْحُصُولُ وَالْوُقُوعُ، كَمَا يَقُولُ: أَتَى عَمَلُهُ مَرْضِيًّا مَقْبُولًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لِتَأْتِ كُلُّ وَاحِدَةٍ صَاحِبَتَهَا الْإِتْيَانَ الَّذِي أُرِيدُهُ وَتَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، وَالتَّدْبِيرُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ قَرَارًا لِلسَّمَاءِ، وَكَوْنِ السَّمَاءِ سَقْفًا لِلْأَرْضِ، وَيَنْصُرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: أَتَيَا وأتينا مِنَ الْمُوَاتَاةِ، وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ، أَيْ لِتُوَاتِ كُلُّ وَاحِدَةٍ أُخْتَهَا وَلْتُوَافِقْهَا، قَالَتَا: وَافَقْنَا وَسَاعَدْنَا. وَيَحْتَمِلُ وَافِقَا أَمْرِي وَمَشِيئَتِي وَلَا تَمْتَنِعَا. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؟ قُلْتُ: هُوَ مَثَلٌ لِلُزُومِ تَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فِيهِمَا، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمَا مِنْ تَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ مُحَالٌ، كَمَا يَقُولُ الْجَبَّارُ لِمَنْ يُحِبُّ

_ (1) سورة النازعات: 79/ 30.

بَلْوَهُ: لَتَفْعَلَنَّ هَذَا شِئْتَ أَوْ أَبَيْتَ، وَلَتَفْعَلَنَّهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ طَائِعَتَيْنِ عَلَى اللَّفْظِ أَوْ طَائِعَتَانِ عَلَى الْمَعْنَى لأنهما سموات وَأَرَضُونَ؟ قُلْتُ: لَمَّا جُعِلَتْ مُخَاطَبَاتٍ وَمُجِيبَاتٍ، وَوُصِفَتْ بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ، قِيلَ: طَائِعِينَ فِي مَوْضِعِ طَائِعَاتٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: سَاجِدِينَ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ائْتِيَا مِنَ الْإِتْيَانِ، أَيِ ائْتِيَا أَمْرِي وَإِرَادَتِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جبير وَمُجَاهِدٌ: أَتَيَا عَلَى وَزْنِ فَعَلَا، قَالَتَا: أَتَيْنَا عَلَى وَزْنِ فَعَلْنَا، مِنْ آتَى يُؤْتِي، كَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَذَلِكَ بِمَعْنَى أَعْطِيَا مِنْ أَنْفُسِكُمَا مِنَ الطَّاعَةِ مَا أَرَدْتُهُ مِنْكُمَا، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا كُلِّهِ إِلَى تَسْخِيرِهَا وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِهَا. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُوَاتَاةِ، وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ، فَيَكُونُ وَزْنُ آتِيَا: فَاعِلَا، وَآتَيْنَا: فَاعَلْنَا، وَتَقَدَّمَهُ إِلَى ذَلِكَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ قَالَ: آتَيْنَا بِالْمَدِّ عَلَى فَاعَلْنَا مِنَ الْمُوَاتَاةِ، وَمَعْنَاهُ: سَارَعْنَا عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِيتَاءِ الَّذِي هُوَ الْإِعْطَاءُ لِبُعْدِ حَذْفِ مَفْعُولِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَوْ كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لُغَةٌ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْقُوعِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَاعِيَةِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْكُرْهَ بِالضَّمِّ مَعْنَاهُ الْمَشَقَّةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ قَالَتَا، أَرَادَ الْفِرْقَتَيْنِ المذكورتين: جعل السموات سَمَاءً، وَالْأَرَضِينَ أَرْضًا، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَوْمِي ... وَقَوْمِكَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَا وَعَبَّرَ عَنْهَا بِتَبَايَنَتَا. انْتَهَى. هَذَا وَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَرْضِ مُفْرَدَةً وَالسَّمَاءُ مُفْرَدٌ لِحُسْنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْبَيْتُ هُوَ مِنْ وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ حَبْلِي قَوْمِي وَقَوْمُكَ؟ وَلِذَلِكَ ثَنَّى فِي قَوْلِهِ: تَبَايَنَتَا، وَأَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الْحَبْلِ، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ الْحَبْلَ حَقِيقَةً، إِنَّمَا عَنَى بِهِ الذِّمَّةَ وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قَوْمِهِمَا. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَبَارَكَ فِيهَا، ثُمَّ أَوْجَدَ السَّمَاءَ مِنَ الدُّخَانِ فسواها سبع سموات، فَيَكُونُ خَلْقُ الْأَرْضِ مُتَقَدِّمًا عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوُ الْأَرْضِ غَيْرُ خَلْقِهَا، وَقَدْ تَأَخَّرَ عَنْ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنْ جَعْلَ الرَّوَاسِيَ فِيهَا وَالْبَرَكَةَ. وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُهَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَتِ الْأَرْضُ مَوْجُودَةً. وَقَوْلُهُ: وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها مُفَسَّرٌ بِخَلْقِ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فِيهَا، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا مُنْبَسِطَةً. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، فَاقْتَضَى خَلْقَ السَّمَاءِ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَدَحْوِهَا. وَأَوْرَدَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لِلسَّمَاءِ

وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، كِنَايَةٌ عَنْ إِيجَادِهِمَا، فَلَوْ سَبَقَ إِيجَادُ الْأَرْضِ عَلَى إِيجَادِ السَّمَاءِ لَاقْتَضَى إِيجَادَ الْمَوْجُودِ بِأَمْرِهِ لِلْأَرْضِ بِالْإِيجَادِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدِ انْتَهَى هَذَا الْإِيرَادُ. وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاءَ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ، فَأَضْمَرَ فِيهِ كَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «1» مَعْنَاهُ: إِنْ يَكُنْ سَرَقَ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فَقُدِّرَ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ، لِأَنَّ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّأَخُّرَ، وَكَانَ تَقْتَضِي التَّقَدُّمَ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُفِيدُ التَّنَاقُضَ، وَنَظِيرُهُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا الْيَوْمَ، ثُمَّ ضَرَبْتُ عَمْرًا أَمْسَ. فَكَمَا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ، فَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ يَعْنِي مِنْ تَأْوِيلِ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى، قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: خَلْقُ السَّمَاءِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ. وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ أَنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ التَّكْوِينِ، وَالْإِيجَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» ، وَهَذَا مُحَالٌ، لَا يُقَالُ لِلشَّيْءِ الَّذِي وُجِدَ كُنْ، بَلِ الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى حُكْمُهُ أَنْ سَيُوجَدَ، وَقَضَاؤُهُ بِذَلِكَ بِمَعْنَى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَقَضَاؤُهُ بِأَنْ سَيَحْدُثَ كَذَا، أَيْ مُدَّةَ كَذَا، لَا يَقْتَضِي حُدُوثُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، فَلَا يَلْزَمُ تَقْدِيمُ إِحْدَاثِ الْأَرْضِ عَلَى إِحْدَاثِ السَّمَاءِ. انْتَهَى. وَالَّذِي نَقُولُهُ: أَنَّ الْكُفَّارَ وَبَّخُوا وَقَرَّعُوا بِكُفْرِهِمْ بِمَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ جَمِيعُهَا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ زَمَانِيٍّ، وَأَنَّ ثُمَّ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الزَّمَانِ، وَالْمُهْلَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَالَّذِي أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تَعَرُّضَ فِي الْآيَةِ لِتَرْتِيبٍ، أَيْ ذَلِكَ وَقَعَ التَّرْتِيبُ الزَّمَانِيُّ لَهُ. وَلَمَّا كَانَ خَلْقُ السَّمَاءِ أَبْدَعَ فِي الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، أَلَّفَ الْأَخْبَارَ فِيهِ بثم، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «3» بَعْدَ قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ «4» . وَمِنْ تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ «5» بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ «6» . وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ، بَعْدَ إِخْبَارِهِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ، تَصْوِيرًا لِخَلْقِهِمَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى، كَقَوْلِكَ: أَرَأَيْتَ الَّذِي أَثْنَيْتَ عَلَيْهِ فَقُلْتَ إِنَّكَ عَالِمٌ صَالِحٌ؟ فَهَذَا تَصْوِيرٌ لِمَا أَثْنَيْتَ بِهِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ. فَكَذَلِكَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ خَلَقَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَحَدَّ ذَلِكَ إِيجَادًا لَمْ يَتَخَلَّفْ عن إرادته. ويدل

_ (1) سورة يوسف: 12/ 77. (2) سورة آل عمران: 3/ 59. (3) سورة البلد: 90/ 17. (4) سورة البلد: 90/ 11. (5) سورة الأنعام: 6/ 154. (6) سورة الأنعام: 6/ 151. [.....]

عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ بِوُقُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ زَمَانِيٍّ قَوْلُهُ فِي الرَّعْدِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها «1» الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً «2» الْآيَةَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا جَعْلُ الرَّوَاسِي، وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ قَبْلَ الِاسْتِوَاءِ إِلَى السَّمَاءِ وَخَلْقِهَا، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَتَيْنِ الْإِخْبَارُ بِصُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَرْتِيبٍ زَمَانِيٍّ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى يَوْمَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ سِتَّةٍ إِنَّمَا الْمَعْنَى فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ، لَا أَنَّهُ كَانَ وَقْتَ إِيجَادِ ذَلِكَ زَمَانٌ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ: أَيْ صَنَعَهُنَّ وَأَوْجَدَهُنَّ، كَقَوْلِ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنِعُ السَّوَابِغِ تبع وَعَلَى هَذَا انْتَصَبَ سَبْعَ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَفْعُولٌ ثَانٍ، كَأَنَّهُ ضَمَّنَ قَضَّاهُنَّ مَعْنَى صَيَّرَهُنَّ فَعَدَّاهُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مبهما مفسرا سبع سموات عَلَى التَّمْيِيزِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ مُبْهَمًا، لَيْسَ عَائِدًا عَلَى السَّمَاءِ، لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الْحَالِ أَوِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى الْمَعْنَى. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَأَوْحَى إِلَى سُكَّانِهَا وَعَمَرَتِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَيْهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا مَا شَاءَ تَعَالَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هي قوامها وصلاحها، وقال السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ بِغَيْرِهَا مِثْلَ مَا فِيهَا مِنْ جِبَالِ الْبَرْدِ وَنَحْوِهَا، وَأَضَافَ الْأَمْرَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَرَهَا مَا أَمَرَ بِهِ فِيهَا وَدَبَّرَهُ مِنْ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّيِّرَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَحِفْظاً: أَيْ وَحَفَّظْنَاهَا حِفْظًا مِنْ الْمُسْتَرِقَةِ بِالثَّوَاقِبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: وَخَلَقْنَا الْمَصَابِيحَ زِينَةً وَحِفْظًا انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي، وَتَكَلُّفِهِ مَعَ ظُهُورِ الْأَوَّلِ وَسُهُولَتِهِ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، أَيْ أَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَعِزِّهِ وَعِلْمِهِ. فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ

_ (1) سورة الرعد: 13/ 2. (2) سورة الرعد: 13/ 3.

لَا يُنْصَرُونَ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. فَإِنْ أَعْرَضُوا: الْتِفَاتٌ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ في قوله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْ خِطَابِهِمْ، إِذْ كَانُوا قَدْ ذُكِّرُوا بِمَا يَقْتَضِي إِقْبَالَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ مِنَ الْحُجَجُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ: أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ، صاعِقَةً أَيْ حُلُولَ صَاعِقَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: عَذَابًا مِثْلَ عَذَابِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَذَابًا شَدِيدَ الْوَقْعِ، كَأَنَّهُ صَاعِقَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِغَيْرِ أَلِفٍ فِيهِمَا وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ. وَالصَّعْقَةُ: الْمَرَّةُ، يُقَالُ: صَعَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ فَصُعِقَ، وَهُوَ مِنَ بَابِ فَعَلَتْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، فَفُعِلَ بِكَسْرِهَا نَحْوُ: خَدَعَتْهُ فَخُدِعَ، وَإِذْ مَعْمُولَةٌ لصاعقة لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْعَذَابُ. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ قَبْلِهِمْ وَبَعْدِهِمْ، أَيْ قَبْلِ هُودٍ وَصَالِحٍ وَبَعْدِهِمَا. وَقِيلَ: مَنْ أُرْسِلَ إِلَى آبَائِهِمْ وَمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ مَعْنَاهُ: مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ مَعْنَاهُ: الرُّسُلُ الَّذِينَ بِحَضْرَتِهِمْ. فَالضَّمِيرُ فِي مِنْ خَلْفِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَتَبِعَهُ الْفَرَّاءُ، وَسَيَأْتِي عَنِ الطَّبَرِيِّ نَحْوٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: أَيْ تَقَدَّمُوا فِي الزَّمَنِ وَاتَّصَلَتْ نِذَارَتُهُمْ إِلَى أَعْمَارِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَبِهَذَا الِاتِّصَالِ قَامَتِ الْحُجَّةُ. وَمِنْ خَلْفِهِمْ: أَيْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ بَعْدَ تَقَدُّمِ وُجُودِهِمْ فِي الزَّمَنِ، وَجَاءَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعِبَارَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّ الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ عَمَّتْهُمْ خبر وَمُبَاشَرَةً. انْتَهَى، وَهُوَ شَرْحُ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ: أَيْ آتَوْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاجْتَهَدُوا بِهِمْ وَأَعْمَلُوا فِيهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ، فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُمْ إِلَّا الْعُتُوَّ وَالْإِعْرَاضَ. كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ «1» : أَيْ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنْذَرُوهُمْ مِنْ وَقَائِعِ اللَّهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا حَذَّرُوهُمْ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءُوهُمْ بِالْوَعْظِ مِنْ جِهَةِ الزَّمَنِ الْمَاضِي وَمَا جَرَى فِيهِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمُسْتَقْبَلِ وَمَا سَيَجْرِي عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ خَلْفِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، وَفِي: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْأُمَمِ، وَفِيهِ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 17.

خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ فِي تَفْرِيقِ الضَّمَائِرِ وَتَعْمِيَةِ الْمَعْنَى، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَجَاءَتْهُمْ مِنْ خَلْفِ الرُّسُلِ، أَيْ مِنْ خَلْفِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يُتَعَقَّلُ إِلَّا إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ يَعُودُ فِي خَلْفِهِمْ عَلَى الرُّسُلُ لَفْظًا، وَهُوَ يَعُودُ عَلَى رُسُلٍ أُخْرَى مَعْنًى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِ رُسُلٍ آخَرِينَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ عَادٌ وَثَمُودُ لِعِلْمِ قُرَيْشٍ بِحَالِهِمَا، وَلِوُقُوعِهِمْ عَلَى بِلَادِهِمْ فِي الْيَمَنِ وَفِي الْحِجْرِ، وَقَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ: أَضْحَوْا كَقِيلِ بْنِ عَنْزٍ فِي عَشِيرَتِهِ ... إِذْ أُهْلِكَتْ بِالَّذِي سَدَّى لَهَا عَادُ أَوْ بَعْدَهُ كَقُدَارٍ حِينَ تَابَعَهُ ... عَلَى الْغِوَايَةِ أَقْوَامٌ فَقَدْ بادوا أَلَّا تَعْبُدُوا: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، لِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ جَاءَتْهُمْ مُخَاطِبَةً وَأَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ بِأَنَّهُ لَا تَعْبُدُوا، وَالنَّاصِبَةُ لِلْمُضَارِعِ، وَوُصِلَتْ بِالنَّهْيِ كَمَا تُوصَلُ بِإِلَّا، وَفِي نَحْوِ: أَنْ طَهِّرا «1» ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ، ولا في هذه الأوجه لِلنَّهْيِ. وَيَجُوزُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ تَكُونَ لَا نَافِيَةً، وأن نَاصِبَةً لِلْفِعْلِ، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا إِرْسَالَ الرُّسُلِ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً. انْتَهَى. وَتَتَبَّعْتُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ فَوَجَدْتُهُ لَا يَكُونُ مَحْذُوفًا إِلَّا مِنْ جِنْسِ الْجَوَابِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «2» : أَيْ لَوْ شَاءَ جَمْعَهُمْ عَلَى الْهُدَى لَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً «3» ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «4» ، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ «5» ، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ «6» ، لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ «7» . قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ عُمَرَ بْنَ مَرْثَدِ وَقَالَ الرَّاجِزُ: وَاللَّذُ لَوْ شَاءَ لَكُنْتُ صَخْرًا ... أَوْ جَبَلًا أَشَمَّ مُشْمَخِرَّا فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ، لَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وإنما التقدير:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 125. (2) سورة الأنعام: 6/ 35. (3) سورة الواقعة: 56/ 65. (4) سورة الواقعة: 56/ 70. (5) سورة يونس: 10/ 99. (6) سورة الأنعام: 6/ 112. (7) سورة النحل: 16/ 35.

لَوْ شَاءَ رَبُّنَا إِنْزَالَ مَلَائِكَةٍ بِالرِّسَالَةِ مِنْهُ إِلَى الْإِنْسِ لَأَنْزَلَهُمْ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إِرْسَالِ الْبَشَرِ، إِذْ عَلَّقُوا ذَلِكَ بِأَقْوَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَشَاءُ ذَلِكَ فِي الْبَشَرِ؟ فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ: خِطَابٌ لِهُودٍ وَصَالِحٍ وَمَنْ دَعَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَغَلَّبَ الْخِطَابَ عَلَى الْغَيْبَةِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَقُومَانِ. وما مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِإِرْسَالِكُمْ، وَبِهِ تَوْكِيدٌ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَفَرُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْإِرْسَالُ، كَانَ كُفْرًا بِالْإِرْسَالِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: بِما أُرْسِلْتُمْ إِقْرَارًا بِالْإِرْسَالِ، بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَيْ بِمَا أُرْسِلْتُمْ عَلَى زَعْمِكُمْ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «1» . وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى كُفْرَ عَادٍ وَثَمُودَ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ خَاصِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا: أَيْ تَعَاظَمُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَعَنْ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، بِغَيْرِ الْحَقِّ: أَيْ بِغَيْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ. وَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، وَكَانَ فِعْلًا قَلْبِيًّا، ذَكَرَ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِعْلِ اللِّسَانِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنْ مَا فِي الْقَلْبِ، وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً: أَيْ لَا أَحَدَ أَشَدُّ مِنَّا، وَذَلِكَ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ عِظَمِ الْخَلْقِ وَشَدَّةِ الْبَطْشِ. فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَمَعَ عِلْمِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، كَانُوا يَجْحَدُونَهَا وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِهَا، كَمَا يَجْحَدُ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ مِنْ طَالِبِهَا مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهَا. وَلَفْظَةُ كَانَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ تُشْعِرُ بِالْمُدَاوَمَةِ، وَعَبَّرَ بِالْقُوَّةِ عَنِ الْقُدْرَةِ، فَكَمَا يُقَالُ: اللَّهُ أَقْدَرُ مِنْهُمْ، يُقَالُ: اللَّهُ أَقْوَى مِنْهُمْ. فَالْقُدْرَتَانِ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَإِنْ تَبَايَنَتِ الْقُدْرَتَانِ بِمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَاصَّةِ. كَمَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ، وَيُوصَفُ الْإِنْسَانُ بِالْعِلْمِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَصَابَ بِهِ عَادًا فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ خَزَنَةَ الرِّيحِ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمْ قَدْرَ حَلْقَةِ الْخَاتَمِ، وَلَوْ فَتَحُوا قَدْرَ مِنْخَرِ الثَّوْرِ لَهَلَكَتِ الدُّنْيَا» . وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الْعِيرَ بَأَوْقَادِهَا، فَتَرْمِيهِمْ فِي الْبَحْرِ. وَالصَّرْصَرُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدَةُ السَّمُومِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: مِنَ الصِّرِّ، أَيْ بَارِدَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالطَّبَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: مِنْ صَرْصَرَ إِذَا صَوَّتَ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: صَرْصَرَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الصَّرَّةِ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُ: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ «2» . وَصَرْصَرٌ: نَهْرٌ بِالْعِرَاقِ. وقرأ الحرميان،

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 27. (2) سورة الذاريات: 51/ 29.

وَأَبُو عَمْرٍو، وَالنَّخَعِيُّ، وَعِيسَى، وَالْأَعْرَجُ نَحْسَاتٍ، بِسُكُونِ الْحَاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وُصِفَ بِهِ وَتَارَةً يُضَافُ إِلَيْهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِنْ فَعَّلَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: نَحُسَ وَنَحِسَ: مَقَتَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُخَفَّفُ نَحَّسَ، أَوْ صِفَةً عَلَى فُعْلٍ، أَوْ وَصْفٌ بِمَصْدَرٍ. انْتَهَى. وَتَتَبَّعْتُ مَا ذَكَرَهُ التَّصْرِيفِيُّونَ مِمَّا جَاءَ صِفَةً مِنْ فَعَلَ اللَّازِمِ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ فَعْلًا بِسُكُونِ الْعَيْنِ، قَالُوا: يَأْتِي عَلَى فَعِلَ كَفَرِحَ وَهُوَ فَرِحٌ، وَعَلَى أَفْعَلُ حَوَرَ فَهُوَ أَحْوَرُ، وَعَلَى فَعْلَانِ شَبِعَ فَهُوَ شَبْعَانُ، وَقَدْ يَجِيءُ عَلَى فَاعِلٍ سَلِمَ فَهُوَ سَالِمٌ، وَبَلِيَ فَهُوَ بَالٍ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَفِعْلُهُ نَحِسَ عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، ونحسات صفة لأيام جُمِعَ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ، لِأَنَّهُ جَمْعُ صِفَةٍ لِمَا لَا يَعْقِلُ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ: مَشَائِيمُ مِنَ النَّحْسِ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَدِيدَةُ الْبَرْدِ، وَحَتَّى كَانَ الْبَرْدُ عَذَابًا لَهُمْ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ فِي النَّحْسِ بِمَعْنَى الْبَرْدِ: كَأَنَّ سُلَافَةً عَرَضَتْ بِنَحْسٍ ... يَخِيلُ شَقِيقُهَا الْمَاءَ الزُّلَالَا وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا ذَاتُ غُبَارٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: قَدْ أَغْتَدِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ... لِلصَّيْدِ فِي يَوْمٍ قَلِيلِ النَّحْسِ يُرِيدُ: قَلِيلِ الْغُبَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مُتَتَابِعَاتٍ كَانَتْ آخِرَ شَوَّالٍ مِنْ أَرْبِعَاءَ إِلَى أَرْبِعَاءَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَوَّلُهَا غَدَاةَ يَوْمِ الْأَحَدِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: يَوْمُ الْجُمْعَةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: يَوْمُ الْأَحَدِ. لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: وَهُوَ الهلاك. وقرىء: لِتُذِيقَهُمْ بِالتَّاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْإِذَاقَةِ لِلرِّيحِ، أَوْ لِلْأَيَّامِ النَّحِسَاتِ. وَأَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى الْخِزْيِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ أُخْرَى الَّتِي تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ وَالتَّفْصِيلَ خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، أَوْ وَصْفُ الْعَذَابِ بِالْخِزْيِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِهِ. أَلَا تَرَى تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ قَوْلِكِ: هُوَ شَاعِرٌ، وَقَوْلِهِ: لَهُ شِعْرُ شَاعِرٍ؟ وَقَابَلَ اسْتِكْبَارَهُمْ بِعَذَابِ الْخِزْيِ، وَهُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ. وَبَدَأَ بِقِصَّةِ عَادٍ، لِأَنَّهَا أَقْدَمُ زَمَانًا، ثُمَّ ذَكَرَ ثَمُودَ فَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالرَّفْعِ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ: مَصْرُوفًا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ فِي ثَمُودٌ بِالتَّنْوِينِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ «1» ، لِأَنَّهُ فِي

_ (1) سورة الإسراء: 18/ 59.

المصحف بغير ألف. وقرىء: ثَمُودَ بِالنَّصْبِ مَمَنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْأَعْمَشُ: ثَمُودًا مُنَوَّنَةً مَنْصُوبَةً. وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ الْوَجْهَيْنِ. انْتَهَى. فَهَدَيْناهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: بَيَّنَّا لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ الْهُدَى هُنَا بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَتَبِعَهُ الزمخشري: فهديناهم: فذللناهم عَلَى طَرِيقِ الضَّلَالَةِ وَالرُّشْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» . فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى: فَاخْتَارُوا الدُّخُولَ فِي الضَّلَالَةِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الرُّشْدِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ مَعْنَى هَدَيْتُهُ: حَصَلَتْ فِيهِ الْهُدَى، الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُكَ: هَدَيْتُهُ فَاهْتَدَى بِمَعْنَى تَحْصِيلِ الْبُغْيَةِ وَحُصُولِهَا؟ كَمَا تَقُولُ: رَدَعْتُهُ فَارْتَدَعَ، فَكَيْفَ سَاغَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّلَالَةِ الْمُجَرَّدَةِ؟ قُلْتُ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مَكَّنَهُمْ وَأَزَاحَ عِلَلَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا عِلَّةٌ، فَكَأَنَّهُ حَصَّلَ الْبُغْيَةَ فِيهِمْ بِتَحْصِيلِ مَا يُوجِبُهَا وَيَقْتَضِيهَا. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: دَعَوْنَاهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَعْلَمْنَاهُمُ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَاسْتَحَبُّوا عِبَارَةٌ عَنْ تَكَسُّبِهِمْ فِي الْعَمَى، وَإِلَّا فَهُوَ بِالِاخْتِرَاعِ لِلَّهِ، وَيَدُلُّكُ عَلَى أَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَكَسُّبِهِمْ قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. انتهى. والهون: الْهَوَانُ، وُصِفَ الْعَذَابُ بِالْمَصْدَرِ أَوْ أُبَدِلَ مِنْهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ: عَذَابُ الْهَوَانِ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَأَلْفٍ بَعْدَ الْوَاوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ حُجَّةٌ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بشهادة نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَى بِهِ شَاهِدًا إِلَّا هَذِهِ، لَكَفَى بِهَا حُجَّةً. انْتَهَى، عَلَى عَادَتِهِ فِي سَبِّ أَهْلِ السُّنَّةِ. ثُمَّ ذَكَّرَ قُرَيْشًا بِنَجَاةِ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى. قِيلَ: وَكَانَ مَنْ نَجَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ هُودٌ وَصَالِحٌ مِائَةٌ وَعَشَرَةُ أَنْفُسٍ. وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ، وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً

_ (1) سورة البلد: 90/ 10. [.....]

شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ، ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ. لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ عُقُوبَةِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَرْدَفَهُ بِكَيْفِيَّةِ عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ أُولَئِكَ وَغَيْرِهِمْ. وَانْتَصَبَ يوم باذكر. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُحْشَرُ مَبْنِيًّا للمفعول، وأَعْداءُ رَفْعًا، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَنَافِعٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: بِالنُّونِ أَعْدَاءً نَصْبًا، وَكَسَرَ الشِّينَ الْأَعْرَجُ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى يُوزَعُونَ في النمل، وحَتَّى: غاية ليحشروا، أَعْداءُ اللَّهِ: هُمُ الْكُفَّارُ من الأولين والآخرين، وما بَعْدَ إِذَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى التَّأْكِيدِ فِيهَا أَنَّ وَقْتَ مَجِيئِهِمُ النَّارَ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا وَجْهَ لِأَنْ يَخْلُو مِنْهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ «1» : أَيْ لَا بُدَّ لِوَقْتِ وُقُوعِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ إِيمَانِهِمْ بِهِ. انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي أَنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ مَا بَعْدَ إذ التَّوْكِيدُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ بِغَيْرِ مَا، كَانَ بِلَا شَكٍّ حُصُولُ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَأَخُّرٍ، لِأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ ظَرْفٌ، فَالشَّهَادَةُ وَاقِعَةٌ فِيهِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: حَتَّى إِذا ما جاؤُها، أَيْ النَّارَ، وَسُئِلُوا عَمَّا أَجْرَمُوا فَأَنْكَرُوا، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا اكْتَسَبُوا مِنَ الْجَرَائِمِ، وَكَانُوا حَسِبُوا أَنْ لَا شَاهِدَ عَلَيْهِمْ. فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَخِذُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ تَنْطِقُ الْجَوَارِحُ فَيَقُولُ: تَبًّا لَكِ، وَعَنْكِ كُنْتُ أُدَافِعُ» . وَلَمَّا كَانْتِ الْحَوَّاسُّ خَمْسَةٌ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ، وَكَانَ الذَّوْقُ مُنْدَرِجًا فِي اللَّمْسِ، إِذْ بِمُمَاسَّةِ جِلْدَةِ اللِّسَانِ وَالْحَنَكِ لِلْمَذُوقِ يَحْصُلُ إِدْرَاكُ الْمَذُوقِ، وَكَانَ حُسْنُ الشَّمِّ لَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، اقْتَصَرَ مِنَ الْحَوَاسِّ عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللَّمْسِ، إِذْ هَذِهِ هِيَ الَّتِي جَاءَ فِيهَا التَّكْلِيفُ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَاسَّةَ الشَّمِّ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ، فَهَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حِكْمَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُلُودَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ. وَقِيلَ: هِيَ الْجَوَارِحُ كَنَّى بِهَا عَنْهَا. وَقِيلَ: كَنَّى بِهَا عَنِ الْفُرُوجِ. قِيلَ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا كَنَّى عَنِ النِّكَاحِ بِالسِّرِّ. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْجَرَائِمِ. ثُمَّ سَأَلُوا جُلُودَهُمْ عَنْ سَبَبِ شَهَادَتِهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تَذْكُرْ سَبَبًا غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أنطقها.

_ (1) سورة يونس: 10/ 51.

وَلَمَّا صَدَرَ مِنْهَا مَا صَدَرَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ، خَاطَبُوهَا بِقَوْلِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ؟ مُخَاطَبَةَ الْعُقَلَاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لِمَ شَهِدْتُنَّ؟ بضمير المؤنثات. وكُلَّ شَيْءٍ: لَا يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ، بَلِ الْمَعْنَى: كُلُّ نَاطِقٍ بِمَا ذَلِكَ لَهُ عَادَةً، أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ خَرْقَ عَادَةٍ. وَقَالَ الزمخشري: أراد بكل شَيْءٍ: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، كَمَا أَرَادَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» ، مِنَ الْمَقْدُورَاتِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُطْقَنَا لَيْسَ بِعَجَبٍ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِنْطَاقِ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَعَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْشَائِكُمْ، وَعَلَى إِعَادَتِكُمْ وَرَجْعِكُمْ إِلَى جَزَائِهِ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا لما تعاظمهم مِنَ شَهَادَتِهَا وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِافْتِضَاحِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَوَارِحِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ وَكَيْفَ تَنْطِقُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُنْطِقُهَا، كَمَا أَنْطَقَ الشَّجَرَةَ بِأَنْ يَخْلُقَ فِيهَا كَلَامًا. انْتَهَى، وَهَذَا الرَّجُلُ مُولَعٌ بِمَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، يُدْخِلَهُ فِي كُلِّ مَا يَقْدِرُ أَنَّهُ يُدْخِلُ. وَإِنَّمَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَمَا أَنْطَقَ الشَّجَرَةَ بِأَنْ يَخْلُقَ فِيهَا كَلَامًا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا الشَّجَرَةُ هِيَ الَّتِي سَمِعَ مِنْهَا الْكَلَامَ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيهَا كَلَامًا خَاطَبَتْهُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ مِنْ كَلَامِ الْجَوَارِحِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَوْبِيخًا لَهُمْ، أَوْ مِنْ كَلَامِ مَلَكٍ يَأْمُرُهُ تعاليه. وأَنْ يَشْهَدَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: خِيفَةً أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَشْهَدَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرُ عَالِمَيْنِ بِأَنَّهَا تَشْهَدُ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ، فَانْهَمَكْتُمْ وَجَاهَدْتُمْ، وَإِلَى هَذَا نَحَا مُجَاهِدٌ، وَالسِّتْرُ يَأْتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَالسِّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ وَمَا ... يَلْقَاكَ دُونَ الْخَيْرِ مِنَ سِتْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: عَنْ أَنْ يَشْهَدَ، أَيْ وَمَا كُنْتُمْ تَمْتَنِعُونَ، وَلَا يُمْكِنُكُمِ الِاخْتِفَاءُ عَنْ أَعْضَائِكُمْ وَالِاسْتِتَارُ عَنْهَا بِكُفْرِكُمْ وَمَعَاصِيكُمْ، وَلَا تَظُنُّونَ أَنَّهَا تَصِلُ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْكُمْ، وَإِلَى هَذَا نَحَا السُّدِّيُّ، أَوْ مَا كُنْتُمْ تَتَوَقَّعُونَ بِالِاخْتِفَاءِ وَالسِّتْرِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْجَوَارِحَ لَزِيمَةً لَكُمْ. وَعَبَّرَ قَتَادَةُ عَنْ تَسْتَتِرُونَ بِتَظُنُّونَ، أَيْ وَمَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنْ يَشْهَدَ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ مُرَادَفَةُ اللَّفْظِ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً، وَهُوَ الْخَفِيَّاتُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، وَهَذَا الظَّنُّ كُفْرٌ وَجَهْلٌ بِاللَّهِ وَسُوءُ مُعْتَقَدٍ يُؤَدِّي إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالشَّكِّ فِي عِلْمِ الْإِلَهِ. وَذلِكُمْ: إشارة إلى ظنهم أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ مبتدأ خبره أَرْداكُمْ، وظَنُّكُمُ بَدَلٌ مِنْ ذلِكُمْ أَيْ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 284.

وَظَنُّكُمْ بِرَبِّكُمْ ذَلِكُمْ أَهْلَكَكُمْ. وقال الزمخشري: وظنكم وأرداكم خَبْرَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرْدَاكُمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ظَنُّكُمْ بِرَبِّكُمْ خَبَرًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى ظَنِّهِمُ السَّابِقِ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَظَنُّكُمْ بِأَنَّ رَبَّكُمْ لَا يَعْلَمُ ظَنَّكُمْ بِرَبِّكُمْ، فَاسْتُفِيدَ مِنَ الْخَبَرِ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَصَارَ نَظِيرَ مَا مَنَعَهُ النُّحَاةُ مِنْ قَوْلِكَ: سَيِّدُ الْجَارِيَةِ مَالِكُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَوَّزَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَرْدَاكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ وُقُوعَ الْمَاضِي حَالًا إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بقد، وَقَدْ يَجُوزُ تَقْدِيرُهَا عِنْدَهُمْ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ. انْتَهَى. وَقَدْ أَجَازَ الْأَخْفَشُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وُقُوعَ الْمَاضِي حَالًا بِغَيْرِ تَقْدِيرِ قَدْ وَهُوَ الصَّحِيحُ، إِذْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ كَثْرَةً تُوجِبُ الْقِيَاسَ، وَيَبْعُدُ فِيهَا التَّأْوِيلُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثْرَةَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ) . فَإِنْ يَصْبِرُوا: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أولا يَصْبِرُوا، كَقَوْلِهِ: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ، «1» وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا عَلَى تَرْكِ دِينِكَ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ: أَيْ مَكَانُ إِقَامَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ: اسْمُ مَفْعُولٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ يَعْتَذِرُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمَعْذُورِينَ وَقِيلَ: وَإِنْ طَلَبُوا الْعُتْبَى، وَهِيَ الرِّضَا، فَمَا هُمْ مِمَّنْ يُعْطَاهَا وَيَسْتَوْجِبُهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنِ، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَمُوسَى الْأَسْوَارِيُّ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا: مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ، فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ: اسْمُ فَاعِلٍ، أَيْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ، فَمَا هُمْ فَاعِلُونَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَدْ فَارَقُوا الدُّنْيَا دَارَ الأعمال، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ» . وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: أَمِنَ المنون وريبة تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِمَعْنَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي الْكُفْرِ فَقَالَ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ: أَيْ سَبَّبْنَا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا. وَقِيلَ: سَلَّطْنَا وَوَكَّلْنَا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: قَدَّرْنَا لَهُمْ. وَقُرَنَاءُ: جَمْعُ قَرِينٍ، أَيْ قُرَنَاءَ سُوءٍ مِنْ غُوَاةِ الْجِنِ وَالْإِنْسِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ: أَيْ حَسَّنُوا وَقَدَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ

_ (1) سورة الطور: 52/ 16.

مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ أَمْرِ الْآخِرَةِ، أَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَلَا بَعْثَ. وَما خَلْفَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ وَلَذَّاتِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: أَعْمَالُهُمُ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا، وَما خَلْفَهُمْ: مَا هُمْ عَامِلُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، مِنْ مُعْتَقَدَاتِ السُّوءِ فِي الرُّسُلِ وَالنُّبُوَّاتِ وَمَدْحِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَاتِّبَاعِ فِعْلِ الْآبَاءِ، وَما خَلْفَهُمْ: مَا يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَالْمَعَادِ. انْتَهَى، مُلَخَّصًا، وَهُوَ شَرْحُ قَوْلِ الْحَسَنِ، قَالَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُقَيِّضَ لَهُمُ الْقُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ يَنْهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِمْ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَذَلَهُمْ وَمَنَعَهُمُ التَّوْفِيقَ لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ قُرَنَاءُ سِوَى الشَّيَاطِينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً «1» . انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: أَيْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ الْمُحَتِّمُ، بِأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ. فِي أُمَمٍ: أَيْ فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُو ... كًا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا أَيْ: فَأَنْتَ فِي جُمْلَةِ آخَرِينَ، أَوْ فَأَنْتَ فِي عَدَدِ آخَرِينَ، لَسْتَ فِي ذَلِكَ بِأَوْحَدَ. وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ، وَلَا حَاجَةَ لِلتَّضْمِينِ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَى فِي. وَمَوْضِعُ فِي أُمَمٍ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ: الضَّمِيرُ لَهُمْ وَلِلْأُمَمِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا: أَيْ لَا تُصْغُوا، لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ: إِذَا تَلَاهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَقَعُوا فِيهِ وَعِيبُوهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَرَأَ فِي الْمَسْجِدِ أَصْغَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَخَشِيَ الْكُفَّارُ اسْتِمَالَةَ الْقُلُوبِ بِذَلِكَ فَقَالُوا: مَتَى قَرَأَ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَلْنَلْغَطْ نَحْنُ بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالصِّيَاحِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْأَرْجَازِ حَتَّى يَخْفَى صَوْتُهُ ، وَهَذَا الْفِعْلُ هُوَ اللَّغْوُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْفَرَّاءُ: بِفَتْحِ الْغَيْنِ مُضَارِعُ لَغِيَ بِكَسْرِهَا وَبَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ. وَأَمَّا فِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ، فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، بِضَمِّ الْغَيْنِ مُضَارِعُ لَغَى بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، أَيْ ادخلوا فيه

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 36.

اللَّغْوَ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْقَوْلِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ لَغَا يَلْغَى بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَقِيَاسُهُ الضَّمُّ، لَكِنَّهُ فُتِحَ لِأَجْلِ حَرْفِ الْحَلْقِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنْ يَلْغِي. وَالثَّانِيَةُ مِنْ يَلْغُو. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ مِنْ لَغَى بِالشَّيْءِ يَلْغَى بِهِ إِذَا رَمَى بِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى بِهِ، أَيْ ارْمُوا بِهِ وَانْبُذُوهُ. لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ: أَيْ تَطْمِسُونَ أَمْرَهُ وَتُمِيتُونَ ذِكْرَهُ. فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِقُرَيْشٍ، وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ فِي الدُّنْيَا كَوَقْعَةِ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا، وَالْأَسْوَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَشَمَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْقَائِلِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا. ذلِكَ: أَيْ جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَالنَّارُ بَدَلٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، وجزاء مبتدأ والنار خبره. لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ: أَيْ فَكَيْفَ قِيلَ فِيهَا؟ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا دَارُ الْخُلْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «1» ، وَالرَّسُولُ نَفْسُهُ هُوَ الْأُسْوَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، وَمَجَازُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُجْعَلُ الشَّيْءُ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ، بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ صَارَ الشَّيْءُ مُسْتَقِرًّا لَهُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقِ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِيَّةِ عَنْهُ: جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ جَزَاءَهُمْ بِمَا كَانُوا يَلْغُونَ فِيهَا، فَذَكَرَ الْجَحُودَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ اللَّغْوِ. وَلَمَّا رَأَى الْكُفَّارُ عِظَمَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ عَذَابِ النَّارِ، سَأَلُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ يُرِيَهُمْ مَنْ كَانَ سَبَبَ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ يُرَادُ بِهِمَا الْجِنْسُ، أَيْ كُلُّ مُغْوٍ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمَا إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ، إِبْلِيسُ سَنَّ الْكُفْرَ، وَقَابِيلُ سَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ. قِيلَ: وَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ؟ عَنْ عَلِيٍّ: وَقَابِيلُ مُؤْمِنٌ عَاصٍ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا الْمُضِلِّينَ بِالْكُفْرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْخُلُودِ ، وَقَدْ أَصْلَحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ قَالَ: طَلَبَ قَابِيلُ كُلَّ عَاصٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَطَلَبَ إِبْلِيسُ كُلَّ كَافِرٍ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَنْبُو عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَعَنْ إِصْلَاحِهِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ أَرِنَا فِي قَوْلِهِ: وَأَرِنا مَناسِكَنا «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَكَوْا عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَرِنِي ثَوْبَكَ بِالْكَسْرِ، فَالْمَعْنَى: بَصَّرْنِيهِ، وَإِذَا قَلَتْهُ بِالسُّكُونِ، فَهُوَ اسْتِعْطَاءٌ مَعْنَاهُ: أَعْطِنِي ثَوْبَكَ وَنَظِيرُهُ اشْتِهَارُ الْإِيتَاءِ فِي مَعْنَى الإعطاء، وأصله الإحضار.

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 21. (2) سورة البقرة: 2/ 128.

انْتَهَى. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا: يُرِيدُونَ فِي أَسْفَلِ طَبَقَةٍ مِنَ النَّارِ، وَهِيَ أَشَدُّ عَذَابًا، وَهِيَ دَرْكُ الْمُنَافِقِينَ. وَتَشْدِيدُ النُّونِ فِي اللَّذَيْنِ وَاللَّتَيْنِ وَهَذَيْنِ وَهَاتَيْنِ حَالَةَ كَوْنِهِمَا بِالْيَاءِ لَا تُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ فِي السَّبْعَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ، وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيقِ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: رَبُّنَا اللَّهُ، وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُهُ، وَهَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَهُ. وَالْيَهُودُ: رَبُّنَا اللَّهُ، وَالْعُزَيْرُ ابْنُهُ، وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَلَمْ يَسْتَقِيمَا، وَالصِّدِّيقُ قَالَ: رَبُّنَا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَاسْتَقَامَ. وَلَمَّا أَطْنَبَ تَعَالَى فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ، أَرْدَفَهُ بِوَعِيدِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ التَّلَفُّظُ بِالْقَوْلِ فَقَطْ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْمُطَابِقِ لِلْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالَّذِي هُوَ أَمْكَنُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، قَلْتُ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ» قُلْتُ: مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: «هَذَا» وَعَنِ الصِّدِّيقِ: ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى التَّوْحِيدِ، لَمْ يَضْطَرِبْ إِيمَانُهُمْ. وَعَنْ عُمَرَ: اسْتَقَامُوا لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ لَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وَعَنْ عُثْمَانَ: أَخْلَصُوا الْعَمَلَ. وَعَنْ عَلِيٍّ: أَدَّوُا الْفَرَائِضَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالسُّدِّيُّ: اسْتَقَامُوا عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالْعَمَلِ إِلَى الْمَوْتِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَمِلُوا عَلَى وِفَاقِ مَا قَالُوا. وَقَالَ الْفَضْلُ: زَهِدُوا فِي الْفَانِيَةِ وَرَغِبُوا فِي الْبَاقِيَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: أَعْرَضُوا عَنْ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: اسْتَقَامُوا فِعْلًا كَمَا اسْتَقَامُوا قَوْلًا. وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ: اسْتَقَامُوا بِالطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وثم لِتَرَاخِي الِاسْتِقَامَةِ عَنِ الْإِقْرَارِ فِي

الْمَرْتَبَةِ وَفَضَّلَهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ لَهَا الشَّأْنُ كُلُّهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا «1» ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ ثَبَتُوا عَلَى الْإِقْرَارِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ. وَعَنِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَاهَا ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِيهَا؟ قَالُوا: لَمْ يُذْنِبُوا، قَالَ: حَمَلْتُمُ الْأَمْرَ عَلَى أَشَدِّهِ، قَالُوا: فَمَا تَقُولُ؟ قَالَ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. انْتَهَى. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عِنْدَ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: عِنْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْقَبْرِ، وَعِنْدَ الْبَعْثِ. وَأَنْ نَاصِبَةٌ لِلْمُضَارِعِ، أَيْ بِانْتِفَاءِ خَوْفِكُمْ وَحُزْنِكُمْ، قَالَ مَعْنَاهُ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى أَيْ أَوِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَصْلُهُ بِأَنَّهُ لَا تَخَافُوا، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْفِعْلُ مَجْزُومًا بِلَا النَّاهِيَةِ، وَهَذِهِ آيَةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ هَمٍّ مُسْتَأْنَفٍ وَتَسْلِيَةٍ تَامَّةٍ عَنْ كُلِّ فَائِتٍ مَاضٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَخَافُوا مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ مِنْ دُنْيَاكُمْ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رباح: أَلَّا تَخافُوا رَدَّ ثَوَابِكُمْ، فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ وَلا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبِكُمْ، فَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكُمْ. وَفِي قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا تَخَافُوا، بِإِسْقَاطِ أَنْ، أَيْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ قَائِلِينَ: لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا. وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنَ الْمَكْرُوهِ أَعْظَمَ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى الْفَائِتِ قَدَّمَهُ، ثُمَّ لَمَّا وَقْعَ الْأَمْنُ لَهُمْ، بُشِّرُوا بِمَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْنِ التَّامِّ وَالسُّرُورِ الْعَظِيمِ بِمَا سَيَفْعَلُونَ مِنَ الْخَيْرِ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ يَقُولُونَ لَهُمْ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ قَبْلُ، أَيْ نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْآخِرَةِ. لَمَّا كَانَ أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَانَ أَوْلِيَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَحْنُ حَفَظَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْلِيَاؤُكُمْ بِالْكِفَايَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَلَكُمْ فِيها : الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْآخِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: عَلَى الْجَنَّةِ، مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ مِنَ الْمَلَاذِّ، وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ . قَالَ مُقَاتِلٌ: مَا تَتَمَنُّونَ. وَقِيلَ: مَا تُرِيدُونَ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: مَا تَدَّعِي أَنَّهُ لَكَ، فَهُوَ لَكَ بِحُكْمِ رَبِّكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا تَطْلُبُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ النُّزُلُ: الرِّزْقُ الْمُقَدَّمُ لِلنَّزِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَطَاءٍ، فَيَكُونُ نُزُلًا حَالًا، أَيْ تُعْطَوْنَ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِ نُزُولًا لَا نُزُلًا، وَجَعْلَهُ بَعْضُهُمْ مَصْدَرًا لِأَنْزَلَ. وَقِيلَ نُزُلٌ جَمْعُ نازل، كشارف

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 15.

وَشُرُفٍ، فَيَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ نَازِلِينَ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يَدَّعُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى نُزُلًا مِنَّا، وَقِيلَ: ثَوَابًا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: نُزْلًا بِإِسْكَانِ الزَّايِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا، ذَكَرَ مَنْ دَعَا إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا: أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَيُصَرِّحُ أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ الْمُنْقَادِينَ لَهُ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ دَاعٍ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى الْعُمُومِ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَجَمَاعَةٌ. وَقِيلَ بِالْخُصُوصِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامَ نِحْلَةً. وَعَنْهُ أَيْضًا: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ قَوْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْآيَةِ، وَإِلَّا فَالسُّورَةُ بِكَمَالِهَا مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ بِمَكَّةَ، إِنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ يَكُونُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَكَفِّ الظَّلَمَةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: دَعَا إِلَى اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ عَلَى بَعْضِ الظَّلَمَةِ مِنْ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ. وَكَانَ زَيْدٌ هَذَا عَالِمًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ تَفْسِيرِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَإِلْقَائِهِ عَلَى بَعْضِ النَّقْلَةِ عَنْهُ وَهُوَ فِي حَبْسِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَفِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ حَظٌّ وَافِرٌ، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا تَنَاظَرَ هُوَ وَأَخُوهُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْمَحَابِرِ يَكْتُبُونَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمَا مِنَ الْعِلْمِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَعَمِلَ صالِحاً: صَلَّى بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: صَلَّى وَصَامَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَدَّى الْفَرَائِضَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ مُوَحِّدًا مُعْتَقِدًا لِدِينِ الْإِسْلَامِ، عَامِلًا بِالْخَيْرِ دَاعِيًا إِلَيْهِ، وَمَآلُهُمْ إِلَى طَبَقَةِ الْعَالِمِينَ الْعَامِلِيَنَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ الدُّعَاةِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. انْتَهَى، وَيَعْنِي بِذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةَ، يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ الْمُعْتَزِلِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ (الْفَلَكِ الدَّائِرِ فِي الرَّدِّ عَلَى كِتَابِ الْمَثَلِ السَّائِرِ) ، قَالَ مِنْ كَلَامِهِ: أَنْشَدَنَا عَنْهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمْ أُخْفِ صُرْعَتِي ... لَيْسَتْ كَمَا قَالَ فَتَى الْعَبْدِ أَنْ أَنْصُرَ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ فِي ... كُلِّ مَقَامٍ بَاذِلًا جُهْدِي وَأَنْ أُنَاجِيَ اللَّهَ مُسْتَمْتِعًا ... بِخَلْوَةٍ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ

وَأَنْ أَصُولَ الدَّهْرَ كِبْرًا عَلَى ... كُلِّ لَئِيمٍ أَصْعَرِ الْخَدِّ لِذَاكَ أَهْوَى لَا فَتَاةَ وَلَا ... خَمْرَ وَلَا ذِي مَيْعَةٍ نَهْدِ وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهَذَا، بَلْ جَعَلَ الْإِسْلَامَ مُعْتَقَدَهُ. كَمَا تَقُولُ: هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، أَيْ مَذْهَبُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ نُوحٍ عَنْ قُتَيْبَةَ الْمَيَّالِ: وَقَالَ إِنِّي، بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْجُمْهُورُ: إِنَّنِي بِهَا وَبَنُونِ الْوِقَايَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يُشْتَرَطْ إِلَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: أَنَا مُسْلِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ، ذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى اللَّهِ قَدْ يُجَافِيهِ الْمَدْعُوُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفِقَ بِهِ وَيَتَلَطَّفَ فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ فِيهِ. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَ عَدُوًّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَ وَلِيًّا مُصَافِيًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَسَنَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالسَّيِّئَةُ الشِّرْكُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الدَّعْوَتَانِ إِلَيْهِمَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحِلْمُ وَالْفُحْشُ. وَعَنْ عَلِيٍّ: حُبُّ الرَّسُولِ وَآلِهِ وَبُغْضُهُمْ. وَقِيلَ: الصَّبْرُ وَالنُّفُورُ. وَقِيلَ: الْمُدَارَاةُ وَالْغِلْظَةُ. وَقِيلَ: الْعَفْوُ وَالِاقْتِصَادُ، وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْحَصْرِ. وَلَمَّا تَفَاوَتَتِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ، أَمَرَ أَنْ يَدْفَعَ السَّيِّئَةَ بِالْأَحْسَنِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةً، وَلَمْ يَقُلْ: ادْفَعْ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، لِأَنَّ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْأَحْسَنِ هَانَ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْحَسَنِ، أَيْ وَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ صَارَ لَكَ كَالْوَلِيِّ: الصديق الخالص الصداقة، وَلَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا السَّيِّئَةُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ «1» ، لِأَنَّ اسْتَوَى لَا يَكْتَفِي بِمُفْرَدٍ، فَإِنَّ إِحْدَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ جِنْسٌ لَمْ تَكُنْ زِيَادَتُهَا كَزِيَادَتِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَاتُ، إِذْ هِيَ مُتَفَاوِتَاتٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَلَا السَّيِّئَاتُ لِتَفَاوُتِهَا أَيْضًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلَتْ كَأَنَّ لِلتَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ عَدَاوَةٌ لَا يَعُودُ وَلِيًّا حَمِيمًا، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ظَاهِرُهُ، فَيُشْبِهُ بِذَلِكَ الْوَلِيَّ الْحَمِيمَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمُ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ: السَّلَامُ عِنْدَ اللِّقَاءِ. انْتَهَى، أَيْ هُوَ مَبْدَأُ الدَّفْعِ بِالْأَحْسَنِ، لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ فِيهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ. وقال أبو فراس الحمداني: يَجْنِي عَلَيَّ وَأَجْنُو صَافِحًا أَبَدًا ... لَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ جَانٍ عَلَى جَانِ

_ (1) سورة فاطر: 35/ 21.

وَما يُلَقَّاها: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْفِعْلَةِ وَالسَّجِيَّةِ الَّتِي هِيَ الدَّفْعُ بِالْأَحْسَنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: وَمَا يلاقاها: مِنَ الْمُلَاقَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنَ التَّلَقِّي، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ الشَّرِيفَةَ غَائِبَةٌ، فَمَا يُصَادِفُهَا وَيُلَقِّيهَا اللَّهُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ صَابِرًا عَلَى الطَّاعَاتِ، صَارِفًا عَنِ الشَّهَوَاتِ، ذَا حَظٍّ عَظِيمٍ مِنَ خِصَالِ الْخَيْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَيَكُونُ مَدْحًا أَوْ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، فَيَكُونُ وَعْدًا. وَقِيلَ: إِلَّا ذُو عَقْلٍ. وَقِيلَ: ذُو خُلُقٍ حَسَنٍ، وَكَرَّرَ وَما يُلَقَّاها تَأْكِيدًا لِهَذِهِ الْفِعْلَةِ الْجَمِيلَةِ الْجَلِيلَةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يُلَقَّاهَا عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ. وَحَكَى مَكِّيٌّ: وَما يُلَقَّاها: أَيْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِدَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالْأَحْسَنِ، كَانَ قَدْ يَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مُقَابَلَةُ مَنْ أَسَاءَ بِالسَّيِّئَةِ، فَأَمَرَهُ، إِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ، أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ هُوَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، أَرْدَفَهُ بِذَكَرِ الدَّلَائِلِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَحُجَّتِهِ الْقَاطِعَةِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ اللَّيْلِ، قِيلَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورُ وُجُودٌ، وَنَاسَبَ ذِكْرُ الشَّمْسِ بَعْدَ النَّهَارِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَنْوِيرِهِ وَيَظْهَرُ الْعَالَمُ فِيهِ، وَلِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي التَّنْوِيرِ مِنَ الْقَمَرِ، وَلِأَنَّ الْقَمَرَ فِيمَا يَقُولُونَ مُسْتَفَادٌ نُورُهُ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ. ثُمَّ نَهَى تَعَالَى عَنِ السُّجُودِ لَهُمَا، وَأَمَرَ بِالسُّجُودِ لِلْخَالِقِ تَعَالَى. وَكَانَ نَاسٌ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُنَّ عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ حُكْمَ جَمَاعَةِ مَا لَا يَعْقِلُ حُكْمُ الْأُنْثَى، أَيِ الْإِنَاثِ، يُقَالُ: الْأَقْلَامُ بَرَيْتُهَا وَبَرَيْتُهُنَّ. انْتَهَى، يُرِيدُ مَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الذَّكَرِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَفْصَحَ أَنْ يَكُونَ كَضَمِيرِ الْوَاحِدَةِ، تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتْ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَالْجُذُوعُ انْكَسَرْنَ عَلَى الْأَفْصَحِ. وَالَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ بِجَمْعِ قِلَّةٍ، أَعْنِي بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَرْبَعَةً مُتَعَاطِفَةً، فَتَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمَّا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ، كُنَّ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ، فَقِيلَ: خَلَقَهُنَّ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّ التَّقْدِيرَ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَاتٌ مِنْ آيَاتِهِ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى آيَاتٍ الْجَمْعِ الْمُقَدَّرِ فِي الْمَجْرُورِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَقِيلَ: عَلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالِاثْنَانِ جَمْعٌ، وَجَمْعُ مَا

لَا يَعْقِلُ يُؤَنَّثُ، وَمِنْ حَيْثُ يُقَالُ شُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ لِاخْتِلَافِهِمَا بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، سَاغَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُوَحِّدِينَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ، وَالسَّجْدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: تَعْبُدُونَ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ لِذِكْرِ لَفْظِ السَّجْدَةِ قَبْلَهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا يَسْأَمُونَ، لِأَنَّهَا تَمَامُ الْمَعْنَى، وَفِي التَّحْرِيرِ: كَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَسْجُدَانِ عِنْدَ تَعْبُدُونَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَالشَّافِعِيُّ: عِنْدَ يَسْأَمُونَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَجَدَ عِنْدَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو وَائِلٍ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالسُّلَمِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَابْنِ سِيرِينَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا: أَيْ تَعَاظَمُوا عَلَى اجْتِنَابِ مَا نَهَيْتُ مِنَ السُّجُودِ لِهَذَيْنِ الْمُحْدَثَيْنِ الْمَرْبُوبَيْنِ، وَامْتِثَالِ مَا أَمَرْتُ بِهِ مِنَ السُّجُودِ لِلْخَالِقِ لَهُنَّ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْمَكَانَةِ وَالرُّتْبَةِ الشَّرِيفَةِ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ مَا لَا يَلِيقُ بِكِبْرِيَائِهِ، وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ: أَيْ لَا يَمَلُّونَ ذَلِكَ، وَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِكُمْ وَعِبَادَتِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ الدَّلَائِلِ الْعُلْوِيَّةِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ الدَّلَائِلِ السُّفْلِيَّةِ فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً: أَيْ غَبْرَاءَ دَارِسَةً، كَمَا قَالَ: وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَبْلَمُ خَاشِعُ اسْتُعِيرَ الْخُشُوعُ لَهَا، وَهُوَ التَّذَلُّلُ لِمَا ظَهَرَ بِهَا مِنَ الْقَحْطِ وَعَدَمِ النَّبَاتِ وَسُوءِ الْعَيْشِ عَنْهَا، بِخِلَافِ أَنْ تَكُونَ مُعْشِبَةً وَأَشْجَارًا مُزْهِرَةً وَمُثْمِرَةً، فَذَلِكَ هُوَ حَيَاتُهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَاشِعَةً مَيْتَةً يَابِسَةً، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ، اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ تَفْسِيرًا وَقِرَاءَةً فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْحَجِّ. إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى: يَرُدُّ الْأَرْوَاحَ إِلَى الْأَجْسَادِ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ. إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ، وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى دِينِ اللَّهِ أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، وَأَنَّهُ يُحْصُلُ ذَلِكَ بِذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْبَعْثِ، عَادَ إِلَى تَهْدِيدِ مَنْ يُنَازِعُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ وَيُجَادِلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِلْحَادِ فِي قَوْلِهِ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ «1» ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُنَا الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ، وَمُجَاهِدٌ: الْمُكَاءُ وَالصَّفِيرُ وَاللَّغْوُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَضْعُ الْكَلَامِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: يَمِيلُونَ عَنْ آيَاتِنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُعَانِدُونَ رُسُلَنَا فِيمَا جَاءُوا فِيهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْآيَاتِ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ تَقْرِيرًا: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ، بِإِلْحَادِهِ فِي آيَاتِنَا، خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً، وَلَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ وَالْإِتْيَانِ آمِنًا، لَكِنَّهُ، كَمَا قُلْنَا، اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، كَمَا يُقِرِّرُ الْمَنَاظِرُ خَصْمَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا فَاسِدٌ يَرْجُو أَنْ يَقَعَ فِي الْفَاسِدِ فَيَتَّضِحُ جَهْلُهُ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: يُلْقى فِي النَّارِ عَلَى مُسْتَقَرِّ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَبِقَوْلِهِ: آمِناً عَلَى خَوْفِ الْكَافِرِ وَطُولِ وَجَلِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَقِيلَ: فِيهِ وَفِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَقِيلَ: فِيهِ وَفِي عُمَرَ. وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَأَبُو جَهْلٍ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِلْحَادِ، نَاسَبَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ مِنَ التَّقْرِيرِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ. وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ: أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ، كَمَا قَدَّمَ مَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى «2» ، وَكَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «3» . اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ: وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَلِذَا جَاءَ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ: هُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرُهُمْ، وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ هُوَ بِإِجْمَاعٍ، وَخَبَرُ إِنَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَمَذْكُورٌ هُوَ أَوْ مَحْذُوفٌ؟ فَقِيلَ: مَذْكُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فِي حِكَايَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ. سُئِلَ بِلَالٌ فِي مَجْلِسِهِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ لَهَا نَفَاذًا، فَقَالَ لَهُ أبو عمرو: إنه مِنْكَ لِقَرِيبٌ أُولئِكَ يُنادَوْنَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَثْرَةُ الْفَصْلِ، وَأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ مَنْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 180. (2) سورة الرعد: 13/ 19. (3) سورة محمد: 47/ 14.

وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ. وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، وَخَبَرُ إِنَّ يُحْذَفُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى. وَسَأَلَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَمْرٌو: مَعْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ كَفَرُوا بِهِ، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ، فَقَالَ عِيسَى: أَجَدْتَ يَا أَبَا عُثْمَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَقْدِيرُهُ مُعَانِدُونَ أَوْ هَالِكُونَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَدْ سَدَّ مَسَدَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَ إِنَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ. انْتَهَى، كَأَنَّهُ يُرِيدُ: دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ؟ قُلْتُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا. انْتَهَى. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ بِصَرِيحِ الْكَلَامِ فِي خَبَرِ إِنَّ أَمَذْكُورٌ هُوَ أَوْ مَحْذُوفٌ، لَكِنْ قَدْ يُنْتَزَعُ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ، فَالْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ هُوَ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى الْبَدَلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَحْسُنُ فِي هَذَا هُوَ إِضْمَارُ الْخَبَرِ بَعْدَ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وَهُوَ أَشَدُّ إِظْهَارًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ دَاخِلٌ فِي صِفَةِ الذِّكْرِ الْمُكَذَّبِ بِهِ، فَلَمْ يَتِمَّ ذِكْرُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ وَصْفِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ الْخَبَرَ مَذْكُورٌ، لَكِنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ عَائِدٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ: أَيِ الْبَاطِلُ مِنْهُمْ، أَيْ الْكَافِرُونَ بِهِ، وَحَالَةُ هَذِهِ لَا يَأْتِيهِ بَاطِلُهُمْ، أَيْ متى راموا فِيهِ أَنْ يَكُونَ لَيْسَ حَقًّا ثَابِتًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِبْطَالًا لَهُ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، أَوْ تَكُونُ أَلْ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، أَيْ لَا يَأْتِيهِ بَاطِلُهُمْ، أَوْ يَكُونُ الْخَبَرُ قَوْلَهُ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، أَيْ أَوْحَى إِلَيْكَ فِي شَأْنِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ. وَلِمَا جِئْتَ بِهِ مثل ما أوحي إلى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَاقِبَتُهُمْ سَيِّئَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْهَلَاكِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ. وَغَايَةُ ما في هذين التوجيهين حَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ: أَيْ مَنَوَانٌ مِنْهُ وَالْبُرُّ كُرٌّ بِدِرْهَمٍ: أَيْ كُرٌّ مِنْهُ. وَعَنْ بَعْضِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ: الْخَبَرُ فِي قوله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، وَهَذَا لَا يُتَعَقَّلُ. وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ وَإِنَّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ، وَهَذِهِ حَالُهُ وَعِزَّتُهُ كَوْنُهُ عَدِيمَ النَّظِيرِ لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، أَوْ غَالِبٌ نَاسِخٌ لِسَائِرِ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَزِيزٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مُمْتَنِعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

وَقِيلَ: وُصِفَ بِالْعِزَّةِ لِأَنَّهُ لِصِحَّةِ مَعَانِيهِ مُمْتَنِعٌ الطَّعْنُ فِيهِ وَالْإِزْرَاءُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنَ اللَّهِ، لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ جَعَلَ خَبَرَ إِنَّ مَحْذُوفًا، أَوْ قَوْلَهُ: أُولئِكَ يُنادَوْنَ، كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَمْثِيلٌ: أَيْ لَا يَجِدُ الطَّعْنُ سَبِيلًا إِلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ. وَأَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْ بَعْضِ الْحَمْقَى مِنَ الطَّعْنِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمِنْ تَأْوِيلِ بَعْضِهِمْ لَهُ، كَالْبَاطِنِيَّةِ، فقد رد عليهم ذلك عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرُوا حَمَاقَاتِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ، وَاللَّفْظُ لَا يَخُصُّ الشَّيْطَانَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ: أَيْ كِتَابٌ مِنْ قَبْلِهِ فَيُبْطِلُهُ، وَلَا مِنْ بَعْدِهِ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْبَاطِلُ فِي مَعْنَى الْمُبْطِلِ نَحْوَ: أَوْرَسَ النَّبَاتَ فَهُوَ وَارِسٌ، أَيْ مُورِسٌ، أَوْ يَكُونُ الْبَاطِلُ بِمَعْنَى الْمُبْطَلِ مَصْدَرًا، فَيَكُونُ كَالْعَافِيَةِ. وَقِيلَ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ نُزُولُهُ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ: مِنْ بَعْدِ نُزُولِهِ. وَقِيلَ عَكْسُ هَذَا. وَقِيلَ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ: قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَشَّرَتْ بِهِ، فَلَمْ يَقْدِرِ الشَّيْطَانُ أَنْ يُدْحِضَ ذَلِكَ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ: بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ: لَا يَقْدِرُ ذُو بَاطِلٍ أَنْ يَكِيدَهُ بِتَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ: لَا يَسْتَطِيعُ ذُو بَاطِلٍ أَنْ يُلْحِدَ فِيهِ. تَنْزِيلٌ: أَيْ هُوَ تَنْزِيلٌ، مِنْ حَكِيمٍ: أَيْ حَاكِمٍ أَوْ مُحْكِمٍ لِمَعَانِيهِ، حَمِيدٍ: مَحْمُودٍ عَلَى مَا أَسْدَى لِعِبَادِهِ مِنْ تَنْزِيلِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ. مَا يُقالُ لَكَ: يُقَالُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ اللَّهَ تَعَالَى، كَمَا تَقَدَّمَ تَأْوِيلُهَا فِيهِ، أَيْ مَا يُوحِي إِلَيْكَ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا أوحي إلى الرُّسُلِ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ، كَمَا تَأَوَّلْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ فِي الشَّرَائِعِ. وَجَوَّزُوا عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ. إِنَّ رَبَّكَ: تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: مَا قَدْ قِيلَ، فَالْمَقُولُ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلطَّائِعِينَ، وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لِلْعَاصِينَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ حَصَرَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَإِلَى الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ، وَهُوَ تَعَالَى قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. فَإِذَا أَخَذْنَاهُ عَلَى الشَّرَائِعِ أَوْ عَلَى عَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ كَانَ الْحَصْرُ صَحِيحًا، وَكَانَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنْهُ تَعَالَى لَا تَفْسِيرَ لِمَا قَدْ قِيلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ الْكُفَّارَ، أَيْ مَا يَقُولُ لَكَ كُفَّارُ قَوْمِكَ إِلَّا مَا قَدْ قَالَ كُفَّارُ الرُّسُلِ لَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي وَالطَّعْنِ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ ذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ، وَفِيهِ التَّرْجِئَةُ بِالْغُفْرَانِ، وَالزَّجْرُ بِالْعِقَابِ، وَهُوَ وَعْظٌ وَتَهْدِيدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَزَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ وَسَلَّاهُ بِقَوْلِهِ:

مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَمِثْلُهُ كَذَلِكَ: مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ «1» . وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُلْحِدِينَ فِي آيَاتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ، وَالْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَمَا ظَهَرَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، وقولهم: هل أُنْزِلَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ؟ فَقَالَ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا: أَيْ لَا يُفْصِحُ وَلَا تَبِينُ مَعَانِيهِ لَهُمْ لِكَوْنِهِ بِلُغَةِ الْعَجَمِ أَوْ بِلُغَةِ غَيْرِ الْعَرَبِ، لَمْ يَتْرُكُوا الاعتراض، ولَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ: أَيْ بُيِّنَتْ لَنَا، وَأُوضِحَتْ حَتَّى نَفْهَمَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آعْجَمِيٌّ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا مَدَّةٌ هِيَ هَمْزَةُ أَعْجَمِيٍّ، وَقِيَاسُهَا فِي التَّخْفِيفِ التَّسْهِيلُ بَيْنَ بَيْنَ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَفْصٌ: بِهَمْزَتَيْنِ، أَيْ وَقَالُوا مُنْكِرِينَ: أَقْرَآنٌ أَعْجَمِيٌّ وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ؟ أَوْ مُرْسَلٌ إِلَيْهِ عَرَبِيٌّ؟ وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أن معنى قوله: أَعْجَمِيٌّ، وَنَحْنُ عَرَبٌ مَا لَنَا وَلِلْعُجْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: لَوْلَا بُيِّنَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ مُخْتَلِطٌ هَذَا لَا يَحْسُنُ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّقْسِيمُ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْقُرْآنِ، وَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا، مِنَ اقْتِرَاحِهِمْ أَنْ يَكُونَ أَعْجَمِيًّا، وَلَمْ يَقْتَرِحُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا وَعَرَبِيًّا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَسَلَامٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَامِرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ دُونَ اسْتِفْهَامٍ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: أَعُجْمَةٌ وَإِعْرَابٌ، إِنَّ هَذَا لَشَاذٌّ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ مَعْنَاهُ: لَوْلَا فُصِلَ فَصْلَيْنِ، فَكَانَ بَعْضُهُ أَعْجَمِيًّا يَفْهَمُهُ الْعَجَمُ، وَبَعْضَهُ عَرَبِيًّا يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ، أَعَادُوا الْقَوْلَ ثَانِيًا فَقَالُوا: أَعْجَمِيٌّ، وَأُضْمِرَ الْمُبْتَدَأُ، أَيْ هُوَ أَعْجَمِيٌّ، وَالْقُرْآنُ، أَوِ الْكَلَامُ، أَوْ نَحْوُهَا، وَالَّذِي أَتَى بِهِ، أَوِ الرَّسُولُ عَرَبِيٌّ، كَأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: أَعَجَمِيٌّ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَفَتْحِ الْعَيْنِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةٍ كَائِنَةٍ كَانُوا تَعَنَّتُوا، لِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ الْحَقَّ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَالْعَجَمِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَجَمِ، وَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا إِذَا سُكِّنَتِ الْعَيْنُ فَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ، وَالْيَاءُ فِيهِ بِلَفْظِ النَّسَبِ دُونَ مَعْنَاهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ يَاءِ كُرْسِيٍّ وَبُخْتِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى، وَلَيْسَتْ كَيَاءِ كُرْسِيٍّ بُنِيَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهَا، وَيَاءُ أَعْجَمِيٍّ لَمْ تُبْنَ الْكَلِمَةُ عَلَيْهَا. تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلٌ أَعْجَمُ وَرَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ، فَالْيَاءُ لِلنِّسْبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، نَحْوُ: أَحْمَرِيٌّ وَدُوَارِيٌّ مُبَالَغَةً فِي أَحْمَرَ وَدُوَارٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يراد

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 52.

بِالْعَرَبِيِّ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أُمَّةُ الْعَرَبِ؟ قُلْتُ: هُوَ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَقَعَ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ لَوْ رَأَى كِتَابًا عَجَمِيًّا كُتِبَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَكِتَابٌ عَجَمِيٌّ والمكتوب إليه عربي؟ وذلك لِأَنَّ نَسْخَ الْإِنْكَارِ عَلَى تَنَافُرِ حَالَتَيِ الْكِتَابِ وَالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، لَا عَلَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ وَجَمَاعَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يُجَرَّدَ لِمَا سِيقَ لَهُ مِنَ الْغَرَضِ، ولا يوصل به ما يخل غَرَضًا آخَرَ. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: وَقَدْ رَأَيْتَ لِبَاسًا طَوِيلًا عَلَى امْرَأَةٍ قَصِيرَةٍ، اللِّبَاسُ طَوِيلٌ وَاللَّابِسُ قَصِيرٌ؟ وَلَوْ قُلْتَ: وَاللَّابِسَةُ قَصِيرَةٌ، جِئْتَ بِمَا هُوَ لَكْنَةٌ وَفُضُولُ قَوْلٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ فِي ذُكُورَةِ اللَّابِسِ وَأُنُوثَتِهِ، إِنَّمَا وَقَعَ فِي غَرَضٍ وَرَاءَهُمَا. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ تَكْثِيرًا عَلَى عَادَتِهِ فِي حُبِّ الشَّقْشَقَةِ وَالتَّفَهْيُقِ. قُلْ هُوَ: أَيْ الْقُرْآنُ، لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، هُدًى: أَيْ إِرْشَادٌ إِلَى الْحَقِّ، وَشِفَاءٌ: أَيْ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ الظَّنِّ وَالشَّكِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مبتدأ، وفِي آذانِهِمْ وَقْرٌ هُوَ مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُدًى وَشِفَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَخْبَرَ أَنَّهُ وَقْرٌ وَصَمَمٌ فِي آذَانِهِمْ، أَيْ الْكَافِرِينَ، وَلَا يُضْطَرُّ إِلَى إِضْمَارِ هُوَ، فَالْكَلَامُ تَامٌّ دُونَهُ أَخْبَرَ أَنَّ فِي آذَانِهِمْ صَمَمًا عَنْ سَمَاعِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِمْ عَمًى، يَمْنَعُهُمْ مِنْ إِبْصَارِ حِكْمَتِهِ وَالنَّظَرِ فِي مَعَانِيهِ وَالتَّقْرِيرِ لِآيَاتِهِ، وَجَاءَ بِلَفْظِ عَلَيْهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِيلَاءِ الْعَمَى عَلَيْهِمْ، وَجَاءَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَكَوْنُ وَالَّذِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِلَّذِينِ لَا يُؤْمِنُونَ وَقْرٌ فِي آذَانِهِمْ إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ، وَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ فِي النَّحْوِ، وَالْمَشْهُورُ مَنْعُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمًى بِفَتْحِ الْمِيمِ مُنَوَّنًا: مَصْدَرُ عَمِيَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَمْرٍو، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَابْنُ هُرْمُزٍ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِهِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقَارِئُ، وَأَبُو حَاتِمٍ: لَا نَدْرِي نَوَّنُوا أَمْ فَتَحُوا الْيَاءَ، عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ، رَوَاهَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْوَقْرِ. أُولئِكَ إِشَارَةً إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَبَرًا، لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ. يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يُنَادَوْنَ بِكُفْرِهِمْ وَقُبْحِ أَعْمَالِهِمْ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِمْ مِنْ بُعْدٍ حَتَّى يَسْمَعَ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ فَتَعْظُمُ السُّمْعَةُ عَلَيْهِمْ وَيَحِلُّ الْمُصَابُ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ: اسْتِعَارَةٌ لِقِلَّةِ فَهْمِهِمْ، شَبَّهَهُمْ بِالرَّجُلِ يُنَادَى مِنْ بُعْدٍ، فَيَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا يَفْهَمُ تَفَاصِيلَهُ وَلَا مَعَانِيَهُ. وَحَكَى أَهْلُ

اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلَّذِي لَا يَفْهَمُ: أَنْتَ تُنَادَى مِنْ بَعِيدٍ، أَيْ كَأَنَّهُ يُنَادَى مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ، فَهُوَ لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ وَلَا يَفْهَمُهُ. وَحَكَى النَّقَّاشُ: كَأَنَّمَا يُنَادَوْنَ مِنَ السَّمَاءِ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ فِي كَوْنِ قَوْمِهِ اضْطَرَبُوا فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الذِّكْرِ، فَذَكَرَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُوتِيَ الْكِتَابَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ فَاخْتُلِفَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» . إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ، لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ، وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ عَمِلَ صالِحاً الْآيَةَ، كَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: وَمَتَى ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْهَا فَلَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِتَعَيُّنِ وَقْتِهَا، وَإِنَّمَا يُرَدُّ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سِعَةَ عِلْمِهِ وَتَعَلُّقَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ: أَيْ جَلِيَّةٍ وَالْمُفَضَّلُ، وَحَفْصٌ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: مِنْ ثَمَراتٍ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةِ طَلْحَةَ وَالْأَعْمَشُ: بِالْإِفْرَادِ. وَلَمَّا كَانَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِ الشَّجَرَةِ وَمَا تَحْمِلُ الْإِنَاثُ وَتَضَعُهُ هُوَ إِيجَادُ أَشْيَاءٍ بَعْدَ الْعَدَمِ، نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ عِلْمِ السَّاعَةِ، إِذْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْبَعْثِ، إِذْ هُوَ إِعَادَةٌ بَعْدَ إِعْدَامٍ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَسُؤَالِهِمْ سُؤَالَ التَّوْبِيخِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي: أَيْ الَّذِينَ نَسَبْتُمُوهُمْ إِلَيَّ وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءٌ لِي، وَفِي ذَلِكَ تَهَكُّمٌ بهم

_ (1) سورة الحج: 22/ 10.

وَتَقْرِيعٌ. وَالضَّمِيرُ فِي يُنَادِيهِمْ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ. قالُوا آذَنَّاكَ: أَيْ أَعْلَمْنَاكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْمَعْنَاكَ، كَأَنَّهُ اسْتَبْعَدَ الْإِعْلَامَ لِلَّهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِلْمًا وَاجِبًا، فَالْإِعْلَامُ فِي حَقِّهِ مُحَالٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَالُوا عَائِدٌ عَلَى الْمُنَادَيْنِ، لِأَنَّهُمُ الْمُحَدَّثُ مَعَهُمْ. مَا مِنَّا أَحَدٌ الْيَوْمَ، وَقَدْ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. يَشْهَدُ أَنَّ لَكَ شَرِيكًا، بَلْ نَحْنُ مُوَحِّدُونَ لَكَ، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ يُشَاهِدُهُمْ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَضَلَّتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ، لَا يُبْصِرُونَهَا فِي سَاعَةِ التَّوْبِيخِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَالُوا عَائِدٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ، أَيْ قَالَتِ الشُّرَكَاءُ: مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ بِمَا أَضَافُوا إلينا من الشرك، وآذناك مُعَلَّقٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ. وَفِي تَعْلِيقِ بَابِ أَعْلَمُ رَأَيْنَا خِلَافَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: آذَنَّاكَ إِنْشَاءٌ، كَقَوْلِكَ: أَقْسَمْتُ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا، وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا سَابِقًا، فَتَكُونُ إِعَادَةُ السُّؤَالِ تَوْبِيخًا لَهُمْ. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ: أَيْ نَسُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَدْعُونَ مِنَ الْآلِهَةِ، أَوْ وَضَلَّ عَنْهُمْ: أَيْ تَلَفَتْ أَصْنَامُهُمْ وَتَلَاشَتْ، فَلَمْ يَجِدُوا مِنْهَا نَصْرًا وَلَا شَفَاعَةً، وَظَنُّوا: أَيْ أَيْقَنُوا. قَالَ السُّدِّيُّ: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ: أَيْ مِنْ حَيْدَةٍ وَرِوَاغٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ظَنُّوا مُعَلَّقَةٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ ظَنُّوا. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَظَنُّوا، أَيْ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ مَنْجَاةٌ لَهُمْ، أَوْ أَمْرٌ يُمَوِّهُونَ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ يَكُونُ لَهُمْ مَنْجًا، أَوْ مَوْضِعَ رَوَغَانٍ. لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ: هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي كُفَّارٍ، قِيلَ: فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقِيلَ: فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَّصِفُونَ بِوَصْفِ أَوَّلِهَا مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ مِنْ طَلَبِ السعة والنعمة ودعاء مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مِنْ دُعَاءٍ بِالْخَيْرِ، بِبَاءٍ دَاخِلَةٍ عَلَى الْخَيْرِ، وَفَاعِلُ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ دُعَاءٍ لِلْخَيْرِ، وَهُوَ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ، أي الفقر والضيق، فَيَؤُسٌ: أي فهو يؤوس قَنُوطٌ، وَأَتَى بِهِمَا صِيغَتَيْ مُبَالَغَةٍ. وَالْيَأْسُ مِنْ صِفَةِ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ رَجَاءَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْقُنُوطُ: أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ الْيَأْسِ فَيَتَضَاءَلُ وَيَنْكَسِرُ. وَبَدَأَ بِصِيغَةِ الْقَلْبِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِيمَا يَظْهَرُ عَلَى الصُّورَةِ مِنَ الِانْكِسَارِ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا: سَمَّى النِّعْمَةَ رَحْمَةً، إِذْ هِيَ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ.

مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي: أَيْ بِسَعْيِي وَاجْتِهَادِي، وَلَا يَرَاهَا أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، أَوْ هَذَا لِي لَا يَزُولُ عَنِّي. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً: أَيْ ظَنَنَّا أَنَّنَا لَا نُبْعَثُ، وَأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاقِعٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ «1» . وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي: وَلَئِنْ كَانَ كَمَا أَخْبَرَتِ الرُّسُلُ، إِنَّ لِي عِنْدَهُ: أَيْ عِنْدَ اللَّهِ، لَلْحُسْنى: أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، كَمَا أَنْعَمَ عَلَيَّ فِي الدُّنْيَا، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْيَمِينِ وَبِتَقْدِيمِ لِي عِنْدَهُ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَتَدْخُلُ لَامُ التَّأْكِيدِ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَبِصِيغَةِ الْحُسْنَى يُؤَنَّثُ الْأَحْسَنُ الَّذِي هُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَلَمْ يَقُولُوا لَلْحَسَنَةَ، أَيِ الْحَالَةَ الْحَسَنَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لِلْكَافِرِ أُمْنِيَتَانِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهَذِهِ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، وأما في الآخرة فا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً. فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا مِنَ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ جَزَائِهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي مُقَابَلَةِ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. وَكَنَّى بِغَلِيظِ: الْعَذَابِ عَنْ شِدَّتِهِ. وَإِذا أَنْعَمْنا: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُبْحانَ «2» ، إِلَّا أَنَّ فِي أَوَاخِرِ تِلْكَ كان يؤوسا، وَآخِرِ هَذِهِ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ: أَيْ فَهُوَ ذُو دُعَاءٍ بِإِزَالَةِ الشَّرِّ عَنْهُ وَكَشْفِ ضُرِّهِ. وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فِي الْكَثْرَةِ. يُقَالُ: أَطَالَ فُلَانٌ فِي الظُّلْمِ، وَأَعْرَضَ فِي الدُّعَاءِ إِذَا كَثَّرَ، أَيْ فَذُو تَضَرُّعٍ وَاسْتِغَاثَةٍ. وَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعًا مِنْ طُغْيَانِ الْإِنْسَانِ، إِذَا أَصَابَهُ اللَّهُ بِنِعْمَةٍ أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ابْتَهَلَ إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ: أَيْ الْقُرْآنُ، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: أَبْرَزَهُ فِي صُورَةِ الِاحْتِمَالِ، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِلَا شَكٍّ، وَلَكِنَّهُ تَنَزَّلَ مَعَهُمْ فِي الْخِطَابِ. وَالضَّمِيرُ فِي أَرَأَيْتُمْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى أَرَأَيْتُمْ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَاقَقْتُمْ فِي اتِّبَاعِهِ. مَنْ أَضَلُّ مِنْكُمْ، إِذْ أَنْتُمُ الْمُشَاقُّونَ فِيهِ وَالْمُعْرِضُونَ عنه والمستهزءون بِآيَاتِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ مَذْكُورٍ، أَوْ مَحْذُوفٍ، وَإِلَى ثَانٍ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً. فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَالثَّانِي هُوَ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ، إِذْ مَعْنَاهُ: مَنْ أَضَلُّ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ، إِذْ مَآلُكُمْ إِلَى الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 32. [.....] (2) سورة الصافات: 37/ 180.

ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِمَا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَقَالَ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ. قَالَ أَبُو الْمِنْهَالِ، وَالسُّدِّيُّ، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ وَعِيدٌ لِلْكَفَّارِ بِمَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْأَقْطَارِ حَوْلَ مَكَّةَ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْضِ كَخَيْبَرَ. وَفِي أَنْفُسِهِمْ: أَرَادَ بِهِ فَتْحَ مَكَّةَ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ بِالْغَيْبِ، وَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: فِي الْآفاقِ: مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ قَدِيمًا، وَفِي أَنْفُسِهِمْ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، وَأَرَادَ الْآيَاتِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالرِّيَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ عِبْرَةُ الْإِنْسَانِ بِجِسْمِهِ وَحَوَاسِّهِ وَغَرِيبِ خِلْقَتِهِ وَتَدْرِيجِهِ فِي الْبَطْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَنُبِّهُوا بِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَنْ لَفْظِ سَنُرِيهِمْ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ قَدِيمًا، وَآيَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَدْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُرِيبًا لَهُمْ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَذَيَّلَهُ فَقَالَ: يَعْنِي مَا يَسَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنْصَارِ دِينِهِ فِي آفَاقِ الدُّنْيَا، وَبِلَادِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عُمُومًا، وَفِي نَاحِيَةِ الْعَرَبِ خُصُوصًا مِنَ الْفُتُوحِ الَّتِي لَمْ يَتَيَسَّرْ أَمْثَالُهَا لِأَحَدٍ مِنَ خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَهُمْ، وَمِنَ الْإِظْهَارِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَتَغْلِيبِ قَلِيلِهِمْ عَلَى كَثِيرِهِمْ، وَتَسْلِيطِ ضِعَافِهِمْ عَلَى أَقْوِيَائِهِمْ، وَإِجْرَائِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ أُمُورًا خَارِجَةً عَنِ الْمَعْهُودِ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ، وَنَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَقْطَارِ الْمَعْمُورَةِ، وَبَسْطِ دَوْلَتِهِ فِي أَقَاصِيهَا، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُطْلِعُكُ فِي التَّوَارِيخِ وَالْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ فِي مَشَاهِدِ أَهْلِهِ، وَأَيَّامِهِمْ عَلَى عَجَائِبَ لَا تَرَى وَقْعَةً مِنْ وَقَائِعِهِمْ إِلَّا عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ اللَّهِ وَآيَةً مِنْ آيَاتِهِ تَقْوَى مَعَهَا النَّفْسُ وَيَزْدَادُ بِهَا الْإِيمَانُ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَحِيدُ عَنْهُ إِلَّا مُكَابِرٌ خَبِيثٌ مُغَالِطٌ نَفْسَهُ. انْتَهَى مَا كَتَبْنَاهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ: أَيِ الْقُرْآنُ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الشَّرْعِ هُوَ الْحَقُّ، إِذْ وَقَعَ وَفْقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الغيب، وبِرَبِّكَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: أَوَلَمْ يَكْفِكَ أَوْ يَكْفِهِمْ رَبُّكَ، وأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلٌ مِنْ رَبِّكَ. أَمَّا حَالَةُ كَوْنِهِ مَجْرُورًا بِالْبَاءِ، فَيَكُونُ بَدَلًا عَلَى اللَّفْظِ. وَأَمَّا حَالَةُ مُرَاعَاةِ الْمَوْضِعِ، فَيَكُونُ بَدَلًا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ الْحَرْفِ أَيْ أَوَلَمْ يَكْفِ رَبُّكَ بِشَهَادَتِهِ، فَحُذِفَ الْحَرْفُ، وَمَوْضِعُ أَنَّ عَلَى الْخِلَافِ، أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟ وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ بِرَبِّكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَفَاعِلُ كَفَى إِنَّ وَمَا بَعْدَهَا، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: أَوَلَمْ يكف ربك شهادته؟ وقرىء: إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ القول، وألا اسْتِفْتَاحٌ تُنَبِّهُ السَّامِعَ عَلَى مَا يُقَالُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ: فِي مُرْيَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَإِحَاطَتُهُ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ عِلْمُهُ بِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمِرْيَتِهِمْ فِي لِقَاءِ رَبِّهِمْ.

سورة الشورى

سورة الشّورى [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 53] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

رَكَدَ الشَّيْءُ، ثَبَتَ فِي مَكَانِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نجومها ... رُكُودًا يُوَارِي الرَّبْرَبَ الْمُتَفَرِّقَ حم عسق، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ

مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَجَابِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إِلَى آخِرِ الْأَرْبَعِ آيَاتٍ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مَدَنِيٌّ قَوْلُهُ: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إِلَى الصُّدُورِ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» الْآيَةَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. لَمَّا كَفَرُوا بِهِ قَالَ هُنَا: كَذلِكَ، أَيْ مِثْلُ الْإِيحَاءِ السَّابِقِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ، يُوحِي إِلَيْكَ: أَيْ إِنَّ وَحْيَهُ تَعَالَى إِلَيْكَ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ، يَتَعَهَّدُكَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي حم عسق أَقْوَالًا مُضْطَرِبَةً لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ كَعَادَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوحَى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبَانَ: نُوحِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَمُجَاهِدٌ، وابن وكثير، وَعَبَّاسٌ، وَمَحْبُوبٌ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: يُوحَى مَبْنِيًّا للمفعول والله مَرْفُوعٌ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ أَوْحَى، أَوْ بِالِابْتِدَاءِ، التَّقْدِيرُ: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْمُوحِي وَعَلَى قِرَاءَةِ نُوحِي بِالنُّونِ، يَكُونُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مُبْتَدَأً وخبرا. ويوحي، إِمَّا فِي مَعْنَى أَوْجَبَ حَتَّى يَنْتَظِمَ قَوْلُهُ: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، أَوْ يُقْرَأُ عَلَى مَوْضُوعِهِ، وَيُضْمِرُ عَامِلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَى الَّذِينَ تَقْدِيرُهُ: وَأَوْحَى إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ قِرَاءَةً وَتَفْسِيرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قراءة عَرَبِيَّةٌ: تَتَفَطَّرْنَ بِتَاءَيْنِ مَعَ النُّونِ، وَنَظِيرُهَا حَرْفٌ نَادِرٌ روي في نوادر ابن الْأَعْرَابِيِّ: الْإِبِلُ تَتَشَمَّمْنَ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَهْمٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي النَّقْلِ، لِأَنَّ ابْنَ خَالَوَيْهِ ذَكَرَ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ لَهُ ما نصه: تَفَطَّرْنَ بِالتَّاءِ وَالنُّونِ، يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: هَذَا حَرْفٌ نَادِرٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَجْمَعُ بَيْنَ عَلَامَتَيِ التَّأْنِيثِ. لَا يُقَالُ: النِّسَاءُ تَقُمْنَ، وَلَكِنْ يَقُمْنَ، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ. قَدْ كَانَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ رَوَى فِي نَوَادِرِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْإِبِلُ تَتَشَمَّمْنَ، فَأَنْكَرْنَاهُ، فَقَدْ قَوَّاهُ، لِأَنَّ هذا كلام ابن

_ (1) سورة فصلت: 41/ 52.

خَالَوَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ نُسَخُ الزَّمَخْشَرِيِّ مُتَّفِقَةً عَلَى قَوْلِهِ بِتَاءَيْنِ مَعَ النُّونِ فَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا بِتَاءٍ مَعَ النُّونِ، كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ ابْنِ خَالَوَيْهِ، وَكَانَ بِتَاءَيْنِ تَحْرِيفًا مِنَ النُّسَّاخِ. وَكَذَلِكَ كَتْبُهُمْ تَتَفَطَّرْنَ وَتَتَشَمَّمْنَ بِتَاءَيْنِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَوْقِهِنَّ عَلَى السَّماواتُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ أَعْلَاهُنَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَنْفَطِرْنَ مِنْ عُلُوِّ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَجِيئُهُ بَعْدَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وَقِيلَ: مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ وَلَدًا، كَقَوْلِهِ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «1» . فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ مِنْ فَوْقِهِنَّ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ أَعْظَمَ الْآيَاتِ وَأَدَلَّهَا عَلَى الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ فَوْقَ السموات، وهي العرش وَالْكُرْسِيُّ وَصُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ الْمُرْتَجَّةِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَمَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ آثَارِ مَلَكُوتِهِ الْعُظْمَى، فَلِذَلِكَ قَالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ: أَيْ يبتدىء الانفطار من جهتهن الْفَوْقَانِيَّةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْحَوْفِيُّ، قَالَ: مِنْ فَوْقِهِنَّ، وَالْهَاءُ وَالنُّونُ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَرَضِينَ. انْتَهَى. مِنْ فَوْقِهِنَّ متعلق بيتفطرن، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذِكْرُ الْأَرْضِ قَبْلُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشُ: الضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ فَوْقِ الْفِرَقِ وَالْجَمَاعَاتِ الْمُلْحِدَةِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَقْوَالِهَا. انْتَهَى. فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالَّذِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَاسْتَبْعَدَ مَكِّيٌّ هَذَا الْقَوْلَ، قَالَ: لَا يَجُوزُ فِي الذُّكُورِ مِنْ بَنِي آدَمَ، يَعْنِي ضَمِيرَ الْمُؤَنَّثِ وَالِاسْتِشْعَارُ مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: مِنْ فَوْقِ الْفِرَقِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَظَاهِرُ الْمَلَائِكَةِ الْعُمُومُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالتَّسْبِيحِ، قِيلَ: قَوْلُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهَ، وَقِيلَ: يُهَلِّلُونَ وَالظَّاهِرُ فِي يَسْتَغْفِرُونَ طَلَبُ الْغُفْرَانِ، وَلِأَهْلِ الْأَرْضِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «2» ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: عَامٌّ. وَمَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ: طَلَبُ الْهِدَايَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ، كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أَهْلَ الْأَرْضِ، فَاغْفِرْ لَهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَصْفُهُ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقْصِدُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ: طَلَبَ الْحِلْمِ وَالْغُفْرَانِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا، إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «3» ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «4» ، وَالْمُرَادُ: الْحِلْمُ عَنْهُمْ، وَأَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِالِانْتِقَامِ فَيَكُونُ عَامًّا. انْتَهَى. وَتَكَلَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ في قَوْلِهِ: تَكادُ السَّماواتُ كَلَامًا خارجا

_ (1) سورة مريم: 19/ 90. (2) سورة غافر: 40/ 7. (3) سورة فاطر: 35/ 41. (4) سورة الرعد: 13/ 6.

عَنْ مَنَاحِي مَفْهُومَاتِ الْعَرَبِ، مُنْتَزَعًا مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ: أَيْ أَصْنَامًا وَأَوْثَانًا، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ: أَيْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَمُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ: أَيْ بِمُفَوَّضٍ إِلَيْكَ أَمْرُهُمْ وَلَا قَائِمٍ. وَمَا فِي هَذَا مِنَ الْمُوَادَعَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَكَذلِكَ: أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْإِيحَاءِ وَالْقَضَاءِ، إِنَّكَ لَسْتَ بِوَكِيلٍ عَلَيْهِمْ، أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا. والظاهر أن قُرْآناً مَفْعُولُ أَوْحَيْنا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَافُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، وَهُوَ قُرْآنٌ عَرَبِيٌّ لَا لَبْسَ فِيهِ عَلَيْكَ، إِذْ نَزَلَ بِلِسَانِكَ. انْتَهَى. فَاسْتَعْمَلَ الْكَافَ اسْمًا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ. لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى: مَكَّةَ، أَيْ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى، وَكَذَلِكَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالثَّانِي هُوَ: يَوْمَ الْجَمْعِ: أَيِ اجْتِمَاعِ الْخَلَائِقِ، وَالْمُنْذَرُ بِهِ هُوَ مَا يَقَعُ فِي يَوْمِ الْجَمْعِ مِنَ الْجَزَاءِ وَانْقِسَامِ الْجَمْعِ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَوِ اجْتِمَاعِ الْأَرْوَاحِ بِالْأَجْسَادِ، أَوْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِأَهْلِ السَّمَاءِ، أَوِ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. لِيُنْذِرَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ لِيُنْذِرَ الْقُرْآنُ. لَا رَيْبَ فِيهِ: أَيْ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا رَيْبَ فِيهِ: اعْتِرَاضٌ لَا مَحَالَةَ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ، أَعْنِي صِنَاعِيًّا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ طَالِبٍ وَمَطْلُوبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرِيقٌ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، أَيْ هُمْ فَرِيقٌ أَوْ مِنْهُمْ فَرِيقٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهِمَا، أَيِ افْتَرَقُوا، فَرِيقًا فِي كَذَا، وَفَرِيقًا فِي كَذَا وَيَدُلُّ عَلَى الِافْتِرَاقِ: الِاجْتِمَاعُ الْمَفْهُومُ مِنْ يَوْمِ الْجَمْعِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً: يَعْنِي مِنْ إِيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ، قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ. كَمَا كَانَ يُقَاسِيهِ مَنْ كُفْرِ قَوْمِهِ، وَتَوْقِيفٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، وَلَكِنَّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ أَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً: أَيْ مُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ عَلَى الْقَسْرِ وَالْإِكْرَاهِ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «1» ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «2» . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ الْإِيحَاءُ إِلَى الْإِيمَانِ قَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «3» ، وَذَكَرَ مَا ظَنَّهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فِي رَحْمَتِهِ: فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، أم بمعنى بل،

_ (1) سورة السجدة: 32/ 13. (2) سورة يونس: 10/ 99. (3) سورة يونس: 10/ 99.

لِلِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أَمْ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ فَقَطْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، حَيْثُ جَاءَتْ أَمِ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ دُونَ اللَّهِ، وَلَيْسُوا بِأَوْلِيَاءَ حَقِيقَةً، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يَتَوَلَّى وَحْدَهُ، لَا مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، عَطَفَ عَلَيْهِ هَذَا الْفِعْلَ الْغَرِيبَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى. وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ، ذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بَعْدَ إِنْكَارِ كُلِّ وَلِيٍّ سِوَاهُ، وَإِنْ أَرَادُوا وَلَيًّا بِحَقٍّ، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ بِالْحَقِّ، لَا وَلِيَّ سِوَاهُ. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَالْكَلَامُ يَتِمُّ بِدُونِهِ. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ: هَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الرَّسُولِ، أَيْ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ تَكْذِيبٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ وَالْمُجَازَاةُ عَلَيْهِ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، لَا إِلَى، وَلَفْظَةُ مِنْ شَيْءٍ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ. وَقِيلَ: مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْخُصُومَاتِ، فَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُؤْثِرُوا عَلَى حُكُومَتِهِ حُكُومَةَ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «1» . وَقِيلَ: مِنْ شَيْءٍ: مِنْ تَأْوِيلِ آيَةٍ وَاشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ، فَارْجِعُوا فِي بَيَانِهِ إِلَى آيِ الْمُحْكَمِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَا وَقَعَ مِنْكُمُ الْخِلَافُ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تَتَّصِلُ بِتَكْلِيفِكُمْ، وَلَا طَرِيقَ لَكُمْ إِلَى عِلْمِهِ، فَقُولُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَعْرِفَةِ الرُّوحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَا خَالَفَكُمْ فِيهِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فَاخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَهُمْ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَحُكْمُ ذَلِكَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ إِثَابَةُ الْمُحِقِّينَ فِيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمُعَاتِبَةُ الْمُبْطِلِينَ. ذلِكُمُ: الحاكم بَيْنَكُمْ هُوَ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي رَدِّ كَيْدِ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ فِي كِفَايَةِ شَرِّهِمْ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فاطِرُ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ فَاطِرُ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ كَقَوْلِهِ: ذلِكُمُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَاطِرِ بِالْجَرِّ، صِفَةً لِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ: أَيْ مِنْ جِنْسِ أَنْفُسِكُمْ، أَيْ آدَمَيَّاتٍ، أَزْواجاً: إِنَاثًا، أَوْ جَعَلَ الْخَلْقَ لِأَبِينَا آدَمَ مِنْ ضِلْعِهِ حَوَّاءَ زَوْجًا لَهُ خَلْقًا لَنَا، وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً:

_ (1) سورة النساء: 4/ 59.

أَيْ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً، ذُكُورًا وَإِنَاثًا، أَوْ أَزْوَاجًا إِنَاثًا. يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ يَجْعَلُ لَكُمْ فِيهِ مَعِيشَةً تَعِيشُونَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَرْزُقُكُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ قَبْلَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: يذرأكم فيما خلق من السموات وَالْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُكَثِّرُكُمْ بِهِ، أَيْ فِيهِ، أَيْ يُكَثِّرُكُمْ فِي خَلْقِكُمْ أَزْوَاجًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: يَنْقُلُكُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي فِيهِ لِلْجَعْلِ، أَيْ يَخْلُقُكُمْ وَيُكَثِّرُكُمْ فِي الْجَعْلِ، كَمَا تَقُولُ: كَلَّمْتُ زَيْدًا كَلَامًا أَكْرَمْتُهُ فِيهِ، قَالَ: وَلَفْظَةُ ذَرَأَ تُزِيدُ عَلَى لَفْظَةِ خَلَقَ مَعْنًى آخَرَ لَيْسَ فِي خَلَقَ، وَهُوَ تَوَالِي الطَّبَقَاتِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَذْرَؤُكُمْ: يُكَثِّرُكُمْ، يُقَالُ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ: بَثَّهُمْ وَكَثَّرَهُمْ، وَالذَّرْءُ وَالذَّرُوءُ وَالذَّرْوَاءُ أَخَوَاتٌ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ، وَهُوَ أَنْ جَعَلَ لِلنَّاسِ وَالْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا حَتَّى كَانَ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمُ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ. وَالضَّمِيرُ فِي يَذْرَؤُكُمْ يَرْجِعُ إلى المخاطبين والأنعام، مُغَلَّبًا فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ الْعُقَلَاءُ عَلَى الْغَيْرِ مِمَّا لَا يَعْقِلُ، وَهِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ ذَاتِ الْعِلَّتَيْنِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ ذَاتِ الْعِلَّتَيْنِ، اصْطِلَاحٌ غَرِيبٌ، وَيَعْنِي أَنَّ الْخِطَابَ يُغَلَّبُ عَلَى الْغَيْبَةِ إِذَا اجْتَمَعَا فَتَقُولُ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَقُومَانِ وَالْعَاقِلُ يُغَلَّبُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ إِذَا اجْتَمَعَا، فَتَقُولُ: الْحَيَوَانُ وَغَيْرُهُمْ يُسَبِّحُونَ خَالِقَهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى يَذْرَؤُكُمْ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ؟ وَهَلَّا قِيلَ: يَذْرَؤُكُمْ بِهِ؟ قُلْتُ: جَعَلَ هَذَا التَّدْبِيرَ كَالْمَنْبَعِ وَالْمَعْدِنِ لِلْبَثِّ وَالتَّكْثِيرِ. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ لِلْحَيَوَانِ فِي خَلْقِ الْأَزْوَاجِ تَكْثِيرٌ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «1» انْتَهَى. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مِثْلُكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، يُرِيدُونَ بِهِ الْمُخَاطَبَ، كَأَنَّهُمْ إِذَا نَفَوُا الْوَصْفَ عَنْ مِثْلِ الشَّخْصِ كَانَ نَفْيًا عَنِ الشَّخْصِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، وَمِثْلُ الْآيَةِ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرِ ... خُلُقٌ يُوَازِيهِ فِي الْفَضَائِلِ وَقَالَ آخَرُ: وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ تَغْشَاهُمْ مَسْبَلٌ مُنْهَمِرْ وَقَالَ آخَرُ: سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إِذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمْ ... مَا إن كمثلهم فِي النَّاسِ مِنْ أَحَدِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 179.

فَجَرَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمِثْلِ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ مِثْلًا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَالْكَافِّ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَقَوْلِهِ: وَصَالِيَاتٍ كَكُمَا يُؤْثَفِينَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ مِثْلًا اسْمٌ، وَالْأَسْمَاءُ لَا تُزَادُ، بِخِلَافِ الْكَافِ، فَإِنَّهَا حَرْفٌ، فَتَصْلُحُ لِلزِّيَادَةِ. وَنَظِيرُ نِسْبَةِ الْمِثْلِ إِلَى مَنْ لَا مِثْلَ لَهُ قَوْلُكَ: فُلَانٌ يَدُهُ مَبْسُوطَةٌ، يُرِيدُ أَنَّهُ جَوَادٌ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْيَدِ حَتَّى تَقُولَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَدَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «1» . فَكَمَا جَعَلْتَ ذلك كناية عن الجود فِيمَنْ لَا يَدَ لَهُ، فَكَذَلِكَ جَعَلْتَ الْمِثْلَ كِنَايَةً عن الذات فِي مَنْ لَا مِثْلَ لَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ بِالْمَثَلِ الصِّفَةُ، وَذَلِكَ سَائِغٌ، يُطْلَقُ الْمِثْلُ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَهُوَ الصِّفَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَيْسَ مِثْلَ صِفَتِهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَحْمَلٌ سَهْلٌ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَغْوَصُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعَرَبُ تُقِيمُ الْمِثَالَ مَقَامَ النَّفْسِ، فَيَقُولُ: مِثْلِي لَا يُقَالُ لَهُ هَذَا، أَيْ أَنَا لَا يُقَالُ لِي هَذَا. انْتَهَى. فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الذَّاتِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكِ: لَيْسَ كَاللَّهِ شَيْءٌ، أَوْ لَيْسَ كَمِثْلِ اللَّهِ شَيْءٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافَ وَالْمِثْلَ يُرَادُ بِهِمَا مَوْضُوعُهُمَا الْحَقِيقِيُّ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتُ مِثْلٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ. وَهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ الْخَلْقِ، الْبَصِيرُ لِأَعْمَالِهِمْ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سورة الزمر وقرىء: وَيَقْدِرُ: أَيْ يُضَيِّقُ. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: أَيْ يُوَسِّعُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْغِنَى خَيْرٌ لِلْعَبْدِ أَغْنَاهُ لَا أَفْقَرَهُ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 64.

اأَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ. لَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ الْخَاصَّةَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ نِعَمِهِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْجَزَاءِ فِيهِ. وَلَمَّا كَانَ أَوَّلَ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَآخِرَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ كَانَ أَبَا الْعَرَبِ، فَفِي ذَلِكَ هَزْلُهُمْ وَبَعْثٌ عَلَى اتِّبَاعِ طَرِيقَتِهِ، وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ كَانَ أَتْبَاعُهُمَا مَوْجُودِينَ زَمَانَ بعثة رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالشَّرَائِعُ مُتَّفِقَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَقَائِدِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالشَّرَائِعُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ وَيُقَالُ: إِنَّ نُوحًا أَوَّلُ مَنْ أَتَى بِتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَارَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنِ مُفَسِّرَةً، لِأَنَّ قَبْلَهَا مَا هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَأَنْ تَكُونَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةَ، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ إِقَامَةُ الدِّينِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِهِ. ثُمَّ نَهَى عَنِ التَّفْرِقَةِ فِيهِ، لِأَنَّ التَّفَرُّقَ سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ، وَالِاجْتِمَاعَ وَالْأُلْفَةَ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: أَيْ عَظُمَ وَشَقَّ، ما توعدهم إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِقَامَةِ الدين. اللَّهُ يَجْتَبِي: يَجْتَلِبُ وَيَجْمَعُ، إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ هِدَايَتَهُ، وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ. وَقِيلَ: يَجْتَبِي، فَيَجْعَلُهُ رَسُولًا إِلَى عِبَادِهِ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ: يَرْجِعُ إِلَى طَاعَتِهِ عَنْ كُفْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ يَشاءُ: مَنْ يَنْفَعُ فِيهِمْ تَوْفِيقُهُ وَيَجْرِي عَلَيْهِمْ لُطْفُهُ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَكُنْ مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا بَنُوهُ، وَلَمْ تُفْرَضْ، لَهُ الْفَرَائِضُ، وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِمُ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنَبَّهًا عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ، مُقْتَصِرًا عَلَى ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ. وَاسْتَمَرَّ الْهُدَى إِلَى نُوحٍ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَوَظَّفَ

عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْأَدَبَ فِي الدِّيَانَاتِ. وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالرُّسُلِ وَيَتَنَاصَرُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةً إِثْرَ شَرِيعَةٍ، حَتَّى خَتَمَهُ اللَّهُ بِخَيْرِ الْمِلَلِ عَلَى لِسَانِ أَكْرَمِ الرُّسُلِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا فِي الْأُصُولِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ والحج والتقرب بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَالصِّدْقُ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَتَحْرِيمُ الْكِبْرِ وَالزِّنَا وَالْإِذَايَةِ لِلْخَلْقِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَاقْتِحَامِ الدَّنَاءَاتِ وَمَا يَعُودُ بِخَرْمِ الْمُرُوءَاتِ فَهَذَا كُلُّهُ مَشْرُوعٌ دِينًا وَاحِدًا، أَوْ مِلَّةً مُتَّحِدَةً، لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ: أَيِ اجْعَلُوهُ قَائِمًا، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا مَحْفُوظًا مُسْتَقِرًّا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابٍ. انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا أُمِرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَطَاعَتِهِ، فَهُوَ إِقَامَةُ الدِّينِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِقَامَةُ الدِّينِ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَعِبَادَتُهُ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا تَتَعَادَوْا فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُصَدَّقٌ. وَقِيلَ: لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فَتُؤْمِنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَتَكْفُرُوا بِبَعْضٍ. وَما تَفَرَّقُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قرشيا، والعلم: مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانُوا يَتَمَنُّونَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيٌّ، كَمَا قَالَ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ «1» ، يُرِيدُونَ نَبِيًّا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ، جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَآمَنَ قَوْمٌ وَكَفَرَ قَوْمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُشْرِكِينَ دَلِيلُهُ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «2» ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لِمَ خُصَّ بِالنُّبُوَّةِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَسَدُوهُ. وَلَوْلا كَلِمَةٌ: أَيْ عِدَّةُ التَّأَخُّرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ الْجَزَاءُ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ: لَجُوزُوا بِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّهُ قَضَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَلِمَةُ قَوْلُهُ: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «3» . وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ: هُمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَاصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ بَعْدِهِمْ: أَيْ مِنْ بَعْدِ أَسْلَافِهِمْ، أَوْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أُورِثَ أَهْلُ الْكِتَابِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وُرِّثُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ الرَّاءِ، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ: أَيْ مِنْ كِتَابِهِمْ، أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنَ الدين الذي

_ (1) سورة فاطر: 35/ 42. (2) سورة البينة: 98/ 4. [.....] (3) سورة القمر: 54/ 46.

وَصَّى بِهِ نُوحًا. وَلَمَّا تَقَدَّمَ شَيْئَانِ: الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ، وَتَفَرُّقُ الَّذِينَ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ وَاخْتِلَافُهُمْ وَكَوْنُهُمْ فِي شَكٍّ، احْتَمَلَ قَوْلُهُ. فَلِذلِكَ، أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، أَيْ فَادْعُ لِدِينِ اللَّهِ وَإِقَامَتِهِ، لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ بِمَعْنَى لِأَجْلِ، لِأَنَّ دَعَا يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرَا وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ التَّفَرُّقِ. وَلِمَا حَدَثَ بِسَبَبِهِ مِنْ تَشَعُّبِ الْكُفْرِ شُعُبًا، فَادْعُ إِلَى الِاتِّفَاقِ وَالِائْتِلَافِ عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَاسْتَقِمْ: أَيْ دُمْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «1» ، وَكَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ فِي أَوَاخِرِ هُودٍ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الْمُخْتَلِفَةَ الْبَاطِلَةَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُصَرِّحَ أَنَّهُ آمَنَ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا آمَنُوا بِبَعْضٍ. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَأُمِرْتُ بِمَا أُمِرْتُ بِهِ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ فِي إِيصَالِ مَا أُمِرْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، لَا أَخَصُّ شَخْصًا بِشَيْءٍ دُونَ شَخْصٍ، فَالشَّرِيعَةُ وَاحِدَةٌ، وَالْأَحْكَامُ مُشْتَرَكٌ فِيهَا. وقيل: لا عدل بَيْنَكُمُ فِي الْحُكْمِ إِذَا تَخَاصَمْتُمْ فَتَحَاكَمْتُمْ. لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ: أَيْ قَدْ وَضَحَتِ الْحُجَجُ وَقَامَتِ الْبَرَاهِينُ وَأَنْتُمْ مَحْجُوجُونَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِظْهَارِ حُجَّةٍ بَعْدَ ذَلِكَ. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَنَا. وَمَا يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْمُوَادَعَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ: أَيْ يُخَاصِمُونَ فِي دِينِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَمَّتْ بِرَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَإِضْلَالِهِمْ وَمُحَاجَّتِهِمْ، بَلْ قَالُوا: كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ فَدِينُنَا أَفْضَلُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، كَانُوا يُجَادِلُونَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَيَطْمَعُونَ فِي رَدِّ الْمُؤْمِنِينَ إلى الجاهلية. واستجيب مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابَ النَّاسُ لِلَّهِ، أَيْ لِدِينِهِ وَدَخَلُوا فِيهِ. وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، أَيْ لِرَسُولِهِ وَدِينِهِ، بِأَنْ نَصَرَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَظَهَرَ دِينُهُ. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أَيْ بَاطِلَةٌ لَا ثُبُوتَ لَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَنْ يَحَاجُّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، صَرَّحَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَالْكِتَابُ جِنْسٌ يُرَادُ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ. وَالْمِيزانَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: هو العدل وَعَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ: هُوَ هُنَا الْمِيزَانُ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ، وَهَذَا مُنْدَرِجٌ فِي العدل.

_ (1) سورة هود: 11/ 112.

وَما يُدْرِيكَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، ذُكِرَ عَلَى مَعْنَى الْبَعْثِ أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ لعل مجيء الساعة ولعل السَّاعَةَ فِي مَوْضِعِ مَعْمُولِ، وَمَا يُدْرِيكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ «1» . وتواقفت هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ. السَّاعَةُ: يَوْمُ الْحِسَابِ، وَوَضْعِ الِمَوَازِينِ: الْقِسْطِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَكُمُ الْيَوْمُ الَّذِي يُحَاسِبُكُمْ فِيهِ وَيَزِنُ أَعْمَالَكُمْ. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا بِطَلَبِ وُقُوعِهَا عَاجِلَةً، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُوقِنِينَ بِوُقُوعِهَا، لِيُبَيِّنَ عَجْزَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا عِنْدَهُمْ، أَيْ هِيَ مِمَّا لَا يَقَعُ عِنْدَهُمْ. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ وَيُلِحُّونَ فِي أَمْرِ السَّاعَةِ، لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الْبَعْثَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ، فَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ. اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ: أَيْ بَرٌّ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ سَبَقَ لَهُ الْخُلُودُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُرَى مِنَ النِّعَمِ عَلَى الْكَافِرِ فَلَيْسَ بِلُطْفٍ، إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ، وَلَا لُطْفَ إِلَّا مَا آلَ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْوَفَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ حَيْثُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ جُوعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُوصِلُ بِرَّهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ: أَيْ مَنْ يَشَاءُ يَرْزُقُهُ شَيْئًا خَاصًّا، وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ مَرْزُوقٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الرِّزْقُ، وَهُوَ الْقَوِيُّ: أَيِ الْبَالِغُ الْقُوَّةِ، وَهِيَ الْقُدْرَةُ الْعَزِيزُ: الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الرِّزْقَ، ذَكَرَ حَدِيثَ الْكَسْبِ. وَلَمَّا كَانَ الْحَرْثُ فِي الْأَرْضِ أَصْلًا مِنْ أَصُولِ الْمَكَاسِبِ، اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَكْسَبٍ أُرِيدَ بِهِ النَّمَاءُ وَالْفَائِدَةُ، أَيْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ عَمَلَ الْآخِرَةَ، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا، نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ: أي جَزَاءِ حَرْثِهِ مِنْ تَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها: أَيِ الْعَمَلَ لَهَا لَا لِآخِرَتِهِ، نُؤْتِهِ مِنْها: أَيْ نُعْطِهِ شَيْئًا مِنْهَا، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا لِلْآخِرَةِ. وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى وَعْدٌ مُنْجَزٌ، وَالثَّانِيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَلَا يَنَالُهُ إِلَّا رِزْقُهُ الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا يُرِيدُهُ هُوَ. وَاقْتَصَرَ فِي عَامِلِ الْآخِرَةِ عَلَى ذِكْرِ حَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ، كَأَنَّهُ غَيْرُ معتبر، فلا يناسب ذكره مَعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ. وَجَعَلَ فِعْلِ الشَّرْطِ مَاضِيًا، وَالْجَوَابِ مَجْزُومٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها «2» ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ الْجَزْمِ، فَإِنَّهُ فَصِيحٌ مُخْتَارٌ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْإِعْرَابِ، وهو

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 111. (2) سورة هود: 11/ 15.

أَبُو الْحَكَمِ بْنُ عُذْرَةَ، عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، أَنَّهُ لَا يَجِيءُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ مَعَ كَأَنَّ لِأَنَّهَا أَصْلُ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَجِيءُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ. وَنَصُّ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بَكَانِ، بَلْ سَائِرُ الْأَفْعَالِ فِي ذَلِكَ مِثْلُهَا، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْفَرَزْدَقِ: دَسَّتْ رَسُولًا بِأَنَّ الْقَوْمَ إِنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُورًا ذَاتَ تَوْغِيرِ وَقَالَ آخَرُ: تَعَالَ فَإِنْ عَاهَدْتَنِي لَا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَزِدْ ونؤته بِالنُّونِ فِيهِمَا: وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَمَحْبُوبٌ، وَالْمِنْقَرِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالْيَاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ سَلَامٌ: نُؤْتِهُ منها يرفع الْهَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ، وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ: اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ شَرَعَ لِلنَّاسِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً الْآيَةَ، أَخَذَ يُنْكِرُ مَا شَرَعَ غَيْرُهُ تَعَالَى. وَالشُّرَكَاءُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْكُفْرِ، كَالشَّيَاطِينِ وَالْمُغْوِينَ مِنَ النَّاسِ. وَالضَّمِيرُ فِي شَرَعُوا عَائِدٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ

وَكُلُّ مَنْ جَعَلُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ. وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُتَّخِذُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، فتارة تضاف إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْمُلَابَسَةِ، وَتَارَةً إِلَى اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ فِي شَرَعُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الشركاء، وَلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِضَلَالِهِمْ وَافْتِتَانِهِمْ جُعِلَتْ شَارِعَةً لِدِينِ الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» . وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْكُفَّارِ، ولهم عَائِدٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ، أَيْ شَرَعَ الْكُفَّارُ لِأَصْنَامِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، أَيْ رَسَمُوا لَهُمْ غَوَايَةً وَأَحْكَامًا فِي الْمُعْتَقَدَاتِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ آلِهَةٌ، وَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْبَحِيرَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ: أَيِ الْعِدَةُ بِأَنَّ الْفَصْلَ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ لَوْلَا الْقَضَاءُ بِذَلِكَ لَقُضِيَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، أَوْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَشُرَكَائِهِمْ. وَقَرَأَ الجمهور: وإِنَّ الظَّالِمِينَ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْإِخْبَارِ، بِمَا يَنَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ، وَفِي الْآخِرَةِ النَّارُ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى كَلِمَةِ الْفَصْلِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وَكَوْنُ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفُصِلَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِجَوَابِ لَوْلَا، كَمَا فُصِلَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى «2» . تَرَى الظَّالِمِينَ: أَيْ تُبْصِرُ الْكَافِرِينَ لِمُقَابَلَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ، مُشْفِقِينَ: خَائِفِينَ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ، مِمَّا كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ: أَيِ الْعَذَابُ، أَوْ يَعُودُ عَلَى مَا كَسَبُوا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ وَبَالٌ كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، أَوْ جَزَاؤُهُ حَالٌّ بِهِمْ، وَهُوَ واقِعٌ: فَإِشْفَاقُهُمْ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَيْسُوا كَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدُّنْيَا مُشْفِقُونَ مِنَ السَّاعَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّوْضَاتُ أَحْسَنَ مَا فِي الْجَنَّاتِ وَأَنْزَهَهَا وَفِي أَعْلَاهَا، ذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا. وَاللُّغَةُ الْكَثِيرَةُ تَسْكِينُ الْوَاوِ فِي رَوْضَاتٍ، وَلُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ فَتْحُ الْوَاوِ إِجْرَاءً لِلْمُعْتَلِّ مَجْرَى الصَّحِيحِ نَحْوُ جَفَنَاتٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِمَّنْ علمناه بلغتهم. وعند ظَرْفٌ، قَالَ الْحَوْفِيُّ: مَعْمُولٌ ليشاءون. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْصُوبٌ بِالظَّرْفِ لَا يَشَاءُونَ. انْتَهَى، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَيَعْنِي بِالظَّرْفِ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَهُوَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَعْمُولٍ لِلْعَامِلِ فِي لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا يَشَاءُونَ مِنَ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ، مُسْتَقِرٌّ لَهُمْ. عِنْدَ رَبِّهِمْ: وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الْمَكَانَةِ وَالتَّشْرِيفِ، لا عندية المكان.

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 36. (2) سورة طه: 20/ 129.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُبَشِّرُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، مِنْ بَشَّرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَمْزَةُ: يُبَشِّرُ ثُلَاثِيًّا وَمُجَاهِدٌ، وَحَمِيدُ بْنُ قَيْسٍ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ مِنْ أَبْشَرَ، وَهُوَ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ بَشِرَ اللَّازِمِ الْمَكْسُورِ الشِّينِ. وَأَمَّا بَشَرَ بِفَتْحِهَا فمتعد، وَبَشَّرَ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ، وَهُوَ مُخَفَّفٌ، لَا يُعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ إِلَيْهِ فَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ. ذلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْمَوْصُولِ وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ يُبَشِّرُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ ذَلِكَ التَّبْشِيرُ الَّذِي يُبَشِّرُهُ اللَّهُ عِبَادَهُ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْوَجْهُ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَفْظُ الْبُشْرَى، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ تَبْشِيرٍ أَوْ شَبَهِهِ. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ جَعْلَ الَّذِي مَصْدَرِيَّةً، حَكَاهُ ابْنُ مَالِكٍ عَنْ يونس، وتأويل عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ ذَلِكَ تَبْشِيرُ اللَّهِ عِبَادَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْحَدِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ ثَبَتَتِ اسْمِيَّةُ الَّذِي، فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَا يقوم بِهِ دَلِيلٌ وَلَا شُبْهَةٌ. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي مَجْمَعٍ لَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَرَوْنَ مُحَمَّدًا يَسْأَلُ أَجْرًا عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ؟ فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ أَنَّ الْأَنْصَارَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ جَمَعُوهُ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَدَانَا اللَّهُ بِكَ، وَأَنْتَ ابْنُ أُخْتِنَا، وَتَعْرُوكَ حُقُوقٌ وَمَا لَكَ سِعَةٌ، فَاسْتَعِنْ بهذا على ما ينو بك، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَرَدَّهُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قُرَيْشٍ حِينَ جَمَعُوا لَهُ مَالًا وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنْ يُمْسِكَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَنَزَلَتْ. فَالْمَعْنَى: «لَا أَسْأَلُكُمْ مَالًا وَلَا رِيَاسَةً، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمْ أَنْ تَرْعَوْا حَقَّ قَرَابَتِي وَتُصَدِّقُونِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَتُمْسِكُوا عَنْ أَذِيَّتِي وَأَذِيَّةِ مَنْ تَبِعَنِي» ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَكْثَرَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبْنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْأَلُهُ عَنْهَا، فَكَتَبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْسَطَ النَّاسِ فِي قُرَيْشٍ، لَيْسَ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ. فَارْعَوْا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَصَدِّقُونِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَصِلُ أَرْحَامَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تَتَوَدَّدُوا إِلَى اللَّهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَاسِمِ: إِلَّا أَنْ يَتَوَدَّدَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَتَصِلُوا قَرَابَاتِكُمْ. رُوِيَ أَنَّ شَبَابًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَاخَرُوا الْمُهَاجِرِينَ وَصَالُوا بِالْقَوْلِ، فَنَزَلَتْ عَلَى مَعْنَى: أَنْ

لَا تُؤْذُونِي فِي قَرَابَتِي وَتَحْفَظُونِي فِيهِمْ. وَقَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتَشْهَدَ بِالْآيَةِ حِينَ سِيقَ إِلَى الشَّامِ أَسِيرًا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ قَرَابَتُكَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِمَوَدَّتِهِمْ؟ فَقَالَ: «عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَابْنَاهُمَا» . وَقِيلَ: هُمْ وَلَدُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ لَيْسَتْ أَجْرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، أَيْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا هَذَا أَنْ تَوَدُّوا أَهْلَ قَرَابَتِي، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا أَجْرًا فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ قَرَابَتَهُ قَرَابَتُهُمْ، فَكَانَتْ صِلَتُهُمْ لَازِمَةً لَهُمْ فِي الْمُرُوءَةِ. وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ إِلَّا مَوَدَّةَ الْقُرْبَى، أَوْ إِلَّا الْمَوَدَّةَ لِلْقُرْبَى؟ قُلْتُ: جَعَلُوا مَكَانًا لِلْمَوَدَّةِ وَمَقَرًّا لَهَا، كَقَوْلِكَ: لِي فِي آلِ فُلَانٍ مَوَدَّةٌ، وَلِي فِيهِمْ هَوًى وَحُبٌّ شَدِيدٌ، تُرِيدُ: أُحِبُّهُمْ وَهُمْ مَكَانُ حُبِّي وَمَحِلُّهُ. وَلَيْسَتْ فِي صِلَةٍ لِلْمَوَدَّةِ كَاللَّامِ، إِذَا قُلْتَ إِلَّا الْمَوَدَّةَ لِلْقُرْبَى، إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَعَلَّقَ الظَّرْفِ بِهِ فِي قَوْلِكَ: الْمَالُ فِي الْكِيسِ، وَتَقْدِيرُهُ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ ثَابِتَةً فِي الْقُرْبَى وَمُتَمَكِّنَةً فِيهَا. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ وَفِيهِ تَكْثِيرٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِلَّا مَوَدَّةً وَالْجُمْهُورُ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ. وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً: أَيْ يَكْتَسِبْ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْحَسَنَةِ عُمُومِ الْبَدَلِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى وَغَيْرُهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ، أَنَّهَا الْمَوَدَّةُ فِي آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَزِدْ بِالنُّونِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ عن الكسائي: يزيد بِالْيَاءِ، أَيْ يَزِدِ اللَّهُ. وَالْجُمْهُورُ: حُسْناً بِالتَّنْوِينِ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: حُسْنَى بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، عَلَى وَزْنِ رُجْعَى، وَزِيَادَةُ حُسْنِهَا: مُضَاعَفَةُ أَجْرِهَا. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ: سَاتِرُ عُيُوبِ عِبَادِهِ، شَكُورٌ: مُجَازٍ عَلَى الدَّقِيقَةِ، لَا يَضِيعُ عِنْدَهُ عَمَلُ الْعَامِلِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَفُورٌ لِذُنُوبِ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، شَكُورٌ لِحَسَنَاتِهِمْ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً: أَضْرَبَ عَنِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ، وَاسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، أَيْ مِثْلُهُ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ، مَعَ اعْتِرَافِكُمْ لَهُ قَبْلُ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ. فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَرْبِطُ عَلَى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، حَتَّى لَا يَشُقَّ عَلَيْكَ قَوْلُهُمْ: إِنَّكَ مُفْتَرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ: يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ: يُنْسِيكَ الْقُرْآنَ، وَالْمُرَادُ الرَّدُّ عَلَى مَقَالَةِ الْكُفَّارِ وَبَيَانُ إِبْطَالِهَا، وَذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُفْتَرِيَاتٍ وَأَنْتَ مِنَ اللَّهِ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ وَهُوَ قَادِرٌ: وَلَوْ شَاءَ

أن يختم على قبلك فَلَا تَعْقِلُ وَلَا تَنْطِقُ ولا يستمر افتراؤك؟ فمقصد اللَّفْظُ هَذَا الْمَعْنَى، وَحُذِفَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا. انْتَهَى. هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ قَتَادَةَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفِي أَلْفَاظِهِ فَظَاظَةٌ لَا تَلِيقُ أَنْ تُنْسَبَ لِلْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَنْ قَتَادَةَ: يُنْسِيكَ الْقُرْآنَ وَيَنْقَطِعُ عَنْكَ الْوَحْيُ، يَعْنِي لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَجْعَلْكَ مِنَ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى تَفْتَرِيَ عَلَيْهِ الكذب، فإنه لا يجترىء عَلَى افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مُؤَدَّاهُ اسْتِبْعَادُ الِافْتِرَاءِ مِنْ مِثْلِهِ، وَأَنَّهُ فِي الْبُعْدِ مِثْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَالدُّخُولِ فِي جُمْلَةِ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَمِثَالُ هَذَا أَنْ يَخُونَ بَعْضُ الْأُمَنَاءِ فَيَقُولُ: لَعَلَّ اللَّهَ خَذَلَنِي، لَعَلَّ اللَّهَ أَعْمَى قَلْبِي، وَهُوَ لَا يُرِيدُ إِثْبَاتَ الْخِذْلَانِ وَعَمَى الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اسْتِبْعَادَ أَنْ يَخُونَ مِثْلُهُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ رَكِبَ مِنْ تَخْوِينِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ عَادَةِ اللَّهِ أَنْ يَمْحُوَ الْبَاطِلَ وَيُثْبِتَ الْحَقَّ بِوَحْيِهِ أَوْ بِقَضَائِهِ لِقَوْلِهِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ «1» ، يَعْنِي: لَوْ كَانَ مُفْتَرِيًا، كَمَا يَزْعُمُونَ، لَكَشَفَ اللَّهُ افْتِرَاءَهُ وَمَحَقَهُ، وَقَذَفَ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَدَمَغَهُ. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوِ افْتَرَيْتَ عَلَى اللَّهِ، لَطَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ حَتَّى لَا تَقْدِرَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: لَخَتَمَ عَلَى قَلْبِكَ بِالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى: يَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَعَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ. انْتَهَى، فَيَكُونُ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْإِفْرَادِ، أَيْ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ أَيُّهَا الْقَائِلُ أَنَّهُ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ: اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، أَيْ يَمْحُوهُ. إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ نَازِلُهُ. وَكُتِبَ وَيَمْحُ بِغَيْرِ وَاوٍ، كَمَا كَتَبُوا سَنَدْعُ بِغَيْرِ وَاوٍ، اعْتِبَارًا بِعَدَمِ ظُهُورِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا وَقْفَ اخْتِيَارٍ. وَلَمَّا سَقَطَتْ مِنَ اللَّفْظِ سَقَطَتْ مِنَ الْخَطِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِدَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، بأن يَمْحُو الْبَاطِلَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبُهْتِ وَالتَّكْذِيبِ، وَيُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَبِقَضَائِهِ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ نُصْرَتِكَ عَلَيْهِمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا فِي صَدْرِكَ وَصُدُورِهِمْ، فَيُجْرِي الْأَمْرَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. انْتَهَى. قِيلَ: وَيُحِقُّ الْإِسْلَامَ بِكَلِمَاتِهِ، أَيْ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، يُقَالُ: قَبِلْتُ مِنْهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى: أَخَذْتُهُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ «2» ، أَيْ تُؤْخَذَ، أَيْ جَعَلْتُهُ مَبْدَأَ قبولي ومنشأه، وقبلته

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 18. (2) سورة التوبة: 9/ 54.

عَنْهُ: عَزَلْتُهُ عَنْهُ وَأَبَنْتُهُ، فَمَعْنَى عَنْ عِبادِهِ: أَيْ يُزِيلُ الرُّجُوعَ عَنِ الْمَعَاصِي. وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَنِ السَّيِّئَاتِ إِذَا تِيبَ عَنْهَا، وَعَنِ الصَّغَائِرِ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. إِنَّ الِاعْتِزَالِ. إِنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُعْفَى عَنْهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، فَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يَفْعَلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَخَوَانِ، وَحَفْصٌ: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ فَاعِلٌ، وَيَسْتَجِيبُ: أَيْ وَيُجِيبُ، الَّذِينَ آمَنُوا لِرَبِّهِمْ، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ «1» ، فَيَكُونُ يَسْتَجِيبُ بِمَعْنَى يُجِيبُ، أَوْ يَبْقَى عَلَى بَابِهِ مِنَ الطَّلَبِ، أَيْ يَسْتَدْعِي الَّذِينَ آمَنُوا الْإِجَابَةَ مِنْ رَبِّهِمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا فِي فِعْلِهِمْ إِذَا دَعَاهُمْ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُنَا نَدْعُو فَلَا نُجَابُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ دَعَاكُمْ فَلَمْ تُجِيبُوهُ، ثُمَّ قرأ: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ «2» . وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ مَفْعُولٌ، وَاسْتَجَابَ وَأَجَابَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْمَعْنَى: وَيُجِيبُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ لِلَّذِينِ، كَمَا قَالَ: فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبٌ أَيْ: لَمْ يَجُبْهُ. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ: أَيْ عَلَى الثَّوَابِ تَفَضُّلًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «قَبُولُ الشَّفَاعَاتِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالرِّضْوَانِ» . وَقَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا، فَنَزَلَتْ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ: طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ وَيَبْسُطَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَرْزَاقَ، فَنَزَلَتْ. أَعْلَمُ أَنَّ الرِّزْقَ لَوْ جَاءَ عَلَى اقْتِرَاحِ الْبَشَرِ، لَكَانَ سَبَبَ بَغْيِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ. فَرُبَّ إِنْسَانٍ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَكْتَفِي شَرُّهُ إِلَّا بِالْفَقْرِ، وَآخَرُ بِالْغِنَى. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى وَالتَّقْسِيمِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَنَسٌ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا الغنى، فلا تفقرني» . ولبغوا، إِمَّا مِنَ الْبَذَخِ وَالْكِبْرِ، أَيْ لَتَكَبَّرُوا فِي الْأَرْضِ، فَفَعَلُوا مَا يَتْبَعُ الْكِبْرَ مَعَ الْغِنَى. أَلَا تَرَى إِلَى حَالِ قَارُونَ؟ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَخْوَفُ مَا يُخَافُ عَلَى أُمَّتِي زَهْرَةُ الدُّنْيَا» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ جَعَلُوا الْوَسْمِيَّ يَنْبُتُ بَيْنَنَا ... وَبَيْنَ بَنِي رُومَانَ نَبْعًا وَشَوْحَطَا

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 24. (2) سورة يونس: 10/ 25.

يَعْنِي: أَنَّهُمْ أَحَبُّوا، فَجَذَبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْبَغْيِ وَالْفِتَنِ. وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ، يُقَالُ: قَدْرَ بِالسُّكُونِ وَبِالْفَتْحِ، أَيْ: يُقَدِّرُ لَهُمْ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَنَطُوا، بِفَتْحِ النُّونِ وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِكَسْرِهَا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ: يُظْهِرُهَا مِنَ آثَارِ الْغَيْثِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْخَصْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَحْمَتَهُ نَشْرُهَا أَعَمُّ مِمَّا فِي الْغَيْثِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَحْمَتَهُ: الْغَيْثُ، وَعَدَّدَ النِّعْمَةَ بِعَيْنِهَا بِلَفْظَيْنِ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ هُنَا ظهور الشمس، لأن إِذَا دَامَ الْمَطَرُ سُئِمَ، فَتَجِيءُ الشَّمْسُ بَعْدَهُ عَظِيمَةَ الْمَوْقِعِ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَهُوَ الْوَلِيُّ: الَّذِي يَتَوَلَّى عِبَادَهُ، الْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ عَلَى مَا أَسْدَى مِنَ نَعْمَائِهِ وَمَا بَثَّ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجْرُورٌ عطفا على السموات وَالْأَرْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، عَطْفًا عَلَى خَلْقُ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَخَلْقُ مَا بَثَّ. وَفِيهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا نُسِبَ فِيهِ دَابَّةٍ إِلَى الْمَجْمُوعِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ مُلْتَبِسًا بِبَعْضِهِ. كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ صَنَعُوا كَذَا، وَإِنَّمَا صَنْعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَمِنْهُ يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ، أَوْ يَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. بَعْضٌ يَمْشِي مَعَ الطَّيَرَانِ، فَيُوصَفُ بِالدَّبِيبِ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الْأَنَاسِيُّ، أَوْ يَكُونُ قَدْ خلق في السموات حَيَوَانًا يَمْشِي مَعَ مَشْيِ الْأَنَاسِيِّ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ يُرِيدُ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي السَّحَابِ. وَقَدْ يَقَعُ أَحْيَانًا، كَالضَّفَادِعِ وَالسَّحَابُ دَاخِلٌ فِي اسْمِ السَّمَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ: هُمُ النَّاسُ وَالْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَمَا بَثَّ فِي أَحَدِهِمَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِيهِمَا بِالْفَاءِ، وَكَذَا هِيَ فِي مُعْظَمِ الْمَصَاحِفِ. وَاحْتَمَلَ مَا أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْفَاءُ تَدْخُلُ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ إِذَا أُجْرِيَ مَجْرَى الشَّرْطِ بِشَرَائِطَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ، وَشَيْبَةُ: بما بغير فاء، فما مَوْصُولَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَحُذِفَتِ الْفَاءُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخُصُّهُ سِيبَوَيْهِ بِالشِّعْرِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَبَعْضُ نُحَاةِ بَغْدَادَ وَذَلِكَ عَلَى إِرَادَةِ الْفَاءِ. وَتَرَتُّبُ مَا أَصَابَ مِنَ الْمَصَائِبِ عَلَى كَسْبِ الْأَيْدِي مَوْجُودٌ مَعَ الْفَاءِ وَدُونِهَا هُنَا، وَالْمُصِيبَةُ: الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ مُجَازَاةٌ عَلَى ذُنُوبِ الْمَرْءِ وَتَمْحِيصٌ لِخَطَايَاهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وَلَا يُجَازِي عَلَيْهِ بِمُصِيبَةٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يُصِيبُ ابْنُ آدَمَ خَدْشُ عَوْدٍ أَوْ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلَا اخْتِلَاجُ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَرُ» . وَسُئِلَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ مَرَضِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَبَّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا مِمَّا كَسَبَتْ يَدَايَ. وَرُؤِيَ عَلَى كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةٌ، فَقِيلَ: بِمَ هَذَا؟ فَقَالَ: بِمَا كَسَبَتْ يَدَايَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُجْرِمِينَ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ اللَّهُ عِقَابَ

الْمُجْرِمِ وَيَعْفُوَ عَنْ بَعْضٍ. فَأَمَّا مَنْ لَا جُرْمَ لَهُ، كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ، فَهُوَ كَمَا إِذَا أَصَابَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَلَمٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلِلْعِوَضِ الْمُوفِي وَالْمُصْلِحَةِ وَعَنْ عَلِيٍّ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ مُصِيبَةٍ: أَيْ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَتِلْكَ مَصَائِبُ تَنْزِلُ بِشَخْصِ الْإِنْسَانِ وَنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا هِيَ بِكَسْبِ أيديكم. وَيَعْفُوا اللَّهُ عَنْ كَثِيرٍ، فَيَسْتُرُهُ عَلَى الْعِبَادِ حَتَّى لَا يُحَدَّ عَلَيْهِ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ: أَنْتُمْ فِي قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَتِ الْمَصَائِبُ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْقَحْطِ وَالْغَرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِعُقُوبَاتٍ عَلَى الذُّنُوبِ لِقَوْلِهِ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «1» ، وَلِاشْتِرَاكِ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ فِيهِمَا، بَلْ أَكْثَرُ مَا يُبْتَلَى بِهِ الصَّالِحُونَ الْمُتَّقُونَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «خُصَّ بِالْبَلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» . وَلِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ حَصَلَ الْجَزَاءُ فِيهَا لَكَانَتْ دَارَ الْجَزَاءِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُؤَخِّرُهُ نُصُوصُ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً «2» الْآيَةَ. وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ، فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِهِ أَنْوَاعًا، ذَكَرَ بَعْدَهَا الْعَالَمَ الْأَكْبَرَ، وهو السموات وَالْأَرْضُ ثُمَّ الْعَالَمَ الْأَصْغَرَ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ. ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمَعَادِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ السُّفُنِ الْجَارِيَةِ فِي الْبَحْرِ، لِمَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَاءَ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ يَغُوصُ فِيهِ الثَّقِيلُ، وَالسُّفُنُ تَشْخَصُ بِالْأَجْسَامِ الثَّقِيلَةِ الْكَثِيفَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَ تعالى للماء

_ (1) سورة غافر: 40/ 17. (2) سورة العنكبوت: 29/ 40.

قُوَّةً يَحْمِلُهَا بِهَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْغَوْصِ. ثُمَّ جَعَلَ الرِّيَاحَ سَبَبًا لِسَيْرِهَا. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَرْسُوَ، أَسْكَنَ الرِّيحَ، فَلَا تَبْرَحُ عَنْ مكانها. والجواري: جَمْعُ جَارِيَةٍ، وَأَصْلُهُ السُّفُنُ الْجَوَارِي، حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَقَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي الْبَحْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلسُّفُنِ، وَإِلَّا فَهِيَ صِفَةٌ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْذَفَ الْمَوْصُوفُ وَيَقُومَ مَقَامَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا صِفَةٌ غَالِبَةٌ، كَالْأَبْطَحِ، فَجَازَ أَنْ تَلِيَ الْعَوَامِلَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ. وقرىء: الْجَوَارِي بِالْيَاءِ وَدُونِهَا، وَسُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ الْإِعْرَابُ فِي الراء، وفي البحر متعلق بالجواري، وكالأعلام فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْأَعْلَامُ: الْجِبَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ أُخْتِ صَخْرٍ وَمُعَاوِيَةَ: وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ وَمِنْهُ: إِذَا قَطَعْنَ عَلَمًا بَدَا عَلَمُ وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: الرِّيحَ إِفْرَادًا، وَنَافِعٌ: جَمْعًا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَظْلَلْنَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ: بِكَسْرِهَا، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَالْكَسْرُ فِي الْمُضَارِعِ شَاذٌّ: وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ ظَلَّ يَظَلُّ وَيَظِلُّ، نَحْوَ ضَلَّ يَضَلُّ وَيَضِلُّ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ يَضَلُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ ضَلِلْتُ بِكَسْرِهَا فِي الْمَاضِي، وَيَضِلُّ بِكَسْرِهَا مِنْ ضَلَلْتُ بِفَتْحِهَا فِي الْمَاضِي، وَكِلَاهُمَا مَقِيسٌ. لِكُلِّ صَبَّارٍ عَلَى بَلَائِهِ، شَكُورٌ لِنَعْمَائِهِ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكْهُنَّ، أَيِ الْجَوَارِي، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يُسْكِنِ، وَالضَّمِيرُ فِي كَسَبُوا عَائِدٌ عَلَى رُكَّابِ السُّفُنِ، أَيْ بِذُنُوبِهِمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيَعْفُو بِالْوَاوِ، وَعَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: بِنَصْبِ الْوَاوِ، وَالْجُمْهُورُ: وَيَعْفُ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى يُوبِقْهُنَّ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، أَيْ لَا يُؤَاخِذُ بِجَمِيعِ مَا اكْتَسَبَ الْإِنْسَانُ. وَأَمَّا النَّصْبُ، فَبِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ، وَكَالنَّصْبِ بَعْدَ الْفَاءِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ، وَبَعْدَ الْوَاوِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ رُوِيَ بِنَصْبِ وَنَأْخُذُ وَرَفْعِهِ وَجَزْمِهِ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْعَطْفُ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أَيْ يَقَعُ إِيبَاقٌ وَعَفْوٌ عَنْ كَثِيرٍ. وَأَمَّا الْجَزْمُ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ جَوَابِ الشَّرْطِ، إِذْ هُوَ

مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ، لَكِنَّ هَذَا عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى فِعْلٍ، وَفِي النَّصْبِ عَطْفُ مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ. وَقَالَ القشيري: وقرىء: وَيَعْفُ بِالْجَزْمِ، وَفِيهَا إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَتَبْقَى تِلْكَ السُّفُنُ رَوَاكِدُ، أَوْ يُهْلِكَهَا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا، فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ وَيَعْفُ عَلَى هَذِهِ، لأن المعنى: يصيران شيئا يَعْفُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ عَنْ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ، فَهُوَ إِذَنْ عُطِفَ عَلَى الْمَجْزُومِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَدْ قَرَأَ قَوْمٌ: وَيَعْفُو بِالرَّفْعِ، وَهِيَ جَيِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى. انْتَهَى، وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَمْ يَفْهَمْ مَدْلُولَ التَّرْكِيبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ يَشَأْ أَهْلَكَ نَاسًا وَأَنْجَى نَاسًا عَلَى طَرِيقِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: على م عُطِفَ يُوبِقْهُنَّ؟ قُلْتُ: عَلَى يُسْكِنِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَرْكُدْنَ، أَوْ يَعْصِفْهَا فَيَغْرَقْنَ بِعَصْفِهَا. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْ يَعْصِفُهَا فَيَغْرَقْنَ، لِأَنَّ إِهْلَاكَ السُّفُنِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِعَصْفِ الرِّيحِ، بَلْ قَدْ يُهْلِكُهَا تَعَالَى بِسَبَبٍ غَيْرِ الرِّيحِ، كَنُزُولِ سَطْحِهَا بِكَثْرَةِ الثِّقَلِ، أَوِ انْكِسَارِ اللَّوْحِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِهْلَاكِهَا، أَوْ يَعْرِضُ عَدُوٌّ يُهْلِكُ أَهْلَهَا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَيَعْلَمَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَعْلَمَ بِالنَّصْبِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَحَسُنَ: النَّصْبُ إِذَا كَانَ قَبْلَهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى إِضْمَارِ أَنْ، لِأَنَّ قَبْلَهَا جَزَاءً. تَقُولُ: مَا تَصْنَعُ أَصْنَعُ مِثْلَهُ، وَأُكْرِمَكَ، وإن أشئت، وَأَكْرِمُكَ عَلَى، وَأَنَا أُكْرِمُكَ، وَإِنْ شِئْتَ، وَأُكْرِمْكَ جَزْمًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ، لِمَا أَوْرَدَهُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْبَ بِالْفَاءِ وَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَأْتِنِي آتِكَ وَأُعْطِيكَ ضَعِيفٌ، وَهُوَ نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ بِحَدِّ الْكَلَامِ وَلَا وَجْهِهِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْجَزَاءِ صَارَ أَقْوَى قَلِيلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنَّهُ يَفْعَلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ فِعْلٌ. فَلَمَّا ضَارَعَ الَّذِي لَا يُوجِبُهُ، كَالِاسْتِفْهَامِ وَنَحْوِهِ، أَجَازُوا فِيهِ هَذَا عَلَى ضَعْفِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ لَيْسَ بِحَدِّ الْكَلَامِ وَلَا وَجْهِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَمَا أَخْلَى سِيبَوَيْهِ مِنْهَا كِتَابَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ نَظَائِرَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْكَلَةِ. انْتَهَى. وَخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ تَقْدِيرُهُ: لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ، يُكْرَهُ فِي الْعَطْفِ عَلَى التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفِ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ

تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ «1» ، وَقَوْلُهُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ «2» ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» . انْتَهَى. وَيَبْعُدُ تَقْدِيرُهُ لِيَنْتَقِمَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى الشَّرْطِ إِهْلَاكُ قَوْمٍ، فَلَا يَحْسُنُ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْآيَتَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ. فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يُقَدَّرُ هَذَا الْفِعْلُ مَحْذُوفًا قَبْلَ لَامِ الْعِلَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلٌ ظَاهِرٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَعْلَمَ قرىء بِالْجَزْمِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى جَزْمِ وَيَعْلَمَ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُ قَالَ: أَوْ إِنْ يَشَأْ يَجْمَعُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: هَلَاكِ قَوْمٍ، وَنَجَاةِ قَوْمٍ، وَتَحْذِيرِ آخَرِينَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يَتَضَمَّنُ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهُ، وَمَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ يَعْلَمَ مُعَلَّقَةٌ، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ مَا زَيْدٌ قَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَهَذِهِ الْوَاوُ وَنَحْوُهَا الَّتِي تُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ وَاوَ الصَّرْفِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ وَاوِ الصَّرْفِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ مُقَدَّرٍ، فَيُقَدَّرُ أَنْ لِيَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، فَيَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلَى الِاسْمِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ قَوْلُهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِمْ وَاوُ الصَّرْفِ، إِنَّمَا هُوَ تَقْرِيرٌ لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّ وَاوَ الصَّرْفِ نَاصِبَةٌ بِنَفْسِهَا، لَا بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى الصَّرْفِ كَالَّذِي فِي آلِ عِمْرَانَ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «4» ، وَمَعْنَى الصَّرْفِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى جِهَةٍ، فَصُرِفَ إِلَى غَيْرِهَا، فَتَغَيَّرَ الْإِعْرَابُ لِأَجْلِ الصَّرْفِ. وَالْعَطْفُ لَا يُعَيِّنُ الِاقْتِرَانَ فِي الْوُجُودِ، كَالْعَطْفِ فِي الِاسْمِ، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. وَلَوْ نُصِبَ وَعَمْرُو اقْتَضَى الِاقْتِرَانَ وَكَذَلِكَ وَاوُ الصَّرْفِ، لِيُفِيدَ مَعْنَى الِاقْتِرَانِ وَيُعَيِّنَ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، وَلِذَلِكَ أُجْمِعَ عَلَى النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، أَيْ وَيَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ وَالصَّابِرِينَ مَعًا. عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اجْتَمَعَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالٌ، فَتَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْخَيْرِ، فَلَامَهُ الْمُسْلِمُونَ وَخَطَّأَهُ الْكَافِرُونَ، فَنَزَلَتْ: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: لِلْمُشْرِكِينَ، وَمَا شرطية مفعول ثان لأوتيتم، ومن شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَا، وَالْمَعْنَى: مِنْ شَيْءٍ مِنْ رِيَاشِ الدُّنْيَا وَمَالِهَا وَالسَّعَةِ فِيهَا، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ فَهُوَ مَتَاعٌ، أَيْ يُسْتَمْتَعُ فِي الْحَيَاةِ. وَما عِنْدَ اللَّهِ: أَيْ مِنْ ثَوَابِهِ وما أعد لأوليائه،

_ (1) سورة مريم: 19/ 21. (2) سورة العنكبوت: 29/ 44. [.....] (3) سورة الجاثية: 45/ 22. (4) سورة آل عمران: 3/ 142.

خَيْرٌ وَأَبْقى مِمَّا أُوتِيتُمْ، لِأَنَّهُ لَا انْقِطَاعَ لَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكَبَائِرِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ «1» ، فِي النِّسَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَبائِرَ جَمْعًا هُنَا، وَفِي النَّجْمِ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالْإِفْرَادِ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ: عُطِفَ عَلَى لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ. وَوَقَعَ لِأَبِي الْبَقَاءِ وَهْمٌ فِي التِّلَاوَةِ، اعْتَقَدَ أَنَّهَا الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ بِغَيْرِ وَاوٍ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْإِعْرَابَ فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نصب بإضمار، أَعْنِي: وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى تقديرهم. انْتَهَى. وَالْعَامِلُ فِي إِذَا يَغْفِرُونَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ معطوف عَلَى يَجْتَنِبُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمْ تَوْكِيدًا لِلْفَاعِلِ فِي غَضِبُوا. وَقَالَ أَبُو البقاء: هم مبتدأ، ويغفرون الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ إِذَا. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَوْ كَانَتْ جَوَابَ إِذَا لَكَانَتْ بِالْفَاءِ، تَقُولُ: إِذَا جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفَاءِ إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي شِعْرٍ. وَقِيلَ: هُمْ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ يَغْفِرُونَ، وَلَمَّا حُذِفَ، انْفَصَلَ الضَّمِيرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ إِذَا يُفَسَّرُ كَمَا يُفَسَّرُ فِعْلُ الشَّرْطِ بَعْدَهَا، نَحْوُ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «2» ، وَلَا يَبْعُدُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، إِذْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَدَاةِ الشَّرْطِ الْجَازِمَةِ، نَحْوُ: إِنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ يَنْطَلِقُ، فَزِيدٌ عِنْدَهُ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الْجَوَابُ، أَيْ يَنْطَلِقُ زَيْدٌ، مَنَعَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمْ يَغْفِرُونَ، أَيْ هُمُ الْأَخِصَّاءُ بِالْغُفْرَانِ، فِي حَالِ الْغَضَبِ لَا يَغُولُ الْغَضَبُ أَحْلَامَهُمْ، كَمَا يَغُولُ حُلُومَ النَّاسِ. وَالْمَجِيءُ لَهُمْ وَإِيقَاعُهُ مُبْتَدَأٌ، وَإِسْنَادُ يَغْفِرُونَ إِلَيْهِ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ. انْتَهَى، وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى كَسْرِ الْغَضَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ» . وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، دَعَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ. وَكَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَبْلَ أَنْ يُقْدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، إِذَا نَابَهُمْ أَمْرٌ تَشَاوَرُوا، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لَا يَنْفَرِدُونَ بِأَمْرٍ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَدِ أَمْرِهِمْ. انْتَهَى. وَفِي الشُّورَى اجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ وَالتَّحَابُّ وَالتَّعَاضُدُ عَلَى الْخَيْرِ. وَقَدْ شَاوَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحَ الْحُرُوبِ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ، كَمُشَاوَرَةِ عُمَرُ لِلْهُرْمُزِ. وَفِي الْأَحْكَامِ، كَقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَمِيرَاثِ الْحَرْبِيِّ، وعدد

_ (1) سورة النساء: 4/ 31. (2) سورة الانشقاق: 18/ 1.

مُدْمِنِي الْخَمْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالشُّورَى مَصْدَرٌ كَالْفُتْيَا بِمَعْنَى التَّشَاوُرِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَمْرُهُمْ ذُو شُورَى بينهم. وهُمْ يَنْتَصِرُونَ: صِلَةٌ لِلَّذِينِ، وَإِذَا معمولة لينتصرون، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمْ يَنْتَصِرُونَ جوابا لإذا، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَجَوَابُهَا صِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ هُنَا أَنْ يَكُونَ هُمْ فَاعِلًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ فِي هُمْ يَغْفِرُونَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ هُمْ تَوْكِيدًا لِلْهَاءِ وَالْمِيمِ، يَعْنِي فِي أَصَابَهُمْ، وَهُوَ ضَمِيرُ رَفْعٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُؤَكَّدِ وَالتَّوْكِيدِ بِالْفَاعِلِ، وَهُوَ فِعْلٌ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ، وَالِانْتِصَارُ: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا حَدَّهُ اللَّهُ لَهُ وَلَا يَعْتَدِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفَسَهُمْ، فتجترىء عَلَيْهِمُ الْفُسَّاقُ، وَمَنِ انْتَصَرَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَهُوَ مُطِيعٌ مَحْمُودٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَهِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ: الْآيَةُ فِي الْمَجْرُوحِ يَنْتَصِفُ مِنَ الْجَارِحِ بِالْقِصَاصِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعَدَّى الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ فِي الْأَرْضِ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الِانْتِصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَفْضَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ؟ فَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّخَعِيُّ، وَهَذَا فِيمَنْ تَعَدَّى وَأَصَرَّ، وَالْمَأْمُورُ فِيهِ بِالْعَفْوِ إِذَا كَانَ الْجَانِي نَادِمًا مُقْلِعًا. وَقَدْ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ الْآيَةَ، فَيَقْتَضِي إِبَاحَةَ الِانْتِصَارِ. وَقَدْ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقُرْآنِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُصِرِّ. فَأَمَّا الْمُصِرُّ عَلَى الْبَغْيِ، فَالْأَفْضَلُ الِانْتِصَارُ مِنْهُ بِدَلِيلِ الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْمَعْنَى تَنَاصَرُوا عَلَيْهِ فَأَزَالُوهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ الْكِيَا. قَالَ الْجُمْهُورُ: إِذَا بَغَى مُؤْمِنٌ عَلَى مُؤْمِنٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَرْفَعُ ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَهُ ذَلِكَ. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها: هَذَا بَيَانٌ لِلِانْتِصَارِ، أَيْ لَا يَتَعَدَّى فِيمَا يُجَازِي بِهِ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَالسُّدِّيُّ: إِذَا شُتِمَ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ مَا شُتِمَ بِهِ دُونَ أَنْ يَتَعَدَّى، وَسُمِّيَ الْقِصَاصُ سَيِّئَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا تَسُوءُ مَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ، كَمَا سَاءَتِ الْحَيْضُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِثْلُهَا الْمُمَاثَلَةُ مُطْلَقًا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، لَا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَالْفُقَهَاءُ أَدْخَلُوا التَّخْصِيصَ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ بِنَاءً عَلَى الْقِيَاسِ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: إِذَا قَالَ لَهُ أَخْزَاكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ، وَإِذَا قَذَفَهُ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ، بَلِ الْحَدُّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ: أَيْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ بِالْعَفْوِ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ: عِدَةٌ مُبْهَمَةٌ لَا يُقَاسُ عِظَمُهَا، إِذْ هِيَ عَلَى اللَّهِ. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: أَيْ الْخَائِنِينَ، وَإِذَا كَانَ

لَا يُحِبُّهُ وَقَدْ نُدِبَ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُ، فَالْعَفْوُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ أَوْلَى أَنْ يَعْفِيَ عَنْهُ، أَوْ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ مَنْ تَجَاوَزَ وَاعْتَدَى مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِمْ، إِذَا انْتَصَرُوا خُصُوصًا فِي حَالَةِ الْحَرْبِ وَالْتِهَابِ الْحَمِيَّةِ، فَرُبَّمَا يَظْلِمُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اللَّهِ فَلْيَقُمْ، قَالَ: فَيَقُومُ خَلْقٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا أَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا، فَيُقَالُ لَهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِإِذْنِ اللَّهِ» . وَاللَّامُ فِي وَلَمَنِ انْتَصَرَ لَامُ تَوْكِيدٍ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَفِيهَا مَعْنَى الْقَسَمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَامُ الْتِقَاءِ الْقَسَمِ يَعْنِيَانِ أَنَّهَا اللَّامُ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، فَالْقَسَمُ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، وَمَنْ شُرْطِيَّةٌ، وَحُمِلَ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ عَلَى لَفْظِ من، وفأولئك عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَالْفَاءُ جواب الشرط، وظلمه مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُفَسِّرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: بَعْدَ مَا ظُلِمَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، قِيلَ: أَيْ مِنْ طَرِيقٍ إِلَى الْحَرَجِ وَقِيلَ: مِنْ سَبِيلٍ لِلْمُعَاقِبِ، وَلَا الْمُعَاتِبِ وَالْعَاتِبِ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي إِبَاحَةِ الِانْتِصَارِ. إِنَّمَا السَّبِيلُ: أَيْ سَبِيلُ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ، عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ: أَيْ يَبْتَذِلُونَ بِالظُّلْمِ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ: أَيْ يَتَكَبَّرُونَ فِيهَا وَيَعْلُونَ وَيُفْسِدُونَ. وَقِيلَ: وَيَظْلِمُونَ النَّاسَ: أَيْ يَضَعُونَ الْأَشْيَاءَ غَيْرَ مَوَاضِعِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَالْأَذَى بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ. وَالْبَغْيُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّتِهِ وَسُوءِ حَالِ صَاحِبِهِ. انْتَهَى. وَلَمَنْ صَبَرَ: أَيْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْأَذَى، وَغَفَرَ، وَلَمْ يَنْتَصِرْ. وَاللَّامُ فِي وَلَمَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةَ الْقَسَمَ الْمَحْذُوفَ، وَمَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَمَنْ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِإِنَّ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَنْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَأُضْمِرَ الْخَبَرُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ إِنَّ وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا أَيْ: فَاللَّهُ يَشْكُرُهَا. انْتَهَى، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ حَذْفَ الْفَاءِ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ مَصْدَرِ صَبَرَ وَغَفَرَ وَالْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ، أَيْ إِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، إن كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، لَمْ يَكُنْ فِي عَزْمِ الْأُمُورِ حَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْمُبْتَدَأِ، كَانَ هُوَ الرَّابِطُ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مِنْهُ، وَكَانَ فِي عَزْمِ الْأُمُورِ، أَيْ إِنَّهُ لَمِنْ ذَوِي عَزْمِ الْأُمُورِ. وَسَبَّ رَجُلٌ آخَرَ فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ،

فَكَانَ الْمَسْبُوبُ يَكْظِمُ وَيَعْرَقُ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ، ثُمَّ قَامَ فَتَلَا الْآيَةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: عَقَلَهَا وَاللَّهِ وَفَهِمَهَا، لِمَ هَذِهِ ضَيَّعَهَا الْجَاهِلُونَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ، وَقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ: أَيْ مِنْ نَاصِرٍ يَتَوَلَّاهُ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِهِ، وَهَذَا تَحْقِيرٌ لِأَمْرِ الْكَفَرَةِ. وَتَرَى الظَّالِمِينَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ، وَالْمَعْنَى: وَتَرَى حَالَهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْحَيْرَةِ، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ: هَلْ سَبِيلٌ إِلَى الرَّدِّ لِلدُّنْيَا؟ وَذَلِكَ مِنْ فَظِيعِ مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ، وَسُوءِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ. وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها: أَيْ عَلَى النَّارِ، دَلَّ عَلَيْهَا ذِكْرُ الْعَذَابِ، خاشِعِينَ مُتَضَائِلِينَ صَاغِرِينَ مِمَّا يَلْحَقُهُمْ. مِنَ الذُّلِّ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: مِنَ الذِّلِّ، بِكَسْرِ الذَّالِ وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وَالْخُشُوعُ: الِاسْتِكَانَةُ، وَهُوَ مَحْمُودٌ. وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ إِلَى الذَّمِّ اقْتِرَانُهُ بِالْعَذَابِ. وَقِيلَ: مِنَ الذُّلِّ مُتَعَلِّقٌ بِ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِيلٍ. انْتَهَى. قِيلَ: وَوُصِفَ بِالْخَفَاءِ لِأَنَّ نَظَرَهُمْ ضَعِيفٌ وَلَحْظُهُمْ نِهَايَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ وَقِيلَ: يُحْشَرُونَ عُمْيًا. وَلَمَّا كَانَ نَظَرُهُمْ بِعُيُونِ قُلُوبِهِمْ، جَعَلَهُ طَرَفًا خَفِيًّا، أَيْ لَا يَبْدُو نَظَرُهُمْ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ تُكَلُّفٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ: الْمَعْنَى يُسَارِقُونَ النَّظَرَ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْهَمِّ وَسُوءِ الْحَالِ، لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ بِجَمِيعِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ مِنْ بَعْضِهَا، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ يَكُونَ الطَّرْفُ مَصْدَرًا، أَيْ مِنْ نَظَرٍ خَفِيٍّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، أي يبتدىء نَظَرُهُمْ مِنْ تَحْرِيكٍ لِأَجْفَانِهِمْ ضَعِيفٍ خَفِيٍّ بِمُسَارَقَةٍ، كَمَا تَرَى الْمُصَوِّرَ يَنْظُرُ إِلَى السَّيْفِ، وَهَكَذَا نَظَرُ النَّاظِرِ إِلَى الْمَكَارِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَجْفَانَهُ عَلَيْهَا وَيَمْلَأَ عَيْنَهُ مِنْهَا، كَمَا يَفْعَلُ فِي نَظَرِهِ إِلَى الْمُتَحَابِّ. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ، اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ، لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ

يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ. الظَّاهِرُ أَنَّ وَقالَ مَاضٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَيْ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَكُونُ يوم القيامة معمولا لخسروا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَقالَ: ويقول، ويوم الْقِيَامَةِ مَعْمُولُ لَوْ يَقُولُوا، أَيْ وَيَقُولُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا عَايَنُوا مَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ وَأَهْلِيهِمْ. الظَّاهِرُ أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَهْلِيهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ خَسِرُوهُمْ، أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ وَإِنْ كَانُوا فِي الجنة لكونهم كَانُوا فِي الْجَنَّةِ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، كَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ أَيْضًا. وَقِيلَ: أَهْلُوهُمْ مَا كَانَ أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْحُورِ لَوْ كَانُوا آمَنُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَقِيلَ: اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ، قِيلَ: هُوَ يَوْمُ وُرُودِ الْمَوْتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَوْمُ القيامة. ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا مَرَّ، أَيْ لَا يَرِدُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ اللَّهِ: مِنْ صِلَةُ للامرد. انْتَهَى، وَلَيْسَ الْجَيِّدُ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ صِلَتِهِ لَكَانَ مَعْمُولًا لَهُ، فَكَانَ يَكُونُ مُعْرَبًا مُنَوَّنًا. وَقِيلَ: مِنَ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يَأْتِيَ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ اللَّهِ يَوْمٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ. مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ تَلْجَأُونَ إِلَيْهِ، فَتَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا لَكُمْ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي تُورِدُكُمُ النَّارَ، وَالنَّكِيرُ مَصْدَرُ أَنْكَرَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ نَكَرَ مَعْنَاهُ لَمْ يُمَيِّزْ. فَإِنْ أَعْرَضُوا الْآيَةَ: تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ وَتَأْنِيسٌ لَهُ، وَإِزَالَةٌ لِهَمِّهِ بِهِمْ. وَالْإِنْسَانُ: يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ. وَجَاءَ جَوَابُ الشَّرْطِ فَإِنَّ الْإِنْسانَ وَلَمْ يَأْتِ فَإِنَّهُ، وَلَا فَإِنَّهُمْ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مَوْسُومٌ بِكُفْرَانِ النِّعَمِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «1» ، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «2» . وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَكْفُرُ النِّعَمَ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ مُلْكَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وأنه يفعل

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 34. (2) سورة العاديات: 100/ 6.

مَا يُرِيدُ، وَنَبَّهَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ الْكَائِنَاتِ نَاشِئَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَهَبُ لِبَعْضٍ إِنَاثًا، وَلِبَعْضٍ ذُكُورًا، وَلِبَعْضٍ الصِّنْفَيْنِ، وَيَعْقِمُ بَعْضًا فَلَا يُولَدُ لَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ عَمَّتْ. فَلُوطٌ أَبُو بَنَاتٍ لَمْ يولد له ذكور، وإبراهيم ضِدُّهُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وُلِدَ لَهُ الصِّنْفَانِ، وَيَحْيَى عَقِيمٌ. انْتَهَى. وَذُكِرَ أَيْضًا مَعَ لُوطٍ شُعَيْبٌ، وَمَعَ يَحْيَى عِيسَى، وَقَدَّمَ تَعَالَى هِبَةَ الْبَنَاتِ تَأْنِيسًا لَهُنَّ وَتَشْرِيفًا لَهُنَّ، لِيُهْتَمَّ بِصَوْنِهِنَّ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» . وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرُهَا بِالْأُنْثَى قَبْلَ الذَّكَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْإِنَاثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَدَّمَ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ مَعَ تَقَدُّمِهِمْ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَدَّمَهُمْ؟ وَلِمَ عرف الذكور بعد ما نَكَّرَ الْإِنَاثَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْبَلَاءَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْأُولَى. وَكُفْرَانُ الْإِنْسَانِ: نِسْيَانُهُ الرَّحْمَةَ السَّابِقَةَ عِنْدَهُ. ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِذِكْرِ مُلْكِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَذِكْرِ قِسْمَةِ الْأَوْلَادِ، فَقَدَّمَ الْإِنَاثَ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ أَنَّهُ فَاعِلٌ مَا يَشَاؤُهُ، لَا مَا يَشَاءُ الْإِنْسَانُ، فَكَانَ ذِكْرُ الْإِنَاثِ اللَّائِي مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَشَاؤُهُ الْإِنْسَانُ أَهَمَّ، وَالْأَهَمُّ أَوْجَبَ التَّقْدِيمَ. وَالْبَلَاءُ: الْجِنْسُ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعُدُّهُ بَلَاءً، ذَكَرَ الْبَلَاءَ وَأَخَّرَ الذُّكُورَ. فَلَمَّا أَخَّرَهُمْ لِذَلِكَ تَدَارَكَ تَأْخِيرَهُ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ بِتَعْرِيفِهِمْ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَنْوِيهٌ وَتَشْهِيرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الْفَرِيقَيْنِ، الْأَعْلَامُ الْمَذْكُورِينَ الَّذِينَ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ أَعْطَى بَعْدَ ذَلِكَ كِلَا الْجِنْسَيْنِ حَظَّهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعِرْفَانُ تَقْدِيمِهِنَّ لَمْ يَكُنْ لِتَقَدُّمِهِنَّ، وَلَكِنْ لِمُقْتَضًى آخَرَ فَقَالَ: ذُكْراناً وَإِناثاً، كَمَا قَالَ: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى «1» ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «2» . انْتَهَى. وَقِيلَ: بَدَأَ بِالْأُنْثَى ثُمَّ ثَنَّى بِالذَّكَرِ، لِتَنْقِلَهُ مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَحِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ فَيَرْضَى. فَإِذَا وَهَبَ لَهُ الذَّكَرَ، عَلِمَ أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: قَدَّمَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ لَهُمْ، كَانَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ أَكْثَرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ غُلَامًا، ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ تَلِدَ تَوْأَمًا، غُلَامًا وَجَارِيَةً. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَعْنِي آدَمَ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ تَوْأَمَيْنِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى تُزَوِّجُ ذَكَرَ هَذَا الْبَطْنِ أُنْثَى الْبَطْنِ الْآخَرِ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ الْهِبَةَ فِي الْإِنَاثِ، وَالْهِبَةَ فِي الذُّكُورِ، اكْتَفَى عَنْ ذِكْرِهَا في قوله:

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 13. (2) سورة القيامة: 75/ 39.

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. وَلَمَّا كَانَ الْعُقْمُ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ قَالَ: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً، وَهُوَ قَسِيمٌ لِمَنْ يُولَدُ لَهُ. وَلَمَّا كَانَتِ الْخُنْثَى مِمَّا يُحْزَنُ بِوُجُودِهِ، لَمْ يَذْكُرْهُ تَعَالَى. قَالُوا: وَكَانَتِ الْخِلْقَةُ مُسْتَمِرَّةً، ذَكَرًا وَأُنْثَى، إِلَى أَنْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الْخُنْثَى، فَسُئِلَ فَارِضُ الْعَرَبِ وَمُعَمَّرُهَا عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ عَنْ مِيرَاثِهِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُهُ وَأَرْجَأَهُمْ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، جَعَلَ يَتَقَلَّبُ وَتَذْهَبُ بِهِ الْأَفْكَارُ، وأنكرت خادمه حَالَهُ فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: بُهِرْتُ لِأَمْرٍ لَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: شَخْصٌ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْمِيرَاثِ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَةُ: وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، فَعَقَلَهَا وَأَصْبَحَ فَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، فَرَضُوا بِهَا. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَضَى بِذَلِكَ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، قَدِيرٌ عَلَى تَكْوِينِ مَا يَشَاءُ. كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ خَوْضٌ فِي مَعْنَى تَكْلِيمِ اللَّهِ مُوسَى، فَذَهَبَتْ قُرَيْشٌ وَالْيَهُودُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّجْسِيمِ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: كَانَتْ قُرَيْشُ تَقُولُ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا صَادِقًا، كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ يَنْظُرْ مُوسَى إِلَى اللَّهِ» ، فَنَزَلَتْ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ، بَيَانًا لِصُورَةِ تَكْلِيمِ اللَّهِ عِبَادَهُ أَيْ مَا يَنْبَغِي ولا يمكن البشر إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ أَحَدُ وُجُوهِ الْوَحْيِ مِنَ الْإِلْهَامِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوِ النَّفْثُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: أَوْ وَحْيٌ فِي الْمَنَامِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ مَنْ يُخَطُّ لَهُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِأَنْ يُسْمِعَهُ كَلَامَهُ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ هُوَ لِلْمُتَكَلِّمِ جِهَةً وَلَا حَيِّزًا، كَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا مَعْنَى مِنْ وَراءِ حِجابٍ: أَيْ مِنْ خَفَاءٍ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، لَا يَحُدُّهُ وَلَا يَتَصَوَّرُ بِذِهْنِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَالْحِجَابِ فِي الْمُشَاهَدِ، أَوْ بِأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ مَلَكًا يُشَافِهُهُ بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا صَحَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الْوَحْيِ، وَهُوَ الْإِلْهَامُ وَالْقَذْفُ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنَامِ، كَمَا أَوْحَى إِلَى أُمِّ مُوسَى وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَوْحَى اللَّهُ الزَّبُورَ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَدْرِهِ، قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: وَأَوْحَى إِلَيَّ اللَّهُ أَنْ قَدْ تَأَمَّرُوا ... بِابْنِ أَبِي أَوْفَى فَقُمْتُ عَلَى رَجْلِ أَيْ: أَلْهَمَنِي وَقَذَفَ فِي قَلْبِي. وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُسْمِعَهُ كَلَامَهُ الَّذِي يَخْلُقُهُ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبْصِرَ السَّامِعُ مَنْ يُكَلِّمُهُ، لِأَنَّهُ فِي ذاته غير مرئي. مِنْ وَراءِ حِجابٍ مَثَلٌ، أَيْ: كَمَا يُكَلِّمُ الْمَلِكُ

الْمُحْتَجِبُ بَعْضَ خَوَاصِّهِ، وَهُوَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَيَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ، وَذَلِكَ كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَيُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ. وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيُوحِي الْمَلَكُ إِلَيْهِ، كَمَا كَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرَ مُوسَى. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي اسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيِ الْكَلَامِ الْحَقِيقِيِّ عَنِ اللَّهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا وَحَيٌّ، وَخُصَّ الْأَوَّلُ بِاسْمِ الْوَحْيِ هُنَا، لِأَنَّ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ يَقَعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَكَانَ تَخْصِيصُ لَفْظِ الْوَحْيِ بِهِ أَوْلَى. وَقِيلَ: وَحْياً كَمَا أَوْحَى إِلَى الرُّسُلِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا: أَيْ نَبِيًّا، كَمَا كَلَّمَ أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَرَكَ تَفْسِيرَ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، وَمَعْنَاهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ: كَمَا كَلَّمَ مُحَمَّدًا وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حِجابٍ، مُفْرَدًا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: حُجُبٍ جَمْعًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ عَطَفَ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَى الْمُضْمَرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ تَقْدِيرُهُ: أَوْ يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَهَذَا الْمُضْمَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى وَحْيًا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا بِوَحْيٍ أَوْ سَمَاعٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ إِرْسَالِ رَسُولٍ فَيُوحِي ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى النَّبِيِّ الَّذِي أُرْسِلَ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يطف أَوْ يُرْسِلَ عَلَى أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ لِفَسَادِ الْمَعْنَى. وقال الزمخشري: ووحيا، وأن يُرْسِلَ، مَصْدَرَانِ وَاقِعَانِ مَوْقِعَ الْحَالِ، لِأَنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالا، ومن وَرَاءِ حِجَابٍ ظَرْفٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: وَعَلى جُنُوبِهِمْ «1» ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا صَحَّ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا إِلَّا مُوحِيًا أَوْ مُسْمِعًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ مُرْسِلًا. انْتَهَى. أَمَّا وُقُوعُ الْمَصْدَرِ مَوْقِعَ الْحَالِ، فَلَا يَنْقَاسُ، وَإِنَّمَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ: جَاءَ زَيْدٌ بُكَاءً، تُرِيدُ بَاكِيًا، وَقَاسَ مِنْهُ الْمُبَرِّدُ مَا كَانَ مِنْهُ نَوْعًا لِلْفِعْلِ، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ مَشْيًا أَوْ سُرْعَةً، وَمَنَعَ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَقَعَ أَنْ وَالْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ بِالْمَصْدَرِ مَوْقِعَ الْحَالِ، فَلَا يَجُوزُ، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ أَنْ يَضْحَكَ فِي معنى ضحك الْوَاقِعِ مَوْقِعَ ضَاحِكًا، فَجَعْلُهُ وَحْيًا مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِمَّا لَا يَنْقَاسُ، وَأَنَّ يُرْسِلَ فِي مَعْنَى إِرْسَالًا الْوَاقِعِ مَوْقِعَ مُرْسِلًا مَمْنُوعٌ بِنَصِّ سِيبَوَيْهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، فَخَرَجَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ يُرْسِلُ، أَوْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ وَرَاءِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: أَوْ يَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَوَحْيًا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 191.

الْحَالِ، عُطِفَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، أَوْ يُرْسِلَ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مُوحِيًا أَوْ مُسْمِعًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ مُرْسِلًا، وَإِسْنَادُ التَّكَلُّمِ إِلَى اللَّهِ بِكَوْنِهِ أَرْسَلَ رَسُولًا مَجَازٌ، كَمَا تَقُولُ: نَادَى الْمَلِكُ فِي النَّاسِ بِكَذَا، وَإِنَّمَا نَادَى الرِّيحُ الدَّائِرُ فِي الْأَسْوَاقِ، نَزَّلَ مَا كَانَ بِوَاسِطَةٍ مَنْزِلَةَ مَا كَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكَلُّمِ، وَأَنَّ الْحَالِفَ الرُّسُلُ، كَانَتْ إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَمْ يَنْوِ الْمُشَافَهَةَ وَقْتَ يَمِينِهِ. انْتَهَى. إِنَّهُ عَلِيٌّ: أَيْ عَلِيٌّ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، حَكِيمٌ: تَجْرِي أَفْعَالُهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، يُكَلِّمُ بِوَاسِطَةٍ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا: أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِيحَاءِ الْفَصْلِ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْتَمَعَتْ لَهُ الطُّرُقُ الثَّلَاثُ: النَّفْثُ فِي الرَّوْعِ، وَالْمَنَامِ، وَتَكْلِيمُ اللَّهِ لَهُ حَقِيقَةً لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَإِرْسَالُ رَسُولٍ إِلَيْهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ. وَقِيلَ: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّبُوَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْوَحْيَ وَقَالَ قَتَادَةُ: رَحْمَةً وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كِتَابًا وَقَالَ الرَّبِيعُ: جِبْرِيلَ وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وَسَمَّى مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رُوحًا، لِأَنَّ بِهِ الْحَيَاةَ مِنَ الْجَهْلِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، مَاذَا زَرَعَ الْقُرْآنُ فِي قُلُوبِكُمْ؟ فَإِنَّ الْقُرْآنَ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، كَمَا أَنَّ الْعُشْبَ رَبِيعُ الْأَرْضِ. مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ: تَوْقِيفٌ عَلَى عِظَمِ الْمِنَّةِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا، وَعَطَفَ وَلَا الْإِيمَانُ عَلَى مَا الْكِتَابُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: الْإِيمَانُ الَّذِي يُدْرِكُهُ السَّمْعُ، لِأَنَّ لَنَا أَشْيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ. أَمَّا تَوْحِيدُ اللَّهِ وَبَرَاءَتُهُ عَنِ النَّقَائِصِ، وَمَعْرِفَةُ صِفَاتِهِ الْعُلَا، فَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَالِمُونَ ذَلِكَ، مَعْصُومُونَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ زَلَلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، سَابِقٌ لَهُمْ عِلْمُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْإِيمَانَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» ، إِذْ هِيَ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِيمَانُ. وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَشْأَتِهِمْ إِلَى مَبْعَثِهِمْ، تَحَقَّقَ عِنْدَهُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كُلِّ نَقِيصَةٍ، مُوَحِّدُونَ لِلَّهِ منذ نشأوا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «2» . قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ ابْنَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي قَبْلَ الْوَحْيِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَلَا كَيْفَ تَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَلَا الْإِيمانُ: الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ. قَالَ: وَكَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، ثُمَّ نزلت الفرائض التي

_ (1) سورة البقرة: 2/ 143. (2) سورة مريم: 19/ 12.

لَمْ يَكُنْ يَدْرِيهَا قَبْلُ، فَزَادَ بِالتَّكْلِيفِ إِيمَانًا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْإِيمَانِ عَلَى تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنَ الَّذِي يُؤْمِنُ أَبُو طَالِبٍ أَوِ الْعَبَّاسُ أَوْ غَيْرُهُمَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِذْ كُنْتَ فِي الْمَهْدِ. وَقِيلَ: مَا الْكِتَابُ لَوْلَا إِنْعَامُنَا عَلَيْكَ، وَلَا الْإِيمَانُ لَوْلَا هِدَايَتُنَا لَكَ. وَقِيلَ: أَيْ كُنْتَ مِنْ قَوْمٍ أُمِّيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ الْإِيمَانَ وَلَا الْكِتَابَ، فَتَكُونُ أَخَذْتَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ عَمَّنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. مَا الْكِتَابُ: جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بتدري، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ. وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: رُوحاً، وَإِلَى الْكِتابُ، وَإِلَى الْإِيمانُ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ مَعًا لِأَنَّ مَقْصِدَهُمَا وَاحِدٌ، فَهُوَ نَظِيرُ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَتَهْدِي، مُضَارِعُ هَدَى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَحَوْشَبٌ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، إِجَابَةَ سُؤَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «2» . وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: لَتُهْدِي بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ مِثْلُهَا وَمِثْلُ قِرَاءَةِ حَوْشَبٍ. صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، قَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الْقُرْآنُ وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ: أَخْبَرَ بِالْمُضَارِعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الدَّيْمُومَةُ، كَقَوْلِهِ: زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، أَيْ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ تُرَدُّ جَمِيعُ أُمُورِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِيهِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، قَالَهُ الفراء. تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله سورة الزخرف

_ (1) سورة التوبة: 9/ 62. (2) سورة الفاتحة: 1/ 6.

سورة الزخرف

سورة الزّخرف [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 89] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

يَعْشُو: يُعْرِضُ، وَيَعْشَى: يَعْمَى. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمْ نَرَ أَحَدًا حَكَى: عَشَوْتُ عَنِ الشَّيْءِ: أَعْرَضْتُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: تَعَاشَيْتُ عَنْ كَذَا وَتَعَامَيْتُ، إِذَا تَغَافَلْتُ عَنْهُ. وَتَقُولُ:

عَشَوْتُ إِلَى النَّارِ، إِذَا اسْتَدْلَلْتُ عَلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وَقِيلَ: عَشَى يَعْشَى، إِذَا حَصَلَتِ الْآفَةُ فِي بَصَرِهِ. وعشا يعشو: نظر المغشي وَلَا آفَةَ بِهِ، كَمَا قالوا: عَرَجَ لِمَنْ بِهِ الْآفَةُ، وَعَرَجَ لِمَنْ مَشَى مِشْيَةَ الْعُرْجَانِ مِنْ غَيْرِ عَرَجٍ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدِ أَيْ: تَنْظُرُ إليها نظر المغشي، لِمَا يَضْعُفُ بَصَرٌ مِنْ عَظِيمِ الْوَقُودِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَاتِمٍ: أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ الصُّحْفَةُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ الْقَصْعَةُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَعْظَمُ الْقِصَاعِ الْجَفْنَةُ، ثُمَّ الْقَصْعَةُ تَلِيهَا تَسَعُ الْعَشَرَةَ، ثُمَّ الصَّحْفَةُ تَسَعُ الْخَمْسَةَ، ثُمَّ الْمَكِيلَةُ تَسَعُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ. وَالصَّحِيفَةُ: الْكِتَابُ، وَالْجَمْعُ: صُحُفٌ وَصَحَائِفُ. الْكُوبُ، قَالَ قُطْرُبٌ: الْإِبْرِيقُ لَا عُرْوَةَ لَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْإِبْرِيقُ لَا خُرْطُومَ لَهُ، وَقِيلَ: كَالْإِبْرِيقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا أُذُنَ لَهُ وَلَا مِقْبَضَ. قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ: إِنَّمَا كَانَ بِغَيْرِ عُرْوَةٍ لِيَشْرَبَ الشَّارِبُ مِنْ أَيْنَ شَاءَ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ. انْتَهَى. وَقَالَ عَدِيٌّ: مُتَّكِئًا تُصَفِّقُ أَبْوَابُهُ ... يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوبِ أَبْرَمَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَبْرَمَ الْأَمْرَ: بَالَغَ فِي إِحْكَامِهِ، وَأَبْرَمَ الْقَاتِلُ، إِذَا أَدْهَمَ، وَهُوَ الْقَتْلُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يُقَالُ لَهُ سِجِّيلٌ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: مِنْ سِجِّيلٍ وَبَرْمِ انْتَهَى. وَالْإِبْرَامُ: أَنْ يَجْمَعَ خَيْطَيْنِ، ثُمَّ يَفْتِلَهُمَا فَتْلًا مُتْقَنًا وَالْبَرِيمُ: خَيْطٌ فِيهِ لَوْنَانِ. حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ. وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ. وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ

بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا قَوْلَهُ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. إِنَّا جَعَلْناهُ، أَيْ صَيَّرْنَاهُ، أَوْ سَمَّيْنَاهُ وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَهُوَ مِنْ الْأَقْسَامِ الْحَسَنَةِ لِتَنَاسُبِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضٌ وَقِيلَ: وَالْكِتَابُ أُرِيدَ بِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالضَّمِيرُ فِي جَعَلْنَاهُ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ صَرِيحُ الذِّكْرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلْنَاهُ، بِمَعْنَى صَيَّرْنَاهُ، مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَوْ بِمَعْنَى خَلَقْنَاهُ مُعَدًّى إِلَى وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «2» . وقُرْآناً عَرَبِيًّا: حَالٌ. وَلَعَلَّ: مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، لِتُلَاحِظَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى التَّرَجِّي، أَيْ خَلَقْنَاهُ عَرَبِيًّا غَيْرَ عَجَمِيٍّ. أَرَادَ أَنْ تَعْقِلَهُ الْعَرَبُ، وَلِئَلَّا يَقُولُوا: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «3» . انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مخلوقا. أُمِّ الْكِتابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي أُثْبِتَتْ فِيهِ الْكُتُبُ، وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ، وَتَرْفِيعٌ بِكَوْنِهِ. لَدَيْهِ عَلِيًّا: عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ، وَعَالِيًا عَنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ. حَكِيمًا: أَيْ حَاكِمًا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ، أَوْ مُحْكَمًا بِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي. قَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ: الْقُرْآنُ فِيهِ بِأَجْمَعِهِ مَنْسُوخٌ، وَمِنْهُ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ. وَقِيلَ: أُمُّ الْكِتَابِ: الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ، لِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ «4» ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ سُورَةَ حم وَاقِعَةٌ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ الَّتِي هِيَ الْأُمُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي أُمِّ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَالْأَخَوَانِ بِكَسْرِهَا، وَعَزَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ يُوسُفُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَعْزُهَا لِلْأَخَوَانِ عَقْلَةً مِنْهُ. يُقَالُ: ضَرَبَ عَنْ كَذَا، وَأَضْرَبَ عَنْهُ، إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ. وَالذِّكْرَ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ: الْقُرْآنُ، أَيِ أَفَتَرَائَى عَنْكُمُ الْقُرْآنَ. وَقَوْلُهُمْ: ضَرَبَ الْغَرَائِبَ عَنِ الْحَوْضِ، إِذَا أَدَارَهَا وَنَحَّاهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ... ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 45. [.....] (2) سورة الأنعام: 6/ 1. (3) سورة فصلت: 41/ 44. (4) سورة آل عمران: 3/ 7.

وَقِيلَ: الذِّكْرَ: الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ وَالتَّخْوِيفُ مِنْ عِقَابِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ إِنْكَارًا؟ لِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا قُدِّمَ مِنْ إِنْزَالِهِ الْكِتَابَ وَخَلْقِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتَعْقِلُوهُ وَتَعْمَلُوا بِمُوجَبِهِ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَقْدِيرِهِ فِعْلًا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ فِي نَحْوِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا «1» ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ «2» ؟ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَاوِ فِي نَحْوِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا «3» ؟ كَمَا وَأَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ مَنْوِيٌّ بِهِمَا التَّقْدِيمُ لِعَطْفِ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا، وَأَنَّ الْهَمْزَةَ تَقَدَّمَتْ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْحَرْفِ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى: أَفَنَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ وَتَخْوِيفَكُمْ عَفْوًا عنكم عفوا عَنْ إِجْرَامِكُمْ؟ أَنْ كُنْتُمْ أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ؟ أَيْ هَذَا لَا يَصْلُحُ. وَنَحَا قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى صَفْحًا، أَيْ مَعْفُوًّا عَنْهُ، أَيْ نَتْرُكُهُ. ثُمَّ لَا تؤاخذون بقوله ولا بتدبره، وَلَا تُنَبَّهُونَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى نَظِيرُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: ثم الصَّبَا صَفْحًا بِسَاكِنِ ذِي الفضا ... وبصدع قَلْبِي أَنْ يَهُبَّ هُبُوبُهَا وَقَوْلِ كُثَيِّرٍ: صَفُوحًا فَمَا تَلْقَاكَ إِلَّا بَخِيلَةً ... فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ وَلَمَّا تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ نَتْرُكَكُمْ هَمَلًا بِلَا أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: أَنْ لَا نُعَاقِبَكُمْ بِالتَّكْذِيبِ؟ وَقِيلَ: أَنْ نَتْرُكَ الْإِنْزَالَ لِلْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِكُمْ؟ وَقَرَأَ حَسَّانُ بن عبد الرحمن الضبغي، وَالسُّمَيْطُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَشُمَيْلُ بْنُ عُذْرَةَ: بِضَمِّ الصَّادِ، وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالسَّدِّ وَالسُّدِّ. وَانْتِصَابُ صَفْحًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى أَفَنَضْرِبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَفَنَصْفَحُ؟ أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ صَافِحِينَ، قَالَهُمَا الْحَوْفِيُّ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَفْحًا عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا مَصْدَرٌ مِنْ صَفَحَ عَنْهُ، إِذَا أَعْرَضَ مُنْتَصِبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى: أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ وَإِلْزَامَ الْحُجَّةِ بِهِ إِعْرَاضًا عَنْكُمْ؟ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْجَانِبِ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرَ إِلَيْهِ بِصَفْحِ وَجْهِهِ. وَصَفْحُ وَجْهِهِ عَلَى مَعْنَى: أَفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جَانِبًا؟ فَيُنْصَبُ عَلَى الظَّرْفِ، كَمَا تَقُولُ: ضَعْهُ جَانِبًا، وَامْشِ جَانِبًا. وَتُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صُفْحًا بِالضَّمِّ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يكون تَخْفِيفَ صُفُحٍ جَمْعَ صُفُوحٍ،

_ (1) سورة غافر 40/ 82. (2) سورة الصافات: 37/ 138. (3) سورة الروم: 30/ 9.

وَيُنْتَصَبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ صَافِحِينَ مُعْرِضِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صَفْحًا، انْتِصَابُهُ كَانْتِصَابِ صُنْعَ اللَّهِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ، فَلَيْسَ انْتِصَابُهُ انْتِصَابَ صُنْعَ اللَّهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْأَخَوَانِ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَإِسْرَافُهُمْ كَانَ مُتَحَقِّقًا. فَكَيْفَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِنْ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى غَيْرِ الْمُتَحَقِّقِ، أَوْ عَلَى الْمُتَحَقِّقِ الَّذِي انْبَهَمَ زَمَانُهُ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِنَ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ يَصْدُرُ عَنِ الْمُدِلِّ بِصِحَّةِ الْأَمْرِ الْمُتَحَقِّقِ لِثُبُوتِهِ، كَمَا يَقُولُ الْأَجِيرِ: إِنْ كُنْتَ عَمِلْتُ لَكَ فَوَفِّنِي حَقِّي، وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُخَيِّلُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ تَفْرِيطَكَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ فِعْلُ مَنْ لَهُ شَكٌّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، مَعَ وُضُوحِهِ، اسْتِجْهَالًا لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُنْتُمْ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخيط الْمُوَدِّعُ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِذْ كُنْتُمْ، بِذَالٍ مَكَانَ النُّونِ، لَمَّا ذَكَرَ خِطَابًا لِقُرَيْشٍ، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ؟ وَكَانَ هَذَا الْإِنْكَارُ دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لِلرَّسُولِ، وَإِنْكَارًا لِمَا جَاءَ بِهِ. آنَسَهُ تَعَالَى بِأَنَّ عَادَتَهُمْ عَادَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالرُّسُلِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ مَنْ كَانَ أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ قُرَيْشٍ، أَيْ أَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَدًا وَجِلْدًا. وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ: أَيْ فَلْيَحْذَرْ قُرَيْشٌ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِالْأَوَّلِينَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ الْعُقُوبَةِ. قَالَ مَعْنَاهُ قَتَادَةُ: وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الَّتِي سَارَتْ سَيْرَ الْمَثَلِ، وَقِيلَ: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقُرَيْشٌ سَلَكَتْ مَسْلَكَهَا، وَكَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ إِلَى إِخْبَارِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: احْتِجَاجٌ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَا يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، وَهُوَ إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّ مُوجِدَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ هُوَ اللَّهُ، ثُمَّ هُمْ يَتَّخِذُونَ أَصْنَامًا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْبُدُونَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمُقْتَضَى الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمَعْنَى، جَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِمَا عَدَّدَ مِنْ أَوْصَافِهِ الَّذِي ابْتَدَأَ الْإِخْبَارَ بِهَا، وَقَطَعَهَا مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَى مَعْنَاهُ عَنْ قُرَيْشٍ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيَنْسِبُنَّ خَلْقَهَا إِلَى الَّذِي هَذِهِ أَوْصَافُهُ، وَلَيَسْنِدُنَّهُ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ نَفْسُ الْمَحْكِيِّ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَا يَدُلُّ كَوْنُهُمْ ذَكَرُوا فِي مَكَانٍ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، أَنْ لَا يَقُولُوا فِي سُؤَالٍ آخَرَ. خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ.

والَّذِي جَعَلَ لَكُمُ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، خِطَابًا لَهُمْ بِتَذْكِيرِ نِعَمِهِ السَّابِقَةِ. وَكَرَّرَ الْفِعْلَ فِي الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، مُبَالَغَةً فِي التَّوْكِيدِ. وَفِي غَيْرِ مَا سُؤَالٍ، اقْتَصَرُوا عَلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ الْعَلَمُ الْجَامِعُ لِلصِّفَاتِ الْعُلَا، وَجَاءَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حيث اللفظ، لِأَنَّ مَنْ مُبْتَدَأٌ. فَلَوْ طَابَقَ فِي اللَّفْظِ، كَانَ بِالِاسْمِ مُبْتَدَأً، وَلَمْ يَكُنْ بِالْفِعْلِ. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: أَيْ إِلَى مَقَاصِدِكُمْ فِي السَّفَرِ، أَوْ تَهْتَدُونَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ. بِقَدَرٍ: أَيْ بِقَضَاءٍ وَحَتْمٍ فِي الْأَزَلِ، أَوْ بِكِفَايَةٍ، لَا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ، وَلَا قَلِيلًا فَلَا يُجْدِي. فَأَنْشَرْنا: أَحْيَيْنَا بِهِ. بَلْدَةً مَيْتاً: ذُكِرَ عَلَى مَعْنَى الْقَطْرِ، وبلدة اسْمَ جِنْسٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى: مَيِّتًا بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ الْمُصْبِحِ، وَعِيسَى، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْأَخَوَانِ: مبنيا للفاعل. والْأَزْواجَ: الْأَنْوَاعَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. قِيلَ: وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ زَوْجٌ، كَفَوْقَ، وَتَحْتَ، وَيَمِينٍ، وَشِمَالٍ، وَقُدَّامٍ، وَخَلْفٍ، وَمَاضٍ، وَمُسْتَقْبَلٍ، وَذَوَاتٍ، وَصِفَاتٍ، وَصَيْفٍ، وَشِتَاءٍ، وَرَبِيعٍ، وَخَرِيفٍ وَكَوْنُهَا أَزْوَاجًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحْدِثَهَا فَرْدٌ، وَهُوَ اللَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الضِّدِّ وَالْمُقَابِلِ وَالْمُعَارِضِ. انْتَهَى. وَالْأَنْعامِ: الْمَعْهُودُ أَنَّهُ لَا يُرْكَبُ مِنَ الْأَنْعَامِ إِلَّا الْإِبِلُ. مَا: مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا يَرْكَبُونَهُ. وَرَكِبَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِلَلِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِوَسَاطَةِ فِي، إِذِ التَّقْدِيرُ مَا يَرْكَبُونَهُ. وَاللَّامُ فِي لِتَسْتَوُوا: الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمَنْ أَثْبَتَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَامُ الْأَمْرِ، وَفِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُ أَمْرِ الْمُخَاطَبِ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَهُوَ مِنَ الْقِلَّةِ بِحَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ. فَالْفَصِيحُ الْمُسْتَعْمَلُ: اضْرِبْ، وَقِيلَ: لِتَضْرِبْ، بَلْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ قَلِيلَةٌ، إِذْ لَا تَكَادُ تُحْفَظُ إِلَّا قِرَاءَةً شَاذَّةً فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ. وَمَا آثَرَ الْمُحَدِّثُونَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: لتأخذوا مصافاكم، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الرَّاوِيَ رَوَى بِالْمَعْنَى، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ ... فَتَقْضِي حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَا وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّهَا لُغَةٌ جَيِّدَةٌ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ. وَالضَّمِيرُ فِي ظُهُورِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى ظُهُورِ مَا تَرْكَبُونَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْجَمْعُ، لِأَنَّ مَآلَهَا لَفْظٌ وَمَعْنًى. فَمَنْ جَمَعَ، فَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَمَنْ أَفْرَدَ فَبِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَيَعْنِي: مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ نَحْوًا مِنْهُ، قَالَ: أَضَافَ الظُّهُورَ، ثُمَّ تَذْكُرُوا، أَيْ فِي

قُلُوبِكُمْ، نِعْمَةَ رَبِّكُمْ، مُعْتَرِفِينَ بِهَا مُسْتَعْظِمِينَ لَهَا. لَا يُرِيدُ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ بَلْ بِالْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا، أَيْ تُنَزِّهُوا اللَّهَ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، إِلَى قَوْلِهِ لَمُنْقَلِبُونَ، وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَهَلَّلَ ثَلَاثًا، وَقَالُوا: إِذَا رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها «1» إِلَى رَحِيمٍ، وَيُقَالُ عِنْدَ النُّزُولِ مِنْهَا: اللَّهُمَّ أَنْزِلْنَا مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» . وَالْقَرْنُ: الْغَالِبُ الضَّابِطُ الْمُطِيقُ لِلشَّيْءِ، يُقَالُ: أَقْرَنَ الشَّيْءَ، إِذَا أَطَاقَهُ. قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ: وَأَقْرَنْتِ مَا حَمَّلْتِنِي ولقلما ... يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر وَحَقِيقَةُ أَقْرَنَهُ: وَجَدَهُ، قَرِينَتَهُ وَمَا يُقْرَنُ بِهِ: لِأَنَّ الصَّعْبَ لَا يَكُونُ قَرِينَةً لِلضَّعْفِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لذ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صولة البذل الْقَنَاعِيسِ وَالْقَرْنُ: الْحَبْلُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ، أَيْ ضَابِطٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا نَضْبُطُ بِهِ الدَّابَّةَ وَالْفُلْكَ، وَإِنَّمَا اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَهَا. وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ لعمرو بن معد يكرب: لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عَقِيلٌ ... لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بمقرنينا وقرىء: لَمُقْتَرِنِينَ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اقْتَرَنَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ: أَيْ رَاجِعُونَ، وَهُوَ إِقْرَارٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَبِالْبَعْثِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ فِي مَظَنَّةِ الْهَلَاكِ بِالْغَرَقِ إِذَا رَكِبَ الْفُلْكَ، وَبِعُثُورِ الدَّابَّةِ، إِذْ رُكُوبُهَا أَمْرٌ فِيهِ خَطَرٌ، وَلَا تُؤْمَنُ السَّلَامَةُ فِيهِ. فَقَوْلُهُ هَذَا تَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ مُسْتَشْعِرٌ الصَّيْرُورَةَ إِلَى اللَّهِ، وَمُسْتَعِدٌّ لِلِقَائِهِ، فَهُوَ لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ وَلَا لِسَانِهِ. وَجَعَلُوا لَهُ: أَيْ وَجَعَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبُ لَهُ، أَيْ لِلَّهِ. مِنْ عِبَادِهِ: أَيْ مِمَّنْ هُمْ عَبِيدُ اللَّهِ. جُزْءًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَصِيبًا وَحَظًّا، وَهُوَ قَوْلُ الْعَرَبِ: الملائكة بنات الله. وقال قَتَادَةُ جُزْءًا، أَيْ نِدًّا، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْنَامُ وَفِرْعَوْنُ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وقيل: الجزء: الْجُزْءُ: الْإِنَاثُ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: يُقَالُ أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى. قَالَ الشاعر:

_ (1) سورة هود: 11/ 41.

إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فلا عجب ... قد تجزىء الْحُرَّةُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانًا قِيلَ: هَذَا الْبَيْتُ مَصْنُوعٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: زَوَّجَهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً وَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَعْلَهُمْ لِلَّهِ جُزْءًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ، فَكَيْفَ وَصَفُوهُ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ؟ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ نِعْمَةَ خَالِقِهِ. مُبِينٌ: مُظْهِرٌ لِجُحُودِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ جُزْءًا، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ. قَالَ ابْنُ عطية: ومبين فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. انْتَهَى. وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا لِكُفْرَانِ النِّعَمِ وَمُظْهِرًا لِجُحُودِهِ، كَمَا قُلْنَا. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ لِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ؟ كَيْفَ زَعَمُوا أَنَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ مَا أَنْتُمْ تَكْرَهُونَهُ حِينَ أَنْتُمْ تَسْوَدُّ وُجُوهُكُمْ عِنْدَ التَّبْشِيرِ بِهِنَّ وَتَئِدُونَهُنَّ؟ وَأَصْفاكُمْ: جَعَلَ لَكُمْ صَفْوَةَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ، وَذَلِكَ الْبَنُونَ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ، تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِنْ فُرِضَ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ، فَكَيْفَ يَخْتَارُ لَهُ الْأَدْنَى وَيَخُصُّكُمْ بِالْأَعْلَى؟ وَقَدَّمَ الْبَنَاتِ، لِأَنَّهُ الْمُنْكَرُ عَلَيْهِمْ لِنِسْبَتِهِنَّ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَّفَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ تَشْرِيفًا لَهُمْ عَلَى الْبَنَاتِ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ: أَيْ يَنْتَقِلُ فِي عُمُرِهِ حَالًا فَحَالًا فِي الْحِلْيَةِ، وَهُوَ الْحُلِيُّ الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْإِنَاثِ دُونَ الْفُحُولِ، لِتَزَيُّنِهِنَّ بِذَلِكَ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَهُوَ إِنْ خَاصَمَ، لَا يُبِينُ لِضَعْفِ الْعَقْلِ وَنَقْصِ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، أَظْهَرَ بِهَذَا لِحُقُوقِهِنَّ وَشُفُوفِ الْبَنِينَ عَلَيْهِنَّ. وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُنَاسِبُ لَهُ التَّزَيُّنُ كَالْمَرْأَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْشَوْشِنًا. وَالْفَحْلُ مِنَ الرِّجَالِ أَبَى أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ النِّسَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أراد بمن ينشؤا فِي الْحِلْيَةِ: النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ: أَيْ لَا يُظْهِرُ حُجَّةً، وَلَا يُقِيمُ دَلِيلًا، وَلَا يَكْشِفُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ كَشْفًا وَاضِحًا. وَيُقَالُ: قَلَّمَا تَجِدُ امْرَأَةً لَا تُفْسِدُ الْكَلَامَ، وَتَخْلِطُ الْمَعَانِيَ، حَتَّى ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَخَلْنَا عَلَى فُلَانَةٍ، لَا تخرج حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّ عَقْلَهَا عَقْلُ امْرَأَةٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بمن ينشؤا فِي الْحِلْيَةِ: الْأَصْنَامُ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ كَثِيرًا مِنْهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَجْعَلُونَ الْحُلِيَّ على كثيرة مِنْهَا، وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِنَفْيِ الْإِبَانَةِ نَفْيُ الْخِصَامِ أَيْ لَا يَكُونُ مِنْهَا خِصَامٌ فَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ:

على لا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. وَمَنْ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ وَجَعَلُوا مَنْ يُنَشَّأُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ مَنْ يُنَشَّأُ جَعَلُوهُ لِلَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنَشَّأُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْجَحْدَرِيُّ فِي قَوْلٍ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ: فِي رِوَايَةٍ، وَالْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانٌ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَهَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا، والحسن: في رواية يناشؤ عَلَى وَزْنِ يُفَاعَلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمُنَاشَأَةُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ، كالمعالاة بمعنى الإعلاء. وفِي الْخِصامِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَفْسِيرُهُ غَيْرُ مُبِينٍ، أَيْ وَهُوَ يُبِينُ فِي الْخِصَامِ. وَمَنْ أَجَازَ أَمَّا زَيْدًا، غَيْرُ ضَارِبٍ بِإِعْمَالِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي غَيْرُ أَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُبِينٍ، أَجْرَى غَيْرُ مُجْرَى لَا. وَبِتَقْدِيمِ مَعْمُولِ أَمَّا بَعْدَ لَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي النَّحْوِ. وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ، وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ، وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. لَمْ يَكْفِهِمْ أَنْ جَعَلُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَجَعَلُوهُ إِنَاثًا، وَجَعَلُوهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ، حَيْثُ نَسَبُوا إِلَيْهِمُ الْأُنُوثَةَ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالِابْنَانِ، وَنَافِعٌ: عِنْدَ الرَّحْمَنِ، ظَرْفًا، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى رَفْعِ الْمَنْزِلَةِ وَقُرْبِ الْمَكَانَةِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ

رَبِّكَ «1» . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: عِبَادُ الرَّحْمَنِ، جَمْعَ عَبْدٍ لِقَوْلِهِ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «2» . وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عِبَادَ الرَّحْمَنِ، جَمْعًا. وَبِالنَّصْبِ، حَكَاهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ، قَالَ: وَهِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ، وَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ الَّذِينَ هُمْ خُلِقُوا عِبَادَ الرَّحْمَنِ، وَأَنْشَئُوا عِبَادَ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مُفْرَدًا، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقَرَأَ الجمهور: وأشهدوا، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةً عَلَى شَهِدُوا، مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَهَادَةٍ تَحْمِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُطْلَبُ أَنْ تُؤَدَّى. وَقِيلَ: سَأَلَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ؟» فَقَالُوا: سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ آبَائِنَا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ عَنْهَا ، أَيْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِهَمْزَةٍ دَاخِلَةٍ عَلَى أُشْهِدُوا، رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِلَا مَدٍّ بَيْنَ الهمزتين. والمسبى عَنْهُ: بِمَدَّةٍ بَيْنَهُمَا وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ: بِتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ بِلَا مَدٍّ وَجَمَاعَةٌ: كَذَلِكَ بِمَدٍّ بَيْنَهُمَا. وَعَنْ عَلِيٌّ وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ: تَحْقِيقُهُمَا بِلَا مَدٍّ وَالزُّهْرِيُّ وَنَاسٌ: أُشْهِدُوا بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ رُبَاعِيًّا، فَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا. وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْإِنَاثِ، أَيْ إِنَاثًا مُشْهَدًا مِنْهُمْ خَلْقُهُمْ، وَهُمْ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ، لَكِنْ لَمَّا ادَّعَوْا لِجَرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، صَارُوا كَأَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ وَإِشْهَادَهُمْ خَلْقَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَاثًا، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أُنُثًا، جَمْعَ جَمْعِ الْجَمْعِ. قِيلَ: وَمَعْنَى وَجَعَلُوا: سَمُّوا، وَقَالُوا: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَصَيَّرُوا اعْتِقَادَهُمُ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، وَالْمَعْنِيُّ: إِظْهَارُ فَسَادِ عُقُولِهِمْ، وَأَنَّ دَعَاوِيَهُمْ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْحُجَّةِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ الطَّاعِنَةِ عَلَى أَهْلِ التَّنْجِيمِ وَالطَّبَائِعِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ «3» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَتُكْتَبُ، بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. شَهَادَتُهُمْ: بِالرَّفْعِ مُفْرَدًا وَالزُّبَيْرِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ وَالْحَسَنُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ، وَجَمْعِ شَهَادَتِهِمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَعْرَجُ: بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، شهادتهم على الإفراد. وقرأ فِرْقَةٌ: سَيَكْتُبُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ اللَّهُ شَهَادَتَهُمْ: بِفَتْحِ التَّاءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِأُنُوثَتِهِمْ. وَيُسْأَلُونَ: وَهَذَا وَعِيدٌ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 206. (2) سورة الأنبياء: 21/ 26. (3) سورة الكهف: 18/ 51.

وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ: الضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: فِي آخَرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَوْثَانَ عَلَّقُوا انْتِفَاءَ الْعِبَادَةِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، لَكِنَّ الْعِبَادَةَ وُجِدَتْ لَمَّا انْتَفَتِ الْمَشِيئَةُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَاءَ الْعِبَادَةَ، وَوَقَعَ مَا شَاءَ، وَقَدْ جَعَلُوا إِمْهَالَ اللَّهِ لَهُمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَرْضَى ذَلِكَ دِينًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَنَحْنُ لَا نُؤَاخَذُ بِذَلِكَ، إِذْ هُوَ وِفْقُ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، أَيْ بِمَا تَرَتَّبَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ: أَيْ يَكْذِبُونَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا كَفْرَتَانِ مَضْمُومَتَانِ إِلَى الْكَفَرَاتِ الثَّلَاثِ، وَهُمْ: عِبَادَتُهُمُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَقُولُ إِخْوَانُهُمُ الْمُجْبِرَةُ. انْتَهَى. جَعْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَخَوَاتٍ لِلْكَفَرَةِ عُبَّادِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَجَوَابًا جَارِيًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَمَّا نَفَى عَنْهُمْ، عِلْمَ تَرْكِ عِقَابِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، أَيْ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَقْلٌ. نَفَى أَيْضًا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ سَمْعٌ، فَقَالَ: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ إِنْذَارِ الرُّسُلِ، يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ. وَمَعْنَى: عَلى أُمَّةٍ: أَيْ طَرِيقَةٍ وَدِينٍ وَعَادَةٍ، فَقَدْ سَلَكْنَا مَسْلَكَهُمْ، وَنَحْنُ مُهْتَدُونَ فِي اتِّبَاعِ آثَارِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الحطيم: كُنَّا عَلَى أُمَّةِ آبَائِنَا ... وَيَقْتَدِي بِالْأَوَّلِ الْآخِرُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُمَّةٍ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقُطْرُبٌ: عَلَى مِلَّةٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْأُمَّةُ: الطَّرِيقَةُ، وَالَّذِي يُقَالُ: فُلَانٌ لَا أُمَّةَ لَهُ: أَيْ لَا دِينَ وَلَا نِحْلَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَهَلْ يَسْتَوِي ذُو أُمَّةٍ وَكَفُورٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أُمَّةٍ فِي قَوْلِهِ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «1» . وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْحَسَنَةُ لُغَةً فِي الْأُمَّةِ بِالضَّمِّ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّةٍ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ عَلَى قَصْدٍ وَحَالٍ، وَالْخِلَافُ فِي الْحَرْفِ الثَّانِي كَهُوَ فِي الْأَوَّلِ. وَحَكَى مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ المغيرة، وأبي

_ (1) سورة يوسف: 12/ 45.

سُفْيَانَ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَعُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَيْ كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ أَيْضًا، يُسَلِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. وَالْمُتْرَفُ: الْمُنَعَّمُ، أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ، فَآثَرُوا الشَّهَوَاتِ، وَكَرِهُوا مَشَاقَّ التَّكَالِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ عَلَى الْأَمْرِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: قَالَ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جِئْتُكُمْ، بِتَاءِ المتكلم وأبي جعفر، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَأَبُو شَيْخٍ الْهُنَائِيُّ، وَخَالِدٌ: جِئْنَاكُمْ، بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَالَ، أَوْ فِي قُلْ، لِلرَّسُولِ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ: أَتَتَّبِعُونَ آبَاءَكُمْ، وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِدِينٍ أَهْدَى مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؟ وَهَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ، حَيْثُ يُقَلِّدُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ فِي الدَّلَائِلِ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ، أَنْتَ وَالرُّسُلُ قَبْلَكَ. غَلَبَ الْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بِالْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجَلَاءِ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَنْ كَذَّبَكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَالَ: ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى النَّذِيرِ، وَبَاقِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُلْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا لَيْسَتْ بِأَمْرٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّذِيرُ. وَلَوْ: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى: إِنْ، كَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَوْ إِنْ جِئْتُكُمْ بِأَبْيَنَ وَأَوْضَحَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، يَصْحَبُكُمْ لِجَاجُكُمْ وَتَقْلِيدُكُمْ، فَأَجَابَ الْكُفَّارُ حِينَئِذٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِأَنْبِيَائِهَا، كَمَا كَذَّبَتْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بل الظَّاهِرُ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: وَذَكِّرِ الْعَرَبَ بِحَالِ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى، وَنَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ هُزُؤًا لَهُمْ، لِيَكُونَ لَهُمْ رُجُوعٌ إِلَى دِينِ جَدِّهِمْ، إِذْ كَانَ أَشْرَفَ آبَائِهِمْ وَالْمُجْمَعَ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَلِّدْ أَبَاهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَقْتَدُوا بِهِ فِي تَرْكِ تَقْلِيدِ آبَائِكُمُ الْأَقْرَبِينَ، وَتَرْجِعُوا إِلَى النَّظَرِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَرَاءٌ، مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُذَكَّرُ وَمُقَابِلُهُمَا، يُقَالُ: نَحْنُ الْبَرَاءُ مِنْكَ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَالِيَةِ. وَقَرَأَ الزَّعْفَرَانِيُّ والقورصي، عن أبي جعفر وَابْنُ الْمَنَاذِرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ: بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْأَعْمَشُ: بَرِيءٌ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ وَشَيْخَيْهِ، وَيُجْمَعُ وَيُؤَنَّثُ، وَهَذَا نَحْوُ: طَوِيلٍ وَطِوَالٍ، وَكَرِيمٍ وَكِرَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: إِنِّي، بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ دُونَ نُونِ الْوِقَايَةِ وَالْجُمْهُورُ: إِنَّنِي، بِنُونَيْنِ، الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إِذْ كَانُوا لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ أَصْنَامِهِمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يُشْرِكُونَ أَصْنَامَهُمْ مَعَهُ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَالَّذِي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَإِذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، كَانَتْ مَا شَامِلَةً مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الْمَجْرُورِ بِمَنْ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا مِنَ الَّذِي. وَأَنْ تَكُونَ إِلَّا صِفَةً

بِمَعْنَى: غَيْرٍ، عَلَى أَنَّ مَا فِي مَا تَعْبُدُونَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ تَقْدِيرُهُ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِنْ آلِهَةٍ تَعْبُدُونَهَا غَيْرَ الَّذِي فَطَرَنِي، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» . انْتَهَى. وَوَجْهُ الْبَدَلِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمُوجَبِ مِنَ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ مَا بَعْدَ إِلَّا لِتَفْرِيغِ الْعَامِلِ لَهُ؟ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ، جُمْلَةٌ مُوجَبَةٌ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُفَرَّغَ الْعَامِلُ فِيهَا لِلَّذِي هُوَ بَرِيءٌ لِمَا بَعْدَ إِلَّا. وَعَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ: كَوْنُ بَرِيءٌ، فِيهِ مَعْنَى الِانْتِفَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُوجَبٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّغَ لِمَا بَعْدَ إِلَّا. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، فَلَمْ يُبْقِهَا مَوْصُولَةً، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِلَّا لَا تَكُونُ صِفَةً إِلَّا لِنَكِرَةٍ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ. مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَالَ: تُوصَفُ بِهَا النَّكِرَةُ وَالْمَعْرِفَةُ، فَعَلَى هَذَا تَبْقَى مَا مَوْصُولَةً، وَيَكُونُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَجَعْلُهُ فَطَرَنِي فِي صِلَةِ الَّذِي. تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ. فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ: أَيْ يُدِيمُ هِدَايَتِي، وَفِي مَكَانٍ آخَرَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ «2» ، فَهُوَ هَادِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْحَالِ وَالضَّمِيرُ فِي جَعَلَهَا الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ عَلَى اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «3» ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ «4» ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «5» . وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: كِلْمَةً، بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وقرىء: فِي عَقْبِهِ، بِسُكُونِ الْقَافِ، أي في ذريته. وقرىء: فِي عَاقِبِهِ، أَيْ مِنْ عَقِبِهِ، أَيْ خَلْفِهِ. فَلَا يَزَالُ فِيهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِهِ. لَعَلَّهُمْ: أَيْ لَعَلَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ يَرْجِعُ بِدُعَاءِ مَنْ وَحَّدَ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ مَتَّعْتُ، بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ لِقُرَيْشٍ وَمَنْ كَانَ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْعَرَبِ. لَمَّا قَالَ: فِي عَقِبِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَكِنْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ تُعَقَّبُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فِيهِمْ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: بَلْ مَتَّعْتَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَرَوَاهَا يَعْقُوبُ عَنْ نَافِعٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهِيَ مِنْ مُنَاجَاةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ مُنَاجَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، أي:

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 22. (2) سورة الشعراء: 26/ 78. (3) سورة البقرة: 2/ 128. [.....] (4) سورة البقرة: 2/ 131. (5) سورة الحج: 22/ 78.

قَالَ يَا رَبِّ بَلْ مَتَّعْتَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَتَّعْنَا، بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَهِيَ تُعَضِّدُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ. حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ: بَلْ مَتَّعْتَ، بِفَتْحِ التَّاءِ؟ قُلْتُ: كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَرَضَ عَلَى ذَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَقَالَ: بَلْ مَتَّعْتُهُمْ بِمَا مَتَّعْتُهُمْ بِهِ مِنْ طُولِ الْعُمُرِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ، حَتَّى شَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْإِطْنَابَ فِي تَعْيِيرِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا مَتَّعَهُمْ بِزِيَادَةِ النِّعَمِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ الشُّكْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، لَا أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ وَيَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، فَمِثَالُهُ: أَنْ يَشْكُوَ الرَّجُلُ إِسَاءَةَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: أَنْتَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ بِمَعْرُوفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَوْبِيخُ الْمُسِيءِ لَا تَقْبِيحُ فِعْلِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلَ مَجِيءَ الْحَقِّ وَالرَّسُولِ غَايَةً لِلتَّمْتِيعِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ قَوْلَهُ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ، فَمَا طَرِيقَةُ هَذَا النَّظْمِ وَمُؤَدَّاهُ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالتَّمْتِيعِ: مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُمْ بِالِاسْتِمْتَاعِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ. فَقَالَ عَزَّ وَعَلَا: بَلِ اشْتَغَلُوا عَنِ التَّوْحِيدِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، فَخَيَّلَ بِهَذِهِ الْغَايَةِ أَنَّهُمْ تَنَبَّهُوا عِنْدَهَا عَنْ غَفْلَتِهِمْ لِاقْتِضَائِهَا التَّنَبُّهَ. ثُمَّ ابْتَدَأَ قِصَّتَهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ، جَاءُوا بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ غَفْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنْ ضَمُّوا إِلَى شِرْكِهِمْ مُعَانَدَةَ الْحَقِّ، وَمُكَابَرَةَ الرَّسُولِ وَمُعَادَاتَهُ، وَالِاسْتِخْفَافَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، وَالْإِصْرَارَ عَلَى أَفْعَالِ الْكَفَرَةِ، وَالِاحْتِكَامَ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ فِي تَخَيُّرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، وَهِيَ الْغَايَةُ فِي تَشْوِيهِ صُورَةِ أَمْرِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ لَكِنْ فِيهِ إِسْهَابٌ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَقَالُوا، لِقُرَيْشٍ، كَانُوا قَدِ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا، فَاسْتَفَاضَ عِنْدَهُمْ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَدْفَعٌ، نَاقَضُوا فِيمَا يَخُصُّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لِمَ كَانَ مُحَمَّدًا، وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ يُنَزَّلُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟ أَشَارُوا إِلَى مَنْ عَظُمَ قَدْرُهُ بِالسِّنِّ وَالْقِدَمِ وَالْجَاهِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ. وقرىء: عَلَى رَجُلٍ، بِسُكُونِ الْجِيمِ. مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ: أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ. وَقِيلَ: مِنْ رَجُلِ الْقَرْيَتَيْنِ، وَهُمَا مَكَّةُ وَالطَّائِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي مِنْ مَكَّةَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَمِنَ الطَّائِفِ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُرْوَةُ بْنُ

مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فَخْذٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا ادَّعَاهُ، وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يُسَمَّى رَيْحَانَةَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَزَلَ عَلَيَّ أَوْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، يَعْنِي عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا مَسْعُودٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ فِيهِ تَوْبِيخٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ جَهْلِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: عَلَى اخْتِيَارِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ تُقْسَمُ الْفَضَائِلُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ فِي إِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ: رَحْمَةِ رَبِّكَ، تَشْرِيفٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَكَ لَيْسَتْ إِلَّا مِنْ رَبِّكَ الْمُصْلِحِ لِحَالِكَ وَالْمُرَبِّيكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَ الْمَعِيشَةَ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا قَسَمَهُ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْفَانِي، فَكَيْفَ لَا يَتَوَلَّى الْأَمْرَ الْخَطِيرَ، وَهُوَ إِرْسَالُ مَنْ يَشَاءُ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَتَخَيَّرُوا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، بَلْ أَنْتُمْ عَاجِزُونَ عَنْ تَدْبِيرِ أُمُورِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَعِيشَتَهُمْ، عَلَى الْإِفْرَادِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسُفْيَانُ: مَعَائِشَهُمْ، عَلَى الْجَمْعِ. وَالْجُمْهُورُ: سُخْرِيًّا، بِضَمِّ السِّينِ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مِنَ التَّسْخِيرِ، بِمَعْنَى: الِاسْتِعْبَادِ وَالِاسْتِخْدَامِ، لِيَرْتَفِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَصِلُوا إِلَى مَنَافِعِهِمْ. وَلَوْ تَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ أَشْغَالِهِ بِنَفْسِهِ، مَا أَطَاقَ ذَلِكَ وَضَاعَ وَهَلَكَ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سُخْرِيًّا هُنَا مِنَ الْهُزْءِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ يَهْزَأُ الْغَنِيُّ بِالْفَقِيرِ. وَفِي قَوْلِهِ: نَحْنُ قَسَمْنا، تَزْهِيدٌ فِي الْإِكْبَابِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَهَوْنٌ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَاضَلْنَا بَيْنَهُمْ، فَمَنْ رئيس ومرؤوس. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَلْقَى ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، قَلِيلَ الْحِيلَةِ، غَنِيَّ اللِّسَانِ، وَهُوَ مَبْسُوطٌ لَهُ وَتَلْقَى شَدِيدَ الْحِيلَةِ، بَسِيطَ اللِّسَانِ، وَهُوَ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحْمَةُ اللَّهِ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤْسُ الْفَقِيرِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ: قِيلَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ وَالْإِيمَانُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: الْجَنَّةُ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُ هَؤُلَاءِ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَحْقِيرٌ لِلدُّنْيَا وَمَا جُمِعَ فِيهَا مِنْ مَتَاعِهَا. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ

يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ وَلَوْلَا أَنْ يَرْغَبَ النَّاسُ فِي الكفر، إذ رَأَوُا الْكَافِرَ فِي سَعَةٍ، وَيَصِيرُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: لَأَعْطَيْنَاهُمْ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ تَعَالَى اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يُغْنِيَ وَيُفْقِرَ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي: لِمَنْ يَكْفُرُ، لَامُ الْمِلْكِ، وَفِي: لِبُيُوتِهِمْ، لَامُ تَخْصِيصٍ. كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْكِسَاءُ لِزَيْدٍ لِدَابَّتِهِ، أَيْ هُوَ لِدَابَّتِهِ حِلْسٌ وَلِزَيْدٍ مِلْكٌ، انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ، فَلَا يُمْكِنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَدَلٌ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الثَّانِيَةُ إِلَّا بِمَعْنَى اللَّامِ الْأُولَى. أَمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الْمَدْلُولُ، فَلَا وَاللَّامُ فِي كِلَيْهِمَا لِلتَّخْصِيصِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَا بِمَنْزِلَةِ اللَّامَيْنِ فِي قَوْلِكَ: وَهَبْتُ لَهُ ثُوبًا لِقَمِيصِهِ. انْتَهَى، وَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَيَجُوزُ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُقُفًا، بِضَمَّتَيْنِ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِضَمٍّ وَسُكُونٍ، وَهُمَا جَمْعُ سَقْفٍ، لُغَةُ تَمِيمٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ السِّينِ وَالسُّكُونِ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَالَ الفراء: جمع سقيفة، وقرىء بِفَتْحَتَيْنِ، كَأَنَّهُ لُغَةٌ فِي سقف وقرىء: سُقُوفًا، جَمْعًا عَلَى فُعُولٍ نَحْوَ: كَعْبٍ وَكُعُوبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَعَارِجَ جَمْعَ مَعْرَجٍ، وَطَلْحَةُ: وَمَعَارِيجَ جَمْعَ مِعْرَاجٍ، وَهِيَ الْمَصَاعِدُ إِلَى الْعَلَالِي عَلَيْهَا، أَيْ يَعْلُونَ السُّطُوحَ، كَمَا قَالَ: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وسررا، بضم السين وقرىء بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ تَمِيمٍ وَبَعْضِ كَلْبٍ، وَذَلِكَ فِي جَمْعِ فَعِيلٍ الْمُضَعَّفِ إِذَا كَانَ اسْمًا بِاتِّفَاقٍ وَصِفَةً نَحْوَ: ثَوْبٌ جَدِيدٌ، وَثِيَابٌ جُدُدٌ، بِاخْتِلَافٍ بَيْنَ النُّحَاةِ. وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَعَاطِيفُ عَلَى قَوْلِهِ: سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تُوصَفَ الْمَعَاطِيفُ بِكَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُقُوفًا وَمَصَاعِدَ وَأَبْوَابًا وَسُرُرًا، كُلَّهَا مِنْ فِضَّةٍ. انْتَهَى، كَأَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاكَ الْمَعَاطِيفِ فِي وَصْفِ مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ وَزُخْرُفًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ: سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَزُخْرُفٍ، يَعْنِي: بَعْضَهَا من فضة

_ (1) سورة الكهف: 18/ 97.

وَبَعْضَهَا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَصَبَ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ فِضَّةٍ. انْتَهَى. وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ هُنَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ فَإِنَّهَا مِنْ أَحَبِّ الزِّينَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحَسَنُ أَحْمَرُ، وَالشَّهَوَاتُ تَتْبَعُهُ. انْتَهَى. قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِنَا: وَصَبَغْتَ دِرْعَكَ مِنْ دِمَاءِ كُمَاتِهِمْ ... لَمَّا رَأَيْتَ الْحَسَنَ يَلْبَسُ أَحْمَرًا وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الزُّخْرُفُ: أَثَاثُ الْبَيْتِ، وَمَا يُتَّخَذُ لَهُ مِنَ السُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النُّقُوشُ، وَقِيلَ: التَّزَاوِيقُ، كَالنَّقْشِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَا، بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: هِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالنَّفْيِ، وَمَا: زَائِدَةٌ، وَمَتَاعُ: خَبَرُ كُلُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَعِيسَى، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: لَمَّا، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَإِنْ: نَافِيَةٌ، وَلَمَّا: بِمَعْنَى إِلَّا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: لَمَّا، بِكَسْرِ اللَّامِ، وَخَرَّجُوهُ عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي هُوَ مَتَاعٌ كَقَوْلِهِ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ «1» . وَإِنْ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَكُلُّ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فِي الْمَجْرُورِ، أَيْ: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ، أَوْ لَمُسْتَقِرٌّ الَّذِي هُوَ مَتَاعٌ، وَمِنْ حَيْثُ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، كَانَ الْإِتْيَانُ بِاللَّامِ هُوَ الْوَجْهُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ لَكُمَا مَتَاعٌ، لَكِنَّهُ قَدْ تُحْذَفُ هَذِهِ اللَّامُ إِذَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، فَلَا يَجُرُّ إِلَى ذِكْرِ اللَّامِ الْفَارِقَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَنَحْنُ أُبَاةُ الضَّيْمِ مِنْ آل مالك ... وإن مالك كَانَتْ كِرَامَ الْمَعَادِنِ يُرِيدُ: لَكَانَتْ، وَلَكِنَّهُ حُذِفَ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ فِي أَنْ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، لِأَنَّ صَدْرَ الْبَيْتِ يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ، وَتُعَيَّنُ إِنْ لِكَوْنِهَا الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ: أَيْ وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى. وَقَرَأَ: وَمَنْ يَعْشُ، بِضَمِّ الشِّينِ، أَيْ يَتَعَامَ وَيَتَجَاهَلْ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ يَعْرِفُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: يُقِلَّ نَظَرَهُ فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَيُغْمِضْ جُفُونَهُ عَنِ النَّظَرِ فِي: ذِكْرِ الرَّحْمنِ. وَالذِّكْرُ هُنَا، يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ يَعْشُ عَنْ أَنْ يَذْكُرَ الرَّحْمَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فِيمَا ذَكَّرَ عِبَادَهُ، فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. انْتَهَى، كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالذِّكْرِ: التَّذْكِيرَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ الْبَصْرِيُّ: وَمَنْ يَعْشَ، بِفَتْحِ الشِّينِ، أَيْ يَعْمَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، كقوله:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 154.

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ «1» . وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَعْشُو بِالْوَاوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنْ مِنْ مَوْصُولَةٌ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَحَقُّ هَذَا الْقَارِئِ أَنْ يَرْفَعَ نُقَيِّضُ. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، إِذْ تَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَنْ شُرْطِيَّةً، وَيَعْشُو مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ تَقْدِيرًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَخْفَشُ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ، وَيَحْذِفُونَ حُرُوفَ الْعِلَّةِ لِلْجَازِمِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النُّحَاةِ إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الشِّعْرِ، لَا فِي الْكَلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً وَالْجَزْمُ بِسَبَبِهَا لِلْمَوْصُولِ بِاسْمِ الشَّرْطِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَسْمُوعًا فِي الَّذِي، وَهُوَ لَمْ يَكُنِ اسْمَ شَرْطٍ قَطُّ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِيمَا اسْتُعْمِلَ مَوْصُولًا وَشَرْطًا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا تَحْفِرَنَّ بِئْرًا تُرِيدُ أَخًا بِهَا ... فَإِنَّكَ فِيهَا أَنْتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا ... تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعَ أَنْشَدَهُمَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ: أَنَّهُ كَمَا شَبَّهَ الْمَوْصُولَ بِاسْمِ الشَّرْطِ فَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، فَكَذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهِ فَيَنْجَزِمُ الْخَبَرُ، إِلَّا أَنَّ دُخُولَ الْفَاءِ مُنْقَاسٌ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مُسَبَّبًا عَنِ الصِّلَةِ بِشُرُوطِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهَذَا لَا يَنْفِيهِ الْبَصْرِيُّونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُقَيِّضْ، بِالنُّونِ وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَحَمَّادٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَعِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَعَنْ عَاصِمٍ، وَالْعَلِيمِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِالْيَاءِ، أَيْ يُقَيِّضِ الرَّحْمَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: يُقَيَّضْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. لَهُ شَيْطَانٌ: بِالرَّفْعِ، أَيْ يُيَسَّرْ لَهُ شَيْطَانٌ وَيُعْدَلْهُ، وَهَذَا عِقَابٌ عَلَى الْكُفْرِ بالحتم وَعَدَمِ الْفَلَاحِ. كَمَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالتَّزَايُدِ مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَخْذُلُهُ، وَيَحِلُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ، كَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ «2» أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ «3» . انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على من، على الْمَعْنَى أَعَادَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَى الْمَعْنَى. وَالضَّمِيرُ فِي يَصُدُّونَهُمْ عَائِدٌ عَلَى شَيْطَانٌ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا، لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ فِي جِنْسِهِ، وَلِكُلِّ عَاشٍ شَيْطَانٌ قَرِينٌ، فَجَازَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ، عَائِدٌ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَفِي: لَيَصُدُّونَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ فِي وَإِنَّهُمْ، وَفِي لَيَصُدُّونَهُمْ، وَفِي ويحسبون،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 18- 171. (2) سورة فصلت: 41/ 25. (3) سورة مريم: 19/ 83.

لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّ الْكَلَامَ: وَإِنَّ الْعُشَاةَ لَيَصُدُّونَهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنِ السَّبِيلِ، أَيْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالْفَوْزِ، وَيَحْسَبُونَ: أَيِ الكفار. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْحَرَمِيَّانِ: حَتَّى إذا جاآنا، عَلَى التَّثْنِيَةِ، أَيِ الْعَاشِي وَالْقَرِينُ إِعَادَةً عَلَى لَفْظِ مَنْ وَالشَّيْطَانِ الْقَرِينِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَالِحًا لِلْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعِيسَى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَخَوَانِ: جَاءَنَا عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى لَفْظِ مَنْ أَعَادَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ أَفْرَدَ عَلَى اللَّفْظِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً «1» : أَفْرَدَ أَوَّلًا ثُمَّ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ، ثُمَّ أَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ: لَهُ رِزْقاً. رُوِيَ أَنَّهُمَا يُجْعَلَانِ يَوْمَ الْبَعْثِ فِي سِلْسِلَةٍ، فَلَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يُصَيِّرَهُمَا اللَّهُ إِلَى النَّارِ قَالَ، أَيِ الْكَافِرُ للشيطان: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ. تَمَنَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا يَصُدَّهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ تَمَنَّى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ جَوَابُ إِذَا الَّتِي لِلِاسْتِقْبَالِ، أَيْ مَشْرِقَيِ الشَّمْسِ: مَشْرِقِهَا فِي أَقْصَرِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَمَشْرِقِهَا فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ، أَوِ بُعْدَ الْمَشْرِقِ، أَوِ الْمَغْرِبِ غَلَبَ الْمَشْرِقُ فَثَنَّاهُمَا، كَمَا قَالُوا: الْعُمَرَانِ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَالْقَمَرَانِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْمَوْصِلَانِ فِي الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَالزَّهْدَمَانِ فِي زَهْدَمَ وَكَرْدَمَ، وَالْعَجَّاجَانِ فِي رُؤْبَةَ وَالْعَجَّاجِ، وَالْأَبَوَانِ فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا بُعْدُ الْمَشْرِقَيْنِ؟ قُلْتُ: تَبَاعُدُهُمَا، وَالْأَصْلُ بُعْدُ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَالْمَغْرِبِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَلَمَّا غَلَبَ وجمع الْمُفْتَرِقَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ أَضَافَ الْبُعْدَ إِلَيْهِمَا. انْتَهَى. وَقِيلَ: بُعْدُ الْمَشْرِقَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبَيْنِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشْرِقَيْنِ. وَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ يُرِيدُ مَشْرِقَيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَيْهِمَا. فَبِئْسَ الْقَرِينُ: مُبَالَغَةٌ مِنْهُ فِي ذَمِّ قَرِينِهِ، إِذَا كَانَ سَبَبَ إِيرَادِهِ النَّارَ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَنْتَ. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ: حِكَايَةُ حَالٍ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ مَقَالَةٌ مُوحِشَةٌ حَرَمَتْهُمْ رُوحَ التَّأَسِّي، لِأَنَّهُ وَقَّفَهُمْ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّأَسِّي لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ وَطُولِ العذاب واستمراره مُدَّتِهِ، إِذِ التَّأَسِّي رَاحَةُ كُلِّ مُصَابٍ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَغْلَبِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الخنساء:

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 11.

وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي فَهَذَا التَّأَسِّي قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ قَتْلِ النَّفْسِ، فَنَفَى اللَّهُ عَنْهُمُ الِانْتِفَاعَ بِالتَّأَسِّي وَفِي ذَلِكَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ وَيَأْسٌ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ يَنْفَعَكُمْ أَنَّكُمْ وَمَعْمُولَاهَا، أَيْ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ أَنْ لَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمُ اشْتِرَاكَكُمْ فِي الْعَذَابِ. وَإِذَا كَانَ الْفَاعِلُ غَيْرَ أَنَّ، وَهُوَ ضَمِيرٌ، يَعُودُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، أَيْ يَتَمَنَّى مُبَاعَدَةَ الْقَرِينِ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ، وَيَكُونُ أَنَّكُمْ تَعْلِيلًا، أَيْ لِاشْتِرَاكِكُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي سَبَبِهِ، وَهُوَ الْكُفْرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ الْمَعْنَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ الِاعْتِذَارُ وَالنَّدَمُ، لِأَنَّكُمْ وَقُرَنَاءَكُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ، كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي الْكُفْرَانِ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى كَوْنِ الْفَاعِلِ غَيْرَ أَنَّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، لَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ نَفْيَ التَّأَسِّي. وقرىء: إِنَّكُمْ بِالْكَسْرِ، فَدَلَّ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاعِلِ، وَيُقَوِّيهِ حَمْلُ أَنَّكُمْ بِالْفَتْحِ عَلَى التَّعْلِيلِ. وَالْيَوْمَ وَإِذْ ظَرْفَانِ، فَالْيَوْمَ ظَرْفُ حَالٍ، وَإِذْ ظَرْفُ مَاضٍ. أَمَّا ظَرْفُ الْحَالِ فَقَدْ يَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، أَوْ لِتَجَوُّزٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ «1» ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: سَأَشْقَى الْآنَ إِذْ بَلَغْتُ مُنَاهَا وَأَمَّا إِذْ فَمَاضٍ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذْ بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ. انْتَهَى. وَحُمِلَ إِذْ ظَلَمْتُمْ عَلَى مَعْنَى إِذْ تَبَيَّنَ وَوَضَحَ ظُلْمُكُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ وَلَا لَكُمْ شُبْهَةٌ فِي أَنَّكُمْ كُنْتُمْ ظَالِمِينَ، وَنَظِيرُهُ: إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أَيْ تَبَيَّنَ أَنِّي وَلَدُ كَرِيمَةٍ. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَدَلُ عَلَى بَقَاءِ إِذْ عَلَى مَوْضُوعِهَا مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفًا لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ. فَإِنْ جُعِلَتْ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ جَازَ، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى الْبَدَلِ، أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ ابْنِ جِنِّي. قَالَ فِي مُسَاءَلَتِهِ أَبَا عَلِيٍّ: رَاجَعْتُهُ فِيهَا مِرَارًا، وَآخِرُ مَا حَصَلَ مِنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مُتَّصِلَتَانِ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، فَيَكُونُ إِذْ بَدَلًا مِنَ الْيَوْمِ، حَتَّى كَأَنَّهَا مُسْتَقْبَلَةٌ، أَوْ كَأَنَّ الْيَوْمَ مَاضٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقِيلَ: إِذْ لِلتَّعْلِيلِ حَرْفًا بِمَعْنَى إِنْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْيَوْمَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِيَنْفَعَكُمْ، وَلَا يَجُوزُ تَعَلُّقُ إِذْ بِهِ، لِأَنَّهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ، يَعْنِي مُتَغَايِرَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَغَايُرًا

_ (1) سورة الجن: 72/ 9.

لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَا، قَالَ: فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْأَخِيرِ، يَعْنِي لِذَلِكَ التَّغَايُرِ مِنْ كَوْنِ هَذَا ظَرْفَ حَالٍ وَهَذَا ظَرْفَ مُضِيٍّ. قَالَ: وَلَكِنْ تَكُونُ إِذْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اجْتِمَاعُكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَفَاعِلُ يَنْفَعَكُمُ الِاشْتِرَاكُ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ظُلْمُكُمْ، أَوْ جَحْدُكُمْ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِذْ، لَا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْمَعُ ذَلِكَ، فَلَا تَزْدَادُ إِلَّا عُتُوًّا وَاعْتِرَاضًا، وَكَانَ هُوَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ لَهُمْ. خَاطَبَهُ تَعَالَى تَسْلِيَةً لَهُ بِاسْتِفْهَامِ تَعْجِيبٍ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ صُمٌّ، فَلَا يُمْكِنُكَ إِسْمَاعُهُمْ، عُمْيٌ حَيَارَى، فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ حَوَاسُّهُمْ لَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا الِانْتِفَاعَ الَّذِي يُجْرِي خَلَاصَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، جُعِلُوا صُمًّا عُمْيًا حَيَارَى، وَيُرِيدُ بِهِمْ قُرَيْشًا، فَهُمْ جَامِعُو الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: إِنْ قَبَضْنَاكَ قَبْلَ نَصْرِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «1» ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ كَيَوْمِ بَدْرٍ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ: أَيْ هُمْ فِي قَبْضَتِنَا، لَا يَفُوتُونَنَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْمُتَوَعَّدُ هُمُ الْأُمَّةُ، أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا انْتَقَمَ مِنْ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَيَاتِهِمْ، فَوَقَعَتِ النِّقْمَةُ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْعَيْنِ الْحَادِثَةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، مَعَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. وقرىء: نُرِينَكَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَلَمَّا رَدَّدَ تَعَالَى بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَمْسِكَ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَبَعْضُ قُرَّاءِ الشَّامِ: بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالضَّحَّاكُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَنَّهُ، أَيْ وَإِنَّ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ: أَيْ شَرَفٌ، حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَبِلِسَانِهِمْ، جُعِلَ تَبَعًا لَهُمْ. وَالْقَوْمُ عَلَى هَذَا قُرَيْشٌ ثُمَّ الْعَرَبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ، فَإِذَا قَالُوا لَهُ: لِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَكَ؟ سَكَتَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «لِقُرَيْشٍ» ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَقْبَلُ حَتَّى قَبِلَتْهُ الْأَنْصَارُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَوْمُ هُنَا أُمَّتُهُ، وَالْمَعْنَى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْغَبُ فِي الثَّنَاءِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَرْغُوبًا فِيهِ، مَا امْتَنَّ بِهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. وَقَالَ إبراهيم عليه السلام:

_ (1) سورة غافر: 40/ 77.

وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1» . وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيَاةِ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ أَثَرَ الْحَيَاةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْحَيِّ، وَأَثَرَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ يَحْصُلُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ. انْتَهَى. وَقَالَ ابن دريد: وإنما المراد حَدِيثٌ بَعْدَهُ ... فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وعا وَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَاسِنُهَا ... طَيِّبُ مَا يَبْقَى مِنَ الْخَبَرِ وَذُكِرَ أَنَّ هَلَاوُنَ، مَلِكَ التَّتَرِ، سَأَلَ أَصْحَابَهُ: مَنِ الْمَلِكُ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ الَّذِي دَوَّخْتَ الْبِلَادَ وَمَلَكْتَ الْأَرْضَ وَطَاعَتْ لَكَ الْمُلُوكُ. فَقَالَ: لَا الْمَلِكُ هَذَا، وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذْ ذَاكَ يُؤَذِّنُ، هَذَا الَّذِي لَهُ أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، قَدْ مَاتَ وَهُوَ يُذْكَرُ عَلَى الْمَآذِنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؟ يُرِيدُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، قَالَ الْحَسَنُ عَنْ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مَنْ كَذَّبَ بِهِ يسأل سؤال توبيخ. وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، قِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، حِينَ أَمَّ بالأنبياء: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا، فَلَمْ يَسْأَلْهُمْ، إِذْ كَانَ أَثْبَتَ يَقِينًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَكٍّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَفِي الْأَثَرِ أَنَّ مِيكَالَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: هَلْ سَأَلَ مُحَمَّدٌ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: هُوَ أَعْظَمُ يَقِينًا وَأَوْثَقُ إِيمَانًا مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَطَاءٌ: أَرَادَ وَاسْأَلْ أَتْبَاعَ مَنْ أَرْسَلْنَا وَحَمَلَةَ شَرَائِعِهِمْ، إِذْ يَسْتَحِيلُ سُؤَالُ الرُّسُلِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمْ إِنَّمَا يُخْبِرُونَهُ عَنْ كُتُبِ الرُّسُلِ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ، فَكَأَنَّهُ سَأَلَ الرُّسُلَ، وَالسُّؤَالُ الْوَاقِعُ مَجَازٌ عَنِ النَّظَرِ، حَيْثُ لَا يَصْلُحُ لِحَقِيقَتِهِ، كَثِيرٌ مِنْهُ مُسَاءَلَةَ الشُّعَرَاءِ الدِّيَارَ وَالْأَطْلَالَ، وَمِنْهُ: سَيِّدُ الْأَرْضِ مَنْ شَقَّ أَنْهَارَكَ، وَغَرَسَ أَشْجَارَكَ، وَجَنَى ثِمَارَكَ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تُجِبْكَ حِوَارًا أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا. فَالسُّؤَالُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ النَّظَرِ فِي أَدْيَانِهِمْ: هَلْ جَاءَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ قَطُّ فِي مِلَّةٍ مِنْ مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلسَّامِعِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْحَصَ عَنِ الدِّيَانَاتِ، فَقِيلَ لَهُ: اسْأَلْ أَيُّهَا النَّاظِرُ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ، أَجَاءَتْ رُسُلُهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ؟ فَإِنَّهُمْ يُخْبِرُونَكَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتُوا بِهِ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَاسْأَلْنِي، وَاسْأَلْنَا عَنْ مَنْ أَرْسَلَنَا، وَعَلَّقَ وَاسْأَلْ، فَارْتَفَعَ مَنْ، وَهُوَ اسم استفهام على

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 84.

الِابْتِدَاءِ، وَأَرْسَلْنَا خَبَرُهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِاسْأَلْ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، كَانَ سُؤَالُهُ: مَنْ أَرْسَلْتَ يَا رَبِّ قَبْلِي مِنْ رُسُلِكَ؟ أَجَعَلْتَ فِي رِسَالَتِهِ آلِهَةً تُعْبَدُ؟ ثُمَّ سَاقَ السُّؤَالَ فَحَكَى الْمَعْنَى، فَرَدَّ الْخِطَابَ إِلَى مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ، وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ، فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ طَعْنُ قُرَيْشٍ عَلَى الرَّسُولِ، وَاخْتِيَارُهُمْ أَنْ يُنَزَّلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَيْ فِي الْجَاهِ وَالْمَالِ وَذَكَرَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَتْبَعَهُ بِالْمُلْكِ وَالْمَالِ، فَفِرْعَوْنُ قُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَصَارَ فِرْعَوْنُ مَقْهُورًا مَعَ مُوسَى مُنْتَقِمًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا الْآيَةَ، ذَكَرَ وَقْتَهُ مُوسَى وَعِيسَى، وَهُمَا أَكْبَرُ أَتْبَاعًا مِمَّنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكُلٌّ جَاءَ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا جَاءَ أَبَدًا إِبَاحَةُ اتِّخَاذِ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا اتَّخَذَتْ قُرَيْشٌ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ قِصَّتِهِمَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَآيَاتُ مُوسَى هِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَتَى بِهَا. وَخَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ، وَهُمُ الْأَشْرَافُ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ تَبَعٌ لَهُمْ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا، قَبْلَهُ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَطَالَبُوهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا، وَهِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَعَوْدُهَا عَصًا، وَإِخْرَاجُ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ نَيِّرَةً، وَعَوْدُهَا إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ، إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ، أَيْ فَاجَأَهُمُ الضَّحِكُ بِحَيْثُ لَمْ يُفَكِّرُوا وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا، بَلْ بِنَفْسِ مَا رَأَوْا ذَلِكَ ضَحِكُوا سُخْرِيَّةً وَاسْتِهْزَاءً، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَضْحَكُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُجَابَ لَمَّا بِإِذَا الْمُفَاجِأَةِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ فِعْلَ الْمُفَاجَأَةِ مَعَهَا مُقَدَّرٌ، وَهُوَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي مَحَلِّهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ. انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ نَحْوِيًّا ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ، مِنْ أَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةَ تَكُونُ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ فَاجَأَ، بَلِ الْمَذَاهِبُ فِيهَا

ثَلَاثَةٌ: مَذْهَبٌ أَنَّهَا حَرْفٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَامِلٍ، وَمَذْهَبٌ أَنَّهَا ظَرْفُ مَكَانٍ، فَإِنْ صَرَّحَ بَعْدَ الِاسْمِ بَعْدَهَا بِخَبَرٍ لَهُ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ عَامِلًا فِيهَا نَحْوَ: خَرَجْتُ فَإِذَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَقَائِمٌ نَاصِبٌ لِإِذَا، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: خَرَجْتُ فَفِي الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجْتُ فِيهِ زَيْدٌ قَائِمٌ وَمَذْهَبُ أَنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْخَبَرُ أَيْضًا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي خَرَجْتُ فِيهِ زَيْدٌ قَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ الِاسْمِ خَبَرٌ، أَوْ ذُكِرَ اسْمٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، كَانَتْ إِذَا خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ. فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ جُثَّةً، وَقُلْنَا إِذَا ظَرْفُ مَكَانٍ، كَانَ الْأَمْرُ وَاضِحًا وَإِنْ قُلْنَا ظَرْفُ زَمَانٍ، كَانَ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ فَفِي الزَّمَانِ حُضُورُ زَيْدٍ. وَمَا ادَّعَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلِ الْمُفَاجَأَةِ، لَمْ يَنْطِقْ بِهِ وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ الْمُفَاجَأَةُ الَّتِي ادَّعَاهَا لَا يَدُلُّ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، بَلِ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفَاجَأَةَ تَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ إِذَا. تَقُولُ: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ، وَالْمَعْنَى: فَفَاجَأَنِي الْأَسَدُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى: فَفَاجَأْتُ الْأَسَدَ. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ جُمْلَةِ التِّسْعِ، فَمَا أُخْتُهَا الَّتِي فُضِّلَتْ عَلَيْهَا فِي الْكِبَرِ مِنْ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ؟ قُلْتُ: أُخْتُهَا الَّتِي هِيَ آيَةٌ مِثْلُهَا، وَهَذِهِ صِفَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. قُلْتُ: أُخْتُهَا الَّتِي هِيَ آيَةٌ مِثْلُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ وَالِاسْتِقْرَاءِ، وَاحِدَةٌ بَعْدَ وَاحِدَةٍ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ أَفْضَلُ رَجُلٍ رَأَيْتُهُ، تُرِيدُ تَفْضِيلَهُ عَلَى أُمَّةِ الرِّجَالِ الَّذِينَ رَأَيْتَهُمْ إِذَا قَدَّرْتَهُمْ رَجُلًا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَا مِنْ آيَةٍ مِنَ التِّسْعِ إِلَّا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَتَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَاضِلَةً وَمَفْضُولَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، قُلْتُ: الْغَرَضُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُنَّ مَوْصُوفَاتٌ بِالْكِبَرِ، لَا يَكَدْنَ يَتَفَاوَتْنَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَلَاقَى فِي الْفَضْلِ وَتَتَقَارَبُ مَنَازِلُهُمْ فِيهِ التَّقَارُبُ الْيَسِيرُ، إِنْ تَخْتَلِفْ آرَاءُ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا فَيُفَضِّلُ بَعْضُهُمْ هَذَا وَبَعْضُهُمْ ذَاكَ، فَعَلَى هَذَا بَنَى النَّاسُ كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: رَأَيْتُ رِجَالًا بَعْضَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِيهَا، فَتَارَةً يُفَضِّلُ هَذَا، وَتَارَةً يُفَضِّلُ ذَاكَ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ: مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تقل لا قيت سَيِّدَهُمْ ... مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي وَقَدْ فاضلت الأنمارية بين الكلمة مِنْ بَنِيهَا ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا أَبْصَرْتُ مَرَاتِبَهُمْ مُتَدَانِيَةً قَلِيلَةَ التَّفَاوُتِ، ثَكِلْتُهُمْ إِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ، لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ طَوِيلٌ، مُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْوَصْفَ بِالْأَكْبَرِيَّةِ مَجَازٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاظِرِينَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ مَوْقِعِهَا فِي نُفُوسِهِمْ بِحِدَّةِ أَمْرِهَا

وَحُدُوثِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ آيَةً عَرَضَهَا مُوسَى، هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ آيَاتِهِ، ثُمَّ كُلُّ آيَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ تَقَعُ فَيَعْظُمُ عِنْدَهَا مَجِيئُهَا وَتَكْبُرُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَسُوا الَّتِي قَبْلَهَا، فَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَى إِنَّهَا تَعْفُو الْكُلُومُ وَإِنَّمَا ... يوكل بِالْأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا يَمْضِي وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْآيَاتِ هُنَا الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ. انْتَهَى. وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ كِبَارِ الْآيَاتِ، وَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ مِنْ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَبْقَى فِي الْكَلَامِ تَعَارُضٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهَا شَيْءٌ، فَتَكُونَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَقِيلَ: الْأُولَى تَقْتَضِي عِلْمًا، وَالثَّانِيَةُ تَقْتَضِي عِلْمًا مُنْضَمًّا إِلَى عِلْمِ الْأُولَى، فَيَزْدَادُ الرُّجُوحُ. وَكَنَّى بِأُخْتِهَا: مُنَاسِبَتِهَا، تَقُولُ: هَذِهِ الذَّرَّةُ أُخْتُ هَذِهِ، أَيْ مُنَاسِبَتُهَا. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ: بِالسِّنِينَ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ «1» والطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ «2» ، وَذَلِكَ عِقَابٌ لَهُمْ، وَآيَاتٌ لِمُوسَى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَرَادَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ أَرَادَ رُجُوعَهُمْ لَكَانَ. قُلْتُ: إِرَادَتُهُ فِعْلَ غَيْرِهِ، لَيْسَ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ وَيَطْلُبَ مِنْهُ إِيجَادَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْقَسْرِ وُجِدَ، وَإِلَّا دَارَ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنِ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ لَمْ تَكُنْ قَسْرًا وَلَمْ يَخْتَارُوهُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَعَلَّهُمْ، تَرَجٍّ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ الْبَشَرِ وَظَنِّهِمْ. وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ: أَيْ فِي كَشْفِ الْعَذَابِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خِطَابُ تَعْظِيمٍ، لِأَنَّ السِّحْرَ كَانَ عِلْمُ زَمَانِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمُ اسْتَصْحَبُوا لَهُ مَا كَانُوا يَدَّعُونَ بِهِ أَوَّلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ: إخبار مطابق مقصود، وَقِيلَ: بَلْ خِطَابُ اسْتِهْزَاءٍ وَانْتِقَاصٍ وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، أَيْ عَلَى زعمك، وقوله: وإِنَّنا لَمُهْتَدُونَ: إخبار مطابق عَلَى شَرْطِ دُعَائِهِ، وَكَشْفِ الْعَذَابِ وَعَهْدٍ مَعْزُومٍ عَلَى نَكْثِهِ. أَلَا تَرَى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ؟ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جَارِيًا عَلَى أَكْثَرِ عَادَةِ النَّاسِ، إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ تَضَرَّعَ وَدَعَا، وَإِذَا كُشِفَ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى عَادَتِهِ الْأُولَى، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 130. (2) سورة الأعراف: 7/ 133.

إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «1» ، ثم إذا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ. وَقَوْلُهُ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنَّ دَعْوَتَكَ مُسْتَجَابَةٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَدَعَا مُوسَى، فَكُشِفَ فَلَمَّا كَشَفْنا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: يَنْكِثُونَ، بِكَسْرِ الْكَافِ. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ: جَعَلَ الْقَوْمَ مَحَلًّا لِلنِّدَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَادَى عُظَمَاءَ الْقِبْطِ فِي مَحَلِّهِ الَّذِي هُوَ وَهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِتَنْتَشِرَ مَقَالَتُهُ فِي جَمِيعِ الْقِبْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ، فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ. وَسَبَبُ نِدَائِهِ ذَلِكَ، أَنَّهُ لَمَّا رَأَى إِجَابَةَ اللَّهِ دَعْوَةَ مُوسَى وَرَفْعَ الْعَذَابِ، خَافَ مَيْلَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، فَنَادَى: قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فَضْلَهُ عَلَى مُوسَى بِمُلْكِ مِصْرَ، وَهِيَ مِنْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ إِلَى أَسْوَانَ. وَهذِهِ الْأَنْهارُ: أَيِ الْخُلْجَانُ الَّتِي تَجْرِي مِنَ النِّيلِ، وَأَعْظَمُهَا: نَهْرُ الْمَلِكِ، وَنَهْرُ طُولُونَ، وَنَهْرُ دِمْيَاطَ، وَنَهْرُ تِنِّيسَ. وَالْوَاوُ فِي وَهذِهِ الْأَنْهارُ وَاوُ الْحَالِ، وتجري خبر. وهذه الأنهار صِفَةٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى مُلْكِ مِصْرَ، وَتَجْرِي حَالٌ. مِنْ تَحْتِي: أَيْ مِنْ تَحْتِ قَهْرِي وَمُلْكِي. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ جِنَانُهَا وَأَنْهَارُهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِ قَصْرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ سَرِيرٌ عَظِيمٌ، وَقَطَعَ مِنْ نِيلِ مِصْرَ قِطْعَةً قَسَّمَهَا أَنْهَارًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِ ذَلِكَ السَّرِيرِ. وَأَبْعَدَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ الْأَنْهَارَ بِالْقُوَّادِ وَالرُّؤَسَاءِ الْجَبَابِرَةِ، يَسِيرُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ. وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْأَمْوَالِ، يَعْرِفُهَا مِنْ تَحْتِ يَدِهِ. وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْخَيْلِ فَقِيلَ: كَمَا سُمِّيَ الْفَرَسُ بَحْرًا يُسَمَّى نَهْرًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَقْرُبُ مِنْ تَفَاسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ. أَفَلا تُبْصِرُونَ عَظَمَتِي وَقُدْرَتِي وَعَجْزِ مُوسَى؟ وَقَرَأَ مَهْدِيُّ بْنُ الصَّفِيرِ: يُبْصِرُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ ذَكَرَهُ فِي الْكَامِلِ لِلْهُذَلِيِّ، وَالسِّبَاعِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ، ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْتَ شِعْرِي! كَيْفَ ارْتَقَتْ إِلَى دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ هِمَّةُ مَنْ تَعَاظَمَ بِمُلْكِ مِصْرَ؟ وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ مَدَى عَظَمَتِهِ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِهَا فِي أَسْوَاقِ مِصْرَ وَأَزِقَّتِهَا، لِئَلَّا تَخْفَى تِلْكَ الْأُبَّهَةُ وَالْجَلَالَةُ عَلَى صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ حَتَّى يَتَرَبَّعَ فِي صُدُورِ الدَّهْمَاءِ مِقْدَارُ عِزَّتِهِ وَمَلَكُوتِهِ. وَكَسَرَ نُونَ أَفَلا تُبْصِرُونَ، عِيسَى. وَعَنِ الرَّشِيدِ، أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَهَا قَالَ: لِأُوَلِّيَنَّهَا أَحْسَنَ عَبِيدِي، فَوَلَّاهَا الْخَصِيبَ، وَكَانَ عَلَى وُضُوئِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنَّهُ وَلِيَهَا فَخَرَجَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا شَارَفَهَا وَوَقَعَ عَلَيْهَا قَالَ: أَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي افْتَخَرَ بِهَا فِرْعَوْنُ حَتَّى قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ وَاللَّهِ لَهِيَ أَقَلُّ عِنْدِي مِنْ أَنْ أَدْخُلَهَا، فَثَنَى عِنَانَهُ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ، أَيْ بَلْ أَنَا خير. وهو إذا

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 65. [.....]

اسْتَفْهَمَ أَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ هُوَ ضَعِيفٌ؟ لَا يَكَادُ يُفْصِحُ عَنْ مَقْصُودِهِ إِذَا تَكَلَّمَ، وَهُوَ الْمَلِكُ الْمُتَحَكِّمُ فِيهِمْ، قَالُوا لَهُ: بِلَا شَكٍّ أَنْتَ خَيْرٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى بَلْ، فَيَكُونُ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَى إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّنْ ذَكَرَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصَوَّرْتَهَا أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَمْ هَذِهِ الْمُعَادِلَةُ: أَيْ أَمْ يُبْصِرُونَ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ حَقِيقِيٌّ أَنْ يُبْصَرَ عِنْدَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ مُوسَى. وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: أَمْ هَذِهِ مُتَّصِلَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ تُبْصِرُونَ؟ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ قَوْلَهُ: أَنَا خَيْرٌ مَوْضِعَ تُبْصِرُونَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: أَنْتَ خَيْرٌ، فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَرَاءُ، وَهَذَا مِنْ إِنْزَالِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ الْمُسَبِّبِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا، إِذِ الْمُعَادِلُ إِنَّمَا يَكُونُ مُقَابِلًا لِلسَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، كَانَ الْمُعَادِلُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، أَوْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، يَتَقَدَّرُ مِنْهَا فِعْلِيَّةٌ كَقَوْلِهِ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «1» ؟ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَمْ صَمَتُّمْ؟ وَهُنَا لَا يَتَقَدَّرُ مِنْهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، لِأَنَّ قَوْلُهُ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ؟ لَيْسَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ اسْمًا، كَانَ الْمُعَادِلُ اسْمًا، أَوْ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً يَتَقَدَّرُ مِنْهَا اسْمٌ، نَحْوُ قَوْلِهِ: أَمُخْدَجُ الْيَدَيْنِ أَمْ أَتَمَّتِ فَأَتَمَّتْ مُعَادِلٌ لِلِاسْمِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَمْ مُتِمًّا؟ وَقِيلَ: حَذَفَ الْمُعَادِلَ بَعْدَ أَمْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: تُبْصِرُونَ، فَحَذَفَ تُبْصِرُونَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ أَمْ لَا، نَحْوُ: أَيَقُومُ زَيْدٌ أَمْ لَا؟ تَقْدِيرُهُ: أَمْ لَا يَقُومُ؟ وَأَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ لَا، أَيْ أَمْ لَا هُوَ عِنْدَكَ. فَأَمَّا حَذْفُهُ دُونَ لَا، فَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ حَذْفُ أَمْ وَالْمُعَادِلُ، وَهُوَ قَلِيلٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا يُرِيدُ أَمْ غَيٌّ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ قَرَأَ: أَمَا أَنَا خَيْرٌ، دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى مَا النَّافِيَةِ فَأَفَادَتِ التَّقْدِيرَ. وَلا يَكادُ يُبِينُ: الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ كَانَ بِلِسَانِهِ بَعْضُ شَيْءٍ مِنْ أَثَرِ الْجَمْرَةِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ كَانَ أَجَابَهُ فِي سُؤَالِهِ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «2» ، فَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ جَعَلَ انْتِفَاءَ الْإِبَانَةِ بِأَنَّهُ لَا يُبِينُ حُجَّتَهُ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِي، لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيضَاحِ الْمَعْنَى لِأَجْلِ كَلَامِهِ. وَقِيلَ: عَابَهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مُوسَى مِنَ الْخِسَّةِ أَيَّامَ كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ، فَنُسِبَ إِلَى مَا عَهِدَهُ مُبَالَغَةً فِي التعبير. وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ: وَلا يَكادُ يُبِينُ، كذب

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 193. (2) سورة طه: 20/ 27.

بَحْتٌ. أَلَا تَرَى إِلَى مُنَاظَرَتِهِ لَهُ وَرَدِّهِ عَلَيْهِ وَإِفْحَامِهِ بِالْحُجَّةِ؟ وَالْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كُلُّهُمْ بُلَغَاءُ. وَقَرَأَ الْبَاقِرُ: يَبْيَنُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، مِنْ بَانَ إِذَا ظَهَرَ. فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا إِذَا سَوَّدُوا رَجُلًا، سَوَّرُوهُ سُوَارَيْنِ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ مِنْ ذَهَبٍ، عَلَامَةً لسودده. قَالَ فِرْعَوْنُ: هَلَا أَلْقَى رب موسى عليه أساورة مِنْ ذَهَبٍ إِنْ كَانَ صَادِقًا؟ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِلْقَاءِ مَقَالِيدِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِزَّةِ وَالْمُلْكِ، وَوَازَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَصَفَهُ بِالضَّعْفِ وَقِلَّةِ الْأَعْضَادِ. فَاعْتَرَضَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ صَادِقًا، فَهَلَّا مَلَّكَهُ رَبُّهُ وَسَوَّرَهُ وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَارَهُ؟ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: فَلَوْلا أُلْقِيَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ أَسَاوِرَةً نَصْبًا وَالْجُمْهُورُ: أَسَاوِرَةٌ رَفْعًا، وَأُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: أَسَاوِيرُ، وَالْمُفْرَدُ إِسْوَارٌ بِمَعْنَى سُوَارٍ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ، كَهِيَ فِي زَنَادِقَةٍ، هِيَ عِوَضٌ مِنْ يَاءِ زَنَادِيقَ الْمُقَابِلَةِ لِيَاءِ زِنْدِيقٍ، وَهَذِهِ مُقَابِلَةٌ لِأَلِفِ أَسْوَارٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحَفْصٌ: أَسْوِرَةٌ، جَمْعَ سُوَارٍ، نَحْوُ: خِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَسَاوِرُ. وَرُوِيَتْ عَنْ أُبَيٍّ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ: أَيْ يَحْمُونَهُ وَيُقِيمُونَ حُجَّتَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُعِينُونَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُقَارِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَمْشُونَ مَعَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُتَتَابِعِينَ. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ: أَيِ اسْتَجْهَلَهُمْ لِخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَخِفُّوا لِمَا يُرِيدُ مِنْهُمْ، فَأَجَابُوهُ لِفِسْقِهِمْ. فَلَمَّا آسَفُونا: مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ مِنْ أَسِفَ، إِذَا غَضِبَ وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا عَمِلُوا الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ الْمُوجِبَةَ لِأَنْ لَا يَحْلُمَ عَنْهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحْزَنُوا أَوْلِيَاءَنَا الْمُؤْمِنِينَ نَحْوَ السَّحَرَةِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَغْضَبُونَا. وَعَنْ عَلِيٍّ: أَسْخَطُونَا. وَقِيلَ: خَالَفُوا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ، أَمَّا إِرَادَةُ الْعُقُوبَةِ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ الْعُقُوبَةُ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَلَفًا. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَتَادَةُ: أَيْ مُتَقَدِّمِينَ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ مَصْدَرُ سَلَفَ يَسْلِفُ سَلَفًا، وَسِلْفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَالْجَمْعُ أَسْلَافٌ وَسُلَافٌ. وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ سَالِفٍ، كَحَارِسٍ وَحَرَسٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، لأن فعلا ليس من أَبْنِيَةِ الْجُمُوعِ الْمُكَسَّرَةِ. وَقَالَ طُفَيْلٌ يَرْثِي قَوْمَهُ: مَضَوْا سَلَفًا قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ ... صُرُوفُ الْمَنَايَا وَالرِّجَالُ تَقَلَّبُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: سَلَفًا لِيَتَّعِظَ بِهِمُ الْكُفَّارُ الْمُعَاصِرُونَ لِلرَّسُولِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

وَأَصْحَابُهُ، وَسَعِيدُ بْنُ عِيَاضٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَسُلُفًا بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ، جَمْعَ سَلِيفٍ، وَهُوَ الْفَرِيقُ. سَمِعَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَضَى سَلِيفٌ مِنَ النَّاسِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ أَيْضًا: وَسُلُفًا، بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ ، جَمْعَ سُلْفَةٍ، وَهِيَ الْأَمَةُ وَالْقَطِيعَةُ. وَالسِّلْفُ فِي غَيْرِ هَذَا: وَلَدُ الْقُبْحِ، وَالْجَمْعُ سِلْفَانٌ. وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ: أَيْ حَدِيثًا عَجِيبَ الشَّأْنِ سَائِرًا مَسِيرَ الْمَثَلِ، يُحَدَّثُ بِهِ الْآخَرُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، يُقَالُ لَهُمْ: مَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ، وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ «1» ، وَنَزَلَ كَيْفَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ مِنْ ذِكْرِ عِيسَى إِلَّا أَنْ نَعْبُدَهُ، كَمَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَهَذَا كَانَ صُدُودُهُمْ مِنْ ضَرْبِهِ مَثَلًا. وَقِيلَ: ضَرْبُ الْمَثَلِ بِعِيسَى، هُوَ مَا جَرَى بَيْنَ الزِّبَعْرَى وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْقِصَّةِ الْمَحْكِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ «2» . وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي آخِرِهَا أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى قَالَ: فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أَيْ عِيسَى وَأُمُّهُ وَعُزَيْرٌ فِي النَّارِ، فَقَدْ وُصِفْنَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا معهم. وقيل:

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 59. (2) سورة الأنبياء: 21/ 98.

الْمَثَلُ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى قَالُوا: آلِهَتُنَا خَيْرٌ مِنْ عِيسَى، قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ. وَضُرِبَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يكون الْفَاعِلُ ابْنَ الزِّبَعْرَى، إِنْ صَحَّتْ قِصَّتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ الكفار. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَامِرٌ، وَنَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ: يَصُدُّونَ، بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ مِنْ أَجْلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِهَا، أَيْ يَصِيحُونَ وَيَرْتَفِعُ لَهُمْ حَمِيَّةٌ بِضَرْبِ الْمَثَلِ. وَرُوِيَ: ضَمُّ الصَّادِ، عَنْ عَلِيٍّ ، وَأَنْكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا يَكُونُ إِنْكَارُهُ إِلَّا قَبْلَ بُلُوغِهِ تَوَاتُرَهَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى: مِثْلُ يَعْرِشُونَ وَيَعْرُشُونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ: خَفَّفَ الْكُوفِيُّونَ الْهَمْزَتَيْنِ، وَسَهَّلَ بَاقِي السَّبْعَةِ الثَّانِيَةَ بَيْنَ بَيْنَ. وَقَرَأَ وَرْشٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَزْهَرِ: بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مِثَالِ الْخَبَرِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةً لِدَلَالَةِ أَمْ عَلَيْهَا، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا. حَكَوْا أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَيْرٌ، ثُمَّ عَنَّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَفْهِمُوا، عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ الْإِفْحَامُ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَيْرٌ مِنْ عِيسَى. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا: أَيْ مَا مَثَّلُوا هَذَا التَّمْثِيلَ إِلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْغَلَبَةِ وَالْمُغَالَطَةِ، لَا لِتَمْيِيزِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ. وَانْتَصَبَ جَدَلًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ: إِلَّا جِدَالًا بِكَسْرِ الجيم. وألف خصمون: شديد والخصومة وَاللَّجَاجِ وَفَعِلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوُ: هُدًى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَمْ هُوَ لِعِيسَى، لِتَتَنَاسَقَ الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَشَرَّفْنَاهُ بِالرِّسَالَةِ. وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أَيْ خِبْرَةً عَجِيبَةً، كَالْمَثَلِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ، إِذْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَةِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَسْقَامِ كُلِّهَا، مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِ فِي زَمَانِهِ. وَقِيلَ: الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ، قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: مِنْ تَكُونُ لِلْبَدَلِ، أَيْ لَجَعَلْنَا بَدَلَكُمْ مَلَائِكَةً، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «1» ، أَيْ بَدَلَ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرُ: أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الفصيل غلية ... ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفَالَا أَيْ بَدَلَ الْفَصِيلِ، وَأَصْحَابُنَا لَا يُثْبِتُونَ لِمِنْ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَتَأَوَّلُونَ مَا وَرَدَ ما يوهم

_ (1) سورة التوبة، الآية: 38.

ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ نَشَاءُ، لِقُدْرَتِنَا عَلَى عَجَائِبِ الْأُمُورِ وَبَدَائِعِ الْفِطَرِ، لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ: لَوَلَّدْنَا مِنْكُمْ يَا رِجَالُ مَلَائِكَةً يَخْلُفُونَكُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا يَخْلُفُكُمْ أَوْلَادُكُمْ كَمَا وَلَدْنَا عِيسَى مِنْ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، لِتَعْرِفُوا تَمَيُّزَنَا بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلِتَعْلَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ لَا تَتَوَلَّدُ إِلَّا مِنْ أَجْسَامٍ، وَذَاتَ الْقَدِيمِ مُتَعَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ. انْتَهَى، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ. وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَجَعَلْنَا مِنَ الْإِنْسِ مَلَائِكَةً، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ. وَالْجَوَاهِرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ بِالْأَوْصَافِ. يَخْلُفُونَ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَكُونُونَ خُلَفَاءَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: فِي الرِّسَالَةِ بَدَلًا مِنْ رُسُلِكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يَعُودُ عَلَى عِيسَى، إِذِ الظَّاهِرُ فِي الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَيْ وَإِنَّ خُرُوجَهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ قِيَامِهَا، إِذْ خُرُوجُهُ شَرْطٌ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَهُوَ نُزُولُهُ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَابْنُ جُبَيْرٍ: يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ على معنى أنه يَدُلَّ إِنْزَالُهُ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ، أَوْ أَنَّهُ بِهِ تُعْلَمُ السَّاعَةُ وَأَهْوَالُهَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، تَمَيَّزَتِ السَّاعَةُ بِهِ نَوْعًا وَقَدْرًا مِنَ التَّمْيِيزِ، وَنَفَى التَّحْدِيدَ التَّامَّ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَعِلْمٌ، مَصْدَرَ عَلِمَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ شَرْطٌ مِنْ أَشْرَاطِهَا تُعْلَمُ بِهِ، فَسَمَّى الْعِلْمَ شَرْطًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْكَلْبِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو نصرة: لَعَلَمٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ، أَيْ لَعَلَامَةٌ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِهِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وأبو نصرة: لِلْعَلَمِ، مُعَرَّفًا بِفَتْحَتَيْنِ. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها: أَيْ لَا تَشُكُّونَ فِيهَا، وَاتَّبِعُونِ هَذَا: أَيْ هُدَايَ أَوْ شَرْعِي. وَقِيلَ: أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: وَاتَّبِعُونِي هَذَا، أَيِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ لَهُ، أَوْ هَذَا الْقُرْآنُ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَالَ لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ حَذَّرَهُمْ مِنْ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ، وَنَبَّهَ عَلَى عَدَاوَتِهِ بِالْبَيِّناتِ: أَيِ الْمُعْجِزَاتِ، أَوْ بِآيَاتِ الْإِنْجِيلِ الْوَاضِحَاتِ. بِالْحِكْمَةِ: أَيْ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ مِنَ الشَّرَائِعِ. قَالَ السُّدِّيُّ: بِالْحِكْمَةِ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ أَيْضًا: قَضَايَا يَحْكُمُ بِهَا الْعَقْلُ. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: الْإِنْجِيلُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَوْعِظَةُ. وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: وَهُوَ أَمْرُ الدِّيَانَاتِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَكُونُ فِيهَا، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالدِّيَانَاتِ. فَأُمُورُ الدِّيَانَاتِ بَعْضُ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ فِي غَيْرِهِ مَا احْتَاجُوا

إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَعْضُ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَعْضُ بِمَعْنَى كُلٍّ، وَرَدَّهُ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ كَقَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ «1» ، أَيْ فِي الْإِنْجِيلِ: لَحْمُ الْإِبِلِ، وَالشَّحْمُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَصَيْدُ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْضُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ تَبْدِيلِ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: مِمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمُ اخْتِلَافَ الْقُرُونِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا فِي أَمْرِ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَهُمْ قَوْمُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ، أَيْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، بَانَ شَرُّهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمُ الِاخْتِلَافُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ «2» . هَلْ يَنْظُرُونَ: الضمير لقريش، وأَنْ تَأْتِيَهُمْ: بَدَلٌ مِنَ السَّاعَةِ، أَيْ إِتْيَانَهَا إِيَّاهُمْ. الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، أَيْ يَوْمَ إِذْ تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ، وَيَوْمَئِذٍ مَنْصُوبٌ بَعْدُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْقَطِعُ كُلُّ خِلَّةٍ وَتَنْقَلِبُ الْأَخِلَّةُ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهَا لَا تَزْدَادُ إِلَّا قُوَّةً. وَقِيلَ: إِلَّا الْمُتَّقِينَ: إِلَّا الْمُجْتَنِبِينَ أَخِلَّاءَ السُّوءِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَخِلَّاءَ السُّوءِ كُلٌّ مِنْهُمْ يَرَى أَنَّ الضَّرَرَ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ خَلِيلِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَرَى كُلٌّ منهم النفع دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ خَلِيلِهِ. وقرىء: يَا عِبَادِي، بِالْيَاءِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيَا عِبَادِ بِحَذْفِهَا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَكِلَاهُمَا فِي السَّبْعَةِ. وَعَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ: سَمِعَ أَنَّ النَّاسَ حِينَ يُبْعَثُونَ، لَيْسَ مِنْهُمْ أحد إلا يفزغ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الآية، فَيَرْجُوهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَيَتْبَعُهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، قَالَ: فَيَيْأَسُ مِنْهَا الْكُفَّارُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا خَوْفٌ، مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى، وَابْنُ يَعْمَرَ: بِفَتْحِهَا من غير تنوين، والَّذِينَ آمَنُوا صفة ليا عبادي. تُحْبَرُونَ: تُسَرُّونَ سُرُورًا يَظْهَرُ حَبَارُهُ، أَيْ أَثَرُهُ عَلَى وُجُوهِكُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «3» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُكْرَمُونَ إِكْرَامًا يُبَالَغُ فِيهِ، وَالْحَبَرَةُ: الْمُبَالَغَةُ فِيمَا وُصِفَ بِجَمِيلٍ وَأَمَالَ أبو الحرث عَنِ الْكِسَائِيِّ. بِصِحافٍ: ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي: وفِيها، عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ. مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ: هَذَا حَصْرٌ لِأَنْوَاعِ النِّعَمِ، لِأَنَّهَا إِمَّا مُشْتَهَاةٌ فِي الْقُلُوبِ، أَوْ مُسْتَلَذَّةٌ فِي العيون. وقرأ أبو

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 50. (2) سورة مريم: 19/ 37. (3) سورة المطففين: 83/ 24.

جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحَفْصٌ: مَا تَشْتَهِيهِ بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى مَا، وَالْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِحَذْفِ الْهَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ، بِالْهَاءِ فِيهِمَا. وتِلْكَ الْجَنَّةُ: مبتدأ وخبر. والَّتِي أُورِثْتُمُوها: صِفَةٌ، أَوِ الْجَنَّةُ صفة، والَّتِي أُورِثْتُمُوها، وبِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الْخَبَرُ، وَمَا قَبْلَهُ صِفَتَانِ. فَإِذَا كَانَ بِمَا الْخَبَرَ تَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِأُورِثْتُمُوهَا، وَشُبِّهَتْ فِي بَقَائِهَا عَلَى أَهْلِهَا بِالْمِيرَاثِ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَتَضَمَّنُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ. مِنْها تَأْكُلُونَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ لَا تَأْكُلُونَ إِلَّا بَعْضَهَا، وَمَا يَخْلُفُ الْمَأْكُولُ بَاقٍ فِي الشَّجَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ، أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ، قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ، سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يُقَالُ لَهُمْ مِنْ لَذَائِذِ الْبِشَارَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَالِ الْكَفَرَةِ، وَمَا يُجَاوِبُونَ بِهِ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهُمْ فِيهَا، أَيْ فِي جَهَنَّمَ وَالْجُمْهُورُ: وَهُمْ فِيهِ أَيْ فِي الْعَذَابِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: يُجْعَلُ الْمُجْرِمُ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ يُرْدَمُ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى فِيهِ خَالِدًا لَا يَرَى وَلَا يُرَى. لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ: أَيْ لَا يُخَفَّفُ وَلَا يُنْقَصُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَرَتْ عَنْهُ الْحُمَّى، إِذَا سَكَنَتْ قَلِيلًا وَنَقَصَ حَرُّهَا. وَالْمُبْلِسُ: السَّاكِتُ الْيَائِسُ مِنَ الْخَيْرِ. وَما ظَلَمْناهُمْ: أَيْ مَا وَضَعْنَا الْعَذَابَ فِيمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ: أَيِ الْوَاضِعِينَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الْإِيمَانِ، فَظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالظَّالِمِينَ، عَلَى أَنَّ هُمْ فَصْلٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيَّانِ: الظَّالِمُونَ بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُمْ خَبَرُهُمْ، وَهُمْ مُبْتَدَأٌ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الْجَرْمِيُّ: أَنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ جَعْلُ مَا هُوَ فَصْلٌ عِنْدَ

غَيْرِهِمْ مُبْتَدَأً، وَيَرْفَعُونَ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَالَ أبو زيد: سمعتهم يقرأون: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ أَجْرًا «1» يَعْنِي: بِرَفْعِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ. وَقَالَ قيس بن دريج: نَحِنُّ إِلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تركنها ... وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالْمَلَا أَنْتَ أَقْدَرُ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ رُؤْبَةَ كَانَ يَقُولُ: أَظُنُّ زَيْدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، يعني بالرفع. وَنادَوْا يا مالِكُ: تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُبْلِسُونَ، أَيْ سَاكِتُونَ، وَهَذِهِ أَحْوَالٌ لَهُمْ فِي أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ سُكُوتِهِمْ وَنِدَائِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَا مَالِكُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلَى، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: يَا مَالِ، بِالتَّرْخِيمِ ، عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْتَظِرُ الْحَرْفَ. وَقَرَأَ أَبُو السِّرَارِ الْغَنَوِيُّ: يَا مَالُ، بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ، جُعِلَ اسْمًا عَلَى حِيَالِهِ. وَاللَّامُ فِي: لِيَقْضِ لَامُ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ. وَالْمَعْنَى: يُمِتْنَا مَرَّةً حَتَّى لَا يَتَكَرَّرَ عَذَابُنَا، كَقَوْلِهِ: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ «2» ، أَيْ أَمَاتَهُ. قالَ: أي ما لك، إِنَّكُمْ ماكِثُونَ: أَيْ مُقِيمُونَ فِي النَّارِ لَا تَبْرَحُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُجِيبُهُمْ بَعْدَ مُضِيِّ أَلْفِ سَنَةٍ، وَقَالَ نَوْفٌ: بَعْدَ مِائَةٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: أَرْبَعِينَ. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ: يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدُ خَدَمِ الرَّئِيسِ: أَعْلَمْنَاكُمْ وَفَعَلْنَا بِكُمْ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَقَدْ جِئْناكُمْ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لِقُرَيْشٍ بِعَقِبِ حِكَايَةِ أَمْرِ الْكُفَّارِ مَعَ مَالِكٍ، وَفِي هَذَا تَوَعُّدٌ وَتَخْوِيفٌ بِمَعْنَى: انْظُرُوا كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ. أَمْ أَبْرَمُوا: وَالضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ، أَيْ بَلْ أَحْكَمُوا أَمْرًا مِنْ كَيْدِهِمْ لِلرَّسُولِ وَمَكْرِهِمْ، فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كَيْدَنَا، كَمَا أَبْرَمُوا كَيْدَهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «3» ، وَكَانُوا يَتَنَاجَوْنَ وَيَتَسَارَعُونَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ، وَهُوَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ خَالٍ. وَنَجْواهُمْ: وَهِيَ مَا تَكَلَّمُوا بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. بَلى: أَيْ نَسْمَعُهَا، رُسُلُنا، وَهُمُ الْحَفَظَةُ. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، كَمَا تَقُولُونَ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَحَسَّنَهُ بِفَصَاحَتِهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وَصَحَّ ذَلِكَ وَثَبَتَ بِبُرْهَانٍ صَحِيحٍ يُورِدُونَهُ، وَحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ يَبْذُلُونَهَا، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْوَلَدَ، وَأَسْبَقُكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، كَمَا يُعَظِّمُ الرَّجُلُ ولد الملك لعظم

_ (1) سورة المزمل: 73/ 20، والصحيح: «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خيرا وأعظم أجرا» . (2) سورة القصص: 28/ 15. (3) سورة الطور: 52/ 42.

أَبِيهِ. وَهَذَا كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ لِغَرَضٍ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَ النَّاطِقُ بِهِ شُبْهَةً إِلَّا مُضْمَحِلَّةً مَعَ التَّرْجَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِبَادَةَ بِكَيْنُونَةِ الْوَلَدِ، وَهِيَ مُحَالٌ فِي نَفْسِهَا، فَكَانَ الْمُعَلَّقُ بِهَا مُحَالًا مِثْلَهَا. فَهُوَ فِي صُورَةِ إِثْبَاتِ الْكَيْنُونَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَفِي مَعْنَى نَفْيِهَا عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَاهَا. ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلِيُّ لِلْمُجْبِرِ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ التَّأْدِيبَ، بَلِ السَّيْفَ، نَزَّهْتُ كِتَابِي عَنْ ذِكْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَمَحَّلَ النَّاسُ بِمَا أَخْرَجُوهُ بِهِ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ الشَّرِيفِ الْمَلِيءِ بِالنُّكَتِ وَالْفَوَائِدِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِهِ، فَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فِي زَعْمِكُمْ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، الْمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ، الْمُكَذِّبِينَ قَوْلَهُمْ بِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عَبْدٍ يُعْبَدُ، إِذَا اشْتَدَّ أَنْفُهُ فَهُوَ عَبْدٌ وَعَابِدٌ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: عَبِدِينَ، وَقِيلَ: هِيَ إِنِ النَّافِيَةُ، أَيْ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ وَعَبَدَ وَوَحَّدَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ قَالَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ، فَقَالَ النَّضْرُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ صَدَّقَنِي؟ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: مَا صَدَّقَكَ، وَلَكِنْ قَالَ: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. انْتَهَى. أَمَّا الْقَوْلُ: إِنْ كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ، فَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَأَمَّا الْقَوْلُ: فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ، فَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ، حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ وَالْيَمَانِيِّ: الْعَبِدِينَ، وَقِرَاءَةٌ ذَكَرَهَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ الْعَيْنِ: الْعَبْدِينَ، بِإِسْكَانِ الْبَاءِ، تَخْفِيفُ الْعَبْدِينَ بِكَسْرِهَا. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْلَّوَامِحِ أَنَّهُ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْعَابِدِينَ: أَنَّهُ الْآنِفِينَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يُقَالُ: عَبَدَ يَعْبُدُ فَهُوَ عَبْدٌ، وَقَلَّمَا يُقَالُ: عَابِدٌ. وَالْقُرْآنُ لَا يَأْتِي بِالْقَلِيلِ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا الشَّاذَّ، ثُمَّ قَالَ: كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ... وَأَعْبُدُ أَنْ أَهْجُوَ كُلَيْبًا بِدَارِمِي أَيْ: آنَفُ وَأَسْتَنْكِفُ. وَقَالَ آخَرُ: متى ما يشا ذُو الْوُدِّ يَصْرِمُ خَلِيلَهُ ... وَيَعْبُدُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ظَالِمًا وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ، فَمَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّكَ إِنَّمَا نَفَيْتَ عَنِ اللَّهِ الْوَلَدَ فِيمَا مَضَى دُونَ مَا هُوَ آتٍ، وَهَذَا مُحَالٌ. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ

مُحَالٌ، لِأَنَّ كَانَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَدُومُ وَلَا يَزُولُ، كَقَوْلِكَ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» ، أَيْ لَمْ يَزَلْ، فَالْمَعْنَى: مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْعَبِدُ، بِكَسْرِ الْبَاءِ: الشَّدِيدُ الْغَضَبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ أَوَّلُ الْجَاحِدِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَبَدَنِي حَقِّي، أَيْ جَحَدَنِي. وَقَرَأَ وَلَدٌ بِفَتْحَتَيْنِ. عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ. ثُمَّ قَالَ: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ: أَيْ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: إِزَالَةُ الْعِلْمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فَرْدٌ مُطْلَقٌ لا يقبل التجزي. وَالْوَلَدُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنِ الشَّيْءِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شَخْصٌ مِثْلُهُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا هُوَ قَابِلٌ ذاته للتجزي، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَامْتَنَعَ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ. وَلَمَّا ذُكِرَ هَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ قَالَ: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا، أَيْ فِي بَاطِلِهِمْ، وَيَلْعَبُوا، أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ. وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مُهَادَنَةٌ وَتَرْكٌ، وَذَلِكَ مِمَّا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَتَّى يُلاقُوا، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: يَلْقَوْا، مُضَارِعُ لَقِيَ. يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَضَافَ الْيَوْمَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُهُمْ وَعَذَابُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَهٌ فِيهِمَا. وَقَرَأَ عُمَرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ، وَعَلِيٌّ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَالِي، وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو الشَّيْخِ الْهُنَائِيُّ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: اللَّهُ فِيهِمَا. وَمَعْنَى إِلَهٍ: مَعْبُودٌ بِهِ، يَتَعَلَّقُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ هُوَ مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ وَمَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ، وَالْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هُوَ إِلَهٌ، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَنَا بِالَّذِي قَائِلٌ لَكَ شَيْئًا، وَحَسَّنَهُ طُولُهُ بِالْعَطْفِ عَلَيْهِ، كَمَا حَسَّنَ فِي قَائِلٌ لَكَ شَيْئًا طُولُهُ بِالْمُعَوَّلِ. وَمَنْ قَرَأَ: اللَّهُ، ضَمَّنَهُ أَيْضًا مَعْنَى الْمَعْبُودِ، كَمَا ضُمِّنَ الْعَلَمُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: هُوَ حاتم في طيىء، أي جواد في طيىء. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّلَةُ الجار والمجرور. والمعنى: أنه فِيهِمَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ، نَفْيٌ لِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ. وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ: أَيْ عِلْمُ تَعْيِينِ وَقْتِ قِيَامِهَا، وَهُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى. وقرأ الجمهور: يرجعون، بياء الْغَيْبَةِ وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَالْعَدَنِيَّانِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَهُوَ فِي كلتا

_ (1) سورة النساء: 4/ 96.

القراءتين مبني للمفعول. وقرىء: بِفَتْحِ تَاءِ الْخِطَابِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الدَّالِ، وَعَنْهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَشَدِّ الدَّالِ، والمعنى: ولا يملك آلهتهم الَّتِي يَدْعُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَثْنَى مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً بِأَنْ يُمَلِّكَهَا اللَّهُ إِيَّاهُمْ، إِذْ هُمْ مِمَّنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ فِي أَحْوَالِهِمْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: مِنَ الْمَشْفُوعِ فِيهِمْ؟ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَشْفَعُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ وَعُزَيْرٌ وَعِيسَى إِلَّا فِيمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، أَيْ بِالتَّوْحِيدِ، قَالُوا: فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَشْفَعُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرُوهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفًا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ، إِلَّا فِيمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ... وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ ومئزار أي: وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَشْفُوعِ فِيهِمُ الْجَائِزُ فِيهِ الْحَذْفُ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ مُسْتَثْنَى مِنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ، فَيَكُونُ مُنْفَصِلًا، وَالْمَعْنَى: وَلَا يَمْلِكُ آلِهَتُهُمْ، وَيَعْنِي بِهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ، الشَّفَاعَةَ. كما زغموا أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَكِنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا شَهِدَ بِهِ، هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ، وَإِنْ أُدْرِجَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي الَّذِينَ يَدْعُونَ، كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ، أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ أَقَرُّوا أَنَّهُ مُوجِدُ الْعَالَمِ. وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقِيلَهُ، بِالنَّصْبِ. فَعَنِ الْأَخْفَشِ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى سِرِّهِمْ وَنَجْوَاهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: عَلَى وَقَالَ قِيلَهُ، وَعَنِ الزَّجَّاجِ، عَلَى مَحَلِّ السَّاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ يَكْتُبُونَ الْمَحْذُوفِ، أي يكتبون أقولهم وَأَفْعَالَهُمْ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ، أَيْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ. وَقِيلِهِ يَا رَبِّ: وَهُوَ قَوْلٌ لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَاصِمٌ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَقِيلِهِ، بِالْخَفْضِ، وَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى السَّاعَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا وَاوُ الْقَسَمِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَيُنْصَرُنَّ، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِهِمْ مَا أَشَاءُ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدَبٍ: وَقِيلُهُ بِالرَّفْعِ، وَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلْمُ السَّاعَةِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَعِلْمُ قِيلِهِ حُذِفَ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.

وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: يَا رَبِّ إِلَى لَا يُؤْمِنُونَ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَسْمُوعٌ، أَوْ مُتَقَبَّلٌ، فَجُمْلَةُ النِّدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نصب بو قيله. وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ: يَا رَبَّ، بِفَتْحِ الْبَاءِ أَرَادَ: يَا رَبًّا، كَمَا تَقُولُ: يَا غُلَامُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى جَوَازِ الْأَخْفَشِ: يَا قَوْمَ، بِالْفَتْحِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ وَالِاجْتِزَاءَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي قَالُوهُ يَعْنِي مِنَ الْعَطْفِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْمَعْنَى، مَعَ وُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَحْسُنُ اعْتِرَاضًا، وَمَعَ تَنَافُرِ النَّظْمِ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَحَذْفِهِ، وَالرَّفْعُ عَلَى قَوْلِهِمْ: ايْمُنُ اللَّهِ، وَأَمَانَةُ اللَّهِ، وَيَمِينُ اللَّهِ، وَلَعَمْرِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، جَوَابُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَقْسَمَ بِقِيلِهِ، أَوْ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ قَسَمِي. إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِقْسَامُ اللَّهِ بِقِيلِهِ، رَفْعٌ مِنْهُ وَتَعْظِيمٌ لِدُعَائِهِ وَالْتِجَائِهِ إِلَيْهِ. انْتَهَى، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكَلَامِ، إِذْ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا رَبِّ إِلَى لَا يُؤْمِنُونَ، مُتَعَلِّقٌ بِقِيلِهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذَا كَانَ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَوَابَ الْقَسَمِ، كَانَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ عَنْهُمْ وَكَلَامِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَقِيلِهِ لِلرَّسُولِ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ، أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وتاركهم، وَقُلْ سَلامٌ، أَيِ الْأَمْرُ سَلَامٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَتَهْدِيدٌ وَمُوَادَعَةٌ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْلَمُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، كَمَا فِي: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَهِشَامٌ: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَقُلْ سَلَامٌ، أَيْ خَيْرًا بَدَلًا مِنْ شَرِّهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَوْرِدْ عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: قُلْ مَا تَسْلَمُ بِهِ مِنْ شَرِّهِمْ.

سورة الدخان

سورة الدّخان [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 59] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

الدُّخَانُ: مَعْرُوفٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالدُّخَانُ: الْجَدْبُ. قَالَ الْقُتَبِيُّ: سُمِّيَ دُخَانًا لِيُبْسِ الْأَرْضِ مِنْهُ، حَتَّى يَرْتَفِعَ مِنْهَا كَالدُّخَانِ، وَقِيَاسُ جَمْعِهِ فِي الْقِلَّةِ: أَدْخِنَةٌ، وَفِي الْكَثْرَةِ: دِخْنَانٌ، نَحْوُ: غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ وَغِرْبَانٍ. وَشَذُّوا فِي جَمْعِهِ عَلَى فَوَاعِلَ فَقَالُوا: دَوَاخِنُ، كَأَنَّهُ جَمْعُ دَاخِنَةَ تَقْدِيرًا، كَمَا شَذُّوا فِي عُثَانٍ قَالُوا: عَوَاثِنُ. رَهَا الْبَحْرُ، يَرْهُو رَهْوًا: سَكَنَ. يُقَالُ جَاءَتِ الْخَيْلُ رَهْوًا: أَيْ سَاكِنَةً. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالْخَيْلُ تَمْزَعُ رَهْوًا فِي أَعِنَّتِهَا ... كَالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشَّرْنُوبِ ذِي الْبَرَدِ وَيُقَالُ: افْعَلْ ذَلِكَ رَهْوًا: أَيْ سَاكِنًا عَلَى هَيْنَتِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: رَهَا فِي السَّيْرِ. قَالَ الْقَطَامِيُّ فِي نَعْتِ الرِّكَابِ: يَمْشِينَ رَهْوًا فَلَا الْأَعْجَازُ خَاذِلَةٌ ... وَلَا الصُّدُورُ عَلَى الْأَعْجَازِ تَتَّكِلُ وَقَالَ اللَّيْثُ: عَيْشٌ رَاهٍ: وَارِعٌ خَافِضٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الرَّهْوُ وَالرَّهْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ وَالْمُنْخَفِضُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ وَالْجَمْعُ: رُهًا. وَالرَّهْوُ: الْمَرْأَةُ الْوَاسِعَةُ الْهَنِّ، حَكَاهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وَالرَّهْوُ: ضَرْبٌ مِنَ الطَّيْرِ، يُقَالُ هُوَ الْكُرْكِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَهَا الرَّجُلُ يَرْهُو رَهْوًا: فَتَحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ. الْمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وَعَكَرُهُ. عَتَلَهُ: سَاقَهُ بِعُنْفٍ وَدَفْعٍ وَإِهَانَةٍ، وَالْمُعْتَلُ: الْجَافِي الْغَلِيظُ. حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ، رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ، كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ، فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قِيلَ: إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَاخِرِ مَا قَبْلَهَا: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ «1» ، فَذَكَرَ يَوْمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَا مَوْصُوفًا. فَبَيَّنَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، بِوَصْفٍ وَصَفَهُ فَقَالَ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، وَأَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 83.

مِنْ قِبَلِكَ، وَيَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، وَيَكُونُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ القيامة. والظاهر أن الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ الْقُرْآنُ، أَقْسَمَ بِهِ تَعَالَى. وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهُ عَائِدًا عَلَيْهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الكتب الإلهية الْمُنَزَّلَةُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ، عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَيَكُونُ قَدْ عَظَّمَهُ تَعَالَى بِالْإِقْسَامِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَحْسُنُ وُقُوعُ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى إِنَّا أَنْزَلْناهُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ يَتَضَمَّنُ تَفْخِيمَ الْكِتَابِ، وَيَكُونُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْقَسَمُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. انْتَهَى. قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ: اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَقَالُوا: كُتُبُ اللَّهِ كُلُّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي رَمَضَانَ التَّوْرَاةُ فِي أَوَّلِهِ، وَالْإِنْجِيلُ فِي وَسَطِهِ، وَالزَّبُورُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ فِي آخِرِهِ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَيَعْنِي ابْتِدَاءَ نُزُولِهِ كَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: أُنْزِلُ جُمْلَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَمِنْ هُنَاكَ كَانَ جِبْرِيلُ يَتَلَقَّاهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: هِيَ ليلة النصف من شعبان، وَقَدْ أَوْرَدُوا فِيهَا أَحَادِيثَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَا فِي نَسْخِ الْآجَالِ فِيهَا. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ: أَيْ مُخَوِّفِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، مَا مَوْقِعُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ؟ قُلْتُ: هُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ مَلْفُوفَتَانِ، فُسِّرَ بِهِمَا جَوَابُ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلْنَاهُ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِنَا الْإِنْذَارَ وَالتَّحْذِيرَ مِنَ الْعِقَابِ. وَكَانَ إِنْزَالُنَا إِيَّاهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خُصُوصًا، لِأَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْكَمَةِ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ مَفْرِقُ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وَالْمُبَارَكَةُ: الْكَثِيرَةُ الْخَيْرِ، لِمَا يُنْتَجُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مَنَافِعُ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَوْ لَمْ يُوجِدْ فِيهَا إِلَّا إِنْزَالَ الْقُرْآنَ وَحْدَهُ، لَكَفَى بِهِ بَرَكَةً. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ: يَفْرُقُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، كُلَّ: بِالنَّصْبِ، أَيْ يَفْرُقُ اللَّهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، فِيمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُفْرِقُ بِالنُّونِ، كُلَّ بِالنَّصْبِ وَفِيمَا ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ: عَيْنُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَنَصْبِ كُلِّ، وَرَفْعِ حَكِيمٍ، عَلَى أنه الفاعل بيفرق. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَزَائِدَةٌ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَوْ مَعْنَى يَفْرِقُ: يَفْصِلُ من غيره ويلخص. وَوَصْفُ أَمْرٍ بِحَكِيمٍ، أَيْ أَمْرٍ ذِي حِكْمَةٍ وَقَدْ أَبْهَمَ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَفْصِلُ كُلَّ مَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنَ الْأَقْدَارِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَكْتُبُ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ.

وَقَالَ هِلَالُ بْنُ أَسَافٍ: كان يقال: انتظروا القضاء فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لِفَضْلِ الْمَلَائِكَةِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. وَجَوَّزُوا فِي أَمْرًا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ بِمُنْذِرِينَ لِقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً «1» . أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، جَعَلَ كُلَّ أَمْرٍ حَكِيمٍ جَزْلًا فَخْمًا، بِأَنْ وَصَفَهُ بِالْحَكِيمِ، ثُمَّ زَادَهُ جَزَالَةً وَفَخَامَةً نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ: أَعْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَمْرًا حَاصِلًا مِنْ عِنْدِنَا، كَائِنًا مِنْ لَدُنَّا، وَكَمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُنَا وَتَدْبِيرُنَا، كَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، عَلَى هُوَ أَمْرًا، وَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَمَقْبُولًا لَهُ، وَالْعَامِلُ أَنْزَلْنَا، أَوْ مُنْذِرِينَ، أَوْ يُفْرَقُ، وَمَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى يُفْرَقُ، أَيْ فَرْقًا مِنْ عِنْدِنَا، أَوْ مِنْ أَمْرِنَا مَحْذُوفًا وَحَالًا، قِيلَ: مِنْ كُلٍّ، وَالَّذِي تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ أَشْيَاخِنَا أَنَّهُ حَالُ مَنْ أَمَرَ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ بِحَكِيمٍ، فَحَسُنَتِ الْحَالُ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَلَا نَصْبٍ، وَلَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي أَنْزَلْنَاهُ، أَيْ أَمَرَنِي. وَقِيلَ: مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي أَنْزَلْنَاهُ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا بِمَا يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ عِنْدِنَا صِفَةٌ لِأَمْرًا، وقيل: يتعلق بيفرق. إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ: لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ، ذَكَرَ الْمُرْسَلَ، أَيْ مُرْسِلِينَ الْأَنْبِيَاءَ بِالْكُتُبِ لِلْعِبَادِ. فَالْجُمْلَةُ الْمُؤَكَّدَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. وَجَوَّزُوا فِي رَحْمَةً أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ رَحِمْنَا رَحْمَةً، وَأَنْ يكون مفعولا له بأنزلناه، أو ليفرق، أو لأمرا مِنْ عِنْدِنَا. وَأَنْ يَكُونَ مفعولا بمرسلين وَالرَّحْمَةُ تُوصَفُ بِالْإِرْسَالِ، كَمَا وُصِفَتْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «2» . وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّا نَفْصِلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ كُلَّ أَمْرٍ، أَوْ تَصْدُرُ الْأَوَامِرُ مِنْ عِنْدِنَا، لِأَنَّ مِنْ عَادَتِنَا أَنْ نُرْسِلَ رَحْمَتَنَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ: رَحْمَةٌ، بِالرَّفْعِ: أَيْ تِلْكَ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكَ، الْتِفَاتًا مِنْ مُضْمَرٍ إِلَى ظَاهِرٍ، إِذْ لَوْ رُوعِيَ مَا قَبْلَهُ، لَكَانَ رَحْمَةً مِنَّا، لَكِنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، إِيذَانًا بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ: رَبِّ السَّماواتِ، بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ رَبِّكَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ هُوَ رَبُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ، بِرَفْعِهِمَا وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ، وَصَالِحٌ النَّاقِطُ، كِلَاهُمَا عَنِ الْكِسَائِيِّ: بِالْجَرِّ وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ: رَبَّكُمْ وَرَبَّ، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَهُمْ يُخَالِفُونَ بَيْنَ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 2. [.....] (2) سورة فاطر: 35/ 2.

الْإِعْرَابِ، الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، إِذَا طَالَتِ النُّعُوتُ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، تَحْرِيكٌ لَهُمْ بِأَنَّكُمْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ رَحْمَةً مِنْهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْكُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَإِيقَانٍ. وَلِذَلِكَ جَاءَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، أَيْ فِي شَكٍّ لَا يَزَالُونَ فِيهِ يَلْعَبُونَ. فَإِقْرَارُهُمْ لَيْسَ عَنْ حَدٍّ وَلَا تَيَقُّنٍ. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٌ الْخُدْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ: هُوَ دُخَانٌ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْهُ مِثْلُ الزُّكَامِ، وَيُنْضِجُ رؤوس الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، حَتَّى تَكُونَ مِصْلَقَةٌ حَنِيذَةٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي رَأَتْهُ قُرَيْشٌ. قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ قَاصًّا عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ يَقُولُ إِنَّهُ دُخَانٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ أَنْفَاسَ النَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ. أَلَا وَسَأُحَدِّثُكُمْ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» ، فَأَصَابَهُمُ الْجَهْدُ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ، وَالْعِلْهِزُ. وَالْعِلْهِزُ: الصُّوفُ يَقَعُ فِيهِ الْقُرَادُ فَيُشْوَى الصُّوفُ بِدَمِ الْقُرَادِ وَيُؤْكَلُ. وَفِيهِ أَيْضًا: حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ. وَكَانَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الدُّخَانَ، وَكَانَ يُحَدَّثُ الرَّجُلُ فَيَسْمَعُ الْكَلَامَ وَلَا يَرَى الْمُحَدِّثَ مِنَ الدُّخَانِ. فَمَشَى إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَنَفَرٌ مَعَهُ، وَنَاشَدَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، وَوَاعَدُوهُ، إِنْ دَعَا لَهُمْ وَكَشَفَ عَنْهُمْ، أَنْ يُؤْمِنُوا. فَلَمَّا كَشَفَ عَنْهُمْ، رَجَعُوا إِلَى شِرْكِهِمْ. وَفِيهِ: فَرَحِمَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِصَدَقَةٍ وَمَالٍ. وَفِيهِ: فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ «1» ، قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ، هُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، لَمَّا حَجَبَتِ السَّمَاءَ الْغَبَرَةُ. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَوَّلُ الْآيَاتِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَالدُّخَانُ، وَنُزُولُ عيسى بن مَرْيَمَ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ وَفِيهِ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا الدُّخَانُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ؟ وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ، وَاخْتَصَرْنَاهُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، أَيْ ظَاهِرٍ. لَا شَكَّ أَنَّهُ دُخَانٌ يَغْشَى النَّاسَ: يَشْمَلُهُمْ. فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي رَأَتْهُ قُرَيْشٌ، فَالنَّاسُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ مَضَى كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالنَّاسُ عَامٌّ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ وَقْتُ الْأَشْرَاطِ، وَعَامٌّ بِالنَّاسِ يَوْمَ القيامة. هذا عَذابٌ

_ (1) سورة الدخان: 44/ 16.

إِلَى مُؤْمِنُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ الْقَوْلِ مَحْذُوفًا، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ يَقُولُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ، كَأَنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ «1» . إِنَّا مُؤْمِنُونَ: وَعْدٌ بِالْإِيمَانِ إِنْ كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَالْإِيمَانُ وَاجِبٌ، كُشِفَ الْعَذَابُ أَوْ لَمْ يُكْشَفْ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى: أَيْ كَيْفَ يَذَّكَّرُونَ وَيَتَّعِظُونَ وَيَقُولُونَ بِمَا وَعَدُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ عِنْدَ كَشْفِ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ؟ وَأُدْخِلَ فِي بَابِ الِادِّكَارِ مِنْ كَشْفِ الدُّخَانِ؟ وَهُوَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، مِنَ الْكِتَابِ الْمُعْجِزِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَلَمْ يَذَّكَّرُوا، وَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَبَهَتُوهُ بِأَنَّ عَدَّاسًا غُلَامًا أَعْجَمِيًّا لِبَعْضِ ثَقِيفٍ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: مُعَلِّمٌ، بِكَسْرِ اللَّامِ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا: إِخْبَارٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الْإِمْلَاءِ لَهُمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَائِدُونَ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ تَوَعُّدٌ بِمَعَادِ الْآخِرَةِ: وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ حِينَ حَلَّ بِهِمُ الْجَدْبُ، كَانَ ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ الدُّخَانُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا أَتَتِ السَّمَاءُ بِالْعَذَابِ، تَضَرَّعَ مُنَافِقُوهُمْ وَكَافِرُوهُمْ وَقَالُوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ. فَيَكْشِفُ عَنْهُمْ، قِيلَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَحِينَ يَكْشِفُهُ عَنْهُمْ يَرْتَدُّونَ. وَيَوْمُ الْبَطْشَةِ الْكُبْرَى عَلَى هَذَا: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى «2» . وَكَوْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَكَوْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، هُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ نَبْطِشُ، قيل: بذكراهم، وقيل: بننتقم الدَّالِّ عَلَيْهِ مُنْتَقِمُونَ، وَضَعُفَ بِأَنَّهُ لَا نَصْبَ إِلَّا بالفعل، وقيل: بمنتقمون. وَرُدَّ بِأَنَّ مَا بَعْدَ أَنْ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَبْطِشُ، بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّهَا وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَطَلْحَةُ: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، بِمَعْنَى: نُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ من يبطش بهم. والبطشة عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَيْسَ منصوبا بنبطش، بَلْ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ نَبْطِشُ ذَلِكَ الْمُسَلِّطَ الْبَطْشَةَ، أَوْ يَكُونُ الْبَطْشَةَ فِي مَعْنَى الإبطاشة، فينتصب بنبطش. وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ: هَذَا كَالْمِثَالِ لِقُرَيْشٍ، ذُكِرَتْ قِصَّةُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فكذبوه، فأهلكهم الله. وقرىء: فَتَّنَّا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، أَوِ التَّكْثِيرِ، مُتَعَلِّقَةً وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ: أَيْ كِرِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ أَوْ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا يُبْعَثُونَ مِنْ سَرَوَاتِ النَّاسِ، قَالَهُ أبو

_ (1) سورة الصافات: 37/ 106. (2) سورة النازعات: 79/ 34.

سُلَيْمَانَ أَوْ كِرِيمٌ حَسَنُ الْخُلُقِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ، وَهُوَ رَسُولٌ كَرِيمٌ، وَأَنْ تَكُونَ إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَوِ النَّاصِبَةِ لِلْمُضَارِعِ، فَإِنَّهَا تُوصَلُ بِالْأَمْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ الطَّاعَةَ يَا عِبَادَ اللَّهِ: أَيِ اتَّبِعُونِي عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا إِلَيْهِ بَنِي إسرائيل، كم قَالَ: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عِبَادَ اللَّهِ: مُنَادًى، وَمَفْعُولُ أَدُّوا مَحْذُوفٌ وَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ: عِبَادَ اللَّهِ: مَفْعُولُ أَدُّوا. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ: أَيْ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، قَدِ ائْتَمَنَنِي اللَّهُ عَلَى وَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ. وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ: أَيْ لَا تَسْتَكْبِرُوا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. قَالَ ابن جريح: لَا تَعْظُمُوا عَلَى اللَّهِ. قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّعْظِيمَ تَطَاوُلُ الْمُقْتَدِرِ، وَالِاسْتِكْبَارَ تَرَفُّعُ الْمُحْتَقَرِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَنْ هُنَا كَانَ السَّابِقُ فِي أَوْجُهِهَا الثَّلَاثَةَ. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ: أَيْ بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَمُوَضِّحَةٍ صِدْقَ دَعْوَايَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنِّي، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنِّي آتِيكُمْ، فَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَتَغْضَبُ إِنْ قَالَ لَكَ الْحَقَّ؟ وَإِنِّي عُذْتُ: أَيِ اسْتَجَرْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ: كَانُوا قَدْ تَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، فَاسْتَعَاذَ مِنْ ذلك. وقرىء: عُدْتُ، بِالْإِدْغَامِ. قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الرَّجْمُ هُنَا بِالْحِجَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو صَالِحٍ: بِالشَّتْمِ وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ أَلْفَاظٌ لَا تُنَاسِبُ وَهَذِهِ الْمَعَاذَةُ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما «1» . وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا إلي: أَيْ تُصَدِّقُوا، فَاعْتَزِلُونِ: أَيْ كُونُوا بِمَعْزَلٍ، وَهَذِهِ مُشَارَكَةٌ حَسَنَةٌ. فَدَعا رَبَّهُ: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، أَنَّ هؤُلاءِ: لَفْظُ تَحْقِيرٍ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِكَسْرِهَا. فَأَسْرِ بِعِبادِي: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَانْتَقِمْ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: أَسْرِ بعبادي، وهم بنوا إِسْرَائِيلَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: إِضْمَارُ الْقَوْلِ بَعْدَ الْفَاءِ، فَقَالَ: أَسْرِ بِعِبَادِي، وَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا بالشرط مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَالَ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ، فَأَسْرِ بِعِبَادِي. انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يُجِيزُ هَذَا الرجل

_ (1) سورة القصص: 28/ 35.

حَذْفَ الشَّرْطِ وَإِبْقَاءَ جَوَابِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ وَاضِحٍ كَأَنْ يَتَقَدَّمُهُ الْأَمْرُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي النَّحْوِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ: أَيْ يَتَّبِعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَتَنْجُونَ وَيَغْرَقُ الْمُتَّبَعُونَ. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَاكِنًا كَمَا أَجْرَاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: يَبَسًا مِنْ قَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً «1» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: دَمِثًا لَيِّنًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: جُدُدًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سَهْلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مُنْفَرِدًا. قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، لَمَّا قَطَعَهُ، حَتَّى يَلْتَئِمَ وَخَافَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ، فَقِيلَ: لِمَهْ هَذَا؟ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ: أَيْ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ سَاكِنًا عَلَى حَالَتِهِ حِينَ دَخَلَ فيه موسى وبنوا إِسْرَائِيلَ، أَوْ مَفْتُوحًا طَرِيقًا يَبَسًا، دَخَلُوا فِيهِ، فَيُطْبِقُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. كَمْ تَرَكُوا: أَيْ كَثِيرًا تَرَكُوا. مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي الشُّعَرَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَقامٍ، بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وابن جُبَيْرٍ: أَرَادَ الْمَقَامَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَنَافِعٌ: فِي رِوَايَةٍ خَارِجَةٍ بِضَمِّهَا. قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ الْمَوَاضِعَ الْحِسَانَ مِنَ الْمَجَالِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَغَيْرِهَا. وَنَعْمَةٍ، بِفَتْحِ النُّونِ: نَضَارَةُ الْعَيْشِ وَلَذَاذَةُ الْحَيَاةِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: وَنَعْمَةٍ، بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى كَمْ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِأَلِفٍ، أَيْ طَيِّبِيِ الْأَنْفُسِ وَأَصْحَابِ فَاكِهَةٍ، كَلَابِنٍ، وَتَامِرٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ: بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَالْفَكِهُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمُسْتَخِفِّ الْمُسْتَهْزِئِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخِفِّينَ بِشَكْلِ النِّعْمَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَكِهَ الرَّجُلُ، بِالْكَسْرِ، فَهُوَ فَكِهٌ إِذَا كَانَ مَزَّاحًا، وَالْفَكِهُ أَيْضًا الْأَشِرُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَاكِهِينَ: لَاهِينَ كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَيُوقَفُ عَلَى كَذَلِكَ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ يَفْعَلُ فِعْلًا كَذَلِكَ، لِمَنْ يُرِيدُ إِهْلَاكَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَذَلِكَ أَفْعَلُ بِمَنْ عَصَانِي. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا، وَانْتَقَمْنَا انْتِقَامًا كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا، وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ، وهم بنوا إِسْرَائِيلَ. كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ فِي يَدِ الْقِبْطِ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِبْطَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَأَوْرَثَهُمْ مُلْكَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، وَضُعِّفَ قَوْلُ قَتَادَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ فِي مَشْهُورِ التَّوَارِيخِ إن بني إسرائيل رجعوا إِلَى مِصْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَا مَلَكُوهَا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قَتَادَةُ أَنَّهُمْ وَرِثُوا نَوْعَهَا فِي بِلَادِ الشَّأْمِ. انْتَهَى. وَلَا اعْتِبَارَ بِالتَّوَارِيخِ، فالكذب فيها

_ (1) سورة طه: 20/ 77.

كَثِيرٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ صِدْقٌ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «1» وَقِيلَ: قَوْمًا آخَرِينَ مِمَّنْ مَلَكَ مِصْرَ بَعْدَ الْقِبْطِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ: اسْتِعَارَةٌ لِتَحْقِيرِ أَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ هَلَاكِهِمْ شَيْءٌ. وَيُقَالُ فِي التَّعْظِيمِ: بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَبَكَتْهُ الرِّيحُ، وَأَظْلَمَتْ لَهُ الشَّمْسُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ مُفَرِّغٍ: الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامِهِ وَقَالَ جَرِيرٌ: فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومُ اللَّيْلِ والقمرا وقال النابغة: بكى حادث الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وَحَوْرَانُ مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ وَقَالَ جَرِيرٌ: لَمَّا أَتَى الزَّهْوُ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ وَيَقُولُ فِي التَّحْقِيرِ: مَاتَ فُلَانٌ، فَمَا خَشَعَتِ الْجِبَالُ. وَنِسْبَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مِنْهُ حَقِيقَةً، عِبَارَةٌ عَنْ تَأَثُّرِ النَّاسِ لَهُ، أَوْ عَنْ عَدَمِهِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَمَا بَكَى عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْمَلَائِكَةِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، بَلْ كَانُوا بِهَلَاكِهِمْ مَسْرُورِينَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ، بَكَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ مَوْضِعُ عِبَادَتِهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَبَكَى عليه السَّمَاءِ مَوْضِعُ صُعُودِ عَمَلِهِ. قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ تَمْثِيلٌ. وَما كانُوا مُنْظَرِينَ: أَيْ مُؤَخَّرِينَ عَنِ الْعَذَابِ لَمَّا حَانَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ، بَلْ عَجَّلَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ، إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ، وَما خَلَقْنَا

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 59.

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ، مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ، كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ، لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ، فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِهْلَاكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ذَكَرَ إِحْسَانَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَبَدَأَ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَهُوَ نَجَاتُهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ اتِّصَالَ النَّفْعِ لَهُمْ، مِنِ اخْتِيَارِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَإِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: قَتْلُ أَبْنَائِهِمْ، وَاسْتِخْدَامُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ: وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صفته، كبقلة الحمقاء. ومِنْ فِرْعَوْنَ: بَدَلٌ مِنَ الْعَذابِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ. أَوَّلًا حُذِفَ جَعَلَ فِرْعَوْنَ نَفْسَهُ هُوَ الْعَذَابَ مُبَالَغَةً. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنًا وَصَادِرًا مِنْ فِرْعَوْنَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ فِرْعَوْنَ، مَنْ: اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَفِرْعَوْنُ خَبَرُهُ. لَمَّا وَصَفَ فِرْعَوْنَ بِالشِّدَّةِ وَالْفَظَاعَةِ قَالَ: مَنْ فِرْعَوْنُ؟ عَلَى مَعْنَى: هَلْ تَعْرِفُونَهُ مَنْ هُوَ فِي عُتُوِّهِ وَشَيْطَنَتِهِ؟ ثُمَّ عَرَّفَ حَالَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ: أَيْ مُرْتَفِعًا عَلَى الْعَالَمِ، أَوْ مُتَكَبِّرًا مُسْرِفًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ: أَيِ اصْطَفَيْنَاهُمْ وَشَرَّفْنَاهُمْ. عَلى عِلْمٍ عِلْمٍ مَصْدَرٌ لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، فَقِيلَ: عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ، وَفَضْلٍ فِيهِمْ، فَاخْتَرْنَاهُمْ لِلنُّبُوَّاتِ وَالرِّسَالَاتِ. وَقِيلَ: عَلَى عِلْمٍ مِنَّا، أَيْ عَالِمِينَ بِمَكَانِ الْخِيرَةِ، وَبِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءٌ بِأَنْ يُخْتَارُوا. وَقِيلَ: عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا يَصْدُرُ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، بِأَنَّهُمْ يُزَيِّفُونَ، وَتَفْرُطُ مِنْهُمُ الْهَنَاتُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: اخْتَرْنَاهُمْ بِهَذَا الْإِنْجَاءِ وَهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى سَابِقِ عِلْمٍ لَنَا فِيهِمْ، وَخَصَصْنَاهُمْ بِذَلِكَ دُونَ الْعَالَمِ. عَلَى الْعالَمِينَ: أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ، لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مُفَضَّلَةٌ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَالَمِينَ عَامٌّ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَهَذَا خَاصٌّ بِهِمْ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ. وَكَانَ الِاخْتِيَارُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ. وعلى، فِي قَوْلِهِ: عَلى عِلْمٍ، لَيْسَ

مَعْنَاهَا مَعْنَى عَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْعالَمِينَ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمَدْلُولُ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمًا على ظهر الكتيب تَعَذَّرَتْ ... عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لم يحلل فَعَلَى عِلْمٍ: حَالٌ، إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ. وَعَلَى ظَهْرِ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي تَعَذَّرَتْ، وَالْعَامِلُ فِي ذِي الْحَالِ. وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ: أَيِ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَمَا ابْتُلُوا بِهِ وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ تَظْلِيلِ الْغَمَامِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُظْهِرْهَا لِغَيْرِهِمْ. مَا فِيهِ بَلؤُا: أَيِ اخْتِبَارٌ بِالنِّعَمِ ظَاهِرٌ، أَوِ الِابْتِلَاءُ بِالنِّعَمِ كَقَوْلِهِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ «1» . إِنَّ هؤُلاءِ: يَعْنِي قُرَيْشًا، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ تَحْقِيرٌ لَهُمْ. لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى: أَيْ مَا الْمَوْتَةُ إِلَّا مَحْصُورَةٌ فِي مَوْتَتِنَا الْأُولَى. وَكَانَ قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «2» ، فَذَكَرَ مَوْتَتَيْنِ، أُولَى وَثَانِيَةً، فَأَنْكَرُوا هُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَوْتَةٌ ثَانِيَةٌ. وَالْمَعْنَى: مَا آخِرُ أَمْرِنَا وَمُنْتَهَى وُجُودِنَا إِلَّا عِنْدَ مَوْتَتِنَا. فَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهُمْ هَذَا إِنْكَارَ الْبَعْثِ، ثُمَّ صَرَّحُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ، فَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ: أَيْ بِمَبْعُوثِينَ بِحَيَاةٍ دَائِمَةٍ يَقَعُ فِيهَا حِسَابٌ وَثَوَابٌ وَعِقَابٌ وَكَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «3» . فَأْتُوا بِآبائِنا: خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعِدُونَهُمْ بِالْبَعْثِ، أَيْ إِنْ صَدَقْتُمْ فِيمَا تَقُولُونَ، فَأَحْيُوا لَنَا مَنْ مَاتَ مِنْ أَبْنَائِنَا، بِسُؤَالِكُمْ رَبَّكُمْ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْبَعْثِ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: طَلَبُوا مِنَ الرسول أن يدعوا اللَّهَ فَيُحْيِيَ لَهُمْ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ، لِيُشَاوِرُوهُ فِي صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، إِذْ كَانَ كَبِيرُهُمْ وَمُشَاوِرُهُمْ فِي النَّوَازِلِ. أَهُمْ: أَيْ قُرَيْشٌ، خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ تُبَّعًا هُوَ شَخْصٌ مَعْرُوفٌ، وَقَعَ التَّفَاضُلُ بَيْنَ قَوْمِهِ وَقَوْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِنْ كَانَ لَفْظُ تُبَّعٍ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الْعَرَبَ، كَمَا يُطْلَقُ كِسْرَى عَلَى مَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَقَيْصَرُ عَلَى مَنْ مَلَكَ الرُّومَ قِيلَ: وَاسْمُهُ أَسْعَدُ الْحِمْيَرِيُّ، وَكُنِّيَ أَبَا كَرِبٍ وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ الرِّيَاشِيُّ أَنَّهُ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا آمَنَ بِالْمَدِينَةِ، كَتَبَ كِتَابًا وَنَظَمَ شِعْرًا. أَمَّا الشِّعْرُ فَهُوَ:

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 35. (2) سورة البقرة: 2/ 28. (3) سورة الأنعام: 6/ 29.

شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدٍ أَنَّهُ ... رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إِلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْتُ وَزِيرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ وَأَمَّا الْكِتَابُ، فَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ، وَأَنَا عَلَى دِينِكَ وَسُنَّتِكَ، وَآمَنْتُ بِرَبِّكَ وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ، وَآمَنْتُ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ رَبِّكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أدركتك فيها وَنِعْمَتْ، وَإِنْ لَمْ أُدْرِكْكَ، فَاشْفَعْ لِي، وَلَا تَنْسَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِّي مِنْ أُمَّتِكَ الْأَوَّلِينَ، وَتَابَعْتُكَ قَبْلَ مَجِيئِكَ، وَأَنَا عَلَى مِلَّتِكَ وَمِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ خَتَمَ الْكِتَابَ وَنَقَشَ عَلَيْهِ: لِلَّهِ الْأَمْرُ من قبل ومن بعد. وَكَتَبَ عُنْوَانَهُ: إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نَبِيِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من تُبَّعٍ الْأَوَّلِ. وَيُقَالُ: كَانَ الْكِتَابُ وَالشِّعْرُ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ، خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، حَتَّى أَدَّوْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا، وَعَنْهُ لَمَّا أَقْبَلَ تُبَّعٌ مِنَ الشَّرْقِ، بَعْدَ أَنْ حَيَّرَ الْحِيرَةَ وَسَمَرْقَنْدَ، قَصَدَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ قَدْ خَلَّفَ بها حين سافر ابنا، فَقُتِلَ غِيلَةً، فَأَجْمَعَ عَلَى خَرَابِهَا وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا. فَجَمَعُوا لَهُ الْأَنْصَارَ، وَخَرَجُوا لِقِتَالِهِ، وَكَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ وَيُقِرُّونَهُ بِاللَّيْلِ. فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَكِرَامٌ، إِذْ جَاءَهُ كَعْبٌ وَأَسَدٌ، ابْنَا عَمٍّ مِنْ قُرَيْظَةَ جِيرَانٌ، وَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيدُ، فَإِنَّهَا مَهَاجِرُ نَبِيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، فَثَنَاهُ قَوْلُهُمَا عَمَّا كَانَ يُرِيدُ. ثُمَّ دَعَوَاهُ إِلَى دِينِهِمَا، فَاتَّبَعَهُمَا وَأَكْرَمَهُمَا. وَانْصَرَفُوا عَنِ الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ نَفَرٌ مِنْ هُذَيْلٍ: يَدُلُّكَ عَلَى بَيْتٍ فِيهِ كَنْزٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَفِضَّةٍ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَتْ هُذَيْلٌ هَلَاكَهُ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ مَا أَرَادَهُ أَحَدٌ بِسُوءٍ إِلَّا هَلَكَ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَبْرَيْنِ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ لِلَّهِ بَيْتًا فِي الْأَرْضِ غَيْرَ هَذَا، فَاتَّخِذْهُ مَسْجِدًا، وَانْسُكْ عِنْدَهُ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ، وَمَا أَرَادَ الْقَوْمُ إِلَّا هَلَاكَكَ. فَأَكْرَمَهُ وَكَسَاهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ وَقَطَعَ أَيْدِيَ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ وَصَلَبَهُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِتُبَّعٍ رَجُلًا وَاحِدًا، إِنَّمَا الْمُرَادُ مُلُوكُ الْيَمَنِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ التتابعة. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ، تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِهَذَا الِاسْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ غَيْرِهِ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا» ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التتابعة مُلُوكُ الْيَمَنِ، وَالتُّبُّعُ: الظِّلُّ، وَالتُّبَّعُ: ضَرْبٌ مِنَ الطَّيْرِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: تُبَّعٌ لِكُلِّ مَلِكِ الْيَمَنِ، وَالشِّحْرِ حَضْرَمَوْتَ، وَمَلِكُ الْيَمَنِ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى تُبَّعًا،

قَالَهُ الْمَسْعُودِيُّ. وَالْخَيْرِيَّةُ الْوَاقِعَةُ فِيهَا التَّفَاضُلُ، وَكِلَا الصِّنْفَيْنِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقُوَّةِ وَالْمَنْعَةِ، كَمَا قَالَ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ «1» ؟ بَعْدَ ذِكْرِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَهُمْ أَشَدُّ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟ وَإِضَافَةُ قَوْمٍ إِلَى تُبَّعٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُمْ. أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ: إِخْبَارٌ عَمَّا فَعَلَ تَعَالَى بِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِهْلَاكِ هِيَ الْإِجْرَامُ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ، وَتَهْدِيدٌ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ بِقَوْمِ تُبَّعٍ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ لِإِجْرَامِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ خَلْقُ الْعَالَمِ بِالْحَقِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما بَيْنَهُما مِنَ الْجِنْسَيْنِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْسٍ: وَمَا بينهن لا عبين. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَابِثِينَ. مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ: أَيْ بِالْعَدْلِ، يُجَازِي الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ بِمَا أَرَادَ تَعَالَى مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ ذَلِكَ، فَهُمْ لَا يَخَافُونَ عِقَابًا وَلَا يَرْجُونَ ثوابا. وقرىء: مِيقَاتَهُمْ، بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ إِنَّ، وَالْخَبَرُ يَوْمَ الْفَصْلِ، أَيْ: إِنَّ يَوْمَ الفصل ميعادهم وجزاؤهم، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَوَالِي مِنَ الْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ وَالصِّلَةِ شَيْئًا مِنْ إِغْنَاءٍ، أَيْ قَلِيلًا مِنْهُ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: جَمْعٌ، لِأَنَّ عَنْ مَوْلًى فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ، فَعَادَ عَلَى الْمَعْنَى، لَا عَلَى اللَّفْظِ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَنْ رَحِمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنْ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنَالُهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ مَنْ لَعَنَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، أَيْ لَا يُغْنِي قَرِيبٌ عَنْ قَرِيبٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي شَفَاعَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَوْلًى الْمَرْفُوعِ، وَيَكُونُ يُغْنِي بِمَعْنَى يَنْفَعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، فِي مَحَلِّ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي يُنْصَرُونَ، أَيْ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَبْلَهُ. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ: لَا يَنْصُرُ مَنْ عَصَاهُ، الرَّحِيمُ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَمَنْ عَفَا عَنْهُ. إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ: قرىء بِكَسْرِ الشِّينِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. طَعامُ الْأَثِيمِ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْآثَامِ، وَيُقَالُ لَهُ: أَثُومٌ، صِفَةُ مُبَالَغَةٍ أَيْضًا، وَفُسِّرَ بِالْمُشْرِكِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: الْمُكْتَسِبُ لِلْإِثْمِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدَانَ: الْأَثِيمُ هُنَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ: الْوَلِيدُ. كَالْمُهْلِ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، أَوْ مُذَابُ الْفِضَّةِ، أَوْ مُذَابُ

_ (1) سورة القمر: 54/ 43.

النُّحَاسِ، أَوْ عَكَرُ الْقَطِرَانِ، أَوِ الصَّدِيدِ أَوَّلُهَا لِابْنِ عمرو ابن عَبَّاسٍ، وَآخِرُهَا لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَالْمَهْلِ، بِفَتْحِ الْمِيمِ: لُغَةٌ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمُهْلُ: مَا أُذِيبَ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالِابْنَانِ، وَحَفْصٌ: يَغْلِي، بِالْيَاءِ، أَيِ الطَّعَامُ. وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ: فِي رِوَايَةٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: تَغْلِي بِالتَّاءِ، أَيِ الشَّجَرَةُ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ: وَهُوَ الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ الَّذِي يَتَطَايَرُ مِنْ غَلَيَانِهِ. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ، يُقَالُ لِلزَّبَانِيَةِ: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ، أَيْ سُوقُوهُ بِعُنْفٍ وَجَذْبٍ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: مَعْنَى اعْتِلُوهُ: اقْصِفُوهُ كَمَا يُقْصَفُ الْحَطَبُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَطُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُعْظَمُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاعْتِلُوهُ، بِكَسْرِ التَّاءَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالِابْنَانِ، وَنَافِعٌ: بِضَمِّهَا وَالْخِلَافُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَعْرَجِ، وَأَبِي عَمْرٍو. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ: وفي الحج يصيب من فوق رؤوسهم الْحَمِيمُ، وَالْمَصْبُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْحَمِيمُ، فَتَارَةً اعْتُبِرَتِ الْحَقِيقَةُ، وَتَارَةً اعْتُبِرَتِ الِاسْتِعَارَةُ، لِأَنَّهُ أَذَمُّ مِنَ الْحَمِيمِ، فَقَدْ صَبَّ مَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مِنَ الْآلَامِ وَالْعَذَابِ، فَعَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، لِأَنَّ الْعَذَابَ هُوَ الْمُسَبَّبُ عَنِ الْحَمِيمِ، وَلَفْظَةُ الْعَذَابِ أَهْوَلُ وَأَهْيَبُ. ذُقْ: أَيِ الْعَذَابَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالْهُزْءِ لِمَنْ كَانَ يَتَعَزَّزُ وَيَتَكَرَّمُ عَلَى قَوْمِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتُهَدِّدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَإِنَّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَعَزُّ مِنِّي وَلَا أَكْرَمُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَفِي آخِرِهَا: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، أَيْ عَلَى قَوْلِكَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: أَلَمْ تَكُنْ فِي رُسُومٍ قَدْ رَسَمْتَ بِهَا ... مَنْ كَانَ مَوْعِظَةً يَا زَهْرَةَ الْيَمَنِ يَقُولُهَا لِشَاعِرٍ سَمَّى نَفْسَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَبْلِغْ كُلَيْبًا وَأَبْلِغْ عَنْكَ شَاعِرَهَا ... إِنِّي الْأَعَزُّ وَإِنِّي زَهْرَةُ الْيَمَنِ فَجَاءَ به جَرِيرٌ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ. وقرىء: إِنَّكَ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِهَا. إِنَّ هَذَا: أَيِ الْأَمْرَ، أَوِ الْعَذَابَ، مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ: أَيْ تَشُكُّونَ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ أَعْقَبَهُ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: فِي مُقَامٍ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَأَبُو رَجَاءٍ،

وَعِيسَى، وَيَحْيَى، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا وَوَصَفَ الْمَقَامَ بِالْأَمِينِ، أَيْ يُؤَمَّنُ فِيهِ مِنَ الْغَيْرِ، فَكَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَأْمُونٍ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَمِينُ، مِنْ قَوْلِكَ: أَمِنَ الرَّجُلُ أَمَانَةً، فَهُوَ أَمِينٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَائِنِ فَوَصَفَ بِهِ الْمَكَانَ اسْتِعَارَةً، لِأَنَّ الْمَكَانَ الْمُخِيفَ كَانَ يُخَوِّفُ صَاحِبَهُ بِمَا يَلْقَى فِيهِ مِنَ الْمَكَارِهِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَإِسْتَبْرَقٍ، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. مُتَقابِلِينَ: وَصْفٌ لِمَجَالِسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لَا يَسْتَدْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَجَالِسِ. كَذلِكَ: أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِحُورٍ مُنَوَّنًا، وَعِكْرِمَةُ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، لِأَنَّ الْعِينَ تُقَسَّمْنَ إِلَى حُورٍ وَغَيْرِ حُورٍ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ حُورِ الْعِينِ، لَا مِنْ شَهْلَنَ مَثَلًا. يَدْعُونَ فِيها: أَيِ الْخَدَمَ وَالْمُتَصَرِّفِينَ عَلَيْهِمْ، بِكُلِّ فاكِهَةٍ أَرَادُوا إِحْضَارَهَا لَدَيْهِمْ، آمِنِينَ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالتُّخَمِ. لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَا يُذَاقُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى ذَاقُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ، وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمُفَارَقَةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اسْتَثْنَيْتَ الْمَوْتَةَ الْأُولَى الْمَذُوقَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْمَوْتِ الْمَنْفِيِّ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ الْبَتَّةَ، فَوَضَعَ قَوْلَهُ: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى مَوْضِعَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَوْتَةَ الْمَاضِيَةَ مُحَالٌ ذَوْقُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُمْ يَذُوقُونَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدَّرَ قَوْمٌ إِلَّا بِسِوَى، وَضَعَّفَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَقَدَّرَهَا بِبَعْدِ، وَلَيْسَ تَضْعِيفُهُ بِصَحِيحٍ، بَلْ يَصِحُّ الْمَعْنَى بِسِوَى وَيَتَّسِقُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ ذَوْقَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَوَقاهُمْ، مُشَدَّدًا بِالْقَافِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَسَّرْناهُ عَائِدٌ على القرآن وبِلِسانِكَ: بلغتك، وهي لغة لعرب.

سورة الجاثية

سورة الجاثية [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 37] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ، وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ، وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِلَا خلاف، وذكر الماوردي: إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا الْآيَةَ، فَمَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ النَّحَّاسُ، وَالْمَهْدَوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ: شَتَمَهُ مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ. قَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «1» ، وَقَالَ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «2» ، أَوَّلَ الزُّمُرِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، يَجُوزُ جَعْلُهُ صِفَةً لِلَّهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلْكِتَابِ، كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ، مَعَ أَنَّ زِيَادَةَ الْقُرْبِ تُوجِبُ الرُّجْحَانِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي رَدَّدَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلْكِتَابِ لَا يَجُوزُ. لَوْ كَانَ صِفَةً لِلْكِتَابِ لَوَلِيَهُ، فَكَانَ يَكُونُ

_ (1) سورة الدخان: 44/ 58. (2) سورة الزمر: 39/ 1.

التَّرْكِيبُ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ مِنَ اللَّهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِتَنْزِيلِ، وَتَنْزِيلُ خبر لحم، أَوْ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، لَا يَجُوزُ أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ سَوْطُ الْفَاضِلِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَتَنْزِيلُ مُبْتَدَأٌ، فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ أَيْضًا، لَا يَجُوزُ ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدُ الْفَاضِلِ، وَالتَّرْكِيبُ الصَّحِيحُ فِي نَحْوِ هَذَا إِنْ يَلِيَ الصِّفَةُ مَوْصُوفَهَا. إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ: في خلق السموات، كَقَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ التَّخْصِيصُ بالخلق، بل في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، أَيْ فِي أَيِّ شَيْءٍ نَظَرْتَ مِنْهُمَا مِنْ خَلْقٍ وَغَيْرِهِ، مِنْ تَسْخِيرٍ وَتَنْوِيرٍ وَغَيْرِهِمَا، لَآياتٍ: لَمْ يَأْتِ بِالْآيَاتِ مُفَصَّلَةً، بَلْ أَتَى بِهَا مُجْمَلَةً، إِحَالَةً عَلَى غَوَامِضَ يُثِيرُهَا الْفِكْرُ وَيُخْبِرُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا الشَّرْعُ. وَجَعَلَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ فِي ضِمْنِ الْإِيمَانِ الْعَقْلُ وَالتَّصْدِيقُ. وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ، أَيْ فِي غَيْرِ جِنْسِكُمْ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى: وَفِي خَلْقِكُمْ. وَمَنْ أَجَازَ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، أَجَازَ فِي وَما يَبُثُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضمير وَفِي خَلْقِكُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَيُونُسَ، وَالْأَخْفَشِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشلوبين. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَقْبُحُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَنْ أَكَّدُوهُ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُوا: مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ وَزَيْدٍ. انْتَهَى. وَهَذَا يُجِيزُهُ الْجَرْمِيُّ وَالزِّيبَارِيُّ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ: وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ نَظَرٌ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْيَقِينِ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آيَاتٌ، جَمْعًا بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَالْأَعْمَشُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ: بِالنَّصْبِ فِيهِمَا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِرَفْعِهِمَا عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ: لَآيَاتٍ فِيهِمَا، كَالْأُولَى. فَأَمَّا: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ رَفْعًا وَنَصْبًا، فَاسْتَدَلَّ بِهِ وَشِبْهِهِ مِمَّا جَاءَ فِي كَلَامِ الْأَخْفَشِ، وَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِهِ عَلَى عَطْفِ مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ، ذَكَرْنَاهَا فِي (كِتَابِ التَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . فَأَمَّا مَا يَخُصُّ هَذِهِ الْآيَةَ، فَمَنْ نصب آيات بالواو عطفت، وَاخْتِلَافِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِفِي قَبْلَهُ وَهُوَ: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ، وَعَطَفَ آيَاتٍ عَلَى آيَاتٍ، وَمَنْ رَفَعَ فَكَذَلِكَ، وَالْعَامِلَانِ أُولَاهُمَا إِنَّ وَفِي، وَثَانِيهِمَا الِابْتِدَاءُ وَفِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُقِيمَتِ الْوَاوُ مَقَامَهُمَا، فَعَمِلَتِ الْجَرَّ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالنَّصْبَ فِي آيَاتٍ، وَإِذَا رُفِعَتْ وَالْعَامِلَانِ الِابْتِدَاءُ، وَفِي عَمِلَتِ

الرَّفْعَ لِلْوَاوِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ لَا يَعْمَلُ وَمَنْ مَنَعَ الْعَطْفَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، أَضْمَرَ حَرْفَ الْجَرِّ فَقُدِّرَ. وَفِي اخْتِلَافٍ، فَالْعَمَلُ لِلْحَرْفِ مُضْمَرًا، وَنَابَتِ الْوَاوُ مَنَابَ عَامِلٍ وَاحِدٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي مُقَدَّرَةٌ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَفِي اخْتِلَافِ، مُصَرَّحًا وَحَسَّنَ حَذْفَ فِي تَقَدُّمُهَا فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ وَخَرَجَ أَيْضًا النَّصْبُ فِي آيَاتٍ عَلَى التَّوْكِيدِ لِآيَاتٍ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلِإِضْمَارِ حَرْفِ فِي وقرىء وَاخْتِلَافٌ بِالرَّفْعِ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ آيَاتٌ وَلِإِضْمَارِ حَرْفٍ أَيْضًا. وَقَرَأَ: وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَةٌ بِالرَّفْعِ فِي اخْتِلَافُ، وَفِي آيَةٌ مُوَحَّدَةً وَكَذَلِكَ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْعِبَادِ، إِذَا نظروا في السموات وَالْأَرْضِ النَّظَرَ الصَّحِيحَ، عَلِمُوا أَنَّهَا مَصْنُوعَةٌ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ صَانِعٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَأَقَرُّوا. فَإِذَا نَظَرُوا فِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ وَتَنَقُّلِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهَيْئَةٍ إِلَى هَيْئَةٍ، وفي خَلْقِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ صُنُوفِ الْحَيَوَانِ، ازْدَادُوا إِيمَانًا وَأَيْقَنُوا وَانْتَفَى عَنْهُمُ اللَّبْسَ. فَإِذَا نَظَرُوا فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، كَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ، وَحَيَاةِ الْأَرْضِ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ جَنُوبًا وَشَمَالًا وَقَبُولًا وَدَبُورًا، عَقَلُوا وَاسْتَحْكَمَ عِلْمُهُمْ وَخَلَصَ يَقِينُهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَةَ دَلَائِلَ، وَهُنَا سِتَّةً لَمْ يَذْكُرِ الْفُلْكَ وَالسَّحَابَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَدَارَ الْحَرَكَةِ لِلْفُلْكِ وَالسَّحَابِ عَلَى الرِّيَاحِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَذَكَرَ الرِّيَاحَ وَهُنَاكَ جَعَلَ مَقْطَعَ الثَّمَانِيَةِ وَاحِدًا، وَهُنَا رَتَّبَهَا عَلَى مَقَاطِعَ ثَلَاثَةٍ: يُؤْمِنُونَ، يُوقِنُونَ، يَعْقِلُونَ. قَالَ: وَأَظُنُّ سَبَبَ هَذَا التَّرْتِيبِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» ، فَافْهَمُوا هَذِهِ الدَّلَائِلَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلَا مُوقِنِينَ، فَلَا أَقَلَّ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْعَاقِلِينَ، فَاجْتَهِدُوا. وَقَالَ هُنَاكَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ «2» ، وَهُنَا: فِي السَّماواتِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلَا تَفَارُقَ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: فِي السموات، وفي خلق السموات. انْتَهَى، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. تِلْكَ آياتُ اللَّهِ: أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْمَذْكُورَةُ نَتْلُوها: أَيْ نَسْرُدُهَا عَلَيْكَ مُلْتَبِسَةً بِالْحَقِّ، وَنَتْلُوهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مَتْلُوَّةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْعَامِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا. انتهى، وليس نحوه،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 91، وفي وغيرها من الآيات. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 164، وفي غيرها من الآيات.

لِأَنَّ فِي وَهَذَا حَرْفُ تَنْبِيهٍ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ، أَيْ تَنَبَّهْ. وَأَمَّا تِلْكَ، فَلَيْسَ فِيهَا حَرْفُ تَنْبِيهٍ عَامِلًا بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّنْبِيهِ، لِأَنَّ الْحَرْفَ قَدْ يَعْمَلُ فِي الْحَالِ: تَنَبَّهْ لِزَيْدٍ فِي حَالِ شَيْخِهِ وَفِي حَالِ قِيَامِهِ: وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيِ انْظُرْ إِلَيْهِ فِي حَالِ شَيْخِهِ، فَلَا يَكُونُ اسْمُ الْإِشَارَةِ عَامِلًا وَلَا حَرْفُ التَّنْبِيهِ، إِنْ كَانَ هُنَاكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَتْلُوهَا، فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ نَتْلُو شَأْنَهَا وَشَرْحَ الْعِبْرَةِ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِآيَاتِ اللَّهِ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي، فَلَا يَكُونُ فِي نَتْلُوهَا حَذْفُ مُضَافٍ. انْتَهَى. وَنَتْلُوهَا مَعْنَاهُ: يَأْمُرُ الْمَلِكُ أن نتلوها. وقرىء: يَتْلُوهَا، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَائِدًا عَلَى اللَّهِ وَبِالْحَقِّ: بِالصِّدْقِ، لِأَنَّ صِحَّتَهَا مَعْلُومَةٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ الْآيَةَ، فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَهْدِيدٌ بَعْدَ اللَّهِ: أَيْ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ، وَهُوَ كِتَابُهُ وَكَلَامُهُ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «1» وَقَالَ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «2» أَيْ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَعْدَ تَوْحِيدُ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، أَيْ بَعْدَ آيَاتِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، يُرِيدُونَ: أَعْجَبَنِي كَرَمُ زَيْدٍ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِقْحَامَ الْأَسْمَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْعَطْفُ وَالْمُرَادُ غَيْرُ الْعَطْفِ مِنْ إِخْرَاجِهِ إِلَى بَابِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَرَمُ زَيْدٍ إِنَّمَا يَكُونُ فِي: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وكرمه، بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى الْبَدَلِ وَهَذَا قَلْبٌ لِحَقَائِقِ النَّحْوِ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، أَنَّ ذَاتَ زَيْدٍ أَعْجَبَتْهُ، وَأَعْجَبَهُ كَرَمُهُ فَهُمَا إِعْجَابَانِ لَا إِعْجَابٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: يُؤْمِنُونَ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَطَلْحَةُ: تُوقِنُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ، وَالْقَافِ مِنَ الْإِيقَانِ. وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَقِيلَ: فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَرْثِ وَمَا كَانَ يَشْتَرِي مِنْ أَحَادِيثِ الْأَعَاجِمِ وَيَشْغَلُ بِهَا النَّاسَ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ. وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِيمَنْ كَانَ مُضَارًّا لِدِينِ اللَّهِ وَأَفَّاكٌ أَثِيمٌ، صِفَتَا مُبَالَغَةٍ وَأَلْفَاظُ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلِمَ وَقَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَشَدِّ اللَّامِ مَبْنِيًّا للمفعول، أي

_ (1) سورة الزمر: 39/ 23. (2) سورة المرسلات: 77/ 50.

عَرَفَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى: ثُمَّ، فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً؟ قُلْتُ: كَمَعْنَاهُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَذَلِكَ بِأَنَّ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ حَقِيقَةٌ بِأَنْ يَنْجُوَ رَائِيهَا بِنَفْسِهِ وَيَطْلُبَ الْفِرَارَ مِنْهَا، وَأَمَّا زِيَارَتُهَا وَالْإِقْدَامُ عَلَى مُزَاوَلَتِهَا، فَأَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ. فَمَعْنَى ثُمَّ: الْإِيذَانُ بِأَنَّ فِعْلَ الْمُقَدَّمِ عليها، بعد ما رَآهَا وَعَايَنَهَا، شَيْءٌ يُسْتَبْعَدُ فِي الْعَادَةِ وَالطِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ آيَاتُ اللَّهِ الْوَاضِحَةُ الْقَاطِعَةُ بِالْحَقِّ، مَنْ تُلِيَتْ عَلَيْهِ وَسَمِعَهَا، كَانَ مُسْتَبْعَدًا فِي الْعُقُولِ إِصْرَارُهُ عَلَى الضَّلَالَةِ عِنْدَهَا وَاسْتِكْبَارُهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا. اتَّخَذَها هُزُواً، وَلَمْ يَقُلْ: اتَّخَذَهُ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَاضَ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِجَمِيعِ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِمَا بَلَغَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً، يُمْكِنُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ الْمُعَانِدُ وَيَجْعَلَهُ مَحْمَلًا يَتَسَلَّقُ بِهِ عَلَى الطَّعْنِ والغميزة، افترصه وَاتَّخَذَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وذلك نحو افتراص ابْنِ الزِّبَعْرَى قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» ، وَمُغَالَطَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ: خَصَمْتُكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ: نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ ... اللَّهُ وَالْقَائِمُ الْمَهْدِيُّ يَكْفِيهَا حَيْثُ أَرَادَ عُتْبَةَ. انْتَهَى. وَعُتْبَةُ جَارِيَةٌ كَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يَهْوَاهَا وَيَنْتَسِبُ بِهَا. وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ، لِشُمُولِهِ الْأَفَّاكِينَ. حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ كُلٍّ، وَأُفْرِدَ عَلَى الْمَعْنَى فَجُمِعَ، كَقَوْلِهِ: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ «2» . مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ: أَيْ مِنْ قُدَّامِهِمْ، وَالْوَرَاءُ: مَا تَوَارَى مِنْ خَلْفٍ وَأَمَامٍ. وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً مِنَ الْأَمْوَالِ فِي مَتَاجِرِهِمْ، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ الْأَوْثَانِ. هذا، أي القرّاء، هُدىً، أَيْ بَالِغٌ فِي الْهِدَايَةِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا رَجُلٌ، أَيْ كَامِلٌ فِي الرُّجُولِيَّةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ: أَلِيمٌ، بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِعَذَابٍ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَعِيسَى، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْجَرِّ نَعْتًا لِرِجْزٍ. اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ الْآيَةَ: آيَةُ اعْتِبَارٍ فِي تَسْخِيرِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ، وَالسُّفُنِ الْجَارِيَةِ فِيهِ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ الْحَقِيرِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ. بِأَمْرِهِ: أَيْ بِقُدْرَتِهِ. أَنَابَ الْأَمْرَ مناب

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 98. (2) سورة المؤمنون: 23/ 53. .

الْقُدْرَةِ، كَأَنَّهُ يَأْمُرُ السُّفُنَ أَنْ تَجْرِيَ. مِنْ فَضْلِهِ بِالتِّجَارَةِ وَبِالْغَوْصِ عَلَى اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَاسْتِخْرَاجِ اللَّحْمِ الطَّرِيِّ. مَا فِي السَّماواتِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالسَّحَابِ وَالرِّيَاحِ وَالْهَوَاءِ، وَالْأَمْلَاكِ الْمُوَكَّلَةِ بِهَذَا كُلِّهِ. وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ الْبَهَائِمِ وَالْمِيَاهِ وَالْجِبَالِ وَالنَّبَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَشَدِّ النُّونِ وَنَصْبِ التَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ظُلْمٌ. وَحَكَاهَا أَبُو الْفَتْحِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَكَاهَا أَيْضًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَحَكَاهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَقَرَأَ سَلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ التَّاءَ، أَيْ هُوَ مِنْهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا فَتْحُ الْمِيمِ وَشَدِّ النُّونِ، وَهَاءُ الْكِنَايَةِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ فَاعِلُ سَخَّرَ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَائِنَةً مِنْهُ وَحَاصِلَةً عِنْدَهُ، إِذْ هُوَ مُوجِدُهَا بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ سَخَّرَهَا لِخَلْقِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي مِنْهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هِيَ جَمِيعًا مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ: وَمَا فِي الْأَرْضِ، مُبْتَدَأً، وَمِنْهُ خَبَرَهُ. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ هَذَانِ الْوَجْهَانِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، لِأَنَّ جَمِيعًا إِذْ ذَاكَ حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فَهُوَ نَظِيرُ: زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ. قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا: نَزَلَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْكُفَّارِ، وَأَنْ لَا يُعَاقِبُوهُمْ بِذَنْبٍ، بَلْ يَصْبِرُونَ لَهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، قِيلَ: وَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفُ. يَغْفِرُوا، فِي جَزْمِهِ أَوْجُهٌ لِلنُّحَاةِ، تَقَدَّمَتْ فِي: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «1» فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ. لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ: أَيْ وَقَائِعَهُ بِأَعْدَائِهِ وَنِقْمَتَهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَقِيلَ أَيَّامُ إِنْعَامِهِ وَنَصْرِهِ وَتَنْعِيمِهِ فِي الْجَنَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يَأْمُلُونَ الْأَوْقَاتَ الَّتِي وَقَّتَهَا اللَّهُ لِثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدِهِمُ الْفَوْزَ. قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قِيلَ: سَبَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَجْزِيَ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عُلَيَّةَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ عَاصِمٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ بِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، عَلَى أَنْ يُقَامَ الْمَجْرُورُ، وَهُوَ بِمَا،

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 31.

وَيُنْصَبَ الْمَفْعُولُ بِهِ الصَّرِيحُ، وَهُوَ قَوْمًا وَنَظِيرُهُ: ضُرِبَ بِسَوْطٍ زَيْدًا وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ. وَخَرَجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ يَكُونَ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ وَلِيُجْزَى الْجَزَاءُ قَوْمًا. وَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لَكِنْ يُتَأَوَّلُ عَلَى أَنْ يُنْصَبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يَجْزِي قَوْمًا، فَيَكُونُ جُمْلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: لِيُجْزَى الْجَزَاءُ قَوْمًا، وَالْأُخْرَى: يَجْزِيهِ قَوْمًا وَقَوْمًا هُنَا يَعْنِي بِهِ الْغَافِرِينَ، وَنَكَّرَهُ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قَوْمًا، أَيْ قَوْمٌ مِنْ شَأْنِهِمُ التَّجَاوُزُ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَالصَّفْحُ عَنِ الْمُؤْذِيَاتِ وَتَحَمُّلُ الْوَحْشَةِ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، أَيْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْإِثْمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمْ تُكَافِئُوهُمْ أَنْتُمْ حَتَّى نُكَافِئَهُمْ نَحْنُ. مَنْ عَمِلَ صالِحاً كَهَؤُلَاءِ الْغَافِرِينَ، وَمَنْ أَساءَ كَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَأَتَى بِاللَّامِ فِي فَلِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمَحَابَّ وَالْحُظُوظَ تُسْتَعْمَلُ فِيهَا عَلَى الدَّالَّةُ عَلَى الْعُلُوِّ وَالْقَهْرِ، كَمَا تَقُولُ: الْأُمُورُ لزيد متأنية وَعَلَى عَمْرٍو مُسْتَصْعَبَةٌ. وَالْكِتَابُ: التوراة، والحكم: الفضاء، وَفَصْلُ الْأُمُورِ لِأَنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِيهِمْ. قِيلَ: وَالْحُكْمُ: الْفِقْهُ. وَيُقَالُ: لَمْ يَتَّسِعْ فِقْهُ الْأَحْكَامِ عَلَى نَبِيٍّ، كَمَا اتَّسَعَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتِ الْحَلَالِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ النِّعْمَةُ، وَذَلِكَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَطَيِّبَاتُ الشَّامِ، إِذْ هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ. بَيِّنَاتٍ: أَيْ دَلَائِلَ وَاضِحَةً مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي فُصِلَتْ بِهِ الْأُمُورُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ الْأَمْرِ، أَيْ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ تِهَامَةَ إِلَى يَثْرِبَ. وَقِيلَ مُعْجِزَاتُ مُوسَى. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في الشورى. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاخْتِلَافَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ذَكَرَ حَالَ نبيه عليه الصلاة والسلام وَمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ اصْطِفَائِهِ فَقَالَ: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ. قَالَ قَتَادَةُ: الشَّرِيعَةُ: الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالْحُدُودُ، وَالْفَرَائِضُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَيِّنَةُ، لِأَنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى الْحَقِّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: السُّنَّةُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَنُّ بِطَرِيقَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الدِّينُ، لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى النَّجَاةِ. وَالشَّرِيعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرِدُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْأَنْهَارِ وَالْمِيَاهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جيلان مقتنص ... رب الثِّيَابِ خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْسَرِبُ فَشَرِيعَةُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ يُرِدِ النَّاسُ أَمْرَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَالْقُرْبَ مِنْهُ، مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ فِي عِبَادِهِ فِي الزَّمَانِ السَّالِفِ أَوْ يَكُونُ مَصْدَرَ أَمْرٍ، أَيْ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَسُمِّيَ النَّهْيُ أَمْرًا. أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، قِيلَ: جُهَّالُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَقِيلَ: رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ، حين قالوا: أرجع إِلَى دِينِ آبَائِكَ. هَذَا بَصائِرُ: أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ جَعَلَ مَا نَافِيَةً مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ، بَصَائِرُ لِلْقُلُوبِ، كَمَا جُعِلَ رُوحًا وَحَيَاةً. وقرىء: هَذِي، أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ. أَمْ حَسِبَ : أَمْ مُنْقَطِعَةٌ تَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ، وَحَمْزَةَ، وعبيدة بن الحرث، وَفِي عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ. قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا، لَحَالُنَا أَفْضَلُ مِنْ حَالِكُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ أَفْضَلُ فِي الدُّنْيَا. وَاجْتَرَحُوا: اكْتَسَبُوا، وَالسَّيِّئَاتُ: هُنَا سَيِّئَاتُ الْكُفْرِ وَنَجْعَلُهُمْ: نُصَيِّرُهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ كَالَّذِينَ، وَبِهِ تَمَامُ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَوَاءٌ بِالرَّفْعِ، وَمَمَاتُهُمْ بِالرَّفْعِ أَيْضًا وَأَعْرَبُوا سَوَاءٌ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا مُسَوِّغَ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِهِ، بَلْ هُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَمَا بَعْدَهُ الْمُبْتَدَأُ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ فِي مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ أَنْ يَعُودَ عَلَى الَّذِينَ اجْتَرَحُوا ، أَخْبَرَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الزَّمَانَيْنِ سَوَاءٌ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُجْتَرِحِينَ وَالصَّالِحِينَ بِمَعْنَى: أَنَّ مَحْيَا الْمُؤْمِنِينَ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءٌ فِي إِهَانَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعَدَمِ كَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ قَدْ لَفَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَذِهْنُ السَّامِعِ يُفَرِّقُهُ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ إِبْعَادُ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ هَؤُلَاءِ كَهَؤُلَاءِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى مَا مَاتُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا وَيُبْعَثُ مُؤْمِنًا 7 وَالْكَافِرُ يَمُوتُ كَافِرًا وَيُبْعَثُ كَافِرًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُقْتَضَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَفْظُ الْآيَةِ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ دَاخِلٌ فِي الْمُحْسِنَةِ الْمُنْكِرَةِ السَّيِّئَةَ، وَهَذَا احْتِمَالٌ حَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَيْضًا

أَجْوَدُ. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ تَشَبُّثِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْمُحْسِنَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ: سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ تَقَعُ مَفْعُولًا ثَانِيًا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ. أَلَا تَرَاكَ لَوْ قُلْتَ: أَنْ نَجْعَلَهُمْ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ كَانَ سَدِيدًا؟ كما تقول: ظننت زيد أَبُوهُ مُنْطَلِقٌ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، مِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُفْرَدِ، قَدْ أَجَازَهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَأَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدَ عَلَى زَعْمِهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْبَدَلُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْإِشْبِيلِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْعِلْجِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَقَامَ بِالْيَمَنِ وَصَنَّفَ بِهَا، قَالَ فِي كِتَابِهِ (الْبَسِيطِ فِي النَّحْوِ) : وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً مَعْمُولَةً لِلْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ، كَمَا كَانَ فِي النَّعْتِ، لِأَنَّهَا تُقَدِّرُ تَقْدِيرَ الْمُشْتَقِّ تَقْدِيرَ الْجَامِدِ، فَيَكُونُ بَدَلًا، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ تَجَوُّزُ أَنْ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا، وَالْجُمْلَةُ لَا تَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْفَاعِلِ بِغَيْرِ سَائِغٍ، لِأَنَّهَا لَا تُضْمَرُ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْمُولَةٍ، فَهَلْ تَكُونُ جُمْلَةً؟ لَا يَبْعُدُ عِنْدِي جَوَازُهَا، كَمَا يُتْبَعُ فِي الْعَطْفِ الْجُمْلَةُ لِلْجُمْلَةِ، وَلِتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ التَّأْكِيدُ اللَّفْظِيُّ. انْتَهَى. وَتَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الْإِمَامِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنَ الْمُفْرَدِ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ نَجْعَلَهُمْ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، فَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ. لَا يَجُوزُ صَيَّرْتُ زَيْدًا أَبُوهُ قَائِمٌ، وَلَا صَيَّرْتُ زَيْدًا غُلَامُهُ مُنْطَلِقٌ، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ انْتِقَالٌ مِنْ ذَاتٍ إِلَى ذَاتٍ، أَوْ مِنْ وَصْفٍ فِي الذَّاتِ إِلَى وَصْفٍ فِيهَا. وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ مَفْعُولٍ صَيَّرَتِ الْمُقَدَّرَةَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، لَيْسَ فِيهَا انْتِقَالٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَا يَجُوزُ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِذَا قُلْنَا بِتَشَبُّثِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا، أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ حَسِبَ الْكُفَّارُ أَنْ نُصَيِّرَهُمْ مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَالِ اسْتِوَاءِ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ؟ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلْ هُمْ مُفْتَرِقُونَ، أَيِ افْتِرَاقٌ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْحَالُ مُبَيِّنَةً مَا انْبَهَمَ فِي الْمِثْلِيَّةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا الْكَافُ، الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، وَمَا بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَجْرَى سَوَاءً مُجْرَى مُسْتَوِيًا، كَمَا قَالُوا: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ هُوَ وَالْعَدَمُ. وَجَوَّزَ فِي انْتِصَابِ سَوَاءً وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وكالذين الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَالْعَكْسُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ بِالنَّصْبِ أَيْضًا، وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَالْعَامِلُ، إِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُمْ، وَإِمَّا سَوَاءً، وَانْتَصَبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ

مَفْعُولِ نَجْعَلَهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي سَوَاءً، أَيْ أَنْ يَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ وَمَمَاتَهُمْ بِالنَّصْبِ، جَعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ ظَرْفَيْنِ، كَمَقْدِمِ الْحَاجِّ وَخَفُوقِ النَّجْمِ، أَيْ سَوَاءً فِي مَحْيَاهُمْ وَفِي مَمَاتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُسِيئُونَ وَالْمُحْسِنُونَ مَحْيًا، وَأَنْ يَسْتَوُوا مَمَاتًا، لِافْتِرَاقِ أَحْوَالِهِمْ وَتَمْثِيلُهُ بِقَوْلِهِ: وَخَفُوقِ النَّجْمِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ خَفُوقَ مَصْدَرٌ لَيْسَ عَلَى مَفْعَلٍ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَقْتَ خَفُوقِ النَّجْمِ، بِخِلَافِ مَحْيَا وَمَمَاتٍ وَمَقْدِمٍ، فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِالْوَضْعِ مَصْدَرًا وَاسْمَ زَمَانٍ وَاسْمَ مَكَانٍ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَتِ اسْمَ مَكَانٍ أَوِ اسْمَ زَمَانٍ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ قَامَتْ هَذِهِ مَقَامَهُ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّمَانِ وَلِلْمَكَانِ، كَمَا وُضِعَتْ لِلْمَصْدَرِ فَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمَدْلُولَاتِ الثَّلَاثَةِ، بِخِلَافِ خَفُوقِ النَّجْمِ، فَإِنَّهُ وُضِعَ لِلْمَصْدَرِ فَقَطْ. وَقَدْ خَلَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَلَهُ بَعْضُ عُذْرٍ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعْرِبًا، فَقَالَ: وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَعِيسَى بِخِلَافٍ عَنْهُ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَالْأَعْمَشُ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ بِالنَّصْبِ وَوَجَّهَ كُلًّا من القرائتين عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صَنْعَةُ الْإِعْرَابِ، وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْوَهْمِ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ، لِأَنَّهُ نَاسِخٌ مِنْ كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ وَالصَّوَابُ مَا اسْتَبَنَّاهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ لِمَنْ ذَكَرْنَا. وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَبَايُنُ حَالِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي مِنْ حَالِ الطَّائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ، وَتُسَمَّى مَبْكَاةُ الْعَابِدِينَ. وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ الْمَقَامِ، فَبَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيُرَدِّدُ إِلَى الصَّبَاحِ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ . وعن الربيع بن خيثم، أَنَّهُ كَانَ يُرَدِّدُهَا لَيْلَةَ أَجْمَعَ، وَكَذَلِكَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، كَانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَنْتِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا لَفْظُهَا فَيُعْطِي أَنَّهُ اجْتِرَاحُ الْكُفْرِ، بِدَلِيلِ مُعَادَلَتِهِ بِالْإِيمَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُعَادَلَةُ هِيَ بِالِاجْتِرَاحِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَلِهَذَا بَكَى الْخَائِفُونَ. ساءَ مَا يَحْكُمُونَ : هُوَ كَقَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا «1» ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَاءَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ. بِالْحَقِّ: بِأَنَّ خَلْقَهَا حَقٌّ، وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ فَيْضِ الْخَيْرَاتِ، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ. وَلِتُجْزى: هِيَ لَامُ كَيْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى بِالْحَقِّ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ التَّاءِ وَاللَّامِ يَكُونَانِ لِلتَّعْلِيلِ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 90.

فَكَانَ الْخَلْقُ مُعَلَّلًا بِالْجَزَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى مُعَلِّلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لِيَدُلَّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ. وَقَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، أَيْ فَصَارَ الْأَمْرُ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ اهْتَدَى بِهَا قَوْمٌ وَضَلَّ عَنْهَا آخَرُونَ، لِأَنْ يُجَازَى كُلُّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ، وَبِمَا اكْتَسَبَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. انْتَهَى. أَفَرَأَيْتَ الْآيَةَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الحرث بن قيس السهمي، وأ فرأيت: هُوَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ: مَنِ اتَّخَذَ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي لِمَنِ اهْتَدَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، أَيْ لَا أَحَدَ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ. مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ: أَيْ هُوَ مِطْوَاعٌ لِهَوَى نَفْسِهِ، يَتَّبِعُ مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يَعْبُدُهُ، كَمَا يَعْبُدُ الرَّجُلُ إِلَهَهُ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْنَامِ: إِذْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا يَهْوَوْنَ مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ، لَا يَخَافُ اللَّهَ، فَلِهَذَا يُقَالُ: الْهَوَى إِلَهٌ مَعْبُودٌ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: إِلَهَةَ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، بَدَلٌ مِنْ هَاءِ الضَّمِيرِ. وَعَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّهُ قَرَأَ: آلِهَةَ عَلَى الْجَمْعِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَهْوَى الْحَجَرَ فَيَعْبُدُهُ، ثُمَّ يَرَى غَيْرَهُ فَيَهْوَاهُ، فَيُلْقِي الْأَوَّلَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلهَهُ هَواهُ الْآيَةُ. وَإِنْ نَزَلَتْ فِي هَوَى الْكُفْرِ، فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ جَمِيعَ هَوَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ هَوًى إِلَّا ذَمَّهُ. وَقَالَ وَهْبٌ: إِذَا شَكَكْتَ في خبر أَمْرَيْنِ، فَانْظُرْ أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: هَوَاكَ دَاؤُكَ، فَإِنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» . وَمِنْ حِكْمَةِ الشِّعْرِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ، وَهُوَ جَاهِلِيٌّ: إني امرؤ وسمح الْخَلِيقَةِ مَاجِدٌ ... لَا أُتْبِعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ هَوَاهَا وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ الْإِشْبِيلِيُّ الزَّاهِدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ ... هَوَى نَفْسِهِ يَنْزِعُ بِهِ شَرَّ مَنْزَعِ وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَ تَرُدُّهُ ... وَتَرْمِ بِهِ فِي مَصْرَعٍ أَيِّ مَصْرَعِ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ: أَيْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَابِقٍ، أَوْ عَلَى عِلْمٍ مِنْ هَذَا الضَّالِّ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الدِّينُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ عِنَادًا، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَرَفَهُ عَنِ الْهِدَايَةِ وَاللُّطْفِ، وَخَذَلَهُ عَنْ عِلْمٍ، عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا لُطْفَ بِهِ، أَوْ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُوهِ الْهِدَايَةِ وَإِحَاطَتِهِ بِأَنْوَاعِ

_ (1) سورة النمل: 27/ 14 .

الْأَلْطَافِ الْمُحَصَّلَةِ وَالْمُقَرَّبَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غِشاوَةً: بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَعْمَشُ: بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةُ رَبِيعَةَ. وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا: بِضَمِّهَا، وَهِيَ لُغَةُ عُكْلِيَّةَ. وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَسْعُودِ بْنِ صَالِحٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، غَشْوَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمَا كَسَرَا العين، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَذَكَّرُونَ، بِشَدِّ الذَّالِ وَالْجَحْدَرِيُّ يُخَفِّفُهَا، وَالْأَعْمَشُ: بِتَاءَيْنِ. وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «1» : هِيَ مَقَالَةُ بَعْضِ قُرَيْشٍ إِنْكَارًا لِلْبَعْثِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: نَمُوتُ وَنَحْيا حُكْمٌ عَلَى النَّوْعِ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرٍ، أَيْ تَمُوتُ طَائِفَةٌ وَتَحْيَا طَائِفَةٌ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ نَحْيَا وَنَمُوتُ. وَقِيلَ: نَمُوتُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ لَمْ يُوجَدُوا، وَنَحْيَا: أَيْ فِي وَقْتِ وُجُودِنَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ قَبْلَهُ، وَلَا ذِكْرَ لِلْمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: تَمُوتُ الْآبَاءُ وَتَحْيَا الْأَبْنَاءُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَحْيَا، بِضَمِّ النُّونِ. وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ: أَيْ طُولُ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الْآفَاتِ تَسْتَوِي فِيهِ كَمَالَاتُهَا هَذَا إِنْ كَانَ قَائِلُو هَذَا مُعْتَرِفِينَ بِاللَّهِ، فَنَسَبُوا الْآفَاتِ إِلَى الدَّهْرِ بِجَهْلِهِمْ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يُقِرُّونَ بِهِ، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ، فَنَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى الدَّهْرِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَّا دَهْرٌ، وَتَأْوِيلُهُ: إِلَّا دَهْرٌ يَمُرُّ. كَانُوا يُضِيفُونَ كُلَّ حَادِثَةٍ إِلَى الدَّهْرِ، وَأَشْعَارُهُمْ نَاطِقَةٌ بِشَكْوَى الدَّهْرِ، حَتَّى يُوجَدَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ: يَا دَهْرُ إِنْ لَمْ تَكُ عُتْبَى فَاتَّئِدْ ... فَإِنَّ اروادك والعتبي سواء وما كانَ حُجَّتَهُمْ، لَيْسَتْ حُجَّةً حَقِيقَةً، أَيْ حُجَّتَهُمْ عِنْدَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَدْلَوْا بِهَا، كَمَا يُدْلِي الْمُحْتَجُّ بِحُجَّتِهِ، وَسَاقُوهَا مَسَاقَهَا، فَسُمِّيَتْ حُجَّةً عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَوْ لِأَنَّهُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضرب وجيع أَيْ: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُجَّتَهُمْ بِالنَّصْبِ وَالْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَعَاصِمٌ، فِيمَا رَوَى هَارُونُ وَحُسَيْنُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 29.

عَنْهُ: حُجَّتُهُمْ، أَيْ مَا تَكُونُ حُجَّتَهُمْ، لِأَنَّ إِذَا لِلِاسْتِقْبَالِ، وَخَالَفَتْ أَدَوَاتَ الشَّرْطِ بِأَنَّ جَوَابَهَا إِذَا كَانَ مَنْفِيًّا بِمَا، لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ، بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَاءِ. تَقُولُ: إِنْ تَزُرْنَا فَمَا جَفَوْتَنَا، أَيْ فَمَا تَجْفُونَا. وَفِي كَوْنِ الْجَوَابِ مَنْفِيًّا بِمَا، دَلِيلٌ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ أَنَّ جَوَابَ إِذَا لَا يَعْمَلُ فِيهَا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ مَا النَّافِيَةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. ائْتُوا: يَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، إِذْ هُمْ قَائِلُونَ بِمَقَالَتِهِ، أَوْ هُوَ خِطَابٌ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِالْبَعْثِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَغَلَّبَ الْخِطَابَ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ائْتُوا، مِنْ حَيْثُ الْمُخَاطَبَةُ لَهُ وَالْمُرَادُ: هُوَ وَإِلَهُهُ وَالْمَلَكُ الْوَسِيطُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ لَهُمْ فَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةُ قِيلَ لَهَا ائْتُوا وَإِنْ كُنْتُمْ. انْتَهَى. وَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ مَا يُهْلِكُهُمْ إِلَّا الدَّهْرُ، وَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِمَا لَا دَلِيلَ لَهُمْ فِيهِ مِنْ سُؤَالِ إِحْيَاءِ آبَائِهِمْ، رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحْيِي، وَهُوَ الْمُمِيتُ لَا الدَّهْرُ، وَضَمَّ إِلَى ذَلِكَ آيَةً جَامِعَةً لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَهَذَا وَاجِبُ الِاعْتِرَافِ بِهِ إِنْ أَنْصَفُوا، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا قَدَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِآبَائِهِمْ. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ، وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ، ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. الْعَامِلُ فِي وَيَوْمَ تَقُومُ: يخسر، ويَوْمَئِذٍ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ فِرْقَةٍ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ تَنْوِينُ الْعِوَضِ عَنْ جُمْلَةٍ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ إِلَّا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَيَصِيرَ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ تَقُومُ يَوْمَ إِذْ تَقُومُ السَّاعَةُ يَخْسَرُ وَلَا مَزِيدَ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ إِذْ تَقُومُ السَّاعَةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ. فَإِنْ كَانَ بَدَلًا تَوْكِيدِيًّا، وَهُوَ قَلِيلٌ، جَازَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ الْعَامِلُ: فِي وَيَوْمَ تَقُومُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُلْكُ، قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَالٌ ثَالِثَةٌ لَيْسَتْ

بِالسَّمَاءِ وَلَا بِالْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَبَدَّلُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَالْمُلْكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَذَفَهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ ويومئذ منصوب بيخسر، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِيهَا اسْتِئْنَافٌ، وَإِنْ كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ تنوين العوض. والْمُبْطِلُونَ: الدَّاخِلُونَ فِي الْبَاطِلِ. جاثِيَةً: بَارِكَةً عَلَى الرُّكَبِ مُسْتَوْفِزَةً، وَهِيَ هَيْئَةُ الْمُذْنِبِ الْخَائِفِ. وقرىء: جَاذِيَةً، بِالذَّالِ وَالْجَذْوُ أَشَدُّ اسْتِيفَازًا مِنَ الْجَثْوِ، لِأَنَّ الْجَاذِيَ هُوَ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاثِيَةً: مُجْتَمِعَةً. وَعَنْ قَتَادَةَ: جَمَاعَاتٍ، مِنَ الْجُثْوَةِ: وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، يُجْمَعُ عَلَى جُثِيٍّ، قَالَ الشَّاعِرُ: ترى جثو بين مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ وَعَنْ مَوْرِجِ السَّدُوسِيِّ: جَاثِيَةً: خَاضِعَةً، بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: جَاثِيَةً: مُتَمَيِّزَةً. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى، بِنَصْبِ كُلَّ أُمَّةٍ عَلَى الْبَدَلِ، بَدَلَ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَذَلِكَ عِنْدَ الْحِسَابِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ، تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْمُنَزَّلِ عَلَيْهَا، فَتُحَاكَمُ إِلَيْهِ، هَلْ وَافَقَتْهُ أَوْ خَالَفَتْهُ؟ أَوِ الَّذِي كَتَبَتْهُ الْحَفَظَةُ، وَهُوَ صَحَائِفُ أَعْمَالِهَا، أَوِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَوِ الْمَعْنَى إِلَى مَا يَسْبِقُ لَهَا فِيهِ، أَيْ إِلَى حِسَابِهَا، أَقْوَالٌ. وَأَفْرَدَ كِتَابَهَا اكْتِفَاءً بِاسْمِ الْجِنْسِ لِقَوْلِهِ: وَوُضِعَ الْكِتابُ «1» ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ، هَذَا كِتابُنا، هُوَ الَّذِي دُعِيَتْ إِلَيْهِ كُلُّ أُمَّةٍ، وَصَحَّتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَالِكُهُ وَالْآمِرُ بِكَتْبِهِ وَإِلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُثْبَتَةٌ فِيهِ. وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَيْهِ تَعَالَى. يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ: يَشْهَدُ بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ: أَيِ الْمَلَائِكَةَ، أَيْ نَجْعَلُهَا تَنْسِخُ، أَيْ تَكْتُبُ. وَحَقِيقَةُ النَّسْخِ نَقْلُ خَطٍّ مِنْ أَصْلٍ يُنَظَمُ فِيهِ، فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ كَأَنَّهَا الْأَصْلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ كَتْبُ الْحَفَظَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَجْعَلُ اللَّهُ الْحَفَظَةَ تَنْسَخُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ مَا يَفْعَلُ الْعِبَادُ، ثُمَّ يُمْسِكُونَهُ عِنْدَهُمْ، فَتَأْتِي أَفْعَالُ الْعِبَادِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَبَعِيدٌ أَيْضًا، فَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِنْسَاخُ. وَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْتُمْ عَرَبًا؟ وَهَلْ يَكُونُ الِاسْتِنْسَاخُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ؟ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّهُ يُدْخِلُهُ فِي رَحْمَتِهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ الَّذِي أَعَدَّ لَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ وَبَيَّنَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يُوَبَّخُ وَيُقَالُ لَهُ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا وَكُنْتُمْ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 49، وسورة الزمر: 39/ 69.

أَصْحَابَ جَرَائِمَ؟ وَالْفَاءُ فِي: أَفَلَمْ يَنْوِي بِهَا التَّقْدِيمَ وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الكلام، وَالتَّقْدِيرُ: فَيُقَالُ لَهُ أَلَمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلِي؟ فَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي زَعْمِهِ أَنَّ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْوَاوِ، إِذَا تَقَدَّمَهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مَحْذُوفًا، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ سَلِيمٍ وَالْجُمْهُورُ: إِنَّ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالسَّاعَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لِاسْمِ إِنَّ مَوْضِعًا جَوَّزَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ هُنَا، أَوْ زَعَمَ أن لأن وَاسْمِهَا مَوْضِعًا جَوَّزَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ، وَبِالْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ لأن وَاسْمِهَا هُنَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ذَكَرَهُ فِي الْحُجَّةِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَبِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ وَحَمْزَةُ: بالنصب عطفا على وعد اللَّهِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعِيسَى، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَالْعَبْسِيِّ، وَالْمُفَضَّلِ. إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبًا، فَإِنْ نَفَيْتَ، لَمْ تُدْخِلْ إِلَّا، إِذْ لَا يُفَرَّغُ بِالْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ، فَلَا تَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا ضَرْبًا، وَلَا مَا قُمْتُ إِلَّا قِيَامًا. فأما الآية، فتأول عَلَى حَذْفِ وَصْفِ الْمَصْدَرِ حَتَّى يَصِيرَ مُخْتَصًّا لَا مُؤَكَّدًا، وَتَقْدِيرُهُ: إِلَّا ظَنًّا ضَعِيفًا، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ نَظُنُّ مَعْنًى نَعْتَقِدُ، وَيَكُونُ ظَنًّا مَفْعُولًا بِهِ. وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى وَضْعِ إِلَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَقَالَ: التقديران نَحْنُ إِلَّا نَظُنُّ ظَنًّا. وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَسِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: لَيْسَ الطِّيبُ إِلَّا الْمِسْكُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَيْسَ إِلَّا الطِّيبُ الْمِسْكُ. انْتَهَى. وَاحْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَوْنُ الْمِسْكِ مَرْفُوعًا بَعْدَ إِلَّا. وَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ: مَا كَانَ زَيْدٌ إِلَّا فَاضِلًا نَصَبْتَ، فَلَمَّا وَقَعَ بَعْدَ إِلَّا مَا يَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ، احْتَاجَ أَنْ يُزَحْزِحَ إِلَّا عَنْ مَوْضِعِهَا، وَيَجْعَلَ فِي لَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَيَرْفَعَ إِلَّا الطِّيبُ الْمِسْكُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَيَصِيرَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، فِي نَحْوِ: مَا كَانَ إِلَّا زَيْدٌ قَائِمٌ. وَلَمْ يَعْرِفِ الْمُبَرِّدُ أَنَّ لَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَامَلَتْهَا بَنُو تَمِيمٍ مُعَامَلَةَ مَا، فَلَمْ يُعْمِلُوهَا إِلَّا بَاقِيَةً مَكَانَهَا، وَلَيْسَ غَيْرُ عَامِلِةٍ. وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ حِجَازِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَنْصِبُ فِي نَحْوِ ليس الطيب إلا المسك، وَلَا تَمِيمِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَرْفَعُ. فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ جَرَتْ بَيْنَ عِيسَى بْنِ عُمَرَ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، ذَكَرْنَاهَا فِيمَا كَتَبْنَاهُ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ. وَنَظِيرُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا قَوْلُ الْأَعْشَى: وَجَدَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ ... وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إِلَّا اغْتِرَارًا

أَيِ اغْتِرَارًا بَيِّنًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا؟ قُلْتُ أَصْلُهُ نَظُنُّ ظَنًّا، وَمَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الظَّنِّ مَعَ نَفْيِ مَا سِوَاهُ، وَزَيْدٌ نَفَى مَا سِوَى الظَّنِّ تَوْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. انْتَهَى. وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِالْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ، مِنْ أَنَّ التَّفْرِيغَ يَكُونُ فِي جَمِيعِ الْمَعْمُولَاتِ مِنْ فَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ وَغَيْرِهِ، إِلَّا الْمَصْدَرَ الْمُؤَكَّدَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا أَنَّكُمْ تَظُنُّونَ ظَنًّا، قَالَ: وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا ضَرْبًا، فَاهْتَدَى إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَأَخْطَأَ فِي التَّخْرِيجِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَوْلُهُمْ: إِنْ نَظُنُّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْبَعْثَ وَاقَعًا، وَدَلَّ قَوْلُهُمْ قَبْلَ قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «1» ، عَلَى أَنَّهُمْ مُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، فَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فِرْقَتَانِ، أَوِ اضْطَرَبُوا، فَتَارَةً أَنْكَرُوا، وَتَارَةً ظَنُّوا، وَقَالُوا: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا: أَيْ قَبَائِحُ أَعْمَالِهِمْ، أَوْ عُقُوبَاتُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَأَطْلَقَ عَلَى الْعُقُوبَةِ سَيِّئَةً، كَمَا قَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» . وَحاقَ بِهِمْ أَيْ أَحَاطَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ حَاقَ إِلَّا فِي الْمَكْرُوهِ. نَنْساكُمْ: نَتْرُكُكُمْ فِي الْعَذَابِ، أَوْ نَجْعَلُكُمْ كَالشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ الْمُلْقَى غير المبالى بهم. كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ: أَيْ لِقَاءَ جَزَاءِ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَلَمْ تُخْطِرُوهُ عَلَى بَالٍ بَعْدَ مَا ذُكِّرْتُمْ بِهِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِوُقُوعِهِ. وَأَضَافَ اللِّقَاءَ لِلْيَوْمِ تَوَسُّعًا كَقَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «3» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يُخْرَجُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. مِنْها: أَيْ مِنَ النَّارِ. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أَيْ بِطَلَبِ مُرَاجَعَةٍ إِلَى عَمَلٍ صَالِحٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الِاسْتِعْتَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَبِّ، بِالْجَرِّ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى الصِّفَةِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى إِضْمَارِ هُوَ.

_ (1) سُورَةُ المؤمنون: 23/ 37. (2) سورة الشورى: 42/ 40. (3) سورة سبأ: 34/ 33.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 35] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

الْحِقْفُ: رَمْلٌ مُسْتَطِيلٌ مُرْتَفِعٌ فِيهِ اعْوِجَاجٌ وَانْحِنَاءٌ، وَمِنْهُ احْقَوْقَفَ الشَّيْءُ: اعْوَجَّ. قَالَ امرؤ القيس: فلما أجرنا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ ذِي رُكَامٍ عقنقل عنى بِالْأَمْرِ: إِذَا لَمْ تَعْرِفْ جِهَتَهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْإِدْغَامُ فَتَقُولُ: عَيَّ، كَمَا قُلْتَ فِي حَيِيَ: حَيَّ. قَالَ الشَّاعِرُ: عَيُّوا بِأَمْرِهِمُ كَمَا ... عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَهْ

حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ، وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، أَنَّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وفَاصْبِرْ كَما صَبَرَ، الْآيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَانِ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً «1» ، وَقُلْتُمْ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَلَقَهَا، فَقَالَ تَعَالَى: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُمَا آخَرُ تِلْكَ، وَهُمَا أَوَّلُ هَذِهِ. وَأَجَلٍ مُسَمًّى: أَيْ مَوْعِدٍ لِفَسَادِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقِيَامَةُ وَقَالَ غَيْرُهُ: أي أجل كل ملخوق. عَمَّا أُنْذِرُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي. قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ: مَعْنَاهُ أَخْبِرُونِي عَنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ. أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ، وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ الْأَوَّلُ هُوَ مَا تَدْعُونَ. وَمَاذَا خَلَقُوا: جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ يَطْلُبُهَا أَرَأَيْتُمْ، لِأَنَّ مَفْعُولَهَا الثَّانِيَ يَكُونُ اسْتِفْهَامًا، وَيَطْلُبُهَا أَرُونِي عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيقِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، أُعْمِلُ الثَّانِي وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ الثَّانِي. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرُونِي تَوْكِيدًا لأرأيتم، بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَأَرُونِي: أَخْبِرُونِي، كَأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَرَأَيْتُمْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً، وَمَا مَفْعُولَةً بِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَرَأَيْتُمْ مُنَبِّهَةً لَا تَتَعَدَّى، وَتَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ، وَتَدْعُونَ مَعْنَاهُ: تَعْبُدُونَ. انْتَهَى. وَكَوْنُ أَرَأَيْتُمْ لَا تَتَعَدَّى، وَأَنَّهَا مُنَبِّهَةٌ، فِيهِ شَيْءٌ قَالَهُ الْأَخْفَشُ فِي

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 35. [.....]

قَوْلِهِ: قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ «1» . وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ «2» فِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهَا. وَقَدْ أُمْضِيَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ فِي سُورَةِ الأنعام، فيطالع هناك: ومِنَ الْأَرْضِ، تَفْسِيرٌ لِلْمُبْهَمِ فِي: مَاذَا خَلَقُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، أَيْ خَلْقُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنَ الْعَالِي عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِ. ثُمَّ وَقَفَهُمْ عَلَى عِبَارَتِهِمْ فَقَالَ: أَمْ لَهُمْ: أَيْ: بَلْ. أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا: أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِالتَّوْحِيدِ وَبِإِبْطَالِ الشِّرْكِ، وَكُلَّ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ وَاحِدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ، أَيْ بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ، أَيْ مِنْ عُلُومِ الْأَوَّلِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: سَمِنَتِ النَّاقَةُ عَلَى أَثَارَةٍ مِنْ شَحْمٍ، أَوْ عَلَى بَقِيَّةِ شَحْمٍ كَانَتْ بِهَا مِنْ شَحْمٍ ذَاهِبٍ. وَالْأَثَارَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي بَقِيَّةِ الشَّرَفِ يُقَالُ: لِبَنِي فُلَانٍ أَثَارَةٌ مِنْ شَرَفٍ، إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ شَوَاهِدُ قَدِيمَةٌ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الرَّاعِي: وَذَاتُ أَثَارَةٍ أَكَلَتْ عَلَيْنَا ... نَبَاتًا فِي أَكِمَّتِهِ قِفَارَا أَيْ: بَقِيَّةٍ مِنْ شَحْمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ أَثَارَةٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، كَالشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ، وَهِيَ الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ، كَأَنَّهَا أَثَرَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: مِنْ عِلْمٍ اسْتَخْرَجْتُمُوهُ فَتُثِيرُونَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى: هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَأْثِرُ عِلْمًا فِي ذَلِكَ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ الْإِسْنَادُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: إِنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا ... بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالْآثِرِ أَيْ: وَلِلْمُسْتَدْعِينَ غَيْرَهُ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَمَا خَلَّفْتُ بِهِ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةَ: الْمَعْنَى: أَوْ خَاصَّةٍ مِنْ عِلْمٍ، فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْأَثَرَةِ، فَكَأَنَّهَا قَدْ آثَرَ اللَّهُ بِهَا مَنْ هِيَ عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالْأَثَارَةِ: الْخَطُّ فِي التُّرَابِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ وَتَتَكَهَّنُ بِهِ وَتَزْجُرُ تَفْسِيرَهُ. الْأَثَارَةُ بِالْخَطِّ يَقْتَضِي تَقْوِيَةَ أَمْرِ الْخَطِّ فِي التُّرَابِ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ لَيْسَ لَهُ وَجْهُ إِذَايَةِ وَقْفِ أَحَدٍ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَثَارَةَ بِالْخَطِّ فِي التُّرَابِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَبِأَقْوَالِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ. وَقَرَأَ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 63. (2) سورة فاطر: 35/ 40.

عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: أَوْ أَثَرَةٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، جَمْعُهَا أُثُرٌ كَقَتَرَةٍ وَقُتُرٍ وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا: بِإِسْكَانِ الثَّاءِ ، وَهِيَ الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِمَّا يُؤْثَرُ، أَيْ قَدْ قَنِعْتُ لَكُمْ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ وَأَثَرٍ وَاحِدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ قَوْلِكُمْ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانُ الثَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ عَلَى لُغَةٍ أُخْرَى: إِثْرَةٌ وَأُثْرَةٌ يَعْنِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَهِيَ جَمَادٌ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ مَا دَامَتِ الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ أبدا، ولذلك غيا انْتِفَاءُ اسْتِجَابَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَعْدَاءٌ لَهُمْ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِهِمْ نَفْعٌ، وَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ ضَرَرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «1» . وَجَاءَ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ مَا يُسْنَدُ لِأُولِي الْعِلْمِ من الاستجابة والغفلة أو كأن مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، يُرَادَ بِهِ مَنْ عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَغَيْرِهِمَا، وَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ، وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي: وَهُمْ مِنْ مَا بَعْدَهُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي: وَهُمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي: مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ، كَمَا فَسَّرْنَاهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي: وَمَنْ أَضَلُّ، أَيْ وَالْكُفَّارُ عَنْ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ. غافِلُونَ: لَا يَتَأَمَّلُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي دُعَائِهِمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ: جَمْعُ بَيِّنَةٍ، وَهِيَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. وَاللَّامُ فِي لِلْحَقِّ، لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الْحَقِّ. وَأَتَى بِالظَّاهِرَيْنِ بَدَلَ الْمُضْمَرَيْنِ فِي قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: قَالُوا لَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى الْوَصْفَيْنِ: وَصْفِ الْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، وَوَصْفِ الْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ، وَلَوْ جَاءَ بِهِمَا الْوَصْفَيْنِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَصْفَيْنِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَإِنْ كَانَ مَنْ سَمَّى الْآيَاتِ سِحْرًا هُوَ كَافِرٌ، وَالْآيَاتُ فِي نَفْسِهَا حَقٌّ، فَفِي ذِكْرِهِمَا ظَاهِرَيْنِ، يَسْتَحِيلُ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْكُفْرِ، وَعَلَى الْمَتْلُوِّ بِالْحَقِّ. وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُوا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، بَلْ بَادَرُوا أَوَّلَ سَمَاعِهِ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى السِّحْرِ عِنَادًا وَظُلْمًا، وَوَصَفُوهُ بِمُبِينٍ، أَيْ ظَاهِرٍ، إِنَّهُ سِحْرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

_ (1) سورة مريم: 19/ 82.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ: أَيْ بَلْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، أَيْ بَلْ أَيَقُولُونَ اخْتَلَقَهُ؟ انْتَقَلُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْأُخْرَى. وَالضَّمِيرُ فِي افْتَرَاهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْآيَاتُ. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ، عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، فَاللَّهُ حَسْبِي فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يُعَاقِبُنِي عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْهِلُنِي فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً رَدِّ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِي شَيْئًا. فَكَيْفَ أَفْتَرِيهِ وَأَتَعَرَّضُ لِعِقَابِهِ؟ يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ إِذَا غَضِبَ، وَلَا يَمْلِكُ عِنَانَهُ إِذَا صُمَّ وَمِثْلُهُ: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ «1» ؟ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً «2» . وَمِنْهُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . ثُمَّ اسْتَسْلَمَ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَنْصَرَ بِهِ فَقَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ: أَيْ تَنْدَفِعُونَ فِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمُرَادُهُ الْحَقُّ، وَتَسْمِيَتِهِ تَارَةً سِحْرًا وَتَارَةً فِرْيَةً. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا، أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ، وَبِهِ فِي مَوْضِعِ الْفَاعِلِ يَكْفِي عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ. شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ: شهيد إليّ بالتبليغ والدعاء إليه، وشهيد عَلَيْكُمْ بِالتَّكْذِيبِ. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ: عِدَةٌ لَهُمْ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ إِنْ رَجَعُوا عَنِ الْكُفْرِ، وَإِشْعَارٌ بِحِلْمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، إِذْ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعِقَابِ، إِذْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ تَهْدِيدًا لَهُمْ فِي أَنْ يُعَاجِلَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ: أَيْ جَاءَ قَبْلِي غَيْرِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْبِدْعُ وَالْبَدِيعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ، أَنْشَدَهُ قُطْرُبٌ: فَمَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي ... رِجَالًا عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسِي فَأَسْعَدَ وَالْبِدْعُ وَالْبَدِيعُ: كَالْخِفِّ وَالْخَفِيفِ، وَالْبِدْعَةُ: مَا اخْتُرِعَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَأَبْدَعَ الشَّاعِرُ: جَاءَ بِالْبَدِيعِ، وَشَيْءٌ بِدْعٌ، بِالْكَسْرِ: أَيْ مُبْتَدَعٌ، وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ: أَيْ بَدِيعٌ، وَقَوْمٌ أَبْدَاعٌ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عبلة: بِفَتْحِ الدَّالِ، جَمْعُ بِدْعَةٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا بِدَعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً عَلَى فِعَلٍ، كَقَوْلِهِمْ: دِينٌ قِيَمٌ وَلَحْمٌ زِيَمٌ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ، إِنْ لَمْ يُنْقَلِ اسْتِعْمَالُهُ عَنِ الْعَرَبِ، لَمْ نُجِزْهُ، لِأَنَّ فِعَلَ فِي الصِّفَاتِ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ سِيبَوَيْهِ إِلَّا عِدَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَا نَعْلَمُهُ جَاءَ صِفَةً إِلَّا فِي حَرْفٍ مُعْتَلٍّ يُوصَفُ بِهِ الْجَمْعُ، وَهُوَ قَوْمٌ عِدَى، وَقَدِ اسْتَدْرَكَ، وَاسْتِدْرَاكُهُ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قِيَمٌ، فَأَصْلُهُ قِيَامٌ وَقِيَمٌ، مَقْصُورٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ اعْتَلَّتِ الْوَاوُ فِيهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا لَصَحَّتْ، كَمَا صَحَّتْ فِي حِوَلٍ وَعِوَضٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: مَكَانٌ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 17. (2) سورة المائدة: 5/ 41.

سِوَى، وَمَاءٌ رِوَى، وَرَجُلٌ رِضَى، وَمَاءٌ صِرَى، وَسَبْيٌ طِيَبَةٌ، فَمُتَأَوَّلَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُثْبِتُونَ بِهَا فِعَلًا فِي الصِّفَاتِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ: بَدِعًا، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، كَحَذِرٍ. وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ: أَيْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، أَيْ لَا أَعْلَمُ مَا لِي بِالْغَيْبِ، فَأَفْعَالُهُ تَعَالَى، وما يقدره لِي وَلَكُمْ مِنْ قَضَايَاهُ، لَا أَعْلَمُهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ: وَمَا أَدْرِي مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ الْغَالِبُ مِنَّا وَالْمَغْلُوبُ؟ وَعَنِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَدْ ضَجِرُوا مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ: حَتَّى مَتَى نَكُونُ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ! أَأَنْزِلُ بِمَكَّةَ؟ أَمْ أُومَرُ بِالْخُرُوجِ إِلَى أَرْضٍ قَدْ رُفِعَتْ وَرَأَيْتُهَا، يَعْنِي فِي مَنَامِهِ، ذَاتَ نَخْلٍ وَشَجَرٍ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ بْنُ مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ: مَعْنَاهُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَبِأَنَّ الْكَافِرِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ قَدْ أَعْلَمَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَوَّلِ الرِّسَالَةِ حَالَ الْكَافِرِ وَحَالَ الْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَا يَلْزَمُ الشَّرِيعَةَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُهُ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ: اسْتِسْلَامٌ وَتَبَرُّؤٌ مِنْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَوُقُوفٌ مَعَ النِّذَارَةِ إِلَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يُفْعَلُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَأَدْرِي مُعَلَّقَةٌ فَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَوْصُولَةٌ مَنْصُوبَةٌ. انْتَهَى. وَالْفَصِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ دَرَى يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَلِذَلِكَ حِينَ عُدِّيَ بِهَمْزَةِ النَّقْلِ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ «1» ، فَجَعْلُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَجْوَدُ، وَكَثِيرًا مَا عُلِّقَتْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ، ويفعل مُثْبَتٌ غَيْرُ مَنْفِيٍّ، لَكِنَّهُ قَدِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ النَّفْيُ، لاشتماله على ما ويفعل فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا بِكُمْ. وَلَوْلَا اعْتِبَارُ النَّفْيِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ. أَلَا تَرَى زِيَادَةَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «2» ؟ لا نسحاب قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «3» عَلَى يَوَدُّ وَعَلَى مُتَعَلِّقِ يَوَدُّ، وَهُوَ أَنْ يُنَزَّلَ، فَإِذَا انْتَفَتْ وِدَادَةُ التَّنْزِيلِ انْتَفَى التَّنْزِيلُ. وَقَرَأَ ابْنُ عُمَيْرٍ: مَا يُوحِي، بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ: مَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ

_ (1) سورة يونس: 10/ 16. (2) سورة البقرة: 2/ 105. (3) سورة البقرة: 2/ 105.

حَالَكُمْ إِنْ كَانَ كَذَا؟ أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ؟ فَالْأَوَّلُ حَالُكُمْ، وَالثَّانِي أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ فَقَدْ ظَلَمْتُمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ؟ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. انْتَهَى. وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَا تَكُونُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِلَّا بِالْفَاءِ. فَإِنْ كَانَتِ الْأَدَاةُ الْهَمْزَةَ، تَقَدَّمَتِ الْفَاءُ نَحْوُ: إِنْ تَزُرْنَا، أَفَمَا نُحْسِنُ إِلَيْكَ؟ أَوْ غَيْرَهَا تَقَدَّمَتِ الْفَاءُ نَحْوُ: إِنْ تَزُرْنَا، فَهَلْ تَرَى إِلَّا خَيْرًا؟ فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ؟ بِغَيْرِ فَاءٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ الشَّرْطِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَرَأَيْتُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُنَبِّهَةً، فَهِيَ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلسُّؤَالِ لَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ: كَانَ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، تَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهَا. انْتَهَى. وَهَذَا خِلَافُ مَا قَرَّرَهُ مُحَقِّقُو النُّحَاةِ فِي أَرَأَيْتُمْ. وَقِيلَ: جَوَابُ الشَّرْطِ. فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ: أَيْ فَقَدْ آمَنَ مُحَمَّدٌ بِهِ، أَوِ الشَّاهِدُ، وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَنْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَقْدِيرُهُ فَمَنْ أَضَلُّ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: فَمَنِ الْمُحِقُّ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَمَنِ الْمُبْطِلُ؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا تَهْلِكُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ اسْمُ كَانَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَعُودُ عَلَى الرَّسُولِ، وَالشَّاهِدُ عَبَدُ لله بْنُ سَلَامٍ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: نَزَلَتْ فِيَّ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، نَزَلَتْ فِيَّ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: الشَّاهِدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا ابْنُ سَلَامٍ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَالْخِطَابُ فِي وَكَفَرْتُمْ بِهِ لِقُرَيْشٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الشَّاهِدُ مَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، لِأَنَّ ابْنَ سَلَامٍ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص، وَمُجَاهِدٌ، وَفِرْقَةٌ: الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، والشاهد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ غَيْبًا أَبْرَزَهُ الْوُجُودُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مَذْكُورٌ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ بُهْتٌ لِلْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمِنْ كَذِبِ الْيَهُودِ وَجَهْلِهِمْ بِالتَّارِيخِ، مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ لِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، اجْتَمَعَ بِأَحْبَارِ الْيَهُودِ وَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَحْلَامَهُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ صَاحِبُ دَوْلَةٍ، وَعَمُوا، فَأَصْحَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَقَرَأَ عُلُومَ التَّوْرَاةِ وَفِقْهَهَا مُدَّةً، زَعَمُوا وَأَفْرَطُوا فِي كَذِبِهِمْ، إِلَى أَنْ نَسَبُوا الْفَصَاحَةَ الْمُعْجِزَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ

إِلَى تَأْلِيفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا لَمْ تُعْلَمْ لَهُ إِقَامَةٌ بِمَكَّةَ وَلَا تَرَدَّدَ إِلَيْهَا. فَمَا أَكْذَبَ الْيَهُودَ وَأَبْهَتَهُمْ! لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَنَاهِيكَ مِنْ طَائِفَةٍ، مَا ذُمَّ فِي الْقُرْآنِ طَائِفَةٌ مِثْلُهَا. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ، إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ، وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَقَالَةُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ لِأَجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ. ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا سَبَقُونا، وَلَوْ لَمْ يَنْتَقِلُوا لَكَانَ الْكَلَامُ مَا سُبِقْتُمْ إِلَيْهِ. وَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّ جَمَاعَةً آمَنُوا خَاطَبُوا جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ قَالُوا: لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَغَنَا إِيمَانُهُمْ يُرِيدُونَ عَمَّارًا وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَآمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ: هِيَ مَقَالَةُ كِنَانَةَ وَعَامِرٍ وَسَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرَةِ. قَالَتْ ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَتْ غِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ، أَيْ لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا، مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ الرُّعَاةُ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هِيَ مَقَالَةُ الْيَهُودِ حِينَ أَسْلَمَ ابْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ: أَسْلَمَ أَبُو ذَرٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ غِفَارٌ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَسْلَمَتْ أَمَةٌ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَضْرِبُهَا، حَتَّى يَفْتُرَ وَيَقُولَ: لَوْلَا أَنِّي فَتَرْتُ لَزِدْتُكِ ضَرْبًا فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: لَوْ كَانَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا، مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ فُلَانَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ كَانَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَلَيْهِ يَعُودُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى. وَقِيلَ: بِهِ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، ظَهَرَ عِنَادُهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ، مُسَبَّبٌ عَنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ ناشىء عَنِ الْعِنَادِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ

فِي: إِذْ فَسَيَقُولُونَ، لِحَيْلُولَةِ الفاء، وليعاند زَمَانِ إِذْ وَزَمَانِ سَيَقُولُونَ. إِفْكٌ قَدِيمٌ، كَمَا قَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقِدَمُهُ بِمُرُورِ الْأَعْصَارِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا طَعَنُوا فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ، قِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِهِ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَأَنْتُمْ لَا تُنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُنَازَعُ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ. إِماماً أَيْ يُهْتَدَى بِهِ، إِنَّ فِيهِ الْبِشَارَةَ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وإرساله، فليزم اتِّبَاعُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَانْتَصَبَ إِمَامًا عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي: وَمِنْ قَبْلِهِ، أَيْ وَكِتَابُ مُوسَى كَانَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ فِي حَالِ كَوْنِهِ إِمَامًا. وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ: كِتَابَ مُوسَى، نَصَبَ وَفَتَحَ مِيمَ مَنْ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وَآتَيْنَا الَّذِي قَبْلَهُ كِتَابَ مُوسَى، وَقِيلَ: انْتَصَبَ إِمَامًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ إِمَامًا، أَيْ قُدْوَةً يُؤْتَمُّ بِهِ، وَرَحْمَةً لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ. كِتابٌ مُصَدِّقٌ لَهُ، أَيْ لِكِتَابِ مُوسَى، وَهِيَ التَّوْرَاةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْ خَبَرَهُ وَخَبَرَ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ. فَجَاءَ هُوَ مُصَدِّقًا لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ، أَوْ مُصَدِّقًا للكتب الإلهية. ولسانا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُصَدِّقٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مُصَدِّقٌ، أَوْ مِنْ كِتَابٌ، إِذْ قَدْ وَصَفَ الْعَامِلُ فِيهِ اسْمَ الْإِشَارَةِ. أَوْ لِسَانًا: حَالُ مَوْطِئِهِ، وَالْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَرَبِيًّا، أَوْ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ ذَا الشَّأْنِ عَرَبِيٌّ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بمصدق أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ مَنْ جَاءَ بِهِ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَذَلِكَ بِإِعْجَازِهِ وَأَحْوَالِهِ الْبَارِعَةِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ الخافص، أَيْ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ: لِتُنْذِرَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ لِلرَّسُولِ وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ لِيُنْذِرَنَا الْقُرْآنُ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا الْكُفَّارُ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، حَيْثُ وَضَعُوا الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ. وَبُشْرى، قِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مُصَدِّقٌ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلَى لِيُنْذِرَ، أَيْ وَيُبَشِّرَ بُشْرَى. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ وَلِبُشْرَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: وَبُشْرَى فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ لِيُنْذِرَ، لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْمَحَلِّ أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْمَوْضِعِ مَحْرَزٌ. وَالْمَحَلُّ هُنَا لَيْسَ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَرُّ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وإنما النصب ناشىء عَنْ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّحْوِ، وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ فَنَصَبَهُ. وَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْكُفَّارِ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا، عَبَّرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحْسِنِينَ، لِيُقَابِلَ بِلَفْظِ الْإِحْسَانِ لَفْظَ الظُّلْمِ.

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ: وَوَصَّيْنَا، إِذْ كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ثَانِيًا أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ، إِذْ فِي الصَّحِيحِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ عُقُوقُهُمَا ثَانِيَ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، إِذْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ؟ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» ، وَالْوَارِدُ فِي بَرِّهِمَا كَثِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُسْنًا، بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعِيسَى: بِفَتْحِهِمَا وَعَنْ عِيسَى: بِضَمِّهِمَا وَالْكُوفِيُّونَ: إِحْسَانًا، فَقِيلَ: ضَمَّنَ وَوَصَّيْنَا مَعْنَى أَلْزَمْنَا، فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَانْتَصَبَ حُسْنًا وَإِحْسَانًا عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَصَّيْنَا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: إِيصَاءٌ ذَا حُسْنٍ، أَوْ ذَا إِحْسَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُسْنًا بِمَعْنَى إِحْسَانٍ، فَيَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ وَوَصَّيْنَاهُ بِهِمَا لِإِحْسَانِنَا إِلَيْهِمَا، فَيَكُونَ الْإِحْسَانُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَضْمِينِ وَصَّيْنَا مَعْنَى أَحْسَنَّا بِالْوَصِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَصَبَ هَذَا يَعْنِي إِحْسَانًا عَلَى الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَالْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي الْمَجْرُورِ وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصَّيْنَا، أَوْ بِقَوْلِهِ: إِحْسَانًا. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِحْسَانًا، لِأَنَّهُ مُصَدَّرٌ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ أَحْسَنَ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِاللَّامِ تَقُولُ: أَحْسَنْتُ لِزَيْدٍ، وَلَا تَقُولُ: أَحْسَنْتُ بِزَيْدٍ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْإِحْسَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «1» فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَانْجَرَّ هُنَا بِالْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ مَزِيدًا لِلْفَائِدَةِ. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً: لبس الْكُرْهُ فِي أَوَّلِ عُلُوقِهَا، بَلْ فِي ثَانِي اسْتِمْرَارِ الْحَمْلِ، إِذْ لَا تَدْبِيرَ لَهَا فِي حَمْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ. انْتَهَى. وَلَا يَلْحَقُهَا كُرْهٌ إِذْ ذَاكَ، فَهَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْمَعْنَى: حَمَلَتْهُ مَشَقَّةً، وَوَضَعَتْهُ مَشَقَّةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْكَافِ وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْفَتْحِ وَبِهِمَا مَعًا: أَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِيسَى وَالضَّمُّ وَالْفَتْحُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالْعَقْرِ وَالْعُقْرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ، وَبِالْفَتْحِ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ، وَضَعَّفُوا قِرَاءَةَ الْفَتْحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانَ بِالْفَتْحِ، لَرَمَتْ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا إِذْ مَعْنَاهُ: الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ فِي السَّبْعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ لَا تَحْسُنُ، لِأَنَّ الْكَرْهَ بِالْفَتْحِ، النَّصَبُ وَالْغَلَبَةُ. انْتَهَى. وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 8.

جَسَارَةً مِنْهُ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَمَلَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوف، أي حملا ذاكره. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً: أَيْ وَمُدَّةُ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ نَاقِصًا إِمَّا بِأَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتُرْضِعَ عَامَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ تَلِدَ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الْعُرْفِ وَتُرْضِعَ عَامَيْنِ غَيْرَ رُبْعِ عَامٍ. فَإِنْ زَادَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ، نَقَصَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ. فَمُدَّةُ الرَّضَاعِ عَامٌ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِكْمَالُ الْعَامَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ. وَقَدْ كَشَفَتِ التَّجْرِبَةُ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، كَنَصِّ الْقُرْآنِ. وَقَالَ جَالِينُوسُ: كُنْتُ شَدِيدَ الْفَحْصِ عن مقدار زَمَنِ الْحَمْلِ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِمِائَةٍ وَأَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ لَيْلَةً. وَزَعَمَ ابْنُ سِينَا أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ وَأَمَّا أَكْثَرُ الْحَمْلِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ سِينَا فِي الشِّفَاءِ: بَلَغَنِي مِنْ جِهَةِ مَنْ أَثِقُ بِهِ كُلَّ الثِّقَةِ، أَنَّ امْرَأَةً وَضَعَتْ بَعْدَ الرَّابِعِ مِنْ سِنِي الْحَمْلِ، وَلَدَتْ وَلَدًا نَبَتَتْ أَسْنَانُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ لِكُلِّ الْحَيَوَانِ مَضْبُوطَةٌ سِوَى الْإِنْسَانِ، فَرُبَّمَا وَضَعَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَلِثَمَانِيَةٍ، وَقَلَّ مَا يَعِيشُ الْوَلَدُ فِي الثَّامِنِ، إِلَّا فِي بِلَادٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ مِصْرَ. انْتَهَى. وَعَبَّرَ عَنِ الرَّضَاعِ بِالْفِصَالِ، لَمَّا كَانَ الرَّضَاعُ يَلِي الْفِصَالَ وَيُلَابِسُهُ، لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ وَيَتِمُّ، سُمِّيَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَفِصَالُهُ، وَهُوَ مَصْدَرُ فَاصَلَ، كَأَنَّهُ مِنِ اثْنَيْنِ: فَاصَلَ أُمَّهُ وَفَاصَلَتْهُ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَفَصْلُهُ، قِيلَ: وَالْفَصْلُ وَالْفِصَالُ مَصْدَرَانِ، كَالْفَطْمِ وَالْفِطَامِ. وَهُنَا لَطِيفَةٌ: ذَكَرَ تَعَالَى الْأُمَّ فِي ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ فِي قَوْلِهِ: بِوَالِدَيْهِ وَحَمْلُهُ وَإِرْضَاعُهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِصَالِ، وَذَكَرَ الْوَالِدَ فِي وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: بِوَالِدَيْهِ فَنَاسَبَ مَا قَالَ الرَّسُولُ مِنْ جَعْلِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْبِرِّ لِلْأُمِّ وَالرُّبُعِ لِلْأَبِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ» . حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تكون حتى غاية له، تَقْدِيرُهُ: فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوِ اسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي بَلَغَ أَشُدَّهُ «1» فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالظَّاهِرُ ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: بُلُوغُ الْأَشُدِّ أَرْبَعُونَ، لِعَطْفِ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ، إِلَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيدٌ لِبُلُوغِ الْأَشُدِّ فَيُمْكِنُ وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ وَبُلُوغُ الْأَرْبَعِينَ اكْتِمَالُ الْعَقْلِ لِظُهُورِ الْفَلَاحِ. قِيلَ: وَلَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجُرُّ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَتُبْ وَيَقُولُ: بِأَبِي وجه

_ (1) سورة يوسف: 12/ 22.

لَا يُفْلِحُ. قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي: سَأَلَ أَنْ يَجْعَلَ ذُرِّيَّتَهُ مَوْقِعًا لِلصَّلَاحِ وَمَظِنَّةً لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: هَبْ لِيَ الصَّلَاحَ فِي ذُرِّيَّتِي، فَأَوْقَعَهُ فِيهِمْ، أَوْ ضَمَّنَ: وَأَصْلِحْ لِي مَعْنَى: وَالْطُفْ بِي فِي ذُرِّيَّتِي، لِأَنَّ أَصْلِحْ يَقْتَدِي بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ «1» ، فلذلك احتج قَوْلُهُ: فِي ذُرِّيَّتِي إِلَى التَّأْوِيلِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَتَنَاوَلُ مَنْ بَعْدَهُ، وَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَأَبُوهُ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ. وَلِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا: فَلَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَلَا غَيْرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، وَلِذَلِكَ أشار يقوله: أُولئِكَ جَمْعًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُتَقَبَّلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَحْسَنُ رَفْعًا، وَكَذَا وَيُتَجَاوَزُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْمَشُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: نَتَقَبَّلُ أَحْسَنَ نَصْبًا، وَنَتَجَاوَزُ بِالنُّونِ فِيهِمَا وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَعِيسَى: بِالْيَاءِ فِيهِمَا مَفْتُوحَةً وَنَصْبِ أَحْسَنَ. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ، قِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ وَقِيلَ: هُوَ نَحْوُ قَوْلِكَ: أَكْرَمَنِي الْأَمِيرُ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى كَائِنِينَ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَانْتَصَبَ وَعْدَ الصِّدْقِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ، وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالتَّقَبُّلِ وَالتَّجَاوُزِ، لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْسَانَ الْبَارَّ بِوَالِدَيْهِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، ذَكَرَ الْعَاقَّ بِوَالِدَيْهِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِي: الْجِنْسُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ مَجْمُوعًا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْكَافِرُ الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ الْمُنْكِرُ الْبَعْثَ. وَقَوْلُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَاتَّبَعَهُ قَتَادَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَوْلٌ خطأ ناشىء عَنْ جَوْرٍ، حِينَ دَعَا مَرْوَانُ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، إِلَى مُبَايَعَةِ يَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: جَعَلْتُمُوهَا هِرَقْلِيَّةً؟ كُلَّمَا مَاتَ هِرَقْلُ وَلِيَ ابْنُهُ، وَكُلَّمَا مَاتَ قَيْصَرُ وَلِيَ ابْنُهُ؟ فَقَالَ مَرْوَانُ: خُذُوهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ أُخْتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ، وَهِيَ الْمَصْدُوقَةُ: لَمْ يَنْزِلْ فِي آلِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ بَرَاءَتِي وَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ. وَصَدَّتْ مَرْوَانَ وَقَالَتْ: وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ، فَأَنْتَ فَضَضٌ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَهَذِهِ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 90.

صِفَاتُ الْكُفَّارِ أَهْلِ النَّارِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَسَرَاتِهِمْ وَأَبْطَالِهِمْ، وَمِمَّنْ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ غَنَاءٌ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ. أُفٍّ لَكُما: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أُفٍّ مَدْلُولًا وَلُغَاتٍ وَقِرَاءَةً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَاللَّامُ فِي لَكُمَا لِلْبَيَانِ، أَيْ لَكُمَا، أَعْنِي: التَّأْفِيفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَتَعِدانِنِي، بِنُونَيْنِ، الْأُولَى مَكْسُورَةٌ وَالْحَسَنُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَفِي رِوَايَةٍ وَهِشَامٌ: بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ، وَجَمَاعَةٌ: بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْجَحْدَرِيِّ، وَسَامٌ، عَنْ هِشَامٍ: بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى، كَأَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْكَسْرَتَيْنِ، وَالْيَاءِ إِلَى الْفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ فَفَتَحُوا، كَمَا فَرَّ مَنْ أَدْغَمَ وَمَنْ حَذَفَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَتْحُ النُّونِ بَاطِلٌ غَلَطٌ. أَنْ أُخْرَجَ: أَيْ أُخْرَجَ مِنْ قَبْرِي لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ أُخْرَجَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَالضَّحَّاكُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي: أَيْ مَضَتْ، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا بُعِثَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي مُكَذِّبَةً بِالْبَعْثِ. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ، يُقَالُ: اسْتَغَثْتُ اللَّهَ وَاسْتَغَثْتُ بِاللَّهِ، وَالِاسْتِعْمَالَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَى ابْنِ مَالِكٍ إِنْكَارَ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ، وَذَكَرْنَا شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ، أَيْ يَقُولَانِ: الْغِيَاثُ بِاللَّهِ مِنْكَ وَمِنْ قَوْلِكَ، وَهُوَ اسْتِعْظَامٌ لِقَوْلِهِ: وَيْلَكَ، دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالثُّبُورِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَةُ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: وَيْلَكَ لِمَنْ يُحَقِّرُ وَيُحَرِّكُ لِأَمْرٍ يَسْتَعْجِلُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدَةَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: آمِنْ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا، فَيَقُولُ مَا هَذَا: أَيْ مَا هَذَا الَّذِي يَقُولُ؟ أَيْ مِنَ الْوَعْدِ بِالْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، إِلَّا شَيْءٌ سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشَارٍ إِلَيْهِ قَالَ وَقِيلَ لَهُ، فَنَفَى اللَّهُ أَقْوَالَهُ تَحْذِيرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسٍ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِي قالَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي مُشَارٍ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي أُولَئِكَ بِمَعْنَى صِنْفِ هَذَا الْمَذْكُورِ وَجِنْسِهِ هُمْ: الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ قَوْلُ اللَّهِ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ فِي أُمَمٍ، أَيْ جُمْلَةِ: أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، يَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ يَمُوتُونَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَالْإِنْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي بَعْضِ مَجَالِسِهِ: الْجِنُّ لَا يَمُوتُونَ، فَاعْتَرَضَهُ قَتَادَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَسَكَتَ.

وَقَرَأَ الْعَبَّاسُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّهُمْ كَانُوا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ. وَلِكُلٍّ: أَيْ مِنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، دَرَجاتٌ غَلَبَ دَرَجَاتٌ، إِذِ الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ، وَالْمَعْنَى: مَنَازِلُ وَمَرَاتِبُ مِنْ جَزَاءِ مَا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمِنْ أَجْلِ مَا عَمِلُوا مِنْهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دَرَجَاتُ الْمُحْسِنِينَ تَذْهَبُ عُلُوًّا، وَدَرَجَاتُ الْمُسِيئِينَ تَذْهَبُ سُفْلًا. انْتَهَى. وَالْمُعَلِّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ قَدْرَ جَزَائِهِمْ، فَجُعِلَ الثَّوَابُ دَرَجَاتٍ وَالْعِقَابُ دَرَكَاتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلِيُوَفِّيَهُمْ بِالْيَاءِ، أَيْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَعْمَشُ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَخَوَانِ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَنَافِعٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالنُّونِ وَالسُّلَمِيُّ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ، أَيْ وَلِنُوَفِّيَهُمُ الدَّرَجَاتِ، أَسْنَدَ التَّوْفِيَةَ إِلَيْهَا مَجَازًا. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَيَوْمَ يُعْرَضُ: أَيْ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ، كَمَا يُقَالُ: عُرِضَ عَلَى السَّيْفِ، إِذَا قُتِلَ بِهِ. وَالْعَرْضُ: الْمُبَاشَرَةُ، كَمَا تَقُولُ: عَرَضْتُ الْعُودَ عَلَى النَّارِ: أَيْ بَاشَرْتُ بِهِ النَّارَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ عَرْضُ النَّارِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ، يُرِيدُونَ عَرَضَ الْحَوْضَ عَلَيْهَا، فَقَلَبُوا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُجَاءُ بِهِمْ إِلَيْهَا فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنْهَا. انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَلْبِ، إِذِ الصَّحِيحُ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ فِي الشِّعْرِ. وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَاضِحًا مَعَ عَدَمِ الْقَلْبِ، فأي ضرورة ندعو إِلَيْهِ؟ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ، وَلَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَلْبِ، لِأَنَّ عَرْضَ النَّاقَةِ عَلَى الْحَوْضِ، وَعَرْضَ الْحَوْضِ عَلَى النَّاقَةِ، كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ إِذِ الْعَرْضُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَصِحُّ إِسْنَادُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاقَةِ وَالْحَوْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

أَذْهَبْتُمْ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَذْهَبْتُمْ، وَلِذَلِكَ حَسُنَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ كَثِيرٍ: بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا مَدَّةٌ مُطَوَّلَةٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، بِهَمْزَتَيْنِ حَقَّقَهُمَا ابْنُ ذَكْوَانَ، وَلَيَّنَ الثَّانِيَةَ هِشَامٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ. وَعَنْ هِشَامٍ: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُلَيَّنَةِ بِأَلِفٍ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيرِ، فَهُوَ خَبَرٌ فِي الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ حَسُنَتِ الْفَاءُ، وَلَوْ كَانَ اسْتِفْهَامًا مَحْضًا لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا: الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمَوَاطِئِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِهِ أَهْلُ الرَّفَاهِيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحَرِّضَةٌ عَلَى التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ التَّنَعُّمِ فِيهَا، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي بِهِ رَمَقُ الْحَيَاةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي التَّأَسِّيَ بِهِ. وَعَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ، وَعِزَّةِ نَفْسِهِ الْفَاضِلَةِ عَنْهَا. أَتَظُنُّونَ أَنَّا لَا نَعْرِفُ خَفْضَ الْعَيْشِ؟ وَلَوْ شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا وَصَلَاءً وَصَلَائِقَ، وَلَكِنْ أَسْتَبْقِي حَسَنَاتِي فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ أَقْوَامًا فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ. وَالصِّلَاءُ الشِّوَاءُ وَالصِّفَارُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْخَرْدَلِ وَالزَّبِيبِ، وَالصَّلَائِقُ: الْخُبْزُ الرِّقَاقُ الْعَرِيضُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَذَا مِنْ بَابِ الزُّهْدِ، وَإِلَّا فَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَتْ تَكُونُ لَكُمْ طَيِّبَاتُ الْآخِرَةِ لَوْ آمَنْتُمْ، لَكِنَّكُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا، فَاسْتَعْجَلْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ وَلَوْ أُرِيدَ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يَكُنْ كِنَايَةً عَنْ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بالعذاب. وقرىء: الْهَوَانُ، وَهُوَ وَالْهُونُ بِمَعْنًى واحدة. ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ الْكِنَايَةَ بِقَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ: أَيْ تَتَرَفَّعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ: أَيْ بِمَعَاصِي الْجَوَارِحِ وَقَدَّمَ ذَنْبَ الْقَلْبِ، وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى ذَنْبِ الْجَوَارِحِ إِذْ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ نَاشِئَةٌ عَنْ مُرَادِ الْقَلْبِ. وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ مُسْتَغْرِقِينَ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا، مُعْرِضِينَ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا جَرَى لِلْعَرَبِ الْأُولَى، وَهُمْ قَوْمُ عَادٍ، وكانوا أكثر أموالا رأشد قُوَّةً وَأَعْظَمَ جَاهًا فِيهِمْ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ. وَقَصَصُ مَنْ تَقَدَّمَ تُعْرَفُ بِقُبْحِ الشَّيْءِ وَتَحْسِينِهِ، فَقَالَ لِرَسُولِهِ: وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ، أَهْلِ مَكَّةَ، هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ عَادًا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالْأَحْقافِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مِنْ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رِمَالٌ مُشْرِقَةٌ بِالشِّحْرِ مِنَ الْيَمَنِ. وَقِيلَ: بَيْنَ مَهْرَةَ وَعَدَنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ بِلَادُ الشِّحْرِ الْمُوَاصِلَةِ لِلْبَحْرِ الْيَمَانِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ جَبَلٌ بِالشَّامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِلَادَ عَادٍ كَانَتْ بِالْيَمَنِ، وَلَهُمْ كَانَتْ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ «1» ، وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ اعْتِبَارٌ لِقُرَيْشٍ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ، إِذْ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، كَمَا كَذَّبَتْ عَادٌ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ: وَهُوَ جَمْعُ نَذِيرٍ، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي: النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَهُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا زَمَانَهُ، وَمِنْ خَلْفِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَعْنَى وَمِنْ خَلْفِهِ: أَيْ مِنْ بَعْدِ إِنْذَارِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ إِنْذَارِ قَوْمِهِ وَأَنْ لَا تَعْبُدُوا. وَالْمَعْنَى: وَقَدْ أَنْذَرَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَاذْكُرْهُمْ. قالُوا أَجِئْتَنا: اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَتَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ لَهُ فِيمَا أَنْذَرَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ عَلَى تَرْكِ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. لِتَأْفِكَنا: لِتَصْرِفَنَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَوْ لِتُزِيلَنَا عَنْ آلِهَتِنَا بِالْإِفْكِ، وَهُوَ الْكَذِبُ، أَيْ عَنْ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا: اسْتِعْجَالٌ مِنْهُمْ بِحُلُولِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ؟ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ: أَيْ عِلْمُ وَقْتِ حُلُولِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ وَقْتِهِ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ اللَّهُ إِلَيْكُمْ. وَلَمَّا تَحَقَّقَ عِنْدَهُ وَعْدُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ حَالٌّ بِهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَتَكْذِيبٍ، قَالَ: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ: أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ لَا شُعُورَ لَكُمْ بِهَا، وَذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَكَانَتْ عَادٌ قَدْ حَبَسَ اللَّهُ عَنْهَا الْمَطَرَ أَيَّامًا، فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَحَابَةً سَوْدَاءَ خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ، فَاسْتَبْشَرُوا. وَالضَّمِيرُ فِي رَأَوْهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: بِما تَعِدُنا، وَهُوَ الْعَذَابُ، وَانْتَصَبَ عَارِضًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الشَّيْءِ الْمَرْئِيِّ الطَّالِعِ عَلَيْهِمُ، الَّذِي فَسَّرَهُ قَوْلُهُ: عارِضاً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمَّا رَأَوْهُ، فِي الضَّمِيرِ وَجْهَانِ: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا تَعِدُنَا، وَأَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا، قَدْ وَضَحَ أَمْرُهُ بِقَوْلِهِ: عارِضاً، إِمَّا تَمْيِيزٌ وَإِمَّا حَالٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ، لِأَنَّ الْمُبْهَمَ الَّذِي يُفَسِّرُهُ وَيُوَضِّحُهُ التَّمْيِيزُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي بَابِ رُبَّ، نَحْوُ: رُبَّ رَجُلًا لَقِيتُهُ، وَفِي بَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، نَحْوَ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَبِئْسَ غُلَامًا عَمْرٌو. وَأَمَّا أَنَّ الْحَالَ يُوَضِّحُ الْمُبْهَمَ وَيُفَسِّرُهُ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ حَصَرَ النُّحَاةُ المضمر الذي

_ (1) سورة الفجر: 89/ 7.

يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ مَفْعُولَ رَأَى إِذَا كَانَ ضَمِيرًا، وَلَا أَنَّ الْحَالَ يُفَسِّرُ الضَّمِيرَ وَيُوَضِّحُهُ. وَالْعَارِضُ: الْمُعْتَرِضُ فِي الْجَوِّ مِنَ السَّحَابِ الْمُمْطِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا مَنْ رَأَى عَارِضًا أَرِقْتَ لَهُ ... بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ وَقَالَ الْأَعْشَى: يَا مَنْ رَأَى عَارِضًا قَدْ بث أَرْمُقُهُ ... كَأَنَّهَا الْبَرْقُ فِي حَافَاتِهَا الشُّعَلُ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ: هُوَ جَمْعُ وَادٍ، وَأَفْعِلَةٌ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ. الِاسْمُ شَاذٌّ نَحْوُ: نَادٍ وَأَنْدِيَةٍ، وَجَائِزٍ وَأَجْوِزَةٍ. وَالْجَائِزُ: الْخَشَبَةُ الْمُمْتَدَّةُ فِي أَعْلَى السَّقْفِ، وإضافة مستقبل وممطر إِضَافَةٌ لَا تُعَرِّفُ، فَلِذَلِكَ نُعِتَ بِهِمَا النَّكِرَةُ. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ: أَيْ قَالَ لَهُمْ هُوَ ذَلِكَ، أَيْ بَلْ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ: عارِضٌ مُمْطِرُنا، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ الْعَذَابَ فَاجَأَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: رِيحٌ: أَيْ هِيَ رِيحٌ بَدَلٌ مِنْ هُوَ. وَقَرَأَ: مَا اسْتَعْجَلْتُمْ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَصٌ فِي الرِّيحِ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا هُنَا. تُدَمِّرُ: أَيْ تُهْلِكُ، وَالدَّمَارُ: الْهَلَاكُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَدْمُرُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ وضم الميم. وقرىء كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ كُلُّ، أَيْ يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَيْ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ مَنْ أُمِرَتْ بِتَدْمِيرِهِ. وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى الرِّيحِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا وَتَصْرِيفَهَا مِمَّا يَشْهَدُ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا مِنْ أَعَاجِيبِ خَلْقِهِ وَأَكَابِرِ جُنُودِهِ. وَذَكَرَ الْأَمْرَ لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَرَى بِتَاءِ الْخِطَابِ، إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ، بِالنَّصْبِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُجَاهِدٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: لَا يُرَى بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ مَضْمُومَةٍ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ بِالرَّفْعِ. وَأَبُو رَجَاءٍ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا. وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالسُّلَمِيُّ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَضْمُومَةً مَسَاكِنُهُمْ بِالرَّفْعِ، وَهَذَا لَا يُجِيزُهُ أَصْحَابُنَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَبَعْضُهُمْ يُجِيزُهُ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: كَأَنَّهُ جَمَلٌ هَمٌّ وَمَا بَقِيَتْ ... إِلَّا النخيرة وَالْأَلْوَاحُ وَالْعَصَبُ وَقَالَ آخَرُ: فَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ وَقَرَأَ عِيسَى الْهَمْدَانِيُّ: لَا يُرَى بِضَمِّ الْيَاءِ إِلَّا مَسْكَنُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ

الْأَعْمَشِ، وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ. وقرىء: لَا تَرَى، بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ لِلْخِطَابِ، إِلَّا مَسْكَنَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ مُفْرَدًا مَنْصُوبًا، وَاجْتُزِئَ بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ تَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا هَلَكُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ قَوْمِ عَادٍ، خَاطَبَ قُرَيْشًا عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ، وَإِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ فِي الذي ما مكانهم فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْغِنَى وَالْبَسْطِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَمْوَالِ وَلَمْ يَكُنِ النَّفْيُ بِلَفْظِ مَا، كَرَاهَةً لِتَكْرِيرِ اللَّفْظِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: إِنْ شَرْطِيَّةٌ مَحْذُوفَةُ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ طَغَيْتُمْ. وَقِيلَ: إِنْ زَائِدَةٌ بَعْدَ مَا الْمَوْصُولَةِ تَشْبِيهًا بِمَا النَّافِيَةِ وَمَا التَّوْقِيتِيَّةِ، فَهِيَ فِي الْآيَةِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: يَرْجَى الْمَرْءُ مَا إِنْ لَا يَرَاهُ ... وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الْخُطُوبُ أَيْ مَكَّنَّاهُمْ فِي مِثْلِ الَّذِي مَكَّنَّاكُمْ، فِيهِ، وَكَوْنُهَا نَافِيَةً هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً «1» ، وَقَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً «2» ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّوْبِيخِ وَأَدْخَلُ فِي الْحَثِّ فِي الِاعْتِبَارِ. ثُمَّ عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، حَيْثُ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، وَهُوَ بَعِيدٌ كَقَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ أَغْنَى عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَتَكُونُ مِنْ زِيدَتْ فِي الْمُوجَبِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ أَغْنَى. وَيَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لَوْ قُلْتَ: أَكْرَمْتُ زَيْدًا لِإِحْسَانِهِ إِلَيَّ، أَوْ إِذْ أَحْسَنَ إِلَيَّ. اسْتَوَيَا فِي الْوَقْتِ، وَفُهِمَ مِنْ إِذْ مَا فُهِمَ مِنْ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّ إِكْرَامَكَ إِيَّاهُ فِي وَقْتِ إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ، إِنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ إِحْسَانِهِ لَكَ فِيهِ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ، وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ

_ (1) سورة غافر: 40/ 82. (2) سورة مريم: 19/ 74. [.....]

كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى: خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَهُمْ، وَالَّذِي حَوْلَهُمْ مِنَ الْقُرَى: مَأْرِبُ، وَحِجْرُ، ثَمُودُ، وَسَدُومُ. وَيُرِيدُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ، أي الحجج والدلائل والعظات لِأَهْلِ تِلْكَ الْقُرَى، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ: أَيْ فَهَلَّا نَصَرَهُمْ حِينَ جَاءَهُمُ الْهَلَاكُ؟ الَّذِينَ اتَّخَذُوا: أَيِ اتَّخَذُوهُمْ، مِنْ دُونِ اللَّهِ، قُرْباناً: أَيْ فِي حَالِ التَّقَرُّبِ وَجَعْلِهِمْ شُفَعَاءَ. آلِهَةً: وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثاني لا تخذوا، وَالْأَوَّلُ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانًا مَفْعُولًا ثانيا لاتخذوا آلهة بدل مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرْبَانًا حَالٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانًا مَفْعُولًا ثَانِيًا وآلهة بدل مِنْهُ، لِفَسَادِ الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنِ الزَّمَخْشَرِيُّ كَيْفَ يَفْسُدُ الْمَعْنَى، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْرَابِ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قُرْبَانًا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ. بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ: أَيْ غَابُوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِفْكُهُمْ، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وَضَمِّ الْكَافِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَالْإِفْكُ مَصْدَرٌ أَنْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالصَّبَّاحُ بْنُ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو عِيَاضٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ، وَمُجَاهِدٌ: أَفَكَهُمْ، بِثَلَاثِ فَتَحَاتٍ: أَيْ صَرَفَهُمْ وَأَبُو عِيَاضٍ، وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمَا شَدَّدَا الْفَاءَ لِلتَّكْثِيرِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: آفَكَهُمْ بِالْمَدِّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فَاعَلَ. فَالْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ، فَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَعَلَهُمْ يَأْفِكُونَ، وَيَكُونُ أَفْعَلُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أنه قرىء: أَفَكُهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْإِفْكِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَى قُطْرُبٌ، وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: آفِكُهُمُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفَكَ، أَيْ صَارَفَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ قَرَأَ: إِفْكُهُمْ مَصْدَرًا إِلَى اتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ آلِهَةً، أَيْ ذَلِكَ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ نُصْرَةِ آلِهَتِهِمْ لَهُمْ وَضَلَالِهِمْ عَنْهُمْ، أَيْ وَذَلِكَ أَثَرُ إِفْكِهِمُ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهَا آلِهَةً، وَثَمَرَةُ شِرْكِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ كَوْنِهِ ذَا شُرَكَاءَ. انْتَهَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ فِعْلًا مَعْنَاهُ: وَذَلِكَ الِاتِّخَاذُ صَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ،

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ صَارَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَفْتَرُونَهُ. وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ: وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسِيَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، وَذَكَرَ أَنَّ الْجِنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِأَثَرِ قِصَّةِ هُودٍ وَقَوْمِهِ، لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ. وَالْجِنُّ تُوصَفُ أَيْضًا بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ «1» . وَإِنَّ مَا أُهْلِكَ بِهِ قَوْمُ هُودٍ هُوَ الرِّيحُ، وَهُوَ مِنَ الْعَالَمِ الَّذِي لَا يُشَاهَدُ، وَإِنَّمَا يُحَسُّ بِهُبُوبِهِ. وَالْجِنُّ أَيْضًا مِنَ الْعَالَمِ الَّذِي لَا يُشَاهَدُ. وَإِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ، فَهَذِهِ تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُنَاسَبَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. وَفِيهَا أَيْضًا تَوْبِيخٌ لِقُرَيْشٍ وَكُفَّارِ الْعَرَبِ، حَيْثُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ، فَكَفَرُوا بِهِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي أُنْزِلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمِنْ جِنْسِ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ جِنٌّ، فَلَيْسُوا مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِمْ سَمَاعُ الْقُرْآنِ وَآمَنُوا بِهِ وَبِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِخِلَافِ قُرَيْشٍ وَأَمْثَالِهَا، فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ. وَإِذْ صَرَفْنا: وَجَّهْنَا إِلَيْكَ. وَقَرَأَ: صَرَّفْنَا، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَالتَّكْثِيرُ بِحَسْبِ الْحَالِ. نَفَراً مِنَ الْجِنِّ، وَالنَّفَرُ دُونَ الْعَشَرَةِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَنْفَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا سَبْعَةً، مِنْهُمْ زَوْبَعَةُ. وَالَّذِي يَجْمَعُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ، أَنَّ قِصَّةَ الْجِنِّ كَانَتْ مَرَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ يَسْتَنْصِرُهُمْ فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا أَصْحَابُ السِّيَرِ. فَرُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَلَمَّا بُعِثَ الرَّسُولُ، حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُمِيَ الْجِنُّ بِالشُّهُبِ، قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا أَمْرٌ حَدَثَ. وَطَافُوا الْأَرْضَ، فَوَافَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي نَخْلَةَ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَاسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِاسْتِمَاعِهِمْ. وَالْمَرَّةُ الْأُخْرَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ الْجِنَّ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَمَنْ يَتْبَعُنِي» ، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَأَطْرَقُوا إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمْ يَحْضُرْهُ أَحَدٌ لَيْلَةَ الْجِنِّ غَيْرِي. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي شِعْبِ الْحَجُونِ، خَطَّ لِي خَطًّا وقال:

_ (1) سورة النمل: 27/ 39.

«لَا تَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ» ، ثُمَّ افْتَتَحَ الْقُرْآنَ. وَسَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا حَتَّى خِفْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا أَسْمَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ تَقَطَّعُوا تَقَطُّعَ السَّحَابِ، فَقَالَ لِي: «هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا» ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، رِجَالًا سُودًا مُسْتَثْفِرِي ثِيَابٍ بِيضٍ، فَقَالَ: «أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ» . وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَالسُّورَةُ الَّتِي قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وَفِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ لَهُمْ لغطا، فقال: «إنهم تدارؤا فِي قَتِيلٍ لَهُمْ فَحَكَمْتُ بِالْحَقِّ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. فَلَمَّا حَضَرُوهُ: أَيِ الْقُرْآنَ، أَيْ كَانُوا بِمَسْمَعٍ مِنْهُ، وَقِيلَ: حَضَرُوا الرَّسُولَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ إِلَيْكَ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبِ. قالُوا أَنْصِتُوا: أَيِ اسْكُتُوا لِلِاسْتِمَاعِ، وَفِيهِ تَأْدِيبٌ مَعَ الْعِلْمِ وَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلَمَّا قُضِيَ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: قَضَى، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ قَضَى مُحَمَّدٌ مَا قَرَأَ، أَيْ أَتَمَّهُ وَفَرَغَ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَكَانَ إِذَا قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، قَالُوا: لَا شَيْءَ مِنْ آيَاتِ رَبِّنَا نُكَذِّبُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ: تَفَرَّقُوا عَلَى الْبِلَادِ يُنْذِرُونَ الْجِنَّ. قَالَ قَتَادَةُ: مَا أَسْرَعَ مَا عَقَلَ الْقَوْمُ. انْتَهَى. وَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعَتْ قِصَّةُ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ، وَخُنَافِرَ وأمثالها، حِينَ جَاءَهُمَا رَيَّاهُمَا مِنَ الْجِنِّ، وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِهِمَا. مِنْ بَعْدِ مُوسى: أَيْ مِنْ بَعْدِ كِتَابِ مُوسَى. قَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا عَلَى مِلَّةِ الْيَهُودِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ تَسْمَعِ الْجِنُّ بِأَمْرِ عِيسَى، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. كَيْفَ لَا تَسْمَعُ بِأَمْرِ عِيسَى وَلَهُ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَنْحَصِرُ عَلَى مِلَّتِهِ؟ فَيَبْعُدُ عَنِ الْجِنِّ كَوْنُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَالُوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى تَنْبِيهًا لِقَوْمِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ مُوسَى، فَقَالُوا: ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، إِذْ كَانَتْ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَالْأَمْرُ بِتَطْهِيرِ الْأَخْلَاقِ. يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ: أَيْ إِلَى مَا هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ صِدْقٌ، يُعْلَمُ ذَلِكَ بِصَرِيحِ العقل. وإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ: غَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا فِي مَوْضِعٍ لَا يُسْتَعْمَلُ الْآخَرُ فِيهِ، فَجَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا وَحَسُنَ التَّكْرَارُ. أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ: هُوَ الرَّسُولُ، وَالْوَاسِطَةُ الْمُبَلِّغَةُ عَنْهُ، وَآمِنُوا بِهِ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ.

يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ بِالْإِيمَانِ ذُنُوبَ الْمَظَالِمِ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ تَبِعَةٌ. وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ: وَهَذَا كُلُّهُ وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهُمْ ثَوَابٌ وَعَلَيْهِمْ عِقَابٌ، يَلْتَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَزْدَحِمُونَ عَلَى أَبْوَابِهَا. وَقِيلَ: لَا ثَوَابَ لَهَا إِلَّا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ أَبُو حَنِيفَةَ. فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ: أَيْ بِفَائِتٍ مِنْ عِقَابِهِ، إِذْ لَا مَنْجَا مِنْهُ، وَلَا مَهْرَبَ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً «1» . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: وَلَيْسَ لَهُمْ بِزِيَادَةِ مِيمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَمْ يَعْيَ، مُضَارِعَ عَيِيَ، عَلَى وَزْنِ فَعِلَ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْحَسَنُ: وَلَمْ يَعِي، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ فِي الْمَاضِي فُتِحَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَالُوا فِي بَقِيَ: بقا، وهي لغة لطيئ. وَلَمَّا بُنِيَ الْمَاضِي عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، بُنِيَ مُضَارِعُهُ عَلَى يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فجاء يعني. فَلَمَّا دَخَلَ الْجَازِمُ، حَذَفَ الْيَاءَ، فَبَقِيَ يَعْيَ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ، فَسَكَنَتِ الْيَاءُ وَبَقِيَ يَعِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقادِرٍ: اسْمَ فَاعِلٍ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ أَنَّ، وَحَسَّنَ زِيَادَتِهَا كَوْنُ مَا قَبْلَهَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ. وَقَدْ أَجَازَ الزَّجَّاجُ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا بِقَائِمٍ، قِيَاسًا عَلَى هَذَا، وَالصَّحِيحُ قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ، فَكَأَنَّهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ؟ أَلَا تَرَى كَيْفَ جَاءَ بِبَلَى مُقَرِّرًا لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لَا لِرُؤْيَتِهِمْ؟ وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعِيسَى، وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَيَعْقُوبُ: يُقَدِّرُ مُضَارِعًا. أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْعَذَابِ. أَيْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِأَنَّكُمْ تُعَذَّبُونَ، وَالْمَعْنَى: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَقَوْلِهِمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «2» . قالُوا بَلى وَرَبِّنا، تَصْدِيقٌ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ الْعَدْلُ، فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُجَاوِبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ ذَلِكَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ أَخْبَارِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى بَيْنَهُمَا مُرْتَبِطٌ: أَيْ هَذِهِ حَالُهُمْ مَعَ اللَّهِ. فَلَا تَسْتَعْجِلْ أَنْتَ وَاصْبِرْ، وَلَا تَخَفْ إِلَّا اللَّهَ. وَأُولُو الْعَزْمِ: أَيْ أُولُو الْجِدِّ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ مَنْ حُفِظَ لَهُ شِدَّةٌ مَعَ قَوْمِهِ وَمُجَاهَدَةٌ. فَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ للبيان، أي الذين هم الرُّسُلُ، وَيَكُونُ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ أولي

_ (1) سورة الجن: 72/ 12. (2) سورة الشعراء: 26/ 138، وسورة سبأ: 34/ 35، وسورة الصافات: 37/ 59.

العزم وأولوا الْعَزْمِ عَلَى التَّبْعِيضِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ رُسُلٌ وَغَيْرُ رُسُلٍ وَعَلَى الْبَيَانِ يَقْتَضِي أَنَّهُمُ الرُّسُلُ، وَكَوْنُهَا لِلتَّبْعِيضِ قَوْلُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالْكَلْبِيِّ، وَلِلْبَيَانِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُمُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ ذِكْرِهِمْ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ طَوِيلًا، وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ، وَإِسْحَاقُ صَبَرَ نَفْسَهُ عَلَى الذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى الْفَقْدِ لِوَلَدِهِ وَعَمَى بَصَرِهِ وَقَالَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى السِّجْنِ وَالْبِئْرِ، وَأَيُّوبُ عَلَى الْبَلَاءِ. وَزَادَ غَيْرُهُ: وَمُوسَى قَالَ قَوْمُهُ: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2» ، وَدَاوُدُ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعِيسَى لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ: إِنَّهَا مَعْبَرٌ، فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمَرُوهَا. وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ: أَيْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ بِالْعَذَابِ، أَيْ لَا تَدْعُ لَهُمْ بِتَعْجِيلِهِ، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ، وَإِنَّهُمْ مستقصرن حِينَئِذٍ مُدَّةَ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مِنَ النَّهَارِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ نَهَارٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلَاغٌ، بِالرَّفْعِ، وَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى الْمُدَّةَ الَّتِي لَبِثُوا فِيهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ السَّاعَةُ بَلَاغُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَتاعٌ قَلِيلٌ «3» ، فَبَلَاغٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَلَاغٌ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ وَالشَّرْعَ، أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، أَيْ تَبْلِيغٌ وَإِنْذَارٌ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: بَلَاغٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَهُمْ وَيَقِفُ عَلَى فَلَا تَسْتَعْجِلْ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْكِيكَ الْكَلَامِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، إِذْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَهُمْ، أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، وَالْحَيْلُولَةُ الْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُبْتَدَأِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعِيسَى: بَلَاغًا بِالنَّصْبِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ: بَلَاغًا فِي الْقُرْآنِ، أَيْ بُلِّغُوا بَلَاغًا، أَوْ بَلَّغْنَا بَلَاغًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: بَلَاغٍ بِالْجَرِّ، نَعْتًا لِنَهَارٍ. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ، وَأَبُو سَرَاحٍ الْهُذَلِيُّ: بَلَّغَ عَلِيٌّ الْأَمْرَ، لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ حَمْلَ بَلَاغٌ رَفْعًا وَنَصْبًا عَلَى أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ تَبْلِيغَ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ. وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَيْضًا: بَلَّغَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُهْلَكُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَعَنْهُ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ، وَمَاضِيهِ هَلِكَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هِيَ مَرْغُوبٌ عَنْهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يُهْلِكُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ. إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ: بِالنَّصْبِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ وإنذار.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 90. (2) سورة الشعراء: 26/ 61- 62. (3) سورة النحل: 16/ 117.

سورة محمد

سورة محمّد [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 38] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

الْبَالُ: الْفِكْرُ، تَقُولُ: خَطَرَ فِي بَالِي كَذَا، وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَشَذَّ قَوْلُهُمْ: بَالَاتٌ فِي جَمْعِهِ. تَعَسَ الرَّجُلُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، تَعْسًا: ضِدُّ تَنَعُّشٍ، وَأَتْعَسَهُ اللَّهُ. قَالَ مُجَمِّعُ بْنُ هِلَالٍ: تَقُولُ وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا مِنْ حَلِيلِهَا ... تَعَسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمِّعُ وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ: تَعِسَ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: تَعِسَهُ اللَّهُ وَأَتْعَسَهُ: فِي بَابِ فَعِلَتْ وَأَفْعَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أن يجز عَلَى الْوَجْهِ، وَالنَّكْسُ: أَنْ يُجَرَّ عَلَى الرَّأْسِ. وَقَالَ هُوَ أَيْضًا، وَثَعْلَبٌ: التَّعْسُ: الْهَلَاكُ. وَقَالَ الْأَعْشَى: بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْيَاتٍ إِذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا آسِنٌ: الْمَاءُ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، يَأْسِنُ وَيَأْسُنُ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ، وَالْمَصْدَرُ: أُسُونٌ وَأَسِنٌ بِكَسْرِ السِّينِ. يَأْسَنُ، بِفَتْحِهَا، لُغَةٌ أَسْنَا، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ. وَأَسِنَ الرَّجُلُ، بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ: إِذَا دَخَلَ الْبِئْرَ، فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ مِنْ رِيحِ الْبِئْرِ، فَغَشِيَ عَلَيْهِ، أَوْ دَارَ رَأْسُهُ. قَالَ الشَّاعِرِ: قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... يَمِيدُ فِي الرِّيحِ ميدا لمائح الْأَسِنِ

الْأَشْرَاطُ: الْعَلَامَاتُ، وَاحِدُهَا شَرْطٌ، بِسُكُونِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهَا. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَزْمَعْتَ بِالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فَقَدْ جَعَلَتْ أَشْرَاطُ أَوَّلِهِ تَبْدُو وَأَشْرَطَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ: أَلْزَمَهَا أُمُورًا. قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ: فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصِمٌ ... فَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا الْعَسَلُ: مَعْرُوفٌ، وَعَسَلُ بْنُ ذَكْوَانَ رَجُلٌ نَحْوِيٌّ قَدِيمٌ. الْمِعَى: مَقْصُورٌ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ تَثْنِيَتُهُ مِعَيَانِ، بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً. وَالْمِعَى: مَا فِي الْبَطْنِ مِنَ الْحَوَايَا. الْقُفْلُ: مَعْرُوفُ، وَأَصْلُهُ الْيُبْسُ وَالصَّلَابَةُ. وَالْقُفْلُ وَالْقَفِيلُ: مَا يَبُسَ مِنَ الشَّجَرِ. وَالْقَفِيلُ أَيْضًا: نَبْتٌ، وَالْقَفِيلُ: السَّوْطُ وَأَقْفَلَهُ الصَّوْمُ: أيبسه، قاله الجوهري. آئفا وَآنِفًا: هُمَا اسْمَا فَاعِلٍ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِعْلُهُمَا، وَالَّذِي اسْتُعْمِلَ اِئْتَنَفَ، وَهُمَا بِمَعْنَى مُبْتَدِيًا، وَتَفْسِيرُهُمَا بِالسَّاعَةِ تَفْسِيرُ مَعْنًى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنِ اسْتَأْنَفْتُ الشَّيْءَ، إِذَا ابْتَدَأْتُهُ. فَأَوْلَى لَهُمْ، قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: قَوْلُ الْعَرَبِ أَوْلَى لَكَ: تَهْدِيدٌ وَتَوْعِيدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ... وَهَلْ لِلدَّارِ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ انْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا، أَهُوَ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ؟ فَذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى قَارَبَهُ مَا يُهْلِكُهُ، أَيْ نَزَلَ بِهِ، وَأَنْشَدَ: تَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ أَيْ: قَارَبَ أَنْ يَزِيدَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي أَوْلَى أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِمَنْ هَمَّ بِالْعَطَبِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ يُوَالِي رَمْيَ الصَّيْدِ فَيَنْفَلِتُ مِنْهُ فَيَقُولُ: أَوْلَى لَكَ رَمْيُ صَيْدًا فَقَارَبَهُ ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْهُ، وَقَالَ: فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صَيْدَهُمْ ... وَلَكِنَّ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعًا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ، فَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلِيُّهَا ... وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَخُطُوبُ وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ مَا حُوِّلَ مِنَ الْوَيْلِ، فَهُوَ أَفْعَلُ مِنْهُ، لَكِنَّ فِيهِ قَلْبٌ. الضِّغْنُ وَالضَّغِينَةُ: الْحِقْدُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: فَإِنَّ الضغن بعد الضغن يعسو ... عَلَيْكَ وَيَخْرُجُ الدَّاءُ الدَّفِينَا

وَقَدْ ضَغِنَ بِالْكَسْرِ، وَتَضَاغَنَ الْقَوْمُ وَأَضْغَنُوا: بَطَنُوا الْأَحْقَادَ. وَقَدْ ضَغِنَ عَلَيْهِ، وَأَضْغَنْتَ الصَّبِيَّ: أَخَذْتَهُ تَحْتَ حِضْنِكَ، وَأَنْشَدَ الْأَحْمَرُ: كَأَنَّهُ مُضْغِنٌ صَبِيًّا وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: ما اضْطَغَنْتُ سِلَاحِي عِنْدَ مَعْرَكِهَا وَفَرَسٌ ضَاغِنٌ: لَا يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مِنَ الْجَرْيِ إِلَّا بِالضَّرْبِ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الضِّغْنِ، وَهُوَ الِالْتِوَاءُ وَالِاعْوِجَاجُ فِي قَوَائِمِ الدَّابَّةِ وَالْقَنَاةِ وَكُلُّ شَيْءٍ. وَقَالَ بِشْرٌ: كَذَاتِ الضِّغْنِ تَمْشِي فِي الزُّقَاقِ وَأَنْشَدَ اللَّيْثُ: إِنَّ فَتَاتِي مِنْ صَلِيَّاتِ الْقَنَا ... مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إِلَّا ضِغْنًا وَالْحِقْدُ فِي الْقَلْبِ يُشَبَّهُ بِهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: وَاللَّيْثُ أَضْغَنَ الْعَدَاوَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: قُلْ لِابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتُ بِمَنْطِقٍ ... نَشَأَ الصَّدِيقُ وَشَيَّدَ الْأَضْغَانَا لَحَنْتُ لَهُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ، أَلْحَنُ لَحْنًا: قُلْتُ لَهُ قَوْلًا يَفْهَمُهُ عَنْكَ وَيَخْفَى عَنْ غَيْرِهِ وَلَحِنَهُ هُوَ بِالْكَسْرِ: فَهِمَهُ وَأَلْحَنَهُ: فَهَّمَهُ وألحنته أنا إياه ولا حنت النَّاسَ: فَاطَنْتُهُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَيَلْحَنُ أَحْيَا ... نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا وَقَالَ الْقَتَّالُ الْكِلَابِيُّ: وَلَقَدْ وَمَيْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا ... وَلَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ وَقِيلَ: لَحْنُ الْقَوْلِ: الذَّهَابُ عَنِ الصَّوَابِ، مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّحْنِ فِي الْإِعْرَابِ. وَتَرَهُ: نَقَصَهُ، مَأْخُوذٌ من الدخل. وَقِيلَ مِنَ الْوَتْرِ، وَهُوَ الْفَرْدُ. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ

بالَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ، فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ: مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ بَعْدَ حَجِّهِ، حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، وَهِيَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ جِدًّا. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ أَخْرَجُوا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُمُ الْمُطْعِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالْكُفْرِ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، صَدُّوا مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، يَمْنَعُ قَاصِدِيهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ كَفَرَ وَصَدَّ. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ: أَيْ أَتْلَفَهَا، حَيْثُ لَمْ يَنْشَأْ عَنْهَا خَيْرٌ وَلَا نَفْعٌ، بَلْ ضَرَرٌ مَحْضٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِبَدْرٍ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ إِلَى الِاتِّفَاقِ الَّذِي اتَّفَقُوهُ فِي سَفَرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ: أَعْمَالُهُمُ الْبِرَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَفَكِّ عَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّفْظُ يَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: هُمُ الْأَنْصَارُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: مُؤْمِنُوَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ وَعَلَى تَقْدِيرِ خُصُوصِ السَّبَبِ فِي الْقَبِيلَتَيْنِ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ وَكُلَّ مُؤْمِنٍ. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ: تَخْصِيصُهُ مِنْ بَيْنِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الرَّسُولِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ الَّتِي هِيَ: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: وَهُوَ الْحَقُّ: نَاسِخٌ لِغَيْرِهِ وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُزِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ

مِقْسَمٍ: نَزَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْأَعْمَشُ: أُنْزِلَ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مبنيا للمفعول. وقرىء: نَزَلَ ثُلَاثِيًّا. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ: أَيْ حَالَهُمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَشَأْنَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَمْرَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَحَقِيقَةُ لَفْظِ الْبَالِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفِكْرِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ نَظَرُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْقَلْبُ. فَإِذَا صَلُحَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَلُحَتْ حَالُهُ، فَكَأَنَّ اللَّفْظَ مُشِيرٌ إِلَى صَلَاحِ عَقِيدَتِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَالِ تَابِعٌ. ذلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا فُعِلَ بِالْكُفَّارِ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ. وَذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، أَيْ كَائِنٌ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الْبَاطِلَ وَهَؤُلَاءِ الْحَقَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَيْ كَمَا ذُكِرَ بِهَذَا السَّبَبِ، فَيَكُونَ مَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَنْصُوبًا. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ مَعَ صِحَّةِ الْوَجْهِ وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ. وَالْبَاطِلُ: مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّيْطَانُ وَكُلُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَالْحَقُّ: هُوَ الرَّسُولُ وَالشَّرْعُ، وَهَذَا الْكَلَامُ تُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ: التَّفْسِيرَ. كَذلِكَ يَضْرِبُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَتْبَاعِ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ كَمَا اتَّبَعُوا هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ، كَذَلِكَ يُبَيَّنُ أَمْرُ كُلِّ فِرْقَةٍ، وَيُجْعَلُ لَهَا ضَرْبُهَا مِنَ الْقَوْلِ وَصْفَهَا وَضَرْبُ الْمَثَلِ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى النَّوْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ. يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ لِأَجْلِ النَّاسِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِمْ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ؟ قُلْتُ: فِي أَنْ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْبَاطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الْكُفَّارِ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ فِي أَنْ جَعَلَ الْإِضْلَالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ فِي أَيِّ زَمَانٍ ليقتموهم، فَاقْتُلُوهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» ، أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ، فَعَمَّ فِي الزَّمَانِ وَفِي الْمَكَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَقِيتُمْ، مِنَ اللِّقَاءِ، وَهُوَ الْحَرْبُ. انْتَهَى. فَضَرْبَ الرِّقابِ: هَذَا مِنَ الْمَصْدَرِ النَّائِبِ مَنَابَ فِعْلِ الْأَمْرِ، وَهُمْ مُطَّرِدٌ فِيهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ إِذَا انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ فَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ النَّاصِبِ لِلْمَصْدَرِ وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَفْسِ الْمَصْدَرِ لِنِيَابَتِهِ عَنِ الْعَامِلِ فِيهِ، وَمِثَالُهُ: ضَرْبًا زَيْدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَى حِينِ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُورِهِمْ ... فَنَدْلًا زُرَيْقُ الْمَالِ نَدْلَ الثَّعَالِبِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَضَرْبَ الرِّقابِ، وهو إضافة المصدر

_ (1) سورة التوبة: 9/ 5.

لِلْمَفْعُولِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا لَهُ، مَا جَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ. وَضَرْبَ الرِّقَابِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَتْلِ وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ لِلْإِنْسَانِ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ بِضَرْبِ رَقَبَتِهِ، عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْقَتْلِ، وَلَا يُرَادُ خُصُوصِيَّةُ الرِّقَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ تَتَأَتَّى حَالَةُ الْحَرْبِ أَنْ تُضْرَبَ الرِّقَابُ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى الْقِتَالُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَيُقَالُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ رَقَبَةَ فُلَانٍ، وَضَرَبَ عُنُقَهُ وَعِلَاوَتَهُ وَمَا فِيهِ عَيْنَاهُ، إِذَا قَتَلَهُ، كَمَا عبر بقوله: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «1» عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْكَسْبِ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَيْدِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ الْقَتْلِ بِأَشْنَعِ صُورَةٍ، وَهُوَ حَزُّ الْعُنُقِ وَإِطَارَةُ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْبَدَنِ وَعُلُوُّهُ وَأَوْجُهُ أَعْضَائِهِ. وَقَدْ زَادَ فِي هَذِهِ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «2» . انْتَهَى. وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَشْجِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِحَيْثُ هُمْ متمكنون مِنْهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ: أَيْ أَكْثَرْتُمُ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةٌ لِلضَّرْبِ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِثْخَانُ وَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ وَشَدُّوا وَثَاقَ الْأَسْرَى، فَإِمَّا مَنًّا بِالْإِطْلَاقِ، وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها: أَيْ أَثْقَالَهَا وَآلَاتِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورًا أَنْشَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِعَمْرٍو هَذَا، وَأَنْشَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلْأَعْشَى. وَقِيلَ: الْأَوْزَارُ هُنَا: الْآثَامُ، لِأَنَّ الْحَرْبَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا آثَامٌ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى ينزل عيسى بن مَرْيَمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَتَّى يُسْلِمَ الْجَمِيعُ وَقِيلَ: حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ يُرَادُ بِهَا الْتِزَامُ الْأَمْرِ أَبَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لَا يَضِيعُ أَوْزَارَهَا، فَجَاءَ هَذِهِ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ أَنَّكَ تَفْعَلُهُ دَائِمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسُمِّيَتْ، يَعْنِي آلَاتِ الْحَرْبِ مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَوْزَارَهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ جَرِّهَا، فَكَأَنَّهَا تَحْمِلُهَا وَتَسْتَقِلُّ بِهَا فَإِذَا انْقَضَتْ، فَكَأَنَّهَا وَضَعَتْهَا. وَقِيلَ: أَوْزَارَهَا: آثَامَهَا، يَعْنِي حَتَّى يَتْرُكَ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، شِرْكَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ، بِأَنْ يُسْلِمُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَرْبَ الرِّقَابِ، وَهُوَ الْقَتْلُ مُغَيَّا بِشَدِّ الْوَثَاقِ وَقْتَ حُصُولِ الْإِثْخَانِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، أَيْ بَعْدَ الشَّدِّ، وَإِمَّا فِداءً، حَالَتَانِ لِلْمَأْسُورِ، إِمَّا أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ بِالْإِطْلَاقِ، كَمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِ

_ (1) سورة الشورى: 42/ 30. (2) سورة الأنفال: 8/ 12.

ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ، وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ فُودِيَ مِنْهُ رَجُلَانِ مِنَ الْكُفَّارِ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُعَارِضٌ ظَاهِرُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» . فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ، إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ، وَأَنَّ الْأَسْرَ وَالْمَنَّ وَالْفِدَاءَ مُرْتَفِعٌ، فَإِنْ وَقَعَ أَسِيرٌ قُتِلَ وَلَا بُدَّ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ. وروي نحوه عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، إِلَى أَنَّ هَذِهِ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ تِلْكَ، وَالْمَنَّ وَالْفِدَاءَ ثَابِتٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ إِلَّا فِي الْحَرْبِ، يَهِيبُ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدُوِّ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمُ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ وَعُبَّادَ الْأَوْثَانِ، لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا الْقَتْلُ، فَخَصَّصُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَخُصِّصَ مِنَ الْكُفَّارِ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْيَوْمَ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَفِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِمَّا فِداءً، يَجُوزُ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ وَبِمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُفْدَى بِالْمَالِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: فَشِدُّوا، بِكَسْرِ الشِّينِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ. وَالْوَثَاقُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَفِيهِ لُغَةٌ الْوِثَاقُ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُوثَقُ بِهِ، وَانْتَصَبَ مَنًّا وَفِدَاءً بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُقَدَّرُ مِنْ لَفْظِهِمَا، أَيْ فَإِمَّا تَمُنُّونَ مَنًّا، وَإِمَّا تَفْدُونَ فِدَاءً، وَهُوَ فِعْلٌ يَجِبُ إِضْمَارُهُ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ جَاءَ تَفْصِيلَ عَاقِبَةٍ، فَعَامِلُهُ مِمَّا يَجِبُ إِضْمَارُهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَأَجْهَدَنَّ فَإِمَّا دَرْءَ وَاقِعَةٍ ... تُخْشَى وَإِمَّا بُلُوغَ السُّؤْلِ وَالْأَمَلِ أَيْ: فَإِمَّا أَدْرَأُ دَرْأَ وَاقِعَةٍ، وَإِمَّا أَبْلُغُ بُلُوغَ السُّؤْلِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَفْعُولَيْنِ، أَيْ أَدُّوهُمْ مَنًّا وَاقْبَلُوا، وَلَيْسَ إِعْرَابٌ نَحْوِيٌّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ: وَإِمَّا فِدًى بِالْقَصْرِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ فَادَيْتُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ فِيهِ أَرْبَعَ لُغَاتٍ: فِدَاءً لَكَ بِالْمَدِّ وَالْإِغْرَاءِ، وَفِدًى لَكَ بِالْكَسْرِ بِيَاءٍ وَالتَّنْوِينِ، وَفِدَى لَكَ بِالْقَصْرِ، وَفِدَاءٌ لَكَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا: الْمَنُّ بِالْإِطْلَاقِ، كَمَا مَنَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ثُمَامَةَ، وَعَلَى أَبِي عُرْوَةَ الْحَجَبِيِّ. وَفِي كِتَابِ الزمخشري: كما منّ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 5 .

عَلَى أَبِي عُرْوَةَ الْحَجَبِيِّ، وَأُثَالٍ الْحَنَفِيِّ، فَغَيَّرَ الْكُنْيَةَ وَالِاسْمَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِخِ، لَا فِي أَصْلِ التَّصْنِيفِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَنِّ: أَيْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ الْقَتْلِ وَيُسْتَرَقُّوا، أَوْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ فَيُخَلُّوا لِقَبُولِهِمُ الْجِزْيَةَ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: فَشُدُّوا الْوَثاقَ، لِأَنَّهُ قَدْ غَيَّا فَضَرْبَ الرِّقَابِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ وَقْتَ الْإِثْخَانِ. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُغَيَّا بِغَايَةٍ أُخْرَى لِتَدَافُعِ الْغَايَتَيْنِ، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ مُبَيِّنَةً لِلْأُولَى وَمُؤَكِّدَةً، فَيَجُوزُ، لِأَنَّ شَدَّ الْوَثَاقِ لِلْأَسْرَى لَا يَكُونُ إِلَّا حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. إِذَا فَسَّرْنَا ذَلِكَ بِانْتِفَاءِ شَوْكَةِ الْكُفَّارِ الْمَلْقِيِّينَ إِذْ ذَاكَ، وَيَكُونُ الْحَرْبُ الْمُرَادُ بِهَا الَّتِي تَكُونُ وَقْتَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُغَيَّا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: الْحُكْمُ ذَلِكَ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ لَا يَبْقَى شَوْكَةٌ لَهُمْ. أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهَا اسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيِ اصْنَعُوا ذَلِكَ دَائِمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: حَتَّى بِمَ تَعَلَّقَتْ؟ قُلْتُ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ إِمَّا بِالضَّرْبِ وَالشَّدِّ، أَوْ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. فَالْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْمُتَعَلِّقَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَكُونَ حَرْبٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَوْكَةٌ. وَقِيلَ: إِذَا نَزَلَ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا عُلِّقَ بِالضَّرْبِ وَالشَّدِّ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَيُؤْسَرُونَ حَتَّى تَضَعَ جِنْسُ الْحَرْبِ الْأَوْزَارَ، وَذَلِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى شَوْكَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَإِذَا عُلِّقَ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُمَنُّ عَلَيْهِمْ وَيُفَادُونَ حَتَّى تَضَعَ حَرْبُ بَدْرٍ أَوْزَارَهَا، إِلَى أَنْ تَنَاوَلَ الْمَنَّ وَالْفِدَاءَ، يَعْنِي: بِتَنَاوُلِ الْمَنِّ بِأَنْ يُتْرَكُوا عَنِ الْقَتْلِ وَيُسْتَرَقُّوا، أَيْ بِالتَّخْلِيَةِ بِضَرْبِ الْجِزْيَةِ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَبِالْعَذَابِ أَنْ يُفَادَى بِأَسَارَى الْمُشْرِكِينَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَرَى فِدَاءَهُمْ بِمَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، خِيفَةَ أَنْ يَعُودُوا حَدَبًا لِلْمُسْلِمِينَ. ذلِكَ: أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ إِذَا فَعَلُوا. ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ: أي لا أنتقم مِنْهُمْ بِبَعْضِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ، مِنْ خَسْفٍ، أَوْ رَجْفَةٍ، أَوْ حَاصِبٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ مَوْتٍ جَارِفٍ. وَلكِنْ لِيَبْلُوَا: أَيْ وَلَكِنْ: أَمَرَكُمْ بِالْقِتَالِ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ يَخْتَبِرَهُمْ بِبَعْضٍ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، بِأَنْ يُجَاهِدُوا وَيَصْبِرُوا، وَالْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُعَاجِلَهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِبَعْضِ مَا وَجَبَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَاتَلُوا، بِفَتْحِ الْقَافِ وَالتَّاءِ، بِغَيْرِ أَلِفٍ وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: قُتِلُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالتَّاءُ خَفِيفَةٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،

وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ أَيْضًا: كَذَلِكَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ: فَلَنْ يُضِلَّ مَبْنِيًّا للمفعول أَعْمالَهُمْ: رفع. وقرىء: يَضِلَّ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، مِنْ ضَلَّ أَعْمَالُهُمْ: رُفِعَ. سَيَهْدِيهِمْ: أَيْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْتَدِي أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ مِنْهَا لا يخطؤون، لِأَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانَهَا مُنْذُ خُلِقُوا، لَا يَسْتَبْدِلُوا عَلَيْهَا. وَرَوَى عِيَاضٌ عَنْ أَبِي عمرو: وَيُدْخِلُهُمُ، ويَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ «1» ، وإِنَّما نُطْعِمُكُمْ «2» ، بِسُكُونِ لَامِ الْكَلِمَةِ. عَرَّفَها لَهُمْ، عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي وُكِّلَ بِحِفْظِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُعَرِّفُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ بَيَّنَهَا لَهُمْ، أَيْ جَعَلَهُمْ يَعْرِفُونَ مَنَازِلَهُمْ مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ لَأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: سَمَّاهَا لَهُمْ وَرَسَمَهَا كُلَّ مَنْزِلٍ بِصَاحِبِهِ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنَ التَّعْرِيفِ. يُقَالُ: عَرَفَ الدَّارَ وَأَرْفَهَا: أَيْ حَدَّدَهَا، فَجَنَّةُ كُلِّ أَحَدٍ مُفْرَزَةٌ عَنْ غَيْرِهَا. وَالْعُرْفُ وَالْأُرْفُ: الْحُدُودُ. وَقِيلَ: شَرَّفَهَا لَهُمْ وَرَفَعَهَا وَعَلَّاهَا، وَهَذَا مِنَ الْأَعْرَافِ الَّتِي هِيَ الْجِبَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا. وقال مؤرج وَغَيْرُهُ: طَيَّبَهَا، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَرْفِ، وَمِنْهُ: طَعَامٌ مُعَرَّفٌ: أَيْ مُطَيَّبٌ، أَيْ وَعَرَّفْتَ الْقِدْرَ طَيَّبْتَهَا بِالْمِلْحِ وَالتَّابِلِ. إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ: أَيْ دِينَهُ، يَنْصُرْكُمْ: أَيْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، بِخَلْقِ الْقُوَّةِ فِيكُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَارِفِ. وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ: أَيْ فِي مَوَاطِنِ الْحَرْبِ، أَوْ عَلَى مَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُثَبِّتْ: مُشَدَّدًا، وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مُخَفَّفًا. فَتَعْساً لَهُمْ: قال ابن عباس: بعد الهم وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ: حُزْنًا لَهُمْ وَالْحَسَنُ: شَتْمًا وَابْنُ زَيْدٍ: شَقَاءً وَالضَّحَّاكُ: رَغْمًا وَحَكَى النَّقَّاشُ: قُبْحًا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا: مُبْتَدَأٌ، وَالْفَاءُ دَاخِلَةٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَتَقْدِيرُهُ: فَتَعِسَهُمُ اللَّهُ تَعْسًا. فَتَعْسًا: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: فَتَعْساً لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا جَدْعًا لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: على م عُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ؟ قُلْتُ: عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي نَصَبَ تَعْسًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَقَالَ تَعْسًا لَهُمْ، أَوْ فَقَضَى تَعْسًا لَهُمْ وَتَعْسًا لَهُمْ نَقِيضُ لَعًى لَهُ. انْتَهَى. وَإِضْمَارُ مَا هُوَ مِنْ لَفْظِ الْمَصْدَرِ أَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مَا حُذِفَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِي الدُّنْيَا الْقَتْلَ، وَفِي الْآخِرَةِ التَّرَدِّيَ فِي النَّارِ. انْتَهَى. وَفِي قوله:

_ (1) سورة التغابن: 64/ 9. (2) سورة الإنسان: 76/ 9.

فَتَعْساً لَهُمْ: أَيْ هَلَاكًا بِأَدَاةِ تَقْوِيَةٍ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ جَعَلَ لَهُمُ التَّثْبِيتَ، وَلِلْكُفَّارِ الْهَلَاكَ وَالْعَثْرَةَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ: يَشْمَلُ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ، وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ: أي جعلها مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَزْكُوا وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا. دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: أَيْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ مَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا. تِلْكَ الْعَاقِبَةُ وَالتَّدْمِيرَةُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا دَمَّرَ وَالْهَلَكَةُ، لِأَنَّ التَّدْمِيرَ يَدُلُّ عَلَيْهَا، أَوِ السُّنَّةَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا «1» . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ مَنْطُوقٌ بِهَا، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَلْفُوظِ بِهِ، وَمَا بَعْدَهُ مَقُولُ الْقَوْلِ. ذلِكَ بِأَنَّ: ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى النَّصْرِ فِي اخْتِيَارِ جَمَاعَةٍ، وَإِلَى الْهَلَاكِ، كَمَا قَالَ: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، قَالَ ذَلِكَ الْهَلَاكُ الَّذِي جُعِلَ لِلْكُفَّارِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهِ مَوْلاهُمُ: أَيْ نَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، إِذِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَتَرَكُوا عِبَادَةَ مَنْ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ، وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمِنْهَا انْتَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» ، حِينَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لَنَا عُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ، أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 38- 62.

جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ. يَتَمَتَّعُونَ: أَيْ يَنْتَفِعُونَ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ، وَيَأْكُلُونَ، غَافِلِينَ غَيْرَ مُفَكِّرِينَ فِي الْعَاقِبَةِ، كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فِي مَسَارِحِهَا وَمَعَالِفِهَا، غَافِلَةً عَمَّا هِيَ بِصَدَدِهِ مِنَ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يَقُولُ سِيبَوَيْهِ، أَيْ يَأْكُلُونَهُ، أَيِ الْأَكْلُ مُشْبِهًا أَكْلَ الْأَنْعَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَكْلَهُمْ مُجَرَّدٌ مِنَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، كَمَا يُقَالُ لِلْجَاهِلِ: يَعِيشُ كَمَا تَعِيشُ الْبَهِيمَةُ، لَا يُرِيدُ التَّشْبِيهَ فِي مُطْلَقِ الْعَيْشِ، وَلَكِنْ فِي لَازِمِهِ. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ: أَيْ مَوْضِعُ إِقَامَةٍ. ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلًا لِمَكَّةَ وَالْقُرَى الْمُهْلَكَةِ عَلَى عِظَمِهَا، كَقَرْيَةِ عَادٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، وَأَسْنَدَ الْإِخْرَاجَ إِلَيْهَا مَجَازًا. وَالْمَعْنَى: كَانُوا سَبَبَ خُرُوجِكَ، وَذَلِكَ وَقْتَ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قومك، قَالَ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنُسِبَ الْإِخْرَاجُ إِلَى الْقَرْيَةِ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ، وَقَالَ: أَهْلَكْناهُمْ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَهْلَكْنَاهُمْ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْمُضَافِ إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْإِخْرَاجُ، بَلْ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ وَحَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى: أَيْ أَنْ يَكُونَ فِي مَدْلُولٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يَبْقَى كَأَيِّنْ مُفْلَتًا غَيْرَ مُحَدَّثٍ عَنْهُ بِشَيْءٍ، إِلَّا أَنَّ وَقْتَ إِهْلَاكِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ إِذْ ذَاكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْغَارِ، الْتَفَتَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ: أَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْتِ أحب بلاد الله إلى، فَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُخْرِجُونِي، لَمْ أَخْرُجْ مِنْكِ، فَأَعْدَى الْأَعْدَاءِ مَنْ عَدَا عَلَى اللَّهِ فِي حَرَمِهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَقِيلَ: بِدُخُولِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ الْآيَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ وَتَقْرِيرٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُعَادَلَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَالْإِشَارَةُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ. انْتَهَى. وَاللَّفْظُ عَامٌّ لِأَهْلِ الصِّنْفَيْنِ. وَمَعْنَى عَلَى بَيِّنَةٍ: وَاضِحَةٍ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: وَهُوَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ وَعِبَادَةُ غَيْرِهِ. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ: أَيْ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ مِمَّنْ لَا يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَبَدُوا غَيْرَ خَالِقِهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي وَاتَّبَعُوا عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وقرىء أَمَنْ كَانَ بِغَيْرِ فَاءٍ. مَثَلُ الْجَنَّةِ: أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ،

وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: كَأَنَّهُ قَالَ: صِفَةُ الْجَنَّةِ، وَهُوَ مَا تَسْمَعُونَ. انْتَهَى. فَمَا تَسْمَعُونَ الْخَبَرَ، وَفِيهَا أَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ، وَقُدِّرَ الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ مُتَقَدِّمًا، ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ الَّذِي يُتْلَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِ مَنْ وَعَى هَذِهِ الْأَوْصَافَ. وَكَانَ ابْنَ عَطِيَّةَ قَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّمْثِيلِ هُوَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي يَتَخَيَّلُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ سَمَاعِهِ. فَهَهُنَا كَذَا، فَكَأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَثَلُ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَعَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، يَعْنِي قَوْلَ النَّضْرِ وَقَوْلَ سِيبَوَيْهِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ يَكُونُ قَبْلَ قَوْلِهِ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَسَاكِنٌ؟ أَوْ أَهَؤُلَاءِ؟ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُتَّقِينَ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْحَذْفُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. وَيَجِيءُ قَوْلُهُ: فِيها أَنْهارٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: وَمَثَلُ الْجَنَّةِ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: فِيها أَنْهارٌ، فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، كَالتَّكْرِيرِ لَهَا. أَلَا تَرَى إِلَى سِرِّ قَوْلِهِ: الَّتِي فِيهَا أَنْهَارٌ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ هِيَ: فِيهَا أَنْهَارٌ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: وَمَا مِثْلُهَا؟ فَقِيلَ: فِيهَا أَنْهَارٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ؟ قَالَ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ فِي صُورَةِ الْإِثْبَاتِ، وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالْإِنْكَارُ، لِانْطِوَائِهِمْ تَحْتَ كَلَامٍ مُصَدَّرٍ بِحَرْفِ الْإِنْكَارِ، وَدُخُولِهِ فِي حَيِّزِهِ، وَانْخِرَاطِهِ فِي مَسْلَكِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، أَيْ كَمَثَلِ جَزَاءِ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ عَرِيَ مِنْ حَرْفِ الْإِنْكَارِ؟ وَمَا فَائِدَةُ التَّعْرِيَةِ؟ قُلْتُ: تَعْرِيَتُهُ مِنْ حَرْفِ الْإِنْكَارِ فِيهَا زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِمُكَابَرَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْتَمْسِكِ بِالْبَيِّنَةِ وَالتَّابِعِ لِهَوَاهُ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُثْبِتُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَنَّةِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا تِلْكَ الْأَنْهَارُ، وَبَيْنَ النَّارِ الَّتِي يُسْقَى أَهْلُهَا الْحَمِيمَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الْكِرَامَ وَإِنْ ... أَوْرِثْ ذَوْدًا شَصَائِصًا نَبْلَا هُوَ كَلَامٌ مُنْكِرٌ لِلْفَرَحِ بِرَزِيَّةِ الْكِرَامِ وَوِرَاثَةِ الذَّوْدِ، مَعَ تعريته من حرف الإنكار، لِانْطِوَائِهِ تَحْتَ حُكْمِ مَنْ قَالَ: أَتَفْرَحُ بِمَوْتِ أَخِيكَ، وبوارثة إِبِلِهِ؟ وَالَّذِي طُرِحَ لِأَجْلِهِ حَرْفُ

الْإِنْكَارِ إِرَادَةُ أَنْ يُصَوِّرَ قبح ما أذن بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَعَمْ مِثْلِي يَفْرَحُ بِمَرْزَأَةِ الْكِرَامِ، وَبِأَنْ يَسْتَبْدِلَ مِنْهُمْ ذَوْدًا يَقِلُّ طَائِلُهُ، وَهُوَ مِنَ التَّسْلِيمِ الَّذِي تَحْتَهُ كُلُّ إِنْكَارٍ. انْتَهَى. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا الِاتِّفَاقُ عَلَى إِعْرَابِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ، فَقِيلَ: هُوَ مَذْكُورٌ، وَهُوَ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَقِيلَ: بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّضْرِ وَابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ. وَلَمَّا بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فيما يؤولان إِلَيْهِ. وَكَمَا قَدَّمَ مَنْ عَلَى بَيِّنَةٍ، عَلَى مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، قَدَّمَ حَالَهُ عَلَى حَالِهِ. وَقَرَأَ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ: آسِنٌ، عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، مِنْ أسن، بفتح السين وقرىء: غَيْرِ يَاسِنٍ بِالْيَاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَذَلِكَ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزِ. لَمْ يَتَغَيَّرْ، وغيره. ولَذَّةٍ: تَأْنِيثَ لَذَّ، وَهُوَ اللَّذِيذُ، وَمَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ، فَالْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لخمر، وقرىء بالرفع صفة لأنهار، وَبِالنَّصْبِ: أَيْ لِأَجْلِ لَذَّةٍ، فَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ. مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ. قِيلَ: فَيُخَالِطَهُ الشَّمْعُ وَغَيْرُهُ، وَوَصَفَهُ بِمُصَفًّى لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعَسَلِ التَّذْكِيرُ، وَهُوَ مِمَّا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَعَنْ كَعْبٍ: أَنَّ النِّيلَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتَ وَجَيْحَانَ، تَكُونُ هَذِهِ الْأَنْهَارُ فِي الْجَنَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ كُلٍّ، فَهُوَ مِنْهَا لِمَاذَا يكون ينزل، وبدىء مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْمَشْرُوبَاتِ، ثُمَّ بِاللَّبَنِ، إِذْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الطُّعُومِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَاتِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ بِالْخَمْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الرِّيُّ وَالْمَطْعُومُ تَشَوَّقَتِ النَّفْسُ إِلَى مَا تَلْتَذُّ بِهِ، ثُمَّ بِالْعَسَلِ، لِأَنَّ فِيهِ الشِّفَاءَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا يَعْرِضُ مِنَ الْمَشْرُوبِ وَالْمَطْعُومِ، فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْهَيْئَةِ. وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَقِيلَ: الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَنْوَاعٌ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: زَوْجَانِ. وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ: لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، أَوْ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ بِنَعِيمِ مَغْفِرَةٍ، إِذِ الْمَغْفِرَةُ سَبَبُ التَّنْعِيمِ. وَسُقُوا: عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وَهُوَ خَالِدٌ عَلَى اللَّفْظِ وَكَذَا: خَرَجُوا: عَلَى مَعْنَى مَنْ يَسْتَمِعُ. كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَتِلَاوَتَهُ، فَإِذَا خَرَجُوا، قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَهُمُ السَّامِعُونَ كَلَامَ الرَّسُولِ حَقِيقَةً الْوَاعُونَ لَهُ: مَاذَا قالَ آنِفاً؟ أَيِ السَّاعَةَ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ وَالِاسْتِخْفَافِ، أَيْ لَمْ نَفْهَمْ مَا يَقُولُ، وَلَمْ نَدْرِ مَا نَفْعُ ذَلِكَ. وَمِمَّنْ سَأَلُوهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَآنِفًا: حَالٌ أَيْ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: مَا الْقَوْلُ الَّذِي ائْتَنَفَهُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ عَنْهُ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آنِفًا، عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ وَابْنُ كَثِيرٍ: عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ. وَقَالَ

الزَّمَخْشَرِيُّ: وَآنِفًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. انْتَهَى. وَقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالسَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: آنِفًا، مَعْنَاهُ: السَّاعَةُ الْمَاضِيَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَّا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى. انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَرْفٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النُّحَاةِ عَدَّهُ فِي الظُّرُوفِ. وَالضَّمِيرُ فِي زادَهُمْ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، كَمَا أَظْهَرَهُ قَوْلُهُ: طَبَعَ اللَّهُ، إِذْ هُوَ مُقَابِلُهُمْ، وَكَمَا هُوَ فِي: وَآتاهُمْ وَالزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ بِزِيَادَةِ التَّفْهِيمِ وَالْأَدِلَّةِ، أَوْ بِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْبَارِ، فَيَزِيدُ الْمَهْدِيُّ لِزِيَادَةِ عِلْمِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانِ بِهِ. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ وَاضْطِرَابِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْجَبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى إِيمَانِهِ وَيَزِيدُ نُصْرَةً فِي دِينِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ: أَيْ أَعْطَاهُمْ، أَيْ جَعَلَهُمْ مُتَّقِينَ لَهُ فَتَقْوَاهُمْ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ. أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّاعَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمُنَافِقِينَ أَيِ الْأَمْرُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِهِ انْتِظَارَ السَّاعَةِ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ يَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرُ مُرَاعًى، لِأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّوَّاسِيُّ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ: أَنْ تَأْتِهِمْ عَلَى الشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، وَهَذَا غَيْرُ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لِأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ. لَكِنْ خُوطِبُوا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ شَكَكْتُمْ فِي إِثْبَاتِهَا فَقَدْ جَاءَ أَعْلَامُهَا فَالشَّكُّ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ الشَّاكِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا جَزَاءُ الشَّرْطِ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُمْ: فَأَنَّى لَهُمْ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، فَكَيْفَ لَهُمْ ذِكْرَاهُمْ، أَيْ تَذَكُّرُهُمْ وَاتِّعَاظُهُمْ؟ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ يَعْنِي لَا تَنْفَعُهُمُ الذِّكْرَى حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وأَنَّى لَهُ الذِّكْرى «1» . فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ، وَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ؟ قُلْتُ: بِإِتْيَانِ السَّاعَةِ اتِّصَالَ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ كَقَوْلِكَ: إِنْ أَكْرَمَنِي زَيْدٌ فَأَنَا حَقِيقٌ بِالْإِكْرَامِ أُكْرِمْهُ. وَقَرَأَ الْجَعْفِيُّ، وَهَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بَغْتَةً، بفتح العين وَشَدِّ التَّاءِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهِيَ صِفَةٌ، وَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْمَصَادِرِ وَلَا فِي الصِّفَاتِ، بَلْ فِي الْأَسْمَاءِ نَحْوُ: الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ اسْمُ جَمَاعَةٍ، وَالسَّرِيَّةُ اسْمُ مَكَانٍ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْحَاجِّ، مِنْ أَصْحَابِ الْأُسْتَاذِ أَبِي علي الشلوبين، فِي (كِتَابِ الْمَصَادِرِ) عَلَى أَبِي عَمْرٍو: أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ بَغَتَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَشْدِيدٍ، كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ فِيمَا تَقَدَّمَ. انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي تغليظ الرواية.

_ (1) سورة الفجر: 89/ 23. [.....]

فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها: أَيْ عَلَامَاتُهَا، فَيَنْبَغِي الِاسْتِعْدَادُ لَهَا. وَمِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ» . وَقَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَكَفَرَسَيْ رِهَانٍ» . وَقِيلَ: مِنْهَا الدُّخَانُ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَثْرَةُ الْمَالِ، وَالتِّجَارَةِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ، وَقِلَّةِ الْكِرَامِ، وَكَثْرَةِ اللِّئَامِ. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: فَكَيْفَ لَهُمُ الذِّكْرَى وَالْعَمَلُ بِهَا إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ؟ أَيْ قَدْ فَاتَهَا ذَلِكَ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفًا، أَيْ: فَأَنَّى لَهُمُ الْخَلَاصُ إِذَا جَاءَتْهُمُ الذِّكْرَى بِمَا كَانُوا يُخْبَرُونَ بِهِ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ بِتَوَاصُلِهِ بِالْعَذَابِ؟ ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: دُمْ عَلَى عَمَلِكَ بِتَوْحِيدٍ. وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْعِلْمُ وَالنَّظَرُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْإِقْرَارِ. وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ، إِذْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَمَعَ غَيْرِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ. مُتَقَلَّبَكُمْ: مُتَصَرَّفَكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا. وَمَثْواكُمْ: إِقَامَتَكُمْ فِي قُبُورِكُمْ وَفِي آخِرَتِكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَمَثْوَاكُمْ: إِقَامَتَكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. مُتَقَلَّبَكُمْ: تَصَرُّفَكُمْ فِي يَقَظَتِكُمْ، وَمَثْوَاكُمْ: مَنَامَكُمْ. وَقِيلَ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي مَعَائِشِكُمْ وَمَتَاجِرِكُمْ، وَمَثْوَاكُمْ حَيْثُ تُسْتَفَزُّونَ مِنْ مَنَازِلِكُمْ. وَقِيلَ: مُتَقَلَّبَكُمْ بِالتَّاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالنُّونِ. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ، طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ، فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. كَانَ الْمُؤْمِنُونَ حَرِيصِينَ عَلَى ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَتَمَنِّي قَتْلِ الْعَدُوِّ، وَكَانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْوَحْيِ، وَيَسْتَوْحِشُونَ إِذَا أَبْطَأَ. وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ بَابًا وَمَضْرُوبَةً لَا يُتَعَدَّى. فَمَدَحَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِهِمْ إِنْزَالَ سُورَةٍ، وَالْمَعْنَى تَتَضَمَّنُ أَمْرَنَا بِمُجَاهَدَةِ

الْعَدُوِّ، وَفَضْحِ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ظَانِّي ذَلِكَ هُمْ خُلَّصٌ فِي إِيمَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَدَّعُونَ الْحِرْصَ عَلَى الْجِهَادِ، وَيَتَمَنَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فِي مَعْنَى الْجِهَادِ. فَإِذا أُنْزِلَتْ، وَأُمِرُوا فِيهَا بما ثمنوا وَحَرَصُوا عَلَيْهِ، كَاعُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَسَقَطُوا فِي أَيْدِيهِمْ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ «1» . انْتَهَى وَفِيهِ تَخْوِيفٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ ولَوْلا: بِمَعْنَى هَلَّا وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ: لَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ نُزِّلَتْ، وَهَذَا لَيْسَ بشيء. وقرىء: فَإِذَا نَزَلَتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سُورَةً مُحْكَمَةً، بنصبهما، ومرفوع نزلت بضم، وَسُورَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ هُوَ وَابْنُ عُمَرَ: وَذُكِرَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ. فِيهَا الْقِتالُ وَنَصَبَ. الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَبِنَاءُ وَذُكِرَ لِلْمَفْعُولِ، وَالْقِتَالُ رُفِعَ بِهِ، وَإِحْكَامُهَا كَوْنُهَا لَا تُنْسَخُ. قَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ سُورَةٍ فِيهَا الْقِتَالُ، فَهِيَ مَحْكَمَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، لَا بِخُصُوصِيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ نَسَخَ مَا كَانَ مِنَ الْمُهَادَنَةِ وَالصُّلْحِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مُحْكَمَةٌ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقِيلَ: مُحْكَمَةٌ أُرِيدَتْ مَدْلُولَاتُ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «2» ، فِي جَنْبِ اللَّهِ «3» ، فَضَرْبَ الرِّقابِ. رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ: أَيْ تَشْخَصُ أَبْصَارُهُمْ جُبْنًا وَهَلَعًا. نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ: أَيْ نَظَرًا كَمَا يَنْظُرُ مَنْ أَصَابَتْهُ الْغَشْيَةُ مِنْ أَجْلِ حُلُولِ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ شُخُوصُ الْبَصَرِ إِلَى الرَّسُولِ مِنْ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ. وَقِيلَ: مِنْ خَشْيَةِ الْفَضِيحَةِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يُخَالِفُوا عَنِ الْقِتَالِ افْتَضَحُوا وَبَانَ نِفَاقُهُمْ. وَأَوْلَى لَهُمْ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَأَنَّهُ قَالَ: الْعِقَابُ أَوْلَى لَهُمْ. وَقِيلَ: وَهُمُ الْمَكْرُوهُ، وَأَوْلَى وَزْنُهَا أَفْعَلُ أَوْ أَفْلَعُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْعَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ اسْمٌ يَكُونُ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ لَهُمْ. وَقِيلَ: أَوْلَى مُبْتَدَأٌ، وَلَهُمْ مِنْ صِلَتِهِ وَطَاعَةٌ خَبَرٌ وَكَأَنَّ اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَوْلَى بِهِمْ طَاعَةٌ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الزَّمَخْشَرِيُّ لِإِعْرَابِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَلِيَهُ الْمَكْرُوهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّهُ فِعْلٌ يَكُونُ فَاعِلُهُ مُضْمَرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى. وَأُضْمِرَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: قارب لهم هو،

_ (1) سورة النساء: 4/ 77. (2) سورة طه: 20/ 5. (3) سورة الزمر: 39/ 56.

أَيِ الْهَلَاكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَشْهُورُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ أَوْلَى لَكَ فَقَطْ عَلَى جِهَةِ الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ، لِمَا مَعَهَا مِنَ الْقُوَّةِ، فَيَقُولُ، عَلَى جِهَةِ الزَّجْرِ وَالتَّوَعُّدِ: أَوْلَى لَكَ يَا فُلَانُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «1» . وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَوْلَى لَكَ انْتَهَى. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ مَحْذُوفٌ مِنْهُ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ، إِمَّا الْخَبَرُ وَتَقْدِيرُهُ: أَمْثَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ وَإِمَّا الْمُبْتَدَأُ وَتَقْدِيرُهُ: الْأَمْرُ أَوْ أَمَرْنَا طَاعَةً، أَيِ الْأَمْرُ الْمُرْضِيِّ لِلَّهِ طَاعَةً. وَقِيلَ: هِيَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ، أَيْ قَالُوا طَاعَةً، وَيَشْهَدُ لَهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ يَقُولُونَ: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وَقَوْلُهُمْ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ وَالْخَدِيعَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَاقِفُ عَلَى: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْخَدِيعَةِ. وَقِيلَ: طاعة صفة لسورة، أَيْ فَهِيَ طَاعَةٌ، أَيْ مُطَاعَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِحَيْلُولَةِ الْفَصْلِ لِكَثِيرٍ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ: أَيْ جَدَّ، وَالْعَزْمُ: الْجِدُّ، وَهُوَ لِأَصْحَابِ الْأَمْرِ. وَاسْتُعِيرَ لِلْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «2» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ جَدَّتْ بِهِمُ الْحَرْبُ فَجَدُّوا وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ إِذَا قَوْلُهُ: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ، كَمَا تَقُولُ: إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ، فَلَوْ جِئْتَنِي لَكَسَوْتُكَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ هُوَ أَوْ نَحْوُهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَمَنْ حَمَلَ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ خَدِيعَةً قَدَّرْنَاهُ عَزَمَ الْأَمْرُ، فَاقْفَوْا وَتَقَاضَوْا، وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَأُصَدِّقُ، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فِيمَا زَعَمُوا مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ، أَوْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَوَاطَأَتْ قُلُوبُهُمْ فِيهِ أَلْسِنَتَهُمْ، أَوْ فِي قُلُوبِهِمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ: الْتِفَاتٌ لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أَقْبَلَ بِالْخِطَابِ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى سُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ، وَعَسَى تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي لُغَتِهَا. وَفِي الْقِرَاءَةِ فِيهَا، إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاتِّصَالُ الضَّمِيرِ بِهَا لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبَنُو تَمِيمٍ لَا يُلْحِقُونَ بِهَا الضَّمِيرَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَسَى يَتَّصِلُ بِهَا ضَمِيرُ الرَّفْعِ وَضَمِيرُ النَّصْبِ، وَأَنَّهَا لَا يَتَّصِلُ بِهَا ضَمِيرُ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَسَى أَنْتَ تقوم، وعسى أن أقوم، فدون ما ذكرنا لك تَطْوِيلُ الَّذِي فِيهِ. انْتَهَى. وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا مِنْ نَقَلَةِ الْعَرَبِ ذَكَرَ انْفِصَالَ الضَّمِيرِ بَعْدَ عَسَى، وَفَصَلَ بَيْنَ عَسَى وَخَبَرِهَا بِالشَّرْطِ، وهو أن توليتم.

_ (1) سورة القيامة: 75/ 34. (2) سورة الشورى: 42/ 43.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ، وَمَعْنَاهُ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَيْفَ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ أَلَمْ يَسْفِكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَقَطَّعُوا الْأَرْحَامَ، وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ؟ يُشِيرُ إِلَى مَا جَرَى مِنَ الْفَتْرَةِ بَعْدَ زَمَانِ الرَّسُولِ. وَقَالَ كَعْبٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْكَلْبِيُّ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ، أَيْ أُمُورَ النَّاسِ مِنَ الْوِلَايَةِ وَيَشْهَدُ لَهَا قِرَاءَةُ وُلِّيتُمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَعَلَى هَذَا قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أُمَيَّةَ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» بِضَمِّ التَّاءِ وَالْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَبِهَا قَرَأَ عَلِيٌّ وَأُوَيْسٌ، أَيْ إِنْ وَلَّيْتُكُمْ وِلَايَةَ جَوْرٍ دَخَلْتُمْ إِلَى دُنْيَاهُمْ دُونَ إِمَامِ الْعَدْلِ. وَعَلَى مَعْنَى إِنْ تَوَلَّيْتُمْ بِالتَّعْذِيبِ وَالتَّنْكِيلِ وَإِقْفَالِ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَسِيرَتِهَا مِنَ الْغَارَاتِ وَالثَّبَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَتُهَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنْ تَوَلَّاكُمُ النَّاسُ: وَكَلَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ، وَهُوَ الَّذِي سَبَقَتِ الْآيَاتُ فِيهِ، أَيْ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِي القتال. وأَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِعَدَمِ مَعُونَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا لَمْ تُعِينُوهُمْ قَطَعْتُمْ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فَالْآيَاتُ كُلُّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا التَّوَقُّعُ الَّذِي فِي عَسَى لَيْسَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَرَفَ الْمُنَافِقِينَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: لَنَا عِلْمٌ مِنْ حَيْثُ ضَيَاعُهُمْ. هَلْ يَتَوَقَّعُ مِنْكُمْ إِذَا أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْقِتَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُقَطِّعُوا، بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَأَبُو عَمْرٍو، فِي رِوَايَةٍ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبَانٌ، وَعِصْمَةُ: بِالتَّخْفِيفِ، مُضَارِعُ قَطَعَ وَالْحَسَنُ: وَتَقَطَّعُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ أَرْحَامُكُمْ، لِأَنَّ تَقَطَّعَ لَازِمٌ. أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْضَى الْقُلُوبِ، فَأَصَمَّهُمْ عَنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ لِإِفْسَادِهِمْ وَقَطْعِهِمُ الْأَرْحَامَ، فَمَنَعَهُمْ أَلْطَافَهُ، وَخَذَلَهُمْ حَتَّى عَمُوا. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَجَاءَ التَّرْكِيبُ: فَأَصَمَّهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ فَأَصَمَّ آذَانَهُمْ وَجَاءَ: وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ وَأَعْمَاهُمْ. قِيلَ: لِأَنَّ الْأُذُنَ لَوْ أَصَمَّتْ لَا تَسْمَعُ الْإِبْصَارَ، فَالْعَيْنُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الرُّؤْيَةِ، وَالْأُذُنُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي السَّمْعِ. انْتَهَى. وَلِهَذَا جَاءَ: وَعَلى سَمْعِهِمْ «1» ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ «2» ، وَلَمْ يَأْتِ: وَعَلَى آذَانِهِمْ، وَلَا يَأْتِي: وَجَعَلَ لَكُمُ الْآذَانَ. وَحِينَ ذُكِرَ الْأُذُنُ، نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْوَقْرُ، وَهُوَ دُونُ الصَّمَمِ، كَمَا قَالَ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ «3» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 7. (2) سورة النحل: 16/ 78. (3) سورة فصلت: 41/ 5.

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ: أَيْ يَتَصَفَّحُونَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ وَوَعِيدِ الْعُصَاةِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَوْبِيخِيٌّ وَتَوْقِيفِيٌّ عَلَى مُحَارِبِهِمْ. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها: اسْتِعَارَةٌ لِلَّذِينَ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ، وَأَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةِ لِلتَّقْرِيرِ، وَلَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُقْفَلَةٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا ذِكْرٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْرِيفِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا قُلُوبُ مَنْ ذُكِرَ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ صِفَةِ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا قَاسِيَةٌ. وَأَضَافَ الْأَقْفَالَ إِلَيْهَا، أَيِ الْأَقْفَالُ الْمُخْتَصَّةُ، أَوْ هِيَ أَقْفَالُ الْكُفْرِ الَّتِي اسْتُغْلِقَتْ، فلا تفتح. وقرىء: إِقْفَالُهَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَأَقْفُلُهَا بِالْجَمْعِ عَلَى أَفْعُلٍ. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا عَرَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَتَبَيَّنَ لَهُمْ بِهَذَا الْوَجْهِ فَلَمَّا بَاشَرُوا أَمْرَهُ حَسَدُوهُ، فَارْتَدُّوا عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْهَدْيِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِينَ كَانُوا أَسْلَمُوا، ثُمَّ مَاتَتْ قُلُوبُهُمْ. وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي ضِمْنِ لَفْظِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَوَّلَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّلَ لَهُمْ رُكُوبَ الْعَظَائِمِ، مِنَ السَّوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ، وَقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ جَمِيعًا. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: بِمَعْنَى وَلَا هُمْ مِنَ السَّوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ وَالتَّدَلِّي. وقال غيره: سولهم: زجاهم. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَدِ اشْتَقَّهُ إِلَى آخِرِهِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ السول أصله الهمزة. واختلف الْمَادَّتَانِ، أَوْ عَيْنُ سَوَّلَ وَاوٌ، وَعَيْنُ السُّؤْلِ هَمْزَةٌ وَالسُّولُ لَهُ مَادَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا الهمز، من سأل يسئل وَالثَّانِيَةُ الْوَاوُ، مِنْ سَالَ يُسَالُ. فَإِذَا كَانَ هَكَذَا، فَسَوَّلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْهَمْزِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَالتَّسْوِيلُ أَصْلُهُ مِنَ الْإِرْخَاءِ، وَمِنْهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ «1» . وَالسَّوْلُ: اسْتِرْخَاءُ الْبَطْنِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سَوَّلَ لَهُمْ: أَيْ كَيْدَهُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَمْلى لَهُمْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ، وَجَعَلَ وَعْدَهُ الْكَاذِبَ بِالْبَقَاءِ، كَالْإِبْقَاءِ. وَالْإِبْقَاءُ هُوَ الْبَقَاءُ مَلَاوَةً مِنَ الدَّهْرِ يَمُدُّ لَهُمْ فِي الْآمَالِ وَالْأَمَانِيِّ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ أَمْلَى ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِمْلَاءِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعِيسَى: وَأُمْلِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أُمْهِلُوا وَمُدُّوا فِي عُمْرِهِمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَالْأَعْمَشُ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: وَأُمْلِي بهمزة المتكلم

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 22.

مُضَارِعَ أَمْلَى، أَيْ وَأَنَا أَنْظِرُهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ «1» ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا سَكَنَتْ مِنْهُ الْيَاءُ، كَمَا تَقُولُ فِي يَعِي بِسُكُونِ الْيَاءِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ. وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ كَانُوا يُعِينُونَ الْمُنَافِقِينَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ، وَالْخِلَافِ عَلَيْهِ بِنَصْرِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَالُوا لِلْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَعْضُ الْأَمْرِ: قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ «2» ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: بَعْضُ الْأَمْرِ: التَّكْذِيبُ بِالرَّسُولِ، أَوْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ تَرْكُ الْقِتَالِ مَعَهُ. وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْفَرِيقَيْنِ، الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، لِلْمُشْرِكِينَ: سَنُطِيعُكُمْ فِي التَّكَافُؤِ عَلَى عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَالْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مَعَهُ، وَتَعَيَّنَ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فِي بَعْضِ مَا يَأْسِرُونَ بِهِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ الَّذِي يُهِمُّكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْرَارَهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَانَتْ أَسْرَارُهُمْ كَثِيرَةً. وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: بِكَسْرِهَا: وَهُوَ مَصْدَرٌ قَالُوا ذَلِكَ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَفْشَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ، مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعَانِدِينَ مُكَابِرِينَ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. انْتَهَى. فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ: تَقَدَّمَ شَرْحُ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَمَبْلَغُهُمْ لِأَجْلِ الْقِتَالِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُرْتَدِّينَ، وَمَا يَلْحَقُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى طَوَاعِيَةِ الْكَاذِبِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَتَقَدَّمَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَجَاءَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي معناه التوقيت عَقِبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فَكَيْفَ عِلْمُهُ بِهَا، أَيْ بِإِسْرَارِهِمْ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ؟ وَقِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ مَعَ اللَّهِ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ؟ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَوَفَّاهُمْ، بِأَلِفٍ بَدَلَ التَّاءِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا وَمُضَارِعًا حُذِفَتْ مِنْهُ التَّاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَقْتَ التَّوَفِّي هُوَ عِنْدَ الْمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُتَوَفَّى أَحَدٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ إِلَّا تَضْرِبُ الْمَلَائِكَةُ فِي وَجْهِهِ وَفِي دُبُرِهِ. وَالْمَلَائِكَةُ: مَلَكُ الْمَوْتِ وَالْمَصْرُفُونَ مَعَهُ. وَقِيلَ: هُوَ وَقْتُ الْقِتَالِ نُصْرَةً لِلرَّسُولِ يَضْرِبُ وُجُوهَهُمْ أَنْ يَثْبُتُوا وَأَدْبَارَهُمْ: انهزموا. والملائكة ملائكة النَّصْرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَضْرِبُونَ حَالٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَوَفَّاهُمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. ذلِكَ: أَيْ ذَلِكَ الضَّرْبُ لِلْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ: وَهُوَ الْكُفْرُ، أو

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 178. (2) سورة الحشر: 59/ 11.

كِتْمَانُ بَعْثِ الرَّسُولِ، أَوْ تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ، أَقْوَالٌ. وَالْمُتَّبِعُ الشَّيْءَ هُوَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ ضَرْبَ الْمَلَائِكَةِ وَجْهَهُ. وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ: وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَاتِّبَاعُ دِينِهِ. وَالْكَافِرُ لِلشَّيْءِ مُتَوَلٍّ عَنْهُ، فَنَاسَبَ ضَرْبَ الْمَلَائِكَةِ دُبُرَهُ فَفِي ذَلِكَ مُقَابَلَةُ أَمْرَيْنِ بِأَمْرَيْنِ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ، إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ، إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ، هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ. إِخْرَاجُ أَضْغَانِهِمْ، وَهُوَ حُقُودُهَا: إِبْرَازُهَا لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ لِعَطْفِ الْعِرْفَانِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ. وَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ فِي أَرَيْنَاكَهُمْ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ الِانْفِصَالُ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ تَقْرِيبٌ لِشُهْرَتِهِمْ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ وَعَلَى قَرَابَاتِهِمْ، وَاكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِمَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَبْطَنُوا خِلَافَهُ. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ: كَانُوا يَصْطَلِحُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ أَلْفَاظٍ يُخَاطِبُونَ بِهَا الرَّسُولَ، مِمَّا ظَاهِرُهُ حَسَنٌ وَيَعْنُونَ بِهِ الْقَبِيحَ، وَكَانُوا أَيْضًا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْكَلَامُ يُشْعِرُ بِالِاتِّبَاعِ، وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ عِنْدَ النَّصْرِ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ «1» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ «2» ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ «3» . وَالظَّاهِرُ الْإِرَاءَةُ وَالْمَعْرِفَةُ بِالسِّيمَاءِ، وُجُودُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِلَحْنِ الْقَوْلِ. وَاللَّامُ فِي: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ، لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ: خِطَابٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ، ونبلوا: بالنون والواو

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 10. (2) سورة المنافقون: 63/ 8. (3) سورة الأحزاب: 33/ 13. [.....]

وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْيَاءِ فِيهِنَّ وَأُوَيْسٌ، وَنَبْلَوْا: بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَبِالنُّونِ وَالْأَعْمَشُ: بِإِسْكَانِهَا وَبِالْيَاءِ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَطْعِ، إِعْلَامًا بِأَنَّ ابْتِلَاءَهُ دَائِمٌ. وَمَعْنَى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ: أَيْ نَعْلَمَهُمْ مُجَاهِدِينَ قَدْ خَرَجَ جِهَادُهُمْ إِلَى الْوُجُودِ، وَبِأَنَّ مِسْكَهُمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابُهُمْ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَبَيُّنُ هُدَاهُمْ: مَعْرِفَتُهُمْ بِالرَّسُولِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَوْ مُنَافِقُونَ كَأَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ دَاخَلَ قُلُوبَهُمْ ثُمَّ نَافَقُوا وَالْمُطْعَمُونَ: سُفْرَةُ بَدْرٍ وَتَبَيَّنَ الْهُدَى: وُجُودَهُ عِنْدَ الدَّاعِي إِلَيْهِ، أَوْ مُشَاعَةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَتَبَيَّنَ الْهُدَى مِنْ حَيْثُ كَانَ فِي نَفْسِهِ، أَقْوَالٌ. وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ: أَيِ الَّتِي كَانُوا يَرْجُونَ بِهَا انتفاعا، وأعمالهم الَّتِي كَانُوا يَكِيدُونَ بِهَا الرَّسُولَ وَدِينَ الْإِسْلَامِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: قِيلَ نَزَلَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَسْلَمُوا وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ: قَدْ آثَرْنَاكَ وَجِئْنَاكَ بِنُفُوسِنَا وَأَهْلِنَا، كَأَنَّهُمْ مَنُّوا بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «1» ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بِالْمَنِّ بِالْإِسْلَامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَعَنْهُ: بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَعَنْ حُذَيْفَةَ: بِالْكَبَائِرِ، وَقِيلَ: بِالْعُجْبِ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ، كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: بِعِصْيَانِكُمْ لِلرَّسُولِ. وَقِيلَ: أَعْمَالَكُمْ: صَدَقَاتِكُمْ بالمن والأذى. ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ: عَامٌّ فِي الْمُوجِبِ لِانْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ، وَهُوَ وَفَاتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْقَلِيبِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن أَبِيهِ قَالَ: وَكَانَتْ لَهُ أَفْعَالُ بِرٍّ، فَمَا حَالُهُ؟ فَقَالَ: «فِي النَّارِ» ، فَبَكَى عَدِيٌّ وَوَلَّى، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «أَبِي وَأَبُوكَ وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ فِي النَّارِ» ، فَنَزَلَتْ. فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ: وَهُوَ الصُّلْحُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَدْعُوا، مُضَارِعَ دَعَا وَالسُّلَمِيُّ: بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ تَفْتَرُوا وَالْجُمْهُورُ: إِلَى السَّلْمِ، بِفَتْحِ السِّينِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَعِيسَى، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّلَامِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «2» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء: وَلَا تَدْعُوا مِنِ ادَّعَى الْقَوْمُ، وَتَدَاعَوْا إِذَا ادَّعَوْا، نَحْوُ قَوْلِكَ: ارْتَمَوُا الصَّيْدَ وَتَرَامَوْا. انْتَهَى. وَالتِّلَاوَةُ بِغَيْرِ لَا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ التِّلَاوَةِ فَيَقُولُ: وقرىء: وَتَدْعُوا مَعْطُوفٌ عَلَى تَهِنُوا، فَهُوَ مَجْزُومٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا بِإِضْمَارِ إِنْ. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: أَيِ الْأَعْلَيُونَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَكَذَا: وَاللَّهُ مَعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يكونا جملتي استئناف،

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 17. (2) سورة البقرة: 2/ 208.

أَخْبَرَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِمَغِيبٍ أَبْرَزَهُ الْوُجُودُ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى رُتْبَةٍ أَعْلَى مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ كَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَهُمْ. وَلَنْ يَتِرَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَنْ يَظْلِمَكُمْ وَقِيلَ: لَنْ يُعَرِّيَكُمْ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ وقيل: ولين يُنْقِصَكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَنْ يَتِرَكُمْ: مِنْ وَتَرْتَ الرَّجُلَ، إِذَا قَتَلْتَ لَهُ قَتِيلًا مِنْ وَلَدٍ أَوْ أَخٍ أَوْ حَمِيمٍ أَوْ قَرِيبٍ قَالَ: أَوْ ذَهَبْتَ بِمَالِهِ قَالَ: أَوْ حَرْبَتِهِ، وَحَقِيقَتُهُ أَفْرَدْتُهُ مِنْ قَرِيبِهِ أَوْ مَالِهِ مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ. فَشَبَّهَ إِضَاعَةَ عَمَلِ الْعَامِلِ وَتَعْطِيلِ ثَوَابِهِ بِوَتْرِ الْوَاتِرِ، وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ، أَيْ أَفْرَدَ عَنْهُمَا قَتْلًا وَنَهْبًا. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ: وَهُوَ تَحْقِيرٌ لِأَثَرِ الدُّنْيَا، أَيْ فَلَا تَهِنُوا فِي الْجِهَادِ. وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِذَلِكَ، بِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا فِيهَا مِنَ الطَّاعَةِ وَأَمْرِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ بِذَلِكَ. يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ: أَيْ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ مِنَ الإيمان والتقوى، وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ، إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ رُبْعَ الْعُشْرِ، فَطَيِّبُوا أَنْفُسَكُمْ. وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، بَلْ يُرْجِعُ ثَوَابَ إِنْفَاقِكُمْ إِلَيْكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لَهَا حَقِيقَةً، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِإِعْطَائِهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يَسْأَلُكُمْ لِلرَّسُولِ، أَيْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «1» . إِنْ يَسْئَلْكُمُوها جَمِيعًا فَيُحْفِكُمْ: أَيْ يُبَالِغُ فِي الْإِلْحَاحِ. تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ: أَيْ تَطْعَنُونَ عَلَى الرَّسُولِ وَتَضِيقُ صُدُورُكُمْ كَذَلِكَ، وَتُخْفُونَ دَيْنًا يَذْهَبُ بِأَمْوَالِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى الرَّسُولِ، أَوْ إِلَى الْبُخْلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَيُخْرِجُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بِمَعْنَى: وَهُوَ يُخْرِجُ. وَحَكَاهَا أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ عِيسَى وَفِي اللَّوَامِحِ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَتَخْرُجُ، بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الرَّاءِ وَالْجِيمِ أَضْغَانُكُمْ: بِالرَّفْعِ، بِمَعْنَى: وَهُوَ يَخْرُجُ أَوْ سَيَخْرُجُ أَضْغَانُكُمْ، رُفِعَ بِفِعْلِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَيُّوبُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَالْيَمَانِيُّ: وَتَخْرُجُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مَفْتُوحَةً أَضْغَانُكُمْ: رُفِعَ بِهِ وَيَعْقُوبُ: وَنُخْرِجُ، بِالنُّونِ أَضْغَانُكُمْ: رَفْعًا، وهي مروية

_ (1) سورة ص: 38/ 86.

عَنْ عِيسَى، إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْجِيمَ بِإِضْمَارِ أَنْ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أَيْ يَكُفُّ بُخْلَكُمْ وَإِخْرَاجَ أَضْغَانِكُمْ. وَهَذَا الَّذِي خِيفَ أَنْ يَعْتَرِيَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ الَّذِي تَقَرَّبَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى قَتْلِهِ حِينَ قَالَهُ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَكْثَرَ عَلَيْنَا وَطَلَبَ مِنَّا الْأَمْوَالَ. هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ: كرر هاء التَّنْبِيهَ تَوْكِيدًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَؤُلَاءِ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِينَ صِلَتُهُ تُدْعَوْنَ، أَيْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تُدْعَوْنَ، أَوْ أَنْتُمْ يَا مُخَاطَبُونَ هَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفُونَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَصْفَهُمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا وَصْفُنَا فَقِيلَ: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَكَوْنُ هَؤُلَاءِ مَوْصُولًا إِذَا تَقَدَّمَهَا مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ مَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِاخْتِلَافٍ. فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: لِلْغَزْوِ، وَقِيلَ: الزَّكَاةُ، وَاللَّفْظُ أَعَمُّ. وَمَنْ يَبْخَلْ: أَيْ بِالصَّدَقَةِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ: أَيْ لَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ لِغَيْرِهِ. وَبَخِلَ يَتَعَدَّى بِعَلَى وَبِعَنْ. يُقَالُ: بَخِلْتُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ وَكَأَنَّهُمَا إِذَا عُدِّيَا بِعَنْ ضُمِنَا مَعْنَى الْإِمْسَاكِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمْسَكْتُ عَنْهُ بِالْبُخْلِ. وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ: أَيِ الْغَنِيُّ مُطْلَقًا، إِذْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْحَاجَاتُ. وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ مُطْلَقًا، لِافْتِقَارِكُمْ إِلَى مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا: عَطْفٌ عَلَى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا، أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا، أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ: أَيْ يَخْلُقْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ رَاغِبِينَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، غَيْرَ مُتَوَلِّينَ عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ «1» . وَتَعْيِينُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَأَنَّهُمُ الْأَنْصَارُ، أَوِ التَّابِعُونَ، أَوْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَوْ كِنْدَةُ وَالنَّخَعُ، أَوِ الْعَجَمُ، أَوْ فَارِسُ وَالرُّومُ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ، أَقْوَالٌ. وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ، أَوْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَوْلَانِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ هَذَا، وَكَانَ سَلْمَانُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَقَالَ: «قَوْمُ هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ» . وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ، وَجَبَ الْمَصِيرُ فِي تَعْيِينِ مَا انْبَهَمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَوْماً غَيْرَكُمْ إِلَى تَعْيِينِ الرَّسُولِ. ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ: أَيْ فِي الْخِلَافِ وَالتَّوَلِّي وَالْبُخْلِ.

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 19.

سورة الفتح

سورة الفتح [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)

ظَفِرَ بِالشَّيْءِ: غَلَبَ عَلَيْهِ، وَأَظْفَرَهُ: غَلَبَهُ. الْمَعَرَّةُ: الْمَكْرُوهُ وَالْمَشَقَّةُ اللَّاصِقَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُرِّ وَالْعُرَّةِ، وَهُوَ الْجَرَبُ الصَّعْبُ اللَّازِمُ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَذِي الْعُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وَهُوَ رَاتِعُ الشَّطَءُ: الْفَرَاخُ، أَشْطَأَ الزَّرْعُ: أَفْرَخَ، وَالشَّجَرَةُ: أَخْرَجَتْ غُصُونَهَا. آزَرَ: سَاوَى طولا. قال الشاعر: بمخيبة قَدْ آزَرَ الضَّالَّ نَبْتُهَا ... بِجَرِّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ أَيْ سَاوَى نَبْتَهَا الضَّالُّ طُولًا، وَهُوَ شَجَرٌ، وَوَزْنُهُ أَفْعَلَ لِقَوْلِهِمْ فِي الْمُضَارِعِ: يُوزِرُ.

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَلَعَلَّ بَعْضًا مِنْهَا نَزَلَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِطَرِيقِ مُنْصَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَةِ، سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَهِيَ تُعَدُّ فِي الْمَدَنِيِّ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا «1» الآية، وهي خِطَابٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَخْبَرَ رَسُولَهُ بِالْفَتْحِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا الْفَتْحِ حَصَلَ الِاسْتِبْدَالُ، وَآمَنَ كُلُّ مَنْ كَانَ بِهَا، وَصَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إِيمَانٍ. وَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، تَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا وَدِينُهُ حق، مَا صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ. فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَضَافَ عَزَّ وَجَلَّ الْفَتْحَ إِلَى نَفْسِهِ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا بِكَثْرَةِ عَدَدٍ وَلَا عُدَدٍ، وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُبِينٌ، مُظْهِرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الفتح هو فتح مكة. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِآخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ لَمَّا قَالَ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ «2» الْآيَةَ، بَيَّنَ أَنَّهُ فَتَحَ لَهُمْ مَكَّةَ، وَغَنِمُوا وَحَصَلَ لَهُمْ أَضْعَافُ مَا أَنْفَقُوا وَلَوْ بَخِلُوا، لَضَاعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ بُخْلُهُمْ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ «3» ، بَيَّنَ بُرْهَانَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْأَعْلَيْنِ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «4» ، كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ حَيْثُ لَمْ يَلْحَقْهُمْ وَهَنٌ، وَلَا دَعُوا إِلَى صُلْحٍ، بَلْ أَتَى صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ مُسْتَأْمِنِينَ مُسْتَسْلِمِينَ مُسَلِّمِينَ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْبُشْرَى بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَكَوْنُ هَذَا الْفَتْحِ هُوَ فَتْحَ مَكَّةَ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَالَهُ: السُّدِّيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى. وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قتال

_ (1) سورة محمد: 47/ 38. (2) سورة محمد: 47/ 38. (3) سورة محمد: 47/ 35. (4) سورة محمد: 47/ 35.

شَدِيدٌ، وَلَكِنْ تَرَامٍ مِنَ الْقَوْمِ بِحِجَارَةٍ وَسِهَامٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَمَوُا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ دِيَارَهُمْ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى سَأَلُوهُ الصُّلْحَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ، وَأَطْعَمُوا كُلَّ خَيْبَرَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، اخْتَلَطَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَمِعُوا كَلَامَهُمْ، وَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَأَسْلَمَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَثُرَ بِهِمْ سَوَادُ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَمَا مَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ إِلَّا وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَ رَجُلٌ مُنْصَرَفَهُمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ: مَا هَذَا الْفَتْحُ؟ لَقَدْ صَدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ، قَدْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ عَنْ بِلَادِكُمْ بِالرَّاحِ، وَيَسْأَلُونَكُمُ الْقَضِيَّةَ، وَيَرْغَبُوا إِلَيْكُمْ فِي الْأَمَانِ، وَرَأَوْا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا» . وَكَانَ فِي فَتْحِهَا آيَةٌ عَظِيمَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ نُزِحَ مَاؤُهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا قَطْرَةٌ، فَتَمَضْمَضَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَجَّهُ فِيهَا، فَدَرَّتْ بِالْمَاءِ حَتَّى شَرِبَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ مَعَهُ. وَقِيلَ: فَجَاشَ الْمَاءُ حَتَّى امْتَلَأَتْ، وَلَمْ يَنْفَدْ مَاؤُهَا بَعْدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ فَتْحًا، وَقَدْ أُحْصِرُوا فَنَحَرُوا وَحَلَقُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ؟ قُلْتُ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ، فَلَمَّا طَلَبُوهَا وَتَمَّتْ كَانَ فَتْحًا مبنيا. انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ اتَّفَقَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَهُوَ الْفَتْحُ الْأَعْظَمُ، قَالَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَفِيهِ اسْتُقْبِلَ فَتْحُ خَيْبَرَ وَامْتَلَأَتْ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا، وَلَمْ يَفْتَحْهَا إِلَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ. وَفِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، إِذِ النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقِيلَ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالُوا: أَوْحَى اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَرْجُفُ، فَوَجَدْنَا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ، قَرَأَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ الله عنه: أو فتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ» . فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَتْحُ: حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَكَانَ الصُّلْحُ مِنَ الْفَتْحِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَتَنَاوَلَ الْفَتْحَيْنِ: الْحُدَيْبِيَةَ وَمَكَّةَ. وَقِيلَ: فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَالنُّبُوَّةِ وَالدَّعْوَةِ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ، وَلَا فَتْحَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ، وَهُوَ رَأْسُ الْفُتُوحِ كُلِّهَا، إِذْ لَا فَتْحَ مِنْ فُتُوحِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَهُ وَمُتَشَعِّبٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً بَيِّنًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ

تَدْخُلَهَا أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ مِنْ قَابِلَ، لِيَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنَ الْفُتَاحَةِ، وَهِيَ الْحُكُومَةُ، وَكَذَا عَنْ قَتَادَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جُعِلَ فَتْحُ مَكَّةَ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ؟ قُلْتُ: لَمْ يُجْعَلْ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَكِنْ لِاجْتِمَاعِ مَا عَدَّدَ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ: الْمَغْفِرَةُ، وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَنَصَرْنَاكَ عَلَى عَدُوِّكَ، لِنَجْمَعَ لَكَ بَيْنَ عِزِّ الدَّارَيْنِ وَأَغْرَاضِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَتْحُ مَكَّةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ جِهَادٌ لِلْعَدُوِّ، وَسَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ وَالثَّوَابِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ بِالْبَلَدِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، بِحَرْبٍ أَوْ بِغَيْرِ حَرْبٍ، لِأَنَّهُ مُنْغَلِقٌ مَا لَمْ يَظْفَرْ، فَإِذَا ظَفِرَ بِهِ وَحَصَلَ فِي الْيَدِ فَقَدْ فَتَحَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُرَادُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ فَتَحَ لَكَ لِكَيْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لغفرانه لك، فكأنها لام صَيْرُورَةً، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا» . انْتَهَى. وَرُدَّ بِأَنَّ لَامَ الْقَسَمِ لَا تُكْسَرُ وَلَا يُنْصَبُ بها، ولو جاز هذا بِحَالٍ لَجَازَ: لِيَقُومَ زَيْدٌ، فِي مَعْنَى: لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ. انْتَهَى. أَمَّا الْكَسْرُ، فَقَدْ عُلِّلَ بِأَنَّهُ شُبِّهَتْ تَشْبِيهًا بِلَامِ كَيْ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ هَذَا نَصْبًا، لَكِنَّهَا الْحَرَكَةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ وُجُودِ النُّونِ، بَقِيَتْ بَعْدَ حَذْفِهَا دَلَالَةً عَلَى الْحَذْفِ، وَبَعْدَ هَذَا، فَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَا يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِهِمْ: وَاللَّهِ لِيَقُومَ، وَلَا بِاللَّهِ لِيَخْرُجَ زَيْدٌ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَحَذْفِ النُّونِ، وَبَقَاءِ الْفِعْلِ مَفْتُوحًا. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، بِإِظْهَارِكَ عَلَى عَدُوِّكَ وَرِضَاهُ عَنْكَ، وَبِفَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَخَيْبَرَ نَصْراً عَزِيزاً، أَيْ بِالظَّفَرِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِالْغَنِيمَةِ وَالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ نَصْرًا فِيهِ عِزٌّ وَمَنَعَةٌ. وَأُسْنِدَتِ الْعِزَّةُ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَالْعَزِيزُ حَقِيقَةً هُوَ الْمَنْصُورُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُعِيدَ لَفْظُ اللَّهِ فِي: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً، لَمَّا بَعُدَ عَنْ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، إِذْ فِي الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَلِيَكُونَ الْمَبْدَأُ مُسْنَدًا إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَالْمُنْتَهَى كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْغُفْرَانُ وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنَّصْرِ يَشْتَرِكُ فِي إِطْلَاقِهَا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «2» وَكَانَ الْفَتْحُ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسْنَدَهُ تَعَالَى إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَسْنَدَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْأَرْبَعَةَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ، وَاشْتَرَكَتِ الْخَمْسَةُ فِي الْخِطَابِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَأْنِيسًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ. وَلَمْ يَأْتِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الْمُخَاطَبِ مَا لَا يَكُونُ فِي الِاسْمِ الظَّاهِرِ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ: وَهِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالسُّكُونُ قِيلَ: بِسَبَبِ الصلح والأمن،

_ (1) سورة النساء: 4/ 48. (2) سورة الصافات: 37/ 172.

فَيَعْرِفُونَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِتَيْسِيرِ الْأَمْنِ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالْهُدْنَةِ بَعْدَ الْقِتَالِ، فَيَزْدَادُوا يَقِينًا إِلَى يَقِينِهِمْ. وَقِيلَ: السَّكِينَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من الشَّرَائِعِ، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا بِهَا إِلَى إِيمَانِهِمْ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْوَقَارُ وَالْعَظَمَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ لِيَتَرَاحَمُوا، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: إِشَارَةٌ إِلَى تَسْلِيمِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى، يَنْصُرُ مَنْ شَاءَ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَمِنْ جُنْدِهِ السَّكِينَةُ ثَبَّتَتْ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ. لِيُدْخِلَ: هَذِهِ اللَّامُ تَتَعَلَّقُ، قِيلَ: بإنا فَتَحْنَا لَكَ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا. فَإِنْ قِيلَ: وَيُعَذِّبَ عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَالِازْدِيَادُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ، أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ ذُكِرَ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا لِلْمُؤْمِنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بِسَبَبِ ازْدِيَادِكُمْ فِي الْإِيمَانِ يُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ وَيُعَذِّبُ الْكُفَّارَ بِأَيْدِيكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ: أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُسَلِّطُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ. وَمِنْ قَضَيَّتِهِ أَنْ صَلَحَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِنْ وَعَدَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَضَى ذَلِكَ لِيَعْرِفَ الْمُؤْمِنُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيهِ وَيَشْكُرُونَ، فَيَسْتَحِقُّوا الثَّوَابَ، فَيُثِيبَهُمْ، وَيُعَذِّبَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لِمَا غَاظَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَكَرِهُوهُ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. كَانَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِي بِتِلْكَ الْجُنُودِ مَنْ شَاءَ، فَيَقْبَلُ الْخَيْرَ مَنْ قَضَى لَهُ بِالْخَيْرِ، وَالشَّرَّ مَنْ قَضَى لَهُ بِالشَّرِّ. لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ جَنَّاتٍ، وَيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ. فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِيَبْتَلِي هَذِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالِابْتِلَاءِ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَيُكَفِّرَ: مَعْطُوفٌ عَلَى لِيُدْخِلَ، وَهُوَ تَرْتِيبٌ فِي الذِّكْرِ لَا تَرْتِيبٌ فِي الْوُقُوعِ. وَكَانَ التَّبْشِيرُ بدخول الجنة أهم، فبدىء بِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَكْثَرَ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ من المشركين، بدىء بِذِكْرِهِمْ فِي التَّعْذِيبِ. الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى مَا يَسُوءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ وَلَا يُنْصَرُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وبَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً «1» . وَقِيلَ: ظَنَّ السَّوْءِ: مَا يَسُوءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِيصَالِ الْهُمُومِ إِلَيْهِمْ، بِسَبَبِ عُلُوِّ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَتَسْلِيطِ رَسُولِهِ قَتْلًا وَأَسْرًا وَنَهْبًا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْلِي عَلَيْهِمُ السَّوْءُ وَيُحِيطُ بِهِمْ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا حَقِيقَةً، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ دُعَاءً عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ براءة. وقيل:

_ (1) سورة الفتح: 48/ 12.

ظَنَّ السَّوْءِ يَشْمَلُ ظُنُونَهُمُ الْفَاسِدَةَ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ «1» ، وَمِنِ انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَشْيَاءَ وَعِلْمِهِ بِهَا كَمَا قَالَ: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً «2» بُطْلَانُ خَلْقِ الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «3» . وَقِيلَ: السَّوْءِ هُنَا كَمَا تَقُولُ: هَذَا فِعْلُ سَوْءٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: السُّوءُ فِيهِمَا بِضَمِّ السِّينِ. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً: لَمَّا تَقَدَّمَ تَعْذِيبُ الْكُفَّارِ وَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ، نَاسَبَ ذِكْرَ الْعِزَّةِ. وَلَمَّا وَعَدَ تَعَالَى بِمُغَيَّبَاتٍ، نَاسَبَ ذِكْرَ الْعِلْمِ، وَقَرَنَ بِاللَّفْظَتَيْنِ ذِكْرَ جنود السموات وَالْأَرْضِ فَمِنْهَا السَّكِينَةُ الَّتِي لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنِّقْمَةُ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ جُنُودِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ، وَالْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِتُؤْمِنُوا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الزَّايِ خَفِيفٌ وَهُوَ أَيْضًا، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الزَّايَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْيَمَانِيُّ: بِزَاءَيْنِ مِنَ الْعِزَّةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَعَزَّرُوهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمَائِرَ عَائِدَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ يَجْعَلُهَا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهَا لِلَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ يَلِيقُ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ: هِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَبَيْعَةُ الشَّجَرَةِ، حِينَ أَخَذَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْأُهْبَةَ لِقِتَالِ قُرَيْشٍ، حِينَ أُرْجِفَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَدْ بَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مُعْتَمِرًا لَا مُحَارِبًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ الْمُتَنَاهِي فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ إِلَى أَقْصَى الْجَهْدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَغَيْرُهُ: بَايَعْنَا عَلَى الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ: عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ. وَالْمُبَايَعَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ البيع، لأن اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «4» ، وَبَقِيَ اسْمُ الْبَيْعَةِ بَعْدُ عَلَى مُعَاهَدَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ. إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أَيْ صَفْقَتُهُمْ، إِنَّمَا يُمْضِيهَا وَيَمْنَحُ الثَّمَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَرَأَ تَمَّامُ بْنُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّمَا يُبَايِعُونَ لِلَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِوَجْهِهِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَكَ لِلَّهِ. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْيَدُ هنا النِّعْمَةُ، أَيْ نِعْمَةُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ، لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ مَحَاسِنِهَا، فَوْقَ أَيْدِيهِمُ الَّتِي مَدُّوهَا لِبَيْعَتِكَ. وَقِيلَ: قُوَّةُ اللَّهِ فَوْقَ

_ (1) سورة يونس: 10/ 66. (2) سورة فصلت: 41/ 22. (3) سورة ص: 38/ 27. [.....] (4) سورة التوبة: 9/ 111.

قُوَاهُمْ فِي نَصْرِكَ وَنَصْرِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا قَالَ: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، أَكَّدَ تَأْكِيدًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ فَقَالَ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ يَدَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي تَعْلُو يَدَيِ الْمُبَايِعِينَ، هِيَ يَدُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْجَوَارِحِ وَعَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: تَقْرِيرُ أَنَّ عَقْدَ الْمِيثَاقِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَعَقْدِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» ، وفَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، فَلَا يَعُودُ ضَرَرُ نَكْثِهِ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَنْكُثُ، بِكَسْرِ الْكَافِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا نَكَثَ أَحَدٌ مِنَّا الْبَيْعَةَ إِلَّا جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ مُنَافِقًا، اخْتَبَأَ تَحْتَ إِبِطِ بَعِيرِهِ، وَلَمْ يَسِرْ مَعَ الْقَوْمِ فَحُرِمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلَيْهُ اللَّهَ: بنصب الهاء. وقرىء: بِمَا عَهِدَ ثُلَاثِيًّا. وَقَرَأَ الْحُمَيْدِيُّ: فَسَيُؤْتِيهِ بِالْيَاءِ وَالْحَرَمِيَّانِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنُّونِ. أَجْراً عَظِيماً: وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَأَوْ فِي لُغَةِ تِهَامَةَ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَدَخَلَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ: هُمْ جُهَيْنَةُ، وَمُزَيْنَةُ، وَغِفَارٌ، وَأَشْجَعُ، وَالدِّيلُ، وَأَسْلَمُ. اسْتَنْفَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا، لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذَرًا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبٍ، أَوْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ وَأَحْرَمَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يريد حربا، ورأى

_ (1) سورة النساء: 4/ 80.

أُولَئِكَ الْأَعْرَابُ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ عَدُوًّا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَكِنَانَةَ وَالْقَبَائِلِ وَالْمُجَاوِرِينَ بمكة، وهو الْأَحَابِيشُ وَلَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ تَمَكَّنَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَقَعَدُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخَلَّفُوا وَقَالُوا: لَنْ يَرْجِعَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَصْحَابُهُ مِنْ هَذِهِ السَّفْرَةِ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَ رسوله صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ كَذَلِكَ. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا: وَهَذَا اعْتِلَالٌ مِنْهُمْ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ غَيْرُهُمْ، وبدأوا بِذِكْرِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ بِهَا قَوَامَ الْعَيْشِ وَعَطَفُوا الْأَهْلَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى حِفْظِ الْأَهْلِ أَكْثَرَ مِنْ حفظ المال. وقرىء: شَغَلَتْنَا، بِتَشْدِيدِ الْغَيْنِ، حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نُوحِ بْنِ بَاذَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ. وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ عَنِ الرسول كَانَ مَعْصِيَةً، سَأَلُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمَقُولَتَيْنِ مِنَ الشُّغْلِ وَطَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: شَغَلَتْنَا، كَذِبٌ وَطَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ: خُبْثٌ مِنْهُمْ وَإِظْهَارٌ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ عَاصُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: فَاسْتَغْفِرْ لَنَا، يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مُصَانَعَةً مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَلَا نَدَمٍ. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ: أَيْ مَنْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ؟ إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا: مِنْ قَتْلٍ أَوْ هَزِيمَةٍ، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً، مِنْ ظَفَرٍ وَغَنِيمَةٍ؟ أَيْ هُوَ تَعَالَى الْمُتَصَرِّفُ فِيكُمْ، وَلَيْسَ حِفْظُكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِمَانِعٍ مِنْ ضَيَاعِهَا إِذَا أَرَادَهُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضَرًّا، بِفَتْحِ الضَّادِ وَالْأَخَوَانِ: بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُمُ الْعِلَّةَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَهِيَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَهْلِ، وَكَيْفَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي قَوْلِهِ: مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ «1» . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَى أَهْلِهِمْ، بِغَيْرِ يَاءٍ وَزُيِّنَ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ غَيْرُهُ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ التَّزْيِينُ مَجَازًا. وقرىء: وَزَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ: احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّنَّ السَّابِقَ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنْ لَا يَنْقَلِبُوا، وَيَكُونَ قَدْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ الظَّنُّ وَأَحْزَنَهُمْ حَيْثُ أَخْلَفَ ظَنَّهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ لِأَجْلِ الْعَطْفِ، أَيْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْلِفُ وَعْدَهُ فِي نَصْرِ دِينِهِ وَإِعْزَازِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بُوراً: هَلْكَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْهُلْكِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ الْمُفْرَدُ الْمُذَكَّرُ، كَقَوْلِ ابْنِ الزبعري:

_ (1) سورة المائدة: 5/ 89.

يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِيَ ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ وَالْمُؤَنَّثُ، حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ: امْرَأَةٌ بُورٌ، وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ بَائِرٍ، كَحَائِلٍ، وَحُولٍ هَذَا في المعتل، وباذل وبذل فِي الصَّحِيحِ، وَفُسِّرَ بُورًا: بِفَاسِدِينَ هَلْكَى. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَشْرَارٌ. وَاحْتَمَلَ وَكُنْتُمْ، أَيْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَصِرْتُمْ بِذَلِكَ الظَّنِّ، وَأَنْ يَكُونَ وَكُنْتُمْ عَلَى بَابِهَا، أَيْ وَكُنْتُمْ فِي الْأَصْلِ قَوْمًا فَاسِدِينَ، أَيِ الْهَلَاكُ سَابِقٌ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ بُورٌ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ جَزَاؤُهُ السَّعِيرُ. وَلَمَّا كَانُوا لَيْسُوا مُجَاهِدِينَ بِالْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ اعْتَذَرُوا وَطَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ، مَزَجَ وَعِيدَهُمْ وَتَوْبِيخَهُمْ بِبَعْضِ الْإِمْهَالِ وَالتَّرْجِئَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُدَبِّرُهُ تَدْبِيرَ قَادِرٍ حَكِيمٍ، فَيَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَحِكْمَتُهُ الْمَغْفِرَةُ لِلتَّائِبِ وَتَعْذِيبُ الْمُصِرِّ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، رَحْمَتُهُ سَابِقَةٌ لِرَحْمَتِهِ، حَيْثُ يُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ. سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ: رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يغزو خَيْبَرَ، وَوَعَدَهُ بِفَتْحِهَا، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْمُخَلَّفِينَ إِذَا رَأَوْا مَسِيرَهُ إِلَى خَيْبَرَ، وَهُمْ عَدُوٌّ مُسْتَضْعَفٌ، طَلَبُوا الْكَوْنَ مَعَهُ رَغْبَةً فِي عَرَضِ الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَكَانَ كَذَلِكَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ: مَعْنَاهُ أَنْ يُغَيِّرُوا وَعْدَهُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِغَنِيمَةِ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَعَدَهُمْ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنْ مَغَانِمِ مَكَّةَ خَيْبَرَ، إِذَا قَفَلُوا مُوَادِعِينَ لَا يُصِيبُونَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلامَ اللَّهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «1» ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرْجِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من تَبُوكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ غَزَتْ مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفَضَّلَهُمْ بَعْدُ عَلَى تَمِيمٍ وَغَطَفَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَلَامَ اللَّهِ، بِأَلِفٍ وَالْأَخَوَانِ: كَلِمَ اللَّهِ، جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَنْ تَتَّبِعُونا، وَأَتَى بِصِيغَةِ لَنْ، وَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، أَيْ لَا يَتِمُّ لَكُمْ ذَلِكَ، إِذْ قَدْ وَعَدَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَطْ. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ: يُرِيدُ وَعْدَهُ قَبْلَ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَا. بَلْ تَحْسُدُونَنا: أَيْ يَعِزُّ عَلَيْكُمْ أَنْ نُصِيبَ مَغْنَمًا مَعَكُمْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ أَنْ نُقَاسِمَكُمْ فِيمَا تَغْنَمُونَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ السِّينِ، ثُمَّ رَدَّ عليهم تعالى

_ (1) سورة التوبة: 9/ 83.

كَلَامَهُمْ هَذَا فَقَالَ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَظَاهِرُهُ لَيْسَ لَهُمْ فِكْرٌ إِلَّا فِيهَا، كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» . وَالْإِضْرَابُ الْأَوَّلُ رَدُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمِ اللَّهِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوهُمْ وَإِثْبَاتَ الْحَسَدِ. وَالثَّانِي، إِضْرَابٌ عَنْ وَصْفِهِمْ بِإِضَافَةِ الْحَسَدِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْهُ، وَهُوَ الْجَهْلُ وَقِلَّةُ الْفِقْهِ. قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ: أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ. وَأَبْهَمَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: هُمْ هَوَازِنُ وَمَنْ حَارَبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ. وَقَالَ كَعْبٌ: الرُّومُ الَّذِينَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ عَامَ تَبُوكَ، وَالَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: أَهْلُ الرِّدَّةِ، وَبَنُو حَنِيفَةَ بِالْيَمَامَةِ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا مَضَى، وَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَا أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ أُرِيدُوا بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُمُ الْفُرْسُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَوْمٌ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ. وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ تَمْثِيلَاتٌ مِنْ قَائِلِيهَا، لَا أَنَّ الْمَعْنَى بِذَلِكَ مَا ذَكَرُوا، بَلْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مُبْهَمًا دَلَالَةً عَلَى قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَانْتِشَارِ دَعْوَتِهِ، وَكَذَا وَقَعَ حُسْنُ إِسْلَامِ تِلْكَ الطَّوَائِفِ، وَقَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ زَمَانَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانُوا فِي فُتُوحِ الْبِلَادِ أَيَّامَ عُمَرَ وَأَيَّامَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَاتِلِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْإِسْلَامَ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَيْسَ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ وَتُقْبَلُ مِمَّنْ عَدَاهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، دُونَ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُدْعَوْا إِلَى حَرْبٍ فِي أَيَّامِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَضَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مع جعفر في مؤتة، وَحَضَرُوا حَرْبَ هَوَازِنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَضَرُوا مَعَهُ فِي سَفْرَةِ تَبُوكَ. وَلَا يَتِمُّ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَيَّنَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ. وَقَرَأَ الجمهور: أو

_ (1) سورة الروم: 30/ 7.

يُسْلِمُونَ، مَرْفُوعًا وَأُبَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِحَذْفِ النُّونِ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرِ الْجَرْمِيِّ، وَبِهَا فِي قَوْلِ الْجَرْمِيِّ وَالْكِسَائِيِّ، وَبِالْخِلَافِ فِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. فَعَلَى قَوْلِ النَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ هُوَ عَطْفُ مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أَيْ يَكُونُ قِتَالٌ أَوْ إِسْلَامٌ، أَيْ أَحَدُ هَذَيْنِ، وَمِثْلُهُ فِي النَّصْبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنًا إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا وَالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى تُقَاتِلُونَهُمْ، أَوْ عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ أَوْ هُمْ يُسْلِمُونَ دُونَ قِتَالٍ. فَإِنْ تُطِيعُوا: أَيْ فِيمَا تُدْعَوْنَ إِلَيْهِ. كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ: أَيْ فِي زَمَانِ الْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي زَمَانِ الْحُدَيْبِيَةِ. يُعَذِّبْكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ: نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ ذَوِي الْعَاهَاتِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَمَعَ ارْتِفَاعِ الْحَرَجِ، فَجَائِزٌ لَهُمُ الْغَزْوُ، وَأَجْرُهُمْ فِيهِ مُضَاعَفٌ، وَالْأَعْرَجُ أَحْرَى بِالصَّبْرِ وَأَنْ لَا يَفِرَّ. وَقَدْ غَزَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ أَعْمَى، فِي بَعْضِ حُرُوبِ الْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُمْسِكُ الرَّايَةَ، فَلَوْ حَضَرَ الْمُسْلِمُونَ، فَالْغَرَضُ مُتَوَجَّهٌ بِحَسَبِ الْوِسْعِ فِي الْغَزْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُدْخِلْهُ وَيُعَذِّبْهُ، بِالْيَاءِ وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ: بِالنُّونِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً، وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ السَّفَرِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ

الْخُلَّصِ الَّذِينَ سَافَرُوا مَعَهُ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلِذَا سُمِّيَتْ: بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَكَانُوا فِيمَا رُوِيَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: وَثَلَاثَمِائَةٍ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ، بَعَثَ جَوَّاسَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ رَسُولًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الثَّعْلَبُ، يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مُعْتَمِرًا، لَا يُرِيدُ قِتَالًا. فَلَمَّا أَتَاهُمْ وَكَلَّمَهُمْ، عَقَرُوا جَمَلَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ الْأَحَابِيشُ، وَبَلَغَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرَادَ بَعْثَ عُمَرَ. فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ فَظَاظَتِي، وَهُمْ يَبْغَضُونِي، وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَنْ يَحْمِينِي، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي وَأَحَبُّ إِلَيْهِمْ، عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. فَبَعَثَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. وَكَانَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي حِينَ لَقِيَهُ، نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَحَمَلَهُ عَلَيْهَا وَأَجَارَهُ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: إِنْ شِئْتَ فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَأَمَّا دُخُولُكُمْ عَلَيْنَا فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَطُوفَ بِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتِ الْحُدَيْبِيَةُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ، فَصَرَخَ صَارِخٌ مِنَ الْعَسْكَرِ: قُتِلَ عُثْمَانُ، فَحَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون وقالو: لَا نَبْرَحُ إِنْ كَانَ هَذَا حَتَّى نَلْقَى الْقَوْمَ. فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، فَنَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ، فَبَايَعُوا كُلُّهُمْ إِلَّا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ الْمُنَافِقُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ أَبُو سِنَانِ بْنُ وَهْبٍ الْأَسَدِيُّ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ رَضِيَ. وَالرِّضَا عَلَى هَذَا بِمَعْنَى إِظْهَارِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ صِفَةُ فِعْلٍ، لَا صِفَةُ ذَاتٍ لِتَقْيِيدِهِ بِالزَّمَانِ وَتَحْتَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَيُبَايِعُونَكَ، أَوْ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَحْتَهَا جَالِسًا فِي أَصْلِهَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ: وَكُنْتُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ، وَبِيَدِي غُصْنٌ مِنَ الشَّجَرَةِ أَذُبُّ عَنْهُ، فَرَفَعْتُ الْغُصْنَ عَنْ ظَهْرِهِ. بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ دُونَهُ، وَعَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ» . وَكَانَتِ الشَّجَرَةُ سَمُرَةَ. قَالَ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشْجَعِ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. قَالَ نَافِعٌ: كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ عُمَرَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا. وَكَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ» . فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ الرِّضَا بِالْبَيْعَةِ أَنْ لَا يَفِرُّوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ، وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مِنَ الْإِيمَانِ وَصِحَّتِهِ، وَالْحُبِّ فِي الدِّينِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنَ الْهَمِّ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْأَنَفَةِ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى نَحْوِ مَا خَاطَبَ بِهِ عُمَرُ وَغَيْرُهُ وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ يَتَرَتَّبُ مَعَهُ نُزُولُ السَّكِينَةِ وَالتَّعْرِيضِ

بِالْفَتْحِ الْقَرِيبِ. وَالسَّكِينَةُ تَقْرِيرُ قُلُوبِهِمْ وَتَذْلِيلُهَا لِقَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ قِيلَ هَذَا الْقَوْلُ، لَا يَظْهَرُ احْتِيَاجٌ إِلَى إِنْزَالِ السَّكِينَةِ إِلَّا أَنْ يُجَازِيَ بِالسَّكِينَةِ وَالْفَتْحِ الْقَرِيبِ وَالْمَغَانِمِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ كَرَاهَةِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَايَعُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا فِيهِ مَذَمَّةٌ لِلصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. انْتَهَى. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: فَتْحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ عَقِبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَتْحَ هَجَرَ، وَهُوَ أَجَلُّ فَتْحٍ اتَّسَعُوا بِثَمَرِهَا زَمَنًا طَوِيلًا. وَقِيلَ: فَتْحَ مَكَّةَ وَالْقُرْبُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، لَكِنَّ فَتْحَ خَيْبَرَ كَانَ أَقْرَبَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَنُوحٌ الْقَارِئُ: وَآتَاهُمْ، أَيْ أَعْطَاهُمْ وَالْجُمْهُورُ: وَأَثَابَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً: أَيْ مَغَانِمَ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ أَرْضًا ذَاتَ عَقَارٍ وَأَمْوَالٍ، فَقَسَّمَهَا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: مَغَانِمَ هَجَرَ. وَقِيلَ: مَغَانِمَ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَأْخُذُونَهَا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ فِي وَأَثَابَهُمْ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَدُلْبَةُ عَنْ يُونُسَ عَنْ وَرْشٍ، وَأَبُو دِحْيَةَ، وَسِقْلَابٌ عَنْ نَافِعٍ، وَالْأَنْطَاكِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. كَمَا جَاءَ بَعْدَ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً بِالْخِطَابِ. وَهَذِهِ الْمَغَانِمُ الْمَوْعُودُ بِهَا هِيَ الْمَغَانِمُ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ هَذِهِ، وَتَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ، وَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فُتُوحًا لَا تُحْصَى، وَغَنِمُوا مَغَانِمَ لَا تُعَدُّ، وَذَلِكَ فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا، حَتَّى فِي بِلَادِ الْهِنْدِ، وَفِي بِلَادِ السُّودَانِ فِي عَصْرِنَا هَذَا. وَقَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا أَحَدُ مُلُوكِ غَانَةَ مِنْ بِلَادِ التُّكْرُورِ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَفْتَحَ أَزْيَدَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مَمْلَكَةً مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَأَسْلَمُوا، وَقَدِمَ عَلَيْنَا بِبَعْضِ مُلُوكِهِمْ يَحُجُّ مَعَهُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْبَيْعَةِ، وَأَنَّهُمْ سَيَغْنَمُونَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ: الْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ مَغَانِمُ خَيْبَرَ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ: الْإِشَارَةُ بِهَذِهِ إِلَى الْبَيْعَةِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَمْرِ قُرَيْشٍ بِالصُّلْحِ، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ أسلم وابنه. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَغَانِمَ خَيْبَرَ. وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ: أَيْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالصُّلْحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ النَّضْرِيُّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ: إِذْ جَاءُوا لِيَنْصُرُوا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُحَاصِرٌ لَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَكَفَّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَسَدٌّ وَغَطَفَانُ حُلَفَاءُ خَيْبَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: كَفَّ الْيَهُودَ عَنِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ وَإِلَى خَيْبَرَ. وَلِتَكُونَ: أَيْ هَذِهِ الْكَفَّةُ

آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَامَةً يَعْرِفُونَ بِهَا أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ نَصْرَهُمْ وَالْفَتْحَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ مَكَّةَ فِي مَنَامِهِ ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، فَتَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، فَجُعِلَ فَتْحُ خَيْبَرَ عَلَامَةً وَعُنْوَانًا لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي وَلِتَكُونَ عَائِدًا عَلَى هَذِهِ، وَهِيَ مَغَانِمُ خَيْبَرَ، وَالْوَاوُ فِي وَلِتَكُونَ زَائِدَةٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَعَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، أَيْ لِيَشْكُرُوهُ وَلِتَكُونَ، أَوْ وَعَدَ فَعَجَّلَ وَكَفَّ لِيَنْفَعَكُمْ بِهَا وَلِتَكُونَ، أَوْ يَتَأَخَّرَ، أَوْ يُقَدَّرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُتَأَخِّرًا، أَيْ فِعْلُ ذَلِكَ. وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً: أَيْ طَرِيقَ التَّوَكُّلِ وَتَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَصِيرَةً وَإِتْقَانًا. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُقَاتِلٌ: بِلَادُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَمَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: خَيْبَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: مَكَّةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَّسِقُ مَعَهُ الْمَعْنَى وَيَتَأَيَّدُ. وَفِي قَوْلِهِ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها دَلَالَةٌ عَلَى تَقَدُّمِ مُحَاوَلَةٍ لَهَا، وَفَوَاتِ دَرْكِ الْمَطْلُوبِ فِي الْحَالِ، كَمَا كَانَ فِي مَكَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مَغَانِمُ هَوَازِنَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وَقَالَ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها، لِمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْجَوْلَةِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي: وَأُخْرى، أَنْ تَكُونَ مَجْرُورَةً بِإِضْمَارِ رُبَّ، وَهَذَا فِيهِ غَرَابَةٌ، لِأَنَّ رُبَّ لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ جَارَّةً، مَعَ كَثْرَةِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ يُؤْتَى بِهَا مُضْمَرَةً؟ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَنَّ وَأُخْرى مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، فَقَدْ وُصِفَتْ بِالْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَقَدْ أَحَاطَ هُوَ الْخَبَرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَعْنَى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها: أَيْ وَقَضَى اللَّهُ أُخْرَى. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَمَعْنَى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ لِأَهْلِهَا، أَيْ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ ذَلِكَ، وَظَهَرَ فِيهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، أَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، أَوْ نَاصِرُو أَهْلِ خَيْبَرَ، أَوِ الْيَهُودُ؟ لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ: أَيْ لَغُلِبُوا وَانْهَزَمُوا. سُنَّةَ اللَّهِ: فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيْ سَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْبِيَاءَهُ سُنَّةً، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ: أَيْ قَضَى بَيْنَكُمُ الْمُكَافَّةَ وَالْمُحَاجَزَةَ، بعد ما خَوَّلَكُمُ الظَّفَرَ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةَ. وَرُوِيَ فِي سَبَبِهَا أَنَّ قُرَيْشًا جَمَعَتْ جَمَاعَةً مِنْ فِتْيَانِهَا، وَجَعَلُوهُمْ مَعَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ غُرَّةً فِي عَسْكَرِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، بَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَمَّاهُ حِينَئِذٍ سَيْفَ اللَّهِ، فِي جُمْلَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَفَرُّوا أَمَامَهُمْ حَتَّى أدخلوهم بيوت

_ (1) سورة المجادلة: 58/ 21.

مَكَّةَ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ جُمْلَةً، وَسِيقُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ معكسره، وَهُوَ بِبَطْنِ مَكَّةَ. وَعَنْ أَنَسٍ: هَبَطَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُسَلَّحِينَ يُرِيدُونَ غُرَّتَهُ، فَأَخَذْنَاهُمْ فَاسْتَحْيَاهُمْ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ جِئْتُمْ في عهد؟ وَهَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا» ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ يَعْنِي هَذَا الْكَفَّ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَبِهِ اسْتَشْهَدَ أَبُو حَنِيفَةَ، عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَا صُلْحًا. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ خَرَجَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَزَمَهُ وَأَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَظْهَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْخَلُوهُمُ الْبُيُوتَ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا تَعْمَلُونَ، عَلَى الْخِطَابِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْيَاءِ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يُقَالُ الْهَدْيُ وَالْهِدْيُ وَالْهِدَاءُ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْهَدْيُ، بِسُكُونِ الدَّالِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَابْنُ هُرْمُزَ، وَالْحَسَنُ، وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ، وَاللُّؤْلُؤِيُّ، وَخَارِجَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْهَدِيُّ، بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي صَدُّوكُمْ وَمَعْكُوفًا: حَالٌ، أَيْ مَحْبُوسًا. عَكَفْتُ الرَّجُلَ عَنْ حَاجَتِهِ: حَبَسْتُهُ عَنْهَا، وَأَنْكَرَ أَبُو عَلِيٍّ تَعْدِيَةَ عَكَفَ، وَحَكَاهُ ابْنُ سِيدَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا الْحَبْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِصَدِّهِمْ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ لِتَرَدُّدِهِمْ وَنَظَرِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْهَدْيِ، بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَيْ وَعَنْ نَحْرِ الْهَدْيِ. وَقَرَأَ: بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ وَصَدِّ الْهَدْيِ، وَكَانَ خَرَجَ عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِائَةُ بَدَنَةٍ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: بِسَبْعِينَ، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتِ الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ، قَالَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَأُبَيُّ بْنُ الْحَكَمِ. أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَرَمُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ مَحِلَّ هَدْيِ الْمُحْصَرِ الْحَرَمُ، لَا حَيْثُ أُحْصِرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَيْثُ يحل نحره، وأَنْ يَبْلُغَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالصَّدِّ، أَيْ وَصَدُّوا الْهَدْيَ، وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ وَصَدُّوا بُلُوغَ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَعْكُوفًا، أَيْ مَحْبُوسًا لِأَجْلِ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَكُونُ الْحَبْسُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ مَحْبُوسًا عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، فَيَكُونُ الْحَبْسُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُخْتَلِطِينَ بِالْمُشْرِكِينَ، غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ، وَلَا مَعْرُوفِي الْأَمَاكِنَ فَقَالَ

تَعَالَى: وَلَوْلَا كَرَاهَةُ أَنْ يُهْلِكُوا أُنَاسًا مُؤْمِنِينَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْتُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ لَهُمْ، فَيُصِيبُكُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ مَكْرُوهٌ وَمَشَقَّةٌ، مَا كَفَّ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ وَحَذَفَ جَوَابَ لَوْلَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: لَوْ تَزَيَّلُوا، كَالتَّكْرِيرِ لِلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ، لِمَرْجِعِهِمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَكُونُ: لَعَذَّبْنَا، هُوَ الْجَوَابُ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: لِمَرْجِعِهِمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ لَوْلَا الْأُولَى غَيْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الثَّانِيَةُ: فَالْمَعْنَى فِي الْأُولَى: وَلَوْلَا وَطْءُ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى فِي الثَّانِيَةِ: لَوْ تَمَيَّزُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَهَذَا مَعْنًى مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ مغايرة ظاهرة. وأَنْ تَطَؤُهُمْ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ رِجَالٍ وَمَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَعْلَمُوهُمْ، أَيْ لَمْ تَعْلَمُوا وَطْأَتَهُمْ، أَيْ أَنَّهُ وَطْءُ مُؤْمِنِينَ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِهْلَاكِ بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَوَطِئْتَنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ ... وَطْءَ الْمُقَيَّدِ ثَابِتِ الْهَرَمِ وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ» . ولَمْ تَعْلَمُوهُمْ: صِفَةٌ لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ غَلَبَ فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمَعْنَى: لَمْ تَعْرِفُوا أَعْيَانَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعَرَّةُ: الْمَأْثَمُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الدِّيَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا إِثْمَ وَلَا دِيَةَ فِي قَتْلِ مُؤْمِنٍ مَسْتُورِ الْإِيمَانِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: الْمَعَرَّةُ: أَنْ يُعَنِّفَهُمُ الْكُفَّارُ، وَيَقُولُونَ قَتَلُوا أَهْلَ دِينِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَلَامَةُ وَتَأْلَمُ النَّفْسُ مِنْهُ فِي بَاقِي الزَّمَنِ. وَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ سُؤَالًا وَجَوَابًا عَلَى عَادَتِهِ فِي تَلَفُّقِ كَلَامِهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَإِيهَامِهِ أَنَّهَا سُؤَالَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ لَهُ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ مَعَرَّةٍ تُصِيبُهُمْ إِذَا قَتَلُوهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ؟ قُلْتُ: يُصِيبُهُمْ وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَسُوءُ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا بِأَهْلِ دِينِهِمْ مَا فَعَلُوا بِنَا مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ، وَالْمَأْثَمُ إِذَا جَرَى مِنْهُمْ بَعْضُ التَّقْصِيرِ. انْتَهَى. بِغَيْرِ عِلْمٍ: إِخْبَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ صِفَتِهِمُ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْعِفَّةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّعَدِّي حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا لَكَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِ النَّمْلَةِ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ «1» . وَبِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بأن تطؤهم. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ مِنَ الَّذِينَ بَعْدَكُمْ مِمَّنْ يَعْتِبُ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَوْ تَزَيَّلُوا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ عَوْنٍ: لَوْ تَزَايَلُوا، عَلَى وزن تفاعلوا،

_ (1) سورة النمل: 27/ 18.

وليدخل مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ كَانَ انْتِفَاءُ التَّسْلِيطِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَانْتِفَاءُ الْعَذَابِ. لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ: وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ جَوَابِ لَوْ، وَمَعْنَى تَزَيَّلُوا: لَوْ ذَهَبُوا عَنْ مَكَّةَ، أَيْ لَوْ تَزَيَّلَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَفَرَّقُوا مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، أَيْ لَوِ افْتَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ: إِذْ مَعْمُولٌ لِعَذَّبْنَا، أَوْ لَوْ صَدُّوكُمْ، أو لا ذكر مُضْمَرَةٌ. وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، يُقَالُ: حَمَيْتُ عَنْ كَذَا حَمِيَّةً، إِذَا أَنِفْتَ عَنْهُ وَدَاخَلَكَ عَارٌ وَأَنَفَةٌ لِفِعْلِهِ، قَالَ الْمُتَلَمِّسُ: إِلَّا أَنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِيَ عِرْضُهُمْ ... كَذَا الرَّأْسُ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَمِيَّتُهُمْ: أَنَفَتُهُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالَّذِي امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: حَمِيَّتُهُمْ: عَصَبِيَّتُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ، وَالْأَنَفَةُ: أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَهَا. وَقِيلَ: قَتَلُوا آبَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي مَنَازِلِنَا، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا وَكَانَتْ حَمِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَحْضُ تَعَصُّبٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَاءَ مُعَظِّمًا لِلْبَيْتِ لَا يُرِيدُ حَرْبًا، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ: وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غزية إن غوت ... غوين وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ وحمية: بَدَلٌ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالسَّكِينَةُ الْوَقَارُ وَالِاطْمِئْنَانُ، فَتَوَقَّرُوا وَحَلُمُوا وكَلِمَةَ التَّقْوى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُضِيفَتِ الْكَلِمَةُ إِلَى التَّقْوَى لِأَنَّهَا سَبَبُ التَّقْوَى وَأَسَاسُهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ كَلِمَةُ أَهْلِ التَّقْوَى. وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: كَلِمَةُ التَّقْوَى هُنَا هِيَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهِيَ الَّتِي أَبَاهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَأَلْزَمَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُمْ أَحَقَّ بِهَا. وَقِيلَ: قَوْلُهُمْ سَمْعًا وَطَاعَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: وَكانُوا عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَحَقَّ بِها مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهُمْ لِدِينِهِ وَصُحْبَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقِيلَ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذِهِ الْأَحَقِّيَّةُ هِيَ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: أَحَقَّ بِهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: وَأَهْلَها فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَكَانُوا عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ رَسُولُهُ لَوْلَا مَا سُلِبُوا مِنَ التَّوْفِيقِ. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ وَرَفْعِ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، وَإِلَى عِلْمِهِ بِصُلْحِ الْكُفَّارِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ كَانَ سَبَبًا لِامْتِزَاجِ الْعَرَبِ وَإِسْلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَعُلُوِّ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَكَانُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَبَعْدَهُ بِعَامَيْنِ سَارُوا إِلَى مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي: في هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَبَانَ غَايَةَ الْبَوْنِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ. بَايَنَ بَيْنَ الْفَاعِلَيْنِ، إِذْ فَاعِلُ جَعَلَ هُوَ الْكُفَّارُ، وَفَاعِلُ أَنْزَلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ، إِذْ تِلْكَ حَمِيَّةٌ، وَهَذِهِ سَكِينَةٌ وَبَيْنَ الْإِضَافَتَيْنِ، أَضَافَ الْحَمِيَّةَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَضَافَ السَّكِينَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَبَيْنَ الْفِعْلِ جَعَلَ وَأَنْزَلَ فَالْحَمِيَّةُ مَجْعُولَةٌ فِي الْحَالِ فِي الْعَرَضِ الَّذِي لَا يَبْقَى، وَالسَّكِينَةُ كَالْمَحْفُوظَةِ فِي خِزَانَةِ الرَّحْمَةِ فَأَنْزَلَهَا. وَالْحَمِيَّةُ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ فِي نَفْسِهَا وَازْدَادَتْ قُبْحًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَالسَّكِينَةُ حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا وَازْدَادَتْ حُسْنًا بِإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْعَطْفُ فِي فَأَنْزَلَ بِالْفَاءِ لَا بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَابَلَةِ، تقول: أكرمني فَأَكْرَمْتُهُ، فَدَلَّتْ عَلَى الْمُجَازَاةِ لِلْمُقَابَلَةِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ فَأَنْزَلَ. وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَجَابَ أَوَّلًا إِلَى الصُّلْحِ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَازِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَى أَهْلِهِمْ إِلَّا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَوِ النَّحْرِ فِي الْمَنْحَرِ، وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكْتُبُوا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاسْمِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: عَلى رَسُولِهِ. وَلَمَّا سَكَنَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصُّلْحِ، سَكَنَ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أُلْزِمُوا تِلْكَ الْكَلِمَةَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» ، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 13.

اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الرُّؤْيَا بِالْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ، وَقَدْ حَلَقُوا وَقَصَّرُوا. فَقَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ دَاخِلُوهَا فِي عَامِهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّ رُؤْيَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ. فَلَمَّا تَأَخَّرَ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُفَيْلٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ الْحَارِثِ: وَاللَّهِ مَا حَلَقْنَا وَلَا قَصَّرْنَا وَلَا رَأَيْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ أَنَّ رُؤْيَاهُ كَانَتْ: أَنَّ مَلَكًا جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: لَتَدْخُلُنَّ. الْآيَةَ. وَمَعْنَى صَدَقَ اللَّهُ: لَمْ يَكْذِبْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْكَذِبِ وَعَنْ كُلِّ قَبِيحٍ. وَصَدَقَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ. تَقُولُ: صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، وَصَدَقْتُهُ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُهُمْ فِي أَخَوَاتِ اسْتَغْفَرَ وَأَمَرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَحَذَفَ الْجَارَّ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «1» . انْتَهَى. فَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ حَرْفُ الْجَرِّ. وَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ. لَتَدْخُلُنَّ: اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ جَوَابَ بِالْحَقِّ وَبِالْحَقِّ قَسَمٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصِدْقٍ، وَتَعْلِيقُهُ على المسيئة، قِيلَ: لِأَنَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَلَكِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقِيلَ: هَذَا التَّعْلِيقُ تَأَدُّبٌ بِآدَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ مُتَحَقِّقَ الْوُقُوعِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» . وَقَالَ ثَعْلَبٌ: اسْتَثْنَى فِيمَا يَعْلَمُ لِيَسْتَثْنِيَ الْخَلْقُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: كَانَ اللَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ يَمُوتُ، فَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَوْمٌ: إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» . وَقِيلَ: هُوَ تَعْلِيقٌ فِي قَوْلِهِ: آمِنِينَ، لَا لِأَجْلِ إِعْلَامِهِ بِالدُّخُولِ، فَالتَّعْلِيقُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَوْضِعِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُخْرِجُ التَّعْلِيقَ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّقًا عَلَى وَاجِبٍ، لِأَنَّ الدُّخُولَ وَالْأَمْنَ أَخْبَرَ بِهِمَا تَعَالَى، وَوَقَعَتِ الثِّقَةُ بِالْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الدُّخُولُ وَالْأَمْنُ الَّذِي هُوَ قَيْدٌ فِي الدخول. وآمِنِينَ: حَالٌ مُقَارِنَةٌ لِلدُّخُولِ. وَمُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ: حَالٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَا تَخَافُونَ: بَيَانٌ لِكَمَالِ الْأَمْنِ بعد تمام الحج.

_ (1) سورة الأحزاب: 33/ 32. (2) سورة الكهف: 18/ 23.

وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا فِيمَا يُسْتَأْنَفُ، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ وَدَخَلُوهَا مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَصَدَقَتْ رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا: أَيْ مَا قَدَّرَهُ مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهِ، وَمَا كَانَ أَيْضًا بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ فِي تَأْخِيرِ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى الْعَامِ الْقَابِلِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَكُنْ فَتْحُ مَكَّةَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ عَامٍ، لِأَنَّ الْفَتْحَ إِنَّمَا كان سنة ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ: أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، أَيْ مِنْ زَمَانٍ دُونَ ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي وُعِدُوا فِيهِ بِالدُّخُولِ. فَتْحًا قَرِيبًا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: هَذَا الْفَتْحُ الْقَرِيبُ هُوَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَيْبَرَ، وَضَعَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ، لِأَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ دُونَ دُخُولِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم وأصحابه مَكَّةَ، بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ: فِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِدْقِ رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبْشِيرٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُعْظَمِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً عَلَى أَنَّ مَا وَعَدَهُ كَائِنٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ: شَهِيدًا عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيُظْهِرُ دِينَكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقِيلَ: رَسُولُ اللَّهِ صِفَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيَانٍ، وَالَّذِينَ مَعْطُوفٌ، وَالْخَبَرُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَشِدَّاءُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ مُحَمَّدٌ، لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: رسوله اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ هُمْ مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: جَمِيعُ أَصْحَابِهِ أَشِدَّاءُ، جَمْعُ شَدِيدٍ، كَقَوْلِهِ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1» . رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «2» ، وَكَقَوْلِهِ: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «3» ، وقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «4» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَشِدَّاءَ رُحَمَاءَ بِنَصْبِهِمَا. قِيلَ: عَلَى الْمَدْحِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا الْعَامِلُ فِي مَعَهُ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنِ الْمُبَتَدَأِ الْمُتَقَدِّمِ: تَرَاهُمْ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: أَشَدَّا، بِالْقَصْرِ، وَهِيَ شَاذَّةٌ، لِأَنَّ قَصْرَ الْمَمْدُودِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشِّعْرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:

_ (1) سورة المائدة: 5/ 54. (2) سورة المائدة: 5/ 54. (3) سورة التوبة: 9/ 73. (4) سورة التوبة: 9/ 128. [.....]

لَا بُدَّ مِنْ صَنْعَا وَإِنْ طَالَ السَّفَرُ وَفِي قَوْلِهِ: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً دَلِيلٌ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَرُضْوَانًا، بِضَمِّ الرَّاءِ. وقرىء: سِيمِياهُمْ، بِزِيَادَةِ يَاءٍ وَالْمَدِّ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمْيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ وَهَذِهِ السِّيمَا، قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَتْ جِبَاهُهُمْ مُنِيرَةً مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ فِي التُّرَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٌ الْحَنَفِيُّ، وَعَطِيَّةُ: وَعْدٌ لَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: السَّمْتُ: الْحُسْنُ وَخُشُوعٌ يَبْدُو عَلَى الْوَجْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَعْمَرُ بْنُ عَطِيَّةَ: بَيَاضٌ وَصُفْرَةٌ وَبَهِيجٌ يَعْتَرِي الْوَجْهَ مِنَ السَّهَرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حُسْنٌ يَعْتَرِي وُجُوهَ الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا: هَذِهِ السِّيمَا هِيَ الْأَثَرُ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَا، وَقَدْ تَكُونُ مِثْلَ رُكْبَةِ الْبَعِيرِ، وَهِيَ أَقْسَى قَلْبًا مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِهَا السِّمَةُ الَّتِي تَحْدُثُ فِي جَبْهَةِ السُّجَّادِ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يُفَسِّرُهَا: أَيْ مِنَ التَّأْثِيرِ الَّذِي يُؤَثِّرُهُ السُّجُودُ. وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْعَلِيَّيْنِ، عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْمُلُوكِ، يُقَالُ لَهُ ذُو الثَّفِنَاتِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ سُجُودِهِمَا أَحْدَثَتْ فِي مَوَاقِعِهِ مِنْهُمَا أَشْبَاهَ ثَفِنَاتِ الْبَعِيرِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ: إِثْرِ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: مِنْ آثَارِ السُّجُودِ، بِالْجَمْعِ. ذلِكَ: أي ذلك الوصف مِنْ كَوْنِهِمْ أَشِدَّاءَ رُحَمَاءَ مُبْتَغِينَ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ صِفَتُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ مَثَلٌ وَاحِدٌ، أَيْ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَيُوقَفُ عَلَى الْإِنْجِيلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَمَّا مَثَلَانِ، فَيُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَكَزَرْعٍ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مَثَلُهُمْ كَزَرْعٍ، أَوْ هُمْ كَزَرْعٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَعْنَى ذَلِكَ الْوَصْفُ هُوَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَتَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَزَرْعٍ خَبَرَ وَمَثَلُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتًا كَالزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ مُبْهَمَةٌ أُوضِحَتْ بِقَوْلِهِ:

كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: كزرع، هو على كلا الْأَقْوَالِ، وَفِي أَيِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ، فُرِضَ مَثَلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَحْدَهُ، فَكَانَ كَالزَّرْعِ حَبَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فَهُمْ كَالشَّطْءِ، وَهُوَ فَرَاخُ السُّنْبُلَةِ الَّتِي تَنْبُتُ حَوْلَ الْأَصْلِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: شَطْأَهُ: فَرَاخَهُ وَأَوْلَادَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَبَاتَهُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: شُتُولَ السُّنْبُلِ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبَّةِ عَشْرُ سُنْبُلَاتٍ وَتِسْعٌ وَثَمَانٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: طَرَفَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى ... وَمِنَ الْأَشْجَارِ أَفْنَانَ الثَّمَرِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَطْأَهُ، بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَالْهَمْزَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ ذَكْوَانَ: بِفَتْحِهِمَا وَكَذَلِكَ: وَبِالْمَدِّ، أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَعِيسَى الْكُوفِيُّ وَبِأَلِفٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، زَيْدُ بْنُ عَلَى فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا، وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزَ، فَنَقَلَ الْحَرَكَةَ وَأَبْدَلَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا. كَمَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ وَالْكَمْأَةِ: الْمَرَاةَ وَالْكَمَاةَ، وَهُوَ تَخْفِيفٌ مَقِيسٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: شَطَّهُ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الطَّاءِ. وَرُوِيَتْ عَنْ شَيْبَةَ، وَنَافِعٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ أَيْضًا: شَطْوَهُ بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَوَاوٍ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هِيَ لُغَةٌ أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَلَا يَكُونُ الشَّطُّ إِلَّا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا لُغَاتٌ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: شَطَأَ الزَّرْعُ وَأَشْطَأَ، إِذَا أَخْرَجَ فَرَاخَهُ، وَهُوَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ: فَأَزَرَهُ ثُلَاثِيًّا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: فَآزَرَهُ، عَلَى وَزْنِ أفعله. وقرىء: فَازَّرَهُ، بِتَشْدِيدِ الزَّايِ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: آزِرُهُ فَاعِلُهُ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي مُضَارِعِهِ إِلَّا يُؤْزِرُ، عَلَى وَزْنِ يُكْرِمُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي آزَرَهُ عَائِدٌ عَلَى الزَّرْعِ، لِأَنَّ الزَّرْعَ أَوَّلُ مَا يَطْلَعُ رَقِيقَ الْأَصْلِ، فَإِذَا خَرَجَتْ فَرَاخُهُ غَلُظَ أَصْلُهُ وَتَقَوَّى، وَكَذَلِكَ أصحاب رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا أَقِلَّةً ضُعَفَاءَ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَتَقَوَّوْا قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: آزَرَهُ: قَوَّاهُ وَشَدَّ أَزْرَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: صَارَ مِثْلَ الْأَصْلِ فِي الطُّولِ. فَاسْتَغْلَظَ: صَارَ مِنَ الرِّقَّةِ إِلَى الْغِلْظِ. فَاسْتَوى: أَيْ تَمَّ نَبَاتُهُ. عَلى سُوقِهِ: جَمْعُ سَاقٍ، كِنَايَةٌ عَنْ أُصُولِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: عَلَى سُؤْقِهِ بِالْهَمْزِ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ يَهْمِزُونَ الواو الذي قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَيَّ مؤسي

_ (1) سورة الحجر: 15/ 66.

يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَإِذَا أَعْجَبَ الزُّرَّاعَ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُعْجِبَ غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لَا عَيْبَ فِيهِ، إِذْ قَدْ أَعْجَبَ الْعَارِفِينَ بِعُيُوبِ الزَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ مَعِيبًا لَمْ يُعْجِبْهُمْ، وَهُنَا تَمَّ الْمَثَلُ. ولِيَغِيظَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ: جَعَلَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تَعْلِيلٌ لِمَاذَا؟ قُلْتُ: لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَشْبِيهُهُمْ بِالزَّرْعِ مِنْ نَمَائِهِمْ وَتَرَقِّيهِمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا: لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سَمِعُوا بِمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ مَا يُعِزُّهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا غَاظَهُمْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى: مِنْهُمْ: لِلْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مِنْهُمْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ وَعْدُ مَدْحِ الْجَمِيعِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِنْهُمْ يَعْنِي: مِنَ الشَّطْءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّرْعُ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الزَّرْعِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى مَعْنَى الشَّطْءِ لَا عَلَى لَفْظِهِ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ. وَذُكِرَ عِنْدَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَجُلٌ يَنْتَقِصُ الصَّحَابَةَ، فَقَرَأَ مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: مَنْ أَصْبَحَ بَيْنَ النَّاسِ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، والله الموفق.

_ (1) سورة الحج: 22/ 30.

سورة الحجرات

سورة الحجرات [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ: التَّدَاعِي بِهَا، تَفَاعَلُ مِنْ نَبَزَهُ، وَبَنُو فُلَانٍ يَتَنَابَزُونَ وَيَتَنَازَبُونَ، وَيُقَالُ: النَّبْزُ وَالنَّزْبُ لَقَبُ السُّوءِ. اللَّقَبُ: هُوَ مَا يُدْعَى بِهِ الشَّخْصُ مِنْ لَفْظٍ غَيْرِ اسْمِهِ وَغَيْرِ كُنْيَتِهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: قَبِيحٌ، وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ الشَّخْصُ لِكَوْنِهِ تَقْصِيرًا بِهِ وَذَمًّا وَحَسَنٌ، وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَالصِّدِّيقِ لِأَبِي بَكْرٍ، وَالْفَارُوقِ لِعُمَرَ، وَأَسَدِ اللَّهِ لِحَمْزَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. تَجَسَّسَ الْأَمْرَ: تَطَلَّبَهُ وَبَحَثَ عَنْ خَفِيِّهِ، تَفَعَّلَ مِنَ الْجَسِّ، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ: وَهُوَ الْبَاحِثُ عَنِ الْعَوْرَاتِ لِيَعْلَمَ بِهَا وَيُقَالُ لِمَشَاعِرِ الْإِنْسَانِ: الْحَوَاسُّ، بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ. الشَّعْبُ: الطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنَ الطَّبَقَاتِ السِّتِّ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَرَبُ وَهِيَ: الشَّعْبُ، وَالْقَبِيلَةُ، وَالْعِمَارَةُ، وَالْبَطْنُ، وَالْفَخْذُ، وَالْفَصِيلَةُ. فَالشَّعْبُ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ وَالْبَطْنُ يَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ وَالْفَخْذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ. خُزَيْمَةُ شَعْبٌ

وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ وَقُرَيْشٌ عِمَارَةٌ وَقُصَيٌّ بَطْنٌ وَهَاشِمٌ فَخْذٌ وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ. وَسُمِّيَتِ الشُّعُوبَ، لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَشَعَّبَتْ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشُّعُوبُ: الْبُطُونُ، هَذَا غَيْرُ مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَيَأْتِي خِلَافٌ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً. الْقَبِيلَةُ دُونَ الشَّعْبِ، شُبِّهَتْ بِقَبَائِلِ الرَّأْسِ لِأَنَّهَا قِطَعٌ تَقَابَلَتْ. أَلَتَ يَأْلُتُ: بِضَمِّ اللَّامِ وَكَسْرِهَا أَلَتًا، وَلَاتَ يَلِيتُ وَأَلَاتَ يَلِيتُ، رُبَاعِيًّا، ثَلَاثَ لُغَاتٍ حَكَاهَا أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى نَقَصَ. وَقَالَ رُؤْبَةَ: وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ ... وَلَمْ يَلُتْنِي عَنْ سَرَاهَا لَيْتُ أَيْ: لَمْ يَمْنَعْنِي وَلَمْ يَحْبِسْنِي. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: أَبْلِغْ سَرَاةَ بَنِي سَعْدٍ مُغَلَّظَةً ... جَهْدَ الرِّسَالَةِ لَا أَلَتًا وَلَا كَذِبَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، ثُمَّ قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» ، فَرُبَّمَا صَدَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَامَلِ الصَّالِحَاتِ بَعْضَ شَيْءٍ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عنه، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ، وَهِيَ إِلَى الْآنَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْآرَاءِ، وَأَنْ يَتَكَلَّمَ كُلٌّ بِمَا شَاءَ وَيَفْعَلَ مَا أَحَبَّ، فَجَرَى مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَتَمَرَّنْ عَلَى آدَابِ الشَّرِيعَةِ بَعْضَ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَرُبَّمَا قَالَ قَوْمٌ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: ذَبَحَ قَوْمٌ ضَحَايَا قبل

_ (1) سورة الفتح: 48/ 29.

النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَفَعَلَ قَوْمٌ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ شَيْئًا بِآرَائِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاهِيَةً عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: تَقَدَّمْتُ فِي كذا وكذا، وقدمت إِذْ قُلْتُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تُقَدِّمُوا، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا، وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يَقْصِدْ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ النَّهْيُ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الْفِعْلِ دُونَ تَعَرُّضٍ لِمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، كَمَا تَقُولُ: وَجْهٌ بِمَعْنَى تَوَجَّهَ، وَيَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا يُوَصَّلُ إِلَيْهِ بِحَرْفٍ، أَيْ لَا تَتَقَدَّمُوا فِي شَيْءٍ مَا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ بِمَا يُحِبُّونَ. وَيُعَضِّدُ هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حَيْوَةَ وَالضَّحَّاكِ وَيَعْقُوبَ وَابْنِ مِقْسَمٍ. لَا تَقَدَّمُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَالدَّالِ عَلَى اللُّزُومِ، وَحُذِفَتِ التَّاءُ تَخْفِيفًا، إِذْ أَصْلُهُ لَا تَتَقَدَّمُوا. وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: تَقَدَّمُوا بِشَدِّ التَّاءِ، أُدْغِمَ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ فِي التَّاءِ بعدها، كقراءة البزي. وقرىء: لَا تَقْدِمُوا، مُضَارِعَ قَدِمَ، بِكَسْرِ الدَّالِ، مِنَ الْقُدُومِ، أَيْ لَا تَقْدِمُوا إِلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ قَبْلَ قُدُومِهَا، وَلَا تَعْجَلُوا عَلَيْهَا، وَالْمَكَانُ الْمُسَامِتُ وَجْهَ الرَّجُلِ قَرِيبًا مِنْهُ. قِيلَ: فِيهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَجْلُوسِ إِلَيْهِ تَوَسُّعًا، لِمَا جَاوَرَ الْجِهَتَيْنِ مِنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، مَجَازٌ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ. وَفَائِدَةُ تَصْوِيرِ الْهُجْنَةِ وَالشَّنَاعَةِ فِيهَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى أَمْرٍ دُونَ الِاهْتِدَاءِ عَلَى أَمْثِلَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْنَى: لَا تَقْطَعُوا أَمْرًا إِلَّا بعد ما يَحْكُمَانِ بِهِ وَيَأْذَنَانِ فِيهِ، فَتَكُونُوا عَامِلِينَ بِالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ، أَوْ مُقْتَدِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا، وَعَلَى هَذَا مَدَارُ تَفْسِيرِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى اللَّهِ شَيْئًا حَتَّى يَقُصَّهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هَذَا النَّهْيِ تَوْطِئَةٌ لِمَا يَأْتِي بَعْدُ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ. وَلَمَّا نَهَى أَمَرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ مِنَ التَّقْوَى اجْتِنَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ. ثُمَّ نَادَاهُمْ ثَانِيًا، تَحْرِيكًا لِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِبْعَادًا لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَتَطْرِيَةً لِلْإِنْصَاتِ. وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ عَادَةِ الْأَعْرَابِ مِنَ الْجَفَاءِ وَعُلُوِّ الصَّوْتِ. لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ: أَيْ إِذَا نَطَقَ وَنَطَقْتُمْ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إِذَا كَلَّمْتُمُوهُ، لِأَنَّ رُتْبَةَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ يَجِبُ أَنْ تُوَقَّرَ وَتُجَلَّ، وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَالْكَلَامِ مَعَ غَيْرِهِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أُكَلِّمُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا السِّرَارَ أَوْ أَخَا السِّرَارِ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَخِي السِّرَارِ، لَا يُسْمِعُهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْمٌ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ كَيْفَ يُسْلِمُونَ، وَيَأْمُرُهُمْ

بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّفْعُ وَالْجَهْرُ إِلَّا مَا كَانَ فِي طِبَاعِهِمْ، لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِذَلِكَ الِاسْتِخْفَافُ وَالِاسْتِعْلَاءُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ كُفْرًا، وَالْمُخَاطَبُونَ مُؤْمِنُونَ. كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ: أَيْ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ وَقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ، فَلَمْ يُنْهَوْا إِلَّا عَنْ جَهْرٍ مَخْصُوصٍ. وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِحَضْرَةِ الْعَالِمِ، وَفِي الْمَسَاجِدِ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَ فِي أُذُنِهِ وَقْرٌ، وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ، وَحَدِيثُهُ فِي انْقِطَاعِهِ فِي بَيْتِهِ أَيَّامًا بِسَبَبِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمَّا أُنْزِلَتْ، خِفْتُ أَنْ يَحْبِطَ عَمَلِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَقَالَ لَهُ مَرَّةً: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتَمُوتَ شَهِيدًا» ؟ فَعَاشَ كَذَلِكَ، ثُمَّ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ: إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مُعَرِّضَةً بِمَنْ يَجْهَرُ اسْتِخْفَافًا، فَذَلِكَ كُفْرٌ يَحْبَطُ مَعَهُ الْعَمَلُ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ غَفْلَةً وَجَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ، فَإِنَّمَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ الْبِرَّ فِي تَوْقِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَضِّ الصَّوْتَ عِنْدَهُ، أَنْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَخَافَةَ أَنْ تَحْبَطَ الْأَعْمَالُ الَّتِي هِيَ مُعَدَّةٌ أَنْ تَعْمَلُوهَا فَتُؤْجَرُوا عَلَيْهَا. وَأَنْ تَحْبَطَ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ وَلَا تَجْهَرُوا، عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَا تَرْفَعُوا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي الِاخْتِيَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى حُبُوطُ الْعَمَلِ عِلَّةٌ فِي كُلٍّ مِنَ الرَّفْعِ وَالْجَهْرِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَتَحْبَطَ بِالْفَاءِ، وَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ مَا قَبْلَهُ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، لِمَا كَانَ مِنْهُمَا مِنْ غَضِّ الصَّوْتِ وَالْبُلُوغِ بِهِ أَخَا السِّرَارِ. امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى: أَيْ جُرِّبَتْ وَدُرِّبَتْ لِلتَّقْوَى، فَهِيَ مُضْطَلِعَةٌ بِهَا، أَوْ وُضِعَ الِامْتِحَانُ مَوْضِعَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ تَحْقِيقَ الشَّيْءِ بِاخْتِبَارِهِ، أَيْ عَرَفَ قُلُوبَهُمْ كَائِنَةً لِلتَّقْوَى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ لِأَجْلِ التَّقْوَى، أَيْ لِتَثْبُتَ وَتَظْهَرَ تَقْوَاهَا. وَقِيلَ: أَخْلَصَهَا لِلتَّقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ: امْتَحَنَ الذَّهَبَ وَفَتَنَهُ إِذَا أَذَابَهُ، فَخَلَّصَ إِبْرِيزَهُ مِنْ خَبَثِهِ. وَجَاءَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَجُعِلَ خَبَرُهَا جُمْلَةً مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الدَّالِ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالْمَعْرِفَةِ بعده، جائيا بعد ذِكْرُ جَزَائِهِمْ عَلَى غَضِّ أَصْوَاتِهِمْ. وَكُلُّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِارْتِضَاءَ بِمَا فَعَلُوا مِنْ تَوْقِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِغَضِّ أَصْوَاتِهِمْ، وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِعَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ رَافِعُو أَصْوَاتِهِمْ وَاسْتِيجَابِهِمْ ضِدَّ مَا اسْتَوْجَبَهُ هَؤُلَاءِ.

إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ: نَزَلَتْ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ وَغَيْرِهِمْ. وَفَدُوا وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ، وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاقِدٌ، فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ بِجُمْلَتِهِمْ: يَا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ إِلَيْنَا. فَاسْتَيْقَظَ فَخَرَجَ، فَقَالَ لَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ مَدْحِيَ زَيْنٌ وَذَمِّيَ شَيْنٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكَ! ذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى» . فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالُوا: نَحْنُ بَنِي تَمِيمٍ بِخَطِيبِنَا وَشَاعِرِنَا، نُشَاعِرُكَ وَنُفَاخِرُكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِالشِّعْرِ بُعِثْتُ، وَلَا بِالْفِخَارِ أُمِرْتُ، وَلَكِنْ هَاتُوا» . فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ لِشَابٍّ مِنْهُمْ: فَخِّرْ وَاذْكُرْ فَضْلَ قَوْمِكَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا خَيْرَ خَلْقِهِ، وَآتَانَا أَمْوَالًا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نَشَاءُ، فَنَحْنُ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مِنْ أَكْثَرِهِمْ عَدَدًا وَمَالًا وَسِلَاحًا، فَمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْنَا فَلْيَأْتِ بِقَوْلٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِنَا، وَفِعْلٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ فِعْلِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَ خَطِيبَهُ: «قُمْ فَأَجِبْهُ» ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَعَا الْمُهَاجِرِينَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أَحْسَنَ النَّاسِ وُجُوهًا وَأَعْظَمَهُمْ أَحْلَامًا فَأَجَابُوهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ رَسُولِهِ وَعِزًا لِدِينِهِ، فَنَحْنُ نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا مَنَعَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، وَمَنْ أَبَاهَا قَتَلْنَاهُ وَكَانَ رَغْمَةً عَلَيْنَا هَيِّنًا، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ» . وَقَالَ الزِّبْرِقَانُ لِشَابٍّ: قُمْ فَقُلْ أَبْيَاتًا تَذْكُرُ فِيهَا فَضْلَ قَوْمِكَ، فَقَالَ: نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيَّ يُعَادِلُنَا ... فِينَا الرُّءُوسُ وَفِينَا يُقْسَمُ الرُّبُعُ وَنُطْعِمُ النَّفْسَ عِنْدَ الْقَحْطِ كُلَّهُمُ ... مِنَ السَّدِيفِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْفَزَعُ إِذَا أَبَيْنَا فَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَالَ له: «أعدلي قَوْلَكَ فَأَسْمَعَهُ» ، فَأَجَابَهُ: إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ شَرَعُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ يُوصَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ فَكُلُّ الْخَيْرِ يَطَّلِعُ ثُمَّ قَالَ حَسَّانُ فِي أَبْيَاتٍ: نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَالدِّينَ عَنْوَةً ... عَلَى رَغْمِ غاب مِنْ مَعَدٍ وَحَاضِرِ بِضَرْبٍ كَأَنْوَاعِ الْمَخَاضِ مُشَاشُهُ ... وَطَعْنٍ كَأَفْوَاهِ اللِّقَاحِ الْمَصَادِرِ وَسَلْ أُحُدًا يَوْمَ اسْتَقَلَّتْ جُمُوعُهُمُ ... بِضَرْبٍ لَنَا مِثْلَ اللُّيُوثِ الْخَوَادِرِ

أَلَسْنَا نَخُوضُ الْمَوْتَ فِي حومة الوغا ... إِذَا طَابَ وِرْدُ الْمَوْتِ بَيْنَ الْعَسَاكِرِ فَنَضْرِبُ هَامًا بِالذِّرَاعَيْنِ نَنْتَمِي ... إِلَى حَسَبٍ مِنْ جِذْعِ غَسَّانَ زَاهِرِ فَلَوْلَا حَيَاءُ اللَّهِ قُلْنَا تَكَرُّمًا ... عَلَى النَّاسِ بِالْحَقَّيْنِ هَلْ مِنْ مُنَافِرِ فَأَحْيَاؤُنَا مِنْ خَيْرِ مَنْ وَطِئَ الْحَصَا ... وَأَمْوَاتُنَا مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْمَقَابِرِ قَالَ: فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُ لِأَمْرٍ، وَقَدْ قُلْتُ شِعْرًا فَاسْمَعْهُ، وَقَالَ: أَتَيْنَاكَ كَيْمَا يَعْرِفُ النَّاسُ فَضْلَنَا ... إِذَا خَالَفُونَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ وَإِنَّا رُءُوسُ النَّاسِ فِي كُلِّ غَارَةٍ ... تَكُونُ بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ التَّهَائِمِ وَإِنَّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ: «قُمْ فَأَجِبْهُ» ، فَقَامَ وَقَالَ: بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إِنَّ فَخْرَكُمُ ... يَصِيرُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمُ ... لَنَا خَوَلٌ مِنْ بَيْنِ ظِئْرٍ وَخَادِمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَقَدْ كُنْتَ غَنِيًّا يَا أَخَا دَارِمٍ أَنْ يُذْكَرَ مِنْكَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ لَتِنُوهُ» . فَكَانَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا قَالَهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ حَسَّانُ إِلَى شِعْرِهِ فَقَالَ: فَإِنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمَائِكُمْ ... وَأَمْوَالِكُمْ أَنْ تُقْسَمُوا فِي الْمَقَاسِمِ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَأَسْلِمُوا ... وَلَا تَفْخَرُوا عِنْدَ النَّبِيِّ بِدَارِمِ وَإِلَّا وَرَبِّ الْبَيْتِ قَدْ مَالَتِ الْقَنَا ... عَلَى هَامِكُمْ بِالْمُرْهِفَاتِ الصَّوَارِمِ فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هَذَا الْأَمْرُ، تَكَلَّمَ خَطِيبُنَا، فَكَانَ خَطِيبُهُمْ أَحْسَنَ قَوْلًا، وَتَكَلَّمَ شَاعِرُنَا، فَكَانَ شَاعِرُهُمْ أَشْعَرَ وَأَحْسَنَ قَوْلًا، ثُمَّ دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَا يَضُرُّكَ مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا» ، ثُمَّ أَعْطَاهُمْ وَكَسَاهُمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَادَاةَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فِيهَا رَفْعُ الصَّوْتِ وَإِسَاءَةُ الْأَدَبِ، وَاللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَوْقِيرِ رَسُولِهِ وَتَعْظِيمِهِ. وَالْوَرَاءُ: الْجِهَةُ الَّتِي يُوَارِيهَا عَنْكَ الشَّخْصُ مِنْ خَلْفٍ أَوْ قُدَّامٍ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِنَّ الْمُنَادَاةَ نَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، بَيْنَ مَا تَثْبُتُ فِيهِ وَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ.

قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُنَادَى وَالْمُنَادِيَ فِي أَحَدِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا الْوَرَاءُ، وَفِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْوَرَاءَ تَصِيرُ بِدُخُولِ مِنْ مُبْتَدَأَ الْغَايَةِ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَمُنْتَهًى لِفِعْلٍ وَاحِدٍ. وَالَّذِي يَقُولُ: نَادَانِي فُلَانٌ مِنْ وَرَاءِ الدَّارِ، لَا يُرِيدُ وَجْهَ الدَّارِ وَلَا دُبُرَهَا، وَلَكِنْ أَيَّ قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِهَا، كَانَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعَيُّنٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ. انْتَهَى. وَقَدْ أَثْبَتَ أَصْحَابُنَا فِي مَعَانِي مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَانْتِهَائِهَا فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مَحَلًّا لَهُمَا. وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى سِيبَوَيْهِ وَقَالُوا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَخَذْتُ الدِّرْهَمَ مِنْ زَيْدٍ، فَزَيْدٌ مَحَلٌّ لِابْتِدَاءِ الْأَخْذِ مِنْهُ وَانْتِهَائِهِ مَعًا. قَالُوا: فَمَنْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَقَطْ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَانْتِهَائِهَا مَعًا. وَهَذِهِ الْمُنَادَاةُ الَّتِي أُنْكِرَتْ، لَيْسَ إِنْكَارُهَا لِكَوْنِهَا وَقَعَتْ فِي إِدْبَارِ الْحُجُرَاتِ أَوْ فِي وُجُوهِهَا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَادَوْهُ مِنْ خَارِجٍ، مُنَادَاةَ الْأَجْلَافِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيرٌ، كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بعضا. والحجرات: مَنَازِلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تِسْعَةً. وَالْحُجْرَةُ: الرِّفْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَحْجُورَةُ بِحَائِطٍ يُحَوِّطُ عَلَيْهَا. وَحَظِيرَةُ الْإِبِلِ تُسَمَّى حُجْرَةٌ، وَهِيَ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، كَالْغُرْفَةِ وَالْقُبْضَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحُجُرَاتِ، بِضَمِّ الْجِيمِ اتِّبَاعًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: بِفَتْحِهَا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِإِسْكَانِهَا، وَهِيَ لُغًى ثَلَاثٌ، فِي كُلِّ فُعْلَةٍ بِشَرْطِهَا الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ النِّدَاءُ كَانُوا جَمَاعَةً. وَذَكَرَ الْأَصَمُّ أَنَّ مَنْ نَادَاهُ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ، كَانَ الْإِسْنَادُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ وَإِذَا كَانُوا جَمَاعَةً، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونُوا تَفَرَّقُوا، فَنَادَى بَعْضٌ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْحُجْرَةِ، وَبَعْضٌ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ، أَوْ نَادَوْهُ مُجْتَمِعِينَ مِنْ وَرَاءِ حُجْرَةٍ حُجْرَةٍ، أَوْ كَانَتِ الْحُجْرَةُ وَاحِدَةً، وَهِيَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُمِعَتْ إِجْلَالًا لَهُ وَانْتِفَاءُ الْعَقْلِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ فِيهِمْ عَقْلًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِقِلَّةِ الْعُقَلَاءِ فِيهِمْ قَصْدًا إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَعْقِلُ، فَإِنَّ الْقِلَّةَ تَقَعُ مَوْقِعَ النَّفْيِ فِي كَلَامِهِمْ. انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ بِقِلَّةِ الْعَقْلِ مَنْطُوقًا بِهِ، فَيُحْتَمَلُ النَّفْيُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وَالنَّفْيُ الْمَحْضُ الْمُسْتَفَادُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ صَرِيحِ لَفْظِ التَّقْلِيلِ، لَا مِنَ الْمَفْهُومِ، فَلَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ «1» النَّفْيُ الْمَحْضُ لِلشُّكْرِ، لِأَنَّ النَّفْيَ لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ صَرِيحِ التَّقْلِيلِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ سُجِّلَتْ عَلَى الَّذِينَ نَادَوْهُ بِالسَّفَهِ والجهل.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 243.

وَابْتَدَأَ أَوَّلَ السُّورَةِ بِتَقْدِيمِ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْتَمِي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا، ثُمَّ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ التَّقْدِيمِ بِالنَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْجَهْرِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ بِسَاطًا لِلثَّانِي، ثُمَّ يَلِي بِمَا هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَغَضُّوا أَصْوَاتَهُمْ دَلَالَةً عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ جِيءَ عَلَى عَقِبِهِ بِمَا هُوَ أَفْظَعُ، وَهُوَ الصِّيَاحُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ خَلْوَتِهِ بِبَعْضِ حَرَمِهِ مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ، كَمَا يُصَاحُ بِأَهْوَنِ النَّاسِ، لِيُلَبِّيَهُ عَلَى فَظَاعَةِ مَا جَسَرُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ عَنْ أَنْ يُجْهَرَ لَهُ بِالْقَوْلِ، كَانَ صَنِيعُ هَؤُلَاءِ مَعَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ الْمُتَفَاحِشِ. وَمِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ تُقْتَبَسُ مَحَاسِنُ الْآدَابِ. كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَثِقَةِ الرِّوَايَةِ مَا لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَالَ: مَا دَقَقْتُ بَابًا عَلَى عَالِمٍ قَطُّ حَتَّى يَخْرُجَ فِي وَقْتِ خُرُوجِهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّهُمْ صَبَرُوا فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ ثَبَتَ صَبْرُهُمْ. انْتَهَى، وَهَذَا لَيْسَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، أَنَّ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، لَا فِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ. وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ صَبَرُوا، أَيْ لَكَانَ هُوَ، أَيِ صَبْرُهُمْ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي كَانَ، إِمَّا ضَمِيرُ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ بَعْدَ لَوِ. انْتَهَى، لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى ذَلِكَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ الصَّبْرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنَّ وَمَعْمُولِهَا خَيْرًا لَهُمْ فِي الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي انْبِسَاطِ نَفْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَائِهِ لِحَوَائِجِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ جَاءُوا فِي أَسَارَى، فَأَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّصْفَ وَفَادَى عَلَى النِّصْفِ، وَلَوْ صَبَرُوا لَأَعْتَقَ الْجَمِيعَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ. وَقِيلَ: لَكَانَ صَبْرُهُمْ أَحْسَنَ لِأَدَبِهِمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَنْ يَضِيقَ غُفْرَانُهُ وَرَحْمَتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ إِنْ تَابُوا وَأَنَابُوا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ الْآيَةَ، حَدَّثَ الْحَارِثُ بْنُ ضِرَارٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمْتُ، وَإِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا، فَقُلْتُ: أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي وَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنْ أَجَابَنِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، فَتُرْسِلُ مَنْ يَأْتِيكَ بِمَا جَمَعْتُ. فَلَمَّا جَمَعَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْوَقْتُ الَّذِي أَرَادَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم أن يَبْعَثَ إِلَيْهِ، وَاحْتَبَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا إِلَى مَنْ يَقْبِضُ الزَّكَاةَ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْفُ، وَلَا أَرَى حَبْسَ الرَّسُولِ إِلَّا مِنْ سُخْطِهِ. فَانْطَلَقُوا بِهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السلام البعث بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ الْحَارِثِ، فَفَرَقَ، فَرَجَعَ فَقَالَ: مَنَعَنِي الْحَارِثُ الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِي، فَضَرَبَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَارِثِ، فَاسْتَقْبَلَ الْحَارِثُ الْبَعْثَ وَقَدْ فَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ، إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ قَالُوا: إِلَيْكَ قَالَ: وَلِمَ؟ فَقَالُوا: بُعِثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدُ، فَرَجَعَ وَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ، قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ رَسُولَكَ، وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتَبَسَ عَلَيَّ رَسُولُكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ سُخْطَةً مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَفَاسِقٌ وَبِنَبَأٍ مُطْلَقَانِ، فَيَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، وَتَقَدَّمَ قِرَاءَةُ فَتَبَيَّنُوا وفتثبتوا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْتَمَدَ عَلَى كَلَامِ الْفَاسِقِ، وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ حَكْمٌ. وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ إِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْلِيقِ فِي الْمُمْكِنِ، لَا بِالْحَرْفِ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْقِيقِ، وَهُوَ إِذَا، لِأَنَّ مَجِيءَ الرَّجُلِ الْفَاسِقِ لِلرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ بِالْكَذِبِ، إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ. وَأُمِرُوا بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ مَجِيئِهِ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِي قَبُولِ مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ، وَنَبَأُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَلَامِهِ. فَإِذَا كَانُوا بِمَثَابَةِ التَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ، كَفَّ عَنْ مَجِيئِهِمْ بِمَا يُرِيدُ. أَنْ تُصِيبُوا: مَفْعُولٌ لَهُ، أي كراهة أن يصيبوا، أَوْ لِئَلَّا تُصِيبُوا، بِجَهالَةٍ حَالٌ، أَيْ جَاهِلِينَ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ مُعْتَمِدِينَ عَلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ، فَتُصْبِحُوا: فَتَصِيرُوا، عَلى مَا فَعَلْتُمْ: مِنْ إِصَابَةِ الْقَوْمِ بِعُقُوبَةٍ بِنَاءً عَلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ، نادِمِينَ: مُقِيمِينَ عَلَى فَرْطٍ مِنْكُمْ، مُتَمَنِّينَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ. وَمَفْهُومُ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ: قَبُولُ كَلَامِ غَيْرِ الْفَاسِقِ، وَأَنَّهُ لَا يُتَثَبَّتُ عِنْدَهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّثَبُّتُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» . وَقَالَ مُقَلَّدُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ حَتَّى تَثْبُتَ الْجَرْحَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ قَبْلَ الْقَبُولِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّهُ مَا أَمَرَ بِالتَّبْيِينِ إِلَّا عِنْدَ مَجِيءِ الْفَاسِقِ، لَا مَجِيءِ الْمُسْلِمِ، بَلْ بِشَرْطِ الْفِسْقِ. وَالْمَجْهُولُ الْحَالُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا، فَالِاحْتِيَاطُ لَازِمٌ. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا تَوْبِيخٌ لِمَنْ يُكَذِّبُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَوَعِيدٌ بِالنَّصِيحَةِ. وَلَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إِلَّا مِمَّنْ هُوَ شَاكٌّ فِي الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يترك نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَعْتَمِدُ عَلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ، بَلْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ كَلَامٌ تَامٌّ، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تُخْبِرُوهُ بِمَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ يُطْلِعُهُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ رسوله صلى الله عليه وسلم لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُكُمْ وَتَقَدُّمُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ لَعَنِتُّمْ: أَيْ لَشَقَّ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَأَثِمْتُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِلَوْ لَا تَكُونُ كَلَامًا مُسْتَأْنِفًا لِأَدَائِهِ إِلَى تَنَافُرِ النَّظْمِ، وَلَكِنْ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ حَالًا مِنْ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ فِي فِيكُمُ الْمُسْتَتِرِ الْمَرْفُوعِ، أَوِ الْبَارِزِ الْمَجْرُورِ، وَكِلَاهُمَا مَذْهَبٌ سَدِيدٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ عَلَى حَالَةٍ يَجِبُ عَلَيْكُمْ تَغْيِيرُهَا، وَهُوَ أَنَّكُمْ تُحَاوِلُونَ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَوَادِثِ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعِنُّ لَكُمْ مِنْ رَأْيٍ وَاسْتِصْوَابِ فِعْلِ الْمِطْوَاعِ لِغَيْرِهِ، وَالتَّابِعِ لَهُ فِيمَا يَرْتَئِيهِ الْمُحْتَذِي عَلَى أَمْثِلَتِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَعَنِتُّمْ: أَيْ لَوَقَعْتُمْ فِي الْجَهْدِ وَالْهَلَاكِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ زَيَّنُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيقَاعَ بِبَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَتَصْدِيقَ قَوْلِ الْوَلِيدِ، وَأَنَّ نَظَائِرَ ذَلِكَ مِنَ الْهَنَاتِ كَانَتْ تَفْرُطُ مِنْهُمْ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا يَتَصَوَّنُونَ، وَيَزَعُهُمْ جِدُّهُمْ فِي التَّقْوَى عَنِ الْجَسَارَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ: أَيْ إِلَى بَعْضِكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَغْنَتْ عَنْ ذِكْرِ الْبَعْضِ صِفَتَهُمُ الْمُفَارِقَةَ لِصِفَةِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازَاتِ الْقُرْآنِ وَلَمَحَاتِهِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا يَفْطِنُ إِلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: هُمُ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى. انْتَهَى، وَفِيهِ تَكْثِيرٌ. وَلَا بُعْدَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِلَوْ مُسْتَأْنَفَةً لَا حَالًا، فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ. وَتَقْدِيمُ خَبَرِ أَنَّ عَلَى اسْمِهَا قَصْدٌ إِلَى تَوْبِيخِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا اسْتُهْجِنَ مِنِ اسْتِتْبَاعِهِمْ رَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآرَائِهِمْ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ لِانْصِبَابِ الْغَرَضِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: يُطِيعُكُمْ دُونَ أَطَاعَكُمْ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي إِرَادَتِهِمُ اسْتِمْرَارُ عَمَلِهِمْ عَلَى مَا يَسْتَصْوِبُونَهُ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا عَنَّ لَهُمْ رَأْيٌ فِي أَمْرٍ كَانَ مَعْمُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَشَرِيطَةُ لَكِنَّ مَفْقُودَةٌ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، حَاصِلَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الَّذِينَ حَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ قَدْ غَايَرَتْ صِفَتُهُمْ صِفَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ فَوَقَعَتْ لَكِنَّ فِي حَاقِّ مَوْقِعِهَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ. انْتَهَى، وَهُوَ مُلْتَقَطٌ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: وَمَعْنَى تَحْبِيبِ اللَّهِ وَتَكْرِيهِهِ اللُّطْفُ وَالْإِمْدَادُ بِالتَّوْفِيقِ وَسَبِيلُهُ الْكِنَايَةُ، كَمَا سَبَقَ وَكُلُّ ذِي لُبٍّ، وَرَاجِعٍ إِلَى بَصِيرَةٍ وَذِهْنٍ لَا يَغْبَا عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُمْدَحُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ اللَّهِ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ هَذَا عَنِ الَّذِينَ أَنْزَلَ فِيهِمْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا. انْتَهَى، وَهِيَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: حَبَّبَ الْإِيمَانَ بِمَا وَصَفَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَرَّهَ الثَّلَاثَةَ بِمَا وَصَفَ مِنَ الْعِقَابِ. انْتَهَى. أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ: الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ هو بمعناه، إذا التَّحْبِيبُ

وَالتَّزْيِينُ هُوَ نَفْسُ الْفَضْلِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فَضْلًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَضْلًا مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ جَازَ وُقُوعُهُ مَفْعُولًا لَهُ، وَالرُّشْدُ فِعْلُ الْقَوْمِ، وَالْفَضْلُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّرْطُ أَنْ يَتَّحِدَ الْفَاعِلُ؟ قُلْتُ: لَمَّا وَقَعَ الرُّشْدُ عِبَارَةً عَنِ التَّحْبِيبِ وَالتَّزْيِينِ وَالتَّكْرِيهِ مُسْنَدَةً إِلَى اسْمِهِ، تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَصَارَ الرُّشْدُ كَأَنَّهُ فِعْلُهُ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَنْهُ وَلَا يَنْتَصِبَ عَنْ الرَّاشِدُونَ، وَلَكِنْ عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ اعْتِرَاضٌ، أَوْ عَنْ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَرَى ذَلِكَ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَصْدَرًا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَنْ يُوضَعَ مَوْضِعَ رُشْدًا، لِأَنَّ رُشْدَهُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لِكَوْنِهِمْ مُوَفَّقِينَ فِيهِ، وَالْفَضْلُ وَالنِّعْمَةُ بِمَعْنَى الْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّمَايُزِ وَالتَّفَاضُلِ، حَكِيمٌ حِينَ يُفَضِّلُ وَيُنْعِمُ بِالتَّوْفِيقِ عَلَى أَفَاضِلِهِمْ. انْتَهَى. أَمَّا تَوْجِيهُهُ كَوْنُ فَضْلًا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ فَضْلًا، فَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ إِضْمَارِ كَانَ، وَلِذَلِكَ شَرْطٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ. سَبَبُ نُزُولِهَا مَا جَرَى بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حِينَ أَسَاءَ الْأَدَبَ عبد الله بن أبي بن سَلُولٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى زِيَارَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي مَوْضِعِهِ، وَتَعَصَّبَ بَعْضُهُمْ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَرَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ، فَتَجَالَدَ الْحَيَّانِ، قِيلَ: بِالْحَدِيدِ، وَقِيلَ: بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَنَزَلَتْ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَاصْطَلَحُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَتْ بِالْمَدِينَةِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أَمُّ بَدْرٍ، وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ

أَوْجَبَ أَنْ يَأْنَفَ لَهَا قَوْمُهَا وَلَهُ قَوْمُهُ، فَوَقَعَ قِتَالٌ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اقْتَتَلُوا جَمْعًا، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْقَوْمِ وَالنَّاسِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: اقْتَتَلَتَا، عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: اقْتَتَلَتَا عَلَى التَّثْنِيَةِ، مُرَاعًى بِالطَّائِفَتَيْنِ. الْفَرِيقَانِ اقْتَتَلُوا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ بَاغٍ فَالْوَاجِبُ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا بِالصُّلْحِ، فَإِنْ لَمْ تَصْطَلِحَا وَأَقَامَتَا عَلَى الْبَغْيِ قُوتِلَتَا، أَوْ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَالْوَاجِبُ إِزَالَةُ الشُّبَهِ بِالْحُجَجِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، فَإِنْ لَجَّا، فَكَالْبَاغِيَتَيْنِ فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُقَاتَلَ حَتَّى تَكُفَّ عَنِ الْبَغْيِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ مِنْ أَحْكَامِ الَّتِي تَبْغِي لِشَيْءٍ إِلَّا لِقِتَالِهَا، وَإِلَى الْإِصْلَاحِ إِنْ فَاءَتْ. وَالْبَغْيُ هُنَا: طَلَبُ الْعُلُوِّ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْأَمْرُ فِي فَأَصْلِحُوا وَقَاتِلُوا هُوَ لِمَنْ لَهُ الْأَمْرُ مِنَ الْمُلُوكِ وَوُلَاتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَتَّى تَفِيءَ، مُضَارِعَ فَاءَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالزُّهْرِيُّ: حَتَّى تَفِيَ، بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَهَذَا شَاذٌّ، كَمَا قَالُوا فِي مُضَارِعِ جَاءَ يَجِي بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَإِذَا أَدْخَلُوا النَّاصِبَ فَتَحُوا الْيَاءَ أَجْرَوْهُ مُجْرَى يَفِي مُضَارِعِ وَفَى شُذُوذًا. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ: أَيْ إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ مُثَنَّى، لِأَنَّ أَقَلَّ مَنْ يَقَعُ بَيْنَهُمُ الشِّقَاقُ اثْنَانِ، فَإِذَا كَانَ الْإِصْلَاحُ لَازِمًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَهُوَ أَلْزَمُ بَيْنَ أَكْثَرِ مِنِ اثْنَيْنِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَخَوَيْنِ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَالْجَحْدَرِيُّ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُ سِيرِينَ: بَيْنَ إِخْوَانِكُمْ جَمْعًا، بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَيَعْقُوبُ: بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ جَمْعًا، عَلَى وَزْنِ غِلْمَةٍ. وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَ، وَيَغْلِبُ الْإِخْوَانُ فِي الصَّدَاقَةِ، وَالْإِخْوَةُ فِي النَّسَبِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَمِنْهُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وَقَوْلِهِ: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ «1» . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ: هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا تَأْدِيبٌ لِلْأُمَّةِ، لِمَا كَانَ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهَا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَقَدْ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ قَوْمٌ: هَذَا ابْنُ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَزَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَشَكَاهُمْ، فَنَزَلَتْ. وَقَوْمٌ مُرَادِفُ رِجَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2» ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ، وَفِي قول زهير:

_ (1) سورة النور: 24/ 61. (2) سورة النساء: 4/ 34.

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَمْعُ قَائِمٍ، كَصُوَّمٍ وَزُوَّرٍ فِي جَمْعٍ صَائِمٍ وَزَائِرٍ. انْتَهَى وَلَيْسَ فُعَّلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ الْجُمُوعِ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رُكَّبًا جَمْعُ رَاكِبٍ. وَقَالَ أَيْضًا الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِ عَادٍ: هُمُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، فَلَيْسَ لَفْظُ الْقَوْمِ بِمُتَعَاطٍ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ قَصْدَ ذِكْرِ الذُّكُورِ وَتَرْكَ ذِكْرِ الْإِنَاثِ، لِأَنَّهُنَّ تَوَابِعٌ لِرِجَالِهِنَّ. انْتَهَى. وَغَيْرُهُ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ وَالنَّهْيِ، لَيْسَ مُخْتَصًّا بِانْصِبَابِهِ عَلَى قَوْمٍ وَنِسَاءٍ بِقَيْدِ الْجَمْعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى: لَا يَسْخَرْ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْجَمْعَ، وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ فرد فَرْدٍ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْبَدَلِ. فَكَأَنَّهُ إِذَا سَخِرَ الْوَاحِدُ، كَانَ بِمَجْلِسِهِ نَاسٌ يَضْحَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ، أَوْ بَلَغَتْ سُخْرِيَّتُهُ نَاسًا فَضَحِكُوا، فَيَنْقَلِبُ الْحَالُ إِلَى جَمَاعَةٍ. عَسى أَنْ يَكُونُوا: أَيِ الْمَسْخُورُ مِنْهُمْ، خَيْراً مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ السَّاخِرِينَ بِهِمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَرَدَتْ مَوْرِدَ جَوَابِ الْمُسْتَخْبِرِ عَنِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ، أَيْ رُبَّمَا يَكُونُ الْمَسْخُورُ مِنْهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَوْ سَخِرْتُ مِنْ كَلْبٍ، خَشِيتُ أَنْ أُحَوَّلَ كَلْبًا. وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ: رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، رَأَتَا أُمَّ سَلَمَةَ رَبَطَتْ حَقْوَيْهَا بِثَوْبٍ أَبْيَضَ وَسَدَلَتْ طَرَفَهُ خَلْفَهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ: انْظُرِي إِلَى مَا يُجَرُّ خَلْفَهَا، كَأَنَّهُ لِسَانُ كَلْبٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَسْخَرُ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةِ، وَكَانَتْ قَصِيرَةً. وَعَنْ أَنَسٍ: كَانَ نِسَاءُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ يُعَيِّرْنَ أُمَّ سَلَمَةَ بِالْقِصَرِ. وَقَالَتْ صَفِيَّةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُعَيِّرْنَنِي وَيَقُلْنَ يَا يَهُودِيَّةَ بِنْتَ يَهُودِيَّيْنِ، فَقَالَ لَهَا: هَلَّا قُلْتِ إِنَّ أَبِي هَارُونُ، وَإِنَّ عَمِّي مُوسَى، وَإِنَّ زَوْجِي مُحَمَّدٌ؟ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأُبَيٌّ: عَسَوْا أَنْ يَكُونُوا، وَعَسَيْنَ أَنْ يَكُنَّ، فَعَسَى نَاقِصَةٌ، وَالْجُمْهُورُ: عَسَى فِيهِمَا تَامَّةٌ، وَهِيَ لُغَتَانِ: الْإِضْمَارُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَتَرْكُهُ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ: ضَمَّ الْمِيمَ فِي تَلْمِزُوا، الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَعُبَيْدٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هِيَ عَرَبِيَّةٌ وَالْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ، وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَفْهَمُهُ آخَرُ، وَالْهَمْزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللِّسَانِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، كَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ، إِذْ هُمْ إِخْوَةٌ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَالْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. وَمَفْهُومُ أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَهُ أَنْ

يَعِيبَ غَيْرَهُ، مِمَّا لَا يَدِينُ بِدِينِهِ. فَفِي الْحَدِيثِ: «اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسِ» . وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَفْعَلُوا مَا تَلْمِزُونَ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا اسْتَحَقَّ اللَّمْزَ، فَقَدَ لَمَزَ نَفْسَهُ. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ: اللَّقَبُ إِنْ دَلَّ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ الْمَدْعُوُّ بِهِ، كَانَ مَنْهِيًّا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ حَسَنًا، فَلَا يُنْهَى عَنْهُ. وَمَا زَالَتِ الْأَلْقَابُ الْحَسَنَةُ فِي الْأُمَمِ كُلِّهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ تَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَمُكَاتَبَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي سَلَمَةَ كَانُوا قَدْ كَثُرَتْ فِيهِمُ الْأَلْقَابُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كَنُّوا أَوْلَادَكُمْ» . قَالَ عَطَاءٌ: مَخَافَةَ الْأَلْقَابِ. وَعَنْ عُمَرَ: «أَشِيعُوا الْكُنَى فَإِنَّهَا سُنَّةٌ» . انْتَهَى، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْكُنْيَةُ غَرِيبَةً، لَا يَكَادُ يَشْتَرِكُ فِيهَا أَحَدٌ مَعَ مَنْ تَكَنَّى بِهَا فِي عَصْرِهِ، فَإِنَّهُ يَطِيرُ بِهَا ذِكْرُهُ فِي الْآفَاقِ، وَتَتَهَادَى أَخْبَارَهُ الرِّفَاقُ، كَمَا جَرَى فِي كُنْيَتِي بِأَبِي حَيَّانَ، وَاسْمِي مُحَمَّدٌ. فَلَوْ كَانَتْ كُنْيَتِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَبَا بَكْرٍ، مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، لَمْ أَشْتَهِرْ تِلْكَ الشُّهْرَةَ، وَأَهْلُ بِلَادِنَا جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ كَثِيرًا مَا يُلَقَّبُونَ الْأَلْقَابَ، حَتَّى قَالَ فِيهِمْ أَبُو مَرْوَانَ الطُّنْبِيُّ: يَا أَهْلَ أَنْدَلُسَ مَا عِنْدَكُمْ أَدَبٌ ... بِالْمَشْرِقِ الأدب النفاخ بِالطِّيبِ يُدْعَى الشَّبَابُ شُيُوخًا فِي مَجَالِسِهِمْ ... وَالشَّيْخُ عِنْدَكُمْ يُدْعَى بِتَلْقِيبِ فَمِنْ عُلَمَاءِ بِلَادِنَا وَصَالِحِيهِمْ مَنْ يُدْعَى الْوَاعِي وَبِاللِّصِّ وَبِوَجْهٍ نَافِخٍ، وَكُلُّ هَذَا يَحْرُمُ تَعَاطِيهِ. قِيلَ: وَلَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمُحَدِّثَيْنِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ وَوَاصِلٍ الْأَحْدَبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَصْدُ اسْتِخْفَافٍ وَلَا أَذًى. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِعَلْقَمَةَ: وَتَقُولُ أَنْتَ ذَلِكَ يَا أَعْوَرُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ لَا يَقُولُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ يَا يَهُودِيُّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَلَا يَا فَاسِقُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَتَلَاحَى ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا أَعْرَابِيُّ، يُرِيدُ أَنْ يُبْعِدَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: يَا يَهُودِيُّ، يُرِيدُ الْمُخَاطَبَةَ لِلْيَهُودِ فِي يَثْرِبَ. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ: أَيْ بِئْسَ اسْمٌ تَنْسُبُونَهُ بِعِصْيَانِكُمْ نَبْزُكُمْ بِالْأَلْقَابِ، فَتَكُونُونَ فُسَّاقًا بِالْمَعْصِيَةِ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، أَوْ بِئْسَ مَا يَقُولُهُ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا فَاسِقُ بَعْدَ إِيمَانِهِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ الْفُسُوقُ وَالْإِيمَانُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَحْوَ قَوْلِ الرُّمَّانِيِّ، قَالَ: اسْتِقْبَاحُ الْجَمْعِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَالْفِسْقِ الَّذِي يَأْبَاهُ الْإِيمَانُ، وَهَذِهِ نزغة اعْتِزَالِيَّةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاسْمُ هاهنا بِمَعْنَى الذِّكْرِ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَ اسْمُهُ فِي النَّاسِ بِالْكَرَمِ أَوْ بِاللَّوْمِ، كَمَا يُقَالُ: طَارَ ثَنَاؤُهُ وَصِيتُهُ وَحَقِيقَةُ مَا سُمِّيَ مِنْ ذِكْرِهِ

وَارْتَفَعَ بَيْنَ النَّاسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بِئْسَ الذِّكْرُ الْمُرْتَفِعُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْجَرَائِمِ أَنْ تُذْكَرُوا بِالْفِسْقِ. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ: أَيْ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ: تَشْدِيدٌ وَحُكْمٌ بِظُلْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ. اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ: أَيْ لَا تَعْمَلُوا عَلَى حَسَبِهِ، وَأَمَرَ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهِ، لئلا يجترىء أَحَدٌ عَلَى ظَنٍّ إِلَّا بَعْدَ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ وَتَمْيِيزٍ بَيْنَ حَقِّهِ وَبَاطِلِهِ. وَالْمَأْمُورُ بِاجْتِنَابِهِ هُوَ بَعْضُ الظَّنِّ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِثْمٌ، وَتَمْيِيزُ الْمُجْتَنِبِ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَمَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَسَبَبٌ ظَاهِرٌ، كَمَنْ يَتَعَاطَى الرَّيْبَ وَالْمُجَاهَرَةَ بِالْخَبَائِثِ، كَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ إِلَى حَانَاتِ الْخَمْرِ، وَصُحْبَةِ نِسَاءِ الْمَغَانِي، وَإِدْمَانِ النَّظَرِ إِلَى الْمُرْدِ. فَمِثْلُ هَذَا يُقَوِّي الظَّنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَلَا إِثْمَ فِيهِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَاهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا يَزْنِي، وَلَا يَعْبَثُ بِالشُّبَّانِ، بِخِلَافِ مَنْ ظَاهِرُهُ الصَّلَاحُ فَلَا يُظَنُّ بِهِ السُّوءُ. فَهَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُزِيلَهُ. وَالْإِثْمُ: الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْهَمْزَةُ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ الْوَاوِ، كَأَنَّهُ يَثِمُ الْأَعْمَالَ، أَيْ يَكْسِرُهَا بِإِحْبَاطِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ تَصْرِيفَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ الْهَمْزُ. تَقُولُ: أَثِمَ يَأْثَمُ فَهُوَ آثِمٌ، وَالْإِثْمُ وَالْآثَامُ، فَالْهَمْزَةُ أَصْلٌ وَلَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ وَاوٍ. وَأَمَّا يَثِمُ فَأَصْلُهُ يَوْثِمُ، وَهُوَ مِنْ مَادَّةٍ أُخْرَى. وَقِيلَ: الْإِثْمُ مُتَعَلِّقٌ بِتَكَلُّمِ الظَّانِّ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَهُوَ فِي فُسْحَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَفْعِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي يُبِيحُهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَجَسَّسُوا بِالْجِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ سِيرِينَ بِالْحَاءِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، نَهْيٌ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالِاسْتِكْشَافِ عَمَّا سَتَرُوهُ. وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا؟ فَقَالَ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَنَا شَيْءٌ أَخَذْنَا بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ» ، وَقَدْ وَقَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي حِرَاسَتِهِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي ظَاهِرِهِ رِيبَةٌ، وَكَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ هَجْمًا، فَلَمَّا ذُكِرَ لَهُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ التَّجَسُّسِ، انْصَرَفَ عُمَرُ. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، يُقَالُ: غَابَهُ وَاغْتَابَهُ، كَغَالَهُ وَاغْتَالَهُ وَالْغِيبَةُ مِنَ الِاغْتِيَابِ، كَالْغِيلَةِ مِنَ الِاغْتِيَالِ، وَهِيَ ذِكْرُ الرَّجُلِ بِمَا يَكْرَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْغِيبَةُ فَقَالَ: أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَسْمَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قُلْتَ بَاطِلًا فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فَقَدْ بَهَتَّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغِيبَةُ إِدَامُ كِلَابِ النَّاسِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ امْرَأَةٍ: مَا رَأَيْتُ أَجْمَلَ

مِنْهَا، إِلَّا أَنَّهَا قَصِيرَةٌ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «اغْتَبْتِيهَا، نَظَرْتِ إِلَى أَسْوَأَ مَا فِيهَا فَذَكَرْتِيهِ» . وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا، لِأَنَّ الزَّانِيَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَغْتَابُ فَلَا يُتَابُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَحِلَّ، وَعِرْضُ الْمُسْلِمِ مِثْلُ دَمِهِ فِي التَّحْرِيمِ» . وَفِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَفِيضِ: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ» . وَلَا يُبَاحُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ، مِنْ تَجْرِيحِ الشُّهُودِ وَالرُّوَاةِ، وَالْخُطَّابِ إِذَا اسْتَنْصَحَ مَنْ يُخْطَبُ إِلَيْهِ مَنْ يَعْرِفُهُمْ، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ الْغِيبَةَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ، وَمِنْهُ: وَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَّرْتُ لُحُومَهُمْ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِمَا يَنَالُهُ الْمُغْتَابُ مِنْ عِرْضِ الْمُغْتَابِ عَلَى أَفْظَعِ وَجْهٍ وَأَفْحَشِهِ، وَفِيهِ مُبَالَغَاتٌ شَتَّى، مِنْهَا: الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، وَمِنْهَا: جَعْلُ مَا هُوَ فِي الْغَايَةِ مِنَ الْكَرَاهَةِ مَوْصُولًا بِالْمَحَبَّةِ، وَمِنْهَا: إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى أَحَدِكُمْ وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَحَدَيْنِ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَمْثِيلِ الِاغْتِيَابِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ حَتَّى جَعَلَ الْإِنْسَانَ أَخًا، وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ حَتَّى جَعَلَهُ مَيْتًا. انْتَهَى. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: كَرَاهِيَةُ هَذَا اللَّحْمِ يَدْعُو إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَكَرَاهِيَةُ الْغِيبَةِ يَدْعُو إِلَيْهَا الْعَقْلُ، وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُجَابَ، لِأَنَّهُ بَصِيرٌ عَالِمٌ، وَالطَّبْعُ أَعْمَى جَاهِلٌ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: ضَرَبَ الْمَثَلَ لِأَخْذِهِ الْعِرْضَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ، لِأَنَّ اللَّحْمَ سِتْرٌ عَلَى الْعَظْمِ، وَالشَّاتِمُ لِأَخِيهِ كَأَنَّهُ يُقَشِّرُ وَيَكْشِفُ مَا عَلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: مَيْتاً، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُحِسُّ، وَكَذَلِكَ الْغَائِبُ لَا يَسْمَعُ مَا يَقُولُ فِيهِ الْمُغْتَابُ، ثُمَّ هُوَ فِي التَّحْرِيمِ كَآكِلِ لَحْمِ الْمَيِّتِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا صَامَ مَنْ أَكَلَ لُحُومَ النَّاسِ» . وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ الرِّيَاشِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ: مَا اغْتَبْتُ أَحَدًا مُنْذُ عَرَفْتُ مَا فِي الْغِيبَةِ. وَقِيلَ: لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ: لَقَدْ وَقَعَ فِيكَ فُلَانٌ حَتَّى رَحِمْنَاكَ، قَالَ: إِيَّاهُ فَارْحَمُوا. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَغْتَابُنِي، قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ قَدْرُكَ عِنْدِي أَنْ أُحَكِّمَكَ فِي حَسَنَاتِي. وَانْتَصَبَ مَيْتًا عَلَى الْحَالِ مِنْ لَحْمَ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَنِ الْأَخِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بِالْإِضَافَةِ لَا يَجِيءُ الْحَالُ مِنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، نَحْوُ: أَعْجَبَنِي رُكُوبُ الْفَرَسِ مُسْرَجًا، وَقِيَامُ زَيْدٍ مُسْرِعًا. فَالْفَرَسُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَزَيْدٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الأول جزأ أَوْ كَالْجُزْءِ، جَازَ انْتِصَابُ الْحَالِ مِنَ الثَّانِي، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

فَكَرِهْتُمُوهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ فقد كرهتموه، فلا تفعلون. وَقِيلَ: لَمَّا وَقَّفَهُمْ عَلَى التَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً، فَأَجَابَ عَنْ هَذَا: لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ يَقُولُهَا، فَخُوطِبُوا عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا لَا، فَقِيلَ لَهُمْ: فَكَرِهْتُمُوهُ، وَبَعْدَ هَذَا يُقَدَّرُ فَلِذَلِكَ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُعْطَفُ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، وَفِيهِ عَجْرَفَةُ الْعَجَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمَّا قَرَّرَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُحِبُّ أَكْلَ جِيفَةِ أَخِيهِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَكَرِهْتُمُوهُ، أَيْ فَتَحَقَّقَتْ بِوُجُوبِ الْإِقْرَارِ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ وَإِنْكَارِهِ لِإِبَاءِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْحَدُوا كَرَاهَتَكُمْ لَهُ وَتَقَذُّرُكُمْ مِنْهُ، فَلْيَتَحَقَّقَ أَيْضًا أَنْ تَكْرَهُوا مَا هُوَ نَظِيرُهُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالطَّعْنِ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى، وَفِيهِ أَيْضًا عَجْرَفَةُ الْعَجَمِ. وَالَّذِي قَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ أَسْهَلُ وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا، وَأَجْرَى عَلَى قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقِيلَ: لَفْظُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، تَقْدِيرُهُ: فَاكْرَهُوهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَوَضْعُ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْأَمْرِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ اتَّقَى اللَّهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ، أَيْ لِيَتَّقِ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ انْجَزَمَ يُثَبْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. جَاءَ الْأَمْرُ أَوَّلًا بِاجْتِنَابِ الطَّرِيقِ الَّتِي لَا تُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ الظَّنُّ ثُمَّ نَهَى ثَانِيًا عَنْ طَلَبِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ الظَّنِّ، فَيَصِيرُ عِلْمًا بِقَوْلِهِ: وَلا تَجَسَّسُوا ثُمَّ نَهَى ثَالِثًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إِذَا عُلِمَ، فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ، ظَنٌّ فَعِلْمٌ بِالتَّجَسُّسِ فاغتياب. وضمير النصب فِي كَرِهْتُمُوهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَيِّتِ. وَقَرَأَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ: فكرّهتموه، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَيِّتِ. وَقَرَأَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ: فَكُرِّهْتُمُوهُ، بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَرَوَاهَا الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَكَرِهَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَقِيَاسُهُ إِذَا ضُعِّفَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، كَقِرَاءَةِ الْخُدْرِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، أَيْ جَعَلْتُمْ فَكَرِهْتُمُوهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ فَعَلَى التَّضْمِينِ بِمَعْنَى بَغَّضَ، وَهُوَ يتعدى لواحد، وبإلى إِلَى آخَرَ، وَبَغَّضَ مَنْقُولٌ بِالتَّضْعِيفِ مِنْ بَغَّضَ الشَّيْءَ إِلَى زَيْدٍ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَاتَّقُوا اللَّهَ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً

إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. قِيلَ: غَضِبَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ حِينَ أَذَّنَ بِلَالٌ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى الْكَعْبَةِ، فَنَزَلَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سَبَبُهَا قَوْلُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ لِرَجُلٍ لَمْ يُفْسِحْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ فُلَانَةَ فَوَبَّخَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَا تَفْضُلُ أَحَدًا إِلَّا فِي الدِّينِ وَالتَّقْوَى» . وَنَزَلَ الْأَمْرُ بِالتَّفَسُّحِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا. مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى: أَيْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، أَوْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّفَاخُرِ. وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ: الشُّعُوبُ فِي الْعَجَمِ وَالْقَبَائِلُ فِي الْعَرَبِ، وَالْأَسْبَاطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: الشُّعُوبُ: عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ، وَالْقَبَائِلُ: رَبِيعَةُ وَمُضَرُ وَسَائِرُ عَدْنَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: الشَّعْبُ: النَّسَبُ الْأَبْعَدُ، وَالْقَبِيلَةُ: الْأَقْرَبُ، قَالَ الشَّاعِرُ: قَبَائِلُ مِنْ شُعُوبٍ لَيْسَ فِيهِمْ ... كَرِيمٌ قَدْ يُعَدُّ وَلَا نَجِيبُ وَقِيلَ: الشُّعُوبُ: الْمَوَالِي، وَالْقَبَائِلُ: الْعَرَبُ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الشُّعُوبُ: الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وَالْقَبَائِلُ: الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ. انْتَهَى. وَوَاحِدُ الشُّعُوبِ شَعْبٌ، بِفَتْحِ الشِّينِ. وَشَعْبٌ: بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ، وَالنَّسَبُ إِلَى الشُّعُوبِ شَعُوبِيَّةٌ، بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُمُ الْأُمَمُ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَرَبٍ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْعَجَمَ عَلَى الْعَرَبِ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ خَارِجِيًّا شَعُوبِيًّا، وَلَهُ كِتَابٌ فِي مَنَاقِبِ الْعَرَبِ، وَلِابْنِ غَرْسَبَةَ رِسَالَةٌ فَصِيحَةٌ فِي تَفْضِيلِ الْعَجَمِ عَلَى الْعَرَبِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْأَنْدَلُسِ بِرَسَائِلَ عَدِيدَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِتَعارَفُوا، مُضَارِعَ تَعَارَفَ، مَحْذُوفَ التَّاءِ وَالْأَعْمَشُ: بِتَاءَيْنِ وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي التَّاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ: لِتَعْرِفُوا، مُضَارِعَ عَرَفَ وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ جَعَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَ، كَيْ يَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي النَّسَبِ، فَلَا يَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ آبائه، لا التفاخر بِالْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَدَعْوَى التَّفَاضُلِ، وَهِيَ التَّقْوَى. وَفِي خُطْبَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ

عَلَى اللَّهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ الآية. وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ» . وَمَا زَالَ التَّفَاخُرُ بِالْأَنْسَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَبِالْبِلَادِ وَبِالْمَذَاهِبِ وَبِالْعُلُومِ وَبِالصَّنَائِعِ، وَأَكْثَرُهُ بِالْأَنْسَابِ: وَأَعْجَبُ شَيْءٍ إِلَى عَاقِلٍ ... فُرُوعٌ عَنِ الْمَجْدِ مسأخره إِذَا سُئِلُوا مَا لَهُمْ مِنْ عُلًا ... أَشَارُوا إِلَى أَعْظَمِ نَاخِرَهْ وَمِنْ ذَلِكَ: افْتِخَارُ أَوْلَادِ مَشَايِخِ الزَّوَايَا الصُّوفِيَّةِ بِآبَائِهِمْ، وَاحْتِرَامُ النَّاسِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَتَعْظِيمُهُمْ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ بِخِلَافِ الْآبَاءِ فِي الدِّينِ وَالصَّلَاحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِفَتْحِهَا، وَكَانَ قَرَأَ: لِتَعْرِفُوا، مُضَارِعُ عَرَفَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ أَنَّ مَعْمُولَةً لِتَعْرِفُوا، وَتَكُونَ اللَّامُ فِي لِتَعْرِفُوا لَامَ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَامَ كَيْ، فَلَا يَظْهَرُ الْمَعْنَى أَنَّ جَعْلَهُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِأَنْ تَعْرِفُوا أَنَّ الْأَكْرَمَ هُوَ الْأَتْقَى. فَإِنْ جَعَلْتَ مَفْعُولَ لِتَعْرِفُوا مَحْذُوفًا، أَيْ لِتَعْرِفُوا الْحَقَّ، لِأَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، سَاغَ فِي لَامِ لِتَعَارَفُوا أَنْ تَكُونَ لَامُ كَيْ. قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، قَبِيلَةٌ تُجَاوِرُ الْمَدِينَةَ، أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَقُلُوبُهُمْ دِخْلَةٌ، إِنَّمَا يُحِبُّونَ الْمَغَانِمَ وَعَرَضَ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَأَشْجَعُ وَغِفَارٌ قَالُوا آمَنَّا فَاسْتَحْقَقْنَا الْكَرَامَةَ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِكْذَابِهِمْ بِلَفْظِهِ، بَلْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ، وَهَذَا فِي أَعْرَابٍ مَخْصُوصِينَ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» الْآيَةَ. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، فَهُوَ اللَّفْظُ الصَّادِقُ مِنْ أَقْوَالِكُمْ، وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ والانقياد ظاهرا، ولم يواطىء أَقْوَالَكُمْ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ: وَجَاءَ النَّفْيُ بِلَمَّا الدَّالَّةِ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ إِلَى زَمَانِ الْإِخْبَارِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ تُؤْمِنُوا لَا يُرَادُ بِهِ انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، بَلْ مُتَّصِلًا بِزَمَانِ الْإِخْبَارِ أَيْضًا، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ بِلَمْ، جَازَ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ قَدِ انْقَطَعَ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ وَقَدْ قَامَ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مُتَّصِلًا بِزَمَنِ الْإِخْبَارِ. فَإِذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِزَمَنِ الْإِخْبَارِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُولَ: وَقَدْ قَامَ، لِتَكَاذُبِ الْخَبَرَيْنِ. وَأَمَّا لَمَّا، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشيء متصلا بزمان

_ (1) سورة التوبة: 9/ 99.

الْإِخْبَارِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ لَمَّا يَقُمْ زَيْدٌ وَقَدْ قَامَ لِلتَّكَاذُبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا يُشْبِهُ التَّكْرِيرَ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْلَالٍ بِفَائِدَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ: لَمْ تُؤْمِنُوا هُوَ تَكْذِيبُ دَعْوَاهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ تَوْقِيتٌ لِمَا أُمِرُوا بِهِ أَنْ يَقُولُوهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا حِينَ لَمْ يَثْبُتْ مُوَاطَأَةُ قُلُوبِكُمْ لِأَلْسِنَتِكُمْ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: قُولُوا. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: قُولُوا أَسْلَمْنا غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِحَالٍ، وَأَنَّ وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ إِخْبَارٌ غَيْرُ قَيْدٍ فِي قَوْلِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا فِي لَمَّا مِنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ. انْتَهَى، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ مَا نُفِيَ بَلَمَّا يَقَعُ بَعْدَ وَلَمَّا، إِنَّمَا تَنْفِي مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِزَمَانِ الْإِخْبَارِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَهِيَ جَوَابُ لَقَدْ فَعَلَ، وَهَبْ أَنَّ قَدْ تَدُلُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْفِعْلِ. فَإِذَا نُفِيَ مَا دَلَّ عَلَى التَّوَقُّعِ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ؟ وَهَذَا فَتْحٌ لِبَابِ التَّوْبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَلِتْكُمْ، مِنْ لَاتَ يَلِيتُ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو عَمْرٍو: وَلَا يَأْلِتْكُمْ، مَنْ أَلَتَ، وَهِيَ لُغَةُ غَطَفَانَ وَأَسَدٍ. ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، ثُمَّ تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، وَانْتِفَاءُ الرِّيبَةِ يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَ الْإِيمَانَ، فَقِيلَ: مِنْ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ لَا مِنْ تَرْتِيبِ الزَّمَانِ، أَيْ ثُمَّ أَقُولُ لَمْ يَرْتَابُوا. وَقِيلَ: قَدْ يُخْلِصُ الْإِيمَانَ، ثُمَّ يَعْتَرِضُهُ مَا يَثْلِمُ إِخْلَاصَهُ، فَنَفَى ذَلِكَ، فَحَصَلَ التَّرَاخِي، أَوْ أُرِيدَ انْتِفَاءُ الرِّيبَةِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَرَاخِيَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ، فَحَالُهُ فِي ذَلِكَ كَحَالِهِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ الَّذِي آمَنَ فِيهِ. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ: أَيْ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا، حَيْثُ طَابَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَقَائِدَهُمْ، وَظَهَرَتْ ثَمَرَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلَيْسُوا كَأَعْرَابِ بَنِي أَسَدٍ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ. قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ، هِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ: عَلِمْتُ بِهِ، أَيْ شَعَرْتُ بِهِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهَا وَإِلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ الْجَرِّ لَمَّا ثَقُلَتْ بِالتَّضْعِيفِ، وَفِي ذَلِكَ تَجْهِيلٌ لَهُمْ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِمَا في السموات وَالْأَرْضِ. وَيُقَالُ: مَنَّ عَلَيْهِمْ بِيَدٍ أَسْدَاهَا إِلَيْهِ، أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ. الْمِنَّةُ: النِّعْمَةُ الَّتِي لَا يُطْلَبُ لَهَا ثَوَابٌ، ثُمَّ يُقَالُ: مَنَّ عَلَيْهِ صَنَعَهُ، إِذَا اعْتَدَّهُ عَلَيْهِ مِنَّةً وَإِنْعَامًا، أَيْ يَعْتَدُّونَ عَلَيْكَ أَنْ

أَسْلَمُوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْلَمُوا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ يَتَفَضَّلُونَ عَلَيْكَ بِإِسْلَامِهِمْ. أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بِزَعْمِكُمْ، وَتَعْلِيقُ الْمَنِّ بِهِدَايَتِهِمْ بِشَرْطِ الصِّدْقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ، إِذْ قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى كَذِبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، إِذْ هَدَاكُمْ، جَعَلَا إِذْ مَكَانَ إِنْ، وَكِلَاهُمَا تَعْلِيلٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ. أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَهُوَ الْمَانُّ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ: يَعْلَمُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالْجُمْهُورُ: بِتَاءِ الخطاب.

سورة ق

سورة ق [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 45] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)

بَسَقَتِ النَّخْلَةُ بُسُوقًا: طَالَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ كِرَامٍ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا ... وَفَاتَ ثِمَارُهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ وَبَسَقَ فُلَانٌ عَلَى أَصْحَابِهِ: أَيْ عَلَاهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ نَوْفَلٍ فِي ابْنِ هُبَيْرَةَ: يَا ابْنَ الَّذِينَ بِمَجْدِهِمْ ... بَسَقَتْ عَلَى قَيْسٍ فَزَارَهْ وَيُقَالُ: بَسَقَتِ الشَّاةُ: وَلَدَتْ، وَأَبْسَقَتِ النَّاقَةُ: وَقَعَ فِي ضَرْعِهَا اللِّبَأُ قَبْلَ النِّتَاجِ فَهِيَ مُبْسِقٌ، وَنُوقٌ مَبَاسِقُ. حَادَ عَنِ الشَّيْءِ: مَالَ عَنْهُ، حُيُودًا وَحَيْدَةً وَحَيْدُودَةً. الْوَرِيدُ: عِرْقٌ

كَبِيرٌ فِي الْعُنُقِ، يُقَالُ: إِنَّهُمَا وَرِيدَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَا بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْعِلْبَاوَيْنِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: هُوَ نَهْرُ الْجَسَدِ، هُوَ فِي الْقَلْبِ: الْوَتِينُ، وَفِي الظَّهْرِ: الْأَبْهَرُ، وَفِي الذِّرَاعِ وَالْفَخِذِ: الْأَكْحَلُ وَالنَّسَا، وَفِي الْخِنْصِرِ: الْأَسْلَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَرِيدَانِ عِرْقَانِ مُكْتَنِفَانِ بِصَحْفَتَيِ الْعُنُقِ فِي مُقَدَّمِهَا مُتَّصِلَانِ بِالْوَتِينِ، يَرِدَانِ مِنَ الرَّأْسِ إِلَيْهِ، سُمِّيَ وَرِيدًا لِأَنَّ الرُّوحَ تَرِدُهُ. قال: كان وريديه رشا صُلُبْ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا، لَمْ يَكُنْ إِيمَانُهُمْ حَقًّا، وَانْتِفَاءُ إِيمَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ. وَعَدَمُ الْإِيمَانِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ به. وق حَرْفُ هِجَاءٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَدْلُولِهِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا مُتَعَارِضَةً، لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَاطَّرَحْتُ نَقْلَهَا فِي كِتَابِي هَذَا. وَالْقُرْآنِ مقسم به والْمَجِيدِ صِفَتُهُ، وَهُوَ الشَّرِيفُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّكَ جِئْتَهُمْ مُنْذِرًا بِالْبَعْثِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا. بَلْ عَجِبُوا، وَقِيلَ: مَا رَدُّوا أَمْرَكَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ، وَالْمُبَرِّدُ، وَالزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ لَتُبْعَثَنَّ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَذْكُورٌ، فَعَنِ الْأَخْفَشِ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ كَيْسَانَ، وَالْأَخْفَشِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ وَعَنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ: بَلْ عَجِبُوا، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ عَجِبُوا. وَقِيلَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ. وَقِيلَ: مَا يُبَدَّلُ

الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَافْ بِسُكُونِ الْفَاءِ، وَيَفْتَحُهَا عِيسَى، وَيَكْسِرُهَا الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو السَّمَّالِ وَبِالضَّمِّ: هَارُونُ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا فِيمَا نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَالْأَصْلُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، إِذَا لَمْ تُرَكَّبْ مَعَ عَامِلٍ، أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً. فَمَنْ فَتَحَ قَافَ، عَدَلَ إِلَى الْحَرَكَاتِ وَمَنْ كَسَرَ، فَعَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَمَنْ ضَمَّ، فَكَمَا ضُمَّ قَطُّ وَمُنْذُ وَحَيْثُ. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ: إِنْكَارٌ لِتَعَجُّبِهِمْ مِمَّا لَيْسَ بِعَجَبٍ، وَهُوَ أَنْ يُنْذِرَهُمْ بِالْخَوْفِ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ عَرَفُوا صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَنُصْحَهُ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ لَا يَعْجَبُوا، وَهَذَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يُخَوِّفُ وَيُنْذِرُ بِمَا يَكُونُ في المآكل مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَالضَّمِيرُ فِي بَلْ عَجِبُوا عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَقالَ الْكافِرُونَ تَنْبِيهًا عَلَى الْقِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَجَبِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَدْ جُبِلُوا عَلَى الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ عَجِبُوا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، قِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ مَفْطُورٍ يَعْجَبُ مِنْ بَعْثَةِ بَشَرٍ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، لَكِنَّ مَنْ وُفِّقَ نَظَرَ فَاهْتَدَى وَآمَنَ، وَمَنْ خُذِلَ ضَلَّ وَكَفَرَ وَحَاجَّ بِذَلِكَ الْعَجَبِ وَالْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا إِلَى مَجِيءِ مُنْذِرٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْذَارُ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْبَعْثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْجِعِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بعد. وقرأ الجمهور: أَإِذا بِالِاسْتِفْهَامِ، وَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي تَحْقِيقِ الثَّانِيَةِ وَتَسْهِيلِهَا وَالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: إِذَا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَةُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونُوا عَدَلُوا إِلَى الْخَبَرِ وَأَضْمَرَ جَوَابَ إِذَا، أَيْ إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا رَجَعْنَا. وَأَجَازَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ رَجْعٌ بَعِيدٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْفَاءِ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَقَصَرَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الشِّعْرِ فِي الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا فِي قِرَاءَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا؟ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، أَيِ الْبَعْثُ. رَجْعٌ بَعِيدٌ، أَيْ مُسْتَبْعَدٌ فِي الْأَوْهَامِ وَالْفِكْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ مَعْنَاهُ: أَحِينَ نَمُوتُ وَنَبْلَى نَرْجِعُ؟ انْتَهَى. وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جِنِّي، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَئِذَا مِتْنَا بَعْدَ رَجْعِنَا، فَدَلَّ رَجْعٌ بَعِيدٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ، وَيَحِلُّ مَحَلَّ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِمْ أَئِذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجْعُ بِمَعْنَى الْمَرْجُوعِ،

وَهُوَ الْجَوَابُ، وَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِبْعَادًا لِإِنْكَارِهِمْ مَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ الْبَعْثِ، وَالْوَقْفُ قَبْلَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَسَنٌ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا نَاصِبُ الظَّرْفِ إِذَا كَانَ الرَّجْعُ بِمَعْنَى الْمَرْجُوعِ؟ قُلْتُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُنْذِرُ مِنَ الْمُنْذَرِ بِهِ، وَهُوَ الْبَعْثُ. انْتَهَى. وَكَوْنُ ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ بِمَعْنَى مَرْجُوعٍ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ كَلَامِهِمْ، عَلَى مَا شَرَحَهُ مَفْهُومٌ عَجِيبٌ يَنْبُو عَنْ إِدْرَاكِهِ فَهُمُ الْعَرَبُ. قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ: أَيْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَعِظَامِهِمْ وَآثَارِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ، وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ لِاسْتِبْعَادِهِمُ الرَّجْعَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، كَانَ قَادِرًا عَلَى رَجْعِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ مَا يَحْصُلُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ مِنْ مَوْتَاهُمْ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ: أَيْ حَافِظٌ لِمَا فِيهِ جَامِعٌ، لَا يَفُوتُ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ مَحْفُوظٌ مِنَ الْبِلَى وَالتَّغَيُّرِ. وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْإِحْصَاءِ. وَفِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ أَنَّ الْأَرْضَ تَأْكُلُ ابْنَ آدَمَ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، وَهُوَ عَظْمٌ كَالْخَرْدَلَةِ مِنْهُ يُرَكَّبُ ابْنُ آدَمَ. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: وَقَدَّرُوا قَبْلَ هَذَا الْإِضْرَابِ جُمْلَةً يَكُونُ مَضْرُوبًا عَنْهَا، أَيْ مَا أَجَادُوا النَّظَرَ، بَلْ كَذَّبُوا. وَقِيلَ: لَمْ يُكَذِّبُوا الْمُنْذِرَ، بَلْ كَذَّبُوا، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِضْرَابَ يَكُونُ بَعْدَ جُمْلَةٍ مَنْفِيَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ كَذَّبُوا: إِضْرَابٌ أَتْبَعَ الْإِضْرَابَ الْأَوَّلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ جَاءُوا بِمَا هُوَ أَفْظَعُ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ النُّبُوَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْمُعْجِزَاتِ. انْتَهَى. وَكَانَ هَذَا الْإِضْرَابُ الثَّانِي بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَكِلَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ الْجَوَابِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، فَلَا يَكُونُ قبل لثانية مَا قَدَّرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا أَجَادُوا النَّظَرَ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ: الْقُرْآنُ، أَوِ الْبَعْثُ، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْإِسْلَامُ، أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا جاءَهُمْ: أَيْ لَمْ يُفَكِّرُوا فِيهِ، بَلْ بِأَوَّلِ مَا جَاءَهُمْ كَذَّبُوا وَالْجَحْدَرِيُّ: لِمَا جَاءَهُمْ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَاللَّامُ لَامُ الْجَرِّ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِمْ كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ أَيْ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ إِيَّاهُ. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، قَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: مُخْتَلِطٍ: مَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً شَاعِرٌ، وَمَرَّةً كَاهِنٌ. قَالَ قَتَادَةُ: مُخْتَلِفٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُلْتَبِسٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاسِدٍ. وَمَرَجَتْ أَمَانَاتُ النَّاسِ: فَسَدَتْ، وَمَرَجَ الدِّينُ: اخْتَلَطَ. قَالَ أَبُو وَاقِدٍ: وَمَرَجَ الدِّينُ فَأَعْدَدْتُ له ... مسرف الحارك محبول الْكَنَدِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَرِيجُ: الْأَمْرُ الْمُنْكَرُ، وَعَنْهُ أَيْضًا مُخْتَلِطٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَجَالَتْ وَالْتَمَسْتُ لَهَا حَشَاهَا ... فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ وَالْأَصْلُ فِيهِ الِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ. مَرَجَ الْخَاتَمُ فِي إِصْبَعِي، إِذَا قَلِقَ مِنَ الْهُزَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْمَرِيجُ، بِاعْتِبَارِ انْتِقَالِ أَفْكَارِهِمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْمُنْذِرُ قَائِلًا عَدَمَ قَبُولِهِمْ أَوَّلَ إِنْذَارِهِ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ الْعَجَبَ مِنْهُمْ، ثُمَّ اسْتِبْعَادَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ، ثُمَّ التَّكْذِيبَ لِمَا جَاءَ بِهِ. أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حِينَ كَفَرُوا بِالْبَعْثِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، كَيْفَ بَنَيْناها مُرْتَفِعَةً مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَزَيَّنَّاها بِالنَّيِّرَيْنِ وَبِالنُّجُومِ، وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ: أَيْ مِنْ فُتُوقٍ وَسُقُوفٍ، بَلْ هِيَ سَلِيمَةٌ مِنْ كُلِّ خَلَلٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها: بَسَطْنَاهَا، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، أَيْ جِبَالًا ثَوَابِتَ تَمْنَعُهَا مِنَ التَّكَفُّؤِ، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ: أَيْ نَوْعٍ، بَهِيجٍ: أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ بَهِيجٍ، أَيْ يَسُرُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبْصِرَةً وَذِكْرى بِالنَّصْبِ، وَهُمَا مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مِنْ لَفْظِهِمَا، أَيْ بَصَّرَ وَذَكَّرَ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَبْصِرَةٌ بِالرَّفْعِ، وَذِكْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، أَيْ ذَلِكَ الْخَلْقُ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ تَبْصِرَةٌ، وَالْمَعْنَى: يَتَبَصَّرُ بذلك ويتذكر، لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ: أَيْ رَاجِعٍ إِلَى رَبِّهِ مُفَكِّرٍ فِي بَدَائِعِ صُنْعِهِ. مَاءً مُبارَكاً: أَيْ كَثِيرَ الْمَنْفَعَةِ، وَحَبَّ الْحَصِيدِ: أَيِ الْحَبَّ الْحَصِيدَ، فَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، كَمَا يَقُولُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْحَصِيدُ: كُلُّ مَا يُحْصَدُ مِمَّا لَهُ حَبٌّ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ. باسِقاتٍ: أَيْ طِوَالًا فِي الْعُلُوِّ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهَا حَالَةُ الْإِنْبَاتِ، لَمْ تَكُنْ طِوَالًا. وَبَاسِقَاتٌ جَمْعٌ. وَالنَّخْلَ اسْمُ جِنْسٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُذَكَّرَ، نَحْوَ قَوْلِهِ: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «1» ، وَأَنْ يُؤَنَّثَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَخْلٍ خاوِيَةٍ «2» ، وَأَنْ يُجْمَعَ بِاعْتِبَارِ إِفْرَادِهِ، وَمِنْهُ بَاسِقَاتٌ، وَقَوْلِهِ: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ «3» . وَالْجُمْهُورُ: بَاسِقَاتٍ بِالسِّينِ. وَرَوَى قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَرَأَ: بَاصِقَاتٍ بِالصَّادِ ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَنِي الْعَنْبَرِ، يُبْدِلُونَ مِنَ السِّينِ صَادًا إِذَا وَلِيَتْهَا، أَوْ فُصِلَ بِحَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ، خَاءٌ أَوْ عَيْنٌ أَوْ قَافٌ أَوْ طَاءٌ. لَها طَلْعٌ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ عِنْدَ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ «4» . نَضِيدٌ: أَيْ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، يُرِيدُ كَثْرَةَ الطَّلْعِ وَتَرَاكُمَهُ، أَيْ كَثْرَةَ مَا فِيهِ مِنَ الثَّمَرِ. وَأَوَّلُ ظُهُورِ الثَّمَرِ فِي الْكُفُرَّى هُوَ أَبْيَضُ يُنْضَدُ كَحَبِّ الرُّمَّانِ، فما دام ملتصقا

_ (1) سورة القمر: 54/ 20. (2) سورة الحاقة: 69/ 7. (3) سورة الرعد: 13/ 12. (4) سورة الأنعام: 6/ 99.

بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ نَضِيدٌ، فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْكُفُرَّى تفرق فليس بنضيد. ورِزْقاً نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى: وَأَنْبَتْنَا رَزَقْنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَيْتاً بِالتَّخْفِيفِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَالِدٌ: بِالتَّثْقِيلِ، وَالْإِشَارَةُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْإِحْيَاءِ، أَيِ الْخُرُوجُ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً بَعْدَ مَوْتِكُمْ، مِثْلُ ذَلِكَ الْحَيَاةِ لِلْبَلْدَةِ الْمَيِّتِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَمْثِلَةٌ وَأَدِلَّةٌ عَلَى الْبَعْثِ. وَذَكَرَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ ثَلَاثَةً: الْبِنَاءُ وَالتَّزْيِنُ وَنَفْيُ الْفُرُوجِ، وَفِي الْأَرْضِ ثَلَاثَةً: الْمَدُّ وَإِلْقَاءُ الرَّوَاسِي وَالْإِنْبَاتُ. قَابَلَ الْمَدَّ بِالْبِنَاءِ، لِأَنَّ الْمَدَّ وَضْعٌ وَالْبِنَاءَ رَفْعٌ. وَإِلْقَاءَ الرَّوَاسِي بِالتَّزْيِينِ بِالْكَوَاكِبِ، لِارْتِكَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْإِنْبَاتَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الشَّقِّ بِانْتِفَاءِ الْفُرُوجِ، فَلَا شَقَّ فِيهَا. وَنَبَّهَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِنْبَاتُ عَلَى مَا يُقْطَفُ كُلَّ سَنَةٍ وَيَبْقَى أَصْلُهُ، وَمَا يُزْرَعُ كُلَّ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ وَيُقْطَفُ كُلَّ سَنَةٍ، وَعَلَى مَا اخْتَلَطَ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَبَعْضُ الثِّمَارِ فَاكِهَةٌ لَا قُوتٌ، وَأَكْثَرُ الزَّرْعِ قُوتٌ وَالثَّمَرُ فَاكِهَةٌ وَقُوتٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، ذَكَرَ مَنْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تسلية لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُفْرَدَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَصَصِ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَطَلْحَةُ، وَنَافِعٌ: الْأَيْكَةِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَالْجُمْهُورُ: لَيْكَةِ. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ: أَيْ كُلُّهُمْ، أَيْ جَمِيعُهُمْ كَذَّبَ وَحَمَلَ عَلَى لَفْظِ كُلٌّ، فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي كَذَّبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ. وَأَجَازَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءِ نُحَاةِ مِصْرَ، أَنْ يَحْذِفَ التَّنْوِينَ مِنْ كُلٌّ جَعْلُهُ غَايَةً، وَيُبْنَى عَلَى الضَّمِّ، كَمَا يُبْنَى قَبْلُ وَبَعْدُ، فأجاز كل منطلق بِضَمِّ اللَّامِ دُونَ تَنْوِينٍ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ. فَحَقَّ وَعِيدِ: أَيْ وَجَبَ تَعْذِيبُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ وَإِهْلَاكُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَتَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ وَمَنْ كَذَّبَ الرسول. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ إِنْشَاءُ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ عَلَى التَّدْرِيجِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ

عَيِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَعَيِينَا، بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، مَاضِي عَيِيَ، كَرَضِيَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مسلم، والقورصي عن أبي جعفر، وَالسِّمْسَارُ عَنْ شَيْبَةَ، وَأَبُو بَحْرٍ عَنْ نَافِعٍ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ فِي الثَّانِيَةِ، هَكَذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ فِي كِتَابِ الْكَامِلِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ لَهُ: أَفَعَيِّنَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَفَكَّرْتُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ تَوْجِيهَهَا، فَخَرَّجْتُهَا عَلَى لُغَةِ مَنْ أَدْغَمَ الْيَاءَ فِي الْيَاءِ فِي الْمَاضِي، فَقَالَ: عَيَّ فِي عَيِيَ، وَحَيَّ فِي حَيِيَ. فَلَمَّا أَدْغَمَ، أَلْحَقَهُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَفُكَّ الْإِدْغَامَ فَقَالَ: عَيِّنَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، يَقُولُونَ فِي رَدَدْتُ وَرَدَدْنَا: رَدَّتْ وَرَدَّنَا، فَلَا يَفُكُّونَ، وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ الْيَاءُ الْمُشَدَّدَةُ مَفْتُوحَةً. فَلَوْ كَانَ نَا ضَمِيرَ نَصْبٍ، لَاجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِدْغَامِ، نَحْوُ: رَدَّنَا زَيْدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخَلْقُ الْأَوَّلُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى: أَعَجَزْنَا عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، فَنَعْجِزَ عَنِ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهَذَا تَوْقِيفٌ لِلْكُفَّارِ، وَتَوْبِيخٌ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَيْهِمْ. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ: أَيْ خَلْطٍ وَشُبْهَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ: يَا جَارِ إِنَّهُ لَمَلْبُوسٌ عَلَيْكَ، اعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ. مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ: أَيْ مِنَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ: هَذِهِ آيَاتٌ فِيهَا إِقَامَةُ حُجَجٍ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقِيلَ: آدَمُ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ: قُرْبَ عِلْمٍ بِهِ وَبِأَحْوَالِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ خَفِيَّاتِهِ، فَكَأَنَّ ذَاتَهُ قَرِيبَةٌ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، أَيْ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عن الأمكنة. وحَبْلِ الْوَرِيدِ: مَثَلٌ فِي فَرْطِ الْقُرْبِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: هُوَ مِنِّي مَقْعَدَ الْقَابِلَةِ، وَمَقْعَدَ الْإِزَارِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَالْمَوْتُ أَدْنَى لِي مِنَ الْوَرِيدِ وَالْحَبْلُ: الْعِرْقُ الَّذِي شُبِّهَ بِوَاحِدِ الْحِبَالِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْوَرِيدِ لِلْبَيَانِ، كَقَوْلِهِمْ: بعير سانية. أَوْ يُرَادُ حَبْلُ الْعَاتِقِ، فَيُضَافُ إِلَى الْوَرِيدِ، كَمَا يُضَافُ إِلَى الْعَاتِقِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ أَقْرَبُ. وَقِيلَ: اذْكُرْ، قِيلَ: وَيَحْسُنُ تَقْدِيرُ اذْكُرْ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ خَبَرًا مُجَرَّدًا بِالْخَلْقِ وَالْعِلْمِ بِخَطَرَاتِ الْأَنْفُسِ، وَالْقُرْبِ بِالْقُدْرَةِ وَالْمِلْكِ. فَلَمَّا تَمَّ الْإِخْبَارُ، أَخْبَرَ بِذِكْرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُصَدِّقُ هَذَا الْخَبَرَ، وَتُعِينُ وُرُودَهُ عند السامع. فمنها:

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 33.

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ، وَمِنْهَا مَجِيءُ سَكْرَةِ الْمَوْتِ، وَمِنْهَا: النَّفْخُ فِي الصُّورِ، وَمِنْهَا: مَجِيءُ كُلِّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. وَالْمُتَلَقِّيَانِ: الْمَلَكَانِ الْمُوَكَّلَانِ بِكُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَمَلَكُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَفَظَةُ أَرْبَعَةٌ، اثْنَانِ بالنهار واثنان بالليل. وقعيدة: مُفْرَدٌ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مُقَاعِدَ، كَمَا تَقُولُ: جَلِيسٌ وَخَلِيطٌ: أَيْ مُجَالِسُ وَمُخَالِطُ، وَأَنْ يَكُونَ عَدْلٌ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، كَعَلِيمٍ. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: مُفْرَدٌ أُقِيمَ مَقَامَ اثْنَيْنِ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، أَيْ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ، أَيْ كُنْتُ مِنْهُ بَرِيًّا، وَوَالِدِي بَرِيًّا. وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّ التَّقْدِيرَ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ، وَعَنِ الشِّمَالِ، فَأَخَّرَ قَعِيدٌ عَنْ مَوْضِعِهِ. وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ أَنَّ لَفْظَ قَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ، وَظَاهِرُ مَا يَلْفِظُ الْعُمُومُ. قال مجاهد، وأبو الحواراء: يُكْتَبُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: يَكْتُبَانِ جَمِيعَ الْكَلَامِ، فَيُثْبِتُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَيَمْحُو غَيْرَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ، أَيْ مِنْ قَوْلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَقَالَ: مَعْنَاهُ عِكْرِمَةُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا لَا يُكْتَبُ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ قُعُودِ الْمَلَكَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ. رَقِيبٌ: مَلَكٌ يَرْقُبُ. عَتِيدٌ: حَاضِرٌ، وَإِذَا كَانَ عَلَى اللَّفْظِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، فَأَحْرَى عَلَى الْعَمَلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَإِذَا مَاتَ، طُوِيَتْ صَحِيفَتُهُ. وَقِيلَ: لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَأْ كِتَابَكَ. وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ يَتَلَقَّى، وَسَكْرَةُ الْمَوْتِ: مَا يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ عِنْدَ نِزَاعِهِ، وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ الْحَقَّ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَنْطَقَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، مِنْ سَعَادَةِ الْمَيِّتِ أَوْ شَقَاوَتِهِ، أَوْ لِلْحَالِ، أَيْ مُلْتَبَسِهِ بِالْحَقِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَكْرَانُ جَمْعًا. ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ: أَيْ تَمِيلُ. تَقُولُ: أَعِيشُ كَذَا وَأَعِيشُ كَذَا، فَمَتَى فَكَّرَ فِي قُرْبِ الْمَوْتِ، حَادَ بِذِهْنِهِ عَنْهُ وَأَمَّلَ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الزَّمَنِ. وَمِنَ الْحَيْدِ: الْحَذَرُ مِنَ الموت، وظاهر تحبد أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْفَاجِرِ. تَحِيدُ: تَنْفِرُ وَتَهْرُبُ. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، هُوَ عَلَى حَذْفٍ: أَيْ وَقْتُ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى

مَصْدَرِ نَفَخَ، وَأَضَافَ الْيَوْمَ إِلَى الْوَعِيدِ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعًا عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَعَهَا وَطَلْحَةُ: بِالْحَاءِ مُثْقَلَةً، أَدْغَمَ الْعَيْنَ فِي الْهَاءِ، فَانْقَلَبَتَا حَاءً كَمَا قَالُوا: ذَهَبَ مَحَّمْ، يُرِيدُ مَعَهُمْ، سائِقٌ: جَاثٍ عَلَى السَّيْرِ، وَشَهِيدٌ: يَشْهَدُ عَلَيْهِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: مَلَكَانِ مُوَكَّلَانِ بِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَحَدُهُمَا يَسُوقُهُ، وَالْآخَرُ مِنْ حِفْظِهِ يَشْهَدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ مَلَكٌ، وَالشَّهِيدُ النَّبِيُّ. وَقِيلَ: الشَّهِيدُ: الْكِتَابُ الَّذِي يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسْمَا جِنْسٍ، فَالسَّائِقُ: مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وَالشَّهِيدُ: الْحَفَظَةُ وَكُلُّ مَنْ يَشْهَدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مَلَكٌ، وَالشَّهِيدُ: جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَبْعُدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الْجَوَارِحَ إِنَّمَا تَشْهَدُ بِالْمَعَاصِي، وَقَوْلُهُ: كُلُّ نَفَسٍ يَعُمُّ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: وَشَهِيدٌ بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَيَقْوَى فِي شَهِيدٍ اسْمُ الْجِنْسِ، فَشَهِدَ بِالْخَيْرِ الْمَلَائِكَةُ وَالْبِقَاعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ إِنْسٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ مَلَكٌ، وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: السَّائِقُ شَيْطَانٌ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَلَكَانِ، أَحَدُهُمَا يَسُوقُهُ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَالْآخَرُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ أَوْ مَلَكٌ واحد جامع بنى الْأَمْرَيْنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَلَكٌ يسوقه ويشهد عليه ويحل مَعَهَا سَائِقٌ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ كُلُّ لِتَعَرُّفِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَعْرِفَةِ، هَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يَصْدُرُ عن مبتدىء فِي النَّحْوِ، لِأَنَّهُ لَوْ نُعِتَ كُلُّ نَفْسٍ، لَمَا نُعِتَ إِلَّا بِالنَّكِرَةِ، فَهُوَ نَكِرَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَعَرَّفُ كُلٌّ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى نَكِرَةٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ، قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ، قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ، بِفَتْحِ التَّاءِ، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك وَالْجَحْدَرِيُّ: بِكَسْرِهَا عَلَى مُخَاطَبَةِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَنْكَ غِطاءَكَ

فَبَصَرُكَ ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْكَافِ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ كُلٌّ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالْجَحْدَرِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: عَنْكِ غِطَاءَكِ فَبَصَرُكِ، بِالْكَسْرِ مُرَاعَاةً لِلنَّفْسِ أَيْضًا، وَلَمْ يَنْقِلِ الْكَسْرَ فِي الْكَافِ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ إِلَّا عَنْ طَلْحَةَ وَحْدَهُ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ فِي لَقَدْ كُنْتَ. الكسر. فَإِنْ كَسَرَ، فَإِنَّ الْجَمِيعَ شَرْعٌ وَاحِدٌ وَإِنْ فَتَحَ لَقَدْ كُنْتَ، فَحَمْلٌ عَلَى كُلُّ أَنَّهُ مُذَكَّرٌ. وَيَجُوزُ تَأْنِيثُ كُلُّ فِي هَذَا الْبَابِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسٍ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ حَمَلَ بَعْضَهُ عَلَى اللَّفْظِ وَبَعْضَهُ عَلَى الْمَعْنَى، مِثْلُ قَوْلِهِ: فَلَهُ أَجْرُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» . انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالضَّحَّاكُ: يُقَالُ لِلْكَافِرِ الْغَافِلِ مِنْ ذَوِي النَّفْسِ الَّتِي مَعَهَا السَّائِقُ وَالشَّهِيدُ، إِذَا حَصَلَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، وَعَايَنَ الْحَقَائِقَ الَّتِي لَا يُصَدِّقُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيَتَغَافَلُ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا: أَيْ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ. فَلَمَّا كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْكَ، احْتَدَّ بَصَرُكَ: أَيْ بَصِيرَتُكَ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ حَدِيدُ الذِّهْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ، أَيِ احْتَدَّ الْتِفَاتُهُ إِلَى مِيزَانِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَوْلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْرُمُ نَقْلُهُ، وَهُوَ فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَكَنَّى بِالْغِطَاءِ عَنِ الْغَفْلَةِ، كَأَنَّهَا غَطَّتْ جَمِيعَهُ أَوْ عَيْنَيْهِ، فَهُوَ لَا يُبْصِرُ. فَإِذَا كَانَ فِي الْقِيَامَةِ، زَالَتْ عَنْهُ الْغَفْلَةُ، فَأَبْصَرَ مَا كَانَ لَمْ يُبْصِرْهُ مِنَ الْحَقِّ. وَقالَ قَرِينُهُ: أَيْ مِنْ زَبَانِيَةِ جَهَنَّمَ، هَذَا: الْعَذَابُ الَّذِي لَدَيَّ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، عَتِيدٌ: حَاضِرٌ، وَيُحَسِّنُ هَذَا الْقَوْلِ إِطْلَاقَ مَا عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَرِينُهُ: الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِسَوْقِهِ، أَيْ هَذَا الْكَافِرُ الَّذِي أَسُوقُهُ لَدَيَّ حَاضِرٌ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: وَقِيلَ قَرِينُهُ: شَيْطَانُهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ أَنَّ الْقَرِينَ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ هُوَ شَيْطَانُهُ فِي الدُّنْيَا وَمُغْوِيهِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَفْظُ الْقَرِينِ اسْمُ جِنْسٍ، فَسَائِقُهُ قَرِينٌ، وَصَاحِبُهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ قَرِينٌ، وَمُمَاشِي الْإِنْسَانِ فِي طَرِيقَةِ قَرِينٌ. وَقِيلَ: قَرِينُهُ هُنَا: عَمَلُهُ قَلْبًا وَجَوَارِحًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ قَرِينُهُ: هُوَ الشَّيْطَانُ الذي قبض لَهُ فِي قَوْلِهِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «2» ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ، هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، هَذَا شَيْءٌ لَدَيَّ، وَفِي مَلَكَتِي عَتِيدٌ لِجَهَنَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَلَكًا يَسُوقُهُ، وَآخَرَ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَشَيْطَانًا مَقْرُونًا بِهِ يَقُولُ: قَدْ أَعْتَدْتُهُ لِجَهَنَّمَ وَهَيَّأْتُهُ لها بإغواي وإضلالي. انتهى،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 112. (2) سورة الزخرف: 43/ 36. [.....]

وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا: الْمَلَكُ الشَّهِيدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ كَاتِبُ سَيِّئَاتِهِ، وَمَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالظَّرْفِ وبعتيد وَمَوْصُولَةٌ، وَالظَّرْفُ صِلَتُهَا. وَعَتِيدٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ أَوْ خير بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَتِيدٌ بِالرَّفْعِ وَعَبْدُ اللَّهِ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْأَوْلَى إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ: الْخِطَابُ مِنَ اللَّهِ لِلْمَلَكَيْنِ: السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَقِيلَ: لِلْمَلَكَيْنِ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَعَلَى هَذَا الْأَلِفُ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ قَوْلٌ إِمَّا لِلسَّائِقِ، وَإِمَّا لِلَّذِي هُوَ مِنَ الزَّبَانِيَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ مَعْنَاهُ: أَلْقِ أَلْقِ، فَثَنَّى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ بَدَلٌ مِنَ النُّونِ الْخَفِيفَةِ، أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَرْغُوبٌ عَنْهَا، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَلْقَيْنَ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ، وَهِيَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِنَقْلِ التَّوَاتُرِ بِالْأَلِفِ. كُلَّ كَفَّارٍ: أَيْ يَكْفُرُ النعمة والمنعم عَنِيدٍ، قَالَ قَتَادَةُ: مُنْحَرِفٌ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: جَاحِدٌ مُتَمَرِّدٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَسَاقُ مِنَ الْعِنْدِ، وَهُوَ عَظْمٌ يَعْرِضُ فِي الْحَلْقِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْمُعْجَبُ بِمَا فِيهِ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: يَعْنِي الزَّكَاةَ. وَقِيلَ: بَخِيلٌ. وَقِيلَ: مَانِعٌ بَنِي أَخِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ، كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِيهِ لَمْ أَنْفَعْهُ بِشَيْءٍ مَا عِشْتَ، وَالْأَحْسَنُ عُمُومُ الْخَيْرِ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ. مُرِيبٍ، قَالَ الْحَسَنُ: شَاكٍّ فِي اللَّهِ أَوْ فِي الْبَعْثِ. وَقِيلَ: مُتَّهِمٍ الَّذِي جَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ كُلِّ كَفَّارٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ كَفَّارٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، وَهُوَ فَأَلْقِيَاهُ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، وَيَكُونُ فَأَلْقِيَاهُ تَوْكِيدًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مِنْ حَيْثُ يَخْتَصُّ كَفَّارٍ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، فَجَازَ وَصْفُهُ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لَوْ وُصِفَتِ النَّكِرَةُ بِأَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوصَفَ بِالْمَعْرِفَةِ. قالَ قَرِينُهُ: لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ، بِخِلَافٍ وَقالَ قَرِينُهُ قَبْلَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ اسْتُؤْنِفَتْ كَمَا اسْتُؤْنِفَتِ الْجُمَلُ فِي حِكَايَةِ التَّقَاوُلِ فِي مُقَاوَلَةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، فَجَرَتْ مُقَاوَلَةٌ بَيْنَ الْكَافِرِ وَقَرِينِهِ، فَكَأَنَّ الْكَافِرَ قَالَ رَبِّي هُوَ أَطْغَانِي، قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ. وأما وَقالَ قَرِينُهُ فقطف لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى مَا قَبْلَهَا فِي الْحُصُولِ، أَعْنِي مَجِيءَ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ الْمَلَكَيْنِ. وَقَوْلُ قَرِينِهِ: مَا قَالَ لَهُ، وَمَعْنَى مَا أَطْغَيْتُهُ: تَنْزِيهٌ لِنَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ

أَثَّرَ فِيهِ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ: أَيْ مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنِّي، فَهُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «1» ، وَكَذَّبَ الْقَرِينَ، قَدْ أَطْغَاهُ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينِهِ. قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ: اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا مِثْلُ قَالَ قَرِينُهُ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَقِيلَ: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أَيْ فِي دَارِ الْجَزَاءِ وَمَوْقِفِ الْحِسَابِ. وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ لِمَنْ عَصَانِي، فَلَمْ أَتْرُكْ لَكُمْ حُجَّةً. مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ: أَيْ عِنْدِي، فَمَا أَمْضَيْتُهُ لَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَا يُكَذَّبُ لَدَيَّ لِعِلْمِي بِجَمِيعِ الْأُمُورِ. وَقَدَّمْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَقَدَّمْتُ، أَيْ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلِي لَكُمْ مُلْتَبِسًا بِالْوَعِيدِ، أَوْ يَكُونَ قَدَّمَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وبالوعيد هُوَ الْمَفْعُولُ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيمُ كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الِاخْتِصَامِ فِي الْآخِرَةِ، فَاخْتَلَفَ الزَّمَانَانِ. فَلَا تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ قَدَّمْتُ حَالًا إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ، أَيْ وَقَدْ صَحَّ عِنْدَكُمْ أَنِّي قَدَّمْتُ، وَصِحَّةُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَاتَّفَقَ زَمَانُ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَامِ، وَصِحَّةُ التَّقْدِيمِ بِالْحَالِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُقَارَنَةً. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ: تَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِهِ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ، وَالْمَعْنَى: لَا أُعَذِّبُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ. وَقَرَأَ يَوْمَ يَقُولُ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ الْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنُّونِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا: يُقَالُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَانْتِصَابُ يَوْمَ بِظَلَّامٍ، أَوْ بِاذْكُرْ، أَوْ بِأَنْذِرْ كَذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِنُفِخَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يَوْمَ نَقُولُ، وَعَلَى هَذَا يُشَارُ بِذَلِكَ إِلَى يَوْمَ يَقُولُ. انْتَهَى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، قَدْ فُصِلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ، فَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْقَوْلُ فَصَاحَةَ القرآن وبلاغته. وهَلِ امْتَلَأْتِ: تَقْرِيرٌ وَتَوْقِيفٌ، لَا سُؤَالُ اسْتِفْهَامٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ جَهَنَّمَ. قِيلَ: وَهَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْهَا حَقِيقَةً. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ نَقُولُ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ: وَقِيلَ: السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ بَابِ التَّصْوِيرِ الَّذِي يَثْبُتُ الْمَعْنَى، أَيْ حَالُهَا حَالُ مَنْ لَوْ نَطَقَ بِالْجَوَابِ لِسَائِلِهِ لَقَالَ كَذَا، وَهَذَا الْقَوْلُ يُظْهِرُ أَنَّهَا إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكُنْ مَلْأَى. فَقَوْلُهَا: مِنْ مَزِيدٍ، سُؤَالٌ وَرَغْبَةٌ فِي الزِّيَادَةِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِيهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَمْرٌو، وَوَاصِلٌ:

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 22.

كَانَتْ مَلْأَى وَقْتَ السُّؤَالِ، فَلَا تَزْدَادُ عَلَى امْتِلَائِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ أَيْ مَا تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أَوِ اسْمَ مَفْعُولٍ. غَيْرَ بَعِيدٍ: مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وهو تأكيد لأزلفت، رَفَعَ مَجَازَ الْقُرْبِ بِالْوَعْدِ وَالْإِخْبَارِ. فَانْتِصَابُ غَيْرَ عَلَى الظَّرْفِ صِفَةً قَامَتْ مَقَامَ مَكَانٍ، فَأُعْرِبَتْ بِإِعْرَابِهِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَتَذْكِيرُهُ يَعْنِي بَعِيدٍ، لِأَنَّهُ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ، كَالزَّئِيرِ وَالصَّلِيلِ، وَالْمَصَادِرُ يَسْتَوِي فِي الْوَصْفِ بِهَا الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ، أَيْ شَيْئًا غَيْرَ بَعِيدٍ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يَعْنِي إِزْلَافًا غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا إِشَارَةٌ لِلثَّوَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تُوعَدُونَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْوَعْدُ بِهِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ. ولِكُلِّ أَوَّابٍ: هُوَ الْبَدَلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. مَنْ خَشِيَ: بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ تَابِعٍ لِكُلِّ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ تَابِعًا لِكُلِّ، لَا بَدَلًا مِنْ لِلْمُتَّقِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْإِبْدَالُ مِنْ مُبْدَلٍ مِنْهُ وَاحِدٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا من مَوْصُوفِ أَوَّابٍ وَحَفِيظٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ أَوَّابٍ وَحَفِيظٍ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَا يُوصَفُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَوْصُولَاتِ إِلَّا بِالَّذِي. انْتَهَى. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: فِي حُكْمِ أَوَّابٍ: أَنْ يُجْعَلَ مِنْ صِفَتِهِ، وَهَذَا حُكْمٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يُوصَفُ مِنْ بَيْنِ الْمَوْصُولَاتِ إِلَّا بِالَّذِي، فَالْحَصْرُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَدْ وَصَفَتِ الْعَرَبُ بِمَا فِيهِ أَلْ، وَهُوَ مَوْصُولٌ، نَحْوُ الْقَائِمِ وَالْمَضْرُوبِ، ووصفت بذو الطَّائِيَّةِ، وَذَاتُ فِي الْمُؤَنَّثِ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: بِالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُمُ اللَّهُ بِهِ، وَالْكَرَامَةِ ذَاتُ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ، يُرِيدُ بِالْفَضْلِ الَّذِي فَضَّلَكُمْ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمَكُمْ، وَلَا يُرِيدُ الزَّمَخْشَرِيُّ خُصُوصِيَّةَ الَّذِي، بَلْ فُرُوعِهِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاتِ ذَلِكَ. وَجَوَّزَ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ، تَقْدِيرُهُ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوهَا، لِأَنَّ مَنْ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْجَوَابُ الْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ، أَيْ فَيُقَالُ: وَأَنْ يَكُونَ مُنَادًى، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ لَا يَزَالُ مُحْسِنًا أَحْسِنْ إِلَيَّ، وَحَذَفَ حَرْفَ النِّدَاءِ لِلتَّقْرِيبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أن تكون مَنْ نَعْتًا. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُنْعَتُ بِهَا، وَبِالْغَيْبِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَهُ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، إِذْ كُلُّ مَصْنُوعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَانِعٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرِ خَشِيَ، أَيْ خَشِيَهُ خَشْيَةً مُلْتَبِسَةً بِالْغَيْبِ، حَيْثُ خَشِيَ عِقَابَهُ وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ خَشِيَهُ بِسَبَبِ الْغَيْبِ الَّذِي

أَوْعَدَهُ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ. وَقِيلَ: فِي الْخَلْوَةِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ. وَقَرَنَ بالخشية الرحمن بِنَاءً عَلَى الْخَاشِي، حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخْشَاهُ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ: أَيْ سَالِمِينَ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ مُسَلَّمًا عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ: كَقَوْلِهِ: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «1» : أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ، وَهُوَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها: أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَاتُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْكَرَامَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ «2» . وَلَدَيْنا مَزِيدٌ: زِيَادَةٌ، أَوْ شَيْءٌ مَزِيدٌ عَلَى مَا تَشَاءُونَ، وَنَحْوُهُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «3» ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ مَا اطلعتهم عليه» ، ومزيد مُبْهَمٌ، فَقِيلَ: مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَقِيلَ: أَزْوَاجٌ مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: تَجَلِّي اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ حَتَّى يَرَوْنَهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ، وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ، يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ. أَيْ كَثِيرًا. أَهْلَكْنا: أَيْ قَبْلَ قُرَيْشٍ. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، لِكَثْرَةِ قُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَقَّبُوا، بِفَتْحِ الْقَافِ مُشَدَّدَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي نَقَّبُوا عَائِدٌ عَلَى كَمْ، أَيْ دَخَلُوا الْبِلَادَ مِنْ أَنْقَابِهَا. وَالْمَعْنَى: طَافُوا فِي الْبِلَادِ. وَقِيلَ: نَقَّرُوا وَبَحَثُوا، وَالتَّنْقِيبُ: التَّنْقِيرُ وَالْبَحْثُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي مَعْنَى التَّطْوَافِ: وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ وَرُوِيَ: وَقَدْ طَوَّفْتُ. وَقَالَ الْحَارِثُ بن خلدة: نَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ مِنَ حذر المو ... ت وَجَالُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مجال

_ (1) سورة الزمر: 39/ 73. (2) سورة فصلت: 41/ 31. (3) سورة السجدة: 32/ 17.

وفنقبوا مُتَسَبِّبٌ عَنْ شِدَّةِ بَطْشِهِمْ، فَهِيَ الَّتِي أَقْدَرَتْهُمْ عَلَى التَّنْقِيبِ وَقَوَّتْهُمْ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي فَنَقَّبُوا عَلَى قُرَيْشٍ، أَيْ فَنَقَّبُوا فِي أَسْفَارِهِمْ فِي بِلَادِ الْقُرُونِ، فَهَلْ رَأَوْا مَحِيصًا حَتَّى يُؤَمِّلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ؟ وَيَدُلُّ عَلَى عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ يعمر، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَنَصْرِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِكَسْرِ الْقَافِ مُشَدَّدَةً عَلَى الْأَمْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ فَسِيحُوا في البلاد وابحثوا. وقرىء: بِكَسْرِ الْقَافِ خَفِيفَةً، أَيْ نَقَّبَتْ أَقْدَامُهُمْ وَأَخْفَافُ إِبِلِهِمْ، أَوْ حَفِيَتْ لِكَثْرَةِ تَطْوَافِهِمْ فِي الْبِلَادِ، مِنْ نَقَبَ خُفُّ الْبَعِيرِ إِذَا انْتَقَبَ وَدَمِيَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ يَقُولُونَ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ مِنَ الْهَلَاكِ؟ وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ قَوْلٌ، أَيْ لَا مَحِيصَ مِنَ الْمَوْتِ، فَيَكُونَ تَوْفِيقًا وَتَقْرِيرًا. إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي إِهْلَاكِ تِلْكَ الْقُرُونِ، لَذِكْرى: لِتَذْكِرَةً وَاتِّعَاظًا، لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ: أَيْ وَاعٍ، وَالْمَعْنَى: لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَحَلِّهِ، وَمَنْ لَهُ قَلْبٌ لَا يَعِي، كَمَنْ لَا قَلْبَ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، مبنيا للفاعل، والسمع نُصِبَ بِهِ، أَيْ أَوْ أَصْغَى سَمْعَهُ مُفَكِّرًا فِيهِ، وشَهِيدٌ: مِنَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْحُضُورُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِمَنْ كَانَ لَهُ، قِيلَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَعْتَبِرُ وَيَشْهَدُ بِصِحَّتِهَا لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَشَهِيدٌ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو البرهسم: أَوْ أُلْقِيَ مَبْنِيًّا، لِلْمَفْعُولِ، السَّمْعُ: رُفِعَ بِهِ، أَيِّ السَّمْعُ مِنْهُ، أَيْ مِنْ الَّذِي لَهُ قَلْبٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَوْ لِمَنْ أَلْقَى غَيْرَهُ السَّمْعَ وَفَتَحَ لَهُ أُذُنَهُ وَلَمْ يُحْضِرْ ذِهْنَهُ، أَيِ الْمُلْقِي وَالْفَاتِحُ وَالْمُلْقَى لَهُ وَالْمَفْتُوحُ أُذُنُهُ حَاضِرُ الذِّهْنِ مُتَفَطِّنٌ. وَذَكَرَ لِعَاصِمٍ أَنَّهَا قِرَاءَةُ السُّدِّيِّ، فَمَقَتَهُ وَقَالَ: أَلَيْسَ يَقُولُ يُلْقُونَ السَّمْعَ؟ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ تَكْذِيبًا لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَرَاحَ مِنْ خلق السموات وَالْأَرْضَ، فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ: يَوْمَ السَّبْتِ، وَاسْتَلْقَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا أُخِذَ مِنَ الْيَهُودِ. وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ: احْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ اللَّامِ، وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ، بِفَتْحِهَا ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ، الْأَوَّلُ مَقِيسٌ وَهُوَ الضَّمُّ، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَغَيْرُ مَقِيسٍ، كَالْقَبُولِ وَالْوَلُوعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى تِلْكَ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ، وَزَادَ الْكِسَائِيُّ الْوَزُوعَ فَتَصِيرُ سَبْعَةً. فَاصْبِرْ، قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، عَلى مَا يَقُولُونَ: أَيِ الْيَهُودُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ فَصَلِّ، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، هِيَ

صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَبْلَ الْغُرُوبِ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ. وَمِنَ اللَّيْلِ: صَلَاةُ الْعِشَاءَيْنِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ. وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الْمَغْرِبِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا يُصَلِّيهَا إِلَّا أَنَسًا وَأَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ. وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: كَانَ الصَّحَابَةُ يَهُبُّونَ إِلَيْهِمَا كَمَا يَهُبُّونَ إِلَى الْمَكْتُوبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْعِشَاءُ فَقَطْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَأَدْبارَ السُّجُودِ، قَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: هُوَ التَّسْبِيحُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هُمَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْوِتْرُ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَابْنُ زَيْدٍ: النَّوَافِلُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، يُقْرَأُ فِي الْأُولَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» ، وَفِي الثَّانِيَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» . وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَعِيسَى، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَشِبْلٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْحَرَمِيَّانِ: وَإِدْبَارَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، تَقُولُ: أَدْبَرَتِ الصَّلَاةُ، انْقَضَتْ وَنَمَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ وَوَقْتَ انْقِضَاءِ السُّجُودِ، كَقَوْلِهِمْ: آتِيكَ خَفُوقَ النَّجْمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، جَمْعَ دُبُرٍ، كَطُنُبٍ وَأَطْنَابٍ، أَيْ وَفِي أَدْبَارِ السُّجُودِ: أَيْ أَعْقَابِهِ. قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ: عَلَى دُبُرِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَأَرْضُنَا ... وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سنون تلمح وَاسْتَمِعْ: أَمْرٌ بِالِاسْتِمَاعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ الِاسْتِمَاعِ، وَالْمُسْتَمِعُ لَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَاسْتَمِعْ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْمُخْبَرِ بِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: «يَا مُعَاذُ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ» ، ثُمَّ حَدَّثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. يَوْمُ الْخُرُوجِ: أَيْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ اسْتَمِعْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: نِدَاءَ الْمُنَادِي. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: نِدَاءَ الْكَافِرِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولٍ، إِذْ حُذِفَ اقْتِصَارًا، وَالْمَعْنَى: كُنْ مُسْتَمِعًا، وَلَا تَكُنْ غَافِلًا مُعْرِضًا. وَقِيلَ مَعْنَى وَاسْتَمِعْ: وَانْتَظِرْ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَقِيلَ: لِلرَّسُولِ، أَيِ ارْتَقِبْهُ، فَإِنَّ فِيهِ تَبْيِنَ صِحَّةِ مَا قُلْتُهُ، كَمَا تقول لمن تعده بورود فَتْحٍ: اسْتَمِعْ كَذَا وَكَذَا، أَيْ كُنْ مُنْتَظِرًا لَهُ مستمعا، فيوم مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْمُنَادَى بِالْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو بِحَذْفِ الياء وقفا، وعيسى،

_ (1) سورة الكافرون: 109/ 1. (2) سورة الإخلاص: 112/ 1.

وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا اتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، وَمَنْ أَثْبَتَهَا فَعَلَى الْأَصْلِ، وَمَنْ حَذَفَهَا وَقْفًا فَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَغْيِيرٌ يُبَدَّلُ فِيهِ التَّنْوِينُ أَلِفًا نَصْبًا، وَالتَّاءُ هَاءً، وَيُشَدَّدُ الْمُخَفَّفُ، وَيُحْذَفُ الْحَرْفُ فِي الْقَوَافِي. وَالْمُنَادِي فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ مَلَكًا يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ أَيَّتُهَا الْأَجْسَامُ الْهَامِدَةُ وَالْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالرِّمَمُ الذَّاهِبَةُ هَلُمُّوا إِلَى الْحَشْرِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى» . مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ: وَصَفَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ يُسْمِعُ جَمِيعَ الْخَلْقِ. قِيلَ: وَالْمُنَادِي إِسْرَافِيلُ، يَنْفُخُ فِي الصُّورِ وَيُنَادِي. وَقِيلَ: الْمُنَادِي جِبْرِيلُ. وَقَالَ كَعْبٌ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْمَكَانُ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ كَعْبٌ: قَرَّبَهَا مِنَ السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ: بِاثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا، وَهِيَ وَسَطُ الْأَرْضِ. انْتَهَى، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ. يَوْمَ يَسْمَعُونَ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يُنادِ، والصَّيْحَةَ: صَيْحَةَ الْمُنَادِي. قِيلَ: يَسْمَعُونَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ تَحْتِ شُعُورِهِمْ، وَهِيَ النفخة الثانية، وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّيْحَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعْثُ وَالْحَشْرُ. ذلِكَ: أَيْ يَوْمُ النِّدَاءِ وَالسَّمَاعِ، يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى النِّدَاءِ، وَاتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ فَجُعِلَ خَبَرًا عَنِ الْمَصْدَرِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ، أَيْ ذلك لنداء نِدَاءُ يَوْمِ الْخُرُوجِ، أَوْ وَقْتَ النِّدَاءِ يَوْمُ الْخُرُوجِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: تَشَّقَّقُ بِشَدِّ الشِّينِ وَبَاقِي السبعة: بتخفيفها. وقرىء: تُشَقَّقُ بِضَمِّ التَّاءِ، مُضَارِعَ شُقِّقَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَتَنْشَقُّ مُضَارِعَ انْشَقَّتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تُشْقَقُ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ فِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ تأليفه، ويوم بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الثَّانِي. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ. وَقِيلَ: الْمَصِيرُ، وَانْتَصَبَ سِراعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَنْهُمْ، وَالْعَامِلُ تَشَقَّقُ. وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يَخْرُجُونَ، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْوَاوِ فِي يَخْرُجُونَ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُقَدَّرُ عَامِلًا فِي يَوْمَ تَشَقَّقُ. ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ: فَصَلَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ بِمَعْمُولِ الصِّفَةِ، وَهُوَ عَلَيْنَا، أَيْ يَسِيرٌ عَلَيْنَا، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ الصِّفَةِ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَيْنا يَسِيرٌ، تَقْدِيمُ الظَّرْفِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، يَعْنِي لَا يَتَيَسَّرُ مِثْلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ إِلَّا عَلَى الْقَادِرِ الذَّاتِ الَّذِي لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، كَمَا قَالَ: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1» . انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ

_ (1) سورة لقمان: 31/ 28.

وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَقَدْ بَحَثْنَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ «1» . نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ: هَذَا وَعِيدٌ مَحْضٌ لِلْكُفَّارِ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ: بِمُتَسَلِّطٍ حَتَّى تُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: التَّحَلُّمُ عَنْهُمْ وَتَرْكُ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ: لِأَنَّ مَنْ لَا يَخَافُ الْوَعِيدَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُصَدِّقٍ بِوُقُوعِهِ لَا يُذَكَّرُ، إِذْ لَا تَنْفَعُ فِيهِ الذِّكْرَى، كَمَا قَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «2» ، وَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ، كَمَا افْتُتِحَتْ بِ ق وَالْقُرْآنِ.

_ (1) سورة الفاتحة: 1/ 5 . (2) سورة الذاريات: 51/ 55 .

سورة الذاريات

سورة الذّاريات [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 60] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

الْحُبُكُ: الطَّرَائِقُ، مِثْلُ حُبُكِ الرَّمْلِ وَالْمَاءِ الْقَائِمِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، وَكَذَلِكَ حُبُكُ الشَّعَرِ آثَارُ تَثَنِّيهِ وَتَكَسُّرِهِ قَالَ الشَّاعِرُ: مُكَلَّلٍ بِأُصُولِ النَّجْمِ يَنْسُجُهُ ... رِيحٌ خَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ وَالدِّرْعُ مَحْبُوكَةٌ لِأَنَّ حَلْقَهَا مُطْرَقٌ طَرَائِقَ، وَوَاحِدُهَا حَبِيكَةٌ، كَطَرِيقَةٍ وَطُرُقٍ، أَوْ حِبَاكٌ، كَمِثَالٍ وَمُثُلٍ، قَالَ الرَّاجِزُ: كَأَنَّمَا حَلَّلَهَا الْحَوَّاكُ ... طَنْفَسَةً فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ

وَيُقَالُ: حِبَاكٌ لِلظَّفِيرَةِ الَّتِي يَشُدُّ بِهَا خَطَّارُ الْقَصَبِ بَكَرَهُ، وَهِيَ مُسْتَطِيلَةٌ تُصْنَعُ فِي تَرْحِيبِ الْغَرَّاسَاتِ الْمُصْطَفَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيُّ: حَبَكْتُ الشَّيْءَ: أَحْكَمْتُهُ وَأَحْسَنْتُ عَمَلَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحُبُكُ: تَكَسُّرُ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَحْبُوكُ: الشَّدِيدُ الْخَلْقِ مِنْ فَرَسٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي في أنفه ... لاحق الأيطل محبوك ممر الهجوم: النَّوْمُ. السِّمَنُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ امْتِلَاءُ الْجَسَدِ بِالشَّحْمِ وَاللَّحْمِ. يُقَالُ: سَمِنَ سِمَنًا فَهُوَ سَمِينٌ، شَذُّوا فِي الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَالْقِيَاسُ سَمِنَ وَسَمَّنَ. وَقَالُوا: سَامِنٌ، إِذَا حَدَثَ لَهُ السِّمَنُ. الذَّنُوبُ: الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ، قَالَ الرَّاجِزُ: إِنَّا إِذَا نَازَلَنَا غَرِيبُ ... لَهُ ذَنُوبٌ وَلَنَا ذَنُوبُ وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ وَأَنْشَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ وَيُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ: وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحَقٌّ لِشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ وَنَسَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِعَمْرِو بْنِ شَاسٍ، وَهُوَ وَهْمٌ فِي دِيوَانِ عَلْقَمَةَ. وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيُّ أَسَرَ شَاسًا أَخَا عَلْقَمَةَ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ عَلْقَمَةُ، فَمَدَحَهُ بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي فِيهَا هَذَا الْبَيْتُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ فِي الْإِنْشَادِ قَالَ الْحَارِثُ: نَعَمْ وَأَذْنَبَهُ، وَقَالَ حَسَّانُ: لَا يَبْعُدَنَّ رَبِيعَةُ بْنُ مُكَرَّمٍ ... وَسَقَى الْغَوَادِي قَبْرَهُ بِذَنُوبِ وَقَالَ آخَرُ: لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا طَارِقَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً، إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ، وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ، قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ، يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ، كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا

يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «1» . وَقَالَ أَوَّلَ هَذِهِ بَعْدَ الْقَسَمِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ. وَالذَّارِياتِ: الرِّيَاحُ: فَالْحامِلاتِ السَّحَابُ. فَالْجارِياتِ: الْفُلْكُ. فَالْمُقَسِّماتِ: الْمَلَائِكَةُ، هَذَا تَفْسِيرُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَدْ سَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: فَالْحامِلاتِ هِيَ السُّفُنُ الْمُوَقَّرَةُ بِالنَّاسِ وَأَمْتَاعِهِمْ. وَقِيلَ: الْحَوَامِلُ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: الْجَارِيَاتُ: السَّحَابُ بِالرِّيَاحِ. وَقِيلَ: الْجَوَارِي مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالذَّارِياتِ فِي ذَالِ ذَرْواً، وَذَرْوُهَا: تَفْرِيقُهَا لِلْمَطَرِ أَوْ لِلتُّرَابِ. وقرىء: بفتح الواو وتسمية لِلْمَحْمُولِ بِالْمَصْدَرِ. وَمَعْنَى يُسْراً: جَرْيًا ذَا يُسْرٍ، أَيْ سُهُولَةٍ. فَيُسْرًا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، فَهُوَ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَمْراً تُقَسِّمُ الْأُمُورَ مِنَ الْأَمْطَارِ وَالْأَرْزَاقِ وَغَيْرِهَا، فَأَمْرًا مَفْعُولٌ بِهِ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مَأْمُورَةً، وَمَفْعُولُ الْمُقَسِّمَاتِ مَحْذُوفٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَوَلَّى أَمْرَ الْعِبَادِ جِبْرِيلُ لِلْغِلْظَةِ، وَمِيكَائِيلُ لِلرَّحْمَةِ، وملك الموت لقبض الأرواح، وَإِسْرَافِيلُ لِلنَّفْخِ. وَجَاءَ فِي الْمَلَائِكَةِ: فَالْمُقَسِّمَاتِ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الرِّيَاحُ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهَا تُنْشِئُ السَّحَابَ وَتُقِلُّهُ وَتَصْرِفُهُ وَتَجْرِي فِي الْجَوِّ جَرْيًا سَهْلًا، وَتُقَسِّمُ الْأَمْطَارَ بِتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ. انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ مُتَغَايِرًا، فَتَكُونُ أَقْسَامًا مُتَعَاقِبَةً. وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَغَايِرٍ، فَهُوَ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، أَيْ ذَرَتْ أَوَّلَ هُبُوبِهَا التُّرَابَ وَالْحَصْبَاءَ، فَأَقَلَّتِ السَّحَابَ، فَجَرَتْ فِي الْجَوِّ بَاسِطَةً لِلسَّحَابِ، فَقَسَّمَتِ الْمَطَرَ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الص ... ابح فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ أَيِ: الَّذِي صَبَّحَ الْعَدُوَّ فَغَنِمَ مِنْهُمْ، فَآبَ إِلَى قَوْمِهِ سَالِمًا غَانِمًا. وَالْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا، وَهِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ، هِيَ إِنَّما تُوعَدُونَ، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تُوعَدُونَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ إِنَّهُ وَعْدُكُمْ أَوْ وَعِيدُكُمْ، إِذْ يَحْتَمِلُ توعدون

_ (1) سورة ق: 50/ 44.

الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعَ وَعَدَ وَمُضَارِعَ أَوْعَدَ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعَ أَوْعَدَ لِقَوْلِهِ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ. وَمَعْنَى صِدْقِهِ: تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، وَالْمُتَّصِفُ بِالصِّدْقِ حَقِيقَةً هُوَ الْمُخْبِرُ. وَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ «1» : أَيْ مَصْدُوقٍ فِيهِ. وَقِيلَ: لَصادِقٌ، وَوَضَعَ اسْمَ الْفَاعِلِ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ وَعِيدٌ مَحْضٌ. وَإِنَّ الدِّينَ: أَيِ الْجَزَاءَ، لَواقِعٌ: أَيْ صَادِرٌ حَقِيقَةً عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالظَّاهِرُ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ جِنْسٌ أريد به جميع السموات. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ. وَقِيلَ: السَّحَابُ الَّذِي يُظِلُّ الْأَرْضَ. ذاتِ الْحُبُكِ: أَيْ ذَاتِ الْخَلْقِ الْمُسْتَوِي الْجَيِّدِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذاتِ الْحُبُكِ: أَيِ الزِّينَةِ بِالنُّجُومِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذَاتِ الطَّرَائِقِ، يَعْنِي مِنَ الْمَجَرَّةِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَاتِ الشِّدَّةِ، لِقَوْلِهِ: سَبْعاً شِداداً «2» . وَقِيلَ: ذَاتِ الصَّفَاقَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحُبُكُ بِضَمَّتَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَنُعَيْمٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَعِكْرِمَةُ: بِفَتْحِهَا، جَمْعَ حَبْكَةٍ، مِثْلُ: طَرْفَةٍ وَطُرَفٍ. وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ، وَهُوَ تخفيف فعل المكسور هما وَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا جمع، لأن فعلا ليس مِنْ أَبْنِيَةِ الْجُمُوعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَعَ إِبِلٍ فِيمَا جَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ على فعل بكسر الفاء وَالْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو مَالِكٍ: بِفَتْحِهِمَا. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: فَهُوَ جَمْعُ حَبَكَةٍ، مِثْلَ عَقَبَةٍ وَعَقَبٍ. انْتَهَى. وَالْحَسَنُ أَيْضًا: الْحِبَكِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أَيْضًا كَالْجُمْهُورِ، فَصَارَتْ قِرَاءَتُهُ خَمْسًا: الْحُبُكِ الحبك الحبك الحبك الحبك. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ أَيْضًا: الْحِبُكِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ، وَذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْحَسَنِ، فَتَصِيرُ لَهُ سِتُّ قِرَاءَاتٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَهُوَ عَدِيمُ النَّظِيرِ فِي الْعَرَبِيَّةِ: فِي أَبْنِيَتِهَا وَأَوْزَانِهَا، وَلَا أَدْرِي مَا رَوَاهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مُتَوَجِّهَةٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ كَسْرَهَا، ثُمَّ تَوَهَّمَ الْحِبُكِ قِرَاءَةَ الضَّمِّ بَعْدَ أَنْ كَسَرَ الْحَاءَ وَضَمَّ الْبَاءَ، وَهَذَا عَلَى تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هذا البناء. انتهى.

_ (1) سورة هود: 11/ 65. (2) سورة النبأ: 78/ 12.

وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ النُّحَاةُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا اتَّبَعَ فِيهِ حَرَكَةُ الْحَاءِ لِحَرَكَةِ ذَاتِ فِي الْكَسْرَةِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِاللَّامِ السَّاكِنَةِ، لِأَنَّ السَّاكِنَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، كَمَا أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ السَّابِقِ يَشْمَلُهُمَا، وَاخْتِلَافُهُمْ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابِهِ وَكَافِرًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خِطَابٌ لِلْكَفَرَةِ، فَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ شَاعِرٌ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَوْلُ الْكَفَرَةِ لَا يَكُونُ مُسْتَوِيًا، إِنَّمَا يَكُونُ مُتَنَاقِضًا مُخْتَلِفًا. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَشْرِ، مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشُكُّ فِيهِ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ: إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ غَيْرَهُ وَالْأَقْوَالَ الَّتِي يَقُولُونَهَا فِي آلِهَتِهِمْ. يُؤْفَكُ: أَيْ يُصْرَفُ عَنْهُ، أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ والرسول، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. مَنْ أُفِكَ: أَيْ مَنْ صُرِفَ الصَّرْفَ الَّذِي لَا صَرْفَ أَشَدُّ مِنْهُ وَأَعْظَمُ لِقَوْلِهِ: لَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ صُرِفَ فِي سَابِقِ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَأْفُوكٌ عَنِ الْحَقِّ لَا يَرْعَوِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِمَا تُوعَدُونَ، أَوْ لِلَّذِي أَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ فِي وُقُوعِهِ، فَمِنْهُمْ شَاكٌّ وَمِنْهُمْ جَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ: يُؤْفَكُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَمْرِ الْقِيَامَةِ مَنْ هُوَ الْمَأْفُوكُ. وَقِيلَ: الْمَأْفُوكُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ، وَعَنْ هُنَا لِلسَّبَبِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، أَيْ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ بِأَنْ يَقُولَ: هُوَ سِحْرٌ هُوَ كَهَانَةٌ، حَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَوْرَدَهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِبْدَاءِ مَا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ مُخْتَرِعُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يعود على قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، وَالْمَعْنَى: يُصْرَفُ عَنْهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ غَلَبَتْ سَعَادَتُهُ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ لِلْكُفَّارِ، إِلَّا أَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِفْكِهِ الصَّرْفُ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ، فَلِذَلِكَ لَا تَجِدُهُ إِلَّا فِي الْمَذْمُومِينَ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: مَنْ أَفَكَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ مَنْ أَفَكَ النَّاسُ عَنْهُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَأْفِكُ عَنْهُ مَنْ أَفَكَ، أَيْ يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْهُ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ فِي نَفْسِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: يَأْفِكُ عَنْهُ مَنْ أَفَكَ، أَيْ يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْهُ مَنْ هُوَ أفاك كذاب. وقرىء: يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أَفَنَ بِالنُّونِ فِيهِمَا، أَيْ يُحْرَمُهُ مَنْ حُرِمَ مِنْ أَفَنَ الضَّرْعَ إِذَا نَهَكَهُ حَلْبًا. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ: أَيْ قَتَلَ اللَّهُ الْخَرَّاصِينَ، وَهُمُ الْمُقَدِّرُونَ مَا لَا يَصِحُّ. فِي غَمْرَةٍ: فِي جَهْلٍ يَغْمُرُهُمْ، ساهُونَ: غَافِلُونَ عَنْ مَا أُمِرُوا بِهِ. أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ: أَيْ مَتَى وَقْتُ الْجَزَاءِ؟ سُؤَالُ تَكْذِيبٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ فِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ

مُرْساها «1» ، وأَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، فَيَكُونُ الظَّرْفُ مَحَلًّا لِلْمَصْدَرِ، وَانْتَصَبَ يَوْمَهُمْ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ كَائِنٌ، أَيِ الْجَزَاءُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ يَوْمُهُمْ، وَالْفَتْحَةُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْإِسْمِيَّةُ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ والزعفراني. يَوْمَ هُمْ بِالرَّفْعِ، وَإِذَا كَانَ ظَرْفًا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْحَرَكَةُ فِيهِ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ وَحَرَكَةَ بِنَاءٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِضَافَةِ الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ فِي غَافِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ «2» . وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: يَوْمُهُمْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمُ الدِّينِ، فَيَكُونُ هُنَا حِكَايَةً مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى الْمَعْنَى، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَلَوْ حَكَى لَفْظَ قَوْلِهِمْ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: يَوْمَ نَحْنُ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا. هذَا الَّذِي: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَدَلًا مِنْ فِتْنَتَكُمْ، أَيْ ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ. انْتَهَى، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالِاسْتِقْلَالُ خَيْرٌ مِنَ الْبَدَلِ. وَمَعْنَى تُفْتَنُونَ: تُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَانْتَصَبَ آخِذِينَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ قَابِلِيهِ رَاضِينَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِذِينَ: أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ، مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَشَرْعِهِ، فَالْحَالُ مَحْكِيَّةٌ لِتَقَدُّمِهَا فِي الزَّمَانِ عَلَى كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَلِيلًا ظَرْفٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ، أَيْ كَانُوا فِي قَلِيلٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ كَانُوا يَهْجَعُونَ هُجُوعًا قَلِيلًا، وَمَا زَائِدَةٌ فِي كِلَا الْإِعْرَابَيْنِ. وَفَسَّرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلَا يَدُلُّ لَفْظُ الْآيَةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: كَانُوا يُصِيبُونَ مِنَ اللَّيْلِ حَظًّا. وَقَالَ مُطَرِّفٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ: قَلَّ لَيْلَةٌ أَتَتْ عَلَيْهِمْ هُجُوعًا كُلُّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَابَدُوا قِيَامَ اللَّيْلِ لَا يَنَامُونَ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كانُوا قَلِيلًا، أَيْ فِي عَدَدِهِمْ، وَثُمَّ خَبَرُ كَانَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، فَمَا نَافِيَةٌ، وَقَلِيلًا وَقْفٌ حَسَنٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، وَتَقَدَّمَ مَعْمُولُ الْعَامِلِ الْمَنْفِيِّ بِمَا عَلَى عَامِلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَوْ كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ قَوْلُهُ: إِذَا هِيَ قَامَتْ حَاسِرًا مُشْمَعِلَّةً ... يَحْسَبُ الْفُؤَادُ رَأْسَهَا مَا تُقَنَّعُ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 187، وسورة النازعات: 79/ 42. (2) سورة غافر: 40/ 16. [.....]

فَقَدَّمَ رَأْسَهَا عَلَى مَا تُقَنَّعُ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِمَا، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِقَلِيلًا، أَيْ كَانُوا قَلِيلًا هُجُوعُهُمْ، وَهُوَ إِعْرَابٌ سَهْلٌ حَسَنٌ، وَأَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يَهْجَعُونَ فِيهِ، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ. وَمِنَ اللَّيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ بِالْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتِ الرَّاحَاتِ، وَسُكُونِ الْأَنْفُسِ مِنْ مَشَاقِّ النَّهَارِ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فِيهِ ظُهُورٌ عَلَى أَنَّ تَهَجُّدَهُمْ يَتَّصِلُ بِالْأَسْحَارِ، فَيَأْخُذُونَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَقْصِيرٌ وَكَأَنَّهُمْ أَجْرَمُوا فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَالْأَسْحَارُ مَظَنَّةُ الِاسْتِغْفَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَمْرٍو الضَّحَّاكُ: يَسْتَغْفِرُونَ: يُصَلُّونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَدْعُونَ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ وَهَذَا الْحَقُّ فِي الْمَالِ هُوَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا تَقَعُ زِيَادَةُ الثَّوَابِ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذَا الْحَقُّ هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَضَعُفَ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: كَانَ فَرْضًا، ثُمَّ نُسِخَ وَضَعُفَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشْرَعْ شَيْئًا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ من أخذ الْأَمْوَالِ. وَالسَّائِلُ: الَّذِي يَسْتَعْطِي، وَالْمَحْرُومُ: لُغَةً الْمَمْنُوعُ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ عَلْقَمَةُ: وَمُطْعَمُ الْغُنْمِ يَوْمَ الْغُنْمِ مُطْعَمُهُ ... أَنَّى تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ وَأَمَّا فِي الْآيَةِ، فَالَّذِي يُحْسَبُ غَنِيًّا فَيُحْرَمُ الصَّدَقَةَ لِتَعَفُّفِهِ. وَقِيلَ: الَّذِي تَبْعُدُ مِنْهُ مُمَكِّنَاتُ الرِّزْقِ بَعْدَ قُرْبِهَا مِنْهُ فَيَنَالُهُ الْحِرْمَانُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحَارِبُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَهْمُ مَالٍ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الَّذِي أُجِيحَتْ ثَمَرَتُهُ. وَقِيلَ: الَّذِي مَاتَتْ مَاشِيَتُهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز: هُوَ الْكَلْبُ. وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُنْمَى لَهُ مَالٌ. وَقِيلَ: الْمُحَارَفُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَكْسِبُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا التَّعْيِينِ، وَيَجْمَعُهَا أَنَّهُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ لِحِرْمَانٍ أَصَابَهُ. وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَالْبِسَاطِ لِمَا فَوْقَهَا، وَفِيهَا الْفِجَاجُ لِلسُّلَّاكِ، وَهِيَ مُتَجَزِّئَةٌ مِنْ سَهْلٍ وَوَعْرٍ وَبَحْرٍ وَبَرٍّ، وَقِطَعٍ مُتَجَاوِرَاتٍ مِنْ صلبة ورخوة ومنبتة وسيخة، وَتُلَقَّحُ بِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَفِيهَا العيون والمعادن والدواب المنبتة فِي بَحْرِهَا وَبَرِّهَا الْمُخْتَلِفَةُ الْأَشْكَالِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: آيَةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ، لِلْمُوقِنِينَ: وَهُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ، وَأَدَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى إِيقَانِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَأَيْقَنُوا لَمْ يَدْخُلْهُمْ رَيْبٌ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ حَالَ ابْتِدَائِهَا وَانْتِقَالِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَا أَوْدَعَ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ لَطَائِفِ الْحَوَاسِّ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي أُوتِيهِ مِنْ بَدَائِعِ الْعُلُومِ وَغَرِيبِ الصَّنَائِعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ.

وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ، لِأَنَّهُ سَبَبَ الْأَقْوَاتِ، وَكُلُّ عَيْنٍ دَائِمَةٍ مِنَ الثَّلْجِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَوَاصِلٌ الْأَحْدَبُ: أَرَادَ الْقَضَاءَ وَالْقَدْرَ، أَيِ الرِّزْقُ عِنْدَ اللَّهِ يَأْتِي بِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَما تُوعَدُونَ: الْجَنَّةُ، أَوْ هِيَ النَّارُ، أَوْ أَمْرُ السَّاعَةِ، أَوْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، أَوْ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، أَقْوَالٌ الْمُرَادُ بِهَا التَّمْثِيلُ لَا التَّعْيِينُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَرْزَاقُكُمْ عَلَى الْجَمْعِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ إِلَى الدِّينِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ، أَوْ إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أَوْ إِلَى الرِّزْقِ، أَوْ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَالٌ مَنْقُولَةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِخْبَارِ السَّابِقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ صِدْقِ الْمَوْعُودِ وَوُقُوعِ الْجَزَاءِ، وَكَوْنِهِمْ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، وقُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، وَكَيْنُونَةُ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا وَصَفَ، وَذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ وَمَا ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ نُطْقِ الْإِنْسَانِ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْأَعْمَشُ: بِخِلَافٍ عَنْ ثَلَاثَتِهِمْ. مِثْلُ بِالرَّفْعِ: صِفَةً لِقَوْلِهِ: لَحَقٌّ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: هِيَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ، وَهُوَ نَعْتٌ كَحَالِهِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ. وَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بُنِيَ، وَمَا عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْإِضَافَةُ هِيَ إِلَى أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: بُنِيَ مِثْلَ، لِأَنَّهُ رُكِّبَ مَعَ مَا، فَصَارَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَمِثْلُهُ: وَيْحَمَا وَهَيَّمَا وَابْنَمَا، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: أَلَا هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا ... وَوَيْحًا لِمَنْ لَمْ يَلْقَ مِنْهُنَّ وَيْحَمَا قَالَ: فَلَوْلَا الْبِنَاءُ لَكَانَ مُنَوَّنًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: فأكرم بنا أو أُمًّا وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا انْتَهَى هَذَا التَّخْرِيجُ. وَابْنَمَا لَيْسَ ابْنًا بُنِيَ مَعَ مَا، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ زِيَادَةِ الْمِيمِ فِيهِ، وَإِتْبَاعِ مَا فِي الْآخِرِ، إِذْ جُعِلَ فِي الْمِيمِ الْإِعْرَابُ. تَقُولُ: هَذَا ابْنَمُ، ورأيت ابْنَمَا، وَمَرَرْتُ بِابْنَمِ، وَلَيْسَتْ مَا فِي الثَّلَاثِ فِي ابْنَمَا مُرَكَّبَةً مَعَ مَا، كما قال: بل الْفَتْحَةُ فِي ابْنَمَا حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ الِاسْمِ مَعَ الْحَرْفِ قَوْلَ الرَّاجِزِ: أَثَوْرٌ مَا أَصِيدُكُمْ أَوْ ثَوْرَيْنِ ... أَمْ تِيكُمُ الْجَمَّاءُ ذَاتُ الْقَرْنَيْنِ وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّهُ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ، فَحَرَكَتُهُ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ في لَحَقٌّ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ

لَحَقٌّ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، فَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْجَرْمِيُّ وَسِيبَوَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. وَالنُّطْقُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكَلَامِ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَانِي. وَيَقُولُ النَّاسُ: هَذَا حَقٌّ، كَمَا أنك هاهنا وَهَذَا حَقٌّ، كَمَا أَنَّكَ تَرَى وَتَسْمَعُ، وَهَذَا كَمَا فِي الْآيَةِ. وَمَا زَائِدَةٌ بِنَصِّ الْخَلِيلِ، وَلَا يُحْفَظُ حذفها، فتقول: ذا حَقٌّ كَأَنَّكَ هَاهُنَا، وَالْكُوفِيُّونَ يجعلون مثلا محلى، فَيَنْصِبُونَهُ عَلَى الظَّرْفِ، وَيُجِيزُونَ زَيْدٌ مِثْلَكَ بِالنَّصْبِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ فِيهَا مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَمَنْ كَلَامِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ: مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْخَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ، لَمْ يُصَدِّقُوهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى الْيَمِينِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ، وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ، وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. هَلْ أَتاكَ: تَقْرِيرٌ لِتَجْتَمِعَ نَفْسُ الْمُخَاطَبِ، كَمَا تَبْدَأُ الْمَرْءَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُحَدِّثَهُ بِعَجِيبٍ، فَتُقَرِّرَهُ هَلْ سَمِعَ ذَلِكَ أَمْ لَا، فَكَأَنَّكَ تَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ لَا. وَيَسْتَطْعِمُكَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ تَفْخِيمٌ لِلْحَدِيثِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا عَرَفَهُ بِالْوَحْيِ، وَضَيْفُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَبَدَأَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ قِصَّةِ عَادٍ، هَزْمًا لِلْعَرَبِ، إِذْ كَانَ أَبَاهُمُ الْأَعْلَى، وَلِكَوْنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَيْهِ جَاءُوا بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، إِذْ كَذَّبُوهُ، فَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْعَرَبِ وَتَهْدِيدٌ وَاتِّعَاظٌ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَوَصَفَهُمْ بِالْمُكْرَمِينَ لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى

فِي الْمَلَائِكَةِ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «1» ، قَالَهُ الْحَسَنُ، فَهِيَ صِفَةٌ سَابِقَةٌ فِيهِمْ، أَوْ لِإِكْرَامِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ، إِذْ خَدَمَهُمْ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ سَارَّةَ وَعَجَّلَ لَهُمُ الْقِرَا. وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ رَفَعَ مَجَالِسَهُمْ فِي صِفَةٍ حَادِثَةٍ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: الْمُكَرَّمِينَ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ ضَيْفَ، لِكَوْنِهِمْ فِي صُورَةِ الضَّيْفِ حَيْثُ أَضَافَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، أَوْ لِحُسْبَانِهِ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَدَدِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَإِذْ مَعْمُولَةٌ لِلْمُكْرَمِينَ إِذَا كَانَتْ صِفَةً حَادِثَةً بِفِعْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِلَّا فَبِمَا فِي ضَيْفِ مِنْ مَعْنَى لفعل، أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَنْقُولَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَالُوا سَلَامًا، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ السَّادِّ مَسَدَّ فِعْلِهِ الْمُسْتَغْنَى بِهِ. قالَ سَلامٌ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ. قَصَدَ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِأَحْسَنَ مِمَّا حَيَّوْهُ أَخْذًا بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ سَلَامًا دُعَاءٌ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي أَمْرِي سَلَامٌ، وَسَلَامٌ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قَدْ تَحَصَّلَ مَضْمُونُهَا وَوَقَعَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي سَلَامًا قَالُوا، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ سَلَامًا فِي مَعْنَى قَوْلًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا تَحِيَّةً وَقَوْلًا مَعْنَاهُ سَلَامًا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَطَلْحَةُ: قَالَ سِلْمٌ، بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى: نَحْنُ سِلْمٌ، أَوْ أَنْتُمْ سِلْمٌ، وقرئا مرفوعين. وقرىء: سَلَامًا قَالُوا سِلْمًا، بِنَصْبِهِمَا وَكَسْرِ سِينِ الثَّانِي وَسُكُونِ لَامِهِ. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنْكَرَ سَلَامَهُمْ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ. وَقِيلَ: لَا نُمَيِّزُهُمْ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا سُؤَالَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَعَرِّفُونِي مَنْ أَنْتُمْ. وَقَوْمٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ أَنْتُمْ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ حَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْإِنْسِ مَا لَا يَخْفَى، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وَقَالَ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغِلْمَانِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ ذَلِكَ الْأَضْيَافُ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ: أَيْ مَضَى أَثْنَاءَ حَدِيثِهِ، مُخْفِيًا مُضِيَّهُ مُسْتَعْجِلًا فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ: وَمِنْ أَدَبِ الْمُضِيفِ أَنْ يُخْفِيَ أَمْرَهُ، وأن يبادر بالقرى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الضَّيْفُ، حَذَرًا مِنْ أَنْ يَمْنَعَهُ أَنْ يَجِيءَ بِالضِّيَافَةِ. وَكَوْنُهُ عَطَفَ، فَجَاءَ عَلَى فَرَاغَ يَدُلُّ عَلَى سرعة مجيئه بالقرى، وأنه كان معدا عِنْدَهُ لِمَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ «2» ، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْعِجْلُ سَابِقًا شَيُّهُ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ غَالِبُ مَالِهِ الْبَقَرَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْضِرُ لِلضَّيْفِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ. وكان عليه الصلاة

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 26. (2) سورة هود: 11/ 69.

وَالسَّلَامُ مِضْيَافًا، وَحَسْبُكَ وَقْفٌ لِلضِّيَافَةِ أَوْقَافًا تُمْضِيهَا الْأُمَمُ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهَا وَأَجْنَاسِهَا. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ: فِيهِ أَدَبُ الْمُضِيفِ مِنْ تَقْرِيبِ الْقِرَا لِمَنْ يَأْكُلُ، وَفِيهِ الْعَرْضُ عَلَى الْأَكْلِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَأْنِيسًا لِلْأَكْلِ، بِخِلَافِ مَنْ قَدَّمَ طَعَامًا وَلَمْ يَحُثَّ عَلَى أَكْلِهِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَمُّلِ، عَسَى أَنْ يَمْتَنِعَ الْحَاضِرُ مِنَ الْأَكْلِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي طِبَاعِ بَعْضِ النَّاسِ. حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ إِذَا لَجَّ الْحَاضِرُ وَتَمَادَى فِي الْأَكْلِ، أَخَذَ مِنْ أَحْسَنِ مَا أَحْضَرَ وَأَجْزَلَهُ، فَيُعْطِيهِ لِغُلَامِهِ بِرَسْمِ رَفْعِهِ لِوَقْتٍ آخَرَ يَخْتَصُّ هُوَ بِأَكْلِهِ. وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ فِي أَلَا لِلْإِنْكَارِ، وَكَأَنَّهُ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَامْتَنَعُوا مِنَ الْأَكْلِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الْأَكْلِ فَقَالَ: أَلا تَأْكُلُونَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَا نَأْكُلُ إِلَّا مَا أَدَّيْنَا ثَمَنَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَإِنِّي لَا أُبِيحُهُ لَكُمْ إِلَّا بِثَمَنٍ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أَنْ تُسَمُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ وَتَحْمَدُوهُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: بِحَقٍّ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا» . فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً: أَيْ فَلَمَّا اسْتَمَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَكْلِ، أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ الضَّيْفِ أَمَنَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى انْبِسَاطِ نَفْسِهِ، وَلِلطَّعَامِ حُرْمَةٌ وَذِمَامٌ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَحْشَةٌ. فَخَشِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّ امْتِنَاعَهُمْ من أكل طعامهم إِنَّمَا هُوَ لِشَرٍّ يُرِيدُونَهُ، فَقَالُوا لَا تَخَفْ، وَعَرَّفُوهُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ أُرْسِلُوا لِلْعَذَابِ. وَعِلْمُهُمْ بِمَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخَوْفِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ مَلَائِكَتَهُ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، أَوْ بِظُهُورِ أَمَارَتِهِ فِي الْوَجْهِ، فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى الْبَاطِنِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ شَدَّادٍ: مَسَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ الْعِجْلَ، فَقَامَ يَدْرُجُ حَتَّى لَحِقَ بِأُمِّهِ. بِغُلامٍ عَلِيمٍ: أَيْ سَيَكُونُ عَلِيمًا، وَفِيهِ تَبْشِيرٌ بِحَيَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: عَلِيمٍ نَبِيٍّ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الْمُبَشَّرَ به هو إسحاق بن سَارَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مِنْ حَيْثُ بَشَّرُوهُ بِغَيْبٍ، وَوَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بَعْدَ التَّأْنِيسِ وَالْجُلُوسِ، وَكَانَتِ الْبِشَارَةُ بِذَكَرٍ، لِأَنَّهُ أَسَرُّ لِلنَّفْسِ وَأَبْهَجُ، وَوَصَفَهُ بِعَلِيمٍ لِأَنَّهَا الصِّفَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ إِلَّا بِالصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ وَالْقُوَّةِ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ: أَيْ إِلَى بَيْتِهَا، وَكَانَتْ فِي زَاوِيَةٍ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَتَسْمَعُ كَلَامَهُمْ. وَقِيلَ: فَأَقْبَلَتِ، أَيْ شَرَعَتْ فِي الصِّيَاحِ. قِيلَ: وَجَدَتْ حَرَارَةَ الدَّمِ، فَلَطَمَتْ وَجْهَهَا مِنَ الْحَيَاءِ. وَالصَّرَّةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ والضحاك وَسُفْيَانُ: الصَّيْحَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَأَلْحَقْنَا بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... حَوَاجِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تُزَيَّلِ وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: الرَّنَّةُ. قِيلَ: قَالَتْ أُوهْ بِصِيَاحٍ وَتَعَجُّبٍ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْجَمَاعَةُ، أَيْ مِنَ النِّسْوَةِ تَبَادَرُوا نَظَرًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الصَّرَّةُ: الصَّيْحَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَالشِّدَّةُ. فَصَكَّتْ وَجْهَها: أَيْ لَطَمَتْهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَمْرٌ يستهوله وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَهُوَ فِعْلُ النِّسَاءِ إِذَا تَعَجَّبْنَ مِنْ شَيْءٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ: ضَرَبَتْ بِكَفِّهَا جَبْهَتَهَا، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّاسِ حَتَّى الْآنَ. وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ: أي إنا قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَنَّهَا عَجُوزٌ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَأَنَّهَا عَقِيمٌ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَلِدْ قَطُّ، فَكَيْفَ أَلِدُ؟ تَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ. قالُوا كَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ الْقَوْلِ الَّذِي أَخْبَرْنَاكِ بِهِ، قالَ رَبُّكِ: وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِ مَا يُسْتَبْعَدُ. وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: انْظُرِي إِلَى سَقْفِ بَيْتِكِ، فَنَظَرَتْ، فَإِذَا جُذُوعُهُ مُورِقَةٌ مُثْمِرَةٌ. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ: أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ. الْعَلِيمُ بِالْمَصَالِحِ. وَلَمَّا عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْزِلُونَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى رُسُلًا، قَالَ فَما خَطْبُكُمْ إِلَى: قَوْمٍ مُجْرِمِينَ: أَيْ ذَوِي جَرَائِمَ، وَهِيَ كِبَارُ الْمَعَاصِي مِنْ كُفْرٍ وَغَيْرِهِ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ: أَيْ لِنُهْلِكَهُمْ بِهَا، حِجارَةً مِنْ طِينٍ: وَهُوَ السِّجِّيلُ، طِينٌ يُطْبَخُ كما طبخ الْآجِرُ حَتَّى يَصِيرَ فِي صَلَابَةٍ كَالْحِجَارَةِ. مُسَوَّمَةً: مُعَلَّمَةً، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمُ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: مُعَلَّمَةً أَنَّهَا مِنْ حِجَارَةِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: مُعَلَّمَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةِ الدُّنْيَا، لِلْمُسْرِفِينَ: وَهُمُ الْمُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ. فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها: فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي حَلَّ الْعَذَابُ بِأَهْلِهَا. غَيْرَ بَيْتٍ: هُوَ بَيْتُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ لُوطٌ وَابْنَتَاهُ فَقَطْ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُمَا مُعْتَزَلِيَّانِ. وَتَرَكْنا فِيها: أَيْ فِي الْقَرْيَةِ، آيَةً: عَلَامَةً. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَجَرًا كَبِيرًا جِدًّا مَنْضُودًا. وَقِيلَ: مَاءٌ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا عَائِدًا عَلَى الْإِهْلَاكَةِ الَّتِي أُهْلِكُوهَا، فَإِنَّهَا مِنْ أَعَاجِيبِ الْإِهْلَاكِ، بِجَعْلِ أَعَالِي الْقَرْيَةِ أَسَافِلَ وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَفِي مُوسى مَعْطُوفٌ عَلَى وَتَرَكْنا فِيها: أَيْ فِي قِصَّةِ مُوسَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي مُوسى يَكُونُ عَطْفًا عَلَى وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ «1» .

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 20.

وَفِي مُوسى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: أَوْ عَلَى قَوْلِهِ، وَتَرَكْنا فِيها آيَةً «1» ، عَلَى مَعْنَى: وَجَعَلْنَا فِي مُوسَى آيَةً، كَقَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا انْتَهَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ وَتَرَكْنا، لِأَنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَجْرُورِ وَتَرَكْنا. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ: أَيِ ازْوَرَّ وَأَعْرَضَ، كَمَا قَالَ: وَنَأى بِجانِبِهِ «2» . وَقِيلَ: بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِرُكْنِهِ: بِمَجْمُوعِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِقَوْمِهِ. وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ: ظَنَّ أَحَدَهُمَا، أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَهُمَا، قَالَ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «3» ، وقالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «4» ، وَاسْتَشْهَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ جَرِيرٍ: أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أَوْ رَبَاحًا ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْحَشَايَا وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى جَعْلِ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، إِذْ يَكُونُ قَالَهُمَا، وَأَبْهَمَ عَلَى السامع، فأو للإبهام. وَمُلِيمٌ : أَيْ أَتَى مِنَ الْمَعَاصِي مَا يُلَامُ عَلَيْهِ. الْعَقِيمَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا، مِنَ الشِّتَاءِ مَطَرٌ، أَوْ لِقَاحُ شَجَرٍ. وَفِي الصَّحِيحِ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ. فَقَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا الصَّبَا، أَوِ الْجَنُوبُ، أَوِ النَّكْبَاءُ، وَهِيَ رِيحٌ بَيْنَ رِيحَيْنِ، نَكَبَتْ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ، فَسُمِّيَتْ نَكْبَاءَ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِمُعَارَضَتِهِ لِلنَّصِّ الثَّابِتِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الدَّبُّورُ. مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ: وَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، كَقَوْلِهِ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «5» : أَيْ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَدْمِيرَهُ وَإِهْلَاكَهُ مِنْ نَاسٍ أَوْ دِيَارٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ نَبَاتٍ، لِأَنَّهَا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِهَا إِهْلَاكَ الْجِبَالِ وَالْآكَامِ وَالصُّخُورِ، وَلَا الْعَالَمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ قَوْمِ عَادٍ. إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالرَّمِيمُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي يس، وَهُنَا قَالَ السُّدِّيُّ: التُّرَابُ، وَقَتَادَةُ: الْهَشِيمُ، وَمُجَاهِدٌ: الْبَالِي، وَقُطْرُبٌ: الرَّمَادُ، وَابْنُ عِيسَى: الْمُنْسَحِقُ الَّذِي لَا يَرِمُّ، جَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي أَرَمَّ لِلسَّلْبِ. رُوِيَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالنَّاسِ، فِيهِمُ الرَّجُلُ مِنْ قوم عاد، فتنزعه

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 37. (2) سورة الإسراء: 17/ 73، وسورة فصلت: 41/ 51. (3) سورة الشعراء: 26/ 34. (4) سورة الشعراء: 26/ 27. (5) سورة الأحقاف: 46/ 25.

مِنْ بَيْنِهِمْ وَتُهْلِكُهُ. تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا كَانَ حِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ صَالِحٌ، أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالتَّمَتُّعِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَ آجَالُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَتَوْا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ تَأَخُّرَ الْعُتُوِّ عَنْ مَا أُمِرُوا بِهِ، فهو مطابق لفظا ووجود. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا الْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ كَانَ بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ، وَالْحِينُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ الَّتِي أُوعِدُوا فِي تَمَامِهَا بِالْعَذَابِ. فَالْعُتُوُّ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مُرَتَّبٍ فِي الْوُجُودِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الصَّاعِقَةُ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالْكِسَائِيُّ: الصَّعْقَةُ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ هُنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الصَّاعِقَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ. وَهُمْ يَنْظُرُونَ: أَيْ فَجْأَةً، وَهُمْ يَنْظُرُونَ بِعُيُونِهِمْ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ: وَكَانَتْ نَهَارًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أُعْلِمُوهُ فِيهَا، وَرَأَوْا عَلَامَاتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَانْتِظَارُ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ. فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ، لِقَوْلِهِ: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «1» ، وَنَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْقُدْرَةِ. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ، أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الِانْتِصَارِ: أَيْ فَمَا قَدَرُوا عَلَى الْهَرَبِ، وَلَا كَانُوا مِمَّنْ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ فَيَدْفَعُ مَا حَلَّ بِهِ. وَقِيلَ: مِنْ قِيامٍ، هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا يَقُومُ بِهِ إِذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى انْتِصَابَ الْقَامَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَقَوْمَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَفِي قَوْمِ نُوحٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: بِالنَّصْبِ. قِيلَ: عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي فَأَخَذَتْهُمُ وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى نَبَذْناهُمْ ، لِأَنَّ مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا: فَأَهْلَكْنَاهُمْ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ، لِدَلَالَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ عليه. وقيل: باذكر مُضْمَرَةً. وَرَوَى عَبْدُ الْوَارِثِ، وَمَحْبُوبٌ، وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: وَقَوْمُ نُوحٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 78- 91، وسورة هود: 11/ 67- 94، وسورة العنكبوت: 29/ 37.

مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. أَيْ: وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَكَذَا وَفَرَشْنَا الْأَرْضَ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِرَفْعِ السَّمَاءِ وَرَفْعِ الْأَرْضِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. بِأَيْدٍ: أَيْ بِقُوَّةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: داوُدَ ذَا الْأَيْدِ «1» . وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ: أَيْ بِنَاءَهَا، فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ بَنَيْنَاهَا مُوَسِّعُوهَا، كَقَوْلِهِ: جَاءَ زَيْدٌ وَإِنَّهُ لَمُسْرِعٌ، أَيْ مُسْرِعًا، فَهِيَ بِحَيْثُ أَنَّ الْأَرْضَ وَمَا يُحِيطُ مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَالنُّقْطَةِ وَسَطَ الدَّائِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَرِيبًا مِنْ هَذَا وَهُوَ: أَنَّ الْوُسْعَ رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: لَمُوسِعُونَ قُوَّةً وَقُدْرَةً، أَيْ لَقَادِرُونَ مِنَ الْوُسْعِ، وَهُوَ الطَّاقَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَوْسَعَ الرِّزْقَ بِالْمَطَرِ والماء. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ، وخَلَقْنا زَوْجَيْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمُتَضَادَّاتِ وَالْمُتَقَابِلَاتِ، كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي تُوجِدُ الضِّدَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا يُفْعَلُ بِطَبْعِهِ، كَالتَّسْخِينِ وَالتَّبْرِيدِ. وَمَثَّلَ الْحَسَنُ بِأَشْيَاءَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَقَالَ: كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهَا زَوْجٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى فَرْدٌ لَا مِثْلَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَيْ مِنَ الْحَيَوَانِ، خَلَقْنا زَوْجَيْنِ: ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الْجِنْسُ، وَمَا يَكُونُ تَحْتَ الْجِنْسِ نَوْعَانِ: فَمِنْ كُلِّ جِنْسٍ خَلَقَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، مِثْلَ النَّامِي وَالْجَامِدِ. وَمِنَ النَّامِي الْمُدْرِكَ وَالنَّبَاتَ، وَمِنَ الْمُدْرِكِ النَّاطِقَ وَالصَّامِتَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْدٌ لَا كَثْرَةَ فِيهِ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ: أَيْ بِأَنِّي بَانِي السَّمَاءِ وَفَارِشُ الْأَرْضِ وَخَالِقُ الزَّوْجَيْنِ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجٌ. أَوْ تَذْكُرُونَ أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ حَشْرُ الْأَجْسَادِ وَجَمْعُ الْأَرْوَاحِ. وقرأ أبي: يتذكرون، بِتَاءَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ. وَقِيلَ: إِرَادَةَ أَنْ تَتَذَكَّرُوا، فَتَعْرِفُوا الْخَالِقَ وَتَعْبُدُوهُ. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ: أَمْرٌ بِالدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِلَفْظِ الْفِرَارِ، لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ وَرَاءَ النَّاسِ عِقَابٌ وَعَذَابٌ. وَأَمْرٌ حَقُّهُ أَنْ يُفَرَّ مِنْهُ، فَجُمِعَتْ لَفْظَةُ فَفِرُّوا بَيْنَ التَّحْذِيرِ وَالِاسْتِدْعَاءِ. وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ» ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَى طَاعَتِهِ وَثَوَابِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ

_ (1) سورة ص: 38/ 17.

وَعِقَابِهِ، وَوَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَكَرَّرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، عِنْدَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوزُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً؟ «1» وَالْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الْآيَةِ. كَذلِكَ: أَيْ أَمْرُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، مِثْلُ الْأَمْرِ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ. ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ: أَوْ لِلتَّفْصِيلِ، أَيْ قَالَ بَعْضٌ سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضٌ مَجْنُونٌ، وَقَالَ بَعْضٌ كِلَاهُمَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُولُوا عَنْهُ إِنَّهُ سَاحِرٌ، بَلْ قَالُوا بِهِ جِنَّةٌ، فَجَمَعُوا فِي الضَّمِيرِ وَدَلَّتْ أَوْ عَلَى التَّفْصِيلِ؟ أَتَواصَوْا بِهِ: أَيْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ تَوَارُدِ نُفُوسِ الْكَفَرَةِ عَلَى تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ، مَعَ افْتِرَاقِ أَزْمَانِهِمْ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ: أَيْ لَمْ يَتَوَاصَوْا بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ جَمَعَتْهُمْ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ طُغَاةً، فَهُمْ مُسْتَعْلُونَ فِي الْأَرْضِ، مُفْسِدُونَ فِيهَا عَاتُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ: أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الَّذِينَ كَرَّرْتَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ، فَلَمْ يُجِيبُوا. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ: إِذْ قَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ: تُؤَثِّرُ فِيهِمْ وَفِيمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُؤْمِنَ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ مِنِ الْمُوَادَعَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَمَّا نَزَلَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، حَزِنَ الْمُسْلِمُونَ وَظَنُّوا أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّوَلِّي عَنِ الْجَمِيعِ، وَأَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، نَزَلَتْ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَسُرُّوا بِذَلِكَ. إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيْ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ الطَّائِعِينَ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسُفْيَانُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: إِلَّا لِأَمْرِهِمْ بِعِبَادَتِي، وَلِيُقِرُّوا لِي بِالْعِبَادَةِ. فَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: لِيَعْبُدُونِ، إِذِ الْعِبَادَةُ هِيَ مُضَمَّنُ الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَامٌّ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المعنى: إِلَّا مُعَدِّينَ لِيَعْبُدُونِ، وَكَأَنَّ الْآيَةَ تَعْدِيدُ نِعَمِهِ، أَيْ خلقت لهم حواس وَعُقُولًا وَأَجْسَامًا مُنْقَادَةً، نَحْوَ: الْعِبَادَةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا مخلوق لكذا،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 158.

وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: الْقَلَمُ مَبْرِيٌّ لِأَنْ يُكْتَبَ بِهِ، وَهُوَ قَدْ يُكْتَبُ بِهِ وَقَدْ لَا يُكْتَبُ بِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، وَلَمْ أُرِدْ مِنْ جَمِيعِهِمْ إِلَّا إِيَّاهَا. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ مُرِيدًا لِلْعِبَادَةِ مِنْهُمْ، لَكَانُوا كُلُّهُمْ عُبَّادًا. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ مُخْتَارِينَ لِلْعِبَادَةِ لَا مُضْطَرِّينَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ مُمَكَّنِينَ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ تَرْكَ الْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهَا، وَلَوْ أَرَادَهَا عَلَى الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ لَوُجِدَتْ مِنْ جَمِيعِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: لِيَعْرِفُونِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِأَحْمِلَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِلَّا لِلْعِبَادَةِ، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقِيلَ: إِلَّا لِيَذِلُّوا لِقَضَائِي. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ، فَالْمُؤْمِنُ يُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْكَافِرُ فِي الشِّدَّةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لِيُطِيعُونِ، فَأُثِيبَ الْعَابِدَ، وَأُعَاقِبَ الْجَاحِدَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: إِلَّا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ: أَيْ أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ: أَيْ أَنْ يُطْعِمُوا خَلْقِي، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى الضَّمِيرِ تَجُوزُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَنْ يُطْعِمُونِ: أَنْ يَنْفَعُونِ، فَذَكَرَ جُزْءًا مِنَ الْمَنَافِعِ وَجَعَلَهُ دَالًّا عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ إِنَّ شَأْنِي مَعَ عِبَادِي لَيْسَ كَشَأْنِ السَّادَةِ مَعَ عَبِيدِهِمْ، لِأَنَّ مُلَّاكَ الْعَبِيدِ إِنَّمَا يَمْلِكُونَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا فِي تَحْصِيلِ مَعَايِشِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ بِهِمْ فَإِمَّا مُجَهَّزٌ فِي تِجَارَةٍ يَبْغِي رِبْحًا، أَوْ مُرَتَّبٌ فِي فِلَاحَةٍ لِيَقْتُلَ أَرْضًا، أَوْ مُسَلَّمٌ فِي حِرْفَةٍ لِيَنْتَفِعَ بِأُجْرَتِهِ، أَوْ مُحْتَطِبٌ، أَوْ مُحْتَشٌّ، أَوْ مُسْتَقٍ، أَوْ طَابِخٌ، أَوْ خَابِزٌ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمِهَنِ الَّتِي تُصْرَفُ فِي أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ وَأَبْوَابِ الرِّزْقِ. فَأَمَّا مَالِكُ مُلَّاكِ الْعَبِيدِ فَقَالَ لَهُمْ: اشْتَغِلُوا بِمَا يُسْعِدُكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَكُمْ فِي تَحْصِيلِ رِزْقِي وَلَا رِزْقِكُمْ، وَأَنَا غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ مَرَافِقِكُمْ، وَمُتَفَضِّلٌ عَلَيْكُمْ بِرِزْقِكُمْ وَبِمَا يُصْلِحُكُمْ وَيُعَيِّشُكُمْ مِنْ عِنْدِي، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي. انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَخَطَابَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: الرَّزَّاقُ، كَمَا قَرَأَ: وَفِي السماء رازقكم: اسْمُ فَاعِلٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حُمَيْدٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ: الْمَتِينُ بِالْجَرِّ، صِفَةً لِلْقُوَّةِ عَلَى مَعْنَى الِاقْتِدَارِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ كَأَنَّهُ قَالَ: ذُو الْأَيْدِ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَتْحِ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لَذُو وَخُفِضَ عَلَى الْجِوَارِ، كَقَوْلِهِمْ: هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، ذَنُوبًا: أَيْ حَظًّا وَنَصِيبًا، مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ: مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ

فِي الْإِهْلَاكِ وَالْعَذَابِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: سَجْلًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِثْلَ سَجْلِ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الذَّنُوبُ: الدَّلْوُ الْمَلْأَى مَاءً، وَلَا يُقَالُ لَهَا ذَنُوبٌ وَهِيَ فَارِغَةٌ وَجَمْعُهَا الْعَدَدُ، وَفِي الْكَثِيرِ ذَنَائِبُ. وَالذَّنُوبُ: الْفَرَسُ الطَّوِيلُ الذَّنَبِ، وَالذَّنُوبُ: النَّصِيبُ، وَالذَّنُوبُ: لَحْمٌ أَسْفَلَ الْمَتْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ يَوْمٌ ذَنُوبٌ: أَيْ طَوِيلُ الشَّرِّ لَا يَنْقَضِي. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ، قِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُوعَدُونَ: أَيْ بِهِ، أَوْ يُوعَدُونَهُ.

سورة الطور

سورة الطّور [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 49] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)

الرَّقُّ، بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ: جِلْدٌ رَقِيقٌ يُكْتَبُ فِيهِ، وَجَمْعُهُ رُقُوقٌ. وَالرِّقُّ بِالْكَسْرِ: الْمَمْلُوكُ. مَارَ الشَّيْءُ: ذَهَبَ وَجَاءَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَأَبُو عُبَيْدَةَ: تَكَفَّأَ، وَأَنْشَدَ الْأَعْشَى: كَأَنَّ مشيتها من بين جارتها ... مر السحابة لا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ وَيُرْوَى: مَرْوَ السَّحَابَةِ. الدَّعُّ: الدَّفْعُ فِي الضِّيقِ بِشِدَّةٍ وَإِهَانَةٍ. السَّمُومُ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ الْمَسَامَّ، وَيُقَالُ: سَمَّ يَوْمُنَا فَهُوَ مَسْمُومٌ، وَالْجَمْعُ سَمَائِمُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: شِدَّةُ الْحَرِّ، أَوْ شِدَّةُ الْبَرْدِ فِي النَّهَارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّمُومُ بِالنَّهَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللَّيْلِ وَالْحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنَّهَارِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ السَّمُومُ فِي لَفْحِ الْبَرْدِ، وَهُوَ فِي لَفْحِ الْحَرِّ وَالشَّمْسِ أَكْثَرُ. الْمَنُونُ: الدَّهْرُ، وَرَيْبُهُ: حَوَادِثُهُ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْمَوْتِ. الْمُسَيْطِرُ: الْمُتَسَلِّطُ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ: سَطَّرْتَ عَلَيَّ، إِذَا اتَّخَذْتَنِي خَوَلًا، وَلَمْ يَأْتِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ

اسْمٌ عَلَى مُفَيْعِلٍ إِلَّا خَمْسَةٌ: مُهَيْمِنٌ وَمُحَيْمِرٌ وَمُبَيْطِرٌ وَمُسَيْطِرٌ وَمُبَيْقِرٌ. فَالْمُحَيْمِرُ اسْمُ جَبَلٍ، وَالْبَوَاقِي أَسْمَاءُ فَاعِلِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ، يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً، فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا، هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ، وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، إِذْ فِي آخِرِ تِلْكَ: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ «1» ، وَقَالَ هُنَا: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. الطُّورُ: الْجَبَلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، لَا جَبَلٌ مُعَيَّنٌ، وَفِي الشَّأْمِ جَبَلٌ يُسَمَّى الطُّورَ، وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ. فَقَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: إِنَّهُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ لِفَضْلِهِ عَلَى الْجِبَالِ. قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْكِتَابُ الْمَسْطُورُ: الْقُرْآنُ، أَوِ الْمُنْتَسَخُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ التَّوْرَاةُ، أَوْ هِيَ الْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ، أَوِ الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ أَعْمَالُ الْخَلْقِ، أَوِ الصُّحُفُ الَّتِي تُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِلْفَرَّاءِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى التَّعْيِينِ، إِنَّمَا تُورَدُ عَلَى الِاحْتِمَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: فِي رِقٍّ، بِكَسْرِ الرَّاءِ، مَنْشُورٍ: أَيْ مَبْسُوطٍ. وَقِيلَ: مَفْتُوحٌ لَا خَتْمَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَنْشُورٌ لَائِحٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْشُورٌ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: هُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ مُسَامِتُ

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 59.

الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ، وَالضَّرِيحُ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، قَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ مَعْمُورٌ، وَفِي كُلِّ أَرْضٍ كَذَلِكَ. وَسَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ: بَيْتٌ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ تَحْتَ الْعَرْشِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ: الْكَعْبَةُ، يُعَمِّرُهُ اللَّهُ كُلَّ سَنَةٍ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، فَإِنْ عَجَزَ مِنَ النَّاسِ أَتَمَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: السَّمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْعَرْشُ، وَهُوَ سَقْفُ الْجَنَّةِ. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَشِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْأَخْفَشُ: هُوَ الْبَحْرُ الْمُوقَدُ نَارًا. وَرُوِيَ أَنَّ الْبَحْرَ هُوَ جَهَنَّمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَحْرُ الْمَسْجُورُ: الْمَمْلُوءُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ بِوُجُودِ مَاءِ الْبَحْرِ كَذَلِكَ، وَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، لِأَنَّ سَجَرْتَ التَّنُّورَ مَعْنَاهُ: مَلَأْتَهُ بِمَا يَحْتَرِقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَسْجُورُ: الَّذِي ذَهَبَ مَاؤُهُ. وَرَوَى ذُو الرُّمَّةِ الشَّاعِرُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَتْ أَمَةٌ لِتَسْتَقِيَ، فَقَالَتْ: إِنَّ الْحَوْضَ مَسْجُورٌ: أَيْ فَارِغٌ، وَلَيْسَ لِذِي الرُّمَّةِ حَدِيثٌ إِلَّا هَذَا، فَيَكُونُ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَيُرْوَى أَنَّ الْبِحَارَ يَذْهَبُ مَاؤُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمَسْجُورُ: الْمَحْبُوسُ، وَمِنْهُ سَاجُورُ الْكَلْبِ: وَهِيَ الْقِلَادَةُ مِنْ عُودٍ أَوْ حَدِيدٍ تُمْسِكُهُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْبَحْرَ يُمْسَكُ، لَفَاضَ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْمَسْجُورُ: الْمُخْتَلِطُ الْعَذْبُ بِالْمِلْحِ. وَقِيلَ: الْمَفْجُورُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ «1» . وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الْبَحْرَ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ بَحْرُ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «2» . وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ تَحْتَ الْعَرْشِ فِيهِ مَاءٌ غَلِيظٌ يُقَالُ لَهُ بَحْرُ الْحَيَاةِ، يُمْطَرُ الْعِبَادُ مِنْهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَيَنْبُتُونَ فِي قُبُورِهِمْ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ جَهَنَّمُ، وَسَمَّاهَا بَحْرًا لِسَعَتِهَا وَتَمَوُّجِهَا. كَمَا جَاءَ فِي الْفَرَسِ: وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي الْقَسَمِ بِالطُّورِ وَالْبَحْرِ وَالْبَيْتِ، لِكَوْنِهَا أَمَاكِنَ خَلْوَةٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، خَاطَبَ مِنْهَا رَبُّهُمْ رُسُلَهُ. فَالطُّورُ، قَالَ فِيهِ مُوسَى: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «3» ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبَحْرُ الْمَسْجُورُ لِيُونُسَ، قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ «4» ، فَشُرِّفَتْ هَذِهِ الْأَمَاكِنُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَالْقَسَمُ بِكِتَابٍ مَسْطُورٍ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَهُمْ مَعَ الله في

_ (1) سورة الانفطار: 82/ 3. (2) سورة التكوير: 81/ 6. [.....] (3) سورة الأعراف: 7/ 143. (4) سورة الأنبياء: 21/ 87.

هَذِهِ الْأَمَاكِنِ كَلَامٌ. وَاقْتِرَانُهُ بِالطُّورِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ. وَالْقَسَمُ بِالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ لِبَيَانِ رِفْعَةِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. انْتَهَى. وَنَكَّرَ وَكِتَابٍ، لِأَنَّهُ شَامِلٌ لِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ شُمُولَ الْبَدَلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُمُولَ الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ «1» . وَكَوْنُهُ فِي رَقٍّ، يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يتخطى الرؤوس. وَوَصْفُهُ بِمَنْشُورٍ يَدُلُّ عَلَى وُضُوحِهِ، فَلَيْسَ كَالْكِتَابِ الْمَطْوِيِّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ، وَالْمَنْشُورُ يُعْلَمُ مَا فِيهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مُطَالَعَةِ مَا تَضَمَّنَهُ وَالْوَاوُ الْأُولَى وَاوُ الْقَسَمِ، وَمَا بَعْدَهَا لِلْعَطْفِ. وَالْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. وَفِي إِضَافَةِ الْعَذَابِ لِقَوْلِهِ: رَبِّكَ لَطِيفَةٌ، إِذْ هُوَ الْمَالِكُ وَالنَّاظِرُ فِي مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ. فَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الرَّبِّ، وَإِضَافَتِهِ لِكَافِ الْخِطَابِ أَمَانٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ الْعَذَابَ لَوَاقِعٌ هو بمن كذابه، وَلَوَاقِعٌ عَلَى الشِّدَّةِ، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَيْهَا مِنْ لَكَائِنٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «2» ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ «3» ، كَأَنَّهُ مُهَيَّأٌ فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَيَقَعُ عَلَى مَنْ حَلَّ بِهِ؟ وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ لِأَسْأَلَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَوَافَيْتُهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ: وَالطُّورِ إِلَى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي، فَأَسْلَمْتُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ أَقُومَ مِنْ مَقَامِي حَتَّى يَقَعَ بِيَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَاقِعٌ بِغَيْرِ لَامٍ. قَالَ قَتَادَةُ: يُرِيدُ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِلْكُفَّارِ، أَيْ لَوَاقِعٌ بِالْكُفَّارِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا يُحْكَى أَنَّ شَخْصًا رَأَى فِي النَّوْمِ فِي كَفِّهِ مَكْتُوبًا خَمْسُ وَاوَاتٍ، فَعُبِّرَ لَهُ بِخَيْرٍ، فَسَأَلَ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَالَ: تَهَيَّأْ لِمَا لَا يَسُرُّ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالطُّورِ إِلَى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، فَمَا مَضَى يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ حَتَّى أُحِيطَ بِذَلِكَ الشَّخْصِ. وَانْتَصَبَ يَوْمٌ بِدَافِعٍ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَقَالَ مَكِّيُّ: لَا يَعْمَلُ فِيهِ وَاقِعٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ الْمَنْعِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: لَواقِعٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ عَلَى هَذَا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَمُورُ: تَضْطَرِبُ. وَقَالَ أَيْضًا: تَشَقَّقُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَمُوجُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَدُورُ. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً، هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ حَتَّى تَصِيرَ آخِرًا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ «4» . فَوَيْلٌ: عُطِفَ عَلَى جُمْلَةٍ تَتَضَمَّنُ رَبْطَ الْمَعْنَى وَتَأْكِيدَهُ، وَالْخَوْضُ: التَّخَبُّطُ فِي الْبَاطِلِ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الِانْدِفَاعِ فِي الْبَاطِلِ.

_ (1) سورة التكوير: 81/ 14. (2) سورة الواقعة: 56/ 1. (3) سورة الشورى: 42/ 22. (4) سورة القارعة: 101/ 5.

يَوْمَ يُدَعُّونَ، وَذَلِكَ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ يَغُلُّونَ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَيَجْمَعُونَ نَوَاصِيَهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، وَيَدْفَعُونَهُمْ إِلَى النَّارِ دَفْعًا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَزَجًّا فِي أَقْفِيَتِهِمْ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالسُّلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُدْعَوْنَ، بِسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ: مِنَ الدُّعَاءِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: هَلُمُّوا إِلَى النَّارِ، وَادْخُلُوهَا دَعًّا: مَدْعُوعِينَ، يُقَالُ لَهُمْ: هذِهِ النَّارُ. لَمَّا قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُمْكِنُ دُخُولُ الشَّكِّ فِي أَنَّهَا النَّارُ، وَهِيَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سِحْرٌ يُلَبِّسُ ذَاتَ الْمَرْئِيِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ اخْتِلَالٌ، فَأَمَرَهُمْ بِصِلِيِّهَا عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ عَلَى قَطْعِ رَجَائِهِمْ: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ: عَذَابُكُمْ حَتْمٌ، فَسَوَاءٌ صَبْرُكُمْ وَجَزَعُكُمْ لَا بُدَّ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِكُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَسِحْرٌ هَذَا، يَعْنِي كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِلْوَحْيِ: هَذَا سِحْرٌ. أَفَسِحْرٌ هَذَا، يُرِيدُ: أَهَذَا الْمِصْدَاقُ أَيْضًا سِحْرٌ؟ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى. أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ: كَمَا كُنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي: أَمْ أَنْتُمْ عُمْيٌ عَنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، كَمَا كُنْتُمْ عُمْيًا عَنِ الْخَبَرِ؟ وَهَذَا تَقْرِيعٌ وَتَهَكُّمٌ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ عَلَّلَ اسْتِوَاءَ الصَّبْرِ وَعَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الصَّبْرَ إِنَّمَا يَكُونُ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى الْجَزَعِ لِنَفْعِهِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَبِأَنْ يُجَازَى عَلَيْهِ الصَّابِرُ جَزَاءَ الْخَيْرِ. فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الْعَذَابِ، الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ وَلَا عَاقِبَةَ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى الْجَزَعِ. انْتَهَى. وَسِحْرٌ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَهَذَا: مُبْتَدَأٌ، وَسَوَاءٌ: مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ الصَّبْرُ وَالْجَزَعُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صَبْرُكُمْ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، لِيَقَعَ التَّرْهِيبُ وَالتَّرْغِيبُ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مَا يؤول إِلَيْهِ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، أُخْبِرُوا بِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ لِلْكُفَّارِ، إِذْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي غَمِّهِمْ وَتَنْكِيدٌ لَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَكِهِينَ، نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْخَبَرِ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. وَقَرَأَ خَالِدٌ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ إِنَّ، وَفِي جَنَّاتٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَمَنْ أَجَازَ تَعْدَادَ الْخَبَرِ، أَجَازَ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ. وَوَقاهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى فِي جَنَّاتٍ، إِذِ الْمَعْنَى: اسْتَقَرُّوا فِي جَنَّاتٍ، أَوْ عَلَى آتاهُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ فَكِهِينَ بِإِيتَائِهِمْ رَبُّهُمُ النَّعِيمَ وَوِقَايَتِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَوَقَاهُمْ وَاوَ الْحَالِ، وَمَنْ شَرَطَ قَدْ فِي الْمَاضِي، قَالَ: هِيَ هُنَا مُضْمَرَةٌ، أَيْ وَقَدْ وَقَاهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَوَقَاهُمْ، بِتَشْدِيدِ الْقَافِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: هَنِيئاً.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَكْلًا وَشُرْبًا هَنِيئًا، أَوْ طَعَامًا وَشَرَابًا هَنِيئًا، وَهُوَ الَّذِي لَا تَنْغِيصَ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعِزَّةٍ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتْ أَعْنِي: صِفَةٌ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْمَصْدَرِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفِعْلِ، مُرْتَفِعًا بِهِ مَا اسْتَحَلَّتْ، كَمَا يَرْتَفِعُ بِالْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هُنَا عِزَّةُ الْمُسْتَحِلِّ مِنْ أَعْرَاضِنَا. وَكَذَلِكَ مَعْنَى هَنِيئًا هَاهُنَا: هَنَّأَكُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، أَوْ هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ جَزَاءُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ كَمَا فِي: كَفى بِاللَّهِ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلُوا وَاشْرَبُوا، إِذَا جَعَلْتَ الْفَاعِلَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مُشْبَعًا عَلَى هَنِيئاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَأَمَّا تَجْوِيزُهُ زِيَادَةَ الْبَاءِ، فَلَيْسَتْ زِيَادَتُهَا مَقِيسَةً فِي الْفَاعِلِ، إِلَّا فِي فَاعِلِ كَفَى عَلَى خِلَافٍ فِيهَا فَتَجْوِيزُ زِيَادَتِهَا فِي الْفَاعِلِ هُنَا لَا يَسُوغُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الباء تتعلق بكلوا وَاشْرَبُوا، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْأَعْمَالِ، فَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِأَحَدِهِمَا. وَانْتَصَبَ مُتَّكِئِينَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنَ الضَّمِيرِ فِي كُلُوا، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَوَقاهُمْ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي آتاهُمْ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فاكِهِينَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ الظَّرْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: عَلَى سُرَرٍ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِكَلْبٍ فِي الْمُضَعَّفِ، فِرَارًا مِنْ تَوَالِي ضَمَّتَيْنِ مَعَ التَّضْعِيفِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: بِحُورٍ عِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُبْتَدَأٌ، وخبره أَلْحَقْنا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ: وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَمَعْنَى الْآيَةِ، قَالَ الْجُمْهُورُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ يَكُونُونَ فِي مَرَاتِبِ آبَائِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي التَّقْوَى وَالْأَعْمَالِ مِثْلَهُمْ كَرَامَةً لِآبَائِهِمْ. فَبِإِيمَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَأَتْبَعْناهُمْ «1» . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ مَعَهُ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ لِيُقِرَّ بِهَا عَيْنَهُ» ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْحِقُ الْأَبْنَاءَ الصِّغَارَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا الْإِيمَانَ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. انْتَهَى. فَيَكُونُ بِإِيمَانٍ مُتَعَلِّقًا بِأَلْحَقْنَا، أَيْ أَلْحَقْنَا بِسَبَبِ الْإِيمَانِ الْآبَاءَ بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، وَهُمُ الصِّغَارُ الَّذِينَ مَاتُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا التَّكْلِيفَ، فَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَعَ آبَائِهِمْ، وَإِذَا كَانَ أَبْنَاءُ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّكْلِيفِ فِي الجنة، كما ثبت

_ (1) سورة القصص: 28/ 42.

فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، فَأَحْرَى أولاد الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْآيَةُ فِي الْكِبَارِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ هِيَ فِي الصِّغَارِ لَا فِي الْكِبَارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الَّذِينَ آمَنُوا: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَالذُّرِّيَّةُ: التَّابِعُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: إِنْ كَانَ الْآبَاءُ أَرْفَعَ دَرَجَةً، رَفَعَ اللَّهُ الْأَبْنَاءَ إِلَيْهِمْ، فَالْآبَاءُ دَاخِلُونَ فِي اسْمِ الذُّرِّيَّةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْمَعْنَى: أَعْطَيْنَاهُمْ أُجُورَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، مَعْطُوفٌ عَلَى حُورٍ عِينٍ. أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِالْحُورِ الْعِينِ وَبِالَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ بِالرُّفَقَاءِ وَالْجُلَسَاءِ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «1» ، فَيَتَمَتَّعُونَ تَارَةً بِمُلَاعَبَةِ الْحُورِ، وَتَارَةً بِمُؤَانَسَةِ الْإِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: فَيَجْمَعُ اللَّهُ لَهُمْ أَنْوَاعَ السُّرُورِ بِسَعَادَتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَبِمُزَاوَجَةِ الْحُورِ الْعِينِ، وَبِمُؤَانَسَةِ الْإِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِاجْتِمَاعِ أَوْلَادِهِمْ بِهِمْ وَنَسْلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ: أَيْ بِسَبَبِ إِيمَانٍ عَظِيمٍ رَفِيعِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ إِيمَانُ الْآبَاءِ، أَلْحَقْنَا بِدَرَجَاتِهِمْ ذُرِّيَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَسْتَأْهِلُونَهَا، تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ، لِنُتِمَّ سُرُورَهُمْ وَنُكَمِّلَ نَعِيمَهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى تَنْكِيرِ الْإِيمَانِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ إِيمَانٌ خَاصٌّ عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ إِيمَانُ الذُّرِّيَّةِ الدَّانِي الْمَحَلِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ لَا يُؤَهِّلُهُمْ لِدَرَجَةِ الْآبَاءِ أَلْحَقْنَاهُمْ بِهِمْ. انْتَهَى. وَلَا يَتَخَيَّلُ أَحَدٌ أَنَّ وَالَّذِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى بِحُورٍ عِينٍ غَيْرُ هَذَا الرَّجُلِ، وَهُوَ تَخَيُّلٌ أَعْجَمِيٌّ مُخَالِفٌ لِفَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ، لِأَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي صِفَةِ إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ إِحْسَانِهِ أَنَّهُ يَرْعَى الْمُحْسِنَ فِي الْمُسِيءِ. وَلَفْظَةُ أَلْحَقْنا تَقْتَضِي أَنَّ لِلْمُلْحَقِ بَعْضَ التَّقْصِيرِ فِي الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَأَتْبَعْنَاهُمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: وَاتَّبَعَتْهُمْ وَأَبُو عمرو: وذرياتهم جَمْعًا نَصْبًا وَابْنُ عَامِرٍ: جَمْعًا رَفْعًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: مُفْرَدًا وَابْنُ جُبَيْرٍ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلَتْناهُمْ، بِفَتْحِ اللَّامِ، مِنْ أَلَاتَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِكَسْرِهَا وَابْنُ هُرْمُزٍ: آلَتْنَاهُمْ، بِالْمَدِّ مَنْ آلَتَ، عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ: لِتْنَاهُمْ مِنْ لَاتَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ وَالْأَعْمَشِ وَرُوِيَتْ عَنْ شِبْلٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَعَنْ طَلْحَةَ والأعمش

_ (1) سورة الحجر: 15/ 47.

أَيْضًا: لَتْنَاهُمْ بِفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ سَهْلٌ: لَا يَجُوزُ فَتْحُ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بِحَالٍ، وَأَنْكَرَ أَيْضًا آلَتْنَاهُمْ بِالْمَدِّ، وَقَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا تَفْسِيرٌ وَلَا عَرَبِيَّةٌ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ قَدْ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ آلَتَ بِالْمَدِّ، كَمَا قرأ ابن هرمز. وقرىء: وَمَا وَلَتْنَاهُمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ هَارُونَ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: فَيَكُونُ هُنَا الْحَرْفُ مِنْ لَاتَ يَلِيتُ، وَوَلَتَ يَلِتُ، وَأَلَتَ يَأْلِتُ، وَأَلَاتَ يَلِيتُ، وَيُؤْلِتُ، وَكُلُّهَا بِمَعْنَى نَقَصَ. وَيُقَالُ: أَلَتَ بِمَعْنَى غَلُظَ. وَقَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَعَظَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَا تَأْلِتْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَا تُغْلِظْ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَلَتْنَاهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يُلْحِقُ الْمُقَصِّرَ بِالْمُحْسِنِ، وَلَا يُنْقِصُ الْمُحْسِنَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ والجمهور. وقال أبي زَيْدٍ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ. مِنْ عَمَلِهِمْ: أَيِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَيُحَسِّنُ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلُهُ: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ: أَيْ مُرْتَهِنٌ وَفِيهِ، وَأَمْدَدْناهُمْ: أَيْ يَسَّرْنَا لَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَكِرَّ وَلَا يَنْقَطِعَ. يَتَنازَعُونَ فِيها أَيْ يَتَعَاطَوْنَ، قَالَ الْأَخْطَلُ: نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشَّمُولِ وَقَدْ ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي أَوْ يَتَنَازَعُونَ: يَتَجَاذَبُونَ تَجَاذُبَ مُلَاعَبَةٍ، إِذْ أَهْلُ الدُّنْيَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَذَّةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ، بِرَفْعِهِمَا وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِهِمَا، وَاللَّغْوُ: السَّقْطُ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا يَجْرِي بَيْنَ شُرَّابِ الْخَمْرِ فِي الدُّنْيَا. وَالتَّأْثِيمُ: الْإِثْمُ الَّذِي يَلْحَقُ شَارِبَ الْخَمْرِ فِي الدُّنْيَا. غِلْمانٌ لَهُمْ: أَيْ مَمَالِيكُ. مَكْنُونٌ: أَيْ فِي الصَّدَفِ، لَمْ تَنَلْهُ الْأَيْدِي، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ رَطْبٌ، فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَصْفَى. ويجوز أن يراد بمكنون: مَخْزُونٌ، لِأَنَّهُ لَا يُخْزَنُ إِلَّا الْغَالِي الثَّمَنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّسَاؤُلَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ، إِذْ هَذِهِ كُلُّهَا مَعَاطِيفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، أَيْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَا نَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا: أَيْ بِهَذَا النَّعِيمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَسَاؤُلُهُمْ إِذَا بُعِثُوا فِي النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ. مُشْفِقِينَ: رَقِيقِي الْقُلُوبِ، خَاشِعِينَ لِلَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَوَقَّانَا بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَالسَّمُومُ هُنَا النَّارُ وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ لِقَاءِ اللَّهِ وَالْمَصِيرِ إِلَيْهِ. نَدْعُوهُ نَعْبُدُهُ وَنَسْأَلُهُ الْوِقَايَةَ مِنْ عَذَابِهِ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ: الْمُحْسِنُ، الرَّحِيمُ: الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ، إِذَا عُبِدَ أَثَابَ، وَإِذَا سُئِلَ أَجَابَ. أَوْ نَدْعُوهُ مِنَ الدُّعَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ لِأَنَّهُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: إِنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَجَمَاعَةٍ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ، أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ، أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ، أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ، فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ، يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ. لَمَّا تَقَدَّمَ إِقْسَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَذَّبِينَ وَالنَّاجِينَ، أَمَرَهُ بِالتَّذْكِيرِ، إِنْذَارًا لِلْكَافِرِ، وَتَبْشِيرًا لِلْمُؤْمِنِ، وَدُعَاءً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَشْرِ رِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ مَا كَانَ الْكُفَّارُ يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْكِهَانَةِ والجنون، إذا كَانَا طَرِيقَيْنِ إِلَى الْإِخْبَارِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَكَانَ لِلْجِنِّ بِهِمَا مُلَابَسَةٌ لِلْإِنْسِ. وَمِمَّنْ كَانَ يَنْسُبُهُ إِلَى الْكِهَانَةِ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمِمَّنْ كَانَ يَنْسُبُهُ إِلَى الْجُنُونِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَذَكِّرْ فَاثْبُتْ عَلَى تَذْكِيرِ النَّاسِ وَمَوْعِظَتِهِمْ، وَلَا يُثَبِّطَنَّكَ قَوْلُهُمْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ، وَلَا تُبَالِ بِهِ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ مُتَنَاقِضٌ. فَإِنَّ الْكَاهِنَ يَحْتَاجُ فِي كَهَانَتِهِ إِلَى فِطْنَةٍ وَدِقَّةِ نَظَرٍ، وَالْمَجْنُونُ مُغَطًّى عَلَى عَقْلِهِ وَمَا أَنْتَ، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْعَامِهِ عَلَيْكَ بِصِدْقِ النُّبُوَّةِ وَرَصَافَةِ الْعَقْلِ، أَحَدَ هَذَيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ اسْمِ مَا وَخَبَرِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَنْتَ فِي حَالِ إِذْكَارِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْبَاءُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِي بِكَاهِنٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَنْتَ كَاهِنًا وَلَا مَجْنُونًا مُلْتَبِسًا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ. انْتَهَى. وَتَكُونُ حَالًا لَازِمَةً لَا مُنْتَقِلَةً، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا زَالَ مُلْتَبِسًا بِنِعْمَةِ رَبِّهِ. وَقِيلَ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ مُقْسَمٌ بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَنِعْمَةِ رَبِّكَ مَا أَنْتَ كَاهِنٌ وَلَا مَجْنُونٌ، فَتَوَسَّطَ الْمُقْسَمُ بِهِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، كَمَا تَقُولُ: مَا زَيْدٌ وَاللَّهِ بِقَائِمٍ. وَلَمَّا نَفَى عَنْهُ الْكِهَانَةَ وَالْجُنُونَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ يَنْسُبُونَهُمَا إِلَيْهِ، ذَكَرَ نَوْعًا آخَرَ مِمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ.

رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعَتْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَكَثُرَتْ آرَاؤُهُمْ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ: تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، فَإِنَّهُ شَاعِرٌ سَيَهْلِكُ، كَمَا هَلَكَ زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةُ وَالْأَعْشَى، فَافْتَرَقُوا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ نَقْصِ الْفِطْرَةِ بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُ الشِّعْرَ، وَهُوَ الْكَلَامُ الْمَوْزُونُ عَلَى طَرِيقَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنَ النَّثْرِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَلَى ذَلِكَ الْمِضْمَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُدْرِكُ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ فِيهِمْ شعراء، ولكنهم تمالؤوا مَعَ أُولَئِكَ النَّاقِصِي الْفِطْرَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، حجدا لِآيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ اسْتِيقَانِهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُتَرَبَّصُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِهِ، رَيْبَ: مَرْفُوعٌ، وَرَيْبُ الْمَنُونِ: حَوَادِثُ الدَّهْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُومُ عَلَى حَالٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ قُلْ تَرَبَّصُوا: هُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ هَلَاكَكُمْ، كَمَا تَتَرَبَّصُونَ هَلَاكِي. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ: عُقُولُهُمْ بِهَذَا، أَيْ بِقَوْلِهِمْ كَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْعَى أَهْلَ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى. وَقِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَا بَالُ قَوْمِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَقْلِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ عُقُولٌ كَادَهَا اللَّهُ، أي لم يصبحها التَّوْفِيقُ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ، قِيلَ: أَمْ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ، أَيْ أتأمرهم؟ وقدرها مجاهد ببل، والصحيح أنها تتقدر ببل وَالْهَمْزَةِ. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ: أَيْ مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الْعِنَادِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: بَلْ هُمْ، مَكَانَ: أَمْ هُمْ، وَكَوْنُ الْأَحْلَامِ آمِرَةً مَجَازًا لَمَّا أَدَّتْ إِلَى ذَلِكَ، جُعِلَتْ آمِرَةً كَقَوْلِهِ: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا «1» . وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا فِي سُورَةِ وَالطُّورِ مِنْ أَمْ فَاسْتِفْهَامٌ وَلَيْسَ بِعَطْفٍ. تَقَوَّلَهُ: اخْتَلَقَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقَوَّلَهُ مَعْنَاهُ: قَالَ عَنِ الْغَيْرِ أَنَّهُ قَالَهُ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَذِبٍ مَخْصُوصٍ. انْتَهَى. بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ: أَيْ لِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، ثُمَّ عَجَّزَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ: أَيْ مُمَاثِلٍ للقرآن في نظمه ووصفه مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الْمَعَانِي وَالْإِخْبَارِ بِقِصَصِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ والمغيبات،

_ (1) سورة هود: 11/ 87. (2) سورة الحاقة: 69/ 44.

وَالْحُكْمُ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ، فَلْيَقُولُوا هُمْ مِثْلَهُ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلْيَكُونُوا مِثْلَهُ فِي التَّقَوُّلِ. فَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ، عَلَى الْإِضَافَةِ: أَيْ بِحَدِيثِ رَجُلٍ مِثْلِ الرَّسُولِ فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَصْحَبْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَلَا رَحَلَ عَنْ بَلَدِهِ، أَوْ مِثْلِهِ فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِ فَصَاحَةً، فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ، وَلَنْ يَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ: أَيْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ حَيٍّ كَالْجَمَادِ، فَهُمْ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ، كَمَا هِيَ الْجَمَادَاتُ عَلَيْهِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ: أَيْ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا لِغَايَةِ عِقَابٍ وَثَوَابٍ، فَهُمْ لِذَلِكَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَتَشَرَّعُونَ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ: أَيْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، فَمِنْ لِلسَّبَبِ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمْ خُلِقُوا: أَمْ أُحْدِثُوا؟ وَقُدِّرُوا التَّقْدِيرَ الَّذِي عَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ: مِنْ غَيْرِ مُقَدِّرٍ، أَمْ هُمُ الَّذِينَ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ لَا يَعْبُدُونَ الْخَالِقَ؟ بَلْ لَا يُوقِنُونَ: أَيْ إِذَا سُئِلُوا: من خلقكم وخلق السموات وَالْأَرْضَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، وَهُمْ شَاكُّونَ فِيمَا يَقُولُونَ لَا يُوقِنُونَ. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ رَبٍّ وَلَا خَالِقٍ؟ أَيْ أَمْ أُحْدِثُوا وَبَرَزُوا لِلْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ إِلَهٍ يُبْرِزُهُمْ وَيُنْشِئُهُمْ؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَلَا يَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِ، وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ مَنَاهِيهِ. وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ وَقَفَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَهُمُ الَّذِينَ خَلَقُوا الْأَشْيَاءَ فَهُمْ لِذَلِكَ يَتَكَبَّرُونَ؟ ثُمَّ خَصَّصَ مِنْ تلك الأشياء السموات وَالْأَرْضَ لِعِظَمِهَا وَشَرَفِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ نَظَرًا يُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْيَقِينِ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَزَائِنُ الرِّزْقِ، حَتَّى يَرْزُقُوا النُّبُوَّةَ مَنْ شَاءُوا، أَوْ: أَعِنْدَهُمْ خَزَائِنُ عِلْمِهِ حَتَّى يَخْتَارُوا لَهَا مَنِ اخْتِيَارُهُ حِكْمَةٌ ومصلحة؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ: الأرباب الغالبون حتى يدبرون أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ وَيَبْنُوا الْأُمُورَ عَلَى إِرَادَتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمْ عِنْدَهُمُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْمَالَ وَالصِّحَّةَ وَالْقُوَّةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: وَقِيلَ يُرِيدُ بِالْخَزَائِنِ: الْعِلْمَ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ إِذَا تُؤُمِّلَ وَبُسِطَ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: خَزَائِنُهُ تَعَالَى: مَقْدُورَاتُهُ. انْتَهَى. وَالْمُسَيْطِرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسَلَّطُ الْقَاهِرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُصَيْطِرُونَ بِالصَّادِ وَهِشَامٌ وَقُنْبُلٌ وَحَفْصٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالسِّينِ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَمَنْ أَبْدَلَهَا صَادًا، فَلِأَجْلِ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ الطَّاءُ، وَأَشَمَّ خلف عَنْ حَمْزَةَ، وَخَلَّادٍ عَنْهُ بِخِلَافٍ عَنْهُ الزَّايَ.

أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ مَنْصُوبٌ إِلَى السَّمَاءِ، يَسْتَمِعُونَ فِيهِ: أَيْ عَلَيْهِ أَوْ مِنْهُ، إِذْ حُرُوفُ الْجَرِّ قَدْ يَسُدُّ بَعْضُهَا مَسَدَّ بَعْضٍ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَاعِدِينَ فِيهِ، وَمَفْعُولُ يَسْتَمِعُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْخَبَرُ بِصِحَّةِ مَا يَدَّعُونَهُ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ تَقَدُّمِ هَلَاكِهِ عَلَى هَلَاكِهِمْ وَظَفَرِهِمْ فِي الْعَاقِبَةِ دُونَهُ كَمَا يَزْعُمُونَ. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ: أَيْ بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ بِصِدْقِ اسْتِمَاعِهِمْ مستمعهم، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، فَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَغْرَمِ الثَّقِيلِ اللام مُثْقَلُونَ، فَاقْتَضَى زُهْدَهُمْ فِي اتِّبَاعِكَ. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ: أَيِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ: أَيْ يُثْبِتُونَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ شَرْعًا، وَذَلِكَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَتَسْيِيبُ السَّوَائِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سِيَرِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَهُمْ يَعْلَمُونَ مَتَى يَمُوتُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَتَرَبَّصُونَ بِهِ، وَيَكْتُبُونَ بِمَعْنَى: يَحْكُمُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَمْ عِنْدَهُمُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا فِيهِ وَيُخْبِرُونَ. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً: أَيْ بِكَ وَبِشَرْعِكَ، وَهُوَ كَيْدُهُمْ بِهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ فَهُمْ، وَأَبْرَزَ الظَّاهِرَ تَنْبِيهًا عَلَى الْعِلَّةِ، أَوِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ فَيَنْدَرِجُونَ فِيهِ، هُمُ الْمَكِيدُونَ: أَيِ الَّذِينَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ وَبَالُ كَيْدِهِمْ، وَيَحِيقُ بِهِمْ مَكْرُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَسَمَّى غَلَبَتَهُمْ كَيْدًا، إِذْ كَانَتْ عُقُوبَةَ الْكَيْدِ. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَعْصِمُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ فِي صُدُورِ إِهْلَاكِهِمْ، ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ، عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ: كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ اقْتَرَحَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا اقْتَرَحَتْ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوُا ذَلِكَ عَيَانًا، حَسَبَ اقْتِرَاحِهِمْ، لَبَلَغَ بِهِمْ عُتُوُّهُمْ وَجَهْلُهُمْ أَنْ يُغَالِطُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا عَايَنُوهُ، وَقَالُوا: هُوَ سَحَابٌ مَرْكُومٌ، تَرَاكَمَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مُمْطِرُنَا، وَلَيْسَ بِكِسَفٍ سَاقِطٍ لِلْعَذَابِ. فَذَرْهُمْ: أَمْرُ مُوَادَعَةٍ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَتَّى يُلاقُوا وَأَبُو حَيْوَةَ: حَتَّى يَلْقَوْا، مُضَارِعُ لَقِيَ، يَوْمَهُمُ: أَيْ يَوْمَ مَوْتِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَالصَّعْقُ: الْعَذَابُ، أَوْ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فِيهِ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَقْوَالٌ، ثَالِثُهَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ صَعْقَتَهُ تَعُمُّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصْعَقُونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَهْلُ مَكَّةَ: فِي قَوْلِ شِبْلِ بْنِ عُبَادَةَ، وَفَتَحَهَا أَهْلُ مَكَّةَ، كَالْجُمْهُورِ فِي قَوْلِ إِسْمَاعِيلَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، مِنْ أَصْعَقَ رُبَاعِيًّا. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: أَيْ لِهَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ، عَذاباً دُونَ ذلِكَ: أَيْ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ

وَقَبْلَهُ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْفَتْحِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: مَصَائِبُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجُوعُ وَالْقَحْطُ، سَبْعَ سِنِينَ. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا: عِبَارَةٌ عَنِ الْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ، وَجُمِعَ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَحِينَ كَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا، أَفْرَدَ الْعَيْنَ، قَالَ تَعَالَى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «1» . وقرأ أبو السمال: بأعيننا، بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، قَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: هُوَ التَّسْبِيحُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: حِينَ تَقُومُ مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حِينَ تَقُومُ مِنْ مَنَامِكَ. وَقِيلَ: هُوَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ. وَقِيلَ: الْفَرِيضَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ تَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: حِينَ تَقُومُ مِنَ الْقَائِلَةِ وَالتَّسْبِيحِ، إِذْ ذَاكَ هُوَ صَلَاةُ الظُّهْرِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: اذْكُرِ اللَّهَ بِلِسَانِكَ حِينَ تَقُومُ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ: قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَإِدْبارَ النُّجُومِ: صَلَاةُ الصُّبْحِ. وَعَنْ عَمْرٍو وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ: إِنَّهَا النَّوَافِلُ، وَإِدْبارَ النُّجُومِ: رَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَقَرَأَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ وَالْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: وَأَدْبَارَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، بِمَعْنَى: وَأَعْقَابَ النُّجُومِ.

_ (1) سُورَةُ طه: 20/ 39.

سورة النجم

[الجزء العاشر] سورة النجم [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 62] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (16) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

الْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ مِنْ أَمْرَرْتُ الْحَبْلَ، إِذَا أَحْكَمْتَ فَتْلَهُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ لكل جزل الرأي خصيف الْعَقْلِ إِنَّهُ لَذُو مِرَّةٍ، قَالَ: وَإِنِّي لَذُو مِرَّةٍ مُرَّةٍ ... إِذَا رَكِبَتْ خَالَةٌ خَالَهَا تَدَلَّى الْعِذْقُ تَدَلِّيًا: امْتَدَّ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْعُلُوِّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ أُسَامَةُ الْهُذَلِيُّ: تَدَلَّى عَلَيْنَا وَهْوَ زُرْقُ حَمَامَةٍ ... إِذَا طُحْلُبٌ فِي مُنْتَهَى الْقَيْظِ هامد القاب والقيب، والقاد وَالْقَيْدُ: الْمِقْدَارُ. الْقَوْسُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ: آلَةٌ لِرَمْيِ السِّهَامِ،

وَتَخْتَلِفُ أَشْكَالُهُ. السِّدْرَةُ: شَجَرَةُ النَّبْقِ. الضِّيزَى: الْجَائِرَةُ مِنْ ضَازَهُ يَضِيزُهُ إِذَا ضَامَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمْ ... إِذْ يَجْعَلُونَ الرَّأْسَ كَالذَّنَبِ وَأَصْلُهَا ضُوزَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، نَحْوَ: حُبْلَى وَأُنْثَى وَرُيَّا، فَفُعِلَ بِهَا مَا فُعِلَ بِبُيَّضَ لِتَسْلَمَ الْيَاءُ، وَلَا يُوجَدُ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي الصِّفَاتِ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَحَكَى ثَعْلَبٌ: مِشْيَةٌ جُبْكَى، وَرَجُلٌ كِيصَى. وَحَكَى غَيْرُهُ: امرأة عزمى، وَامْرَأَةٌ سِعْلَى وَالْمَعْرُوفُ: عِزْمَاةٌ وَسِعْلَاةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: ضَازَ يَضِيزُ ضِيزَى، وَضَازَ يَضُوزُ ضِوْزَى، وَضَأَزَ يَضْأَزُ ضِأْزًا. اللَّمَمُ: مَا قَلَّ وَصَغُرَ، وَمِنْهُ اللَّمَمُ: الْمَسُّ مِنَ الْجُنُونِ، وَأَلَمَّ بِالْمَكَانِ: قَلَّ لُبْثُهُ فِيهِ، وَأَلَمَّ بِالطَّعَامِ: قَلَّ أَكْلُهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ اللَّمَمِ أَنْ يَلِمَّ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْكَبَهُ، يُقَالُ: أَلَمَّ بِكَذَا، إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يُخَالِطْهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْإِلْمَامَ فِي الْمُقَارَبَةِ وَالدُّنُوِّ، يُقَالُ: أَلَمَّ يَفْعَلُ كَذَا، بِمَعْنَى: كَادَ يَفْعَلُ. قَالَ جَرِيرٌ: بِنَفْسِي مَنْ تَجْنِيهِ عَزِيزٌ ... عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ وَقَالَ آخَرُ: لِقَاءُ أَخِلَّاءِ الصَّفَا لِمَامُ الْأَجِنَّةُ: جَمْعُ جَنِينٍ، وَهُوَ الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِتَارِهِ، وَالِاجْتِنَانُ: الِاسْتِتَارُ. أَكْدَى: أَصْلُهُ مِنَ الْكُدْيَةِ، يُقَالُ لِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ وَصَلَ إِلَى حَجَرٍ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ فِيهَا حَفْرٌ: قَدْ أَكْدَى، ثُمَّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ لِمَنْ أَعْطَى وَلَمْ يُتْمِمْ، وَلِمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَمْ يَبْلُغْ آخِرَهُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: فَأَعْطَى قَلِيلًا ثُمَّ أَكْدَى عَطَاءَهُ ... وَمَنْ يَبْذُلِ الْمَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدُ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: أَكْدَى الْحَافِرُ، إِذَا بَلَغَ كُدْيَةً أَوْ جَبَلًا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْفِرَ، وَحَفَرَ فَأَكْدَى: إِذَا وَصَلَ إِلَى الصُّلْبِ، وَيُقَالُ: كَدِيَتْ أَصَابِعُهُ إِذَا كَلَّتْ مِنَ الْحَفْرِ، وَكَدَا الْبَيْتُ: قَلَّ رَيْعُهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَكْدَى الرَّجُلُ: قَلَّ خَيْرُهُ. أَقْنَى، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَنِيَ يَقْنَى قِنًى، كَغَنِيَ يَغْنَى غِنًى، وَيَتَعَدَّى بِتَغْيِيرِ الْحَرَكَةِ، فَتَقُولُ: قَنَيْتُ الْمَالَ: أَيْ كَسَبْتُهُ، نَحْوَ شُتِرَتْ عَيْنُ الرَّجُلِ وَشَتَرَهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَعَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، فَتَقُولُ: أَقْنَاهُ اللَّهُ مَالًا، وَقَنَّاهُ اللَّهُ مَالًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَصَابَ الدَّهْرُ ثَرْوَتَهُ ... وَمِنْ فَقِيرٍ تَقَنَّى بَعْدَ الْإِقْلَالِ

أَيْ: تَقَنَّى الْمَالَ، وَيُقَالُ: أَقْنَاهُ اللَّهُ مَالًا، وَأَرْضَاهُ مِنَ الْقِنْيَةِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ أُعْطِيَ مِائَةً مِنَ الْمَعِزِ: أُعْطِيَ الْقِنَى، وَمَنْ أُعْطِيَ مِائَةً مِنَ الضَّأْنِ: أُعْطِيَ الْغِنَى، وَمَنْ أُعْطِيَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ: أُعْطِيَ الْمُنَى. الشِّعْرَى: هُوَ الْكَوْكَبُ الْمُضِيءُ الَّذِي يَطْلُعُ بَعْدَ الْجَوْزَاءِ، وَطُلُوعُهُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَيُقَالُ لَهُ: مُرْزِمُ الْجَوْزَاءِ، وَهُمَا الشِّعْرَيَانِ: الْعُبُورُ الَّتِي فِي الْجَوْزَاءِ، وَالشِّعْرَى الْغُمَيْصَاءُ الَّتِي فِي الذِّرَاعِ، وَتَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُمَا أُخْتَا سُهَيْلٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتُسَمَّى كَلْبَ الْجَبَّارِ، وَهُمَا شِعْرَيَانِ: الْغُمَيْصَاءُ وَالْعُبُورُ، وَمِنْ كَذِبِ الْعَرَبِ أَنَّ سُهَيْلًا وَالشِّعْرَى كَانَا زَوْجَيْنِ فَانْحَدَرَ سُهَيْلٌ وَصَارَ يَمَانِيًّا، فَأَتْبَعَتْهُ الشِّعْرَى الْعُبُورَ، فَعَبَرَتِ الْمَجَرَّةَ، فَسُمِّيَتِ الْعُبُورَ، وَأَقَامَتِ الْغُمَيْصَاءُ لِأَنَّهَا أَخْفَى مِنَ الْأُخْرَى. أَزِفَ: قَرُبَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: بَانَ الشَّبَابُ وَهَذَا الشِّيبُ قَدْ أَزِفَا ... وَلَا أَرَى لِشَبَابٍ بَائِنٍ خَلَفَا وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تزل برجالنا وَكَأَنَّ قَدِ وَيُرْوَى: أَفِدَ التَّرَحُّلُ. سَمَدَ: لَهَى وَلَعِبَ، قَالَ الشَّاعِرِ: أَلَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ سَامِدٌ ... كَأَنَّكَ لَا تَفْنَى وَلَا أَنْتَ هَالِكُ وَقَالَ آخَرُ: قِيلَ قُمْ فَانْظُرْ إِلَيْهِمْ ... ثُمَّ دَعْ عَنْكَ السُّمُودَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السُّمُودُ: الْغِنَاءُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، يَقُولُونَ: يَا جَارِيَةُ اسْمُدِي لَنَا: أَيْ غَنِّي لَنَا. وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى، مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى، مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى

الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى، أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لآخر ما قبلها ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ «1» : أَيِ اخْتَلَقَ الْقُرْآنَ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الشِّعْرِ وَقَالُوا: هُوَ كَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ فَأَقْسَمَ تَعَالَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضَلَّ، وَأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَعْلَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فِي الْحَرَمِ، وَالْمُشْرِكُونَ يَسْتَمِعُونَ، فِيهَا سَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ غَيْرَ أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ رَفَعَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِي هَذَا. وَسَبَبُ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَلِقُ الْقُرْآنَ. وَأَقْسَمَ تَعَالَى بِالنَّجْمِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وَالْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا نَزَلَتْ، وَقَدْ نَزَلَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: هُوَ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمُرَادُ النُّجُومُ إِذَا هَوَتْ: أَيْ غَرَبَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَجَرِّهِ ... سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ حَمُودُهَا أَيْ: تَعُدُّ النُّجُومَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ: النُّجُومُ إِذَا انْتَثَرَتْ فِي الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ انْقَضَّ فِي أَثَرِ الشَّيَاطِينِ، وَهَذَا تُسَاعِدُهُ اللُّغَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَالنَّجْمُ إِذَا طَلَعَ، وَهَوِيُّهُ: سُقُوطُهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الصَّادِقُ: هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَوِيُّهُ: نُزُولُهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَقِيلَ: النَّجْمُ مُعَيَّنٌ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ: هُوَ الثُّرَيَّا، وَهَوِيُّهَا: سُقُوطُهَا مَعَ الْفَجْرِ، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَيْهَا بِالْغَلَبَةِ، وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ النَّجْمَ مُطْلَقًا إِلَّا لِلثُّرَيَّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءْ ... فَابْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءْ طَلَعَ النَّجْمُ غُدْيَهْ ... فَابْتَغَى الرَّاعِي كُسْيَهْ وَقِيلَ: الشِّعْرَى، وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى، وَالْكُهَّانُ وَالْمُنَجِّمُونَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ عِنْدَ طُلُوعِهَا. وَقِيلَ: الزُّهْرَةُ، وَكَانَتْ تُعْبَدُ. وَقِيلَ: وَالنَّجْمِ: هُمُ الصَّحَابَةُ. وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ خَرْقُ الْهَوَى وَمَقْصِدُهُ السُّفْلُ، إِذْ مَصِيرُهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: هُوِيَّ الدلو أسلمها الرشا وَمِنْهُ: هَوَى الْعُقَابُ. صاحِبُكُمْ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ: أَيْ هُوَ مُهْتَدٍ رَاشِدٌ، وَلَيْسَ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ نِسْبَتِكُمْ إِيَّاهُ إِلَى الضَّلَالِ وَالْغَيِّ. وَما يَنْطِقُ:

_ (1) سورة الطور: 52/ 33.

أَيِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَنِ الْهَوى: أَيْ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ وَرَأْيِهِ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُوحى إِلَيْهِ. وَقِيلَ: وَما يَنْطِقُ: أَيِ الْقُرْآنُ، عَنْ هَوًى وَشَهْوَةٍ، كَقَوْلِهِ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «1» . إِنْ هُوَ: أَيِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ. أَوْ إِنْ هُوَ: أَيِ الْقُرْآنُ. عَلَّمَهُ: الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ عَلَّمَهُ الْوَحْيَ. أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَلَّمَهُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. شَدِيدُ الْقُوى: هُوَ جِبْرِيلُ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْأَوْصَافِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شَدِيدُ الْقُوى: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ بَعِيدٌ. ذُو مِرَّةٍ: ذُو قُوَّةٍ، وَمِنْهُ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ. وَقِيلَ: ذُو هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ جِسْمٌ طَوِيلٌ حَسَنٌ. وَلَا يُنَاسِبُ هَذَانِ الْقَوْلَانِ إِلَّا إِذَا كَانَ شَدِيدُ الْقُوَى هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَاسْتَوى: الضَّمِيرُ لِلَّهِ فِي قوله الْحَسَنِ، وَكَذَا وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى لِلَّهِ تَعَالَى، عَلَى مَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ. وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: فَاسْتَوى: أَيْ جِبْرِيلُ فِي الْجَوِّ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى، إِنْ رَآهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِحِرَاءٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَحِينَئِذٍ دَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ، وَكَذَلِكَ هُوَ الْمَرْئِيُّ فِي النَّزْلَةِ الْأُخْرَى بِسِتِّمِائَةِ جَنَاحٍ عِنْدَ السِّدْرَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وفي هَذَا التَّأْوِيلِ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ فِي اسْتَوَى لِلرَّسُولِ، وَهُوَ لِجِبْرِيلَ، وَالْأَعْلَى لِعِمَّةِ الرَّأْسِ وَمَا جَرَى مَعَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ أُفُقُ مَشْرِقِ الشَّمْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاسْتَوى: فَاسْتَقَامَ عَلَى صُورَةِ نَفْسِهِ الْحَقِيقِيَّةِ دُونَ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَا كُلَّمَا هَبَطَ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ يَنْزِلُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، فَاسْتَوَى لَهُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَهُوَ أُفُقُ الشَّمْسِ، فَمَلَأَ الْأُفُقَ. وَقِيلَ: مَا رَآهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّةً فِي الْأَرْضِ، وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ. ثُمَّ دَنا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَدَلَّى: فَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ فِي الْهَوَى. وَكَانَ مِقْدَارُ مَسَافَةِ قُرْبِهِ مِنْهُ مِثْلَ قابَ قَوْسَيْنِ، فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ، كَمَا قَالَ أَبُو علي في قوله:

_ (1) سورة الجاثية: 45/ 29.

وَقَدْ جَعَلْتَنِي مِنْ خُزَيْمَةَ أُصْبُعَا أَيْ: ذَا مَسَافَةٍ مِقْدَارَ أُصْبُعٍ، أَوْ أَدْنى عَلَى تَقْدِيرِكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ «1» . إِلى عَبْدِهِ : أَيْ إِلَى عَبْدِ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لِاسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ لَا يُلْبِسُ، كَقَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها «2» . مَا أَوْحى : تَفْخِيمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ قَبْلُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ دَنا، قَالَ الْجُمْهُورُ: أَيْ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ حِرَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: مَا يَقْتَضِي أَنَّ الدُّنُوَّ يَسْتَنِدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَ الدُّنُوُّ إِلَى جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ دَنَا وَحْيُهُ وَسُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ مَعَ جِبْرِيلَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَزْلَةً مُتَقَدِّمَةً. وَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ قَبْلَ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ. وَدَنَا أَعَمُّ مِنْ تَدَلَّى، فَبَيَّنَ هَيْئَةَ الدُّنُوِّ كَيْفَ كَانَتْ قَابَ قَدْرٍ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ مِنْ طَرَفِ الْعُودِ إِلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: مِنَ الْوَتَرِ إِلَى الْعُودِ فِي وَسَطِ الْقَوْسِ عِنْدَ الْمِقْبَضِ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْقَوْسِ، وَلَكِنْ قَدْرُ الذِّرَاعَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْقَوْسَ هُنَا ذِرَاعٌ تُقَاسُ بِهِ الْأَطْوَالُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ مِنْ لُغَةِ الْحِجَازِ. فَأَوْحى : أَيِ اللَّهُ، إِلى عَبْدِهِ : أَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِلى عَبْدِهِ جِبْرِيلَ، مَا أَوْحى : إِبْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالَّذِي عُرِفَ مِنْ ذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَوْحَى، كَالْأَوَّلِ فِي الْإِبْهَامِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا أَوْحى : أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ. مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ مِنْ صُورَةِ جِبْرِيلَ: أَيْ مَا قَالَ فُؤَادُهُ لَمَّا رَآهُ لَمْ أَعْرِفْكَ، يَعْنِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَعَرَفَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ مَا رَآهُ حَقٌّ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا كَذَبَ مُخَفَّفًا، عَلَى مَعْنَى: لَمْ يَكْذِبْ قَلْبُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ الشَّيْءَ الَّذِي رَآهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وَتَحَقَّقَهُ نَظَرًا، وَكَذَبَ يَتَعَدَّى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ: رَأَى محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ اللَّهَ تَعَالَى بِفُؤَادِهِ. وَقِيلَ: مَا رَأَى بِعَيْنِهِ لَمْ يُكَذِّبْ ذَلِكَ قَلْبُهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وَتَحَقَّقَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِيمَا رَأَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رأسه ، وأبت

_ (1) سورة الصافات: 37/ 147. [.....] (2) سورة فاطر: 35/ 45.

ذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَتْ: أَنَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا كُلِّهَا» . وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى مَا رَأَى مِنْ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتِهِ. وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فقال: «نورانى أَرَاهُ» . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَاطِعٌ لِكُلِّ تَأْوِيلٍ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ قَوْلَ غَيْرِهَا إِنَّمَا هُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَتْ نَصًّا فِي الرؤية بالبصر، بلا وَلَا بِغَيْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: مَا كَذَّبَ مُشَدَّدًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ الرُّؤْيَةَ وَالْكَلَامَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: لَقَدْ وَقَفَ شَعَرِي مِنْ سَمَاعِ هَذَا، وَقَرَأَتْ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «1» ، وَذَهَبَتْ هِيَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَرْئِيَّ مَرَّتَيْنِ هُوَ جِبْرِيلُ، مَرَّةً فِي الْأَرْضِ، وَمَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَتُمارُونَهُ: أَيْ أَتُجَادِلُونَهُ عَلَى شَيْءٍ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَأَبْصَرَهُ، وَعُدِّيَ بِعَلَى لِمَا فِي الْجِدَالِ مِنَ الْمُغَالَبَةِ، وَجَاءَ يَرَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ، إِشَارَةً إِلَى مَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ مَرَيْتَ: أَيْ جَحَدْتَ، يُقَالُ: مَرَيْتُهُ حَقَّهُ، إِذَا جَحَدْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: لثن سَخَرْتَ أَخَا صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ ... لَقَدْ مَرَيْتَ أَخًا مَا كَانَ يُمْرِيكَا وَعَدَّى بِعَلَى عَلَى مَعْنَى التَّضْمِينِ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَخْبَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ فِي الْإِسْرَاءِ، كَذَّبُوا وَاسْتَخَفُّوا، حَتَّى وَصَفَ لَهُمْ بَيْتَ المقدس وأمر غيرهم، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُسْتَقْصًى فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا حَكَى ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِيمَا ذَكَرَ شُعْبَةُ: بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ أَمْرَيْتَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَقَدْ رَآهُ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ. نَزْلَةً أُخْرى: أَيْ مَرَّةً أُخْرَى، أَيْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً أُخْرَى فِي صُورَةِ نَفْسِهِ، فَرَآهُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَأُخْرَى تَقْتَضِي نَزْلَةً سَابِقَةً، وَهِيَ الْمَفْهُومَةُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ دَنا جِبْرِيلُ، فَتَدَلَّى: وَهُوَ الْهُبُوطُ وَالنُّزُولُ مِنْ عُلُوٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 103.

رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ. وَانْتَصَبَ نَزْلَةً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُصِبَ الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ مَرَّةٌ، لِأَنَّ الْفَعْلَةَ اسْمٌ لِلْمَرَّةِ مِنَ الْفِعْلِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَصْدَرٌ، أَيْ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ رُؤْيَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، قِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ نَبْقٍ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، ثَمَرُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ. تَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا الْأَنْهَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يَقْطَعُهَا. وَالْمُنْتَهَى مَوْضِعُ الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَيْهَا عِلْمُ كُلِّ عَالِمٍ، وَلَا يَعْلَمُ مَا وَرَاءَهَا صَعَدًا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ أَوْ يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ كُلِّ جِيلٍ أَوْ يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا نَزَلَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَتَجَاوَزُهَا مَلَائِكَةُ الْعُلُوِّ وَمَا صَعِدَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا تَتَجَاوَزُهَا مَلَائِكَةُ السُّفْلِ أَوْ تَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ أَوْ كَأَنَّهَا فِي مُنْتَهَى الْجَنَّةِ وَآخِرِهَا أَوْ تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَيَقِفُونَ عِنْدَهَا أَوْ يَنْتَهِي إِلَيْهَا عِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَيَعْزُبُ عِلْمُهُمْ عَنْ مَا وَرَاءَهَا أَوْ تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْأَعْمَالُ أَوْ لِانْتِهَاءِ مَنْ رُفِعَ إِلَيْهَا فِي الْكَرَامَةِ، أَقْوَالٌ تِسْعَةٌ. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى: أَيْ عِنْدَ السِّدْرَةِ، قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدَ النَّزْلَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَقَتَادَةُ: هِيَ جَنَّةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ، وَلَيْسَتْ بِالَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ جَنَّةَ النَّعِيمِ. وَقِيلَ: جَنَّةُ: مَأْوَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٌ وَزِرٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ: جَنَّهُ، بِهَاءِ الضَّمِيرِ، وَجَنَّ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ عِنْدَهَا سَتَرَهُ إِيوَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَجَمِيلُ صُنْعِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ضَمَّهُ الْمَبِيتُ وَاللَّيْلُ. وَقِيلَ: جَنَّهُ بِظِلَالِهِ وَدَخَلَ فِيهِ. وَرَدَّتْ عَائِشَةُ وَصَحَابَةٌ مَعَهَا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالُوا: أَجَنَّ اللَّهُ مَنْ قَرَأَهَا وَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَةً قَرَأَهَا أَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ رَدَّهَا. وَقِيلَ: إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا أَجَازَتْهَا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: جَنَّةُ الْمَأْوى، كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا «1» . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى: فِيهِ بِإِبْهَامِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ تَعْظِيمٌ وَتَكْثِيرٌ لِلْغَاشِي الَّذِي يَغْشَاهُ، إِذْ ذَاكَ أَشْيَاءُ لَا يَعْلَمُ وَصْفَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَغْشَاهَا الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ عِنْدَهَا. وَقِيلَ: مَا يَغْشَى مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْوَاعُ الصِّفَاتِ الَّتِي

_ (1) سورة السجدة: 32/ 19.

يَخْتَرِعُهَا لَهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: ذَلِكَ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ يَغْشَاهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَلِكَ تَبَدُّلُ أَغْصَانِهَا دُرًّا وَيَاقُوتًا. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «رَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِهَا مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى» . وَأَيْضًا: يَغْشَاهَا رَفْرَفٌ أَخْضَرُ، وَأَيْضًا: تَغْشَاهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَغْشَاهَا نُورُ الْخَلَّاقِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: غَشِيَهَا نُورُ رَبِّ الْعِزَّةِ فَاسْتَنَارَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: غَشِيَهَا رَبُّ الْعِزَّةِ، أَيْ أَمْرُهُ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ ، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِبْهَامِ لِلتَّعْظِيمِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى ، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها مَا غَشَّى. مَا زاغَ الْبَصَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مَالَ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ أَثْبَتَ مَا رَآهُ إِثْبَاتًا مُسْتَيْقِنًا صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيغَ بَصَرُهُ أَوْ يَتَجَاوَزَهُ، إِذْ مَا عَدَلَ عَنْ رُؤْيَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي أُمِرَ بِرُؤْيَتِهَا وَمُكِّنَ مِنْهَا، وَما طَغى: وَمَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِرُؤْيَتِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَما طَغى: وَلَا تَجَاوَزَ الْمَرْئِيَّ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ وَقَعَ عَلَيْهِ وُقُوعًا صَحِيحًا، وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْأَمْرِ، وَنَفْيٌ لِلرَّيْبِ عَنْهُ. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، قِيلَ: الْكُبْرَى مَفْعُولُ رَأَى، أَيْ رَأَى الْآيَاتِ الْكُبْرَى وَالْعُظْمَى الَّتِي هِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّهِ، أَيْ حِينَ رَقِيَ إِلَى السَّمَاءِ رَأَى عَجَائِبَ الْمَلَكُوتِ، وَتِلْكَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مِنْ آياتِ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، والكبرى صفة لآياته رَبِّهِ، وَمِثْلُ هَذَا الْجَمْعِ يُوصَفُ بِوَصْفِ الْوَاحِدَةِ، وَحُسْنُ ذَلِكَ هُنَا كَوْنُهَا فَاصِلَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى «1» ، عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا صِفَةً لِآيَاتِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: أَيْ رَفْرَفٍ أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا فِي السَّمَاءِ. أَفَرَأَيْتُمُ: خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ. وَلَمَّا قَرَّرَ الرِّسَالَةَ أَوَّلًا، وَأَتْبَعَهُ مِنْ ذِكْرِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ بِذِكْرِ التَّوْحِيدِ وَالْمَنْعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَفَهُمْ عَلَى حَقَارَةِ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا قُدْرَةٌ. وَاللَّاتُ: صَنَمٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَظِّمُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بِالطَّائِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: كَانَ فِي الْكَعْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ بِنَخْلَةٍ عِنْدَ سُوقِ عُكَاظٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَرْجَحُ، ويؤيده قوله الشَّاعِرِ: وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إِلَى لَاتِهَا ... بِمُنْقَلِبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ انتهى.

_ (1) سورة طه: 20/ 23.

وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ أَصْنَامًا سُمِّيَتْ بِاسْمِ اللَّاتِ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ عَنْ صَنَمٍ بِمَكَانِهِ. وَالتَّاءُ فِي اللَّاتِ قِيلَ أَصْلِيَّةٌ، لَامُ الْكَلِمَةِ كَالْبَاءِ مِنْ بَابٍ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ يَاءٍ، لِأَنَّ مَادَّةَ لَيْتَ مَوْجُودَةٌ. فَإِنْ وُجِدَتْ مَادَّةٌ من ل وت، جَازَ أَنْ تَكُونَ مُنْقَلِبَةً مِنْ وَاوٍ. وَقِيلَ: التَّاءُ لِلتَّأْنِيثِ، وَوَزْنُهَا فَعْلَةٌ مِنْ لَوَى، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ عَلَيْهَا وَيَعْكُفُونَ لِلْعِبَادَةِ، أَوْ يَلْتَوُونَ عَلَيْهَا: أَيْ يَطُوفُونَ، حُذِفَتْ لَامُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اللَّاتُ خَفِيفَةُ التَّاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَأَبُو صَالِحٍ وَطَلْحَةُ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: بِشَدِّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ هَذَا رَجُلًا بِسُوقِ عُكَاظٍ، يَلُتُّ السَّمْنَ وَالسَّوِيقَ عِنْدَ صَخْرَةٍ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ بُهْزٍ، يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحُجَّاجِ عَلَى حَجَرٍ، فَلَمَّا مَاتَ، عَبَدُوا الْحَجَرَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، إِجْلَالًا لِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِرَجُلٍ كَانَ يُلَتُّ عِنْدَهُ السَّمْنُ بِالدُّبِّ وَيُطْمِعُهُ الْحُجَّاجَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ بِالطَّائِفِ، وَكَانُوا يَعْكُفُونَ عَلَى قَبْرِهِ، فَجَعَلُوهُ وَثَنًا. وَفِي التَّحْرِيرِ: أَنَّهُ كَانَ صَنَمًا تُعَظِّمُهُ الْعَرَبُ. وَقِيلَ: حَجَرٌ ذَلِكَ اللَّاتُ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِهِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْبُدُهَا وَتُعَظِّمُهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: شُجَيْرَاتٌ تُعْبَدُ بِبِلَادِهَا، انْتَقَلَ أَمْرُهَا إِلَى الصَّخْرَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَتَلَخَّصَ فِي اللَّاتِ، أَهُوَ صَنَمٌ، أَوْ حَجَرٌ يُلَتُّ عَلَيْهِ، أَوْ صَخْرَةٌ يُلَتُّ عِنْدَهَا، أَوْ قَبْرُ اللَّاتِ، أَوْ شُجَيْرَاتٌ ثُمَّ صَخْرَةٌ، أَوِ اللَّاتُ نَفْسُهُ، أَقْوَالٌ، وَالْعُزَّى صَنَمٌ. وَقِيلَ: سَمَّوْهُ لِغَطَفَانَ، وَأَصْلُهَا تَأْنِيثُ الْأَعَزِّ، بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَطَعَهَا، وَخَرَجَتْ مِنْهَا شَيْطَانَةٌ، نَاشِرَةٌ شَعَرَهَا، دَاعِيَةٌ وَيْلَهَا، وَاضِعَةٌ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا فَجَعَلَ يَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا، وَهُوَ يَقُولُ: يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ ... إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ وَرَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تِلْكَ الْعُزَّى وَلَنْ تُعْبَدَ أَبَدًا» . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَتِ الْعُزَّى وَمَنَاةُ بِالْكَعْبَةِ. انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ لِلْمُسْلِمِينَ: لَنَا عُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعُزَّى بِالطَّائِفِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ بِنَخْلَةَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا صَنَمٌ يُسَمَّى بِالْعُزَّى، كَمَا قُلْنَا فِي اللَّاتِ، فَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ الْمُسَمَّى وَمَكَانِهِ. وَمَناةَ: قِيلَ: صَخْرَةٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِثَقِيفٍ. وَقِيلَ: بِالْمُشَكِّكِ مِنْ قُدَيْدٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ قَدْرًا وَأَكْثَرَهَا عَدَدًا، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ تُهِلُّ لَهَا هَذَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ الْأَوْثَانِ وَمَوَاضِعِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثَتُهَا

فِي الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنَاةَ مَقْصُورًا، فَقِيلَ: وَزْنُهَا فَعْلَةٌ، سُمِّيَتْ مَنَاةَ لِأَنَّ دِمَاءَ النَّسَائِكِ كَانَتْ تُمْنَى عِنْدَهَا: أَيْ تُرَاقُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَمَنَاءَةَ، بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ. قِيلَ: وَوَزْنُهَا مَفْعَلَةٌ، فَالْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، نَحْوَ: مَقَالَةٍ، وَالْهَمْزَةُ أَصْلٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّوْءِ، كَانُوا يَسْتَمْطِرُونَ عِنْدَهَا الْأَنْوَاءَ تَبَرُّكًا بِهَا، وَالْقَصْرُ أَشْهَرُ. قَالَ جَرِيرٌ: أَزَيْدُ مَنَاةَ تُوعِدَ بَأْسَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الْوَعِيدُ وَقَالَ آخَرُ فِي الْمَدِّ وَالْهَمْزِ: أَلَا هَلْ أَتَى تَيْمُ بْنُ عَبْدِ مَنَاءَةَ ... عَلَى النَّأْيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ وَاللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي الَّذِي لَهَا هُوَ قَوْلُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى عَلَى حَدِّ مَا تَقَرَّرَ فِي مُتَعَلِّقِ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَلَمْ يَعُدْ ضَمِيرٌ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ الْأُنْثى هُوَ فِي مَعْنَى: وَلَهُ هَذِهِ الْإِنَاثُ، فَأَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ: هِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: أَلَكُمُ النَّوْعُ الْمَحْبُوبُ الْمُسْتَحْسَنُ الْمَوْجُودُ فِيكُمْ، وَلَهُ النَّوْعُ الْمَذْمُومُ بِزَعْمِكُمْ؟ وَهُوَ الْمُسْتَثْقَلُ. وَحُسْنُ إِبْرَازِ الْأُنْثَى كَوْنُهُ نَصًّا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُنَّ إِنَاثٌ، وَأَنَّهُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِي لِحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي اللَّاتِ وَفِي مَنَاةَ، وَأَلِفِ التَّأْنِيثِ فِي الْعُزَّى، مَا يُشْعِرُ بِالتَّأْنِيثِ، لَكِنَّهُ قَدْ سَمَّى الْمُذَكَّرَ بِالْمُؤَنَّثِ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: الْأُنْثى نَصٌّ عَلَى اعْتِقَادِ التَّأْنِيثِ فِيهَا. وَحُسْنُ ذَلِكَ أَيْضًا كَوْنُهُ جَاءَ فَاصِلَةً، إِذْ لَوْ أَتَى ضَمِيرًا، فَكَانَ التَّرْكِيبُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ هُنَّ، لَمْ تَقَعْ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَجْهُ تَلْفِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، فَيَقُولُ: أَخْبِرُونِي عَنْ آلِهَتِكُمْ، هَلْ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا رَبُّ الْعِزَّةِ فِي الْآيِ السَّالِفَةِ؟ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لِأَفَرَأَيْتُمْ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي قَدَّرَهَا، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَبْقَى قَوْلُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، كَمَا قُلْنَاهُ نَحْنُ. وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُ الزَّجَّاجِ: وَجْهُ تَلْفِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَلَوْ قَالَ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ، أَوْ وَجْهُ انْتِظَامِ هَذِهِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، لَكَانَ الْجَيِّدَ فِي الْأَدَبِ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَفَرَأَيْتُمُ خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهِيَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ أَحَالَ عَلَى

أَجْرَامٍ مَرْئِيَّةٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَرَأَيْتَ الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ لَمْ تَتَعَدَّ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْأَجْرَامِ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وأ رأيت الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ تَقَعُ عَلَى الْأَجْرَامِ، نَحْوَ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ؟ وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَتْ أَرَأَيْتَ الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ، يَعْنِي الَّذِي تَقُولُ النُّحَاةُ فِيهِ إِنَّهَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، لَمْ تَتَعَدَّ وَالَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْتَاءِ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ، وَالْآخَرُ فِي الْغَالِبِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَقَدْ تَكَرَّرَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَأَوَّلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَدَلَّ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُطَالِعْ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتِ اسْتِفْتَاءً عَلَى اصْطِلَاحِهِ، وَهِيَ الَّتِي بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صِفَتَانِ لِمَنَاةَ، وَهُمَا يُفِيدَانِ التَّوْكِيدَ. قِيلَ: وَلَمَّا كَانَتْ مَنَاةُ هِيَ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، أُكِّدَتْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا، ثُمَّ تَذْكُرُ ثَالِثًا أَجَلَّ مِنْهُمَا فَتَقُولُ: وَفُلَانًا الْآخَرَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ. وَلَفْظُهُ آخَرُ وَأُخْرَى يُوصَفُ بِهِ الثَّالِثُ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ، وَذَلِكَ نَصٌّ فِي الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ مَكْرَمٍ: وَلَقَدْ شَفَعْتُهُمَا بِآخَرَ ثَالِثِ انْتَهَى. وَقَوْلُ رَبِيعَةَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ، لِأَنَّ ثَالِثًا جَاءَ بَعْدَ آخَرَ. وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ مَنَاةَ هِيَ أَعْظَمُ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، يَكُونُ التَّأْكِيدُ لِأَجْلِ عِظَمِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تَذْكُرُ ثَالِثًا أَجَلَّ مِنْهُمَا؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأُخْرَى ذَمٌّ، وَهِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ الْوَضِيعَةُ الْمِقْدَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «1» : أَيْ وُضَعَاؤُهُمْ لِرُؤَسَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ وَالتَّقَدُّمُ عِنْدَهُمْ لِلَّاتِ وَالْعُزَّى. انْتَهَى. وَلَفْظُ آخَرُ وَمُؤَنَّثُهُ أُخْرَى لَمْ يُوضَعَا لِلذَّمِّ وَلَا لِلْمَدْحِ، إِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنَى غَيْرٍ، إِلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِمَا أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُمَا. لَوْ قُلْتَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَآخَرَ، لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى مَعْنَى غَيْرٍ، لَا عَلَى ذَمٍّ وَلَا عَلَى مَدْحٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالْأُخْرَى تَوْكِيدٌ، لِأَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا أُخْرَى. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْأُخْرَى صِفَةٌ لِلْعُزَّى، لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ اللَّاتِ وَالثَّانِيَةُ يُقَالُ لَهَا الْأُخْرَى، وَأُخِّرَتْ لِمُوَافَقَةِ رؤوس الْآيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْعُزَّى الْأُخْرَى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الذَّلِيلَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى كَانَتْ وَثَنًا عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ، وَالْعُزَّى صُورَةُ نَبَاتٍ، وَمَنَاةَ صُورَةُ صَخْرَةٍ. فَالْآدَمِيُّ أَشْرَفُ مِنَ النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَمَادِ. فَالْجَمَادُ مُتَأَخِّرٌ، وَمَنَاةُ جَمَادٌ، فَهِيَ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَرَاتِبِ. وَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى قِسْمَتِهِمْ، وَتَقْدِيرِهِمْ: أَنَّ لَهُمُ الذُّكْرَانَ، ولله تعالى البنات. وكانو يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 38.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: ضِيزَى: جَائِرَةٌ وَسُفْيَانُ: مَنْقُوصَةٌ وَابْنُ زَيْدٍ: مُخَالِفَةٌ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: عَوْجَاءُ وَالْحَسَنُ: غَيْرُ مُعْتَدِلَةٍ وَابْنُ سِيرِينَ: غَيْرُ مُسْتَوِيَةٍ، وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضِيزى مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صِفَةٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَى بِضَمِّ الْفَاءِ، كُسِرَتْ لِتَصِحَّ الْيَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ فِعْلَى، كَذِكْرَى، وَوُصِفَ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ضِئْزَى بِالْهَمْزِ، فَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَذِكْرَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ضِيزَى بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَيُوَجَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، كَدَعْوَى وُصِفَ بِهِ، أَوْ وَصْفٌ، كَسَكْرَى وَنَاقَةٌ خَرْمَى. وَيُقَالُ: ضُوزَى بِالْوَاوِ وَبِالْهَمْزِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمُفْرَدَاتِ حِكَايَةُ لُغَةِ الْهَمْزِ عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ: فَإِنْ تَنْأَ عَنْهَا تَقْتَضِيكَ وَإِنْ تَغِبْ ... فسهمك مضؤوز وَأَنْفُكَ رَاغِمُ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ هُودٍ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، إِلَّا الظَّنَّ: وَهُوَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى أَحَدِ مُعْتَقَدَيْنِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَما تَهْوَى: أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِ بِلَذَّةٍ، وَإِنَّمَا تَهْوَى أَبَدًا مَا هُوَ غَيْرُ الْأَفْضَلِ، لِأَنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْمَلَاذِ، وَإِنَّمَا يَسُوقُهَا إِلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ الْعَقْلُ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى: تَوْبِيخٌ لَهُمْ، وَالَّذِي هُمْ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَاعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْقَبَائِحَ وَالْهُدَى قَدْ جَاءَهُمْ، فَكَانُوا أَوْلَى مَنْ يَقْبَلُهُ وَيَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ لَا يُجْدِي عِبَادَتُهُ. أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، بَلْ لِلْإِنْسَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، مَا تَمَنَّى: أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ أَمَانِيهِ، أَيْ لَيْسَتِ الْأَشْيَاءُ وَالشَّهَوَاتُ تَحْصُلُ بِالْأَمَانِي، بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ. وَقَوْلُكُمْ: إِنَّ آلِهَتَكُمْ تَشْفَعُ وَتُقَرِّبُ زُلْفَى، لَيْسَ لَكُمْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أُمْنِيَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «1» . وَقِيلَ: قَوْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً «2» . وَقِيلَ: تَمَنَّى بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ. فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى: أَيْ هُوَ مَالِكُهُمَا، فَيُعْطِي مِنْهُمَا مَا يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُمَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدَّمَ الْآخِرَةَ عَلَى الْأُولَى، لِتَأَخُّرِهَا فِي ذَلِكَ، وَلِكَوْنِهَا فَاصِلَةً، فَلَمْ يُرَاعِ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى «3» .

_ (1) سورة فصلت: 41/ 50. (2) سورة مريم: 19/ 77. (3) سورة الليل: 92/ 13.

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى، إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى، وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى. وَكَمْ: هِيَ خَبَرِيَّةٌ، وَمَعْنَاهَا هُنَا: التَّكْثِيرُ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ لَا تُغْنِي وَالْغِنَى: جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضُّرِّ، بِحَسَبِ الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْغِنَى. وَكَمْ لَفْظُهَا مُفْرَدٌ، وَمَعْنَاهَا جَمْعٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَفاعَتُهُمْ، بِإِفْرَادِ الشَّفَاعَةِ وَجَمْعِ الضَّمِيرِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: شَفَاعَتُهُ، بِإِفْرَادِ الشَّفَاعَةِ وَالضَّمِيرِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: شَفَاعَاتُهُمْ، بِجَمْعِهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْكَامِلِ، أَيِ الْقَاسِمِ الْهُذَلِيِّ. وَأُفْرِدَتِ الشَّفَاعَةُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ شَفَعَ جَمِيعُهُمْ لِوَاحِدٍ، لَمْ تُغْنِ شَفَاعَتُهُمْ عَنْهُ شَيْئًا. فَإِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، أَيْ يَرْضَاهُ أَهْلًا لِلشَّفَاعَةِ، فَكَيْفَ تَشْفَعُ الْأَصْنَامُ لِمَنْ يَعْبُدُهَا؟ وَمَعْنَى تَسْمِيَةَ الْأُنْثى: كَوْنُهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ: هُمُ الْعَرَبُ منكر والبعث. وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً: أَيْ مَا يُدْرِكُهُ الْعِلْمُ لَا يَنْفَعُ فِيهِ الظَّنُّ، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيِ الْأَوْصَافُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تُسْتَخْرَجُ بِالظُّنُونِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، مُوَادَعَةٍ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا: أَيْ لَمْ تَتَعَلَّقْ إِرَادَتُهُ بِغَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهُ فِكْرٌ فِي سِوَاهَا، كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَالذِّكْرُ هُنَا: الْقُرْآنُ، أَوِ الْإِيمَانُ، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَالٌ. عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا: هُوَ سَبَبُ الْإِعْرَاضِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُصْغِي إِلَى قَوْلٍ، كَيْفَ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ؟ فَأُمِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، ثُمَّ ذُكِرَ سَبَبُ التَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ، وَهُوَ حَصْرُ إِرَادَتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَالتَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ سَبَبٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَإِيثَارُ الدُّنْيَا سَبَبُ التَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَلُّقِهِمْ بِالدُّنْيَا وَتَحْصِيلِهَا. مَبْلَغُهُمْ: غَايَتُهُمْ وَمُنْتَهَاهُمْ مِنَ

الْعِلْمِ، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عُلُومُهُمْ مِنْ مَكَاسِبِ الدُّنْيَا، كَالْفِلَاحَةِ وَالصَّنَائِعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» . وَلَمَّا ذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي، وَهُوَ مُجَازِيهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ: اعْتِرَاضٌ. انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ فَأَعْرِضْ وَبَيْنَ إِنَّ رَبَّكَ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَعْلِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: صَغَّرَ رَأْيَهُمْ وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، أَيْ غَايَةُ عُقُولِهِمْ وَنِهَايَةُ عُلُومِهِمْ أَنْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الظَّنِّ، أَيْ غَايَةُ مَا يَفْعَلُونَ أَنْ يَأْخُذُوا بِالظَّنِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ فِي مَعْرِضِ التَّسْلِيَةِ، إِذْ كَانَ مِنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحِرْصُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مِلْكُهُ تَعَالَى، يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا بِمَا شَاءَ. وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ متعلقة بما دل عليه مَعْنَى الْمِلْكِ، أَيْ يُضِلُّ وَيَهْدِي لِيَجْزِيَ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: بِمَنْ ضَلَّ، وبِمَنِ اهْتَدى، وَاللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ جَمِيعًا لِلْجَزَاءِ بِمَا عَمِلُوا، أَيْ بِعِقَابِ مَا عَمِلُوا، وَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بِالْأَعْمَالِ الْحُسْنَى، وَحِينَ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُسِيءِ قَالَ: بِمَا عَمِلُوا، وَحِينَ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِ أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ، وَتَدُلُّ عَلَى الْكَرَمِ وَالزِّيَادَةِ لِلْمُحْسِنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ «2» ، وَالْأَحْسَنُ تَأْنِيثُ الْحُسْنَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لنجزي ونحزي بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكَبَائِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ «3» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَالْفَوَاحِشَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَبَائِرَ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْكَبَائِرِ، أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِتَدُلَّ عَلَى عِظَمِ مُرْتَكِبِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَبَائِرُ: الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَسْقُطُ عِقَابُهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. إِلَّا اللَّمَمَ: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ صِغَارُ الذُّنُوبِ، أَوْ صِفَةٌ إِلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ غَيْرِ اللَّمَمِ، كَقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتا «4» . وَقِيلَ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَهَذَا يَظْهَرُ عِنْدَ تَفْسِيرِ اللَّمَمِ مَا هُوَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِلَافًا، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْخَطْرَةُ مِنَ الذَّنْبِ. وقال أبو هريرة

_ (1) سورة الروم: 30/ 7. (2) سورة العنكبوت: 29/ 7. (3) سورة النساء: 4/ 31. (4) سورة الأنبياء: 21/ 22.

وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالْكَلْبِيُّ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَدًّا وَلَا عَذَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنُ زَيْدٍ: مَا أَلَمُّوا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ: أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ قَوْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ: قَدْ كُنْتُمْ بِالْأَمْسِ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَنَا، فَنَزَلَتْ، وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «1» . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَبْهَانَ التَّمَّارِ، وَحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْعَلَقَةُ وَالسَّقْطَةُ دُونَ دَوَامٍ، ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْخَمْرُ، ثُمَّ لَا يَعُودُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَا خَطَرَ عَلَى الْقَلْبِ. وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْهَمُّ بِالذَّنْبِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ دُونَ أَنْ يُوَاقِعَ. وَقِيلَ: نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ، حَيْثُ يُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَبَائِرَ بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى، وَفِيهِ نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ عَظَّمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِذَا مَاتَ طِفْلٌ لَهُمْ قَالُوا: هَذَا صِدِّيقٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَخَرُوا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ، وَأَعْلَمُ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: بِمَعْنَى عَالِمٌ بِكُمْ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنْ أَصْلِ مَوْضُوعِهَا. كَأَنَّ مَكِّيًّا رَاعَى عَمَلَ أَعْلَمَ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَالظَّاهِرُ أن المراد بأنشأكم: أَنْشَأَ أَصْلَكُمْ، وَهُوَ آدَمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ فَضْلَةِ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي مَنْشَؤُهَا مِنَ الْأَرْضِ، فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ: أَيْ لَا تَنْسُبُوهَا إِلَى زَكَاءِ الْأَعْمَالِ وَالطَّهَارَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا وَاهْضِمُوهَا، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْكُمُ الزَّكِيَّ وَالتَّقِيَّ قَبْلَ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَقَبْلَ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ. وَكَثِيرًا مَا تَرَى مِنَ الْمُتَصَلِّحِينَ، إِذَا حَدَّثُوا، كَانَ وِرْدُنَا الْبَارِحَةَ كَذَا، وَفَاتَنَا مِنْ وِرْدِنَا الْبَارِحَةَ، أَوْ فَاتَنَا وِرْدُنَا، يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِاللَّيْلِ. وَتَرَى لِبَعْضِهِ فِي جَبِينِهِ سَوَادًا يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، وَلِبَعْضِهِمُ احْتِضَارُ النِّيَّةِ حَالَةَ الْإِحْرَامِ، فَيُحَرِّكُ يَدَيْهِ مِرَارًا، وَيُصْعَقُ حَتَّى يَنْزَعِجَ مَنْ بِجَانِبِهِ، وَكَأَنَّهُ يَخْطِفُ شَيْئًا بِيَدَيْهِ وَقْتَ التَّحْرِيكَةِ الْأَخِيرَةِ، يُوهِمُ أَنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى تَحْقِيقِ النِّيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِي حَلِفِهِ: وَحَقِّ الْبَيْتِ الَّذِي زُرْتُ، يُعْلِمُ أَنَّهُ حَاجٌّ، وَإِذَا لَاحَ لَهُ فَلْسٌ يَثِبُ عَلَيْهِ وُثُوبَ الْأَسَدِ عَلَى الْفَرِيسَةِ، وَلَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنَ الْوَسْوَاسِ، وَلَا مِنْ إِحْضَارِ النِّيَّةِ فِي أَخْذِهِ، وَتَرَاهُ يُحِبُّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي

_ (1) سورة النساء: 4/ 23.

هُوَ عَارِضُهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُزَكِّي بَعْضُكُمْ بَعْضًا تَزْكِيَةَ السُّمْعَةِ أَوِ الْمَدْحِ لِلدُّنْيَا، أَوْ تَزْكِيَةً بِالْقَطْعِ. وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ فَجَائِزَةٌ لِلضَّرُورَةِ. وَالْجَنِينُ: مَا كَانَ فِي الْبَطْنِ، فَإِذَا خَرَجَ سُمِّيَ وَلَدًا أَوْ سَقْطًا. وَقَوْلُهُ: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ بَطْنَ الْأُمِّ فِي غَايَةِ الظُّلْمَةِ، وَمَنْ عَلِمَ حَالَهُ وَهُوَ مُجَنٌّ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. بِمَنِ اتَّقى: قِيلَ الشِّرْكُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: عَمِلَ حَسَنَةً وَارْعَوَى عَنْ مَعْصِيَةٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى، وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا، وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى، وَثَمُودَ فَما أَبْقى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها مَا غَشَّى، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى، هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ، أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا. أَفَرَأَيْتَ الْآيَةَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ قَدْ سَمِعَ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسَ إِلَيْهِ وَوَعَظَهُ، فَقَرُبَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَطَمِعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ إِنَّهُ عَاتَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُ: أَتَتْرُكُ مِلَّةَ آبَائِكَ؟ ارْجِعْ إِلَى دِينِكَ وَاثْبُتْ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَتَحَمَّلُ لَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ تَخَافُهُ فِي الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ. فَوَافَقَهُ الْوَلِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَجَعَ عَنْ مَا هَمَّ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَأَعْطَى بَعْضَ ذَلِكَ الْمَالِ لِذَلِكَ الرَّجُلِ، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهُ وَشَحَّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، أَعْطَى خَمْسَ فَلَايِسَ لِفَقِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُ مَآثِمَ رُجُوعِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، كَانَ رُبَّمَا يُوَافِقُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَأْمُرُ مُحَمَّدٌ إِلَّا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ نَحْوًا مِنْ كَلَامِ الْقَائِلِ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ

بِتَمَامِهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي سَبَبِ النُّزُولِ غَيْرَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدِي بَاطِلٌ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُنَزَّهٌ عن مثله. انتهى. وأ فرأيت هُنَا بِمَعْنَى: أَخْبِرْنِي، وَمَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ الْمَوْصُولُ، وَالثَّانِي الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَهِيَ: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ. وتَوَلَّى: أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَوَلَّى: تَرَكَ الْمَرْكَزَ يَوْمَ أُحُدٍ. انْتَهَى. لَمَّا جَعَلَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ، فَسَّرَ التَّوَلِّي بِهَذَا. وَإِذَا ذُكِرَ التَّوَلِّي غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي الْقُرْآنِ، فَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ. وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطَاعَ قَلِيلًا ثُمَّ عَصَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنْ نَفْسِهِ بِالِاسْتِمَاعِ، ثُمَّ أَكْدَى بِالِانْقِطَاعِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ مَنَعَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنَ الْخَيْرِ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَطَعَ. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ: أَيْ أَعَلِمَ مِنَ الْغَيْبِ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ ذنوب آخر، فإنه الْمُتَحَمَّلَ عَنْهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، فَهُوَ لِهَذَا الَّذِي عَلِمَهُ يَرَى الْحَقَّ وَلَهُ فِيهِ بَصِيرَةٌ، أَمْ هُوَ جَاهِلٌ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ يَرى: فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَخُوهُ مِنِ احْتِمَالِ أَوْزَارِهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: يَعْلَمُ حَالَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَرَى رَفْعَ مَأْثَمِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: فَهُوَ يَرَى أَنَّ مَا سَمِعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَاطِلٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، فَرَأَى مَا مَنَعَهُ حَقٌّ. وَقِيلَ: فَهُوَ يَرى: أَيِ الْأَجْزَاءَ، وَاحْتَمَلَ يَرَى أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً، أَيْ فَهُوَ يُبْصِرُ مَا خَفِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ غَيْبٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يَعْلَمُ، أَيْ فَهُوَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِثْلَ الشَّهَادَةِ. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ: أَيْ بَلْ أَلَمْ يُخْبَرْ؟ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَهِيَ التَّوْرَاةُ. وَإِبْراهِيمَ: أَيْ وَفِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، وَخُصَّ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ عَلَيْهِمَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. قِيلَ: لِأَنَّهُ مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرَّجُلَ بِأَبِيهِ وَابْنِهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ، وَالزَّوْجَ بِامْرَأَتِهِ، وَالْعَبْدَ بِسَيِّدِهِ. فَأَوَّلُ مَنْ خَالَفَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، وَمِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى شَرِيعَةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ الرَّجُلَ بِجَرِيمَةِ غَيْرِهِ. الَّذِي وَفَّى، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَفَّى بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِتَخْفِيفِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ وَفَّى لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا لَهُ، كَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ، وَعَلَى فِرَاقِ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ، وَعَلَى نَارِ نُمْرُوذٍ وَقِيَامِهِ بِأَضْيَافِهِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُمْ بِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَمْشِي كُلَّ يَوْمٍ فَرْسَخًا يَرْتَادُ ضَيْفًا، فَإِنْ وَافَقَهُ أَكْرَمَهُ، وَإِلَّا نَوَى الصَّوْمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِشَيْءٍ إِلَّا وَفَّى بِهِ. وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: عَهِدَ أَنْ لَا يَسْأَلَ مَخْلُوقًا. وَقَالَ ابْنُ

عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ: وَفَّى طَاعَةَ اللَّهِ فِي أَمْرِ ذَبْحِ ابْنِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَفَّى بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَفِي هَذِهِ الْعَشْرُ الآيات: أَلَّا تَزِرُ فَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةُ: وَفَّى مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَكَمُلَتْ لَهُ شُعَبُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ بَرَاءَتَهُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَفَّى شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثِينَ سَهْمًا، يَعْنِي: عَشَرَةً فِي بَرَاءَةَ التَّائِبُونَ إِلَخْ، وَعَشَرَةً فِي قَدْ أَفْلَحَ، وَعَشَرَةً فِي الْأَحْزَابِ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: قَامَ بِشَرْطِ مَا ادَّعَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، قَالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَطَالَبَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، فَابْتَلَاهُ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ، فَوَجَدَهُ وَافِيًا. انْتَهَى، وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ أَمْثِلَةً لِمَا وَفَّى، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ بَدَلٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِما فِي صُحُفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا فِي صُحُفِهِمَا، فقيل: لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ لَا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَأَنَّ الْحَصْرَ فِي السَّعْيِ، فَلَيْسَ لَهُ سَعْيُ غَيْرِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلَهَا سَعْيُ غَيْرِهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: هَلْ لِأُمِّي، إِنْ تَطَوَّعْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْإِنْسَانُ هُنَا الْكَافِرُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ مَا سَعَى وَمَا سَعَى لَهُ غَيْرُهُ. وَسَأَلَ وَالِي خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «1» ، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ بِالْعَدْلِ إِلَّا مَا سَعَى، وَلَهُ بِالْفَضْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَبَّلَ عَبْدُ اللَّهِ رَأْسَ الْحُسَيْنِ. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَكْلِيفًا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّحْرِيرُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِلَاكَ الْمَعْنَى هُوَ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِلْإِنْسانِ. فَإِذَا حَقَّقْتَ الَّذِي حَقُّ الْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ فِيهِ لِي كَذَا، لَمْ تَجِدْهُ إِلَّا سَعْيَهُ، وَمَا تَمَّ بَعْدُ مِنْ رَحْمَةٍ بِشَفَاعَةٍ، أَوْ رِعَايَةِ أَبٍ صَالِحٍ، أَوِ ابْنٍ صَالِحٍ، أَوْ تَضْعِيفِ حَسَنَاتٍ، أَوْ تَعَمُّدٍ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ دُونَ هَذَا كُلِّهِ، فَلَيْسَ هُوَ لِلْإِنْسَانِ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ لِي كَذَا وَكَذَا إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ وَإِلْحَاقٍ بِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِبَدَنٍ أَوْ مَالٍ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْمَالِ. انتهى.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 261. [.....]

وَالسَّعْيُ: التَّكَسُّبُ، وَيُرَى مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ سَوْفَ يَرَاهُ حَاضِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي عَرْضِ الْأَعْمَالِ تَشْرِيفٌ لِلْمُحْسِنِ وَتَوْبِيخٌ لِلْمُسِيءِ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يُجْزَاهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالْمَنْصُوبُ عَائِدٌ عَلَى السَّعْيِ، وَالْجَزَاءُ مَصْدَرٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: الْجَزاءَ الْأَوْفى. وَإِذَا كَانَ تَفْسِيرًا لِلْمَصْدَرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُجْزَاهُ، فَعَلَى مَاذَا انْتِصَابُهُ؟ وَأَمَّا إِذَا كَانَ بَدَلًا، فَهُوَ مِنَ بَابِ بَدَلِ الظَّاهِرِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ وَأَنَّهُ، وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: بِالْكَسْرِ فِيهِنَّ، وَفِي قَوْلِهِ: الْأَوْفى وَعِيدٌ لِلْكَافِرِ وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَمُنْتَهَى الشَّيْءِ: غَايَتُهُ وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى حِسَابِ رَبِّكَ وَالْحَشْرِ لِأَجْلِهِ، كَمَا قَالَ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «1» : أَيْ إِلَى جَزَائِهِ وَحِسَابِهِ، أَوْ إِلَى ثَوَابِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَعِقَابِهِ مِنَ النَّارِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ. وَعَنْ أُبَيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى، لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ. وَرَوَى أَنَسٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ الرَّبُّ فَانْتَهُوا» . وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى: الظَّاهِرُ حَقِيقَةُ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَضْحَكَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَبْكَى أَهْلَ النَّارِ. وَقِيلَ: كَنَّى بِالضَّحِكِ عَنِ السُّرُورِ، وَبِالْبُكَاءِ عَنِ الْحُزْنِ. وَقِيلَ: أَضْحَكَ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ، وَأَبْكَى السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ. وَقِيلَ: أَحْيَا بِالْإِيمَانِ، وَأَبْكَى بِالْكُفْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَضْحَكَ وَأَبْكى: خَلَقَ قُوَّتَيِ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، إِذْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِهِمَا مَخْلُوقَةٌ لِلْعَبْدِ عِنْدَهُمْ، لَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ قَالَ: خَلَقَ قُوَّتَيِ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الْمُصْطَحِبَيْنِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحَيَوَانِ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى: أَيْ إِذَا تَدَفَّقَ، وَهُوَ الْمَنِيُّ. يُقَالُ: أَمْنَى الرَّجُلُ وَمَنَّى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِذَا يُمْنَى: أَيْ يُخْلَقُ وَيُقَدَّرُ مِنْ مَنَى الْمَانِي، أَيْ قَدَّرَ الْمُقَدِّرُ. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى: أَيْ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ: أَيِ الْحَشْرَ بَعْدَ الْبِلَى، وَجَاءَ بِلَفْظِ عَلَيْهِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّحَتُّمِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النَّشْأَةُ يُنْكِرُهَا الْكُفَّارُ بُولِغَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ بِوُجُودِهَا لَا مَحَالَةَ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ النَّشْأَةِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ لِيُجَازِيَ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى: أَيْ أَكْسَبَ الْقُنْيَةَ، يُقَالُ: قَنَيْتُ الْمَالَ: أَيْ كَسَبْتُهُ، وَأَقْنَيْتُهُ

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 28، وسورة النور: 24/ 42، وسورة فاطر: 35/ 18.

إِيَّاهُ: أَيْ أَكْسَبْتُهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ أَغْنَى وَأَقْنَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نِسْبَةُ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ لَهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا، كَقَوْلِهِمْ: أَغْنَى نَفْسَهُ وَأَفْقَرَ خَلْقَهُ إِلَيْهِ، وَكُلُّ قَوْلٍ مِنْهَا لَا دَلِيلَ عَلَى تَعْيِنِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ أَمْثِلَةً. وَالشِّعْرَى الَّتِي عُبِدَتْ هِيَ الْعُبُورُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ تَعْبُدُهَا حِمْيَرُ وَخُزَاعَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهَا أَبُو كَبْشَةَ، أَحَدُ أَجْدَادِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، من قِبَلِ أُمَّهَاتِهِ، وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الشِّعْرَى، وَلِذَلِكَ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُسَمُّونَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ كَلَامُ أَبِي سُفْيَانَ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة. ومن الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يُعَظِّمُهَا وَلَا يَعْبُدُهَا، وَيَعْتَقِدُ تَأْثِيرَهَا فِي الْعَالَمِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّاطِقَةِ، يَزْعُمُ ذَلِكَ الْمُنَجِّمُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَهِيَ تَقْطَعُ السَّمَاءَ طُولًا، وَالنُّجُومُ تَقْطَعُهَا عَرْضًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ. وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى: جَاءَ بَيْنَ أَنَّ وَخَبَرِهَا لَفْظُ هُوَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى. فَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، لَمَّا كَانَ قَدْ يَدَّعِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ، كَقَوْلِ نُمْرُوذُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ «1» ، احْتِيجَ إِلَى تَأْكِيدٍ فِي أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ لَا غَيْرِهِ، فَهُوَ الَّذِي يُضْحِكُ وَيُبْكِي، وَهُوَ الْمُمِيتُ الْمُحْيِي، وَالْمُغْنِي، وَالْمُقْنِي حَقِيقَةً، وَإِنِ ادَّعَى ذَلِكَ أَحَدٌ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَمَّا وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى، فَلِأَنَّهَا لَمَّا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّهَا وَمُوجِدُهَا. وَلَمَّا كَانَ خَلْقُ الزَّوْجَيْنِ، وَالْإِنْشَاءُ الْآخَرُ، وَإِهْلَاكُ عَادٍ وَمَنْ ذَكَرَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى ذَلِكَ أَحَدٌ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ وَلَا تَنْصِيصٍ أَنَّهُ تَعَالَى هو فاعل ذلك. وعاد الْأُولَى هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَعَادٌ الْأُخْرَى إِرَمُ. وَقِيلَ: الْأُولَى: الْقُدَمَاءُ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ هَلَاكًا بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: الْأُولَى: الْمُتَقَدِّمُونَ فِي الدُّنْيَا الْأَشْرَافُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ: لِأَنَّهَا فِي وَجْهِ الدَّهْرِ وَقَدِيمِهِ، فَهِيَ أَوْلَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرَةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وُصِفَتْ بِالْأُولَى، لِأَنَّ عَادًا الْآخِرَةَ قَبِيلَةٌ كَانَتْ بِمَكَّةَ مَعَ الْعَمَالِيقِ، وَهُوَ بَنُو لَقِيمِ بْنِ هُزَالٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: عَادٌ الْأَخِيرَةُ هِيَ ثَمُودُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ. وَقِيلَ: عَادٌ الْأَخِيرَةُ: الْجَبَّارُونَ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْأُولَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ ثَمُودَ. وَقِيلَ: ثَمُودُ مِنْ قَبْلِ عَادٍ. وَقِيلَ: عَادٌ الْأُولَى: هُوَ عَادُ بْنُ إِرَمَ بن عوص بن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 258.

سَامِ بْنِ نُوحٍ وَعَادٌ الثَّانِيَةُ: مِنْ وَلَدِ عَادٍ الْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَادًا الْأُولى، بِتَنْوِينِ عَادًا وَكَسْرِهِ لِالْتِقَائِهِ سَاكِنًا مَعَ سُكُونِ لَامِ الْأُولَى وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ اللَّامِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ وَحَذَفُوا الْهَمْزَةَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو: بِإِدْغَامِ التَّنْوِينِ فِي اللَّامِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهَا حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَعَادٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِلْمَازِنِيِّ وَالْمُبَرِّدِ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ فِي الِابْتِدَاءِ بَعْدَ النَّقْلِ: الْحُمُرُ وَلُّحُمُرُ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ جَاءَتْ عَلَى الحمر، فَلَا عَيْبَ فِيهَا، وَهَمَزَ قَالُونُ عَيْنَ الْأُولَى بَدَلَ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضَّمَّةِ وَالْوَاوِ حَائِلٌ، تَخَيَّلَ أَنَّ الضَّمَّةَ عَلَى الْوَاوِ فَهَمَزَهَا، كَمَا قَالَ: أَحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَيَّ مُؤْسَى وَكَمَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ: عَلَى سُؤْقِهِ، وَهُوَ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ، وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ عَادَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ جَعَلَهُ اسْمَ قَبِيلَةٍ، فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ للتأنيث والعملية، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّأْنِيثِ وَصْفُهُ بِالْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَثَمُودًا مَصْرُوفًا، وَقَرَأَهُ غَيْرَ مَصْرُوفٍ: الْحَسَنُ وَعَاصِمٌ وَعِصْمَةُ. فَما أَبْقى: الظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ أَبْقَى يَرْجِعُ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ مَعًا، أَيْ فَمَا أَبْقَى عَلَيْهِمْ، أَيْ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وَقِيلَ: فَما أَبْقى: أَيْ فَمَا أَبْقَى مِنْهُمْ عَيْنًا تَطْرُفُ. وَقَالَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ حِينَ قِيلَ لَهُ إِنَّ ثَقِيفًا مِنْ نَسْلِ ثَمُودَ، فَقَالَ: قال الله تعالى: وَثَمُودَ فَما أَبْقى، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ ثَمُودَ كَانَ قَدْ آمَنَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَكَانُوا أَوَّلَ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَجَعَلَهُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعُتُوِّ وَالْإِيذَاءِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَضْرِبُونَهُ حَتَّى لَا يَكَادُ يَتَحَرَّكُ، وَلَا يَتَأَثَّرُونَ لِشَيْءٍ مِمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: دَعَاهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، كُلَّمَا هَلَكَ قَرْنٌ نَشَأَ قَرْنٌ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ بِيَدِ ابْنِهِ يَتَمَشَّى بِهِ إِلَيْهِ، يُحَذِّرُهُ مِنْهُ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ إِنَّ أَبِي مَشَى بِي إِلَى هَذَا وَلَنَا مِثْلُكَ يَوْمَئِذٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُصَدِّقَهُ، فَيَمُوتُ الْكَبِيرُ عَلَى الْكُفْرِ، وَيَنْشَأُ الصَّغِيرُ عَلَى وَصِيَّةِ أَبِيهِ. وقيل: الضمير فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ نُوحٍ، أَيْ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَطْغَى، فَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَحُذِفَ الْمَفْضُولُ بَعْدَ الْوَاقِعِ خَبَرًا لِكَانَ، لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَحَذْفُهُ فَصِيحٌ فِيهِ، فَكَذَلِكَ فِي خَبَرِ كَانَ.

وَالْمُؤْتَفِكَةَ: هِيَ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا انْقَلَبَتْ، وَمِنْهُ الْإِفْكُ، لِأَنَّهُ قَلْبُ الحق كذبا، أفكه فأئتفك. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْتَفِكَةِ: كُلُّ مَا انْقَلَبَتْ مساكنه ودبرت أَمَاكِنُهُ. أَهْوى: أَيْ خَسَفَ بِهِمْ بَعْدَ رَفْعِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، رَفَعَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أَهْوَى بِهَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جَعَلَهَا تَهْوِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ جَمْعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَهْوَى نَاصِبٌ لِلْمُؤْتَفِكَةِ، وَأُخِّرَ الْعَامِلُ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَالْمُؤْتَفِكَةَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وأَهْوى جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يُوَضِّحُ كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِهِمْ، أَيْ وَإِهْلَاكُ الْمُؤْتَفِكَةِ مَهْوِيًّا لَهَا. فَغَشَّاها مَا غَشَّى: فِيهِ تَهْوِيلٌ لِلْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، لَمَّا قَلَبَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُتْبِعَتْ حِجَارَةً غَشِيَتْهُمْ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فَعَّلَ الْمُشَدَّدُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَيَكُونَ الْفَاعِلُ مَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «1» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى: الْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، وَالْخِطَابُ لِلسَّامِعِ، وَتَتَمَارَى: تَتَشَكَّكُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ آلَاؤُهُ، وَهِيَ النِّعَمُ لَا يَتَشَكَّكُ فِيهَا سَامِعٌ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ نِعَمٍ وَنِقَمٍ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا كُلِّهَا آلَاءً لِمَا فِي النِّقَمِ مِنَ الزَّجْرِ وَالْوَعْظِ لِمَنِ اعْتَبَرَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: رَبِّكَ تَّمَارَى، بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةً. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا تَزِرُ إِلَى قَوْلِهِ: تَتَمارى هُوَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. هَذَا نَذِيرٌ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، افْتُتِحَ أَوَّلُ السُّورَةِ بِهِ، وَاخْتُتِمَ آخِرُهَا بِهِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: إِلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ، أَيْ هَذَا إِنْذَارٌ مِنَ الْإِنْذَارَاتِ السَّابِقَةِ، وَالنَّذِيرُ يَكُونُ مَصْدَرًا أَوِ اسْمَ فَاعِلٍ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أنذر، ولا يتقاسان، بَلِ الْقِيَاسُ فِي الْمَصْدَرِ إِنْذَارٌ، وَفِي اسْمِ الْفَاعِلِ مُنْذِرٌ وَالنُّذُرُ إِمَّا جَمْعٌ لِلْمَصْدَرِ، أَوْ جَمْعٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَإِنْ كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ، فَوَصْفُ النُّذُرِ بِالْأُولَى عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِهْلَاكَ مَنْ تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ: هَذَا نَذِيرٌ، ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ قَرِيبُ الْوُقُوعِ فَقَالَ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ: أَيْ قَرُبَتِ الْمَوْصُوفَةُ بِالْقُرْبِ فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «2» ، وَهِيَ الْقِيَامَةُ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ: أَيْ نَفْسٌ كَاشِفَةٌ تَكْشِفُ وَقْتَهَا وَتَعْلَمُهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَدَفْعِهِ، أَيْ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَكْشِفُ خَطْبَهَا وهو لها. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي كَاشِفَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ.

_ (1) سورة طه: 20/ 78. (2) سورة القمر: 54/ 1.

وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، كَالْعَاقِبَةِ، وخائِنَةَ الْأَعْيُنِ، أَيْ لَيْسَ لَهَا كَشْفٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ حَالٌ كَاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ. وَهُوَ الْقُرْآنُ، تَعْجَبُونَ فَتُنْكِرُونَ، وَتَضْحَكُونَ مُسْتَهْزِئِينَ، وَلا تَبْكُونَ جَزَعًا مِنْ وَعِيدِهِ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مُعْرِضُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَاهُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: غَافِلُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُسْتَكْبِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَاهُونَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جَامِدُونَ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ غَنُّوا تَشَاغُلًا عَنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُرَ ضَاحِكًا بَعْدَ نُزُولِهَا. فَاسْجُدُوا: أَيْ صَلُّوا لَهُ، وَاعْبُدُوا: أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَا تَعْبُدُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَالشِّعْرَى وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَصْنَامِ. وَخَرَّجَ الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِيهَا السَّجْدَةُ النَّجْمُ، فَسَجَدَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَالرَّجُلُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَجَدُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ: تَضْحَكُونَ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُعْجِبُونَ تُضْحِكُونَ، بِغَيْرِ وَاوٍ وَبِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْحَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَبْكُونَ، حَضٌّ عَلَى الْبُكَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَالسُّجُودُ هُنَا عِنْدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَوَرَدَتْ بِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَلَيْسَ يَرَاهَا مَالِكٌ هُنَا. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ قَرَأَ بِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَسْجُدْ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة القمر

سورة القمر [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 55] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

الْجَدَثُ: الْقَبْرُ، وَتُبْدَلُ ثَاؤُهُ فَاءً فَيُقَالُ: جَدَفٌ، كَمَا أَبْدَلُوا فِي ثُمَّ فَقَالُوا: فُمَّ. انْهَمَرَ الْمَاءُ: نَزَلَ بِقُوَّةٍ غَزِيرًا، قَالَ الشَّاعِرُ: رَاحَ تُمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ تَنَحَّى ... فِيهِ شُؤْبُوبُ جَنُوبٍ مُنْهَمِرٍ الدُّسُرُ: الْمَسَامِيرُ الَّتِي تُشَدُّ بِهَا السَّفِينَةُ، وَاحِدُهَا دِسَارٌ، نَحْوَ كِتَابٍ وَكُتُبٍ. وَيُقَالُ: دَسَرْتُ السَّفِينَةَ، إِذَا شَدَدْتُهَا بِالْمَسَامِيرِ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَصَاحِبُ الصِّحَاحِ: الدُّسُرُ: خُيُوطٌ تُشَدُّ

بِهَا أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ. الصَّرْصَرُ: الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ، أَوِ الْبَرْدِ، إِمَّا مِنْ صَرِيرِ الْبَابِ، وَهُوَ تَصْوِيتُهُ، أَوْ مِنَ الصَّرِّ الَّذِي هُوَ الْبَرْدُ، وَهُوَ بِنَاءٌ مُتَأَصِّلٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلَلٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. الْعَجُزُ: مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ. الْمُنْقَعِرُ: الْمُنْقَلِعُ: مِنْ أَصْلِهِ، قَعَرْتُ الشَّجَرَةَ قَعْرًا: قَلَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا فَانْقَعَرَتْ، وَالْبِئْرَ: نَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَعْرِهَا، وَالْإِنَاءَ: شَرِبْتُ مَا فِيهِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَعْرِهِ، وَأَقْعَرْتُهُ الْبِئْرَ: جَعَلْتُ لَهَا قعرا. الأشر: البطر. وقرأ: أَشِرَ بِالْكَسْرِ يَأْشَرُ أَشَرًا، فَهُوَ أَشِرٌ وَآشِرٌ وَأَشْرَانٌ، وَقَوْمٌ أُشَارَى، مِثْلُ: سَكْرَانٍ وَسُكَارَى. سَقَرُ: عَلَمٌ لِجَهَنَّمَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَقَرَتْهُ النَّارُ بِالسِّينِ، وَصَقَرْتُهُ بِالصَّادِ إِذَا لَوَّحْتَهُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: إِذَا دابت الشَّمْسُ اتَّقَى صَقَرَاتِهَا ... بِأَفْنَانِ مربوع الصريمة معيل وَامْتَنَعَتْ سَقَرُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَالتَّأْنِيثِ تَنَزَّلَتْ حَرَكَةُ وَسَطِهِ تَنَزُّلَ الْحَرْفِ الرَّابِعِ فِي زَيْنَبَ. اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ، خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هِيَ مِمَّا نَزَلَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ، أَوَّلُهَا: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ، وَآخِرُهَا: أَدْهى وَأَمَرُّ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ، وَوَعَدُوهُ بِالْإِيمَانِ إِنْ فَعَلَ. وَكَانَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ، فَسَأَلَ رَبَّهُ، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفٌ عَلَى الصَّفَا وَنِصْفٌ عَلَى قَيْقُعَانَ. فَقَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: آيَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَا يُعْمَلُ فِيهَا السِّحْرُ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: اصْبِرُوا حَتَّى تَأْتِيَنَا أَهْلُ الْبَوَادِي، فَإِنْ أَخْبَرُوا بِانْشِقَاقِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَقَدَ سَحَرَ مُحَمَّدٌ أَعْيُنَنَا. فَجَاءُوا فَأَخْبَرُوا بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَأَعْرَضَ أَبُو جَهْلٍ وَقَالَ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَعَنِ ابْنِ عباس: شق القمر باشين، شَطْرَةً عَلَى السُّوَيْدَاءِ وَشَطْرَةً عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ. وَعَنْهُ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ. وَعَنْهُ: انْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةً ذَهَبَتْ وَفِلْقَةً بَقِيَتْ.

وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، قَالَ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» ، وَقَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَمِمَّنْ عَايَنَ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَأَخْبَرَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَحِينَ أَرَى اللَّهُ النَّاسَ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْهَدُوا» ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِذْ ذَاكَ: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَحَرَ الْقَمَرَ. وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى خِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَنْشَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَرُدُّهُ مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. فَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْكَلَامَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ مَا سَأَلُوهُ مُعَيَّنًا مِنِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. وَقِيلَ: سَأَلُوا آيَةً فِي الْجُمْلَةِ، فَأَرَاهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ السَّمَاوِيَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ التَّأْثِيرُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ. وَقَرَأَ حُذَيْفَةُ: وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ، أَيِ اقْتَرَبَتْ، وَتَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ اقْتِرَابِهَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، كَمَا تَقُولُ: أَقْبَلَ الْأَمِيرُ وَقَدْ جَاءَ الْمُبَشِّرُ بِقُدُومِهِ. وَخَطَبَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّكُمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ المعنى: إذ جَاءَتِ السَّاعَةُ انْشَقَّ الْقَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ انْشِقَاقَهُ عِبَارَةٌ عَنِ انْشِقَاقِ الظُّلْمَةِ عِنْدَ طُلُوعِهِ فِي أَثْنَائِهَا، فَالْمَعْنَى: ظَهَرَ الْأَمْرُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ مَثَلًا فِيمَا وَضَحَ، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلَقًا عِنْدَ انْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الِانْفِلَاقِ بِالِانْشِقَاقِ. قَالَ النَّابِغَةُ: فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دَوِيٌّ ... دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِي وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا، لَأَضْرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وقرىء: وَإِنْ يُرَوْا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أَيْ مِنْ شَأْنِهِمْ وَحَالَتِهِمْ أَنَّهُمْ مَتَى رَأَوْا مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِتِلْكَ الْآيَةِ. وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ شَرْطِيَّةً لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الِاسْتِقْبَالِ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ فِي الْمَاضِي، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ: أَيْ دَائِمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وَأَعْصُرُ ... وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بمستمر لَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ مُتَوَالِيَةً لَا تَنْقَطِعُ، قَالُوا ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَخْفَشُ: مُسْتَمِرٌّ: مَشْدُودٌ مُوَثَّقٌ مِنْ مَرَائِرِ الْحَبْلِ، أَيْ سِحْرٌ قَدْ أُحْكِمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى سِرٍّ مَرِيرَتُهُ ... صِدْقَ الْعَزِيمَةِ لَا رَيًّا وَلَا ضرعا

_ (1) سورة النجم: 53/ 57.

وَقَالَ أَنَسٌ وَيَمَانٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ: مُسْتَمِرٌّ: مَارٌّ ذَاهِبٌ زَائِلٌ عَنْ قَرِيبٍ، عَلَّلُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ. وَقِيلَ مُسْتَمِرٌّ: شَدِيدُ الْمَرَارَةِ، أَيْ مُسْتَبْشَعٌ عِنْدَنَا مُرٌّ، يُقَالُ: مَرَّ الشَّيْءُ وَأَمَرَّ، إِذَا صَارَ مُرًّا، وَأَمَرَّ غَيْرَهُ وَمَرَّهُ، يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. وَقِيلَ: مُسْتَمِرٌّ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، أَيِ اسْتَمَرَّتْ أَفْعَالُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّخَيُّلَاتِ. وَقِيلَ: مُسْتَمِرٌّ: مَارٌّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِهِ أَنَّهُ سَحَرَ الْقَمَرَ. وَكَذَّبُوا: أَيْ بِالْآيَاتِ وَبِمَنْ جَاءَ بِهَا، أَيْ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ: أَيْ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَهْوَوْنَ. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ: مبتدأ وخبر. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ لَهُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُسْتَقِرٌّ لَهُ حَقِيقَةٌ، فَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَسَيَظْهَرُ، وَمَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَسَيُعْرَفُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَيْرَ يَسْتَقِرُّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالشَّرَّ بِأَهْلِ الشَّرِّ. وَقِيلَ: يَسْتَقِرُّ الْحَقُّ ظَاهِرًا ثَابِتًا، وَالْبَاطِلُ زَاهِقًا ذَاهِبًا. وَقِيلَ: كُلُّ أَمْرٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ يَسْتَقِرُّ عَلَى خُذْلَانٍ أَوْ نُصْرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَسَعَادَةٍ، أَوْ شَقَاوَةٍ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ: مُسْتَقَرٌّ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا وَجْهَ لِفَتْحِ الْقَافِ. انْتَهَى. وَخُرِّجَتْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذُو اسْتِقْرَارٍ، وَزَمَانُ اسْتِقْرَارٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُسْتَقِرٍّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالرَّاءِ مَعًا صِفَةً لِأَمْرٍ. وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَكُلُّ عَطْفًا عَلَى السَّاعَةِ، أَيِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَاقْتَرَبَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ يَسْتَقِرُّ وَيَتَبَيَّنُ حَالُهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ بِجُمَلٍ ثَلَاثٍ، وَبَعِيدٌ أَنْ يُوجَدَ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، نَحْوُ: أَكَلْتُ خُبْزًا وَضَرَبْتُ زَيْدًا، وأن يجيء زَيْدٌ أُكْرِمْهُ وَرَحَلَ إِلَى بَنِي فُلَانٍ وَلَحْمًا، فَيَكُونُ وَلَحْمًا عَطْفًا عَلَى خُبْزًا، بَلْ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِكُلِّ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ جُرَّ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ فِي غَايَةِ الشُّذُوذِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، إِنَّمَا عُهِدَ فِي الصِّفَةِ عَلَى اخْتِلَافِ النُّحَاةِ فِي وُجُودِهِ، وَالْأَسْهَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُضْمَرًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ بَالِغُوهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ: أَيْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ لَهُمْ فِي الْقَدَرِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ بَالِغُهُ هُمْ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، أَيْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ. وَيَكُونُ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ: أَيْ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءَ وَمَا يؤولون إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ: أَيِ ازْدِجَارٌ رَادِعٌ لَهُمْ عَنْ مَا هُمْ فِيهِ،

أَوْ مَوْضِعُ ازْدِجَارٍ وَارْتِدَاعٍ، أَيْ ذَلِكَ مَوْضِعُ ازْدِجَارٍ، أو مظنة له. وقرىء مُزَّجَرٌ، بِإِبْدَالِ تَاءِ الِافْتِعَالِ زَايًا وَإِدْغَامِ الزَّايِ فِيهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُزْجِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَزْجَرَ، أَيْ صَارَ ذَا زَجْرٍ، كَأَعْشَبَ: أَيْ صَارَ ذَا عُشْبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بِرَفْعِهِمَا، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ حِكْمَةٌ بَدَلًا مِنْ مُزْدَجَرٍ أَوْ مِنْ مَا، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ خَبَرًا عَنْ كُلٍّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مُسْتَقِرٍّ بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: حِكْمَةً بَالِغَةً بِالنَّصْبِ فِيهِمَا حَالًا مِنْ مَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً أَمْ مَوْصُوفَةً تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ، وَوُصِفَتِ الْحِكْمَةُ بِبَالِغَةٍ لِأَنَّهَا تَبْلُغُ غَيْرَهَا. فَما تُغْنِ النُّذُرُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ. ثُمَّ سَلَّى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يُجْدِي فِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمَا يؤولون إِلَيْهِ، إِذْ ذَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ، وَالنَّاصِبُ لِيَوْمٍ اذْكُرْ مُضْمَرَةً، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ، أَوْ يَخْرُجُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَحَذْفُ إِلَى، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ تَوَلِّيهِ عَنْهُمْ ليس مغيا بيوم يدع الداع. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: فَما تُغْنِ النُّذُرُ، وَيَكُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اعْتِرَاضًا، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: يَقُولُ الْكافِرُونَ، وَمَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ انْتَظِرْ، وَمَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمَنْصُوبًا بِمُسْتَقِرٍّ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا. وَحُذِفَتِ الْوَاوُ مِنْ يَدْعُ فِي الرَّسْمِ اتِّبَاعًا لِلنُّطْقِ، وَالْيَاءُ مِنَ الدَّاعِ تَخْفِيفًا أُجْرِيَتْ أَلْ مَجْرَى مَا عَاقَبَهَا، وَهُوَ التَّنْوِينُ. فَكَمَا تُحْذَفُ مَعَهُ حُذِفَتْ معها، والداع هُوَ إِسْرَافِيلُ، أَوْ جِبْرَائِيلُ، أَوْ مَلَكٌ غَيْرُهُمَا مُوَكَّلٌ بِذَلِكَ، أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُكُرٍ بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ صِفَةٌ عَلَى فُعُلٍ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الصِّفَاتِ، وَمِنْهُ رَجُلٌ شُلُلٌ: أَيْ خَفِيفٌ فِي الْحَاجَةِ، وَنَاقَةٌ أُجُدٌ، وَمِشْيَةٌ سُجُحٌ، وَرَوْضَةٌ أُنُفٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَشِبْلٌ بِإِسْكَانِ الْكَافِ، كَمَا قَالُوا: شُغُلٌ وَشُغْلٌ، وَعُسْرٌ وَعُسُرٌ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نُكِّرَ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ جُهِلَ فَنُكِّرَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: النُّكُرُ نَعْتٌ لِلْأَمْرِ الشَّدِيدِ، وَالْوَجَلُ الدَّاهِيَةُ، أَيْ تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْهَدْ مِثْلَهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ: أَقْدِمْ مَحَاجِ إِنَّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكِرْ وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَالْجُمْهُورُ: خُشَّعًا جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: خَاشِعًا بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ

وَابْنُ مَسْعُودٍ: خَاشِعَةً، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّهُ جَائِزٌ. انْتَهَى، وَمِثَالُ جَمْعِ التَّكْسِيرِ قَوْلُ الشاعر: بمطرد لذن صحاح كعربه ... وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ الوانسا وَمِثَالُ الْإِفْرَادِ قَوْلُهُ: وَرِجَالٌ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ أَيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ وَقَالَ آخَرُ: تَرْمِي الْفِجَاجَ بِهِ الرُّكْبَانُ مُعْتَرِضًا ... أَعْنَاقَ بُزَّلِهَا مُرْخًى لَهَا الْجُدْلُ وَانْتُصِبَ خُشَّعًا وَخَاشِعًا وَخَاشِعَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَخْرُجُونَ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يَخْرُجُونَ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُتَصَرِّفٌ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْجَرْمِيِّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُ الْحَالِ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ مُتَصَرِّفًا. وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: شَتَّى تَؤُبُّ الْحَلْبَةُ، فَشَتَّى حَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى عَامِلِهَا وَهُوَ تَؤُبُّ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُتَصَرِّفٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: سَرِيعًا يَهُونُ الصَّعْبُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى ... إِذَا بِرَجَاءٍ صَادِقٍ قَابَلُوهُ الْبَأْسَا فَسَرِيعًا حَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى عَامِلِهَا، وَهُوَ يَهُونُ. وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وَقِيلَ: هُوَ مفعول بيدع، أَيْ قَوْمًا خُشَّعًا، أَوْ فَرِيقًا خُشَّعًا، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَمَنْ أَفْرَدَ خَاشِعًا وَذَكَّرَ، فَعَلَى تَقْدِيرِ تَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ وَمَنْ قَرَأَ خَاشِعَةً وَأَنَّثَ، فَعَلَى تَقْدِيرِ تَخْشَعُ وَمَنْ قَرَأَ خُشَّعًا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، فَلِأَنَّ الْجَمْعَ مُوَافِقٌ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَبْصَارُهُمْ، وَمُوَافِقٌ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَالِ فِي يَخْرُجُونَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرِجَالٍ كِرَامٍ آبَاؤُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَخُشَّعًا عَلَى يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ، وَهِيَ لُغَةُ مَنْ يَقُولُ: أكلوني البراغيث، وهم طيء. انْتَهَى. وَلَا يُجْرَى جَمْعُ التَّكْسِيرِ مَجْرَى جَمْعِ السَّلَامَةِ، فَيَكُونُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ النَّادِرَةِ الْقَلِيلَةِ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَكْثَرَ، وَيَكُونُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ النَّادِرَةِ الْقَلِيلَةِ؟ وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ حِينَ ذُكِرَ الْإِفْرَادُ مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ، قَالَ: لِأَنَّ الصِّفَةَ مَتَى تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ جَازَ فِيهَا جَمِيعُ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِهَا، فَكَانَ أَشْبَهَ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا يُخَرَّجُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ إِذَا كَانَ الْجَمْعُ مَجْمُوعًا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ كَرِيمِينَ آبَاؤُهُمْ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَاسَ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ السَّالِمِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، ويزده النَّقْلُ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ أَجْوَدُ مِنَ

الْإِفْرَادِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْفَرَّاءِ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ فِي خُشَّعًا ضَمِيرٌ، وأبصارهم بدل منه. وقرىء: خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَخُشَّعٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَخُشُوعُ الْأَبْصَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الذِّلَّةِ، وَهِيَ فِي الْعُيُونِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْجَوَارِحِ وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ النَّفْسِ مِنْ ذِلَّةٍ وَعِزَّةٍ وَحَيَاءٍ وَصَلَفٍ وَخَوْفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْضًا، شَبَّهَهُمْ بِالْجَرَادِ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّمَوُّجِ، وَيُقَالُ: جَاءُوا كَالْجَرَادِ فِي الْجَيْشِ الْكَثِيرِ الْمُتَمَوِّجِ، وَيُقَالُ: كَالذُّبَابِ. وَجَاءَ تَشْبِيهُهُمْ أَيْضًا بِالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَكُلٌّ مِنَ الْجَرَادِ وَالْفَرَاشِ فِي الْخَارِجِينَ يَوْمَ الْحَشْرِ شَبَهٌ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: يَكُونُونَ أَوَّلًا كَالْفَرَاشِ حِينَ يَمُوجُونَ فَزِعِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ، لِأَنَّ الْفَرَاشَ لَا جِهَةَ لَهُ يَقْصِدُهَا، ثُمَّ كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى الْمَحْشَرِ وَالدَّاعِي، فَهُمَا تَشْبِيهَانِ بِاعْتِبَارِ وَقْتَيْنِ، قَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. مُهْطِعِينَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُسْرِعِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ زَادَ غَيْرُهُ: مَادِّيِ أَعْنَاقِهِمْ، وَزَادَ غَيْرُهُ: مَعَ هَزٍّ وَرَهَقٍ وَمَدِّ بَصَرٍ نَحْوَ الْمَقْصِدِ، إِمَّا لِخَوْفٍ أَوْ طَمَعٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَامِدِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُقْبِلِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَاتِحِينَ آذَانَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَاظِرِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أُرَى ... وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ وَقِيلَ: خَافِضِينَ مَا بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ. يَوْمٌ عَسِرٌ، لِمَا يُشَاهِدُونَ مِنْ مَخَايِلِ هَوْلِهِ، وَمَا يَرْتَقِبُونَ مِنْ سُوءِ مُنْقَلَبِهِمْ فِيهِ. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ: أَيْ قَبْلَ قُرَيْشٍ، قَوْمُ نُوحٍ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ وَضَرْبُ مَثَلٍ لَهُمْ. وَمَفْعُولُ كَذَّبَتْ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَذَّبَتِ الرُّسُلُ، فَكَذَّبُوا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ. لَمَّا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ جَاحِدِينَ لِلنُّبُوَّةِ رَأْسًا، كَذَّبُوا نُوحًا لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ نُوحًا أَوَّلَ مَجِيئِهِ إِلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوهُ تَكْذِيبًا يَعْقُبُهُ تَكْذِيبٌ. كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ قَرْنٌ مُكَذِّبٌ، تَبِعَهُ قَرْنٌ مُكَذِّبٌ. وَفِي لَفْظِ عَبْدَنَا تَشْرِيفٌ وَخُصُوصِيَّةٌ بِالْعُبُودِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ «1» ، سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «2» . وَقالُوا مَجْنُونٌ: أَيْ هُوَ مَجْنُونٌ. لَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ قَالُوا: هُوَ مُصَابُ الْجِنِّ، لَمْ يَقْنَعُوا بِتَكْذِيبِهِ حَتَّى نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، أَيْ يَقُولُ مَا لَا يَقْبَلُهُ عَاقِلٌ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ في تكذيبهم.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 41. (2) سورة الإسراء: 17/ 1.

وَازْدُجِرَ فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ، الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَازْدُجِرَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ انْتَهَرُوهُ وَزَجَرُوهُ بالسبب وَالتَّخْوِيفِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَقَرَأَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ «1» . قِيلَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا بِهِ مَا يُوجِبُ الِانْزِجَارَ مِنْ دُعَائِهِمْ حَتَّى تَرَكَ دَعْوَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَعَدَلَ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَازْدُجِرَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِمْ، أَيْ قَالُوا وَازْدُجِرَ: أَيِ اسْتُطِيرَ جُنُونًا، أَيِ ازْدَجَرَتْهُ الْجِنُّ وَذَهَبَتْ بِلُبِّهِ وَتَخَبَّطَتْهُ. وَقَرَأَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ: إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ الدُّعَاءِ مَجْرَى الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، أَيْ بِأَنِّي مَغْلُوبٌ، أَيْ غَلَبَنِي قَوْمِي، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنِّي، وَيَئِسْتُ مِنْ إِجَابَتِهِمْ لِي. فَانْتَصِرْ: أَيْ فَانْتَقِمْ بِعَذَابٍ تَبْعَثُهُ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا دعا عليهم بعد ما يَئِسَ مِنْهُمْ وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ قَوْمِهِ يَخْنُقُهُ إِلَى أَنْ يَخِرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَمُتَعَلِّقُ فَانْتَصِرْ مَحْذُوفٌ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَانْتَصِرْ لِي مِنْهُمْ بِأَنْ تُهْلِكَهُمْ. وَقِيلَ: فَانْتَصِرْ لِنَفْسِكَ، إِذْ كَذَّبُوا رَسُولَكَ فَوَقَعَتِ الْإِجَابَةُ. وَلِلْمُتَصَوِّفَةِ قَوْلٌ فِي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. فَفَتَحْنا: بَيَانٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى انْتَصَرَ مِنْهُمْ وَانْتَقَمَ. قِيلَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْمَطَرَ سِنِينَ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَطْلُوبِهِمْ. أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ: جَعَلَ الْمَاءَ كَأَنَّهُ آلَةٌ يُفْتَحُ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: فَتَحْتُ الْبَابَ بِالْمِفْتَاحِ، وَكَأَنَّ الْمَاءَ جَاءَ وَفَتَحَ الْبَابَ، فَجَعَلَ الْمَقْصُودَ، وَهُوَ الْمَاءُ، مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ الْمُغْلَقِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْحَالِ، أَيْ مُلْتَبِسَةً بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ: فَفَتَّحْنَا مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ: مُخَفَّفًا، أَبْوابَ السَّماءِ، هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَجَازٌ وَتَشْبِيهٌ، لِأَنَّ الْمَطَرَ كَثَّرَهُ كَأَنَّهُ نَازِلٌ مِنْ أَبْوَابٍ، كَمَا تَقُولُ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْقِرَبِ، وَجَرَتْ مَزَارِيبُ السَّمَاءِ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَتَبِعَهُ النَّقَّاشُ: يَعْنِي بِالْأَبْوَابِ الْمَجَرَّةَ، وَهِيَ سَرْعُ السَّمَاءِ كَسَرْعِ الْعَيْبَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فُتِحَتْ فِي السَّمَاءِ أَبْوَابٌ جَرَى مِنْهَا الْمَاءُ، وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَبْوَابُ السَّمَاءِ فُتِحَتْ مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ، لَمْ تُغْلَقْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. قَالَ السُّدِّيُّ: مُنْهَمِرٍ: أَيْ كَثِيرٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَعَيْنَيَّ جُودَا بِالدُّمُوعِ الْهَوَامِرِ ... عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ معد وحاضر

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 116.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَفَجَّرْنَا بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: بِالتَّخْفِيفِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْعَيْنَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ، مَجَازٌ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، غَالِبٌ وَانْتَصَبَ عُيُونًا عَلَى التَّمْيِيزِ، جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا عُيُونٌ تَتَفَجَّرُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ: وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ، وَمَنْ مَنَعَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مِنَ الْمَفْعُولِ أَعْرَبَهُ حَالًا، وَيَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَفْعُولًا ثَانِيًا، كَأَنَّهُ ضَمَّنَ وَفَجَّرْنَا: صَيَّرْنَا بِالتَّفْجِيرِ، الْأَرْضَ عُيُوناً. وَقِيلَ: وَفُجِّرَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَالْتَقَى الْماءُ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمَعْنَى: مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: الماءان. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْمَاوَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْحَسَنُ مَاوَانِ، بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، كَقَوْلِهِمْ: عِلْبَاوَانِ. انْتَهَى. شَبَّهَ الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ فِي الْمَاءِ بهمزة الإلحاق في علبا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: الْمَايَانِ، بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ شُذُوذٌ. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ: أَيْ عَلَى حَالَةٍ وَرُتْبَةٍ قَدْ فُصِلَتْ فِي الْأَزَلِ. وَقِيلَ: عَلَى مَقَادِيرَ قَدْ رُتِّبَتْ وَقْتَ الْتِقَائِهِ، فَرُوِيَ أَنَّ مَاءَ الْأَرْضِ كَانَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَنَزَلَ مَاءُ السَّمَاءِ عَلَى تَكْمِلَةِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. وَقِيلَ: كَانَ مَاءُ الْأَرْضِ أَكْثَرَ. وَقِيلَ: كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ قَدْرُ مَا خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ: فِي اللَّوْحِ أَنَّهُ يَكُونُ، وَهُوَ هَلَاكُ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالطُّوفَانِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ كُلَّ قِصَّةٍ ذُكِرَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذَكَرَ اللَّهُ هَلَاكَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ فِيهَا، فَيَكُونُ هَذَا كِنَايَةً عَنْ هَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ نَجَاةَ نُوحٍ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: قُدِّرَ بِشَدِّ الدَّالِ وَالْجُمْهُورُ بِتَخْفِيفِهَا، وَذَاتُ الْأَلْوَاحِ وَالدُّسُرِ هِيَ السَّفِينَةُ الَّتِي أَنْشَأَهَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَنَّهَا السَّفِينَةُ، فَهِيَ صِفَةٌ تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ وَتَنُوبُ عَنْهُ، وَنَحْوُهُ: قَمِيصِي مَسْرُودَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ دِرْعٌ، وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَدِيعِهِ. وَلَوْ جَمَعْتَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ بِالْفَصِيحِ وَالدُّسُرُ الْمَسَامِيرُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: مَقَادِيمُ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا تَدْسُرُ الْمَاءَ، أَيْ تَدْفَعُهُ، وَالدَّسْرُ: الدَّفْعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: بَطْنُ السَّفِينَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: عَوَارِضُ السَّفِينَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَضْلَاعُ السَّفِينَةِ، تَجْرِي في ذلك الماء المتلقي بِحِفْظٍ مِنَّا وَكِلَاءَةٍ، بِحَيْثُ نَجَا مَنْ كَانَ فِيهَا وَغَرِقَ غَيْرُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: بِأَعْيُنِنا: بِوَحْيِنَا. وَقِيلَ: بِأَمْرِنَا. وَقِيلَ: بِأَوْلِيَائِنَا. يُقَالُ: فُلَانٌ عَيْنٌ مِنْ عُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. وَقِيلَ: بِأَعْيُنِ الْمَاءِ الَّتِي أَنْبَعْنَاهَا.

وَقِيلَ: مَنْ حَفِظَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَمَّاهُمْ أَعْيُنًا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِأَعْيُنَّا بِالْإِدْغَامِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْفَكِّ. جَزاءً: أَيْ مُجَازَاةً، لِمَنْ كانَ كُفِرَ: أَيْ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ كَانَ نِعْمَةً أَهْدَاهَا اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ لِأَنْ يُؤْمِنُوا فَكَفَرُوهَا، الْمَعْنَى: أَنَّهُ حَمَلَهُ فِي السَّفِينَةِ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ كَانَ جَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى قَوْمِهِ الْمِئِينَ مِنَ السِّنِينَ، وَمَنْ كِنَايَةٌ عَنْ نُوحٍ. قِيلَ: يَعْنِي بِمَنْ كُفِرَ لِمَنْ جُحِدَتْ نُبُوَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَنْ يُرَادُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قَالَ: غَضَبًا وَانْتِصَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَيِ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ، فَأَغْرَقَ الْكَافِرِينَ، وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ فِي مَنْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. كُفِرَ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: بِإِسْكَانِ الْفَاءِ خُفِّفَ فُعْلَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْبَانُ وَالْمِسْكُ انْعَصَرْ يُرِيدُ: لَوْ عُصِرَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ رُومَانَ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى: كَفَرَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَمَنْ يُرَادُ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ: أَيْ إِنَّ مَا نَشَأَ مِنْ تَفْتِيحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ بِالْمَاءِ، وَتَفَجُّرِ عُيُونِ الْأَرْضِ، وَالْتِقَاءِ الْمَاءَيْنِ مِنْ غَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَكُفِرَ: خَبَرٌ لِكَانَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الْمَاضِي بِغَيْرِ قَدْ خَبَرًا لِكَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. يَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ قَدْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ كَانَ هُنَا زَائِدَةً، أَيْ لِمَنْ كُفِرَ، وَالضَّمِيرُ فِي تَرَكْناها عَائِدٌ عَلَى الْفِعْلَةِ وَالْقِصَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالنَّقَّاشُ وَغَيْرُهُمَا: عَائِدٌ عَلَى السَّفِينَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَبْقَى خَشَبَهَا حَتَّى رَآهُ بَعْضُ أَوَائِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ بَعْدَهَا صَارَتْ رَمَادًا! وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُدَّكِرٍ، بِإِدْغَامِ الذَّالِ فِي الدَّالِ الْمُبْدَلَةِ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ وَقَتَادَةُ: فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِالذَّالِ، أَدْغَمَهُ بَعْدَ قَلْبِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ قتادة: فَهَلْ مِنْ مُذَكِّرٍ، فَاعِلٌ مِنَ التَّذْكِيرِ، أَيْ مَنْ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِمَا مَضَى مِنَ الْقِصَصِ. انتهى. وقرىء: مُدْتَكِرٍ عَلَى الْأَصْلِ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ: تَهْوِيلٌ لِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ مِنْ الْعَذَابِ وَإِعْظَامٌ لَهُ، إِذْ قَدِ اسْتَأْصَلَ جَمِيعَهُمْ وَقَطَعَ دَابِرَهُمْ، فَلَمْ يَنْسُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَيْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ إِنْذَارِي؟ وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نَذِيرٍ وَهُوَ الْإِنْذَارُ، وَفِيهِ تَوْقِيفٌ لِقُرَيْشٍ عَلَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ أَمْثَالِهِمْ. وَكَانَ، إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، كَانَتْ كَيْفَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ وَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً، كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى التَّذْكِيرِ بِمَا حَلَّ بِهِمْ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا: أَيْ سَهَّلْنَا، الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ: أَيْ لِلْإِذْكَارِ وَالِاتِّعَاظِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعْظِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ مُتَّعِظٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَهَلْ مِنْ

طَالِبِ خَيْرٍ؟ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: فَهَلْ مِنْ مُزْدَجِرٍ عَنِ الْمَعَاصِي؟ وَقِيلَ: لِلذِّكْرِ: لِلْحِفْظِ، أَيْ سَهَّلْنَاهُ لِلْحِفْظِ، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ حُسْنِ النَّظْمِ وَسَلَامَةِ اللَّفْظِ، وَعُرُوِّهِ عَنِ الْحَشْوِ وَشَرَفِ الْمَعَانِي وَصِحَّتِهَا، فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْقُلُوبِ. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ: أَيْ مِنْ طَالِبٍ لِحِفْظِهِ لِيُعَانَ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ زَوَاجِرُهُ وَعُلُومُهُ حَاضِرَةً فِي النَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَمْ يُسْتَظْهَرْ شَيْءٌ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: يَسَّرْنَا: هَيَّأْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، كَقَوْلِهِمْ: يَسَّرَ نَاقَتَهُ لِلسَّفَرِ إِذَا رَحَّلَهَا، وَيَسَّرَ فَرَسَهُ لِلْغَزْوِ إِذَا أَسْرَجَهُ وَأَلْجَمَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَقُمْتُ إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسَّرًا ... هُنَالِكَ يَجْزِينِي الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ عَادٍ مُطَوَّلَةً وَمُتَوَسِّطَةً، وَهُنَا ذَكَرَهَا تَعَالَى مُوجَزَةً، كَمَا ذَكَرَ قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُوجَزَةً. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْمِ نُوحٍ عِلْمٌ، ذَكَرَ قَوْمُ مُضَافًا إِلَى نُوحٍ. وَلَمَّا كَانَتْ عَادٌ عَلَمًا لِقَوْمِ هُودٍ، ذَكَرَ الْعَلَمَ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الذِّكْرِ مِنَ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ. وَتَكَرَّرَ التَّهْوِيلُ بِالِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا حَلَّ بِهِمْ وَبَعْدَهُ، لِغَرَابَةِ مَا عُذِّبُوا بِهِ مِنْ الرِّيحِ، وَانْفِرَادِهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلِأَنَّ الِاخْتِصَارَ دَاعِيَةُ الِاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ وَالصَّرْصَرِ الْبَارِدَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ، الْمُصَوِّتَةُ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى إِضَافَةِ يَوْمٍ إِلَى نَحْسٍ، وَسُكُونِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِتَنْوِينِ يَوْمٍ وَكَسْرِ الْحَاءِ، جَعَلَهُ صِفَةً لِلْيَوْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «1» . مُسْتَمِرٍّ، قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَمَرَّ بِهِمْ حَتَّى بَلَّغَهُمْ جَهَنَّمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ: كَانَ مَرًّا عَلَيْهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ يَوْمًا مُعَيَّنًا، بَلْ أُرِيدَ بِهِ الزَّمَانُ وَالْوَقْتُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي وَقْتِ نَحْسٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ

_ (1) سورة فصلت: 41/ 16.

فُصِّلَتْ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «1» . وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «2» ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الرِّيحِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، فَعَبَّرَ بِوَقْتِ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا. تَنْزِعُ النَّاسَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلرِّيحِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهَا، لِأَنَّهَا وُصِفَتْ فَقُرِّبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِعُ مُسْتَأْنَفًا، وَجَاءَ الظَّاهِرُ مَكَانَ الْمُضْمَرِ لِيَشْمَلَ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ، إِذْ لَوْ عَادَ بِضَمِيرِ الْمَذْكُورِينَ، لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِمْ، أَيْ تَقْلَعُهُمْ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُلْقَى الرَّجُلُ عَلَى رَأْسِهِ، فَتُفَتَّتُ رَأْسُهُ وَعُنُقُهُ وَمَا يَلِي ذَلِكَ مِنْ بَدَنِهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَصْطَفُّونَ آخِذِي بَعْضِهِمْ بِأَيْدِي بَعْضٍ، وَيَدْخُلُونَ فِي الشِّعَابِ، وَيَحْفِرُونَ الْحُفَرَ فَيَنْدَسُّونَ فِيهَا، فَتَنْزِعُهُمْ وَتَدُقُّ رِقَابَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ حَالٌ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَتْرُكُهُمْ. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ: فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَحْذُوفِ شَبَّهَهُمْ، بِأَعْجَازِ النَّخْلِ الْمُنْقَعِرِ، إِذْ تَسَاقَطُوا عَلَى الْأَرْضِ أَمْوَاتًا وَهُمْ جُثَثٌ عِظَامٌ طِوَالٌ. وَالْأَعْجَازُ: الْأُصُولُ بِلَا فُرُوعٍ قَدِ انْقَلَعَتْ مِنْ مَغَارِسِهَا. وَقِيلَ: كانت الريح تقطع رؤوسهم، فتبقى أجسادا بلا رؤوس، فَأَشْبَهَتْ أَعْجَازَ النَّخْلِ الَّتِي انْقَلَعَتْ مِنْ مَغْرِسِهَا. وَقَرَأَ أبو نهيك: أعجز على وَزْنِ أَفْعُلٍ، نَحْوُ ضَبُعٍ وَأَضْبُعٍ. وَالنَّخْلُ اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَإِنَّمَا ذُكِّرَ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ، وَأُنِّثَ فِي قَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «3» فِي الْحَاقَّةِ لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ أَيْضًا. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، فِيمَا ذَكَرَ الْهُذَلِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ، وَأَبُو عمر والداني: برفعهما. فأبشر: مُبْتَدَأٌ، وَوَاحِدٌ صِفَتُهُ، وَالْخَبَرُ نَتَّبِعُهُ. وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ رَفْعَ أَبَشَرٌ وَنَصْبَ وَاحِدًا عَنْ أَبِي السَّمَّالِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَأَمَّا رَفْعُ أَبَشَرٌ فَبِإِضْمَارِ الْخَبَرِ بِتَقْدِيرِ: أَبَشَرٌ مِنَّا يُبْعَثُ إِلَيْنَا، أَوْ يُرْسَلُ، أَوْ نَحْوُهُمَا؟ وَأَمَّا انْتِصَابُ وَاحِدًا فَعَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِمَّا قَبْلَهُ بِتَقْدِيرِ: أَبَشَرٌ كَائِنٌ مِنَّا فِي الْحَالِ تُوَحِّدُهُ، وَإِمَّا مِمَّا بَعْدَهُ بِمَعْنَى: نَتَّبِعُهُ فِي تَوَحُّدِهِ، أَوْ فِي انْفِرَادِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَفْعُهُ إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ، التَّقْدِيرُ: أَيُنَبَّأُ بَشَرٌ؟ وَإِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: نَتَّبِعُهُ، وَوَاحِدًا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ حَالٌ إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَتَّبِعُهُ، وَإِمَّا مِنَ الْمُقَدَّرِ مَعَ مِنَّا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَبَشَرٌ كَائِنٌ مِنَّا وَاحِدًا؟ وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ حَسَدٌ مِنْهُمْ وَاسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ نَوْعُ الْبَشَرِ يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا هَذَا الْفَضْلَ، فَقَالُوا:

_ (1) سورة فصلت: 41/ 16. (2) سورة الحاقة: 69/ 7. (3) سورة الحاقة: 69/ 7.

نَكُونُ جَمْعًا وَنَتَّبِعُ وَاحِدًا، وَلَمْ يَعْلَمُوا إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيُفِيضُ نُورَ الْهُدَى عَلَى مَنْ رَضِيَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَنْكَرُوا أَنْ يَتَّبِعُوا بَشَرًا مِنْهُمْ وَاحِدًا؟ قُلْتُ: قَالُوا: أَبَشَرًا إِنْكَارًا؟ لِأَنْ يَتَّبِعُوا مِثْلَهُمْ فِي الْجِنْسِيَّةِ، وَطَلَبُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسٍ أَعْلَى مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالُوا مِنَّا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ، كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ أَقْوَى، وَقَالُوا وَاحِدًا إِنْكَارًا، لِأَنْ تَتَّبِعَ الْأُمَّةُ رَجُلًا وَاحِدًا، وَأَرَادُوا وَاحِدًا مِنْ أَبْنَائِهِمْ لَيْسَ بِأَشْرَفِهِمْ وَلَا أَفْضَلِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا: أَيْ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنْ بَيْنِنَا؟ وَفِينَا مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِالِاخْتِيَارِ لِلنُّبُوَّةِ. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ، عَلَى أَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ اللَّفْظَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. إِنَّا إِذاً: أَيْ إِنِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَحْنُ فِي ضَلَالٍ: أَيْ بُعْدٍ عَنِ الصَّوَابِ وَحَيْرَةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي تِيهٍ. وَقَالَ وَهْبٌ: بُعْدٌ عَنِ الْحَقِّ، وَسُعُرٍ: أَيْ عَذَابٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ وَجُنُونٍ يُقَالُ: نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ إِذَا كَانَتْ تُفْرِطُ فِي سَيْرِهَا كَأَنَّهَا مَجْنُونَةٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ بِهَا سُعُرًا إِذَا الْعِيسُ هَزَّهَا ... زَمِيلٌ وَإِزْجَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ وَقَالَ قَتَادَةُ: وَسُعُرٍ: عَنَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: وَسُعُرٍ جَمْعُ سَعِيرٍ، وَهُوَ وَقُودُ النَّارِ، أَيْ فِي خَطَرٍ كَمَنْ هُوَ فِي النَّارِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَتَّبِعُونِي، كُنْتُمْ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ وَسُعُرٍ: أَيْ نِيرَانٍ، فَعَكَسُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: إِنِ اتَّبَعْنَاكَ كُنَّا إِذًا كَمَا تَقُولُ. ثُمَّ زَادُوا فِي الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ فَقَالُوا: أَأُلْقِيَ: أَيْ أَأُنْزِلَ؟ قِيلَ: وَكَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْعَجَلَةَ فِي الْفِعْلِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ هَذَا الْفِعْلَ، وَمِنْهُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي «1» ، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «2» . وَالذِّكْرُ هُنَا: الْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ. ثُمَّ قَالُوا: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُ بَلْ هُوَ الْقُرْآنُ. أَشِرٌ: أَيْ بَطِرٌ، يُرِيدُ الْعُلُوَّ عَلَيْنَا، وَأَنْ يَقْتَادَنَا وَيَتَمَلَّكَ طَاعَتَنَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو قِلَابَةَ: بَلْ هُوَ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، بِلَامِ التَّعْرِيفِ فِيهِمَا وَبِفَتْحِ الشِّينِ وَشَدِّ الرَّاءِ، وَكَذَا الْأَشِرُ الْحَرْفُ الثَّانِي. وَقَرَأَ الْحَرْفَ الثَّانِيَ مُجَاهِدٌ، فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ وَأَبُو قَيْسٍ الْأَوْدِيُّ الْأُشُرُ بِثَلَاثِ ضَمَّاتٍ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَيُقَالُ: أَشِرٌ وَأَشُرٌ، كَحَذِرٍ وَحَذُرٍ، فَضَمَّةُ الشِّينِ لُغَةٌ وَضَمُّ الْهَمْزَةِ تَبَعٌ لِضَمَّةِ الشِّينِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: ضَمَّ الشِّينِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: هَذَا الْحَرْفَ الْآخِرَ الْأَشِرُ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وَإِتْمَامُ خَيْرٍ، وَشَرٍّ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ قَلِيلٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: هُوَ أَخْيَرُ وَهُوَ أَشَرُّ. قَالَ الراجز.

_ (1) سورة طه: 20/ 39. (2) سورة المزمل: 73/ 5. [.....]

بِلَالٌ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الْأَخْيَرِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَتَكَلَّمُ بِالْأَخْيَرِ وَالْأَشَرِّ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ رُؤْبَةَ بِلَالٌ الْبَيْتَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْجُمْهُورُ: سَيَعْلَمُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ ، وَهُوَ مِنْ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: بِتَاءِ الْخِطَابِ: أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا صَالِحُ وَعْدًا يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْمُسْتَقْبَلُ، لَا الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ خِطَابِهِمْ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْعَذَابِ الْحَالِّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ: أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ ... وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي فِي غَدٍ ... إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ أَرَادَ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يُرِدْ غَدًا بِعَيْنِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَداً تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ بِبَيَانِ انْكِشَافِ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هُمُ الْكَذَّابُونَ الْأَشِرُونَ. وَأَوْرَدَ ذَلِكَ مَوْرِدَ الْإِبْهَامِ وَالِاحْتِمَالِ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ «1» ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ قَوْمُهُ، وَكَذَا قَوْلُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ «2» وَقَوْلُ الشَّاعِرُ: فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنَّ ... أَنِّي وَأَيُّكَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّهُ فَارِسُ الْأَحْزَابِ، لَا الَّذِي خَاطَبَهُ. إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ: أَيِ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَآنَسَ بِذَلِكَ صَالِحًا. وَلَمَّا هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَداً، وَكَانُوا قَدِ ادَّعَوْا أَنَّهُ كَاذِبٌ، قَالُوا: مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِكَ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ: أَيْ مُخْرِجُوهَا مِنَ الْهَضْبَةِ الَّتِي سَأَلُوهَا. فَارْتَقِبْهُمْ: أَيْ فَانْتَظِرْهُمْ وَتَبَصَّرْ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، وَاصْطَبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَلَا تَعْجَلْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ: أَيْ مَاءَ الْبِئْرِ الَّذِي لَهُمْ، قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ: أَيْ بَيْنَ ثَمُودَ وَبَيْنَ النَّاقَةِ غَلَّبَ ثَمُودَ، فَالضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُمْ لَهُمْ وَلِلنَّاقَةِ. أَيْ لَهُمْ شِرْبُ يَوْمٍ، وَلِلنَّاقَةِ شِرْبُ يَوْمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قِسْمَةٌ بِكَسْرِ القاف ومعاذ ابن أَبِي عَمْرٍو: بِفَتْحِهَا. كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أَيْ مَحْضُورٌ لَهُمْ وَلِلنَّاقَةِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ النَّاقَةِ مُسْتَوْفَاةً، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهَا، وَهُنَا مَحْذُوفٌ، أَيْ فَكَانُوا عَلَى هَذِهِ الْوَتِيرَةِ مِنْ قِسْمَةِ الْمَاءِ، فَمَلُّوا ذَلِكَ وَعَزَمُوا عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ. فَنادَوْا صاحِبَهُمْ، وَهُوَ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، فَتَعاطى: هُوَ مُطَاوِعُ عَاطَى، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْفِعْلَةَ تَدَافَعَهَا النَّاسُ وعاطاها بعضهم بعضا،

_ (1) سورة هود: 11/ 39. (2) سورة هود: 11/ 93.

فَتَعَاطَاهَا قُدَارُ وَتَنَاوَلَ الْعَقْرَ بِيَدِهِ. وَلَمَّا كَانُوا رَاضِينَ، نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ «1» ، وَفِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها «2» . وَالصَّيْحَةُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ. يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحَ فِي طَرَفِ مَنَازِلِهِمْ، فَتَفَتَّتُوا وَهَمَدُوا وَصَارُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَهُوَ مَا تَفَتَّتَ وَتَهَضَّمَ مِنَ الشَّجَرِ. وَالْمُحْتَظِرُ: الَّذِي يَعْمَلُ الْحَظِيرَةَ، فَإِنَّهُ تَتَفَتَّتُ مِنْهُ حَالَةَ الْعَمَلِ وَتَتَسَاقَطُ أَجْزَاءٌ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ، أَوْ يَكُونُ الْهَشِيمُ مَا يَبِسَ مِنَ الْحَظِيرَةِ بِطُولِ الزَّمَانِ، تَطَأُهُ الْبَهَائِمُ فَيَتَهَشَّمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ الظَّاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَمْرٍو بْنُ عُبَيْدٍ: بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَوْضِعُ الِاحْتِظَارِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ كَهَشِيمِ الِاحْتِظَارِ، وَهُوَ مَا تَفَتَّتَ حَالَةَ الِاحْتِظَارِ. وَالْحَظِيرَةُ تَصْنَعُهَا الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْبَوَادِي لِلْمَوَاشِي وَالسُّكْنَى مِنَ الْأَغْصَانِ وَالشَّجَرِ الْمُورِقِ وَالْقَصَبِ. وَالْحَظْرُ: الْمَنْعُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، أَنَّ الْمُحْتَظِرَ هُوَ الْمُحْتَرِقُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَهَشِيمٍ مُحْتَرِقٍ وعن ابن ابْنِ جُبَيْرٍ: هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ الْحَائِطِ الْبَالِي. وَقِيلَ: الْمُحْتَظَرُ بِفَتْحِ الظَّاءِ هُوَ الْهَشِيمُ نَفْسُهُ، فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ هُنَا قِيلَ: بِمَعْنَى صَارَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ، وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ، وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ، كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمِهِ. وَالْحَاصِبُ مِنَ الْحَصْبَاءِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «3» . إِلَّا آلَ لُوطٍ، قِيلَ: إِلَّا ابْنَتَاهُ،

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 77. (2) سورة الشمس: 91/ 14. (3) سورة الحجرة: 15/ 74.

وبِسَحَرٍ: هُوَ بُكْرَةٌ، فَلِذَلِكَ صُرِفَ، وَانْتَصَبَ نِعْمَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ نَجَّيْنَاهُمْ لِإِنْعَامِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْعَمْنَا بِالتَّنْجِيَةِ إِنْعَامًا. كَذلِكَ نَجْزِي: أَيْ مِثْلِ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ وَالتَّنْجِيَةِ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ إِنْعَامَنَا وَأَطَاعَ وَآمَنَ. وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا: أَيْ أَخْذَتَنَا لَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَتَمارَوْا: أَيْ تَشَكَّكُوا وَتَعَاطَوْا ذَلِكَ، بِالنُّذُرِ: أَيْ بِالْإِنْذَارِ، أَوْ يَكُونُ جَمْعَ نَذِيرٍ. فَطَمَسْنا، قَالَ قَتَادَةُ: الطَّمْسُ حَقِيقَةً جَرُّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَعْيُنِهِمْ جَنَاحَهُ، فَاسْتَوَتْ مَعَ وُجُوهِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَطْمُوسَةٌ بِجِلْدٍ كَالْوَجْهِ. قِيلَ: لَمَّا صَفَقَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ، تَرَكَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْبَابِ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، وَإِنَّمَا حَجَبَ إِدْرَاكَهُمْ، فَدَخَلُوا الْمَنْزِلَ وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَجُعِلَ ذَلِكَ كَالطَّمْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَطَمَسْنَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِتَشْدِيدِهَا. فَذُوقُوا: أَيْ فَقُلْتُ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ: ذُوقُوا. وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً: أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَبَاكِرَهُ، لِقَوْلِهِ: مُشْرِقِينَ «1» ومُصْبِحِينَ «2» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُكْرَةً بِالتَّنْوِينِ، أَرَادَ بُكْرَةً مِنَ الْبِكْرِ، فَصُرِفَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ: أَيْ لَمْ يَكْشِفْهُ عَنْهُمْ كَاشِفٌ، بَلِ اتَّصَلَ بِمَوْتِهِمْ، ثُمَّ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، ثُمَّ عَذَابِ جَهَنَّمَ. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ: تَوْكِيدٌ وَتَوْبِيخٌ ذَلِكَ عِنْدَ الطَّمْسِ، وَهَذَا عِنْدَ تَصْبِيحِ الْعَذَابِ. قِيلَ: وَفَائِدَةُ تَكْرَارِ هَذَا، وَتَكْرَارِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا، التَّجَرُّدُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ كُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْأَوَّلِينَ، لِلِاتِّعَاظِ وَاسْتِئْنَافِ التَّيَقُّظِ إِذَا سَمِعُوا الْحَثَّ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِمُ الْغَفْلَةُ، وَهَكَذَا حُكْمُ التَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «3» عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ عَدَّهَا فِي سُورَةِ الرحمن. وقوله: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «4» عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ أَوْرَدَهَا فِي سُورَةِ وَالْمُرْسَلَاتِ، وَكَذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقَصَصِ فِي أَنْفُسِهَا، لِتَكُونَ الْعِبْرَةُ حَاضِرَةً لِلْقُلُوبِ، مَذْكُورَةً فِي كُلِّ أَوَانٍ. وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ: هُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُمَا عَرَضَا عَلَيْهِمْ مَا أَنْذَرَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ، أو يكون جمع نذير الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. كَذَّبُوا بِآياتِنا

_ (1) سورة الحجر: 15/ 73، وسورة الشعراء: 26/ 60. (2) سورة الحجر: 15/ 66- 83، وسورة الصافات: 37/ 137، وسورة القلم: 68/ 17. (3) سورة الرحمن: 55/ الآية مكررة. (4) سورة المرسلات: 77/ الآية مكررة.

هِيَ التِّسْعُ، وَالتَّوْكِيدُ هُنَا كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها «1» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: كَذَّبُوا، وَفِي: فَأَخَذْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ ذِكْرُهُ، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: النُّذُرُ. فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ: لَا يُغَالَبُ، مُقْتَدِرٍ: لَا يعجز شَيْءٌ. أَكُفَّارُكُمْ: خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ: الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ، وَإِلَى فِرْعَوْنَ، وَالْمَعْنَى: أَهُمْ خَيْرٌ فِي الْقُوَّةِ وَآلَاتِ الْحُرُوبِ وَالْمَكَانَةِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ أَقَلُّ كُفُؤًا وَعِنَادًا؟ فَلِأَجْلِ كَوْنِهِمْ خَيْرًا لَا يُعَاقَبُونَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَقَّفَهُمْ عَلَى تَوْبِيخِهِمْ، أَيْ لَيْسَ كُفَّارُكُمْ خَيْرًا مِنْ أُولَئِكُمْ، بَلْ هُمْ مِثْلُهُمْ أَوْ شَرٌّ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لَحِقَ أُولَئِكَ مِنَ الْهَلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ. أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ: أَيْ أَلَكُمْ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ بَرَاءَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ أَيْ وَاثِقُونَ بِجَمَاعَتِنَا، مُنْتَصِرُونَ بِقُوَّتِنَا، تَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْجَابِ بِأَنْفُسِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمْ يَقُولُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ لِلْغَائِبِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمُوسَى الْأَسْوَارِيُّ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ لِلْكُفَّارِ، اتِّبَاعًا لِمَا تَقَدَّمَ من خطابهم. وقرأوا: سَتَهْزِمُ الْجَمْعَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو حَيْوَةَ أَيْضًا وَيَعْقُوبُ: بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَضَمِّ الْعَيْنِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْعَيْنِ: أَيْ سَيَهْزِمُ اللَّهُ الْجَمْعَ. وَالْجُمْهُورُ: وَيُوَلُّونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالدُّبُرُ هُنَا: اسْمُ جِنْسٍ، وَجَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ «2» ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَحَسَّنَ اسْمَ الْجِنْسِ هُنَا كَوْنُهُ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ: أَيِ الْأَدْبَارَ، كَمَا قَالَ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تعفوا. وقرىء: الْأَدْبَارَ. انْتَهَى، وَلَيْسَ مِثْلَ بَطْنِكُمْ، لِأَنَّ مَجِيءَ الدُّبُرِ مُفْرَدًا لَيْسَ بِحَسَنٍ، وَلَا يَحْسُنُ لِإِفْرَادِ بَطْنِكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَزِيمَةِ جَمْعِ قُرَيْشٍ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَتَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَشْهِدًا بِهَا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ: انْتَقَلَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ إِلَى أَمْرِ السَّاعَةِ الَّتِي عَذَابُهَا أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ هَزِيمَةٍ وَقِتَالٍ. وَالسَّاعَةُ أَدْهى: أَيْ أَفْظَعُ وَأَشَدُّ، والداهية الأمر: المنكر

_ (1) سورة طه: 20/ 56. (2) سورة الحشر: 59/ 12.

الَّذِي لَا يُهْتَدَى لِدَفْعِهِ، وَهِيَ الرَّزِيَّةُ الْعُظْمَى تَحُلُّ بِالشَّخْصِ. وَأَمَرُّ مِنَ الْمَرَارَةِ: اسْتِعَارَةٌ لِصُعُوبَةِ الشَّيْءِ عَلَى النَّفْسِ. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ: أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَتَخَبُّطٍ فِي الدُّنْيَا. وَسُعُرٍ: أَيِ احْتِرَاقٍ فِي الْآخِرَةِ، جُعِلُوا فِيهِ مِنْ حَيْثُ مَصِيرُهُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَخُسْرَانٍ وَجُنُونٍ، وَالسُّعُرُ: الْجُنُونُ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. يَوْمَ يُسْحَبُونَ: يُجَرُّونَ فِي النَّارِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إِلَى النَّارِ. عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا: أَيْ مَقُولًا لَهُمْ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مَسَّقَرٍ، بِإِدْغَامِ السِّينِ فِي السِّينِ. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: إِدْغَامُهُ خَطَأٌ لِأَنَّهُ مُشَدَّدٌ. انْتَهَى. وَالظَّنُّ بِأَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ لَمْ يُدْغِمْ حَتَّى حَذَفَ إِحْدَى السِّينَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، ثُمَّ أَدْغَمَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: كُلَّ شَيْءٍ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هُوَ الْوَجْهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقِرَاءَتُنَا بِالنَّصْبِ مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْوَصْفُ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَصْلُحُ لِلْخَبَرِ، وَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ هُوَ الْخَبَرَ، اخْتِيرَ النَّصْبُ فِي الِاسْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَتَّضِحَ أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِوَصْفٍ، وَمِنْهُ هَذَا الْمَوْضِعُ، لِأَنَّ فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْفِعْلَ وَصْفٌ، وَأَنَّ الْخَبَرَ يُقَدَّرُ. فَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْقَدَرِيَّةُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِقُدْرَةٍ دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ، لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِلَّا مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لَوْ وَقَعَ الْأَوَّلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ كُلِّ، وَخَلَقْنَاهُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكُلِّ، أَيْ إِنْ أَمْرُنَا أَوْ شَأْنُنَا كُلُّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ فَهُوَ بِقَدَرٍ أَوْ بِمِقْدَارٍ، عَلَى حَدِّ مَا فِي هَيْئَتِهِ وَزَمَنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُلَّ شَيْءٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ. وقرىء: كُلُّ شَيْءٍ بِالرَّفْعِ، وَالْقَدَرُ والقدر هو التقدير. وقرىء: بِهِمَا، أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرًا مُحْكَمًا مُرَتَّبًا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ، أَوْ مُقَدَّرًا مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ، مَعْلُومًا قَبْلَ كَوْنِهِ قَدْ عَلِمْنَا حَالَهُ وَزَمَانَهُ. انْتَهَى. قِيلَ: وَالْقَدَرُ فِيهِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِقْدَارِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ، قَالَ تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَا هُوَ قَادِرُ أَيْ مَا هُوَ مَقْدُورٌ. وَالثَّالِثُ: الْقَدَرُ الَّذِي يُقَالُ مَعَ الْقَضَاءِ، يُقَالُ: كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَضَاءَ مَا فِي الْعِلْمِ، وَالْقَدَرَ مَا فِي الْإِرَادَةِ، فَالْمَعْنَى في الآية:

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 23.

خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ: أَيْ بِقُدْرَةٍ مَعَ إِرَادَةٍ. انْتَهَى. وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ: أَيْ إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ: كُنْ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، تَشْبِيهٌ بِأَعْجَلِ مَا يُحَسُّ، وَفِي أَشْيَاءَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْحَى مِنْ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ تَكْوِينَ شَيْءٍ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ إِرَادَتِهِ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ: أَيِ الْفِرَقَ الْمُتَشَايِعَةَ فِي مَذْهَبٍ وَدِينٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ: أَيْ فَعَلَتْهُ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ، مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَمَعْنَى فِي الزُّبُرِ: فِي دَوَاوِينِ الْحَفَظَةِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمِنْ كُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ، مُسْتَطَرٌ: أَيْ مَسْطُورٌ فِي اللَّوْحِ. يُقَالُ: سَطَّرْتُ وَاسْتَطَرْتُ بِمَعْنًى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِشَدِّ رَاءِ مُسْتَطَرٌّ. قَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طُرَّ النَّبَاتُ، وَالشَّارِبُ إِذَا ظَهَرَ وَثَبَتَ بِمَعْنَى: كُلُّ شَيْءٍ ظَاهِرٌ فِي اللَّوْحِ مُثْبَتٌ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاسْتِطَارِ، لَكِنْ شَدَّدَ الرَّاءَ لِلْوَقْفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: جَعْفَرٌّ وَنَفْعَلُّ بِالتَّشْدِيدِ وَقْفًا. انْتَهَى، وَوَزْنُهُ عَلَى التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ اسْتَفْعَلَ، وَعَلَى الثَّانِي افْتَعَلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنَهَرٍ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْهَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْأَعْرَجُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو السَّمَالِ وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزَوَانَ: بِسُكُونِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَنْهَارُ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَى وَنَهَرٍ: وَسَعَةً فِي الْأَرْزَاقِ وَالْمَنَازِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الحطيم: مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا أَيْ: أَوْسَعْتُ فَتْقَهَا. وَقَرَأَ زُهَيْرٌ الْعُرْقُبِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالْيَمَانِيُّ: بِضَمِّ النُّونِ وَالْهَاءِ، جَمْعَ نُهُرٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، أَوْ نُهْرٍ كَأَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِجَمْعِ جَنَّاتٍ. وَقِيلَ: نُهُرٌ جَمْعُ نَهَارٍ، وَلَا لَيْلَ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضِدَّ الْكَذِبِ، أَيْ فِي الْمَقْعَدِ الَّذِي صَدَقُوا فِي الْخَبَرِ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِكَ: رَجُلُ صِدْقٍ: أَيْ خَيْرٍ وَجُودٍ وَصَلَاحٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي مَقْعَدِ، عَلَى الْإِفْرَادِ، يُرَادُ بِهِ اسْمُ الْجِنْسِ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: فِي مَقَاعِدِ على الجمع وعند تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الْمَكَانَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة الرحمن

سورة الرّحمن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 78] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)

النَّجْمُ: النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ، مِنْ نَجَمَ: أَيْ ظَهَرَ وَطَلَعَ. الْأَنَامُ: الْحَيَوَانُ.

الْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ. الرَّيْحَانُ: كُلُّ مَشْمُومٍ طَيِّبِ الرِّيحِ مِنَ النَّبَاتِ. الْمَرْجَانُ: الْخَرَزُ الْأَحْمَرُ، وَقِيلَ: صِغَارُ الدُّرِّ، وَاللُّؤْلُؤُ كِبَارُهُ، وَاللُّؤْلُؤُ بِنَاءٌ غَرِيبٌ. قِيلَ: لَا يُحْفَظُ مِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةٍ اللُّؤْلُؤُ، وَالْجُؤْجُؤُ، وَالدُّؤْدُؤُ، وَالْيُؤْيُؤُ طَائِرٌ، وَالْبُؤْبُؤُ. وَالنُّفُوذُ: الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. الشُّوَاظُ: اللَّهَبُ الْخَالِصُ بِغَيْرِ دُخَانٍ. وَقَالَ حَسَّانُ: هَجَوْتُكَ فَاخْتَضَعْتُ لَهَا بِذُلٍّ ... بِقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِ وَقَالَ رُؤْبَةُ: وَنَارُ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّوَاظَا وَتُضَمُّ شِينُهُ وَتُكْسَرُ. النُّحَاسُ، قَالَ الْخَلِيلُ: وَالنُّحَاسُ هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي لَا لَهَبَ لَهُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ: تُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: النُّحَاسُ هُوَ النَّارُ الَّذِي لَهُ رِيحٌ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: الصُّفْرُ الْمُذَابُ، وَتُضَمُّ نُونُهُ وَتُكْسَرُ. الْوَرْدَةُ: الشَّدِيدَةُ الْحُمْرَةِ، يُقَالُ: فَرْدٌ وَرْدٌ، وَحُجْرَةٌ وَرْدَةٌ. الدِّهَانُ: الْجِلْدُ الْأَحْمَرُ. أَنْشَدَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعْدِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: تَبِعْنَ الدِّهَانَ الْحُمْرَ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... بِمَوْسِمِ بَدْرٍ أَوْ بِسُوقِ عُكَاظِ النَّاصِيَةُ: مُقَدَّمُ الرَّأْسِ. آنٍ: نِهَايَةٌ فِي الْحَرِّ. الْأَفْنَانُ، جَمْعُ فَنَنٍ: وَهُوَ الْغُصْنُ، أَوْ جَمْعُ فَنٍّ: وَهُوَ النَّوْعُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَمِنْ كُلِّ أَفْنَانِ اللَّذَاذَةِ وَالصِّبَى ... لَهَوْتُ بِهِ وَالْعَيْشُ أَخْضَرُ نَاضِرُ وَقَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ: بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هذيلا ... مُفْجَعَةٍ عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي الْجَنْيُ: مَا يُقْطَفُ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْقَبْضِ بِمَعْنَى مَقْبُوضٍ. قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ: قَصَرَتْ أَلْحَاظُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. قَالَ الشَّاعِرُ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا الطَّمْثُ: دَمُ الْحَيْضِ وَدَمُ الِافْتِضَاضِ. الْيَاقُوتُ: حَجَرٌ مَعْرُوفٌ، وَقِيلَ: لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّارُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَطَالَمَا أُصْلِيَ الْيَاقُوتُ جَمْرَ غَضَى ... ثُمَّ انْطَفَى الْجَمْرُ وَالْيَاقُوتُ يَاقُوتُ

الِادْهِمَامُ: السَّوَادُ. النَّضْحُ: فَوَرَانُ الْمَاءِ. الْمَقْصُورَةُ: الْمَحْبُوسَةُ، وَيُقَالُ: قَصِيرَةٌ وَقَصُورَةٌ: أَيْ مُخَدَّرَةٌ. وَقَالَ كُثَيِّرٌ: وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ كُلَّ قَصِيرَةٍ ... إِلَيَّ وَلَمْ تَشْعُرْ بِذَاكَ الْقَصَائِرُ عَنَيْتُ قَصِيرَاتِ الْحِجَالِ وَلَمْ أُرِدْ ... قِصَارَ الْخُطَا شَرُّ النِّسَاءِ الْبَحَاتِرُ الْخَيْمَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ بَيْتُ الْمُرْتَحِلِ مِنْ خَشَبٍ وَتَمَامٍ وَسَائِرِ الْحَشِيشِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ شَعَرٍ فَهُوَ بَيْتٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ خَيْمَةٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى خِيَامٍ وَخِيَمٍ. قَالَ جَرِيرٌ: مَتَى كَانَ الْخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ ... سُقِيتِ الْغَيْثَ أَيَّتُهَا الْخِيَامُ الرَّفْرَفُ: مَا يُدَلَّى مِنَ الْأَسِرَّةِ مِنْ غَالِي الثِّيَابِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ثِيَابٌ خُضْرٌ تُتَّخَذُ مِنْهَا الْمَجَالِسُ، الْوَاحِدَةُ رَفْرَفَةٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ رفرف إِذَا ارْتَفَعَ، وَمِنْهُ رَفْرَفَةُ الطَّائِرِ لِتَحْرِيكِ جَنَاحَيْهِ وَارْتِفَاعِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَسُمِّيَ الطَّائِرُ رَفْرَافًا، وَرَفْرَفَ جَنَاحَيْهِ: حَرَّكَهُمَا لِيَقَعَ عَلَى الشَّيْءِ، وَرَفْرَفُ السَّحَابِ: هُدْبُهُ. الْعَبْقَرِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى عَبْقَرٍ، تَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُ بَلَدُ الْجِنِّ، فَيَنْسُبُونَ إِلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ عَجِيبٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: كَأَنَّ صَلِيلَ المرء حين يسده ... صَلِيلُ زُيُوفٍ يُنْتَقَدْنَ بِعَبْقَرَا وقال ذو الرمة: حي كأن رياض العف أَلْبَسَهَا ... مِنْ وَشْيِ عَبْقَرٍ تحليل وَتَنْجِيدٌ وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعَبْقَرِيُّ: كُلُّ جَلِيلٍ نَفِيسٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَغَيْرِهِمْ. الْجَلَالُ: الْعَظَمَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ: خَبَرُ مَا قَدْ جَاءَنَا مُسْتَعْمَلٌ ... جَلَّ حَتَّى دَقَّ فِيهِ الْأَجَلُّ الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ، وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ، وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ، فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ

لَا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَوْلَانِ، وَعَنْهُ: سِوَى آيَةٍ هِيَ مدنية، وهي: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا قَالَ مُقَاتِلٌ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «1» الْآيَةَ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَنَزَلَتْ: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالُوا إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «2» ، أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ، إِذْ أَبَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الصُّلْحِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَقَرَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ آيَاتِ الْمُلْكِ وَآثَارِ الْقُدْرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَقَرَّ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْإِسْهَابِ، إِذْ كَانَ فِي آخِرِ السُّورَةِ ذِكْرُهُ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ. وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3» ، فَأَبْرَزَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِصُورَةِ التَّنْكِيرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنِ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَذَكَرَ مَا نَشَأَ عَنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّحْمنُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وعَلَّمَ الْقُرْآنَ خَبَرُهُ. وَقِيلَ: الرَّحْمنُ آيَةٌ بِمُضْمَرٍ، أَيِ اللَّهُ الرَّحْمَنُ، أَوِ الرَّحْمَنُ ربنا، وذلك آية وعَلَّمَ الْقُرْآنَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَلَمَّا عَدَّدَ نِعَمَهُ تَعَالَى، بَدَأَ مِنْ نِعَمِهِ بِمَا هُوَ أَعْلَى رُتَبِهَا، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ عِمَادُ الدِّينِ وَنَجَاةُ مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُعَلَّمَ، ذَكَرَهُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْلِيمِ. وَلَمَّا كَانَ خَلْقُهُ مِنْ أَجْلِ الدِّينِ وَتَعْلِيمِهِ الْقُرْآنَ، كَانَ كَالسَّبَبِ فِي خَلْقِهِ تَقَدَّمَ عَلَى خَلْقِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْوَصْفَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَنْطِقِ الْمُفْصِحِ عَنِ الضَّمِيرِ، وَالَّذِي بِهِ يُمْكِنُ قَبُولُ التَّعْلِيمِ، وَهُوَ الْبَيَانُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخْرَسَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّمَ شَيْئًا مِمَّا يُدْرَكُ بِالنُّطْقِ؟ وَعَلَّمَ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى اثْنَيْنِ، حُذِفَ أَوَّلُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، أَوْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوِ الْإِنْسَانُ، أَقْوَالٌ. وتوهم

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 60. (2) سورة النحل: 16/ 103. [.....] (3) سورة القمر: 54/ 55.

أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ تَرَكَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ النِّعْمَةَ فِي التَّعْلِيمِ، لَا فِي تَعْلِيمِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ، إِشَارَةً إِلَى كَرَمِهِ، وَلَا يُبَيَّنُ مَنْ يُطْعِمُهُ. انْتَهَى. وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي كَانَ فَاعِلًا قَبْلَ النَّقْلِ بِالتَّضْعِيفِ أَوِ الْهَمْزَةِ فِي عَلَّمَ وَأَطْعَمَ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى عَلَّمَ الْقُرْآنَ: جَعَلَهُ عَلَامَةً وَآيَةً يُعْتَبَرُ بِهَا، وَهَذِهِ جُمَلٌ مُتَرَادِفَةٌ، أَخْبَارٌ كُلُّهَا عَنِ الرَّحْمَنِ، جُعِلَتْ مُسْتَقِلَّةً لَمْ تُعْطَفْ، إِذْ هِيَ تَعْدَادٌ لِنِعَمِهِ تَعَالَى. كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، خَوَّلَكَ: أَشَارَ بِذِكْرِكَ، وَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ الْإِنْسَانُ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ: الْبَيانَ: الْمَنْطِقُ، وَالْفَهْمُ: الْإِبَانَةُ، وَهُوَ الَّذِي فُضِّلَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ بَيَانُ الْحَلَالِ وَالشَّرَائِعِ، وَهَذَا جُزْءٌ مِنَ الْبَيَانِ الْعَامِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْهُدَى. وَقَالَ يَمَانٌ: الْكِتَابَةُ. وَمَنْ قَالَ: الْإِنْسَانُ آدَمُ، فَالْبَيَانُ أَسْمَاءُ كُلِّ شَيْءٍ، أَوِ التَّكَلُّمُ بِلُغَاتٍ كَثِيرَةٍ أَفْضَلُهَا الْعَرَبِيَّةُ، أَوِ الْكَلَامُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ، أَوْ عِلْمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوِ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الَّذِي عَلِمَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ، أَقْوَالٌ، آخِرُهَا مَنْسُوبٌ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ تَعْلِيمِهِ الْبَيَانَ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ وُجُودِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ لِلْإِنْسَانِ، إِذْ هُمَا يَجْرِيَانِ عَلَى حِسَابٍ مَعْلُومٍ وَتَقْدِيرٍ سَوِيٍّ فِي بُرُوجِهِمَا وَمَنَازِلِهِمَا. وَالْحُسْبَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْحِسَابِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ حِسَابٍ، كَشِهَابٍ وَشُهْبَانٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: لَهُمَا فِي طُلُوعِهِمَا وَغُرُوبِهِمَا وَقَطْعِهِمَا الْبُرُوجَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ حُسْبَانَاتٌ شَتَّى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَوْلَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ كَيْفَ يَحْسِبُ شَيْئًا يُرِيدُ مِنْ مَقَادِيرِ الزَّمَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْبَانُ: الْفَلَكُ الْمُسْتَدِيرُ، شَبَّهَهُ بِحُسْبَانِ الرَّحَى، وَهُوَ الْعُودُ الْمُسْتَدِيرُ الَّذِي بِاسْتِدَارَتِهِ تَسْتَدِيرُ الْمِطْحَنَةُ. وَارْتَفَعَ الشَّمْسُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ بِحُسْبَانٍ، فَأَمَّا عَلَى حَذْفِ، أَيْ جَرْيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَائِنٌ بِحُسْبَانٍ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَجْرِيَانِ بِحُسْبَانٍ، وَبِحُسْبَانٍ متعلق بيجريان، وَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: تَكُونُ الْبَاءُ فِي بِحُسْبَانٍ ظَرْفِيَّةً، لِأَنَّ الْحُسْبَانَ عِنْدَهُ الْفَلَكُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعُلْوِيَّةِ، ذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنَ الْآثَارِ السُّفْلِيَّةِ النَّجْمَ وَالشَّجَرَ، إِذْ كَانَا رِزْقًا لِلْإِنْسَانِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا

جَارِيَانِ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمَا، مِنْ تَسْخِيرِهِمَا وَكَيْنُونَتِهِمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا بِهِ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ مِنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، ذَكَرَ مَا بِهِ حَيَاةُ الْأَشْبَاحِ مِنَ النَّبَاتِ الَّذِي لَهُ سَاقٌ، وَكَانَ تَقْدِيمُ النَّجْمِ، وهو مالا سَاقَ لَهُ، لِأَنَّهُ أَصْلُ الْقُوتِ، وَالَّذِي لَهُ سَاقٌ ثَمَرُهُ يُتَفَكَّهُ بِهِ غَالِبًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّجْمَ هُوَ الَّذِي شَرَحْنَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اقْتِرَانُهُ بِالشَّجَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: النَّجْمُ: اسْمُ الْجِنْسِ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ. وَسُجُودُهُمَا، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: ذَلِكَ فِي النَّجْمِ بِالْغُرُوبِ وَنَحْوِهِ، وَفِي الشَّجَرِ بِالظِّلِّ وَاسْتِدَارَتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: وَالسُّجُودُ تَجَوُّزٌ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ. وَالْجُمَلُ الْأُوَلُ فِيهَا ضَمِيرٌ يَرْبُطُهَا بِالْمُبْتَدَأِ، وَأَمَّا فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فَاكْتَفَى بِالْوَصْلِ الْمَعْنَوِيِّ عَنِ الْوَصْلِ اللَّفْظِيِّ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحُسْبَانَ هُوَ حُسْبَانُهُ، وَأَنَّ السُّجُودَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بِحُسْبَانِهِ وَيَسْجُدَانِ لَهُ. وَلَمَّا أُورِدَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ مَوْرِدَ تَعْدِيدِ النِّعَمِ، رُدَّ الْكَلَامُ إِلَى الْعَطْفِ فِي وَصْلِ مَا يُنَاسِبُ وَصْلَهُ، وَالتَّنَاسُبُ الَّذِي بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عُلْوِيَّانِ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ سُفْلِيَّانِ. وَالسَّماءَ رَفَعَها: أَيْ خَلَقَهَا مَرْفُوعَةً، حَيْثُ جَعَلَهَا مَصْدَرَ قَضَايَاهُ وَمَسْكَنَ مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ وَمِلْكِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالسَّماءَ، بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، رُوعِيَ مُشَاكَلَةُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ وَهِيَ يَسْجُدانِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: وَالسَّمَاءُ بِالرَّفْعِ، رَاعَى مُشَاكَلَةَ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَوَضَعَ الْمِيزانَ، فِعْلًا مَاضِيًا نَاصِبًا الْمِيزَانَ، أَيْ أَقَرَّهُ وَأَثْبَتَهُ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ: وَوَضْعِ الْمِيزَانِ، بِالْخَفْضِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُلُّ مَا يُوزَنُ بِهِ الْأَشْيَاءُ وَتُعْرَفُ مَقَادِيرُهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْآلَاتُ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، جَعَلَهُ تَعَالَى حَاكِمًا بِالسَّوِيَّةِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ: الْمِيزَانُ: الْعَدْلُ، وَتَكُونُ الْآلَاتُ مِنْ بَعْضِ مَا يَنْدَرِجُ فِي الْعَدْلِ. بَدَأَ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ، فَذَكَرَ مَا فِيهِ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَهُوَ الْقُرْآنُ ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِهِ التَّعْدِيلُ فِي الْأُمُورِ، وَهُوَ الْمِيزَانُ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ «1» ، لِيُعَلِّمُوا الْكِتَابَ وَيَفْعَلُوا مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الكتاب. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ: أَيْ لِأَنْ لَا تَطْغَوْا، فَتَطْغَوْا مَنْصُوبٌ بِأَنْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ هِيَ أَنِ الْمُفَسِّرَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً، فَيَكُونُ تَطْغَوْا جَزْمًا بِالنَّهْيِ. انْتَهَى، وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَاهُ مِنْ أَنَّ أَنْ مُفَسِّرَةٌ، لِأَنَّهُ فَاتَ أَحَدُ شَرْطَيْهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا جُمْلَةً فيها معنى القول.

_ (1) سورة الحديد: 57/ 25.

وَوَضَعَ الْمِيزانَ جُمْلَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ. وَالطُّغْيَانُ فِي الْمِيزَانِ هُوَ أَنْ يكون بالتعمد، وأما مالا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيرِ بِالْمِيزَانِ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَتِ التَّسْوِيَةُ مَطْلُوبَةً جِدًّا، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُخْسِرُوا، مِنْ أَخْسَرَ: أَيْ أَفْسَدَ وَنَقَصَ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «1» أَيْ يَنْقُصُونَ. وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَخْسَرُ بِفَتْحِ التَّاءِ، يُقَالُ: خَسِرَ يَخْسَرُ، وَأَخْسَرَ يُخْسِرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَجَبَرَ وَأَجْبَرَ. وَحَكَى ابْنُ جِنِّي وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ، عَنْ بِلَالٍ: فَتْحَ التَّاءِ وَالسِّينِ مُضَارِعُ خَسِرَ بِكَسْرِ السِّينِ، وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فِي الْمِيزَانِ، فَحَذَفَ الْجَارَّ وَنَصَبَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّخْرِيجِ. أَلَا تَرَى أَنَّ خَسِرَ جَاءَ مُتَعَدِّيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ «2» ، وخَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ «3» ؟ وقرىء أَيْضًا: تَخْسُرُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ السِّينِ. لِمَا مُنِعَ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ الطُّغْيَانُ، نَهَى عَنِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ نُقْصَانٌ، وَكَرَّرَ لَفْظَ الْمِيزَانِ، تَشْدِيدًا لِلتَّوْصِيَةِ بِهِ وَتَقْوِيَةً لِلْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ السَّمَاءَ، ذَكَرَ مُقَابِلَتَهَا فَقَالَ: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ: أَيْ خَفَضَهَا مَدْحُوَّةً عَلَى الْمَاءِ لِيُنْتَفَعَ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِالرَّفْعِ. وَالْأَنَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَنُو آدَمَ فَقَطْ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ: الْحَيَوَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الثَّقَلَانِ، الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. فِيها فاكِهَةٌ: ضُرُوبٌ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهِ. وَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: فاكِهَةٌ، إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الِابْتِدَاءِ بِالْأَدْنَى وَالتَّرَقِّي إِلَى الْأَعْلَى، وَنَكَّرَ لَفْظَهَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا دُونَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا. ثُمَّ ثَنَّى بِالنَّخْلِ، فَذَكَرَ الْأَصْلَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَرَتَهَا، وَهُوَ الثَّمَرُ لِكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ لِيفٍ وَسَعَفٍ وَجَرِيدٍ وَجُذُوعٍ وَجُمَّارٍ وَثَمَرٍ. ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْحَبِّ الَّذِي هُوَ قِوَامُ عَيْشِ الْإِنْسَانِ فِي أَكْثَرِ الْأَقَالِيمِ، وَهُوَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَكُلُّ مَا لَهُ سُنْبُلٌ وَأَوْرَاقٌ مُتَشَعِّبَةٌ عَلَى سَاقِهِ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ذُو الْعَصْفِ تَنْبِيهًا عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقُوتُهُمْ مِنَ الْحَبِّ، وَيَقُوتُ بَهَائِمَهُمْ مِنْ وَرَقِهِ الَّذِي هُوَ التِّبْنُ. وَبَدَأَ بِالْفَاكِهَةِ وَخَتَمَ بِالْمَشْمُومِ، وَبَيْنَهُمَا النَّخْلُ وَالْحَبُّ، لِيَحْصُلَ مَا بِهِ يُتَفَكَّهُ، وَمَا بِهِ يُتَقَوَّتُ، وَمَا بِهِ تَقَعُ اللَّذَاذَةُ مِنَ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ. وَذَكَرَ النَّخْلَ بِاسْمِهَا، وَالْفَاكِهَةَ دُونَ شَجَرِهَا، لِعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ بالنخل من

_ (1) سورة المطففين: 83/ 3. (2) سورة الأعراف: 7/ 9- 53، وسورة هود: 11/ 21، وسورة المؤمنون: 23/ 103، وسورة الزمر: 39/ 15. (3) سورة الحج: 22/ 11.

جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَشَجَرَةُ الْفَاكِهَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهَا حَقِيرَةٌ، فَنَصَّ عَلَى مَا يَعْظُمُ بِهِ الِانْتِفَاعُ مِنْ شَجَرَةِ النَّخْلِ وَمِنَ الْفَاكِهَةِ دُونَ شَجَرَتِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ، بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَطْفًا عَلَى الْمَرْفُوعِ قَبْلَهُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عبلة: بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ وَخَلَقَ الْحَبَّ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَالرَّيْحانُ حَالَةَ الرَّفْعِ وَحَالَةَ النَّصْبِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَذُو الرَّيْحَانِ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَصْمَعِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالرَّيْحَانُ بِالْجَرِّ، وَالْمَعْنَى: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَفُ الْبَهَائِمِ، وَالرَّيْحَانُ الَّذِي هُوَ مَطْعَمُ النَّاسِ، وَيَبْعُدُ دُخُولُ الْمَشْمُومِ فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ، وَرَيْحَانُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ اسْمًا، وَوُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ فَعْلَانَ كَاللَّبَّانِ. وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، كَمَا أَبْدَلُوا الْيَاءَ وَاوًا فِي أَشَاوَى، أَوْ مَصْدَرًا شَاذًّا فِي الْمُعْتَلِّ، كَمَا شَذَّ كَبَنُونَةٍ وَبَيْنُونَةٍ، فَأَصْلُهُ رَيْوِحَانُ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ فَصَارَ رَيِّحَانَ، ثُمَّ حُذِفَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَالُوا: مَيْتٌ وَهَيْنٌ. وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ، خَاطَبَ الثَّقَلَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، أَيْ أَنَّ نِعَمَهُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، فَبِأَيِّهَا تُكَذِّبَانِ؟ أَيْ مَنْ هَذِهِ نِعَمُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكَذَّبَ بِهَا. وَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلثَّقَلَيْنِ، لِأَنَّهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْأَنَامِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ. وَلِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ، وخَلَقَ الْجَانَّ وَلِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَهُ خِطَابًا لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خِطَابٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «1» ، وَيَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ، يَعْنِي أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ بِصُورَةِ الِاثْنَيْنِ، فَبِأَيِّ مُنَوَّنًا فِي جَمِيعِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَأُبْدِلَ مِنْهُ آلاءِ رَبِّكُما بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ، وَآلَاءُ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهَا النِّعَمُ، وَاحِدُهَا إِلْيٌ وَأَلًا وَإِلًى وَأَلْيٌ. خَلَقَ الْإِنْسانَ: لَمَّا ذَكَرَ الْعَالَمَ الْأَكْبَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَوْجَدَ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ، ذَكَرَ مَبْدَأَ مَنْ خُلِقَتْ لَهُ هَذِهِ النِّعَمُ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ آدَمُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: لِلْجِنْسِ، وَسَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَبَاهُمْ مَخْلُوقٌ مِنَ الصَّلْصَالِ. وَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ، فَقَدْ جَاءَتْ غَايَاتٌ لَهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَذَلِكَ بِتَنَقُّلِ أَصْلِهِ فَكَانَ أَوَّلًا تُرَابًا، ثُمَّ طِينًا، ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ صَلْصَالًا، فَنَاسَبَ أَنْ يُنْسَبَ خَلْقُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالْجَانُّ هُوَ أَبُو الْجِنِّ، وَهُوَ إِبْلِيسُ، قَالَهُ

_ (1) سورة ق: 50/ 24.

الْحَسَنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَبُو الْجِنِّ، وَلَيْسَ بِإِبْلِيسَ. وَقِيلَ: الْجَانُّ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمَارِجُ: مَا اخْتَلَطَ مِنْ أَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وَأَخْضَرَ، أَوِ اللَّهَبُ، أَوِ الْخَالِصُ، أَوِ الْحُمْرَةُ فِي طَرَفِ النَّارِ، أَوِ الْمُخْتَلِطُ بِسَوَادٍ، أَوِ الْمُضْطَرِبُ بِلَا دُخَانٍ، أَقْوَالٌ، وَمِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّانِيَةَ فِي مِنْ نارٍ لِلتَّبْعِيضِ. وَقِيلَ لِلْبَيَانِ وَالتَّكْرَارُ فِي هَذِهِ الْفَوَاصِلِ: لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّنْبِيهِ وَالتَّحْرِيكِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّكْرَارَ إِنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِ النِّعَمِ، فَكَرَّرَ التَّوْقِيفَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَقَرَأَ الجمهور: رَبُّ، ورَبُّ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ رَبٌّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ رَبِّكُمَا، وَثَنَّى الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مَشْرِقَا الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَمَغْرِبَاهُمَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مَشْرِقَا الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَاهُمَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِلشَّمْسِ مَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ مُصْعِدٌ، وَمَشْرِقٌ فِي الشِّتَاءِ مُنْحَدِرٌ، تَنْتَقِلُ فِيهِمَا مُصْعِدَةً وَمُنْحَدِرَةً. انْتَهَى. فَالْمَشْرِقَانِ وَالْمَغْرِبَانِ لِلشَّمْسِ. وَقِيلَ: الْمَشْرِقَانِ: مَطْلَعُ الْفَجْرِ وَمَطْلَعُ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبَانِ مَغْرِبُ الشَّفَقِ وَمَغْرِبُ الشَّمْسِ. وَلِسَهْلٍ التُّسْتَرِيِّ كَلَامٌ فِي الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُحَرِّفِينَ مَدْلُولَ كَلَامِ اللَّهِ، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا. وَكَذَلِكَ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ لِلصُّوفِيَّةِ، لِأَنَّا لَا نَسْتَحِلُّ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَدْ أَوْلَغَ صَاحِبُ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ بِحَسْبِ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْغُلَاةُ فِي كُلِّ آيَةٍ آيَةٍ، وَيُسَمِّي ذَلِكَ الْحَقَائِقَ، وَأَرْبَابُ الْقُلُوبِ وَمَا ادَّعَوْا فَهْمَهُ فِي القرآن فأغلوا فِيهِ، لَمْ يَفْهَمْهُ عَرَبِيٌّ قَطُّ، وَلَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْفُرْقَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذِكْرُ الثَّعْلَبِيُّ فِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَلْغَازًا وَأَقْوَالًا بَاطِنَةً لَا يُلْتَفَتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا. انْتَهَى، والظاهر التقاؤهما، أي يتجاوزان، فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْمَاءَيْنِ فِي رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقِيلَ: يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً. وَقِيلَ: مُعَدَّانِ لِلِالْتِقَاءِ، فَحَقُّهُمَا أَنْ يَلْتَقِيَا لَوْلَا الْبَرْزَخُ بَيْنَهُمَا. بَرْزَخٌ: أَيْ حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَبْغِيانِ: لَا يَتَجَاوَزَانِ حَدَّهُمَا، وَلَا يَبْغِي أحدهما على الآخر بالممارجة. وَقِيلَ: الْبَرْزَخُ: أَجْرَامُ الْأَرْضِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَقِيلَ: لَا يَبْغِيَانِ: أَيْ عَلَى النَّاسِ وَالْعُمْرَانِ، وَعَلَى هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ مِنَ الْبَغْيِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَغَى، أَيْ طَلَبَ، فَالْمَعْنَى: لَا يَبْغِيَانِ حَالًا غَيْرَ الْحَالِ الَّتِي خُلِقَا عَلَيْهَا وَسُخِّرَا لَهَا. وَقِيلَ: مَاءُ الْأَنْهَارِ لَا يَخْتَلِطُ بِالْمَاءِ الْمِلْحِ، بَلْ هُوَ بِذَاتِهِ بَاقٍ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْعِيَانُ لَا يَقْتَضِيهِ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمَاءَ الْعَذْبَ يَخْتَلِطُ بِالْمِلْحِ فَيَبْقَى كُلُّهُ مِلْحًا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ بِالِاخْتِلَاطِ تَتَغَيَّرُ أَجْرَامُ الْعَذْبِ حَتَّى

لَا تَظْهَرَ، فَإِذَا ذَاقَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمِلْحِ الْمُنْبَثِّ فِيهِ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الدَّقِيقَةُ لَمْ يُحِسَّ إِلَّا الْمُلُوحَةَ، وَالْمَعْقُولُ يَشْهَدُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ تَدَاخُلَ الْأَجْسَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَكِنَّ التَّفَرُّقَ وَالِالْتِقَاءَ مُمْكِنٌ. وَأَنْشَدَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَمْزُوجَةُ الْأَمْوَاهِ لَا الْعَذْبُ غَالِبٌ ... عَلَى الْمِلْحِ طِيبًا لَا وَلَا الْمِلْحُ يَعْذُبُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخْرُجُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْجُعْفِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ يُخْرِجُ اللَّهُ وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَعَنِ ابْنِ مِقْسَمٍ: بِالنُّونِ. وَاللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ نُصِبَ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ فِي مِنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ، حَكَاهُ الْأَخْفَشُ. وَرَدَّ النَّاسُ هَذَا الْقَوْلَ، قَالُوا: وَالْحِسُّ يُخَالِفُهُ، إِذْ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْمِلْحِ، وَعَابُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَجَاءَ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ لَطِيمَةٍ ... عَلَى وَجْهِهَا مَاءُ الْفُرَاتِ يَمُوجُ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْأُجَاجِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْأَنْهَارُ وَالْمِيَاهُ الْعَذْبَةُ، فَنَاسَبَ إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا، وَهَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَ الْغَوَّاصِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: تَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْبَحْرِ بِنُزُولِ الْمَطَرِ، لِأَنَّ الصَّدَفَ وَغَيْرَهَا تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا لِلْمَطَرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ، لَكِنَّهُ قَالَ مِنْهُمَا تَجَوُّزًا. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْعَذْبُ فِيهَا كَاللِّقَاحِ لِلْمِلْحِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ الْوَلَدُ يَخْرُجُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَتَبِعَ الزَّجَّاجَ مِنْ حَيْثُ هُمَا نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَخُرُوجُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَصُّ عِنْدَ التَّفْصِيلِ الْمَبَالَغِ بِأَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «1» ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي إِحْدَاهُنَّ، وَهِيَ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنَ الْمِلْحِ؟ قُلْتُ: لَمَّا الْتَقَيَا وَصَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: يَخْرُجَانِ مِنْهُمَا، كَمَا يُقَالُ: يَخْرُجَانِ مِنَ الْبَحْرِ، وَلَا يَخْرُجَانِ مِنْ جَمِيعِ الْبَحْرِ، وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِهِ. وَتَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ، وَإِنَّمَا خَرَجْتَ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ مَحَالِّهِ، بَلْ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ مِنْ دُورِهِ. وَقِيلَ: لَا يَخْرُجَانِ إِلَّا مِنْ مُلْتَقَى الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَخْرُجُ مِنْ أحدهما، كقوله تعالى:

_ (1) سورة نوح: 71/ 15- 16.

عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» : أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ. وَقِيلَ: هُمَا بَحْرَانِ، يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا اللُّؤْلُؤُ وَمِنَ الْآخَرِ الْمَرْجَانُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ، وَمَنْ أَعْلَمَ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَهَبْ أَنَّ الْغَوَّاصِينَ مَا أَخْرَجُوهُ إِلَّا مِنَ الْمَالِحِ. وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الصَّدَفَ لَا يَخْرُجُ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ إِلَى الْمَاءِ الْمِلْحِ؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِهِ وَالْأُمُورُ الْأَرْضِيَّةُ الظَّاهِرَةُ خَفِيَتْ عَنِ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَطَعُوا الْمَفَاوِزَ وَدَارُوا الْبِلَادَ، فَكَيْفَ لَا يَخْفَى أَمْرٌ مَا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ؟ وَاللُّؤْلُؤُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: كِبَارُ الْجَوْهَرِ وَالْمَرْجَانُ صِغَارُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَلِيٍّ وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَكْسَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مَالِكٍ: الْمَرْجَانُ: الْحَجَرُ الْأَحْمَرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَجَرٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّهُ ضَرْبٌ من اللؤلؤ، كالقبضان، وَالْمَرْجَانُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ نَقْلَ مُتَصَرِّفٍ، وَقَالَ الْأَعْشَى: مِنْ كُلِّ مَرْجَانَةٍ فِي الْبَحْرِ أَحْرَزَهَا ... تَيَّارُهَا وَوَقَاهَا طِينَهَا الصَّدَفُ قِيلَ: أَرَادَ اللُّؤْلُؤَةَ الْكَبِيرَةَ. وقرأ طلحة: اللؤلؤة بِكَسْرِ اللَّامِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ لغة. وعبد اللولي: تُقْلَبُ الْهَمْزَةُ الْمُتَطَرِّفَةُ يَاءً سَاكِنَةً بَعْدَ كَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ لُغَةٌ، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. وَلَهُ الْجَوارِ: خَصَّ تَعَالَى الْجَوَارِيَ بِأَنَّهَا لَهُ، وَهُوَ تَعَالَى لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا هُمْ مُنْشِئِيهَا، أَسْنَدَهَا تَعَالَى إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ تَمَامُ مَنْفَعَتِهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْهُ تَعَالَى، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَالِكُهَا. وَالْجَوَارِي: السُّفُنُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِضَمِّ الرَّاءِ، كَمَا قَالُوا فِي شَاكٍ شَاكٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْمُنْشَآتُ بِفَتْحِ الشِّينِ، اسْمَ مَفْعُولٍ: أَيْ أَنْشَأَهَا اللَّهُ، أَوِ النَّاسُ، أَوِ الْمَرْفُوعَاتُ الشِّرَاعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا لَهُ شِرَاعٌ مِنَ الْمُنْشَآتِ، وَمَا لَمْ يُرْفَعْ لَهُ شِرَاعٌ، فَلَيْسَ مِنَ الْمُنْشَآتِ. وَالشِّرَاعُ: الْقَلْعُ. وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَلْحَةُ وَأَبُو بَكْرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِكَسْرِ الشِّينِ: أَيِ الرَّافِعَاتُ الشِّرَاعِ، أَوِ اللَّاتِي يُنْشِئْنَ الْأَمْوَاجَ بِجَرْيِهِنَّ، أَوِ الَّتِي تُنْشِئُ السَّفَرَ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا. وَشَدَّدَ الشِّينَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْحَسَنُ الْمُنَشَّأَةُ، وَحَدَّ الصِّفَةَ، وَدَلَّ عَلَى الْجَمْعِ الْمَوْصُوفِ، كَقَوْلِهِ: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «2» ، وَقَلَبَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا عَلَى حَدِّ قوله: إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدِيَ فِي مرابضها

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 31. (2) سورة البقرة: 2/ 25، وسورة النساء: 4/ 57.

يُرِيدُ: لَتَهْدَأُ، التَّاءُ لِتَأْنِيثِ الصِّفَةِ، كُتِبَتْ تَاءً عَلَى لَفْظِهَا فِي الْوَصْلِ. كَالْأَعْلامِ: أَيْ كَالْجِبَالِ وَالْآكَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كِبَرِ السُّفُنِ حَيْثُ شَبَّهَهَا بِالْجِبَالِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُنْشَآتُ تَنْطَلِقُ عَلَى السَّفِينَةِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ. وَعَبَّرَ بِمَنْ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها تَغْلِيبًا لِمَنْ يَعْقِلُ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْها قَلِيلٌ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ لَفْظِهَا. وَالْفَنَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْدَامِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ، وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عن حقيقة الشيء، والجارجة مُنْتَفِيَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَحْوَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. وَتَقُولُ صَعَالِيكُ مَكَّةَ: أَيْنَ وَجْهُ عَرَبِيٍّ كَرِيمٍ يَجُودُ عَلَيَّ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو بِالْوَاوِ، وَصِفَةً لِلْوَجْهِ وَأُبَيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ: ذِي بِالْيَاءِ، صِفَةً لِلرَّبِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَجْهُ رَبِّكَ لِلرَّسُولِ، وَفِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَمَعْنَى ذُو الْجَلالِ: الَّذِي يُجِلُّهُ الْمُوَحِّدُونَ عَنِ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِهِ وَعَنْ أَفْعَالِهِمْ، أَوِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْ جَلَالِهِ، أَوِ الَّذِي عِنْدَهُ الْجَلَالُ وَالْإِكْرَامُ لِلْمُخْلِصِينَ مِنْ عِبَادِهِ. يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَيْ حَوَائِجَهُمْ، وَهُوَ مَا يتعلق بمن في السموات مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَمَا اسْتُعْبِدُوا بِهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: من في السموات: الرَّحْمَةَ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ: الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَلَائِكَةُ الرِّزْقَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَالْمَغْفِرَةَ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُمَا جَمِيعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَسْأَلُهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْوَجْهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يَبْقَى، أَيْ هُوَ دَائِمٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَمَنْ لَا يَسْأَلُ، فَحَالُهُ تَقْتَضِي السُّؤَالَ، فَيَصِحُّ إِسْنَادُ السُّؤَالِ إِلَى الْجَمِيعِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ الِافْتِقَارُ إِلَيْهِ تَعَالَى. كُلَّ يَوْمٍ: أَيْ كُلَّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ، وَذَكَرَ الْيَوْمَ لِأَنَّ السَّاعَاتِ وَاللَّحَظَاتِ فِي ضِمْنِهِ. هُوَ فِي شَأْنٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي شَأْنٍ يُمْضِيهِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُجِيبُ دَاعِيًا، وَيَفُكُّ عَانِيًا، وَيَتُوبُ عَلَى قَوْمٍ، وَيَغْفِرُ لِقَوْمٍ. وَقَالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ: يُعْتِقُ رِقَابًا، وَيُعْطِي رَغَامًا وَيُقْحِمُ عِقَابًا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الدَّهْرُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَانِ، أَحَدُهُمَا الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ الدُّنْيَا، فَشَأْنُهُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَالثَّانِي الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَشَأْنُهُ فِيهِ الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ. وَعَنْ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْضِي يَوْمَ السَّبْتِ شَيْئًا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ: وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القيامة فقال:

شؤون يبديها، لا شؤون يَبْتَدِيهَا. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُوَ فِي يَوْمِ الدُّنْيَا فِي الِابْتِلَاءِ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْجَزَاءِ. وَانْتَصَبَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: فِي شَأْنٍ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ الْمَحْذُوفُ، نَحْوَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَيْدٌ قَائِمٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، ذَواتا أَفْنانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَوْدَعَ فِيهِمَا وَفَنَاءَ مَا عَلَى الْأَرْضِ، ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ الجزاء وَقَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ: أَيْ نَنْظُرُ فِي أُمُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ لَهُ شُغْلٌ فَيَفْرَغُ مِنْهُ. وَجَرَى عَلَى هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ فِي أَنَّ الْمَعْنَى: سَيَقْصِدُ لِحِسَابِكُمْ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يَتَهَدَّدُهُ: سَأَفْرَغُ لَكَ، أَيْ سَأَتَجَرَّدُ لِلْإِيقَاعِ بِكَ مِنْ كُلِّ مَا شَغَلَنِي عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لِي شُغْلٌ سِوَاهُ، وَالْمُرَادُ التَّوَفُّرُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يَكُونَ التَّوَعُّدُ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ. انْتَهَى، يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ سَتَنْتَهِي الدُّنْيَا وَيُبْلَغُ آخِرُهَا، وتنتهي عند ذلك شؤون الْخَلْقِ الَّتِي أَرَادَهَا بِقَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا شَأْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ جَزَاؤُكُمْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ فَرَاغًا لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ. انْتَهَى. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ أَنَّ فَرَغَ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الشُّغْلِ الَّذِي كَانَ الْإِنْسَانُ مُشْتَغِلًا بِهِ، فَلِذَلِكَ احْتَاجَ قَوْلُهُ إِلَى التَّأْوِيلِ على أنه قد قَدْ قِيلَ: إِنَّ فَرَغَ يَكُونُ بِمَعْنَى قَصَدَ وَاهْتَمَّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ لِجَرِيرٍ: الَانَ وَقَدْ فَرَغْتُ إِلَى نُمَيْرٍ ... فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهُمْ عَذَابَا أَيْ: قَصَدْتُ. وَأَنْشَدَ النَّحَّاسُ:

فَرَغْتُ إِلَى الْعَبْدِ الْمُقَيَّدِ فِي الْحَجَلْ وَفِي الْحَدِيثِ: «فَرَغَ رَبُّكَ مِنْ أَرْبَعٍ» ، وَفِيهِ: «لَأَتَفَرَّغَنَّ إِلَيْكَ يَا خَبِيثُ» ، يُخَاطِبُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِرْبَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ بَيْعَتِهَا: أَيْ لَأَقْصِدَنَّ إِبْطَالَ أَمْرِكَ، نُقِلَ هَذَا عَنِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنَفْرُغُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ، مِنْ فَرَغَ بفتح الراء، وهي لغة الْحِجَازِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ: بِالنُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، مُضَارِعُ فَرَغَ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ تَمِيمِيَّةٌ وَأَبُو السَّمَّالِ وَعِيسَى: بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعِيسَى أَيْضًا: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْأَعْرَجُ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ، وَهِيَ رِوَايَةُ يُونُسَ وَالْجُعْفِيِّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَالثَّقَلَانِ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا ثَقِيلَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَوْ لِكَوْنِهِمَا مُثْقَلِينَ بِالذُّنُوبِ، أَوْ لِثِقَلِ الْإِنْسِ. وَسُمِّيَ الْجِنُّ ثَقَلًا لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْسِ، وَالثَّقَلُ: الْأَمْرُ الْعَظِيمُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي» ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِعِظَمِهِمَا وَشَرَفِهِمَا. وَالظَّاهِرُ أن قوله: يا مَعْشَرَ الْآيَةَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ التَّنادِ «1» . وَقِيلَ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَفِرُّونَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الْهَوْلِ، فَيَجِدُونَ الْمَلَائِكَةَ قَدْ أَحَاطَتْ بِالْأَرْضِ، فَيَرْجِعُونَ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اسْتَطَعْتُمُ الْفِرَارَ مِنَ الْمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ بِأَذْهَانِكُمْ وَفِكْرِكُمْ، أَنْ تَنْفُذُوا، فَتَعْلَمُونَ عِلْمَ أَقْطارِ: أَيْ جِهَاتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ الزمخشري: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، كالترجمة لقوله: أَيُّهَ الثَّقَلانِ، إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنْ قَضَائِي، وَتَخْرُجُوا مِنْ مَلَكُوتِي وَمِنْ سَمَائِي وَأَرْضِي فَافْعَلُوا ثُمَّ قَالَ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى النُّفُوذِ إِلَّا بِسُلْطانٍ، يَعْنِي: بِقُوَّةٍ وَقَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَأَنَّى لَكُمْ ذَلِكَ، وَنَحْوُهُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «2» . انْتَهَى. فَانْفُذُوا: أَمْرُ تَعْجِيزٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السُّلْطَانُ هُنَا الْمِلْكُ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِلْكٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ، انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ وَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَتَهْرُبُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، فَتُحَدِّقُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنِ اسْتَطَعْتُمَا، عَلَى خِطَابِ تَثْنِيَةِ الثَّقَلَيْنِ وَمُرَاعَاةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى خِطَابِ الْجَمَاعَةِ إن

_ (1) سورة غافر: 40/ 32. (2) سورة العنكبوت: 29/ 51.

اسْتَطَعْتُمْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَحْتَهُ أَفْرَادٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» . يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، سَاقَهُمْ شُوَاظٌ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَالشُّوَاظُ: لَهَبُ النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اللَّهَبُ الْأَحْمَرُ الْمُنْقَطِعُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الدُّخَانُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّهَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُوَاظٌ، بِضَمِّ الشِّينِ وَعِيسَى وَابْنُ كَثِيرٍ وَشِبْلٌ: بِكَسْرِهَا. وَالْجُمْهُورُ وَنُحاسٌ: بِالرَّفْعِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْجَرِّ وَالْكَلْبِيُّ وَطَلْحَةُ وَمُجَاهِدٌ: بِكَسْرِ نُونِ نِحَاسٍ وَالسِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَنَحْسٌ، كَمَا تَقُولُ: يَوْمٌ نَحْسٌ. وَقَرَأَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا: وَنَحُسُّ مُضَارِعًا، وَمَاضِيهِ حَسَّهُ، أَيْ قَتَلَهُ، أَيْ وَيُحِسُّ بِالْعَذَابِ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أيضا: ونحس بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْحَاءِ عَلَى التَّخْيِيرِ وَحَنْظَلَةُ بْنُ نُعْمَانَ: وَنَحِسٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ وَالْحَسَنُ وَإِسْمَاعِيلُ: وَنُحُسٍ بِضَمَّتَيْنِ وَالْكَسْرِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نُرْسِلُ بِالنُّونِ، عَلَيْكُمَا شُوَاظًا بِالنَّصْبِ، مِنْ نَارٍ وَنُحَاسًا بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى شُوَاظًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جبير وَالنُّحَاسُ: الدُّخَانُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ: هُوَ الصُّفْرُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَعْنَى: يُعْجِزُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، أَيْ أَنْتُمَا بِحَالِ مَنْ يُرْسَلُ عَلَيْهِ هَذَا، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِمَّا يُرْسَلُ عَلَيْهِ. فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ: جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ فَمَا أَعْظَمَ الْهَوْلَ، وَانْشِقَاقُهَا: انْفِطَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَكانَتْ وَرْدَةً: أَيْ مُحْمَرَّةً كَالْوَرْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ: هِيَ مِنْ لَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرْدِ، فَأُنِّثَ لِكَوْنِ السَّمَاءِ مُؤَنَّثَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْيَوْمَ زَرْقَاءُ، وَيَوْمَئِذٍ تَغْلِبُ عَلَيْهَا الْحُمْرَةُ كَلَوْنِ الْوَرْدِ، وَهِيَ النَّوَّارُ الْمَعْرُوفُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَيُرِيدُ كَلَوْنِ الْوَرْدِ، وقال الشاعر: فلو كانت وَرْدًا لَوْنُهُ لَعَشِقْتِنِي ... وَلَكِنَّ رَبِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: وَرْدَةٌ صَفْرَاءُ. وَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْخَيْلَ الْوَرْدَ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ لَوْنَ الْفَرَسِ الْوَرْدِ، يَكُونُ فِي الرَّبِيعِ إِلَى الصُّفْرَةِ، وَفِي الشِّتَاءِ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَفِي اشْتِدَادِ الْبَرْدِ إِلَى الْغُبْرَةِ، فَشَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. كَالدِّهانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ، وَمِنْهُ قول الأعشى:

_ (1) سورة الحجرات: 49/ 9.

وَأَجْرَدَ مِنْ كِرَامِ الْخَيْرِ طِرْفٍ ... كَأَنَّ عَلَى شَوَاكِلِهِ دِهَانَا وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَالدِّهَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، لِأَنَّهَا تَتَلَوَّنُ أَلْوَانًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَالدِّهَانِ خَالِصَةً، جَمْعَ دُهْنٍ، كَقُرْطٍ وَقِرَاطٍ. وَقِيلَ: تَصِيرُ حَمْرَاءَ مِنْ حَرَارَةِ جَهَنَّمَ، وَمِثْلَ الدُّهْنِ لِذَوْبِهَا وَدَوَرَانِهَا. وَقِيلَ: شُبِّهَتْ بِالدِّهَانِ فِي لَمَعَانِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَالدِّهانِ: كَدُهْنِ الزَّيْتِ، كَمَا قَالَ: كَالْمُهْلِ «1» ، وَهُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، وَهُوَ جَمْعُ دُهْنٍ، أَوِ اسْمُ مَا يُدْهَنُ بِهِ، كَالْحَرَامِ وَالْأَدَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّهُمَا مَزَادَتَا مُتَعَجِّلٍ ... فَرِيَّانِ لَمَّا سُلِّعَا بِدِهَانِ وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَرْدَةٌ بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى: فَحَصَلَتْ سَمَاءٌ وَرْدَةٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُسَمَّى التَّجْرِيدَ، كَقَوْلِهِ: فَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ ... نَحْوَ الْمَغَانِمِ أَوْ يَمُوتَ كَرِيمُ انْتَهَى. فَيَوْمَئِذٍ: التَّنْوِينُ فِيهِ لِلْعِوَضِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيَوْمَ إِذِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، والناصب ليومئذ لا يُسْئَلُ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى انْتِفَاءِ السؤال، و: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وُقُوعِ السُّؤَالِ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَوَاطِنُ يُسْأَلُ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَيْثُ ذَكَرَ السُّؤَالَ فَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيرٍ، وحيث نفي فهو اسْتِخْبَارٌ مَحْضٌ عَنِ الذَّنْبِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: كَانَتْ مَسْأَلَةً، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْأَفْوَاهِ وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: لَا يُسْأَلُ غَيْرُ الْمُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ الْمُجْرِمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: وَلَا جَأْنٌ بِالْهَمْزِ، فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْتِقَاؤُهُمَا عَلَى حَدِّهِ. وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: بِسِيمَائِهِمْ وَالْجُمْهُورُ: بِسِيماهُمْ، وَسِيمَا الْمُجْرِمِينَ: سَوَادُ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ هَذَا مِنَ التَّشْوِيهَاتِ، كَالْعَمَى وَالْبَكَمِ وَالصَّمَمِ. فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُؤْخَذُ بِنَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ فَيُوطَأُ، وَيُجْمَعُ كَالْحَطَبِ، وَيُلْقَى كَذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَقِيلَ: تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، تَارَةً تَأْخُذُ بِالنَّوَاصِي، وَتَارَةً بِالْأَقْدَامِ. وَقِيلَ: بَعْضَهُمْ سَحْبًا، بِالنَّاصِيَةِ، وَبَعْضَهُمْ سَحْبًا بِالْقَدَمِ وَيُؤْخَذُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، وَحُذِفَ هذا الفاعل والمفعول،

_ (1) سورة الكهف: 18/ 29، وسورة الدخان: 44/ 45، وسورة المعارج: 70/ 8.

وَأُقِيمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَ الْفَاعِلِ مُضَمِّنًا مَعْنَى مَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ، أَيْ فَيُسْحَبُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ، وَأَلْ فِيهِمَا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ بِنَوَاصِيهِمْ وَأَقْدَامِهِمْ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ الضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ مِنْهُمْ. هذِهِ جَهَنَّمُ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. يَطُوفُونَ بَيْنَها: أَيْ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ نَارِهَا وَبَيْنَ مَا غَلَى فِيهَا مِنْ مَائِعِ عَذَابِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَمِيمُ يَغْلِي مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ جَهَنَّمَ، وَآنٌ: أَيْ مُنْتَهَى الْحَرِّ وَالنُّضْجِ، فَيُعَاقَبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَصْلِيَةِ النَّارِ، وَبَيْنَ شُرْبِ الْحَمِيمِ. وَقِيلَ: إِذَا اسْتَغَاثُوا مِنَ النَّارِ، جُعِلَ غِيَاثُهُمُ الْحَمِيمَ. وَقِيلَ: يُغْمَسُونَ فِي وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ فَتَنْخَلِعُ أَوْصَالُهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَقَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ: يُطَافُونَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: يُطَوِّفُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ مُشَدَّدَةً. وقرىء: يَطَّوَّفُونَ، أَيْ يَتَطَوَّفُونَ وَالْجُمْهُورُ: يَطُوفُونَ مُضَارِعُ طَافَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ. مَقامَ رَبِّهِ مَصْدَرٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ قِيَامُ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مِنْ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «1» ، أَيْ حَافِظٌ مُهَيْمِنٌ، فَالْعَبْدُ يُرَاقِبُ ذَلِكَ، فَلَا يَجْسُرُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَخَافُ مَقَامَهُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الْعِبَادُ لِلْحِسَابِ، مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» ، وَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى صُعُوبَةِ الْمَوْقِفِ. وَقِيلَ: مَقَامَ مُقْحَمٌ، وَالْمَعْنَى: وَلِمَنْ خَافَ رَبَّهُ، كَمَا تَقُولُ: أَخَافُ جَانِبَ فُلَانٍ يَعْنِي فُلَانًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِكُلِّ فرد فَرْدٍ مِنَ الْخَائِفِينَ جَنَّتانِ، قِيلَ: إِحْدَاهُمَا مَنْزِلُهُ، وَالْأُخْرَى لِأَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَقِيلَ: مَنْزِلَانِ يَنْتَقِلُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ لِتَتَوَفَّرَ دَوَاعِي لَذَّتِهِ وَتَظْهَرَ ثِمَارُ كَرَامَتِهِ. وَقِيلَ: هُمَا لِلْخَائِفِينَ وَالْخِطَابُ لِلثَّقَلَيْنِ، فَجَنَّةٌ لِلْخَائِفِ الْجِنِّيِّ، وَجَنَّةٌ لِلْخَائِفِ الْإِنْسِيِّ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: جَنَّةٌ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ، وَجَنَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جَنَّةٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَجَنَّةٌ لِتَرْكِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ دَائِرٌ عَلَيْهِمَا. وَأَنْ يُقَالَ: جَنَّةٌ يُبَاتُ بِهَا، وأخرى تضم إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ لِقَوْلِهِ وَزِيَادَةٌ وَخَصَّ الْأَفْنَانَ بِالذِّكْرِ جَمْعُ فَنَنٍ، وَهِيَ الْغُصُونُ الَّتِي تَتَشَعَّبُ عَنْ فُرُوعِ الشَّجَرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُورِقُ وَتُثْمِرُ، وَمِنْهَا تَمْتَدُّ الظِّلَالُ، وَمِنْهَا تُجْنَى الثِّمَارُ. وقيل:

_ (1) سورة الرعد: 13/ 33. [.....] (2) سورة المطففين: 83/ 6.

الْأَفْنَانُ جَمْعُ فَنٍّ، وَهِيَ ألوان النعم وأنواعها، وهي قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَوَّلُ قَالَ قَرِيبًا مِنْهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ أَفْعَالًا فِي فَعَلٍ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي فَعْلٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَفَنٌّ يُجْمَعُ عَلَى فُنُونٍ. فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا عَيْنَانِ مِثْلُ الدُّنْيَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. وَقَالَ: تَجْرِيَانِ بِالزِّيَادَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَجْرِيَانِ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ، إِحْدَاهُمَا التَّسْنِيمُ، وَالْأُخْرَى السَّلْسَبِيلُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِحْدَاهُمَا مِنْ مَاءٍ، وَالْأُخْرَى مِنْ خَمْرٍ. وَقِيلَ: تَجْرِيَانِ فِي الْأَعَالِي وَالْأَسَافِلِ مِنْ جَبَلٍ مِنْ مِسْكٍ. زَوْجانِ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ شَجَرَةٍ حُلْوَةٍ وَلَا مُرَّةٍ إِلَّا وَهِيَ فِي الْجَنَّةِ، حَتَّى شَجَرُ الْحَنْظَلِ، إِلَّا أَنَّهُ حلو. انْتَهَى. وَمَعْنَى زَوْجَانِ: رَطْبٌ وَيَابِسٌ، لَا يَقْصُرُ هَذَا عَنْ ذَاكَ فِي الطِّيبِ وَاللَّذَّةِ. وَقِيلَ: صِنْفَانِ، صِنْفٌ مَعْرُوفٌ، وَصِنْفٌ غَرِيبٌ. وَجَاءَ الْفَصْلُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ذَواتا أَفْنانٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ بِقَوْلِهِ: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. وَالْأَفْنَانُ عَلَيْهَا الْفَوَاكِهُ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْبُسْتَانِ لَا يُقْدِمُ إِلَّا لِلتَّفَرُّجِ بِلَذَّةِ مَا فِيهِ بِالنَّظَرِ إِلَى خُضْرَةِ الشَّجَرِ وَجَرْيِ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ بَعْدُ يَأْخُذُ فِي اجْتِنَاءِ الثِّمَارِ لِلْأَكْلِ. وَانْتَصَبَ مُتَّكِئِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ، وَحَمَلَ جَمْعًا عَلَى مَعْنَى مَنْ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَتَنَعَّمُونَ مُتَّكِئِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ، وَالِاتِّكَاءُ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَنَعِّمِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ، وَالْمَعْنَى: مُتَّكِئِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلى فُرُشٍ. وَقَرَأَ الجمهور: وفرش بِضَمَّتَيْنِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِسُكُونِ الرَّاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْبَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، كَيْفَ الظَّهَائِرُ؟ قَالَ: هِيَ مِنْ نُورٍ يَتَلَأْلَأُ» ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَسَّرَ بِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: مِنْ سُنْدُسٍ. قَالَ الْحَسَنُ وَالْفَرَّاءُ: الْبَطَائِنُ هِيَ الظَّهَائِرُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ تَكُونُ الْبِطَانَةُ الظِّهَارَةَ، وَالظِّهَارَةُ الْبِطَانَةَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ وَجْهًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَذَا وَجْهُ السَّمَاءِ، وَهَذَا بَطْنُ السَّمَاءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُدْهامَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي

الْخِيامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجْتَنِيهِ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا، لَا يَرُدُّ يَدَهُ بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ وَقَرَأَ عِيسَى: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ، كَأَنَّهُ أَمَالَ النُّونَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَلِفُ قَدْ حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ، كَمَا أَمَالَ أَبُو عَمْرٍو حَتَّى نَرَى اللَّهَ «1» . وقرىء: وَجِنَى بِكَسْرِ الْجِيمِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ عَائِدٌ عَلَى الْجِنَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِنَّ جَنَّتَانِ، إِذْ كُلُّ فَرْدٍ فُرِّدَ لَهُ جَنَّتَانِ، فَصَحَّ أَنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْجَنَّتَانِ أُرِيدَ بِهِمَا حَقِيقَةُ التَّثْنِيَةِ، وَإِنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَنَّةً وَاحِدَةً، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ مِنَ الْمَجَالِسِ وَالْقُصُورِ وَالْمَنَازِلِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْفُرُشِ، أي فيهن معدات للاستماع، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ قَرِيبُ الْمَأْخَذِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِنَّ فِي هَذِهِ الْآلَاءِ الْمَعْدُودَةِ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْجَنَى. انْتَهَى، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فِيهِنَّ، وَالطَّرْفُ أَصْلُهُ مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ وُحِّدَ. وَالظَّاهِرُ أنهن اللواتي يقصرون أَعْيُنَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَقُولُ لِزَوْجِهَا: وَعِزَّةِ رَبِّي مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنَ مِنْكَ. وَقِيلَ: الطَّرْفُ طَرْفُ غَيْرِهِنَّ، أَيْ قَصَّرْنَ عَيْنَيْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِنَّ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَفْتَضَّهُنَّ قَبْلَ أَزْوَاجِهِنَّ. وَقِيلَ: لَمْ يَطَأْهُنَّ عَلَى أَيْ وَجْهٍ. كَانَ الْوَطْءُ مِنِ افْتِضَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَبْلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي مُتَّكِئِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ مِيمِ يَطْمِثْهُنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيٌّ: بِالضَّمِّ. وَقَرَأَ نَاسٌ: بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي، وَنَاسٌ بِالْعَكْسِ، وَنَاسٌ بِالتَّخْيِيرِ، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ فِيهِمَا، وَنَفْيُ وَطْئِهِنَّ عَنِ الْإِنْسِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا عَنِ الْجِنِّ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: قَدْ تُجَامَعُ نِسَاءُ الْبَشَرِ مع أزواجهن، إذ لَمْ يَذْكُرِ الزَّوْجُ اللَّهَ تَعَالَى، فَنَفَى هُنَا جَمِيعَ الْمُجَامِعِينَ. وَقَالَ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ: الْجِنُّ فِي الْجَنَّةِ لَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ مِنَ الْجِنِّ نَوْعِهِمْ، فَنَفَى الِافْتِضَاضَ عَنِ الْبَشَرِيَّاتِ وَالْجِنِّيَّاتِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَأَنَّهُنَّ عَلَى صَفَاءِ الْيَاقُوتِ وَحُمْرَةِ الْمَرْجَانِ، لَوْ أَدْخَلْتَ فِي الْيَاقُوتِ سِلْكًا، ثُمَّ نَظَرْتَ إِلَيْهِ، لَرَأَيْتَهُ مِنْ وَرَائِهِ. انْتَهَى. وَفِي التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حلة مخها. وقال ابن عطية:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 55.

الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرْتَاحُ بِحُسْنِهَا، فَشَبَّهَ بِهِمَا فِيمَا يَحْسُنُ التَّشْبِيهُ بِهِ، فَالْيَاقُوتُ فِي إِمِّلَاسِهِ وَشُفُوفِهِ، وَالْمَرْجَانُ فِي إِمِّلَاسِهِ وَجَمَالِ مَنْظَرِهِ، وَبِهَذَا النَّحْوِ مِنَ النَّظَرِ سَمَّتِ الْعَرَبُ النِّسَاءَ بِذَلِكَ، كَدُرَّةَ بِنْتِ أَبِي لَهَبٍ، وَمَرْجَانَةَ أُمِّ سَعِيدٍ. انْتَهَى. هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ فِي الْعَمَلِ، إِلَّا الْإِحْسانُ فِي الثَّوَابِ؟ وَقِيلَ: هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ إِلَّا الْجَنَّةُ؟ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِلَّا الْحِسَانُ يَعْنِي: بِالْحِسَانِ الْحُورَ الْعِينَ. وَمِنْ دُونِهِما: أَيْ مِنْ دُونِ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْقَدْرِ، جَنَّتانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَالْأُولَيَانِ هُمَا لِلسَّابِقِينَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأُولَيَانِ لِلسَّابِقِينَ، وَالْأُخْرَيَانِ لِلتَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمِنْ دُونِهِما فِي الْقُرْبِ لِلْمُنَعَّمِينَ، وَالْمُؤَخَّرَتَا الذِّكْرِ أَفْضَلُ من الأوليين. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَصَفَ عَيْنَيْ هَاتَيْنِ بِالنَّضْخِ، وَتَيْنِكَ بِالْجَرْيِ فَقَطْ وَهَاتَيْنِ بالدهمة من شدة النِّعْمَةِ، وَتَيْنِكَ بِالْأَفْنَانِ، وَكُلُّ جَنَّةٍ ذَاتُ أَفْنَانٍ. وَرَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: لِلْمُقَرَّبِينَ جَنَّتَانِ مِنْ دُونِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ادْهَامَّتَا مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ، وَرَجَّحَ غَيْرُهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِذِكْرِ جَرْيِ الْعَيْنَيْنِ وَالنَّضْخِ دُونَ الْجَرْيِ، وَبِقَوْلِهِ فِيهِمَا: مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ، وَفِي الْمُتَأَخِّرَتَيْنِ: فِيهِما فاكِهَةٌ، وَبِالِاتِّكَاءِ عَلَى مَا بَطَائِنُهُ مِنْ دِيبَاجٍ وَهُوَ الْفُرُشُ، وَفِي الْمُتَأَخِّرَتَيْنِ الِاتِّكَاءُ عَلَى الرَّفْرَفِ، وَهُوَ كِسْرُ الْخِبَاءِ، وَالْفُرُشُ الْمُعَدَّةُ لِلِاتِّكَاءِ أَفْضَلُ، وَالْعَبْقَرِيُّ: الْوَشْيُ، وَالدِّيبَاجُ أَعْلَى مِنْهُ، وَالْمُشَبَّهُ بِالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ أَفْضَلُ فِي الْوَصْفِ مِنْ خَيْرَاتٍ حِسَانٍ، وَالظَّاهِرُ النَّضْخُ بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ فِي دُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَمَا يَنْضَخُ رَشُّ الْمَطَرِ. وَعَنْهُ أَيْضًا بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالْمَاءِ. وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عَطَفَ فَاكِهَةً، فَاقْتَضَى الْعَطْفُ أَنْ لَا يَنْدَرِجَا فِي الْفَاكِهَةِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ: كَرَّرَهُمَا وَهُمَا مِنْ أَفْضَلِ الْفَاكِهَةِ تَشْرِيفًا لَهُمَا وَإِشَارَةً بِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» . وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّخْلَ ثَمَرُهُ فَاكِهَةٌ وَطَعَامٌ، وَالرُّمَّانَ فَاكِهَةٌ وَدَوَاءٌ، فَلَمْ يُخْلَصَا لِلتَّفَكُّهِ. فِيهِنَّ خَيْراتٌ، جَمْعُ خَيْرَةٍ: وَصْفٌ بُنِيَ عَلَى فَعْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَمَا بَنَوْا مِنَ الشَّرِّ فَقَالُوا: شَرَّةٌ. وَقِيلَ: مُخَفَّفٌ مِنْ خَيِّرَةٍ، وَبِهِ قَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ، أَيْ بِشَدِّ الْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ، كَأَنَّهُ جَمْعُ خَايِرَةٍ، جُمِعَ عَلَى فَعْلَةٍ، وَفَسَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ ذَلِكَ فَقَالَ: «خَيِّرَاتُ الأخلاق حسان الوجوه» .

_ (1) سورة البقرة: 2/ 98.

حُورٌ مَقْصُوراتٌ: أَيْ قُصِرْنَ فِي أَمَاكِنِهِنَّ، وَالنِّسَاءُ تُمْدَحُ بِذَلِكَ، إِذْ مُلَازَمَتُهُنَّ الْبُيُوتَ تَدُلُّ عَلَى صِيَانَتِهِنَّ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْأَسْلَتِ: وَتَكْسَلُ عَنْ جَارَاتِهَا فَيَزُرْنَهَا ... وَتَغْفُلُ عَنْ أَبْيَاتِهِنَّ فَتُعْذَرُ قَالَ الْحَسَنُ: لَسْنَ بِطَوَّافَاتٍ فِي الطُّرُقِ، وَخِيَامُ الْجَنَّةِ: بُيُوتُ اللُّؤْلُؤِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هِيَ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ: أَيْ قَبْلَ أَصْحَابِ الْجَنَّتَيْنِ، وَدَلَّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْجَنَّتَيْنِ. مُتَّكِئِينَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. عَلى رَفْرَفٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: فُضُولُ الْمَجْلِسِ وَالْبُسُطِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: رِيَاضُ الْجَنَّةِ مِنْ رَفَّ الْبَيْتُ تَنَعَّمَ وَحَسُنَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الزَّرَابِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: الْمَرَافِقُ. وَقَرَأَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَجَالِسُ. وَعَبْقَرِيٌّ، قَالَ الْحَسَنُ: بُسُطٌ حِسَانٌ فِيهَا صُوَرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ يُصْنَعُ بِعَبْقَرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّرَابِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الطَّنَافِسُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الثَّخَانُ مِنْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى رَفْرَفٍ، وَوُصِفَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، الْوَاحِدُ مِنْهَا رَفْرَفَةٌ، وَاسْمُ الْجِنْسِ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُفْرَدَ نَعْتُهُ وَأَنْ يُجْمَعَ لِقَوْلِهِ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ «1» ، وَحَسَّنَ جَمْعَهُ هُنَا مُقَابَلَتُهُ لِحِسَانٍ الَّذِي هُوَ فَاصِلَةٌ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَقَرَأَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَزُهَيْرٌ الْعُرْقُبِيُّ وَغَيْرُهُ: رَفَارِفَ جَمْعٌ لَا يَنْصَرِفُ، خُضْرٍ بِسُكُونِ الضَّادِ، وَعَبَاقِرِيَّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مُشَدَّدَةً وَعَنْهُمْ أَيْضًا: ضَمُّ الضَّادِ وَعَنْهُمْ أَيْضًا: فَتْحُ الْقَافِ. قَالَ: فَأَمَّا مَنْعُ الصَّرْفِ مِنْ عَبَاقِرِيَّ، وَهِيَ الثِّيَابُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى عَبْقَرٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ تُجْلَبُ مِنْهُ الثِّيَابُ عَلَى قَدِيمِ الْأَزْمَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُجَاوَرَتِهَا، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ مِنْ يَاءَيِ النَّسَبِ وَجْهٌ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: على رفارف خضر، وعباقري النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا على رفارف خضر وعباقري بِالصَّرْفِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ. وَقَرَأَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَكَانَ نَحْوِيًّا: عَلَى رَفَارِفَ خِضَارٍ، يَعْنِي: عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ: رَفَارِفَ جَمْعٌ، عَنِ ابْنِ مُصَرِّفٍ وَابْنِ مِقْسَمٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَاخْتَارَهُ شِبْلٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِقَوْلِهِ: خُضْرٍ، وَعَبَاقِرِيَّ بِالْجَمْعِ وَبِكَسْرِ الْقَافِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، ابْنُ مِقْسَمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا التَّنْوِينُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ زهير

_ (1) سورة ق: 50/ 10.

الْعُرْقُبِيُّ: رَفَارِفٍ بِالْجَمْعِ وَالصَّرْفِ، وَعَنْهُ: عَبَاقَرِيَّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْيَاءِ، عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَوْضِعِ عَبَاقَرُ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالصَّحِيحُ فِي اسْمِ الْمَوْضِعِ عَبْقَرٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَرَوَى أَبُو حَاتِمٍ: عَبَاقَرِيَّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَمَنْعِ الصَّرْفِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لِصِحَّتِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا مَنَعَ الصَّرْفَ رَفَارِفَ، شَاكَلَهُ فِي عَبَاقَرِيَّ، كَمَا قَدْ يُنَوَّنُ مَا لَا يَنْصَرِفُ لِلْمُشَاكَلَةِ، يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْمُشَاكَلَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ: خُضْرٌ بِضَمِّ الضَّادِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ. انْتَهَى، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ: أَيُّهَا الْفِتْيَانُ فِي مَجْلِسِنَا ... جَرِّدُوا مِنْهَا وِرَادًا وَشُقُرْ وَقَالَ آخَرُ: وَمَا انْتَمَيْتُ إِلَى خَوَرٍ وَلَا كُسُفٍ ... وَلَا لِئَامٍ غَدَاةَ الرَّوْعِ أَوْزَاعِ فَشُقُرُ جَمْعُ أَشْقَرَ، وَكُسُفٌ جَمْعُ أَكْسَفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذِي الْجَلالِ: صِفَةً لِرَبِّكَ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ: ذُو صِفَةً لِلِاسْمِ، وَفِي حَرْفِ. أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ: ذِي الْجَلَالِ، كَقِرَاءَتِهِمَا فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى. وَقِيلَ: اسْمٌ مُقْحَمٌ، كَالْوَجْهِ فِي وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِسْنَادُ تَبارَكَ لِغَيْرِ الِاسْمِ فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» ، تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ «2» ، تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . وَقَدْ صَحَّ الْإِسْنَادُ إِلَى الِاسْمِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ، فَإِذَا عَلَا الِاسْمُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْمُسَمَّى؟ وَلَمَّا خَتَمَ تَعَالَى نِعَمَ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ، خَتَمَ نِعَمَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ وَنَاسَبَ هُنَالِكَ ذِكْرَ الْبَقَاءِ وَالدَّيْمُومَةِ لَهُ تَعَالَى، إِذْ ذَكَرَ فَنَاءَ الْعَالَمِ وَنَاسَبَ هُنَا ذِكْرَ مَا اشْتُقَّ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، إِذْ جَاءَ ذَلِكَ عَقِبَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا آتَاهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَزِيَادَتِهِ وَدَيْمُومَتِهِ، وَيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ يُدْعَى اللَّهُ بِهَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ والإكرام» .

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 14. (2) سورة الفرقان: 25/ 10. (3) سورة الملك: 67/ 1.

سورة الواقعة

سورة الواقعة [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) رُجَّتِ الْأَرْضُ: زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا شَدِيدًا بِحَيْثُ تَنْهَدِمُ الْأَبْنِيَةُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ.

بُسَّتِ الْجِبَالُ: فُتِّتَتْ، وَقِيلَ: سُيِّرَتْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَسَّ الْغَنَمَ: سَاقَهَا، وَيُقَالُ: رُجَّتِ الْأَرْضُ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ لَازِمَيْنِ. الْمَشْأَمَةُ: مِنَ الشُّؤْمِ، أَوْ مِنَ الْيَدِ الشُّؤْمَى، وَهِيَ الشمال. الثلاثة: الْجَمَاعَةُ، كَثُرَتْ أَوْ قَلَّتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ الْكَثِيرَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَجَاءَتْ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ خَنْدَقِيَّةٌ ... بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ مزيد الْمَوْضُونَةُ: الْمَنْسُوجَةُ بِتَرْكِيبِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَحِلَقِ الدِّرْعِ. قَالَ الْأَعْشَى: وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ ... تَسِيرُ مَعَ الْحَيِّ عِيرًا فَعِيرَا وَمِنْهُ: وَضِينُ النَّاقَةِ، وَهُوَ خِزَامُهَا، لِأَنَّهُ مَوْضُونٌ: أَيْ مَفْتُولٌ. قَالَ الرَّاجِزُ: إِلَيْكَ تَغْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا الْإِبْرِيقُ: إِفْعِيلُ مِنَ الْبَرِيقِ، وَهُوَ إِنَاءٌ لِلشُّرْبِ لَهُ خُرْطُومٌ. قِيلَ: وَأُذُنٌ، وَهُوَ مِنْ أَوَانِي الْخَمْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ إِبْرِيقَهُمْ ظبي على شرف ... مقدّم فسبا الكتان ملتوم وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: وَنَدْعُو إِلَى الصَّبَاحِ فَجَاءَتْ ... قَيْنَةٌ فِي يَمِينِهَا إِبْرِيقُ صُدِّعَ الْقَوْمُ بِالْخَمْرِ: لَحِقَهُمُ الصداع في رؤوسهم مِنْهَا. وَقِيلَ: صُدِّعُوا: فُرِّقُوا. السِّدْرُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. الْمَخْضُودُ: الْمَقْطُوعُ شَوْكُهُ. قَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: إِنَّ الْحَدَائِقَ فِي الْجِنَانِ ظَلِيلَةٌ ... فِيهَا الْكَوَاعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودُ الطَّلْحُ: شَجَرُ الْمَوْزِ، وَقِيلَ: شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ كَثِيرُ الشَّوْكِ. الْمَسْكُوبُ: الْمَصْبُوبُ. الْعَرُوبُ: الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا. التِّرْبُ: اللَّذَّةُ، وَهُوَ مَنْ يُولَدُ هُوَ وَآخَرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِمَسِّهِمَا التراب في وقت واحد، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ، خافِضَةٌ رافِعَةٌ، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا، وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ

الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ، وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً، وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ، إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ . هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا تَضَمُّنُ الْعَذَابِ لِلْمُجْرِمِينَ، وَالنَّعِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفَاضَلَ بَيْنَ جَنَّتَيْ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَنَّتَيْ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «1» ، فَانْقَسَمَ الْعَالَمُ بِذَلِكَ إِلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ مَفْضُولٍ وَمُؤْمِنٍ فَاضِلٍ وَهَكَذَا جَاءَ ابْتِدَاءُ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ أَصْحَابَ مَيْمَنَةٍ، وَأَصْحَابَ مَشْأَمَةٍ، وَسِبَاقٍ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ وَالْمُكَذِّبُونَ الْمُخْتَتَمُ بِهِمْ آخِرُ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَاقِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، كَالصَّاخَّةِ وَالطَّامَّةِ وَالْآزِفَةِ، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَقْتَضِي عِظَمَ شَأْنِهَا، وَمَعْنَى وَقَعَتِ الْواقِعَةُ: أَيْ وَقَعَتِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا، كَمَا تَقُولُ: حَدَثَتِ الْحَادِثَةُ، وَكَانَتِ الْكَائِنَةُ وَوُقُوعُ الْأَمْرِ نُزُولُهُ، يُقَالُ: وَقَعَ مَا كُنْتُ أَتَوَقَّعُهُ: أَيْ نَزَلَ مَا كُنْتُ أَتَرَقَّبُ نُزُولَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْواقِعَةُ: الصَّيْحَةُ، وَهِيَ النَّفْخَةُ فِي الصُّورِ. وَقِيلَ: الْواقِعَةُ: صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذَا الْفِعْلُ بَعْدَهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِإِضَافَةِ إِذَا إِلَيْهَا احْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ جَوَابٌ مَلْفُوظٌ بِهِ يَعْمَلُ بِهَا. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ انْتَصَبَ إِذًا؟ قُلْتُ: بِلَيْسَ، كَقَوْلِكَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ لِي شُغْلٌ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ يَعْنِي: إِذَا وَقَعَتْ، كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرِ. انْتَهَى. أَمَّا نَصْبُهَا بِلَيْسَ فَلَا يَذْهَبُ نَحْوِيٌّ وَلَا مَنْ شَدَا شَيْئًا مِنْ صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ إِلَى مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ لَيْسَ فِي النَّفْيِ كَمَا، وَمَا لَا تَعْمَلُ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ، وَذَلِكَ أَنَّ لَيْسَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا فِعْلٌ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ حَدَّ الفعل لا ينطبق

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 62.

عَلَيْهَا. وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحَدَثِ، فَإِذَا قُلْتَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَقُومُ، فَالْقِيَامُ وَاقِعٌ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ لَا حَدَثَ لَهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهَا عَمَلٌ فِي الظَّرْفِ؟ وَالْمِثَالُ الَّذِي شَبَّهَ بِهِ، وَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ لِي شُغْلٌ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَنْصُوبٌ بِلَيْسَ، بَلْ هُوَ مَنْصُوبٌ بِالْعَامِلِ فِي خَبَرِ لَيْسَ، وَهُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، فَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ مَعْمُولِ الْخَبَرِ عَلَى لَيْسَ، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْخَبَرِ الَّذِي لِلَيْسَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَمْ يُسْمَعَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ: قَائِمًا لَيْسَ زَيْدٌ. وَلَيْسَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَقَطْ، فَهِيَ كَمَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِهَا ضَمَائِرُ الرَّفْعِ، جَعَلَهَا نَاسٌ فِعْلًا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ حَرْفُ نَفْيٍ كَمَا النَّافِيَةِ. وَيَظْهَرُ مِنْ تَمْثِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إِذًا بِقَوْلِهِ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَنَّهُ سَلَبَهَا الدَّلَالَةَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ غَالِبٌ فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا، وَكَانَ الْجَوَابُ الْجُمْلَةَ الْمُصَدَّرَةَ بِلَيْسَ، لَزِمَتِ الْفَاءَ، إِلَّا إِنْ حُذِفَتْ فِي شِعْرٍ، إِذْ وَرَدَ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ زَيْدٌ فَلَسْتَ تَتْرُكُ مُكَافَأَتَهُ. وَلَا يَجُوزُ لَسْتَ بِغَيْرِ فَاءٍ، إِلَّا إِنِ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ: إِذَا وَقَعَتْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِذَا عِنْدَهُ شَرْطِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَ لَهَا جَوَابًا عَامِلًا فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، فَإِنَّهُ سَلَبَهَا الظَّرْفِيَّةَ، وَجَعَلَهَا مفعولا بها منصوبة باذكر. وكاذِبَةٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَذَبَ، وَهُوَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفْسٌ كَاذِبَةٌ، أَيْ لَا يَكُونُ حِينَ تَقَعُ نَفْسٌ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَتَكْذِبُ فِي تَكْذِيبِ الْغَيْبِ، لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ حِينَئِذٍ مُؤْمِنَةٌ صَادِقَةٌ، وَأَكْثَرُ النُّفُوسِ الْيَوْمَ كَوَاذِبٌ مُكَذِّبَاتٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ «2» وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ «3» ، وَاللَّامُ مثلها فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «4» ، إِذْ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ تَكْذِبُهَا وَتَقُولُ لَهَا: لَمْ تَكْذِبِي، كَمَا لَهَا الْيَوْمَ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ يَقُلْنَ لَهَا: لَمْ تَكْذِبِي، أَوْ هِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَذَبَتْ فُلَانًا نَفْسُهُ فِي الْخَطْبِ الْعَظِيمِ، إِذَا شَجَّعَتْهُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ تُطِيقُهُ وَمَا فَوْقَهُ، فَتَعْرِضُ لَهُ وَلَا تُبَالِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهَا وَقْعَةٌ لَا تُطَاقُ بِشِدَّةٍ وَفَظَاعَةٍ، وَأَنْ لَا نَفْسَ حِينَئِذٍ تُحَدِّثُ صَاحِبَهَا بِمَا تُحَدِّثُهُ بِهِ عِنْدَ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَتُزَيِّنُ لَهُ احْتِمَالَهَا وَإِطَاقَتَهَا، لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ «5» ؟ وَالْفَرَاشُ مَثَلٌ فِي الضعف.

_ (1) سورة غافر: 40/ 84. (2) سورة الشعراء: 26/ 201. (3) سورة الحج: 22/ 55. (4) سورة الفجر: 89/ 24. (5) سورة القارعة: 101/ 4.

انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَإِسْهَابٌ. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ حَالٌ كَاذِبَةٌ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَاذِبَةٌ، أَيْ مَكْذُوبٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهَا، فَسَمَّاهَا كَاذِبَةً لِهَذَا، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ قِصَّةٌ كَاذِبَةٌ، أَيْ مَكْذُوبٌ فِيهَا. وَالثَّانِي: حَالٌ كَاذِبَةٌ، أَيْ لَا يَمْضِي وُقُوعُهَا، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ إِذَا حَمَلَ لَمْ يَكْذِبْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ الْمَعْنَى: لَيْسَ لَهَا تَكْذِيبٌ وَلَا رَدٌّ وَلَا مُنْثَوِيَةٌ، فَكَاذِبَةٌ عَلَى هَذَا مَصْدَرٌ، كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ عَلَى مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ إِذَا مَعْمُولَةٌ لِلَيْسَ يَكُونُ ابْتِدَاءَ السُّورَةِ، إِلَّا إِنِ اعْتُقِدَ أَنَّهَا جَوَابٌ لِإِذَا، أَوْ منصوبة باذكر، فَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ بِرَفْعِهِمَا، عَلَى تَقْدِيرِ هِيَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ فِي اخْتِيَارِهِ بِنَصْبِهِمَا. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَوْلَا أَنَّ الْيَزِيدِيَّ سَبَقَنِي إِلَيْهِ لَقَرَأْتُ بِهِ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْحَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي هِيَ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ، وَلَكَ أَنْ تُتَابِعَ الْأَحْوَالَ، كَمَا لَكَ أَنْ تُتَابِعَ أَخْبَارَ الْمُبْتَدَأِ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَشْهَرُ وَأَبْدَعُ مَعْنًى، وَذَلِكَ أَنَّ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنَ الْكَلَامِ مَوْقِعُ مَا لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاسْتُغْنِي عَنْهُ، وَمَوْقِعُ الْجُمَلِ الَّتِي يُجْزَمُ الْخَبَرُ بِهَا مَوْقِعُ ما يتهم بِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ سَبْقَهُ إِلَيْهِ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. قَالَ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ: وَذُو الْحَالِ الْوَاقِعَةُ وَالْعَامِلُ وَقَعَتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ حال أُخْرَى مِنَ الْوَاقِعَةِ بِتَقْدِيرِ: إِذَا وَقَعَتْ صَادِقَةً الْوَاقِعَةُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ مِنْ ذِي حَالٍ، وَجَازَتْ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاحِدٍ، كَمَا جَازَتْ عَنْهُ نُعُوتٌ مُتَضَادَّةٌ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا جُعِلَتْ هَذِهِ كُلُّهَا أَحْوَالًا، كَانَ الْعَامِلُ فِي إِذا وَقَعَتِ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَحْوَى بِتَقْدِيرِ يُحَاسَبُونَ وَنَحْوِهِ. انْتَهَى. وَتَعْدَادُ الْأَحْوَالِ وَالْأَخْبَارِ فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ. قَالَ الْجُمْهُورُ: القيامة تنفظر لَهُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَتَنْهَدُّ لَهُ هَذِهِ الْبِنْيَةُ بِرَفْعِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَجْرَامِ وَبِخَفْضِ أُخْرَى، فَكَأَنَّهَا عِبَارَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالِاضْطِرَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: الصَّيْحَةُ تَخْفِضُ قُوَّتَهَا لِتُسْمِعَ الْأَدْنَى، وَتَرْفَعُهَا لِتُسْمِعَ الْأَقْصَى. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن سُرَاقَةَ: الْقِيَامَةُ تَخْفِضُ أَقْوَامًا إِلَى النَّارِ، وَتَرْفَعُ أَقْوَامًا إِلَى الْجَنَّةِ وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ عَلَى عَادَتِهِ وَكَسَاهَا بَعْضَ أَلْفَاظٍ رَائِعَةٍ، فَقَالَ: تَرْفَعُ أَقْوَامًا وَتَضَعُ آخَرِينَ، إِمَّا وَصْفًا لَهَا بِالشِّدَّةِ، لِأَنَّ الْوَاقِعَاتِ الْعِظَامَ كَذَلِكَ يَرْتَفِعُ فِيهَا نَاسٌ إِلَى

مَرَاتِبَ وَيَتَّضِعُ نَاسٌ وَإِمَّا أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ يُحَطُّونَ إِلَى الدَّرَكَاتِ، وَالسُّعَدَاءَ يُحَطُّونَ إِلَى الدَّرَجَاتِ وَإِمَّا أَنَّهَا تُزَلْزِلُ الْأَشْيَاءَ عَنْ مَقَارِّهَا لِتَخْفِضَ بَعْضًا وَتَرْفَعَ بَعْضًا، حَيْثُ تُسْقِطُ السَّمَاءَ كِسَفًا، وَتَنْتَثِرُ الْكَوَاكِبُ وَتَنْكَدِرُ، وَتَسِيرُ الْجِبَالُ فَتَمُرُّ فِي الْجَوِّ مَرَّ السَّحَابِ. انْتَهَى. إِذا رُجَّتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ بِجَذْبٍ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: بُسَّتِ: فُتِّتَتْ، وَقِيلَ: سُيِّرَتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: رُجَّتِ، وبُسَّتِ مبنيا للفاعل، وإِذا رُجَّتِ بَدَلٌ مِنْ إِذا وَقَعَتِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ عِنْدِي مَلْفُوظٌ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالْمَعْنَى إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَسْعَدَهُمْ وَمَا أَعْظَمَ مَا يُجَازَوْنَ بِهِ، أَيْ إِنَّ سَعَادَتَهُمْ وَعِظَمَ رُتْبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الشَّدِيدِ الصَّعْبِ عَلَى الْعَالَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِخَافِضَةٍ رَافِعَةٍ، أَيْ تَخْفِضُ وَتَرْفَعُ وَقْتَ رَجِّ الْأَرْضِ وَبَسِّ الْجِبَالِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَفِضُ مَا هُوَ مُرْتَفِعٌ وَيَرْتَفِعُ مَا هُوَ مُنْخَفِضٌ. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِهِمَا مَعًا، بَلْ بِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مُؤَثِّرَانِ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: إِذا رُجَّتِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ إِذا وَقَعَتِ، وَلَيْسَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا شُرْطِيَّةً، بَلْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى وَقْتٍ، وَمَا بَعْدَ إِذَا أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَقْتُ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ صَادِقَةَ الْوُقُوعِ، خَافِضَةَ قَوْمٍ، رَافِعَةَ آخَرِينَ وَقْتُ رَجِّ الْأَرْضِ. وَهَكَذَا ادَّعَى ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ إِذَا تَكُونُ مُبْتَدَأً، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ مَا تَبْقَى بِهِ إِذَا عَلَى مَدْلُولِهَا مِنَ الشَّرْطِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْهَبَاءِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ. مُنْبَثًّا: مُنْتَشِرًا. مُنْبَتًّا بِنُقْطَتَيْنِ بَدَلَ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، أَيْ مُنْقَطِعًا. وَكُنْتُمْ: خِطَابٌ لِلْعَالَمِ، أَزْواجاً ثَلاثَةً: أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، وَهَذِهِ رُتَبٌ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، قَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ: هُمُ الْمَيَامِينُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ. وَقِيلَ: أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ السَّنِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ مِنِّي بِالْيَمِينِ. وَقِيلَ: الْمَأْخُوذُ بِهِمْ ذَاتُ الْيَمِينِ، أَوْ مَيْمَنَةُ آدَمَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي الْأَسْوِدَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ: هُمْ مَنْ قَابَلَ أَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فأصحاب مُبْتَدَأٌ، وَمَا: مُبْتَدَأٌ ثَانٍ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ خَبَرٌ عَنْ مَا، وَمَا بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْ أَصْحَابٍ، وَرَبَطَ الْجُمْلَةَ بِالْمُبْتَدَأِ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ التَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمَا تَعَجُّبٌ مِنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ هُمْ.

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ: جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَنْتَ أَنْتَ، وَقَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ، وَشِعْرِي شِعْرِي، أَيِ الَّذِينَ انْتَهَوْا فِي السَّبْقِ، أَيِ الطَّاعَاتِ، وَبَرَعُوا فِيهَا وَعُرِفَتْ حَالُهُمْ. وَأَنْ يَكُونَ السَّابِقُونَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَالْخَبَرُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ السَّابِقُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَتَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ السَّبْقِ الْأَوَّلِ مُخَالِفًا لِلسَّبْقِ الثَّانِي. وَالسَّابِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَعَلَى هَذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ السَّابِقُونَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً وَالْخَبَرُ فِيمَا بَعْدَهُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ يَعْنِي السَّابِقُونَ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ، يَعْنِي خَبَرَ وَالسَّابِقُونَ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: النَّاسُ النَّاسُ، وَأَنْتَ أَنْتَ، وَهَذَا عَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ. انْتَهَى. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ مُتَعَجِّبًا مِنْهُمْ فِي سَعَادَتِهِمْ، وَأَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ مُتَعَجِّبًا مِنْهُمْ فِي شَقَاوَتِهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ السَّابِقُونَ مُثْبِتًا حَالَهُمْ مُعَظِّمًا، وَذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ أَنَّهُمْ نِهَايَةٌ فِي الْعَظَمَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَالسَّابِقُونَ عُمُومٌ فِي السَّبْقِ إِلَى أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، وَإِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سَوْدَةَ: السَّابِقُونَ إِلَى الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ كَعْبٌ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «سُئِلَ عَنِ السَّابِقِينَ فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ بِحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» . أُولئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ الَّذِينَ عَلَتْ مَنَازِلُهُمْ وَقَرُبَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْعَرْشِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي جَنَّاتِ، جمعا وطلحة: في جنات مُفْرَدًا. وَقَسَّمَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّابِقُونَ مِنَ الْأُمَمِ، وَالسَّابِقُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْفِرْقَتَانِ فِي كُلِّ أُمَّةِ نَبِيٍّ، فِي صَدْرِهَا ثُلَّةٌ، وَفِي آخِرِهَا قَلِيلٌ. وَقِيلَ: هُمَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانُوا فِي صَدْرِ الدُّنْيَا، وَفِي آخِرِهَا أَقَلَّ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْفِرْقَتَانِ فِي أُمَّتِي، فَسَابِقٌ فِي أَوَّلِ الْأُمَّةِ ثُلَّةٌ، وَسَابِقُ سَائِرِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَلِيلٌ» ، وَارْتَفَعَ ثُلَّةٌ عَلَى إِضْمَارِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى سُرُرٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو السمال: بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ بَنِي تَمِيمٍ وَكَلْبٍ، يَفْتَحُونَ عَيْنَ فُعَلٍ جَمْعِ فَعِيلٍ الْمُضَعَّفِ، نَحْوَ سَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي: وَالصَّافَّاتِ. مضمونة، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها: أَيْ عَلَى السُّرُرِ، وَمُتَّكِئِينَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي عَلى سُرُرٍ، مُتَقابِلِينَ: يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وُصِفُوا بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَصَفَاءِ بَطَائِنِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ:

وُصِفُوا بِالْخُلْدِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدًا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ دَائِمًا فِي سِنِّ الْوِلْدَانِ، لَا يَكْبُرُونَ وَلَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْ شَكْلِ الْوَصَافَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَمُوتُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُقَرَّطُونَ بِالْخَلَدَاتِ، وَهِيَ ضُرُوبٌ مِنَ الْأَقْرَاطِ. وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، قَالَ: مِنْ خَمْرٍ سَائِلَةٍ جَارِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ. لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها، قَالَ الأكثرون: لا يلحق رؤوسهم الصُّدَاعُ الَّذِي يَلْحَقُ مِنْ خَمْرِ الدُّنْيَا. وَقَرَأْتُ عَلَى أُسْتَاذِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَوْلَ عَلْقَمَةَ فِي صِفَةِ الْخَمْرِ: تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلَا يُؤْذِيكَ صَالِبُهَا ... وَلَا يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ فَقَالَ: هَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: لَا يُفَرَّقُونَ عَنْهَا بِمَعْنَى: لَا تَقْطَعُ عَنْهُمْ لَذَّتَهُمْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَمَا تُفَرِّقُ أَهْلَ خَمْرِ الدُّنْيَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّفْرِيقِ، كَمَا جَاءَ: فَتَصَدَّعَ السَّحَابُ عَنِ الْمَدِينَةِ: أَيْ فَتَفَرَّقَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: لَا يَصَّدَّعُونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ، أَصْلُهُ يَتَصَدَّعُونَ، أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ: أَيْ لَا يَتَفَرَّقُونَ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ «1» . وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَخِفَّةِ الصَّادِ وَالْجُمْهُورُ: بِجَرِّ وَفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِرَفْعِهِمَا، أَيْ وَلَهُمْ وَالْجُمْهُورُ: وَلا يُنْزِفُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَجُبَيْرٌ وَالضَّحَّاكُ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ سُكْرًا وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، نَزَفَ الْبِئْرَ: اسْتَفْرَغَ مَاءَهَا، فَالْمَعْنَى: لَا تَفْرَغُ خَمْرُهُمْ. وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا وَعَبْدُ اللَّهِ وَالسُّلَمِيُّ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ: أَيْ لَا يَفْنَى لَهُمْ شَرَابٌ، مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ: يَأْخُذُونَ خَيْرَهُ وَأَفْضَلَهُ، مِمَّا يَشْتَهُونَ: أَيْ يَتَمَنَّوْنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحُورٌ عِينٌ بِرَفْعِهِمَا وَخَرَّجَ عَلِيٌّ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وِلْدانٌ، أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي مُتَّكِئِينَ، أَوْ عَلَى مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ وَخَبَرُهُ تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ هَذَا كُلُّهُ، وَحُورٌ عِينٌ، أَوْ عَلَى حَذْفِ خَبَرٍ فَقَطْ: أَيْ وَلَهُمْ حُورٌ، أَوْ فِيهِمَا حُورٌ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ وَعِصْمَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِجَرِّهِمَا وَالنَّخَعِيُّ: وَحِيرٍ عِينٍ، بِقَلْبِ الْوَاوِ يَاءً وَجَرِّهِمَا، وَالْجَرُّ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ، أَيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ بِكَذَا وَكَذَا وَحُورٍ عِينٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى: وَيُنَعَّمُونَ بِهَذَا كُلِّهِ وَبِحُورٍ عِينٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُمْ فِي جَنَّاتٍ وَفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَحُورٍ. انْتَهَى، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَتَفْكِيكُ كَلَامٍ مرتبط

_ (1) سورة الروم: 30/ 43. [.....]

بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَهُوَ فَهْمٌ أَعْجَمِيٌّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: وَحُورًا عِينًا بِنَصْبِهِمَا، قَالُوا: عَلَى مَعْنَى وَيُعْطَوْنَ هَذَا كُلَّهُ وَحُورًا عِينًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: وَحُورُ عِينٍ بِالرَّفْعِ مُضَافًا إِلَى عِينٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِالنَّصْبِ مُضَافًا إِلَى عِينٍ وَعِكْرِمَةُ: وَحَوْرَاءُ عَيْنَاءُ عَلَى التَّوْحِيدِ اسْمُ جِنْسٍ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ السَّابِقِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا كَقِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ: وَحُورًا عِينًا. وَوَصَفَ اللُّؤْلُؤَ بِالْمَكْنُونِ، لِأَنَّهُ أَصْفَى وَأَبْعَدُ مِنَ التَّغَيُّرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «صَفَاؤُهُنَّ كَصَفَاءِ الدُّرِّ الَّذِي لَا تَمَسُّهُ الْأَيْدِي» . وَقَالَ تَعَالَى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ، يَصِفُ امْرَأَةً بِالصَّوْنِ وَعَدَمِ الِابْتِذَالِ، فَشَبَّهَهَا بِالدُّرَّةِ الْمَكْنُونَةِ فِي صَدَفَتِهَا فقال: قامت ترا أي بَيْنَ سَجْفَيْ كِلَّةٍ ... كَالشَّمْسِ يَوْمَ طُلُوعِهَا بِالْأَسْعُدِ أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ: رُوِيَ أَنَّ الْمَنَازِلَ وَالْقِسَمَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ، وَنَفْسَ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ لَا بِعَمَلِ عَامِلٍ ، وَفِيهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي بِفَضْلٍ مِنْهُ وَرَحْمَةٍ» . لَغْواً: سَقْطُ الْقَوْلِ وَفُحْشُهُ، وَلا تَأْثِيماً: مَا يُؤْثِمُ أَحَدًا: وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي اللَّغْوِ وَلَا التَّأْثِيمِ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَسَلَامًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَصْدَرٌ نَصَبَهُ قِيلًا، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلاماً سَلاماً. وَقِيلَ: نُصِبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مَعْمُولُ قِيلًا، أَيْ قِيلًا اسْلَمُوا سَلَامًا. وَقِيلَ: سَلاماً بَدَلٌ مِنْ قِيلًا. وَقِيلَ: نَعْتٌ لِقِيلًا بِالْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا قِيلًا سَالِمًا مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ. فِي سِدْرٍ: فِي الْجَنَّةِ شَجَرٌ عَلَى خَلْقِهِ، لَهُ ثَمَرٌ كَقِلَالِ هَجَرَ طَيِّبُ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ. مَخْضُودٍ: عَارٍ مِنَ الشَّوْكِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَخْضُودُ: الْمُوَقَّرُ الَّذِي تَثْنِي أَغْصَانَهُ كَثْرَةُ حَمْلِهِ، مِنْ خَضَدَ الْغُصْنَ إِذَا أَثْنَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَطَلْحٍ بِالْحَاءِ وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: بِالْعَيْنِ، قَرَأَهَا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: الطَّلْحُ: الْمَوْزُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ بِالْمَوْزِ، وَلَكِنَّهُ شَجَرٌ ظِلُّهُ بَارِدٌ رَطْبٌ. وَقِيلَ: شَجَرُ أُمِّ غَيْلَانَ، وَلَهُ نُوَّارٌ كَثِيرٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: شَجَرٌ يُشْبِهُ طَلْحَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. وَالْمَنْضُودُ: الَّذِي نُضِّدَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ، فَلَيْسَتْ لَهُ سَاقٌ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 49.

تَظْهَرُ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ: لَا يَتَقَلَّصُ. بَلْ مُنْبَسِطٌ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا الظِّلُّ مِنْ سِدْرِهَا وَطَلْحِهَا. وَماءٍ مَسْكُوبٍ، قَالَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ: جَارٍ فِي أَخَادِيدَ. وَقِيلَ: مُنْسَابٌ لَا يُتْعَبُ فِيهِ بِسَاقِيَةٍ وَلَا رِشَاءٍ. لَا مَقْطُوعَةٍ: أَيْ هِيَ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، كَفَاكِهَةِ الدُّنْيَا، وَلا مَمْنُوعَةٍ: أَيْ لَا يُمْنَعُ مِنْ تَنَاوُلِهَا بِوَجْهٍ، وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْهَا كالتي في الدنيا. وقرىء: وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بِرَفْعِهِمَا، أَيْ وَهُنَاكَ فَاكِهَةٌ، وَفُرُشٍ: جَمْعُ فِرَاشٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِسُكُونِهَا مَرْفُوعَةً، نُضِّدَتْ حَتَّى ارْتَفَعَتْ، أَوْ رُفِعَتْ عَلَى الْأَسِرَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفِرَاشَ هُوَ مَا يُفْتَرَشُ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهِ وَالنَّوْمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْفُرُشِ النِّسَاءُ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْفِرَاشِ، وَرَفَعَهُنَّ فِي الْأَقْدَارِ وَالْمَنَازِلِ. وَالضَّمِيرُ فِي أَنْشَأْناهُنَّ عَائِدٌ عَلَى الْفُرُشِ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، إِذْ هُنَّ النِّسَاءُ عِنْدَهُ، وَعَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفُرُشُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْفُرُشِ ظَاهِرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَابِسِ الَّتِي تُفْرَشُ وَيُضْطَجَعُ عَلَيْهَا، أَيِ ابْتَدَأْنَا خلقهن ابتدأ جَدِيدًا مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ هُوَ الِاخْتِرَاعُ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ بِخَلْقٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْحُورِ اللَّاتِي لَسْنَ مِنْ نَسْلِ آدَمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إِنْشَاءَ الْإِعَادَةِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ لِبَنَاتِ آدَمَ. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً: وَالْعَرِبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَرُوبُ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا، وَقَالَهُ الْحَسَنُ، وَعَبَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا عَنْهُنَّ بِالْعَوَاشِقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: وَفِي الْخُدُورِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا الرَّوَادِفِ يُغْشَى دُونَهَا الْبَصَرُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَرُوبُ: الْمُحَسِّنَةُ لِلْكَلَامِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَنَاسٌ مِنْهُمْ شُجَاعٌ وَعَبَّاسٌ وَالْأَصْمَعِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَنَاسٌ مِنْهُمْ خَارِجَةُ وَكَرْدَمٌ وَأَبُو حليد عَنْ نَافِعٍ، وَنَاسٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَّادٌ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّهَا. أَتْراباً فِي الشَّكْلِ وَالْقَدِّ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنْشَأْناهُنَّ عَائِدٌ عَلَى الْحُورِ الْعِينِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ، لِأَنَّ تِلْكَ قِصَّةٌ قَدِ انْقَطَعَتْ، وَهِيَ قِصَّةُ السَّابِقِينَ، وَهَذِهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَاللَّامُ فِي لِأَصْحابِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْشَأْنَاهُنَّ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ: أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ: أَيْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَقَوْلِهِ قَبْلُ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْآخِرِينَ هُوَ فِي السَّابِقِينَ، وَقَوْلَهُ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هُوَ فِي أصحاب اليمين.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 إلى 96]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 96] وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

الْيَحْمُومُ: الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ. الْحِنْثُ، قال الخطابي: هو فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِدْلُ الثَّقِيلُ شُبِّهَ الْإِثْمُ بِهِ. الْهِيمُ: جَمْعُ أَهْيَمَ وَهَيْمَاءَ، وَالْهُيَامُ دَاءٌ مُعَطِّشٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ فَتَشْرَبُ حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَسْقَمَ سُقْمًا شَدِيدًا، قَالَ: فَأَصْبَحْتُ كَالْهَيْمَاءِ لَا الماء مبرد ... صَدَاهَا وَلَا يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا وَالْهِيمُ جَمْعُ هَيَامٍ: وَهُوَ الرَّمْلُ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: بِضَمِّهَا، قَالَ: هُوَ الرَّمْلُ الَّذِي لَا يَتَمَاسَكُ، فَبِالْفَتْحِ كَسَحَابٍ وَسُحُبٍ، ثُمَّ خُفِّفَ وَفُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِجَمْعِ أَهْيَمَ مِنْ قَلْبِ ضَمَّتِهِ كَسْرَةً لِتَصِحَّ الْيَاءُ، أَوْ بِالضَّمِّ يَكُونُ قَدْ جُمِعَ عَلَى فِعْلٍ، كَقُرَادٍ وَقِرْدٍ، ثُمَّ سُكِّنَتْ ضَمَّةُ الرَّاءِ فَصَارَ فِعْلًا، ثُمَّ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِبِيضٍ. أَمْنَى الرَّجُلُ النُّطْفَةَ وَمَنَّاهَا: قَذَفَهَا مِنْ إِحْلِيلِهِ. الْمُزْنُ: السَّحَابُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فلا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا أَوْرَيْتُ النَّارَ مِنَ الزِّنَادِ: قَدَحْتُهَا، وَوَرِيَ الزَّنْدُ نَفْسُهُ، وَالزِّنَادُ حَجَرَيْنِ أَوْ مِنْ حَجَرٍ وَحَدِيدَةٍ، وَمِنْ شَجَرٍ، لَا سِيَّمَا فِي الشَّجَرِ الرَّخْوِ كَالْمَرْخِ وَالْعِفَارِ وَالْكَلْحِ، وَالْعَرَبُ تَقْدَحُ بِعُودَيْنِ، تَحُكُّ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، وَيُسَمُّونَ الْأَعْلَى الزَّنْدَ وَالْأَسْفَلَ الزَّنْدَةَ، شَبَّهُوهُمَا بِالْعَجَلِ وَالطَّرُوقَةِ. أَقْوَى الرَّجُلُ: دخل في الْأَرْضَ، الْقُوَا، وَهِيَ. الْقَفْرُ، كَأَصْحَرَ دَخَلَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَقْوَى مِنْ أَقَامَ أَيَّامًا لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، وَأَقْوَتِ الدَّارُ: صَارَتْ قَفْرَاءَ. قَالَ الشاعر: يا دارمية بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ ادَّهَنَ: لَايَنَ وَهَاوَدَ فِيمَا لَا يُحْمَلُ عِنْدَ الْمُدْهِنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: الْحَزْمُ وَالْقُوَّةُ خَيْرٌ من السادهان والفهه والمهاع الْحُلْقُومُ: مَجْرَى الطَّعَامِ. الرُّوحُ: الِاسْتِرَاحَةُ. الرَّيْحَانُ: تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، لَآكِلُونَ

مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ، هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ، نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. لَمَّا ذَكَرَ حَالَ السَّابِقِينَ، وَأَتْبَعَهُمْ بِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ، ذكر حال أصحاب المشئمة فَقَالَ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَعْظِيمُ مُصَابِهِمْ. فِي سَمُومٍ: فِي أَشَدِّ حَرٍّ، وَحَمِيمٍ: مَاءٌ شَدِيدُ السُّخُونَةِ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ: دُخَانٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ سُرَادِقُ النَّارِ الْمُحِيطُ بِأَهْلِهَا، يَرْتَفِعُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى يُظِلَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْيَحْمُومُ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا وَابْنُ بُرَيْدَةَ: هُوَ جَبَلٌ فِي النَّارِ أَسْوَدُ، يَفْزَعُ أَهْلُ النَّارِ إِلَى ذُرَاهُ، فَيَجِدُونَهُ أَشَدَّ شَيْءٍ وَأَمَرَّ. لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ: صِفَتَانِ لِلظِّلِّ نُفِيَتَا، سُمِّيَ ظِلًّا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ كَالظِّلَالِ، وَنُفِيَ عَنْهُ بَرْدُ الظِّلِّ وَنَفْعُهُ لِمَنْ يَأْوِي إِلَيْهِ. وَلا كَرِيمٍ: تَتْمِيمٌ لِنَفْيِ صِفَةِ الْمَدْحِ فِيهِ، وَتَمْحِيقٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ فِي الظِّلِّ مِنَ الِاسْتِرْوَاحِ إِلَيْهِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ، أَوْ نَفْيٌ لِكَرَامَةِ مَنْ يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ. وَنُسِبَ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَالْمُرَادُ هُمْ، أَيْ يَسْتَظِلُّونَ إِلَيْهِ وَهُمْ مُهَانُونَ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ الْمَجْلِسُ الرَّدِيءُ لنيل الكرامة، وبدىء أَوَّلًا بِالْوَصْفِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ الظِّلُّ، وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ يَحْمُومٍ، فَهُوَ بَعْضُ الْيَحْمُومِ. ثُمَّ نَفَى عَنْهُ الْوَصْفَ الَّذِي يَبْغِي لَهُ الظِّلَّ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَا بَارِدًا وَلَا كَرِيمًا. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ صِفَةً لِيَحْمُومٍ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الظِّلُّ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ بِجَرِّهِمَا وَابْنُ عَبْلَةَ: بِرَفْعِهِمَا: أَيْ لَا هُوَ بَارِدٌ وَلَا كَرِيمٌ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ أَيْ لَا أَنَا حَرِجٌ. إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ: أَيْ فِي الدُّنْيَا، مُتْرَفِينَ: فِيهِ ذَمُّ التَّرَفِ وَالتَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّرَفُ طَرِيقٌ إِلَى الْبِطَالَةِ وَتَرْكِ التَّفَكُّرِ فِي الْعَاقِبَةِ. وَكانُوا يُصِرُّونَ:

أَيْ يُدَاوِمُونَ وَيُوَاظِبُونَ، عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: الشِّرْكُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ «1» الْآيَةَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ. وَيُبْعِدُهُ: وَكانُوا يَقُولُونَ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ، فَالْحِنْثُ الْعَظِيمُ: الشِّرْكُ. فقولهم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي: وَالصَّافَّاتِ، وَكَرَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَهْمَهُ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ حَسُنَ الْعَطْفُ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي لَمَبْعُوثُونَ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ بِنَحْنُ؟ قُلْتُ: حَسُنَ لِلْفَاصِلِ الَّذِي هُوَ الْهَمْزَةُ، كَمَا حَسُنَ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا «2» ، لِفَصْلِ لَا الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ. انْتَهَى. وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ هُنَا وَهُنَاكَ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُقَدِّرُونَ بَيْنَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ فِعْلًا فِي نَحْوِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا «3» ، وَلَا اسْمًا فِي نَحْوِ: أَوَآباؤُنَا، بَلِ الْوَاوُ وَالْفَاءُ لِعَطْفِ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا، وَالْهَمْزَةُ فِي التَّقْدِيرِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ. لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ قُدِّمَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِفْهَامَهُمْ عَنِ الْبَعْثِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِبْعَادِ وَالْإِنْكَارِ، أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن يُخْبِرَهُمْ بِبَعْثِ الْعَالَمِ، أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، لِلْحِسَابِ، وَبِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمُكَذِّبُونَ لِلْبَعْثِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْمِيقَاتُ: مَا وُقِّتَ بِهِ الشَّيْءُ، أَيْ حُدَّ، أَيْ إِلَى مَا وُقِّتْتُ بِهِ الدُّنْيَا مِنْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنْ، كَخَاتَمِ حَدِيدٍ. ثُمَّ إِنَّكُمْ: خِطَابٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَيُّهَا الضَّالُّونَ عَنِ الْهُدَى، الْمُكَذِّبُونَ لِلْبَعْثِ. وَخِطَابٌ أَيْضًا لِمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ: مِنَ الْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ وَالثَّانِيَةُ، إِنْ كَانَ مِنْ زَقُّومٍ بَدَلًا، فَمِنْ تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا، فَهِيَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيْ مِنْ شَجَرٍ الَّذِي هُوَ زَقُّومٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ شَجَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: مِنْ شجرة. فَمالِؤُنَ مِنْهَا: الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى شَجَرٍ، إِذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَهُوَ وَاضِحٌ. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُكِرَ عَلَى لَفْظِ الشَّجَرِ، كَمَا أُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى فِي مِنْهَا. قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ: مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَقَدْ جَعَلَ الضَّمِيرَيْنِ لِلشَّجَرَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الثَّانِي عَلَى تَأْوِيلِ الزَّقُّومِ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُهَا، وَهِيَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَأْكُولِ، أَوْ عَلَى الْأَكْلِ. انْتَهَى. فَلَمْ يَجْعَلْهُ عَائِدًا عَلَى شجر. وقرأ نافع

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 109، وسورة النحل: 16/ 38، وسورة النور: 24/ 53، وسورة فاطر: 35/ 42. (2) سورة الأنعام: 6/ 148. (3) سورة يوسف: 12/ 109، وسورة الحج: 22/ 46، وسورة غافر: 40/ 42، وسورة محمد: 47/ 10.

وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: شُرْبَ بِضَمِّ الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: بِكَسْرِهَا، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَشْرُوبِ، اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ والأعرج وابن المسيب وسبيب بْنُ الْحَبْحَابِ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَقِيسٌ. وَالْهِيمُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: جَمْعُ أَهْيَمَ، وَهُوَ الْجَمَلُ الَّذِي أَصَابَهُ الْهُيَامُ، وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ: جَمْعُ هَيْمَاءَ. وَقِيلَ: جَمْعُ هَائِمٍ وَهَائِمَةٍ، وَجَمْعُ فَاعِلٍ عَلَى فِعْلٍ شَاذٌّ، كَبَاذِلٍ وبذل، وعائد وَعِوْذٍ وَالْهَائِمُ أَيْضًا مِنَ الْهُيَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمَلَ إِذَا أَصَابَهُ ذَلِكَ هَامَ عَلَى وَجْهِهِ وَذَهَبَ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانُ: لهيم: الرِّمَالُ الَّتِي لَا تُرْوَى مِنَ الْمَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مُفْرَدِهِ، أَهْوَ الْهَيَامُ بِفَتْحِ الْهَاءِ، أَمْ بِالضَّمِّ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجُوعِ مَا يَضْطَرُّهُمْ إِلَى أَكْلِ الزَّقُّومِ الَّذِي كالمهل، فإذا ملأوا مِنْهُ الْبُطُونَ، سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَطَشِ مَا يَضْطَرُّهُمْ إِلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ الَّذِي يقطع أمعاهم، فَيَشْرَبُونَهُ شُرْبَ الْهِيمِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ عَطْفُ الشَّارِبِينَ عَلَى الشَّارِبِينَ، وَهُمَا لِذَوَاتٍ مُتَّفِقَةٍ وَصِفَتَانِ مُتَّفِقَتَانِ، فَكَانَ عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ؟ قُلْتُ: لَيْسَتَا بِمُتَّفِقَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ كَوْنَهُمْ شَارِبِينَ لِلْحَمِيمِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَنَاهِي الْحَرَارَةِ، وَقَطْعِ الْأَمْعَاءِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَشُرْبَهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا تَشْرَبُ الْهِيمُ الْمَاءَ، أَمْرٌ عَجِيبٌ أَيْضًا فَكَانَتَا صِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. انْتَهَى. وَالْفَاءُ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي الشُّرْبَيْنِ، وَأَنَّهُمْ أَوَّلًا لَمَّا عَطِشُوا شَرِبُوا مِنَ الْحَمِيمِ ظَنًّا أَنَّهُ يُسَكِّنُ عَطَشَهُمْ، فَازْدَادَ الْعَطَشُ بِحَرَارَةِ الْحَمِيمِ، فَشَرِبُوا بَعْدَهُ شُرْبًا لَا يَقَعُ بِهِ رَيٌّ أَبَدًا، وَهُوَ مِثْلُ شُرْبِ الْهِيمِ، فَهُمَا شُرْبَانِ مِنَ الْحَمِيمِ لَا شُرْبٌ وَاحِدٌ، اخْتَلَفَتْ صِفَتَاهُ فَعُطِفَ، وَالْمَقْصُودُ الصِّفَةُ. وَالْمَشْرُوبُ مِنْهُ فِي فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَشَارِبُونَ مِنْهُ شُرْبَ الْهِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُزُلُهُمْ بِضَمِّ الزَّايِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَخَارِجَةُ، عَنْ نَافِعٍ وَنُعَيْمٍ وَمَحْبُوبٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَهَارُونُ وَعِصْمَةُ وَعَبَّاسٌ، كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالسُّكُونِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَأْكُلُهُ الضَّيْفُ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِالْكُفَّارِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا يَوْمَ الدِّينِ: أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ. نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بِالْإِعَادَةِ وَتُقِرُّونَ بِهَا، كَمَا أَقْرَرْتُمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى، وَهِيَ خَلْقُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بِالْإِعَادَةِ وَتُقِرُّونَ

بِهَا كَمَا أَقْرَرْتُمْ، فَهُوَ حَضٌّ عَلَى التَّصْدِيقِ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» ، أَوْ: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ به، ثُمَّ حَضَّ عَلَى التَّصْدِيقِ عَلَى وَجْهِ تَقْرِيعِهِمْ بِسِيَاقِ الْحُجَجِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصْدِيقِ، وَكَانَ كَافِرًا، قَالَ: وَلِمَ أُصَدِّقُ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْتَ كَذَا مِمَّا الْإِنْسَانُ مَفْطُورٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ؟ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، وَهُوَ الْمَنِيُّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ فِي خَلْقِهِ عَمَلٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يخلقونه: تُقَدِّرُونَهُ وَتُصَوِّرُونَهُ. انْتَهَى، فَحُمِلَ الْخَلْقُ عَلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّصْوِيرِ، لَا عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَيَجُوزُ فِي أَأَنْتُمْ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرَهُ تَخْلُقُونَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَخْلُقُونَهُ؟ فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ، انْفَصَلَ الضَّمِيرُ وَجَاءَ أَفَرَأَيْتُمْ هُنَا مُصَرَّحًا بِمَفْعُولِهَا الْأَوَّلِ. وَمَجِيءُ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِيهَا، إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي. وَجَاءَ بَعْدَ أَمْ جُمْلَةٌ فَقِيلَ: أَمْ مُنْقَطِعَةٌ، وَلَيْسَتِ الْمُعَادَلَةُ لِلْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ هُنَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَى اسْتِفْهَامَيْنِ، فَجَوَابُ الْأَوَّلِ لَا، وَجَوَابُ الثَّانِي نَعَمْ، فَتُقَدَّرُ أَمْ عَلَى هَذَا، بَلْ أَنَحْنُ الْخَالِقُونَ فَجَوَابُهُ نَعَمْ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ النُّحَاةِ: أَمْ هُنَا مُعَادِلَةٌ لِلْهَمْزَةِ، وَكَانَ مَا جَاءَ مِنَ الْخَبَرِ بَعْدَ نَحْنُ جِيءَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ لَوْ قَالَ: أَمْ نَحْنُ، لَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ دُونَ ذِكْرِ الْخَبَرِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ جَوَابُ مَنْ قَالَ: مَنْ فِي الدَّارِ؟ زَيْدٌ فِي الدَّارِ، أَوْ زَيْدٌ فِيهَا، وَلَوِ اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى زَيْدٍ لَاكْتُفِيَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تُمْنُونَ بِضَمِّ التَّاءَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِفَتْحِهَا. وَالْجُمْهُورُ: قَدَّرْنا، بِشَدِّ الدَّالِ وَابْنُ كَثِيرٍ: يُخِفُّهَا، أَيْ قَضَيْنَا وَأَثْبَتْنَا، أَوْ رَتَّبْنَا فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَلَيْسَ مَوْتُ الْعَالَمِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ بِتَرْتِيبٍ لَا يَتَعَدَّى. وَيُقَالُ: سَبَقْتَهُ عَلَى الشَّيْءِ: أَعْجَزْتَهُ عَنْهُ وَغَلَبْتَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ: أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، لَا تَغْلِبُونَنَا عَلَيْهِ، إِنْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى نَحْنُ قَادِرُونَ، قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ : أَيْ بِمَوْتِ طَائِفَةٍ وَنُبَدِّلُهَا بِطَائِفَةٍ، هَكَذَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ. انْتَهَى. فَعَلَى أَنْ نُبَدِّلَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ قَدَّرْنا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْبُوقِينَ، أَيْ لَا نُسْبَقُ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ، وَأَمْثَالَكُمْ جَمْعُ مِثْلٍ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ الصِّفَاتِ: أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَعْدِمَكُمْ وننشىء أَمْثَالَكُمْ، وَعَلَى تَغْيِيرِ أَوْصَافِكُمْ مِمَّا لَا يُحِيطُ بِهِ فِكْرُكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ كَوْنِكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَنْحُو إلى

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 87.

الوعيد. ويجوز أن يكون أَمْثالَكُمْ جَمْعَ مِثْلٍ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُغَيِّرَ صِفَاتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا خَلْقًا وَخُلُقًا، وَنُنْشِئَكُمْ فِي صِفَاتٍ لَا تَعْلَمُونَهَا. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى: أَيْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، أَوَّلًا أَنْشَأْنَا إِنْسَانًا. وَقِيلَ: نَشْأَةُ آدَمَ، وَأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، وَلَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ. فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ: حَضٌّ عَلَى التَّذْكِيرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِالنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَذَّكَّرُونَ بِشَدِّ الذَّالِ وَطَلْحَةُ يُخِفُّهَا وَضَمِّ الْكَافِ، قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ وَالْحَضِّ عَلَيْهِ. انْتَهَى، وَلَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى قِيَاسِ الْأَوْلَى، لَا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ: مَا تَذْرُونَهُ فِي الْأَرْضِ وَتَبْذُرُونَهُ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ: أَيْ زَرْعًا يَتِمُّ وَيَنْبُتُ حَتَّى يُنْتَفَعَ بِهِ، وَالْحُطَامُ: الْيَابِسُ الْمُتَفَتِّتُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبٌّ يُنْتَفَعُ بِهِ. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: تَعْجَبُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَلَاوَمُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَنْدَمُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَنْفَجِعُونَ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ. وَمَعْنَى تَفَكَّهُونَ: تَطْرَحُونَ الْفُكَاهَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَهِيَ الْمَسَرَّةُ، وَرَجُلٌ فَكِهٌ: مُنْبَسِطُ النَّفْسِ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِشَيْءٍ، وَتَفَكَّهَ مِنْ أَخَوَاتِ تَخَرَّجَ وَتَحَوَّبَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَظَلْتُمْ، بِفَتْحِ الظَّاءِ وَلَامٍ وَاحِدَةٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ الْقَيْكِيِّ عَنْهُ: بِكَسْرِهَا. كَمَا قَالُوا: مَسَّتْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَحَكَاهَا الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَاءَتْ عَنِ الْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَظَلِلْتُمْ عَلَى الْأَصْلِ، بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ أَيْضًا: بِفَتْحِهَا، وَالْمَشْهُورُ ظَلِلْتُ بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفَكَّهُونَ وَأَبُو حَرَامٍ: بِالنُّونِ بَدَلَ الْهَاءِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: تَفَكَّهَ: تَعَجَّبَ، وَتَفَكَّنَ: تَنَدَّمَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ: أَيْ يَقُولُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّا وَالْأَعْمَشُ والجحدري وأبو بكر: أإنا بِهَمْزَتَيْنِ، لَمُغْرَمُونَ: أَيْ مُعَذَّبُونَ مِنَ الْغَرَامِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْعَذَابِ، قَالَ: إِنْ يُعَذِّبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ ... يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي أَوْ لَمُحَمَّلُونَ الْغُرْمَ فِي النَّفَقَةِ، إِذْ ذَهَبَ عَنَّا غَرِمَ الرَّجُلُ وَأَغْرَمْتُهُ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ: مَحْدُودُونَ، لَا حَظَّ لَنَا فِي الْخَيْرِ. الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. هَذَا الْوَصْفُ يُغْنِي عَنْ وَصْفِهِ بالعذاب. أَلَا تَرَى مُقَابِلَهُ، وَهُوَ الْأُجَاجُ؟ وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي لَجَعَلْناهُ حُطاماً، وَسَقَطَتْ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْناهُ أُجاجاً، وَكِلَاهُمَا فَصِيحٌ. وَطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مُسَوِّغِ ذَلِكَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْحَرْفَ إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ، وَعُرِفَ وَاشْتُهِرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، جَازَ حَذْفُهُ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ. فَإِنَّ اللَّامَ عَلَمٌ لِارْتِبَاطِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأُولَى، فَجَازَ حَذْفُهُ اسْتِغْنَاءً

بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ. وَذُكِرَ فِي كَلَامِهِ أَنَّ الثَّانِيَ امْتَنَعَ لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، إِنَّمَا هَذَا قَوْلُ ضُعَفَاءِ الْمُعْرِبِينَ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ الْأَوَّلِ. وَيُفْسِدُ قَوْلَ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ إِنْسَانًا لَكَانَ حَيَوَانًا، فَالْحَيَوَانِيَّةُ لَا تَمْتَنِعُ لِامْتِنَاعِ الْإِنْسَانِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ اللَّامَ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّوْكِيدِ لَا مَحَالَةَ، وَأُدْخِلَتْ فِي آيَةِ الْمَطْعُومِ دُونَ آيَةِ الْمَشْرُوبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْمَطْعُومِ مُقَدَّمٌ عَلَى أَمْرِ الْمَشْرُوبِ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ بِفَقْدِهِ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ، وَلِهَذَا قُدِّمَتْ آيَةُ الْمَطْعُومِ عَلَى آيَةِ الْمَشْرُوبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَجَرَتَها، الْمُرَادُ مِنْهُ الشَّجَرُ الَّذِي يُقْدَحُ مِنْهُ النَّارُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّجَرَةِ نَفْسُ النَّارِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: نَوْعُهَا أَوْ جِنْسُهَا، فَاسْتَعَارَ الشَّجَرَةَ لِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَكَلَّفٌ. نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً: أَيْ لِنَارِ جَهَنَّمَ، وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ: أَيِ النَّازِلِينَ الْأَرْضَ الْقُوَا، وَهِيَ الْقَفْرُ. وَقِيلَ: لِلْمُسَافِرِينَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ: الْجَائِعِينَ، ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقَدَّمَ مِنْ فَوَائِدِ النَّارِ مَا هُوَ أَهَمُّ وَآكَدُ مِنْ تَذْكِيرِهَا بِنَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِفَائِدَتِهَا فِي الدُّنْيَا. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَقَّفَهُمْ عَلَيْهَا، مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِمْ وَمَا بِهِ قِوَامُ عَيْشِهِمْ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ. وَالنَّارُ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْبَعْثِ، وَفِيهَا انْتِقَالٌ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَإِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ فِي آخِرِهَا بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ. وَوَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْعَظِيمِ، إِذْ مَنْ هَذِهِ أَفْعَالُهُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ، فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا أُقْسِمُ، فَقِيلَ: لَا زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ

الْكِتابِ «1» ، وَالْمَعْنَى: فَأُقْسِمُ. وَقِيلَ: الْمَنْفِيُّ الْمَحْذُوفُ، أَيْ فَلَا صِحَّةَ لِمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ. ثُمَّ ابْتَدَأَ أُقْسِمُ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَبَعْضُ النُّحَاةِ وَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَذْفَ اسْمِ لَا وَخَبَرِهَا، وَلَيْسَ جَوَابًا لِسَائِلٍ سَأَلَ، فَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ، نَحْوَ قَوْلِهِ لَا لِمَنْ قَالَ: هَلْ مِنْ رَجُلٍ فِي الدَّارِ؟ وَقِيلَ: تَوْكِيدُ مُبَالَغَةٍ مَا، وَهِيَ كَاسْتِفْتَاحِ كَلَامٍ شَبَهُهُ فِي الْقَسَمِ، إِلَّا فِي شَائِعِ الْكَلَامِ الْقَسَمِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ. فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أَخُونُهَا وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّهَا لَامٌ أُشْبِعَتْ فَتْحَتُهَا، فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَلِفٌ، كَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَقَدْ جَاءَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ «2» بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ هِشَامٍ، فَالْمَعْنَى: فَلَأُقْسِمُ، كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَعِيسَى، وَخَرَّجَ قِرَاءَةَ الْحَسَنِ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَلَأَنَا أُقْسِمُ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِنَّمَا ذَهَبَا إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حَالٌ، وَفِي الْقَسَمِ عَلَيْهِ خِلَافٌ. فَالَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِعْلَ الْحَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ، فَاحْتَاجُوا إِلَى أَنْ يُصَوِّرُوا الْمُضَارِعَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، فَيُقْسَمَ عَلَيْهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ جَوَازَ الْقَسَمِ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ، وَهَذَا الَّذِي أَخْتَارُهُ فَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَخْرُجُ زَيْدٌ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ قَسَمٍ لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّهَا أَنْ تُقْرَنَ بِهَا النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ، وَالْإِخْلَالُ بِهَا ضَعِيفٌ قَبِيحٌ وَالثَّانِي: أَنَّ لَأَفْعَلَنَّ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَفِعْلُ الْقَسَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ. انْتَهَى. أَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ خِلَافٌ، فَالَّذِي قَالَهُ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَيَخْتَارُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُجِيزُونَ تَعَاقُبَهُمَا، فَيُجِيزُونَ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا، وَأَضْرِبَنَّ عَمْرًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَصَحِيحٌ، لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي رَجَحَ عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي لَا أُقْسِمُ لَامَ الْقَسَمِ، وَأُقْسِمُ فِعْلَ حَالٍ، وَالْقَسَمُ قَدْ يَكُونُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى «3» . فَاللَّامُ في

_ (1) سورة الحديد: 57/ 29. (2) سورة إبراهيم: 14/ 37. (3) سورة التوبة: 9/ 107.

وَلَيَحْلِفُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، وَهُوَ قَسَمٌ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَلِفُهُمْ حَالًا، بَلْ مُسْتَقْبَلًا، لَزِمَتِ النُّونُ، وَهِيَ مُخْلِصَةُ الْمُضَارِعِ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَواقِعِ جَمْعًا وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِمَوْقِعِ مُفْرَدًا، مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ نُجُومُ الْقُرْآنِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: بِمَواقِعِ النُّجُومِ، أَيْ نُجُومِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: النُّجُومُ: الْكَوَاكِبُ وَمَوَاقِعُهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَوَاقِعُهَا: مَوَاضِعُهَا مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَوَاقِعُهَا عِنْدَ الِانْكِدَارِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: عِنْدَ الِانْفِضَاضِ إِثْر الْعُفَارِي، وَمَنْ تَأَوَّلَ النُّجُومَ عَلَى أَنَّهَا الْكَوَاكِبُ، جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» . وَفِي إِقْسَامِهِ تَعَالَى بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ سِرٌّ فِي تَعْظِيمِ ذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ، وَقَدْ أَعْظَمَ ذَلِكَ تَعَالَى فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. وَالْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: لَوْ تَعْلَمُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ وَتَنْبِيهٌ مِنَ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، بَلْ هَذَا مَعْنًى قُصِدَ التَّهَمُّمِ بِهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِرَاضُ قَوْلُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ. انْتَهَى. وَكَرِيمٌ: وَصْفُ مَدْحٍ يَنْفِي عنه مالا يَلِيقُ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرِيمٌ: حَسَنٌ مُرْضِيٌّ فِي جِنْسِهِ مِنَ الْكُتُبِ، أَوْ نَفَّاعٌ جَمُّ الْمَنَافِعِ، أَوْ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ: أَيْ مَصُونٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْكِتَابُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، كَأَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ كَرَمُهُ وَشَرَفُهُ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقِيلَ: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ: أَيْ فِي مَصَاحِفَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصُونَةٍ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، وَلَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ مَصَاحِفُ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِغَيْبٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَصْفٌ لِقُرْآنٍ كَرِيمٍ، فَالْمُطَهَّرُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: لَا يَمَسُّهُ صِفَةٌ لِكِتَابٍ مَكْنُونٍ، فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، فَالْمُطَهَّرُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا: أَيْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ سِوَاهُمْ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِكِتَابٍ مَكْنُونٍ الصُّحُفُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمَسَّهُ إلا من هو

_ (1) سورة ص: 38/ 32.

عَلَى طَهَارَةٍ مِنَ النَّاسِ. وَإِذَا كَانَ الْمُطَهَّرُونَ هُمُ الملائكة، ولا يَمَسُّهُ نَفْيٌ، وَيُؤَيِّدُ الْمَنْفِيَّ مَا يَمَسُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَإِذَا عُنِيَ بِهِمُ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْجَنَابَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مَحْضًا، وَيَكُونَ حُكْمُهُ أَنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَإِنْ كَانَ يَمَسُّهُ غَيْرُ الْمُطَهَّرِ، كَمَا جَاءَ: لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، أَيِ الْحُكْمُ هَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ الْعَضَدُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ، فَالضَّمَّةُ فِي السِّينِ إِعْرَابٌ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا فَلَوْ فُكَّ ظَهَرُ الْجَزْمُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أُدْغِمَ كَانَ مَجْزُومًا فِي التَّقْدِيرِ، وَالضَّمَّةُ فِيهِ لِأَجْلِ ضَمَّةِ الْهَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّا لَمْ نرده عليك» ، إلا إنا جُزِمَ، وَهُوَ مَجْزُومٌ، وَلَمْ يَحْفَظْ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْمَجْزُومِ الْمُدْغَمِ الْمُتَّصِلِ بِالْهَاءِ ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ إِلَّا الضَّمَّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ لَا يَمَسُّهُ نَهْيٌ، قَوْلٌ فِيهِ ضَعْفٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَنْزِيلٌ صِفَةٌ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ نَهْيًا، جَاءَ مَعْنَاهُ أَجْنَبِيًّا مُعْتَرَضًا بَيْنَ الصِّفَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِي وَصْفِ الْكَلَامِ فَتَدَبَّرْهُ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَمَسُّهُ، وَهَذَا يُقَوِّي مَا رَجَّحْتُهُ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي مَعْنَاهُ حَقُّهُ وَقَدْرُهُ أَنْ لَا يَمَسَّهُ إِلَّا طَاهِرٌ. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ صِفَةً، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَيَحْسُنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ لَا يَمَسُّهُ نَهْيًا. وَذَكَرُوا هَنَا حُكْمَ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى منع ذلك. وقرأ الجمهور: الْمُطَهَّرُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ طَهَّرَ مُشَدَّدًا وَعِيسَى: كَذَلِكَ مُخَفَّفًا مِنْ أَطْهَرَ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: الْمُطَهَّرُونَ، بِخَفِّ الطَّاءِ وَشَدِّ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا: اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ طَهَرَ، أَيِ الْمُطَهِّرِينَ أَنْفُسَهُمْ وَعَنْهُ أَيْضًا الْمُطَّهَّرُونَ بِشَدِّهِمَا، أَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرُونَ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عوف. وقرىء: المتطهرون. وقرىء: تَنْزِيلًا بِالنَّصْبِ، أَيْ نُزِّلَ تَنْزِيلًا، وَالْإِشَارَةُ فِي: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ للقرآن، وأَنْتُمْ: خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، مُدْهِنُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُهَاوِدُونَ فِيمَا لَا يَحِلُّ. وَقَالَ أَيْضًا: مُكَذِّبُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ: أَيْ شُكْرُ مَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ تَكْذِيبُكُمْ بِهِ، أَيْ تَضَعُونَ مَكَانَ الشُّكْرِ التَّكْذِيبَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الرَّاجِزِ: مَكَانُ شُكْرِ الْقَوْمِ عِنْدَ الْمِنَنِ ... كَيُّ الصَّحِيحَاتِ وَفَقْءُ الْأَعْيُنِ وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهِ السَّوَادَ. وَحَكَى الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَنَّ مِنْ لُغَةِ أزد شنؤه مَا رَزَقَ فُلَانٌ فُلَانًا، بِمَعْنَى: مَا شَكَرَهُ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْوَاءِ، وَنِسْبَةُ السُّقْيَا إِلَيْهَا، وَالرِّزْقُ: الْمَطَرُ، فَالْمَعْنَى: مَا يَرْزُقُكُمُ اللَّهُ مِنَ

الْغَيْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَوْبِيخٌ لِلْقَائِلِينَ فِي الْمَطَرِ، هَذَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا بِنَوْءِ الْأَسَدِ، وَهَذَا بِنَوْءِ الْجَوْزَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُكَذِّبُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَعَلِيٌّ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مِنَ الْكَذِبِ، فَالْمَعْنَى مِنَ التَّكْذِيبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ الْقُرْآنُ أَوِ الْمَطَرُ، حَيْثُ يَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى النُّجُومِ. وَمِنَ الْكَذِبِ قَوْلُهُمْ: فِي الْقُرْآنِ سِحْرٌ وَافْتِرَاءٌ، وَفِي الْمَطَرِ مِنَ الْأَنْوَاءِ. فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَرْتِيبُ الْآيَةِ: فَلَوْلَا تَرْجِعُونَهَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، فَلَوْلَا الثَّانِيَةُ مُكَرِّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالضَّمِيرُ فِي تَرْجِعُونَهَا لِلنَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَوْقِيفٌ عَلَى مَوْضِعِ عَجْزٍ يَقْتَضِي النَّظَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَنْتُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، حِينَئِذٍ: حِينَ إِذْ بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، تَنْظُرُونَ: أَيْ إِلَى النَّازِعِ فِي الْمَوْتِ. وَقَرَأَ عِيسَى: حِينَئِذٍ بِكَسْرِ النُّونِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ فِي إِذْ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ: مِنَ الْبَصِيرَةِ بِالْقَلْبِ، أَوْ أَقْرَبُ: أَيْ مَلَائِكَتُنَا وَرُسُلُنَا، وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ: مِنَ الْبَصَرِ بِالْعَيْنِ. ثُمَّ عَادَ التَّوْقِيفُ وَالتَّقْدِيرُ ثَانِيَةً بِلَفْظِ التَّخْصِيصِ. وَالْمَدِينُ: الْمَمْلُوكُ. قَالَ الْأَخْطَلُ: رَبَّتْ وَرَبَّانِي فِي حِجْرِهَا ابْنُ مَدِينَةٍ قِيلَ: ابْنُ مَمْلُوكَةٍ يَصِفُ عَبْدًا ابْنَ أَمَةٍ، وَآخِرُ الْبَيْتِ: تَرَاهُ عَلَى مَسْحَانَةٍ يَتَوَكَّلُ وَالْمَعْنَى: فَلَوْلَا تَرْجِعُونَ النَّفْسَ الْبَالِغَةَ إِلَى الحلقوم إن كنتم غير مَمْلُوكِينَ وَغَيْرَ مَقْهُورِينَ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي تَعْطِيلِكُمْ وَكُفْرِكُمْ بِالْمُحْيِي الْمُمِيتِ الْمُبْدِئِ الْمُعِيدِ، إِذْ كَانُوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ وَافْتِرَاءٌ، وَأَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْمَطَرِ هُوَ بِنَوْءِ، كَذَا تَعْطِيلٌ لِلصَّانِعِ وَتَعْجِيزٌ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقوله تَرْجِعُونَها سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِهَا، وَالْبَيَانَاتُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا التَّخْصِيصَاتُ، وَإِذَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَوْلا إِذا، وإن الْمُتَكَرِّرَةُ، وَحَمَلَ بَعْضُ الْقَوْلِ بَعْضًا إِيجَازًا وَاقْتِصَارًا. انْتَهَى. وَتَقُولُ: إِذا لَيْسَتْ شَرْطِيَّةً، فَتَسُدُّ تَرْجِعُونَها مَسَدَّ جَوَابِهَا، بَلْ هِيَ ظَرْفٌ غَيْرُ شَرْطٍ مَعْمُولٌ لِتَرْجِعُونَهَا الْمَحْذُوفِ بَعْدَ فَلَوْلَا، لِدَلَالَةِ تَرْجِعُونَهَا فِي التَّخْصِيصِ الثَّانِي عَلَيْهِ، فَجَاءَ التَّخْصِيصُ الْأَوَّلُ مُقَيَّدًا بِوَقْتِ بُلُوغِ الْحُلْقُومِ، وَجَاءَ التَّخْصِيصُ الثَّانِي مُعَلَّقًا عَلَى انْتِفَاءِ مَرْبُوبِيَّتِهِمْ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى رُجُوعِهَا، إِذْ مَرْبُوبِيَّتِهِمْ مَوْجُودَةٌ، فَهُمْ مَقْهُورُونَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ.

فَأَمَّا إِنْ كانَ: أَيِ الْمُتَوَفَّى، مِنَ الْمُقَرَّبِينَ: وَهُمُ السَّابِقُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَرَوْحٌ، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَعَائِشَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَنُوحٌ الْقَارِئُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَشْهَبُ، وَشُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَفَيَّاضٌ، وَعُبَيْدٌ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بْنُ صَيَّانَ، وَزَيْدٌ، وَرُوَيْسٌ عَنْهُ: بِضَمِّهَا. قَالَ الْحَسَنُ: الرُّوحُ: الرَّحْمَةُ، لِأَنَّهَا كَالْحَيَاةِ لِلْمَرْحُومِ. وَقَالَ أَيْضًا: رُوحُهُ تَخْرُجُ فِي رَيْحَانٍ. وَقِيلَ: الرُّوحُ: الْبَقَاءُ، أَيْ فَهَذَانِ لَهُ مَعًا، وَهُوَ الْخُلُودُ مَعَ الرِّزْقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الِاسْتِرَاحَةُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ أَيْضًا: الرَّيْحَانُ، هَذَا الشَّجَرُ الْمَعْرُوفُ فِي الدُّنْيَا، يَلْقَى الْمُقَرَّبُ رَيْحَانًا مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ ظَرْفُ كُلِّ بَقْلَةٍ طَيِّبَةٍ فِيهَا أَوَائِلُ النَّوْرِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الرَّيْحَانُ: مِمَّا تَنْبَسِطُ بِهِ النُّفُوسُ، فَرَوْحٌ: فَسَلَامٌ، فَنُزُلٌ الْفَاءُ جَوَابُ أَمَّا تَقَدَّمَ. أَمَّا وَهِيَ فِي تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ شَرْطٌ وَإِذَا اجْتَمَعَ شَرْطَانِ، كَانَ الْجَوَابُ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا. وَجَوَابُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ اللَّفْظِ، أَوْ مَصْحُوبًا بِلَمْ، وَأَغْنَى عَنْهُ جَوَابُ أَمَّا، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ جَوَابُ إِنْ، وَجَوَابُ أَمَّا مَحْذُوفٌ، وَلَهُ قَوْلٌ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ الفاء جواب لَأَمَّا، وَالشَّرْطِ مَعًا، وَقَدْ أَبْطَلْنَا هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالتَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَالْخِطَابُ فِي ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لَا تَرَى فِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا السَّلَامَةَ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ لِكُلِّ مُعْتَبِرٍ مِنْ أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى: فَسَلَامٌ لَكَ أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى: فَيُقَالُ لَهُمْ: مُسَلَّمٌ لَكَ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَقِيلَ: فَسَلَامٌ لَكَ يَا صَاحِبَ الْيَمِينِ مِنْ إِخْوَانِكَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَيْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكَ، كَقَوْلِهِ: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً. وَالْمُكَذِّبُونَ الضَّالُّونَ هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، أَصْحَابُ الشِّمَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَصْلِيَةُ رَفْعًا، عَطْفًا عَلَى فَنُزُلٌ وَأَحْمَدُ بْنُ مُوسَى وَالْمِنْقَرِيُّ وَاللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَبِي عمرو: بجر التاء عَطْفًا عَلَى مِنْ حَمِيمٍ. وَلَمَّا انْقَضَى الْإِخْبَارُ بِتَقْسِيمِ أَحْوَالِهِمْ وَمَا آلَ إِلَيْهِ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمْ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا: أَيْ إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، فَقِيلَ:

هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا يَقِينُ الْيَقِينِ وَصَوَابُ الصَّوَابِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا نِهَايَةٌ فِي ذَلِكَ، فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أُضِيفَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ جُعِلَ الْحَقُّ مُبَايِنًا لِلْيَقِينِ، أَيِ الثَّابِتِ الْمُتَيَقَّنِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مُسْهَبًا الْكَلَامُ فِيهِمْ، أَمَرَهُ تَعَالَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ. وَلَمَّا أَعَادَ التَّقْسِيمَ مُوجِزًا الْكَلَامَ فِيهِ، أَمَرَهُ أَيْضًا بِتَنْزِيهِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَقْوَالِ الْكَفَرَةِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ سَبِّحْ يَتَعَدَّى تَارَةً بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» ، وَيُسَبِّحُوهُ وَتَارَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ، كَقَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، وَالْعَظِيمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرَبِّكَ.

_ (1) سُورَةُ الأعلى: 87/ 1.

سورة الحديد

سورة الحديد [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. قَالَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ، كَالزَّمَخْشَرِيِّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ، أَنَّ فِيهَا قُرْآنًا مَدَنِيًّا، لَكِنْ يُشْبِهُ صَدْرُهَا أَنْ يَكُونُ مَكِّيًّا.

ومناسبة أول هذه السورة لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ وَالْتَزَمَهُ كُلُّ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، وَأَتَى سَبِّحْ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَيُسَبِّحُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَكُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْمُومَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَإِنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُ من في السموات وَالْأَرْضِ. وَالتَّسْبِيحُ هُنَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ بِمَعْنَى التَّنْزِيهِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: فِيمَنْ يُمْكِنُ التَّسْبِيحُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: مَجَازٌ، بِمَعْنَى: أَنَّ أَثَرَ الصَّنْعَةِ فِيهَا يُنَبِّهُ الرَّائِي عَلَى التَّسْبِيحِ. وَقِيلَ: التَّسْبِيحُ هُنَا الصَّلَاةُ، فَفِي الْجَمَادِ بَعِيدٌ، وَفِي الْكَافِرِ سُجُودُ ظِلِّهِ صَلَاتُهُ، وَفِي الْمُؤْمِنِ ذَلِكَ سَائِغٌ، وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ فِي: نَصَحْتُ لِزَيْدٍ، يُقَالُ: سَبِّحِ اللَّهَ، كَمَا يُقَالُ نَصَحْتُ زَيْدًا، فَجِيءَ بِاللَّامِ لِتَقْوِيَةِ وُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ أَحْدِثِ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ لِوَجْهِهِ خَالِصًا. يُحْيِي وَيُمِيتُ: جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِقَوْلِهِ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَهُ الْمُلْكُ، أَخْبَرَ عَنْ ذَاتِهِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَمَامُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ إِيجَادُ مَا شَاءَ وَإِعْدَامُ مَا شَاءَ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي لَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. هُوَ الْأَوَّلُ: الَّذِي لَيْسَ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ مُفْتَتَحَةٌ، وَالْآخِرُ: أَيِ الدَّائِمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مُنْقَضِيَةٌ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْآخِرُ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ كُلِّ شَيْءٍ. وَالظَّاهِرُ بِالْأَدِلَّةِ وَنَظَرِ الْعُقُولِ فِي صِفَتِهِ، وَالْباطِنُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُدْرَكٍ بِالْحَوَاسِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْأَوَّلُ بِالْأَزَلِيَّةِ، وَالْآخِرُ بِالْأَبَدِيَّةِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْغَالِبُ لَهُ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ إِذَا عَلَاهُ وَغَلَبَهُ وَالْباطِنُ: الَّذِي بَطَنَ كُلَّ شَيْءٍ، أَيْ عَلِمَ بَاطِنَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى الْوَاوِ؟ قُلْتُ: الْوَاوُ الْأُولَى مَعْنَاهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ الْجَامِعُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى أَنَّهُ الْجَامِعُ بَيْنَ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ وَأَمَّا الوسطى فعل أَنَّهُ الْجَامِعُ بَيْنَ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَمَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ. فَهُوَ الْمُسْتَمِرُّ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ. جَامِعُ الظُّهُورِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْخَفَاءِ، فَلَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَفِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ جَوَّزَ إِدْرَاكَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحَاسَّةِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَطَرِ وَالْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَما يَخْرُجُ مِنْها مِنَ

النَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ وَغَيْرِهِ، وَما يَعْرُجُ فِيها من الْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئِهَا، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ: أَيْ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْمَعْنَى عِلْمُهُ مَعَكُمْ، وَهَذِهِ آيَةٌ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِيهَا، وَأَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ الْمَعِيَّةِ بِالذَّاتِ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ التَّأْوِيلَ فِي غَيْرِهَا مِمَّا يُجْرَى مَجْرَاهَا مِنِ اسْتِحَالَةِ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِيمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ تَأْوِيلِ مَا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَأَوَّلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، لَوِ اتَّسَعَ عَقْلُهُ لَتَأَوَّلَ غَيْرَ هَذَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْأُمُورُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، أَعْرَاضِهَا وَجَوَاهِرِهَا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا قَبْلَ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَسْبِيحَ الْعَالَمِ لَهُ، وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُلْكِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْعُلَا، وَخَتَمَهَا بِالْعَالِمِ بِخَفِيَّاتِ الصُّدُورِ، أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِدَامَتِهِ، وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ: أَيْ لَيْسَتْ لَكُمْ بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ إِلَيْكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَكَمَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ تَتْرُكُونَهَا لِغَيْرِكُمْ، وَفِيهِ تَزْهِيدٌ فِيمَا بِيَدِ النَّاسِ، إِذْ مَصِيرُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» . وَقِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ: لِمَنْ هَذِهِ الْإِبِلُ؟ فَقَالَ: هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدِي. أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، فَمَتَّعَكُمْ بِهَا وَجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَأَنْتُمْ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ، فَأَنْفِقُوا مِنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا لِلْمُؤْمِنَ الْمُنْفِقِ مِنَ الْأَجْرِ، وَوَصَفَهَ بِالْكَرَمِ لِيَصْرَعَهُ فِي أَنْوَاعِ الثَّوَابِ.

قِيلَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، حَيْثُ بَذَلَ تِلْكَ النَّفَقَةَ الْعَظِيمَةَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيبِ وَالْإِنْكَارِ: أَيْ كَيْفَ لَا تَثْبُتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ؟ وَدَوَاعِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ، وَذَلِكَ رِكْزَةٌ فِيكُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْعَقْلِ. وَمُوجِبُ ذَلِكَ مِنَ السَّمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِهَذَا الْوَصْفِ الْجَلِيلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْكُمْ بِالْإِيمَانِ، فَدَوَاعِي الْإِيمَانِ مَوْجُودَةٌ، وَأَسْبَابُهُ حَاصِلَةٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَلَا عُذْرَ فِي تَرْكِهِ. ولا تُؤْمِنُونَ حَالٌ، كَمَا تَقُولُ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ تُنْكِرُ عَلَيْهِ انْتِفَاءَ قِيَامِهِ؟ وَالرَّسُولُ: الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ حَالٌ، وَقَدْ أَخَذَ حَالٌ ثَالِثَةٌ، وَهَذَا الْمِيثَاقُ قِيلَ: هُوَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ حِينَ الْإِخْرَاجِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: مَا نُصِبَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَرُكِزَ فِي الْعُقُولِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: شَرْطٌ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِمُوجِبٍ مَا، فَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لِإِيمَانِكُمْ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ، فَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ وَهِيَ دُعَاءُ الرَّسُولِ وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ فَالْآنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقَدْ أَخَذَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، مِيثاقَكُمْ بِالنَّصْبِ وَأَبُو عَمْرٍو: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مِيثَاقَكُمْ رَفْعًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَقْتَضِي أَنْ يُقَدَّرَ بِأَثَرِهِ، فَأَنْتُمْ فِي رُتَبٍ شَرِيفَةٍ وَأَقْدَارٍ رَفِيعَةٍ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: أَيْ إِنْ دُمْتُمْ عَلَى مَا بَدَأْتُمْ بِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَوْطِئَةَ مَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ دُعَاءَ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ لِلْإِيمَانِ، ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا دَعَا بِهِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الْمُعْجِزَاتُ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَيِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْهُ، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لأنه أقرب. وقرىء فِي السَّبْعَةِ: يُنَزِّلُ مُضَارِعًا، فَبَعْضٌ ثَقَّلَ وَبَعْضٌ خَفَّفَ. وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ: بِالْوَجْهَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ: أَنْزَلَ مَاضِيًا، وَوَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ تَأْنِيسًا لَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ تَرَكَ تَأْنِيبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ مَعَ حُصُولِ مُوجِبِهِ، أَنَّبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ قِيَامِ الدَّاعِي لِذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ فَيُخَلِّفُونَهُ. وَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْبَعْثِ عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَأَنْ لَا تُنْفِقُوا تَقْدِيرُهُ: فِي أَنْ لَا تُنْفِقُوا، فَمَوْضِعُهُ جَرٌّ أَوْ نَصْبٌ عَلَى

الْخِلَافِ، وَأَنْ لَيْسَتْ زَائِدَةً، بَلْ مَصْدَرِيَّةً. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فِي قَوْلِهِ: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ «1» ، إِنَّهَا زَائِدَةٌ عَامِلَةٌ تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ: وَمَا لَنَا لَا نُقَاتِلُ، فَلِذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تِلْكَ هُنَا تَكُونُ أَنْ، وَتَقْدِيرُهُ: وَمَا لَكُمْ لَا تُنْفِقُونَ، وَقَدْ رُدَّ مَذْهَبُهُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، إِذْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ وَأَنْفَقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَكَذَا مَنْ تَابَعَهُ فِي السَّبْقِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْفَقُوا نَفَقَاتٍ جَلِيلَةً حَتَّى قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ كُلِّ مَنْ أَنْفَقَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتْ تَبَايُنَ مَا بَيْنَ الْمُنْفِقِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، قِيلَ: بِغَيْرِ مِنْ. وَالْفَتْحُ: فَتْحُ مَكَّةَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ والشعبي: هو فتح الحديبة، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَتْحِ كَوْنُهُ فَتْحًا، وَرَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فَاعِلُ لَا يَسْتَوِي، وَحُذِفَ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، لِوُضُوحِ الْمَعْنَى. أُولئِكَ: أَيِ الَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَبْلَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَفُشُوِّهِ وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أُمِّ الْقُرَى، وَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ جَاءَ فِي حَقِّهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الفاعل بلا يَسْتَوِي ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْإِنْفَاقِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي، هُوَ الْإِنْفَاقُ، أَيْ جِنْسُهُ، إِذْ مِنْهُ مَا هُوَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ وَمَنْ أَنْفَقَ مُبْتَدَأٌ، وَأُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ مَنِ، وَهَذَا فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ. وَحَذْفُ الْمَعْطُوفِ لِدَلَالَةِ الْمُقَابِلِ كَثِيرَةٌ، فَأَنْفَقَ لَا سِيَّمَا الْمَعْطُوفِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ وَضْعُ الْفِعْلِ، وَهُوَ يَسْتَوِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلًّا بِالنَّصْبِ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِوَعَدَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الْوَارِثِ مِنْ طَرِيقِ الْمَادِرِ أَيْ: وَكُلٌّ بِالرَّفْعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَهِشَامٌ، وورد فِي السَّبْعَةِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا مِنَ النُّحَاةِ قَدْ خَصَّ حَذْفَ الضَّمِيرِ الَّذِي حُذِفَ مِنْ مِثْلِ وَعَدَ بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَخَالِدٌ تَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالْحَقِّ لَا تَحْمَدُ بِالْبَاطِلِ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 246.

يُرِيدُهُ: تَحْمَدُهُ سَادَاتُنَا، وَفَرَّ بَعْضُهُمْ مِنْ جَعْلِ وَعَدَ خَبَرًا فَقَالَ: كُلُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ: وَأُولَئِكَ كُلُّ، وَوَعَدَ صِفَةٌ، وَحَذْفُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً أَكْثَرُ مِنْ حَذْفِهِ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ خَبَرًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَمَا أَدْرِي أَغَيْرُهُمْ تَنَاءَ ... وَطُولُ الْعَهْدِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا يُرِيدُ: أَصَابُوهُ، فَأَصَابُوهُ صِفَةٌ لِمَالٍ، وَقَدْ حَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَفَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِالْجَنَّةِ. وَالْوَعْدُ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَالنَّصْرَ وَالْغَنِيمَةَ فِي الدُّنْيَا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: فِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ، إِعْرَابًا وَقِرَاءَةً وَتَفْسِيرًا، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا الرَّفْعُ يَعْنِي فِي يُضَاعِفُهُ عَلَى الْعَطْفِ، أَوْ عَلَى الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ: فَيُضَاعِفَهُ بِالنَّصْبِ بِالْفَاءِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي ذَلِكَ قَلَقٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، يَعْنِي الْفَارِسِيَّ: لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَلَى فَاعِلِ الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلَى فِعْلٍ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ، يَعْنِي مِنَ الْقُرَّاءِ، حَمَلَتْ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ لَوْ قَالَ: أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ فَيُضَاعِفَهُ؟ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلَى فِعْلٍ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ يَجُوزُ إِذَا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ بِأَدَوَاتِهِ الِاسْمِيَّةِ نَحْوُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَأَيْنَ بَيْتُكَ فَأَزُورَكَ؟ وَمَتَى تَسِيرُ فَأُرَافِقَكَ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ فَأَصْحَبَكَ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا وَاقِعٌ عَنْ ذَاتِ الدَّاعِي، وَعَنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ وَظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْحَالِ، لَا عَنِ الْفِعْلِ. وَحَكَى ابْنُ كَيْسَانَ عَنِ الْعَرَبِ: أَيْنَ ذَهَبَ زَيْدٌ فَنَتْبَعَهُ؟ وَكَذَلِكَ: كَمْ مَالُكَ فَنَعْرِفَهُ؟ وَمَنْ أَبُوكَ فَنُكْرِمَهُ؟ بِالنَّصْبِ بَعْدَ الْفَاءِ. وَقِرَاءَةُ فَيُضَاعِفَهُ بِالنَّصْبِ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، وَالْفِعْلُ وَقَعَ صِلَةً لِلَّذِي، وَالَّذِي صِفَةٌ لِذَا، وَذَا خَبَرٌ لِمَنْ. وَإِذَا جَازَ النَّصْبُ فِي نَحْوِ هَذَا، فَجَوَازُهُ فِي الْمُثُلِ السَّابِقَةِ أَحْرَى، مَعَ أَنَّ سَمَاعَ ابْنِ كَيْسَانَ ذَلِكَ مَحْكِيًّا عَنِ الْعَرَبِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى التَّضْعِيفِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْقَرْضِ، أَيْ وَلَهُ مَعَ التَّضْعِيفِ أَجْرٌ كَرِيمٌ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ، يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. الْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَا عَمِلَ فِي لَهُمْ التَّقْدِيرُ: وَمُسْتَقِرٌّ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يَوْمَ تَرَى، أَوِ اذْكُرْ يَوْمَ تَرَى إِعْظَامًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ، وَالنُّورُ حَقِيقَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ آثَارٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَظْهَرٍ مِنَ الْإِيمَانِ لَهُ نُورٌ، فيطفىء نُورَ الْمُنَافِقِ، وَيَبْقَى نُورُ الْمُؤْمِنِ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي النُّورِ. مِنْهُمْ مَنْ يُضِيءُ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَصَنْعَاءَ، وَمَنْ نُورُهُ كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، وَمَنْ يُضِيءُ لَهُ مَا قُرْبَ قَدَمَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَهِمُّ بِالِانْطِفَاءِ مَرَّةً وَيَبِينُ مَرَّةً، وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النُّورُ اسْتِعَارَةٌ عَنِ الْهُدَى وَالرِّضْوَانِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّورَ يَتَقَدَّمُ لَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِأَيْمَانِهِمْ، فَيَظْهَرُ أَنَّهُمَا نُورَانِ: نُورٌ سَاعٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَنُورٌ بِأَيْمَانِهِمْ فَذَلِكَ يُضِيءُ الْجِهَةَ الَّتِي يَؤُمُّونَهَا، وَهَذَا يُضِيءُ مَا حَوَالَيْهِمْ مِنَ الْجِهَاتِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: النُّورُ أَصْلُهُ بِأَيْمَانِهِمْ، وَالَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هُوَ الضَّوْءُ الْمُنْبَسِطُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ عَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى: فِي جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَيْمَانِ تَشْرِيفًا لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، لِأَنَّ السُّعَدَاءَ يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ يُؤْتَوْنَهَا مِنْ شَمَائِلِهِمْ وَوَرَاءِ ظُهُورِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَبِأَيْمانِهِمْ، جَمْعُ يَمِينٍ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ السَّهْمِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَعُطِفَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّ الظَّرْفَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَكَائِنًا بِسَبَبِ أَيْمَانِهِمْ. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ: جُمْلَةٌ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَهُمْ جَنَّاتٌ، أَيْ دُخُولُ جَنَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خالِدِينَ فِيها، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، مُخَاطَبَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَلَا مُخَاطَبَةَ هُنَا، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي بُشْراكُمُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي خالِدِينَ. وَلَوْ جَرَى عَلَى الْخِطَابِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ خَالِدًا أَنْتُمْ فِيهَا، وَالِالْتِفَاتُ مِنْ فُنُونِ الْبَيَانِ يَوْمَ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَرَى. وقيل: معمول لا ذُكِرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَجِيءُ مَعْنَى الْفَوْزِ أَفْخَمُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَفُوزُونَ بِالرَّحْمَةِ يَوْمَ يَعْتَرِي الْمُنَافِقِينَ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ ظُهُورَ الْمَرْءِ يَوْمَ خُمُولِ عَدُوِّهِ وَمُضَادِّهِ أَبْدَعُ وَأَفْخَمُ. انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ

وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِالْفَوْزِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ إِعْمَالُهُ. فَلَوْ أَعْمَلَ وَصْفَهُ، وَهُوَ الْعَظِيمُ، لَجَازَ، أَيِ الْفَوْزُ الَّذِي عَظُمَ، أَيْ قَدْرُهُ يَوْمَ يَقُولُ. انْظُرُونا: أَيِ انْتَظِرُونَا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَبَقُوكُمْ إِلَى الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَدْ طُفِئَتْ أَنْوَارُهُمْ، قَالُوا ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: انْظُرُونا: انْتَظِرُونَا، لِأَنَّهُمْ يُسْرَعُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَالْبُرُوقِ الْخَاطِفَةِ عَلَى رِكَابٍ تُذَفُّ بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ مُشَاةٌ، أَوِ انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إذا انظروا إِلَيْهِمُ اسْتَقْبَلُوهُمْ بِوُجُوهِهِمْ وَالنُّورُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَسْتَضِيئُونَ بِهِ. انْتَهَى. فَجُعِلَ انْظُرُونَا بِمَعْنَى انْظُرُوا إِلَيْنَا، وَلَا يَتَعَدَّى النَّظَرُ هَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا بإلى لَا بِنَفَسِهِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فِي الشِّعْرِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ: أَنْظِرُونَا مِنْ أَنْظَرَ رُبَاعِيًّا، أَيْ أَخِّرُونَا، أَيِ اجْعَلُونَا فِي آخِرِكُمْ، وَلَا تَسْبِقُونَا بِحَيْثُ تُفَوِّتُونَنَا، وَلَا نَلْحَقُ بِكُمْ. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ: أَيْ نُصِبْ مِنْهُ حَتَّى نَسْتَضِيءَ بِهِ. وَيُقَالُ: اقْتَبَسَ الرَّجُلُ وَاسْتَقْبَسَ: أَخَذَ مِنْ نَارِ غَيْرِهِ قَبَسًا. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ: الْقَائِلُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ. وَالظَّاهِرُ أن وَراءَكُمْ معمول لارجعوا. وَقِيلَ: لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى ارْجِعُوا، كَقَوْلِهِمْ: وَرَاءَكَ أَوْسَعُ لَكَ، أَيِ ارْجِعْ تَجِدْ مَكَانًا أَوْسَعَ لَكَ. وَارْجِعُوا أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَطَرْدٍ، أَيِ ارْجِعُوا إِلَى الْمَوْقِفِ حَيْثُ أُعْطِينَا الْفَوْزَ فَالْتَمِسُوهُ هُنَاكَ، أَوِ ارْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا وَالْتَمِسُوا نُورًا، أَيْ بِتَحْصِيلِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، أَوْ تَنَحَّوْا عَنَّا، فَالْتَمِسُوا نُوراً غَيْرَ هَذَا فَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا نُورَ وَرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِقْنَاطٌ لَهُمْ. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ: أَيْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، بِسُورٍ: بِحَاجِزٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْأَعْرَافُ. وَقِيلَ: حَاجِزٌ غَيْرُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَضُرِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا السُّورَ هُوَ الْجِدَارُ الشَّرْقِيُّ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُمْ. وَالسُّورُ هُوَ الْحَاجِزُ الدَّائِرُ عَلَى الْمَدِينَةِ لِلْحِفْظِ مِنْ عَدُوٍّ. وَالظَّاهِرُ فِي بَاطِنِهِ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مِنْهُ عَلَى الْبَابِ لِقُرْبِهِ. وَقِيلَ: عَلَى السُّورِ، وَبَاطِنُهُ الشِّقُّ الَّذِي لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَظَاهِرُهُ مَا يُدَانِيهِ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ جِهَتِهِ الْعَذَابُ. يُنادُونَهُمْ: اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، أَيْ يُنَادُونَ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ: أَيْ فِي الظَّاهِرِ، قالُوا بَلى: أَيْ كُنْتُمْ مَعَنَا فِي الظَّاهِرِ، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: أَيْ عَرَّضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لِلْفِتْنَةِ بِنِفَاقِكُمْ، وَتَرَبَّصْتُمْ أَيْ بِإِيمَانِكُمْ حَتَّى وَافَيْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ

تَرَبَّصْتُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَارْتَبْتُمْ: شَكَكْتُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ: وَهِيَ الْأَطْمَاعُ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: سَيَهْلِكُ مُحَمَّدٌ هَذَا الْعَامَ، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الْأَحْزَابَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ طُولُ الْآمَالِ فِي امْتِدَادِ الْأَعْمَارِ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَوْتُ عَلَى النِّفَاقِ، وَالْغَرُورُ: الشَّيْطَانُ بِإِجْمَاعٍ. وَقَرَأَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ: الْغُرُورُ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ. فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، وَالنَّاصِبُ لِلْيَوْمِ الْفِعْلُ الْمَنْفِيُّ بِلَا، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَزِّرُ الْكَافِرَ فَيَقُولُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ لَوْ كَانَ لَكَ أَضْعَافُ الدُّنْيَا، أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ فِي ظَهْرِ أَبِيكَ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يُؤْخَذُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ عَامِرٍ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْفِدْيَةِ. هِيَ مَوْلاكُمْ، قِيلَ: أَوْلَى بِكُمْ، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى. وَكَانَتْ مَوْلَاهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا تَضُمُّهُمْ وَتُبَاشِرُهُمْ، وَهِيَ تَكُونُ لَكُمْ مَكَانَ الْمَوْلَى، وَنَحْوُهُ قَوْلِهِ: تَحِيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هِيَ نَاصِرُكُمْ، أَيْ لَا نَاصِرَ لَكُمْ غَيْرُهَا. وَالْمُرَادُ نَفْيُ النَّاصِرِ عَلَى الْبَتَاتِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ: أُصِيبَ فُلَانٌ بِكَذَا فَاسْتَنْصَرَ الْجَزَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ «1» . وَقِيلَ: تَتَوَلَّاكُمْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْمَالَ أَهْلِ النَّارِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 29.

مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: مَلَّتِ الصَّحَابَةُ مَلَّةً، فَنَزَلَتْ أَلَمْ يَأْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عُوتِبُوا بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: كَثُرَ الْمِزَاحُ فِي بَعْضِ شَبَابِ الصَّحَابَةِ فَنَزَلَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلَمْ وَالْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: أَلَمَّا. وَالْجُمْهُورُ: يَأْنِ مُضَارِعُ أَنَى حَانَ وَالْحَسَنُ: يَئِنْ مُضَارِعُ آنَ حَانَ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: قَرُبَ وَقْتُ الشَّيْءِ. أَنْ تَخْشَعَ: تَطْمَئِنَّ وَتَخْبُتَ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، وَيَظْهَرُ فِي الْجَوَارِحِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ» . لِذِكْرِ اللَّهِ: أَيْ لِأَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ «1» . قِيلَ: أَوْ لِتَذْكِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَا نَزَّلَ مُشَدَّدًا وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ: مُخَفَّفًا وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ يُونُسَ، وَعَبَّاسٍ عَنْهُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا وَعَبْدُ اللَّهِ: أَنْزَلَ بِهَمْزَةِ النَّقْلِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالْجُمْهُورُ: وَلا يَكُونُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَطْفًا عَلَى أَنْ تَخْشَعَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عبلة وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَنْ شَيْبَةَ، وَيَعْقُوبَ وَحَمْزَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ سُلَيْمٍ عَنْهُ: وَلَا تَكُونُوا عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، إِمَّا نَهْيًا، وَإِمَّا عَطْفًا عَلَى أَنْ تَخْشَعَ. كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، وهم معاصر وموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. حُذِّرَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ، إِذْ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا التَّوْرَاةَ رَقُّوا وَخَشَعُوا، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ: أَيِ انْتِظَارُ الْفَتْحِ، أَوِ انْتِظَارُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: أَمَدُ الْحَيَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْأَمَدُ مُخَفَّفُ الدَّالِ، وَهِيَ الْغَايَةُ مِنَ الزَّمَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِشَدِّهَا، وَهُوَ الزَّمَانُ بِعَيْنِهِ الْأَطْوَلُ. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ: صَلُبَتْ بِحَيْثُ لَا تَنْفَعِلُ لِلْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ. يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها: يَظْهَرُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِتَلْيِينِ الْقُلُوبِ بَعْدَ قَسْوَتِهَا، وَلِتَأْثِيرِ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا. كَمَا يُؤَثِّرُ الْغَيْثُ فِي الْأَرْضِ فَتَعُودُ بَعْدَ إِجْدَابِهَا مُخْصِبَةً، كَذَلِكَ تَعُودُ الْقُلُوبُ النَّافِرَةُ مُقْبِلَةً، يَظْهَرُ فِيهَا أَثَرُ الطَّاعَاتِ وَالْخُشُوعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ، بِشَدِّ صَادَيْهِمَا وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ: بِخَفِّهِمَا وَأُبَيٌّ: بِتَاءٍ قَبْلَ الصَّادِ فِيهِمَا، فَهَذِهِ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْخَفُّ مِنَ التَّصْدِيقِ، صدّقوا رسوله اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 2.

قَوْلَهُ: وَأَقْرَضُوا؟ قُلْتُ: عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى اصَّدَّقُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ اصَّدَّقُوا وَأَقْرَضُوا. انْتَهَى. وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِمَعْطُوفٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْمُصَّدِّقاتِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ أَلْ فِي الْمُصَّدِّقَاتِ لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ، إِذْ ضَمِيرُ الْمُتَصَدِّقَاتِ مُؤَنَّثٌ، وَضَمِيرُ وَأَقْرَضُوا مُذَكَّرٌ، فَيَتَخَرَّجُ هُنَا عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّذِينَ أَقْرَضُوا، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ منكم ... ويمدحه وينصره سواه يُرِيدُ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وَصِدِّيقٌ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَكُونُ فِيمَا أَحْفَظُ إِلَّا مِنْ ثُلَاثِيٍّ. وَقِيلَ: يَجِيءُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ كَمِسِّيكٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَسَّكَ وَأَمْسَكَ، فَمِسِّيكٌ مِنْ مَسَّكَ. وَالشُّهَداءُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَيَقِفُ عَلَى الصِّدِّيقُونَ، وَإِنْ شِئْتَ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ. إِنَّ الْكَلَامَ تَامٌّ فِي قَوْلِهِ: الصِّدِّيقُونَ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَبَعْضٌ قَالَ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، يَشْهَدُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدِّيقِيَّةِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «1» الْآيَةَ وَبَعْضٌ قَالَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، اسْتَأْنَفَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ صِنْفًا مَذْكُورًا وَحْدَهُ لِعِظَمِ أَجْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: وَالشُّهَدَاءُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّدِّيقُونَ، وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ، يَعْنُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَبَعْضٌ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ صِدِّيقًا وَشَهِيدًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ، مِنْ رِوَايَةِ الْبَرَاءِ: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ» ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الشُّهَدَاءُ السَّبْعَةُ تَشْرِيفًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي أَعْلَى رُتَبِ الشَّهَادَةِ، كَمَا خُصَّ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ السَّبْعَةِ بِتَشْرِيفٍ تَفَرَّدَ بِهِ، وَبَعْضٌ قَالَ: وَصَفَهُمْ بِالصِّدِّيقِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «2» . لَهُمْ أَجْرُهُمْ: خَبَرٌ عَنِ الشُّهَدَاءِ فَقَطْ، أَوْ عَنْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. وَالظَّاهِرُ فِي نُورِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: عِبَارَةٌ عَنْ الْهُدَى وَالْكَرَامَةِ وَالْبُشْرَى. اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ: أَخْبَرَ تَعَالَى بِغَالِبِ أَمْرِهَا مِنِ اشْتِمَالِهَا عَلَى أَشْيَاءَ لَا تَدُومُ وَلَا تُجْدِي، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَضَرُورِيِّ مَا يَقُومُ بِهِ الْأَوْدُ، فَلَيْسَ مُنْدَرِجًا في

_ (1) سورة النساء: 4/ 41. [.....] (2) سورة البقرة: 2/ 143.

هَذِهِ الْآيَةِ. لَعِبٌ وَلَهْوٌ، كَحَالَةِ الْمُتْرَفِينَ مِنَ الْمُلُوكِ. وَزِينَةٌ: تَحْسِينٌ لِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ. وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ بَيْنَكُمْ، وَالسُّلَمِيُّ بِالْإِضَافَةِ. وَتَكاثُرٌ بِالْعَدَدِ وَالْعُدِدِ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مُحَقَّرَاتٌ، بِخِلَافِ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ حَقِيقِيَّةٍ عِظَامٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَشَبَّهَ تَعَالَى حَالَ الدنيا وسرعة تقضيها، مَعَ قِلَّةِ جَدْوَاهَا، بِنَبَاتٍ أَنْبَتَهُ الْغَيْثُ فَاسْتَوَى وَاكْتَهَلَ، وَأُعْجِبَ بِهِ الْكُفَّارُ الْجَاحِدُونَ لِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْغَيْثِ وَالنَّبَاتِ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمُ الْعَاهَةَ، فَهَاجَ وَاصْفَرَّ وَصَارَ حُطَامًا، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى جُحُودِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَثَلِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ صِفَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ. وَصُورَةُ هَذَا الْمِثَالِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ فِي حِجْرِ مَمْلَكَةٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، فَيَشِبُّ وَيَقْوَى وَيَكْسِبُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَيَغْشَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي انْحِطَاطٍ، فَيَنْشِفُ وَيَضْعُفُ وَيَسْقَمُ، وَتُصِيبُهُ النَّوَائِبُ فِي مَالِهِ وَدِينِهِ، وَيَمُوتُ وَيَضْمَحِلُّ أَمْرُهُ، وَتَصِيرُ أَمْوَالُهُ لِغَيْرِهِ وَتُغَيَّرُ رُسُومُهُ، فَأَمْرُهُ مِثْلُ مَطَرٍ أَصَابَ أَرْضًا فَنَبَتَ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْثِ نَبَاتٌ مُعْجِبٌ أَنِيقٌ، ثُمَّ هَاجَ، أَيْ يَبِسَ وَاصْفَرَّ، ثُمَّ تَحَطَّمَ، ثُمَّ تَفَرَّقَ بِالرِّيَاحِ وَاضْمَحَلَّ. انْتَهَى. قِيلَ: الْكُفَّارُ: الزُّرَّاعُ، مِنْ كَفَرَ الْحَبَّ، أَيْ سَتَرَهُ فِي الْأَرْضِ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبَصَرِ بِالنَّبَاتِ وَالْفِلَاحَةِ، فَلَا يُعْجِبُهُمْ إِلَّا الْمُعْجِبُ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلدُّنْيَا وَإِعْجَابًا بِمَحَاسِنِهَا وَحُطَامٌ: بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ كَعُجَابٍ. وقرىء: مُصْفَارًّا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا مِنَ الْفَنَاءِ، ذَكَرَ مَا هُوَ ثَابِتٌ دَائِمٌ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَمِنْ رِضَاهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّعِيمِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ، أَمَرَ بِالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: سَابِقُوا إِلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَعَمَلُ الطَّاعَاتِ. وَقَدْ مَثَّلَ بَعْضُهُمُ الْمُسَابَقَةَ فِي أَنْوَاعٍ فَقَالَ

عَبْدُ اللَّهِ: كُونُوا فِي أَوَّلِ صَفٍّ فِي الْقِتَالِ. وَقَالَ أَنَسٌ: اشْهَدُوا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: كُنْ أَوَّلَ دَاخِلٍ فِي الْمَسْجِدِ وَآخِرَ خَارِجٍ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا السَّبْقِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ أَفْضَلُ، وَجَاءَ لَفْظُ سَابِقُوا كَأَنَّهُمْ فِي مِضْمَارٍ يَجْرُونَ إِلَى غَايَةٍ مُسَابِقِينَ إِلَيْهِمْ. عَرْضُها: أَيْ مِسَاحَتُهَا فِي السَّعَةِ، كَمَا قَالَ: فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ، أَوِ الْعَرْضُ خِلَافُ الطُّولِ. فَإِذَا وُصِفَ الْعَرْضُ بِالْبَسْطَةِ، عُرِفَ أَنَّ الطُّولَ أَبْسَطُ وَأَمَدُّ. أُعِدَّتْ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وَتَكَرُّرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ يُقَوِّي ذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ نَاصَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا الْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَسَتُخْلَقُ. ذلِكَ: أَيِ الْمَوْعُودُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، فَضْلُ اللَّهِ: عَطَاؤُهُ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ: أَيْ مُصِيبَةٍ، وَذَكَرَ فِعْلَهَا، وَهُوَ جَائِزُ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَمِنَ التَّأْنِيثِ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها «1» . وَلَفْظُ مُصِيبَةٍ يَدُلُّ عَلَى الشَّرِّ، لِأَنَّ عُرْفَهَا ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَرَادَ عُرْفَ الْمُصِيبَةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ، وَخَصَّصَهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ عَلَى الْبَشَرِ. وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَحْطِ وَالزَّلْزَلَةِ وَعَاهَةِ الزَّرْعِ، وَفِي الْأَنْفُسِ: الْأَسْقَامُ وَالْمَوْتُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُصِيبَةِ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِلَّا فِي كِتابٍ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَيْ مَكْتُوبَةٍ فِيهِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها: أَيْ نَخْلُقَهَا. بَرَأَ: خَلَقَ، وَالضَّمِيرُ فِي نَبْرَأَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْمُصِيبَةِ، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا، وَذِكْرُ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ مَحَلِّ الْمُصِيبَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَنْفُسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ جَوَازَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ كُلُّهَا مَعَارِفُ صِحَاحٌ، لِأَنَّ الْكِتَابَ السَّابِقَ أَزَلِيٌّ قَبْلَ هَذِهِ كُلِّهَا. انْتَهَى. إِنَّ ذلِكَ: أَيْ يَحْصُلُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابٍ وَتَقْدِيرُهُ، عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ: أَيْ سَهْلٌ، وَإِنْ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي إِعْلَامِنَا بِذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، وَسَبْقِ قَضَائِهِ به فقال: لِكَيْلا تَأْسَوْا: أَيْ تَحْزَنُوا، عَلى مَا فاتَكُمْ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِنْ أُعْلِمَ ذَلِكَ سَلِمَ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا فَاتَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْزَنُ عَلَى فَائِتٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَدَدِ أَنْ يُفَوِّتَهُ، فَهَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَ حَوَادِثِ الدُّنْيَا بِذَلِكَ، إِذْ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ: أَنْ يُلْحِقَ الْحُزْنَ الشَّدِيدَ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الْخَيْرِ، فَيَحْدُثَ عَنْهُ التَّسَخُّطُ وعدم الرضا بالمقدور.

_ (1) سورة الحجر: 15/ 5، وسورة المؤمنون: 23/ 43.

وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ: أَنْ يَفْرَحَ الْفَرَحَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْبَطَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» ، فَإِنَّ الْحُزْنَ قَدْ يَنْشَأُ عَنْهُ الْبَطَرُ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. فَالْفَرَحُ بِمَا نَالَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ الْخُيَلَاءُ وَالِافْتِخَارُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى النَّاسِ، فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَأَمَّا الْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفَرَحُ بِنِعَمِ اللَّهِ وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا وَالتَّوَاضُعُ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يَحْزَنُ وَيَفْرَحُ، وَلَكِنْ مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَجَعَلَهَا صَبْرًا، وَمَنْ أَصَابَ خَيْرًا جَعَلَهُ شُكْرًا. انْتَهَى، يَعْنِي هُوَ الْمَحْمُودُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلَا أَحَدَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ مَضَرَّةٍ تَنْزِلُ بِهِ، وَلَا عِنْدَ مَنْفَعَةٍ يَنَالُهَا أَنْ لَا يَحْزَنَ وَلَا يَفْرَحَ. قُلْتُ: الْمُرَادُ: الْحُزْنُ الْمُخْرِجُ إِلَى مَا يُذْهِلُ صَاحِبَهُ عَنِ الصَّبْرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَاءِ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ، وَالْفَرَحُ الْمُطْغِي الْمُلْهِي عَنِ الشُّكْرِ. فَأَمَّا الْحُزْنُ الَّذِي لَا يَكَادُ الْإِنْسَانُ يَخْلُو مِنْهُ مَعَ الِاسْتِسْلَامِ وَالسُّرُورِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا مَعَ الشُّكْرِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا آتَاكُمْ: أَيْ أَعْطَاكُمْ وَعَبْدُ اللَّهِ: أُوتِيتُمْ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أَيْ أُعْطِيتُمْ وَأَبُو عَمْرٍو: آتَاكُمْ: أَيْ جَاءَكُمْ. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، أَوْ يَكُونُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ عَلَى جِهَةِ الْإِبْهَامِ تَقْدِيرُهُ: مَذْمُومُونَ، أَوْ مَوْعُودُونَ بِالْعَذَابِ، أَوْ مُسْتَغْنًى عَنْهُمْ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ صِفَةٍ لِكُلِّ مُخْتَالٍ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، فَهُوَ مُخَصِّصٌ نَوْعًا مَا، فَيَسُوغُ لِذَلِكَ وَصْفُهُ بِالْمَعْرِفَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ. انْتَهَى. عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ، فَبَخِلُوا أَنْ يُؤَدُّوا مِنْهَا حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا كَفَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمَرُوا النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَرَغَّبُوهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَمَرُوا النَّاسَ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: كَانُوا قُدْوَةً فِيهِ، فَكَأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِهِ. وَمَنْ يَتَوَلَّ عَنْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: بِإِسْقَاطِ هُوَ، وَكَذَا فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَوَاتِرَةٌ. فَمَنْ أَثْبَتَ هُوَ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، قَالَ: وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ حَذْفَ الِابْتِدَاءِ غَيْرُ سَائِغٍ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى حُذِفَ، وَلَوْ كَانَ مُبْتَدَأً لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّ زَيْدًا هو الفاضل،

_ (1) سورة القصص: 28/ 76.

فَأَعْرَبْتَ هُوَ مُبْتَدَأً، لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِكَ الْفَاضِلُ صَالِحٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأَنَّ، فَلَا يَبْقَى دَلِيلٌ عَلَى حَذْفِ هُوَ الرَّابِطِ. ونظيره: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ «1» ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ هُمْ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً، فَلَا يَبْقَى دَلِيلٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى تَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَتَرْكِيبِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاءَتَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَوْجِيهٌ يُخَالِفُ الْآخَرَ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ «2» بِضَمِّ التَّاءِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى: بِما وَضَعَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ؟ فَضَمُّ التَّاءِ يَقْتَضِي أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ كَلَامِ أُمِّ مَرْيَمَ، وَتَاءُ التَّأْنِيثِ تَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَكَذَلِكَ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُبْتَدَأً فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُرِدْ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَلِكُلٍّ مِنَ التَّرْكِيبَيْنِ فِي الْإِعْرَابِ حُكْمٌ يَخُصُّهُ. لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الرُّسُلَ هُنَا هُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَالْبَيِّنَاتُ: الْحُجَجُ والمعجزات. وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ: الْكِتَابَ اسْمُ جِنْسٍ، وَمَعَهُمْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ وَأَنْزَلْنَا الْكِتَابَ صَائِرًا مَعَهُمْ، أَيْ مُقَدِّرًا صُحْبَتَهُ لَهُمْ، لِأَنَّ الرُّسُلَ مُنْزَلِينَ هُمْ وَالْكِتَابُ. وَلَمَّا أَشْكَلَ لَفْظُ مَعَهُمْ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، فَسَّرَ الرُّسُلَ بِغَيْرِ مَا فَسَّرْنَاهُ، فَقَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا، يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالْحُجَجِ والمعجزات، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ: أَيِ الْوَحْيَ، وَالْمِيزانَ. وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِالْمِيزَانِ، فَدَفَعَهُ إِلَى نُوحٍ وَقَالَ: مُرْ قَوْمَكَ يَزِنُوا بِهِ. وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ، قِيلَ: نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدٍ السِّنْدَانُ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِيقَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ. وَرُوِيَ: وَمَعَهُ الْمِسَنُّ وَالْمِسْحَاةُ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، أَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالنَّارَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ. انْتَهَى. وَأَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ: الْعَدْلُ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ بِالْمَوَازِينِ: الْمَعْرِفَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا جُزْءٌ مِنَ الْعَدْلِ. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِإِنْزَالِ الْمِيزَانِ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ مَعًا، لِأَنَّ الْقِسْطَ هُوَ الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ سَائِرِ التَّكَالِيفِ، فإنه لا جور فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ «3» .

_ (1) سورة الماعون: 107/ 6. (2) سورة آل عمران: 3/ 36. (3) سورة آل عمران: 3/ 18.

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ: عَبَّرَ عَنْ إِيجَادِهِ بِالْإِنْزَالِ، كَمَا قَالَ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ «1» . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَوَامِرَ وَجَمِيعَ الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ لَمَّا كَانَتْ تُلْقَى مِنَ السَّمَاءِ، جُعِلَ الْكُلُّ نُزُولًا مِنْهَا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَرَادَ بِالْحَدِيدِ جِنْسَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ السِّنْدَانِ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِيقَعَةُ. فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ: أَيِ السِّلَاحُ الَّذِي يُبَاشَرُ بِهِ الْقِتَالُ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ: فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ فَمَا مِنْ صِنَاعَةٍ إِلَّا وَالْحَدِيدُ آلَةٌ فِيهَا. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ علة لإنزال الكتاب والميزان وَالْحَدِيدِ. مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَبِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَبِمَا يُعْمَلُ مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ لِيَعْلَمَهُ مَوْجُودًا، فَالتَّغَيُّرُ لَيْسَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، بَلْ فِي هَذَا الْحَدَثِ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقَوْلُهُ: بِالْغَيْبِ مَعْنَاهُ: بِمَا سَمِعَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْغَائِبَةِ عَنْهُ، فَآمَنَ بِهَا لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا. وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْرَتِهِ بِقُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَلَّفَهُمُ الْجِهَادَ لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْصِيلِ مَا يَتَرَتَّبُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَرَتَّبُ مَعْنَى الْآيَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبًا وَعَدْلًا مَشْرُوعًا، وَسِلَاحًا يُحَارَبُ بِهِ مَنْ عَانَدَ ولم يهتد يهدي اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ. وَفِي الْآيَةِ، عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، حَثٌّ عَلَى الْقِتَالِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِرْسَالَ الرُّسُلِ جُمْلَةً، أَفْرَدَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، تَشْرِيفًا لَهُمَا بِالذِّكْرِ. أَمَّا نُوحٌ، فَلِأَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَلِأَنَّهُ انْتَسَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ مُعَظَّمٌ فِي كُلِّ الشرائع. ثم ذكر

_ (1) سورة الزمر: 39/ 6.

أَشْرَفَ مَا حَصَلَ لِذُرِّيَّتِهِمَا، وَذَلِكَ النُّبُوَّةُ، وَهِيَ الَّتِي بِهَا هَدْيُ النَّاسِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْكِتابَ، وَهِيَ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ، وَهِيَ جَمِيعُهَا فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، فَصَدُقَ أَنَّهَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَالنُّبِيَّةَ مَكْتُوبَةً بِالْيَاءِ عِوَضَ الْوَاوِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْكِتابَ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ. وَمَعَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ بِذَلِكَ، انْقَسَمُوا إِلَى مُهْتَدٍ وَفَاسِقٍ، وَأَخْبَرَ بِالْفِسْقِ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَفَّيْنا: أَيْ أَتْبَعْنَا وَجَعَلْنَاهُمْ يَقْفُونَ مَنْ تَقَدَّمَ، عَلى آثارِهِمْ: أَيْ آثَارِ الذُّرِّيَّةِ، بِرُسُلِنا: وَهُمُ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ الذُّرِّيَّةِ، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى: ذَكَرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ، وَلِانْتِشَارِ أُمَّتِهِ، وَنَسَبَهُ لِأُمِّهِ عَلَى الْعَادَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: الْأَنْجِيلَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهُوَ مِثَالٌ لَا نَظِيرَ لَهُ. انْتَهَى، وَهِيَ لَفْظَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى أَبْنِيَةِ كَلِمِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمْرُهُ أَهْوَنُ مِنْ أَمْرِ الْبِرْطِيلِ، يَعْنِي أَنَّهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَأَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَأَعْجَمِيٌّ. وقرىء: رَآفَةً عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ، وَجَعَلْنا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَخَلَقْنَا، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «1» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، فَيَكُونُ فِي قُلُوبِ: فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِجَعَلْنَا. وَرَهْبانِيَّةً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْجُمَلِ. ابْتَدَعُوها: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لرهبانية، وَخُصَّتِ الرَّهْبَانِيَّةُ بِالِابْتِدَاعِ، لِأَنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ فِي الْقَلْبِ لَا تَكَسُّبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا، بِخِلَافِ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَإِنَّهَا أَفْعَالُ بَدَنٍ مَعَ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ، فَفِيهَا مَوْضِعٌ لِلتَّكَسُّبِ. قَالَ قَتَادَةُ: الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ وَالرَّهْبَانِيَّةُ هُمُ ابْتَدَعُوهَا وَالرَّهْبَانِيَّةُ: رَفْضُ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ وَاتِّخَاذِ الصَّوَامِعِ. وَجَعَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَرَهْبانِيَّةً مُقْتَطَعَةً مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، فَانْتَصَبَ عِنْدَهُ وَرَهْبانِيَّةً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، أَيْ وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا. وَاتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَانْتِصَابُهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، يَعْنِي وَأَحْدَثُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَذَرُوهَا. انْتَهَى، وَهَذَا إِعْرَابُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ مُعْتَزِلِيًّا. وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا كَانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا لِلْعَبْدِ، فَالرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَالرَّهْبَانِيَّةُ مِنِ ابتداع الإنسان، فهي

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 1.

مَخْلُوقَةٌ لَهُ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ الَّذِي لَهُمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَرَهْبانِيَّةً، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ لَا مُسَوِّغَ لَهَا مِنَ الْمُسَوِّغَاتِ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَرُوِيَ فِي ابْتِدَاعِهِمُ الرَّهْبَانِيَّةَ أَنَّهُمُ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَفِرْقَةٌ قَاتَلَتِ الْمُلُوكَ عَلَى الدِّينِ فَغُلِبَتْ وَقُتِلَتْ وَفِرْقَةٌ قَعَدَتْ فِي الْمُدُنِ يَدْعُونَ إِلَى الدِّينِ وَيُبَيِّنُونَهُ وَلَمْ تُقَاتِلْ، فَأَخَذَهَا الْمُلُوكُ يَنْشُرُونَهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ فَقُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ خَرَجَتْ إِلَى الْفَيَافِي، وَبَنَتِ الصَّوَامِعَ وَالدِّيَارَاتِ، وَطَلَبَتْ أَنْ تَسْلَمَ عَلَى أَنْ تَعْتَزِلَ فَتُرِكَتْ. وَالرَّهْبَانِيَّةُ: الْفَعْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَهُوَ الْخَائِفُ بُنِيَ فُعْلَانٌ مِنْ رَهِبَ، كَالْخَشْيَانِ من خشي. وقرىء: وَرُهْبَانِيَّةً بِالضَّمِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهَا نِسْبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ، كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى رَهْبَانٍ وَغُيِّرَ بِضَمِّ الرَّاءِ، لِأَنَّ النَّسَبَ بَابُ تَغْيِيرٍ. وَلَوْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى رُهْبَانٍ الْجَمْعِ لَرُدَّ إِلَى مُفْرَدِهِ، فَكَانَ يُقَالُ: رَاهِبِيَّةٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ قَدْ صَارَ كَالْعَلَمِ، فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ كَالْأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَهَا عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَيَكُونُ كَتَبَ بِمَعْنَى قَضَى. وَقَالَ قَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى: لَمْ يَفْرِضْهَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنِ ابْتَدَعُوهَا لِابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَعَوْها عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي ابْتَدَعُوها، وَهُوَ ضَمِيرُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، أَيْ لَمْ يَرْعَوْهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى النَّاذِرِ رِعَايَةُ نَذْرِهِ، لِأَنَّهُ عَهْدٌ مَعَ اللَّهِ لَا يَحِلُّ نَكْثُهُ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ، قَالَ: لَمْ يَدُومُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا وَفَّوْهُ حَقَّهُ، بَلْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ رَعَى يَكُونُ الْمَعْنَى: فَمَا رَعَوْهَا بِأَجْمَعِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الضَّمِيرُ لِلْمُلُوكِ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: الضَّمِيرُ لِلْأَخْلَافِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ الْمُبْتَدِعِينَ لَهَا. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا: وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ: وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يرعوها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: الظَّاهِرُ أَنَّهُ نِدَاءٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَعْنَى آمَنُوا: دُومُوا وَاثْبُتُوا، وَهَكَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ أَمْرٍ يَكُونُ الْمَأْمُورُ مُلْتَبِسًا بِمَا أُمِرَ بِهِ. يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: كِفْلَيْنِ: ضِعْفَيْنِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. انْتَهَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُؤْتِكُمْ مِثْلَ مَا وَعَدَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْكِفْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ

مَرَّتَيْنِ «1» ، إِذْ أَنْتُمْ مِثْلُهُمْ فِي الْإِيمَانَيْنِ، لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَادَّعَوُا الْفَضْلَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: النِّدَاءُ مُتَوَجِّهٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى، آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُؤْتِكُمُ اللَّهُ كِفْلَيْنِ، أَيْ نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ لِإِيمَانِكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيمَانُكُمْ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ. وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ: وَهُوَ النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتِهِمُ اللَّهُ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكتاب آمن بنبيه وآمن بِي» ، الْحَدِيثَ. لِيَعْلَمَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ مِنْ فَضْلِهِ مِنَ الْكِفْلَيْنِ وَالنُّورِ وَالْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُ، وَلَمْ يُكْسِبْهُمْ فَضْلًا قَطُّ. وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ لِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْأَمْرُ لَهُمْ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ هَذَا الْوَعْدُ لَهُمْ حَسَدَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تُعَظِّمُ دِينَهَا وَأَنْفُسَهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّهِ وَأَهْلُ رِضْوَانِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُعْلِمَةً أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ وَأَعْلَمَ بِهِ. لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَمَا يَزْعُمُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِئَلَّا يَعْلَمَ، وَلَا زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «2» ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ» فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ. وَقَرَأَ خَطَّابُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لِأَنْ لَا يَعْلَمَ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ: عَلَى اخْتِلَافٍ لِيَعْلَمَ وَالْجَحْدَرِيُّ: لِيَنَّيَعْلَمَ، أَصْلُهُ لِأَنْ يَعْلَمَ، قَلَبَ الْهَمْزَةَ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا وَأَدْغَمَ النُّونَ فِي الْيَاءِ بِغَيْرِ غُنَّةٍ، كَقِرَاءَةِ خَلَفٍ أَنْ يَضْرِبَ بِغَيْرِ غُنَّةٍ. وَرَوَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ الْحَسَنِ: لَيْلَا مِثْلَ لَيْلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ، يَعْلَمُ بِرَفْعِ الْمِيمِ أَصْلُهُ لَأَنْ لَا بِفَتْحِ لَامِ الْجَرِّ وَهِيَ لُغَةٌ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، اعْتِبَاطًا، وَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي اللَّامِ، فَاجْتَمَعَتِ الْأَمْثَالُ وَثَقُلَ النُّطْقُ بِهَا، فَأَبْدَلُوا مِنَ السَّاكِنَةِ يَاءً فَصَارَ لَيْلَا، وَرُفِعَ الْمِيمُ، لِأَنَّ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ لَا النَّاصِبَةُ لِلْمُضَارِعِ، إِذِ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ. وَقُطْرُبٌ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: لِئَلَّا بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَوْجِيهُهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ اللَّامَ عَلَى اللُّغَةِ الشَّهِيرَةِ فِي لَامِ الْجَرِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْ يَعْلَمَ، وَعَنْهُ: لِكَيْلَا يَعْلَمَ، وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ: لِكَيْ يَعْلَمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ لَا يَقْدِرُونَ بِالنُّونِ، فَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بِحَذْفِهَا، فَإِنِ النَّاصِبَةُ لِلْمُضَارِعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

_ (1) سُورَةُ القصص: 28/ 54. (2) سورة الأعراف: 7/ 12. (3) سورة الأنبياء: 21/ 95.

سورة المجادلة

سورة المجادلة [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

فَسَّحَ فِي الْمَجْلِسِ: وَسَّعَ لِغَيْرِهِ. قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا قَوْلَهُ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ. وَعَنْ عَطَاءٍ: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْهَا مَدَنِيٌّ وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدْ سَمِعَ بِالْبَيَانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِالْإِدْغَامِ، قَالَ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ: سَمِعْتُ الْكِسَائِيَّ يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ قَدْ سَمِعَ، فَبَيَّنَ الدَّالَ عِنْدَ السِّينِ، فَلِسَانُهُ أَعْجَمِيٌّ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْبَيَانِ. وَالَّتِي تُجَادِلُ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَيُقَالُ بِالتَّصْغِيرِ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ دَلِيجٍ، أَوْ جَمِيلَةُ، أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ الصَّامِتِ، أَقْوَالٌ لِلسَّلَفِ. وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو عُبَادَةَ. وَقِيلَ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ. قَالَتْ زَوْجَتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلَ أَوْسٌ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَمَاتَ أَهْلِي ظَاهَرَ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا: «مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي وَحِيدَةٌ لَيْسَ لِي أَهْلٌ سِوَاهُ، فَرَاجَعَهَا بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ فَرَاجَعَتْهُ، فَهَذَا هُوَ جِدَالُهَا، وَكَانَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَقُولُ:

اللَّهُمَّ إِنَّ لِي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَارًا، إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا. فَهَذَا هُوَ اشْتِكَاؤُهَا إِلَى اللَّهِ، فَنَزَلَ الْوَحْيُ عِنْدَ جِدَالِهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا: سُبْحَانَ مَنْ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ. كَانَ بَعْضُ كَلَامِ خَوْلَةَ يَخْفَى عَلَيَّ، وَسَمِعَ اللَّهُ جِدَالَهَا، فَبَعَثَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَوْسٍ وَعَرَضَ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ: «الْعِتْقَ» ، فَقَالَ: مَا أَمْلِكُ، و «الصوم» ، فقال: ما أقدر، و «الإطعام» ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي، فَأَعَانَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَدَعَا لَهُ، فَكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ وَأَمْسَكَ أَهْلَهُ. وَكَانَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، يُكْرِمُ خَوْلَةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى قَدْ: التَّوَقُّعُ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُجَادِلَةُ كَانَا مُتَوَقِّعَيْنِ أَنْ يَسْمَعَ اللَّهُ مُجَادَلَتَهَا وَشَكْوَاهَا، وَيُنْزِلَ فِي ذلك ما يفرح عَنْهَا. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: يَظَّهَّرُونَ بِشَدِّهِمَا وَالْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ: يُظَاهِرُونَ مُضَارِعُ ظَاهَرَ وَأُبَيٌّ: يَتَظَاهَرُونَ، مُضَارِعُ تَظَاهَرَ وَعَنْهُ: يَتَظَهَّرُونَ، مُضَارِعُ تَظَهَّرَ وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّهُ الظِّهَارُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يُرِيدُ فِي التَّحْرِيمِ، كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّكُوبِ، إِذْ عُرْفُهُ فِي ظُهُورِ الْحَيَوَانِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَعْلُوهَا كَمَا لَا يَعْلُو أُمَّهُ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ: نَزَلْتُ عَنِ امْرَأَتِي، أَيْ طَلَّقْتُهَا. وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ، إِشَارَةٌ إِلَى تَوْبِيخِ الْعَرَبِ وَتَهْجِينِ عَادَتِهِمْ فِي الظِّهَارِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَيْمَانِ أَهْلِ جَاهِلِيَّتِهِمْ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُمَّهاتِهِمْ، بِالنَّصْبِ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: بِالرَّفْعِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: بِأُمَّهَاتِهِمْ، بِزِيَادَةِ الْبَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي لُغَةِ مَنْ يَنْصِبُ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ لَا تُزَادُ الْبَاءُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ رُدَّ ذَلِكَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ. وَزِيَادَةُ الْبَاءِ فِي مِثْلِ: مَا زَيْدٌ بِقَائِمٍ، كَثِيرٌ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ تَبِعَ فِي ذَلِكَ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى كَظَهْرِ أُمِّي: كَأُمِّي فِي التَّحْرِيمِ، وَلَا يُرَادُ خُصُوصِيَّةُ الظَّهْرِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْجَسَدِ، جَاءَ النَّفْيُ بِقَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ: أَيْ حَقِيقَةً، إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَأَلْحَقَ بِهِنَّ فِي التَّحْرِيمِ أُمَّهَاتِ الرَّضَاعِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالزَّوْجَاتُ لَسْنَ بِأُمَّهَاتٍ حَقِيقَةً وَلَا مُلْحَقَاتِ بِهِنَّ. فَقَوْلُ الْمُظَاهِرِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ تُنْكِرُهُ الْحَقِيقَةُ وينكره الشرع، وزور: كَذِبٌ بَاطِلٌ مُنْحَرِفٌ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْمَكْرُوهَاتِ جِدًّا، فَإِذَا وَقَعَ لَزِمَ، وَقَدْ رَجَّى تَعَالَى

بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ مَعَ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لِمَا سَلَفَ منه إذ تَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَعُدْ إليه. انْتَهَى، وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأُمِّ وَحْدَهَا. فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوِ ابْنَتِي، لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَدَاوُدَ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ هُوَ ظِهَارٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَلْزَمُهُ ظِهَارُهُ لِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ ظِهَارُهُ إِذَا نَكَحَهَا، وَيَصِحُّ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ. وَقَالَ: الْمُزَنِيُّ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ الَّتِي يَجُوزُ لَهُ وَطْئُهَا، لَزِمَهُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ: هَلْ تَنْدَرِجُ فِي نِسَائِهِمْ أَمْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ ظِهَارِ العبد لدخوله في يظهرون مِنْكُمْ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ مِنْهُ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ مندرجة في الذين يظهرون، فَلَوْ ظَاهَرَتْ مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: تَكُونُ مُظَاهَرَةً. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَعَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ، فَهِيَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَى أن تكفر كفارة الظاهر، وَلَا يَحُولُ قَوْلُهَا هَذَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا: أَنْ يَعُودُوا لِلَفْظِ الَّذِي سَبَقَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ ثَانِيًا: أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَا تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِالثَّانِي، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ: وَهُوَ قول الفراء. وقال طاووس وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: لِما قالُوا: أَيْ لِلْوَطْءِ، وَالْمَعْنَى: لِمَا قَالُوا أَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، فَإِذَا ظَاهَرَ ثُمَّ وَطِئَ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ طَلَّقَ أَوْ مَاتَتْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَيْضًا وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ، فَمَتَى عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، طَلَّقَ أَوْ مَاتَتْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَوْدُ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ طَلَاقِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ، وَيَمْضِي بَعْدَهُ زَمَانٌ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ فَلَا يُطَلِّقُ. وَقَالَ قوم: المعنى: والذين يظهرون مِنْ نِسَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ كَانَ الظِّهَارُ عَادَتَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ في الإسلام، وقاله القتيبي.

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِمَا قَالُوا، وَهَذَا قَوْلٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ نَظْمَ الْآيَةِ. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، والظاهر أنه يجزىء مُطْلَقُ رَقَبَةٍ، فَتُجْزِئُ الْكَافِرَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: شَرْطُهَا الْإِسْلَامُ، كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَالظَّاهِرُ إِجْزَاءُ الْمُكَاتِبِ، لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: وَإِنْ عتق نصفي عبدين لا يجزىء. وقال الشافعي: يجزىء. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا: لَا يَجُوزُ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يَطَأَ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ فَعَلَ عَصَى، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْفِيرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. وَقِيلَ: تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَحَدِيثُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ بِالْعِتْقِ أَمِ الصَّوْمِ أَمِ الْإِطْعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتْ بِالْإِطْعَامِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَ ثُمَّ يُطْعِمَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً، إِذْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ. وَالظَّاهِرُ فِي التَّمَاسِّ الْحَقِيقَةُ، فَلَا يَجُوزُ تَمَاسُّهُمَا قَبْلَهُ أَوْ مُضَاجَعَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْوَطْءُ، فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِغَيْرِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالضَّمِيرُ فِي يَتَمَاسَّا عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنَ الْمُظَاهِرِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا. ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْرِيرِ، أَيْ فِعْلُ عِظَةٍ لَكُمْ لِتَنْتَهُوا عَنِ الظِّهَارِ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ: أَيِ الرَّقَبَةِ وَلَا ثَمَنَهَا، أَوْ وَجَدَهَا، أَوْ ثَمَنَهَا، وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ. وَالشَّهْرَانِ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا نَاقِصًا، أَوْ بِالْعَدَدِ لَا بِالْأَهِلَّةِ، فَيَصُومُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، ثُمَّ يُتِمُّ الْأَوَّلَ بِالْعَدَدِ. وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ التَّتَابُعِ، فَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ، أَوْ بِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ. فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَبْنِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ، أَنَّهُ يَصُومُ وَيُجْزِئُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ، وَلَوْ وَطِئَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ بَطَلَ التَّتَابُعُ وَيَسْتَأْنِفُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ إِنْ جَامَعَ نَهَارًا لَا لَيْلًا. فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لِصَوْمٍ لِزَمَانَةٍ بِهِ، أَوْ كَوْنِهِ يَضْعُفُ بِهِ ضَعْفًا شَدِيدًا، كَمَا جَاءَ فِي

حَدِيثِ أَوْسٍ لَمَّا قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَلَّ بَصَرِي وَخَشِيتُ أَنْ تَعْشُوَ عَيْنِي. وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ الْإِطْعَامِ، وَتُخَصِّصُهُ مَا كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الْإِطْعَامِ وَقْتَ النُّزُولِ، وَهُوَ مَا يُشْبِعُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدٍّ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مُدٌّ وَثُلُثٌ بِالْمُدِّ النَّبَوِيِّ، وَيَجِبُ اسْتِيعَابُ الْعَدَدِ سِتِّينَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ حَتَّى يُكْمِلَ الْعَدَدَ أَجْزَأَهُ. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى الرَّجْعَةِ وَالتَّسْهِيلِ فِي الْفِعْلِ مِنَ التَّحْرِيرِ إِلَى الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ. ثُمَّ شَدَّدَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ: أَيْ فَالْزَمُوهَا وَقِفُوا عِنْدَهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَ الْكَافِرِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْبَيَانُ وَالتَّعْلِيمُ لِلْأَحْكَامِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، لِتُصَدِّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ الَّتِي شَرَعَهَا فِي الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ، وَرَفْضِ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ جَاهِلِيَّتِكُمْ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَعَدِّيهَا، وَلِلْكافِرِينَ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَهَا وَلَا يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا عَذابٌ أَلِيمٌ. انْتَهَى. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أُخْزُوا يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِالْهَزِيمَةِ، كَمَا أُخْزِيَ مَنْ قَاتَلَ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِهِ، ذَكَرَ الْمُحَادِّينَ الْمُخَالِفِينَ لَهَا، وَالْمُحَادَّةُ: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْحُدُودِ. كُبِتُوا، قَالَ قَتَادَةُ: أُخْزُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لُعِنُوا. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ مَذْحِجٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو رَوْقٍ: رُدُّوا مَخْذُولِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غِيظُوا يَوْمَ الْخَنْدَقِ. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: أَيْ مَنْ قَاتَلَ الْأَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: أُهْلِكُوا. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: التَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ، أَيْ كُبِدُوا: أَصَابَهُمْ دَاءٌ فِي أَكْبَادِهِمْ. قِيلَ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مُنَافِقُو الْأُمَمِ. قِيلَ: وَكُبِتُوا بِمَعْنَى سَيُكْبَتُونَ، وَهِيَ بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ. وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَادَّةِ كَبَتَ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ عَلَى صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ. وَلِلْكافِرِينَ: أَيِ الَّذِينَ يُحَادُّونَهُ، عَذابٌ مُهِينٌ: أَيْ يُهِينُهُمْ ويذلهم. والناصب ليوم يَبْعَثُهُمُ الْعَامِلُ فِي لِلْكَافِرِينَ أَوْ مُهِينٌ أَوِ اذْكُرْ أَوْ يَكُونُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ مَتَى يَكُونُ عَذَابُ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: أَيْ يَكُونُ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله، انتصب جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ: أَيْ مُجْتَمِعِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَعْنَاهُ كُلَّهُمْ، إِذْ جَمِيعُ يَحْتَمِلُ ذَيْنِكَ الْمَعْنَيَيْنِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، تَخْجِيلًا لَهُمْ وَتَوْبِيخًا. أَحْصاهُ بِجَمِيعِ تَفَاصِيلِهِ وَكَمِّيَّتِهِ

وَكَيْفِيَّتِهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ. وَنَسُوهُ لِاسْتِحْقَارِهِمْ إِيَّاهُ وَاحْتِقَارِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ حِسَابٌ. شَهِيدٌ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يَكُونُ بِالْيَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَشَيْبَةُ: بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ النَّجْوَى. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَأَنْ شُغِلَتْ بِالْجَارِّ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ: مَا جَاءَتْنِي مِنِ امْرَأَةٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ التَّذْكِيرُ عَلَى مَا فِي الْعَامَّةِ، يَعْنِي الْقِرَاءَةَ الْعَامَّةَ، قَالَ: لِأَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى مِنْ نَجْوى وَهُوَ يَقْتَضِي الْجِنْسَ، وَذَلِكَ مُذَكَّرٌ. انْتَهَى. وَلَيْسَ الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ التَّذْكِيرَ، لِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ. فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى مُؤَنَّثٍ، فَالْأَكْثَرُ التَّأْنِيثُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، قَالَ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «1» ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها «2» ، وَيَكُونُ هُنَا تَامَّةً، وَنَجْوَى احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مُضَافًا إِلَى ثَلَاثَةٍ، أَيْ مِنْ تَنَاجِي ثَلَاثَةٍ، أَوْ مَصْدَرًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ ذَوِي نَجْوَى، أَوْ مَصْدَرًا أُطْلِقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُتَنَاجِينَ، فَثَلَاثَةٌ: عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ أَوْ صِفَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ ثَلَاثَةً وَخَمْسَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يَتَنَاجَوْنَ مُضْمَرَةً يَدُلُّ عَلَيْهِ نَجْوَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ نَجْوَى بِمُتَنَاجِينَ وَنَصْبُهَا مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: كُلُّ سِرَارٍ نَجْوَى. وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: السِّرَارُ مَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالنَّجْوَى مَا كَانَ بَيْنَ أَكْثَرَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَاخْتَصَّ الثَّلَاثَةَ وَالْخَمْسَةَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ عَلَى هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ مُغَايَظَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَابِعَهُمْ وَسَادِسَهُمْ وَمَعَهُمْ بِالْعِلْمِ وَإِدْرَاكِ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نزلت في رَبِيعَةَ وَحَبِيبٍ ابْنَيْ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، تَحَدَّثُوا فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتُرَى اللَّهَ يَعْلَمُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: يَعْلَمُ بَعْضًا وَلَا يَعْلَمُ بَعْضًا، فَقَالَ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَعْضًا فَهُوَ يَعْلَمُهُ كُلَّهُ. وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ وَالْخَمْسَةِ، وَالْأَدْنَى من الثلاثة الاثنين، وَمِنَ الْخَمْسَةِ الْأَرْبَعَةُ وَلَا أَكْثَرَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَلِي السِّتَّةَ فَصَاعِدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا أَكْثَرَ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْمَخْفُوضِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ: بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ نَجْوَى إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُتَنَاجُونَ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مَحْضًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا نَجْوَى أَدْنَى، ثُمَّ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ بِإِعْرَابِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلا أَدْنى مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، فَهُوَ مِنْ عطف

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 4. (2) سورة الحجر: 15/ 5.

الْجُمَلِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَالْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَيَعْقُوبُ أَيْضًا: وَلَا أَكْبَرَ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ وَالرَّفْعِ، وَاحْتَمَلَ الْإِعْرَابَيْنِ: الْعَطْفُ عَلَى الْمَوْضِعِ والرفع بالابتداء. وقرىء: يُنْبِئُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَالْهَمْزِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتَّخْفِيفِ وَتَرْكِ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ وَالْهَمْزِ وَضَمِّ الْهَاءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. نَزَلَتْ أَلَمْ تَرَ فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ. كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَيَتَغَامَزُونَ بِأَعْيُنِهِمْ عَلَيْهِمْ، مُوهِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ شَرٌّ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَقْدَمَ أَقْرِبَاؤُهُمْ. فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، شَكَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَنَزَلَتْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَتَناجَوْنَ وَحَمْزَةُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَرُوَيْسٌ: وَيَنْتَجُونَ مُضَارِعُ انْتَجَى. بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ: كَانُوا يَقُولُونَ: السَّامُّ عَلَيْكَ، وَهُوَ الْمَوْتُ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ: وَعَلَيْكُمْ. وَتَحِيَّةُ اللَّهِ لِأَنْبِيَائِهِ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «1» . لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ: أَيْ إِنْ كَانَ نَبِيًّا، فَمَا لَهُ لَا يَدْعُو عَلَيْنَا حَتَّى نُعَذَّبَ بِمَا نَقُولُ؟ فَقَالَ تَعَالَى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ. ثُمَّ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ تَنَاجِيهِمْ مِثْلَ تَنَاجِي الْكُفَّارِ، وَبَدَأَ بِالْإِثْمِ لِعُمُومِهِ، ثُمَّ بِالْعُدْوَانِ لِعَظَمَتِهِ فِي النُّفُوسِ، إِذْ هِيَ ظُلَامَاتُ الْعِبَادِ. ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ، وَهُوَ مَعْصِيَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي هَذَا طَعْنٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، إِذْ كَانَ تَنَاجِيهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا تَتَناجَوْا، وَأَدْغَمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ التَّاءَ فِي التاء. وقرأ الكوفيون

_ (1) سورة النمل: 27/ 59. [.....]

وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَرُوَيْسٌ: فَلَا تَنْتَجُوا مُضَارِعُ انْتَجَى وَالْجُمْهُورُ: بِضَمِّ عَيْنِ الْعُدْوَانِ وَأَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِهَا حَيْثُ وَقَعَ وَالضَّحَّاكُ: وَمَعْصِيَاتِ الرَّسُولِ عَلَى الْجَمْعِ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِذَا انْتَجَيْتُمْ فَلَا تَنْتَجُوا. وَأَلْ فِي إِنَّمَا النَّجْوى لِلْعَهْدِ فِي نَجْوَى الْكُفَّارِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَكَوْنُهَا مِنَ الشَّيْطانِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُهَا لَهُمْ، فَكَأَنَّهَا مِنْهُ. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا: كَانُوا يُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ غُزَاتَهُمْ غُلِبُوا وَأَنَّ أَقَارِبَهُمْ قُتِلُوا. وَلَيْسَ: أَيِ التَّنَاجِي أَوِ الشَّيْطَانُ أَوِ الْحُزْنُ، بِضارِّهِمْ: أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِمَشِيئَتِهِ، فَيَقْضِي بِالْقَتْلِ أَوِ الْغَلَبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ نَجْوَى قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ مُنَاجَاةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ وَلَا ضَرُورَةٌ. يُرِيدُونَ التَّبَجُّحَ بِذَلِكَ، فَيَظُنُّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ بَعْدَ وَقَاصِدًا نَحْوَهُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَاجَاةِ الَّتِي يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ فِي النَّوْمِ تَسُوءُهُ، فَكَأَنَّهُ نَجْوَى يُنَاجَى بِهَا. انْتَهَى. وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْقَوْلُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَلَا مَا بَعْدَهَا، وَتَقَدَّمَتِ الْقِرَاءَتَانِ في نحو: لِيَحْزُنَ. وقرىء: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالزَّايِ، فَيَكُونُ الَّذِينَ فَاعِلًا، وَفِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَفْعُولًا. وَلَمَّا نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلتَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُرِ، أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِلتَّوَادِّ وَالتَّقَارُبِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ مَجَالِسُ الْقِتَالِ إِذَا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَشَاحُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَلَا يُوَسِّعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ رَغْبَةً فِي الشَّهَادَةِ، فَنَزَلَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفَسَّحُوا وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى: تَفَاسَحُوا. وَالْجُمْهُورُ: فِي الْمَجْلِسِ وَعَاصِمٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى: فِي الْمَجالِسِ. وقرىء: فِي الْمَجْلَسِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ الْجُلُوسُ، أَيْ تَوَسَّعُوا فِي جُلُوسِكُمْ وَلَا تَتَضَايَقُوا فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ مُطَّرِدٌ فِي الْمَجَالِسِ الَّتِي لِلطَّاعَاتِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَجْلِسَ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَا مَجَالِسُ الْعِلْمِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ فِي الْمَجالِسِ، وَيَتَأَوَّلُ الْجَمْعُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَجْلِسًا فِي بَيْتِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَانْجَزَمَ يَفْسَحِ اللَّهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ فِي رَحْمَتِهِ، أَوْ فِي مَنَازِلِكُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ فِي قُبُورِكُمْ، أَوْ فِي قُلُوبِكُمْ، أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَقْوَالٌ. وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا: أَيِ انْهَضُوا فِي الْمَجْلِسِ لِلتَّفَسُّحِ، لِأَنَّ مُرِيدَ التَّوْسِعَةِ عَلَى

الْوَارِدِ يَرْتَفِعُ إِلَى فَوْقٍ فَيَتَّسِعُ الْمَوْضِعُ. أُمِرُوا أَوَّلًا بِالتَّفَسُّحِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهِ إِذَا ائْتَمَرُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ: إِذَا دُعُوا إِلَى قِتَالٍ وَصَلَاةٍ أَوْ طَاعَةٍ نَهَضُوا. وَقِيلَ: إِذَا دُعُوا إِلَى الْقِيَامِ عَنْ مَجْلِسِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَضُوا، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْيَانًا يُؤْثِرُ الِانْفِرَادَ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ: بِضَمِّ السِّينِ فِي اللَّفْظَيْنِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْعَطْفُ مُشْعِرٌ بِالتَّغَايُرِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَالْمَعْنَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْعُلَمَاءَ دَرَجَاتٍ، فَالْوَصْفَانِ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْكُمْ، وَانْتَصَبَ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَيَخُصَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، فَلِلْمُؤْمِنِينَ رفع، وللعلماء درجات. وَقَرَأَ عَيَّاشُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتَ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ: اسْتِعَارَةٌ، وَالْمَعْنَى: قَبْلَ نَجْوَاكُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَغْفَالِهِمْ كَثُرَتْ مُنَاجَاتُهُمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي غَيْرِ جاحة إِلَّا

لِتَظْهَرَ مَنْزِلَتُهُمْ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْحًا لَا يَرُدُّ أَحَدًا، فَنَزَلَتْ مُشَدِّدَةً عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْمُنَاجَاةِ. وَهَذَا الْحُكْمُ قِيلَ: نُسِخَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُمِلَ بِهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَا عَمِلَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي، أَرَدْتُ الْمُنَاجَاةَ وَلِي دِينَارٌ، فَصَرَفْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَنَاجَيْتُ عَشْرَ مِرَارٍ، أَتَصَدَّقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مَشَقَّةُ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فِي ترك الصدقة. وقرىء: صَدَقَاتٍ بِالْجَمْعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَقِيلَ: بِآيَةِ الزَّكَاةِ. أَأَشْفَقْتُمْ: أَخِفْتُمْ مِنْ ذَهَابِ الْمَالِ فِي الصَّدَقَةِ، أَوْ مِنَ الْعَجْزِ عَنْ وُجُودِهَا تَتَصَدَّقُونَ بِهِ؟ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا: مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: عَذَرَكُمْ وَرَخَّصَ لَكَمْ فِي أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وأفعال الطاعات. الَّذِينَ تَوَلَّوْا: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ: هُمُ الْيَهُودُ، عَنِ السُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبَّارٍ وَيَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ» ، فَدَخَلَ عبد الله بن أبي بْنِ سَلُولٍ، وَكَانَ أَزْرَقَ أَسْمَرَ قَصِيرًا، خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ» ؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ: «فَعَلْتَ» ، فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا سَبُّوهُ، فَنَزَلَتْ. وَالضَّمِيرُ فِي مَا هُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ: أَيْ لَيْسُوا مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَلا مِنْهُمْ: أَيْ لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَمَا هُمْ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِأَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ لِأَنَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ وَمَعَ الْكُفَّارِ بِقَلْبِهِ» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ تَأْوِيلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَا هُمْ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ، وَقَوْلُهُ: وَلا مِنْهُمْ يُرِيدُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ، فَيَجِيءُ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَحْسَنَ، لِأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ، لَيْسُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَيَلْزَمُهُمْ ذِمَامُهُمْ، وَلَا مِنَ الْقَوْمِ الْمُحِقِّينَ فَتَكُونُ الْمُوَالَاةُ صَوَابًا. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي وَيَحْلِفُونَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، فَتَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ لَهُمْ وَلَا تَخْتَلِفُ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ مَا هُمْ اسْتِئْنَافًا، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ ضَمِيرِ تَوَلَّوْا. وَعَلَى احْتِمَالِ ابْنِ عَطِيَّةَ، يَكُونُ مَا هُمْ صِفَةً لِقَوْمٍ. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ، إِمَّا أَنَّهُمْ مَا سَبُّوا، كَمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ. وَالْكَذِبُ هُوَ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ يُقَبِّحُ عَلَيْهِمْ، إِذْ حَلَفُوا عَلَى خِلَافِ مَا أَبْطَنُوا، فَالْمَعْنَى: وَهُمْ عَالِمُونَ مُتَعَمِّدُونَ لَهُ. وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ:

الْمُعَدِّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَيْمانَهُمْ جَمْعُ يَمِينٍ وَالْحَسَنُ: إِيمَانَهُمْ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ: أَيْ مَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِيمَانِ، جُنَّةً: أَيْ مَا يَتَسَتَّرُونَ بِهِ وَيَتَّقُونَ الْمَحْدُودَ، وَهُوَ التُّرْسُ، فَصَدُّوا: أَيْ أَعْرَضُوا، أَوْ صَدُّوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، إِذْ كَانُوا يُثَبِّطُونَ مَنْ لَقُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَيُضَعِّفُونَ أَمْرَ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، أَوْ صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، وَقَتْلُهُمْ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ فِيهِمْ، لَكِنْ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِسْلَامِ صَدُّوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ آلِ عِمْرَانَ. فَيَحْلِفُونَ لَهُ: أَيْ لِلَّهِ تَعَالَى. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» ؟ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ، كَيْفَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُفْرَهُمْ يَخْفَى عَلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَيُجْرُونَهُ مُجْرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي عَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ؟ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الْكَذِبِ، قَدْ تَعَوَّدُوهُ حَتَّى كَانَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ: أَيْ شَيْءٍ نَافِعٍ لَهُمْ. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ: أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَغَلَبَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ «2» فِي النِّسَاءِ، وَأَنَّهَا مِنْ حَاذَ الْحِمَارُ الْعَانَةَ إِذَا سَاقَهَا، وَجَمْعُهَا غَالِبًا لَهَا، وَمِنْهُ كَانَ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ. وَقَرَأَ عُمَرُ: اسْتَحَاذَ، أَخْرَجَهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْقِيَاسُ، وَاسْتَحْوَذَ شَاذٌّ فِي الْقِيَاسِ فَصِيحٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ: فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهُ، لَا بِقُلُوبِهِمْ وَلَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وحِزْبُ الشَّيْطانِ: جُنْدُهُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ: هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، أَيْ فِي جُمْلَةِ مَنْ هُوَ أَذَلُّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا تَرَى أَحَدًا أَذَلَّ مِنْهُمْ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالطَّائِفَ وَخَيْبَرَ وَمَا حَوْلَهُمْ، قَالُوا: نَرْجُو أَنْ يُظْهِرَنَا اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَتَظُنُّونَ الرُّومَ وَفَارِسَ كَبَعْضِ الْقُرَى الَّتِي غُلِبْتُمْ عَلَيْهَا؟ وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَأَكْثَرُ عَدَدًا وَأَشَدُّ بَطْشًا مِنْ أَنْ تَظُنُّوا فِيهِمْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي: كَتَبَ: أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ قَضَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَعْنَى قَالَ، وَرُسُلِي: أَيْ مَنْ بَعَثْتُ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ وَمَنْ بَعَثْتُ مِنْهُمْ بِالْحُجَّةِ. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ: يَنْصُرُ حِزْبَهُ، عَزِيزٌ: يَمْنَعُهُ مِنْ أن يذل.

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 23. (2) سورة النساء: 4/ 141.

لَا تَجِدُ قَوْماً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ: خَيَّلَ أَنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعِ الْمُحَالِ أَنْ تَجِدَ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ يُوَادُّونَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، وَحَقُّهُ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَلَا يُوجَدَ بِحَالٍ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ وَالزَّجْرِ عَنْ مُلَابَسَتِهِ وَالتَّصَلُّبِ فِي مُجَانَبَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. وَزَادَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ. انْتَهَى. وَبَدَأَ بِالْآبَاءِ لِأَنَّهُمُ الْوَاجِبُ عَلَى الْأَوْلَادِ طَاعَتُهُمْ، فَنَهَاهُمْ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «1» ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُمْ أَعْلَقُ بِالْقُلُوبِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْإِخْوَانِ لِأَنَّهُمْ بِهِمُ التَّعَاضُدُ، كَمَا قِيلَ: أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ ... كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ ثُمَّ رَابِعًا بِالْعَشِيرَةِ، لِأَنَّ بِهَا التَّنَاصُرَ، وَبِهِمُ الْمُقَاتَلَةَ وَالتَّغَلُّبَ وَالتَّسَرُّعَ إِلَى مَا دُعُوا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ: لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَتَبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ نَصْبًا، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ. وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: كُتِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْإِيمَانُ رُفِعَ. وَالْجُمْهُورُ: أَوْ عَشِيرَتَهُمْ عَلَى الْإِفْرَادِ وَأَبُو رَجَاءٍ: عَلَى الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: أَثْبَتَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْهُدَى وَالنُّورُ وَاللُّطْفُ. وَقِيلَ: الرُّوحُ: الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ رُوحٌ يَحْيَا بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ كَتَبَ إِلَى الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قِيلَ: وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أبي حَاطِبِ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْآيِ الَّتِي فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُوَالِينَ لِلْيَهُودِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي وَأَبِي بكر الصديق، رضي الله تَعَالَى عَنْهُ، كَانَ مِنْهُ سَبٌّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَكَّهُ أَبُو بَكْرٍ صَكَّةً سَقَطَ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أو فعلته» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «لَا تَعُدْ» ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ السَّيْفُ قَرِيبًا مِنِّي لَقَتَلْتُهُ. وَقِيلَ: فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِي أَبِي بَكْرٍ دَعَا ابْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى الْبِرَازِ، وَفِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قتل أخاه بن عُمَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَالَ ابن شوذب: يوم

_ (1) سورة لقمان: 31/ 15.

بَدْرٍ، وَفِي عُمَرَ قَتَلَ خَالَهُ الْعَاصِي بْنَ هِشَامٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَتَلُوا عُتْبَةَ وَشَيْبَةُ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنَ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي قِصَّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ، قَالَ: كَذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ الشَّامِ، وَقَدْ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ أَبُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. انْتَهَى، يَعْنُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رَتَّبَ الْمُفَسِّرُونَ. وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ عَلَى قِصَّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي بَكْرٍ وَمُصْعَبٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدٍ مَعَ أَقْرِبَائِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة الحشر

سورة الحشر [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

اللِّينَةُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: كَأَنَّهُ لَوْنٌ مِنَ النَّخِيلِ، أَيْ ضَرْبٌ مِنْهُ، وَأَصْلُهَا لَوْنُهُ، قَلَبُوا الْوَاوِ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَأَنْشَدَ: قَدْ شَجَانِي الْأَصْحَابُ لَمَّا تَغَنَّوْا ... بِفِرَاقِ الْأَحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ انْتَهَى. وَجَمْعُهَا لَيْنٌ، كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، وَقَدْ كَسَرُوهُ عَلَى لِيَانٍ، وَتَكْسِيرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ شَاذٌّ، كَرُطَبَةٍ وَرُطَبٍ، شَذُّوا فِيهِ فَقَالُوا: أَرْطَابٌ وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَسَالِفَةٌ كسحقوق اللِّيَانِ ... أَضْرَمَ فِيهَا الْغَوِيُّ السُّعُرْ وَقَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمُ: اللِّيَانُ جَمْعُ لِينَةٍ، وَهِيَ النَّخْلَةُ. انْتَهَى، وَتَأْتِي أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي اللِّينَةِ. أَوْجَفَ الْبَعِيرَ: حَمَلَهُ عَلَى الْوَجِيفِ، وَهُوَ السَّيْرُ السَّرِيعُ. تَقُولُ: وَجَفَ الْبَعِيرُ يَجِفُ وَجْفًا وَوَجِيفًا وَوَجْفَانًا قَالَ الْعَجَّاجُ: نَاجٍ طَوَاهُ الْأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا وَقَالَ نَصِيبٌ: أَلَا رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قَطَعْتُ وَجِيفَهُمْ ... إِلَيْكِ وَلَوْلَا أَنْتِ لَمْ يُوجِفِ الرَّكْبُ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ، وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَتُعَدُّ مِنَ الْمَدِينَةِ لِتَدَانِيهَا مِنْهَا. وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ. فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَعَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ. فَلَمَّا هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، ارْتَابُوا وَنُكِثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ كَعْبٍ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ غِيلَةً، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُمْ عَلَى خِيَانَةٍ حِينَ أَتَاهُمْ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمَيْنِ الَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، مُنْصَرَفَهُ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ فَهَمُّوا بِطَرْحِ الْحَجَرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا قُتِلَ كَعْبٌ، أُمِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانُوا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا الزُّهْرَةُ. فَسَارُوا، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِلِيفٍ، فَوَجَدُهُمْ يَنُوحُونَ عَلَى كَعْبٍ، وَقَالُوا: ذَرْنَا نَبْكِي شُجُونًا ثُمَّ مُرْ أَمْرَكَ، فَقَالَ: «اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ» ، فَقَالُوا: الْمَوْتُ أَقْرَبُ لَنَا مِنْ ذَلِكَ، وَتَنَادَوْا بِالْحَرْبِ. وَقِيلَ: اسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ. وَدَسَّ الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ أَنْ لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ. فَدُرِّبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ وَحَصَّنُوهَا، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: اخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَيَخْرُجُ مِنَّا ثَلَاثُونَ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا آمَنَّا كُلُّنَا، فَفَعَلَ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَفْهَمُ وَنَحْنُ سِتُّونَ؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَفَعَلُوا، فَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ وَأَرَادُوا الْفَتْكَ. فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ نَاصِحَةً إِلَى أَخِيهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَرَادُوا، فَأَسْرَعَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الرَّسُولُ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، غَدَا عَلَيْهِمْ بِالْكَتَائِبِ، فَحَاصَرَهُمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَأَيِسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ، فَطَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَتَاعِ، فَجَلَوْا إلى الشام إلى أريحا وَأَذْرِعَاتٍ، إِلَّا أَهْلَ بَيْتَيْنِ مِنْهُمْ آلَ أَبِي الْحَقِيقِ وآل حيي بن أحطب، فَلَحِقُوا بِخَيْبَرَ، وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ بِالْحِيرَةِ، وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، فَوَجَدَ خَمْسِينَ دِرْعًا وَخَمْسِينَ بَيْضَةً وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا. وَكَانَ ابْنُ أُبَيٍّ قَدْ قَالَ لَهُمْ: مَعِي أَلْفَانِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرِهِمْ، وَتَمُدُّكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ. فَلَمَّا نَازَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ وَخَذَلَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ غَطَفَانَ.

وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ذَكَرَ أَيْضًا مَا حَلَّ بِالْيَهُودِ مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَلَائِهِمْ، وَإِمْكَانِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَرَامَ الْغَدْرَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ بِحِلْفِهِمْ مَعَ قُرَيْشٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ الَّتِي يَشْمَلُهَا الْعُمُومُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِمَا، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: هُمْ قُرَيْظَةُ، وَكَانَتْ قَبِيلَةً عَظِيمَةً تُوَازِنُ فِي الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَيُقَالُ لَهُمَا الْكَاهِنَانِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ، نَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي فِتَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. مِنْ دِيارِهِمْ: يَتَعَلَّقُ بأخرج، ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِبَرِيَّةٍ لَا عُمْرَانَ فِيهَا، فَبَنَوْا فِيهَا وَأَنْشَئُوا. وَاللَّامُ فِي لِأَوَّلِ الْحَشْرِ تتعلق بأخرج، وَهِيَ لَامُ التَّوْقِيتِ، كَقَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «1» ، وَالْمَعْنَى: عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ لِلتَّوْجِيهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مَا. وَالْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُخْرِجُوا هُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مَا حُشِرُوا وَلَا أُجْلُوا وَإِنَّمَا قُتِلُوا، وَهَذَا الْحَشْرُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِإِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ. وَقِيلَ الْحَشْرُ هُوَ حَشْرُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَتَائِبَ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ حَشْرٍ مِنْهُ لَهُمْ، وَأَوَّلُ قِتَالٍ قَاتَلَهُمْ. وَأَوَّلُ يَقْتَضِي ثَانِيًا، فَقِيلَ: الْأَوَّلُ حَشْرُهُمْ لِلْجَلَاءِ، وَالثَّانِي حَشْرُ عُمَرَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ وَجَلَاؤُهُمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِجَلَاءِ أَهْلِ خَيْبَرَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ» . وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ حَشْرَ الْقِيَامَةِ، أَيْ هَذَا أَوَّلُهُ، وَالْقِيَامُ مِنَ الْقُبُورِ آخِرُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ: الْمَعْنَى: الْأَوَّلُ مَوْضِعُ الْحَشْرِ، وَهُوَ الشَّامُ. وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِبَنِي النَّضِيرِ: «اخْرُجُوا» ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ» . وَقِيلَ: الثَّانِي نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَهَذَا الْجَلَاءُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ نُسِخَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ. مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، لِعِظَمِ أَمْرِهِمْ وَمَنْعَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَوَثَاقَةِ حُصُونِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ تَمْنَعُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ حَرْبِ اللَّهِ وَبَأْسِهِ. وَلَمَّا كَانَ ظَنُّ الْمُؤْمِنِينَ مَنْفِيًّا هُنَا، أُجْرِيَ مُجْرَى نَفْيِ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، فَتَسَلَّطَ عَلَى أَنِ النَّاصِبَةِ للفعل، كما

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 78.

يَتَسَلَّطُ الرَّجَاءُ وَالطَّمَعُ. وَلَمَّا كَانَ ظَنُّ الْيَهُودِ قَوِيًّا جِدًّا يَكَادُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْعِلْمِ تَسَلَّطَ عَلَى أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَصْحَبُهَا غَالِبًا فِعْلُ التَّحْقِيقِ، كَعَلِمْتَ وَتَحَقَّقْتَ وَأَيْقَنْتَ، وَحُصُونُهُمُ الْوَصْمُ وَالْمِيضَاةُ وَالسَّلَالِيمُ وَالْكَثِيبَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِكَ: وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ أَوْ مَانِعَتُهُمْ، وَبَيْنَ النَّظْمِ الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ دَلِيلٌ عَلَى فَرْطِ وُثُوقِهِمْ بِحَصَانَتِهَا وَمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ، وَفِي تَصْيِيرِ ضَمِيرِهِمُ اسْمًا لِأَنَّ وَإِسْنَادِ الْجُمْلَةِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَمَنْعَةٍ لَا يُبَالِي مَعَهَا بِأَحَدٍ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَوْ يَطْمَعُ فِي مُعَازَّتِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قَوْلِكَ: وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّ حُصُونَهُمْ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وما نعتهم الْخَبَرُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا، بَلِ الرَّاجِحُ أَنْ يَكُونَ حُصُونُهُمْ فَاعِلَةً بِمَانِعَتِهِمْ، لِأَنَّ فِي تَوْجِيهِهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَفِي إِجَازَةِ مِثْلِهِ مِنْ نَحْوِ: قَائِمٌ زَيْدٌ، عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ خِلَافٌ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَنْعُهُ. فَأَتاهُمُ اللَّهُ: أَيْ بَأْسَهُ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا: أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، وَهُوَ قَتْلُ رَئِيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَذَلِكَ مِمَّا أَضْعَفَ قُوَّتَهُمْ. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَلَبَ قُلُوبَهُمُ الْأَمْنَ وَالطُّمَأْنِينَةَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: خَرَّبَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ خَارِجٍ لِيَدْخُلُوا، وَخَرَّبُوا هُمْ مِنْ دَاخِلٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا: كَانُوا كُلَّمَا خَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ، هَدَمُوا هُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، خَرَّبُوا الْحِصْنَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانُوا، لَمَّا أُبِيحَ لَهُمْ مَا تَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِبِلُ، لَا يَدَعُونَ خَشَبَةً حَسَنَةً وَلَا سَارِيَةً إِلَّا قَلَعُوهَا وَخَرَّبُوا الْبُيُوتَ عَنْهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِسْنَادُ التَّخْرِيبِ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُحَاصَرَتُهُمْ إِيَّاهُمْ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: شَحُّوا عَلَى بَقَائِهَا سَلِيمَةً، فَخَرَّبُوهَا إِفْسَادًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى وَأَبُو عمرو: يخربون مُشَدَّدًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُخَفَّفًا، وَالْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عُدِّيَ خَرِبَ اللَّازِمُ بِالتَّضْعِيفِ وَبِالْهَمْزَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ فِي الْقِرَاءَاتِ التَّشْدِيدُ الِاخْتِيَارُ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: خَرَّبَ بِمَعْنَى هَدَّمَ وَأَفْسَدَ، وَأَخْرَبَ: تَرَكَ الْمَوْضِعَ خَرَابًا وَذَهَبَ عَنْهُ. فَاعْتَبِرُوا: تَفَطَّنُوا لِمَا دَبَّرَ اللَّهُ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ بِتَسْلِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. وَقِيلَ: وَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُورِثَهُمُ اللَّهُ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَقَالَ: فَكَانَ كَمَا قَالَ وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا : أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى قَضَى أَنَّهُ سَيُجْلِيهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَيَبْقَوْنَ مُدَّةً يُؤْمِنُ بَعْضُهُمْ وَيُولَدُ لِبَعْضِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ،

لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، كَمَا فَعَلَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْجَيْشِ الَّذِينَ عَصَوْا مُوسَى فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَقْتُلُوا الْغُلَامَ ابْنَ مَلِكِ الْعَمَالِيقِ، تَرَكُوهُ لِجِمَالِهِ وَعَقْلِهِ. وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَسْتَحْيُوا مِنْهُمْ أَحَدًا. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الشَّامِ، وَجَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَاتَ. فَقَالَ لَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَنْتُمْ عُصَاةٌ، وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُمْ عَلَيْنَا بِلَادَنَا، فَانْصَرَفُوا إِلَى الْحِجَازِ، فَكَانُوا فِيهِ، فَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءُ الَّذِي أَجْلَاهُ بُخْتُ نَصَّرَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ. وَكَانَ اللَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ جَلَاءً، فَنَالَهُمْ هَذَا الْجَلَاءُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ وَالْقَتْلِ، كَأَهْلِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ. وَيُقَالُ: جَلَا الْقَوْمُ عَنْ مَنَازِلِهِمْ وَأَجْلَاهُمْ غَيْرُهُمْ. قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَلَاءِ وَالْإِخْرَاجِ: أَنَّ الْجَلَاءَ مَا كَانَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَالْإِخْرَاجُ قَدْ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْجَلَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِجَمَاعَةٍ، وَالْإِخْرَاجُ قَدْ يَكُونُ لِوَاحِدٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْجَلَاءُ مَمْدُودًا وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ: مَقْصُورًا وَطَلْحَةُ: مَهْمُوزًا مِنْ غَيْرِ ألف كالبنأ. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ: أَيْ إِنْ نَجُوا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، لَمْ يَنْجُوا فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ طلحة: وَمَنْ يُشَاقِقْ بِالْإِظْهَارِ، كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الْأَنْفَالِ وَالْجُمْهُورُ بِالْإِدْغَامِ. كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ شَرَعَ فِي بَعْضِ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ يَقْطَعُ وَيَحْرِقُ، وَذَلِكَ فِي صَدْرِ الْحَرْبِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا الْإِفْسَادُ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْتَ تَنْهَى عَنِ الْإِفْسَادِ؟ فَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ، وَنَزَلَ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَإِخْبَارًا أَنَّ ذَلِكَ بِتَسْوِيغِ اللَّهِ وَتَمْكِينِهِ لِيُخَرِّبَكُمْ بِهِ وَيُذِلَّكُمْ. وَاللِّينَةُ وَالنَّخْلَةُ اسْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ قُيُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِرٍ ... عَلَى لِينَةٍ سَوْقَا يهفو حيونها وَقَالَ آخَرُ: طِرَاقُ الْحَوَامِي واقع فوق لينة ... يدي ليلة في ولشه يَتَرَقْرَقُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: هِيَ النَّخْلَةُ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّخْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَسُفْيَانُ: مَا ثَمَرُهَا لَوْنٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ يُقَالُ لَهُ اللَّوْنُ. قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يَشِفُّ عَنْ نَوَاهُ فَيُرَى مِنْ خَارِجٍ. وَقَالَ أَيْضًا أَبُو عُبَيْدَةَ: اللِّينُ: أَلْوَانُ النَّخْلِ الْمُخْتَلِطَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عَجْوَةٌ وَلَا بَرْنِيٌّ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: هِيَ الْعَجْوَةُ، وَقِيلَ: هِيَ السَّيَلَانُ، وَأَنْشَدَ فِيهِ:

غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرًى مَعِينٍ ... ثُمَّ حُفَّ النَّخِيلُ بِالْآجَامِ وَقِيلَ: هِيَ أَغْصَانُ الْأَشْجَارِ لِلِينِهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ أَصْلُ الْيَاءِ الْوَاوَ. وَقِيلَ: هِيَ النَّخْلَةُ الْقَصِيرَةُ. وقال الأصمعي: هي الدفل، وَمَا شَرْطِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِقَطَعْتُمْ، وَمِنْ لِينَةٍ تَبْيِينٌ لِإِبْهَامٍ مَا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ فَقَطَعَهَا أَوْ تَرَكَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قائِمَةً، أَنَّثَ قَائِمَةً، وَالضَّمِيرُ فِي تَرَكْتُمُوها عَلَى مَعْنَى مَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: قِوَمًا عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ، كَضِرَبٍ جَمْعُ قَائِمٍ. وقرىء: قَائِمًا اسْمَ فَاعِلٍ، فَذُكِّرَ عَلَى لَفْظِ مَا، وَأُنِّثَ في على أصولها. وقرىء: أَصْلِهَا بِغَيْرِ وَاوٍ. وَلَمَّا جَلَا بَنُو النَّضِيرِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَتَرَكُوا رَبَاعَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ تَخْمِيسَهَا كَغَنَائِمِ بَدْرٍ، فَنَزَلَتْ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ: بَيَّنَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ فَيْءٌ، لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا خَيْلٌ وَلَا رِكَابٌ وَلَا قُطِعَتْ مَسَافَةٌ، إِنَّمَا كَانُوا مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ مَشَوْا مَشْيًا، وَلَمْ يَرْكَبْ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عِدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَآثَرَ بِهَا الْمُهَاجِرِينَ وَقَسَّمَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ وَالْحَارِثَ بْنَ الصِّمَّةِ، أَعْطَاهُمْ لِفَقْرِهِمْ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَأَفَاءَ بِمَعْنَى: يَفِيءُ، وَلَا يَكُونُ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ صِلَةُ مَا الْمَوْصُولَةِ إِذَا كَانَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ شُبِّهَتْ بِاسْمِ الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ جَلَائِهِمْ، كَانَتْ مُخْبِرَةً بِغَيْبٍ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَتْ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ حُصُولِ أَمْوَالِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَحُكْمُ الْمَاضِي الْمُتَقَدِّمِ حُكْمُهُ. وَمَنْ فِي: مِنْ خَيْلٍ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِغْرَاقُ، وَالرِّكَابُ: الْإِبِلُ، سَلَّطَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا كَانَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَى الْأَئِمَّةِ مِمَّا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ خَاصَّةً. مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَدْخُلِ الْعَاطِفُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْأُولَى، فَهِيَ مِنْهَا غَيْرُ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهَا. بَيَّنَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَصْنَعُ بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهُ حَيْثُ يَضَعُ الْخُمْسَ مِنَ الغنائم مقسوم عَلَى الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَهْلُ الْقُرَى الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أَهْلُ الصَّفْرَاءِ وَيَنْبُعَ وَوَادِي الْقُرَى وَمَا هُنَالِكَ مِنْ قُرَى الْعَرَبِ الَّتِي تُسَمَّى قُرَى عُرَيْنَةَ، وَحُكْمُهَا مُخَالِفٌ

لِبَنِي النَّضِيرِ، وَلَمْ يَحْبِسْ مِنْ هَذِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، بَلْ أَمْضَاهَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فُتِحَتْ. انْتَهَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى خَاصَّةٌ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَيْ لَا يَكُونَ بِالْيَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَهِشَامٌ: بِالتَّاءِ. وَالْجُمْهُورُ: دُولَةً بِضَمِّ الدَّالِ وَنَصْبِ التَّاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَهِشَامٌ: بِضَمِّهَا وَعَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِهَا. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَحُذَّاقُ الْبَصْرَةِ: الْفَتْحُ فِي الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ لِأَنَّهَا الْفَعْلَةُ فِي الدَّهْرِ، وَالضَّمُّ فِي الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَالضَّمِيرُ فِي تَكُونَ بِالتَّأْنِيثِ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَا، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْوَالُ وَالْمَغَانِمُ، وَذَلِكَ الضَّمِيرُ هُوَ اسْمُ يَكُونَ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى لَفْظِ مَا، أَيْ يَكُونَ الْفَيْءُ، وَانْتَصَبَ دُولَةً عَلَى الْخَبَرِ. وَمَنْ رَفَعَ دُولَةً فتكون تَامَّةٌ، وَدُولَةٌ فَاعِلٌ، وَكَيْلَا يَكُونَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ فَالْفَيْءُ وَحُكْمُهُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، يُقَسِّمُهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَيْ لَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَاثَرُونَ بِهِ، أَوْ كَيْلَا يَكُونَ دُولَةً جَاهِلِيَّةً بَيْنَهُمْ، كَمَا كَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ يَسْتَأْثِرُونَ بِالْغَنَائِمِ وَيَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَالْمَعْنَى: كَيْ لَا يَكُونَ أَخْذُهُ غَلَبَةً وَأَثَرَةً جَاهِلِيَّةً. وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ الْأَنْصَارِ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْقُرَى الْمُفْتَتَحَةِ وَقَالُوا: لَنَا مِنْهَا سَهْمُنَا، فَنَزَلَ : وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وَعَنِ الكلبي: أن رؤوسا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْ صَفِيَّكَ وَالرُّبُعَ وَدَعْنَا وَالْبَاقِيَ، فَهَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَزَلَ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ، وَهَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ قِسْمَةُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ وَالْغَنَائِمُ وَغَيْرُهَا حَتَّى إِنَّهُ قَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْعُمُومِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَحُكْمِ الْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ، وَتَحْرِيمِ الْمَخِيطِ لِلْمُحْرِمِ. وَمِنْ غَرِيبِ الْحِكَايَاتِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ: أَنَّ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ أُخْبِرْكُمْ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ: مَا تَقُولُ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقتدوا باللذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الزُّنْبُورِ. انْتَهَى. وَيَعْنِي فِي

الْإِحْرَامِ. بَيَّنَ أَنَّهُ يُقْتَدَى بِعُمَرَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَبُولِ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ. لِلْفُقَراءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَالَّذِي مَنَعَ الإبدال من فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْرَجَ رَسُولَهُ مِنَ الْفُقَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّهُ يَتَرَفَّعُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِالْفَقِيرِ، وَأَنَّ الْإِبْدَالَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ خِلَافِ الْوَاجِبِ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَعَلَا. انْتَهَى. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذُو الْقُرْبَى الْفَقِيرُ. فَالْفَقْرُ شَرْطٌ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَيَرَى أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْقَرَابَةُ، فَيَأْخُذُ ذُو الْقُرْبَى الْغَنِيُّ لِقَرَابَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَكُرِّرَتْ لَامُ الْجَرِّ لَمَّا كَانَتِ الْأُولَى مَجْرُورَةً بِاللَّامِ، لِيُبَيِّنَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، أَيْ وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ. انْتَهَى. ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ بِمَا يَقْتَضِي فَقْرَهُمْ وَيُوجِبُ الْإِشْفَاقَ عَلَيْهِمْ. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ: أَيْ فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ، فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاشْتِرَاكُ

فِيمَا يُقَسَّمُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ يُحِبُّونَ. أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ الجليلة، كما أنثى عَلَى الْمُهَاجِرِينَ بِقَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا إِلَخْ، وَالْإِيمَانَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدَّارَ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، وَالْإِيمَانُ لَيْسَ مَكَانًا فَيُتَبَوَّأُ. فَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، أَيْ وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ وَأَخْلَصُوا فِيهِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ يكون ضمن تَبَوَّؤُا مَعْنَى لَزِمُوا، وَاللُّزُومُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الدَّارِ وَالْإِيمَانِ، فَيَصِحُّ الْعَطْفُ. أَوْ لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ قَدْ شَمِلَهُمْ، صَارَ كَالْمَكَانِ الَّذِي يُقِيمُونَ فِيهِ، لَكِنْ يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَرَادَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ الْإِيمَانِ، فَأَقَامَ لَامَ التَّعْرِيفِ فِي الدَّارِ مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَحَذَفَ الْمُضَافَ مِنْ دَارِ الْإِيمَانِ وَوَضَعَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَوْ سَمَّى الْمَدِينَةَ، لِأَنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَمَكَانُ ظُهُورِ الْإِيمَانِ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى تبوؤا الدَّارَ مَعَ الْإِيمَانِ مَعًا، وَبِهَذَا الِاقْتِرَانِ يَصِحُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِمْ فَتَأَمَّلْهُ. انْتَهَى. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِهِمْ: مِنْ قَبْلِ هِجْرَتِهِمْ، حاجَةً: أَيْ حَسَدًا، مِمَّا أُوتُوا: أَيْ مِمَّا أُعْطِيَ الْمُهَاجِرُونَ، وَنِعْمَ الْحَاجَةُ مَا فَعَلَهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي إِعْطَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَالْقُرَى. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ: مِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ الْأَنْصَارِيِّ مَعَ ضَيْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَّا ما يأكل الصبية، فأوهمهم أَنَّهُ يَأْكُلُ حَتَّى أَكَلَ الضَّيْفُ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ» ، فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي إِيثَارِهِمْ. وَالْخَصَاصَةُ: الْفَاقَةُ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَصَاصِ الْبَيْتِ، وَهُوَ مَا يَبْقَى بَيْنَ عِيدَانِهِ مِنَ الْفُرَجِ: وَالْفُتُوحِ، فَكَأَنَّ حَالَ الْفَقِيرِ هِيَ كَذَلِكَ، يَتَخَلَّلُهَا النَّقْصُ وَالِاحْتِيَاجُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: شِحٌّ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَالْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَضَمِّ الشِّينِ، وَالشُّحُّ: اللُّؤْمُ، وَهُوَ كَزَازَةُ النَّفْسِ عَلَى مَا عِنْدَهَا، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَنْعِ. قَالَ الشَّاعِرُ: يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً ... إِذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلَا وَأُضِيفَ الشُّحُّ إِلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا. وَقَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ «1» ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَأَعْطَى في النائبة فقد برىء من الشح» . وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ من

_ (1) سورة النساء: 4/ 128.

الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمُ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَنْ آمَنَ أَوْ كَفَرَ فِي آخِرِ مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَرَادَ مَنْ يَجِيءُ مِنَ التَّابِعِينَ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ مَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ: أَيْ مِنْ بَعْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ بِالْإِيمَانِ، وَهَؤُلَاءِ تَأَخَّرَ إِيمَانُهُمْ، أَوْ سَبَقَ إِيمَانُهُ وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ حَتَّى انْقَرَضَ مُعْظَمُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَكُونُ مَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ: أَيْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِ الْمُهَاجِرِينَ، مُهَاجِرِيهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ. وَإِذَا كَانَ وَالَّذِينَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مُشَارِكُو مَنْ تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ الْفَيْءِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: قَرَأَ عَمْرٌو: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ «1» الْآيَةَ، فَقَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ «2» ، فَقَالَ: وَهَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ حَتَّى بَلَغَ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إِلَى وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لَنُؤْتِيَنَّ الرَّاعِيَ، وَهُوَ يَسِيرُ نَصِيبَهُ مِنْهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ اسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فِيمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ آخِرُهُ أَنَّهُ تَلَا: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ الْآيَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قَالَ: هِيَ لِهَؤُلَاءِ فقط، وتلا: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الْآيَةَ، إِلَى قوله: رَؤُفٌ رَحِيمٌ ثُمَّ قَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَوْلَا مَنْ يَأْتِي مِنْ آخِرِ النَّاسِ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَّمْتُهَا، كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ. وقيل: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، مَعْطُوفٌ عَطْفَ الْجُمَلِ، لَا عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ فَإِعْرَابُهُ: وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، نُدِبُوا بِالدُّعَاءِ لِلْأَوَّلِينَ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْخَبَرُ يَقُولُونَ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ لِإِيمَانِهِمْ وَمَحَبَّةِ أَسْلَافِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ يَقُولُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، قيل: أو حال. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا الْآيَةَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي، وَرِفَاعَةَ بْنِ التَّابُوتِ، وَقَوْمٍ مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ الْمَحْكِيَّةُ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ، وَاللَّامُ فِي لِإِخْوانِهِمُ لِلتَّبْلِيغِ، وَالْأُخُوَّةُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةُ الْكُفْرِ وَمُوَالَاتُهُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ: أَيْ فِي قِتَالِكُمْ، أَحَداً: مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ لَا نُطِيعُ فِيكُمْ: أَيْ فِي خُذْلَانِكُمْ وَإِخْلَافِ مَا وَعَدْنَاكُمْ مِنَ النصرة، ولَنَنْصُرَنَّكُمْ: جواب قسم محذوف

_ (1) سورة التوبة: 9/ 60. (2) سورة الأنفال: 8/ 41.

قَبْلَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَجَوَابُ إِنْ مَحْذُوفٌ، وَالْكَثِيرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِثْبَاتُ اللَّامِ الْمُؤْذِنَةُ بِالْقَسَمِ قَبْلَ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَمِنْ حَذْفِهَا قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ «1» ، التَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ لَمْ يَنْتَهُوا لَكَاذِبُونَ، أَيْ فِي مَوَاعِيدِهِمْ لِلْيَهُودِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْرُجُوا حِينَ أُخْرِجَ بَنُو النَّضِيرِ، بَلْ أَقَامُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَهَذَا إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِإِخْوانِهِمُ أَنَّهُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَقِيلَ: هُمْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ، وَالضَّمَائِرُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: فِيهَا اخْتِلَافٌ، أَيْ لَئِنْ أُخْرِجَ الْيَهُودُ لَا يَخْرُجُ الْمُنَافِقُونَ، وَلَئِنْ قُوتِلَ الْيَهُودُ لَا يَنْصُرُهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَلَئِنْ نَصَرَ الْيَهُودُ الْمُنَافِقِينَ لَيُوَلِّي الْيَهُودُ الْأَدْبَارَ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ نَظَرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ، فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَنْصُرُونَهُمْ، فَكَيْفَ يَأْتِي وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ؟ فَأَخْرَجَهُ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَنْصُرُونَهُمْ، فَلَا يُمْكِنُ نَصْرُهُمْ إِيَّاهُمْ بَعْدَ إِخْبَارِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَإِذَا كَانَتِ الضَّمَائِرُ مُتَّفِقَةً، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2» ، وَكَمَا يُعْلَمُ مَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ: وَلَئِنْ خَالَفُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْهَزِمُونَ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ، وَفِي ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمَفْرُوضِ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُمْ، أَيْ وَلَئِنْ نَصَرَهُمُ الْمُنَافِقُونَ لَيُوَلُّنَّ الْمُنَافِقُونَ الْأَدْبَارَ، ثُمَّ لَا يُنْصَرُ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي التَّوَلِّي عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَكَذَا فِي لَا يُنْصَرُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْأَفْعَالُ غَيْرَ مَجْزُومَةٍ فِي قوله: لا يَخْرُجُونَ ولا يُنْصَرُونَ لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ عَلَى حُكْمِ الْقَسَمِ، لَا عَلَى حُكْمِ الشَّرْطِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. انْتَهَى. وَأَيُّ نَظَرٍ فِي هَذَا؟ وَهَذَا جَاءَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ كَانَ الْجَوَابُ لِلْقَسَمِ وَحُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَانَ فِعْلُهُ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ، أَوْ مَجْزُومًا بِلَمْ، وَلَهُ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَهُ طَالِبُ خَبَرٍ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ مُؤْذِنَةٌ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَهُ، فَالْجَوَابُ لَهُ. وَقَدْ أَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يُجَابَ الشَّرْطُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَسَمَ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ. ثُمَّ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَخَافُونَكُمْ أَشَدَّ خِيفَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ عَاجِلَ شَرِّكُمْ، وَلِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَا يَتَوَقَّعُونَ أَجَلَ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لقلة فهمهم، ورهبة: مَصْدَرُ رَهِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَشَدُّ مَرْهُوبِيَّةً، فَالرَّهْبَةُ وَاقِعَةٌ مِنْهُمْ لَا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْمُخَاطَبُونَ مَرْهُوبُونَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ: فَلَهُوَ أخوف عندي إذا أُكَلِّمُهُ ... وَقِيلَ إِنَّكَ مَأْسُورٌ ومقتول

_ (1) سورة المائدة: 5/ 73. (2) سورة الزمر: 39/ 65.

مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الْأَرْضِ مُخْدِرَةً ... بِبَطْنِ عِثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَخُوفٌ لَا خَائِفٌ، وَالضَّمِيرُ فِي صُدُورِهِمْ. قِيلَ: لِلْيَهُودِ، وَقِيلَ: لِلْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: لِلْفَرِيقَيْنِ. وجعل المصدر مَقَرًّا لِلرَّهْبَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِهَا مِنْهُمْ بِحَيْثُ صَارَتِ الصُّدُورُ مَقَرًّا لَهَا، وَالْمَعْنَى: رَهْبَتُهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يُقاتِلُونَكُمْ: أَيْ بَنُو النَّضِيرِ وَجَمِيعُ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ جَمِيعاً: أَيْ مُجْتَمِعِينَ مُتَسَانِدِينَ يُعَضِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ: لَا فِي الصَّحْرَاءِ لِخَوْفِهِمْ مِنْكُمْ، وَتَحْصِينِهَا بِالدُّرُوبِ وَالْخَنَادِقِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ يَتَسَتَّرُونَ بِهِ مِنْ أَنْ تُصِيبُوهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جُدُرٍ بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ جِدَارٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ وَثَّابٍ: بِإِسْكَانِ الدَّالِ تَخْفِيفًا، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَكِّيِّينَ: جِدَارٍ بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَكِّيِّينَ، وَهَارُونَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: جَدْرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ وَاخِذٌ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهُ أَصْلُ بُنْيَانٍ كَالسُّورِ وَنَحْوِهِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من جِدْرِ النَّخْلِ، أَيْ مِنْ وَرَاءِ نَخْلِهِمْ، إِذْ هِيَ مِمَّا يُتَّقَى بِهِ عِنْدَ الْمُصَافَّةِ. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ: أَيْ إِذَا اقْتَتَلُوا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. كَانَ بَأْسُهُمْ شَدِيدًا أَمَّا إِذَا قَاتَلُوكُمْ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ بَأْسٌ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ خُذِلَ. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً: أَيْ مُجْتَمِعِينَ، ذَوِي أُلْفَةٍ وَاتِّحَادٍ. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى: أَيْ وَأَهْوَاؤُهُمْ مُتَفَرِّقَةٌ، وَكَذَا حَالُ الْمَخْذُولِينَ، لَا تَسْتَقِرُّ أَهْوَاؤُهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمُوجِبُ ذَلِكَ الشَّتَاتِ هُوَ انْتِفَاءُ عُقُولِهِمْ، فَهُمْ كَالْبَهَائِمِ لَا تَتَّفِقُ عَلَى حَالَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَتَّى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ وَمُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: مُنَوَّنًا، جَعَلَهَا أَلِفَ الْإِلْحَاقِ وَعَبْدُ اللَّهِ: وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ: أَيْ أَشَدُّ تَفَرُّقًا، وَمِنْ كَلَامِ العرب: شتى تؤوب الْحَلْبَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِلَى اللَّهِ أشكوا فِتْيَةً شَقَّتِ الْعَصَا ... هِيَ الْيَوْمَ شَتَّى وَهِيَ أَمْسِ جَمِيعُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ، لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ

الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. كَمَثَلِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مَثَلُهُمْ، أَيْ بَنِي النَّضِيرِ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً: وَهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ، أَجْلَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَنِي النَّضِيرِ فَكَانُوا مَثَلًا لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أو أَهْلُ بَدْرٍ الْكُفَّارُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَتَلَهُمْ، فَهُمْ مِثْلُهُمْ فِي أَنْ غُلِبُوا وَقُهِرُوا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي مِنْ قَبْلِهِمْ لِلْمُنَافِقِينَ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: مُنَافِقُو الأمم الماضية، غلبوا ودلوا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، فَهَؤُلَاءِ مِثْلُهُمْ. وَيُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ لَفْظَةُ قَرِيباً إِنْ جَعَلْتَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَقَرِيبًا ظَرْفُ زَمَانٍ وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَعْمُولًا لَذَاقُوا، أَيْ ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ قَرِيبًا مِنْ عِصْيَانِهِمْ، أَيْ لَمْ تَتَأَخَّرْ عُقُوبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَمْ تَتَأَخَّرْ عُقُوبَةُ هَؤُلَاءِ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ. كَمَثَلِ الشَّيْطانِ: لَمَّا مَثَّلَهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، ذَكَرَ مَثَلَهُمْ مَعَ الْمُنَافِقِينَ، فَالْمُنَافِقُونَ كَالشَّيْطَانِ، وَبَنُو النَّضِيرِ كَالْإِنْسَانِ، وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْإِنْسَانَ اسْمَا جِنْسٍ يُوَرِّطُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ يَفِرُّ مِنْهُ. كَذَلِكَ أَغْوَى الْمُنَافِقُونَ بَنِي النَّضِيرِ، وَحَرَّضُوهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ، وَوَعَدُوهُمُ النَّصْرَ. فَلَمَّا نَشَبَ بَنُو النَّضِيرِ، خَذَلَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَتَرَكُوهُمْ فِي أَسْوَأِ حَالٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ اسْتِغْوَاءُ الشَّيْطَانِ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ لَهُمْ: لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ «1» . وَقِيلَ: التَّمْثِيلُ بِشَيْطَانٍ مَخْصُوصٍ مَعَ عَابِدٍ مَخْصُوصٍ اسْتُودِعَ امْرَأَةً، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَخَشِيَ الْفَضِيحَةَ، فَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا. سَوَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ، ثُمَّ شَهَرَهُ، فَاسْتُخْرِجَتْ فَوُجِدَتْ مَقْتُولَةً وَكَانَ قَالَ إِنَّهَا مَاتَتْ وَدَفَنْتُهَا، فَعَلِمُوا بِذَلِكَ، فَتَعَرَّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ: اكْفُرْ وَاسْجُدْ لِي وَأَنَا أُنَجِّيكَ، فَفَعَلَ وَتَرَكَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْكَ. وَقَوْلُ الشَّيْطَانِ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رِيَاءٌ، وَلَا يَمْنَعُهُ الْخَوْفُ عَنْ سُوءٍ يُوقِعُ ابْنَ آدَمَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عاقِبَتَهُما بِنَصْبِ التَّاءِ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَسَلِيمُ بْنُ أَرْقَمَ: بِرَفْعِهِمَا. وَالْجُمْهُورُ: خالِدَيْنِ بِالْيَاءِ حالا، وفِي النَّارِ خَبَرُ أَنَّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ علي وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَبْلَةَ: بِالْأَلِفِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ، وَالظَّرْفُ مُلْغًى وَإِنْ كَانَ قَدْ أُكِّدَ بِقَوْلِهِ: فِيها، وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مذهب

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 48.

سِيبَوَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُكِّدَ عِنْدَهُمْ لَا يُلْغَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ خَبَرًا، لِأَنَّ خالِدَيْنِ خَبَرٌ ثَانٍ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَلَمَّا انْقَضَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَصْفُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ. وَعَظَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُصِيبَةِ لَهَا مَوْقِعٌ فِي النَّفْسِ لِرِقَّةِ الْقُلُوبِ وَالْحَذَرِ مِمَّا يُوجِبُ الْعَذَابَ، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ لِاخْتِلَافٍ مُتَعَلِّقٍ بِالتَّقْوَى. فَالْأُولَى فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْعَمَلِ وَالثَّانِيَةُ فِي تَرْكِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلْتَنْظُرْ: أَمْرًا، وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ: بِكَسْرِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمٍ وَالْحَسَنُ: بِكَسْرِهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ، جَعَلَهَا لَامَ كَيْ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقِيَامَةِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالْغَدِ، وَهُوَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَمْ يَزَلْ يُقِرُّ بِهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْغَدِ، وَنَحْوُهُ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، يُرِيدُ تَقْرِيبَ الزَّمَانِ الْمَاضِي. وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْآخِرَةِ بِالْغَدِ، كَأَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ نَهَارَانِ، يَوْمٌ وَغَدٌ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِغَدٍ: لِيَوْمِ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كَغَدِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: بِالْأَمْسِ الدُّنْيَا وَغَدٌ الْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا تَنْكِيرُ النَّفْسِ فَاسْتِقْلَالٌ لِلْأَنْفُسِ النَّوَاظِرِ فِيمَا قَدَّمْنَ لِلْآخِرَةِ، كَأَنَّهُ: قِيلَ لِغَدٍ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لِعِظَمِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَكُونُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسٌ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْجِنْسِ كَالَّذِينَ نَسُوا: هُمُ الْكُفَّارُ، وَتَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَامْتِثَالَ مَا أَمَرَ وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى فَرْطِ غَفْلَتِهِمْ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهَا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ. عُوقِبُوا عَلَى نِسْيَانِ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ سُفْيَانُ: الْمَعْنَى حَظُّ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مُبَايَنَةَ الْفَرِيقَيْنِ: أَصْحَابُ النَّارِ فِي الْجَحِيمِ، وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فِي النَّعِيمِ، كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ «1» ، وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ «2» . لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ «3» ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ «4» ، وَالْغَرَضُ تَوْبِيخُ الْإِنْسَانِ عَلَى قَسْوَةِ قَلْبِهِ، وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِ لِهَذَا الَّذِي لَوْ أنزل على

_ (1) سورة السجدة: 32/ 18. (2) سورة ص: 38/ 28. (3) سورة الأحزاب: 33/ 72. (4) سورة العنكبوت: 29/ 43. [.....]

الْجَبَلِ لَتَخَشَّعَ وَتَصَدَّعَ. وَإِذَا كَانَ الْجَبَلُ عَلَى عِظَمِهِ وَتَصَلُّبِهِ يَعْرِضُ لَهُ الْخُشُوعُ وَالتَّصَدُّعُ، فَابْنُ آدَمَ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ عَلَى حَقَارَتِهِ وَضَعْفِهِ لَا يَتَأَثَّرُ. وقرأ طلحة: مُصَّدِّعًا، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ وَأَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو دِينَارٍ الْأَعْرَابِيُّ: الْقَدُّوسُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْفَكِّ وَالضَّمِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُؤْمِنُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَ بِمَعْنَى أَمَّنَ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَنَّهُمْ آمَنُوا. وَقَالَ النَّحَّاسُ: أَوْ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُصَدِّقُ نَفْسَهُ فِي أَقْوَالِهِ الْأَزَلِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بن الْحُسَيْنِ، وَقِيلَ، أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ: الْمُؤْمَنُ بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُؤْمَنُ بِهِ وَكَانَ جَائِزًا، لَكِنَّ الْمُؤْمَنَ الْمُطْلَقَ بِلَا حَرْفِ جَرٍّ يَكُونُ مِنْ كَانَ خَائِفًا فَأُومِنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الْمُؤْمَنُ بِهِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا تَقُولُ فِي قَوْمِ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «1» : الْمُخْتَارُونَ. الْمُهَيْمِنُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. الْجَبَّارُ: الْقَهَّارُ الَّذِي جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا أَرَادَ. وَقِيلَ: الْجَبَّارُ: الَّذِي لَا يُدَانِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُلْحَقُ، وَمِنْهُ نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ إِذَا لَمْ تُلْحَقُ، وَقَالَ امرؤ القيس: سوابق جبار أتيت فُرُوعُهُ ... وَعَالَيْنَ قُنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْعَظِيمُ، وَجَبَرُوتُهُ: عَظَمَتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْإِصْلَاحُ. جَبَرْتُ الْعَظْمَ: أَصْلَحْتُهُ بَعْدَ الْكَسْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ: قَهَرَهُ، قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي جَبَّارٍ وَدَرَّاكٍ. انْتَهَى، وَسُمِعَ أَسَّارٌ فَهُوَ أَسَارُ. الْمُتَكَبِّرُ: الْمُبَالِغُ فِي الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ. وَقِيلَ: الْمُتَكَبِّرُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ، الْخالِقُ: الْمُقَدِّرُ لِمَا يُوجِدُهُ. الْبارِئُ: الْمُمَيِّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، الْمُصَوِّرُ: الْمُمَثِّلُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَالْحَسَنُ وابن السميقع: الْمُصَوَّرَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالرَّاءِ، وانتصب مفعولا بالباري، وَأَرَادَ بِهِ جِنْسَ الْمُصَوَّرِ. وَعَنْ عَلِيٍّ فَتْحُ الْوَاوِ وَكَسْرُ الرَّاءِ عَلَى إِضَافَةِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ ، نَحْوَ: الضَّارِبُ الْغُلَامِ.

_ (1) سُورَةُ الأعراف: 7/ 155.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ، لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ

وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، كَانَ قَدْ وَجَّهَ كِتَابًا، مَعَ امْرَأَةٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ لِغَزْوِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَوَجَّهَ إِلَى الْمَرْأَةِ مَنْ أَخَذَ الْكِتَابَ مِنْهَا، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا حَالَةَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ، افْتَتَحَ هَذِهِ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ، وَأَضَافَ فِي قَوْلِهِ: عَدُوِّي تَغْلِيظًا، لِجُرْمِهِمْ وَإِعْلَامًا بِحُلُولِ عِقَابِ اللَّهِ بِهِمْ. وَالْعَدُوُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، وأولياء مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَتَّخِذُوا. تُلْقُونَ: بَيَانٌ لِمُوَالَاتِهِمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، أَوِ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا تَتَّخِذُوا، أَوْ صِفَةٌ لِأَوْلِيَاءَ، وَهَذَا تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ الْفَرَّاءُ، قَالَ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِنْ صِلَةِ أَوْلِياءَ. انْتَهَى. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ النَّكِرَةَ تُوصَلُ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا تُوصَلُ بَلْ تُوصَفُ، وَالْحَالُ وَالصِّفَةُ قَيْدٌ وَهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مُطْلَقًا، وَالتَّقْيِيدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ إِذَا لَمْ يَكُونُوا فِي حَالِ إِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَوْلِيَاءُ مُتَّصِفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «1» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَلَا ذَلِكَ الْوَصْفِ. وَالْأَوْلِيَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالْمَوَدَّةِ، وَمَفْعُولُ تُلْقُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْرَارَهُ. وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، كَمَا قِيلَ: فِي: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: أَيْ أَيْدِيكُمْ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «2» : أَيْ إِرَادَتُهُ بِإِلْحَادٍ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْمَوَدَّةِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَصْدَرِ، أَيْ إِلْقَاؤُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَحَذْفَ الْخَبَرِ، إِذْ إِلْقَاؤُهُمْ مُبْتَدَأٌ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ كَفَرُوا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَذُو الْحَالِ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 51. (2) سورة الحج: 22/ 25.

الضَّمِيرُ فِي تُلْقُونَ: أَيْ تَوَادُّونَهُمْ، وَهَذِهِ حَالُهُمْ، وَهِيَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَلَا يُنَاسِبُ الْكَافِرَ بِاللَّهِ أَنْ يُوَدَّ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ فَاعِلٍ لَا تَتَّخِذُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما جاءَكُمْ، وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْمُعَلَّى عَنْ عَاصِمٍ: لِمَا بِاللَّامِ مَكَانَ الْبَاءِ، أَيْ لِأَجْلِ مَا جَاءَكُمْ. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ: اسْتِئْنَافٌ، كَالتَّفْسِيرِ لِكُفْرِهِمْ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كَفَرُوا، وَإِيَّاكُمْ: مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّسُولِ. وَقَدَّمَ عَلَى إِيَّاكُمُ الرَّسُولَ لِشَرَفِهِ، وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ الضَّمِيرُ لَكَانَ جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، قَالَ: لِأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مُتَّصِلًا، فَلَا تُفْصَلُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ «1» وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ، وَقَدَّمَ الْمَوْصُولَ هُنَا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ لِلسَّبْقِ فِي الزَّمَانِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وأَنْ تُؤْمِنُوا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ يُخْرِجُونَ لِإِيمَانِكُمْ أَوْ كَرَاهَةَ إِيمَانِكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ: شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي، وَنُصِبَ جِهَادًا وَابْتِغَاءَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُجَاهِدِينَ وَمُبْتَغِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. تُسِرُّونَ: اسْتِئْنَافٌ، أَيْ تُسِرُّونَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَعْلَمُ الْإِخْفَاءَ وَالْإِعْلَانَ، وَأُطْلِعُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا طَائِلَ فِي فِعْلِكُمْ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تُسِرُّونَ بَدَلٌ مِنْ تُلْقُونَ. انْتَهَى، وَهُوَ شَبِيهٌ بِبَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ يَكُونُ سِرًّا وَجَهْرًا، فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمْ تُسِرُّونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَعْلَمُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِالْبَاءِ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا عُدِّيَ بِالْبَاءِ قَالَ: لِأَنَّكَ تَقُولُ عَلِمْتُ بِكَذَا. وَأَنَا أَعْلَمُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، أَيْ وَمَنْ يَفْعَلِ الْإِسْرَارَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعُودُ عَلَى الِاتِّخَاذِ، وَانْتَصَبَ سَوَاءَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَدِّي ضَلَّ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ عَلَى تَقْدِيرِ اللُّزُومِ، وَالسَّوَاءُ: الْوَسَطُ. وَلَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، وَشَرَحَ مَا بِهِ الْوِلَايَةُ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ، وَذَكَرَ مَا صَنَعَ الْكُفَّارُ بِهِمْ أَوَّلًا مِنْ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ صَنِيعَهُمْ آخِرًا لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِنْ تَمَكَّنُوا مِنْكُمْ تَظْهَرْ عَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ، وَيَبْسُطُوا أَيْدِيَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالتَّعْذِيبِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسَّبِّ وَوَدُّوا لَوِ ارْتَدَدْتُمْ عَنْ دِينِكُمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكُمْ، وَهُوَ سَبَبُ إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَوْرَدَ جواب الشرط مضارعا

_ (1) سورة النساء: 4/ 131.

مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ وَوَدُّوا بِلَفْظِ الْمَاضِي؟ قُلْتُ: الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ يُجْرَى فِي بَابِ الشَّرْطِ مُجْرَى الْمُضَارِعِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، فَإِنَّهُ فِيهِ نُكْتَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَوَدُّوا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ كُفْرَكُمْ وَارْتِدَادَكُمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُلْحِقُوا بِكُمْ مَضَارَّ الدُّنْيَا وَالدِّينِ جَمِيعًا. انْتَهَى. وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَدُّوا أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ سُؤَالًا وَجَوَابًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوَدُّوا لَيْسَ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ وِدَادَتَهُمْ كُفْرَهُمْ لَيْسَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ وَادُّونَ كُفْرَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَظَفِرُوا بِهِمْ أَمْ لَمْ يَظْفَرُوا، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِخَبَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا اتِّضَاحُ عَدَاوَتِهِمْ وَالْبَسْطُ إِلَيْهِمْ مَا ذَكَرَ عَلَى تَقْدِيرِ الظَّفَرِ بِهِمْ، وَالْآخَرُ وِدَادَتُهُمْ كُفْرَهُمْ، لَا عَلَى تَقْدِيرِ الظَّفَرِ بِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ حَاطِبٌ قَدِ اعْتَذَرَ بِأَنَّ لَهُ بِمَكَّةَ قَرَابَةً، فَكَتَبَ إِلَى أَهْلِهَا بِمَا كَتَبَ لِيَرْعَوْهُ فِي قَرَابَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ: أَيْ قَرَابَاتُكُمُ الَّذِينَ تُوَالُونَ الْكُفَّارَ مِنْ أَجْلِهِمْ، وَتَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ مُحَامَاةً عَلَيْهِمْ. وَيَوْمَ مَعْمُولٌ لِيَنْفَعَكُمْ أَوْ ليفصل. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَفْصِلُ بِالْيَاءِ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعِيسَى وَابْنُ عَامِرٍ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مُشَدَّدٌ، وَالْمَرْفُوعُ، إِمَّا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ، وَإِمَّا ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَفْصِلُ، أَيْ يُفَصِّلُ هُوَ، أَيِ الْفَصْلُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: يَفْصِلُ بِالْيَاءِ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً مُشَدَّدًا وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالنُّونِ مُشَدَّدًا وَهُمَا أَيْضًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَأَبُو حَيْوَةَ أَيْضًا: بِالنُّونِ مَضْمُومَةً، فَهَذَا ثَمَانِي قِرَاءَاتٍ. وَلَمَّا نَهَى عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ مِنْ سِيرَتِهِ التَّبَرُّؤَ مِنَ الْكُفَّارِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي ذَلِكَ وَيَتَأَسَّوْا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِسْوَةً بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَعَاصِمٌ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالَّذِينَ مَعَهُ، قِيلَ: مَنْ آمَنَ بِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَنْبِيَاءُ مُعَاصِرُوهُ، أَوْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ عَصْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ مُؤْمِنُونَ فِي مُكَافَحَتِهِ لَهُمْ وَلِنُمْرُوذٍ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ لِسَارَّةَ حِينَ رَحَلَ إِلَى الشَّامِ مُهَاجِرًا مِنْ بَلَدِ نُمْرُوذٍ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ يَعْبُدُ اللَّهَ غَيْرِي وَغَيْرُكِ؟ وَالتَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَبِرَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْعَقَائِدِ وَأَحْكَامِ الشرع. وقرأ الجمهور بُرَآؤُا جَمْعَ بَرِيءٍ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ وَعِيسَى: بَرَاءٌ جَمْعَ بَرِيءٍ أَيْضًا،

كَظَرِيفٍ وَظِرَافٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّ الْبَاءِ، كَتُؤَامٍ وَظُؤَارٍ، وَهُمُ اسْمُ جَمْعٍ الْوَاحِدُ بَرِيءٌ وَتَوْأَمٌ وَظِئْرٌ، وَرُوِيَتْ عَنْ عِيسَى. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى الْهَمْدَانِيَّ رَوَوْا عَنْهُ بَرَاءٌ عَلَى فَعَالٍ، كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ «1» فِي الزُّخْرُفِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى فَعَالٍ يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبُرَاءٌ عَلَى إِبْدَالِ الضَّمِّ مِنَ الْكَسْرِ، كَرُخَالٍ وَرُبَابٍ. انْتَهَى. فَالضَّمَّةُ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ كَسْرَةٍ، بَلْ هِيَ ضَمَّةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أَوْزَانِ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، وَلَيْسَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، فَتَكُونُ الضَّمَّةُ بَدَلًا مِنَ الْكَسْرَةِ، إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: الْمَعْنَى أَنَّ الْأُسْوَةَ لَكُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ لَا فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ كَانَ لِعِلْمِهِ لَيْسَتْ فِي نَازِلَتِكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فَمَا بَالُ قَوْلِهِ: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً؟ قُلْتُ: أَرَادَ اسْتِثْنَاءَ جُمْلَةِ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى مَوْعِدِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَمَا بَعْدَهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ وَتَابِعٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَسْتَغْفِرُ لَكَ وَمَا فِي طَاقَتِي إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي مَقَالَاتٍ قَالَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ، فَهُوَ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَسُوا بِهِ وَيَتَّخِذُوهُ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بها. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ مُضَافٍ لِإِبْرَاهِيمَ تَقْدِيرُهُ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي مَقَالَاتِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَاوَرَاتِهِ لِقَوْمِهِ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ مُنْدَرِجًا فِي أُسْوَةٍ حَسَنَةٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْأُسْوَةِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ وَالتَّأَسِّي، فَالْقَوْلُ لَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَهُ، لَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَقَالَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل إن يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّبَرِّي وَالْقَطِيعَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، لَمْ تَبْقَ جُمْلَةٌ إِلَّا كَذَا. انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ الْمَعْنَى، لَكِنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَلَا تَأَسَّوْا بِهِ فِيهِ فَتَسْتَغْفِرُوا وَتُفْدُوا آبَاءَكُمُ الْكُفَّارَ بِالِاسْتِغْفَارِ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَمَا بَعْدَهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهِ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالِاسْتِثْنَاءِ اعْتِنَاءً بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلِقُرْبِهِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 26.

اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ قُولُوا رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، عَلَّمَهُمْ بِذَلِكَ قَطْعَ الْعَلَائِقِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ. رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبُنَا بِأَيْدِيهِمْ أَوْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ وَأَنَّا مُبْطِلُونَ، فَيُفْتَنُوا لِذَلِكَ. وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ قَتَادَةُ وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ دُعَاءٌ لِلْكَافِرِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، وَكُرِّرَتِ الْأُسْوَةُ تَأْكِيدًا، وَأُكِّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ أَيْضًا، وَلِمَنْ يَرْجُو بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، بَدَلَ بَعْضِ مِنْ كُلٍّ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِظْهَارِ عَدَاوَاتِ أَقْرِبَائِهِمُ الْكُفَّارِ، وَلَحِقَهُمْ هَمٌّ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَتَوَادُّوا، فَنَزَلَ عَسَى اللَّهُ الْآيَةَ مُؤْنِسَةً وَمُرْجِئَةً، فَأَسْلَمَ الْجَمِيعُ عَامَ الْفَتْحِ وَصَارُوا إِخْوَانًا. وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَدَّةَ هِيَ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، وَأَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا كَانَ وَقْتَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنْ يَسُوقَهُ مِثَالًا، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ اسْتَمَرَّ بَعْدَ الْفَتْحِ كَسَائِرِ مَا نَشَأَ مِنَ الْمَوَدَّاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَسَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ، وَاللَّهُ قَدِيرٌ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ وَتَيْسِيرِ الْعَسِيرِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِمَكَّةَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَكَانُوا فِي رُتْبَةِ سُوءٍ لِتَرْكِهِمْ فَرْضَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: فِي مُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا تَرَكُوا الْهِجْرَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو صالح: في خزاعة وبين الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَكِنَانَةَ وَمُزَيْنَةَ وَقَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ، كَانُوا مُظَاهِرِينَ لِلرَّسُولِ مُحِبِّينَ فِيهِ وَفِي ظُهُورِهِ. وَقِيلَ: فِيمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا أخرج ولا أظهر سوأ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ قُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير: فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْكَفَرَةِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ وَالثَّعْلَبِيُّ: أَرَادَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الْهِجْرَةَ. وَقِيلَ: قَدِمَتْ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أُمُّهَا نُفَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، بِهَدَايَا، فَلَمْ تَقْبَلْهَا وَلَمْ تَأْذَنْ لَهَا بِالدُّخُولِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَأَمَرَهَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُدْخِلَهَا مَنْزِلَهَا وَتَقْبَلَ مِنْهَا وَتَكْفِيَهَا وَتُحْسِنَ إِلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِيمَا رُوِيَ خَالَتَهَا فَسَمَّتْهَا أُمًّا وَفِي التَّحْرِيرِ: أَنَّ أَبَا بكر الصديق رضي الله تَعَالَى عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ نُفَيْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،

وَهِيَ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَدِمَتْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي فِيهَا الْهُدْنَةُ وَأَهْدَتْ إِلَى أَسْمَاءَ قُرْطًا وَأَشْيَاءَ، فَكَرِهَتْ أَنْ تَقْبَلَ منها، فنزلت الآية. وأَنْ تَبَرُّوهُمْ، وأَنْ تَوَلَّوْهُمْ بَدَلَانِ مِمَّا قَبْلَهُمَا، بَدَلُ اشْتِمَالٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ. كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أَتَى أَهْلَ مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رُدَّ إِلَيْهِمْ، فَجَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ، وَهِيَ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ هَاجَرَتْ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَقَالَا: يَا مُحَمَّدُ أَوْفِ لَنَا بِشَرْطِنَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَالُ النِّسَاءِ إِلَى الضَّعْفِ، كَمَا قَدْ عَلِمْتَ، فَتَرُدَّنِي إِلَى الْكُفَّارِ يَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي وَلَا صَبْرَ لِي، فَنَقَضَ اللَّهُ الْعَهْدَ فِي النِّسَاءِ، وَأَنْزَلَ فِيهِنَّ الْآيَةَ، وَحَكَمَ بِحُكْمٍ رَضُوهُ كُلُّهُمْ. وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ، جَاءَتِ الْحُدَيْبِيَةَ مُسْلِمَةً، فَأَقْبَلَ زوجها مسافر المخدومي. وَقِيلَ: صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي، فَإِنَّكَ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا أَنْ تَرُدَّ عَلَيْنَا مَنْ أَتَاكَ مِنَّا، وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ، فَنَزَلَتْ بَيَانًا أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا كَانَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، امْرَأَةُ حَسَّانَ بْنِ الدَّحْدَاحَةِ، وَسَمَّاهُنَّ تَعَالَى مُؤْمِنَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُمْتَحَنَّ، وَذَلِكَ لِنُطْقِهِنَّ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُنَّ مَا يُنَافِي ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ مُشَارِفَاتٌ لثبات إيمانهن بالامتحان. وقرىء: مُهَاجِرَاتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتُ، وَامْتِحَانُهُنَّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: بِآيَةِ الْمُبَايَعَةِ. وَقِيلَ: بِأَنْ يَشْهَدْنَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وإن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

بِالْحَلِفِ أَنَّهَا مَا خَرَجَتْ إِلَّا حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَغْبَةً فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَتْ تُسْتَحْلَفُ أَنَّهَا مَا هَاجَرَتْ لِبُغْضٍ فِي زَوْجِهَا، وَلَا لِجَرِيرَةٍ جَرَّتْهَا، وَلَا لِسَبَبٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا سِوَى حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ: لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ الْقُلُوبِ وَمُخَبَّآتِ الْعَقَائِدِ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ: أَطْلَقَ الْعِلْمَ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ بِالْحَلِفِ وَظُهُورِ الْأَمَارَاتِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ، وَالْحُلُولِ فِي قَوْمٍ لَيْسُوا مِنْ قَوْمِهَا، وَبَيَّنَ انْتِفَاءَ رَجْعِهِنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَذَلِكَ هُوَ التَّحْرِيمُ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرِ. وقرأ طلحة: لَا هُنَّ يَحِلَّانِ لَهُمْ، وَانْعَقَدَ التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَتَشْدِيدِ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَحِلَّ الْمُؤْمِنَةُ لِلْكَافِرِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا حِلَّ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ. وَقِيلَ: أَفَادَ قَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، كَمَا هُوَ فِي الْحَالِ مَا دَامُوا عَلَى الْإِشْرَاكِ وَهُنَّ عَلَى الْإِيمَانِ. وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا: أَمَرَ أَنْ يُعْطَى الزَّوْجُ الْكَافِرُ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَوْجَتِهِ إِذَا أَسْلَمَتْ، فَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ خُسْرَانُ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ امْتِحَانِهَا زَوْجَهَا الْكَافِرَ، مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَكَانَ إِذَا امْتَحَنَهُنَّ، أَعْطَى أَزْوَاجَهُنَّ مُهُورَهُنَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحُكْمُ فِي رَدِّ الصَّدَاقِ إِنَّمَا كَانَ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ، فَأَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ، وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، ثُمَّ نَفَى الْحَرَجَ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُنَّ إِذَا آتَوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِفِرَاقِ نِسَائِهِنَّ الْكَوَافِرِ عَوَابِدِ الْأَوْثَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُمْسِكُوا مُضَارِعُ أَمْسَكَ، كَأَكْرَمَ وَأَبُو عَمْرٍو وَمُجَاهِدٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: مُضَارِعُ مَسَّكَ مُشَدَّدًا وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ مُعَاذٍ: تَمَسَّكُوا بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ، مُضَارِعُ تَمَسَّكَ مَحْذُوفَ الثَّانِي بِتَمَسَّكُوا وَالْحَسَنُ أَيْضًا: تُمْسِكُوا بِكَسْرِ السِّينِ، مُضَارِعُ مَسَكَ ثُلَاثِيًّا. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: الْكَوافِرِ، يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: النَّحْوِيُّونَ لَا يَرَوْنَ هَذَا إِلَّا فِي النِّسَاءِ، جَمْعُ كَافِرَةٍ، وَقَالَ: أَلَيْسَ يُقَالُ: طَائِفَةٌ كَافِرَةٌ وَفِرْقَةٌ كَافِرَةٌ؟ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَبُهِتَ فَقُلْتُ: هَذَا تَأْيِيدٌ. انْتَهَى. وَهَذَا الْكَرْخِيُّ مُعْتَزِلِيٌّ فَقِيهٌ، وَأَبُو عَلِيٍّ مُعْتَزِلِيٌّ، فَأَعْجَبَهُ هَذَا التَّخْرِيجُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ كَافِرَةٌ فِي وَصْفِ الرِّجَالِ إِلَّا تَابِعًا لِمَوْصُوفِهَا، أَوْ يَكُونُ مَحْذُوفًا مُرَادًا، أَمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُجْمَعُ فَاعِلَةٌ عَلَى فَوَاعِلَ إِلَّا

وَيَكُونُ لِلْمُؤَنَّثِ. وَالْعِصَمُ جَمْعُ عِصْمَةَ، وَهِيَ سَبَبُ الْبَقَاءِ في الزوجية. وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ: أَيْ وَاسْأَلُوا الْكَافِرِينَ مَا أَنْفَقْتُمْ عَلَى أَزْوَاجِكُمْ إِذَا فَرُّوا إِلَيْهِمْ، وَلْيَسْئَلُوا: أَيِ الْكُفَّارُ مَا أَنْفَقُوا على أزواجهم إذا فَرُّوا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْحُكْمُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ، فِيمَا رُوِيَ: لَا نَرْضَى هَذَا الْحُكْمَ وَلَا نَلْتَزِمُهُ وَلَا نَدْفَعُ لِأَحَدٍ صَدَاقًا، فَنَزَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: وَإِنْ فاتَكُمْ، فَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْفَعُوا مَنْ فَرَّتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَفَاتَتْ بِنَفْسِهَا إِلَى الْكُفَّارِ وَانْقَلَبَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ، مَا كَانَ مَهْرُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِإِيقَاعِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَائِدَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنْ لَا يُغَادَرَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَإِنْ قَلَّ وَحَقُرَ، غَيْرُ مُعَوَّضٍ مِنْهُ تَغْلِيظًا فِي هَذَا الْحُكْمِ وَتَشْدِيدًا فِيهِ. انْتَهَى. وَاللَّاتِي ارْتَدَدْنَ مِنْ نِسَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَلَحِقْنَ بِالْكُفَّارِ: أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، زَوْجُ عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ الْفِهْرِيِّ وَأُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، زوج عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى، زَوْجُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ، زَوْجُ عُمَرَ أَيْضًا. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُنَّ سِتٌّ، فَذَكَرَ: أُمَّ الْحَكَمِ، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ أبي أمية زوج عمر بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدَةَ وَذَكَرَ أَنَّ زَوْجَهَا عَمْرُو بْنُ وُدٍّ، وَكُلْثُومَ، وَبِرْوَعَ بِنْتَ عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ، وَهِنْدَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي، أَعْطَى أَزْوَاجَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهُورَهُنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعاقَبْتُمْ بِأَلِفٍ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَعِكْرِمَةُ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ: بِشَدِّ الْقَافِ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْرَجُ أَيْضًا وَأَبُو حَيْوَةَ أَيْضًا وَالزُّهْرِيُّ أَيْضًا وَابْنُ وَثَّابٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِخَفِّ الْقَافِ مَفْتُوحَةً وَمَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ أَيْضًا وَالزُّهْرِيُّ أَيْضًا: بِكَسْرِهَا وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: فَأَعْقَبْتُمْ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، يُقَالُ: عَاقَبَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فِي كَذَا، أَيْ جَاءَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْقُبُ فِعْلَ الْآخَرِ، وَيُقَالُ: أَعْقَبَ، قال: وحادرت البلد الحلاد وَلَمْ يَكُنْ ... لِعُقْبَةِ قِدْرِ الْمُسْتَعِيرِينَ يُعْقِبُ وَعَقَّبَ: أَصَابَ عُقْبَى، وَالتَّعْقِيبُ: غَزْوٌ إِثْرَ غَزْوٍ، وَعَقَبَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا مُخَفَّفًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَاقَبْتُمْ مِنَ الْعُقْبَةِ، وَهِيَ النَّوْبَةُ. شَبَّهَ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَدَاءِ هَؤُلَاءِ مُهُورَ نِسَاءِ أُولَئِكَ تَارَةً، وَأُولَئِكَ مُهُورَ نِسَاءِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى، بِأَمْرٍ يَتَعَاقَبُونَ فِيهِ، كَمَا يُتَعَاقَبُ فِي الرُّكُوبِ وَغَيْرِهِ، وَمَعْنَاهُ: فَجَاءَتْ عُقْبَتُكُمْ مِنْ أَدَاءِ الْمَهْرِ. فَآتُوا مَنْ فَاتَتْهُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْكُفَّارِ مِثْلَ مَهْرِهَا مِنْ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ، وَلَا يُؤْتُوهُ زَوْجَهَا الْكَافِرَ،

وَهَكَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، يُعْطَى مِنْ صَدَاقِ مَنْ لَحِقَ بِهِمْ. وَمَعْنَى أَعْقَبْتُمْ: دَخَلْتُمْ فِي الْعَقَبَةِ، وَعَقَّبْتُمْ مِنْ عَقَبَهُ إِذَا قَفَّاهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِبَيْنِ يُقَفِّي صَاحِبَهُ، وَكَذَلِكَ عَقَبْتُمْ بِالتَّخْفِيفِ، يُقَالُ: عَقَبَهُ يُعْقِبُهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَعَاقَبْتُمْ: قَاضَيْتُمُوهُمْ فِي الْقِتَالِ بِعُقُوبَةٍ حَتَّى غَنِمْتُمْ، وَفُسِّرَ غَيْرُهَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ: لَكَانَتِ الْعُقْبَى لَكُمْ: أَيْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لَكُمْ حَتَّى غَنِمْتُمْ وَالْكُفَّارُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَى الْكُفَّارِ، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ. قَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ تُخَمَّسَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَعَنْهُ: مِنْ صَدَاقِ مَنْ لَحِقَ بِنَا. وَقِيلَ: الْكُفَّارُ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْعَهْدِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: اقْتُطِعَ هَذَا يَوْمَ الْفَتْحِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يُعْمَلُ بِهِ الْيَوْمَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ فَنُسِخَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا قَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَاضِي: كَانَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: قَالَ قَوْمٌ هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ إِلَى الْآنَ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ: كَانَتْ بَيْعَةُ النِّسَاءِ فِي ثَانِي يَوْمِ الْفَتْحِ على جبل الصفاء، بعد ما فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ، وَهُوَ عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ أَسْفَلُ مِنْهُ يُبَايِعُهُنَّ بِأَمْرِهِ وَيُبَلِّغُهُنَّ عَنْهُ، وَمَا مَسَّتْ يَدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ قَطُّ. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ: كُنْتُ فِي النِّسْوَةِ الْمُبَايِعَاتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ، فَقَالَ لِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ لَكِنْ آخُذُ عَلَيْهِنَّ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ» ، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسَاءِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ. فَلَمَّا قَرَّرَهُنَّ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، قَالَتْ هِنْدٌ: وَكَيْفَ نَطْمَعُ أَنْ تَقْبَلَ مِنَّا مَا لَمْ تَقْبَلْهُ مِنَ الرِّجَالِ؟ تَعْنِي أَنَّ هَذَا بَيِّنٌ لُزُومُهُ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى السَّرِقَةِ قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُصِيبُ الْهَنَةَ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ، لَا أَدْرِي أَيَحِلُّ لِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا عَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ، فَضَحِكَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا، فَقَالَ لَهَا: «وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ» ، قَالَتْ: نَعَمْ، فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَقَالَ: وَلا يَزْنِينَ، فَقَالَتْ: أو تزني الْحُرَّةُ؟ قَالَ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ، فَقَالَتْ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَضَحِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَتَبَسَّمَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ، وَلَا يَأْمُرُ اللَّهُ إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. فَقَالَ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذَا وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ. ومعنى قول هند: أو تزني الْحُرَّةُ أَنَّهُ

كَانَ فِي قُرَيْشٍ فِي الْإِمَاءِ غَالِبًا، وَإِلَّا فَالْبَغَايَا ذوات الربات قَدْ كُنَّ حَرَائِرَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ: وَلَا يُقَتَّلْنَ مُشَدَّدًا ، وَقَتْلُهُنَّ مِنْ أَجْلِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ. وَالْبُهْتَانُ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَنْ تَنْسُبَ إِلَى زَوْجِهَا وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَقِطُ الْمَوْلُودَ فَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: هُوَ وَلَدِي مِنْكَ. بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: لِأَنَّ بَطْنَهَا الَّذِي تَحْمِلُهُ فِيهِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ، وَفَرْجَهَا الَّذِي تَلِدُهُ بِهِ بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ: الْبُهْتَانُ: الْعَضَّةُ، لِأَنَّهَا إِذَا قَذَفَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَهَا، فَقَدْ بَهَتَتْ مَا بَيْنَ يَدَيِ الْمَقْذُوفَةِ وَرِجْلَيْهَا، إِذْ نَفَتْ عَنْهَا وَلَدًا قَدْ وَلَدَتْهُ، أَوْ أَلْحَقَتْ بِهَا وَلَدًا لَمْ تَلِدْهُ. وَقِيلَ: الْبُهْتَانُ: السِّحْرُ. وَقِيلَ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أَلْسِنَتُهُنَّ بِالنَّمِيمَةِ، وَأَرْجُلِهِنَّ فُرُوجُهُنَّ. وَقِيلَ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ قُبْلَةٌ أَوْ جَسَّةٌ، وَأَرْجُلِهِنَّ الْجِمَاعُ. وَمِنَ الْبُهْتَانِ الْفِرْيَةُ بِالْقَوْلِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، والكذب فيما اؤتمنّ عَلَيْهِ مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ، وَالْمَعْرُوفُ الَّذِي نُهِيَ عَنِ الْعِصْيَانِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ النَّوْحُ وَشَقُّ الْجُيُوبِ وَوَشْمُ الْوُجُوهِ وَوَصْلُ الشَّعَرِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ فَرْضُهَا وَنَدْبُهَا. وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُوَاصِلُونَ الْيَهُودَ لِيُصِيبُوا مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَنَّهُمُ الْيَهُودُ، فَسَّرَهُمُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، لِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ قَدْ صَارَ عُرْفًا لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ خَيْرِهَا وَثَوَابِهَا. وَالظَّاهِرُ إِنَّ مِنْ فِي مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ لِقَاءِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ. فَمِنْ الثَّانِيَةُ كَالْأُولَى مِنَ الْآخِرَةِ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ. انْتَهَى. وَالْكُفَّارُ عَلَى هَذَا كَفَّارُ مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتَ لَهُمْ حَمِيمٌ قَالُوا: هَذَا آخِرُ الْعَهْدِ بِهِ، لَنْ يُبْعَثَ أَبَدًا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ: مَنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْقُبُورِ، وَالْمَأْيُوسُ مِنْهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الْمَقْبُورُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حَيًّا لَمْ يُقْبَرْ، كَانَ يُرْجَى لَهُ أَنْ لَا يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ مُتَوَقَّعٌ إِيمَانُهُ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَيَانُ الْجِنْسِ أَظْهَرُ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ مَنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، إِذْ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: كَمَا يَئِسَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى الْجَمْعِ. وَلَمَّا فَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، خَتَمَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ تأكيدا لترك موالاتهم وَتَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ وَإِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ.

سورة الصف

سورة الصّفّ [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

الْمَرْصُوصُ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ الْمَعْقُودُ بِالرَّصَاصِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: رَصَصْتُ الْبِنَاءَ: لَاءَمْتُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ وَقَارَبْتُهُ حَتَّى يَصِيرَ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ الرَّاعِي: مَا لَقِيَ الْبِيضُ مِنَ الحرقوص ... بفتح باب المغلق الْمَرْصُوصِ الْحُرْقُوصُ: دُوَيْبَّةٌ تُولَعُ بِالنِّسَاءِ الْأَبْكَارِ، وَقِيلَ: هُوَ من الترصيص، وهو انضمام الْأَسْنَانِ. سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ، وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ، وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورُ، ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ يَسَارٍ: مَكِّيَّةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ مِنْكُمْ وَمَعَكُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ أَوْ قَوْلُ شَبَابٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَعَلْنَا فِي الْغَزْوِ كَذَا وَلَمْ يَفْعَلُوا أَوْ قَوْلُ نَاسٍ: وَدِدْنَا أَنْ نَعْرِفَ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ

إِلَى رَبِّنَا حَتَّى نُعْنَى فِيهِ، فَفَرَضَ الْجِهَادَ وَأَعْلَمَ تَعَالَى بِحُبِّ الْمُجَاهِدِينَ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ وَفَرَّ بَعْضُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَنَزَلَتْ، أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: لِابْنِ زَيْدٍ، وَالثَّانِي: لِقَتَادَةَ، وَالثَّالِثُ: لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي صَالِحٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ السُّورَةِ قَبْلَهَا، أَنَّ فِي آخِرِ تلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «1» ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إِثْبَاتَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، فَحَضَّ تَعَالَى عَلَى الثَّبَاتِ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْحَرْبِ أَعْدَاءَهُمْ. وَالنِّدَاءُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إن كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً، فَالِاسْتِفْهَامُ يُرَادُ بِهِ التَّلَطُّفُ فِي الْعَتْبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ، فَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ يُرَادُ بِهِ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ فِي إِسْنَادِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْفِعْلِ وَحْدَهُ. وَوَقَفَ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ أَوْ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَمَنْ سَكَّنَ فِي الْوَقْفِ فَلِإِجْرَائِهِ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ مَقْتاً عَلَى التَّمْيِيزِ، وَفَاعِلُ كَبُرَ: أَنْ تَقُولُوا، وَهُوَ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَ مَقْتُ قَوْلِكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ، فَيَكُونُ فِي كَبُرَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ مُفَسَّرٌ بِالتَّمْيِيزِ، وَأَنْ تَقُولُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، أَيْ بِئْسَ مَقْتًا قَوْلُكُمْ كَذَا، وَالْخِلَافُ الْجَارِي فِي الْمَرْفُوعِ فِي: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ، جَارٍ فِي أَنْ تَقُولُوا هُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي كَبُرَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَ تَقُولُونَ، أَيْ كَبُرَ هُوَ، أَيِ الْقَوْلُ مَقْتًا، وَمِثْلُهُ كَبُرَتْ كَلِمَةً، أَيْ مَا أَكْبَرُهَا كَلِمَةً، وَأَنْ تَقُولُوا بَدَلٌ مِنَ الْمُضْمَرِ، أَوْ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ التَّعَجُّبِ، أَيْ مَا أَكْبَرَهُ مَقْتًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَصَدَ فِي كَبُرَ التَّعَجُّبَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ: غَلَّتْ نَابُ كُلَيْبٍ بَوَاؤُهَا وَمَعْنَى التَّعَجُّبِ: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ، لِأَنَّ التَّعَجُّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ نُظَرَائِهِ وَأَشْكَالِهِ، وَأُسْنِدَ إِلَى أَنْ تَقُولُوا وَنُصِبَ مَقْتاً عَلَى تَفْسِيرِهِ، دَلَالَةً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ مَا لَا يَفْعَلُونَ مَقْتٌ خَالِصٌ لَا شَوْبَ فِيهِ لِفَرْطِ تَمَكُّنِ الْمَقْتِ مِنْهُ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْمَقْتِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْبُغْضِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْبُغْضِ كَثِيرًا حَتَّى جُعِلَ أَشَدَّهُ وَأَفْحَشَهُ، وَعِنْدَ اللَّهِ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ كَبُرَ مَقْتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَقَدْ تَمَّ كِبْرُهُ وَشِدَّتُهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْتُ: الْبُغْضُ مِنْ أَجْلِ ذَنْبٍ أَوْ رِيبَةٍ أَوْ دَنَاءَةٍ يَصْنَعُهَا الْمَمْقُوتُ. انْتَهَى. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: رَجُلٌ مَمْقُوتٌ وَمَقِيتٌ، إِذَا كَانَ يُبْغِضُهُ كُلُّ أَحَدٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُقَاتِلُونَ بفتح التاء. وقيل: قرىء يَقْتُلُونَ، وَانْتَصَبَ صَفًّا عَلَى الْحَالِ، أي صافين

_ (1) سورة الممتحنة: 60/ 13.

أَنْفُسَهُمْ أَوْ مَصْفُوفِينَ، كَأَنَّهُمْ فيء فِي تَرَاصِّهِمْ مِنْ غَيْرِ فُرْجَةٍ وَلَا خَلَلٍ، بُنْيَانٌ رُصَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ. وَالظَّاهِرُ تَشْبِيهُ الذَّوَاتِ فِي الْتِحَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ بِالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ اسْتِوَاءُ نِيَّاتِهِمْ فِي الثَّبَاتِ حَتَّى يَكُونُوا فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ. قِيلَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْقِتَالِ رَاجِلًا، لِأَنَّ الْفُرْسَانَ لَا يَصْطَفُّونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَصْفًا وَكَأَنَّهُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: كَأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِصَفًّا. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مِنْ ضَمِيرِ يُقَاتِلُونَ. وَلَمَّا كَانَ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْكَذِبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْإِذَايَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، إِذْ كَانَ فِي أَتْبَاعِهِ مَنْ عَانَى الْكَذِبَ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ قِصَّةِ مُوسَى وَقَوْلُهُ لِقَوْمِهِ: لِمَ تُؤْذُونَنِي، وَإِذَايَتُهُمْ لَهُ كَانَ بِانْتِقَاصِهِ فِي نَفْسِهِ وَجُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِرَاحَاتِهِمْ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ لَهُمُ اقْتِرَاحُهُ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ وَتَكْرِيمَهُ، فَرَتَّبُوا عَلَى عِلْمِهِمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مَا لَا يُنَاسِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ الْإِذَايَةُ، وَقَدْ تَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ فِي الْمَاضِي وَالتَّوَقُّعِ فِي الْمُضَارِعِ، وَالْمُضَارِعُ هُنَا مَعْنَاهُ الْمُضِيُّ، أَيْ وَقَدْ عَلِمْتُمْ، كَقَوْلِهِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ «1» ، أَيْ قَدْ عُلِمَ، قَدْ نَرى تَقَلُّبَ «2» . وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْفِعْلِ، فَلَمَّا زاغُوا عَنِ الْحَقِّ، أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنْ مَنَعَ أَلْطَافَهُ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ: لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسْنَدَ الزَّيْغَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَزاغَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ «3» ، وَهُوَ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «4» . وَلَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ذَكَرَ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُنَاكَ قَالَ: يَا قَوْمِ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُنَا قَالَ عِيسَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ أَبٌ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْهُمْ. وَمُصَدِّقًا وَمُبَشِّرًا: حَالَانِ، وَالْعَامِلُ رَسُولٌ، أَيْ مُرْسَلٌ، وَيَأْتِي وَاسْمُهُ جُمْلَتَانِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرَسُولٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كتب الله الإلهية، ولئن تَأَخَّرَ مِنَ النَّبِيِّ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ التَّبْشِيرَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ تَصْدِيقٌ لِرِسَالَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَعْدَنَا مِنْ أُمَّةٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، أُمَّةُ أَحْمَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، كَأَنَّهُمْ مِنَ الْفِقْهِ أَنْبِيَاءُ يَرْضَوْنَ مِنَ اللَّهِ

_ (1) سورة النور: 24/ 64. (2) سورة البقرة: 2/ 144. (3) سورة الحشر: 59/ 19. (4) سورة التوبة: 9/ 118.

بِالْيَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيَرْضَى اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَمَلِ» . وَأَحْمَدُ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْمُضَارِعِ لِلْمُتَكَلِّمِ، أَوْ مِنْ أَحْمَدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَقَالَ حَسَّانُ: صَلَّى الْإِلَهُ وَمَنْ يَحِفُّ بِعَرْشِهِ ... وَالطَّيِّبُونَ عَلَى الْمُبَارَكِ أَحْمَدَ وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: بَشَّرَ كُلُّ نَبِيٍّ قَوْمَهُ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ أَفْرَدَ عِيسَى بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ آخِرُ نَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْبِشَارَةَ بِهِ عَمَّتْ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي جاءَهُمْ يَعُودُ عَلَى عِيسَى لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَحْمَدَ. لَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى، تَطَرَّقَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْمَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فَلَمَّا جَاءَ الْمُبَشَّرُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ قَالُوا: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِحْرٌ، أَيْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ: سَاحِرٌ، أَيْ هَذَا الْحَالُ سَاحِرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدَّعِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَطَلْحَةُ: يَدَّعِي مُضَارِعُ ادَّعَى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَادَّعَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ مَعْنَى الِانْتِمَاءِ وَالِانْتِسَابِ عُدِّيَ بِإِلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْضًا، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: وَهُوَ يَدَّعِي بِشَدِّ الدَّالِ، بِمَعْنَى يَدَّعِي دَعَاهُ وَادَّعَاهُ، نَحْوُ لَمَسَهُ وَالْتَمَسَهُ. يُرِيدُونَ الْآيَةَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا «1» ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ زِيدَتْ مَعَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ تَأْكِيدًا لَهُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِأُكْرِمَكَ، كَمَا زِيدَتِ اللَّامُ فِي: لَا أَبَا لَكَ، تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي: لَا أَبَا لَكَ. انْتَهَى. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَاللَّامُ في قوله: لِيُطْفِؤُا لَامٌ مُؤَكِّدَةٌ، دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: يُرِيدُونَ أن يطفؤا، وَأَكْثَرُ مَا تَلْزَمُ هَذِهِ اللَّامُ الْمَفْعُولَ إِذَا تَقَدَّمَ، تَقُولُ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، وَلِرُؤْيَتِكَ قَصَرْتُ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ أَكْثَرُ مَا تَلْزَمُ الْمَفْعُولَ إِذَا تَقَدَّمَ لَيْسَ بِأَكْثَرَ، بَلِ الْأَكْثَرُ: زَيْدًا ضَرَبْتُ، مِنْ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إِنَّ اللَّامَ لِلتَّأْكِيدِ، وَإِنَّ التَّقْدِيرَ أن يطفؤا، فَالْإِطْفَاءُ مَفْعُولُ يُرِيدُونَ، فَلَيْسَ بِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زيد: هُنَا يُرِيدُونَ إِبْطَالَ الْقُرْآنِ وَتَكْذِيبَهُ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُرِيدُونَ دَفْعَ الْإِسْلَامِ بِالْكَلَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هَلَاكَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَرَاجِيفِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: إِبْطَالَ حُجَجِ اللَّهِ بِتَكْذِيبِهِمْ.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 32.

وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْوَحْيَ أَبْطَأَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَبْشِرُوا، أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَ مُحَمَّدٍ فِيمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ لِيُتِمَّ نُورَهُ، فَحَزِنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ وَاتَّصَلَ الْوَحْيُ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: مُتِمُّ بِالتَّنْوِينِ، نُورِهِ بِالنَّصْبِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْأَعْمَشُ: بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُنْجِيكُمْ مُخَفَّفًا وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ عَامِرٍ: مُشَدَّدًا. وَالْجُمْهُورُ: تُؤْمِنُونَ، وَتُجاهِدُونَ وَعَبْدُ اللَّهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا أَمْرَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالتَّاءِ، فِيهِمَا مَحْذُوفَ النُّونِ فِيهِمَا. فَأَمَّا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ بِمَعْنَى آمِنُوا عَلَى الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ يَغْفِرْ مَجْزُومًا. انْتَهَى، فَصُورَتُهُ صُورَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: اتَّقَى اللَّهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ، أَيْ لِيَتَّقِ اللَّهَ، وَجِيءَ بِهِ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْإِيذَانِ بِوُجُوبِ الِامْتِثَالِ وَكَأَنَّهُ امْتَثَلَ، فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْ إِيمَانٍ وَجِهَادٍ مَوْجُودَيْنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الدَّاعِي: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، جُعِلَتِ الْمَغْفِرَةُ لِقُوَّةِ الرَّجَاءِ، كَأَنَّهَا كَانَتْ وَوُجِدَتْ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَى تِجَارَةٍ، وَهَذَا لَا يُتَخَيَّلُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ أَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى يَتَقَدَّرَ بِمَصْدَرٍ، ثُمَّ حُذِفَ أَنْ فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحَضُرَ الوغا يُرِيدُ: أَنْ أَحْضُرَ، فَلَمَّا حذف أن ارتفع الفعل، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تُؤْمِنُونَ فِعْلٌ مَرْفُوعٌ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ أَنَّهُ تُؤْمِنُونَ. انْتَهَى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمُبْتَدَأِ وَحَذْفَ أَنَّهُ وَإِبْقَاءَ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتُؤْمِنُونَ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ نَعْمَلُ؟ فَقَالَ: تُؤْمِنُونَ، ثُمَّ اتَّبَعَ الْمُبَرِّدُ فَقَالَ: هُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَبِهَذَا أُجِيبَ بِقَوْلِهِ: يَغْفِرْ لَكُمْ. انْتَهَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَظَاهِرَةُ الْمَعْنَى وَجَوَابُ الْأَمْرِ يَغْفِرْ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ زَيْدٍ فَتَتَوَجَّهُ عَلَى حَذْفِ لَامِ الْأَمْرِ، التَّقْدِيرُ: لِتُؤْمِنُوا، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قُلْتُ لِبَوَّابٍ عَلَى بَابِهَا ... تَأْذَنْ لِي أَنِّي مِنْ أَحْمَائِهَا يُرِيدُ: لِتَأْذَنْ، وَيَغْفِرْ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَةِ زَيْدٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْمُبَرِّدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ، وَاسْتُبْعِدَ هَذَا التَّخْرِيجُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسُوا إِذَا دَلَّهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ يَغْفِرُ لَهُمْ، إِنَّمَا يَغْفِرُ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا وَجَاهَدُوا. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: إِنَّمَا يَصِحُّ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

تُؤْمِنُونَ وَتُجَاهِدُونَ عَطْفَ بَيَانٍ عَلَى قَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ، كَأَنَّ التِّجَارَةَ لَمْ يُدْرَ مَا هِيَ، فَبُيِّنَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ، فَهِيَ هُمَا فِي الْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ تُؤْمِنُونَ وَتُجَاهِدُونَ؟ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ هَذَا التَّقْدِيرَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ: إِنْ دُلِلْتُمْ يَغْفِرْ لَكُمْ، وَالْغُفْرَانُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَبُولِ وَالْإِيمَانِ لَا بِالدِّلَالَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوَهُ، قَالَ: وَجْهُهُ أَنَّ مُتَعَلَّقَ الدِّلَالَةِ هُوَ التِّجَارَةُ، وَالتِّجَارَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ تتحرون بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ يُغْفَرْ لَكُمْ؟ انْتَهَى، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ بَقِيَّةُ الْآيَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، ذَكَرَ مَا يَسُرُّهُمْ فِي الْعَاجِلَةِ، وَهِيَ مَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ. وَأُخْرى: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَلَكُمْ مَثُوبَةٌ أُخْرَى، أَوْ نِعْمَةٌ أُخْرَى عَاجِلَةٌ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْآجِلَةِ. فَأُخْرَى مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْمُقَدَّرُ لَكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَيُرَجِّحُهُ الْبَدَلُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ، وتُحِبُّونَها صِفَةٌ، أَيْ مَحْبُوبَةٌ إِلَيْكُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: وَأُخْرَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ وَيَمْنَحُكُمْ أُخْرَى وَنَصْرٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ نَصْرٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَأُخْرَى فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى تِجَارَةٍ، وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُخْرَى لَيْسَتْ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي يُعْطِيهِمُ اللَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَصْرٌ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالنَّصْبِ فِيهَا ثَلَاثَتُهَا، وَوَصْفُ أُخْرَى بِتُحِبُّونَهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ قَدْ وُكِّلَتْ بِحُبِّ الْعَاجِلِ، وَفِي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى مَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْجِهَادُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي تُحِبُّونَهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى مَحَبَّةِ الْعَاجِلِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَصَبَ مَنْ قَرَأَ نَصْرًا مِنَ اللَّهِ وَفَتْحًا قَرِيبًا؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى يُنْصَرُونَ نَصْرًا وَيَفْتَحُ لَكُمْ فَتْحًا، أَوْ عَلَى يَغْفِرْ لَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ وَيُؤْتِكُمْ أُخْرَى نَصْرًا وَفَتْحًا قَرِيبًا. فَإِنْ قُلْتَ عَلَامَ عُطِفَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْتُ: عَلَى تُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: آمِنُوا وَجَاهِدُوا يُثِبْكُمُ اللَّهُ وَيَنْصُرْكُمْ، وَبَشِّرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ. انْتَهَى. كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ: نَدَبَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى النُّصْرَةِ وَوَضَعَ لَهُمْ هَذَا الِاسْمَ، وِإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ عُرْفًا لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَسَمَّاهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعِيسَى وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَرَمِيَّانِ: أَنْصَارًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارٍ، أَيْ قُلْنَا لَكُمْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عِيسَى. وَقَالَ مَكِّيٌّ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: كُونُوا كَوْنًا. وَقِيلَ: نَعْتٌ لِأَنْصَارًا، أَيْ كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا

كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَنْصَارَ عِيسَى حِينَ قَالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ. انْتَهَى. وَالْحَوَارِيُّونَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى، بَثَّهُمْ عِيسَى فِي الْآفَاقِ، بَعَثَ بُطْرُسَ وَبُولُسَ إِلَى رُومِيَّةَ، وَأَنْدَارَسَ وَمَتَّى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي يَأْكُلُ أَهْلُهَا النَّاسَ، وَبُوقَاسَ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَفِيلِيسَ إِلَى قَرْطَاجَنَّةَ وَهِيَ إِفْرِيقِيَّةُ، وَيَحْنَسَ إِلَى أُقْسُوسَ قَرْيَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَيَعْقُوبِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَابْنَ بَلْيَمَنَ إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ وَتَسْتَمَرَ إِلَى أَرْضِ الْبَرْبَرِ وَمَا حَوْلَهَا، وَفِي بَعْضِ أَسْمَائِهِمْ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ الضَّبْطِ، فَلْيُلْتَمَسْ ذَلِكَ مِنْ مَظَانِّهِ. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسَى عَلى عَدُوِّهِمْ: وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ: أَيْ قَاهِرِينَ لَهُمْ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ: ظَاهِرِينَ: غَالِبِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَقِيلَ: أَيَّدْنَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ الضَّالَّتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة الجمعة

سورة الجمعة [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

السِّفْرُ: الْكِتَابُ الْمُجْتَمِعُ الْأَوْرَاقِ مُنَضَّدَةً. يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَقِيلَ: مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ أَمْرَ الْيَهُودِ وَانْفِضَاضَ النَّاسِ فِي الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَأْيِيدَ مَنْ آمَنَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ التَّنْزِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ مُلْكِهِ وَتَقْدِيسِهِ، وَذِكْرِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْثَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَتِلَاوَتِهِ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ، وَتَزْكِيَتِهِمْ، فَصَارَتْ أُمَّتُهُ غَالِبَةً سَائِرَ الْأُمَمِ، قَاهِرَةً لَهَا، مُنْتَشِرَةَ الدَّعْوَةِ، كَمَا انْتَشَرَتْ دَعْوَةُ الْحَوَارِيِّينَ فِي زَمَانِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمَلِكِ بِجَرِّهِ وَجَرِّ مَا بَعْدَهُ وَأَبُو وَائِلٍ وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَرُؤْبَةُ وَأَبُو الدِّينَارِ الْأَعْرَابِيُّ: بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، وَحَسَّنَهُ الْفَصْلُ الَّذِي فِيهِ طُولٌ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ عَنْ يَعْقُوبَ. وَقَرَأَ أَبُو الدِّينَارِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْقَدُّوسُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ. هُوَ الَّذِي بَعَثَ الْآيَةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِهَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَفِي نِسْبَةِ الْأُمِّيِّ. وَآخَرِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأُمِّيِّينَ، أَيْ وَفِي آخَرِينَ مِنَ الْأُمِّيِّينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بَعْدُ، وَسَيَلْحَقُونَ. وَقِيلَ: وَآخَرِينَ مَنْصُوبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي وَيُعَلِّمُهُمُ، أَسْنَدَ تَعْلِيمَ الْآخَرِينَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَجَازًا لَمَّا تَنَاسَقَ التَّعْلِيمُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ وَتَلَا بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَدَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ: وَآخَرِينَ هُمْ فَارِسُ، وَجَاءَ نَصًّا عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ الْحَصْرُ فِي

فَارِسَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْآيَةُ، وَلَكِنْ فَهِمَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْهُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الرُّومُ وَالْعَجَمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: التَّابِعِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْعَرَبِ لِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ، أَيْ فِي النَّسَبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ حِبَّانَ: طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَهْلُ الْيَمَنِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَبْنَاءُ الْأَعَاجِمِ وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا: هُمُ التَّابِعُونَ وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: الْعَجَمُ وَعَنْ أَبِي رَوْقٍ: الصِّغَارُ بَعْدَ الْكِبَارِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى التَّمْثِيلِ، كَمَا حَمَلُوا قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَارِسَ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي تَمْكِينِهِ رَجُلًا أُمِّيًّا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَتَأْيِيدِهِ وَاخْتِيَارِهِ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ: أَيْ إِيتَاءُ النُّبُوَّةِ وَجَعْلُهُ خَيْرَ خَلْقِهِ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ: هُمُ الْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِأَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا، وَلَمْ يُطِيقُوا الْقِيَامَ بِهَا حِينَ كَذَّبُوا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهِيَ نَاطِقَةٌ بِنُبُوَّتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُمِّلُوا مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. شَبَّهَ صِفَتَهُمْ بِصِفَةِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ كُتُبًا، فَهُوَ لَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ، أَكُتُبٌ هِيَ أَمْ صَخْرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ التَّعَبِ بِحَمْلِهَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ: زَوَامِلُ لِلْإِشْعَارِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ ... بِجَيِّدِهَا إِلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ لَعَمْرُكُ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إذا غدى ... بِأَوْسَاقِهِ أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: حِمَارٌ مُنَكَّرًا وَالْمَأْمُونُ بْنُ هَارُونَ: يُحَمَّلُ بِشَدِّ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَالْجُمْهُورُ: الْحِمَارُ مُعَرَّفًا، وَيَحْمِلُ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَيَحْمِلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ الْجَرِّ عَلَى الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْحِمَارَ كَاللَّئِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَعَارِفِ يُوصَفُ بِالْجُمَلِ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَوَصْفُهُ بِالْمَعْرِفَةِ ذِي اللَّامِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْرِيفِهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ مِنْ هَدْمِ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَالْجُمَلُ نَكِرَاتٌ. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِئْسَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ. انْتَهَى.

_ (1) سورة يس: 36/ 37.

فَخَرَّجَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّمْيِيزُ مَحْذُوفًا، وَفِي بِئْسَ ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ مَثَلًا الَّذِي ادَّعَى حَذْفَهُ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ التَّمْيِيزَ الَّذِي يُفَسِّرُهُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي نِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَاهُمَا لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّقْدِيرُ بِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُ الْقَوْمِ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَثَلُ الْقَوْمِ فَاعِلُ بِئْسَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ، أَوْ يَكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا صِفَةً لِلْقَوْمِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ مَثَلُهُمْ، أَيْ مَثَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَتَبَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ لِيَهُودِ خَيْبَرَ: إِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ أَطَعْنَاكُمْ، وَإِنْ خَالَفْتُمُوهُ خَالَفْنَاهُ، فَقَالُوا لَهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَمِنَّا عُزَيْرٌ بن اللَّهِ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَمَتَّى كَانْتِ النُّبُوَّةُ فِي الْعَرَبِ نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى اتِّبَاعِهِ، فنزلت : قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا فَتَمَنَّوْا أَنْ تُنْقَلُوا سَرِيعًا إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ الْمُعَدَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ بَقِيَّةِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، بِضَمِّ الْوَاوِ وَابْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ السميفع: بكسرها وعن ابن السميفع أَيْضًا: فَتْحُهَا. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْهَمْزِ مَضْمُومَةً بَدَلَ الْوَاوِ، وَهَذَا كَقِرَاءَةِ مَنْ قرأ: تلؤون بِالْهَمْزِ بَدَلَ الْوَاوِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَا وَلَنْ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْيٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، إِلَّا أَنَّ فِي لَنْ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لَيْسَ فِي لَا، فَأَتَى مَرَّةً بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ «1» ، وَمَرَّةً بِغَيْرِ لَفْظِهِ: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ، وَهَذَا مِنْهُ رُجُوعٌ عَنْ مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ لَنْ تَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيهِ، وأما قوله: إلا أن فِي لَنْ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لَيْسَ فِي لَا، فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلٍ عَنْ مُسْتَقِرِّي اللِّسَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِنَّهُ، وَالْفَاءُ دَخَلَتْ فِي خَبَرِ إِنَّ إِذَا جَرَى مَجْرَى صِفَتِهِ، فَكَأَنَّ إِنَّ بَاشَرَتِ الَّذِي، وَفِي الَّذِي مَعْنَى الشَّرْطِ، فَدَخَلَتِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ مَنَعَ هَذَا قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ، وَجَعَلُوا الْفَاءَ زَائِدَةً. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّهُ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ الَّذِي، كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ هُوَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ. انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ إِنَّ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، فَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنه

_ (1) سورة البقرة: 2/ 95.

تَوْكِيدًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ وَمُلَاقِيكُمْ خَبَرُ إِنَّ. لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ، أَكَّدَ الْحَرْفَ مَصْحُوبًا بِضَمِيرِ الِاسْمِ الَّذِي لِإِنَّ. إِذا نُودِيَ: أَيْ إِذَا أُذِّنَ، وَكَانَ الْأَذَانُ عِنْدَ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَكَذَا كَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ أُذِّنَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا نَزَلَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ. وَكَذَا كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَى زَمَانِ عُثْمَانَ، كَثُرَ النَّاسُ وَتَبَاعَدَتِ الْمَنَازِلُ، فَزَادَ مُؤَذِّنًا آخَرَ عَلَى دَارِهِ الَّتِي تُسَمَّى الزَّوْرَاءُ، فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أُذِّنَ الثَّانِي، فَإِذَا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَا هِيَ؟ قُلْتُ: هِيَ بَيَانٌ لِإِذَا وَتَفْسِيرٌ لَهُ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْجُمُعَةِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عبلة، وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَزَيْدِ بن علي والأعمش: بِسُكُونِهَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَلُغَةٌ بِفَتْحِهَا لَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَكَانَ هَذَا الْيَوْمُ يُسَمَّى عَرُوبَةَ، وَيُقَالُ: الْعَرُوبَةُ. قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ صُلِّيَتْ جُمُعَةُ سعد بن أبي زُرَارَةَ، صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وذكرهم، فسموهم يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْجُمُعَةِ، فَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا أَوَّلُ جُمُعَةٍ جَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، نَزَلَ بِقُبَاءٍ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَأَقَامَ بِهَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَامِدًا الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ، فَخَطَبَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ. وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ السَّعْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمَشْيِ خِفَّةٌ وَبِدَارٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّمَا تُؤْتَى الصَّلَاةُ بِالسَّكِينَةِ، وَالسَّعْيُ هُوَ بِالنِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، كَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «1» ، فَالْقِيَامُ وَالْوُضُوءُ وَلِبْسُ الثَّوْبِ وَالْمَشْيُ كُلُّهُ سَعْيٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ بِالْأَمْرِ بالسعي للمؤمنين عموما، وأنهما فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرَّوَاحُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . وَقَالُوا: الْمَأْمُورُ بِالسَّعْيِ الْمُؤْمِنُ الصَّحِيحُ الْحُرُّ الذَّكَرُ الْمُقِيمُ. فَلَوْ حَضَرَ غَيْرُهُ أَجْزَأَتْهُمْ. انْتَهَى. وَالْمَسَافَةُ الَّتِي يُسْعَى مِنْهَا إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لَهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ

_ (1) سورة النجم: 53/ 39. [.....]

فِي ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ عَمْرٍو وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَالزُّهْرِيُّ: سِتَّةُ أَمْيَالٍ. وَقِيلَ: خَمْسَةٌ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْكَدِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: ثَلَاثَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ، سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، لَا عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ، وَإِنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَعَنْ رَبِيعَةَ: عَلَى مَنْ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مَاشِيًا أَدْرَكَ الصَّلَاةَ. وَقَرَأَ كُبَرَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: فَامْضُوا بَدَلَ فَاسْعَوْا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّفْسِيرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِالسَّعْيِ هُنَا الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، فَفَسَّرُوهُ بِالْمُضِيِّ، وَلَا يَكُونُ قُرْآنًا لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَذِكْرُ اللَّهِ هُنَا الْخُطْبَةُ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يجزىء مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُسَمَّى ذِكْرًا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَازَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا بُدَّ مِنْ كَلَامٍ يُسَمَّى خُطْبَةً، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُفْيَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالظَّاهِرُ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُفْسَخُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْعَقِدُ وَلَا يفسخ، وكلما يَشْغَلُ مِنَ الْعُقُودِ كُلِّهَا فَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا، مَفْسُوخٌ وَرَعًا. انْتَهَى. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبَيْعَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ أَصْحَابُ الْأَسْوَاقِ، إِذْ يَكْثُرُ الْوَافِدُونَ الْأَمْصَارَ مِنَ الْقُرَى وَيَجْتَمِعُونَ لِلتِّجَارَةِ إِذَا تَعَالَى النَّهَارُ، فَأُمِرُوا بِالْبِدَارِ إِلَى تِجَارَةِ الْآخِرَةِ، وَنُهُوا عَنْ تِجَارَةِ الدُّنْيَا، وَوَقْتُ التَّحْرِيمِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ نَاسٌ غَيْرُهُمْ: مِنْ وَقْتِ أَذَانِ الْخُطْبَةِ إِلَى الفراغ، والإشارة بذلكم إِلَى السَّعْيِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ، وَالْأَمْرُ بِالِانْتِشَارِ وَالِابْتِغَاءِ أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَفَضْلُ اللَّهِ هُوَ مَا يَلْبَسُهُ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ، كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَصِلَةِ صَدِيقٍ، وَاتِّبَاعِ جِنَازَةٍ، وَأَخْذٍ فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَتَصَرُّفَاتٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ فَأُمِرَ مَعَ ذَلِكَ بِإِكْثَارِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْفَضْلُ: الْمَأْمُورُ بِابْتِغَائِهِ هُوَ الْعِلْمُ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَجْرَ صُبْحِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَيَعْنِي أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي عِبَادَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ وَغَلَاءُ سعر، فقدم دحية بعير تَحْمِلُ مِيرَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ أَنْ يُدْخَلَ بِالطَّبْلِ وَالْمَعَازِفِ مِنْ دِرَابِهَا، فَدَخَلَتْ بِهَا، فَانْفَضُّوا إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ وَسَمَاعِهِ، وَتَرَكُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ جَابِرٌ: أَنَا أَحَدُهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ غَالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ: هُمُ الْعَشْرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَالْحَادِي عَشَرَ

قِيلَ: عَمَّارٌ. وَقِيلَ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، قَالُوا: فَنَزَلَتْ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَيْها بِضَمِيرِ التِّجَارَةِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِلَيْهِ بِضَمِيرِ اللَّهْوِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الْأَخْفَشُ عَنِ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهِمَا تَهَمُّمًا بِالْأَهَمِّ، إِذْ كَانَتْ سَبَبَ اللَّهْوِ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهْوُ سَبَبَهَا. وَتَأَمَّلَ أَنْ قُدِّمَتِ التِّجَارَةُ عَلَى اللَّهْوِ فِي الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ، وَأُخِّرَتْ مَعَ التَّفْضِيلِ لِتَقَعَ النَّفْسُ أَوَّلًا عَلَى الْأَبْيَنِ. انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: قائِماً دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ. وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَرَاحَ فِي الْخُطْبَةِ عُثْمَانُ، وَأَوَّلُ مَنْ خطب جالسا معاوية. وقرىء: إِلَيْهِمَا بِالتَّثْنِيَةِ لِلضَّمِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما» ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى أَنْ يَتَجَوَّزَ بَأَوْ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ هَذَا التَّخْرِيجَ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فِي مَوْضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَنَاسَبَ خَتْمَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ مَسَّهُمْ شَيْءٌ مِنْ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَقَدْ مَلَأَ الْمُفَسِّرُونَ كَثِيرًا مِنْ أَوْرَاقِهِمْ بِأَحْكَامٍ وَخِلَافٍ فِي مَسَائِلِ الْجُمُعَةِ مِمَّا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ.

_ (1) سورة النساء: 4/ 135.

سورة المنافقون

سورة المنافقون [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)

الْجِسْمُ وَالْخَشَبُ مَعْرُوفَانِ. أَسْنَدْتُ ظَهْرِي إِلَى الْحَائِطِ: أَمَلْتُهُ وَأَضَفْتُهُ إِلَيْهِ، وَتَسَانَدَ الْقَوْمُ: اصْطَفُّوا وَتَقَابَلُوا لِلْقِتَالِ. إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ، سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ، يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، كَانَتْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي بن سَلُولَ وَأَتْبَاعِهِ فِيهَا أَقْوَالٌ، فَنَزَلَتْ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَذْكُورٌ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، مِنْ مَضْمُونِهَا: أَنَّ اثْنَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ ازْدَحَمَا عَلَى مَاءٍ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَشَجَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَدَعَا الْمَشْجُوجُ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَالشَّاجُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سَلُولَ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَقَوْلِهِ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَعَنَى الْأَعَزَّ نَفْسَهُ، وَكَلَامًا قَبِيحًا. فَسَمِعَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ، فَحَلَفَ مَا قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَاتُّهِمَ زَيْدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ، تَصْدِيقًا لِزَيْدٍ وَتَكْذِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُ الِانْفِضَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ رُبَّمَا كَانَ حَاصِلًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ، وَاتَّبَعَهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِسُرُورِهِمْ بِالْعِيرِ الَّتِي قَدِمَتْ بِالْمِيرَةِ، إِذْ كَانَ وَقْتَ مَجَاعَةٍ، جَاءَ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كَرَاهَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَأَتْبَعَهُ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، إِذْ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ أَمْوَالٍ، وَالْمُهَاجِرُونَ فُقَرَاءُ قَدْ تَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وَمَتَاجِرَهُمْ وَهَاجَرُوا لِلَّهِ تَعَالَى. قالُوا نَشْهَدُ: يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ تُلُقِّيَ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، وَكَذَا فِعْلُ الْيَقِينِ. وَالْعِلْمِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ أن يواطىء اللِّسَانُ الْقَلْبَ هَذَا بِالنُّطْقِ، وَذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَفَضَحَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ: أَيْ لَمْ تُوَاطِئْ قُلُوبُهُمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِكَ، وَاعْتِقَادُهُمْ أَنَّكَ غَيْرُ رَسُولٍ، فَهُمْ كَاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ خَبُرَ حَالَهُمْ، أَوْ كَاذِبُونَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كَذِبٌ. وَجَاءَ بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، إِيذَانًا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا لَفَظُوا بِهِ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ حَقًّا. وَلَمْ تَأْتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِتُوهِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا كَذِبٌ، فَوَسَّطَتِ الْأَمْرَ بَيْنَهُمَا لِيَزُولَ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ: سَمَّى شَهَادَتَهُمْ تِلْكَ أَيْمَانًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَيْمَانَهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ يَمِينٍ وَالْحَسَنُ: بِكَسْرِهَا، مَصْدَرُ آمَنَ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، أَتْبَعَهُمْ بِمُوجِبِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ اتِّخَاذُ أَيْمَانِهِمْ جُنَّةً يَسْتَتِرُونَ بِهَا، وَيَذُبُّونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَمَا انْتَسَبُوا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا ... لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسَالَا وَمِنْ أَيْمَانِهِمْ أَيْمَانُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَنْ حَلَفَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّهُ مَا قَالَ مَا نَقَلَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَعَلُوا تِلْكَ الْأَيْمَانَ جُنَّةً تَقِي مِنَ الْقَتْلِ، وَقَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَجْعَلْ لِعِرْضِكَ جُنَّةً ... مِنَ الْمَالِ سَارَ الْقَوْمُ كُلَّ مَسِيرِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اتَّخَذُوا حَلِفَهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمِنْكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلَّمَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْهُمْ يُوجِبُ مُؤَاخَذَتَهُمْ، حَلَفُوا كَاذِبِينَ عِصْمَةً لِأَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: جُنَّةً مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا، فَصَدُّوا: أَيْ أَعْرَضُوا وَصَدُّوا الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، ذلِكَ أَيْ ذَلِكَ الْحَلِفُ الْكَاذِبُ وَالصَّدُّ الْمُقْتَضِيَانِ لَهُمْ سُوءَ الْعَمَلِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ كُفْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى فِعْلِ اللَّهِ بِهِمْ فِي فَضِيحَتِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى سُوءِ مَا عَمِلُوا، فَالْمَعْنَى: سَاءَ عَمَلُهُمْ بِأَنْ

كَفَرُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْقَوْلُ الشَّاهِدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَسْوَأُ النَّاسِ أَعْمَالًا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، أَوْ إِلَى مَا وَصَفَ مِنْ حَالِهِمْ فِي النِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْإِيمَانِ، أَيْ ذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَطُبِعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ: أَيْ فَطَبَعَ اللَّهُ وَكَذَا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَزَيْدٍ فِي رِوَايَةٍ مُصَرِّحًا بِاللَّهِ. وَيَحْتَمِلُ عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدٍ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ مَا قَبْلَهُ، أَيْ فَطَبَعَ هُوَ، أَيْ بِلَعِبِهِمْ بِالدِّينِ. وَمَعْنَى آمَنُوا: نَطَقُوا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَفَعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ كَفَرُوا: أَيْ ظَهَرَ كُفْرُهُمْ بِمَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ مَا يَقُولُهُ حَقًّا فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَقَوْلُهُمْ: أَيَطْمَعُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ تُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ؟ هَيْهَاتَ، أَوْ نَطَقُوا بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِالْكُفْرِ عِنْدَ شَيَاطِينِهِمْ، أَوْ ذَلِكَ فِيمَنْ آمَنَ ثُمَّ ارْتَدَّ. وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِلسَّامِعِ: أَيْ لِحُسْنِهَا وَنَضَارَتِهَا وَجَهَارَةِ أَصْوَاتِهِمْ، فَكَانَ مَنْظَرُهُمْ يَرُوقُ، وَمَنْطِقُهُمْ يَحْلُو. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَسْمَعْ بتاء الخطاب وعكرمة وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: يُسْمَعْ بِالْيَاءِ مبنيا للمفعول، ولِقَوْلِهِمْ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَيْسَتِ اللَّامُ زَائِدَةً، بَلْ ضَمَّنَ يُسْمَعْ مَعْنَى يُصْغِ وَيُمْلِ، تَعَدَّى بِاللَّامِ وَلَيْسَتْ زَائِدَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ هُوَ الْمَسْمُوعُ. وَشُبِّهُوا بِالْخَشَبِ لِعُزُوبِ أَفْهَامِهِمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الإيمان، ولم يكن حَتَّى جَعَلَهَا مُسْنَدَةً إِلَى الْحَائِطِ، لَا انْتِفَاعَ بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي سَقْفٍ أَوْ مَكَانٍ يُنْتَفَعُ بِهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ مُهْمَلَةً مُسْنَدَةً إِلَى الْحِيطَانِ أَوْ مُلْقَاةً عَلَى الْأَرْضِ قَدْ صُفِّفَتْ، أَوْ شُبِّهُوا بِالْخَشَبِ الَّتِي هِيَ الْأَصْنَامُ وَقَدْ أُسْنِدَتْ إِلَى الْحِيطَانِ، وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خُشُبٌ بِضَمِّ الْخَاءِ والشين والبراء بْنُ عَازِبٍ وَالنَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِإِسْكَانِ الشِّينِ، تَخْفِيفُ خُشُبٍ الْمَضْمُومِ. وَقِيلَ: جَمْعُ خَشْبَاءَ، كَحُمُرٍ جَمْعُ حَمْرَاءَ، وَهِيَ الْخَشَبَةُ الَّتِي نُخِرَ جَوْفُهَا، شُبِّهُوا بِهَا فِي فَسَادِ بَوَاطِنِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ: خَشَبٌ بِفَتْحَتَيْنِ، اسْمُ جِنْسٍ، الْوَاحِدُ خَشَبَةٌ، وَأَنَّثَ وَصْفَهُ كَقَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «1» ، أَشْبَاحٌ بِلَا أَرْوَاحٍ، وَأَجْسَامٌ بِلَا أَحْلَامٍ. وَذَكَرَ مِمَّنْ كَانَ ذَا بَهَاءٍ وَفَصَاحَةٍ عَبْدَ الله بن أبي، وَالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبِ بْنَ قُشَيْرٍ. قَالَ الشَّاعِرُ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: لَا تَخْدَعَنَّكَ اللِّحَى وَلَا الصُّوَرُ ... تِسْعَةُ أَعْشَارِ مَنْ تَرَى بقر

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 7.

تَرَاهُمْ كَالسَّحَابِ مُنْتَشِرًا ... وَلَيْسَ فِيهَا لِطَالِبٍ مَطَرُ فِي شجر السر ومنهم شَبَهٌ ... لَهُ رُوَاءٌ وَمَا لَهُ ثَمَرُ وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ وَصْفٌ لَهُمْ بِالْجُبْنِ وَالْخَوَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَحْسَبُونَ، أَيْ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِجُبْنِهِمْ وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا مَتَى سَمِعُوا بِنِشْدَانِ ضَالَّةٍ أَوْ صِيَاحًا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، أَوْ أُخْبِرُوا بِنُزُولِ وَحْيٍ، طَارَتْ عُقُولُهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ ذَلِكَ وَيَكُونَ فِي غَيْرِ شَأْنِهِمْ، وَكَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَا تُبَاحُ بِهِ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَرُوعُهُ السِّرَارُ بِكُلِّ أَرْضٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ بِهِ السِّرَارُ وَقَالَ جَرِيرٌ: مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ ... خَيْلًا تَكِرُّ عَلَيْهِمْ وَرِجَالَا أَنْشَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِجَرِيرٍ، وَنَسَبَ هَذَا الْبَيْتَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلْأَخْطَلِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمُ الْعَدُوُّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ كَمَا لَوْ طَرَحْتَ الضَّمِيرَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: هِيَ الْعَدُوُّ. قُلْتُ: مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْخَبَرِ، كَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا رَبِّي، وَأَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ عَلَى يَحْسَبُونَ كُلَّ أَهْلِ صَيْحَةٍ. انْتَهَى. وَتَخْرِيجُ هُمُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَحْسَبُونَ تَخْرِيجٌ مُتَكَلَّفٌ بَعِيدٌ عَنِ الْفَصَاحَةِ، بَلِ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الذِّهْنِ السَّلِيمِ أَنْ يَكُونَ هُمُ الْعَدُوُّ إِخْبَارًا مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ، وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَأَتْبَاعُهُمْ، هُمُ الْمُبَالِغُونَ فِي عَدَاوَتِكَ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ أَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِحَذَرِهِمْ فَقَالَ: فَاحْذَرْهُمْ، فَالْأَمْرُ بالحذر متسبب عن إخبار بأنهم هم العدو. وقاتَلَهُمُ اللَّهُ: دُعَاءٌ يَتَضَمَّنُ إِبْعَادَهُمْ، وَأَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. أَنَّى يُؤْفَكُونَ: أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَفِيهِ تَعَجُّبٌ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَجَهْلِهِمْ. وَلَمَّا أَخْبَرَهُ تَعَالَى بِعَدَاوَتِهِمْ، أَمَرَهُ بِحَذَرِهِمْ، فَلَا يَثِقُ بِإِظْهَارِ مَوَدَّتِهِمْ، وَلَا بلين كلامهم. وقاتَلَهُمُ اللَّهُ: كَلِمَةُ ذَمٍّ وَتَوْبِيخٍ، وَقَالَتِ الْعَرَبُ: قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْعَرَهُ. يَضَعُونَهُ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ، وَمَنْ قَاتَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَغْلُوبٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَاهِرُ لِكُلِّ مُعَانِدٍ. وَكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ، أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَرَوْنَ رُشْدَ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ أَنَّى ظَرْفًا لِقَاتَلَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ كَيْفَ انْصَرَفُوا أَوْ صُرِفُوا، فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْقَوْلِ اسْتِفْهَامٌ عَلَى هَذَا. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَنَّى لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِ، بل لا بد يَكُونَ ظَرْفًا اسْتِفْهَامًا، إِمَّا بِمَعْنَى أَيْنَ، أَوْ بِمَعْنَى مَتَى، أَوْ بِمَعْنَى كَيْفَ، أَوْ شَرْطًا بِمَعْنَى أَيْنَ.

وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، وَلَا تَتَجَرَّدُ لِمُطْلَقِ الظَّرْفِيَّةِ بِحَالٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ بَاطِلٌ. وَلَمَّا صَدَّقَ اللَّهُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ ابْنِ سَلُولَ، مَقَتَ النَّاسُ ابْنَ سَلُولَ وَلَامَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: امْضِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَرِفْ بِذَنْبِكَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَلَوَّى رَأْسَهُ إِنْكَارًا لِهَذَا الرَّأْيِ، وَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ أَشَرْتُمْ عَلَيَّ بِالْإِيمَانِ فَآمَنْتُ، وَأَشَرْتُمْ عَلَيَّ بِأَنْ أُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِي فَفَعَلْتُ، وَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تأمروني بالسجود لمحمد! ويستغفر مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، ورسول الله يطلب عاملان، أَحَدُهُمَا يَسْتَغْفِرْ، وَالْآخَرُ تَعالَوْا فَأَعْمَلَ الثَّانِيَ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَلَوْ أُعْمِلَ الْأَوَّلُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: تَعَالَوْا يُسْتَغْفَرْ لَكُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ ونافع وأهل الْمَدِينَةِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْحَسَنِ وَيَعْقُوبَ، بِخِلَافٍ عَنْهُمَا: لَوَّوْا، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْرَجُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا لِلتَّكْثِيرِ. وَلَيُّ رُءُوسِهِمْ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَاسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ، هُوَ اسْتِتَابَتُهُمْ مِنَ النِّفَاقِ، فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، إِذْ كَانَ اسْتِغْفَارُهُ مُتَسَبِّبًا عَنِ اسْتِتَابَتِهِمْ، فَيَتُوبُونَ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَجِيءِ وَاسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ. وقرىء: يَصُدُّونَ وَيَصُدُّونَ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَأَتَتْ بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْضًا. وَلَمَّا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ، سَوَّى بَيْنَ اسْتِغْفَارِهِ لَهُمْ وَعَدَمِهِ. وَحَكَى مَكِّيٌّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا لَهُ الإسلام. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَرَاءَةَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ زِيَادَةً عَلَى السَبْعِينَ» ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلَمْ يَبْقَ لِلِاسْتِغْفَارِ وَجْهٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْتَغْفَرْتَ بِهَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ الَّتِي أَصْلُهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَطُرِحَ أَلِفُ الْوَصْلِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِمَدَّةٍ عَلَى الْهَمْزَةِ. قِيلَ: هِيَ عِوَضٌ مِنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَهِيَ مِثْلُ الْمَدَّةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ «1» ، لَكِنَّ هَذِهِ الْمَدَّةَ فِي الِاسْمِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ الِاسْتِفْهَامُ بِالْخَبَرِ، وَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ، لِأَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ فِيهِ مَكْسُورَةٌ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا: ضَمُّ مِيمِ عَلَيْهِمُ، إِذْ أَصْلُهَا الضَّمُّ، وَوَصْلُ الْهَمْزَةِ. وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: كَسْرَ الْمِيمِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَوَصْلَ الْهَمْزَةِ، فَتَسْقُطُ في القراءتين،

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 143- 144.

وَاللَّفْظُ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ، وَجَازَ حَذْفُ الْهَمْزَةِ لِدَلَالَةِ أَمْ عَلَيْهَا، كَمَا دَلَّتْ عَلَى حَذْفِهَا فِي قَوْلِهِ: بِسَبْعٍ رَمَيْنَا الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يُرِيدُ: أَبِسَبْعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: آسْتَغْفَرْتَ، إِشْبَاعًا لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، لَا قَلْبَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ أَلِفًا كَمَا فِي: آلسِّحْرِ، وَآللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ: آسْتَغْفَرْتَ، بِمَدَّةٍ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَهِيَ أَلِفُ التَّسْوِيَةِ. وَقَرَأَ أَيْضًا: بِوَصْلِ الْأَلْفِ دُونِ هَمْزٍ عَلَى الْخَبَرِ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى أَثْبَتَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ وَقَدْ أَغْنَتْ عَنْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ حَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ يُرِيدُهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِشَارَةٌ إِلَى ابْنِ سَلُولَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ قَوْمِهِ، سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ فِي أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ رِزْقَ الْمُهَاجِرِينَ بِأَيْدِيهِمْ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى. لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ: إِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَكَى نَصَّ كَلَامِهِمْ، فَقَوْلُهُمْ: عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الهزء، كقولهم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «1» ، أَوْ لِكَوْنِهِ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى اللَّعِبِ، أَيْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِإِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِرِسَالَتِهِ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَا صَدَرَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا بِنَفْسِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِكْرَامًا لَهُ وَإِجْلَالًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَنْفَضُّوا: أَيْ يَتَفَرَّقُوا عَنِ الرَّسُولِ والفضل بْنُ عِيسَى: يَنْفَضُّوا، مِنِ انْفَضَّ الْقَوْمُ: فَنِيَ طَعَامُهُمْ، فَنَفَضَ الرَّجُلُ وِعَاءَهُ، وَالْفِعْلُ مِنْ بَابِ مَا يُعَدَّى بِغَيْرِ الْهَمْزَةِ، وَبِالْهَمْزَةِ لَا يَتَعَدَّى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقِيقَتُهُ حَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْفُضُوا مَزَاوِدَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ: فَالْأَعَزُّ فَاعِلٌ، وَالْأَذَلُّ مَفْعُولٌ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سَلُولَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَعْنِي بِالْأَعَزِّ: نَفْسَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَبِالْأَذَلِّ: الْمُؤْمِنِينَ. وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ والسبي فِي اخْتِيَارِهِ: لَنُخْرِجَنَّ بِالنُّونِ، وَنَصَبَ الْأَعَزَّ وَالْأَذَلَّ، فَالْأَعَزُّ مَفْعُولٌ، وَالْأَذَلُّ حَالٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عمر والداني: لَنَخْرُجَنَّ، بِنُونِ الْجَمَاعَةِ مَفْتُوحَةً وَضَمِّ الرَّاءِ، وَنَصْبِ الْأَعَزِّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَمَا قَالَ: نَحْنُ الْعَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ وَنَصْبِ الْأَذَلِّ عَلَى الْحَالِ، وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّ قَوْمًا قَرَأُوا: ليخرجن بالياء مفتوحة

_ (1) سورة الحجر: 15/ 6.

وَضَمِّ الرَّاءِ، فَالْفَاعِلُ الْأَعَزُّ، ونصب الأذل على الحال. وقرىء: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَبِالْيَاءِ، الْأَعَزُّ مَرْفُوعٌ بِهِ، الْأَذَلَّ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ. وَمَجِيءُ الْحَالِ بِصُورَةِ الْمَعْرِفَةِ مُتَأَوَّلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، فَمَا كَانَ مِنْهَا بِأَلْ فَعَلَى زِيَادَتِهَا، لَا أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ. وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ هَذِهِ الْآيَةَ، جَاءَ إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ: أَنْتَ وَاللَّهِ يَا أَبَتِ الذَّلِيلُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَزِيزُ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، جَرَّدَ السَّيْفَ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ الدُّخُولَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُ: وَرَاءَكَ لَا تَدْخُلُهَا حَتَّى تَقُولَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعَزُّ وَأَنَا الْأَذَلُّ، فَلَمْ يَزَلْ حَبِيسًا فِي يَدِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْلِيَتِهِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: لَئِنْ لَمْ تَشْهَدْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِالْعِزَّةِ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، قَالَ: أَفَاعِلٌ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إِنَّ فِيكَ تِيهًا، فَقَالَ: لَيْسَ بِتِيهٍ وَلَكِنَّهُ عِزَّةٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ بِالسَّعْيِ فِي نَمَائِهَا وَالتَّلَذُّذِ بِجَمْعِهَا، وَلا أَوْلادُكُمْ بِسُرُورِكُمْ بِهِمْ وَبِالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ فِي حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ مَمَاتِكُمْ، عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: هُوَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالدُّعَاءِ. وَقَالَ نَحْوًا مِنْهُ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ: أَكَّدَ هُنَا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: جَمِيعُ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْجِهَادُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ: أَيِ الشُّغُلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، حَيْثُ آثَرُوا الْعَاجِلَ عَلَى الْآجِلِ، وَالْفَانِي على الباقي. وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ، قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ الزَّكَاةُ. وَقِيلَ: عَامٌّ فِي الْمَفْرُوضِ وَالْمَنْدُوبِ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَاللَّهِ لَوْ رَأَى خَيْرًا مَا سَأَلَ الرَّجْعَةَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُونَ الْكَرَّةَ، قَالَ: نَعَمْ أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ بِهِ قُرْآنًا، يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا. لَوْلا أَخَّرْتَنِي: أَيْ هَلَّا أَخَّرْتَ مَوْتِي إِلَى زَمَانٍ قَلِيلٍ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَصَّدَّقَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ على جواب الرغبة وأبي وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جُبَيْرٍ: فَأَتَصَدَّقَ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: وَأَكُنْ مَجْزُومًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَكُنْ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ فَأَصَّدَّقَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ أَخَّرْتَنِي أَصَّدَّقْ وَأَكُنْ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنْ تُؤَخِّرْنِي أَصَّدَّقْ وَأَكُنْ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. فَأَمَّا مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ فَهُوَ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ جَزَمَ وَأَكُنْ عَلَى تَوَهُّمِ الشَّرْطِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالتَّمَنِّي، وَلَا مَوْضِعَ هُنَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ،

وَإِنَّمَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَوْضِعِ، حَيْثُ يَظْهَرُ الشَّرْطُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ «1» . فَمَنْ قَرَأَ بِالْجَزْمِ عَطَفَ عَلَى مَوْضِعِ فَلا هادِيَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ هُنَالِكَ فِعْلٌ كَانَ مَجْزُومًا. انْتَهَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ وَالْعَطْفِ عَلَى التَّوَهُّمِ: أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ مَوْجُودٌ دُونَ مُؤَثِّرِهِ، وَالْعَامِلُ فِي الْعَطْفِ عَلَى التَّوَهُّمِ مَفْقُودٌ وَأَثَرُهُ مَوْجُودٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو: وَأَكُونَ بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى فَأَصَّدَّقَ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَأَكُونُ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ وَأَنَا أَكُونُ، وَهُوَ وَعْدُ الصَّلَاحِ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً: فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ حِذَارًا أَنْ يَجِيءَ الْأَجَلُ، وَقَدْ فَرَّطَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لِلِقَاءِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْيَاءِ، خَصَّ الْكُفَّارَ بِالْوَعِيدِ، وَيُحْتَمَلُ العموم.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 186.

سورة التغابن

سورة التغابن [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

التَّغَابُنُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَبَنِ وَلَيْسَ مِنَ اثْنَيْنِ، بَلْ هُوَ مِنْ وَاحِدٍ، كَتَوَاضُعٍ وَتَحَامُلٍ. وَالْغَبَنُ: أَخْذُ الشَّيْءِ بِدُونِ قِيمَتِهِ، أَوْ بَيْعُهُ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: الْغَبَنُ: الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ غَبَنُ الْبَيْعِ لِاسْتِخْفَائِهِ، وَيُقَالُ: غَبَنْتُ الثَّوْبَ وَخَبَنْتُهُ، إِذَا أَخَذْتَ مَا طَالَ مِنْهُ عَنْ مِقْدَارِكَ، فَمَعْنَاهُ النَّقْصُ. يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيات من آخرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَخْ، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَدَنِيَّةٌ وَمَكِّيَّةٌ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ مَا قَبْلَهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَفِي آخِرِهَا خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَتْبَعَهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، هَذَا تَقْسِيمٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِالنَّظَرِ إِلَى الِاكْتِسَابِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ لِقَوْلِهِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها «1» . وَقِيلَ: ذَانِكَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، بِدَلِيلِ مَا فِي حَدِيثِ النُّطْفَةِ مِنْ قَوْلِ الْمَلَكِ: أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ وَالْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا. وَمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ فِي الْبَطْنِ كَافِرًا» . وَحَكَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا: فِي الْبَطْنِ مُؤْمِنًا. وَعَنْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ بالله، مُؤْمِنٌ بالكواكب وَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَقَدَّمَ الْكَافِرَ لِكَثْرَتِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2» ؟ وَحِينَ ذَكَرَ الصَّالِحِينَ قَالَ: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ «3» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمِنْكُمْ آتٍ بِالْكُفْرِ وَفَاعِلٌ لَهُ، وَمِنْكُمْ آتٍ بِالْإِيمَانِ وَفَاعِلٌ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ «4» ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: أَيْ عَالِمٌ بِكُفْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمُ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ قِبَلِكُمْ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِأَصْلِ النِّعَمِ الَّذِي هُوَ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ عَنِ الْعَدَمِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَنْظُرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ، وَتَكُونُوا بِأَجْمَعِكُمْ عِبَادًا شَاكِرِينَ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ بِالْخَلْقِ: هُمُ الدَّهْرِيَّةُ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِهِ. وَعَنِ الْحَسَنُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: وَمِنْكُمْ فَاسِقٌ، وَكَأَنَّهُ مِنْ كَذِبِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْحَسَنِ. وَتَقَدَّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَدُلَّ بِتَقَدُّمِهِمَا عَلَى مَعْنَى اخْتِصَاصِ الْمُلْكِ وَالْحَمْدِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُلْكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَهُ، لِأَنَّهُ مبدىء كُلِّ شَيْءٍ وَمُبْدِعُهُ، وَالْقَائِمُ بِهِ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ، لِأَنَّ أُصُولُ النِّعَمِ وَفُرُوعُهَا مِنْهُ. وَأَمَّا مُلْكُ غَيْرِهِ فَتَسْلِيطٌ مِنْهُ، وَحَمْدُهُ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ جَرَتْ عَلَى يَدِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صَوَّرَكُمْ بِضَمِّ الصَّادِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَزِينٍ. بِكَسْرِهَا، وَالْقِيَاسُ الضَّمُّ، وَهَذَا تَعْدِيدٌ لِلنِّعْمَةِ فِي حُسْنِ الْخِلْقَةِ، لِأَنَّ أَعْضَاءَ بَنِي آدَمَ مُتَصَرِّفَةٌ بِجَمِيعِ مَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ، وَبِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ فُضِّلَ بِهَا. ثُمَّ هُوَ مُفَضَّلٌ بحسن الوجه وجمال

_ (1) سورة الروم: 30/ 30. (2) سورة سبأ: 34/ 13. (3) سورة ص: 38/ 24. (4) سورة الحديد: 57/ 26.

الْجَوَارِحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «1» . وَقِيلَ: النِّعْمَةُ هُنَا إِنَّمَا هِيَ صُورَةُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ مُدْرِكٌ عَاقِلٌ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي حُسِّنَ لَهُ حَتَّى لَحِقَتْهُ كِمَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَتَكَادُ الْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ الصُّورَةَ إِلَّا الشَّكْلَ، لَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالصُّورَةِ. وَنَبَّهَ تَعَالَى بِعِلْمِهِ بِمَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ بِمَا يُسِرُّ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ بِمَا أَكَنَّتْهُ الصُّدُورُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، لَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَابْتَدَأَ بِالْعِلْمِ الشَّامِلِ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، ثُمَّ بِخَاصِّ الْعِبَادِ مِنْ سِرِّهِمْ وَإِعْلَانِهِمْ، ثُمَّ مَا خَصَّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ مِنْ خَفِيِّ الْأَشْيَاءِ وَكَامِنِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ، إِذْ هُوَ تَعَالَى الْمُجَازِي عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ بِتَاءِ الخطاب وَعُبَيْدٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وأبان عَنْ عَاصِمٍ: بِالْيَاءِ. أَلَمْ يَأْتِكُمْ: الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ، ذُكِّرُوا بِمَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ عاد وثمود وقوم إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَرَّحَ بِذِكْرِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ سَمِعَتْ قُرَيْشٌ أَخْبَارَهُمْ، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ: أَيْ مَكْرُوهِهِمْ وَمَا يَسُوؤُهُمْ مِنْهُ. ذلِكَ: أَيِ الْوَبَالُ، بِأَنَّهُ: أَيْ بِأَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا، كَمَا اسْتَبْعَدَتْ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَابِ: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَسَاوُونَ فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَأَنَّى يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ تَمْيِيزٌ عَلَيْنَا بِحَيْثُ يَصِيرُونَ هُدَاةً لَنَا؟ وَارْتَفَعَ أَبَشَرٌ عِنْدَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ يَهْدُونَنا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ تَطْلُبُ الْفِعْلَ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. فَكَفَرُوا: الْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى تَعَقُّبِ كُفْرِهِمْ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ لَمْ يَنْظُرُوا فِي تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا تَأَمَّلُوهَا، بَلْ عَقَّبُوا مَجِيئَهَا بِالْكُفْرِ، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ: اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَغِنَاهُ تَعَالَى أَزَلِيٌّ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ظَهَرَ تَعَالَى غِنَاهُ عَنْهُمْ إِذْ أَهْلَكَهُمْ، وَلَيْسَتِ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ: وَظَهَرَ اسْتِغْنَاءُ اللَّهِ حَيْثُ لَمْ يُلْجِئْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَالزَّعْمُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَالَّذِينَ كفروا: أهل مكة، وبلى: إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ: أَيْ لَا يَصْرِفُهُ عنه صارف.

_ (1) سورة التين: 95/ 4.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا: هُوَ الْقُرْآنُ، وَانْتَصَبَ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ بِقَوْلِهِ: لَتُنَبَّؤُنَّ، أَوْ بِخَبِيرَ، بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالْجَزَاءِ، أَوْ باذكر مُضْمَرَةً، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْأَوَّلُ عَنِ النَّحَّاسِ، وَالثَّانِي عَنِ الْحَوْفِيِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَجْمَعُكُمْ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَرُوِيَ عَنْهُ سُكُونُهَا وَإِشْمَامُهَا الضَّمَّ وسلام وَيَعْقُوبُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيُّ: بِالنُّونِ. لِيَوْمِ الْجَمْعِ: يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُبْعَثُ طَامِعًا فِي الْخَلَاصِ وَرَفْعِ الْمَنْزِلَةِ. ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ: مُسْتَعَارٌ مِنْ تَغَابَنَ الْقَوْمُ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ أَنْ يَغِبْنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لِأَنَّ السُّعَدَاءَ نَزَلُوا مَنَازِلَ الْأَشْقِيَاءِ لَوْ كَانُوا سُعَدَاءَ، وَنَزَلَ الْأَشْقِيَاءُ مَنَازِلَ السُّعَدَاءِ لَوْ كَانُوا أَشْقِيَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا أُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَزْدَادَ حَسْرَةً» ، وَذَلِكَ مَعْنَى يَوْمِ التَّغَابُنِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: إِذَا وَقَعَ الْجَزَاءُ، غَبَنَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ يَجُوزُونَ الْجَنَّةَ وَتَحَصَّلَ الْكُفَّارُ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَطَلْحَةُ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ: نَكْفُرُ وَنَدْخُلُهُ بِالنُّونِ فِيهِمَا وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى وَالْحَسَنُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ فِيهِمَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. الظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الْمُصِيبَةِ عَلَى الرَّزِيَّةِ وَمَا يَسُوءُ الْعَبْدَ، أَيْ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَخُصِّتْ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْحَوَادِثُ لَا تُصِيبُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُصِيبَةِ الْحَادِثَةِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِذِ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهَا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَمَا نَافِيَةٌ، وَمَفْعُولُ أَصَابَ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا أَصَابَ أَحَدًا، وَالْفَاعِلُ من مصيبة، ومن زَائِدَةٌ، وَلَمْ تَلْحَقِ التَّاءُ أَصَابَ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ مُؤَنَّثْا، وَهُوَ فَصِيحٌ، وَالتَّأْنِيثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ

أَجَلَها «1» ، وقوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «2» ، أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَمْكِينِهِ. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ: أَيْ يُصَدِّقُ بِوُجُودِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، يَهْدِ قَلْبَهُ عَلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالْهِدَايَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَهْدِ بِالْيَاءِ، مُضَارِعًا لِهَدَى، مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَطَلْحَةُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْأَزْرَقُ عن حمزة: بالنون والسلمي وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو جَعْفَرٍ: يُهْدَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، قَلْبُهُ: رُفِعَ وَعِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَهْدَأْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، قَلْبُهُ بِالرَّفْعِ: يَطَمْئِنُّ قَلْبُهُ وَيَسْكُنُ بِإِيمَانِهِ وَلَا يكون فيه اضطراب. وعمرو بْنُ فَايِدٍ: يَهْدَا بِأَلِفٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ أَيْضًا: يَهْدَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ إِبْدَالِهَا مِنَ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا فِي مِثْلِ يَهْدَأُ وَيَقْرَأُ، لَيْسَ بِقِيَاسٍ خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ قِيَاسًا، وَبَنَى عَلَيْهِ جَوَازَ حَذْفِ تِلْكَ الْأَلِفِ لِلْجَازِمِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى: جَزَى مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ ... سَرِيعًا وَإِنْ لَا يُبْدَ بِالظُّلْمِ يُظْلَمِ أَصْلُهُ: يَبْدَأُ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، ثُمَّ حَذَفَهَا لِلْجَازِمِ تَشْبِيهًا بِأَلِفِ يَخْشَى إِذَا دَخَلَ الْجَازِمُ. وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَحَذَّرَ مِمَّا يَلْحَقُ الرَّجُلَ مِنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ بِسَبَبِ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَلَا أَعْدَى عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ إِذَا كَانَا عَدُوَّيْنِ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِإِذْهَابِ مَالِهِ وَعِرْضِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِمَا يَسْعَى فِي اكْتِسَابِهِ مِنَ الْحَرَامِ لَهُمَا، وَبِمَا يَكْسِبَانِهِ مِنْهُ بِسَبَبِ جَاهِهِ. وَكَمْ مِنَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ زَوْجَهَا وَجَذَمَتْ وَأَفْسَدَتْ عَقْلَهُ، وَكَمْ مِنْ وَلَدٍ قَتَلَ أَبَاهُ. وَفِي التَّوَارِيخِ وَفِيمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَعَنْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ أَرَادَ الْغَزْوَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، فَثَبَّطُوهُ وَشَكَوْا إِلَيْهِ فِرَاقَهُ، فَرَقَّ وَلَمْ يَغْزُ ثم إنه ندم وهمّ بمعاقبتهم، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَقِيلَ: آمَنَ قَوْمٌ بِاللَّهِ، وَثَبَّطَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، فَوَجَدُوا غَيْرَهُمْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، فَنَدِمُوا وَأَسِفُوا وَهَمُّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم،

_ (1) سورة الحجر: 15/ 5، وسورة المؤمنون: 23/ 43. (2) سورة الرعد: 13/ 38، وسورة غافر: 40/ 78.

فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالُوا لَهُمْ: أَيْنَ تَذْهَبُونَ وَتَدَعُونَ بَلَدَكُمْ وَعَشِيرَتَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ؟ فَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: لَئِنْ جَمَعَنَا اللَّهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ نُصِبْكُمْ بِخَيْرٍ. فَلَمَّا هَاجَرُوا، مَنَعُوهُمُ الْخَيْرَ، فَحَبُّوا أَنْ يَعْفُوا عَنْهُمْ وَيَرُدُّوا إِلَيْهِمُ البر والصلة. ومن فِي مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقَدْ تُوجَدُ زَوْجَةٌ تَسُرُّ زَوْجَهَا وَتُعِينُهُ عَلَى مَقَاصِدِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وكذلك الولد. وقال الشعب الْعَبْسِيُّ يَمْدَحُ وَلَدَهُ رِبَاطًا: إِذَا كَانَ أَوْلَادُ الرِّجَالِ حَزَازَةً ... فَأَنْتَ الْحَلَالُ الْحُلْوُ وَالْبَارِدُ الْعَذْبُ لَنَا جَانِبٌ مِنْهُ دَمِيثٌ وَجَانِبٌ ... إِذَا رَامَهُ الْأَعْدَاءُ مَرْكَبُهُ صَعْبُ وَتَأْخُذُهُ عِنْدَ الْمَكَارِمِ هِزَّةٌ ... كَمَا اهْتَزَّ تَحْتَ الْبَارِحِ الْغُصْنُ الرَّطْبُ وَقَالَ قَرْمَانُ بْنُ الْأَعْرَفِ فِي ابْنِهِ مُنَازِلٍ، وَكَانَ عَاقًّا لَهُ، قَصِيدَةً فِيهَا بَعْضُ طُولٍ مِنْهَا: وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا مَا تَرَكْتُهُ ... أَخَا الْقَوْمِ وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَسْحِ شَارِبُهُ فَلَمَّا رَآنِي أَحْسَبُ الشَّخْصَ أَشْخُصًا ... بَعِيدًا وَذَا الشَّخْصَ الْبَعِيدَ أُقَارِبُهُ تَعَمَّدَ حَقِّي ظَالِمًا وَلَوَى يَدِي ... لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذِي هُوَ غالبه نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ : أَيْ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ، لِأَنَّهُمْ يُوقِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ، وَلَا بَلَاءَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا. وَفِي بَابِ الْعَدَاوَةِ جَاءَ بِمَنِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، وَفِي الْفِتْنَةِ حَكَمَ بِهَا عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضِهَا، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْفِتْنَةِ بِهِمَا، وَكَفَى بِالْمَالِ فِتْنَةً قِصَّةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، أَحَدُ مَنْ نَزَلَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ «1» الْآيَاتِ. وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ ذُكِرَ أَنَّهُ يَشْغَلُهُ الْكَسْبُ وَالتِّجَارَةُ فِي أَمْوَالِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ كَثِيرًا مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَائِتَةً. وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا عِنْدَ النَّاسِ بِالدِّيَانَةِ وَالْوَرَعِ، فَحِينَ لَاحَ لَهُ مَنْصِبٌ وَتَوَلَّاهُ، اسْتَنَابَ مَنْ يَلُوذُ بِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنِ اسْتَنَابَهُ صَغِيرَ السِّنِّ قليل العلم سيىء الطَّرِيقَةِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. وَقُدِّمَتِ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَوْلَادِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِتْنَةً، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «2» ، شَغَلَتْنَا أموالنا وأهلونا. اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ : تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: جُهْدَكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَاسْمَعُوا مَا تُوعَظُونَ بِهِ، وَأَطِيعُوا فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَنُهِيتُمْ عَنْهُ، وَأَنْفِقُوا فِيمَا وَجَبَ عليكم. وخَيْراً مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَأْتُوا خَيْرًا، أَوْ عَلَى إضمار

_ (1) سورة التوبة: 9/ 75. (2) سورة العلق: 96/ 6- 7. [.....]

يَكُنْ فَيَكُونُ خَبَرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِنْفَاقًا خَيِّرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِ: وَأَنْفِقُوا خَيْرًا، أَيْ مَالًا، أَقْوَالٌ، الْأَوَّلُ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ، أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ تَضْعِيفَ الْقَرْضِ وَغُفْرَانَ الذُّنُوبِ. وَفِي لَفْظِ الْقَرْضِ تَلَطُّفٌ فِي الِاسْتِدْعَاءِ، وَفِي لَفْظِ الْمُضَاعَفَةِ تَأْكِيدٌ لِلْبَذْلِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ أَتْبَعَ جَوَابَيِ الشَّرْطِ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَائِدٌ إِلَى الْمُضَاعَفَةِ، إِذْ شُكْرُهُ تَعَالَى مُقَابِلٌ لِلْمُضَاعَفَةِ، وَحِلْمُهُ مُقَابِلٌ لِلْغُفْرَانِ. قِيلَ: وَهَذَا الْحَضُّ هُوَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَقِيلَ، هُوَ فِي الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي يُوقَ وَفِي شُحَّ وَفِي يُضاعِفْهُ.

سورة الطلاق

سورة الطّلاق [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً، فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. قِيلَ: وَسَبَبُ نُزُولِهَا طَلَاقُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: طَلَاقُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَقِيلَ: فَعَلَ نَاسٌ مِثْلَ فِعْلِهِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصي، وعمرو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وعتبة بْنُ غَزْوَانَ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَمْثَلُ، وَالْأَصَحُّ فِيهِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْفِتْنَةَ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، أَشَارَ إِلَى الْفِتْنَةِ بِالنِّسَاءِ، وَأَنَّهُنَّ قَدْ يُعَرِّضْنَ الرِّجَالَ لِلْفِتْنَةِ حَتَّى لَا يَجِدَ مُخَلِّصًا مِنْهَا إِلَّا بِالطَّلَاقِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْهُنَّ بِالْوَجْهِ الْجَمِيلِ، بِأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُنَّ اتِّصَالٌ، لَا بِطَلَبِ ولد ولا حمل.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ: نِدَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخِطَابٌ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَالتَّنْبِيهِ، إِذا طَلَّقْتُمُ: خِطَابٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخَاطَبَةَ الْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، أَوْ لِأُمَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، أقبل عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ قُلْ لِأُمَّتِكَ إِذَا طَلَّقْتُمْ، أَوْ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، وَكَأَنَّهُ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ وَأُمَّةَ النَّبِيِّ إِذَا طَلَّقْتُمْ، فَالْخِطَابُ لَهُ وَلَهُمْ، أَيْ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، أَقْوَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَصَّ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَعَمَّ بِالْخِطَابِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ إِمَامُ أُمَّتِهِ وَقُدْوَتُهُمْ. كَمَا يُقَالُ لِرَئِيسِ الْقَوْمِ وَكَبِيرِهِمْ: يَا فُلَانُ افْعَلُوا كَيْتَ وَكَيْتَ، إِظْهَارًا لِتَقَدُّمِهُ وَاعْتِبَارًا لِتَرَؤُّسِهِ، وَأَنَّهُ مَدَرَةُ قَوْمِهِ وَلِسَانُهُمْ، وَالَّذِي يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ وَلَا يَسْتَبِدُّونَ بِأَمْرٍ دُونَهُ، فَكَانَ هُوَ وَحْدَهُ فِي حُكْمِ كُلِّهِمْ، وَسَادًّا مَسَدَّ جَمِيعِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَمَعْنَى إِذا طَلَّقْتُمُ: أَيْ إِذَا أردتم تطليقهن، والنساء يَعْنِي: الْمَدْخُولَ بِهِنَّ، وَطَلِّقُوهُنَّ: أَيْ أَوْقِعُوا الطَّلَاقَ، لِعِدَّتِهِنَّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ، وَاللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ، نَحْوَ: كَتَبْتُهُ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ شَهْرِ كَذَا، وَتَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنَا حَالًا مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَجْرُورُ، أَيْ مُسْتَقْبِلَاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ قَدَّرَ عَامِلًا خَاصًّا، وَلَا يُحْذَفُ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ إِذَا كَانَ خَاصًّا، بَلْ إِذَا كَانَ كَوْنًا مُطْلَقًا. لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ عِنْدَكَ أَوْ فِي الدَّارِ، تُرِيدُ: ضَاحِكًا عِنْدَكَ أَوْ ضَاحِكًا فِي الدَّارِ، لَمْ يَجُزْ. فَتَعْلِيقُ اللَّامِ بِقَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ، وَيُجْعَلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ هُوَ الصَّحِيحُ. وَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، من أنهم قرأوا: فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ وَعَنْ بَعْضِهِمْ: فِي قِبَلِ عِدَّتِهِنَّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: لِقِبَلِ طُهْرِهِنَّ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، لِخِلَافِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَهَلْ تُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَطْهَارِ أَوِ الْحَيْضِ؟ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «1» . وَالْمُرَادُ: أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهُنَّ فِيهِ، ثُمَّ يُخَلَّيْنَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهَا لِتَكُونَ مهيأة للزوج وَهَذَا الطَّلَاقُ أَدْخَلُ فِي السُّنَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْرِفُ طَلَاقَ السُّنَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَرِهَ الثَّلَاثَ مَجْمُوعَةً أَوْ مُفَرَّقَةً. وَأَبُو حَنِيفَةَ كَرِهَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فأما مفرقا في

_ (1) سورة البقرة: 2/ 228.

الْأطْهَارِ فَلَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِإِرْسَالِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَ، وَلَا أَعْرِفُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةً وَلَا بِدْعَةً وَهُوَ مُبَاحٌ، رَاعَى فِي السُّنَّةِ الْوَقْتَ فَقَطْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ التَّفْرِيقَ وَالْوَقْتَ. وَقَوْلُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ مُطْلَقٌ، لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِعَدَدٍ وَلَا لِوَصْفٍ مِنْ تَفْرِيقٍ أَوْ جَمْعٍ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ وَقَعَ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي حَيْضٍ أَوْ ثَلَاثٍ، لَمْ يَقَعْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ لِلْأَزْوَاجِ: أَيِ اضْبُطُوا بِالْحِفْظِ، وَفِي الْإِحْصَاءِ فَوَائِدُ مُرَاعَاةُ الرَّجْعَةِ وَزَمَانِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَتَوْزِيعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْأَقْرَاءِ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ، فَيَتَزَوَّجُ بِأُخْتِهَا وَبِأَرْبَعٍ سِوَاهَا. وَنَهَى تَعَالَى عَنْ إِخْرَاجِهِنَّ مِنْ مَسَاكِنِهِنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَنَهَاهُنَّ أَيْضًا عَنْ خُرُوجِهِنَّ، وَأَضَافَ الْبُيُوتَ إِلَيْهِنَّ لَمَّا كَانَ سُكْنَاهُنَّ فِيهَا، وَنَهْيُهُنَّ عَنِ الْخُرُوجِ لَا يُبِيحُهُ إِذْنُ الْأَزْوَاجِ، إِذْ لَا أَثَرَ لِإِذْنِهِمْ. وَالْإِسْكَانُ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ مِلْكَهُ أَوْ بِكِرَاءٍ فَذَاكَ، أَوْ مِلْكَهَا فَلَهَا عَلَيْهِ أُجْرَتُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجْعِيَّةُ والمبتوبة، وَسُنَّةُ ذَلِكَ أَنْ لَا تَبِيتَ عَنْ بَيْتِهَا وَلَا تَخْرُجَ عَنْهُ نَهَارًا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَذَلِكَ لِحِفْظِ النَّسَبِ وَالِاحْتِفَاظِ بِالنِّسَاءِ. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: وَهِيَ الزِّنَا، عِنْدَ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَحَمَّادٍ وَاللَّيْثِ، وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَخْرُجْنَ لِلْحَدِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبَذَاءُ عَلَى الْأَحْمَاءِ، فَتَخْرُجُ وَيَسْقُطُ حَقُّهَا فِي السُّكْنَى، وَتَلْزَمُ الْإِقَامَةَ فِي مَسْكَنٍ تَتَّخِذُهُ حِفْظًا لِلنَّسَبِ. وَعِنْدَهُ أَيْضًا: جَمِيعُ الْمَعَاصِي، مِنْ سَرِقَةٍ، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ زِنًا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، فَيَسْقُطُ حَقُّهَا فِي السُّكْنَى. وَعِنْدَ ابْنِ عُمَرَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ السَّائِبِ: هِيَ خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا خُرُوجَ انْتِقَالٍ، فَيَسْقُطُ حَقُّهَا فِي السُّكْنَى. وَعِنْدَ قَتَادَةَ أَيْضًا: نُشُوزُهَا عَنِ الزَّوْجِ، فَتُطَلَّقُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ سُكْنَى وَإِذَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ السُّكْنَى أَتَمَّتِ الْعِدَّةَ. لَا تَدْرِي أَيُّهَا السَّامِعُ، لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْأَمْرُ هُنَا الرَّغْبَةُ فِي ارْتِجَاعِهَا، وَالْمَيْلُ إِلَيْهَا بَعْدَ انْحِرَافِهِ عَنْهَا أَوْ ظُهُورُ حَمَلٍ فَيُرَاجِعُهَا مِنْ أَجْلِهِ. وَنُصِبَ لَا تَدْرِي على جملة الترجي، فلا تَدْرِي مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ «1» ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي الْمُعَلِّقَاتِ لَعَلَّ، فَالْجُمْلَةُ الْمُتَرَجَّاةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بلا تدري.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 11.

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: أَيْ أَشْرَفْنَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَأَمْسِكُوهُنَّ: أَيْ رَاجِعُوهُنَّ، بِمَعْرُوفٍ: أَيْ بِغَيْرِ ضِرَارٍ، أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ: أَيْ سَرِّحُوهُنَّ بِإِحْسَانٍ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ، فَيَمْلِكْنَ أَنْفُسَهُنَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَجَلَهُنَّ عَلَى الْإِفْرَادِ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ سِيرِينَ: آجَالَهُنَّ عَلَى الْجَمْعِ. وَالْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ: هُوَ حُسْنُ الْعِشْرَةِ فِيمَا لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالْمُفَارَقَةُ بِمَعْرُوفٍ: هُوَ أَدَاءُ الْمَهْرِ وَالتَّمْتِيعُ وَالْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ وَالْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ. وَأَشْهِدُوا: الظَّاهِرُ وُجُوبُ الْإِشْهَادِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَهُوَ الرَّجْعَةُ، أَوِ الْمُفَارَقَةُ وَهِيَ الطَّلَاقُ. وَهَذَا الْإِشْهَادُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَقَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ «1» وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاجِبٌ فِي الرَّجْعَةِ، مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي الْفُرْقَةِ. وَقِيلَ: وَأَشْهِدُوا: يُرِيدُ عَلَى الرَّجْعَةِ فَقَطْ، وَالْإِشْهَادُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، فَلَهَا منفعة مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى يُشْهِدَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ وَعَلَى الطَّلَاقِ يَرْفَعُ عَنِ النَّوَازِلِ أَشْكَالًا كَثِيرَةً، وَيُفْسِدُ تَارِيخَ الْإِشْهَادِ مِنَ الْإِشْهَادِ. قِيلَ: وَفَائِدَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّجَاحُدَ، وَأَنْ لَا يُتَّهَمَ فِي إِمْسَاكِهَا، وَلِئَلَّا يَمُوتَ أَحَدُهُمَا فَيَدَّعِيَ الثَّانِي ثُبُوتَ الزَّوْجِيَّةِ لِيَرِثَ. انْتَهَى. وَمَعْنَى مِنْكُمْ، قَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الْأَحْرَارِ. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ: هَذَا أَمْرٌ لِلشُّهُودِ، أَيْ لِوَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا، لَا لِمُرَاعَاةِ مَشْهُودٍ لَهُ، وَلَا مَشْهُودٍ عَلَيْهِ لَا يَلْحَظُ سِوَى إِقَامَةِ الْحَقِّ. ذلِكُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، إِذْ نَوَازِلُ الْأَشْيَاءِ تَدُورُ عَلَيْهَا، وَمَا يَتَمَيَّزُ الْمُبْطِلُ مِنَ الْمُحِقِّ. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ، أَيْ وَمَنْ لَا يَتَعَدَّى طَلَاقَ السُّنَّةِ إِلَى طَلَاقِ الثَّلَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجاً إِنْ نَدِمَ بِالرَّجْعَةِ، وَيَرْزُقْهُ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ. انْتَهَى. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ، فَبَتَّ الطَّلَاقَ وَنَدِمَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ، وَزَالَ عَنْهُ رِزْقُ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا: إِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ، بَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ، وَلَا أَرَى لَكَ مَخْرَجًا. وَقَالَ: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً: يخلصه من كذب الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرِ مَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنْ أُسِرَ ابن يسمى سالما لخوف بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، فَشَكَا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وأمره بِالتَّقْوَى فَقَبِلَ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَفَلَّتَ وَلَدُهُ وَاسْتَاقَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ. وَفِي الْوَجِيزِ: قَطِيعًا مِنَ الْغَنَمِ كَانَتْ لِلَّذِينَ أَسَرُوهُ، وَجَاءَ أَبَاهُ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَطِيبُ لَهُ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» ، فنزلت الآية. وقال

_ (1) سورة البقرة: 2/ 282.

الضَّحَّاكُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ امْرَأَةً أُخْرَى. وَقِيلَ: وَمَنْ يَتَّقِ الْحَرَامَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الْحَلَالِ. وَقِيلَ: مَخْرَجًا مِنَ الشِّدَّةِ إِلَى الرَّخَاءِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ مِنَ الثَّوَابِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ: أَيْ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ حَسْبُهُ: أَيْ كَافِيهِ. إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَالَ مَسْرُوقٌ: أَيْ لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ أَمْرِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتَ أَمْ لَمْ تَتَوَكَّلْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَالِغٌ بِالتَّنْوِينِ، أَمْرَهُ بِالنَّصْبِ وحفص وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانٌ وَجَبَلَةُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالْإِضَافَةِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَيْضًا وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بَالِغٌ أَمْرُهُ، رَفَعَ: أَيْ نافذ أمره. والمفضل أَيْضًا: بَالِغًا بِالنَّصْبِ، أَمْرُهُ بِالرَّفْعِ، فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ بَالِغًا حَالٌ، وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تُخَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْصِبُ بِأَنَّ الْجُزْأَيْنِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأْتِ وَلْتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافًا أَنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا وَمَنْ رَفَعَ أَمْرَهُ، فَمَفْعُولُ بَالِغٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بَالِغٌ أَمْرَهُ مَا شَاءَ. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً: أَيْ تَقْدِيرًا وَمِيقَاتًا لَا يَتَعَدَّاهُ، وَهَذِهِ الْجُمَلُ تَحُضُّ عَلَى التَّوَكُّلِ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: قَدَرًا بِفَتْحِ الدَّالِ، وَالْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِهَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً، ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا، مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَخَلَّادُ بْنُ النُّعْمَانِ، لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «1» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا عِدَّةُ مَنْ لَا قُرْءَ لَهَا مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ قَائِلٌ: فَمَا عِدَّةُ الْحَامِلِ؟ فنزلت

_ (1) سورة البقرة: 2/ 228.

أُولاتُ الْأَحْمالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَئِسْنَ فعلا ماضيا. وقرىء: بِيَاءَيْنِ مُضَارِعًا، وَمَعْنَى إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي أَنَّهَا يَئِسَتْ أَمْ لَا، لِأَجْلِ مَكَانِ ظُهُورِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَ انْقَطَعَ دَمُهَا. وَقِيلَ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي دَمِ الْبَالِغَاتِ مَبْلَغَ الْيَأْسِ، أَهُوَ دَمُ حَيْضٍ أَوِ اسْتِحَاضَةٍ؟ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ عِدَّةَ الْمُرْتَابِ بِهَا، فَغَيْرُ الْمُرْتَابِ بِهَا أَوْلَى بِذَلِكَ. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْيَأْسِ بِسِتِّينَ سَنَةً، وَبَعْضُهُمْ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: غَالِبُ سِنِّ يَأْسِ عَشِيرَةِ الْمَرْأَةِ. وَقِيلَ: أَقْصَى عَادَةِ امْرَأَةٍ فِي الْعَالَمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ أَطْبَقَ بِهَا الدَّمُ، لَا نَدْرِي أَهُوَ دَمُ حَيْضٍ أَوْ دَمُ عِلَّةٍ. وَقِيلَ: إِنِ ارْتَبْتُمْ: شَكَكْتُمْ فِي حَالِهِنَّ وَحُكْمِهِنَّ فَلَمْ تَدْرُوا مَا حُكْمُهُنَّ، فَالْحُكْمُ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ مَعْنَى إِنِ ارْتَبْتُمْ: شَكَكْتُمْ فَلَمْ تَدْرُوا مَا الْحُكْمُ، فَقِيلَ: إِنِ ارْتَبْتُمْ: أَيْ إِنْ تَيَقَّنْتُمْ إِيَاسَهُنَّ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي حَيْضِهَا، وَقَدِ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ، وَكَانَتْ مِمَّا يَحِيضُ مِثْلُهَا. وقال مجاهد أيضا: إِنِ ارْتَبْتُمْ هُوَ لِلْمُخَاطَبِينَ، أَيْ إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا عِدَّةَ الْآيِسَةِ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، فَالْعِدَّةُ هَذِهِ، فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِهِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِ مَفْهُومِ اللُّغَةِ فِيهِ، وَهُوَ حُصُولُ الشَّكِّ وَالْآخَرُ، أَنَّ مَعْنَاهُ التَّيَقُّنُ لِلْإِيَاسِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَعْنَاهُ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي دَمِهَا، أَهُوَ دَمُ حَيْضٍ أَوْ دَمُ عِلَّةٍ؟ أَوْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي عُلُوقٍ بِحَمْلٍ أَمْ لَا أَوْ إِنِ ارْتَبْتُمْ: أَيْ جَهِلْتُمْ عِدَّتَهُنَّ، أَقْوَالٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَحِضْ لِصِغَرٍ، وَمَنْ لَا يَكُونُ لَهَا حَيْضٌ الْبَتَّةَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ أَنَّهَا تَعِيشُ إِلَى أَنْ تَمُوتَ وَلَا تَحِيضَ. وَمَنْ أَتَى عَلَيْهَا زَمَانُ الْحَيْضِ وَمَا بَلَغَتْ بِهِ وَلَمْ تَحِضْ فَقِيلَ: هَذِهِ تَعْتَدُّ سَنَةً. وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَاللَّائِي يَئِسْنَ، فَإِعْرَابُهُ مُبْتَدَأٌ كَإِعْرَابِ وَاللَّائِي يَئِسْنَ، وَقَدَّرُوا خَبَرَهُ جُمْلَةً مِنْ جِنْسِ خَبَرِ الْأَوَّلِ، أَيْ عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ مِثْلُ أُولَئِكَ أَوْ كَذَلِكَ، فيكن الْمُقَدَّرُ مُفْرَدًا جُمْلَةً. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَةِ وَفِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ فِي الْمُطَّلَقَاتِ، وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فَعِدَّتُهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، فَلَوْ وَضَعَتْ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ صَبَرَتْ إِلَى آخِرِهَا ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهَا حَدِيثُ سُبَيْعَةَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ، مَا نَزَلَتْ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ إِلَّا بَعْدَ آيَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَمْلَهُنَّ مُفْرَدًا وَالضَّحَّاكُ: أَحْمَالَهُنَّ جَمْعًا. ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ: يُرِيدُ مَا عَلَّمَ مِنْ حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُعْظِمْ

بِالْيَاءِ مُضَارِعُ أَعْظَمَ وَالْأَعْمَشُ: نُعْظِمُ بِالنُّونِ، خُرُوجًا مِنَ الْغَيْبَةِ لِلتَّكَلُّمِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِالْيَاءِ وَالتَّشْدِيدِ مُضَارِعُ عَظَّمَ مُشَدَّدًا. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي أَمْرِ الْمُطَلَّقَاتِ وَأَحْكَامِهِنَّ مِنَ الْعِدَدِ وَغَيْرِهَا، وَكُنْ لَا يُطَلِّقُهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ إِلَّا عَنْ بُغْضٍ لَهُنَّ وَكَرَاهَةٍ، جَاءَ عَقِيبَ بَعْضِ الْجُمَلِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، مُبْرَزًا فِي صُورَةِ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ، إِذِ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ قَدْ يَنْسُبُ إِلَى مُطَلَّقَتِهِ بَعْضَ مَا يُشِينُهَا بِهِ وَيُنَفِّرُ الْخُطَّابَ عَنْهَا، وَيُوهِمُ أَنَّهُ إِنَّمَا فَارَقَهَا لِأَمْرٍ ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا، فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي الْعَمَلِ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَحَافَظَ عَلَى الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الضِّرَارِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْمُعْتَدَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُ، يُرَتِّبُ لَهُ تَكْفِيرَ السيئات وإعظام الأجر. ومن فِي مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ لِلتَّبْعِيضِ: أَيْ بَعْضُ مَكَانِ سُكْنَاكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ أَسْكَنَهَا فِي بَعْضِ جَوَانِبِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ. ومِنْ وُجْدِكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَقَوْلُهُ: مِنْ وُجْدِكُمْ. قُلْتُ: هُوَ عَطْفُ بَيَانٍ، كَقَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَسْكِنُوهُنَّ مَكَانًا مِنْ مَسْكَنِكُمْ مِمَّا تُطِيقُونَهُ، وَالْوُجْدُ: الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ. انْتَهَى. وَلَا نَعْرِفُ عَطْفَ بَيَانٍ يُعَادُ فِيهِ الْعَامِلُ، إِنَّمَا هَذَا طَرِيقَةُ الْبَدَلِ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ، وَلِذَلِكَ أَعْرَبَهُ أَبُو الْبَقَاءِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ وُجْدِكُمْ بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِهَا والفياض بْنُ غَزَوَانَ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ وَيَعْقُوبُ: بِكَسْرِهَا، وَذَكَرَهَا الَمَهْدَوِيُّ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَهِيَ لُغَاتٌ ثَلَاثَةٌ بِمَعْنَى: الْوُسْعِ. وَالْوَجْدُ بِالْفَتْحِ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ وَالْحُبِّ، وَيُقَالُ: وَجَدْتُ فِي الْمَالِ، وَوَجَدْتُ عَلَى الرَّجُلِ وَجْدًا وَمَوْجِدَةً، وَوَجَدْتُ الضَّالَّةَ وِجْدَانًا وَالْوُجْدُ بِالضَّمِّ: الْغِنَى وَالْقُدْرَةُ، يُقَالُ: افْتَقَرَ الرَّجُلُ بَعْدَ وُجْدٍ. وَأَمَرَ تَعَالَى بِإِسْكَانِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي الَّتِي لَمْ تُبَتَّ. وَأَمَّا الْمَبْتُوتُةُ، فَقَالَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وعطاء والشعبي وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَهَا السُّكْنَى، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَحَمَّادٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ. وَلا تُضآرُّوهُنَّ: وَلَا تَسْتَعْمِلُوا مَعَهُنَّ الضِّرَارَ، لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فِي الْمَسْكَنِ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ مِنْ إِنْزَالِ مَنْ لا يوافقهن، أو يشغل مَكَانِهِنَّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَضْطَرُّوهُنَّ إِلَى

الْخُرُوجِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْمُضَارَّةُ مُرَاجَعَتُهَا إِذَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا قَلِيلٌ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَطُولُ حَبْسُهَا فِي عِدَّتِهِ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: إِلْجَاؤُهَا إِلَى أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ: لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ سُكْنَاهَا وَنَفَقَتِهَا، بُتَّتْ أَوْ لَمْ تبت. فإن كانت مُتَوَفَّى عَنْهَا، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَا نَفَقَةَ لَهَا وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: تَجِبُ نَفَقَتُهَا فِي التَّرِكَةِ. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ: أَيْ وَلَدْنَ وَأَرْضَعْنَ الْمَوْلُودَ وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَهِيَ الْأَجْرُ وَالْكُسْوَةُ وَسَائِرُ الْمُؤَنِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ الِاسْتِئْجَارُ إِذَا كَانَ الْوَلَدُ بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ يَبِنَّ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَفِي تَعْمِيمِ الْمُطَلَّقَاتِ بِالسُّكْنَى، وَتَخْصِيصُ أُولَاتِ الْأَحْمَالِ بِالنَّفَقَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يُشَارِكُهَا فِي النَّفَقَةِ، وَتُشَارِكُهُنَّ فِي السُّكْنَى. وَأْتَمِرُوا: افْتَعِلُوا مِنَ الْأَمْرِ، يُقَالُ: ائْتَمَرَ الْقَوْمُ وَتَأَمَّرُوا، إِذَا أَمَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْخِطَابُ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، أَيْ وَلْيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَعْرُوفٍ: أَيْ فِي الْأُجْرَةِ وَالْإِرْضَاعِ، وَالْمَعْرُوفِ: الْجَمِيلُ بِأَنْ تُسَامِحَ الْأُمُّ، وَلَا يُمَاكِسَ الْأَبُ لِأَنَّهُ وَلَدُهُمَا مَعًا، وَهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ، وَفِي وُجُوبِ الْإِشْفَاقِ عليه. وقال الكسائي: وَأْتَمِرُوا: تَشَاوَرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ «1» ، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَيَعْدُو عَلَى الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرُ وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ: الْكُسْوَةُ وَالدِّثَارُ. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ: أَيْ تَضَايَقْتُمْ وَتَشَاكَسْتُمْ، فَلَمْ تَرْضَ إِلَّا بِمَا تَرْضَى بِهِ الْأَجْنَبِيَّةُ، وَأَبَى الزَّوْجُ الزِّيَادَةَ، أَوْ إِنْ أَبَى الزَّوْجُ الْإِرْضَاعَ إِلَّا مَجَّانًا، وَأَبَتْ هِيَ إِلَّا بَعِوَضٍ، فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى: أَيْ يَسْتَأْجِرُ غَيْرَهَا، وَلَيْسَ لَهُ إِكْرَاهُهَا. فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ إِلَّا ثَدْيَ أُمِّهِ، أُجْبِرَتْ عَلَى الْإِرْضَاعِ بِأُجْرَةٍ مِثْلِهَا، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ وُجُوبِ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ بِالْمُطَلَّقَةِ، بَلِ الْمَنْكُوحَةُ فِي مَعْنَاهَا. وَقِيلَ: فَسَتُرْضِعُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ فَلْتُرْضِعْ لَهُ أُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى يَسِيرُ مُعَاتَبَةٍ لِلْأُمِّ إِذَا تَعَاسَرَتْ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَسْتَقْضِيهِ حَاجَةً فَيَتَوَانَى: سَيَقْضِيهَا غَيْرُكَ، تُرِيدُ: لَنْ تَبْقَى غَيْرَ مَقْضِيَّةٍ وَأَنْتَ مَلُومٌ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَبِ، كَمَا تَعَدَّى فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ: أَيْ لِلْأَزْوَاجِ. لِيُنْفِقْ الْمُوسِرُ وَالْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مَا بَلَغَهُ وُسْعُهُ، أَيْ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ والمرضعات،

_ (1) سورة القصص: 28/ 20.

وَلَا يُكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِنْفَاقِ الْأَزْوَاجُ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ دُونَ الْأُمِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: إِنَّهَا عَلَى الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «يَقُولُ لَكَ ابْنُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي» ، ذَكَرَهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيُنْفِقْ بِلَامِ الْأَمْرِ، وَحَكَى أَبُو مُعَاذٍ: لِيُنْفِقَ بِلَامِ كَيْ وَنَصَبَ الْقَافَ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: شَرْعُنَا ذَلِكَ لِيُنْفِقَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُدِرَ مُخَفَّفًا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُشَدَّدُ الدَّالِ، سيجعل الله وعد لِمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، يَفْتَحُ لَهُ أَبْوَابَ الرِّزْقِ. وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا الْوَعْدُ بِفُقَرَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَا بِفُقَرَاءِ الْأَزْوَاجِ مُطْلَقًا، بَلْ مَنْ أَنْفَقَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُقَصِّرْ، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَمَاعَةٌ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَأَيِّنْ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَعَلَى نُكْرًا فِي الْكَهْفِ. عَتَتْ: أَعْرَضَتْ، عَنْ أَمْرِ رَبِّها، عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالتَّكَبُّرِ. وَالظَّاهِرُ فِي فَحاسَبْناها الْجُمَلُ الْأَرْبَعَةُ، أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهَا: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُعَدَّ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَالْحِسَابُ الشَّدِيدُ هُوَ الِاسْتِقْصَاءُ وَالْمُنَاقَشَةُ، فَلَمْ تُغْتَفَرْ لَهُمْ زَلَّةٌ، بَلْ أُخِذُوا بِالدَّقَائِقِ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: الْجُمَلُ الْأَرْبَعَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعَذَابِ وَالذَّوْقِ وَالْخُسْرِ فِي الْآخِرَةِ، وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، كَقَوْلِهِ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ تَكْرِيرًا لِلْوَعِيدِ وَبَيَانًا لِكَوْنِهِ مُتَرَقَّبًا، كَأَنَّهُ قَالَ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْعَذَابَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْحِسَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَالْعَذَابُ النَّكِيرُ فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالسَّيْفِ.

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 44.

وَلَمَّا ذَكَرَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ الْعَاتِيَةِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَحْذِيرًا مِنْ عِقَابِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَا يَحُضُّ عَلَى التَّقْوَى، وَهُوَ إِنْزَالُ الذِّكْرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ نَفْسُ الذِّكْرِ مَجَازًا لِكَثْرَةٍ يُقَدَّرُ مِنْهُ الذِّكْرُ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الذِّكْرُ، أَوْ يَكُونُ بَدَلًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذِكُرُ رَسُولٍ. وَقِيلَ: رَسُولًا نَعْتٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذِكْرًا، ذَا رَسُولٍ. وَقِيلَ: الْمُضَافُ مَحْذُوفٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ ذَا ذِكْرٍ رَسُولًا، فَيَكُونُ رَسُولًا نَعْتًا لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ أَوْ بَدَلًا. وَقِيلَ: رَسُولٌ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ ذِكْرٍ، أَوْ يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ، وَالرِّسَالَةُ لَا تُسْنَدُ التِّلَاوَةُ إِلَيْهَا إِلَّا مَجَازًا. وَقِيلَ: الذِّكْرُ أَسَاسُ أَسْمَاءِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ: الشَّرَفُ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» ، فَيَكُونُ رَسُولًا بَدَلًا مِنْهُ وَبَيَانًا لَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الرَّسُولِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: رَسُولًا هُوَ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أُبْدِلَ مِنْ ذِكْرًا لِأَنَّهُ وُصِفَ بِتِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ، فَكَانَ إِنْزَالُهُ فِي مَعْنَى إِنْزَالِ الذِّكْرِ، فَصَحَّ إِبْدَالُهُ مِنْهُ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ لِتَبَايُنِ الْمَدْلُولَيْنِ بِالْحَقِيقَةِ، وَلِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ بَدَلَ بَعْضٍ وَلَا بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَهَذِهِ الْأَعَارِيبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذِكْرًا وَرَسُولًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: رَسُولًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ بَعَثَ رَسُولًا، أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أَنْزَلَ عَلَيْهِ، وَنَحَا إِلَى هَذَا السُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مَعْمُولًا لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ. انْتَهَى. فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُقَدَّرًا بِأَنْ، وَالْقَوْلُ تَقْدِيرُهُ: أَنْ ذَكَرَ رَسُولًا وَعَمِلَ مُنَوَّنًا كَمَا عَمِلَ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً، كما قَالَ الشَّاعِرُ: بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُءُوسَ قَوْمٍ ... أَزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ الْمَقِيلِ وقرىء: رَسُولٌ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ لِيُخْرِجَ، يَصِحُّ أَنْ يتعلق بيتلو وبأنزل. الَّذِينَ آمَنُوا: أَيِ الَّذِينَ قَضَى وَقَدَّرَ وَأَرَادَ إِيمَانَهُمْ، أَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ آمَنُوا بِاعْتِبَارِ مَا آلَ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَحْصُلَ لَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ السَّاعَةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَقْتَ إِنْزَالِهِ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بَعْدَ الْإِنْزَالِ وَالتَّبْلِيغِ. انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي لِيُخْرِجَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى الذِّكْرِ. وَمَنْ يُؤْمِنْ: رَاعَى اللَّفْظَ أَوَّلًا فِي مَنْ الشَّرْطِيَّةِ، فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ في يُؤْمِنْ، وَيَعْمَلْ، ويُدْخِلْهُ، ثُمَّ رَاعَى الْمَعْنَى فِي خالِدِينَ، ثُمَّ رَاعَى اللَّفْظَ فِي قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ فَأَفْرَدَ. وَاسْتَدَلَّ النَّحْوِيُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ أَوَّلًا، ثُمَّ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، ثُمَّ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ. وأورد

_ (1) سورة الزخرف: 43/ 44.

بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرُوا، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي خالِدِينَ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى مَنْ، بِخِلَافِ الضَّمِيرِ في يُؤْمِنْ، وَيَعْمَلْ، ويُدْخِلْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى مفعول يُدْخِلْهُ، وخالِدِينَ حَالٌ مِنْهُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا يُدْخِلْهُ لَا فِعْلُ الشَّرْطِ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ: لَا خِلَافَ أَنَّ السموات سَبْعٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: «حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» ، وَغَيْرِهِ مِنْ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِثْلَهُنَّ بالنصب والمفضل عَنْ عَاصِمٍ، وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: مِثْلُهُنَّ بِالرَّفْعِ فَالنَّصْبِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى سَبْعَ سَماواتٍ. انْتَهَى، وَفِيهِ الْفَصْلُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ الْوَاوُ، وَالْمَعْطُوفِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَأَضْمَرَ بَعْضُهُمُ الْعَامِلَ بَعْدَ الْوَاوِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ وَخَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، فمثلهن مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ الْمُضْمَرِ لَا مَعْطُوفٌ، وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمِنَ الْأَرْضِ الْخَبَرُ، وَالْمِثْلِيَّةُ تَصْدُقُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمِثْلِيَّةُ فِي الْعَدَدِ: أَيْ مِثْلُهُنَّ فِي كَوْنِهَا سَبْعَ أَرْضِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ» ، وَرَبَّ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ» ، فَقِيلَ: سَبْعُ طِبَاقٍ مِنْ غَيْرِ فُتُوقٍ. وَقِيلَ: بَيْنَ كُلِّ طَبَقَةٍ وَطَبَقَةٍ مَسَافَةٌ. قِيلَ: وَفِيهَا سُكَّانٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. قِيلَ: مَلَائِكَةٌ وَجِنٌّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَنْ رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ الْكَذَّابِ، قَالَ: فِي كُلِّ أَرْضٍ آدَمُ كَآدَمَ، وَنُوحٌ كَنُوحٍ، وَنَبِيٌّ كَنَبِيِّكُمْ، وَإِبْرَاهِيمُ كَإِبْرَاهِيمِكُمْ، وعيسى كعِيسَى، وَهَذَا حَدِيثٌ لَا شَكَّ فِي وَضْعِهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِنَّهَا سَبْعُ أَرْضِينَ مُنْبَسِطَةٌ، لَيْسَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، تَفْرِقُ بَيْنَهَا الْبِحَارُ، وَتُظِلُّ جَمِيعَهَا السَّمَاءُ. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ: مِنَ السموات السَّبْعِ إِلَى الْأَرْضِينَ السَّبْعِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: الْأَمْرُ هُنَا الْوَحْيُ، فَبَيْنَهُنَّ إِشَارَةٌ إِلَى بَيْنِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ أَدْنَاهَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَمْرُ: الْقَضَاءُ، فَبَيْنَهُنَّ إِشَارَةٌ إِلَى بَيْنِ الْأَرْضِ السُّفْلَى الَّتِي هِيَ أَقْصَاهَا وَبَيْنِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَاهَا. وَقِيلَ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بِحَيَاةٍ وَمَوْتٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يُدَبَّرُ فِيهِنَّ مِنْ عَجِيبِ تَدْبِيرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَنَزَّلُ مُضَارِعُ تَنَزَّلَ. وَقَرَأَ عِيسَى وَأَبُو عَمْرٍو، فِي رِوَايَةٍ: يُنَزِّلُ مُضَارِعُ نَزَّلَ مُشَدَّدًا، الْأَمْرُ بِالنَّصْبِ وَالْجُمْهُورُ: لِتَعْلَمُوا بتاء الخطاب. وقرىء: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة التحريم

سورة التّحريم [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ، عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِهَا، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السُّورَةِ قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِ زَوْجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ هُنَا مَا جَرَى مِنْ بَعْضِ زَوْجَاتِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ: نِدَاءُ إِقْبَالٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَنْبِيهٍ بِالصِّفَةِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ لِمَ تُحَرِّمُ: سُؤَالُ تَلَطُّفٍ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ قَبْلَهُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» . وَمَعْنَى تُحَرِّمُ: تَمْنَعُ، وَلَيْسَ التَّحْرِيمُ

_ (1) سورة التوبة: 9/ 43.

الْمَشْرُوعُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ لِتَطْيِيبِ خَاطِرِ بَعْضِ مَنْ يُحْسِنُ مَعَهُ الْعِشْرَةَ. مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ: هُوَ مُبَاشَرَةُ مَارِيَةَ جَارِيَتِهِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألم بِهَا فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَغَارَتْ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبَةُ الْبَيْتِ، فَطَيَّبَ خَاطِرَهَا بِامْتِنَاعِهِ مِنْهَا، وَاسْتَكْتَمَهَا ذَلِكَ، فَأَفْشَتْهُ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ. وَقِيلَ: هُوَ عَسَلٌ كَانَ يَشْرَبُهُ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَكَانَ يَنْتَابُ بَيْتَهَا لِذَلِكَ، فَغَارَ بَعْضُهُنَّ مِنْ دُخُولِهِ بَيْتَ الَّتِي عِنْدَهَا الْعَسَلُ، وَتَوَاصَيْنَ عَلَى أَنْ يَذْكُرْنَ لَهُ عَلَى أَنَّ رَائِحَةَ ذَلِكَ الْعَسَلِ لَيْسَ بِطَيِّبٍ، فقال: «لا أشربه» . وللزمخشري هُنَا كَلَامٌ أَضْرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا، كَمَا ضَرَبْتُ عَنْ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» ، وَكَلَامُهُ هَذَا وَنَحْوُهُ مُحَقَّقٌ قَوِيٌّ فِيهِ، وَيَعْزُو إِلَى الْمَعْصُومِ مَا لَيْسَ لَائِقًا. فَلَوْ حَرَّمَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا أَحَلَّهُ اللَّهُ، كَشُرْبِ عَسَلٍ، أَوْ وَطْءِ سُرِّيَّةٍ وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوِ الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلَا يَسْتَثْنِي زَوْجَتَهُ فَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَأَصْبَغُ: هُوَ كَتَحْرِيمِ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ. وَقَالَ تَعَالَى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ «2» ، وَالزَّوْجَةُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَمِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَزَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ والأوزاعي وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس أيضا فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: فِيهِ تَكْفِيرُ يَمِينٍ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَالْكُوفِيُّونَ: هَذَا مَا أَرَادَ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ طَلَاقَهَا فَهُوَ لَا شَيْءَ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ فَهُوَ يَمِينٌ. وَفِي التَّحْرِيرِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، أَوِ اثْنَيْنِ فَوَاحِدَةٌ، أَوْ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَيَمِينٌ وَهُوَ مُولٍ، أَوِ الظِّهَارَ فَظِهَارٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الظِّهَارِ وَيَكُونُ طَلَاقًا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: يَكُونُ، فَإِنِ ارْتَجَعَهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَطْئُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَمَا زَادَ مِنْ أَعْدَادِهِ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَرَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَيْ أَيُّ شَيْءٍ نَوَى بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَالَ سُفْيَانُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَهُ نِيَّتُهُ وَلَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَا شَيْءَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَعُثْمَانُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: التَّحْرِيمُ ظِهَارٌ، فَفِيهِ كَفَّارَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ نَوَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَظِهَارٌ أَوْ تَحْرِيمٌ عَيَّنَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، أَوْ لَمْ يَنْوِ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ ثَلَاثٌ في

_ (1) سورة التوبة: 9/ 43. (2) سورة المائدة: 5/ 87.

الْمَدْخُولِ بِهَا، وَيَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَهُوَ مَا أَرَادَ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ. وَقَالَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ أيضا وزيد بْنُ أَسْلَمَ وَالْحَكَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: هِيَ ثَلَاثٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَا يَنْوِي فِي شَيْءٍ. وَرَوَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنْ مَالِكٌ، وَقَالَهُ زَيْدٌ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: هِيَ فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا وَاحِدَةٌ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ. وَفِي الْكَشَّافِ لَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ يَمِينًا، وَلَكِنْ سَبَبًا فِي الْكَفَّارَةِ فِي النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ رَجْعِيٌّ. وَعَنْ عُمَرَ: إِذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَرَجْعِيٌّ. وَعَنْ عَلِيٍّ: ثَلَاثٌ وَعَنْ زَيْدٍ: وَاحِدَةٌ وعن عثمان: ظهارا. انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا: وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمَا أَحَلَّهُ: «هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ» ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ مَارِيَةَ لِيَمِينٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا بَعْدَ الْيَوْمِ» ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ: أَيْ لِمَ تَمْتَنِعُ مِنْهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ؟ يَعْنِي أَقْدِمْ عَلَى مَا حَلَفْتَ عَلَيْهِ وَكَفِّرْ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ «1» : أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا. انْتَهَى. وتَبْتَغِي: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ الزمخشري تفسير لتحرم، أو استئناف، مَرْضاتَ: رِضَا أَزْوَاجِكَ، أَيْ بِالِامْتِنَاعِ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ وَطْءِ مَارِيَةَ، أَوْ مِنْ شُرْبِ ذَلِكَ الْعَسَلِ، عَلَى الْخِلَافِ فِي السَّبَبِ، وفرض إِحَالَةٌ عَلَى آيَةِ الْعُقُودِ، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيمان. وتحلة: مَصْدَرُ حَلَّلَ، كَتَكْرِمَةٍ مِنْ كَرَّمَ، وَلَيْسَ مَصْدَرًا مَقِيسًا، وَالْمَقِيسُ: التَّحْلِيلُ وَالتَّكْرِيمُ، لِأَنَّ قِيَاسَ فِعْلِ الصَّحِيحِ الْعَيْنِ غَيْرِ الْمَهْمُوزِ هُوَ التَّفْعِيلُ، وَأَصْلُ هَذَا تَحْلِلَةٌ فَأُدْغِمَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَعْتَقَ رَقَبَةً فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يُكَفِّرْ. انْتَهَى. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثم يمين. وبَعْضِ أَزْواجِهِ: حَفْصَةُ، وَالْحَدِيثُ هُوَ بِسَبَبِ مَارِيَةَ. فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ: أَيْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ. وَقِيلَ: الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ: «شَرِبْتُ عَسَلًا» . وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: هُوَ إِسْرَارُهُ إِلَى حَفْصَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْلِكَانِ إِمْرَتِي مِنْ بَعْدِي خِلَافَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وطلحة: أَنْبَأَتْ، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا: اذْكُرْ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيبِ لِمَنْ أَسَرَّ لَهُ فَأَفْشَاهُ. وَنَبَّأَ وَأَنْبَأَ، الْأَصْلُ أَنْ يَتَعَدَّيَا إِلَى وَاحِدٍ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِلَى ثَانٍ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ فَتَقُولُ: نَبَّأَتْ بِهِ، الْمَفْعُولُ الأول

_ (1) سورة القصص: 28/ 12.

محذوف، أي غيرها. ومَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا: أَيْ بِهَذَا، قالَ نَبَّأَنِيَ أَيْ نَبَّأَنِي بِهِ أَوْ نَبَّأَنِيهِ، فَإِذَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى أَعْلَمَ، تَعَدَّتْ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: نُبِّئْتُ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... تُهْدِي إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: أَيْ أَطْلَعَهُ، أَيْ عَلَى إِفْشَائِهِ، وَكَانَ قَدْ تُكُوتِمَ فِيهِ، وَذَلِكَ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَجَاءَتِ الْكِنَايَةُ هُنَا عَنِ التَّفْشِيَةِ وَالْحَذْفِ لِلْمُفْشَى إِلَيْهَا بِالسِّرِّ، حِيَاطَةً وَصَوْنًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ غَرَضٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَرَّفَ بِشَدِّ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى: أَعْلَمَ بِهِ وَأَنَّبَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وقتادة وطلحة وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ عَنْهُ: بِخَفِّ الرَّاءِ، أَيْ جَازَى بِالْعَتَبِ وَاللَّوْمِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُؤْذِيكَ: لَأَعْرِفَنَّ لَكَ ذَلِكَ، أَيْ لَأُجَازِيَنَّكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ طَلَّقَ حَفْصَةَ وَأُمِرَ بِمُرَاجَعَتِهَا. وَقِيلَ: عَاتَبَهَا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعِكْرِمَةُ: عَرَّافٌ بِأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَهِيَ إِشْبَاعٌ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَيُقَالُ إِنَّهَا لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ، وَمِثَالُهَا قَوْلُهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الْأَذْنَابِ يُرِيدُ: مِنَ الْعَقْرَبِ. وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ: أَيْ تَكَرُّمًا وَحَيَاءً وَحُسْنَ عِشْرَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا زَالَ التَّغَافُلُ مِنْ فِعْلِ الْكِرَامِ، وَمَفْعُولُ عَرَّفَ الْمُشَدَّدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَرَّفَهَا بَعْضَهُ، أَيْ أَعْلَمَ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: الْمُعَرَّفُ خِلَافَةُ الشَّيْخَيْنِ، وَالَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ حَدِيثُ مَارِيَةَ. وَلَمَّا أفشت حفصة الحديث لعائشة وَاكْتَتَمَتْهَا إِيَّاهُ، وَنَبَّأَهَا الرَّسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، ظَنَّتْ أَنَّ عَائِشَةَ فَضَحَتْهَا فَقَالَتْ: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّثَبُّتِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي نَبَّأَهُ بِهِ، فَسَكَنَتْ وَسَلَّمَتْ. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ: انْتِقَالٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَيُسَمَّى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة. فَقَدْ صَغَتْ: مَالَتْ عَنِ الصَّوَابِ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: رَاغَتْ، وَأَتَى بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: قُلُوبُكُما، وَحَسَّنَ ذَلِكَ إِضَافَتُهُ إِلَى مُثَنَّى، وَهُوَ ضَمِيرَاهُمَا، وَالْجَمْعُ فِي مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الْمُثَنَّى، وَالتَّثْنِيَةُ دُونَ الْجَمْعِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بِنَوَافِذَ ... كَنَوَافِذِ الْعُبُطِ الَّتِي لَا تُرْفَعُ وَهَذَا كَانَ الْقِيَاسَ، وَذَلِكَ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْمُثَنَّى عَنِ الْمُثَنَّى، لَكِنْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ تَثْنِيَتَيْنِ فَعَدَلُوا إِلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْإِفْرَادُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، كَقَوْلِهِ:

حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي يُرِيدُ: بَطْنَيِ. وَغَلِطَ ابْنُ مَالِكٍ فَقَالَ فِي كِتَابِ التَّسْهِيلِ: وَنَخْتَارُ لَفْظَ الْإِفْرَادُ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَظَّاهَرَا بِشَدِّ الظَّاءِ، وَأَصْلُهُ تَتَظَاهَرَا، وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ، وَبِالْأَصْلِ قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَبِتَخْفِيفِ الظَّاءِ قَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَعَاصِمٌ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ، وَبِشَدِّ الظَّاءِ وَالْهَاءِ دُونَ أَلِفٍ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْ تَتَعَاوَنَا عَلَيْهِ فِي إِفْشَاءِ سِرِّهِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْغَيْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ: أَيْ مُظَاهِرُهُ وَمُعِينُهُ، وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: مَوْلاهُ. وَيَكُونُ وَجِبْرِيلُ مُبْتَدَأً، وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَالْخَبَرُ ظَهِيرٌ. فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْجُمْلَةِ بِجِبْرِيلَ، وَهُوَ أَمِينُ وَحْيِ الله واختتامه بالملائكة. وبدى بِجِبْرِيلَ، وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِظْهَارًا لِمَكَانَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ. وَيَكُونُ قَدْ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِالنَّصِّ وَمَرَّةً فِي الْعُمُومِ. وَاكْتَنَفَ صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ جِبْرِيلَ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَاعْتِنَاءً بِهِمْ، إِذْ جَعَلَهُمْ بَيْنَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ. فَعَلَى هَذَا جِبْرِيلُ دَاخِلٌ فِي الظُّهَرَاءِ لَا فِي الْوِلَايَةِ، وَيَخْتَصُّ الرَّسُولُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، فَيَدْخُلَانِ فِي الْوَلَايَةِ، وَيَكُونُ وَالْمَلائِكَةُ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ ظَهِيرٌ، فَيَكُونُ جِبْرِيلُ دَاخِلًا فِي الْوَلَايَةِ بِالنَّصِّ، وَفِي الظُّهَرَاءِ بِالْعُمُومِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَشْمَلُ كُلَّ صَالِحٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْعَلَاءُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَتَكُونُ مُظَاهَرَتُهُمْ لَهُ كَوْنَهُمْ قُدْوَةً، فَهُمْ ظُهَرَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وزاد مجاهد: وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ. وَقِيلَ: الْخُلَفَاءُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ برىء من النفاق، وصالح يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فَيَكُونُ كَالسَّامِرِ فِي قَوْلِهِ: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً «1» ، أَيْ سُمَّارًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا حُذِفَتْ مِنْهُ الْوَاوُ خَطَأً لِحَذْفِهَا لَفْظًا، كَقَوْلِهِ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «2» ، وَأَفْرَدَ الظَّهِيرَ لِأَنَّ الْمُرَادَ فَوْجٌ ظَهِيرٌ، وكَثِيرًا مَا يَأْتِي فَعِيلٌ نَحْوَ: هَذَا لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ بِلَفْظٍ الْمُفْرَدِ، كَأَنَّهُمْ فِي الْمُظَاهَرَةِ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَمَا قَدْرُ تَظَاهُرِ امْرَأَتَيْنِ عَلَى مَنْ هَؤُلَاءِ ظُهَرَاؤُهُ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَظَاهُرِهِمَا، أَوْ إِلَى الْوِلَايَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تكثرت بِأَمْرِ نِسَائِكَ، وَاللَّهُ مَعَكَ، وجبريل مَعَكَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَأَنَا مَعَكَ، فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِزَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الْآيَةِ، فَنَزَلَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: طَلَّقَكُنَّ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ ابْنِ

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 67. (2) سورة العلق: 96/ 18.

عَبَّاسٍ: بِإِدْغَامِهَا فِي الْكَافِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي أَنْ يُبْدِلَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمُتَبَدَّلُ بِهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: أَنْ يُبْدِلَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ، لِأَنَّهُنَّ إِذَا طَلَّقَهُنَّ كَانَ طَلَاقُهُنَّ لِسُوءِ عِشْرَتِهِنَّ، وَاللَّوَاتِي يُبَدِّلُهُنَّ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ. وَبَدَأَ فِي وَصْفِهِنَّ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ ثُمَّ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ ثُمَّ بِالْقُنُوتِ، وَهُوَ الطَّوَاعِيَةُ ثُمَّ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ ثُمَّ بِالْعِبَادَةِ، وَهِيَ التَّلَذُّذُ ثُمَّ بِالسِّيَاحَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الصَّوْمِ، قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ، قَالَهُ أَيْضًا الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالَ الفراء والقتيبي: سُمِّيَ الصَّائِمُ سَائِحًا لِأَنَّ السَّائِحَ لَا زَادَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْ حَيْثُ يَجِدُ الطَّعَامَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَيَمَانٌ: مُهَاجِرَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ سِيَاحَةٌ إِلَّا الْهِجْرَةَ. وَقِيلَ: ذَاهِبَاتٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سائحات، وعمرو بْنُ فَائِدٍ: سَيَّحَاتٍ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ تَجْتَمِعُ، وَأَمَّا الثُّيُوبَةُ وَالْبَكَارَةُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، فَلِذَلِكَ عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاوِ لَاخْتَلَّ الْمَعْنَى. وَذَكَرَ الْجِنْسَيْنِ لِأَنَّ فِي أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تَزَوَّجَهَا بِكْرًا، وَالثَّيِّبُ: الرَّاجِعُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرَةِ، يُقَالُ: ثَابَتْ تَثُوبُ ثُوُوبًا، وَوَزْنُهُ فَعْيِلٌ كَسَيِّدٍ. وَلَمَّا وَعَظَ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً خَاصَّةً، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَوْعِظَةٍ عَامَّةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِيهِمْ، وَعَطَفَ وَأَهْلِيكُمْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ، لِأَنَّ رَبَّ المنزل راع وهو مسؤول عَنْ أَهْلِهِ. وَمَعْنَى وِقَايَتِهِمْ: حَمْلُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَإِلْزَامُهُمْ أَدَاءَ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَقِي أَنْفُسَنَا، فَكَيْفَ لَنَا بِأَهْلِينَا؟ قَالَ: «تَنْهَوْنَهُنَّ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَتَأْمُرُونَهُنَّ بِمَا أَمَرَكُمُ الله به، فتكون ذَلِكَ وِقَايَةً بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّارِ» ، وَدَخَلَ الْأَوْلَادُ فِي وَأَهْلِيكُمْ. وَقِيلَ: دَخَلُوا فِي أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْضٌ مِنْ أَبِيهِ، فَيُعَلِّمُهُ الْحَلَالَ والحرام ويجنبه المعاصي. وقرىء: وَأَهْلُوكُمْ بِالْوَاوِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قُوا وَحَسُنَ الْعَطْفُ لِلْفَصْلِ بِالْمَفْعُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ التَّقْدِيرُ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَلْيَقِ أَهْلُوكُمْ أَنْفُسَهُمْ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَكِنَّ الْمَعْطُوفَ مُقَارِنٌ في التقدير للواو وأنفسكم وَاقِعٌ بَعْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُوا أَنْتُمْ وَأَهْلُوكُمْ أَنْفُسَكُمْ. لَمَّا جُمِعَتْ مَعَ الْمُخَاطَبِ الْغَائِبِ غَلَبَتْهُ عَلَيْهِ. فَجَعَلَتْ ضَمِيرَهُمَا مَعًا عَلَى لَفْظِ المخاطب. انتهى. وناقض فِي قَوْلِهِ هَذَا لِأَنَّهُ قَدَّرَ وَلْيَقِ أَهْلُوكُمْ فَجَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، لِأَنَّ أهلوكم اسم ظاهرة لَا يُمْكِنُ عِنْدَهُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِفِعْلِ الْأَمْرِ الَّذِي لِلْمُخَاطَبِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «1» ، ثم قال:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 35. [.....]

وَلَكِنَّ الْمَعْطُوفَ مُقَارِنٌ فِي التقدير للواو، فناقض لِأَنَّهُ فِي هَذَا جَعَلَهُ مُقَارِنًا فِي التَّقْدِيرِ لِلْوَاوِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ رَفَعَهُ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ الرَّافِعِ لِلْوَاوِ وهو وليق، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي فَتْحِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَقُودُهَا وَضَمِّهَا فِي الْبَقَرَةِ. وَتَفْسِيرُ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فِي الْبَقَرَةِ عَلَيْها مَلائِكَةٌ: هِيَ الزَّبَانِيَةُ التِسْعَةَ عَشَرَ وَأَعْوَانُهُمْ. وَوَصَفَهُمْ بِالْغِلَظِ، إِمَّا لِشِدَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَقُوَّتِهَا، وَإِمَّا لِفَظَاظَتِهِمْ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ «1» ، أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ رِقَّةٌ وَلَا حِنَّةٌ عَلَى الْعُصَاةِ. وَانْتَصَبَ مَا أَمَرَهُمْ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ لَا يَعْصُونَ أَمْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي «2» ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. أَيْ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. قِيلَ: كَرَّرَ الْمَعْنَى تَوْكِيدًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ الْجُمْلَتَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: لَا فَإِنَّ مَعْنَى الْأُولَى: أَنَّهُمْ يَتَقَبَّلُونَ أَوَامِرَهُ وَيَلْتَزِمُونَهَا وَلَا يَأْبَوْنَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا، ومعنى الثانية: أنهم يودون مَا يُؤْمَرُونَ، لَا يَتَثَاقَلُونَ عَنْهُ وَلَا يَتَوَانُونَ فِيهِ. لَا تَعْتَذِرُوا: خِطَابٌ لَهُمْ عند دخولهم المنار، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُهُمُ الِاعْتِذَارُ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ. ذَكَرُوا فِي النَّصُوحِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ قَوْلًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ وَمُعَاذٍ أَنَّهَا الَّتِي لَا عَوْدَةَ بَعْدَهَا، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ، وَرَفَعَهُ مُعَاذٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَصُوحاً بِفَتْحِ النُّونِ، وَصْفًا لِتَوْبَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَضَرُوبٍ وَقَتُولٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَعِيسَى وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وخارجة عَنْ نَافِعٍ: بِضَمِّهَا، هُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَوَصَفَهَا بِالنُّصْحِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ النُّصْحُ صِفَةُ التَّائِبِ، وَهُوَ أَنْ يَنْصَحَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ، فَيَأْتِي بِهَا عَلَى طَرِيقِهَا، وَهِيَ خُلُوصُهَا مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ الْمُفْسِدَةِ لَهَا، من

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 159. (2) سورة طه: 20/ 93.

قَوْلِهِمْ: عَسَلٌ نَاصِحٌ، أَيْ خَالِصٌ مِنَ الشَّمْعِ، أَوْ مِنَ النَّصَاحَةِ وَهِيَ الْخِيَاطَةُ، أَيْ قَدْ أَحْكَمَهَا وَأَوْثَقَهَا، كَمَا يُحْكِمُ الْخَيَّاطُ الثَّوْبَ بِخِيَاطَتِهِ وَتَوْثِيقِهِ. وَسَمِعَ عَلِيٌّ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّ سُرْعَةَ اللِّسَانِ بِالتَّوْبَةِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، قَالَ: وَمَا التَّوْبَةُ؟ قَالَ: يَجْمَعُهَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ: عَلَى الْمَاضِي مِنَ الذُّنُوبِ النَّدَامَةُ، وَعَلَى الْفَرَائِضِ الْإِعَادَةُ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ، وَأَنْ يَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يعودوا، وَأَنْ تُدْئِبَ نَفْسَكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا أَدْأَبْتَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ تُذِيقَهَا مَرَارَةَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهَا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ: بِحَسْبِ الرَّجُلِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ يَعُودَ فِيهِ. انْتَهَى. ونصوحا مِنْ نَصَحَ، فَاحْتَمَلَ- وَهُوَ الظَّاهِرُ- أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ تَنْصَحُ نَفْسَ التَّائِبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ النُّصْحِ النَّاسَ، أَيْ يَدْعُوهُمْ إِلَى مِثْلِهَا لِظُهُورِ أَمْرِهَا عَلَى صَاحِبِهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَوْبًا بِغَيْرِ تَاءٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وُصِفَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ تُوبُوا لِنُصْحِ أَنْفُسِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُدْخِلَكُمْ عَطْفًا عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى مَحِلِّ عَسَى أَنْ يُكَفِّرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تُوبُوا يُوجِبْ تَكْفِيرَ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْحَرَكَةِ تَخْفِيفًا وَتَشْبِيهًا لِمَا هُوَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، تَقُولُ فِي قَمَعٍ وَنَطَعٍ: قَمْعٍ وَنَطْعٍ. يَوْمَ لَا يُخْزِي منصوب يُدْخِلَكُمْ، وَلَا يُخْزِي تَعْرِيضٌ بِمَنْ أَخْزَاهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَالنَّبِيُّ هُوَ محمد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَمْرِ أُمَّتِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتُ حِسَابَهُمْ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَا رَبِّ أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ» ، فَقَالَ تَعَالَى: إِذًا لَا أُخْزِيكَ فِيهِمْ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ: وَالَّذِينَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّبِيَّ، فَيَدْخُلُونَ فِي انْتِفَاءِ الْخِزْيِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ. وَقَرَأَ سَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَأَبُو حَيْوَةَ: وَبِإِيمَانِهِمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ. يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: يَقُولُونَ ذَلِكَ إذا طفىء نُورُ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: يَدْعُونَهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «1» ، وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ. وَقِيلَ: يَقُولُهُ مَنْ يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ زَحْفًا وَحَبْوًا. وَقِيلَ: يَقُولُهُ مَنْ يُعْطَى مِنَ النُّورِ مِقْدَارَ مَا يُبْصِرُ بِهِ موضع قدميه. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: تَقَدَّمَ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّوْبَةِ.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 29.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا: ضَرَبَ تَعَالَى الْمَثَلَ لَهُمْ بِامْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ فِي أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ لُحْمَةُ نَسَبٍ وَلَا وَصْلَةُ صِهْرٍ، إِذِ الْكُفْرُ قَاطِعُ الْعَلَائِقِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ فِي أَقْصَى دَرَجَاتِ الْعُلَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ «1» ؟ كَمَا لَمْ يَنْفَعْ تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ كَوْنُهُمَا زَوْجَتَيْ نَبِيَّيْنِ. وَجَاءَتِ الْكِنَايَةُ عَنِ اسْمِهِمَا الْعَلَمَيْنِ بِقَوْلِهِ: عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِالضَّمِيرِ عَنْهُمَا، فَيَكُونُ تَحْتَهُمَا لِمَا قَصَدَ مِنْ ذِكْرِ وَصْفِهِمَا بِقَوْلِهِ: صالِحَيْنِ، لِأَنَّ الصَّلَاحَ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ مَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» ، وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «3» ، وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «4» . فَخانَتاهُما، وَذَلِكَ بِكُفْرِهِمَا وَقَوْلِ امْرَأَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَنَمِيمَةِ امْرَأَةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَضْيَافِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: لَمْ تَزْنِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَا ابْتُلِيَ فِي نِسَائِهِ بِالزِّنَا. قَالَ فِي التَّحْرِيرِ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي كِتَابِ النَّقَّاشِ: فَخَانَتَاهُمَا بِالْكُفْرِ وَالزِّنَا وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخِيَانَةِ الْفُجُورُ، لِأَنَّهُ سَمِجٌ فِي الطِّبَاعِ نَقِيصَةٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ يَسْتَسْمِجُونَهُ وَيُسَمُّونَهُ حَقًّا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَانَتَاهُمَا بِالنَّمِيمَةِ، كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ أَفْشَتَاهُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: خَانَتَاهُمَا بِنِفَاقِهِمَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُ امْرَأَةِ نُوحٍ وَالِهَةُ، وَاسْمُ امْرَأَةِ لُوطٍ وَالِعَةُ. فَلَمْ يُغْنِيا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالْأَلِفُ ضمير نوح ولوط: أَيْ عَلَى قُرْبِهِمَا مِنْهُمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْخِيَانَةُ. وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ: أَيْ وَقْتَ مَوْتِهِمَا، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الدَّاخِلِينَ: الَّذِينَ لَا وَصْلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ مَعَ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ إِخْوَانِكُمَا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ. وَقَرَأَ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: تُغْنِيَا بِالتَّاءِ، وَالْأَلِفُ ضَمِيرُ الْمَرْأَتَيْنِ، وَمَعْنَى عَنْهُما: عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْمُضَافِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ عَنْ اسْمًا، كَهِيَ فِي: دَعْ عَنْكَ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَرْفًا، كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَجْرُورِ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ: مَثَّلَ تَعَالَى حَالَ المؤمنين في أن

_ (1) سورة هود: 11/ 46. (2) سورة البقرة: 2/ 130. (3) سورة يوسف: 12/ 101. (4) سورة النمل: 27/ 19.

وَصْلَةَ الْكُفَّارِ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِهِمْ بِحَالِ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَاسْمُهَا آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَلَمْ يَضُرَّهَا كَوْنُهَا كَانَتْ تَحْتَ فِرْعَوْنَ عَدُوِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ، بَلْ نَجَّاهَا مِنْهُ إِيمَانُهَا وَبِحَالِ مَرْيَمَ، إِذْ أُوتِيَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالِاصْطِفَاءِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، مَعَ أَنَّ قَوْمَهَا كَانُوا كُفَّارًا. إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهَا وَتَصْدِيقِهَا بِالْبَعْثِ. قِيلَ: كَانَتْ عَمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَآمَنَتْ حِينَ سَمِعَتْ بِتَلَقُّفِ عَصَاهُ مَا أَفِكَ السَّحَرَةُ. طَلَبَتْ مِنْ رَبِّهَا الْقُرْبَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَهَمَّ عِنْدَهَا، فَقَدَّمَتِ الظَّرْفَ، وَهُوَ عِنْدَكَ بَيْتاً، ثُمَّ بَيَّنَتْ مَكَانَ الْقُرْبِ فَقَالَتْ: فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ: وقد سئل: ابن فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: الْجَارُ قَبْلَ الدَّارِ، قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، فعندك هو المجاورة، وبيتا فِي الْجَنَّةِ هُوَ الدَّارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَكَ عَلَى قَوْلِهِ: بَيْتاً. وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ، قِيلَ: دَعَتْ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ حِينَ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِتَعْذِيبِهَا لَمَّا عَرَفَ إِيمَانَهَا بموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنْوَاعًا مُضْطَرِبَةً فِي تَعْذِيبِهَا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصًّا أَنَّهَا عُذِّبَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا دَعَتْ بِالنَّجَاةِ، نَجَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمَ نَجَاةٍ، فَرَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّةِ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَتَنَعَّمُ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَتْ: ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، أُرِيَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ يُبْنَى، وَعَمَلِهِ، قِيلَ: كُفْرِهِ. وَقِيلَ: عَذَابِهِ وَظُلْمِهِ وَشَمَاتَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجِمَاعُ. وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَ: أَهْلُ مِصْرَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْقِبْطُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمِحَنِ وَسُؤَالِ الْخَلَاصِ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَمَرْيَمَ: مَعْطُوفٌ عَلَى امْرَأَةِ فرعون، ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ فِي سُورَةُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ابنت بفتح التاء وأيوب السَّخْتِيَانِيُّ: ابْنَهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَصْلًا أَجْرَاهُ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَفَخْنا فِيهِ: أَيْ فِي الْفَرْجِ وَعَبْدُ اللَّهِ: فِيهَا، كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ فِي الْجُمْلَةِ. وَجَمَعَ تَعَالَى فِي التَّمْثِيلِ بَيْنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ وَالَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا تَسْلِيَةً لِلْأَرَامِلِ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصَدَّقَتْ بشد الدال ويعقوب وَأَبُو مِجْلَزٍ وَقَتَادَةُ وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ: بِخَفِّهَا، أَيْ كَانَتْ صَادِقَةً بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ مِنْ أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكَلِمَاتِهِ جَمْعًا، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الصُّحُفَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، وَسَمَّاهَا كَلِمَاتٍ لِقِصَرِهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِكُتُبِهِ: الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَغَيْرَهُمْ،

وَبِكُتُبِهِ: جَمِيعُ مَا يُكْتَبُ فِي اللَّوْحِ وَغَيْرِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ: مَا صَدَرَ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ: بِكَلِمَةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عِيسَى، لِأَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفَصٌ: وَكُتُبِهِ جَمْعًا، وَرَوَاهُ كَذَلِكَ خَارِجَةٌ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَكِتَابِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِنْجِيلُ لَا سِيَّمَا إِنْ فُسِّرَتِ الكلمة بعيسى. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: وَكَتْبِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِسُكُونِ التَّاءِ وَكُتْبِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُرَادٌ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَبُو رَجَاءٍ: وَكَتْبِهِ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الاسم. قال سهل: وكتبه أَجْمَعُ مِنْ كِتَابِهِ، لِأَنَّ فِيهِ وَضْعَ الْمُضَافِ مَوْضِعَ الْجِنْسِ، فَالْكُتُبُ عَامٌّ، وَالْكِتَابُ هُوَ الْإِنْجِيلُ فَقَطْ. انْتَهَى. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ: غَلَّبَ الذُّكُورِيَّةَ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَالْقَانِتِينَ شامل للذكور والإناث، ومن لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ عَلَى أَنَّهَا وُلِدَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْقَابِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ يُحَذِّرُ بِهِ عائشة وحفصة مِنَ الْمُخَالَفَةِ حِينَ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا مَثَلًا بِامْرَأَةِ فرعون ومريم ابنة عِمْرَانَ تَرْغِيبًا فِي التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَاتِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ. انْتَهَى. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلَامَ ابْنِ سَلَّامٍ هَذَا وَحَسَّنَهُ وَزَمَكَهُ بِفَصَاحَةٍ فَقَالَ: وَفِي طَيِّ هَذَيْنِ التَّمْثِيلَيْنِ تَعْرِيضٌ بِأُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَمَا فَرَطَ مِنْهُمَا مِنَ التَّظَاهُرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَرِهَهُ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمَا عَلَى أَغْلَظِ وَجْهٍ وَأَشَدِّهِ لِمَا فِي التَّمْثِيلِ مِنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ. وَمِنَ التَّغْلِيظِ قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «1» ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهِمَا أَنْ يَكُونَا فِي الْإِخْلَاصِ وَالْكِتْمَانِ فِيهِ كَمِثْلِ هَاتَيْنِ الْمُؤْمِنَتَيْنِ، وَأَنْ لَا يُشْكِلَا عَلَى أَنَّهُمَا زَوْجَتَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ لَا يَنْقُصُهُمَا إِلَّا مَعَ كونهما مخلصين. والتعريض بحفصة أرج، لِأَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ أَفْشَتْ عَلَيْهِ كَمَا أَفْشَتْ حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَسْرَارُ التَّنْزِيلِ وَرُمُوزُهُ فِي كُلِّ بَابٍ بَالِغَةٌ مِنَ اللُّطْفِ وَالْخَفَاءِ حدًّا يَدِقُّ عَنْ تَفَطُّنِ الْعَالِمِ وَيَزِلُّ عَنْ تَبَصُّرِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ فِي الْمَثَلَيْنِ عِبْرَةً لِزَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَقَدَّمَ عِتَابُهُنَّ، وَفِي هَذَا بُعْدٌ، لِأَنَّ النَّصَّ أَنَّهُ لِلْكُفَّارِ يُبْعِدُ هَذَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

_ (1) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 97.

سورة الملك

سورة الملك [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ، وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ، تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ضُرِبَ لِلْكَفَّارِ بِتَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ الْمَحْتُومِ لَهُمَا بِالشَّقَاوَةِ، وَإِنْ كَانَتَا تَحْتَ نَبِيِّينَ، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم، وَهُمَا مَحْتُومٌ لَهُمَا

بِالْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَوْمَاهُمَا كَافِرِينَ. كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي مُلْكِهِ عَلَى مَا سَبَقَ قَضَاؤُهُ، فَقَالَ: تَبارَكَ: أَيْ تَعَالَى وَتَعَاظَمَ، الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ: وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ وَالْقَهْرِ، وكَثِيرًا مَا جَاءَ نِسْبَةُ الْيَدِ إِلَيْهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ «1» ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ «2» ، وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى اسْتِعَارَةٌ لِتَحْقِيقِ الْمُلْكِ، إِذْ كَانَتْ فِي عُرْفِ الْآدَمِيِّينَ آلَةً لِلتَّمَلُّكِ، وَالْمُلْكُ هُنَا هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَبِيدُ وَلَا يَخْتَلُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَلِكُ الْمُلُوكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «3» ، وَنَاسَبَ الْمُلْكَ ذِكْرُ وَصْفِ الْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ مَا يَصِحُّ بِوُجُودِهِ الْإِحْسَاسُ. وَمَعْنَى خَلَقَ الْمَوْتَ: إِيجَادُ ذَلِكَ الْمُصَحِّحِ وَإِعْدَامُهُ، وَالْمَعْنَى: خَلَقَ مَوْتَكُمْ وَحَيَاتَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ، وَسَمَّى عِلْمَ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ بَلْوَى وَهِيَ الْحَيْرَةُ، اسْتِعَارَةً مِنْ فِعْلِ الْمُخْتَبِرِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَسَّرَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: أَيْ أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَشَدُّكُمْ خَوْفًا وَأَحْسَنُكُمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ نَظَرًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّكُمْ تَطَوُّعًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالثَّوْرِيِّ: أَزْهَدُكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: كَنَّى بِالْمَوْتِ عَنِ الدُّنْيَا، إِذْ هُوَ وَاقِعٌ فِيهَا، وَعَنِ الْآخِرَةِ بِالْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ لَا مَوْتَ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَصَفَهُمَا بِالْمَصْدَرَيْنِ، وَقَدَّمَ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ أَهْيَبُ فِي النفوس. وليبلوكم متعلق بخلق. وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، فَقَدَّرَ الْحَوْفِيُّ قَبْلَهَا فِعْلًا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَعْمُولِهِ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنْهَا تَقْدِيرُهُ: فَيَنْظُرُ، وَقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَيَنْظُرُ أَوْ فَيَعْلَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بِفِعْلِ الْبَلْوَى؟ قُلْتُ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَضَمَّنَ مَعْنَى الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَعْلَمَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِذَا قُلْتَ: علمته أَحْسَنُ عَمَلًا أَمْ هُوَ؟ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الثَّانِي مِنْ مَفْعُولَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُهُ هُوَ أَحْسَنُ عَمَلًا. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُسَمَّى هَذَا تَعْلِيقًا؟ قُلْتُ: لَا، إِنَّمَا التَّعْلِيقُ أَنْ تُوقِعَ بَعْدَهُ مَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ جَمِيعًا، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ أَيُّهُمَا عَمْرٌو، وَعَلِمْتُ أَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَصْلَ بَعْدَ سَبْقِ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ مَا بَعْدَهُ مُصَدَّرًا بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ وَغَيْرَ مُصَدَّرٍ بِهِ؟ وَلَوْ كَانَ تعليقا لا فترقت الْحَالَتَانِ، كَمَا افْتَرَقَتَا فِي قَوْلِكَ: عَلِمْتُ أَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَعَلِمْتُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا. انْتَهَى. وَأَصْحَابُنَا يُسَمُّونَ مَا مَنَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَعْلِيقًا، فَيَقُولُونَ فِي الْفِعْلِ إِذَا عُدِّيَ إِلَى اثْنَيْنِ وَنُصِبَ الْأَوَّلُ، وَجَاءَتْ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَوْ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ، أَوْ بِحَرْفِ نَفْيٍ، كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُعَلَّقًا عَنْهَا الْفِعْلُ، وَكَانَتْ فِي

_ (1) سورة يس: 36/ 83. (2) سورة آل عمران: 3/ 26. (3) سورة آل عمران: 3/ 26.

مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ وَفِيهَا مَا يُعَلِّقُ الْفِعْلَ عَنِ الْعَمَلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «1» ، وَانْتَصَبَ طِباقاً على الوصف لسبع، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ طَابَقَ مُطَابَقَةً وَطِبَاقًا لِقَوْلِهِمْ: النَّعْلُ خَصْفُهَا طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ، وُصِفَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا طِبَاقٍ وَإِمَّا جَمْعُ طَبَقٍ كَجَمَلٍ وَجِمَالٍ، أَوْ جَمْعُ طَبَقَةٍ كَرَحَبَةٍ وَرِحَابٍ، وَالْمَعْنَى: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَوَادِّ هَذِهِ السموات. فَالْأُولَى مِنْ مَوْجٍ مَكْفُوفٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ حَدِيدٍ، وَالرَّابِعَةُ مِنْ نُحَاسٍ، وَالْخَامِسَةُ مِنْ فِضَّةٍ، وَالسَّادِسَةُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالسَّابِعَةُ مِنْ زُمُرُّدَةٍ بَيْضَاءَ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ كَانَ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصَّلَاحِ، وَكَانَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ، يُخْبِرُ أَنَّهُ يُشَاهِدُ السموات عَلَى بَعْضِ أَوْصَافٍ مِمَّا ذَكَرْنَا. مِنْ تَفاوُتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ تَفَرُّقٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ عَيْبٍ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: مِنْ عَدَمِ اسْتِوَاءٍ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُهُ مِنَ الْفَوْتِ، وَهُوَ أَنْ يَفُوتَ شَيْءٌ شَيْئًا مِنَ الْخَلَلِ. وَقِيلَ: مِنِ اضْطِرَابٍ. وَقِيلَ: مِنِ اعْوِجَاجٍ. وَقِيلَ: مِنْ تَنَاقُضٍ. وَقِيلَ: مِنِ اخْتِلَافٍ. وَقِيلَ: مِنْ عَدَمِ التَّنَاسُبِ وَالتَّفَاوُتُ، تَجَاوُزُ الْحَدِّ الَّذِي تَجِبُ لَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ. قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: تَنَاسَبَتِ الْأَعْضَاءُ فِيهِ فَلَا تَرَى ... بِهِنَّ اخْتِلَافًا بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدَرِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ تَفاوُتٍ، بِأَلِفٍ مَصْدَرُ تَفَاوَتَ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ: بِشَدِّ الْوَاوِ، مَصْدَرُ تَفَوَّتَ. وَحَكَى أَبُو زَيْدِ عن الْعَرَبِيِّ: تَفَاوُتًا بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ شَاذَّانِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْأَفْلَاكِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا تَفَوُّتَ فِيهِ وَلَا فُطُورَ، بَلْ كُلٌّ جَارٍ عَلَى الْإِتْقَانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ السموات فَقَطْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا تَرى اسْتِئْنَافُ أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ فِي خَلْقِهِ تَعَالَى تَفَاوُتٌ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صِفَةَ مُتَابَعَةٍ لِقَوْلِهِ: طِباقاً، أَصْلُهَا مَا تَرَى فِيهِنَّ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَوَضَعَ مَكَانَ الضَّمِيرِ قَوْلَهُ: خَلْقِ الرَّحْمنِ تَعْظِيمًا لِخَلْقِهِنَّ وَتَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ سَلَامَتِهِنَّ مِنَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلْقُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّهُ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْمُنَاسِبِ. انْتَهَى. وَالْخِطَابُ فِي تَرَى لِكُلِّ مُخَاطَبٍ، أَوْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي خَلْقِهِ، أَمَرَ بِتَرْدِيدِ الْبَصَرِ في الخلق المناسب

_ (1) سورة الكهف: 18/ 7.

فَقَالَ: فَارْجِعِ، فَفِي الْفَاءِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ العيان يطابق الخبر. والفطور، قَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّقُوقُ، فَطَرَ نَابُ الْبَعِيرِ: شَقَّ اللَّحْمَ وَظَهَرَ، قَالَ الشَّاعِرُ: بَنَى لَكُمْ بِلَا عُمُدٍ سَمَاءً ... وَسَوَّاهَا فَمَا فِيهَا فُطُورُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صُدُوعٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ: شَقَقْتُ الْقَلْبَ ثُمَّ رَدَدْتُ فِيهِ ... هَوَاكِ فَلِيطَ فَالْتَأَمَ الْفُطُورُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: خُرُوقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَلَلٌ، وَمِنْهُ التَّفْطِيرُ وَالِانْفِطَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَنٌ وَهَذِهِ تَفَاسِيرٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُعَلَّقٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَانْظُرْ هَلْ تَرَى، أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى فَارْجِعِ الْبَصَرَ مَعْنَى فَانْظُرْ بِبَصَرِكَ هَلْ تَرَى؟ فَيَكُونُ مُعَلَّقًا. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ: أَيْ رَدِّدْهُ كَرَّتَيْنِ هِيَ تَثْنِيَةٌ لَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يُرَادُ بِهَا التَّكْرَارُ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، أَيْ كَرَّاتٍ كَثِيرَةً، كَقَوْلِهِ: لَبَّيْكَ، يُرِيدُ إِجَابَاتٍ كَثِيرَةً بَعْضُهَا فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَأُرِيدَ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرُ، كَمَا أُرِيدَ بِمَا هُوَ أَصْلٌ لَهَا التَّكْثِيرُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ عُطِفَ عَلَى مُفْرَدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كَانَ أَكْرَمَهُمْ ... بَيْتًا وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ مَنْزِلِ الزَّامِّ يُرِيدُ: لَوْ عُدَّتْ قُبُورٌ كَثِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: كَرَّتَيْنِ مَعْنَاهُ مَرَّتَيْنِ وَنَصَبَهَا عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: أَمَرَ بِرَجْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّتَيْنِ، غَلَّطَ فِي الْأُولَى، فَيَسْتَدْرِكُ بِالثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: الْأُولَى لِيَرَى حُسْنَهَا وَاسْتِوَاءَهَا، وَالثَّانِيَةُ لِيُبْصِرَ كَوَاكِبَهَا فِي سَيْرِهَا وَانْتِهَائِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَنْقَلِبْ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ والخوارزمي عَنِ الْكِسَائِيِّ: يَرْفَعُ الْبَاءَ، أَيْ فَيَنْقَلِبْ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَوْضِعُ حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ إِنْ رَجَعْتَ الْبَصَرَ وَكَرَّرْتَ النَّظَرَ لِتَطْلُبَ فُطُورَ شُقُوقٍ أَوْ خَلَلًا أَوْ عَيْبًا، رَجَعَ إِلَيْكَ مُبْعَدًا عَمَّا طَلَبْتَهُ لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ عَنْهَا، وَهُوَ كَالٌّ مِنْ كَثْرَةِ النَّظَرِ، وَكَلَالُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَرَّتَيْنِ لَيْسَ شَفْعَ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَكِلُّ الْبَصَرُ بِالنَّظَرِ مَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ. وَالْحَسِيرُ: الْكَالُّ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَهُنَّ الْوَجَى لَمْ كر عَوْنًا عَلَى النَّوَى ... وَلَا زَالَ مِنْهَا ظَالِعٌ وَحَسِيرُ يُقَالُ: حَسَرَ بَعِيرُهُ يَحْسِرُ حُسُورًا: أَيْ كَلَّ وَانْقَطَعَ فَهُوَ حَسِيرٌ وَمَحْسُورٌ، قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ نَاقَةً: فَشَطْرُهَا نَظَرَ الْعَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

أَيْ: وَنَحْرُهَا، وَقَدْ جُمِعَ حَسِيرٌ بِمَعْنَى أَعْيَا وَكَلَّ، قَالَ الشَّاعِرُ: بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا الْبَيْتَ. السَّماءَ الدُّنْيا: هِيَ الَّتِي نُشَاهِدُهَا، وَالدُّنُوُّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ قَرِيبَةً، بِمَصابِيحَ: أَيْ بِنُجُومٍ مُضِيئَةٍ كَالْمَصَابِيحِ، وَمَصَابِيحُ مُطْلَقُ الْأَعْلَامِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ. وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ: أَيْ جَعَلْنَا مِنْهَا، لِأَنَّ السَّمَاءَ ذَاتَهَا لَيْسَتْ يُرْجَمُ بِهَا الرُّجُومُ هَذَا إِنْ عَادَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها عَلَى السَّمَاءِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى مَصَابِيحَ. وَنَسَبَ الرَّجْمَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الشِّهَابَ الْمُتَّبِعَ لِلْمُسْتَرِقِ مُنْفَصِلٌ مِنْ نَارِهَا، وَالْكَوَاكِبُ قَارٌّ فِي مُلْكِهِ عَلَى حَالِهِ. فَالشِّهَابُ كَقَبَسٍ يُؤْخَذُ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ بَاقِيَةٌ لَا تَنْقُصُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمْ مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ هُوَ حَقِيقَةٌ يُرْمَوْنَ بِالشُّهُبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَسُورَةِ وَالصَّافَّاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَى رُجُومًا: ظُنُونًا لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَهُمُ الْمُنَجِّمُونَ يَنْسُبُونَ إِلَى النُّجُومِ أَشْيَاءَ عَلَى جِهَةِ الظَّنِّ مِنْ جُهَّالِهِمْ، وَالتَّمْوِيهِ وَالِاخْتِلَاقِ مِنْ أَزْكِيَائِهِمْ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفُ تَشْتَمِلُ عَلَى خُرَافَاتٍ يُمَوِّهُونَ بِهَا عَلَى الْمُلُوكِ وَضُعَفَاءِ الْعُقُولِ، وَيَعْمَلُونَ مَوَالِدَ يَحْكُمُونَ فِيهَا بِالْأَشْيَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَدْ وَقَفْنَا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ كَذِبِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَالِدِ، وَمَا يَحْكُونَهُ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ شُيُوخِ السُّوءِ كَذِبٌ يُغْرُونَ بِهِ النَّاسَ الْجُهَّالَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى النُّجُومَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَلِيُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فَقَدْ تَكَلَّفَ وَأَذْهَبَ حَظَّهُ مِنَ الْآخِرَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَذابُ جَهَنَّمَ بِرَفْعِ الْبَاءِ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْرَجُ وَأُسَيْدُ بْنُ أُسَيْدٍ الْمُزَنِيُّ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةِ هَارُونَ عَنْهُ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى عَذابَ السَّعِيرِ، أَيْ وَأَعْتَدْنَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابَ جَهَنَّمَ. إِذا أُلْقُوا فِيها: أَيْ طُرِحُوا، كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ الْعَظِيمَةِ وَيُرْمَى بِهِ، وَمِثْلُهُ حَصَبُ جَهَنَّمَ، سَمِعُوا لَها: أَيْ لِجَهَنَّمَ، شَهِيقاً: أَيْ صَوْتًا مُنْكَرًا كَصَوْتِ الْحِمَارِ، تُصَوِّتُ مِثْلَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ تَوَقُّدِهَا وَغَلَيَانِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مضاف، أَيْ سَمِعُوا لِأَهْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ «1» . وَهِيَ تَفُورُ: تَغْلِي بِهِمْ غَلْيَ الْمِرْجَلِ. تَكادُ تَمَيَّزُ: أَيْ يَنْفَصِلُ بعضها من بعض

_ (1) سورة هود: 11/ 106.

لِشِدَّةِ اضْطِرَابِهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَتَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ إِذَا وَصَفُوهُ بِالْإِفْرَاطِ فِي الْغَضَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَمَيَّزُ بِتَاءٍ واحدة خفيفة، والبزي يشدّدها، وطلحة: بِتَاءَيْنِ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِإِدْغَامِ الدَّالِ فِي التَّاءِ، وَالضَّحَّاكُ: تَمَايَزُ عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلُ، وأصله تتمايز بتاءين وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تَمِيزُ مِنْ مَازَ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى الْكَفَرَةِ، جُعِلَتْ كَالْمُغْتَاظَةِ عَلَيْهِمْ لِشِدَّةِ غَلَيَانِهَا بِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا فِي التَّجَوُّزِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فِي كَلْبٍ يَشْتَدُّ فِي جَرْيِهِ ... يَكَادُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِهَابِهِ وَقَوْلُهُمْ: غَضِبَ فُلَانٌ، فَطَارَتْ مِنْهُ شُقَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَشُقَّةٌ فِي السَّمَاءِ إِذَا أَفْرَطَ فِي الْغَضَبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ غَيْظِ الزَّبَانِيَةِ. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ: أَيْ فَرِيقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، وَهُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا إِلَى عَذَابِهِمْ، وَخَزَنَتُهَا: مالك وأعوانها، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ: يُنْذِرُكُمْ بِهَذَا الْيَوْمِ، قالُوا بَلى: اعْتِرَافٌ بِمَجِيءِ النُّذُرِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِعَدْلِ اللَّهِ، وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ عَزَّ وَعَلَا أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِنْذَارِهُمْ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا مِنْ قُدْرَةٍ كَمَا تَزْعُمُ الْمُجْبِرَةُ، وَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، خِلَافَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ وَأَوْعَدَ عَلَى ضِدِّهِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا نُذُرًا إِلَيْهِمْ، أَنْكَرُوا أَوَّلًا أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ شَيْئًا، وَاسْتَجْهَلُوا ثَانِيًا مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ إِخْبَارًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. أَرَادُوا بِالضَّلَالِ الْهَلَاكَ الَّذِي هُمْ فيه، أوسموا عِقَابَ الضَّلَالِ ضَلَالًا لَمَّا كَانَ نَاشِئًا عَنِ الضَّلَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مِنْ كَلَامِ الرُّسُلِ لَهُمْ حَكَوْهُ لِلْخَزَنَةِ، أَيْ قَالُوا لَنَا هَذَا فَلَمْ نَقْبَلْهُ. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِي إِنْ أَنْتُمْ لِلرُّسُلِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخِطَابُ بِالْجَمْعِ. وَقالُوا: أَيْ لِلْخَزَنَةِ حِينَ حَاوَرُوهُمْ، لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمَاعَ طَالِبٍ لِلْحَقِّ، أَوْ نَعْقِلُ. عَقْلَ مُتَأَمِّلٍ لَهُ، لَمْ نَسْتَوْجِبِ الْخُلُودَ فِي النَّارِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ: أَيْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، فَسُحْقاً: أَيْ فَبُعْدًا لَهُمْ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَالسُّحْقُ: الْبُعْدُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ: أَيْ سَحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، قَالَ الشَّاعِرُ: يَجُولُ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ مُغَرِّبًا ... وَتَسْحَقُهُ رِيحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ وَالْفِعْلُ مِنْهُ ثُلَاثِيٌّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَسْحَقُهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، أَيْ بَاعَدَهُمْ بُعْدًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْقِيَاسُ إِسْحَاقًا، فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ، كَمَا قِيلَ:

وَإِنْ أَهْلِكْ فَذَلِكَ كَانَ قَدَرِي أَيْ تَقْدِيرِي. انْتَهَى، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ادِّعَاءِ الْحَذْفِ فِي الْمَصْدَرِ لِأَنَّ فِعْلَهُ قَدْ جَاءَ ثُلَاثِيًّا، كَمَا أَنْشَدَ: وَتَسْحَقُهُ رِيحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ وَقَرَأَ الجمهور: بسكون الحاء وعلي وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ، بِخِلَافٍ عَنْ أَبِي الْحَرْثِ عَنْهُ: بِضَمِّهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَسُحْقاً: نَصْبًا عَلَى جِهَةِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِمْ مُسْتَقِرٌّ أَوَّلًا، وَوُجُودُهُ لَمْ يَقَعْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ فِي حَيِّزِ الْمُتَوَقَّعِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ، كَمَا تَقُولُ: سُحْقًا لِزَيْدٍ وَبُعْدًا، وَالنَّصْبُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَإِنْ وَقَعَ وَثَبَتَ، فَالْوَجْهُ فِيهِ الرَّفْعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «1» ، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ «2» ، وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ. انْتَهَى. يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ: أَيِ الَّذِي أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَأَحْوَالِهِ، أَوْ غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَيْ فِي خَلَوَاتِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ: خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَبَبُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لِبَعْضٍ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ لَا يَسْمَعُكُمْ إِلَهُ مُحَمَّدٍ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ: الهمزة للاستفهام ولا لِلنَّفْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَفْعُولٌ، وَالْمَعْنَى: أَيَنْتَفِي عِلْمُهُ بِمَنْ خَلَقَ، وَهُوَ الَّذِي لَطُفَ عِلْمُهُ وَدَقَّ وَأَحَاطَ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَجَلِيَّاتِهَا؟ وَأَجَازَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَاعِلًا وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا يَعْلَمُ الْخَالِقُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ، أَيْ كَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَأَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ وَحَالُهُ أَنَّهُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْمُتَوَصِّلُ عِلْمُهُ إِلَى مَا ظَهَرَ مِنْ خَلْقِهِ وَمَا بَطَنَ؟ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا: مِنَّةٌ مِنْهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَالذَّلُولُ فَعُولٌ لِلْمُبَالِغَةِ، مِنْ ذَلِكَ تَقُولُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ، وَرَجُلٌ ذَلِيلٌ: بَيِّنُ الذُّلِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالذَّلُولُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَذْلُولَةٌ، فَهِيَ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّ فِعْلَهُ قَاصِرٌ، وَإِنَّمَا تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «3» ، وَإِمَّا بِالتَّضْعِيفِ لِقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها لَهُمْ «4» ، وَقَوْلُهُ: أَيْ مَذْلُولَةٌ يَظْهَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ. فَامْشُوا فِي مَناكِبِها: أمر

_ (1) سورة المطففين: 83/ 1. [.....] (2) سورة الأعراف: 7/ 46. (3) سورة آل عمران: 3/ 26. (4) سورة يس: 36/ 72.

بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَالِاكْتِسَابِ وَمَنَاكِبُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَبِشْرُ بْنُ كَعْبٍ: أَطْرَافُهَا، وَهِيَ الْجِبَالُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: جَوَانِبُهَا، وَمَنْكِبَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: طَرَفُهَا وَفِجَاجُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَشْيُ فِي مَنَاكِبِهَا مَثَلٌ لِفَرْطِ التذليل ومجازوته الْغَايَةَ، لِأَنَّ الْمَنْكِبَيْنِ وَمُلْتَقَاهُمَا مِنَ الْغَارِبِ أَرَقُّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعِيرِ وَأَنْبَأَهُ عَنْ أَنْ يَطَأَهُ الرَّاكِبُ بِقَدَمِهِ وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَعَلَهَا فِي الذُّلِّ بِحَيْثُ يَمْشِي فِي مَنَاكِبِهَا لَمْ يَنْزِلْ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَهَّلَ لَكُمُ السُّلُوكَ فِي جِبَالِهَا فَهُوَ أَبْلَغُ التَّذْلِيلِ. وَإِلَيْهِ النُّشُورُ: أَيْ الْبَعْثُ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ عليكم. قوله عَزَّ وَجَلَّ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ، وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ، أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ. قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْبَزِّيُّ: أَأَمِنْتُمْ بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ، وَأَدْخَلَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ بَيْنَهُمَا أَلِفًا، وقنبل: بِإِبْدَالِ الْأُولَى وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، وَعَنْهُ وَعَنْ وَرْشٍ أَوْجُهٌ غَيْرُ هَذِهِ وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ بِتَحْقِيقِهِمَا. مَنْ فِي السَّماءِ: هَذَا مَجَازٌ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ على أن تَعَالَى لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ فِي جِهَةٍ، وَمَجَازُهُ أَنَّ مَلَكُوتَهُ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّ فِي السَّمَاءِ هُوَ صِلَةُ مَنْ، فَفِيهِ الضَّمِيرُ الَّذِي كَانَ فِي الْعَامِلِ فِيهِ، وَهُوَ اسْتَقَرَّ، أَيْ مَنْ فِي السَّمَاءِ هُوَ، أَيْ مَلَكُوتُهُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَمَلَكُوتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. لَكِنْ خَصَّ السَّمَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَسْكَنُ مَلَائِكَتِهِ وَثَمَّ عَرْشُهُ وَكُرْسِيُّهُ وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَمِنْهَا تَنْزِلُ قَضَايَاهُ وَكُتُبُهُ وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، أَوْ جَاءَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ اعْتِقَادِهِمْ، إِذْ كَانُوا مُشَبِّهَةً، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ

تَزْعُمُونَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ؟ وَهُوَ الْمُتَعَالِي عَنِ الْمَكَانِ. وَقِيلَ: مَنْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ خَالِقُ مَنْ فِي السَّمَاءِ. وَقِيلَ: مَنْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْخَسْفِ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: مَنْ بِمَعْنَى عَلَى، وَيُرَادُ بِالْعُلُوِّ الْقَهْرُ وَالْقُدْرَةُ لَا بِالْمَكَانِ، وَفِي التَّحْرِيرِ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ وَهُوَ ذَهَابُهَا سَفَلًا، فَإِذا هِيَ تَمُورُ: أَيْ تَذْهَبُ أَوْ تَتَمَوَّجُ، كَمَا يَذْهَبُ التُّرَابُ فِي الرِّيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَاصِبِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَالنَّذِيرُ وَالنَّكِيرُ مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: فَأَنْذَرَ مِثْلَهَا نُصْحًا قُرَيْشًا ... مِنَ الرَّحْمَنِ إِنْ قَبِلَتْ نذير وَأَثْبَتَ وَرْشٌ يَاءَ نَذِيرِي وَنَكِيرِي، وَحَذَفَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَلَمَّا حَذَّرَهُمْ مَا يُمْكِنُ إِحْلَالُهُ بِهِمْ مِنَ الْخَسْفِ وَإِرْسَالِ الْحَاصِبِ، نَبَّهَهُمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِالطَّيْرِ وَمَا أَحْكَمَ مِنْ خَلْقِهَا، وَعَنْ عَجْزِ آلِهَتِهِمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَنَاسَبَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ بِالطَّيْرِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَهُ ذِكْرُ الْحَاصِبِ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ بِالطَّيْرِ وَالْحَاصِبِ الَّذِي رَمَتْهُمْ بِهِ، فَفِيهِ إِذْكَارُ قُرَيْشٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمْ بِحَاصِبٍ تَرْمِي بِهِ الطَّيْرُ، كَمَا فَعَلَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. صافَّاتٍ: بَاسِطَةً أَجْنِحَتَهَا صَافَّتَهَا حَتَّى كَأَنَّهَا سَاكِنَةٌ، وَيَقْبِضْنَ: وَيَضْمُمْنَ الْأَجْنِحَةَ إِلَى جَوَانِبِهِنَّ، وَهَاتَانِ حَالَتَانِ لِلطَّائِرِ يَسْتَرِيحُ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى. وَعَطَفَ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ «1» ، عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى: فَاللَّاتِي أَغَرْنَ صُبْحًا فَأَثَرْنَ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ فَصِيحٌ، وَعَكْسُهُ أَيْضًا جَائِزٌ إِلَّا عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ فَإِنَّهُ قَبِيحٌ، نَحْوُ قوله: بات يغشيها بغضب بَاتِرٍ ... يُقْصَدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرُ أَيْ: قَاصِدٌ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صافَّاتٍ: بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتَهُنَّ فِي الْجَوِّ عِنْدَ طَيَرَانِهَا، لِأَنَّهُنَّ إِذَا بَسَطْنَهَا صَفَفْنَ قَوَادِمَهَا صفا، وَيَقْبِضْنَ: ويضمنها إِذَا ضَرَبْنَ بِهَا جُنُوبَهُنَّ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ وَيَقْبِضْنَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَقَابِضَاتٍ؟ قُلْتُ: أَصْلُ الطَّيَرَانِ هُوَ صَفُّ الْأَجْنِحَةِ، لِأَنَّ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ كَالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي السِّبَاحَةِ مَدُّ الْأَطْرَافِ وَبَسْطُهَا. وَأَمَّا القبض فطارىء عَلَى الْبَسْطِ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهِ على

_ (1) سورة العاديات: 100/ 3- 4.

التَّحَرُّكِ، فَجِيءَ بِمَا هُوَ طَارِئٌ غَيْرُ أَصْلٍ بِلَفْظِ الْفِعْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُنَّ صَافَّاتٌ، وَيَكُونُ مِنْهُنَّ الْقَبْضُ تَارَةً بَعْدَ تَارَةٍ، كَمَا يَكُونُ مِنَ السَّابِحِ. انْتَهَى. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْبَسْطُ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْمِ. وَالْقَبْضُ مُتَجَدِّدٌ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ بِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ: أَيْ بِقُدْرَتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِمَا دَبَّرَ لَهُنَّ مِنَ الْقَوَادِمِ وَالْخَوَافِي، وَبَنَى الْأَجْسَامَ عَلَى شَكْلٍ وَخَصَائِصَ قَدْ يَأْتِي مِنْهَا الْجَرْيُ فِي الْجَوِّ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ: يَعْلَمُ كَيْفَ يَخْلُقُ وَكَيْفَ يُدَبِّرُ الْعَجَائِبَ. انْتَهَى، وَفِيهِ نُزُوعٌ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبِيعَةِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ أَثْقَلَ الْأَشْيَاءِ إِذَا أَرَادَ إِمْسَاكَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاسْتِعْلَاءَهَا إِلَى الْعَرْشِ كَانَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَرَادَ إِنْزَالَ مَا هُوَ أَخَفُّ سُفْلًا إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ كَانَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْذُوقًا بِشَكْلٍ، لَا مِنْ ثِقَلٍ وَلَا خِفَّةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يُمْسِكُهُنَّ مُخَفَّفًا. وَالزُّهْرِيُّ مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَّنْ، بِإِدْغَامِ مِيمِ أَمْ فِي مِيمِ مَنْ، إِذِ الْأَصْلُ أَمْ مَنْ، وَأَمْ هُنَا بِمَعْنَى بَلْ خَاصَّةً لِأَنَّ الَّذِي بَعْدَهَا هُوَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى: مَنْ هُوَ نَاصِرُكُمْ إِنِ ابْتَلَاكُمْ بِعَذَابِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ رَازِقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يَنْصُرُكُمْ وَلَا يَرْزُقُكُمْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: أَمَنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَنَقْلِهَا إِلَى الثَّانِيَةِ كَالْجَمَاعَةِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَمَعْنَاهُ: أَهَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ، أَمِ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ؟ فَلَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ. انْتَهَى. بَلْ لَجُّوا: تَمَادَوْا، فِي عُتُوٍّ: فِي تَكَبُّرٍ وَعِنَادٍ، وَنُفُورٍ: شِرَادٌ عَنِ الْحَقِّ لِثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَصْنَامِهِمْ. أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ، قَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ مُخْبِرَةً عَنْ حَالِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ يَمْشُونَ فِيهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَمْشُونَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ. وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَمْشِي الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِهِ» . فَالْمَشْيُ عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ حَقِيقَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ، ضُرِبَ مَثَلًا لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا. فَقِيلَ: عَامٌّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ، نَزَلَتْ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ وَحَمْزَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ فِي اضْطِرَابِهِ وَتَعَسُّفِهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَتَشَابُهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، كَالْمَاضِي فِي انْخِفَاضٍ وَارْتِفَاعٍ، كَالْأَعْمَى يَتَعَثَّرُ كُلَّ سَاعَةٍ فَيَخِرُّ لِوَجْهِهِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَإِنَّهُ لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ، وَكَوْنِهِ قَدْ وَضَحَ لَهُ الْحَقُّ، كَالْمَاشِي صَحِيحَ الْبَصَرِ مُسْتَوِيًا لَا يَنْحَرِفُ عَلَى طَرِيقٍ وَاضِحِ الِاسْتِقَامَةِ لَا حُزُونَ فِيهَا، فَآلَةُ نَظَرِهِ صَحِيحَةٌ وَمَسْلَكُهُ لَا صعوبة فيه. ومُكِبًّا: حَالٌ مِنْ أَكَبَّ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّى، وَكَبَّ مُتَعَدٍّ، قَالَ تَعَالَى: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي

النَّارِ «1» ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ أَوْ لِلصَّيْرُورَةِ، وَمُطَاوِعُ كَبَّ انْكَبَّ، تَقُولُ: كَبَبْتُهُ فَانْكَبَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا شَيْءَ مِنْ بِنَاءِ افعل مطوعا، وَلَا يُتْقَنُ نَحْوَ هَذَا إِلَّا حَمَلَةُ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَثِيرُ التَّبَجُّحِ بِكِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَكَمْ مِنْ نَصٍّ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ عَمِيَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ! حَتَّى أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ مَعْزُوزٍ صَنَّفَ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ مَا غَلِطَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَا جَهِلَهُ مِنْ نُصُوصِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ. وَأَهْدَى: أَفْعَلُ تَفْضِيلٌ مِنَ الْهُدَى فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ نَظِيرُ: الْعَسَلُ أَحْلَى أَمِ الْخَلُّ؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لَا تُرَادُ حَقِيقَتُهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ سَامِعٍ يُجِيبُ بِأَنَّ الْمَاشِيَ سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وما زائدة، وتشكرون مُسْتَأْنِفٌ أَوْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ تَشْكُرُونَ شُكْرًا قَلِيلًا. وقال ابن عطية: ظاهر أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَ قَلِيلًا، وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لِلْكَافِرِينَ شُكْرٌ، وَهُوَ قَلِيلٌ غَيْرُ نَافِعٍ. وَأَمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الشُّكْرِ جُمْلَةً فَعَبَّرَ بِالْقِلَّةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذِهِ أَرْضٌ قَلَّ مَا تُنْبِتُ كَذَا، وَهِيَ لَا تُنْبِتُهُ الْبَتَّةَ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. ذَرَأَكُمْ: بَثَّكُمْ، وَالْحَشْرُ: الْبَعْثُ، وَالْوَعْدُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ وَعْدُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ مَتَى إِنْجَازُ هَذَا الْوَعْدِ؟. فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً: أَيْ رَأَوُا الْعَذَابَ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ، زُلْفَةً: أَيْ قُرْبًا، أَيْ ذَا قُرْبٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَيَانًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَاضِرًا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَكَانًا ذَا زُلْفَةٍ، فَانْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ. سِيئَتْ: أَيْ سَاءَتْ رُؤْيَتُهُ وُجُوهَهُمْ، وَظَهَرَ فِيهَا السُّوءُ وَالْكَآبَةُ، وَغَشِيَهَا السَّوَادُ كَمَنْ يُسَاقُ إِلَى الْقَتْلِ. وَأَخْلَصَ الْجُمْهُورُ كَسْرَةَ السِّينِ، وَأَشَمَّهَا الضَّمَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ. وَقِيلَ لَهُمْ، أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ وَمَنْ يُوَبِّخُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدَّعُونَ بِشَدِّ الدَّالِ مَفْتُوحَةً، فَقِيلَ: مِنَ الدَّعْوَى. قَالَ الْحَسَنُ: تَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. وَقِيلَ: تَطْلُبُونَ وَتَسْتَعْجِلُونَ، وَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ رَجَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ يَسَارٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ وَسَلَّامٍ وَيَعْقُوبَ: تَدْعُونَ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبِي زَيْدٍ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ والأصمعي عَنْ نَافِعٍ. رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْعُونَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْهَلَاكِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَآمَرُونَ بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُهْلِكُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ كَمَا تُرِيدُونَ، أَوْ رَحِمَنا بِالنَّصْرِ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَحْمِيكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي سَبَّبَهُ كُفْرُكُمْ؟ وَلَمَّا قَالَ: أَوْ رَحِمَنا قَالَ: هُوَ الرَّحْمنُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِهِ

_ (1) سورة النمل: 27/ 90.

النَّجَاةُ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَسَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، والكسائي: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ «1» . وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ، وَهُوَ مُطْلَقُ، ذِكْرِ فَقْدِ مَا بِهِ حَيَاةُ النُّفُوسِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَهُوَ عَذَابٌ مَخْصُوصٌ. وَالْغَوْرُ مَشْرُوحٌ فِي الْكَهْفِ، وَالْمَعِينُ فِي قَدْ أَفْلَحَ، وَجَوَابُ إِنْ أَهْلَكَنِيَ: فَمَنْ يُجِيرُ، وَجَوَابُ إِنْ أَصْبَحَ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ، وَتُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْتَهْزِئِينَ فقال: تجيء به النفوس وَالْمَعَاوِيلُ، فَذَهَبَ مَاءُ عَيْنَيْهِ.

_ (1) سورة الملك: 28/ 67.

سورة القلم

سورة القلم [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 52] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

الْمَهِينُ، قَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْوَضِيعُ لِإِكْثَارِهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، مِنَ الْمَهَانَةِ، وَهِيَ الْقِلَّةُ. الْهَمْزُ: أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الضَّرْبُ طَعْنًا بِالْيَدِ أَوْ بِالْعَصَا أَوْ نَحْوِهَا، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلَّذِي يَنَالُ بِلِسَانِهِ. قَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: وَبِعَيْنِهِ وَإِشَارَتِهِ. النَّمِيمُ وَالنَّمِيمَةُ: مصدران لنمّ، وَهُوَ نَقْلُ مَا يَسْمَعُ مِمَّا يَسُوءُ وَيُحَرِّشُ النُّفُوسَ. وَقِيلَ: النَّمِيمُ جَمْعُ نَمِيمَةٍ، يُرِيدُونَ بِهِ اسْمَ الْجِنْسِ. الْعُتُلُّ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: هُوَ الْفَاحِشُ اللَّئِيمُ. قَالَ الشَّاعِرُ: بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ زَنِيمٍ ... غَيْرِ ذِي نَجْدَةٍ وَغَيْرِ كَرِيمٍ وَقِيلَ: الَّذِي يَعْتِلُ النَّاسَ: أَيْ يَجُرُّهُمْ إِلَى حَبْسٍ أَوْ عَذَابٍ، وَمِنْهُ: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ «1» . قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: عَتَلْتُهُ وَعَتَنْتُهُ بِاللَّامِ وَالنُّونِ. الزَّنِيمُ: الدَّعِيُّ. قَالَ حَسَّانُ: زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الأكارع وقال أيضا: وأنت زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الراكب القدح الفرد

_ (1) سورة الدخان: 44/ 47.

وَالزَّنِيمُ مِنَ الزَّنَمَةِ، وَهِيَ الْهَنَةُ مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ، تُقْطَعُ فَتُخَلَّى مُعَلَّقَةً فِي حَلْقَةٍ، سُمِّيَ الدَّعِيُّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِغَيْرِ أَهْلِهِ. وَسَمَهُ: جَعَلَ لَهُ سِمَةً، وَهِيَ الْعَلَامَةُ تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ جَرِيرٌ: لما وضعت على الفرزدق مَيْسَمِي ... وَعَلَى الْبَعِيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الْأَخْطَلِ الْخُرْطُومُ: الْأَنْفُ، وَالْخُرْطُومُ مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ أَشْهَدُ الشَّرْبَ فِيهِمُ مِزْهَرٌ زَنِمُ ... وَالْقَوْمُ تَصْرَعُهُمْ صَهْبَاءُ خُرْطُومُ قَالَ الشَّمَنْتَرِيُّ: الْخُرْطُومُ أَوَّلُ خُرُوجِهَا مِنَ الدَّنِّ، وَيُقَالُ لَهَا الْأَنْفُ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَصْفَى لَهَا وَأَرَقُّ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْخُرْطُومُ: الْخَمْرُ، وَأَنْشَدَ لِلْأَعْرَجِ الْمُغَنِيِّ: تَظَلُّ يَوْمَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ ... وَأَنْتَ بِاللَّيْلِ شَرَّابُ الْخَرَاطِيمِ الصِّرَامُ: جِدَادُ النخل. الجرد: الْمَنْعُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَارَدَتِ الْإِبِلُ إِذَا قَلَّتْ أَلْبَانُهَا، وَحَارَدَتِ السَّنَةُ: قَلَّ مَطَرُهَا وَخَيْرُهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْقُتَبِيُّ، وَالْحَرْدُ: الْغَضَبُ. قَالَ أَبُو نَضْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ صَاحِبُ الْأَصْمَعِيِّ: وَهُوَ مُخَفَّفٌ، وَأَنْشَدَ: إِذَا جِيَادُ الْخَيْلِ جَاءَتْ تَرَدَّى ... مَمْلُوءَةً مِنْ غَضَبٍ وَحَرْدِ وَقَالَ الْأَشْهَبُ بْنُ رُمَيْلَةَ: أُسُودُ شَرًى لَاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَسَاقَوْا عَلَى حَرْدٍ دِمَاءَ الْأَسَاوِدِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَقَدْ يُحَرَّكُ، تَقُولُ: حَرِدَ بِالْكَسْرِ حَرْدًا فَهُوَ حَرْدَانُ، وَمِنْهُ قِيلَ: أَسَدٌ حَارِدٌ، وَلُيُوثٌ حَوَارِدُ، وَالْحَرْدُ: الِانْفِرَادُ، حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُودًا: تَنَحَّى عَنْ قَوْمِهِ وَنَزَلَ مُنْفِرَدًا وَلَمْ يُخَالِطْهُمْ، وَكَوْكَبٌ حَرُودٌ: مُعْتَزِلٌ عَنِ الْكَوَاكِبِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْمُنْحَرِدُ: الْمُنْفَرِدُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ. انْتَهَى. وَالْحَرْدُ: الْقَصْدُ، حَرَدَ يَحْرِدُ بِالْكَسْرِ: قَصَدَ، وَمِنْهُ حَرَدْتُ حَرْدَكَ: أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَجَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ الْمُغِلَّهْ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ، وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، إِنَّا بَلَوْناهُمْ

كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ، قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ، قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ، كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَمُعْظَمُهَا نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ فِيمَا قَبْلَهَا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَعِلْمَهُ الْوَاسِعَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَخَسَفَ بِهِمْ أَوْ لَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حَاصِبًا. وَكَانَ مَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِهِ هُوَ ما تلقفه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنْسُبُونَهُ مَرَّةً إِلَى الشِّعْرِ، وَمَرَّةً إِلَى السِّحْرِ، وَمَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِبَرَاءَتِهِ مِمَّا كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُونِ، وَتَعْظِيمِ أَجْرِهِ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَبِالثَّنَاءِ عَلَى خُلُقِهِ الْعَظِيمِ. ن: حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، نَحْوَ ص وق، وَهُوَ غَيْرُ مُعْرَبٍ كَبَعْضِ الْحُرُوفِ الَّتِي جَاءَتْ مَعَ غَيْرِهَا مُهْمَلَةً مِنَ الْعَوَامِلِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَوْضِعِهَا بِالْإِعْرَابِ تَخَرُّصٌ. وَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ اسْمُ الْحُوتِ الْأَعْظَمِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ اسْمُ الدَّوَاةِ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ: يَرْفَعُهُ أَنَّهُ لَوْحٌ مِنْ نُورٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ آخِرُ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ. وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: أَنَّهُ نَهْرٌ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ، لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: ن حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَلَوْ كَانَ كَلِمَةً تَامَّةً أُعْرِبَ كَمَا أُعْرِبَ الْقَلَمُ، فَهُوَ إِذَنْ حَرْفُ هِجَاءٍ كَمَا فِي سَائِرِ مَفَاتِيحِ السُّوَرِ. انْتَهَى. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ اسْمُ الدَّوَاةِ أَوِ الْحُوتِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ كَالْقَلَمِ، فَإِنْ كَانَ عَلَمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجَرَّ، فَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا مُنِعَ الصَّرْفَ، أَوْ مُذَكَّرًا صُرِفَ، وَإِنْ كَانَ جِنْسًا أُعْرِبَ، وَنُوِّنَ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَضَعُفَ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَا كَانَ اسْمًا لِلدَّوَاةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لُغَةً لِبَعْضِ الْعَرَبِ، أَوْ لَفْظَةً أَعْجَمِيَّةً عُرِّبَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا الشَّوْقُ بَرَّحَ بِي إِلَيْهِمْ ... أَلْقَتِ النُّونَ بِالدَّمْعِ السُّجُومُ

فَمَنْ جَعَلَهُ الْبَهَمُوتَ، جَعَلَ الْقَلَمَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ وَأَمَرَهُ بِكَتْبِ الْكَائِنَاتِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يَسْطُرُونَ لِلْمَلَائِكَةِ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ اسْمٌ، جَعَلَهُ الْقَلَمَ الْمُتَعَارَفَ بِأَيْدِي النَّاسِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يَسْطُرُونَ لِلنَّاسِ، فَجَاءَ الْقَسَمُ عَلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ أَمْرُ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ قِوَامٌ لِلْعُلُومِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْقَلَمَ أَخُو اللِّسَانِ وَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَامَّةٌ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ن بِسُكُونِ النُّونِ وَإِدْغَامِهَا فِي وَاوِ وَالْقَلَمِ بِغُنَّةٍ وَقَوْمٌ بِغَيْرِ غُنَّةٍ، وَأَظْهَرَهَا حَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَقَالُونُ وَحَفْصٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِكَسْرِ النُّونِ لِالْتِقَاءِ الساكنين وسعيد بْنُ جُبَيْرٍ وَعِيسَى: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِفَتْحِهَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ أَقْسَمَ بِهِ وَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَانْتَصَبَ وَمُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَيَكُونُ وَالْقَلَمِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَأُوثِرَ الْفَتْحُ تَخْفِيفًا كأين، وَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَمَصْدَرِيَّةً، وَالضَّمِيرُ فِي يَسْطُرُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُتَّابِ لِدَلَالَةِ الْقَلَمِ عَلَيْهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْحَفَظَةُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كُلُّ كَاتِبٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَلَمِ أَصْحَابُهُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي يَسْطُرُونَ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَصْحَابِ الْقَلَمِ وَمَسْطُورَاتِهِمْ أَوْ وَتَسْطِيرِهِمْ. انْتَهَى. فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ «1» : أَيْ وَكَذِي ظُلُمَاتٍ، وَلِهَذَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَغْشاهُ مَوْجٌ «2» . وَجَوَابُ الْقَسَمِ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قَسَمٌ اعْتُرِضَ بِهِ بَيْنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَالْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الذَّمِيمِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ اعْتِرَاضٌ، كَمَا تَقُولُ لِلْإِنْسَانِ: أَنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ فَاضِلٌ. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي بِنِعْمَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِمَجْنُونٍ مَنْفِيًّا، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِعَاقِلٍ مُثْبَتًا فِي قَوْلِكَ: أَنْتَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَاقِلٌ، مُسْتَوِيًّا فِي ذَلِكَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ اسْتِوَاءَهُمَا فِي قَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَمَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا تُعْمِلُ الْفِعْلَ مُثْبَتًا وَمَنْفِيًّا إِعْمَالًا وَاحِدًا، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ مُنْعِمًا عَلَيْكَ بِذَلِكَ، وَلَمْ تَمْنَعِ الْبَاءُ أَنْ يَعْمَلَ مَجْنُونٌ فِيمَا قَبْلَهُ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنِيُّ: اسْتِبْعَادُ مَا كَانَ يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ كُفَّارُ مَكَّةَ عَدَاوَةً وَحَسَدًا، وَأَنَّهُ مِنْ إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِحَصَافَةِ الْعَقْلِ وَالشَّهَامَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا التَّأْهِيلُ لِلنُّبُوَّةِ بِمَنْزِلَةٍ. انْتَهَى.

_ (1) سورة النور: 24/ 40. (2) سورة النور: 24/ 40.

وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْنُونٍ، وَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى مَحْكُومٍ بِهِ، وَذَلِكَ لَهُ مَعْمُولٌ، فَفِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْمُولِ فَقَطْ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَتَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْمَحْكُومِ بِهِ فَيَنْتَفِي مَعْمُولُهُ لِانْتِفَائِهِ بَيَانُ ذَلِكَ، تَقُولُ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ مُسْرِعًا، فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مُنْتَفٍ إِسْرَاعُهُ دُونَ قِيَامِهِ، فَيَكُونُ قَدْ قَامَ غَيْرَ مُسْرِعٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ انْتَفَى قِيَامُهُ فَانْتَفَى إِسْرَاعُهُ، أَيْ لَا قِيَامَ فَلَا إِسْرَاعَ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ لَا يَتَأَتَّى مَعَهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِوَجْهٍ، بَلْ يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْطَقَ بِهِ فِي حَقِّ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ وَالنِّعْمَةُ بِرَبِّكَ لِقَوْلِهِمْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَيْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: وَأُفْرِدْتُ فِي الدُّنْيَا بِفَقْدِ عَشِيرَتِي ... وَفَارَقَنِي جَارٌ بِأَرْبَدَ نَافِعُ أَيْ: وَهُوَ أَرْبَدُ. انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ الْمَعْنَى: انْتَفَى عَنْكَ الْجُنُونُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، أَيْ حُصُولُ الصِّفَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَزَالَ عَنْكَ الصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ بِوَاسِطَةِ إِنْعَامِ رَبِّكَ. ثُمَّ قَرَّرَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى مَا هُوَ كَالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّتِهَا، لِأَنَّ نِعَمَهُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي حَقِّهِ مِنْ كَمَالِ الْفَصَاحَةِ وَالْعَقْلِ وَالسِّيرَةِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَالِاتِّصَافِ بِكُلِّ مَكْرُمَةٍ، فَحُصُولُ ذَلِكَ وَظُهُورُهُ جَارٍ مَجْرَى الْيَقِينِ فِي كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً فِي احْتِمَالِ طَعْنِهِمْ وَفِي دُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ، فَلَا يَمْنَعُكَ مَا قَالُوا عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ: هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، وَتَعْرِيفٌ لِمَنْ رَمَاهُ بِالْجُنُونِ أَنَّهُ كَذَبَ وَأَخْطَأَ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ بِتِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ لَا يُضَافُ الْجُنُونُ إِلَيْهِ، وَلَفْظُهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ. انْتَهَى. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً: أَيْ عَلَى مَا تَحَمَّلْتَ مِنْ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ أَذَاهُمْ مِمَّا يَنْسُبُونَ إِلَيْكَ مِمَّا أَنْتَ لَا تَلْتَبِسُ بِهِ مِنَ الْمَعَائِبِ، غَيْرَ مَمْنُونٍ: أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مَنَنْتُ الْحَبْلَ: قطعته، قال الشاعر: عبسا كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا أَيْ لَا يُقْطَعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرَ مَحْسُوبٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: غَيْرَ مُكَدَّرٍ بِالْمَنِّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِغَيْرِ عَمَلٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ غَيْرُ مَمْنُونٍ عليك، لأن ثَوَابٌ تَسْتَوْجِبُهُ عَلَى عَمَلِكَ وَلَيْسَ بِتَفَضُّلٍ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تمن الفواصل لَا الْأُجُورُ عَلَى الْأَعْمَالِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، قَالَ

ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: دِينٍ عَظِيمٍ لَيْسَ دِينٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ خُلُقَهُ كَانَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: سُمِّيَ عَظِيمًا لِاجْتِمَاعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِيهِ، مِنْ كَرَمِ السَّجِيَّةِ، وَنَزَاهَةِ الْقَرِيحَةِ، وَالْمَلَكَةِ الْجَمِيلَةِ، وَجَوْدَةِ الضَّرَائِبِ مَا دَعَاهُ أَحَدٌ إِلَّا قَالَ لَبَّيْكَ، وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ، وَوَصَّى أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ» . وَقَالَ: «أَحَبُّكُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا» . والظاهر تعلق بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ بِمَا قَبْلَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْمَازِنِيُّ: تَمَّ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ وَيُبْصِرُونَ، ثُمَّ استأنف قوله: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. انْتَهَى. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ اسْتِفْهَامًا يُرَادُ بِهِ التَّرْدَادُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَمَعْلُومٌ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَيُعَيِّنُهُ الْوُجُودُ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، لَيْسَ بِمَفْتُونٍ وَلَا بِهِ فُتُونٌ. وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرٌ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ؟ وَزِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْمُبْتَدَأِ، كَمَا زِيدَتْ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ، أَيْ حَسْبُكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَالْمَفْتُونُ بِمَعْنَى الْفِتْنَةِ، أَيْ بِأَيِّكُمْ هِيَ الْفِتْنَةُ وَالْفَسَادُ الَّذِي سَمَّوْهُ جُنُونًا؟ وَقَالَ الْأَخْفَشُ أَيْضًا: بِأَيِّكُمْ فُتِنَ الْمَفْتُونُ، حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الْمَفْتُونَ مَصْدَرًا، وَهُنَا أَبْقَاهُ اسْمَ مَفْعُولٍ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي أَيِّ فَرِيقٍ مِنْكُمُ النَّوْعُ الْمَفْتُونُ؟ انْتَهَى. فَالْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، نَحْوُ: زَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ، أَيْ فِي الْبَصْرَةِ، فَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ الْبَاءَ فِي الْقَوْلِ قَبْلَهُ لَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً، بَلْ هِيَ سَبَبِيَّةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَفْتُونُ: الْمَجْنُونُ لِأَنَّهُ فُتِنَ، أَيْ مُحِنَ بِالْجُنُونِ، أَوْ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ تَخْيِيلِ الْجِنِّ، وَهُمُ الْفُتَّانُ لِلْفُتَّاكِ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فِي أَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ: وَعِيدٌ لِلضَّالِّ، وَهُمُ الْمَجَانِينُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، حَيْثُ كَانَتْ لَهُمْ عُقُولٌ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَلَا اسْتَعْمَلُوهَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، أَوْ يَكُونُ أَعْلَمُ كِنَايَةً عَنْ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ. فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ: أَيِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ طَوَاعِيَتِهِمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا دَعَوْهُ إِلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ: لَوْ هُنَا عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنْ، أَيْ وَدُّوا ادِّهَانَكُمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ «1» ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَعْمُولَ وَدَّ مَحْذُوفٌ،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 96.

أَيْ وَدُّوا ادِّهَانَكُمْ، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، ولو بَاقِيَةٌ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ: لَوْ تُدْهِنُ: لَوْ تَكْفُرُ، فَيَتَمَادَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَوْ تُرَخِّصُ لَهُمْ فَيُرَخِّصُونَ لَكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ تَذْهَبُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ فَيَذْهَبُونَ مَعَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي دينك فيصانعوك فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَكَ وَيُرَاؤُونَكَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَوْ تَضْعُفُ فَيَضْعُفُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لَوْ تَلِينُ فَيَلِينُونَ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ: لَوْ تُحَابِي فَيُحَابُونَ، وَقَالُوا غَيْرَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الدِّهَانُ: التَّلْيِينُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: النِّفَاقُ وَتَرْكُ الْمُنَاصَحَةِ، وَهَذَا نَقْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَا قَالُوهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ هو تفسير باللازم، وفيدهنون عَطْفٌ عَلَى تُدْهِنُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَدَلَ بِهِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ جُعِلَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُمْ يُدْهِنُونَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ «1» ، بِمَعْنَى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَهُمْ يُدْهِنُونَ حِينَئِذٍ، أَوْ وَدُّوا ادِّهَانَكَ فَهُمُ الْآنَ يُدْهِنُونَ لِطَمَعِهِمْ فِي ادِّهَانِكَ. انْتَهَى. وَجُمْهُورُ الْمَصَاحِفِ عَلَى إِثْبَاتِ النُّونِ. وَقَالَ هَارُونُ: إِنَّهُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ فَيُدْهِنُوا، وَلْنَصْبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَوَابُ وَدُّوا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى لَيْتَ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّهُ نُطِقَ بِأَنْ، أَيْ وَدُّوا أَنْ تُدْهِنَ فَيُدْهِنُوا، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ، وَلَا يَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَوْ مَصْدَرِيَّةً بِمَعْنَى أَنْ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَهِينٍ وَمَا بَعْدَهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتَ مُبَالَغَةٍ، وَنُوسِبَ فِيهَا فَجَاءَ حَلَّافٍ وَبَعْدَهُ مَهِينٍ، لِأَنَّ النُّونَ فِيهَا مَعَ الْمِيمِ تَوَاخٍ. ثُمَّ جَاءَ: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ بِصِفَتَيِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ جَاءَ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، فَمَنَّاعٌ وَأَثِيمٌ صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَيْرَ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ خَيْرٌ. وَقِيلَ: الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ، يُرِيدُ مَنَّاعٍ لِلْمَالِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الشُّحِّ، مَعْنَاهُ: مُتَجَاوِزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ. وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قُلْتُ: يَعْنِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ قَالَ: الرَّحِيبُ الْجَوْفُ، الْوَتِيرُ الْخَلْقِ، الْأَكُولُ الشَّرُوبُ، الْغَشُومُ الظَّلُومُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُتُلٌّ بِرَفْعِ اللَّامِ، وَالْجُمْهُورُ: بِجَرِّهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ جَفَاءَهُ وَدَعْوَتَهُ أَشَدَّ مَعَايِبِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَفَا وَغَلُظَ طَبْعُهُ قَسَا قَلْبُهُ وَاجْتَرَأَ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا خَبُثَتْ خَبُثَ النَّاشِئُ مِنْهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ الزِّنَا ولا

_ (1) سورة الجن: 72/ 13.

وَلَدُهُ وَلَا وَلَدُ وَلَدِهِ» ، وَبَعْدَ ذَلِكَ نَظِيرُ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «1» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُتُلٌّ رَفْعًا عَلَى الذَّمِّ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْوِيَةٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ ذلِكَ: أَيْ بَعْدَ أَنْ وَصَفْنَاهُ بِهِ، فَهَذَا التَّرْتِيبُ إِنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِ الْوَاصِفِ لَا فِي حُصُولِ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِي الْمَوْصُوفِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهُ عُتُلًّا هُوَ قَبْلَ كَوْنِهِ صَاحِبَ خَيْرٍ يَمْنَعُهُ. انْتَهَى. والزنيم: الْمُلْصَقُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الزَّنِيمُ: الْمُرِيبُ الْقَبِيحُ الْأَفْعَالِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الزَّنِيمُ: الَّذِي لَهُ زَنَمَةٌ فِي عُنُقِهِ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَتْ فَعَرَفْنَاهُ بِزَنَمَتِهِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّ الْأَخْفَشَ بْنَ شَرِيفٍ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، كَانَ لَهُ زَنَمَةٌ. وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الزَّنِيمَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِالزَّنَمَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِالْأُبْنَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ الظَّلُومُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: هُوَ اللَّئِيمُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ وَلَدُ الزِّنَا الْمُلْحَقُ فِي النَّسَبِ بِالْقَوْمِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ دَعِيًّا فِي قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْ مَنْحِهِمْ، ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِ عَشَرَةَ مِنْ مَوْلِدِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ لَهُ سِتَّةُ أَصَابِعَ فِي يَدِهِ، فِي كُلِّ إِبْهَامٍ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَيْسَتْ لِمُعَيَّنٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: كُلَّ حَلَّافٍ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ؟ فَإِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ طَوَاعِيَةِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مُلَخَّصُهُ، قَرَأَ النَّحْوِيَّانِ والحرميان وحفص وأهل الْمَدِينَةِ: أَنْ كانَ عَلَى الْخَبَرِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو جَعْفَرٍ: عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَحَقَّقَ الْهَمْزَتَيْنِ حَمْزَةُ، وَسَهَّلَ الثَّانِيَةَ بَاقِيهِمْ. فَأَمَّا عَلَى الْخَبَرِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عُتُلٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُصِفَ. انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ كُوفِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: زَنِيمٍ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْقَبِيحِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ، يَعْنِي وَلَا تُطِعْهُ مَعَ هَذِهِ الْمَثَالِبِ، أَنْ كانَ ذَا مالٍ: أَيْ لِيَسَارِهِ وَحَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى لِكَوْنِهِ مُتَمَوِّلًا مُسْتَظْهِرًا بِالْبَنِينَ، كَذَّبَ آيَاتِنَا وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ، قَالَ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ إِذَا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَكِنْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ مِنْ مَعْنَى التَّكْذِيبِ. انْتَهَى. وَأَمَّا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَسِّرَ عَامِلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ أَيَكُونُ طَوَاعِيَةً لِأَنْ كَانَ؟ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَتُطِيعُهُ لِأَنْ كَانَ؟ أَوْ عَامِلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ أَكْذَبَ أَوْ جَحَدَ لِأَنْ كَانَ؟ وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ الْيَزِيدِيِّ عَنْهُ: إِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والشرط للمخاطب، أي

_ (1) سورة البلد: 90/ 17.

لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ شَارِطًا يَسَارَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ الْكَافِرَ لِغِنَاهُ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الطَّاعَةِ الْغِنَى، وَنَحْوُ صَرْفِ الشَّرْطِ إِلَى الْمُخَاطَبِ صَرْفُ الرَّجَاءِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ. انتهى. وأقول: إن كان شرط، وإذا تُتْلَى شَرْطٌ، فَهُوَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطَانِ، وَلَيْسَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَرَتِّبَةِ الْوُقُوعِ، فَالْمُتَأَخِّرُ لَفْظًا هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، وَالْمُتَقَدِّمُ لَفُظًا هُوَ شَرْطٌ فِي الثَّانِي، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ عَثَرْتُ بَعْدَهَا إِنْ وَأَلَتْ ... نفسي من هاء تاء فقولا لها لها لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى تَرْكِ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ كَوْنُهُ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، فَهُوَ مَشْغُولُ الْقَلْبِ، فَذَلِكَ غَافِلٌ عَنِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، قَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَأَبْطَرَتْهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَئِذَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى قَوْلِهِ الْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمَّا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، ذَكَرَ مَا يُفْعَلُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَعُّدِ فَقَالَ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، وَالسِّمَةُ: الْعَلَامَةُ. وَلَمَّا كَانَ الْوَجْهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، وَالْأَنْفُ أَكْرَمَ مَا فِي الْوَجْهِ لِتَقَدُّمِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ مَكَانَ الْعِزِّ وَالْحَمِيَّةِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْأَنَفَةَ وَقَالُوا: حَمِيُّ الْأَنْفِ شَامِخُ الْعِرْنِينِ. وَقَالُوا فِي الذَّلِيلِ: جُدِعَ أَنْفُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ. وَكَانَ أَيْضًا مِمَّا تَظْهَرُ السِّمَاتُ فِيهِ لِعُلُوٍّ، قَالَ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، وَهُوَ غَايَةُ الْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ وَالِاسْتِبْلَادِ، إِذْ صَارَ كَالْبَهِيمَةِ لَا يَمْلِكُ الدَّفْعَ عَنْ وَسْمِهِ فِي الْأَنْفِ، وَإِذَا كَانَ الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ شَيْنًا، فَكَيْفَ بِهِ عَلَى أَكْرَمِ عُضْوٍ فِيهِ؟ وَقَدْ قِيلَ: الْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: وَحُسْنُ الْفَتَى فِي الْأَنْفِ وَالْأَنْفُ عَاطِلٌ ... فَكَيْفَ إِذَا مَا الْخَالُ كَانَ لَهُ حُلِيًّا وَسَنَسِمُهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ، أَيْ يُضْرَبُ بِهِ وَجْهِهِ وَعَلَى أَنْفِهِ، فَيَجِيءُ ذَلِكَ كَالْوَسْمِ عَلَى الْأَنْفِ، وَحَلَّ بِهِ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ذَلِكَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ تَعْذِيبٌ بِنَارٍ عَلَى أُنُوفِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ نُوسِمُ عَلَى أَنْفِهِ بَسِمَةٍ يُعْرَفُ بِهَا كُفْرُهُ وَانْحِطَاطُ قَدْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ سَنَفْعَلُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الذَّمِّ وَالْمَقْتِ وَالِاشْتِهَارِ بِالشَّرِّ مَا يَبْقَى فِيهِ وَلَا يَخْفَى بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْوَسْمِ عَلَى الْأَنْفِ ثَابِتًا بَيِّنًا، كَمَا تَقُولُ: سَأُطَوِّقُكَ طَوْقَ الْحَمَامَةِ: أَيْ أُثْبِتُ لَكَ الْأَمْرَ بَيِّنًا فِيكَ، وَنَحْوَ هَذَا أَرَادَ جَرِيرٌ بِقَوْلِهِ: لَمَّا وضعت على الفرزدق ميسمي وَفِي الْوَسْمِ عَلَى الْأَنْفِ تَشْوِيهٌ، فَجَاءَتِ اسْتِعَارَتُهُ فِي الْمَذَمَّاتِ بَلِيغَةً جِدًّا. قَالَ ابْنُ

عَطِيَّةَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ أَبِي جَهْلٍ وَنُظَرَائِهِ، وَمَا ثَبَتَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ سُوءِ الْأُخْرَوِيَّةِ، رَأَيْتَ أَنَّهُمْ قَدْ وُسِمُوا عَلَى الْخَرَاطِيمِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ: يَسْوَدُّ وَجْهُهُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، وَذَكَرَ الْخُرْطُومَ، وَالْمُرَادُ الْوَجْهُ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَجْهِ يُؤَدِّي عَنْ بَعْضٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: إِنَّمَا بَالَغَ الْكَافِرُ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ شَاهِدُ الْإِنْكَارِ هُوَ الْأَنَفَةُ وَالْحَمِيَّةُ، عَبَّرَ عَنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي اسْتِعَارَةِ الْخُرْطُومِ مَكَانَ الْأَنْفِ اسْتِهَانَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ هُوَ لِلسِّبَاعِ. وَتُلَخِّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، أَهْوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟ وَإِذَا كَانَ حَقِيقَةً، فَهَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ وَأَبْعَدَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْخُرْطُومَ بِالْخَمْرِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ سَنَحُدُّهُ عَلَى شُرْبِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُتَّصِفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ بِدَعْوَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» الْحَدِيثَ، كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْمَعْرُوفِ خَبَرُهَا عِنْدَهُمْ. كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صَنْعَاءَ لِرَجُلٍ كَانَ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ مِنْهَا، فَمَاتَ فَصَارَتْ إِلَى وَلَدِهِ، فَمَنَعُوا النَّاسَ خَيْرَهَا وَبَخِلُوا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَهْلَكَهَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُ مَا حَلَّ بِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَتْ بِصُورَانَ عَلَى فَرَاسِخَ مِنْ صَنْعَاءَ لِنَاسٍ بَعْدَ رَفْعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ صَاحِبُهَا ينزل للمساكنين مَا أَخْطَأَهُ الْمِنْجَلُ وَمَا فِي أَسْفَلِ الْأَكْرَاسِ وَمَا أَخْطَاهُ الْقِطَافُ مِنَ الْعِنَبِ وَمَا بَقِيَ عَلَى السَّبَاطِ تَحْتَ النَّخْلَةِ إِذَا صُرِمَتْ، فَكَانَ يَجْتَمِعُ لَهُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا مَاتَ قَالَ بَنُوهُ: إِنْ فَعَلْنَا مَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُونَا ضَاقَ عَلَيْنَا الْأَمْرُ وَنَحْنُ أُولُو عِيَالٍ، فَحَلَفُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ فِي السَّدَفِ خُفْيَةً مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا فِي يمينهم والكاف فِي كَما بَلَوْنا فِي موضع نصب، وما مَصْدَرِيَّةٌ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الَّذِي، وإذ معمول لبلوناهم ليصر منها جَوَابُ الْقَسَمِ لَا عَلَى مَنْطُوقِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى منطوقهم لكان لنصر منها بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمَعْنَى: لَيَجُدُنَّ ثَمَرَهَا إِذَا دَخَلُوا فِي الصَّبَاحِ قَبْلَ خُرُوجِ الْمَسَاكِينِ إِلَى عَادَتِهِمْ مَعَ أَبِيهِمْ. وَلا يَسْتَثْنُونَ: أَيْ وَلَا يَنْثَنُونَ عَنْ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ: لَا يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بَلْ عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عَزْمَ مَنْ يَمْلِكُ أَمْرَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَّبِعًا قَوْلَ مُجَاهِدٍ: وَلَا يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سُمِّيَ اسْتِثْنَاءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مُؤَدَّى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: لَأَخْرُجَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا أَخْرُجُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاحِدٌ. انْتَهَى.

فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ، قَرَأَ النَّخَعِيُّ: طِيفَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالطَّائِفُ: الْأَمْرُ الَّذِي يَأْتِي بِاللَّيْلِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ «1» ، فَلَمْ يَتَخَصَّصْ بِاللَّيْلِ، وَطَائِفٌ مُبْهَمٌ. فَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اقْتَلَعَهَا وَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ وَضَعَهَا حَيْثُ مَدِينَةُ الطَّائِفِ الْيَوْمَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيتْ بِالطَّائِفِ، وَلَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ بَلْدَةٌ فِيهَا الْمَاءُ وَالشَّجَرُ وَالْأَعْنَابُ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَائِفٌ مِنْ أَمْرِ رَبِّكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابٌ مِنْ رَبِّكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: عُنُقٌ خَرَجَ مِنْ وَادِي جَهَنَّمَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالرَّمَادِ الْأَسْوَدِ، وَالصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الْأَسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الصَّرِيمُ رَمْلَةٌ بِالْيَمَنِ مَعْرُوفَةٌ لَا تُنْبِتُ، فَشَبَّهَ جَنَّتَهُمْ بِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: صَرَمَ عَنْهَا الْخَيْرَ، أَيْ قَطَعَ. فَالصَّرِيمُ بِمَعْنَى مَصْرُومٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَالصُّبْحِ مِنْ حَيْثُ ابْيَضَّتْ كَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ. وقال مورج: كَالرَّمْلَةِ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ، وَالرَّمْلَةُ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا يَنْفَعُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كَالنَّهَارِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا. وَقَالَ شِمْرٌ: الصَّرِيمُ: اللَّيْلُ، وَالصَّرِيمُ: النَّهَارُ، أَيْ يَنْصَرِمُ هَذَا عَنْ ذَاكَ، وَذَاكَ عَنْ هَذَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْقَاضِيَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ وَجَمَاعَةٌ: الصَّرِيمُ: اللَّيْلُ مِنْ حَيْثُ اسْوَدَّتْ جَنَّتُهُمْ. فَتَنادَوْا: دَعَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى الْمُضِيِّ إِلَى مِيعَادِهِمْ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ، وَمَا مَعْنَى عَلَى؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ الْغُدُوُّ إِلَيْهِ لِيَصْرِمْوهُ وَيَقْطَعُوهُ كَانَ غُدُوًّا عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: غَدَا عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ الْغَدَ وَمَعْنَى الْإِقْبَالِ، كَقَوْلِهِمْ: يُغْدَى عَلَيْهِ بِالْجَفْنَةِ وَيُرَاحُ، أَيْ فَأَقْبِلُوا عَلَى حَرْثِكُمْ بَاكِرِينَ. انْتَهَى. وَاسْتَسْلَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ غَدَا يَتَعَدَّى بِإِلَى، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلِ بِحَيْثُ يَكْثُرُ ذَلِكَ فَيَصِيرُ أَصْلًا فِيهِ وَيُتَأَوَّلُ مَا خَالَفَهُ، وَالَّذِي فِي حِفْظِي أَنَّهُ مُعَدًّى بِعَلَى، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: بَكَرْتُ عَلَيْهِ غُدْوَةً فَرَأَيْتُهُ ... قَعُودًا عَلَيْهِ بِالصَّرِيمِ عَوَادِلُهُ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ من صرام النحل. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: إِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ عَزْمٍ وَإِقْدَامٍ عَلَى رَأْيِكُمْ، مِنْ قَوْلِكَ: سَيْفٌ صَارِمٌ. يَتَخافَتُونَ: يُخْفُونَ كَلَامَهُمْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمُ الْمَسَاكِينُ. أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا: أَيْ يَتَخَافَتُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ لا يدخلنها، وأن مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَا يَدْخُلَنَّهَا، بِإِسْقَاطِ أَنْ عَلَى إِضْمَارٍ يَقُولُونَ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ يَتَخَافَتُونَ مَجْرَى الْقَوْلِ، إِذْ مَعْنَاهُ: يُسَارُّونَ الْقَوْلَ وَالنَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ. نَهْيٌ عَنِ التَّمْكِينِ مِنْهُ، أَيْ لَا تُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الدُّخُولِ

_ (1) سورة الأعراف: 201/ 7.

فَيَدْخُلُوا. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ: أَيْ عَلَى قَصْدٍ وقدوة فِي أَنْفُسِهِمْ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ مُرَادِهِمْ. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ قَاصِدِينَ إِلَى جَنَّتِهِمْ بِسُرْعَةٍ، قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى صِرَامِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَبِيُّ: عَلى حَرْدٍ: عَلَى مَنْعٍ، أَيْ قَادِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خَيْرِهَا، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ مَنَعَهُمْ خَيْرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلى حَرْدٍ، أَيْ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ: عَلى حَرْدٍ: عَلَى غَضَبٍ، أَيْ لَمْ يَقْدِرُوا إِلَّا عَلَى حَنَقٍ وَغَضَبٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: عَلى حَرْدٍ: عَلَى انْفِرَادٍ، أَيِ انْفَرَدُوا دُونَ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَرْدٍ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْمُ جَنَّتِهِمْ، أَيْ غَدَوْا عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ قَادِرِينَ عَلَى صِرَامِهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مُقَدِّرِينَ أَنْ يَتِمَّ لَهُمْ مُرَادُهُمْ مِنَ الصِّرَامِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من التَّقْدِيرِ بِمَعْنَى التَّضْيِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «1» ، أَيْ مُضَيِّقِينَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، إِذْ حَرَمُوهُمْ مَا كَانَ أَبُوهُمْ يُنِيلُهُمْ مِنْهَا. فَلَمَّا رَأَوْها: أَيْ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا غُدُوُّهَا عَلَيْهَا، مِنْ هَلَاكِهَا وَذَهَابِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ: أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَيْهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ وُصُولِهِمْ أَنْكَرُوا أَنَّهَا هِيَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَخْطَأُوا الطَّرِيقَ إِلَيْهَا، ثُمَّ وَضَحَ لَهُمْ أَنَّهَا هِيَ، وَأَنَّهُ أَصَابَهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا أَذْهَبَ خَيْرَهَا. وَقِيلَ: لَضَالُّونَ عَنِ الصَّوَابِ فِي غُدُوِّنَا عَلَى نِيَّةِ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، فَقَالُوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ خَيْرَهَا بِخِيَانَتِنَا عَلَى أَنْفُسِنَا. قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَيْ أَفْضَلُهُمْ وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلًا، أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ: أَنَّبَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ مَا حَضَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ، أَيْ ذِكْرُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَوْ ذَكَرُوا الله وإحسانه إليهم لا متثلوا مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ مُوَاسَاةِ الْمَسَاكِينِ وَاقْتَفَوْا سُنَّةَ أَبِيهِمْ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا غَفَلُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَزَمُوا عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، ابْتَلَاهُمُ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْسَطَهُمْ كان قد تقد إِلَيْهِمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلَ مُجَاهِدٌ التَّسْبِيحَ مَوْضِعَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَنْزِيهُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِالْتِقَائِهِمَا فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِلَّهِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَفْوِيضٌ إِلَيْهِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهٌ لَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّنْزِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ. وَقِيلَ: لَوْلا تُسَبِّحُونَ: تَسْتَغْفِرُونَ. وَلَمَّا أَنَّبَهُمْ، رَجَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ، وبادروا إلى تسبح اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: سُبْحانَ رَبِّنا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذنبنا. و

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 7. [.....]

أَقَرُّوا بِظُلْمِهِمْ، لَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَجَعَلَ اللَّوْمَ فِي حَيِّزِ غَيْرِهِ، إِذْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ زَيَّنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَمَرَ بِالْكَفِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَصَى الْأَمْرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَتَ عَلَى رِضًا مِنْهُ. ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ طَغَوْا، وَتَرَجُّوا انْتِظَارَ الْفَرَجِ فِي أَنْ يُبْدِلَهُمْ خَيْرًا مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا: أَيْ بِهَذِهِ الْجَنَّةِ، خَيْراً مِنْها: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكَهْفِ، وَالْخِلَافُ فِي تَخْفِيفِ يُبَدِّلُنَا، وَتَثْقِيلِهَا مَنْسُوبًا إِلَى الْقُرَّاءِ. إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ: أَيْ طَالِبُونَ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَيْنَا مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْجَنَّةِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَصَابُوا مَعْصِيَةً وَتَابُوا. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَوْمَ دَعَوُا اللَّهَ وَأَخْلَصُوا، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَأَبْدَلَهُمْ بِهَا جَنَّةً، وَكُلُّ عُنْقُودٍ مِنْهَا كَالرَّجُلِ الْأَسْوَدِ الْقَائِمِ. وعن مجاهد: تابوا فأبدوا خَيْرًا مِنْهَا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمُعْظَمُ يَقُولُونَ أَنَّهُمْ تَابُوا وَأَخْلَصُوا. انْتَهَى. وَتَوَقَّفَ الْحَسَنُ فِي كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ: أَكَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ إِيمَانًا، أَوْ عَلَى حَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمُ الشِّدَّةُ؟. كَذلِكَ الْعَذابُ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ قُرَيْشٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِالْجَنَّةِ، أَيْ كَذلِكَ الْعَذابُ: أَيِ الَّذِي نَزَلَ بِقُرَيْشٍ بَغْتَةً، ثُمَّ عَذَابُ الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْعَذَابُ النَّازِلُ بِقُرَيْشٍ الممائل لِأَمْرِ الْجَنَّةِ هُوَ الْجَدْبُ الَّذِي أَصَابَهُمْ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى رَأَوُا الدُّخَانَ وَأَكَلُوا الْجُلُودَ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي بَلَوْنَا بِهِ أَهْلَ مَكَّةَ وَأَصْحَابَ الْجَنَّةِ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْهُ. انْتَهَى. وَتَشْبِيهُ بَلَاءِ قُرَيْشٍ بِبَلَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ هُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ عَزَمُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِثَمَرِهَا وَحِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ، فَقَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَرَمَهُمْ. وَأَنَّ قُرَيْشًا حِينَ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ حَلَفُوا عَلَى قَتْلِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ وَطَافُوا بِالْكَعْبَةِ وَشَرِبُوا الْخُمُورَ، فَقَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ قُتِلُوا وَأُسِرُوا. وَلَمَّا عَذَّبَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا قَالَ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ،

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَلَا كَفَّارَ قُرَيْشٍ وَشَبَّهَ بَلَاءَهُمْ بِبَلَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، أَخْبَرَ بِحَالِ أَضْدَادِهِمْ وَهُمُ الْمُتَّقُونَ، فَقَالَ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ: أَيِ الْكُفْرَ، جَنَّاتِ النَّعِيمِ: أَضَافَهَا إِلَى النَّعِيمِ، لِأَنَّ النَّعِيمَ لَا يُفَارِقُهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا هُوَ، فَلَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ كَمَا يَشُوبُ جَنَّاتِ الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنْ كَانَ ثَمَّ جَنَّةٌ فَلَنَا فِيهَا أَكْثَرُ الْحَظِّ، فَنَزَلَتْ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالُوا فَضَّلَنَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يُفَضِّلُنَا عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَّا فَالْمُشَارَكَةُ، فَأَجَابَ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ: أَيْ لَا يَتَسَاوَى الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، هُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ تَوْقِيفٌ عَلَى خَطَأِ مَا قَالُوا وَتَوْبِيخٌ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا لَكُمْ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِيمَا تَزْعُمُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ثَالِثٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، اسْتَفْهَمَ عَنْ هَيْئَةِ حُكْمِهِمْ. فَفِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ عَنْ كَيْنُونَةٍ مُبْهَمَةٍ، وَفِي كَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ هَيْئَةِ حُكْمِهِمْ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا إِضْرَابَ انْتِقَالٍ لِشَيْءٍ آخَرَ لَا إِبْطَالٍ لِمَا قَبْلَهُ فَقَالَ: أَمْ لَكُمْ، أَيْ: بَلْ أَلْكُمْ؟ كِتابٌ، أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَدْرُسُونَ أَنَّ مَا تَخْتَارُونَهُ يَكُونُ لَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ لَكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَقِيلَ هُوَ اسْتِئْنَافُ قَوْلٍ عَلَى مَعْنَى: إِنْ لَكُمْ كِتَابٌ فَلَكُمْ فِيهِ مُتَخَيَّرٌ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْمُولَةٌ لِتَدْرُسُونِ، أَيْ تَدْرُسُونَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لَكُمْ، لَما تَخَيَّرُونَ: أَيْ تَخْتَارُونَ مِنَ النَّعِيمِ، وَكُسِرَتِ الْهَمْزَةُ مِنْ أَنَّ لِدُخُولِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَدَأَ بِهِ وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً لِلْمَدْرُوسِ كَمَا هُوَ، كَقَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ «1» . انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَنَّ لَكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَاللَّامِ فِي لَمَا زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: أَإِنَّ لَكُمْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ.

_ (1) سورة الصافات: 37/ 78.

أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ: أَيْ أَقْسَامٌ عَلَيْنَا، بالِغَةٌ: أَيْ مُتَنَاهِيَةٌ فِي التَّوْكِيدِ. يُقَالُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ يَمِينٌ إِذَا حَلَفْتُ لَهُ عَلَى الْوَفَاءِ بما حلفت عليه، وإلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ وَهُوَ لَكُمْ، أَيْ ثَابِتَةٌ لَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ بِبَالِغَةٍ: أَيْ تَبْلُغُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بالِغَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي عَلَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَالٌ مِنْ نَكِرَةٍ لِأَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ تَغْلِيبًا. إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ: جَوَابُ الْقَسَمِ، لِأَنَّ مَعْنَى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا: أَمْ أَقْسَمْنَا لَكُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: أَإِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ، كَالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ: أَيْ ضَامِنٌ بِمَا يَقُولُونَهُ وَيَدَّعُونَ صِحَّتَهُ، وَسَلْ مُعَلَّقَةٌ عَنْ مَطْلُوبِهَا الثَّانِي، لَمَّا كَانَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ جَازَ تَعْلِيقُهُ كَالْعِلْمِ، وَمَطْلُوبُهَا الثَّانِي أَصْلُهُ أَنْ يُعَدَّى بِعْنَ أَوْ بِالْبَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... عَلِيمٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ لَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِعْنَ أَوْ بِالْبَاءِ، كَمَا تَقُولُ: سَلْ زَيْدًا عَنْ مَنْ يَنْظُرُ فِي كَذَا، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَ سَلْهُمْ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَلْيَأْتُوا بِشِرْكِهِمْ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ الْأَصْنَامُ أَوْ نَاسٌ يُشَارِكُونَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ وَيُوَافِقُونَهُمْ فِيهِ، أَيْ لَا أَحَدَ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَلَا عَهْدَ مِنَ اللَّهِ، وَلَا زَعِيمَ بِذَلِكَ، فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ: هَذَا اسْتِدْعَاءٌ وَتَوْقِيفٌ. قِيلَ: فِي الدُّنْيَا أَيْ لِيُحْضِرُوهُمْ حَتَّى تَرَى هَلْ هُمْ بِحَالِ مَنْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ أَمْ لَا. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِمْ. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ النَّاصِبِ لِيَوْمِ فَلْيَأْتُوا. وَقِيلَ: اذْكُرْ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَحُذِفَ لِلتَّهْوِيلِ الْعَظِيمِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ هَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الْيَوْمُ هُوَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ قَالَ: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِيهِ تَعَبُّدٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا آخِرُ أَيَّامِ الرَّجُلِ فِي دُنْيَاهُ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى «2» ، ثُمَّ يَرَى النَّاسَ يُدْعَوْنَ إِلَى الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَتْ أَوْقَاتُهَا، فَلَا يستطيع الصلاة

_ (1) سورة البقرة: 2/ 217. (2) سورة الفرقان: 25/ 22.

لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ فِيهِ نَفْسًا إِيمَانُهَا وَإِمَّا حَالُ الْمَرَضِ وَالْهَرَمِ وَالْمُعْجِزَةِ. وَقَدْ كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ مِمَّا بِهِمُ الْآنَ. فَذَلِكَ إِمَّا لِشِدَّةِ النَّازِلَةِ بِهِمْ مِنْ هَوْلِ مَا عَايَنُوا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَإِمَّا مِنَ الْعَجْزِ وَالْهَرَمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السُّجُودِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَى سبيل التقريع والتخجيل. وعند ما يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، سُلِبُوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الِاسْتِطَاعَةِ حَتَّى يَزْدَادَ حُزْنُهُمْ وَنَدَامَتُهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ حِينَ دُعُوا إليه وهم سالمون الْأَطْرَافِ وَالْمَفَاصِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُكْشَفُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَابْنُ هُرْمُزَ: بِالنُّونِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: يكشف بفتح الياء منبيا لِلْفَاعِلِ وَعَنْهُ أَيْضًا بِالْيَاءِ مضمومة مبنيا للمفعول. وقرىء: يُكْشِفُ بِالْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ، مِنْ أَكْشَفَ إِذَا دَخَلَ فِي الْكَشَفِ، وَمِنْهُ أَكْشَفَ الرَّجُلُ: انْقَلَبَتْ شَفَتُهُ الْعُلْيَا، وَكَشْفُ السَّاقِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَتَفَاقُمِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ أَوَّلُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهِيَ أَفْظَعُهَا. وَمِمَّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَوْلِهِ: «فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنْ سَاقٍ» ، مَحْمُولٌ أَيْضًا عَلَى الشِّدَّةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. قَالَ حَاتِمٌ: أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا وَقَالَ الرَّاجِزُ: عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا ... وَمِنْ طِرَادِي الْخَيْلَ عَنْ أَرْزَاقِهَا فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا ... حَمْرَاءَ تَبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عِرَاقِهَا وَقَالَ الرَّاجِزُ: قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشُدُّوا ... وَجَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا وَقَالَ آخَرُ: صبرا امام إن شرباق ... وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وَبَدَا من الشر ألبوا ويروى: الصداخ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ شِدَّةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الشِّدَّةِ، يُقَالُ: كَشَفَ عَنْ سَاقِهِ إِذَا تَشَمَّرَ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ

لِسَنَةِ الْجَدْبِ: كَشَفَتْ سَاقَهَا، وَنَكَّرَ سَاقٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ فِي الشِّدَّةِ، خَارِجٌ عَنِ الْمَأْلُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَقَعُ أَمْرٌ فَظِيعٌ هَائِلٌ. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ. وَقِيلَ: الدَّاعِي مَا يَرَوْنَهُ مِنْ سُجُودِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُرِيدُونَ هُمُ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي حَاوَرَهُمْ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَيَخِرُّونَ لِلسُّجُودِ، فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَتَصِيرُ أَصْلَابُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ كَصَيَاصِي الْبَقَرِ عَظْمًا وَاحِدًا، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سُجُودًا. انْتَهَى. وَنَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ لِلسُّجُودِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُمُ اسْتِطَاعَةً فِي الدُّنْيَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُبَّائِيُّ. وخاشِعَةً: حَالٌ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي يُدْعَوْنَ، وَخَصَّ الْأَبْصَارَ بِالْخُشُوعِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَوَارِحُ كُلُّهَا خَاشِعَةً، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِيهِ مِنْهُ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ، تَرْهَقُهُمْ: تَغْشَاهُمْ، ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. قِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَعْظَمُ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ حَيْثُ امْتُحِنُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ: أَرَادَ بِالسُّجُودِ: الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ لِلصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ فَلَا يُجِيبُونَ. فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، الْمَعْنَى: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَإِنِّي سَأُجَازِيهِ وَلَيْسَ ثَمَّ مَانِعٌ. وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ يُكَذِّبُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ تَعَالَى قَدَّمَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ. وَمَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي ذَرْنِي، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مَتِينٌ: تُكُلِّمَ عَلَيْهِ فِي الأعراف. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً إِلَى: يَكْتُبُونَ: تُكُلِّمَ عَلَيْهِ فِي الطَّوْرِ. رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى الَّذِينَ انْهَزَمُوا بِأُحُدٍ حِينَ اشْتَدَّ بِالْمُسْلِمِينَ الْأَمْرُ. وَقِيلَ: حِينَ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ثَقِيفٍ، فَنَزَلَتْ : فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ: وَهُوَ إِمْهَالُهُمْ وَتَأْخِيرُ نَصْرِكَ عَلَيْهِمْ، وَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ: هُوَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ نَادَى: أَيْ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ «1» ، وَلَيْسَ النَّهْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الذَّوَاتِ، إِنَّمَا الْمَعْنَى: لَا يَكُنْ حَالُكَ مِثْلَ حَالِهِ. إِذْ نَادَى: فَالْعَامِلُ فِي إِذْ هُوَ الْمَحْذُوفُ الْمُضَافُ، أَيْ كَحَالِ أَوْ كَقِصَّةِ صَاحِبِ الْحُوتِ،

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 87.

إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ: مَمْلُوءٌ غَيْظًا عَلَى قَوْمِهِ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَحْوَجُوهُ إِلَى اسْتِعْجَالِ مُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُمْ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَأَنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْنًا ... عَانِي الْفُؤَادِ قَرِيحُ الْقَلْبِ مَكْظُومُ وَتَقَدَّمَتْ مَادَّةُ كَظَمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدارَكَهُ مَاضِيًّا، وَلَمْ تَلْحَقْهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لِتَحْسِينِ الْفَصْلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عباس: تَدَارَكَتْهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: بِشَدِّ الدَّالِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ تَتَدَارَكُهُ، لِأَنَّهُ مستقبل انتصب بأن الْخَفِيفَةِ قَبْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الْمُقْتَضِيَةِ، أَيْ لَوْلَا أَنْ كَانَ يُقَالُ تَتَدَارَكُهُ، وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا هَذِهِ الْحَالُ الْمَوْجُودَةُ كَانَتْ لَهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ «2» وَجَوَابُ لَوْلا قَوْلُهُ: لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، أَيْ لَكِنَّهُ نَبَذَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، كَمَا قَالَ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ «3» ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ لَا عَلَى النَّبْذِ مُطْلَقًا، بَلْ بِقَيْدِ الْحَالِ. وَقِيلَ: لَنُبِذَ بِعَرَاءِ الْقِيَامَةِ مَذْمُومًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «4» . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فَاجْتَباهُ: أي اصطفاه، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ: أَيِ الْأَنْبِيَاءِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ الْوَحْيَ وَشَفَّعَهُ فِي قَوْمِهِ. وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ لِمَا أَرَادَهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ عَنْ مَا نهاه، أخبر بِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِيَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ: أَيْ لَيُزْلِقُونَ قَوْمَكَ بِنَظَرِهِمُ الْحَادِّ الدَّالِّ عَلَى الْعَدَاوَةِ الْمُفْرِطَةِ، أَوْ لَيُهْلِكُونَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرَ إِلَيَّ نَظَرًا يَكَادُ يَصْرَعُنِي وَيَكَادُ يَأْكُلُنِي، أَيْ لَوْ أَمْكَنَهُ بِنَظَرِهِ الصَّرْعُ وَالْأَكْلُ لَفَعَلَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَتَعَارَضُونَ إِذَا الْتَقَوْا فِي مَوْطِنٍ ... نَظَرًا يَزِلُّ مَوَاطِنَ الْأَقْدَامِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَيُزْلِقُونَكَ: لَيَصْرِفُونَكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُزْلِقُونَكَ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَزْلَقَ ونافع: بِفَتْحِهَا مِنْ زَلِقَتِ الرِّجْلُ، عُدِّيَ بِالْفَتْحَةِ مَنْ زَلِقَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ، نَحْوُ شَتِرَتْ عَيْنُهُ بِالْكَسْرِ، وَشَتَرَهَا اللَّهُ بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى: لَيُزْهِقُونَكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ: لَيَأْخُذُونَكَ بِالْعَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّ اللَّفْعَ بِالْعَيْنِ كَانَ فِي بَنِي أَسَدٍ. قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يَمْكُثُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَا يَأْكُلُ، ثم يرفع

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 134. (2) سورة القصص: 28/ 15. (3) سورة الصافات: 37/ 145. (4) سورة الصافات: 37/ 143.

جَانِبَ خِبَائِهِ فَيَقُولُ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ إِبِلًا وَلَا غَنَمًا أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ، فَمَا تَذْهَبُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ تَسْقُطُ طَائِفَةٌ أَوْ عِدَّةٌ مِنْهَا. قَالَ الْكُفَّارُ لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يُصِيبَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجَابَهُمْ، وَأَنْشَدَ: قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسُبُونَكَ سَيِّدًا ... وَأَخَالُ أَنَّكَ سَيِّدٌ مَعْيُونٌ أَيْ: مُصَابٌ بِالْعَيْنِ، فَعَصَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ عليه هذه الآية. قال قَتَادَةُ: نَزَلَتْ لِدَفْعِ الْعَيْنِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَعْيِنُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دَوَاءُ مَنْ أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ، لَا مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ، وَقَالَ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَمْنَعُ كَرَاهَةُ الشَّيْءِ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِالْعَيْنِ عَدَاوَةً لَهُ حَتَّى يَهْلِكَ. انْتَهَى. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُعْيَنِ، وَإِنْ كَانَ مُبْغَضًا عِنْدَ الْعَائِنِ صِفَةٌ يَسْتَحْسِنُهَا الْعَائِنُ، فَيَعْيِنُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، لَا سِيَّمَا مَنْ تَكُونُ فِيهِ صِفَاتُ كَمَالٍ. لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ: مَنْ يَقُولُ لَمَّا ظَرْفٌ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ لَيُزْلِقُونَكَ، وَإِنْ كَانَ حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَانَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ كَادُوا يُزْلِقُونَكَ، وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ. وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ تَنْفِيرًا عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمُّهُمْ فَضْلًا وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلًا. وَما هُوَ: أَيِ الْقُرْآنُ، إِلَّا ذِكْرٌ: عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ، لِلْعالَمِينَ: أَيْ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَى الْجِنِّ مَنْ جَاءَ بِهِ؟.

سورة الحاقة

سورة الحاقّة [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

الْحُسُومُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ حَسَمَ الدَّاءَ، أَيْ تَابَعَ بِالْمِكْوَاةِ عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَفَرَّقَ بَيْنَ جَمْعِهِمْ زَمَانٌ ... تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامٌ حُسُومُ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: حَسَمْتُ الشَّيْءَ: فَصَلْتُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْحُسَامُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَرْسَلَتْ ريحا بورا عَقِيمًا ... فَدَارَتْ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حُسُومًا وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحُسُومُ: الشُّؤْمُ، يُقَالُ: هَذِهِ لَيَالِي الْحُسُومِ: أَيْ تَحْسِمُ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهَا، وَقَالَهُ فِي الصِّحَاحِ. صَرْعَى: هَلْكَى، الْوَاحِدُ صَرِيعٌ، وَهِيَ الشَّيْءُ ضَعُفَ وَتَدَاعَى لِلسُّقُوطِ. قَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: مِنْ قَوْلِهِمْ وَهِيَ السقاء إذا انخرق، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ قَوْلُ الرَّاجِزِ: خَلِّ سَبِيلَ مَنْ وَهِيَ سِقَاؤُهُ ... وَمَنْ هُرِيقَ بِالْفَلَاةِ مَاؤُهُ الْأَرْجَاءُ: الْجَوَانِبُ، وَاحِدُهَا رَجًا، أَيْ جَانِبٌ مِنْ حَائِطٍ أَوْ بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَلِذَلِكَ بَرَزَتْ فِي التَّثْنِيَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنْ لَمْ تَرَا قَبْلِي أَسِيرًا مُقَيَّدًا ... وَلَا رَجُلًا يَرْمِي بِهِ الرَّجَوَانِ وَقَالَ الْآخَرُ: فَلَا يَرْمِي بِهِ الرَّجَوَانِ إِنِّي ... أقل اليوم من يعني مَكَانِي هَاءَ بِمَعْنَى خُذْ، فِيهَا لُغَاتٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ السِّكِّيتِ: الْعَرَبُ تَقُولُ: هَاءَ يَا رَجُلُ، وَلِلِاثْنَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ: هَاؤُمَا، وللرجل هاؤم،

وللمرأء هَاءِ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ، وَلِلنِّسَاءِ هَاؤُنَّ. قِيلَ: وَمَعْنَى هَاؤُمُ: خُذُوا، وَمِنْهُ الْخَبَرُ فِي الرِّبَا إِلَّا هَاءً وَهَاءً: أَيْ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ خُذْ. وَقِيلَ: تَعَالَوْا، وَزَعَمَ الْقُتَبِيُّ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ إِلَّا إِنْ كَانَ عَنَى أَنَّهَا تَحُلُّ مَحَلَّهَا فِي لُغَةِ مَنْ قَالَ: هَاكَ وَهَاكَ وَهَاكُمَا وَهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ بَدَلٌ صِنَاعِيٌّ، لِأَنَّ الْكَافَ لَا تُبْدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ وَلَا الْهَمْزَةُ مِنْهَا. وَقِيلَ: هَاؤُمُ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِإِجَابَةِ الدَّاعِي عِنْدَ الْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ. وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ عَالٍ، فَجَاوَبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَاؤُمُ» ، بِصَوْلَةِ صَوْتِهِ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ هَاءَ أَمُّوا، ثُمَّ نَقَلَهُ التَّخْفِيفُ وَالِاسْتِعْمَالُ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذِهِ الْمِيمَ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ. الْقُطُوفُ جُمِعَ قِطْفٍ: وَهُوَ مَا يُجْتَنَى مِنَ الثَّمَرِ وَيُقْطَفُ. السِّلْسِلَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ حِلَقٌ يَدْخُلُ فِي حِلَقٍ عَلَى سَبِيلِ الطُّولِ. الذِّرَاعُ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَرْمِي عَلَيْهَا وَهِيَ فَرْعٌ أَجْمَعُ ... وَهِيَ ثَلَاثُ أَذْرُعٍ وَأُصْبُعُ حَضَّ عَلَى الشَّيْءِ: حَمَلَ عَلَى فِعْلِهِ بِتَوْكِيدٍ. الْغِسْلِينُ، قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: مَا يَجْرِي مِنَ الْجِرَاحِ إِذَا غُسِلَتْ. الْوَتِينُ: عِرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ، إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِرْقٌ بَيْنَ الْعِلْبَاءِ وَالْحُلْقُومِ، وَالْعِلْبَاءُ: عَصَبُ الْعُنُقِ، وَهُمَا عِلْبَاوَانِ بَيْنَهُمَا الْعِرْقُ. وَقِيلَ: عِرْقٌ غَلِيظٌ تُصَادِفُهُ شَفْرَةُ النَّاحِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ: إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الْوَتِينِ الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ، وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً، إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ، فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ، وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ

والأشقياء، وقال: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» ، ذَكَرَ حَدِيثَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَدْرَجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، كعاد وثمود وفرعون، لِيَزْدَجِرَ بِذِكْرِهِمْ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ عَاصَرُوا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَالِمَةً بِهَلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وفرعون، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. الْحَاقَّةُ: الْمُرَادُ بِهَا الْقِيَامَةُ وَالْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهَا حَقَّتْ لِكُلِّ عَامِلٍ عَمَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّهَا تُبْدِي حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَحِقُّ فِيهَا، فَهِيَ مِنْ بَابِ لَيْلٍ نَائِمٍ. وَالْحَاقَّةُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَلَمْ يُشَكَّ فِي صِحَّتِهِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ أَحُقُّهُ: أَيْ غَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ. فَالْقِيَامَةُ حَاقَّةٌ لِأَنَّهَا تُحَقِّقُ كُلَّ مُحَاقٍّ فِي دِينِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ، أَيْ كُلَّ مُخَاصِمٍ فَتَغْلِبُهُ. وَقِيلَ: الْحَاقَّةُ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْحَاقَّةُ مُبْتَدَأٌ، وَمَا مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَالْحَاقَّةُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ الْحَاقَّةِ، وَالرَّابِطُ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ نَحْوَ: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ، وَمَا اسْتِفْهَامٌ لَا يُرَادُ حَقِيقَتُهُ بَلِ التَّعْظِيمُ، وَأَكْثَرُ مَا يَرْبُطُ بِتَكْرَارِ الْمُبْتَدَأِ إِذَا أُرِيدَ، يَعْنِي التَّعْظِيمَ وَالتَّهْوِيلَ. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيهَا مَا لَمْ يُدْرَ وَلَمْ يُحِطْ بِهِ وَصْفٌ مِنْ أُمُورِهَا الشَّاقَّةِ وَتَفْصِيلِ أَوْصَافِهَا. وَمَا اسْتِفْهَامٌ أَيْضًا مُبْتَدَأٌ، وأَدْراكَ الْخَبَرُ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي أَدْراكَ، وَمَا مُبْتَدَأٌ، وَالْحَاقَّةُ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَدْرَاكَ، وأدراك مُعَلَّقَةٌ. وَأَصْلُ دَرَى أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ، وَقَدْ تُحْذَفُ عَلَى قِلَّةٍ، فَإِذَا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَقَوْلُهُ: مَا الْحَاقَّةُ بَعْدَ أَدْرَاكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. والقارعة مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِصَدْمَتِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْرَعُ النَّاسَ بِالْأَقْرَاعِ وَالْأَهْوَالِ، وَالسَّمَاءَ بِالِانْشِقَاقِ وَالِانْفِطَارِ، وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ بِالدَّكِّ وَالنَّسْفِ، وَالنُّجُومَ بِالطَّمْسِ وَالِانْكِدَارِ فَوَضَعَ الضَّمِيرَ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْقَرْعِ فِي الْحَاقَّةِ زِيَادَةً فِي وَصْفِ شِدَّتِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَهَا وَفَخَّمَهَا، أَتْبَعَ ذَلِكَ ذِكْرَ مَنْ كَذَّبَ بِهَا وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ، تَذْكِيرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَتَخْوِيفًا لَهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِهِمْ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأُهْلِكُوا: رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وزيد بْنُ عَلِيٍّ: فَهَلَكُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ قَتَادَةُ: بِالطَّاغِيَةِ: بِالصَّيْحَةِ الَّتِي خَرَجَتْ عَنْ حَدِّ كُلِّ صَيْحَةٍ. وَقَالَ مجاهد وابن

_ (1) سورة القلم: 68/ 44.

زَيْدٍ: بِسَبَبِ الْفِعْلَةِ الطَّاغِيَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَا مَعْنَاهُ: الطَّاغِيَةُ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِطُغْيَانِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها «1» . وَقِيلَ: الطَّاغِيَةُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَرَجُلٍ رَاوِيَةٍ، وَأُهْلِكُوا كُلُّهُمْ لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِهِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ الْفِئَةِ الطَّاغِيَةِ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الطَّاغِيَةَ هِيَ الصَّيْحَةُ، وَتَرْجِيحُ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ سَبَبِ الْهَلَاكِ فِي ثَمُودَ بِسَبَبِ الْهَلَاكِ فِي عَادٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي صَرْصَرٍ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، عاتِيَةٍ: عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ مِقْدَارٍ، أَوْ عَلَى عَادٍ فَمَا قَدَرُوا عَلَى أَنْ يَتَسَتَّرُوا مِنْهَا، أَوْ وُصِفَتْ بِذَلِكَ اسْتِعَارَةً لِشِدَّةِ عَصْفِهَا، وَالتَّسْخِيرُ هُوَ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ بِاقْتِدَارٍ عَلَيْهِ. فَمَعْنَى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ: أَيْ أَقَامَهَا وَأَدَامَهَا، سَبْعَ لَيالٍ: بَدَتْ عَلَيْهِمْ صُبْحَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى آخِرِ الْأَرْبِعَاءِ تَمَامَ الشَّهْرِ، حُسُوماً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: تِبَاعًا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا انْقِطَاعٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: شُؤْمًا وَنَحْسًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حُسُوماً جَمْعُ حَاسِمٍ، أَيْ تِلْكَ الْأَيَّامُ قَطَّعَتْهُمْ بِالْإِهْلَاكِ، وَمِنْهُ حَسْمُ الْعِلَلِ وَالْحُسَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ تَحْسِمُ حُسُومًا بِمَعْنَى تَسْتَأْصِلُ اسْتِئْصَالًا، أَوْ تَكُونُ صِفَةً، كَقَوْلِكَ: ذَاتُ حُسُومٍ، أن تَكُونُ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِئْصَالِ. وَقَرَأَ السُّدِّيُّ: حُسُومًا بِالْفَتْحِ: حَالًا مِنَ الرِّيحِ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ مُسْتَأْصِلَةً. وَقِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْعَجْزِ، وَهِيَ آخِرُ الشتاء. وأسماؤها: الصين وَالصِّنَّبْرُ وَالْوَبْرُ وَالْآمِرُ وَالْمُؤْتَمِرُ والمعلل ومصفى الْجَمْرِ. وَقِيلَ: مُكَفِّي الطَّعْنِ. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها: أَيْ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، أَوْ فِي دِيَارِهِمْ، أَوْ فِي مَهَابِّ الرِّيحِ احْتِمَالَاتٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَمُصَرَّحٌ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو نَهيِكٍ: أعجز، على وزن أفعل، كَضَبْعٍ وَأَضْبُعٍ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ أنه قرىء: نَخِيلٍ خَاوِيَةٍ خَلَتْ أَعْجَازُهَا بِلًى وَفَسَادًا. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: كَانَتْ تَدْخُلُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَتُخْرِجُ مَا فِي أَجْوَافِهِمْ مِنَ الْحَسْوِ مِنْ أَدْبَارِهِمْ، فَصَارُوا كَالنَّخْلِ الْخَاوِيَةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: خَلَتْ أَبْدَانُهُمْ مِنْ أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانُوا فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي عَذَابٍ، ثُمَّ فِي الثَّامِنِ مَاتُوا وَأَلْقَتْهُمُ الرِّيحُ فِي الْبَحْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ باقِيَةٍ: أَيْ مِنْ بَاقٍ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ فِئَةٍ بَاقِيَةٍ. وَقِيلَ: مِنْ باقِيَةٍ: مِنْ بَقَاءٍ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَاعِلَةٍ كَالْعَاقِبَةِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَطَلْحَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وعاصم في رواية أبان،

_ (1) سورة الشمس: 91/ 11.

وَالنَّحْوِيَّانِ: وَمَنْ قِبَلَهُ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ: أَيْ أَجْنَادُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ قِبَلَكَ: أَيْ فِيمَا يَلِيكَ مِنَ الْمَكَانِ. وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ قِبَلَكَ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ عِنْدَكَ وَفِي جِهَتِكَ وَمَا يَلِيكَ بِأَيِّ وَجْهٍ وَلِيَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالسُّلَمِيُّ: وَمَنْ قَبْلَهُ، ظَرْفُ زَمَانٍ: أَيِ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، كَقَوْمِ نُوحٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ بَعْدَ هَذَا. وَالْمُؤْتَفِكاتُ: قُرَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ هُنَا: وَالْمُؤْتَفِكَةُ عَلَى الْإِفْرَادِ، بِالْخاطِئَةِ: أَيْ بِالْفِعْلَةِ أَوِ الْفِعْلَاتِ الْخَاطِئَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ بِالْخَطَأِ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا جَاءَ عَلَى فَاعِلَةٍ كَالْعَاقِبَةِ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ: رَسُولَ جِنْسٌ، وَهُوَ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، كموسى ولوط عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقِيلَ: لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَعَادَهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ رَسُولِ الْمُؤْتَفِكَاتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَعَادَهُ عَلَى الْأَسْبَقِ وَهُوَ رَسُولُ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: رَسُولٌ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، رابِيَةً: أَيْ نَامِيَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدَةً، يُرِيدُ أَنَّهَا زَادَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَخْذَاتِ، وَهِيَ الْغَرَقُ وَقَلْبُ الْمَدَائِنِ. إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ: أَيْ زَادَ وَعَلَا عَلَى أَعْلَى جَبَلٍ فِي الدُّنْيَا خَمْسَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: طَغَى عَلَى الْخُزَّانِ، كَمَا طَغَتِ الرِّيحُ عَلَى خُزَّانِهَا، حَمَلْناكُمْ: أَيْ فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ، فِي الْجارِيَةِ: هِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْجَارِيَةِ فِي السَّفِينَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: تِسْعُونَ جَارِيَةً فِي بَطْنِ جَارِيَةٍ وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الْمَعْنَى فِي السُّفُنِ الْجَارِيَةِ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَالْمَحْمُولُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ. لِنَجْعَلَها : أَيْ سَفِينَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكُمْ تَذْكِرَةً بِمَا جَرَى لِقَوْمِهِ الْهَالِكِينَ وَقَوْمِهِ النَّاجِينَ فِيهَا وَعِظَةً. قَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ أَلْوَاحُهَا عَلَى الْجُودِيِّ. وَقِيلَ: لِنَجْعَلَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكُمْ مَوْعِظَةً تَذْكُرُونَ بِهَا نَجَاةَ آبَائِكُمْ وَإِغْرَاقَ مُكَذِّبِي نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَعِيَها : أَيْ تَحْفَظُ قِصَّتَهَا، أُذُنٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَعِيَ الْمَوَاعِظَ، يُقَالُ: وَعَيْتُ لِمَا حُفِظَ فِي النَّفْسِ، وَأَوْعَيْتُ لِمَا حُفِظَ فِي غَيْرِ النَّفْسِ مِنَ الْأَوْعِيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَاعِيَةُ هِيَ الَّتِي عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ وَانْتَفَعَتْ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلي: «إني

_ (1) سورة الشورى: 42/ 32.

دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ يَا عَلِيُّ» . قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَمَا سَمِعْتُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَنَسِيتُهُ، وَقَرَأَهَا: وَتَعِيَهَا، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْعَامَّةِ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ وَخَارِجَةَ عَنْهُ وقنبل بخلاف عنه: بإسكانها وحمزة: بِإِخْفَاءِ الْحَرَكَةِ، وَوَجْهُ الْإِسْكَانِ التَّشْبِيهُ فِي الْفِعْلِ بِمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِلَ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ. نَحْوُ: كِبْدٌ وَعِلْمٌ. وَتَعِي لَيْسَ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ، بَلْ هُوَ مُضَارِعُ وَعِيَ، فَصَارَ إِلَى فِعْلٍ وَأَصْلُهُ حُذِفَتْ وَاوُهُ. وَرَوَى عَنْ عَاصِمٍ عِصْمَةُ وَحَمْزَةُ الْأَزْرَقُ: وَتَعِيَّهَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، قِيلَ: وَهُوَ خَطَأٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ شِدَّةَ بَيَانِ الْيَاءِ احْتِرَازًا مِمَّنْ سَكَّنَهَا، لَا إِدْغَامَ حَرْفٍ فِي حَرْفٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّضْعِيفِ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ أُجْرِيَ الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَعَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْسِيِّ: وَتَعِيهَا بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، فَاحْتَمَلَ الِاسْتِئْنَافُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِرَاءَةِ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ أُذُنٌ واعِيَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْكِيرِ؟ قُلْتُ: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْوُعَاةَ فِيهِمْ قِلَّةٌ، وَلِتَوْبِيخِ النَّاسِ بِقِلَّةِ مَنْ يَعِي مِنْهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وَعَتْ وَعَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا سِوَاهَا لَا يُبَالِي بِآلَةٍ وَإِنْ مَلَأُوا مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ. انْتَهَى، وَفِيهِ تَكْثِيرٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فَعَلَ بِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، ذَكَرَ أَمْرَ الْآخِرَةِ وَمَا يَعْرِضُ فِيهَا لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَبَدَأَ بِإِعْلَامِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَهَذِهِ النَّفْخَةُ نَفْخَةُ الْفَزَعِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى الَّتِي يَحْصُلُ عَنْهَا خَرَابُ الْعَالَمِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الدَّكُّ بَعْدَ النَّفْخِ، وَالْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَتْ مَرَّةً أُكِّدَتْ بِقَوْلِهِ: واحِدَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، بِرَفْعِهِمَا، وَلَمْ تَلْحَقِ التَّاءُ نَفَخَ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ النَّفْخَةِ مَجَازِيٌّ وَوَقَعَ الْفَصْلُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا نُعِتَ صَحَّ رَفْعُهُ. انْتَهَى. وَلَوْ لَمْ يُنْعَتْ لَصَحَّ، لِأَنَّ نَفْخَةَ مَصْدَرٌ مَحْدُودٌ وَنَعْتُهُ لَيْسَ بِنَعْتِ تَخْصِيصٍ، إِنَّمَا هُوَ نَعْتُ تَوْكِيدٍ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: بِنَصْبِهِمَا، أَقَامَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحُمِلَتِ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ يَحْيَى: بِتَشْدِيدِهَا، فَالتَّخْفِيفُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ حَمَلَتْهَا الرِّيحُ الْعَاصِفُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الْقُدْرَةُ مِنْ غَيْرِ

وَاسِطَةِ مَخْلُوقٍ. وَيَبْعُدُ قَوْلُهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا الزَّلْزَلَةُ، لِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ لَيْسَ فِيهَا حَمْلٌ، إِنَّمَا هِيَ اضْطِرَابٌ. وَالتَّشْدِيدُ عَلَى أَنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ، أَوْ يَكُونَ التَّضْعِيفُ لِلنَّقْلِ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ رِيحًا تُفَتِّتُهَا أَوْ مَلَائِكَةً أَوْ قُدْرَةً. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُقَدَّرَةِ. وَثُنِّيَ الضَّمِيرُ فِي فَدُكَّتا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَجُمْلَةُ الْجِبَالِ، أَيْ ضَرَبَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تَفَتَّتَتْ، وَتَرْجِعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَثِيباً مَهِيلًا «1» . وَالدَّكُّ فِيهِ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ لِقَوْلِهِ: هَباءً «2» ، وَالدَّقُّ فِيهِ اخْتِلَافُ الْأَجْزَاءِ. وَقِيلَ: تُبْسَطُ فَتَصِيرُ أَرْضًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَعِيرٌ أَدَكُّ وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا ضَعُفَا، فَلَمْ يَرْتَفِعْ سَنَامُهُمَا وَاسْتَوَتْ عَرَاجِينُهُمَا مَعَ ظَهْرَيْهِمَا. فَيَوْمَئِذٍ مَعْطُوفٌ عَلَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، وهو منصوب بوقعت، كَمَا أَنَّ إِذَا مَنْصُوبٌ بنفخ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ وَقَرَّرْنَاهُ وَاسْتَدْلَلْنَا لَهُ فِي أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذَا هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهِمَا لَا الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَالتَّنْوِينُ فِي إِذٍ لِلْعِوَضِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَهِيَ فِي التَّقْدِيرِ: فَيَوْمَ إِذْ نُفِخَ فِي الصُّورِ وَجَرَى كَيْتَ وَكَيْتَ، والواقعة هِيَ الْقِيَامَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «3» أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: هِيَ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ: أَيِ انْفَطَرَتْ وَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَهِيَ يَوْمَئِذٍ انْشَقَّتْ، واهِيَةٌ: ضَعِيفَةٌ لِتَشَقُّقِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَدِيدَةً، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «4» ، أَوْ مُنْخَرِقَةً، كَمَا يُقَالُ: وَهِيَ السِّقَاءُ انْخَرَقَ. وَقِيلَ انْشِقَاقُهَا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «5» . وَقِيلَ: انْشِقَاقُهَا لِهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى حَافَّاتِهَا حِينَ تَنْشَقُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَافَّاتِهَا عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: عَلَى حَافَّاتِ الْأَرْضِ، يَنْزِلُونَ إِلَيْهَا يَحْفَظُونَ أَطْرَافَهَا، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ قَرِيبٌ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقِفُونَ صَفًّا عَلَى حَافَّاتِ الْأَرْضِ، ثُمَّ مَلَائِكَةَ الثَّانِيَةِ فَيَصُفُّونَ حَوْلَهُمْ، ثُمَّ مَلَائِكَةَ كُلِّ سَمَاءٍ، فَكُلَّمَا نَدَّ أَحَدٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَدَ الْأَرْضَ أُحِيطَ بِهَا. وَالْمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: وَالْمَلَكُ، وبين أن

_ (1) سورة المزمل: 73/ 14. (2) سورة الواقعة: 56/ 6. (3) سورة الواقعة: 56/ 1. [.....] (4) سورة النازعات: 79/ 27. (5) سورة الفرقان: 25/ 25.

يُقَالَ: وَالْمَلَائِكَةُ؟ قُلْتُ: الْمَلَكُ أَعَمُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: مَا مِنْ مَلَكٍ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، أَعَمُّ مِنْ قَوْلِكَ: مَا مِنْ مَلَائِكَةٍ؟ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَلَكَ أَعَمُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ قُصَارَاهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِهِمَا، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، فَقُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ كَالْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِهِمَا. وَأَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى إِلَخْ، فَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى دَعْوَاهُ، لِأَنَّ مِنْ مَلَكٍ نَكِرَةٌ مُفْرَدَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا مِنْ الْمُخْلَصَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَشَمَلَتْ كُلَّ مَلَكٍ فَانْدَرَجَ تَحْتَهَا الْجَمْعُ لِوُجُودِ الْفَرْدِ فِيهِ فَانْتَفَى كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ، بِخِلَافِ مِنْ مَلَائِكَةٍ، فَإِنَّ مِنْ دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ مُنَكَّرٍ، فَعَمَّ كُلَّ جَمْعٍ جُمِعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. لَوْ قُلْتَ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ رِجَالٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا وَاحِدٌ، لِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا انْسَحَبَ عَلَى جَمْعٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الْجَمْعِ أَنْ يَنْتَفِيَ الْمُفْرَدُ. وَالْمَلَكُ فِي الْآيَةِ لَيْسَ فِي سِيَاقِ نَفْيٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَيَكُونُ أَعَمَّ مِنْ جَمْعٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُفْرَدًا لِأَنَّهُ أَخَفُّ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلى أَرْجائِها يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ بِمَا هُوَ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَرْجَائِهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ فِي أَوْقَاتٍ. وَالْمُرَادُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أَرْجَائِهَا، لَا أَنَّهُ مَلَكٌ وَاحِدٌ يَنْتَقِلُ عَلَى أَرْجَائِهَا فِي أَوْقَاتٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّهَا تَنْشَقُّ، وَهِيَ مَسْكَنُ الْمَلَائِكَةِ، فَيَنْضَوُونَ إِلَى أَطْرَافِهَا وَمَا حَوْلَهَا مِنْ حَافَّاتِهَا. انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي فَوْقِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكِ ضَمِيرُ جمع على المعنى، لأنه يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْحَامِلِينَ، أَيْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّمْيِيزَ الْمَحْذُوفَ فِي قَوْلِهِ: ثَمانِيَةٌ أَمْلَاكٌ، أَيْ ثَمَانِيَةُ أَشْخَاصٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ وَعَنِ الْحَسَنِ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ هُمْ، أَثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ أَمْ ثَمَانِيَةُ أَشْخَاصٍ؟ وَذَكَرُوا فِي صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ أَشْكَالًا مُتَكَاذِبَةً ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ إِذْ كَانَ مَا ذُكِرَ، تُعْرَضُونَ: أي للحساب، وتعرضون هُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ. فَإِنْ كَانَتِ النَّفْخَةُ هِيَ الْأُولَى، فَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اتَّسَعَ فِي الْيَوْمِ فَجُعِلَ ظَرْفًا لِلنَّفْخِ وَوُقُوعُ الْوَاقِعَةِ وَجَمِيعُ الْكَائِنَاتِ بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَتِ النَّفْخَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اتِّسَاعٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَوْمَئِذٍ معطوف على فَإِذا، ويَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ بدل من ف يَوْمَئِذٍ، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الظُّرُوفِ وَاقِعٌ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْخِطَابُ فِي تُعْرَضُونَ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ الْمُحَاسَبِينَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: رَأَى مُوسَى فِي الْقِيَامَةِ عَرْضَتَانِ فِيهِمَا مَعَاذِيرُ وَتَوْقِيفٌ

وَخُصُومَاتٌ، وَثَالِثَةٌ تَتَطَايَرُ فِيهَا الصُّحُفُ لِلْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَخْفى بِتَاءِ التأنيث وعلي وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ سَعْدَانَ: بِالْيَاءِ، خافِيَةٌ: سَرِيرَةٌ وَحَالٌ كَانَتْ تَخْفَى فِي الدُّنْيَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، قُطُوفُها دانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ، يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ، مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ، وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ. أَمَّا: حَرْفُ تَفْصِيلٍ فَصَّلَ بِهَا مَا وَقَعَ فِي يَوْمِ الْعَرْضِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ دُخُولُ النَّارِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْعَرْضِ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مَعَ النَّاجِينَ مِنَ النَّارِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ يَأْنَسُ بِهِ مُدَّةَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: لَا يَأْخُذُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ، وَإِيمَانُهُ أَنِيسُهُ مُدَّةَ الْعَذَابِ. قِيلَ: وَهَذَا يَظْهَرُ لِأَنَّ مَنْ يُسَارُ بِهِ إِلَى النَّارِ كيف يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا اسْتِبْشَارٌ وَسُرُورٌ؟ فَلَا يُنَاسِبُ دُخُولَ النَّارِ. وَهَاؤُمُ إِنْ كَانَ مَدْلُولَهَا خُذْ، فَهِيَ مُتَسَلِّطَةٌ عَلَى كِتَابِيَهْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهَا تَعَالَوْا، فَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَيْهِ بواسطة إلى، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا. فالبصريون يعلمون اقرأوا، وَالْكُوفِيُّونَ يُعْمِلُونَ هَاؤُمُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّنَازُعِ بَيْنَ اسْمِ الْفِعْلِ وَالْقَسَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِتابِيَهْ، وحِسابِيَهْ في موضعيهما ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ، وفي القارعة: ما هِيَهْ «1» بِإِثْبَاتِ هَاءِ السَّكْتِ وَقْفًا وَوَصْلًا لِمُرَاعَاةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَذَلِكَ كِتَابِي وَحِسَابِي وَمَالِي وَسُلْطَانِي، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي ما هِيَهْ فِي الْقَارِعَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ: بِطَرْحِ الْهَاءِ فِيهِمَا فِي الْوَصْلِ لَا في الوقف، وطرحها حَمْزَةُ فِي مَالِي وَسُلْطَانِي وَمَا هِيَ فِي الْوَصْلِ لَا فِي الْوَقْفِ، وَفَتَحَ الْيَاءَ فِيهِنَّ. وَمَا قَالَهُ الزَّهْرَاوِيُّ مِنْ أَنَّ إِثْبَاتَ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ ذَلِكَ مَنْقُولٌ نَقْلَ التواتر فوجب قبوله.

_ (1) سورة القارعة: 101/ 10.

إِنِّي ظَنَنْتُ: أَيْ أَيْقَنْتُ، وَلَوْ كَانَ ظَنًّا فِيهِ تَجْوِيزٌ لَكَانَ كُفْرًا. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ: ذَاتِ رِضًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: رَاضِيَةٍ مَرْضِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ دافِقٍ «1» ، أَيْ مَدْفُوقٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ: أَيْ مَكَانًا وَقَدْرًا. قُطُوفُها: أَيْ مَا يَجْنِي مِنْهَا، دانِيَةٌ: أَيْ قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ يُدْرِكُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ بِفِيهِ مِنْ شَجَرَتِهَا. كُلُوا وَاشْرَبُوا: أي يقال، وهَنِيئاً، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَنِيئًا أَكْلًا وَشُرْبًا هَنَيِئًا، أَوْ هَنِيتُمُ هَنِيئًا عَلَى الْمَصْدَرِ. انْتَهَى فَقَوْلُهُ: أَكْلًا وَشُرْبًا هَنِيئًا يَظْهَرُ مِنْهُ جَعْلُ هَنِيئًا صِفَةً لِمَصْدَرَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِضْمَارِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ، أَيْ أَكْلًا هَنِيئًا وَشُرْبًا هَنِيئًا. بِما أَسْلَفْتُمْ: أَيْ قَدَّمْتُمْ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ: يَعْنِي أَيَّامَ الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَوَكِيعٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رَفِيعٍ: أَيَّامُ الصَّوْمِ، أَيْ بَدَلُ مَا أَمْسَكْتُمْ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: بِما أَسْلَفْتُمْ: أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ: لَمَّا رَأَى فِيهِ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَمَا يَصِيرُ أَمْرُهُ إِلَيْهِ، تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُعْطَهُ، وَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَدْرِ حِسَابَهُ، فَإِنَّهُ انْجَلَى عَنْهُ حِسَابُهُ عَنْ مَا يَسُوءُهُ فِيهِ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ لَا لَهُ. يَا لَيْتَها: أَيِ الْمَوْتَةُ الَّتِي مِتُّهَا فِي الدُّنْيَا، كانَتِ الْقاضِيَةَ: أَيِ الْقَاطِعَةَ لِأَمْرِي، فَلَمْ أُبْعَثْ وَلَمْ أُعَذَّبْ أَوْ يَا لَيْتَ الْحَالَةَ الَّتِي انْتَهَيْتُ إِلَيْهَا الْآنَ كَانَتِ الْمَوْتَةَ الَّتِي مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، حَيْثُ رَأَى أَنَّ حَالَتَهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَمَرُّ مِمَّا ذَاقَهُ مِنَ الْمَوْتَةِ، وَكَيْفَ لَا وَأَمْرُهُ آلَ إِلَى عَذَابٍ لَا يَنْقَطِعُ؟ مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مَحْضًا، أَخْبَرَ بِذَلِكَ مِتَأَسِّفًا عَلَى مَالِهِ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا وَبَّخَ بِهِ نَفْسَهُ وَقَرَّرَهَا عَلَيْهِ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ: أَيْ حُجَّتِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَقُولُ ذَلِكَ مُلُوكُ الدُّنْيَا. وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ نويه لَمَّا تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ غَلَّابِ الْقَدَرِ لَمْ يُفْلِحْ وَجُنَّ، فَكَانَ لَا يَنْطَلِقُ لِسَانُهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ: هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ. خُذُوهُ: أَيْ يُقَالُ لِلزَّبَانِيَةِ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ: أَيِ اجْعَلُوا فِي عُنُقِهِ غُلًّا، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ لَا تُصَلُّوهُ إِلَّا الْجَحِيمَ، وَهِيَ النَّارُ الْعُظْمَى، لِأَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا يَتَعَظَّمُ عَلَى النَّاسِ. يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ وَصَلَّاهُ النَّارَ. انْتَهَى، وَإِنَّمَا قَدَرُهُ لَا تُصَلُّوهُ إِلَّا الْجَحِيمَ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «2» ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مذهبا لسيبويه وَلَا لِحُذَّاقِ النُّحَاةِ. وَأَمَّا

_ (1) سورة الطارق: 86/ 6. (2) سورة الفاتحة: 1/ 5.

قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا يَتَعَظَّمُ عَلَى النَّاسِ، فَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَالرَّاجِحُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ: أَنَّ السُّلْطَانَ هُنَا هُوَ الْحُجَّةُ الَّتِي كَانَ يَحْتَجُّ بِهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بشماله لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْمُلُوكِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها: أَيْ قِيَاسُهَا وَمِقْدَارُ طُولِهَا، سَبْعُونَ ذِراعاً: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَاهِرُهُ مِنَ الْعَدَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي طُولِهَا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْعَدَدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: بِذِرَاعِ الْمَلَكِ. وَقَالَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ وَغَيْرُهُ: الذِّرَاعُ سَبْعُونَ بَاعًا، فِي كُلِّ بَاعٍ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ هِيَ. وَقِيلَ: بِالذِّرَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَنَا تَعَالَى بِمَا نَعْرِفُهُ وَنُحَصِّلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وُضِعَ مِنْهَا حَلْقَةٌ عَلَى جَبَلٍ لَذَابَ كَالرَّصَاصِ. فَاسْلُكُوهُ: أَيْ أَدْخِلُوهُ، كَقَوْلِهِ: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ «1» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُدْخِلُهُ فِي السِّلْسِلَةِ، وَلِطُولِهَا تَلْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ فَيَبْقَى دَاخِلًا فِيهَا مَضْغُوطًا حَتَّى تَعُمَّهُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ، وَالسِّلْسِلَةُ تَدْخُلُ فِي فَمِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي تُسْلَكُ فِيهِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى إِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، إِلَّا إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي تَقْدِيمِ السِّلْسِلَةِ عَلَى السَّلْكِ مِثْلُهُ فِي تَقْدِيمِ الْجَحِيمِ عَلَى التَّصْلِيَةِ، أَيْ لَا تَسْلُكُوهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ، كَأَنَّهَا أَفْظَعُ مِنْ سَائِرِ مَوَاضِعِ الْإِرْهَاقِ فِي الْجَحِيمِ. وَمَعْنَى ثُمَّ: الدَّلَالَةُ عَلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْغُلِّ وَالتَّصْلِيَةِ بِالْجَحِيمِ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّلْكِ فِي السِّلْسِلَةِ، لَا عَلَى تَرَاخِي الْمُدَّةِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الْحَصْرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ، وَأَمَّا ثُمَّ فَيُمْكِنُ بَقَاؤُهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ أَوَّلًا يُؤْخَذُ فَيُغَلُّ. وَلَمَّا لَمْ يُعَذَّبْ بِالْعَجَلَةِ، صَارَتْ لَهُ اسْتِرَاحَةً، ثُمَّ جَاءَ تَصْلِيَةَ الْجَحِيمِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي عَذَابِهِ، إِذْ جَاءَهُ ذَلِكَ وَقَدْ سَكَنَتْ نَفْسُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ جَاءَ سَلْكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِهِ مَغْلُولًا مُعَذَّبًا فِي النَّارِ، لَكِنَّهُ كَانَ لَهُ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَيَجِدُ بِذَلِكَ بَعْضَ تَنَفُّسٍ. فَلَمَّا سُلِكَ فِي السِّلْسِلَةِ كَانَ ذَلِكَ أَشُدَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ، حَيْثُ صَارَ لَا حِرَاكَ لَهُ وَلَا انْتِقَالَ، وَأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَيْهِ غَايَةً، فَهَذَا يَصِحُّ فِيهِ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ عَلَى مَوْضُوعِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ الزَّمَانِيَّةِ. إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ: بَدَأَ بِأَقْوَى أَسْبَابِ تَعْذِيبِهِ وَهُوَ كفره بالله، وإنه تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنِفٌ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ يُعَذَّبُ هَذَا الْعَذَابَ الْبَلِيغَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ، وَعَطْفُ وَلا يَحُضُ

_ (1) سورة الزمر: 39/ 21.

عَلَى لَا يُؤْمِنُ دَاخِلٌ فِي الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ مَنْ لَا يَحُضُّ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، إِذْ جُعِلَ قَرِينَ الْكُفْرِ، وَهَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْحَضِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ الْإِطْعَامِ؟ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى إِطْعَامِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَأَضَافَ الطَّعَامَ إِلَى الْمِسْكِينِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ، إِذْ يَسْتَحِقُّ الْمِسْكِينُ حَقًّا فِي مَالِ الْغَنِيِّ الْمُوسِرِ وَلَوْ بِأَدْنَى يَسَارٍ وَلِلْعَرَبِ فِي مَكَارِمِهِمْ وَإِيثَارِهِمْ آثَارٌ عَجِيبَةٌ غَرِيبَةٌ بِحَيْثُ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِيهِمْ: عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ ... وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَحُضُّ امْرَأَتَهُ عَلَى تَكْثِيرِ الرِّزْقِ لِأَجْلِ الْمَسَاكِينِ وَيَقُولُ: خَلَعْنَا نِصْفَ السِّلْسِلَةِ بِالْإِيمَانِ، أَفَلَا نَخْلَعُ نِصْفَهَا الْآخَرَ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَنْعُ الْكُفَّارِ. وَقَوْلُهُمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «1» ، يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا نُفِيَ الْحَضُّ انْتَفَى الْإِطْعَامُ بِجِهَةِ الْأَوْلَى، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ «2» . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ: أَيْ صَدِيقٌ مُلَاطِفٌ وَادٌّ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «3» . وَقِيلَ: قَرِيبٌ يَدْفَعُ عَنْهُ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ وَالزَّقُّومُ أَخْبَثُ شَيْءٍ وَأَبْشَعَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ يَجْرِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي الْغَاشِيَةِ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ «4» ، فَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ، وَأَخْبَرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ طَائِفَةٍ غَيْرِ الطَّائِفَةِ التي الآخر طعامها، وله خَبَرُ لَيْسَ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا، وَلَمْ يُبَيِّنُ مَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ. وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ لَيْسَ هَاهُنَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ ثَمَّ طَعَامًا غَيْرَهُ، وهاهنا مُتَعَلِّقٌ بِمَا فِي لَهُ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ مِنَ الطَّعَامِ، وَكَانَ الْأَكْلُ غَيْرَ أَكْلٍ آخَرَ، صَحَّ الْحَصْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْأَكْلَيْنِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الضَّرِيعُ هُوَ الْغِسْلِينُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، فَلَا تَنَاقُضَ، إذا الْمَحْصُورُ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَعَلْنَا الْخَبَرَ هَاهُنَا، كَانَ لَهُ وَالْيَوْمَ مُتَعَلِّقَيْنِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي هَاهُنَا، وَهُوَ عَامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ لَفْظِيًّا جَازَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «5» ، فَلَهُ متعلق بكفوا وهو خبر ليكن.

_ (1) سورة يس: 36/ 47. (2) سورة المدثر: 74/ 44. (3) سورة الزخرف: 43/ 67. (4) سورة الغاشية: 88/ 6. (5) سورة الإخلاص: 112/ 4.

وقرأ الجمهور: الْخاطِؤُنَ بِالْهَمْزِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خطىء، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ضِدَّ الصَّوَابِ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ، وَالْمُخْطِئُ الَّذِي يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْعَتَكِيُّ وَطَلْحَةُ فِي نَقْلٍ: بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ وَنَافِعٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِضَمِّ الطَّاءِ دُونَ هَمْزٍ، فَالظَّاهِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خطىء كَقِرَاءَةِ مَنْ هَمَزَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: الَّذِينَ يَتَخَطَّوْنَ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ. انْتَهَى. فَيَكُونُ اسْمَ فَاعِلٍ مَنْ خَطَا يَخْطُو، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ «1» ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ «2» خَطَا إِلَى الْمَعَاصِي. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ، وَما لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا قَبْلَ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «3» ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ: لَأُقْسِمُ بِجَعْلِهَا لَا مَا دَخَلَتْ عَلَى أَقُسِمَ. وَقِيلَ: لَا هُنَا نَفْيٌ لِلْقَسَمِ، أَيْ لَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى قَسَمٍ لِوُضُوحِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَجَوَابُهُ جَوَابُ الْقَسَمِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا سَاحِرٌ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: شَاعِرٌ، وَقَالَ: كَاهِنٌ. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا تُبْصِرُونَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ مِنْ أَسْرَارِ الْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: وَما لَا تُبْصِرُونَ: الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: الْأَجْسَادُ وَالْأَرْوَاحُ. إِنَّهُ: أَيْ إِنَّ الْقُرْآنَ، لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وَمَا بَعْدَهُ، وَنَسَبَ الْقَوْلَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ مُبَلِّغُهُ وَالْعَامِلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ هُوَ الرَّسُولُ عَنِ اللَّهِ. وَنَفَى تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ لِمُبَايَنَتِهِ لِضُرُوبِ الشِّعْرِ وَلَا قَوْلَ كَاهِنٍ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِسَبَبِ الشَّيَاطِينِ. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَوْ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ

_ (1) سورة البقرة: 2/ 208، وسورة الأنعام: 6/ 142. (2) سورة النور: 24/ 21. (3) سورة الواقعة: 56/ 75. [.....]

تُؤْمِنُونَ إِيمَانًا قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا. وَكَذَا التَّقْدِيرُ فِي: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، وَالْقِلَّةُ هُوَ إِقْرَارُهُمْ إِذَا سُئِلُوا مَنْ خَلَقَهُمْ قَالُوا اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنُصِبَ قَلِيلًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ، وَمَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً فَيَنْتَفِي إِيمَانُهُمُ الْبَتَّةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مصدرية، وَالْمُتَّصِفُ بِالْقِلَّةِ هُوَ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَدَّقُوا بِأَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، إِذْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالصِّلَةَ وَالْعَفَافَ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ حَقٌّ صَوَابٌ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنُصِبَ قَلِيلًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الدَّالَّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً أَوْ مَصْدَرِيَّةً، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً، فَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ الْمَنْفِيُّ بِمَا يَكُونُ مَنْفِيًّا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا تُؤْمِنُونَ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَالْفِعْلُ الْمَنْفِيُّ بِمَا لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ وَلَا حَذْفَ مَا لَا يَجُوزُ زَيْدًا مَا أَضْرَبَهُ، عَلَى تَقْدِيرِ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا مَا أَضْرَبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً كَانَتْ مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الفاعلية بقليلا، أَيْ قَلِيلًا إِيمَانُكُمْ، وَيَبْقَى قَلِيلًا لَا يَتَقَدَّمُهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَ وَلَا نَاصِبَ لَهُ وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً لَا خَبَرَ لَهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ لَا مَرْفُوعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْقِلَّةُ فِي مَعْنَى الْعَدَمِ، أَيْ لَا تُؤْمِنُونَ وَلَا تَذَكَّرُونَ الْبَتَّةَ، وَالْمَعْنَى: مَا أَكْفَرَكُمْ وَمَا أَغْفَلَكُمْ. انْتَهَى. وَلَا يُرَادُ بقليلا هُنَا النَّفْيُ الْمَحْضُ، كَمَا زَعَمَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَقَلَّ نَحْوُ: أَقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زِيدٌ، وَفِي قَلَّ نَحْوُ: قَلَّ رجل يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي قَلِيلٍ وَقَلِيلَةٍ إِذَا كَانَا مَرْفُوعَيْنِ، نَحْوُ مَا جَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ: قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بغاتها أَمَّا إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا نَحْوُ: قَلِيلًا ضَرَبْتُ، أَوْ قَلِيلًا مَا ضَرَبْتُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فإن ذلك لا يجوز، لِأَنَّهُ فِي: قَلِيلًا ضَرَبْتُ منصوب بضربت، وَلَمْ تَسْتَعْمِلِ الْعَرَبُ قَلِيلًا إِذَا انْتَصَبَ بِالْفِعْلِ نَفْيًا، بَلْ مُقَابِلًا لِكَثِيرٍ. وَأَمَّا فِي قَلِيلًا مَا ضَرَبْتُ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَتَحْتَاجُ إِلَى رَفْعِ قَلِيلٍ، لِأَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُمَا والجحدري وَالْحَسَنُ: يُؤْمِنُونَ، يَذَّكَّرُونَ: بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وأبيّ: بِيَاءَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَنْزِيلٌ بِالرَّفْعِ وَأَبُو السَّمَّالِ: تَنْزِيلًا بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ، وَالتَّقَوُّلُ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ عَنْ آخَرَ إِنَّهُ قال شيئا لو يَقُلْهُ. وَقَرَأَ ذَكْوَانُ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ مُضَارِعُ قَالَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُعْتَرَضَةٌ بِمَا صَرَّحَتْ بِهِ

قراءة الجمهور. وقرىء: وَلَوْ تُقُوِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ وَقَامَ الْمَفْعُولُ مَقَامَهُ، وَهُوَ بَعْضَ، إِنْ كان قرىء مرفوعا وإن كان قرىء مَنْصُوبًا بِعَلَيْنَا قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا مُتَقَوِّلٌ. وَلَا يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي تَقُولُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْأَقَاوِيلُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَهُوَ أَقْوَالٌ كبيت وأبيات وأبابيت. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَمَّى الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ أَقَاوِيلَ تَصْغِيرًا لَهَا وَتَحْقِيرًا، كَقَوْلِكَ: الْأَعَاجِيبُ وَالْأَضَاحِيكُ، كَأَنَّهَا جَمْعُ أُفْعُولَةٍ مِنَ الْقَوْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْيَمِينِ الْمُرَادُ بِهِ الْجَارِحَةُ. فَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى قَطَعْنَاهُ عِبْرَةً وَنَكَالًا، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: الْأَخْذُ عَلَى ظَاهِرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَيْنَا شَيْئًا لَمْ نَقُلْهُ لَقَتَلْنَاهُ صَبْرًا، كَمَا تَفْعَلُ الْمُلُوكُ بِمَنْ يَتَكَذَّبُ عَلَيْهِمْ مُعَاجَلَةً بِالسَّخَطِ وَالِانْتِقَامِ، فَصَوَّرَ قَتْلَ الصَّبْرِ بِصُورَتِهِ لِيَكُونَ أَهْوَلَ، وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ بِيَدِهِ وَتُضْرَبَ رَقَبَتُهُ، وَخُصَّ الْيَمِينُ عَلَى الْيَسَارِ لِأَنَّ الْقَتَّالَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَ الضَّرْبَ فِي قَفَاهُ أَخَذَ بِيُسَارُهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَهُ فِي جِيدِهِ وَأَنْ يُلْحِفَهُ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى الْمَصْبُورِ لِنَظَرِهِ إِلَى السَّيْفِ، أُخِذَ بِيَمِينِهِ. وَمَعْنَى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ: لَأَخَذْنَا بِيَمِينِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ: لَقَطَعْنَا وَتِينَهُ. انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ حَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِتَكْثِيرِ أَلْفَاظِهِ وَمَصَاغِهَا قَالُوا: الْمَعْنَى لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ الَّتِي هِيَ الْيَمِينُ عَلَى جِهَةِ الْإِذْلَالِ وَالصَّغَارِ، كَمَا يَقُولُ السُّلْطَانُ إِذَا أَرَادَ عُقُوبَةَ رَجُلٍ: يَا غُلَامُ خُذْ بِيَدِهِ وَافْعَلْ كَذَا، قَالَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: الْيَمِينُ هُنَا مَجَازٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْيَمِينِ: بِالْقُوَّةِ، مَعْنَاهُ لَنِلْنَا مِنْهُ عِقَابَهُ بِقُوَّةٍ مِنَّا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْقُدْرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَاقَبْنَاهُ بِالْحَقِّ وَمَنْ عَلَى هَذَا صِلَةٌ. وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: لَقَبَضْنَا بِيَمِينِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَقِيلَ: لَنَزَعْنَا مِنْهُ قُوَّتَهُ. وَقِيلَ: لَأَذْلَلْنَاهُ وَأَعْجَزْنَاهُ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَبْلُ الْقَلْبِ الَّذِي فِي الظَّهْرِ وَهُوَ النُّخَاعُ. وَالْمَوْتُونُ الَّذِي قُطِعَ وَتِينُهُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا لَأَذْهَبْنَا حَيَاتَهُ مُعَجَّلًا، وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِي تَقَوَّلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَتْلِ، أَيْ لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَحْجِزَهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَدْفَعَهُ عَنْهُ، وَالْخِطَابُ فِي مِنْكُمْ لِلنَّاسِ، وَالظَّاهِرُ فِي حاجِزِينَ أَنْ يَكُونَ خبرا لما عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، لِأَنَّ حَاجِزِينَ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ، وَيَكُونُ مِنْكُمْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً لِأَحَدٍ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا، وَفِي جَوَازِ هَذَا نَظَرٌ. أَوْ يَكُونُ لِلْبَيَانِ، أَوْ تَتَعَلَّقُ بِحَاجِزِينَ، كَمَا تَقُولُ: مَا فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبًا، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا

الْفَصْلُ مِنَ انْتِصَابِ خَبَرِ مَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: حَاجِزِينَ نَعْتٌ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَجُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ يَقَعُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعَ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمِنْهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» ، وَقَوْلُهُ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ «2» ، مَثَّلَ بِهِمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَيْنِكَ فِي مَوْضِعَيْهِمَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ سُودِ الرُّؤُوسِ قَبْلَكُمْ» . وَإِذَا كَانَ حَاجِزِينَ نعتا فمن أَحَدٍ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مِنْكُمْ، وَيَضْعُفُ هَذَا الْقَوْلُ، لِأَنَّ النَّفْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ كَيْنُونَتُهُ مِنْكُمْ، فَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْحَجْزِ. وَإِذَا كَانَ حَاجِزِينَ خَبَرًا. تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَيْهِ وَصَارَ الْمَعْنَى: مَا أَحَدٌ مِنْكُمْ يَحْجِزُهُ عَنْ مَا يُرِيدُ بِهِ مِنَ ذَلِكَ. وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ: أَيْ وَإِنَّ الْقُرْآنَ أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ: وَعِيدٌ، أَيْ مُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ: أَيِ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ كَفَرُوا بِهِ، وَيَرَوْنَ مَنْ آمَنَ بِهِ يُنَعَّمُ وَهُمْ مُعَذَّبُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ لَحَسْرَةٌ عَلَيْهِمْ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: مُكَذِّبِينَ، كَقَوْلِهِ: إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ أَيْ لِلسَّفَهِ. وَإِنَّهُ: أَيْ وَإِنَّ الْقُرْآنَ، لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ: وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى إِضَافَةِ حَقٍّ إِلَى الْيَقِينِ فِي آخر الواقعة.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 285. (2) سورة الأحزاب: 33/ 32.

سورة المعارج

سورة المعارج [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 44] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

الْعِهْنُ: الصُّوفُ دُونَ تَقْيِيدٍ، أَوِ الْأَحْمَرُ، أَوِ الْمَصْبُوغُ أَلْوَانًا، أَقْوَالٌ. الْفَصِيلَةُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الْآبَاءُ الْأَدْنُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَخْذُ. وَقِيلَ: عَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ. لَظَى: اسْمٌ لِجَهَنَّمَ، أَوْ لِلدَّرَكَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ دَرَكَاتِهَا، وَهُوَ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنَ اللَّظَى، وَهُوَ اللَّهَبُ، وَمَنْعُ الصَّرْفِ هُوَ لِلْعَلِمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَالشَّوَى جَمْعُ شَوَاةٍ، وَهِيَ جِلْدَةُ الرَّأْسِ. وَقَالَ الْأَعْشَى: قَالَتْ قَتِيلَةُ مَا لَهُ ... قَدْ جُلِّلَتْ سببا شَوَاتُهُ وَالشَّوَى: جِلْدُ الْإِنْسَانِ، وَالشَّوَى: قَوَائِمُ الْحَيَوَانِ، وَالشَّوَى: كُلُّ عُضْوٍ لَيْسَ بِمَقْتَلٍ، وَمِنْهُ: رَمَى فَأَشْوَى، إِذَا لَمْ يُصِبِ الْمَقْتَلَ، وَالشَّوَى: زَوَالُ الْمَالِ، وَالشَّوَى: الشَّيْءُ الْهَيِّنُ الْيَسِيرُ. الْهَلَعُ: الْفَزَعُ والاضطراب السريع عند مسن الْمَكْرُوهِ، وَالْمَنْعُ السَّرِيعُ عِنْدَ مَسِّ الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ هَلُوعٌ: سَرِيعَةُ السَّيْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلَعُ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ الْحِرْصِ وَأَسْوَأُ الْجَزَعِ. الْجَزَعُ: الْخَوْفُ، قَالَ الشَّاعِرُ: جَزِعْتُ وَلَمْ أَجْزَعْ مِنَ الْبَيْنِ مَجْزَعًا عِزِينَ جَمْعُ عِزَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، وَقِيلَ: الْجَمْعُ الْيَسِيرُ كَثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ أَرْبَعَةٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فِي الدَّارِ عِزُونَ: أَيْ أَصْنَافٌ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ عَنْتَرَةُ: وَقَرْنٍ قد تركت لدي ولبى ... عليه الطير كالغصن العزين وقال الداعي: أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّ عَشِيرَتِي ... أَمْسَى سَوَامُهُمْ عِزِينَ فُلُولَا وَقَالَ الْكُمَيْتُ: وَنَحْنُ وَجَنْدَلٌ بَاغٍ تَرَكْنَا ... كَتَائِبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِينَا وَقَالَ آخَرُ: تَرَانَا عِنْدَهُ وَاللَّيْلُ دَاجٍ ... عَلَى أَبْوَابِهِ حِلَقًا عِزِينَا

وَقَالَ آخَرُ: فَلَمَّا أَنْ أبين على أصاح ... ضرجن حصاة أشتاتا عزينا وعزة مِمَّا حُذِفَتْ لَامُهُ، فَقِيلَ: هِيَ وَاوٌ وَأَصْلُهُ عِزْوَةٌ، كَأَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تَعْتَزِي إِلَى غَيْرِ مَنْ تَعْتَزِي إِلَيْهِ الْأُخْرَى، فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ. وَيُقَالُ: عَزَاهُ يَعْزُوهُ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ: لَامُهَا هَاءٌ وَالْأَصْلُ عِزْهَةٌ وَجُمِعَتْ عِزَةٌ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، كَمَا جُمِعَتْ سَنَةٌ وَأَخَوَاتُهَا بِذَلِكَ، وَتُكْسَرُ الْعَيْنُ فِي الْجَمْعِ وَتُضَمُّ. وَقَالُوا: عِزًى عَلَى فِعَلٍ، وَلَمْ يَقُولُوا عِزَاتٍ. سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ، وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ، كَلَّا إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعى، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ، أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» الْآيَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي جَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ الْآيَةِ. وَقِيلَ: السَّائِلُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَأَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: السَّائِلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَشْدُدَ وَطْأَتَهُ عَلَى مُضَرَ الْحَدِيثَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ «2» ، أَخْبَرَ عَنْ مَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ بِنِقَمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ السَّائِلُ نُوحًا عليه السلام، أو

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 32. (2) سورة الحاقة: 69/ 49.

الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. فَنَاسَبَ تَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ حَتَّى يُصَابُوا فَيَعْرِفُوا صِدْقَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَأَلَ بِالْهَمْزِ: أَيْ دَعَا دَاعٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَعَا بِكَذَا إِذَا اسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَهُ، فَالْبَاءُ عَلَى أَصْلِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَحَثَ بَاحِثٌ وَاسْتَفْهَمَ. قِيلَ: فَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: سَالَ بِأَلِفٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ أَلِفًا، وَهُوَ بَدَلٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا قِيَاسُ هَذَا بَيْنَ بَيْنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: سَلْتُ أَسَالُ، حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، يَقُولُونَ: سَلْتَ تَسَالُ وَهُمَا يَتَسَايَلَانِ. انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَثَبَّتَ فِي قَوْلِهِ إِنَّهَا لُغَةُ قُرَيْشٍ. لِأَنَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ هُوَ مَهْمُوزٌ أَوْ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَالَ الَّتِي عَيْنُهَا وَاوٌ، إِذْ كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ وَسَلُوا اللَّهَ مِثْلَ خَافُوا الْأَمْرَ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى لُغَةٍ غَيْرَ قُرَيْشٍ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ إِلَّا يَسِيرًا فِيهِ لُغَةُ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ جَاءَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَهُمَا يَتَسَايَلَانِ بِالْيَاءِ، وَأَظُنُّهُ مِنَ النَّاسِخِ، وَإِنَّمَا هُوَ يَتَسَاوَلَانِ بِالْوَاوِ. فَإِنْ تَوَافَقَتِ النُّسَخُ بِالْيَاءِ، فَيَكُونُ التَّحْرِيفُ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مِنَ السُّؤَالِ، فَسَائِلٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي السَّائِلِ مَنْ هُوَ. وَقِيلَ: سَالَ مِنَ السَّيَلَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَالَ سَايِلٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِي جَهَنَّمَ وَادٍ يُسَمَّى سَايِلًا وَأَخْبَرَ هُنَا عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ إِنْ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُ الْوَادِي أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْ نُفُوذِ الْقَدَرِ بِذَلِكَ الْعَذَابِ قَدِ اسْتُعِيرَ لَهُ السَّيْلُ لِمَا عُهِدَ مِنْ نُفُوذِ السَّيْلِ وَتَصْمِيمِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالسَّيْلُ مَصْدَرٌ في معنى السائل، كالغور بمعنى الغائر، وَالْمَعْنَى: انْدَفَعَ عَلَيْهِمْ وَادِي عَذَابٍ، فَذَهَبَ بِهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ السَّائِلُ هُمُ الْكُفَّارُ، فَسُؤَالُهُمْ إِنَّمَا كَانَ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ عِنْدَهُمْ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَعِيدًا لَهُمْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: سَالَ سَالٍ مِثْلُ مَالٍ بِإِلْقَاءِ صُورَةِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ الْيَاءُ مِنَ الْخَطِّ تَخْفِيفًا. قِيلَ: وَالْمُرَادُ سَائِلٌ. انْتَهَى. وَلَمْ يُحْكَ هَلْ قَرَأَ بِالْهَمْزِ أَوْ بِإِسْقَاطِهَا الْبَتَّةَ. فَإِنْ قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قَرَأَ بِحَذْفِهَا فَهُوَ مِثْلُ شَاكَ شَايِكٌ، حُذِفَتْ عَيْنُهُ وَاللَّامُ جَرَى فِيهَا الْإِعْرَابُ، والظاهر تعلق بعذاب بسال. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِمَصْدَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا سُؤَالُهُ؟ فَقِيلَ: سُؤَالُهُ بِعَذَابٍ، وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُ الْكَافِرِينَ بواقع فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ نَازِلٌ بِهِمْ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ، أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى عَلَى، قَالَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: عَلَى الْكَافِرِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ، أَيْ وَاقِعٌ كَائِنٌ لِلْكَافِرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى:

كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَنْ هَذَا الْعَذَابُ الْوَاقِعُ؟ فَقِيلَ: لِلْكَافِرِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ بِالْفِعْلِ، أَيْ دُعَاءٌ لِلْكَافِرِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى الثَّانِي، وَهُوَ ثَانِي مَا ذَكَرَ مِنْ تَوْجِيهِهِ فِي الْكَافِرِينَ. قَالَ هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ جَوَابٌ لِلسَّائِلِ، أَيْ هُوَ لِلْكَافِرِينَ، وَكَانَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ سَالَ ضُمِّنَ مَعْنَى دَعَا، فَعُدِّيَ تَعْدِيَتَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ مِنْ قَوْلِكَ: دَعَا بِكَذَا إِذَا اسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ «1» . انْتَهَى. فَعَلَى مَا قَرَّرَهُ أَنَّهُ متعلق بدعا، يعني بسال، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً جَوَابًا لِلسَّائِلِ أَيْ هُوَ لِلْكَافِرِينَ؟ هَذَا لَا يَصِحُّ. فَقَدْ أَخَذَ قَوْلَ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَأَفْسَدَهُ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بقوله: واقِعٍ. ولَيْسَ لَهُ دافِعٌ: جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِدَافِعٍ، أَيْ مِنْ جِهَتِهِ إِذَا جَاءَ وَقْتُهُ. ذِي الْمَعارِجِ: الْمَعَارِجُ لُغَةً الدَّرَجُ وَهُنَا اسْتِعَارَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي الرُّتَبِ وَالْفَوَاضِلِ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: المعارج: السموات تَعْرُجُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْمَرَاقِي إِلَى السَّمَاءِ، وَقِيلَ: الْمَعَارِجُ: الْغُرَفُ، أَيْ جَعَلَهَا لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ تَعْرُجُ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَزَائِدَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْيَاءِ. وَالرُّوحُ، قَالَ الْجُمْهُورُ هُوَ جِبْرِيلُ، خُصَّ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، وَأُخِّرَ هُنَا بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَقُدِّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «2» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَائِكَةٌ حَفَظَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْحَافِظِينَ لِبَنِي آدَمَ، لَا تَرَاهُمُ الْحَفَظَةُ كَمَا لَا نَرَى نَحْنُ حَفَظَتَنَا. وَقِيلَ: الرُّوحُ مَلَكٌ غَيْرُ جِبْرِيلُ عَظِيمُ الْخِلْقَةِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: خَلْقٌ كَهَيْئَةِ النَّاسِ وَلَيْسُوا بِالنَّاسِ. وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: رُوحُ الْمَيِّتِ حِينَ تُقْبَضُ إِلَيْهِ، الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِلَى عَرْشِهِ وَحَيْثُ يَهْبِطُ مِنْهُ أَمْرُهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّهُمْ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَحِلُّ بِرِّهِ وَكَرَامَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَعْرُجُ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ هَذِهِ، وَمِقْدَارُ الْمَسَافَةِ أَنْ لَوْ عَرَجَهَا آدَمِيٌّ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُذَّاقِ مِنْهُمُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ. فَإِنْ كَانَ الْعَارِجُ مَلَكًا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَسَافَةُ هِيَ مِنْ قَعْرِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إِلَى الْعَرْشِ وَمَنْ جَعَلَ الرُّوحَ جِنْسَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، قَالَ وَهْبٌ: الْمَسَافَةُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى الْعَرْشِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ: أَرَادَ مُدَّةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا مَضَى مِنْهَا وَمَا بَقِيَ، أَيْ تَعْرُجُ فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ هَذِهِ الْبِنْيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ

_ (1) سورة الدخان: 44/ 55. (2) سورة النبأ: 78/ 38.

يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: طُولُهُ ذَلِكَ الْعَدَدُ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: قَدَّرَهُ فِي رَزَايَاهُ وَهَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ لِلْكُفَّارِ ذَلِكَ الْعَدَدَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «يَخِفُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ» . وَقَالَ عِكْرِمَةُ مِقْدَارُ: مَا يَنْقَضِي فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ قَدْرُ مَا يَقْضِي بِالْعَدْلِ فِي خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَحْوَهُ. وَقِيلَ: لَا يُرَادُ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ، إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ طُولُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ أَيَّامَ الشِّدَّةِ بِالطُّولِ وَأَيَّامَ الْفَرَحِ بِالْقِصَرِ. قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ أَيَّامَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ: وَيَوْمٍ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ ... دَمُ الزِّقِّ عَنَّا وَاصْطِفَاقُ الْمَزَاهِرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي يَوْمٍ متعلق بتعرج. وقيل: بدافع، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تَعْرُجُ اعْتِرَاضٌ. وَلَمَّا كَانُوا قَدْ سَأَلُوا اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ، وَكَانَ السُّؤَالُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ، وَكَانُوا قَدْ وُعِدُوا بِهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنَ السَّيَلَانِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الْوُقُوعِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَرَوْنَهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ أَوْ عَلَى الْيَوْمِ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الِاسْتِبْعَادُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَالَةِ مِنْهُمْ. وَنَراهُ قَرِيباً: أَيْ هَيِّنًا فِي قُدْرَتِنَا، غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَيْنَا وَلَا مُتَعَذِّرٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ فِي الْإِمْكَانِ لَا فِي الْمَسَافَةِ. يَوْمَ تَكُونُ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَقَعُ يَوْمَ تَكُونُ، أَوْ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ بقريبا، أَوْ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ نَرَاهُ إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ فِي يَوْمٍ فِيمَنْ علقه بواقع. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ هَذَا، لِأَنَّ فِي يَوْمٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَا يُبْدَلُ مِنْهُ مَنْصُوبٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُرَاعَى فِي التَّوَابِعِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ فِيهَا لَيْسَ بِزَائِدٍ وَلَا مَحْكُومٍ لَهُ بِحُكْمِ الزائد كرب، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مُرَاعَاةُ الْمَوَاضِعِ فِي حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ كَقَوْلِهِ: يَا بَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْخَيَّاطِ، عَلَى مُرَاعَاةِ مَوْضِعِ بِزَيْدٍ، وَلَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا، وَلَا غَضِبْتُ عَلَى زَيْدٍ وَجَعْفَرًا، وَلَا مَرَرْتُ بعمر وأخاك عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَوْضِعِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْحَرَكَةُ فِي يَوْمَ تَكُونُ حَرَكَةَ بِنَاءٍ لَا حَرَكَةَ إِعْرَابٍ، فَهُوَ مَجْرُورٌ مِثْلُ فِي يَوْمٍ. قُلْتُ: لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى مُعْرَبٍ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، فَيَتَمَشَّى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ إِنْ كَانَ اسْتَحْضَرَهُ وَقَصَدَهُ. كَالْمُهْلِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، كَمَا فِي

الْقَارِعَةِ، لَمَّا نُسِفَتْ طَارَتْ فِي الْجَوِّ كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ إِذَا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ. قَالَ الْحَسَنُ: تَسِيرُ الْجِبَالُ مَعَ الرِّيَاحِ، ثُمَّ تَنْهَدُّ، ثُمَّ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ، ثُمَّ تُنْسَفُ فَتَصِيرُ هَبَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَسْئَلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ لَا يَسْأَلُهُ نُصْرَةً وَلَا مَنْفَعَةً لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ ذَلِكَ عِنْدَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ. وَقِيلَ: لَا يَسْأَلُهُ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُ مِنْ أَوْزَارِهِ شَيْئًا لِيَأْسِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: شَفَاعَةً. وَقِيلَ: حَمِيمًا مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ عَنْ، أَيْ عَنْ حَمِيمٍ، لِشَغْلِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْبَزِّيُّ: بِخِلَافٍ عَنْ ثَلَاثَتِهِمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ لَا يُسْأَلُ إِحْضَارَهُ كُلٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ لَهُ سِيمَا يُعْرَفُ بِهَا. وَقِيلَ: عَنْ ذُنُوبِ حَمِيمِهِ لِيُؤْخَذَ بِهَا. يُبَصَّرُونَهُمْ: اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْمَحْشَرِ يُبَصَّرُ الْحَمِيمُ حَمِيمَهُ، ثُمَّ يَفِرُّ عَنْهُ لِشُغْلِهِ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: يُبَصَّرُونَهُمْ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: يُبَصَّرُونَهُمْ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُبَصَّرُونَهُمْ صِفَةً، أَيْ حَمِيمًا مُبَصَّرِينَ مصرفين إياهم. انتهى. وحَمِيمٌ حَمِيماً: نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمَّانِ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ الضَّمِيرُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: يُبْصِرُونَهُمْ مُخَفَّفًا مَعَ كَسْرِ الصَّادِ، أَيْ يُبْصِرُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ فِي النَّارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُبْصِرُ الْكَافِرُ مَنْ أَضَلَّهُ فِي النَّارِ عِبْرَةً وَانْتِقَامًا وَحُزْنًا. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ: أَيِ الْكَافِرُ، وَقَدْ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي الَّذِي يُعَذَّبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ عَذابِ مُضَافًا وَأَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِهَا. وَصاحِبَتِهِ: زَوْجَتُهُ، وَفَصِيلَتِهِ: أَقْرِبَاؤُهُ الْأَدْنُونَ، تُؤْوِيهِ: تَضُمُّهُ انْتِمَاءً إِلَيْهَا، أَوْ لِيَاذًا بِهَا فِي النَّوَائِبِ. ثُمَّ يُنْجِيهِ: عَطْفٌ عَلَى يَفْتَدِي: أَيْ يُنْجِيهِ بِالِافْتِدَاءِ، أَوْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تُؤْوِيهِ وَتُنْجِيهِ بِضَمِّ الْهَاءَيْنِ. كَلَّا: رَدْعٌ لِوِدَادَتِهِمُ الِافْتِدَاءَ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ. إِنَّها: الضمير للقصة، ولَظى، نَزَّاعَةً تَفْسِيرٌ لَهَا أَوْ لِلنَّارِ الدَّالِّ عَلَيْهَا، عَذابِ يَوْمِئِذٍ ولَظى بدل من الضمير، ونَزَّاعَةً خَبَرُ إِنَّ أَوْ خَبَرُ مبتدأ، ولَظى خَبَرُ إِنَّ: أَيْ هِيَ نَزَّاعَةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ لَظى، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. كُلُّ هَذَا ذَكَرُوهُ، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ نَزَّاعَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا تَرْجَمَ عَنْهُ الْخَبَرُ. انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا الْمُضْمَرُ الَّذِي تَرْجَمَ عَنْهُ الْخَبَرُ؟ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُفَسِّرُ فِيهَا الْمُفْرَدُ الضَّمِيرَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَوْ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ، لَحَمَلْتُ كَلَامَهُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَحَفْصٌ وَالْيَزِيدِيُّ: فِي اخْتِيَارِهِ نَزَّاعَةً بِالنَّصْبِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لَظَى خبرا لأن، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى النَّارِ الدَّالِّ عَلَيْهَا عَذَابٌ، وَانْتَصَبَ نَزَّاعَةً

عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ أَوِ الْمُبَيَّنَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا لَظَى، وَإِنْ كَانَ عَامِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّلَظِّي، كَمَا عَمِلَ الْعَلَمُ فِي الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ أَيْ: الْمَشْهُورُ بَعْضَ الْأَحْيَانِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِلتَّهْوِيلِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَأَنَّهُ يَعْنِي الْقَطْعَ. فَالنَّصْبُ فِيهَا كَالرَّفْعِ فِيهَا، إِذَا أَضْمَرْتَ هُوَ فَتُضْمِرُ هُنَا، أَعْنِي تَدْعُو، أَيْ حَقِيقَةً يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْكَلَامَ كَمَا يَخْلُقُهُ فِي الْأَعْضَاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، تَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَمَا خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ. انْتَهَى، فَلَمْ يَتْرُكْ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: مَجَازٌ عَنِ اسْتِدْنَائِهَا مِنْهُمْ وَمَا تُوقِعُهُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: يَهْلِكُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: دَعَا اللَّهَ، أَيْ أَهْلَكَكَ، وَحَكَاهُ الْخَلِيلُ عَنِ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَيَالِيَ يَدْعُونِي الْهَوَى فَأُجِيبُهُ ... وَأَعْيُنُ مَنْ أَهْوَى إِلَيَّ رَوَانِي وَقَالَ آخَرُ: تَرَفَّعَ لِلْعِيَانِ وكل فج ... طباه الدعي مِنْهُ وَالْخَلَاءُ يَصِفُ ظَلِيمًا وَطَبَاهُ: أَيْ دَعَاهُ وَالْهَوَى، والدعي لَا يُدْعَوَانِ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِمَا مَا يَجْذِبُ صَارَا دَاعِيَيْنِ مَجَازًا. وَقِيلَ: تَدْعُو، أَيْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، أُضِيفَ دُعَاؤُهُمْ إِلَيْهَا، مَنْ أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ، وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعى: أَيْ وَجَمَعَ الْمَالَ، فَجَعَلَهُ فِي وِعَاءٍ وَكَنَزَهُ وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى كُفَّارٍ أَغْنِيَاءَ. وَقَالَ الْحَكِيمُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمٍ لَا يَرْبُطُ كِيسَهُ وَيَقُولُ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَجَمَعَ فَأَوْعى، إِنَّ الْإِنْسانَ جِنْسٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: قَالَ لِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَكُونُ تَفْسِيرٌ أَبْيَنَ مِنْ تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا نَالَهُ شَرٌّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ، وَإِذَا نَالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ بِهِ وَمَنَعَهُ النَّاسَ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ شِدَّةُ الْجَزَعِ وَالْمَنْعِ مُتَمَكِّنَةً فِي الْإِنْسَانِ، جُعِلَ كَأَنَّهُ خُلِقَ مَحْمُولًا عَلَيْهِمَا كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «1» ، وَالْخَيْرُ الْمَالُ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ: اسْتِثْنَاءٌ كَمَا قُلْنَا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي حَاوَرُوهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى صَلاتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ وَالْحَسَنُ جَمْعًا وَدَيْمُومَتُهَا، قَالَ

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 37.

الْجُمْهُورُ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَلَاتُهَا لِوَقْتِهَا. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: يُقِرُّونَ فِيهَا وَلَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَمِنْهُ الْمَالُ الدَّائِمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَوَامُهُمْ عَلَيْهَا أَنْ يُوَاظِبُوا عَلَى أَدَائِهَا وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا بِشَيْءٍ، وَمُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا أَنْ يُرَاعُوا إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ لَهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَيُقِيمُوا أَرْكَانَهَا وَيُكْمِلُوهَا بِسُنَنِهَا وَأَدَائِهَا وَيَحْفَظُونَهَا مِنَ الْإِحْبَاطِ بِاقْتِرَانِ الْمَآثِمِ، وَالدَّوَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَنْفُسِ الصَّلَوَاتِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَحْوَالِهَا. انْتَهَى، وَهُوَ جَوَابُهُ لِسُؤَالِهِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ، ثُمَّ قَالَ: عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. وَأَقُولُ: إِنَّ الدَّيْمُومَةَ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ بُولِغَ فِي التَّوْكِيدِ فِيهَا، فَذُكِرَتْ أَوَّلَ خِصَالِ الْإِسْلَامِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَآخِرَهَا، لِيُعْلَمَ مَرْتَبَتُهَا فِي الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَالصِّفَاتُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَمُعْظَمُهَا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِشَهَادَتِهِمْ على الإفراد والسلمي وأبو عمر وحفص: على الجمع. قوله عَزَّ وَجَلَّ: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ، أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ، كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ، فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَكَانُوا يَحْتَفُّونَ بِهِ حِلَقًا حِلَقًا يَسْمَعُونَ ويستهزئون بِكَلَامِهِ وَيَقُولُونَ: إِنْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ، كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَلَنَدْخُلَنَّهَا قَبْلَهُمْ، فَنَزَلَتْ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مُهْطِعِينَ فِي سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْنَى قِبَلَكَ: أَيْ فِي الْجِهَةِ الَّتِي تَلِيكَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ: أَيْ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الْخَمْسَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يُدْخَلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَابْنُ يَعْمَرَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَزَيْدُ بن عليّ وطلحة وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. كَلَّا: رَدٌّ وَرَدْعٌ لِطَمَاعِيَّتِهِمْ، إِذْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ الْبَعْثِ، وَلَا أَنْ ثَمَّ جَنَّةً وَلَا نَارًا. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ: أَيْ أَنْشَأْنَاهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ مَذِرَةٍ، فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِعَادَتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، قِيلَ: بِنَفْسِ الْخَلْقِ وَمِنَّتُهُ

عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ يُعْطِي الْجَنَّةَ، بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّمَا خُلِقْتَ مِنْ قَذَرٍ يَا ابْنَ آدَمَ. وَقَالَ أنس: كان أبوبكر إِذَا خَطَبَنَا ذَكَرَ مَنَاتِنَ ابْنِ آدَمَ وَمُرُورَهُ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ نُطْفَةٌ فِي الرَّحِمِ، ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مُضْغَةٌ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ فَيَتَلَوَّثُ فِي نَجَاسَتِهِ طِفْلًا. فَلَا يُقْلِعُ أبوبكر حَتَّى يَقْذُرَ أَحَدُنَا نَفْسَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ خَلْقُكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ مَذِرَةٍ، فَمِنْ أَيْنَ تَتَشَرَّفُونَ وَتَدَّعُونَ دُخُولَ الْجَنَّةِ قَبْلَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَأَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا يَعْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ إِحَالَةً عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ. وَرَأَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ يَتَبَخْتَرُ فِي مُطَرِّفِ خَزٍّ وَجُبَّةِ خَزٍّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْمِشْيَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، أَوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَأَنْتَ تَحْمِلُ عَذِرَةً. فَمَضَى الْمُهَلَّبُ وَتَرَكَ مِشْيَتَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ، لَا نَفْيًا وَجَمَعَهُمَا وَقَوْمٌ بِلَامٍ دُونَ أَلِفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُفْرَدَيْنِ. أَقْسَمَ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ عَلَى إِيجَابِ قُدْرَتِهِ، عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَا يَسْبِقُهُ شَيْءٌ إِلَى مَا يُرِيدُ. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا: وَعِيدٌ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُهَادَنَةِ هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يُلْقُوا مُضَارِعُ لَقِيَ، وَالْجُمْهُورُ: يُلاقُوا مُضَارِعُ لَاقَى وَالْجُمْهُورُ: يَخْرُجُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مَبْنِيًّا للمفعول، ويَوْمَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَهُمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَمُجَاهِدٌ: بِفَتْحِهِمَا وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: بِضَمِّهِمَا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَالنُّصُبُ: مَا نُصِبَ لِلْإِنْسَانِ، فَهُوَ يَقْصِدُهُ مُسْرِعًا إِلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ صَنَمٍ، وَغَلَبَ فِي الْأَصْنَامِ حَتَّى قِيلَ الْأَنْصَابُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُوَ شَبَكَةٌ يَقَعُ فِيهَا الصَّيْدُ، فَيُسَارِعُ إِلَيْهَا صَاحِبُهَا مَخَافَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ الصَّيْدُ مِنْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نُصُبٍ عَلَمٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّهِمَا، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ أَصْنَامٌ مَنْصُوبَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمْعُ نَصْبٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَالْأَنْصَابُ جَمْعُ الْجَمْعِ. يُوفِضُونً: يُسْرِعُونَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَسْتَبِقُونَ إِلَى غَايَاتٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: فوارس ذنيان تَحْتَ الْحَدِيدِ ... كَالْجِنِّ يُوفِضْنَ مِنْ عَبْقَرِ وَقَالَ آخَرُ فِي مَعْنَى الْإِسْرَاعِ: لَأَنْعَتْنَ نعامة ميفاضا ... حرجاء ظَلَّتْ تَطْلُبُ الْإِضَاضَا

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَسْعَوْنَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَنْطَلِقُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَبْتَدِرُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذِلَّةٌ مُنَوَّنًا. ذلِكَ الْيَوْمُ: بِرَفْعِ الْمِيمِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلَّادٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ يَعْقُوبَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ التَّمَّارِ: ذِلَّةُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى ذَلِكَ، واليوم بِخَفْضِ الْمِيمِ.

سورة نوح

سورة نوح [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

الْأَطْوَارُ: الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ، قَالَ: فَإِنً أَفَاقَ فَقَدْ طَارَتْ عَمَايَتُهُ ... وَالْمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْرًا بَعْدَ أَطْوَارِ وَدٌّ وَسُوَاعٌ ويغوث ويعوق ونسرا: أَسْمَاءُ أَصْنَامٍ أَعْلَامٌ لَهَا اتَّخَذَهَا قَوْمُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ آلِهَةً. إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً، وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً، مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لما أَقْسَمَ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَكَانُوا قَدْ سَخِرُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَّبُوا بِمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، ذَكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ وَقَوْمِهِ مَعَهُ، وَكَانُوا أَشَدَّ تَمَرُّدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ اسْتِئْصَالٍ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يُبْقِ لَهُمْ نَسْلًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَانُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ كَمُشْرِكِي مَكَّةَ، فَحَذَّرَ تَعَالَى قُرَيْشًا أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ يَسْتَأْصِلُهُمْ إن لم يؤمنوا. وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، وَيُقَالُ لَهُ شَيْخُ المرسلين، وآدم الثَّانِي، وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ بْنُ بُرْدِ بْنِ مَهَلَايِيلَ بْنِ أَنُوشِ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مَصْدَرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً. عَذابٌ أَلِيمٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَذَابُ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الطُّوفَانِ. مِنْ ذُنُوبِكُمْ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا

يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ لَا مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُوفِيٌّ، وَأَقُولُ: أَخْفَشِيٌّ لَا كُوفِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ مِنْ نَكِرَةٌ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَاجِبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْأَخْفَشُ يُجِيزُ مَعَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: النَّكِرَةُ وَالْمَعْرِفَةُ. وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهَا مَا تُبَيِّنُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: وَيُؤَخِّرْكُمْ مَعَ إِخْبَارِهِ بِامْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؟ وَهَلْ هذا إلا تنافض؟ قُلْتُ: قَضَى اللَّهُ مَثَلًا أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ إِنْ آمَنُوا عَمَّرَهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنْ بَقُوا عَلَى كُفْرِهِمْ أَهْلَكَهُمْ عَلَى رَأْسِ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ، فَقِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا يُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: أَيْ إِلَى وَقْتٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَضَرَبَهُ أَمَدًا تَنْتَهُونَ إِلَيْهِ لَا تَتَجَاوَزُونَهُ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْأَطْوَلُ تَمَامُ الْأَلْفِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْأَجَلُ الْأَمَدُ، لَا يُؤَخَّرُ كَمَا يُؤَخَّرُ هَذَا الْوَقْتُ، وَلَمْ تَكُنْ لَكُمْ حِيلَةٌ، فَبَادِرُوا فِي أَوْقَاتِ الْإِمْهَالِ وَالتَّأْخِيرِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مِمَّا تَعَلَّقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَجَلَيْنِ، قَالُوا: لَوْ كَانَ وَاحِدًا مُحَدَّدًا لَمَا صَحَّ التَّأْخِيرُ، إِنْ كَانَ الْحَدُّ قَدْ بَلَغَ، وَلَا الْمُعَاجَلَةُ إِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْ، قَالَ: وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ تَعَلُّقٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ هُمْ مِمَّنْ يُؤَخَّرُ أَوْ مِمَّنْ يُعَاجَلُ، وَلَا قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تُؤَخَّرُونَ عَنْ أَجْلٍ قَدْ حَانَ لَكُمْ، لَكِنْ قَدْ سَبَقَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُمْ، إِمَّا مِمَّنْ قَضَى لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّأْخِيرِ، وَإِمَّا مِمَّنْ قَضَى لَهُ بِالْكُفْرِ وَالْمُعَاجَلَةِ. ثُمَّ تَشَدَّدَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَاحَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، لَبَادَرْتُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ وَطَاعَتِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْهُ تَعَالَى. وَلَمَّا لَمْ يُجِيبُوهُ وَآذَوْهُ، شَكَا إِلَى رَبِّهِ شَكْوَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ لَمَّا أُمِرَ بِالْإِنْذَارِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِمْ. قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً: أَيْ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ وَلَا تَعْطِيلٍ فِي وَقْتٍ. وَلَمَّا ازْدَادُوا إِعْرَاضًا وَنِفَارًا عَنِ الْحَقِّ، جَعَلَ الدُّعَاءَ هُوَ الَّذِي زَادَهُمْ، إِذْ كَانَ سَبَبَ الزِّيَادَةِ، وَمِثْلُهُ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» . وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ: أَيْ لِيَتُوبُوا فَتَغْفِرَ لَهُمْ، ذَكَرَ الْمُسَبِّبَ الَّذِي هُوَ حَظُّهُمْ خَالِصًا لِيَكُونَ أَقْبَحَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، سَدُّوا مَسَامِعَهُمْ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَتَغَطَّوْا بِثِيَابِهِمْ حَتَّى لَا يَنْظُرُوا إِلَيْهِ كَرَاهَةً وَبُغْضًا مِنْ سَمَاعِ النُّصْحِ وَرُؤْيَةِ النَّاصِحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فهم بمنزلة

_ (1) سورة التوبة: 9/ 125.

مَنْ سَدَّ سَمْعَهُ وَمَنَعَ بَصَرَهُ، ثُمَّ كَرَّرَ صِفَةَ دُعَائِهِ بَيَانًا وَتَوْكِيدًا. لَمَّا ذَكَرَ دُعَاءَهُ عُمُومَ الْأَوْقَاتِ، ذَكَرَ عُمُومَ حَالَاتِ الدُّعَاءِ. وكُلَّما دَعَوْتُهُمْ: يَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ الدَّعَوَاتِ، فَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَةَ دُعَائِهِ أَوَّلًا، وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ إِسْرَارًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ أَلْطَفَ بِهِمْ. وَلَعَلَّهُمْ يَقْبَلُونَ مِنْهُ كَحَالِ مَنْ يَنْصَحُ فِي السِّرِّ فَإِنَّهُ جَدِيرٌ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ لَهُ الْإِسْرَارَ، انْتَقَلَ إِلَى أَشَدَّ مِنْهُ وَهُوَ دُعَاؤُهُمْ جِهَارًا صَلْتًا بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ لَا يُحَاشِي أَحَدًا، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ عَادَ إِلَى الْإِعْلَانِ وَإِلَى الْإِسْرَارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى ثُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى تَبَاعُدِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْجِهَارَ أَغْلَظُ مِنَ الْإِسْرَارِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَغْلَظُ مِنْ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا. انْتَهَى. وكَثِيرًا كَرَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ ثُمَّ لِلِاسْتِبْعَادِ، وَلَا نَعْلَمُهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَانْتَصَبَ جِهَارًا بِدَعْوَتِهِمْ، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيِ الدُّعَاءِ، وَيَجِيءُ فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا جَاءَ فِي نُصُبٍ هُوَ يَمْشِي الْخَوْزَلَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِدَعْوَتِهِمْ: جَاهِرَتَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرِ دَعَا بِمَعْنَى دُعَاءً جِهَارًا: أَيْ مُجَاهَرًا بِهِ، أَوْ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُجَاهِرًا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَغْفَرُوا دُرَّ لَهُمُ الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا، فَقَدَّمَ مَا يَسُرُّهُمْ وَمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ، إِذِ النَّفْسُ مُتَشَوِّفَةٌ إِلَى الْحُصُولِ عَلَى الْعَاجِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها، نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ «1» ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «2» ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ «3» الْآيَةِ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ «4» . قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَهْلَ حُبٍّ لِلدُّنْيَا، فَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي يُحِبُّونَهَا. وَقِيلَ: لَمَّا كَذَّبُوهُ بَعْدَ طُولِ تَكْرَارِ الدُّعَاءِ قَحَطُوا وَأَعْقَمَ نِسَاؤُهُمْ، فَبَدَأَهُمْ فِي وَعْدِهِ بِالْمَطَرِ، ثُمَّ ثنى بالأموال والبنين. ومِدْراراً: مِنَ الدَّرِّ، وَهُوَ صِفَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَمِفْعَالٌ لَا تَلْحَقُهُ التَّاءُ إِلَّا نَادِرًا، فَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. تَقُولُ: رَجُلٌ مِحْدَامَةٌ وَمِطْرَابَةٌ، وَامْرَأَةٌ مِحْدَابَةٌ وَمِطْرَابَةٌ، وَالسَّمَاءُ الْمُطِلَّةُ، قِيلَ: لِأَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى السَّحَابُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ السَّحَابُ وَالْمَطَرُ كَقَوْلِهِ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ الْبَيْتَ، الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَبِمَعْنَى الْأَمَلِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: لَا تَرْجُونَ: لَا تَخَافُونَ، قَالُوا: وَالْوَقَارُ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا وَعِيدٌ وَتَخْوِيفٌ. وَقِيلَ: لَا تَأْمُلُونَ لَهُ تَوْقِيرًا: أَيْ تَعْظِيمًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: مَا

_ (1) سورة الصف: 61/ 13. (2) سورة الأعراف: 7/ 96. (3) سورة المائدة: 5/ 66. (4) سورة الجن: 72/ 16.

لَكَمَ لَا تَكُونُونَ عَلَى حَالِ مَا يَكُونُ فِيهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي دَارِ الثَّوَابِ، وَلِلَّهِ بَيَانٌ لِلْمُوَقَّرِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِلَةً، أَوْ لَا تَخَافُونَ لله حِلْمًا وَتَرْكَ مُعَاجَلَةٍ بِالْعِقَابِ فَتُؤْمِنُوا. وَقِيلَ: مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةً، لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ حَالَ اسْتِقْرَارِ الْأُمُورِ وَثَبَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مِنْ وَقَرَ إِذَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ. انْتَهَى. وَقِيلَ: مَا لَكُمْ لَا تَجْعَلُونَ رَجَاءَكُمْ لِلَّهِ وَتِلْقَاءَهُ وَقَارًا، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْهُمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تُؤَدَةً مِنْكُمْ وَتَمَكُّنًا فِي النَّظَرِ، لِأَنَّ الْفِكْرَ مَظِنَّةُ الْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ وَرُكُوبِ الرَّأْسِ. انْتَهَى. وَفِي التَّحْرِيرِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله ثَوَابًا وَلَا تَخَافُونَ عِقَابًا، وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: مَا لَكَمَ لَا تَعْلَمُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: مَا لَكُمْ لَا تُبَالُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ لُغَةٌ حجازية، وهذيل وخزاعة ومضر يَقُولُونَ: لَمْ أَرْجُ: لَمْ أُبَالِ. انْتَهَى. لَا تَرْجُونَ: حَالٌ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُحْمَلُ عَلَى الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، إِذْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَدْرِيجِ الْإِنْسَانِ فِي أَطْوَارٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ مِنَ: النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ. وَقِيلَ: فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِ النَّاسِ وَخَلْقِهِمْ وَخُلُقِهِمْ وَمِلَلِهِمْ. وَقِيلَ: صِبْيَانًا ثُمَّ شَبَابًا ثُمَّ شُيُوخًا وَضُعَفَاءَ ثُمَّ أَقْوِيَاءَ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَطْواراً: أَنْوَاعًا صَحِيحًا وَسَقِيمًا وَبَصِيرًا وَضَرِيرًا وَغَنِيًّا وَفَقِيرًا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً، قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا، مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً، وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً. لَمَّا نَبَّهَهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْفِكْرِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَيْفَ انْتَقَلُوا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَكَانَتِ الْأَنْفُسُ أَقْرَبَ مَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ مِنْهُمْ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْفِكْرِ فِي الْعَالَمِ عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ، وَمَا أَوْدَعَ تَعَالَى فِيهِ، أَيْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مِنْ هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ الْوُجُودِ. وَتَقَدَّمَ

شَرْحُ طِباقاً فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ عَائِدٌ عَلَى السموات، وَيُقَالُ: الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدنيا، وصح كون السموات ظَرْفًا لِلْقَمَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ الظَّرْفِ أَنْ يَمْلَأَهُ الْمَظْرُوفُ. تَقُولُ: زَيْدٌ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ فِي جُزْءٍ مِنْهَا، وَلَمْ تُقَيَّدِ الشَّمْسُ بِظَرْفٍ، فَقِيلَ: هِيَ فِي الرَّابِعَةِ، وَقِيلَ: فِي الْخَامِسَةِ، وَقِيلَ: فِي الشِّتَاءِ فِي الرَّابِعَةِ، وَفِي الصَّيْفِ فِي السَّابِعَةِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُوقَفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَيَذْكُرُ أَصْحَابُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّهُ يَقُومُ عِنْدَهُمُ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدَّعُونَهُ، وَأَنَّ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَبَاهِرِ مَصْنُوعَاتِهِ. سِراجاً يَسْتَضِيءُ بِهِ أَهْلُ الدُّنْيَا، كَمَا يَسْتَضِيءُ النَّاسُ بِالسِّرَاجِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْقَمَرُ مَبْلَغَ الشَّمْسِ فِي الْإِضَاءَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» ، وَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ. وَالْإِنْبَاتُ اسْتِعَارَةٌ فِي الْإِنْشَاءِ، أَنْشَأَ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ وَصَارَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْهُ، فَصَحَّ نِسْبَتُهُمْ كُلُّهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ أُنْبِتُوا مِنْهَا. وَانْتِصَابُ نَبَاتًا بأنبتكم مَصْدَرًا عَلَى حَذْفِ الزَّائِدِ، أَيْ إِنْبَاتًا، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ فَنَبَتُمْ نَبَاتًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُمْ، أَوْ نُصِبَ بأنبتكم لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى نَبَتُمْ. انْتَهَى. وَلَا أَعْقِلُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها: أَيْ يُصَيِّرُكُمْ فِيهَا مَقْبُورِينَ، وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. بِساطاً تَتَقَلَّبُونَ عَلَيْهَا كَمَا يَتَقَلَّبُ الرَّجُلُ عَلَى بِسَاطِهِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ كُرَوِيَّةً بَلْ هِيَ مَبْسُوطَةٌ، سُبُلًا: ظرفا، فِجاجاً: مُتَّسِعَةً، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَجِّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِصْيَانِ وَعَامَلُوهُ بِأَقْبَحِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي: الضَّمِيرُ لِلْجَمِيعِ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهُمْ: وَأَطِيعُونِ، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ فِيهِمْ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا «2» ، وَكَانُوا قَدْ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ بِحَيْثُ كَانُوا يَزْرَعُونَ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ. وَاتَّبَعُوا: أَيْ عَامَّتُهُمْ وَسَفَلَتُهُمْ، إِذْ لَا يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى الْجَمِيعِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. مَنْ لَمْ يَزِدْهُ: أَيْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ مَا تَأَثَّلُوهُ مِنَ الْمَالِ وَمَا تَكَثَّرُوا بِهِ مِنَ الْوَلَدِ سَبَبًا فِي خَسَارَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَخَوَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ، فِي رِوَايَةٍ خَارِجَةٍ: وَوَلْدُهُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ: بِفَتْحِهِمَا، وهما لغتان،

_ (1) سورة يونس: 10/ 5. (2) سورة العنكبوت: 29/ 14. [.....]

كبخل وَبُخُلٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَالْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَزِرٌّ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَمْرٍو، فِي رِوَايَةٍ: كَسْرُ الْوَاوِ وَسُكُونُ اللَّامِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوُلُدُ بِالضَّمِّ جَمْعُ الْوَلَدِ، كَخَشَبٍ وَخُشُبٍ، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: يَا بَكْرَ آمِنَةَ الْمُبَارَكَ بِكْرُهَا ... مِنْ وَلَدِ مُحْصَنَةٍ بِسَعْدِ الْأَسْعَدِ وَمَكَرُوا: يَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي وَمَكَرُوا، وَقالُوا عَلَى الْمَعْنَى وَمَكْرُهُمْ: احْتِيَالُهُمْ فِي الدِّينِ وَتَحْرِيشُ النَّاسِ عَلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُبَّاراً بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ، وَهُوَ بِنَاءٌ فِيهِ مُبَالَغَةٌ كَثِيرٌ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ، وَعَلَيْهَا قَوْلُ الشاعر: والمرء يلحقه بقنان النَّدَى ... خُلُقُ الْكَرِيمِ وَلَيْسَ بِالْوُضَّاءِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: بَيْضَاءُ تَصْطَادُ الْقُلُوبَ وَتَسْتَبِي ... بِالْحُسْنِ قَلْبَ الْمُسْلِمِ الْقُرَّاءِ وَيُقَالُ: حُسَّانٌ وَطُوَّالٌ وَجُمَّالٌ. وَقَرَأَ عِيسَى وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِخَفِّ الْبَاءِ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو الْأُخَيْرِطِ وَهْبُ بْنُ وَاضِحٍ: كِبَّارًا، بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ جَمْعٌ كَبِيرٌ، كَأَنَّهُ جَعَلَ مَكْرًا مَكَانَ ذُنُوبٍ أَوْ أَفَاعِيلَ. انْتَهَى، يَعْنِي فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِالْجَمْعِ. وَقالُوا: أَيْ كُبَرَاؤُهُمْ لِأَتْبَاعِهِمْ، أَوْ قَالُوا، أَيْ جَمِيعُهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، لَا تَذَرُنَّ: لَا تَتْرُكُنَّ، آلِهَتَكُمْ: أَيْ أَصْنَامَكُمْ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَامِهِمْ، ثُمَّ خُصُّوا بَعْدَ أَكَابِرِ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ وَدٌّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّهَا أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي صَدْرِ الزَّمَانِ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانُوا بَنِي آدَمَ، وَكَانَ ودّا أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: كَانُوا بَنِي آدم ونوح عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مَاتُوا فَصُوِّرَتْ أَشْكَالُهُمْ لِتُذَكِّرَ أَفْعَالَهُمُ الصَّالِحَةَ، ثُمَّ هَلَكَ مَنْ صَوَّرَهُمْ وَخَلَفَ مَنْ يُعَظِّمُهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى عُبِدَتْ. قِيلَ: ثُمَّ انْتَقَلَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ بِأَعْيَانِهَا. وَقِيلَ: بَلِ الْأَسْمَاءُ فَقَطْ إِلَى قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ. فَكَانَ وَدٌّ لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَسُوَاعٌ لِهُذَيْلٍ، وَقِيلَ: لِهَمْدَانَ وَيَغُوثُ لِمُرَادٍ، وَقِيلَ: لِمَذْحِجٍ وَيَعُوقُ لِهَمْدَانَ، وَقِيلَ: لِمُرَادٍ وَنَسْرٌ لِحِمْيَرَ، وَقِيلَ: لِذِي الْكُلَاعِ مِنْ حِمْيَرَ وَلِذَلِكَ سَمَّتِ الْعَرَبُ بِعَبْدِ وَدٍّ وَعَبْدِ يَغُوثَ وَمَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ فِي سُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَنَمٌ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، إِذْ يَبْعُدُ بَقَاءُ أَعْيَانِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّمَا بَقِيَتِ الْأَسْمَاءُ فَسَمُّوا

أَصْنَامَهُمْ بِهَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: رَأَيْتُ يَغُوثَ، وَكَانَ مِنْ رَصَاصٍ، يُحْملُ عَلَى جَمَلٍ أَجْرَدٍ يَسِيرُونَ مَعَهُ لَا يُهَيِّجُونَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْرُكُ، فَإِذَا بَرَكَ نَزَلُوا وَقَالُوا: قَدْ رَضِيَ لَكُمُ الْمُنْزِلَ، فَيَنْزِلُونَ حَوْلَهُ وَيَضْرِبُونَ لَهُ بِنَاءً. انْتَهَى. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: كَانَ يَغُوثُ لَكَهْلَانَ مِنْ سَبَأٍ، يَتَوَارَثُونَهُ حَتَّى صَارَ فِي هَمْدَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيُّ: يَرِيشُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي ... وَلَا يَبْرِي يَغُوثُ وَلَا يَرِيشُ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَدٌّ اسْمُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ. سُمِّيَ وَدًّا لِوِدِّهِمْ لَهُ. انْتَهَى. وَقِيلَ: كَانَ وَدٌّ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ، وَسُوَاعٌ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ، وَيَغُوثُ عَلَى صُورَةِ أَسَدٍ، وَيَعُوقُ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ، وَنَسْرٌ عَلَى صُورَةِ نَسْرٍ، وَهَذَا مُنَافٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ صَوَّرُوا صُوَرَ نَاسٍ صَالِحِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ، بِخِلَافٍ عَنْهُمْ: وُدًّا، بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، قَالَ الشَّاعِرُ: حَيَّاكَ وَدٌّ فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّسَاءِ وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا وَقَالَ آخَرُ: فَحَيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هداك لعسه ... وخوص باعلا ذي فضالة هجه قِيلَ: أَرَادَ ذَلِكَ الصَّنَمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإِنْ كَانَا عَرَبِيَّيْنِ، فَمَنْعُ الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَا عَجَمِيَّيْنِ، فَلِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ: وَلَا يَغُوثًا وَيَعُوقًا بِتَنْوِينِهِمَا. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: جَعَلَهُمَا فَعُولًا، فَلِذَلِكَ صَرَفَهُمَا. فَأَمَّا فِي الْعَامَّةِ فَإِنَّهُمَا صِفَتَانِ مِنَ الْغَوْثِ وَالْعَوْقِ بِفِعْلٍ مِنْهُمَا، وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ الصَّرْفُ لِاجْتِمَاعِ الْفِعْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا تَعْرِيفٌ وَمُشَابَهَةُ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ. انْتَهَى، وَهَذَا تَخْبِيطٌ. أَمَّا أَوَّلًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا فَعُولًا، لِأَنَّ مَادَّةَ يَغُثُّ مَفْقُودَةٌ وَكَذَلِكَ يَعُقُّ وَأَمَّا ثَانِيًا، فَلَيْسَا بِصِفَتَيْنِ مِنَ الْغَوْثِ وَالْعَوْقِ، لِأَنَّ يفعلا لم يجىء اسْمًا وَلَا صِفَةً، وَإِنَّمَا امْتَنَعَا مِنَ الصَّرْفِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلَا يَغُوثًا وَيَعُوقًا بِالصَّرْفِ، وَذَلِكَ وَهْمٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَازِمٌ وَوَزْنُ الْفِعْلِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَهْمٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ الْأَعْمَشُ بِذَلِكَ، بَلْ قَدْ وَافَقَهُ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَصْرِفُ جَمِيعَ مَا لَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ لُغَةٌ وَقَدْ حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ صُرِفَ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُنَوَّنِ، إِذْ قَبْلُهُ وَدًّا وَلا سُواعاً، وَبَعْدَهُ وَنَسْراً، كَمَا قَالُوا فِي صرف سلاسلا «1» ، وقَوارِيرَا قَوارِيرَا «2» ،

_ (1) سورة الإنسان 76/ 4. (2) سورة الإنسان: 76/ 15- 16.

لِمَنْ صَرَفَ ذَلِكَ لِلْمُنَاسَبَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ مُشْكَلَةٌ، لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا عَرَبِيَّيْنِ أَوْ أَعْجَمِيَّيْنِ فَفِيهِمَا مَنْعُ الصَّرْفِ، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ الِازْدِوَاجَ فَصَرَفَهُمَا لِمُصَادَفَتِهِ أَخَوَاتِهِمَا مُنْصَرِفَاتٍ وَدًّا وسُواعاً ونَسْراً، كما قرىء: وَضُحاها «1» بِالْإِمَالَةِ لِوُقُوعِهِ مَعَ الْمُمَالَاتِ لِلِازْدِوَاجِ. انْتَهَى. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَدْرِ أَنَّ ثَمَّ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ تَصْرِفُ كُلَّ مَا لَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ، فَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلَهَا. وَقَدْ أَضَلُّوا: أَيِ الرُّؤَسَاءُ الْمَتْبُوعُونَ، كَثِيراً: مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الضَّلَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَقَدْ أَضَلُّوا: أَيِ الْأَصْنَامُ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا كَمَا يَعُودُ عَلَى الْعُقَلَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «2» وَيُحَسِّنُهُ عَوْدُهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَلَكِنْ عَوْدُهُ عَلَى الرُّؤَسَاءِ أَظْهَرُ، إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى فِيهِمْ أَمْكَنُ. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا كَثِيرًا، دَعَا عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ، فَقَالَ: وَلا تَزِدِ: وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَقَدْ أَضَلُّوا، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَقَالَ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا، فهي معمولة لقال الْمُضْمَرَةُ الْمَحْكِيُّ بِهَا قَوْلُهُ: وَقَدْ أَضَلُّوا، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّنَاسُبُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، بَلْ قَدْ يَعْطِفُ، جُمْلَةَ الْإِنْشَاءِ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ وَالْعَكْسُ، خِلَافًا لِمَنْ يَدَّعِي التَّنَاسُبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: عَطَفَ وَلا تَزِدِ عَلَى رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، أَيْ قَالَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. إِلَّا ضَلالًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُرِيدَ لَهُمُ الضَّلَالَ وَيَدْعُوَ اللَّهُ بِزِيَادَتِهِ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ أَنْ يُخْذَلُوا وَيُمْنَعُوا الْأَلْطَافَ لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَذَلِكَ حَسَنٌ جَمِيلٌ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهِ، بَلْ لَا يَحْسُنُ الدُّعَاءُ بِخِلَافِهِ. انْتَهَى، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ الضَّيَاعُ وَالْهَلَاكُ، كَمَا قَالَ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: إِلَّا ضَلالًا: إِلَّا عَذَابًا، قَالَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. وَقِيلَ: إِلَّا خُسْرَانًا. وَقِيلَ: إِلَّا ضَلَالًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَتَرْوِيجِ مَكْرِهِمْ وَحِيَلِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ جَمْعًا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ مَهْمُوزَا وَأَبُو رَجَاءٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ يَاءً وَأَدْغَمَ فِيهَا يَاءَ المد والجحدري وَعُبَيْدٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: عَلَى الْإِفْرَادِ مَهْمُوزًا وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ وَأَبُو عَمْرٍو: خَطَايَاهُمْ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ دَعْوَةَ نوح عليه السلام

_ (1) سورة الشمس: 91/ 1. (2) سورة إبراهيم: 14/ 36.

قَدْ أُجِيبَتْ. وَمَا زَائِدَةٌ للتوكيد ومن، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَا يَظْهَرُ إِلَّا أَنَّهَا لِلسَّبَبِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مِنْ خَطِيئَاتِهِمْ مَا أُغْرِقُوا، بِزِيَادَةِ مَا بَيْنَ أُغْرِقُوا وَخَطِيئَاتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُغْرِقُوا بِالْهَمْزَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: غُرِّقُوا بِالتَّشْدِيدِ وَكَلَاهُمَا لِلنَّقْلِ وَخَطِيئَاتُهُمُ الشِّرْكُ وَمَا انْجَرَّ مَعَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَأُدْخِلُوا نَارًا: أَيْ جَهَنَّمُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ، وَعَطَفَ بِالْفَاءِ عَلَى إِرَادَةِ الْحُكْمِ، أَوْ عَبَّرَ بِالدُّخُولِ عَنْ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعِشِيًّا، كَمَا قَالَ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها «1» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أُرِيدَ عَذَابُ الْقَبْرِ. انْتَهَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يُغْرَقُونَ مِنْ جَانِبٍ وَيُحْرَقُونَ بِالنَّارِ مِنْ جَانِبٍ. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً: تَعْرِيضٌ بِانْتِفَاءِ قُدْرَةِ آلِهَتِهِمْ عَنْ نَصْرِهِمْ، وَدُعَاءُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «2» ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مَا دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْأَصْلَابِ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَهَذَا لَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُ: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْقِمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَقَالَهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَلَا يَظْهَرُ كَمَا قُلْنَا، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ طَامِعًا فِي إِيمَانِهِمْ عَاطِفًا عَلَيْهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ رُبَّمَا ضَرَبَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ أَحْيَانًا حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَدَيَّارًا: مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَوَزْنُهُ فَيْعَالٌ، أَصْلُهُ دِيوَارٌ، اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَأُدْغِمَتْ وَيُقَالُ: مِنْهُ دَوَّارٌ وَوَزْنُهُ فَعَّالٌ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الدَّوَرَانِ، كَمَا قَالُوا: قِيَامٌ وَقِوَامٌ، وَالْمَعْنَى مَعْنَى أَحَدٍ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: مِنْ سَكَنَ دَارًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ فَيْعَالٌ مِنَ الدَّوْرِ أَوْ مِنَ الدَّارِ. انْتَهَى. وَالدَّارُ أَيْضًا مِنَ الدَّوْرِ، وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ. وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً: وَصَفَهُمْ وَهُمْ حَالَةَ الْوِلَادَةِ بِمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ. وَلَمَّا دَعَا عَلَى الْكُفَّارِ، اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَبَدَأَ بِنَفَسِهِ ثُمَّ بِمَنْ وَجَبَ بِرُّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، فكأن هو ووالده انْدَرَجُوا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلِوالِدَيَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا أَبُوهُ لَمَكُ بْنُ مَتُّوشَلَخَ وَأُمُّهُ شَمْخَاءُ بِنْتُ أَنُوشٍ. وَقِيلَ: هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: وَلِوَالِدِي بِكَسْرِ الدَّالِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَصَّ أباه

_ (1) سورة غافر: 40/ 46. (2) سورة هود: 11/ 36.

الْأَقْرَبَ، أَوْ أَرَادَ جَمِيعَ مَنْ وَلَدُوهُ إِلَى آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ لنوح عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبٌ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلِوَلَدَايَ تَثْنِيَةُ وَلَدٍ ، يَعْنِي سَامًا وَحَامًا. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: مَسْجِدِي وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: شَرِيعَتِي، اسْتَعَارَ لَهَا بَيْتًا، كَمَا قَالُوا: قُبَّةُ الْإِسْلَامِ وَفِسْطَاطُهُ. وَقِيلَ: سَفِينَتُهُ. وَقِيلَ: دَارُهُ. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ: دَعَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَالتَّبَارُ: الْهَلَاكُ.

سورة الجن

سورة الجن [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)

الْجَدُّ: لُغَةً الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ، وَجَدَّ فِي عَيْنِي: عَظُمَ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ، وَالْجَدُّ: الْحَظُّ، وَالْجَدُّ: أَبُو الْأَبِ. الْحَرْسُ: اسْمُ جَمْعٍ، الْوَاحِدُ حَارِسٌ، كَغَيْبٍ وَاحِدُهُ غَائِبٌ، وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَحْرَاسٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَالْحَارِسُ: الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ يَرْقُبُهُ. الْقِدَدُ: السِّيَرُ الْمُخْتَلِفَةُ، الْوَاحِدَةُ قِدَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْهَادِي بِطَاعَتِهِ ... فِي قنية النَّاسِ إِذْ أَهْوَاؤُهُمْ قِدَدُ وَقَالَ الْكُمَيْتُ: جُمِعَتْ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ كُلُّ رَافِضَةٍ ... إِذْ هُمْ طَرَائِقُ فِي أَهْوَائِهِمْ قِدَدُ تَحَرَّى الشَّيْءَ: طَلَبَهُ بِاجْتِهَادٍ وَتَوَخَّاهُ وَقَصَدَهُ. الْغَدَقُ: الْكَثِيرُ. اللُّبَدُ، جَمْعُ لِبْدَةٍ: وَهُوَ تَرَاكُمُ بَعْضِهِ فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ لِبْدَةُ الْأَسَدِ. وَيُقَالُ لِلْجَرَادِ الْكَثِيرِ الْمُتَرَاكِمِ: لِبَدٌ، وَمِنْهُ اللَّبَدُ الَّذِي يفرش، يلبد صوفه: دخل بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ. قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ

لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا حَكَى تَمَادِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْكُفْرِ وَعُكُوفِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ كَقَوْمِ نُوحٍ، حَتَّى أَنَّهُمْ عَبَدُوا أَصْنَامًا مِثْلَ أَصْنَامِ أُولَئِكَ فِي الْأَسْمَاءِ، وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْقُرْآنِ هَادِيًا إِلَى الرُّشْدِ، وَقَدْ سَمِعَتْهُ الْعَرَبُ، وَتَوَقَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَكْثَرُهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْجِنِّ إِثْرَ سُورَةِ نُوحٍ، تَبْكِيتًا لِقُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي كونهم تباطؤا عَنِ الْإِيمَانِ، إِذْ كَانَتِ الجن خيرا لهم وَأَقْبَلَ لِلْإِيمَانِ، هَذَا وَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ ذَلِكَ فَبِنَفْسِ مَا سَمِعُوا الْقُرْآنِ اسْتَعْظَمُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِلْوَقْتِ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ كَلَامِ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُكَذِّبُونَ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ أُوحِيَ رُبَاعِيًّا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْعَتَكِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو أُنَاسٍ جُوَيَّةُ بن عائذ الْأَسَدِيُّ: وَحَى ثُلَاثِيًّا، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْعَجَّاجُ: وَحَى إِلَيْهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجُوَيَّةُ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ أَيْضًا: أَحَى بِإِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً، كَمَا قَالُوا فِي وَعَدَ أَعَدَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ الْمُطْلَقِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ وَاوٍ مَضْمُومَةٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةَ قَدْ تَكُونُ أَوَّلًا وَحَشْوًا وَآخِرًا، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَحْكَامٌ، وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي النَّحْوِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أَطْلَقَهُ الْمَازِنِيُّ فِي الْمَكْسُورِ أَيْضًا، كِإِشَاحٍ وَإِسَادَةٍ وَإِعَاءِ أَخِيهِ. انْتَهَى، وَهَذَا تَكْثِيرٌ وَتَبَجُّحٌ. وَكَانَ يَذْكُرُ هَذَا فِي وِعاءِ أَخِيهِ «1» فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَعَنِ الْمَازِنِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ كَمَا قَالَ، وَالْآخَرُ: قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ.

_ (1) سورة يوسف: 12/ 76.

وأَنَّهُ اسْتَمَعَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَيْ اسْتِمَاعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمَاعَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «1» ، وَهِيَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَقِيلَ: قِصَّتَانِ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ أَتَوْهُ بِمَكَّةَ جِنُّ نَصِيبِينَ، وَالَّذِينَ أَتَوْهُ بِنَخْلَةَ جِنُّ نَيْنَوَى، وَالسُّورَةُ الَّتِي اسْتَمَعُوهَا، قَالَ عِكْرِمَةُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2» . وَقِيلَ: سُورَةُ الرَّحْمَنِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ، لَا هُنَا وَلَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، إِلَى أَنَّهُ رَآهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَيَظْهَرُ مِنَ الْحَدِيثِ «أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي مَبْدَأِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَقَدْ كَانُوا فَقَدُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَالْتَمَسُوهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ، إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، وَفِيهِ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَانْطَلَقَ بِنَا وَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نَارِهِمْ. وَالْمَرَّةُ الْأُخْرَى: كَانَ مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَدِ اسْتَنْدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يَقُومُ مَعَهُ إِلَى أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ غَيْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَذَهَبَ مَعَهُ إِلَى الْحَجُونِ عِنْدَ الشِّعْبِ، فَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا وَقَالَ: لَا تُجَاوِزْهُ. فَانْحَدَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْثَالُ الْحَجَرِ يَجُرُّونَ الْحِجَارَةَ بِأَقْدَامِهِمْ يَمْشُونَ يَقْرَعُونَ فِي دُفُوفِهِمْ كَمَا تَقْرَعُ النِّسْوَةُ فِي دُفُوفِهِنَّ حَتَّى غَشَوْهُ فَلَا أَرَاهُ فَقُمْتُ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنِ اجْلِسْ فَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمْ يَزَلْ صَوْتُهُ يَرْتَفِعُ وَاخْتَفَوْا فِي الْأَرْضِ حَتَّى مَا أَرَاهُمْ» . الْحَدِيثِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَدَدِ، فَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: تِسْعَةٌ، وَعَنْ زِرٍّ: كَانُوا ثَلَاثَةً مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَأَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ غَيْرُ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِالْعِرَاقِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ جَزِيرَةِ الْمُوصِلِ، وَأَيْنَ سَبْعَةٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا؟ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً: أَيْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، وَوَصَفُوا قُرْآنًا بِقَوْلِهِمْ عَجَباً وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ هُوَ عَجَبٌ فِي نَفْسِهِ لِفَصَاحَةِ كَلَامِهِ، وَحُسْنِ مَبَانِيهِ، وَدِقَّةِ مَعَانِيهِ، وَغَرَابَةِ أُسْلُوبِهِ، وَبَلَاغَةِ مَوَاعِظِهِ، وَكَوْنِهِ مُبَايِنًا لِسَائِرِ الْكُتُبِ. وَالْعَجَبُ مَا خَرَجَ عَنْ أَحَدِ أَشْكَالِهِ وَنَظَائِرِهِ. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ: أَيْ يَدْعُو إِلَى الصَّوَابِ. وَقِيلَ: إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَعِيسَى: بِضَمِّهِمَا وَعَنْهُ أَيْضًا: فَتْحُهُمَا. فَآمَنَّا بِهِ: أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا كان

_ (1) سورة الأحقاف: 46/ 29. (2) سورة العلق: 96/ 1.

الْإِيمَانُ بِهِ مُتَضَمِّنًا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَبَرَاءَةٍ مِنَ الشِّرْكِ قَالُوا: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْأَبَوَانِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى وَمَا بَعْدَهُ، وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً آخِرُهَا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْكَسْرِ. فَأَمَّا الْكَسْرُ فَوَاضِحٌ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَاتٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا سَمِعْنا، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي مَعْمُولِ الْقَوْلِ. وَأَمَّا الْفَتْحُ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ عَلَى أُوحِيَ، فَهُوَ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ مَا لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ أُوحِيَ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُلَائِمُ أُوحِيَ إِلَيَّ، أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا؟ وَخَرَجَتْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ كُلَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ: أَيْ وَبِأَنَّهُ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ احْتِجَاجُنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1» . وَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ أَجْوَدُ فِي أَنَّ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا لِكَثْرَةِ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى آمَنَّا بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ: صَدَّقْنَاهُ وَعَلِمْنَاهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَآمَنَّا بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا وَسَبَقَهُ إِلَى نَحْوِهِ الْفَرَّاءُ قَالَ: فُتِحَتْ أَنَّ لِوُقُوعِ الْإِيمَانِ عَلَيْهَا، وَأَنْتَ تَجِدُ الْإِيمَانَ يَحْسُنُ فِي بَعْضِ مَا فُتِحَ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنْ إِمْضَائِهِنَّ عَلَى الْفَتْحِ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ فِيهِ مَا يُوجِبُ فَتْحَ أَنَّ نَحْوُ: صَدَّقْنَا وَشَهِدْنَا. وَأَشَارَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ مَا فُتِحَ لَا يُنَاسِبُ تَسْلِيطَ آمَنَّا عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَتَبِعَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَمَنْ فَتَحَ كُلَّهُنَّ فعَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي آمَنَّا بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَدَّقْنَاهُ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي. انْتَهَى. وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِمَا تَفَطَّنَ لَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ آمَنَّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَدُّ رَبِّنا، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ، مُضَافًا إِلَى رَبِّنَا: أَيْ عَظَّمَتُهُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: غِنَاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذِكْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْرُهُ وَأَمْرُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: جَدٌّ مُنَوَّنًا، رَبُّنَا مَرْفُوعَ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، فَرَبُّنَا بَدَلٌ، وَالْجَدُّ فِي اللُّغَةِ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَدٌّ بِضَمِّ الْجِيمِ مُضَافًا وَمَعْنَاهُ الْعَظِيمُ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، والمعنى:

_ (1) سورة البقرة: 2/ 217.

تَعَالَى رَبُّنَا الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: جَدًّا رَبُّنَا، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ مُنَوَّنًا، وَرَفَعَ رَبُّنَا وَانْتَصَبَ جَدًّا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَصْلُهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: جِدًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالتَّنْوِينِ نَصْبًا، رَبُّنَا رُفِعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَصَبَ جِدًّا عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى حَقِيقَةً وَمُتَمِكِّنًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: تَعَالَيَا جِدًّا، وَرَبُّنَا مَرْفُوعٌ بتَعَالَى. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: جَدَّيْ رَبِّنَا، أَيْ جَدْوَاهُ وَنَفْعُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَقُولُ سَفِيهُنا: هُوَ إِبْلِيسُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ سَفِيهٍ، وَإِبْلِيسُ مُقَدَّمُ السُّفَهَاءِ. وَالشَّطَطُ: التَّعَدِّي وَتَجَاوُزُ الْجِدِّ. قَالَ الْأَعْشَى: أَيَنْتَهُونَ وَلَنْ ينهى ذوو شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفُتُلُ وَيُقَالُ: أَشَطَّ فِي السَّوْمِ إِذَا أَبْعَدَ فِيهِ، أَيْ قَوْلًا هُوَ فِي نَفْسِهِ شَطَطٌ، وَهُوَ نِسْبَةُ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَنَّا ظَنَنَّا الْآيَةِ: أَيْ كُنَّا حَسَّنَّا الظَّنَّ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَاعْتَقَدْنَا أن أحدا لا يجترىء عَلَى أَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ فَيَنْسِبَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، فَاعْتَقَدْنَا صِحَّةَ مَا أَغْوَانَا بِهِ إِبْلِيسُ وَمَرَدَتُهُ حَتَّى سَمِعْنَا الْقُرْآنَ فَتَبَيَّنَّا كَذِبَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ لَنْ تَقُولَ مُضَارِعُ قَالَ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: تَقَوَّلَ مُضَارِعُ تَتَقَوَّلُ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَانْتَصَبَ كَذِباً فِي قِرَاءَةِ الجمهور بتقول، لِأَنَّ الْكَذِبَ نَوْعٌ مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَوْلًا كَذِبًا، أَيْ مَكْذُوبًا فِيهِ. وَفِي قِرَاءَةِ الشَّاذِّ على أنه مصدر لتقول، لِأَنَّهُ هُوَ الْكَذِبُ، فَصَارَ كقعدت جُلُوسًا. وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ. رَوَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْمَبِيتَ أَوِ الْحُلُولَ فِي وَادٍ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عَزِيزَ هَذَا الْوَادِي إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي طَاعَتِكَ، فَيَعْتَقِدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْجِنِّيَّ الَّذِي بِالْوَادِي يَمْنَعُهُ وَيَحْمِيهِ. فَرُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ كَانَتْ تَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا نَمْلِكُ لَكُمْ وَلَا لِأَنْفُسِنَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَوَّلُ مَنْ تَعَوَّذَ بِالْجِنِّ قَوْمٌ مِنَ الْيَمَنِ، ثُمَّ بَنُو حَنِيفَةَ، ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِي الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي فَزادُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ، إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. فَزادُوهُمْ أَيِ الْإِنْسُ، رَهَقاً: أَيْ جَرَاءَةً وَانْتِخَاءً وُطُغْيَانًا وَغِشْيَانَ الْمَحَارِمِ وَإِعْجَابًا بِحَيْثُ قَالُوا: سُدْنَا الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَفَسَّرَ قَوْمٌ الرَّهَقَ بِالْإِثْمِ. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ بَيْتَ الْأَعْشَى: لَا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِنْ دُونِ رُؤْيَتِهَا ... لَا يَشْتَفِي وَامِقٌ مَا لَمْ يُصِبْ رَهَقَا

قَالَ مَعْنَاهُ: مَا لَمْ يَغْشَ مُحَرَّمًا، وَالْمَعْنَى: زَادَتِ الْإِنْسُ الْجِنَّ مَأْثَمًا لِأَنَّهُمْ عَظَّمُوهُمْ فَزَادُوهُمُ اسْتِحْلَالًا لِمَحَارِمِ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ: فَزادُوهُمْ، أَيِ الْجِنُّ زَادَتِ الْإِنْسَ مَخَافَةً يَتَخَيَّلُونَ لَهُمْ بِمُنْتَهَى طَاقَتِهِمْ وَيُغْوُونَهُمْ لَمَّا رَأَوْا مِنْ خِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ، فَازْدَرَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: رَهَقاً: كُفْرًا. وَقِيلَ: لَا يُطْلَقُ لَفْظُ الرِّجَالِ عَلَى الْجِنِّ، فَالْمَعْنَى: وأنه كان رجال من الْإِنْسِ يَعُوذُونَ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ بِرِجَالٍ مِنَ الْإِنْسِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ مَثَلًا: أَعُوذُ بِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مِنْ جِنِّ هَذَا الْوَادِي، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَأَنَّهُمْ: أَيْ كُفَّارُ الْإِنْسِ، ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الْجِنُّ، يُخَاطِبُ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَظَنُّوا وَظَنَنْتُمْ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ، أَنْ لَنْ يَبْعَثَ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، وَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَأَنَّهُمْ يَعُودُ عَلَى الْجِنِّ، وَالْخِطَابُ فِي ظَنَنْتُمْ لِقُرَيْشٍ، وَهَذِهِ وَالَّتِي قَبْلَهَا هُمَا مِنَ الْمُوحَى بِهِ لَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ: أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً: الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِعْثَةُ الرِّسَالَةِ إِلَى الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيِ وَلِمَا تَأَخَّرَ. وَقِيلَ: بَعْثُ الْقِيَامَةِ. وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ: أَصْلُ اللَّمْسِ الْمَسُّ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّطَلُّبِ، وَالْمَعْنَى: طَلَبْنَا بُلُوغَ السَّمَاءِ لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ أَهْلِهَا فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ. الظَّاهِرُ أَنَّ وَجَدَ هُنَا بِمَعْنَى صَادَفَ وَأَصَابَ وَتَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ مُلِئَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، فَمُلِئَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: مُلِيَتْ بِالْيَاءِ دُونَ هَمْزٍ، وَالْجُمْهُورُ: بِالْهَمْزِ، وَشَدِيدًا: صِفَةٌ لِلْحَرَسِ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّهُ اسْمٌ جَمْعٍ، كَمَا قَالَ: أَخْشَى رُجَيْلًا أَوْ رُكَيْبًا عَادِيًا وَلَوْ لُحِظَ الْمَعْنَى لَقَالَ: شِدَادًا بِالْجَمْعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَرَسِ: الْمَلَائِكَةُ، أَيْ حَافِظِينَ مِنْ أَنْ تَقْرَبَهَا الشَّيَاطِينُ، وَشُهُبًا جَمْعُ شهاب، وهو ما يرحم بِهِ الشَّيَاطِينُ إِذَا اسْتَمَعُوا. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُبُ هُمُ الْحَرَسُ، وَكَرَّرَ الْمَعْنَى لَمَّا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ نَحْوُ: وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ وَقَوْلُهُ: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَطْرُقُونَ السَّمَاءَ وَلَا يَجِدُونَهَا قَدْ مُلِئَتْ. مَقاعِدَ جَمْعُ مَقْعَدٍ، وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُورَةَ قُعُودِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ كَانُوا وَاحِدًا فَوْقَ وَاحِدٍ، فَمَتَى أَحْرَقَ الْأَعْلَى طَلَعَ الَّذِي تَحْتَهُ مَكَانَهُ، فَكَانُوا يَسْتَرِقُونَ الْكَلِمَةَ فَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكُهَّانِ وَيَزِيدُونَ مَعَهَا، ثُمَّ يَزِيدُ الْكُهَّانُ الْكَلِمَةَ مِائَةَ كَذْبَةٍ. فَمَنْ

يَسْتَمِعِ الْآنَ ، الْآنَ ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْحَالِ، وَيَسْتَمِعُ مُسْتَقْبَلٌ، فَاتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ وَاسْتُعْمِلَ لِلِاسْتِقْبَالِ، كَمَا قَالَ: سَأَسْعَى الْآنَ إِذْ بَلَغَتِ أَنَاهَا فَالْمَعْنَى: فَمَنْ يَقَعُ مِنْهُ اسْتِمَاعٌ فِي الزَّمَانِ الْآتِي، يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً: أَيْ يَرْصُدُهُ فَيَحْرِقُهُ، هَذَا لِمَنِ اسْتَمَعَ. وَأَمَّا السَّمْعُ فَقَدِ انْقَطَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «1» ، وَالرَّجْمُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ حِينَ رَأَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَجْمًا قَدْ رُمِيَ بِهِ، قَالَ: «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي مِثْلِ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ» ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ. قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ: وَانْقَضَّ كَالدُّرِّيِّ يتبعه ... نقع يثور بحالة طُنُبَا وَقَالَ عَوْفُ بْنُ الْجَزْعِ: فَرَدَّ عَلَيْنَا الْعِيرَ مِنْ دُونِ إِلْفِهِ ... أَوِ الثَّوْرِ كَالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ الدَّمُ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: وَالْعِيرُ يُرْهِقُهَا الْغُبَارُ وَجَحْشُهَا ... يَنْقَضُّ خَلْفَهُمَا انْقِضَاضَ الْكَوْكَبِ قَالَ التِّبْرِيزِيُّ: وَهَؤُلَاءِ الشُّعَرَاءُ كُلُّهُمْ جَاهِلِيُّونَ لَيْسَ فِيهِمْ مُخَضْرَمٌ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِالنُّجُومِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ؟ فَقَالَ: غُلِّظَتْ وَشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: الْقَوْلُ بِالرَّمْي أَصَحُّ لِقَوْلِهِ: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُ زِيدَ فِي حَرَسِ السَّمَاءِ حَتَّى امْتَلَأَتْ، وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ السَّابِقَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَابِعًا لِلْجَاحِظِ، وَفِي قَوْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَرَسَ هُوَ الْمَلْءُ وَالْكَثْرَةُ، فَلِذَلِكَ نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ: أَيْ كُنَّا نَجِدُ فِيهَا بَعْضَ الْمَقَاعِدِ خَالِيَةً مِنَ الْحَرَسِ وَالشُّهُبِ، وَالْآنَ مُلِئَتِ الْمَقَاعِدُ كُلُّهَا. انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّجْمَ حَدَثَ بَعْدَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ إِحْدَى آيَاتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَصَدًا عَلَى مَعْنَى: ذَوِي شِهَابٍ رَاصِدِينَ بِالرَّجْمِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَرْجُمُونَهُمْ بِالشُّهُبِ وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الِاسْتِمَاعِ. وَلَمَّا رَأَوْا مَا حَدَثَ مِنْ كَثْرَةِ الرَّجْمِ ومنع الاستراق قالوا: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِهَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْزِلُ بِهِمُ الشَّرُّ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً،

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 212.

فَيُؤْمِنُونَ بِهِ فَيَرْشُدُونَ. وَحِينَ ذَكَرُوا الشَّرَّ لَمْ يُسْنِدُوهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَ ذَكَرُوا الرُّشْدَ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ: أَخْبَرُوا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ صَلَاحٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ: أَيْ دُونَ الصَّالِحِينَ، وَيَقَعُ دُونَ فِي مَوَاضِعِ مَوْقِعِ غَيْرٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَّا غَيْرُ صَالِحِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا: وَمِنَّا دُونُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاحِ، أَيْ فِيهِمْ أَبْرَارٌ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ غَيْرُ كَامِلٍ فِي الصَّلَاحِ، وَدُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَمِنَّا قَوْمٌ دُونَ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ حَذْفُ هَذَا الْمَوْصُوفِ فِي التَّفْصِيلِ بِمِنْ، حَتَّى فِي الْجُمَلِ، قَالُوا: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ، يُرِيدُونَ: مِنَّا فَرِيقٌ ظَعَنَ وَمِنَّا فَرِيقٌ أَقَامَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً تَفْسِيرٌ لِلْقِسْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: أَهْوَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقِيلَ: فِرَقًا مُخْتَلِفَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ كُنَّا ذَوِي مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ، أَوْ كُنَّا فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِنَا مِثْلَ الطَّرَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَوْ كُنَّا فِي طَرَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ كَقَوْلِهِ: كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ أَوْ كَانَتْ طَرَائِقُنَا قِدَدًا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ الطَّرَائِقُ، وَإِقَامَةِ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. انْتَهَى. وَفِي تَقْدِيرَيْهِ الْأَوَّلَيْنِ حَذْفُ الْمُضَافِ مِنْ طَرَائِقَ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، إِذْ حَذَفَ ذَوِي وَمِثْلَ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى إِسْقَاطِ فِي، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ عَسَلَ الطَّرِيقَ شَاذٌّ، فَلَا يُخَرَّجُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ. وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ: أَيْ أَيْقَنَّا، فِي الْأَرْضِ: أَيْ كَائِنِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً: أَيْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وفي الأرض وهربا حَالَانِ، أَيْ فَارِّينَ أَوْ هَارِبِينَ. وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى: وَهُوَ الْقُرْآنُ، آمَنَّا بِهِ: أَيْ بِالْقُرْآنِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ: أَيْ فَهُوَ لَا يَخَافُ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْجُمْهُورُ: فَلا يَخافُ، وَخَرَجَتْ قِرَاءَتُهُمَا عَلَى النَّفْيِ. وَقِيلَ: الْفَاءُ زَائِدَةٌ وَلَا نَفْيَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ أَجْوَدَ مِنَ الْمَجِيءِ بِالْفِعْلِ مَجْزُومًا دُونَ الْفَاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالْفَاءِ كان إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ فَهُوَ لَا يَخَافُ. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَدَلُّ وَآكَدُ مِنَ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى تَحَقُّقِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ. بَخْساً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَقْصَ الْحَسَنَاتِ، وَلا رَهَقاً، قَالَ: زِيَادَةً فِي السَّيِّئَاتِ، وَلا رَهَقاً، قِيلَ: تَحْمِيلُ مَا لَا يُطَاقُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جَزَاءَ بَخْسٍ وَلَا رَهَقٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْخَسْ أَحَدًا حَقًّا وَلَا رَهَقَ ظُلْمَ أَحَدٍ، فَلَا يَخَافُ جَزَاءَهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: فَلَا يَخَافُ أَنْ يُبْخَسَ بَلْ يُجْزَى الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَلَا أَنْ تُرْهِقَهُ ذِلَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: تَرْهَقُهُمْ

ذِلَّةٌ «1» . انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَخْساً بِسُكُونِ الْخَاءِ وَابْنُ وَثَّابٍ: بِفَتْحِهَا. وَمِنَّا الْقاسِطُونَ: أَيِ الْكَافِرُونَ الْجَائِرُونَ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَأَلْبَأْسَ الْقَاسِطَ: الظَّالِمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَوْمٌ هُمُ قَتَلُوا ابْنَ هِنْدٍ عُنْوَةً ... وَهُمُو أَقْسَطُوا عَلَى النُّعْمَانِ وَجَاءَ هَذَا التَّقْسِيمُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ، وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ لِيَذْكُرَ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ النَّجَاةِ وَالْهَلَكَةِ وَيُرَغِّبَ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَمَنْ أَسْلَمَ إِلَى آخِرِ الشَّرْطَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ مُخَاطَبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤَيِّدُهُ ما بعده مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: رُشْدًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ زَعَمَ مَنْ لَا يَرَى لِلْجِنِّ ثَوَابًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْعَدَ قَاسِطِيهِمْ وَمَا وَعَدَ مُسْلِمِيهِمْ، وَكَفَى بِهِ وَعِيدًا، أَيْ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا، فَذَكَرَ سَبَبَ الثَّوَابِ وَمُوجِبَهُ، وَاللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُعَاقِبَ الْقَاسِطَ وَلَا يُثِيبَ الرَّاشِدَ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِ وَمُوجِبِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً، وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً، قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً، قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً، قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً. هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى الْمُنْدَرِجِ تَحْتَ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي اسْتَقامُوا، قَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو مِجْلِزٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ أَسْلَمَ، وَالطَّرِيقَةُ: طَرِيقَةُ الْكُفْرِ، أَيْ لَوْ كَفَرَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ لَأَسْقَيْناهُمْ إِمْلَاءً لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجًا وَاسْتِعَارَةُ، الِاسْتِقَامَةِ لِلْكُفْرِ قَلِقَةٌ لَا تُنَاسِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْقَاسِطِينَ، وَالْمَعْنَى عَلَى الطَّرِيقَةِ الْإِسْلَامُ وَالْحَقُّ، لَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا «2» . وقيل: الضمير

_ (1) سورة القلم: 68/ 43، وسورة المعارج: 70/ 44. (2) سورة المائدة: 5/ 65.

فِي اسْتَقَامُوا عَائِدٌ عَلَى الخلق كلهم، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً: كِنَايَةٌ عَنْ تَوْسِعَةِ الرِّزْقِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْمَعَاشِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَالُ حَيْثُ الْمَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غَدَقاً بِفَتْحِ الدَّالِ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْأَعْشَى: بِكَسْرِهَا وَيُقَالُ: غَدَقَتِ الْعَيْنُ تُغْدِقُ غَدَقًا فَهِيَ غَدِقَةٌ، إِذَا كَثُرَ مَاؤُهَا. لِنَفْتِنَهُمْ: أَيْ لِنَخْتَبِرَهُمْ كَيْفَ يَشْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ، أَوْ لِنَمْتَحِنَهُمْ وَنَسْتَدْرِجَهُمْ، وَذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي اسْتَقامُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ بِضَمِّ وَاوِ لَوْ وَالْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: يَسْلُكْهُ بِالْيَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنُّونِ وَابْنُ جُنْدُبٍ: بِالنُّونِ مِنْ أَسْلَكَ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْلَكَ أَيْضًا، وَهُمَا لُغَتَانِ: سَلَكَ وَأَسْلَكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا أسلكوهم في قبائدة وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صَعَداً بِفَتْحَتَيْنِ، وَذُو مَصْدَرِ صَعِدَ وَصَفَ بِهِ الْعَذَابَ، أَيْ يَعْلُو الْمُعَذَّبَ وَيَغْلِبُهُ، وَفُسِّرَ بِشَاقٍّ. يُقَالُ: فُلَانٌ فِي صُعُدٍ مِنْ أَمْرِهِ، أَيْ فِي مَشَقَّةٍ. وَقَالَ عُمَرُ: مَا يُتَصَعَّدُ بِي شَيْءٌ كَمَا يُتَصَعَّدُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، أَيْ مَا يَشُقُّ عَلَيَّ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: صَعَدٌ: جَبَلٌ فِي النَّارِ. وَقَالَ الْخُدْرِيُّ: كُلَّمَا وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ دابت. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ صَخْرَةٌ مَلْسَاءُ فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ صُعُودَهَا، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَعْلَاهَا حَدَرَ إِلَى جَهَنَّمَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ عَذَابٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَذَابٌ صَعِدَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَعَدًا مَفْعُولَ يَسْلُكْهُ، وَعَذَابًا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: صُعُدًا بِضَمَّتَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَا رَاحَةَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى. وَقَالَ الْخَلِيلُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا: أَيْ لِهَذَا السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ عنده لِإِيلافِ قُرَيْشٍ «1» ، لْيَعْبُدُوا «2» ، وَكَذَلِكَ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ «3» : أَيْ وَلِأَنَّ هَذِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَطَلْحَةُ: وَإِنَّ الْمَسَاجِدَ، بِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الْخَلِيلِ، فَالْمَعْنَى: فَلَا تَدْعُوَا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا فِي الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا لِلَّهِ خَاصَّةً وَلِعِبَادَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ هِيَ الْبُيُوتُ الْمُعَدَّةُ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَوْضِعٍ سُجِدَ فِيهِ فَهُوَ مَسْجِدٌ، كَانَ مَخْصُوصًا لِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَبْعَدَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّهَا الْآرَابُ الَّتِي يُسْجَدُ عَلَيْهَا، واحدها

_ (1) سورة قريش: 106/ 1. [.....] (2) سورة قريش: 106/ 3. (3) سورة المؤمنون: 23/ 52.

مَسْجَدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهِيَ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ عَدَّ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ وَاحِدًا وَأَبْعَدَ أَيْضًا مَنْ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ: إِنَّهُ جَمَعَ مَسْجِدٌ وَهُوَ السُّجُودُ. وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ تَغَلَّبَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكَعْبَةِ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَوَاضِعُ كُلُّهَا لِلَّهِ، فَاعْبُدْهُ حَيْثُ كُنْتَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ لِأَنَّ الْجِنَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَكَ عَلَى نَأْيِنَا عَنْكَ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِيُخَاطِبَهُمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِبَادَتَكُمْ حَيْثُ كُنْتُمْ مَقْبُولَةٌ إذ دَخَلْنَا الْمَسَاجِدَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، عَطْفًا عَلَى قِرَاءَتِهِمْ وَأَنَّ الْمَساجِدَ بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وطلحة ونافع وأبوبكر. بكسرها على الاستئناف وعبد اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُوهُ: أَيْ يَدْعُو اللَّهَ كادُوا: أَيْ كَادَ الْجِنُّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: يَنْقَضُّونَ عَلَيْهِ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الضَّمِيرُ فِي كادُوا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى رَدِّ أَمْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَعْنَى أَنَّهَا قول الجن لقومهم يحكمون، وَالضَّمِيرُ فِي كادُوا لِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَطَّوَّعُونَ لَهُ وَيُقَيَّدُونَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ رَسُولُ اللَّهِ أَوِ النَّبِيُّ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ وَاقِعًا فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ، جِيءَ بِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ أَوْ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ عِبَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِلَّهِ لَيْسَتْ بِأَمْرٍ مُسْتَبْعَدٍ عَنِ الْعَقْلِ وَلَا مُسْتَنْكَرٍ حَتَّى يَكُونُوا عَلَيْهِ لِبَدًا. وَمَعْنَى قَامَ يَدْعُوهُ: قَامَ يَعْبُدُهُ، يُرِيدُ قِيَامَهُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِنَخْلَةَ حِينَ أَتَاهُ الْجِنُّ، فَاسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً: أَيْ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ مُتَرَاكِمِينَ، تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَوْا مِنْ عِبَادَتِهِ، وَاقْتِدَاءِ أَصْحَابِهِ بِهِ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا، وَإِعْجَابًا بِمَا تَلَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَسَمِعُوا بِمَا لَمْ يَسْمَعُوا بِنَظِيرِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلٌ مُتَقَدِّمٌ كَثَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِخَطَابَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِبَداً بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ جَمْعُ لِبْدَةٍ، نَحْوُ: كِسْرَةٍ وَكِسَرٍ، وَهِيَ الْجَمَاعَاتُ شُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْمُتَلَبِّدِ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ رِبْعٍ: صَافُّوا بِسِتَّةِ أَبْيَاتٍ وَأَرْبَعَةٍ ... حَتَّى كَأَنَّ عَلَيْهِمْ جَانِبًا لِبَدًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْوَانًا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِضَمِّ اللَّامِ جَمْعُ لُبْدَةٍ، كُزُبْرَةٍ وَزُبُرٍ وَعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا: تَسْكِينُ الْبَاءِ وَضَمُّ اللَّامِ لُبْدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِضَمَّتَيْنِ جَمْعٍ لَبْدٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، أَوْ جَمْعُ لَبُودٍ، كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، لُبَّدًا بِضَمِّ اللَّامِ

وَشَدِّ الْبَاءِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَامَ الرَّسُولُ لِلدَّعْوَةِ، تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُتِمَّ نُورَهُ. انْتَهَى. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَادَ قَوْمُهُ يَقْتُلُونَهُ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَأَبْعَدَ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَقَرَأَ الجمهور: قال إنما أدعوا رَبِّي: أَيْ أَعْبُدُهُ، أَيْ قَالَ لِلْمُتَظَاهِرِينَ عَلَيْهِ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي: أَيْ لَمْ آتِكُمْ بِأَمْرٍ يُنْكَرُ، إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ إِطْبَاقَكُمْ عَلَى عَدَاوَتِي. أَوْ قَالَ لِلْجِنِّ عِنْدَ ازْدِحَامِهِمْ مُتَعَجِّبِينَ: لَيْسَ مَا تَرَوْنَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بِأَمْرٍ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، إِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ. أَوْ قَالَ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ: ذَلِكَ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي كادُوا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ: قُلْ: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُزْدَحِمِينَ عَلَيْكَ، وَهُمْ إِمَّا الْجِنُّ وَإِمَّا الْمُشْرِكُونَ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي ضَمِيرِ كادُوا. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَبَرُّئِهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيصَالِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَ الضَّرَّ مُقَابِلًا لِلرُّشْدِ تَعْبِيرًا بِهِ عَنِ الْغَيِّ، إِذِ الْغَيُّ ثَمَرَتُهُ الضَّرَرُ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا غَيًّا وَلَا رَشَدًا، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مَا يَدُلُّ عليه مقابله. قرأ الْأَعْرَجُ: رُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ. وَلَمَّا تَبَرَّأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ، أَمَرَ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى، يَفْعَلُ فِيهِ رَبُّهُ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَلَا يَجِدُ مِنْ دُونِهِ مَلْجَأً يَرْكَنُ إِلَيْهِ، قَالَ قَرِيبًا مِنْهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: حِرْزًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَدْخَلًا فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: نَاصِرًا، وَقِيلَ: مَذْهَبًا وَمَسْلَكًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا لَهْفَ نَفْسِي وَنَفْسِي غَيْرُ مُجْدِيَةٍ ... عَنِّي وَمَا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَهُوَ: قَالُوا له أترك ما ندعو إِلَيْهِ وَنَحْنُ نُجِيرُكَ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ لَنْ يُجِيرَنِي. وَقِيلَ: هُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِ وَرْدَانَ سَيِّدِ الْجِنِّ، وَقَدِ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، قَالَ وَرْدَانُ: أَنَا أُرَحِّلُهُمْ عَنْكَ، فَقَالَ: إني لن يجبرني أَحَدٌ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. إِلَّا بَلاغاً، قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَنْ يُجِيرَنِي أَحَدٌ، لَكِنْ إِنْ بَلَّغْتُ رَحِمَنِي بِذَلِكَ. وَالْإِجَارَةُ لِلْبَلَاغِ مُسْتَعَارَةٌ، إِذْ هُوَ سَبَّبُ إِجَارَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ. وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، أَيْ لَنْ يُجِيرَنِي فِي أَحَدٍ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَمِيلُ إِلَيْهِ وَأَعْتَصِمُ بِهِ إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ وَأُطِيعَ فَيُجِيرَنِي اللَّهُ، فَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ مُلْتَحَدًا وَعَلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ نَفْيًا، وَعَلَى الْبَدَلِ خَرَّجَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ:

وَلَمْ أَجِدْ مُلْتَحَدًا بَلْ، قَالَ: مِنْ دُونِهِ وَالْبَلَاغُ مِنَ اللَّهِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ وَبِإِعَانَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: التَّقْدِيرُ لَا أَمْلِكُ إِلَّا بَلَاغًا إِلَيْكُمْ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فَلَا أَمْلِكُ. انْتَهَى، وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ، إِلَّا فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ: إِنْ شَرْطِيَّةٌ وَلَا نَافِيَةٌ، وَحُذِفَ فِعْلُهَا لِدَلَالَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ لَمْ أَبْلُغْ بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَتِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: إِنْ لَا قِيَامًا قُعُودًا، أَيْ إِنْ لم تقيم قِيامًا فَاقْعُدْ قُعُودًا، وَحَذْفُ هَذَا الْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ لِدَلَالَةٍ عَلَيْهِ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْءٍ ... وَإِلَّا يَعْلُ مِفْرَقَكَ الْحُسَامُ التَّقْدِيرُ: وإن تُطَلِّقْهَا، فَحَذَفَ تُطَلِّقْهَا لِدَلَالَةِ فَطَلِّقْهَا عَلَيْهِ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَابِعًا لقتادة، أَيْ لَا أَمْلِكُ إِلَّا بلاغا من الله، وقُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ اعْتَرَضَ بِهَا لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَبَيَانِ عَجْزِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ إِنْ أَرَادَ به سوءا مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْهُ أَحَدٌ أَوْ يَجِدَ مِنْ دُونِهِ مَلَاذًا يَأْوِي إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَرِسالاتِهِ، قِيلَ: عَطْفٌ عَلَى بَلاغاً، أَيْ إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ، أَوْ أُبَلِّغَ رِسَالَاتِهِ. الظَّاهِرُ أَنَّ رِسَالَاتِهِ عَطْفٌ عَلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رِسَالَاتِهِ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: أَيْ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِنَّ لَهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: بِفَتْحِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَسَمِعْتُ ابْنَ مُجَاهِدٍ يَقُولُ: مَا قَرَأَ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ بَعْدَ فَاءِ الشَّرْطِ. وَسَمِعْتُ ابْنَ الْأَنْبَارِيِّ يَقُولُ: هُوَ ضِرَابٌ، وَمَعْنَاهُ: فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. انْتَهَى. وَكَانَ ابْنُ مُجَاهِدٍ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّسِعَ النَّقْلِ فِيهَا كَابْنِ شَنَبُوذَ، وَكَانَ ضَعِيفًا فِي النَّحْوِ. وَكَيْفَ يَقُولُ مَا قَرَأَ بِهِ أَحَدٌ؟ وَهَذَا كَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ قَرَأَ بِهِ. وَكَيْفَ يَقُولُ وَهُوَ لَحْنٌ؟ وَالنَّحْوِيُّونَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ بَعْدَ فَاءِ الشَّرْطِ يَجُوزُ فِيهَا الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ. وَجَمَعَ خالِدِينَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى لَفْظِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: يَعْصِ، فَإِنَّ لَهُ. حَتَّى إِذا رَأَوْا: حَتَّى هُنَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، أَيْ يَصْلُحُ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَهَا جُمْلَةُ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فِيهَا مَعْنَى الْغَايَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَ حَتَّى وَجَعَلَ مَا بَعْدَهُ غَايَةً لَهُ؟ قُلْتُ: بِقَوْلِهِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً، عَلَى أَنَّهُمْ يَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِ بِالْعَدَاوَةِ وَيَسْتَضْعِفُونَ أَنْصَارَهُ وَيَسْتَقِلُّونَ عَدَدَهُمْ حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِظْهَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَسَيَعْلَمُونَ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ

عَدَداً . وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنَ اسْتِضْعَافِ الْكُفَّارِ لَهُ وَاسْتِقْلَالِهِمْ لِعَدَدِهِ، كَأَنَّهُ لَا يَزَالُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ. قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَتَى يَكُونُ هَذَا الْمَوْعِدُ إِنْكَارًا لَهُ؟ فَقِيلَ: قُلْ إِنَّهُ كَائِنٌ لَا رَيْبَ فِيهِ فَلَا تُنْكِرُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَ ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَأَمَّا وَقْتُهُ فَلَا أَدْرِي مَتَى يَكُونُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنْهُ لِمَا رَأَى فِي إِخْفَاءِ وَقْتِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: بِمَ تَعَلُّقُ إِنْ؟ عَنَى تَعَلُّقَ حَرْفِ الْجَرِّ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، فَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ خِلَافًا لِلزَّجَّاجِ وَابْنِ دَرَسْتُوَيْهِ، فَإِنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ، فَالْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَإِنْ عَنَى بِالتَّعَلُّقِ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَكَوْنَ مَا بَعْدَهَا غَايَةً لِمَا قَبْلَهَا، فَهُوَ صَحِيحٌ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً، فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: حَتَّى جَازَ أَنْ تَكُونَ غَايَةً لِمَحْذُوفٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا الْمَحْذُوفُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى دَعْهُمْ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ مِنَ السَّاعَةِ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً، أَهُمْ أَمْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا غَايَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ الْحُكْمِ بِكَيْنُونَةِ النَّارِ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْعَاصِيَ يُحْكَمُ لَهُ بِكَيْنُونَةِ النَّارِ لَهُمْ، وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ هُوَ وَعِيدٌ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا حُكِمَ بِكَيْنُونَتِهِ لَهُمْ فَسَيَعْلَمُونَ. فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ هُوَ وعيد لهم بالنار، ومن أَضْعَفُ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنْهُ لِأَنَّ مَنْ اسْتِفْهَامٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً فِي موضع نصب بسيعلمون، وَأَضْعَفُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالْجُمْلَةُ صِلَةٌ لِمَنْ، وَتَقْدِيرُهُ: هُوَ أَضْعَفُ، وَحَسُنَ حَذْفُهُ طُولَ الصِّلَةِ بِالْمَعْمُولِ وَهُوَ نَاصِرًا. قَالَ مَكْحُولٌ: لَمْ يَنْزِلْ هَذَا إِلَّا فِي الْجِنِّ، أَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ وُفِّقَ وَكَفَرَ مَنْ خُذِلَ كَالْإِنْسِ، قَالَ: وَبَلَغَ مَنْ تَابَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَفَزِعُوا عِنْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّهُ لَا يَدْرِي وَقْتَ طُولِ مَا وُعِدُوا بِهِ، أَهُوَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ؟. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، وَالْأَمَدُ يَكُونُ قَرِيبًا وَبَعِيدًا؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً «1» ؟ قُلْتُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْرِبُ الْمَوْعِدَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: «مَا أَدْرِي أَهُوَ حَالٌ مُتَوَقَّعٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ أَمْ مُؤَجَّلٌ ضُرِبَتْ لَهُ غَايَةٌ» ؟ أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ. فَلا يُظْهِرُ: فَلَا يطلع، ومِنْ رَسُولٍ تَبْيِينٌ لِمَنِ ارْتَضَى، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُطْلِعُ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا الْمُرْتَضِي الَّذِي هُوَ مُصْطَفًى لِلنُّبُوَّةِ خَاصَّةً، لَا كُلٌّ مُرْتَضًى، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِلْكَرَامَاتِ، لِأَنَّ الَّذِينَ تُضَافُ إِلَيْهِمْ، وإن كانوا

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 30.

أَوْلِيَاءَ مُرْتَضِينَ، فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ. وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ بَيْنِ الْمُرْتَضِينَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ وَإِبْطَالِ الْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهُمَا أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضَاءِ وَأَدْخَلُهُ فِي السُّخْطِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عالِمُ الْغَيْبِ، قَالَ الْحَسَنُ: مَا غَابَ عَنْ خَلْقِهِ، وَقِيلَ: السَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، فَجَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَقِيلَ: إِلَّا بِمَعْنَى وَلَا أَيْ، وَلَا مَنِ ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف، أي هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، أَوْ بدل من ربي. وقرىء: عالم بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلِمَ الْغَيْبَ، فِعْلًا ماضيا ناصبا، وَالْجُمْهُورُ: عَالِمُ الْغَيْبِ اسْمُ فَاعِلٍ مَرْفُوعًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا يُظْهِرُ مِنْ أَظْهَرَ وَالْحَسَنُ: يَظْهَرُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ مَنْ ظَهَرَ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ: اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدًا، أَيْ فَإِنَّهُ يُظْهِرُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ ذَلِكَ الرَّسُولِ، وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً: أَيْ حَفَظَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْجِنِّ وَيَحْرُسُونَهُ فِي ضَبْطِ مَا يُلْقِيهِ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ الرَّسُولِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَةٌ يَحْرُسُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَكِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَحَدٌ سِوَاهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنِ ارْتَضَاهُ مِنَ الرُّسُلِ فَأَوْدَعَهُمْ مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُ مُعْجِزَةً لَهُمْ وَدَلَالَةً صَادِقَةً عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِدْلَالًا عَلَى بُطْلَانِ مَا يَقُولُهُ الْمُنَجِّمُ، ثُمَّ قَالَ بِاسْتِحْلَالِ دَمِ الْمُنَجِّمِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ النُّجُومَ تَدُلُّ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَالْوَاحِدَيُّ: تَجُوزُ الْكَرَامَاتُ عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، فَجَعَلَهَا تَدَلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةِ وَلَا تَدَلُّ عَلَى الْإِلْهَامَاتِ مُجَرَّدُ تَشَبُّهٍ، وَعِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَالُوهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلى غَيْبِهِ لَيْسَ فِيهِ صِفَةُ عُمُومٍ، فَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ خَلْقَهُ تَعَالَى عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ مِنْ غُيُوبِهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَبْقَى دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ الْغُيُوبِ لِأَحَدٍ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ الْآيَةِ: أَيْ لَا أَدْرِي وَقْتَ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ، إِذْ هِيَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ لأحد. وإِلَّا مَنِ ارْتَضى: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ الْمَخْصُوصِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، فَلَهُ حَفَظَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ شَرِّ مَرَدَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ

لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الْقَرِيبَةِ مِنَ التَّوَاتُرِ أَنَّ شِقًّا وَسَطِيحًا كَانَا كَاهِنَيْنِ يُخْبِرَانِ بِظُهُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ زَمَانِ ظُهُورِهِ، وَكَانَا فِي الْعَرَبِ مَشْهُورَيْنِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِمَا كِسْرَى فِي تَعَرُّفِ أَخْبَارِ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَانِيهَا: إِطْبَاقُ الْأُمَمِ عَلَى صِحَّةِ عِلْمِ التَّعْبِيرِ، فَيُخْبِرُ الْمُعَبِّرُ عَنْ مَا يَأْتِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَكُونُ صَادِقًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَاهِنَةَ الْبَغْدَادِيَّةَ الَّتِي نَقَلَهَا السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى خُرَاسَانَ سَأَلَهَا عَنْ أَشْيَاءَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَأَخْبَرَتْ بِهَا وَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ كَلَامِهَا، فَقَدْ رَأَيْتُ أُنَاسًا مُحَقِّقِينَ فِي عُلُومِ الْكَلَامِ وَالْحِكْمَةِ حَكَوْا عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَجَاءَتْ كَذَلِكَ، وَبَالَغَ أَبُو الْبَرَكَاتِ صَاحِبُ الْمُعْتَبَرِ فِي شَرْحِ حَالِهَا فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ وَقَالَ: فَحَصْتُ عَنْ حَالِهَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّى تَيَقَّنْتُ أَنَّهَا كَانَتْ تُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ أَخْبَارًا مُطَابِقَةً مُوَافِقَةً. وَرَابِعُهَا: أَنَّا نُشَاهِدُ أَصْحَابَ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ، لَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِالْأَوْلِيَاءِ، فَقَدْ يُوجَدُ فِي السَّحَرَةِ وَفِي الْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةِ مَا يُوَافِقُ الصِّدْقَ، وَإِنْ كَانَ الْكَذِبُ يَقَعُ مِنْهُمْ كَثِيرًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُشَاهَدًا مَحْسُوسًا، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ مِمَّا يَجُرُّ الطَّعْنُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. فَقُلْنَا: إِنَّ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرْنَاهُ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا كَلَامَ هَذَا الرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِنَنْظُرَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ. أَمَّا قِصَّةُ شِقٍّ وَسَطِيحٍ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، لِأَنَّهُ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ رَئِيُّ الْكُهَّانِ مِنَ الشَّيَاطِينِ مُسْتَرِقَةً السَّمْعَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَكْذِبُونَ وَيُلْقُونَ إِلَى الْكَهَنَةِ وَيَزِيدُ الْكَهَنَةُ لِلْكَلِمَةِ مِائَةَ كَذْبَةٍ» . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، إِذْ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَتَلَقَّفَهَا الْجِنِّيُّ، وَتَلَقَّفَهَا مِنْهُ الْكَاهِنُ فَالْكَاهِنُ لَمْ يَعْلَمِ الْغَيْبَ. وَأَمَّا تَعْبِيرُ الْمَنَامَاتِ، فَالْمُعَبِّرُ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا يُعَبِّرُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَقَدْ يَقَعُ مَا يُعَبِّرُ بِهِ وَقَدْ لَا يَقَعُ. وَأَمَّا الْكَاهِنَةُ الْبَغْدَادِيَّةُ وَمَا حُكِيَ عَنْهَا فَحَسْبُهُ عَقْلًا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِأَحْوَالِ امْرَأَةٍ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَلَوْ شَاهَدَ ذَلِكَ لَكَانَ فِي عَقْلِهِ مَا يَجُوزُ أَنَّهُ لُبِّسَ عَلَيْهِ هَذَا، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمُصَنِّفُ الَّذِي طَبَّقَ ذِكْرُهُ الْآفَاقَ، وَهُوَ الَّذِي شَكَّكَ فِي دَلَائِلِ الْفَلَاسِفَةِ وَسَامَهُمُ الْخَسْفَ. وَأَمَّا حِكَايَتُهُ عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ، فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَهُوَ مُنْتَحِلٌ طَرِيقَةَ

الْفَلَاسِفَةِ. وَأَمَّا مُشَاهَدَتُهُ أَصْحَابَ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ، فَلِي مِنَ الْعُمْرِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً أَصْحَبُ الْعُلَمَاءَ وَأَتَرَدَّدُ إِلَى مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصَّلَاحِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ صَاحِبَ إِلْهَامٍ صَادِقٍ. وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ، فَلَا أَشُكُّ فِي صُدُورِ شَيْءٍ مِنْهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، وَذَلِكَ فِي مَنْ سَلَفَ مِنْ صُلَحَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرُبَّمَا قَدْ يَكُونُ فِي أَعْصَارِنَا مَنْ تَصْدُرُ مِنْهُ الْكَرَامَاتُ، وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَعْلَمَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ قَتَادَةُ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَحَفِظُوا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْحَفَظَةَ الرُّصَّدَ النَّازِلِينَ بَيْنَ يَدَيْ جِبْرِيلَ وَخَلْفَهُ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِيَعْلَمَ مَنْ أَشْرَكَ وَكَذَّبَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَقَعُ لَهُمْ هَذَا الْعِلْمُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ رُسُلَهُ مُبَلِّغَةً خَارِجَةً إِلَى الْوُجُودِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ سَبَقَ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ فَقَالَ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ: يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ. وَحَّدَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ، وَالْمَعْنَى: لِيُبَلِّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ كَمَا هِيَ مَحْرُوسَةً مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَذَكَرَ الْعِلْمَ كَذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ «1» . انْتَهَى. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ، أَيْ: أَيُّ رَسُولٍ كَانَ أَنَّ الرُّسُلَ سِوَاهُ بَلَّغُوا. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ إِبْلِيسُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ سَلِيمَةً مِنْ تَخْلِيطِهِ وَإِسْرَافِ أَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ الرُّسُلُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنْ قَدْ بَلَّغَ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَيْهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ الْجِنُّ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا هُمُ الْمُتَلَقِّينَ بِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: لِيُعْلَمَ، بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ لِيُعْلِمَ اللَّهُ، أَيْ مَنْ شَاءَ أَنْ يُعْلِمَهُ، أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِسالاتِ عَلَى الْجَمْعِ وَأَبُو حَيْوَةَ: عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ: وَأَحَاطَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ، وَأَحْصى: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ كُلٌّ نَصْبًا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَأُحِيطَ وَأُحْصِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ كُلٌّ رَفْعًا. وَلَمَّا كان ليعلم مضمنا

_ (1) سورة محمد: 47/ 31.

مَعْنَى عَلِمَ، صَارَ الْمَعْنَى: قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَعَطَفَ وَأَحَاطَ عَلَى هَذَا الضَّمِيرِ، وَالْمَعْنَى: وَأَحَاطَ بِمَا عِنْدَ الرُّسُلِ مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرَائِعِ لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً: أَيْ مَعْدُودًا مَحْصُورًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً لِانْدِرَاجِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْعُمُومِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ لَأَحْصَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى إِحْصَاءٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا. انْتَهَى، فَيَكُونُ مَنْقُولًا من المفعول، إذا أَصْلُهُ: وَأَحْصَى عَدَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي كَوْنِهِ ثَابِتًا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ خِلَافٌ.

سورة المزمل

سورة المزّمّل [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

تَزَمَّلَ فِي ثَوْبِهِ: الْتَفَّ، وَزَمَلَ: لَفَّ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَّمَّلِ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَكَائِنٍ تَخَطَّتْ نَاقَتِي مِنْ مَفَازَةٍ ... وَمِنْ نَائِمٍ عَنْ لَيْلِهَا مُتَزَمِّلِ تَبَتَّلَ إِلَى كَذَا: انْقَطَعَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ هِبَةٌ بَتْلَةٌ، وَطَلْقَةٌ بَتْلَةٌ، وَالْبَتُولُ وَبَتَلَ الْحَبْلَ. قَالَ اللَّيْثُ: الْبَتْلُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْبَتُولُ الْمَرْأَةُ الْمُنْقَطِعَةُ عَنِ الرِّجَالِ لَا شَهْوَةَ لَهَا وَلَا حَاجَةَ لَهَا فِيهِمْ، وَالتَّبَتُّلُ: تَرْكُ النِّكَاحِ وَالزُّهْدُ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعِشَاءِ كَأَنَّهَا ... مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّبَتُّلِ: أَيْ عَنِ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّزْوِيجِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّاهِبِ مُتَبَتِّلِ، وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّبَتُّلِ: أَيْ عَنِ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّزْوِيجِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّاهِبِ مُتَبَتِّلٌ، لِانْقِطَاعِهِ عَنِ النَّاسِ وَانْفِرَادِهِ لِلْعِبَادَةِ. وَالْغُصَّةُ: الشَّجَى، وَهُوَ مَا يَنْشَبُ بِالْحَلْقِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَجَمْعُهَا غُصَصٌ، وَالْفِعْلُ غَصَصْتَ، فَأَنْتَ غَاصٌّ وَغَصَّانُ، قَالَ: كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي الْكَثِيبُ: الرَّمْلُ الْمُجْتَمِعُ، وَجَمْعُهُ كُثُبٌ وَكُثْبَانُ فِي الْكَثْرَةِ، وَأَكْثِبَةٌ فِي الْقِلَّةِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهَا لَا إِنَّ أَهْلِي جيرة ... لا كثبة الدَّهْنَا جَمِيعًا وَمَالِيَا الْمَهِيلُ: الَّذِي يَمُرُّ تَحْتَ الرَّجُلِ، وَهِلْتُ عَلَيْهِ التُّرَابَ: صَبَبْتُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَهِيلُ: الَّذِي إِذَا وَطِئَتْهُ الْقَدَمُ زَلَّ مِنْ تَحْتِهَا، وَإِذَا أَخَذَتْ أَسْفَلَهُ انْهَالَ، وَأَهَلْتُ لُغَةٌ فِي هِلْتُ. الشِّيبُ: جَمْعُ أَشَيْبٍ. يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا، إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً، يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا، إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَالَّتِي تَلِيهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَخْ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا ذَكَرَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَحَاوَرَهُ بِمَا حَاوَرَهُ، رَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» ، فَنَزَلَتْ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» ، وَعَلَى هَذَا نَزَلَتْ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قَالَتْ عَائِشَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَنُودِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ مُتَزَمِّلًا بِكِسَاءٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ تَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ لِلصَّلَاةِ وَاسْتَعَدَّ. فَنُودِيَ عَلَى مَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْمُسْتَعِدُّ لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَاهُ الْمُزَّمِّلُ لِلنُّبُوَّةِ وَأَعْبَائِهَا، أَيِ الْمُشَمِّرُ الْمُجِدُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّزَمُّلُ مَجَازًا، وَعَلَى مَا سَبَقَ يَكُونُ حَقِيقَةً. وَمَا رَوَوْا إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ: مَا كَانَ تَزْمِيلُهُ؟ قَالَتْ: كَانَ مِرْطًا طُولُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، نِصْفُهُ عَلَيَّ وَأَنَا نَائِمَةٌ، وَنِصْفُهُ عَلَيْهِ، إِلَى آخَرِ الرِّوَايَةِ كَذِبٌ صُرَاحٌ، لِأَنَّ نُزُولَ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بمكة فِي أَوَائِلِ مَبْعَثِهِ، وَتَزْوِيجُهُ عائشة كان بالمدينة. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا عالِمُ الْغَيْبِ «2» الآيات، فأتبعه بقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، إعلاما بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنِ ارْتَضَاهُ مِنَ الرُّسُلِ وَخَصَّهُ بِخَصَائِصَ وَكَفَاهُ شَرَّ أَعْدَائِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُزَّمِّلُ، بِشَدِّ الزَّايِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَصْلُهُ الْمُتَزَمِّلُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: المتزمل على الأصل وعكرمة: بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. أَيِ الْمُزَمِّلُ جِسْمَهُ أَوْ نَفْسَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ: بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، أَيِ الَّذِي لف. وللزمخشري فِي كَيْفِيَّةِ نِدَاءِ اللَّهِ لَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ كَلَامٌ ضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا، فَلَمْ أَذْكُرْهُ فِي كِتَابِي. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَيْسَ الْمُزَّمِّلُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْرَفُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ الْتَبَسَ بِهَا حَالَةَ الْخِطَابِ، وَالْعَرَبُ إِذَا قَصَدَتِ الْمُلَاطَفَةَ بِالْمُخَاطَبِ تَتْرُكُ الْمُعَاتَبَةَ نَادَوْهُ بِاسْمٍ مشتق من حالته التي هُوَ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَقَدْ نَامَ وَلَصِقَ بِجَنْبِهِ التُّرَابُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ» ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مُلَاطِفٌ لَهُ ، فَقَوْلُهُ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ فِيهِ تَأْنِيسٌ وَمُلَاطَفَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُمِ اللَّيْلَ، بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَأَبُو السَّمَّالِ:

_ (1) سورة المدثر: 74/ 1. (2) سورة الجن: 72/ 26 وما بعدها.

بِضَمِّهَا اتِّبَاعًا لِلْحَرَكَةِ مِنَ القاف. وقرىء: بِفَتْحِهَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْغَرَضُ بِالْحَرَكَةِ الْهُرُوبُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَبِأَيِّ حَرَكَةٍ تَحَرَّكَ الْحَرْفُ حَصَلَ الْغَرَضُ، وَقُمْ طَلَبٌ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَقِيلَ: كَانَ فَرْضًا عَلَى الرَّسُولِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: عَلَيْهِ وَعَلَى الْجَمِيعِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَدَامَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَنَزَلَتْ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ الْآيَاتِ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. بَيَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ أَنَّ الْقِيَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ اللَّيْلِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَاسْتِغْرَاقُ جَمِيعِهِ بِالْقِيَامِ عَلَى الدَّوَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ لِرَاحَةِ الْجَسَدِ وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ الْفِعْلُ وَهُوَ عِنْدُ الْكُوفِيِّينَ مَفْعُولٌ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى قَدْ يَكُونُ مُبْهَمَ الْمِقْدَارِ، كَقَوْلِهِ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ «1» فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ «2» . قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: الْقَلِيلُ مَا دُونُ الْمِعْشَارِ وَالسُّدْسِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: الثُّلُثُ. وَقِيلَ: مَا دُونُ النِّصْفِ، وَجَوَّزُوا فِي نِصْفِهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ اللَّيْلِ وَمِنْ قَلِيلًا. فَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ اللَّيْلِ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَكَانَ الْمَأْمُورُ بِقِيَامِهِ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ وَعَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى النِّصْفِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، أَوِ انْقُصْ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوِ انْقُصْ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ قَلِيلًا، تَكْرَارًا لِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ تَرْكِيبٌ غَيْرُ فَصِيحٍ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نِصْفَهُ بَدَلٌ من الليل، وإلا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النِّصْفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ وَعَلَيْهِ لِلنِّصْفِ، وَالْمَعْنَى: التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَقُومَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ عَلَى البت، وبين أن يخنار أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُمَا النُّقْصَانُ مِنَ النِّصْفِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. فَلَمْ يَتَنَبَّهْ لِلتَّكْرَارِ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِهِ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ قَوْلَهُ، أَوِ انْقُصْ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ تَكْرَارًا. وَإِذَا كَانَ نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا، فَالضَّمِيرُ فِي نِصْفِهِ إِمَّا أَنْ يَعُودُ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ اللَّيْلُ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَعُودُ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْتِثْنَاءَ مَجْهُولٍ مِنْ مَجْهُولٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفُ الْقَلِيلِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ مَعْنَى الْبَتَّةِ. وَإِنْ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّيْلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ اللَّيْلِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ أَخْصَرَ وَأَوْضَحَ وَأَبْعَدَ عَنِ الْإِلْبَاسِ أن يكون

_ (1) سورة النساء: 4/ 66. (2) سورة البقرة: 2/ 83.

التَّرْكِيبُ قُمِ اللَّيْلَ نِصْفَهُ. وَقَدْ أَبْطَلْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُهُ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: قُمِ اللَّيْلَ نِصْفَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، أَيْ مِنَ النِّصْفِ. وأَيْضًا فَفِي دَعْوَى أَنَّ نِصْفَهُ بَدَلٌ مِنْ إِلَّا قَلِيلًا، وَالضَّمِيرُ فِي نِصْفَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلَ، إِطْلَاقُ الْقَلِيلِ عَلَى النِّصْفِ، وَيَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا نِصْفَهُ فَلَا تَقُمْهُ، أَوِ انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي لا تقومه، أو زد عَلَيْهِ النِّصْفَ الَّذِي لَا تَقُومُهُ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ قَطْعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ نِصْفَهْ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، وَكَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ ثَلَاثٍ: بَيْنَ قِيَامِ النِّصْفِ بِتَمَامِهِ، وَبَيْنَ قِيَامِ النَّاقِصِ مِنْهُ، وَبَيْنَ قِيَامِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَصَفَ النِّصْفَ بِالْقِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ: إِذَا أَبْدَلْتَ النِّصْفَ مِنَ اللَّيْلِ، قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، رَجَعَ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ وَعَلَيْهِ إِلَى الْأَقَلِّ مِنَ النِّصْفِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَقُمْ أنقص من ذلك الأقل أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ قَلِيلًا، فَيَكُونُ التَّخْيِيرُ فِيمَا وَرَاءَ النِّصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ، وَيَجُوزُ إِذَا أَبْدَلْتَ نِصْفَهُ مِنْ قَلِيلًا وَفَسَّرْتَهُ بِهِ أَنْ تَجْعَلَ قَلِيلًا الثَّانِي بِمَعْنَى نِصْفِ النِّصْفِ وَهُوَ الربع، كأنه قيل: أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا نِصْفَهُ، وَتَجْعَلُ الْمَزِيدَ عَلَى هَذَا الْقَلِيلَ، أَعْنِي الرُّبُعَ نِصْفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عَلَيْهِ قَلِيلًا نِصْفَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ الزِّيَادَةَ لِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً تَتِمَّةَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ تَخْيِيرًا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. انْتَهَى. وَمَا أَوْسَعَ خَيَالَ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ مَا يَقْرُبُ وَمَا يَبْعُدُ، وَالْقُرْآنُ لَا يَنْبَغِي، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إِلَّا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ قَلِيلًا الزَّمَخْشَرِيُّ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ. وَابْنُ عَطِيَّةَ أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ الِاحْتِمَالِ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَقَالَ: أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، وَالْهَاءُ فِيهِمَا لِلنِّصْفِ. فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النِّصْفِ لَصَارَ التَّقْدِيرُ: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَالنُّقْصَانُ مِنْهُ لَا يَتَحَصَّلُ. انْتَهَى. وَأَمَّا الْحَوْفِيُّ فَأَجَازَ أن يكون بدلا من اللَّيْلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ عِنْدِي قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقِيَامِ، فَيُجْعَلُ اللَّيْلَ اسْمَ جِنْسٍ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا قَلِيلًا، أَيِ اللَّيَالِي الَّتِي تُخِلُّ بِقِيَامِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ الْبَيِّنِ وَنَحْوُهُ، وَهَذَا النَّظَرُ يَحْسُنُ مَعَ الْقَوْلِ بِالنَّدْبِ. انْتَهَى، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوْ نِصْفَهُ، كَمَا تَقُولُ: أَعْطِهِ دِرْهَمًا دِرْهَمَيْنِ ثَلَاثَةً، تُرِيدُ: أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً. انْتَهَى، وَفِيهِ حَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ وَالتَّخْيِيرِ فِي الزِّيَادَةِ

وَالنُّقْصَانِ وَقَعَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ وَقْتَ الْعَتَمَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَارِدٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُمْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ جَعَلَ نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، فَصَارَ الْقَلِيلُ مُفَسَّرًا بِالنِّصْفِ مِنَ الثُّلْثَيْنِ، وَهُوَ قَلِيلٌ مِنَ الْكُلِّ. فَقَوْلُهُ: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ: أَيْ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ قِيَامُ الثُّلُثِ، قَلِيلًا: أَيْ مَا دُونَ نِصْفِهِ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاقِعًا عَلَى الثُّلُثَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهَانِ مُلَخَّصَانِ، وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا مُلَفَّقًا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّرْتِيلِ فِي آخِرِ الْإِسْرَاءِ. قَوْلًا ثَقِيلًا: هُوَ الْقُرْآنُ، وَثِقَلُهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، كَالْجِهَادِ وَمُدَاوَمَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْهَذَّ خَفِيفٌ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ ثَقِيلٌ. وَقَالَ أبو العالية: والقرطبي: ثِقَلُهُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِإِعْجَازِهِ وَوَعِيدِهِ. وَقِيلَ: ثِقَلُهُ مَا كَانَ يَحِلُّ بِجِسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَةَ تَلَقِّيهِ الْوَحْيَ، حَتَّى كَانَتْ نَاقَتُهُ تَبْرُكُ بِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَحَتَّى كَادَتْ رَأْسُهُ الْكَرِيمَةُ أَنْ تُرَضَّ فَخَذَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. وَقِيلَ: كَلَامٌ لَهُ وَزْنٌ ورجحان ليس بالسفساف. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَامًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: ثَقِيلٌ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ بَقَائِهِ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى فِي مَكَانِهِ. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هِيَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وقالت عائشة ومجاهد: هِيَ الْقِيَامُ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَمَنْ قَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَمْ يَقُمْ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ لَفْظَةٌ حَبَشِيَّةٌ، نَشَأَ الرَّجُلُ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَنَاشِئَةٌ على هذا جمع ناشىء، أَيْ قَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا وَجَمَاعَةٌ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ، لِأَنَّهَا تَنْشَأُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو مِجْلِزٍ: مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ، وَمَا كَانَ قَبْلَهَا فَلَيْسَ بِنَاشِئَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ صَلَاتُهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَقَالَ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ أَوَّلُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ: النَّفْسُ النَّاشِئَةُ بِاللَّيْلِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِهَا إِلَى الْعِبَادَةِ، أَيْ تَنْهَضُ وَتَرْتَفِعُ مَنْ نَشَأَتِ السَّحَابَةُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، وَنَشَأَ مِنْ مَكَانِهِ وَنَشَرَ إِذَا نَهَضَ. قَالَ الشَّاعِرُ: نَشَأْنَا إِلَى خُوصٍ بَرَى فِيهَا السُّرَى ... وَأَلْصَقَ مِنْهَا مُشْرِفَاتِ الْقَمَاحِدِ أَوْ: قِيَامُ اللَّيْلِ، عَلَى أَنَّ النَّاشِئَةَ مَصْدَرٌ مِنْ نَشَأَ إِذَا قَامَ وَنَهَضَ عَلَى فَاعِلِهِ كَالْعَاقِبَةِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وِطَاءً بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مَمْدُودًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَشِبْلٌ، عَنْ أَهْلِ

مَكَّةَ: بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَالْهَمْزَةُ مَقْصُورَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِفَتْحِ الْوَاوِ مَمْدُودًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَشَدُّ مواطأة، أي يواطىء الْقَلْبُ فِيهَا اللِّسَانَ، أَوْ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِمَا يُرَادُ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ. وَمَنْ قرأ وَطْئاً: أَيْ أَشَدُّ ثَبَاتَ قَدَمٍ وَأَبْعَدُ مِنَ الزَّلَلِ، أَوْ أَثْقَلُ وَأَغْلَظُ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، كَمَا جَاءَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ» . وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَشَدُّ قِيَامًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَثْبَتُ قِرَاءَةً وَقِيَامًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَشَدُّ نَشَاطًا لِلْمُصَلِّي لِأَنَّهُ فِي زَمَانِ رَاحَتِهِ. وَقِيلَ: أَثْبَتُ لِلْعَمَلِ وَأَدْوَمُ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَاللَّيْلُ وَقْتُ فَرَاغٍ، فَالْعِبَادَةُ تَدُومُ. وَأَقْوَمُ قِيلًا: أَيْ أَشَدُّ اسْتِقَامَةً عَلَى الصَّوَابِ، لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ هَادِئَةٌ فَلَا يَضْطَرِبُ عَلَى الْمُصَلِّي مَا يَقْرَؤُهُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَصْوَبُ لِلْقِرَاءَةِ وَأَثْبَتُ لِلْقَوْلِ، لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّفَهُّمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَتَمُّ نَشَاطًا وَإِخْلَاصًا وَبَرَكَةً. وَحَكَى ابْنُ شَجَرَةَ: أَعْجَلُ إِجَابَةً لِلدُّعَاءِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَجْدَرُ أَنْ يَتَفَقَّهَ فِيهَا الْقَارِئُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَبْحاً: أَيْ تَصَرُّفًا وَتَقَلُّبًا فِي الْمُهِمَّاتِ، كَمَا يَتَرَدَّدُ السَّابِحُ فِي الْمَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أباحوا لكم شَرْقَ الْبِلَادِ وَغَرْبَهَا ... فَفِيهَا لَكُمْ يَا صَاحُ سَبْحٌ مِنَ السَّبْحِ وَقِيلَ: سَبْحًا سُبْحَةً، أَيْ نَافِلَةً. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَمَعْنَاهُ: خِفَّةٌ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَالتَّسْبِيخُ: التَّخْفِيفُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ سَبَّخَ الصُّوفَ إِذَا نَفَشَهُ وَنَشَرَ أَجْزَاءَهُ، فَمَعْنَاهُ: انْتِشَارُ الْهِمَّةِ وَتَفَرُّقِ الْخَاطِرِ بِالشَّوَاغِلِ. وَقِيلَ: فَرَاغًا وَسَعَةً لِنَوْمِكَ وَتَصَرُّفِكَ فِي حَوَائِجِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنْ فَاتَ حِزْبُ اللَّيْلِ بِنَوْمٍ أَوْ عُذْرٍ. فَلْيُخْلِفْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْحًا طَوِيلًا. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَفَسَّرَ ابْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ سَبْخًا بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً. وَقَالَ: نَوْمًا، أَيْ تَنَامُ بِالنَّهَارِ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَدْ تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّهُمَا فَسَّرَاهَا، فَلَا يُجَاوِزُ عَنْهُ. انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَسَبَّخِي بِدُعَائِكِ» ، أَيْ لَا تخفي. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَسَبِّخْ عَلَيْكَ الْهَمَّ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ ... إِذَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا فَكَائِنٌ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ سَبَّخَ اللَّهُ عَنْكَ الْحُمَّى، أَيْ خَفَّفَهَا. وَقِيلَ: السَّبْخُ: الْمَدُّ، يُقَالُ: سَبِّخِي قُطْنَكِ: أَيْ مُدِّيهِ، وَيُقَالُ لِقِطَعِ الْقُطْنِ سَبَائِخُ، الْوَاحِدَةُ سَبِيخَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: فَأَرْسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التُّرَابَ كَمَا ... يُذْرِي سَبَائِخَ قُطْنِ نَدْفُ أَوْتَارِ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ: أَيْ دُمْ عَلَى ذِكْرِهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذِكْرٍ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ

وَغَيْرِهِمَا، وَانْتَصَبَ تَبْتِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهُ فَاصِلَةً. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ: رَبِّ بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ رَبِّكَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بالرفع وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنَّصْبِ وَالْجُمْهُورُ: الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُوَحَّدَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِجَمْعِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى الْقَسَمِ، يَعْنِي: خَفَضَ رَبِّ بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ، كَقَوْلِكَ: اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَجَوَابُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كَمَا تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَحَدَ فِي الدار إلا زيد. انْتَهَى. وَلَعَلَّ هَذَا التَّخْرِيجَ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ فِيهِ إِضْمَارُ الْجَارِّ فِي الْقَسَمِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فِي لَفْظَةِ اللَّهِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَنْفِيَّةَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ إِذَا كَانَتِ اسْمِيَّةً فَلَا تنفي إلا بما وحدها، ولا تنفي بلا إِلَّا الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِمُضَارِعٍ كَثِيرًا وَبِمَاضٍ فِي مَعْنَاهُ قَلِيلًا، نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: ردوا فو الله لَا زُرْنَاكُمْ أَبَدًا ... مَا دَامَ فِي مَائِنَا وِرْدٌ لورّاد والزمخشري أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ هُوَ نَفْيُهَا بِمَا نَحْوُ قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ مَا سَعْدٌ بِخُلَّةِ آثِمٍ ... وَلَا نَأْنَأٍ يَوْمَ الْحِفَاظِ وَلَا حَصِرْ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، لِأَنَّ مَنِ انْفَرَدَ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَمْ يَتَّخِذْ وَكِيلًا إِلَّا هُوَ. وَاصْبِرْ، وَاهْجُرْهُمْ: قِيلَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَتَقَدَّمَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِ هَذَا فِي فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ «1» . أُولِي النَّعْمَةِ: أَيْ غَضَارَةُ الْعَيْشِ وَكَثْرَةُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَالنَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ: التَّنَعُّمُ، وَبِالْكَسْرِ: الْأَنْعَامُ وَمَا يُنْعِمُ بِهِ، وَبِالضَّمِّ: الْمَسَرَّةُ، يُقَالُ: نِعَمٌ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا: وَعِيدٌ لَهُمْ بِسُرْعَةِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَالْقَلِيلُ: مُوَافَاةُ آجَالِهِمْ وَقِيلَ: وَقْعَةُ بَدْرٍ. إِنَّ لَدَيْنا: أَيْ مَا يُضَادُّ نِعْمَتَهُمْ، أَنْكالًا: قُيُودًا فِي أَرْجُلِهِمْ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ تُجْعَلْ فِي أَرْجُلِهِمْ خَوْفًا مِنْ هُرُوبِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِعُوا اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَنْكَالُ: الْأَغْلَالُ، وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: دَعَاكَ فَقَطَّعْتَ أَنْكَالَهُ ... وَقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لَا تقطع

_ (1) سورة القلم: 68/ 44.

وَجَحِيماً: نَارًا شَدِيدَةَ الْإِيقَادِ. وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَوْكٌ مِنْ نَارٍ يَعْتَرِضُ فِي حُلُوقِهِمْ، لَا يَخْرُجُ وَلَا يَنْزِلُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَقِيلَ: الضَّرِيعُ وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ. يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِالْعَامِلِ في الدنيا، وقيل: بذرني، تَرْجُفُ: تَضْطَرِبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْجُفُ بِفَتْحِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِضَمِّهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَثِيباً: أَيْ رَمْلًا مُجْتَمِعًا، مَهِيلًا: أَيْ رَخْوًا لَيِّنًا. قِيلَ: وَيُقَالُ: مَهِيلٌ وَمَهْيُولٌ، وَكَيْلٌ وَمَكْيُولٌ، وَمَدِينٌ وَمَدْيُونٌ، الْإِتْمَامُ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْحَذْفُ لِأَكْثَرِ الْعَرَبِ. وَلَمَّا هَدَّدَ الْمُكَذِّبِينَ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، ذَكَّرَهُمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَكَيْفَ أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ كَذَّبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ إِنْ دَامَ تَكْذِيبُهُمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ، وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ. وَقِيلَ: لِأَهْلِ مَكَّةَ، رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ، كَمَا قَالَ: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ «1» . وَشَبَّهَ إِرْسَالَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِإِرْسَالِ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَبَا فِي قَوْمِهِ وَاسْتُحْقِرُوا بِهِمَا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِمَا جَرَى مِنْ غَرَقِ فِرْعَوْنَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُشَبِّهَ الْإِرْسَالَ بِالْإِرْسَالِ. وَقِيلَ: الرَّسُولُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَأُحِيلَ عَلَيْهِ. كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، لِأَنَّ الْمَضْرُوبَ هُوَ الْمَلْقِيُّ، وَالْوَبِيلُ: الرَّدِيءُ الْعُقْبَى، مِنْ قَوْلِهِمْ: كَلَأٌ وَبِيلٌ: أَيْ وَخِيمٌ لَا يُسْتَمْرَأُ لِثِقَلِهِ، أَيْ لَا يَنْزِلُ فِي الْمَرِيءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يَوْماً منصوب بتتقون، مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ كَيْفَ تَسْتَقْبِلُونَ هَذَا الْيَوْمَ الْعَظِيمَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا؟ وَالضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُ لِلْيَوْمِ، أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْجَعْلُ لَمَّا كَانَ وَاقِعًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَوْماً مَفْعُولٌ بِهِ، أي

_ (1) سورة النحل: 16/ 89.

فَكَيْفَ تَقُونَ أَنْفُسَكُمْ يَوْمَ القيامة وهو له إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ تُؤْمِنُوا وَتَعْمَلُوا صَالِحًا؟ انتهى. وتتقون مُضَارِعُ اتَّقَى، وَاتَّقَى لَيْسَ بِمَعْنَى وَقَى حَتَّى يُفَسِّرَهُ بِهِ، وَاتَّقَى يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَوَقَى يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ «1» ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقُونَ أَنْفُسَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ تَتَّقُونَ بِمَعْنَى تَقُونَ، فَلَا يَتَعَدَّى بعديته، وَدَسَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تُؤْمِنُوا وَتَعْمَلُوا صَالِحًا الِاعْتِزَالَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أَيْ فَكَيْفَ لَكُمْ بِالتَّقْوَى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بكفرتم عَلَى تَأْوِيلِ جَحَدْتُمْ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ اللَّهَ وَتَخْشَوْنَهُ إِنْ جَحَدْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَالْجَزَاءُ لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ خَوْفُ عِقَابِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَوْماً مُنَوَّنًا، يَجْعَلُ بِالْيَاءِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَجْعَلُ صفة ليوم، فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُ عَائِدًا عَلَى الْيَوْمِ فَوَاضِحٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ عَادَ عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى الْيَوْمِ، أَيْ يَجْعَلُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ «2» . وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ: نَجْعَلُ بِالنُّونِ، فَالظَّرْفُ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَالشِّيبُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَجْعَلَ، أَيْ يَصِيرُ الصِّبْيَانُ شُيُوخًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَيُقَالُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ: يَوْمٌ يُشِيبُ نَوَاصِيَ الْأَطْفَالِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْهُمُومَ إِذَا تَفَاقَمَتْ أَسْرَعَتْ بِالشِّيبِ. قَالَ الْمُتَنَبِّي: وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَةً ... وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ وَقَالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ حَقِيقَةٌ تَشِيبُ رُؤُوسُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، كَمَا قَدْ يُرَى الشَّيْبُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْهَمِّ الْمُفْرِطِ، كَهَوْلِ الْبَحْرِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْيَوْمُ بِالطُّولِ، وَأَنَّ الْأَطْفَالَ يَبْلُغُونَ فِيهِ أَوَانَ الشَّيْخُوخَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْوِلْدَانَ: أَوْلَادُ الزِّنَا. وَقِيلَ: أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ، أَيْ يَشِيبُ الصَّغِيرُ مِنْ غَيْرِ كِبَرٍ، وَذَلِكَ حِينَ يُقَالُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. وَقِيلَ: هَذَا وَقْتَ الْفَزَعِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةَ الصَّعْقِ. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي الْمُظِلَّةَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَجَاءَ مُنْفَطِرٌ عَلَى التَّذْكِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ: فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إليه قوم ... لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ وَبِالسَّحَابِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْنِيثِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، وَالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، وَأَعْجَازِ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهَا مِنْ بَابِ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي بينه وبين

_ (1) سورة الدخان: 44/ 56. (2) سورة البقرة: 2/ 48- 123.

مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ وَأَنَّ مُفْرَدَهُ سَمَاءٌ، وَاسْمُ الْجِنْسِ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، فَجَاءَ مُنْفَطِرٌ عَلَى التَّذْكِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ، وَتَبِعَهُمُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مَجَازُهَا السَّقْفُ، فَجَاءَ عَلَيْهِ مُنْفَطِرٌ، وَلَمْ يَقُلْ مُنْفَطِرَةً. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ أَيْضًا: التَّقْدِيرُ ذَاتُ انْفِطَارٍ كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، أَيْ ذَاتُ رَضَاعٍ، فَجَرَى عَلَى طَرِيقِ التَّسَبُّبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ السَّمَاءُ شَيْءٌ مُنْفَطِرٌ، فَجَعَلَ مُنْفَطِرٌ صِفَةً لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ بِمُذَكَّرٍ وَهُوَ شَيْءٌ، وَالِانْفِطَارُ: التَّصَدُّعُ وَالِانْشِقَاقُ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْيَوْمِ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ بِأَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَعْدُهُ عَائِدٌ عَلَى الْيَوْمِ، فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ هَذَا الْيَوْمَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِنْجَازِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي هَذِهِ مَوَاعِيدُهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. إِنَّ هذِهِ: أي السورة، أو الْأَنْكَالُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْأَخْذُ الْوَبِيلُ، أَوْ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُتَضَمِّنَةُ شِدَّةَ الْقِيَامَةِ، تَذْكِرَةٌ: أَيْ مَوْعِظَةٌ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ، لِأَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ سَبِيلًا اتَّخَذَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ، بَلْ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى: تُصَلِّي، كَقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ. لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ الْقِيَامَ عَبَّرَ بِهِ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ تَخْفِيفًا لِمَا كَانَ اسْتِمْرَارُ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ أَمْرِ قِيَامِ اللَّيْلِ، إِمَّا عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِمَّا عَلَى النَّدْبِ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ: أَيْ زَمَانًا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَاسْتُعِيرَ الْأَدْنَى، وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا دَنَتْ قَلَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْيَازِ، وَإِذَا بَعُدَتْ كَثُرَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ ثُلُثَيِ بِضَمِّ اللَّامِ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ السميفع وَهِشَامٌ وَابْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ قُنْبُلٍ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَامِلِ: بِإِسْكَانِهَا، وَجَاءَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ. وقرأ العربيان ونافع: وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، بِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَدْنى، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ وَقْتًا أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ. فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّقْسِيمِ الَّذِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا صَدَقَ عَلَيْهِ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي لَمْ يَقُمْ فِيهِ يَكُونُ الثُّلُثَ وشَيْئًا مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا. وَأَمَّا

قَوْلُهُ: وَنِصْفَهُ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا: نِصْفَهُ. وَأَمَّا ثُلُثَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا قَدْ يَنْتَهِي النَّقْصُ فِي الْقَلِيلِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ ثُلُثَ اللَّيْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ قَلِيلًا، كَانَ الْوَقْتُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ طَابَقَ قَوْلَهُ: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا شَرْحًا لِمُبْهَمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَى تُحْصُوهُ: تُطِيقُوهُ، أَيْ قَدَّرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الزَّمَانَ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَلَمْ يُطِيقُوا قِيَامَهُ لِكَثْرَتِهِ وَشِدَّتِهِ، فَخَفَّفَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَضْلًا مِنْهُ، لَا لِعِلَّةِ جَهْلِهِمْ بِالتَّقْدِيرِ وَإِحْصَاءِ الْأَوْقَاتِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَرِّ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قِيَامٌ مُخْتَلِفٌ مَرَّةً أَدْنَى مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَرَّةً أَدْنَى مِنَ النِّصْفِ، وَمَرَّةً أَدْنَى مِنَ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ الْبَشَرِ مَقَادِيرَ الزَّمَانِ مَعَ عُذْرِ النَّوْمِ. وَتَقْدِيرُ الزَّمَانِ حَقِيقَةٌ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْبَشَرُ لَا يُحْصُونَ ذَلِكَ، أَيْ لَا يُطِيقُونَ مَقَادِيرَ ذَلِكَ، فَتَابَ عَلَيْهِمْ، أَيْ رَجَعَ بِهِمْ مِنَ الثِّقَلِ إِلَى الْخِفَّةِ وَأَمَرَهُمْ بِقِيَامِ مَا تَيَسَّرَ. وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ يَكُونُ عِلْمُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْوُقُوعِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَامُوا تِلْكَ الْمَقَادِيرَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَامُوا أَدْنَى مِنَ الثُّلُثَيْنِ وَنِصْفًا وَثُلُثًا، وَقَامُوا أَدْنَى مِنَ النِّصْفِ وَأَدْنَى مِنَ الثُّلُثِ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَثُلُثَهُ بِضَمِّ اللَّامِ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ: بِإِسْكَانِهَا وَطَائِفَةٌ: مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي تَقُومُ، وَحَسَّنَهُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَى الْجَمِيعِ، إِذْ لَوْ كَانَ فَرْضًا، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: وَالَّذِينَ مَعَكَ، إِلَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ فِي بَيْتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ، فَيُمْكِنُ إِذْ ذَاكَ الْفَرْضِيَّةُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ: أَيْ هُوَ وَحْدَهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِ السَّاعَاتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَقْدِيمُ اسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ مُبْتَدَأً مَبْنِيًّا عَلَيْهِ يُقَدِّرُ هُوَ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِالتَّقْدِيرِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُهُ، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ الِاخْتِصَاصُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ تَقْدِيمِ الْمُبْتَدَأِ. لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَوْ يَتَفَقَّهُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، لَمْ يَدُلَّ تَقْدِيمُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، والضمير في نحصوه، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُقَدِّرُ، أَيْ أَنْ لَنْ تُحْصُوا تَقْدِيرَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا تُحِيطُوا بِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْقِيَامِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ. قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ مَا أَمَرَ بِهِ. وَقِيلَ: رَجَعَ بِكُمْ مِنْ ثِقَلٍ إِلَى خَفٍّ، وَمِنْ عسر إلى عسر، وَرَخَّصَ لَكُمْ فِي تَرْكِ القيام المقدر. فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ:

عَبَّرَ بِالْقِرَاءَةِ عَنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا بَعْضُ أَرْكَانِهَا، كَمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَيْ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ مِنْ صَلَاةِ الليل. قيل: وَهَذَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ نُسِخَا جَمِيعًا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وهذا الأمر بقوله: فَاقْرَؤُا، قَالَ الْجُمْهُورُ: أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ فَرْضٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْ خَمْسِينَ آيَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: قِيَامُ اللَّيْلِ فَرْضٌ، وَلَوْ قَدْرُ حَلْبِ شَاةٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِعَيْنِهَا، لَا كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ: فاقرؤا فِي الصَّلَاةِ مَا تَيَسَّرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَا يَقْرَأُ، بَلْ إِذَا قَرَأَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ وَسَهُلَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ وَقَدَّرَهُ، وأبو حَنِيفَةَ بِآيَةٍ، حَكَاهُ عَنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَبِثَلَاثٍ. حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَعَيَّنَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ مَا تَيَسَّرَ، قَالَا: هُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، لَا يَعْدِلُ عَنْهَا وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِهَا. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى: بَيَانٌ لِحِكْمَةِ النَّسْخِ، وَهِيَ تَعَذُّرُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرْضَى، وَالضَّارِبِينَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ، وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سبيل الله، فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. ثُمَّ أَمَرَ بِعَمُودَيِ الْإِسْلَامِ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً: الْعَطْفُ يُشْعِرُ بِالتَّغَايُرِ، فَقَوْلُهُ: وَآتُوا الزَّكاةَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَأَقْرِضُوا اللَّهَ: أَمَرَ بِأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي يُتَطَوَّعُ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً بِنَصْبِهِمَا، وَاحْتَمَلَ هُوَ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، وَأَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّصْبِ فِي تَجِدُوهُ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي إِعْرَابِ هُوَ إِلَّا الْفَصْلَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ فَصْلٌ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ. فَقَوْلُهُ: أَوْ بَدَلٌ، وَهْمٌ لَوْ كَانَ بَدَلًا لَطَابَقَ فِي النَّصْبِ فَكَانَ يَكُونُ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَابْنُ السميفع: هُوَ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ، بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْخَبَرِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: هُوَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يَرْفَعُونَ مَا بَعْدَ الْفَاصِلَةِ، يَقُولُونَ: كَانَ زَيْدٌ هُوَ الْعَاقِلُ بِالرَّفْعِ، وَهَذَا الْبَيْتُ لِقَيْسِ بن ذريح وهو: نَحِنُّ إِلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا ... وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالْمَلَا أَنْتَ أَقْدَرُ قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْجَرْمِيُّ: أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْبَيْتَ شَاهِدًا لِلرَّفْعِ وَالْقَوَافِي مَرْفُوعَةٌ. وَيُرْوَى: أَقْدَرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ فَصْلٌ وَجَازَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ مِنْ أَشْبَهَ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ حَرْفِ التَّعْرِيفِ الْمَعْرِفَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا ذَكَرَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَلَيْسَ أَفْعَلُ مِنْ أَحْكَامِ الْفَصْلِ وَمَسَائِلِهِ، وَالْخِلَافُ الْوَارِدُ فِيهَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَقَدْ جَمَعْنَا فِيهِ كِتَابًا سَمَّيْنَاهُ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ فِي أَحْكَامِ الْفَصْلِ، وَأَوْدَعْنَا مُعْظَمَهُ شَرْحِ التَّسْهِيلِ مِنْ تَأْلِيفِنَا.

سورة المدثر

سورة المدّثر [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

تَدَثَّرَ: لَبِسَ الدِّثَارَ، وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي فَوْقَ الشِّعَارِ، وَالشِّعَارُ: الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجَسَدَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ» . النَّقْرُ: الصَّوْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أُخَفِّضُهُ بِالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُهُ ... وَيَرْفَعُ طَرْفًا غَيْرَ خَافٍ غَضِيضِ وَقَالَ الرَّاجِزُ: أَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إِذْ جَدَّ النَّقْرُ يُرِيدُ النَّقْرَ، فَنَقَلَ الْحَرَكَةَ، فَالنَّاقُورُ فَاعُولٌ مِنْهُ، كَالْجَاسُوسِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّجَسُّسِ. عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْسًا وَعُبُوسًا: قَطَّبَ، وَالْعَبْسُ: مَا تَعَلَّقَ بِأَذْنَابِ الْإِبِلِ مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا. قَالَ أَبُو النَّجْمِ: كَأَنَّ فِي أَذْنَابِهِنَّ الشُّوَّلِ ... مِنْ عبس الضيف قرون الإبل بَسَرَ: قَبَضَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَارْبَدَّ وَجْهُهُ، قَالَ: صَحِبْنَا تَمِيمًا غَدَاةَ الْجِفَارِ ... بِشَهْبَا مَلُومَةً بَاسِرَهْ وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ: بَسَرَ الْمَرْكَبُ وَأَبْسَرَ إِذَا وَقَفَ، وَقَدْ أَبْسَرْنَا، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: وَجْهٌ بَاسِرٌ بَيِّنُ الْبُسُورِ، إِذَا تَغَيَّرَ وَاسْوَدَّ، لَاحَهُ الْبَسْرُ: غَيَّرَ خِلْقَتَهُ، قَالَ: تَقُولُ مَا لَاحَكَ يَا مُسَافِرُ ... يَا ابْنَةَ عَمِّي لَاحَنِي الْهَوَاجِرُ وَقَالَ آخَرُ: وَتَعْجَبُ هِنْدٌ إِنْ رَأَتْنِي شَاحِبًا ... تَقُولُ لِشَيْءٍ لَوَّحَتْهُ السَّمَائِمُ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: اللُّوحُ: شِدَّةُ الْعَطَشِ، لَاحَهُ الْعَطَشُ وَلَوَّحَهُ غَيَّرَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: سَقَتْنِي عَلَى لُوحٍ مِنَ الْمَاءِ شَرْبَةً ... سَقَاهَا بِهِ اللَّهُ الرِّهَامَ الْغَوَادِيَا

وَيُقَالُ: الْتَاحَ، أَيْ عَطِشَ. الْقَسْوَرَةُ: الرُّمَاةُ وَالصَّيَّادُونَ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ أَوِ الْأَسَدُ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ، قَالَ: مُضْمَرٌ تَحَدَّرَهُ الْأَبْطَالُ ... كَأَنَّهُ الْقَسْوَرَةُ الرِّيبَالُ أَوِ الرِّجَالُ الشِّدَادُ، قَالَ لَبِيدٌ: إِذَا مَا هَتَفْنَا هَتْفَةً فِي نَدِيِّنَا ... أَتَانَا الرِّجَالُ الصَّائِدُونَ الْقَسَاوِرُ أَوْ ظُلْمَةُ أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا ظُلْمَةُ آخِرِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَثَعْلَبٌ. يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ، فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِإِجْمَاعٍ. وَفِي التَّحْرِيرِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا آيَةً وَهِيَ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ فِي مَا قَبْلَهَا ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ «1» ، وَفِيهِ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ «2» ، فَنَاسَبَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ، وَنَاسَبْ ذِكْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدُ، وَذَكَرَ بَعْضَ الْمُكَذِّبِينَ فِي قَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. قَالَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا فَزِعَ مِنْ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَرُعِبَ مِنْهُ، رَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي دَثِّرُونِي، نَزَلَتْ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وعائشة: نُودِيَ وَهُوَ فِي حَالٍ تَدَثُّرِهِ، فَدُعِيَ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ تَدَثَّرَ فِي قَطِيفَةٍ. قِيلَ: وَكَانَ يَسْمَعُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا كَرِهَهُ، فَاغْتَمَّ وَتَغَطَّى بِثَوْبِهِ مُفَكِّرًا، فَأُمِرَ أَنْ لَا يَدَعَ إِنْذَارَهُمْ وَإِنْ أَسْمَعُوهُ وَآذَوْهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ لِلنُّبُوَّةِ وَأَثْقَالِهَا، كَمَا قَالَ فِي

_ (1) سُورَةِ المزمل: 73/ 11. (2) سورة المزمل: 73/ 19. [.....]

الْمُزَّمِّلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُدَّثِّرُ بِشَدِّ الدَّالِ. وَأَصْلُهُ الْمُتَدَثِّرُ فَأُدْغِمَ، وَكَذَا هُوَ فِي حِرَفِ أُبَيٍّ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، كما قرىء بِتَخْفِيفِ الزَّايِ فِي الْمُزَّمِّلِ، أَيْ دَثَّرَ نَفْسَهُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا: فَتْحُ التَّاءِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَقَالَ: دَثَّرْتُ هَذَا الْأَمْرَ وَعُصِبَ بِكَ. قُمْ فَأَنْذِرْ: أَيْ قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، أَوْ قُمْ بِمَعْنَى الْأَخْذِ فِي الشَّيْءِ، كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ يَضْرِبُ عَمْرًا، أَيْ أَخَذَ، وَكَمَا قَالَ: عَلَامَ قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ أَيْ أَخَذَ، وَالْمَعْنَى قُمْ قِيَامَ تَصْمِيمٍ وَجِدٍّ، فَأَنْذِرْ: أَيْ حَذِّرْ عَذَابَ اللَّهِ وَوَقَائِعَهُ، وَالْإِنْذَارُ عَامٌّ بِجَمِيعِ النَّاسِ وَبَعَثَهُ إِلَى الْخَلْقِ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: أَيْ فَعَظِّمْ كِبْرِيَاءَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاخْتَصَّ رَبُّكَ بِالتَّكْبِيرِ، وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْكِبْرِيَاءِ، وَأَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا كَانَ فَلَا تَدَعْ تَكْبِيرَهُ. انْتَهَى. وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَدَّرَهُ النُّحَاةُ فِي قَوْلِكَ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، قَالُوا تَقْدِيرُهُ: تَنَبَّهْ فَاضْرِبْ زَيْدًا، فَالْفَاءُ هِيَ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَهَذَا الْأَمْرُ إِمَّا مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَإِمَّا الشَّرْطُ بَعْدَهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ عِنْدَ النُّحَاةِ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، لِأَنَّ طَهَارَةَ الثِّيَابِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَيَقْبُحُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُ الْمُؤْمِنِ نَجِسَةً، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا الثِّيَابُ حَقِيقَةً هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ مِنْ ثِيَابِ الْمُصَلِّي. وَقِيلَ: تَطْهِيرُهَا: تَقْصِيرُهَا، وَمُخَالَفَةُ الْعَرَبِ فِي تَطْوِيلِ الثِّيَابِ وَجَرِّهِمُ الذُّيُولَ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ وَالتَّكَبُّرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: ثُمَّ رَاحُوا عَبِقَ الْمِسْكُ بِهِمْ ... يُلْحِفُونَ الْأَرْضَ هُدَّابِ الْأُزُرِ وَلَا يُؤْمَنُ مِنْ إِصَابَتِهَا النَّجَاسَةُ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جَنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ» . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الثِّيَابَ هُنَا مَجَازٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: تَطْهِيرُهَا أَنْ لَا تَكُونَ تَتَلَبَّسُ بِالْقَذَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: كَنَّى بِالثِّيَابِ عَنِ الْقَلْبِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تنسلي أَيْ قَلْبِي مِنْ قَلْبِكِ وَعَلَى الطَّهَارَةِ مِنَ الْقَذَرِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ: إِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ خِزْيَةٍ أَتَقَنَّعُ

وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ طَهَارَةِ الْعَمَلِ، الْمَعْنَى: وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ خَبِيثَ الْعَمَلِ قَالُوا: فُلَانٌ خَبِيثُ الثِّيَابِ وَإِذَا كَانَ حَسَنَ الْعَمَلِ قَالُوا: فُلَانٌ طَاهِرٌ الثِّيَابِ، وَنَحْوُ هَذَا عَنِ السُّدِّيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لاهم إِنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ ... أَوْ ذَمَّ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ أَيْ: دَنَّسَهُ بِالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: كَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثِّيَابِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ وَقَالَ آخَرُ: ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طُهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ بِيضٌ سَافِرٌ غِرَّانِ أَيْ: أَنْفُسُهُمْ. وَقِيلَ: كَنَّى بِهَا عَنِ الْجِسْمِ. قَالَتْ لَيْلَى وَقَدْ ذَكَرَتْ إِبِلًا: رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ فَلَا نَرَى ... لَهَا شَبَهًا إِلَّا النَّعَامَ الْمُنَفَّرَا أَيْ: رَكِبُوهَا فَرَمَوْهَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ الْأَهْلِ، قَالَ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ «1» ، وَالتَّطَهُّرُ فِيهِنَّ اخْتِيَارُ المؤمنات العفائف. وقيل: ووطئهن فِي الْقُبُلِ لَا فِي الدُّبُرِ، فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ، حَكَاهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ الْخُلُقِ، أَيْ وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَيَحْيَى مَا يُلَائِمُ سوء خُلْقٍ ... وَيَحْيَى طَاهِرُ الْأَثْوَابِ حُرُّ أَيْ: حَسَنُ الْأَخْلَاقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالرِّجْزَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو شَيْبَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ وَحَفْصٌ: بِضَمِّهَا، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، يُرَادُ بِهِمَا الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ. وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلْبَيْنِ وَالنَّقَائِصِ وَالْفُجُورِ، وَالضَّمُّ لِصَنَمَيْنِ أَسَافٌ وَنَائِلَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: لِلْأَصْنَامِ عُمُومًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّجْزُ: السُّخْطُ، أَيِ اهْجُرْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ، وَالْمَعْنَى فِي الْأَمْرِ: اثْبُتْ وَدُمْ عَلَى هَجْرِهِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الرُّجْزُ: الْإِثْمُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الْعَذَابُ، أَيِ اهْجُرْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تَمْنُنْ، بِفَكِّ التَّضْعِيفِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِشَدِّ النُّونِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَا تُعْطِ عَطَاءً لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَّ إذا أعطى. قال

_ (1) سورة البقرة: 2/ 187.

الضَّحَّاكُ: هَذَا خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُبَاحٌ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، لَكِنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَا تَقُلْ دَعَوْتُ فَلَمْ أُجَبْ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لَا تُدْلِ بِعَمَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: لَا تَمْنُنْ بِنُبُوَّتِكَ، تَسْتَكْثِرُ بِأَجْرٍ أَوْ كَسْبٍ تَطْلُبُهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَمْنُنْ عَلَى اللَّهِ بِجِدِّكَ، تَسْتَكْثِرُ أَعْمَالَكَ وَيَقَعُ لَكَ بِهَا إِعْجَابٌ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مِنَ الْمَنِّ تَعْدَادُ الْيَدِ وَذِكْرُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ مَا حَمَّلْنَاكَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، أَوْ تَسْتَكْثِرُ مِنَ الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَبْلٌ مَتِينٌ: أَيْ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: وَلَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا رَائِيًا لِمَا تُعْطِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَسْتَكْثِرُ بِرَفْعِ الرَّاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ مُسْتَكْثِرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي الرَّفْعِ أَنْ تُحْذَفَ أن وَيَبْطُلُ عَمَلُهَا، كَمَا رُوِيَ: أَحْضَرُ الْوَغَى بِالرَّفْعِ. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَنَا مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ مَعَ صِحَّةِ الْحَالِ، أَيْ مُسْتَكْثِرًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ تَمْنُنْ، أَيْ لَا تَسْتَكْثِرُ، كَقَوْلِهِ: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: يَلْقَ» ، وَكَقَوْلِهِ: مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا وَيَكُونُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى «3» ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَانِّ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مَا يعطي أن تراه كَثِيرًا وَيَعْتَدَّ بِهِ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تشبه ثرو بعضد فَتُسَكَّنُ تَخْفِيفًا وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الْوَقْفِ، يَعْنِي فَيَجْرِي الْوَصْلُ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ رَاجِحٌ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُبْدَلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَالْأَعْمَشُ: تَسْتَكْثِرَ بِنَصْبِ الرَّاءِ، أَيْ لَنْ تُحَقِّرَهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْ تَسْتَكْثِرَ، بِإِظْهَارِ أَنْ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ: أَيْ لِوَجْهِ رَبِّكَ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، فَيَتَنَاوَلُ الصَّبْرَ عَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ، وَعَلَى أَدَاءِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَذَى الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَكُلٌّ مَصْبُورٌ عَلَيْهِ وَمَصْبُورٌ عَنْهُ يَنْدَرِجُ فِي الصَّبْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُقِرَ لِلتَّسَبُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمٌ عَسِيرٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ عَاقِبَةَ أَذَاهُمْ وَتَلْقَى عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ فِي فَذلِكَ لِلْجَزَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ انْتَصَبَ إِذَا، وَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَقَعَ يَوْمئِذٍ ظَرْفًا ليوم عَسِيرٌ؟ قُلْتُ: انْتَصَبَ إِذَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، عَسَرَ الْأَمْرُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالَّذِي أَجَازَ وقوع يومئذ ظرفا ليوم عَسِيرٌ أَنَّ الْمَعْنَى: فَذَلِكَ وقت النقر

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 69. (2) سورة الفرقان: 25/ 68. (3) سورة البقرة: 2/ 264.

وُقُوعُ يَوْمٍ عَسِيرٍ، لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي وَيَقَعُ حِينَ يُنْقَرُ فِي النَّاقُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ مَبْنِيًّا مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَوْمٌ عَسِيرٌ خَبَرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَوْمُ النَّقْرِ يَوْمٌ عَسِيرٌ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: غَيْرُ يَسِيرٍ، وَعَسِيرٌ مُغْنٍ عَنْهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا قَالَ عَلَى الْكافِرِينَ فَقَصَرَ الْعُسْرَ عَلَيْهِمْ، قَالَ غَيْرُ يَسِيرٍ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَسِيرًا هَيِّنًا، فَيَجْمَعُ بَيْنَ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ وَزِيَادَةِ غَيْظِهِمْ وَبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَسْلِيَتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَسِيرٌ لَا يُرْجَى أَنْ يَرْجِعَ يَسِيرًا، كَمَا يُرْجَى بِيَسِيرٍ الْعَسِيرُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فَإِذا، إذا متعلقة بأنذر، أَيْ فَأَنْذِرْهُمْ إِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورَةِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَجْرِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ إِذَا مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فَذَلِكَ وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ. فَأَمَّا يَوْمئِذٍ فَظَرْفٌ لِذَلِكَ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الْكَافِرِينَ بيسير، أَيْ غَيْرُ يَسِيرٍ، أَيْ غَيْرُ سَهْلٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ الْعَامِلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ غَيْرُ عَلَى الْعَامِلِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ فَيَقُولُ: أَنَا بِزَيْدٍ غَيْرُ رَاضٍ. ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً: لَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْوَحِيدِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي مَالِهِ وَشَرَفِهِ فِي بَيْتِهِ. وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ وَحِيدًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ عَلَى مَنْ، أَيْ خَلَقْتُهُ مُنْفَرِدًا ذَلِيلًا قَلِيلًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدٌ، فَآتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَكَفَرَ نِعْمَتَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِدِينِهِ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي ذَرْنِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَيْ ذَرْنِي وَحْدِي مَعَهُ، فَأَنَا أَجْزِيكَ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ أَوْ حَالٌ مِنَ التَّاءِ فِي خَلَقْتُ، أَيْ خَلَقْتُهُ وَحْدِي لَمْ يُشْرِكْنِي فِي خَلْقِي أَحَدٌ، فَأَنَا أُهْلِكُهُ لَا أَحْتَاجُ إِلَى نَاصِرٍ فِي إِهْلَاكِهِ. وَقِيلَ: وَحِيدًا لَا يُتَبَيَّنُ أَبُوهُ. وَكَانَ الْوَلِيدُ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ دَعِيٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «1» ، وَإِذَا كَانَ يُدْعَى وَحِيدًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ وَحِيدًا لَا نَظِيرَ لَهُ. وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا لُقِّبَ بِذَلِكَ صَارَ عَلَمًا، وَالْعَلَمُ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى صِفَةً، وأَيْضًا فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَحِيدٌ فِي الْكُفْرِ وَالْخُبْثِ وَالدَّنَاءَةِ. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ له بين مكة والطائف إِبِلٌ وَحُجُورٌ وَنِعَمٌ وَجِنَانٌ وعبيد وَجَوَارٍ. وَقِيلَ: كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَضَرْعٍ وَتِجَارَةٍ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: الْمَالُ الْمُدُودُ هُوَ الْأَرْضُ لِأَنَّهَا مُدَّتْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ الرَّيْعُ الْمُسْتَغَلُّ مُشَاهَرَةً، فَهُوَ مَدٌّ فِي الزَّمَانِ لَا يَنْقَطِعُ. وَقِيلَ: هُوَ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ وَاضْطَرَبُوا فِي

_ (1) سورة القلم: 68/ 13.

تعيينه. فما قِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكُلُّ هَذَا تَحَكُّمٌ. وَبَنِينَ شُهُوداً: أي حضورا معه بمكة لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ لِغِنَاهُمْ فَهُوَ مُسْتَأْنِسٌ بِهِمْ، أَوْ شُهُودًا: أَيْ رِجَالًا يَشْهَدُونَ مَعَهُ الْمَجَامِعَ وَالْمَحَافِلَ، أَوْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا يُتَحَاكَمُ فِيهِ وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِهِمْ، فَذُكِرَ مِنْهُمْ: خَالِدٌ وَهِشَامٌ وَعِمَارَةُ، وَقَدْ أَسْلَمُوا وَالْوَلِيدُ وَالْعَاصِي وَقَيْسٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَمَا زَالَ الْوَلِيدُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَ نُزُولِهَا فِي نَقْصٍ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى هَلَكَ. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً: أَيْ وَطَّأْتُ وَهَيَّأْتُ وَبَسَطْتُ لَهُ بِسَاطًا حَتَّى أَقَامَ بِبَلْدَتِهِ مُطْمَئِنًّا يُرْجَعُ إِلَى رَأْيِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَّعْتُ لَهُ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَهَّدْتُ لَهُ الْمَالَ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا يُمَهَّدُ الْفِرَاشُ. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ: أَيْ عَلَى مَا أَعْطَيْتُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ. كَلَّا: أَيْ لَيْسَ يَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ بِالنِّعَمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إن كان محمدا صَادِقًا فَمَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا لِي. ثُمَّ يَطْمَعُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتِبْعَادٌ لِطَمَعِهِ وَاسْتِنْكَارٌ، أَيْ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا أُوتِيَ كَثْرَةً وَسَعَةً، كَلَّا: قَطْعٌ لِرَجَائِهِ وَرَدْعٌ. انْتَهَى. وَطَمَعُهُ فِي الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَبْشَعِهِ وَحُبِّهِ لِلدُّنْيَا. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً: تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ لَا يُزَادُ؟ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ يُعَانِدُ آيَاتِ الْمُنْعِمِ وَكَفَرَ بِذَلِكَ، وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَزِيدَ وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً إِلَى آخِرِ مَا آتَاهُ اللَّهُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ لِحَدِيثِهِ فِي الْقُرْآنِ وَزَعْمِهِ أَنَّهُ سِحْرٌ. سَأُرْهِقُهُ: أَيْ سَأُكَلِّفُهُ وَأُعْنِتُهُ بِمَشَقَّةٍ وَعُسْرٍ، صَعُوداً: عَقَبَةً فِي جَهَنَّمَ، كُلَّمَا وُضِعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ ذَابَ ثُمَّ يَعُودُ، وَالصَّعُودُ فِي اللُّغَةِ: الْعَقَبَةُ الشَّاقَّةُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ عَنِيدٍ فِي سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ: رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ حَاجَّ أَبَا جَهْلٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، فَخَالَفُوهُ وَقَالُوا: هُوَ شِعْرٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ هَزَجَهُ وَبَسِيطَهُ، قَالُوا: فَهُوَ كَاهِنٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ، قَالُوا: هُوَ مَجْنُونٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ وَخَنْقَهُ، قَالُوا: هُوَ سِحْرٌ، قَالَ: أَمَّا هَذَا فَيُشْبِهُ أَنَّهُ سِحْرٌ وَيَقُولُ أَقْوَالَ نَفْسِهِ. وَرُوِيَ هَذَا بِأَلْفَاظٍ غَيْرِ هذا وَيَقْرُبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَفِيهِ: وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْكَذِبِ؟ فَقَالُوا: فِي

كُلِّ ذَلِكَ اللَّهُمَّ لَا، ثُمَّ قَالُوا: فَمَا هُوَ؟ فَفَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا سَاحِرٌ. أَمَا رَأَيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَوَالِيهِ؟ وَمَا الَّذِي يَقُولُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثِرُهُ عَنْ مِثْلِ مُسَيْلِمَةَ وَعَنْ أَهْلِ بَابِلَ، فَارْتَجَّ النَّادِي فَرَحًا وَتَفَرَّقُوا مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ سَمِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَعْجَبَهُ وَمَدَحَهُ، ثُمَّ سَمِعَ كَذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى كَادَ أَنْ يُقَارِبَ الْإِسْلَامَ. وَدَخَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِرَارًا، فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا وَلِيدُ، أَشَعَرْتَ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ ذَمَّتْكَ بِدُخُولِكَ إِلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَزَعَمَتْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَقْصِدُ أَنْ تَأْكُلَ طَعَامَهُ؟ وَقَدْ أَبْغَضَتْكَ لِمُقَارَبَتِكَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ، وَمَا يُخَلِّصُكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنْ تَقُولَ فِي هَذَا الْكَلَامِ قَوْلًا يُرْضِيهِمْ، فَفَتَنَهُ أَبُو جَهْلٍ فَافْتَتَنَ وَقَالَ: أَفْعَلُ. إِنَّهُ فَكَّرَ: تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّهُ فَكَّرَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، بَيَانًا لِكُنْهِ عِنَادُهُ وَفَكَّرَ، أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ أَتَى بِهِ، وقَدَّرَ: أَيْ فِي نَفْسِهِ مَا يَقُولُ فِيهِ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، قُتِلَ: لُعِنَ، وَقِيلَ: غُلِبَ وَقُهِرَ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: لسهميك في أعسار قَلْبٍ مُقَتَّلِ أَيْ مُذَلَّلٌ مَقْهُورٌ بِالْحُبِّ، فَلُعِنَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ وَغُلِبَ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ بِقَهْرِهِ وَذِلَّتِهِ، وكَيْفَ قَدَّرَ مَعْنَاهُ: كَيْفَ قَدَّرَ مَا لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ وَمَا لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَدِّرَهُ عَاقِلٌ؟ وَقِيلَ: دُعَاءٌ مُقْتَضَاهُ الِاسْتِحْسَانُ وَالتَّعَجُّبُ. فَقِيلَ ذَلِكَ لِمَنْزَعِهِ الْأَوَّلِ فِي مَدْحِهِ الْقُرْآنَ، وَفِي نَفْيِهِ الشِّعْرَ وَالْكَهَانَةَ وَالْجُنُونَ عَنْهُ، فَيَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: قَاتَلَ اللَّهُ كُثَيِّرًا، كَأَنَّهُ رَآنَا حِينَ قَالَ كَذَا. وَقِيلَ: ذَلِكَ لِإِصَابَتِهِ مَا طَلَبَتْ قُرَيْشٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: ذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ حِكَايَةٌ لِمَا كَرَّرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، تَهَكُّمًا بِهِمْ وَبِإِعْجَابِهِمْ بِتَقْدِيرِهِ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِقَوْلِهِ، وَهَذَا فِيهِ بَعْدُ. وَقَوْلُهُمْ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ اسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ الْمَبْلَغَ الَّذِي يُحْسَدُ عَلَيْهِ وَيُدْعَى عَلَيْهِ مِنْ حُسَّادِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي كَيْفَ قَدَّرَ فِي مَعْنَى: مَا أَعْجَبَ تَقْدِيرَهُ وَمَا أَغْرَبَهُ، كَقَوْلِهِمْ: أَيُّ رَجُلٍ زَيْدٌ؟ أَيْ مَا أَعْظَمَهُ. وَجَاءَ التَّكْرَارُ بِثُمَّ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى لِلتَّرَاخِي الَّذِي بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ دَعَى عَلَيْهِ أَوَّلًا وَرَجَى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ مَا كَانَ يَرُومُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَدَعَى عَلَيْهِ ثَانِيًا، ثُمَّ نَظَرَ: أَيْ فَكَّرَ ثَانِيًا. وَقِيلَ: نَظَرَ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ: أَيْ قَطَّبَ وَكَلَحَ لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ. وَقِيلَ: قَطَّبَ فِي وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَدْبَرَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقِيلَ: أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَكْبَرَ، قِيلَ: تَشَارَسَ مُسْتَكْبِرًا، وَقِيلَ: اسْتَكْبَرَ عَنِ

الْحَقِّ، وَصَفَهُ بِالْهَيْئَاتِ الَّتِي تُشْكِلُ بِهَا حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مَا قَالَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، إِذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا، لَكَانَ لَهُ هَيْئَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنْ فَرَحِ الْقَلْبِ وَظُهُورِ السُّرُورِ وَالْجَذَلِ وَالْبِشْرِ فِي وَجْهِهِ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا الْفِكْرِ لِأَنَّ الْحَقَّ أَبْلَجُ يَتَّضِحُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِكْدَادِ فِكْرٍ وَلَا إِبْطَاءِ تَأَمُّلٍ. أَلَا تَرَى إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَقَوْلِهِ حِينَ رَأَى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَأَسْلَمَ مِنْ فَوْرِهِ. وَقِيلَ: ثُمَّ نَظَرَ فِيمَا يَحْتَجُّ بِهِ لِلْقُرْآنِ، فَرَأَى مَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ وَالْإِعْلَامِ بِمَرْتَبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَامَ نَظَرُهُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، دَلَالَةً عَلَى تَأَنِّيهِ وَتَمَهُّلِهِ فِي تَأَمُّلِهِ، إِذْ بَيْنَ ذَلِكَ تَرَاخٍ وَتَبَاعُدٌ. وَكَانَ الْعَطْفُ فِي وَبَسَرَ وَفِي وَاسْتَكْبَرَ، لِأَنَّ الْبُسُورَ قَرِيبٌ مِنَ الْعُبُوسِ، فَهُوَ كَأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالِاسْتِكْبَارِ يَظْهَرُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِدْبَارِ، إِذِ الِاسْتِكْبَارُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ، وَالْإِدْبَارُ حَقِيقَةٌ مِنْ فِعْلِ الْجِسْمِ، فَهُمَا سَبَبٌ وَمُسَبِّبٌ، فَلَا يُعْطَفُ بِثُمَّ وَقَدَّمَ الْمُسَبِّبَ عَلَى السَّبَبِ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ لِلَعَيْنِ، وَنَاسَبَ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ وَكَانَ الْعَطْفُ فِي فَقَالَ بِالْفَاءِ دَلَالَةً عَلَى التَّعْقِيبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ تَطَلُّبِهِ، لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ نَطَقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَمَهُّلٍ. وَمَعْنَى يُؤْثَرُ: يُرْوَى وَيُنْقَلُ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَقُلْتُ مِنَ الْقَوْلِ مَا لَا يَزَا ... لُ يُؤْثَرُ عَنِّي بِهِ الْمُسْنَدُ وَقِيلَ: يُؤْثَرُ أَيْ يُخْتَارُ وَيُرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ السِّحْرِ فَيَكُونُ مِنَ الْإِيثَارِ، وَمَعْنَى إِلَّا سِحْرٌ: أَيْ شَبِيهٌ بِالسِّحْرِ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ: تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ يُلْتَقَطُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ كُفْرَ الْوَلِيدِ إِنَّمَا هُوَ عِنَادً. أَلَا تَرَى ثَنَاءَهُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَنَفْيَهُ عَنْهُ جَمِيعَ مَا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالْجُنُونِ، وَقِصَّتُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَيْهِ أَوَائِلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «1» ، وَكَيْفَ نَاشَدَهُ اللَّهَ بِالرَّحِمِ أَنْ يَسْكُتَ؟ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ مِنْ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ اعْتَقَبَتْ كل واحدة، منهما فتوعد عَلَى سَبِيلِ التَّوَعُّدِ الْعِصْيَانَ الَّذِي قَبْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَتَوَعَّدَ عَلَى كَوْنِهِ عَنِيدًا لِآيَاتِ اللَّهِ بِإِرْهَاقِ صَعُودٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِإِصْلَائِهِ سَقَرَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَقَرَ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْقَمَرِ. وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ: تَعْظِيمٌ لِهَوْلِهَا وَشِدَّتِهَا، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ: أَيْ لَا تُبْقِي عَلَى مَنْ أُلْقِيَ فِيهَا، وَلَا تَذْرُ غَايَةً مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَوْصَلَتْهُ إِلَيْهِ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو رَزِينٍ وَالْجُمْهُورُ: معناه مغيرة

_ (1) سورة فصلت: 41/ 13.

لِلْبَشَرَاتِ مُحْرِقَةٌ لِلْجُلُودِ مُسَوِّدَةً لَهَا، وَالْبَشَرُ جَمْعُ بَشَرَةٍ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: لَاحَتِ النَّارُ الشَّيْءَ إِذَا أَحْرَقَتْهُ وَسَوَّدَتْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: لَوَّاحَةٌ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ مِنْ لَاحَ إِذَا ظَهَرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَهُمُ الْبَشَرُ، مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَذَلِكَ لِعِظَمِهَا وَهَوْلِهَا وَزَجْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «1» ، وَقَوْلِهِ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى «2» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَوَّاحَةٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ هِيَ لَوَّاحَةٌ. وَقَرَأَ الْعَوْفِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لِوَاحَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ، لِأَنَّ النَّارَ الَّتِي لَا تُبْقِي وَلَا تَذْرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مُغَيِّرَةً لِلْأَبْشَارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِلتَّهْوِيلِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ: التَّمْيِيزُ مَحْذُوفٌ، وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مَلَكٌ. أَلَا تَرَى الْعَرَبَ وَهُمُ الْفُصَحَاءُ كَيْفَ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَلَكٌ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَسْمَعُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ، أَيَعْجِزُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الْأَشَدِّ بْنُ أُسَيْدٍ بْنِ كَلْدَةَ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ شَدِيدَ الْبَطْشِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ رِجَالًا مِنْ جِنْسِكُمْ يُطَاقُونَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «3» . وَقِيلَ: التَّمْيِيزُ الْمَحْذُوفُ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: نَقِيبًا، وَمَعْنَى عَلَيْهَا يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهَا وَإِلَيْهِمْ جِمَاعُ زَبَانِيَتهَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْعَدَدِ وَمِنَ الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ النُّقَبَاءُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» ؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ نُعُوتِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَخَلْقِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَمَا أَقْدَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ حُكْمًا عَلَى زَعْمِهِ فِي كَوْنِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تِسْعَةَ عَشَرَ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى مَشْهُورِ اللُّغَةِ فِي هَذَا الْعَدَدِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، كَرَاهَةَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ قُطَيْبٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ قُنَّةَ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ حَرَكَةُ بِنَاءٍ عُدِلَ إِلَيْهَا عَنِ الْفَتْحِ لِتَوَالِي خَمْسِ فَتَحَاتٍ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حركة إعراب

_ (1) سورة التكاثر: 102/ 6. (2) سورة النازعات: 79/ 36. (3) سورة القيامة: 75/ 34.

لَأَعْرَبَ عَشَرَ. وَقَرَأَ أَنَسٌ أَيْضًا: تِسْعَةُ بِالضَّمِّ، أَعْشُرَ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَيَجُوزُ أَنَّهُ جَمَعَ الْعَشْرَةَ عَلَى أَعْشُرٍ ثُمَّ أَجْرَاهُ مَجْرَى تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَنْهُ أَيْضًا تِسْعَةٌ وَعَشْرٌ بِالضَّمِّ، وَقَلَبَ الْهَمْزَةَ مِنْ أَعْشُرٍ وَاوًا خَالِصَةً تَخْفِيفًا، وَالْبَاءُ فِيهِمَا مَضْمُومَةٌ ضَمَّةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهَا مُعَاقِبَةٌ لِلْفَتْحَةِ، فِرَارًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ خَمْسِ حَرَكَاتٍ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قُنَّةَ، وَهُوَ أَخُو إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ قَرَأَ تِسْعَةُ أَعْشُرٍ بِضَمِّ التَّاءِ ضَمَّةَ إِعْرَابٍ وَإِضَافَتِهِ إلى أعشر، وأعشر مَجْرُورٌ مُنَوَّنٌ وَذَلِكَ عَلَى فَكِّ التَّرْكِيبِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجِيءُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أَعْشُرٍ مَبْنِيًّا أَوْ مُعْرَبًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمْعٌ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى النَّارِ تِسْعُونَ مَلَكًا. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. قال الزمخشري: وقرىء تِسْعَةُ أَعْشُرٍ جَمْعُ عَشِيرٍ، مِثْلُ يَمِينٍ وَأَيْمُنٍ. انْتَهَى. وَسُلَيْمَانُ بْنُ قُنَّةَ هَذَا هُوَ الَّذِي مَدَحَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقَائِلُ: مَرَرْتُ عَلَى أَبْيَاتِ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلَمْ أَرَ أَمْثَالًا لَهَا يَوْمَ حَلَّتِ وَكَانُوا ثِمَالًا ثُمَّ عَادُوا رَزِيَّةً ... لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتِ وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ خَلْقًا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهِمْ، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: أي سبب فتنة، وفتنة مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلْنَا، أَيْ جَعَلْنَا تِلْكَ الْعِدَّةَ، وَهِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ، سَبَبًا لِفِتْنَةِ الْكُفَّارِ، فَلَيْسَ فِتْنَةٌ مَفْعُولًا من أجله، وفتنتهم هِيَ كَوْنُهُمْ أَظْهَرُوا مُقَاوَمَتَهُمْ فِي مُغَالَبَتِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. فَإِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَبِالنَّارِ وَبِخَزَنَتِهَا. لِيَسْتَيْقِنَ: هَذَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنَا لَا بِفِتْنَةٍ. فَلَيْسَتِ الْفِتْنَةُ مَعْلُولَةً لِلِاسْتِيقَانِ، بَلِ الْمَعْلُولُ جَعَلَ العدّة سببا لفتنة الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ هُمْ يَجِدُونَ هَذِهِ الْعِدَّةَ فِي كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقْرَأْهَا وَلَا قَرَأَهَا عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّ كِتَابَهُ يُصَدِّقُ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ، إِذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ يَتَعَاضَدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَبِوُرُودِ الْحَقَائِقِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى يَزْدَادُ كُلُّ ذِي إِيمَانٍ إِيمَانًا، وَيَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ الْمُصَدِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا صَارَ جَعْلُهَا فِتْنَةً لِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ وَيَقُولُونَ: لِمَ لَمْ يَكُونُوا عِشْرِينَ؟ وَمَا الْمُقْتَضَى لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ بِالْوُجُودِ؟ وَيَقُولُونَ هَذَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ، يَقْوُونَ بِتَعْذِيبِ أَكْثَرِ الْعَالَمِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنْ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلَ افْتِتَانَ الْكَافِرِينَ بِعِدَّةِ الزَّبَانِيَةِ سَبَبًا لِاسْتِيقَانِ

أَهْلِ الْكِتَابِ وَزِيَادَةِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِهْزَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: مَا جَعَلَ افْتِتَانِهُمْ بِالْعِدَّةِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعِدَّةُ نَفْسُهَا هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ فَوَضَعَ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَوْضِعَ تِسْعَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ حَالَ هَذِهِ الْعِدَّةِ النَّاقِصَةِ وَاحِدًا مِنْ عَقْدِ الْعِشْرِينَ، أَنْ يَفْتَتِنَ بِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِحِكْمَتِهِ وَيَعْتَرِضُ ويستهزىء وَلَا يُذْعِنُ إِذْعَانَ الْمُؤْمِنِ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ عِدَّةً مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُفْتَتَنَ بِهَا لِأَجْلِ اسْتِيقَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَيْرَةِ الْكَافِرِينَ. انْتَهَى، وَهُوَ سُؤَالٌ عَجِيبٌ وَجَوَابٌ فِيهِ تَحْرِيفُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَهَذَا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ عَاقِلٌ وَلَا مِنْ لَهُ أَدْنَى ذَكَاءٍ وَكَفَى ردًّا عَلَيْهِ تَحْرِيفُ كِتَابِ اللَّهِ وَوَضْعِ أَلْفَاظٍ مُخَالِفَةٍ لِأَلْفَاظٍ وَمَعْنًى مُخَالِفٍ لِمَعْنًى. وَقِيلَ: لِيَسْتَيْقِنَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَسْتَيْقِنَ. وَلا يَرْتابَ: تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لِيَسْتَيْقِنَ، إِذْ إِثْبَاتُ الْيَقِينِ وَنَفْيُ الِارْتِيَابِ أَبْلَغُ وَآكَدُ فِي الْوَصْفِ لِسُكُونِ النَّفْسِ السُّكُونِ التَّامِّ. والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: السُّورَةُ مكية، ولم يكن بمكة نِفَاقٌ، وَإِنَّمَا الْمَرَضُ فِي الْآيَةِ: الِاضْطِرَابُ وَضَعْفُ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، أَيْ وَلِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُنَجِّمُونَ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بالمدينة بَعْدَ الْهِجْرَةِ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْعَدَدَ لَمْ يَهْتَدُوا وَحَارُوا، فَاسْتَفْهَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَسَمَّوْهُ مَثَلًا اسْتِعَارَةً مِنَ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ اسْتِغْرَابًا مِنْهُمْ لِهَذَا الْعَدَدِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْعَدَدِ الْعَجِيبِ؟ وَمُرَادُهُمْ إِنْكَارُ أَصْلِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ، كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ، فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً، كَلَّا بَلْ

لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ. الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ مَعْنَى الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى، يُضِلُّ الْكَافِرِينَ فَيَشُكُّونَ فَيَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَضَلَالًا، وَيَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَيَزِيدُهُمْ إِيمَانًا. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ: إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ مَا يُتَوَهَّمُ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ بَعْضِ الْقُدْرَةِ لَا عَنْ كُلِّهَا، وَالسَّمَاءُ عَامِرَةٌ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ سَاجِدًا» . وَما هِيَ: أَيِ النَّارُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْمُخَاطَبَةُ وَالنِّذَارَةُ، أَوْ نَارُ الدُّنْيَا، أَوِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ، أَوِ الْعِدَّةُ التِسْعَةَ عَشَرَ، أَوِ الْجُنُودُ، أَقْوَالٌ رَاجِحُهَا الْأَوَّلُ وَهِيَ سَقَرُ، ذَكَّرَ بِهَا الْبَشَرَ لِيَخَافُوا وَيُطِيعُوا. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ النَّارِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً. إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ: أَيِ الَّذِينَ أُهِّلُوا لِلتَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ. كَلَّا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا إِنْكَارٌ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا ذِكْرَى، أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى لِأَنَّهُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ. انْتَهَى. وَلَا يَسُوغُ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهَا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ، ثُمَّ يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: لِلْبَشَرِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ رَدْعٌ لِمَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا. وَقِيلَ: رَدْعٌ لِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَةِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: رَدْعٌ عَنِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْعِدَّةِ الْمَخْصُوصَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ صِلَةٌ لِلْقَسَمِ، وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِحَقًّا، وَبَعْضُهُمْ بِأَلَا الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي آخِرِ سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ. وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ: أَيْ وَلَّى، وَيُقَالُ دَبَرَ وَأَدْبَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. أَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا يَظْهَرُ بِهَا وَفِيهَا مِنْ عَجَائِبِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقِوَامُ الْوُجُودِ بِإِيجَادِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو الزناد وقتادة وَعُمَرُ بْنُ الْعَزِيزُ وَالْحَسَنُ وطلحة والنحويان والابنان وأبوبكر: إِذَا ظَرْفُ زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ دَبَرَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو شَيْخٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: إِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ مَاضٍ، أَدْبَرَ رُبَاعِيًّا وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو رَزِينٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ يَعْمُرَ أيضا والسلمي أيضا وطلحة أَيْضًا وَالْأَعْمَشُ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَمَطَرٌ: إِذَا بِالْأَلْفِ، أَدْبَرَ بِالْهَمْزِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: إِذا أَسْفَرَ، وَيُقَالُ: كَأَمْسُ الدَّابِرِ وَأَمْسُ الْمُدْبِرُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: دَبَرَ: انْقَضَى، وَأَدْبَرَ: تَوَلَّى. وَقَالَ قَتَادَةُ: دَبَرَ اللَّيْلُ: وَلَّى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَدَبَرَ بمعنى أدبر، كقبل بِمَعْنَى أَقْبَلَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ دَبَرَ اللَّيْلُ النَّهَارَ: أَخْلَفَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْفَرَ رباعيا وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَعِيسَى بْنُ الْفَضْلِ: سَفَرَ ثُلَاثِيًّا، وَالْمَعْنَى: طَرَحَ الظُّلْمَةَ عَنْ وَجْهِهِ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى النَّارِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنِّذَارَةِ، وَأَمْرُ الْآخِرَةِ فَهُوَ لِلْحَالِ وَالْقِصَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ لَإِحْدَى الْكُبَرِ، فَعَادَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَمَعْنَى إِحْدَى الْكُبَرِ: الدَّوَاهِي الْكُبَرِ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهَا، كَمَا تَقُولُ: هُوَ أَحَدُ الرِّجَالِ، وَهِيَ إِحْدَى النِّسَاءِ، وَالْكُبَرُ: الْعَظَائِمُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ. وَقَالَ الرَّاجِزُ: يَا ابْنَ الْمُعَلَّى نَزَلَتْ إِحْدَى الْكُبَرِ ... دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وَصْمَاءُ الْغِيَرِ وَالْكُبَرُ جَمْعُ الْكُبْرَى، طُرِحَتْ أَلِفُ التَّأْنِيثِ فِي الْجَمْعِ، كَمَا طُرِحَتْ هَمْزَتُهُ فِي قَاصِعَاءَ فَقَالُوا قَوَاصِعُ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالْكُبَرُ جَمْعُ كَبِيرَةٍ، وَلَعَلَّهُ مِنْ وَهْمِ النَّاسِخِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَإِحْدَى بِالْهَمْزِ، وَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ أَصْلُهُ لَوِحْدَى، وَهُوَ بَدَلٌ لَازِمٌ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ حَذْفٌ لَا يَنْقَاسُ، وَتَخْفِيفُ مِثْلِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو تعليل لكلا، وَالْقَسَمُ مُعْتَرِضٌ لِلتَّوْكِيدِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَذِيراً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، كَالنَّكِيرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، فَيَكُونُ تَمْيِيزًا: أَيْ لَإِحْدَى الْكُبَرِ إِنْذَارًا، كَمَا تَقُولُ: هِيَ إِحْدَى النِّسَاءِ عَفَافًا. كَمَا ضُمِّنَ إِحْدَى مَعْنَى أَعْظَمَ، جَاءَ عَنْهُ التَّمْيِيزُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَصْدَرٌ نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ أَنْذِرْ إِنْذَارًا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ بِمَعْنَى مُنْذِرٍ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِنَّهَا. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِحْدَى، وَمَنْ جَعَلَهُ متصلا بقم فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، أَوْ بفأنذر فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، أَوْ حَالًا مِنْ الْكُبَرِ، أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْكُبَرِ، فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الصَّوَابِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ تَقْدِيرُهُ: عَظُمَتْ نَذِيرًا. انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ نَذِيرًا، وَإِنْ كَانَ لِلنَّارِ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، يَعْنِي ذَاتَ الْإِنْذَارِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَعْنِي نَذِيرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِأُنْذِرَ، إِذْ هِيَ مِنَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ نَذِيرًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي

إِنَّهَا، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: لَإِحْدَى. قَالَ أَبُو رَزِينٍ: نَذِيرٌ هُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ ادْعُوا نَذِيرًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَذِيرٌ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ نَادِ، أَوْ بَلِّغْ، أَوْ أَعْلِنْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: نَذِيرٌ بِالرَّفْعِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ وَصْفِ النَّارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَخَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ نَذِيرٌ. وَإِنْ كَانَ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ أَوِ الرَّسُولِ، فَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِمَنْ بَدَلٌ مِنَ الْبَشَرِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَأَنْ يَتَقَدَّمَ منصوب بشاء ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ. وَقِيلَ: الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لِمَنْ شَاءَ هُوَ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ وَعِيدٌ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ بَيَانٌ فِي النِّذَارَةِ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْهُدَى وَالْحَقِّ إِذَا حَقَّقَ النَّظَرَ، إِذْ هُوَ بِعَيْنِهِ يَتَأَخَّرُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ بِغَفْلَتِهِ وَسُوءِ نَظَرِهِ. ثُمَّ قَوَّى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِ الرفع بالابتداء، ولِمَنْ شاءَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَوَضَّأَ: أَنْ يُصَلِّيَ، وَمَعْنَاهُ مُطْلَقٌ لِمَنْ شَاءَ التَّقَدُّمَ أَوِ التَّأَخُّرَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. وَالْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ: السَّبْقُ إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّخَلُّفُ عَنْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ. انْتَهَى، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ وَفِيهِ حَذْفٌ. قِيلَ: وَالتَّقَدُّمُ: الْإِيمَانُ، وَالتَّأَخُّرُ: الْكُفْرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى النَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَأْمُورَاتِ، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ نَفْسٍ حَقِيقٌ عَلَيْهَا الْعَذَابُ، وَلَا يَرْتَهِنُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَرَهِينَةٌ بِمَعْنَى رَهْنٍ، كَالشَّتِيمَةِ بِمَعْنَى الشَّتْمِ، وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ تَاءٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، نَحْوُ: رَجُلٌ قَتِيلٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَالْمَعْنَى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهْنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَبْعَدَ الَّذِي بِالنَّعْفِ نَعِفِ كُوَيْكِبٍ ... رَهِينَةُ رَمْسٍ ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ أَيْ: رَمْسُ رَهْنٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ رَهْنٌ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مَفْكُوكٍ. وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي رَهِينَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: عَلَى تَأْنِيثِ اللَّفْظِ لَا عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهَا مِمَّا دَخَلَتْ فِيهِ التَّاءُ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي الْأَصْلِ كَالنَّطِيحَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَبَرًا عَنِ الْمُذَكَّرِ كَانَ بِغَيْرِ هَاءٍ، قَالَ تَعَالَى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ «2» . فَأَنْتَ تَرَى حَيْثُ كَانَ

_ (1) سورة الكهف: 18/ 29. (2) سورة الطور: 52/ 21.

خَبَرًا عَنِ الْمُذَكَّرِ أَتَى بِغَيْرِ تَاءٍ، وَحَيْثُ كَانَ خَبَرًا عَنِ الْمُؤَنَّثِ أَتَى بِالتَّاءِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَأَمَّا الَّذِي فِي الْبَيْتِ فَأُنِّثَ عَلَى مَعْنَى النَّفْسِ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ الْمُخْلِصُونَ، لَيْسُوا بِمُرْتَهَنِينَ لِأَنَّهُمْ أَدُّوا مَا كَانَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِ الضَّحَّاكِ الَّذِي تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُمْ فَكُّوا عَنْهُ رِقَابَهُمْ بِمَا أَطَابُوهُ مِنْ كَسْبِهِمْ، كَمَا يُخَلِّصُ الرَّاهِنُ رَهْنَهُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ فِي جَنَّاتٍ، أَيْ هُمْ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ: أَيْ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يَكُونُ يَتَسَاءَلُ بِمَعْنَى يَسْأَلُ، أَيْ يَسْأَلُونَ عَنْهُمْ غَيْرَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: دَعَوْتُهُ وَتَدَاعَوْتُهُ بِمَعْنَاهُ. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ كَيْفَ جَاءَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بِالْخِطَابِ لِلْمُجْرِمِينَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، الْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يَسْأَلُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ مَنْ غَابَ مِنْ مَعَارِفِهِمْ، فَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ فِي النَّارِ قَالُوا لَهُمْ، أَوْ قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: هَكَذَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ قَائِلِينَ لَهُمْ بَعْدَ التَّسَاؤُلِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ قَوْلُهُ: مَا سَلَكَكُمْ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ لِلْمُجْرِمِينَ، قَوْلَهُ: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُطَابِقُ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ؟ قُلْتُ: مَا سَلَكَكُمْ لَيْسَ بِبَيَانٍ لِلتَّسَاؤُلِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَسْئُولِينَ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْمَسْئُولِينَ يُلْقُونَ إِلَى السَّائِلِينَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْرِمِينَ فَيَقُولُونَ: قُلْنَا لَهُمْ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ جِيءَ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ، كَمَا هُوَ نَهْجُ التَّنْزِيلِ فِي غَرَابَةِ نَظْمِهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السَّائِلِينَ هُمُ الْمُتَسَائِلُونَ، وَمَا سَلَكَكُمْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَسُؤَالُهُمْ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَهُمْ وَتَحْقِيرٍ، وَإِلَّا فَهِمَ عَالِمُونَ مَا الَّذِي أَدْخَلَهُمُ النَّارَ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِخَصَائِلِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ «1» ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «2» . وَالْيَقِينُ: أَيْ يَقِينًا عَلَى إِنْكَارِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، أَيْ وَقْتَ الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْيَقِينُ عِنْدِي صِحَّةُ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، وَذَلِكَ عِنْدِي هُنَا متعقب، لأن نفس

_ (1) سورة البلد: 90/ 11. (2) سورة البلد: 90/ 17.

الْمَوْتِ يَقِينٌ عِنْدَ الْكَافِرِ وَهُوَ حَيٌّ. وَإِنَّمَا الْيَقِينُ الَّذِي عَنَوْا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّيْءُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدُّنْيَا فَتَيَقَّنُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَتَفَسَّرُ الْيَقِينُ بِالْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» . فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشْفَعُ لَهُمْ فَلَا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْيُ الشَّفَاعَةِ فَانْتَفَى النَّفْعُ، أَيْ لَا شَفَاعَةَ شَافِعِينَ لَهُمْ فَتَنْفَعُهُمْ مِنْ بَابِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. وَتَخْصِيصُهُمْ بِانْتِفَاءِ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شَفَاعَاتٌ وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ. فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ: وَهِيَ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، مُعْرِضِينَ: أَيْ وَالْحَالُ الْمُنْتَظَرَةُ هَذِهِ الْمَوْصُوفَةُ. ثُمَّ شَبَّهَهُمْ بِالْحُمُرِ الْمُسْتَنْفِرَةِ فِي شِدَّةِ إِعْرَاضِهِمْ وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُمُرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْأَعْمَشُ: بِإِسْكَانِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ، شَبَّهَهُمْ تَعَالَى بِالْحُمُرِ مَذَمَّةً وَتَهْجِينًا لَهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مُسْتَنْفِرَةٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالْمَعْنَى: اسْتَنْفَرَهَا: فَزَعُهَا مِنَ الْقَسْوَرَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِهَا، أَيْ نَافِرَةٌ نَفَرَ، وَاسْتَنْفَرَ بمعنى عجب واستعجب وسر وَاسْتَسْخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَمْسِكْ حِمَارَكَ إِنَّهُ مُسْتَنْفِرٌ ... فِي إِثْرِ أَحْمِرَةٍ عَهِدْنَ لَعُرَّبِ وَيُنَاسِبُ الْكَسْرَ قَوْلُهُ: فَرَّتْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ: سَأَلْتُ أَبَا سِرَارٍ العتوي، وَكَانَ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا، فَقُلْتُ: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مَاذَا مُسْتَنْفِرَةٌ طَرَدَهَا قَسْوَرَةٌ؟ فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، قَالَ: أَفَرَّتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمُسْتَنْفِرَةٌ إِذَنْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: الْقَسْوَرَةُ: الرُّمَاةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ: الْأَسَدُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: رِجَالُ الْقَنْصِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَسْوَرَةُ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَالْمَعْنَى: فَرَّتْ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ نِفَارًا مِنْ حُمُرِ الْوَحْشِ، وَلِذَلِكَ شَبَّهَتْ بِهَا الْعَرَبُ الْإِبِلَ فِي سُرْعَةِ سَيْرِهَا وَخِفَّتِهَا. بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ عِظَاتِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ،

_ (1) سورة الحجر: 15/ 99. [.....]

أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً: أَيْ مَنْشُورَةٌ غَيْرُ مَطْوِيَّةٍ تُقْرَأُ كَالْكُتُبِ الَّتِي يُتَكَاتَبُ بِهَا، أَوْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاءِ نَزَلَتْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ سَاعَةَ كُتِبَتْ رَطْبَةً لَمْ تُطْوَ بَعْدُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ نَتَّبِعَكَ حَتَّى يُؤْتَى كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَّا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ عُنْوَانُهُ: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، يُؤْمَرُ فِيهَا بِاتِّبَاعِكَ، وَنَحْوُهُ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «1» . وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنْ كَانَ يُكْتَبُ فِي صُحُفٍ مَا يَعْمَلُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَلْتُعْرَضْ تِلْكَ الصُّحُفُ عَلَيْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صُحُفاً بِضَمِّ الصَّادِ وَالْحَاءِ، مُنَشَّرَةً مُشَدَّدًا وَابْنُ جُبَيْرٍ: بِإِسْكَانِهَا مُنْشَرَةً مُخَفَّفًا، وَنَشَرَ وَأَنْشَرَ مِثْلَ نَزَلَ وَأَنْزَلُ. شَبَّهَ نَشْرَ الصَّحِيفَةِ بِإِنْشَارِ اللَّهِ الموتى، فعبر عنه بمنشرة مِنْ أَنُشِرَتْ، وَالْمَحْفُوظُ فِي الصَّحِيفَةِ وَالثَّوْبِ نُشِرَ مُخَفَفًّا ثُلَاثِيًّا، وَيُقَالُ فِي الْمَيِّتِ: أَنْشَرَهُ اللَّهُ فَنُشِرَ هُوَ، أَيْ أَحْيَاهُ فَحَيِيَ. كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ إِرَادَتِهِمْ تِلْكَ وَزَجْرٌ لَهُمْ عَنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ، وَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّذْكِرَةِ لَا لِامْتِنَاعِ إِيتَاءِ الصُّحُفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخافُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ الْتَفَاتًا. كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ، إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ: ذِكْرٌ فِي إِنَّهِ وَفِي ذِكْرِهِ، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ ذِكْرٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ: تَذْكِرَةٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ سَاكِنَةِ الذَّالِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وعيسى وَالْأَعْرَجُ: بِالْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ: يَذَّكَّرُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الذَّالِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: تَذَّكَّرُونَ بِالتَّاءِ وَإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الذَّالِ. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى: أَيْ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَيُخَافَ، وَأَهْلٌ أَنْ يَغْفِرَ. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «يَقُولُ لَكُمْ رَبُّكُمْ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَظَمَتُهُ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَلَا يُجْعَلُ يُتَّقَى إِلَهٌ غَيْرِي، وَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِيَ إِلَهًا غَيْرِي فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَعْنِي: إِلَّا أَنْ يُقْسِرَهُمْ عَلَى الذِّكْرِ وَيُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اخْتِيَارًا.

_ (1) سُورَةُ الإسراء: 17/ 93.

سورة القيمة

سورة القيمة [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لَا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) بَرِقَ بِكَسْرِ الرَّاءِ: فَزِعَ وَدَهِشَ، وَأَصْلُهُ مِنْ بَرِقَ الرَّجُلُ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ ... لِعَيْنَيْهِ مَيٌّ سَافِرًا كَادَ يَبْرُقُ قَالَ الْأَعْشَى: وَكُنْتُ أَرَى فِي وَجْهِ مِيَّةَ لُمْحَةً ... فَأُبْرِقُ مَغْشِيًّا عَلِيَّ مَكَانِيَا وَبَرَقَ بِفَتْحِ الرَّاءِ: شُقَّ بَصَرُهُ، وَهُوَ مِنَ الْبَرِيقِ، أَيْ لَمَعَ بَصَرُهُ مِنْ شِدَّةِ شُخُوصِهِ. الْوِزْرُ: مَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ حِصْنٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرُكَ مَا لِلْفَتَى مِنْ وِزْرٍ ... مِنَ الْمَوْتِ يُدْرِكُهُ وَالْكِبَرُ النَّضِرَةُ: النِّعْمَةُ وَجَمَالُ الْبَشَرَةِ وَطَرَاوَتِهَا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَبَى لِي قَبْرٌ لَا يَزَالُ مُقَابَلِي ... وَضَرْبَةُ فَأْسٍ فَوْقَ رَأْسِي فَاقِرَهْ أَيْ: مُؤَثِّرَةٌ. التَّرَاقِي جَمْعُ تَرْقُوَةٍ: وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ تَرْقُوَتَانِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَشْرَجَةِ، قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: وَرُبَّ عَظِيمَةٍ دَافَعْتُ عَنْهُمْ ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التَّرَاقِي رَقَى يَرْقِي مِنَ الرُّقْيَةِ، وَهِيَ مَا يُسْتَشْفَى بِهِ لِلْمَرِيضِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُعَدِّ لِذَلِكَ. تَمَطَّى: تَبَخْتَرَ فِي مِشْيَتِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَطَا وَهُوَ الظَّهْرُ، أَيْ يَلْوِي مَطَاهُ تَبَخْتُرًا. وَقِيلَ: أَصْلُهُ تَمطَّطَ: أَيْ تَمَدَّدَ فِي مِشْيَتِهِ، وَمَدَّ مَنْكِبَيْهِ، قُلِبَتِ الطَّاءُ فِيهِ حَرْفَ عِلَّةٍ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، كَمَا قَالُوا: تَظَنَّى مِنَ الظَّنِّ، وَأَصْلُهُ تَظَنَّنَ، وَالْمَطِيطَا: التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ، وَالْمَطِيطُ: الْمَاءُ الْحَاثِرُ فِي أَسْفَلِ الْحَوْضِ، لِأَنَّهُ يَتَمَطَّطُ فِيهِ، أَيْ يَمْتَدُّ وَعَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ لَا يَكُونُ أَصْلُهُ مِنَ الْمَطِّ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ، إِذْ مَادَّةُ المطام ط و، وَمَادَّةُ تَمَطَّطَ م ط ط. سُدًى: مُهْمَلٌ، يُقَالُ إِبِلٌ سُدًى: أَيْ مُهْمَلَةٌ تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ بِلَا رَاعٍ، وَأَسْدَيْتُ الشَّيْءَ: أَيْ أَهْمَلْتُهُ، وَأَسْدَيْتُ حَاجَتِي: ضَيَّعْتُهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ جَهْدَ الْيَمِينِ ... مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا سُدَى وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ فِي الْمَقْصُورَةِ: لَمْ أَرَ كَالْمُزْنِ سَوَامًا بُهْلًا ... تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً. وَهِيَ سُدَى لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ، بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ، يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ

الْمَفَرُّ، كَلَّا لَا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ، بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ، كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ مَنْ راقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ، فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا قَوْلَهُ: كَلَّا بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ «1» ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَذَكَرَ هُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُمَلًا مِنْ أَحْوَالِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا أُقْسِمُ. وَالْخِلَافُ فِي لَا، وَالْخِلَافُ فِي قِرَاءَاتِهَا فِي أَوَاخِرِ الْوَاقِعَةِ. أَقْسَمَ تَعَالَى بِيَوْمِ القيامة لعظمه وهوله. ولا أُقْسِمُ، قِيلَ: لَا نَافِيَةٌ، نَفَى أَنْ يُقْسِمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وَأَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، نَصَّ عَلَى هَذَا الْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِالْأَمْرَيْنِ. وَاللَّوَّامَةُ، قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الَّتِي تَلُومُ صَاحِبَهَا فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ عَلَى هَذَا مَمْدُوحَةٌ، وَلِذَلِكَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنِ مُجَاهِدٍ، تَلُومُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَنْدَمَ عَلَى الشَّرِّ لِمَ فَعَلَتْهُ، وَعَلَى الْخَيْرِ لِمَ لَمْ تَسْتَكْثِرْ مِنْهُ. وَقِيلَ: النَّفْسُ الْمُتَّقِيَةُ الَّتِي تَلُومُ النُّفُوسَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى تَقْصِيرِهِنَّ فِي التَّقْوَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْفَاجِرَةُ الْخَشِعَةُ اللَّوَّامَةُ لِصَاحِبِهَا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ سَعْيِ الدُّنْيَا وَأَعْرَاضِهَا، فَهِيَ عَلَى هَذَا ذَمِيمَةٌ، وَيَحْسُنُ نَفْيُ الْقَسَمِ بِهَا. وَالنَّفْسُ اللَّوَّامَةُ: اسْمُ جِنْسٍ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَقِيلَ: هِيَ نَفْسٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ تَزَلْ لَائِمَةً لَهُ عَلَى فِعْلِهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُلُّ نَفْسٍ مُتَوَسِّطَةٍ لَيْسَتْ بِمُطَمْئِنَةٍ وَلَا أَمَّارَةٍ بِالسُّوءِ فَإِنَّهَا لَوَّامَةٌ فِي الطَّرَفَيْنِ، مَرَّةً تَلُومُ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، وَمَرَّةً تَلُومُ عَلَى فَوْتِ مَا تَشْتَهِي، فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ خَلَصَتْ وَصَفَتْ. انْتَهَى. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَحْوَالِ النَّفْسِ مِنْ سَعَادَتِهَا وَشَقَاوَتِهَا وَظُهُورِ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْآيَةِ، وَتَقْدِيرُهُ لِتُبْعَثُنَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ:

_ (1) سورة المدثر: 74/ 53- 54.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ «1» ، وَالْأَبْيَاتُ الَّتِي أَنْشَدْتَهَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِيهَا مَنْفِيٌّ، وَكَانَ قَدْ أَنْشَدَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: لَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ إِنِّي أَفِرُّ وَقَوْلُ غُوَيَّةَ بْنِ سُلْمَى: أَلَا نَادَتْ أُمَامَةُ بِاحْتِمَالِي ... لتحزنني فلا بك مَا أُبَالِي قَالَ: فَهَلَّا زَعَمْتَ أَنَّ لَا الَّتِي لِلْقَسَمِ زِيدَتْ مُوطِئَةً لِلنَّفْيِ بَعْدَهُ وَمُؤَكِّدَةً لَهُ، وَقَدَّرْتَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ الْمَحْذُوفَ هَاهُنَا مَنْفِيًّا، نَحْوُ قَوْلِكَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، لَا تُتْرَكُونَ سُدًى؟ قُلْتُ: لَوْ قَصَرُوا الْأَمْرَ عَلَى النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ لَكَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ مَسَاغٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقْسِمْ. أَلَا تَرَى كَيْفَ لَقَّى لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «2» بِقَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ «3» ، وَكَذَلِكَ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «4» ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «5» ؟ ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، وَهُوَ لَتُبْعَثُنَّ. انْتَهَى، وَهُوَ تَقْدِيرُ النَّحَّاسِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ. وَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْجَوَابَ: بَلى قادِرِينَ، وَمَا قِيلَ أَنَّ لَا فِي الْقَسَمَيْنِ لِنَفْيِهِمَا، أَيْ لَا أُقْسِمُ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: أَسْأَلُكَ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ؟ أَقْوَالٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ يَرِدَ بِهَا، بَلْ تُطْرَحُ وَلَا يُسَوَّدُ بِهَا الْوَرَقُ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ سَرَدُوهَا فِي الْكُتُبِ لَمْ أُنَبِّهْ عَلَيْهَا. وَالْإِنْسَانُ هُنَا الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ. رُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَتَى يَكُونُ أَمْرُهُ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ وَلَمْ أُؤْمِنْ بِهِ، أَوْ يجمع الله هذه العظام بَعْدَ بَلَاهَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، كَانَ يَقُولُ: أَيَزْعُمُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ هَذِهِ الْعِظَامَ بَعْدَ بَلَاهَا وَتَفَرُّقِهَا فَيُعِيدُهَا خَلْقًا جَدِيدًا؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَجْمَعَ بِنُونٍ، عِظامَهُ نصبا وقتادة: بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، عِظَامَهُ رَفْعًا، وَالْمَعْنَى: بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالتُّرَابِ وَتَطْيِيرِ الرِّيَاحِ إِيَّاهَا فِي أَقَاصِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ، حَيْثُ يُنْكِرُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ. بَلى: جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ المنسخب عَلَى النَّفْيِ، أَيْ بَلَى نجمعها. وذكر

_ (1) سورة النساء: 4/ 65. (2) سورة البلد: 90/ 1. (3) سورة البلد: 90/ 4. (4) سورة الواقعة: 56/ 75. (5) سورة الواقعة: 56/ 78.

الْعِظَامَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى إِعَادَةَ الْإِنْسَانِ وَجَمْعَ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ، لِأَنَّ الْعِظَامَ هِيَ قَالَبُ الْخَلْقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قادِرِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ يَجْمَعُهَا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ السميفع: قَادِرُونَ، أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ. عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ: وَهِيَ الْأَصَابِعُ، أَكْثَرُ الْعِظَامِ تَفَرُّقًا وَأَدَقُّهَا أَجْزَاءً، وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي فِي الْأَنَامِلِ وَمَفَاصِلِهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْبَعْثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى نَجْعَلُهَا فِي حَيَاتِهِ هَذِهِ بُضْعَةً، أَوْ عَظْمًا وَاحِدًا كَخُفِّ الْبَعِيرِ لَا تَفَارِيقَ فِيهِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا فَتَقِلُّ مَنْفَعَتُهُ بِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ تَوَعُّدٌ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ رَصْفِ الْكَلَامِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِأَلْفَاظٍ مُنَمَّقَةٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقِيلَ: قادِرِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ، أَيْ بَلَى كُنَّا قَادِرِينَ فِي الِابْتِدَاءِ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ، بَلْ: إِضْرَابٌ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يُرِيدُ إِخْبَارٌ عَنْ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ يُرِيدُ عَطْفٌ عَلَى أَيَحْسَبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ اسْتِفْهَامًا، وَأَنْ يَكُونَ إِيجَابًا عَلَى أَنْ يُضْرَبَ عَنْ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ إِلَى آخَرَ، أَوْ يُضْرَبَ عَنْ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ إِلَى مُوجِبٍ. انْتَهَى. وَهَذِهِ التَّقَادِيرُ الثَّلَاثَةُ لَا تَظْهَرُ، وَهِيَ مُتَكَلَّفَةٌ، بَلِ الْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ عَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ، لِنُبَيِّنَ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ عَدَمِ الْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِشَهَوَاتِهِ وَمَفْعُولُ يُرِيدُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ فِي لِيَفْجُرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ شَهَوَاتِهِ وَمَعَاصِيهِ لِيَمْضِيَ فِيهَا أَبَدًا قُدُمًا رَاكِبًا رَأْسَهُ مُطِيعًا أَمَلَهُ وَمُسَوِّفًا بِتَوْبَتِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: لِيَظْلِمَ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي أَمامَهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقْتَضِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي زَمَانِ وُجُودِهِ أَمَامَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلْفَهُ، فَهُوَ يُرِيدُ شَهَوَاتِهِ لِيَفْجُرَ فِي تَكْذِيبِهِ بِالْبَعْثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْقَدْرَ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَالْأَمَامُ ظَرْفُ مَكَانٍ اسْتُعِيرَ هُنَا لِلزَّمَانِ، أَيْ لِيَفْجُرَ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَسْتَقْبِلُهُ مِنْ زَمَانِ حياته. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ: أَيْ مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ؟ سُؤَالُ اسْتِهْزَاءٍ وَتَكْذِيبٍ وَتَعَنُّتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَرِقَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَنَافِعٌ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ وَهَارُونَ وَمَحْبُوبٌ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا بِفَتْحِهَا.

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَرَقَ بِالْفَتْحِ: شَقَّ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: خَفَتَ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: بَلَقَ بِاللَّامِ عِوَضَ الرَّاءِ، أَيِ انْفَتَحَ وَانْفَرَجَ، يُقَالُ: بَلَقَ الْبَابُ وَأَبْلَقْتُهُ وَبَلَّقْتُهُ: فَتَحْتُهُ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَّا الْفَرَّاءَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: بَلَقَهُ وَأَبْلَقَهُ إذا أغلفه. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَخْطَأَ الْفَرَّاءُ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ بَلَقَ الْبَابَ وَأَبْلَقَهُ إِذَا فَتَحَهُ. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بَدَلًا مِنَ الرَّاءِ، فَهُمَا يَتَعَاقَبَانِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: نَثَرَهُ وَنَثَلَهُ، وَوَجَرَ وَوَجِلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَخَسَفَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَيَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. يُقَالُ: خَسَفَ الْقَمَرُ وَخَسَفَهُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: الْكُسُوفُ ذَهَابُ بَعْضِ الضَّوْءِ، وَالْخُسُوفُ جَمِيعُهُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ: لَمْ تَلْحَقْ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الشَّمْسِ مجان، أَوْ لِتَغْلِيبِ التَّذْكِيرِ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: جُمِعَ النُّورَانِ أَوِ الضِّيَاءَانِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: يُجْمَعَانِ فَيُلْقَيَانِ فِي النَّارِ، وَعَنْهُ يُجْمَعَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ، فَيَكُونَانِ نَارَ اللَّهِ الْكُبْرَى. وَقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الطُّلُوعِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَيَطْلُعَانِ أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: يُجْعَلَانِ فِي نُورِ الْحُجُبِ ، وَقِيلَ: يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَتَفَرَّقَانِ، وَيَقْرُبَانِ مِنَ النَّاسِ فَيَلْحَقُهُمُ الْعَرَقُ لِشِدَّةِ الْحَرِّ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: يُجْمَعُ حَرُّهُمَا. وَقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي ذَهَابِ الضَّوْءِ، فَلَا يَكُونُ ثَمَّ تَعَاقُبُ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمَفَرُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْفَاءِ، أَيْ أَيْنَ الْفِرَارُ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب، وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ وَكُلْثُومُ بْنُ عِيَاضٍ ومجاهد وَابْنُ يَعْمُرَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو رَجَاءٍ وَعِيسَى وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزُّهْرِيُّ: بِكَسْرِ الْفَاءِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْفِرَارِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَنَسَبَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ لِلزُّهْرِيِّ، أَيِ الْجَيِّدُ الْفِرَارِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْوَزْنُ فِي الْآلَاتِ وَفِي صِفَاتِ الْخَيْلِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا حِكَايَةُ عَنِ الْإِنْسَانِ. كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ طَلَبِ الْمَفَرِّ، لَا وَزَرَ: لَا مَلْجَأَ، وَعَبَّرَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهُ بِالْجَبَلِ. قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: هُوَ كَانَ وِزْرُ فِرَارِ الْعَرَبِ فِي بِلَادِهِمْ، فَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ الْمَلْجَأُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ حِصْنٍ أَوْ سِلَاحٍ

أَوْ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِهِ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ : أَيْ إِلَى حُكْمِهِ يَوْمئِذٍ تَقُولُ أَيْنَ الْمَفَرُّ، الْمُسْتَقَرُّ : أَيِ الِاسْتِقْرَارُ، أَوْ مَوْضِعُ اسْتِقْرَارٍ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ إِلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى، يُدْخِلُ مَنْ شَاءَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ مَنْ شَاءَ النَّارَ. بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا قَدَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَأَخَّرَ مِنْ سَنَةٍ يَعْمَلُ بِهَا بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بِمَا قَدَّمَ مِنَ الْمَعَاصِي وَأَخَّرَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ، وَبِمَا أَخَّرَ مِنْهُ لِلْوَارِثِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ: بِأَوَّلِ عَمَلِهِ وَآخِرِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ فَرْضٍ وَأَخَّرَ مِنْ فَرْضٍ وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ يُخْبِرُهُ بِكُلِّ مَا قَدَّمَ وَكُلِّ مَا أَخَّرَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرُوهُ. بَصِيرَةٌ : خَبَرٌ عَنِ الْإِنْسَانِ، أَيْ شَاهِدٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ عِبْرَةٌ وَحُجَّةٌ. وَقِيلَ: أُنِّثَ لِأَنَّهُ أَرَادَ جَوَارِحَهُ، أَيْ جَوَارِحُهُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَقِيلَ: بَصِيرَةٌ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْمَوْصُوفِ، أَيْ عَيْنٌ بصيرة، وعلى نَفْسِهِ الْخَبَرِ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ عَنِ الْإِنْسَانِ، وَالتَّقْدِيرُ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَأَنْشَدَ: كَأَنَّ عَلَى ذِي الْعَقْلِ عَيْنًا بَصِيرَةً ... بِمَقْعَدِهِ أَوْ مَنْظَرٍ هُوَ نَاظِرُهُ يُحَاذِرُ حَتَّى يَحْسَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ ... مِنَ الْخَوْفِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ سَرَائِرُهُ وَعَلَى هَذَا نَخْتَارُ أَنْ تَكُونَ بَصِيرَةٌ فَاعِلًا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنِ الْإِنْسَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ اعْتَمَدَ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَعَلَى هَذَا فَالتَّاءُ لِلتَّأْنِيثِ. وَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبَصِيرَةَ بِالْجَوَارِحِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ. وَالْمَعَاذِيرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْأَعْذَارُ، فَالْمَعْنَى: لَوْ جَاءَ بِكُلِّ مَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الشَّاهِدُ عَلَيْهَا وَالْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: الْمَعَاذِيرُ جَمْعُ مَعْذِرَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِيَاسُ مَعْذِرَةٍ مَعَاذِرُ، فَالْمَعَاذِيرُ لَيْسَ بِجَمْعِ مَعْذِرَةٍ، إِنَّمَا هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَهَا، وَنَحْوُ الْمَنَاكِيرِ فِي الْمُنْكَرِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا الْبِنَاءُ مِنْ أَبْنِيَةِ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَهُوَ كَمَذَاكِيرَ وَمَلَامِيحَ وَالْمُفْرَدُ مِنْهُمَا لَمْحَةٌ وَذِكْرٌ وَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، بَلْ قِيلَ: هُمَا جَمْعٌ لِلَمْحَةٍ وَذِكْرٍ على قِيَاسٍ، أَوْ هُمَا جَمْعٌ لِمُفْرَدٍ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وَهُوَ مِذْكَارٌ وَمَلْمَحَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: الْمَعَاذِيرُ: السُّتُورُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ، وَهُوَ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْمُحْتَجِبِ كَمَا تَمْنَعُ الْمَعْذِرَةُ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ. وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا، أَيْ وَإِنْ رَمَى مَسْتُورَةً يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيَ عَمَلَهُ، فَنَفْسُهُ شَاهِدَةٌ عَلَيْهِ. وَأَنْشَدُوا فِي أَنَّ الْمَعَاذِيرَ السُّتُورُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَلَكِنَّهَا ضَنَّتْ بِمَنْزِلِ سَاعَةٍ ... عَلَيْنَا وَأَطَّتْ فَوْقَهَا بِالْمَعَاذِرِ وَقِيلَ: الْبَصِيرَةُ: الْكَاتِبَانِ يَكْتُبَانِ مَا يَكُونُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، أَيْ وَإِنْ تَسَتَّرَ بِالسُّتُورِ وَإِذَا

كَانَتْ مِنَ الْعُذْرِ، فَمَعْنَى وَلَوْ أَلْقى : أَيْ نَطَقَ بِمَعَاذِيرِهِ وَقَالَهَا. وَقِيلَ: وَلَوْ رَمَى بِأَعْذَارِهِ وَاسْتَسْلَمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَلَوْ أَدْلَى بِحُجَّةٍ وَعُذْرٍ. وَقِيلَ: وَلَوْ أَحَالَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ «1» وَالْعُذْرَةُ وَالْعُذْرَى: الْمَعْذِرَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: هَا إِنَّ ذِي عُذْرَةٍ أَنْ لَا تَكُنْ نَفَعَتْ وَقَالَ فِيهَا: وَلَا عُذْرَ لِمَجْحُودٍ. لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ : الظَّاهِرُ وَالْمَنْصُوصُ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا سنذكر إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ «2» ، وَذَلِكَ حَالَ تَنَبُّئِهِ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ، يُعْرَضُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ، كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَسُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْحِكْمَةِ أَنْ نَجْمَعَ أَعْمَالَكَ عَلَيْكَ وَأَنْ نَقْرَأَهَا عَلَيْكَ. فَإِذا قَرَأْناهُ عَلَيْكَ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: أَيْ بَيَانُ أَمْرِهِ وَشَرْحُ عُقُوبَتِهِ. وَحَاصِلُ قَوْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى يُقَرِّرُ الْكَافِرَ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَفِيهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّهْوِيلِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شدّة، وكان بما يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ لِحِينِهِ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: السَّبَبُ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَنْسَى الْقُرْآنَ، فَكَانَ يَدْرُسُهُ حَتَّى غَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَشَقَّ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ لِحِرْصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ رُبَّمَا أَرَادَ النُّطْقَ بِبَعْضِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَبْلَ كَمَالِ إِيرَادِ الْوَحْيِ، فَأُمِرَ أَنْ لَا يَعْجَلَ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْهِ وَحْيُهُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ لِلْقُرْآنِ دَلَّ عَلَيْهِ مَسَاقُ الْآيَةِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ : أَيْ فِي صَدْرِكَ، وَقُرْآنَهُ : أَيْ قِرَاءَتُكَ إِيَّاهُ، وَالْقُرْآنُ مَصْدَرٌ كَالْقِرَاءَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ: ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا وَقِيلَ: وَقُرْآنَهُ: وَتَأْلِيفُهُ فِي صَدْرِكَ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَرَأْتَ: أَيْ جَمَعْتَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ: مَا قَرَأَتْ سُلَاقِطَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: ذِرَاعَيْ بَكْرَةٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جنينا

_ (1) سورة سبأ: 34/ 31. (2) سورة القيامة: 75/ 13.

فَإِذا قَرَأْناهُ : أَيِ الْمَلَكُ الْمُبَلِّغُ عَنَّا، فَاتَّبِعْ : أَيْ بِذِهْنِكَ وَفِكْرِكَ، أَيْ فَاسْتَمِعْ قِرَاءَتَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أيضا هو قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: فَاتَّبِعْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ أبو الْعَالِيَةِ: فَإِذَا قَرَتَهُ فَاتَّبِعْ قَرَتَهُ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا أَلِفٍ فِي الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وَوَجْهُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَيْ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقِرَاءَتَهُ، فَنَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ السَّاكِنَةِ وَحَذَفَهَا فَبَقِيَ قَرَتَهُ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ أَصْلُهُ فَإِذَا قَرَأْتَهُ، أَيْ أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ فَسَكَّنَ الْهَمْزَةَ فَصَارَ قَرَأْتَهُ، ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: وَلَوْ تَرَ مَا الصِّبْيَانُ، يُرِيدُونَ: وَلَوْ تَرَى مَا الصِّبْيَانُ، وَمَا زَائِدَةٌ. وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّالِثُ فَتَوْجِيهُهُ تَوْجِيهُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، أَيْ فَإِذَا قَرَأْتَهُ، أَيْ أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ، فَاتْبَعْ قِرَاءَتَهُ بِالدَّرْسِ أَوْ بِالْعَمَلِ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، قَالَ قَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ: أَنْ نُبَيِّنَهُ لَكَ وَنُحَفِّظَكَهُ. وَقِيلَ: أَنْ تُبَيِّنَهُ أَنْتَ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: أَنْ نُبَيِّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَمُجْمَلَهُ وَمُفَسَّرَهُ. وَفِي التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ : أَيْ حِفْظَهُ فِي حَيَاتِكَ، وَقِرَاءُتُهُ: تَأْلِيفُهُ عَلَى لِسَانِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نُثْبِتُهُ فِي قَلْبِكَ بَعْدَ جَمْعِهِ لَكَ. وَقِيلَ: جَمْعُهُ بِإِعَادَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى أَنْ يَثْبُتَ فِي صَدْرِكَ. فَإِذا قَرَأْناهُ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، فَاسْتَمِعْ قِرَاءَتَهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: فَإِذَا يُتْلَى عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ مَا فِيهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَاتْبَعْ حَلَالَهُ وَاجْتَنِبْ حَرَامَهُ. وَقَدْ نَمَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِحُسْنِ إِيرَادِهِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لُقِّنَ الْوَحْيَ، نَازَعَ جِبْرِيلَ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يَصْبِرْ إِلَى أَنْ يُتِمَّهَا مُسَارَعَةً إِلَى الْحِفْظِ وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ، فَأُمِرَ بِأَنْ يَسْتَنْصِتَ لَهُ مُلْقِيًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَسَمْعِهِ حَتَّى يُقْضَى إِلَيْهِ وَحْيُهُ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِالدِّرَاسَةِ إِلَى أَنْ يَرْسَخَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: لَا تُحَرِّكْ لِسَانَكَ بِقِرَاءَةِ الْوَحْيِ مَا دَامَ جِبْرِيلُ يَقْرَأُ. لِتَعْجَلَ بِهِ : لِتَأْخُذَهُ عَلَى عَجَلَةٍ وَلِئَلَّا يَتَفَلَّتَ مِنْكَ، ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ الْعَجَلَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ وَإِثْبَاتَ قِرَاءَتِهِ فِي لِسَانِكَ. فَإِذا قَرَأْناهُ : جَعَلَ قِرَاءَةَ جِبْرِيلَ قِرَاءَتَهُ، وَالْقُرْآنُ الْقِرَاءَةُ، فَاتْبَعْ قِرَاءَتَهُ: فَكُنْ مُقَفِّيًا لَهُ فِيهِ وَلَا تُرَاسِلْهُ، وَطَامِنْ نَفْسَكَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى غَيْرَ مَحْفُوظٍ، فَنَحْنُ فِي ضَمَانِ تَحْفِيظِهِ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِيهِ، كَأَنَّهُ كَانَ يَعْجَلُ فِي الْحِفْظِ وَالسُّؤَالِ عَنِ الْمَعْنَى جَمِيعًا، كَمَا تَرَى بَعْضَ الْحُرَّاصِ عَلَى الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ، وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ. انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُدَمَاءِ الرَّوَافِضِ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ

قَدْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَزِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ، وَأَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ مِنَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ مُنَاسَبَاتٍ عَلَى زَعْمِهِ يُوقِفُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُنَاسِبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مُنْكِرَ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ مُعْرِضًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَاتِهِ وَأَنَّهُ قَاصِرٌ شَهَوَاتِهِ عَلَى الْفُجُورِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ يُثَابِرُ عَلَى تَعَلُّمِ آيَاتِ اللَّهِ وَحِفْظِهَا وَتَلَقُّفِهَا وَالنَّظَرِ فِيهَا وَعَرْضِهَا عَلَى مَنْ يُنْكِرُهَا رَجَاءَ قَبُولِهِ إِيَّاهَا، فَظَهَرَ بِذَلِكَ تَبَايُنُ مَنْ يَرْغَبُ فِي تَحْصِيلِ آيَاتِ اللَّهِ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْهَا. وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ وَلَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِمُثَابَرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ يُبَادِرُ لِلتَّحَفُّظِ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ أَخْبَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجْمَعُهُ لَهُ وَيُوَضِّحُهُ. كَلَّا بَلْ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذْرُوَنَ الْآخِرَةَ. لَمَّا فَرَغَ مِنْ خِطَابِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، رَجَعَ إِلَى حَالِ الْإِنْسَانِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ الْمُنْكِرِ الْبَعْثَ، وَأَنَّ هَمَّهُ إِنَّمَا هُوَ فِي تَحْصِيلِ حُطَامِ الدُّنْيَا الْفَانِي لَا فِي تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، إِذْ هُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الْمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ، وكَلَّا: رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَقْوَالِهِمْ، أَيْ لَيْسَ كَمَا زَعَمْتُمْ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ قَوْمٌ غَلَبَتْ عَلَيْكُمْ مَحَبَّةُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا حَتَّى تَتْرُكُونَ مَعَهُ الْآخِرَةَ وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا رَدْعٌ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ والحسن وقتادة والجحدري وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهِمَا. وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ بِحُبِّ الْعَاجِلَةِ وَتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِالْآخِرَةِ، تَخَلَّصَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ناضِرَةٌ بِأَلِفٍ، وزيد بْنُ عَلِيٍّ: نَضِرَةٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وُجُوهٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَابْتَدَأَ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا تَخَصَّصَتْ بِقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ وناضِرَةٌ خَبَرُ وُجُوهٌ. وَقَوْلُهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ جُمْلَةٌ هِيَ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ يَوْمَئِذٍ تَخْصِيصًا لِلنَّكِرَةِ، فَيَسُوغُ الِابْتِدَاءُ بِهَا، لِأَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ صِفَةً لِلْجُثَّةِ، إِنَّمَا يَكُونُ يَوْمَئِذٍ مَعْمُولٌ لناضرة. وَسَوَّغَ جَوَازَ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ كَوْنُ الْمَوْضِعِ مَوْضِعَ تَفْصِيلٍ، وناضِرَةٌ الخبر، وناضِرَةٌ صِفَةٌ. وَقِيلَ: ناضِرَةٌ نَعْتٌ لوجوه، وإِلى رَبِّها ناظِرَةٌ الْخَبَرُ، وَهُوَ قَوْلٌ سَائِغٌ. وَمَسْأَلَةُ النَّظَرِ وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَذْكُورَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَدَلَائِلِ الْفَرِيقَيْنِ، أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الِاعْتِزَالِ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ هُنَا. وَلَمَّا كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ

تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَ هُنَا: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى أَشْيَاءَ لَا يُحِيطُ بِهَا الْحَصْرُ فِي مَحْشَرٍ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْخَلَائِقَ، فَاخْتِصَاصُهُ بِنَظَرِهِمْ إِلَيْهِ لَوْ كَانَ مَنًظُورًا إِلَيْهِ مُحَالٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى لَا يَصِحُّ مَعَهُ الِاخْتِصَاصُ، وَالَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ: أَنَا إِلَى فُلَانٍ نَاظِرٌ مَا يَصْنَعُ بِي، يُرِيدُ مَعْنَى التَّوَقُّعِ وَالرَّجَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ مِنْ مَلِكٍ ... وَالْبَحْرُ دُونَكَ زِدْتَنِي نَعْمَاءَ وَسَمِعْتُ سَرَوِيَّةً مُسْتَجْدِيَةً بمكة وَقْتَ الظُّهْرِ حِينَ يُغْلِقُ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ وَيَأْوُونَ إِلَى مَقَائِلِهِمْ تَقُولُ: عُيُيْنَتِي نَاظِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّعُونَ النِّعْمَةَ وَالْكَرَامَةَ إِلَّا مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يَخْشَوْنَ وَلَا يَرْجُونَ إِلَّا إِيَّاهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبُوا، يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ، إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، أَوْ إِلَى ثَوَابِهِ أَوْ مُلْكِهِ، فَقَدَّرُوا مُضَافًا مَحْذُوفًا، وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ نَاظِرٌ إِلَيْكَ فِي كَذَا: أَيْ إِلَى صُنْعِكَ فِي كَذَا. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَى فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّها حَرْفُ جَرٍّ يَتَعَلَّقُ بناظرة. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِلَى هُنَا وَاحِدُ الْآلَاءِ، وَهِيَ النِّعَمُ، وَهِيَ مَفْعُولٌ بِهِ معمول لناظرة بِمَعْنَى مُنْتَظَرَةٍ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوهٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرَهُ باسِرَةٌ وَتَظُنُّ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَأَنْ تَكُونَ بَاسِرَةٌ صِفَةً وَتَظُنُّ الْخَبَرُ. وَالْفَاقِرَةُ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، وتظن بِمَعْنَى تُوقِنُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى اعْتِقَادِهَا وَتَتَوَقَّعُ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ: فِعْلٌ هُوَ فِي شِدَّةِ دَاهِيَةٍ تَقْصِمُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَاقِرَةٌ مِنْ فَقَرْتُ الْبَعِيرَ إِذَا وَسَمْتُ أَنْفَهُ بِالنَّارِ. كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي تَنْقَطِعُ الْعَاجِلَةُ عِنْدَهُ وَيَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى الْآجِلَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي بَلَغَتِ عَائِدٌ إِلَى النَّفْسِ الدَّالِّ عَلَيْهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِ حَاتِمٍ: لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْسَلَتْ، يُرِيدُونَ جَاءَ الْمَطَرُ، وَلَا نَكَادُ نَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ السَّمَاءَ. وَذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِصُعُوبَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَرَاحِلِ الْآخِرَةِ حِينَ تَبْلُغُ الرُّوحُ التَّرَاقِي وَدَنَا زَهُوقُهَا. وَقِيلَ: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يكون القائل حاضرو المريض طَلَبُوا لَهُ مَنْ يَرْقِي وَيَطِبُّ وَيَشْفِي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَمَنَّاهُ لَهُ أَهْلُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو قِلَابَةَ وَقَتَادَةُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ حَقِيقَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامُ إِبْعَادٍ وَإِنْكَارٍ، أَيْ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا أَحَدَ يَرْقِيهِ، كَمَا عِنْدَ النَّاسِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَقْدِرُ أَنً يَرْقِيَ هَذَا الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ قَالَهُ عِكْرِمَةُ

وَابْنُ زَيْدٍ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ الْمَلَائِكَةَ، أَيْ مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ؟ أَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِكَرَاهَتِهِمُ الصُّعُودَ بِرُوحِ الْكَافِرِ لِخُبْثِهَا وَنَتَنِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى الْآيَةِ. وَوَقَفَ حَفْصٌ عَلَى مَنْ ، وَابْتَدَأَ راقٍ ، وَأَدْغَمَ الْجُمْهُورُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا أَدْرِي مَا وَجْهُ قِرَاءَتِهِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ: بَلْ رانَ «1» . انْتَهَى. وكان حفصا قَصَدَ أَنْ لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، فَسَكَتَ سَكْتًا لَطِيفًا لِيُشْعِرَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ النُّونَ تُدْغَمُ فِي الرَّاءِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَنْ رَاشِدٌ وَالْإِدْغَامُ بِغُنَّةٍ وَبِغَيْرِ غُنَّةٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَيَانَ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ نَقْلِ غَيْرِهِ من الكوفيين، وعاصم شَيْخُ حَفْصٍ يُذْكَرُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ. وَأَمَّا بَلْ رانَ فَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ اللَّامَ الْبَيَانُ فِيهَا، وَالْإِدْغَامُ مَعَ الرَّاءِ حَسَنَانِ، فَلَمَّا أَفْرَطَ فِي شَأْنِ الْبَيَانِ فِي بَلْ رانَ، صَارَ كَالْوَقْفِ الْقَلِيلِ. وَظَنَّ، أَيِ الْمَرِيضُ، أَنَّهُ: أَيِ مَا نَزَلَ بِهِ، الْفِراقُ: فِرَاقُ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مَحْبُوبَتُهُ، وَالظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ. وَقِيلَ: فِرَاقُ الرُّوحِ الْجَسَدَ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: اسْتِعَارَةٌ لِشِدَّةِ كَرْبِ الدُّنْيَا فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهَا، وَشَدَّةِ كَرْبِ الْآخِرَةِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ قَدِ اخْتَلَطَا بِهِ، كَمَا يَقُولُ: شَمَّرَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ، اسْتِعَارَةً لِشِدَّتِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ: هِيَ حَقِيقَةٌ، وَالْمُرَادُ سَاقَا الميت عند ما لُفَّا فِي الْكَفَنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مَالِكٍ: الْتِفَافُهُمَا لِشِدَّةِ الْمَرَضِ، لِأَنَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَيُرَكِّبُ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَسْوُقُ حَاضِرِيهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ هَؤُلَاءِ يُجَهِّزُونَهُ إِلَى الْقَبْرِ، وَهَؤُلَاءِ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْتِفَافُهُمَا: مَوْتُهُمَا أَوَّلًا، إِذْ هُمَا أَوَّلُ مَا تَخْرُجُ الرُّوحَ مِنْهُمَا فَتَبْرُدَانِ قَبْلَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَجَدَ مَا عَمِلَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ: المرجع والمصير، والمساق مَفْعَلٌ مِنَ السَّوْقِ، فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ. فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، الْجُمْهُورُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَكَادَتْ أَنْ تُصَرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يَتَمَطَّى. فَإِنَّهَا كَانَتْ مِشْيَتَهُ وَمِشْيَةَ قَوْمِهِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ

_ (1) سورة المطففين: 83/ 14.

أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ: أَيْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ؟ فَلا صَدَّقَ بِالرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ، وَلا صَلَّى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: فَلَا صَدَّقَ مَالَهُ، يَعْنِي فَلَا زَكَّاهُ. انْتَهَى. وَكَوْنُ فَلا صَدَّقَ مَعْطُوفًا عَلَى قوله: يَسْئَلُ فِيهِ بُعْدٌ، وَلَا هُنَا نَفَتِ الْمَاضِي، أَيْ لَمْ يَصَّدَّقْ وَلَمْ يُصَلِّ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي فَتَنْصِبُهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَأَيُّ جميس لَا أَتَانَا نَهَابُهُ ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ كَبْشَةٍ دَمَا وَقَالَ الرَّاجِزُ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا وَصَدَّقَ: مَعْنَاهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ نَفَى عَنْهُ الزَّكَاةَ وَالصَّلَاةَ وَأَثْبَتَ لَهُ التَّكْذِيبَ، كَقَوْلِهِ: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ «1» . وَحَمْلُ فَلا صَدَّقَ عَلَى نَفْيِ التَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَلكِنْ كَذَّبَ تَكْرَارًا. وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَكِنْ اسْتِدْرَاكًا بَعْدَ وَلا صَلَّى لا بعده فَلا صَدَّقَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَسَاوَى الْحُكْمُ فِي فَلا صَدَّقَ وَفِي كَذَّبَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، إِذْ لَا تقع لَكِنْ بَعْدَ مُتَوَافِقِينَ. وَتَوَلَّى: أَعْرَضَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَ بِمَا جَاءَ بِهِ. ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ: أَيْ قَوْمِهِ، يَتَمَطَّى: يَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّبَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمًا فِي الْبَطْحَاءِ وَقَالَ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ أَوْلَى فَأَوْلَى لَكَ» ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى نَحْوِهَا ، وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ: هَمَمْتُ بِنَفْسِي كُلَّ الْهُمُو ... مِ فَأَوْلَى لِنَفْسِي أَوْلَى لَهَا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَوْلى شَرْحًا وَإِعْرَابًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ «2» فِي سُورَةِ الْقِتَالِ، وَتَكْرَارُهُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُ فِي الْمَوْتِ وَمَا كَانَ مِنْ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا، قَرَّرَ لَهُ أَحْوَالَهُ فِي بِدَايَتِهِ لِيَتَأَمَّلَهَا، فَلَا يُنْكِرُ مَعَهَا جَوَازِ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلَمْ يَكُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْحَسَنُ: بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُمْنَى، أَيِ النُّطْفَةُ يُمْنِيهَا الرَّجُلُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ

_ (1) سورة المدثر 74/ 43- 46. (2) سورة محمد: 47/ 20- 21.

وَالْجَحْدَرِيُّ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ وَأَبُو عُمَرَ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ، أَيْ يُمْنِي هُوَ، أَيِ الْمَنِيُّ، فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ بَشَرًا مُرَكَّبًا مِنْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ. فَسَوَّى: أَيْ سَوَّاهُ شَخْصًا مُسْتَقِلًّا. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: أَيِ النَّوْعَيْنِ أَوِ الْمُزْدَوَجَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ، وَفِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: الزَّوْجَانِ بِالْأَلِفِ، وَكَأَنَّهُ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ كَوْنِ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ. وَقَرَأَ أَيْضًا: يَقْدِرُ مُضَارِعًا، وَالْجُمْهُورُ: بِقادِرٍ اسْمُ فَاعِلٍ مَجْرُورٍ بِالْبَاءِ الزَّائِدَةِ. أَلَيْسَ ذلِكَ: أَيِ الْخَالِقُ الْمُسَوِّي، بِقادِرٍ، وَفِيهِ تَوْقِيفٌ وَتَوْبِيخٌ لِمُنْكِرِ الْبَعْثِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَالْفَيْضُ بْنُ غَزَوَانَ: بِسُكُونِ الْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يُحْيِيَ، وَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ لَا تَنْحَذِفُ إِلَّا فِي الْوَقْفِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ حَذْفُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا. وَجَاءَ عَنْ بَعْضِهِمْ يُحِيِّي بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْيَاءِ إِلَى الْحَاءِ وَإِدْغَامِ الْيَاءِ فِي الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَا يُجِيزُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِدْغَامَ يُحِيِّي، قَالُوا لِسُكُونِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَعْتَدُّونَ بِالْفَتْحَةِ فِي الْيَاءِ لِأَنَّهَا حَرَكَةُ إِعْرَابٍ غَيْرُ لَازِمَةٍ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَاحْتَجَّ بِهَذَا الْبَيْتِ: تَمْشِي بسده بَيْنَهَا فَتُعيِّي يُرِيدُ: فَتُعْيِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة الإنسان

سورة الإنسان [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

الْأَمْشَاجُ: الْأَخْلَاطُ، وَاحِدُهَا مَشَجٌ بِفَتْحَتَيْنِ، أَوْ مَشْجٌ كَعَدْلٍ، أَوْ مَشِيجٌ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ رُؤْبَةُ: يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعَجَّلٍ بساج ... لَمْ يُكْسَ جِلْدًا مِنْ دَمٍ أَمْشَاجِ وَقَالَ الْهُذَلِيُّ: كَأَنَّ النَّصْلَ وَالْفَوْقَيْنِ مِنْهَا ... خِلَافَ الرِّيشِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ وَقَالَ الشَّمَّاخُ: طَوَتْ أَحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ ... عَلَى مَشَجٍ سُلَالَتُهُ مَهِينُ وَيُقَالُ: مَشَجَ يَمْشُجُ مَشَجًا إِذَا خلط، ومشيج: كخليط، وممثنوج: كمخلوط. مَزَجَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطَهُ، وقال الشاعر: كأن سييئة مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءُ اسْتَطَارَ الشَّيْءُ: انْتَشَرَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الْقَارُورَةِ وَشِبْهِهَا وَاسْتَطَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر: فبانت وقد أسأت فِي الْفُؤَا ... دِ صَدْعًا عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُسْتَطِيرٌ: مُسْتَطِيلٌ. وَيُقَالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَقُمَاطِرٌ وَاقْمَطَرَّ، فَهُوَ مُقَمْطِرٌّ إِذَا كَانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ الرَّاجِزُ: قَدْ جَعَلَتْ شَبْوَةُ تَزْبَئِرُّ ... تَكْسُو اسْتَهَا لَحْمًا وَتَقْمَطِرُّ

وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَفَرُّوا إِذَا مَا الْحَرْبُ ثَارَ غُبَارُهَا ... وبج بِهَا الْيَوْمُ الشَّدِيدُ الْقُمَاطِرُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَمْطَرِيرُ: الَّذِي يَعِيشُ حَتَّى يَجْتَمِعَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَيُقَالُ: اقْمَطَرَّتِ النَّاقَةُ إِذَا رَفَعَتْ ذَنَبَهَا وَجَمَعَتْ قُطْرَيْهَا وَرَمَتْ بِأَنْفِهَا، فَاشْتَقَّهُ مِنَ الْقَطْرِ وَجَعَلَ الْمِيمَ زَائِدَةً، وَقَالَ أَسَدُ بْنُ نَاعِصَةَ: وَاصْطَلَيْتُ الْحُرُوبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ... بِأُسْدِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّبَاحِ وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْوَزْنِ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ لَا يُثْبِتُ افْمَعَلَّ فِي أَوْزَانِ الْأَفْعَالِ. الزَّمْهَرِيرُ: أَشَدُّ الْبَرْدِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ الْقَمَرُ بِلُغَةِ طَيٍّ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الرَّاجِزِ: وَلَيْلَةٍ ظَلَامُهَا قَدِ اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ الْقَارُورَةُ: إِنَاءٌ رَقِيقٌ صَافٍ تُوضَعُ فِيهِ الْأَشْرِبَةُ، قِيلَ: وَيَكُونُ مِنَ الزُّجَاجِ. الزَّنْجَبِيلُ، قَالَ الدِّينَوَرِيُّ: نَبْتٌ فِي أَرْضِ عُمَانَ عُرُوقٌ تَسْرِي وَلَيْسَ بِشَجَرٍ، يُؤْكَلُ رَطْبًا، وَأَجْوَدُهُ مَا يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ الصِّينِ، كَانَتِ الْعَرَبُ تُحِبُّهُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ لَذْعًا فِي اللِّسَانِ إِذَا مُزِجَ بِالشَّرَابِ فَيَتَلَذَّذُونَ بِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ جَنْبًا مِنَ الزَّنْجَبِيلِ بَاتَ ... بِفِيهَا وَارِيًا مَسْتُورًا وَقَالَ الْمُسَيِّبُ بْنُ عَلَسٍ: وكأن طعم الزنجبيل بِهِ إِذَا ذُقْتَهُ وَسُلَافَةَ الْخَمْرِ السَّلْسَبِيلُ وَالسَّلْسَلُ وَالسَّلْسَالُ: مَا كَانَ مِنَ الشَّرَابِ غَايَةً فِي السَّلَاسَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ أَسْمَعِ السَّلْسَبِيلَ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ. ثَمَّ ظَرْفٌ مَكَانٍ لِلْبُعْدِ. هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً، إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً، وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً، إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً، وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهِيَ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَخْ، فَإِنَّهُ مَكِّيٌّ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ جِدًّا لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. هَلْ حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ بِقَدْ، لِأَنَّ قَدْ مِنْ خَوَاصِّ الْفِعْلِ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ فَالْأَكْثَرُ أَنْ تَأْتِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ هُنَا بِمَعْنَى قَدْ. قِيلَ: لِأَنَّ الْأَصْلَ أَهَلْ، فَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ حُذِفَتْ وَاجْتُزِئَ بِهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِحِلَّتِهَا ... أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي النتّ ذِي الْأَكَمِ فَالْمَعْنَى: أَقَدْ أَتَى عَلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّقْرِيبِ جَمِيعًا، أَيْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ قَبْلَ زَمَانٍ قَرِيبٍ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ كَذَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْجَوَابُ: أَتَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ بِالْحَالِ الْمَذْكُورِ. وَمَا تُلِيَتْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَقِيلَ: عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: لَيْتَهَا تَمَّتْ، أَيْ لَيْتَ تِلْكَ الْحَالَةَ تَمَّتْ، وَهِيَ كَوْنُهُ شَيْئًا غَيْرَ مَذْكُورٍ وَلَمْ يُخْلَقْ وَلَمْ يُكَلَّفْ. وَالْإِنْسَانُ هُنَا جِنْسُ بَنِي آدَمَ، وَالْحِينُ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ، إِمَّا حِينُ عَدَمِهِ، وَإِمَّا حِينُ كَوْنِهِ نُطْفَةً. وَانْتِقَالُهُ مِنْ رُتْبَةٍ إِلَى رُتْبَةٍ حَتَّى حِينِ إِمْكَانِ خِطَابِهِ، فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا ذِكْرَ لَهُ، وَسُمِّيَ إِنْسَانًا بِاعْتِبَارِ مَا صَارَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: آدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْحِينُ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي بَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَقِيَ طِينًا أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ صَلْصَالًا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا أَرْبَعِينَ، فَتَمَّ خَلْقُهُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَسُمِّيَ إِنْسَانًا بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لحين، فَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُوفِ مَحْذُوفًا، أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ: هُوَ جِنْسُ بَنِي آدَمَ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ: أَخْلَاطٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلنُّطْفَةِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: هِيَ الْعُرُوقُ الَّتِي فِي النُّطْفَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ اخْتَلَطَا فِي الرَّحِمِ فَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اخْتِلَاطُ النُّطْفَةِ بِدَمِ الْحَيْضِ، فَإِذَا حَبِلَتِ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وعكرمة وَقَتَادَةُ: أَمْشَاجٌ مُنْتَقِلَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى عَلَقَةٍ إِلَى مُضْغَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى إِنْشَائِهِ إِنْسَانًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ أَلْوَانُ النُّطْفَةِ. وَقِيلَ:

أَخْلَاطُ الدَّمِ وَالْبَلْغَمِ وَالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ، وَالنُّطْفَةُ أُرِيدَ بِهَا الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ «1» ، أَوْ لِتَنْزِيلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ النُّطْفَةِ نُطْفَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، كَبُرْمَةٍ أَعْسَارٍ، وَبُرْدٍ أَكْيَاسٍ، وَهِيَ أَلْفَاظُ مُفْرَدٍ غَيْرُ جُمُوعٍ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ صِفَاتٍ لِلْأَفْرَادِ. وَيُقَالُ أَيْضًا: نُطْفَةُ مَشَجٍ، وَلَا يَصِحُّ أَمْشَاجٌ أَنْ تَكُونَ تَكْسِيرًا لَهُ، بَلْ هُمَا مِثْلَانِ فِي الْإِفْرَادِ لِوَصْفِ الْمُفْرِدِ بِهِمَا. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَا يَكُونُ مُفْرَدًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَفْعَالٌ إِلَّا أَنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ وَصْفِ الْمُفْرَدِ بِأَفْعَالٍ تَأَوَّلُوهُ. نَبْتَلِيهِ: نَخْتَبِرُهُ بِالتَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نُصَرِّفُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، فَعَلَى هَذَا هِيَ حَالٌ مُصَاحِبَةٌ، وَعَلَى أَنَّ الْمَعْنَى نَخْتَبِرُهُ بِالتَّكْلِيفِ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حِينَ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُبْتَلِيًا لَهُ بِالتَّكْلِيفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَاقِلِينَ لَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: نبتليه بالإيجاد وَالْكَوْنِ فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ الْأَصْلُ. فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً نَبْتَلِيهِ، أَيْ جَعْلُهُ سَمِيعًا بَصِيرًا هُوَ الِابْتِلَاءُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمَعْنَى يَصِحُّ بِخِلَافِهِ، وَامْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِجَعْلِهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّمْيِيزِ وَالْفَهْمِ، إِذْ آلَتُهُمَا سَبَبٌ لِذَلِكَ، وَهُمَا أَشْرَفُ الْحَوَاسِّ، تُدْرَكُ بِهِمَا أَعْظَمُ الْمُدْرِكَاتِ. وَلَمَّا جَعَلَهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هَدَاهُ إِلَى السَّبِيلِ، أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَعَرَّفْنَا مَآلَ طَرِيقِ النَّجَاةِ وَمَآلَ طَرِيقِ الْهَلَاكِ، إِذْ أَرْشَدْنَاهُ طَرِيقَ الْهُدَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِيلُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: سَبِيلُ الْخُرُوجِ مِنَ الرَّحِمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَكَّنَاهُ وَأَقْدَرْنَاهُ فِي حَالَتَيْهِ جَمِيعًا، وَإِذْ دَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ أَوْ يَكْفُرُ لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِزَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِمَّا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا وَأَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو الْعَاجِ، وَهُوَ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ شَامِيٌّ وَلِيَ الْبَصْرَةَ لِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: بِفَتْحِهَا فِيهِمَا، وَهِيَ لُغَةٌ حَكَاهَا أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ، وَهِيَ الَّتِي عَدَّهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي حُرُوفِ الْعَطْفِ وَأَنْشَدُوا: يَلْحَقُهَا إِمَّا شَمَالٌ عَرِيَّةٌ ... وَإِمَّا صَبَا جنح العشي هبوب

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 76.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، وَالْمَعْنَى: إِمَّا شَاكِرًا بِتَوْفِيقِنَا، وَإِمَّا كَفُورًا فَبِسُوءِ اخْتِيَارِهِ. انْتَهَى. فَجَعَلَهَا إِمَّا التَّفْصِيلِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ تَلَقَّاهَا بِفَاءِ الْجَوَابِ، فَصَارَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: إِمَّا صَدِيقًا فَصَدِيقٌ وَانْتَصَبَ شَاكِرًا وَكَفُورًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي هَدَيْناهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مِنَ السَّبِيلِ، أَيْ عَرَّفْنَاهُ السَّبِيلَ، إِمَّا سَبِيلًا شَاكِرًا وَإِمَّا سَبِيلًا كَفُورًا، كَقَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» ، فَوَصَفَ السَّبِيلَ بِالشُّكْرِ وَالْكُفْرِ مَجَازًا. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ قَلَّ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ قَالَ شَاكِرًا: وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ كَثُرَ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ وَيَكْثُرُ وُقُوعُهُ مِنَ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ الشُّكْرِ جَاءَ كَفُورًا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَتْبَعَهُمَا الْوَعِيدَ وَالْوَعْدَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ: سَلَاسِلَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ وَقْفًا وَوَصْلًا. وَقِيلَ عَنْ حَمْزَةَ وَأَبِي عُمَرَ: الْوَقْفُ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِمَنْعِ الصَّرْفِ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُمْ فِي الْوَقْفِ، وَكَذَا عَنِ الْبَزِّيِّ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّنْوِينِ وَصْلًا وَبِالْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنْهُ وَقْفًا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، قِيلَ: وَهَذَا عَلَى مَا حَكَاهُ الْأَخْفَشُ مِنْ لُغَةِ مَنْ يَصْرِفُ كُلَّ مَا لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا أَفْعَلَ مِنْ وَهِيَ لُغَةُ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى جَرَى فِي كَلَامِهِمْ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَمَّا كَانَ يُجْمَعُ فَقَالُوا: صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ وَنَوَاكِسِي الْأَبْصَارِ، أَشْبَهَ الْمُفْرَدَ فَجَرَى فِيهِ الصَّرْفُ، وَقَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ: وَالصَّرْفُ فِي الْجَمْعِ أَتَى كَثِيرًا ... حَتَّى ادَّعَى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيرَا وَالصَّرْفُ ثَابِتٌ في مصاحف المدينة ومكة وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَكَذَا قَوَارِيرَ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: سَلَاسِلَ فِي الْوَصْلِ، وَسَلَاسِلَا بِأَلِفٍ دُونَ تَنْوِينٍ فِي الْوَقْفِ. وَرُوِيَ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: رَأَيْتُ عَمْرَا بِالْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ. مِنْ كَأْسٍ: مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، كانَ مِزاجُها كافُوراً، قَالَ قَتَادَةُ: يُمْزَجُ لَهُمْ بِالْكَافُورِ، وَيُخْتَمُ لَهُمْ بِالْمِسْكِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ طِيبُ رَائِحَةٍ وَبَرْدٍ كَالْكَافُورِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَافُورًا اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَصُرِفَتْ لِتُوَافِقَ الْآيَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قَافُورًا بِالْقَافِ بَدَلَ الْكَافِ، وَهُمَا كَثِيرًا مَا يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلِمَةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَرَبِيٌّ قح وكح، وعَيْناً بَدَلٌ مِنْ كافُوراً وَمَفْعُولًا بيشربون، أَيْ مَاءَ عَيْنٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ مِنْ كَأْسٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ يَشْرَبُونَ خَمْرًا خَمْرَ عَيْنٍ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْكَأْسُ مبدأ شربهم أتى بمن وَفِي يَشْرَبُ بِها: أَيْ يُمْزَجُ شَرَابُهُمْ بِهَا أَتَى بالباء الدالة على

_ (1) سورة البلد: 90/ 10. [.....]

الْإِلْصَاقِ، وَالْمَعْنَى: يَشْرَبُ عِبَادُ اللَّهِ بِهَا الْخَمْرَ، كَمَا تَقُولُ: شَرِبْتُ الْمَاءَ بِالْعَسَلِ، أو ضمن يشرب معنى يَرْوَى فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى يَشْرَبُ بِهَا، وَقَالَ الْهُذَلِيُّ: شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَّى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ قِيلَ: أَيْ شَرِبْنَ مَاءَ الْبَحْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بشربها وعباد اللَّهِ هُنَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، يُفَجِّرُونَها: يَثْقُبُونَهَا بِعُودِ قَصَبٍ وَنَحْوِهِ حَيْثُ شَاءُوا، فَهِيَ تَجْرِي عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، هَكَذَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ. وَقِيلَ: هِيَ عَيْنٌ فِي دَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْفَجِرُ إِلَى دُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. يُوفُونَ بِالنَّذْرِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانُوا يَخَافُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُوفُونَ جَوَابُ مَنْ عَسَى يَقُولُ مَا لَهُمْ يُرْزَقُونَ ذَلِكَ. انْتَهَى. فَاسْتَعْمَلَ عَسَى صِلَةً لِمَنْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَأَتَى بَعْدَ عَسَى بِالْمُضَارِعِ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِأَنْ، وَهُوَ قَلِيلٌ أَوْ فِي شِعْرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّذْرِ مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ نَذْرٌ. قَالَ الْأَصَمُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالتَّوَفُّرِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ مَنْ وَفَّى بِمَا أَوْجَبَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَوْفَى. وَقِيلَ: النَّذْرُ هُنَا عَامٌّ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ فَيَدْخُلُ فيه الإيمان وجمع الطَّاعَاتِ. عَلى حُبِّهِ: أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ، إِذْ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَوْ عَلَى حُبِّ اللَّهِ: أَيْ لِوَجْهِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، قَالَهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَمْدَحُ، لِأَنَّ فِيهِ الْإِيثَارَ عَلَى النَّفْسِ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ يَفْعَلُهُ الْأَغْنِيَاءُ أَكْثَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ، أَيْ مُحِبِّينَ فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا تَكَلُّفَ. مِسْكِيناً: وَهُوَ الطَّوَّافُ الْمُنْكَسِرُ فِي السُّؤَالِ، وَيَتِيماً: هُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ، وَأَسِيراً: وَالْأَسِيرُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ تُرِكُوا فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ رَهَائِنَ وَخَرَجُوا لِطَلَبِ الْفِدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقِيلَ: وَأَسِيراً اسْتِعَارَةٌ وَتَشْبِيهٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ الْمَسْجُونُ. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْيَمَانِيُّ: هِيَ الزَّوْجَةُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: هُوَ الْمَمْلُوكُ وَالْمَسْجُونُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «غَرِيمُكَ أَسِيرُكَ فَأَحْسِنْ إِلَى أَسِيرِكَ» . إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِهِ خِطَابًا لِلْمَذْكُورِينَ، مَنْعًا مِنْهُمْ وَعَنِ الْمُجَازَاةِ بِمِثْلِهِ أَوِ الشُّكْرِ، لِأَنَّ إِحْسَانَهُمْ مَفْعُولٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا مَعْنَى لِمُكَافَأَةِ الْخَلْقِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَا أَنَّهُمْ مَا تَكَلَّمُوا

بِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَهُ مِنْهُمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ. لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً: أَيْ بِالْأَفْعَالِ، وَلا شُكُوراً: أَيْ ثَنَاءً بِالْأَقْوَالِ وَهَذِهِ الْآيَةَ قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ فِي ذَلِكَ حِكَايَةً طَوِيلَةً جِدًّا ظَاهِرَةَ الِاخْتِلَافِ، وَفِيهَا إِشْعَارٌ لِلْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ وَالْأَسِيرِ، يُخَاطَبُونَ بِهَا بيت النُّبُوَّةِ، وَإِشْعَارٌ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُخَاطِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافُ لِسَفْسَافِ أَلْفَاظِهَا وَكَسْرِ أَبْيَاتِهَا وَسَفَاطَةِ مَعَانِيهَا. يَوْماً عَبُوساً: نِسْبَةُ الْعَبُوسِ إِلَى الْيَوْمِ مَجَازٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْبِسُ الْكَافِرُ يَوْمئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ كَالْقَطْرَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَوَقاهُمُ بِخِفَّةِ الْقَافِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّهَا وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً: بَدَلَ عَبُوسِ الْكَافِرِ، وَسُرُوراً: فَرَحًا بَدَلَ حُزْنِهِ، لَا تَكَادُ تَكُونُ النَّظْرَةُ إِلَّا مَعَ فَرَحِ النَّفْسِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ. وقرأ الجمهور: وَجَزاهُمْ وعليّ: وَجَازَاهُمْ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ، جَنَّةً وَحَرِيراً: بُسْتَانًا فِيهِ كُلُّ مَأْكَلٍ هَنِيءٍ، وَحَرِيراً فِيهِ مَلْبَسٌ بَهِيٌّ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْحَرِيرِ مَعَ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ أُوثِرُوا عَلَى الْجُوعِ وَالْغِذَاءِ. لَا يَرَوْنَ فِيها: أَيْ فِي الْجَنَّةِ، شَمْساً: أَيْ حَرَّ شَمْسٍ وَلَا شِدَّةَ بَرْدٍ، أَيْ لَا شَمْسَ فِيهَا فَتُرَى فَيُؤْذِي حَرُّهَا، وَلَا زَمْهَرِيرَ يُرَى فَيُؤْذِي بِشِدَّتِهِ، أَيْ هِيَ مُعْتَدِلَةُ الْهَوَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «هَوَاءُ الْجَنَّةِ سَجْسَجٌ لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ» . وَقِيلَ: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَالزَّمْهَرِيرُ فِي لغة طيء الْقَمَرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَدانِيَةً، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ حَالٌ عَطْفًا عَلَى مُتَّكِئِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْجَنَّةِ، فَالْمَعْنَى: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً دَانِيَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ وَهِيَ لَا يَرَوْنَ، أَيْ غَيْرَ رَائِينَ، وَدَخَلَتِ الْوَاوُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُجْتَمِعَانِ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً جَامِعِينَ فِيهَا بَيْنَ الْبُعْدِ عَنِ الْحَرِّ وَالْقُرِّ وَدُنُوِّ الظِّلَالِ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَدَانِيَةٌ بِالرَّفْعِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَخْفَشُ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَمِدَ، نَحْوُ قَوْلِكَ: قَائِمٌ الزَّيْدُونَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ ظِلالُها مُبْتَدَأً وَدانِيَةً خَبَرٌ لَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَدَانِيًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ «1» . وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَدَانٍ مَرْفُوعٌ، فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ الْأَخْفَشُ. وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ قَائِمًا، تَنَاوَلَ الثَّمَرَ دُونَ كُلْفَةٍ وإن قاعدا أو مضطعجا فَكَذَلِكَ، فَهَذَا تَذْلِيلُهَا، لَا يَرُدُّ الْيَدَ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَدانِيَةً بِالنَّصْبِ، كَانَ وَذُلِّلَتْ مَعْطُوفًا عَلَى دَانِيَةٌ لِأَنَّهَا فِي تَقْدِيرِ

_ (1) سورة القلم: 68/ 43، وسورة المعارج: 70/ 44.

الْمُفْرَدِ، أَيْ وَمُذَلَّلَةً، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ كَانَ مِنْ عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَقَدْ ذُلِّلَتْ رُفِعَتْ دَانِيَةً أَوْ نُصِبَتْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً، وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا، عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً، وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً، عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً، إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا، إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا، نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً، يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. لَمَّا وَصَفَ تَعَالَى طَعَامَهُمْ وَسُكْنَاهُمْ وَهَيْئَةَ جُلُوسِهِمْ، ذَكَرَ شَرَابَهُمْ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْآنِيَةِ الَّتِي يُسْقَوْنَ مِنْهَا، وَالْآنِيَةُ جَمْعُ إِنَاءٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَكْوَابِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا بِتَنْوِينِهِمَا وَصْلًا وَإِبْدَالِهِ أَلِفًا وَقْفًا وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ: بِمَنْعِ صَرْفِهِمَا وَابْنُ كَثِيرٍ: بِصَرْفِ الْأَوَّلِ وَمَنْعِ الصَّرْفِ فِي الثَّانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا التَّنْوِينُ بَدَلٌ مِنْ أَلِفِ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّهُ فَاصِلَةٌ، وَفِي الثَّانِي لِاتِّبَاعِهِ الْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ سَلَاسَلًا بِالتَّنْوِينِ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ حَرْفِ الْإِطْلَاقِ، أَجْرَى الْفَوَاصِلَ مَجْرَى أَبْيَاتِ الشِّعْرِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ التَّنْوِينُ فِي الْقَوَافِي الْمُطْلَقَةِ إِشْعَارًا بِتَرْكِ التَّرَنُّمِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: يَا صَاحِ مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ فَهَذِهِ النُّونُ بَدَلٌ مِنَ الْأَلِفِ، إِذْ لَوْ تَرَنَّمَ لَوَقَفَ بِأَلِفِ الْإِطْلَاقِ. مِنْ فِضَّةٍ: أَيْ مَخْلُوقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَمَعْنَى كانَتْ: أَنَّهُ أَوْجَدَهَا تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ «1» تَفْخِيمًا لِتِلْكَ الْخِلْقَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَنُصُوعِهَا وَشَفِيفِ الْقَوَارِيرِ وَصَفَائِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: كانَ مِزاجُها كافُوراً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: قَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ بالرفع، أي هو قرارير. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدَّرُوها مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ، أَوْ للطواف عليهم،

_ (1) سورة البقرة: 2/ 117، وسورة آل عمران: 3/ 47.

أَوِ الْمُنَعَّمِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى قَدْرِ الْأَكُفِّ، قَالَهُ الرَّبِيعُ أَوْ عَلَى قَدْرِ الرِّيِّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّرُوها صفة لقرارير مِنْ فِضَّةٍ، وَمَعْنَى تَقْدِيرِهِمْ لَهَا أَنَّهُمْ قَدَّرُوهَا فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى مَقَادِيرَ وَأَشْكَالٍ عَلَى حَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ، فَجَاءَتْ كَمَا قَدَّرُوهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلطَّائِفِينَ بِهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدَّرُوا شَرَابَهَا عَلَى قَدْرِ الرِّيِّ، وَهُوَ أَلَذُّ الشَّرَابِ لِكَوْنِهِ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ، لَا يَفْضُلُ عَنْهَا وَلَا يَعْجِزُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لَا يَفِيضُ وَلَا يَغِيضُ. انْتَهَى. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبْزَى وَقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والجحدري وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وعباس عن أبان، وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ عَنْ يَعْقُوبَ: قَدَّرُوهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَأَنَّ اللَّفْظَ قَدَرُوا عَلَيْهَا، وَفِي الْمَعْنَى قَلْبٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ، فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ «1» ، وَمِثْلُ قَوْلُ الْعَرَبِ: إِذَا طَلَعَتِ الْجَوْزَاءُ أَلْقَى الْعَوْدُ عَلَى الْحِرْبَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَدَرَ مَنْقُولًا مِنْ قُدِّرَ، تَقُولُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَّرَنِيهِ فُلَانٌ إِذَا جَعَلَكَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: جُعِلُوا قَادِرِينَ لَهَا كَمَا شَاءُوا، وَأَطْلَقَ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّرُوا عَلَى حَسَبِ مَا اشْتَهَوْا. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قُدِّرَتِ الْأَوَانِي عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ، فَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ أَبِي حَاتِمٍ هَذَا، قَالَ: فِيهِ حَذْفٌ عَلَى حَذْفٍ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قُدِّرَ عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ حُذِفَ عَلَى فَصَارَ قَدْرُ رِيِّهِمْ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، ثُمَّ حُذِفَ قُدِّرَ فَصَارَ رِيُّهُمْ قَائِمًا مَقَامَهُ، ثُمَّ حُذِفَ الرِّيُّ فَصَارَتِ الْوَاوُ مَكَانَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ لَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ مِمَّا قَبْلَهَا، وَصَارَتِ الْوَاوُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَاتَّصَلَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي تَقَدُّرِ النَّصْبِ بِالْفِعْلِ بَعْدَ الْوَاوِ الَّتِي تَحَوَّلَتْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ حَتَّى أُقِيمَتْ مَقَامَ الْفَاعِلِ. انْتَهَى. وَالْأَقْرَبُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قُدِّرَ رِيُّهُمْ مِنْهَا تَقْدِيرًا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ الَّذِي، وَأُقِيمَ الضَّمِيرُ مَقَامَهُ فَصَارَ التَّقْدِيرُ: قُدِّرُوا مِنْهَا ثُمَّ اتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ فَحُذِفَتْ مِنْ وَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ بِنَفْسِهِ فَصَارَ قُدِّرُوهَا، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا حَذْفُ مُضَافٍ وَاتِّسَاعٌ فِي الْمَجْرُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَأْسَ تُمْزَجُ بِالزَّنْجَبِيلِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَلِذُّهُ وَتَذْكُرُهُ فِي وَصْفِ رُضَابِ أَفْوَاهِ النِّسَاءِ، كَمَا أَنْشَدْنَا لَهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُسَمَّى الْعَيْنُ زَنْجَبِيلًا لِطَعْمِ الزَّنْجَبِيلِ فِيهَا. انْتَهَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّنْجَبِيلُ اسْمٌ لِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ، يَشْرَبُ مِنْهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُسْقَى بجامين، الأول مزاجه

_ (1) سورة القصص: 28/ 76.

الْكَافُورُ، وَالثَّانِي مِزَاجُهُ الزَّنْجَبِيلُ. وعينا بدل مِنْ كَأْسٍ عَلَى حَذْفِ، أَيْ كَأْسُ عَيْنٍ، أَوْ مِنْ زَنْجَبِيلٍ عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا بِمَعْنَى تُوصَفُ بِأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ فِي الِاتِّسَاعِ سَهْلَةٌ فِي الْمَذَاقِ، وَلَا يُحْمَلُ سَلْسَبِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَرَأَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، جَعَلَهُ عَلَمًا لَهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَمًا فَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّنْوِينِ الْمُنَاسَبَةُ لِلْفَوَاصِلِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي سلاسلا وقواريرا وَيُحَسِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، أَعْنِي صَرْفَ مَا لَا يَصْرِفُهُ أَكْثَرُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ زِيدَتِ الْبَاءُ فِي التَّرْكِيبِ حَتَّى صَارَتِ الْكَلِمَةُ خُمَاسِيَّةً. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ فَقَالَ: شَرَابٌ سَلْسَلٌ وَسَلْسَالٌ وَسَلْسِيلٌ، فَإِنْ كَانَ عَنَى أَنَّهُ زِيدَ حَقِيقَةً فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَإِنْ عَنَى أَنَّهَا حَرْفٌ جَاءَ فِي سَنْحِ الْكَلِمَةِ وَلَيْسَ فِي سَلْسِيلٍ وَلَا فِي سِلْسَالٍ، فَيَصِحُّ وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ مَعْنَاهُ وَكَانَ مُخْتَلِفًا فِي الْمَادَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ المعربين: سلسيلا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ بِسُؤَالِ السَّبِيلِ إِلَيْهَا، وَقَدْ نَسَبُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَيَجِبُ طَرْحُهُ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَوْجِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُ وَاشْتِغَالُهُ بِحِكَايَتِهِ، وَيَذْكُرُ نِسْبَتَهُ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ عَيْنٌ تَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ إِلَى الْجِنَانِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَيْنٌ سَلِسٌ مَاؤُهَا. وَقَالَ مجاهد: عين جديرة الْجَرْيَةِ سَلْسِلَةٌ سَهْلَةُ الْمَسَاغِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَيْنٌ يَتَسَلْسَلُ عَلَيْهِمْ مَاؤُهَا فِي مَجَالِسِهِمْ كَيْفَ شَاءُوا وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مُخَلَّدُونَ وَتَشْبِيهُ الْوِلْدَانِ بِاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ فِي بَيَاضِهِمْ وَصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ فِي الْمَسَاكِنِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَجِيئُونَ وَيَذْهَبُونَ. وَقِيلَ: شُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ إِذَا أُنْثِرَ مِنْ صَدَفِهِ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ فِي الْعَيْنِ وَأَبْهَجُ لِلنَّفْسِ. وَجَوَابُ إِذا رَأَيْتَ: نَعِيماً، وَمَفْعُولُ فِعْلِ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، حُذِفَ اقْتِصَارًا، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا رميت ببصرك هناك، وثم ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ رَأَيْتَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَإِذَا رَأَيْتَ مَا ثَمَّ، فَحَذَفَ مَا كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» ، أَيْ مَا بَيْنَكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ مَا ثَمَّ فَقَدَ أَخْطَأَ، لِأَنَّ ثَمَّ صِلَةٌ لِمَا، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْمَوْصُولِ وَتَرْكُ الصِّلَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِخَطَأٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَثَمَّ شَوَاهِدُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 94.

فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ أَيْ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، فَحَذَفَ الْمَوْصُولَ وَأَبْقَى صِلَتَهُ. وَقَالَ ابن عطية: وثم ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ رَأَيْتَ أَوْ مَعْنَاهُ، التَّقْدِيرُ: رَأَيْتَ مَا ثَمَّ حُذِفَتْ مَا. انْتَهَى. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَعْلُهُ مَعْمُولًا لرأيت لَا يَكُونُ صِلَةً لِمَا، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ إِذْ ذَاكَ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا اسْتَقَرَّ ثَمَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَحُمَيْدٌ الأعرج: ثم بضم التاء حَرْفَ عَطْفٍ، وَجَوَابُ إِذَا عَلَى هَذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ وَإِذَا رَمَيْتَ بِبَصَرِكَ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَالْمُلْكُ الْكَبِيرُ قِيلَ: النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْتِئْذَانُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُلْكُ الْكَبِيرُ: اتِّسَاعُ مَوَاضِعِهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَبِيرًا عَرِيضًا يُبْصِرُ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَقَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: مَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ غُلَامٍ، كُلُّهُمْ مُخْتَلِفٌ شُغْلُهُ مِنْ شُغْلِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَظُنُّهُ التِّرْمِذِيَّ الْحَكِيمَ لَا أَبَا عِيسَى الْحَافِظَ صَاحِبَ الْجَامِعِ: هُوَ مُلْكُ التَّكْوِينِ وَالْمَشِيئَةِ، إِذَا أراد شيئا كان قوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها «1» ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَقَرَأَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَجُمْهُورُ السَّبْعَةِ: عالِيَهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَابْنُ عباس: بخلاف عنه وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ: بِسُكُونِهَا، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبَانٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً وَعَنِ الْأَعْمَشِ وَأَبَانٍ أَيْضًا عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ: عَلَيْهِمْ حَرْفَ جَرٍّ، ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَأَبَانٌ أَيْضًا وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: عَلَتْهُمْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِعْلًا مَاضِيًا، فَثِيَابُ فَاعِلٌ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً فَمُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ثِيَابٌ وَمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِمْ حَرْفَ جَرٍّ فَثِيَابُ مُبْتَدَأٌ وَمَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الْيَاءِ وَبِالتَّاءِ سَاكِنَةً فَعَلَى الْحَالِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ، فذوا لحال الطَّوْفُ عَلَيْهِمْ وَالْعَامِلُ يَطُوفُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَالِيَهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَطُوفُ عَلَيْهِمْ، أَوْ فِي حَسِبْتَهُمْ، أَيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ عَالِيًا لِلْمَطُوفِ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ، أَوْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا عَالِيًا لَهُمْ ثِيَابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: رَأَيْتَ أَهْلَ نَعِيمٍ وَمُلْكٍ عَالِيَهُمْ ثِيَابٌ. انْتَهَى. إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي حَسِبْتَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُعْنِي إِلَّا ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا عَائِدٌ عَلَى وِلْدانٌ، وَلِذَلِكَ قُدِّرَ عَالِيَهُمْ بِقَوْلِهِ: عَالِيًا لَهُمْ، أَيْ لِلْوِلْدَانِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ الْآتِيَةَ بَعْدَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا للمطوف عليهم من

_ (1) سورة ق: 50/ 35.

قَوْلِهِ: وَحُلُّوا، وسَقاهُمْ، وَإِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً، وَفَكُّ الضَّمَائِرِ يَجْعَلُ هَذَا كَذَا وَذَاكَ كَذَا مَعَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ إِلَى ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا جَعْلُهُ حَالًا مِنْ مَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ أَهْلُ نَعِيمٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْحَذْفِ مَعَ صِحَّةِ الْكَلَامِ وَبَرَاعَتِهِ دُونَ تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وثياب مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ فِي النَّصْبِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى فَوْقَهُمْ. انْتَهَى. وَعَالٍ وَعَالِيَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ، فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِمَا ظَرْفَيْنِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مُنْقُولًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَالِيَكَ أَوْ عَالِيَتُكَ ثَوْبٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثِيَابُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ إِلَى سندس. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ: عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ سُنْدُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ، بِرَفْعِ سُنْدُسٍ بِالصِّفَةِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ، كَمَا تَقُولُ: ثَوْبٌ حَرِيرٌ، تُرِيدُ مِنْ حَرِيرٍ وَبِرَفْعِ خُضْرٌ بِالصِّفَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْخُضْرَةَ لَوْنُهَا وَرُفِعَ إِسْتَبْرَقٍ بِالْعَطْفِ عَلَيْهَا، وَهُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ تَقْدِيرُهُ: وَثِيَابٌ إِسْتَبْرَقٌ، أَيْ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ: خُضْرٌ بِرَفْعِهِمَا. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ ونافع فِي رِوَايَةٍ: خُضْرٌ بِالرَّفْعِ صفة لثياب، وإستبرق جُرَّ عَطْفًا عَلَى سُنْدُسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: بِجَرِّ خُضْرٍ صِفَةً لِسُنْدُسٍ، وَرَفْعِ إِسْتَبْرَقٍ عَطْفًا عَلَى ثِيَابٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وحمزة وَالْكِسَائِيُّ: وَوَصْفُ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَالْجَمْعُ جَائِزٌ فَصِيحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ «1» ، وَقَالَ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ» ، فَجَعَلَ الْحَالَ جَمْعًا، وَإِذَا كَانُوا قَدْ جَمَعُوا صِفَةَ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ الْمَحْكِيِّ بِأَلْ بِالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، حَيْثُ جَمْعُ وَصْفِهِمَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ أَوْرَدَهُ النُّحَاةُ مَوْرِدَ الْجَوَازِ بِلَا قُبْحٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَإِسْتَبْرَقٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكَهْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هنا وقرىء وإستبرق نَصْبًا فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ يَدْخُلُهُ حَرْفُ التَّعْرِيفِ، تَقُولُ: الْإِسْتَبْرَقُ إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ أَنَّهُ قَدْ يُجْعَلُ عَلَمًا لِهَذَا الضرب من الثياب. وقرىء: وَاسْتَبْرَقَ، بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْتَفْعَلَ مِنَ الْبَرِيقِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ مَشْهُورٌ تَعْرِيبُهُ، وَأَنَّ أَصْلَهُ إِسْتَبْرَهْ. انْتَهَى. وَدَلَّ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وقوله: بعد وقرىء وإستبرق بوصل

_ (1) سورة الرعد: 13/ 12. (2) سورة ق: 50/ 10.

الْأَلِفِ وَالْفَتْحِ، أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ هِيَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْقَافِ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهُ قَرَأَ بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْقَافِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ضَمِيرًا، وَيُؤَيِّدَ ذَلِكَ دُخُولُ لَامِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ قَطْعُ الْأَلِفِ وَإِجْرَاؤُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ. انْتَهَى. وَنَقُولُ: إِنَّ ابْنَ مُحَيْصِنٍ قَارِئٌ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ بِمَعْرِفَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، وَيُتَطَلَّبُ لِقِرَاءَتِهِ وَجْهٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجْعَلُ اسْتَفْعَلَ من البريق. وتقول: بَرِقَ وَاسَتَبْرَقَ، كَعَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: خُضْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْخُضْرَةِ، وَهِيَ لَوْنُ ذَلِكَ السُّنْدُسِ، وَكَانَتِ الْخُضْرَةُ مِمَّا يَكُونُ لِشِدَّتِهَا دُهْمَةٌ وَغَبَشٌ، أَخْبَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ بَرِيقًا وَحُسْنًا يُزِيلُ غَبَشَتَهُ. فَاسْتَبْرَقَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى السُّنْدُسِ أَوْ عَلَى الِاخْضِرَارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خُضْرٌ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحِينِ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَتَوْهِيمِ ضَابِطٍ ثِقَةٍ أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ ذَهَبٍ «1» ، أَيْ يُحَلَّوْنَ مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ أَوْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، كَمَا يَقَعُ لِلنِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَا أَحْسَنَ بِالْمِعْصَمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُوَارَانِ، سُوارٌ مِنْ ذَهَبٍ وَسُوارٌ مِنْ فِضَّةٍ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ بِالْمِعْصَمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَحْسَنَ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَحْسَنَ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ زِيَادَةُ الْبَاءِ فِي مَفْعُولِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ، لَا تَقُولُ: مَا أَحْسَنَ بِزَيْدٍ، تُرِيدُ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَفِي مِثْلِ هَذَا الْفَصْلِ خِلَافٌ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْمُوَلَّدُ مِنَّا إِذَا تَكَلَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ فِي كَلَامِهِ عَمَّا فِيهِ الْخِلَافُ. وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً، طَهُورٌ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الطَّهَارَةِ، وَهِيَ مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ وَطَهَارَتُهَا بِكَوْنِهَا لَمْ يُؤْمَرْ بِاجْتِنَابِهَا، وَلَيْسَتْ كَخَمْرِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ فِي الشَّرْعِ رِجْسٌ أَوْ لِكَوْنِهَا لَمْ تُدَسْ بِرِجْلٍ دَنِسَةٍ، وَلَمْ تُمَسَّ بِيَدٍ وَضِرَةٍ، وَلَمْ تُوضَعْ فِي إِنَاءٍ لَمْ يُعْنَ بِتَنْظِيفِهِ. ذَكَرَهُ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ ثُمَّ قَالَ: أو لأنه لا يؤول إِلَى النَّجَاسَةِ، لِأَنَّهُ يُرْشَحُ عَرَقًا مِنْ أَبْدَانِهِمْ لَهُ رِيحٌ كَرِيحِ الْمِسْكِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْآخَرُ قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ وَالنَّخَعِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، قَالُوا: لَا تَنْقَلِبُ إِلَى الْبَوْلِ، بَلْ تَكُونُ رَشْحًا مِنَ الْأَبْدَانِ أَطْيَبَ مِنِ الْمِسْكِ. إِنَّ هَذَا: أَيِ النَّعِيمَ السَّرْمَدِيَّ، كانَ لَكُمْ جَزاءً: أَيْ لِأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ،

_ (1) سورة الكهف: 18/ 31.

وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً: أَيْ مَقْبُولًا مُثَابًا. قَالَ قَتَادَةُ: لَقَدْ شَكَرَ اللَّهُ سَعْيًا قَلِيلًا، وَهَذَا عَلَى إِضْمَارِ يُقَالُ لَهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْنِئَةِ وَالسُّرُورِ لَهُمْ بِضِدِّ مَا يُقَالُ لِلْمُعَاقَبِ: إِنَّ هَذَا بِعَمَلِكَ الرَّدِيءِ، فَيَزْدَادُ غَمًّا وَحُزْنًا. وَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا حَالَ الْإِنْسَانِ وَقَسَّمَهُ إِلَى الْعَاصِي وَالطَّائِعِ، ذَكَرَ مَا شَرَّفَ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ بِحُكْمِهِ، وَجَاءَ التَّوْكِيدُ بِإِنَّ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَمَدْلُولِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَأُكِّدَ الْفِعْلُ بِالْمَصْدَرِ. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، قَالَ: إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ الْآيَةَ. وَالنَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِمَا، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ فِي طَاعَتِهِمَا طَاعَةَ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ قَالَ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا وَعَمْرًا، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ ضَرْبِهِمَا جَمِيعًا، لَا عَنْ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْكَفُورُ، وَإِنْ كَانَ إِثْمًا، فَإِنَّ فِيهِ مُبَالَغَةً فِي الْكُفْرِ. وَلَمَّا كَانَ وَصْفُ الْكَفُورِ مُبَايِنًا لِلْمَوْصُوفِ لِمُجَرَّدِ الْإِثْمِ، صَلَحَ التَّغَايُرُ فَحَسُنَ الْعَطْفُ. وَقِيلَ: الْآثِمُ عُتْبَةُ، وَالْكَفُورُ الْوَلِيدُ، لِأَنَّ عُتْبَةَ كَانَ رَكَّابًا لِلْمَآثِمِ مُتَعَاطِيًا لِأَنْوَاعِ الفسوق وكان الوليد غالبا فِي الْكُفْرِ، شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ فِي الْعُتُوِّ. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً: يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَأَصِيلًا: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ. وَمِنَ اللَّيْلِ: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا وَنُسِخَ، فَلَا فَرْضَ إِلَّا الْخَمْسُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُحْكَمٌ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ. إِنَّ هؤُلاءِ: إِشَارَةٌ إِلَى الْكَفَرَةِ. يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ: يُؤْثِرُونَهَا عَلَى الدُّنْيَا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ: أَيْ أَمَامَهُمْ، وَهُوَ مَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الزَّمَانِ. يَوْماً ثَقِيلًا: اسْتُعِيرَ الثِّقَلُ لِلْيَوْمِ لِشِدَّتِهِ، وهو له مِنْ ثِقَلِ الْجُرْمِ الَّذِي يُتْعِبُ حَامِلَهُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَسْرِ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَإِذا شِئْنا: أَيْ تَبْدِيلَ أَمْثَالِهِمْ بِإِهْلَاكِهِمْ، بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ مِمَّنْ يُطِيعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقُّهُ أَنْ يَجِيءَ بِإِنْ لَا بِإِذَا، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «1» ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ «2» . انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ إِذَا لِلْمُحَقَّقِ وَإِنْ لِلْمُمْكِنِ، وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ، لَكِنَّهُ قَدْ تُوضَعُ إِذَا مَوْضِعَ إِنْ، وَإِنْ مَوْضِعَ إِذَا، كَقَوْلِهِ: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «3» .

_ (1) سورة محمد: 47/ 38. (2) سورة الأنعام: 6/ 133، وسورة إبراهيم: 14/ 119، وسورة فاطر: 35/ 16. (3) سورة الأنبياء: 21/ 34.

إِنَّ هذِهِ: أي السُّورَةِ، أَوْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَوْ جُمْلَةَ الشَّرِيعَةِ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنَ اتِّخَاذِ غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِمَنْ شَاءَ مِمَّنِ اخْتَارَ الْخَيْرَ لِنَفْسِهِ وَالْعَاقِبَةَ، وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ والتوسل بالطاعة. وَما تَشاؤُنَ: الطَّاعَةَ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَقْسِرُهُمْ عَلَيْهَا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ، حَكِيماً حَيْثُ خَلَقَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَمَا يَشَاءُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ نَفْيٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَإِيجَادِ الْمَعَانِي فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَرُدُّ هَذَا وُجُودُ مَا لَهُمْ مِنَ الِاكْتِسَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَحَلُّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؟ قُلْتُ: النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَأَصْلُهُ: إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا مَا يَشَاءُ اللَّهُ، لِأَنَّ مَا مَعَ الْفِعْلِ كَانَ مَعَهُ. انْتَهَى. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الظَّرْفِ إِلَّا الْمَصْدَرُ الْمُصَرَّحُ بِهِ، كَقَوْلِكَ: أَجِيئُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ، وَلَا يُجِيزُونَ: أَجِيئُكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، وَلَا مَا يَصِيحُ الدِّيكُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالظَّالِمِينَ نَصْبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: أَعَدَّ لَهُمْ، وَتَقْدِيرُهُ: وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، جُمْلَةُ عَطْفٍ فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَالظَّالِمُونَ، عَطْفَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلِلظَّالِمِينَ بِلَامِ الْجَرِّ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَعَدَّ لَهُمْ تَوْكِيدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَيُقَدَّرُ فِعْلٌ يُفَسِّرُهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأَعَدَّ لِلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، فَتَقُولُ: بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَالْمَحْفُوظُ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْعَرَبِ نَصْبُ الِاسْمِ وَتَفْسِيرُ مَرَرْتُ الْمُتَأَخِّرِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِعْلًا مَاضِيًا.

سورة المرسلات

سورة المرسلات [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

فَرَجْتُ الشَّيْءَ: فَتَحْتُهُ فَانْفَرَجَ، قَالَ الرَّاجِزُ: الْفَارِجُو بَابِ الْأَمِيرِ الْمُبْهَمِ كَفَتَ: ضَمَّ وَجَمَعَ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ» . ومنه قيل ليقبع الْغَرْقَدِ: كَفَتَ وَكَفَتَهُ، وَالْكِفَاتُ اسْمٌ لِمَا يُكْفَتُ، كَالضِّمَامِ وَالْجِمَاعِ يُقَالُ: هَذَا الْبَابُ جماع الأبواب، وقال الصمامة بْنُ الطِّرْمَاحِ: فَأَنْتَ الْيَوْمَ فَوْقَ الْأَرْضِ حَيٌّ ... وَأَنْتَ غَدًا تَضُمُّكَ فِي كِفَاتِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْكِفَاتُ: الْوِعَاءُ. شَمَخَ: ارْتَفَعَ. الشَّرَرُ: مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ مُتَبَدِّدًا فِي كُلِّ جِهَةٍ، وَاحِدُهُ شَرَرَةٌ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ: شَرَارٌ بِالْأَلِفِ وَاحِدُهُ شَرَارَةٌ. الْقَصْرُ: الدَّارُ الْكَبِيرَةُ الْمُشَيَّدَةُ، وَالْقَصْرُ: قِطَعٌ مِنَ الْخَشَبِ قَدْرَ الذِّرَاعِ وَفَوْقَهُ وَدُونَهُ يُسْتَعَدُّ بِهِ لِلشِّتَاءِ، وَاحِدُهُ قَصْرَةٌ وَالْقَصَرُ، بِفَتْحِ الصَّادِ: أَعْنَاقُ الْإِبِلِ وَالنَّخْلِ وَالنَّاسِ، وَاحِدُهُ قَصَرَةٌ وَبِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ جَمْعُ قَصْرَةٍ، كَحَلْقَةٍ مِنَ الْحَدِيدِ وَحِلَقٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ، فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ، كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ أَنَّ فِيهَا آيَةً مَدَنِيَّةً وَهِيَ: وَإِذا قِيلَ: لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، فَهَذَا وَعْدٌ مِنْهُ صَادِقٌ، فَأَقْسَمَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي هَذِهِ فَقَالَ: إِنَّما

تُوعَدُونَ لَواقِعٌ . وَلَمَّا كَانَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَوْصُوفَاتٍ قَدْ حُذِفَتْ وَأُقِيمَتْ صِفَاتُهَا مَقَامَهَا، وَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْمَوْصُوفَاتِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو صَالِحٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: وَالْمُرْسَلاتِ: الْمَلَائِكَةُ، أُرْسِلَتْ بِالْعُرْفِ ضِدَّ النُّكْرِ وَهُوَ الْوَحْيُ، فَبِالتَّعَاقُبِ عَلَى الْعِبَادِ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى عُرْفًا: إِفْضَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ أُرْسِلْنَ لِلْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ، أَوْ مُتَتَابِعَةً تَشْبِيهًا بِعُرْفِ الْفَرَسِ فِي تَتَابُعِ شَعْرِهِ وَأَعْرَافِ الْخَيْلِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: النَّاسُ إِلَى فُلَانٍ عُرْفٌ وَاحِدٌ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ مُتَتَابِعِينَ، وَهُمْ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِذَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الرِّيَاحُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّحَابُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عُرْفاً بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَعِيسَى: بِضَمِّهَا. فَالْعاصِفاتِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الشَّدِيدَاتُ الْهُبُوبِ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ تَعْصِفُ بِأَرْوَاحِ الْكُفَّارِ، أَيْ تُزْعِجُهَا بِشِدَّةٍ، أَوْ تَعْصِفُ فِي مُضِيِّهَا كَمَا تَعْصِفُ الرِّيَاحُ تَحَقُّقًا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الْمُهْلِكَةُ، كَالزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْخُسُوفِ. وَالنَّاشِراتِ، قَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَمُقَاتِلٌ: الْمَلَائِكَةُ تَنْشُرُ صُحُفَ الْعِبَادِ بِالْأَعْمَالِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْمَلَائِكَةُ تَنْشُرُ النَّاسَ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ ومجاهد وقتادة: الرِّيَاحُ تَنْشُرُ رَحْمَةَ اللَّهِ وَمَطَرَهُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْأَمْطَارُ تُحْيِي الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصُّحُفُ تُنْشَرُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النَّاشِرَاتُ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ النَّشْرِ. فَالْفارِقاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مسعود وأبو صالح ومجاهد وَالضَّحَّاكُ: الْمَلَائِكَةُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: آيَاتُ الْقُرْآنِ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الرِّيَاحُ تُفَرِّقُ بَيْنَ السَّحَابِ فَتُبَدِّدُهُ. وَقِيلَ: الرُّسُلُ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: السَّحَابُ الْمَاطِرُ تَشْبِيهًا بِالنَّاقَةِ الْفَارُوقِ، وَهِيَ الْحَامِلُ الَّتِي تَجْزَعُ حِينَ تَضَعُ. وَقِيلَ: الْعُقُولُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْجُمْهُورُ: الْمَلَائِكَةُ تُلْقِي مَا حَمَلَتْ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الرُّسُلُ تُلْقِي مَا أُنْزِلَ عَلَيْهَا إِلَى الْأُمَمِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ أُلْقِيَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْأَقْوَالِ أَنْ تَكُونَ وَالْمُرْسَلاتِ إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ: إِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ، وَإِمَّا لِلرِّيَاحِ. فَلِلْمَلَائِكَةِ تَكُونُ عُذْرًا لِلْمُحَقِّقِينَ، أَوْ نُذْرًا لِلْمُبْطِلِينَ وَلِلرِّيَاحِ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَلْقَيْنَ ذِكْرًا، إِمَّا عُذْرًا لِلَّذِينِ يَعْتَذِرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ إِذَا رَأَوْا نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْغَيْثِ وَيَشْكُرُونَهَا، وَإِمَّا إِنْذَارًا لِلَّذِينِ يَغْفُلُونَ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى الْأَنْوَاءِ، وَجُعِلْنَ مُلْقِيَاتٍ لِلذِّكْرِ لِكَوْنِهِنَّ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ إِذَا شُكِرَتِ النِّعْمَةُ فِيهِنَّ، أَوْ كُفِرَتْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ شَيْئَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ فِي وَالنَّاشِراتِ، وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ يُشْعِرُ بِالتَّغَايُرِ، بَلْ هُوَ مَوْضُوعُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا الْعَطْفُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ فِي الصِّفَاتِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَادِيَاتِ، وَهِيَ الْخَيْلُ وَكَقَوْلِهِ: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ فَالصَّا ... بِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ فَهَذِهِ رَاجِعَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحَارِثُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَقْسَمَ أَوَّلًا بِالرِّيَاحِ، فَهِيَ مُرْسَلَاتُهُ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ الصِّفَةِ بِالْفَاءِ، كَمَا قُلْنَا، وَأَنَّ الْعَصْفَ مِنْ صِفَاتِ الرِّيحِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي فِيهِ تَرَقٍ إِلَى أَشْرَفَ مِنَ الْمُقْسَمِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَكُونُ فَالْفارِقاتِ، فَالْمُلْقِياتِ مِنْ صِفَاتِهِمْ، كَمَا قُلْنَا فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ وَإِلْقَاؤُهُمُ الذِّكْرَ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، يَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَالْمُلْقِياتِ اسْمُ فَاعِلٍ خَفِيفٌ، أَيْ نَطْرُقُهُ إِلَيْهِمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ: مُشَدَّدٌ مِنَ التَّلْقِيَةِ، وَهِيَ أَيْضًا إِيصَالُ الْكَلَامِ إِلَى الْمُخَاطَبِ. يُقَالُ: لَقَّيْتُهُ الذِّكْرَ فَتَلَقَّاهُ. وَقَرَأَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ مُشَدَّدَةً اسْمُ مَفْعُولٍ، أَيْ تَلَقَّتْهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَالنَّحْوِيَّانِ وَحَفْصٌ: عُذْراً أَوْ نُذْراً بِسُكُونِ الذَّالَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ خَارِجَةَ وَطَلْحَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ وَالْأَعْشَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِضَمِّهِمَا وَأَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا وَشَيْبَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: بِسُكُونِهَا فِي عُذْرًا وَضَمِّهَا فِي نُذْرًا، فَالسُّكُونُ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ مُفْرَدَانِ، أَوْ مَصْدَرَانِ جَمْعَانِ. فعذرا جَمْعُ عَذِيرٍ بِمَعْنَى الْمَعْذِرَةِ، ونذرا جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذِكْراً، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَالْمُلْقِيَاتِ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ عَاذِرِينَ أَوْ مُنْذِرِينَ. وَيَجُوزُ مَعَ الْإِسْكَانِ أَنْ يَكُونَا جَمْعَيْنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَقِيلَ: يَصِحُّ انْتِصَابُ عُذْراً أَوْ نُذْراً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ ذِكْراً، أَيْ فَالْمُلْقِيَاتِ، أَيْ فَذَكَرُوا عُذْرًا، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا

لَا يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ لِقَوْلِهِ: أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ. والإعذار هي بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَالْإِنْذَارُ هُوَ بِالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ. إِنَّما تُوعَدُونَ: أَيْ مِنَ الْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، لَواقِعٌ: وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كُتِبَتْ مَوْصُولَةً بِإِنَّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ نُذْراً بِوَاوِ التَّفْصِيلِ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: وَنُذْرًا بِوَاوِ الْعَطْفِ. فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ: أَيِ أُذْهِبَ نُورُهَا فَاسْتَوَتْ مَعَ جِرْمِ السَّمَاءِ، أَوْ عُبِّرَ عَنْ إِلْحَاقِ ذَوَاتِهَا بِالطَّمْسِ، وَهُوَ انْتِثَارُهَا وَانْكِدَارُهَا، أَوْ أُذْهِبَ نُورُهَا ثُمَّ انْتَثَرَتْ مَمْحُوقَةَ النُّورِ. وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ: أَيْ صَارَ فِيهَا فُرُوجٌ بِانْفِطَارٍ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: طُمِّسَتْ، فُرِّجَتْ، بِشَدِّ الْمِيمِ وَالرَّاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِخَفِّهِمَا. وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ: أَيْ فَرَّقَتْهَا الرِّيَاحُ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّسْيِيرِ وَقَبْلَ كَوْنِهَا هَبَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُقِّتَتْ بِالْهَمْزِ وَشَدِّ الْقَافِ وَبِتَخْفِيفِ الْقَافِ وَالْهَمْزِ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَخَالِدٌ. وَقَرَأَ أَبُو الْأَشْهَبِ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَعِيسَى أَيْضًا وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْوَاوِ وَشَدِّ الْقَافِ. قَالَ عِيسَى: وَهِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ. وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ وَخَفِّ الْقَافِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا: وُوقِتَتْ بِوَاوَيْنِ عَلَى وَزْنِ فُوعِلَتْ، وَالْمَعْنَى: جُعِلَ لَهَا وَقْتٌ مُنْتَظَرٌ فَحَانَ وَجَاءَ، أَوْ بَلَغَتْ مِيقَاتَهَا الَّذِي كَانَتْ تَنْتَظِرُهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْوَاوُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَصْلٌ وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى تَوْقِيتِ الرُّسُلِ: تَبْيِينُ وَقْتِهَا الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا وَقَعَ مَا تُوعَدُونَ. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ: تَعْظِيمٌ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَتَعْجِيبٌ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالشِّدَّةِ. وَالتَّأْجِيلُ مِنَ الْأَجَلِ، أَيْ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أُخِّرَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ: أَيْ بَيْنَ الْخَلَائِقِ. وَيْلٌ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَّلِ ثَانِي حِزْبٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، يَوْمَئِذٍ: يَوْمَ إِذْ طُمِسَتِ النُّجُومُ وَكَانَ مَا بَعْدَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ بضم النون، وقتادة: بِفَتْحِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ هَلَكَهُ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُ. قَالَ الْعَجَّاجُ: وَمَهْمَهٍ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا انْتَهَى. وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا عَلَى أَنَّ هَالِكًا هُوَ مِنَ اللَّازِمِ، وَمَنْ مَوْصُولٌ، فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قَدْ يَكُونُ مَعْمُولُهَا مَوْصُولًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُتْبِعُهُمُ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ وَعْدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَيُقَوِّي الِاسْتِئْنَافَ قِرَاءَةُ

عَبْدِ اللَّهِ: ثُمَّ سَنُتْبِعُهُمْ، بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْأَعْرَجُ وَالْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِإِسْكَانِهَا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى نُهْلِكِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سُكِّنَ تَخْفِيفًا، كَمَا سُكِّنَ وَما يُشْعِرُكُمْ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ. فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ يَكُونُ الْأَوَّلِينَ الْأُمَمَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ قُرَيْشًا أَجْمَعَا، وَيَكُونُ الْآخِرِينَ مَنْ تَأَخَّرَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَعَلَى التَّشْرِيكِ يَكُونُ الْأَوَّلِينَ قَوْمَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَالْآخِرِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ تَأَخَّرَ وَقَرُبَ مِنْ مُدَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِهْلَاكُ هُنَا إِهْلَاكُ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، فَأَتَى بِالصِّفَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِهْلَاكِ الْعَذَابِ وَهِيَ الْإِجْرَامُ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِفْنَاءَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ذَكَرَ وَوَقَفَ عَلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ الَّتِي يَقْتَضِي النَّظَرُ فِيهَا تَجْوِيزَ الْبَعْثِ، مِنْ ماءٍ مَهِينٍ: أَيْ ضَعِيفٍ هُوَ مَنِيُّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فِي قَرارٍ مَكِينٍ: وَهُوَ الرَّحِمُ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ: أَيْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَقْتُ الْوِلَادَةِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فَقَدَّرْنَا بِشَدِّ الدَّالِ مِنَ التَّقْدِيرِ، كَمَا قَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ «1» وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفِّهَا مِنَ الْقُدْرَةِ؟ وَانْتَصَبَ أَحْياءً وَأَمْواتاً بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ يَكْفِتُ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبَّاشَ يُقْطَعُ، لِأَنَّ بَطْنَ الْأَرْضِ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ، فَإِذَا نَبَشَ وَأَخَذَ مِنْهُ فَهُوَ سَارِقٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: نَكْفِتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيَنْتَصِبَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا كِفَاتُ الْإِنْسِ. انْتَهَى. ورَواسِيَ: جِبَالًا ثَابِتَاتٍ، شامِخاتٍ: مُرْتَفِعَاتٍ، وَمِنْهُ شَمَخَ بِأَنْفِهِ: ارْتَفَعَ، شَبَّهَ الْمَعْنَى بِالْجِرْمِ. وَأَسْقَيْناكُمْ : جعلناه سقيا لمزراعكم وَمَنَافِعِكُمْ. انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ. يُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ: أَيِ مِنَ الْعَذَابِ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ:

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 109.

أَمْرٌ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَكْرَارًا أو بيان لِلْمُنْطَلَقِ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلُوا فَانْطَلَقُوا، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّأْخِيرُ، إِذْ صَارُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى الِانْطِلَاقِ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ دُخَانُ جَهَنَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَعْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، يَظُنُّ الْكُفَّارُ أَنَّهُ مُغْنٍ مِنَ النَّارِ، فَيُهْرَعُونَ إِلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ عَلَى أَسْوَأِ وَصْفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُقَالُ ذَلِكَ لِعَبَدَةِ الصَّلِيبِ. فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ظِلِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ فِي ظِلِّ مَعْبُودِهِمْ وَهُوَ الصَّلِيبُ لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ، وَالشِّعْبُ: مَا تَفَرَّقَ مِنْ جِسْمٍ وَاحِدٍ. لَا ظَلِيلٍ: نَفْيٌ لِمَحَاسِنِ الظِّلِّ، وَلا يُغْنِي: أَيْ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ شَيْئًا. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا لِجَهَنَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِشَرَرٍ، وَعِيسَى: بِشَرَارٍ بِأَلِفٍ بَيْنَ الرَّاءَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الشِّينَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَرَرٍ، أَيْ بِشِرَارٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً أُقِيمَتْ مَقَامَ مَوْصُوفِهَا، أَيْ بِشِرَارٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا تَقُولُ: قَوْمٌ شِرَارٌ جَمْعُ شَرٍّ غَيْرُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَقَوْمٌ خِيَارٌ جَمْعُ خَيْرٍ غَيْرُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ وَيُؤَنَّثُ هَذَا فَيُقَالُ لِلْمُؤَنَّثِ شَرَّةٌ وَخَيْرَةٌ بِخِلَافِهِمَا، إِذَا كَانَا لِلتَّفْضِيلِ، فَلَهُمَا أَحْكَامٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَالْقَصْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ ومجاهد وَالْحَسَنُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَالصَّادِ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ أَيْضًا: كَالْقِصَرِ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَابْنُ مَسْعُودٍ: بِضَمِّهِمَا، كَأَنَّهُ مَقْصُورٌ مِنَ الْقُصُورِ، كَمَا قَصَرُوا النَّجْمَ وَالنَّمِرَ مِنَ النُّجُومِ وَالنُّمُورِ، قَالَ الرَّاجِزُ: فِيهَا عَنَابِيلُ أُسُودٌ وَنَمِرُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ أَكْثَرِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: جِمَالَاتٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، جَمْعُ جِمَالٍ جَمْعُ الْجَمْعِ وَهِيَ الْإِبِلُ، كَقَوْلِهِمْ: رِجَالَاتُ قُرَيْشٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْجِيمَ، وَهِيَ جُمَالُ السُّفُنِ، الْوَاحِدُ مِنْهَا جُمْلَةٌ لِكَوْنِهِ جُمْلَةً مِنَ الطَّاقَاتِ وَالْقُوَى، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى جُمَلٍ وَجِمَالٍ، ثُمَّ جُمِعَ جُمَالٌ ثَانِيًا جَمْعُ صِحَّةٍ فَقَالُوا: جُمَالَاتٌ. وَقِيلَ: الْجِمَالَاتُ: قُلُوصُ الْجُسُورِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْأَصْمَعِيِّ، وَهَارُونُ عَنْهُ: جِمَالَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ، لَحِقَتْ جِمَالًا التَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، كَحَجَرٍ وَحِجَارَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وأبو نحرية وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَرُوَيْسٌ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْجِيمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْجِمَالَاتُ: قُلُوصُ السُّفُنِ، وَهِيَ حِبَالُهُ الْعِظَامُ، إِذَا اجْتَمَعَتْ مُسْتَدِيرَةً بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ

جَاءَ مِنْهَا أَجْرَامٌ عِظَامٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْجِمَالَاتُ: قِطَعُ النُّحَاسِ الْكِبَارُ، وَكَانَ اشْتِقَاقُ هَذِهِ مِنِ اسْمِ الْجُمْلَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: صُفُرٌ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِهَا، شَبَّهَ الشَّرَرَ أَوَّلًا بِالْقَصْرِ، وَهُوَ الْحِصْنُ مِنْ جِهَةِ الْعِظَمِ وَمِنْ جِهَةِ الطُّولِ فِي الْهَوَاءِ وَثَانِيًا بِالْجِمَالِ لِبَيَانِ التَّشْبِيهِ. أَلَا تَرَاهُمْ يُشَبِّهُونَ الْإِبِلَ بِالْأَفْدَانِ، وَهِيَ الْقُصُورُ؟ قَالَ الشَّاعِرُ: فَوَقَفْتُ فِيهَا نَاقَتِي فَكَأَنَّهَا ... فدن لأقصى حَاجَةَ الْمُتَلَوِّمِ وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْجِيمِ، فَالتَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْعِظَمِ وَالطُّولِ. وَالصُّفْرَةُ الْفَاقِعَةُ أَشْبَهُ بِلَوْنِ الشَّرَرِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ: وَقِيلَ: صُفْرٌ سُودٌ، وَقِيلَ: سُودٌ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ. وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الرَّقَاشِيُّ: دَعَتْهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا وَرَمَتْهُمْ ... بِمِثْلِ الْجِمَالِ الصُّفْرِ نَزَّاعَةُ الشَّوَى وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِيسَى وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجُمْهُورُ: بِرَفْعِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا أَضَافَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بَنَاهُ فَهِيَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَالَ عِيسَى: هِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ، يَعْنِي بِنَاءَهُمْ يَوْمَ مَعَ لَا عَلَى الْفَتْحِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا يَوْمَ مَعَ لَا كَالِاسْمِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِمُضَارِعٍ مُثْبَتٍ أَوْ مَنْفِيٍّ لَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ فِي الظَّرْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا الْبِنَاءَ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا صَحِيحًا عَلَى الظَّرْفِ، فَيَصِيرُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكَلَامِ دُونَ إِشَارَةٍ إِلَى يَوْمَ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي نَصْبِ يَوْمَ نِدَاءٌ تَقَدَّمَهُ مِنْ صِفَةِ جَهَنَّمَ، وَرَمْيِهَا بِالشَّرَرِ فِي يَوْمَ لَا يَنْطِقُونَ، فيكون يومئذ كلام معترض لَا يَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيغِ الْعَامِلِ لِلْمَعْمُولِ، كَمَا كَانَتْ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، ذَواتا أَفْنانٍ «1» . انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، وَتَكُونَ الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى رَمْيِهَا بِشَرَرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَصَبَهُ الْأَعْمَشُ، أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَّ عَلَيْكُمْ وَاقِعٌ يَوْمَئِذٍ، وَهُنَا نَفْيُ نُطْقِهِمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ نَطَقُوا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ طُولِ الْيَوْمِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَنْفِيَ الْقَوْلَ فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُثْبِتَ فِي وَقْتٍ، أَوْ نَفَى نُطْقَهُمْ بِحُجَّةٍ تَنْفَعُ وَجَعَلَ نُطْقَهُمْ بِمَا لَا يَنْفَعُ كَلَا نُطْقٍ.

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 47- 48.

وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ فِيمَا أَعْلَمُ: وَلا يُؤْذَنُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ قَرَأَ: وَلَا يَأْذَنُ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَعْتَذِرُونَ: عَطْفٌ عَلَى وَلا يُؤْذَنُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ نَفْيِ الْإِذْنِ، أَيْ فَلَا إِذْنٌ فَاعْتِذَارٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ الِاعْتِذَارَ مُتَسَبِّبًا عَنِ الْإِذْنِ فَيُنْصَبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يُنْصَبْ فِي جواب النفي لتشابه رؤوس الْآيِ، وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ. انْتَهَى. فَجَعَلَ امْتِنَاعَ النَّصْبِ هُوَ تشابه رؤوس الآي وقال: والوجهان جَائِزَانِ، فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ اسْتِوَاءُ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفْعَ كَمَا ذَكَرْنَا لَا يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بَلْ صَرِيحُ عَطْفٍ، وَالنَّصْبُ يَكُونُ فِيهِ مُتَسَبِّبًا فَافْتَرَقَا. وَذَهَبَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمُ إِلَى أن قَدْ يُرْفَعُ الْفِعْلُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْمَنْصُوبَ بَعْدَ الْفَاءِ وَذَلِكَ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ النَّحْوِيُّونَ مَعْنَى الرَّفْعِ غَيْرَ مَعْنَى النَّصْبِ رَعْيًا لِلْأَكْثَرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَعَلَ دَلِيلَهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَظَاهِرِ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُ. هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ لِلْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلِينَ: قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ زَمَانُهُمْ عَلَى زَمَانِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ جَمَعْنَاكُمْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ: أَيْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، كَمَا كَانَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا مَا تَكِيدُونَ بِهِ دِينَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَهُ، فَكِيدُونِ الْيَوْمَ، وَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ. وَلَمَّا كَانَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ ذَكَرَ نَزْرًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا، جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِطْنَابُ فِي وَصْفِ الْكُفَّارِ وَالْإِيجَازُ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَقَعَ بِذَلِكَ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظِلالٍ جَمْعُ ظِلٍّ وَالْأَعْمَشُ: فِي ظُلَلٍ جَمْعُ ظُلَّةٍ. كُلُوا وَاشْرَبُوا: خِطَابٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا: خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، قَلِيلًا: أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا، إِذْ قُصَارَى أَكْلِكُمْ وَتَمَتُّعِكُمُ الْمَوْتُ، وَهُوَ خِطَابُ تَهْدِيدٍ لِمَنْ أَجْرَمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا: مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ، قَالَ هِيَ فِي قُرَيْشٍ وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، قَالَ هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ، قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُطَّ عَنَّا الصَّلَاةَ فَإِنَّا لَا نَنْحَنِي إِنَّهَا مَسَبَّةٌ، فَأَبَى وَقَالَ: «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ» . وَمَعْنَى ارْكَعُوا: اخْشَعُوا لِلَّهِ وَتَوَاضَعُوا لَهُ بِقَبُولِ وَحْيِهِ. وَقِيلَ: الرُّكُوعُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ وَخَصَّ مِنْ أَفْعَالِهَا الرُّكُوعَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَأْنَفُونَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وجاه فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ كُلِّ جُمْلَةٍ قَوْلُهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا فِيهَا إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَتَقْرِيرَاتٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَنَاسَبَ أَنْ نَذْكُرَ الْوَعِيدَ عَقِيبَ كُلِّ

جُمْلَةٍ مِنْهَا لِلْمُكَذِّبِ بِالْوَيْلِ فِي يَوْمِ الْآخِرَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدَهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ مِنَ الْإِعْجَازِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُغَيَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَوَى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ كِتَابٌ إِلَهِيٌّ، فَإِذَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِهِ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُصَدِّقُونَ بِهِ؟ أَيْ لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُمْ بِحَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ.

سورة النبإ

سورة النّبإ [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

السُّبَاتُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: السُّبَاتُ أَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْمَدُّ، فَالنَّوْمُ قَطْعُ الْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ، وَمِنَ الْمَدِّ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنْ سَبَّتَتْهُ مَالَ حَبْلًا كَأَنَّهُ ... سَدَى وَامِلَاتٍ مِنْ نَوَاسِجِ خَثْعَمَا أَيْ: إِنْ مَدَّتْ شَعْرَهَا مَالَ وَالْتَفَّ كَالْتِفَافِ السَّدَى بِأَيْدِي نِسَاءٍ نَاسِجَاتٍ. الْوَهَّاجُ: الْمُتَوَقِّدُ الْمُتَلَأْلِئُ. الْمُعْصِرُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: السَّحَابُ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَطَرَ، وَلَمَّا يَجْتَمِعْ مِثْلَ الْجَارِيَةِ الْمُعْصِرِ، قَدْ كَادَتْ تَحِيضُ وَلَمَّا تَحِضْ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ الْعِجْلِيُّ: تَمْشِي الْهُوَيْنَا مَائِلًا خِمَارُهَا ... قَدْ أَعْصَرَتْ أَوْ قَدْ دَنَا إِعْصَارُهَا الثَّجُّ، قَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُهُ شِدَّةُ الِانْصِبَابِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَطَرٌ ثَجَّاجٌ: شَدِيدُ الِانْصِبَابِ، ثَجَّ الْمَاءَ وَثَجَجْتُهُ ثَجًّا وَثُجُوجًا: يَكُونُ لَازِمًا بِمَعْنَى الِانْصِبَابِ وَوَاقِعًا بِمَعْنَى الصَّبِّ. قَالَ الشَّاعِرُ فِي وَصْفِ الْغَيْثِ: إِذَا رَمَقَتْ فِيهَا رَحًى مرجحنه ... تنعج ثجاجا عزير الْحَوَافِلِ أَلْفَافًا جَمْعُ لَفٍّ، ثُمَّ جُمِعَ لَفٌّ عَلَى أَلْفَافٍ. الْكَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ: وَهِيَ الَّتِي بَرَزَ نَهْدُهَا، وَمِنْهُ كَعْبُ الرَّجُلِ لِبُرُوزِهِ، وَمِنْهُ الْكَعْبَةُ. قَالَ عَاصِمُ بْنُ قَيْسٍ الْمِنْقَرِيُّ: وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ ... وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا الْبُؤْسُ مُعْصِرِ الدِّهَاقُ: الْمَلْأَى، مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّهْقِ، وَهُوَ ضَغْطُ الشَّيْءِ وَشَدُّهُ بِالْيَدِ كَأَنَّهُ لِامْتِلَائِهِ انْضَغَطَ. وَقِيلَ: الدِّهَاقُ: الْمُتَتَابِعَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا ... فَأَتْرَعْنَا لَهُ كَأْسًا دِهَاقَا وَقَالَ آخَرُ: لَأَنْتَ إِلَى الْفُؤَادِ أَحَبُّ قُرْبًا ... مِنَ الصَّادِي إِلَى كَأْسٍ دِهَاقِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً، وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بُعِثَ، جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ: مَا الَّذِي أَتَى بِهِ؟ وَيَتَجَادَلُونَ فِيمَا بُعِثَ بِهِ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ. لَمَّا ذَكَرَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «1» ، أَيْ بَعْدَ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ فِيهِ وَيُسَائِلُونَ عَنْهُ، قَالَ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَّ وعبد الله وأبيّ وَعِكْرِمَةُ وَعِيسَى: عَمَّا بِالْأَلِفِ، وَهُوَ أَصْلُ عَمَّ، وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ الْأَلِفِ مِنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ وَأُضِيفَ إِلَيْهَا. وَمِنْ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ قَوْلِهِ: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: عَمَّهْ بِهَاءِ السَّكْتِ، أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ هُوَ بِإِلْحَاقِ هَاءِ السكت، إلا إذا أضيفت إِلَيْهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ، نَحْوَ: بِحَيِّ مَهْ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ هَذَا فِيهِ تَفْخِيمٌ وَتَهْوِيلٌ وَتَقْرِيرٌ وَتَعْجِيبٌ، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ زَيْدٌ؟ وَزَيْدٌ مَا زَيْدٌ، كَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَدِيمَ النَّظِيرِ أَوْ قَلِيلَهُ خَفِيَ عَلَيْكَ جِنْسُهُ فَأَخَذْتَ تَسْتَفْهِمُ عَنْهُ. ثُمَّ جَرَّدَ الْعِبَارَةَ عَنْ تَفْخِيمِ الشَّيْءِ، فَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَتَساءَلُونَ لِأَهْلِ مَكَّةَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ، فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ تَصْدِيقَ الْمُؤْمِنِ وَتَكْذِيبَ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: الْمُتَسَاءَلُ فِيهِ الْبَعْثُ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَمَّ مُتَعَلِّقٌ بيتساءلون. وَمَنْ قَرَأَ عَمَّهْ بِالْهَاءِ فِي الْوَصْلِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَكُونُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَعَنِ النَّبَأِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَقَفَ عَلَى عمه، ثم ابتدأ بيتسألون عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنْ يُضْمِرَ لِعَمَّهْ يَتَسَاءَلُونَ، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ، كَشَيْءٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ يُفَسَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ قَوْلُهُ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ مُتَعَلِّقٌ بيتساءلون، الظَّاهِرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ يتساءلون عن النبإ العظيم؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَلَامَ تَامٌّ فِي قَوْلِهِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ، ثُمَّ كَانَ مُقْتَضَى الْقَوْلِ أَنْ يُجِيبَ مُجِيبٌ فَيَقُولُ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ، فَاقْتَضَى إِيجَازُ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتُهُ أَنْ يُبَادِرَ الْمُحْتَجُّ بِالْجَوَابِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَالْمُجَاوَرَةُ اقْتِضَاءً بِالْحُجَّةِ وَإِسْرَاعًا إِلَى مَوْضِعِ قَطْعِهِمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جبير: يسألون بِغَيْرِ تَاءٍ وَشَدِّ السِّينَ، وَأَصْلُهُ يَتَسَاءَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَأَدْغَمَ التَّاءَ الثَّانِيَةَ فِي السِّينِ. كَلَّا: رَدْعٌ لِلْمُتَسَائِلِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهِمَا. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْأَوَّلُ

_ (1) سورة المرسلات: 77/ 50. [.....]

بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالثَّانِي بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَهَذَا التَّكْرَارُ تَوْكِيدٌ فِي الْوَعِيدِ وَحَذْفُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْوِيلِ، أَيْ سَيَعْلَمُونَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ. ثُمَّ قَرَّرَهُمْ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ وَغَرَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ، وَأَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، فَبَدَأَ بِمَا هُمْ دَائِمًا يُبَاشِرُونَهُ، وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ الْمُوَطَّأُ. وَقَرَأَ الجمهور: مِهاداً ومجاهد وَعِيسَى وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: مَهْدًا، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَلَمْ يَنْسُبِ ابْنُ عَطِيَّةَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: مَهْدًا على التوحيد، مجاهدا وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ وَهُوَ الْحَوْفِيُّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ كِنَايَةً عَنْ عِيسَى الْهَمْدَانِيِّ. وَإِذَا أَطْلَقُوا عِيسَى، أَوْ قَالُوا عِيسَى الْبَصْرَةِ، فَهُوَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمِهَادِ فِي الْبَقَرَةِ فِي أَوَّلِ حِزْبِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ «1» . وَالْجِبالَ أَوْتاداً: أَيْ ثَبَّتْنَا الْأَرْضَ بِالْجِبَالِ، كَمَا ثُبِّتُ الْبَيْتَ بِالْأَوْتَادِ. قَالَ الْأَفْوَهُ: وَالْبَيْتُ لَا يَنْبَنِي إِلَّا لَهُ عُمُدٍ ... وَلَا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ أَزْواجاً: أَيْ أَنْوَاعًا مِنَ اللَّوْنِ وَالصُّورَةِ وَاللِّسَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: مُزْدَوِجِينَ، ذَكَرًا وَأُنْثَى. سُباتاً: سُكُونًا وَرَاحَةً. سَبَتَ الرَّجُلُ: اسْتَرَاحَ وَتَرَكَ الشُّغْلَ، وَالسُّبَاتُ عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ يُفْرَطُ عَلَى الْإِنْسَانِ السُّكُوتُ حَتَّى يَصِيرَ قَاتِلًا، وَالنَّوْمُ شَبِيهٌ بِهِ إِلَّا فِي الضَّرَرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّائِمُ مَسْبُوتٌ لَا يَعْقِلُ، كَأَنَّهُ مَيِّتٌ. لِباساً: أَيْ يَسْتَتِرُونَ بِهِ عَنِ الْعُيُونِ فِيمَا لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ. وَجَعَلْنَا النَّهارَ: قَابَلَ النَّوْمَ بِالنَّهَارِ، إِذْ فِيهِ الْيَقَظَةُ. مَعاشاً: وَقْتَ عَيْشٍ، وَهُوَ الْحَيَاةُ تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ فِي حوائجكم. سَبْعاً: أي سموات، شِداداً: مُحْكَمَةَ الْخَلْقِ قَوِيَّةً لَا تَتَأَثَّرُ بِمُرُورِ الْإِعْصَارِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا جِئْتُهُ أَعْلَى مَحَلِّي ... وَأَجْلَسَنِي عَلَى السَّبْعِ الشِّدَادِ سِراجاً: هُوَ الشَّمْسُ، وَهَّاجاً: حَارًّا مُضْطَرِمَ الِاتِّقَادِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو. الشمس فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، إِلَيْنَا ظَهْرُهَا، وَلَهِيبُهَا يَضْطَرِمُ عُلُوًّا. مِنَ الْمُعْصِراتِ، قَالَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أسلم وقتادة ومقاتل: هي السموات. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ: السَّحَابُ الْقَاطِرَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَصْرِ، لأن

_ (1) سورة البقرة: 2/ 203.

السَّحَابَ يَنْعَصِرُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ. وَقِيلَ: السَّحَابُ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ وَلَمْ تُمْطِرْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ تُغِيثُ، فَهِيَ مِنَ الْعَصْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «1» . وَالْعَاصِرُ: الْمُغِيثُ، فَهُوَ ثُلَاثِيٌّ وَجَاءَ هُنَا مِنْ أَعْصَرَ: أَيْ دَخَلَتْ فِي حِينِ الْعَصْرِ، فَحَانَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ، وَأَفْعَلُ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا ومجاهد وقتادة: الرِّيَاحُ لِأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ، جَعَلَ الْإِنْزَالَ مِنْهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَخُوهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وعكرمة وقتادة: بِالْمُعْصِرَاتِ، بِالْبَاءِ بَدَلَ مِنْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ أَرَادَ الرِّيَاحَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يُرَادَ بِالرِّيَاحِ الَّتِي حَانَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ السَّحَابَ، وَأَنْ يُرَادَ السَّحَابُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِنْزَالُ مِنْهَا فَهُوَ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَعْطَى مِنْ يَدِهِ دِرْهَمًا، وَأَعْطَى بِيَدِهِ دِرْهَمًا. ثَجَّاجاً: مُنْصَبًّا بِكَثْرَةٍ، وَمِنْهُ أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ: أَيْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَصَبُّ دِمَاءِ الْهَدْيِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: ثَجَّاحًا بِالْحَاءِ: آخِرًا، وَمَسَاجِحُ الْمَاءِ: مَصَابُّهُ، وَالْمَاءُ يَنْثَجِحُ فِي الْوَادِي. حَبًّا وَنَباتاً: بَدَأَ بِالْحَبِّ لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَقَوَّتُ بِهِ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَثَنَّى بِالنَّبَاتِ فَشَمِلَ كُلَّ مَا يَنْبُتُ مِنْ شَجَرٍ وَحَشِيشٍ وَدَخَلَ فِيهِ الْحَبُّ. أَلْفافاً: مُلْتَفَّةً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا وَاحِدَ لَهُ، كَالْأَوْزَاعِ وَالْأَخْيَافِ. وَقِيلَ: الْوَاحِدُ لف: قال صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ: أَنْشَدَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ: جَنَّةٌ لَفٌّ وَعَيْشٌ مُغْدِقُ ... وَنَدَامَى كُلُّهُمْ بِيضٌ زُهْرُ وَلَوْ قِيلَ: هُوَ جَمْعُ مُلْتَفَّةٍ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّوَائِدِ لَكَانَ قَوْلًا وَجِيهًا. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا إِلَى وَجَاهَتِهِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ مُفْرَدَهُ لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كانَ مِيقاتاً: أَيْ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ تُؤَقَّتُ بِهِ الدُّنْيَا وَتَنْتَهِي عِنْدَهُ أَوْ حَدًّا لِلْخَلَائِقِ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الصُّورِ. وَقَرَأَ أَبُو عِيَاضٍ: فِي الصُّورِ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ يَرُدُّ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ إِلَى الْأَبْدَانِ وَالْجُمْهُورُ: بِسُكُونِ الْوَاوِ. وفَتَأْتُونَ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ أُمَمًا، كُلُّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهَا. وَقِيلَ: جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةً. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَدِيثًا فِي كَيْفِيَّاتٍ قَبِيحَةٍ لِعَشَرَةِ أَصْنَافٍ يُخْلَقُونَ عَلَيْهَا، وَسَبَبُ خَلْقِهِ مَنْ خَلَقَ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: وَفُتِحَتِ: خُفَّ وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ، فَكانَتْ أَبْواباً تَنْشَقُّ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا فُتُوحٌ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 49.

كالأبواب في الجدران. وَقِيلَ: يَنْقَطِعُ قِطَعًا صِغَارًا حَتَّى تَكُونَ كَالْأَلْوَاحِ، الْأَبْوَابُ الْمَعْهُودَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً: أَيْ كَثُرَتْ أَبْوَابُهَا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَبْوَابًا مُفَتَّحَةً، كَقَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1» ، كَأَنَّ كُلَّهَا عُيُونٌ تَنْفَجِرُ. وَقِيلَ: الْأَبْوَابُ: الطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ، أَيْ تُكْشَطُ فَيَنْفَتِحُ مَكَانُهَا وَتَصِيرُ طُرُقًا لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ. فَكانَتْ سَراباً: أَيْ تَصِيرُ شَيْئًا كَلَا شَيْءٍ لتفرق أجزائها وانبثات جَوَاهِرِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عِبَارَةٌ عَنْ تَلَاشِيهَا وَفَنَائِهَا بَعْدَ كَوْنِهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ الْجِبَالَ تُشْبِهُ الْمَاءَ عَلَى بُعْدٍ مِنَ النَّاظِرِ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتُ أَبْوَابٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً، لِلطَّاغِينَ مَآباً، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً، لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً، إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً، إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، حَدائِقَ وَأَعْناباً، وَكَواعِبَ أَتْراباً، وَكَأْساً دِهاقاً، لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً، جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً، ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً، إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً. مِرْصاداً: مِفْعَالٌ مِنَ الرَّصْدِ، تَرْصُدُ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَجْلِسًا لِلْأَعْدَاءِ وَمَمَرًّا لِلْأَوْلِيَاءِ، وَمِفْعَالٌ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِغَيْرِ تَاءٍ وَفِيهِ مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ رَصَدٍ، وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ فِيهِ التَّكْثِيرُ وَاللُّزُومُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمِرْصَادُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ الْعَدُوُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا أَنَّ عَلَى النَّارِ الْمِرْصَادَ. فَمَنْ جَاءَ بِجَوَازٍ جَازَ، وَمَنْ لم يجىء بِجَوَازٍ احْتُبِسَ. وَقَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَالْمِنْقَرِيُّ وَابْنُ يَعْمَرَ: أن جهنم، يفتح الْهَمْزَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا مَآباً: مَرْجِعًا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَقُتَيْبَةُ وَسَوْرَةُ وَرَوْحٌ: لَبِثِينَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ وَالْجُمْهُورُ: بِأَلِفٍ بَعْدَهَا، وَفَاعِلٌ يَدُلُّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ، وَفَعِلٌ عَلَى مَنْ شَأْنُهُ ذَلِكَ، كَحَاذِرٍ وَحَذِرٍ. أَحْقاباً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكَهْفِ عِنْدَ: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً «2» ، وَالْمَعْنَى هُنَا: حُقُبًا بَعْدَ حُقُبٍ، كُلَّمَا

_ (1) سورة القمر: 54/ 12. (2) سورة الكهف: 18/ 60.

مَضَى تَبِعَهُ آخَرُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْحُقُبُ إِلَّا حَيْثُ يُرَادُ تَتَابُعُ الْأَزْمِنَةِ، كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: لَقَدْ أَخَذَتْ مِنْ دَارِ مَاوِيَّةَ الْحُقُبُ ... أنحل المغاني لليلى أَمْ هِيَ نَهْبُ وَيَجُوزُ أن يتعلق للطاغين بمرصادا، ويجوز أن يتعلق بمآبا. ولبثين حال من الطاغين، وأحقابا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَقِبَ عَامُنَا إِذَا قَلَّ مَطَرُهُ وَخَيْرُهُ، وَحَقِبَ إِذَا أَخْطَأَ الرِّزْقَ فَهُوَ حَقِبٌ، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ، فَيَنْتَصِبُ حَالًا عنهم، يعني لبثين فِيهَا حَقِبِينَ جَحِدِينَ. وَقَوْلُهُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً تَفْسِيرٌ لَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، يَعْنِي: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَرَوْحًا يُنَفِّسُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ، ولا شراب يُسَكِّنُ مِنْ عَطَشِهِمْ، وَلَكِنْ يَذُوقُونَ فِيهَا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ هَذَا الْوَجْهِ مَا نَصُّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا غَيْرَ ذَائِقِينَ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، ثُمَّ يُبَدَّلُونَ بَعْدَ الْأَحْقَابِ غَيْرَ الْحَمِيمِ، وَالْغَسَّاقِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا الْمَعْنَى لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا غَيْرَ ذَائِقِينَ بَرْدًا ولا شرابا، فهذه الْحَالِ يَلْبَثُونَ أَحْقَابًا، ثُمَّ يَبْقَى الْعَذَابُ سَرْمَدًا وَهُمْ يَشْرَبُونَ أَشْرِبَةَ جَهَنَّمَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَذُوقُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَلَيْسَ في موضع الحال، وإِلَّا حَمِيماً اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا شَراباً، وَأَنَّ أَحْقاباً مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، لَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْهُورَةً. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِاللَّبْثِ أَحْقَابًا هُمْ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَاخِرُ الْآيِ يَدْفَعُهُ وَقَوْلُ مُقَاتِلٍ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً، فَاسِدٌ. وَالظَّاهِرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَنَّ الْبَرْدَ هُوَ مَسُّ الْهَوَاءِ الْقُرِّ، أَيْ لَا يَمَسُّهُمْ مِنْهُ مَا يُسْتَلَذُّ وَيَكْسِرُ شِدَّةَ الْحَرِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ وَمُعَاذٌ النَّحْوِيُّ: الْبَرْدُ هُنَا النَّوْمُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبَرِّدُ سَوْرَةَ الْعَطَشِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَنَعَ الْبَرْدُ الْبَرْدَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا النُّقَاخُ: الْمَاءُ، وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ. وَفِي كِتَابِ اللُّغَاتِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْبَرْدَ هُوَ النَّوْمُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَالذَّوْقُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَجَازٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَرْدُ: الشَّرَابُ الْبَارِدُ الْمُسْتَلَذُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:

يسقون من ورد البريض عَلَيْهِمُ ... بَرْدًا يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: أَمَانِيُّ مِنْ سُعْدَى حِسَانٌ كَأَنَّمَا ... سَقَتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلَى ظَمَأٍ بَرْدَا وَالذَّوْقُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَالنَّحْوِيُّونَ يُنْشِدُونَ عَلَى هَذَا بَيْتَ حَسَّانَ. بَرَدَى، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالدَّالِ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ: وَهُوَ نَهْرٌ فِي دِمَشْقَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ، وَخُلْفُ الْقُرَّاءِ فِي شِدَّةِ الشِّينِ وَخِفَّتِهَا. وِفاقاً: أَيْ لِأَعْمَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وُصِفَ الْجَزَاءُ بِالْمَصْدَرِ لِوَافَقَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا وِفَاقٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ وِفْقٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِخَفِّ الْفَاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّهَا مِنْ وَفَّقَهُ كَذَا. لَا يَرْجُونَ: لَا يَخَافُونَ أَوْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَالرَّجَاءُ وَالْأَمَلُ مُفْتَرِقَانِ، وَالْمَعْنَى هُنَا: لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحِسَابِ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَخَافُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً بِشَدِّ الذَّالِ مَصْدَرُ كَذَّبَ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يَمَانِيَّةٌ. يَقُولُونَ فِي مَصْدَرِ فَعَلَ فِعَالًا، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُ مَصْدَرَهُ عَلَى تَفْعِيلٍ، نَحْوَ تَكْذِيبٍ. وَمِنْ تِلْكَ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِي ... وَعَنْ حَاجَةٍ قَضَاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا وَمِنْ كَلَامِ أَحَدِهِمْ وَهُوَ يَسْتَفْتِي: الْحَلْقُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْقِصَارُ، يُرِيدُ التَّقْصِيرَ، يَعْنِي فِي الْحَجِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِعَالٌ فِي بَابِ فَعَلَ كُلِّهِ فَاشٍ فِي كَلَامِ فُصَحَاءَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَقُولُونَ غَيْرَهُ، وَسَمِعَنِي بَعْضُهُمْ أُفَسِّرُ آيَةً فَقَالَ: لَقَدْ فَسَّرْتَهَا فِسَارًا مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى بِخِلَافٍ عَنْهُ بِخَفِّ الذَّالِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى، وَعِيسَى الْبَصْرَةِ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: كِذَابًا، كِلَاهُمَا بِالتَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ لُغَةُ الْيَمَنِ بِأَنْ يَجْعَلُوا مَصْدَرَ كَذِبَ مُخَفَّفًا، كِذَابًا بِالتَّخْفِيفِ مِثْلَ كَتَبَ كِتَابًا، فَصَارَ الْمَصْدَرُ هُنَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ دُونَ لَفْظِهِ، مِثْلَ أُعْطَيْتُهُ عَطَاءً. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَعْشَى: فَصَدَقْتُهَا وَكَذَبْتُهَا ... وَالْمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» يَعْنِي: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَكَذَبُوا كِذَابًا، أَوْ تَنْصِبُهُ بِكَذَبُوا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى كَذَّبُوا، لِأَنَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ بِالْحَقِّ كَاذِبٌ وَإِنْ جَعَلْتَهُ بِمَعْنَى الْمُكَاذَبَةِ فَمَعْنَاهُ: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَكَاذَبُوا مُكَاذَبَةً، أَوْ كَذَّبُوا بِهَا مُكَاذِبِينَ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَاذِبِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ كَاذِبِينَ فَبَيْنَهُمْ مكاذبة، أو لأنهم

_ (1) سورة نوح: 71/ 17.

يَتَكَلَّمُونَ بِمَا هُوَ إِفْرَاطٌ فِي الْكَذِبِ، فِعْلَ مَنْ يُغَالِبُ فِي أَمْرٍ فَيَبْلُغُ فِيهِ أَقْصَى جُهْدِهِ. انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ وَمَا سِوَاهُ تَكَلُّفٌ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَكِتَابِ اللَّوَامِحِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر بن عبد العزيز: وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ عمر بن عبد العزيز وَالْمَاجِشُونُ، ثُمَّ اتَّفَقُوا كُذَّابًا بِضَمِّ الْكَافِ وَشَدِّ الذَّالِ، فَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَاذِبٍ وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ تَكْذِيبًا كُذَّابًا مُفْرِطًا فِي التَّكْذِيبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلَّ شَيْءٍ بِالنَّصْبِ: وَأَبُو السَّمَّالِ: بِالرَّفْعِ، وَانْتَصَبَ كِتاباً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى أَحْصَيْناهُ أَيْ إِحْصَاءً، أَوْ يَكُونُ أَحْصَيْناهُ فِي مَعْنَى كَتَبْنَاهُ. وَالتَّجَوُّزُ إِمَّا فِي الْمَصْدَرِ وَإِمَّا فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ لِالْتِقَائِهِمَا فِي مَعْنَى الضَّبْطِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ وَفِي مُصْحَفِ الْحَفَظَةِ. وَكُلَّ شَيْءٍ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَهِيَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ مُعْتَرِضَةٌ، وَفَذُوقُوا مُسَبَّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِالْحِسَابِ، فَتَكْذِيبِهُمْ بِالْآيَاتِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو بُرْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، ذَكَرَ مَا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً: أَيْ مَوْضِعَ فَوْزٍ وَظَفَرٍ، حَيْثُ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلُوا الجنة. وحَدائِقَ بَدَلٌ مِنْ مَفازاً وَفَوْزًا، فَيَكُونُ أَبْدَلَ الْجِرْمُ مِنَ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفٍ، أَيْ فَوْزَ حَدَائِقَ، أَيْ بِهَا. دِهاقاً، قَالَ الْجُمْهُورُ: مُتْرَعَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: مُتَتَابِعَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا كِذَّاباً بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، كَاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً، مَصْدَرُ كَذَّبَ وَمَصْدَرُ كَاذَبَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَزاءً: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، كَأَنَّهُ قَالَ: جَازَى الْمُتَّقِينَ بِمَفَازٍ وَعَطَاءٍ نُصِبَ بِجَزَاءٍ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ جَزَاءَهُمْ عَطَاءً. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ لَا يَعْمَلُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حِساباً، وَهُوَ صِفَةٌ لِعَطَاءٍ، أَيْ كَافِيًا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ: أَيْ كَفَانِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى حِسَابًا هُنَا بِتَقْسِيطٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَوْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَالدَّرَجَاتُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ، فَالْحِسَابُ هُنَا بِمُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ قُطَيْبٍ: حَسَّابًا، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ السِّينِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: بَنَى فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ، كَدَرَّاكِ مِنْ أَدْرَكَ. انْتَهَى، فَمَعْنَاهُ مَحْسِبًا، أَيْ كَافِيًا. وَقَرَأَ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْصِيُّ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ:

بِكَسْرِ الْحَاءِ وَشَدِّ السِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ كِذَّابٍ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ، أَيْ إِعْطَاءً مُحَسَّبًا، أَيْ كَافِيًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَرَاحٌ: حَسَنًا بِالنُّونِ مِنَ الْحُسْنِ، وَحَكَى عَنْهُ الَمَهْدَوِيُّ حَسْبًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ وَالْبَاءِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: حَسْبُكَ كَذَا، أَيْ كَافِيكَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ: رَبِّ وَالرَّحْمَنِ بِالْجَرِّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَرَمِيَّانِ بِرَفْعِهِمَا وَالْأَخَوَانِ: رَبِّ بالجر، والرحمن بِالرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا فِي الْجَرَّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ ربك، والرحمن صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ رَبِّ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهَلْ يَكُونُ بَدَلًا مِنْ رَبِّكَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ فَيَكُونُ كَالصِّفَاتِ، وَالرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ رَبُّ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ لَا يَمْلِكُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ لَا يُخَاطِبُ الْمُشْرِكُونَ اللَّهَ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ وَيَقْبَلُ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يُخَاطِبُوهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ عَدْلٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى أهل السموات وَالْأَرْضِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُخَاطِبُوهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّوَابِ. وَالْعِقَابِ خِطَابَ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، فَيَزِيدُونَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصُونَ مِنْهُ. وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ إِمَّا لَا يَمْلِكُونَ. وَإِمَّا لَا يَتَكَلَّمُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الرُّوحُ، أَهُوَ جِبْرِيلُ أَمْ مَلَكٌ أَكْبَرُ الْمَلَائِكَةِ خِلْقَةً؟ أَوْ خَلْقٌ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ، أَوْ خَلْقٌ حُفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، أَوِ الْقُرْآنُ وَقِيَامُهُ، مَجَازٌ يَعْنِي بِهِ ظُهُورَ آثَارِهِ الْكَائِنَةِ عَنْ تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى. وَنَطَقَ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّوَابُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ قَالَهَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا شَرِيطَتَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ مَأْذُونًا لهم فِي الْكَلَامِ، وَأَنْ يَتَكَلَّمَ بِالصَّوَابِ فَلَا يَشْفَعُ لِغَيْرِ مُرْتَضًى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1» . انْتَهَى. ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ: أَيْ كِيَانُهُ وَوُجُودُهُ، فَمَنْ شاءَ: وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَالْخِطَابُ في نْذَرْناكُمْ لِمَنْ حَضَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْدَرَجَ فِيهِ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، ذاباً : هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ : عَامٌّ فِي المؤمن والكافر. قَدَّمَتْ يَداهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقاله قبله عطاء:

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 28.

الْمَرْءُ هُوَ الْكَافِرُ لِقَوْلِهِ: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ، وَالْكَافِرُ ظَاهِرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لزيادة الذم. ومعنى اقَدَّمَتْ يَداهُ مِنَ الشَّرِّ لِقَوْلِهِ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَرْءُ هُنَا الْمُؤْمِنُ، كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى مُقَابِلِهِ فِي قوله: يَقُولُ الْكافِرُ . وقرأ الجمهور: ْمَرْءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِضَمِّهَا وَضَعَّفَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُضَعَّفَ لِأَنَّهَا لُغَةٌ يُتْبِعُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ فَيَقُولُونَ: مُرْؤٌ وَمَرْأً وَمِرْءٍ عَلَى حَسَبِ الْإِعْرَابِ، وَمَا منصوب بينظر وَمَعْنَاهُ: يَنْتَظِرُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَمَا مَوْصُولَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَنْظُرُ مِنَ النَّظَرِ، وَعُلِّقَ عَنِ الْجُمْلَةِ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ تَقَدَّمَتْ، وَتَمَنِّيهِ ذَلِكَ، أَيْ تُرَابًا فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُخْلَقْ أَوْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْضِرُ الْبَهَائِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقْتَصُّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقُولُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: كُونِي تُرَابًا، فَتَعُودُ جَمِيعُهَا تُرَابًا، فَإِذَا رَأَى الْكَافِرُ ذَلِكَ تَمَنَّى مِثْلَهُ. وَقِيلَ: الْكَافِرُ هَنَا إِبْلِيسُ، إِذَا رَأَى مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثواب قال: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً كَآدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَاحْتَقَرَهُ هو أوّلا. وقيل: راباً : أَيْ مُتَوَاضِعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا جَبَّارًا وَلَا متكبرا.

_ (1) سورة الأنفال: 8/ 50- 51.

سورة النازعات

سورة النّازعات [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

أَغْرَقَ فِي الشَّيْءِ: بَالَغَ فِيهِ وَأَنْهَاهُ، وَأَغْرَقَ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ: بَلَغَ غَايَةَ الْمَدِّ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النَّصْلِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ: الِاسْتِيعَابُ، وَالْغَرْقَى: قِشْرَةُ الْبَيْضَةِ. نَشَطَ الْبَعِيرَ وَالْإِنْسَانَ رَبَطَهُ وَأَنْشَطَهُ: حَلَّهُ، وَمِنْهُ: وَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ. وَنَشِطَ: ذَهَبَ مَنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِبَقْرِ الْوَحْشِ النَّوَاشِطُ، لِأَنَّهُنَّ يَذْهَبْنَ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَهُوَ هِمْيَانُ بْنُ قُحَافَةَ: أَرَى هُمُومِي تُنْشِطُ الْمَنَاشِطَا ... الشَّامَ بِي طَوْرًا وَطَوْرًا وَاسِطَا وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشَاطِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: نَشَطْتُ الْحَبْلَ أَنْشَطُهُ نَشْطًا: عَقَدْتُهُ أُنْشُوطَةً، وَأَنْشَطْتُهُ: حَلَلْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ الْحَبْلَ: مَدَدْتُهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: أَنْشَطْتُهُ بِأُنْشُوطَةٍ: أَيْ وَثَّقْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ الْعِقَالَ: مَدَدْتُ أُنْشُوطَتَهُ فَانْحَلَّتْ، وَيُقَالُ: نَشِطَ بِمَعْنَى أَنْشَطَ، وَالْأُنْشُوطَةُ: عُقْدَةٌ يسهل انحلالها إذا جدبت كَعُقْدَةِ التِّكَّةِ. وَجَفَ الْقَلْبُ وَجِيفًا: اضْطَرَبَ مِنْ شَدَّةِ الْفَزَعِ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ وَجِيبًا. وَفِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقُرْآنِ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاجِفَةٌ: خَائِفَةٌ، بِلُغَةِ هَمْدَانَ. الْحَافِرَةُ، يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ: أَيْ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، فَحَفَرَهَا: أَيْ أَثَّرَ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا، جَعَلَ أَثَرَ قَدَمَيْهِ حَفْرًا، وَتُوقِعُهَا الْعَرَبُ عَلَى أَوَّلِ أَمْرٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ مِنْ آخِرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَحَافِرَةٌ عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وَعَارِ أَيْ: أَأَرْجِعُ إِلَى الصِّبَا بَعْدَ الصَّلَعِ وَالشَّيْبِ؟ النَّاخِرَةُ: الْمُصَوِّتَةُ بِالرِّيحِ الْمُجَوَّفَةُ، وَالنَّخِرَةُ بِمَعْنَاهَا، كَطَامِعٍ وَطَمِعٍ، وَحَاذِرٍ وَحَذِرٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: النَّخِرَةُ: الْبَالِيَةُ الْمُتَعَفِّنَةُ الصَّائِرَةُ رَمِيمًا. نَخِرَ الْعُودُ وَالْعَظْمُ: بَلِيَ وَتَفَتَّتَ، فَمَعْنَاهُ مُغَايِرٌ لِلنَّاخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: النَّاخِرَةُ: الَّتِي لَمْ تَنْخَرْ بَعْدُ، وَالنَّخِرَةُ: الَّتِي قَدْ بَلِيَتْ. قَالَ الرَّاجِزُ لِفَرَسِهِ: أَقْدِمْ أَخَا نِهْمٍ عَلَى الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا تَهُولَنَّكَ رؤوس نَادِرَهْ فَإِنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... حَتَّى تَعُودَ بَعْدَهَا فِي الْحَافِرَهْ مِنْ بَعْدِ مَا صِرْتَ عِظَامًا نَاخِرَهْ وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَأَخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فَكَأَنَّهَا ... قَوَارِيرُ فِي أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تَنْخِرُ وَيُرْوَى: تُصَفِّرُ وَنُخْرَةُ الرِّيحِ، بِضَمِّ النُّونِ: شِدَّةُ هُبُوبِهَا، وَالنُّخْرَةُ أَيْضًا: مُقَدَّمُ أَنْفِ

الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْخِنْزِيرِ، يُقَالُ: هَشَّمَ نُخْرَتَهُ. السَّاهِرَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ وَالْفَلَاةُ، وُصِفَتْ بِمَا يَقَعُ فِيهَا وَهُوَ السَّهَرُ لِلْخَوْفِ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرٍ ... وَمَا فَاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: يَرْتَدْنَ سَاهِرَةً كَأَنَّ جَمِيمَهَا ... وَعَمِيمَهَا أَسْدَافُ لَيْلٍ مُظْلِمِ وَالسَّاهُورُ كَالْغِلَافِ لِلْقَمَرِ يَدْخُلُ فِيهِ إِذَا كَسَفَ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيهَا إِذْ دَحَاهَا ... فَهُمْ قُطَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي وَقِيلَ: دَحَاهَا: سَوَّاهَا، قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو: وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... بِأَيْدٍ وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا الطَّامَّةُ: الدَّاهِيَةُ الَّتِي تَطِمُّ عَلَى الدَّوَاهِي، أَيْ تَعْلُو وَتَغْلِبُ. وَفِي أَمْثَالِهِمْ: أَجْرَى الْوَادِيَ فَطَمَّ عَلَى الْقُرَى، وَيُقَالُ: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ إِذَا دَفَنَهَا، وَالطَّمُّ: الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ. وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ، يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا الْإِنْذَارَ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَقْسَمَ فِي هَذِهِ عَلَى الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَوْصُوفَاتُ الْمُقْسَمُ بِهَا مَحْذُوفَاتٍ وَأُقِيمَتْ صِفَاتُهَا مَقَامَهَا، وَكَانَ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ تَعَلُّقَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ النَّازِعاتِ: الْمَلَائِكَةُ تَنْزِعُ نفوس بني آدم، وغَرْقاً: إِغْرَاقًا، وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي الفعل، أو غرقا فِي جَهَنَّمَ، يَعْنِي نُفُوسَ الْكُفَّارِ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وقال الحسن وقتادة وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْأَخْفَشُ: هِيَ النُّجُومُ تَنْزِعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: تَنْزِعُ بِالْمَوْتِ إِلَى رَبِّهَا، وَغَرْقًا: أَيْ إِغْرَاقًا فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا:

النُّفُوسُ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا وَتَنْزِعُ إِلَى مَذَاهِبِهَا، وَلَهَا نَزْعٌ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: الْقِسِيُّ أَنْفُسُهَا تُنْزَعُ بِالسِّهَامِ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: الْجَمَاعَاتُ النَّازِعَاتُ بِالْقِسِيِّ وَغَيْرِهَا إِغْرَاقًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنَايَا تَنْزِعُ النُّفُوسَ. وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ: الْوَحْشُ تَنْزِعُ إِلَى الْكَلَأِ، حَكَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقِيلَ: جَعَلَ الْغُزَاةَ الَّتِي تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا نَزْعًا تَغْرَقُ فِيهِ الْأَعِنَّةُ لِطُولِ أَعْنَاقِهَا لِأَنَّهَا عِرَابٌ، وَالَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَالنَّاشِطاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ تَنْشَطُ النُّفُوسَ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَيْ تَحُلُّهَا وَتَنْشَطُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وقتادة وَالْحَسَنُ وَالْأَخْفَشُ: النُّجُومُ تَنْشَطُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، تَذْهَبُ وَتَسِيرُ بِسُرْعَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْمَنَايَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْبَقَرُ الْوَحْشِيَّةُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَنْشَطُ مَنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: النُّفُوسُ الْمُؤْمِنَةُ تَنْشَطُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِلْخُرُوجِ. وَقِيلَ: الَّتِي تَنْشَطُ لِلْإِزْهَاقِ. وَالسَّابِحاتِ، قَالَ عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ تَتَصَرَّفُ فِي الْآفَاقِ بِأَمْرِ اللَّهِ، تَجِيءُ وَتَذْهَبُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي الْأَفْلَاكِ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: الْخَيْلُ، يُقَالُ لِلْفَرَسِ سَابِحٌ. وَقِيلَ: السَّحَابُ لِأَنَّهَا كَالْعَائِمَةِ فِي الْهَوَاءِ. وَقِيلَ: الْحِيتَانُ دَوَابُّ الْبَحْرِ فَمَا دُونَهَا وَذَلِكَ مِنْ عِظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيُبْدِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَدَّ فِي الدُّنْيَا نَوْعًا مِنَ الْحَيَوَانِ، مِنْهَا أَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ وَسِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: السُّفُنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْمَنَايَا تَسْبَحُ فِي نُفُوسِ الْحَيَوَانِ. فَالسَّابِقاتِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ سَبَقَتْ بَنِي آدَمَ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَالَهُ أَبُو رَوْقٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ تَسْبِقُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا، وَقَدْ عَايَنَتِ السُّرُورَ شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْخَيْلُ، وَقِيلَ: النُّجُومُ، وَقِيلَ: الْمَنَايَا تَسْبِقُ الْآمَالَ. فَالْمُدَبِّراتِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا أَحْفَظُ خِلَافًا أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا الَّتِي تُدَبِّرُ الْأُمُورَ الَّتِي سَخَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَصَرَّفَهَا فِيهَا، كَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْأَحْوَالِ: جِبْرِيلُ لِلْوَحْيِ، وَمِيكَائِيلُ لِلْمَطَرِ، وَإِسْرَافِيلُ لِلنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَعِزْرَائِيلُ لِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: تَدْبِيرُهَا: نُزُولُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُعَاذٌ: هِيَ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ، وَإِضَافَةُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، أَيْ يَظْهَرُ تَقَلُّبُ الْأَحْوَالِ عِنْدَ قِرَانِهَا وَتَرْبِيعِهَا وَتَسْدِيسِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَقْوَالًا اخْتَارَهَا وَأَدَارَهَا أَوَّلًا عَلَى ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةُ أَوِ

الْخَيْلُ أَوِ النُّجُومُ. وَرَتَّبَ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِطَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي هِيَ تَنْزِعُ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَجْسَادِ، وَبِالطَّوَائِفِ الَّتِي تُنْشِطُهَا، أَيْ تُخْرِجُهَا مِنْ نَشَطَ الدَّلْوَ مِنِ الْبِئْرِ إِذَا أَخْرَجَهَا، وَبِالطَّوَائِفِ الَّتِي تَسْبَحُ فِي مُضِيِّهَا، أَيْ تُسْرِعُ فَتَسْبِقُ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ فَتُدَبِّرُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْعِبَادِ مِمَّا يُصْلِحُهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ كَمَا رُسِمَ لَهُمْ غَرْقًا، أَيْ إِغْرَاقًا فِي النَّزْعِ، أَيْ تَنْزِعُهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَجْسَادِ مِنْ أَنَامِلِهَا وأظفارها. أَوْ أَقْسَمَ بِخَيْلِ الْغُزَاةِ الَّتِي تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا إِلَى آخِرِ مَا نَقَلْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: مِنْ قَوْلِكَ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ، إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَالَّتِي تَسْبَحُ فِي جِرْيَتِهَا فَتَسْبِقُ إِلَى الْغَايَةِ فَتُدَبِّرُ أَمْرَ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ، وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِهِ. أَوْ أَقْسَمَ بِالنُّجُومِ الَّتِي تَنْزِعُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَإِغْرَاقُهَا فِي النَّزْعِ أَنْ تَقْطَعَ الْفَلَكَ كُلَّهُ حَتَّى تَنْحَطَّ مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَالَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ، وَالَّتِي تَسْبَحُ فِي الْفَلَكِ مِنَ السَّيَّارَةِ فَتَسْبِقُ فَتُدَبِّرُ أَمْرًا فِي عِلْمِ الْحِسَابِ. وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ: أَيْدِي الْغُزَاةِ أَوْ أَنْفُسُهُمْ تَنْزِعُ الْقِسِيَّ بِإِغْرَاقِ السِّهَامِ وَالَّتِي تَنْشَطُ الْإِرْهَاقَ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا عُطِفَ بِالْفَاءِ هُوَ مِنْ وَصْفِ الْمُقْسَمِ بِهِ قَبْلَ الْفَاءِ، وَأَنَّ المعطوف بالواو هو مُغَايِرٌ لِمَا قَبْلَهُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُرْسَلَاتِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المعطوف بالواو مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَالْمُخْتَارُ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ: لَتُبْعَثُنَّ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: الْجَوَابُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، وَالْمَعْنَى فِيمَا اقْتَصَصْتُ مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِرْعَوْنَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ قد طال. وقيل: الكلام الَّتِي تَلْقَى بِهَا الْقَسَمَ مَحْذُوفَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، أَيْ لِيَوْمِ كَذَا، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، وَلَمْ تَدْخُلْ نُونُ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْفِعْلِ وَقَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ. وَالنَّازِعاتِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: خَطَأٌ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، وَالنَّازِعاتِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ قَدْ أَتَاكَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إِعْرَابُ مَنْ لَمْ يُحْكِمِ الْعَرَبِيَّةَ، وَحَذْفُ الْجَوَابِ هُوَ الْوَجْهُ، وَيُقَرِّبُ الْقَوْلَ بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْ يَوْمَ تَرْجُفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُمَا الصَّيْحَتَانِ، أَيِ النَّفْخَتَانِ، الْأُولَى تُمِيتُ كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ تُحْيِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْوَاجِفَةُ:

الزَّلْزَلَةُ، وَالرَّادِفَةُ: الصَّيْحَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَاجِفَةُ: الْأَرْضُ، وَالرَّادِفَةُ: السَّاعَةُ، وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ اذْكُرْ مُضْمَرَةٌ، أَوْ لَتُبْعَثُنَّ الْمَحْذُوفُ وَالْيَوْمُ مُتَّسِعٌ تَقَعُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَهُمْ يُبْعَثُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُتَّسِعِ، وَتَتْبَعُهَا حَالٌ. قِيلَ: أَوْ مُسْتَأْنَفٌ. وَاجِفَةٌ: مُضْطَرِبَةٌ، وَوَجِيفُ الْقَلْبِ يَكُونُ مِنَ الْفَزَعِ وَيَكُونُ مِنِ الْإِشْفَاقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: إِنَّ بَنِي حَجَبَا وَأُسْرَتَهُمْ ... أَكْبَادُنَا مِنْ وَرَائِهِمْ تَجِفُ قُلُوبٌ: مُبْتَدَأٌ، واجِفَةٌ: صِفَةٌ تَعْمَلُ فِي يَوْمَئِذٍ، أَبْصارُها: أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ، خاشِعَةٌ: مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ قُلُوبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَفْعُ قُلُوبٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَجَازَ ذَلِكَ، وَهِيَ نَكِرَةٌ لِأَنَّهَا قَدْ تَخَصَّصَتْ بِقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ. انْتَهَى. وَلَا تَتَخَصَّصُ الْأَجْرَامُ بِظُرُوفِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا تَخَصَّصَتْ بِقَوْلِهِ: واجِفَةٌ. يَقُولُونَ: حِكَايَةُ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: هم الذين يقولون. والْحافِرَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ. وَقِيلَ: عَلَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ حَفْرٍ، وَالْمُرَادُ الْقُبُورُ، أَيْ لَمَرْدُودُونَ أَحْيَاءً فِي قُبُورِنَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْحَافِرَةُ: النَّارُ. وَقِيلَ: جَمْعُ حَافِرَةٍ بِمَعْنَى الْقَدَمِ، أَيْ أَحْيَاءً نَمْشِي عَلَى أَقْدَامِنَا وَنَطَأُ بِهَا الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ هِيَ أَوَّلُ الْأَمْرِ، وَتَقُولُ التُّجَّارُ: النَّقْدُ فِي الْحَافِرَةِ، أَيْ فِي ابْتِدَاءِ السَّوْمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمْ فَاعْلَمُوا ... حَتَّى تَرِدَ النَّاسُ فِي الْحَافِرَةِ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فِي الْحَفِرَةِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالْجُمْهُورُ: بِالْأَلِفِ. وَقِيلَ: هَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: هي الأرض المنتنة الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَجْسَادِ مَوْتَاهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَفِرَتْ أَسْنَانُهُ إِذَا تَآكَلَتْ وَتَغَيَّرَتْ. وَقَرَأَ عُمَرُ وأبي وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وابن عباس ومسروق ومجاهد وَالْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: نَاخِرَةٌ بِأَلِفٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وقتادة وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَيُّوبُ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَشِبْلٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ. قالُوا تِلْكَ إِذاً: أَيِ الرِّدَّةُ إِلَى الْحَافِرَةِ إِنْ رُدِدْنَا، كَرَّةٌ خاسِرَةٌ: أَيْ قَالُوا ذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْغَيْبِ، أَيْ لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا، لَكَانَتْ رِدَّتُنَا خَاسِرَةً، إِذْ هِيَ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَاسِرَةٌ: كَاذِبَةٌ، أَيْ لَيْسَتْ بِكَافِيَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَالَ ذَلِكَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ لما تقدم. يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ: تَضَمَّنُ قَوْلُهُمُ اسْتِبْعَادَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ وَاسْتِضْعَافَ أَمْرِهَا، فَجَاءَ قَوْلُهُ: فَإِنَّما مُرَاعَاةً لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِبْعَادُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ بِصَعْبٍ مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّمَا هِيَ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا هُمْ مَنْشُورُونَ أَحْيَاءٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّاهِرَةُ أَرْضٌ مِنْ فِضَّةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ

تَعَالَى. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: جَبَلٌ بِالشَّامِ يَمُدُّهُ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحَشْرِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَسُفْيَانُ: أَرْضٌ قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْضُ مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَهَنَّمُ، لِأَنَّهُ لَا نَوْمَ لِمَنْ فِيهَا. رَأَى أَنَّ الضَّمَائِرَ قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ لِلْكُفَّارِ فَفَسَّرَهَا بِجَهَنَّمَ. وَقِيلَ: الْأَرْضُ السَّابِعَةُ يَأْتِي بِهَا اللَّهُ يُحَاسِبُ عَلَيْهَا الْخَلَائِقَ. وَلَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَتَمَرَّدُوا، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَصَّ تَعَالَى عَلَيْهِ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَمَرُّدَ فِرْعَوْنَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ مُوسَى مِنَ النَّجَاةِ، وَحَالُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْهَلَاكِ، فَكَانَ ذَلِكَ مسلاة لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَتَبْشِيرًا بِهَلَاكِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَنَجَاتِهِ هُوَ مِنْ أَذَاهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ، توفيقا لَهُ عَلَى جَمْعِ النَّفْسِ لِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، وَالْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَاتِ فِي طُوىً. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ: تَفْسِيرٌ لِلنِّدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى: لُطْفٌ فِي الِاسْتِدْعَاءِ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُجِيبُ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ بِنَعَمْ، وَتَزَكَّى: تَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَتَتَطَهَّرُ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالزَّكَاةُ هُنَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَتَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ تَزَّكَّى وَتَصَّدَّى، بِشَدِّ الزَّايِ وَالصَّادِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفِّهَا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا، أو هل لك إِلَى كَذَا؟ فَيَحْذِفُونَ الْقَيْدَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَى، أَيْ هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ أَوْ حَاجَةٌ إِلَى كَذَا؟ أَوْ سَبِيلٌ إِلَى كَذَا؟ قَالَ الشَّاعِرُ: فَهَلْ لَكُمْ فِيهَا إِلَيَّ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بما أعيا النطاسي خديما وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى: هَذَا تَفْسِيرٌ لِلتَّزْكِيَةِ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ، فَتَخْشى: أَيْ تَخَافُهُ، لِأَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» . وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ لِأَنَّهَا مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَذَهَبَ وَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ. فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى: وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْيَدَ كَأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَا لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا، أَوِ الْعَصَا وَحْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتِ الْمُقَدِّمَةَ وَالْأَصْلَ، وَالْيَدُ تَبَعٌ لَهَا، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَّقِيهَا بِيَدِهِ. وَقِيلَ لَهُ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ «2» . فَكَذَّبَ: أَيْ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْمُعْجِزِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَعَصى الله تعالى بعد ما عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى، وَإِنَّمَا أُوهِمَ أَنَّهُ سِحْرٌ. ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، قِيلَ: أَدْبَرَ حَقِيقَةً، أَيْ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ فارا

_ (1) سورة فاطر: 35/ 28. (2) سورة النمل: 27/ 12.

بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْرَاضِهِ عَنِ الْإِيمَانِ. يَسْعى: يَجْتَهِدُ فِي مكابدة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَحَشَرَ: أَيْ جَمَعَ السَّحَرَةَ وَأَرْبَابَ دَوْلَتِهِ، فَنادى: أَيْ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، أَوْ فَنَادَى فِي الْمَقَامِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ مَعَهُ. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي الْمَخْرَقَةِ، وَنَحْوُهَا بَاقٍ فِي مُلُوكِ مِصْرَ وَأَتْبَاعِهِمْ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَلِكَ مِصْرَ فِي زَمَانِهِ كَانَ إِسْمَاعِيلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ إِلَهِيَّةَ مُلُوكِهِمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَهَا مِنْهُمُ الْمُعِزُّ بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله، ولا هم الْعَاضِدُ وَطَهَّرَ اللَّهُ مِصْرَ مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ بِظُهُورِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ سَادِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْآخِرَةُ قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «1» ، وَالْأُولَى قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَقِيلَ الْعَكْسُ، وَكَانَ بَيْنَ قَوْلَتَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: نَكَالَ الْآخِرَةِ بِالْحَرْقِ، وَالْأُولَى يَعْنِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابُ آخِرَةِ حَيَاتِهِ وَأُولَاهَا. وَقَالَ أَبُو زرين: الْأُولَى كُفْرُهُ وَعِصْيَانُهُ، وَالْآخِرَةُ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِ مَعَاصِيهِ، وَآخِرِهَا: أَيْ نَكَّلَ بِالْجَمِيعِ، وَانْتَصَبَ نَكَالَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فَأَخَذَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَعَلَى رَأْيِ الْمُبَرِّدِ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ، أَيْ نكل نكال، وَالنَّكَالُ بِمَعْنَى التَّنْكِيلِ، كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَكالَ الْآخِرَةِ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، كَ وَعَدَ اللَّهُ «2» ، وصِبْغَةَ اللَّهِ «3» ، كَأَنَّهُ قِيلَ: نَكَّلَ اللَّهُ بِهِ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. انْتَهَى. وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. إِنَّ فِي ذلِكَ: فِيمَا جَرَى لِفِرْعَوْنَ وَأَخْذِهِ تِلْكَ الْأَخْذَةَ، لَعِبْرَةً: لِعِظَةً، لِمَنْ يَخْشى: أَيْ لِمَنْ يَخَافُ عُقُوبَةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي الدُّنْيَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ، فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى، فَأَمَّا مَنْ طَغى، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى، يَسْئَلُونَكَ عَنِ

_ (1) سورة القصص: 28/ 38. (2) سورة النساء: 4/ 122، وسورة يونس: 10/ 4. (3) سورة البقرة: 2/ 138.

السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها. الْخِطَابُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ، والمقصود الكفار منكر والبعث، وَقَفَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى. أَشَدُّ خَلْقاً: أَيْ أَصْعَبُ إنشاء، أَمِ السَّماءُ، فالمسؤول عَنْ هَذَا يُجِيبُ وَلَا بُدَّ السَّمَاءُ، لِمَا يَرَى مِنْ دَيْمُومَةِ بَقَائِهَا وَعَدَمِ تَأْثِيرِهَا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ خَلْقِهَا. رَفَعَ سَمْكَها: أَيْ جَعَلَ مِقْدَارَهَا بِهَا فِي الْعُلُوِّ مَدِيدًا رَفِيعًا مِقْدَارَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالسَّمْكُ: الِارْتِفَاعُ الَّذِي بَيْنَ سَطْحِ السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا وَسَطْحِهَا الْأَعْلَى الَّذِي يَلِي مَا فَوْقَهَا، فَسَوَّاها: أَيْ جَعَلَهَا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً، لَيْسَ فِيهَا مُرْتَفِعٌ وَلَا مُنْخَفِضٌ، أَوْ تَمَّمَهَا وَأَتْقَنَ إِنْشَاءَهَا بِحَيْثُ إِنَّهَا مُحْكَمَةُ الصَّنْعَةِ. وَأَغْطَشَ: أَيْ أَظْلَمَ، لَيْلَها. وَأَخْرَجَ: أَبْرَزَ ضَوْءَ شَمْسِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «1» ، وَقَوْلِهِمْ: وَقْتُ الضُّحَى: الْوَقْتُ الَّذِي تُشْرِقُ فِيهِ الشَّمْسُ. وَأُضِيفَ اللَّيْلُ وَالضُّحَى إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ ظِلُّهَا، وَالضُّحَى هُوَ نُورُ سِرَاجِهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ: أَيْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَمَا فَعَلَ فِيهَا، دَحاها: أَيْ بَسَطَهَا، فَخَلَقَ الْأَرْضَ ثُمَّ السَّمَاءَ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْأَرْضَ، وَالْجِبالَ بِنَصْبِهِمَا وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِرَفْعِهِمَا وَعِيسَى: بِرَفْعِ الْأَرْضِ. وَأُضِيفَ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ مِنْهَا. وَالْجُمْهُورُ: مَتاعاً بِالنَّصْبِ، أَيْ فَعَلَ ذلك تمتيعا لَكُمْ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ، أَيْ ذَلِكَ مَتَاعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى دَحاها: بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَأَتِّي سُكْنَاهَا مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَأْكَلِ وَالْمُشْرَبِ وَإِمْكَانِ الْقَرَارِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَ حَالًا بِإِضْمَارِ قَدْ، كَقَوْلِهِ: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «2» . انْتَهَى. وَإِضْمَارُ قَدْ قَوْلٌ لِلْبَصْرِيِّينَ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَالْأَخْفَشِ: أَنَّ الْمَاضِيَ يَقَعُ حَالًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَدْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. فَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا. انْتَهَى. وَمَرْعاها: مَفْعَلٌ مِنَ الرَّعْيِ، فَيَكُونُ مَكَانًا وَزَمَانًا وَمَصْدَرًا، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَرْعِيَّهَا: أَيِ النَّبَاتُ الَّذِي يُرْعَى. وَقَدَّمَ الْمَاءَ عَلَى الْمَرْعَى لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي وُجُودِ الْمَرْعَى، وَشَمِلَ وَمَرْعاها مَا يَتَقَوَّتُ بِهِ الْآدَمِيُّ وَالْحَيَوَانُ غَيْرُهُ، فَهُوَ في حق الآدمي

_ (1) سورة الشمس: 91/ 1. (2) سورة النساء: 4/ 90. [.....]

اسْتِعَارَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: دَلَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذِكْرِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى عَلَى عَامَّةِ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ وَيُتَمَتَّعُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى الْمِلْحِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَاءِ. فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: وَقْتُ سَوْقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَيْهَا، وَأَهْلِ النَّارِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى: أَيْ عَمَلَهُ الَّذِي كَانَ سَعَى فِيهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَبُرِّزَتِ مبني لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ الرَّاءِ، لِمَنْ يَرى بِيَاءِ الْغَيْبَةِ: أَيْ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَيَشْكُرُ الْمُؤْمِنُ نِعْمَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ: لِمَنْ يَرى هُوَ الْكَافِرُ وَعَائِشَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُخَفَّفًا وَبِتَاءٍ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لِمَنْ تَرَى مِنْ أهلها، وأن يكون إخبار عَنِ الْجَحِيمِ، فَهِيَ تَاءُ التَّأْنِيثِ. قَالَ تَعَالَى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ «1» . وَقَالَ أَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو السَّمَّالِ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَبَرَزَتْ مَبْنِيًّا وَمُخَفَّفًا، ويَوْمَ يَتَذَكَّرُ: بَدَلٌ مِنْ فَإِذا وَجَوَابُ إِذَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: عَايَنُوا وَعَلِمُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: انقسم الراؤول قِسْمَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَأَمَّا وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ بَنُو تَمِيمٍ، فَأَمَّا الْعَاصِي فَأَهِنْهُ، وَأَمَّا الطَّائِعُ فَأَكْرِمْهُ. طَغى: تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي عِصْيَانِهِ، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ أَوْ فَصْلٌ. وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ مِنَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، أَيِ الْمَأْوَى لَهُ، وَحَسَّنَ حَذْفَهُ وُقُوعُ الْمَأْوَى فَاصِلَةً. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ أَلْ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى فَإِنَّ الْجَحِيمَ مَأْوَاهُ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: غُضَّ الطَّرْفَ، تُرِيدُ طَرْفَكَ وَلَيْسَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلًا مِنِ الْإِضَافَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ الطَّاغِيَ هُوَ صَاحِبُ الْمَأْوَى، وَأَنَّهُ لَا يَغُضُّ الرَّجُلُ طَرْفَ غَيْرِهِ، تُرِكَتِ الْإِضَافَةُ. وَدُخُولُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ فِي الْمَأْوَى، وَالطَّرْفِ لِلتَّحْرِيفِ لِأَنَّهُمَا مُعَرَّفَانِ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ الرَّابِطُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، إِذْ قَدْ نَفَى مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ، وَلَمْ يُقَدِّرْ ضَمِيرًا مَحْذُوفًا، كَمَا قَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَرَامَ حُصُولَ الرَّبْطِ بِلَا رَابِطٍ. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ: أَيْ مَقَامًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ وَفِي إِضَافَةِ الْمَقَامِ إِلَى الرَّبِّ تَفْخِيمٌ لِلْمَقَامِ وَتَهْوِيلٌ عَظِيمٌ وَاقِعٌ مِنَ النُّفُوسِ مَوْقِعًا عظيما. قال ابن

_ (1) سورة الفرقان: 25/ 12.

عباس: خافه عند ما هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ فَانْتَهَى عَنْهَا. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى: أَيْ عَنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْهَوَى فِيمَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ. قَالَ سَهْلٌ: لَا يَسْلَمُ مِنَ الْهَوَى إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَبَعْضُ الصِّدِّيقِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا أَرَدْتَ الصَّوَابَ فَانْظُرْ هَوَاكَ فَخَالِفْهُ. وَقَالَ عِمْرَانُ الْمِيرِتْلِيُّ: فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ ... هَوَى نَفْسِهِ تَنْزِعُ بِهِ كُلَّ مَنْزَعِ وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَةَ تَرُدُّهُ ... وَتَرْمِ بِهِ فِي مَصْرَعٍ أَيَّ مَصْرَعِ وَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ الْهَوَى، وَهَذَا التَّفْضِيلُ هُوَ عَامٌّ فِي أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَ ذَلِكَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: فَأَمَّا مَنْ طَغى، فَهُوَ أَخٌ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، أُسِرَ فَلَمْ يَشُدُّوا وَثَاقَهُ، وَأَكْرَمُوهُ وَبَيَّتُوهُ عِنْدَهُمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا حَدَّثُوا مُصْعَبًا، فَقَالَ: مَا هُوَ لِي بِأَخٍ، شُدُّوا أَسِيرَكُمْ، فَإِنَّ أُمَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ حُلِيًّا وَمَالًا فَأَوْثَقُوهُ. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ فِي جَوْفِهِ، وَهِيَ السِّهَامُ. فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم مُتَشَحِّطًا فِي دَمِهِ قَالَ: «عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُكَ» ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ مَا تُعْرَفُ قِيمَتُهُمَا، وَإِنَّ شِرَاكَ نَعْلِهِ مِنْ ذَهَبٍ» . قِيلَ: وَاسْمُ أَخِيهِ عَامِرٌ. وَفِي الْكَشَّافِ، وَقِيلَ: الْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي أَبِي عزيز بْنِ عُمَيْرٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ أخاه أبا عزيز يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بِنَفْسِهِ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ في جوفه. انتهى. يَسْئَلُونَكَ: أَيْ قُرَيْشٌ، وَكَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْبَحْثِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، إِذْ كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهَا وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَيَّانَ مُرْساها: مَتَى إِقَامَتُهَا؟ أَيْ متى يقيهما اللَّهُ وَيُثْبِتُهَا وَيُكَوِّنُهَا؟ وَقِيلَ: أَيَّانَ مُنْتَهَاهَا وَمُسْتَقَرُّهَا؟ كَمَا أَنَّ مَرْسَى السَّفِينَةِ وَمُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ كَثِيرًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ مِنْ ذِكْرِ تَحْدِيدِهَا وَوَقْتِهَا؟ أَيْ لَسْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ. إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها: أَيِ انْتِهَاءُ عِلْمِ وَقْتِهَا، لَمْ يُؤْتَ علم ذلك أحدا مِنْ خَلْقِهِ. وَقِيلَ: فِيمَ إِنْكَارٌ لِسُؤَالِهِمْ، أَيْ فِيمَ هَذَا السُّؤَالُ؟ ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا، فَكَفَاهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى دُنُوِّهَا وَمُشَارَفَتِهَا وَوُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَلَا مَعْنَى لِسُؤَالِهِمْ عَنْهَا.

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها: أَيْ لَمْ تُبْعَثْ لِتُعْلِمَهُمْ بِوَقْتِ السَّاعَةِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ، وَإِنَّمَا بُعِثْتَ لِتُنْذِرَ مِنْ أَهْوَالِهَا مَنْ يَكُونُ إِنْذَارُكَ لُطْفًا بِهِ فِي الْخَشْيَةِ مِنْهَا. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَزَمَّكَهُ بِكَثْرَةِ أَلْفَاظِهِ، وَهُوَ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الْفَهْمِ، وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُنْذِرُ مَنْ بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَعِيسَى وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ: مُنْذِرٌ بالتنوين. وقال الزمخشري: وقرىء مُنْذِرٌ بِالتَّنْوِينِ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْإِضَافَةُ تَخْفِيفٌ، وَكِلَاهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي، فَلَيْسَ إِلَّا الْإِضَافَةُ، كَقَوْلِكَ: هُوَ مُنْذِرُ زَيْدٍ أَمْسَ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصْلُ، يَعْنِي التَّنْوِينَ، فَهُوَ قَوْلٌ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِضَافَةُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا هُوَ بِالشَّبَهِ، وَالْإِضَافَةُ هِيَ أَصْلٌ فِي الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي، فَلَيْسَ إِلَّا الْإِضَافَةُ، فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَخَصَّ مَنْ يَخْشاها لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها: تَقْرِيبٌ وَتَقْرِيرٌ لِقِصَرِ مُقَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا. لَمْ يَلْبَثُوا: لَمْ يُقِيمُوا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا عَشِيَّةً: يَوْمٌ أَوْ بُكْرَتُهُ، وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ لِكَوْنِهَا طَرَفَيِ النَّهَارِ. بَدَأَ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، فَأَضَافَ الْآخَرَ إِلَيْهِ تَجَوُّزًا وَاتِّسَاعًا، وَحَسَّنَ الْإِضَافَةَ كَوْنُ الْكَلِمَةِ فَاصِلَةً، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة عبس

سورة عبس [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) تَصَدَّى: تَعَرَّضَ، قَالَ الرَّاعِي: تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كَأَنَّ جبينه ... سراج الدجى يجيء إِلَيْهِ الْأَسَاوِرُ وَأَصْلُهُ: تَصَدَّدَ مِنَ الصَّدَدِ، وَهُوَ مَا اسْتَقْبَلَكَ وَصَارَ قُبَالَتَكَ، يُقَالُ: دَارِي صَدَدُ دَارِهِ: أَيْ قُبَالَتُهَا. وَقِيلَ: مِنَ الصَّدَى، وَهُوَ الْعَطَشُ. وَقِيلَ: مِنَ الصَّدَى، وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي

تَسْمَعُهُ إِذَا تَكَلَّمْتَ مِنْ بُعْدٍ فِي خَلَاءٍ كَالْجَبَلِ، وَالْمُصَادَاةُ: الْمُعَارَضَةُ. السَّفَرَةُ: الْكَتَبَةُ، الْوَاحِدُ سَافِرٌ، وَسَفَرَتِ الْمَرْأَةُ: كَشَفَتِ النِّقَابَ، وَسَفَرْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ أَسْفِرُ سِفَارَةً: أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، الْوَاحِدُ سَفِيرٌ، وَالْجَمْعُ سُفَرَاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَمَا أَسْعَى بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ الْقَضْبُ، قَالَ الْخَلِيلُ، الْفَصْفَصَةُ الرَّطْبَةُ، وَيُقَالُ بِالسِّينِ، فَإِذَا يَبِسَتْ فَهِيَ الْقَتُّ. قَالَ: وَالْقَضْبُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا يَقَعُ مِنَ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ لِيُتَّخَذَ مِنْهَا سِهَامٌ أَوْ قِسِيٌّ. الْغُلْبُ جَمْعُ غَلْبَاءَ، يُقَالُ: حَدِيقَةٌ غَلْبَاءُ: غَلِيظَةُ الشَّجَرِ مُلْتَفَّةٌ، وَاغْلَوْلَبَ الْعُشْبُ: بَلَغَ وَالْتَفَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَرَجُلٌ أَغْلَبُ: غَلِيظُ الرَّقَبَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْوَصْفِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرِّقَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: يَسْعَى بِهَا غُلْبُ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ... بُزْلٌ كُسِينَ مِنَ الشُّعُورِ جِلَالَا الْأَبُّ: الْمَرْعَى لِأَنَّهُ يُؤَبُّ، أَيْ يُؤَمُّ وَيُنْتَجَعُ، وَالْأَبُّ وَالْأُمُّ أَخَوَانِ. قَالَ الشَّاعِرُ: جِذْمُنَا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا ... وَلَنَا الْأَبُّ بِهِ وَالْمَكْرَعُ وَقِيلَ: مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ النبات يسمى الخصيد، وَمَا أَكَلَهُ غَيْرُهُمْ يُسَمَّى الْأَبَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهُ دَعْوَةٌ مَيْمُونَةٌ رِيحُهَا الصَّبَا ... بِهَا يُنْبِتُ اللَّهُ الْحَصِيدَةَ وَالْأَبَّا الصَّاخَّةُ، قَالَ الْخَلِيلُ: صَيْحَةٌ تَصُخُّ الْآذَانَ صَخًّا، أَيْ تَصُمُّهَا لِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا. وَقِيلَ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ صَخَّهُ بِالْحَجَرِ إِذَا صَكَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصَاخَ لِحَدِيثِهِ مِثْلَ أَصَاخَ لَهُ. الْغَبَرَةُ: الْغُبَارُ. الْقَتَرَةُ: سَوَادٌ كَالدُّخَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقَتَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْغُبَارُ، جَمْعُ الْقَتَرَةِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ ... فَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى، وَهُوَ يَخْشى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ، قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا، وَعِنَباً

وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا، وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ، فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَجِيءُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ قِصَّتَهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «1» ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ مَنْ يَنْفَعُهُ الْإِنْذَارُ وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِنْذَارُ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِيهِمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وأبو جهل وأبي وَأُمَيَّةُ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. أَنْ جاءَهُ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ جَاءَهُ، وَيَتَعَلَّقُ بتولي عَلَى مُخْتَارِ الْبَصْرِيِّينَ فِي الأعمال، وبعبس عَلَى مُخْتَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَبَسَ مُخَفَّفًا، أَنْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِشَدِّ الْبَاءِ وَهُوَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَعِيسَى: أَآنْ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ بَعْدَهَا وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ، وَالْهَمْزَةُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِمَا يَقِفُ عَلَى تَوَلَّى. وَالْمَعْنَى: أَلِأَنْ جَاءَهُ كَادَ كَذَا. وَجَاءَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى إِجْلَالًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلُطْفًا بِهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ لِمَا فِي الْمُشَافَهَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ مِمَّا لَا يَخْفَى. وَجَاءَ لَفْظُ الْأَعْمى إِشْعَارًا بِمَا يُنَاسِبُ مِنَ الرِّفْقِ بِهِ وَالصَّغْوِ لِمَا يَقْصِدُهُ، وَلِابْنِ عَطِيَّةَ هُنَا كَلَامٌ أَضْرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا. وَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَعْمى، أَيْ يَتَطَهَّرُ بِمَا يَتَلَقَّنُ مِنِ الْعِلْمِ، أَوْ يَذَّكَّرُ: أَيْ يَتَّعِظُ، فَتَنْفَعَهُ ذِكْرَاكَ، أي موعظتك. والظاهر مصب يُدْرِيكَ عَلَى جُمْلَةِ التَّرَجِّي، فَالْمَعْنَى: لَا تَدْرِي مَا هُوَ مُتَرَجًّى مِنْهُ مِنْ تَزَكٍّ أَوْ تَذَكُّرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا يُطْلِعُكَ عَلَى أَمْرِهِ وَعُقْبَى حَالِهِ. ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَوْلَ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى: أَيْ تَنْمُو بَرَكَتُهُ وَيَتَطَهَّرُ لِلَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُ لِلْكَافِرِ، يَعْنِي أَنَّكَ طَمِعْتَ فِي أَنْ يَتَزَكَّى بِالْإِسْلَامِ. أَوْ يَذَّكَرَ فَتُقَرِّبَهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَا طَمِعَتْ فِيهِ كَائِنٌ. انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ يَذَّكَّرُ بِشَدِّ الذَّالِ وَالْكَافِ، وَأَصْلُهُ يَتَذَكَّرُ فَأُدْغِمَ وَالْأَعْرَجُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: أَوْ يَذْكُرُ، بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ. وقرأ الجمهور:

_ (1) سورة النازعات: 79/ 45.

فَتَنْفَعَهُ، بِرَفْعِ الْعَيْنِ عَطْفًا عَلَى أَوْ يَذَّكَّرُ وَعَاصِمٌ فِي الْمَشْهُورِ، وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ والزعفرني: بِنَصْبِهِمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي جَوَابِ التَّمَنِّي، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يَذَّكَّرُ فِي حُكْمِ قَوْلِهِ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ تَمَنِّيًا، إِنَّمَا هُوَ تَرَجٍّ وَفَرْقٌ بَيْنَ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلَعَلَّ، كَقَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى «1» . انْتَهَى. وَالتَّرَجِّي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا جَوَابَ لَهُ، فَيُنْصَبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَيَقُولُونَ: يُنْصَبُ فِي جَوَابِ التَّرَجِّي، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى فِي قِرَاءَةِ حَفْصٍ، وَوَجَّهْنَا مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ فِي نَصْبِ الْمُضَارِعِ. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى: ظَاهِرُهُ مَنْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَنِ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. قِيلَ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى الثَّرْوَةِ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الثَّرْوَةِ لَكَانَ الْمُقَابِلُ: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ فَقِيرًا حَقِيرًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وقتادة وَالْأَعْرَجُ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ وَجُمْهُورُ السَّبْعَةِ: تَصَدَّى بِخَفِّ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ يَتَصَدَّى فَحَذَفَ وَالْحَرَمِيَّانِ: بِشَدِّهَا، أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: تُصَدَّى، بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، أَيْ يَصُدُّكَ حِرْصُكَ عَلَى إِسْلَامِهِ. يُقَالُ: تُصَدَّى الرَّجُلُ وَصَدَّيْتُهُ، وَهَذَا الْمُسْتَغْنِي هُوَ الْوَلِيدُ، أَوْ أُمَيَّةُ، أَوْ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، أَوْ أُمَيَّةُ وَجَمِيعُ الْمَذْكُورِينَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَقْوَالٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ غَلَطٌ مِنَ المفسرين، لأنه أُمَيَّةَ وَالْوَلِيدَ كَانَا بِمَكَّةَ، وَابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَا حَضَرَ مَعَهُمَا، وَمَاتَا كَافِرَيْنِ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْآخَرُ فِي بَدْرٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ قَطُّ أُمَيَّةُ الْمَدِينَةَ، وَلَا حَضَرَ مَعَهُ مُفْرَدًا وَلَا مَعَ أَحَدٍ. انْتَهَى. وَالْغَلَطُ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ، كَيْفَ يَنْفِي حُضُورَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مَعَهُمَا؟ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِهَا. وَالسُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَيْفَ يَقُولُ: وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالْمَدِينَةِ؟ كَانَ أَوَّلًا بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا جَمِيعُهُمْ بِمَكَّةَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْحِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَأُمُّ مَكْتُومٍ أُمُّ أَبِيهِ عَاتِكَةُ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى: تَحْقِيرٌ لِأَمْرِ الْكَافِرِ وَحَضٌّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ فِي كَوْنِهِ لَا يُفْلِحُ وَلَا يَتَطَهَّرُ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى: أَيْ يَمْشِي بِسُرْعَةٍ فِي أَمْرِ دِينِهِ، وَهُوَ يَخْشى: أَيْ يَخَافُ اللَّهَ، أَوْ يَخَافُ الْكُفَّارَ وَأَذَاهُمْ، أَوْ يَخَافُ الْعِثَارَ وَالسُّقُوطَ لِكَوْنِهِ أَعْمَى، وَقَدْ جَاءَ بِلَا قَائِدٍ يقوده. تَلَهَّى:

_ (1) سورة غافر: 40/ 37.

تَشْتَغِلُ، يُقَالُ: لَهَا عَنِ الشَّيْءِ يَلَهَّى، إِذَا اشْتَغَلَ عَنْهُ. قِيلَ: وَلَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الَّذِي هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَا يُبْنَى عَلَى فَعِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ تنقلب وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، نَحْوَ: شَقِيَ يَشْقَى، فَإِنْ كَانَ مَصْدَرُهُ جَاءَ بِالْيَاءِ، فَيَكُونُ مِنْ مَادَّةٍ غَيْرِ مَادَّةِ اللَّهْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَلَهَّى وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: عنهو تلهى، بِإِدْغَامِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ فِي تَاءِ تَفَعَّلَ وَأَبُو جَعْفَر: بِضَمِّهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ يَشْغَلُكَ دُعَاءُ الْكَافِرِ لِلْإِسْلَامِ وَطَلْحَةُ: بِتَاءَيْنِ وَعَنْهُ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَسُكُونِ اللَّامِ. كَلَّا إِنَّها: أَيْ سُورَةُ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتُ، تَذْكِرَةٌ: عِظَةٌ يُنْتَفَعُ بِهَا. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ: أَيْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ ذَكَرَهُ، أَتَى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ هِيَ الذِّكْرُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «1» ، وَاعْتَرَضَتْ بَيْنَ تَذْكِرَةٌ وَبَيْنَ صِفَتِهِ، أَيْ تَذْكِرَةٌ: كَائِنَةٌ. فِي صُحُفٍ، قِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: صُحُفُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُنْزَلَةُ، وَقِيلَ: صُحُفُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ إِخْبَارًا بِمُغَيَّبٍ، إِذْ لَمْ يُكْتَبِ الْقُرْآنُ فِي صُحُفٍ زَمَانَ، كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَكَّةَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، مكرمة عند الله، ومرفوعة فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ، أَوْ مَرْفُوعَةٌ عَنِ الشُّبَهِ وَالتَّنَاقُضِ، أَوْ مَرْفُوعَةُ الْمِقْدَارِ. مُطَهَّرَةٍ: أَيْ مُنَزَّهَةٍ عَنْ كُلِّ دَنَسٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ أَيْضًا: مُطَهَّرَةٌ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَيْدِي الشَّيَاطِينِ، لَا تَمَسُّهَا إِلَّا أَيْدِي مَلَائِكَةٍ مُطَهَّرَةٍ. سَفَرَةٍ: كَتَبَةٍ يَنْسَخُونَ الْكُتُبَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. انْتَهَى. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمْ كَتَبَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: لِأَنَّهُمْ يَسْفِرُونَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْبِيَائِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْقُرَّاءُ، وَوَاحِدُ السَّفَرَةِ سَافِرٌ. وَقَالَ وَهْبٌ: هُمُ الصَّحَابَةُ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْفِرُ إِلَى بَعْضٍ فِي الْخَيْرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ. قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، غَاضَبَ أَبَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ اسْتَصْلَحَهُ أَبُوهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا وَجَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَافِرٌ بِرَبِّ النَّجْمِ إِذَا هَوَى. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ يَأْكُلْهُ» . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَاضِرَةِ ذَكَرَ الدُّعَاءَ، فَجَعَلَ لِمَنْ مَعَهُ أَلْفَ دِينَارٍ إِنْ أَصْبَحَ حَيًّا، فَجَعَلُوهُ وَسَطَ الرُّفْقَةِ وَالْمَتَاعُ حَوْلَهُ. فَأَقْبَلَ الْأَسَدُ إِلَى الرجال وَوَثَبَ، فَإِذَا هُوَ فَوْقَهُ فَمَزَّقَهُ، فَكَانَ أَبُوهُ يَنْدُبُهُ وَيَبْكِي عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا قَالَ مُحَمَّدٌ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا كَانَ ، وَالْآيَةُ، وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مَخْصُوصٍ، فَالْإِنْسَانُ يراد به

_ (1) سورة المزمل: 73/ 19.

الْكَافِرُ. وَقُتِلَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَالْقَتْلُ أَعْظَمُ شَدَائِدِ الدُّنْيَا. مَا أَكْفَرَهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنْ إِفْرَاطِ كُفْرِهِ، وَالتَّعَجُّبُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ هُوَ مِمَّنْ يُقَالُ فِيهِ مَا أَكْفَرَهُ. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْفَرَهُ؟ أَيْ جَعَلَهُ كَافِرًا، بِمَعْنَى لِأَيِّ شَيْءٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَكْفُرَ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ: اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ فَقَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ: أَيْ فَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَعَنْهُ قَدَّرَ أَعْضَاءَهُ، وَحَسَنًا وَدَمِيمًا وَقَصِيرًا وَطَوِيلًا وَشَقِيًّا وَسَعِيدًا. وَقِيلَ: مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، إِلَى أَنْ تَمَّ خَلْقُهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ: أَيْ ثُمَّ يَسَّرَ السَّبِيلَ، أَيْ سَهَّلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ: سَبِيلُ النَّظَرِ الْقَوِيمِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَيْسِيرُهُ لَهُ هُوَ هِبَةُ الْعَقْلِ. وقال مجاهد والحسن وعطاء وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: السَّبِيلُ الْعَامُّ اسْمُ الْجِنْسِ فِي هُدًى وَضَلَالٍ، أَيْ يَسَّرَ قَوْمًا لِهَذَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَسَّرَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ: أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا صِيَانَةً لِجَسَدِهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ. قبره: ذفنه، وَأَقْبَرَهُ: صَيَّرَهُ بِحَيْثُ يُقْبَرُ وَجَعَلَ لَهُ قَبْرًا، وَالْقَابِرُ: الدَّافِنُ بِيَدِهِ. قَالَ الْأَعْشَى: لَوْ أَسْنَدْتَ مَيِّتًا إِلَى قَبْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى قَابِرِ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ: أَيْ إِذَا أَرَادَ إِنْشَارَهُ أَنْشَرَهُ، وَالْمَعْنَى: إِذَا بَلَغَ الْوَقْتُ الَّذِي قَدْ شَاءَهُ اللَّهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ: شَاءَ نَشَرَهُ، بِغَيْرِ هَمْزٍ قَبْلَ النُّونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي الْإِحْيَاءِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ: شَاءَ نَشَرَهُ. كَلَّا: رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَنْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. لَمَّا يَقْضِ: يَفِي مِنْ أَوَّلِ مُدَّةِ تَكْلِيفِهِ إِلَى حِينِ إِقْبَارِهِ، مَا أَمَرَهُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَالضَّمِيرُ فِي يَقْضِ لِلْإِنْسَانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَمْ يَقْضِ اللَّهُ لِهَذَا الْكَافِرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ. وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، ذَكَرَ النِّعَمَ فِيمَا بِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى طَعَامِهِ وَكَيْفِيَّاتِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اعْتَوَرَتْ عَلَى طَعَامِهِ حَتَّى صَارَ بِصَدَدِ أَنْ يُطْعَمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّعَامَ هُوَ الْمَطْعُومُ، وَكَيْفَ يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الْمَذْكُورَةِ من صب

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 3. (2) سورة البلد: 90/ 10.

الْمَاءِ وَشَقِّ الْأَرْضِ وَالْإِنْبَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: إِلى طَعامِهِ: أَيْ إِذَا صَارَ رَجِيعًا لِيَتَأَمَّلَ عَاقِبَةَ الدُّنْيَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَفَانَى أَهْلُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكُوفِيُّونَ وَرُوَيْسٌ: أَنَّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا: أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مما لا فَالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فِي ذِكْرِ تَعْدَادِ الْوُصُولِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالْفَتْحُ قَالُوا عَلَى الْبَدَلِ، وَرَدَّهُ قَوْمٌ، لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ الْأَوَّلَ. قِيلَ: وَلَيْسَ كَمَا رَدُّوا لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى إِنْعَامِنَا فِي طَعَامِهِ، فَتَرَتَّبَ الْبَدَلُ وَصَحَّ. انْتَهَى. كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ مُمَالًا عَلَى مَعْنَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ كَيْفَ صَبَبْنَا. وَأَسْنَدَ تَعَالَى الصَّبَّ وَالشَّقَّ إِلَى نَفْسِهِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى السَّبَبِ، وَصَبُّ الْمَاءِ هُوَ الْمَطَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّقَّ كِنَايَةٌ عَنْ شَقِّ الْفَلَّاحِ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَشُقَّ بِهِ. وَقِيلَ: شَقُّ الْأَرْضِ هُوَ بِالنَّبَاتِ. حَبًّا: يَشْمَلُ مَا يُسَمَّى حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَذُرَةٍ وَسُلْتٍ وَعَدَسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَضْباً، قَالَ الْحَسَنُ: الْعَلَفُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَ الْقَتَّ الْقَضْبَ. وَقِيلَ: الْفَصْفَصَةُ، وَضُعِّفَ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْأَبِّ. وَقِيلَ: مَا يُقْضَبُ لِيَأْكُلَهُ ابْنُ آدَمَ غَضًّا مِنَ النَّبَاتِ، كَالْبُقُولِ وَالْهِلْيَوْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرُّطَبُ، لِأَنَّهُ يُقْضَبُ مِنَ النَّخْلِ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعِنَبَ قَبْلَهُ. غُلْباً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غِلَاظًا، وَعَنْهُ: طِوَالًا وَعَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: كِرَامًا وَفاكِهَةً: مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ، كَالْخَوْخِ وَالتِّينِ وَأَبًّا: مَا تَأْكُلُهُ الْبَهَائِمُ مِنَ الْعُشْبِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: التِّبْنُ خَاصَّةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلُّ نَبَاتٍ سِوَى الْفَاكِهَةِ رَطْبُهَا، وَالْأَبُّ: يَابِسُهَا. الصَّاخَّةُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ القيامة يصم نبأها الْآذَانَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: صَخَّتْهُمُ الصَّاخَّةُ وَنَابَتْهُمُ النَّائِبَةُ، أَيِ الدَّاهِيَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّاخَّةُ هِيَ الَّتِي تُورِثُ الصَّمَمَ، وَإِنَّهَا لَمُسْمِعَةٌ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ، كَقَوْلِهِ: أَصَمَّهُمْ سِرُّهُمْ أَيَّامَ فُرْقَتِهِمْ ... فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِسِرٍّ يُورِثُ الصَّمَمَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: أَصَمَّ بِكَ النَّاعِي وَإِنْ كَانَ أَسْمَعَا وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ مُسْمِعَةٌ تُصِمُّ عَنِ الدُّنْيَا وَتُسْمِعُ أُمُورَ الْآخِرَةِ. انْتَهَى. يَوْمَ يَفِرُّ: بَدَلٌ مِنْ إِذَا، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اشْتَغَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وَفِرَارُهُ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا جَاءَ

مِنْ قَوْلِ الرُّسُلِ: «نَفْسِي نَفْسِي» . وَقِيلَ: خَوْفُ التَّبِعَاتِ، لِأَنَّ الْمُلَابَسَةَ تَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ. يَقُولُ الْأَخُ: لَمْ تُوَاسِنِي بِمَالِكَ، وَالْأَبَوَانِ قَصَّرْتَ فِي بِرِّنَا، وَالصَّاحِبَةُ أَطْعَمْتَنِي الْحَرَامَ وَفَعَلْتَ وَصَنَعْتَ، وَالْبَنُونَ لَمْ تُعَلِّمْنَا وَتُرْشِدْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُغْنِيهِ: أَيْ عَنِ النَّظَرِ فِي شَأْنِ الْآخَرِ مِنِ الْإِغْنَاءِ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَحُمَيْدٌ وابن السميفع: يَعْنِيهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَنَانِي الْأَمْرُ: قَصَدَنِي. مُسْفِرَةٌ: مُضِيئَةٌ، مِنْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ: أَضَاءَ، وتَرْهَقُها: تَغْشَاهَا، قَتَرَةٌ: أَيْ غُبَارٌ. وَالْأُولَى مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْعُبُوسِ عِنْدَ الْهَمِّ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ غُبَارِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: غَبَرَةٌ: أَيْ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ، وَقَتَرَةٌ: سَوَادٌ كَالدُّخَانِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْغَبَرَةُ: مَا انْحَطَّتْ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْقَتَرَةُ: مَا ارْتَفَعَتْ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَتَرَةٌ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِإِسْكَانِهَا.

سورة التكوير

سورة التّكوير [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) انْكَدَرَتِ النُّجُومُ: انْتَثَرَتْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: انْصَبَّتْ كَمَا تَنْصَبُّ الْقِعَابُ إِذَا كُسِرَتْ. قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ صَقْرًا: أَبْصَرَ حُرُمَاتِ فَلَاةٍ فَانْكَدَرْ ... تَقَصِّيَ الْبَازِيُّ إِذَا الْبَازِيُّ كَسَرْ الْعِشَارُ جَمْعُ عُشَرَاءَ، وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي مَرَّ لِحَمْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ هُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ فِي تَمَامِ السَّنَةِ. التَّعْطِيلُ: التَّفْرِيغُ وَالْإِهْمَالُ. الْوَحْشُ: حَيَوَانُ الْبَرِّ الَّذِي لَيْسَ فِي

طَبْعِهِ التَّآنُسُ بِبَنِي آدَمَ. الْمَوْءُودَةُ: الْبِنْتُ الَّتِي تُدْفَنُ حَيَّةً، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّقْلِ، كَأَنَّهَا تُنْقَلُ مِنَ التُّرَابِ حَتَّى تَمُوتَ، وَمِنْهُ اتَّئِدْ: أَيْ تَوَقَّرْ وَأَثْقِلْ وَلَا تَخَفْ. الْكَشْطُ: التَّقْشِيرُ، كَشَطْتُ جِلْدَ الشَّاةِ: سَلَخْتُهُ عَنْهَا. الْخُنَّسُ جَمْعُ خَانِسٍ، وَالْخُنُوسُ: الِانْقِبَاضُ وَالِاسْتِخْفَاءُ. تَقُولُ خَنَسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَانْخَنَسَ. الْكُنَّسُ جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ، يُقَالُ: كَنَسَ إِذَا دَخَلَ الْكِنَاسَ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ الظِّبَاءُ. وَالْخَنْسُ: تَأَخُّرُ الْأَنْفِ عَنِ الشَّفَةِ مَعَ ارْتِفَاعٍ قَلِيلٍ مِنَ الْأَرْنَبَةِ. عَسْعَسَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ وَعَسَسَ، إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ قُرْطٍ: حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا وَقَالَ رُؤْبَةُ: يَا هِنْدُ مَا أَسْرَعَ مَا تعسعسا ... من بعد ما كان فتى ترعرعا التَّنَفُّسُ: خُرُوجُ النَّسِيمِ مِنَ الْجَوْفِ، وَاسْتُعِيرَ لِلصُّبْحِ وَمَعْنَاهُ: امْتِدَادُهُ حَتَّى يَصِيرَ نَهَارًا وَاضِحًا. الظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، ظَنَنْتُ الرَّجُلَ: اتَّهَمْتُهُ، وَالظَّنِينُ: الْبَخِيلُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَجُودُ بِمَكْنُونِ الْحَدِيثِ وَإِنَّنِي ... بِسِرِّكَ عَنْ مَا سَأَلْتَنِي لَضَنِينُ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ. وَتَكْوِيرُ الشَّمْسِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِدْخَالُهَا فِي الْعَرْشِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: ذَهَابُ ضَوْئِهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: رَمَى بِهَا، وَمِنْهُ: كَوَّرْتُهُ فَتَكَوَّرَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: نَكَسَتْ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَظْلَمَتْ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: اضْمَحَلَّتْ. وَقِيلَ: غَوَّرَتْ وَقِيلَ: يَلُفُّ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيَرْمِي بِهَا

فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُوِّرَتْ مِثْلَ تَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ يُكَوِّرُهَا، أَيْ لَاثَهَا وَجَمَعَهَا، فَهِيَ تُكَوَّرُ، ثُمَّ يَمْحِي ضَوْءَهَا، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ؟ قُلْتُ: بَلْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، رَافِعُهَا فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ كُوِّرَتْ، لِأَنَّ إِذَا يَطْلُبُ الْفِعْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. انْتَهَى. وَمِنْ طَرِيقَتِهِ أَنَّهُ يُسَمِّي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَاعِلًا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ مِنِ الْإِعْرَابِ مُجْمَعًا عَلَى تَحَتُّمِهِ عِنْدَ النُّحَاةِ، بَلْ يَجُوزُ رَفْعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ أَنْ تَجِيءَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ بَعْدَ إِذَا، نَحْوُ: إِذَا زَيْدٌ يُكْرِمُكَ فَأَكْرِمْهُ. انْكَدَرَتْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَسَاقَطَتْ وَعَنْهُ أَيْضًا: تَغَيَّرَتْ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا ضَوْءٌ لِزَوَالِهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَاءٌ كَدِرٌ: أَيْ مُتَغَيِّرٌ. وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ: أَيْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَوْ سُيِّرَتْ فِي الْجَوِّ تَسْيِيرَ السَّحَابِ، كَقَوْلِهِ: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» ، وَهَذَا قَبْلُ نَسْفِهَا، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْعِشَارُ: أَنْفَسُ مَا عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْمَالِ، وَتَعْطِيلُهَا: تَرْكُهَا مُسَيَّبَةً مُهْمَلَةً، أَوْ عَنِ الْحَلْبِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَنْ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهَا الْفُحُولُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا عِشَارًا بِاعْتِبَارِ مَا سَبَقَ لَهَا ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ، لِأَنَّهُ فِي الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ عُشَرَاءُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُشَرَاءُ لَعَطَّلَهَا أَهْلُهَا وَاشْتَغَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا قَامُوا مِنَ الْقُبُورِ شَاهَدُوا الْوُحُوشَ وَالدَّوَابَّ مَحْشُورَةً وَعِشَارُهُمْ فِيهَا الَّتِي كَانَتْ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، لم يعبأوا بِهَا لِشُغْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: السَّحَابُ، وَتَعْطِيلُهَا مِنَ الْمَاءِ فَلَا تُمْطِرُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ بِالْحَامِلِ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: الدِّيَارُ تُعَطَّلُ فَلَا تُسْكَنُ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: الْأَرْضُ الَّتِي يُعَشَّرُ زَرْعُهَا، تُعَطَّلُ فَلَا تُزْرَعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عُطِّلَتْ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَمُضَرُ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: بِتَخْفِيفِهَا، كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ، وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، قَالَ فِي اللَّوَامِحِ، وَقِيلَ: هُوَ وَهْمٌ إِنَّمَا هُوَ عَطَلَتْ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى تَعَطَّلَتْ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِ التَّعَدِّي، يُقَالُ: مِنْهُ عَطَّلْتُ الشَّيْءَ وَأَعْطَلْتُهُ فَعَطِلَ بِنَفْسِهِ، وَعَطِلَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ عَاطِلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْحُلِيُّ، فَلَعَلَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ لُغَةٌ اسْتَوَى فِيهَا فَعِلَتْ وَأَفْعَلَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بمعطل

_ (1) سورة النمل: 27/ 88.

حُشِرَتْ: أَيْ جُمِعَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جُمِعَتْ بِالْمَوْتِ، فَلَا تُبْعَثُ وَلَا يَحْضُرُ فِي الْقِيَامَةِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ. وَعَنْهُ وَعَنْ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذُّبَابُ. وَعَنْهُ: تُحْشَرُ الْوُحُوشُ حَتَّى يُقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا مُوتِي فَتَمُوتُ. وَقِيلَ: إِذَا قُضِيَ بَيْنَهَا رُدَّتْ تُرَابًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا مَا فِيهِ سُرُورٌ لِبَنِي آدَمَ وَإِعْجَابٌ بِصُورَتِهِ، كَالطَّاوُوسِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ أُبَيٌّ: فِي الدُّنْيَا فِي أَوَّلِ الْهَوْلِ تَفِرُّ فِي الْأَرْضِ وَتَجْتَمِعُ إِلَى بَنِي آدَمَ تَآنُسًا بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُشِرَتْ بِخَفِّ الشِّينِ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: بِشَدِّهَا. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ: تَقَدَّمَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي سَجْرِ الْبَحْرِ فِي الطُّورِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَفِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقِرَاءَاتِ، سُجِّرَتْ: جُمِعَتْ، بِلُغَةِ خَثْعَمَ. وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مُلِكَتْ وَقُيِّدَ اضْطِرَابُهَا حَتَّى لَا تَخْرُجَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْهَوْلِ، فَتَكُونَ اللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةً مِنْ سَاجُورِ الْكَلْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخَفِّ الْجِيمِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ اسْتِعَارَاتٌ فِي كُلِّ ابْنِ آدَمَ وَأَحْوَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَالشَّمْسُ نَفْسُهُ، وَالنُّجُومُ عَيْنَاهُ وَحَوَاسُّهُ، وَهَذَا قَوْلٌ ذَاهِبٌ إِلَى إِثْبَاتِ الرُّمُوزِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَمَذَاهِبُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ فِي خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ زَنَادِقَةٌ تَسَتَّرُوا بِالِانْتِمَاءِ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وَكِتَابُ اللَّهِ جَاءَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، لَا رَمْزَ فِيهِ وَلَا لُغْزَ وَلَا بَاطِنَ، وَلَا إِيمَاءَ لِشَيْءٍ مِمَّا تَنْتَحِلُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَلَا أَهْلُ الطَّبَائِعِ. وَلَقَدْ ضَمَّنَ تَفْسِيرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ أَشْيَاءَ مِمَّا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ عِنْدَهُ وَأَصْحَابُ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيْئَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ فِي آخِرِ مَا يُفَسِّرُهُ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ كَلَامِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصُّوفِ وَيُسَمِّيهَا الْحَقَائِقَ، وَفِيهَا مَا لَا يَحِلُّ كِتَابَتُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْتَقَدَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ فِي دِينِنَا وَعَقَائِدِنَا وَمَا بِهِ قِوَامُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا. وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ: أَيِ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرُ مَعَ الْكَافِرِ، كَقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «1» ، قاله عمرو ابن عَبَّاسٍ أَوْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَزْوَاجِهِمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَغَيْرِهِنَّ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَوِ الْأَزْوَاجُ الْأَجْسَادُ، قاله عكرمة والضحاك

_ (1) سورة الواقعة: 56/ 7.

وَالشَّعْبِيُّ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ: زُووِجَتْ عَلَى فُوعِلَتْ، وَالْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَالْجُمْهُورُ: بِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَدَ يَئِدُ، مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ يَؤُدُ إِذَا أَثْقَلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما «1» ، لِأَنَّهُ إِثْقَالٌ بِالتُّرَابِ. انْتَهَى. وَلَا يُدَّعَى فِي وَأَدَ أَنَّهُ مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَامِلُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ وَالْمُضَارِعِ وَالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُسَوِّغَاتِ ادِّعَاءِ الْقَلْبِ. وَالَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الْأَصَالَةُ مِنَ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ النَّظْمَيْنِ فِيهِ حُكْمٌ يَشْهَدُ لَهُ بِالْأَصَالَةِ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ كَوْنُهُ مُجَرَّدًا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالْآخَرُ فِيهِ مَزِيدًا وَكَوْنُهُ أَكْثَرَ تَصَرُّفًا وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا عَلَى مَا قَرَّرُوا أَحْكَمُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. فَالْأَوَّلُ كَيَئِسَ وَأَيِسَ، وَالثَّانِي كَطَأْمَنَ وَاطْمَأَنَّ، وَالثَّالِثُ كَشَوَايِعَ وَشَوَاعٍ، وَالرَّابِعُ كَلَعَمْرِي وَرَعَمْلِي. وقرأ الجمهور: الْمَوْؤُدَةُ، بِهَمْزَةٍ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ، اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ فِي رواية: الموؤدة، بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى الْوَاوِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الموؤدة كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْوَاوِ بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ، ثُمَّ همز الْوَاوُ الْمَنْقُولُ إِلَيْهَا الْحَرَكَةُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ آدَ فَالْأَصْلُ مَأْوُودَةٌ، فَحُذِفَ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْذُوفُ وَاوُ الْمَدِّ أَوِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ، نَحْوُ: مَقْوُولٌ، حَيْثُ قَالُوا: مقول. وقرىء الْمَوُودَةُ، بِضَمِّ الْوَاوِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ، أَعْنِي التَّسْهِيلَ بِالْحَذْفِ، وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْوَاوِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الْمُودَةُ، بِسُكُونِ الْوَاوِ عَلَى وَزْنِ الْفُعْلَةِ، وَكَذَا وَقَفَ لِحَمْزَةَ بن مُجَاهِدٍ. وَنَقَلَ الْقُرَّاءُ أَنَّ حَمْزَةَ يَقِفُ عَلَيْهَا كَالْمَوُودَةِ لِأَجْلِ الْخَطِّ لِأَنَّهَا رُسِمَتْ كَذَلِكَ، وَالرَّسْمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُئِلَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ: كَذَلِكَ وَخَفِّ الْيَاءِ وَبِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا، وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ لِتَوْبِيخِ الْفَاعِلِينَ لِلْوَأْدِ، لأن سؤالها يؤول إِلَى سُؤَالِ الْفَاعِلِينَ. وَجَاءَ قُتِلَتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِخْبَارٌ عَنْهَا، وَلَوْ حُكِيَ مَا خُوطِبَتْ بِهِ حِينَ سُئِلَتْ لَقِيلَ: قُتِلَتْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: سِئِلَتْ، بِكَسْرِ السِّينِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: سَالَ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّ الْيَاءِ، لِأَنَّ الموؤدة اسْمُ جِنْسٍ، فَنَاسَبَ التَّكْثِيرَ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو الضحى ومجاهد: سَأَلَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، قُتِلْتُ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّاءِ، حِكَايَةً لِكَلَامِهَا حِينَ سُئِلَتْ. وَعَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ وَابْنِ يَعْمُرَ: سَأَلَتْ مَبْنِيًّا

_ (1) سورة البقرة: 2/ 255.

لِلْفَاعِلِ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا إِخْبَارًا عَنْهُمَا، وَلَوْ حُكِيَ كَلَامُهَا لَكَانَ قُتِلْتُ بِضَمِّ التَّاءِ. وَكَانَ الْعَرَبُ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ وَاسْتَحْيَاهَا، أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَتَرَكَهَا تَرْعَى الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، وَإِذَا أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً قَالَ لِأُمِّهَا: طَيِّبِيهَا وَلَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ حُفْرَةً أَوْ بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ، فَيَذْهَبُ بِهَا إِلَيْهَا وَيَقُولُ لَهَا انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا قَرُبَ وَضْعُهَا حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، فَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ، وَإِنْ وَلَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ. وَقَدِ افْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ، وَهُوَ أَبُو فِرَاسٍ هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ نَاجِيَةَ، بِجَدِّهِ صَعْصَعَةَ، إِذْ كَانَ مَنَعَ وَأْدَ الْبَنَاتِ فَقَالَ: وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ وَلَمْ يَوْئِدْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ: صُحُفُ الْأَعْمَالِ كَانَتْ مَطْوِيَّةً عَلَى الْأَعْمَالِ، فَنُشِرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَقْرَأَ كُلُّ إِنْسَانٍ كِتَابَهُ. وَقِيلَ: الصُّحُفُ الَّتِي تَتَطَايَرُ بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ بِالْجَزَاءِ، وَهِيَ صُحُفٌ غَيْرُ صُحُفِ الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وعاصم: نُشِرَتْ بِخَفِّ الشِّينِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا. وَكَشْطُ السَّمَاءِ: طَيُّهَا كَطَيِّ السِّجِلِّ. وَقِيلَ: أُزِيلَتْ كَمَا يُكْشَطُ الْجِلْدُ عَنِ الذَّبِيحَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُشِطَتْ بِالْقَافِ، وَهُمَا كَثِيرًا مَا يَتَعَاقَبَانِ، كَقَوْلِهِمْ: عَرَبِيٌّ قُحٌّ وَكُحٌّ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَتُهُ قَافُورًا، أَيْ كَافُورًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: سُعِّرَتْ بِشَدِّ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفِّهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ. قَالَ قَتَادَةُ: سَعَّرَهَا غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَذُنُوبُ بَنِي آدَمَ، وَجَوَابُ إِذَا وَمَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ: وَنَفْسٌ تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، مَا أَحْضَرَتْ مِنْ خَيْرٍ تَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ مِنْ شَرٍّ تَدْخُلُ بِهِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَقَعَ الْإِفْرَادُ لِيُنَبِّهَ الذِّهْنَ عَلَى حَقَارَةِ الْمَرْءِ الْوَاحِدِ وَقِلَّةِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَقُرِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْقَارِئُ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «وا انقطاع ظَهْرَاهُ» . بِالْخُنَّسِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: الدَّرَارِيُّ السَّبْعَةُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَزُحَلُ، وَعُطَارِدٌ، وَالْمِرِّيخُ، وَالزُّهَرَةُ، وَالْمُشْتَرِي. وَقَالَ: عَلِيٌّ الْخَمْسَةُ دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، تَجْرِي الْخَمْسَةُ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَتَرْجِعُ حَتَّى تَخْفَى مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَخْنِسُ فِي جَرْيِهَا الَّتِي يُتَعَهَّدُ فِيهَا تَرَى الْعَيْنُ،

وَهِيَ جَوَارٍ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ تَكْنِسُ فِي أَبْرَاجِهَا، أَيْ تَسْتَتِرُ. وَقَالَ عَلِيٌّ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ كُلُّهَا لِأَنَّهَا تَخْنِسُ وَتَكْنِسُ بِالنَّهَارِ حِينَ تَخْتَفِي. وقال الزمخشري: أي تخنس بِالنَّهَارِ وَتَكْنِسُ بِاللَّيْلِ، أَيْ تَطْلُعُ فِي أَمَاكِنِهَا كَالْوَحْشِ فِي كُنُسِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ: بَقَرُ الْوَحْشِ، لِأَنَّهَا تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي كَنَائِسِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ الظِّبَاءُ، وَالْخُنَّسُ مِنْ صِفَةِ الْأَنَوُقِ لِأَنَّهَا يَلْزَمُهَا الْخَنْسُ، وَكَذَا بَقَرُ الْوَحْشِ. عَسْعَسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَيُرَجِّحُهُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، فَهُمَا حَالَتَانِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَقْسَمَ بِإِقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ وَتَنَفُّسُهُ كَوْنُهُ يَجِيءُ مَعَهُ رَوْحٌ وَنَسِيمٌ، فَكَأَنَّهُ نَفَسٌ لَهُ عَلَى الْمَجَازِ. إِنَّهُ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، أَيْ إِنَّ الْقُرْآنَ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرِيمٌ صِفَةٌ تَقْتَضِي نَفْيَ الْمَذَامِّ كُلِّهَا وَإِثْبَاتَ صِفَاتِ الْمَدْحِ اللَّائِقَةِ بِهِ. ذِي قُوَّةٍ: كَقَوْلِهِ: شَدِيدُ الْقُوى «1» . عِنْدَ ذِي: الْكَيْنُونَةُ اللَّائِقَةُ مِنْ شَرَفِ الْمَنْزِلَةِ وَعِظَمِ الْمَكَانَةِ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ مُتَعَلِّقٌ بِمَكِينٍ مُطَاعٍ. ثُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ: أَيْ إِنَّهُ مُطَاعٌ فِي مَلَائِكَةِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: ثُمَّ، بضم الثاء: حرف عطف، وَالْجُمْهُورُ: ثَمَّ بِفَتْحِهَا، ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء ثَمَّ تَعْظِيمًا لِلْأَمَانَةِ وَبَيَانًا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ صِفَاتِهِ الْمَعْدُودَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: بِمَعْنَى مُطَاعٍ وَأَمِينٍ، وَإِنَّمَا صَارَتْ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ بَعْدَ أَنَّ مُوَاضَعَتَهَا لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي عَطْفًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِالصِّفَتَيْنِ مَعًا فَي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ فِي هَذَا الْعَطْفِ بِمَعْنَى مُطَاعٍ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ثَمَّ أَمِينٍ عِنْدَ انْفِصَالِهِ عَنْهُمْ، حَالَ وَحْيِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَجَازَ أَنْ لَوْ وَرَدَ بِهِ أَثَرٌ انْتَهَى. أَمِينٍ: مَقْبُولِ القول يصدق فِيمَا يَقُولُهُ، مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يُرْسَلُ بِهِ مِنْ وَحْيٍ وَامْتِثَالِ أَمْرٍ. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ: نَفَى عَنْهُ مَا كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ وَيَبْهَتُونَهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ. وَلَقَدْ رَآهُ: أَيْ رَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ بَعْدَ أَمْرِ غَارِ حِرَاءَ حِينَ رَآهُ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. وَقِيلَ: هِيَ الرُّؤْيَةُ الَّتِي رَآهُ فِيهَا عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أُفُقًا مَجَازًا. وَقَدْ كَانَتْ له

_ (1) سورة النجم: 53/ 5.

عَلَيْهِ السَّلَامُ، رُؤْيَةٌ ثَانِيَةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ. وَوُصِفَ الْأُفُقُ بِالْمُبِينِ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ. وَأَيْضًا فَكُلُّ أُفُقٍ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الْغَرْبِيِّ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُ نَحْوَ جِيَادٍ، وَهُوَ مَشْرِقُ مَكَّةَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزبير وَعَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةُ وَهِشَامُ بْنُ جندب ومجاهد وَغَيْرُهُمْ، وَمِنَ السَّبْعَةِ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِظَنِينٍ بِالظَّاءِ، أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَهَذَا نَظِيرُ الْوَصْفِ السَّابِقِ بِأَمِينٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِضَعِيفِ الْقُوَّةِ عَلَى التَّبْلِيغِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِئْرٌ ظَنُونٌ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَاءِ، وَكَذَا هُوَ بِالظَّاءِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالضَّادِ، أَيْ بِبَخِيلٍ يَشِحُّ بِهِ لَا يُبَلِّغُ مَا قِيلَ لَهُ وَيَبْخَلُ، كَمَا يَفْعَلُ الْكَاهِنُ حَتَّى يُعْطَى حُلْوَانَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَبِالضَّادِ خُطُوطُ الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا. وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ: أَيِ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُ إِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ لَا مِثْلَ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلْكُهَّانِ. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ: اسْتِضْلَالٌ لَهُمْ، حَيْثُ نَسَبُوهُ مَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ، وَمَرَّةً إِلَى الْكَهَانَةِ، وَمَرَّةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ اعْتِسَافًا أَوْ ذَهَابًا فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ: أي تَذْهَبُ؟ مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِهِ فِي تَرْكِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ. انْتَهَى. ذِكْرٌ: تَذْكِرَةٌ وَعِظَةٌ، لِمَنْ شاءَ: بَدَلٌ مِنْ لِلْعالَمِينَ، ثم عذق مَشِيئَةَ الْعَبِيدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ خَصَّصَ تَعَالَى مَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا وَتَنْبِيهًا وَذِكْرًا لِتَلَبُّسِهِمْ بِأَفْعَالِ الِاسْتِقَامَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَكَسُّبَ الْعَبْدِ عَلَى الْعُمُومِ فِي اسْتِقَامَةٍ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِرَاعِهِ الْإِيمَانَ فِي صَدْرِ الْمَرْءِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا أَبْدَلُوا مِنْهُمْ لِأَنَّ الَّذِينَ شَاءُوا الِاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوعَظْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَوْعُوظِينَ جَمِيعًا. وَما تَشاؤُنَ الِاسْتِقَامَةَ يَا مَنْ يَشَاؤُهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى ولطفه، أو مَا تَشَاءُونَهَا أَنْتُمْ يَا مَنْ لَا يَشَاؤُهَا إِلَّا بِقَسْرِ اللَّهِ وَإِلْجَائِهِ. انْتَهَى. فَفَسَّرَ كُلٌّ مِنِ ابْنِ عطية والزمخشري الْمَشِيئَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا شَاءَتِ الْعَرَبُ الْإِسْلَامَ حَتَّى شَاءَ اللَّهُ لها.

سورة الانفطار

سورة الانفطار [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) بَعْثَرْتُ الْمَتَاعَ: قَلَبْتُهُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَبَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ: هَدَمْتُهُ وَجَعَلْتُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ، كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ، وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَانْفِطَارُهَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَانْتِثَارُ الْكَوَاكِبِ: سُقُوطُهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا كَالنِّظَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُجِّرَتْ بتشديد الجيم ومجاهد وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: بِخَفِّهَا، وَتَفْجِيرُهَا مِنَ امْتِلَائِهَا، فَتُفَجَّرُ مِنْ أَعْلَاهَا وَتَفِيضُ عَلَى مَا يَلِيهَا، أَوْ مِنْ أَسْفَلِهَا فَيُذْهِبُ اللَّهُ مَاءَهَا حَيْثُ أَرَادَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فَجَرَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُخَفَّفًا بِمَعْنَى: بَغَتْ لِزَوَالِ الْبَرْزَخِ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَبْغِيانِ» ، لأن البغي والفجور مُتَقَابِلَانِ. بُعْثِرَتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُحِثَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُثِيرَتْ لِبَعْثِ الْأَمْوَاتِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أُخْرِجَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْثَرَ وَبَحْثَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمَا مُرَكَّبَانِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْبَحْثِ مَعَ رَاءٍ مَضْمُومَةٍ إِلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى: بُحِثَتْ وَأُخْرِجَ مَوْتَاهَا. وَقِيلَ: لِبَرَاءَةَ الْمُبَعْثِرَةُ، لِأَنَّهَا بَعْثَرَتْ أَسْرَارَ الْمُنَافِقِينَ. انْتَهَى. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا مُرَكَّبَانِ أَنَّ مَادَّتَهُمَا مَا ذُكِرَ، وَأَنَّ الرَّاءَ ضُمَّتْ إِلَى هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ، لِأَنَّ الرَّاءَ لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، بَلْ هُمَا مَادَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَإِنِ اتَّفَقَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَأَمَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَذَا فَلَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: دَمِثٌ وَدِمَثْرٌ وَسَبِطٌ وَسِبَطْرٌ. مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَبَهِهِ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا غَرَّكَ، فَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ: مَا أَغَرَّكَ بهمزة، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَعَجُّبًا، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً، وَأَغَرَّكَ بِمَعْنَى أَدْخَلَكَ في الغرة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِكَ غَرَّ الرَّجُلُ فَهُوَ غَارٌّ. إِذَا غَفَلَ مِنْ قَوْلِكَ بَيْنَهُمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَغَرَّهُ غَيْرُهُ: جَعَلَهُ غَارًّا. انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَأَ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، فَقَالَ: جَهْلُهُ وَقَالَهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَرَأَ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَهَذَا يَتَرَتَّبُ فِي الْكَافِرِ وَالْعَاصِي. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَدُوُّهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سَتْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: كَرَمُ اللَّهِ وَلُطْفُهُ يُلَقِّنُ هَذَا الْجَوَابَ، فَهَذَا لُطْفٌ بِالْعَاصِي الْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: عَفْوُهُ عَنْهُ إِنْ لَمْ يُعَاقِبْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سِتْرُهُ الْمُرَخَى. وَقَالَ ابْنُ السِّمَاكِ: يَا كَاتِمَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي ... وَاللَّهُ فِي الْخَلْوَةِ رَائِيكَا غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي جَوَابِ الْفُضَيْلِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ. بِالِاغْتِرَارِ: بِالسَّتْرِ، وَلَيْسَ بِاعْتِذَارٍ كَمَا يَظُنُّهُ الطَّمَّاعُ، وَيَظُنُّ بِهِ قُصَّاصُ الْحَشْوِيَّةِ، ويروون

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 20.

عَنْ أَئِمَّتِهِمْ إِنَّمَا قَالَ: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دُونَ سَائِرِ صِفَاتِهِ، لِيُلَقِّنَ عَبْدَهُ الْجَوَابَ حَتَّى يَقُولَ: غَرَّنِي كَوْنُهُ الْكَرِيمَ. انْتَهَى. وَهُوَ عَادَتِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ. فَسَوَّاكَ: جَعَلَكَ سَوِيًّا فِي أَعْضَائِكَ، فَعَدَلَكَ: صَيَّرَكَ مُعْتَدِلًا مُتَنَاسِبَ الْخَلْقِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْكُوفِيُّونَ: بِخَفِّ الدَّالِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا. وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، أَيْ عَدَلَ بَعْضَ أَعْضَائِكَ بِبَعْضٍ حَتَّى اعْتَدَلَتْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَصَرَفَكَ. يُقَالُ: عَدَلَهُ عَنِ الطَّرِيقِ: أَيْ عَدَلَكَ عَنْ خِلْقَةِ غَيْرِكَ إِلَى خِلْقَةٍ حَسَنَةٍ مُفَارِقَةٍ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، أَوْ فَعَدَلَكَ إِلَى بَعْضِ الْأَشْكَالِ وَالْهَيْئَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ يَتَعَلَّقُ بِرَبِّكَ، أَيْ وَضَعَكَ في صورة اقتضتها مشيئة مِنْ حُسْنٍ وَطُولٍ وَذُكُورَةٍ، وَشَبَهٍ بِبَعْضِ الْأَقَارِبِ أَوْ مُقَابِلِ ذَلِكَ. وَمَا زَائِدَةٌ، وَشَاءَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِصُورَةٍ، وَلَمْ يَعْطِفْ رَكَّبَكَ بِالْفَاءِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِعَدَلَكَ، وَكَوْنُ فِي أَيِّ صُورَةٍ مُتَعَلِّقًا بِرَبِّكَ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ رَكَّبَكَ حَاصِلًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَعَدَلَكَ، أَيْ: فَعَدَلَكَ فِي صُورَةٍ، أَيَّ صُورَةِ وَأَيُّ تَقْتَضِي التَّعْجِيبَ وَالتَّعْظِيمَ، فَلَمْ يَجْعَلْكَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ أَوْ حِمَارٍ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَا منصوبة بشاء، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيَّ تَرْكِيبٍ حَسَنٍ شَاءَ رَكَّبَكَ، وَالتَّرْكِيبُ: التَّأْلِيفُ وَجَمْعُ شَيْءٍ إِلَى شيء. وأدغم حارجة عَنْ نَافِعٍ رَكَّبَكْ كَلَّا، كَأَبِي عَمْرٍو فِي إِدْغَامِهِ الْكَبِيرِ. وَكَلَّا: رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ اغْتِرَارِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَ كَلَّا مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ وَالدِّينِ أَوْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالتَّاءِ، خِطَابًا لِلْكُفَّارِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو بِشْرٍ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ: اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، أَيْ عَلَيْهِمْ مَنْ يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَيَضْبُطُهَا. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ. وَالْكَاتِبُونَ: الْحَفَظَةُ يَضْبُطُونَ أَعْمَالَكُمْ لِأَنْ تُجَازَوْا عَلَيْهَا، وَفِي تَعْظِيمِ الْكَتَبَةِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْجَزَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصْلَوْنَها، مُضَارِعُ صَلِيَ مُخَفَّفًا وَابْنُ مِقْسَمٍ: مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، فَيَكْتُبُونَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْجَزَاءُ. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْلَمُونَ مَا ظَهَرَ دُونَ حَدِيثِ النَّفْسِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِالْحَسَنَةِ أَوِ السَّيِّئَةِ، وَجَدَ الْكَاتِبَانِ رِيحَهَا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: حَيْثُ قَالَ يَعْلَمُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَكْتُبُونَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ الْجَمِيعَ فَيَخْرُجُ عَنْهُ السَّهْوُ وَالْخَطَأُ وَمَا لَا تَبِعَةَ فِيهِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ: أَيْ عَنِ الْجَحِيمِ، أَيْ

لَا يُمْكِنُهُمُ الْغَيْبَةُ، كَقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ «1» . وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُشَاهِدُوهَا فِي الْبَرْزَخِ. لَمَّا أَخْبَرَ عن صليهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْبَرَ بِانْتِفَاءِ غَيْبَتِهِمْ عَنْهَا قَبْلَ الصَّلْيِ، أَيْ يَرَوْنَ مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ. وَما أَدْراكَ: تَعْظِيمٌ لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَابْنُ جُنْدُبٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ بِرَفْعِ الْمِيمِ، أَيْ هُوَ يَوْمٌ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: يَوْمٌ لَا تَمْلِكُ عَلَى التَّنْكِيرِ مُنَوَّنًا مَرْفُوعًا فَكَّهُ عَنِ الْإِضَافَةِ وَارْتِفَاعُهُ عَلَى هُوَ يَوْمٌ، وَلَا تَمْلِكُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا تَمْلِكُ فِيهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: يَوْمَ بِالْفَتْحِ عَلَى الظَّرْفِ، فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةَ بِنَاءٍ، وَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: الْجَزَاءُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ يُدَانُونَ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ. وَيَجُوزُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ بِنَاءَهُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ. يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً : عَامٌّ كَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا «2» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِنَفْسٍ كَافِرَةٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ. وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَكَذَلِكَ هُوَ الْيَوْمُ، لَكِنَّهُ هُنَاكَ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ مُنَازَعَةً، وَلَا يُمَكِّنُ هُوَ أَحَدًا مِمَّا كَانَ مَلَّكَهُ فِي الدنيا.

_ (1) سورة البقرة: 2/ 167. (2) سورة سبأ: 34/ 42.

سورة المطففين

سورة المطفّفين [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

التَّطْفِيفُ النُّقْصَانُ وَأَصْلُهُ مِنَ الطَّفِيفِ وَهُوَ النُّزُلُ الْحَقِيرُ وَالْمُطَفِّفُ الْآخِذُ فِي وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ طَفِيفًا أَيْ شَيْئًا حَقِيرًا خَفِيًّا. رَانَ غَطَّى وَغَشَّى كَالصَّدَأِ يُغَشِّي السَّيْفَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ ... فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ فَانْجَلَا وَأَصْلُ الرَّيْنِ الْغَلَبَةُ يُقَالُ رَانَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَقْلِ شَارِبِهَا وَرَانَ الْغَشْيُ عَلَى عَقْلِ الْمَرِيضِ. قَالَ أَبُو ربيد: ثُمَّ لَمَّا رَآهُ رَانَتْ بِهِ الْخَمْرُ وَأَنْ لَا يَرِينَهُ بِانْتِقَاءِ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ رِينَ بِالرَّجُلِ يُرَانُ بِهِ رَيْنًا إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ مِنْهُ الْخُرُوجَ. الرَّحِيقُ قَالَ الْخَلِيلُ أَجْوَدُ الْخَمْرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ الشَّرَابُ الَّذِي لَا غِشَّ فِيهِ. قَالَ حَسَّانَ: بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ نَافَسَ فِي الشَّيْءِ رَغِبَ فِيهِ وَنَفُسْتُ عَلَيْهِ بِالشَّيْءِ أَنْفُسُ نَفَاسَةً إِذَا بَخِلْتَ بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ تُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ. التَّسْنِيمُ أَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ وَمِنْهُ تَسْنِيمُ الْقَبْرِ وَسَنَامُ الْبَعِيرِ وَتَسَنَّمْتُهُ عَلَوْتَ سَنَامَهُ. الْغَمْزُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى آخِرِهَا، فَهُوَ مَكِّيٌّ، ثَمَانِ آيَاتٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا جُهَيْنَةَ، لَهُ مَكِيلَانِ، يَأْخُذُ بِالْأَوْفَى وَيُعْطِي بِالْأَنْقَصِ، فَنَزَلَتْ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ بَعْضُهَا بِمَكَّةَ، وَنَزَلَ أَمْرُ التَّطْفِيفِ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ فَسَادًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَأَصْلَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِيُصْلِحَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ قَبْلَ ورود رسوله صلى الله عليه وسلّم. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى السُّعَدَاءَ وَالْأَشْقِيَاءَ وَيَوْمَ الْجَزَاءِ وَعَظَّمَ شَأْنَ يَوْمِهِ، ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَخَسِّ مَا يَقَعُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ التَّطْفِيفُ الَّذِي لَا يَكَادُ يُجْدِي شَيْئًا فِي تَثْمِيرِ الْمَالِ وَتَنْمِيَتِهِ. إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ: قَبَضُوا لَهُمْ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ، أَقْبَضُوهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ وَعَلَى يَعْتَقِبَانِ هُنَا، اكْتَلْتُ عَلَى النَّاسِ، وَاكْتَلْتُ مِنَ النَّاسِ. فَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ مِنْكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ وَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ عَلَيْكَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَى مُتَعَلِّقٌ باكتالوا كما قررنا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَ اكْتِيَالُهُمْ مِنَ النَّاسِ اكْتِيَالًا يَضُرُّهُمْ وَيُتَحَامَلُ فِيهِ عَلَيْهِمْ، أَبْدَلَ عَلَى مَكَانٍ مِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بيستوفون، أَيْ يَسْتَوْفُونَ عَلَى النَّاسِ خَاصَّةً، فَأَمَّا أَنْفُسُهُمْ فَيَسْتَوْفُونَ لَهَا. انْتَهَى. وَكَالَ وَوَزَنَ مِمَّا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَتَقُولُ: كِلْتُ لَكَ وَوَزَنْتُ لَكَ، وَيَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ، كَقَوْلِكَ: نَصَحْتُ لَكَ وَنَصَحْتُكَ، وَشَكَرْتُ لَكَ وَشَكَرْتُكَ وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَوَصَلَ الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ. وَعَنْ عِيسَى وَحَمْزَةَ: الْمَكِيلُ لَهُ وَالْمَوْزُونُ لَهُ مَحْذُوفٌ، وَهُمْ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مَرْفُوعًا لِلْمُطَفِّفِينَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْرُجُ بِهِ إِلَى نَظْمٍ فَاسِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا أَخَذُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا، وَإِذَا أَعْطَوْهُمْ أَخْسَرُوا. وَإِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ لِلْمُطَفِّفِينَ، انْقَلَبَ إِلَى قَوْلِكَ: إِذَا أَخَذُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا، وَإِذَا تَوَلَّوُا الْكَيْلَ أَوِ الْوَزْنَ هُمْ عَلَى الْخُصُوصِ أَخْسَرُوا، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَافِرٌ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمُبَاشِرِ. انْتَهَى. وَلَا تَنَافُرَ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤَكَّدَ الضَّمِيرُ وَأَنْ لَا يُؤَكَّدَ، وَالْحَدِيثُ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ. غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنْ مُتَعَلِّقَ الِاسْتِيفَاءِ، وَهُوَ عَلَى النَّاسِ، مَذْكُورٌ وَهُوَ فِي كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ، مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُخْسِرُونَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ إِذَا كَانَ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّمَا يُخْسِرُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لَا. قِيلَ أَوِ اتَّزَنُوا، كَمَا قِيلَ أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ قُلْتُ: كَأَنَّ الْمُطَفِّفِينَ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ إِلَّا بِالْمَكَايِيلِ دُونَ الْمَوَازِينِ لِتَمَكُّنِهِمْ بِالِاكْتِيَالِ مِنِ الِاسْتِيفَاءِ وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّهُمْ يُدَعْدِعُونَ وَيَحْتَالُونَ فِي الْمَلْءِ، وَإِذَا أَعْطَوْا كَالُوا أَوْ

وَزَنُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْبَخْسِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا. يُخْسِرُونَ: ينقصون. انتهى. ويخسرون مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ، يُقَالُ: خَسِرَ الرَّجُلُ وَأَخْسَرَهُ غَيْرُهُ. أَلا يَظُنُّ: تَوْقِيفٌ عَلَى أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَإِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، أَيْ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ويوم ظَرْفٌ، الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، أَيْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَبْعُوثُونَ، وَيَكُونَ مَعْنَى لِيَوْمٍ: أَيْ لِحِسَابِ يَوْمٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ عَظِيمٍ، لَكِنَّهُ بني وقرىء يَوْمَ يَقُومُ بِالْجَرِّ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ لِيَوْمٍ، حَكَاهُ أبو معاد. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَوْمُ بِالرَّفْعِ، أَيْ ذَلِكَ يَوْمٌ، وَيَظُنُّ بِمَعْنَى يُوقِنُ، أَوْ هُوَ عَلَى وَضْعِهِ مِنَ التَّرْجِيحِ. وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعِظَمِ، وَقِيَامِ النَّاسِ لِلَّهِ خَاضِعِينَ، وَوَصْفِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ هَذَا الذَّنْبِ وَهُوَ التَّطْفِيفُ. كَلَّا: رَدْعٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّطْفِيفِ، وَهَذَا الْقِيَامُ تَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، وَفِي هَذَا الْقِيَامِ إِلْجَامُ الْعَرَقِ لِلنَّاسِ، وَأَحْوَالُهُمْ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَالْفُجَّارُ: الْكُفَّارُ، وَكِتَابُهُمْ هُوَ الَّذِي فِيهِ تحصيل أعمالهم. سِجِّينٌ، قَالَ الْجُمْهُورُ: فِعِّيلٌ مِنَ السِّجْنِ، كَسِكِّيرٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ سَاجِنٍ، فَجَاءَ بِنَاءَ مُبَالَغَةٍ، فَسَجِّينٌ عَلَى هَذَا صِفَةٌ لِمَوْضِعِ الْمَحْذُوفِ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا سِجِّينٌ، أَصِفَةٌ هُوَ أَمِ اسْمٌ؟ قُلْتُ: بَلْ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ مَنْقُولٍ مِنْ وَصْفٍ كَحَاتِمٍ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْرِيفُ. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّهُ كِتَابٌ جَامِعٌ، وَهُوَ دِيوَانُ الشَّرِّ، دَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَعْمَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَعْمَالَ الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ مِنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهُوَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ: مَسْطُورٌ بَيْنَ الْكِتَابَةِ، أَوْ مُعَلَّمٌ يَعْلَمُ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا كُتِبَ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ مُثْبَتٌ فِي ذَلِكَ الدِّيوَانِ. انْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا فِي سِجِّينٍ إِذَا كَانَ مَكَانًا اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا حَذَفْنَا ذِكْرَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سِجِّينًا هُوَ كِتَابٌ، وَلِذَلِكَ أُبْدِلَ مِنْهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سِجِّينٌ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَسَارِ وَالْهَوَانِ، كَمَا تَقُولُ: بَلَغَ فُلَانٌ الْحَضِيضَ إِذَا صَارَ فِي غَايَةِ الْجُمُودِ. وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: سِجِّينٌ، نُونُهُ بَدَلٌ مِنْ لَامٍ، وَهُوَ مِنَ السِّجِّيلِ، فَتَلَخَّصَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أن سجين نُونُهُ أَصْلِيَّةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ لَامٍ. وَإِذَا كَانَتْ أَصْلِيَّةً، فَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السِّجْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مَكَانٌ، فَيَكُونُ كِتابٌ مَرْقُومٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ. وَعَنَى بِالضَّمِيرِ عَوْدَهُ عَلَى كِتابَ الفُجَّارِ، أَوْ عَلَى سِجِّينٌ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ هُوَ مَحَلُّ كِتابٌ مَرْقُومٌ، وكِتابٌ

مَرْقُومٌ تَفْسِيرٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي هُوَ عَائِدٌ عَلَى سِجِّينٌ، أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَسَارِ وَالْهَوَانِ، هَلْ هُوَ صِفَةٌ أَوْ عَلَمٌ؟ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ: أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُ. مَرْقُومٌ: أَيْ مُثْبَتٌ كَالرَّقْمِ لَا يَبْلَى وَلَا يُمْحَى. قَالَ قَتَادَةُ: رُقِمَ لَهُمْ: بِشَرٍّ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مَرْقُومٌ: مَخْتُومٌ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَأَصْلُ الرَّقْمِ الْكِتَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَأَرْقُمُ فِي الْمَاءِ الْقُرَاحِ إِلَيْكُمْ ... عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ وَتَبَيَّنَ مِنَ الْإِعْرَابِ السَّابِقِ أَنَّ كِتابٌ مَرْقُومٌ بَدَلٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَدْ قَالَ: إِنَّ سِجِّينًا مَوْضِعُ سَاجِنٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعِبَارَةٌ عَنِ الْخَسَارِ عَلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ، ثم قَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ. مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سِجِّينٍ، فَكِتَابٌ مُرْتَفِعٌ عِنْدَهُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَفِي سِجِّينٍ مُلْغًى. وَمَنْ قَالَ فِي سِجِّينٍ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، فَكِتَابٌ مَرْقُومٌ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ التَّقْدِيرُ هُوَ كِتابٌ مَرْقُومٌ، وَيَكُونُ هَذَا الْكِتَابُ مُفَسِّرًا لِسِجِّينٍ مَا هُوَ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: وَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَفِي سِجِّينٍ مُلْغًى قَوْلٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ اللَّامَ الَّتِي فِي لَفِي سِجِّينٍ دَاخِلَةٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَإِذَا كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى الْخَبَرِ، فَلَا إِلْغَاءَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، بَلْ هُوَ الْخَبَرُ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ دَخَلَتْ فِي لَفِي سِجِّينٍ عَلَى فَضْلَةٍ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْخَبَرِ أَوْ لِصِفَةِ الْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُلْغًى لَا خَبَرًا، لِأَنَّ كِتَابٌ مَوْصُوفٌ بِمَرْقُومٍ فَلَا يَعْمَلُ، وَلِأَنَّ مَرْقُومًا الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِكِتَابٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ اللَّامُ فِي مَعْمُولِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُهُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، فَتَعَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَفِي سِجِّينٍ هُوَ خَبَرُ إِنَّ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ: صِفَةُ ذَمٍّ، كُلُّ مُعْتَدٍ: مُتَجَاوِزِ الْحَدِّ، أَثِيمٍ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِذا وَالْحَسَنُ: أَئِذَا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْجُمْهُورُ: تُتْلى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِالْيَاءِ. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَرْثِ. بَلْ رانَ، قُرِئَ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَقَفَ حَمْزَةُ عَلَى بل وقفا خفيفا يسير التبيين الْإِظْهَارِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَاذِشِ: وَأَجْمَعُوا، يَعْنِي الْقُرَّاءَ، عَلَى إِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سَكْتِ حَفْصٍ عَلَى بَلْ، ثُمَّ يَقُولُ: رانَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ. فَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عَنْ قَالُونَ: مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ إِظْهَارُ اللَّامِ عِنْدَ الرَّاءِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ «1» ، بَلْ رَبُّكُمْ «2» . وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: بَلْ رانَ

_ (1) سورة النساء: 4/ 158. [.....] (2) سورة الأنبياء: 21/ 56.

غَيْرَ مُدْغَمٍ، وَفِيهِ أَيْضًا: وَقَرَأَ نَافِعٌ أَيْضًا بِالْإِدْغَامِ وَالْإِمَالَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: اللَّامُ مَعَ الرَّاءِ نَحْوَ: أَسْفَلُ رَحِمِهِ الْبَيَانُ وَالْإِدْغَامُ حَسَنَانِ. وقال الزمخشري: وقرى بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامُ أَجْوَدُ، وَأُمِيلَتِ الْأَلِفُ وَفُخِّمَتْ. انْتَهَى. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِذَا كَانَتْ، يَعْنِي اللَّامَ، غَيْرَ لَامِ الْمَعْرِفَةِ، نَحْوَ لَامِ هَلْ وَبَلْ، فَإِنَّ الْإِدْغَامَ فِي بَعْضِهَا أَحْسَنُ، وَذَلِكَ نَحْوُ: هَلْ رَأَيْتَ؟ فَإِنْ لَمْ تُدْغِمْ فَقُلْتَ: هَلْ رَأَيْتَ؟ فَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ غَرِيبَةٌ جَائِزَةٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَتَّى يَمُوتَ قَلْبُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ. وَفِي الْحَدِيثِ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: غَطَّى. مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَّقَ اللَّوْمَ بِهِمْ فِيمَا كَسَبُوهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِخَلْقٍ مِنْهُ تَعَالَى وَاخْتِرَاعٍ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَعَلِّقَانِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لِلْكُفَّارِ. فَمَنْ قَالَ بِالرُّؤْيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، فَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَالِكٌ عَلَى سَبِيلِهِ الرُّؤْيَةُ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَإِلَّا فَلَوْ حَجَبَ الْكُلَّ لَمَا أَغْنَى هَذَا التَّخْصِيصُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا حَجَبَ قَوْمًا بِالسُّخْطِ، دَلَّ عَلَى أَنْ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضَا. وَمَنْ قَالَ بِأَنْ لَا رُؤْيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ: إِنَّهُمْ يُحْجَبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ وَغُفْرَانِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ، تَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى رَأَوْهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا رَدْعٌ عَنِ الْكَسْبِ الراثن عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَكَوْنُهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ عَلَى الْمُلُوكِ إِلَّا لِلْوُجَهَاءِ الْمُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُمْ إِلَّا الْأَدْنِيَاءُ الْمُهَانُونَ عِنْدَهُمْ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عَيْبَةٍ رُحِّبُوا ... وَالنَّاسُ مَا بَيْنَ مَرْحُوبٍ وَمَحْجُوبِ وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: مَحْجُوبِينَ عَنْ رَحْمَتِهِ. وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ: عَنْ كَرَامَتِهِ. انْتَهَى. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمَعْنَى مَحْجُوبُونَ عَنْ كَرَامَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بمحجوبون، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ، وَالتَّنْوِينُ تَنْوِينُ الْعِوَضِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ قَرِيبَةٌ يَكُونُ عِوَضًا مِنْهَا، لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، فَهُوَ عِوَضٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ إِذِ يَقُومُ النَّاسُ. ثُمَّ هُمْ مَعَ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ هم صالوا النَّارِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْحِجَابِ. ثُمَّ يُقالُ: أَيْ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ. هذَا، أَيِ الْعَذَابُ وَصَلْيُ النَّارِ وَهَذَا الْيَوْمُ، الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هذَا الَّذِي، يَعْنِي الْجُمْلَةُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بُنِيَ لَهُ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ يُقَالُ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ

عَلَى نَحْوِ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ كِتَابِ الْفُجَّارِ، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ كِتَابِ ضِدِّهِمْ لِيَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ. عِلِّيُّونَ: جَمْعٌ وَاحِدُهُ عَلِيٌّ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ، قَالَهُ يُونُسُ وَابْنُ جِنِّيٍّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَسَبِيلُهُ أَنْ يُقَالَ عِلِّيَّةٌ، كَمَا قَالُوا لِلْغُرْفَةِ عِلِّيَّةٌ، فَلَمَّا حُذِفَتِ التَّاءُ عَوَّضُوا مِنْهَا الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقِيلَ: هُوَ وَصْفٌ لِلْمَلَائِكَةِ، فَلِذَلِكَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ: عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَالْعَرَبُ إِذَا جَمَعَتْ جَمْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَاءٌ مِنْ وَاحِدِهِ وَلَا تَثْنِيَةٌ، قَالُوا فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُعْرِبَ هَذَا الِاسْمُ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ، هَذِهِ قَنْسَرُونَ، وَرَأَيْتُ قَنْسَرِينَ. وَعِلِّيُّونَ: الْمَلَائِكَةُ، أَوِ الْمَوَاضِعُ الْعَلِيَّةُ، أَوْ عَلَمٌ لِدِيوَانِ الْخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ كُلُّ مَا عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَصُلَحَاءُ الثَّقَلَيْنِ، أَوْ عُلُوٌّ فِي عُلُوٍّ مُضَاعَفٍ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كِتابَ الْأَبْرارِ: كِتَابَةَ أَعْمَالِهِمْ، لَفِي عِلِّيِّينَ. ثُمَّ وَصَفَ عِلِّيِّينَ بِأَنَّهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ. وَإِذَا كَانَ مَكَانًا فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا رَغِبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَإِعْرَابُ لَفِي عِلِّيِّينَ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ كَإِعْرَابِ لَفِي سِجِّينٍ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكِتابٌ مَرْقُومٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَبَرَ أَنَّ وَالظَّرْفُ مُلْغًى. انْتَهَى. هَذَا كَمَا قَالَ فِي لَفِي سِجِّينٍ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَذَا مِثْلُهُ. وَالْمُقَرَّبُونَ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ، يَنْظُرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرِفُ بتاء الْخِطَابُ، لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، أو

_ (1) سورة البقرة: 2/ 11.

لِلنَّاظِرِ. نَضْرَةَ النَّعِيمِ، نَصْبًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَطَلْحَةُ وَشَيْبَةُ وَيَعْقُوبُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ: تُعْرَفُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، نَضْرَةُ رَفْعًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ: يُعْرَفُ بِالْيَاءِ، إِذْ تَأْنِيثُ نَضْرَةٍ مَجَازِيٌّ وَالنَّضْرَةُ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي قَوْلِهِ: نَضْرَةً وَسُرُوراً «1» . مَخْتُومٍ، الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّحِيقَ خُتِمَ عَلَيْهِ تَهَمُّمًا وَتَنَظُّفًا بِالرَّائِحَةِ الْمِسْكِيَّةِ، كَمَا فَسَّرَهُ مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: تُخْتَمُ أَوَانِيهِ مِنَ الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ بِمِسْكٍ مَكَانَ الطِّينَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خِتامُهُ: أَيْ خَلْطُهُ وَمِزَاجُهُ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ خَاتِمَتُهُ، أَيْ يَجِدُ الرَّائِحَةَ عِنْدَ خَاتِمَةِ الشَّرَابِ، رَائِحَةَ الْمِسْكِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَيْ أَبْزَارُهُ الْمُقَطَّعُ وَذَكَاءُ الرَّائِحَةِ مَعَ طِيبِ الطَّعْمِ. وَقِيلَ: يُمْزَجُ بِالْكَافُورِ وَيُخْتَمُ مِزَاجُهُ بِالْمِسْكِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْخِتَامُ: الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: خُتِمَ إِنَاؤُهُ بِالْمِسْكِ بَدَلَ الطِّينِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ مُشَعْشَعًا مِنْ خَمْرِ بصرى ... نمته البحت مَشْدُودُ الْخِتَامِ وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالنَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْكِسَائِيُّ: خَاتَمُهُ، بَعْدَ الْخَاءِ أَلِفٌ وَفَتَحَ التَّاءَ ، وَهَذِهِ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى، إِنَّهُ يُرَادُ بِهَا الطَّبْعُ عَلَى الرَّحِيقِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَعِيسَى وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: كَسْرُ التَّاءِ، أَيْ آخِرُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «2» ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَيْ خَاتِمُ رَائِحَتِهِ الْمِسْكُ أَوْ خَاتَمُهُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ وَيُقْطَعُ. مِنْ تَسْنِيمٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ اسْمٌ مُذَّكَّرٌ لِمَاءِ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَسْنِيمٍ: عَلَمٌ لَعِينٌ بِعَيْنِهَا، سُمِّيَتْ بِالتَّسْنِيمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ سنمه إذا رفعه. وعَيْناً نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، يَشْرَبُ بِهَا: أَيْ يَشْرَبُهَا أَوْ مِنْهَا، أَوْ ضَمَّنَ يَشْرَبُ مَعْنَى يُرْوَى بِهَا أَقْوَالٌ. الْمُقَرَّبُونَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو صَالِحٍ: يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَيُمْزَجُ لِلْأَبْرَارِ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْأَبْرَارُ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ هُمُ السَّابِقُونَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْأَبْرَارُ وَالْمُقَرَّبُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ يَقَعُ لِكُلِّ مَنْ نُعِّمَ فِي الْجَنَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَجَمْعًا مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَرُّوا بِجَمْعٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَضَحِكُوا مِنْهُمْ وَاسْتَخَفُّوا بِهِمْ عَبَثًا، فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ

_ (1) سورة الإنسان: 76/ 11. (2) سورة الأحزاب: 33/ 40.

إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكُفَّارُ مَكَّةَ هَؤُلَاءِ قِيلَ هُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَالْمُؤْمِنُونَ: عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَخَبَّابٌ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَرُّوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا، إِذْ فِي ذَلِكَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِوَاحِدٍ. وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَإِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْكَافِرِينَ يَتَغَامَزُ الْكَافِرُونَ، أي يشيرون بأعينهم. وفَكِهِينَ: أَيْ مُتَلَذِّذِينَ بِذِكْرِهِمْ وَبِالضَّحِكِ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاكِهِينَ بِالْأَلِفِ، أَيْ أَصْحَابُ فَاكِهَةٍ ومرح وَسُرُورٍ بِاسْتِخْفَافِهِمْ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَفْصٌ: بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي رَأَوْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، أَيْ إِذَا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ نَسَبُوهُمْ إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمْ مُحِقُّونَ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ. وَما أُرْسِلُوا عَلَى الْكُفَّارِ، حافِظِينَ. وَفِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ إِثَارَةٌ لِلْكَلَامِ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ فِي الْآيَةِ بَعْضُ مُوَادَعَةٍ، أَيْ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُرْسَلُوا حَافِظِينَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، إِنْكَارًا لِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَجِدِّهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قِيلَ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة، وينظرون حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَضْحَكُونَ، أَيْ يَضْحَكُونَ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالنَّعِيمِ. وَقَالَ كَعْبٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُوًى يَنْظُرُونَ مِنْهَا إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: سِتْرٌ شَفَّافٌ بَيْنَهُمْ يَرَوْنَ مِنْهُ حَالَهُمْ. هَلْ ثُوِّبَ: أَيْ هَلْ جُوزِيَ؟ يُقَالُ: ثَوَّبَهُ وَأَثَابَهُ إِذَا جَازَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَأَجْزِيكَ أَوْ يَجْزِيكَ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وَحَسْبُكَ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكَ وَتُحْمَدَ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ هَلْ جُوزُوا بِهَا؟ وَقِيلَ: هَلْ ثُوِّبَ مُتَعَلِّقٌ بينظرون، وَيَنْظُرُونَ مُعَلَّقٌ بِالْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ إِلَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَلْ ثُوِّبَ بِإِظْهَارِ لَامِ هَلْ وَالنَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإِدْغَامِهَا فِي الثَّاءِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ جَزَاءَ أَوْ عِقَابَ: مَا كانُوا يَفْعَلُونَ.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) الْكَدْحُ: جَهْدُ النَّفْسِ فِي الْعَمَلِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا، مِنْ كَدَحَ جِلْدَهُ إِذَا خَدَشَهُ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ وَقَالَ آخَرُ: وَمَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صَالِحٍ ... وَبَقِيتُ أَكْدَحُ لِلْحَيَاةِ وَأَنْصَبُ

حَارَ: رَجَعَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ حِينَ تَأْتِي صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةُ. قِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ رِقَّةِ الشَّيْءِ، يُقَالُ شَيْءٌ شَفَقٌ: أَيْ لَا يَتَمَاسَكُ لِرِقَّتِهِ، وَمِنْهُ أَشْفَقَ عَلَيْهِ: رَقَّ قَلْبُهُ، وَالشَّفَقَةُ: الِاسْمُ مِنِ الشِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ الشَّفَقُ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ وَسَقَ: ضَمَّ وَجَمَعَ، وَمِنْهُ الْوَسَقُ: الْأَصْوَاعُ الْمَجْمُوعَةُ، وَهِيَ سِتُّونَ صَاعًا، وَطَعَامٌ مَوْسُوقٌ: أَيْ مَجْمُوعٌ، وَإِبِلٌ مُسْتَوْسِقَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَنَّ لَنَا قَلَائِصًا حَقَائِقَا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا اتَّسَقَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: اتِّسَاقُ الْقَمَرِ: امْتِلَاؤُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيَالِيَ الْبَدْرِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ، يُقَالُ: وَسَقْتُهُ. فَاتَّسَقَ، وَيُقَالُ: أَمْرُ فُلَانٍ مُتَّسِقٌ: أَيْ مُجْتَمِعٌ عَلَى الصَّلَاحِ مُنْتَظِمٌ. طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ: حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَالطَّبَقُ: مَا طَابَقَ غَيْرَهُ، وَأَطْبَاقُ الثَّرَى: مَا تَطَابَقَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْغِطَاءِ الطَّبَقُ. قَالَ الْأَعْرَجُ بْنُ حَابِسٍ: إِنِّي امْرُؤٌ قَدْ حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ مِنْهُ إِلَى طَبَقِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: دِيمَةٌ هَطْلَاءُ فِيهَا وَطَفٌ ... طَبَقٌ لِلْأَرْضِ تَجْرِي وَتَذُرُّ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً، إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً، إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً، فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ، فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَاتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْشَقَّتْ تَنْشَقُّ: أَيْ

تَتَصَدَّعُ بِالْغَمَامِ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: تَنْشَقُّ لِهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِسُكُونِ تَاءِ انْشَقَّتْ وَمَا بَعْدَهَا وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بإشمام الكسر وقفا بعد ما لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الْوَصْلِ إِسْكَانًا. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَهَذَا مِنَ التَّغْيِيرَاتِ الَّتِي تَلْحَقُ الرَّوِيَّ فِي الْقَوَافِي، وَفِي هَذَا الْإِشْمَامِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ التَّاءَ مِنْ عَلَامَةِ تَرْتِيبِ الْفِعْلِ لِلْإِنَاثِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا تَنْقَلِبُ فِي الْأَسْمَاءِ، فَصَارَ ذَلِكَ فَارِقًا بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ فِيمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا فِي الْأَسْمَاءِ بِالتَّاءِ، وَذَلِكَ لُغَةُ طيىء وَقَدْ حُمِلَ فِي الْمَصَاحِفِ بَعْضُ التَّاءَاتِ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ بِكَسْرِ التَّاءِ، عُبَيْدٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ أبو عمرو: انْشَقَّتْ، يَقِفُ عَلَى التَّاءِ كَأَنَّهُ يُشِمُّهَا شَيْئًا مِنَ الْجَرِّ، وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا فِي بِلَادِ قَيْسٍ يَكْسِرُ هَذِهِ التَّاءَاتِ، وَهِيَ لُغَةٌ. انْتَهَى. وَذَلِكَ أَنَّ الْفَوَاصِلَ قَدْ تُجْرَى مُجْرَى الْقَوَافِي. فَكَمَا أَنَّ هَذِهِ التَّاءَ تُكْسَرُ فِي الْقَوَافِي، تُكْسَرُ فِي الْفَوَاصِلِ وَمِثَالُ كَسْرِهَا فِي الْقَوَافِي قَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: وَمَا أَنَا بِالدَّاعِي لِعَزَّةَ بِالرَّدَى ... وَلَا شَامِتٍ إِنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ وَكَذَلِكَ بَاقِي الْقَصِيدَةِ. وَإِجْرَاءُ الْفَوَاصِلِ فِي الْوَقْفِ مُجْرَى الْقَوَافِي مَهْيَعٌ مَعْرُوفٌ، كقوله تعالى: الظُّنُونَا «2» ، والرَّسُولَا «3» فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَحَمْلُ الْوَصْفِ عَلَى حَالَةِ الْوَقْفِ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي الْفَوَاصِلِ. وَأَذِنَتْ: أَيِ اسْتَمَعَتْ وَسَمِعَتْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ بِشَيْءٍ إِذْنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا وَقَالَ قَعْنَبٌ: إِنْ يَأْذَنُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... وَمَا هُمْ أَذِنُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا وَقَالَ الْحَجَّافُ بْنُ حَكِيمٍ: أَذِنْتُ لَكُمْ لِمَا سَمِعْتُ هَرِيرَكُمْ وَإِذْنُهَا: انْقِيَادُهَا لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ أَرَادَ انْشِقَاقَهَا، فِعْلَ الْمُطِيعِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمُطَاعِ أَنْصَتَ وَانْقَادَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «4» . وَحُقَّتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 16. (2) سورة الأحزاب: 33/ 10. (3) سورة الأحزاب: 33/ 66. (4) سورة فصلت: 41/ 11.

وَابْنُ جُبَيْرٍ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطَاعَتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ وَحَقَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الِاسْتِمَاعَ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَحْقُوقٌ بِكَذَا وَحَقِيقٌ بِكَذَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ فِي انْشِقَاقِهِ وَتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ وَإِعْدَامِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْشَقَّ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ وَخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تَنْقَادَ وَلَا تَمْتَنِعَ، وَمَعْنَاهُ: الْإِيذَانُ بِأَنَّ الْقَادِرَ الذَّاتِ يَجِبُ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ كُلُّ مَقْدُورٍ وَيَحِقَّ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ الْقَادِرُ الذَّاتِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَمَا أُولِعَ هَذَا الرَّجُلُ بِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، يَدُسُّهُ مَتَى أَمْكَنَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: سُوِّيَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بُسِطَتْ بِانْدِكَاكِ جِبَالِهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: تُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ» ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَدِيمَ إِذَا مُدَّ زَالَ مَا فِيهِ مِنْ تِئْنٍ وَانْبَسَطَ، فَتَصِيرُ الْأَرْضُ إِذْ ذَاكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَاعًا صَفْصَفاً، لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «1» . وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالْجُمْهُورُ: أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَتَخَلَّتْ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ. وَقِيلَ: تَخَلَّتْ مِمَّا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ جِبَالِهَا وَبِحَارِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمِنَ الْكُنُوزِ، وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ وَقْتَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَإِنَّمَا تُلْقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَوْتَى. وَتَخَلَّتْ: أَيْ عَنْ مَا كَانَ فِيهَا، لَمْ تَتَمَسَّكْ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ. وَجَاءَ تَخَلَّتْ: أَيْ تَكَلَّفَتْ أَقْصَى جُهْدِهَا فِي الْخُلُوِّ. كَمَا تَقُولُ: تَكَرَّمَ الْكَرِيمُ: بَلَغَ جُهْدَهُ فِي الْكَرَمِ وَتَكَلَّفَ فَوْقَ مَا فِي طَبْعِهِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَاطِنِهَا. وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّرَهُ الَّذِي خَرَجَ بِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ أَوْ الِانْفِطَارِ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: إِنَّكَ كادِحٌ، أَيْ لَاقَى كُلُّ إِنْسَانٍ كَدْحَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ: هُوَ مُلَاقِيهِ، إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ. وَقِيلَ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ تقديره: يا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ. وَقِيلَ: وَأَذِنَتْ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ وَعَنِ الْأَخْفَشِ: إِذَا السَّماءُ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ وَإِذَا الْأَرْضُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ: الْجَوَابُ إِمَّا الْمَحْذُوفُ الَّذِي قَدَّرُوهُ، وَإِمَّا الظَّاهِرُ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ جَوَابٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: الْعَامِلُ انْشَقَّتْ، وَأَبَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، لِأَنَّ إِذَا مُضَافَةٌ إِلَى انْشَقَّتْ، وَمَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ تَضْعُفُ عِنْدَهُ الْإِضَافَةُ وَيَقْوَى مَعْنَى الْجَزَاءِ، انْتَهَى. وَهَذَا

_ (1) سورة طه: 20/ 106- 107.

الْقَوْلُ نَحْنُ نَخْتَارُهُ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّتِهِ فِيمَا كَتَبْنَاهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقْتُ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ وَقْتُ مَدِّ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: لَا جَوَابَ لَهَا إِذْ هِيَ قَدْ نُصِبَتْ بِاذْكُرْ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، فَلَيْسَتْ شَرْطًا. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها: أَيْ فِي إِلْقَاءِ مَا فِي بَطْنِهَا وَتَخَلِّيهَا. وَالْإِنْسَانُ: يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَالتَّقْسِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ بِهِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالٍ الْمَخْزُومِيُّ، جَادَلَ أَخَاهُ أَبَا سَلَمَةَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالَّذِي خَلَقَكَ لَتَرْكَبَنَّ الطَّبَقَةَ وَلَتُوَافِيَنَّ الْعَقَبَةَ. فَقَالَ الْأَسْوَدُ فَأَيْنَ: الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ وما جال النَّاسِ؟ انْتَهَى. وَكَانَ مُقَاتِلًا يُرِيدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَدِ، وَهِيَ تَعُمُّ الْجِنْسَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، كَانَ يَكْدَحُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولإصرار عَلَى الْكُفْرِ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تَكْدَحُ فِي إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرْشَادِ عِبَادِهِ وَاحْتِمَالِ الضُّرِّ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ تَلْقَى اللَّهَ بِهَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ غَيْرُ ضَائِعٍ عِنْدَهُ. إِنَّكَ كادِحٌ: أَيْ جَاهِدٌ فِي عَمَلِكَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ إِلَى رَبِّكَ، أَيْ طُولَ حَيَاتِكَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ، وَهُوَ أَجَلُ مَوْتِكَ، فَمُلاقِيهِ: أَيْ جَزَاءَ كَدْحِكَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْفَاءُ عَلَى هَذَا عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الْكَلَامِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَادِحٍ عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الضَّمِيرُ فِي مُلَاقِيهِ عَائِدٌ عَلَى رَبِّكَ، أَيْ فَمُلَاقِي جَزَائِهِ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ. حِساباً يَسِيراً قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: يُقَرَّرُ ذُنُوبَهُ ثُمَّ يُتَجَاوَزُ عَنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُجَازَى بِالْحَسَنَةِ وَيُتَجَاوَزُ عَنِ السَّيِّئَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَأَمَّا مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ فَيَهْلِكُ» . وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ: أَيْ إِلَى مَنْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَمِنَ الْحُورِ الْعِينِ، أَوْ إِلَى عَشِيرَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُخْبِرُهُمْ بِخَلَاصِهِ وَسَلَامَتِهِ، أَوْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ هُمْ كُلُّهُمْ أَهْلُ إِيمَانٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَيُقْلَبُ مُضَارِعُ قُلِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَراءَ ظَهْرِهِ: رُوِيَ أَنَّ شِمَالَهُ تَدْخُلُ مِنْ صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا مَنْ يَنْفُذُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ مِنْ عُصَاتِهِمْ، يَعْنِي عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى كِتَابَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ. وَقَدْ جَوَّزَ قَوْمٌ أَنْ يُعْطَاهُ أَوَّلًا قَبْلَ دُخُولِهِ النَّارَ، وَهَذِهِ

الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ انْقَسَمَ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ يُدْخِلُهُمُ الله النار. يَدْعُوا ثُبُوراً: يقول: وا ثبوراه، وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ، وَهُوَ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ: وَيَصْلى بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ مُشَدَّدَةً وَأَبُو الْأَشْهَبِ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَعِيسَى أَيْضًا وَالْعَتَكِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِضَمِّ الْيَاءِ سَاكِنِ الصَّادِ مُخَفَّفِ اللَّامِ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْمُتَعَدِّي بِالْهَمْزَةِ، كَمَا بُنِيَ وَيُصَلَّى الْمُشَدَّدُ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْمُتَعَدِّي بِالتَّضْعِيفِ. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً: أَيْ فَرِحًا بَطِرًا مُتْرَفًا لَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَلَا يُفَكِّرُ فِي عَاقِبَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ حَزِينٌ مُكْتَئِبٌ يَتَفَكَّرُ فِي الْآخِرَةِ. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ: أَيْ أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ بِالْبَعْثِ. بَلى: إِيجَابٌ بَعْدَ النَّفْيِ، أَيْ بَلَى لَيَحُورَنَّ. إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً: أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَفْعَالُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَوْرِهِ وَمُجَازَاتِهِ. فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ: أَقْسَمَ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَعْرِيضًا لِلِاعْتِبَارِ بِهَا، وَالشَّفَقُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَقَالَ أَبُو هريرة وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يتلوه الحمزة. وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: إِنَّ الشَّفَقَ هُنَا كَأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ اللَّيْلَ قَالَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، انْتَهَى. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ الشَّمْسُ وَعَنْ عِكْرِمَةَ: مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ. وَما وَسَقَ: مَا ضَمَّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، إِذْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَنْضَمُّ وَيَسْكُنُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَما وَسَقَ: أَيْ مَا غَطَّى عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَا ضَمَّ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَمَا سَاقَ وَحَمَلَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: وَمَا عُمِلَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَيَوْمًا تَرَانَا صَالِحِينَ وَتَارَةً ... تَقُومُ بِنَا كَالْوَاسِقِ الْمُتَلَبِّبِ وَقَالَ ابْنُ الْفَضْلِ: لَفَّ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى اللَّهِ، أَيْ سَكَنَ الْخَلْقُ إِلَيْهِ وَرَجَعَ كُلٌّ إِلَى مَا رَآهُ لِقَوْلِهِ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «2» . وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَسْوَدُ وابن جبير

_ (1) سورة القصص: 28/ 76. (2) سورة يونس: 10/ 76، وسورة القصص: 28/ 73، وسورة غافر: 40/ 61.

وَمَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى وَالْأَخَوَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَفَتْحِ الْبَاءِ. فَقِيلَ: خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ مُعَالَجَةِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمَاءٌ بَعْدَ سَمَاءٍ فِي الْإِسْرَاءِ. وَقِيلَ: عِدَةٌ بِالنَّصْرِ، أَيْ لَتَرْكَبُنَّ أَمْرَ الْعَرَبِ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ وَفَتْحًا بَعْدَ فَتْحٍ كَمَا كَانَ وَوُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء لَتَرْكَبُنَّ عَلَى خِطَابِ الْإِنْسَانِ في يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْمَعْنَى: لَتَرْكَبُنَّ السَّمَاءَ فِي أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، تَكُونُ كَالْمُهْلِ وَكَالدِّهَانِ وَتَنْفَطِرُ وَتَنْشَقُّ، فَالتَّاءُ لِلتَّأْنِيثِ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنِ السَّمَاءِ بِمَا يَحْدُثُ لَهَا، وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ. وَقَرَأَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَتَحَ الْبَاءِ عَلَى ذِكْرِ الْغَائِبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ الْغَائِبُ يَعُودُ عَلَى الْقَمَرِ، لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ أَحْوَالًا مِنْ إِسْرَارٍ وَاسْتِهْلَالٍ وَإِبْدَارٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيَرْكَبَنَّ الْإِنْسَانُ. وَقَرَأَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَضَمِّ الْبَاءِ، أَيْ لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَتَرْكَبُنَّ بِالضَّمِّ عَلَى خِطَابِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ لِلْجِنْسِ، فَالْمَعْنَى: لَتَرْكَبُنَّ الشَّدَائِدَ: الْمَوْتَ وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، أَوْ يَكُونُ الْأَحْوَالُ مِنَ النُّطْفَةِ إِلَى الْهِرَمِ، كَمَا تَقُولُ: طَبَقَةٌ بَعْدَ طَبَقَةٍ. قَالَ نَحْوَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: عَنْ تَجِيءُ بِمَعْنَى بَعْدَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ ... ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ وَقَالَ مَكْحُولٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ الْآخِرَةَ بَعْدَ الْأُولَى. وَقَرَأَ عُمَرُ أَيْضًا: لَيَرْكَبُنَّ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ. قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْكُفَّارَ لَا بَيَانَ تَوْبِيخِهِمْ بَعْدَهُ، أَيْ يَرْكَبُونَ حَالًا بَعْدَ أُخْرَى مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالْهَوَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَتِرْكَبُنَّ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمٍ. قِيلَ: وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقرىء بِالتَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى خِطَابِ النَّفْسِ، وَطَبَقَ الشَّيْءُ مُطَابَقَةً لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ مُطَابِقَةٌ لِلْأُخْرَى فِي الشِّدَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ، وَاحِدَةَ طَبَقَةٍ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُمْ على طبقات. وعَنْ طَبَقٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: طَبَقاً، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَتَرْكَبُنَّ. وَعَنْ مَكْحُولٍ، كُلُّ عِشْرِينَ عَامًا تَجِدُونَ أَمْرًا لَمْ تَكُونُوا عَلَيْهِ.

فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ: تَعَجُّبٌ مِنَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ وَقَدْ وَضَحَتِ الدَّلَائِلُ. لَا يَسْجُدُونَ: لَا يَتَوَاضَعُونَ وَيَخْضَعُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يُبَاشِرُونَ بِجِبَاهِهِمُ الْمُصَلَّى. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يُصَلُّونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُكَذِّبُونَ مُشَدَّدًا وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُخَفَّفًا وَبِفَتْحِ الْيَاءِ. بِما يُوعُونَ: بِمَا يَجْمَعُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، كَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ فِي أَوْعِيَةٍ وَعَيْتُ الْعِلْمَ وَأَوْعَيْتُ الْمَتَاعَ، قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا تُضْمِرُونَ مِنْ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِمَا يَكْتُمُونَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: بِمَا يَعُونَ، مِنْ وَعَى يَعِي. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. غَيْرُ مَمْنُونٍ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَمْنُونٍ: مُعَدَّدٍ عَلَيْهِمْ، مَحْسُوبٍ مُنَغَّصٍ بِالْمَنِّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي فُصِّلَتْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

سورة البروج

سورة البروج [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) الْأُخْدُودُ: الْخَدُّ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الشِّقُّ وَنَحْوُهُمَا بِنَاءٌ، وَمَعْنَى الْخَقِّ وَالْأُخْقُوقِ، وَمِنْهُ: فَسَاحَتْ قَوَائِمُهُ فِي أخاقيق جُرْدَانِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ،

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا يَجْمَعُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَكْرِ، وَالْخِدَاعِ، وَإِذَايَةِ مَنْ أَسْلَمَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَذَى، كَالضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَالْحَرْقِ بِالشَّمْسِ، وَإِحْمَاءِ الصَّخْرِ وَوَضْعِ أَجْسَادِ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَلَيْهِ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الشِّنْشَنَةَ كَانَتْ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ يُعَذِّبُونَ بِالنَّارِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُعْرِضُوا عَلَى النَّارِ كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ فِي الْإِيمَانِ مَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ أَوْ يُحْرَمُوا، وَأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ عَذَّبُوا عِبَادَ اللَّهِ مَلْعُونُونَ، فَكَذَلِكَ الَّذِينَ عَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مَلْعُونُونَ. فَهَذِهِ السُّورَةُ عِظَةٌ لِقُرَيْشٍ وَتَثْبِيتٌ لِمَنْ يُعَذَّبُ. ذاتِ الْبُرُوجِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: هِيَ الْمَنَازِلُ الَّتِي عَرَفَتْهَا الْعَرَبُ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ عَلَى مَا قَسَّمَتْهُ، وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُهَا الشَّمْسُ فِي سَنَةٍ، وَالْقَمَرُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْقُصُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هِيَ النُّجُومُ. وَقِيلَ: عِظَامُ الْكَوَاكِبِ، سُمِّيَتْ بُرُوجًا لِظُهُورِهَا. وَقِيلَ: هِيَ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبُرُوجِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ: هَذَانِ مُنَكَّرَانِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُمَا عَلَى الْعُمُومِ لِقَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ «1» ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَا يَقْتَضِيهِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ، إِذْ لَا يُقْسَمُ بِنَكِرَةٍ وَلَا يُدْرَى مَنْ هِيَ. فَإِذَا لُوحِظَ فِيهَا مَعْنَى الْعُمُومِ، انْدَرَجَ فِيهَا الْمَعْرِفَةُ فَحَسُنَ الْقَسَمُ. وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ نَكِرَةً، كَقَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ «2» ، وَلِأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ عَلَى الْعُمُومِ دَخَلَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، فَيَحْسُنُ إِذْ ذاك القسم به.

_ (1) سورة التكوير: 81/ 14. (2) سورة الطور: 52/ 1- 2.

وَلَمَّا ذَكَرَ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَنْ يُشْهَدُ عَلَيْهِ. إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحُضُورِ، فَالشَّاهِدُ: الْخَلَائِقُ الْحَاضِرُونَ لِلْحِسَابِ، وَالْمَشْهُودُ: الْيَوْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «1» ، كَانَ مَوْعُودًا بِهِ فَصَارَ مَشْهُودًا، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِهِمَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْهُ وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ علي وعكرمة: الرسول صلى الله عليه وسلم وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذُرِّيَّتُهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنِ: الشَّاهِدُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَفِي كُلِّ قَوْمٍ مِنْهَا الْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ: وَشَاهِدٍ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَعَنِ النَّخَعِيِّ: يَوْمُ الْأَضْحَى. وَمَشْهُودٍ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمَشْهُودٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَعَنْ جَابِرٍ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمَشْهُودٍ النَّاسُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: ابْنُ آدَمَ، وَمَشْهُودٍ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: عَكْسُ هَذَا وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ: عِيسَى، وَمَشْهُودٍ أُمَّتُهُ، وَعَنْ عَلِيٍّ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَمَشْهُودٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَعَنِ التِّرْمِذِيِّ: الْحَكِيمِ الْحَفَظَةُ، وَمَشْهُودٍ عَلَيْهِمْ: النَّاسُ وَعَنْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: محمد صلى الله عليه وسلم، وَمَشْهُودٍ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ وَعَنْهُ: الْأَنْبِيَاءُ، وَمَشْهُودٍ أُمَمُهُمْ وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ الْجَوَارِحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَشْهُودٍ أَصْحَابُهَا. وَقِيلَ: هُمَا يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُتَعَاقِبُونَ وَقُرْآنُ الْفَجْرِ. وَقِيلَ: النَّجْمُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقِيلَ: اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، ومشهود به الوحدانية، وإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «2» . وَقِيلَ: مَخْلُوقَاتُهُ تَعَالَى، وَمَشْهُودٍ بِهِ وَحْدَانِيَّتُهُ. وَقِيلَ: هُمَا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَالْحَجِيجُ. وَقِيلَ: اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ وَبَنُو آدَمَ. وقيل: الأنبياء وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ لِكُلٍّ مِنْهَا مُتَمَسَّكٌ، وَلِلصُّوفِيَّةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ. وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قِيلَ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَذْكُورٌ فَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. وَقِيلَ: قُتِلَ وَهَذَا نَخْتَارُهُ وَحُذِفَتِ اللَّامُ أَيْ لَقُتِلَ، وَحَسُنَ حَذْفُهَا كَمَا حَسُنَ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «3» ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها «4» ، أي لقد

_ (1) سورة هود: 11/ 103. [.....] (2) سورة آل عمران: 3/ 19. (3) سورة الشمس: 91/ 1. (4) سورة الشمس: 91/ 9.

أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَيَكُونُ الْجَوَابُ دَلِيلًا عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَطَرْدِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا كَانَ قُتِلَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، فَهِيَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَقِيلَ: دُعَاءٌ، فَكَوْنُ الْجَوَابِ غَيْرَهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مِقْسَمٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ أَقْوَالًا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ كَسِلْنَا عَنْ كِتَابَتِهَا فِي كِتَابِنَا هَذَا وَمُضَمَّنُهَا أَنَّ نَاسًا مِنَ الْكُفَّارِ خَدُّوا أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ وَسَجَّرُوهُ نَارًا وَعَرَضُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا، فَمَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ تَرَكُوهُ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِيمَانِ أَحْرَقُوهُ وَأَصْحَابُ الْأُخْدُودِ هُمُ الْمُحَرِّقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رِيحًا فَقَبَضَتْ أَرْوَاحَهُمْ أَوْ نَحْوَ هَذَا، وَخَرَجَتِ النَّارُ فَأَحْرَقَتِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى حَافَّتَيِ الْأُخْدُودِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَتْلُ حَقِيقَةً لَا بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَيَكُونُ خَبَرًا عَنْ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِالْكُفَّارِ وَالَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَفْتِنُوا الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقَصَصُ الَّذِي ذَكَرُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النَّارِ بِالْجَرِّ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أَوْ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ أُخْدُودِ النَّارِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ النَّارُ بِالرَّفْعِ. قيل: على مَعْنَى قَتْلِهِمْ، وَيَكُونُ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ إِذْ ذَاكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُتِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى: الْوَقُودِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرُ، وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِهِ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا مَصْدَرٌ كَالضَّمِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِذْ هُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يُحَرِّقُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ فِي وَهُمْ عَلَى قَوْلِ الرَّبِيعِ يَعُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَيَكُونُ هُمْ أَيْضًا عَائِدًا عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ مَعْنَى عَلى مَا يَفْعَلُونَ: مَا يُرِيدُونَ مِنْ فِعْلِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ مُحْرِقٌ، وتم الكلام عن قَوْلِهِ: ذاتِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ قُرَيْشٌ الَّذِينَ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات، وإذا الْعَامِلُ فِيهِ قُتِلَ، أَيْ لُعِنُوا وَقَعَدُوا عَلَى النَّارِ، أَوْ عَلَى مَا يَدْنُو مِنْهَا مِنْ حَافَّاتِ الْأُخْدُودِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا ... وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ شُهُودٌ: يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمَلِكِ، أَيْ لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، أَوْ شُهُودٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فَعَلُوا بِالْمُؤْمِنِينَ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

نَقَمُوا بِفَتْحِ الْقَافِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِكَسْرِهَا، أَيْ مَا عَابُوا وَلَا أَنْكَرُوا الْإِيمَانَ، كَقَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ «1» ، وَكَقَوْلِ قَيْسِ الرُّقُيَاتِ: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُم يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا جَعَلُوا مَا هُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ قَبِيحًا حَتَّى نَقَمُوا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شُكْلَةِ عَيْنِهَا ... كَذَاكَ عِتَاقُ الطير شكلا عُيُونُهَا وَفِي الْمُنْتَخَبِ: إِنَّمَا قَالَ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا، لِأَنَّ التَّعْذِيبَ إِنَّمَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ كَفَرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يُعَذَّبُوا عَلَى مَا مَضَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إلا أن يدعوا عَلَى إِيمَانِهِمْ. انْتَهَى. وَذَكَرَ الْأَوْصَافَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا تَعَالَى أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَزِيزًا غَالِبًا قَادِرًا يُخْشَى عِقَابُهُ، حَمِيدًا مُنْعِمًا يَجِبُ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعْمَتِهِ، لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَكُلُّ مَنْ فِيهِمَا يَحِقُّ عَلَيْهِ عِبَادَتُهُ وَالْخُشُوعُ لَهُ تَقْرِيرًا لِأَنَّ مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْقِمُهُ إِلَّا مُبْطِلٌ مُنْهَمِكٌ فِي الْغَيِّ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: وَعِيدٌ لَهُمْ، أَيْ إِنَّهُ عَلِمَ مَا فَعَلُوا فَهُوَ يُجَازِيهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ ابْتَلَى الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات بتعذب أَوْ أَذًى، وَأَنَّ لَهُمْ عَذَابَيْنِ: عَذَابًا لِكُفْرِهِمْ، وَعَذَابًا لِفِتْنَتِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالَّذِينِ فَتَنُوا أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ خَاصَّةً، وَبِالَّذِينِ آمَنُوا الْمَطْرُوحِينَ فِي الْأُخْدُودِ، وَمَعْنَى فَتَنُوهُمْ: عَذَّبُوهُمْ بِالنَّارِ وَأَحْرَقُوهُمْ، فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ جَهَنَّمَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ: وَهِيَ نَارٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ تَتَّسِعُ كَمَا يَتَّسِعُ الْحَرِيقُ، أَوْ لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّارَ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ فَأَحْرَقَتْهُمْ، انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الَّذِي جَوَّزَهُ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، وَأُولَئِكَ الْمُحَرِّقُونَ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ تَابَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُلْعَنُوا إِلَّا وَهُمْ قَدْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يُقَوِّي أَنَّ الْآيَاتِ فِي قُرَيْشٍ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي قُرَيْشٍ أَحْكَمُ مِنْهُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَكَانَ فِيهِمْ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ مَنْ تَابَ وَآمَنَ، انْتَهَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ لَا الْمَطْرُوحُونَ فِي النَّارِ، وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ. يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ والضحاك: يبدىء الْخَلْقَ بِالْإِنْشَاءِ، وَيُعِيدُهُ بِالْحَشْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، أَيْ كلّ

_ (1) سورة المائدة: 5/ 59.

مَا يُبْدَأُ وَكُلُّ مَا يعاد. وقال الطبري: يبدىء الْعَذَابَ وَيُعِيدُهُ عَلَى الْكُفَّارِ وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَأْكُلُهُمُ النَّارُ حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ خلقا جديدا. وقرىء: يَبْدَأُ مِنْ بَدَأَ ثُلَاثِيًّا، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ بَطْشِهِ، ذَكَرَ كَوْنَهُ، غَفُورًا سَاتِرًا لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَدُودًا لَطِيفًا بِهِمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، وَهَاتَانِ صِفَتَا فِعْلٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَدُودَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَادِّ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُتَوَدِّدُ إِلَى عِبَادِهِ بِالْمَغْفِرَةِ. وَحَكَى الْمُبَرِّدُ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَدُودَ هُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنْشَدَ: وَأَرْكَبُ فِي الرَّوْعِ عريانة ... ذلول الجماع لفاحا وَدُودَا أَيْ: لَا وَلَدَ لَهَا تَحِنُّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْوَدُودُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، أَيْ يَوَدُّهُ عِبَادُهُ الصَّالِحُونَ. ذُو الْعَرْشِ: خَصَّ الْعَرْشَ بِإِضَافَةِ نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لِلْعَرْشِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو بِالْوَاوِ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: ذِي بِالْيَاءِ، صِفَةٌ لِرَبِّكَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: ذُو الْعَرْشِ: ذُو الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَرْشِ: السَّرِيرُ الْعَالِي، وَيَكُونُ خَلَقَ سَرِيرًا فِي سَمَائِهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ عَظَمَتَهُ إِلَّا هُوَ وَمَنْ يُطْلِعُهُ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَخَوَانِ: الْمَجِيدُ بِخَفْضِ الدَّالِ، صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، وَمَجَادَتُهُ: عِظَمُهُ وَعُلُوُّهُ وَمِقْدَارُهُ وَحُسْنُ صُورَتِهِ وَتَرْكِيبُهُ، فَإِنَّهُ قِيلَ: الْعَرْشُ أَحْسَنُ الْأَجْسَامِ صُورَةً وَتَرْكِيبًا. وَمَنْ قَرَأَ: ذِي الْعَرْشِ بِالْيَاءِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَجِيدِ بِالْخَفْضِ صِفَةً لِذِي، وَالْأَحْسَنُ جَعْلُ هَذِهِ الْمَرْفُوعَاتِ أَخْبَارًا عَنْ هُوَ، فَيَكُونُ فَعَّالٌ خَبَرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ صِفَتَيْنِ لِلْغَفُورِ، وفَعَّالٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ وَأَتَى بِصِيغَةِ فَعَّالٍ لِأَنَّ مَا يُرِيدُ وَيَفْعَلُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ فِعْلُهُ لَا مُعْتَرِضَ عَلَيْهِ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ: تَقْرِيرٌ لِحَالِ الْكَفَرَةِ، أَيْ قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُهُمْ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، فَكَذَلِكَ يَحِلُّ بِقُرَيْشٍ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ. وَالْجُنُودُ: الْجُمُوعُ الْمُعَدَّةُ لِلْقِتَالِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ: بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ، وَكَأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جُنُودِ فِرْعَوْنَ، وَاخْتَصَرَ مَا جَرَى لَهُمْ إِذْ هُمْ مَذْكُورُونَ فِي غَيْرِ مَا سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ ثَمُودَ لِشُهْرَةِ قِصَّتِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ، وَذَكَرَ فِرْعَوْنَ لِشُهْرَةِ قِصَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَ الْعَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا. أَلَا تَرَى إِلَى زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى وَقَوْلِهِ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ تُبَّعًا ... وَأَهْلَكَ لُقْمَانَ بْنَ عَادٍ وَعَادِيَا وَأَهْلَكَ ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنْ قَبْلُ ما نوى ... وَفِرْعَوْنَ جَبَّارًا طَغَى وَالنَّجَاشِيَا وَكَانَ فِرْعَوْنُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْهَلَاكِ، فَدَلَّ بِقِصَّتِهِ وَقِصَّةِ ثَمُودَ عَلَى أَمْثَالِهِمَا مِنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ وَهَلَاكِهِمْ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ مِنْ قَوْمِكَ، فِي تَكْذِيبٍ: حَسَدًا لَكَ، لَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَا جَرَى لِمَنْ قَبْلَهُمْ حِينَ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ. وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ: أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ وَمَنْ كَانَ مُحَاطًا بِهِ، فَهُوَ مَحْصُورٌ فِي غَايَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعًا، وَالْمَعْنَى: دُنُوُّ هَلَاكِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي تَكْذِيبٍ، وَأَنَّ التَّكْذِيبَ عَمَّهُمْ حَتَّى صَارَ كَالْوِعَاءِ لَهُمْ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَذَّبُوهُ وَكَذَّبُوا مَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَكَذَّبُوا فَقَالَ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ: أَيْ بَلِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، وَمَجَادَتُهُ: شَرَفُهُ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ بِإِعْجَازِهِ فِي نَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ، وَإِخْبَارِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي مَحَاسِنِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُرْآنٌ مَجِيدٌ: مَوْصُوفٌ وَصْفَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: قُرْآنٌ مَجِيدٌ بِالْإِضَافَةِ، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: سَمِعْتُ ابْنَ الْأَنْبَارِيِّ يَقُولُ مَعْنَاهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنُ رَبٍّ مَجِيدٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَكِنَّ الْغِنَى رَبٌّ غَفُورُ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى رَبٍّ غَفُورٍ، انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا أَخْرَجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: قُرْآنٌ مَجِيدٌ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَجِيدَ، انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ لِصِفَتِهِ فَيَكُونُ مَدْلُولُهُ وَمَدْلُولُ التَّنْوِينِ وَرَفْعُ مَجِيدٌ وَاحِدًا، وَهَذَا أَوْلَى لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي لَوْحٍ بِفَتْحِ اللَّامِ، مَحْفُوظٍ بِالْخَفْضِ صِفَةٌ لِلَوْحٍ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ هُوَ الَّذِي فِيهِ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ السميفع: بِضَمِّ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: اللَّوْحُ: الْهَوَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي اللَّوْحَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّذِي فِيهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مِنْ وُصُولِ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مَحْفُوظٍ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِقُرْآنٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» ، أَيْ هُوَ مَحْفُوظٌ فِي الْقُلُوبِ، لَا يَلْحَقُهُ خَطَأٌ وَلَا تبديل.

_ (1) سورة الحجر: 15/ 9.

سورة الطارق

سورة الطّارق [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) طَرَقَ يَطْرُقُ طُرُوقًا: أَتَى لَيْلًا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعًا وَأَصْلُهُ الضَّرْبُ، لِأَنَّ الطَّارِقَ يَطْرُقُ الْبَابَ، وَمِنْهُ الْمِطْرَقَةُ: وَهِيَ الْمَبِيعَةُ، وَاتُّسِعَ فِيهِ فَكُلُّ مَا جَاءَ بِلَيْلٍ يُسَمَّى طَارِقًا، وَيُقَالُ: أَطْرَقَ فُلَانٌ: أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ، وَأَطْرَقَ بِعَيْنَيْهِ: رَمَى بِهِمَا نَحْوَ الْأَرْضِ. دَفَقَ الْمَاءَ يَدْفُقُهُ دَفْقًا: صَبَّهُ، وَمَاءٌ دَافِقٌ عَلَى النَّسَبِ، وَيُقَالُ: دَفَقَ اللَّهُ رُوحَهُ، إِذَا دَعَا عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ. التَّرِيبَةُ: مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ جَمَعَهَا بِمَا حَوْلَهَا فَقَالَ تَرَائِبُهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا ... شَرِقَتْ بِهِ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَجَمْعُ تَرِيبَةٍ تَرِيبٌ، قَالَ الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ:

وَمِنْ ذَهَبٍ يَبِينُ عَلَى تَرِيبٍ ... كَلَوْنِ الْعَاجِ لَيْسَ بِذِي غُصُونِ الْهَزْلُ: ضِدُّ الْجِدِّ، وَقَالَ الْكُمَيْتُ: تَجِدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَتَهْزِلُ أَمْهَلْتُ الرَّجُلَ: انْتَظَرْتُهُ، وَالْمَهَلُ وَالْمُهْلَةُ: السَّكِينَةُ، وَمَهَّلْتُهُ أَيْضًا تَمْهِيلًا وَتَمَهَّلَ فِي أمره: اتأد، واستمهلته: انْتَظَرْتُهُ، وَيُقَالُ مَهْلًا: أَيْ رِفْقًا وَسُكُونًا. رُوَيْدًا: مَصْدَرُ أَرْوَدَ يُرْوِدُ، مُصَغَّرٌ تَصْغِيرَ التَّرْخِيمِ، وَأَصْلُهُ إِرْوَادًا. وَقِيلَ: هُوَ تَصْغِيرُ رَوْدٍ، مِنْ قَوْلِهِ: يَمْشِي عَلَى رَوْدٍ: أَيْ مَهَلٍ، وَيُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا نَحْوَ: رُوَيْدَ عَمْرٍو بِالْإِضَافَةِ: أَيْ إِمْهَالَ عَمْرٍو، كَقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ «1» ، وَنَعْتًا لِمَصْدَرٍ نَحْوُ: سَارُوا سَيْرًا رُوَيْدًا وَحَالًا نَحْوُ: سَارَ الْقَوْمُ رُوَيْدًا، وَيَكُونُ اسْمَ فِعْلٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مُوَضَّحٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ، إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ، وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً، فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا تَكْذِيبَ الْكُفَّارِ لِلْقُرْآنِ، نَبَّهَ هُنَا عَلَى حَقَارَةِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْهُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَوْلٌ فَصْلٌ جِدٌّ، لَا هَزْلَ فِيهِ وَلَا بَاطِلَ يَأْتِيهِ. ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِإِمْهَالِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ الْمُكَذِّبِينَ، وَهِيَ آيَةُ مُوَادَعَةٍ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالسَّماءِ: هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: السَّمَاءُ هُنَا الْمَطَرُ، وَالطَّارِقِ: هُوَ الْآتِي لَيْلًا، أَيْ يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَطْرُقُ الْجِنِّيَّ، أَيْ يَصُكُّهُ، مِنْ طَرَقْتُ الْبَابَ إِذَا ضَرَبْتَهُ لِيُفْتَحَ لَكَ. أَتَى بِالطَّارِقِ مُقْسِمًا بِهِ، وَهِيَ صِفَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّجْمِ الثَّاقِبِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إِظْهَارًا لِفَخَامَةِ مَا أَقْسَمَ بِهِ لِمَا عُلِمَ فِيهِ مِنْ عَجِيبِ الْقُدْرَةِ وَلَطِيفِ الْحِكْمَةِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَالسَّمَاءِ وَجَمِيعِ مَا يَطْرُقُ فيه مِنَ الْأُمُورِ وَالْمَخْلُوقَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، عَلَى جِهَةِ التَّنْبِيهِ، أَجَلَّ الطَّارِقَاتِ قَدْرًا وَهُوَ النَّجْمُ الثَّاقِبُ، وكأنه قال:

_ (1) سورة محمد: 47/ 4. (2) سورة الواقعة: 56/ 75- 76.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ حَتَّى الطَّارِقِ، انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ بَعْضًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ وَالطَّارِقِ، إِذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الطَّوَارِقِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ: يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ مُفَسَّرٌ بِالنَّجْمِ الثَّاقِبِ. وَالنَّجْمُ الثَّاقِبُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجَدْيُ، وَعِنْدَ ابْنِ زَيْدٍ: زُحَلُ. وَقَالَ هُوَ أَيْضًا وَغَيْرُهُ: الثُّرَيَّا، وَهُوَ الَّذِي تُطْلِقُ عَلَيْهِ الْعَرَبُ اسْمَ النَّجْمِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ لَا يَسْكُنُهَا غَيْرُهُ مِنَ النُّجُومِ، فَإِذَا أَخَذَتِ النُّجُومُ أَمْكِنَتَهَا مِنَ السَّمَاءِ هَبَطَ فَكَانَ مَعَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَهُوَ طَارِقٌ حِينَ يَنْزِلُ، وَطَارِقٌ حِينَ يَصْعَدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِأَنَّهَا كُلَّهَا ثَوَاقِبُ، أَيْ ظَاهِرَةُ الضَّوْءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِنْسُ النُّجُومِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا وَيُرْجَمُ. وَالثَّاقِبُ، قِيلَ: الْمُضِيءُ يُقَالُ: ثَقَبَ يَثْقُبُ ثُقُوبًا وَثَقَابَةً: أَضَاءَ، أَيْ يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ. وَقِيلَ: الْمُرْتَفِعُ الْعَالِي، وَلِذَلِكَ قِيلَ هُوَ زُحَلُ لِأَنَّهُ أَرَقُّهَا مَكَانًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ثَقَبَ الطَّائِرُ ارْتَفَعَ وَعَلَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ خَفِيفَةً، كُلُّ رَفْعًا لَمَا خَفِيفَةً، فَهِيَ عِنْدُ الْبَصْرِيِّينَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَكُلُّ مُبْتَدَأٌ وَاللَّامُ هِيَ الدَّاخِلَةُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ وَإِنِ الْمُخَفَّفَةِ، وَمَا زَائِدَةٌ، وَحَافِظٌ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَعَلَيْهَا مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ: إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَمَا زَائِدَةٌ، وَكُلٌّ وحافظ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا: لَمَّا مُشَدَّدَةً وَهِيَ بِمَعْنَى إِلَّا، لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هُذَيْلٍ وَغَيْرِهِمْ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَّا فَعَلْتَ كَذَا: أَيْ إِلَّا فَعَلْتَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةٌ، أَيْ مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ. وَحَكَى هَارُونُ أنه قرىء: إِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، كُلَّ بِالنَّصْبِ، فَاللَّامُ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ إِنَّ، وَمَا زَائِدَةٌ، وَحَافِظٌ خَبَرُ إِنَّ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِنَّ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُخَفَّفَةَ أَوِ الْمُشَدَّدَةَ أَوِ النَّافِيَةَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ فَتَلَقِّيهِ بِالْمُشَدَّدَةِ مَشْهُورٌ، وَبِالْمُخَفَّفَةِ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ «1» ، وَبِالنَّافِيَةِ وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما «2» . وَقِيلَ: جَوَابُ الْقَسَمِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ كُلِّ نَفْسٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ مُكَلَّفَةٍ، عَلَيْها حافِظٌ: يُحْصِي أَعْمَالَهَا وَيَعُدُّهَا لِلْجَزَاءِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ وَعِيدٌ وَزَاجِرٌ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: حَفَظَةٌ مِنَ اللَّهِ يَذُبُّونَ عَنْهَا، وَلَوْ وَكَلَ المرء إلى نفسه لا ختطفته الْغِيَرُ وَالشَّيَاطِينُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ

_ (1) سورة الصافات: 37/ 56. (2) سورة فاطر: 35/ 41.

وَالْفَرَّاءُ: حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ يَحْفَظُهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَادِيرِ. وَقِيلَ: الْحَافِظُ: الْعَقْلُ يُرْشِدُهُ إِلَى مَصَالِحِهِ وَيَكُفُّهُ عَنْ مَضَارِّهِ. وَقِيلَ: حَافِظٌ مُهَيْمِنٌ وَرَقِيبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ عَلَيْهَا حَافِظٌ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِ الْأُولَى حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَنْ أَنْشَأَهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ وَجَزَائِهِ، فَيَعْمَلَ لِذَلِكَ وَلَا يُمْلِي عَلَى حَافِظِهِ إِلَّا مَا يَسُرُّهُ في عاقبته. ومِمَّ خُلِقَ: اسْتِفْهَامٌ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بخلق، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بفلينظر، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ. وَجَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، وَهُوَ مَنِيُّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَمَّا امْتَزَجَا فِي الرَّحِمِ وَاتَّحَدَا عَبَّرَ عَنْهُمَا بِمَاءٍ، وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَدَافِقٌ قِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى مَدْفُوقٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَعِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: هُوَ عَلَى النسب، كلا بن وَتَامِرٍ، أَيْ ذِي دَفْقٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَعْنَى دَافِقٍ لَزِجٍ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ وَصْفَهُ لَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِذَلِكَ، وَالدَّفْقُ: الصَّبُّ، فِعْلُهُ مُتَعَدٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالدَّفْقُ: دَفْعُ الْمَاءِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، تَدَفَّقَ الْوَادِي وَالسَّيْلُ إِذَا جَاءَ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ دَافِقًا، لِأَنَّ بَعْضَهُ يَدْفَعُ بَعْضًا، فَمِنْهُ دَافِقٌ وَمِنْهُ مَدْفُوقٌ، انْتَهَى. وَرُكِّبَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى تَدَفَّقَ، وَتَدَفَّقَ لَازِمٌ دَفَقْتُهُ فَتَدَفَّقَ، نَحْوَ: كَسَرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَدَفَقَ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ مَا فَسَّرَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالدَّفْقُ دَفْعُ الْمَاءِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، بَلِ الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ الصَّبُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخْرُجُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ: بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهُمَا وَأَهْلُ مَكَّةَ وَعِيسَى: بِضَمِّ الصَّادِ وَاللَّامِ وَالْيَمَانِيُّ: بِفَتْحِهِمَا. قَالَ الْعَجَّاجُ: فِي صُلْبٍ مِثْلِ الْعَنَانِ الْمُؤَدَّمِ وَتَقَدَّمَتِ اللُّغَاتُ فِي الصُّلْبِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَإِعْرَابُهَا صَالِبٌ كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ: تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ مِنْ بَيْنِ صُلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَتَرَائِبِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ التَّرَائِبِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: هِيَ أَضْلَاعُ الرَّجُلِ الَّتِي أَسْفَلَ الصُّلْبِ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالصَّدْرِ. وَقِيلَ: هِيَ التَّرَاقِي وَعَنْ مَعْمَرٍ: هِيَ عُصَارَةُ الْقَلْبِ وَمِنْهُ يَكُونُ الْوَلَدُ. وَنَقَلَ مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّرَائِبَ أَطْرَافُ الْمَرْءِ، رِجْلَاهُ وَيَدَاهُ وَعَيْنَاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ تَحْكُمُ عَلَى اللُّغَةِ، انْتَهَى.

إِنَّهُ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْخَالِقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ خُلِقَ. عَلى رَجْعِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الضَّمِيرُ فِي رَجْعِهِ عَائِدٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَيْ عَلَى رَدِّهِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، أَيْ مَنْ أَنْشَأَهُ أَوَّلًا قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَلَى رَدِّهِ مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ، أَيْ عَلَى رَدِّ الْمَاءِ فِي الْإِحْلِيلِ أَوْ فِي الصُّلْبِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ الضَّحَّاكِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ تُبْلَى مضمر تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَعَلَى قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: الْعَامِلُ نَاصِرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا ناصِرٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ مَا النَّافِيَةِ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَنْصُورِ. وَقَالَ آخَرُونَ، وَمِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَامِلُ رَجْعِهِ وَرُدَّ بِأَنْ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَمُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ، وَلَا يَجُوزُ. وَقَالَ الْحُذَّاقُ مِنَ النُّحَاةِ: الْعَامِلُ فِيهِ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ تَقْدِيرُهُ: يُرْجِعُهُ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُلُّ هَذِهِ الْفِرَقِ فَرَّتْ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ لَقَادِرٌ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الْقُدْرَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَحْدَهُ. وَإِذَا تُؤُمِّلَ الْمَعْنَى وَمَا يَقْتَضِيهِ فَصِيحُ كَلَامِ الْعَرَبِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَقَادِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَفِي كُلِّ وَقْتٍ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَخَصَّصَ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْوَقْتَ الْأَهَمَّ عَلَى الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْجَزَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْعَذَابِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ إِلَى حَذَرِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، انْتَهَى. تُبْلَى قِيلَ: تُخْتَبَرُ، وَقِيلَ: تُعْرَفُ وَتُتَصَفَّحُ وَتُمَيَّزُ صَالِحُهَا مِنْ فَاسِدِهَا، والسَّرائِرُ: مَا أَكَنَّتْهُ الْقُلُوبُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَمَا أَخْفَتْهُ الْجَوَارِحُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ السَّرَائِرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّهَا التَّوْحِيدُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ أَعْظَمَ السَّرَائِرِ، وَسَمِعَ الْحَسَنُ مَنْ يُنْشِدُ: سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا ... سَرِيرَةُ وُدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَقَالَ: مَا أَغْفَلَهُ عَمَّا فِي السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالْبَيْتُ لِلْأَحْوَصِ. وَلَمَّا كَانَ الِامْتِنَاعُ فِي الدُّنْيَا إِمَّا بِقُوَّةٍ فِي الْإِنْسَانِ، وَإِمَّا بِنَاصِرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِهِ، نَفَى عَنْهُ تَعَالَى مَا يَمْتَنِعُ بِهِ وَأَتَى بِمِنَ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُمُومِ فِي نَفْيِ الْقُوَّةِ وَالنَّاصِرِ. وَالسَّماءِ: أَقْسَمَ ثَانِيًا بِالسَّمَاءِ وَهِيَ الْمِظَلَّةُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّحَابَ. ذاتِ الرَّجْعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّجْعُ: السَّحَابُ فِيهِ الْمَطَرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَرْجِعُ بِالرِّزْقِ كُلَّ عَامٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّجْعُ مَصْدَرُ رُجُوعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ، تَذْهَبُ وَتَرْجِعُ، وَقِيلَ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:

أَبْيَضُ كَالرَّجْعِ رَسُوبٌ إِذَا ... مَا نَاحَ فِي مُحْتَفَلٍ يَخْتَلِي يَصِفُ سَيْفًا شَبَّهَهُ بِمَاءِ الْمَطَرِ فِي بَيَاضِهِ وَصَفَائِهِ، وَسُمِّيَ رَجْعًا كَمَا سُمِّيَ إِرْبًا، قَالَ الشَّاعِرُ: ربا شمالا يَأْوِي لِقُلَّتِهَا ... إِلَّا السَّحَابُ وَإِلَّا الْإِرْبُ وَالسَّبَلُ تَسْمِيَةٌ بِمَصْدَرِ آبَ وَرَجَعَ. تَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّ السَّحَابَ يَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ ثُمَّ يُرْجِعُهُ إِلَى الْأَرْضِ إِذَا أَرَادُوا التَّفَاؤُلَ، وَسَمَّوْهُ رجعا وإربا ليرجع ويؤب. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْجِعُهُ وَقْتًا فَوَقْتًا، قَالَتِ الخنساء: كالرجع في الموجنة السَّارِيَهْ وَقِيلَ: الرَّجْعُ: الْمَلَائِكَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِرُجُوعِهِمْ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَقِيلَ: السَّحَابُ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الرَّجْعَ هُوَ الْمَطَرُ، وَالصَّدْعُ: مَا تَتَصَدَّعُ عَنْهُ الْأَرْضُ مِنَ النَّبَاتِ، وَيُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَاتِ الِانْشِقَاقِ: النَّبَاتِ. وَقَالَ أَيْضًا: ذَاتُ الْحَرْثِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّدْعُ: مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ شِقَاقٍ وَلِصَابٍ وَخَنْدَقٍ وَتَشَقُّقٍ بِحَرْثٍ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ أُمُورٌ فِيهَا مُعْتَبَرٌ، وَعَنْهُ أَيْضًا: ذَاتُ الطُّرُقِ تُصَدِّعُهَا الْمُشَاةُ. وَقِيلَ: ذَاتُ الْأَمْوَاتِ لِانْصِدَاعِهَا عَنْهُمْ يَوْمَ النُّشُورِ. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ، قَالُوا عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. فَصْلٌ أَيْ فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَمَا قِيلَ لَهُ فُرْقَانٌ. وَأَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ بِبَعْثِ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَابْتِلَاءِ سَرَائِرِهِ: أَيْ إِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ قَوْلٌ جَزْمٌ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ لَا هَزْلَ فِيهِ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي تَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْبَعْثِ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا هَزْلٌ بَلْ هُوَ جِدٌّ كُلُّهُ. إِنَّهُمْ: أَيِ الْكَافِرُونَ، يَكِيدُونَ: أَيْ فِي إِبْطَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَإِطْفَاءِ نُورِ الْحَقِّ، وَأَكِيدُ: أَيْ أُجَازِيهِمْ عَلَى كَيْدِهِمْ، فَسَمَّى الْجَزَاءَ كَيْدًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «1» ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «2» ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3» . ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً: أَيِ انْتَظِرْ عُقُوبَتَهُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ ذَلِكَ ثُمَّ أَكَّدَ أَمْرَهُ فَقَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً: أَيْ إِمْهَالًا لَمَّا كَرَّرَ الْأَمْرَ تَوْكِيدًا خَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مُطْلَقٌ، وَهَذَا الثَّانِيَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: رُوَيْداً. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَهِّلْهُمْ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَشَدِّ الْهَاءِ مُوَافَقَةً لِلَفْظِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.

_ (1) سُورَةُ آل عمران: 3/ 54. (2) سورة البقرة: 2/ 14. (3) سورة البقرة: 2/ 15.

سورة الأعلى

سورة الأعلى [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) الْغُثَاءُ، مُخَفَّفُ الثَّاءِ وَمُشَدَّدُهَا: مَا يَقْذِفُ بِهِ السَّيْلُ عَلَى جَانِبِ الْوَادِي مِنَ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ وَالْقُمَاشِ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ ظَمِيئَاتِ الْمُخَيْمَرِ غُدْوَةً ... من السيل والغثاء فلك مغرل وَرَوَاهُ الْفَرَّاءُ: وَالْأَغْثَاءِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ جَمْعُ فِعَالٍ عَلَى أَفْعَالٍ. الْحُوَّةُ: سَوَادٌ يَضْرِبُ إِلَى الْخُضْرَةِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: لَمْيَاءُ فِي شفتها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ وَقِيلَ: خُضْرَةٌ عَلَيْهَا سَوَادٌ، وَالْأَحْوَى: الظَّبْيُ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ خَطَّانِ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَفِي الْحَيِّ أَحَوَى يَنْفُضُ الْمَرْدَ شَادِنٌ ... مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ وَفِي الصِّحَاحِ: الْحُوَّةُ: سُمْرَةٌ، وَقَالَ الْأَعْلَمُ: لَوْنٌ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، وَقَالَ أَيْضًا: الشَّدِيدُ الْخُضْرَةِ الَّتِي تَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى، سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ «1» ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَنْ خَلَقَهُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ؟ فَقِيلَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ «2» ، قِيلَ: هُوَ سَنُقْرِئُكَ، أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْفَصْلَ. سَبِّحِ: نَزِّهْ عَنِ النَّقَائِصِ، اسْمَ رَبِّكَ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْزِيهَ يَقَعُ عَلَى الِاسْمِ، أَيْ نَزِّهْهُ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِهِ صَنَمٌ أَوْ وَثَنٌ فَيُقَالَ لَهُ رَبٌّ أَوْ إِلَهٌ، وَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَ بِتَنْزِيهِهِ اللَّفْظَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ أَبْلَغُ، وَتَنْزِيهُ الذَّاتِ أَحْرَى. وَقِيلَ: الِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُسَمَّى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَزِّهْ اسْمَ اللَّهِ عَنْ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا وَأَنْتَ خَاشِعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى صَلِّ بِاسْمِ رَبِّكَ الْأَعْلَى، كَمَا تَقُولُ: ابْدَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» . فَلَمَّا نَزَلَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» . وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَفِي السُّجُودِ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ. قَالُوا: الْأَعْلَى يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرَبِّكَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمٍ فَيَكُونَ مَنْصُوبًا، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْرَبَ الَّذِي خَلَقَ صِفَةٌ لِرَبِّكَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ لِأَنَّهُ قَدْ حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْصُوفِ صِفَةٌ لِغَيْرِهِ. لَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ غُلَامَ هِنْدٍ الْعَاقِلَ الْحَسَنَةِ، لَمْ يَجُزْ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ بِصِفَةِ هِنْدٍ، ثُمَّ تَأْتِيَ بِصِفَةِ الْغُلَامِ فَتَقُولُ: رَأَيْتُ غُلَامَ هِنْدٍ الْحَسَنَةِ الْعَاقِلَ. فَإِنْ لَمْ يُجْعَلِ الَّذِي صِفَةً لِرَبِّكَ، بَلْ تَرْفَعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ تَنْصِبُهُ عَلَى الْمَدْحِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الأعلى صفة لاسم.

_ (1) سورة الطارق: 86/ 5. (2) سورة الطارق: 86/ 13. [.....] (3) سورة الواقعة: 56/ 74.

الَّذِي خَلَقَ: أَيْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَوَّى: أَيْ لَمْ يَأْتِ مُتَفَاوِتًا بَلْ مُتَنَاسِبًا عَلَى إِحْكَامٍ وَإِتْقَانٍ، دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عَالِمٍ حَكِيمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدَّرَ بِشَدِّ الدَّالِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّرَ لِكُلِّ حَيَوَانٍ مَا يُصْلِحُهُ، فَهَدَاهُ إِلَيْهِ وَعَرَّفَهُ وَجْهَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: قَدَرَ مُخَفَّفَ الدَّالِ مِنَ الْقُدْرَةِ أَوْ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالْمُوَازَنَةِ، وَهَدَى عَامٌّ لِجَمِيعِ الْهِدَايَاتِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَهَدَى وَأَضَلَّ، اكْتَفَى بِالْوَاحِدَةِ عَنِ الْأُخْرَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هَدَى الْحَيَوَانَ إِلَى وَطْءِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْبَهَائِمَ لِلْمَرَاتِعِ. وَقِيلَ: هَدَى الْمَوْلُودَ عِنْدَ وَضْعِهِ إِلَى مَصِّ الثَّدْيِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّخْصِيصِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحَوَى صِفَةٌ لِغُثَاءٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى: أَيْ أَسَوْدَ، لِأَنَّ الْغُثَاءَ إِذَا قَدُمَ وَأَصَابَتْهُ الْأَمْطَارُ اسْوَدَّ وَتَعَفَّنَ فَصَارَ أَحَوَى. وَقِيلَ: أَحَوَى حَالٌ مِنَ الْمَرْعَى، أَيْ أَحْرَى الْمَرْعَى أَحَوَى، أَيْ لِلسَّوَادِ مِنْ شِدَّةِ خُضْرَتِهِ وَنَضَارَتِهِ لِكَثْرَةِ رِيِّهِ، وَحَسُنَ تَأْخِيرُ أَحَوَى لِأَجْلِ الفواصل، قال: وغيث من الوسمي حوتلاعه ... تَبَطَّنْتُهُ بِشَيْظَمٍ صَلَتَانِ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، قَالَ الْحَسَنُ وقتادة وَمَالِكٌ: هَذَا فِي مَعْنَى لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ «1» . وَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يُقْرِئَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَنْسَى، وهذه آية لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي أَنَّهُ أُمِّيٌّ، وَحَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ، وَأَمَّنَهُ مِنْ نِسَائِهِ. وَقِيلَ: هَذَا وَعْدٌ بِإِقْرَاءِ السُّوَرِ، وَأَمْرٌ أَنْ لَا يَنْسَى عَلَى مَعْنَى التَّثْبِيتِ وَالتَّأْكِيدِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ إِغْفَالِ التَّعَاهُدِ، وَأُثْبِتَتِ الْأَلِفُ فِي فَلا تَنْسى، وَإِنْ كَانَ مَجْزُومًا بِلَا التي للنهي لتعديل رؤوس الْآيِ. إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مَقْصُودٌ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: مِمَّا قَضَى اللَّهُ نَسْخَهُ، وَأَنْ تَرْتَفِعَ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنْسِيَكَ لِتَسُنَّ بِهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي لَأَنْسَى وَأُنَسَّى لَأَسُنَّ» . وَقِيلَ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْلِبَكَ النِّسْيَانُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُذَكِّرُكَ بِهِ بَعْدُ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حِينَ سَمِعَ قِرَاءَةَ عَبَّادِ بْنِ بَشِيرٍ: «لَقَدْ ذَكَّرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا» . وَقِيلَ: فَلا تَنْسى: أَيْ فَلَا تَتْرُكِ الْعَمَلَ بِهِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَهُ بِنَسْخِهِ إِيَّاهُ، فَهَذَا في نسخ العمل.

_ (1) سورة القيامة: 75/ 16.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءُ صِلَةٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَيْسَ ثَمَّ شَيْءٌ أُبِيحَ اسْتِثْنَاؤُهُ. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: وَقَالَ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَالْغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيَانِ رَأْسًا، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ سَهِيمِي فِيمَا أَمْلِكُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يَقْصِدُ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ، وَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْقِلَّةِ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، انتهى. وقول الفراء والزمخشري يَجْعَلُ الِاسْتِثْنَاءَ كَلَا اسْتِثْنَاءٍ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ بِأَنَّ لَا فِي فَلا تَنْسى لِلنَّهْيِ، وَالْأَلِفُ ثَابِتَةٌ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَمَفْهُومُ الْآيَةِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا فِي فَهْمِهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُقْرِئُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَنْسَاهُ إِمَّا النَّسْخُ، وَإِمَّا أَنْ يَسُنَّ، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يَتَذَكَّرَ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ النِّسْيَانِ فِيمَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ وَقَعَ نِسْيَانٌ، فَيَكُونُ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. وَمُنَاسَبَةُ سَنُقْرِئُكَ لِمَا قَبْلَهُ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ، وَكَانَ التَّسْبِيحُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِقِرَاءَةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَتَذَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى، فَأَزَالَ عَنْهُ ذَلِكَ وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُقْرِئُهُ وَأَنَّهُ لَا يَنْسَى، اسْتَثْنَى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنْسِيَهُ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ: أَيْ جَهْرَكَ بِالْقُرْآنِ، وَما يَخْفى: أَيْ فِي نَفْسِكَ مِنْ خَوْفِ التَّفَلُّتِ، وَقَدْ كَفَاكَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ تَكَفَّلَ بِإِقْرَائِكَ إِيَّاهُ وَإِخْبَارِهِ أَنَّكَ لَا تَنْسَى إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ. وَنُيَسِّرُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنُقْرِئُكَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكِّدَةِ اعْتِرَاضٌ، أَيْ يُوَفِّقُكَ لِلطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ، يَعْنِي فِي حِفْظِ الْوَحْيِ. وَقِيلَ: لِلشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ. وَقِيلَ: يَذْهَبُ بِكَ إِلَى الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ فِي أَمْرِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ مِنَ النَّصْرِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ فِي الْجَنَّةِ. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقْرِئُهُ وَيُيَسِّرُهُ، أَمَرَهُ بِالتَّذْكِيرِ، إِذْ ثَمَرَةُ الْإِقْرَاءِ هِيَ انْتِفَاعُهُ فِي ذَاتِهِ وَانْتِفَاعُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّذْكِيرِ مَشْرُوطٌ بِنَفْعِ الذِّكْرَى، وَهَذَا الشَّرْطُ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ تَوْبِيخًا لِقُرَيْشٍ، أَيْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فِي هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ، وَمَعْنَاهُ اسْتِبْعَادُ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرَى، فَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِفُلَانٍ وَأَعِدْ لَهُ إِنْ سَمِعَكَ فَقَوْلُهُ: إِنْ سَمِعَكَ إِنَّمَا هُوَ تَوْبِيخٌ وَإِعْلَامٌ أَنَّهُ لَنْ يَسْمَعَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ وَالزَّهْرَاوِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ مَعْنَاهُ: وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَاقْتَصِرْ عَلَى الْقِسْمِ الْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الثَّانِي. وَقِيلَ: إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» : أَيْ إِذْ كُنْتُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بكونهم الأعلون إِلَّا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى: أَيْ لَا يَتَذَكَّرُ بِذِكْرَاكَ إِلَّا مَنْ يَخَافُ، فَإِنَّ الْخَوْفَ حَامِلٌ عَلَى النَّظَرِ فِي الَّذِي يُنْجِيهِ مِمَّا يَخَافُهُ، فَإِذَا نَظَرَ فَأَدَّاهُ النَّظَرُ وَالتَّذَكُّرُ إِلَى الْحَقِّ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ مَا وُفِّقَ لَهُ. يَتَجَنَّبُهَا : أي الذي، َْشْقَى : أَيِ الْمُبَالِغُ فِي الشَّقَاوَةِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَشْقَى الْكُفَّارِ، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ هُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ آمَنَ بِرَسُولٍ قَبْلَهُ. ثُمَّ وصفه بما يؤول إِلَيْهِ حَالُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ صَلْيُ النَّارِ وَوَصَفَهَا بِالْكُبْرَى. قَالَ الْحَسَنُ: النَّارُ الْكُبْرَى: نَارُ الْآخِرَةِ، وَالصُّغْرَى: نَارُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكُبْرَى: السُّفْلَى مِنْ أَطْبَاقِ النَّارِ. وَقِيلَ: نَارُ الْآخِرَةِ تَتَفَاضَلُ، فَفِيهَا شَيْءٌ أَكْبَرُ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ لَا يَمُوتُ: فيستريح، وَلا يَحْيى حَيَاةً هَنِيئَةً وَجِيءَ بِثُمَّ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرَاخِي إِيذَانًا بِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الشِّدَّةِ، لِأَنَّ التَّرَدُّدَ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ أَشَدُّ وَأَفْظَعُ مِنَ الصَّلْيِ بِالنَّارِ. قَدْ أَفْلَحَ: أَيْ فَازَ وَظَفِرَ بِالْبُغْيَةِ، مَنْ تَزَكَّى: تَطَهَّرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ: مَنْ رَضَخَ مِنْ مَالِهِ وَزَكَّاهُ. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ: أَيْ وَحَّدَهُ، لَمْ يَقْرِنْهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَنْدَادِ، فَصَلَّى: أَيْ أَتَى الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَمَا أَمْكَنَهُ مِنَ النَّوَافِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ آمَنَ بِاللَّهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَفْلَحَ مَنْ أَتَى بِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ عَلَى وُجُوبِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَعَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ: أَيْ مَعَادَهُ وَمَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، فَصَلَّى لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ تُؤْثِرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ يُؤْثِرُهَا الْبَرُّ لِاقْتِنَاءِ الثَّوَابِ، وَالْفَاجِرُ لِرَغْبَتِهِ فِيهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو عَمْرٍو وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. إِنَّ هَذَا: أَيِ الْإِخْبَارَ بِإِفْلَاحِ مَنْ تَزَكَّى وَإِيثَارِ النَّاسِ لِلدُّنْيَا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَيُرَجَّحُ بِقُرْبِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِلَى مَعَانِي السُّورَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى قَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى.

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 139.

لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، لَمْ يُنْسَخْ إِفْلَاحُ مَنْ تَزَكَّى، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى فِي شَرْعٍ مِنَ الشَّرَائِعِ. فَهُوَ فِي الْأُولَى وَفِي آخِرِ الشَّرَائِعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الصُّحُفِ بِضَمِّ الْحَاءِ كَالْحَرْفِ الثَّانِي والأعمش وهرون وَعِصْمَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِسُكُونِهَا وَفِي كِتَابِ اللوامح العبقلي عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الصُّحْفِ صُحْفِ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ فِيهِمَا، لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِبْرَاهِيمُ بِأَلِفٍ وَبِيَاءِ وَالْهَاءُ مَكْسُورَةٌ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِحَذْفِهِمَا وَالْهَاءُ مَفْتُوحَةٌ مَكْسُورَةٌ مَعًا وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: أَبْرَاهَامَ بِأَلِفٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: إِبْرَاهَمَ بِأَلِفٍ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَبِغَيْرِ يَاءٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ: إبراهيم بِكَسْرِ الْهَاءِ وَبِغَيْرِ يَاءٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَقَدْ جَاءَ إبراهم، يَعْنِي بِأَلِفٍ وَضَمِّ الْهَاءِ. وَتَقَدَّمَ فِي وَالنَّجْمِ الْكَلَامُ عَلَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

سورة الغاشية

سورة الغاشية [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى نَارًا حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) الضَّرِيعُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَظُنُّهُ صَاحِبَ النَّبَاتِ، الضَّرِيعُ: الشِّبْرِقُ، وَهُوَ مَرْعَى سُوءٍ لَا تَعْقِدُ السَّائِمَةُ عَلَيْهِ شَحْمًا وَلَا لَحْمًا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَزَارَةَ الْهُذَلِيِّ: وَحُبِسْنَ فِي هَزَمِ الضَّرِيعِ فَكُلُّهَا ... حَدْبَاءُ دَامِيَةُ الْيَدَيْنِ حَرُودُ وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: رَعَى الشِّبْرِقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إِذَا ذَوَى ... وَصَارَ ضَرِيعًا بَانَ عَنْهُ النَّحَائِصُ

وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: يَبِيسُ الْعَرْفَجِ إِذَا تَحَطَّمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ نَبْتٌ كَالْعَوْسَجِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: نَبْتٌ أَخْضَرُ مُنْتِنُ الرِّيحِ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ. النَّمَارِقُ: الْوَسَائِدُ، وَاحِدُهَا نُمْرُقَةٌ بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ وَبِكَسْرِهِمَا. وَقَالَ زُهَيْرٌ: كُهُولًا وَشُبَّانًا حِسَانًا وُجُوهُهُمْ ... عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَنَمَارِقِ الزَّرَابِيُّ: بُسُطٌ عِرَاضٌ فَاخِرَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ الطَّنَافِسُ الْمُخَمَّلَةُ، وواحدها زريبة بِكَسْرِ الزَّايِ وَبِفَتْحِهَا. سُطِحَتِ الْأَرْضُ: بُسِطَتْ وَوُطِئَتْ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، تَصْلى نَارًا حامِيَةً، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً، فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ، فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ. هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا فَذَكِّرْ «1» ، وَذَكَرَ النَّارَ وَالْآخِرَةَ، قَالَ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ. وَالْغَاشِيَةُ: الدَّاهِيَةُ الَّتِي تَغْشَى النَّاسَ بِشَدَائِدِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ سُفْيَانُ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: النَّارُ، قَالَ تَعَالَى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ «2» . وَقَالَ: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «3» ، فَهِيَ تَغْشَى سُكَّانَهَا. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٌ، وَفَائِدَتُهُ تَحْرِيكُ نَفْسِ السَّامِعِ إِلَى تَلَقِّي الْخَبَرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى هَلْ كَانَ هَذَا مِنْ عملك لَوْلَا مَا عَلَّمْنَاكَ؟ وَفِي هَذَا تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: هَلْ بِمَعْنَى قَدْ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ إِذْ غُشِيَتْ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ عِوَضًا مِنْهَا، لَكِنْ لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْغَاشِيَةِ، وَأَلْ مَوْصُولَةٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَتَنْحَلُّ لِلَّتِي غَشِيَتْ، أَيْ لِلدَّاهِيَةِ الَّتِي غَشِيَتْ. فَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي انْحَلَّ لَفْظُ الْغَاشِيَةِ إِلَيْهَا، وَإِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ الَّتِي. خاشِعَةٌ: ذَلِيلَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ

_ (1) سورة الأعلى: 87/ 9. (2) سورة إبراهيم: 14/ 50. (3) سورة الأعراف: 7/ 41.

وابن جبير وقتادة: عامِلَةٌ فِي النَّارِ، ناصِبَةٌ تَعِبَةٌ فِيهَا لِأَنَّهَا تَكَبَّرَتْ عَنِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا. قِيلَ. وَعَمَلُهَا فِي النَّارِ جَرُّ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَخَوْضُهَا فِي النَّارِ كَمَا تَخُوضُ الْإِبِلُ فِي الْوَحْلِ، وَارْتِقَاؤُهَا دَائِبَةً فِي صُعُودِ نَارٍ وَهُبُوطُهَا فِي حُدُورٍ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جُبَيْرٍ: عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا نَاصِبَةٌ فِيهَا لِأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ هُدًى، فَلَا ثَمَرَةَ لَهَا إِلَّا النَّصَبُ وَخَاتِمَتُهُ النَّارُ وَالْآيَةُ فِي الْقِسِّيسِينَ وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَكُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي كُفْرِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: عَامِلَةً نَاصِبَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الذَّمِّ، وَالْجُمْهُورُ بِرَفْعِهِمَا. وَقَرَأَ: تَصْلى بِفَتْحِ التَّاءِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْأَبَوَانِ: بِضَمِّهَا وَخَارِجَةُ: بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ مُشَدِّدَ اللَّامِ، وَقَدْ حَكَاهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ حامِيَةً: مُسَعَّرَةً آنِيَةً قَدِ انْتَهَى حَرُّهَا، كَقَوْلِهِ: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «1» ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ ومجاهد. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَاضِرَةٌ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: آنَى الشَّيْءُ حَضَرَ. وَالضَّرِيعُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَجَرٌ مِنْ نَارٍ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَجَمَاعَةٌ الزَّقُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: حِجَارَةٌ مِنْ نَارٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وقتادة وعكرمة ومجاهد: شِبْرِقُ النَّارِ. وَقِيلَ: الْعَبَشْرَقُ. وَقِيلَ: رَطْبُ الْعَرْفَجِ، وَتَقَدَّمَ مَا قِيلَ فِيهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَالضَّرِيعُ، إِنْ كَانَ الْغِسْلِينَ وَالزَّقُّومَ، فَظَاهِرٌ وَلَا يَتَنَافَى الْحَصْرُ فِي إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «2» ، وإِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. وَإِنْ كَانَتْ أَغْيَارًا مُخْتَلِفَةً، وَالْجَمْعُ بِأَنَّ الزَّقُّومَ لِطَائِفَةٍ، وَالْغِسْلِينَ لِطَائِفَةٍ، وَالضَّرِيعَ لِطَائِفَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يُسْمِنُ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ أو مجروره على وصف طَعَامٍ أَوْ ضَرِيعٍ، يَعْنِي أَنَّ طَعَامَهُمْ مِنْ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ مَطَاعِمِ الْإِنْسِ وَإِنَّمَا هُوَ شَوْكٌ، وَالشَّوْكُ مما ترعاه الإبل وتتولع بِهِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ تَنْفِرُ عَنْهُ وَلَا تَقْرَبُهُ، وَمَنْفَعَتَا الْغِذَاءِ مُنْتَفِيَتَانِ عَنْهُ، وَهُمَا إِمَاطَةُ الْجُوعِ وَإِفَادَةُ الْقُوَّةِ، وَالسِّمَنُ فِي الْبَدَنِ، انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ أو مجروره على وصف طَعَامٍ أَوْ ضَرِيعٍ. أَمَّا جَرُّهُ عَلَى وَصْفِهِ لِضَرِيعٍ فَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ مَنْفِيٌّ عَنْهُ السِّمَنُ وَالْإِغْنَاءُ مِنَ الْجُوعِ. وَأَمَّا رَفْعُهُ عَلَى وَصْفِهِ لِطَعَامٍ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الطَّعَامَ مَنْفِيٌّ وَلَا يُسْمِنُ، مَنْفِيٌّ فَلَا يَصِحُّ تَرْكِيبُهُ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّ لَهُمْ طَعَامًا يُسْمِنُ وَيُغْنِي مِنْ جُوعٍ مِنْ غَيْرِ ضَرِيعٍ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ لِزَيْدٍ مَالٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَّا مِنْ مَالِ عَمْرٍو، فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ مَالًا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَالِ عَمْرٍو. وَلَوْ قِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةً لِلْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ فِي إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ كَانَ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنِ اسْمِ لَيْسَ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا كائن

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 44. (2) سورة الحاقة: 69/ 36.

مِنْ ضَرِيعٍ، إِذِ الْإِطْعَامُ مِنْ ضَرِيعٍ غَيْرُ مُسْمِنٍ وَلَا مُغْنٍ مِنْ جُوعٍ، وَهَذَا تَرْكِيبٌ صَحِيحٌ وَمَعْنًى وَاضِحٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أُرِيدَ أَنْ لَا طَعَامَ لَهُمْ أَصْلًا، لِأَنَّ الضَّرِيعَ لَيْسَ بِطَعَامٍ لِلْبَهَائِمِ فَضْلًا عَنِ الْإِنْسِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ مَا أَشْبَعَ وَأَسْمَنَ، وَهُوَ مِنْهُمَا بِمَعْزِلٍ. كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ لِفُلَانٍ ظِلٌّ إِلَّا الشَّمْسُ، تُرِيدُ نَفْيَ الظِّلِّ عَلَى التَّوْكِيدِ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، إِذْ لَمْ يَنْدَرِجِ الْكَائِنُ مِنَ الضَّرِيعِ تَحْتَ لَفْظَةِ طَعَامٍ، إِذْ لَيْسَ بِطَعَامٍ. وَالظَّاهِرُ الِاتِّصَالُ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «1» ، لِأَنَّ الطَّعَامَ هُوَ مَا يَتَطَعَّمُهُ الْإِنْسَانُ، وَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُسْتَلَذِّ وَالْمَكْرُوهِ وَمَا لَا يُسْتَلَذُّ وَلَا يُسْتَكْرَهُ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ: صَحَّ الِابْتِدَاءُ فِي هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ بِالنَّكِرَةِ لِوُجُودِ مُسَوِّغِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّفْصِيلُ، نَاعِمَةٌ لِحُسْنِهَا وَنَضَارَتِهَا أَوْ مُتَنَعِّمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ: أَيْ لِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ، رَاضِيَةٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ جَزَاؤُهُ الْجَنَّةُ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ: أَيْ مَكَانًا وَمَكَانَةً. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُمْ. لَا تَسْمَعُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لاغِيَةً: رُفِعَ، أَيْ كَلِمَةٌ لَاغِيَةٌ، أَوْ جَمَاعَةٌ لَاغِيَةٌ، أَوْ لَغْوٌ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا كَالْعَاقِبَةِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، الثَّالِثُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعِيسَى وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو كَذَلِكَ، إلا أنهم قرأوا بِالْيَاءِ لِمَجَازِ التَّأْنِيثِ، وَالْفَضْلُ وَالْجَحْدَرِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ لَاغِيَةً عَلَى مَعْنَى لَا يَسْمَعُ فِيهَا، أَيْ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِكَ: أَسْمَعْتُ زَيْدًا وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو جعفر وقتادة وَابْنُ سِيرِينَ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ خَارِجَةٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: لَا تَسْمَعُ بِتَاءِ الْخِطَابِ عُمُومًا، أَوْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوِ الْفَاعِلُ الْوُجُودُ. لَاغِيَةً: بِالنَّصْبِ، فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ: عَيْنٌ اسْمُ جِنْسٍ، أَيْ عُيُونٌ، أَوْ مَخْصُوصَةٌ ذُكِرَتْ تَشْرِيفًا لَهَا. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ: مِنْ رِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ أَوْ رِفْعَةِ الْمَكَانِ لِيَرَى مَا خَوَّلَهُ رَبُّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالنَّعِيمِ، أَوْ مَخْبُوءَةٌ مِنْ رَفَعْتُ لَكَ هَذَا، أَيْ خَبَّأْتُهُ. وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ: أَيْ بِأَشْرِبَتِهَا مُعَدَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى مالىء، أَوْ مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أَوْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى حَافَّاتِ الْعُيُونِ. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ: أَيْ وَسَائِدُ صُفَّ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ لِلِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا وَالِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ: مُتَفَرِّقَةٌ هُنَا وَهُنَا فِي الْمَجَالِسِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَانْقِسَامَ أَهْلِهَا إِلَى أَشْقِيَاءَ وَسُعَدَاءَ، وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ هَذِهِ الدَّلَائِلَ، وَذِكْرِ مَا الْعَرَبُ مُشَاهِدُوهُ وَمُلَابِسُوهُ دَائِمًا فَقَالَ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وهي الجمال،

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 36.

فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا مَا تَفَرَّقَ مِنَ الْمَنَافِعِ فِي غَيْرِهَا، مِنْ أَكْلِ لَحْمِهَا، وَشُرْبِ لَبَنِهَا، وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَالتَّنَقُّلِ عَلَيْهَا إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَعَيْشِهَا بِأَيِّ نَبَاتٍ أَكْلَتْهُ، وَصَبْرِهَا عَلَى الْعَطَشِ حَتَّى إِنَّ فِيهَا مَا يَرِدُ الْمَاءَ لِعَشْرٍ، وَطَوَاعِيَتِهَا لِمَنْ يَقُودُهَا، وَنَهْضَتِهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ بِالْأَحْمَالِ الثِّقَالِ، وَكَثْرَةِ حنينها، وَتَأَثُّرِهَا بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ عَلَى غِلَظِ أَكْبَادِهَا، وَهِيَ لَا شيء من الحيوان جميع هَذِهِ الْخِصَالَ غَيْرُهَا. وَقَدْ أَبَانَ تَعَالَى امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً «1» ، الْآيَاتِ. وَلِكَوْنِهَا أفضل ما عند الغرب، جَعَلُوهَا دِيَةَ الْقَتْلِ، وَوَهَبُوا الْمِائَةَ مِنْهَا مَنْ يَقْصِدُهُمْ وَمَنْ أَرَادُوا إِكْرَامَهُ، وَذَكَرَهَا الشُّعَرَاءُ فِي مَدْحِ مَنْ وَهَبَهَا، كَمَا قَالَ: أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ تَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ وَقَالَ آخَرُ: الْوَاهِبُ الْمِائَةَ الْهِجَانَ بِرُمَّتِهَا وَنَاسَبَ التَّنْبِيهَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا حَوَتْ مِنْ عَجَائِبِ الصِّفَاتِ، مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ لِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَظَرِ الْعَرَبِ فِي أَوْدِيَتِهِمْ وَبَوَادِيهِمْ، وَلِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْجُودَاتِهِ، كَمَا قِيلَ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْمُبَرِّدُ: الْإِبِلُ هُنَا السَّحَابُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُسَمِّيهَا بِذَلِكَ، إِذْ تَأْتِي أَرْسَالًا كَالْإِبِلِ، وَتُزْجَى كَمَا تُزْجَى الْإِبِلُ، وَهِيَ فِي هَيْئَتِهَا أَحْيَانًا تُشْبِهُ الْإِبِلَ وَالنَّعَامَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كَأَنَّ السَّحَابَ ذَوَيْنَ السماء ... نَعَامٌ تَعَلَّقَ بِالْأَجَلِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمْ يَدْعُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِبِلَ السَّحَابُ إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا طَلَبُ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِبِلَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّحَابِ، كَالْغَمَامِ وَالْمُزْنِ وَالرَّبَابِ وَالْغَيْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَى السَّحَابَ مُشَبَّهًا بِالْإِبِلِ كَثِيرًا فِي أَشْعَارِهِمْ، فَجَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهَا السَّحَابُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ وَالْمَجَازِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْإِبِلِ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ

_ (1) سورة يس: 36/ 171.

وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِشَدِّ اللَّامِ. وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَأَبِي جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيِّ وَقَالُوا: إِنَّهَا السَّحَابُ، عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَصَّ الْإِبِلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّوَى وَالْقَتَّ وَتُخْرِجُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ لَهُ: الْفِيلُ أَعْظَمُ فِي الْأُعْجُوبَةِ، وَقَالَ الْعَرَبُ: بَعِيدَةُ الْعَهْدِ بِالْفِيلِ، ثُمَّ هُوَ خِنْزِيرٌ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُرْكَبُ ظَهْرُهُ وَلَا يُحْلَبُ دَرُّهُ. وَالْإِبِلُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَلِذَلِكَ إِذَا صُغِّرَ دَخَلَتْهُ التَّاءُ فَقَالُوا: أُبَيْلَةٌ، وَقَالُوا فِي الْجَمْعِ: آبَالٌ. وَقَدِ اشْتَقُّوا مِنْ لَفْظِهِ فَقَالُوا: تَأَبَّلَ الرَّجُلُ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا الْفِعْلِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فَقَالُوا: مَا آبَلَ زَيْدًا. وَإِبْلٌ اسْمٌ جَاءَ عَلَى فِعْلٍ، وَلَمْ يَحْفَظْ سِيبَوَيْهِ مِمَّا جَاءَ عَلَى هذا الوزن غيره. وكيف خُلِقَتْ: جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنِ الْإِبِلِ، وَيَنْظُرُونَ: تَعَدَّى إِلَى الْإِبِلِ بِوَاسِطَةِ إِلَى، وَإِلَى كَيْفَ خُلِقَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيقِ، وَقَدْ تُبْدَلُ الْجُمْلَةُ وَفِيهَا الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهَا كَقَوْلِهِمْ: عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ أَدْخَلَتْ إِلَى عَلَى كَيْفَ، فَحَكَى أَنَّهُمْ قَالُوا: انْظُرْ إِلَى كَيْفَ يَصْنَعُ. وَكَيْفَ سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ وَالْعَامِلُ فِيهَا خُلِقَتْ، وَإِذَا عُلِّقَ الْفِعْلُ عَنْ مَا فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ، لَمْ يَبْقَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالتَّذْكِرَةِ وَفِي غَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خُلِقَتْ: رُفِعَتْ، نُصِبَتْ سُطِحَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعَلِيٌّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ خَلَقْتُهَا، رَفَعْتُهَا، نَصَبْتُهَا رُفِعَتْ رَفْعًا بَعِيدَ الْمَدَى بِلَا عَمَدٍ، نُصِبَتْ نَصْبًا ثَابِتًا لَا تَمِيلُ وَلَا تَزُولُ سُطِحَتْ سَطْحًا حَتَّى صَارَتْ كَالْمِهَادِ لِلْمُتَقَلِّبِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُطِحَتْ خَفِيفَةَ الطَّاءِ وَالْحَسَنُ وَهَارُونُ: بِشَدِّهَا. وَلَمَّا حَضَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ، أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بِتَذْكِيرِهِمْ فَقَالَ: فَذَكِّرْ وَلَا يَهُمَّنَّكَ كَوْنُهُمْ لَا يَنْظُرُونَ. إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «1» . لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ: أَيْ بِمُسَلَّطٍ، كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ «2» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالصَّادِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ، وَنُطَيْقٌ عَنْ قُنْبُلٍ، وَزَرْعَانُ عَنْ حَفْصٍ: بِالسِّينِ وَحَمْزَةُ فِي رِوَايَةٍ: بِإِشْمَامِ الزَّايِ وَهَارُونُ: بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَسَيْطَرَ مُتَعَدٍّ عِنْدَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ وَهُوَ تَسَطَّرَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ إِلَّا مُسَيْطِرٌ وَمُهَيْمِنٌ وَمُبَيْطِرٌ وَمُبَيْقِرٌ، وَهِيَ أَسْمَاءُ فَاعِلِينَ مِنْ سَيْطَرَ وَهَيْمَنَ وَبَيْطَرَ. وَجَاءَ مُجَيْمِرٌ اسْمُ وَادٍ وَمُدَيْبِرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُمَا مُدَبِّرٌ وَمُجَمِّرٌ فَصُغِّرَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ فَقِيلَ مُتَّصِلٌ، أَيْ فَأَنْتَ مُسَيْطِرٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مُتَّصِلٌ مِنْ فَذَكِّرْ،

_ (1) سورة الشورى: 42/ 48. (2) سورة ق: 50/ 45.

أَيْ فَذَكِّرْ إِلَّا مَنِ انْقَطَعَ طَمَعُكَ مِنْ إِيمَانِهِ وَتَوَلَّى فَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَقِيلَ: مُنْقَطِعٌ، وَهِيَ آيَةُ مُوَادَعَةٍ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَلَا حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَاسْتِفْتَاحٍ، وَالْعَذَابُ الْأَكْبَرُ هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِيابَهُمْ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَصْدَرُ آبَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ: بشدّها مصدرا لفعيل من آب عَلَى وَزْنِ فِيعَالٍ، أَوْ مَصْدَرًا كَفَوْعَلَ كَحَوْقَلَ عَلَى وَزْنِ فِيعَالٍ أَيْضًا كَحِيقَالٍ، أو مصدر الفعول كَجَهُورٍ عَلَى وَزْنِ فَعْوَالٍ كَجَهْوَارٍ فَأَصْلُهُ أَوْوَابٍ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَاجْتَمَعَ فِي هَذَا الْبِنَاءِ وَالْبِنَاءَيْنِ قَبْلَهُ وَاوٌ وَيَاءٌ، وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَ وَلَمْ يَمْنَعِ الْإِدْغَامُ مِنَ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْوَاوَ وَالْيَاءَ لَيْسَتَا عَيْنَيْنِ مِنِ الْفِعْلِ، بَلِ الْيَاءُ فِي فَيْعَلَ وَالْوَاوُ فِي فَعُولٍ زَائِدَتَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَكُونُ أَصْلُهُ إِوَّابًا مَصْدَرَ أَوَّبَ، نَحْوَ كَذَّبَ كِذَّابًا، ثُمَّ قيل إوابا فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَدِيوَانٍ فِي دِوَّانٍ، ثُمَّ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِسَيِّدٍ، يَعْنِي أَنَّهُ اجْتَمَعَ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْوَاوِ، فَأَمَّا كَوْنُهُ مَصْدَرَ أَوَّبَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاوَ الْأُولَى إِذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى الْإِدْغَامِ وَجَاءَ مَا قَبْلَهَا مَكْسُورًا فَلَا تُقْلَبُ الْوَاوُ الْأُولَى يَاءً لِأَجْلِ الْكَسْرَةِ، وَمَثَّلُوا بِاخْرِوَّاطٍ مَصْدَرِ اخْرَوَّطَ، وَمَثَّلُوا أَيْضًا بِمَصْدَرِ أَوَّبَ نَحْوَ أَوَّبَ إِوَّابًا، فَهَذِهِ وُضِعَتْ عَلَى الْإِدْغَامِ، فَحَصَّنَهَا مِنِ الْإِبْدَالِ وَلَمْ تَتَأَثَّرْ لِلْكَسْرِ. وَأَمَّا تَشْبِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِدِيوَانٍ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا بِهَا فِي الْوَضْعِ مُدْغَمَةً، فَلَمْ يَقُولُوا دِوَّانٌ، وَلَوْلَا الْجَمْعُ عَلَى دَوَاوِينَ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْيَاءِ وَاوٌ، وَأَيْضًا فَنَصُّوا عَلَى شُذُوذِ دِيوَانٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَأْوَبَ، فَيَجِيءُ إِيوَابًا، سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ، وَكَانَ اللازم في الإدغام يردها إِوَّابًا، لَكِنِ اسْتُحْسِنَتْ فِيهِ الْيَاءُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: وَكَانَ اللَّازِمُ فِي الْإِدْغَامِ بِرَدِّهَا إِوَّابًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ اللَّازِمُ إِذَا اعْتُبِرَ الْإِدْغَامُ أَنْ يَكُونَ إِيَّابًا، لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَهِيَ الْمُبْدَلَةُ مِنَ الْهَمْزَةِ بِالتَّسْهِيلِ. وَوَاوٌ وَهِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَإِحْدَاهُمَا سَاكِنَةٌ، فَتُقْلَبُ الْوَاوُ يَاءً وَتُدْغَمُ فِيهَا الْيَاءُ فَيَصِيرُ إِيَّابًا. وَلَمَّا كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، قَالَ مَعْنَاهُ: أَنَّ إِيَابَهُمْ لَيْسَ إِلَّا إِلَى الْجَبَّارِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَأَنَّ حِسَابَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِلَّا عَلَيْهِ تَعَالَى، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَمَعْنَى الْوُجُوبِ: الْوُجُوبُ فِي الْحِكْمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة الفجر

سورة الفجر [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الْحِجْرُ: الْعَقْلُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: إِنَّهُ لَذُو حِجْرٍ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ حَافِظًا

لَهَا، كَأَنَّهُ مَنْ حَجَرْتُ عَلَى الرَّجُلِ، إِرَمُ: أُمَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَقِيلَ: اسْمُ أَبِي عَادٍ كُلِّهَا، وَهُوَ عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: مَدِينَةٌ، وَعَلَى أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: وَآخَرِينَ تَرَى الْمَاذِيَّ عُدَّتَهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ أَوْ مَا أَوْرَثَتْ إِرَمُ وَقَالَ الرُّقَيَّاتُ: مَجْدًا تَلِيدًا بَنَاهُ أَوَّلُهُ ... أَدْرَكَ عادا وقبله إرم جَابَ: خَرَقَ وَقَطَعَ، تَقُولُ جُبْتُ الْبِلَادَ أَجُوبُهَا، إِذَا قَطَعْتَهَا وَجَاوَزْتَهَا، قَالَ: وَلَا رَأَيْتُ قَلُوصًا قَبْلَهَا حَمَلَتْ ... سِتِّينَ وَسْقًا وَلَا جَابَتْ بِهَا بَلَدَا السَّوْطُ: آلَةٌ لِلضَّرْبِ مَعْرُوفَةٌ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ سَاطَ يَسُوطُ إِذَا اخْتَلَطَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: سَاطَهُ إِذَا خَلَطَهُ بِالسَّوْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَحَارِثُ أَنَّا لَوْ تُسَاطُ دِمَاؤُنَا ... تَزَايَلْنَ حَتَّى لَا يَمَسَّ دَمٌ دَمَا وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ أَمْوَالُهُمْ سَوِيطَةٌ بَيْنَهُمْ: أَيْ مختلطة اللحم الْجَمْعُ وَاللَّفُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَمَمْتُ مَا عَلَى الْخِوَانِ، إِذَا أَكَلْتَ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ بِأَسْرِهِ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: إِذَا كَانَ لَمًّا يُتْبِعُ الذَّمَّ رَبَّهُ ... فَلَا قَدَّسَ الرَّحْمَنُ تِلْكَ الطَّوَاحِنَا وَمِنْهُ: لَمَمْتُ الشَّعَثَ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَلَسْتَ بِمُسْتَبِقٍ أَخًا لَا تَلُمُّهُ ... عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ الْجَمُّ: الْكَبِيرُ. وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ، هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ، فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ، كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا، كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا

صَفًّا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي، فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: مَدَنِيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ «1» ، ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ «2» ، أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الطَّوَائِفِ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُتَجَبِّرِينَ الَّذِينَ وُجُوهُهُمْ خَاشِعَةٌ، وَأَشَارَ إِلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ الَّذِينَ وجوههم ناعمة بقوله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ «3» ، قَالَ هُنَا: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ، تَهْدِيدًا لِمَنْ كَفَرَ وَتَوَلَّى. وَقَرَأَ أَبُو الدِّينَارِ الْأَعْرَابِيُّ: وَالْفَجْرٍ، وَالْوَتْرٍ، وَيَسْرٍ بِالتَّنْوِينِ فِي الثَّلَاثَةِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: هَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ إِنَّهُ وَقَفَ عَلَى آخِرِ الْقَوَافِي بِالتَّنْوِينِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَقَلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابًا ... وَقَوْلِي إِنْ أَصَبْتِ لَقَدْ أَصَابًا انْتَهَى. وَهَذَا ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ فِي الْقَوَافِي الْمُطْلَقَةِ إِذَا لَمْ يَتَرَنَّمِ الشَّاعِرُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ لِلْعَرَبِ إِذَا وَقَفُوا عَلَى الْكَلِمِ فِي الْكَلَامِ لَا فِي الشِّعْرِ، وَهَذَا الْأَعْرَابِيُّ أَجْرَى الْفَوَاصِلَ مُجْرَى الْقَوَافِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ بِالتَّنْوِينِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْإِضَافَةِ، فَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ. وَلَيالٍ عَشْرٍ بِلَامٍ دُونَ يَاءٍ، وَبَعْضُهُمْ وَلَيَالِي عَشْرٍ بِالْيَاءِ، وَيُرِيدُ: وَلَيَالِي أَيَّامٍ عَشْرٍ. وَلَمَّا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ الْمَعْدُودُ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، جَاءَ فِي عَدَدِهِ حَذْفُ التَّاءِ مِنْ عَشْرٍ. وَالْجُمْهُورُ: وَالْوَتْرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَالْأَغَرُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَقَتَادَةُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَالْأَخَوَانِ: بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَاللُّغَتَانِ فِي الْفَرْدِ، فَأَمَّا فِي الرَّحْلِ فَالْكَسْرُ لَا غَيْرَ. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: فِيهِ اللغتين وَيُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ التَّاءِ. وَالْجُمْهُورُ: يَسْرِ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا وَابْنُ كَثِيرٍ: بِإِثْبَاتِهَا فِيهِمَا وَنَافِعٌ وَابْنُ عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِيَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ الْفَجْرَ هُوَ الْمَشْهُورُ، أَقْسَمَ بِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِالصُّبْحِ ، وَيُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، لَا فَجْرَ يَوْمٍ مَخْصُوصٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ مِنْ يَوْمِ النحر وعكرمة: من يوم الجمعة

_ (1) سورة الغاشية: 88/ 2. (2) سورة الغاشية: 88/ 8. [.....] (3) سورة الغاشية: 88/ 23.

وَالضَّحَّاكُ: مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَمُقَاتِلٌ: مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْفَجْرُ: النَّهَارُ كُلُّهُ وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْفَجْرُ هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقُرْآنُهَا هُوَ قُرْآنُ الْفَجْرِ. وَقِيلَ: فَجْرُ الْعُيُونِ مِنَ الصُّخُورِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ ابن الزبير والكلبي وقتادة ومجاهد وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْأَوَّلُ مِنْهُ وَيَمَانٌ وَجَمَاعَةٌ: الْأَوَّلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَمِنْهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ: وَعَشْرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي أَتَمَّهَا اللَّهُ تَعَالَى. قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ، يَعْنِي مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ، فَتَعْظِيمُهُ مُنَاسِبٌ لِتَعْظِيمِ الْقَسَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَرَادَ بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا بَالُهَا مُنَكَّرَةً مِنْ بَيْنِ مَا أَقْسَمَ بِهِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهَا لَيَالٍ مَخْصُوصَةٌ مِنْ بَيْنِ جِنْسِ اللَّيَالِي الْعَشْرُ، بَعْضٌ مِنْهَا أَوْ مَخْصُوصَةٌ بِفَضِيلَةٍ لَيْسَتْ لغيرها. فإن قلت: فهل لا عُرِّفَتْ بِلَامِ الْعَهْدِ لِأَنَّهَا لَيَالٍ مَعْلُومَةٌ مَعْهُودَةٌ؟ قُلْتُ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَسْتَقِلَّ بِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ الَّذِي فِي التَّنْكِيرِ، وَلِأَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ تَكُونَ اللَّامَاتُ مُتَجَانِسَةً لِيَكُونَ الْكَلَامُ أَبْعَدَ مِنَ الْإِلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ، انْتَهَى. أَمَّا السُّؤَالَانِ فَظَاهِرَانِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْهُمَا فَلَفْظٌ مُلَفَّقٌ لَا يُعْقَلُ مِنْهُ مَعْنًى فَيُقْبَلُ أَوْ يُرَدُّ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: ذَكَرَ فِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ فِيهَا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ قَوْلًا ضَجِرْنَا مِنْ قِرَاءَتِهَا فَضْلًا عَنْ كِتَابَتِهَا فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَعَنْ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ الصَّلَوَاتُ، مِنْهَا الشَّفْعُ وَمِنْهَا الْوَتْرُ» . وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّفْعُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرُ: لَيْلَةُ النَّحْرِ» . وَرَوَى جَابِرٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّفْعُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْوَتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفَجْرَ بِالصُّبْحِ وَاللَّيَالِيَ الْعَشْرَ بِعَشْرِ النَّحْرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ حَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَوْمُ عَرَفَةَ وَتْرٌ لِأَنَّهُ تَاسِعُهَا، وَيَوْمُ النَّحْرِ شَفْعٌ لِأَنَّهُ عَاشِرُهَا» . وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتَرِ أربعة عشر قولا، والزمخشري ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَكْثَرُوا فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ حَتَّى كَادُوا يَسْتَوْعِبُونَ أَجْنَاسَ مَا يَقَعَانِ فِيهِ، وَذَلِكَ قَلِيلُ الطَّائِلِ جَدِيرٌ بِالتَّلَهِّي عَنْهُ، انْتَهَى. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ: قَسَمٌ بِجِنْسِ اللَّيْلِ، وَيَسْرِي: يَذْهَبُ وَيَنْقَرِضُ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ

إِذْ أَدْبَرَ «1» . وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: يَسْرِي فِيهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ لَيْلُكَ نائم. وقال مجاهد وعكرمة وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ لَيْلَةُ جَمْعٍ لِأَنَّهُ يَسْرِي فِيهَا، وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ لَنُعَذِّبَنَّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِهِ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْجَوَابُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ «2» ، وَتَقْدِيرُهُ: لَإِيَابُهُمْ إِلَيْنَا وَحِسَابُهُمْ عَلَيْنَا. وَقَوْلُ مُقَاتِلٍ: هَلْ هُنَا فِي مَوْضِعٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ قَسَمًا لِذِي حِجْرٍ. فَهَلْ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ جَوَابِ الْقَسَمِ، قَوْلٌ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ تَأَمُّلٍ، لِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ إِنَّ فِي ذَلِكَ قَسَمًا لِذِي حِجْرٍ لَمْ يُذْكَرْ، فَيَبْقَى قَسَمٌ بِلَا مُقْسَمٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي قَدَّرَهُ مِنْ أَنَّ فِي ذَلِكَ قَسَمًا لِذِي حِجْرٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُقْسَمًا عَلَيْهِ، وَهَلْ فِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ عَلَى عِظَمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، أَيْ هَلْ فِيهَا مَقْنَعٌ فِي الْقَسَمِ لِذِي عَقْلٍ فَيَزْدَجِرُ وَيُفَكِّرُ فِي آيَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ وَقَفَ الْمُخَاطَبَ عَلَى مَصَارِعِ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ الْمَاضِيَةِ مَقْصُودًا بِذَلِكَ تَوَعُّدُ قُرَيْشٍ، وَنَصْبُ الْمَثَلِ لَهَا. وَعَادٌ هُوَ عَادُ بْنُ عَوْصٍ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى عَقِبِهِ، ثُمَّ قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ عَادًا الْأُولَى وَإِرَمُ، نِسْبَةٌ لَهُمْ بِاسْمِ جَدِّهِمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ عَادٌ الْأَخِيرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ قَبِيلَةٌ بِعَيْنِهَا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِرَمُ هُوَ أَبُو عَادٍ كُلِّهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِرَمُ مَدِينَةٌ لَهُمْ عَظِيمَةٌ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ بِالْيَمَنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْمَقْبُرِيُّ: هِيَ دِمَشْقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: إِرَمُ مَعْنَاهُ الْقَدِيمَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِعَادٍ مصر، وفا إِرَمَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ، وَعَادٌ، وَإِنْ كَانَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ، فَقَدْ يُلْحَظُ فِيهِ مَعْنَى الْحَيِّ فَيُصْرَفُ أَوْ لَا يُلْحَظُ، فَجَاءَ عَلَى لُغَةِ مَنْ صَرَفَ هِنْدًا، وَإِرَمَ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِعَادِ غَيْرَ مَمْنُوعِ الصَّرْفِ مُضَافًا إِلَى إِرَمَ، فَجَازَ أن يكون إرم وجدا وَمَدِينَةً وَالضَّحَّاكُ: إِرَمُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَا بَعْدَهَا مَمْنُوعَيِ الصَّرْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعَادِ بِالْإِضَافَةِ، أَرِمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْمَدِينَةِ، وَالضَّحَّاكُ: بعاد مصروفا، وبعاد غَيْرَ مَصْرُوفٍ أَيْضًا، أَرْمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ تَخْفِيفِ أَرِمَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: أَرَمَّ فِعْلًا مَاضِيًا، أَيْ بَلِيَ، يُقَالُ: رَمَّ الْعَظْمُ وَأَرَمَّ هُوَ: أَيْ بَلِيَ، وَأَرَمَّهُ غَيْرُهُ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ من رم الثلاثي. وذات عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَكْسُورَةُ التاء وابن عباس

_ (1) سورة المدثر: 74/ 33. (2) سورة الغاشية: 88/ 25- 26.

أَيْضًا: فِعْلًا مَاضِيًا، ذَاتَ بِنَصْبِ التَّاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ به، وذات بِالْكَسْرِ صِفَةً لِإِرَمَ وَسَوَاءٌ كَانَتِ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَتَرَجَّحُ كَوْنُهَا مَدِينَةً بِقَوْلِهِ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، فَإِذَا كَانَتْ قَبِيلَةً صَحَّ إِضَافَةُ عَادٍ إِلَيْهَا وَفَكُّهَا مِنْهَا بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَدِينَةً فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهَا ظَاهِرَةٌ وَالْفَكُّ فِيهَا يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بِعَادٍ أَهْلِ إرم ذات العماد. وقرىء: إِرَمَ ذاتِ، بِإِضَافَةِ إِرَمَ إِلَى ذَاتٍ، وَالْإِرَمُ: الْعَلَمُ، يَعْنِي بِعَادٍ: أَعْلَامِ ذَاتِ الْعِمَادِ. وَمَنْ قَرَأَ: أَرَمَّ فِعْلًا مَاضِيًا، ذَاتَ بِالنَّصْبِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ ذَاتَ الْعِمَادِ رَمِيمًا، وَيَكُونُ إِرَمَ بَدَلًا مِنْ فَعَلَ رَبُّكَ وَتَبْيِينًا لِفَعَلَ، وَإِذَا كَانَتْ ذاتِ الْعِمادِ صِفَةٌ لِلْقَبِيلَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ أَبْدَانِهِمْ، وَمِنْهُ قِيلَ: رَفِيعُ الْعِمَادِ، شُبِّهَتْ قُدُودُهُمْ بِالْأَعْمِدَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ عَمَدٌ وَعُمْدَانُ أَيْ طَوِيلٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: أَعْمِدَةُ بُيُوتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَرْحَلُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عَمُودٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَعْمِدَةُ بُنْيَانِهِمْ، وَإِذَا كَانَتْ صِفَةً لِلْمَدِينَةِ، فَأَعْمِدَةُ الْحِجَارَةِ الَّتِي بُنِيَتْ بِهَا. وَقِيلَ: الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ وَالْأَبْرَاجُ يُقَالُ لَهَا عِمَادٌ. وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَرَمٌ مَصْدَرُ، أَرِمَ يَأْرَمُ إِذَا هَلَكَ، وَالْمَعْنَى: كَهَلَاكِ ذَاتِ الْعِمَادِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، كَأَنَّ مَعْنَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ: كَيْفَ أَهْلَكَ عَادًا كَهَلَاكِ ذَاتِ الْعِمَادِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ذَاتَ الْعِمَادِ مَدِينَةٌ ابْتَنَاهَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ لَمَّا سَمِعَ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ عَلَى أَوْصَافٍ بَعِيدٍ، أَوْ مُسْتَحِيلٍ عَادَةً أَنْ يُبْنَى فِي الْأَرْضِ مِثْلُهَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهِ صَيْحَةً قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَيُوقَفُ عَلَى قِصَّتِهِمْ فِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَشَيْءٌ مِنْهَا فِي الْكَشَّافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمْ يُخْلَقْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مِثْلُها رُفِعَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، مِثْلَهَا نَصْبًا، وَعَنْهُ: نَخْلُقُ بِالنُّونِ وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلِهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ ذَاتُ الْعِمَادِ فِي الْبِلَادِ، أَيْ فِي بِلَادِ الدُّنْيَا، أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْقَبِيلَةِ، أَيْ فِي عِظَمِ أَجْسَامٍ وَقُوَّةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَثَمُودٍ بِالتَّنْوِينِ. وَالْجُمْهُورُ: بِمَنْعِ الصَّرْفِ. جابُوا الصَّخْرَ: خَرَقُوهُ وَنَحَتُوهُ، فَاتَّخَذُوا فِي الْحِجَارَةِ مِنْهَا بُيُوتًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً «1» . قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ نَحَتَ الْجِبَالَ وَالصُّخُورَ وَالرُّخَامَ ثَمُودُ، وَبَنَوْا أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ مَدِينَةٍ كُلُّهَا بِالْحِجَارَةِ بِالْوَادِي، وَادِي الْقُرَى. وَقِيلَ: جَابُوا وَادِيَهُمْ وَجَلَبُوا مَاءَهُمْ فِي صَخْرٍ شَقُّوهُ فِعْلَ ذي القوة

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 149.

وَالْآمَالِ. ذِي الْأَوْتادِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ ص. الَّذِينَ صِفَةٌ لِعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ، أَوْ مرفوع على إضمارهم. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ: أَبْهَمَ هُنَا وَأَوْضَحَ فِي الْحَاقَّةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَيُقَالُ: صَبَّ عَلَيْهِ السَّوْطَ وَغَشَّاهُ وَقَنَّعَهُ، وَاسْتَعْمَلَ الصَّبَّ لِاقْتِضَائِهِ السُّرْعَةِ فِي النُّزُولِ عَلَى الْمَضْرُوبِ، قَالَ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مُحْصِرَاتٍ كَأَنَّهَا ... شَآبِيبُ لَيْسَتْ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَطْرِ يُرِيدُ: الْمَحْدُودِينَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي صِفَةِ الْحَبْلِ: صَبَبْنَا عَلَيْهِمْ ظَالِمِينَ شَيَاطِنًا ... فطارت بها أيدي سِرَاعٌ وَأَرْجُلُ وَخَصَّ السَّوْطَ فَاسْتُعِيرَ لِلْعَذَابِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مِنَ التَّكْرَارِ وَالتَّرْدَادِ مَا لَا يَقْتَضِيهِ السَّيْفُ وَلَا غَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَكَرَ السَّوْطَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا أَحَلَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَالسَّوْطِ إِذَا قِيسَ إِلَى سَائِرِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ. وَالْمِرْصَادُ وَالْمَرْصَدُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ فِيهِ الرَّصْدُ، مِفْعَالٌ مِنْ رَصَدَهُ، وَهَذَا مَثَلٌ لِإِرْصَادِهِ الْعُصَاةَ بِالْعِقَابِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمِرْصَادُ فِي الْآيَةِ اسْمَ فَاعِلٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَبِالرَّاصِدِ، فَعَبَّرَ بِبِنَاءِ الْمُبَالَغَةِ، انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ، لَمْ تَدْخُلِ الْبَاءُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَكَانِ دُخُولِهَا، لَا زَائِدَةً وَلَا غَيْرَ زَائِدَةٍ. فَأَمَّا الْإِنْسانُ: ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُهُ وَتَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِهَانَتِهِ لِعَبْدِهِ، فَيَرَوْنَ الْمُكْرَمَ مَنْ عِنْدَهُ الثَّرْوَةُ وَالْأَوْلَادُ، وَالْمُهَانَ ضِدَّهُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا غَالِبًا عَلَيْهِمْ وُبِّخُوا بِذَلِكَ. وَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُوجَدُ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ؟ قُلْتُ: بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يريد من الإنسان إِلَّا الطَّاعَةَ وَالسَّعْيَ لِلْعَاقِبَةِ، وَهُوَ مُرْصِدٌ لِلْعَاصِي فَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَلَا يُهِمُّهُ إِلَّا الْعَاجِلَةَ وَمَا يُلِذُّهُ وَيُنَعِّمُهُ فِيهَا، انْتَهَى. وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِ: لَا يريد من الإنسان إلا الطَّاعَةَ. وَإِذَا الْعَامِلُ فِيهِ فَيَقُولُ: وَالنِّيَّةُ فِيهِ التَّأْخِيرُ، أَيْ فَيَقُولُ كَذَا وَقْتَ الِابْتِدَاءِ، وَهَذِهِ الْفَاءُ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَاءً دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِأَجْلِ أَمَّا الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَبَعْدَ أَمَّا الثَّانِيَةِ مُضْمَرٌ بِهِ وَقَعَ التَّوَازُنُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَقْدِيرُهُ: فَأَمَّا إِذَا هُوَ مَا ابْتَلَاهُ، وَفَيَقُولُ خَبَرٌ عَنْ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ الْمُضْمَرِ، وَابْتَلَاهُ مَعْنَاهُ: اخْتَبَرَهُ، أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ إِذَا بسط له؟

وأ يصبر أَمْ يَجْزَعُ إِذَا ضَيَّقَ عَلَيْهِ؟ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «1» . وَقَابَلَ وَنَعَّمَهُ بِقَوْلِهِ: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَلَمْ يُقَابِلْ فَأَكْرَمَهُ بِلَفْظِ فَأَهَانَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ، كَانَ ذَلِكَ إِهَانَةً لَهُ. أَلَا تَرَى إِلَى نَاسٍ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ مُضَيَّقًا عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ كَحَالِ الْإِمَامِ أَبِي سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَغَيْرِهِ، وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعَبْدَ فِي حَالَتَيْهِ هَاتَيْنِ. أَمَّا فِي قَوْلِهِ: فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، فَلِأَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ وَيَسْتَوْجِبُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَهانَنِ، فَلِأَنَّهُ سَمَّى تَرْكَ التَّفْضِيلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِهَانَةً وَلَيْسَ بِإِهَانَةٍ، أَوْ يَكُونُ إِذَا تَفَضَّلَ عَلَيْهِ أَقَرَّ بِإِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَيْهِ سَمَّى تَرْكَ تَفَضُّلِ اللَّهِ إِهَانَةً، لَا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِقَوْلِهِ: أَكْرَمَنِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَكْرَمَنِي وَأَهَانَنِي بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَنَافِعٌ: بِالْيَاءِ وَصْلًا وَحَذْفِهَا وَقْفًا، وَخَيَّرَ فِي الْوَجْهَيْنِ أَبُو عَمْرٍو، وَحَذَفَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ فِيهِمَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَمَنْ حَذَفَهَا وَقْفًا سَكَّنَ النُّونَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَقَدَرَ بِخَفِّ الدَّالِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى وَخَالِدٌ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَابْنُ عَامِرٍ: بِشَدِّهَا. قَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِمَعْنَى ضَيَّقَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِلتَّعَدِّي، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ أَهانَنِ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ مَا يَكْفِيهِ لَا إِهَانَةَ فِيهِ. كَلَّا: رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ، أَيْ لَيْسَ إِكْرَامُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُ الرِّزْقِ سَبَبُهُ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلْ إِكْرَامُهُ الْعَبْدَ: تَيْسِيرُهُ لِتَقْوَاهُ، وَإِهَانَتُهُ: تَيْسِيرُهُ لِلْمَعْصِيَةِ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ هُنَا شَرٌّ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ اللَّهَ تَعَالَى يُكْرِمُهُمْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، فَلَا يُؤَدُّونَ فِيهَا مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ بِالتَّفَقُّدِ وَالْمَبَرَّةِ وَحَضِّ أَهْلِهِ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَيَأْكُلُونَهُ أَكْلَ الْأَنْعَامِ وَيُحِبُّونَهُ فَيَشِحُّونَ بِهِ، انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَحَبُّ الْبُيُوتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ مُكْرَمٌ» . وَقَرَأَ الحسن وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو عُمَرَ: يُكْرِمُونَ وَلَا يَحُضُّونَ، وَيَأْكُلُونَ وَيُحِبُّونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهَا وَبَاقِي السَّبْعَةِ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ مِقْسَمٍ: تَحَاضُّونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْأَلِفِ أَصْلُهُ تَتَحَاضُّونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، أَيْ يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَعَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَلْقَمَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ والشيرزي عَنِ الْكِسَائِيِّ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا التَّاءَ، أَيْ تُحَاضُّونَ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَفَاعَلَ وَفَاعَلَ يَأْتِي بمعنى فعل أيضا.

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 35.

عَلى طَعامِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِطْعَامٍ، كَالْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مضاف، أَيْ عَلَى بَذْلِ طَعَامٍ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ، كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا صِغَارَ الْأَوْلَادِ، فَيَأْكُلُونَ نَصِيبَهُمْ وَيَقُولُونَ: لَا يَأْخُذُ الْمِيرَاثَ إِلَّا مَنْ يُقَاتِلُ وَيَحْمِي الْحَوْزَةَ، وَالتُّرَاثُ تَاؤُهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، كَالتُّكَلَةِ وَالتُّخَمَةِ مِنْ تَوَكَّلْتُ وَوَخِمْتُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا جَمَعَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الظُّلْمَةِ وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَيُسْرِفُونَ فِي إِنْفَاقِ مَا وَرِثُوهُ لِأَنَّهُمْ مَا تَعِبُوا فِي تَحْصِيلِهِ، كَمَا شَاهَدْنَا الْوُرَّاثَ الْبَطَّالِينَ. كَلَّا: رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْكَارٌ لِفِعْلِهِمْ. ثُمَّ أَتَى بِالْوَعِيدِ وَذَكَرَ تَحَسُّرَهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا. دَكًّا دَكًّا: حَالٌ كَقَوْلِهِمْ: بَابًا بَابًا، أَيْ مُكَرَّرًا عَلَيْهِمُ الدَّكُّ. وَجاءَ رَبُّكَ، قَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مَعْنَاهُ ظُهُورُهُ لِلْخَلْقِ هُنَالِكَ، وَلَيْسَ بِمَجِيءِ نُقْلَةٍ، وَكَذَلِكَ مَجِيءُ الطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ. وَقِيلَ: وَجَاءَ قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ تَمْثِيلٌ لِظُهُورِ آيَاتِ اقْتِدَارِهِ وَتَبْيِينِ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، مُثِّلَتْ حَالُهُ فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْمَلِكِ إِذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ ظَهَرَ بِحُضُورِهِ مِنْ آثَارِ الْهَيْبَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَا لَا يَظْهَرُ بِحُضُورِ عَسَاكِرِهِ كُلِّهَا وَوُزَرَائِهِ وَخَوَاصِّهِ، انْتَهَى. وَالْمَلِكُ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ تَكُونُ صَفًّا حَوْلَ الْأَرْضِ فِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَفًّا صَفًّا تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحْدِقِينَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، انْتَهَى. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى «1» ، يَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مِنْ إِذا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَامِلُ النَّصْبِ فِيهِمَا يَتَذَكَّرُ، انْتَهَى. ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ هُوَ الْعَامِلُ نَفْسُهُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدْ نُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ، وَهُوَ إِنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، أَيْ يَتَذَكَّرُ مَا فَرَّطَ فِيهِ. وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى: أَيْ مَنْفَعَةُ الذِّكْرَى، لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ التَّذَكُّرُ، لَوِ اتَّعَظَ فِي الدُّنْيَا لَنَفَعَهُ ذَلِكَ فِي الْأُخْرَى، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوْ وَقْتَ حَيَاتِي فِي الدُّنْيَا، كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلِتَارِيخِ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ قَوْمٌ: لِحَيَاتِي فِي قَبْرِي، يَعْنِي الَّذِي كُنْتُ أُكَذِّبُ بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا أَبْيَنُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَحْجُورِينَ عَنِ الطَّاعَاتِ مُجْبَرِينَ عَلَى الْمَعَاصِي، كَمَذْهَبِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَإِلَّا فَمَا مَعْنَى التَّحَسُّرِ؟ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الاعتزال.

_ (1) سورة النازعات: 79/ 36.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يُعَذِّبُ، وَلَا يُوثِقُ: مَبْنِيَّيْنِ لِلْفَاعِلِ، والضمير في عَذابَهُ، ووَثاقَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَا يَكِلْ عَذَابَهُ وَلَا وَثَاقَهُ إِلَى أَحَدٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ هُوَ مِنَ الشِّدَّةِ فِي حَيِّزٍ لَمْ يُعَذِّبْ قَطُّ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا مِثْلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ لِقَوْلِهِ: لَا يُعَذِّبُ وَلَا يُوثِقُ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَاضِي إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ، بَلْ مَوْضُوعُ، لَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ قَبْلَهَا عَائِدًا عَلَى الْكَافِرِ، أَيْ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِنَ الزَّبَانِيَةِ مِثْلَ مَا يُعَذِّبُونَهُ. وَقِيلَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ اللَّهِ لِلْكَافِرِ، وَيُضَعِّفُ هَذَا عَمَلُ لَا يُعَذِّبُ فِي يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ ظَرْفُ مُسْتَقْبَلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَسِوَارٌ الْقَاضِي وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَسَلَّامٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وسهل وَخَارِجَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِفَتْحِ الذَّالِ وَالثَّاءِ مَبْنِيَّيْنِ لِلْمَفْعُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِيهِمَا مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَيْ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِهِ، وَلَا يُوثَقُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ مِثْلَ وثاقه، أو يَحْمِلُ أَحَدٌ عَذَابَ الْإِنْسَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» ، وَعَذَابٌ وُضِعَ مَوْضِعَ تَعْذِيبٍ. وَفِي اقتياس مِثْلِ هَذَا خِلَافٌ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ مَا وُضِعَ لِغَيْرِ الْمَصْدَرِ، كَالْعَطَاءِ وَالثَّوَابِ وَالْعَذَابِ وَالْكَلَامِ. فَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَهُ وَيَقِيسُونَهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ بِخِلَافٍ عَنْهُمْ: وِثَاقُهُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، وَالْمُعَذَّبُ هُوَ الْكَافِرُ عَلَى الْعُمُومِ. وَقِيلَ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنَ النَّاسِ عَذَابًا، وَيَدْفَعُ الْقَوْلَ هَذَا قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا مَسُوقَةٌ لَهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ مَنْ يُعَذَّبُ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِ فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ، وَهَذَا النِّدَاءُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَيُّهَا بِغَيْرِ تَاءٍ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ أَنَّهَا تُذَكَّرُ، وَإِنْ كَانَ الْمُنَادَى مُؤَنَّثًا، إِلَّا صَاحِبَ الْبَدِيعِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُثَنَّ وَلَمْ يُجْمَعْ فِي نِدَاءِ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ فَكَذَلِكَ لَمْ يُؤَنَّثْ فِي نِدَاءِ الْمُؤَنَّثِ. الْمُطْمَئِنَّةُ: الْآمِنَةُ الَّتِي لَا يَلْحَقُهَا خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ، أَوِ الَّتِي كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً إِلَى الْحَقِّ لَمْ يُخَالِطْهَا شَكٌّ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَخُرُوجِهَا مِنْ جَسَدِ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: عِنْدَ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. إِلى رَبِّكِ: أَيْ إِلَى مَوْعِدِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: الرَّبُّ هُنَا

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 164، وسورة الإسراء: 17/ 15، وسورة الزمر: 39/ 7.

الْإِنْسَانُ دُونَ النَّفْسِ، أَيِ ادخل فِي الْأَجْسَادِ، وَالنَّفْسُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقِيلَ: هَذَا النِّدَاءُ هُوَ الْآنَ لِلْمُؤْمِنِينَ. لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ قَالَ: يَا مُؤْمِنُونَ دُومُوا وَجِدُّوا حَتَّى تَرْجِعُوا رَاضِينَ مَرْضِيِّينَ، راضِيَةً بِمَا أُوتِيتِهِ، مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللَّهِ. فَادْخُلِي فِي عِبادِي: أَيْ فِي جُمْلَةِ عِبَادِي الصَّالِحِينَ. وَادْخُلِي جَنَّتِي مَعَهُمْ. وَقِيلَ: النَّفْسُ وَالرُّوحُ، وَالْمَعْنَى: فَادْخُلِي فِي أَجْسَادِ عِبَادِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي عِبادِي جَمْعًا وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ ومجاهد وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو شَيْخٍ الْهَنَائِيُّ وَالْيَمَانِيُّ: فِي عَبْدِي عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْجِنْسِ، فَمَدْلُولُهُ وَمَدْلُولُ الْجَمْعِ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ خَاطَبَ النَّفْسَ مُفْرَدَةً فَقَالَ: فَادْخُلِي فِي عَبْدِي: أَيْ فِي جَسَدِ عَبْدِي. وَتَعَدَّى فَادْخُلِي أَوَّلًا بِفِي، وَثَانِيًا بِغَيْرِ فَاءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَدْخُولُ فِيهِ غَيْرَ ظرف حقيقي تعددت إِلَيْهِ بِفِي، دَخَلَتْ فِي الْأَمْرِ وَدَخَلْتُ فِي غِمَارِ النَّاسِ، وَمِنْهُ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَإِذَا كَانَ الْمَدْخُولُ فِيهِ ظَرْفًا حَقِيقِيًّا، تَعَدَّتْ إِلَيْهِ فِي الْغَالِبِ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ فِي. قِيلَ: فِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَقِيلَ: فِي حَمْزَةَ. وَقِيلَ: فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

سورة البلد

سورة البلد [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) الْكَبَدُ: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ، وَأَصْلُهُ مِنْ كَبِدَ الرَّجُلُ كَبَدًا فَهُوَ أَكْبَدُ، إِذَا وَجِعَهُ كَبِدُهُ وَانْتَفَخَتْ، فَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ الْمُكَابَدَةُ. وَقَالَ لَبِيدٌ: يَا عَيْنُ هَلَّا بكيت أربداد ... قُمْنَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَدِ وَقَالَ أَبُو الْأُصْبُعِ: لو ابْنُ عَمٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ فِي كَبَدٍ ... لَظَلَّ محتجرا بِالنَّبْلِ يَرْمِينِي الشَّفَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ، حُذِفَتْ مِنْهَا الْهَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ شُفَيْهَةٌ وَشِفَاهٌ وَشَافَهْتُ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَجُوزُ جَمْعُهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَإِنْ كَانَ تَاءَ التَّأْنِيثِ. النَّجْدُ: الْعُنُقُ

وَجَمْعُهُ نُجُودٌ، وَبِهِ سُمِّيَتْ نَجْدٌ لِارْتِفَاعِهَا عَنِ انْخِفَاضِ تِهَامَةَ، وَالنَّجْدُ: الطَّرِيقُ الْعَالِي. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَرِيقَانِ منهم جازع بطن نحله ... وآخر منهم قاطع كبكير الْفَكُّ: تَخْلِيصُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَيَا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ ... وَعَانٍ فَكَكْتُ الْغُلَّ عَنْهُ فَقَدَّانِي السَّغَبُ: الْجُوعُ الْعَامُّ، وَقَدْ يُقَالُ سَغِبَ الرَّجُلُ إِذَا جَاعَ. تَرِبَ الرَّجُلُ، إِذَا افْتَقَرَ وَلَصِقَ بِالتُّرَابِ، وَأَتَرَبَ، إِذَا اسْتَغْنَى وَصَارَ ذَا مَالٍ كَالتُّرَابِ، وَكَذَلِكَ أَثْرَى. أَوْصَدْتُ الْبَابَ وَآصَدْتُهُ، إِذَا أَغْلَقْتَهُ وَأَطْبَقْتَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي ... وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَهْ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى ابْتِلَاءَهُ لِلْإِنْسَانِ بِحَالَةِ التَّنْعِيمِ وَحَالَةِ التَّقْدِيرِ، وَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّمِيمَةِ مَا ذَكَرَ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُ وَحَالُ الْمُؤْمِنِ، أَتْبَعَهُ بِنَوْعٍ مِنِ ابْتِلَائِهِ وَمِنْ حَالِهِ السيّء وَمَا آلَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْإِشَارَةُ لِهَذَا الْبَلَدِ إِلَى مَكَّةَ. وَأَنْتَ حِلٌّ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُفِيدُ تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ بِهِ، أَيْ فَأَنْتَ مُقِيمٌ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ: وَأَنْتَ حَلَالٌ بِهَذَا الْبَلَدِ، يَحِلُّ لَكَ فِيهِ قَتْلُ مَنْ شِئْتَ، وَكَانَ هَذَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا نَافِيَةٌ، أَيْ إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ لَا يُقْسِمُ اللَّهُ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ أَهْلُهُ بِأَعْمَالٍ تُوجِبُ الْإِحْلَالَ، إِحْلَالَ حُرْمَتِهِ. وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: يَعْنِي وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، جَعَلُوكَ حَلَالًا مُسْتَحَلَّ الْأَذَى وَالْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: وَفِيهِ بَعْثٌ عَلَى احْتِمَالِ مَا كَانَ يُكَابِدُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَتَعَجُّبٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي عَدَاوَتِهِ، أَوْ سَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَمِ بِبَلَدِهِ

عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يحلو مِنْ مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ، وَاعْتَرَضَ بِأَنْ وَعَدَهُ فَتْحَ مَكَّةَ تَتْمِيمًا لِلتَّسْلِيَةِ وَالتَّنْفِيسِ عَنْهُ، فَقَالَ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَصْنَعُ فِيهِ مَا تُرِيدُهُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَأَنْتَ حِلٌّ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» ، وَاسْعٌ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ، تَقُولُ لِمَنْ تَعِدُهُ الْإِكْرَامَ وَالْحِبَا: وَأَنْتَ مُكْرَمٌ مَحْبُوٌّ، وَهُوَ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْسَعُ، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْمُسْتَقْبَلَةَ عِنْدَهُ كَالْحَاضِرَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَكَفَاكَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْحَالِ مُحَالٌ. إِنَّ السُّورَةَ بِالِاتِّفَاقِ مَكِّيَّةٌ، وَأَيْنَ الْهِجْرَةُ مِنْ وَقْتِ نُزُولِهَا؟ فَمَا بَالُ الْفَتْحِ؟ انْتَهَى. وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اعْتِرَاضِيَّةٌ لَا يَتَعَيَّنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَبَيَّنَّا حُسْنَ مَوْقِعِهَا، وَهِيَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ، لَا مُقَدَّرَةٌ وَلَا مَحْكِيَّةٌ فَلَيْسَتْ مِنِ الْإِخْبَارِ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا سُؤَالُهُ وَالْجَوَابُ، فَهَذَا لَا يَسْأَلُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَعَلُّقٍ بِالنَّحْوِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَكُونُ بِالْمُسْتَقْبَلَاتِ، وَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ حَالَةَ إِسْنَادِهِ أَوِ الْوَصْفِ بِهِ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَالِ، بَلْ يَكُونُ لِلْمَاضِي تَارَةً، وَلِلْحَالِ أُخْرَى، وَلِلْمُسْتَقْبَلِ أُخْرَى وَهَذَا مِنْ مَبَادِئِ عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَفَاكَ دَلِيلًا قَاطِعًا إِلَخْ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّا لَمْ نَحْمِلْ وَأَنْتَ حِلٌّ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَكَ مَا تَصْنَعُ فِي مَكَّةَ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا بِمَكَّةَ فَتَنَافَيَا، بَلْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ مُقِيمٌ بِهَا خَاصَّةً، وَهُوَ وَقْتُ النُّزُولِ كَانَ مُقِيمًا بِهَا ضَرُورَةً. وَأَيْضًا فَمَا حَكَاهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ حُكِيَ الْخِلَافُ فِيهَا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى يَسْتَحِلُّ إِذْ ذَاكَ، وَلَا عَلَى أَنَّكَ تَسْتَحِلُّ فِيهِ أَشْيَاءَ، بَلِ الظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَا لِمَا جَمَعَتْ مِنَ الشَّرَفَيْنِ، شَرَفِهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَشَرَفِهَا بِحُضُورِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَتِهِ فِيهَا، فَصَارَتْ أَهْلًا لِأَنْ يُقْسَمَ بِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ، لَا يُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، بَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَالِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ، قَالَ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: آدَمُ وَجَمِيعُ وَلَدِهِ. وَقِيلَ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَقِيلَ: نُوحٌ وَذُرِّيَّتُهُ. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْحَوْفِيُّ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَمِيعُ وَلَدِهِ. وَقِيلَ: وَوَالِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَلَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَالِدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَمَا وَلَدَ أَمَّتُهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ» ، وَلِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «2» ،

_ (1) سورة الزمر: 39/ 30. (2) سورة الأحزاب: 33/ 6.

وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِهِ وَبِأُمَّتِهِ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ بِبَلَدِهِ، مُبَالَغَةً فِي شَرَفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُرَادُ بِوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ؟ قُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ وَلَدَهُ. أَقْسَمَ بِبَلَدِهِ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِهِ، وَحَرَمُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْشَأُ أَبِيهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبِمَنْ وَلَدَهُ وَبِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَكَّرَ؟ قُلْتُ: لِلْإِبْهَامِ الْمُسْتَقِلِّ بِالْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ: وَمَنْ وَلَدَ؟ قُلْتُ: فِيهِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ «1» : أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ وَضَعَتْ، يَعْنِي مَوْضُوعًا عَجِيبَ الشَّأْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَصَلَحَ مَا لِلنَّاسِ، كَقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ «2» ، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «3» ، وَهُوَ الْخَالِقُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ بِالْوَالِدِ الَّذِي يُولَدُ لَهُ، وَبِمَا وَلَدَ الْعَاقِرُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ. جَعَلُوا مَا نَافِيَةً، فَتَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَوْصُولٍ يَصِحُّ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: وَوَالِدٍ وَالَّذِي مَا وَلَدَ، وَإِضْمَارُ الْمَوْصُولِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِي كَبَدٍ: يُكَابِدُ مَشَاقَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَشَاقُّهُ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ مِنْ أَوَّلِ قَطْعِ سُرَّتِهِ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ قَرَارَهُ، إِمَّا فِي جَنَّةٍ فَتَزُولُ عَنْهُ الْمَشَقَّاتُ وَإِمَّا فِي نَارٍ فَتَتَضَاعَفُ مَشَقَّاتُهُ وَشَدَائِدُهُ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ ومجاهد: فِي كَبَدٍ مَعْنَاهُ: مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ وَاقِفًا، وَلَمْ يُخْلَقْ مُنْكَبًّا عَلَى وَجْهِهِ، وَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مُنْتَصِبًا رَأْسُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ، قَلَبَ رَأْسَهُ إِلَى قَدَمَيْ أُمِّهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يُكَابِدُ الشُّكْرَ عَلَى السَّرَّاءِ، وَيُكَابِدُ الصَّبْرَ عَلَى الضَّرَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْإِنْسانَ: آدَمُ، فِي كَبَدٍ: فِي السَّمَاءِ، سَمَّاهَا كَبَدًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَيَحْسَبُ عائد على الْإِنْسانَ، أي هُوَ لِشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ وَعِزَّتِهِ وَقُوَّتِهِ يَحْسَبُ أَنْ لَا يُقَاوِمَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِاسْتِعْصَامِهِ بِعَدَدِهِ وَعُدَدِهِ. يَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ: أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً: أَيْ فِي الْمَكَارِمِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ الثَّنَاءُ، أَيَحْسَبُ أَنَّ أَعْمَالَهُ تَخْفَى، وَأَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي إِنْفَاقِهِ وَمَقْصِدِ مَا يَبْتَغِيهِ مِمَّا لَيْسَ لِوَجْهِ اللَّهِ مِنْهُ شَيْءٌ؟ بَلْ عَلَيْهِ حَفَظَةٌ يَكْتُبُونَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ عَمَلٍ فِي حَيَاتِهِ وَيُحْصُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَيَحْسَبُ لِبَعْضِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَبُو الْأَسَدِ أُسَيْدُ بْنُ كَلَدَةَ، كَانَ يُبْسَطُ لَهُ الْأَدِيمُ الْعُكَاظِيُّ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: مَنْ أَزَالَنِي

_ (1) سورة آل عمران: 3/ 36. (2) سورة النساء: 4/ 3. (3) سورة الليل: 92/ 3.

عَنْهُ فَلَهُ كَذَا، فَلَا يُنْزَعُ إِلَّا قِطَعًا، وَيَبْقَى مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: الْحَرْثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ إِذَا أَذْنَبَ اسْتَفْتَى النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيَأْمُرُهُ بِالْكَفَّارَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا فِي الْكَفَّارَاتِ وَالتَّبِعَاتِ مُنْذُ تَبِعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لُبَدًا، بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّ الْبَاءِ وَعَنْهُ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: لُبْدًا بِسُكُونِ الباء، ومجاهد وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: بِضَمِّهِمَا. ثُمَّ عَدَّدَ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ نِعَمَهُ فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِساناً يُفْصِحُ عَمَّا فِي بَاطِنِهِ، وَشَفَتَيْنِ يُطْبِقُهُمَا عَلَى فِيهِ وَيَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّفْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: طَرِيقَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَلِيٌّ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: الثَّدْيَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا كَالطَّرِيقَيْنِ لِحَيَاةِ الْوَلَدِ وَرِزْقِهِ. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ: أَيْ لَمْ يَشْكُرْ تِلْكَ النِّعَمَ السَّابِقَةَ، وَالْعَقَبَةُ اسْتِعَارَةٌ لِهَذَا الْعَمَلِ الشَّاقِّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَذْلُ مَالٍ، تَشْبِيهٌ بِعَقَبَةِ الْجَبَلِ، وَهُوَ مَا صَعُبَ مِنْهُ، وَكَانَ صَعُودًا، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فِي سُلُوكِهَا. وَاقْتَحَمَهَا: دَخَلَهَا بِسُرْعَةٍ وَضَغْطٍ وَشِدَّةٍ، وَالْقُحْمَةُ: الشِّدَّةُ وَالسَّنَةُ الشَّدِيدَةُ. وَيُقَالُ: قَحَمَ فِي الْأَمْرِ قُحُومًا: رَمَى نَفْسَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَا لِلنَّفْيِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَهَبْنَا لَهُ الْجَوَارِحَ وَدَلَلْنَاهُ عَلَى السَّبِيلِ، فَمَا فَعَلَ خَيْرًا، أَيْ فَلَمْ يَقْتَحِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: ذَكَرَ لَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْعَرَبُ لَا تَكَادُ تُفْرِدُ لَا مَعَ الْفِعْلِ الْمَاضِي حَتَّى تُعِيدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى «1» ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا لِدَلَالَةِ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، قَائِمًا مَقَامَ التَّكْرِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَلَا آمَنَ. وَقِيلَ: هُوَ جَارٍ مَجْرَى الدُّعَاءِ، كَقَوْلِهِ: لَا نَجَا وَلَا سَلِمَ، دُعَاءٌ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا. وَقِيلَ: هو تحضيض بألا، وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ لَا وَحْدَهَا تَكُونُ لِلتَّحْضِيضِ، وَلَيْسَ مَعَهَا الْهَمْزَةُ. وَقِيلَ: الْعَقَبَةُ: جَهَنَّمُ، لَا يُنْجِي مِنْهَا إِلَّا هَذِهِ الْأَعْمَالُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَكَعْبٌ: جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَعْدَ أَنْ تَنَحَّلَ مُقَالَةَ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ: هِيَ بِمَعْنَى لَا مُتَكَرِّرَةً فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ: فَلَا فَكَّ رَقَبَةً وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ اقْتِحَامَ الْعَقَبَةِ بِذَلِكَ؟ انْتَهَى، وَلَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ فَكَّ فِعْلًا ماضيا.

_ (1) سورة القيامة: 75/ 31.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالنَّحْوِيَّانِ: فَكَّ فِعْلًا مَاضِيًا، رَقَبَةً نُصِبَ، أَوْ أَطْعَمَ فِعْلًا مَاضِيًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: فَكُّ مرفوعا، رقبة مجرورا، وإطعام مَصْدَرٌ مُنَوَّنٌ مَعْطُوفٌ عَلَى فَكُّ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو رَجَاءٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، إِلَّا أَنَّهُمَا قَرَآ: ذَا مَسْغَبَةٍ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ أَيْضًا: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذَا بِالْأَلِفِ، وَنَصْبِ ذَا عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ إِنْسَانًا ذَا مَسْغَبَةٍ، وَيَتِيمًا بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ صِفَةٌ. وَقَرَأَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: فَكُّ رَقَبَةٍ بِالْإِضَافَةِ، أَوْ أَطْعَمَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَمَنْ قَرَأَ فَكُّ بِالرَّفْعِ، فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِاقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ. وَمَنْ قَرَأَ فِعْلًا مَاضِيًا، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، بَلْ يَكُونُ التَّعْظِيمُ لِلْعَقَبَةِ نَفْسِهَا، وَيَجِيءُ فَكَّ بَدَلًا مِنِ اقْتَحَمَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَفَكُّ الرَّقَبَةِ: تَخْلِيصُهَا مِنَ الْأَسْرِ وَالرِّقِّ. ذَا مَقْرَبَةٍ: لِيَجْتَمِعَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وَأَوْ هُنَا لِلتَّنْوِيعِ، وَوَصْفُ يَوْمٍ بِذِي مَسْغَبَةٍ عَلَى الِاتِّسَاعِ. ذَا مَتْرَبَةٍ، قَالَ: هُمُ الْمَطْرُوحُونَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ قُعُودًا عَلَى التُّرَابِ، لَا بُيُوتَ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ، ثُمَّ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ إِلَيْهِ مُسْتَيْقِنًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التُّرَابُ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا: هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ وَدَخَلَتْ ثُمَّ لِتَرَاخِي الْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ، لَا لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْبِقَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ الْإِيمَانُ، إِذْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهَا مِنَ الطَّائِعِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: ثُمَّ كَانَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ مِنَ الَّذِينَ وَافَوُا الْمَوْتَ عَلَى الْإِيمَانِ، إِذِ الْمُوَافَاةُ عَلَيْهِ شَرْطٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالطَّاعَاتِ، أَوْ يَكُونُ التَّرَاخِي فِي الذِّكْرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ اذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ: أَيْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ وَعَنِ الْمَعَاصِي، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ: أَيْ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ، أَوْ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ. وَالْمَيْمَنَةُ وَالْمَشْأَمَةُ تَقَدَّمَ الْقَوْلِ فِيهِمَا فِي الْوَاقِعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: مُؤْصَدَةٌ بِالْهَمْزِ هُنَا وَفِي الْهُمَزَةِ، فَيَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ آصَدْتُ قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْصَدْتُ، وَهَمَزَ عَلَى حَدِّ مَنْ قَرَأَ بِالسُّؤْقِ مَهْمُوزًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَيَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ أَوْصَدْتُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آصَدْتُ، وَسَهَّلَ الْهَمْزَةَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: قوما تعالج قملا أبناءهم ... وَسَلَاسِلًا حِلَقًا وَبَابًا مُؤْصَدَا

سورة الشمس

سورة الشمس [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) طَحَا وَدَحَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ بَسَطَ وَوَطَّأَ، وَيَأْتِي طَحَا بِمَعْنَى ذَهَبَ. قَالَ عَلْقَمَةُ: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ وَيُقَالُ: مَا أَدْرِي أَيْنَ طَحَا: أَيْ ذَهَبَ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَفِي أَيْمَانِ الْعَرَبِ لَا، وَالْقَمَرِ الطَّاحِي: أَيِ الْمُشْرِقِ الْمُرْتَفِعِ، وَيُقَالُ: طَحَا يَطْحُو طَحْوًا، وَيَطْحَى طَحْوًا. التَّدْسِيَةُ: الْإِخْفَاءُ، وَأَصْلُهُ دَسَسَ فَأَبْدَلَ مِنْ ثَالِثِ الْمُضَاعَفَاتِ حَرْفُ عِلَّةٍ، كَمَا قَالُوا فِي نَقْصُصُ نَقُصُّ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَنْتَ الَّذِي دَسَسْتَ عَمْرًا فَأَصْبَحَتْ ... حَلَائِلُهُ مِنْهُ أَرَامِلَ صُيْعَا وَيُنْشَدُ أَيْضًا: وَدَسَسْتَ عَمْرًا فِي التُّرَابِ

دَمْدَمَ عَلَيْهِ الْقَبْرَ: أَطْبَقَهُ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: الدَّمْدَمَةُ: إِهْلَاكٌ بِاسْتِئْصَالٍ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: دَمْدَمْتُ الشَّيْءَ: أَلْزَقْتَهُ بِالْأَرْضِ وَطَحْطَحْتَهُ. وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها، وَالسَّماءِ وَما بَناها، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها، وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها، فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ وَمَا بَعْدَهَا، أَقْسَمَ هُنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ وَالسُّفْلِيِّ، وَبِمَا هُوَ آلَةُ التَّفَكُّرِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ النَّفْسُ. وَكَانَ آخِرُ مَا قَبْلَهَا مُخْتَتَمًا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَاخْتَتَمَ هَذِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَفِي ذَلِكَ بِمَآلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، وَفِي الدُّنْيَا إِلَى الْهَلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ضُحًى فِي سُورَةِ طه عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ ارْتِفَاعُ الضَّوْءِ وَكَمَالُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَرُّهَا لِقَوْلِهِ وَلا تَضْحى «2» . وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقْسَمَ بِالنَّهَارِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الضُّحَى هُوَ بُعَيْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَلِيلًا، فَإِذَا زَادَ فَهُوَ الضَّحَاءُ، بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الضَّادِ إِلَى الزَّوَالِ، وَقَوْلُ مُقَاتِلٍ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ. وَمَا نُقِلَ عَنِ الْمُبَرِّدِ مِنْ أَنَّ الضُّحَى مُشْتَقٌّ مِنِ الضِّحِّ، وَهُوَ نُورُ الشَّمْسِ، وَالْأَلِفُ مَقْلُوبَةٌ مِنَ الْحَاءِ الثَّانِيَةِ وَكَذَلِكَ الْوَاوُ فِي ضَحْوَةٍ مَقْلُوبَةٌ عَنِ الْحَاءِ الثَّانِيَةِ لَعَلَّهُ مُخْتَلَقٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُبَرِّدَ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هَذَا، وَهَذَانِ مَادَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لَا تُشْتَقُّ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، قَالَ الْحَسَنُ وَالْفَرَّاءُ: تَلَاهَا مَعْنَاهُ تَبِعَهَا دَأَبًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِأَنَّهُ يَسْتَضِيءُ مِنْهَا، فَهُوَ يَتْلُوهَا لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَتْلُوهَا فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ، يَتْلُوهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ بِالطُّلُوعِ، وَفِي الْآخَرِ بِالْغُرُوبِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَوْضِعَهَا وَيَسِيرُ خَلْفَهَا، إِذَا غَابَتْ يَتْبَعُهَا الْقَمَرُ طَالِعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْبَدْرُ، تَغِيبُ هِيَ فَيَطْلُعُ هُوَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: تَلَاهَا مَعْنَاهُ: امْتَلَأَ وَاسْتَدَارَ، وَكَانَ لَهَا تَابِعًا لِلْمَنْزِلِ مِنِ الضِّيَاءِ وَالْقَدْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَوَاكِبِ شَيْءٌ يَتْلُو الشَّمْسَ فِي هَذَا

_ (1) سورة طه: 20/ 59. [.....] (2) سورة طه: 20/ 116.

الْمَعْنَى غَيْرَ الْقَمَرِ. وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى نِصْفِهِ، فِي الْغُرُوبِ تَغْرُبُ هِيَ ثُمَّ يَغْرُبُ هُوَ وَفِي النِّصْفِ الْآخِرِ يَتَحَاوَرَانِ، وَهُوَ أَنْ تَغْرُبَ هِيَ فَيَطْلُعَ هُوَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَلَاهَا طَالِعًا عِنْدَ غُرُوبِهَا آخِذًا مِنْ نُورِهَا وَذَلِكَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها: الظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ جَلَّاهَا هُوَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ انْبِسَاطِ النَّهَارِ تَنْجَلِي الشَّمْسُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَمَامَ الِانْجِلَاءِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الظُّلْمَةِ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: عَلَى الدُّنْيَا، وَالَّذِي يُجَلِّي الظُّلْمَةَ هُوَ الشَّمْسُ أَوِ النَّهَارُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ لَا تَبْقَى الظُّلْمَةُ، وَالْفَاعِلُ بَجَّلَاهَا ضَمِيرُ النَّهَارِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّى اللَّهُ الشَّمْسَ، فَأَقْسَمَ بِالنَّهَارِ فِي أَكْمَلِ حَالَاتِهِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها: أَيْ يَغْشَى الشَّمْسَ، فَبِدُخُولِهِ تَغِيبُ وَتُظْلِمُ الْآفَاقُ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى اللَّيْلِ مَجَازٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ أَنْ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ: يَغْشاها عَائِدَةٌ عَلَى الشَّمْسِ. وَكَمَا أَنَّ النَّهَارَ جَلَّاهَا، كَانَ النَّهَارُ هُوَ الَّذِي يَغْشَاهَا. وَلَمَّا كَانَتِ الْفَوَاصِلُ تَرَتَّبَتْ عَلَى أَلِفِ وَهَاءِ الْمُؤَنَّثِ، أَتَى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها بِالْمُضَارِعِ، لِأَنَّهُ الَّذِي تَرَتَّبَ فِيهِ. وَلَوْ أَتَى بِالْمَاضِي، كَالَّذِي قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ إِذَا غَشِيَهَا، فَتَفُوتُ الْفَاصِلَةُ، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ مَا مُلَخَّصُهُ: هَذِهِ الْأَقْسَامُ بِالشَّمْسِ فِي الْحَقِيقَةِ بِحَسَبِ أوصاف أربعة: ضوءها عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ وَقْتَ انْتِشَارِ الْحَيَوَانِ، وَطَلَبِ الْمَعَاشِ، وَتُلُوُّ الْقَمَرِ لَهَا بِأَخْذِهِ الضَّوْءَ، وَتَكَامُلُ طُلُوعِهَا وَبُرُوزِهَا وَغَيْبُوبَتُهَا بِمَجِيءِ اللَّيْلِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما بَناها، وَمَا طَحاها، وَمَا سَوَّاها، بِمَعْنَى الَّذِي، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، قَالُوا: لِأَنَّ مَا تَقَعُ عَلَى أُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أن ما لا تقع عَلَى آحَادِ أُولِي الْعِلْمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَتْ مَصْدَرِيَّةً، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ لِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ فَسَادِ النَّظْمِ وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَإِنَّمَا أُوثِرَتْ عَلَى مَنْ لِإِرَادَةِ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالسَّمَاءِ وَالْقَادِرِ الْعَظِيمِ الَّذِي بَنَاهَا، وَنَفْسٍ وَالْحَكِيمِ الْبَاهِرِ الْحِكْمَةِ الَّذِي سَوَّاهَا، وَفِي كَلَامِهِمْ سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكُنَّ لَنَا، انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ لِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها، يَعْنِي مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي فَأَلْهَمَها عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَدْ عَادَ عَلَى مَذْكُورٍ، وَهُوَ مَا الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا

جَعَلْنَاهَا مَصْدَرِيَّةً عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ فَفِي بَنَاهَا ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ وَبَنَاهَا هُوَ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا إِذَا رَأَيْتَ زَيْدًا قَدْ ضَرَبَ عَمْرًا فَقُلْتَ: عَجِبْتُ مِمَّا ضَرَبَ عَمْرًا تَقْدِيرُهُ: من ضرب عمر؟ وَهُوَ كَانَ حَسَنًا فَصِيحًا جَائِزًا، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَثِيرٌ، وَقَوْلُهُ: وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ فَسَادِ النَّظْمِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا يُؤَدِّي جَعْلُهَا مَصْدَرِيَّةً إِلَى مَا ذَكَرَ، وَقَوْلُهُ إِنَّمَا أُوثِرَتْ إِلَخْ لَا يُرَادُ بِمَا وَلَا بِمَنِ الْمَوْصُولَتَيْنِ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ، لِأَنَّهُمَا لَا يُوصَفُ بِهِمَا، بِخِلَافِ الَّذِي، فَاشْتِرَاكُهُمَا فِي أَنَّهُمَا لَا يُؤَدِّيَانِ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ مَوْجُودٌ فِيهِمَا، فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ مَا دُونَ مَنْ، وَقَوْلُهُ: وَفِي كَلَامِهِمْ إِلَخْ. تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ سُبْحَانَ عَلَمٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْأَمْرُ فِي نَصْبِ إِذَا مُعْضِلٌ، لِأَنَّكَ إِمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَاتِ عَاطِفَةً فَتَنْصِبَ بِهَا وَتَجُرَّ، فَتَقَعُ فِي الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ، وَفِي نَحْوِ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ أَمْسِ بِزَيْدٍ وَالْيَوْمَ عَمْرٍو وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُنَّ لِلْقَسَمِ، فَتَقَعَ فِيمَا اتَّفَقَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ عَلَى اسْتِكْرَاهِهِ. قُلْتُ: الْجَوَابُ فِيهِ أَنَّ وَاوَ الْقَسَمِ مطرح معه إبراز الفعل اطِّرَاحًا كُلِّيًّا، فَكَانَ لَهَا شَأْنٌ خِلَافَ شَأْنِ الْبَاءِ، حَيْثُ أَبْرَزَ مَعَهَا الْفِعْلَ وَأَضْمَرَ، فَكَانَتِ الْوَاوُ قَائِمَةً مَقَامَ الْفِعْلِ، وَالْبَاءُ سَادَّةً مَسَدَّهُمَا مَعًا، وَالْوَاوَاتُ الْعَوَاطِفُ نَوَائِبُ عَنْ هَذِهِ، فَحَقُّهُنَّ أَنْ يَكُنَّ عَوَامِلَ عَلَى الْفِعْلِ وَالْجَارِّ جَمِيعًا، كَمَا تَقُولُ ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا وَبَكْرٌ خَالِدًا، فَتَرْفَعُ بِالْوَاوِ وَتَنْصِبُ لِقِيَامِهَا مَقَامَ ضَرَبَ الَّذِي هُوَ عَامِلُهُمَا، انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ فِي وَاوَاتِ الْعَطْفِ فَتَنْصِبُ بِهَا وَتَجُرُّ فَلَيْسَ هَذَا بِالْمُخْتَارِ، أَعْنِي أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْعَطْفِ عَامِلًا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَامِلِ، بَلِ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَامِلِ فِي المعطوف عليه، تم إنا لإنشاء حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَتَقَعُ فِي الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ، لَيْسَ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ اسْمَيْنِ مَجْرُورٍ وَمَنْصُوبٍ عَلَى اسْمَيْنِ مَجْرُورٍ وَمَنْصُوبٍ، فَحَرْفُ الْعَطْفِ لَمْ يَنُبْ مَنَابَ عَامِلَيْنِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِكَ: امْرُرْ بِزَيْدٍ قَائِمًا وَعَمْرٍو جَالِسًا؟ وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ: فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ لَنَا أَنْ نردها ... صحاحا ولا مستنكران تُعَقَّرَا فَهَذَا مِنْ عَطْفِ مَجْرُورٍ، وَمَرْفُوعٍ عَلَى مَجْرُورٍ وَمَرْفُوعٍ، وَالْعَطْفُ عَلَى عَامِلَيْنِ فِيهِ أَرْبَعُ مَذَاهِبَ، وَقَدْ نُسِبَ الْجَوَازُ إِلَى سِيبَوَيْهِ وَقَوْلُهُ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ أَمْسِ بِزَيْدٍ وَالْيَوْمَ عَمْرٍو، وَهَذَا الْمِثَالُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْآيَةِ، بَلْ وِزَانُ مَا فِي الْآيَةِ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ أَمْسِ وَعَمْرٍو الْيَوْمَ، وَنَحْنُ نُجِيزُ هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى اسْتِكْرَاهٍ فَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ كَلَامُ الْخَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ. قَالَ الْخَلِيلُ: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ

وَالْأُنْثى «1» ، الْوَاوَانِ الْأَخِيرَتَانِ لَيْسَتَا بِمَنْزِلَةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّهُمَا الْوَاوَانِ اللَّتَانِ يَضُمَّانِ الْأَسْمَاءَ إِلَى الْأَسْمَاءِ فِي قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَالْأُولَى بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ وَالتَّاءِ، انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ وَاوَ الْقَسَمِ مطرح معه إبراز الفعل اطِّرَاحًا كُلِّيًّا، فَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ أَجَازَ ابْنُ كَيْسَانَ التَّصْرِيحَ بِفِعْلِ الْقَسَمِ مَعَ الْوَاوِ، فَتَقُولُ: أُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ وَاللَّهِ لَزَيْدٌ قَائِمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْوَاوَاتُ الْعَوَاطِفُ نَوَائِبُ عَنْ هَذِهِ إِلَخْ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ عَامِلٌ لِنِيَابَتِهِ مَنَابَ الْعَامِلِ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمُخْتَارِ. وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْمُعْضِلَ هُوَ تَقْرِيرُ الْعَامِلِ فِي إِذَا بَعْدَ الْإِقْسَامِ، كَقَوْلِهِ: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «2» ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ «3» ، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» ، وَمَا أَشْبَهَهَا. فَإِذَا ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ إِنْشَائِيٌّ. فَهُوَ فِي الْحَالِ يُنَافِي أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِإِطْلَاقِ زَمَانِ الْعَامِلِ زَمَانَ الْمَعْمُولِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ أُقِيمَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَقَامَهُ، أَيْ: وَطُلُوعِ النَّجْمِ، وَمَجِيءِ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ. فَالطُّلُوعُ حَالٌ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ ضَرُورَةَ أَنَّ زَمَانَ الْمَعْمُولِ زَمَانُ الْعَامِلِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ نَفْسُ الْمُقْسَمِ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَعْمَلُ، سِيَّمَا إِنْ كَانَ جَزْمًا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ قَبْلَ الظَّرْفِ فَيَكُونُ قَدْ عَمِلَ فِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَامِلُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَتَقْدِيرُهُ: وَالنَّجْمِ كَائِنًا إِذَا هَوَى، وَاللَّيْلِ كَائِنًا إِذَا يَغْشَى، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَائِنًا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْعَامِلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِشَيْءٍ مِمَّا فَرَضْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا. وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْقَسَمُ بِهِ جُثَّةً، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ لَا تَكُونُ أَحْوَالًا عَنِ الْجُثَثِ، كَمَا لَا تَكُونُ أَخْبَارًا. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها: اسْمُ جِنْسٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها وَمَا بَعْدَهُ، وَتَسْوِيَتُهَا: إِكْمَالُ عَقْلِهَا وَنَظَرِهَا، وَلِذَلِكَ ارْتَبَطَ بِهِ فَأَلْهَمَها، لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ التَّسْوِيَةِ الَّتِي هِيَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْعَقْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نُكِّرَتِ النَّفْسُ؟ قُلْتُ: فِيهِ وجهان: أحدها: أَنْ يُرِيدَ نَفْسًا خَاصَّةً مِنَ النُّفُوسِ، وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَوَاحِدَةٌ مِنَ النُّفُوسِ، انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِلْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا، فَلَا تَكُونُ إِلَّا لِلْجِنْسِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها، كَيْفَ تَقْتَضِي التَّغَايُرَ فِي الْمُزَكَّى وَفِي الْمُدَسَّى؟ فَأَلْهَمَها، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ:

_ (1) سورة الليل: 92/ 1- 3. (2) سورة النجم: 53/ 1. (3) سورة المدثر: 74/ 33- 34. (4) سورة الليل: 92/ 1.

أَلْزَمَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَرَّفَهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَيْنَ لَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَّقَهَا لِلتَّقْوَى، وَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا: أَيْ خَذَلَهَا، وَقِيلَ: عَرَّفَهَا وَجَعَلَ لَهَا قُوَّةً يَصِحُّ مَعَهَا اكْتِسَابُ الْفُجُورِ وَاكْتِسَابُ التَّقْوَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى إِلْهَامِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى: إِفْهَامُهَا وَإِعْقَالُهَا، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا حَسَنٌ وَالْآخَرَ قَبِيحٌ، وَتَمْكِينُهُ مِنِ اخْتِيَارِ مَا شَاءَ مِنْهُمَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها، فَجَعَلَهُ فَاعِلَ التَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ وَمُتَوَلِّيَهُمَا. وَالتَّزْكِيَةُ: الْإِنْمَاءُ، وَالتَّدْسِيَةُ: النَّقْصُ وَالْإِخْفَاءُ بِالْفُجُورِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَحُذِفَتِ اللَّامُ لِطُولِ الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ أَفْلَحَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَتُبْعَثُنَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ لَيُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، لِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا دَمْدَمَ عَلَى ثَمُودَ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا. وَأَمَّا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها فَكَلَامٌ تَابِعٌ لِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَلَيْسَ مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ فِي شَيْءٍ، انْتَهَى. وزكاؤها: ظهورها وَنَمَاؤُهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَدَسَّاهَا: أَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا بِعَمَلِ الْمَعَاصِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاعِلَ زَكَّى وَدَسَّى ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَادَ الضَّمِيرُ مُؤَنَّثًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى مِنْ مُرَاعَاةِ التَّأْنِيثِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ، كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي زَكَّى وَدَسَّى لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّاجِعِ إِلَى مَنْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّفْسِ، فَمِنْ تَعْكِيسِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُوَرِّكُونَ عَلَى اللَّهِ قَدَرًا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَمُتَعَالٍ عَنْهُ، وَيُحْيُونَ لَيَالِيَهُمْ فِي تَمَحُّلِ فَاحِشَةٍ يَنْسُبُونَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى، انْتَهَى. فَجَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي سَبِّ أَهْلِ السُّنَّةِ. هَذَا، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ بَحْرُ الْعِلْمِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا» . وَقَالَ تَعَالَى: دَسَّاها فِي أَهْلِ الْخَيْرِ بِالرِّيَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَحِينَ قَالَ: وَتَقْواها أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَلَمَّا قَالَ: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها، أَعْقَبَهُ بِأَهْلِ الْجَنَّةُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَيْبَةَ مَنْ دَسَّى نَفْسَهُ، ذَكَرَ فِرْقَةً فَعَلَتْ ذَلِكَ لِيُعْتَبَرَ بِهِمْ. بِطَغْواها: الْبَاءُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ كَذَّبَتْ ثَمُودُ نَبِيَّهَا بِسَبَبِ طُغْيَانِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّغْوَى هُنَا الْعَذَابُ، كَذَّبُوا بِهِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ لِقَوْلِهِ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِطَغْواها بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، قلبت فيه

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 5.

الْيَاءُ وَاوًا فَصْلًا بَيْنَ الِاسْمِ وَبَيْنَ الصِّفَةِ، قَالُوا فِيهَا صِرْنَا وَحْدَنَا، وَقَالُوا فِي الِاسْمِ تَقْوَى وَشَرْوَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: بِضَمِّ الطَّاءِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى، وَكَانَ قِيَاسُهَا الطُّغْيَا بِالْيَاءِ كَالسُّقْيَا، لَكِنَّهُمْ شَذُّوا فِيهِ. إِذِ انْبَعَثَ: أَيْ خَرَجَ لِعَقْرِ النَّاقَةِ بِنَشَاطٍ وَحِرْصٍ، وَالنَّاصِبُ لِإِذْ كَذَّبَتْ، وأَشْقاها: قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ، لِأَنَّ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ جَازَ إِفْرَادُهُ وَإِنْ عُنِيَ بِهِ جَمْعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً، وَالتَّوْحِيدُ لِتَسْوِيَتِكَ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِذَا أَضَفْتَهُ بَيْنَ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَشْقَوْهَا، انْتَهَى. فَأَطْلَقَ الْإِضَافَةَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: إِلَى مَعْرِفَةٍ، لِأَنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى نَكِرَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِذْ ذَاكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، كَحَالِهِ إِذَا كَانَ بِمَنْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ أَشْقاها إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَمَاعَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى ثَمُودُ. رَسُولُ: هُوَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ناقَةَ اللَّهِ بِنَصْبِ التَّاءِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِمَّا يَجِبُ إِضْمَارُ عَامِلِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ، فَصَارَ حُكْمُهُ بِالْعَطْفِ حُكْمَ الْمُكَرَّرِ، كَقَوْلِكَ: الْأَسَدَ الْأَسَدَ، أَيِ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ. فَكَذَّبُوهُ، الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَابَعُوا صَالِحًا بِمُدَّةٍ، ثُمَّ كَذَّبُوا وَعَقَرُوا ، وَأَسْنَدَ الْعَقْرَ لِلْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِمْ رَاضِينَ بِهِ وَمُتَمَالِئِينَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَدَمْدَمَ بِمِيمٍ بَعْدَ دَالَيْنِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: فَدَهْدَمَ بَهَاءٍ بَيْنَهُمَا، أَيْ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ مُكَرِّرًا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، بِذَنْبِهِمْ: فِيهِ تَخْوِيفٌ مِنْ عَاقِبَةِ الذُّنُوبِ، فَسَوَّاها، قِيلَ: فَسَوَّى الْقَبِيلَةَ فِي الْهَلَاكِ، عَادَ عَلَيْهَا بِالتَّأْنِيثِ كَمَا عَادَ فِي بِطَغْواها. وَقِيلَ: سَوَّى الدَّمْدَمَةَ، أَيْ سَوَّاهَا بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْرَجُ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: فَلَا يَخَافُ بِالْفَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَلَا بِالْوَاوِ وَالضَّمِيرُ فِي يَخَافُ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ رَبُّهُمْ، أي لأدرك عَلَيْهِ تَعَالَى فِي فِعْلِهِ بِهِمْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ، وَفِيهِ ذَمٌّ لَهُمْ وَتَعَقُّبُهُ لِآثَارِهِمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى صَالِحٍ، أَيْ لَا يَخَافُ عُقْبَى هَذِهِ الْفِعْلَةِ بِهِمْ، إِذْ كَانَ قَدْ أَنْذَرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ. وَمَنْ قَرَأَ: وَلَا يَحْتَمِلُ الضَّمِيرُ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ: الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَخَافُ عَائِدٌ عَلَى أَشْقاها، أَيِ انْبَعَثَ لِعَقْرِهَا، وَهُوَ لَا يَخَافُ عُقْبَى فِعْلِهِ لِكُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ، وَالْعُقْبَى: خَاتِمَةُ الشَّيْءِ وَمَا يَجِيءُ مِنَ الْأُمُورِ بِعَقِبِهِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا.

سورة الليل

سورة الليل [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى، إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى، وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى، فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى، وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى، إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى، وَلَسَوْفَ يَرْضى. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: مَدَنِيَّةٌ. وَقِيلَ: فِيهَا مَدَنِيٌّ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «1» ، ذَكَرَ هُنَا مِنَ الْأَوْصَافِ مَا يحصل

_ (1) سورة الشمس: 91/ 9- 10.

بِهِ الْفَلَاحُ وَمَا تَحْصُلُ بِهِ الْخَيْبَةُ، ثُمَّ حَذَّرَ النَّارَ وَذَكَرَ مَنْ يَصْلَاهَا وَمَنْ يَتَجَنَّبُهَا، وَمَفْعُولُ يَغْشَى مَحْذُوفٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ النَّهَارَ، كَقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ «1» ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّمْسَ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها «2» . وَقِيلَ: الْأَرْضُ وَجَمِيعُ مَا فِيهَا بِظَلَامِهِ. وَتَجَلَّى: انْكَشَفَ وَظَهَرَ، إِمَّا بِزَوَالِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَإِمَّا بِنُورِ الشَّمْسِ. أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ الَّذِي فِيهِ كُلُّ حَيَوَانٍ يَأْوِي إِلَى مَأْوَاهُ، وَبِالنَّهَارِ الَّذِي تَنْتَشِرُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يُجَلِّي السُّرَى مِنْ وَجْهِهِ عَنْ صَفِيحَةٍ ... عَلَى السَّيْرِ مِشْرَاقٍ كَثِيرٍ شُحُومُهَا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَجَلَّى فِعْلًا مَاضِيًا، فَاعِلُهُ ضَمِيرُ النَّهَارِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: تَتَجَلَّى بِتَاءَيْنِ، يَعْنِي الشمس. وقرىء: تُجْلَى بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، أَيِ الشَّمْسُ. وَما خَلَقَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَقِيلَ: مِنْ بَنِي آدَمَ فَقَطْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِوِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَالْحَسَنُ: هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالثَّابِتُ فِي مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ وَالْمُتَوَاتِرُ وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، وَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قِرَاءَةٍ. وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى: نَقْلُ آحَادٍ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ، فَلَا يُعَدُّ قُرْآنًا. وَذَكَرَ ثَعْلَبٌ أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ قَرَأَ: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرِ، بِجَرِّ الذَّكَرِ، وَذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَقَدْ خَرَّجُوهُ عَلَى الْبَدَلِ من عَلَى تَقْدِيرِ: وَالَّذِي خَلَقَ اللَّهُ، وَقَدْ يُخَرَّجُ عَلَى تَوَهُّمِ الْمَصْدَرِ، أَيْ وَخَلْقِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَطُوفُ الْعُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ ... كَمَا طَافَ بِالْبِيعَةِ الرَّاهِبِ بِجَرِّ الرَّاهِبِ عَلَى تَوَهُّمِ النُّطْقِ بِالْمَصْدَرِ، رَأَى كَطَوَافِ الرَّاهِبِ بِالْبِيعَةِ. إِنَّ سَعْيَكُمْ: أَيْ مَسَاعِيَكُمْ، لَشَتَّى: لَمُتَفَرِّقَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا السَّعْيَ. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى الْآيَةَ: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، كان عتق ضَعَفَةَ عَبِيدِهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، وَيُنْفِقُ فِي رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ، وَكَانَ الْكُفَّارُ بِضِدِّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيِّ بِسَبَبِ مَا كَانَ يُعَلِّقُ فِي الْمَسْجِدِ صَدَقَةً، وَبِسَبَبِ النَّخْلَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنَ الْمُنَافِقِ بِحَائِطٍ لَهُ، وَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاوَمَ الْمُنَافِقَ فِي شِرَائِهَا بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْأَيْتَامِ الَّذِينَ كَانَتِ النَّخْلَةُ تُشْرِفُ

_ (1) سورة الأعراف: 7/ 54، وسورة الرعد: 13/ 3. (2) سورة الشمس: 91/ 4.

عَلَى بَيْتِهِمْ، فَيَسْقُطُ مِنْهَا الشَّيْءُ فَتَأْخُذُهُ الْأَيْتَامُ، فَمَنَعَهُمُ الْمُنَافِقُ، فَأَبَى عَلَيْهِ الْمُنَافِقُ، فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَشْتَرِي النَّخْلَةَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ بِهَذِهِ ، وَحَذَفَ مَفْعُولَيْ أَعْطَى، إِذِ الْمَقْصُودُ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُعْطِي دُونَ تَعَرُّضٍ لِلْمُعْطَى وَالْعَطِيَّةِ. وَظَاهِرُهُ بَذْلُ الْمَالِ فِي وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَمَكْرُمَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَعْطَى حَقَّ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَنْفَقَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَاتَّقى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتَّقَى اللَّهَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَاتَّقَى الْبُخْلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَاتَّقَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، صِفَةُ تَأْنِيثِ الْأَحْسَنِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ الْحَلِفُ فِي الدُّنْيَا الْوَارِدُ بِهِ وَعْدُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ: الْجَنَّةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الثَّوَابُ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى: أَيْ نُهَيِّئُهُ لِلْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ وَأَهْوَنُ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَابَلَ أَعْطَى بِبَخِلَ، وَاتَّقَى بِاسْتَغْنَى، لِأَنَّهُ زَهِدَ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَغْنى، لِلْعُسْرى، وَهِيَ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَسَنَخْذُلُهُ وَنَمْنَعُهُ الْأَلْطَافَ حَتَّى تَكُونَ الطَّاعَةُ أَعْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَأَشَدَّ كَقَوْلِهِ: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً، كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ «1» ، إِذْ سَمَّى طَرِيقَةَ الْخَيْرِ بِالْيُسْرَى لِأَنَّ عَاقِبَتَهَا الْيُسْرُ، وَطَرِيقَةُ الشَّرِّ الْعُسْرَى لِأَنَّ عَاقِبَتَهَا الْعُسْرُ، أَوْ أَرَادَ بِهِمَا طَرِيقَيِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَيْ فَسَنَهْدِيهِمَا فِي الْآخِرَةِ لِلطَّرِيقَيْنِ. انْتَهَى، وَفِي أَوَّلِ كَلَامِهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَجَاءَ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَالْعُسْرَى لَا تَيْسِيرَ فِيهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّيْسِيرِ التَّهْيِئَةُ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْيُسْرَى وَالْعُسْرَى. وَما يُغْنِي: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً وَاسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُغْنِي عَنْهُ ماله؟ وإِذا تَرَدَّى: تَفَعَّلَ مِنَ الرَّدَى، أَيْ هَلَكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ: تَرَدَّى فِي جَهَنَّمَ: أَيْ سَقَطَ مِنْ حَافَّاتِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: تَرَدَّى بِأَكْفَانِهِ، مِنَ الرَّدَى، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الذِّئْبِ: وَخُطَّا بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ مَضْجَعِي ... وَرُدَّا عَلَى عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدَائِيَا وَقَالَ آخَرُ: نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كله ... ردا آن تَلْوِي فِيهِمَا وَحَنُوطُ إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى: التَّعْرِيفَ بِالسَّبِيلِ وَمَنْحَهُمُ الْإِدْرَاكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْإِرْشَادَ إِلَى الْحَقِّ وَاجِبٌ علينا بنصب الدلائل

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 125. (2) سورة النحل: 16/ 9.

وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى: أَيْ ثَوَابَ الدَّارَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «1» . وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَلْحَةُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: تَتَلَظَّى بِتَاءَيْنِ، وَالْبَزِّيُّ بِتَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَالْجُمْهُورُ: بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ عَظِيمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَظِيمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُرِيدَ أَنْ يُبَالَغَ فِي صِفَتَيْهِمَا الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ، فَقِيلَ: الْأَشْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالصَّلْيِ، كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. وَقَالَ: الْأَتْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّجَاةِ وَكَأَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. وَقِيلَ: هُمَا أَبُو جَهْلٍ، أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَبُو بكر الصديق رضي الله تَعَالَى عَنْهُ. يَتَزَكَّى، مِنَ الزَّكَاةِ: أَيْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ زَاكِيًا، لَا يُرِيدُ بِهِ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، أَوْ يَتَفَعَّلُ مِنَ الزَّكَاةِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَزَكَّى مُضَارِعُ تَزَكَّى. وَقَرَأَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ ، وَيَتَزَكَّى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنْ صِلَةِ الَّذِي، وَهُوَ يُؤْتِي، قَالَهُ: وَهُوَ إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ، وَجَاءَ تُجْزى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً، وَكَانَ أَصْلُهُ نَجْزِيهِ إِيَّاهَا أَوْ نَجْزِيهَا إِيَّاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا ابْتِغاءَ بِنَصْبِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي مِنْ نِعْمَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ فِي مَوْضِعِ نِعْمَةٍ لِأَنَّهُ رَفْعٌ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَأَنْشَدَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلَ بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ. أَضْحَتْ خَلَاءً قِفَارًا لَا أَنِيسَ بِهَا ... إِلَّا الْجَآذِرُ وَالظُّلُمَاتُ تَخْتَلِفُ وَقَالَ الرَّاجِزُ فِي الرَّفْعِ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِلَّا ابْتِغاءَ، مَقْصُورًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ مَفْعُولًا لَهُ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا يُؤْتِي مَالَهُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ، لَا لِمُكَافَأَةِ نِعَمِهِ، انْتَهَى. وَهَذَا أَخَذَهُ مِنَ قَوْلِ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَنُصِبَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا أُعْطِيكَ ابْتِغَاءَ جَزَائِكَ، بَلِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ. وَلَسَوْفَ يَرْضى: وَعْدٌ بِالثَّوَابِ الَّذِي يَرْضَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَرْضى بِفَتْحِ الْيَاءِ، وقرىء: بِضَمِّهَا، أَيْ يَرْضَى فِعْلَهُ، يَرْضَاهُ اللَّهُ وَيُجَازِيهِ عَلَيْهِ.

_ (1) سورة العنكبوت: 29/ 27.

سورة الضحى

سورة الضّحى [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) سَجَا اللَّيْلُ: أَدْبَرَ، وَقِيلَ: أَقْبَلَ، وَمِنْهُ: يَا حَبَّذَا الْقَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجِ ... وَطُرُقٌ مِثْلُ مِلَاءِ النَّسَّاجِ وَبَحْرٌ سَاجٍ: سَاكِنٌ، قَالَ الْأَعْشَى: وَمَا ذَنْبُنَا إِنْ جَاشَ بِحْرُ ابْنِ عَمِّكُمْ ... وَبَحْرُكَ سَاجٍ لَا يُوَارِي الدَّعَامِصَا وَطَرَفٌ سَاجٍ: غَيْرُ مُضْطَرِبٍ بِالنَّظَرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَجَا اللَّيْلُ: أَظْلَمَ وَرَكَدَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَجَا اللَّيْلُ: اشْتَدَّ ظَلَامُهُ. وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى «1» ، وَكَانَ سَيِّدُ الْأَتْقَيْنَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا نِعَمَهُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا وَدَّعَكَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُهُ هِشَامٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِخَفِّهَا، أَيْ مَا تَرَكَكَ. وَاسْتَغْنَتِ الْعَرَبُ فِي فَصِيحِ كَلَامِهَا بِتَرَكَ عَنْ وَدَعَ وَوَذَرَ، وَعَنِ اسْمِ فَاعِلِهِمَا بِتَارِكٍ، وَعَنِ اسْمِ مَفْعُولِهِمَا بِمَتْرُوكٍ، وَعَنْ مَصْدَرِهِمَا بِالتَّرْكِ، وَقَدْ سُمِعَ وَدَعَ وَوَذَرَ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلِي مَا الَّذِي ... غَالَهُ فِي الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهُ وَقَالَ آخَرُ: وَثَمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وَعَامِرٍ ... فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدْعِ، لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ. وَما قَلى: مَا أَبْغَضَكَ، وَاللُّغَةُ الشَّهِيرَةُ فِي مُضَارِعِ قَلَى يَقْلِي، وطيىء تُعْلِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ اخْتِصَارًا فِي قَلى، وَفِي فَآوى وَفِي فَهَدى، وَفِي فَأَغْنى، إِذْ يُعْلَمُ أَنَّهُ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَبْطَأَ الْوَحْيُ مَرَّةً عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ أُمُّ جَمِيلٍ، امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا تَرَكَكَ؟ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّمَا احْتَبَسَ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لجر وكلب كَانَ فِي بَيْتِهِ. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى: يُرِيدُ الدَّارَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ حَالَتَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ وَبَعْدَهَا، وَعَدَهُ تَعَالَى بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اهْتِمَالًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى بِمَا قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ فِي ضِمْنِ نَفْيِ التَّوْدِيعِ وَالْقِلَى أَنَّ اللَّهَ مُوَاصِلُكَ بِالْوَحْيِ إِلَيْكَ، وَأَنَّكَ حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا تُرَى كَرَامَةٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نِعْمَةٌ أَجَلُّ مِنْهُ، أَخْبَرَهُ أَنَّ حَالَهُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ، وَهُوَ السَّبْقُ وَالتَّقَدُّمُ عَلَى جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَشَهَادَةُ أُمَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَرَفْعُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِعْلَاءُ مَرَاتِبِهِمْ بِشَفَاعَتِهِ. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، قَالَ الْجُمْهُورُ: ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِضَاهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ. وَقَالَ أَيْضًا: رِضَاهُ أَنَّهُ وَعَدَهُ بِأَلْفِ قَصْرٍ فِي الْجَنَّةِ بِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ وَالْخَدَمِ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِفَتْحِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ هَذَا مَوْعِدٌ شَامِلٌ لِمَا أَعْطَاهُ فِي

_ (1) سورة الليل: 92/ 17.

الدُّنْيَا مِنَ الظَّفَرِ، وَلِمَا ادَّخَرَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ. وَاللَّامُ فِي وَلَلْآخِرَةُ لَامُ ابْتِدَاءٍ أَكَّدَتْ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ، وَكَذَا فِي وَلَسَوْفَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ. وَلَمَّا وَعَدَهُ هَذَا الْمَوْعُودَ الْجَلِيلَ، ذَكَّرَهُ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي حَالِ نَشْأَتِهِ. أَلَمْ يَجِدْكَ: يَعْلَمْكَ، يَتِيماً: تُوُفِّيَ أَبُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ جَنِينٌ، أَتَتْ عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَمَاتَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ. وَقِيلَ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ: لِمَ يُتِّمَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ أَبَوَيْهِ؟ فَقَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يَدَّعِ التَّفَاسِيرَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَلَمْ يَجِدْكَ وَاحِدًا فِي قُرَيْشٍ عَدِيمَ النَّظِيرِ فَآوَاكَ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَآوى رُبَاعِيًّا وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ: فَأَوَى ثُلَاثِيًّا، بِمَعْنَى رَحِمَ. تَقُولُ: أَوِيتُ لِفُلَانٍ: أَيْ رَحِمْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أُرَانِي وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ أَنَّهُ ... لِنَفْسِي قَدْ طَالَبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ وَوَجَدَكَ ضَالًّا: لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الضَّلَالِ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْهُدَى، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ ضَلَالُهُ وَهُوَ فِي صِغَرِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقِيلَ: ضَلَالُهُ مِنْ حَلِيمَةِ مُرْضِعَتِهِ. وَقِيلَ: ضَلَّ فِي طَرِيقِ الشَّامِ حِينَ خَرَجَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ، وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ فِيهَا بَعْضُ مَا لَا يَجُوزُ نِسْبَتَهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ أَنِّي أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَقُولُ عَلَى الْفَوْرِ: وَوَجَدَكَ، أَيْ وَجَدَ رَهْطَكَ، ضَالًّا، فَهَدَاهُ بِكَ. ثُمَّ أَقُولُ: عَلَى حَذْفِ مضاف، نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عائِلًا: أَيْ فَقِيرًا. قَالَ جَرِيرٌ: اللَّهُ نَزَّلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً ... لِابْنِ السَّبِيلِ وَلِلْفَقِيرِ الْعَائِلِ كَرَّرَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: عَيِّلًا، كَسَيِّدٍ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَمِنْهُ قول أجيحة بْنِ الْحَلَّاجِ: وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ عَالَ: افْتَقَرَ، وَأَعَالَ: كَثُرَ عِيَالُهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَأَغْنى رِضَاكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ الرِّزْقِ. وَقِيلَ: أَغْنَاكَ بِالْقَنَاعَةِ وَالصَّبْرِ. وَقِيلَ: بِالْكَفَافِ. وَلَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ هَذِهِ النِّعَمَ الثَّلَاثَ، وَصَّاهُ بِثَلَاثٍ كَأَنَّهَا مُقَابِلَةٌ لَهَا. فَلا تَقْهَرْ، قال مجاهد: لا تحتقره. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: لَا تَسْتَزِلَّهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا تَظْلِمْهُ بِتَضْيِيعِ مَالِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَمْنَعْهُ حَقَّهُ، وَالْقَهْرُ هُوَ التَّسْلِيطُ بِمَا

_ (1) سورة يوسف: 12/ 82. [.....]

يُؤْذِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَقْهَرْ بِالْقَافِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: بِالْكَافِ بَدَلَ الْقَافِ، وَهِيَ لُغَةٌ بِمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا السَّائِلَ: ظَاهِرُهُ الْمُسْتَعْطِي، فَلا تَنْهَرْ: أَيْ تَزْجُرْهُ، لَكِنْ أَعْطِهِ أَوْ رُدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تُغْلِظُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ فِي مُقَابَلَةِ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى فَالسَّائِلُ، كَمَا قُلْنَا: الْمُسْتَعْطِي، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: السَّائِلُ هُنَا: السَّائِلُ عَنِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، لَا سَائِلَ الْمَالِ، فَيَكُونُ بِإِزَاءِ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ بُثَّ الْقُرْآنَ وَبَلِّغْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ النُّبُوَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ النِّعَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّحْدِيثُ بِالنِّعَمِ: شَكْرُهَا وَإِشَاعَتُهَا، يُرِيدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ نِعْمَةِ الْإِيوَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِغْنَاءِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ، انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، أَمَرَهُ بِثَلَاثَةٍ: فَذَكَرَ الْيَتِيمَ أَوَّلًا وَهِيَ الْبِدَايَةُ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلَ ثَانِيًا وَهُوَ الْعَائِلُ، وَكَانَ أَشْرَفُ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ هِيَ الْهِدَايَةَ، فَتَرَقَّى مِنْ هَذَيْنِ إِلَى الْأَشْرَفِ وَجَعَلَهُ مَقْطَعَ السُّورَةِ، وَإِنَّمَا وَسَّطَ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْيَتِيمِ هُوَ زَمَانُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومٌ مِنَ اقْتِرَافِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْعَقِيدَةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الِامْتِنَانِ بِذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْيَتِيمِ وَحَالَةِ التَّكْلِيفِ، وَفِي الْآخَرِ تَرَقَّى إِلَى الْأَشْرَفِ، فَهُمَا مَقْصِدَانِ فِي الْخِطَابِ.

سورة الشرح

سورة الشرح [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ. وَشَرْحُ الصَّدْرِ: تَنْوِيرُهُ بِالْحِكْمَةِ وَتَوْسِيعُهُ لِتَلَقِّي مَا يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ لِهَذَا وَلِغَيْرِهِ مِنْ مُقَاسَاةِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَاحْتِمَالِ الْمَكَارِهِ مِنْ إِذَايَةِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: إِشَارَةٌ إِلَى شَقِّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَدْرَهُ فِي وَقْتِ صِغَرِهِ، وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى النَّفْيِ، فَأَفَادَ التَّقْرِيرَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَصَارَ الْمَعْنَى: قَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ الْمَاضِي وَهُوَ ووضعنا وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَشْرَحْ بِجَزْمِ الْحَاءِ لِدُخُولِ الْجَازِمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِفَتْحِهَا، وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ أَلَمْ نَشْرَحَنْ، فَأَبْدَلَ مِنَ النُّونِ أَلِفًا، ثُمَّ حَذَفَهَا تَخْفِيفًا، فَيَكُونُ مِثْلَ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ مِنْ قول الراجز:

_ (1) سورة الشعراء: 26/ 18.

مِنْ أَيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرُّ ... أَيْوَمٍ لَمْ يُقَدَّرَ أَمْ يَوْمٍ قُدِّرَ وَقَالَ الشَّاعِرُ: اضْرِبْ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ... ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ وَقَالَ: قِرَاءَةٌ مَرْذُولَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَهَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَقَالُوا: لَعَلَّهُ بَيَّنَ الْحَاءَ، وَأَشْبَعَهَا فِي مَخْرَجِهَا فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّهُ فَتَحَهَا، انْتَهَى. وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَخْرِيجٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ حَكَاهَا اللِّحْيَانِيُّ فِي نَوَادِرِهِ، وَهِيَ الْجَزْمُ بِلَنْ وَالنَّصْبُ بِلَمْ عَكْسُ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ النَّاسِ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ عَائِشَةَ بِنْتِ الْأَعْجَمِ تَمْدَحُ الْمُخْتَارَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِثَأْرِ الْحُسَيْنَ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: قَدْ كَانَ سَمْكُ الْهُدَى يَنْهَدُّ قَائِمُهُ ... حَتَّى أُتِيحَ لَهُ الْمُخْتَارُ فَانْعَمَدَا فِي كُلِّ مَا هَمَّ أَمْضَى رَأْيَهُ قُدُمًا ... وَلَمْ يُشَاوِرَ فِي إِقْدَامِهِ أَحَدَا بِنَصْبِ يُشَاوِرَ، وَهَذَا مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْرِيجَيْنِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ: كِنَايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الْأَدْنَاسِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْحَطِّ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَفَعْتُ عَنْكَ مَشَقَّةَ الزِّيَارَةِ، لِمَنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ زِيَارَةٌ، عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ الزِّيَارَةِ مِنْهُ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنْقَضَ الْحِمْلُ ظَهْرَ النَّاقَةِ، إِذَا سَمِعْتَ لَهُ صَرِيرًا مِنْ شِدَّةِ الْحِمْلِ، وَسَمِعْتُ نَقِيضَ الْمِرْجَلِ: أَيْ صَرِيرَهُ. قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: وَأَنْقَضَ ظَهْرِي مَا تَطَوَّيْتُ مِنْهُمْ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ مُشْفِقًا مُتَحَنِّنَا وَقَالَ جَمِيلٌ: وَحَتَّى تَدَاعَتْ بِالنَّقِيضِ حِبَالُهُ ... وهمت بوأي زورة أن نحطها وَالنَّقِيضُ: صَوْتُ الِانْقِضَاضِ وَالِانْفِكَاكِ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ: هُوَ أَنْ قَرَنَهُ بِذِكْرِهِ تَعَالَى فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَالْخُطَبِ، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ نَبِيَّ اللَّهِ وَرَسُولَ اللَّهِ، وَذِكْرِهِ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَالْأَخْذِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ حَسَّانُ: أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمُ ... مِنَ الله مشهور يَلُوحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

وَتَعْدِيدُ هَذِهِ النِّعَمِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ بِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَإِنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْكَ بِظَفَرِكَ عَلَى أَعْدَائِكَ وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ الْكُفَّارُ أَيْضًا يُعَيِّرُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَقْرِ، فَذَكَّرَهُ هَذِهِ النِّعَمَ وَقَوَّى رَجَاءَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً: أَيْ مَعَ الضِّيقِ فَرَجًا. ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي حُصُولِ الْيُسْرِ. وَلَمَّا كَانَ الْيُسْرُ يَعْتَقِبُ الْعُسْرَ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلِ أَزْمَانٍ، جُعِلَ كَأَنَّهُ مَعَهُ، وَفِي ذلك تبشيرا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُصُولِ الْيُسْرِ عَاجِلًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّكْرَارَ لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا قُلْنَا. وَقِيلَ: تَكَرَّرَ الْيُسْرُ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ، فَيُسْرٌ فِي الدُّنْيَا وَيُسْرٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: مَعَ كل عسر يسر، إن مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعُسْرَ مُعَرَّفٌ بِالْعَهْدِ، وَالْيُسْرَ مُنَكَّرٌ، فَالْأَوَّلُ غَيْرُ الثَّانِي. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَضَمَّ سِينَ الْعُسُرِ وَيُسُرًا فِيهِنَّ ابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى، وَسَكَّنَهُمَا الْجُمْهُورُ. وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ السابقة عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَعَدَهُ بِتَيْسِيرِ مَا عَسَّرَهُ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْأَبَ فِي الْعِبَادَةِ إِذَا فَرَغَ مِنْ مِثْلِهَا وَلَا يَفْتُرَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَإِذا فَرَغْتَ مِنْ فَرْضِكَ، فَانْصَبْ فِي التَّنَفُّلِ عِبَادَةً لِرَبِّكَ. وَقَالَ أَيْضًا: فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ فَإِذا فَرَغْتَ مِنْ شُغْلِ دُنْيَاكَ، فَانْصَبْ فِي عِبَادَةِ رَبِّكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فَإِذا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَإِذا فَرَغْتَ مِنَ الْجِهَادِ، فَانْصَبْ فِي الْعِبَادَةِ. وَيُعْتَرَضُ قَوْلُهُ هَذَا بِأَنَّ الْجِهَادَ فُرِضَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرَغْتَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَانْصَبْ بِسُكُونِ الْبَاءِ خَفِيفَةً، وَقَوْمٌ: بِشَدِّهَا مَفْتُوحَةً مِنَ الِانْصَابِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ: فَانْصِبْ بِكَسْرِ الصَّادِ بِمَعْنَى: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الرِّسَالَةِ فَانْصِبْ خَلِيفَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ ضَعِيفَةُ الْمَعْنَى لَمْ تَثْبُتْ عَنْ عَالِمٍ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَارْغَبْ، أَمْرٌ مِنْ رَغِبَ ثُلَاثِيًّا: أَيِ اصْرِفْ وَجْهَ الرَّغَبَاتِ إِلَيْهِ لَا إِلَى سِوَاهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ أبي عبلة: فرغت، أَمْرٌ مِنْ رَغَّبَ بِشَدِّ الغين.

سورة التين

سورة التّين [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) التِّينُ: هُوَ الْفَاكِهَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَاسْمُ جَبَلٍ، وَتَأْتِي أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ. وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ كَمَّلَهُ اللَّهُ خَلْقًا وَخُلُقًا وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْعَالَمِ، ذَكَرَ هُنَا حَالَةَ مَنْ يُعَادِيهِ، وَأَنَّهُ يَرُدُّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَقْسَمَ تَعَالَى بِمَا أَقْسَمَ بِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ مُهَيَّأً لِقَبُولِ الْحَقِّ، ثُمَّ نَقَلَهُ كَمَا أَرَادَ إِلَى الْحَالَةِ السَّافِلَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ هُمَا الْمَشْهُورَانِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَدْحُ التِّينِ وَأَنَّهَا تَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ وَتَنْفَعُ مِنَ النِّقْرِسِ» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ «1» ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقَالَ كَعْبٌ وَعِكْرِمَةُ: أَقْسَمَ تَعَالَى بِمَنَابِتِهِمَا، فَإِنَّ التِّينَ يَنْبُتُ كَثِيرًا بِدِمَشْقَ، وَالزَّيْتُونَ بِإِيلِيَّا، فَأَقْسَمَ بِالْأَرَضِينَ. وَقَالَ قتادة: هما جبلان

_ (1) سورة المؤمنون: 23/ 20.

بِالشَّامِ، عَلَى أَحَدِهِمَا دِمَشْقُ وَعَلَى الْآخَرِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، انْتَهَى. وَفِي شِعْرِ النَّابِغَةِ ذُكْرَ التِّينُ وَشُرِحَ بِأَنَّهُ جَبَلٌ مُسْتَطِيلٌ. قَالَ النَّابِغَةُ: صهب الظلال أبين التِّينَ عَنْ عُرُضٍ ... يُزْجِينَ غيما قليلا ماؤه شبها وَقِيلَ: هُمَا مَسْجِدَانِ، وَاضْطَرَبُوا فِي مَوَاضِعِهِمَا اضْطِرَابًا كَثِيرًا ضَرَبْنَا عَنْ ذَلِكَ صَفْحًا. وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي طُورِ سَيْنَاءَ أَنَّهُ جَبَلٌ بِالشَّامِ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى سِينِينَ: ذُو الشَّجَرِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَسَنٌ مُبَارَكٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِينِينَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِفَتْحِ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةُ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَحْوُ سِينُونَ بِيرُونَ فِي جَوَازِ الْإِعْرَابِ بِالْوَاوِ وَالْيَاءِ، والإقرار على الياء تحريك النون بِحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَالْحَسَنُ: سِينَاءُ بِكَسْرِ السِّينِ وَالْمَدِّ وَعُمَرُ أَيْضًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِهَا وَالْمَدِّ، وَهُوَ لَفْظٌ سُرْيَانِيٌّ اخْتَلَفَتْ بِهَا لُغَاتُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: سِينِينُ: شَجَرٌ وَاحِدُهُ سِينِينَةٌ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ: هُوَ مَكَّةُ، وَأَمِينٌ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ آمِنٌ مَنْ فِيهِ وَمَنْ دَخَلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ، أَوْ مِنْ أَمُنَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الْمِيمِ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ، وَأَمَانَتُهُ حِفْظُهُ مَنْ دَخَلَهُ وَلَا مَا فِيهِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ، أَوْ مِنْ أَمُنَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الْمِيمِ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ، كَمَا يَحْفَظُ الْأَمِينُ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ أَمَّنَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُونُ الْغَوَائِلِ. كَمَا وُصِفَ بِالْآمِنِ فِي قَوْلِهِ: حَرَماً آمِناً «1» بِمَعْنَى ذِي أَمْنٍ. وَمَعْنَى الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِبَانَةُ شَرَفِهَا وَمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ بِسُكْنَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَمَنْبَتِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ مُهَاجَرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ومولد عيسى ومنشأه، وَالطُّورُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي نُودِيَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَكَّةُ مَكَانُ مَوْلِدِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَمَكَانُ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، قَالَ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: حُسْنُ صُورَتِهِ وَحَوَاسِّهِ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ قَامَتِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ: عَقْلُهُ وَإِدْرَاكُهُ زَيَّنَاهُ بِالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: شَبَابُهُ وَقُوَّتُهُ، وَالْأَوْلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا هُوَ أَحْسَنُ. وَالْإِنْسَانُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَأَحْسَنُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ فِي تَقْوِيمٍ أَحْسَنَ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالنَّخَعِيُّ: بِالْهِرَمِ وَذُهُولِ الْعَقْلِ وَتَغَلُّبِ الْكِبَرِ حَتَّى يَصِيرَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا. أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَمَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ والاستثناء على هذا

_ (1) سورة القصص: 28/ 57.

مُنْقَطِعٌ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعْتَرِيهِ هَذَا، بَلْ فِي الْجِنْسِ مَنْ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: أَسْفَلَ سافِلِينَ فِي النَّارِ عَلَى كُفْرِهِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَافِلِينَ مُنَكَّرًا وَعَبْدُ اللَّهِ: السَّافِلِينَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَقْوَالَ السَّلَفِ وَحَسَّنَهَا ببلاغته وانتقاء أَلْفَاظِهِ فَقَالَ: فِي أَحْسَنِ تَعْدِيلٍ لِشَكْلِهِ وَصُورَتِهِ وَتَسْوِيَةِ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ حِينَ لَمْ يَشْكُرْ نِعْمَةَ تِلْكَ الْخِلْقَةِ الْحَسَنَةِ الْقَوِيمَةِ السَّوِيَّةِ، إِذْ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ مَنْ سَفُلَ خَلْقًا وَتَرْكِيبًا، يَعْنِي أَقْبَحَ مَنْ قَبُحَ صُورَةً وَأَشْوَهَهُ خِلْقَةً، وَهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. وَأَسْفَلَ مَنْ سَفُلَ مِنْ أَهْلِ الدَّرَكَاتِ. أَوْ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقْوِيمِ وَالتَّحْسِينِ أَسْفَلَ مَنْ سَفُلَ فِي حُسْنِ الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، حَيْثُ نَكَّسْنَاهُ فِي خَلْقِهِ، فَقُوِسَ ظَهْرُهُ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ، وَابْيَضَّ شَعْرُهُ بَعْدَ سَوَادِهِ، وَتَشَنَّنَ جِلْدُهُ وَكَانَ بَضًّا، وَكَلَّ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَانَا حَدِيدَيْنِ، وَتَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ، فَمَشْيُهُ دَلْفٌ، وَصَوْتُهُ خُفَاتٌ، وَقُوَّتُهُ ضَعْفٌ، وَشَهَامَتُهُ خَرَفٌ،. انْتَهَى، وَفِيهِ تَكْثِيرٌ. وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ هُوَ إِلَى الْهِرَمِ، فَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ الصَّالِحِينَ مِنَ الْهَرْمَى لَهُمْ ثَوَابٌ دَائِمٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى ابْتِلَاءِ اللَّهِ بِالشَّيْخُوخَةِ وَالْهِرَمِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا بَلَغَ مِائَةً وَلَمْ يَعْمَلْ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ» ، وَفِيهِ أَيْضًا: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا رُدَّ لِأَرْذَلِ الْعُمُرِ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي قُوَّتِهِ» ، وَذَلِكَ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَمَمْنُوعٍ مَقْطُوعٍ، أَيْ مَحْسُوبٍ يُمَنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَالْخِطَابُ فِي فَما يُكَذِّبُكَ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَيْ مَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ، أَيْ يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِالدِّينِ تَجْعَلُ لِلَّهِ أَنْدَادًا وَتَزْعُمُ أَنْ لَا بَعْثَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ؟ وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ وَهُوَ الدين بعد هذه العبرة التي توجب النَّظَرُ فِيهَا صِحَّةَ مَا قَلْتَ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ: وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ وَإِخْبَارٌ بعد له تعالى.

سورة العلق

سورة العلق [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) السَّفْعُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْجَذْبُ بِشِدَّةٍ، وَسَفَعَ بِنَاصِيَةِ فَرَسِهِ: جدب، قال عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ: قَوْمٌ إِذَا كَثُرَ الصِّيَاحُ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: مَعْنَاهُ الْأَخْذُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، النَّادِي وَالنَّدَى: الْمَجْلِسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيَّةِ: سَيِّدُ نَادِيهِ وَثِمَالُ عَافِيهِ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمُ ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الزَّبَانِيَةُ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقِيلَ: جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَعَبَادِيدَ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُمْ زِبْنِيَةٌ عَلَى وَزْنِ حِدْرِيَةٍ وَعِفْرِيَةٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: زَبْنِيٌّ، وَكَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الزَّبْنِ ثُمَّ غُيِّرَ لِلنَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنْسِيٌّ وَأَصْلُهُ زَبَانِيٌّ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَخْفَشُ: وَاحِدُهُمْ زَابِنٌ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى مَنْ اشْتَدَّ بَطْشُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَمُسْتَعْجِبٌ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَّاتِنَا ... وَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: وَقَدْ زنبتنا الْحَرْبُ وَزَبَنَّاهَا. اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى، إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَصَدْرُهَا أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنْ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ فِي غَارِ حِرَاءَ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُ جَابِرٍ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ الْمُدَّثِّرُ. وَقَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ الْفَاتِحَةُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ ثُمَّ سُورَةُ الْقَلَمِ، انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا خَلْقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ هُنَا مُنَبِّهًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَطْوَارِهِ، وَذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ طُغْيَانَهُ بَعْدَ ذلك وما يؤول إِلَيْهِ حَالُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اقْرَأْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَالْأَعْشَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: بِحَذْفِهَا، كَأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُبْدِلُ الْهَمْزَةَ بِمُنَاسِبِ حَرَكَتِهَا فَيَقُولُ: قَرَأَ يَقْرَا، كَسَعَى يَسْعَى. فَلَمَّا أَمَرَ مِنْهُ قِيلَ: اقْرَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، كَمَا تَقُولُ: اسْعَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الْبَاءِ بِاقْرَأْ وَتَكُونُ لِلِاسْتِعَانَةِ، وَمَفْعُولُ اقْرَأْ مَحْذُوفٌ، أَيِ اقْرَأْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ. وَقِيلَ: بِاسْمِ رَبِّكَ هُوَ الْمَفْعُولُ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِقِرَاءَتِهِ، كَمَا تَقُولُ: اقْرَأِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اقْرَأْ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَقِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيِ اقْرَأْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ «1» ، أَيْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اقْرَأِ الْقُرْآنَ مُبْتَدِئًا بِاسْمِ رَبِّكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَحَلُّ بِاسْمِ رَبِّكَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ، قُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ اقْرَأْ، انْتَهَى. وَهَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ. الْمَعْنَى: اقْرَأْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبَاءُ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى اذْكُرْ رَبَّكَ. وَقَالَ أَيْضًا: الِاسْمُ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى اقْرَأْ بِعَوْنِ رَبِّكَ وتوفيقه. وجاء باسم

_ (1) سورة هود: 11/ 4.

رَبِّكَ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي لَفْظِ الرَّبِّ مِنْ مَعْنَى الَّذِي رَبَّاكَ وَنَظَرَ فِي مَصْلَحَتِكَ. وَجَاءَ الْخِطَابُ لِيَدُلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالتَّأْنِيسِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ رَبٌّ غَيْرُهُ. ثُمَّ جَاءَ بِصِفَةِ الْخَالِقِ، وَهُوَ الْمُنْشِئُ لِلْعَالَمِ لَمَّا كَانَتِ العرب تسمي الأصنام أربا. أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ شِرْكَةُ الْأَصْنَامِ فِيهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْخَلْقِ أَوَّلًا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَصَدَ إِلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالْخَلْقِ، فَاقْتَصَرَ أَوْ حَذَفَ، إِذْ مَعْنَاهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ، وَخَصَّهُ مِنْ بَيْنِ الْمَخْلُوقَاتِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَشْرَفُ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ أَنَّ الْمَلَكَ أَشْرَفُ. وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ، كَمَا قَالَ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ «1» فَقِيلَ: الَّذِي خَلَقَ مُبْهَمًا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ تَفْخِيمًا لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَدَلَالَةً عَلَى عَجِيبِ فِطْرَتِهِ، انْتَهَى. وَالْإِنْسَانُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَالْعَلَقُ جَمْعُ عَلَقَةٍ، فَلِذَلِكَ جَاءَ مِنْ عَلَقٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ خَلَقَ مِنْ عَلَقٍ لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْلَهُمْ آدَمَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَقَرِّرًا عِنْدَ الْكُفَّارِ فَيَسْبِقُ الْفَرْعَ، وَتَرَكَ أَصْلَ الْخِلْقَةِ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِهِمْ. ثُمَّ جَاءَ الْأَمْرُ ثَانِيًا تَأْنِيسًا لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، وَرَبُّكَ لَيْسَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَرْبَابِ، بَلْ هُوَ الْأَكْرَمُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ. وَالْأَكْرَمُ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَرَمِ، إِذْ كَرَمُهُ يَزِيدُ عَلَى كُلِّ كَرَمٍ يُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَيَحْلُمُ عَلَى الْجَانِي، وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَتَجَاوَزُ عَنِ السَّيِّئَةِ. وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّكَرُّمِ بِإِفَادَةِ الْفَوَائِدِ الْعِلْمِيَّةِ تَكَرُّمٌ حَيْثُ قَالَ: الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَدَلَّ عَلَى كَمَالِ كَرَمِهِ بِأَنَّهُ عَلَّمَ عِبَادَهُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَفْضَلِ عِلْمِ الْكِتَابَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا هُوَ. وَمَا دُوِّنَتِ الْعُلُومُ، وَلَا قُيِّدَتِ الْحِكَمُ، وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَلَا مَقَالَاتُهُمْ وَلَا كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ إِلَّا بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْلَا هِيَ لَمَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دَقِيقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَطِيفِ تَدْبِيرِهِ دَلِيلٌ إِلَّا أَمْرَ الْخَطِّ وَالْقَلَمِ لَكَفَى بِهِ. وَلِبَعْضِهِمْ فِي الْأَقْلَامِ: وَرَوَاقِمِ رَقْشٍ كَمِثْلِ أَرَاقِمَ ... قُطْفُ الْخُطَا نَيَّالَةٌ أَقْصَى الْمَدَى سُودُ الْقَوَائِمِ مَا يَجِدُّ مَسِيرُهَا ... إِلَّا إِذَا لَعِبَتْ بِهَا بِيضُ الْمُدَى انْتَهَى. مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا رَأَيْنَا تَسْمِيَةُ النَّصَارَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ التي هي

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 1- 3.

صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى: الْأَكْرَمُ، وَالرَّشِيدُ، وَفَخْرُ السُّعَدَاءِ، وَسَعِيدُ السُّعَدَاءِ، وَالشَّيْخُ الرَّشِيدُ، فَيَا لها مخزية عَلَى مَنْ يَدْعُوهُمْ بِهَا. يَجِدُونَ عُقْبَاهَا يَوْمَ عَرْضِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَمَفْعُولَا عَلَّمَ مَحْذُوفَانِ، إِذِ الْمَقْصُودُ إِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ الَّذِي عَلَّمَ الْخَطَّ، بِالْقَلَمِ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُعْزَى لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهِيَ عِنْدِي عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعَلَّمَ كُلُّ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِدْرِيسُ، وَقِيلَ: آدَمُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ. وَالْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمَ الْإِنْسانَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ الْجِنْسِ. عَدَّدَ عَلَيْهِ اكْتِسَابَ الْعُلُومِ بَعْدَ الْجَهْلِ بِهَا وَقِيلَ: الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى: نَزَلَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ فِي أَبِي جَهْلٍ، نَاصَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْعَدَاوَةَ، وَنَهَاهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يَسْجُدُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ وَانْتَهَرَهُ وَتَوَعَّدَهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيَتَوَعَّدُنِي مُحَمَّدٌ! وَاللَّهِ مَا بِالْوَادِي أَعْظَمُ نَادِيًا مِنِّي. وَيُرْوَى أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَكُفَّ عَنْهُ. كَلَّا: رَدْعٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِطُغْيَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى: أَيْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى: الْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْإِنْسَانِ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَرَأَى هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، يَجُوزُ أَنْ يَتَّحِدَ فِيهَا الضَّمِيرَانِ مُتَّصِلَيْنِ فَتَقُولُ: رَأَيْتُنِي صَدِيقَكَ، وَفُقِدَ وَعُدِمَ بِخِلَافٍ غَيْرُهَا، فَلَا يَجُوزُ: زَيْدٌ ضَرَبَهُ، وَهُمَا ضَمِيرَا زَيْدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ رَآهُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لَامُ الْفِعْلِ وَقِيلَ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ لَا يَجُوزُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَلِّطَهُ، بَلْ يَتَطَلَّبُ لَهُ وَجْهًا، وَقَدْ حُذِفَتِ الْأَلِفُ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا، قَالَ: وَصَّانِي الْعَجَّاجُ فِيمَا وَصَّنِي يُرِيدُ: وَصَّانِي، فاحذف الْأَلِفَ، وَهِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَقَدْ حُذِفَتْ فِي مُضَارِعِ رَأَى فِي قَوْلِهِمْ: أَصَابَ النَّاسَ جُهْدٌ وَلَوْ تَرَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَهُوَ حَذْفٌ لَا يَنْقَاسُ لَكِنْ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَالْقِرَاءَاتُ جَاءَتْ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ قِيَاسُهَا وَشَاذُّهَا. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى : أَيِ الرُّجُوعَ، مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلطَّاغِي الْمُسْتَغْنِي، وَتَحْقِيرٌ لِمَا هُوَ فيه من حيث ما آله إِلَى الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى طُغْيَانِهِ. أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى: تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّاهِيَ أَبُو جَهْلٍ، وَأَنَّ الْعَبْدَ الْمُصَلِّيَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

انْتَهَى. وَفِي الْكَشَّافِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، كَانَ يَنْهَى سَلْمَانَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا صَلَاةُ الظُّهْرِ. قِيلَ: هِيَ أَوَّلُ جَمَاعَةٍ أُقِيمَتْ فِي الْإِسْلَامِ، كان معه أبوبكر وَعَلِيٌّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّابِقِينَ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو طَالِبٍ وَمَعَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ، فَقَالَ لَهُ: صِلْ جَنَاحَ ابْنِ عَمِّكَ وَانْصَرَفَ مَسْرُورًا، وَأَنْشَأَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا ثِقَتِي ... عِنْدَ مُلِمِّ الزَّمَانِ وَالْكَرْبِ وَاللَّهِ لَا أَخْذُلُ النَّبِيَّ وَلَا ... يَخْذُلُهُ مَنْ يَكُونُ مِنْ حَسَبِي لَا تَخْذُلَا وَانْصُرَا ابْنَ عَمِّكُمَا ... أَخِي لِأُمِّي مِنْ بَيْنِهِمْ وَأَبِي فَفَرِحَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. وَالْخِطَابُ فِي أَرَأَيْتَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَكَذَا أَرَأَيْتَ الثَّانِي، وَالتَّنَاسُقُ فِي الضَّمَائِرِ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظْمُ. وَقِيلَ: أَرَأَيْتَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ الْتَفَتَ إِلَى الْكَافِرِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ يَا كَافِرُ، إِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ هُدًى وَدُعَاءً إِلَى اللَّهِ وَأَمْرًا بِالتَّقْوَى، أَتَنْهَاهُ مَعَ ذَلِكَ؟ وَالضَّمِيرُ فِي إِنْ كانَ، وَفِي إِنْ كَذَّبَ عَائِدٌ عَلَى النَّاهِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْ يَنْهَى بَعْضَ عِبَادِ اللَّهِ عَنْ صَلَاتِهِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّاهِي عَلَى طَرِيقَةٍ سَدِيدَةٍ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّقْوَى فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَمَا يَعْتَقِدُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عَلَى التَّكْذِيبِ لِلْحَقِّ وَالتَّوَلِّي عَنِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، كَمَا نَقُولُ نَحْنُ. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، وَيَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِهِ مِنْ هُدَاهُ وَضَلَالِهِ، فَيُجَازِيهِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا وَعِيدٌ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى عَائِدٌ عَلَى الْمُصَلِّي، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى، وَهُوَ عَلَى الْهُدَى وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَالنَّاهِي مُكَذِّبٌ مُتَوَلٍّ عَنِ الذِّكْرِ، أَيْ فَمَا أَعْجَبَ هَذَا! أَلَمْ يَعْلَمْ أَبُو جَهْلٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ وَيَعْلَمُ فِعْلَهُ؟ فَهَذَا تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ، انْتَهَى. وَقَالَ: مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي إِنْ كانَ عَائِدًا عَلَى الْمُصَلِّي، إِنَّمَا ضَمَّ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أمران: الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ولأنه كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي أَمْرَيْنِ: إِصْلَاحِ نَفْسِهِ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَإِصْلَاحِ غَيْرِهِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى: إِكْمَالُ التَّوْبِيخِ وَالْوَعِيدِ بِحَسَبِ التَّوْفِيقَاتِ الثَّلَاثَةِ يَصْلُحُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، يُجَاءُ بِهَا فِي نَسَقٍ. ثُمَّ جَاءَ بِالْوَعِيدِ الْكَافِي بِجَمِيعِهَا اخْتِصَارًا وَاقْتِضَابًا، وَمَعَ كُلِّ تَقْرِيرٍ تَكْمِلَةٌ مُقَدَّرَةٌ تَتَّسِعُ الْعِبَارَاتُ فِيهَا، وَأَلَمْ يَعْلَمْ دَالٌّ عَلَيْهَا مُغْنٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مُتَعَلِّقُ أَرَأَيْتَ؟ قُلْتُ: الَّذِي يَنْهى مَعَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهُمَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ قُلْتُ: هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِي. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ أَلَمْ يَعْلَمْ جَوَابًا لِلشَّرْطِ؟ قُلْتُ: كَمَا صَحَّ فِي قَوْلِكَ: إِنْ أَكْرَمْتُكَ أَتُكْرِمُنِي؟ وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ زَيْدٌ هَلْ تُحْسِنُ إِلَيْهِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا أَرَأَيْتَ الثَّانِيَةُ وَتَوَسُّطُهَا بَيْنَ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتَ؟ قُلْتُ: هِيَ زَائِدَةٌ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، انْتَهَى. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَحْكَامِ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْهَا الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَمَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَالْمَوْصُولَ هُوَ الْآخَرُ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً، كَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ «1» ، أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ «2» ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ «3» ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَتُخَرَّجُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَانُونِ، وَيُجْعَلُ مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الْأُولَى هُوَ الْمَوْصُولُ، وَجَاءَ بَعْدَهُ أَرَأَيْتَ، وَهِيَ تطلب مفعولين، وأ رأيت الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ فَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مَحْذُوفٌ يَعُودُ عَلَى الَّذِي يَنْهى فِيهِمَا، أَوْ عَلَى عَبْداً فِي الثَّانِيَةِ، وَعَلَى الَّذِي يَنْهى فِي الثَّالِثَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ تَوَالَى عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ طَوِالِبَ، فَنَقُولُ: حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَرَأَيْتَ، وَهُوَ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْمُتَأَخِّرُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. حُذِفَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الْأَخِيرُ لِدَلَالَةِ مَفْعُولِ أَرَأَيْتَ الْأُولَى عليه. وحذفا معا لأرأيت الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَى مَفْعُولِهَا الْأَوَّلِ، وَلِدَلَالَةِ الْآخَرِ لِأَرَأَيْتَ الثَّالِثَةَ عَلَى مَفْعُولِهَا الْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ الطَّوَالِبُ لَيْسَ طَلَبُهَا عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ، لا، الْجُمَلَ لَا يَصِحُّ إِضْمَارُهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ فِي غَيْرِ التَّنَازُعِ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ وُقُوعَ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِغَيْرِ فَاءٍ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَهُ، بَلْ نَصُّوا عَلَى وُجُوبِ الْفَاءِ فِي كُلِّ مَا اقْتَضَى طَلَبًا بِوَجْهٍ مَا، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا إِنْ كَانَ فِي ضَرُورَةٍ شعر.

_ (1) سورة النجم: 53/ 33- 35. (2) سورة مريم: 19/ 77- 78. (3) سورة الواقعة: 56/ 58- 59.

كَلَّا: رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِ عَنْ نَهْيِ عِبَادِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ مَا هُوَ فِيهِ، وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَنَسْفَعاً: أَيْ لَنَأْخُذَنْ، بِالنَّاصِيَةِ: وَعَبَّرَ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الشَّخْصِ، أَيْ سَحْبًا إِلَى النَّارِ لِقَوْلِهِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ «1» ، وَاكْتَفَى بِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ عَنِ الْإِضَافَةِ، إِذْ عُلِمَ أَنَّهَا نَاصِيَةُ النَّاهِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَكُتِبَتْ بِالْأَلِفِ بِاعْتِبَارِ الْوَقْفِ، إِذِ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ رَوِيًّا، فَكُتِبَتْ أَلِفًا كَقَوْلِهِ: وَمَهْمَا تَشَا مِنْهُ فَزَارَةُ تَمَنَّعَا وَقَالَ آخَرُ: بِحَسْبِهِ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا وَمَحْبُوبٌ وَهَارُونُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالنُّونِ الشَّدِيدَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ سَفَعَتْهُ النَّارُ وَالشَّمْسُ، إِذَا غَيَّرَتْ وَجْهَهُ إِلَى حَالٍ شَدِيدٍ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: قِيلَ: أَرَادَ لَنُسَوِّدَنَّ وَجْهَهُ مِنَ السَّفْعَةِ وَهِيَ السَّوَادُ، وَكَفَتْ مِنَ الْوَجْهِ لِأَنَّهَا فِي مُقَدَّمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ناصِيَةٍ، كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، بِجَرِّ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّ نَاصِيَةً بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لأنها وصفت فاستقلت بِفَائِدَةٍ، انْتَهَى. وَلَيْسَ شَرْطًا فِي إِبْدَالِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ أَنْ تُوصَفَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ أَيْضًا خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الشَّتْمِ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ: بِرَفْعِهَا، أَيْ هِيَ نَاصِبَةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئَةٌ، وَصَفَهَا بِالْكَذِبِ وَالْخَطَأِ مَجَازًا، وَالْحَقِيقَةُ صَاحِبُهَا، وَذَلِكَ أَحْرَى مِنْ أَنْ يُضَافَ فَيُقَالُ: نَاصِيَةِ كَاذِبٍ خَاطِئٍ، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: وَمَا بِالْوَادِي أَكْبَرُ نَادِيًا مِنِّي، وَالْمُرَادُ أَهْلُ النَّادِي. وَقَالَ جَرِيرٌ: لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ أَيْ أَهْلُ مَجْلِسٍ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ بِقَوْلِهِ: صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ، وَهُوَ أَمْرٌ تَعَجُّبِيٌّ، أَيْ لا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنَدْعُ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَكُتِبَتْ بِغَيْرِ وَاوٍ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:

_ (1) سورة الرحمن: 55/ 431.

سَيُدْعَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الزِّبَانَيْةُ رُفِعَ. كَلَّا: رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي: لَا تُطِعْهُ: أَيْ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى نَهْيِهِ وَكَلَامِهِ. وَاسْجُدْ: أَمْرٌ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَالْمَعْنَى: دُمْ عَلَى صَلَاتِكَ، وَعَبِّرْ عَنِ الصَّلَاةِ بِأَفْضَلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاقْتَرِبْ: وَتَقَرَّبَ إِلَى رَبِّكَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ سُجُودُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «1» ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ مِنَ الْعَزَائِمِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُ فِيهَا فِي خَاصِّيَّةِ نفسه.

_ (1) سورة الانشقاق: 84/ 1. سورة العلق/ الآيات: 1- 19

سورة القدر

سورة القدر [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَكْسَهُ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ أَرْبَعَةً عَبَدُوا اللَّهَ تَعَالَى ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ: أَيُّوبُ وَزَكَرِيَّا وَحِزْقِيلُ وَيُوشَعُ» ، فَعَجِبَ الصَّحَابَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَرَأَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ السُّورَةَ ، فُسُّرُوا بِذَلِكَ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ. لَمَّا قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «1» ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ كَلَامِنَا، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَهُوَ ضَمِيرُ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، ثُمَّ نَجَّمَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّا ابْتَدَأْنَا إِنْزَالَ هَذَا الْقُرْآنِ إِلَيْكَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَرُوِيَ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَكِ فِي حِرَاءَ كَانَ فِي العشر الأواخر من رمضان. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا هَذِهِ السُّورَةَ فِي شَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفَضْلِهَا. وَلَمَّا كَانَتِ السُّورَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، جَاءَ الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ تَفْخِيمًا وتحسينا، فليست ليلة

_ (1) سورة العلق: 96/ 1.

الْقَدْرِ ظَرْفًا لِلنُّزُولِ، بَلْ عَلَى نَحْوِ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: لَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَظَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ إِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَيَّ مُخْتَصًّا بِهِ، وَمِنْ مَجِيئِهِ بِضَمِيرِهِ دُونَ اسْمِهِ الظَّاهِرِ شَهَادَةً لَهُ بِالنَّبَاهَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَبِالرَّفْعِ مِنْ مِقْدَارِ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْزِلُ فِيهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَسُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، لِأَنَّهُ تُقَدَّرُ فِيهَا الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ وَحَوَادِثُ الْعَالَمِ كُلُّهَا وَتُدْفَعُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِتَمْتَثِلَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَعْنَاهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الْعَظِيمِ وَالشَّرَفِ، وَعِظَمُ الشَّأْنِ مِنْ قَوْلِكَ: رَجُلٌ له قدر. وقال أبوبكر الْوَرَّاقُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُكْسِبُ مَنْ أَحْيَاهَا قَدْرًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلُ، وَتَرُدُّهُ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ الْعَمَلِ فِيهَا لَهُ قَدْرٌ وَخَطَرٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَنْزَلَ فِيهَا كِتَابًا ذَا قَدْرٍ، عَلَى رَسُولٍ ذِي قَدْرٍ، لِأُمَّةٍ ذَاتِ قَدْرٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَنْزِلُ فِيهَا مَلَائِكَةٌ ذَاتُ قدر وخطر. وقيل: لأنه قَدَّرَ فِيهَا الرَّحْمَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: لِأَنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «1» ، أَيْ ضُيِّقَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي تَعْيِينِ وَقْتِهَا اخْتِلَافًا مُتَعَارِضًا جِدًّا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: رُفِعَتْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّهَا لَمْ تُرْفَعْ، وَأَنَّ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ تَكُونُ فِيهِ، وَأَنَّهَا فِي أَوْتَارِهِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْتَمَسُوهَا فِي الثَّالِثَةِ وَالْخَامِسَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالتَّاسِعَةِ» . وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ: تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهَا، أَيْ لَمْ تَبْلُغْ دِرَايَتُكَ غَايَةَ فَضْلِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَما أَدْراكَ، فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ. قِيلَ: وَأَخْفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ لِيَجِدُّوا فِي الْعَمَلِ وَلَا يَتَّكِلُوا عَلَى فَضْلِهَا وَيُقَصِّرُوا فِي غَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَلْفِ شَهْرٍ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ، وَهِيَ ثَمَانُونَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ. وَالْحَسَنُ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ، وَالْمُرَادُ: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ عَارٍ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ: رَمَضَانَ لَا يَكُونُ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى خَيْرٌ مِنَ الدَّهْرِ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَلْفَ فِي غَايَةِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، قَالَ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ «2» ، يَعْنِي جَمِيعَ الدَّهْرِ. وَعُوتِبَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى تَسْلِيمِهِ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَى فِي الْمَنَامِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلَى مَقْبَرِهِ نَزْوَ القردة،

_ (1) سورة الطلاق: 65/ 7. (2) سورة البقرة: 2/ 96.

فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ مُدَّةِ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْجُذَامِيُّ: فَعَدَدْنَا ذَلِكَ فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا. وَخَرَّجَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، انْتَهَى. وَقِيلَ: آخِرُ مُلُوكِهِمْ مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ فِي آخِرِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا تَمَلُّكُ بَنِي أُمَيَّةَ فِي جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ مُدَّةً غَيْرَ هَذِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَعْضِ أَطْرَافِ الْأَرْضِ وَآخِرِ عِمَارَةِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ كَانَ فِي إِقْلِيمِ الْعَرَبِ إِذْ ذَاكَ مُلُوكٌ كَثِيرُونَ غَيْرُهُمْ. وَذُكِرَ أَيْضًا فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ، فَعَجِبَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَتَقَاصَرَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَأُعْطُوا لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُدَّةِ ذَلِكَ الْغَازِي. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ فِيمَا مَضَى مَا كَانَ يُقَالُ لَهُ عَابِدٌ حَتَّى يَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى أَلْفَ شَهْرٍ، فَأُعْطُوا لَيْلَةً، إِنْ أَحْيَوْهَا، كَانُوا أَحَقَّ بِأَنْ يُسَمَّوْا عَابِدِينَ مِنْ أُولَئِكَ الْعُبَّادِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: مَلَكَ كُلٌّ مِنْ سُلَيْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، فَصَارَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِمَنْ أَدْرَكَهَا خَيْرًا مِنْ مُلْكِهِمَا. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ: تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الرُّوحِ، أَهُوَ جِبْرِيلُ، أَمْ رَحْمَةٌ يَنْزِلُ بِهَا، أَمْ ملك غيره، أم أشراف الْمَلَائِكَةِ، أَمْ جُنْدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَمْ حَفَظَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَالتَّنَزُّلُ إِمَّا إِلَى الْأَرْضِ، وَإِمَّا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ: مُتَعَلِّقٌ بِتَنَزَّلُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ: مُتَعَلِّقٌ بِتَنَزَّلُ وَمِنْ لِلسَّبَبِ، أَيْ تَتَنَزَّلُ مِنْ أَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ لِتِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلٍ. وسَلامٌ: مُسْتَأْنَفٌ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ هِيَ، أَيْ هِيَ سَلَامٌ إِلَى أَوَّلِ يَوْمِهَا، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَافِعٌ الْمُقْرِي وَالْفَرَّاءُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَنَزُّلَهُمْ التقدير: الْأُمُورِ لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مِنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ بِكُلِّ أَمْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: مِنْ كُلِّ امْرِئٍ، أَيْ مِنْ أَجْلِ كُلِّ إِنْسَانٍ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِكُلِّ امْرِئٍ الْمَلَائِكَةُ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَلَكٍ تَحِيَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ بِالْعِبَادَةِ. وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو حَاتِمٍ. سَلامٌ هِيَ: أَيْ هِيَ سَلَامٌ، جَعَلَهَا سَلَامًا لِكَثْرَةِ السَّلَامِ فِيهَا. قِيلَ: لَا يَلْقَوْنَ مُؤْمِنًا وَلَا مُؤْمِنَةً إِلَّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَقَالَ مَنْصُورٌ وَالشَّعْبِيُّ: سَلَامٌ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، أَيْ تُسَلِّمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ قَالَ: تَنَزُّلُهُمْ لَيْسَ لِتَقْدِيرِ الْأُمُورِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، جَعَلَ الْكَلَامَ تَامًّا عِنْدَ قَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ. وَقَالَ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَلامٌ هِيَ، أَيْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مُخَوِّفٍ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ مِنْهُ هِيَ سَلَامٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُصِيبُ أَحَدًا فِيهَا دَاءٌ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ هِيَ سَلَامٌ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، وَأَمْرِي سَالِمَةٌ أَوْ مُسَلَّمَةٌ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَلَامٌ

بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي هِيَ الْمَصْدَرُ عَامِلًا فِيمَا قَبْلَهُ لِامْتِنَاعِ تَقَدُّمِ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَصْدَرِ. كَمَا أَنَّ الصِّلَةَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْمَوْصُولِ، انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: سَلامٌ، وَلَفْظَةُ هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ، إِذْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ كَلِمَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ اللُّغْزِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَطْلَعِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِكَسْرِهَا، فَقِيلَ: هُمَا مَصْدَرَانِ فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ. وَقِيلَ: الْمَصْدَرُ بِالْفَتْحِ، وَمَوْضِعُ الطُّلُوعِ بِالْكَسْرِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ.

سورة البينة

سورة البيّنة [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: مَدَنِيَّةٌ، قَالَهُ

ابْنِ عَطِيَّةَ. وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ: مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَاخْتَارَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ، وَفِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «1» ، ذَكَرَ هُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ لم يكونوا منفكين عن مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَهُمُ الرَّسُولُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ الَّتِي أُمِرَ بِقِرَاءَتِهَا ، وَقَسَّمَ الْكَافِرِينَ هُنَا إِلَى أَهْلِ كِتَابٍ وَأَهْلِ إِشْرَاكٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: وَالْمُشْرِكُونَ رَفْعًا عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْجُمْهُورُ: بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَهْلِ الْكِتابِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكُونَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا بِيَثْرِبَ هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ، وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَحَوْلَهَا وَالْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَتَّى جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالتَّوَكُّفِ لِأَمْرِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ الْكُفَّارُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَقُولُونَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ: لَا نَنْفَكُّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ دِينِنَا حَتَّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَحَكَى اللَّهُ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ الْمُرَادُ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا تَقُومَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَيُتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانُوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، انْتَهَى. وَقِيلَ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ حَيَاتِهِمْ فَيَمُوتُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ، أَيْ مُنْفَصِلًا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ مُقِرًّا الْآخَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِمَّا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ، هَذَا مِنِ اعْتِقَادِهِ فِي شَرِيعَتِهِ، وَهَذَا مِنِ اعْتِقَادِهِ فِي أَصْنَامِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اتَّصَلَتْ مَوَدَّتُهُمْ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ إِلَى أَنْ أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَى مُنْفَكِّينَ: هَالِكِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: انْفَكَّ صِلَا الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَأَنْ يَنْفَصِلَ فَلَا يَلْتَئِمُ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ وَلَا هَالِكِينَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، انْتَهَى. وَمُنْفَكِّينَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ انْفَكَّ، وَهِيَ التَّامَّةُ وَلَيْسَتِ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: هِيَ النَّاقِصَةُ، وَيُقَدَّرُ مُنْفَكِّينَ: عَارِفِينَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، وَخَبَرُ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا، نص

_ (1) سورة العلق: 96/ 1. [.....]

عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا، وَلَهُمْ عِلَّةٌ فِي مَنْعِ ذَلِكَ ذَكَرُوهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، فَحَذَفَ الْخَبَرَ أَنَّهُ ضَرُورَةٌ، وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الْجَلِيلَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَسُولٌ بِالرَّفْعِ بَدَلًا مِنْ الْبَيِّنَةُ، وَأُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: بِالنَّصْبِ حَالًا من البينة. يَتْلُوا صُحُفاً: أَيْ قَرَاطِيسَ، مُطَهَّرَةً مِنَ الْبَاطِلِ. فِيها كُتُبٌ: مَكْتُوبَاتٌ، قَيِّمَةٌ: مُسْتَقِيمَةٌ نَاطِقَةٌ بِالْحَقِّ. وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: أَيْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَقَالَ: كُلُّ مَا يَدُلُّ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ: وَكَانَ يَقْتَضِي مَجِيءُ الْبَيِّنَةِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اتِّبَاعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَعُدُّونَ اجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى الْحَقِّ إِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ، ثُمَّ مَا فَرَّقَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَا أَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا مَجِيءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَيْضًا: أَفْرَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بَعْدَ جَمْعِهِمْ وَالْمُشْرِكِينَ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِهِ لِوُجُودِهِ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِذَا وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ عَنْهُ، كَانَ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْوَصْفِ. وَالْمُرَادُ بِتَفَرُّقِهِمْ: تَفَرُّقُهُمْ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ تَفَرُّقُهُمْ فِرَقًا، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ. وَقَالَ: لَيْسَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ وَعَانَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ تَعَالَى مَذَمَّةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ الْوَاضِحَةَ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِفَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَ مِنَ الْعَرَبِ حَسَدُوهُ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُخْلِصِينَ بكسر اللام، والدين مَنْصُوبٌ بِهِ وَالْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا، أَيْ يُخْلِصُونَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ فِي نِيَّاتِهِمْ. وَانْتَصَبَ الدِّينَ، إِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ لِيَعْبُدُوا، أَيْ لِيَدِينُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ الدِّينَ، وَإِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ فِي، أَيْ فِي الدِّينِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أُمِرُوا، أَيْ فِي كِتَابَيْهِمَا، بِمَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا لِيَعْبُدُوا. حُنَفاءَ: أَيْ مُسْتَقِيمِي الطَّرِيقَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَبِ الطَّالْقَانِيُّ: الْقَيِّمَةُ هُنَا: الْكُتُبُ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، كَأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ قَيِّمَةٍ نَكِرَةً، كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقَيِّمَةِ لِلْعَهْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمَةُ، فَالْهَاءُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ أَنَّثَ، عَلَى أَنْ عَنَى بِالدِّينِ الْمِلَّةَ، كَقَوْلِهِ: مَا هَذِهِ الصَّوْتُ؟ يُرِيدُ: مَا هَذِهِ الصَّيْحَةُ: وَذَكَرَ تَعَالَى مَقَرَّ الْأَشْقِيَاءِ وَجَزَاءَ السُّعَدَاءِ، وَالْبَرِيَّةُ: جَمِيعُ الْخَلْقِ.

_ (1) سورة المزمل: 73/ 15- 16.

وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ عَامِرٍ ونافع: البرءة بِالْهَمْزِ مِنْ بَرَأَ، بِمَعْنَى خَلَقَ. وَالْجُمْهُورُ: بِشَدِّ الْيَاءِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، ثُمَّ سُهِّلَ بِالْإِبْدَالِ وَأَدْغَمَ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَرَاءِ، وَهُوَ التُّرَابُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ يَجْعَلُ الْهَمْزَ خَطَأً، وَهُوَ اشْتِقَاقٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَيَعْنِي اشْتِقَاقَ الْبَرِيَّةِ بِلَا هَمْزٍ مِنَ الْبُرَا، وَهُوَ التُّرَابُ، فَلَا يَجْعَلُهُ خَطَأً، بَلْ قِرَاءَةُ الْهَمْزِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ بَرَأَ، وَغَيْرُ الْهَمْزِ مِنَ الْبُرَا وَالْقِرَاءَتَانِ قَدْ تَخْتَلِفَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ نَحْوَ: أَوْ نَنْسَاهَا أَوْ نُنْسِهَا، فَهُوَ اشْتِقَاقٌ مَرْضِيٌّ. وَحُكْمٌ عَلَى الْكُفَّارِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَبِكَوْنِهِمْ شَرَّ الْبَرِيَّةِ، وَبَدَأَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَجِنَايَتُهُمْ أَعْظَمُ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ، وَشَرُّ الْبَرِيَّةِ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ. وَقِيلَ: شَرُّ الْبَرِيَّةِ: الَّذِينَ عَاصَرُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُفَّارِ الْأُمَمِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، كَفِرْعَوْنَ وَعَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَيْرُ الْبَرِيَّةِ مُقَابِلُ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وَحَمِيدٌ وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ: خِيَارُ الْبَرِيَّةِ جَمْعُ خَيِّرٍ، كَجِيِّدٍ وَجِيَادٍ. وَبَقِيَّةُ السُّورَةِ وَاضِحَةٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ إفرادا وتركيبا.

سورة الزلزلة

سورة الزّلزلة [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ صَغِيرَةٌ حَمْرَاءُ رَقِيقَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَصْغُرُ مَا تَكُونُ إِذَا مَضَى لَهَا حَوْلٌ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَمِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لودب مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَقِيلَ: الذَّرُّ: مَا يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ مِنَ الْهَبَاءِ. إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها، وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ، لِأَنَّ آخِرَهَا نَزَلَ بِسَبَبِ رَجُلَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا كَوْنَ الْكُفَّارِ يَكُونُونَ فِي النَّارِ، وَجَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَتَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. قِيلَ: وَالْعَامِلُ فِيهَا مُضْمَرٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الْجُمَلِ الْآتِيَةِ تَقْدِيرُهُ: تُحْشَرُونَ. وَقِيلَ: اذْكُرْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَحَدَّثْ، انْتَهَى. وَأُضِيفَ الزِّلْزَالُ إِلَى الْأَرْضِ، إِذِ الْمَعْنَى زِلْزَالَهَا

الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ وَيَقْتَضِيهِ جِرْمُهَا وَعِظَمُهَا، وَلَوْ لَمْ يُضَفْ لَصَدَقَ عَلَى كُلِّ قَدْرٍ مِنَ الزِّلْزَالِ وَإِنْ قَلَّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَكْرَمْتُ زَيْدًا كَرَامَةً وَكَرَامَتَهُ وَاضِحٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زِلْزالَها بِكَسْرِ الزَّايِ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى: بِفَتْحِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْوَسْوَاسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَكْسُورُ مَصْدَرٌ، وَالْمَفْتُوحُ اسْمٌ، وَلَيْسَ فِي الْأَبْنِيَةِ فَعْلَالٌ بِالْفَتْحِ إِلَّا فِي الْمُضَاعَفِ، انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَفْتُوحُ اسْمٌ، فَجَعَلَهُ غَيْرُهُ مَصْدَرًا جَاءَ عَلَى فَعْلَالٍ بِالْفَتْحِ. ثُمَّ قِيلَ: قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، فَتَقُولُ: فَضْفَاضٌ فِي مَعْنَى مُفَضْفَضٍ، وَصَلْصَالٌ: فِي مَعْنَى مُصَلْصَلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَيْسَ فِي الْأَبْنِيَةِ إِلَخْ فَقَدْ وُجِدَ فِيهَا فَعْلَالٌ بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَاعَفِ، قَالُوا: نَاقَةٌ بِهَا خَزْعَانٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَلَيْسَ بِمُضَاعَفٍ. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها: جَعَلَ مَا فِي بَطْنِهَا أَثْقَالًا. وَقَالَ النَّقَّاشُ وَالزَّجَّاجُ وَالْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: أَثْقَالُهَا: كُنُوزُهَا وَمَوْتَاهَا. وَرُدَّ بِأَنَّ الْكُنُوزَ إِنَّمَا تَخْرُجُ وَقْتَ الدَّجَّالِ، لَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَقَائِلُ ذَلِكَ يَقُولُ: هُوَ الزِّلْزَالُ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَزِلْزَالُ: يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ «1» ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، إِذْ قَدْ أَخَذَ الزِّلْزَالَ عَامًّا بِاعْتِبَارِ وَقْتَيْهِ. فَفِي الْأَوَّلِ أَخْرَجَتْ كُنُوزَهَا، وَفِي الثَّانِي أَخْرَجَتْ مَوْتَاهَا، وَصَدَّقَتْ أَنَّهَا زُلْزِلَتْ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا. وَقِيلَ أَثْقَالُهَا كُنُوزُهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تُلْقِي الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْتَاهَا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْثِ وَذَلِكَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، فَهُوَ زِلْزَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا الزِّلْزَالُ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَشْرَاطِ. وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها: يَعْنِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ لِمَا يَرَى مِنَ الْهَوْلِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَمْ يَقَعْ فِي ظَنِّهِ قَطُّ وَلَا صَدَّقَهُ، وَالْمُؤْمِنُ، وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ، فَإِنَّهُ اسْتَهْوَلَ الْمَرْأَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ» . قَالَ الْجُمْهُورُ: الْإِنْسَانُ هُوَ الْكَافِرُ يَرَى مَا لَمْ يَظُنَّ. يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ إِذْ زُلْزِلَتْ وَأَخْرَجَتْ تُحَدِّثُ، وَيَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مِنْ إِذَا، فَيَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، أَوِ الْمُكَرَّرِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ. تُحَدِّثُ أَخْبارَها: الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَحْدِيثٌ وَكَلَامٌ حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ فِيهَا حَيَاةً وَإِدْرَاكًا، فَتَشْهَدُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ صَالِحٍ أَوْ فَاسِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «بِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَمَا جَاءَ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: «أتدرون ما

_ (1) سورة النازعات: 79/ 6- 7.

أَخْبَارُهَا» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، تَقُولُ عَمِلَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا» . هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَوْمٌ التَّحْدِيثُ مَجَازٌ عَنْ إِحْدَاثِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا الْأَحْوَالَ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّحْدِيثِ بِاللِّسَانِ، حَتَّى يَنْظُرَ مَنْ يَقُولُ مَا لَهَا إِلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَيَعْلَمُ لِمَ زُلْزِلَتْ، وَلِمَ لَفَظَتِ الْأَمْوَاتَ، وَأَنَّ هَذَا مَا كَانَتِ الأنبياء يندوا بِهِ وَيُحَدِّثُونَ عَنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: تُحَدِّثُ بِمَا أَخْرَجَتْ مِنْ أَثْقَالِهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الزَّلْزَلَةَ هِيَ الَّتِي مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ حَدِيثٌ فِي آخِرِهِ تَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي» . وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تُحَدِّثُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ إِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، فَتُخْبِرُ أَنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَى، وَأَمْرَ الْآخِرَةِ قَدْ أَتَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُمْ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ. وَتُحَدِّثُ هُنَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تُحَدِّثُ النَّاسَ، وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى أَعْلَمَ الْمَنْقُولَةِ مِنْ عَلَّمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ فَتَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها: أَيْ بِسَبَبِ إِيحَاءِ اللَّهِ، فَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتُحَدِّثُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ بِتَحْدِيثٍ أَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا أَخْبَارَهَا، عَلَى أَنَّ تَحْدِيثَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لها تحديث بأخبارها، كَمَا تَقُولُ: نَصَحْتَنِي كُلَّ نَصِيحَةٍ بِأَنْ نَصَحْتَنِي فِي الدِّينِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ عَفَشٌ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِأَنَّ رَبَّكَ بَدَلًا مِنْ أَخْبارَها، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ بِأَخْبَارِهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، لِأَنَّكَ تَقُولُ: حَدَّثْتُهُ كَذَا وَحَدَّثْتُهُ بِكَذَا، انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ تَارَةً يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وَتَارَةً يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَحَرْفُ الْجَرِّ لَيْسَ بِزَائِدٍ، فَلَا يَجُوزُ فِي تَابِعِهِ إِلَّا الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِعْرَابِ. فَلَا يَجُوزُ اسْتَغْفَرْتُ الذَّنْبَ الْعَظِيمِ، بِنَصْبِ الذَّنْبِ وَجَرِّ الْعَظِيمِ لِجَوَازِ أَنَّكَ تَقُولُ مِنَ الذَّنْبِ، وَلَا اخْتَرْتُ زَيْدًا الرِّجَالَ الْكِرَامِ، بِنَصْبِ الرِّجَالِ وَخَفْضِ الْكِرَامِ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: اسْتَغْفَرْتُ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمَ، بِجَرِّ الذَّنْبِ وَنَصْبِ الْعَظِيمِ، وَكَذَلِكَ فِي اخْتَرْتُ. فَلَوْ كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ زَائِدًا، جَازَ الْإِتِّبَاعُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْمِ بِشُرُوطِهِ الْمُحَرَّرَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ عَاقِلًا، لِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ، وَمِنْ رَجُلٍ عَاقِلٍ عَلَى اللَّفْظِ. وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ رَجُلٍ وَجَرُّ عَاقِلٍ عَلَى مُرَاعَاةِ جَوَازِ دُخُولِ مِنْ، وَإِنْ وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَبَابُهُ الشِّعْرُ. وَعَدَّى أَوْحَى بِاللَّامِ لَا بِإِلَى، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ تَعْدِيَتَهَا بِإِلَى لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ. قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ الْأَرْضَ:

أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ ... وَشَدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ فَعَدَّاهَا بِاللَّامِ. وَقِيلَ: الْمُوحَى إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَوْحَى إِلَى مَلَائِكَتِهِ الْمُصَرِّفِينَ أَنْ تَفْعَلَ فِي الْأَرْضِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ. وَاللَّامُ فِي لَهَا لِلسَّبَبِ، أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَمِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فِيهَا. وَإِذَا كَانَ الْإِيحَاءُ إِلَيْهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَحْيَ إِلْهَامٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِرَسُولٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ: انْتَصَبَ يَوْمَئِذٍ بَيَصْدُرُ، وَالصَّدْرُ يَكُونُ عَنْ وِرْدٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ كَوْنُهُمْ فِي الْأَرْضِ مَدْفُونِينَ، وَالصَّدْرُ قيامهم للبعث، وأَشْتاتاً: جَمْعُ شَتٍّ، أَيْ فِرَقًا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَعَاصٍ سَائِرُونَ إِلَى الْعَرْضِ، لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الصَّدْرُ قَوْمٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَوْمٌ إِلَى النَّارِ، وَوِرْدُهُمْ هُوَ وِرْدُ الْمَحْشَرِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمَعْنَى: لِيُرَى عَمَلَهُ وَيَقِفَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ النَّقَّاشِ: لِيُرَى جَزَاءَ عَمَلِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ لِيُرَوْا بِقَوْلِهِ يَصْدُرُ. وَقِيلَ: بِأَوْحَى لَهَا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْتَاتًا: مُتَفَرِّقِينَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، أَهْلُ الْإِيمَانِ عَلَى حِدَةٍ، وَأَهْلُ كُلِّ دِينٍ عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَشْتَاتًا: بِيضَ الْوُجُوهِ آمِنِينَ، وَسُودَ الْوُجُوهِ فَزِعِينَ، انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشْتَاتًا، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ، لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا عَاضِدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيُرَوْا بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: بِفَتْحِهَا، وَالظَّاهِرُ تَخْصِيصُ الْعَامِلِ، أَيْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً مِنَ السُّعَدَاءِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرَى خَيْرًا في الآخرة، وتعميم وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا من الفريقين، لأنه تقسيم جاء بعد قوله: يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ هذه الأعمال في الآخرة، فيرى الخير كله من كان مؤمنا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرا لِأَنَّ خَيْرَهُ قَدْ عُجِّلَ لَهُ فِي دُنْيَاهُ، وَالْمُؤْمِنُ تعجل له سيآته الصَّغَائِرُ فِي دُنْيَاهُ فِي الْمَصَائِبِ وَالْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا، وَمَا عَمِلَ مِنْ شَرٍّ أَوْ خَيْرٍ رَآهُ. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: مِثْقالَ ذَرَّةٍ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ يَرَاهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَهَذَا يُسَمَّى مَفْهُومُ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «2» . وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ خَيْرًا وَشَرًّا عَلَى التَّمْيِيزِ، لِأَنَّ مِثْقَالَ ذَرَّةِ مِقْدَارٌ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مِثْقَالٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 94. (2) سورة الإسراء: 17/ 23.

فِيهِمَا، أَيْ يَرَى جَزَاءَهُ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَخُلَيْدُ بْنُ نَشِيطٍ وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْهُ: بِضَمِّهَا وَهِشَامٌ وَأَبُو بَكْرٍ: بِسُكُونِ الْهَاءِ فِيهِمَا وَأَبُو عَمْرٍو: بِضَمِّهِمَا مُشْبَعَتَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِإِشْبَاعِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ، وَالْإِسْكَانُ فِي الْوَصْلِ لُغَةٌ حَكَاهَا الْأَخْفَشُ وَلَمْ يَحْكِهَا سِيبَوَيْهِ، وَحَكَاهَا الْكِسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ بَنِي كِلَابٍ وَبَنِي عَقِيلٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةُ بَصَرٍ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: لَيْسَتْ بِرُؤْيَةِ بَصَرٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى يُصِيبُهُ وَيَنَالُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: يَرَاهُ بِالْأَلِفِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَرَى الْجَزْمَ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي حُرُوفِ الْعِلَّةِ، حَكَاهَا الْأَخْفَشُ أَوَ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ لَا شَرْطِيَّةٌ، كَمَا قِيلَ فِي إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَثْبَتَ يَاءَ يَتَّقِي وَجَزَمَ يَصْبِرْ، تَوَّهَمَ أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ لَا مَوْصُولَةٌ، فَجَزَمَ وَيَصْبِرْ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة العاديات

سورة العاديات [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) الْعَادِيَّاتُ: الْجَارِيَاتُ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ وَصْفٌ، وَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ الْخِلَافُ فِي الْمَوْصُوفِ، الضَّبْحُ: تَصْوِيتٌ جَهِيرٌ عِنْدَ الْعَدْوِ الشَّدِيدِ، لَيْسَ بِصَهِيلٍ وَلَا رُغَاءٍ وَلَا نُبَاحٍ، بَلْ هُوَ غَيْرُ الْمُعْتَادِ مِنْ صَوْتِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَضْبَحُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ يَضْبَحُ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرَ الْخَيْلِ وَالْكِلَابِ. قِيلَ: وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الْإِبِلَ تَضْبَحُ، وَالْأَسْوَدَ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْبُومَ وَالصَّدَى وَالْأَرْنَبَ وَالثَّعْلَبَ وَالْقَوْسَ، كَمَا اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ لَهَا الضَّبْحَ. أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي صِفَةِ قَوْسٍ: حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أَوْ تَأَلُّبٍ ... تَضْبَحُ فِي الْكَفِّ ضِبَاحِ الثَّعْلَبِ وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُهُ لِلثَّعْلَبِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْخَيْلِ، وَهُوَ مِنْ ضَبَحَتْهُ النَّارُ: غَيَّرَتْ لَوْنَهُ وَلَمْ تُبَالِغْ فِيهِ، وَانْضَبَحَ لَوْنُهُ: تَغَيَّرَ إِلَى السَّوَادِ قَلِيلًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الضَّبْحُ وَالضَّبْعُ بِمَعْنَى الْعَدْوِ الشَّدِيدِ، وَكَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ: الضَّبْحُ مِنْ إِضْبَاعِهَا فِي السَّيْرِ. الْقَدْحُ: الصَّكُّ، وَقِيلَ: الِاسْتِخْرَاجُ، وَمِنْهُ قَدَحْتُ الْعَيْنَ: أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْفَاسِدَ، وَالْقَدَّاحُ وَالْقَدَّاحَةُ وَالْمِقْدَحَةُ: مَا تُورَى بِهِ النَّارُ. أَغَارَ عَلَى الْعَدُوِّ: قَصَدَهُ لِنَهْبٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ. النَّقْعُ: الْغُبَارُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ النَّقْعِ دَامِيَةً ... كَأَنَّ آذَانَهَا أَطْرَاقُ أَقْلَامِ وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كُدَاءِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّقْعُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: فَمَتَى يَنْقَعْ صُرَاخٌ صَادِقٌ ... تَحْلِبُوهَا ذات حرس وَزَجَلِ الْكَنُودُ: الْكَفُورُ لِلنِّعْمَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَنُودٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ ... كَنُودًا لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ يَبْعُدُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَنُودُ، بِلِسَانِ كندة وحضر موت: الْعَاصِي وَبِلِسَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ: الْكَفُورُ وَبِلِسَانِ كِنَانَةَ: الْبَخِيلُ السيّء الْمَلَكَةِ، وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَبِلِسَانِ بَنِي مَالِكٍ: البخيل، ولم يذكر وحضر موت، وَيُقَالُ: كَنَدَ النِّعْمَةَ كُنُودًا. وَقَالَ أَبُو زُبَيْدٍ فِي الْبَخِيلِ: إِنْ تَفُتْنِي فَلَمْ أَطِبْ عَنْكَ نَفْسًا ... غَيْرَ أَنِّي أُمْنَى بِدَهْرٍ كَنُودِ حَصَّلَ الشَّيْءَ: جَمَعَهُ، وَقِيلَ: مَيَّزَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قيل للمنحل: الْمِحْصَلُ، وَحَصَلَ الشَّيْءُ: ظَهَرَ وَاسْتَبَانَ. وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَقَتَادَةَ. لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِتَعْنِيفٍ لِمَنْ لَا يَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ آثَرَ أَمْرَ دُنْيَاهُ عَلَى أَمْرِ آخِرَتِهِ. وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْعَادِيَاتِ هُنَا الْخَيْلُ، تَعْدُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَضْبَحُ حَالَةَ عَدْوِهَا، وَقَالَ عَنْتَرَةُ: وَالْخَيْلُ تَكْدَحُ حِينَ تَضْبَحُ ... فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحَا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيٌّ وَإِبْرَاهِيمُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْعَادِيَاتُ: الْإِبِلُ. أَقْسَمَ بِهَا حِينَ تَعْدُو مِنْ عَرَفَةَ وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِذَا دَفَعَ الْحَاجُّ. وَبِأَهْلِ غَزْوَةِ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ فَرَسَيْنِ، فَرَسٍ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٍ لِلْمِقْدَادِ، وَبِهَذَا حَجَّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

ابْنَ عَبَّاسٍ حِينَ تَمَارَيَا، فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: فَلَا وَالْعَادِيَاتِ غَدَاةَ جَمْعٍ ... بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ وَانْتَصَبَ ضَبْحًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَضْبَحْنَ ضَبْحًا أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ ضَابِحَاتٍ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ مَعْنَاهُ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِالْعَادِيَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ بِالْعَادِيَاتِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالضَّابِحَاتِ، لِأَنَّ الضَّبْحَ يَكُونُ مَعَ الْعَدْوِ، انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الضَّبْحُ مَعَ الْعَدْوِ، فَلَا يَكُونُ مَعْنَى وَالْعادِياتِ مَعْنَى الضَّابِحَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، وَالْإِيرَاءُ: إِخْرَاجُ النَّارِ، أَيْ تَقْدَحُ بِحَوَافِرِهَا الْحِجَارَةَ فَيَتَطَايَرُ مِنْهَا النَّارُ لِصَكِّ بَعْضِ الْحِجَارَةِ بَعْضًا. وَيُقَالُ: قَدَحَ فَأَوْرَى، وَقَدَحَ فَأَصْلَدَ. وَتُسَمَّى تِلْكَ النَّارُ الَّتِي تَقْدَحُهَا الْحَوَافِرُ مِنَ الْخَيْلِ أَوِ الْإِبِلِ: نَارَ الْحُبَاحِبِ. قَالَ الشاعر: تقدّ السلو في الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ وَقِيلَ: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً مَجَازٌ، أَوِ اسْتِعَارَةٌ فِي الْخَيْلِ تُشْعِلُ الْحَرْبَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1» . وَيُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمُورِيَاتُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَمْكُرُ فِي الْحَرْبِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُهُ إِذَا أَرَادَتِ الْمَكْرَ بِالرَّجُلِ: وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، وَلَأُورِيَنَّ لَكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الَّتِي تُورِي نَارَهَا بِاللَّيْلِ لِحَاجَتِهَا وَطَعَامِهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا: جَمَاعَةُ الْغُزَاةِ تُكْثِرُ النَّارَ إِرْهَابًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَلْسِنَةُ الرِّجَالِ تُورِي النَّارَ مِنْ عَظِيمِ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ، وَتُظْهِرُ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، وَإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً: أَيْ تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ فِي الصُّبْحِ، وَمَنْ قَالَ هِيَ الْإِبِلُ، قَالَ الْعَرَبُ تَقُولُ: أغار إذا عدى جَرْيًا، أَيْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، أَوْ فِي بَدْرٍ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لِعَطْفِهَا بِالْفَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْخَيْلُ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا الْعَدُوُّ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهَا الْإِبِلُ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا فَرَسَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ وَقْعَةُ بَدْرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُوجَدُ أَنَّ الْإِبِلَ جُوهِدَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَلْ الْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى الْخَيْلِ فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا.

_ (1) سورة المائدة: 51/ 64.

فَأَثَرْنَ: مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ صِلَةُ أَلْ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: فَاللَّاتِي عَدَوْنَ فَأَغَرْنَ فَأَثَرْنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي وُضِعَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَوْضِعَهُ، انْتَهَى. وَتَقُولُ أَصْحَابُنَا: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَثَرْنَ، فَوَسَطْنَ، بِتَخْفِيفِ الثَّاءِ وَالسِّينِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّهِمَا وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: بِشَدِّ السِّينِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَأَثَرْنَ بِالتَّشْدِيدِ، بِمَعْنَى: فَأَظْهَرْنَ بِهِ غُبَارًا، لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِيهِ مَعْنَى الْإِظْهَارُ، أَوْ قَلَبَ ثَوَرْنَ إِلَى وَثُرْنَ، وقلب الواو همزة. وقرىء: فَوَسَّطْنَ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِهِ «1» ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي وَسَطْنَ، انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ قَلَبَ، فَتَمَحُّلٌ بَارِدٌ. وَأَمَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ وَسَطَ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الصُّبْحِ، أَيْ هَيَّجْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غُبَارًا، وَفِي بِهِ الثَّانِي عَلَى الصُّبْحِ. قِيلَ: أَوْ عَلَى النَّقْعِ، أَيْ وَسَطْنَ النَّقْعَ الْجَمْعَ، فَيَكُونُ وَسَطَهُ بِمَعْنَى تَوَسُّطِهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً: أي الإبل ، وجمعا اسْمٌ لِلْمُزْدَلِفَةِ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمْ وَأَفْلَتَ حَاجِبٌ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ فِي الْغُبَارِ الْأَقْتَمِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ مَعًا يَعُودُ عَلَى الْعَدْوِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَالْعادِياتِ أَيْضًا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لِدَلَالَةِ وَالْعَادِيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّقْعِ هُنَا الصِّيَاحُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ جِنْسُ الْعَادِيَاتِ، وَلَيْسَتْ أَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَنُودُ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ الْجَحُودُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: هُوَ اللَّائِمُ لِرَبِّهِ، يَعُدُّ السَّيِّئَاتِ وَيَنْسَى الْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: هُوَ الَّذِي تُنْسِيهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً، وَيُعَامِلُ اللَّهَ عَلَى عَقْدِ عِوَضٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْطِي فِي النَّائِبَاتِ مَعَ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: الْبَخِيلُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرْضٌ كَنُودٌ: لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، أَيْ يَشْهَدُ عَلَى كُنُودِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْحَدَهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ وَرَبُّهُ شَاهِدٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَرَبُّهُ شَاهِدٌ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ، ويكون

_ (1) سورة الأنبياء: 21/ 61.

ذَلِكَ كَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْمَعَاصِي، انْتَهَى. وَلَا يَتَرَجَّحُ بِالْقُرْبِ إِلَّا إِذَا تَسَاوَيَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالْإِنْسَانُ هُنَا هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْكَنُودُ. وَأَيْضًا فَتَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِوَاحِدٍ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِمَا لِمُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَسَّطَ الضَّمِيرُ بَيْنَ ضَمِيرَيْنِ عَائِدَيْنِ عَلَى وَاحِدٍ. وَإِنَّهُ: أَيْ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ، لِحُبِّ الْخَيْرِ: أَيِ الْمَالِ، لَشَدِيدٌ: أَيْ قَوِيٌّ فِي حُبِّهِ. وَقِيلَ: لَبَخِيلٌ بِالْمَالِ ضَابِطٌ لَهُ، وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: شَدِيدٌ وَمُتَشَدِّدٌ. وَقَالَ طَرَفَةُ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَيْرُ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمَالُ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل إن يُرَادَ هَذَا الْخَيْرُ الدُّنْيَوِيُّ من مال وصحة وجاءه عِنْدَ الْمُلُوكِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ وَالْجُهَّالَ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْمُحِبُّ فِي خَيْرِ الْآخِرَةِ فَمَمْدُوحٌ مرجوله الْفَوْزُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَظْمُ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْحُبِّ لِلْخَيْرِ. فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْحُبُّ قَالَ لَشَدِيدٌ، وَحَذَفَ مِنْ آخِرِهِ ذِكْرَ الْحُبِّ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ، وَلِرُءُوسِ الْآيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1» ، وَالْعُصُوفُ: لِلرِّيحِ لَا لِلْأَيَّامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ، انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ مَا مَعْنَاهُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ أَصْلُهُ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ، بَلِ اللَّامُ فِي لِحُبِّ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ وَإِنَّهُ لِأَجْلِ حُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ أَوْ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ وَإِيثَارِهِ قَوِيٌّ مُطِيقٌ، وَهُوَ لِحُبِّ عِبَادَةِ اللَّهِ وَشُكْرِ نِعَمِهِ ضَعِيفٌ مُتَقَاعِسٌ. تَقُولُ: هُوَ شَدِيدٌ لِهَذَا الْأَمْرِ وَقَوِيٌّ لَهُ إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ ضَابِطًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَرَادَ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرَاتِ غَيْرُ هَشٍّ مُنْبَسِطٍ، وَلَكِنَّهُ شَدِيدٌ مُنْقَبِضٌ. أَفَلا يَعْلَمُ: تَوْقِيفٌ إِلَى ما يؤول إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَمَفْعُولُ يَعْلَمُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، أَيْ أَفَلَا يَعْلَمُ ما آله؟ إِذا بُعْثِرَ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِذَا ظَرْفٌ مُضَافٌ إِلَى بُعْثِرَ وَالْعَامِلُ فِيهِ يَعْلَمُ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِمُتَّضِحٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَفَلَا يَعْلَمُ الْآنَ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُعْثِرَ بِالْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بِالْحَاءِ. وَقَرَأَ الْأَسْوَدُ بْنُ زَيْدٍ: بَحَثَ. وَقَرَأَ نضر بْنُ عَاصِمٍ: بَحْثَرَ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعْدَانَ: وَحَصَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَيْضًا: وَحَصَلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ خَفِيفَ الصَّادِ، وَالْمَعْنَى جُمِعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ، أَيْ أُظْهِرَ مُحَصَّلًا مَجْمُوعًا. وَقِيلَ: مُيِّزَ وَكُشِفَ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ بِكَسْرِ

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 18.

الْهَمْزَةِ، لَخَبِيرٌ بِاللَّامِ: هُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، وَالْعَامِلُ فِي بِهِمْ، وَفِي يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ، وَهُوَ تَعَالَى خَبِيرٌ دَائِمًا لَكِنَّهُ ضَمَّنَ خَبِيرٌ مَعْنَى مُجَازٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَالْحَجَّاجُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْقَاطِ اللَّامِ. وَيَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَسَلُّطُ يَعْلَمُ عَلَى إِنَّ، لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِعْمَالُ خَبِيرٌ فِي إِذَا لِكَوْنِهِ فِي صِلَةِ إِنَّ الْمَصْدَرِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ عَامِلٌ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَجْزِيهِمْ إِذَا بُعْثِرَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ مُعَلَّقَةً عَنِ الْعَمَلِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَعْمُولِ فِي إِنَّ، وَفِي خَبَرِهَا اللَّامُ ظَاهِرٌ، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَعْلَمُ. وَإِذَا الْعَامِلُ فِيهَا مِنْ مَعْنَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ تَقْدِيرُهُ: كَمَا قُلْنَا يَجْزِيهِمْ إِذَا بُعْثِرَ.

سورة القارعة

سورة القارعة [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) الْفَرَاشُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الْهَمَجُ الطَّائِرُ مِنْ بَعُوضٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْجَرَادُ. وَيُقَالُ: هُوَ أَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ رَدَدْتُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا كَالْفَرَاشِ مِنَ الْجَهْلِ. وَقِيلَ: فَرَاشَةُ الْحِلْمِ نَفَشَتِ الصُّوفَ وَالْقُطْنَ: فَرَّقَتْ مَا كَانَ مُلَبَّدًا مِنْ أَجْزَائِهِ. الْقارِعَةُ، مَا الْقارِعَةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ، نارٌ حامِيَةٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ وَقْتَ بُعْثِرَتِ الْقُبُورُ، وَذَلِكَ هُوَ وَقْتُ السَّاعَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْقارِعَةُ: الْقِيَامَةُ نَفْسُهَا، لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِهَوْلِهَا. وَقِيلَ: صَيْحَةُ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْقُلُوبُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ النَّارُ ذَاتُ التَّغَيُّظِ وَالزَّفِيرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ بِالرَّفْعِ، فَمَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِعْظَامِ وَالتَّعَجُّبِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْقَارِعَةُ خَبَرُهُ، وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي

الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ «1» . وَقِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ «2» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ تَحْذِيرٌ، وَالْعَرَبُ تُحَذِّرُ وَتُغْرِي بِالرَّفْعِ كَالنَّصْبِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَخُو النَّجْدَةِ السِّلَاحُ السِّلَاحُ وَقَرَأَ عِيسَى: بِالنَّصْبِ، وَتَخْرِيجُهُ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِ، أَيِ اذْكُرُوا الْقَارِعَةَ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَالْقَارِعَةُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِلْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَوْمَ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ ظَرْفٌ، الْعَامِلُ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقَارِعَةُ. فَإِنْ كَانَ عَنَى بِالْقَارِعَةِ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَجُوزُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ، وَهُوَ فِي صِلَةِ أَلْ، وَالْمَعْمُولِ بِالْخَبَرِ وَكَذَا لَوْ صَارَ الْقَارِعَةُ عَلَمًا لِلْقِيَامَةِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ عَنَى اللَّفْظَ الثَّانِيَ أَوِ الثَّالِثَ، فَلَا يَلْتَئِمُ مَعْنَى الظَّرْفِ مَعَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظَّرْفُ نُصِبَ بِمُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْقَارِعَةُ، أَيْ تَقْرَعُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَأْتِي يَوْمَ يَكُونُ. وَقِيلَ: اذْكُرْ يَوْمَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَوْمُ يَكُونُ مَرْفُوعَ الْمِيمِ، أَيْ وَقْتُهَا. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ، قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الطَّيْرُ الَّذِي يَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غَوْغَاءُ الْجَرَادِ، وَهُوَ صَغِيرُهُ الَّذِي يَنْتَشِرُ فِي الْأَرْضِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنَ الْهَوْلِ. وَقِيلَ: الْفَرَاشُ طَيْرٌ دَقِيقٌ يَقْصِدُ النَّارَ، وَلَا يَزَالُ يَتَقَحَّمُ عَلَى الْمِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ حَتَّى يَحْتَرِقَ. شُبِّهُوا فِي الْكَثْرَةِ وَالِانْتِشَارِ وَالضَّعْفِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ، وَالتَّطَايُرِ إِلَى الدَّاعِي مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَحْشَرِ، كَالْفَرَاشِ الْمُتَطَايِرِ إِلَى النَّارِ. قَالَ جَرِيرٌ: إِنَّ الْفَرَزْدَقَ مَا عَلِمْتُ وَقَوْمَهُ ... مِثْلُ الْفَرَاشِ عشين نَارَ الْمُصْطَلِي وَقَرَنَ بَيْنَ النَّاسِ وَالْجِبَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَأْثِيرِ تِلْكَ الْقَارِعَةِ فِي الْجِبَالِ حَتَّى صَارَتْ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ سَمَاعِهَا؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَوَازِينِ وَثِقَلِهَا وخفتها في الأعراف، وعيشة رَاضِيَةٍ فِي الْحَاقَّةِ. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ: الْهَاوِيَةُ دَرَكَةٌ مِنْ دَرَكَاتِ النَّارِ، وَأُمُّهُ مَعْنَاهُ مَأْوَاهُ، كَمَا قِيلَ لِلْأَرْضِ أم الناس لأنها تؤويهم، وَكَمَا قَالَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْحَرْبِ: فَنَحْنُ بَنُوهَا وَهِيَ أُمُّنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَغَيْرُهُ: فَأُمُّ رَأْسِهِ هَاوِيَةٌ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّهُ يُطْرَحُ فِيهَا مَنْكُوسًا. وَقِيلَ: هُوَ تَفَاؤُلٌ بِشَرٍّ، وَإِذَا دَعَوْا بِالْهَلَكَةِ قَالُوا هَوَتْ أُمُّهُ، لِأَنَّهُ إِذَا هَوَى، أَيْ سَقَطَ وَهَلَكَ فَقَدْ هَوَتْ أُمُّهُ ثُكْلًا وَحُزْنًا. قال الشاعر:

_ (1) سورة الحاقة: 69/ 1- 2. (2) سورة الواقعة: 56/ 8.

هوت أمه ما نبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤون وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأُمُّهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَطَلْحَةُ بِكَسْرِهَا. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَأَمَّا النَّحْوِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا كَسْرَةٌ أَوْ يَاءٌ، انْتَهَى. وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ: هِيَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى هَاوِيَةٍ إِنْ كَانَتْ كَمَا قِيلَ دَرَكَةٌ مِنْ دَرَكَاتِ النَّارِ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا قِيلَ فَهِيَ ضَمِيرُ الدَّاهِيَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، والهاء فيما هِيَهْ هَاءُ السَّكْتِ، وَحَذَفَهَا فِي الْوَصْلِ ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشَ وَحَمْزَةُ، وَأَثْبَتَهَا الْجُمْهُورُ: نارٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ نَارٌ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا بِمَنِّهِ وكرمه.

سورة التكاثر

سورة التّكاثر [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَدَنِيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ فِيمَا رَوَى الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ بَيْنَ بَنِي سَهْمٍ وَبَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لِحَاءٌ، فَتَعَادُّوا الْأَشْرَافَ الْأَحْيَاءَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ، فَكَثُرَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. ثُمَّ تَعَادُّوا الْأَمْوَاتَ، فَكَثُرَهُمْ بَنُو سَهْمٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ أَكْثَرُ مَنْ بَنِي فُلَانٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي بَطْنٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. أَلْهاكُمُ: شَغَلَكُمْ فَعَلَى مَا رَوَى الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَكَاثَرْتُمْ بِالْأَحْيَاءِ حَتَّى اسْتَوْعَبْتُمْ عَدَدَهُمْ، صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ فَتَكَاثَرْتُمْ بِالْأَمْوَاتِ. عَبَّرَ عَنْ بُلُوغِهِمْ ذِكْرَ الْمَوْتَى بِزِيَارَةِ الْمَقَابِرِ تَهَكُّمًا بِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ زُرْتُمْ. قِيلَ: حَتَّى زُرْتُمُ: أَيْ مُتُّمْ وَزُرْتُمْ بِأَجْسَادِكُمْ مَقَابِرَهَا، أَيْ قَطَعْتُمْ بِالتَّكَاثُرِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ

وَالْعَدَدِ أَعْمَارَكُمْ حَتَّى مُتُّمْ. وَسَمِعَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ حَتَّى زُرْتُمُ فَقَالَ: بَعَثَ الْقَوْمَ لِلْقِيَامَةِ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَإِنَّ الزَّائِرَ مُنْصَرِفٌ لَا مُقِيمٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَحْوٌ مَنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ. وَقِيلَ: هَذَا تَأْنِيثٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ زِيَارَةٍ تَكَثُّرًا بِمَنْ سَلَفَ وَإِشَادَةً بِذِكْرِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَالَ: «فَزُورُوهَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ لِلِاتِّعَاظِ بِهَا لَا لِمَعْنَى الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَا يَصْنَعُ الناس في ملازمتها وتسنيمها بِالْحِجَارَةِ وَالرُّخَامِ، وَتَلْوِينِهَا شَرَفًا، وَبَيَانِ النَّوَاوِيسِ عَلَيْهِ. وَابْنُ عَطِيَّةَ لَمْ يَرَ إِلَّا قُبُورَ أَهْلِ الْأَنْدَلُس، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَا تَبَاهَى بِهِ أَهْلُ مِصْرَ فِي مَدَافِنِهِمْ بِالْقَرَافَةِ الْكُبْرَى، وَالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى، وَبَابِ النَّصْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَضِيعُ فِيهَا من الأموال، ولتعجب مِنْ ذَلِكَ، وَلَرَأَى مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالٍ؟ وَأَمَّا التَّبَاهِي بِالزِّيَارَةِ، فَفِي هَؤُلَاءِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الصُّوفِ أَقْوَامٌ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ إِلَّا زِيَارَةَ الْقُبُورِ. زُرْتُ قَبْرَ سَيِّدِي فُلَانٍ بِكَذَا، وَقَبْرَ فُلَانٍ بِكَذَا، وَالشَّيْخَ فُلَانًا بِكَذَا، وَالشَّيْخَ فُلَانًا بِكَذَا فَيَذْكُرُونَ أَقَالِيمَ طَافُوهَا عَلَى قَدَمِ التَّجْرِيدِ، وَقَدْ حَفِظُوا حِكَايَاتٍ عَنْ أَصْحَابِ تِلْكَ الْقُبُورِ وَأُولَئِكَ الْمَشَايِخِ بِحَيْثُ لَوْ كُتِبَتْ لَجَاءَتْ أَسْفَارًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُونَ فُرُوضَ الْوُضُوءِ وَلَا سُنَنَهُ، وَقَدْ سَخَّرَ لَهُمُ الْمُلُوكُ وَعَوَامُّ النَّاسِ فِي تَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ وَبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ. وَأَمَّا مَنْ شذا مِنْهُمْ لِأَنْ يَتَكَلَّمَ لِلْعَامَّةِ فَيَأْتِي بِعَجَائِبَ، يَقُولُونَ هَذَا فَتْحٌ هَذَا مِنِ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ عِلْمِ الْخَضِرِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ لَمَّا رَأَى رَوَاجَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ وَنَقَلَ كَثِيرًا مِنْ حِكَايَاتِهِمْ وَمَزَجَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ مِنِ الْعِلْمِ طَلَبًا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ وَتَقْبِيلِ الْيَدِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ يُوَفِّقَنَا لِطَاعَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلْهَاكُمْ عَلَى الْخَبَرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَجَمَاعَةٌ: بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ رُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَيَعْقُوبَ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ وَالْكِسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ: أَأَلْهَاكُمْ بِهَمْزَتَيْنِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ: التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيرُ عَلَى قُبْحِ فِعْلِهِمْ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ التَّكْرِيرَ تَوْكِيدٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّكْرِيرُ تأكيد للردع والإنذار وثم دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَشَدُّ، كَمَا تَقُولُ لِلْمَنْصُوحِ: أَقُولُ لَكَ ثُمَّ أَقُولُ لَكَ لَا تَفْعَلْ، وَالْمَعْنَى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ الْخِطَابَ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَايَنْتُمْ مَا قُدَّامَكُمْ مِنْ هَوْلِ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي الْقُبُورِ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي الْبَعْثِ: غَايَرَ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ التَّعَلُّقِ، وَتَبْقَى ثُمَّ عَلَى بَابِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ

فِي الزَّمَانِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الزَّجْرُ الْأَوَّلُ وَوَعِيدُهُ لِلْكَافِرِينَ، وَالثَّانِي لِلْمُؤْمِنَيْنِ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ: أَيْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ، عِلْمَ الْيَقِينِ: أَيْ كَعِلْمِ مَا تَسْتَيْقِنُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ أَوِ الْعِلْمُ الْيَقِينُ، فَأَضَافَ الْمَوْصُوفَ إِلَى صِفَتِهِ وَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. وَقِيلَ: الْيَقِينُ هُنَا الْمَوْتُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَعْثُ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ زَالَ الشَّكُّ. ثُمَّ قَالَ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ هِيَ رُؤْيَةُ الْوُرُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» ، وَلَا تَكُونُ رُؤْيَةٌ عِنْدَ الدُّخُولِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذلك: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ: تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَزَادَ التَّوْكِيدُ بِقَوْلِهِ: عَيْنَ الْيَقِينِ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ الْمَجَازِ فِي الرُّؤْيَةِ الْأُولَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فالرؤية دُخُولٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: لَتُرَوُنَّ بِضَمِّ التَّاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْفَتْحِ، وَعَلِيٌّ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: بِفَتْحِهَا فِي لَتَرَوُنَّ، وَضَمِّهَا فِي لَتَرَوُنَّها، وَمُجَاهِدٌ وَالْأَشْهَبُ وَابْنُ أبي عبلة: بضمهما. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا هَمَزَا الْوَاوَيْنِ، اسْتَثْقَلُوا الضَّمَّةَ عَلَى الْوَاوِ فَهَمَزُوا كَمَا هَمَزُوا فِي وُقِّتَتْ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُهْمَزَ، لِأَنَّهَا حَرَكَةٌ عَارِضَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا. لَكِنَّهَا لَمَّا تَمَكَّنَتْ مِنَ الْكَلِمَةِ بِحَيْثُ لَا تَزُولُ أَشْبَهَتِ الْحَرَكَةَ الْأَصْلِيَّةَ فَهَمَزُوا، وَقَدْ هَمَزُوا مِنَ الْحَرَكَةِ الْعَارِضَةِ مَا يَزُولُ فِي الْوَقْفِ نَحْوَ اسْتَرْؤُا الصَّلَاةَ، فَهَمْزُ هَذِهِ أَوْلَى. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ: الظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي النَّعِيمِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَلَذَّذُ بِهِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَفْرَشٍ وَمَرْكَبٍ، فَالْمُؤْمِنُ يُسْأَلُ سُؤَالَ إِكْرَامٍ وَتَشْرِيفٍ، وَالْكَافِرُ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ وَمُجَاهِدٍ: هُوَ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبَدَنُ وَالْحَوَاسُّ فِيمَ اسْتَعْمَلَهَا. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: كُلُّ مَا يُتَلَذَّذُ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «بَيْتٌ يُكِنُّكَ وَخِرْقَةٌ تُوَارِيكَ وَكِسْرَةٌ تَشُدُّ قَلْبَكَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ نَعِيمٌ» .

_ (1) سُورَةُ مريم: 19/ 71.

سورة العصر

سورة العصر [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْجُمْهُورِ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ. لَمَّا قَالَ فِيمَا قَبْلَهَا: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ «1» ، وَوَقَعَ التَّهْدِيدُ بِتَكْرَارِ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «2» بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَالْعَصْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الدَّهْرُ، يُقَالُ فِيهِ عَصْرٌ وَعِصْرٌ وَعُصْرٌ أَقْسَمَ بِهِ تَعَالَى لِمَا فِي مُرُورِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْعَجَائِبِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْعَصْرُ: الْعَشِيُّ، أَقْسَمَ بِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِالضُّحَى لِمَا فِيهِمَا مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: الْعَصْرُ: الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يوم وَلَيْلَةً ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا وَقِيلَ: الْعَصْرُ بُكْرَةٌ، وَالْعَصْرُ عَشِيَّةٌ، وَهُمَا الْأَبْرَدَانِ، فَعَلَى هَذَا وَالْقَوْلِ قَبْلَهُ يَكُونُ الْقَسَمُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْعَصْرُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، أَقْسَمَ بِهَا. وَبِهَذَا الْقَوْلِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِفَضْلِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «3» ، صلاة

_ (1) سورة ألهاكم: 102/ 1. (2) سورة ألهاكم: 102/ 3- 4. (3) سورة البقرة: 2/ 238.

الْعَصْرِ، فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ، لِأَنَّ التَّنْكِيفَ فِي أَدَائِهَا أَشَقُّ لِتَهَافُتِ النَّاسِ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَتَحَاسُبِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمَعَايِشِهِمْ، انْتَهَى. وَقَرَأَ سَلَّامٌ: وَالْعَصْرِ بِكَسْرِ الصَّادِ، والصبر بِكَسْرِ الْبَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْوَقْفِ عَلَى نَقْلِ الْحَرَكَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالصَّبْرِ بِكَسْرِ الْبَاءِ إِشْمَامًا، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْوَقْفِ، انْتَهَى. وَفِي الْكَامِلِ لِلْهُزَلِيِّ: وَالْعِصْرِ، وَالصِّبْرِ، وَالْفِجْرِ، وَالْوِتْرِ، بِكَسْرِ مَا قَبْلَ السَّاكِنِ فِي هَذِهِ كُلِّهَا هَارُونُ وَابْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ: بِالْإِسْكَانِ كَالْجَمَاعَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عِيسَى: الْبَصْرَةِ بِالصَّبِرِ، بِنَقْلِ حَرَكَةِ الهاء إلى الياء لِئَلَّا يَحْتَاجَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ، وَلَا إِلَى أَنْ يُسَكِّنَ فَيَجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، وَذَلِكَ لُغَةٌ شَائِعَةٌ، وَلَيْسَتْ شَاذَّةً بَلْ مُسْتَفِيضَةٌ، وَذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى الْإِعْرَابِ، وَانْفِصَالٌ عَنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَمَادَّتُهُ حَقُّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ، انْتَهَى. وَقَدْ أَنْشَدْنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ عِدَّةَ أَبْيَاتٍ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمِرْ ... أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَسَعْدٌ فِي الْعَصِرْ يريد: أبو عمر. وَالْعَصْرُ وَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَالْخُسْرُ: الْخُسْرَانُ، كَالْكُفْرِ وَالْكُفْرَانِ، وَأَيُّ خُسْرَانٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهَارُونُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: خُسُرٍ بِضَمِّ السِّينِ، وَالْجُمْهُورُ بِالسُّكُونِ. وَمَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْخُسْرَانِ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ اشْتَرَى الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا، فَرَبِحَ وَسَعِدَ. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ: أَيْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ مِنَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِهِ وَتَوَاصَوْا بِهِ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنِ الْمَعَاصِي.

سورة الهمزة

سورة الهمزة [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) الْحُطَمَةُ: أَصْلُهُ الْوَصْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ حُطَمَةٌ: أَيْ أَكُولٌ. قَالَ الرَّاجِزُ: قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقِ الْحُطَمِ وَقَالَ آخَرُ: إِنَّا حطمناه بِالْقَضِيبِ مُصْعَبًا ... يَوْمَ كَسَرْنَا أَنْفَهُ لِيَغْضَبَا وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ، نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. لَمَّا قَالَ فِيمَا قَبْلَهَا: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» ، بَيَّنَ حَالَ الْخَاسِرِ فَقَالَ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ، ونزلت في الأحسن بْنِ شُرَيْقٍ، أَوِ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ، أَوِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَقْوَالٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْجَمِيعِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ عَامَّةٌ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، كَانَ يَهْمِزُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُعَيِّنُهُ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَإِنَّمَا ذكرته، وإن كان

_ (1) سورة العصر: 103/ 2. [.....]

اللَّفْظُ عَامًّا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَابَعَ فِي أَوْصَافِهِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ حَتَّى فُهِمَ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ ن: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «1» . تَابَعَ فِي الصِّفَاتِ حَتَّى عُلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ إِنْسَانًا بِعَيْنِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْهُمَزَةِ فِي سُورَةِ ن، وَفِي اللَّمْزِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَفِعْلُهُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَنُوَمَةٍ وَعُيَبَةٍ وَسُحَرَةٍ وَضُحَكَةٍ، وَقَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ: تُدْلِي بِوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ فِيهِمَا وَالْبَاقُونَ: بِسُكُونِهَا، وَهُوَ الْمَسْخَرَةُ الَّذِي يَأْتِي بِالْأَضَاحِيكِ مِنْهُ، وَيَشْتُمُ وَيَهْمِزُ وَيَلْمِزُ. الَّذِي: بَدَلٌ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْأَخَوَانِ: جَمْعٌ مُشَدَّدُ الْمِيمِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّخْفِيفِ، وَالْجُمْهُورُ: وَعَدَّدَهُ بِشَدِّ الدَّالِ الْأُولَى: أَيْ أَحْصَاهُ وَحَافَظَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: جَعَلَهُ عِدَّةً لِطَوَارِقِ الدَّهْرِ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: بِتَخْفِيفِهِمَا، أَيْ جَمَعَ الْمَالَ وَضَبَطَ عَدَدَهُ. وَقِيلَ: وَعَدَدًا مِنْ عَشِيرَتِهِ. وَقِيلَ: وَعَدَدَهُ عَلَى تَرْكِ الْإِدْغَامِ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي أَجُودُ لِأَقْوَامٍ وَإِنْ ضَنِنُوا أَخْلَدَهُ: أَيْ أَبْقَاهُ حَيًّا، إِذْ بِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِ وَحِفْظُهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ طَوَّلَ الْمَالُ أَمَلَهُ وَمَنَّاهُ الْأَمَانِيَّ الْبَعِيدَةَ، حَتَّى أَصْبَحَ لِفَرْطِ غَفْلَتِهِ وَطُولِ أَمَلِهِ يَحْسَبُ أَنَّ الْمَالَ تَرَكَهُ خَالِدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَمُوتُ. قِيلَ: وَكَانَ لِلْأَخْنَسِ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ. كَلَّا رَدْعٌ لَهُ عَنْ حُسْبَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُنْبَذَنَّ فِيهِ ضَمِيرُ الْوَاحِدِ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: لينبذان، بِأَلِفِ ضَمِيرِ اثْنَيْنِ: الْهُمَزَةُ وَمَالُهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: لَيُنْبَذُنَّ بِضَمِّ الذَّالِ، أَيْ هُوَ وَأَنْصَارُهُ. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: لَيَنْبُذَنَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فِي الْحَاطِمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاطِمَةُ، وَهِيَ النَّارُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُحَطِّمَ كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْحُطَمَةُ: الدَّرْكُ الرَّابِعُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ مِنْ جَهَنَّمَ وَحَكَى عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّهَا الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ وَعَنْهُ أَيْضًا: الْبَابُ الثَّانِي. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، انْتَهَى. ونارُ اللَّهِ: أَيْ هِيَ، أَيِ الْحُطَمَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ: ذُكِرَتِ الْأَفْئِدَةُ لِأَنَّهَا أَلْطَفُ مَا فِي الْبَدَنِ وَأَشَدُّهُ تَأَلُّمًا بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْأَذَى وَاطِّلَاعُ النَّارِ عَلَيْهَا هُوَ أَنَّهَا تَعْلُوهَا

_ (1) سورة القلم: 68/ 1.

وَتَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَهِيَ تَعْلُو الْكُفَّارَ فِي جَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ، لَكِنْ نَبَّهَ عَلَى الْأَشْرَفِ لِأَنَّهَا مَقَرُّ الْعَقَائِدِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: فِي عُمُدٍ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عَمُودٍ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، الْوَاحِدُ عَمُودٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَمْعُ عَمُودٍ، كَمَا قَالُوا: أَدِيمٌ وَأُدُمٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ عِمَادٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي عَمَدٍ حَدِيدٍ مَغْلُولِينَ بِهَا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هَذِهِ النَّارُ هِيَ قُبُورُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَارُ الْآخِرَةِ، إِذْ يَئِسُوا مِنَ الْخُرُوجِ بِإِطْبَاقِ الْأَبْوَابِ عَلَيْهِمْ وَتَمَدُّدِ الْعَمَدِ، كُلُّ ذَلِكَ إِيذَانًا بِالْخُلُودِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا عَمَدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي النَّارِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هِيَ الْقُيُودُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة الفيل

سورة الفيل [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الْفِيلُ أَكْبَرُ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْ وُحُوشِ الْبَرِّ يُجْلَبُ إِلَى ملك مصر، ولم تره بِالْأَنْدَلُسِ بِلَادِنَا، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَفْيَالٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى فُيُولٍ وَفِيَلَةٍ. الْأَبَابِيلُ: الْجَمَاعَاتُ تَجِيءُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ وَقَالَ الْأَعْشَى: طريق وخبار رِوَاءٌ أُصُولُهُ ... عَلَيْهِ أَبَابِيلٌ مِنَ الطَّيْرِ تَنْعَبُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَيَكُونُ مِثْلَ عَبَابِيدَ وَبَيَادِيرَ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُ إِبُّولٌ مِثْلُ عِجُّولٍ، وَقِيلَ: إِبِّيلٌ مِثْلُ سكين، وقيل: أبال، وَذَكَرَ الرَّقَاشِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، أَنَّهُ سَمِعَ فِي وَاحِدِهِ إِبَّالَةٌ وَحَكَى الْفَرَّاءُ: إِبَالَةٌ مُخَفَّفًا. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا عَذَابَ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، أَخْبَرَ هُنَا بِعَذَابِ نَاسٍ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ صَرَفَ

ذَلِكَ الْعَدُوَّ الْعَظِيمَ عَامَ مَوْلِدِهِ السَّعِيدِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِرْهَاصًا بِنُبُوَّتِهِ، إِذْ مَجِيءُ تِلْكَ الطُّيُورِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَنْقُولِ، مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَيْنَ أَيْدِي الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَمَعْنَى أَلَمْ تَرَ: أَلَمْ تَعْلَمْ قَدَّرَهُ عَلَى وُجُودِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؟ إِذْ هُوَ أَمْرٌ مَنْقُولٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ عَلِمْتَ فِعْلَ اللَّهِ رَبِّكَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَصَدُوا حَرَمَهُ، ضَلَّلَ كَيْدَهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِأَضْعَفِ جُنُودِهِ، وَهِيَ الطَّيْرُ الَّتِي لَيْسَتْ مَنْ عَادَتِهَا أَنَّهَا تَقْتُلُ. وَقِصَّةُ الْفِيلِ ذَكَرَهَا أَهْلُ السِّيَرِ وَالتَّفْسِيرِ مُطَوَّلَةً وَمُخْتَصَرَةً، وَتُطَالَعُ فِي كُتُبِهِمْ. وَأَصْحَابُ الْفِيلِ: أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْحَبَشِيُّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِيلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ثَمَانِيَةُ فِيَلَةٍ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ فِيلًا، وَقِيلَ: أَلْفُ فِيلٍ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَكَاذِبَةٌ. وَكَانَ الْعَسْكَرُ سِتِّينَ أَلْفًا، لَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَمِيرُهُمْ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ، فَلَمَّا أَخْبَرُوا بِمَا رَأَوْا هَلَكُوا. وَكَانَ الْفِيلُ يُوَجِّهُونَهُ نَحْوَ مَكَّةَ لَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا فَيَبْرُكُ، وَيُوَجِّهُونَهُ نَحْوَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ فَيُسْرِعُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَبْرَهَةُ جَدُّ النَّجَاشِيِّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: أَلَمْ تَرْ بِسُكُونِ، وَهُوَ جَزْمٌ بَعْدَ جَزْمٍ. وَنُقِلَ عَنْ صَاحِبِ اللَّوَامِحِ تَرْأَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ مَعَ سُكُونِ الرَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهِيَ لغة لتيم، وتر مُعَلَّقَةٌ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهِ وَكَيْفَ مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ. وَفِي خِطَابِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَعَلَ رَبُّكَ تَشْرِيفٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِشَادَةٌ مِنْ ذِكْرِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: رَبُّكَ مَعْبُودُكَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لَا أَصْنَامُ قُرَيْشٍ إِسَافُ وَنَائِلَةُ وَغَيْرُهُمَا. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَإِبْطَالٍ، يُقَالُ: ضَلَّلَ كَيْدَهُمْ، إِذَا جَعَلَهُ ضَالًّا ضَائِعًا. وَقِيلَ لامرىء الْقَيْسِ الضِّلِّيلُ، لِأَنَّهُ ضَلَّلَ مُلْكَ أَبِيهِ، أَيْ ضَيَّعَهُ. وَتَضْيِيعُ كَيْدِهِمْ هُوَ بِأَنْ أَحْرَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَيْتَ الَّذِي بَنَوْهُ قَاصِدِينَ أَنْ يَرْجِعَ حَجُّ الْعَرَبِ إِلَيْهِ، وَبِأَنْ أَهْلَكَهُمْ لَمَّا قَصَدُوا هَدْمَ بَيْتِ اللَّهِ الْكَعْبَةَ بِأَنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا جَاءَتْ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ، لَيْسَتْ نَجْدِيَّةً وَلَا تِهَامِيَّةً وَلَا حِجَازِيَّةً سَوْدَاءَ. وَقِيلَ: خَضْرَاءَ عَلَى قَدْرِ الْخُطَّافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْمِيهِمْ بِالتَّاءِ، وَالطَّيْرُ اسْمُ جَمْعٍ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقَوْلُهُ: كَالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُّؤْبُوبِ ذِي الْبَرَدِ وَتُذَكَّرُ كَقِرَاءَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ يَعْمَرَ وَعِيسَى وَطَلْحَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يَرْمِيهِمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى رَبُّكَ. بِحِجارَةٍ كَانَ كُلُّ طَائِرٍ فِي مِنْقَارِهِ حَجَرٌ، وَفِي رِجْلَيْهِ حَجَرَانِ، كُلُّ حَجَرٍ فَوْقَ حَبَّةِ الْعَدَسِ وَدُونَ حَبَّةِ الْحِمَّصِ، مَكْتُوبٌ فِي كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَرْمِيِّهِ، يَنْزِلُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ. وَمَرِضَ أَبْرَهَةُ، فَتَقَطَّعَ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، وَمَا مَاتَ حَتَّى

انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ، وَانْفَلَتَ أَبُو مَكْسُومٍ وَزِيرُهُ، وَطَائِرُهُ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى النَّجَاشِيِّ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى لِلْقَوْمِ، فَرَمَاهُ الطَّائِرُ بِحَجَرِهِ فَمَاتَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ سِجِّيلٍ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَالْعَصْفِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. شُبِّهُوا بِالْعَصْفِ وَرَقِ الزَّرْعِ الَّذِي أُكِلَ، أَيْ وَقَعَ فِيهِ الْأُكَّالُ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَهُ الدُّودُ وَالتِّبْنِ الَّذِي أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ وَرَاثَتُهُ. وَجَاءَ عَلَى آدَابِ الْقُرْآنِ نَحْوَ قَوْلِهِ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ «1» ، أَوِ الَّذِي أُكِلَ حَبُّهُ فَبَقِيَ فَارِغًا، فَنَسَبَهُ أَنَّهُ أَكْلُ مَجَازٍ، إِذِ الْمَأْكُولُ حَبُّهُ لَا هُوَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَأْكُولٍ: بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ صِيغَةَ مَفْعُولٍ مِنْ فَعَلَ. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فِيمَا نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْمِيمِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَهَذَا كَمَا اتَّبَعُوهُ فِي قَوْلِهِمْ: مَحَمُومٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ لِحَرَكَةِ الْمِيمِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا رَدَّ اللَّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ، عَظَّمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا وَقَالُوا: أَهْلُ اللَّهِ قَاتَلَ عَنْهُمْ وَكَفَاهُمْ مؤونة عَدُوِّهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ إِجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

_ (1) سورة المائدة: 5/ 75.

سورة قريش

سورة قريش [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قُرَيْشٌ: عَلَمٌ اسْمُ قَبِيلَةٍ، وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنُ كِنَانَةَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ بَنِي النَّضْرِ فَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ دُونَ بَنِي كِنَانَةَ. وَقِيلَ: هُمْ بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، فَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَجَمُّعِهِمْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَالتَّقْرِيشُ: التَّجَمُّعُ وَالِالْئِتَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، فَجَمَعَهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فِي الْحَرَمِ حَتَّى اتَّخَذُوهُ مَسْكَنًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَبُونَا قُصَيُّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقَرُّشُ: التَّكَسُّبُ، وَقَدْ قَرَشَ يَقْرِشُ قَرْشًا، إِذَا كَسَبَ وَجَمَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ. وَقِيلَ: كَانُوا يُفَتِّشُونَ عَلَى ذِي الْخَلَّةِ مِنَ الْحَاجِّ لِيَسُدُّوهَا، وَالْقَرْشِ: التَّفْتِيشُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ وَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ عَبَّاسٍ: بِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟ فَقَالَ: بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ أَقْوَى دَوَابِّهِ يُقَالُ لَهَا الْقِرْشُ، تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ، وَتَعْلُو وَلَا تُعْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ تُبَّعٍ:

وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْرُكُ فِيهَا لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشَا هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا وَفِي الْكَشَّافِ: دَابَّةٌ تَعْبَثُ بِالسُّفُنِ وَلَا تُطَاقُ إِلَّا بِالنَّارِ. فَإِنْ كَانَ قُرَيْشٌ مِنْ مَزِيدٍ فِيهِ فَهُوَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ثُلَاثِيٍّ مُجَرَّدٍ فَهُوَ تَصْغِيرٌ عَلَى أَصْلِ التَّصْغِيرِ. الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ فَصْلَانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهَمْزَةُ الشِّتَاءِ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، قَالُوا: شَتَا يَشْتُو، وَقَالُوا: شَتْوَةً، وَالشِّتَاءُ مُفْرَدٌ وَلَيْسَ بِجَمْعِ شَتْوَةٍ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ السَّائِبِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَلَا سِيَّمَا أَنْ جُعِلَتِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ فَجَعَلَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، أَوْ بِإِضْمَارِ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَخْفَشِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ فِي بَلَدِهَا. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْفِيلِ لَتَشَتَّتُوا فِي الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ لَهُمْ كَلِمَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَعْنَى الْبَيْتِ بِالَّذِي قَبْلَهُ تَعَلُّقًا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ، وَهُمَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ بِلَا فَصْلٍ. وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ قَرَأَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَقَرَأَ فِي الأوليين: وَالتِّينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَهْلَكَ أَهْلَ الْحَبَشَةِ الَّذِينَ قَصَدُوهُمْ لِيَتَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَيَتَهَيَّبُوهُمْ زِيَادَةَ تَهَيُّبٍ، وَيَحْتَرِمُوهُمْ فَضْلَ احْتِرَامٍ حَتَّى يَنْتَظِمَ لَهُمُ الْأَمْنُ فِي رِحْلَتِهِمْ، انْتَهَى. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَرَّدَ هَذَا الْقَوْلَ جَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ لِإِيلَافِ بَعْضَ سُورَةِ أَلَمْ تَرَ وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ مَا قَالَ، يَعْنِي الْأَخْفَشَ وَالْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ، تَتَعَلَّقُ بِاعْجَبُوا مُضْمِرَةً، أَيْ اعَجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَتَرْكِهِمْ عِبَادَةَ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، ثُمَّ أَمْرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ بَعْدُ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أطعمهم وآمنهم لا آسفهم، أَيْ فَلْيَعْبُدُوا الَّذِي أَطْعَمَهُمْ بِدَعْوَةِ أَبِيهِمْ حَيْثُ قَالَ: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «1» ، وَآمَنَهُمْ بِدَعْوَتِهِ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «2» ، ولا تشتغلوا

_ (1) سورة إبراهيم: 14/ 37. (2) سورة إبراهيم: 14/ 35.

بِالْأَسْفَارِ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ طَلَبُ كَسْبٍ وَعَرْضِ دُنْيَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: تتعلق بقوله: ْيَعْبُدُوا ، وَالْمَعْنَى لِأَنْ فَعَلَ اللَّهُ بِقُرَيْشٍ هَذَا وَمَكَّنَهُمْ مِنْ إلفهم هذه النعمة. ْيَعْبُدُوا : أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ لِأَجْلِ إِيلَافِهِمْ الرِّحْلَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ دَخَلَتِ الْفَاءُ؟ قُلْتُ: لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِمَّا لَا فَلْيَعْبُدُوا لِإِيلَافِهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا تُحْصَى، فَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسَائِرِ نِعَمِهِ، فَلْيَعْبُدُوهُ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، مَصْدَرُ آلَفَ رُبَاعِيًّا وَابْنُ عَامِرٍ: لِإِلَافِ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، مَصْدَرُ أَلِفَ ثُلَاثِيًّا. يُقَالُ: أَلِفَ الرَّجُلُ الْأَمْرَ إِلْفًا وَإِلَافًا، وَآلَفَهُ غَيْرُهُ إِيَّاهُ إِيلَافًا، وَقَدْ يَأْتِي آلَفَ مُتَعَدِّيًا لِوَاحِدٍ كَأَلِفَ، قَالَ الشَّاعِرُ: مِنَ الْمُؤَلَّفَاتِ الرَّمْلِ أَدْمَاءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى فِي مَتْنِهَا يَتَوَضَّحُ وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فِي قِرَاءَةِ إِيلَافِهِمْ مَصْدَرًا لِلرُّبَاعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَمْزَتَيْنِ، فِيهِمَا الثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، وَهَذَا شَاذٌّ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ أَبْدَلُوا الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ لِثِقَلِ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ، وَلَمْ يُبْدِلُوا فِي نَحْوٍ يُؤَلَّفُ عَلَى جِهَةِ اللُّزُومِ لِزَوَالِ الِاسْتِثْقَالِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ فِيهِ، وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ هُوَ مِنْ طَرِيقِ الشُّمُنِّيِّ عَنِ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ النَّقَّارُ عَنْ عَاصِمٍ: إِإِيلَافِهِمْ بِهَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ بَعْدَهُمَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا أَشْبَعَ كَسْرَتَهَا، وَالصَّحِيحُ رُجُوعُ عَاصِمٍ عَنِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّهُ قَرَأَ كَالْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ فِيمَا حَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ: لِإِلْفِ قُرَيْشٍ وَقَرَأَ فِيمَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ إِلْفَهُمْ. قَالَ الشَّاعِرُ: زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشًا ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ جَمَعَ بَيْنَ مَصْدَرِي أَلِفَ الثُّلَاثِيِّ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَامِرٍ: إِلَافَهُمْ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ: إِلْفَهُمْ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا: لِيلَافِ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ اللَّامِ أَتْبَعَ، لَمَّا أَبْدَلَ الثَّانِيَةَ يَاءً حَذْفَ الْأُولَى حَذْفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: لِيَأْلَفَ قُرَيْشٌ وَعَنْهُ أَيْضًا: لِتَأْلَفْ قُرَيْشٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَعَنْهُ وَعَنْ هِلَالِ بْنِ فِتْيَانَ: بِفَتْحِ لَامِ الْأَمْرِ، وَأَجْمَعُوا هُنَا عَلَى صَرْفِ قُرَيْشٍ، رَاعَوْا فِيهِ مَعْنَى الْحَيِّ، وَيَجُوزُ مَنْعُ صَرْفِهِ مَلْحُوظًا فِيهِ مَعْنَى الْقَبِيلَةِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَكَفَى قُرَيْشَ الْمُعْضِلَاتِ وَسَادَهَا جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ مَعَدَّ وَقُرَيْشَ وَثَقِيفَ، وَكَيْنُونَةُ هَذِهِ لِلْأَحْيَاءِ أَكْثَرُ،

وَإِنْ جَعَلْتَهَا اسْمًا لِلْقَبَائِلِ فَجَائِزٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِحْلَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِضَمِّهَا، فَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ الْجِهَةُ الَّتِي يُرْحَلُ إِلَيْهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا رِحْلَتَانِ. فَقِيلَ: إِلَى الشَّامِ فِي التِّجَارَةِ وَنَيْلِ الْأَرْبَاحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَفَرَيْنِ بَيْنَهُمَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ ... سَفَرَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ الْأَصْيَافِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِحْلَةٌ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةٌ إِلَى بُصْرَى. وَقَالَ: يَرْحَلُونَ فِي الصَّيْفِ إِلَى الطَّائِفِ حَيْثُ الْمَاءُ وَالظِّلُّ، وَيَرْحَلُونَ فِي الشِّتَاءِ إِلَى مَكَّةَ لِلتِّجَارَةِ وَسَائِرِ أَغْرَاضِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَرَادَ رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَأَفْرَدَ لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ، كَقَوْلِهِ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ انْتَهَى، وَهَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ: حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي يُرِيدُ: بَطْنَيِ الْوَادِيَيْنِ، أَنْشَدَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الضَّرُورَةِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: كَانَتْ لَهُمْ أَرْبَعُ رِحَلٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ. انْتَهَى، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْإِيلَافِ كَانُوا أَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ وَهُمْ: بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ، كَانَ يُؤَلِّفُ مَلِكَ الشَّامِ، أَخَذَ مِنْهُ خَيْلًا، فَأَمِنَ بِهِ فِي تِجَارَتِهِ إِلَى الشَّامِ، وَعَبْدُ شَمْسٍ يُؤَلِّفُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَالْمُطَّلِبُ إِلَى الْيَمَنِ وَنَوْفَلٌ إِلَى فَارِسَ. فَكَانَ هَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ المجيرين، فَتَخْتَلِفُ تَجْرُ قُرَيْشٍ إِلَى الْأَمْصَارِ بِحَبْلِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْإِيلَافُ شِبْهُ الْإِجَارَةِ بِالْخِفَارَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رِحَلٌ أَرْبَعٌ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَانَتِ التُّجَّارُ فِي خِفَارَةِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِيهَا، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ يَمْدَحُهُمْ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ ... هَلَّا نَزَلْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنَافِ الْآخِذُونَ الْعَهْدَ مِنْ آفَاقِهَا ... وَالرَّاحِلُونَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ وَالرَّائِشُونَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ ... وَالْقَائِلُونَ هَلُمَّ لِلْأَضْيَافِ وَالْخَالِطُونَ غَنِيَّهُمْ لِفَقِيرِهِمْ ... حَتَّى يَصِيرَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِ فَتَكُونُ رِحْلَةَ هُنَا اسْمَ جِنْسٍ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَلِأَكْثَرَ، وَإِيلَافُهُمْ بَدَلٌ مِنْ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، أَطْلَقَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ وَقَيَّدَ الْبَدَلَ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ رِحْلَةٌ، أَيْ لِأَنْ أَلِفُوا رِحْلَةً تَفْخِيمًا لِأَمْرِ الْإِيلَافِ وَتَذْكِيرًا بِعَظِيمِ النِّعْمَةِ فيه. ذَا الْبَيْتِ : هُوَ الْكَعْبَةُ، وَتَمَكَّنَ هُنَا هَذَا اللَّفْظُ لِتَقَدُّمِ حِمَايَتِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمِنْ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ الْجُوعِ. كَانُوا قُطَّانًا بِبَلَدٍ

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عُرْضَةً لِلْجُوعِ وَالْخَوْفِ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَذَلِكَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «1» . وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ: فَضَّلَهُمْ عَلَى الْعَرَبِ بِكَوْنِهِمْ يَأْمَنُونَ حَيْثُ مَا حَلُّوا، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ، فَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَغَيْرُهُمْ خَائِفُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ: مَعْنَاهُ مِنَ الْجُذَامِ، فَلَا تَرَى بِمَكَّةَ مَجْذُومًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّنْكِيرُ فِي جُوعٍ وَخَوْفٍ لِشِدَّتِهِمَا، يَعْنِي أَطْعَمَهُمْ بِالرِّحْلَتَيْنِ مِنْ جُوعٍ شَدِيدٍ كَانُوا فِيهِ قَبْلَهُمَا، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ خَوْفُ أَصْحَابِ الْفِيلِ، أَوْ خَوْفُ التَّخَطُّفِ فِي بَلَدِهِمْ وَمَسَايِرِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ خَوْفٍ، بِإِظْهَارِ النُّونِ عِنْدَ الْخَاءِ، وَالْمُسَيَّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِإِخْفَائِهَا، وَكَذَلِكَ مَعَ الْعَيْنِ، نَحْوَ مِنْ عَلَى، وَهِيَ لُغَةٌ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ يُخَاطِبُ قُرَيْشًا: فَقُومُوا فَصِلُوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمُصَدِّقٌ ... غَدَاةَ أَبَى مَكْسُومٍ هَادِي الْكَتَائِبِ كَثِيبَةٌ بِالسَّهْلِ تَمْشِي وَرِحْلَةٌ ... عَلَى الْعَادِقَاتِ في رؤوس الْمَنَاقِبِ فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَاقٍ وَحَاجِبِ فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إِلَى أَهْلِهِ مِلْجَيْشِ غير عصائب

_ (1) سورة القصص: 28/ 57.

سورة الماعون

سورة الماعون [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) سَهَا عَنْ كَذَا يَسْهُو سَهْوًا: لَهَا عَنْهُ وَتَرَكَهُ عَنْ غَفْلَةٍ. الْمَاعُونُ: فَاعُولٌ مِنَ الْمَعْنِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا لَهُ مَعْنٌ، أَيْ شَيْءٌ قَلِيلٌ، وَقَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مَعُونَةٌ وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْهَاءِ، فَوَزْنُهُ مَفْعَلٌ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَكْرَمٍ، فَتَكُونُ الْمِيمُ زَائِدَةً، وَوَزْنُهُ بَعْدَ زِيَادَةِ الألف عوضا ما فعل. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَعَانَ يُعِينُ، جَاءَ عَلَى زِنَةِ مَفْعُولٍ، قُلِبَ فَصَارَتْ عَيْنُهُ مَكَانَ الْفَاءِ فَصَارَ مَوْعُونَ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوِ أَلِفًا، كَمَا قَالُوا فِي بَوَبَ بَابٌ فَصَارَ ماعون، فَوَزْنُهُ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: الْمَاعُونُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: كُلَّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ حَتَّى الْفَاسُ وَالدَّلْوُ وَالْقِدْرُ وَالْقَدَّاحَةُ، وَكُلُّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْأَعْشَى: بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَاعُونِهِ ... إِذَا ما سماءهم لَمْ تَغِمِ وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ الطَّاعَةُ، وَتَأْتِي أَقْوَالُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عز وجل. أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ

الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. قَالَ هِبَةُ اللَّهِ الْمُفَسِّرُ الضَّرِيرُ: نَزَلَ نِصْفُهَا بِمَكَّةَ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، وَنِصْفُهَا بِالْمَدِينَةِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ. وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَكَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، أَتْبَعَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِتَهْدِيدِهِمْ بِالْجَزَاءِ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ. وَنَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، أَوِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَوِ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ عُمَرَ بْنِ عَائِذٍ، أَوْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، كَانَ يَنْحَرُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ جَزُورًا، فَأَتَاهُ يَتِيمٌ فَسَأَلَهُ شَيْئًا فَقَرَعَهُ بِعَصًا، أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِابْنِ جُرَيْجٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرَأَيْتَ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، فَتَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا الَّذِي، وَالْآخَرُ مَحْذُوفٌ، فَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ: أَلَيْسَ مُسْتَحِقًّا عَذَابَ اللَّهِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي. قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ أَرَأَيْتُكَ بِكَافِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ كَافَ الْخِطَابِ لَا تَلْحَقُ الْبَصَرِيَّةَ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ تَدُلُّ عَلَى التَّقْرِيرِ وَالتَّفْهِيمِ لِيَتَذَكَّرَ السَّامِعُ مَنْ يَعْرِفُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى هَلْ عَرَفْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ؟ هُوَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ: أَيْ يَدْفَعُهُ دَفْعًا عَنِيفًا بِجَفْوَةٍ أَوْ أَذًى، وَلا يَحُضُّ: أَيْ وَلَا يَبْعَثُ أَهْلَهُ عَلَى بَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمِسْكِينِ. جَعَلَ عِلْمَ التَّكْذِيبِ بِالْجَزَاءِ، مَنْعَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِقْدَامَ عَلَى إِيذَاءِ الضَّعِيفِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدُعُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَشَدِّ الْعَيْنِ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْيَمَانِيُّ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَخَفِّ الْعَيْنِ، أَيْ يَتْرُكُهُ بِمَعْنَى لَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ وَيَجْفُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَحُضُّ مُضَارِعُ حَضَّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَحَاضُّ مُضَارِعُ حَاضَضْتُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالدِّينِ: بِحُكْمِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْحِسَابِ، وَقِيلَ: بِالْجَزَاءِ، وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ إبراهيم ابن عَرَفَةَ: يَدُعُّ الْيَتِيمَ: يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ وَلَا يُطْعِمُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَحُضُّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ لَا يُطْعِمُ إِذَا قدر، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحُضَّ غَيْرَهُ بُخْلًا، فَلَأَنْ يَتْرُكَ هُوَ ذَلِكَ فِعْلًا أَوْلَى وَأَحْرَى، وَفِي إِضَافَةِ طَعَامٍ إِلَى الْمِسْكِينِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا عَمُودَ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالدِّينِ، ذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ، وَهُوَ عِبَادَتُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَلِّينَ هُمْ غَيْرُ

الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: هُوَ دَاعُّ الْيَتِيمِ غَيْرُ الْحَاضِّ، وَأَنْ كُلًّا مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ ناشىء عَنِ التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ، فَالْمُصَلُّونَ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هُمُ المنافقون، أثبت لَهُمُ الصَّلَاةُ، وَهِيَ الْهَيْئَاتُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا. ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُوقِعُونَهَا، كَمَا يُوقِعُهَا الْمُسْلِمُ مِنَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا وَالتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ: «يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا تَهَاوُنًا بِهَا» . قَالَ مُجَاهِدٌ: تَأْخِيرُ تَرْكٍ وَإِهْمَالٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ الَّذِي إِذَا سَجَدَ قَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا مُلْتَفِتًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ التَّرْكُ لَهَا، أَوْ هُمُ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَا يُبَالِي أَحَدُهُمْ أَصَلَّى أَمْ لَمْ يُصَلِّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ الَّذِي لَا يُقِرُّ وَلَا يَذْكُرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ سِرًّا وَيَفْعَلُونَهَا عَلَانِيَةً، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى «1» الآية، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ قَالَ فِي صَلَاتِهِمْ لَكَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ عَنْ صَلَاتِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ فِي صَلَاتِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، قَالَ: وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى أَنْ يَكُونَ فَذلِكَ عَطْفًا عَلَى الَّذِي يُكَذِّبُ، إِمَّا عَطْفُ ذَاتٍ عَلَى ذَاتٍ، أَوْ عَطْفُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَيَكُونُ جَوَابُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كأنه قَالَ: أَخْبِرْنِي وَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ، وَفِيمَنْ يُؤْذِي الْيَتِيمَ وَلَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، أَنِعْمَ مَا يَصْنَعُ؟ ثُمَّ قَالَ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ: أَيْ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُسِيءٌ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ عَلَى مَعْنَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ صِفَتَهُمْ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ التَّكْذِيبِ، وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ سَاهِينَ عَنِ الصَّلَاةِ مُرَائِينَ غَيْرَ مُزَكِّينَ أَمْوَالَهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جُعِلَتِ الْمُصَلِّينَ قَائِمًا مَقَامَ ضَمِيرِ الَّذِي يُكَذِّبُ، وَهُوَ وَاحِدٌ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، انْتَهَى. فَجَعَلَ فَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ تَرْكِيبٌ غَرِيبٌ، كَقَوْلِكَ: أَكْرَمْتُ الَّذِي يَزُورُنَا فَذَلِكَ الَّذِي يُحْسِنُ إِلَيْنَا، فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ فَذَلِكَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّصْبِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَكْرَمْتُ الَّذِي يَزُورُنَا فَأَكْرَمْتُ ذَلِكَ الَّذِي يُحْسِنُ إِلَيْنَا. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ تَمَكُّنَ مَا هُوَ فَصِيحٌ، إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يُشَارَ إِلَى الَّذِي يَزُورُنَا، بَلِ الْفَصِيحُ أَكْرَمْتُ الَّذِي يَزُورُنَا فَالَّذِي يُحْسِنُ إِلَيْنَا، أَوْ أَكْرَمْتُ الَّذِي يَزُورُنَا فَيُحْسِنُ إِلَيْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِمَّا عَطْفُ ذات

_ (1) سورة النساء: 4/ 142.

عَلَى ذَاتٍ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِي يُكَذِّبُ، فَلَيْسَا بِذَاتَيْنِ، لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَذلِكَ هُوَ وَاحِدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَكُونُ جَوَابُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفًا، فَلَا يُسَمَّى جَوَابًا، بَلْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنِعْمَ مَا يَصْنَعُ، فَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَا نَعْلَمُ دُخُولَهَا عَلَى نِعْمَ وَلَا بِئْسَ، لِأَنَّهُمَا إِنْشَاءٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْخَبَرِ. وَأَمَّا وَضْعُهُ الْمُصَلِّينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَأَنَّ الْمُصَلِّينَ جَمْعٌ، لِأَنَّ ضَمِيرَ الَّذِي يُكَذِّبُ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، فَتَكَلُّفٌ وَاضِحٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ التَّرْكِيبِ، وَهَكَذَا عَادَةُ هَذَا الرَّجُلِ يَتَكَلَّفُ أَشْيَاءَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِوَاضِحَةٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الرِّيَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يراءون مضارع راأى، عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَشْهَبُ: مَهْمُوزَةً مَقْصُورَةً مُشَدَّدَةَ الْهَمْزَةِ وَعَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: بِغَيْرِ شَدٍّ فِي الْهَمْزَةِ. فَتَوْجِيهُ الْأُولَى إِلَى أَنَّهُ ضَعَّفَ الْهَمْزَةَ تَعْدِيَةً، كَمَا عَدَّوْا بِالْهَمْزَةِ فَقَالُوا فِي رَأَى: أرى، فقالوا: راأى، فجاء المضارع بأرى كَيُصَلِّي، وَجَاءَ الْجَمْعُ يُرَوُّونَ كَيُصَلُّونَ، وَتَوْجِيهُ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ اسْتَثْقَلَ التَّضْعِيفَ فِي الْهَمْزَةِ فَخَفَّفَهَا، أَوْ حَذَفَ الْأَلِفَ مِنْ يُرَاءُونَ حَذْفًا لَا لِسَبَبٍ. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ شِهَابٍ: الْمَاعُونُ، بِلُغَةِ قُرَيْشٍ: الْمَالُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: الْمَاعُونُ: الْمَاءُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، كَالْفَأْسِ وَالدَّلْوِ وَالْآنِيَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَحُلُّ مَنْعُهُ فَقَالَ: الْمَاءُ وَالْمِلْحُ وَالنَّارُ» . وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: الْإِبْرَةُ وَالْخَمِيرُ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمَاعُونُ: الزَّكَاةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي: أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ ... حُنَفَاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا عَرَبٌ نَرَى لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِنَا ... حَقَّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلَا قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا يَعْنِي بِالْمَاعُونِ: الزَّكَاةَ، وَهَذَا القول يناسبه ما ذَكَرَهُ قُطْرُبٌ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْمَعْنِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ، فَسُمِّيَتِ الزَّكَاةُ مَاعُونًا لِأَنَّهَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْعَارِيَّةُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَنْعُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الْمَاءُ وَالْكَلَأُ.

سورة الكوثر

سورة الكوثر [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) انْحَرْ: أَمْرٌ مِنَ النَّحْرِ، وَهُوَ ضَرْبُ النَّحْرِ لِلْإِبِلِ بِمَا يُفِيتُ الرُّوحَ مِنْ مَحْدُودٍ. الْأَبْتَرُ: الَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ، وَالْبَتْرُ: الْقَطْعُ، بَتَرْتُ الشَّيْءَ: قَطَعْتُهُ، وَبَتِرَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ أَبْتَرُ: انْقَطَعَ ذَنَبُهُ. وَخَطَبَ زِيَادٌ خُطْبَتَهُ الْبَتْرَاءَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْمَدْ فِيهَا اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا صَلَّى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَرَجُلٌ أُبَاتِرٌ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ: الَّذِي يَقْطَعُ رَحِمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَئِيمٌ بَدَتْ فِي أَنْفِهِ خُنْزُوَانَةٌ ... عَلَى قَطْعِ ذِي الْقُرْبَى أَجَذُّ أُبَاتِرُ وَالْبَتْرِيَّةُ: قَوْمٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ نُسِبُوا إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعْدٍ وَلَقَبُهُ الْأَبْتَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي الْمَشْهُورِ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا وَصْفَ الْمُنَافِقِ بِالْبُخْلِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالرِّيَاءِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ، قَابَلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْبُخْلَ بِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، وَالسَّهْوَ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: فَصَلِّ، وَالرِّيَاءَ بِقَوْلِهِ: لِرَبِّكَ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ: وَانْحَرْ، أَرَادَ بِهِ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِ الْأَضَاحِي، فَقَابَلَ أَرْبَعًا بِأَرْبَعٍ. وَنَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، كَانَ يُسَمِّي الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَبْتَرِ، وَكَانَ يَقُولُ: دَعُوهُ إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، لَوْ هَلَكَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَعْطَيْناكَ بِالْعَيْنِ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ:

أَنْطَيْنَاكَ بِالنُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ التِّبْرِيزِيُّ: هِيَ لُغَةٌ لِلْعَرَبِ الْعَارِبَةِ مِنْ أُولَى قريش. ومن كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَدُ الْعَلْيَاءُ الْمُنْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى الْمُنْطَاةُ» . وَمِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وأنطوا النيحة» . وَقَالَ الْأَعْشَى: جِيَادُكَ خَيْرُ جِيَادِ الْمُلُوكِ ... تُصَانُ الْحَلَالَ وَتُنْطَى السَّعِيرَا قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَأَبُو زَكَرِيَّا التبرزي: أَبْدَلَ مِنَ الْعَيْنِ نُونًا فإن عنيا النُّونَ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مَكَانَ الْعَيْنِ فِي غَيْرِهَا فحسن، وإن عنيا الْبَدَلَ الصِّنَاعِيَّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللُّغَتَيْنِ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا لِوُجُودِ تَمَامِ التَّصَرُّفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَقُولُ الْأَصْلُ الْعَيْنُ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ النُّونُ مِنْهَا. وَذَكَرَ فِي التَّحْرِيرِ: فِي الْكَوْثَرِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ قَوْلًا، وَالصَّحِيحُ هُوَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، ترتبه أَطْيَبُ مِنِ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَاقْتَطَعْنَا مِنْهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ» انْتَهَى. قَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عند ما نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَقَرَأَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَوْثَرُ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ. وَقِيلَ لِابْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: هُوَ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكَوْثَرُ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبَّاسٍ وَيَمَانُ بْنُ وَثَّابٍ: كَثْرَةُ الْأَصْحَابِ وَالْأَتْبَاعِ. وَقَالَ هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ: هُوَ التَّوْحِيدُ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: نُورُ قَلْبِهِ دَلَّهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَطَعَهُ عَمَّا سِوَاهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْإِيثَارُ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ، لَا أَنَّ الْكَوْثَرَ مُنْحَصِرٌ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالْكَوْثَرُ فَوْعَلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَهُوَ الْمُفْرِطُ الْكَثْرَةِ. قِيلَ لِأَعْرَابِيَّةٍ رَجَعَ ابْنُهَا مِنَ السَّفَرِ: بِمَ آبَ ابْنُكَ؟ قَالَتْ: آبَ بِكَوْثَرٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَأَنْتَ كثير يا ابن مَرْوَانَ طَيِّبُ ... وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْعَقَائِلِ كَوْثَرَا فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ: الظَّاهِرُ أَنَّ فَصَلِّ أَمْرٌ بِالصَّلَاةِ يَدْخُلُ فِيهَا الْمَكْتُوبَاتُ وَالنَّوَافِلُ. وَالنَّحْرُ: نَحْرُ الْهَدْيِ وَالنُّسُكِ وَالضَّحَايَا، قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جِهَادٌ فَأُمِرَ

بِهَذَيْنِ. قَالَ أَنَسٌ: كَانَ يَنْحَرُ يَوْمَ الْأَضْحَى قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَأُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْحَرَ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ وَقْتَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. قِيلَ لَهُ: صَلِّ وَانْحَرِ الْهَدْيَ، فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ مِنَ الْمَدَنِيِّ. وَفِي قَوْلِهِ: لِرَبِّكَ، تَنْذِيرٌ بِالْكُفَّارِ حَيْثُ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً، وَنَحْرُهُمْ لِلْأَصْنَامِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: صَلِّ لِرَبِّكَ وَضَعْ يَمِينَكَ عَلَى شِمَالِكَ عِنْدَ نَحْرِكَ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: ارْفَعْ يَدَيْكَ فِي اسْتِفْتَاحِ صَلَاتِكَ عِنْدَ نَحْرِكَ. وَعَنْ عَطِيَّةَ وَعِكْرِمَةَ: هِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ بِجَمْعٍ، وَالنَّحْرُ بِمِنًى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَوِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ جَالِسًا حَتَّى يَبْدُوَ نَحْرُكَ. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِكَ. إِنَّ شانِئَكَ: أَيْ مُبْغَضُكَ، تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ. وَقِيلَ: أَبُو جَهْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: بَتِرَ مُحَمَّدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وَقَالَ شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَبْتَرُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شانِئَكَ بِالْأَلِفِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: شَيْنَكَ بِغَيْرِ أَلِفٍ. فَقِيلَ: مَقْصُورٌ مِنْ شَانِي، كَمَا قَالُوا: بَرَّرَ وَبَرَّ فِي بَارَرَ وَبَارَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى فَعَلَ، وَهُوَ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَاضِي فَتَكُونُ إِضَافَتُهُ لَا مِنْ نَصْبٍ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَدْ قَالُوا: حَذِرٌ أُمُورًا وَمَزِقُونَ عِرْضِي، فَلَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ كَوْنِهِ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْأَحْسَنُ الْأَعْرَفُ فِي الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، أَيْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْبَتْرِ الْمَخْصُوصُ بِهِ، لَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَادُهُ، وَذِكْرُهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْمَنَائِرِ وَالْمَنَابِرِ، وَمَسْرُودٌ عَلَى لِسَانِ كُلِّ عَالِمٍ وَذَاكِرٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. يُبْدَأُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُثَنَّى بذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصْفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ.

سورة الكافرون

سورة الكافرون [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. هَذِهِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنِ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَذَكَرُوا مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: دَعْ مَا أَنْتَ فِيهِ وَنَحْنُ نُمَوِّلُكَ وَنُزَوِّجُكَ مَنْ شِئْتَ مِنْ كَرَائِمِنَا، وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا فَلْتَعْبُدْ آلِهَتَنَا وَنَحْنُ نَعْبُدُ إِلَهَكَ حَتَّى نَشْتَرِكَ، فَحَيْثُ كَانَ الْخَيْرُ نِلْنَاهُ جَمِيعًا. وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ شَانِئِهِ قُرَيْشًا، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ سَنَةً وَيَعْبُدُوا إِلَهَهُ سَنَةً، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ تَبَرِّيًا مِنْهُمْ وَإِخْبَارًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ. وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وخطابه لهم بيا أيها الْكَافِرُونَ فِي نَادِيهِمْ، وَمَكَانِ بَسْطَةِ أَيْدِيهِمْ مَعَ مَا فِي هَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْإِرْذَالِ بِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَحْرُوسٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُبَالِي بِهِمْ. وَالْكَافِرُونَ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَأُمِّيَّةُ وَأُبَيٌّ ابْنَا خَلَفٍ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَابْنَا الْحَجَّاجِ وَنُظَرَاؤُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَوَافَى عَلَى الْكُفْرِ تَصْدِيقًا لِلْإِخْبَارِ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَقْوَالٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِلتَّوْكِيدِ. فَقَوْلُهُ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَقَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ثَانِيًا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أَوَّلًا. وَالتَّوْكِيدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَحَكَوْا مِنْ ذَلِكَ نَظْمًا وَنَثْرًا مَا لَا يَكَادُ يُحْصَرُ. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّوْكِيدِ قَطْعُ أَطْمَاعِ الْكُفَّارِ، وَتَحْقِيقُ الْإِخْبَارِ بِمُوَافَاتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُسْلِمُونَ أَبَدًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّوْكِيدِ، وَاخْتَلَفُوا. فَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى لَا أَعْبُدُ السَّاعَةَ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ السَّنَةَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا أَعْبُدُ، فَزَالَ التَّوْكِيدُ، إِذْ قَدْ تَقَيَّدَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ بِزَمَانٍ مُغَايِرٍ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مَا فِي الْأُولَيَيْنِ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْمَقْصُودُ الْمَعْبُودُ. وَمَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمُ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الشَّكِّ وَتَرْكِ النَّظَرِ، وَلَا أَنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِثْلَ عِبَادَتِي الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْيَقِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْآنَ، وَيَبْقَى الْمُسْتَأْنَفُ مُنْتَظَرًا مَا يَكُونُ فِيهِ، جَاءَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ أَبَدًا وَمَا حَيِيتُ. ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ الثَّانِي حَتْمًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ أَبَدًا، كَالَّذِي كَشَفَ الْغَيْبَ. فَهَذَا كَمَا قِيلَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» . أَمَّا أَنَّ هَذَا فِي مُعَيَّنِينَ، وَقَوْمُ نُوحٍ عُمُّوا بِذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى التَّرْدِيدِ الَّذِي فِي السُّورَةِ، وَهُوَ بَارِعُ الْفَصَاحَةِ، وَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ، انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا أَعْبُدُ، أُرِيدَتْ بِهِ الْعِبَادَةُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، لِأَنَّ لَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُضَارِعٍ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، كَمَا أَنَّ مَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُضَارِعٍ فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنِّي مِنْ عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ، وَلَا أَنْتُمْ فَاعِلُونَ فِيهِ مَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهِي. وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ: أَيْ وَمَا كُنْتُ قَطُّ عَابِدًا فِيمَا سَلَفَ مَا عَبَدْتُمْ فِيهِ، يَعْنِي: لَمْ تُعْهَدْ مِنِّي عِبَادَةُ صَنَمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ تُرْجَى مِنِّي فِي الْإِسْلَامِ؟ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ: أَيْ وَمَا عَبَدْتُمْ فِي وَقْتٍ مَا أَنَا عَلَى عِبَادَتِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قِيلَ مَا عَبَدْتُ كَمَا قِيلَ مَا عَبَدْتُمْ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ قَبْلَ الْبَعْثِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، انْتَهَى. أَمَّا حَصْرُهُ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّ لَا لَا تَدْخُلُ، وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَا تَدْخُلُ،

_ (1) سورة هود: 11/ 36.

فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ ذَلِكَ غَالِبٌ فِيهِمَا لَا مُتَحَتِّمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ النُّحَاةُ دُخُولَ لَا عَلَى الْمُضَارِعِ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ، وَدُخُولَ مَا عَلَى الْمُضَارِعِ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْمَبْسُوطَاتِ مِنْ كُتُبِ النَّحْوِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُورِدْ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، إِنَّمَا قَالَ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ يَفْعَلُ وَلَمْ يَقَعِ الْفِعْلُ. وَقَالَ: وَأَمَّا مَا فَهِيَ نَفْيٌ لِقَوْلِهِ هُوَ يَفْعَلُ إِذَا كَانَ فِي حَالِ الْفِعْلِ، فَذَكَرَ الْغَالِبَ فِيهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي قَوْلِهِ وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ: أَيْ وَمَا كُنْتُ قَطُّ عَابِدًا فِيمَا سَلَفَ مَا عَبَدْتُمْ فِيهِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ، لِأَنَّ عَابِدًا اسْمُ فَاعِلٍ قَدْ عَمِلَ فيما عَبَدْتُمْ، فَلَا يُفَسَّرُ بِالْمَاضِي، إِنَّمَا يُفَسَّرُ بِالْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ وَلَيْسَ مَذْهَبُهُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مَذْهَبَ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٍ مِنْ جَوَازِ إِعْمَالِهِ مَاضِيًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ: أَيْ وَمَا عَبَدْتُمْ فِي وَقْتٍ مَا أَنَا عَلَى عِبَادَتِهِ، فَعَابِدُونَ قَدْ أَعْمَلَهُ فِيمَا أَعْبُدُ، فَلَا يُفَسَّرُ بِالْمَاضِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ إِلَى آخِرِهِ، فَسُوءُ أَدَبٍ مِنْهُ عَلَى مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ مُوَحِّدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُنَزِّهًا لَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، مُجْتَنِبًا لِأَصْنَامِهِمْ بِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ، وَيَقِفُ بِمَشَاعِرِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَيُّ عِبَادَةٍ أَعْظَمُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَبْذِ أَصْنَامِهِمْ! وَالْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ لِيَعْرِفُونِ. فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْرِفَةَ بِهِ عِبَادَةً. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّهُ أَوَّلًا: نَفَى عِبَادَتَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ لَا الْغَالِبُ أَنَّهَا تَنْفِي الْمُسْتَقْبَلَ، قِيلَ: ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ نَفْيًا لِلْمُسْتَقْبَلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ نَفْيًا لِلْحَالِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ الْعَامِلَ الْحَقِيقَةُ فِيهِ دَلَالَتُهُ عَلَى الْحَالِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ نَفْيًا لِلْحَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، فَانْتَظَمَ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُونَ، لَا حَالًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا، وَهُمْ كَذَلِكَ، إِذْ قَدْ حَتَّمَ اللَّهُ مُوَافَاتَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَلَمَّا قَالَ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَأَطْلَقَ مَا عَلَى الْأَصْنَامِ، قَابَلَ الْكَلَامَ بِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَعْبُدُ، وَإِنْ كَانَتْ يُرَادُ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ يَسُوغُ فِيهَا مَا لَا يَسُوغُ مَعَ الِانْفِرَادِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: أن ما لا تقع على

_ (1) سورة الذاريات: 51/ 56.

آحَادِ مَنْ يَعْلَمُ. أَمَّا مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى سِيبَوَيْهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْذَارٍ بِالتَّقَابُلِ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ: مَا أَعْبُدُ. وَقِيلَ: فِيهَا جَمِيعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ الصِّفَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا أَعْبُدُ الْبَاطِلَ، وَلَا تَعْبُدُونَ الْحَقَّ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ: أَيْ لَكُمْ شِرْكُكُمْ وَلِيَ تَوْحِيدِي، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّبَرُّؤِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَهَمُّ انْتِفَاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ دِينِهِمْ، بَدَأَ بِالنَّفْيِ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ. وَلَمَّا تَحَقَّقَ النَّفْيُ رَجَعَ إِلَى خِطَابِهِمْ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُهَادَنَةَ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ سَلَامٌ: دِينِي بِيَاءٍ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَحَذَفَهَا الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة النصر

سورة النّصر [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. هَذِهِ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ مُنْصَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَعَاشَ بَعْدَ نُزُولِهَا سَنَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَاشَ بَعْدَهَا ثَمَانِينَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ «1» مُوَادَعَةٌ، جَاءَ فِي هَذِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَخْوِيفِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، وَأَنَّهُ آنَ مَجِيءُ نَصْرِ اللَّهِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَاضْمِحْلَالُ مِلَّةِ الْأَصْنَامِ، وَإِظْهَارُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذا مَنْصُوبٌ بِسَبِّحْ، وَهُوَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَالْإِعْلَامُ بِذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْحَوْفِيُّ، وَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُ فَسَبِّحْ فِي إِذا لِأَجْلِ الْفَاءِ، لِأَنَّ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لَا يَتَسَلَّطُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ، بَلِ الْعَامِلَ فِي إِذَا الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُورِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ غَيْرَهُ. وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ وَالْإِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْفَتْحُ: فَتْحُ الْبِلَادِ. وَمُتَعَلِّقُ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ محذوف، فالظاهر أنه

_ (1) سورة الكافرون: 109/ 6.

نَصْرُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَفَتْحُ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا عَلَيْهِمْ، كَالطَّائِفِ وَمُدُنِ الْحِجَازِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْيَمَنِ. وَقِيلَ: نَصْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَكَانَ فَتْحُهَا لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، سَنَةَ ثَمَانٍ، وَمَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدْخُلُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. فِي دِينِ اللَّهِ: فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ يُضَافُ غَيْرُهَا. أَفْواجاً أَيْ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً، كَانَتْ تَدْخُلُ فِيهِ القبيلة بأسرها بعد ما كَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا فَتَحَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكَّةَ، أَقْبَلَتِ الْعَرَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَمَّا الظَّفَرُ بِأَهْلِ الْحَرَمِ فَلَيْسَ بِهِ يَدَانِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَارَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْعَرَبِ رَجُلٌ كَافِرٌ، بَلْ دَخَلَ الْكُلُّ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ حُنَيْنٍ. مِنْهُمْ مَنْ قَدِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدِمَ وَافِدُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْعَرَبُ عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ. وَأَمَّا نَصَارَى بَنِي ثَعْلَبٍ فَمَا أَرَاهُمْ أَسْلَمُوا قَطُّ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، لَكِنْ أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَفَدَ مِنْهُمْ سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وُفُودُ الْعَرَبِ، وَكَانَ دُخُولُهُمْ بَيْنَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَفْواجاً: جَمْعُ فَوْجٍ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَقِيَاسُ جَمْعِهِ أَفْوُجٌ، وَلَكِنِ اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَعُدِلَ إِلَى أَفْوَاجٍ، كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ كَالصَّحِيحِ. فَكَمَا أَنَّ قِيَاسَ فَعْلٍ صَحِيحُهَا أَنْ يُجْمَعَ عَلَى أَفْعُلٍ لَا عَلَى أَفْعَالٍ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَالْأَمْرُ فِي هَذَا الْمُعْتَلِّ بِالْعَكْسِ. الْقِيَاسُ فِيهِ أَفْعَالٌ، كَحَوْضٍ وَأَحْوَاضٍ، وَشَذَّ فِيهِ أَفْعُلٌ، كَثَوْبٍ وَأَثْوُبٍ، وَهُوَ حَالٌ. وَيَدْخُلُونَ حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ كَانَ أَرَأَيْتَ «1» بِمَعْنَى عَلِمْتَ الْمُتَعَدِّيَةِ لِاثْنَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنْ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتَ أَوْ عَرَفْتَ، انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ رَأَيْتَ جَاءَتْ بِمَعْنَى عَرَفْتَ، فَنَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى اسْتِثْبَاتٍ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ: أَيْ مُلْتَبِسًا بِحَمْدِهِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَوَّلَكَهَا، مِنْ نَصْرِكَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَفَتْحِكَ الْبِلَادَ وَإِسْلَامِ النَّاسِ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ، إِذْ كُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا الْمُسْلِمُونَ فَهِيَ فِي مِيزَانِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يَقُولَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ

_ (1) سورة الماعون: 107/ 1.

وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ التَّسْبِيحِ تَكْمِيلٌ لِلْأَمْرِ بِمَا هُوَ قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَاسِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ لُطْفًا لِأُمَّتِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ، انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ دُنُوَّ أَجَلِهِ، وَحِينَ قَرَأَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَبْشَرَ الصَّحَابَةُ وَبَكَى الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: «وَمَا يُبْكِيكَ يَا عَمُّ؟» قَالَ: نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَكَمَا تَقُولُ» ، فَعَاشَ بَعْدَهَا سَنَتَيْنِ. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً: فِيهِ تَرْجِئَةٌ عَظِيمَةٌ للمستغفرين.

سورة المسد

سورة المسد [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) الْحَطَبُ مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَحْطِبُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا وَشَى عَلَيْهِ. الْجِيدُ: الْعُنُقُ. الْمَسَدُ: الْحَبْلُ مِنْ لِيفٍ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: لِيفُ الْمُقْلِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ شَجَرٌ بِالْيَمَنِ يُسَمَّى الْمَسَدَ، انْتَهَى. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ وَمِنْ أَوْبَارِهَا. قَالَ الرَّاجِزُ: وَمَسَدُ أَمْرٍ مِنْ أَيَانِقَ وَرَجُلٌ مَمْسُودُ الْخَلْقِ: أَيْ مَجْدُولُهُ شَدِيدُهُ. تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ، سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا دُخُولَ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، أَتْبَعَ بِذِكْرِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الدِّينِ، وَخَسِرَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنِ الْإِيمَانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّبَابِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَهُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَابَتْ، وَقَتَادَةُ: خَسِرَتْ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هَلَكَتْ، وَعَطَاءٌ: ضَلَّتْ، وَيَمَانُ بْنُ رِيَابٍ: صَفِرَتْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَالُوا فِيمَا حَكَى أَشَابَّةٌ: أَمْ تَابَّةٌ: أَيْ هَالِكَةٌ مِنَ الْهَرَمِ وَالتَّعْجِيزِ. وَإِسْنَادُ الْهَلَاكِ إِلَى الْيَدَيْنِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِهِمَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلنَّفْسِ، كَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِما

قَدَّمَتْ يَداكَ «1» . وَقِيلَ: أَخَذَ بِيَدَيْهِ حَجَرًا لِيَرْمِيَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ التَّبَّ إِلَيْهِمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّبَّ دُعَاءٌ، وَتَبَّ: إِخْبَارٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِهِ ... جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ تَبَّ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» ، قَالَ: «يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، لَا أُغْنِي لَكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» . ثُمَّ صَعِدَ الصَّفَا، فَنَادَى بُطُونَ قُرَيْشٍ: «يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا صَبَاحَاهُ» . فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ لَهُمْ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أُنْذِرُكُمْ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَافْتَرَقُوا عَنْهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ. وَأَبُو لَهَبٍ اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، ابْنُ عم الْمُطَّلِبِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ: أَبِي لَهَبٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَفَتَحَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَاتَ لَهَبٍ، لِأَنَّهَا فَاصِلَةُ، وَالسُّكُونُ يُزِيلُهَا عَلَى حُسْنِ الْفَاصِلَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ، كَقَوْلِهِمْ: شُمْسُ مَالِكٍ بِالضَّمِّ. انْتَهَى، يَعْنِي: سُكُونَ الْهَاءِ فِي لَهْبٍ وَضَمَّ الشِّينَ فِي شُمْسٍ، وَيَعْنِي فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ ... بِهِ لِابْنِ عَمِّي الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ فَأَمَّا فِي لَهَبٍ، فَالْمَشْهُورُ فِي كُنْيَتِهِ فَتْحُ الْهَاءِ، وَأَمَّا شُمْسُ بْنُ مَالِكٍ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى بِشُمْسٍ الْمَنْقُولِ مِنْ شُمْسٍ الْجَمْعِ، كَمَا جَاءَ أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ. قِيلَ: وَكُنِّيَ بِأَبِي لَهَبٍ لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ لِأَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْكُنْيَةِ، أَوْ لِأَنَّ الْكُنْيَةَ كَانَتْ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْمِ أَوْ لِأَنَّ مَآلَهُ إِلَى النَّارِ، فَوَافَقَتْ حَالَتُهُ كُنْيَتَهُ، كَمَا يُقَالُ لِلشِّرِّيرِ: أَبُو الشَّرِّ، وَلِلْخَيِّرِ أَبُو الْخَيْرِ أَوْ لِأَنَّ الِاسْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْكُنْيَةِ، فَعَدَلَ إِلَى الْأَنْقَصِ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَسْمَائِهِمْ وَلَمْ يُكَنِّ أَحَدًا مِنْهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ نَفْيٌ، أَيْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ الْمَوْرُوثُ عَنْ آبَائِهِ، وَمَا كَسَبَ هُوَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَاشِيَتُهُ، وَمَا كَسَبَ مِنْ نَسْلِهَا وَمَنَافِعِهَا، أَوْ مَا كَسَبَ مِنْ أَرْبَاحِ مَالِهِ الَّذِي يَتَّجِرُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُغْنِي عنه

_ (1) سورة الحج: 22/ 10. (2) سورة الشعراء: 26/ 214.

مَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ وَالْإِنْكَارِ؟ وَالْمَعْنَى: أَيْنَ الْغِنَى الَّذِي لِمَالِهِ وَلِكَسْبِهِ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما كَسَبَ مَوْصُولَةٌ، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. وَإِذَا كَانَتْ مَا فِي مَا أَغْنى اسْتِفْهَامًا، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي وَما كَسَبَ اسْتِفْهَامًا أَيْضًا، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَسَبَ؟ أَيْ لَمْ يَكْسِبْ شَيْئًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَما كَسَبَ وَلَدُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ» . وَعَنِ الضَّحَّاكِ: وَما كَسَبَ هُوَ عَمَلُهُ الْخَبِيثُ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ قَتَادَةَ: وَعَمَلُهُ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا، فَأَنَا أَفْتَدِي مِنْهُ نَفْسِي بِمَالِي وَوَلَدِي. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا اكْتَسَبَ بِتَاءِ الِافْتِعَالِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَعَبَّاسٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَهُوَ أَيْضًا سَيَصْلَى بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَشَدِّ اللَّامِ، وَمُرَيْئَتُهُ وَعَنْهُ أَيْضًا: وَمُرَيَّتُهُ عَلَى التَّصْغِيرِ فِيهِمَا بِالْهَمْزِ وَبِإِبْدَالِهَا يَاءً وَإِدْغَامِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فِيهَا. وَقَرَأَ أَيْضًا: حَمَّالَةٌ لِلْحَطَبِ، بِالتَّنْوِينِ فِي حَمَّالَةَ، وَبِلَامِ الْجَرِّ فِي الْحَطَبِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: سَيَصْلَى بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَأَبُو قِلَابَةَ: حَامِلَةُ الْحَطَبِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ مُضَافًا، وَاخْتَلَسَ حَرَكَةَ الْهَاءِ فِي وَامْرَأَتُهُ أَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ: حَمَّالَةَ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَيَصْلى بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَامْرَأَتُهُ عَلَى التَّكْبِيرِ، حَمَّالَةَ عَلَى وَزْنِ فَعَّالَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ مُضَافًا إِلَى الْحَطَبِ مَرْفُوعًا، وَالسِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَإِنْ تَرَاخَى الزَّمَانُ، وَهُوَ وَعِيدٌ كَائِنٌ إِنْجَازُهُ لَا مَحَالَةَ. وَارْتَفَعَ وَامْرَأَتُهُ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي سَيَصْلى، وَحَسَّنَهُ وُجُودُ الْفَصْلِ بِالْمَفْعُولِ وَصَفَتِهِ، وحَمَّالَةَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ صِفَةٌ لامرأته، لِأَنَّهُ مِثَالٌ مَاضٍ فَيُعْرَفُ بِالْإِضَافَةِ، وَفَعَّالٌ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ السِّتَّةِ وَحُكْمُهَا كَاسْمِ الْفَاعِلِ. وَفِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، انْتَصَبَ عَلَى الذَّمِّ. وَأَجَازُوا فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ وَامْرَأَتُهُ مبتدأ، وحمالة، وَاسْمُهَا أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ عَوْرَاءَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الْحَطَبَ، أَيْ مَا فِيهِ شَوْكٌ، لِتُؤْذِيَ بِإِلْقَائِهِ فِي طَرِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِتَعْقُرَهُمْ، فَذُمَّتْ بِذَلِكَ وَسُمِّيَتْ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. فَحَمَّالَةٌ مَعْرِفَةٌ، فَإِنْ كَانَ صَارَ لَقَبًا لَهَا جَازَ فِيهِ حَالَةُ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا. قِيلَ: وَكَانَتْ تَحْمِلُ حُزْمَةً مِنَ الشَّوْكِ وَالْحَسَكِ وَالسَّعْدَانِ فَتَنْشُرُهَا بِاللَّيْلِ فِي طَرِيقِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ تَمْشِي

بِالنَّمِيمَةِ، وَيُقَالُ لِلْمَشَّاءِ بِهَا: يَحْمِلُ الْحَطَبَ بَيْنَ النَّاسِ، أَيْ يُوقِدُ بَيْنَهُمُ النَّائِرَةَ وَيُورِثُ الشَّرَّ. قَالَ الشَّاعِرُ: مِنِ الْبِيضِ لَمْ يَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لِأَمَةٍ ... وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بِالْحَطَبِ الرَّطْبِ جَعَلَهُ رَطْبًا لِيَدُلَّ عَلَى التَّدْخِينِ الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الشَّرِّ. وَقَالَ الرَّاجِزُ: إِنَّ بَنِي الْأَرْزَمِ حَمَّالُو الْحَطَبِ ... هُمُ الْوُشَاةُ فِي الرِّضَا وَفِي الْغَضَبِ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: حَمَّالَةُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: يَحْطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» . وَقِيلَ: الْحَطَبُ جَمْعُ حَاطِبٍ، كَحَارِسٍ وَحَرَسٍ، أي يحمل الْجُنَاةِ عَلَى الْجِنَايَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَبْلَ مِنْ مَسَدٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ: اسْتِعَارَةٌ، وَالْمُرَادُ سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قِلَادَةٌ مِنْ وَدَعٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ مِنْ جَوْهَرٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لِأُنْفِقَنَّهَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ قِلَادَتِهَا بِحَبْلٍ مِنْ مَسَدٍ عَلَى جِهَةِ التَّفَاؤُلِ لَهَا، وَذَكَرَ تَبَرُّجَهَا فِي هَذَا السَّعْيِ الْخَبِيثِ، انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا كَانَتْ خَرَزًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِمَّا مَسَدٍ مِنِ الْحِبَالِ، وَأَنَّهَا تَحْمِلُ الْحُزْمَةَ مِنَ الشَّوْكِ وَتَرْبِطُهَا فِي جِيدِهَا، كَمَا يَفْعَلُ الْحَطَّابُونَ تَحْسِيسًا لِحَالِهَا وَتَحْقِيرًا لَهَا بِصُورَةِ بَعْضِ الْحَطَّابَاتِ مِنَ الْمَوَاهِنِ لِتَمْتَعِضَ مِنْ ذَلِكَ وَيَمْتَعِضَ بَعْلُهَا وَهُمَا فِي بَيْتِ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَفِي مَنْصِبِ الثَّرْوَةِ وَالْجَدَّةِ. وَلَقَدْ عَيَّرَ بَعْضُ النَّاسِ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ بِحَمَّالَةِ الْحَطَبِ، فَقَالَ: مَاذَا أَرَدْتَ إِلَى شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي ... أَمْ مَا تُعَيِّرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَبِ غَرْسَاءُ شَاذِخَةٌ فِي الْمَجْدِ سَامِيَةٌ ... كَانْتَ سَلِيلَةَ شَيْخٍ ثَاقِبِ الْحَسَبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ حَالَهَا يَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا حِينَ كَانَتْ تَحْمِلُ حُزْمَةَ الشَّوْكِ، فَلَا يَزَالُ عَلَى ظَهْرِهَا حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبِ النَّارِ مِنْ شَجَرِ الزَّقُّومِ أَوِ الضَّرِيعِ، وَفِي جيدها حبل مما مسد مِنْ سَلَاسِلِ النَّارِ، كَمَا يُعَذَّبُ كُلُّ مُجْرِمٍ بِمَا يُجَانِسُ حَالَهُ فِي جُرْمِهِ، انْتَهَى. وَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّ جَمِيلٍ هَذِهِ السُّورَةَ أَتَتْ أبابكر، وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المسجد

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 31.

وَبِيَدِهَا فِهْرٌ، فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، وَلَأَفْعَلَنَّ وَأَفْعَلَنَّ وَأَعْمَى اللَّهُ تَعَالَى بَصَرَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ لَهَا: هَلْ تَرَيْ مَعِي أَحَدًا؟ فَقَالَتْ: أَتَهْزَأُ بِي؟ لَا أَرَى غَيْرَكَ. وَإِنْ كَانَ شَاعِرًا فَأَنَا مِثْلُهُ أَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا فسكت أبوبكر وَمَضَتْ هِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ حَجَبَتْنِي عَنْهَا مَلَائِكَةٌ فَمَا رَأَتْنِي وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهَا» . وَذُكِرَ أَنَّهَا مَاتَتْ مَخْنُوقَةً بِحَبْلِهَا، وَأَبُو لَهَبٍ رَمَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدَسَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِسَبْعِ لَيَالٍ.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. الصَّمَدُ: فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ صَمَدَ إِلَيْهِ إِذَا قَصَدَهُ، وَهُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَيَسْتَقِلُّ بِهَا، قَالَ: أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدِ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ بِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ وَقَالَ آخَرُ: عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... خُذْهَا خَزِيتَ فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الْكُفُوُ: النَّظِيرُ. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهَا عَدَاوَةُ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، وَمَا كَانَ يُقَاسِي مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، جَاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مُصَرِّحَةً بِالتَّوْحِيدِ، رَادَّةً عَلَى عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَالْقَائِلِينَ بِالثَّنَوِيَّةِ وَبِالتَّثْلِيثِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلتَّوْحِيدِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ وَانْسُبْهُ، فَنَزَلَتْ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ قَادَةُ الْأَحْزَابِ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا السَّبَبُ، كَانَ هُوَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الرَّبِّ، أَيْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَيْ رَبِّي اللَّهُ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَأَحَدٌ خَبَرٌ ثَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَحَدٌ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ، أَوْ عَلَى هُوَ أَحَدٌ، انْتَهَى. وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ السَّبَبُ، فَهُوَ ضَمِيرُ الْأَمْرِ، وَالشَّأْنُ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُبْتَدَأً وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ هُوَ، وَأَحَدٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، أَيْ فَرْدٌ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَتَجَزَّأُ. وَهَمْزَةُ أَحَدٍ هَذَا بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ مَفْتُوحَةً مِنَ الْوَاوِ قَلِيلٌ، مِنْ ذَلِكَ امْرَأَةٌ أَنَاةٌ، يُرِيدُونَ وَنَاةً، لِأَنَّهُ مِنَ الْوَنْيِ وَهُوَ الْفُتُورُ، كَمَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْوَحْدَةِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: بَيْنَ وَاحِدٍ وَأَحَدٍ فَرْقٌ، الْوَاحِدُ يَدْخُلُهُ الْعَدَدُ وَالْجَمْعُ وَالِاثْنَانِ، وَالْأَحَدُ لَا يَدْخُلُهُ. يُقَالُ: اللَّهُ أَحَدٌ، وَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَحَدٌ، لِأَنَّ اللَّهَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ الْأَحَدُ، وَزَيْدٌ تَكُونُ مِنْهُ حَالَاتٌ، انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ مِنَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُهُ مَا ذُكِرَ مَنْقُوضٌ بِالْعَدَدِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ يُونُسَ، وَمَحْبُوبٌ، وَالْأَصْمَعِيُّ، وَاللُّؤْلُؤِيُّ، وَعُبَيْدٌ، وَهَارُونُ عَنْهُ: أَحَدٌ، اللَّهُ بِحَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَائِهِ مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَا ذَاكِرَا اللَّهَ إِلَّا قَلِيلَا وَنَحْوَ قَوْلِهِ: عَمْرُو الَّذِي هَشَّمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ اللَّهُ الصَّمَدُ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْأَفْصَحُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ جُمَلًا مُسْتَقِلَّةً بِالْأَخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ زَيْدٌ الشُّجَاعُ. وَقِيلَ: الصَّمَدُ صِفَةٌ، وَالْخَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الصَّمَدِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَيَمَانُ بْنُ رِيَابٍ: هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الصَّمَدُ: الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: شِهَابُ حُرُوبٍ لَا تَزَالُ جِيَادُهُ ... عَوَابِسَ يَعْلِكْنَ الشَّكِيمَ الْمُصْمَدَا وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهَا اللُّغَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ، الَّذِي يَصْمِدُ إِلَيْهِ النَّاسُ

فِي أُمُورِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَلِدْ، لِأَنَّهُ لَا يُجَانَسُ حَتَّى تَكُونَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ صَاحِبَةٌ فَيَتَوَالَدَا، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ «1» . وَلَمْ يُولَدْ: لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ مُحْدَثٌ وَجِسْمٌ، وَهُوَ قَدِيمٌ لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَلَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَمْ يُكَافِئْهُ أَحَدٌ. يُقَالُ لَهُ كُفُوٌ، بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا مَعَ سُكُونِ الْفَاءِ، وَبِضَمِّ الْكَافِ مَعَ ضَمِّ الْفَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ: بِضَمِّ الْكَافِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ، وَهَمَزَ حَمْزَةُ، وَأَبْدَلَهَا حَفْصٌ وَاوًا. وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّهِمَا وَالْهَمْزِ، وَسَهَّلَ الْهَمْزَةَ الْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا كُفًا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْفَاءِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: كِفَاءً بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: لَا تعذقني بِرُكْنٍ لَا كِفَاءَ لَهُ الْأَعْلَمُ لَا كِفَاءَ لَهُ: لَا مِثْلَ لَهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ سِيبَوَيْهِ: يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ خَبَرًا إِذَا قَدَّمَهُ، وَقَدْ خَطَّأَهُ الْمُبَرِّدُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ الظَّرْفَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ خَبَرًا، وَالْجَوَابُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ إِلْغَاءَ الظَّرْفِ إِذَا تَقَدَّمَ، إِنَّمَا أَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ لَا يَكُونَ خَبَرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ وَهِيَ أَحَدٌ. لَمَّا تَقَدَّمَ نَعْتُهَا عَلَيْهَا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، فَيَكُونُ لَهُ الْخَبَرُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُبَرِّدِ حُجَّةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، انْتَهَى. وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الْفَصِيحُ أَنْ يُؤَخَّرَ الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَغْوٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَلَا يُقَدَّمُ، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَمَا بَالُهُ مُقَدَّمًا فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ وَأَعْرَبِهِ؟ قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا سِيقَ لِنَفْيِ الْمُكَافَأَةِ عَنْ ذَاتِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى مَصَبُّهُ وَمَرْكَزُهُ هُوَ هَذَا الظَّرْفُ، فَكَانَ لِذَلِكَ أَهَمُّ شَيْءٍ وَأَعْنَاهُ وَأَحَقُّهُ بِالتَّقْدِيمِ وَأَحْرَاهُ، انْتَهَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لَيْسَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِيهِ تَامًّا، إِنَّمَا هُوَ نَاقِصٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكَانَ، بَلْ هو متعلق بكفوا وَقُدِّمَ عَلَيْهِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ، أَيْ مُكَافِئَهُ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ مُتَعَلِّقٌ بِكُفُوًا. وَتَقَدَّمَ عَلَى كُفُوًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، إِذْ فِيهِ ضَمِيرُ الْبَارِي تَعَالَى. وَتَوَسَّطَ الْخَبَرُ، وإن كان

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 101. [.....]

الْأَصْلُ التَّأَخُّرَ، لِأَنَّ تَأَخُّرَ الِاسْمِ هُوَ فَاصِلَةٌ فَحَسُنَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَبْطُلُ إِعْرَابُ مَكِّيٍّ وَغَيْرِهِ أَنَّ لَهُ الْخَبَرَ وَكُفُوًا حَالٌ مِنْ أَحَدٍ، لِأَنَّهُ ظَرْفٌ نَاقِصٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ سُؤَالُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَجَوَابُهُ. وَسِيبَوَيْهِ إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي هَذَا الظَّرْفِ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خبر. قال سيبويه إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي هَذَا الظَّرْفِ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَبَرٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ: مَا كَانَ فيها أحد خير مِنْكَ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِثْلَكَ فِيهَا، وَلَيْسَ أَحَدٌ فِيهَا خَيْرٌ مِنْكَ، إِذَا جَعَلْتَ فِيهَا مُسْتَقِرًّا وَلَمْ تَجْعَلْهُ عَلَى قَوْلِكَ: فِيهَا زَيْدٌ قَائِمٌ. أُجْرِيَتِ الصِّفَةُ عَلَى الِاسْمِ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ عَلَى: فِيهَا زَيْدٌ قَائِمٌ، نَصَبْتَ فَتَقُولُ: مَا كَانَ فِيهَا أَحَدٌ خَيْرًا مِنْكَ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ خَيْرًا مِنْكَ فِيهَا، إِلَّا أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ الْإِلْغَاءَ، فَكُلَّمَا أَخَّرْتَ الْمُلْغَى كَانَ أَحْسَنَ. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا، فَكُلَّمَا قَدَّمْتَهُ كَانَ أَحْسَنَ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَالْإِلْغَاءُ وَالِاسْتِقْرَارُ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كَثِيرٌ. قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَا دَامَ فِيهِنَّ فَصِيلٌ حَيًّا انْتَهَى. وَمَا نَقَلْنَاهُ مُلَخَّصًا. وَهُوَ بِأَلْفَاظِ سِيبَوَيْهِ، فَأَنْتَ تَرَى كَلَامَهُ وَتَمْثِيلَهُ بِالظَّرْفِ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُسْتَقِرًّا، أَيْ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ وَلِكَانَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ مَثَّلَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْقَعَ مَكِّيًّا وَالزَّمَخْشَرِيَّ وَغَيْرَهُمَا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الظَّرْفَ التَّامَّ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: مَا دَامَ فِيهِنَّ فَصِيلٌ حَيًّا أَجْرَى فَضْلَةً لَا خَبَرًا. كَمَا أَنَّ لَهُ فِي الْآيَةِ أَجْرَى فَضْلَةً، فَجَعَلَ الظَّرْفَ الْقَابِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا كَالظَّرْفِ النَّاقِصِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ خَبَرًا، وَلَا يَشُكُّ مَنْ لَهُ ذِهْنٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ كَلَامٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ، بَلْ لَوْ تَأَخَّرَ كُفُوًا وَارْتَفَعَ عَلَى الصِّفَةِ وَجُعِلَ لَهُ خَبَرًا، لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْهُ كَلَامٌ، بَلْ أَنْتَ تَرَى أَنَّ النَّفْيَ لَمْ يَتَسَلَّطْ إِلَّا عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ كُفُوٌ، وَلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مُكَافِئَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

سورة الفلق

سورة الفلق [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) الْفَلَقُ: فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَتَأْتِي أَقْوَالُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَبَ اللَّيْلُ: أَظْلَمَ وَالشَّمْسُ: غَابَتْ، وَالْعَذَابُ: حَلَّ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَبَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ ... لَحِقَتْهُمْ نَارُ السَّمُومِ فَأُحْصِدُوا النَّفْثُ: شِبْهُ النَّفْخِ دُونَ تَفْلٍ بِرِيقٍ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ: نَفْخٌ بِرِيقٍ مَعَهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: شِبْهُ النَّفْخِ مِنَ الْفَمِ فِي الرقية وَلَا رِيقَ مَعَهُ، فَإِذَا كَانَ بِرِيقٍ فَهُوَ التَّفْلُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ أَبْرَأْ فَلَمْ أَنْفِثْ عَلَيْهِ ... وَإِنْ يُفْقَدْ فَحَقَّ لَهُ الْفُقُودُ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَجَابِرٌ وَرِوَايَةُ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَدَنِيَّةٌ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ. قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ قِصَّةُ سَحَرَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جُفٌّ، وَالْجُفُّ قِشْرُ الطَّلْعِ فِيهِ مُشَاطَةُ رَأْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَسْنَانُ مُشْطِهِ، وَوَتَرٌ مَعْقُودٌ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً مَغْرُوزٌ بِالْإِبَرِ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ،

ووجد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً حَتَّى انْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ الْأَخِيرَةُ، فَقَامَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ. وَلَمَّا شَرَحَ أَمْرَ الْإِلَهِيَّةِ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا، شَرَحَ مَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي الْعَالَمِ وَمَرَاتِبِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَالْفَلَقُ: الصُّبْحُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، وَفِي الْمَثَلِ: هُوَ أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ وَمِنْ فَرَقِ الصُّبْحِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَا لَيْلَةً لَمْ أَنَمْهَا بِتُّ مُرْتَقِبًا ... أَرْعَى النُّجُومَ إِلَى أَنْ قُدِّرَ الْفَلَقُ وَقَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ: حَتَّى إِذَا مَا انْجَلَى عَنْ وَجْهِهِ فَلَقٌ ... هَادِيهِ فِي أُخْرَيَاتِ اللَّيْلِ مُنْتَصِبُ وقيل: الفلق: كلما يَفْلِقُهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَالْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْجِبَالِ عَنِ الْعُيُونِ، وَالسَّحَابِ عَنِ الْمَطَرِ، وَالْأَرْحَامِ عَنِ الْأَوْلَادِ، وَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: الْفَلَقُ: جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لِمَا اطْمَأَنَّ مِنَ الْأَرْضِ الْفَلَقُ، وَجَمْعُهُ فُلْقَانٌ. وَقِيلَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: بَيْتٌ فِي جَهَنَّمَ، إِذَا فُتِحَ صَاحَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، بِإِضَافَةِ شَرٍّ إِلَى مَا، وَمَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَنْ يُوجَدُ مِنْهُ الشَّرُّ مِنْ حَيَوَانٍ مُكَلَّفٍ وَغَيْرِ مُكَلَّفٍ وَجَمَادٍ، كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَالْإِغْرَاقِ بِالْبَحْرِ، وَالْقَتْلِ بِالسُّمِّ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ فَايِدٍ: مِنْ شَرٍّ بِالتَّنْوِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ الشَّرَّ: مِنْ شَرٍّ بِالتَّنْوِينِ، مَا خَلَقَ عَلَى النَّفْيِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَرْدُودَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَذْهَبٍ بَاطِلٍ، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٌ غَيْرُ النَّفْيِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا خَلَقَ بَدَلًا مِنْ شَرِّ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ شَرٍّ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ شَرٍّ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، أَطْلَقَ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَّ ثَانِيًا. وَالْغَاسِقُ: اللَّيْلُ، وَوَقَبَ: أَظْلَمَ وَدَخَلَ عَلَى النَّاسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، وَزَمَّكَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فَقَالَ: وَالْغَاسِقُ: اللَّيْلُ إِذَا اعْتَكَرَ ظَلَامُهُ. مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ «1» ، وَمِنْهُ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ: امْتَلَأَتْ دَمْعًا، وَغَسَقَتِ الْجِرَاحَةُ: امْتَلَأَتْ دَمًا، وَوُقُوبُهُ: دُخُولُ ظَلَامِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ اللَّيْلُ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، وَالْغَاسِقُ: الْبَارِدُ، اسْتُعِيذَ مِنْ شَرِّهِ لِأَنَّهُ فِيهِ تَنْبَثُّ الشَّيَاطِينُ وَالْهَوَامُّ وَالْحَشَرَاتُ وَأَهْلُ الْفَتْكِ. قال الشاعر:

_ (1) سورة الإسراء: 17/ 78.

يَا طَيْفَ هِنْدٍ لَقَدْ أَبْقَيْتَ لِي أَرَقَا ... إِذْ جِئْتَنَا طَارِقًا وَاللَّيْلُ قَدْ غَسَقَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: النَّهَارُ دَخَلَ فِي اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الْمُرَادُ بِالْغَاسِقِ: الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ الْقَمَرُ إِذَا دَخَلَ فِي سَاهُورِهِ فَخُسِفَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «نَظَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ الفاسق إِذَا وَقَبَ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْغَاسِقُ النَّجْمُ» . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ: الْغَاسِقُ: الثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ، وَكَانَتِ الْأَسْقَامُ وَالطَّاعُونُ تَهِيجُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْحَيَّةُ إِذَا لَدَغَتْ، وَالْغَاسِقُ سُمُّ نَابِهَا لِأَنَّهُ يَسِيلُ مِنْهُ. وَالنَّفَّاثَاتُ: النِّسَاءُ، أَوِ النُّفُوسُ، أَوِ الْجَمَاعَاتُ السَّوَاحِرُ، يَعْقِدْنَ عُقَدًا فِي خُيُوطٍ وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهَا وَيَرْقِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النَّفَّاثاتِ وَالْحَسَنُ: بِضَمِّ النُّونِ، وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَاسِمِ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ النَّافِثَاتِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو الرَّبِيعِ: النَّفَّثَاتُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، نَحْوَ الْخَدَّرَاتِ. وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّهِنَّ هُوَ مَا يُصِيبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الشَّرِّ عِنْدَ فِعْلِهِنَّ ذَلِكَ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ يَنْفِي مَا تَأَوَّلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّسَاءُ ذَاتُ الْكِيَادَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ «1» ، تَشْبِيهًا لِكَيْدِهِنَّ بِالسِّحْرِ وَالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ، أَوِ اللَّاتِي يَفْتِنَّ الرِّجَالَ بِتَعَرُّضِهِنَّ لَهُمْ، وَعَرْضِهِنَّ مَحَاسِنَهُنَّ، كَأَنَّهُنَّ يَسْحَرْنَهُمْ بِذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا النَّفْثُ هُوَ عَلَى عُقَدٍ تُعْقَدُ فِي خُيُوطٍ وَنَحْوِهَا عَلَى اسْمِ الْمَسْحُورِ فَيُؤْذَى بِذَلِكَ، وَهَذَا الشَّأْنُ فِي زَمَانِنَا مَوْجُودٌ شَائِعٌ فِي صَحْرَاءِ الْمَغْرِبِ. وَحَدَّثَنِي ثِقَةٌ أَنَّهُ رَأَى عِنْدَ بَعْضِهِمْ خَيْطًا أَحْمَرَ قَدْ عُقِدَتْ فِيهِ عُقَدٌ عَلَى فُصْلَانٍ، فَمُنِعَتْ مِنْ رِضَاعِ أُمَّهَاتِهَا بِذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا حَلَّ عُقْدَةً جَرَى ذَلِكَ الْفَصِيلُ إِلَى أُمِّهِ فِي الْحِينِ فَرَضَعَ، انْتَهَى. وَقِيلَ: الغاسق والحاسد بِالطَّرْفِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلِ اللَّيْلُ لَا يَكُونُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَكَذَا كُلُّ مَا فُسِّرَ بِهِ الْغَاسِقُ. وَكَذَلِكَ الْحَاسِدُ، لَا يُؤَثِّرُ حَسَدُهُ إِذَا أَظْهَرَهُ بِأَنْ يَحْتَالَ لِلْمَحْسُودِ فِيمَا يُؤْذِيهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْحَسَدُ، فَإِنَّمَا يَتَأَذَّى بِهِ هُوَ لَا الْمَحْسُودُ، لِاغْتِمَامِهِ بِنِعْمَةِ غَيْرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَرِّ الْحَاسِدِ إِثْمُهُ وَسَمَاجَةُ حَالِهِ فِي وَقْتِ حَسَدِهِ وَإِظْهَارِ أَثَرِهِ، انْتَهَى. وَعَمَّ أَوَّلًا فَقَالَ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، ثُمَّ خَصَّ هَذِهِ لِخَفَاءِ شَرِّهَا، إِذْ يَجِيءُ مِنْ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ، وَقَالُوا: شَرُّ الْعُدَاةِ الْمَرَاجِي بِكَيْدِكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ، وَنَكَّرَ غَاسِقٍ وَحَاسِدٍ

_ (1) سورة يوسف: 12/ 28.

وَعَرَّفَ النَّفَّاثَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ نَفَّاثَةٍ شِرِّيرَةٌ، وَكُلَّ غَاسِقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ الشَّرُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَاسِدٍ لَا يَضُرُّ. وَرُبَّ حَسَدٍ مَحْمُودٌ، وَهُوَ الْحَسَدُ فِي الْخَيْرَاتِ، وَمِنْهُ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: وَمَا حَاسِدٌ فِي الْمَكْرُمَاتِ بِحَاسِدِ وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ الغلا حَسُنَ فِي مِثْلِهَا الْحَسَدُ وَقَوْلُ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ لِلْحَاسِدِ، إِذَا نَظَرَ الْخَمْسُ عَلَى عَيْنَيْكَ يَعْنِي بِهِ هَذِهِ السُّورَةَ، لِأَنَّهَا خَمْسُ آيَاتٍ، وَعَيْنُ الْحَاسِدِ فِي الْغَالِبِ وَاقِعَةٌ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شرها.

سورة الناس

سورة النّاس [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ. تَقَدَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ مَا قَبْلَهَا. وَالْخِلَافُ أَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَمْ مَكِّيَّةٌ؟ وَأُضِيفَ الرَّبُّ إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرِّ الْمُوَسْوِسِ فِي صُدُورِهِمْ، اسْتَعَاذُوا بِرَبِّهِمْ مَالِكِهِمْ وَإِلَهِهِمْ، كَمَا يَسْتَعِيذُ الْعَبْدُ بِمَوْلَاهُ إِذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ صِفَتَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا عَطْفَا بَيَانٍ، كَقَوْلِكَ: سِيرَةُ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ الْفَارُوقِ بُيِّنَ بِمَلِكِ النَّاسِ، ثُمَّ زِيدَ بَيَانًا بِإِلَهِ النَّاسِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ لِغَيْرِهِ: رَبُّ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» . وَقَدْ يُقَالُ: مَلِكُ النَّاسِ، وَأَمَّا إِلَهُ النَّاسِ فَخَاصٌّ لَا شَرِكَةَ فِيهِ، فَجُعِلَ غَايَةً لِلْبَيَانِ، انْتَهَى. وَعَطْفُ الْبَيَانِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَكُونُ بِالْجَوَامِدِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عَطْفَا بَيَانٍ لِوَاحِدٍ، وَلَا أَنْقُلُ عَنِ النُّحَاةِ شَيْئًا فِي عَطْفِ الْبَيَانِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَرَّرَ لِمَعْطُوفٍ عَلَيْهِ وَاحِدٍ أَمْ لَا يَجُوزُ؟. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا اكْتَفَى بِإِظْهَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ النَّاسُ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قُلْتُ: لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ لِلْبَيَانِ، فَكَانَ مَظِنَّةً لِلْإِظْهَارِ دون الإضمار، انتهى.

_ (1) سورة التوبة: 9/ 31.

وَالْوَسْوَاسُ، قَالُوا: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ؟ وَالْوَسْوَاسُ أَيْضًا: مَا يُوَسْوِسُ بِهِ شَهَوَاتُ النَّفْسِ، وَهُوَ الْهَوَى الْمُنْهِيُّ عَنْهُ. وَالْخَنَّاسُ: الرَّاجِعُ عَلَى عَقِبِهِ، الْمُسْتَتِرُ أَحْيَانًا، وَذَلِكَ فِي الشَّيْطَانِ مُتَمَكِّنٌ إِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللَّهَ تَعَالَى تَأَخَّرَ. وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ فَتَخْنِسُ بِالْإِيمَانِ وَبِلُمَّةِ الْمَلِكِ وَبِالْحَيَاءِ، فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يَنْدَرِجَانِ فِي الْوَسْوَاسِ، وَيَكُونُ مَعْنَى مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ: مِنَ الشَّيَاطِينِ وَنُفُوسِ النَّاسِ، أَوْ يَكُونُ الْوَسْوَاسُ أُرِيدَ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَالْمُغْرِي: الْمُزَيِّنُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، فَيَكُونُ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، تَبْيِينًا لِذَلِكَ الْوَسْوَاسِ. قَالَ تَعَالَى: عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «1» . وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ، وَمِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لِرَجُلٍ: هَلْ تَعَوَّذْتَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَسْواسِ اسْمٌ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ، كَالزِّلْزَالِ بِمَعْنَى الزَّلْزَلَةِ وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَوِسْوَاسٌ بِالْكَسْرِ كَزِلْزَالٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ وَسُوسَةٌ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا صَنْعَتُهُ وَشُغْلُهُ الَّذِي هُوَ عَاكِفٌ عَلَيْهِ أَوْ أُرِيدَ ذُو الْوَسْوَاسِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا مَعَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الزَّلْزَالَ بِالْفَتْحِ اسْمٌ وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ فِي إِذا زُلْزِلَتِ «2» ، وَيَجُوزُ فِي الَّذِي الْجَرُّ عَلَى الصِّفَةِ، وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى الشَّتْمِ، وَمِنْ فِي مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ كَائِنًا مِنِ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ ذَلِكَ الْمُوَسْوِسُ هُوَ بَعْضُ الْجِنَّةِ وَبَعْضُ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من متعلقا بيوسوس، وَمَعْنَاهُ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، أَيْ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْجِنَّةِ وَمِنْ جِهَةِ النَّاسِ، انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتْ مَضَرَّةُ الدِّينِ، وَهِيَ آفَةُ الْوَسْوَسَةِ، أَعْظَمَ مِنْ مَضَرَّةِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَظُمَتْ، جَاءَ الْبِنَاءُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: الرَّبُّ وَالْمَلِكُ وَالْإِلَهُ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَطْلُوبُ، وَفِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ثَلَاثٍ: الْغَاسِقُ وَالنَّفَّاثَاتُ وَالْحَاسِدُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الرَّبُّ، وَإِنْ تَكَثَّرَ الَّذِي يُسْتَعَاذُ مِنْهُ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آوَى إِلَى فِرَاشِهِ جَمَعَ كَفَّيْهِ وَنَفَثَ فِيهِمَا وَقَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِرَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَمَجَّدَ وَكَرَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْكَرَمِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرا. تم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

_ (1) سورة الأنعام: 6/ 112. (2) سورة الزلزلة: 99/ 1.

§1/1